الكتاب : صفوة الاختيار في أصول الفقه المؤلف : الإمام المنصور بالله عبدالله بن حمزة بن سليمان المتوفى سنة 614هـ |
صفوة الاختيار في أصول الفقه
تأيف
الإمام الحجة المنصور بالله عبد الله بن حمزة عليهما السلام
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله ربّ العالمين، والصلاة والسلام على سيّدنا محمد وعلى أهل بيته الطيبين الطاهرين، الذين أذهب الله عنهم الرجس وطهّرهم تطهيراً - وبعد:
يسرّ مركز أهل البيت(ع) للدراسات الإسلامية أن يقدم لك أخي المؤمن الكريم كتاب (صفوة الإختيار) تأليف الإمام الأعظم، والبحر الخضم، والبدر الأتم، المنصور بالله ربّ العالمين، والمجدد للدين، أبي محمد عبدالله بن حمزة -عَلَيْه السَّلام- وذلك ضمن الدفعة الثالثة الصادرة عن المركز عام 1423هـ، 2002م.
وخلال ذلك نجدد العهد لله تعالى ولرسوله -صَلَّى الله عَلَيْهِ وآله وَسَلَّم- ولأئمة أهل البيت -صلوات الله عليهم - بمواصلة ما بدأناه، والسير قدماً في نشر عقائد أهل البيت(ع) ومذهبهم من خلال نشر تراثهم الفكري، وما خلّفوه من علوم جليلة أسهمت وتُسْهم في صلاح المجتمعات، والوصول بها إلى السعادة الأبديّة، دون أن نحاول صياغة عقائدهم حسب ما يروق لنا، ونجعلها سَلِسَة بِسَلاسَةِ عَصْرنا، بل نقدّمها كما قدّمها أئمة الآل، قفد كفوْنا المؤونة في ذلك، وما بقي إلا أن نغترف من مائهم الزلال، واهتمامنا بذلك لما سبق وذكرناه من أمثال قوله تعالى: { إِنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيُذْهِبَ عَنْكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيرًا}[الأحزاب:33] وقوله تعالى: {إنما وَلِيُّكُمُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَالَّذِينَ ءَامَنُوا الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلَاةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَهُمْ رَاكِعُونَ} [المائدة:55]، وقوله تعالى: { قُلْ لَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْرًا إِلَّا الْمَوَدَّةَ فِي الْقُرْبَى} [الشورى:23].
وأمثال قول رسول الله -صَلَّى الله عَلَيْهِ وآله وَسَلَّم-:((إني تارك فيكم ما إن تمسكتم به لن تضلوا من بعدي أبداً كتاب اللّه وعترتي أهل بيتي، إن اللطيف الخبير نبأني أنهما لن يفترقا حتى يردا عليّ الحوض))، وقوله -صَلَّى الله عَلَيْهِ وآله وَسَلَّم-:((أهل بيتي فيكم كسفينة نوح، من ركبها نجا ومن تخلّف عنها غرق وهوى))، وقوله -صَلَّى الله عَلَيْهِ وآله وَسَلَّم-:((أهل بيتي أمان لأهل الأرض كما أن النجوم أمان لأهل السماء))، وقوله -صَلَّى الله عَلَيْهِ وآله وَسَلَّم-: ((من سرّه أن يحيا حياتي؛ ويموت مماتي؛ ويسكن جنة عدن التي وعدني ربي؛ فليتولّ علياً وذريته من بعدي؛ وليتولّ وليّه؛ وليقتدِ بأهل بيتي؛ فإنهم عترتي؛ خُلقوا من طينتي؛ ورُزقوا فهمي وعلمي.....)) الخبر- وقد بيّن -صَلَّى الله عَلَيْهِ وآله وَسَلَّم -أنهم علي؛ وفاطمة؛ والحسن والحسين وذريّتهما - عَلَيْهم السَّلام - عندما جلَّلهم -صَلَّى الله عَلَيْهِ وآله وَسَلَّم- بكساءٍ وقال: ((اللّهم هؤلاء أهل بيتي فأذهب عنهم الرجس وطهرهم تطهيراً)).
وغيرها من النصوص الواضحة الجليّة الدالة على أنهم عروة الله الوثقى، وحبله المتين الأقوى.
* * * * * * * * * * * *
وقد صدر عن مركز أهل البيت(ع) للدراسات الإسلامية - بصعدة-:
1- لوامع الأنوار في جوامع العلوم والآثار وتراجم أولي العلم والأنظار، تأليف/ الإمام الحجة/ مجدالدين بن محمد بن منصور المؤيدي - أيده الله تعالى-.
2- مجموع كتب ورسائل الإمام الأعظم أمير المؤمنين زيد بن علي(ع)، تأليف/ الإمام الأعظم زيد بن علي بن الحسين بن علي بن أبي طالب(ع).
3- شرح الرسالة الناصحة بالأدلة الواضحة، تأليف/ الإمام الحجة عبدالله بن حمزة(ع).
4- صفوة الإختيار في أصول الفقه، تأليف/ الإمام الحجة عبدالله بن حمزة (ع).
5- المختار من الأحاديث والآثار من كتب الأئمة الأطهار وشيعتهم الأخيار، تأليف/ السيد العلامة محمد بن يحيى الحوثي حفظه الله.
6- هداية الراغبين إلى مذهب العترة الطيبين، تأليف/ السيد الإمام الهادي بن إبراهيم الوزير(ع).
7- الإفادة في تاريخ الأئمة السادة، تأليف/ الإمام أبي طالب يحيى بن الحسين الهاروني(ع).
8- المنير - على مذهب الهادي إلى الحق يحيى بن الحسين بن القاسم بن إبراهيم -عَلَيْهمالسَّلام-، تأليف/ أحمد بن موسى الطبري رضي الله عنه.
9- نهاية التنويه في إزهاق التمويه، تأليف السيد الإمام / الهادي بن إبراهيم الوزير(ع).
10- تنبيه الغافلين عن فضائل الطالبيين، تأليف/ الحاكم الجشمي المحسن بن محمد بن كرامة رحمه الله تعالى.
11- عيون المختار من فنون الأشعار والآثار، تأليف الإمام الحجة/ مجدالدين بن محمد بن منصور المؤيدي - أيده الله تعالى-.
12- أخبار فخ وخبر يحيى بن عبدالله (ع) وأخيه إدريس بن عبدالله(ع)، تأليف/ أحمد بن سهل الرازي رحمه الله تعالى.
13- الوافد على العالم، تأليف/ الإمام نجم آل الرسول القاسم بن إبراهيم الرسي(ع).
14- الهجرة والوصية، تأليف/ الإمام محمد بن القاسم بن إبراهيم الرسي(ع).
15-الجامعة المهمة في أسانيد كتب الأئمة، تأليف/الإمام الحجة مجدالدين بن محمد بن منصور المؤيدي - أيده الله تعالى-.
16- المختصر المفيد فيما لا يجوز الإخلال به لكلّ مكلف من العبيد، تأليف/ القاضي العلامة أحمد بن إسماعيل العلفي رضي الله عنه.
17- خمسون خطبة للجمع والأعياد.
18- رسالة الثبات فيما على البنين والبنات، تأليف/ الإمام الحجة عبدالله بن حمزة(ع).
19-الرسالة الصادعة بالدليل في الرد على صاحب التبديع والتضليل، تأليف/ الإمام الحجة/ مجدالدين بن محمد بن منصور المؤيدي - أيده الله تعالى-.
20- إيضاح الدلالة في تحقيق أحكام العدالة، تأليف/ الإمام الحجة مجدالدين بن محمد بن منصور المؤيدي - أيده الله تعالى-.
21- الحجج المنيرة على الأصول الخطيرة، تأليف/الإمام الحجة مجدالدين بن محمد بن منصور المؤيدي - أيده الله تعالى-.
22- النور الساطع، تأليف/ الإمام الهادي الحسن بن يحيى القاسمي رحمه الله تعالى.
23- سبيل الرشاد إلى معرفة ربّ العباد، تأليف/ السيد العلامة محمد بن الحسن بن الإمام القاسم بن محمد(ع).
24- الجواب الكاشف للإلتباس عن مسائل الإفريقي إلياس - ويليه/ الجواب الراقي على مسائل العراقي، تأليف/ السيد العلامة الحسين بن يحيى الحوثي حفظه الله تعالى.
25- أصول الدين، تأليف/ الإمام الهادي إلى الحق يحيى بن الحسين(ع).
26- الرسالة البديعة المعلنة بفضائل الشيعة، تأليف/ القاضي العلامة عبدالله بن زيد العنسي رحمه الله تعالى.
كما شارك مركز أهل البيت(ع) للدراسات الإسلامية -بصعدة- بالتعاون مع مؤسسة الإمام زيد بن علي(ع) الثقافية في إخراج:
27- مجموع رسائل الإمام الهادي(ع)، تأليف/ الإمام الهادي إلى الحق يحيى بن الحسين بن القاسم بن إبراهيم(ع).
28- العقد الثمين في تبيين أحكام الأئمة الهادين، تأليف/ الإمام الحجة عبدالله بن حمز(ع).
29- المصابيح وتتمته، تأليف/ السيد الإمام أبي العباس الحسني(ع)، والتتمة لعلي بن بلال رضي الله عنه.
30- الموعظة الحسنة، تأليف/ الإمام المهدي محمد بن القاسم الحوثي(ع).
ومع مكتبة التراث الإسلامي:
31- البدور المضيئة جوابات الأسئلة الضحيانية، تأليف/ الإمام المهدي محمد بن القاسم الحوثي(ع).
وهناك الكثير الطيّب في طريقه للخروج إلى النور إنشاء الله تعالى، نسأل الله تعالى الإعانة والتوفيق.
* * * * * * * * * * * *
ونتقدّم في هذه العجالة بالشكر الجزيل لكلّ من ساهم في إخراج هذا العمل الجليل إلى النور، ونسأل الله أن يكتب ذلك للجميع في ميزان الحسنات، وأن يجزل لهم الأجر والمثوبة.
وختاماً نتشرّف بإهداء هذا العمل إلى مولانا الإمام الحجة/ مجدالدين بن محمد بن منصور المؤيدي -أيده الله تعالى وأدام في الداريْن علاه- باعث كنوز أهل البيت(ع) ومفاخرهم، وصاحب الفضل في نشر تراث أهل البيت(ع) وشيعتهم الأبرار رضي الله عنهم.
وصلى الله على سيّدنا محمد وعلى أهل بيته الطيبين الطاهرين.
مدير المركز/
إبراهيم بن مجدالدين بن محمد المؤيدي
27 ربيع الأول/ 1423هـ، 6/6/2002م
قال والدنا ومولانا الإمام الحجة/
مجدالدين بن محمد بن منصور المؤيدي أيده الله تعالى:
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله، وسلام على عباده الذين اصطفى، وبعد:
فهذا الكتاب العظيم من منن الله تعالى واهب المنن، وأنواره المنيرة في جبين الزمن، الساطع ببراهين اليقين، والقاطع بصوارم التبيين، لتحريف الغالين، وانتحال المبطلين، وتأويل الجاهلين، وهو تأليف الإمام الذي جدّد الله بسيفه وعلمه الدين، وأحيا بقيامه وعزمه سنن المرسلين.
عليمٌ رَسَتْ للعلمِ في أرض صَدْره .... جبالُ جبالِ الأرض في جَنْبِها قُفّ
وما أصدق قوله -عَلَيْه السَّلام-:
وأنا ابن معتلج البطاح تضمّني .... كالدرّ في أصداف بحر زاخرِ
ينشقّ عنّي ركنها وحطيمها .... كالجفن يُفتح عن سواد الناظرِ
كجبالها شرفي ومثل سهولها .... خلقي ومثل المرهفات خواطري
فهو الإمام الأعظم، والطود الأشم، والبحر الخضم، والبدر الأتمّ، الصوّام القوّام، مقيم حجّة الله على الأنام، ومجدد أعلام ملّة الإسلام، أمير المؤمنين، المجدد للدين، المنصور بالله رب العالمين، أبو محمد عبدالله بن حمزة بن سليمان بن حمزة -عَلَيْهم السَّلام-.
مَنْ نشر الله به العدل والإحسان، وأظهر به الأمن والإيمان، وطهّر الأرض من الفسوق والعصيان.
وكفى بما قاله في شأنه عدوّه - وأقوى الشهادات شهادة الضد لضده - في رسالته التي وجّهها إلى أحمد العباسي الملقب الناصر يحضّه على حرب الإمام، حيث قال:
أما بلغتكم دعوةُ المتهجّد .... وإيعادُه يوماً يروح ويغتدي
وفيها:
وساعده المقدور حتى جرت له .... بما يشتهي أفلاكها ونجومها
ونادى أنا ابن المصطفى وابن عمّه .... علي أنا ترب العلا ونديمها
أما أحمد جدّي وحيدر والدي .... وإني للعلياء حقاً أقيمها
بكلام يستنزل العصم، ويزلزل الشم، أحلى من العسل، وأمضى من البيض والأسل...إلى آخر ما ذكر.
وخصائص هذا الإمام، وشمائله العظام، وفضائله المنيرة الفجاج، وفواضله الوضيئة الديباج، وبلاغته الوهّاجة السراج، وعلومه المتلاطمة الأمواج، عالية المنار، واضحة الأنوار، متجلّية الشموس والأقمار، وفي سيرته الخاصة به، وكتب السير العامة، الكثير الطيّب، والغزير الصيّب، وقد أوضحتُ المهم من أحوال أئمة العترة وأوليائهم في كتاب التحف الفاطمية شرح الزلف الإمامية - نفع الله بها - على سبيل الإختصار.
والله أسأل، وبجلاله أتوسل أن يصلي ويسلم على من أرسله رحمة للعالمين، وعلى آله الهادين إلى يوم الدين، وأن يتقبّل العمل، ويحقق الأمل، ويحسن الختام، ويصلح أمر الإسلام، إنه قريب مجيب، وما توفيقي إلا بالله عليه توكلت وإليه أنيب.
مجدالدين بن محمد بن منصور المؤيدي
غفر الله لهم وللمؤمنين
كتب بأمره ولده/ إبراهيم بن مجدالدين المؤيدي
وفّقه الله تعالى
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله رب العالمين، نحمده على سوابغ نعمه وإحسانه، ووافر آلائه وامتنانه، حمداً كثيراً طيباً مباركاً فيه.
وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، ولا شبيه ولا عديل، ولا ضدّ ولا مثيل، لا يُدرك بالحوس، ولا يُقاس بالناس.
وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، المنتجب المصطفى، أرسله الله رحمة للعالمين بشيراً ونذيراً وداعياً إلى الله بإذنه وسراجاً منيراً، صلى الله وسلم عليه وعلى آله الطاهرين الذين حموا سرح الدين.
وبعد:
بين يديك -أيها القارئ الكريم- كتاب (صَفْوَة الاخْتِيَار في أُصُوْلِ الفِقْهِ) للإمام المنصور بالله عبدالله بن حمزة - عَلَيْه السَّلام- وهو من جواهر الكتب في علم الأصول، ومن معتمدات الزيدية التي اشتهرت في أواسط رجالها منذ عصر مؤلفها وإلى يوم الناس هذا؛ لأن مؤلفها وجامع دررها من حفّاظ الإسلام والأئمة الأعلام.
وقد اهتم علماء الزيدية من أهل البيت وشيعتهم بعلم الأصول اهتماماً بالغاً، فألّفت المؤلفات العظيمة في هذا الفن.
وقد ابتدأت مراحل نشأة أصول الفقه عند الزيدية تتطور شيئاً فشيئاً ابتداء بالإمام الأعظم الشهيد زيد بن علي بن الحسين بن علي بن أبي طالب -عَلَيْهم السَّلام- إمام الزيدية وقائدها؛ ومروراً بالأئمة وأشياعهم من العلماء، إلى أن وصل إلينا غضاً طرياً.
والفائدة التي يعود إليها سبب الاهتمام هو فتح باب الإجتهاد والإستنباط الذي هو الطريق لتحصيل المسائل الفقهية من أماكن ومظان وجودها وهي الأدلة.
فأصول الفقه يُعَدُّ الآلة والأداة التي بها تستخرج الأحكام والمسائل. فالزيدية تتميز بأنها تفتح باب الاجتهاد للمجتهد، والمجتهد لا يصير مجتهداً إلا بالإلمام والمعرفة لأبواب ومسائل أصول الفقه.
فمن هنا اهتمت الزيدية بعلم الأصول.
وقد جرت مراحل التطور في هذا الفن عند الزيدية على ضوء أسس متفق على العمل بها عندهم، منها:
تحكيم قضية العقل في التحسين والتقبيح والحظر والإباحة.
العمل بالقرآن الكريم كمصدر تشريعي أول.
العمل بالسنة النبوية الصحيحة كمصدر تشريعي ثانٍ.
فمن هذه الأسس استمدت الزيدية قواعدها الأصولية كما يعرف ذلك من يقرأ كتب الأصول.
ولهذا ترى المجتهدين تختلف اجتهاداتهم وأنظارهم في كثير من المسائل نظراً لاختلافهم في الاستنباط الناتج عن التفكير في الأسس وإعمالها في القضايا.
والزيدية ترفض التقليد ولهذا فتحت باب الاجتهاد لكل من تمكن من جمع شروطه، ومن أشهر المؤلفات التي ألّفها علماء الزيدية في أصول الفقه ما يلي:
المجزي للإمام أبي طالب يحيى بن الحسين الهاروني(ع).
صفوة الاختيار للإمام المنصور بالله (وهو هذا الذي بين يديك).
المقنع الشافي للإمام يحيى بن المحسن الداعي(ع).
جوهرة الأصول لأحمد بن محمد بن الحسن الرصاص.
معيار العقول وشرحه منهاج الوصول للإمام أحمد بن يحيى المرتضى(ع).
القسطاس المقبول شرح معيار العقول للإمام الحسن بن عزالدين بن الحسن(ع).
مرقاة الوصول إلى معيار العقول للسيد داود بن الهادي(ع).
الحاوي للإمام يحيى بن حمزة -عَلَيْه السَّلام-.
الفصول اللؤلؤية للسيد صارم الدين إبراهيم بن محمد الوزير رحمه الله تعالى.
الدراري المضيئة شرح الفصول للعلامة صلاح بن أحمد المؤيدي رحمه الله تعالى.
الكافل لابن بهران وشروحه ومنها: الكاشف لذوي العقول لأحمد بن محمد بن لقمان – شفاء غليل السائل لعلي بن صلاح الطبري – الأنوار الهادية لأحمد بن يحيى حابس.
غاية السؤول وشرحها هداية العقول للعلامة الإمام الحسين بن القاسم بن محمد -عَلَيْهم السَّلام-.
وغيرها من المؤلفات.
هذا الكتاب
مؤلف الكتاب هو الإمام المنصور بالله عبدالله بن حمزة -عَلَيْه السَّلام-، وشهرته تغني عن تعريفه وصفته، أحدُ الأئمة الأعلام علماً وفضلاً وزهداً وورعاً وشجاعة وعبادة وفصاحة وبلاغة.
وقد أودعتُ في مقدمة شرح الرسالة الناصحة ترجمة مختصرة له -عَلَيْه السَّلام- فارجع إليها إن شئتَ.
أما الكتاب: فقد امتاز بمميزات جعلت له حق التصدر بين الكتب المشهورة، حيث أن الإمام -عَلَيْه السَّلام- سلك فيه مسلك التفصيل في كل باب بـ(مسألة) ويضمن في كل مسألة قاعدة من القواعد الأصولية؛ ثم يذكر اختلاف العلماء فيها، ويذكر ما يختاره ويرجّحه، ثم يحتجّ بالدليل في صحة ما يذهب إليه، وقد يذكر أدلة كل من المختلفين.
وله -عَلَيْه السَّلام- في الأصول الأنظار السديدة، والاختيارات الفريدة، والأقوال المفيدة، والباع الطويل فيها، والقوة على الاحتجاج، والقدرة على الاستنباط، ونظراً لكثرة اختياراته -عَلَيْه السَّلام- رأيت أن أقوم بإفرادها، ليسهل على من أراد معرفتها انتوالها أو حفظها؛ فحاولت جمعها في هذا الموضع على حسب ترتيبها في الكتاب، بدون تمثيل ولا استدلال، ولكن الغرض إيراد القاعدة أو الاختيار في المسألة المختلف فيها ليتبيّن قوله.
اختيارات الإمام (ع) في أصول الفقه
أولاً: [باب الأمر]
الأمر لفظ ظاهر يُفْهم المراد من ظاهره لا يحتاج في معرفة المراد منه إلى دليل.
الأمر هو قول القائل لغيره افعل على جهة الاستعلاء دون الخضوع مع كون الآمر مريداً لحدوث المأمور به.
الأمر يقتضي الوجوب لغة وشرعاً.
الأمر إذا ورد بعد الحظر اقتضى الإيجاب إلا لقرينة.
يجب تقديم الأمر على المأمور به القدر الذي يتمكن المكلف فيه من تأدية الأمر.
الأمر بالأشياء على جهة التخيير يدل على الوجوب في جميعها على وجه التخيير كالكفارات.
الأمر بالشيء لا يكون نهياً عن ضده.
الأمر إذا ورد مطلقاً غير مؤقت حُمل على التراخي.
الأمر إذا ورد مؤقتاً بوقت كان الوجوب متعلقاً بأول الوقت وآخره، لكنه يجب في أول الوقت موسعاً وفي آخره مضيقاً.
يجوز تأخير الأمر المؤقت لا إلى بدل.
لا يدل الأمر بصيغته على وجوب القضاء بل يحتاج إلى دليل آخر.
إذا فُعل المأمور به بشرطه وصفته كان مجزءاً، وسقط القضاء، وخرج المأمور عن عهدة الأمر.
الأمر المطلق لا يفيد بظاهره التكرار، ويقتضي فعل الأمر مرة واحدة.
الأمر إذا قيد بشرط أو صفة لا يقتضي التكرار.
تكرر الأمر بغير حرف العطف لا يفيد تكرار المأمور به، وفائدة التكرار تأكيد إلزام الفعل.
إذا عُطف أحد الأمرين على صاحبه؛ فإن أفاد مثل ما أفاده الأول من غير زيادة ولا نقصان حُمل على مراد ثان مثل: أقم الصلاة اليوم وأقم الصلاة غداً. وإن أفاد غير ما أفاد الأول حُمل على مقتضاه. وإن أفاد بعض ما دخل تحت الأول حُمل على أن البعض غير ما دخل تحت الأول.
الأمر إذا قرن به لفظ التأبيد أفاد الدوام.
الكفار مخاطبون بالشرائع.
إذا ورد الأمر بعبارتين تصلح لمعنيين أحدهما حقيقة والآخر مجاز، جاز أن يُراد بها ذلك إذا قدّر التنافي.
يجوز الأمر بما يعلم من حال المخاطب به امتناعه منه بدون منع.
باب النهي
النهي قول القائل لغيره لا تفعل على جهة الاستعلاء دون الخضوع مع كون الناهي كارهاً للمنهي عنه.
لا تعليل للنهي لماذا كان نهياً.
ليس المعقول من كونه نهياً إلا ورود الصيغة على جهة الاستعلاء مع الكراهة.
النهي حقيقة في القول دون الفعل.
النهي المطلق يقتضي وجوب الانتهاء وتكرره، وكذلك النهي المقيد بالصفة يقتضي ذلك.
النهي الشرعي يدل على فساد المنهي عنه في باب العبادات والمعاملات.
باب العموم والخصوص
العموم: هو ما يستغرق جميع ما يصلح له.
والخصوص: ما يتناول شيئاً مخصوصاً دون غيره مما كان يصح أن يتناوله.
لفظ الجنس والأسماء المشتقة من الأفعال من ألفاظ العموم إذا لم يرد بها معهوداً.
أقل الجمع ثلاثة.
أقل الجمع إذا أُطلق وجب حمله على الثلاثة فما زاد عليها إلا أن يمنع منه الدليل.
إذا خُصّ العموم فإن فُهم المراد منه فهو حقيقة، وإن لم يُفهم فهو مجاز.
العموم يخصص بالاستثناء المتصل دون المنفصل.
يجوز استثناء الأكثر.
الاستثناء في الجمل المعطوفة يعود إلى جميعها إذا صح رجوعه.
المطلق المنفصل عن المقيد إذا كانا في حكمين مختلفين وهما من جنس واحد وجمعهما علة توجب الاشتراك وجب حمل المطلق على المقيد بالقياس، وإن لم يجمعهما علة لم يجز حمل أحدهما على الآخر بالقياس.
التخصيص بالعقل جائز.
تخصيص السنة بالسنة جائز.
لا يخصص بأخبار الآحاد فيما يوجب الرجوع إلى العلم، ويجوز فيما يكفي فيه الظن.
يجوز التخصيص بالقياس.
يجوز تخصيص الجمع المعرّف بالألف واللام وإن خُصّص بواحد، وتلحقه بباب المجاز دون الحقيقة.
لا يقصر العموم على سببه.
لا يخص العموم بقول الراوي.
يقع التخصيص في الأخبار كما يقع في الأوامر.
إذا وردت جملة عامة في حكم من الأحكام فلا يخصصها إفراد بعض الجملة بذكر أو صفة.
إذا جوَّز المكلف ورود التخصيص في الحكم العام لزمه التوقف حتى يعثر عليه مع البحث.
باب المجمل والمبين
البيان هو: كل دليل يكشف بنفسه عن معنى المجمل.
يقع البيان بالقول والفعل والتقرير.
لا يجب كون البيان مساوياً للمبَيَّن في الظهور، فيجوز بيان القطعي بالظني.
آيات المدح والذم ليست من باب المجمل.
قول الله تعالى: {لَا يَسْتَوِي أَصْحَابُ النَّارِ وَأَصْحَابُ الْجَنَّةِ} [الحشر:20]، من باب المجمل.
قول الله تعالى: {وَلَا تَيَمَّمُوا الْخَبِيثَ مِنْهُ تُنْفِقُونَ} [البقرة:267]، من باب المجمل.
قوله تعالى: {وَامْسَحُوا بِرُءُوسِكُمْ} [المائدة:6]، ليست من باب المجمل.
قوله -صَلَّى الله عَلَيْه وآله وسَلَّم-: ((لا صلاة إلا بفاتحة الكتاب)) ونحوه، ليس من باب المجمل.
إذا خص العموم فإن عُلِم المراد منه فهو مُجْمل، وإلا فليس بمجمل.
إذا كان التبليغ مؤقتاً فلا يجوز تأخيره.
إذا لم يكن مؤقتاً جاز التأخير في التبليغ إن علمت المصلحة وإن لم تعلم لم يجز.
لا يجوز تأخير البيان إلا بشرطين:
أن ينبّه الله على أنه سيبين وقت الحاجة.
أن يكون الفعل الواجب من قبيل التراخي.
13- يجوز للمكلف سماع العام المخصوص وإن لم يسمع المخصص، ويلزمه طلب البحث عن المخصص.
14- إذا علق الحكم بصفة فلا يخلو:
أن تكون الصفة بياناً أو ما يجري مجرى البيان فإنها تدل على أن ما عدا الحكم بخلافه.
وأن لا تكون كذلك فهي خارجة عن الحكم.
15- إذا كان الحكم معلقاً بشرط أو غاية فإنه يدل على أن ما عدا الحكم بخلافه.
16- إذا تعلق التحليل والتحريم بالأعيان فليس بمجمل ويجوز التعلق بظاهره.
17- حديث: ((إنما الأعمال بالنيات)) ونحوه ليس بمجمل.
18-إذا تعارض عمومان ولم يظهر بينهما ترجيح طُرحا.
19- إذا ورد عام وورد عقيبه استثناء أو شرط فلا يقصر على ما تعلق به الاستثناء والشرط.
20- المعلوم بفحوى الخطاب لا يفتقر في معرفته إلى غير الظاهر.
باب الناسخ والمنسوخ
لفظ النسخ منقول من اللغة إلى الشرع.
النسخ في اللغة: النقل والإزالة.
وشرعاً: إزالة مثل الحكم الشرعي بطريق شرعي على وجه لولاه لكان ثابتاً؛ مع تراخيه عنه.
الناسخ هو الطريق الشرعي الموجب ثبوت الحكم على المكلف به ما لم يرد عليه النسخ.
يجوز النسخ وإن لم يقترن بالمنسوخ التنبيه والإشعار.
لا فرق بين الأمر المطلق والمقيد بالتأبيد في جواز ورود النسخ عليه.
يجوز نسخ الأشق بالأخف، والعكس، والنسخ إلى غير بدل.
يجوز ورود النسخ في الأخبار إذا كانت مما يجوز تغير مخبراتها.
لا يجوز النسخ فيما لا يجوز تغير مخبراتها كصفات الله.
يجوز نسخ التلاوة دون الحكم، والعكس، وجميعاً.
لا يجوز نسخ الشيء قبل إمكان فعله.
إذا كانت الزيادة شرعية بدليل شرعي منفصل وأزالت حكماً شرعياً على شرائط النسخ فالزيادة تقتضي النسخ.
النقصان نسخ إذا أزال حكماً شرعياً كان ثابتاً للجملة ووقع بدليل شرعي، وإن لا فلا.
يجوز نسخ الكتاب بالكتاب.
يجوز نسخ السنة بالسنة.
يجوز نسخ الكتاب بالسنة.
لا يجوز نسخ الكتاب والسنة المتواترة بالآحاد.
يقع النسخ بأفعال النبي -صَلَّى الله عَلَيْه وآله وسَلَّم- وتقريراته.
باب الأخبار
الخبر هو الكلام المفيد الذي يحسن مقابلته بالتصديق والتكذيب.
ينقسم إلى صدق وكذب ولا واسطة بينهما.
الصدق: هو الخبر الذي يكون مخبره أو ما يجري مجرى المخبر على ما تناوله.
الكذب: هو الخبر الذي لا يكون مخبره ولا ما يجري مجرى المخبر على ما تناوله.
لا حكم للخبر بكونه خبراً.
الأخبار المتواترة طريق إلى العلم الضروري.
يحصل العلم وإن كان المُخْبِر فاسقاً أو كافراً.
خبر الواحد يوجب العلم، وإن لم يقارنه سبب.
ورد التعبد بخبر الواحد عقلاً وشرعاً.
لا يُقْبل خبر المجهول إذا لم تُعْلم عدالته، وإن عُلمت قُبِل.
يقبل خبر المُخْتلف في اسمه إذا عُلمت عدالته.
يُقْبل خبر فاسق التأويل إلا أن يُعْلم أنه ممن يستجيز الكذب.
يُقْبل خبر المغفّل إذا غلب ضبطه، وإن غلبت غفلته وسهوه أو عُلمت غفلته في خبر رُدَّ ولم يقبل. وإن استوى الأمران فطريقه الاجتهاد.
إذا روى الراوي العدل عن غيره وأنكر ذلك الغير قُبلت الرواية.
الزيادة من الراوي العدل مقبولة مطلقاً.
تُقْبل المراسيل على الإطلاق.
يُقْبل خبر المدلِّس.
إذا رفع أحد الرواة ووقف الراوي الآخر قُبِل الخبر.
تجوز الرواية بالمعنى من العدل العارف الضابط.
لا يُقْبل خبر الواحد في الأصول.
لا يُقْبل خبر الواحد فيما تعمّ به البلوى علماً.
يُقْبل خبر الواحد فيما تعم به البلوى عملاً.
يُقْبل الخبر المخالف للقياس، ويرد القياس.
لا يُقْبل الخبر الوارد خاصاً إذا كانت العادة تقضي في مثله أن ينقل نقلاً عاماً.
يُقْبل الخبر المخالف للأصول إذا ورد على الشرائط التي يجب قبول الخبر الآحادي مع توفرها.
يُقْبل خبر الواحد إذا ورد في الحدود أو فيما يجب درؤه بالشبهة.
يُقْبل الخبر الوارد في المقادير.
الصحابي من اختص بملازمة النبي -صَلَّى الله عَلَيْه وآله وسَلَّم- والأخذ عنه.
إثبات صحابة الصحابي إما بالتواتر أو الآحاد.
إذا قال الصحابي: (عن رسول الله)، حُمل على السماع والإرسال.
إذا قال: (من السنة)، حُمل على السنة النبوية.
إذا ذكر الصحابي حكماً لا يعلم إلا توقيفاً لم يكن اجتهاداً، وإن كان لما قال وجه من وجوه الاجتهاد حُمل عليه.
إذا تعارض الخبران وكانا معلومين فلا يخلو:
إما أن يعلم التاريخ فيهما كان المتأخر ناسخاً للمتقدم.
وإما أن يعلم التأريخ في أحدهما عُمل به.
وإما أن يجهل التاريخ فيرجع إلى الترجيح.
إذا تعارض خبران مظنونان رجع إلى الترجيح.
إذا كان أحد الخبرين معلوماً والآخر مظنوناً عُمل بالمعلوم.
أمير المؤمنين علي بن أبي طالب -عَلَيْه السَّلام- معصوم.
قوله وفعله وتقريره حجة من جملة الأصول.
الكثرة طريق إلى الترجيح.
عمل أكثر الصحابة طريق إلى الترجيح.
لا يرجّح خبر الأعلم بغير ما يرويه.
الإسناد لا يوجب الترجيح على الإرسال.
لا يرجّح خبر الحر على العبد، ولا الذكر على الأنثى.
يرجّح ما يثبت الحد على ما يدرؤه؛ لأن المثبت أولى.
إذا تعارض خبران بين الحظر والإباحة، فإن كان للعقل حكم فيهما عُمل به، وإلا رُجّح الحظر على الإباحة.
إذا تعارض خبران بين إثبات العتاق ونفيه فالمثبت أولى.
يجوز ورود خبرين لا ترجيح بينهما فيطرحان جميعاً.
يُقبل خبر الصبي الذي سمعه في الصبا ورواه في الكبر.
لا يجوز قبول رواية الصغير حال صغره.
لا تُرجّح رواية الكبير على الصغير.
باب الأفعال
لا يدل العقل على وجوب التأسي، وإنما الشرع هو الدليل عليه.
يجب التأسي بالنبي -صَلَّى الله عَلَيْه وآله وسَلَّم- في جميع الأحكام الشرعية إلا ما خصه دليل.
يعتبر في التأسي صورة الفعل، ووجهه، وسببه، ووقته، ومكانه، وتطويله، وتقصيره، وتقليله وتكثيره.
إذا كان الفعل لدلالة عقلية فلا تأسي فيه، وإن كان لدلالة شرعية فإن كان مبيناً فالحكم واحد، وإن كان بياناً للمجمل فالتأسي فيه.
يجوز تعارض الأفعال.
لم يُتَعَبّد النبي -صَلَّى الله عَلَيْه وآله وسَلَّم- بشيء من الشرائع قبل البعثة.
تُعُبِّد النبي -صَلَّى الله عَلَيْه وآله وسَلَّم- بجميع الشرائع إلا ما عرض فيه نسخ أو منع.
باب الإجماع
الإجماع حجة يجب اتباعها ويحرم خلافها.
يعتبر في الإجماع بالمؤمنين في كل عصر من دون تخصيص، إلا إذا كانت المسألة مما لا سبيل للعوام إلى معرفته فلا يشترط إجماع العوام مع العلماء.
العوام إذا لم يتبعوا العلماء فسقوا.
خلاف الواحد والاثنين يؤثّر في الإجماع.
أخبار الآحاد تقدح في الإجماع.
يعتبر التابعي في إجماع الصحابة إذا كان في عصرهم، ويقدح في الإجماع خلافه.
يعتبر في الإجماع مَنْ لم يُعْرف بالفتوى.
إجماع أهل المدينة وحدهم ليس بحجة.
لا يحصل الاستدلال على صفات الله بالإجماع.
الإجماع إذا كان في الأمور الدنيوية كآراء الحروب لم يجز خلافه إذا كان في الوجه الذي يقع القتال عليه، وإن كان في زمن وقوعه ونحوه جاز خلافه.
يجوز انعقاد الإجماع من جهة الاجتهاد.
إذا أجمع أهل العصر الأول على أمر لم يجز لأهل العصر الثاني خلافه.
إذا اختلف أهل العصر على قولين فإنه يجوز الإجماع على أحدهما.
وقوع الاختلاف بعد الاتفاق غير جائز.
انقراض أهل العصر غير شرط في صحة الإجماع.
يجوز إحداث قول ثالث غير رافع للقولين الأولين.
يجوز إحداث دليل ثالث وعلة ثالثة إذا لم يعلم من الأمة المنع منه.
يعلم إجماع الأمة بأمور منها:
أن يتفقوا على فعل من الأفعال ويفعلوه جميعاً.
أو يقولوا بأجمعهم قولاً واحداً.
أن يفعل أو يقول البعض ويسكت البعض من غير حامل على السكوت.
إذا اختلفت الأمة على قولين وفسقت إحدى الطائفتين سقط الخلاف.
يثبت الإجماع ولو نقل آحاداً.
قول الصحابي في المسألة الاجتهادية إذا لم يعلم له مخالف ليس بحجة ولا إجماع.
قول آحاد الصحابة ليس بحجة إلا علياً -عَلَيْه السَّلام- كما تقدم.
باب القياس
أركان القياس: الأصل والفرع والحكم والعلة.
الأصل هو الخبر الدال على ثبوت الحكم. والفرع: هو الحكم المطلوب إثباته بالتعليل.
التعبد بالقياس وارد عقلاً وسمعاً.
يجوز تعبد النبي -صَلَّى الله عَلَيْه وآله وسَلَّم- بالقياس والاجتهاد عقلاً.
يجوز الاجتهاد في عصر النبي -صَلَّى الله عَلَيْه وآله وسَلَّم- لمن غاب دون من حضر، وحدّ الغائب من لا يمكنه سؤال النبي -صَلَّى الله عَلَيْه وآله وسَلَّم-.
لا يجوز ورود التعبد بالقياس في جميع الشرعيات.
لم يكن النبي -صَلَّى الله عَلَيْه وآله وسَلَّم- متعبداً بالاجتهاد في الشرعيات.
القياس دين مأمور به.
العلّة ما أثّرت في ثبوت حكم شرعي.
لا يدل طرد العلة على صحتها.
لا تعليل بالاسم ولا بجميع أوصاف الأصل.
عكس العلة لا يوجب فسادها.
طريق وجود العلة قد تكون دلالة أو أمارة.
لا بد للقياس من علة ولا بد أن يكون إليها طريق.
الشبه هو ما يستوي فيه الشيئان من الصفات الذاتية أو غيرها.
يعتبر في الشبه بين الأصل والفرع كل ما له تأثير في الحكم لا فرق بين اعتبار الصورة والجنس في ذلك.
يجوز القياس على الخبر الوارد على خلاف قياس الأصول إذا كان الخبر مقطوعاً به أو اتفق على تعليله أو ورد التنبيه على علته، أو وافقه قياس أصل يعضده.
لا يجوز إثبات أصول الشرائع بالقياس.
يجوز إثبات فروع الشرائع بالقياس.
يجوز إثبات الأسامي اللغوية بالقياس ابتداء، ولا يجوز إثبات الأسماء الشرعية بالقياس لإثبات حكم.
يجوز تخصيص العلة منصوصة كانت أو مستنبطة.
فحوى الخطاب ليس بقياس.
الاستحسان هو العدول عن الحكم في الحادثة بحكم نظائرها لدلالة تخصّه هي أقوى فيها من الأولى عند المجتهد.
باب الترجيح
الترجيح هو الشروع في تقوية أحد الطريقين الشرعيين على الأخرى.
فائدته: تقوية الظن الصادر عن إحدى الأمارتين عند تعارضهما.
أقسام ترجيح العلّة: أ- ما يرجع إلى طريقها. ب- ما يرجع إلى حكمها في الأصل والفرع. ج- ما يرجع إلى مكانها. د- ما يرجع إلى مجموعها.
*- فالذي يرجع إلى طريقها:
أن تكون طريق وجود أحدهما أقوى من طريق وجود الأخرى في أصلها وفرعها، ويكون ذلك بالتالي:
أن يعلم وجوده بالحس والصورة، أو بالاستدلال، أو وجودها بدليل والأخرى بأمارة.
أن تكون علّة حكم الأصل أقوى بأن تكون نصاً صريحاً والأخرى تنبيه نص أو استنباط.
* - وترجيح العلّة بما يرجع إلى حكمها في الأصل بطريقين:
أن تكون طريق ثبوت أحد الحكمين أقوى من ثبوت الأخرى، نحو أن يدل على حكم الأصل دليل قاطع، والآخر أمارة.
أن يكون طريق ثبوت أحدهما الشرع والآخر العقل، فيرجح الشرع.
*- وترجيح العلة بما يرجع إلى حكمها في الفرع أقسام كثيرة منها:
أن يكون أحد الحكمين حظراً والآخر إباحة، فالحظر أولى.
أن يكون حكم أحد العلتين إثبات عتاق والأخرى نفيه، فلا ترجيح بينهما.
المثبت للحد أولى من المسقط.
أن يكون حكم أحدهما أزيد من الأخرى كالندب والإباحة، فيرجح الأزيد.
أن تكون إحدى العلتين قد شهدت لها الأصول فهي أولى.
يقع الترجيح بقول الصحابي.
إذا عضدت العلة علة أخرى رجح بها.
التي لا تُخَصَّص أولى من المُخَصَّصة.
لا ترجيح بأن حكم أحد العلتين يتبعها في جميع الفروع.
*- والترجيح بما يرجع إلى الأصل:
أن تكون إحدى العلتين منتزعة من أصول والأخرى من أصل.
*- والترجيح بما يرجع إلى الفرع:
لا ترجيح بأن تكون فروع إحدى العلّتين أكثر.
4- إذا تساوت الأمارات عند المجتهد فتطرح، ويرجع إلى طريق سواها وإلا رجع إلى طريق النقل.
5- لا يجوز أن يكون للمجتهد قولان متنافيان في المسألة.
6- المذهب هو كل قول صادر عن دلالة أو أمارة أو شبهة أو تقليد.
7- يضاف المذهب إلى العالم بما يأتي:
أن يأتي بالحكم في مسألة بعينها، أو يأتي بلفظ عام يشمل تلك المسألة وغيرها، أو يعلم أنه لا يفرق بين مسألتين فينص على حكم إحداهما، أو يعلل الحكم بعلة في عدة مسائل.
8- لا يجوز تفويض الله إلى المكلف التحليل والتحريم.
9- كل مجتهد مصيب في اجتهاده، وفيما أداه إليه اجتهاده.
10- المسائل التي يختلف فيها المجتهدون لا حكم للأشبه فيها.
11- يجوز التقليد بأقاويل مختلفة.
باب المفتي والمستفتي
ليس للمفتي تخيير المستفتي في قبول فتواه، أو فتوى غيره في المسألة الخلافية.
يجوز التقليد في مسائل الفروع.
لا يجوز للمستفتي أخذ الفتوى إلا بعد النظر في حال المفتي مما يأتي:
أن يكون ممن يجوز له الاجتهاد، وبأن ينتصب للفتوى، والناس يأخذون عنه، وأن يكون متديناً ورعاً.
إذا اتفق المفتون وجب أخذ ما اتفقوا عليه.
إذا اختلفوا طلب المستفتي أعلمهم وأدينهم، فإن اتفقا في العلم فأورعهما، وإن اتفقا في الدين فأعلمهما.
وإذا تساوت أحوال المفتين فللمستفتي أن يختار أي العلماء شاء ويأخذ بقوله في جميع المسائل.
لا تقبل فتوى فاسق التأويل.
لا يجوز التقليد في الأصول.
لا يجوز للمجتهد التقليد.
الحظر والإباحة
المحظور هو الذي نهى الله عنه بالوعيد والنهي والزجر.
ما ليس للقادر عليه أن يفعله من كان عالماً بقبحه أو متمكن من ذلك.
المباح: ما لم يترجح تركه على فعله، ولا العكس، إذا صدر عن عالم به.
الحظر: المنع من الفعل بالنهي والزجر والوعيد.
الإباحة: تعريف المكلف جنس الفعل، وأنه لا يترجح فعله على تركه ولا العكس.
حكم الأشياء قبل ورود الشرع على الإباحة.
مَنْ نفى حكماً عقلياً أو شرعياً وجب عليه إقامة الدليل.
طريقة استصحاب الحال فاسدة على كل وجه.
فهذا ما أمكن جمعه وتحصيله من اختيارات الإمام -عَلَيْه السَّلام- وقد احتج لاختياراته واستدل لكل مسألة بما يدل على صحتها وستجد ذلك في أثناء هذا الكتاب القيم.
ولم تزل كتب الأصول والفقه مشحونة ومرصعة بذكر اختيارات الإمام -عَلَيْه السَّلام-، التي تدل على بسطته وتمكّنه في العلوم.
نسبة الكتاب
نسبة هذا الكتاب إلى الإمام المنصور بالله عبدالله بن حمزة -عَلَيْه السَّلام- مشهورة بين أوساط الزيدية، وقد اعتمدها كثير من علماء الأصول وجعلوها من أصول مؤلفاتهم التي رجعوا إليها ونقلوا عنها، وهي تعد من أوائل الكتب التي ألفها الإمام -عَلَيْه السَّلام-، ولم يزل يحيل عليها في مواضع كثيرة من مؤلفاته كالشافي وشرح الرسالة الناصحة وغيرهما.
ونحن نرويها وجميع مؤلفات الإمام -عَلَيْه السَّلام- بطريق الإجازة عن عدّة من العلماء بطرقهم نذكر أعلاها وأرفعها:
عن الإمام الحجة مجدالدين بن محمد بن منصور المؤيدي أيده الله تعالى، عن أبيه السيد العلامة محمد بن منصور المؤيدي، عن الإمام المهدي بن القاسم الحوثي، عن الإمام محمد بن عبدالله الوزير، عن الحسين بن يوسف زبارة، عن أبيه يوسف بن الحسين زبارة عن أبيه الحسين بن أحمد زبارة، عن عامر بن عبدالله بن عامر الشهيد، عن محمد بن القاسم بن محمد بن علي، عن الإمام المنصور بالله القاسم بن محمد، عن أمير الدين بن عبدالله بن نهشل، عن أحمد بن عبدالله الوزير، عن الإمام المتوكل على الله يحيى شرف الدين، عن الإمام محمد بن علي السراجي، عن الإمام عزالدين بن الحسن، عن الإمام المطهر بن محمد بن سليمان الحمزي، عن الإمام أحمد بن يحيى المرتضى، عن أخيه الهادي بن يحيى، عن الفقيه قاسم بن أحمد المحلي، عن أبيه أحمد، عن أبيه الشهيد حميد بن أحمد المحلي، عن الإمام المنصور بالله عبدالله بن حمزة -عَلَيْه السَّلام-.
نُسَخ الكتاب
لم أتمكن من العثور إلا على نسخة واحدة من نسخ هذا الكتاب رغم أني قد بحثتُ في عدّة مكتبات خاصة وسألتُ عدداً من العلماء، فكانت النسخة المتداولة هي التي لديّ، وبحمد الله لم تكن هناك صعوبات في الأصل، وما أشكل -مع قلّته- رجعنا إلى بعض المؤلفات لتبيينه كالمعتمد لأبي الحسين البصري، أو المقنع الشافي أو غيرهما.
والنسخة التي بيدي مصورة من أصل بمكتبة آل الذاري قال في آخرها: وافق الفراغ من زبره قبيل غروب الشمس في يوم الأربعاء الحادي عشر من شهر جماد الأولى سنة (1034هـ) والحمد لله أولاً وآخراً وهو حسبنا ونعم الوكيل ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم. برسم مالكه الفقير المحتاج السيد علي بن إبراهيم بن عبدالله بن إبراهيم بن صلاح بن المهدي بن الهادي القاسمي نسباً والمحنكي بلداً.
ونسأل الله أن يتقبل صالح أعمالنا، وأن يجعلها خالصة لوجهه الكريم، وأن يرزقنا اتّباع الحق، والعلم والعمل به إنه على كل شيء قدير، وصلى الله على محمد الأمين وآله الطاهرين.
إبراهيم يحيى عبدالله الدرسي
يوم الأحد: 1/ صفر/ 1423هـ
14/ 4/ 2002م
[مقدمة المؤلف]
بسم الله الرحمن الرحيم، وبه نستعين، وصلى الله على محمد وآله وسلم:
الحمد لله الذي جعل الحمد ذريعة للراغبين فيه إلى أعلى المراتب، والشكر سبيلاً للمريدين مما لديه من نفيس المطالب والمكاسب، ويسّر ذلك وسهّله، وزينه وجمَّله، وتمّمه وكمّله، بابتعاثه الداعي إليه، والدال عليه، نبي الرحمة، وسيّد الأمة، من أشرف بيت في أبناء لؤي بن غالب، وآزره وعضده وعمده بأخيه وابن عمه علي بن أبي طالب؛ فكان صلى الله عليه مدينة العلم وعلي بابها، كما نقل ذلك عنه حملة الهداية وأربابها، من قوله: ((أنا مدينة العلم وعلي بابها، فمن أراد المدينة فليأتها من بابها(1))).
__________
(1) ـ حديث: ((أنا مدينة العلم وعلي بابها..إلخ)) من الأحاديث الصحيحة المشهورة رواه أئمتنا وجمع من المحدثين؛ فممن رواه: الإمام الهادي -عَلَيْه السَّلام- في كتاب فيه معرفة الله عز وجل (طبع ضمن مجموع رسائل الإمام الهادي 53)، والإمام محمد بن القاسم بن إبراهيم -عَلَيْهم السَّلام- في الأصول الثمانية (66) والإمام المنصور بالله -عَلَيْه السَّلام- في الشافي من عشر طرق مسندة (3/232)، وصاحب المحيط بالإمامة (خ)، والإمام المنصور بالله القاسم بن محمد -عليهما السلام- في الإرشاد الهادي إلى سبيل الرشاد، والإمام المتوكل على الله إسماعيل بن القاسم في العقيدة الصحيحة، وأورده القاضي العلامة الحسين بن أحمد السياغي بطرقه ورواياته في الروض النضير (1/109، 118)، ورواه الشريف الرضي في مجازات السنة النبوية (203، 204).
وأخرجه السيوطي في الجامع الصغير (1/161) رقم (2705)، ومحب الدين الطبري في الرياض (3/159)، وفي الذخائر (77)، والحاكم في المستدرك (3/126) وقال: حديث صحيح الإسناد، ورواه أيضاً من طريق أخرى (3/127)، والطبراني في الكبير (11/65) رقم (11061)، والحموي في فرائد السمطين (1/98) رقم (67)، والديلمي في الفردوس (1/44) رقم (106)، وابن أبي حاتم في الجرح والتعديل (6/99)، وابن الأثير في أسد الغابة (4/22) عن ابن عباس، وابن عساكر في ترجمة أمير المؤمنين علي (ع) (2/464) رقم (991) عن علي (ع) ورقم (992) عن ابن عباس، والحافظ السمرقندي كما في تذكرة الحفاظ (4/1231)، وصححه عن ابن عباس.
وابن المغازلي الشافعي في المناقب من عدة طرق فعن جابر من طريقين (71، 72) رقم (125)، وعن علي عليه السلام من طريقين (72) رقم (122)، (73) رقم (126)، وعن ابن عباس من ثلاث طرق (71) رقم (121)، (72) رقم (121، 124)، وروى نحوه محمد بن سليمان الكوفي في المناقب (2/558) رقم (1071)، والخطيب البغدادي في تاريخ بغداد (11/48)، وبطريق آخر (7/172)، وبطريق ثالث (4/348) عن ابن عباس، وابن حجر في تهذيب التهذيب (6/320)، و(7/427)، والمتقي في كنز العمال (11/614) رقم (32979) و(13/148) رقم (36463)، والمناوي في فيض القدير (3/46)، وفي الحقائق (43)، وابن حجر في الصواعق (73)، والحاكم الجشمي في تنبيه الغافلين (86)، وابن عدي في الكامل (1/195) عن جابر بن عبدالله الأنصاري، والحاكم الحسكاني في شواهد التنزيل (1/334) رقم (459)، و(2/272) رقم (1009) عن علي -عَلَيْه السَّلام- ورواه الهيثمي في مجمع الزوائد (9/114) عن ابن عباس، وقال: أخرجه الطبراني.
ورواه أيضاً السمهودي في جواهر العقدين، وقال عقبه: رواه الإمام أحمد في الفضائل عن علي -رضي الله عنه- والحاكم في المناقب من مستدركه والطبراني في معجمه الكبير وأبو الشيخ وابن حبان في السنة له وغيرهم كلهم عن ابن عباس مرفوعاً به بزيادة فمن أتى العلم فليأت الباب ورواه الترمذي من حديث علي مرفوعاً: ((أنا مدينة العلم وعلي بابها))..إلى قوله: وقال الحاكم عقب الأول: إنه صحيح الإسناد. انتهى.
وقال السيد العلامة نجم العترة الحسن بن الحسين الحوثي -رحمه الله- في تخريج الشافي: أخرجه الحاكم والخطيب وابن عدي والعقيلي وعبدالوهاب الكلابي عن ابن عباس كلهم، ورواه عبدالوهاب بطريق أخرى عن ابن عباس بلفظ: ((فمن أراد العلم فليأته من بابه)) وصححه الحاكم وابن جرير الطبري عن ابن عباس، وأخرجه الحاكم عن جابر، وأخرج نحوه الكنجي عن جابر والطبراني عن ابن عباس بلفظ: ((لا تؤتى البيوت إلا من أبوابها)) وأخرجه الكنجي عن علي. انتهى.
وأخرج منهما نسلاً كثيراً طيباً، بعثهم في الأرض بمنزلة الكواكب، لا يتأخر طالعهم عند أفول الغارب، أضاءت بأنوار علومهم المشارق والمغارب، ورتعت في رياض حلومهم الأعاجم والأعارب، رسخت بهم أصول الدين، وشمخت فروعه، وابتهج بحميد عنائهم معقول التعبد ومسموعه، أنقذوا عباده من الجهالة، وهداهم بهم من الضلالة، فله الحمد على ذلك كثيراً.
وبعد ذلك: فإن العلم وإن كثرت فنونه، وتفرقت شجونه، فإن أجله قدراً، وأهمه أمراً، وأوجبه حقاً بعد معرفة الله سبحانه وصفاته، وما يجوز عليه وما لا يجوز من توحيده وعدله وصحة نبوة رسله -صلوات الله عليهم-، وما يتعلق بذلك ويبنى عليه من فروعه اللازمة له بعد معرفة كلامه سبحانه، وأقسامه وأحكامه، وما يجوز عليه فيه وما لا يجوز، وكلام نبيه صَلَّى الله عَلَيْه وآله وَسَلَّم وأقسامه أيضاً وأحكامه، وما يجوز عليه وما لا يجوز، وما يتبع ذلك ويبنى عليه من فروعه اللازمة له، ويتعلق به، وحكم عارفه، وحكم جاهله، وحكم ما لم يدخل تحته، وهذا هو المراد بأصول الفقه.
وقد دل على ذلك الدليل العقلي، وترتب عليه التعبد الشرعي؛ فإن الأمر فيه عظيم، والجهل على بعض الوجوه قبيح، ولحاقُهُ بصاحبه أجدر.
ومثاله ما يعلم من أن أحدنا إذا علم أن بين يديه ملكاً قادراً وأنه قادم عليه لا محالة، وعلم أن له عليه حقاً واجباً، وأن الملك لا يقبل في حقه إلا نقداً مخصوصاً، فإنه يجب عليه في قضية العقل معرفة النقد معرفة حقيقة ليحصله مخلصاً له عن عهدة ما لزمه، ولا تحصل معرفة بدون دلالة.
ولأنا أيضاً قد علمنا من جهة العقل أنه يجب علينا اجتناب قبائح عقلية بالعقل، وعلمنا بالدلالة أنا مع الإتيان بالواجبات الشرعية نكون أقرب إلى الإتيان بالواجبات العقلية، والاجتناب للمقبحات العقلية.
وصار مثال ذلك في الشاهد ما نعلمه من أن أحدنا لو وجب عليه قضاء دين أو رد وديعة، وكان يتمكن من ذلك بفتح الباب، وإخراج المال، وتلحقه بعض مشقة، فإنه يقبح منه انتظار من يتحمل منه مؤنة هذه المشقة، ولا تكون مؤنة الفتح له في ترك الرد والقضاء عذراً، وحق الله سبحانه ألزم من حق العباد، وعهده أمر أوجب، فما أقرب أمر بعض هذين الفنين من بعض، والله المستعان، وما ذكرنا من هذا الإحتجاج هو الذي قضت به أصول أصحابنا، فمن تأملها فضل تأمل علم ذلك، وقد كان من تقدم من آبائنا -صلوات الله عليهم- ومن تابعهم من علماء شيعتهم -رضي الله عنهم- وَسَّعوا في هذين الفنين وصنّفوا وأجملوا، وحقّقوا وجلّلوا ودقّقوا؛ فجزاهم الله عنا خيراً.
[الداعي للأئمة(ص) وعلماء شيعتهم -رضي الله عنهم- إلى التأليف]
والداعي لهم إلى ذلك شدة الرغبة في هداية العباد، والتعرض لما أعد الله سبحانه لمن هدى إلى طريق الرشاد، فصار المتعرض بعدهم لتصنيف كتاب، وتبيين خطاب، لا يجتني إلا من ثمارهم، ولا يمشي إلا في آثارهم، ولا يستضيء إلا بأنوارهم، ولولا أن من يُعْلم فضله -مع تفضيله من كان قبله- سعى في مثل هذا الشأن، ما جرينا في هذا الميدان، ونرجوا من الله سبحانه أن يجعل أعمالنا خالصة لوجهه، ولا يخليها من القصد المطابق لما يفهم من ظاهرها بحقه، حتى يستوي السر والعلانية فيعظم الأجر، ويجبر ثواب الطاعة مشقة الفعل، ولا يجعلنا من الأخسرين أعمالاً، الذين ضلّ سعيهم في الحياة الدنيا وهم يحسبون أنهم يحسنون صنعاً.
[الداعي له (ع) إلى تأليف هذا الكتاب]
وقد كان من جماعة من الإخوان الراغبين في العلم النافع، والطالبين للعمل الرافع، تعويل في تصنيف مختصر في أصول الفقه، يعم المهم من أقوال العلماء، ويخص أصول أصحابنا من أئمتنا -عَلَيْهم السَّلام-، وأتباعهم -رضي الله عنهم-، ونبين ما نختاره من ذلك ونعتمد عليه لمذهبنا بأدلته، وتمييز شرطه وعلته، فأجبتهم إلى ذلك تعرضاً لما أعد الله سبحانه لمن هدى إلى صراط مستقيم، أو دعا إلى منهاج قويم، وبالله أستعين وأستمد، وإياه أستهدي وأسترشد، صلى الله على محمد وآله.
فصل:[في تعريف الفقه]
اعلم أرشدك الله وهداك، وآثرك وتولاك: أن الفقه في أصل اللغة: هو العلم، بدليل أنك لا تقول: فقهت هذا الأمر وما علمته، ولا علمته وما فقهته، بل يعد من قال ذلك مناقضاً جارياً مجرى من يقول علمت وما علمت.
ثم قد صار بعرف العلماء مفيداً للعلم أو الظن بجمل من الأحكام الشرعية وعللها وأسبابها وشروطها التي لا يُعْلَمُ باضطرارٍ أنها من الدين، فمن علمها على هذا الوجه، فقد علم الفقه، ومن لم يعلمها على هذا الوجه بل ظنها أو قلّد فيها لم يكن فقيهاً.
فصل:[في بيان طرق الفقه]
واعلم أنا نريد بقولنا: أصول الفقه: طرق الفقه، وطرق الفقه تنقسم إلى: دلالة وأمارة.
فالدلالة: هي ما كان النظر فيها على الوجه الصحيح يوصل إلى العلم.
والأمارة: ما كان النظر فيها على الوجه الصحيح يقتضي غالب الظن.
فصل:[في أقسام الدلالة والأمارة]
والدلالة أولى بتقديم الذكر من الأمارة؛ فالدلالة: الكتاب المعلوم، والسنة المعلومة، والإجماع المعلوم، والأفعال المعلومة، ويدخل تحت هذه الجملة الأوامر والنواهي، والخصوص والعموم، والمجمل والمبين، والناسخ والمنسوخ، من كلام الله سبحانه وكلام رسوله صَلَّى الله عَلَيْه وآله وَسَلَّم، ويلحق بذلك أفعال النبي صَلَّى الله عَلَيْه وآله وَسَلَّم وإجماع عترته وأمته.
والأمارة: ما عدا ذلك وهي: أخبار الآحاد، والقياس، والإجتهاد، لأن النظر فيها على الوجه الصحيح لا يوجب إلا غالب الظن، كما قدمنا على ما يأتي بيانه فيما بعد إن شاء الله تعالى.
فصل
فمن علم هذه الجملة مفصلة كما ذكرنا أولاً فهو فقيه، وجازت فتواه، وهو المراد بقولنا: مفتي، ومن لم يفهمه فليس بفقيه، ولم يجز له الفتوى على ما نختاره.
فصل
وما خرج عن هذه الجملة بقي على حكم العقل، فما حظره فهو محظور، وما أباحه فهو مباح، وهو المراد بالكلام في الحظر والإباحة.
فصل:[في أقسام سنَّة النبي -صَلَّى الله عَلَيْه وآله وَسَلَّم-]
واعلم أن سنة النبي صَلَّى الله عَلَيْه وآله وَسَلَّم تنقسم إلى: قول وفعل وتقرير؛ فالقول والفعل ظاهران.
والتقرير كأن يرى النبي صَلَّى الله عَلَيْه وآله وَسَلَّم غيره ممن يلتزم شريعته يفعل فعلاً شرعياً ثم لا ينهاه عنه مع التمكن، أو يقول له كيف تفعل في صلاتك مثلاً؟ فيقول: كذا وكذا، فيسكت عنه، فإن ذلك يدل على تصويبه، لولا ذلك(1) لأنكر عليه؛ لأن التغرير والتعمية والإقرار على المعصية لا يجوز عليه صلوات الله عليه؛ لكونه إماماً ورسول حكيم لا يجوز أن يعلم من حاله ذلك، ولا شيئاً من القبائح.
فصل:[في بيان انحصار أبواب أصول الفقه]
واعلم أن هذه الجملة التي تقدم ذكرها تنحصر في عشرة أقسام، وهي:
الأوامر والنواهي، والخصوص والعموم، والمجمل والمبين، والناسخ والمنسوخ، والأفعال والأخبار، والإجماع والقياس والاجتهاد، وصفة المفتي والمستفتي، والحظر والإباحة.
وإنما قلنا بانحصارها في هذه العشرة الأقسام؛ لأن القسمة دائرة بين النفي والإثبات، وذلك أمارة صحة القسمة.
__________
(1) - أي لولا التصويب له على ذلك.
لأنا نقول: طرق الفقه لا تخلوا إما أن تكون خطاباً أو غير خطاب، والخطاب لا يخلو إما أن يكون خطاب واحد، أو خطاب أكثر من واحد، وخطاب الواحد لا يخلو إما أن يكون خطاب قديم، أو خطاب محدث، ويدخل تحت جميع ما تقدم الأوامر والنواهي، والخصوص والعموم، والمجمل والمبين، والناسخ والمنسوخ من كلام الله سبحانه، وكلام نبيه عَلَيْه السَّلام.
وغير الخطاب لا يخلو إما أن يكون فعلاً أو غير فعل، وغير الفعل لا يخلو إما أن يكون استنباطاً أو غير استنباط، فغير الإستنباط هو التقرير من النبي -صلى الله عليه وآله- وعترته، وأمته، لو قُدِّر العلم بذلك، والإستنباط لا يخلو إما أن يكون له أصل معين، أو لا أصل له معين؛ فإن كان له أصل معين فهو القياس، وإن لم يكن له أصل معين فهو الإجتهاد؛ والمكلف لا يخلو إما أن يكون عالماً بهذه الجملة أو غير عالم، فإن كان عالماً بها فهو المفتي، وإن كان غير عالم فهو المستفتي، وما دخل تحت ما تقدم فحكمه ما قضى به، وما لم يدخل تحته بقي على حكم العقل، وهو المراد بالكلام في الحظر والإباحة.
فصل:[في تعريف الخطاب]
واعلم أنه يجب أن نبدأ بذكر الخطاب وَحَدِّه ليتميز لنا عن غيره مما ذكرنا مشاركته له في هذا الفن، ونتمكن من الكلام في كيفية تقسيمه وترتيبه، وتفصيله وتبويبه؛ لأن جميع ذلك فرع على معرفته في نفسه بحدِّهِ وصفته.
فنقول وبالله التوفيق: الخطاب: هو الكلام الذي يقصدُ به فاعلُه إفهامَ الغير غرضاً من الأغراض، وإنما قلنا هذا حده؛ لأنه يكشف عن معناه على جهة المطابقة، ويحصر فائدته حتى لا يدخل فيه ما ليس منه، ولا يخرج عنه ما هو منه، وذلك أمارة صحة الحد؛ ولأنه أيضاً يطرد وينعكس، وذلك دليل في صحة التحديد.
فصل:[في أقسام الخطاب]
وهو ينقسم إلى: حقيقة ومجاز:
فالحقيقة: كل لفظ إذا أطلق سبق إلى فهم السامع منه معنى واحد أو معنيان أو أكثر على وجه لا يوجب ترجيح بعضها.
والمجاز: هو كل خطاب لا يراد به ما وضع له في أصل اللغة، فلا يسبق إلى فهم السامع عند إطلاقه معناه الذي استعير له إلا بقرينة.
والقرائن ثلاث: عرفية وحالية وعقلية، وهذا هو مذهب الجمهور.
وقد ذهب بعضهم إلى أنه لا يجوز أن يكون في كلامه سبحانه مجاز، وذلك باطل؛ لأنا نعلم وجوده في كلامه سبحانه وذلك ظاهر في قوله تعالى: {وَاسْأَلِ الْقَرْيَةَ الَّتِي كُنَّا فِيهَا وَالْعِيرَ الَّتِي أَقْبَلْنَا فِيهَا} [يوسف:82]، فدلالة العقل وقرينة العرف تقضي بأن المراد أهل القرية وأهل العير.
وكذلك قوله سبحانه: {وَاخْفِضْ لَهُمَا جَنَاحَ الذُّلِّ مِنَ الرَّحْمَةِ وَقُلْ رَبِّ ارْحَمْهُمَا كَمَا رَبَّيَانِي صَغِيرًا} [الإسراء:24]، وهو لا يريد ما تقدم من الجناح في أصل اللغة، وإنما استعار ذلك سبحانه، والمراد: تواضع لهما وكن كالطائر الخافض لجناحه تحنناً على فراخه، ولا تكن كالطائر المحلق عنهما تباعداً منهما، وتمرداً عليهما، والله أعلم، وهذا لا يعلم من ظاهر اللفظ، وإنما يعلم بالأدلة والقرائن، وأمثال ذلك كثير.
[أقسام الحقائق]
والحقائق تنقسم إلى: مفردة ومشتركة.
فالمفردة: ما أفادت معنىً واحداً كقوله سبحانه: {هُوَ الْحَيُّ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ} [غافر:65]، فإنا نعلم بقوله الحي أنه على صفة يخالف صفة الميت والجماد دون ما عداها، وبقوله: {لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ} أنه سبحانه على صفة لا يستحق العبادة لكونه عليها سواه.
والمشتركة: مثل قوله سبحانه: {قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ} [الإخلاص:1]، فإنه يفهم من هذا اللفظ أنه سبحانه فرد، وأنه لا يقبل الإنقسام، وأنه لا مثل له في ذاته وصفاته، وأنه منفرد بأنواع الكمال دون غيره في قوله وأفعاله، فلفظة (واحد) تتناول ما ذكرنا حقيقة بدلالة أنه سبق إلى فهم السامع عند إطلاق هذه اللفظة مجردة عن القرائن هذه المعاني على سواء.
والحقائق أيضاً تنقسم إلى ثلاثة أقسام: لغوية وعرفية وشرعية؛
فاللغوية: هي كل لفظة أفادت ما وضعت له في أصل اللغة كقولنا للسبع المخصوص: أسد، وللبهيمة المخصوص: حمار.
والعرفية: هي كل لفظة أفادت ما نقلت إليه بعرف اللغة عند إطلاقها، كقولنا: غائط، لقضاء الحاجة المخصوصة؛ لأن قولنا غائط كان في أصل اللغة موضوعاً للمكان المنخفض، ثم صار بنقل العرف يفيد قضاء الحاجة المخصوصة إذا أطلق.
والشرعية: هي كل لفظة إذا أطلقت سبق إلى فهم السامع معنىً شرعي كقولنا: صلاة، فإنها كانت في أصل اللغة موضوعة للدعاء، ثم صارت بنقل الشرع تفيد الأفعال والأذكار المخصوصة.
فصل:[في بيان الخطاب الوارد من الحكيم سبحانه]
فإذا ورد الخطاب من الحكيم سبحانه كان لا يخلو إما أن يتناول معنى أو لا يتناوله، باطل أن يخاطب سبحانه بخطاب لا يدل على معنى، كما ذهبت إليه الحشوية(1)؛ لأن ذلك يلحق خطابه بالقبح، والقبح لا يجوز عليه سبحانه، على ما ذلك في موضعه من أصول الدين.
وإذا تناول معنى فلا يخلو إما أن يتناوله بظاهر لفظه من دون اعتبار غيره، أو لا يتناوله إلا باعتبار غيره، فإن تناوله من دون اعتبار غيره فهو الحقيقة، وإن تناوله بشرط اعتبار غيره فهو المجاز.
__________
(1) ـ الحشوية: لا مذهب لهم منفرد وأجمعوا على الجبر والتشبيه وجسموا أو صوروا وقالوا بالأعضاء وقدم ما بين الدفتين من القرآن. قال الحاكم: ومنهم أحمد بن حنبل وداود الظاهري والكرابيسي. ومن متأخّريهم محمد بن إسحاق بن خزيمة صَنّف كتاباً في أعضاء الرب تعالى عن ذلك. انتهى الملل والنحل.
ولا يجوز أن يخرج خطابه سبحانه عن هذه الأقسام؛ لأنه حكيم، والحكيم لا يخاطب بخطاب لا يفهم منه فائدة أصلاً؛ لكون ذلك عبثاً قبيحاً على ما ذلك مقرر في مواضعه من أصول الدين، كما ذكرنا؛ فإذا ورد الخطاب منه سبحانه محتملاً لمعنيين أو أكثر، ومحتملاً للمجاز وجب حمله على الحقيقة الشرعية؛ لأنها آخر الناقلين، وأقربها إلى الخطاب عهداً متى أمكن، فإن لم يمكن حمل على العرفية؛ لأنها ناقلة والحكم للطاري متى أمكن، فإن لم يمكن حمل على اللغوية؛ لأنها وضعت له في الأصل، فكان أولى بها متى أمكن، فإن لم يمكن حمل على المجاز حفظاً للخطاب عن الضياع والإهمال الذي لا يجوز على الحكيم سبحانه كما قدمنا.
فصل:[في ترتيب أبواب أصول الفقه]
واعلم أن الواجب في الترتيب أن يبدأ بالكلام في الأوامر؛ لأن بها تثبت الأحكام الشرعية بأنفسها من دون اعتبار معنى.
ثم نتبعها بالنواهي؛ لأن بامتثال مقتضى النواهي يتم غرض الآتي بمقتضى الأوامر.
ثم نتبع ذلك بالكلام في الخصوص والعموم؛ لأنه لا يمكننا استعمالهما جميعاً بعد علمنا بوجوب العلم بهما متى أمكن إلا بأن يبنى العام على الخاص.
ثم نتبع ذلك بالكلام في المجمل والمبين؛ لأنه يفيد مراداً منهما على الجملة يحتاج إلى بيان بعينه.
ونتبع ذلك بالكلام في الناسخ والمنسوخ؛ لأن الكلام فيهما يتعلق بالكلام في زوال مثل الأحكام الثابتة أولاً بالنصوص المتقدمة، بالنصوص المتأخرة على وجه لولاه لكانت ثابتة، بشرط التراخي.
ثم نتبع ذلك بالكلام في أخبار النبي صَلَّى الله عَلَيْه وآله وَسَلَّم؛ لأن أخباره تبنى في الصحة والقبول على كلام الله سبحانه.
ثم نتبع ذلك بالكلام في الأفعال؛ لأنها لا يلزم الإمتثال لها إلا بدليل من القول، فكان تقديم الأقوال أولى، ولأن الأخبار تتعدى إلينا بأنفسها، والأفعال تفتقر إلى دليل.
ثم نتبع ذلك بالكلام في الإجماع؛ لأن الإجماع إجماع العترة والأمة وفعل النبي صَلَّى الله عَلَيْه وآله وَسَلَّم متقدم عليه، ولأنه لا يكون حجة إلا بعد وفاة النبي صَلَّى الله عَلَيْه وآله وَسَلَّم.
ثم نتبع ذلك بالكلام في القياس؛ لأن الإجماع حجة يعلم صحة مقتضاها، والقياس يوجب ظن مقتضاه، والمعلوم الصحة أولى بالتقديم من المظنون.
ثم نتبع ذلك بالكلام في الإجتهاد؛ لأنه لا يرجع إلى أصل معين، فكان الذي يرجع إلى أصل أولى بالتقديم بل هو بذل الجهد واستفراغ الوسع في تعرف حكم الحادثة بأمارات مقارنة، فكان ماله أصل معين أولى بالتقديم.
ثم نتبع ذلك بالكلام في المفتي؛ لأنه من علم هذه الجمل المتقدمة كما قدمنا.
ثم نتبعه بالكلام في المستفتي؛ لأنه من جهلها، والعالم أولى بتقديم الذكر من الجاهل، ولأن الجاهل يرجع إليه، فكان العالم كالأصل له وتقديم الأصل أولى من تقديم الفرع.
ثم نتبع ذلك بالكلام في الحظر والإباحة؛ لأن جميع ما ذكرنا ناقل والناقل أولى؛ لأن الكلام في الحظر على المكلف إن كان فيما دخل تحت الجملة المتقدمة، والحكم فيه ما قضت به، وإن كان لم يدخل تحتها بقي على الحظر العقلي.
ثم نتبع ذلك بالكلام في الإباحة؛ لأن الحظر أحوط، فكان أولى بالتقديم.
فصل:[في شروط الإستدلال بخطاب الله وخطاب رسوله]
واعلم أنه لا بد لمن أراد الاستدلال بخطاب الله سبحانه وخطاب رسوله صَلَّى الله عَلَيْه وآله وَسَلَّم من العلم بثلاثة أمور:
أحدها: أنه لا يجوز أن يخاطب سبحانه بخطاب لا يقصد به فائدة أصلاً كما تقوله الحشوية.
والثاني: أنه لا يجوز أن يخاطب سبحانه بخطاب موضوع في أصل اللغة لفائدة ويريد به غير تلك الفائدة، ولا يبين مراده، كما تقوله المرجئة.
والثالث: أنه لا يجوز أن يخاطب بالخطاب على وجه يقبح كالأمر بالقبيح، والنهي عن الحسن كما ألزمناه المجبرة.
وهذه الشروط في خطاب الله سبحانه هي شروط أيضاً في صحة الاستدلال بخطاب الرسول -صلى الله عليه وآله- ويلحق بها في خطابه عَلَيْه السَّلام شرط رابع، وهو: أن يعلم أنه لا يجوز عليه الكتمان لشيء مما أمر بتبليغه؛ لأن ذلك ينقض الغرض ببعثته؛ ولأنه سبحانه حكيم لا يجوز أن يبعث من يعلم من حاله هذا ولا غيره من القبائح، كما ذلك مقرر في مواضعه من أصول الدين.
* * * * * * * * * *
[الكلام في الأوامر(1) والنواهي]
مسألة: [الكلام في حقيقة لفظ الأمر]
اختلف أهل العلم في لفظ الأمر هل هو حقيقة في القول دون الفعل، أو فيهما معاً، أو هو حقيقة مشتركة بين معانٍ كثيرة على ما نبينه؟
__________
(1) - جمع أمر على غير قياس لأن فعلاً لا يجمع على فواعل وإنما يجمع على فعول فالقياس في جمع أمر أمور، وفي جمع نهي نهوي ثم نهيّ -بياء مشددة- لكنهم خالفوا القياس في جمع أمر هنا لغرض صحيح وهو التمييز بين الأمر الذي بمعنى الشأن والأمر الذي هو عبارة عن صيغة الطلب فجمعوا الأول -أي الأمر الذي بمعنى الشأن- على أمور، وإنما خصوا صيغة الأمر بمخالفة القياس في جمعه لأنها أشبه باسم الفاعل، لأن لاصيغة باعثة على الفعل فكأنها آمرة بالفعل فاستعبر لها جمع آمره وهو أوامر، وكذلك النهي اسم فاعل ناهية جمع نواهي. تمت باختصار من مرقاة الوصول.
فذهب قوم إلى أنه حقيقة في القول، ومجاز في الفعل، وهو مذهب أكثر الحنفية، وقوم من الشافعية، وهو اختيار الحاكم أبي سعيد المحسن بن كرامة الجشمي البيهقي(1)
__________
(1) ـ الحاكم الجشمي أبو سعيد، المحسن بن محمد بن كرامة بن محمد بن أحمد بن الحسن بن كرامة ابن إبراهيم بن إسماعيل بن محمد بن إبراهيم بن محمد بن الحنفية بن الإمام علي بن أبي طالب -عَلَيْهم السَّلام-، هكذا ساق نسبه ابن فندق في تاريخ بيهق، ولد رحمة الله عليه في قرية جشم من ضواحي بيهق خراسان في شهر رمضان سنة (413هـ)، هو الإمام الحافظ المحدث المفسر الأصولي المتكلم القاريء النحوي اللغوي، إماماً عالماً صادعاً بالحق، شيخ العدلية له الكثير من المؤلفات العظيمة الغزيرة التي بلغ عددها أكثر من نيف وأربعين كتاباً، كان في الأصول معتزلياً من مدرسة القاضي عبد الجبار، وفي الفروع حنفياً، ثم رجع في الأصول والفروع إلى مذهب الزيدية الهادوية، وألف في فنون متعددة من فنون العلم ومن أشهر مؤلفاته كتاب التهذيب في التفسير تسعة مجلدات، وهو طراز لواء العدلية، وكتاب السفينة في التاريخ أربعة مجلدات، وكتاب تنبيه الغافلين عن فضائل الطالبيين في الآيات النازلة في أهل البيت، وله رسالة إبليس إلى إخوانه المناحيس التي كانت السبب في قتله في الرد على المجبرة القدرية؛ وغير ذلك من المؤلفات العديدة، وقتل رحمه الله بمكة المكرمة شهيداً في 3رجب (494هـ)، قتل غيلة على أيدي المجبرة القدرية رحمه الله رحمة الأبرار.
-رحمه الله- وهو الذي نصره القاضي شمس الدين(1) -رضي الله عنه وأرضاه- في كتاب البيان.
وذهب قوم إلى أنه حقيقة في القول والفعل، وهو مذهب أكثر الشافعية.
وذهب الشيخ أبو الحسين البصري(2)
__________
(1) ـ القاضي شمس الدين هو: جعفر بن أحمد بن عبد السلام بن أبي يحيى البهلولي اليماني الأبناوي، الإمام الحجة البحر، كان من عيون أصحاب الإمام المتوكل على الله أحمد بن سليمان وفضلائهم، كان من متكلمي المطرفية، ثم انتقل إلى المخترعة فكان إمامهم في علم الكلام، وهو الذي وصل بكتب أهل البيت -عَلَيْهم السَّلام- من العراق في الأصول والفروع، والمنقول والمسموع، وعلوم القرآن والأخبار النبوية، وأنشأ مدرسة كلامية في سناع متميزة، وتصدى للرد على المطرفية والتحذير منهم باللسان والقلم ولقي منهم أذىً كثيراً وحاربوه محاربة شديدة، وله معهم مناظرات ومجادلات كثيرة، وله الكثير من المؤلفات التي تدل على تعمقه وبسطته في شتى فنون العلم، وكان إمام الزيدية وعالمها في عصره وألف في الأصول والفروع المؤلفات العديدة، وتوفي سنة (573هـ)، وقبره في هجرة سناع في مدينة حدة.
(2) ـ أبو الحسين البصري هو: محمد بن علي بن الطيب البصري من الطبقة الثانية عشرة من طبقات المعتزلة ومن أصحاب قاضي القضاة.
قال الإمام يحيى: هو الرجل فيهم، أخذ عن قاضي القضاة، ودرس ببغداد، وكان جدلاً حاذقاً، مليح العبارة، غزير المادة، إمام وقته كما وصفه ابن خلكان.
وسكن بغداد وحدث بينه وبين المعتزلة نفرة لكثرة قرآته لكتب الفلاسفة، ولردوده على المشائخ في نقض أدلتهم، وله الكثير من المؤلفات النافعة؛ فمنها: كتاب المعتمد في أصول الفقه، وكتاب تصفح الأدلة في مجلدين، وشرح الأصول. توفي يوم الثلاثاء خامس شهر ربيع الآخر سنة (437هـ).
إلى أنه لفظ مشترك بين القول والغرض والشأن، وبين المعنى المؤثر في ثبوت حال الجسم، فيقال في القول المخصوص: إنه أمر، وفي الغرض إنه أمر، كقولهم: لأمرٍ ما جدع قصير أنفه، أي لغرض، وأمر فلان عظيم أي حاله وشأنه، ولا بد من أمر لأجله كان الجسم متحركاً، أي معنى يؤثر فيه، وليس بحقيقة في الفعل أي ليس يفيده من حيث هو فعل، بل من حيث هو شيء، وذات، وهو مذهب شيخنا أبي علي الحسن بن محمد الرصاص(1) -رحمه الله- وحكاه لنا عن القاضي شمس الدين.
__________
(1) ـ أبو علي الحسن بن محمد بن الحسن بن محمد الرصاص الشيخ الكبير المتكلم شحاك الملحدين، كان آية من آيات زمانه، كثير العلم واسع الدراية، قليل النظير، بلغ في العلوم مبلغاً تحتار فيه الأفكار على صغر سنه، تتلمذ على يد القاضي جعفر بن أحمد، وهو شيخ الإمام المنصور بالله عليه السلام، قال فيه الإمام -عليه السلام - حسام الدين، رأس الموحدين، أبو علي الحسن، علامة اليمن، ألّف في الأدب وعمره أربع عشرة سنة، وفي الأصول وعمره خمس عشرة سنة، وله المؤلفات الكثيرة في الأصول والفروع وفي علم الكلام وغير ذلك من فنون العلم، ومن مؤلفاته التبيان، والفائق في الأصول، والكاشف وغيرها من المؤلفات، وتوفي يوم الاثنين من شهر شوال سنة (584هـ) وعمره (38 سنة)، وقبره بهجرة سناع جوار قبر القاضي جعفر رحمهما الله تعالى. قيل إنه كان يرد على نيف وسبعين فرقة.
وهذا يصح عند من يَعلم المعنى المؤثر في ثبوت حال الجسم، وأما من لا يعلم ذلك فهو لا يخطر بباله عند إطلاق اللفظ فضلاً عن سبوقه إليه حتى لا يجب الإشتراك(1).
مسألة:[الكلام في أن الأمر قول ظاهر فُهِمَ منه المراد]
ذهب العلماء على طبقاتهم أن الأمر الذي هو القول ظاهر فهم منه المراد، وخالف في ذلك بعض المتأخرين ممن ينتسب إلى علم الكلام، وقالوا: لا بد في معرفة المراد منه إلى دليل، وهذا القول باطل لغةً وشرعاً.
أما اللغة: فما نعلمه من أن القائل لو قال لعبده العربي اللسان: ادخل الدار، أو أَخْرِجْ كذا وكذا من المال، ثم وقف العبد عن ذلك ينتظر الدليل الذي يفهم منه المراد لاستحق الذم من العقلاء، وهم لا يذمون على ترك امتثال ما لا يفهم معناه كما لو خاطب العربي بالزنجية ولم يبين لم يستحق عندهم الذم، ولأنه لا فرق بين قول القائل لعبده: ادخل الدار، وبين قوله دخل زيد الدار، في أن كل واحد منهما له ظاهر يفهم منه المراد، فقوله: ادخل يفيد إيجاب الدخول في المستقبل، كما أن قوله: دخل زيد الدار يفيد دخول زيد في الماضي، فمن أنكر أن يكون للأمر ظاهر يفهم منه المراد لزمه نفي أن يكون للمخبر ظاهر يفهم منه المراد، ومن بلغ هذا الحد من التجاهل علم بطلان قوله بما يجري مجرى الضرورة.
__________
(1) - قال القرشي في العقد ما لفظه: قال الإمام المنصور بالله -عليه السلام-: إنما يكون مشتركاً بين ما كان من هذا معقولاً لأهل اللغة فتخرج جهة التأثير والصفة؛ لأن أهل اللغة لا يعلمون المعنى الذي لأجله احترك الجسم ولا الصفة التي أوجبها هذا المعنى للجسم، ويمكن الجواب عن ذلك: بأنهم يعقلون ذلك على جهة الجملة فإن كل عاقل يعلم بكمال عقله أنه لا بد من أمر لأجله احترك الجسم بعد أن كان ساكناً، وأن التفرقة بين الحي والميت لا بد أن يرجع بها إلى أمر، وأما أن ذلك هل هو فاعل أو موجب أو ذات أو صفة؟ فلا، وإذا عقلوا ذلك على سبيل الجملة كان كافياً في أن يضعوا له لفظاً يدل عليه أو يشركوا بينه وبين غيره في لفظ. انتهى (ح-ش-غ) (2/120).
وأما الشرع: فما عليه المسلمون من لدن النبي -صلى الله عليه وآله- إلى يومنا هذا من الإحتجاج بظواهر أوامر الكتاب والسنة، وقال أبو بكر بحضرة الجماعة: (لا أفرق بين ما جمع الله بينه)، فرجع إلى الظاهر في قوله تعالى: {فَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ وَءَاتُوا الزَّكَاةَ} [المجادلة:13].
مسألة:[الكلام في حقيقة الأمر]
اختلف أهل العلم في حقيقة الأمر من جهة القول.
فمنهم من قال: هو قول القائل لمن دونه: افعل، وذلك هو اختيار(1) الحاكم أبي سعيد المحسن بن كرامة الجشمي البيهقي -رحمه الله تعالى-.
ومنهم من قال: هو قول القائل لمن دونه: افعل، مع إرادة الآمر للمأمور به، وهو اختيار للسيد المؤيد بالله(2) قدس الله روحه.
__________
(1) - وإليه ذهب قاضي القضاة وكثير من المتكلمين. المقنع الشافي (خ).
(2) ـ المؤيد بالله هو الإمام أحمد بن الحسين بن هارون بن الحسين بن محمد بن هارون بن محمد بن القاسم بن الحسن بن زيد بن الحسن بن علي بن أبي طالب -عَلَيْهم السَّلام-.
ولد -عَلَيْه السَّلام- بآمل سنة (333هـ)، من أئمة أهل البيت -عَلَيْهم السَّلام- في الجيل والديلم، لم يُرَ في عصره مثله علماً وفضلاً وزهداً وورعاً وسخاوة وشجاعة وحلماً، ولم يبق فن من فنون العلم إلا وقد ضرب فيه بأوفر نصيب، وبرز في علم النحو واللغة، وأحاط بعلوم القرآن والشعر وأنواع الفصاحة، وله معرفة بعلم الحديث معرفة كاملة رواية ودراية وجرحاً وتعديلاً؛ دعا إلى الله عز وجل سنة (380هـ) وبايعه العلماء والفضلاء منهم القاضي عبد الجبار والصاحب بن عباد وغيرهما، ولم يزل ناشراً للعلم، محيياً لرسوم الدين مجاهداً للظالمين، محارباً للمفسدين حتى توفي - عليه السلام - يوم عرفة سنة (411هـ)، ودفن يوم عيد الأضحى وكان عمره (77 سنة) ومشهده بلنجا.
وله المؤلفات الكثيرة العدد في الأصول والفروع، ومن مؤلفاته: كتاب إعجاز القرآن، وكتاب النبؤات والآداب، وله التجريد وشرحه أربعة مجلدات وهو من معتمدات أهل البيت -عَلَيْهم السَّلام- في الفقه وغير ذلك من المؤلفات الواسعة.
وذهب شيخنا أبو علي الحسن بن محمد الرصاص رحمه الله تعالى إلى أن الأمر هو قول القائل لغيره: افعل على جهة الإستعلاء دون الخضوع، وغرضه أن يفعل المقولُ له الفعلَ.
واعترض قول الحاكم بالتهديد فإنه قول القائل لمن دونه: افعل وليس يأمره.
واعترض القولين قول الحاكم، والمؤيد قدس الله روحه بأن الإنسان قد يكون آمراً من فوقه إذا ورد اللفظ على جهة الإستعلاء دون الخضوع، وهذا هو الذي نختاره.
ومنهم من قال: هو قول القائل لغيره: افعل أو لتفعل على جهة الإستعلاء دون الخضوع، ولم يشرط الإرادة؛ لأنها شرط في كونه أمراً، وما يكون شرطاً في الشيء لا يدخل في حدِّهِ وحقيقته، وحكى أنه اختيار القاضي شمس الدين رضي الله عنه، وهذا أيضاً ينتقض بالتهديد كما قدمنا.
والذي يدل على صحة ما ذهبنا إلى تحديد الأمر به [أنه] يكشف عن معناه على جهة المطابقة، ويحصر فائدته، ولأنه يطرد وينعكس، وذلك أمارة صحة الحدِّ.
مسألة:[الكلام في الأمر لماذا يكون أمراً؟]
اختلف أهل العلم في الأمر لماذا يكون أمراً، فذهب أبو القاسم البلخي(1) إلى أنه أمرٌ لعينه(2).
__________
(1) ـ أبو القاسم البلخي هو: عبدالله بن أحمد بن محمد الكعبي البلخي الخراساني، من أئمة المعتزلة البغدادية، وهو الذي تنسب إليه الكعبية من المعتزلة، وأخذ عن أبي الحسين الخياط، وكان من أحفظ الناس لاختلاف المعتزلة في الكلام، له معرفة واسعة بالكلام والفقه والآداب، معروفاً بالسخاء والجود والهمة العالية، انصرف إلى خراسان، وكان من أصحاب الإمام محمد بن زيد الداعي -عَلَيْه السَّلام- وجرى بينهما مكاتبات، وله الكثير من المصنفات منها: عيون المسائل وكتاب المقالات وكتاب في التفسير وغيرها من الكتب، وكان مولده سنة (273هـ) وتوفي ببلخ في أيام المقتدر العباسي سنة (319هـ).
(2) ـ قال في المعتمد: والبغداديون من أصحابنا يقولون: إن الأمر أمر لعينه.
قال الإمام المهدي أحمد بن يحيى في منهاج الوصول: لكني أظن أن أبا القاسم يلحظ مذهب أبي الحسين وهو أن الأمر لا صفة له لكونه أمراً بل معنى كونه أمراً كونه صيغة مخصوصة لكن يلزمه أن يفصله عن التهديد باشتراط مقارنته للإرادة ولعله يشترط ذلك، والله أعلم.
وذهبت المعتزلة البصريون(1) إلى أنه يكون أمراً لكون الآمر مريداً لحدوث المأمور به، وذلك هو اختيار السيد أبي طالب(2)
__________
(1) ـ المعتزلة فريقان: المعتزلة البصريون والمعتزلة البغداديون؛ فالبصرية تتميز عن البغدادية بالتعمق في علم الكلام، وهم قسمان أيضاً: قسم يرى رأي العثمانية في التشيع، ومنهم قدماء البصريين كعمرو بن عبيد، وأبي إسحاق، وإبراهيم بن سيار النظام، وعمرو بن بحر الجاحظ، وثمامة بن أشرس، وغيرهم.
وقسم يميلون إلى التشيع وإلى تفضيل أمير المؤمنين علي -عَلَيْه السَّلام- على جميع الصحابة ومنهم: أبو علي الجبائي، وقاضي القضاة عبد الجبار بن أحمد، والشيخ أبو عبدالله البصري، وأبو محمد الحسن بن متَّويه صاحب التذكرة.
والبغداديون يميلون إلى التشيع ويقولون بتفضيل أمير المؤمنين -عَلَيْه السَّلام- كافة ومنهم: بشر بن المعتمر، وعيسى بن صبيح، وجعفر بن مبشر، وأبو جعفر الإسكافي، وأبو الحسين الخياط، وأبو القاسم البلخي. انظر شرح نهج البلاغة لابن أبي الحديد المعتزلي 1/ 15، 16، 17.
(2) ـ الإمام أبو طالب يحيى بن الحسين بن هارون بن الحسين بن محمد بن هارون بن محمد بن القاسم بن الحسن بن زيد بن الحسن بن علي بن أبي طالب -عَلَيْهم السَّلام-، أخو الإمام المؤيد بالله -عَلَيْه السَّلام-، من أئمة أهل البيت في الجيل والديلم.
ولد بالمدينة سنة (340هـ)، وكان تلو أخيه في العلم والفضل والكمال والورع والزهد، بلغ في العلوم مبلغاً عظيماً حتى لم يبق فن من فنون العلم إلا طار في أرجائه وسبح في أثنائه، اشتغل بالعلم ونشره وتجديد رسوم الدين، وكانت بيعته -عَلَيْه السَّلام- بعد وفاة أخيه المؤيد بالله سنة (411هـ) واشتغل بعد الدعوة بصلاح الأمة، وإنفاذ أحكام الله، وجهاد الظالمين، ومنابذة الفاسقين، وعبادة الله حتى أتاه اليقين، والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، ولم يتخلف عن بيعته أحد من علماء وفضلاء الديلم لمعرفتهم بكماله.
وله -عَلَيْه السَّلام- التآليف العجيبة والتصانيف الفائقة في جميع فنون العلم فله المجزي مجلدان في أصول الفقه وكتاب جامع الأدلة، وكتاب الدعامة في الإمامة، وكتاب التحرير وشرحه اثنى عشر مجلداً في الفقه، وشرح البالغ المدرك وكتاب الإفادة في تاريخ الأئمة السادة. وتوفي -عَلَيْه السَّلام- بطبرستان سنة (424هـ) وعمره نيف وثمانون سنة.
قدس الله روحه، وحكاه شيخنا عن شمس الدين - رضي الله عنهما -.
وذهبت الأشعرية(1) إلى أنه كان أمراً؛ لأن الآمر أراد أن يكون أمراً وإن لم يرد المأمور به(2).
وحكى شيخنا عن الشيخ أبي الحسين البصري(3) أنه لا حكم للأمر بكونه أمراً فيحتاج إلى التعليل بما ذكره، بل المعقول من كونه أمراً أن الآمر أورد صيغة إفعل وغرضه أن يفعل المقولُ له الفعلَ، فكان شيخنا رحمه الله يذهب إلى ذلك، ويقول: لا حكم للأمر لكونه أمراً فيعلل، بل يكفي في ذلك ورود صيغة إفعل على جهة الإستعلاء دون الخضوع، مع كون الآمر مريداً لحدوث المأمور به، وهو الذي نختاره.
والدليل على ذلك: أن كل ما يرجع إلى الصيغة من كونها خطاباً، أو إلى محلها من كونه جسماً، أو إلى الآمر من كونه مُخاطِباً، أو إلى المأمور من كونه مُخاطَباً، ينتقض بالتهديد ولا يعقل من الأمر إلا ما ذكرنا فبطل ما رجعوا إليه من التعليل له بكونه أمراً وصحّ ما قلناه.
__________
(1) ـ الأشعرية: أصحاب أبي الحسن عمر بن أبي بشر الأشعري، هذه رواية أصحابنا، وفي النحل والملل أن اسمه علي بن إسماعيل، قلت: وهذا هو الأقرب لتكنيته بأبي الحسن، من تلامذة أبي علي، ثم ترك مذهبه وقال بالجبر، ولم ينتسب إلى أحد، وأثبت أقوالاً لا تُعقل، منها: إثبات قدماء مع الله وأنه تعالى مسموع مُدرك بسائر الحواس، وأنه تعالى يرضى الكفر ويحبه، وجوّز تكليف مالا يُطاق، ولو عذّب الله الأنبياء وأثاب الكفار لحسن، وأنه لا نعمة لله تعالى على الكفار، وأن شيئاً من القبائح لا تُعلم إلا بالسمع، وأحيى كثيراً من مذاهب جهم، انظر: المنية والأمل - جلاء الأبصار.
(2) - قال الإمام المهدي أحمد بن يحيى المرتضى في المنهاج: وهذا منهم -أي من الأشعرية- بناء علىقاعدتهم من أن الله سبحانه وتعالى يأمر بالشيء ولا يريده إذ لو أراده وقع لا محالة.
(3) ـ انظر المعتمد في أصول الفقه لأبي الحسين البصري (1/49).
مسألة:[الكلام في الأمر هل يقتضي الوجوب أم لا؟]
اختلف أهل العلم في الأمر هل يقتضي الإيجاب بظاهره، أو يقتضي كون المأمور به مراداً من جهة اللغة، أو مندوباً إليه إذا كان الأمر شرعاً؟
فذهب أكثر الفقهاء(1) إلى أنه يقتضي الوجوب بظاهره، وهو الذي حكاه السيد أبو طالب قدس الله روحه عن الشيخ أبي عبدالله(2)، وهو الذي كان يذهب إليه أبو الحسن الكرخي(3)
__________
(1) - أصحاب أبي حنيفة والشافعي، وأحد قولي أبي علي الأول منهما ثم رجع عنه إلى أنه يقتضي الندب كما يأتي عنه. المقنع الشافي (خ).
(2) ـ أبو عبدالله البصري هو: الحسين بن علي بن إبراهيم البصري، شيخ المعتزلة وإليه انتهت رئاسة أصحابه من الطبقة العاشرة، عرف بالشيخ المرشد.
ولد سنة (308هـ)، أخذ عن أبي علي بن خلاد أولاً ثم أخذ عن أبي هاشم حتى بلغ ما لم يبلغ أحد من أصحاب أبي هاشم، وكان فاضلاً متكلماً فقيهاً شديد التقزز في الطهارة زاهداً، وكان يقول بتفضيل أمير المؤمنين -عَلَيْه السَّلام- ويميل إليه ميلاً عظيماً حتى ألف كتاب التفضيل، وأخذ عنه الإمام أبو عبدالله الداعي والسيد الإمام أبو طالب -عَلَيْهم السَّلام-، وتوفي سنة (367هـ).
(3) ـ أبو الحسن الكرخي: عبيدالله بن الحسن بن دلال شيخ الحنفية بالعراق قال في طبقات الحنفية: رئيس الحنفية ببغداد كان صواماً قواماً صبوراً على الفقر، قال الإمام المنصور بالله -عَلَيْه السَّلام-: ومنهم يعني في العدل والتوحيد الشيخ أبوالحسن عبيدالله بن بدر الكرخي وكان في العلم والزهد بمنزلة عظيمة، وكان لا يدخل بيتاً فيه مصحف إلا على طهارة تعظيماً له، وقال: وتوفي الكرخي سنة أربعين وثلاثمائة وحضر جنازته الأشراف وكثير من ذرية رسول الله -صَلَّى الله عَلَيْه وآله وَسَلَّم- فيهم الإمام أبو عبدالله الداعي. انظر الطبقات (خ)، والشافي (1/150)، الجداول (خ).
، وحكاه شيخنا رحمه الله تعالى عن أبي الحسين البصري(1)، وحقق أنه اختيار القاضي شمس الدين رضي الله عنه.
وذهب قوم إلى أنه يقتضي الوجوب من جهة الشرع إذا ورد عن حكيم، ولا يقتضي من جهة اللغة(2)، وهو قول أبي القاسم البلخي، وأبي عبدالله البصري، واختيار السيد أبي طالب قدس الله روحه، وهو الذي نصره القاضي شمس الدين رضي الله عنه في البيان.
وذهب أبو علي(3)، وأبو هاشم(4)، وقاضي القضاة(5)
__________
(1) ـ المعتمد في أصول الفقه (1/59).
(2) - أي ولا يقتضي الوجوب من جهة اللغة، وإنما يقتضي من جهة اللغة كون المأمور به مراداً. المقنع الشافي (خ).
(3) ـ أبو علي الجبائي هو: محمد بن عبد الوهاب الجبائي البصري، من الطبقة الثامنة من طبقات المعتزلة، شيخ المعتزلة، كان متكلماً فقيهاً زاهداً جليلاً نبيلاً رئيساً في المعتزلة ومقدماً فيهم، وكان ممن يقول بتفضيل أمير المؤمنين -عَلَيْه السَّلام- كما حكاه ابن أبي الحديد المعتزلي في شرح النهج ج1/ 16.
له المصنفات الكثيرة وأكثرها في علم الكلام، قال الحاكم الجشمي: المحكي أن لأبي علي مائة ألف وخمسون ألف ورقة إملاءً في الرد على أصناف المبطلين. توفي أبو علي سنة (303هـ).
(4) ـ أبو هاشم هو: عبد السلام بن محمد بن عبد الوهاب الجبائي البصري، من الطبقة التاسعة، أخذ عن أبيه أبي علي الجبائي حتى بلغ مرتبة عالية في العلم معظماً عند المعتزلة ومقدماً فيهم، وكان فاضلاً ورعاً زاهداً فقيهاً متكلماً قدم إلى بغداد سنة (317هـ) وتوفي في شعبان سنة (321هـ).
(5) ـ قاضي القضاة هو: عبد الجبار بن أحمد بن عبد الجبار الهمداني، شيخ المعتزلة في عصره، من الطبقة الحادية عشرة، بلغ في العلم مبلغاً عظيماً وأحاط بأنواع العلوم، وانتهت إليه رئاسة المعتزلة حتى صار شيخها وعالمها غير مدافع، وكان مواظباً على التدريس والإملاء طول عمره حتى طبق الأرض بكتبه وأصحابه.
تولى القضاء بالري لما استدعاه الصاحب بن عباد سنة (360هـ)، وله الكثير من المؤلفات حتى قيل إن له أربعمائة ألف ورقة مما صنف في أنواع العلوم، ومن مؤلفاته: شرح الأصول الخمسة، وشرح المقالات، والنهاية والعمد في أصول الفقه، وغيرها كثير، وتوفي سنة (415هـ) وقيل: (416هـ).
إلى أنه لا يقتضي الوجوب لغةً ولا شرعاً إلا بقرينة، وأكثر ما فيه إذا ورد من جهة الحكيم سبحانه يدل على كون المأمور به مندوباً إليه من حيث ثبت أنه سبحانه إنما يريد من المكلف ما يستحق عليه الثواب دون المباح.
والذي كان شيخنا رحمه الله يختاره أنه يقتضي الوجوب لغةً وشرعاً، وهو الذي نختاره.
والذي يدل على صحة ما قلناه من اقتضائه الوجوب لغةً: ما نعلمه من أن السيد إذا قال لعبده: أسقني الماء، استحق الذم عند أهل اللغة إذا لم يفعل، فلولا أن الأمر عندهم على الإيجاب لما ذموه لأنهم لا يذمون على الإخلال بفعل إلا وذلك الفعل واجب عندهم، ولأنهم أيضاً يسمون من خالف ما أمروه به عاصياً وذلك يقتضي كونه يفيد الوجوب عندهم، وقد قال شاعرهم:
أمرتك أمراً جازماً فعصيتني .... فأصبحت مسلوب الأمارة نادما(1)
__________
(1) ـ في هامش (نخ): كتب الحجاج بن يوسف إلى يزيد بن المهلب يستقدمه فقال الحصين بن المنذر: لا تفعل فلم يقبل منه فلما شخص عن قومه أبرز الفضل عَنَدَه على خراسان فقال الحصين هذا البيت وبعده:
فما أنا بالباكي عليه صبابة .... وما أنا بالراجي ليرجع سالماً
انتهى.
وذكر في المحصول أن القائل بذلك حباب بن المنذر ليزيد بن المهلب أمير خراسان والعراق. تمت.
وأما اقتضاؤه الوجوب من جهة الشرع، فلقوله سبحانه: {فَلْيَحْذَرِ الَّذِينَ يُخَالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ} [النور:63]، فتهدد على مخالفة الأمر، وذلك يقتضي الوجوب؛ لأنه سبحانه وتعالى لحكمته لا يتهدد على الإخلال بفعلٍ إلا وذلك الفعل واجب.
ولأن المعلوم من حال الصحابة والتابعين وتابعي التابعين إلى يومنا هذا الإحتجاج بأوامر الله سبحانه على وجوب مقتضياتها، ولهذا قال أبو بكر بمحضر الجماعة: (لا أفرق بين ما جمع الله بينه) وأقره الجميع على ذلك، ولأنهم كانوا يفزعون إلى ظواهر الأوامر فيقطعون بها شغب المخالف، ويلزمونه إلزام الإيجاب، فلا يقابل ذلك الخصم بأن الأمر لا يقتضي الإيجاب، بل يرجع إلى تخصيص، أو دعوى إجمال، أو نسخ، أو تعارض بظاهر آخر، وهذا هو المعلوم من عادتهم.
مسألة:[الكلام في الأمر إذا ورد بعد الحظر، هل يقتضي الإيجاب أم لا؟]
اختلف أهل العلم المتفقون على أن الأمر يقتضي الإيجاب في وروده بعد الحظر هل يقتضي الإيجاب أم لا؟
فذهب الأكثر إلى أنه إذا ورد بعد الحظر اقتضى الإباحة، وذلك في مثل قوله تعالى: {وَإِذَا حَلَلْتُمْ فَاصْطَادُوا} [المائدة:2]، وقوله: {فَإِذَا قُضِيَتِ الصَّلَاةُ فَانْتَشِرُوا فِي الْأَرْضِ وَابْتَغُوا مِنْ فَضْلِ اللَّهِ} [الجمعة:10].
وذهب شيوخنا إلى أنه بعد الحظر لا يغير مقتضاه، بل يجب حمله على الإيجاب أيضاً كما كان وهو الذي كان شيخنا رحمه الله يعتمده، وهو الذي نختاره.
وحجة من قال بالأول ما في القرآن من الآي، وما شاكلها.
والكلام عليه: أنا نقول: إنها إنما حملت على الإباحة لدلالة من الإجماع وغيره، فالذي علمنا به وجوب الأمر إذا ورد بعد الحظر العقلي هو الذي علمنا به وجوب الأمر إذا ورد بعد الحظر الشرعي؛ لأن وروده بعد الحظر لا يغير معناه وفائدته.
مسألة:[الكلام في وجوب تقديم الأمر على المأمور به]
مذهبنا أنه يجب تقديم الأمر على المأمور به القدرَ الذي يتمكن المكلف فيه من سماعه والنظر في كيفية التزامه وتأديته ليوقعه على الوجه الذي أمر به.
وقالت النجارية(1): الأمر مع الفعل كالقدرة، وما قبله ليس بأمر، وإنما هو إعلام.
__________
(1) ـ النجارية: إحدى فرق المجبرة منسوبون إلى الحسين بن محمد النجار، وأحدث الحسين النجار مذاهب شنيعة؛ منها: أن أفعال العباد خلق لله كسب للعبد، وأن الاستطاعة مع الفعل، وأحدث القول بالبدل عن الموجود الحاصل لما ألزمه أصحابنا على قوله في الاستطاعة تكليف ما لا يطاق، أنظر: المنية والأمل، جِلاء الأبصار.
والذي يدل على صحة ما ذهبنا إليه أنه لا يخرج التكليف عن كونه تكليفاً لما لا يمكن - وذلك لا يجوز على الله سبحانه - إلا بما قلناه، وتقدير أصحابنا رحمهم الله أنه يجب تقديم الأمر على المأمور به لوقت واحد بعيد؛ لأنه يجب على ما بينا تقديمه عليه بأوقات كثيرة تتسع للنظر في الأمر في حصول العلم بعد التجويز وقصد الفعل ليؤديه على وجه المراد.
واختلف أهل مقالتنا هذه: هل يجوز تقديمه عليه بأكثر من الأوقات التي يتمكن فيها من تأديته على ما أمر به أو لا يجوز؟
فذهب البغدادية إلى أنه لا يجوز تقدمه أكثر من الأوقات التي ذكرنا.
وذهب البصريون إلى أنه يجوز بأكثر من ذلك على قدر ما يراه الحكيم سبحانه، وهذا الذي كان شيخنا رحمه الله يختاره وهو الذي نعتمد.
وجه ما قلناه: أنه لا يمتنع أن يكون في ذلك مصلحة للمتعبدين بأن يوطنوا النفوس على احتماله، ويهيئوا الآلات المسهلة لفعله، ويكونوا أقرب إلى التزامه، كما ذلك في الآلة والقدرة.
مسألة:[الكلام في الأمر إذا ورد بأشياء على وجه التخيير]
الأمر إذا ورد بأشياء على وجه التخيير كالكفارات الثلاث مثلاً.
فالمروي عن الفقهاء أن الواجب واحدة لا بعينها، وهي التي يعلم الله تعالى أن المكفر إن كفر لم يكفر إلا بها.
وذهب أبو علي، وأبو هاشم إلى أن كل واحدة منها واجبة على وجه التخيير.
وحكى الشيخ أبو عبدالله عن أبي الحسن رحمهما الله تعالى أنه كان ربما نصر القول الأول، وربما نصر الثاني، وكان شيخنا رحمه الله يذهب إلى أن الكل واجب على التخيير وهو الظاهر من مذهب أصحابنا، وهو الذي نختاره.
ويتعين الخلاف بين المذهبين في من حنث في يمينه، ثم حلف ثانياً ما العتق واجب عليه، ثم كفر بالإطعام مثلاً فعندنا يحنث، وعند الفقهاء لا يحنث، وكذلك لو كفر بالعتق والمسألة بحالها حنث عند الجميع، عندنا لأنها إحدى الواجبات عليه؛ وعند الفقهاء لأنه انكشف بفعله له أنه كان الواجب عليه.
والذي يدل على صحة ما قلناه: أنه لو تعبده بواحدة دون غيرها لوجب أن يبين، والثاني أنه لم يبين.
أما أنه سبحانه لو تعبده بواحدة دون غيرها لبين: فلأنه حكيم، والحكيم لا يتعبد بأمر لا يبينه، لأن ذلك يلحق بتكليف ما لا يعلم، وهو قبيح، والله تعالى لا يفعل القبيح على ما ذلك مقرر في مواضعه من أصول الدين.
وأما أنه لم يبين: فذلك ظاهر، وقولهم: إنه لم يبين لعلمه سبحانه أنه لا يَعْدُو الواجب عليه، باطل؛ لأن مثل ذلك لا يحصل مستمراً بالإتفاق(1) من دون العلم، كما أنه لا يجوز من الله سبحانه أن يتعبّدنا بتصديق نبي لا يظهر على يديه علَماً معجزاً لعلمه أنا لا نصدق إلا الصادق الذي يريد تصديقه منا.
وإنما قلنا إن ذلك لا يجوز لأنه يودي إلى تجويز بعثه الأنبياء عَلَيْهم السَّلام من دون المعجزات وذلك ما لم يقل به قائل، لا عالم ولا جاهل، ويصير ما قدمنا جارياً في التمثل مجرى ما نقول إنه يجوز من أحدنا أن يعلم من حال ولده أنه إذا خيره بين سلوك طريقين أو أكثر إلى بيت درسه كان أقرب إلى امتثال أمره من إذا قال له اسلك طريقاً من هذه الطرق الثلاث مثلاً وهي التي أُريدُ سلوكها بين اثنين ولا يبينها له، ولأنه سبحانه خير بينها فلو كان بعضها واجباً، وبعضها نفلاً لما جاز التخيير وذلك ظاهر.
__________
(1) ـ لأن المكلف كما يختار الصواب فقد يختار الخطأ؛ لأنه إنما يختار ما يفعله منها من غير علم، وكل ما كان حاصلاً من دون علم فلا يجوز استمراره على طريقة واحدة؛ لأنه لا يجوز استمرار الصدق في الأخبار الكثيرة عن الغيوب ممن ليس بعالم بمخبراتها، ولا استمرار الفعل المحكم ممن ليس بعالم، تمت مقنع معنى.
مسألة:[الكلام في الأمر بالشيء هل هو نهي عن ضده أم لا؟]
ذهب أكثر العلماء إلى أن الأمر بالشيء لا يكون نهياً عن ضده.
وذهب بعض الفقهاء وهو الظاهر من مذهب المجبرة(1) إلى أن الأمر بالشيء نهي عن ضده، وأحسب أنهم أخذوا هذا القول عن بعض من ينتسب إلى علم الكلام من قوله إن إرادة الشيء لا بد أن تكون كراهة لضده.
والصحيح هو الأول، وهو مذهب أئمتنا عَلَيْهم السَّلام، وشيوخنا رحمهم الله تعالى.
والذي يدل على بطلان ما قالوه: أن صيغة الأمر وشرطه، يجب أن تخالف صيغة النهي وشرطه، فكيف يكونان شيئاً واحداً مع المخالفة هل ذلك إلا كقول من يقول إن الخبر هو الإستخبار، وإن الوعد هو الوعيد، وبطلان هذا القول عند التحقيق يجري مجرى الضرورة، وأقرب ما يتوهم في قولهم أنهم يريدون أنه سبحانه إذا أمر بأمر واجب أن يكره كل ما منع من تأدية ذلك الأمر ويجعلون المانع ضداً، وهذا أيضاً يبطل؛ لأن الضد على هذا الوجه قد يكون مما لا يصح منه النهي، كأن يكون من فعله سبحانه مثل الموت مثلاً إذا عرض لأحدنا بعد خطابه بالواجب الموسع قبل انقضاء وقته الأخير، فبطل ما قالوه من كل وجه من الوجوه، ولأنه لو كان نهياً عن ضده وقد ثبت كونه تعالى أمر بالنوافل لقبح تركها؛ لأنه إذا نهى عن الشيء دل النهي على قبحه وذلك باطل.
__________
(1) ـ قال الإمام يحيى بن المحسن الداعي في المقنع الشافي: (أما المجبرة فقصدوا بذلك تصحيح مذهبهم في الإرادة لأن شيوخنا -رحمهم الله- ألزموهم على قولهم: ((إن الله تعالى مريد لذاته)) أن يكون مريداً لكل ما يصح أن يكون مراداً، كما أنه لما كان عالماً لذاته كان عالماً بكل ما يصح أن يكون معلوماً؛ فكان يجب أن يريد الضدين كما أنه يعلمهما فقالوا -هاربين من هذا الإلزام-: إن إرادة الشيء كراهة لضده، كما أن الأمر بالشيء نهي عن ضده، فبنوا فاسداً على فاسد).
مسألة:[الكلام في الأمر المطلق هل يحمل على الفور أم على التراخي؟]
اختلف أهل العلم في الأمر إذا ورد مطلقاً غير موقت، هل يجب حمله على الفور أم على التراخي؟
فروى شيخنا رحمه الله تعالى عن الهادي(1) عَلَيْه السَّلام إيجابه على الفور(2)
__________
(1) ـ الإمام الهادي إلى الحق يحيى بن الحسين بن القاسم بن إبراهيم بن إسماعيل بن إبراهيم بن الحسن بن الحسن بن علي بن أبي طالب -عَلَيْهم السَّلام-، ولد -عَلَيْه السَّلام- بالمدينة المنورة سنة (245هـ)، وهو إمام الأئمة ومؤسس المذهب الزيدي باليمن، خرج إلى اليمن بعد أن علا صيته، واشتهر فضله وقدره، وكان اليمن قد أصابته الفتن والمحن، فاجتمع رؤساء ومشائخ اليمن وذهبوا إليه -عَلَيْه السَّلام- فساعدهم بالخروج إلى اليمن وكانت هذه هي الخرجة الأولى سنة (280هـ) ثم رجع إلى الرس بعد أن شاهد من بعض الجنود أخذ بعض الأموال بغير إذن أهلها فأصاب اليمن الشدة والفتن، ثم ذهبوا إليه مرة ثانية وخرج إليهم بعد أن أكد بالأيمان والمواثيق المغلظة وذلك في سنة (284هـ) فنشر العدل، وأقام الحق، وجاهد الباطنية والقرامطة الأشرار، وله معهم نيف وسبعون وقعة، وله مع بني الحارث أيضاً في نجران نيف وسبعون وقعة أيضاً، وجدد الله به الدين، وأحيا به شرع سيّد المرسلين، وأخمد به نار المفسدين، ورويت فيه آثار جمة، وأخبار عن النبي -صَلَّى الله عَلَيْه وآله وَسَلَّم- وأمير المؤمنين -عَلَيْه السَّلام- تبشر به، اختصه بخصائص منها: علم الجفر وذو الفقار، وكان شجاعاً مقداماً بطلاً هماماً، أبو الأئمة، أجمع الموالف والمخالف على فضله وورعه وزهده وعلمه، وتوفي -عَلَيْه السَّلام- مسموماً سنة (298هـ) يوم الأحد لعشر بقين من ذي الحجة ودفن يوم الاثنين في جامعه الذي بصعدة وقبره مشهور مزور.
وله الكثير من المؤلفات الجمة منها: الأحكام، والمنتخب، والفنون، والمسترشد، والقياس، ومسائل ابن الحنفية والرازي وغيرها.
(2) ـ وهو مذهب الشيخ أبي الحسن الكرخي وجماعة من أصحاب أبي حنيفة وقوم من الظاهرية. وذكره الشيخ الحسن بن محمد الرصاص في كتابه (الفائق)، ورواية عن الشافعي. تمت مقنع.
وهو المروي عن الناصر والمؤيد بالله والحنابلة وجمهور المالكية وبعض الشافعية كالصيرفي والدقاق والقاضي أبي الطيب والقاضي حسين وغيرهم. تمت شرح غاية.
، وعن السيد أبي طالب قدس الله روحه؛ وحكى أن قاضي القضاة نصره في النهاية، وأن القاضي شمس الدين رضي الله عنه وأرضاه اختاره.
وحكى عن الإمام العالم القاسم بن إبراهيم(1)
__________
(1) ـ الإمام العالم ترجمان الدين نجم آل الرسول: القاسم بن إبراهيم بن إسماعيل بن إبراهيم بن الحسن بن الحسن بن علي بن أبي طالب -عَلَيْهم السَّلام-.
مولده -عَلَيْه السَّلام- في حدود (173هـ)، هو الإمام المقدم في أهل البيت -عَلَيْهم السَّلام- المبرز في عصره، وأجمع أهل البيت على تفضيله، واعترف الموالف والمخالف بغزارة علمه، ومعرفته لأصناف العلوم، والرد على جميع الفرق، والمعرفة بمذاهبهم ونقضها وإبطالها، خافته الدولة العباسية خوفاً شديداً لما تعرفه من فضله ونبله، وعاصر من طواغيت الدولة العباسية هارون الغوي؛ فبذل الأموال الجليلة للعثور عليه فلم يتمكن، وكذلك المأمون ودفع الأموال الخطيرة إليه ليكاتبه ويراسله فأبى القاسم -عَلَيْه السَّلام- ذلك، وكذلك المعتصم بعد المأمون جرد لطلبه جيشاً وأنفذ عليهم أميراً.
كان -عَلَيْه السَّلام- داعياً لأخيه محمد بمصر، فلما توفي أخوه، بث دعاته في الآفاق وبايعه خلق كثير، وجاءته البيعة من مكة والمدينة والكوفة، وبايعه أهل الري وقزوين وطبرستان والديلم، وكاتبه أهل العدل من البصرة والأهواز وحضوه على القيام، وبايعه أكثر أهل مصر، وكانت دعوته من مصر فلم تنتظم له الأمور على ما أراد، وكانت له بيعة في دار محمد بن منصور المرادي سنة (220هـ) بايعه فيها أعيان أهل البيت في عصره وهم: أحمد بن عيسى، والحسن بن يحيى، وعبدالله بن موسى، ومحمد بن منصور المرادي، ولم يزل -عَلَيْه السَّلام- ناشراً للدين إلى أن توفاه الله عز وجل سنة (246هـ) وله من العمر ثلاث وسبعون سنة، وقيل: سبع وسبعون، ولعل الأول أصح.
وقبره في الرس بناحية المدينة في أرض اشتراها وسكنها وتوفي بها، وله الكثير من المؤلفات مثل: كتاب الدليل الكبير في التوحيد، والرد على ابن المقفع، والرد على المجبرة، وتأويل العرش والكرسي، والناسخ والمنسوخ، والرد على النصارى وغيرها كثير.
عَلَيْه السَّلام أنه يوجبه على التراخي وأن ذلك مذهب أبي علي وأبي هاشم، وأن قاضي القضاة نصره في العمد وشرحه آخراً، وكان شيخنا رحمه الله تعالى يختار القول بأنه على التراخي آخراً، وعلله علينا في المذاكرة وهو الذي نختاره.
وجه القول الأول: أن الأمر قد ثبت حمله على الوجوب، والقول بجواز تأخيره على هذا الوجه يلحقه بالنفل، وذلك لا يحوز.
وقول من يقول إنه لا يلحق بالنفل -من حيث أنه يقيم العزم مقامه حتى يبلغه ثانياً بخلاف النفل فإنه لا يحتاج إلى إقامة العزم- قولٌ لا برهان عليه؛ لأنه لا دليل على وجوب العزم المخصوص الذي ذكروه وإنما يجب العزم على وجه الجملة على أداء الواجبات وترك المقبحات.
وجه القول الثاني: أن ذلك لا يؤدي إلى إلحاقه بالنفل من حيث كان للمكلف ترك النفل رأساً، لا إلى وقت يتضيق فيه، وليس كذلك ما نحن فيه؛ لأنا نقول إنما يجوز للمكلف تركه إلى آخر أوقات الإمكان، ثم يضيق عند ذلك بخلاف النفل فبطل ما قالوه.
واعتراضهم على العزم لازم إلا أنا لا نوجبه، ولأنا نقول إن الحكيم لو أراد إيقاعه في وقت دون وقت لبينه، ومعلوم أنه لم يبينه، فثبت أنه يريد إيقاعه في أي وقت كان.
واعتراضهم ذلك بأنه إنما يلزم بيانه لو لم يكن الأمر مفيداً بظاهر التزامه على الفور غير مسلم، وهو موضع النزاع؛ لأنه لو كان معلوماً من ظاهره لوجب أن نعلمه كما علمنا بظاهر الأمر وجوب الإئتمار.
مسألة:[الكلام في الأمر إذا ورد مؤقتاً بوقت]
الأمر إذا ورد من الحكيم سبحانه مؤقتاً بوقت فلا يخلو الحال فيه من ثلاثة أوجه:
إما أن يكون الوقت غير متسع لذلك الفعل، وهذا لا يجوز وروده من الله سبحانه؛ لأنه تكليف ما لا يمكن، وذلك قبيح والله لا يفعل القبيح.
أو يكون الوقت مساوياً للفعل وذلك يجوز وروده من الحكيم سبحانه وتعالى، ولا خلاف في وجوب فعله في ذلك الوقت كالصيام مثلاً.
أو يكون الوقت أكثر من ذلك الفعل كالصلاة المأمور بها من دلوك الشمس إلى غسق الليل، وهذا الذي وقع فيه الخلاف.
وللعلماء فيه ثلاثة أقوال:
أحدها: أن الوجوب متعلق بأول الوقت، وإنما ضرب له آخره لكي إذا فات يقضى فيه ولا يقضى بعده أصلاً.
وحكى شيخنا رحمه الله تعالى عن القاضي شمس الدين رضي الله عنه وأرضاه أن القائلين بهذا القول قد انقرضوا فلا يعلم به قائل.
ومنهم من قال إنما ضرب ليدل أن الفاعل مخير في أن يفعله في الأول، وبين أن يفعله في الثاني.
ثم افترقت هذه الفرقة؛
فمنهم من قال: يجوز له تأخيره بشرط العزم على أدائه؛ ومنهم من لا يوجب العزم.
والذي عليه عامة أصحاب الشافعي أنه يجب في أول الوقت، وله تأخيره من غير بدل، هذا كله على قول من يقول إن الوجوب يتعلق بأول الوقت.
وثانيها: أن الوجوب يتعلق بآخره وهذا هو مذهب جماعة أصحاب أبي حنيفة غير محمد بن شجاع(1).
ثم اختلف القائلون بهذا القول؛
فمنهم من قال: المفعول في أول الوقت نفل سقط به الفرض.
__________
(1) ـ محمد بن شجاع البلخي، أبو عبدالله البغدادي، الفقيه الحنفي، مولده سنة (180هـ)، قال الإمام المنصور بالله عبدالله بن حمزة -عَلَيْه السَّلام- في الشافي (1/ 149)، في سياق ذكر من يقول بالعدل والتوحيد من الفقهاء: (ومنهم أبو شجاع محمد بن شجاع البلخي، وهو المبرز على نظرائه من أهل زمانه، فقهاً وورعاً وثباتاً على رأي أهل العدل، وهو الذي نمق فقه أبي حنيفة واحتج له وأظهر علله، وقواه بالحديث، وحلاه في الصدور، وله تصانيف كثيرة وله كتاب الرد على المشبهة) انتهى.
قال في الجداول: تكلم عليه الحشوية ونالوا منه وقالوا: كان ينال من أحمد. قال مولانا: ولا يبعد أنه من رجال الشيعة، مات ساجداً في صلاة العصر سنة ست وستين ومائتين، وله من العمر (86) سنة.
ومنهم من قال: إنه موقوف مراعى إن بلغ آخر الوقت، وهو باقٍ على شرط التكليف كان ما فعله في أوله فرضاً، وإن بلغ آخر الوقت وقد زال شرط التكليف كان نفلاً.
ومنهم من قال: إنه موقوف مراعى لتعجيل الزكاة يجب بدخوله فيه أو ببلوغه آخر الوقت، وهو المحكي عن أبي الحسن الكرخي.
وثالثها: أن الوجوب يتعلق بأول الوقت وآخره؛ لكنه يجب في أول الوقت موسعاً ويتضيق عليه في آخر الوقت، وحكاه شيخنا عن أبي علي، وأبي هاشم، وقاضي القضاة، والسيد أبي طالب، وجماعة من الفقهاء منهم: محمد بن شجاع.
ثم اختلفوا؛
فمنهم من قال: يجوز تأخيره لا إلى بدل، وهو الذي حكاه شيخنا عن أبي الحسين البصري، وعن القاضي شمس الدين رضي الله عنه وأرضاه وهو الذي نختاره.
ومنهم من قال: لا يجوز له تأخيره إلا بشرط العزم على أدائه(1) وهو الذي حكاه شيخنا رحمه الله تعالى عن أبي علي، وأبي هاشم، وقاضي القضاة، والسيد أبي طالب، ومحمد بن شجاع.
ومثال ما اختلف فيه الجميع قوله تعالى: {أَقِمِ الصَّلَاةَ لِدُلُوكِ الشَّمْسِ إِلَى غَسَقِ اللَّيْلِ} [الإسراء:78]، فأوجب سبحانه إقامة الصلاة من دلوك الشمس إلى غسق الليل على سواء في اللفظ والإرادة، فلم يكن لتعليق الوجوب بأول الوقت دون آخره أو بتعليقه بآخره دون أوله، وجه كما ذهب إليه من قدمنا ذكره.
وأما بطلان اشتراط العزم فقد تقدم(2) فلا وجه لإعادته.
__________
(1) ـ رواه المؤيد بالله عن الإمام القاسم بن إبراهيم -عَلَيْه السَّلام-. تمت شرح غاية.
(2) ـ تقدم حيث قال -عَلَيْه السَّلام- في مسألة (حمل الأمر على الفور أو التراخي): لا دليل على وجوب العزم المخصوص الذي ذكروه، إنما يجب العزم على وجه الجملة على أداء الواجبات، وترك المقبحات).
مسألة:[الكلام في الأمر هل يدل على القضاء أم يحتاج إلى دليل آخر؟]
الأمر الموقت إذا لم يفعل فيه فمذهبنا أنه يحتاج في وجوب قضائه إلى دليل ثان.
ومن الناس(1) من يقول إنه يُفعل بحكم الأمر الأول، وكذلك عقيبه أبداً.
والذي يدل على صحة ما ذهبنا إليه: أن الفعل إذا وقت بوقت اقتضى فعله في ذلك الوقت وما يفعل بعده لا يتناوله الأمر، فاحتاج إلى دليل ثان.
مثال ذلك: ما نعلمه من أن أحدنا إذا قال لخادمه: إذا كان وقت الظهر فاسقني الماء، ثم وقف إلى وقت المغرب، ثم أتاه بالماء لم يكن ممتثلاً للأمر عند أهل اللسان العربي بل يكون مخالفاً لمقتضى الأمر، ولأنه لا يمتنع في العقل أن يتعلق صلاح المتعبد بفعله في ذلك الوقت دون غيره فلا يلزمه القضاء من جهة الظاهر، كما ثبت مثله في صلاة الجمعة.
ومثال المسألة في الشرع: قوله سبحانه: {أَقِمِ الصَّلَاةَ لِدُلُوكِ الشَّمْسِ إِلَى غَسَقِ اللَّيْلِ} [الإسراء:78]، فإن من لم يقم الصلاة بين هذين الوقتين يحتاج في الإتيان بها بعد ذلك إلى دليل ثان، وقد ورد وهو قوله صَلَّى الله عَلَيْه وآله وَسَلَّم: ((من نام عن صلاة أو نسيها فوقتها حين يذكرها(2)))، وغير ذلك من الأدلة.
مسألة:[الكلام في الأمر هل يكون مجزئاً متى فعل أم لا؟ وفي معنى الإجزاء]
ذهب أكثر الفقهاء إلى أن الأمر بظاهره يقتضي كون المأمور به مُجْزِئاً متى فُعِل، واختلف شيوخنا في جواز هذا الإطلاق، وهو مذهب الشيخ أبي الحسين البصري، واختيار القاضي شمس الدين رضي الله عنه.
وذهب جماعة من أهل العلم إلى أنه لا يقتضي ذلك، وهو قول قاضي القضاة، والحاكم، وهو الذي نصره القاضي شمس الدين في البيان.
__________
(1) - وهم الحنابلة وبعض الحنفية منهم أبو بكر الرازي. تمت شرح غاية.
(2) ـ أخرجه الإمام المؤيد بالله في شرح التجريد ونحوه في الجامع الكافي عن علي -عليه السلام-، وأخرجه البخاري في المواقيت (2/84) رقم (597) ومسلم في المساجد (1/477) رقم (314، 684)، والطبراني فيالأوسط (4/327) رقم (6129).
ثم اختلفوا في معنى الإجزاء، فالمروي عن قاضي القضاة أن معنى ذلك أن الفعل وقع على حدٍ لا يلزم فيه القضاء.
وحكي عن الشيخ أبي الحسين البصري أن معنى قولنا إن الفعل مجز، هو أن المكلف بتأديته يخرج عن عهدة ما أمر به سواء لزمه القضاء بعد ذلك أم لا؛ لأن القضاء إنما يجب بدليل آخر كما قدمنا، وهو اختيار شيخنا.
ومذهبنا: أن الأمر إذا ورد على وجه الإبتداء، وأُدي بشرطه وصفته خرج المأمور به عن عهدة الأمر، وسقط عنه القضاء، وكان مجزئاً، وإن لم يقع على هذا الوجه خرج عن كونه مجزئاً؛ لأنا نرى أن لفظ الإجزاء في العرف يقتضي لزوم سقوط القضاء، فيخرج بهذا الإحتراز عن إلزام مفسد(1) الحج والصوم، وعن المخاطب بالصلاة(2) الذي يظن أنه على طهارة، فإنه يجب عليه الأداء في تلك الحال(3)، والقضاء عند ذكر فساد الطهارة.
وما ذكره الشيخ أبو الحسين البصري قوي على النظر إلا أنه ينقض بالعرف بين العلماء؛ لأنهم يعبرون عن الإجزاء بسقوط القضاء، وعن عدم الإجزاء بوجوبه.
__________
(1) ـ إلزام مفسد الحج هو: أنه يجب عليه إتمام بقية أركان الحج بعد فساده عليه بوطئ قبل الرمي، ولكن ذلك الإلزام بالإتمام لا يسقط عنه لزوم القضاء، ولا يخرجه عن عهدة الأمر؛ لأنه بدليل آخر، لكنه يقال: إن الحج الفاسد قد أجزى باعتبار الأمر الذي تناوله بعد فساده، وهو لزوم الإتمام، لا باعتبار الأمر الأول وهو وجوب الحج على الوجه الصحيح، فإنه لم يجز عنه إذ لو أجزى عن الأمر الأول، لما لزم قضاؤه، وإنما لزمه القضاء؛ لأنه لم يؤد الأمر على صفته وشرطه في الابتداء، وهذا هو موضع الاحتراز.
(2) ـ الذي يصلي في آخر الوقت، تمت مقنع.
(3) ـ ويخرج بذلك الأداء عن عهدة الأمر الأول إذ لا يمكنه أن يفعل غير ما فعل لفقد علمه بانتقاض الطهارة، ويسقط عنه الذم المستحق بالإخلال بها، وليس مع ذلك بمجز له في عرف العلماء. تمت مقنع.
مسألة:[الكلام في الأمر المطلق هل يفيد المرة أو التكرار؟]
اختلف أهل العلم في الأمر إذا أطلق هل يفيد بظاهره الفعل مرة واحدة، أو يفيد تكرار الفعل.
فالظاهر من مذهب(1) جماعة أصحاب أبي حنيفة، وأصحاب الشافعي، وهو المحكي عن أبي الحسين وهو ظاهر قول الشافعي(2) أنه لا يقتضي التكرار.
ومنهم من يقول إنه يقتضي التكرار وهو ظاهر قول أصحاب الشافعي(3).
ومذهبنا أنه بظاهره لا يفيد التكرار.
والذي يدل على صحة ما ذهبنا إليه: أن المفهوم من ظاهر الأمر عند أهل اللغة إيقاع الفعل، ولهذا إذا قال السيد لعبده: ادخل الدار، ثم دخل مرة واحدة خرج عندهم من عهدة الأمر.
ولأن الأمر أيضاً لو أفاد بظاهره التكرار لأفاده الخبر، ومعلوم أنه لا يفيده.
__________
(1) ـ وهو الظاهر من مذهب الشيخ أبي الحسن الكرخي، وهو مذهب الشيخين أبي علي وأبي هاشم، وكافة شيوخ المتكلمين، واختيار السيد أبي طالب. تمت مقنع.
(2) ـ الشافعي: هو محمد بن إدريس بن العباس بن عثمان بن شافع بن السائب المطلبي، أبو عبدالله الشافعي، الإمام العالم، أحد أئمة الإسلام، وأحد الشيعة الأعلام، ولد سنة (150هـ) بمدينة عزة ونقل إلى مكة وهو ابن سنتين فقرأ القرآن وحفظه وهو ابن سبع سنين، ثم رحل إلى مالك وهو ابن عشر سنين ليقرأ الموطأ عليه، ثم قدم بغداد، ثم خرج إلى مصر ولم يزل بها حتى مات، وهو إمام المذهب الشافعي وشيخه إبراهيم بن أبي يحيى المديني تلميذ الإمام زيد بن علي -عَلَيْه السَّلام-، وكان ممن بايع الإمام يحيى بن عبدالله -عَلَيْه السَّلام-، وهو أحد دعاته والآخذين للبيعة من الناس، وهو معدود من أئمة الشيعة وأشعاره في هذا الباب مشهورة معروفة، وهو أول من صنف في أصول الفقه، وتوفي رحمة الله عليه بمصر في صفر سنة (204هـ) وعمره (54) عاماً.
(3) ـ وجماعة من أصحاب أبي حنيفة. تمت مقنع.
وإنما قلنا ذلك لأنهما قد اشتركا بظواهرهما في الإفادة إلا أن الأمر أفاد الدخول في المستقبل، والخبر أفاد(1) دخوله في الماضي مثلاً، فكان التكرار صفة زائدة(2)على الدخول فلا تثبت إلا بدليل، فصح ما قلناه.
مسألة:[الكلام في الأمر إذا قيد بشرط أو صفة هل يقتضي التكرار أم لا؟]
اختلف أهل العلم في الأمر إذا قيد بشرط أو صفة هل يقتضي التكرار أم لا؟
فذهب جماعة ممن وافق في أنه إذا أطلق لم يفد التكرار إلا أنه إذا علق بشرط أو صفة أفاد التكرار.
والذي عليه أصحابنا وهو المروي عن أبي الحسين أنه لا يتكرر بتكرر الصفة، وهو الذي نختاره.
والذي يدل على صحة ما قلناه: أن تعليقه بالصفة والشرط لا يفيد من جهة ظاهره أكثر من إيقاعه عند حصول الشرط ووجود الصفة؛ لأن المعلوم أن أحدنا إذا قال لوكيله: طلقها إن دخلت الدار، ولخادمه: إشتر اللحم السمين إن دخلت السوق، لم يفد الظاهر تكرر الطلاق والشراء كلما دخلت الدار، وكلما وجد اللحم السمين، بخلاف ما لو علّقه بما يقتضي التكرار من قبل ظاهره مثل: قوله لوكيله: كلما دخلت الدار فطلقها، ولخادمه: كلما دخلت السوق فاشتر اللحم السمين، فقد رأيت بيان الظاهرين.
__________
(1) ـ نحو أن يقول: (دخل زيد الدار أمس) فهذا خبر يفيد الدخول في الماضي، وقوله: (ادخل الدار) وهذا أمر يفيد إيقاع الفعل في المستقبل؛ فإن الخبر يفيد أنه دخل الدار مرة فقط، فكذلك الأمر.
(2) ـ كونه صفة زائدة لأنه حصل الاتفاق على وجوب الفعل مرة واحدة، واختلفوا في ما عداها من وجوب التكرار، ولأنه لا بد من فعل المرة لصحة إيقاع الفعل بالأمر.
مسألة:[الكلام في تكرر الأمر بغير حرف العطف هل يقتضي تكرر المأمور به أم لا؟]
اختلف أهل العلم في الأمر إذا تكرر من غير حرف عطف(1)، هل يقتضي تكرر المأمور به أم لا؟
فذهب جماعة إلى أنه يقتضي تكرر المأمور به، وهو اختيار الحاكم(2).
وذهب قوم إلى أنه لايقتضي التكرار.
وقال آخرون: بالوقف في ذلك، وحكاه شيخنا عن الشيخ أبي الحسين البصري.
والظاهر من رأي شيخنا رحمه الله تعالى أن ذلك لا يفيد التكرار؛ واحتج لذلك بأنه لا يمتنع أن يدل على الشيء دليلان فأكثر، وبأن الخبر قد يتكرر، ولا يفيد تكرار المخبر عنه، كما ذلك في كتاب الله سبحانه وغيره.
__________
(1) ـ قال الإمام يحيى بن المحسن الداعي -عَلَيْه السَّلام- في المقنع: اعلم أن الأمر إذا ورد بعده أمر من غير حرف عطف فلا يخلوان؛ إما أن يكونا من جنس واحد، أو لا في جنس واحد.
فإن لم يكونا في جنس واحد فلا خلاف أن الثاني يقتضي خلاف ما يقتضيه الأول، مثاله: أن يقول الآمر: (صل ركعتين، صم يوماً).
وإن كانا في جنس واحد، فإما أن يكونا نكرتين، أو لا يكونا نكرتين بل كان الثاني معرفاً بالألف واللام وجب حملهما على مأمور واحد لأجل تعريف العهد، مثاله أن يقول: (صل ركعتين، صل الركعتين) ولهذا قال ابن عباس في قوله تعالى: {فَإِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْرًا(5)إِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْرًا(6)} [الشرح]: (لن يغلب عسر يسرين)، وهذا مما لا يظهر فيه الخلاف.
وإن كانا نكرتين: فإما أن يصح التكرار في المأمور به أم لا؛ إن لم يصح التكرار في المأمور به حمل الأمر الثاني على التأكيد لما اقتضاه الأمر الأول بلا خلاف، مثاله: أن يقول القائل لغيره: (اقتل زيداً اقتل زيداً، اعتق فلاناً اعتق فلاناً).
وإن كان المأمور به مما يصح فيه التكرار، فإما أن يكون هناك قرينة أو لا يكون هناك قرينة وجب حمل الكلام على حسب ما تقتضيه القرينة بلا خلاف، وإن لم يكن هناك قرينة فهذا النوع هو الذي ينبغي حصول الخلاف فيه) انتهى.
(2) - وقاضي القضاة وكثير من المتكلمين. تمت مقنع.
واحتج من قال بالأول: بأن كل واحد من الأمرين لو انفرد لأفاد مأموراً غير الأول، فإذا اجتمعا لم تتغير فائدتهما، وهذا له وجه.
والذي نختاره: مثل قول شيخنا، ونحمل فائدة التكرار على تأكيد إلزام الفعل كما نعلمه من أهل اللغة أن قائلهم قد يقول: افعل افعل، وأكثر من ذلك ولا يريد به إلا مأموراً واحداً، ومعاني الخطاب لم تؤخذ إلا منهم؛ لأن اللسان لسانهم.
مسألة:[الكلام في الأمرين إذا عطف أحدهما على صاحبه]
إذا عطف أحد الأمرين على صاحبه؛ فلا يخلو الحال فيه من ثلاثة أوجه:
أولها: أن يفيد الثاني مثل ما أفاد الأول من غير زيادة ولا نقصان، فالواجب حمله على مراد ثانٍ لاستحالة عطف الشيء على نفسه، ومثاله: أن يقول: أقم الصلاة اليوم وأقم الصلاة غداً.
وثانيها: أن يفيد غير ما أفاده الأول في شرطه وصفته، فلا خلاف في أنه يجب حمله على مقتضاه.
وثالثها: أن يفيد بعض ما دخل تحت الأول، فالواجب أن يحمل الثاني على أنه أراد به غير البعض الذي دخل تحت الأول. ومن الناس من يخالف في ذلك(1).
والذي يدل على صحة ما قلناه: أن من حق المعطوف أن يقتضي غير ما يقتضيه المعطوف عليه، وذلك ظاهر في اللغة كما أن أحدنا إذا قال: رأيت الزيدين وزيداً، علمنا أن زيداً الثاني غير الزيدين الأولين، ولهذا يصح أن يقول: زيد بن عبدالله، وزيد بن عمرو، وزيد بن خالد، ولو فسر زيد الثاني بأحد الزيدين الأولين كان ذلك خُلْفاً من الكلام، والأمر والخبر في ذلك سواء، كما إذا قال لخادمه: احمل عودين وعوداً، لم يخرج عن عهدة الأمر بحمل عودين، فصح بما قدمنا حمل ذلك على مأمورين.
__________
(1) ـ ويذهب إلى أن الأمر الثاني يحمل على أنه أريد به البعض الذي دخل تحت الأول فقط. تمت.
مسألة:[الكلام في الأمر إذا قرن به لفظ التأبيد]
الأمر إذا قرن به لفظ التأبيد لا يدل على الدوام عند الشيخ أبي عبدالله البصري، والفقهاء يخالفونه.
ووجه قولهم: الخبر المقيد بلفظ التأبيد يدل على الدوام فكذلك الأمر، وهو الذي نختاره.
والدليل عليه: أن الواحد منا إذا قال لخادمه: لازم الغريم أبداً أفاد ذلك دوام ملازمة الغريم ما دام غريماً، وهو الذي أقره شيخنا رحمه الله في كتابه الذي سماه الفائق في أصول الفقه، وكان كلامه رحمه الله في التدريس يختلف فتارة يرجح قول أبي عبدالله، وتارة يرجح قول الفقهاء، ويحتج للقولين جميعاً بحجج ذكرها يخرجنا إلى الإسهاب.
مسألة:[الكلام في الكفار هل هم مخاطبون بالشرائع أم لا؟]
اختلف أهل العلم هل الكفار مخاطبون بالشرائع أم لا؟
فذهب كثير من أصحاب أبي حنيفة، وبعض أصحاب الشافعي إلى أنهم مخاطبون بها، وهو المروي عن أبي الحسين رحمه الله وهو الظاهر من مذهب أصحابنا، وهو الذي نختاره.
وفي الطائفتين من يذهب إلى أنهم غير مخاطبين بها، وعمدتهم في ذلك أنهم لو خوطبوا بها لوجب عليهم قضاؤها، وهذا غير مستمر؛ لأنا نعلم أنا مخاطبون بصلاة الجمعة فمن لم يؤدها في ذلك الوقت لم يجب عليه قضاؤها عند الجميع، ولأن الدليل كان يوجب القضاء عليهم لولا ما ورد عنه صَلَّى الله عَلَيْه وآله وَسَلَّم من قوله: ((الإيمان يجبّ ما قبله)) ومعناه: يسقط، والعين لا يتحقق فيها الإسقاط، فدلت أن المراد بذلك الأحكام، ومن الأحكام وجوب القضاء، فسقط ما قالوه.
والدليل على صحة ما ذهبنا إليه: أن الخطاب متوجه إلى الكافر توجهه إلى المسلم، وذلك ظاهر في قوله تعالى: {يَاأَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ} [النساء:1]، والشرائع داخلة في ذلك، ولأن الشرط في توجه الخطاب إلى الكافر شرط في توجه الخطاب إلى المسلم من كمال العقل، وزوال الموانع، ولأنهم لو لم يخاطبوا بها حَسُنَ منهم تركها كما ثبت مثل ذلك في الطفل والمجنون، ومعلوم خلافه.
وأحسب أن الذي حملهم على ذلك من جهة التحقيق اعتقادهم أن معرفة الله تجب عليهم أولاً، ثم الشرائع بعد ذلك، فتوهموا بذلك أنهم غير مخاطبين بها.
وهذا باطل؛ لأنا نعلم أنا مخاطبون بالصلاة، وإن كان الطهور واجباً علينا قبلها، وكذلك أيضاً معرفة الله تعالى تجب على المسلم قبل الشرائع وجوبها على الكافر، ولم يقل أحد إنه غير مخاطب؛ ولأن الله تعالى حكى عن المشركين يوم القيامة أنهم عوقبوا على الصلاة، فلو كانوا غير مخاطبين بها لم يعاقبوا، دليله الطفل والمجنون كما قدمنا، وذلك ثابت في قوله تعالى: {مَا سَلَكَكُمْ فِي سَقَرَ(42)قَالُوا لَمْ نَكُ مِنَ الْمُصَلِّينَ(43)وَلَمْ نَكُ نُطْعِمُ الْمِسْكِينَ(44)وَكُنَّا نَخُوضُ مَعَ الْخَائِضِينَ(45)وَكُنَّا نُكَذِّبُ بِيَوْمِ الدِّينِ(46)} [المدثر:42ـ46]، ولم ينكر عليهم سبحانه ذلك، ولأن الكذب في الآخرة لا يجوز وقوعه.
مسألة:[الكلام في الأمر إذا ورد بعبارة تحتمل الحقيقة والمجاز هل يجوز أن يكونا مرادين أم لا يجوز؟]
اختلف أهل العلم في الأمر إذا ورد بعبارة تصلح لمعنيين أحدهما حقيقة والآخر مجازاً؛ هل يجوز أن يكون المعنيان معاً مرادين بها، أو لا يجوز؟
فذهب كثير من أصحاب أبي حنيفة إلى أنه لا يجوز أن يراد بعبارة واحدة معنيان مختلفان، وهو المروي عن الشيخ أبي عبدالله رحمه الله وكان يشترط في ذلك أن يكون المخاطِب واحداً، والوقت واحداً.
وعندنا أنه يجوز أن يراد بالعبارة الواحدة الحقيقة والمجاز إذا قدر زوال التنافي بين الإرادتين لكونهما من مقدور العبد، ويجوز أن يدعو الداعي إلى مقتضاهما، أو يصرف الصارف عنه فتوجد العبارة المفيدة لهما وهي مقدورة أيضاً.
ومثال المسألة: قوله سبحانه: {أَوْ لَامَسْتُمُ النِّسَاءَ} [النساء:43]، فإن اللمس حقيقة في المعتاد منه مجاز في الوطي، وقوله تعالى: {وَلَا تَنْكِحُوا مَا نَكَحَ ءَابَاؤُكُمْ} [النساء:22]، فإن النكاح حقيقة في الوطء، مجاز في العقد..إلى غير ذلك.
ومثل قول أبي عبدالله يحكى عن أبي هاشم، فإنه روي أنه ذكر في البغداديات أن آية القُرء إذا جاز أن يريد الله سبحانه بها معنيين مختلفين على حسب ما يؤدي المجتهد اجتهاده إليه وجب أن يتكلم بها مرتين.
وذهب أصحاب الشافعي وكثير من الفقهاء إلى أن العبارة الواحدة يجوز أن يراد بها معنيان مختلفان، وهذا لا يصح إلا على الوجه الذي ذكرناه، وما ادعوه في مجرد اللفظ وأحالوا به على المعلوم من نفوسهم على الخلاف هو موضع النزاع فلا تصح الدعوى، وكما أن الواحد منا يعلم أنه في حال قصده تعظيم الغير لا يصح قصده الإستخفاف به.
مسألة:[الكلام في جواز الأمر بما يعلم امتناع المخاطب منه بدون منع]
اختلف أهل العلم في جواز الأمر بما يكون المعلوم من حال المخاطب أنه سيمنع منه بشرط أن لا يمنع؟
فذهب شيوخنا إلى المنع منه وهو المحكي عن السيد أبي طالب قدس الله روحه.
وذهب كثير من الفقهاء وبعض المتكلمين إلى جوازه وهو الذي نختاره.
واحتجّ من ذهب إلى القول الأول: بما ثبت من قبح تكليف ما لا يطاق، فإذا كان المعلوم من حاله أنه يصير ممنوعاً منه لم يحسن ذلك للوجه الذي لأجله لا يحسن تكليف ما لا يقدر عليه، قالوا: فقبح تكليف أحدهما متقرر في العقول على الوجه الذي يقرر قبح الآخر، وتعليق الأمر بشرط أن لا يمنع منه المأمور مع علم الآمر بأنه يصير ممنوعاً لا يؤثر في ذلك؛ لأنه يجري مجرى العبث.
والذي يدلّ على صحة ما قلناه: أن اشتراط زوال المنع في وجوبه عليه يخرجه عن باب تكليف ما لا يطاق، وقد ثبت أن التكليف إنما وقع تعريضاً للمكلف للمنازل الرفيعة، وذلك يحصل بالعزم على الفعل وتوطين النفس على احتمال أثقاله، وبذلك يخرج التعبّد عن كونه عبثاً لصحة هذا الغرض، فصح ما قلناه.
مسألة:[الكلام في حدِّ النهي]
اختلف أهل العلم في حدّ النهي.
فقال قوم: هو قول القائل لمن دونه: لا تفعل، وهو قول الحاكم.
ومنهم من شرط في ذلك الكراهة للمنهي عنه(1).
ويرد على الأول النقض بالتهديد بصيغة النهي، فإن قول القائل لمن دونه لا تفعل ليس بنهي إذا لم يكن كارهاً للمنهي عنه، وأورد الصيغة على جهة الإستعلاء دون الخضوع على ما نختاره.
وينقض الثاني أيضاً إذا لم ترد الصيغة على جهة الإستعلاء بل كانت على وجه الخضوع فيلحق بالسؤال.
ومنهم من قال: هو قول القائل لغيره لا تفعل على جهة الإستعلاء دون الخضوع ولا تشترط الكراهة في ذلك؛ لأنها شرط في كونه نهياً أو مؤثرة فيه.
وما يكون شرطاً في الشيء أو مؤثراً فيه لا يدخل في حده وحقيقته، وحكاه شيخنا عن شمس الدين رضي الله عنهما، وهذا ينتقض بالتهديد أيضاً.
وذهب شيخنا رحمه الله تعالى إلى أنه لا حكم للنهي بكونه نهياً فيعلل بوجه من وجوه التعليل، بل ليس المعقول من كونه نهياً إلا ورود صيغة لا تفعل على جهة الإستعلاء دون الخضوع مع كون الناهي كارهاً للمنهي عنه، وهو الذي نختاره.
والدليل على صحة ما ذهبنا إليه أن من علم ورود الصيغة على الوجه الذي ذكرنا علمها نهياً، وإن جهل ما جهل، وإن لم يعلمها على الوجه الذي ذكرناه لم يعلمها نهياً، وإن علم ما علم.
__________
(1) ـ وهو اختيار الإمام المؤيد بالله -قدس الله روحه-. تمت مقنع.
فصل: [الكلام في النهي لماذا كان نهياً]
واعلم أن الخلاف في النهي لماذا كان نهياً، كالخلاف في الأمر لماذا كان أمراً.
فعند أبي القاسم أنه كان نهياً لذاته.
وعند كثير من المعتزلة البصريين أنه إنما كان نهياً؛ لأن الناهي كره المنهي عنه.
والمجبرة تخالف في ذلك وتقول بأنه إنما كان نهياً لأن الناهي أراد أن يكون نهياً.
وعندنا أنه لا حكم له لكونه نهياً، فيحتاج إلى التعليل بشيء مما ذكرناه كما قدمناه.
مسألة: [في أن النهي حقيقة في القول دون الفعل]
لا خلاف بين العلماء أن النهي حقيقة في القول دون الفعل.
والذي يدل على ذلك: أن لفظة النهي إذا أطلقت لم يسبق إلى فهم السامعين إلا القول، وذلك أمارة الحقيقة كما قدمنا.
مسألة:[الكلام في النهي المطلق والمقيد هل يقتضي تكرار الإنتهاء أم لا؟]
لا خلاف بين العلماء أن النهي المطلق يقتضي وجوب الإنتهاء وتكراره، ولا خلاف بينهم أيضاً أن النهي المقيد بالصفة يقتضي وجوب الإنتهاء، وإنما الخلاف في أنه هل يقتضي تكرار الإنتهاء أم لا؟
فعند أكثر العلماء أنه يقتضي ذلك.
وعند الشيخ أبي عبدالله البصري أنه لا يقتضي التكرار، بل إنما يقتضي الإنتهاء مرة واحدة، وهو الذي اختاره الحاكم، والأول هو الذي نختاره.
وجهه: أن النهي المطلق يقتضي تكرار الإنتهاء وتقييده بالصفة لا يغير مقتضاه، فوجب تكراره.
أما أن النهي المطلق يقتضي وجوب الإنتهاء وتكراره فالقول فيه واحد.
وأما أن تعليقه بالصفة لا يغير مقتضاه؛ فلأنه لا فرق عند أهل اللغة بين قول القائل لعبده: لا تشتر اللحم، وبين قوله: لا تشتر اللحم الهزيل، في أنه يجب تكرار الإنتهاء في الحالتين جميعاً.
مسألة:[الكلام في النهي هل يقتضي فساد المنهي عنه أم لا؟]
اختلف أهل العلم في النهي هل يقتضي فساد المنهي عنه أم لا؟
ومعنى الفساد: أن لا يقع موقع الصحيح في ثبوت أحكامه الشرعية من إجزاء وغير ذلك.
فذهب قوم إلى أنه لا يقتضي الفساد بظاهره(1)، وحكى شيخنا رحمه الله أنه مذهب الشيخ أبي عبدالله، وحكاه عن أبي الحسن وجماعة من الحنفية وهو اختيار الحاكم.
وذهب الشافعية إلى أنه يقتضي فساد المنهي عنه بوضعه.
أما في الشرع؛ فإنه يختلف حاله في ذلك بحسب ما يتعلق به، فإن كان المنهي عنه مما يتعلق بالعبادات فإنه يقتضي فساد المنهي عنه، وإن كان مما يتعلق بالمعاملات فإنه لا يقتضي ذلك، وهذا الذي كان شيخنا رحمه الله يختاره، وحكاه عن القاضي شمس الدين.
وعندنا: النهي الشرعي يقتضي فساد المنهي عنه سواء كان من باب العبادات أو من باب المعاملات.
واستدل شيخنا رضي الله عنه على أنه لا يقتضي فساد المنهي عنه بوضعه ما ثبت من وقوع أشياء كثيرة في الشريعة مما ورد عنه النهي الحقيقي في موقع الصحيح في ثبوت أحكامها الشرعية نحو غسل النجاسة بالماء المغصوب، فإنه منهي عنه، ولا شك في زوال النجاسة به، وكذلك الذبح بسكين مغصوب مع حصول حل الذبيحة؛ وطلاق البدعة تثبت أحكامه مع أنه منهي عنه، والبيع وقت النداء يثبت به الملك، والوطء في زمن الحيض تثبت له أحكام الوطء من تكميل المهر، والإحلال للزوج الأول وغير ذلك؛ فإن هذه الأشياء منهي عنها على جهة الحقيقة، ولم يوجب النهي فساداً فيها، فلو كان النهي مقتضياً للفساد بظاهره وموضعه للزم من ذلك أحد باطلين:
إما ألا تكون هذه الأشياء منهياً عنها على جهة الحقيقة، وإن لم تكن فاسدة.
وإما أن تكون فاسدة إذا كانت منهياً عنها على جهة الحقيقة، فلا تثبت أحكامها الشرعية، وكلاهما باطل، فثبت أن النهي لا يقتضي الفساد بوضعه.
__________
(1) ـ وإن كان قد يقتضي ذلك بقرينة تقترن به كما نقوله في العبادات الشرعية. تمت مقنع.
واحتج على فساد المنهي عنه في باب العبادات: بأن النهي إذا ورد عن حكيم اقتضى قبح المنهي عنه؛ لأن النهي عن الحسن قبيح لا يجوز وروده في خطاب الحكيم، ومن حق ما يكون عبادة وطاعة أن يكون حسناً حتى يصح أن يريده الله تعالى؛ لأنه تعالى لا يجوز أن يريد القبيح؛ فإذا لم يكن حسناً لم يكن مجزئاً ولا مسقطاً للفرض الواجب.
قال رحمه الله: وليس كذلك ما كان من باب المعاملات؛ فإنه ليس من شرط صحته أن يقع على وجه القربة والعبادة حتى يكون من شرطه أن يكون حسناً ومراداً لله تعالى، فلذلك لم يقتض النهي فساده، فعلى هذا إذا ورد النهي عن الوضوء بالماء المغصوب، وعن الصلاة في الدار المغصوبة، اقتضى فساد المنهي عنه في هذا الموضع، فلا يجوز الوضوء ولا الصلاة، ولا يسقط بهما الفرض، بخلاف ما قدمنا ذكره مما يتعلق به النهي في باب المعاملات وما جرى مجراها.
قال رحمه الله تعالى: فثبت بهذه الجملة ما ذهب إليه الشيخ أبو الحسين(1) في هذه المسألة.
والذي يدل على صحة ما ذهبنا إليه: ما تقرر من ظاهر أحوال المسلمين من لدن النبي صَلَّى الله عَلَيْه وآله وَسَلَّم إلى يومنا هذا من الرجوع في فساد العقود الشرعية في المعاملات وغيرها إلى ظاهر نهي النبي صَلَّى الله عَلَيْه وآله وَسَلَّم، نحو نهيه عن بيع الغرر، وبيع الإنسان ما ليس عنده، وعن بيوع الجاهلية، ونهيه عن نكاح المرأة على عمتها وعلى خالتها، وأمثال ذلك مما لا يحصى كثرة من الكتاب والسنة.
__________
(1) ـ الذي ذهب إليه الشيخ أبو الحسين البصري هو ما ذكره في المعتمد في أصول الفقه (1/184) حيث قال: (وأنا أذهب إلى أنه يقتضي فساد المنهي عنه في العبادات دون العقود والإيقاعات).
وقد روي عن عبدالله بن عمر(1)
__________
(1) ـ عبدالله بن عمر بن الخطاب أبو عبدالرحمن، أسلم قديماً بمكة بإسلام أبيه، وشهد الخندق وما بعدها. ذكر الناصر للحق فيما رواه الإمام أبو طالب أنه لم يقاتل مع علي -عَلَيْه السَّلام- في حروبه مع أنه يفضل أمير المؤمنين علياً -عَلَيْه السَّلام- على من حاربه وهو من أصحاب الألوف في الحديث. توفي بمكة سنة ثلاث وسبعين، وله أربع وثمانون.
أخرج له أئمتنا الخمسة وهم: المؤيد بالله وأخوه أبو طالب والموفق بالله وولده المرشد بالله ومحمد بن منصور المرادي. والجماعة وهم: البخاري ومسلم وأبو داود والنسائي والترمذي وابن ماجة.
إلى قوله: قال الإمام محمد بن عبدالله في الفرائد: وروى البلاذري في تاريخه أن عبدالله بن عمر كتب إلى يزيد فأجابه يزيد -لعنه الله-: أما بعد يا أحمق فإنا جئنا إلى قصور مشيدة وفرش ووسائد منضدة فقاتلنا عنها فإن يكن الحق لنا فعن حقنا قاتلنا، وإن الحق لغيرنا فأبوك أول من سن وابتز واستأثر بالحق على أهله.
قلت: وهو كجواب أبيه معاوية على محمد بن أبي بكر الذي رواه في الشافي، وشرح النهج.
إلى قوله: بعد أن روى حديث: ((من خلع يداً من طاعة لقي الله ولا حجة له، ومن مات ليس في عنقه بيعة مات ميتة جاهلية)) وما باله ترك بيعة علي -عَلَيْه السَّلام- وجاء إلى الحجاج يبايعه لعبدالملك بن مروان وروى هذا الحديث فقال له الحجاج: يا عبدالله إن يدي مشغولة وهذه رجلي فبايع رجله واستنكر الحجاج ذلك منه وتمنعه من بيعة علي ولولا أنه روي من وجوه كثيرة توبة ابن عمر وأوبته لحكمنا بهلاكه لكن الله تداركه.
إلى قوله: نعم وقد تكاثرت الروايات عن ابن عمر بتوبته، وأخرج ابن عبدالبر من طرق أن ابن عمر قال حين حضرته الوفاة: ما آسى على شيء إلا أني لم أقاتل الفئة الباغية مع علي بن أبي طالب.
قال الإمام المنصور بالله عبدالله بن حمزة -عليهما السلام- في ابن عمر: وكان شديد الاجتهاد في طاعة الله تعالى ورويت عنه ندامة عظيمة في تخلفه عن علي -عَلَيْه السَّلام- وكان يتوضأ لكل صلاة وله رواية وسيعة عن النبي -صَلَّى الله عَلَيْه وآله وَسَلَّم- على غفلة كانت فيه، ولم يختلف في الرواية عنه.
انتهى المراد بتصرف من لوامع الأنوار (ط2- 3/141، 145) تأليف مولانا الإمام العظيم ذي العلم الغزير والفضل الشهير مجدالدين بن محمد بن منصور المؤيدي أيده الله تعالى وأطال في عمره وأبقاه ذخراً للإسلام والمسلمين.
أنه قال: (ما زلنا نخابر حتى أخبرنا رافع بن خديج(1) بأن النبي صَلَّى الله عَلَيْه وآله وَسَلَّم نهى عن ذلك)، وقوله: ما زلنا نخابر حكاية عن الجماعة، وذلك يدل على أنهم حكموا بفساده لأجل النهي دون غيره، ولأنهم كانوا لا يرجعون فيما يحكمون بفساده إلى دليل سوى النهي فلولا أنه يقتضي عندهم بظاهره فساد المنهي عنه لرجعوا إلى دليل سواه، وما قلناه معلوم لمن تتبّع أخبارهم واقتصّ آثارهم.
فأما ما احتج به أهل المذهب الأول من الذبح بسكين مغصوب، وغسل النجاسة بالماء المغصوب، إلى ما شاكله، فنحن نقول إنه وقع موقع الصحيح لأدلة تخرجه عن هذا الباب، ونحن لا نمنع من إزالة العارض بحكم عن بعض ما تناوله الشائع فلا يخرجه ذلك عن شياعه.
كما نقول في لفظة (من) فإنها وضعت للعموم، ولا يمتنع من إخراج الإستثناء وغيره من الأدلة بخروج ما دخل تحتها، ولا يخرجها ذلك عن بابها كذلك ما نحن فيه، وهل هذا إلا كقول من يقول إن لفظة الأمر لا تقتضي الوجوب شرعاً ويعتمد في ذلك أوامر النوافل وأمثلتها هذا هو الكلام في هذه المسألة على وجه الإختصار، والله الهادي.
* * * * * * * * * *
__________
(1) ـ رافع بن خديج -بفتح معجمة وكسر مهملة- الأوسي الحارثي، عرض يوم بدر فاستُصغِر وأجازه يوم أحد فشهدها وما بعدها، وكان عريف قومه وشهد مع علي -عَلَيْه السَّلام- صفين، وأصابه سهم يوم أحد فبقي النصل فكان سببه انتقض عليه فتوفي سنة أربع وسبعين، وهو في ست وثمانين، روى عن علي -عَلَيْه السَّلام- وأُبيّ بن كعب.
وعنه: إياس بن خليفة وغيره. أخرج له: المؤيد بالله، والمرشد بالله، ومحمد، والجماعة. انظر لوامع الأنوار (ط2- 3/88).
الكلام في العموم والخصوص
[معنى العموم]
معنى قولنا في الكلام إنه عام: أنه يستغرق جميع ما يصح له.
ومعنى وصفنا للخصوص بذلك: أنه يتناول شيئاً مخصوصاً دون غيره مما كان يصح أن يتناوله.
وحقيقة العموم في القول، واستعمال لفظه في المعاني كقولهم: عمهم البلاء، وعمهم المطر، إذا دخل الكل تحت أحد الأمرين، فقد رأيت أن فائدة العموم عندهم هو الإستغراق وإن كانت لفظة عمهم لا تَطَّردُ في كل شيء فلا يقال: عمهم الأكل، والشرب، ولا النكاح، فقد تم غرضنا بأن معنى العموم عند أهل اللغة: هو الإستغراق والشمول؛ فإذا قد فهمت معنى العموم رجعنا إلى تعيين ألفاظ العموم.
[ألفاظ العموم]
وألفاظ العموم: (مَنْ): للعقلاء إذا وقعت نكرة في المجازات والاستفهام، و(مَا): فيما لا يعقل، و(أين): في المكان، و(ما الظرفية): في الزمان كقوله تعالى: {خَالِدِينَ فِيهَا مَا دَامَتِ السَّمَوَاتُ وَالْأَرْضُ} [هود:107]، وكذلك (متى) و(متى ما) في الزمان، و(حيث) و(حيثما): في المكان أيضاً، و(ما): في النفي إذا دخلت على النكرات و(أسماء الأجناس) إذا دخلها الألف واللام، ولم يرد بها معهوداً كقولك: الإنسان والرجل / و(الأسماء المشتقة من الأفعال) كقوله تعالى: {وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ} [المائدة:38]، وقد وقع الخلاف في هذين النوعين خاصة، فعند أبي علي والمبرد(1) أنهما من ألفاظ العموم، وعند أبي هاشم وأبي الحسين أنهما ليسا من ألفاظ العموم، (وألفاظ الجمع) إذا عرفت بالألف واللام ولم يرد بها معهوداً، وأبو هاشم أيضاً يخالف في هذا على ما يأتي بيانه.
__________
(1) ـ محمد بن يزيد بن عبدالأكبر بن عمير بن حسان الثمالي الأزدي البصري، المعروف بالمبرد، النحوي، نزيل بغداد، كان إماماً في النحو واللغة، وله التآليف النافعة في الأدب، أخذ عن أبي عثمان المازني، وعن أبي حاتم السجستاني وأخذ عنه نفطويه والزجاج، وكان معاصراً لأبي العباس ثعلب. ولد المبرد سنة (220هـ)، وتوفي سنة (286هـ)، عده المنصور بالله في الشافي من القائلين بالعدل والتوحيد. قال في الجداول: وعداده في الشيعة.
ولفظة (أي): تتناول العقلاء وغير العقلاء، فهي في هذا أعم مِنْ (مَنْ، وما)؛ لكنها لا تستغرق إلا بحسب ما تضاف إليه تقول: أي رجل أكرمت، فيتناول ذلك جميع الرجال على وجه العموم، وتقول: أي دار دخلت، فتجيب بجميع جنس الدور، وأي طعام أكلت، فتجيب بجنس المأكول، و(كل) في التأكيد تقتضي الإستغراق، وكذلك ما جرى مجراها مثل: (جميع وجمعاء وأجمعين وجمع) وتوابعها.
واعلم أن لفظة (ما) إذا كانت نافية ووقعت على نكرة اقتضت العموم كقولك: ما رأيت رجلاً، وما في الدار رجل، فإذا عرفت ألفاظ العموم وحقيقته عدنا إلى ذكر مسائل الخلاف.
مسألة:[الكلام في لفظة العموم هل تستغرق جميع المسميات أم لا؟]
ذهب جمهور العلماء إلى أن لفظة العموم تختص بصيغة تقتضي إستغراق جميع المسميات التي وضع لها اللفظ، وخالفهم في ذلك قوم ممن ينتسب إلى علم الكلام، ونفر من الفقهاء.
ومنهم من فصل بين الأمر والخبر، فقال في الأمر: إنه يقتضي العموم دون الخبر، وهو مذهب قوم من المرجئة.
ومنهم من ذهب إلى الوقف في لفظ العموم، وقال: إنه لا يحمل على عموم ولا خصوص وإنما الواجب مراعاة الدلالة على المراد به، فيحمل عليه.
ومنهم من ذهب إلى أن الواجب حمله على أقل ما يحتمله فإنه متيقن وهو الثلاثة.
ومنهم من ذهب إلى أنه يصلح للمسميات التي وضع لها ولا يجب استغراقه لها.
والذي يدل على صحة المذهب الأول: أن لفظ مَنْ إذا دخلت نكرة في المجازات والإستفهام نحو قولك: من في الدار، وقولك: من أكرمني أكرمته، صح أن تستثني من أحببت كقولك إلا ربيعة ومضر وبني فلان وبني فلان، حتى تأتي على جميع العقلاء، ولولا أن اللفظ شملهم على وجه الحقيقة لما صح الإستثناء، كما لا يصح أن تقول: إلا الخيل والبغال وغيرها مما لا يتناوله اللفظ؛ لأن من شرط صحة الإستثناء أن يخرج من الكلام ما لولاه لصح دخوله تحته؛ لأن الواحد منا إذا قال علي لفلان عشرة إلا ديناراً فإن هذا الإستثناء بالإجماع يخرج من الكلام ما لولاه لوجب دخوله تحته؛ لأن العشرة اسم لهذا العقد المخصوص، دون غيره، وإذا قال: رأيت رجلاً إلا زيداً، أو رجالاً إلا زيداً لم يكن استثناء حقيقياً عند أهل اللغة مع أنه قد أخرج من الكلام ما لولاه لصح دخوله تحته، فإن زيداً يصح دخوله تحت هذا الإستثناء، وإن لم يكن حقيقياً لما قدمنا من وجوب إستغراق اسم الرجال عند أهل اللغة بخلاف رجل ورجال.
والذي يدل على أن لفظة العموم تقتضي الإستغراق على وجه الحقيقة: أنهم يجعلون البعض في مقابلة الكل فيقول قائلهم: أخذت كل المتاع أو بعضه، فلو كان لا يقتضي الإستغراق عندهم ما جعلوا البعض في مقابلته كما أنهم لا يقولون: أخذت بعض المتاع أو جزءاً منه، لما كان كل واحد من اللفظين لا يقتضي الإستغراق عندهم.
مسألة:[في الألف واللام إذا دخلت على ألفاظ الجنس والجمع والأسماء المشتقة]
ألفاظ الجنس والجمع والأسماء المشتقة من الأفعال إذا عُرِّفَت باللام ولم يرد المخاطب معهوداً فإنها تقتضي الإستغراق عند أكثر الفقهاء، وهو قول أبي علي واختيار القاضي، وإليه ذهب الحاكم.
وعند أبي هاشم أنها لا تقتضي الاستغراق بوضعها بل يجب حمل ألفاظ الجمع على الأقل وهو ثلاثة، وحمل ألفاظ الجنس والأسماء المشتقة من الأفعال -إذا لم تكن ألفاظ الجمع- على الأقل وهو الواحد -إن كان لفظاً للواحد-، والإثنان -إن كان تثنيةً-، إلا أن تدلّ دلالة على أن المراد به العموم كأن يتعقبه الزجر الذي يتوجه بالدلالة إلى الجميع من هذه الألفاظ فإنها حينئذ تفيد العموم والإستغراق لذلك.
والشيخ أبو الحسين البصري يفرق بين ألفاظ الجمع، وبين أسماء الأجناس، والأسماء المشتقة من الأفعال فيقول إن ألفاظ الجمع تستغرق لجواز صحة الإستثناء كما تقدم.
ويقول بأن ألفاظ الجنس، والأسماء المشتقة من الأفعال لا تستغرق لأنه لا يصح الإستثناء منها؛ لأنه لا يصح أن يقول القائل: رأيت الرجل إلا زيداً، ورأيت الإنسان إلا زيداً، ورأيت الضارب غير زيد، فلم يكن هذا الإستثناء صحيحاً، وكان جارياً مجرى قوله: رأيت رجلاً إلا زيداً، وإنساناً إلا زيداً، وضارباً إلا زيداً.
واعلم أن وجوب الإستغراق يعتبر بصحة الإستثناء فما صح منه الإستثناء فهو من ألفاظ العموم، وما لم يصح منه الإستثناء فليس كذلك، فأما في لفظ الجنس المعرف بالألف واللام، والأسماء المشتقة من الأفعال، فعندنا أنها من ألفاظ العموم إذا لم يرد بها معهوداً.
والذي يدل على ذلك: ما يثبت من أن الألف واللام إذا لم تكونا لتعريف العهد فهما لتعريف الجنس، إذ لا واسطة بين تعريف العهد وتعريف الجنس في ذلك، ولولا ذلك لما كان فرق بينهما وبين النكرات، وقد ثبت الفرق.
وأما جواز الإستثناء فلا بد منه، وقد وقع في قوله تعالى: {وَالْعَصْرِ(1)إِنَّ الْإِنْسَانَ لَفِي خُسْرٍ(2)إِلَّا الَّذِينَ ءَامَنُوا} [العصر:1ـ3]، وهذا الإستثناء تحقيقي، ولا مانع من جواز الإستثناء في قوله: رأيت الإنسان إلا زيداً إن لم يرد بلفظ الإنسان معهوداً، وإن لم يكثر استعماله في اللغة، ولم يوجد، كما نقوله في جواز استثناء الأكثر من الأقل وإن لم يوجد على ما يأتي بيانه.
مسألة:[الكلام في أقل الجمع]
اختلف أهل العلم في أقل الجمع.
فعند الأكثر أن أقل الجمع ثلاثة.
وعند بعضهم أن أقل الجمع اثنان، وهذا يروى عن أبي يوسف(1)، وروى بعض أصحاب أبي حنيفة أن أبا يوسف لم يصرح بهذا، وإنما الجمعة(2) على الإثنين فحمل ذلك عليه.
ومذهبنا هو الأول.
__________
(1) ـ أبو يوسف هو: يعقوب بن إبراهيم الأنصاري القاضي أبو يوسف الكوفي، صاحب أبي حنيفة، العلامة فقيه العراقين، ثقة ثبت، منصف في الرواية صدوق، فقيه أصولي بارع، ملازم لأبي حنيفة، توفي في ربيع الآخر سنة (182هـ) وعمره (69) عاماً.
(2) - يعني أن بعض أصحاب أبي حنيفة خرج ذلك القول لأبي يوسف على قوله: (إن الإثنين تجب عليهما الجمعة إذا كان هناك إمام)، واستدل على ذلك بقوله تعالى: {فَاسْعَوْا} [الجمعة:9]، قالوا: وهذا يدل من مذهبه على أن أقل الجمع الحقيقي اثنان. تمت مقنع معنى.
والذي يدل على صحته: أن أهل اللغة فرقوا بين لفظ الواحد، وبين لفظ الإثنين، وبين لفظ الجمع، فقالوا في لفظ الواحد: زيد، وفي لفظ التثنية: زيدان، وفي لفظ الجمع: الزيدون، فلولا أن أقل الجمع عندهم ثلاثة لما عبروا عنه بما يخالف لفظ التثنية؛ ولأن لفظ الجمع لو كان حقيقة في الإثنين لتعلق به لفظ الجمع كالثلاثة فكان يجوز أن يقال: اثنان رجال، كما يجوز أن تقول: ثلاثة رجال، ومعلوم أن ذلك لا يجوز؛ ولأنه لو كان حقيقة في الإثنين لدخل عليهما واو الجمع كما دخل على الثلاثة؛ فجاز أن تقول على وجه الحقيقة للاثنين دخلوا، كما تقوله للثلاثة، ومعلوم خلافه أيضاً؛ ولأن الإنسان إذا قال: عندي لفلان دراهم، لم يصدق فيما دون الثلاثة.
مسألة:[الكلام في لفظ الجمع إذا أطلق]
اختلف من قال بأن أقل الجمع ثلاثة في لفظ الجمع إذا أطلق.
فمنهم من قال يجب حمله عند إطلاقه على الثلاثة فما زاد عليها إلا أن يمنع منه الدليل، وهو الذي نختاره، وهو المروي عن السيد أبي طالب، والشيخ أبي علي.
ومنهم من يقول: إنه يجب حمله على ثلاثة فقط، ولا يحمل على أكثر منها إلا بدلالة، وهو المروي عن أبي هاشم أولاً.
والذي يدل على صحة ما ذهبنا إليه: أنه قد ثبت أن لفظ الجمع حقيقة في الثلاثة وفيما زاد عليها، بدلالة أن الذي علمنا كونه حقيقة في الثلاثة هو بعينه قائم فيما زاد على الثلاثة قيامه في الثلاثة فلا وجه لحمله على الثلاثة دون ما زاد عليها؛ فإذا ورد معرفاً بالألف واللام وجب حمله على الإستغراق.
وإن ورد مُنَكَّراً فإنه لا يخلو: إما أن يكون خبراً، أو أمراً، أو نهياً.
فإن كان من قبيل الخبر وجب حمله على الثلاثة فما زاد عليها إلى الحد الذي يمنع منه الدليل، ويرجع تفصيله إلى قصد المخاطِب؛ لأنه لا يمتنع أن يكون له مراداً بمنزلة المعهود يرجع إليه خطابه؛ لأنه لا يمتنع في قوله: رأيت رجالاً أن يرجع به إلى رجال مخصوصين، ومن هذا الأصل قولهم في الإيقاعات المحتملة إنه يرجع فيها إلى نية المخاطب.
وإن كان من قبيل الأمر والنهي فإنه يجب حمله على ثلاثة غير معينين لمنع الدليل عن حمله على ما زاد على الثلاثة؛ لأنه لا ينحصر ودخول ما لا ينحصر في التكليف لا يجوز عندنا، فهذا هو الفرق بين الخبر والأمر والنهي.
مسألة:[الكلام في العموم إذا خص هل هو حقيقة أم مجاز؟]
اتفق العلماء على جواز ورود خطاب الحكيم سبحانه وتعالى بالعام وهو يريد به الخاص، وإنما اختلفوا في العموم إذا خص:
فمنهم من يقول: إنه يصير حقيقة فيما بقي داخلاً تحته بأي دليل خص، وعلى أي وجه خص، وحكاه شيخنا رحمه الله تعالى عن جماعة من الحنفية، فيهم: عيسى بن أبان(1) وجماعة من الشافعية.
ومنهم من قال: إنه يصير مجازاً بأي دليل خص، وعلى أي وجه خص، وهو الذي حكاه عن مشائخنا المتكلمين سوى القاضي وأبي الحسين، وحكاه عن القاضي شمس الدين رضي الله عنه.
ومنهم من قال: إن خص بدليل متصل لم يصر مجازاً، وإن خص بدليل منفصل صار مجازاً، وحكي هذا القول عن أبي الحسين.
__________
(1) ـ عيسى بن أبان بن صدقة أبو موسى قاضي، من المقدمين في أصحاب أبي حنيفة، وأحد القائلين بالعدل والتوحيد من الفقهاء، وكان هو المبرز في جميع العلوم على أهل زمانه، وعاصر الشافعي، وكان يناظره، وتوفي سنة (221هـ).
وعند القاضي، أنه لا يكون مجازاً إلا أن نخصصه بشرط أو تقييد بصفة.
ومنهم من فرق بين ما يستقل في الإفادة بنفسه من المتصل، وبين ما لا يفيد بنفسه كالإستثناء، والشرط والتقييد بالصفة، فقال: هو مجاز في الأول، وحقيقة في الثاني، وإليه ذهب الشيخ أبو الحسين البصري.
وعندنا أن العموم إذا خص بأي دليل خُصَّ، على أي وجه خُصَّ، فالحال فيه لا تخلو من أحد أمرين:
إما أن يعلم المراد من ظاهره مع التخصيص أو لا يعلم من ظاهره بل يبقي فهم السامع متحيراً حتى يرد عليه الدليل، فإن سبق إلى الفهم عند إطلاقه معناه فهو حقيقة مع المخصص ودونه؛ لأن هذا أمارة الحقيقة كما تقدم، وذلك مثل قوله تعالى: {فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ} [التوبة:5]، فإنه يسبق إلى الفهم عند إطلاقه وجوب قتل المشركين على أي حال وجدناه، وإن كان قد خص أهل الذمة والمستجير ومن لم تبلغه الدعوة.
وكقوله صَلَّى الله عَلَيْه وآله وَسَلَّم: ((فيما سقت السماء العشر))(1)، وقوله صَلَّى الله عَلَيْه وآله وَسَلَّم: ((في الرقة ربع العشر))(2)، و((في خمس من الإبل شاة))(3)، وغير ذلك من الظواهر التي يطول تعدادها الواجب الرجوع إليها مع التخصيص، فما فهم المراد من ظاهره فهو حقيقة فيما تناولته، وما لم يفهم إلا بقرينة فهو مجاز.
ولأن المجاز هو ما أفيد به ما استعير له، والعام وإن خص فهو مفيد لما وضع له، وخروج بعض ما دخل تحته بالدليل لا يخرجه عن بابه، كما أنه لا يخرج الأمر عن كونه أمراً.
__________
(1) - رواه في الجامع الكافي (خ)، ورواه الإمام المؤيد بالله في شرح التجريد عن جابر بلفظ: ((فيما سقت الأنهار والعيون العشر))، وعن سالم بن عبدالله عن أبيه بلفظه بزيادة: ((أو كان يسقى بماء السماء))، ورواه الأمير الحسين في الشفاء مرسلاً (1/534)، وعن عمرو بن حزم، وهو في أصول الأحكام (خ)، ورواه الطبراني في الأوسط (3/401) رقم (4943) عن أبي هريرة، وابن خزيمة (4/37) رقم (2307)، وابن حبان (8/80) رقم (3285) عن ابن عمر، وابن ماجه (1/580) رقم (1816)، والبخاري (2/251) رقم (83) بلفظ: ((فيما سقت السماء والعيون أو كان عشرياً العشر وما سقي بالنضح نصف العشر))، والحاكم (1/558) رقم (1458)، وأحمد (1/145) رقم (1239)، وأبو داود في السنن (2/253) رقم (1597) باب صدقة الزرع.
(2) - رواه الإمام المؤيد بالله في شرح التجريد مرسلاً، وهو في أصول الأحكام والشفاء، وأخرجه البخاري في صحيحه (2/238) رقم (57)، والرقة: قال في الروض النضير (2/426): وأما الرقة ففي كتب اللغة أنها الفضة لا غير.
(3) - رواه في الجامع الكافي وفي شرح التجريد وفي أصول الأحكام وفي الشفاء وغيرها، ورواه الطبراني في الأوسط (6/410) رقم (7778)، والهيثمي في مجمع الزوائد (3/73) بلفظ: ((في كل خمس ذود من الإبل صدقة))، وأخرجه أبو داود والترمذي وغيرهم.
ووجه ما اختاره مشائخنا رحمهم الله تعالى، هو: قولهم إن المجاز هو ما أفيد به ما لم يوضع له، والعموم إذا خص فقد أفيد به ما لم يوضع له؛ لأنه وضع للكل، ثم جعل مع التخصيص للبعض، وقد بينا الكلام فيه بأنه ما أفيد به في الحالين، ما وضع له في الأصل فالأول على وجه العموم، والثاني على وجه الخصوص.
مسألة: [في تخصيص العموم بالإستثناء المتصل دون المنفصل]
العموم يخص بالإستثناء المتصل، ولا يخص بالإستثناء المنفصل عند عامة الفقهاء والمتكلمين، وهو الذي نختاره، وحكي عن ابن عباس(1) رضي الله عنه خلافه(2).
والذي يدل على صحة ما ذهبنا إليه: أن الإستثناء لا يفيد إلا بانضمامه إلى المستثنى منه، وإذا لم ينضم إلى المستثنى منه لم يكن مفيداً فضلاً عن كونه دليلاً مخصصاً.
__________
(1) ـ عبدالله بن العباس بن عبد المطلب بن هاشم الهاشمي القرشي، حبر الأمة وترجمان القرآن، ولد عام الشعب قبل الهجرة بثلاثة أعوام، حنَّكَه النبي -صَلَّى الله عَلَيْه وآله وَسَلَّم- بريقه ودعا له، ويسمى البحر لسعة علمه.
قال مسروق بن الأجدع: كنت إذا رأيت ابن عباس قلت: أجمل الناس، وإذا تكلم قلت: أفصح الناس، وإذا تحدث قلت: أعلم الناس، كان غزير العلم كثير الأتباع، وكان عمر بن الخطاب يرجع إليه، وكان من شيعة أمير المؤمنين علي -عَلَيْه السَّلام- ومحبيه، شهد معه مشاهده كلها، وكف بصره لكثرة بكائه على أمير المؤمنين -عَلَيْه السَّلام-، توفي بالطائف سنة (70هـ) وعمره (71) عاماً وصلى عليه محمد بن الحنفية، وقبره بالطائف مشهور مزور. انظر لوامع الأنوار (3/120، 128).
(2) ـ وهو أن الإستثناء يلحق بالكلام ولو بعد سنة.
ومثال ذلك: ما نعلمه أن الواحد منا إذا قال: ضيفت عشرة ثم أقام يوماً أو يومين ثم قال: إلا خمسة لم يكن قوله إلا خمسة مفيداً فإن علم أنه أراد به الإستثناء مما تقدم علمنا أن الأول كذب لوجود حد الكذب فيه على ما يأتي بيانه ويخالف حاله لو استثنى عند اللفظ فقال: ضيفت عشرة إلا خمسة بالإتفاق على وجه الحقيقة عندنا.
مسألة:[الكلام في استثناء الأكثر حتى يبقى الأقل]
ذهب جماعة من الفقهاء إلى أن استثناء الأكثر حتى يبقى أقل لايجوز، وذهب جمهور العلماء وهو قول شيوخنا رحمهم الله تعالى إلى أنه جائز، وهو الذي نختاره.
والذي يدل على صحة ما ذهبنا إليه: أن المعلوم من حال أهل اللغة أن مرادهم بالإستثناء للمستثني إخراجه بعض ما يتناوله اللفظ، والأكثر والأقل في ذلك سواء، فإن منع من ذلك: لأنه لم يوجد في كلامهم، فهذا قائم في النصف، وقد أطبق الكل على جوازه، فهذا الحكم لا معنى له، ولأنه لا مانع له من قبل القدرة؛ لأنه مقدور، ولا من قبل اللغة لما قدمنا، ولا من قبل الحكمة لأنه لا يمتنع أن تتعلق المصلحة به، ولأنه لا يوجد دليل في الحكمة على المنع منه فصح ما قلناه.
مسألة:[الكلام في الجُمل المعطوفة إذا تعقبها الإستثناء]
اختلف أهل العلم في الجمل المعطوف بعضها على بعض إذا تعقبها الإستثناء هل يجب قصر فائدته على ما يليه أو يجب رجوعه إلى جميع ما تقدم؟
فالمروي عن الحنفية فيهم الشيخ أبو الحسين والشيخ أبو عبدالله أنه يجب حصره على ما يليه، ولا يرد إلى جميع ما تقدم.
ومنهم من قال: يجب رجوعه إلى الجميع إذا صح رجوعه، وهو مذهب الشافعية وحكاه شيخنا رحمه الله عن قاضي القضاة، والشيخ أبي الحسين البصري، وهو ظاهر مذهب أصحابنا، وهو الذي نختاره.
والذي يدل على صحة ما ذهبنا إليه: أن الجمل المعطوف بعضها على بعض تجري مجرى جملة واحدة، فكما أنه لا يجوز رجوعه إلى بعض الجملة الواحدة دون بعض، فكذلك لا يجزي رجوعه إلى بعض الجمل المعطوف بعضها على بعض دون بعض.
أما أنها تجري مجرى جملة واحدة، فلأن القائل إذا قال: جاءني زيد وزيد وزيد، جرى مجرى قوله: جاءني الزيدون.
وأما أنه لا يجوز رجوعه إلى بعض الجملة الواحدة دون بعض: فلأنه إذا قال لغلامه: أدخل بني تميم إلا أصحاب الثياب البيض، فإن هذا الإستثناء يرجع إلى جميع بني تميم.
ولأن الإستثناء بمشيئة الله سبحانه يرجع إلى الجميع بالإجماع: كذلك هذا لأن تعليقه بمشيئة الله لا تغير فائدته فلو كان يرجع إلى البعض لرجع إليه مع الإستثناء بمشيئة الله تعالى، ومعلوم خلافه.
ومثاله: أن يقول الواحد منا لغيره: إني أصحبك في السفر، واتحمل منك مؤنة الزاد والركاب، واشتري لك ثوباً وخادماً إن شاء الله، فإن هذا الإستثناء يرجع إلى جميع ما تقدم من الجمل.
ولأن الجمل التي يتعقبها الشرط يجب رجوعه إلى جميعها بالإتفاق: كما إذا قال لوكيله: طلقها ثلاثاً، ووفها مهرها، واستبرئها من نفقة العدة إن دخلت الدار، فإن هذا الشرط يرجع إلى جميع ما تقدم بالإتفاق، فكذلك الإستثناء المطلق؛ لأنه قد شاركه في أن كل واحد منهما يُخْرِجُ من الكلام ما لولاه لوجب دخوله تحته، وفي أن كل واحد منهما لا يفيد بنفسه وإنما يفيد بانضمامه إلى غيره.
مسألة:[الكلام في المطلق والمقيد]
المطلق والمقيد إذا وردا لم تخل الحال فيهما من ثلاثة أوجه:
[1] إما أن يردا في حكم واحد فهذا مما لا خلاف فيه أن المقيد يخص المطلق سواء كان متصلاً أو منفصلاً، فالمتصل كقوله تعالى: {فَصِيَامُ شَهْرَيْنِ مُتَتَابِعَيْنِ}(1) أو: {تَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُؤْمِنَةٍ}(2)[النساء:92]، في كفارة القتل.
والمنفصل: كقول النبي صَلَّى الله عَلَيْه وآله وَسَلَّم: ((في خمس من الإبل السائمة شاة(3))) فقيّدها بالسوم.
[2] وإما أن يردا في حكمين مختلفين غير جنسين فلا خلاف أيضاً أنه لا يحمل أحدهما على الآخر كتقييده الزكاة وإطلاقه الخمس.
[3] وإما أن يفصل المطلق عن المقيد ويكونا في حكمين مختلفين إلا أنهما من جنس واحد نحو تقييده الرقبة بالإيمان في كفارة القتل، وإطلاقها في كفارة الظهار، وهذا الذي وقع فيه الخلاف بين العلماء:
فمنهم من قال يجب حمل المطلق على المقيد من غير رجوع إلى دليل من قياس وغيره بل يكون تقييد أحدهما تقييداً للآخر، وحكاه شيخنا رحمه الله تعالى عن جماعة من الشافعية.
ومنهم من منع من حمل المطلق على المقيد فيما هذا حاله، وحكاه عن أصحاب أبي حنيفة وبعض أصحاب الشافعي.
ثم اختلفوا فمنهم من منع من حمل المطلق على المقيد بالقياس وهو المروي عن أبي الحسين ومتقدمي الحنفية، وكان يقول إنه زيادة في الحكم، والزيادة في الحكم نسخ، والنسخ بالقياس لا يجوز، على ما يأتي بيانه في بيان الناسخ والمنسوخ إن شاء الله تعالى.
__________
(1) ـ يعني أن الله سبحانه وتعالى قيد صيام الشهرين في كفارة القتل والظهار بوجوب المتابعة بين صيام أيام الشهرين.
(2) ـ أي أن آية العتق في كفارة القتل قيدت عتق الرقبة بكونها مؤمنة، وليس المراد من هذا المثال أنه حمل كفارة الظهار على القتل فإن الحكم سيأتي فيها.
(3) ـ هذا الحديث مقيد للحديث السابق وهو: ((في خمس من الإبل شاة))، فإنه مطلق في السائمة والمعلوفة وهذا الخبر قيد وجوب الزكاة في السائمة فقط حتى يكون المقيد منفصلاً، والله أعلم.
ومنهم من قال: يجوز أن يقيد بالقياس وهو مذهب أصحابنا ومذهب معظم الحنفية والشافعية.
ومذهبنا أن المطلق المنفصل عن المقيد إذا كانا في حكمين مختلفين، وهما من جنس واحد، وجمعتهما علة توجب الإشتراك، وجب حمل المطلق على المقيد بالقياس، وإن لم تجمعهما علة لم يجز حمل أحدهما على الآخر بالقياس.
والذي يدل على صحة ما قلناه: أن القياس دليل شرعي على ما يأتي بيانه وتخصيص العموم بالأدلة جائز لا خلاف فيه.
وإن لم تجمعهما علة وهما جنس وورد دليل على وجوب الحمل جاز؛ لأن اتباع الدليل واجب وإن لم يرد دليل لم يحمل أحدهما على الآخر؛ لأنه يكون خلافاً لظاهر الأمر، وذلك لا يجوز كما قدمناه في باب الأوامر.
وما ذهب إليه الشيخ أبو الحسين وأصحابه من أن الزيادة في النص نسخ، غير مسلم على الإطلاق وسيأتي الكلام فيه فيما بعد إن شاء الله تعالى
مسألة:[الكلام في التخصيص بالعقل وتخصيص الكتاب بالكتاب]
عندنا أن تخصيص العموم بدلالة العقل جائز، وقد خالف في ذلك بعضهم.
والذي يدل على صحة ما قلناه: أن العقل دليل يجب اتباعه، وكل دليل يجب اتباعه، فإنه يجوز تخصيص العموم به كالكتاب بالكتاب.أما أن العقل دليل يجب اتباعه: فذلك إجماع العلماء إلا ما يحكى عن داود وقوله باطل؛ لأن العقل إن لم يكن أكبر الأدلة فليس بخارج عنها(1)، وذلك ظاهر؛ لأن المعلوم أن من خالف قضية العقل خرج من حد العقلاء، ولم يصح له تصحيح شيء من الدعاوي التي يدعيها؛ لأنه قد هدم أصلها.
وأما أن كل دليل يجب اتباعه: فإنه يجوز تخصيص العموم به: فلما تقدم من أن تخصيص العموم بغير دليل لا يجوز فلو لم يجز بدليل أيضاً انتقض الإجماع على جواز التخصيص، وقد ثبت جوازه.
ومثال المسألة: قوله تعالى: {يَاأَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ} [النساء:1]، فإن هذا عموم في جميع الناس إلا أنا خصصنا الطفل والمجنون بدلالة العقل، وكذلك قوله سبحانه وتعالى: {وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ} [الذاريات:56]، أخرجنا من لم تكمل فيه شرائط التكليف من عموم هذا اللفظ بدلالة العقل وأمثال ذلك كثير.
__________
(1) - قال الإمام الداعي إلى الله يحيى بن المحسن -عليه السلام- في المقنع: (لو لم يكن العقل دليلاً يجب اتباعه لم يجز أن يثبت به شيء من الأحكام، وقد علمنا ثبوت كثير من الأحكام به كقبح الظلم والكذب والعبث وحسن السفر مع ظن الربح وحسن الفصد والحجامة وشرب الأدوية الكريهة طلباً للصحة إلى غير ذلك، ولا وجه لثبوت هذه إلا العقل ومن دفع ذلك فهو ضال معاند خارج عن حد العقلاء داخل في حد السوفسطائية)، انتهى.
ومثال العموم المخصوص بالكتاب: قوله تعالى: {اللَّهُ خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ} [الرعد:16]، فاقتضى هذا العموم دخول أفعال العباد في جملة خلقه إلا أنا خصصنا بقوله تعالى: يفعلون ويعملون وتخلقون إفكاً، وقوله تعالى راداً على اليهود حيث أضافوا كفرهم وزيادتهم في التوراة إليه تعالى عنه: {وَيَقُولُونَ هُوَ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ وَمَا هُوَ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ وَيَقُولُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ وَهُمْ يَعْلَمُونَ} [آل عمران:78]، وتخصيص الكتاب بالكتاب هو إجماع العلماء.
مسألة:[الكلام في تخصيص السنة بالسنة]
وتخصيص السنة بالسنة جائز، وهو قول جمهور العلماء، وهو الذي نختاره، وعند بعضهم لا يجوز.
والذي يدل على صحة ما قلناه: أنهما دليلان شرعيان، وكل دليلين شرعيين يجوز تخصيص أحدهما بالآخر كما ثبت في الكتاب بالكتاب.
أما أنهما دليلان شرعيان فلا خلاف فيه، ولأنهما وردا عن صادق يجب اتباعه ويحرم خلافه، فإذا لم يمكن اتباعهما إلا بأن يخص أحدهما بآخر وجب التخصيص؛ لأن المنع منه يؤدي إلى إلغائهما، وذلك لا يجوز بالإجماع، أو إلغاء أحدهما مع استوائهما في الورود عن واجب الإتباع، وذلك لا يجوز.
وأما أن كل دليلين شرعيين يجوز تخصيص أحدهما بالآخر: فلأن الواجب اتباع الأدلة والعمل بها ما أمكن، ولا يظهر في هذا خلاف بين المسلمين في الجملة، فإذا لم يمكن اتباعهما إلا بتخصيص العموم وجب ذلك، لأن غير ذلك يؤدي إلى إلغائها، وقد قدمنا أنه لا يجوز.
مسألة:[الكلام في التخصيص بأخبار الآحاد]
اختلف القائلون بقبول أخبار الآحاد هل يجوز أن يخص بها العموم الكتاب والسنة أم لا؟
فمنهم من منع من ذلك على الإطلاق، وأحسبه قول جماعة من أصحاب الشافعي.
ومنهم: من جوزه مطلقاً إذا تكاملت شرائطه وهو قول كثير من أصحاب أبي حنيفة والمروي عن أبي الحسين وهو الذي نصره الشيخ أبو عبدالله، وهو المروي عن جماعة من الشافعية.
ومنهم من يذهب إلى أن العام إذا كان سليماً من التخصيص أو مخصوصاً بالإستثناء فإنه لا يجوز، وإن كان مخصوصاً بدليل منفصل جاز، وحكاه شيخنا رحمه الله عن عيسى بن أبان.
وعندنا أن العام إن كان مما يجب المصير فيه إلى العلم لم يجز تخصيصه بخبر الواحد؛ لأنه لا يجوز ترك المعلوم إلى المظنون كما نقوله في عموم آيات الوعيد لا يجوز خصوصها بخبر الواحد لأن المصير في ذلك إلى العلم واجب كما هو مقرر في مواضعه من أصول الدين.
فإن كان مما لا يجب المصير فيه إلى العلم بل يجب العمل فيه على الظن جاز تخصيصه بخبر الواحد؛ كأن يكون العام من باب المعاملات والعبادات الشرعية لاستواء وجوب العمل في البابين جميعاً على العلم والظن.
والذي يدل على صحة ما اخترناه: إجماع الصحابة على تخصيص ما هذا حاله بخبر الواحد، وإجماعهم حجة على ما يأتي بيانه.
أما أنهم أجمعوا على ذلك: فالمعلوم من حالهم لمن عرف أخبارهم، وتتبع سيرهم وآثارهم، أنهم كانوا يجيزون تخصيص عموم الكتاب بخبر الواحد، كما فعله عمر(1) بمحضر منهم لما افتتح بلاد المجوس فقال: ما أصنع بقوم لا كتاب لهم، رحم الله امرءاً سمع من رسول الله صَلَّى الله عَلَيْه وآله وَسَلَّم فيهم شيئاً إلا قاله، فقال عبدالرحمن(2)
__________
(1) ـ عمر بن الخطاب، أبو حفص القرشي، أسلم بعد خروج مهاجرة الحبشة على يدي أخته فاطمة وزوجها سعيد بن زيد في قصة طويلة. إلى قوله -عَلَيْه السَّلام-: بويع له بالخلافة صبيحة وفاة أبي بكر، وطعنه أبو لؤلؤة فيروز غلام المغيرة بن شعبة فتوفي لأربع بقين من ذي الحجة سنة ثلاث وعشرين. انظر لوامع الأنوار (ط2- 3/163).
(2) ـ عبدالرحمن بن عوف، أبو محمد القرشي الزهري، أسلم قديماً وهاجر وشهد المشاهد، توفي سنة إحدى أو ثلاث وثلاثين ودفن بالبقيع. عنه: بنوه؛ إبراهيم، ومحمد، ومصعب، وأبو سلمة. أخرج له أئمتنا الثلاثة المؤيد بالله وأبو طالب والمرشد بالله، والجماعة.
قلت: وما وقع منه يوم الشورى من ميله عن أمير المؤمنين وعرضه عليه البيعة على أن يسير على كتاب الله وسنة رسوله وسيرة الشيخين وامتناعه –أي أمير المؤمنين- عن ذلك بل على كتاب الله وسنة رسوله -صَلَّى الله عَلَيْه وآله وَسَلَّم- وعدوله إلى عثمان، وقول أمير المؤمنين -عَلَيْه السَّلام-: والله ما فعلتها إلا أنك رجوت ما رجا صاحبكما من صاحبه - أي ما رجا عمر من أبي بكر- ودعا عليه وعلى عثمان واستجاب الله دعوته ففسد الحال بينهما وتعاديا ولم يكلم أحدهما صاحبه حتى مات عبدالرحمن، كل ذلك مشهور وعند جميع الطوائف على الصحائف مسطور، وإلى الله ترجع الأمور. انظر اللوامع لمولانا الإمام الحجة/ مجدالدين بن محمد بن منصور المؤيدي أيده الله تعالى(ط2- 3/151).
: سمعته يقول: ((سُنّوا بهم سنة أهل الكتاب، غير آكلي ذبائحهم، ولا ناكحي نسائهم(1))) فخصص بذلك قوله تعالى: {فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ} [التوبة:5]، وكذلك قبلوا خبر الواحد في أن القاتل لا يرث المقتول، وخصوا به عموم آيات المواريث، وأن العبد لا يرث، وأمثال ذلك كثير، وردوا بعض أخبار الآحاد لعلة؛ إما أن العام يجب المصير فيه إلى العلم، وإما الطعن في الراوي وغير ذلك.
مسألة:[الكلام في التخصيص بالقياس]
اختلف القائلون بصحة القياس هل يجوز تخصيص العموم به أم لا؟
فمنهم من منع منه على كل حال وهو قول أبي علي وبعض الفقهاء والمروي عن أبي هاشم أولاً.
ومنهم من قال: يخص بالقياس الجلي دون الخفي وهو المروي عن أصحاب الشافعي.
ومنهم من قال: إذا كان قد دخله التخصيص جاز تخصيصه بالقياس كما يروى عن عيسى بن أبان.
ومنهم من قال: يجب تخصيص العموم به على كل وجه إذا تكاملت شروط القياس التي تأتي في بابه إن شاء الله تعالى، وهو مذهب أكثر الفقهاء من الحنفية والشافعية وهو المحكي عن أبي الحسين(2)، وحكى شيخنا أن أبا هاشم ذهب إليه آخراً، وهو ظاهر مذهب أصحابنا وهو الذي نختاره.
والذي يدل على صحة ما ذهبنا إليه: إجماع الصحابة على استعمال أدلة القياس في تخصيص العموم، وإجماعهم حجة على ما يأتي بيانه.
__________
(1) ـ رواه الإمام المؤيد بالله في شرح التجريد، والإمام المتوكل على الله أحمد بن سليمان في أصول الأحكام، والأمير الحسين في الشفاء، وأخرجه مالك في الموطأ (1/278) رقم (616)، والبيهقي في سننه الكبرى (7/172) رقم (13764) و(9/189) رقم (13434)، وأبو يعلى في مسنده (2/168) رقم (862).
(2) ـ وقاضي القضاة وجماهير المتكلمين، وبه قال السيد أبو طالب، واختاره الشافعي نفسه، وأبو الحسن الكرخي وأبو عبدالله البصري من الحنفية. تمت مقنع.
أما أنهم أجمعوا على استعمال أدلة القياس في تخصيص العموم: فذلك ظاهر لمن علم حالهم، وتتبع أقوالهم، وذلك في مثل جعلهم حد العبد على النصف من حد الحر، قياساً على الأمَةِ لاشتراكهما في علة الرق، وظاهر النص(1) يوجب استيفاء الحد من كل زانٍ من حرٍ وعبد.
وحملهم الأختين على الأخوين، في حجب الأم بهما عن الثلث إلى السدس، ولما اختلفوا في توريث الجد جعله بعضهم بمنزلة الأب وورثه دون الإخوة، وهو مذهب أبي بكر(2) وابن عباس.
ومنهم من قال: يقاسم الإخوة ما لم تنقصه المقاسمة من السدس وهو مذهب علي أمير المؤمنين عَلَيْه السَّلام.
__________
(1) ـ وهو قوله تعالى: {الزَّانِيَةُ وَالزَّانِي فَاجْلِدُوا كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مِائَةَ جَلْدَةٍ..إلخ} [النور:2]، وآية الحد على الأمَة قول الله تعالى: {فَإِنْ أَتَيْنَ بِفَاحِشَةٍ فَعَلَيْهِنَّ نِصْفُ مَا عَلَى الْمُحْصَنَاتِ مِنَ الْعَذَابِ} [النساء:25]، فيقاس العبد على الأمة في تنصيف الحد بجامع الرق. تمت.
(2) - أبو بكر، عبدالله بن عثمان بن عامر التيمي، من المهاجرين، بايعه أبو عبيدة، وعمر ومن تبعهما يوم السقيفة مع عدم حضور الوصي -عَلَيْه السَّلام- والعباس وكافة بني هاشم ومن معهم من سادات المهاجرين والأنصار -رضي الله عنهم- وكانت بيعته كما قال عمر -برواية البخاري ومسلم وغيرهما- فلتة، وتعقب ذلك الاختلاف الكثير، والحكم لله العلي الكبير، وكان في أيامه قتال أهل الردة وغيرهم.
توفي في جمادى سنة ثلاث عشرة، عن ثلاث وستين على الأشهر.
عنه: سويد بن غفلة وغيره.
خرج له أئمتنا الأربعة، والجماعة.
وفي جامع الأصول ما لفظه: ابن عمر أن أبا بكر قال: ارقبوا محمداً -صَلَّى الله عَلَيْه وآله وَسَلَّم- في أهل بيته، أخرجه البخاري. انظر لوامع الأنوار (ط2- 3/139)..
ومنهم من قال: يقاسم الأخ والأخوين، فإن كانوا ثلاثة أو أكثر جعل للجد الثلث أو ثلث الفاضل من دون الفروض ما لم يكن أقل من السدس، ولا ينقص من السدس بحالٍ وهو قول ابن مسعود(1) وزيد بن ثابت(2)
__________
(1) ـ عبدالله بن مسعود بن غافلة –بمعجمتين بينهما ألف- أبو عبدالرحمن الهذلي الزهري حلفاً، كان من أهل السوابق وهاجر قديماً وشهد المشاهد كلها، وكان من الجبال في العلم وعلى قامة القاعد في الجسم، وكان يسمى بابن أم عبد نسبة إلى أمه، قرأ عليه النبي -صَلَّى الله عَلَيْه وآله وَسَلَّم- القرآن وأمرهم بأخذ القرآن عنه.
توفي بالمدينة سنة اثنتين أو ثلاث وثلاثين، ودفن بالبقيع.
أخرج له: الناصر للحق في البساط، وأئمتنا الخمسة إلا الجرجاني، والجماعة.
إلى قوله -عَلَيْه السَّلام-: قال الإمام المنصور بالله -عَلَيْه السَّلام-: هو المبرز المعروف بالحق، المشهور بنفاذ البصيرة وفيه آثار كثيرة، وهو أحد العلماء الأربعة بعد رسول الله -صَلَّى الله عَلَيْه وآله وَسَلَّم- ولم يختلف أحد من أهل العلم أنه ثاني علي بن أبي طالب أمير المؤمنين -عَلَيْه السَّلام-.
وهو القائل: كنا نتحدث أن أفضل أهل المدينة علي بن أبي طالب. قال في فتح الباري شرح البخاري صفحة (58): وهو القائل: قرأت القرآن على رسول الله -صَلَّى الله عَلَيْه وآله وَسَلَّم- وأتممته على خير الناس بعده علي بن أبي طالب. رواه الإمام الحجة -عَلَيْه السَّلام- في الشافي. انظر لوامع الأنوار للمولى الإمام مجدالدين بن محمد المؤيدي أيده الله تعالى(ط2- 1/286) و(3/147، 128).
(2) ـ زيد بن ثابت بن الضحاك الأنصاري الخزرجي، أبو خارجة، استصغره النبي -صَلَّى الله عَلَيْه وآله وَسَلَّم- يوم بدر فرده، وشهد ما بعدها، ولم يشهد شيئاً من حروب علي -عَلَيْه السَّلام-.
قال ابن عبد البر: وكان مع ذلك يفضل علياً ويظهر حبه.
توفي بالمدينة سنة خمس وأربعين، وقيل غير ذلك.
خرج له أئمتنا الخمسة إلا الجرجاني، والجماعة.
عنه: رفاعة بن رفاعة، وولده خارجة.
انظر لوامع الأنوار (ط2- 3/91، 92).
، وكل هذه الأقوال صادرة عن قياس واجتهاد، وقد خصوا به عموم الكتاب في آية الكلالة، وهو قوله تعالى: {وَإِنْ كَانُوا إِخْوَةً رِجَالًا وَنِسَاءً فَلِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الْأُنْثَيَيْنِ} [النساء:176].
مسألة:[الكلام في التخصيص بالإجماع]
اتفق الكل من العلماء على جواز تخصيص العموم بالإجماع.
والدليل على صحة ما اتفقوا عليه: أن الإجماع حجة يجب اتباعها، ويحرم خلافها، على ما يأتي بيانه إن شاء الله تعالى.
فإذا لم يمكن اتباع الإجماع إلا بتخصيص العموم وجب تخصيصه بذلك كالكتاب بالكتاب، والسنة بالسنة كما تقدم مثاله.
ومثال المسألة: قوله تعالى: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ ءَامَنُوا إِذَا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلَاةِ فَاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ..الآية } [المائدة:6]، فإن هذا عموم يقتضي وجوب الوضوء على كل من قام إلى الصلاة، وقد خصه الإجماع؛ لأن المعلوم من الكافة أن الوضوء لا يجب على من قام إليها وهو على طهارة مستقيمة.
مسألة: [مما أُلحق بباب العام وليس منه قوله تعالى: {لَا يَسْتَوِي أَصْحَابُ النَّارِ وَأَصْحَابُ الْجَنَّةِ}..... إلخ]
ذهب جماعة من أصحاب الشافعي إلى أن قول الله تعالى: {لَا يَسْتَوِي أَصْحَابُ النَّارِ وَأَصْحَابُ الْجَنَّةِ أَصْحَابُ الْجَنَّةِ هُمُ الْفَائِزُونَ } [الحشر:20]، عام يصح التعلق بظاهره وجعلوه أصلاً في أن المسلم لا يقتل بالكافر وهذا فاسد؛ لأن هذه الآية وما شاكلها من باب المجمل وليست من باب العموم، وسيأتي الكلام فيها في بابها إن شاء الله تعالى فيبطل ما قالوا.
مسألة: [مما أُلحق بباب العام وليس منه قوله تعالى: {وَلَا تَيَمَّمُوا الْخَبِيثَ مِنْهُ تُنْفِقُونَ}]
ألحق جماعة من أصحاب الشافعي قوله تعالى: {وَلَا تَيَمَّمُوا الْخَبِيثَ مِنْهُ تُنْفِقُونَ} [البقرة:267]، بباب العام، وتعلقوا بظاهره، وقالوا: إن عتق الرقبة الكافرة لا يجزي في الظهار لهذا الظاهر.
وهذه الآية عندنا كالأولى في لحوقها بباب المجمل الذي لا يصح التعلق بظاهره، وسيأتي الكلام في هذه المسألة في بابها في باب المجمل ببسط الكلام فيها.
مسألة:[الكلام في جواز تخصيص العموم المعرف بالألف واللام]
يجوز تخصيص العموم المعرف بالألف واللام عندنا وإن رجع إلى أقل من ثلاثة.
وعند بعضهم يجوز حتى يرجع إلى ثلاثة، ثم لا يجوز التخصيص فيه بعد ذلك وهو قول القفال من أصحاب الشافعي.
والذي يدل على صحة ما قلناه: أن التخصيص إخراج بعض ما يتناوله الخطاب والأقل والأكثر في ذلك سواء، فجرى مجرى الإستثناء، وقد تقدم الكلام في أنه يجوز استثناء الأكثر بما فيه كفاية، ولأن العترة قد أجمعت على تخصيص العام المعرف بالألف واللام، وإن رجع إلى واحد، وإجماعهم حجة على ما يأتي بيانه في باب الإجماع، فلو لم يكن جائزاً لما أجمعوا عليه، وذلك في قوله تعالى: {إِنَّمَا وَلِيُّكُمُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَالَّذِينَ ءَامَنُوا الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلَاةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَهُمْ رَاكِعُونَ } [المائدة:55]، والمعلوم من حالهم أن المراد بذلك أمير المؤمنين(1)
__________
(1) - هو سيد الوصيين وأخو سيد النبيين دعوة إبراهيم ومقام هارون، مستودع الأسرار، ومطلع الأنوار وقسيم الجنة والنار، وارث علم أنبياء الله ورسله الكرام، عليهم أفضل الصلاة والسلام، أبو الأئمة الأطايب، أمير المؤمنين علي بن أبي طالب، واسمه عبدمناف بن عبدالمطلب.
إلى قوله -عَلَيْه السَّلام-: بويع له -صلوات الله عليه- يوم الجمعة الثامن عشر في ذي الحجة الحرام سنة خمس وثلاثين، وفي مثل هذا اليوم كان غدير خم.
إلى قوله -عَلَيْه السَّلام-: توفي ولي المؤمنين وإمامهم أمير المؤمنين علي بن أبي طالب -عَلَيْه السَّلام- لإحدى وعشرين ليلة من شهر رمضان بعد أن ضربه أشقى الآخرين ابن ملجم -لعنه الله- يوم الجمعة ثامن عشر شهر رمضان لأربعين من الهجرة.
قبره: في المشهد المقدس بالكوفة.
عمره كعمر النبي -صَلَّى الله عَلَيْه وآله وَسَلَّم- ثلاث وستون سنة.
انظر التحف شرح الزلف (ط3- 37، 47).
عَلَيْه السَّلام، وهذا الذي اعتمده شيخنا رحمه الله في المثال فتبركنا باتباعه وإلا فاختيارنا في هذه الآية وما شاكلها من ألفاظ الجمع التي يراد بها الواحد إلحاقها بباب المجاز لأن لفظ العموم يعود في أصل اللغة للكل، فإذا أريد الواحد علمنا أنه استعير له لغرض من الأغراض، ومثل ذلك موجود؛ فإن المروي عن عمر لما أمر إلى أبي موسى بالقعقاع(1) كتب معه: (إني قد أنفذت إليك بألف رجل) وهو لا يريد إلا القعقاع نفسه، ولم ينكر عليه أحد، وكذلك قوله سبحانه وتعالى: {فَقَدَرْنَا فَنِعْمَ الْقَادِرُونَ} [المرسلات:23]، فأما هذه الآية ففيها قرينة توجب حمل الخطاب على الواحد الذي هو أمير المؤمنين عَلَيْه السَّلام، وهو قوله سبحانه: {وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَهُمْ رَاكِعُونَ} [المائدة:55]، ولم يعلم ذلك من غيره، ولأن هذه القرينة لو لم تكن فإجماع العترة عَلَيْهم السَّلام على أنه المراد بهذه يوجب رجوع الحقيقة إلى المجاز وحمله على الواحد كما ثبت مثله في قوله: {فَقَدَرْنَا فَنِعْمَ الْقَادِرُونَ } [المرسلات:23]، فإن الدلالة توجب رجوعه عن بابه وحمله على الواحد الذي هو الله سبحانه.
__________
(1) ـ القعقاع بن عمرو التميمي أخو عاصم، كان من الشجعان الفرسان، قيل إن أبا بكر كان يقول: لصوت القعقاع في الجيش خير من ألف رجل، قال ابن عساكر: يقال إن له صحبة، كان أحد فرسان العرب وشعرائهم. انظر الإصابة (3/230)، والإستيعاب (3/252)...
مسألة:[الكلام في العموم هل يخص بفعل النبي ـ صَلَّى الله عَلَيْه وآله وَسَلَّم ـ أم لا؟]
اختلف أهل العلم في لفظ العموم هل يخص بفعل النبي صَلَّى الله عَلَيْه وآله وَسَلَّم أم لا يخص به بل يقتصر حكمه عليه؟
فمنهم من قال: لا يخص العموم بفعله عليه وآله السلام وهو المحكي عن أكثر الحنفية وبعض الشافعية والشيخ أبي الحسين.
ومنهم: من ذهب إلى أنه يخص به وهو المحكي عن أكثر أصحاب الشافعي وبعض المتكلّمين وهو الذي كان شيخنا رحمه الله يرجحه.
واختيارنا هو الأول، وكان شيخنا رحمه الله يحتج لاختياره بأن فعله عَلَيْه السَّلام يجب اتباعه كقوله، فإذا لم يمكن اتباعه إلا بتخصيص القول وجب ذلك كالكتاب بالكتاب، ثم يفرِّع الدلالة على هذا.
والذي يدل على صحة القول الأول: أن القول والفعل إذا تنافيا -وقد ثبت(1)- تعدى القول إلينا بنفسه ووجوب كون الفعل مقصوراً عليه لاختلاف المصالح عقلاً وشرعاً إلا فيما خصه دليل.
أما العقل: فذلك ظاهر لأنه لا يمتنع أن يعلم سبحانه من حال بعض المكلفين ما لا يعلم من الأخير فيتعبده بحسب ما يعلم، وموضع الإتساع في هذا الباب أصول الدين من علم الكلام.
__________
(1) - أي التنافي، تمت.
وأما دلالة الشرع: فظاهر قوله صَلَّى الله عَلَيْه وآله وَسَلَّم يدل على ذلك، وهو تخصيصه لما علم أن المصلحة فيه واحدة بإيجاب اتباعه فيه بالخطاب وذلك في مثل قوله صَلَّى الله عَلَيْه وآله وَسَلَّم: ((صلّوا كما رأيتموني أصلي(1))) وقوله: ((خذوا عني مناسككم(2))) فلو علموا من دلالة الشرع وجوب اتباع فعله فيما يتنافى فيه القول وفيما لا يتنافى لم يكن لتخصيصه بالذكر معنى، ولهذا وجب عليه ما لم يجب علينا كالوتر والأضحية، وحل له ما لم يحل لنا كنكاح ما فوق الأربع، وحرم عليه وعلى أهل بيته عَلَيْهم السَّلام ما لم يحرم على سائر الأمة كالزكاة والكفارة.
ومثال المسألة: ما روي أنه صَلَّى الله عَلَيْه وآله وَسَلَّم نهى عن استقبال القبلتين لغائط أو بول، ورآه ابن عمر يقضي الحاجة على نشيز مستقبلاً بيت المقدس حرسه الله تعالى.
__________
(1) ـ رواه الإمام المؤيد بالله في شرح التجريد والإمام المتوكل على الله في أصول الأحكام، والأمير الحسين في الشفاء، وأخرجه البخاري (1/226) رقم (602)، وأخرجه في الأدب المفرد (1/84) رقم (213)، والدارقطني (1/272)، وابن حبان في صحيحه (4/541) رقم (1658)، وابن خزيمة (1/295) رقم (586)، والدارمي (1/318) رقم (1253)، والطبراني في الكبير (1/388) رقم (637) وغيرهم.
(2) ـ رواه الإمام المؤيد بالله في شرح التجريد، والإمام المتوكل على الرحمن في أصول الأحكام، والأمير الحسين في الشفاء، وأخرجه مسلم (2/943) رقم (1297)، وأبو داود (2/201) رقم (1970)، والنسائي في السنن (2/436) رقم (4068)، وأحمد في المسند (3/318) رقم (14459)، والبيهقي (5/130) رقم (9335)، والطبراني في الأوسط (1/523) رقم (1929)، والنسائي في المجتبى (5/270) رقم (3062)، ورواه أيضاً الهيثمي في مجمع الزوائد، والطبراني في الكبير وغيرهم.
وكذلك نهى عن كشف العورة، وروي أنه كشف فخذه بمشهد من بعض الصحابة، فإذا تقرر ذلك وقد وجب علينا على وجه العموم اتباعه في قوله، وحرم علينا خلافه بقوله تعالى: {فَلْيَحْذَرِ الَّذِينَ يُخَالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ} [النور:63]، لم يجز لنا ترك مقتضى هذا الأمر إلا بدلالة من القول كقوله: ((خذوا عني مناسككم)) وما شاكله.
فإن قيل: إن الدلالة قد وقعت في ذلك وهي الإجماع على وجوب الإقتداء به في الأفعال ثبت مثله في الأقوال فجرى القول والفعل مجرى واحداً.
قلنا: هذا زعمكم غير مسلم إلا فيما لا يتنافى فيه القول والفعل، وأما ما يتنافى فيه فهو موضع الخلاف فمن أين يصح دعوى الإجماع؟
فصل:[الكلام في أن العموم لا يقصر على سببه]
اختلف أهل العلم في العموم إذا خرج على سبب هل يحمل على ظاهره أو يقصر على سببه؟
فذهب المحصلون من أصحاب أبي حنيفة، وأصحاب الشافعي، وهو المحكي عن الشيخ أبي عبدالله، وهو اختيار أهل علم الكلام أنه يجب حمله على ظاهره، وإجراء حكمه على مقتضاه دون قصره على سببه.
ومنهم من يذهب إلى أنه يجب قصره على سببه، وحكاه شيخنا رحمه الله عن بعض أصحاب الشافعي.
ولا خلاف أن السبب إن كان سؤالاً عن الحكم على وجه العموم، فإنه لا يقصر على سببه كسؤالهم له صَلَّى الله عَلَيْه وآله وَسَلَّم عن البحر؟
فقال: ((هو الطهور ماؤه، والحلّ ميتته(1)))، وإنما يتعين الخلاف في السبب الواقع، ثم يقضي فيه صَلَّى الله عَلَيْه وآله وَسَلَّم هل يقصر عليه أم لا؟ مثل: ما روي أنه سئل صَلَّى الله عَلَيْه وآله وَسَلَّم عن رجل اشترى عبداً فاستغَلَّه ثم ظهر به عيب فرده، فسأل عن الغَلَّة، فقال: ((الخراج بالضمان(2))) فمذهبنا هو الأول.
والذي يدل على صحته: أن الحجة هو الخطاب دون السبب، بدليل أن السبب لا يفيد حكماً تقدم أو تأخر، وأن الخطاب يفيد الحكم قبل السبب وبعده فقصر الحكم على السبب يؤدي إلى إلغاء حكم الخطاب، وذلك لا يجوز، ولأن المعلوم من حال المسلمين تعرف قضايا الأحكام من إطلاقه عليه وآله السلام في حوادث الأسباب كالمواريث وغيرها.
__________
(1) ـ أخرجه الإمام أحمد بن سليمان -عليهما السلام- في أصول الأحكام (خ) في كتاب الطهارة باب المياة، والحاكم في المستدرك (1/142، 143)، والدارقطني في السنن (1/35) رقم (6)، ومالك في الموطأ (1/22) رقم (12)، وأبو داود في السنن (1/21) رقم (83)، والترمذي في السنن (1/100، 101) رقم (69)، والنسائي في السنن (1/50) رقم (59)، والشافعي في المسند (7) في باب ما خرج من كتاب الوضوء، وأحمد في المسند (2/361)، والبخاري في تاريخه (3/478) رقم (1599)، وابن خزيمة في الصحيح (1/59) رقم (111)، وابن ماجه في السنن (1/136) رقم (386)، وابن حبان في الصحيح (4/49) رقم (1243)، وابن الجارود في المنتقى (23) رقم (43)، والطبراني في الكبير (2/176) رقم (1759).
(2) ـ رواه الإمام أحمد بن سليمان في أصول الأحكام، والأمير الحسين في الشفاء...
مسألة:[الكلام في قول الراوي هل يخص به الخبر أم لا؟]
ذهب أكثر أصحاب أبي حنيفة، والشيخ أبو عبدالله وأبو الحسين وبعض الشافعية وهو الذي نصره شيخنا رحمه الله وهو الذي نختاره (1): أن العموم إذا ورد عن النبي صَلَّى الله عَلَيْه وآله وَسَلَّم لا يخص بقول رواته فلا يكون مؤثراً فيه.
ومنهم من ذهب إلى أنه يخص بقول الراوي، وهو المروي عن بعض أصحاب الشافعي، ومنهم من رواه عن الشافعي إذا كان العموم يحتمل معنيين فحمله الراوي على أحدهما، كقوله صَلَّى الله عَلَيْه وآله وَسَلَّم: ((البيّعان بالخيار ما لم يفترقا(2))) فإن راويه وهو عبدالله بن عمر حمله على تفرق الأبدان دون الأقوال، ومثله ما روي عنه صَلَّى الله عَلَيْه وآله وَسَلَّم: ((إذا ولغ الكلب من إناء أحدكم فاغسلوه سبعاً(3))) فإن راويه هو أبو هريرة كان يوجب غسله ثلاثاً فخصوا هذا العموم بفعل الراوي.
__________
(1) - وهو اختيار السيد أبي طالب -عليه السلام- وأبي الحسن الكرخي، وقاضي القضاة، وكثير من المتكلمين. تمت مقنع.
(2) ـ رواه الإمام أحمد بن عيسى في كتاب رأب الصدع (2/1274) رقم (2193)، وأخرجه: البخاري في كتاب البيوع (4/384) رقم (2109)، ومسلم أيضاً (3/163) رقم (1531)، وأحمد في المسند (2/416) رقم (8119)، والطبراني في الأوسط (1/263) رقم (908).
(3) - رواه الإمام أحمد بن سليمان في أصول الأحكام، والأمير الحسين في الشفاء، وأخرجه البخاري في الوضوء (1/330) رقم (172)، ومسلم في كتاب الطهارة (1/234) رقم (279)، والطبراني في الأوسط (3/13) رقم (3719)، ومالك في الموطأ (1/34) رقم (35)، والطبراني في الصغير (1/93).
وعندنا أن الراوي إن كان علم قصد النبي صَلَّى الله عَلَيْه وآله وَسَلَّم خصصنا العموم بقوله؛ لأن تحسين الظن به يوجب ذلك كما نقوله في حديث أبي هريرة، وإن لم يعلم قصده بل ظنه أو استدل عليه لم يخص به العموم كما نقوله في حديث ابن عمر؛ لأن قول الراوي على هذا الوجه مذهب له ولا يجب علينا اتباعه في مذهبه، فلا يجوز تخصيص العموم به.
أما أنه لا يجب علينا اتّباعه في مذهبه فهو إجماع الكل، ولأن غيره يؤدي إلى وجوب اعتقاد المتضادات وفعل المتناقضات.
وأما أنا لا نخص به العموم فلأنه على هذا الوجه لا يكون دلالة وتخصيص العموم بغير دلالة لا يجوز كما تقدم.
مسألة:[الكلام في تخصيص الأخبار]
الذي عليه جماعة الفقهاء جواز تخصيص الأخبار كما ثبت مثله في الأوامر.
وعند بعضهم لا يجوز ذلك، وفصلوا بين الأمر والخبر.
والذي يدل على صحة المذهب الأول: أن التخصيص هو إخراج بعض ما تناوله الخطاب ولا مانع من وقوعه في الإخبار فجاز كالأوامر.
ومثال المسألة: قوله تعالى: {وَمَنْ يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَإِنَّ لَهُ نَارَ جَهَنَّمَ خَالِدِينَ فِيهَا} [الجن:23]، فإن عموم هذه الآية يقتضي دخول كل عاص لله ورسوله ـ صَلَّى الله عَلَيْه وآله وَسَلَّم ـ النار وخلوده فيها إلا أنا أخرجنا التائبين وأصحاب الصغائر من هذا العموم لأدلةٍ خصت هذا العموم من الكتاب والسنة وغيرهما من الأدلة، فصار عموم هذه الآية مخصوصاً كما ترى مع أنها من جملة الأخبار فصح ما قلناه.
مسألة:[الكلام في العموم إذا ورد بحكم ثم عقب ذلك بصفة أو ذكر يخص بعض الجملة دون بعض]
ذهب بعض أصحاب الشافعي إلى أن العموم إذا ورد بحكم من الأحكام متناول لما يفيده، ثم عقب ذلك بصفة أو ذكر يخص بعض الجملة دون بعض خص بها العموم، وحمل على أن المراد بها ذلك البعض دون جميعهم.
وذهب جماعة الفقهاء وهو ظاهر قول شيوخنا رحمهم الله تعالى أنه لا يخص به العموم وهو الذي نختاره.
وذلك في مثل قوله تعالى: {وَالْمُطَلَّقَاتُ يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ ثَلَاثَةَ قُرُوءٍ} [البقرة:228]، أنه مخصوص بالمطلقة التي طلاقها رجعي دون المبتوتة لقوله تعالى: {وَبُعُولَتُهُنَّ أَحَقُّ بِرَدِّهِنَّ فِي ذَلِكَ } [البقرة:228]، فعندهم يقصر عليها وعندنا لا يقصر.
ومثل قوله تعالى: {يَاأَيُّهَا النَّبِيُّ إِذَا طَلَّقْتُمُ النِّسَاءَ فَطَلِّقُوهُنَّ لِعِدَّتِهِنَّ...إلى قوله: لَا تَدْرِي لَعَلَّ اللَّهَ يُحْدِثُ بَعْدَ ذَلِكَ أَمْرًا} [الطلاق:1]، فعندهم هذا خاص في الرجعيات، وعندنا عام في المطلقات.
وقوله تعالى: {وَلِلْمُطَلَّقَاتِ مَتَاعٌ بِالْمَعْرُوفِ} [البقرة:241]، وقال بعد ذلك: {لَا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ إِنْ طَلَّقْتُمُ النِّسَاءَ مَا لَمْ تَمَسُّوهُنَّ أَوْ تَفْرِضُوا لَهُنَّ فَرِيضَةً وَمَتِّعُوهُنَّ} [البقرة:236]، يقتضي تخصيص الأولى، وحمله على المطلقات اللآئي لم يقع الدخول بهنّ ولم يفرض لهنّ فريضة.
وهذا نصره من سلك أحد قولي الشافعي وهو أن المتعة تستحق بأن تكون غير مدخول بها، ولم يفرض لها المهر.
والذي يدل على صحة ما نختاره: أن إفراد بعض الجملة بذكر أو صفة لا تغير معنى العموم ولا فائدته فلا يجوز أن يكون مخصصاً له.
وإنما قلنا ذلك لأن المخصص عند أهل العلم هو كل دليل أفاد حكماً منافياً للمخصوص منه، وليس هكذا إذا أعاد ذكر بعض الجملة عقيب الجملة؛ لأنه قد يكون لتفخيم المعاد الذكر وتعظيم شأنه كما قال سبحانه قل: {مَنْ كَانَ عَدُوًّا لِلَّهِ وَمَلَائِكَتِهِ وَرُسُلِهِ وَجِبْرِيلَ وَمِيكَالَ} [البقرة:98]، فأعاد ذكرهما عَلَيْهما السَّلام بعد ذكر الملائكة للتفخيم لا للتخصيص، وكذلك إفراد بعض الجملة بالصفة لأنها لا تفيد حكماً منافياً كما إذا قال أحدنا: أدخل الزيدين وزيداً الطويل، فإن هذا لا يكون تخصيصاً، وإنما يكون تأكيداً وتعظيماً لحال المذكور.
مسألة:[الكلام في حكم العام إذا أثبت حكماً وورد خاص يقتضي خلاف ذلك الحكم في البعض]
إذا ورد عام يتناول إثبات حكم وورد ما هو أخص منه يقتضي نفي ذلك الحكم عن بعضه، فلا يخلو إما أن يردا معاً أو لا(1)
__________
(1) ـ قال الإمام المعتضد لدين الله يحيى بن المحسّن عليه السلام في كتابه المقنع: (إذا ورد عام يتناول إثبات حكم وورد ما هو أخص منه يتناول نفي ذلك الحكم عن بعضه فلا يخلوان: إما أن يردا معاً أو لا يردا معاً.
فإن وردا معاً نحو أن يقول: اقتلوا الكفار لا تقتلوا اليهود، أو لا تقتلوا اليهود اقتلوا الكفار؛ أو يقول: في خمس من الإبل شاة ليس في غير السائمة صدقة؛ فإن الخاص لا يخلو: إما أن يكون هو المتقدم في اللفظ أو المتأخر، فإن كان هو المتأخر فلا خلاف أن العام يبنى على الخاص.
وإن كان هو المتقدم لم يخل المتكلم إما أن يكون حكيماً أو غير حكيم.
فإن كان غير حكيم حمل على البَدَا، ولم يُبْنَ العام على الخاص؛ لأنه لا يعقل منه إلا البدا ألا ترى أن القائل إذا قال لغيره: لا تكرم بني سعد أكرم بني تميم، أو قال: لا تشتر لحم البقر اشتر كل اللحوم، لم يفهم منه إلا الرجوع عن الخاص، وإيجاب العمل على مقتضى العام، فلا يمكن مع تجويز البدا القول ببناء العام على الخاص.
وإن كان المتكلم حكيماً بني العام على الخاص لأنه لا يجوز عليه البدا فيكون الثاني رجوعاً عن الأول.
إلى قوله -عَلَيْه السَّلام-: وإما أن يردا معاً؛ فلا يخلو: إما أن يعلم التاريخ بينهما أو لا يعلم.
فإن علم التاريخ بينهما فلا يخلو الخاص: إما أن يكون هو المتقدم أو المتأخر؛ فإن كان الخاص هو المتأخر فلا يخلو: إما أن يكون متأخراً عن وقت الحاجة، أو متأخراً عن وقت الخطاب متقدماً عن وقت الحاجة.
فإن كان متأخراً عن وقت الحاجة كان ناسخاً لما يقابله من العام؛ لأن شروط النسخ متكاملة فيه، ومثاله أن يقول: اقتلوا المشركين يوم الجمعة أبداً؛ ثم يقول: يوم السبت لا تقتلوا اليهود.
وإن كان متأخراً عن وقت الخطاب متقدماً على وقت الحاجة فإن العام يبنى على الخاص لا خلاف في ذلك).انتهى المراد.
فإن وردا معاً فلا خلاف أن العام يبنى على الخاص؛ لأن هذا هو الواجب في كلام الحكيم سبحانه، وإن لم يردا معاً بل ورد كل واحد منهما منفصلاً عن الآخر فلا يخلو إما أن يعلم التاريخ بينهما أو لا يعلم، فإن علم التاريخ بينهما فلا يخلو إما أن يكون العام المتقدّم والخاص المتأخّر أو لا يكون.
فإن كان العام المتقدم والخاص المتأخر فحكى شيخنا رحمه الله أنه لا خلاف أيضاً أن العام يبنى على الخاص.
وإن كان الخاص المتقدم والعام المتأخر فقد اختلفوا في ذلك:
فمنهم من قال يبنى العام على الخاص تقدم الخاص أو تأخر، وحكاه شيخنا رحمه الله تعالى عن الشافعي وأصحاب الظاهر(1).
وعمدتهم في ذلك: أن كلام الحكيم سبحانه وتعالى يجب استعماله ما أمكن، فإذا لم يمكن إلا ببناء العام على الخاص وجب البناء كما إذا وردا معاً.
ومنهم من قال: إن الخاص المتقدم لا يخص به العام المتأخر بل يكون العام المتأخر ناسخاً له، وحكاه شيخنا رحمه الله تعالى عن عيسى بن أبان، وأبي الحسن الكرخي(2)، وعمدتهم في ذلك: أن العام -والحال هذه- جار مجرى الخاص؛ لأن العام يتناول الآحاد، ويتعلق بها تعلق الخاص بما أفاده، فإذا تنافيا في القدر الذي تناوله الخاص جريا مجرى العمومين المتعارضين، ولا خلاف أنهما إذا تعارضا وعلم التاريخ أن الآخر ينسخ الأول، فكذلك هذا.
__________
(1) - وجماعة من الحنفية وبعض المتكلمين كالشيخ أبي الحسين البصري. تمت مقنع.
(2) - وهو مذهب أكثر أصحاب أبي حنيفة منهم الشيخان أبو الحسن الكرخي وأبو عبدالله البصري، وقول قاضي القضاة، وهو اختيار السيد أبي طالب -عليه السلام-. تمت مقنع...
وكان شيخنا رحمه الله يعترض هذه الطريقة بأن العام لا يتناول الأعيان تناول الخاص لما دخل تحته لأنه موضوع في اللغة على حال يجوز معها دخول التخصيص وليس كذلك الخاص؛ لأنه يتناول شيئاً مفرداً دون غيره لا على وجه الشمول فإذا ورد ما ينافيه أسقط فائدته ولا كذلك العموم، فإنه إذا ورد عليه الخاص متناولاً لما خرج عنه فلم يُلغِ فائدته في الأصل فهذا حكم ما يعلم التاريخ فيه.
فأما ما لا يعلم فيه التاريخ، فقد اختلفوا فيه أيضاً.
فمن قال إن العام يبنى على الخاص سواء تقدم أو تأخر، يقول: إنَّ جهل التاريخ بينهما لا يؤثر في الحكم شيئاً بل يبنى العام على الخاص كما قدمنا.
ومن قال بأن الخاص المتقدم لا يخص به العام المتأخر بل يكون ناسخاً له يقول إني أنتظر دلالة الترجيح أو صحة التاريخ فأقطع على النسخ؛ لأني لا آمن -والحال هذه- أن يكون العام متأخراً والخاص متقدماً فأكون قد عملت بالمنسوخ، أو يكون الخاص متقدماً والعام متأخراً(1) فأكون قد قطعت بغير دليل، فذلك لا يجوز ولا مخلص من هذا الخطر إلا التوقف حتى تبدو الدلالة أو يقع الترجيح.
وهو كأن يكون أحدهما يفيد حكماً شرعياً والآخر يبقي ذلك على حكم العقل فاعمل بالأول، أو يكون أحدهما حاظراً والآخر مبيحاً فاعمل بالمبيح، أو يكون أحدهما يفيد حكماً متفقاً عليه والآخر مختلفاً فيه فإني أعمل بالمتفق عليه، وهذه الوجوه تحكى عن الشيخ أبي عبدالله.
مثال ما يعلم فيه التاريخ من الخاص والعام في هذه المسألة: آية القذف فإنه عام ثم تعقبها خبر اللعان فخص الزوجان، وإن أزال الحكمُ الحكمَ الأول.
__________
(1) - هكذا في النسخة وهو غلط من الناسخ، والموافق للكلام أن يقال: (أو يكون العام متقدماً والخاص متأخراً فأكون قد قطعت..إلخ) والله أعلم.
وكذلك قوله تعالى: {فَإِمَّا مَنًّا بَعْدُ وَإِمَّا فِدَاءً} [محمد:4]، وقال بعد ذلك: {فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ} [التوبة:5]، فإن هذا عام نسخ حكم التخيير بين المن والفداء.
فأما مجهول التاريخ: فمثل خبر عبادة بن الصامت(1) وأبي سعيد الخدري(2) في الرباء(3)
__________
(1) ـ عبادة بن الصامت، أبو الوليد الخزرجي، السيد النقيب، شهد العقبات الثلاث وبدراً وما بعدها. توفي بالرملة، وقيل: ببيت المقدس سنة أربع وثلاثين، عن اثنتين وتسعين. انظر لوامع الأنوار (3/131، 132).
(2) ـ أبو سعيد الخدري: سعد بن مالك بن سنان الأنصاري الخزرجي، من مشهوري الصحابة وفضلائهم المكثرين في الرواية، كان في أهل الصفة محالفاً للصبر فقيهاً نبيلاً جليلاً، غزا مع رسول الله -صَلَّى الله عَلَيْه وآله وَسَلَّم- اثنتي عشرة غزوة أولها الخندق واستصغر يوم أحد فرد ولم يكن في أحداث الصحابة أفقه منه، سكن المدينة وبها توفي سنة أربع وسبعين وله أربع وتسعون، وله عقب.
إلى قوله –أيده الله تعالى-: شهد مع علي -عَلَيْه السَّلام- حرب الخوارج وذكر الحديث فيهم. انظر لوامع الأنوار (3/200، 201).
(3) ـ خبر عبادة بن الصامت وأبي سعيد الخدري عن النبي -صَلَّى الله عَلَيْه وآله وَسَلَّم- في الربا أنه قال: ((لا يصلح صاعان بصاع ولا درهمان بدرهم))، وقال: ((الفضة بالفضة مثلاً بمثل يداً بيد، والذهب بالذهب مثلاً بمثل يداً بيد، والبر بالبر مثلاً بمثل يداً بيد، والشعير بالشعير مثلاً بمثل يداً بيد، والتمر بالتمر مثلاً بمثل يداً بيد، والملح بالملح مثلاً بمثل يداً بيد؛ فمن زاد أو ازداد فقد أربى))، فهذا عام بأن الربا في كل زيادة سواء كانت يداً بيد أو نسأ.
وخبر أسامة بن زيد وهو ما رواه ابن عباس عن أسامة بن زيد عن النبي -صَلَّى الله عَلَيْه وآله وَسَلَّم- أنه قال: ((لا ربا إلا في النسيئة)) فهذا خاص بأن الربا لا يكون إلا في الزيادة إذا كانت نسأ، أما يداً بيد فلا ربا فيها؛ فإن أكثر الصحابة عملوا على رواية عبادة وأبي سعيد وعابوا على من عمل بالخبر الذي رواه أسامة.
فهذا الوجه -وهو عمل أكثر الصحابة- أحد المرجحات على العمل بالخبر الأول دون الثاني.
وخبر أسامة بن زيد في أنه لا ربى إلا في النسيئة، وكروايتهم(1) في نهى النبي صَلَّى الله عَلَيْه وآله وَسَلَّم عن بيع الإنسان ما ليس عنده، وترخيصه في بيع السلم، فأحدهما عام والآخر خاص، والتاريخ مجهول.
ومثّل شيخنا رحمه الله هذه المسألة بقوله صَلَّى الله عَلَيْه وآله وَسَلَّم: ((فيما سقت السماء العشر))، وقوله: ((ليس فيما دون خمسة أوسق صدقة(2)))، وأخرج القليل من ذلك وجهل التاريخ بينهما فاقتضى تمثيله رحمه الله بهذا أنه كان يذهب إلى أن العام يُبْنى على الخاص وإن جهل التاريخ، ومذهبه هذا هو رأي كثير من الفقهاء والمتكلمين.
وهذه المسألة يتفرّع منها في نفسها مسائل، وهي تفتقر إلى النظر، والله الموفق.
__________
(1) ـ الخبر الأول هو ما رواه حكيم بن حزام، قال: نهاني النبي –صَلَّى الله عَلَيْه وآله وَسَلَّم- أن أبيع ما ليس عندي، والخبر في جواز السلم، وهو قول النبي –صَلَّى الله عَلَيْه وآله وَسَلَّم-: ((فليسلم في كيل معلوم، أو وزن معلوم، إلى أجل معلوم)) فإن السلف –رضي الله عنهم- بنوا فيهما العام على الخاص على قول من يقول بالترجيح، كما في المسألة الأولى، وقد اعترض على هذه الطريق إلى الترجيح الإمام -عَلَيْه السَّلام- بما ذكره.
(2) ـ أخرجه البخاري (2/524) رقم (1378)، ومسلم في الزكاة (2/673) رقم (979)، وأبو داود (2/94) رقم (1559)، والترمذي (3/22) رقم (626)، والنسائي (5/17) رقم (2445)، وابن ماجه في الزكاة (1/571) رقم (1793)، ومالك في الموطأ (1/244) رقم (577)، وأحمد (3/363) رقم (14170)، والدارمي (1/470) رقم (11044).
لأن السلف رحمهم الله وإن بنوا العام على الخاص في بعض المسائل، فقد اعترضوا بالعام على الخاص في بعضها وذلك في مثل قول النبي صَلَّى الله عَلَيْه وآله وَسَلَّم: ((لا وصيّة لوارث(1)))، وقوله سبحانه: {كُتِبَ عَلَيْكُمْ إِذَا حَضَرَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ إِنْ تَرَكَ خَيْرًا الْوَصِيَّةُ لِلْوَالِدَيْنِ وَالْأَقْرَبِينَ} [البقرة:180]، والخبر عام والآية خاصة، وكمنعهم من زواج المسلم للكتابية بقوله تعالى: {وَلَا تَنْكِحُوا الْمُشْرِكَاتِ} [البقرة:221]، وهي عامة واعترضوا بها قوله تعالى: {وَالْمُحْصَنَاتُ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ} [المائدة:5]، وهي خاصة، ولم يبنوا فيها.
__________
(1) ـ رواه أبو عبدالله العلوي في الجامع الكافي والأمير الحسين في الشفاء والإمام المؤيد بالله أحمد بن الحسين في شرح التجريد والإمام أحمد بن سليمان في أصول الأحكام.
قال الإمام المنصور بالله القاسم بن محمد -عَلَيْه السَّلام- في الاعتصام (2/149): وفي الجامع الكبير عن النبي -صَلَّى الله عَلَيْه وآله وَسَلَّم- أنه قال: ((لا وصية لوارث)) [وقال عقبه] قال: رواه عبدالرزاق وابن أبي شيبة عن عمرو بن خارجة عن النبي -صَلَّى الله عَلَيْه وآله وَسَلَّم-، ورواه الشافعي والبيهقي عنه -صَلَّى الله عَلَيْه وآله وَسَلَّم- مرسلاً، ورواه الدارقطني عن جابر عنه -صَلَّى الله عَلَيْه وآله وَسَلَّم-.
مسألة:[الكلام في العام المخصص هل يجوز سماعه من دون سماع المخصص أم لا؟]
ذهب كثير من أهل العلم إلى أنه لا يجوز أن يسمع المكلف العام المخصوص بتخصيص سمعي إلا ويسمع معه الخاص وهو مذهب الشيخ أبي علي(1)، وهكذا رأيه في الناسخ فإنه يقول: إذا تعبد الله بشيء من الأحكام ثم نسخه قبل انتهاء خبر التعبد بالمنسوخ إلى قوم لم يجز أن يرد عليهم خبر التعبد بالمنسوخ دون خبر الناسخ.
وذهب آخرون(2) إلى أن ذلك جائز، وأن الواجب على السامع للخطاب أن يُجَوِّزَ ورود النسخ عليه فيتوقف القدر الذي يمكن عنده ورود دليل التخصيص، وهو المحكي عن أبي هاشم.
واستدل من قال بالأول: بأن العام إذا كان موضوعاً في أصل اللغة للإستغراق ثم ورد من الحكيم سبحانه وتعالى وهو يريد تخصيصه ولم يرد معه المخصص جرى مجرى تلبيس المراد وذلك لا يجوز عليه سبحانه؛ لأنه إذا وجب على المكلف اعتقاد جريان الحكم على جميع ما تقدم له العموم ثم أراد سبحانه وتعالى التخصيص وجب أن يُسْمِعَهُ الخاص؛ لأن لا يقع هذا الإعتقاد جهلاً قبيحاً.
واستدل من ذهب إلى الثاني: بأنه إذا جاز أن يكون العام مخصوصاً بدلالة العقل ويسمعه الله تعالى ذلك من غير أن يكون قد نظر في الدليل العقلي المخصص له ولم يرد ذلك إلى تلبيس الدلالة فكذلك إذا كان يخصصه من جهة السمع.
وإذا قلنا إن المخاطب إذا جوز التخصيص لزمه أن يتوقف قدر وقوفه عليه وهو لا محالة يصله إذا بحث عنه وهذا الذي نختاره؛ لأن الذي لأجله جاز ورود العام المخصوص بدلالة العقل -وإن لم يستدل المكلف- هو التمكن من ذلك بالنظر، وهذا الدليل قائم في المخصوص بالسمع لأنه متمكن بالبحث عن معرفته، ولا يلزم عليه جواز تأخير البيان؛ لأن المخاطَب إذا لم يُبَيَّن له المراد بما خوطب به جرى الخطاب مجرى العبث، وذلك لا يجوز على الله سبحانه، وليس هذا من ذلك؛ لأنه سبحانه إذا أورد العام والخاص وتأخر عن المكلّف الخاص فلم يتأخر عنه البيان، وإنما تأخر المبيِّن، وهذا لا يمتنع كما لا يمتنع أن نخاطب العجم بلغة العرب إذا كان ثم من يترجم.
__________
(1) ـ وأبي الهذيل العلاف والشيخ أبي هاشم أولاً ثم رجع عنه. تمت مقنع.
(2) ـ هو مذهب الفقهاء بأسرهم وكثير من المتكلمين كأبي هاشم آخراً، وأبي إسحاق النظام، والقاضي، وأبي الحسين البصري، والحسن بن محمد الرصاص. تمت مقنع.
الكلام في المجمل والبيان والمبيَّن
مسألة:[حدُّ المجمل والمبين]
المجمل: هو كل خطاب لا يفهم المراد منه إلا باعتبار غيره.
والمبيَّن: هو ما يعرف المراد منه بظاهر لفظه، فالأول كقوله تعالى: {أَقِيمُوا الصَّلَاةَ} [المزمل:20]، فإنه يدل على وجوب الصلاة في الجملة دون التفصيل.
والثاني كأمره صَلَّى الله عَلَيْه وآله وَسَلَّم بالصلاة مفصلة أفعالها وأذكارها، وقد يستعمل المبين في المجمل إذا ورد بيانه.
مسألة:[الكلام في حدِّ البيان والخلاف فيه]
اختلف أهل العلم في حد البيان؛
فمنهم من قال: هو الأدلة التي تُبَيَّنُ بها الأحكام، وهو قول أبي علي وأبي هاشم، والقاضي، وجماعة من الفقهاء والمتكلمين.
ومنهم من قال: البيان هو العلم الحادث، وحكي عن الشيخ أبي عبدالله.
ومنهم من جعل البيان الدلالة من جهة القول دون ما عداه من الأدلة.
ومنهم من قال: هو الكلام والخط والإشارة.
وقال الصيرفي(1): البيان ما أخرج الشيء من حد الإشكال إلى حدّ التجلي.
__________
(1) ـ أبو بكر الصيرفي: محمد بن عبدالله، من أهل بغداد، وأحد فقهاء الشافعية المتقدمين فيهم علماً وفضلاً وديناً، ومن أهل العدل والتوحيد، توفي سنة (330هـ).
وذكر الشافعي في كتاب الرسالة: أن البيان اسم جامع لمعان مجتمعة الأصول متشعبة الفروع، وأقلّ ذلك أن يكون بياناً لمن نزل القرآن بلغتهم، وهذا لا يعقل معناه فضلاً عن وقوع التحديد به.
وقد حمل أصحابه كلامه على معان أقربها ما قال قاضي القضاة: إنه أراد ما هو بيان في اللغة العربية.
وذكر شيخنا رحمه الله تعالى أن البيان قد يستعمل في معنى أعم ومعنى أخص:
فأما الأعم: فهو نصب الأدلة ولهذا يقال بين الله تعالى الأحكام إذا نصب عليها الأدلة.
وأما الأخص: فهو الأدلة التي يعلم بها المراد بالخطاب المجمل على التفصيل.
وإنما قلنا ذلك بأن ما ذكرناه هو معنى البيان؛ لأنه لا يسبق إلى الأفهام في العرف عند إطلاق اسم البيان إلا ما ذكرنا أولاً، وذلك هو أمارة الحقيقة، وكذلك لا يسبق إلى الأفهام من لفظ البيان إذا قيد بالمجمل فقيل بين الله المجمل سوى ما ذكرنا بياناً، فلذلك قلنا بأن ما ذكرنا هو معنى البيان.
وعندنا أن الكلام في حد البيان يقع على وجه التحقيق وعلى وجه التمييز، فإن كان على وجه التمييز فلا أظهر من قولنا بيان، وإن كان على وجه التحقيق فهو كل دليل يكشف بنفسه عن معنى المجمل.
والدليل على صحة هذا الحد أنه يطرد وينعكس، وذلك أمارة صحة الحد.
فأما من قال البيان: هو الأدلة التي تبين بها الأحكام، فقد فسر الشيء بنفسه، والإشكال في قوله تبين بها الأحكام كالإشكال في البيان، والحد إنما يقع لرفع الإشكال.
وأما ما قال الشيخ أبو عبدالله من أنه العلم الحادث من فعل المكلف، والبيان فعل الله تعالى ورسوله صَلَّى الله عَلَيْه وآله وَسَلَّم ولأن الله سبحانه ورسوله صَلَّى الله عَلَيْه وآله وَسَلَّم ورد منهما البيان لمن نظر ولمن لم ينظر، والعلم الحادث يختص الناظرين دون غيرهم.
وأما من قال البيان: هو الدلالة من جهة القول دون ما عداه فلا يصح لأن البيان قد يقع بالأفعال والقياس كما يقع بالقول على ما يأتي بيانه فيما بعد إن شاء الله تعالى.
وأما من قال البيان: هو الكلام والخط والإشارة فلا يصح؛ لأن هذه الأمور قد تكون تلبيساً فضلاً عن كونها بياناً، ولأن المجمل كلام، ولأن قولنا بيان أظهر منه.
وأما من قال البيان ما أخرج الشيء من حد الإشكال إلى حد التجلي فلا يصح؛ لأن الدليل قد يقترن بالمجمل فلا يقع الإشكال، فيخرج هذا عن الحد فيبطل التحديد به، ولأن المشاهدة والأخبار المتواترة يخرجان المشاهد والمخبر عنه من حد الإشكال إلى حد التجلي، وإن لم يوصف واحد منهما بأنه بيان.
ولأن قولنا ما أخرج الشيء من حد الإشكال يقع فيه من الإبهام ما يحوج إلى الإستفهام، والتحديد وضع للكشف والإيضاح.
فأما إبطال ما ذكر الشافعي على ظهور سقوطه فظاهره يخرج الأفعال والإجماع، والأدلة العقلية والقياس عن البيان وهي أجله، فكيف يقع التحديد بما هذا حاله، ولأنه جعل المحدود بعض جزء الحد، فقال: البيان كيت وكيت، وإنه بيان، ففسر الشيء بما يحتاج إلى تفسير، وهذا ظاهر البطلان.
مسألة:[الكلام في جواز وقوع بيان المجمل بالفعل]
ذهب الفقهاء إلى جواز وقوع بيان المجمل بالفعل كما ثبت بيان المجمل بالقول، وخالف بعض المتأخرين في ذلك، وحكاه شيخنا رحمه الله تعالى عن أبي بكر الدقاق(1).
__________
(1) ـ أبو بكر الدقاق: محمد بن محمد بن جعفر البغدادي الدقاق، من علماء الشافعية صنّف كتاباً في أصول الفقه، جمع الفقه والأصول، وولي القضاء ببغداد، توفي في رمضان سنة (392هـ). انظر المنية والأمل.
ومثل شيخنا رحمه الله المسألة بما إذا قال تعالى: {أَقِيمُوا الصَّلَاةَ} [المزمل:20]، ثم فعل النبي صَلَّى الله عَلَيْه وآله وَسَلَّم عقيب هذا الخطاب ركعتين ولا يبين الصلاة المأمور بها بالقول فعند من قال بالأول: هذا بيان، وعند أبي بكر الدقاق ومن قال بقوله: ليس ببيان.
واحتج شيخنا رحمه الله تعالى للأول بأن الصحابة أجمعت على وجوب الرجوع إلى أفعال النبي صَلَّى الله عَلَيْه وآله وَسَلَّم إجماعها على الرجوع إلى قوله: فلولا أن أفعاله عليه وآله السلام يقع بها البيان لما صح الرجوع إليها كما فعلوه في مسألة الإيلاج من غير إنزال(1).
واستدل أيضاً بأن فعله حجة كقوله، ويصح في الفعل أن يكون كاشفاً عن معنى الخطاب، ولذلك قال عليه وآله السلام: ((صلّوا كما رأيتموني أصلي)) فأحالنا على أفعاله في بيان المجمل من الصلاة، فلولا أن البيان يقع بالأفعال لما أحالنا عليها.
وعندنا في هذه المسألة: أن البيان يقع بالفعل كما يقع بالقول وأبلغ، لأنه لا فرق بين قول المعلّم للكتابة مثلاً لمن يتعلمها خذ القلم وافعل به كذا وكذا، واجرِ من موضع كذا إلى موضع كذا، وبين أن يكتب له إما ما يتعلم عليه ويقتدي به، بل يكون هذا أبلغ، ولكن لا بد عندنا من تقديم دليل من القول منبه على اتباع الفعل والإقتداء به وإيجاب الرجوع إليه في البيان.
__________
(1) ـ وذلك أن الإيلاج من غير إنزال كان لا يوجب الغسل بما رواه أبي بن كعب، قال: قلت يا رسول الله إذا جامع أحدنا فأكسل، قال: يغسل ما لمس المرأة منه وليتوضأ ثم ليصل) ثم اغتسل رسول الله -صَلَّى الله عَلَيْه وآله وَسَلَّم- من ذلك بما روته عائشة أن رسول الله -صَلَّى الله عَلَيْه وآله وَسَلَّم- اغتسل.
وإنما قلنا ذلك لأن دلالة العقل تقضي باختلاف المصالح في الفعل بيننا وبينه عَلَيْه السَّلام، وبيننا أيضاً إلا فيما خصه الدليل، فإذا قال تعالى: {أَقِيمُوا الصَّلَاةَ} [المزمل:20]، وجب علينا انتظار البيان قدر إمكان وصوله إلينا، فإن وصل إلينا منه بيان وإلا وجب علينا امتثال ما هو المعلوم من الصلاة في أصل اللغة؛ لأن ذلك الواجب في خطاب الحكيم سبحانه وتعالى، ولهذا قال صَلَّى الله عَلَيْه وآله وَسَلَّم: ((صلّوا كما رأيتموني أصلي))، فوجب علينا اتباع فعله في بيان المجمل بدليل من القول، ونحن لا نمنع على هذا الوجه من وقوع البيان بالفعل له بما يكون والحال هذه أبلغ من البيان بالقول، وذلك ظاهر كما قدمنا، وقد كان أمير المؤمنين عَلَيْه السَّلام وغيره من العلماء إذا سئل عن بيان مجمل بينه بالفعل للتأكيد كما فعل لما سئل عن وضوء رسول الله صَلَّى الله عَلَيْه وآله وَسَلَّم فبينه بالفعل.
وما ذكر شيخنا رحمه الله من إجماع الصحابة على الرجوع إلى أفعاله عليه وآله السلام في بيان المجمل فذلك بعدما أمرنا باتباعه في الفعل واستقرار الشرع بذلك بعد موته عليه وآله السلام بخلاف حال الإبتداء.
وأما أن فعله ـ عَلَيْه السَّلام ـ حجة فذلك مسلم فيما أمرنا باتباعه فيه دون غيره. وأما كونه كاشفاً عن معنى الخطاب فهو اختيارنا فيما أحالنا عليه الخطاب.
مسألة:[الكلام في وقوع البيان بالتقرير]
ويقع البيان بالتقرير كما يقع بالقول ولا يظهر خلاف في هذا.
ومثاله: أن يأمر صَلَّى الله عَلَيْه وآله وَسَلَّم رجلاً بالزكاة مثلاً، ثم يخرج من بحضرته عن ذلك قدراً من المال فسكت عنه صَلَّى الله عَلَيْه وآله وَسَلَّم؛ فإن ذلك يجري مجرى قوله: هذا هو الواجب عليك؛ لأنه صَلَّى الله عَلَيْه وآله وَسَلَّم بعث للدلالة والإرشاد، فلو لم يقع ذلك لانتقض المراد بالبعثة، وذلك لا يجوز عليه سبحانه وتعالى.
مسألة:[الكلام في جواز تبيين الظاهر بالغامض]
حكى الشيخ أبو عبدالله عن الشيخ أبي الحسن رحمه الله تعالى أن البيان يجب أن يكون في حكم المبين في الظهور، ولذلك يمنع أن يكون خبر الأوساق مبيناً لآية الزكاة؛ لأنه خبر واحد فلا يساوى الآية في الظهور.
وعندنا أن ذلك لا يجب؛ لأنه لا يمتنع في العقل أن يعلم الله سبحانه تعلق الصلاح في تبيين الظاهر بالغامض فيبينه به، ولأنهما قد استويا في كونهما دليلين شرعيين فجاز قيام أحدهما مقام الآخر كما نقوله في البيانين.
مسألة:[الكلام في أن آيات المدح والذم ليست من باب المجمل]
ألحق بعض أصحاب الشافعي الآيات التي ذكر فيها المدح والذم بباب المجمل وليست منه؛ لأن معرفة المراد من ظاهرها على التفصيل ممكن، وليس كذلك المجمل.
ومثال المسألة: قوله تعالى: {وَالَّذِينَ هُمْ لِفُرُوجِهِمْ حَافِظُونَ} [المؤمنون:5]، إلى قوله: {فَأُولَئِكَ هُمُ الْعَادُونَ} [المؤمنون:7]، وقوله تعالى: {وَالَّذِينَ يَكْنِزُونَ الذَّهَبَ وَالْفِضَّةَ} [التوبة:34]، إلى قوله: {فَذُوقُوا مَا كُنْتُمْ تَكْنِزُونَ} [التوبة:35].
فالذي يدل على صحة ما قلناه: أن ذمه سبحانه وتعالى على ترك الفعل أكثر من الأمر به؛ لأنه لا يذم إلا على ترك الواجب، وقد صح أمره بالنفل فإذا ثبت ذلك، وقد تقرر وجوب الفعل للأمر، فوجوبه مع ذم تركه أولى، وكذلك تعليقه بالمدح مع أنه أمر آكد في الوجوب من الأمر المطلق، وكان ظاهر آية الإنفاق للكنز يوجب إنفاق جميع المكنوز، ويصح التعليق بظاهره لولا تخصيص الدلالة وهي قوله صَلَّى الله عَلَيْه وآله وَسَلَّم: ((كل مال أُخْرِجت زكاته فليس بكنز(1)))، ولم يقل ذلك صَلَّى الله عَلَيْه وآله وَسَلَّم إلا عند فزعهم إلى العمل بمقتضى الخطاب.
__________
(1) ـ رواه الإمام المؤيد بالله في شرح التجريد، والإمام المتوكل على الله أحمد بن سليمان في أصول الأحكام، والأمير الحسين بن بدر الدين، والطبراني في الأوسط (6) رقم (8279).
مسألة:[في بيان أن قوله تعالى: {لَا يَسْتَوِي أَصْحَابُ النَّارِ وَأَصْحَابُ الْجَنَّةِ} من المجمل]
عندنا أن قوله تعالى: {لَا يَسْتَوِي أَصْحَابُ النَّارِ وَأَصْحَابُ الْجَنَّةِ} [الحشر:20]، لاحقٌ بباب المجمل، وقد خالف في ذلك بعض أصحاب الشافعي، واستدلوا به على أن المسلم لا يقتل بالكافر(1).
__________
(1) ـ من استدل من الشافعية بهذه الآية على المنع من قتل المسلم بالكافر ولو ذمياً بناءً منهم على أن الآية تقضي بنفي جميع وجوه المساواة؛ فلو قيل بجواز قتل المسلم بالكافر ولو ذمياً –كما يقتل المسلم بالمسلم والذمي بالمسلم- لكنا قد سوينا بين المسلم والكافر، مع أن أحدهما من أصحاب الجنة والآخر من أصحاب النار، والآية تمنع من استوائهما في كل الصفات.
وبطلان قولهم معلوم؛ لأنا نعلم استوائهما في صفات الذات نحو كونهما مكلفين وحيين وموجودين وقادرين وعاقلين وغير ذلك، فتبين أن المراد أنهما لا يستويان في جميع الصفات، ولا يتفقان، فتبين أنهما لا يستويان في بعض الصفات، ولما لم يذكر ذلك البعض صارت الآية مجملة؛ ثم بين في آخر الآية وجه الإستواء وأنه في الفوز، فتبين أن الآية لا تدل على ما ذهبت إليه بعض الشافعية.
قال في شرح الغاية (2/226): وأصحابنا وإن وافقوه في الحكم فلم يوافقوه في الأصل، وإنما منعوا قتل المسلم بالكافر ولو كان ذمياً بعموم: ((لا يقتل مسلم بكافر)) رواه البخاري وأبو داود) انتهى.
والذي يدل على صحة ما قلناه: أن فيه حد المجمل وحقيقته، فلذلك دخل في جملته؛ لأن المجمل كل خطاب لا يفهم المراد من ظاهره على التعيين إلا باعتبار غيره كما قدمنا، وهذا لا يفهم المراد منه إلا باعتبار غيره؛ لأن القائل إذا قال: زيد وعمرو لا يستويان، حسن من السامع أن يقول فيم؟ إذ الإستحالة اختلافهما في كل شيء، واتفاقهما في كل شيء، فبطل ما قالوه، وأما في هذه الآية فقد بين سبحانه فيما لا يستوون بقوله: {أَصْحَابُ الْجَنَّةِ هُمُ الْفَائِزُونَ} [الحشر:20]، فبين أنهم لا يستوون في الفوز.
مسألة:[في بيان أن قوله تعالى: {وَلَا تَيَمَّمُوا الْخَبِيثَ مِنْهُ تُنْفِقُونَ}من المجمل]
ومما أخرج أصحاب الشافعي من هذا الباب، وهو منه قوله تعالى: {وَلَا تَيَمَّمُوا الْخَبِيثَ مِنْهُ تُنْفِقُونَ} [البقرة:267]، واستدلوا من ظاهره على أن عتق الرقبة الكافرة في كفارة الظهار لا تجزي(1).
والذي يدل على لحاق هذه الآية بباب المجمل: أن المراد على التعيين [لا(2)] يعلم من ظاهرها كما قدمنا؛ لأن الخبيث في لغة العرب يستعمل فيما تنفر منه الطباع، وتكرهه النفس، واستعمل في النجس والقذر، ويستعمل في الشرير من الحيوان، فالظاهر له كما ترى فبطل ما قالوه.
__________
(1) ـ لأنهم قالوا: إن الرقبة الكافرة خبيثة فلا تجزئ في العتق بدليل قوله تعالى: {الْخَبِيثَاتُ لِلْخَبِيثِينَ وَالْخَبِيثُونَ لِلْخَبِيثَاتِ} [النور:26]، فيجب دخوله تحت النهي عن إنفاق الخبيث، وذلك يدل على المنع من إجزاء عتق الرقبة الكافرة في كفارة الظهار.
(2) ـ ما بين المعكوفين زيادة غير موجودة في الأصل المصور.
فأما تعلقهم به في الرقبة فبعيد جداً؛ لأن الإنفاق ليس من العتق في شيء؛ لأنه إذا قيل: أنفق فلان شيئاً من ماله، لم يعقل منه العتق لا لغة ولا شرعاً، ولأنه سبحانه قد كشف الغرض في هذه الآية بقوله: {وَلَسْتُمْ بِآخِذِيهِ إِلَّا أَنْ تُغْمِضُوا فِيهِ} [البقرة:267]، فجعله مما في مقابلة الأخذ وذلك لا يصح في العتق.
مسألة:[مما ألحق بالمجمل وليس منه]
ومما ألحق بالمجمل وليس منه عندنا قولهم: اعط فلاناً دراهماً، فعند بعضهم أنه مجمل.
والذي يدل على ما قلناه: أنه يصح من المأمور امتثال هذا الأمر بظاهره على التعيين وما صحّ امتثاله فليس بمجمل.
أما أنه يصح امتثاله على هذا الوجه: فلأنه إذا أعطاه ما هو أقل الجمع وهو ثلاثة خرج عن عهدة هذا الأمر؛ لأن ما زاد على الثلاثة لا يصح الإنتهاء إلى قدر منه دون ما زاد عليه، وحمل اللفظ على ما يصح تعليقه به لا يمكن لغة ولا شرعاً، فوجب الإقتصار على الثلاثة لاستحالة تعلقه أيضاً بما دونها على وجه الحقيقة، فبقيت الثلاثة معلومة دون الأقلّ والأكثر.
وأما أنما هذا حاله فليس بمجمل: فلأنه خارج عن حده، فلو كان من جملته لما كان خرج عنه.
مسألة:[في بيان أن قوله تعالى: {وَامْسَحُوا بِرُءُوسِكُمْ} ليس بمجمل]
ذهب بعض الفقهاء(1) إلى أن قوله تعالى: {وَامْسَحُوا بِرُءُوسِكُمْ} [المائدة:6]، مجمل لا يصح التعلق بظاهره، وذهب أكثر العلماء(2) إلى أنه ليس بمجمل وهو الذي نختاره.
__________
(1) ـ هو قول أكثر الحنفية، وجماعة من الشافعية، ونفر من المتكلمين. تمت مقنع
(2) ـ هو قول أكثر الشافعية، وبعض الحنفية، وكثير من المتكلمين كأبي علي والقاضي وأبي الحسين. تمت مقنع.
والذي يدل على صحة ما قلناه: أن الرأس اسم للعضو المخصوص، وأن الباء وضعت في اللغة للإلصاق، فإذا قال سبحانه: {امْسَحُوا بِرُءُوسِكُمْ} [المائدة:6]، أفاد ظاهره إلصاق اليد بجميع ما سمي رأساً، وخرج بذلك المأمور عن عهدة الأمر لغة وشرعاً.
وأما خلاف من خالف من أهل العلم في مسح البعض(1) فليس لأن الآية لا ظاهر لها، بل لأدلة نصبوها من الآثار المتبعة عظم الله قدرها، وإلا فالباء عند الجميع تقتضي الإلصاق.
وإن قالوا: إن الباء تفيد التبعيض فلذلك لحقت هذه الآية بالمجمل لم يصح ذلك أيضاً؛ لأنها لو كانت للتبعيض كما قالوا وسلمنا ذلك تسليم جدل لكان إذا مسح البعض خرج عن عهدة الأمر؛ لأنه إذا أمر بمسح البعض أفاد أن الكل مراد على التخيير، فكانت هذه تخرج عن باب المجمل على مجموع القولين فبطل ما قالوه.
__________
(1) ـ وذلك أنهم قالوا: إن الباء تحتمل إلصاق المسح ببعض الرأس كما تحتمل إلصاقه بكله، فإذا لم يتبين القدر الذي يلصق به المسح كان مجملاً، وبيانه ما روي عن النيب -صَلَّى الله عَلَيْه وآله وَسَلَّم- ((أنه مسح مقدم رأسه)).
والجواب عن ذلك: بأن الباء تفيد إلصاق المسح بما دخلت عليه في أصل اللغة والذي دخلت عليه هو الرأس، والرأس هو مجموع العضو لا بعضه فلا نسلم أن الباء تحتمل إلصاق المسح ببعض الرأس؛ لأن ذلك عدول عن الظاهر إذ ليس فيه ذكر البعض وإنما المذكور هو الرأس فقط، وليس هناك عرف يوجب التبعيض فيجب حمله على الظاهر.
فأما ما روي أنه -صَلَّى الله عَلَيْه وآله وَسَلَّم- مسح بناصيته؛ فليس فيه أنه لم يمسح بباقي رأسه، فيحتمل أن يكون الراوي إنما رأى مسحه -صَلَّى الله عَلَيْه وآله وَسَلَّم- لناصيته وفاته رؤية الباقي فروى ما رآه فقط. انتهى بتصرف من المقنع.
مسألة:[الكلام في أن ما دخل عليه حرف النفي ليس بمجمل]
اختلف أهل العلم في قول النبي صَلَّى الله عَلَيْه وآله وَسَلَّم: ((لا صلاة إلا بفاتحة الكتاب))، و((لا صلاة إلا بطهور(1))) وما شاكله مما يدخل عليه حرف النفي، فذهب كثير من الحنفية إلى أن التعلق بظاهره لا يصح، وأنه من باب المجمل وحكاه شيخنا رحمه الله تعالى عن الشيخين أبي عبدالله وأبي الحسن.
وحكي عن القاضي أن التعلق بظاهره صحيح، وأنه ليس بمجمل.
واستدل الشيخ أبو عبدالله على ما قاله: أن ظاهر اللفظ لا يخلو: إما أن يقتضي نفي وجود الفعل أو نفي أحكامه.
فإن اقتضى نفي الوجود فقد علم خلافه، وأن المعلوم يوجد من دون الفاتحة، ومن دون الوضوء، وإن اقتضى نفي الأحكام فهي تنقسم إلى أحكام الدنيا وأحكام الآخرة، وحمله على الجميع لا يصح لاتفاق الجميع في الإحتمال.
وكان شيخنا رحمه الله يعتمد ما ذهب إليه القاضي(2) وظاهر المذهب وهو الذي نختاره.
__________
(1) ـ رواه الإمام المؤيد بالله في شرح التجريد عن علي -عليه السلام-، والإمام المتوكل على الله في أصول الأحكام عن علي -عليه السلام-، والأمير الحسين في الشفاء، وأخرجه البخاري (1/263) رقم (723)، ومسلم (1/295) رقم (394)، وأبو داود (1/217) رقم (822)، والترمذي (2/25) رقم (247)، والنسائي (2/137) رقم (910) وابن ماجه (1/273) رقم (837)، ومالك (1/84) رقم (188)، وأحمد (5/314) رقم (27729).
(2) ـ وإليه ذهب أكثر الشافعية والمتقدمين من الحنفية، وهو قول شيوخنا المتكلمين كالقاضي وأبي الحسين وهو اختيار السيد أبي طالب. تمت مقنع.
والذي يدل على صحته: أن ظاهر الخطاب يفيد نفي وجود الفعل الشرعي لوروده من صاحب الشرع صلوات الله عليه وآله، وادعاء وجود الفعل الشرعي والحال هذه غير مسلم؛ لأن عدم الفاتحة عندنا تقتضي عدم الصلاة الشرعية على الجملة، وكذلك عدم الوضوء عند الجميع فإذا قال صَلَّى الله عَلَيْه وآله وَسَلَّم: ((لا صلاة إلا بفاتحة الكتاب(1))) فكأنه قال: لا صلاة شرعية إلا بفاتحة الكتاب، فاستقام الظاهر الذي رام أبو عبدالله تغييره.
ولأن عرف الشرع الشريف جرى بدخول حرف النفي لإثبات الأحكام الشرعية لا لنفيها، فكأنه عَلَيْه السَّلام قال: الصلاة الصحيحة، أو الصلاة الشرعية التي يقرأ فيها فاتحة الكتاب، ولا يمتنع ورود الخطاب المثبت بحرف النفي، كما إذا قيل: لا مفتي في البلد إلا فلان أفاد ذلك إثباته لا نفيه، وكلمة التوحيد على هذا من قولنا: لا إله إلا الله، ورد حرف النفي للإثبات لا للنفي، وقد قال الشاعر:
فما لي إلا آلَ أحمد شيعة .... ومالي إلا مشعبَ الحقّ مشعب(2)
فقسْ جميع القبيل على هذا تُصِبْ إن شاء الله تعالى.
__________
(1) ـ رواه الإمام المؤيد بالله أحمد بن الحسين في شرح التجريد، والإمام أحمد بن سليمان في أصول الأحكام، والأمير الحسين في الشفاء، وأخرجه إسحاق بن راهويه في مسنده(1/179) رقم (126)، وأحمد في مسنده(2/428) رقم (9525)، وابن حبان في صحيحه(5/93) رقم (1791)، والحاكم في مستدركه(1/365) رقم (872)، والبيهقي في سننه الكبرى (2/37) رقم (2191)، والدارقطني في سننه(1/321) رقم (16).
(2) ـ قال في كتاب المنية والأمل في شرح كتاب الملل والنحل: وقول الكميت بن زيد الأسدي:
فما لي إلا آل أحمد شيعة .... ومالي إلا مشعب الحق مشعب
انتهى.
مسألة:[الكلام في لفظ الصلاة والوضوء]
ذهب بعض الشافعية إلى أن لفظ الصلاة غير منقول وأنه باق على أصله ومفيد للدعاء، وحملوا قوله تعالى: {أَقِيمُوا الصَّلَاةَ} [البقرة:43]، على وجوب الدعاء ويضم إليه سائر الأفعال والأذكار بأدلة أخر.
والذي يدل على بطلان ما قالوه: ما تقدم من أن الحقيقة ما سبق إلى أفهام السامعين من أهل الشرع، فلا يسبق إلى أفهام السامعين من أهل الشرع إلا الأفعال والأذكار المخصوصة دون ما قالوه من الدعاء.
وأما كونها من باب المجمل: فلأنه لما ورد الأمر بعد الإشعار بالنقل وجب تجويز بيان ما المراد؟ وهل هو المعتاد أم غيره؟ ووقع منه صَلَّى الله عَلَيْه وآله وَسَلَّم البيان بالقول والفعل، وذلك في قوله: ((ثم اركع حتى تطمئن راكعاً، ثم اسجد حتى تطمئن ساجداً، ثم اقعد حتى تطمئن قاعداً)) فهذا بيانه بالقول.
وأما بيانه بالفعل فكقوله: ((صلوا كما رأيتموني أصلي)).
ويلحق بالخلاف في هذه المسألة الخلاف في لفظ الوضوء فإنه عندهم غير منقول بل هو باقٍ على أصله، وعينوا ذلك في مسألة الرعاف في قوله صَلَّى الله عَلَيْه وآله وَسَلَّم: ((من رعف في صلاته فليتوضأ(1))) وفي قوله لبعض أصحابه لما رعف: ((أَحدَثَ بك وضوءاً)) إنه يجب عليه غسل اليد فقط أو غسل موضع الرعاف.
والذي يدل على صحة ما نذهب إليه: أن لفظ الوضوء إذا أطلق سبق إلى الأفهام غسل الأعضاء المخصوصة دون ما كان مفهوماً في الأصل، وهذا هو أمارة الحقائق.
ولأنه لما ورد لفظ الوضوء في الشريعة أمرهم بهذه الأفعال المخصوصة دون ما كان معلوماً في الأصل، فكان من باب المجمل بخلاف ما قالوه.
__________
(1) ـ رواه الإمام الهادي إلى الحق في الأحكام (1/52، 53) والإمام المؤيد بالله في شرح التجريد، والإمام أحمد بن سليمان في أصول الأحكام، والإمام أحمد بن عيسى في رأب الصدع عن علي -عَلَيْه السَّلام- (1/82).
مسألة:[الكلام في العموم إذا خص هل يصير مجملاً أم لا؟]
اختلف أهل العلم في العموم إذا خص هل يصير مجملاً أم لا؟
فمنهم من ذهب إلى أنه يصير مجملاً بأي دليل خص وعلى أي وجه خص، وحكاه شيخنا رحمه الله عن عيسى بن أبان.
ومنهم من قال: لا يصير مجملاً بأي دليل خص وعلى أي وجه خص، وحكاه عن الفقهاء وعن الحاكم.
ومنهم: من قال: إذا خص بدليل متصل لم يصر مجملاً، وإن خص بدليل منفصل صار مجملاً، وحكاه عن محمد بن شجاع، وأبي الحسن.
ومنهم من قال: إن أخرج الدليلُ بعضاً معلوماً حتى يكون الباقي معلوماً، فليس بمجمل، وإنْ أخرج بعضاً مجهولاً حتى يبقى الباقي مجهولاً، فهو مجمل، وحكاه عن الشيخ أبي الحسين البصري وهو الذي كان رحمه الله يختاره.
وعندنا أن العموم إذا خص لم يَخْلُ الحال فيه من أحد وجهين:
إما أن يعلم المراد من ظاهره مع تخصيصه على التعيين أو لا يعلم؛ فإن علم المراد منه والحال هذه فليس بمجمل، فإن احتيج في معرفة المراد منه مع التخصيص إلى بيان فهو مجمل.
ثم تستقري على هذا العموم المخصوص فما وجدت فيه صفة المجمل ألحقته ببابه، وما لم تجدها فيه أخرجته عنه وسواء كان الدليل متصلاً أو منفصلاً، وسواء أخرج بعضاً معلوماً أو غير معلوم، كما قدمنا في مسألة المسح؛ لأنه وإن وجب خروج بعض مجهول فإنه يصير بخروجه معلوماً في الثاني، والباقي معلوماً بخروج بعض معلوم منه؛ لأنه إذا تعبده الله سبحانه بإخراج البعض المجهول، ولم يعينه كان بإخراجه له يتعين، ويتعين الباقي في الثاني فيخرج بهذا عن باب الإجمال.
وأمثال هذه المسألة على تفاصيلها كثيرة، فمنها: قوله تعالى: {اقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ} [التوبة:5]، ثم أخرج الكتابيين ومن جرى مجراهم من المجوس والحربيين بالصلح والجزية والذمة بأدلة منفصلة إلا أنها أخرجت بعضاً معلوماً فكان الباقي معلوماً.
فأما قوله تعالى: {إِنَّ اللَّهَ لَا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ} [النساء:48]، فهو من باب المجمل لأنا لا نفهم المراد من ظاهره على التعيين؛ لأنه أخرج بعضاً مجهولاً لم يتعين في حال إخراجه له فكان علينا مجملاً.
وقد ذكر شيخنا رحمه الله أن قوله تعالى: {إِنْ تَجْتَنِبُوا كَبَائِرَ مَا تُنْهَوْنَ عَنْهُ نُكَفِّرْ عَنْكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ} [النساء:31]، بيان لهذا المجمل، وأن البعض الذي يشاء سبحانه له المغفرة هم أصحاب الصغائر، وهو الصحيح عندنا لأن الأدلة قد دلت على أن الكبائر لا تغفر مع فقد التوبة، فلو ألحقنا بها الصغائر تعرت الآية عن الفائدة ولحقت بالكذب، وذلك لا يجوز على الله سبحانه وتعالى على ما ذلك مقرر في موضعه من أصول الدين.
فأما قوله رحمه الله: متى خرج منه بعض مجهول بقي الباقي مجهولاً، فغير مستقيم، لأنه بخروجه يتعين ويتعين الباقي في بعض المواضع كما بينا أولاً فلا يلحق بالمجمل على هذا الوجه، والله الهادي.
مسألة:[الكلام في جواز تأخير التبليغ]
اختلف أهل العلم في تأخير التبليغ هل يجوز عقلاً أم لا؟
فمنهم من ذهب إلى أنه لا يجوز.
وحكى شيخنا رحمه الله أن أصحابنا ذهبوا إلى جواز التأخير عقلاً؛ لأنه إنما يجب للمصلحة ولا يمتنع أن تتعلق بالتأخير.
فأما في الشرع فحكي الإختلاف فيه على حسب الإختلاف في مسألة الفور والتراخي، ومثله بأن يأمر الله سبحانه نبيه عَلَيْه السَّلام بتبليغ فريضة الحج في شهر رجب هل يجوز له تأخير ذلك إلى شهر الحجة مثلاً أم لا؟
وعندنا في هذه المسألة تفصيل، ونحن نقول: ما أمر الله نبيه صَلَّى الله عَلَيْه وآله وَسَلَّم بتبليغه لا يخلو أن يكون وقته متراخياً أم لا.
فإن لم يكن متراخياً فلا خلاف أنه لا يجوز التأخير كما فعل في يوم عاشوراء(1).
وإن كان متراخياً لا يخلو إما أن يعلم من قبل الله سبحانه أن المصلحة في التأخير أو لا يعلم، فإن علم أن المصلحة في التأخير فلا خلاف أنه يجب التأخير، وإن لم يعلم المصلحة في التأخير من قبل الله سبحانه لم يجز(2) له التأخير عندنا من قبل العقل وهذا موضع الخلاف.
والذي يدل على صحة ما نقوله: أن الله سبحانه أمره بالتبليغ لتعلق المصلحة لا لوقوع الفعل، ولا سبيل له عَلَيْه السَّلام إلى علم المصالح؛ لأن المصالح غيوب استأثر الله سبحانه بها، ولهذا اختلف التعبد، ولهذا نُفِيَ أن يكون إلى الأنبياء عَلَيْهم السَّلام التحليل والتحريم، خلافاً لبعضهم؛ لأنه لا هداية لهم إلى علم المصالح، ولأنه كما يصح تجويز تعليق المصلحة بالتأخير، يصح تجويز تعليقها بالفور، ومع هذين التجويزين يرجع إلى الظاهر، وهو الفور في حقه عَلَيْه السَّلام، هذا من جهة العقل.
__________
(1) - وذلك أن النبي -صَلَّى الله عَلَيْه وآله وَسَلَّم- بعث إلى أهل العوالي يوم عاشوراء فقال: ((من أكل فليمسك بقية يومه ومن لم يأكل فليصم)).
(2) ـ نحو ما روي أن النبي -صَلَّى الله عَلَيْه وآله وَسَلَّم- أمر بالنص على إمامة أمير المؤمنين -عَلَيْه السَّلام- في حجة الوداع بمكة؛ فقال لجبريل -عَلَيْه السَّلام- إذاً تثلغ قريش رأسي)) فأخر ذلك حتى انتهى إلى غدير خم، فنزل قوله تعالى: {يَاأَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ مَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ..إلخ} [المائدة:67]، فبلغ كما أمر فقال: ((من كنت مولاه فعلي مولاه..إلخ)) الخبر المشهور. تمت من المقنع.
فأما الشرع: فدلالته في هذا الباب مبنية على علم المصالح، ولا سبيل له إلى العلم بذلك إلا من قبل الله سبحانه، ونعلم ذلك من الخطاب، فإن وجد فلا مانع من جواز التأخير للدليل، ولأنه قد ظهر من أمره صَلَّى الله عَلَيْه وآله وَسَلَّم ما يدل على أن الشرع لم يرد بالتأخير، وهو أنه عَلَيْه السَّلام كان يفزع لأمر الله سبحانه، ولأنه بعد تأدية الرسالة لا يأمن الموت، وكان ذلك الظاهر من أمره، ولا ندري على أي وجه يقع لأن هذا مما استأثر الله بعلمه ونطق به كتابه في قوله سبحانه: {وَمَا تَدْرِي نَفْسٌ بِأَيِّ أَرْضٍ تَمُوتُ} [لقمان: 24]، فكان لا يأمن أن يؤجل التبليغ فيقع عليه بعض ما يجوز وقوعه قبل التبليغ من موت أو قتل، فيكون قد أخل بالواجب، ولا يبنى عندنا أمره في ذلك على خلاف أهل الفور والتراخي، فإنهم وإن اختلفوا في ذلك، فقد صح لهم بالأدلة الشرعية أن المصلحة متعلقة بالأمرين جميعاً، وأن كل واحد منهما صواب ممن أداه اجتهاده إليه إذا وفَّى الإجتهاد حقه وجمع شروطه.
مسألة:[الكلام في تأخير البيان عن وقت الخطاب]
لا خلاف أن تأخير البيان عن وقت الحاجة لا يجوز، ولا خلاف أن تأخير التبيين يقع؛ لأنه يجوز أن يخطي المكلف فلا يتبين.
ثم اختلفوا في تأخير البيان عن وقت الخطاب.
فمنهم من منع من جواز التأخير في المجمل والعموم والأمر والخبر عن وقت الخطاب، وهو الذي حكاه شيخنا رحمه الله تعالى عن أبي علي وأبي هاشم والقاضي والسيد أبي طالب عَلَيْه السَّلام، وأصحاب الظاهر.
ومنهم من قال يجوز تأخيره في المجمل والعموم إلى وقت الحاجة وهو قول جماعة من الحنفية والشافعية واختاره المرتضى الموسوي(1)
__________
(1) ـ المرتضى الموسوي هو: علي بن الحسين بن موسى بن محمد بن موسى بن إبراهيم بن موسى الكاظم بن جعفر الصادق بن محمد الباقر بن علي زين العابدين بن الحسين السبط بن أمير المؤمنين علي بن أبي طالب، أبو القاسم الملقب بالشريف المرتضى.
كانت ولادته سنة (353هـ) وكان عالماً متكلماً فقيهاً، متقدماً في فقه الإمامية، وكان فصيحاً أديباً لغوياً شاعراً، وكان إمامياً ناصراً لأقوال الإمامية معدوداً في رجالهم، تولى النقابة وديوان المظالم بعد أخيه الشريف الرضي جامع نهج البلاغة رحمة الله عليه، وكان مدة ولايته ثلاثين سنة وأشهراً، واشتملت خزائنه على مائتي ألف كتاب، وله مؤلفات كثيرة في الفقه والآداب والكلام من أشهرها كتاب القلائد وغرر الفوائد، وكتاب أمالي المرتضى وغيرها. وتوفي في شهر ربيع سنة (436هـ).
ومنهم من قال يجوز تأخير بيان المجمل، وامتنع من جواز تأخير العموم وسائر ما يصح معرفة المراد بظاهره على التفصيل، وحكاه عن الشيخ أبي الحسن وجماعة من الشافعية، وحكي أنه مذهب الشيخ أبي الحسين البصري، وهو الذي كان رحمه الله يختاره.
ومنهم من منع من تأخير البيان في الأخبار وجوزه في الأوامر.
وعندنا أن تأخير البيان لا يجوز إلا بشرطين:
أحدهما: أن ينبه الله سبحانه المكلفَ على أنه يبين له وقت الحاجة.
والثاني: أن يكون الفعل الواجب الخطاب من قبيل التراخي، وسواء كان ذلك في العموم أو المجمل أو الأمر أو الخبر.
والذي يدل على صحة ما قلناه: أنه لا يمتنع أن تتعلق المصلحة بالخطاب بالعام، ويكون المراد به الخاص، ويؤخر الثاني لمصلحة أخرى، وقول من يقول إنه يؤدي إلى إغراء المكلف باعتقاد الجهل لا يصح؛ لأنه إذا علم بالتنبيه(1) أن العام لا بد من خصوصه جوز الممكن، فلم يحمله على العموم.
ومثاله: قول النبي صَلَّى الله عَلَيْه وآله وَسَلَّم: ((في الرقة ربع العشر)) ثم يقول مثلاً:ـ ولا يدريكم ما أخرج ـ من الرقة بعضاً لا يجب فيه الزكاة فإنه يلزمهم أن يعتقدوا وجوب الزكاة في الرقة على سبيل الجملة، إلا فيما أخرجه الدليل، وينتظرون الدليل، ولا يلزمهم الإخراج إلا إذا وقع البيان.
فأما في المجمل فالأمر أظهر؛ لأنه لا يمتنع أن يمنع الله سبحانه تعلق المصلحة في إيهام الخطاب، ولهذا فعله سبحانه وتعالى، ويكون الواجب على المكلف امتثال مقتضاه عند وقوع البيان، ولا يتعبد بما هذا حاله إلا وهو متمكن -عند الحاجة، وتضيق وقته- من بيانه.
__________
(1) ـ التنبيه: الإشعار، وهو أن يقول المتكلم بالعام: اعلموا أنه مخصوص وما يبينه لهم، أو جوزوا خصوصه حتى أبينه. تمت من حاشية على الأصل.
ومثاله: كما قال سبحانه: {وَءَاتُوا حَقَّهُ يَوْمَ حَصَادِهِ} [الأنعام:141]، وإن كان المروي عن جدنا عبدالله بن الحسين(1)
__________
(1) ـ عبدالله العالم بن الحسين الحافظ بن القاسم ترجمان الدين بن إبراهيم طباطبا بن إسماعيل الديباج بن إبراهيم الغَمْر بن الحسن الرضا بن الحسن السبط بن علي أمير المؤمنين بن أبي طالب -عَلَيْهم السَّلام-، صنو الإمام الهادي -عَلَيْه السَّلام-، يكنى أبا محمد وأبا الحسين، قال الإمام المنصور بالله -عَلَيْه السَّلام- في الشافي ج2/ 134: ولا يعرف في جميع أنساب الطالبيين وفي مشجراتها وشعرها وكتبها وجرائدها إلا بالعالم ولا يوجد ذلك لغيره، وكفى بذلك شاهداً بفضله، وكذلك رأيناه في الكتب الخارجة من خزانة صاحب بغداد وفيما كان من مصر وغيرهما من الأقطار، وله كتاب الناسخ والمنسوخ، لا يوجد في كتب الناسخ والمنسوخ مثله، وأصوله في العدل والتوحيد معلومة في تصانيفه، ومما استدلت به الزيدية المهدية على إمامة يحيى بن الحسين الهادي إلى الحق -عَلَيْه السَّلام- تسليم أخيه عبدالله بن الحسين العالم الأمر واعتقاده إمامته، وجهاده بين يديه، انتهى.
وكان مستجمعاً لخصال العلم والفضل مقدماً في أهل البيت، بطلاً شجاعاً، قاد كثيراً من المعارك ضد القرامطة وله المقامات المشهودة في الجهاد، وتوفي -عَلَيْه السَّلام- بصعدة بعد الثلاثمائة وقبره بالمشهد اليحيوي، وهو جد الأشراف الحمزيين كلهم ينتسبون إليه، وعمر عليه القبة الأمير ياسين بن إدريس الحمزي.
عَلَيْه السَّلام أن هذه الآية من باب المنسوخ(1)، وليست من باب المجمل، وأن فرض الزكاة نسخها، ولكن أوردها شيخنا رحمه الله في التمثيل فأحببنا اقتفاء أثره، فكان الواجب عليهم على هذا أن يعتقدوا في المال وجوبَ حقٍ كميته موقوفة على الدلالة الشرعية، فلا يؤدي إلى الإغراء باعتقاد الجهل فصح ما قلناه.
مسألة:[الكلام في سماع العموم قبل معرفة الخصوص؛ هل يجوز أم لا؟]
حكى شيخنا رحمه الله تعالى أن الشيخ أبا علي ذهب إلى أنه لا يجوز أن يَسمعَ المكلفُ العامَ المخصوص بدليل سمعي إلا أن يسمع معه الخاص، وحكاه عن أبي هاشم أولاً.
__________
(1) ـ قال العالم عبدالله بن الحسين -عَلَيْه السَّلام- في كتاب الناسخ والمنسوخ من القرآن في سياق ما نسخ من الآيات المتعلقة بالزكاة قال: واختلفوا أيضاً في الآية التي في الأنعام، وهو قوله عز وجل: {كُلُوا مِنْ ثَمَرِهِ إِذَا أَثْمَرَ وَءَاتُوا حَقَّهُ يَوْمَ حَصَادِهِ} فزعم قوم أنه حق أوجبه الله في أموال العباد وفرض عليهم إطعام المساكين منه يوم حصاده، وذلك أنه حق لازم، وزعم آخرون أن هذه الآية منسوخة، ولا أدري ما هذه الرواية، ورووا ذلك عن أبي جعفر وابن عباس وغيرهما.
وقال آخرون: إنها آية محكمة، وأن الحق الذي ذكره الله في هذا الموضع هو الزكاة المفروضة وهذا قولنا وبه نأخذ، انتهى من كتاب الناسخ والمنسوخ (مخطوط).
قال: وقال النظام(1): يجوز ويلزمه طلب الخاص والبحث عنه وهو قول أبي هاشم آخراً واختيار القاضي والشيخ أبي الحسين البصري، وهو الذي كان رحمه الله يعتمده، وهو الذي نختاره.
والذي يدل على صحته: أنه لا خلاف في أنه يجوز أن يسمع المكلف العام المخصوص بدليل العقل، وإن لم يسمع ما خصه، وإنما جاز ذلك لكونه متمكناً من معرفة خاصه بالإستدلال، والعام المخصوص بدلالة السمع جارٍ مجراه؛ لأن كل واحد منهما لفظ خوطب به المكلف على وجه يقتضي الشمول، وأن المكلف كما يتمكن [من معرفة المخصص العقلي بالعقل والنظر يتمكن(2)] من معرفة المخصص السمعي بالبحث والسؤال ولأنه قد وقع، والوقوع فرع على الجواز وذلك في قوله سبحانه: {اقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ} [التوبة:5]، فسمعه الكل من أصحاب النبي صَلَّى الله عَلَيْه وآله وَسَلَّم وغيرهم، وروى تخصيص قتل المجوس عبد الرحمن دون غيره إلى غير ذلك، ولا يكون ذلك إغراء بالجهل؛ لأنه إذا قصر في النظر في المخصوص العقلي والبحث في المخصوص الشرعي، كان قد أتي في ذلك من جهة نفسه، لا من قبل غيره.
وفصل شيخنا رحمه الله بين هذه المسألة وبين الأولى في أنه يكون في الأولى مغرى باعتقاد الجهل، وفي هذه غير مغرى بأن البيان قد وقع وإن لم يسمعه.
__________
(1) ـ إبراهيم بن سيار النظام البصري المعتزلي أبو إسحاق، من الطبقة السادسة من طبقات المعتزلة قيل هو مولى، وروي أنه كان لا يكتب ولا يقرأ، وقد حفظ القرآن والتوراة والإنجيل والزبور وتفسيرها مع كثرة حفظه الأشعار والأخبار واختلاف الناس في الفتيا، وسمي نظاماً قيل: لأنه كان ينظم الخرز، وقيل: لأنه ينظم الكلام؛ توفي في بضع وعشرين ومائتين، ومن تلامذته الجاحظ وكان يقول: ما رأيت أحداً أعلم بالفقه والكلام من النظام.
(2) ـ ما بين المعكوفين زيادة لا يتم الكلام بدونها رمز لها في هامش النسخة (بالظن)، تمت.
وعندنا أنه لا فصل بينهما؛ لأنه وإن لم يقع فقد وقع ما يجري مجراه، وهو التنبيه على جواز تخصيص الخطاب، فجريا مجرى واحداً.
مسألة:[الكلام في تعليق الحكم بصفة؛ هل يدل على أن ماعداه بخلافه أم لا؟]
اختلف أهل العلم في تعليق الحكم بصفة، هل يدل على أن ما عداه بخلافه أم لا؟
فالمحكي عن الشافعي وأصحابه غير أبي العباس بن سُريج(1) وأبي بكر القفال(2) ومن طابقهما منهم أن ما عداه بخلافه.
ومنهم من يذهب إلى أن تعليق الحكم بصفة لا يدل على أنما عداه بخلافه؛ بل يدل على أنه مقصود بالخطاب، وما عداه موقوف عنه، وهو مذهب الجمهور من أصحاب أبي حنيفة؛ وحكاه أبو عبدالله عن أبي الحسن، ومشائخنا المتكلمون يذهبون إليه.
وعندنا الصفة التي علق بها الحكم لا تخلو: إما أن تكون بياناً أو جارية مجرى البيان، أو تكون خارجة عن ذلك، فإن لم تكن بياناً ولا جارية مجرى البيان، فإنها لا تدل على أن ما عدا الصفة بخلافها، وذلك مثل قول القائل: اعط زيداً درهماً؛ فإنه لا يدل على أن زيداً الماشي لا يعطى، بل إذا قال: واعط زيداً الماشي درهماً كان الكلام متسقاً غير متناقض، ولأن تعليقه بالصفة جارٍ مجرى تعليقه بالاسم، وتعليقه بالاسم لا يدل على أن ما عداه بخلافه، فكذلك تعليقه بالصفة؛ لأنه إذا قال اعط زيداً لم يدل على ألا يعطي عمراً.
__________
(1) ـ أبو العباس بن سريج، اسمه: أحمد بن عمرو بن سريج، كان من عظماء أصحاب الشافعي، وكان كثير الاختلاف إلى الشيخ أبي الحسين الخياط وأخذ عنه. توفي سنة (306هـ).
(2) ـ أبو بكر القفال هو: محمد بن علي بن إسماعيل الشاسي أخذ عن ابن سريج، وهو أول من صنف في الجدل بين الفقهاء، ومنه انتشر فقه الشافعي من وراء النهر، مات سنة (336) ست وثلاثين وثلاثمائة. انظر: المنية والأمل.
وأما الصفة: فهو مثل قوله صَلَّى الله عَلَيْه وآله وَسَلَّم: ((في الإبل السائمة شاة)) بياناً لقوله صَلَّى الله عَلَيْه وآله وَسَلَّم: ((في خمس من الإبل شاة))؛ فإن هذه الصفة تدل على أن ما عدا السائمة بخلافها؛ لأنه قال في الأول: ((في خمس من الإبل شاة))، فلو لم يكن الحكم مقصوراً على السائمة لم يكن لتخصيصه بهذه الصفة فائدة، وكلامه عَلَيْه السَّلام محروس عن هذا.
وما يجري مجرى البيان: ينقسم إلى ما يتعين فيه المأمور به، وإلى مالا يتعين.
فالذي يتعين فيه المأمور به يجب قصره على من وجدت فيه الصفة دون غيره، كأن يقول: اعط زيداً الطويل هذا الدرهم، فإنه إذا قال اعط زيداً القصير هذا الدرهم الذي أمر أن يعطيه الطويل عد غالطاً أو نادماً، وذلك لا يجوز وقوع مثله في كلامه سبحانه وتعالى وكلام رسوله صَلَّى الله عَلَيْه وآله وَسَلَّم.
والذي لا يتعين: مثل قوله صَلَّى الله عَلَيْه وآله وَسَلَّم: ((إذا اختلف البيّعان والسلعة قائمة بعينها تحالفا وترادا(1))) وكان شيخنا رحمه الله تعالى يرى القول في هذه المسألة إلى ما يوفقه الله من نتيجة النظر، ومضى إلى رحمة الله سبحانه ولم أعلم ما حصَّل في ذلك.
مسألة:[الكلام في الحكم إذا كان بياناً لمجمل هل يدل على أن ماعداه بخلافه أم لا؟]
حكى شيخنا رحمه الله تعالى عن الشيخ أبي عبدالله أن الحكم إذا كان بياناً لمجمل دل على أن ما عداه بخلافه، وهو مذهب الشيخ أبي الحسن.
وحكي عن أبي هاشم والقاضي أنه لا يدل.
ومثال المسألة: قوله صَلَّى الله عَلَيْه وآله وَسَلَّم: ((في خمسٍ من الإبل شاة))، ثم قال: ((في خمس من الإبل السائمة شاة))، وقد بينا اختيارنا فيما هذا حاله في المسألة الأولى بما فيه كفاية.
__________
(1) ـ أخرجه أحمد في مسنده(1/466) رقم (4447)، والترمذي في سننه(3/570) رقم (1270)، والدارمي في سننه(2/325) رقم (2549) والدارقطني في سننه(3/18) رقم (60) بألفاظ متقاربة.
وكان رحمه الله تعالى ربما نصر القول الأول، وربما نصر الثاني، فكان يحتج للقول الآخر بأن الخطاب إذا وقع بياناً جرى مجرى الخطاب المبتدأ، فكما لا يجب في الخطاب المبتدأ لا يجب فيه إذا كان بياناً لمجمل، وهذا القول يعترض بأنه لا يجري مجرى الخطاب المبتدأ، ولهذا شرط فيه ما لم يشرط في المبتدأ، ووقع على وجه مخالف للخطاب المبتدأ، فمن أين يجري مجراه؟
وكان يحتج للأول بما ثبت أن المطلق والمقيد إذا وردا في حكم واحد أن المطلق يخص بالمقيد بالإجماع، وسواء كان متصلاً أو منفصلا ً، فلولا أن تقييد الحكم بالصفة يدل على أنما عداه بخلافه لما جاز تقييد المطلق به؛ لأنه ليس بينهما تنافٍ فيحتاج إلى حمل أحدهما على الآخر بطريقة التخصيص، ولم يقطع رحمه الله تعالى على أحد القولين بل أحال مذهبه على النظر، على ما قدمنا.
مسألة:[الكلام في الحكم إذا كان معلقاً بشرط؛ هل يدل على أن ما عداه بخلافه أم لا؟]
فأما إذا كانت الصفة شرطاً؛ فحكى شيخنا رحمه الله تعالى عن أبي الحسن وجماعة الفقهاء، والشيخ أبي الحسين البصري أن ذلك يدل على أن ما عداه بخلافه.
وحكى عن أبي علي وأبي هاشم والقاضي وجماعة من العلماء أنه لا يدل على أن ما عداه بخلافه.
وحكى عن الشيخ أبي عبدالله أنه كان ربما نصر الأول وربما نصر الثاني.
وكان شيخنا رحمه الله يعتمد القول الأول، وهو الذي نختاره.
والذي يدل على صحته(1): أن تعليقه بالشرط لو لم يفد قصره لخرج الشرط عن الفائدة، ولما كان لذكره معنى؛ لأنه إنما وضع في اللغة ليتميز المشروط عن غيره وإذا كان وغيره سواء في أنه لا يقصر لم يكن لتعليقه بالشرط معنى.
ومثال المسألة: قوله سبحانه: {وَرَبَائِبُكُمُ اللَّاتِي فِي حُجُورِكُمْ مِنْ نِسَائِكُمُ اللَّاتِي دَخَلْتُمْ بِهِنَّ} [النساء:23]، فلو لم يجب قصره لم يكن له فائدة، وكذلك قول القائل: إن دخل زيد الدار فأعطوه ديناراً؛ فإنه يدل على نفي الإعطاء إذا عدِم الدخول.
فإن قيل: وما المانع من جواز ذلك بدليل أنه إذا قال وإن لم يدخل فأعطوه أيضاً ديناراً لم يعد مناقضاً.
قلنا: إنه وإن لم يعد مناقضاً عد عابثاً لتعري الشرط عن الفائدة، والحال هذه، ومثل ذلك لا يكون في الخطاب الشرعي الشريف.
__________
(1) ـ قال في هامش النسخة: ومما يدل على أن تعليق الحكم بالشرط يدلّ على أن ما عداه بخلافه ما روي أن رجلاً سأل عمر بن الخطاب قال: ما بالنا نقصر وقد أَمِنا؟ وقال: تعجبتُ مما تعجبتَ منه فسألت النبي -صَلَّى الله عَلَيْه وآله وَسَلَّم- فقال: ((صدقة تصدّق الله بها عليكم فاقبلوا صدقته)) فلو لم يكن تعليق الحكم بالشرط يدل على أن ما عداه بخلافه ما كان لتعجبه معنى. انتهى.
(2) ـ أبو رشيد سعيد بن محمد النيسابوري، من أصحاب قاضي القضاة، وإليه انتهت الرئاسة في المعتزلة بعد قاضي القضاة، وكان بغدادي المذهب، انتقل إلى الري وتوفي بها، وكان قاضي القضاة يخاطبه بالشيخ ولا يخاطب به أحداً غيره، وله مؤلفات منها ديوان الأصول وغيره.
مسألة:[الكلام في تعليق الحكم بالغاية؛ هل يدل على أن ما بعد الغاية بخلافه أم لا؟]
تعليق الحكم بغاية يدل على أن ما بعد الغاية بخلافه، وهو قول الجمهور؛ ويحكى خلافه عن أبي رشيد(2).
واختيارنا هو الأول.
والذي يدل عليه: أنه لو لم يدل على أن ما بعد الغاية بخلافه لانْتَقَضَ كونها غاية، وما أدى إلى نقض فائدة الخطاب وإخراجه عن بابه لم يجز استعماله.
ومثال المسألة: قوله سبحانه: {وَكُلُوا وَاشْرَبُوا حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكُمُ الْخَيْطُ الْأَبْيَضُ مِنَ الْخَيْطِ الْأَسْوَدِ مِنَ الْفَجْرِ ثُمَّ أَتِمُّوا الصِّيَامَ إِلَى اللَّيْلِ} [البقرة:187]، فإنه يفيد زوال إباحة الأكل والشرب بطلوع الفجر الذي هو الغاية، ويفيد زوال وجوب الصيام بدخول الليل إذ هو الغاية، فلو لم يكن ما بعده بخلافه لم يكن غاية الفعل بل كان وسطاً وذلك لا يجوز.
مسألة:[الكلام في التحليل والتحريم إذا تعلق بالأعيان؛ هل هو مجمل أم ليس بمجمل؟]
اختلفوا في التحليل والتحريم إذا تعلق بالأعيان كقوله سبحانه: {حُرِّمَتْ عَلَيْكُمْ أُمَّهَاتُكُمْ...الآية} [النساء:23]، وما شاكله.
فمنهم من ذهب إلى أنه مجمل لا يصح التعلق بظاهره وهو المروي عن جماعة من الحنفية وعن الشيخ أبي عبدالله البصري وأبي الحسن الكرخي.
ومنهم من ذهب إلى أنه ليس بمجمل وأنه يصح التعلق بظاهره وهو المروي عن جماعة من الحنفية وأكثر الشافعية، وعن الشيخين أبي علي وأبي هاشم والقاضي، وهو الذي كان شيخنا رحمه الله يعتمده، وهو الذي نختاره.
والذي يدل على صحته، وجهان:
أحدهما: إجماع الصحابة على الإحتجاج بما هذا حاله، فلو كان مجملاً لما صح الإستدلال به.
والثاني: أن ما هذا حاله يفيد في العرف التحليل والتحريم، وقد بينا أن الحكم للعرف؛ لأنه ناقل، وذلك ظاهر؛ لأنه إذا قال: أحللت لك هذا الطعام فإن العرف يقضي بإباحة أكله، وكذلك إذا قال: حرمت عليك هذا، قضى بتحريم أكله، وإذا قال: حرمت عليك هذا الشراب أفاد تحريم شربه، وكذلك تحليله، والأمر وغيره في ذلك سواء، كذلك إذا قال هذه الإمرأة محرمة عليك أفاد ما هو المفهوم في العرف من النكاح وما يتبعه من الإستمتاع، وكذلك إذا قال هذه الدار محرمة عليك، أفاد من قبل العرف تحريم السكنى وتوابعه، ومنه قوله تعالى: {إِنَّهَا مُحَرَّمَةٌ عَلَيْهِمْ أَرْبَعِينَ سَنَةً} [المائدة:26].
وقولهم: إن التحريم إذا تعلق بالعين لم يجز حمله على العين لوجهين:
أحدهما: أن العين موجودة والأمر بالموجود لا يصح.
وثانيهما: أنها من أفعال الله سبحانه وهو لا يتعلق بمقدورنا ولا يجوز حمله على الأحكام؛ لأنها كثيرة وغير مذكورة في ظاهره، فليس بعضها أولى من البعض، ولا يصح الحمل على جميعها؛ لأنه شرط لا لفظ في الظاهر يشمله، وقد أتى على هذا القول ما قدمناه فلا وجه لإعادته.
مسألة:[الكلام في حديث: ((إنما الأعمال بالنيات))؛ ونحوه هل هو مجمل أم ليس بمجمل؟]
اختلف أهل العلم في قول النبي صَلَّى الله عَلَيْه وآله وَسَلَّم: ((الأعمال بالنيات(1))) وما جرى مجراه مما يقع على الموجودات.
فمنهم من قال: إنه مجمل لا يصح التعلق بظاهره، وهو قول جماعة من الحنفية والشافعية سوى المحكي عن أبي بكر الرازي(2)، وهو المروي عن أبي الحسين ونصره الشيخ أبو عبدالله.
ومنهم من ذهب إلى أن له ظاهراً يصح التعلق به فيخرج عن باب الإجمال، وهو المروي عن بعض الشافعية، وحكاه شيخنا رحمه الله عن آبائنا عَلَيْهم السَّلام، وهو ظاهر المذهب.
__________
(1) ـ رواه الإمام أحمد بن سليمان في أصول الأحكام، والأمير الحسين في الشفاء، وأخرجه البخاري في بدء الوحي (1/15) رقم (1)، ومسلم في الأمارة (3/1515) رقم (1907)، وأبو داود (2/262) رقم (2210)، والترمذي (4/179) رقم (1647)، والنسائي (1/58) رقم (75)، وابن ماجه (2/1413) رقم (4227)، وأحمد (1/25) رقم (168)، والطبراني في الأوسط (1/22) رقم (40)، و(5/196) رقم (7050)، وفي مسند الشهاب (1/35) رقم (1)، والجامع الصحيح المختصر (1/3) رقم (1)، وسنن البيهقي الكبرى (1/41) رقم (181)، وصحيح ابن حبان (2/113) رقم (388)، وصحيح ابن خزيمة (1/73) رقم (142).
(2) ـ أحمد بن علي الرازي، أبو بكر الحنفي، ذكره الإمام المنصور بالله -عَلَيْه السَّلام- في الشافي ممن يقول بالعدل والتوحيد، وقال فيه: (لم يكن قبله ولا بعده في الفقهاء مثله ورعاً وتصنيفاً وزهداً، وحمل على أن يتولى القضاء فأبى ذلك أشد الإباء، وتُهُدِّد فأبى، وله كتب كثيرة، وشرح كتب محمد بن الحسن، وكتاب الطحاوي في اختلاف الفقهاء، والمختصر، وشرح كتاب أبي الحسن، وكان يأمر غيره يكتب كتب الفقه، ويكتب كتب الكلام بخطه، ويقول: أتقرب إلى الله بذلك) انتهى. توفي سنة (370هـ).
والذي يدل على صحته: أن حمله على أن الفعل لا يوجد إلا بوجود النية لا يصح؛ لأن المعلوم من طريق العرف خلافه، فعلمنا بهذا أن النبي صَلَّى الله عَلَيْه وآله وَسَلَّم لا يريده، وبقيت أحكامه، وهي تنقسم إلى ما يعلم بدلالة العقل، وإلى ما يعلم بدلالة الشرع؛ فما يعلم بدلالة العقل هي أحكام الآخرة من استحقاق الثواب وتوابعه، وأحكام الدنيا الإجزاء وما جرى مجراه، فإذاً المراد به نفي الإجزاء؛ لأن الدليل قد دل على أنه لا يحمل على غيره، وإن كان شيخنا رحمه الله يذهب إلى أنه إذا احتمل جميع الأحكام وتجرد عن القرائن كان تجرده قرينة توجب حمله على الجميع إلا أنا سلكنا مسلك التفصيل لنخرج من شغب المخالفة وتطويل الكلام بما يرد على الأول من الإعتراضات.
ويلحق بهذه المسألة قوله صَلَّى الله عَلَيْه وآله وَسَلَّم: ((رُفع عن أمتي الخطأ والنسيان وما استكرهوا عليه(1))) والكلام فيهما واحد، فلا وجه لإفراده بالذكر وما ورد من هذا القبيل كان الكلام فيه على هذا النحو فاعلم ذلك.
مسألة:[الكلام في العمومين إذا تعارضا]
لا يجوز تعارض العمومين فيما يجب المصير فيه إلى العلم عند الجمهور؛ فأما في الإجتهاديات فيجوز ويرجع إلى القرينة والترجيح، وإنما الخلاف في أنه هل يجوز ورودهما على حد لا يظهر بينهما ترجيح أم لا؟ على ما يأتي بيانه في باب الأخبار إن شاء الله تعالى.
فمن جوّز ورودهما على وجه لا يظهر بينهما ترجيح اختلفوا؛
فمنهم من قال: يطرحان ويلغى حكمهما، وحكى شيخنا رحمه الله اختيار السيد أبي طالب عَلَيْه السَّلام وجماعة الفقهاء.
__________
(1) ـ أخرجه البيهقي في الخلع والطلاق (7/584) رقم (15094)، والدارقطني في سننه (4/170) رقم (33) والحاكم في مستدركه (2/198)، وابن حبان (16/202) رقم (7219)، والطبراني في الكبير (11/133) رقم (11274) والأوسط (1/581) رقم (2137)، والصغير (2/52) رقم (765)، وابن ماجه (1/659) رقم (2043).
ومنهم من قال: يكون المكلف مخيراً في العمل بأيهما شاء، وهو قول قاضي القضاة، ومن طابقه وعمدتهم أن العمل بالأخبار واجب ما أمكن، فإذا لم يمكن العمل إلا على وجه التخيير وجب التخيير لأن لا يلغى كلام الحكيم سبحانه مع إمكان استعماله، وهذا القول لا يستقيم على ما نختاره.
وقد كان شيخنا رحمه الله صرح به على وجه الإعتراض، فالواجب عندنا فيهما إذا وردا على وجه لا يظهر بينهما ترجيح أن يطرحا ويلغى حكمهما.
والدليل على صحة ما ذهبنا إليه: أنهما إذا تعارضا واستويا، ولم يظهر الترجيح، ينسخ حكمهما مهما شك مطلقاً ولم يغلب الظن على واحد منهما لاستوائهما، ولا غلب الظن على صحة مجموعهما لتعارضهما وتنافيهما، ومبتنى العمل في باب الإخبار على غالب الظن على ما يأتي فيما بعد إن شاء الله تعالى، والعمل على الشك لا يجوز، فإذا قدر الإستواء وعدم الترجيح على هذا الحد كان الواجب عندنا إطراحهما والرجوع إلى غيرهما.
مسألة:[الكلام في أن قوله تعالى: {وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ...إلخ}؛ خارج عن باب المجمل]
ذهب الأكثر من أهل العلم إلى أن قوله تعالى: {وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ فَاقْطَعُوا أَيْدِيَهُمَا} [المائدة:38]، خارج عن باب المجمل وأنه يصح التعلق بظاهره.
وذهب بعض الشافعية إلى أنه مجمل لا يصح التعلق بظاهره، قالوا: لأن لفظ اليد يشتمل على العضو المخصوص إلى الزند والمرفق وإلى الابط، وليس حمله على بعضها دون البعض بأولى من البعض الآخر الذي لم يحمل عليه.
ومذهبنا هو الأول.
والذي يدل على صحته: أن لفظ اليد يفيد على وجه الحقيقة الجارحة المخصوصة من أطراف الأنامل إلى الإبط، ولهذا لما ورد فرض التيمم على الصحابة رضي الله عنهم مسح بعضهم الأيدي إلى الآباط حتى أخبرهم النبي صَلَّى الله عَلَيْه وآله وَسَلَّم أنه مخصوص، وليس إذا ورد تخصيص في العموم يلحق بباب المجمل، ولأن القائل إذا قال: غوصت يدي في الماء فإن ظاهره يقتضي عموم الجارحة إلى الإبط، وقد كان الواجب في قوله تعالى: {اقْطَعُوا أَيْدِيَهُمَا} [المائدة:38]، حمله على القطع من الإبط -وقد قال بعضهم(1)- لولا ورود السنة بقطع السارق من الزند والتيمم إلى المرفق.
مسألة:[الكلام في أن العام إذا ورد عقيبه استثناء أو شرط لا يجب قصره على ما تعلَّقا به]
إذا ورد عام وورد عقيبه استثناء أو شرط يوجبان تعلقه ببعض ما تقدم؛ فعندنا لا يجب قصره على ما تعلق به الإستثناء والشرط، وعند الشافعية يقصر.
مثاله قوله تعالى: {لَا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ إِنْ طَلَّقْتُمُ النِّسَاءَ} [البقرة:236]، ثم قال في آخره: {إِلَّا أَنْ يَعْفُونَ} [البقرة:237]، فتناول هذا الإستثناء من يملك العفو منهم، فعندهم أن الخطاب يقصر على من يملك العفو دون من تقدم ذكره. وعندنا هو عام في جميع المطلقات.
والذي يدل على صحة ما قلناه: ما تقدم من أن التخصيص إنما يجب إذا وقع التنافي فإذا لم يقع تنافٍ لم يجب تخصيص ولا تنافي فيما ذكروه، فوجب إجراء الحكم المفهوم من ظاهر الخطاب على جميع المطلقات، وحكم العفو على من يملكه دون غيره، فلو قصرناه لكنا قد ألغينا كلام الحكيم مع إمكان استعماله وذلك لا يجوز.
__________
(1) ـ أي وقد قال بالقطع من الإبط بعضهم.
مسألة:[الكلام في المعلوم بفحوى الخطاب هل يفتقر في معرفته إلى غير الظاهر أم لا؟]
ذهب جمهور العلماء إلى أن المعلوم بفحوى الخطاب لا يفتقر في معرفته إلى غير الظاهر، وهو الذي نختاره.
ومن الفقهاء من ذهب إلى أن المستفاد من اللفظ هو المذكور فقط، وأن ما عداه إنما يلحق به بضرب من الإستدلال، وهذا يخص مذهب الظاهرية(1).
ومثال المسألة: قوله تعالى: {فَلَا تَقُلْ لَهُمَا أُفٍّ} [الإسراء:23]، فعندنا أن هذا اللفظ يوجب نفي جميع الأذى بظاهره، وعندهم يوجب نفي هذا القول دون غيره.
والذي يدل على صحة ما قلناه: أن عرف العرب جارٍ في مخاطبتها في النفي والإثبات بما هذا حاله جرياً ظاهراً لا يحتاج إلى برهان، ولهذا فإنا نعلم أن القائل منهم إذا قال: فلان لا يؤمن على حبة خردل، علمنا من ظاهر هذا الخطاب نفي أمانته في جميع ما زاد على أبلغ الوجوه، وهكذا إذا قال: فلان مؤتمن على قنطار، علمنا وجوب الأمانة على ما دونه بظاهر هذه اللفظة، وكان أبلغ عندهم من قوله: فلان أمين، ولا ينكر ما هذا حاله إلا مكابر، فصح ما قلناه.
الكلام في الناسخ والمنسوخ
مسألة:[الكلام في لفظ النسخ هل هو باق على أصل اللغة أم منقول إلى الشرع؟]
اختلف أهل العلم في لفظ النسخ هل هو باق على أصل اللغة، أم منقول إلى الشرع؟ فمنهم من ذهب إلى أنه باق لم ينقل.
ومنهم من ذهب إلى أنه ورد مشبهاً بوضع اللغة، وحكاه شيخنا رحمه الله عن أبي هاشم، وأبي الحسين البصري.
وذكر الشيخ أبو عبدالله أنه لفظ منقول من اللغة إلى الشرع، وهو مذهب القاضي والحاكم، وهو الذي نختاره.
وكان شيخنا رحمه الله يرجح قول الشيخين أبي هاشم وأبي الحسين ويعتمده، ويحتج له بأن النسخ في الشريعة يفيد إزالة مخصوصة، فلم يخرج عما وضع له في الأصل، ولا هو باقٍ عليه؛ لأنه لا يكون نسخاً إلا بشرائط يعتبرها أهل اللغة.
__________
(1) ـ الظاهرية أتباع داود الظاهري وهم الذين يعتمدون على ظواهر النصوص.
والذي يدل على صحة ما قلناه: أن لفظ النسخ إذا ورد لم يسبق إلى فهمنا ما كان موضوعاً له في أصل اللغة من الإزالة في قولهم: نسخت الرياح آثار بني فلان، ولا النقل في قولهم: نسخت هذا الكتاب من اللوح إلى القرطاس، فإذا ثبت ذلك وثبت أنه لا يفهم من ظاهره ما كان موضوعاً له في الأصل علمنا أنه منقول إلى الشرع، وجرى مجرى لفظ الصلاة والزكاة والحج والصيام، وقد ثبت عند من خالف في هذه المسألة أن هذه الألفاظ منقولة إلى الشرع، وأنها لا تفيد على وجه الحقيقة ما كانت وضعت له في الأصل فيبطل قول من قال إنه باق لم ينقل.
وأما قول من قال إنه مشبه بوضع اللغة: فلا ينكر ذلك، ولكنه بذلك لا يخرج عن كونه منقولاً، ألا ترى أن لفظ الصيام في الأصل يفيد الإمساك عن الحركة والكلام، وما نافاهما، وهو في الشريعة يفيد الإمساك عن الطعام والشراب وما شاكلهما في وقت مخصوص، ومشابهته لما وضع له في الأصل والحال هذه أبلغ من مشابهة لفظ النسخ في الشريعة لما كان موضوعاً له في الأصل؛ فإذا وجب نقل اللفظ في الصيام إلى الشرع، فنقل لفظ النسخ إلى الشرع أولى؛ لأن المعنى فيه أغمض وأبعد من الشبه، وكذلك الكلام في الحج لأنه كان يفيد القصد على كل حال، فأفاد في الشرع قصداً مخصوصاً، فكما وجب كونه منقولاً إلى الشرع والحال هذه، وإن كان مشبهاً لما كان موضوعاً له في الأصل، فلفظ النسخ بذلك أولى.
فأما مشابهته لما كان موضوعاً له في الأصل فلا ننكره، ولكن لا يخرجه ذلك عن كونه منقولاً إلى الشرع كما تقدم، فإذا قد تقررت هذه الجملة صح ما قلناه.
مسألة:[الكلام في معنى النسخ في أصل اللغة]
اختلف أهل العلم في معنى النسخ في أصل اللغة؛
فقال الشيخ أبو هاشم: هو الإزالة.
وقال بعضهم: هو النقل.
وقال القاضي: أولاً إنه النقل والإزالة ثم رجع إلى قول أبي هاشم.
وكان شيخنا رحمه الله يذهب إلى أنه حقيقة في اللفظين جميعاً عند أهل اللغة.
والذي عندنا في ذلك: أنه لا فرق بين النقل والإزالة في الأصل، ولهذا لا يصح أن تقول: أزلت هذا العود وما نقلته، ولا تقول: نقلته وما أزلته، بل يعد من قال ذلك مناقضاً جارياً مجرى من يقول: أزلته وما أزلته، وقد تقرر عند الجميع أن كل لفظين يثبت بأحدهما ما يثبت بالآخر، وينتفي به ما ينتفي بالآخر، فإن معناهما واحد كالجلوس والقعود، فلا فرق عند أهل اللغة على هذا بين النقل والإزالة.
وأما النسخ فلا يطرد عندهم في كل مُزَال، ولا يطرد في كل منقول، ومن حق الحقائق صحة الإطراد، فإذاً النسخ عندهم إزالة مخصوصة ونقل مخصوص، ومعناهما واحد، بدليل أنهم يعقلون من قول قائلهم: نسخت الرياح آثار بني فلان، ما يعقلون من قوله: نقلت آثارهم، ويعقلون من قوله: نسخت هذا الكتاب من هذا اللوح إلى هذا القرطاس، ما يعقلون من قوله: أزلت هذا الكتاب من هذا اللوح إلى هذا القرطاس.
مسألة:[الكلام في معنى النسخ في الشريعة]
اختلف أهل العلم في معنى النسخ في الشريعة.
فقال بعضهم: هو زوال الحكم بعد استقراره، وهذا فاسد؛ لأن الاستقرار لا يكون إلا بالفعل، والإرادة، فما استقر بالفعل استحالت إزالته لوقوعه، وما استقر بالإرادة استحالت إزالته لكونها تدل على البَدَا الذي لا يجوز على الحكيم سبحانه.
وقال بعضهم: هو إزالة مثل الحكم بعد استقراره، وهذا باطل أيضاً؛ لأن مثل الحكم يزول ببلوغ الغاية، وزوال الشرط وحصول العجز، ولا يكون نسخاً عند الجميع.
وقال بعضهم: هو نقل الحكم إلى خلافه، وهذا بعيد؛ لأن نفس الحكم لا يجوز أن ينقل عرفاً؛ لأنه يدل على البدا ولا حقيقة، لأن ذلك محال.
وقال بعضهم: هو بيان مدة الحكم، وهذا ينقض بالتوقيت والغاية والشرط.
وقال الجرجاني وجماعة: هو بيان مدة الحكم الذي في التقدير والوهم جواز بقائه، وهذا بعيد من وجوه:
منها: أن الله تعالى لو تعبدنا بفعل وأخبرنا أنه ينسخه عنا بعد مدة لما توهمنا بقاه.
ومنها: أن العبد لو لم يحصل له هذا الوهم، ولم يخطر بباله هل سيستقر أم لا؟ لم يتغير حكم النسخ.
ومنها: أنا لو جوزنا معصيته في اعتقاد بقاء الحكم حتى لا يتوهم استقراره أو زواله لصح النسخ مع ذلك.
وقال بعضهم: هو إزالة مثل الحكم الثابت بالنص.
والدليل الموصوف بأنه ناسخ: هو ما دل على أن مثل الحكم الثابت بالمنسوخ -وهو النص الأول- غير ثابت في المستقبل على وجه لولاه لكان ثابتاً مع تراخيه عنه، والمنسوخ هو النص الأول، وهذا الحد يحكى عن أبي علي وأبي هاشم، وإن كان هذَّبَهُ القاضي، وهو اختيار الحاكم.
وهذا الحد أيضاً ينتقض بزوال التكاليف الشرعية بالعجز والموت وزوال الشرط من العقل وغيره؛ لأن زوال التكليف عنا بهذه الوجوه يدخل تحت الحد لأنه أزال مثل الحكم الثابت عنا بالنص المتقدم الذي نفى المنسوخ بالدليل العقلي مع التراخي، ولولا زوال الشرط مثلاً كان الحكم باقياً، ومع ذلك لا نسمي هذا نسخاً لوجهين:
أحدهما: أن زوال التكليف عنا بما ذكرنا لا يسمى نسخاً لا لغة ولا شرعاً.
والثاني: أنا علمنا زواله بدلالة العقل، ومن حق الناسخ أن يكون شرعياً عند الكافة، ولأن مثل الحكم قد ثبت بغير النص، ويصح نسخه فيخرج أيضاً من هذا.
وعندنا أن النسخ هو إزالة مثل الحكم الشرعي بطريق شرعي على وجه لولاه لكان ثابتاً مع تراخيه عنه.
والدليل على صحة هذا الحد: أنه يكشف عن معنى النسخ على جهة المطابقة ويحصر معناه، ويجري عليه الطرد والعكس، وهما أمارة لصحة الحد.
والناسخ: هو الطريق الشرعي الموجب ثبوت الحكم على المكلف به ما لم يرد عليه النسخ.
وحكى شيخنا رحمه الله تعالى عن الشيخ أبي الحسين البصري في حد النسخ: أنه إزالة مثل الحكم الثابت بقول وارد من الله سبحانه وتعالى، أو بقول أو فعل منقولين عن رسول الله صَلَّى الله عَلَيْه وآله وَسَلَّم، مع تراخي ذلك عنه على وجه لولاه لكان ثابتاً بأحد الأدلة المتقدمة أو مجموعها.
والدليل الموصوف بأنه ناسخ: هو القول الوارد من الله سبحانه أو من رسوله صَلَّى الله عَلَيْه وآله وَسَلَّم، أو فعل رسوله -صَلَّى الله عَلَيْه وآله وَسَلَّم- المقتضي لإزالة مثل الحكم الثابت بقول وارد من الله سبحانه أو من رسوله -صَلَّى الله عَلَيْه وآله وَسَلَّم- أو فعل منقول عن رسوله صَلَّى الله عَلَيْه وآله وَسَلَّم مع تراخيه عنه على وجه لولاه لكان ثابتاً لأجله.
والمنسوخ: ما ثبت بهذه الأدلة على هذه الشروط، وقد يقال في القول أو الفعل اللذين أزيل حكمهما ببعض هذه الأدلة على هذه الشروط إنهما منسوخان، وذكر شيخنا رحمه الله أن الحدّ لا يصح لأنه يخرج منه ما هو منه، وبذلك نعلم انتقاض الحدود؛ لأن إزالة مثل الحكم الشرعي بدلالة شرعية قد يسمى نسخاً، وإن لم يكن الحكم المزال، والدليل المزيل ثابتين بقول وارد من الله سبحانه أو بقول وفعل منقولين عن رسول الله صَلَّى الله عَلَيْه وآله وَسَلَّم، بأن يكونا ثابتين بالتقرير أو الإجماع أو يكون أحدهما ثابتاً ببعض هذه الأدلة.
وذكر رحمه الله تعالى أن هذه الطريقة تبطل الحد المحكي عن أبي هاشم، ومن طابقه؛ لأنهم قصدوا ثبوت الحكم بالنص وبنوا عليه الكلام ولم يذكروا ما ثبت بالتقرير والقياس والإجماع، فخرج عن الحد ما هو منه فبطل.
فإن قيل: إنما قصرنا النسخ على ما يكون ثابتاً بالنص، أو بقول الله سبحانه وتعالى، أو قول رسوله عليه وآله السلام، أو فعله؛ لأن ما عدا ذلك لا يجوز نسخه، ولا النسخ به، فإن القياس والإجماع لا يجوز نسخهما ولا النسخ بهما.
قلنا: إن كلامنا ليس في حد النسخ الحسن أو الجائز، وإنما هو في حد النسخ على الإطلاق وليس كل ما كان شرطاً في جواز الشيء أو حسنه يجب أن يذكر في حده، وإنما يذكر في الحد ما به يتميز المحدود عن غيره؛ لأن الغرض بالحد هو الكشف والإبانة عن معنى المحدود فقط من غير زيادة ولا نقصان.
ولأن الكلام في النسخ بالإجماع والقياس هل يجوز أم لا؟ هو فرع على كون ذلك نسخاً؛ لأن ذلك لو لم يكن داخلاً تحت حد النسخ وحقيقته لم يصح وصفه بأنه ناسخ فضلاً عن أن يقال إنه هل يجوز أم لا يجوز؟
يبين ذلك ويوضحه: أن الزيادة على النص متى اقتضت زوال حكم شرعي وكانت الزيادة ثابتة بالقياس؛ فإن الشيخ أبا الحسين يمنع من جوازها ويعدل المنع من ذلك بأنها تكون نسخاً والنسخ بالقياس لا يجوز، ومتى كان النسخ عنده مقصوراً على ما يثبت بقول الله سبحانه أو قول رسوله صَلَّى الله عَلَيْه وآله وَسَلَّم أو فعله لم تكن هذه الزيادة داخلة في حد النسخ وحقيقته، ولا يصح وصفها بأنها نسخ، ولا المنع من جوازها لذلك، ولأن النسخ بتقرير النبي صَلَّى الله عَلَيْه وآله وَسَلَّم ثابت على ما يأتي بيانه فيما بعد إن شاء الله تعالى، وليس نصاً ولا فعلاً.
ولأن النسخ يدخل على الفعل دخوله على القول، وإن لم يكن الفعل نسخاً فبطل بهذه التعاليل قول الشيخ أبي الحسين وقاضي القضاة.
وذكر شيخنا رحمه الله حد النسخ تحديدنا المتقدم مطابق له وظننا أنما اخترناه خارج عن قوله، فلذلك أفردناه بالذكر، وذلك أنه قال في حد النسخ إنه إزالة مثل الحكم الشرعي بطريق شرعي على وجه لولاه لكان ثابتاً بطريق شرعي مع تراخيه عنه.
والطريق الموصوف بأنه ناسخ: هو ما اقتضى زوال مثل الحكم الشرعي من الطرائق الشرعية على وجه لولاه لكان ثابتاً بطريق شرعي مع تراخيه عنه.
والمنسوخ: هو الحكم الشرعي المزال بطريق شرعي على وجه لولاه لكان ثابتاً بطريق شرعي مع تراخي الناسخ عنه، وقد يقال في الطريق الشرعي إنه منسوخ.
قال شيخنا رحمه الله تعالى: والذي يدل على صحة هذا الحد أنه يكشف عن معناه الشرعي على جهة المطابقة ولا يسبق إلى أفهام أهل الشرع إلا ذلك عند إطلاقه، ولذلك ثبت فيه العكس والطرد وهما أمارة لصحة الحدود، واحترزنا بقولنا: إزالة مثل الحكم؛ لأنه لو كان إزالة لنفس الحكم لكان بَدَا ولم يكن نسخاً.
واشترطنا أن يكون مثل الحكم المزال شرعياً؛ لأن رفع مثل الحكم الثابت بدليل العقل لا يكون نسخاً.
واشترطنا أن يكون النسخ ثابتاً بطريق شرعي؛ لأن إزالة الأحكام الشرعية بدليل العقل لا تكون نسخاً كما قلناه في زوال التكاليف بالموت والعجز وزوال العقل.
وإنما قلنا بطريق شرعي؛ لأن لا يخرج نسخ بعض أخبار الآحاد ببعض، وما جرى مجراها من الأمارات عن هذا الحد؛ لأنها طرق وليست بأدلة؛ لأن الدليل ما يوصل النظر فيه على الوجه الصحيح إلى العلم، والأمارة ما يوصل النظر فيها على الوجه الصحيح إلى غالب الظن، والنسخ واقع عند أهل الشرع فيما ثبت بالأمارة وقوعه في الثابت بالدلالة، فلذلك ذكرنا لفظ الطريقة؛ لأنه يشمل الدلالة والأمارة.
واشترطنا المستقبل؛ لأن الماضي لا يقع فيه.
واشترطنا التراخي؛ لأن المقارن لا يوصف بذلك، كما إذا قال: صم اليوم ولا تصم غداً، فإن ذلك لا يسمى نسخاً، فعلى هذه الطريق يجري القول في حقيقة النسخ.
مسألة:[الكلام في جواز نسخ الشرائع]
ذهب الكافة من علماء المسلمين إلى جواز نسخ الشرائع، وخالف في ذلك بعض المتأخرين من أهل الصلاة(1)، وهذا القول ظاهر البطلان لشذوذه وسبق الإجماع له، فإن المعلوم عندهم ومنهم أن بعض الشريعة منسوخ ببعض، كنسخ استقبال بيت المقدس باستقبال البيت الحرام المعظم وما شاكل ذلك.
__________
(1) ـومن المانعين النسخ غلاة الإمامية والتناسخية، حكى ذلك عنهم الإمام يحيى -عَلَيْه السَّلام- في كتاب المعيار. تمت منهاج الوصول.
وإنما يقع الخلاف في هذه المسألة بيننا وبين اليهود، فإنهم منعوا من ذلك، ثم اختلفوا؛ فمنهم من منع منه عقلاً، ومنهم من منع منه سمعاً، وقال: لولا قول موسى عَلَيْه السَّلام إن شريعته لا تنسخ لجوزته.
فأما الكلام مع من منع منه من جهة العقل فظاهر؛ لأنا نقول -وهم مجمعون على ذلك- إن الشرائع مصالح والمصالح يجوز اختلافها بحسب اختلاف الأزمنة والأمكنة والمكلفين، ونحن نعلم ذلك من جهة العقل، وأن تعبد الغني بخلاف تعبد الفقير، وتعبد الرجل بخلاف تعبد المرأة، وتعبد الطاهر بخلاف تعبد الحائض والجنب، والموسع عليه بخلاف تعبد المضطر، فإذا تقررت هذه الجملة لم يمتنع أن يعلم الله سبحانه أن هذا الفعل الذي أمر به مصلحة في وقت دون وقت، ولشخص دون شخص.
وأما قول من قال من جهال اليهود إن النسخ يدل على البدا، وذلك لا يجوز على الله، فظاهر البطلان؛ لأن البدا هو أن يأمر أحدنا خادمه مثلاً في وقت معين، بفعل معين، على شرط معين، ثم ينهاه عن ذلك الفعل بعينه، في ذلك الوقت بعينه، فأما إذا نهاه عن مثل ذلك الفعل في مثل ذلك الوقت لم يكن بدا، أو نهى غير ذلك الشخص لم يكن بدا أيضاً، وموضع استقصاء الكلام في هذه الجملة هو أصول الدين(1)، وفيما ذكرناه كفاية بحمد الله تعالى.
فأما الكلام عليهم فيما تعلقوا به من كلام موسى عَلَيْه السَّلام، فنقول لهم: ذلك غير صحيح وهم لا يجدون سبيلاً إلى تصحيحه.
__________
(1) - قال القاضي العلامة عبدالله بن محمد بن حمزة بن أبي النجم في كتابه (التبيان في الناسخ والمنسوخ): والفرق بين النسخ والبدا، أن البدا ما يجمع شروطاً وهي: أن يكون الآمر الناهي واحداً والمأمور المنهي واحداً والفعل والوقت واحداً فإذا اختل واحد منها فهو نسخ. انتهى.
ثم لو قدرنا صحته لوجب تأوله؛ لأن نبينا صلى الله عليه وآله قد صحت نبوته بما لا سبيل إلى دفعه من المعجزات، ثم قد علمنا من دينه ضرورة أن شريعته نسخت جميع الشرائع والملل، وأنه يجب على أهل الكتاب اتباعه، ويحرم خلافه، ولذلك كان يدعوهم إلى اتباع دينه ورفض ما هم عليه.
وروي أنه قال: ((لو كان أخي موسى حياً لما وسعه إلا اتباعي))(1)، فلو صح ما قالوه عن موسى لأدى إلى كون أحد الصادقين كاذباً، وكون أحد الحقين باطلاً، وذلك لا يجوز، فما أدّى إليه قُضِيَ ببطلانه، والكلام في حكم الأخبار المنقولة عن الأنبياء عَلَيْهم السَّلام وما يجب المصير فيه إلى العلم من الأخبار وما لا يجب يأتي في موضعه من باب الأخبار فيما بعد إن شاء الله تعالى.
مسألة:[الكلام في أنه هل يجوز ورود النسخ على ما لم يرد الإشعار والتنبيه على نسخه أم لا؟]
اختلف أهل العلم في أنه هل يجوز ورود النسخ على ما لم يرد التنبيه من الله سبحانه وتعالى على نسخه أم لا يجوز إلا فيما علم ورود التنبيه على وقوع نسخه على الجملة؟
فمنهم من جوز النسخ إن لم يقترن بالمنسوخ التنبيه على النسخ والإشعار به في الجملة وهو قول جمهور الفقهاء والمتكلّمين، وهو الذي نختاره.
وذهب بعضهم إلى أن ذلك لا يجوز، وحكاه شيخنا رحمه الله تعالى عن أبي الحسين البصري وهو الذي كان يعتمده.
ويحتج لصحته بأن الخطاب إذا ورد من الحكيم سبحانه في وجوب أفعال أو تروك من غير تحديد ولا توقيت، فإنه يجب على المكلف اعتقاد وجوبها عليه على وجه الإستمرار، فلو نسخها عنه سبحانه بعد ذلك لكان مغرياً له باعتقاد الجهل، وذلك عليه لا يجوز، فلم يجز نسخ ما لم يشعر بنسخه في الأول، فعلى هذا بنى رحمه الله احتجاجه.
__________
(1) - رواه في كتاب المدخل في أصول الفقه للإمام أحمد بن سليمان -عليه السلام- والله أعلم. تمت من هامش كافل الطبري.
والذي يدل على صحة ما ذهبنا إليه في ذلك: أنه قد ثبت من جهة العقل والعرف والدلالة الظاهرة من جملة الشرع أن الأمر الوارد على غير التوقيت والتحديد لا يتوهم استمراره مطلقاً، فكيف باعتقاد ينتج عن نظر واستدلال؟
وإنما قلنا ذلك لأنا نعلم أن المصلحة يجوز تغييرها بتغاير الأشخاص والأوقات، كما قدمنا، وهذا يمنع من تصور اعتقاد دوامها على وجه الإستمرار، ولأنا نعلم زوالها بالعجز والموت فهذا من جهة العقل.
وأما من جهة العرف: فقد علمنا من حال الآمر أنه إذا أمرنا بأمرٍ من الأمور مطلقاً أن ذلك الأمر يجب تكريره ما دام غرضه باقياً، فإذا علم زوال الغرض في الجواز علم زوال الإستمرار في الوهم، وبهذا إذا قال القائل: أكرم زيداً، ثم أقام يوماً أو يومين فقال: لا تكرم زيداً لم يعد مناقضاً بل يعلم زوال غرضه لا غير وذلك ظاهر.
وأما من جهة الشرع: فدلالته على ما قلناه أظهر وأكثر؛ لأنه بجملته ناسخ لما تقدمه من الشرائع، فكيف يُجَوِّزُ مَنْ عَلِمَ أنه ناسخٌ لشرعٍ اعتقادَ وجوبِ استمراره مع ذلك وهو شرع؟ ولم يجز نسخه لما قبله إلا لزوال المصلحة، ومن علم أن المصلحة إذا زالت جاز النسخ منعه هذا العلم من اعتقاد دوام الأمر المطلق، فإذاً الواجب عليه في الأمر المطلق أن يعتقد وجوب دوامه بإدامت المصلحة فيعلقه به، وهذا يخرجه عن الجهل الذي جوز عليه اعتقاده.
مسألة:[الكلام في الأمر إذا قيد بالتأبيد هل يجوز عليه ورود النسخ أم لا؟]
ذهب بعض المتكلمين إلى أن الأمر إذا قيد بالتأبيد أفاد التأبيد واقتضى دوامه ولم يجز ورود النسخ عليه.
وذهب أكثر العلماء إلى أنه لا فرق بين الأمر المطلق والمقيد بالتأبيد في جواز ورود النسخ عليه، وهو الذي نختاره.
وذهب شيخنا رحمه الله إلى أن الأمر المقيد بالتأبيد إذا قارنه تنبيه يؤذن بنسخه جاز ورود النسخ عليه، وإن لم يقترن به لم يجز، وحكى ذلك عن الشيخ أبي الحسين البصري على نحو ما قدمنا أولاً.
والذي يدل على صحة ما قلناه: أن الأمر المقيد بالتأبيد بمنزله المطلق في أنه لا يقتضي الدوام عقلاً ولا عرفاً؛ لأن العقل قد دل على أن التكليف لا بد له من آخر، وأنه مشروط بالإمكان وزوال الموانع، وأن حكمه يتغير بتغير المصالح.
وأما العرف: فبما نعلم من أنه لا فرق عندهم بين قول القائل لعبده: لازم زيداً، وبين قوله: لازم زيداً أبداً، في أن الخطاب في الحالين جميعاً يفيد وجوب ملازمته ما دام الغرض مستمراً، ولهذا لو نهاه بعد ذلك لم يعد مناقضاً، كما قدمنا، ولهذا لو مات لم يجز ملازمته قولاً واحداً لما علم ارتفاع الغرض، ثبت بهذا أن اللفظ المقيد بالتأبيد واللفظ المطلق يجريان مجرى واحداً في أن كل واحدٍ منهما يوجب الملازمة ما دام الغرض باقياً، والخلاف في هذه المسألة ووجوب التبيين ونفيه، كالخلاف في المسألة الأولى؛ فالجواب عنهما واحد، وقد تقدم.
ولهذا فرق أصحابنا رحمهم الله تعالى بين الأمر والخبر بأنه يشترط في الأمر ما لا يشترط في الخبر، فقضوا بأن الخبر المقيد بالتأبيد يقتضي الدوام، ولهذا حملوا آيات الوعيد على الدوام، وقالوا: الأمر المقيد بالتأبيد لا يقتضي الدوام ما قدمنا.
مسألة:[الكلام في جواز النسخ إلى غير بدل، وجواز نسخ الأخف بالأشق]
يجوز نسخ الأشق بالأخف بلا خلاف، ويجوز عندنا نسخ الأخف بالأشق، والنسخ لا إلى بدل، وهو قول الجمهور.
وذهبت طائفة إلى أنه لا يجوز نسخ الفرض إلا بما هو أخف منه، ولا يجوز نسخه إلا إلى بدل يقوم مقامه، وحكاه شيخنا عن داود.
أما الذي يدل على أنه يجوز النسخ إلى غير بدل: فلأن التعبد إنما وقع للمصلحة فإذا علم الله سبحانه أن المصلحة في الفعل قد زالت لم يمتنع نسخه، وكذلك إذا علم أنه لا مصلحة في بدل يعقبه به لم يجز وروده.
وأما الذي يدل على جواز نسخ الأخف بالأشق: فلما علمنا من أن الشرائع مصالح، فمتى علم سبحانه أن المصلحة في ورود نسخ الأخف بالأشق وجب في الحكمة إيراده من قبله سبحانه، وقد ورد ذلك في مسألة الصيام؛ فإن الواجب كان صيام يوم واحد وهو عاشوراء، فنسخ بصيام شهر وهو أشق وهو شهر رمضان المعظم زاده الله شرفاً، وكذلك كان المكلف مخيراً بين الصيام والإطعام ثم حتم بعد ذلك الصيام وهو أشق، وذلك ظاهر في قوله سبحانه: {فَمَنْ شَهِدَ مِنْكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ} [البقرة:185]، فنفى التخيير الأول في قوله تعالى: {وَعَلَى الَّذِينَ يُطِيقُونَهُ فِدْيَةٌ طَعَامُ مِسْكِينٍ فَمَنْ تَطَوَّعَ خَيْرًا فَهُوَ خَيْرٌ لَهُ وَأَنْ تَصُومُوا خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ} [البقرة:184]، ولأنه يجوز ورود الأشق ابتداء ولا وجه لجوازه إلا تعلق المصلحة به، وكذلك إذا تعلقت المصلحة به بعد التعبد بالأخف.
مسألة:[الكلام في جواز نسخ الأخبار، والتفصيل في ذلك]
ذهب كثير من أهل العلم إلى أن ورود النسخ في الأخبار لا يجوز، وحكاه شيخنا رحمه الله تعالى عن أبي علي وأبي هاشم وجماعة.
وذهب بعضهم إلى أن ذلك يجوز، وحكاه عن الشيخ أبي عبدالله رحمه الله والقاضي وجماعة من الفقهاء.
وكان رحمه الله يفصل ويقول: إن كانت الأخبار مما يجوز تغير مخبراتها جاز ورود النسخ فيها، وإن كانت مما لا يجوز تغير مخبراتها كالإخبار بما يجب ثبوته لله سبحانه، ونفي ما يجب نفيه عنه، فإنه لا يجوز ورود النسخ فيما هذا حاله، ويحكى هذا التفصيل عن الشيخ أبي الحسين البصري، وهو الذي نختاره.
والذي يدل على صحته: أن النسخ إنما يرد للمصلحة كما تقدم، فإذا تغير المخبر عنه عن حالته الأولى التي تناولها الخبر الأول جاز أن تتعلق المصلحة بالمخبر عنه بما هو عليه في الحالة الثانية، فيقع كل واحد من الخبرين صدقاً.
ومثاله: كأن يكفر زيد مثلاً فيعلمنا الله سبحانه بكفره لتعلق المصلحة بالإعلام، ثم يؤمن بعد ذلك فيعلمنا الله سبحانه بإيمانه لتعلق المصلحة بالإعلام، ويكون كل واحد من هذين الخبرين صدقاً والآخرُ ناسخٌ للأول.
ولأن بعض ما أمرنا الله سبحانه بفعله ورد بلفظ الخبر كقوله سبحانه: {وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلًا } [آل عمران:97]، ولا مانع من تجويز ورود النسخ على ما هذا حاله فتبين ما قلناه.
مسألة:[جواز نسخ التلاوة دون الحكم، والحكم دون التلاوة، ونسخهما معاً]
عندنا يجوز نسخ التلاوة دون الحكم، والحكم دون التلاوة، ونسخهما معاً.
مثال الأول: ما روي أنه كان يتلى: (والشيخ والشيخة إذا زنيا فارجموهما نكالاً من الله) فنسخت التلاوة دون الحكم.
ومثال الثاني: كثير التعداد من ذلك الإعتداد بالحول نسخ، والتلاوة باقية، والوصية للوالدين والأقربين.
ومثال الثالث: ما روي عن عائشة: ((عشر رضعات نسخن بخمس)) وغرضنا التمثيل لا القطع على صحة كون ذلك كما تقدم.
والذي يدل على صحة ما قلناه: أنهما عبادات مختلفات، وكل عبادتين مختلفتين يجوز نسخ أحدهما دون الأخرى، أما كونهما مختلفتين فذلك ظاهر، ولهذا تعبدنا بالتلاوة في حال دون حال، وبالحكم في حال دون حال، يوضحه أن المكلف الجنب تُعُبِّدَ بحكم الإغتسال لموجب لفظ الكتاب، ولم يتعبد بتلاوته، بل تعبد بتركه.
وأما أن كل عبادتين مختلفتين يجوز نسخ أحدهما دون الأخرى، فهو أظهر ولا خلاف فيه، فيحتج عليه.
مسألة:[الكلام في نسخ الشيء قبل وقت فعله]
لا يجوز نسخ الشيء قبل وقت فعله عندنا، وهو حكاية الشيخ رحمه الله تعالى عن أصحاب أبي حنيفة وأكثر أصحاب الشافعي، وذهب جماعة منهم كالصيرفي وطبقته إلى أن ذلك جائز.
فالذي يدل على ذلك: أن نسخ الشيء قبل وقت فعله يؤدي إلى إضافة القبيح إلى الله سبحانه، وما أدى إلى ذلك قضي بفساده.
أما أنه يؤدي إلى إضافة القبيح إلى الله سبحانه وتعالى: فلأنه إذا أمر بالفعل لم يخل إما أن يكون المأمور به حسناً أو قبيحاً، فإن كان حسناً فالنهي الذي جوزوه عنه قبيح، وإن كان قبيحاً فالأمر به في الأول قبيح -تعالى الله عن ذلك-، وقد أدى إلى هذين القبيحين القول بجواز نسخ الشيء قبل وقت فعله، فيجب أن يكون باطلاً.
ولا يجوز أن يقال إنه سبحانه ظهر له من الأمر ما لم يظهر أولاً؛ لأنه سبحانه عالم بجميع المعلومات، فالأول والآخر عنده سواء على ما ذلك مقرر عنده من أصول الدين، فصح ما قلناه.
مسألة:[الكلام في الزيادة هل تقتضي النسخ أم لا؟]
اختلفوا في الزيادة على النص هل تكون نسخاً أم لا؟
فمنهم من ذهب إلى أنها تكون نسخاً إذا غيرت حال المزيد(1) في المستقبل، وإن لم تقتض ذلك لم تكن نسخاً، وهذا محكي عن الشيخ أبي عبدالله، وهو حكاه أبو عبدالله عن أبي الحسن، وهو ظاهر مذهب الحنفية.
مثال الأول: زيادة التغريب في الحد، وعشرين في حد القاذف، أنه يغير الحكم حتى من ضرب ثمانين قبلت شهادته، ومن ضرب مائة لم تقبل.
وقال بعضهم: إنه لا يوجب النسخ البتة، وهو مذهب أكثر الشافعية، وإليه ذهب الشيخان أبو علي وأبو هاشم.
قال القاضي: والذي يجب أن يحصل عندنا فيه أن الزيادة إن غيرت حال المزيد عليه حتى صار لا يجزي إذا وقع منفرداً حتى تنضم إليه الزيادة فإنها توجب النسخ، فأما الزيادة إذا صح المزيد عليه دونها -فإنما يجب أن تضم إليه الزيادة ومتى فعل دون الزيادة لم يجب الإستئناف، وإنما يجب فعلها- لم تكن نسخاً.
مثال الأول: لو زاد في الفجر ركعتين وصار الفرض أربعاً، فإنه نسخ؛ لأنه لو أدى ركعتين لم تجزه، ووجب الإستئناف.
ومثال الثاني: زيادة النفي، وعشرين في حد القاذف فإن الحد لا يتغير وإنما يجب فيه ضم الزيادة لا الإستئناف، بل إلحاق الزيادة به.
فهذا لا يجب فيه النسخ، وإلى هذا القول ذهب الحاكم.
__________
(1) ـ المزاد (نخ).
وحكى شيخنا رحمه الله تعالى عن الشيخ أبي الحسين البصري أنه يجب أن ينظر في هذه الزيادة، فإن اقتضت زوال حكم شرعي على الشرائط المذكورة في حدّ النسخ، فهي نسخ، وإن لم تقتض ذلك لم تكن نسخاً، وهذا الذي كان يعتمده رحمه الله تعالى.
ويحتج له: بأن الحد إذا دخله العكس والطرد دلا على صحته، فإذا أزالت الزيادة حكماً شرعياً على تلك الشرائط قُضِيَ بأنها نسخ وإلا فسد الحد الذي قضت الدلالة بصحته، وذلك لا يجوز، وأبطل ما قال الشيخ أبو عبدالله من أن الزيادة إذا غيرت حال المزيد عليه كانت نسخاً بأن حكم المزيد عليه قد يكون حكماً عقلياً فغير بالزيادة، ولا يكون نسخاً مع ذلك.
ويبطل ما ذهب إليه الشيخان أبو علي وأبو هاشم من أن الزيادة لا تكون نسخاً أصلاً، بأنها قد تقتضي زوال حكم شرعي على الشرائط في النسخ، فيكون نسخاً.
ويبطل ما ذكره القاضي من أن الزيادة إذا غيرت حال المزيد عليه في الإجزاء كانت نسخاً، وإن لم تغير حال المزيد عليه في الإجزاء لم تكن نسخاً، بأن الإجزاء حكم عقلي سواء كان المرجع به إلى الكفاية أو إلى سقوط القضاء، فلا يكون ما اقتضى زواله نسخاً.
ولأن الزيادة قد تقتضي زوال حكم شرعي على الشرائط المتقدمة فيكون نسخاً، وإن لم تغير حال المزيد عليه في الإجزاء كما ذكره القاضي في زيادة كفارة على الكفارات فإنه قضى بأن ذلك نسخ لاقتضائه زوال حكم شرعي، وإن لم يغير حال الكفارات الثلاث في الإجزاء فبان أنه لا عبرة بما ذكره الأول.
وعندنا أن الزيادة لا تخلو إما أن تقع بدليل شرعي أو لا تقع؛ فإن وقعت بدليل شرعي فلا تخلو إما أن تزيل حكماً شرعياً أو لا تزيل، ثم الدليل الشرعي لا يخلو إما أن يكون متصلاً أو غير متصل؛ فإن وقعت الزيادة شرعية بدليل منفصل شرعي وأزالت حكماً شرعياً على شرائط النسخ كانت نسخاً، وإن لم تقع على هذا الوجه لم تكن نسخاً، ثم الواجب تتبع مسائل الزيادة والنظر فيها، فما أزال الحكم الشرعي على ما ذكرناه قُضِيَ بأنه نسخ، وما لم يزله على ذلك الوجه قضي بأنه غير نسخ، وهذا كما ترى مطابق لما اعتمده شيخنا رحمه الله تعالى، إلا أن بينهما فرقاً على مثل ما تقدم في التحديد، وكذلك في تغيير المسائل على حسب اختلاف النظر في المزال أهو شرعي مزال بشرائط أم لا؟ أم هو ـ أعني المزال ـ عقلي أم شرعي؟ فهذا ما اتسع له هذا المكان من الكلام في هذه المسألة على نحو ما شرطنا أولاً من توخي الإيجاز.
مسألة:[الكلام في المنقوص منه هل يكون منسوخاُ لنقصان ما نقص منه أم لا؟]
لا خلاف يظهر بين أهل العلم أن النقصان من العبادة نسخ لما سقط، وإنما اختلفوا في المنقوص منه هل يكون منسوخاً لنقصان ما نقص منه أم لا؟
فحكى شيخنا رحمه الله تعالى عن أبي عبدالله وأبي الحسن أن ذلك لا يوجب نسخ العبادة، وكان رحمه الله يختاره.
وحكى عن بعضهم أنه نسخ لجميعها.
وحكى عن السيد أبي طالب عَلَيْه السَّلام والقاضي تفصيلاً في المسألة، وهو: أن العبادة إذا كانت جملة كالصلاة مثلاً فَنَسْخ بعضِها يوجبُ نسخ جميعها، وإن كانت أبعاضاً كالزكاة فنسخ بعضها لا يكون نسخاً لها، وإن وقع النقصان في الشروط، فذلك لا يكون نسخاً لها على وجه من الوجوه.
وعندنا أن النقصان إن أزال من العبادات حكماً شرعياً كان ثابتاً للجملة، فلما دخلها النقصان زال ذلك الحكم، فهو نسخ إن كان النقصان وقع بدليل شرعي على ما ذكرنا في حدّ النسخ، وإن لم يزل حكماً شرعياً على ما ذكرنا لم يكن نسخاً.
ثم الواجب على هذا تتبع النصوص المنقوصة فما أزال الحكم الشرعي على الشرائط حكم بأنه نسخ، وما لم يزله على ذلك الوجه لم يقض بأنه نسخ.
وكان رحمه الله يحتج لما قاله واختاره: بأن النقص في جميع الحالات لم يقتض زوال حكم شرعي فلا يوصف بأنه نسخ في الشريعة، وهذا كما ترى موضع الخلاف، فإن من يذهب إلى أنه نسخ يقول أزال حكماً شرعياً لأنا لا نريد بقولنا في الحكم إنه شرعي إلا إذا كان معلوماً أو مظنوناً بدلالة أو أمارة شرعية، فإذا زال حكم العبادة المنقوص منها في الشرع لأجل ما نقص منها كالصلاة مثلاً والحج وصيام اليوم الواحد فعندنا أن النقصان من هذه الجمل يزيل حكماً شرعياً على شرائط النسخ، فيقضى بأنه نسخ وهو كونه مجزياً في الشرع.
مسألة:[الكلام في جواز نسخ الكتاب بالكتاب]
أطبقت الأمة على أن نسخ الكتاب بالكتاب جائز، وحكي عن أبي مسلم(1) خلاف في ذلك(2)، وقوله شاذ محجوج بالإجماع.
ولا دليل على صحة ما وقع عليه الإجماع أظهر من الإجماع، إلا أنا نقول على وجه التأكيد والإستظهار: إن الذي لأجله جاز نسخ شريعة عيسى عَلَيْه السَّلام بشريعة نبينا صَلَّى الله عَلَيْه وآله وَسَلَّم هو كونها مساوياً لها في باب وجوب الإتباع في القول والعمل لورودهما جميعاً من حكيم عدل لا يجوز خلافه وتعدي أمره، ولا شك في مساواة بعض الكتاب لبعض في وجوب الإتباع فجاز نسخ أحدهما بالآخر.
__________
(1) ـ أبو مسلم محمد بن بحر الأصفهاني، من علماء المعتزلة، كان من كبار الكُتّاب، عالماً بالتفسير وبغيره من أصناف العلوم، مولده سنة (254)، وله الكثير من المؤلفات منها (جامع التأويل في التفسير) أربعة عشر مجلداً، وتوفي سنة (322هـ).
(2) - فإنه قال: لا يجوز ورود النسخ في شريعة نبينا محمد -صلى الله عليه وآله وسلم-. تمت مقنع.
ولأنه سبحانه وتعالى يقول: {مَا نَنْسَخْ مِنْ ءَايَةٍ أَوْ نُنْسِهَا نَأْتِ بِخَيْرٍ مِنْهَا أَوْ مِثْلِهَا} [البقرة:106]، فلو كان ما يجوز لما قال، وقد قال، فثبت أنه يجوز.
مسألة:[الكلام في جواز نسخ السنة المعلومة بالسنة المعلومة]
حكى شيخنا رحمه الله تعالى اتفاق الجميع على جواز نسخ السنة المعلومة بالسنة المعلومة.
وجهه: أنهما دليلان شرعيان، وكل دليلين شرعيين يجوز نسخ أحدهما بالآخر كالكتاب بالكتاب.
وحكى أيضاً رحمه الله تعالى اتفاق الجميع على جواز نسخ بعض أخبار الآحاد ببعض.
ووجه ذلك: أيضاً أنها أمارات شرعية مستوية في إيجاب العمل فجاز نسخ بعضها بالبعض كالسنة المعلومة بالسنة المعلومة.
ومثل ذلك مما روي أن النبي صَلَّى الله عَلَيْه وآله وَسَلَّم كان يقنت في صلاته بشيء من الدعاء، ثم روي عنه بعد ذلك أنه قال: ((إن صلاتنا هذه لا يصلح فيها شيء من كلام الناس، إنما هي التسبيح والتهليل وقراءة القرآن(1))) فكان هذا الخبر ناسخاً للأول، فلم يجز بعد ذلك القنوت بشيء من الدعاء.
مسألة:[الكلام في جواز نسخ الكتاب بالسنة المتواترة]
اختلفوا في نسخ الكتاب بالسنة المتواترة، فذهب الشافعي وجماعة من أصحابه فيهم الصيرفي إلى أن ذلك لا يجوز.
وذهب شيوخنا المتكلّمون وأكثر أصحاب أبي حنيفة إلى أن ذلك جائز، وهو الذي نصره الشيخ أبو عبدالله، وحكاه عن أبي الحسين وهو الذي نختاره.
__________
(1) ـ رواه الإمام المؤيد بالله -عَلَيْه السَّلام- في شرح التجريد ضمن حديث طويل، والإمام أحمد بن سليمان -عليهما السلام- في أصول الأحكام، والأمير الحسين في الشفاء.
والدليل على صحته: أن السنة المعلومة تساوي الكتاب في وجوب العلم والعمل، وكلما استوى حالهما في ذلك جاز نسخ أحدهما بالآخر كالكتاب بالكتاب، وكون الكتاب أعلى مرتبة في بعض الأحكام لا يمنع من نسخه بالسنة لأنهما استويا في باب الدلالة، فلا وجه للفرق بينهما، ولأنا نعلم منهما الأحكام المبتداة على سواء فنسخ أحدهما بالآخر جائز.
ومثال المسألة: الوصية للوالدين والأقربين أوجبها الكتاب، ونسخها قول النبي صَلَّى الله عَلَيْه وآله وَسَلَّم: ((لا وصية لوارث)).
مسألة:[الكلام في جواز نسخ أفعال النبي(ص) بأقواله، ونسخ أقواله بأفعاله، ونسخ الكتاب بأفعاله]
يجوز نسخ أفعال النبي صَلَّى الله عَلَيْه وآله وَسَلَّم بأقواله، ونسخ أقواله بأفعاله، ونسخ الكتاب بأفعاله؛ وهذا التفصيل ذكره شيخنا رحمه الله في كتابه الموسوم (بالفائق) فأوردناه على ما ذكره.
والذي يدل على صحة قوله رحمه الله: أن قوله وفعله دليلان شرعيان، وكل دليلين شرعيين يجوز نسخ أحدهما بالآخر، وكذلك نسخ الكتاب بأفعاله؛ لأن أفعاله من سنته، وقد بينا أن نسخ الكتاب بالسنة جائز فلا وجه للمنع منه.
مسألة:[الكلام في وقوع النسخ بالتقرير]
ويقع النسخ بالتقرير، وحكى شيخنا رحمه الله تعالى الخلاف في ذلك عن أبي عبدالله.
والذي يدل على صحّة المذهب الأول: أن تقرير النبي صَلَّى الله عَلَيْه وآله وَسَلَّم جارٍ مجرى قوله، وقد تقدمت الدلالة على جواز النسخ بقوله.
أما أن التقرير منه عَلَيْه السَّلام جار مجرى قوله فلأنه عَلَيْه السَّلام إذا قال لأصحابه: صوموا يوم عاشوراء مثلاً ثم رآهم بعد ذلك أو بعضهم يفطرون ذلك اليوم لغير عذر ولم ينههم جرى مجرى قوله: أصبتم، عند من له أدنى تأمل.
وأما أن النسخ بقوله جائز فقد تقدم فلا وجه لإعادته.
مسألة:[الكلام في جواز نسخ السنة بالكتاب]
ذهب شيوخنا المتكلمون و أصحاب أبي حنيفة ومالك(1) إلى أن نسخ السنة بالكتاب جائز، وصرح الشافعي أن ذلك لا يجوز.
وقال: السنة لا ينسخها إلا مثلها، وقد وقع ذلك عند بعض أصحابه لما رأى المسألة تضعف وتلك عادة بعضهم.
والذي يدل على صحة ما اختاره شيوخنا ومن قال بقولهم: أن الكتاب مساوٍ للسنة في باب العلم والعمل، وكلما استوى حالهما في ذلك جاز نسخ أحدهما بالآخر، دليله: الكتاب بالكتاب، والسنة بالسنة، ومما يؤيد ذلك أنه قد وقع، فلو كان لا يجوز لما حسن من الحكيم سبحانه إيقاعه، وذلك ظاهر في مسائل كثيرة:
منها: استقبال القبلة؛ فإنه ثبت بالسنة إلى بيت المقدس ثم نسخ بالكتاب بقوله تعالى: {فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ}...الآية [البقرة:144]، وكذلك رد من آمن من المشركين إلى أهله ثبت بالسنة في صلح الحديبية ثم نسخ في النساء خاصة في قوله سبحانه: {فَلَا تَرْجِعُوهُنَّ إِلَى الْكُفَّارِ} [الممتحنة:10].
مسألة:[الكلام في جواز النسخ بأفعال النبي(ص)]
ذهب شيخنا إلى أن النسخ بأفعال النبي صَلَّى الله عَلَيْه وآله وَسَلَّم لا يقع، وخرجه من كلام قاضي القضاة، حيث قال: إن التعارض في الأفعال لا يصح.
وخرج من قول أبي رشيد رحمه الله إن التعارض في الأفعال يصح، فيلزم من ذلك وقوع النسخ بأفعاله عليه وآله السلام.
واختيارنا أن النسخ بأفعاله صلوات الله عليه يقع.
__________
(1) ـ هو مالك بن أنس بن مالك بن عامر بن عمرو بن الحارث الأصبحي، أبو عبدالله المدني، فقيه دار الهجرة، ولي آل محمد -عليهم السلام-، بايع الإمام المهدي لدين الله محمد بن عبدالله النفس الزكية -عليهما السلام- وأفتى بالخروج معه وكان أحد العدلية ذكره في الشافي، واعتزل جمعة الظلمة وجماعتهم فوق عشرين سنة، وهو صاحب الموطأ. توفي سنة سبع وسبعين ومائة. انظر لوامع الأنوار (ط2- 1/449) والجداول (خ).
والذي يدل على صحة ما قلناه: أن التعارض في الأفعال يصح فإذا صح التعارض جاز النسخ.
أما أن التعارض في الأفعال يصح: فذلك ظاهر عند أهل اللسان العربي، ولهذا قال قائلهم في صفة خلاف من خالفه بالفعل:
أريها السها وتريني القمر
وكذلك إذا ركع الإمام فسجد المأموم قبل، خالفه قولاً ظاهراً، فإذا علمنا من النبي صَلَّى الله عَلَيْه وآله وَسَلَّم فعل فريضة من الفرائض، أو نوع من أنواع العبادة على وجه مشروط بشرط، ثم رأيناه عَلَيْه السَّلام فعل ما يخالف ذلك الفعل في الصورة مع وجود ذلك الشرط علمنا أن الأول قد نسخ.
ومثاله أن يعلم أن الصلاة فرضت عليه قائماً بشرط الإمكان، ثم نراه يصلي جالساً مع علمنا بتمكنه من القيام؛ فإنا نعلم أن القيام قد نسخ، أو يفرض عليه الصلاة إلى جهة كبيت المقدس مثلاً فنراه يصلي إلى البيت الحرام حرسه الله تعالى؛ فإن هذين الفعلين متعارضين في العرف، ومفهوم أهل اللغة.
وقد ذكر شيخنا رحمه الله أمثلة كثيرة يؤيد فيها أن الأفعال لا يدخلها التعارض وهي لا تلزم على ما ذكرنا لأنا لا نريد بتعارض الأفعال إلا اختلاف الهيئات والصور والحالات عند أهل اللغة، كأن مثلاً نؤمر بالسجود على الجبين، فيأتي آخر يسجد على خده، فإن هذا مخالف لمقتضى الأمر، أو يؤمر بالفعل في وقت فيفعله في وقت آخر، أو على شرط آخر، وأمثال ما ذكرناه كثيرة، وميلنا إلى الإيجاز.
مسألة:[الكلام في عدم جواز نسخ الكتاب والسنة المتواترة بالآحاد]
لا يجوز نسخ الكتاب والسنة المتواترة عندنا بأخبار الآحاد وخالف في ذلك أصحاب الظاهر.
والذي يدل على صحة ما ذهبنا إليه: أن الكتاب والسنة معلومان، وخبر الواحد مظنون، ولا يجوز العدول عن المعلوم الصحة إلى المظنون.
أما أنهما معلومان فذلك ظاهر، وفي المعلوم فرض الكلام، وأما أن خبر الواحد مظنون الصحة فذلك مما لا خلاف فيه وسيأتي شرحه في باب الأخبار إن شاء الله تعالى.
وأما أنه لا يجوز العدول عن المعلوم إلى المظنون، فلأنا تعبدنا بالتحفظ في الأمر من العبادة وغيره، والإستقصاء في حاله حتى يصل إلى العلم أو يقاربه فيما لم نجد إلى العلم به طريقاً، ومن ذلك لم يجز لنا العدول عن النص إلى القياس والإجتهاد؛ فإذا حصل العلم المحض لم يجز العدول عنه إلى الظن، ولأن الصحابة رضي الله عنهم ردت أخبار الآحاد فيما عارضت فيه الكتاب والسنة، فقال عمر في حديث فاطمة بنت قيس لما روت عن النبي صَلَّى الله عَلَيْه وآله وَسَلَّم أنه قضى لها بالنفقة دون السكنى، وكانت مبتوتة، فقال: (لا ندع كتاب ربنا وسنة نبينا بقول امرأة لا ندري أصدقت أم كذبت)، ولم ينكر عليه أحد من العترة الطاهرة ولا من غيرهم، فكان إجماعاً، والإجماع آكد الأدلة.
مسألة:[الكلام في عدم جواز نسخ القياس بالقياس]
حكى شيخنا رحمه الله تعالى أن نسخ القياس لا يجوز بالإتفاق، ولا يحصل من ذلك إلا إزالة الحكم الثابت بالقياس، فأما إزالة القياس نفسه فذلك لا يصح فضلاً عن جوازه، وكان رحمه الله تعالى يعلل المنع من إزالة القياس: بأنه حكم عقلي، ووجه ما وقع عليه الإتفاق أن نسخ الحكم الثابت بالقياس مع زوال علته على الحد الذي يؤثر فيه لا يجوز، لأنه مناقضة في التعليل وإزالته بزوال علته لا يكون نسخاً للقياس؛ لأن القياس غير العلة على ما يأتي بيانه في بابه إن شاء الله تعالى.
مسألة:[الكلام في النسخ بالقياس]
ذهب جمهور العلماء إلى أن النسخ بالقياس لا يجوز، وحكي عن بعض الشافعية خلافه.
والذي يدل على الأول: أن القياس إنما يصح استعماله بشرط عدم النص، فإذا وجد النص لم يصح استعماله فكيف يصح النسخ به؟!
أما أنه لا يستعمل إلا مع عدم النص فذلك ظاهر من أحوال المسلمين ومأثور عن النبي صلى الله عليه وآله، شاهده قوله لمعاذ بن جبل رحمه الله (بم تحكم؟ -لما وجهه إلى أرض اليمن- قال: بكتاب الله، قال: فإن لم تجد؟ قال: فبسنة رسول الله صَلَّى الله عَلَيْه وآله وَسَلَّم، قال: فإن لم تجد؟ قال: أجتهد رأيي، فصوّبه)، بل روي عنه عَلَيْه السَّلام أنه قال: ((الحمد لله الذي وفق رسولَ رسولِ الله صَلَّى الله عَلَيْه وآله وَسَلَّم(1))) فقدّم اتباع النص على الإجتهاد والرأي، والقياس في الأصل نوع من الإجتهاد، وإن كان عرف العلماء قد فرق بينهما.
ولأن الصحابة رضي الله عنهم كانوا يطرحون القياس إذا وجد النص، من ذلك أن عمر بن الخطاب فاضل في الأصابع في الدية إلى أن وقع على كتاب عمرو بن حزم وأن رسول الله صَلَّى الله عَلَيْه وآله وَسَلَّم فرض في كل واحدة عشراً، ولم يورث المرأة من دية زوجها إلى أن روى له الضحاك بن سفيان(2)
__________
(1) ـ رواه الإمام المؤيد بالله -عَلَيْه السَّلام- في شرح التجريد، والإمام المتوكل على الله أحمد بن سليمان في أصول الأحكام، والأمير الحسين في الشفاء.
وأخرجه أحمد في المسند (5/230) رقم (32060)، وأبو داود في السنن (3/303) رقم (3592)، والبيهقي في سننه الكبرى (10/114) رقم (20126)، وأبو داود الطيالسي في المسند (1/76) رقم (559).
(2) ـ الضحاك بن سفيان بن عوف بن كعب الكلابي، أبو سعيد، ولاه رسول الله -صَلَّى الله عَلَيْه وآله وَسَلَّم- على من أسلم من قومه، وكان من الشجعان الأبطال يعد بمائة فارس، وكان سيافاً لرسول الله -صَلَّى الله عَلَيْه وآله وَسَلَّم-.
والخبر الذي رواه الضحاك هو أن رسول الله -صَلَّى الله عَلَيْه وآله وَسَلَّم- كتب إلى الضحاك بأن يورث امرأة أشيم الضبابي من دية زوجها.
أخرجه: أبو داود في كتاب الفرائض (3/129) رقم (2927)، والترمذي في الديات (4/27) رقم (1415)، وقال: حسن صحيح، وابن ماجه في الديات (2/883) رقم (2642)، ومالك في الموطأ (2/866) رقم (1556)، وأحمد (3/452) رقم (15783)، والطبراني في الكبير (5/276) رقم (5315)، والأوسط (6/108) رقم (8173).
أن النبي صَلَّى الله عَلَيْه وآله وَسَلَّم ورثها من الدية، وأهدر الجنين إلى أن روي له خبر حَمَل(1) بن مالك أن النبي صَلَّى الله عَلَيْه وآله وَسَلَّم غرمه فيه غرة، فرجع عن قياسه واجتهاده في هذه الحوادث ولم يرو عن أحد خلافه، فجرى مجرى الإجماع، ثبت بما بينا أن النسخ بالقياس لا يجوز.
__________
(1) ـ حَمَل –في القاموس والصحاح: بفتح الحاء المهملة والميم- بن مالك بن النابغة الهذلي، أبو نضلة، قال الإمام المهدي في منهاج الوصول: وحمل بالحاء المهملة المفتوحة، والميم الساكنة.
قال الإمام المنصور بالله القاسم بن محمد -عليهما السلام- في الاعتصام: وفيه –أي في شرح علي بن بلال على الأحكام-: أخبرنا السيد أبو العباس -رحمه الله- قال: أنبأنا أبو أحمد، قال: حدثنا إسحاق، عن عبدالرزاق، عن ابن عيينة، قال: أخبرني عمرو بن دينار، عن طاووس، عن ابن عباس، قال: قام عمر على المنبر قال: أُذكِّر الله امرأً سمع رسول الله -صَلَّى الله عَلَيْه وآله وَسَلَّم- كيف قضى في الجنين؟
فقام حمل بن مالك النابغة الهذلي فقال: كنت بين جارتين يعني ضرتين فجرحت أو ضربت إحداهما الأخرى بعمود فقتلتها وقتلت ما في بطنها ((فقضى رسول الله –صَلَّى الله عَلَيْه وآله وَسَلَّم- في الجنين بغرة عبد أو أمة)) فقال عمر: الله أكبر، لو لم أسمعه هذا قضيته بغيره، انتهى
مسألة:[الكلام في عدم جواز نسخ الإجماع والنسخ به]
لا خلاف أن نسخ الإجماع لا يصح، ولا خلاف أن النسخ به لا يجوز، إلا ما يحكى فيه عن عيسى بن أبان أنه جوز وقوع النسخ بالإجماع.
والذي يدل على بطلان ما قاله: أن النسخ إنما يقع لمصلحة، ولا هداية للعباد إلى علم المصالح، فلم يقع النسخ بالإجماع.
أما أن النسخ لا يقع إلا لمصلحة، فقد تقدم الكلام فيه.
وأما أن العباد لا هداية لهم إلى علم مصالح التكليف: فلأنها غيوب ولا يعلم الغيب إلا الله، ولأن الأمة إذا أجمعت على نسخ حكم من الأحكام لم يخل إجماعها من أحد الوجهين: إما أن يكون صدر عن نص، أو عن قياس وإجتهاد.
فإن صدر عن قياس واجتهاد: فقد بينا أن النسخ بالقياس والإجتهاد لا يصح.
وإن صدر عن نص فهو كتاب الله أو سنته فالناسخ هو الكتاب والسنة فلا وجه لإضافة ذلك إلى الإجماع وإنما الإجماع طريق إلى علمنا به فبطل بما بينا ما ذهب إليه ابن أبان وصح ما قلناه.
مسألة:[الكلام في قول الصحابي بالنسخ]
إذا قال الصحابي نسخ كذا بكذا فالظاهر من مذهب العلماء كافة أنه لا يقلد.
وإنما الخلاف في قوله نسخ كذا مطلقاً فحكى شيخنا رحمه الله عن الشيخين أبي الحسين وأبي عبدالله رحمهما الله تعالى أنه يقلد.
واختيارنا الأول والذي يدل على صحته: أن ظاهر قول الصحابي نسخ كذا مذهب له، ومذهب الصحابي ليس بحجة علينا، ولا دلالة لنا فلا يجب اتباعه في ذلك، إلا بعد النظر وتعرف القصد فإن علمنا نسخه بدليل وإلا لم نقطع بغير دلالة.
ومثال المسألة: ما روي عن عبدالله بن مسعود أنه سئل عن الصلوات الطيبات الزاكيات، فقال: (قد كان ذلك ثم نسخ) وكان يقول التحيات التي تروى عنه، وكذلك ما روي ((لا يحرم الرضعة ولا الرضعتان، ولا الإملاجه والإملاجتان)) ثم روى أنه نسخ بما شاكله.
الكلام في الأخبار
مسألة:[الكلام في حدِّ الخبر]
اختلف أهل العلم في حدّ الخبر؛فقال بعضهم:
هو ما يصح فيه التصديق والتكذيب، وقيل: ما يصح فيه الصدق والكذب، والمعنى واحد.
والمراد بذلك هو أن يصح أن يقال للمتكلم به: صدقت أو كذبت، ومعلوم أنه لا يصح أن يقابل بالتصديق والتكذيب شيء من أنواع الكلام سوى الخبر.
قال شيخنا رحمه الله تعالى: وهذا قول كثير من العلماء، وإليه ذهب قاضي القضاة والحاكم واختاره القاضي شمس الدين رضي الله عنه وأرضاه.
وحكي عن الشيخ أبي الحسين البصري أنه ذكر في المعتمد(1) في حد الخبر أنه كلام يفيد إضافة أمر من الأمور إلى أمر من الأمور نفياً أو إثباتاً.
وذكر أيضاً أنه ذكر في زيادات المعتمد(2) في حد الخبر أنه كلام تام يفيد بنفسه إضافة أمر من الأمور نفياً أو إثباتاً.
وكان رحمه الله تعالى يقول: إن الحدود الأولة لا يصح الإعتماد عليها؛ لأن صحة التصديق والتكذيب هي حكم كونه خبراً، وليست معنى كونه خبراً، فإن كونه خبراً حكم يرجع إلى الصيغة، وصحة التصديق والتكذيب حكم راجع إلى التصديق والتكذيب والمصدق والمكذب.
قال رحمه الله تعالى: وتحديد الشيء بحكمه لا يجوز؛ لأن من حق الحد والمحدود أن يكونا عبارتين عن شيء واحد.
قال رحمه الله تعالى: ولذلك لم يجز تحديد القادر بأنه من صح منه الفعل؛ لأن صحة الفعل حكم كونه قادراً، وليست كونه قادراً لأن كونه قادراً صفة يختص بها الحي، وصحة الفعل حكم يختص به الفعل.
قال رحمه الله: وكذلك لا يصح ما ذكره الشيخ أبو الحسين في المعتمد من حد الخبر، لا يصح لثلاثة أوجه:
أحدها: أن قولنا خبر أوضح مما حد به، ومن حق الحد أن يكشف عن معنى المحدود ويظهره.
__________
(1) ـ المعتمد في أصول الفقه (2/544).
(2) ـ زيادات المعتمد في أصول الفقه لأبي الحسين البصري أيضاً، طبع ملحقاً بالمعتمد (2/1024).
وثانيها: أنه كان يلزم إذا قلنا: زيدٌ الظريف في الدار، أن يكون قولنا زيد الظريف خبراً؛ لأنه كلام يفيد بنفسه إضافة أمر من الأمور وهو الظريف إلى أمرٍ من الأمور وهو زيد، ومعلوم أنه ليس بخبر وإنما هو جزء الخبر.
وثالثها: أن قول القائل: لا ثاني لله عز وجل، هو خبر وليس هو إضافة أمر إلى أمر، فإن الوجود ليس بصفة عنده، ولا الثاني ذاتاً فيكون قد أضيف الصفة إلى الذات، بل الخبر عن نفي الثاني خبر لا مخبر له.
وما ذكره في زيادات المعتمد فاسد بالوجه الأول والثالث، والأصل في هذا الباب: أنه لا لفظ أوضح من قولنا خبرٌ فيحد به، وإنما يصح تحديده بالإضافة إلى حكمه فيقال: حدّ الخبر: هو الكلام المختص بحكم، الإختصاص به يصح فيه التصديق والتكذيب.
ومعنى هذا أنه يسوغ عند أهل اللغة أن يقال للمتكلم به صدقت أو كذبت، ولا تحظره اللغة ولا تمنع منه، بل تقضي بجوازه، هذا كما أنه لما كان لا لفظ أوضح من قولنا قادر، فيحد به صح تحديده بلا خلاف، فحكمه أن يقال في حد القادر: إنه المختص بصفة لكونه عليها يصح منه الفعل، ولم يكن هناك مانع.
والدليل على أن ما ذكرناه هو حد الخبر: أنه يكشف عن معناه على جهة المطابقة فلا يسبق إلى أفهام أهل اللغة من قولنا خبر سوى ذلك، ولذلك لا يسوغون لأحد أن يقابل شيئاً من أقسام الكلام بتصديق ولا تكذيب سوى الخبر، فهذا ما انتهى إليه كلام شيخنا رحمه الله تعالى وتعليله.
واختيارنا في حد الخبر: أنه الكلام المفيد، الذي يحسن مقابلته بالتصديق والتكذيب، وما ذكره رحمه الله تعالى عن الشيخ أبي الحسين البصري مستقيم.
فأما ما اعترض به على حد قاضي القضاة ومن طابقه فيمكن أن يجاب عنه بما ذكره رحمه الله تعالى من أن الحد إنما يراد به الكشف والإبانة عن المحدود، ولا شك أنه لا يكشف عن معنى الخبر غير ما ذكروا.
وأما قوله رحمه الله تعالى إن صحة التصديق والتكذيب حكم كونه خبراً فذلك لا يمنع من التحديد كما حقق رحمه الله تعالى في تحقيق معنى القادر تعالى، ولأن أمارة صحة الحد قائمة فيما ذكروه وهي صحة العكس والطرد، ولأنك تقول كل خبر يحسن دخول التصديق والتكذيب فيه، وكلما حسن فيه دخول التصديق والتكذيب فهو خبر.
والدليل على صحة ما ذكرناه واخترنا من التحديد: هو الدليل على صحة حد القاضي رحمه الله تعالى ومن تابعه، إلا أن ما ذكرناه أكمل؛ لأنا بقولنا الكلام فصلناه عن الحرف والنغمة، وقولنا المفيد فصلناه عما ليس بمفيد، وقولنا الذي يحسن أن يقابل بالتصديق والتكذيب فصلناه عن سائر أنواع الكلام، والواجب في الحد التحفظ؛ لأنه أخصر للفائدة وأقطع للشغب.
مسألة:[الكلام في أنه لا حكم للخبر بكونه خبراً]
ذهب شيخنا رحمه الله تعالى إلى أن للخبر بكونه خبراً حكماً زائداً على صيغته، وحكى أن ذلك قول أكثر شيوخنا المتكلمين، وأن قاضي القضاة ذهب إليه والحاكم، واختاره شمس الدين رضي الله عنه وأرضاه.
وذكر رحمه الله أن الشيخ أبا الحسين ذهب هو وجماعة إلى أن لا حكم للخبر بكونه خبراً وهذا الذي نختاره.
والذي يدل على صحته: أن القائل إذا قال: زيد في الدار، صلحت هذه اللفظة لكل زيد ولا يخصها ببعض الزيدين دون بعض إلا إرادة المخبر للمخبر عنه، وإرادته للمخبر عنه ترجع إليه لا إلى الخبر، فيوجب له كونه مخبراً عن ذلك الشخص دون غيره ممن شاركه في الصيغة، فلم يكن له بمجرد كونه خبراً حكم زائد.
وما ذكره رحمه الله تعالى من فصله بين الخبر عن زيد بن عبدالله، وزيد بن خالد، لأمر يرجع إلى الخبر غير مسلم؛ بل فصلنا بينهما لأمر يرجع إلى المخبر، وهو كونه مريداً للخبر عن أحدهما دون الآخر، بدلالة أن اللفظ لو تجرد لما عقلنا من ظاهره أمراً زائداً يفرق بين الخبرين.
ولأن الخبر يجري مجرى الأمر فهو بعينه في كثير من الأحكام، فكما لم يكن للأمر بكونه أمراً حال كذلك الخبر، ومهما أمكن أن يجاب به عن الأمر فهو بعينه الجواب عن نفي الحكم الثابت للخبر بكونه خبراً، بعلة أن كل واحد منهما نوع من أنواع الكلام له صيغة مخصوصة، يتبعها أحكام مخصوصة، تصلح للأمور مجملة، ولا تختص ببعضها دون البعض إلا لأمر يرجع إلى محدثها وهو الإرادة، فيقع الفصل بها بين الأمر والسؤال والتهديد، وبين الخبر عن ذلك، محمد بن عبدالله صَلَّى الله عَلَيْه وآله وَسَلَّم مثلاً وغيره من المحمدين، وعن الأوقات الثلاثة التي يقع فيها الفعل، ويفصل بها بين الخبر المطلق والأمر الوارد بلفظ الخبر.
ولأنه لا يعقل من قولنا خبر إلا ورود الصيغة المفيدة التي يحسن أن يقابل قائلها بالتصديق والتكذيب، فمن عقلها واردة على هذا الوجه عقل كونها خبراً، ومن لم يعقلها واردة عليه لم يعقلها خبراً، ولا يراعى سوى ما ذكرنا.
مسألة:[الكلام في الخبر بما يثبت الحكم له بكونه خبراً]
قال شيخنا رحمه الله تعالى: وإنما ثبت للخبر الحكم بكونه خبراً عن شخص دون شخص كما أن المخبر مريد لكونه خبراً عنه دون غيره، وهذا قول أكثر شيوخنا المتكلّمين، وهو مذهب السيدين المؤيد بالله وأبي طالب عَلَيْهما السَّلام، واختيار سيدنا شمس الدين.
قال رحمه الله تعالى: فأما أبو القاسم البلخي فإنه ذهب إلى أنه خبر لذاته.
وذهب الشيخ أبو الحسين البصري إلى أنه لا حكم للخبر بكونه خبراً فيحتاج إلى التعليل، بل المعقول من كون الصيغة خبراً عن شخص دون غيره هو أن الفاعل أوردها لغرض يختص ذلك الشخص دون غيره.
وعندنا أنه لا حكم للخبر بكونه خبراً.
والدليل عليه: ما قدمناه في المسألة الأولى.
ومما يؤيده أنا نقول: إن الخبر جارٍ مجرى الأمر، ولا حكم للأمر بكونه أمراً فكذلك الخبر، وشيخنا رحمه الله تعالى يوافقنا في الأمر، فأما اختصاصه على الخبر بشخص دون غيره فذلك الأمر يرجع إلى المخبر لا إلى الخبر، ومعناه أن يريد الإخبار عن شخص دون غيره، ولأن الأمر لا يختص بشخص دون غيره إلا بإرادة الآمر للأمر له دون غيره؛ لأن ما به من صيغة تصلح لأمر شخص إلا وهي تصلح لغيره من جنسه.
وقد احتج شيخنا رحمه الله تعالى لمذهبه في هذه المسألة بأن ما جاز أن يكون خبراً عن شخص جاز أن يكون خبراً عن غيره، فلا بد من أمر يُخَصصه بمن هو خبر عنه دون غيره.
ونحن نقول: إن هذا يلزمه في الأمر؛ لأنا نقول: ما به صيغة تصلح لأمر شخص إلا وهي تصلح لأمر غيره فلا بد من أمر يخصصها به دون غيره، فكما لا يجب عنده بهذه الطريقة أن يكون للأمر بكونه أمراً حكم كذلك قولنا في الخبر.
ثم ذكر أن كلما يرجع إلى الصيغة وإلى الفاعل والمعاني المتوسطة بينهما مع الأشخاص كلها على سواء، قال: فلم يبق إلا كونه مريداً للإخبار عمن أخبر عنه، فذلك حقيقة عندنا، ولكنه لا يوجب للخبر حكماً كما قلناه في الأمر الضروري بل لا يعقل من كونه خبراً إلا ورود صيغة الخبر، وإرادة الإخبار عمن أخبر عنه، فإذاً التعويل في هذه المسألة على اعتبار حال المخبر، لا حال الخبر فإذا علمته مع ورود الصيغة مريداً للإخبار عن شخص دون شخص غيره عقلته مخبراً عنه، وإن لم تعلمه مريداً للإخبار عمن أخبر عنه لم يعلم الخبر خبراً عنه، فهذا ما احتمله هذا الموضع من الكلام.
مسألة:[الكلام في حد الصدق والكذب]
عندنا أن الخبر لا يخلو من صدق أو كذب، سواء علم المخبر أنه صادقٌ أو لم يعلم؛ وخالف في ذلك الجاحظ فقال: إن علم أن خبره على ما أخبر به فالخبر صدق، وإن علم أنه بخلاف ما أخبر به فهو كذب، وإن لم يعلم أنه على ما أخبر به أو بخلافه فهو خبر ليس بصدق ولا كذب.
واعلم أن الخبر عندنا لا يخرج عن الصدق والكذب، وإنما حصرناه في هذين النوعين؛ لأن القسمة فيه دائرة بين النفي والإثبات، والقسمة إذا دارت بين النفي والإثبات لم يجز دخول متوسط.
وإنما قلنا إنها دائرة؛ لأن حد الصدق عندنا: هو الخبر الذي يكون مخبره أو ما يجري مجرى المخبر على ما تناوله.
والكذب هو الخبر الذي لا يكون مخبره أو ما يجري مجراه على ما تناوله، والقسمة إذا دارت بين النفي والإثبات لم يجز دخول متوسط بينهما، فلا يكون جهلنا بحال المخبر، يخرجه عن حد هذين النوعين.
وقد قال الله تبارك وتعالى حاكياً عن المنافقين: {أَلَمْ تَر إِلَى الَّذِينَ نَافَقُوا يَقُولُونَ لِإِخْوَانِهِمُ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ لَئِنْ أُخْرِجْتُمْ لَنَخْرُجَنَّ مَعَكُمْ وَلَا نُطِيعُ فِيكُمْ أَحَدًا أَبَدًا وَإِنْ قُوتِلْتُمْ لَنَنْصُرَنَّكُمْ وَاللَّهُ يَشْهَدُ إِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ(11) لَئِنْ أُخْرِجُوا لَا يَخْرُجُونَ مَعَهُمْ وَلَئِنْ قُوتِلُوا لَا يَنْصُرُونَهُمْ} [الحشر:11ـ12]، فأخبر عن حالهم في المستقبل، ووصف كذبهم في الخبر وهو أمر لم يتبين لهم حاله بعد هل هو ما قالوا أم بخلافه؟ لأنه لا سبيل للعباد إلى علم الحال في المستقبل فبطل ما قاله الجاحظ(1).
وقد ذكر شيخنا رحمه الله تعالى حدوداً لأهل العلم في الصدق والكذب واعترضها باعتراضات لازمة، وغرضنا حصر الفائدة بالإيجاز إلا فيما لا بد من ذكره.
__________
(1) ـ الجاحظ هو: عمرو بن بحر الجاحظ، أبو عثمان، كناني، وقيل مولى لكنانة، أخذ عن النظام، كان نسيج وحده في جميع العلوم، جمع بين علم الكلام والأخبار والفتيا والعربية وتأويل القرآن وأيام العرب مع ما فيه من الفصاحة، وكان حريصاً على العلم، من الطبقة السابعة من طبقات المعتزلة، وهو من معتزلة البصرة، له الكثير من المؤلفات في التوحيد والنبؤة والإمامة وغير ذلك. توفي سنة (255هـ) في أيام المهتدي.
فصل: [في تقسيم الأخبار]
فإذا صح لك انحصار الخبر بحده وحقيقته شرعنا في الكلام في قسمته.
واعلم أن الأخبار الشرعية تنقسم إلى قسمين: أحدهما: يوجب العلم. والثاني: لا يوجبه.
وما يوجب العلم ينقسم أيضاً إلى قسمين: أحدهما: يوجب العلم الضروري، والثاني: يوجب العلم(1) الإستدلالي.
وما لا يوجب العلم ينقسم إلى قسمين: أحدهما: يوجب العمل. والثاني: لا يوجبه.
وإنما انحصرت الأخبار في هذه الأقسام لأنها دائرة بين النفي والإثبات، فلم يجز لذلك دخول متوسط كما قدمنا.
[شروط العلم الضروري والإستدلالي]
واعلم أن لكل نوع من هذه الأنواع شرطاً يقف حصوله عليه وصحته، فنبدأ من ذلك بالعلم الضروري لأنه أصل العلم، ثم نفرع منه الكلام في الأنواع.
فللعلم الضروري ثلاثة شروط:
أحدها: أن يكون المخبرون كثرة بحيث يستحيل عليهم التواطؤ على الكذب.
وثانيها: أن يكون متساوي الأطراف أو متقاربيها في الكثرة.
وثالثها: أن يكونوا عالمين بما يخبرون به ضرورة.
وأما الأخبار التي تكون طريقاً إلى العلم الإستدلالي باعتبار حكمة المخبر، أو من يكون خبره كأنه من جهته أو من يقره على ذلك.
فمنها: ما يكون طريقاً إلى العلم من دون هذا الإعتبار؛ فالأول هو الأخبار الواردة عن الله سبحانه، أو عن رسوله صَلَّى الله عَلَيْه وآله وَسَلَّم، أو العترة الطاهرة، أو الأمة، أو الأخبار التي يخبرها آحاد الرجال بحضرة الرسول صَلَّى الله عَلَيْه وآله وَسَلَّم فيما يتعلق بشريعته أو معجزاته، ثم لا يقابل ذلك بإنكار ولا تكذيب، أو ما يدعي عليه آحاد الرجال العلم به أو المشاهدة له بحضرته ثم لم ينكر ذلك، ونحو ذلك مما يحكيه الله تعالى من الأخبار عمن لم تثبت حكمته إذا عري ذلك عن إنكاره وتكذيبه.
__________
(1) ـ في النسخة: العمل، ولكن العلم هو الموافق للمعنى لما يأتي، والله أعلم.
والثاني: كأن يخبر عدد كثير يستحيل عليهم التواطؤ وافتعال الكذب عن أمر من الأمور مما تنجلي الحال فيه، ولا تدخله طريقة اللبس، فإنا متى فرضنا أن العلم الضروري لا يحصل بخبرهم فإن العلم الإستدلالي حاصل له، ونحو أن يخبر الواحد بحضرة العدد الذين وصفنا حالهم عن مخبر حاله ما وصفنا ويدعي عليهم العلم بذلك والمشاهدة له فيقرونه على ذلك، ولا يقابلون دعواه بإنكار ولا تكذيب إلى غير ذلك.
وأما ما لا يكون طريقاً إلى العلم، ويكون موجباً للعمل فله شروط ثلاثة:
أحدها: أن يكون الراوي عدلاً ضابطاً لما يرويه.
وثانيها: أن يكون الخبر متناولاً لأمر من حقّه متى صح أن يكون ظاهراً مشهوراً.
وثالثها: أن لا يكون معارضاً لشيء من الأدلة العقلية والسمعية.
وأما ما لا يوجب العمل: فهو ما لم تتكامل فيه هذه الشروط من أخبار الآحاد، وبيان صحة ما ادعيناه في هذه الأخبار يأتي في أثناء المسائل إن شاء الله تعالى، وهذه الجملة وما ابتنى عليها من التفصيل أورده شيخنا رحمه الله تعالى فأتينا به على ما ذكره.
مسألة:[الكلام في الأخبار هل تكون طريقاً إلى العلم أم لا؟]
اختلف الناس في الأخبار هل تكون طريقاً إلى العلم أم لا؟
فذهب السُّمَنِّية(1) وهم فرقة من الملحدة إلى أنها لا تكون طريقاً إلى العلم البتة، وأنه لا طريق إلى العلم إلا المشاهدة.
وذهب سائر أهل العلم إلى أن الأخبار طريق إلى العلم، ثم اختلفوا؛
فمنهم من ذهب إلى أن الأخبار المتواترة طريق إلى العلم الضروري، وهو الذي ذهب إليه شيخنا رحمه الله تعالى، وحكاه عن مشائخنا المتكلمين، وهو الذي نختاره.
ومنهم من قال: هو طريق إلى العلم الإستدلالي ولا يحصل إلا بضرب من الإستدلال، ورواه عن البغدادية والشيخ أبي الحسين البصري.
__________
(1) ـ السمنية: بضم السين وفتح الميم فرقة من عبدة الأصنام تقول بالتناسخ وتنفي وقوع العلم بالأخبار.
والدليل على صحة ما اخترناه: أن أمارة العلم الضروري حاصلة فيه، فوجب أن يكون العلم بمخبر الأخبار ضرورياً، أما أنها حاصلة فإنا لا نفرق بين العلم الضروري والعلم الإستدلالي في الأصل، إلا بأن العلم الضروري لا ينتفي عن النفس بشك ولا شبهة وإن انفرد، والمكتسب ينتفي عن النفس بالشك والشبهة إذا انفرد، وهذه الأمارة قائمة فيما علمناه بالأخبار المتواترة كعلمنا بمكة وبغداد وما شاكلهما، ولأنه يحصل لمن لا حظ له في النظر كالعوام والمهملين، ولأنه يحصل لمن لا سبيل له إلى النظر كالسفهاء المنقوصين والمراهقين، ولأنه لو كان العلم به مكتسباً كما قالوا لما حصل إلا لمن نظر في الأخبار وتعرف أحوال المخبرين في إختلاف دواعيهم، وتباين أغراضهم، واختلاف دواعيهم، ومبلغهم في الكثرة، واستحالة التواطؤ عليهم، ومعلوم أنه يحصل لمن لا يعلم شيئاً من ذلك.
ولأنا نعلم من نفوسنا حصوله لنا بدون النظر والإستدلال، وأجلى الأمور ما يجده الإنسان من نفسه؛ فأما السُّمَنِّية فبطلان قولهم أظهر من أن يحتاج إلى تطويل، واعتبار دليل، ولأنا نعلم خلاف قولهم ضرورة؛ وهم مع ذلك عدد قليل يجوز على مثلهم دفع الضرورات، والتواطؤ على الكذب، فصح ما قلناه.
مسألة:[الكلام في الأخبار التي تكون طريقاً إلى العلم الإستدلالي]
فأما الأخبار التي تكون طريقاً إلى العلم الإستدلالي فقد ذكرنا أنها على نوعين:
أحدهما: تعتبر فيه حكمة المخبر.
وثانيهما: لا تعتبر فيه حكمته.
فالذي تعتبر فيه حكمة المخبر: هو الخبر الوارد عن الله سبحانه، أو عن رسوله صَلَّى الله عَلَيْه وآله وَسَلَّم؛ لأن خبر الرسول صَلَّى الله عَلَيْه وآله وَسَلَّم في الحكم كأنه من جهة الله سبحانه وتعالى، وكذلك تقرير الرسول صَلَّى الله عَلَيْه وآله وَسَلَّم لمن يخبر عنه بحضرته، أو يحكي شيئاً عنه عَلَيْه السَّلام ثم يدعي عليه علمه، فلو كان كذباً لوجب عليه إنكاره، وهو لا يخل بما يجب عليه صلوات الله عليه سيما فيما يتعلق بالشريعة ويلحق بهذه الأخبار الواردة عن العترة والأمة وتقريراتهم، وسيأتي شرحها مفصلة في بابها.
ويلحق بذلك ما يحكيه القديم سبحانه عمن لم تثبت حكمته ثم لا يتعقبه بإنكار، مع أن البيان واجب عليه سبحانه في الحكمة وهو لا يخل بالواجب على ما ذلك مقرر في موضعه من أصول الدين، وقد تقدم الكلام في أن كلام الحكيم سبحانه وكلام رسوله صَلَّى الله عَلَيْه وآله وَسَلَّم حجتان واجبتا الإتباع، وكذلك تقريره سبحانه وتقرير الرسول عَلَيْه السَّلام، وسيأتي الكلام مستوفى فيما ترويه العترة والأمة في باب الإجماع إن شاء الله تعالى.
وأما ما لا يعتبر فيه حكمة المخبر ولا من يقره: فهي الأخبار التي يرويها الأعداد الكثيرة عن أمثالها في الكثرة، حتى ينتهي ذلك إلى أمر لا يجوز فيه دخول الإلتباس.
وأما ما قلنا إن خبر من هذه حاله يوصل إلى العلم لأنا إذا فرضنا استحالة التواطؤ على مثلهم في مجرى العادة لاختلاف الأغراض، ونقلوا خبراً واحداً يستند إلى أمر لا يجوز فيه الإلتباس، كنا عند العلم بتعذر التواطؤ نعلم أنهم أخذوه عن المشاهدة؛ لأن العدد الكثير إذا نقلوا الخبر كان نقلهم لا يخلو إما أن يكون لعلمهم به أو لا يكون؛ فإن كان لعلمهم به فهو الذي نقول، وإن لم يكن لعلمهم به فهو إما للتواطؤ، وإما لاختيار الكذب بالإتفاق.
باطل أن يكون للتواطؤ، لاستحالة التواطؤ على العدد الكثير في مجرى العادة، وباطل أن يكون لاختيار الكذب بالإتفاق؛ لأن العدد الكثير لا يختارون الكذب في مجرى العادة أيضاً، فلم يبق إلا أنه لعلمهم به، فإذا صح لنا خبرهم عما علموا بهذا الإستدلال، حصل لنا العلم الإستدلالي الذي ذكرنا.
مسألة:[الكلام في أن العلم يحصل بخبر الفساق والكفار]
حكى شيخنا رحمه الله عن أصحابنا أن العلم لمخبر الأخبار يحصل، وإن كان المخبرون فساقاً أو كفاراً.
وقالت الإمامية(1): لا يحصل إلا بخبر الإمام المعصوم.
__________
(1) - الإمامية: سُميت بذلك لجعلها أمور الدين كلها إلى الإمام وأنه كالنبي صلى الله عليه وآله وسلم، وسُموا رافضة لرفضهم إمامة زيد بن علي(ع)، وافترقوا فرقاً كثيرة: كيسانية ومغيرية ومنصورية ومباركية وجعفرية وناووسية وإسماعيلية وشمطية وعمارية ومفضلية وقطعية، وافترقت القطعية فرقاً كثيرة قد انقرض أكثرها، وخرج كثير منهم عن الأمة كالكاملية والسبأيّة والخطابية والرزامية والسمنية، ومن أوضح دليل على إبطال ما يدّعون من النص على اثني عشر اختلافهم عند موت كل إمام في القائم بعده، ومن أكابرهم هشام بن الحكم وغيره، ومما انفردوا به: القول بالبدا، والرجعة، وأن علم الله حادث، وأطبقوا - إلا من عصم الله - على الجبر والتشبيه، انظر: الملل والنحل، جِلاء الأبصار.
وقال أبو الهذيل(1)، ومن قال بقوله: لا بد من عدد فيهم معصوم، وما حكاه شيخنا رحمه الله عن أصحابنا هو الذي نختاره.
والذي يدل على صحته: أن نقل الكفار والفساق لو لم يكن طريقاً إلى العلم لما صح لنا العلم بكثير من الملوك والبلدان، ومعلوم أنه حاصل لنا.
أما أنه لو لم يكن طريقاً إلى العلم لما علمنا كثيراً من الملوك والبلدان، فلأن كثيراً من الملوك والبلدان لم نعلمه إلا بنقل الكفار.
وأما أنه حاصل لنا، فذلك معلوم لنا من أنفسنا، كعلمنا بما نقله إلينا المسلمون من أخبار النبي صَلَّى الله عَلَيْه وآله وَسَلَّم والبلاد الإسلامية كمكة وبغداد فصح ما قلناه، وثبت أن خبر من قدمنا يكون طريقاً إلى العلم.
مسألة:[الكلام في أنه لا حاجة إلى تعرف أحوال الناقلين إذا حصل لنا العلم]
فإذا حصل العلم كما قدمنا في المسألة الأولى، لم يكن بنا حاجة إلى تعرف أحوال الناقلين كما ذهبت إليه الإمامية وأبو الهذيل وعباد(2)
__________
(1) ـ محمد بن الهذيل بن عبدالله بن مكحول البغدادي أبو الهذيل المعتزلي، من الطبقة السادسة، كان يلقب بالعلاف لأن داره بالبصرة كانت في العلافين، الشيخ المشهور المتكلم، العدلي الجدلي، قال القاضي: ومناظراته مع المجوس والثنوية وغيرهم طويلة ممدودة وكان يقطع الخصم بأول كلام. ذكر أبو الحسين الخياط أنه ولد سنة إحدى وثلاثين ومائة، وذكر المرتضى أنه مات أيام المتوكل سنة خمس وثلاثين ومائتين. انظر الجداول (خ)، والمنية والأمل في شرح كتاب الملل والنحل.
(2) ـ عبّاد بن سليمان الصيمري المعتزلي، من الطبقة السابعة، وله كتب معروفة وبلغ مبلغاً عظيماً وكان من أصحاب هشام الفوطي، وله كتاب يسمى الأبواب نقضه أبو هاشم. توفي سنة (250هـ)، انظر كتاب المنية والأمل في شرح كتاب الملل والنحل.
، في أنه لا يحصل العلم إلا بخبر الإمام، أو خبر جماعة فيهم معصوم، كما ذهب إليه أبو الهذيل وعباد، أو لا بد من جماعة من المؤمنين كما قاله بعضهم.
وإنما قلنا ذلك؛ لأن العلم الذي يحصل عقيب خبر المخبرين لنا حاصل من قبل الله سبحانه لاستحالة أن يكون منهم؛ لأنهم لا يقدرون على إحداث العلم فينا على ما ذلك مقرر في موضعه من أصول الدين، ولا هو من فعلنا؛ لأنه لا يقف على دواعينا واختيارنا، ولا يحصل بحسب قوانا وقدرتنا ودواعينا، وذلك أمارة ما يكون من قبل الله سبحانه، فإذا كان ذلك كذلك وجب علينا اعتبار حال نفوسنا، فإن حصل العلم وجب علينا العمل بمقتضاه، وإن لم يحصل لم يجب شيء من ذلك، ويصير بمثابة ما يعلم بالمشاهدات وبداية العقول، فكما أن الحجة لا تلزمنا إلا بحصول العلم فكذلك في مسألتنا.
مسألة:[الكلام في العدد إذا حصل لنا العلم بخبرهم هل يجب اطراده أم لا؟]
حكى شيخنا رحمه الله تعالى عن أصحابنا القول بأن كل عدد حصل العلم بخبرهم فإنه يجب اطراده، حتى يحصل بخبر كل عدد مثلهم ويستوي في ذلك القليل والكثير، وكان رحمه الله تعالى يذهب إلى ذلك.
وحُكي عن أبي رشيد والصاحب(1): أن ذلك يلزم في العدد الكثير، فأما في القليل فيجوز الإختلاف في ذلك حتى يحصل العلم بخبرخمسة دون خمسة، وهذا الذي نختاره.
__________
(1) ـ إسماعيل بن عباد بن العباس: أبو القاسم الطالقاني، المعروف بالصاحب كافي الكفاة، تولى الوزارة للملك مؤيد الدولة بن بويه، من مشاهير العلماء والأدباء المبرزين، صحب المؤيد بالله وأبا طالب، وله أشعار في العدل والتوحيد، وفي فضائل أمير المؤمنين وأهل بيته -عليهم السلام- مشهورة، معدود في رجال الزيدية، توفي سنة (385هـ).
والذي يدل على صحته: أن هذا العلم حاصل من قبل الله سبحانه، وموقوف على اختياره ولا يمتنع أن يوجده عند قدر من العدد دون ما يساويه لضرب من الحكمة، ولا يوجده عند خبر مثلهم لمصلحة يعلمها، كما يعلم أن الحفظ عقيب الدرس حاصل من قبل الله سبحانه، وقد يحصل بقدر من الدرس لشخص ولا يحصل بمثله لشخص آخر، ويحصل بقدر، ولا يحصل بمثل ذلك القدر في حال أخرى.
وقد استدل شيخنا رحمه الله تعالى على صحة المذهب بأن القدر القليل إذا حصل بخبرهم العلم كان طريقاً إلى العلم ولا يجوز اختلاف الطرق كما نقوله في الكثير.
والكلام على هذا القول ما قدمنا في المسألة من أن الدرس قد يكون طريقاً إلى العلم الضروري الحاصل من قبل الله سبحانه، وقد تختلف الحال فيه بقدر من الدرس دون قدر، ولشخص دون شخص، وفي وقت دون وقت.
وما ذكره من الإستدلال بالكثير فإنه لا يجوز اختلاف الحال فيه، وإنما لم يختلف الحال فيه لضرب من الحكمة ظاهر، وهو أنه لو جاز أن نسمع الأعداد الكثيرة في الأعصار المتوالية ينقلون خبراً يستند إلى العلم ثم لا يحصل العلم لجوزنا سلامة بعض من لا يعتقد نبوة الأنبياء عَلَيْهم السَّلام من العقلاء، ولا يلتزم شرائعهم، بأن نجوز أن الله سبحانه لم يخلق العلم لهم بذلك فيعذرهم لفقده، وفي علمنا أنهم غير معذورين بإجماع الأمة والأئمة عَلَيْهم السَّلام دلالة أن الأمر فيما هذا حاله لا يختلف، وأنه لا يجوز في الحكمة أن لا يوجد العلم لبعض الأشخاص من العقلاء في بعض الأوقات أو الجهات، وجريانه على هذا الوجه يكون حراسة لأعلام النبوة وشرائع الأنبياء، ولا يلزم مثل هذا في العدد القليل، فلهذا جوزنا حصول العلم بخبر عدد دون عدد مثلهم، ولشخص دون شخص، واختلاف الحال فيه، وكما لا يبعد أيضاً استواء الناس في الدرس الكثير وحصول العلم للجميع عنده، وإن اختلفوا في القليل، فكذلك في مسألتنا هذه.
مسألة:[الكلام في خبر الواحد هل يحصل عنده العلم أم لا؟]
اختلف أهل العلم في خبر الواحد هل يحصل عنده العلم أم لا؟
فحكى شيخنا رحمه الله عن أبي إسحاق النظام أن خبر الواحد يوجب العلم، وأحسب أنه ذكر لنا في التدريس أنه قال: إنه يوجب العلم إذا قارنه سبب، وروى ذلك عن الظاهرية، وعن السيد المؤيد بالله عَلَيْه السَّلام، وهو الذي نختاره إيجابه للعلم وإن لم يقارنه سبب.
وروي عن شيوخنا المتكلمين رحمهم الله تعالى أن خبر الواحد لا يوجب العلم، وهو الذي كان يذهب إليه، ويحتج له.
والدليل على صحة المذهب الأول: هو ما قدمنا في المسألة الأولى، وذلك أنه إذا ثبت كونه من فعل الله سبحانه جاز أن يحصل بخبر واحد دون أحد، ولا يمتنع أن يعلم الله سبحانه المصلحة في ذلك، ولا يلزم من ذلك ما ذكر رحمه الله تعالى من أنه كان يجب أن يحصل لنا العلم بصدق أحد المتلاعنين وكذب الآخر؛ لأن ذلك بناء منه على أن كل قدر حصل العلم بخبرهم فإنه يجب اطراده، وقد بينا أن ذلك لا يلزم بما بينا من الدرس الذي أجريناه مجراه.
مسألة:[الكلام في العدد الذي يحصل العلم بخبرهم]
قال شيخنا رحمه الله تعالى: ولا يجوز حصول العلم بخبر أربعة، ويجوز أن يحصل بخبر خمسة عندنا.
ومن الناس من يقول بخبر خمسة وعشرين، ومنهم من اعتبر سبعين، ومنهم من اعتبر ثلاثمائة.
والخلاف في هذه المسألة يبنى على الخلاف في المسألتين الأولتين، فلا وجه لتطويل الكلام به هاهنا.
ومما يؤيد ما قدمنا: ما ذكر رحمه الله تعالى من جواز حصوله بخبر خمسة دون خمسة، فلو كان يحصل بخبر خمسة كما ذكر رحمه الله تعالى لوجب أن نقطع على كل خمسة لم يقع لنا العلم بخبرهم أنهم كذبة، ولوجب أولاً حصول العلم بخبر كل خمسة لما ذكر من وجوب اطراده، ومعلوم لنا اختلاف الحال في ذلك، فثبت أنه موقوف على اختيار الحكيم سبحانه وتعالى في ذلك.
فأما الحاكم فإنما فرض عليه أن يحكم بشهادة من ظاهره العدالة، ولم يجب عليه مراعاة العلم في ذلك، بدلالة أن الحاكم لو شاهد رجلاً يأتي الفاحشة لم يجز له إقامة الحد عليه إلا بأن يقترن إليه من ينفذ بشهادته الحكم، ويعتبر في الشهادة، وكذلك لم يفرض علينا في المتلاعنين مراعاة العلم بأحوالهما، وإنما فرض علينا إقامتهما للعان إذا تكاملت شروطه.
مسألة:[الكلام في جواز ورود التعبد بخبر الواحد]
اختلفوا في جواز ورود التعبد بخبر الواحد؛ فحكى شيخنا رحمه الله تعالى أن جواز ورود التعبد بخبر الواحد قول جمهور العلماء، وحكى الخلاف في ذلك عن طائفة من الإمامية، وطائفة من البغدادية، وقوم من الخوارج(1)، وقالوا إن العقل يمنع من ورود التعبد به.
فالذي يدل على صحة ما ذهب إليه الجمهور: العقل والسمع.
أما العقل: فما نعلمه من أن الواحد منا يستحسن بعقله جلب البضاعة لطلب الربح إذا أخبره بذلك من ظاهره العدالة، وكذلك يتجنب الطريق إذا أخبره من ظاهره العدالة بأن فيها السبع الذي لا سبيل له إلى دفعه، والعدو الغالب، وأن في الطعام سماً مهلكاً، وأن في الشراب دواء نافعاً، وغلب في ظنه صدق من أخبره في أنه يجب عليه تجنب الطريق، واستعمال الدواء، وترك الطعام.
__________
(1) - الخوارج: يُسمون الشراة والحرورية والمحكّمة، ويرضون بذلك، والمارقة للخبر ولا يرضونه، ويجمعهم إكفار علي عليه السلام، وأصول فرقهم خمس: الأزارقة: منسوبون إلى أبي راشد نافع بن الأزرق، والأباضية: إلى عبدالله بن يحيى بن أباض، والصفرية: إلى زياد الأصفر، والبيهسية: إلى أبي بيهس، والنجدات: إلى نجدة بن عامر، ثم تشعّبوا، وأنشأ مذهبهم عند التحكيم عبدالله بن الكّواء، وعبدالله بن وهب، وفارقا علياً عليه السلام، ومن مصنّفيهم: أبو عبيده وأبو العَيْناء وغيرهما، انظر: الملل والنحل، جلاء الأبصار.
وأما السمع: فما نعلمه من إيجابه سبحانه علينا قطع الأحكام لشهادة شهيدين من رجالنا، أو رجل وامرأتين، وقد لا يحصل بخبرهم العلم، وكذلك شهادة الأربعة فإذا لم يمنع منه العقل وورد به الشرع صح ما قلنا من ورود التعبد.
مسألة:[الكلام في الدليل على ورود التعبد بخبر الواحد]
اختلف أهل العلم القائلون بجواز ورود التعبد بخبر الواحد في أن التعبد به هل ورد أم لا؟ فذهب الجمهور إلى أن التعبد به قد ورد، ثم اختلفوا؛
فمنهم من قال: أعلم ذلك من جهة العقل وهو أبو العباس بن سريج.
ومنهم من قال: أعلم ذلك بالعقل والشرع، وحكاه شيخنا رحمه الله تعالى عن الشيخ أبي الحسين البصري.
ومنهم من قال: يعلم ذلك بدليل شرعي، وهو مذهب أبي علي وأبي هاشم وأبي عبدالله وقاضي القضاة والأكثر من الفقهاء، وإن اختلف استدلالهم.
وذهب قوم إلى أن التعبد لم يرد به ثم اختلفوا؛
فمنهم من تجاوز ذلك بأن قال إن التعبد قد ورد بأن لا يعمل به.
وذهب شيخنا رحمه الله تعالى إلى أن التعبد ورد بذلك عقلاً وشرعاً، وهو الذي نختاره.
والذي يدل على صحته: ما قدمنا من أن العقلاء يستحسنون بعقولهم العمل بخبر الواحد إذا غلب على ظنهم صدقه في جلب المنافع ودفع المضار، ومعلوم أن التعبد وضع لهذين الوجهين، وهو جلب منافع الآخرة ودفع مضارها.
ولأنا كما نعلم بعقولنا وجوب تناول الدواء من يد الطبيب على بعض الوجوه، كذلك نعلم بعقولنا وجوب تناوله من يد غلامه إذا قال أنا أنهيه إليكم على يد هذا الغلام، وغلب على ظننا حصول أمانته، وفقد خيانته، في أنه يجب علينا تناوله في الحالين على سواء.
وكذلك إذا قال الرسول صَلَّى الله عَلَيْه وآله وَسَلَّم إذا أخبركم عني من صفته كذا وكذا فاقبلوا خبره واعملوا به، كان ذلك نازلاً منزلة أمره لنا أو نهيه بغير واسطة فإنه يجب على سواء، فصح بهذه الجملة وجوب العمل على خبر الواحد من جهة العقل.
وأما الشرع فدلالته ظاهرة موجودة من الكتاب والسنة والإجماع:
أما الكتاب: ففي قوله سبحانه وتعالى: {فَلَوْلَا نَفَرَ مِنْ كُلِّ فِرْقَةٍ مِنْهُمْ طَائِفَةٌ لِيَتَفَقَّهُوا فِي الدِّينِ وَلِيُنْذِرُوا قَوْمَهُمْ إِذَا رَجَعُوا إِلَيْهِمْ لَعَلَّهُمْ يَحْذَرُونَ} [التوبة:122].
ووجه الإستدلال بهذه الآية: أن الله تعالى أمر أن ينفر من كل فرقة طائفة، وأقل الفرقة ثلاثة، وطائفة الثلاثة واحد أو اثنان، فإذا خرج الواحد أو الإثنان للتفقه في الدين ثم رجعا فأنذرا قومهما وجب عليهم الحذر؛ فلولا أن العمل بخبر الآحاد واقع في الكتاب وجوبه لما كان للآية فائدة، وذلك لا يجوز، ولما كان لإنذارهما معنى.
وأما السنة: فما ظهر من بعث النبي صَلَّى الله عَلَيْه وآله وَسَلَّم مَنْ بعث من السعاة في الآفاق لقبض الزكوات والأعشار، وليعلم الناس معالم الدين كبعثه معاذ بن جبل إلى اليمن وغيره من عماله، فلو كان خبر الواحد لم يرد به التعبد لم يبعث من ذكرنا؛ لأنه عند ذلك يلزمهم ما لم يرد به التعبد وحاشاه من ذلك، وكيف وإنما أخذت الشريعة عنه.
وأما الإجماع: فما ظهر بين الصحابة من غير مناكرة من قبول أخبار الآحاد؛ فإن علياً صلوات الله عليه قال: (كنت إذا سمعت من رسول الله صَلَّى الله عَلَيْه وآله وَسَلَّم حديثاً نفعني الله بما شاء أن ينفعني منه، فإذا حدثني عنه غيره حلفته، فإن حلف صدقته، وحدثني أبو بكر وصدق أبو بكر).
ولما أشكل عليه أمر المذي أمر المقداد بن الأسود(1)
__________
(1) ـ المقداد بن الأسود، نسب إليه لأنه تزوج أمه ونشأ في حجره وتبناه، واسم أبيه عمرو بن ثعلبة البهراني الكندي، كان من السابقين الأولين، هاجر الهجرتين، وشهد بدراً وما بعدها ولم يكن يوم بدر فارس غيره.
وفي جامع الترمذي: ((أمرني ربي بحب أربعة وأخبرني أنه يحبهم)) فقيل من هم؟ فقال: ((علي وأبو ذر والمقداد وسلمان)).
ومناقبه كثيرة..إلى قوله أيده الله تعالى: توفي بالمدينة سنة ثلاث وثلاثين عن سبعين.
..إلى قوله أيده الله تعالى: وفضائله غزيرة ومقاماته مع الوصي -عَلَيْه السَّلام- في إنكار عقدهم يوم السقيفة ويوم الشورى معلومة وهو من أعلام السابقين المخلصين ولايتهم لله تعالى ولرسوله -صَلَّى الله عَلَيْه وآله وَسَلَّم- ولوصيه أمير المؤمنين -عَلَيْه السَّلام-. انظر لوامع الأنوار لمولانا الإمام الحجة مجدالدين بن محمد المؤيدي أيده الله تعالى(ط2- 3/183، 185).
رحمه الله تعالى يسأل رسول الله صَلَّى الله عَلَيْه وآله وَسَلَّم واستحيى عن سؤاله لمكان ابنته، فأخبره بحكمه فقبل منه.
وطلب أبو بكر حكم الجدة، وكان يرى فيه برأيه حتى أخبره المغيرة(1) ومحمد بن مسلمة(2) أن رسول الله صَلَّى الله عَلَيْه وآله وَسَلَّم فرض لها السدس، ورجع عن قضية لخبر رواه له بلال.
وكذلك ما فعل عمر في قضية المجوس ومناشدته للناس في أمرهم فروى له عبد الرحمن بحضرة الجماعة خبر النبي صَلَّى الله عَلَيْه وآله وَسَلَّم: ((سنّوا بهم سنة أهل الكتاب غير آكلي ذبائحهم ولا ناكحي نساءهم)) فعمل عليه، وجرى سنة إلى الآن.
وما كان يذهب إليه من التفضيل في دية الأصابع فإنه كان يجعل في الإبهام خمس عشرة، وفي البنصر تسعاً، وفي الخنصر ستاً، وفي الباقيتين في كل واحدة عشراً، فرجع عن ذلك لكتاب عمرو بن حزم.
__________
(1) ـ المغيرة بن شعبة، كان سبب إظهاره الإسلام أنه صحب قوماً فاستغفلهم وهم نيام وقتلهم وأخذ أموالهم وهرب فقدم المدينة وأظهر الإسلام، وكان الرسول -صَلَّى الله عَلَيْه وآله وَسَلَّم- لا يرد على أحد إسلامه. وهو الساعي لصرف الأمر عن أهل البيت -عليهم السلام- وختم أيامه بالدعاء إلى بيعة يزيد، وشُهِدَ عليه بالزنا فتلجج الرابع وهو زياد بن أبيه. مات سنة خمسين. انظر لوامع الأنوار لمولانا الإمام الحجة مجدالدين بن محمد بن منصور المؤيدي أيده الله تعالى(3/183).
(2) ـ محمد بن مسلمة، أبو عبدالله الأوسي، شهد بدراً وما بعدها ثم لم ينصر الحق مع ترجيحه جانب أمير المؤمنين -عَلَيْه السَّلام- ذكر نحو هذا الناصر للحق فيما رواه أبو طالب. توفي بالمدينة سنة ثلاث وأربعين. انظر لوامع الأنوار (ط2- 3/177).
وكان لا يورث المرأة من دية زوجها، فورثها لرواية الضحاك بن قيس(1) عن النبي صَلَّى الله عَلَيْه وآله وَسَلَّم توريثها.
وكان يهدر الجنين لولا خبر حمل بن مالك أن رسول الله صَلَّى الله عَلَيْه وآله وَسَلَّم (أوجب فيه الغرة عبداً أو أمة).
وكل هذه أخبار آحاد، ولما اختلف الصحابة في وجوب الغسل من التقاء الختانين رجعوا إلى أزواج النبي صَلَّى الله عَلَيْه وآله وَسَلَّم، وهذه الأخبار، وإن كان كل واحد منها لا يصح فيه دعوى التواتر، فإن مجموعها متواتر على سبيل الجملة، ويكون ذلك بمثابة الإخبار عن سخا حاتم، وشجاعة عنتر، فإنا وإن رويت لنا تفاصيل جودة أحدهما وشجاعة الآخر على وجه لا يصح دعوى التواتر في تفاصيلها، فقد صارت الجملة متواترة، وكذلك وقعات النبي صَلَّى الله عَلَيْه وآله وَسَلَّم كبدر وغيرها كل ما جرى من حوادثها لا يبلغ حد التواتر، وجملتها ومجموعها متواترة.
__________
(1) ـ تقدم أنه الضحاك بن سفيان الكلابي، وهو الصحيح عند أهل الحديث ذكره في جامع الأصول، وذكره الإمام المهدي في منهاج الوصول والإمام القاسم بن محمد في الإعتصام، وأبو الحسين البصري في المعتمد، والطبري في كتابه شفاء غليل السائل عما تحمله الكافل وغيرهم.
وقال في الكاشف لذوي العقول: وكذا عملوا أيضاً بخبر الضحاك بن قيس، قيل: وهو الأحنف بن قيس في توريث المرأة من دية زوجها..إلخ.
وقال في هامش شفاء غليل السائل عمّا تحمله الكافل: وقال الإمام الحسن وسعد الدين الضحاك: هو الأحنف بن قيس التميمي أسلم على عهد رسول الله -صَلَّى الله عَلَيْه وآله وَسَلَّم- ولم يره كتب إليه النبي -صَلَّى الله عَلَيْه وآله وَسَلَّم- أن يورث زوجة الضبابي من دية زوجها. انتهى.
ويمكن أنه اختلط على الناسخ وغيره بذكر فاطمة بنت قيس فسبق الذهن إلى أخيها الضحاك بن قيس. والله أعلم انتهى.
وهكذا حال دعوانا في الإجماع على العمل على خبر الآحاد فإنا وإن لم نعلم بكل خبر على انفراده مما ذكرنا من الأخبار أن الصحابة عملت عليه ورجعت له عن غيره، فقد علمنا على سبيل الجملة أنهم رجعوا إلى أخبار الآحاد وتعرفوا منها قضايا الحوادث وأحكامها، فصح ما ادعيناه في هذه المسألة من ورود التعبد بخبر الواحد من الطرق التي ذكرنا.
مسألة:[الكلام في خبر الواحد متى يعمل عليه]
كان الشيخ أبو علي رحمه الله تعالى لا يقبل في باب المعاملات والعبادات إلا خبر الإثنين، ولا يقبل في باب الزنا إلا خبر الأربعة، وظاهر هذا القول كما ترى يدل على أنه ألحقه بباب الشهادة، وأحسب أن شيخنا رحمه الله تعالى ذكر لنا ذلك عنه في التدريس.
قال شيخنا رحمه الله تعالى: وكان لا يعمل على خبر الواحد إلا إذا وقع على وجوه:
أحدها: أن يعمل به بعض الصحابة، أو يكون منتشراً فلا ينكر، أو يعضده ظاهر معلوم، أو يؤيده قياس.
واتفق أكثر القائلين بجواز العمل على خبر الآحاد على قبول خبر الواحد وإن لم يروه غيره.
وهذا الذي نختاره، وكان شيخنا رحمه الله يذهب إليه.
والذي يدل على صحته: ما تقدم في المسألة الأولى من عمل الصحابة على خبر الواحد، وإن لم يروه سواه، كخبر عبد الرحمن في قصة المجوس، وحمل بن مالك في دية الجنين إلى غير ذلك مما يكثر تعداده، وكانوا بين عامل به وراجع إليه ومقر عليه، فكان ذلك إجماعاً، والإجماع حجة على ما يأتي بيانه في باب الإجماع إن شاء الله تعالى.
وحيث ردوا خبر الواحد في بعض الحالات فإنما ردوه لأمر يخص الراوي كما فعله أمير المؤمنين عَلَيْه السَّلام في خبر(1)
__________
(1) ـ خبر معقل بن سنان الأشجعي: هو ما أخرجه أبو داود والترمذي والنسائي من رواية مسروق عن علقمة، قال: أُتي عبد الله بن مسعود برجل تزوج امرأة فمات عنها ولم يفرض لها ولم يدخل بها فقال: أقول فيها برأيي، لها صداق نسائها وعليها العدة، ولها الميراث.
فقال معقل بن سنان الأشجعي: قضى رسول الله -صَلَّى الله عَلَيْه وآله وَسَلَّم- في بروع بنت واشق بما قضيت؛ ففرح بذلك.
أما عند أئمتنا -عَلَيْهم السَّلام- فغير مقبول لما رووا أن أمير المؤمنين -عَلَيْه السَّلام- كان يقول في حديث بروع: لا يقبل قول أعرابي من أشجع على كتاب الله وسنة رسوله.
وفي شرح التجريد: قد سقط خبره عندنا بجرح علي -عَلَيْه السَّلام- لأنه قال: لا يقبل قول أعرابي بوال على عقبيه على كتاب الله إلى آخره، ويريد به معقل بن سنان الأشجعي الذي قال لابن مسعود: قضى به رسول الله -صَلَّى الله عَلَيْه وآله وَسَلَّم- وأشار أمير المؤمنين بذلك إلى قوله تعالى: {لَا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ إِنْ طَلَّقْتُمُ النِّسَاءَ مَا لَمْ تَمَسُّوهُنَّ أَوْ تَفْرِضُوا لَهُنَّ فَرِيضَةً} [البقرة:236].
قال الإمام المنصور بالله -عَلَيْه السَّلام-: وهذا نهاية القدح؛ لأن الوعيد ورد على ترك الاستنزاه من البول. انظر الاعتصام (3/235)، والشافي (1/51).
معقل بن سنان الأشجعي، أو لأمر يخص الخبر كما فعله عمر في حديث(1) فاطمة بنت قيس، وما شاكل ذلك مما ردته(2) الصحابة، وإنما ردوه لقدح في عدالة الراوي، أو علم بسهوه عما روى، أو معارضته لما يعلم من الدين استقرار خلافه، أو غير ذلك من الأسباب.
مسألة:[الكلام في خبر المجهول]
حكى شيخنا رحمه الله تعالى عن الشافعي أن المجهول يُقْبل خبره إذا كان ظاهره الإسلام.
ومذهب أهل التحصيل من الفقهاء والمتكلمين أنه لا يقبل ما لم تعلم عدالته، وهذا الذي نختاره، وكان شيخنا رحمه الله يعتمده.
__________
(1) ـ خبر فاطمة بنت قيس: عن فاطمة بنت قيس أنه طلقها زوجها في عهد النبي -صَلَّى الله عَلَيْه وآله وَسَلَّم- وكان أنفق عليها نفقة دوناً فلما رأت ذلك قالت: والله لأعلمن رسول الله -صَلَّى الله عَلَيْه وآله وَسَلَّم- فإن كانت لي نفقة أخذت الذي يصلحني وإن لم يكن لي نفقة لم آخذ منه شيئاً فذكرت ذلك لرسول الله -صَلَّى الله عَلَيْه وآله وَسَلَّم- فقال: ((لا نفقة لك ولا سكنى)) هذه إحدى روايات حديث أخرجه مسلم وغيره وزاد في بعض الروايات عن عمر أنه قال في ذلك: لا نترك كتاب الله وسنة نبينا لقول امرأة لا ندري لعلها حفظت أو نسيت لها السكنى والنفقة. انظر كتاب جواهر الأخبار والآثار في هامش البحر الزخار (3/215).
(2) ـ كما رد أبو بكر خبر المغيرة بن شعبة في أن النبي -صَلَّى الله عَلَيْه وآله وَسَلَّم- (فرض للجدة السدس) والمغيرة كان متهماً في الدين فتح إيمانه بالغدر وختمه بالكفر فلما عضده محمد بن مسلمة قبل خبره. ورد عمر خبر أبي موسى الأشعري في الاستئذان حتى وافقه أبو سعيد الخدري.
والذي يدل على صحته ما قدمنا من أن العدالة معتبرة في الراوي، فالجهالة بحاله تمنع من معرفة عدالته فلا يجوز قبول خبره، سيما مع اختلاط أهل النفاق بأهل الإسلام، واجتهاد أهل الكفر في تشويش أمر الدين بكل ممكن، ونحن لا نأمن والحال هذه أن يكون الراوي فاسقاً مموهاً، أو كافراً مدلساً، ومع هذين التجويزين لا يصح قبول خبره.
فأما إن كان مجهولاً كما يزعم أصحاب الحديث أن المجهول من لم يعرف بمخالطة أصحاب الحديث والأخذ عنهم، فخبره عندنا مقبول إذا علمت عدالته وضبطه، كما أنا نقبل خبر من روى عن النبي صَلَّى الله عَلَيْه وآله وَسَلَّم وإن لم تكثر مخالطته ومجالسته والأخذ عنه بل إنما لقيه مرة أو مرتين، فروى عنه خبراً أو خبرين.
وكذلك نقبل خبر المختلف في إسمه على ما يأتي بيانه سيما إذا كانت له نسبة تميزه عن غيره كمولى عمرو بن حريث راوي خبر نبيذ التمر، منهم من قال: زيد، ومنهم من قال: أبو زيد، فهذا القدر من الجهالة لا يقدح عندنا في قبول خبره، فإذاً المراد بالجهالة من لا تعلم عدالته.
مسألة:[الكلام في قبول خبر فاسق التأويل]
اختلف أهل العلم في خبر الفاسق من جهة التأويل؛
فحكى شيخنا رحمه الله تعالى عن الفقهاء بأسرهم، والقاضي، وأبي رشيد أنه يقبل إلا أن يعلم أنه ممن يستجيز الكذب كالخطابية ومن طابقها.
وحكى عن الشيخين أبي علي، وأبي هاشم أنه لا يقبل.
قال رحمه الله تعالى: وكان القاضي يقول مذهب أبي علي، وأبي هاشم أقيس، ومذهب الفقهاء أقرب إلى الأثر، وكان يعتمد الأول، وهو الذي نختاره.
والذي يدل على صحته: إجماع الصحابة على قبوله، وإجماعهم حجة على ما يأتي بيانه.
أما أنهم أجمعوا؛ فذلك معلوم من ظاهر حالهم لمن تصفح أخبارهم، واقتص آثارهم، وذلك أن الفتنة لما وقعت بينهم وتفرقوا وصاروا أحزاباً، وانتهى الأمر بينهم إلى القتل والقتال، كان بعضهم يروي عن بعض بغير مناكرة بينهم في ذلك، بل اعتماد أحدهم على ما يرويه عمن يوافقه، كاعتماده على روايته عمن يخالفه، وذلك ظاهرٌ فيهم كروايتهم عن أبي هريرة(1)، وعن النعمان بن بشير(2)، وغيرهما، وكروايتهم عن أصحاب الجمل وأشدهم عندنا جرماً عائشة، وعن نقلة أصحاب النهروان وغيرهم، وعامل على مقتضى الرواية وساكت عن الإنكار وذلك يفيد معنى الإجماع.
وأما أن إجماعهم حجة، فسيأتي بيانه إن شاء الله تعالى.
__________
(1) ـ أبو هريرة الدوسي، اختلف في اسمه واسم أبيه اختلافاً كثيراً، لم يختلف في اسم أحد مثله؛ أكثر الصحابة رواية على الإطلاق، ضربه عمر بالدرة.
وفي إملاء أبي جعفر النقيب، عن علي -عَلَيْه السَّلام-: لا أجد أحداً أكذب على رسول الله -صَلَّى الله عَلَيْه وآله وَسَلَّم- من هذا الدوسي.
وروي عن عائشة وابن عباس أنهما أنكرا عليه حديث الاستيقاظ، وروى له البخاري حديثاً عنه -صَلَّى الله عَلَيْه وآله وَسَلَّم- فلما قيل له: أنت سمعته من رسول الله -صَلَّى الله عَلَيْه وآله وَسَلَّم-؟ قال: لا بل من كيسي.
ووصفه المنصور بالله -عَلَيْه السَّلام- بالغفلة، لحق بمعاوية، ودخل الكوفة وأساء القول في أمير المؤمنين -عَلَيْه السَّلام-. انظر لوامع الأنوار (ط2- 3/210)، الجداول (خ).
(2) ـ النعمان بن بشير بن سعد الخزرجي، كان من حزب معاوية بصفين، وغزا بعض نواحي أمير المؤمنين -عَلَيْه السَّلام-، وولي حمص لمعاوية ثم ليزيد، ثم قتل بحمص سنة أربع وستين. انظر لوامع الأنوار لمولانا الإمام الحجة مجدالدين بن محمد بن منصور المؤيدي أيده الله تعالى ط1(ط2- 3/186).
ولأنهم لما افترقوا لم يختلفوا في أن الكذب لا يجوز، بل المعلوم من حالهم التشديد على من فعل ما يعتقدون قبحه، أو كذب في شيء من كلامه، (من ذلك ما يروى أن الخوارج لما نادت قطري بن الفجاءة المازني من خلفه يا دابَّة يا دابَّة فالتفت إليهم وقال: كفرتم فقالوا: بل كفرت لكذبك علينا وتكفيرك إيانا، وما قلنا لك إلا ما قال الله تعالى: {وَمَا مِنْ دَابَّةٍ فِي الْأَرْضِ إِلَّا عَلَى اللَّهِ رِزْقُهَا } [هود:6]، ثم قالوا له: تبْ من تكفيرك إيّانا، فقال لعبيدة بن هلال: ما ترى؟
قال: إن أقررت بالكفر لم يقبلوا توبتك، ولكن قل إنما استفهمتكم، فقلت: أكفرتم؟ فقالوا: لا ما كفرنا، ثم انصرفوا)، فإذا كان الأمر كما ترى كان قول من يقول من كذب كفر، روايته أولى من رواية من يقول من كذب فسق؛ لأن الإنسان قد يتجاسر على الفسق ولا يتجاسر على الكفر.
وقول من يقول إن من عرف بالكذب في المعاملات لا يقبل خبره، فكيف يقبل خبر من يعرف بالكذب على أكابر الصحابة، وسادات المسلمين من المهاجرين والأنصار وانتقاصهم لا بفسق؟ لأن المعلوم من حالهم أنهم لا يكذبون على أفاضل الصحابة في الرواية عنهم، وإنما يكذبون عليهم في الإعتقاد فيهم، وذلك خارج عن باب الأخبار، وكانوا لا ينقصون إلا من يعتقدون الصواب في انتقاصه ومحاربته.
فأما من علم من حاله استجازة الكذب على آحاد الناس فيما يرويه عنهم فضلاً عن فضلاء الصحابة لم يقبل خبره كما قلنا في الخطابية ومن شاكلهم.
وأما منعنا من قبول خبر الفاسق من جهة التصريح: فلأنا نعلم منه التجاسر على الكذب والإقدام على القبيح، فلا تسكن النفس إلى صدقه فيما يرويه عنهم ولا يغلب على الظن صحة ما يقوله، وليس كذلك الفاسق من جهة التأويل؛ لأنه لا يقدم على ما يعلم كونه قبيحاً، فصح ما قلناه.
مسألة:[الكلام في الغفلة والضبط في الراوي وتفصيل ذلك]
المغفل إذا كان شديد الغفلة والسهو وهما الغالبان عليه، والضبط هو النادر لم يقبل خبره إلا فيما تعلم صحته، وإن كان الغالب عليه الضبط والحفظ، والسهو هو النادر قبل خبره إلا فيما يعلم أنه سها فيه، وإن استوى فيه الأمران الضبط والغفلة والتبس حاله، فقد اختلفوا في ذلك.
فحكى شخينا رحمه الله تعالى قبول خبره عن الشافعية، والقاضي.
وحكى عن الشيخ أبي الحسين البصري أنه لا يقبل، وكان رحمه الله تعالى يحتج لما يذهب إليه.
وحكى عن عيسى بن أبان أنه قال: طريق قبوله الإجتهاد، وهذا الذي يقوى عندنا ونختاره.
وكان شيخنا رحمه الله تعالى يحتج لما ذهب إليه بأن قال: إنه متى استوى ضبطه وغفلته لم يحصل الظن بصحة ما رواه لتعادل الأمرين فيه فلا يقبل حديثه.
والدليل على صحة ما ذهبنا إليه: أن قبول الأخبار ممن ظاهره العدالة واجب على الجملة، فإذا استوى حاله في الضبط والغفلة لم يمكن الإتيان بهذا الواجب إلا بضرب من الإجتهاد، وجب الرجوع إلى الاجتهاد كما في سائر الواجبات.
وما ذكر شيخنا رحمه الله تعالى من استواء الأمرين فيه، فلا يحصل الظن بصدقه، فإنا لا نقول إنه يعمل على خبره فيما استوى فيه العلم والظن لضبطه وغفلته، بل إنما يعمل عليه فيما علمنا أو ظننا أن ضبطه فيه أقوى من غفلته، وهذا معنى قولنا يكون بابه الإجتهاد؛ لأنا لا نجتهد فيما قد قطعنا على صحته أو بطلانه، وإنما نجتهد فيما استوى فيه الأمران حتى يترجح أحدهما على الآخر.
فأما ما ذكره رحمه الله تعالى من أبي هريرة، ومعقل بن سنان، ووابصة بن معبد(1)
__________
(1) ـ وابصة -بكسر الموحدة- ابن معبد الأسدي، أبو شداد، وفد سنة تسع أخرج له حديثه فيمن صلى خلف الصفوف وحده محمد بن منصور وأبو داود والترمذي.
أخرج له: محمد، والمرشد بالله، والأربعة إلا النسائي. عنه: سالم بن أبي الجعد، وهلال بن يساف، وولده عمرو بن وابصة، والشعبي؛ حديث المصلي خلف الصفوف. انظر لوامع الأنوار للإمام الحجة مجدالدين بن محمد بن منصور المؤيدي أيده الله تعالى(ط2- 3/188).
، وابن عمر، ومن شاكلهم فلسنا نقطع على استواء حالهم في ذلك، فيلزم عليه ما أجاب به في أمرهم، وإنما نفرض الكلام فيمن استوى فيه الأمران وعلمنا ذلك منهم أو من غيرهم.
مسألة:[الكلام في قبول الخبر وإن اختلف اسم راويه]
ويقبل الخبر عندنا وإن اختلف في اسم راويه إذا غلب عدالته وضبطه.
والدليل على صحة ما ذهبنا إليه: أن المعتبر في الراوي عدالته وضبطه، فوجب قبول روايته.
أما أن المعتبر في الراوي عدالته وضبطه فقد تقدم فلا وجه لإعادته.
وأما أن العلم بهما يحصل من دون معرفة اسمه؛ فذلك ظاهر لأنهما لا يعلمان إلا بخبرته وتجربته وتعرف أحواله دون البحث عن اسمه والمعرفة به.
ومثال المسألة: اختلافهم في راوي حديث نبيذ التمر عن ابن مسعود، فإن منهم من قال زيد، ومنهم من قال أبو زيد، فأما إذا كان له لقب يعرف به فلا كلام أن اللقب قد يكون أشهر من الإسم، وإنما الكلام فيمن تعرف عدالته وضبطه بالخبرة والمعاشرة، ولا يعرف اسمه بل يقول الراوي عنه: أخبرني من أثق به يرفعه إلى أصله فإنا نجيز قبوله والحال هذه، وليس ذلك بأكثر من الإرسال، وسيأتي الكلام فيه.
مسألة:[الكلام في قبول الرواية إذا أنكرها من رويت عنه]
إذا روى الراوي عن غيره خبراً وأنكر ذلك الغيرُ، أو ذكر به فلم يذكر فإن روايته تقبل عند الشافعية والحنفية وكثير، وحكى شيخنا رحمه الله تعالى أن ذلك اختيار القاضي.
وذهب جماعة من الحنفية إلى أن ذلك لا تقبل روايته، وذلك هو قول أبي الحسن، والشيخ أبو الحسين يذهب إلى القول الأول، وكان شيخنا رحمه الله يعتمده، وهو الذي نختاره.
ومثال المسألة: ما روى ابن جريج(1) عن سليمان بن موسى(2) عن الزهري(3)
__________
(1) ـ ابن جريج: عبدالملك بن عبدالعزيز بن جريج، أبو الوليد. قال أحمد: ثَبْت صحيح الحديث، لم يحدث شيئاً إلا أتقنه، وقال أبو زرعة: هو من الأئمة. وقال ابن معين: ثقة إذا روى من الكتاب. توفي سنة خمسين ومائة، أو إحدى وخمسين، أو تسع وأربعين، وقد جاوز المائة. انظر الجداول (خ)، ولوامع الأنوار (ط2- 2/425).
(2) ـ في الأصل: عن مسلم بن موسى عن الزهري، وفي منهاج الوصول: ما رواه ابن جريج عن مسلم بن أبي موسى عن الزهري، وهو على ما أثبتناه في: سنن الدارمي (2/185) رقم (2184)، وسنن الترمذي (3/407) رقم (1102)، وسنن ابن ماجه (1/605) رقم (1879)، ومسند أحمد (6/165) رقم (25365)، وصحيح ابن حبان بترتيب ابن بلبان (9/384) رقم (4074)، والمستدرك (2/182) رقم (2706)، ومسند الشافعي (220)، وسنن أبي داود (2/229) رقم (2083).
وهو في هذه كلها بالسند عن ابن جريج عن سليمان بن موسى عن الزهري..إلخ.
والموجود أيضاً في كتب الرجال هو سليمان بن موسى أبو أيوب الدمشقي الأشدق، عن عطاء ونافع والقاسم وغيرهم. وعنه: الأوازعي، وابن جريج، وثور بن يزيد، وآخرون. توفي سنة تسع عشرة ومائة. انظر الجداول (خ).
(3) ـ الزهري: هو محمد بن مسلم بن عبيدالله بن شهاب بن عبدالله بن الحارث بن زهرة الزهري القرشي، أبو بكر المدني.
قال الإمام المؤيد بالله (ع): هو في غاية السقوط، قال: وقد روي أنه كان أحد حرس خشبة زيد بن علي، وقال له علي بن الحسين في كلام جرى بينهما في معاوية: كذبت يا زهري، ولا زال ملازماً لسلاطين بني أمية ومتزيياً بزي جندهم، وله الطامة الكبرى عند عبدالرزاق عن معمر عن الزهري عن عروة عن عائشة، قالت: كنت عند رسول الله -صَلَّى الله عَلَيْه وآله وَسَلَّم- فقال: إن سرك أن تنظري إلى رجلين من أهل النار فانظري إلى هذين قد طلعا؛ فنظرت فإذا العباس وعلي بن أبي طالب.
قال الإمام المنصور بالله -عَلَيْه السَّلام- في الشافي: وابن شهاب مائل إلى الدنيا أعان الظلمة من بني أمية على ملكهم بعلمه، وأصاب من دنياهم نصيباً وافراً.
وقال الإمام القاسم بن محمد -عليهما السلام- في الاعتصام (1/185): وفي بعض طرقه الزهري وكان صاحب شرطة بني أمية ولا يختلف الناس أنه كان يأخذ جوائزهم.
وحكى الذهبي أنه قال: نشأت وأنا غلام فاتصلت بعبدالملك بن مروان ثم توفي عبدالملك فلزمت ولده الوليد ثم سليمان ثم عبدالعزيز ثم لزمت هشام بن عبدالملك. انظر: لوامع الأنوار (1/176، 179)، والجداول (خ).
بإسناده عن عائشة أن النبي صَلَّى الله عَلَيْه وآله وَسَلَّم قال: ((أيما امرأة زوجت نفسها بغير إذن وليها فنكاحها باطل(1))) قال ابن جريج: فسألت مالكاً فقال: سألت الزهري عنه فأنكره ولم يعرفه.
ومثاله أيضاً: ما روى ربيعة(2) عن سهيل بن أبي صالح(3) عن النبي صَلَّى الله عَلَيْه وآله وَسَلَّم ((أنه قضى بالشاهد واليمين)) فذكر ذلك ربيعة لسهيل فأنكره، وكان بعد ذلك يقول: أخبرني ربيعة عني وهو ثقة.
واختيارنا في المسألة ما ذهب إليه شخينا رحمه الله.
والدليل على صحته: أن نسيان الراوي لما رواه جارٍ مجرى نسيان الشاعر لما قاله، والمصنف لما صنفه، والمناظر لما احتج به على الخصم، أو خرج به عن إلزامه، فكما أن نسيان الإنسان لما يروى عنه من هذه الوجوه لا يخرجه عن كونه موجوداً من قِبَله، كذلك لا يخرجه نسيان ما رواه عن كونه من جملة روايته، وهذا إنما يكون في النادر والشاذ، فأما تجويزه على العموم فذلك مما يقدح في كمال العقل، ويجوز للمروي عنه أن يرويه عن الراوي كما ذكرنا عن ربيعة وسهيل.
__________
(1) ـ رواه الإمام المؤيد بالله في شرح التجريد، وأخرجه بألفاظ متقاربة في: مسند أبي يعلى (8/139) رقم (4682)، وسنن الترمذي (3/407) رقم (1102)، وسنن أبي داود (2/229) رقم (2083)، وسنن الدارمي (2/185) رقم (2184)، ومسند أحمد (6/66) رقم (24417)، وصحيح ابن حبان (9/384) رقم (4074)، والمستدرك (2/182) رقم (2706)، وسنن البيهقي الكبرى (7/105) رقم (13377)، وسنن الدارقطني (3/221) رقم (10).
(2) ـ ربيعة بن عبدالرحمن، أبو عثمان المدني المعروف بربيعة الرأي. توفي سنة ست وثلاثين ومائة. انظر الجداول (خ).
(3) ـ سهيل بن أبي صالح ذكوان السمان الزيات المدني، وثقه ابن عبدالبر والعجلي، توفي سنة أربع ومائة. انظر الجداول (خ).
قال شيخنا رحمه الله تعالى فإن قال المروي عنه: ما رويت هذا الحديث، جاز أن يكون قال ذلك بحسب ظنه، فلا يرد الخبر لقوله، قال: فإن قال: اعلم أني ما رويته، كان ذلك معارضة لروايته أولاً، وكان تجويزنا أنه قال على ظنه لتحسيننا الظن به مساوياً لتجويزنا في الراوي أن يكون رواه عن غيره ثم أسنده إليه لسهوه وتوهمه أنه رواه فكان ظاهر قوله رحمه الله تعالى يكشف عن أنه كان لا يجيز قبول ما هذا حاله.
فأما نحن فنرى بوجوب قبوله على الحالتين جميعاً؛ لأنا نُجَوِّزُ فيمن يقول: اعلم أني ما رويت هذا الخبر أنه ظن ظناً مقارباً للعلم، أنه لم يروه فخبر عن حاله في ذلك، وهذا لا يخرجه عن روايته، وقول الراوي: اعلم أنك قلته أقرب إلى العمل عليه؛ لأنه خبر عن الإثبات، وقوله: اعلم أني لم أقله خبر عن النفي فيجري مجرى الشهادتين؛ لأن للأخبار شبهاً بالشهادات، وإن كانا يفترقان في بعض الوجوه على ما هو مذكور في فصوله وأبوابه.
مسألة:[الكلام في حكم الزيادة من الراوي العدل]
حكى شيخنا رحمه الله تعالى أن أحد الراويين العدلين إذا انفرد بزيادة أن أهل العلم اختلفوا في ذلك؛
فمنهم من قال: تقبل الزيادة على الإطلاق، وحكاه عن الشيخ أبي عبدالله والحاكم، وهو الذي نختاره.
وحكى عن أصحاب الحديث المنع من ذلك على الإطلاق.
وحكى عن قاضي القضاة أنها مقبولة إذا لم تغير إعراب اللفظ.
وحكى عن الشيخ أبي الحسين البصري أنه كان يذهب إلى أنها مقبولة إذا اختصت بشروط:
منها: أن لا يكثر عدد من لم يروها.
ومنها: ألا تكون مغيرة للفظ المزيد عليه، أو إعرابه، أو إن غيرت وكان راويها أضبط، وكان يعتمد هذا القول ويحتج له بأن الرواة إذا كانوا كثرة وكان المجلس واحداً لم يجز عليهم السهو عن تلك الزيادة على وجه الإتفاق.
قال رحمه الله: ويجوز أن يكون الراوي قد سمعها من غير النبي صَلَّى الله عَلَيْه وآله وَسَلَّم ووهم في سماعه حتى ظن أنه سمعها منه عليه وآله السلام، قال: وإن غيرت إعرابه وكان المجلس واحداً ولم يكن راويها أضبط نحو قوله: أو نصف صاع من بر، لم يقبل وعارضه قوله أو صاعاً من بر، فوجب على هذا الرجوع إلى الترجيح.
فأما الزيادة التي لا تغير لفظ المزاد عليه ولا اعرابه بمثل روايتهم عنه صَلَّى الله عَلَيْه وآله وَسَلَّم: ((أو صاعاً من بر بين اثنين(1))) ومخالفة الراوي لحفظ أدلة النقل من هذا الباب المتقدم، والخلاف فيه على نحو ما تقدم فلا وجه لإعادته.
والدليل على صحة ما ذهبنا إليه: من أن أحد الراويين إذا كان عدلاً ضابطاً مساوياً لصاحبه وانفرد بزيادة وجب قبولها: أن الوجه الذي أوجبنا قبول قوله في أصل الخبر هو قائم بعينه في الزيادة، وهو كونه عدلاً ضابطاً فإذا قبلنا منه أصل الخبر قبلنا الزيادة، وقد ثبت قبول أصل الخبر فثبت وجوب قبول الزيادة.
وما قال رحمه الله تعالى من أن المجلس إذا كان واحداً جاز أن يسمعها من غير النبي صَلَّى الله عَلَيْه وآله وَسَلَّم ويتوهم أنه سمعها من النبي صَلَّى الله عَلَيْه وآله وَسَلَّم ويجوز أن ينسى الراوي بعض ما سمعه فلا يرويه، ويجوز أن يشغله بعض العوارض عن بعض الحديث فلا يسمعه.
__________
(1) ـ روى الإمام زيد بن علي -عليهما السلام- في المجموع صفحة (198) عن علي -عَلَيْه السَّلام- قال: قال رسول الله -صَلَّى الله عَلَيْه وآله وَسَلَّم-: ((صدقة الفطر على المرء المسلم يخرجها عن نفسه وعمن هو في عياله صغيراً كان أو كبيراً ذكراً أو أنثى حراً كان أو عبداً نصف صاع من بر..إلخ.
وأخرجه بألفاظ متقاربة في: مسند أحمد (5/432) رقم (23714)، والمعجم الكبير (2/87) رقم (1389) والآحاد والمثاني (1/452) رقم (629).
فأما إذا كان أحدهما أضبط وقدرنا اتفاقهما في السماع، واستواء حالهما في الطلب والإنصات، فتحسين الظن به أيضاً يقضي بأنه سمع الزيادة في موقف آخر إن لم يوقتا لنا الحديث فإن وقتاه بوقت واحد قبلنا رواية الأضبط؛ لأن الظن لما يرويه أقوى، ذلك مفروض علينا سواء كان راوي الزيادة أو الأصل.
فأما رواية نصف الصاع والصاع، فنحن نجعلها من الأخبار التي أحدها تثبت الحكم الشرعي وباقيها ينفيه، وسيأتي الكلام فيه.
فأما رواية الراوي: (أو صاعاً من البر بين اثنين)، فرددنا هذه لضرب من الترجيح.
مسألة:[الكلام في حكم الزيادة أيضاً]
قال شيخنا رحمه الله: وأما إذا روى الراوي زيادة متقدمة أو متأخرة، ثم إنه أسند الرواية إلى مجلسين قُبِل ذلك، وإن لم يسندها أيضاً قُبِلَ ذلك، وحمل أن ما رواه وقع في مجلسين.
قال رحمه الله: وإن أسندهما إلى مجلسٍ آخر، وكان قد روى الخبر وقعات كثيرة من غير زيادة ثم رواه مرة أخرى بزيادة فالأغلب أنه سها في الزيادة، لأن سهو الإنسان مرة واحدة أغلب من سهوه مراراً كثيرة.
والصحيح عندنا في هذه المسألة: أن الزيادة يجب قبولها كما وجب قبول أصل الخبر، وتحسين الظن به يوجب أنه نسيها وسها عنها، وروايته للخبر مراراً كثيرة غير مؤثر في ذلك لأنه لا يمتنع سهو الإنسان في مرارٍ كثيرة، وتذكره مرة واحدة، ونحن نعلم ذلك من نفوسنا، وسهوه في الزيادة أبعد من سهوه في تركها؛ لأن الإنسان قد يسهو فلا يروي، ويبعد أن يسهو فيروي.
وما ذكره رحمه الله تعالى من أنه إذا قال: قد كنت نسيت هذه الزيادة ثم الآن ذكرتها قبلت روايته مستقيم، وتحسين الظن به يوجب اعتقاد ذلك فيه، وإن لم ينطق به.
وكذلك إذا كان له كتاب يرجع إليه مع أنه رحمه الله تعالى قد صرح في هذه المسألة بما ذهبنا إليه؛ لأنه قال: إن نسيان الضابط لما سمعه مع تطاول الزمان أكثر وأغلب من روايته لما لم يسمعه توهماً منه أنه سمعه، فوجب لذلك قبول هذه الزيادة، وهذا الإحتجاج كما ترى شامل للزيادة على أي وجه وقعت؛ فإن تعارضت روايته وزيادته كان الواجب علينا أن نبحثه، فإن قال: أغفلت عن هذه الزيادة عملنا على قوله بلا خلاف في ذلك، وإن لم نبحثه لعارض أو مانع، وكانت الزيادة منافية لبعض الأصل كانت من باب الخاص والعام، وأجرينا عليها حكمه ولا يجوز تقدير زيادة تنافي الجملة في خبر واحد؛ لأن هذا يكون من باب الناسخ والمنسوخ.
فإن وقعت فزعنا إلى التاريخ، فإن علمنا أن الزيادة متراخية عن الأصل على الشروط المعتبرة في الناسخ قضينا بها واطرحنا الأصل، وإن لم يعلم التاريخ تعارضا وفزعنا إلى طلب الدلالة.
مسألة:[الكلام في قبول المراسيل]
اختلف أهل العلم في قبول المراسيل، ومعنى ذلك أن يحذف الراوي الإسناد، ويقول: قال رسول الله صَلَّى الله عَلَيْه وآله وَسَلَّم، ولا يذكر من رفع له الخبر إليه.
فمنهم من منع منه على الإطلاق، وحكى شيخنا رحمه الله تعالى أن ذلك قول أصحاب الظاهر، وطائفة من أصحاب الحديث.
ومنهم من قال: إنها مقبولة على الإطلاق وحكى أنه مذهب أكثر الحنفية وكثير من المتكلمين، منهم أبو عبدالله البصري، وأبو الحسين البصري، والحاكم، وأنه اختيار السيد أبي طالب عَلَيْه السَّلام، وكان رحمه الله تعالى يذهب إليه، وهو الذي نختاره.
ومنهم من فصَّل:
وقال: تقبل مراسيل الصحابة والتابعين ومَنْ بعدهم مَنْ يكون مِنْ أئمة النقل، وحكى ذلك عن عيسى بن أبان.
وقال الشافعي: لا تقبل المراسيل إلا أن يعضدها ما يقويها، وظاهر قوله أن مراسيل الصحابة مقبولة، واختلف قوله في التابعين، ونص أن مراسيل سعيد بن المسيب(1) مقبولة، فكان إطلاقه هذا يقضي بأن من يعلم من حاله أنه لا يسترسل في الرواية أنه يقبل مسنده إما مذهباً وإما إلزاماً، وقوله هذا يقرب من قولنا.
قال شيخنا رحمه الله تعالى: وإلى قريب من مذهبه ذهب القاضي.
والدليل على صحة ما ذهبنا إليه من وجوب قبول المراسيل، إجماع الصحابة على ذلك، وإجماعهم حجة فوجب قبول المراسيل.
أما أن الصحابة أجمعت على ذلك: فذلك ظاهر من حالهم لمن تتبع آثارهم، وتصفح أخبارهم، ولهذا قال البراء بن عازب(2)
__________
(1) ـ سعيد بن المسيب –بضم الميم، وفتح المهملة، وتشديد المثناة التحتية المفتوحة، ثم موحدة- بن حزن –بفتح الحاء المهملة وسكون الزاي، وبالنون- بن أبي وهب، أبو محمد القرشي المخزومي، ولد لسنتين من خلافة عمر، يروي عن علي -عَلَيْه السَّلام- وابن عباس وأبي سعيد وجابر وأبي هريرة وخلق من الصحابة والتابعين، وعنه: ابن جدعان وابن المنكدر والزهري وعبدالله بن محمد بن عقيل وخلق.
توفي سنة أربع وتسعين عن تسع وسبعين. خرج له الجماعة وأئمتنا الخمسة والسمان.
انظر: لوامع الأنوار للإمام الحجة مجدالدين بن محمد بن منصور المؤيدي –أيده الله تعالى- (ط2- 2/467)، والجداول لسيدي العلامة عبدالله بن الإمام الهادي –رحمهما الله تعالى-.
(2) ـ البراء بن عازب الأنصاري الأوسي، ابو عمارة صحابي جليل القدر استصغر هو وابن عمر يوم بدر وشهد أحداً وما بعدها وبيعة الرضوان، وشهد مع أمير المؤمنين الجمل وصفين والنهروان.
عنه: ابن أبي ليلى وغيره.
توفي بالكوفة بعد التسعين، خرج له أئمتنا الخمسة الأخوان والموفق بالله والمرشد بالله ومحمد بن منصور -عليهم السلام-. والستة: البخاري ومسلم وأبو داود والنسائي والترمذي وابن ماجه. انظر لوامع الأنوار لمولانا الإمام الحجة مجدالدين بن محمد المؤيدي أيده الله تعالى(ط2- 3/67، 68).
بحضرة الجماعة: (ليس كل ما أحدثكم به سمعته من رسول الله صَلَّى الله عَلَيْه وآله وَسَلَّم إلا أنا لا نكذب)، فدل على أنه كان يحذف ويقول: قال رسول الله صَلَّى الله عَلَيْه وآله وَسَلَّم.
وكذلك روى ابن عباس عن النبي صَلَّى الله عَلَيْه وآله وَسَلَّم أنه قال: ((لا ربا إلا في النسية))، ثم سئل عن ذلك، فقال: رواه أسامة بن زيد(1) عنه عليه وآله السلام.
وروي عنه أنه روى أن رسول الله صَلَّى الله عَلَيْه وآله وَسَلَّم قطع التلبية لما رمى جمرة العقبة، وقال بعد ذلك: رواه لي الفضل بن العباس(2).
__________
(1) ـ أسامة بن زيد بن حارثة القضاعي، الكلبي نسباً، الهاشمي ولاءً، أبو زيد المدني، كان مولى لخديجة بنت خويلد. قلت: أي أبوه.
قال: فوهبته للنبي -صَلَّى الله عَلَيْه وآله وَسَلَّم- وهو ابن ثمان، وكان يدعى زيد بن محمد، فنزل: {ادْعُوهُمْ لِآبَائِهِمْ} [الأحزاب:5].
قال السيد الإمام: وأمه أم أيمن، وكان النبي -صَلَّى الله عَلَيْه وآله وَسَلَّم- أمره على جلة المهاجرين، وذكر السيد المرشد بالله أنه لم يقاتل مع علي مع تفضيله لعلي تأولاً منه أنه لا يقاتل أهل الشهادتين هكذا قيل..إلى قوله: توفي سنة أربع وخمسين. وروى عنه عبدالرحمن بن عوف وكريب وأبو ظبيان، وأخرج له الستة وبعض أئمتنا. انتهى. انظر لوامع الأنوار (ط2- 3/48، 50).
(2) ـ الفضل بن العباس بن عبدالمطلب، ابن عم رسول الله -صَلَّى الله عَلَيْه وآله وَسَلَّم- أكبر ولد العباس وبه يكنى، شهد الفتح وما بعدها وثبت في حنين، وأردفه النبي -صَلَّى الله عَلَيْه وآله وَسَلَّم- في حجة الوداع من مزدلفة إلى منى وكان جميلاً، دخل الشام للجهاد وبه توفي في طاعون عمواس سنة ثمان عشرة، وعنه: أخواه عبدالله وقثم وجابر بن عبدالله وغيرهم. أخرج له: المؤيد بالله والمرشد بالله ومحمد والجماعة. انظر لوامع الأنوار (ط2- 3/171).
وروي أنه روى: ((من شيّع فله قيراط من الأجر، ومن جلس حتى يدفن فله قيراطان(1))) ثم ذكر أن أبا هريرة حدثه بذلك.
وروي عنه أنه روى أن رسول الله صَلَّى الله عَلَيْه وآله وَسَلَّم قال: ((من أصبح جنباً فلا صوم له)) ثم أسنده بعد ذلك إلى الفضل بن العباس.
وأمثال هذا كثير يعلمه من تصفح آثارهم بدلالة أن الراوي كان إذا روى لهم عن النبي صَلَّى الله عَلَيْه وآله وَسَلَّم لم يطالبوه بالإسناد، ولأن ابن عباس لما روى لهم هذه الأخبار لم ينكروا عليه إرساله، وذلك معلوم منهم على الحد الذي علمنا منهم العمل على خبر الواحد.
وأما أن إجماعهم حجة فسيأتي بيانه في بابه إن شاء الله تعالى.
ودليل آخر: وهو أن إرسال الراوي لما رواه جارٍ مجرى تعديله لمن روى الخبر عنه، ولا شك أن تعديله لمن روى الخبر عنه يوجب قبول خبره، فكذلك إرساله.
أما أن إرساله لما رواه جارٍ مجرى تعديله لمن روى الخبر عنه: فلأن تحسين الظن به يقضي بذلك؛ لأنه لا يقول قال رسول الله صَلَّى الله عَلَيْه وآله وَسَلَّم إلا فيما يقطع على صحته، فكأنه يقول: أخبرني فلان وهو ثقة عندي، مرضي لدي.
وأما أن تعديله لمن روى الخبر عنه يوجب قبول روايته: فذلك مما لا خلاف فيه.
مسألة:[الكلام في الراويين إذا أرسل أحدهما وأسند الآخر]
أحد الراويين إذا أسند وأرسل غيره لم يقدح ذلك في عدالته، وخالف في ذلك بعض الشافعية.
__________
(1) ـ أخرجه بألفاظ متقاربة في: السنن الكبرى (1/645) رقم (2124)، والجامع الصحيح المختصر (1/26) رقم (47)، وصحيح مسلم (2/652) رقم (945)، وسنن أبي داود (3/202) رقم (3168)، والنسائي في المجتبى من السنن (4/54) رقم (1940)، وسنن ابن ماجه (1/491) رقم (1539)، ومسند أحمد (2/2) رقم (4453)، وصحيح ابن حبان (7/347) رقم (3078) وسنن البيهقي الكبرى (3/412) رقم (6536)، وجلاء الأبصار للحاكم الجشمي رحمه الله تعالى.
والدليل على صحة ما ذهبنا إليه: أن إرسال غيره لا يقدح في عدالته ولا في ضبطه، فوجب قبول خبره مع ذلك.
أما أنه لا يقدح في عدالته ولا في ضبطه؛ فذلك ظاهر؛ لأنه فعل ما يجوز له فلم يقدح ذلك في عدالته إن لم يزدها قوة؛ لأنه إذا ذكر من روى له على بعض الوجوه كان أبعد من التهمة.
وأما أنه إذا لم يقدح في عدالته ولا في ضبطه وجب قبول خبره: فلما تقدم من أن الرواي إذا اجتمعت فيه العدالة والضبط قبل خبره بلا خلاف في ذلك.
مسألة:[الكلام في قبول خبر المدلِّس]
وخبر المدلس مقبول عندنا خلافاً لبعضهم.
ومعنى التدليس: أن يسند الراوي الخبر إلى شيخ شيخه، ويحذف ذكر شيخه إذا كان أرفع منه رتبة، ويوهم أنه سمع منه الحديث كالذي عن عكرمة(1) عن ابن عباس، فيحذف ذكر عكرمة، ويقول: قال ابن عباس قال رسول الله صَلَّى الله عَلَيْه وآله وَسَلَّم، وما شاكل ذلك.
والذي يدل على جواز قبول ما هذا حاله أن التدليس ضرب من الإرسال، وقد بينا فيما تقدم أن المراسيل مقبولة.
أما أن التدليس ضرب من الإرسال فذلك ظاهر؛ لأن الإرسال حذف جميع الرواة، والتدليس حذف بعضهم، فكان ضرباً منه، وكما جاز له ترك الكل جاز له ترك البعض بطريقة الأولى.
__________
(1) ـ عكرمة مولى ابن عباس البربري، أبو عبدالله، كَذَّبه يحيى بن سعيد الأنصاري، وروى عبدالله بن الحارث عن علي بن عبدالله أنه قال: إن هذا الخبيث يكذب على أبي، ويروى عن ابن المسيب أنه كذبه، وابن سيرين.
وعن أبي ذيب: ليس بثقة، وقال محمد بن سعد: ليس يحتج بحديثه.
ثم إنهم رووا عنه أنه كان يرى رأي الخوارج.
قال الإمام القاسم بن محمد -عليهما السلام-: عكرمة مولى ابن عباس -رضي الله عنه- كان كذاباً كما هو مذكور في كتب الجرح والتعديل، وكان يبغض علياً -عَلَيْه السَّلام- ولا يبغضه إلا منافق. تمت بتصرف. انظر لوامع الأنوار (1/172)، والاعتصام (1/185).
وأما أن المراسيل مقبولة: فقد تقدم، فلا وجه لإعادته، وهو وإن أساء في إيهامه مثل هذا القدر لا يقدح في عدالته من حيث أنه لم يأخذ إلا عن الثقة العدل، وإنما عدل إلى الأكبر وهو صادق في روايته عنه لبعض الأغراض الصحيحة في الدين، فلم يقدح في عدالته فوجب قبول خبره.
مسألة:[الكلام في المرفوع والموقوف]
إذا أسند أحد الراويين ووقفه الآخر على الصحابي قبل عندنا، وقد خالف بعضهم في ذلك.
والذي يدل على صحة ما ذهبنا إليه: أن الراوي إذا كان عدلاً ضابطاً وجب قبول خبره، ووقف غيره للخبر لا يقدح في عدالته؛ لأنه لا يمتنع أن يرفع الصحابي الخبر مرة، ولا يرفعه مرة أخرى فيسنده من سمعه مرفوعاً، ويقفه من سمعه موقوفاً.
مسألة:[الكلام في الرواية بالمعنى]
اختلف أهل العلم في رواية الحديث بالمعنى من دون إيراد اللفظ الذي نطق به النبي صَلَّى الله عَلَيْه وآله وَسَلَّم؛
فحكى شيخنا رحمه الله تعالى أن الجمهور ذهبوا إلى جواز روايته بالمعنى على الإطلاق.
وأن قوماً ذهبوا إلى المنع منه على الإطلاق، وهم بعض أصحاب الحديث.
وذهب القاضي إلى أنه إذا كان الراوي ضابطاً عارفاً بمعناه جاز، وإلا وجب نقله بلفظه وهو الذي نختاره.
وحكى أبو عبدالله الجرجاني(1) عن بعض أصحاب أبي حنيفة أنه إذا كان للخبر معنى واحداً جاز نقله بمعناه، وإن كان له معنيان أو أكثر وجب نقله بلفظ النبي صلى الله عليه وآله.
__________
(1) ـ أبو عبدالله الجرجاني: هو محمد بن يحيى الجرجاني من مشاهير أصحاب أبي حنيفة، له كتاب ترجيح مذهب أبي حنيفة. توفي سنة (297هـ).
وحكى رحمه الله تعالى عن الشيخ أبي الحسين البصري تفصيلاً ذكر أنه مذهب الحسن البصري(1) وأبي حنيفة والشافعي، وهو أنه قال: لا يخلو إما أن يَسُدَّ خبر الراوي مسدَّ خبر النبي صَلَّى الله عَلَيْه وآله وَسَلَّم بغير زيادة ولا نقصان، أو يزيد أو ينقص.
فإن لم يسد مسده بل زاد أو نقص لم يجز تأدية الحديث به؛ لأنه يكون كذباً على النبي صلى الله عليه وآله والكذب عليه لا يجوز.
وإن سد مسده بغير زيادة ولا نقصان لم يخل أيضاً إما أن يكون لفظ الراوي أغمض من لفظ النبي صَلَّى الله عَلَيْه وآله وَسَلَّم أو أجلى، فإن كان أغمض أو أجلى لم يجز.
قال رحمه الله تعالى: لأنه لا يمتنع أن يعلم الله تعالى تعلق المصلحة بإيراده غامضاً أو إيراده جلياً، ولا سد لفظ الراوي مسده، ولا يقوم مقامه فينقض الغرض.
والذي يدل على صحة ما ذهبنا إليه: أن الراوي إذا كان عدلاً ضابطاً عارفاً بمعناه جاز له روايته؛ لأنا متعبدون بمعنى الحديث دون تلاوة لفظه، والمعنى حاصل، وإن نقل إلينا بلفظ آخر.
__________
(1) ـ الحسن بن أبي الحسن يسار البصري، ولد لسنتين من إمارة عمر، سمع أمير المؤمنين على الصحيح وجماعة من الصحابة، كان إماماً كبير الشأن عدلياً قوالاً بالحق آمراً بالمعروف ناهٍ عن المنكر، وروي عنه كلمات في جناب الوصي اعتذر أنها تقية وهو الحق.
ذكر المزي في التهذيب من طريق أبي نعيم بسنده إلى يونس بن عبيد أنه سأل الحسن: لم ترفع الحديث إلى النبي -صَلَّى الله عَلَيْه وآله وَسَلَّم- وأنت لم تدركه؟ فقال: سألتني عما لم يسألني أحد قبلك، ولولا منزلتك مني ما أخبرتك، إني في زمان كما ترى –وكان في زمان الحجاج- كل شيء سمعتني أقول فيه قال رسول الله –صَلَّى الله عَلَيْه وآله وَسَلَّم- فهو عن علي بن أبي طالب غير أنني لا أستطيع أن أذكر علياً. توفي سنة عشر ومائة، وهو ابن ثمان وثمانين سنة. انظر الجداول (خ)، المنية والأمل.
أما أنا متعبدون بمعناه دون تلاوة لفظه: فذلك ظاهر بالإجماع.
وأما أن المعنى حاصل وإن نقل إلينا بلفظ آخر: فذلك معلوم لنا من ألفاظ اللغة العربية؛ لأن أكثرها يكشف عن معنى غيره، ويقوم مقامه كالجلوس والقعود والقيام والإنتصاب والمشي والسير، والرزق والإنفاق، والسعي والإحصار..إلى غير ذلك مما يطول شرحه، وفيما ذكرنا كفاية.
وقوله رحمه الله تعالى: إن المصلحة لا يمتنع تعلقها بالظاهر أو الغامض لا يلزم؛ لأنا نقول: لو علم الله تعالى ذلك لتعبدنا بتلاوة لفظ الخبر كما تعبدنا بتلاوة لفظ القرآن، ولفظ الأذان والتشهد لما علم أن المصلحة متعلقة بتلاوة لفظ ذلك، فلما لم يتعبدنا بتلاوة لفظ الخبر علمنا أنه لا مصلحة لنا في اللفظ، وإنما تعلق مصلحتنا بالمعنى، فإذا حصل لنا المعنى جاز بأي لفظ كان.
مسألة:[الكلام في الوجادة]
إذا عرف الراوي خطه في كتابه وذكر أنه قرأه على شيخه إما جملة وإما تفصيلاً أو قرأه عليه شيخه، فلا خلاف أنه يجوز له روايته، ويجب قبول خبره، وإن شك في سماعه أو التبس عليه حاله، ولم يرجح وقوع السماع ولا نفيه فلا خلاف أنه لا يجوز له روايته؛ لأنه لا يجوز أن يروي الإنسان عن غيره ما لا يغلب على ظنه صحته بالإتفاق؛ فإن غلب على ظنه سماعه أو عرف علامة خط شيخه أو خط نفسه فيما يغلب على ظنه أنها لا تقع إلا فيما سمعه، فقد اختلفوا في ذلك.
فحكى شيخنا رحمه الله تعالى عن أبي حنيفة أنه لا يجوز له أن يرويه ولا يجوز له قبول روايته ولا العمل على خبره؛ لأنه لا يجوز أن يقول: حدثني فلان وهو لا يعلم أنه حدثه، وبناه على الشهادة.
وحكى عن أبي يوسف ومحمد(1) و ش: جواز روايته ووجوب قبول خبره والعمل به، وهذا غير بعيد على أصلنا بل هو الذي نختاره؛ لأن أكثر الأخبار والشرائع مبناها غالب الظن.
والدليل على صحته: أن الصحابة اتفقوا على العمل على ما هذا حاله وأجمعوا عليه وإجماعهم حجة، ولهذا فإنهم رجعوا إلى كتاب عمرو بن حزم(2) الذي كتبه إليه النبي صَلَّى الله عَلَيْه وآله وَسَلَّم، وأخذوا كثيراً من أصول الشرائع منه، وعولوا على مجرد الخط لما غلب على ظنهم صحته وأنه بإملاء النبي صلى الله عليه وآله.
وكان شيخنا رحمه الله تعالى يقول: إن صح أنهم رجعوا إليه بمجرد الخط جازت الرواية بغالب الظن، ووجب العمل عليه، وإلا لم يجز.
__________
(1) ـ محمد بن الحسن بن فرقد الشيباني بالولاء، الفقيه الحنفي، أبو عبدالله، ولد سنة (135هـ) كان من بحور العلم، تفقه على أبي يوسف صاحب أبي حنيفة وحضر مجلس أبي حنيفة سنتين، روى عن مالك وعن الإمام النفس الزكية محمد بن عبدالله، وصنف كتباً كثيرة ومنه انتشر فقه أبي حنيفة، وكان من القائلين بالعدل والتوحيد من الفقهاء، وهو الذي وقف في وجه هارون الرشيد لما أراد نقض أمان يحيى بن عبدالله، وقال: هذا أمان صحيح لا يجوز نقضه، توفى بالري سنة (187هـ).
(2) ـ عمرو بن حزم -بفتح المهملة وسكون الزاي- بن زيد الأنصاري الخزرجي أبو الضحاك، شهد الخندق وولي نجران، وبعث معه النبي -صَلَّى الله عَلَيْه وآله وَسَلَّم- بكتاب فيه الفرائض والسنن والصدقات والجروح والديات وكتابه مشهور. روى منه المؤيد بالله -عَلَيْه السَّلام- وخرجه جميعه أبو الغنائم النرسي في الأربعين، ورواه أبو داود والنسائي متفرقاً. وعنه: ابنه محمد. توفي سنة إحدى وخمسين. انظر لوامع الأنوار (ط2- 3/165، 166).
مسألة:[الكلام في خبر الواحد إذا ورد في أصول الدين ولم يحصل معه العلم]
خبر الواحد إذا ورد في أصول الدين ولم يحصل معه العلم لم يجب علينا العمل به، ووجب رده خلافاً للإمامية وأصحاب الحديث.
والذي يدل على صحة ما ذهبنا إليه: أن الواجب في أصول الدين هو المصير إلى العلم، وخبر الواحد قد لا يحصل معه العلم.
أما أن الواجب علينا في أصول الدين هو المصير إلى العلم: فلأن التكليف علينا في أصول الدين مداره على الإعتقادات، والإقدام على الإعتقاد الذي لا يؤمن كونه جهلاً قبيح ينزل في القبيح منزلة الإقدام على ما يعلم كونه جهلاً قبيحاً، وذلك لا يجوز.
والعلم: هو الإعتقاد الذي تسكن له نفس المعتقد إلى أن معتقده أو ما يجري مجرى المعتقد على ما اعتقده، ولا يجوز كونه بخلافه، وهذا لا يحصل بخبر الواحد متسقاً، فثبت أنه لا يجوز على هذا الوجه العمل على خبر الواحد.
مسألة:[الكلام في أخبار الآحاد الواردة فيما تعم به البلوى علماً]
حكى شيخنا رحمه الله عن أصحابنا رحمهم الله تعالى: أن كل خبر جاء مجيئاً خاصاً في أمر تعم به البلوى علماً يجب رده كما رددنا خبر الإمامية في الإثني عشر، والبكرية(1) في النص على أبي بكر.
قال رحمه الله تعالى: واعلم أنما هذا حاله لا يخلو إما أن يكون عليه من الأدلة القاطعة العقلية ما يكشف عنه ويرد موافقاً لها، أو لا يكون.
فإن كان عليه من الأدلة القاطعة العقلية ما يكشف عنه قبل فيه خبر الواحد كالأخبار التي نرويها بنفي الرؤية عن الله سبحانه؛ لأنه لا يمتنع أن تتعلق المصلحة بورودها من جهة الآحاد، إذ قد نصت عليها من الأدلة العقلية ما يقضي بصحتها، فكانت أخبار الآحاد كالمؤكدة لها.
__________
(1) - البكرية: أحد فرق المجبرة، أصحاب بكر بن عبدالواحد، اختصوا بالقول بأن الطفل لا يتألّم، وأن إمامة أبي بكر منصوصة نصاً جلياً، أنظر: الملل والنحل.
وإن لم يكن عليها من الأدلة ما يقضي بصحتها رددناها بدلالة أنه سبحانه لا يتعبدنا بالعلم بشيء، ولا يجعل لنا إليه طريقاً؛ لأن ذلك يلحق بتكليف ما لا يمكن، وهو قبيح، والله تعالى لا يفعل القبيح، وموضع تفصيل هذه الجملة هو أصول الدين، فثبت أن خبر الواحد لا يجب قبوله فيما قدمنا.
مسألة:[الكلام في قبول أخبار الآحاد الواردة فيما تعم به البلوى عملاً]
فأما إن كان الخبر مما تعم به البلوى عملاً فورد خاصاً، فقد حكى شيخنا رحمه الله تعالى اختلاف أهل العلم في ذلك.
فروى عن عيسى بن أبان، وأبي الحسن، وجماعة أصحاب أبي حنيفة، والشيخ أبي عبدالله البصري، أن ذلك لا يجوز.
وحكى عن الشافعي وجماعة أصحاب الحديث أنه يقبل، قال رحمه الله تعالى: وهو مذهب أبي علي والقاضي، وأبي الحسين البصري، وكان رحمه الله يعتمده، ونحن نختاره.
والدليل على صحته أن الصحابة أجمعت على قبول أخبار الآحاد فيما هذا حاله، وإجماعهم حجة على ما يأتي بيانه.
أما أن الصحابة أجمعت، فذلك ظاهر من حالهم؛ لأنهم قبلوا خبر عبد الرحمن بن عوف في قصة المجوس، وتوريث المرأة من دية زوجها، ووجوب الغسل من الإيلاج، وكل هذه الأخبار مما تعم بها البلوى عملاً.
وأما أن إجماعهم حجة فسيأتي بيانه.
ومما يجري هذا المجرى الأخبار الواردة في وجوب الوضوء من مس الذكر، والوضوء من الرعاف، والغسل من غسل الميت، وإيجاب الوضوء على من مسه، وإيجاب الوتر، والمشي خلف الجنازة، وكثير من الأحكام التي تعم بلواها، ووردت من طريق الآحاد.
وإنما رددنا بعض هذه الأخبار لأخبار ترجحت عليها، أو لأدلة عارضتها، لا أنها أخبار آحاد فيما تعم به البلوى عملاً لأنا قد دللنا على وجوب قبولها فيما تقدم.
مسألة:[الكلام في أن الخبر إذا ظهر في الأصل ظهوراً عاماً ثم ورد خاصاً لا يُقبل]
قال شيخنا رحمه الله تعالى: فأما إذا ورد الخبر بشيء ظهر في الأصل ظهوراً عاماً والعادة جارية فيما ظهر ذلك الظهور أن ينقل نقلاً عاماً، ثم ورد ذلك خاصاً فإنه لا يقبل، وهذا الذي نختاره.
وقد خالف في ذلك أبو علي وقال إنه يقبل.
ومثال المسألة: الجهر ببسم الله الرحمن الرحيم.
والدليل على صحة ما ذهبنا إليه: أن كل أمرين استويا في الظهور، وكان الداعي إلى نقل أحدهما كالداعي إلى نقل الآخر، فإنه يجب أن يستوي نقلهما؛ لأن ما دعا إلى نقل أحدهما هو بعينه داعٍ إلى نقل الآخر، لولا ذلك لجوزنا أن يكون إمرؤ القيس قد عُورض بقصائد تبرز على شعره في الفصاحة والجزالة ولم ينقل إلينا، ولجوزنا أن يكون موسى صلى الله عليه قد عورضت معجزاته بما هو أبهر منها، وإنما لم تنقل إلينا.
وكذلك القرآن الحكيم نجوز معارضته على هذا القول بما هو مساوٍ له في النظم والفصاحة، وإن لم ينقل على حد نقله، وكل ذلك لا يجوز لأن ما دعا إلى نقل أحدهما هو بعينه يدعو إلى نقل الآخر، فإذا استويا لم يكن لأحدهما مزية على الآخر، ولا وجه يوجب نقل أحدهما دون الآخر مع الإستواء، فيجب أن نقضي بفساده.
فأما ما ذكره شيخنا رحمه الله تعالى من أن ذلك يجب من طريق العادات والعادة لا يقاس عليها، ولا تكون طريقاً إلى العلم بشيء أصلاً، فإذا لم ينقل إلينا أحد الأمرين مع استوائهما في باب الدواعي إلى نقلهما علمنا بذلك أنهما لم يستويا في الظهور في الأصل.
فأما الجهر بالبسملة فقد علل شيخنا رحمه الله تعالى تعذر استوائهما في ظهور النقل بعلة ظاهرة، وهي أنهما لم يستويا في الأصل؛ لأن النبي صَلَّى الله عَلَيْه وآله وَسَلَّم كان يجهر بالبسملة في حال اشتغال المسلمين بالتكبير فيسمعه بعضهم يجهر، وبعضهم لا يسمعه من رهج التكبير، وليس كذلك الفاتحة لأنه يفرغ من البسملة عند فراغهم من التكبير فيسمعه الكل أو الأكثر، فلهذا استفاض نقل الجهر بالفاتحة، ولم يستفض نقل الجهر بالبسملة.
مسألة:[الكلام في الخبر إذا ورد بخلاف القياس هل يُقبل ويُترك القياس أم لا؟]
اختلف أهل العلم في الخبر إذا ورد بخلاف القياس هل يقبل ويترك القياس أم لا؟
فحكى شيخنا رحمه الله تعالى عن الشافعي أن الأخذ بالخبر أولى، وهو قول أبي الحسن.
وقال عيسى بن أبان: إن كان راوي الحديث ضابطاً عالماً غير متساهل فيما يرويه، وجب قبول خبره وترك القياس، وإن كان الراوي بخلاف ذلك كان موضع اجتهاد.
وذكر أن في الصحابة من رد حديث أبي هريرة بالإجتهاد.
وحكى عن مالك أنه رجّح القياس على الخبر.
ومنهم من قال طريقه الإجتهاد.
وحكى شيخنا رحمه الله تعالى عن الشيخ أبي الحسين البصري تفصيلاً في ذلك محصوله يرجع إلى أن الخلاف بين العلماء إنما وقع في القياس الذي يكون الحكم في أصله ثابتاً بدليل مقطوع به، وتكون علته مستنبطة أو ثابتة بنص غير مقطوع به، وورد خبر الواحد بخلافه دون ما ليس كذلك، وإن كان الأصوليون ذكروا الخلاف فيه مطلقاً.
وكان شيخنا رحمه الله تعالى يذهب إلى أن الخبر أولى من القياس، وهو الذي نختاره.
والدليل على صحته: أن الخبر قائم في الدلالة بنفسه، والقياس لا بد من رجوعه إلى غيره من أصله وعلته، فكان اتباع ما هو دلالة بنفسه أولى مما تعتبر صحته بصحة غيره، ولأن الصحابة أجمعوا على إطراح القياس عند وجود الخبر، وإجماعهم حجة؛ فثبت أن الخبر أولى من القياس.
أما أن الصحابة أجمعوا على إطراح القياس عند وجود الخبر؛ فذلك ظاهر من صنعهم كما قدمنا في الرواية عن أبي بكر أنه ترك اجتهاده في توريث الجدة بالخبر، وكذلك عمر في دية الأصابع والجنين لما بلغه من الأخبار التي قدّمنا، وكان ذلك من غير مناكرة بينهم فكان إجماعاً.
ولأن النبي صَلَّى الله عَلَيْه وآله وَسَلَّم لما قال لمعاذ: ((بم تحكم؟)) قال: (بكتاب الله)، قال: ((فإن لم تجد؟)) قال: (فبسنة رسول الله صَلَّى الله عَلَيْه وآله وَسَلَّم)، قال: ((فإن لم تجد؟)) قال: (أجتهد رأيي)، فقدم السنة على الإجتهاد، والسنة قد تكون ما يسمعه وما ينقله إليه غيره، وذلك ظاهر من صنعهم كما قدمنا فصوبه النبي صَلَّى الله عَلَيْه وآله وَسَلَّم، فثبت أن الخبر أولى من القياس.
مسألة:[الكلام في الخبر إذا ورد بخلاف الأصول]
إذا ورد الخبر بخلاف الأصول التي هي الكتاب والسنة المقررة فإن شيخنا رحمه الله تعالى منع من قبوله.
واحتج لذلك بأن الصحابة أجمعت على رد ما هذا حاله وإجماعهم حجة كما قدمنا، فعل عمر في حديث فاطمة بنت قيس.
وعندنا أنه إذا ورد على الشرائط التي يجب معها قبوله فإنه يقبل سواء ورد بخلاف الأصول أو وافقها.
والدليل على صحة ما ذهبنا إليه: أن الدليل الذي دل على وجوب العمل بخبر الواحد لم يفصل بين خبر وخبر، ولا بين وروده مخالفاً للأصول ولا موافقاً، فلا تصح دعوى الإجماع على رده إذا خالف الأصول، بل إنا ندعي الإجماع على اتباع الخبر الذي ورد بخلاف الأصول من الصحابة، وذلك لأن عمر قبل خبر عبد الرحمن بن عوف فلم ينكره أحد مع أنه ورد بخلاف الأصول؛ لأن الكتاب والسنة المقررة قضيا بوجوب قتل المشركين وحملهم على الإسلام طوعاً وكرهاً، والمنع من قبول الفدية منهم في ذلك إلا الكتابيين، ثم لما روى عبد الرحمن الخبر في قضيتهم ترك الأصول واتبع الخبر، بمشهد الجماعة، ولم ينكره أحد بل صار أصلاً لاحقاً بالأصول.
وأما رده لخبر فاطمة بنت قيس(1) فإنما رده لتهمة عرضت في شأنها، ولهذا علله فقال: (لا ندع كتاب ربنا وسنة نبينا لخبر امرأة لا ندري أصدقت أم كذبت) فظاهر هذا القول يدل على أنه لم يرد خبرها بمجرد معارضته للكتاب والسنة؛ لأنه قد عمل بما عارضهما كما قدمنا لما غلب في ظنه صحته، فلما لم يترجح عنده صدقها على كذبها لم يجز له ترك المعلوم والعمل على الشك.
مسألة:[الكلام في الخبر إذا ورد بخلاف قياس الأصول]
فإن ورد الخبر بخلاف قياس الأصول كان الحكم فيه ما قدمنا، ثم يقع الخلاف حينئذ في تعيين الأخبار وتنويع المسائل.
فحكى شيخنا رحمه الله تعالى عن الشيخين أبي الحسن، وأبي عبدالله، أن خبر القرعة(2)
__________
(1) ـ فاطمة بنت قيس، أخت الضحاك، من المهاجرات الأولات، وهي التي جاءت النبي -صَلَّى الله عَلَيْه وآله وَسَلَّم- مستشيرة فقال: ((أنكحي أسامة)) فنكحته فاغتبطت، وكانت ذات عقل وافر وهي التي تذكر في السكنى والنفقة للمطلقة البائن. توفيت بعد الخمسين. انظر لوامع الأنوار (3/232)، والجداول (خ).
(2) ـ خبر القرعة: هو أن النبي -صَلَّى الله عَلَيْه وآله وَسَلَّم- قرع بين ستة عبيد لرجل أعتقهم في مرضه، ولا مال له سواهم، فأرق أربعة وأعتق اثنين، بعد أن جزأهم ثلاثة أجزاء.
وخبر المصراة: وهو قول النبي -صَلَّى الله عَلَيْه وآله وَسَلَّم-: ((لا تصروا الإبل والغنم، فمن ابتاعها بعد ذلك فهو مخير أحد النظرين بعد أن يحلبها ثلاثاً، فإن رضيها أمسكها، وإن سخطها ردها وصاعاً من تمر))؛ فعند الشيخين أبي عبدالله البصري وأبي الحسن الكرخي أنهما مخالفان للأصول فلا يقبلان بل يردان، ومخالفتهما للأصول كما يلي:
أما خبر القرعة: فإنه يقضي بنقل الحرية، والإجماع منعقد على أنه لا يطرأ عليها الرق، أما كونه يقضي بنقل الحرية: فإن كل واحد من العبيد يعتق ثلثه، والقرعة تقضي بنقل الثلث من الستة العبيد إلى الإثنين اللذين خرجت القرعة بحريتهما.
وأما كونه لا يطرأ عليها الرق: فإن القياس هو عتقهم جميعاً لأن الحرية تسري في جميع العبد إذا أعتق بعضه، ويسعى بقيمة ما تبقى، فكان القياس أن يسعى كل واحد بثلثي قيمته.
وأما خبر المصراة: فإنه مخالف للإجماع؛ لأن الإجماع منعقد على أن التالف يضمن بمثله إن كان مثلياً، أو قيمته إن كان قيمياً، وخبر المصراة ضمن فيه المثلي وهو اللبن بقيمي وهو التمر.
أما عند الشافعي فإن الخبرين المتقدمين مخالفان لقياس الأصول فقط فيقبلان، ومخالفتهما للقياس كما يلي:
أما خبر القرعة: فإن الإجماع إنما وقع على من عرفت حريته بعينه وإسلامه أنه لا يطرأ عليه رق، وخبر القرعة إنما أوجب الرق عليهم حيث التبس التعيين.
وأما خبر المصراة: فإن الإجماع إنما انعقد على ضمان المثلي بمثله حيث حصل اليقين بتماثلهما جنساً وصفة، ولبن المصراة يجوز أن يخالف لبن غير المصراة في صفة أو خاصية، وخبر المصراة إنما منع من قياس ما ظن فيه التماثل على ما يتيقن فيه.
ورد بخلاف الأصول، وخبر المصراة، وأن خبر نبيذ التمر(1) والقهقهة ورد بخلاف قياس الأصول.
وعند الشافعي جميع ذلك بخلاف قياس الأصول، وهي مقبولة.
وفرق أبو عبدالله بين هذه الأخبار بأن قال: كلما ورد ونفس ما تضمنه الخبر في الأصول بخلافه فهو بخلاف الأصول كخبر القرعة فإنه نقل للحرية.
__________
(1) ـ أما خبر نبيذ التمر فهو: ما ورد في حديث ابن مسعود عند البيهقي وأبي داود والترمذي وابن ماجه عن أبي فزارة عن أبي زيد عن عبدالله بن مسعود، قال: قال لي رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ليلة الجن: ((ما في إداوتك؟))، قلت نبيذ تمر، قال رسول الله-صَلَّى الله عَلَيْه وآله وَسَلَّم-: ((تمرة طيبة، وماء طهور))، وفي رواية الترمذي: ((فتوضأ منه))، ورواه ابن أبي شيبة بلفظ: ((هل معك من وضوء))، قلت: لا، قال:((فما في إداوتك))، قلت: نبيذ تمر، قال:((تمرة حلوة وماء طيب))، ثم توضّأ وأقام الصلاة، انتهى من الوض النضير، (1/172)، وأما خبر القهقة فقال الإمام القاسم بن محمد عليهما السلام في الاعتصام: وفيه - أي في الجامع الكافي - أيضاً، وروى محمد بإسناده عن زكريا بن سلّام عن عبيد بن حسان وحمزة بن سنان رفعاه قالا: قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم:((يُعاد الوضوء من سبع: من دم سائل، أو قيء ذارع، أو من دسعة تملأ الفم، أو من نوم مضطجع، أو قهقهة في الصلاة، أو من تقطار بول، أو من حدث))، انتهى، فهذان الخبران وما شابههما مخالفان لقياس الأصول بالإجماع، ووجه المخالفة:
أن خبر نبيذ التمر مخالف للقياس على سائر الأنبذة؛ فإن الإجماع منعقد على أنه لا يجزي التوضئ بها، وخبر نبيذ التمر من أنواعها، فالخبر الوارد مخالف للقياس عليها.
وخبر القهقهة مخالف للقياس على الكلام في الصلاة؛ لأن الكلام في الصلاة لا يوجب نقض الوضوء، والقهقهة من جنس الكلام؛ فالخبر الوارد مخالف للقياس عليها أيضاً.
وأجمعوا أنه لا يجوز خلاف قياس فهو ما ورد به النص ولم يوجد خلافه بعينه في الأصول، ولكن نظائره توجد كنبيذ التمر ليس في الأصول، ومخالفهم يقيسه بنبيذ الزبيب، وكذلك القهقهة يقيسها المخالف على سائر الأحداث، وعلى هذه الطريقة يجري الخلاف في سائر الأخبار هل هي مخالفة للأصول أو لقياس الأصول؟ وذلك يخرج إلى اعتبار كل خبر في نفسه.
مسألة:[الكلام في خبر الواحد إذا ورد في فيما يجب درؤه بالشبهة هل يُرد أم لا؟]
اختلف أهل العلم في خبر الواحد إذا ورد فيما يجب درؤه بالشبهة كالحدود(1) هل يرد أم لا؟
فحكى شيخنا رحمه الله تعالى عن أبي الحسن وأبي عبدالله أولاً أنه لا يقبل، ثم حكى رجوع أبي عبدالله عن ذلك، وقوله إنه يقبل.
قال رحمه الله تعالى: وذلك هو قول أبي يوسف نص عليه في الرجوع عن الشهادات، وهو ظاهر قول الشافعي، وكان شيخنا رحمه الله تعالى يذهب إلى أنه يقبل، وهو الذي نختاره.
__________
(1) ـ فلو ورد خبر آحادي في أن من قَبَّلَ امرأة، أو أتاها في دبرها أقيم عليه الحد، وجب قبول الخبر وإن كان آحادياً عند من يقول بقبوله، أو رده عند من يقول بأنه لا يقبل، على حسب الخلاف في المسألة. تمت قسطاس معنى.
والدليل على صحته: ما تقدم من وجوب العمل على خبر الواحد من غير تفصيل، وجرى ذلك بإجماع الصحابة والإجماع آكد الدلالة؛ ولأن ذلك مما قد جرت به السنة، وأن عمال النبي صَلَّى الله عَلَيْه وآله وَسَلَّم يقيمون الحدود بأمر النبي لهم بذلك، والأمة تقبل قولهم فيه من غير فَزَع إلى سواه، وأكثر ما يقال في ذلك إن خبر الواحد لا يحصل به العلم، وانتفاء العلم يكون شبهة في درأ الحد، وهذا لا يوجب ترك العمل بخبر الواحد في ذلك؛ لأن هذه العلة قائمة في شهادة الإثنين على السارق، والأربعة على الزاني؛ لأن العلم قد لا يحصل بشهادتهم بل لا يجب مراعاته فلو كان ذلك شبهة لارتفع الحد من أصله، وهذا ما لم يقل به أحد، ولأن الحد إنما يدرء عن الشخص المعين بالشبهة وورود الخبر على الجملة لا يختص بشخص ولا يعنيه فلا يصح فيه معنى الدرء، بل هو وغيره سواء، وهو في حال وروده على الجملة في حكم المرتفع، وإنما يكون الدرء لما هو في حكم الواقع.
مسألة:[الكلام في خبر الواحد إذا ورد في المقادير هل يُقبل أم لا؟]
اختلف أهل العلم في خبر [الواحد(1)] إذا ورد في المقادير(2) كابتداء النصب والكفارات هل يقبل أم لا؟
فحكى شيخنا رحمه الله تعالى عن أبي الحسن وأبي عبدالله أنه لا يقبل.
وحكى عن الشافعي والقاضي أنه يقبل، وكان رحمه الله تعالى يعتمده، ونحن نختاره.
والذي يدل على صحة ما ذهبنا إليه: إجماع الصحابة على العمل بخبر الواحد في مثل ذلك، وإجماعهم حجة، فثبت وجوب قبوله.
__________
(1) ـ ما بين المعكوفين زيادة غير موجودة في النسخة.
(2) ـ النصب: المراد بها تقدير أنصباء الزكاة، فلو ورد خطاب بخبر آحادي أن نصاب الخضروات مائتا درهم، وكذلك نصاب أموال التجارة، أو ورد خبر آحادي بتقدير الدية أو الكفارة، كأن يقول: عليكم في كفارة اليمين كذا وكذا، أو تقدير الحدود أو غير ذلك من المقادير. تمت قسطاس، معنى.
أما أنهم أجمعوا فذلك ظاهر لأن النبي صَلَّى الله عَلَيْه وآله وَسَلَّم كان يبعث سعاته في الآفاق وهم آحاد ليعرفوا الناس مقادير الحقوق من الزكوات والأعشار وكفارات الأيمان وغير ذلك من الشريعة الزاكية شرفها الله تعالى، وكذلك قبول عمر لخبر الواحد في دية الأصابع ودية الجنين، وإن كان ذلك من باب المقادير ولم ينكره أحد فكان إجماعاً.
فصل: في ذكر أنواع السماع وكيفيته
قال شيخنا رحمه الله تعالى: إذا قال الراوي: حدثني فلان أو قال: سمعت فلاناً، فقد حدث بذلك من سمعه يقول هذا القول، فلمن سمعه يقول: حدثني وأخبرني وسمعت منه أن يحدث، وإذا قُرِئَتِ الأحاديث على الإنسان فقال عند الفراغ من القراءة: الأمر كما قريء أو قال: قد سمعت ما قريء علي، فإنه يكون بهذا القول محدثاً على الجملة، فلمن سمع القراءة عليه أن يقول: حدثني وأخبرني وسمعت من فلان.
ألا ترى أنه لا فرق في جواز الشهادة على البيع بين أن ينطق البائع عند الشاهد بلفظ البيع، وبين أن يقرأ عليه كتاب البيع، فيقول: الأمر كما قريء علي.
فأما إذا قريء عليه فلم ينكر، ولم يقل الأمر كما قريء علي، أو قد سمعت ما قريء علي، فللسامع أن يعمل على تلك الأحاديث لأن تركه للنكير يدل على سماع تلك الأحاديث، وليس لمن سمع القراءة أن يقول: أخبرني أو حدثني أو سمعت منه، لأن الشيخ لم يلفظ بشيء سمعه ولا فعل التحديث والإخبار.
وإن قيل: إمساكه عن النكير يجري مجرى إباحته أن يحدث عنه.
قيل: لو أباح لهم أن يحدثوا عنه لم يجز لهم التحديث عنه؛ لأن الكذب لا يصير مباحاً بإباحته، وله أن يقول: قرأه علي فلان أو قريء عليه وأنا أسمع.
وأما المناولة: فهي أن يشير الإنسان إلى كتاب يعرف ما فيه من الأحاديث فيقول لغيره: قد سمعت ما في هذا الكتاب فيكون بذلك محدثاً بأنه سمعه، ويجوز لذلك الغير أن يرويه عنه، فيقول: حدثني فلان أو أخبرني فلان، وسواء قال أروه عني أو لم يقل ذلك.
فأما إذا قال له: حدث عني بما في هذا الجزء ولم يقل سمعته فإنه لا يكون محدثاً له به، وإنما أجاز له التحدث به عنه، فليس له أن يحدث به عنه، فلا يكون بالتحدث كاذباً، وليس يصير ذلك مباحاً بإباحته له، وإذا سمع الشيخ نسخة من كتاب مشهور لم يجز له أن يشير إلى غير تلك النسخة من ذلك الكتاب، فيقول: قد سمعته؛ لأن النسخ من الكتاب الواحد قد تختلف، إلا أن يعلم أن النسختين تتفقان.
وأما الكتابة: فهي أن يكتب الشيخ إلى غيره أنه سمع الكتاب الفلاني أو النسخة الفلانية، فإن اضطر المكتوب إليه أنه خطه جاز أن يروي عنه، وإن لم يضطر إلى ذلك لكنه ظنه، جاز له أن يروي بحسب ظنه.
فأما الإجازة: فهي أن يقول الإنسان لغيره: قد أجزت لك أن تروي عني ما صح من أحاديثي، وأصحاب الحديث يجوزون له أن يقول: حدثني فلان، قالوا: لأن قوله قد أجزتُ لك أن تروي عني ما صح من أحاديثي قد سمعته فاروه عني.
واعلم أن ظاهر الإجازة هي إباحة الشيخ التحدث عنه والإخبار عنه من غير أن يخبره ولا يحدثه، وهذا إباحة الكذب، وليس له ذلك ولا لغيره أن يستبيح الكذب إذا أبيح له، فإن ثبت أن قوله: قد أجزت لك أن تروي عني إقرار من جهة العادة أنه سمع ما صح عنه، فحكمه حكم المناولة.
واعلم أنا نقلنا هذا الفصل من كتاب شيخنا رحمه الله تعالى كما وجدناه مرسوماً في كتابه المسمى (الفائق) من غير زيادة ولا نقصان؛ لأن السماع على تنوعه أصلُه العادة والعرف؛ لأنهما يكشفان عن الأغراض، وإن كان الأمر في أصل اللغة خلاف ما نطقا، فكما جاز لنا ننطق ونروي عن الفارسي بالعربية إذا قصد بلفظه الفارسي، كذلك نروي عن الشيخ بأي معنى ودى إلينا العلم بأنه سمع الخبر وأباح لنا روايته عنه كما نجده، سواء كان ذلك من باب قراءته لنا، أو قرائتنا عليه، أو مناولته لنا، أو إشارته، أو إجازته، أو خطه، وهذا يأتي على ما تقدم من التفاصيل، فاسْبُرها تُصِب إن شاء الله تعالى.
مسألة:[في بيان من هو الصحابي]
الصحابي: من اختص بملازمة النبي صَلَّى الله عَلَيْه وآله وَسَلَّم والأخذ عنه، وهو الذي نختاره لا من لقيه مرة أو مرتين كما ذهب إليه كثير من أصحاب الحديث.
والدليل على صحة ما ذهبنا إليه: أن الصحابي مأخوذ من الصحبة، والصحبة هي العشرة والمحبة في اللغة والعرف، بدلالة أنه لا يسبق إلى فهم السامع إذا قيل فلان صاحب لفلان إلا ما ذكرنا، فثبت أن ذلك معناه في اللغة والعرف، ولأنه لو عاشره ولكنه لا يحبه، ولا يقبل منه، ولا يلتفت عليه، لم يوصف بأنه صاحب له، فإذاً اسم الصحبة بجميع الأمرين.
مسألة:[الطريق إلى إثبات الصحابي صحابياً]
اعلم أن الصحابي هو من قدمنا ذكره في المسألة الأولى والطريق إلى إثباته صحابياً وجهان:
أحدهما: يوجب العلم لا محالة، وهي الأخبار المتواترة.
والثاني: يوجب غالب الظن في أغلب الأحوال.
أما ما يوجب العلم: فهي الأخبار المتواترة أن فلاناً من أصحاب النبي الذين صفتهم ما قدمنا، كابن مسعود، وابن عباس، وغيرهما.
وأما ما يوجب غالب الظن في أغلب الأحوال: فهي الأخبار التي ثبتت من طريق الآحاد على الشرائط التي قدمنا ذكرها بأن فلاناً من أصحاب النبي صَلَّى الله عَلَيْه وآله وَسَلَّم.
فأما من أخبر عن نفسه بأنه صحابي فقد اختلف أهل العلم، فقال جماعة من أصحاب الحديث: لا يقبل، وعندنا أنه يقبل سواء رواه هو أو غيره.
والدليل على صحة ما ذهبنا إليه: أن أكثر ما يقال في المنع هذا إن خبره بأنه صحابي يورث التهمة، من حيث أنه يجلب لنفسه بذلك عظيم المنزلة ورفيع الرتبة، ومعلوم أن الصحابة كان كل واحد منهم يذكر ما اختص به من رسول الله صَلَّى الله عَلَيْه وآله وَسَلَّم من الأقوال والأفعال التي توجب له المنزلة على غيره من غير مناكرة بينهم في ذلك، ولا رد له، وهذا معلوم لمن تتبع أخبارهم، واقتص آثارهم، فلو كان ما ذكروه يوجب الرد لكانوا بقولهم لما قدمنا من الأخبار قد أجمعوا على ما لا يجوز لهم وذلك لا يصح؛ لأن إجماعهم حجة، فلا يجمعون إلا على الحق على ما يأتي بيانه في باب الإجماع إن شاء الله تعالى.
ولأن الدلالة قد قامت على قبول ما يرويه، وهذا الخبر من جملة ما يرويه، فوجب قبوله.
أما أن الدلالة قد قامت على قبول ما يرويه، فقد تقدم الكلام في ذلك بما لا طائل في إعادته.
وأما أن خبره بأنه صحابي من جملة ما يرويه، فذلك ظاهر لا يحتاج إلى برهان، فصح ما قلناه.
مسألة:[الكلام في قول الصحابي أُمرنا بكذا أو نُهينا عن كذا، ما حكمه؟]
إذا قال الصحابي أمرنا بكذا أو نهينا عن كذا، فقد اختلف أهل العلم في ذلك.
فحكى شيخنا رحمه الله تعالى عن الشافعي والقاضي والشيخ أبي عبدالله أن ذلك يحمل أن الآمر هو النبي صَلَّى الله عَلَيْه وآله وَسَلَّم دون غيره، وكان رحمه الله يعتمد هذا القول ونحن نختاره.
وحكى عن الشيخ أبي الحسن وجماعة من الحنفية المنع من ذلك، قالوا: ويجوز أن يكون الآمر والناهي غير النبي صَلَّى الله عَلَيْه وآله وَسَلَّم؛ لأنه لا دليل في الظاهر يدل على أنه هو الآمر.
والدليل على صحة ما ذهبنا إليه: أن العرف جائز(1)
__________
(1) - هكذا في النسخة ولعلها [جار]، والله أعلم.
بين أهل الأعصار بأن الإنسان إذا قال: أمرنا بكذا، أو نهينا عن كذا، أن الآمر والناهي هو الكبير المفزوع إليه دون غيره ممن لا تأثير لأمره؛ لأن أمر غيره ونهيه لا تأثير له فلا وجه لحكايته؛ فإذا كان هذا هكذا وجب أن يكون الآمر الناهي هو النبي صَلَّى الله عَلَيْه وآله وَسَلَّم.
ولأن الصحابي كان يقول ذلك على وجه الإحتجاج والبيان وقول غير النبي صَلَّى الله عَلَيْه وآله وَسَلَّم ليس بحجة.
ولأنه يفيد آمراً ومأموراً فلا يجوز أن يكون الآمر هو الأمة(1)؛ لأنها لا تكون آمرة لأنفسها فثبت بذلك ما قلناه.
__________
(1) - في النسخة: (فلا يجوز أن يكون الآمر هو أمر الأمة) والموافق للكلام ما أثبتناه والله أعلم.
مسألة:[الكلام في قول الصحابي أوجب أو حُظر علينا كذا، ما حكمه؟]
فأما قول الصحابي: أوجب علينا كذا، أو حظر علينا كذا، فهذا لا يفيد إلا إيجاب النبي صلى الله عليه وآله وحظره وإباحته؛ لأن هذه الأحكام لا تستفاد من بشر سواه، هذا إذا كان ما قال مما لا يختلف في وجوبه ولا حظره ولا إباحته، فإن كان مختلفاً فيه لم يحمل على ذلك لتجويز أن يكون قال ذلك لاجتهاد نفسه أو اجتهاد غيره إن لم يكن من أهل الإجتهاد.
مسألة:[الكلام في قول الصحابي: أمر النبي(ص) بكذا، ما حكمه؟]
فأما إذا قال الصحابي أمر النبي صَلَّى الله عَلَيْه وآله وَسَلَّم بكذا وكذا فقد اختلف أهل العلم في ذلك.
فمنهم من قال يحمل على أنه سمع ذلك من النبي صَلَّى الله عَلَيْه وآله وَسَلَّم وهو قول القاضي.
ومنهم من حمله على السماع منه أو ممن سمع منه.
ومنهم من حمله على أنه سمع ذلك من النبي صَلَّى الله عَلَيْه وآله وَسَلَّم أو ثبت عنده بدليل.
وكان شيخنا رحمه الله تعالى يحمل ذلك على أنه سمعه من النبي صَلَّى الله عَلَيْه وآله وَسَلَّم، أو ثبت عنده بفعل متواتر.
وعندنا أنه يجوز أن يقول ذلك لسماعه له عن النبي صَلَّى الله عَلَيْه وآله وَسَلَّم أو لرواية من يثق به على الشرائط التي توجب قبول الرواية أنه سمعه؛ لأن تحسين الظن به يوجب ذلك ولا معنى عندنا لحصره على السماع أو العلم من طريق التواتر؛ لأنه لا فرق بين قوله قال النبي صَلَّى الله عَلَيْه وآله وَسَلَّم كذا، وبين قوله قيل للنبي صَلَّى الله عَلَيْه وآله وَسَلَّم كذا وكذا في أن كل واحد منهما ظاهره القطع فكما يجوز أن يقول قال رسول الله صَلَّى الله عَلَيْه وآله وَسَلَّم لما بلغه من طريق الآحاد كذلك يجوز له أن يقول قيل له كذا وكذا من طريق رواية الآحاد، ولا فرق بين قوله قيل له كذا، وبين قوله أمر بكذا.
وأكثر ما يقال في هذا أن ظاهر قوله أمر بكذا قطع على أنه أمر، وتحسين الظن به يوجب أن يعتقد فيه أنه لا يقطع لغير دلالة وهذا لازم في قوله قال كذا؛ لأن ظاهره قطع فما لزم في أحدهما لزم الآخر، ومعلوم أنه لا يلزم في قوله قال رسول الله صَلَّى الله عَلَيْه وآله وَسَلَّم حصول ذلك عن العلم فكذلك في قوله أمر.
مسألة:[الكلام في قول الصحابي: عن رسول الله (ص) ما حكمه؟]
اختلفوا في قول الصحابي عن رسول الله صَلَّى الله عَلَيْه وآله وَسَلَّم.
فروى شيخنا رحمه الله تعالى عن القاضي أنه يحمل على السماع.
قال: وقال السيد أبو طالب عَلَيْه السَّلام: يحمل على الإرسال.
وكان شيخنا رحمه الله تعالى يعتمده.
وعندنا يجوز حمله على جواز وقوعه عن السماع والإرسال.
والدليل على صحة ما ذهبنا إليه: أنه لا دلالة في ظاهر اللفظ تخصه بأحد الوجهين دون الآخر، وذلك ظاهر فلا يجوز حمله على أحدهما دون الآخر؛ لأنه يكون حملاً لغير دلالة وذلك لا يجوز، والإرسال جائز وقد تقدم الدليل عليه، ولا فرق في باب التأدية إلينا والهداية لنا بين أن يقول سمعت النبي صَلَّى الله عَلَيْه وآله وَسَلَّم وبين قوله أخبرني عنه من أثق به، في أنه يجب قبول روايته في الوجهين جميعاً.
مسألة:[الكلام في قول الصحابي: إن من السنة كذا، ما حكمه؟]
إذا قال الصحابي إن من السنة كذا حمل على سنة النبي صَلَّى الله عَلَيْه وآله وَسَلَّم عندنا.
وذهب أبو الحسن إلى أنه لا يجوز حمله على ذلك حتى يتبين؛ لأنهم يطلقون ذلك في سنة الخلفاء.
والدليل على صحة ما ذهبنا إليه: أن لفظ السنة إذا أطلق أفاد سنة النبي صَلَّى الله عَلَيْه وآله وَسَلَّم فلا يجوز حمله على سواه.
أما أنه إذا أطلق أفاد سنة النبي صَلَّى الله عَلَيْه وآله وَسَلَّم، فذلك ظاهر نعلمه من نفوسنا أنه لا يسبق إلى الأفهام سوى سنته.
وأما أنه لا يجوز حمل اللفظ على سواها عند الإطلاق؛ فلأنه يكون حملاً لغير دلالة، وإثبات الأمر بغير دلالة لا يجوز؛ لأنه يفتح باب الجهالات، ويؤدي إلى اعتقاد المناقضات، ولأن الصحابي يورد ذلك مثبتاً للحكم، ومعرفاً للشرع، وذلك لا يكون إلا بما يأتي من النبي صلى الله عليه وآله [وسلم]، ولأنه لو جاز إطلاق السنة لغير النبي صلى الله عليه وآله [وسلم] لأدى إلى أن تكون السنن كثيرة فلا يفهم عند الإطلاق واحدة بعينها إلا بقرينة ومعلوم خلافه كما قدمنا.
ولأن الصحابي يورد ذلك على وجه الاحتجاج وقول من عدا النبي صَلَّى الله عَلَيْه وآله وَسَلَّم ليس بحجة على انفراده.
ومثال المسألة: ما روي عن ابن عباس رحمه الله من قوله: ((إن من السنة أن لا يُصلّى بتيمم واحد إلا فريضة واحدة)).
مسألة:[الكلام في قول الصحابي: كنا نفعل كذا، ما حكمه؟]
إذا قال الصحابي: كنا نفعل كذا، فقد قال شيخنا رحمه الله تعالى إن ذلك يحمل على فعلهم في عصر النبي صَلَّى الله عَلَيْه وآله وَسَلَّم.
قال رحمه الله تعالى لأن الصحابي لا يقول كذلك إلا وهو يريد إفادتنا حكماً، وتعليمنا شرعاً، وهذا هو المعلوم من ظاهر هذا اللفظ فلا يجوز حمله على خلافه.
واختيارنا في هذه المسألة: حمله على فعلهم في عصر النبي صَلَّى الله عَلَيْه وآله وَسَلَّم وفعلهم على وجه الإتفاق بعده؛ لأن كل واحد من الأمرين حجة على من يخاطبه الصحابي بذلك يستفيد منها الشرع ويعرف الحكم، فلا وجه فيما نرى يحظره على أحد الوجهين دون الآخر.
ومثال المسألة: ما روي عن عائشة أنها قالت: ((كانوا لا يقطعون اليد على الشيء التافه)) فإن هذا كما يحتمل زمان النبي صَلَّى الله عَلَيْه وآله وَسَلَّم يحتمل فعل الجماعة بعده؛ بل ربما يكون إفادته لعملهم بعده أقرب إلى ظاهر اللفظ؛ لأنهم لا يشركون مع النبي صَلَّى الله عَلَيْه وآله وَسَلَّم في العمل سواه إذا أرادوا الحكاية، فلا يقولون كانوا يوجبون صلاة المسافر ركعتين وصلاة المقيم أربعاً، فهم يريدون بذلك النبي صَلَّى الله عَلَيْه وآله وَسَلَّم فصح ما قلناه.
مسألة:[الكلام في الصحابي إذا ذكر حكماً لا يعلم إلا توقيفاً، ما حكمه؟]
اختلفَ أهلُ العلم في الصحابي إذا ذكر حكماً لا يعلم إلا بالتوقيف، كالمقدورات والحدود والأبدال.
فحكى شيخنا رحمه الله تعالى عن جماعة من أصحاب أبي حنيفة أنه يحمل على التوقيف.
وحكى عن أبي الحسين أنه إن كان من أهل الإجتهاد لا يحمل على التوقيف.
وحكى عن قاضي القضاة والإمام أبي طالب عَلَيْه السَّلام أنه إن كان لما قاله وجه من وجوه الإجتهاد صحيح أو فاسد لم يحمل على التوقيف، وإلا حمل عليه، وهذا قول الشيخ أبي الحسين البصري.
وكان شيخنا رحمه الله تعالى يعتمد هذا القول، وهو الذي نختاره.
وحكى عن الشيخ أبي الحسن أنه إن كان من أهل الإجتهاد كعطاء(1)
__________
(1) ـ عطاء بن السائب الثقفي الكوفي، عداده في الشيعة الخلص، وثقه أحمد والنسائي والعجلي وحماد بن زيد، قالوا: فمن سمع منه قبل الاختلاط فهو صحيح. توفي سنة ست وثلاثين ومائة. انظر الجداول (خ)، ولوامع الأنوار (1/445).
في قوله: (إن أقلّ الحيض يوم وليلة) لم يحمل قوله على التوقف، وإن لم يكن من أهل الإجتهاد كأنس(1)، وقوله في الحيض (ثلاث أربع خمس ست سبع ثمان تسع عشر) فجعل أقله ثلاثاً وأكثره عشراً ولم يكن من أهل الإجتهاد يوجب عنده أن يكون قوله ذلك توقيفاً.
وتحصيل الكلام في هذه المسألة: أن الصحابي إذا أطلق الحكم الذي ذكرنا وكان للإجتهاد فيه مدخل جوزنا أن يكون الصحابي من أهل الإجتهاد يوجب أن يكون قال ذلك عن اجتهاد، وإن لم يكن من أهل الإجتهاد جوزنا أن يكون استفتى في ذلك غيره فأفتاه بما ذكر فلا يجوز لنا مع ذلك القطع على أنه سمع ذلك من النبي صَلَّى الله عَلَيْه وآله وَسَلَّم، وإن لم يكن للإجتهاد فيه مدخل وجب علينا من طريق تحسين الظن بالصحابة أنه لم يقل ذلك تشهياً ولا تبخيتاً إن كان من أهل الإجتهاد، ولا يجوز إن كان ممن لا يفهم الإجتهاد قال ذلك من تلقاء نفسه لوجوب تحسين الظن، ولا أخذه عن غيره من الصحابة من هذه الطريق لوجوب تحسين الظن بالمفتي أيضاً، فصح ما قلناه.
مسألة:[الكلام في تعارض الأخبار]
إذا تعارض الخبران لم تخل الحال من ثلاثة أوجه:
إما أن يكونا معلومين معاً.
أو مظنونين معاً.
أو أحدهما معلوم والآخر مظنون.
فإن كانا معلومين، فلا يخلو: إما أن يعلم التاريخ أو لا يعلم، فإن علم التاريخ بينهما عمل بالمتأخر منهما إن تنافيا على الحد الذي يوجب وقوع النسخ، وقضي بأن الآخر ناسخ للأول.
__________
(1) ـ أنس بن مالك بن النضر الأنصاري الخزرجي، خادم النبي -صَلَّى الله عَلَيْه وآله وَسَلَّم- منذ قدم المدينة إلى أن توفي -صَلَّى الله عَلَيْه وآله وَسَلَّم- مات وقد جاوز المائة وهو من أصحاب الألوف. أخرج له جميع أئمتنا وشيعتهم وأصحاب الست المسانيد والسنن كلها. عنه: ثابت البناني، وحميد الطويل، وعلي بن زيد بن جدعان، وعمر بن الوليد، والربيع بن أنس، والحسن، وخلق كثير. انظر لوامع الأنوار (ط2- 3/66).
وإن علم تاريخ أحدهما دون الآخر كان المعلوم التاريخ أولى أن يعمل به، وذلك من أقوى وجوه الترجيح، وإن لم يعلم التاريخ كان تعبدنا بالرجوع إلى قضية العقل إن استويا في الحظر والإباحة في العقل والشرع، فإن كان أحدهما يفيد حكماً شرعياً سواء كان مثبتاً أو نافياً، وأحدهما يبقى على حكم العقل كان المفيد للحكم الشرعي أولى، وكان هذا من وجوه الترجيح؛ لأن الشرعي ناقل فالحكم له.
وإن كانا مظنونين معاً، كان الواجب فيهما الرجوع إلى الترجيح سواء أفاد أحدهما حكماً شرعياً وبقاه الآخر على حكم العقل، أو كانا مفيدين حكمين شرعيين معاً، أو مبقيين على حكم العقل معاً؛ لأن العمل على الظن الأقوى هو الواجب.
وإن كان أحدهما معلوماً والآخر مظنوناً وجب العمل على المعلوم.
وقد مثل شيخنا رحمه الله تعالى هذه المسألة بقوله سبحانه: {وَالَّذِينَ هُمْ لِفُرُوجِهِمْ حَافِظُونَ(5)إِلَّا عَلَى أَزْوَاجِهِمْ أوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُمْ فَإِنَّهُمْ غَيْرُ مَلُومِينَ (6) } [المؤمنون:5ـ6]، وقوله سبحانه: {وَأَنْ تَجْمَعُوا بَيْنَ الْأُخْتَيْنِ} [النساء:23]، وعندنا أن هاتين الآيتين لا يقدر فيهما التنافي والمعارضة؛ لأن الله سبحانه أباح الزوجات والمملوكات، وحظر الجمع بين الأخوات من الفريقين جميعاً، وإنما تقدر المعارضة والتنافي لو حرمت إحدى الآيتين المملوكات وأباحتها الأخرى لكان ذلك معارضة، وإنما اقتضت الآية تحريم الجمع، والإباحة حاصلة في كل واحدة منهما على مقتضى الآية الأخرى.
وذكر شيخنا رحمه الله تعالى تفصيلاً في الخبرين إذا كانا عامين على الإطلاق، أو خاصين على الإطلاق، أو أحدهما عام من وجه وخاص من وجه آخر والآخر كذلك، قد قدمنا معانيه في باب الخصوص والعموم.
* * * * * * * * * * *
فصل في الترجيح
[وجوه الترجيح]
اعلم أن الترجيح يقع بوجهين:
أحدهما: يرجع إلى الراوي.
والثاني: يرجع إلى الخبر.
أما ما يرجع إلى الراوي من كونه أشد ورعاً، وأكثر حفظاً وضبطاً، وأذكى ذهنا، وأعظم تشدداً في الرواية، وأوسع علماً إن كانت الرواية مما يتعلق بالمعنى كما تقدم الكلام فيه من كونه أعرف بوجوهه فيؤدى لفظاً، يؤدي إلى تلك الوجوه التي أفادها كلامه عليه وآله السلام.
فأما إذا روى الحديث بلفظه لم يرجحه كونه أعلم لأن الفقيه والعامي إذا استويا في الوجوه يستويان في رواية الحديث بلفظه، فهذا مما وقع الإجماع عليه برواية شيخنا رحمه الله تعالى أنه يرجح به مما يرجع إلى الراوي.
وأما ما اتفقوا على ترجيحه به مما يرجع إلى الخبر فهو كونه مطابقاً للظواهر أو لقياس الأصول، وأما المختلف فيه فسيأتي ذكر كل مسألة منه بعينها إن شاء الله تعالى.
مسألة:[الكلام في كثرة المخبرين؛ هل تقتضي الترجيح أم لا؟]
اختلف أهل العلم في كثرة المخبرين هل تقتضي الترجيح أم لا؟
فذهب شيخنا رحمه الله تعالى أن الترجيح بكثرة العدد هو قول الأكثر من أهل العلم منهم الشافعي والشيخ أبو الحسين البصري، وهو المروي عن أبي الحسن، فيجب أن يكون مذهب أبي حنيفة(1)
__________
(1) - أبو حنيفة: النعمان بن ثابت الفارسي، فقيه العراق، أحد أنصار الإمام الأعظم زيد بن علي -عليهما السلام- الراوين عنه، أفتى بالخروج مع الإمامين محمد وإبراهيم ابني عبدالله بن الحسن -عليهم السلام- وبايع لهما، وكان عابداً مجتهداً محباً لأهل البيت؛ بل هو قتيل حبهم، سقاه أبو الدوانيق سماً.
قال في الإفادة في تاريخ الأئمة السادة في سياق الإمام إبراهيم بن عبدالله -عليهما السلام-: وكان أبو حنيفة يدعو إليه سراً ويكاتبه، وكتب إليه..إلى قوله: فظفر أبو جعفر بكتابه فستره وبعث إليه فأشخصه وسقاه شربة فمات منها، ودفن ببغداد، انتهى.
عده من العصابة الزيدية: الإمام الحجة عبدالله بن حمزة -عليهما السلام-. مات -رحمه الله- في رجب سنة خمسين ومائة.
انظر: لوامع الأنوار (1/450)، والإفادة في تاريخ الأئمة السادة (63)، والجداول (خ).
؛ لأنه لما ذكر الشهادة قال يجب أن تكون الشهادة على هلال شوال أقوى من الشهادة على هلال رمضان، وأوجب في شهادة رمضان واحداً وفي شهادة شوال اثنين، فاعتبر القوة بزيادة العدد، فمن هناك قلنا يجب أن يكون ذلك مذهبه.
وكان شيخنا رحمه الله تعالى يعتمد ما ذهب إليه الأكثر، ونحن نختاره.
والذي يدل على صحته: أن الواجب في الأخبار التي لا يحصل فيها العلم العمل على غالب الظن، ولا شك أن كثرة المخبرين تقوي الظن، وهذا يجده الإنسان من نفسه إذا أخبره من يثق به وانضاف إلى ذلك خبر ثاني ثم ثالث أن ظنه لصحة ذلك الخبر يكون أقوى، ثم كذلك ما زاد العدد ازداد الظن قوة حتى ينتهي إلى قدر مخصوص يجب عنده حصول العلم لا محالة.
ولأن الصحابة كانوا يحتاطون في الأخبار بكثرة العدد من غير مناكرة بينهم في ذلك كما روي عن عمر في خبر الإسنان(1)، وأبي بكر في خبر الجدة، فلولا أن لكثرة المخبرين مزيّة لكان طلبهم لزيادة العدد عبثاً قبيحاً ممن فعله وسكوت الباقين قبيح أيضاً؛ لأنهم أقروا على القبيح، وذلك لا يجوز لما يأتي بيانه معللاً في باب الإجماع إن شاء الله تعالى.
مسألة:[الكلام في ترجيح الخبر بعمل الأكثر]
فأما إذا عمل أكثر الصحابة على خبرٍ وعابوا على الأول؛ فإن شيخنا رحمه الله تعالى كان يرجح ما عليه الأكثر، قال: لأن الظن لصحة ما هم عليه أقوى.
وذكر أن القاضي نصر ذلك في العمد، وعند بعضهم لا يقع به الترجيح، وحكى شيخنا أيضاً أن القاضي نصره في الشرح.
والذي يدل على صحة القول الأول: أن العمل على الظن الأقوى أولى من العمل على الظن الأضعف، ولا شك أن كثرة العاملين على الخبر تقوي الظن بصحته بدلالة أنهم لو بلغوا قدراً مخصوصاً ونقلوا الخبر عن علمهم صار خبراً معلوماً، وخبر الأول في أغلب الأحوال مظنوناً والعمل على المعلوم أولى.
__________
(1) ـ أي خبر: ((سنوا بهم سنة أهل الكتاب..إلخ) لما رواه له عبدالرحمن بحضرة الجماعة، فعمل به. انتهى.
مما يؤيد ذلك ما قاله عبيدة السلماني لأمير المؤمنين عَلَيْه السَّلام: (قولك في الجماعة أحب إلينا من قولك وحدك)، فلم ينكر عليه علي عَلَيْه السَّلام، وإقرار علي عَلَيْه السَّلام على الفعل أو القول أو الترك عندنا من جملة الأصول؛ لأنه عَلَيْه السَّلام عندنا معصوم.
مسألة:[الكلام في خبر الأعلم بغير ما يرويه هل يرجح به أم لا؟]
ثم اختلفوا في خبر الأعلم بغير ما يرويه.
فمنهم من قال: يجب الترجيح به وهو قول عيسى بن أبان.
ومنهم من قال: لا يرجح به، وهو الذي كان شيخنا رحمه الله يذهب إليه، ونحن نختاره.
والدليل على صحته: أن كونه أعلم بغير ما يرويه لا تعلق له بروايته، وما لا يتعلق بروايته لا يجب الترجيح به.
مسألة:[الكلام في الترجيح بين المسند والمرسل]
اختلفوا في الخبرين إذا كان أحدهما مسنداً والآخر مرسلاً(1)
__________
(1) ـ قال الإمام الحجة الحافظ الولي: مجد الدين بن محمد بن منصور المؤيدي أيده الله سبحانه وتعالى في لوامع الأنوار ط2 (2/403) في الترجيح بين المسند والمرسل:
والترجيح بين المسند والمرسل اللذين هما على الصفة المعتبرة مختلف فيه، والمختار عندي أنه موضع اجتهاد، وأنه يختلف باختلاف أحوال الراوي والمروي له، فإن الراوي قد يكون من أئمة الدين المحتاطين، المطلعين على أحوال الراوين، والمروي له على خلاف ذلك بحيث لو سمي له الرواة لم يعرف أحوالهم، أو يعرف معرفة غير راسخة فلا شك أن الإرسال في هذه الصورة ممن لا يرسل إلا عن عدل أرجح، وفيه كفاية المؤنة بتحمل العهدة عن البحث، ونظر هذا الإمام على كل حال أقوى، وقد يكون الحال على العكس، فلا ريب مع ذلك أن الإسناد أولى وأحرى، لتلك المرجحات الأولى، وعلى هذا الترجيح فيما بينهما من الدرجات، ومع استواء الحالين فالإسناد أصح وأوضح، إذ يجوز أن يكون المرسل لم يطلع على موجب لجرح في الرواة أو أحدهم أو نحو ذلك، وبالإطلاع على الرجال، يرتفع هذا الاحتمال، وكذا من صح عنه أنه لا يروي إلا عن عدل سواء أسند أو أرسل لتحمّله العهدة على الإطلاق، وزيادة الاستفادة من إسناده لمعرفة ثقات الرجال عنده، والوقوف على الأحوال، وبيان تعدد الطرق عند اختلاف الإسناد، وللترجيح بين الرواة مع التعارض، ولصحته بالإجماع، ونحو ذلك مما لا يخفى من مرجحات الإسناد على الإرسال، ولم يعدل أئمة الهدى ـ صلوات الله عليهم ـ عنه في بعض الأحوال إلا لمقاصد راجحة، ومقتضيات واضحة، لا تخفى على ذوي الأنظار الصالحة، منها: قطع تشكيك المتمردين على السامعين، لتناول المخالفين بالطعن والجرح لثقات المرضيين، وصيانة الأعلام، من ألسن الجفاة الطغام، ومنها: محبة التخفيف مع كثرة الإشتغال بأحوال المسلمين، وجهاد المضلين، والقيام بمعالم الدين، وإحياء فرائض رب العالمين، ومنها: الإحالة بالمراسيل في مقام على ما علم لهم من الأسانيد الصحيحة في غير ذلك المقام، وغير ذلك مما لا يذهب عن أفهام المطلعين الأعلام، فهذا الذي ترجح لدي في هذا الباب، والله الموفق للصواب، انتهى.
فكان عيسى بن أبان يرجح المرسل على المسند.
وعندنا أن ذلك لا يوجب الترجيح؛ لأن إسناده للخبر جائز بل ربما أكده؛ لأن بعض أهل العلم وهو الشافعي قد روي أنه قال: المسند أقوى من المرسل، وأقل أحواله أن يكون مثله.
ولأن مراسيل الخبر يجوز أن يكون حُذِفَ إسناده لبعض الأغراض الصحيحة ومدار الأمر في هذه المسألة وما شاكلها على قوة الظن، فما قوي معه الظن كان مرجحاً، وقد قدّمنا الكلام في أن من الصحابة من يروي موقوفاً ما سمعه مسنداً كما روينا عن ابن عباس أنه قال: قال رسول الله صَلَّى الله عَلَيْه وآله وَسَلَّم: ((لا ربا إلا في النسية)) ثم لما بحث عن ذلك، قال: أخبرني بذلك أسامة بن زيد، وكذلك أبو هريرة روى عن النبي صَلَّى الله عَلَيْه وآله وَسَلَّم: ((من أصبح جنباً فلا صوم له)) ثم لما نوقش في ذلك أسنده إلى الفضل بن العباس، وأمثال ذلك كثيرة.
مسألة:[الكلام في الترجيح بالذكورة والحرية]
فإن كان أحد الراويين حراً والآخر عبداً، أو أحدهما ذكراً والآخر أنثى.
فعندنا أنه لا ترجيح لخبر الحر على خبر العبد، ولا الذكر على الأنثى إذا وقع الإستواء في العدالة والضبط.
وعند بعضهم يرجح خبر الحر على خبر العبد، وذكر محمد بن الحسن في كتاب الإستحسان أنه إن أخبر حر وعبد لا يرجح خبر الحر، وإن أخبر عبدان وحران رجح خبر الحرين على العبدين؛ لأنه يوجب قطع الحكم.
والدليل على صحة ما اخترناه: أن الذكورة والحرية لا يعتبران في باب الأخبار، ولا يؤثران في قوة الظن، وما هذه سبيله فإنه لا يقع الترجيح به.
فأما إذا ورد خبران أحدهما سليم المعنى واللفظ، والثاني غير سليم بل هو مختل المعنى أو اللفظ، كان العمل على السليم أولى وأقوى لبعده عن الخطأ، والعمل على الظن الأقوى هو الواجب.
مسألة:[الكلام في الترجيح بين ما يثبت الحد وبين ما يدرؤه]
إذا ورد خبران أحدهما يثبت حداً والآخر يدرؤه.
فحكى شيخنا رحمه الله تعالى اختلاف الناس على ثلاثة أقوال:
فمنهم من قال: الذي يدرؤ الحد أولى وهو عيسى بن أبان.
ومنهم من قال: المثبت أولى وهو رواية الحاكم والقاضي.
ومنهم من قال: هما سواء، وحكاه الشيخ أبو الحسين عن القاضي، وكان شيخنا رحمه الله تعالى يرجح ما ذهب إليه عيسى بن أبان.
واختيارنا رواية الحاكم عن القاضي، وهو أن المثبت أولى.
والذي يدل على صحته: ما تقرر من أن الأخبار إذا وردت كان الذي يثبت الأحكام الشرعية أولى مما ينفي على حكم العقل، فوجب إطراح الخبر الذي يدرؤ الحد؛ لأنه مبني على حكم العقل؛ لأن العقل لا يقضي بإيلام أحد، فالحكم حينئذ يكون للطاري.
وكان شيخنا رحمه الله تعالى يحتج لصحة ما يختاره بأنه إذا تقرر وجوب درء الحد بالشبهات عن الأعيان بعد استقرار حكم الحد في الشريعة، فبأن يكون درؤه قبل الإستقرار أولى.
ويمكن أن يجاب عن ذلك: بأن الدرء في أصل اللغة إنما يكون للواقع لا محالة لولا الدرء، فأما ما يتراخى وقوعه فلا يسمى في اللغة درءاً إلا على وجه المجاز، وذلك ظاهر عند أهل اللغة وإثبات الحد في الجملة حكم شرعي وليس له وقوع على شخصٍ معين، فيقال: بأنه يجب درؤه أو لا يجب.
فأما ما ذكر من أن تعارض البينتين يوجب سقوط الحد فكذلك الخبرين، وإنما وجب فيه ذلك لوجوب درء الواقع من الحدود، ولا يمكن إدعاء سواه، وليس هذا من موضع الخلاف في شيء، متعلق بمعنى قوله عليه وآله السلام: ((ادرأوا الحدود بالشبهات(1))) وما ذكرنا بمعزل منه.
__________
(1) ـ رواه الإمام أحمد بن عيسى في رأب الصدع (3/1419) رقم (2419)، وأخرجه بألفاظ متقاربه في سنن البيهقي الكبرى (9/123) رقم (18073)، وسنن الترمذي (4/33) رقم (1424)، والمستدرك (4/426) رقم (8163)، ومسند أبي يعلى (11/494) رقم (6618).
وما ذكره رحمه الله تعالى من أنه إذا وجب درؤه بعد استقراره في الشريعة، فدرؤه قبل استقراره أولى، بعيد جداً؛ لأنه لا يصح درء ما لم يستقر فضلاً عن أن يكون أولى.
فأما قول من يقول باستوائهما فقول لا وجه له عنده لأن وجه الترجيح حاصل في أحدهما وهو الحكم الشرعي، وقد ثبت وجوب العمل بأخبار النبي صَلَّى الله عَلَيْه وآله وَسَلَّم ما أمكن، وحصول الترجيح على حال الظهور أبلغ وجوه الإمكان.
مسألة:[الكلام في الترجيح بين خبري الحظر والإباحة]
إذا اقتضى أحد الخبرين حظراً والآخر إباحة، فقد حكى شيخنا اختلاف أهل العلم في أنه هل يجوز أن لا يكون لأحدهما حكم باقٍ في العقل أم لا؟
فذهب بعضهم إلى أن ذلك يجوز، ثم اختلفوا بعد ذلك؛
فمنهم من قال بأنه متى لم يمكن لأحدهما حكم باقٍ في العقل فإنهما يجعلان كأن لم يردا ويعمل في الحادثة بما يقتضيه العقل متى لم يوجد دليل شرعي يدل على حكم الحادثة سوى الخبرين، وهو مذهب أبي هاشم، وعيسى بن أبان والقاضي.
وقال أبو الحسن: الحظر أولى وهو المروي عن ش.
وذهب آخرون إلى أنه لا بد من أن يكون لأحدهما حكم باق في العقل وهو قول الشيخ أبو الحسين البصري وكان شيخنا رحمه الله تعالى يعتمده وهو الذي نختاره.
والدليل على صحته: أن العقل لا بد أن يقضي في الفعل بحكم من الأحكام من قبح أو إباحة أو ندب أو وجوب وإلا رفعنا كونه جائلاً في الذهن، وألحقنا العاقل بالنائم والمجنون، فإن قضى أحد الخبرين في الفعل بإباحة، وكان حكمه في العقل الحظر، كان المبيح أولى لأنه الناقل والحكم له كما قدمنا، وإن كان حكمه في العقل الإباحة كان الحاظر أولى؛ لأنه الناقل أيضاً، وكذلك إن كان حكمه في العقل الوجوب كدفع الضرر عن النفس، أو الندب فهما فرعان على الحسن الذي أصله الإباحة، كان الحكم للناقل أيضاً بعد مراعاته عند تقدير سقوطهما أو تكافيهما.
فأما إذا لم يقدر له بقاء في العقل، فالصحيح عندنا في ذلك ما ذهب إليه أبو الحسن من تغليب الحظر على الإباحة لكونه أحوط، ولأنه قد تقرر في الجارية بين الشريكين أنَّ وطئها يَحْرُمُ على كل واحد منهما لاستواء الحظر والإباحة فيها، فغلب الحظر قولاً واحداً، وكذلك الحكم فيمن طلّق زوجة من زوجاته والتبس عليه الحال، فلم يدر أيهن طلق فإنه يجب عليه اجتنابهن جميعاً لاجتماع الحظر والإباحة، وقد ثبت وجوب اتباع كلام الحكيم سبحانه وتعالى، وخطاب رسوله صَلَّى الله عَلَيْه وآله وَسَلَّم متى أمكن، وأنه لا يجوز إلغاؤه مع التمكن من استعماله، وقد وقع التمكن باستعمال الترجيح، وقد تقرر في الشرع ترجيح الحظر على الإباحة؛ فوجب العمل بمقتضى الحاظر دون المبيح.
مسألة:[الكلام في الترجيح بين خبري إثبات العتاق ونفيه]
إذا اقتضى أحد الخبرين إثبات عتاق، واقتضى الآخر نفيه، فهو سواء عند القاضي والحاكم وجماعة من العلماء، وكان شيخنا رحمه الله تعالى يذهب إليه.
ويحكى عن الشيخ أبي الحسين أن المثبت للعتاق أولى وهو قول جماعة من الحنفية.
واحتج شيخنا رحمه الله تعالى بأن العتق والرق الطارئين عليه حكمان شرعيان فلا يرجح أحدهما على الآخر؛ لأنهما استويا في أن كل واحدٍ منهما ناقل فلا يغلب على صاحبه.
قال: وكون شهود العتاق أولى أو كون العتاق لا يتعقبه الرق ولا يطرأ عليه؛ لا تأثير للترجيح به؛ لأنه إنما يصح في الأشخاص المعينة.
فأما الأحكام الثابتة في الجملة فلا يقدر ذلك فيها كما قدمنا في مسألة الحد، وهذه المسألة تلحق بالأولى عندنا؛ لأنا إذا رددناها إلى حكم العقل الباقي فيه مع مكافاة الخبرين، أو إطراحهما كان الحكم للإباحة، وكان الطارئ الرق، فيكون الخبر المثبت للرق أولى لأنه الناقل، وإن قدر ارتفاع الحكم المقدر بقاه في العقل كان الخبر المقتضي لإثبات العتاق أولى؛ لأنه يكون حاظراً والآخر مبيحاً، وقد ثبت أن الحظر أحوط، والعمل بمقتضاه أولى.
مسألة:[الكلام في الخبرين إذا تعارضا ولم يظهر بينهما ترجيح]
حكى شيخنا رحمه الله تعالى جواز تعارض الخبرين عند مشائخنا وأن لا يظهر بينهما ترجيح، وحكى اختلافهم في حكمهما مع ذلك.
فروى عن السيد أبي طالب عَلَيْه السَّلام وجماعة من الفقهاء أن الواجب إطراحهما وهو الذي كان رحمه الله تعالى يعتمده ونحن نختاره.
وحكى عن أبي هاشم وأبي علي والقاضي وجوب التخيير وقد تقدم الكلام فيه مفصلاً في باب المجمل والمبين.
وقال أبو الحسن وجماعة لا يجوز تعارضهما حيث لا يظهر بينهما ترجيح؛ بل لا بد من فضول وجه يرجح به.
والذي يدل على صحة ما ذهب إليه شيوخنا من جواز وقوعهما بحيث لا يظهر ترجيح: أن كل أمر منهما يجوز أن يرجح به أحد الخبرين على الآخر من الثقة والعدالة والضبط والورع وسلامة متن الخبر، وتخلص معناه، واستواء عدد رواته، وموافقته للظواهر، وعضد القياس له لا يمتنع تساوي الخبرين في ذلك، وإن كان نادراً، وكذلك فلا دلالة في العقل ولا في الشرع يمنع منه فإذا استويا لم يرجح أحدهما والحال هذه على الآخر؛ لأن الترجيح والحال هذه يكون ترجيحاً لغير دلالة، وذلك لا يجوز.
مسألة:[الكلام فيما سمعه الصبي ورواه حال كبره، وفيما رواه حال صباه]
وإذا سمع الصبي الخبر في حال صغره، وسمعه معه غيره وهو في حال الكبر، ثم أدياه إلينا في حال الكبر، وجب قبوله عندنا ولا ترجيح لأحد الخبرين على الآخر، وذلك مما لا نعلم فيه خلافاً، وإنما يتعين الخلاف في قبول روايته في حال الصغر، فإن منهم من جوز، وهو عندنا غير جائز لما لا نأمن من تساهل الصغير في روايته، وقلة صوارفه على الإقدام على القبيح لعدم عقله، وإذا كان الأمر هكذا لم يحصل لنا الظن بصدقه، فلا يجب علينا قبول روايته؛ بل لا يجوز.
وأحسب أن الذي حمل أهل هذه المقالة عليها ما بلغهم من قبول الصحابة لما روى لهم الحسنان صلوات الله عليهما عن أبيهما رسول الله صَلَّى الله عَلَيْه وآله وَسَلَّم، وكذلك ما روى عنه ابن عمر، وابن الزبير(1)، فتوهموا أن الأخبار قبلت منهم في حال صغرهم.
وعندنا أنه لا طريق إلى تصحيح هذه الدعوى، وإنما سمعوا في حال الصغر وأدوا في حال الكبر، ولا اعتبار بوقت العمل، وإنما الإعتبار بوقت الأداء كما ثبت مثله في الشهادة.
__________
(1) ـ عبدالله بن الزبير بن العوام، أبو خبيب الأسدي، أول مولود من المهاجرين بعد الهجرة شهد مع خالته عائشة يوم الجمل، أشد الناس عداوة لآل رسول الله -صَلَّى الله عَلَيْه وآله وَسَلَّم- قطع الصلاة على النبي -صَلَّى الله عَلَيْه وآله وَسَلَّم- أربعين جمعة أيام أمارته، بويع له سنة أربع وستين بعد معاوية بن يزيد، وتخلف عن بيعته ابن عباس وابن الحنفية؛ ثم حصره الحجاج بمكة وقتل في جمادى سنة ثلاث وسبعين وهي عمره. انظر لوامع الأنوار (3/134، 138)، والجداول (خ).
الكلام في الأفعال
[الأدلة على وجوب التأسي]
اعلم أنه لا خلاف في أن التأسي بالنبي صَلَّى الله عَلَيْه وآله وَسَلَّم واجب على الجملة لقوله سبحانه وتعالى: {لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِمَنْ كَانَ يَرْجُو اللَّهَ وَالْيَوْمَ الْآخِرَ} [الأحزاب:21].
ووجه الإستدلال بهذه الآية: أن الله سبحانه وتعالى عقب ذكر التأسي بالتخويف، فلو لم يكن واجباً لما عقبه به.
أما أنه عقبه به: فذلك ظاهر؛ لأن قوله: {لِمَنْ كَانَ يَرْجُو اللَّهَ وَالْيَوْمَ الْآخِرَ} إشعار منه بالتخويف.
وأما أنه لو لم يكن واجباً لما عقبه به: فلأنه سبحانه لا يخوف على ترك المندوب ولا المباح على ما ذلك مقرر في مواضعه من علم الكلام، ولقوله سبحانه: {وَاتَّبِعُوهُ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ} [الأعراف:158].
ووجه الإستدلال بهذه الآية: أن الإتباع يتضمن معنى التأسي؛ لأن اتباعنا لقوله هو أن نعمل بمقتضاه وذلك ظاهر عند أهل المعرفة باللغة العربية والمعاني، واتباعه في فعله أن نفعل مثله لأجل أنه فعله على الوجه الذي فعله عليه إذا علمناه في الوقت، إن لم يتقدم علمنا تخصيصه له به وبالمكان على ما يأتي إن شاء الله تعالى، فإذا علمنا معنى الإتباع وكان قوله: واتبعوه أمراً، وقد قدمنا الكلام في أن الأمر يقتضي الوجوب بما لا طائل في ذكره ثبت وجوب اتباعه.
واعلم أن التأسي بالنبي صَلَّى الله عَلَيْه وآله وَسَلَّم يقع في وجهين:
أحدهما: في الفعل، والثاني: في الترك.
أما التأسي بالفعل: فمعناه أن تراه يفعل فعلاً على وجه في موضع تعلم من غرضه إيقاعه فيه مخصوصاً بزمان، ويكون إيقاعه له على وجه الوجوب، فإنه يلزمنا أن نوقع صورة ذلك الفعل على ذلك الوجه في ذلك الوقت والزمان والمكان.
وأما الترك: فأن نراه ترك فعلاً على وجه في وقت ومكان يعلم دخولهما في غرضه، فإنا نتركهما في ذلك الوقت والمكان على ذلك الوجه؛ لأجل تركه ونكون قد تأسينا به.
فصل:[الكلام في التأسي، هل وجب عقلاً أو شرعاً؟]
وقد اختلف الناس في التأسي بالنبي صَلَّى الله عَلَيْه وآله وَسَلَّم؛ فمنهم من أوجب ذلك عقلاً، ومنهم من أوجبه شرعاً.
وكان شيخنا رحمه الله تعالى يمنع من إيجابه من جهة العقل، وهو الذي نختاره.
والدليل على صحته: أن العقل يقضي بتجويز اختلاف التكليف بتجويز اختلاف المصالح، والمصالح تختلف بالأزمنة والأمكنة، والمكلفين فكان لا يمتنع في العقل أن تكون مصلحته ـ صَلَّى الله عَلَيْه وآله وَسَلَّم ـ مخالفة لمصلحتنا، ومتعلقة بغير ما تعلقت به مصلحتنا فيجب عليه ما لا يجب علينا، ويحل له ما لا يحل لنا، ويحرم عليه ما لا يحرم علينا، وقد كان ذلك، فإنه صَلَّى الله عَلَيْه وآله وَسَلَّم وجبت عليه الوتر والأضحية، ولم تجبا علينا، وحل له نكاح ما فوق الأربع ولم يحل لنا، وحرم عليه وعلى أهل بيته عليه وعَلَيْهم السَّلام النذر والصدقات، ولم تحرم على سائر الأمة، فإذا كانت دلالة العقل تمنع من التأسي به، فكيف تكون دلالة عليه.
مسألة:[الكلام في وجوب التأسي بالنبي في جميع أفعاله إلا ما خصه دليل]
واعلم أنه يجب علينا التأسي به صَلَّى الله عَلَيْه وآله وَسَلَّم في جميع أفعاله الشرعية إلا ما خصّه الدليل، وهذا مذهب شيوخنا، وهو الذي كان شيخنا رحمه الله تعالى يعتمده ويحتج له، ونحن نختاره.
ومن الناس من قال: يجب علينا التأسي في أمور مخصوصة دون غيرها خصتها الدلالة نحو قوله صَلَّى الله عَلَيْه وآله وَسَلَّم: ((صلّوا كما رأيتموني أصلي))، وقوله عَلَيْه السَّلام: ((خذوا عني مناسككم)) وما شاكل ذلك.
وحكى شيخنا رحمه الله تعالى عن أبي علي بن خلاد(1) أنه قال: إنما يجب علينا التأسي به في باب العبادات دون غيرها من المناكح وسائر الأفعال.
__________
(1) - أبو علي بن خلاد: من الطبقة العاشرة من طبقات المعتزلة، من أصحاب أبي هاشم الجبائي درس عليه بالعسكر ثم ببغداد، صاحب كتاب الأصول والشرح، مات ولم يبلغ حد الشيخوخة.
والذي يدل على صحة ما ذهبنا إليه: أن الله سبحانه وتعالى أمرنا باتباعه وأوجب التأسّي كما قدمنا في قوله: واتبعوه أمراً مطلقاً، فوجب عمومه كما في قوله سبحانه وتعالى: {أَقِيمُوا الصَّلَاةَ وَءَاتُوا الزَّكَاةَ} [البقرة:43]، ولم يخص فعلاً من فعل فوجب التأسي في جميع الأفعال إلا ما خصه الدليل، فإذا فعل فعلاً على وجه وجب علينا إيقاع مثل ذلك الفعل على ذلك الوجه؛ لأجل أنه أوقعه بجميع ما قدمنا من الشروط.
دليل آخر: وهو أن الصحابة أجمعت على الرجوع إلى أفعاله كما أجمعت على الرجوع إلى أقواله، وإجماعهم حجة على ما يأتي بيانه.
أما أنهم أجمعوا على الرجوع إلى أفعاله: فذلك ظاهر من أمرهم؛ لأنهم لما اختلفوا في الإيلاج من غير إنزال هل يوجب الغسل أم لا؟ رجعوا إلى أزواج النبي صَلَّى الله عَلَيْه وآله وَسَلَّم فأخبرنهم أنه كان عليه وآله السلام يغتسل من ذلك فتأسوا به في وجوبه، وكذلك في الجنب إذا أصبح صائماً، وفي قبلة الصائم، وتعرفوا خبره في زواج ميمونة هل كان محلاً أو محرماً إلى غير ذلك، فلو لم يكن التأسي به صَلَّى الله عَلَيْه وآله وَسَلَّم واجباً على وجه العموم لما رجعوا إلى تعريفة(1) أفعاله؛ لأنهم لا يتعرفون الحكم من أمرٍ لا تعلق له بتكليفهم، كما أنهم لا يتعرفون الحكم من أفعال عيسى عَلَيْه السَّلام وغيره من الأنبياء صلوات الله عليهم؛ لأنه لا يرتبط به تكليفهم، ولا تتعلق به مصلحتهم.
مسألة:[الكلام في ما يعتبر في التأسي]
ويعتبر في التأسي به عليه وآله السلام الصورة مثل كون الفعل صلاة أو سعياً، والوجه مثل كونه واجباً أو نفلاً، والسبب كأن يسهو فيسجد أو يقرأ آية مخصوصة.
فأما الوقت والمكان؛ فحكى شيخنا رحمه الله تعالى عن قاضي القضاة أن ذلك لا يصح؛ لأن ذلك يمنع من التأسي به رأساً لفوات الزمان وتعذر المشاركة في المكان، لاستحالة كون شخصين في وقت واحد في مكان واحد.
__________
(1) ـ أي معرفة أفعاله.
وكان شيخنا رحمه الله تعالى يحكي عن أبي عبدالله أنه يعتبر المكان، وذكر أنه مذهب أبي الحسين البصري، وكان رحمه الله تعالى يذهب إليه، ونحن نختاره.
فأما تطويل الفعل وتقصيره وتقليله وتكثيره، فذلك لاحق بالصورة، وقد تقدم الكلام فيه، ولأنه لا يمتنع تعلق المصلحة بإيقاعه على ذلك الوجه، فيلزم إيقاعه عليه.
والذي يدل على صحة ما اخترناه: أن معنى التأسي: هو الإقتداء به والاتباع له، فإذا علمناه أوقع الفعل في مكان مخصوص ووقت مخصوص، وأوقعناه في غير ذلك المكان على غير ذلك الوجه في ذلك الوقت كنا مخالفين ولم نكن متأسين.
ولأن الظاهر من أمر المسلمين من لدن الصحابة إلى اليوم مراعات الأوقات والأمكنة التي أوقع فيها الأفعال كوقوفهم بعرفة دون غيرها من تلك الأماكن في وقت مخصوص دون غيره من الأوقات، وكالصيام في زمان مخصوص، وتقبيل موضع في الكعبة مخصوص، والطواف على سمتٍ مخصوص في جهة مخصوصة، وإنما يجب اعتبار الزمان في المكان والصورة بحسب الإمكان؛ لأن التعبد لا يصح بغير ذلك.
مسألة:[الكلام في أفعال النبي (ص) هل هي أدلة أم لا؟]
حكى شيخنا رحمه الله تعالى إجماع الأمة على الإستدلال بأفعال النبي صَلَّى الله عَلَيْه وآله وَسَلَّم على الأحكام، ثم اختلفوا.
فقال قوم: هي أدلة إذا عرفت الوجوه التي وقعت عليها، واختلف القائلون بأنها أدلة بمجردها، فحكى عن مالك وطائفة من الشافعية أنها تدل بمجردها على الوجوب.
ومنهم من قال إنها أدلة على الندب.
ومنهم من قال: إنها أدلة على الإباحة.
وكان رحمه الله تعالى يقول: إن من يقول إنها أدلة إذا عرفت وجوهها التي وقعت عليها إن علمت الطريقة التي اتبعها النبي صَلَّى الله عَلَيْه وآله وَسَلَّم وكانت عقلية أو سمعية، فإنه يرجع إليها في الإستدلال، وإن لم تعرف الطريقة فما هذه حاله ضربان، بيان لمجمل، وغير بيان لمجمل، فما كان بياناً لمجمل أجري عليه حكمه، فإن دل المجمل على الوجوب كان مثل ذلك الفعل واجباً علينا، وإن دل على الندب كنا مندوبين إلى مثله، وإن كان مباحاً كان مثله مباحاً لنا.
وإن لم يكن بياناً لمجمل كان الواجب علينا تعرف الوجه الذي أوقعه عليه، فعلى أي وجه أوقعه وجب علينا إيقاعه على مثله.
وقال شيخنا رحمه الله تعالى إن ذلك مذهب شيوخنا المتكلمين، وأبي الحسن الكرخي، وأبي الحسين البصري.
واختيارنا في هذه المسألة: أن الفعل إذا وقع من النبي صَلَّى الله عَلَيْه وآله وَسَلَّم فلا يخلو إما أن يقع لدلالة عقلية أو لا يقع؛ فإن وقع لدلالة عقلية كان حكمنا في ذلك الحكم مثل حكمه؛ لأن الكل منا ومنه صَلَّى الله عَلَيْه وآله وَسَلَّم متعبد باتباع قضية العقل والتكليف علينا وعليه في ذلك واحد، ولا نعد متأسين له والحال هذه، كما لا نعد متأسين بمن اتبعنا طريقته من الشيوخ في الأدلة العقلية؛ لأنا لم نتبع مقتضى الطريقة العقلية؛ لأنه سلكها بل لأن العقل قضى بذلك.
وإن كان الخطاب شرعياً فلا يخلو إما أن يكون مجملاً أو مبيناً، فإن كان بخطاب مبين فتوجهه إليه عَلَيْه السَّلام كتوجهه إلينا، واتباعنا له لأجل وروده من الحكيم الذي لا يسوغ خلافه، فلا نكون متأسين به والحال هذه، وكان حكمه فيه كحكمنا.
وإن كان بياناً لمجمل لزمنا فعله؛ لأنه عَلَيْه السَّلام فعله، وكنا متأسين به في هذه الحال.
وإن لم يكن لواحد من النوعين المتقدمين وهما الخطاب ودلالة العقل لم يخل أيضاً إما أن نضطر إلى علم وجهه الذي أوقعه عليه أو لا نضطر؛ فإن اضطررنا إلى علم وجهه الذي أوقعه عليه لزمنا إيقاعه على ذلك الوجه الذي أوقعه عليه، وإن لم نضطر فلا يخلو: إما أن نجد طريقاً إلى علم الوجه الذي أوقعه عليه أو لا نجد؛ فإن وجدنا طريقاً إلى ذلك عملنا بما أوصلتنا إليه تلك الطريق من الوجوه، وإن لم نجد طريقاً إلى معرفته كان عدمها طريقاً إلى العلم بوجوبه علينا، وحملناه على الوجوب، هذا إذا كان شرعياً.
وأما إذا كان الفعل عقلياً، فقد بينا أن حكمه عَلَيْه السَّلام في ذلك مساوٍ لحكمنا، وأنه لا يصح فيه معنى التأسي، وإنما قلنا بأنا نحمله على الوجوب؛ لأنه قد ثبت وجوب التأسي به صلوات الله عليه واتباعه في الجملة بما قدمنا من الأدلة على وجه العموم في جميع أفعاله وأقواله إلا ما خصه الدليل وهذا الفعل لم يخصه الدليل، فوجب أن يكون واجباً، وإنما قلنا ذلك؛ لأنه لم يقم عليه دلالة تلحقه بالمندوب ولا بالمباح فتخصه.
فأما المحظور فلا يجوز منه فعله عَلَيْه السَّلام في الشرعيات؛ لأن ذلك يرفع ثقتنا به وينقض الغرض ببعثته وتحيل الأدلة التي قدمنا في وجوب اتباعه وكل ذلك لا يجوز، فإذا تقرر هذا وجب حمل فعله الذي لا يعلم وجهه ولا نجد طريقاً إلى علمه من الشرعيات على الوجوب، فصح بذلك اختيارنا في هذه المسألة.
مسألة:[الكلام في صحة تعارض أفعاله -صَلَّى الله عَلَيْه وآله وَسَلَّم-]
حكى شيخنا رحمه الله تعالى أن القاضي كان يقول: إن التعارض لا يصح وقوعه في أفعال النبي صَلَّى الله عَلَيْه وآله وَسَلَّم، وكان رحمه الله تعالى يحتج له ويعتمده.
وحكى عن أبي رشيد تجويز صحة التعارض في أفعاله، وهو اختيارنا، وقد تقدم الكلام فيه في باب الناسخ والمنسوخ بما لا طائل في إعادته.
مسألة:[الكلام في النبي -صَلَّى الله عَلَيْه وآله وَسَلَّم- هل كان قبل البعثة متعبداً بشريعة أم لا؟]
اختلفوا في النبي صَلَّى الله عَلَيْه وآله وَسَلَّم هل كان قبل البعثة متعبداً بشريعة أم لا؟ على ثلاثة أقوال:
فمنهم من قطع أنه لم يتعبد بشيء من ذلك، وحكاه شيخنا رحمه الله تعالى عن أبي علي وأبي هاشم وأبي عبدالله وجماعة.
ومنهم من قطع أنه تعبد بشريعة ما.
ومنهم من توقّف فيه توقف مجوز على ما يحكى عن بعض الشافعية، وكان شيخنا رحمه الله تعالى يذهب إلى القطع على أنه لم يتعبد بشيء من الشرائع كما ذهب إليه أبو علي ومن تابعه، وهو الذي نختاره.
والدليل على صحته: أنه عَلَيْه السَّلام لو تعبد بذلك لكان لا بد له من طريق، ومعلوم أنه لم يكن له إليه طريق فثبت أنه لم يتعبد بشيء من ذلك.
أما أنه لو تعبد بشيء من ذلك لجعل له إليه طريقاً: فلأنه سبحانه عدل حكيم لا يفعل القبيح، ولا يخل بالواجب، والتعبد بما لا طريق إليه من جملة القبائح، فلا يجوز من الله سبحانه وتعالى أن يتعبده بشيء من ذلك، وتقرير هذه الدلالة في موضعه من أصول الدين.
وأما أنه لم يكن له إلى شيء من ذلك طريق: فتلك الطريق لا تخلو إما أن تكون الوحي أو الأخبار، ولا يجوز أن تكون الوحي؛ لأن كلامنا في الحال قبله، ولا يجوز أن تكون الأخبار لوجهين:
أحدهما: أنه عليه وآله السلام لم يعرف بمخالطة أهل الكتابين ولا الأخذ منهم، ولا تعرف أحوالهم.
والثاني: أنه عليه وآله السلام قد علم اختلاطهم وتحريفهم وطعن كل واحد منهم على صاحبه، فكان ذلك يقل الثقة بهم في أخبارهم، ويمنع من الرجوع إليهم، فلم يكن يحصل له مع ذلك علم، ولا غالب ظن، ولو وجب عليه الرجوع إليهم والحال هذه لعلم ذلك من أمره؛ لأن أموره عَلَيْه السَّلام كانت محفوظة من وقت صغره إلى كبره فلم يعلم ذلك من أمره.
فلما صح ذلك علمنا أنه قبل البعثة لم يتعبد بشيء من الشرائع، وصح ما اخترناه.
مسألة:[الكلام في النبي -صَلَّى الله عَلَيْه وآله وَسَلَّم- بعد البعثة هل تعبد بشيء من شرائع من تقدم أم لا؟]
فأما بعد البعثة فقد اختلف الناس في أمره صلوات الله عليه وآله هل تعبد بشيء من شرائع من تقدمه أم لا؟
فكان شيخنا رحمه الله تعالى يذهب إلى أنه لم يتعبد بشيء من شرائع من تقدمه، وإنما تعبد بشريعته وحكى عن أبي الحسن أنه كان ربما نصر هذا القول وربما نصر خلافه.
ومنهم من قال: إنه تعبد بشريعة منها، ثم اختلفوا؛
فمنهم من قال: إنه بجميع شرائع من تقدمه إلا ما عرض فيه نسخ أو منع، وإليه ذهب بعض الحنفية والشافعية، وهو الذي نختاره.
ومنهم من قال: تعبد بشريعة إبراهيم عَلَيْه السَّلام وهو مذهب أكثر الشافعية.
ومنهم من قال: تعبد بشريعة موسى عَلَيْه السَّلام.
وكان شيخنا رحمه الله تعالى يحتج لمذهبه بأن النبي صَلَّى الله عَلَيْه وآله وَسَلَّم لو تعبد بشيء من شرائع من قبله لما أضيفت إليه هذه الشريعة المكرمة، ومعلوم أنها مضافة إليه فثبت أنه لم يتعبد بشيء من شرائع من قبله.
قال: وإنما قلنا ذلك لأنه يكون مؤدياً عمن قبله فلا تضاف إليه الشريعة كما لم تضف شريعة موسى عَلَيْه السَّلام إلى يوشع بن نون لما كان نائباً ومؤدياً، واستدل على ذلك أيضاً بدليل ثان وهو أنه لو تعبد بشريعة من قبله لكان يجب على أتباعه الفزع إلى الكتب التي قبله من التوراة والإنجيل وأهلهما ومعلوم أنهم لم يفزعوا، فثبت أنه لم يتعبد بشيء من ذلك.
والذي يدل على صحة ما ذهبنا إليه: العقل والسمع:
أما العقل: فقد تقرر فيه أن الشرائع مصالح، وأنها إذا وردت من قبل الله سبحانه وتعالى بأمر عام للأشخاص والأوقات قضى العقل باستمرار تلك المصلحة إلا أن يرفعها نسخ يعلم به من جهة العقل أيضاً تغير تلك المصلحة.
وأما السمع: فقوله سبحانه عقيب ذكره للأنبياء عَلَيْهم السَّلام: {أُولَئِكَ الَّذِينَ هَدَى اللَّهُ فَبِهُدَاهُمُ اقْتَدِهِ} [الأنعام:90].
ووجه الإستدلال بهذه الآية: أن الإقتداء لا يكون إلا في الشرعيات، فأما العقليات، فالواجب عليه صلوات الله عليه وآله الرجوع إلى قضية العقل والإهتداء بماينتج له فكره الزاكي، ولم يفرض عليه ولا على غيره في العقليات الفزع إلى أحد، فثبت بذلك أنه عَلَيْه السَّلام تعبد بما لم تزل عنه مصلحته من شرائع من قبله.
ودليل آخر: وهو قوله سبحانه وتعالى: {فَاحْكُمْ بَيْنَهُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ} عطفاً على قوله: {وَأَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ مُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ الْكِتَابِ وَمُهَيْمِنًا عَلَيْهِ} [المائدة:48].
ووجه الإستدلال به: أن ظاهره يقتضي وجوب الحكم بكل ما تقدم ذكره مما أنزل الله تعالى عليه، ومما تقدم إنزاله من الكتاب قبله، كما أن قائلاً لو قال لغيره: قد كتبت إليك وإلى غيرك بما يشهد به كتابك فاحكم بما كتبت به إليك أفاد ظاهره الأمر بجميع ما كتب إليه وإلى غيره، وهذا يقتضي أن يكون النبي صلى الله عليه وآله متعبداً بما تضمنته الكتب المنزلة قبله مما شهد به كتابه عليه وآله السلام، ولم يثبت نسخه.
وما ذكره شيخنا رحمه الله تعالى من أنه كان يجب ألا تضاف إليه شريعته عَلَيْه السَّلام غير لازم؛ لأنا لا نقول: إنه تعبد بشرائع من قبله على الإطلاق، وإنما تعبد بما لم يثبت نسخه منها، كما أن عيسى عَلَيْه السَّلام تعبد بما لم يثبت نسخه من شريعة موسى عَلَيْه السَّلام وما قبلها من الشرائع، ونحن تعبدنا بما لم يثبت نسخه من مجموعها، وإنما أضيفت الشريعة إلى نبينا [صلوات الله عليه وآله] والحال هذه لأنها عُلمت من قِبَلِه، ونزلت إليه من عند ربه، ولم يرجع في علمها إلى الكتب التي قبله ولا إلى أهلها، بل ما تعبد به منها نُزّل عليه تنزيلاً لم يدخله شك في صحته، فلذلك أضيفت إليه بخلاف يوشع بن نون عَلَيْه السَّلام ومن شابهه فإنه رجع إلى موسى عَلَيْه السَّلام وأخذ الشرع عنه، فكان نسبة الشريعة والحال هذه إلى موسى عَلَيْه السَّلام أولى من نسبتها إلى يوشع.
وكذلك الصحابة تابعون للنبي صَلَّى الله عَلَيْه وآله وَسَلَّم وآخذون عنه، فلم تنسب شريعته إليهم لهذه العلة، ولأن حال الأنبياء عَلَيْهم السَّلام عند ربهم كما نعلمه من حال أحدنا مع عبيده، فكما أن أحدنا لو ملك مملوكاً وأمره بأمر مخصوص، ثم ملك مملوكاً آخر وأمره ببعض ما أمر به الأول وزيادة، ثم كذلك ثالث ورابع إلى ما فوق ذلك من الممكن، لم يحسن منا أن نقول إن الآخر تابع للأول على الإطلاق ولا مؤتمر بأمره، بل نقول إن الجميع مؤتمر بأمر السيد.
وأما ما ذكره رحمه الله تعالى من أن الصحابة كان يلزمهم الرجوع إلى التوراة وغيرها لو تعبدوا ببعض ما فيها فهو غير لازم؛ لأنا نقول إنهم لم يتعبدوا مما فيها إلا بما شهد به الكتاب والرسول عليه وآله السلام، وما لم يشهدا به قطعنا أنه لم يرد به التعبد كما أن الرسول لم يتعبد من شرائع من تقدمه إلا بما نزل به الوحي، ولأنهم أيضاً لا يرجعون إليها ولا إلى أهلها لهذه الحال، ولأن النبي صَلَّى الله عَلَيْه وآله وَسَلَّم قد أخبرهم وهم لا يشكون في صدقه بأن الله تعالى قد أكمل لهم دينهم بما أنزل الله إليه من كتاب وسنة، فكان ذلك صارفاً لهم عن الرجوع إلى من ذكر فيما وجدناه عن نبينا صلى الله عليه وآله مما كان في شرائع من قبله وفي غيرها لزمنا نسخه، فهذا هو الكلام في هذه المسألة.
مسألة:[الكلام في النبي هل طاف وسعى وذكى قبل البعثة أم لا؟]
توقف الفقهاء بأسرهم في أمر النبي صَلَّى الله عَلَيْه وآله وَسَلَّم هل طاف وسعى وذكى قبل البعثة أم لا؟
فحكي عن أبي رشيد أنه قطع على أنه عَلَيْه السَّلام لم يفعل شيئاً من ذلك قبل البعثة.
وكان شيخنا رحمه الله تعالى يذهب إلى قول أبي رشيد ويرجحه، واختيارنا هو الأول(1).
والدليل على صحته: أن الأدلة من جهة العقل كما دلت على قبح التذكية لكونها ظلماً إلا أن يبيح الشرع، وكذلك السعي والطواف عبثاً قبيحاً إلا أن يرد بهما أمر الحكيم سبحانه، وأن الأنبياء لا يقدمون على ما يعلمون قبحه ولا يجوز عليهم ذلك لكونه منفرداً، فقد دلت أيضاً على تجويز التذكية والسعي بما علم من دين الأنبياء ضرورة من جواز التذكية والسعي، وكان صَلَّى الله عَلَيْه وآله وَسَلَّم يعلم صدق الأنبياء ويعرف حقهم قبل البعثة وبعدها.
__________
(1) ـ يعني التوقف في المسألة كما يعلم من الإستدلال.
ولأنه بلغنا عنه صَلَّى الله عَلَيْه وآله وَسَلَّم أنه كان يذكر جده عبد المطلب ويعد مناقبه ويذكر منه أفعالاً لولا اعتقاده بجوازها قبل البعثة لما جاز مدحه بها لأنها كانت تكون قبيحة، والمدح بفعل القبيح لا يجوز سيما منه عَلَيْه السَّلام، وقال في ذلك: ((إن عبد المطلب سنّ سنناً في الجاهلية فجاء بها الإسلام، سن الطواف بالبيت سبعة أشواط، وكانت قريش تزيد وتنقص، وكان لا يأكل ما ذبح على النصب، ووجد مالاً في زمزم فخمسه فجاء بذلك الشرع وسماها سقاية الحاج، فقال تعالى: {أَجَعَلْتُمْ سِقَايَةَ الْحَاجِّ} [التوبة:19]، ودفع دية ابنه عبدالله مائة من الإبل، وحرم حلائل الآباء على الأبناء(1))) فلو كانت هذه الأفعال قبيحة وكان يعلم قبحها قبل البعثة لما مدحه بفعلها وأوردها مورد إظهار الذكر لله سبحانه وتعالى باتباع الحق.
وإذ لم يقبح من عبد المطلب لم يقبح من النبي صَلَّى الله عَلَيْه وآله وَسَلَّم، ولأن المعلوم من حال قريش كلها تعظيم البيت الحرام وتعظيم من قصده، ولبني هاشم اليد الطولى في ذلك، ولم يكن يظهر تعظيمهم له إلا بالطواف حوله، فلو لم يشتهر بالطيافة حوله لنقصه المشركون بذلك، ومعلوم أنهم لم ينقصوه بشيء من ذلك، ولأن ذلك معلوم له من دين إبراهيم عَلَيْه السَّلام، ولم يثبت عنده نسخه، فيقضي بقبحه، وقد قطع على صحة ما جاء به إبراهيم عَلَيْه السَّلام وتصويبه، فهذه الوجوه كما ترى توجب التوقف.
__________
(1) ـ رواه السيد الإمام أبو العباس الحسني في المصابيح (169)، والإمام أبو طالب في الأمالي (389).
الكلام في الإجماع
مسألة:[الأدلة على حجِّية الإجماع]
الإجماع حجة عند جميع المسلمين من الصحابة والتابعين، ثم حُكي بعد ذلك عن النظَّام خلافه وتبعه على ذلك الروافض وقوم من الخوارج.
والدليل على صحة الأول: قوله تعالى: {وَمَنْ يُشَاقِقِ الرَّسُولَ مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُ الْهُدَى وَيَتَّبِعْ غَيْرَ سَبِيلِ الْمُؤْمِنِينَ نُوَلِّهِ مَا تَوَلَّى وَنُصْلِهِ جَهَنَّمَ وَسَاءَتْ مَصِيرًا} [النساء:115].
ووجه الإستدلال بهذه الآية: أن الله تعالى توعد على اتباع غير سبيل المؤمنين، وهو لا يتوعد على فعل إلا وذلك الفعل واجب؛ لأن الوعيد على فعل الحسن وترك ما ليس بواجب قبيح والله تعالى لا يفعل القبيح، على ما ذلك مقرر في مواضعه من أصول الدين، فلا وجه لاستقصاء ذكره هاهنا.
وإذا قبحت مخالفتهم وجبت متابعتهم إذ لا واسطة بين متابعتهم ومخالفتهم؛ فصح ما قلناه من كون الإجماع حجة.
والذي يدل على ذلك: قوله تعالى: {وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا لِتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ وَيَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيدًا} [البقرة:143].
ووجه الإستدلال بهذه الآية: أن الله تعالى أخبر وهو لا يخبر إلا بالصدق؛ لأن الكذب قبيح، وهو تعالى لا يفعل القبيح، بأنه جعلهم أمة وسطاً، والوسط الخيار من كل شيء، وهذا شائع في اللغة، ثم أخبر سبحانه بالإرادة في ذلك وأنها: ليكونوا شهداء على الناس، والناس هاهنا هم اليهود والنصارى وسائر فرق الكفر والله أعلم، وهو لا يختار للشهادة إلا العدول الذين لا يقولون إلا الحق؛ لأنه لو اختار غير من هذه حاله كان ذلك تغريراً منه وتلبيساً وذلك قبيح، والله تعالى لا يفعل القبيح.
فصل: [في بيان الطرق إلى العلم بإجماع الأمة]
ويعلم إجماع الأمة بأمور:
أحدها: أن يتفقوا على فعل من الأفعال ويفعلوه بأجمعهم،
ومنها: أن يقولوا بأجمعهم قولاً واحداً.
ومنها: أن يفعل بعضهم أو يقول ويكون ظاهر الحال السلامة وارتفاع موانع التقية، ويكون ذلك الفعل أو القول إذا لم يكن حقاً كان قبيحاً، ويسكت بعضهم عن الإنكار، فإنا نعلم الإجماع على جواز ذلك الفعل، وأنه من قبيل الحسن فإن أجمعوا على ترك فعل علمنا أنه ليس من قبيل الواجب.
مسألة:[الكلام في من يعتبر في الإجماع ومن لا يعتبر]
لا خلاف أنه لا يعتبر في الإجماع بأحد من الكفار، وإنما الخلاف في المصدقين بالله تعالى ورسوله صَلَّى الله عَلَيْه وآله وَسَلَّم.
فعند أبي علي يعتبر بالمؤمنين دون غيرهم، وهو قول القاضي، وكان شيخنا رحمه الله تعالى يذهب إليه، ونحن نختاره.
وحكى شيخنا عن أبي هاشم أنه يعتبر بجميع المصدقين.
وحكى أن الشيخ أبا الحسين الخياط(1) حكى عن جعفر بن مبشر(2) أنه لا يعتبر بالخوارج والرافضة لأنه لا سلف لهم، ولأنهم يتبرأون من السلف الصالح.
وقال بعضهم: إجماعهم فيما يبحثون عنه يعتبر ولا يعتبر في النقل؛ لأنهم أفسدوا على نفوسهم النقل ولا نعتبر بالرافضة في أمر القرآن؛ لأنهم يجوزون فيه الزيادة والنقصان.
__________
(1) ـ أبو الحسين الخياط: عبد الرحيم بن محمد بن عثمان الخياط، من الطبقة الثامنة من طبقات المعتزلة، من معتزلة بغداد يقول بتفضيل أمير المؤمنين -عَلَيْه السَّلام- على سائر الصحابة، وكان عالماً فاضلاً فقيهاً، صاحب حديث، وحفظ واسع لمذاهب المتكلمين، وهو أستاذ أبي القاسم البلخي، وله كثير من المؤلفات في علم الكلام وغيره.
(2) ـ أبو محمد جعفر بن مبشر الثقفي كان مشهوراً بالعلم والورع، من الطبقة السابعة من طبقات المعتزلة، ومن معتزلة بغداد ممن يقول بتفضيل أمير المؤمنين -عَلَيْه السَّلام- وكان يضرب به المثل هو وجعفر بن حرب فيقال: علم الجعفرين وزهدهما.
والذي يدل على صحة ما ذهبنا إليه: أن دليلي الإجماع اللذين أستدللنا بهما على الإجماع خصا الخيار العدول المؤمنين، والفساق ليسوا بعدول ولا مؤمنين، وسواء عندنا في هذا الموضع الفسق من جهة التأويل، والفسق من جهة التصريح.
أما أن الدلالة خصت المؤمنين: فذلك ظاهر.
وأما أن الفساق من جهة التأويل ليسوا من المؤمنين: فلأن الإيمان اسم مدح وتعظيم وهم لا يستحقون التعظيم، إنما يستحقون الإهانة والذم والبراءة واللعن، فإذا صح ما قلنا بما قدمنا خرج من الإعتبار الخوارج والروافض، وغيرهم من الفرق الضالة.
من فروع هذه المسألة: إذا اختلفت الأمة على قولين، وفسقت إحدى الطائفتين.
فعند أبي علي والقاضي يسقط الخلاف وفسقهم كموتهم.
وعند أبي هاشم: نعتبر قولهم، وقد بينا أن اختيارنا ما ذهب إليه أبو علي، وأنه الحق بما فيه كفاية.
مسألة:[الكلام في أنه يعتبر إجماع المؤمنين في كل عصر]
ويعتبر عندنا إجماع المؤمنين في كل عصر.
وحكى شيخنا رحمه الله تعالى عن بعضهم أنه اعتبر بإجماع المصدقين إلى انقضاء التكليف، وهذا باطل؛ لأنه لا يكون في تلك الحال حجة لزوال التكليف؛ لأن في تلك الحال ينقطع الخلاف ويرتفع التعبد.
والذي يدل على صحة ما ذهبنا إليه: ما تقدم من أن الأمة إذا قالت قولاً، أو فعلت فعلاً، أو قال بعضها أو فعل فعلاً وأقرته عليه فإنه يكون إجماعاً، وقد ثبت كون الإجماع حجة بما تقدم من الدلالة، والحجة يجب اتباعها ويحرم خلافها، فإذا أجمع أهل العصر وجب اتباعهم وحرم خلافهم.
مسألة:[الكلام في من يعتبر من المؤمنين في الإجماع ومن لا يعتبر]
اختلفوا في من يعتبر في باب الإجماع، ومن لا يعتبر.
فمنهم من اعتبر الفقهاء دون غيرهم من أهل العلم في علم الكلام وغيره.
ومنهم من اعتبر الأئمة دون غيرهم.
ومنهم من اعتبر أهل الإجتهاد دون العوام.
وعندنا أن الإعتبار بجميع المؤمنين من غير تخصيص؛ لأن دلالة الإجماع لم تخص أحداً دون أحد بل عمت الجميع من المؤمنين، ولا يجوز التخصيص بغير دلالة.
فأما إن كانت المسألة من مسائل الإجتهاد التي لا سبيل للعوام إلى معرفتها فإنه يعتبر فيها إجماع العلماء دون العوام، لأن تعذر علم المسألة عليهم في تلك الحال يجري مجرى عدمهم، فكأنهم لم يكونوا إذ لا فائدة لكونهم، فلا يجب الإعتبار بهم لهذه العلة.
وقد حكى شيخنا رحمه الله تعالى عن الشيخ أبي عبدالله البصري أنه قال: إن العوام إذا لم يتبعوا العلماء في المسألة الإجتهادية التي أجمع عليها العلماء لم ينعقد الإجماع، ولا يلزم فرضه مَنْ بعدهم، وحكى عن القاضي آخراً، والشيخ أبي الحسين البصري أن إجماع العلماء حجة اتبعهم عوام عصرهم أم لم يتبعوهم، وهو الذي نختاره؛ لأن معصية من عصى لا تخرج الحجة عن كونها حجة، ولأن العوام بقلة اتباعهم للعلماء يفسقون عندنا؛ لأن الواجب عليهم الرجوع إلى العلماء لقوله تعالى: {فَاسْأَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ } [النحل:43]، وهذا أمر والأمر يقتضي الوجوب على ما تقدم، وعند فسقهم لا يعتبر خلافهم كما قدمنا في المسألة الأولى من أن الفساق لا اعتبار بهم.
مسألة:[الكلام في أن الإجماع يعتبر بالمؤمنين من أهل كل عصر]
والإجماع عندنا يعتبر بالمؤمنين من كل أهل عصر خلافاً لأصحاب الظاهر فإنهم اعتبروا إجماع الصحابة دون غيرهم من أهل الإعصار.
والذي يدل على صحة ما ذهبنا إليه: أن أدلة الإجماع لم تفصل بين أهل عصر وعصر، والفصل بغير دلالة لا يجوز.
أما أنها لم تفصل بين أهل عصر وعصر فذلك ظاهر؛ لأن المؤمنين موجودون في جميع الأعصار إلى انقطاع التكليف.
وأما أن الفصل بغير دلالة لا يجوز، فلأن ذلك يوجب على صاحبه اعتقاد المحالات، ويفتح عليه باب الجهالات؛ لأنه لا يعرف صحة الصحيح وفساد الفاسد إلا بالدليل، فإذا رفع اعتبار الدلالة، لزمه اعتقاد كل ضلالة، وظهور بطلان ما هذا حاله يغني عن الإطالة في الإحتجاج على فساده.
فإن قالوا: إنا نخصهم بذلك لاختصاصهم بالفضائل التي لم يشاركهم فيها مَنْ بعدهم.
قلنا: فعلى هذا يجب ألا يعتبروا إلا السابقين الأولين الذين أنفقوا من قبل الفتح وقاتلوا دون غيرهم من الصحابة، وهذا لم يقل به أحد، ولأن دلالة الإجماع اعتبرت المؤمنين، ولم تخص الفائزين بالفضائل منهم، فلا يجوز تخصيصهم بغير مخصص.
مسألة:[الكلام في خلاف الواحد والاثنين، هل يؤثر في إجماع الأمة أم لا؟]
اختلف أهل العلم في الأمة إذا أجمعت على قول وخالفها الواحد والاثنان هل يؤثر ذلك في الإجماع أم لا يؤثر ذلك فيه؟
فحكى شيخنا رحمه الله تعالى عن الشيخ أبي الحسين الخياط أن ذلك لا يؤثر فيه، واختيارنا هو الأول، وكان شيخنا يذهب إليه.
والذي يدل على صحة ما قلناه: أن دلالة الإجماع لم تخص أحداً من المؤمنين دون أحد، وذلك لأن الألف واللام إذا دخلا لتعريف الجنس أوجبا الإستغراق كما قدمنا، فإذا خرج الواحد والاثنان لم يكن اللفظ في الباقين حقيقة؛ لأنه إنما يكون حقيقة في الجميع، وإذا لم يكن حقيقة كان مجازاً إذ لا واسطة بين الحقيقة والمجاز، ولا يجوز حمل اللفظ على المجاز مع إمكان حمله على الحقيقة كما تقدم الكلام فيه، فثبت أن خلاف الواحد والإثنين يقدح في الإجماع.
مسألة:[الكلام في أن أخبار الآحاد تقدح في الإجماع]
إذا ظهر الإجماع في أهل العصر ولم يعلم خلافه، ثم روى واحد الخلاف من جهة الآحاد لم يقدح في الإجماع عند أبي عبدالله وأبي الحسن وأبي رشيد، نحو إجماعهم على أن ما يتغذى به إذا دخل الحلق فَطَّر.
ثم روى عن أبي طلحة(1): (أن البرد لا يفطر)، وكان شيخنا رحمه الله يذهب إلى هذا ويحتج له بأن الإجماع معلوم الصحة، وخبر الواحد مظنون الصحة، فلا يجوز ترك المعلوم للمظنون.
وعندنا أن أخبار الآحاد تقدح في الإجماع؛ لأن ظاهر الإجماع لا يكون أصح متناً وأعظم حرمة وأوجب حقاً من ظاهر الكتاب، وقد عدل عن ظاهر الكتاب لخبر الآحاد كما فعله عمر في قوله تعالى: {اقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ} [التوبة:5]، وعدل عن هذا الظاهر لخبر عبد الرحمن بن عوف كما قدمنا.
وأما ما ذكره رحمه الله تعالى من المنع عن ذلك؛ لأن الإجماع معلوم، وخبر الواحد مظنون، وقد ترك له وإنما ترك له والحال هذه لأن ظاهر الكتاب محتمل، وخبر الواحد لا يحتمل، لأنه يرد بالأمر مفصلاً ولا شك في كون ظاهر الإجماع أشد احتمالاً من ظاهر الكتاب وأوسع سبلاً للتأويل.
فأما خلاف أبي طلحة فإنما لم يعمل عليه لانعقاد الإجماع بعده، والخلاف إذا انعقد بعده الإجماع لم يلتفت إليه، ويجوز أن يكون ترك اتباعه والعمل به لخللٍ في أمر الراوي أو في روايته.
مسألة:[الكلام في أن التابعي إذا كان في عصر الصحابة اعتُبر في إجماعهم]
التابعي إذا خالف الصحابة وهو في عصرهم، وكان لاحقاً بهم في العلم فإنه لا يكون إجماعاً ويعتبر بخلافه.
وحكى شيخنا رحمه الله تعالى أن ذلك مذهب أصحاب أبي حنيفة والشيخ أبي عبدالله والقاضي، وذهب بعضهم إلى أن التابعي لا يعتد بخلافه في إجماع الصحابة، واختيارنا هو الأول.
والذي يدل على صحته: أن التابعي بعض المؤمنين وأدلّة الإجماع لم تفصل بين بعض المؤمنين والبعض الآخر.
__________
(1) ـ أبو طلحة: زيد بن سهل بن الأسود الأنصاري الخزرجي النجاري شهد بدراً وما بعدها وهو الذي أمره عمر بضرب أعناق أهل الشورى إن لم يصلحوا على الكيفية التي أمر بها. توفي سنة نيف وثلاثين. انظر لوامع الأنوار (3/203)، والجداول (خ).
أما أنه من المؤمنين، فذلك مما لا خلاف فيه.
وأما أن دلالة الإجماع لم تفصل بين بعض المؤمنين دون بعض فذلك أيضاً ظاهر، ولأن علماء التابعين بمنزلة أصاغر الصحابة، فكما أن أصاغر الصحابة كابن عمر وابن عباس يعتبرون بلا خلاف فكذلك علماء التابعين؛ لأن تأخر الأصاغر عن عصر الأكابر لم يخرجهم من الإعتبار، فكذلك تأخر عصر التابعين عن عصر الصحابة لا يخرجهم أيضاً عن الاعتبار.
مسألة:[الكلام في أنه يُعتبر في الإجماع كافَّة أهل العلم]
ويعتبر في الإجماع كافة أهل العلم وإن لم يعرف بعضهم بالفتوى كواصل بن عطاء(1) ومن الناس من قال لا يعتبر به في ذلك.
وحكى شيخنا رحمه الله تعالى عن ابن جرير(2) أنه قال: لا يعتبر من أهل العلم إلا أهل الكتب والأصحاب دون غيرهم.
واختيارنا أنه يجب اعتبار الجميع.
والذي يدل على صحته: أن الآية لم تخص أحداً من المؤمنين دون أحد فثبت وجوب اعتبار الجميع، وإنما أخرجنا العوام لتعذر المعرفة عليهم، وهذه العلة زائلة عمن قدمنا ذكره، فلا يجوز إخراجه.
__________
(1) ـ واصل بن عطاء الغزال، أبو حذيفة، ولد بالمدينة سنة (80هـ)، من الطبقة الرابعة من طبقات المعتزلة، كان نادرة الزمان في فصاحته وعلمه، وكان جدلاً حاذقاً، توفي سنة (131هـ).
(2) ـ ابن جرير: محمد بن جرير بن يزيد بن هارون الطبري، أبو جعفر، صاحب التفسير والتاريخ المشهور، وثقه الذهبي وأثنى عليه هو وغيره حتى صاحب الخارقة، وعداده في ثقات محدثي الشيعة، وقد نالوا منه لذلك، ومن مصنفاته: كتاب الولاية في طرق حديث الغدير، وعادته الحنابلة ومنعوا الناس من الدخول إليه لما أنكر عليهم وكان لا تأخذه في الله لومة لائم، توفي سنة ست عشرة وثلاثمائة. انظر الجداول (خ)، والفلك الدوار (خ).
مسألة:[الكلام في عدم حجِّية إجماع أهل المدينة وحدهم]
إجماع أهل المدينة وحدهم عندنا ليس بحجة.
وحكي عن مالك أنه قال: إن إجماعهم حجة، وكان بعض أصحابه ينفي ذلك عنه وينكره وأحسب أنه أبو بكر الأبهري(1)، وقال: إنما قال إن روايتهم أقوى من رواية غيرهم.
والذي يدل على صحة ما ذهبنا إليه: أن أهل المدينة بعض المؤمنين، وقد بينا أن الإعتبار بإجماع جميع المؤمنين.
أما أنهم بعض المؤمنين فذلك ظاهر.
وأما أن الإعتبار بجميع المؤمنين فلأن الأدلة أوجبت اعتبار الجميع، فاعتبار البعض يكون عملاً بخلاف مقتضاها، وذلك لا يجوز.
فأما ما روي من قول النبي صَلَّى الله عَلَيْه وآله وَسَلَّم من ((أنها طيبة تخرج خبثها كما يخرج الكير خبث الحديد(2)))، فذلك لا يوجب كون قول أهلها حجة لأن مدحة الله سبحانه ومدحة رسوله صَلَّى الله عَلَيْه وآله وَسَلَّم لمكة أكثر فكما لم يكن قول أهل مكة حجة فكذلك المدينة، ولأن كل واحد منهما مهبط الوحي فما لزم لأهل أحدهما لزم لأهل الأخرى.
وأما أن روايتهم أقوى من رواية غيرهم: فلا يمتنع ذلك؛ لأن أهل البلد قد يكونون أعلم بما حدث فيه، هذا فيما يحدث في بلدهم؛ فأما ما يحدث في غيرها فهم وغيرهم فيه سواء لفقد المخصص.
__________
(1) ـ أبو بكر الأبهري: محمد بن عبدالله بن محمد بن صالح التميمي، أبو بكر الأبهري البغدادي، الفقيه المالكي، كان شيخ المالكية بالعراق. توفى سنة خمس وستين وثلاثمائة. انظر الجداول (خ).
(2) ـ أخرجه البخاري (2/665) رقم (1784)، وأحمد (3/306) رقم (14323)، وابن حبان (9/49) رقم (3732)، والنسائي (2/482) رقم (4262)، وأبو يعلى (4/20) رقم (2023).
مسألة:[الكلام في أن إجماع العترة حجَّة]
إجماع العترة حجة عند الزيدية، وحكى شيخنا رحمه الله تعالى ذلك عن الشيخين أبي علي وأبي عبدالله وأنهما ذهبا إليه.
والذي يدل على صحته قول الله سبحانه: {إِنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيُذْهِبَ عَنْكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيرًا} [الأحزاب:33].
والكلام في هذه الآية يقع في وجهين:
أحدهما: أنهم مرادون بهذه الآية. والثاني: أن ذلك يقتضي كون إجماعهم حجة.
أما أنهم مرادون بهذه الآية: فلأنه لا يسبق إلى الأفهام عند إطلاق لفظ أهل البيت غيرهم، ولا يشاركهم في هذا الإطلاق أحد من أقارب النبي صَلَّى الله عَلَيْه وآله وَسَلَّم إلا بقرينة، فثبت بذلك أن هذا الإطلاق حقيقة فيهم مجاز في غيرهم كما قدمنا في ذكر الحقيقة والمجاز.
ولأن النبي صَلَّى الله عَلَيْه وآله وَسَلَّم جمعهم تحت كسائه وقال: ((اللهم إن هؤلاء عترتي أهل بيتي فأذهب عنهم الرجس وطهرهم تطهيراً)) قالت أم سلمة(1)
__________
(1) ـ أم سلمة هند بنت أبي أمية بن المغيرة المخزومية، أم المؤمنين، رأت جبريل -عَلَيْه السَّلام- وهي وزوجها أبو سلمة أول من هاجر إلى الحبشة، ويقال: إنها أول مهاجرة دخلت المدينة. تزوجها الرسول -صَلَّى الله عَلَيْه وآله وَسَلَّم- بعد وقعة بدر في شوال.
..إلى قوله - أيده الله تعالى -: وتوفيت سنة اثنتين وستين بعد مقتل الحسين -عَلَيْه السَّلام-..إلى قوله - أيده الله تعالى-: شديدة الولاء لأمير المؤمنين -عَلَيْه السَّلام- وأهل البيت، نهت عائشة عن الخروج وذَكَّرَتْهَا بما سمعته من النبي -صَلَّى الله عَلَيْه وآله وَسَلَّم- في أمير المؤمنين -عَلَيْه السَّلام- وأخرجت ولدها عمر للجهاد معه. ودفنت بالبقيع -رضوان الله عليها وسلامه- وهي آخر أمهات المؤمنين موتاً. انظر: لوامع الأنوار (ط2- 3/237، 239).
رحمها الله تعالى: (فرفعت الكساء لأدخل) فدفعني ثم قال: ((مكانك وإنك على خير(1))) وهذا الخبر مما ظهر في الأمة واشتهر، حتى قيلت فيه الأشعار، وتواترت به الأخبار.
__________
(1) ـ حديث: الكساء من الأحاديث المشهورة المتواترة التي ظهرت ظهور الشمس واشتهرت اشتهار الصلوات الخمس، رواه الموالف والمخالف، وشحنت به المؤلفات من جميع الطوائف، أخرجه السواد الأعظم من أهل البيت -عليهم السلام- وشيعتهم وغيرهم من المحدثين، وعلى سبيل الإيضاح نذكر بعضاً منهم؛ فممن رواه الإمام الناصر للحق الحسن بن علي، والإمام أبو طالب في الأمالي (101)، والمرشد بالله في الأمالي الخميسية (1/151)، ومحمد بن منصور المرادي، ومحمد بن سليمان الكوفي، وصاحب المحيط علي بن الحسين، والحاكم الجشمي في تنبيه الغافلين (194)، والحاكم الحسكاني.
ورواه من المحدثين: ابن أبي شيبة، وابن عقدة، وابن المغازلي، ومالك بن أنس، ووكيع، وأحمد بن حنبل في مسنده (1/330) عن ابن عباس، وفي (4/107) عن واثلة بن الأسقع، وفي (6/292) عن أم سلمة، وفي (6/292) عن شهر بن حوشب، وإسحاق بن راهويه، ومسلم، وأبو داود، والترمذي (2/209، 319)، والدارقطني، والثعلبي، والواحدي، والحاكم في مستدركه (3/147)، وقال: صحيح على شرط الشيخين، والسمهودي الشافعي في جواهر العقدين، والطحاوي في مشكل الآثار (1/332، 333، 334، 336، 338)، وأبو يعلى، وأبو الشيخ، والطبراني، والبيهقي، وعبد بن حميد، ومطين، وابن أبي داود، وابن أبي حاتم، وابن جرير، وابن خزيمة، وابن عساكر، وابن مردويه، وابن المنذر، وابن منيع، وابن النجار، ومحب الدين الطبري، والبغوي، والنسائي (4)، وفي تاريخ بغداد (10/278)، والطبري (32/5)، و(22/6)، وفي الرياض النضرة (2/188)، وابن عبدالبر في الاستيعاب (2/598)، وأبو داود الطيالسي (8/274)، وفي كنز العمال (7/92)، وفي أسد الغابة (2/20)، و(3/413)، والهيثمي في مجمع الزوائد (9/169، 121، 169، 206، 207، 146، 172).
ولمزيد من الإطلاع على طرق وروايات هذا الحديث، انظر الاعتصام (1/66، 118)، وشرح الغاية (1/508، 523)، والتحف شرح الزلف (ط3- 442، 450)، ولوامع الأنوار (1/87)، والجواب الراقي (94، 98).
ووجه الإستدلال به: أن النبي صَلَّى الله عَلَيْه وآله وَسَلَّم خصهم بكونهم أهل بيته من دون سائر أقاربه فلو أمكن ادعاء كون الآية عموماً في جميع أقاربه لخرجت بهذا الخاص من العموم وثبتت عليه، وقد قدمنا الكلام في أن العام يبنى على الخاص، وأن عموم الكتاب والسنة يخص بخبر الواحد فكيف الآن بما هو معلوم من طريق النقل المتواتر.
وأما أن ذلك يوجب كون إجماعهم حجة: فلأنا نقول: لا يخلو إما أن يريد سبحانه بإذهاب الرجس عنهم رجس الأقذار المتعلقة بالناس كالغائط والبول والدم وما جرى مجراها مما لا يذهب عن جميع البشر.
وإما أن يريد رجس الضلالة ومواقعة الخطأ إذ لا واسطة بين الرجسين.
باطل أن يريد الرجس الجاري من جميع الناس؛ لأنهم وغيرهم فيه سواء، فثبت بذلك أن المراد بالآية رجس الضلالة ومواقعة الخطأ إذ لا واسطة بين الأمرين.
فإذا صحت لنا عصمتهم عن الإتفاق على الخطأ لعمومه سبحانه لهم في رفع الرجس عنهم الذي هو الضلالة والخطأ قضى ذلك بوجوب متابعتهم واعتقاد كون إجماعهم حجة، ولولا القول بذلك لبعدت الآية عن الفائدة ولحقت بالعبث القبيح الذي لا يجوز وروده من قبل الله سبحانه وتعالى كما هو مقرر في مواضعه من أصول الدين.
ودليل آخر: وهو قول النبي صَلَّى الله عَلَيْه وآله وَسَلَّم: ((إني تارك فيكم ما إن تمسكتم به لن تضلوا من بعدي، كتاب الله وعترتي أهل بيتي إن اللطيف الخبير نبأني أنهما لن يفترقا حتى يردا علي الحوض(1))).
__________
(1) ـ قال الإمام الحجة الحافظ الولي: مجدالدين بن محمد بن منصور المؤيدي -أيده الله تعالى- في لوامع الأنوار (ط2- 1/83):
وقد أخرج أخبار الثقلين والتمسك أعلام الأئمة وحفاظ الأمة؛ فمن أئمة آل محمد -صلوات الله عليهم-: الإمام الأعظم زيد بن علي [المجموع الحديثي (404)]، والإمام نجم آل الرسول القاسم بن إبراهيم، وحفيده إمام اليمن الهادي إلى الحق يحيى بن الحسين [مجموع رسائل الإمام الهادي (55، 96، 195)، والأحكام (ط2- 1/40)] والإمام الرضا علي بن موسى الكاظم [الصحيفة (464)]، والإمام الناصر الأطروش الحسن بن علي، والإمام المؤيد بالله، والإمام أبو طالب [الأمالي (104)]، والسيد الإمام أبو العباس[المصابيح(246)]، والإمام الموفق بالله، وولده الإمام المرشد بالله [الأمالي الخميسية (1/152)]، والإمام المتوكل على الله أحمد بن سليمان، والإمام المنصور بالله عبدالله بن حمزة [العقد الثمين (98)].
والسيد الإمام أبو عبدالله العلوي صاحب الجامع الكافي، والإمام المنصور بالله الحسن بن بدر الدين، وأخوه الناصر للحق حافظ العترة الحسين بن محمد [ينابيع النصيحة (319)]، والإمام المهدي لدين الله أحمد بن يحيى، والإمام الهادي لدين الله عزالدين بن الحسن، والإمام المنصور بالله القاسم بن محمد [الاعتصام (132)]، وولده إمام التحقيق الحسين بن القاسم [شرح الغاية (524)] وغيرهم من سلفهم وخلفهم.
ومن أوليائهم: إمام الشيعة الأعلام، قاضي إمام اليمن الهادي إلى الحق، محمد بن سليمان -رضي الله عنه- [المناقب (2/167)]، رواه بإسناده عن أبي سعيد من ست طرق، وعن زيد بن أرقم من ثلاث، وعن حذيفة، وصاحب المحيط بالإمامة الشيخ العالم الحافظ أبو الحسن علي بن الحسين، والحاكم الجشمي [تنبيه الغافلين (107، 78، 73، 74)]، والحاكم الحسكاني، والحافظ أبو العباس بن عقدة، وأبو علي الصفار، وصاحب شمس الأخبار -رضي الله عنهم-.
وعلى الجملة كل من ألف من آل محمد -عليهم السلام- وأتباعهم -رضي الله عنهم- في هذا الشأن يرويه ويحتج به على مرور الأزمان.
ومن العامة: أحمد بن حنبل في مسنده [(4/367)]، وولده عبدالله، وابن أبي شيبة [المصنف (7/177)]، والخطيب ابن المغازلي [المناقب (234، 236)]، والكنجي الشافعيان، والسمهودي الشافعي[جواهر العقدين]، والمفسر الثعلبي، ومسلم بن الحجاج القشيري في صحيحه [(15/179)] رواه في خطبة الغدير من طرق ولم يستكملها بل ذكر خبر الثقلين وطوى البقية.
والنسائي [الخصائص (150) رقم (276)]، وأبو داود []، والترمذي [السنن (5/621) رقم (3786)]، وأبو يعلى [المسند (2/197)]، والطبراني في الثلاثة [الكبير (5/166) رقم (4969)، والأوسط (2/327، 361) رقم (3439)، ورقم (3542)، والصعير (1/131، 135، 226)].
والضياء في المختارة، وأبو نعيم في الحلية، وعبد بن حميد [المنتخب (107، 108)]، وأبو موسى المدني في الصحابة، وأبو الفتوح العجلي في الموجز، وإسحاق بن راهويه، والدولابي في الذرية الطاهرة [(166) رقم (223)]، والبزار [(3/89) رقم (864)]، والزرندي الشافعي، وابن البطريق في العمدة، والجعابي في الطالبيين من حديث عبدالله بن موسى بن عبدالله بن الحسن بن الحسن بن علي، عن آبائه، عن علي -عليهم السلام- وغيرهم.
انتهى من لوامع الأنوار للإمام الحجة الحافظ الولي: مجدالدين بن محمد بن منصور المؤيدي أيده الله تعالى (ط2، 1/83).
وأورده السيوطي في الجامع الصغير (157) رقم (2631) ورمز له بالتحسين، وأخرجه الهيثمي في مجمع الزوائد (9/166)، وهو في كنز العمال (1/185) رقم (943)، والخطيب البغدادي في تاريخ بغداد (8/442)، وابن الأثير في أسد الغابة (2/12)، والدارمي (2/431)، وابن عساكر في تاريخ دمشق (5/369)، والطحاوي في مشكل الآثار (4/368، 369)، والطبري في ذخائر العقبى (16)، والبيهقي في السنن الكبرى (7/30)، وابن خزيمة (4/62) رقم (2357).
ووجه الإستدلال بهذا الخبر: أن النبي صَلَّى الله عَلَيْه وآله وَسَلَّم أمننا من الضلالة إذا تمسكنا بعترته، كما أمننا من الضلالة إذا تمسكنا بكتاب ربه، فكما أن الكتاب حجة يجب اتباعها، فكذلك العترة حجة يجب اتباعها، والتمسك لا يكون بهم واجباً إلا بكون إجماعهم حجة.
أما أنه أمننا من الخطأ إذا تمسكنا بعترته: فذلك ظاهر في لفظ الخبر.
وأما أن ذلك لا يكون إلا لكون إجماعهم حجة: فلأنه إذا أمننا من الخطأ قطعنا على ارتفاع الخطأ فيما أمننا من قبله، ونحن لا نقطع إلا فيما يجب اتباعه ويحرم خلافه، وهو المراد بالحجة، فلولا كون إجماعهم حجة لكان ذلك منه عَلَيْه السَّلام تغريراً بنا، وتلبيساً علينا، وذلك لا يجوز عليه وهو رسول عدل حكيم، لا يجوز أن يبعث من يعلم من حاله شيئاً من ذلك.
مسألة:[الكلام في العترة أو الأمة إذا افترقت على قولين]
والكلام في العترة إذا افترقت على قولين لا ثالث لهما، ومنع الجميع من إحداث ثالث كالكلام في الأمة، وكذلك إذا افترقوا فرقتين، وتبين ضلال إحدى الطائفتين، أو صَحّ لنا بطلان قولها، فإنا نعلم وجوب تعين الحق في قول الفرقة الظاهرة، والفرقة المصيبة إذ لا يجوز خروج الحق عن أيدي الجميع.
وكذلك لو افترقوا إلى أربع فرق مثلاً وصح لنا ضلال ثلاث أو نسخها من جهة التأويل، فإنا نعتبر الحق في الرابعة لاستحالة خروج الحق عن أيدي الجميع لما قدمنا.
مسألة:[الكلام في الأمة إذا أجمعت على أمر ولم يمكن معرفة الإجماع بدونه هل يصح الإستدلال عليه بالإجماع؟]
كل أمر أجمعت الأمة عليه ولم يكن يمكن معرفة صحة الإجماع بدونه فإنه لا يصحّ الاستدلال عليه بالإجماع، وهذا لا خلاف فيه بين شيوخنا فيما نعلمه.
والدليل على صحة هذا القول: أن معرفة الدليل ووجه الإستدلال يجب تقدمها على معرفة المدلول، وإلا لم يكن بكونه دليلاً أولى منه بكونه مدلولاً عليه، فيكون دليلاً مدلولاً عليه من جهة واحدة، وذلك لا يجوز لأن صحته تبنى على صحة ما لا يصح إلا بصحته، وذلك ظاهر البطلان، وإنما الخلاف يقع في أعيان المسائل، وما يصح الإستدلال عليه بالإجماع، وما لا يصح.
مسألة:[الكلام في أنه لا يصح الإستدلال بالإجماع على ثبوت صفات الله تعالى]
يحكي شيخُنا رحمه الله تعالى في العلم بكونه تعالى حياً موجوداً لا يشبه الأشياء اختلافاً بين أهل العلم.
فذهب قاضي القضاة أن العلم بجميع ذلك لا يحصل بالإجماع، قال: وإلى ذلك ذهب الشيخ أبو الحسين البصري.
وحكى عن الشيخ أبي رشيد أنه قال: إن ذلك كله مما يصح معرفته بالإجماع.
وكان شيخنا رحمه الله تعالى يذهب إلى أن كونه تعالى موجوداً يصح معرفته بالإجماع، وكذلك نفي التشبيه منه.
قال: فأما كونه حياً فلا يصح ذلك فيه، وذكر أنه كان ذهب إلى الإستدلال على أنه سبحانه حي بالإجماع في كتابه الموسوم بالتبيان، ثم رجع رحمه الله تعالى عنه، وقال الصواب خلافه.
واختيارنا في هذه المسألة: ما ذهب إليه القاضي والشيخ أبو الحسين البصري من أنه لا يصح الإستدلال على شيء من هذه الصفات بالإجماع.
والدليل على صحة ما اخترناه: أن صحة الإجماع تبتني على العلم بصحة ما جاء من عند الله تعالى من كون الإجماع حجة، وكذلك ما جاء من عند رسول الله صَلَّى الله عَلَيْه وآله وَسَلَّم وذلك لا يصح ما لم يعلم كونه سبحانه عدلاً حكيماً لا يفعل القبيح ولا يقع من قبله، ولا يعلم ذلك إلا بأن يعلم أنه سبحانه عالم بقبح القبيح وغني عن فعله، وعالم بغناه عنه، وأن من كان بهذه الأوصاف فإنه لا يفعل القبيح، ونحن لا نعلم كونه عالماً ما لم نعلم وقوع الفعل من قبله محكماً، ولا نعلم وقوع الفعل من قبله محكماً ما لم نعلمه قادراً، ولا نعلمه عالماً قادراً مع نفي العلم بكونه حياً، ولا نعقل ثبوت القدرة والعلم له إلا بكونه موجوداً، ولا نعلمه عالماً باستغنائه عن القبيح ما لم نعلمه عالماً لذاته، ولا نعلمه عالماً لذاته ما لم نعلمه قديماً، ولا نعلمه قديماً إلا بعد العلم باستحالة كونه محدثاً، ولا نعلم استحالة كونه محدثاً إلا باستحالة مشابهته للأشياء.
وأما العلم بأنه غني عن فعل القبيح فهو يترتب على العلم بكونه حياً لا يجوز عليه الحاجة، واستحالة جواز الحاجة عليه لا تكون إلا باستحالة جواز المنفعة والمضرة، ولا نعلم استحالة جواز المنفعة عليه والمضرة ما لم نعلم استحالة جواز اللذة عليه، والألم وتوابعهما، ولا نعلم استحالة ذلك عليه ما لم نعلم استحالة مشابهته للأشياء المحدثات، وموضع تفصيل هذه الجملة هو أصول الدين.
وكذلك إنهاء الكلام فيها إلى غاياته، وقد وضح العلماء رضي الله عنهم من ذلك ما فيه كفاية، إلا أنا أريناك ارتباط بعض هذه المسائل بالبعض، وأنه لا يصح معرفة الإجماع بدون معرفتها فلو وقفت معرفتها على الإجماع وكان الإجماع طريقاً إليها، أدى إلى وقوف كل واحد من الأمرين على معرفة صاحبه، فلا يحصل العلم بواحد منهما، وما أدى إلى هذا القول قضي بفساده، وقد تقدم القول في أن معرفة الدليل يجب تقدمها على المعرفة بالمدلول عليه، ومعرفة وجه دلالته في المسألة الأولى.
مسألة:[الكلام في الإجماع على أمر من أمور الدنيا كالآراء والحروب هل يجوز مخالفته أم لا؟]
اختلفوا في الإجماع إذا حصل في أمور الدنيا كالآراء والحروب، هل يجوز في ذلك المخالفة أم لا؟
فحكى شيخنا رحمه الله تعالى عن قاضي القضاة في العمد وشرحه أنه جوز لمن بعدهم خلافهم، وقال: لا يكون حالهم أعلى من حال النبي صَلَّى الله عَلَيْه وآله وَسَلَّم، وقد ثبت جواز مخالفته في آراء الحروب وأمور الدنيا.
أما في أمور الدنيا: ففي إقراره لعروة البارقي(1) على ما فعل في أمر الشاتين فلو كان لا يجوز لما أقره على ذلك.
وأما في الحروب: فإنه لما وصل بدراً وحط في أسفل الوادي قال له رجل(2)
__________
(1) - خبر عروة البارقي هو ما رواه في أمالي أحمد بن عيسى والشفاء وغيرهما.
قال في الشفاء: خبر وروي أن النبي -صلى الله عليه وآله وسلم- دفع إلى عروة البارقي ديناراً وأمره أن يشتري له به أضحية، وروي: شاة، فاشترى له شاتين فباع إحداهما بدينار وجاء بالشاة الأخرى والدينار إلى رسول الله -صلى الله عليه وآله وسلم- فقال: ((أحسنت)) ودعا له بالبركة في بيعه، فكان لو اشترى التراب لربح فيه.
(2) - هو الحباب بن المنذر بن الجموح الخزرجي الأنصاري.
من الأنصار: (يا رسول الله هذا موقف أوقفناه الله سبحانه لا يجوز لنا نتعداه إلى غيره أم هو الرأي والحرب والمكيدة؟) فقال: ((بل هو الرأي والحرب والمكيدة)) قال: (فانهض بنا إلى أعلى الوادي، لنحوز الماء خلف ظهورنا ونقاتل العدو من وجه واحد) فأقره على ذلك بل صوبه، ونهض فحط في أعلى الوادي، ولو كان خلافه في ذلك لا يجوز لما أقره على ذلك.
وأما أن حالهم لا يكون أعلى من حال النبي صَلَّى الله عَلَيْه وآله وَسَلَّم فذلك ظاهر.
قال رحمه الله تعالى ثم ذكر في كتاب النهاية أن مخالفتهم لا تجوز؛ لأن أدلة الإجماع لم تفصل بين أمر وأمر.
قال رحمه الله تعالى: وقال أبو رشيد إنه إن استقر الإجماع لم يجز مخالفته، وإن لم يستقر جازت مخالفته.
قال: وقد أشار إلى مثل ذلك القاضي، وكان شيخنا رحمه الله تعالى يذهب إلى قول أبي رشيد ويحتج له بأن أدلة الإجماع لم تفصل بين إجماعهم في أمر الدنيا وأمر الآخرة، ولا يجوز الفصل بغير دلالة.
وعندنا أنه ينبغي أن نفصل الكلام في هذه المسألة تفصيلاً، فنقول: إجماعهم لا يخلو إما أن يكون في الوجه الذي تقع عليه الحرب أو في صورتها ووقتها ومكانها؛ فإن كان في الوجه الذي يقع عليه القتال من أنه لا يجوز قتالهم إلا بعد الدعاء أو لا يجوز قتالهم إلا مع إمام أو أمير، أو لا يجوز قتالهم إلا للدفع، وجُوِّزَ انعقاد الإجماع على أحد هذه الوجوه فإنه لا يجوز مخالفتهم.
وإن أجمعوا على القتال في موضع مخصوص كقتالهم في باب القادسية، أو في وقت مخصوص من صباح أو مساء، أو لأمر مخصوص كأن يدفع إليهم جزية أو ضريبة، أو تستمر الهدنة إلى مدة معلومة، أو يتركوا قصد المسلمين في تلك الأوقات، فإنه يجوز خلافهم في ذلك؛ لأن حالهم لا تكون أعلى من حال النبي صَلَّى الله عَلَيْه وآله وَسَلَّم فإذا جاز خلافه في ذلك كان جواز خلافهم أولى.
فإن قيل: إن الأدلة لم تفصل في وجوب اتباعهم بين أمر وأمر في دنيا ولا آخرة.
قلنا: وكذلك الأدلة التي دلت على وجوب اتباعه عَلَيْه السَّلام لم تفصل من ذلك بين أمر وأمر اللهم إلا أن يعلم من حالهم أنه لا يجوز مخالفتنا في هذا الرأي، وهذا من البعيد سيما في أمر الحروب وتقلب أحوالها وتصرف وجوهها.
مسألة:[الكلام في الإجماع هل ينعقد من جهة الإجتهاد أم لا؟]
اختلف أهل العلم في أنه هل يجوز أن ينعقد الإجماع من جهة الإجتهاد أم لا؟
فحكى شيخنا رحمه الله تعالى أن منهم من أبى ذلك أصلاً، قال: وهم أصحاب الظاهر.
ومنهم من جوزه بالقياس الجلي دون الخفي، وهو قول بعض الشافعية.
ومنهم من جوزه مطلقاً وهو قول الأكثر، وكان رحمه الله يذهب إليه، ونحن نختاره.
والذي يدل على صحته: أن القياس والإجتهاد أحد طرق الشرع فلا يمتنع رجوعهم إليه وانعقاد الإجماع لأجله.
أما أنه أحد طرق الشرع: فذلك ظاهر، وسيأتي بيانه إن شاء الله تعالى.
وأما أنه لا يمنع رجوعهم إليه: فلأن المعلوم من حالهم الرجوع إلى الطريق الشرعية، فكيف يكون ما المعلوم من حالهم الرجوع إليه ممتنعاً؟ وهل المانع مما هذا حاله إلا كالمانع من رجوعهم إلى التوقيف والنص؟ فكما أنه لا يجوز المنع من ذلك كذلك لا يجوز المنع من هذا، وأن كل واحد منهما طريق من طرق الشرع يجب الرجوع إليه ويصير منعنا من المنع لمن ذهب في هذه المسألة إلى خلاف ما ذهبنا إليه كمنعنا لبعض الخوارج من قصرهم الأحكام على ما يأتي به الكتاب دون المعلوم من السنة.
فكما أنا نقول لا يجوز ذلك؛ لأن كل واحد منهما دليل شرعي فلا يجوز المنع منه لغير دلالة، كذلك نقول إن القياس والإجتهاد من الطرق الشرعية التي يجب الرجوع إليها، فكما ثبت رجوعهم إلى النص والتوقيف والإجماع لأجله، كذلك لا يمتنع رجوعهم إلى القياس والإجتهاد والإجماع لأجله.
مسألة:[الكلام في أن الإجماع الحاصل عن اجتهاد حجَّة]
وإذا حصل الإجماع عن اجتهاد كان حجة يحرم خلافها عند مشائخنا وأكثر الفقهاء؛ وحكى شيخنا رحمه الله تعالى أن ذلك قول قاضي القضاة وأبي الحسين البصري والحاكم أبي سعيد، وقال بعضهم لا يكون حجة.
وحكى قاضي القضاة عن الحاكم صاحب المختصر أنه قال: إذا انعقد الإجماع عن اجتهاد جاز لمن بعدهم أن يخالفهم فيه.
والدليل على صحة المذهب الأول: أن أدلة الإجماع لم تفصل بين إجماع وإجماع، والفصل بغير دلالة لا يجوز لأن مخالفتهم في ذلك تكون اتباعاً لغير سبيل المؤمنين، وقد ورد عليه الوعيد فلو جاز لما ورد عليه الوعيد من الله سبحانه.
مسألة:[الكلام في أهل العصر إذا اتفقوا على حكم من الأحكام هل لمن بعدهم مخالفتهم؟]
إذا اتفق أهل العصر على حكم من الأحكام، فإن لمن بعدهم متابعتهم؛ بل ذلك هو الواجب عليهم، فإن خالفهم بعض أهل الرأي كان مخطئاً، وكان خلافه نقضاً للإجماع، وخلافاً للحق، ويمكن أن يعدل البعض عن الحق.
فأما أتفاق أهل العصر الثاني على مخالفتهم فإن ذلك لا يجوز وقوعه عندنا.
وحكى شيخنا رحمه الله تعالى أن قاضي القضاة حكى عن الشيخ أبي عبدالله أنه قال: إنما لم يجز أن يتفقوا على مخالفتهم لأن أهل العصر الأول أجمعوا على أنه لا يجوز أن يقع الإجماع على مخالفتهم، فلو لم يجمعوا على ذلك لجاز أن يتفق من بعدهم على مخالفتهم، ويكون الإجماع الثاني في حكم الناسخ للأول.
وحكى عن الشيخ أبي علي أنه قال: لو جاز ذلك لجاز أن يخالفهم واحد ثم ينضم إليه ثاني وثالث إلى أن يتفق أهل العصر الثاني على خلافهم، وقوله عز وجل: {وَيَتَّبِعْ غَيْرَ سَبِيلِ الْمُؤْمِنِينَ } [النساء:115]، يمنع من ذلك، وكان شيخنا رحمه الله تعالى يذهب إلى هذه المقالة ويحتج لها.
وعندنا أنه يجوز أن يخالفهم البعض؛ لأن المعصية على البعض والخطأ تجوز، ولا يجوز على ذلك اتفاق الكل بالإنضمام أو الإطباق؛ لأن ذلك يكون إجماعاً على الضلالة وخروجاً عن الحق جملة، وذلك لا يجوز على مجموع الأمة، فحكم الجملة في هذه على المسألة منتف عن الآحاد فلا يلزم من إثباته في الجملة إثباته في الآحاد، وقد تقدمت الدلالة على أن إجماع الأمة حجة يجب اتباعها ويحرم خلافها، ويلزم على تجويز وقوع الإجماع على الخلاف بعد الإجماع على الوفاق أن يكون أحد الإجماعين خطأ وذلك لا يجوز؛ لأن الإجماع الأول إن كان حقاً لم يجز خلافه، وإن كان باطلاً لم يجز وقوعه وانعقاده ففي صحة أحدهما بطلان الآخر، وذلك لا يجوز.
فأما ما ذكر الشيخ أبو عبدالله من تجويز أن يكون أحدهما ناسخاً للأول، فذلك لا يجوز، لأن النسخ لا يقع بعد النبي صَلَّى الله عَلَيْه وآله وَسَلَّم لأنه مات وقد كمل الدين ولأنه لا هداية للعباد إلى المصالح، والنسخ لا يجوز وقوعه إلا لمصلحة.
مسألة:[الكلام في أهل العصر إذا اختلفوا على قولين]
فأما إذا اختلف أهل العصر على قولين فعندنا أنه يجوز الإتفاق على أحدهما، وكان شيخنا رحمه الله تعالى يذهب إليه، وحكى أنه مذهب الأكثر من الفقهاء والمتكلمين، قال: وحكى قاضي القضاة عن الصيرفي، أنه منع من ذلك.
والذي يدل على صحة ما اخترناه: أنه لا مانع من اتفاقهم على أحد القولين من جهة العقل ولا من جهة الشرع، والمنع بغير دلالة لا يجوز كما قدمنا الكلام فيه.
أما أنه لا مانع منه من جهة العقل: فلأن أدلة العقل تقضي بجواز الإتفاق بعد الإختلاف في كل أمر، كما تقضي بجواز الإختلاف بعد الإتفاق، والإتفاق قبل الإختلاف نصاً واحداً يعلمه العاقل من نفسه.
وأما أدلة الشرع: فلا سبيل إلى ادعاء مانع فيها من الإتفاق بعد الإختلاف، ولأن الإتفاق بعد الإختلاف يكون أظهر، فكيف يكون الإختلاف مانعاً منه؟ وأكثر ما يذكر في هذا أن اتفاقهم بعد اختلافهم ينقض إجماعهم على تجويز اتباع العامي لكل واحد من القولين، ونحن لا نسلم أنهم أجمعوا على ذلك على الإطلاق بل نقول: إنما أجازوا للعامي تقليد من رجح عنده من الفريقين بشرط بقاء الفرقة، فإذا وقع الإجماع منعوه من المخالفة؛ لأنا نعلم بدلائل أصولهم أنهم لو سألوا عن ذلك لعللوا جواز فتواهم له باتباع كل واحد من الفريقين لاختلافهم عليهما.
ومثال المسألة: اختلافهم في جواز بيع أمهات الأولاد، ثم وقع الإتفاق بعد ذلك على المنع منه.
مسألة:[الكلام في أهل العصر إذا اتفقوا على أحد القولين]
فأما إذا اتفقوا على أحد القولين فقد حكى قاضي القضاة عن بعض المتكلمين وقوم من أصحاب أبي حنيفة والشافعي أنه لا يكون حجة في تحريم القول الآخر.
وذكر في الشرح أن الناس اختلفوا في ذلك:
فمنهم من جعل ذلك مُحَرِّماً للخلاف على كل حال من الأحوال، ولم يفصل بين الصحابة والتابعين.
ومنهم من جعله مُحَرِّماً للخلاف في حال دون حال، والحالة التي يحرم فيها الخلاف هي الحالة التي يكون المتفقون في المسألة على أحد القولين في المسألة هم الذين اختلفوا فيها سواء كان ذلك العصر عصر الصحابة أو غيرهم، والحالة التي لا يكون اتفاقهم فيها حجة مزيلة للخلاف هي أن يختلف أهل عصر ويتفق من بعدهم على أحد قوليهم.
واختيارنا: أن وقوع الإختلاف بعد الإتفاق غير جائز كما قدمنا في المسألة الأولى، وأن الإتفاق إذا وقع على أي وجه وقع لم يجز خلافه سواء كان من أهل العصر أو ممن بعدهم.
والذي يدل على صحة ما ذهبنا إليه: أن ذلك يكون اتباعاً لغير سبيلهم، واتباع غير سبيلهم لا يجوز كما قدمنا.
مسألة:[الكلام في انقراض أهل العصر هل هو معتبر في صحة الإجماع أم لا؟]
اختلف أهل العلم في انقراض أهل العصر هل هو معتبر في صحة الإجماع أم لا؟
فذهب قوم إلى أن انعقاده مشروط بانقراض أهل العصر وهو قول بعض أهل الظاهر، وقوم من الفقهاء.
وكان الشيخ أبو علي يجعل ذلك شرطاً في العلم به ويقول: انقراض أهل العصر يكشف أنه لو كان في المسألة خلاف لظهر فهو على هذا يجعله شرطاً يبين وقوع الإجماع لا في صحة انعقاد الإجماع، وسيأتي الكلام فيه.
والذي نختاره أن انقراض أهل العصر غير معتبر في انعقاد الإجماع، ولا شرط في صحته، ولا في معرفته.
والذي يدل على ما اخترناه: أن أدلة الإجماع لم تتضمن شرط انقراض أهل العصر، واعتباره بغير دلالة لا يصح.
فإن قيل: إنهم مع بقاء أهل العصر لا يمتنع عليهم الإختلاف فلا يكون إجماعاً.
قلنا: إن من خالف بعد الإجماع، وإن كان العصر باقياً لم يلتفت إليه، وكان محجوجاً بالإجماع السابق؛ لأنه يكون والحال هذه مخالفاً لسبيل المؤمنين وذلك لا يجوز، وكما أنه لا يجوز اعتبار انقراض عصرين كذلك لا يجوز اعتبار انقراض عصر؛ لأن كل واحد من الإعتبارين لا دليل عليه.
مسألة:[الكلام في إختلاف أهل العصر على قولين، هل يجوز إحداث قول ثالث أم لا؟]
فأما إذا اختلف أهل العصر في المسألة على قولين، هل يجوز إحداث قول ثالث أم لا؟
فحكى شيخنا رحمه الله تعالى أن الأكثر ذهب إلى أنه لا يجوز إحداث قول ثالث.
وحكى عن بعض أهل الظاهر أنه أجاز إحداث قول ثالث.
وذكر أن الشيخ أبا الحسين البصري ذكر أن اختلافهم على قولين إن كان في مسألتين نحو أن يقول بعضهم: جميع الطهارات تحتاج إلى نية، ويقول بعضهم: جميع الطهارات لا تحتاج إلى نية، فيقول قائل قولاً ثالثاً، وهو أن بعضها يحتاج إلى نية دون بعض، فإنه يجوز إحداث هذا القول الثالث عنده بشرطين:
أحدهما: أن لا يحصل إجماع الأمة على أن لا فرق بين المسألتين اللتين فرق هذا الثالث بينهما.
والثاني: أن لا ينتظمهما طريقة واحدة تمنع من الفرق بينهما.
وإن كان اختلافهم في مسألة واحدة، مثل مسألة الجد مع الأخ، لم يجز إحداث قول ثالث، وكان رحمه الله تعالى يذهب إلى هذا القول ويحتج له، وهو الذي نختاره.
والذي يدل عليه: أن الأدلة إنما قضت بتحريم اتباع غير سبيلهم، وهذا القول الثالث على الوجه المتقدم لم يتبع فيه غير سبيلهم؛ لأنه إنما قال ببعض قول هؤلاء وبعض قول هؤلاء، فكان على الحقيقة متبعاً لسبيلهم، ولم تنتظم المسألتين دلالة توجب الإقتران بينهما ولا علم ذلك من دينهم فيكون القول الثالث اتباعاً لغير سبيلهم.
ومثال المسألة: ما روي عن ابن سيرين(1) في زوج وأبوين، وزوجة وأبوين، فإن الصحابة افترقت في هاتين المسألتين على قولين:
فمنهم من قال: لها ثلث ما يبقى بعد فرض الزوج أو الزوجة في المسألتين جميعاً.
ومنهم من قال: لها ثلث جميع المال في المسألتين جميعاً.
وفرق ابن سيرين بين المسألتين، فقال في امرأة وأبوين: للأم ثلث جميع المال، ولها ثلث ما يبقى مع زوج وأبوين، فقال بقول ثالث، ولم يخرج مما عليه الفريقان بل قال ببعض قول هؤلاء وبعض قول الآخرين.
وكذلك الرواية عن سفيان الثوري(2)
__________
(1) ـ محمد بن سيرين الأنصاري مولاهم، أبو بكر البصري، وثَّقَه ابن سعد والحاكم، توفي سنة عشر ومائة، وروى المنصور بالله -عَلَيْه السَّلام- أنه كان عدلي المذهب، وصحح ذلك، وكان مشهوراً بتعبير الرؤيا، وهو ممن بايع الإمام الحسن بن الحسن وخرج معه. توفى سنة (110هـ)، انظر الجداول (خ).
(2) ـ سفيان بن سعيد الثوري، أبو عبدالله، عالم الشيعة الزيدية، ورباني الأمة المحمدية، عالم عصره وزاهده، الإمام الثبت الحجة، توفي سنة إحدى وستين ومائة.
كان يقول: حب بني فاطمة والجزع لهم مما هم عليه من الخوف والقتل يبكي من في قلبه شيء من الإيمان.
ولما قتل إبراهيم بن عبدالله -عَلَيْه السَّلام- قال سفيان: ما أظن الصلاة تقبل إلا أن فعلها خير من تركها.
وكونه من خلصان الزيدية، معلومٌ بين علماء البرية، وكان من خواصّ الإمام عيسى بن زيد بن علي -عليهم السلام-.
قال الإمام أبو طالب -عَلَيْه السَّلام-: قال الواقدي: كان سفيان زيدياً، وروى أبو الفرج بإسناده إلى أبي عوانة، قال: فارقني سفيان على أنه زيدي.
انظر لوامع الأنوار (ط2- 1/443، 444)، والجداول (خ)، والفلك الدوار (خ)، وتيسير المطالب (79)، ومقاتل الطالبيين (141).
أنه قال: إن الأكل ناسياً في نهار شهر رمضان لا يفطر والجماع ناسياً يفطر، ومن تقدمه افترقوا على قولين:
فمنهم من قال: يفطران.
ومنهم من قال: لا يفطران.
وكان شيخنا رحمه الله تعالى يحتج بأنه لم ينكر عليه أحد ما هذا حاله، وكان ذلك إجماعاً على جواز إحداث القول الثالث، الذي هذه سبيله.
فأما إذا كانت المسألة واحدة كمسألة الجد فإنه لا يجوز إحداث قول ثالث؛ لأنه يكون مخالفة لسبيل المؤمنين ومخالفتهم لا تجوز كما تقدم؛ لأن القول الثالث في مسألة الجد يكون قولاً بأن المال للأخ دون الجد، وهذا لم يقل به أحد منهم؛ لأن منهم من أعطاه قسطاً من المال، ومنهم من أعطاه جميعه، وهذا القول الثالث لم يقض للجد بشيء من المال مع أن الكل قد أجمع أن لا بد له من تناول بعض المال أو مجموع أبعاض المال.
فالقول الثالث كما ترى يكون مخالفة لسبيلهم، والمنع من إحداث هذا القول ليس إلا بخروجه عن سبيل المؤمنين.
فأما طريقة الإجتهاد فهو يمكن استعمالها هاهنا لولا الإجماع بأن يقال: إن الأخ أقوى في باب التعصيب من الجد فيأخذ المال، ولكن منع من ذلك انعقاد الإجماع على خلاف هذا القول بخلاف ما ذكر فيما تقدم فإنه لما أمكن استعمال طريقة الإجتهاد وهو أحد طرق الشرع، ولم يكن ذلك يؤدي إلى اتباع غير سبيل المؤمنين قلنا بجوازه.
مسألة:[الكلام في أهل العصر إذا لم يفصلوا بين مسألتين]
فأما إذا لم يفصل أهل العصر بين مسألتين فلا يخلو إما أن ينصوا على أن لا فصل بينهما أو لا ينصوا على أن لا فصل بينهما.
فإن نصوا على أن لا فصل بينهما لم يجز الفصل؛ لأنه يكون مخالفة لسبيلهم، وذلك لا يجوز.
وإن لم ينصوا ولكن لم يوجد فيهم من فرق بينهما، نحو أن يحكم بعض الأمة في المسألتين بحكم، ويحكم بعضهم في المسألتين بنقيضه كأنه يبيح بعضهم إحدى المسألتين، ويحظرهما البعض الآخر، وذلك ضربان:
[الضرب الأول:] كأن يشيروا إلى حكم فيثبته أحد الفريقين في المسألتين جميعاً، وينفيه البعض الآخر عنهما جميعاً.
والثاني: كأن يشيروا إلى حكمين مختلفين نحو أن يوجب بعض الأمة النية في الوضوء ويجعل الصوم من شرط الإعتكاف.
فحكى شيخنا رحمه الله تعالى اختلاف قاضي القضاة في الضرب الأول، وأنه ذكر في العمد أنه لا يجوز الفصل بين المسألتين.
وذكر في الشرح والدرس أنه إن كان المعلوم أن طريقة الحكم في المسألتين واحدة لا يجوز كونها متغايرة؛ فإن ذلك جارٍ مجرى أن يقولوا لا فصل بينهما، ومن فصل بينهما كان متبعاً غير سبيلهم، وذلك لا يجوز؛ فأما إن جاز أن لا تكون الطريقة في المسألتين واحدة، وأن يكونوا سووا بينهما لطريقتين مختلفتين فإنه يجوز لمن بعدهم أن يفرق بينهما فيحرم إحدى المسألتين ويبيح الأخرى، ويوافق كل واحد من الفريقين في بعض قوله ولا يكون متبعاً لغير سبيلهم.
وكان شيخنا رحمه الله تعالى يحكي هذا التفصيل عن الشيخ أبي الحسين البصري، وهو الذي كان يذهب إليه، ونحن نختاره.
والذي يدل على صحته: أنا إذا فرضنا الكلام في مسألتين ولم ينتظمهما طريقة واحدة، ثم أدى المجتهد اجتهاده إلى صحة قول كل واحد من الفريقين في إحدى المسألتين وبطلان قول كل واحد من الفريقين في إحدى المسألتين، كان الواجب عليه العمل بما يصحّ عنده دون ما يبطل، ولم يكن قوله خارجاً عن قول الأمة لا في الحكم ولا في التعليل.
أما الحكم: فلأنه قال ببعض قول أحد الفريقين في المسألتين، وبعض قول الفريق الآخر في المسألتين؛ فكان موافقاً للجميع في القدر الذي اختاره، مخالفاً مع الفريقين في بعض ما خالفا فيه، فلم يخرج عن طريقهم ولا يتبع غير سبيلهم.
وأما التعليل: فلأنا فرضنا الكلام في مسألتين لا تكون العلة فيهما واحدة، ولا تنتظمهما طريقة رابطة، وكان شيخنا رحمه الله تعالى يقول: لو كان يلزم إذا أباح بعض الأمة مسألتين مباينتين وحظرهما البعض الآخر ولم يربطهما علة أن يدل ذلك من أمرهم على أن لا فصل بينهما، وأنه يحرم إحداث القول الثالث فيهما بالفصل بينهما، لوجب -إذا حرَّم بعضُهم إحدى المسألتين وأباح الأخرى، وحرم الباقون ما أباح هؤلاء وحظروا ما أباحوا- أن يكونوا قد أجمعوا على أن بينهما فرقاً؛ فلا يجوز لأحد أن يحرمهما معاً أو يبيحهما معاً، ولو لم يجز ذلك لوجب على من وافق الشافعي في مسألته أن يوافقه في جميع مذهبه ويسقط عنه الإجتهاد، والأمة مجمعة على خلاف ذلك.
وأما الضرب الثاني: وهو إذا أشارت الأمة إلى حكمين متباينين في مسألتين كما بينا في إيجاب النية في الطهارة، وجعل الصوم شرطاً في الإعتكاف، فإنه إن جاز أن يكون بينهما فرق يذهب إليه مجتهد جازت التفرقة بينهما، وإن لم يجز أن يكون بينهما فرق بل انتظمتهما طريقة واحدة يقضى فيهما باتفاق الحكمين المتباينين على بعد ذلك لم يجز إن خالف حكمهما بل الواجب أن يقال فيهما ما قالوه وما ذكره رحمه الله تعالى مستقيم على التقدير الذي استبعده.
وعندنا: أن كل حكمين متباينين في مسألتين مختلفتين لا بد فيهما من فرق يذهب إليه المجتهد؛ لأنه لو قدرنا أن لا فرق بينهما كان ذلك يلزمنا القطع على أن لا بد من علة تجمعهما، أو يلزمنا الجمع بينهما بغير علة توجب ذلك، وكل ذلك لا يجوز.
مسألة:[الكلام في الأمة إذا استدلَّت بدليلين، أو اعتلَّت بعلَّتين، هل يجوز إحداث دليل آخر وعلَّة أخرى أم لا؟]
إذا استدلت الأمة بدليلين، أو اعتلت بعلتين؛ فقد اختلفوا في أنه هل يجوز إحداث دليل آخر وعلة أخرى؟
فذهب قوم إلى أن ذلك جائز.
وذهب قوم إلى أن ذلك لا يجوز.
وكان شيخنا رحمه الله تعالى يذهب إلى أن الأمة إن علم منها المنع من إحداث دليل ثالث أو القطع على بطلانه، لم يجز إحداث دليل ثالث وعلة ثالثة، وهذا الذي نختاره، وإن لم يعلم ذلك من حالها جاز إحداثه.
والذي يدل على صحته: أن الإنسان إذا استدل بدليل ثالث لا يدل على خلاف ما دل عليه دليل الأمة بل يدل على ما دل عليه دليلهم لم يكن مخالفاً لهم بل كان موافقاً، ولم تمنع الأدلة إلا من مخالفتهم دون موافقتهم، بل دلت على وجوب موافقتهم، ولا يمتنع أن يدل على الحكم الواحد أدلة كثيرة، والكلام في إحداث العلة كالكلام في إحداث الدليل؛ فإن كانت العلة المستحدثة تنفي حكماً مما دل عليه تعليل الأمة، أو تدل على خلاف ما دل عليه تعليلهم لم يجز إحداثها، وإن أيَّدت تعليلهم وقضت بمثل ما قضت به علاتهم جاز إحداثها؛ لأن المعلل بها لا يكون مخالفاً لهم بل يكون موافقاً لهم ومتبعاً لسبيلهم.
وكان شيخنا رحمه الله تعالى يحتج لجواز ذلك بأن الناس يستحدثون الأدلة والعلل في كل وقت من غير مناكرة بينهم في ذلك فكان إجماعاً، وهذا فيه نظر؛ لأنه لا يمكن أن يقال إن المانعين من إحداث الدليل والعلة لا يسوغون لأحد إحداث شيء من ذلك، ومن جوز إحداثه هم البعض فلا يصح دعوى الإجماع، فإن صحّ فهو آكد الدلالة.
وإذا تأولت الأمة الآية بتأويل فإن شيخنا رحمه الله تعالى كان يذهب إلى أنهم إن نصوا على فساد ما عداه لم يجز إحداث تأويل سواه، وإن لم ينصوا على فساد ما عداه جاز إحداث تأويل آخر وأكثر، قال: لأن ذلك لا يكون مخالفة لهم، ولأن التابعين لهم ومن بعدهم قد أحدثوا تأويلات، ولم ينكر بعضهم على بعض، وكان إجماعاً منهم على جوازه.
قال: ولأنه لا يمتنع أن يكون في الآية تأويلان ويريدهما الله سبحانه بشرط البحث عنهما فتستجزيء الأمة بأحدهما، ويأتي مَنْ بعدهم فيقول بالآخر، وكلاهما حق، وجملة الأمر أن الكلام مبني على أن لا يكون في الثاني إبطال الأول، ولا نفي حكمه ولا نقضه.
وعندنا أن الكلام في هذه المسألة يحتاج إلى تفصيل: وهو أن التأويل الثاني إن كان المرجع به إلى النقل من النبي صَلَّى الله عَلَيْه وآله وَسَلَّم أو إلى اللغة لم يجز إحداثه؛ لأنه لا يجوز أن يغبى ما ورد عن النبي صَلَّى الله عَلَيْه وآله وَسَلَّم عن جماعتهم، وكيف وهم أصل الرواية عنه، والمعلوم من حالهم التنافس في الرواية والمبادرة إلى البيان في التبليغ، وكذلك هم أهل اللغة وفرسانها، وعبار بحورها، والمبرزون في معرفتها، ولا يجوز والحال هذه أن يحصل لمن بعدهم في ذلك العلم بشيء جهلوه، وإن كان التأويل يرجع إلى المعنى، ولم يكن ينافي التأويل الأول ولا ينقض حكمه فإنه يجوز إحداثه؛ لأن التعبد به يحسن، وليس فيه بطلان تأويلهم، ولا نقض إجماعهم، ولا يمتنع تعذر إحاطتهم بجميع المعاني، بل ذلك المعلوم من حالهم وحال جميع العباد.
ـــــــــــــ
فصل: في الإجماع
[الكلام في إجماع الأمة على فعل]
اعلم أن الإجماع يقع بالفعل والقول والرضى.
وكان شيخنا رحمه الله تعالى يقول: إن الأمة إذا أجمعت على الفعل فإن ذلك يدل على أن غيرهم فيه مثلهم إلا بدلالة، ولم يذكر فيه وجهاً من الإحتجاج.وعندنا أنهم إذا اتفقوا على فعل من الأفعال كان لا يخلو: إما أن يعلم قصدهم في ذلك الفعل أو لا يعلم؛ فإن علم قصدهم في ذلك الفعل وجب علينا العمل على مقتضى قصدهم، وإن لم يعلم قصدهم لزمنا أن نفعل مثل فعلهم من حيث حرمت مخالفتهم، ووجب اتباع سبيلهم، وقضينا بوجوب مثل فعلهم علينا؛ لأن نتبع سبيلهم، ونخرج من عهدة الأمر؛ فأما إذا قالوا قولاً وبلغنا عن النبي صلى الله عليه وآله قول يخالفه في الظاهر؛ فإنا نقضي بظاهر قول الأمة، ونتأول كلام النبي صلى الله عليه وآله؛ لأنا نقول: إنهم لو علموا أن ظاهر كلام النبي صلى الله عليه وآله ينافي ظاهر كلامهم ما تكلموا ولا أجمعوا على ذلك القول.
وكان شيخنا رحمه الله تعالى يذهب إلى هذا القول ويحتج له؛ فأما القول بمنافاتهما ومعارضتهما فإن ذلك يؤدي إلى إطراح أحدهما أو مجموعهما وذلك لا يجوز؛ لأن كل واحد منهما يجب اتباعه واطراح ما يجب اتباعه لا يجوز، ولا يجوز أن يجعل الآخر ناسخاً للأول؛ لأن النسخ بالإجماع لا يجوز، وقد تقدم الكلام فيه في باب الناسخ والمنسوخ.
فأما الكلام إذا قال بعضهم ورضي بعضهم، وكيفية الرضى وما يتبع ذلك، فسيأتي الكلام فيه فيما بعد إن شاء الله تعالى.
مسألة:[الكلام في أنه لا يجوز إنعقاد الإجماع إلا عن دلالة وأمارة]
ولا يجوز عندنا انعقاد إجماع الأمة إلا عن دلالة وأمارة؛ وحكى شيخنا رحمه الله تعالى عن قاضي القضاة أنه قال: من الناس من جوز انعقاد الإجماع عن توفيق لا توقيف، ومعنى ذلك أن يوفق الله الأمة فلا تختار إلا الصواب، وهذا يقرب من قول مؤيس(1)
__________
(1) ـ مؤيس -ويقال له: موسى- بن عمران الفقيه المعتزلي من الطبقة السابعة، ذكر أبو الحسين أنه كان واسع العلم في الكلام والفتيا، وكان يقول بالإرجاء. انظر كتاب المنية والأمل في شرح كتاب الملل والنحل.
بن عمران في أن المجتهد يجوز أن يبلغ في الإجتهاد إلى رتبة يجوز له الفتوى بما يخطر بباله من غير اعتبار دلالة ولا أمارة، وهذا باطل.
والذي يدل على صحة ما ذهبنا إليه: أنه قد تقرر وجوب طلب الدلالة والطرق عند كافة الأمة في الحوادث والمسائل، ولا يجوز على الأمة التمالي على ترك الواجب؛ لأن ترك الواجب أكبر الضلالة، وقد عصموا من الإجماع على الضلالة، فإذا أجمعوا علمنا أنهم ما أجمعوا إلا عن أمارة أو دلالة، ولأن المعلوم أنهم لا يجمعون إلا على ما يعلمون كونه صواباً، والصواب لا يحصل على طريق الإستمرار بالإتفاق.
أما أنهم لا يجمعون إلا على ما يعلمون كونه صواباً؛ فذلك ظاهر لولا ذلك لما وجب علينا اتباع الإجماع.
وأما أن الصواب لا يحصل على طريق الإستمرار بالإتفاق فمعلوم أيضاً، كما أنا نعلم أن من أخبر عن الغيب مستمراً من غير علم بما أخبر به كان خطاؤه أكثر من صوابه، وكذلك من كتب بغير معرفة بالكتابه كان الغالب عليه الخطأ وإن جازت إصابته في النادر، فلو جوّزنا على الأمة الإجماع من غير رجوع إلى طريق لكان خطاؤهم أكثر من صوابهم، وذلك لا يجوز، ولأن المعلوم أن حالهم في التوفيق لا يكون أعلى من حال النبي صَلَّى الله عَلَيْه وآله وَسَلَّم، وقد ثبت أن النبي صَلَّى الله عَلَيْه وآله وَسَلَّم لم يكن يتكلم في الحوادث باختيار نفسه ثقة منه بالتوفيق بل كان معوله على ما يأتي من عند ربه، وقد قال تعالى: {وَمَا يَنْطِقُ عَنِ الْهَوَى(3)إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يُوحَى(4)} [النجم:3ـ4]، فنفى أن يكون كلامه قطعاً بغير دلالة، فالأمة في الأولى بالاحتراز والتثبت في الأمور، ولأنهم لو أقدموا على ذلك بغير دلالة ولا أمارة لكان ذلك إقداماً على ما لا يأمنون كونه خطاء، والإقدام عليه قبيح، ولا يجوز من الأمة الإقدام على القبيح، فهذا ينقض تقدير وقوع الإجماع رأساً.
مسألة:[الكلام في الخبر إذا تواتر بين أهل العصر وحصل إجماع على موجبه]
إذا تواتر الخبر بين أهل العصر وحصل منهم إجماع على موجبه، فقد اختلفوا.
فمنهم من قال: يجب القطع على أنهم أجمعوا لأجله إن كان جلياً لا يحتاج في معرفة معناه إلى نظر طويل واجتهاد.
وحكى شيخنا رحمه الله تعالى هذا القول عن الشيخ أبي هاشم وأبي الحسين البصري، وكان رحمه الله يعتمده، ونحن نختاره.
وحكى عن الشيخ أبي عبدالله أنه إن تواتر من بَعدُ علمنا أنهم أجمعوا لأجله، وإن لم يتواتر لم نقطع على أنهم أجمعوا لأجله.
والدليل على صحة ما ذهبنا إليه: أن المعلوم لنا من حالهم البحث عن الأدلة والبراهين، فإذا ظهر بينهم النص الجلي الظاهر المعنى وجب عليهم اتباعه، وقد علمنا منهم أنهم لا يخلون بالواجب، فقطعنا على أنهم أجمعوا لأجله لا محالة.
وأما ما ذكره الشيخ أبو عبدالله من أنه إن تواتر من بعدهم قطعنا أنهم أجمعوا لأجله، وإن لم يتواتر لم نقطع، فذلك غير لازم؛ لأن حصول الإجماع على مقتضاه يقلل الدواعي إلى نقله لحصول ما يقوم مقامه من الإجماع فيقل ناقله فلا يتواتر لذلك.
فأما إذا كان الخبر يحتاج في الإستدلال به إلى اجتهاد طويل وبحث وعناية، ولم يظهر أنهم أجمعوا لأجله لم نقطع على أنهم أجمعوا لأجله، وهذا هو الصحيح، وإنما لم نقطع لتجويزنا أن الكل لا يحتمل مؤنة البحث ومشقة نظر الإجتهاد، فيكونوا أجمعوا لأجل خبر أجلى منه، ولم ينقل إلينا لاستغنائهم بالإجماع عنه أو القياس أو ما أشبهه من الطرق الشرعية، فلو قطعنا والحال هذه لكان ذلك القطع بغير دلالة، والقطع بغير دلالة لا يجوز.
مسألة:[الكلام في خبر الواحد إذا وقع الإجماع على مقتضاه]
فأما خبر الواحد إذا وقع الإجماع على مقتضاه فقد اختلف أهل العلم هل يجب القطع على أنهم أجمعوا لأجله أم لا؟
فحكى شيخنا رحمه الله تعالى عن الشيخ أبي هاشم أنه قال: يجب القطع على أنهم أجمعوا لأجله.
وحكى عن الشيخ أبي عبدالله والشيخ أبي الحسين أنه لا يجب القطع على ذلك إلا إذا علم أنهم أجمعوا لأجله، وكان شيخنا رحمه الله تعالى يعتمد ذلك، وهو الذي نختاره.
والذي يدل على صحته: أن خبر الواحد أمارة يجوز اختلافهم في استعمالها، وذلك معلوم لنا من حالهم؛ لأنهم متعبدون فيها بغالب الظن ويجوز أن لا يغلب على ظن بعضهم صدق ذلك الخبر فلا يجوز لهم العمل عليه، ويعملون على خبر آخر أو قياس، ومع تجويز هذا لا يجوز القطع على أنهم أجمعوا لأجله؛ لأنه يكون إقداماً على ما لا يأمن الإنسان خطأه فيه وذلك لا يجوز.
فأما إذا علم أنهم أجمعوا لأجله فإنه يجب علينا القطع على ما نحن نعلم، وحصول العلم لنا أنهم أجمعوا لأجله يقع بوجوه:
منها: أن يختلفوا في الحكم إلى أن يروي الواحد الخبر فينقطع الخلاف لأجل روايته وذلك كخبر وجوب الغسل من التقاء الختانين.
ومنها: أن يتوقفوا في الحكم حتى يروي لهم الراوي الخبر كما في قصة خبر عبد الرحمن بن عوف في المجوس.
ومنها: أن ينصوا أنا أجمعنا لهذا الخبر.
ومنها: أن لا يكون للإجماع وجه يرد إليه إلا معنى هذا الخبر، وهذا النوع الآخر يمكن أن لا يحصل لنا به العلم أنهم أجمعوا لأجله لتجويزنا أن يكون له وجه آخر من أخبار الآحاد قضى بصحته عند بعضهم ثم لم ينقل إلينا اكتفاء بالإجماع فانقطع نقله فلا يجوز لنا مع هذا التجويز القطع فيما هذا حاله.
فصل: في معرفة طرق الإجماع التي بها يلزم فرض الإجماع
[تقسيم طرق الإجماع]
اعلم أن طرق الإجماع لا تخلو: إما أن تكون شرعية معلومة أو مظنونة.
فالمعلومة لا تخلو: إما أن تكون عقلية أو غير عقلية، وغير العقلية لا تخلو: إما أن تكون شرعية أو غير شرعية، ولا يجوز أن يحصل لنا علم الإجماع بالعقل؛ لأنه لا هداية للعقل إلى العلم بأحوال الناس؛ لأن ذلك يلحق بعلم الغيب الذي استأثر الله سبحانه بالإحاطة به.
ولا يجوز حصوله بطريق شرعية؛ لأن ما يوجب منها العلم هو الكتاب والسنة ولا دليل فيهما على وقوع علم الإجماع لنا.
وغير الشرعية هي الأخبار المتواترة والمشاهدة وهذه جملة ما يتوهم حصول العلم لنا بالإجماع بها، والمشاهدة والأخبار المتواترة طريقان لنا إلى العلم بالإجماع، فالمشاهدة في ذلك تنقسم إلى قسمين:
مشاهدة الكل يفعل فعلاً أو يقول قولاً، ومشاهدة البعض يفعل فعلاً أو يقول قولاً، ثم يحصل لنا العلم باختيار الباقين لذلك الفعل والقول، أو بما يضطر إليه من شاهد الحال أو بنقل من يعلم بنقله صحة ما نقله، فهذا العلم الذي يحصل لنا في الإجماع من طريق المشاهدة.
وأما ما يحصل لنا بالأخبار المتواترة فعلى وجهين أيضاً:
أحدهما: أن ينقل إلينا العدد الذين يكون خبرهم متواتراً -لبلوغهم في الكثرة إلى حد مخصوص وتباين أغراضهم-، أنهم شاهدوا الأمة تفعل فعلاً أو تقول قولاً علموا قصدهم فيه، أو ينقل إلينا من قدمنا ذكره أنه شاهد البعض يفعل فعلاً أو يقول قولاً مما الحق فيه واحد بمحضر الباقين أو علمهم ولم ينكر عليه مع ارتفاع الموانع، فإن هذه الوجوه توجب العلم بحصول الإجماع.
فأما إذا كانت المسألة من مسائل الإجتهاد وعملوا عليها أو قالوا بها أو ظهر لنا اختيار البعض بفعل البعض الآخر أو قوله ارتفعت عن باب الإجتهاد، وإن كان للإجتهاد فيها مسرح ولحقت بباب ما الحق فيه واحد.
وأما المظنون: فهي أخبار الآحاد على وقوع الإجماع، وهي تنقسم إلى قسمين:
أحدهما: متفق فيه، والثاني: مختلف فيه بعد القول بجواز العمل على أخبار الآحاد في باب الإجماع.
فالمتفق عليه: كأن ينقل إلينا من نثق به من الآحاد الذين تقدمت صفتهم في باب الإجماع أن الأمة قالت قولاً أو فعلت فعلاً على وجه الإطباق، فهذا إجماع بلا خلاف، ويلحق به أن يفعل البعض فعلاً أو يقول قولاً بمشهد الباقين وتكون المسألة مما الحق فيه واحد، والموانع مرتفعة أعني التي يمكن أن يعتل بها لترك الإنكار ثم لا ينكر عليه البعض الآخر.
والمختلف فيه: كأن تكون المسألة اجتهادية، ثم يفعل البعض فعلاً أو يقول قولاً ثم لا ينكر عليه البعض الآخر مع ارتفاع الموانع، فعندنا ليس بإجماع، وعند بعضهم هو إجماع، وسيأتي الكلام في هذه الأقوال مفصلاً إن شاء الله تعالى.
مسألة:[الكلام في الإجماع السكوتي]
إذا قال بعض أهل العصر قولاً ثم انتشر في جميعهم ولم ينكر، فلا يخلو إما أن تكون المسألة من مسائل الإجتهاد، أو تكون مما الحق فيه واحد.
فإن كانت مما الحق فيه واحد، وقال بعضهم بذلك، وسكت الباقون، لم يخل إما أن يكون لسكوتهم وجه يصرف إليه أو لا يكون؛ فإن كان لسكوتهم وجه يصرف إليه لم يحصل لنا العلم بوقوع الإجماع، كما نقول في سكوت من سكت عن إنكار إمامة أبي بكر وعمر وعثمان(1)
__________
(1) ـ عثمان بن عفان أبو عمر القرشي الأموي، أسلم بعد نيف وثلاثين، وهاجر إلى الحبشة ثم إلى المدينة ولم يحضر بدراً، وبويع له بالخلافة سنة أربع وعشرين، وكان سبب حصره أنه كان كلفاً بأقاربه، وكانوا أقارب سوء، فقتل في ثماني عشر الحجة سنة خمس وثلاثين، وله تسعون سنة؛ فمكث ملقى على المزبلة لا تدفن جثته ثلاثة أيام، وكان الصبيان يمشون على بطنه ويقولون:
أبا عَمْروٍ أبا عمروٍ .... رماك الله بالجمرِ
ولقّاكَ من النّار .... مكاناً ضيّق القعرِ
فما تصنع بالمال .... إذا دُليّت في القبرِ
انظر: لوامع الأنوار لمولانا الإمام الحجة مجدالدين بن محمد بن منصور المؤيدي أيده الله تعالى (3/154، 155)، ومجموع كتب ورسائل الإمام الأعظم أمير المؤمنين زيد بن علي بن الحسين بن علي بن أبي طالب (282، 293).
، فإنا نقول: إن سكوتهم مخافة من وقوع الفتنة، وانشقاق العصا، وخيفة من انهدام ركن الإسلام، لقرب عهد الناس بالكفر، وغراءة أهل النفاق، وشياع الردة في العرب، مع ما وقع من إجماع الأكثر على الأقل ممن كان كارهاً لذلك، فهذه وجوه بعضها يكفي لو جوزنا وقوع السكوت.
وإن لم يكن للسكوت وجه يصرف إليه وكانت الموانع عن الإنكار زائلة قضينا بأن ذلك إجماع منهم على تصويبه؛ لأنه لو كان خطأ كان العامل عليه أو القائل به مخطئاً، والساكت عن النكير مخطئاً، وذلك يوجب اتفاق الجميع على الخطأ، وذلك لا يجوز لما تقدم بيانه.
وإن كانت المسألة من مسائل الإجتهاد؛ فالقائلون بأن الحق في واحد يقولون بقولنا.
وحكى شيخنا رحمه الله تعالى اختلاف القائلين بأن كل مجتهد مصيب.
فكان يحكي عن أبي علي كون ذلك إجماعاً إذا انقرض العصر ولم يظهر مخالف، وهو قول أكثر الفقهاء.
وحكى عن أبي هاشم وأبي الحسن أن ذلك لا يكون إجماعاً، وإنما يكون حجة.
وحكى عن أبي عبدالله أن ذلك لا يكون إجماعاً ولا حجة، وهو قول أصحاب الظاهر، وكان رحمه الله تعالى يذهب إليه، ونحن نختاره.
والدليل على صحته: أنه إن قال به البعض أو فعلوه وهو من مسائل الإجتهاد، وقد ثبت أن كل مجتهد مصيب، لم يجب على الباقين إنكاره؛ لأنه إنما يجب إنكار المنكر، وهذا ليس بمنكر بل هو حق، ولا يمتنع أن يكون عند الساكت قول غير هذا القول يعتمد عليه ويختاره ولا يظهر إما لتشاغله عن إظهاره أو لبعض الموانع الممكنة.
أو يجوز أن الصواب في المسألة غير ذلك إلا أنه لم ينظر فيها لبعض الموانع من الإشتغال وغيرها فلا يصح القطع على أن ذلك القول حاصل بإجماع الكل فيما هذا حاله.
وأما قول من يقول إنه حجة، فإن أراد بالحجة أنه يحرم خلافه، فذلك غير مسلم؛ لأنه إنما يحرم خلاف الإجماع، وهذا ليس بإجماع، وإن عنى بالحجة أنه يجوز للعامي الإعتماد عليه عند الفتوى، فلا فرق بين انتشاره والسكوت عن إنكاره، وبين ما يقع الخلاف فيه؛ لأن فرض العامي الرجوع إلى أقوال العلماء اتفقوا عليها أو اختلفوا، وإن عنى بالحجة أنه حق فذلك قولنا، وليس فيه خلاف لما نحن عليه.
فأما إذا كانت المسألة خارجة عما الحق فيه واحد، ولم تكن إجتهاديه وظهر فيها القول كما ذكر شيخنا رحمه الله تعالى فيمن يقول إن عماراً(1) أفضل من حذيفة(2)، والسكوت عمّا هذا حاله لا يدل على الإجماع؛ لأنه لا تعبد علينا في ذلك بسكوت من سكت عنه؛ لأنه ليس عليه تعبد ولا له في معرفته طائل فائدة.
مسألة:[الكلام في ثبوت الإجماع إذا نُقِل آحادياً]
ويثبت عندنا الإجماع بخبر الواحد وهو الذي كان شيخنا رحمه الله يذهب إليه، ويحكي أنه مذهب جماعة من العلماء فيهم القاضي وأبو الحسين، وهو الذي نختاره.
ومنهم من قال: لا يثبت بذلك، وحكاه عن أبي رشيد.
__________
(1) - عمار بن ياسر أبو اليقظان العنسي المذحجي من السابقين الأولين المعذبين في الله أشد العذاب، شهد المشاهد كلها وكان مخصوصاً منه بالبشارة والترحيب، وقال له: ((مرحباً بالطيب المطيب)) وقال: ((عمار جلدة بين عيني وأنفي)) وقال: ((تقتلك الفئة الباغية)) وقال: ((ويح عمار يدعوهم إلى الجنة ويدعونه إلى النار)).
استشهد مع أمير المؤمنين -عليه السلام- بصفين سنة سبع وثلاثين -رضوان الله وسلامه ورحمته عليه- وكان من خلص أصحابه ومحبيه. انظر: لوامع الأنوار (ط2) (3/160).
(2) - حذيفة بن اليمان -مخففاً-، واسم اليمان حسيل -بضم المهملة الأولى على صيغة التصغير- العبسي، أبو عبدالله الكوفي، صحابي جليل من السابقين. توفي سنة ست وثلاثين بعد قتل عثمان بأربعين ليلة. انظر لوامع الأنوار (ط2) (3/83).
والذي يدل على صحة ما ذهبنا إليه: أن خبر الواحد يوجب في الأغلب غالب الظن، والعمل على الظن واجب؛ ولأنه أحد طرق الشرع والإجماع أحد أصول الشرع؛ فوجب أن يتوصل به كما في سائر الطرق، ولأن إجماع الأمة لا يكون أعلى حالاً من قول النبي صَلَّى الله عَلَيْه وآله وَسَلَّم بخبر الواحد، وكذلك إجماع الأمة، وقد ثبت أنه يجب علينا العمل على خبر الآحاد في قول النبي صَلَّى الله عَلَيْه وآله وَسَلَّم بما فيه كفاية.
مسألة:[الكلام في أن انقراض العصر ليس طريقاً إلى معرفة الإجماع]
انقراض العصر ليس بطريق إلى معرفة الإجماع، عن الأكثر من العلماء، وهو الذي نختاره.
وعند أبي علي هو طريق، وكان أبو علي يقول: إن العصر لا ينقرض إلا وقد شاع القول في جميع أهله، فلو كان فيهم مخالف لأظهر خلافه.
والذي يدل على أن ما قاله أبو علي غير لازم: أن العلم قد يحصل لنا بما عليه أهل العصر، وإن لم ينقرضوا بأن نسمع القول من جميعهم، أو نسمع البعض ويروي لنا من يحصل لنا العلم بروايته أنّ ذلك اختيار البعض الذي لم نسمع قوله لأن القول قد ينتشر حتى يعلمه الكل والعصر لم ينقرض فلا يكون انقراض العصر أصلاً لوقوع الإنتشار، ولأن القول قد يظهر وينقرض العصر ولا يحصل العلم، عند أبي علي بأن يكون في العصر بعض الموانع التي توجب ترك إظهار الخلاف، فصح أن انقراض العصر لا يكون طريقاً إلى العلم بالإجماع.
مسألة:[الكلام في أن قول الصحابي في المسائل الإجتهادية إذا لم يُعْلم له مخالف ليس بحجة]
إذا ظهر قول من الصحابي في المسألة وكانت اجتهادية، ولم يعلم له مخالف؛ فعند بعض أهل العلم أن ذلك يكون إجماعاً.
وعند بعضهم أنه يكون حجة.
وعندنا: أنه ليس بحجة ولا إجماع؛ لأن الإجماع ما قدمنا من إطباق جميعهم على القول، أو الفعل، أو قول البعض أو فعلهم مع علمنا باختيار الباقين لذلك القول أو الفعل، ويكون ذلك القول باطلاً إن لم يكن حقاً، ثم تزول الموانع فلا ينكرونه، فإنا نعلم أنهم مجمعون عليه وهذا ليس فيه من هذه الوجوه شيء.
وأما أنه ليس بحجة فلأن الحجة عندنا إذا أطلقت أفادت ما يجب اتباعها ويحرم خلافها، ولا دليل على وجوب اتباع آحاد الصحابة في أقوالها وتحريم خلافها.
فأما أنه لم يعلم له مخالف فلأن قوله ليس بمنكر فيجب عليهم إنكاره، ويجوز أن يكون قول بعضهم في تلك المسألة مخالفاً لذلك القول، ولكنه لم يظهره لشغل عرض له، أو لأنه لم يسأل فلا يجب عليه إظهار قوله إلا عند السؤال أو لأنه اشتغل عن النظر في تلك المسألة ولو نظر لأداه اجتهاده إلى غير ذلك القول، ومع التجويز لما ذكرنا لا يجوز القطع على أنهم أجمعوا على ذلك، وأنه علينا حجة.
مسألة:[الكلام في اختلاف الصحابة في المسألة]
اختلف أهل العلم في الصحابة إذا اختلفوا في المسألة فقالوا فيها أقوالاً، هل يكون قول كل واحد منهم حجة.
فحكى شيخنا رحمه الله تعالى عن الشيخين أبي علي وأبي عبدالله أنه إن حصل ترجيح بين أقاويلهم أخذنا بالراجح، وإلا فالمكلف مخير في أقاويلهم يأخذ بأيها شاء، وأن قول الصحابي يصح الأخذ به والإعتماد عليه، وإن خولف فيه، وهو المحكي عن محمد بن الحسن، ومذهب جماعة من أصحاب الحديث، ونص عليه الشافعي في رسالته القديمة، وروي عنه أنه تُقَدَّم أقوال الأئمة الأربعة.
والذي عليه الأكثر أن قول آحاد الصحابة ليس بحجة متى اختلفوا في المسألة، وأنه لا يصحّ الأخذ بقول بعضهم إلا إذا علم الوجه، وكان شيخنا رحمه الله تعالى يذهب إلى ذلك، ونحن نختاره.
والدليل على صحته: أنه لا دليل على كون قول الآحاد حجة، وإثباته حجة بغير دلالة لا يجوز، وكان شيخنا رحمه الله تعالى يحكي أن المخالف في هذه المسألة كان يحتج بصحة ما ادعاه بوجهين:
أحدهما: أن الصحابة كانت ترجع إلى قول بعضها بغير دليل، فلولا أنه حجة لما جاز ذلك.
ونحن نأبى هذه الدعوى في علماء الصحابة فلا سبيل إلى تصحيحها.
وأما عوام الصحابة، ومن لا سبيل له إلى النظر فذلك ثابت، ولكن ليس فيه دليل؛ لأن فرض العامي الرجوع إلى العالم في عصر الصحابة وغيرهم من التابعين وإلى الآن، فكان ذلك على قول من يقوله يوجب كون قول كل واحد من آحاد الصحابة حجة في جميع الأعصار، وذلك ما لم يقل به أحد.
والوجه الثاني: ما روي عن النبي صَلَّى الله عَلَيْه وآله وَسَلَّم أنه قال: ((أصحابي كالنجوم بأيهم اقتديتم اهتديتم(1))) وهذا أشفّ من الأول إلا أنا نقول المراد إيجاب رجوع العوام إلى فتوى جميع علمائهم، ولأن لا يتوهموا أنه لا يجوز لهم قبول الفتوى إلا من واحد أو لا يجوز قبولها إلا فيما اتفقوا فيه، فإذا اختلفوا سقط الفرض، فأخبرهم صَلَّى الله عَلَيْه وآله وَسَلَّم أنهم ناجون إذا أخذوا بفتوى من شاءوا منهم، وليس في ذلك دلالة على قبول من قال: إن قول آحادهم حجة.
* * * * * * * * * * * *
__________
(1) ـ ما ذكره الإمام المنصور بالله -عَلَيْه السَّلام- من التأويل للحديث المذكور فإنما هو على فرض صحته،وإلا فالخبر غير صحيح، قال السيد الحافظ محمد بن إبراهيم الوزير: (فأما ما روي مرفوعاً: ((أصحابي كالنجوم..إلخ)) فهو ضعيف، قاله ابن كثير الشافعي، وقال: رواه عبدالرحيم بن زيد العمي، عن أبيه. قال ابن معين: هو كذاب، وقال السعدي: ليس بثقة، وقال البخاري: تركوه، وقال أبو حاتم: حديثه متروك، وقال أبو زرعة: واهٍ، وقال أبو داود: ضعيف وأبوه ضعيف.
وقد روي هذا الحديث من غير طريق ولا يصح شيء منها، ذكر ذلك كله ابن كثير الشافعي في كلامه على أحاديث المنتهى).
قال الحافظ ابن حجر في التلخيص (4/110): (حديث: ((أصحابي كالنجوم..إلخ)) رواه عبد بن حميد في مسنده من طريق حمزة النصيبي عن نافع عن ابن عمر، قال: وحمزة هذا ضعيف).
قال الذهبي في الميزان (2/379) في ترجمة حمزة بن أبي حمزة النصيبي: (قال ابن معين: لا يساوي فلساً، وقال البخاري: منكر الحديث، وقال الدارقطني: متروك، وقال ابن عدي: عامة ما يرويه موضوع).
انظر: الدوري (2/134)، التاريخ الصغير (2/178)، الجرح والتعديل (3/210)، الضعفاء والمتروكين (139)، الكامل (2/378)، تهذيب التهذيب (2/20).
قال ابن حجر في التلخيص (4/110): (ورواه الدارقطني في غرائب مالك، من طريق جميل بن زيد، عن مالك، عن جعفر بن محمد، عن أبيه، عن جابر، وجميل لا يعرف ولا أصل له في حديث مالك، ولا مَنْ فوقه، وذكره البزار من رواية عبدالرحيم بن زيد العمي، عن أبيه، عن سعيد بن المسيب، عن عمر، وعبدالرحيم كذاب).
قال الذهبي في الميزان(4/336): (قال البخاري: تركوه، وقال يحيى: كذاب، وقال مرة: ليس بشيء، وقال الجوزجاني: غير ثقة، وقال أبو حاتم: ترك حديثه، وقال أبو زرعة: واه، وقال أبو داود: ضعيف).
التاريخ الكبير للبخاري (5/104)، الدوري (2/362)، أحوال الرجال (360)، الجرح والتعديل (5/339)، تهذيب التهذيب (3/419).
قال ابن حجر في التلخيص (4/110): (ومن حديث أنس أيضاً، وإسناده واه، ورواه القضاعي في مسند الشهاب له من حديث الأعمش عن أبي صالح عن أبي هريرة، وفي إسناده جعفر بن عبدالواحد الهاشمي وهو كذاب).
قال الذهبي في الميزان (2/141): (قال الدارقطني: يضع الحديث، وقال أبو زرعة: روى أحاديث لا أصل لها، وقال ابن عدي: يسرق الحديث ويأتي بالمناكير عن الثقات، وقال الذهبي أيضاً: هذا الحديث من بلاياه).
قال ابن حجر في التلخيص: (ورواه أبو ذر الهروي في كتاب السنة من حديث مندل عن جويبر عن الضحاك بن مزاحم منقطعاً وهو في غاية الضعف، وقال أبو بكر البزار: هذا الكلام لم يصح عن النبي -صَلَّى الله عَلَيْه وآله وَسَلَّم-، وقال ابن حزم: هذا خبر مكذوب موضوع باطل) انتهى كلام ابن حجر.
الكلام في القياس والإجتهاد
فصل:[الكلام في الطريق الشرعية التي لا يُوصل النظر فيها إلى العلم هل تسمى أدلة شرعية أم لا؟]
اعلم أن أهل العلم اختلفوا في العبارة عن الطريق الشرعية التي لا يوصل النظر إليها على الوجه الصحيح إلى العلم كأخبار الآحاد والقياس والإجتهاد وما شاكل ذلك.
فذهب الفقهاء وبعض المتكلمين إلى أنها تسمى أدلة شرعية.
وذهب بعض المتكلمين إلى أنه لم يطلق عليها اسم الدلالة، وأنها تقال أمارة شرعية؛ لأن الدلالة يوجب النظرُ فيها على الوجه الصحيح حصولَ العلم، وما وقع الخلاف فيه يوجب النظرُ فيه على الوجه الصحيح غالبَ الظن.
وكان شيخنا رحمه الله تعالى يقوي هذه المقالة ويعضدها، وإن كان لا يستبعد المقالة الأولى، ويقول: الخلاف فيما هذه حاله يقع في عبارة لا طائل في الإكثار من ذكرها، والإحتجاج في أمرها، ثم رأيته بعد ذلك لما قسم الأدلة الشرعية أورد الأمارة بلفظ الدلالة، وذلك في كتابه الموسوم بالفائق في أصول الفقه؛ لأنه قال في القسمة: أدلة الشرع لا تخلو: إما أن تكون ظاهراً ونصاً(1)، وغير ظاهر وغير نص، وما ليس بظاهر منه ما لا يحصل فيه طريقة معينة مثل ما يتوصل به إلى قيم المتلفات، ومنه ما له طريقة معينة يسار إليها، وذلك هو القياس.
__________
(1) - هكذا في الأصل ووضع عليها علامة (ظ) التي تفيد الظن، وقال في الهامش: نخ: لأمر ظاهر ونص.
ولما كان كل دليل فله مدلول وجب فيما له طريقة معينة أن يدل على مدلول قال: ومدلوله لا يخلو: إما أن يكون حكماً، وإما أن يكون دليلاً على حكم، فما يدل على حكم مما له طريقة يسار إليها فهو القياس، وما يدل على دليل حكم منه ما يدل على علة حكم؛ لأن علة الحكم دليل على الحكم وذلك نحو ما يستدل به على أن الكيل أولى من الطعم في علّة الربا، ومنه ما يدل على أن مراد الله سبحانه بخطابه المشترك نحو ما يدل على أن المراد بآية الأقرؤ –الحيض-، ومنه ما يدل على أن الله تعالى أراد بالكفارة المتعلقة بالجماع، هو أن يعلقها بهتك حرمة صوم شهر رمضان مع ضرب من المآثم، هذا هو الإستدلال على موضع الحكم عند أبي الحسن.
والصحيح: أن ذلك قياس على ما نبينه فيما بعد، فيدخل ما ذكرناه في الكفارة فيما يدل على علة حكم، فعلى هذه الطريقة يجري القول في أقسام الأمارات.
واعلم أن هذا التفصيل ذكره رحمه الله فأوردناه على ما ذكره من غير زيادة ولا نقصان، فانظر كيف عبر فيه عن الأمارة بالدلالة.
واختيارنا في قسمة أدلة الشرع: أن نقول: لا تخلو أدلة الشرع: إما أن تكون نصاً أو غير نصّ، وغير النص لا يخلو: إما أن يكون مدلول نص أو حكم نص، أو لا يكون مدلول نص ولا حكم نص كالتقديرات وما شاكلها، فحكم النص لا يخلو: إما أن يرجع إلى أصل معين، أو لا يرجع إلى أصل معين، فما رجع إلى أصل معين فهو القياس، وما لم يرجع إلى أصل معين فهو الإجتهاد، وهما اللذان نريد ذكرهما هاهنا؛ فأما الأقسام الأولة، فقد تقدم الكلام فيها.
مسألة:[الكلام في حدِّ القياس]
اعلم أن الواجب أن يبدأ بالكلام في حد القياس، ثم يرجع بعد ذلك إلى تفريع مسائله وأبوابه، وذكر علله وأسبابه، وذكر من خالف فيه ومن وافق، بعد معرفته بحده وحقيقته وبالله التوفيق.
اختلف أهل العلم في حدّ القياس؛ فمنهم من قال: هو استخراج الحق من الباطل، وهذا فاسد؛ لأن الحق يخرج من الباطل بظواهر النصوص ولا يكون قياساً.
ومنهم من قال: هو الإستدلال وهذا يبطل أيضاً بما يستدل عليه من الأحكام بظواهر النصوص ولا يكون قياساً.
ومنهم من قال: إنه التشبيه وهذا يلزم من أن يكون من قال الأرز يشبه البر في الصلابة أن يكون قايساً، وأن يوصف الله سبحانه بأنه قايس إذا شبه أحد الشيئين بالآخر، ومعلوم خلافه.
ومنهم من قال: هو مقابلة الفروع بالأصول ليعلم ما يوافقه، وهذا يلزم أن من قابل الفروع بالأصل الذي لا تثبت فيه علة الحكم أن يكون قايساً، وأن تكون مقابلته قياساً.
ومنهم من قال: هو التعديل بين الشيئين، وهذا ينتقض بمن يسوي بين الأمرين لغير شبه يجمعهما ولا علّة تنتظمهما، فيقول: البر عندي كالسمن مثلاً أو غيره من المائعات؛ فإنه لا يكون والحال هذه قايساً، أو يقول: البر كالأرز في لذة الطعم فإنه لا يكون قايساً.
وحكى شيخنا رحمه الله تعالى عن الشيخ أبي هاشم أنه قال: القياس حمل الشيء على الشيء، وإجراء حكمه عليه، قال شيخنا رحمه الله تعالى: وهذا يصح إن أراد إجراء حكمه عليه للشبه الذي بينهما، ولكنه لم يصرح به، وإن لم يرد ذلك لم يصح.
وحدّه قاضي القضاة بأنه حمل الشيء على الشيء في بعض أحكامه بضرب من الشبه.
وحدّه الشيخ أبو الحسين بحدّين:
أحدهما: أنه تحصيل حكم الأصل في الفرع لاشتباههما في علة الحكم عند المجتهد، وهذا الحد قريب مما ذكره قاضي القضاة إلا أنه يرد عليهما النقض لقياس العكس كما يقول القائل: لو لم يكن الصوم من شرط الإعتكاف لما لزم وإن نذر به، كما أن الصلاة لما لم تكن من شرط الإعتكاف لم تلزم، وإن نذر بها فالأصل هو الصلاة، والحكم نفى كونها شرطاً، فلم يثبت هذا الحكم في الصوم الذي هو أحد أصلي القياس، وإنما يثبت نقيضه، فهذا لم يحصل فيه حكم الأصل المفرع، وإنما حصل نقيضه، ولم يشتبها في علة الحكم بل تنافيا وهذا من القياس، فخرج عن الحدين المتقدمين، ومن حق الحد أن يكون جامعاً مانعاً لا يخرج عنه ما هو منه، ولا يدخل فيه ما ليس منه.
وكان شيخنا رحمه الله تعالى يجيب عن ذلك: بأنه إذا كان المعقول من القياس قياس شيء على شيء، ولا يقيسه عليه إلا وقد اعتبر حكمه، ولا يعتبر حكمه إلا بالشبه بينهما، وكان ذلك لا يصح في قياس العكس كان من تسميته مجازاً فلا يقدح خروجه في حد القياس الذي ذكره الشيخ أبو الحسين.
وللمعترض على هذا الحد أن لا يسلم تسميته مجازاً؛ لأنه خارج عن حد المجاز؛ لأن المجاز يفيد ما استعير له، وهذا وضع أفاد ما في الأصل، ولكن القياس ينقسم إلى: قياس الطرد، وقياس العكس.
فقياس الطرد: يحمل فيه الشيء على الشيء، ويجرى عليه حكمه باعتبار ضرب من الشبه، لعلة رابطة بين الأصل والفرع عند المجتهد.
وقياس العكس: هو حمل الشيء على غيره لتنافيهما في علة الحكم ليجرى عليه نقيض ذلك الحكم، وتسمية هذا القياس عند أهل الشرع ظاهرة، وإن لم يكثر استعماله.
فإذاً الحد الشامل للقياسين أن يقال: القياس هو حمل الشيء على الشيء وإجراء حكمه عليه بضرب من الشبه لعلة تربط بين الأصل والفرع، أو حمل الشيء على الشيء وإجراء نقيض حكمه عليه بضرب يوجب اختلافهما في الشبه لتنافي علة الأصل والفرع؛ فهذا الحد يجمع القياسين.
والحد الثاني: الذي حكاه شيخنا عن أبي الحسين هو: أن القياس تحصيل الحكم في الشيء باعتبار تعليل غيره.
قال رحمه الله تعالى: وهذا الحد يشمل القياسين، أما قياس الطرد فقد حصل الحكم في فرعه باعتبار تعليل الأصل، وأما قياس العكس فإنه قد اعتبر فيه تعليل الأصل لنفي حكمه عن الفرع لافتراقهما في العلة.
قال رحمه الله: فهذا حد القياس على الجملة، ثم هو ينقسم إلى: قياس الطرد، وقياس العكس، وكان يصح هذا الحد ويقتضي سلامته إلا أنه يمكن نقضه بما نعلمه أن الإنسان إذا حصل الحكم في الشيء باعتبار تعليل غيره، ولم يعتبر الشبه الموجب للمماثلة، والعلة التي توجب المشاركة لم يكن قياساً عندنا؛ لأنه لو قال: البر مكيل جنس؛ لأنه يماثل المكيلات، والجوز معدود جنس ولا يجوز بيعه متفاضلاً كالبر فقد حصل هاهنا الحكم للجوز باعتبار تعليل البر، ولم يكن قياساً ولا كان تحصيله قياساً لما لم يجمع بينهما بشبه، ولا تربطهما علة عند المجتهد، إلا أن يراد بهذا التحديد ما يشمل الصحيح والفاسد من الحدود فيجزي في ذلك أن يقال: القياس هو إجراء حكم الشيء على الشيء؛ فإن من فعل ذلك ولم يعتبر في القياس ما قدمنا يقال: لم قست ما لا يقاس؟ وأخطأت في هذا القياس.
فصل: [الكلام في أركان القياس]
فإن قيل: فما الأصل؟ وما الفرع؟ وما الشبه؟ وما العلة؟ وما الحكم الذي قدمتم ذكره وتكلمتم فيه؟
قلنا: إن الفقهاء والمتكلمين قد اختلفوا في أصل القياس.
فعند المتكلمين: الأصل هو الخبر الدال على ثبوت الربا في البر، والفرع هو الحكم المطلوب إثباته بالتعليل لقبح بيع الأرز متفاضلاً؛ لأنه هو المتفرع على غيره دون نفس الأرز.
وعند الفقهاء: أن الأصل هو الشيء الذي يثبت حكم القياس فيه بالنص كالبر، أو يسبق العلم بحصول حكم القياس فيه.
وقد قال بعضهم: بل هو حكم القياس من حيث هو ثابت بالنص، نحو كون التفاضل في البر حراماً، والفرع هو الذي يطلب حكمه بالقياس أو الذي يتعدا إليه حكم غيره أو الذي يتأخر العلم بحكمه كالأرز.
وما ذكره المتكلّمون أولى، وكان شيخنا رحمه الله يعتمده، ونحن نختاره.
ويحتج له: بأن الأرز لا يتفرع على غيره، وإنما المتفرع حكمه، وكذلك البر ليس بأصل، وإنما الأصل حكمه.
وأما الشبه: فهو ما يستوي فيه الشيئان من الصفات سواء كانت صفة ذاتية أو غير ذاتية كاشتراك الجوهرين في التحيز، وقد يكون الشبه صفة تفيد حكماً عقلياً وسمعياً، وغرض الفقهاء من ذلك ما اقتضى الحكم السمعي.
وأما العلّة في عرف الفقهاء: فهي ما أثرت في ثبوت حكم شرعي فإنما يكون الحكم شرعياً بأن يستفاد من جهة الشرع.
فأما حكم القياس الشرعي: فهو ينقسم إلى كون الفعل قبيحاً وحسناً وواجباً، وكون فعله أولى من تركه، وكون تركه أولى من فعله، وهذا التفصيل ذكره شيخنا رحمه الله تعالى فاتبعنا أثره، واختيارنا فيه ما ذكره.
مسألة:[الكلام في حد الإجتهاد الشرعي]
اختلف أهل العلم في حدّ الإجتهاد الشرعي.
فحكى شيخنا رحمه الله تعالى أن الشافعي ذكر في الرسالة أن القياس والإجتهاد واحد.
ومنهم من قال: الإجتهاد ما لا أصل له، والقياس ما له أصل، وهذا قول أبي الحسن.
وذكر الحاكم أن المتكلمين قالوا: الإجتهاد ما اقتضى غالب الظن في الأحكام التي كل مجتهد فيها مصيب.
وكان شيخنا رحمه الله تعالى يذهب إلى أن الإجتهاد يستعمل في معنيين: أحدهما أعم، والثاني أخص.
فالأعم: هو بذل الجهد في معرفة الأحكام من جهة الإستدلال بالنصوص لا بظواهرها.
وأما الأخص: فهو ما ليس له أصل معين بما تعرف به الأحكام الشرعية لا من جهة النصوص نحو قيم المتلفات، وأروش الجنايات، ومتعة المطلقات، قال: لأنه لا يمكن أن تحصل في ذلك طريقة يمكن الإشارة إليها، بل المرجع بذلك إلى أمارات من عادات الناس وغيرها، وهي تختلف بحسب اختلاف الأزمنة والأمكنة.
ومنهم من قال: الإجتهاد عبارة عن طريق سوى النص تثبت به أحكام الفروع، ويتضمن ضرباً من المشقة على وجه يسوغ الخلاف فيها، وهذا الحد هو الذي نختاره؛ لأن الإجتهاد الشرعي غير النص المقطوع عليه الذي يستفاد منه العلم بالأحكام؛ لأن الأحكام الشرعية المعلومة بالنص لا توصف بأن طريقها الإجتهاد، ومخالفه أيضاً من حيث كان الحق من مقتضاه واحداً لا يسوغ الخلاف فيه، ويبنى أيضاً أن في استعماله بعض المشقة؛ لأن الحكم المستفاد من غير النص لا بد في تحصيله من حصول بعض المشقة؛ لأنه لا يحصل إلا بنظر وذلك يفيد وقوع المشقة، ولولا ذلك لما سميناه إجتهاداً إلا أن الإجتهاد يبنى على ما لا يحصل إلا بالمشقة؛ لأنك تقول: اجتهدت في نقل هذه الحجر من هذا المكان إلى غيره، ولا تقول: اجتهدت في نقل هذه النواة من هذا المكان إلى غيره، وقولنا يسوغ الخلاف فيها جمعاً بين قولي أهل الإجتهاد؛ لأن منهم من قال: الحق في واحد، ولكن المخطيء يسوغ له خطاه ويعذر فيه، وبين من قال كل مجتهد مصيب، وهذا الحد عندنا أولى من غيره.
وأما من قال: القياس والإجتهاد واحد، فذلك لا يصح لأن الإجتهاد يستعمل حيث لا يستعمل القياس، والقياس يستعمل حيث لا يستعمل الإجتهاد، ولهذا يقول الإنسان: اجتهدت في الترجيح بين الخبرين ولا يقول: قست، ويقول: قست تحريم الأرز بالبر، ولا يقول: اجتهدت تحريم الأرز بالبر.
وأما ما قال أبو الحسن من أن القياس ما له أصل، والإجتهاد ما لا أصل له، فينتقض بأن كل واحد منهما له أصل؛ فأصل الإجتهاد الخبر الذي قضى بوجوب استعماله، كما أن أصل القياس الخبر الذي يبنى حكم الفرع عليه، وإن أراد الأصل المعين فذلك لا أصل له معين، فهذا مبني على تسليم أهل الشرع بعد المعرفة بانفصال القياس عن الإجتهاد، ونحن في تحديده في الأصل.
وأما ما ذكره الحاكم من قول بعض المتكلمين فإنه يخرج منه قول بعض أهل العلم الذين لا يقولون بأن كل مجتهد مصيب، ومن حق الحد أن يمنع.
وأما ما ذكر شيخنا رحمه الله تعالى من الحدين، فهو ثابت في الأعم، فأما الأخص فلا بد من اعتبار بعض المشقة؛ لأن قوله: تعرف به الأحكام الشرعية لا من جهة النصوص يقتضي بأن لا بد من بعض المشقة ولكن التصريح في التحديد أولى.
فأما الرأي: فهو اسم لما يتوصل به إلى معرفة الحكم الشرعي من الإستدلال والقياس والإجتهاد، ولهذا قال معاذ: (أجتهد رأيي)، وقال عمر: (هذا ما رأى عمر) في مثل ما ذكرنا، ومثل هذا عن الصحابة كثير.
مسألة:[الكلام في إثبات أن القياس أحد أدلة الشرع]
ذهب أكثر العلماء من المتكلمين والفقهاء إلى أن القياس أحد أدلة الشرع التي يجب المصير إليها، وخالف في ذلك نفر ومنعوا من كونه دلالة على الشرعيات، وهم النظام والجعفران(1)، وأهل الظاهر على طبقاتهم والإمامية، ثم اختلفوا فيما لأجله منعوا منه:
__________
(1) ـ الجعفران هما: جعفر بن حرب الهمداني المعتزلي المتوفى سنة (237هـ)، وجعفر بن مبشر بن أحمد الثقفي، المتوفى سنة (224هـ)، من المعتزلة البغدادية من الطبقة السابعة، كانا يميلان إلى التشيع، وكان يضرب بهما المثل في العلم والعمل والزهد والورع.
فمنهم من قال: إن الشرع ورد على وجه يمنع من استعمال القياس؛ لأن من حق القياس الجمع بين المتساويين، والفرق بين المختلفين، والشرع ورد بالتفرقة بين المتساويين، والجمع بين المختلفين، كما أنا نعلم أن الحيض يمنع من الصلاة والصوم على سواء، ثم ورد الشرع بوجوب قضاء الصوم دون الصلاة، وكذلك الأمة الحسناء تساوي الحرة الحسناء، فورد الشرع بالمخالفة بينهما، فكان ما هو عورة من الحرة غير عورة من الأمة، بل قد ورد الشرع بما هو أبلغ من ذلك، وهو إباحة النظر إلى الأمة الحسناء، وحظره إلى الحرة الشوهاء إلى غير ذلك مما يجانسه.
وذكر لنا شيخنا رحمه الله تعالى هذا الإحتجاج من نفاة القياس في المذاكرة، وهو المحكي عن أبي إسحاق النظام.
ومنهم من قال: لو جاز التعبد بالقياس في بعض الشرعيات لجاز في جميعها كما نعلمه من دلالة العقل؛ فإنها لما كانت دلالة في بعض العقليات كانت دلالة في جميعها، وهذا المقالة تُحكى عن البهراني(1) منهم.
ومنهم من قال: لو جاز التعبد بالقياس اعتبر أن القياس طريقه الظن دون العلم فلا يجوز استعماله، وهو المحكي عن داود(2).
ومنهم من قال: إن الله سبحانه وتعالى لا يجوز أن يقتصر بالمكلف على أدون البيانين دون أعلاهما، والنص أعلى البيان من القياس، فلا يجوز العدول عنه إلى القياس.
ومنهم من قال: إن التعبد بالقياس يؤدي إلى جواز التعبد بالأحكام المتضادة المتنافية.
__________
(1) - هكذا في النسخة والذي يحكى له خلاف في التعبد بالقياس هو النهرواني -انظر المنهاج والفصول وغيرهما- وهو الحسين بن عبيد من أصحاب داود الظاهري لكن خالفه في مسائل قليلة. انظر المنية والأمل.
(2) ـ داود بن علي بن خلف الظاهري، ولد بالكوفة سنة (202هـ)، ونشأ ببغداد، وكان زاهداً ناسكاً، وهو الذي أنكر حجة العقل، وتوفي سنة (270هـ) ببغداد.
ومنهم من قال: التعبد به جائز، ولو ورد لقلنا به، ولكنه لم يرد، فهذه ست مقالات في المنع من القياس ينبغي أن نتكلم عليها أولاً قبل الكلام في أمر القياس.
فالذي يدل على بطلان المقالة الأولى: أنا نقول إن الشرع ورد على وجه يقتضي بصحة القياس؛ لأنه يوجب أن كل أمرين اشتركا في علة الحكم وجب أن يشتركا في ذلك الحكم، وإن اختلفا في الصورة، وما ذكره من أن القياس يوجب المساواة بين المثلين في الصورة غير سديد؛ لأن مبنى التكليف على مصالح استأثر الله بعلمها ولا يمتنع اختلاف المتشابهين في الصورة في باب المصلحة، فلا يكون لمشابهتهما تأثير.
وأما المقالة الثانية: وهي أن التعبد بالقياس لو جاز في بعض الشرعيات لجاز في جميعها كما في دلالة العقل؛ فالكلام عليها أنا نقول: هذا جمع بين الشيئين من غير علة تجمعهما، وذلك لا يجوز، ولأن هذا قول من لا يعرف القياس؛ لأنه لا بد للقياس من أصل يرجع إليه ليبتني القياس عليه، وهذه المقالة توجب رجوع القياس إلى غير أصل فكأن هذا القائل قال: إن كان التعبد بالقياس صحيحاً أوجب أن يستعمل حيث لا يجوز استعماله، وهذا خُلْف من القول وجرى مجرى من يقول: لو كانت دلالة العقل صحيحة لوجب استعمالها في الشرعيات، فإذا لم يمكن استعمالها في الشرعيات فهي باطلة، فكما أن هذا القول لا يستقيم كذلك ما تقدم.
فالمقالة الثالثة: وهي المنع من جواز استعمال القياس لأجل أنه يرجع إلى الظن؛ فالدليل على بطلانها: أن كثيراً من الشرعيات ترجع إلى الظن، وقد قضى الكل بجوازه كالقول في قيم المتلفات وأروش الجنايات، والحكم بشهادة الشهود إلى غير ذلك، فكما وجب ثبوت هذه الأحكام عند الكافة في الشريعة والمرجع بها إلى الظن فكذلك القياس.
وأما المقالة الرابعة: وهي أنه سبحانه لا يجوز أن يقتصر بالمكلف على أدنى البيانين مع القدرة على أعلاهما، والقياس أدناهما، فبطلانه بما يعلم أن بعض ما ورد به التعبد عند الجميع أعلى من بعض؛ لأن منه ما علم من دين النبي صَلَّى الله عَلَيْه وآله وَسَلَّم ضرورة، ومنه ما علم بالدلالة وهذا لا خلاف فيه، ولا شك أن ما يعلم ضرورة أجلى مما يعلم بالدلالة، فإذا جاز من الله سبحانه التعبد بهما على سواء، -وإن كان أحدهما أجلى من الآخر- جاز أن يتعبد بالقياس وإن كان النص أجلى منه.
وأما المقالة الخامسة: وهي أن التعبد بالقياس يؤدي إلى وجوب التعبد بالأمور المتضادة الشاقة، وذلك لا يجوز فسيأتي الكلام عليها -فيما بعد إن شاء الله تعالى- عند الكلام على أن كل مجتهد مصيب؛ لأنه كما يمكن أن يتعلق بها نفاة القياس يمكن أن يتعلق بها من منع كون كل مجتهد مصيباً، فالجواب عن ذلك واحد.
وأما المقالة السادسة: وهو أن التعبد بالقياس جائز إلا أنه لم يرد في الشريعة، فلا بد من الإستدلال على أنه قد ورد فيبطل ما قالوه، وينبغي لنا أن نقدم الكلام على أن التعبد بالقياس جائز، والدليل على ذلك وجهان، وهما: العقل والسمع.
أما العقل: فما قد تقرر في العقول أنه يجب على الإنسان القيام من تحت حائطٍ مائل إذا غلب في ظنه سقوطه، وإن جوز السلامة في الوقوف والهلاك في النهوض، وكذلك المتجنب لسلوك طريق يغلب في ظنه أن اللصوص فيها، وسلوك طريق لا يظن كونهم فيه، وإن جَوَّز أن لا يكونوا في الذي يغلب في ظنه كونهم فيه، ويكونوا في الطريق الذي لا يظن كونهم فيه، والعمل على ما قدمنا جائز في العقول، وإن كان المرجع به إلى الظن كما نقول في القياس.
وأما السمع: فالحكم بشهادة الشهود من الظن بصدقهم، وتولية الأمراء والقضاة إذا غلب في الظن سدادهم، والتوجه إلى جهة عند ظن القبلة فيها، والحكم بقصد من النفقة بحسب الظن، إلى غير ذلك مما يكثر تعداده.
فإذا تقرر هذا لم يمتنع أن يتعبد الله سبحانه المكلف أن يحكم في الفرع بحكم الأصل الثابت إذا غلب على ظنه عند أمارة صحيحة ينصبها له بأنه يجب رده إليه، وإثبات مثل حكمه فيه من حيث تعلقت المصلحة بذلك، إذ ليس فيه أكثر من أنه تعبد بطريقة الظن، وقد بينا جوازه عقلاً وشرعاً، والتكليف إنما يقبح إذا كان بما لا يطاق أو بما لا يعلم، ولا يعلم سببه، أو بما لا تزاح فيه علة المكلف، أو بأن لا يلطف به فيما له فيه لطف، فإذا تعرى من هذه الوجوه حسن، ولا شك في تعري القياس من هذه الوجوه فيجب القضاء بورود التعبد به، وموضع استيفاء الكلام في هذه الجملة أصول الدين، فلا وجه لذكره فوق ما ذكرناه هاهنا، فهذا هو الكلام على جواز ورود التعبد بالقياس، وسيأتي الكلام على أنه قد ورد.
مسألة:[الكلام في أن الدليل قد ورد على التعبد بالقياس]
عندنا أن التعبد بالقياس قد ورد وقد دل على جواز وروده العقل كما قدمنا، والسمع كما نبينه الآن.
وحكى شيخنا رحمه الله تعالى أن ذلك مذهب أبي علي، وأبي هاشم، وأبي عبدالله، وقاضي القضاة، ـ أعني ورود التعبد بالقياس من طريق السمع ـ.
وحكى عن الشيخ أبي الحسين البصري أن ذلك يعرف بالعقل والسمع، وكان يذهب إليه، ونحن نختاره، وقد قدمنا الكلام في جواز ورود التعبد به عقلاً.
وحكى أن بعض من نفى القياس قال: لم يرد دليل بأنه تعبد بالقياس ولو ورد دليل لقلت به، ومنهم من قال: جميع هذه الأحكام مبين وليس للقياس موضع، فأما هذا القول فلا يحتاج في إبطاله إلى دليل لركاكته وظهور فساده.
وأما الدليل على أن التعبد بالقياس قد ورد فوجهان، وهما السنة والإجماع:
أما السنة: فما روي عن النبي صَلَّى الله عَلَيْه وآله وَسَلَّم من الأخبار في ذلك، وذلك ظاهر في قوله لمعاذ(1) حين بعثه إلى اليمن: ((بم تحكم؟ قال: بكتاب الله، قال: فإن لم تجد؟ قال: فبسنة رسول الله، قال: فإن لم تجد؟ قال: أجتهد رأيي، فقال: الحمد لله الذي وفق رسول رسول الله))، والكلام في هذا الخبر يقع في وجهين: أحدهما: في صحته، والثاني: في وجه الإستدلال به.
أما الكلام في صحته: فلأنه مما تلقته الأمة بالقبول(2) فكانوا بين قائل به، أو متأول له، وذلك يوجب علمهم به كما في الأخبار المتعلقة بأصول الشريعة.
__________
(1) ـ معاذ بن جبل بن عمرو الخزرجي السلمي، أبو عبدالرحمن، كان من أعيان الصحابة في العلم والفتوى والحفظ للقرآن، أسلم وله ثمان عشرة سنة، شهد العقبة الأخيرة وبدراً وما بعدها، وبعثه النبي -صَلَّى الله عَلَيْه وآله وَسَلَّم- إلى اليمن يعلم القرآن والأحكام، وكان يزوره في الأسفار، وأخذ بيده فقال: ((يا معاذ والله إني لأحبك)) وكان أمة حنيفاً قانتاً. توفي في طاعون عمواس بالأردن سنة ثمان عشرة. انظر: لوامع الأنوار (ط2) (3/180).
(2) - هذا الحديث مشهور عند أئمة أهل البيت -عليهم السلام- والمحدثين، قال الحافظ ابن كثير: هو حديث حسن مشهور، اعتمد عليه أئمة الإسلام في إثبات أصل القياس، وقد ذكرت له طرقاً وشواهد في جزء مفرد. ذكره محمد بن إبراهيم الوزير في العواصم والقواصم (1/282)، وأخرجه أحمد في مسنده (5/236)، وأبو داود في سننه (3592)، والترمذي (1327)، والطيالسي (1/286)، وابن سعد (2/347)، والخطيب في الفقيه والمتفقه (188)، والبيهقي (10/114)، وابن عبدالبر في جامع بيان العلم (2/55) كلهم من طريق شعبة عن أبي عون الثقفي عن الحارث بن عمرو، عن أناس من أهل حمص من أصحاب معاذ، عن معاذ بن جبل.
وكان شيخنا رحمه الله تعالى يقول: إن ذلك لا يدل على كونه معلوماً، قال: لأنه يجوز أن لا يردوه لأنهم لا يعلمون بطلانه ولا يقطعون على صحته فيتأولونه لهذا السبب.
وعندنا: أن تلقيهم له بالقبول مع استفاضته بينهم يدل على أنه معلوم لهم؛ لأنه متعلق بأمر كبير فلو لم يعلموه مع ذلك وهو أن يلزمهم أمراً يكرهونه ويقضون بقبحه وهم يعلمون أن نفي صحته يقطع عنهم أصل الكلام في هذا الباب لكان طعنهم في صحته أقرب إلى مرادهم من ارتكاب تأويله فيقولون: هذا خبر لا يقطع على مقتضاه؛ لأنه غير معلوم لنا فلما لم يقل ذلك قائل علمنا أنه معلوم لهم في الأصل كما علمنا بهذه الطريقة سائر أخبار أصول الشريعة.
هذا، وإن جوزنا أن لا يكون اليوم معلوماً لنا لدثور السير وتطاول الزمن، وكان شيخنا رحمه الله تعالى يسلك في الإستدلال بهذا الخبر طريقة الإستدلال بأخبار الآحاد، فيقول: القياس والإجتهاد من باب العمل، وقد ثبت وجوب استعمال أخبار الآحاد فيما يتعلق بالعمل، والكلام عندنا فيه ما قدمنا، فهذا هو الكلام في صحة الخبر.
وأما الكلام في وجه الإستدلال به: فلأن النبي صَلَّى الله عَلَيْه وآله وَسَلَّم أقر معاذاً على العمل بالقياس والإجتهاد، فلو لم يكن واجباً لكان إقراره له على ذلك قبيحاً، والقبيح لا يجوز عليه - عليه وآله السلام - لأن تجويزه عليه يرفع الثقة به، فيجب النفور عنه، ولا يجوز على الله تعالى أن يبعث من يعلم من حاله ذلك على ما هو مقرر في مواضعه من أصول الدين بل تصويبه به؛ لأنه لما قال أجتهد رأيي، قال عَلَيْه السَّلام: ((الحمد لله الذي وفق رسولَ رسولِ الله صَلَّى الله عَلَيْه وآله وَسَلَّم))، فكان ذلك أبلغ من مجرد الإقرار عند من يعرف الخطاب.
فإن قيل: إنه أراد بقوله: أجتهد رأيي أطلب علم ذلك من الكتاب والسنة.
قلنا: هذا باطل لوجهين:
أحدهما: أنه - عليه وآله السلام - قال له ذلك بعد قوله: فإن لم تجد في الكتاب والسنة، ولا يعقل أن يكون في مقابلته فإن لم تجد في الكتاب والسنة طلبت في الكتاب والسنة؛ لأن ذلك يكون خلفاً من القول.
والثاني: أنه قال: أجتهد رأيي، ولا يكون ما أخذه من الكتاب والسنة رأياً له ولا لغيره في حياة النبي صَلَّى الله عَلَيْه وآله وَسَلَّم، وإنما يكون نصاً وتوقيفاً، وليس بعد الكتاب والسنة من الأدلة الشرعية إلا الإجماع، وهو غير معتبر في حياة النبي صَلَّى الله عَلَيْه وآله وَسَلَّم، والقياس والإجتهاد ولا يجوز أيضاً أن يجعل ما أخذه من دلالة الإجماع رأياً له ولا يسميه الإجتهاد أيضاً؛ لأن الإجتهاد يتضمن المشقة، وليس فيما أخذ من الإجماع مشقة.
وإنما الإجتهاد والرأي يستعمل فيما طريقه النظر، وقياس بعض الأمور ببعض لوجه من التعليل لأجل المشابهة والطرائق الرابطة فيمتحن فيه نظره وتعبده بغيره، وهذا هو معنى القياس والإجتهاد، وهو الذي يجوز صدور الأحكام الصحيحة عنه، ويجوز تصويب النبي صَلَّى الله عَلَيْه وآله وَسَلَّم لمن فعله.
فأما التخمين والتبخيت فلا يجوز من النبي صَلَّى الله عَلَيْه وآله وَسَلَّم ولا من غيره فضلاً عنه عَلَيْه السَّلام، وهو القدوة في أمر الدين ولا يجوز تصويب من سلكهما في تعرف الأحكام والشرائع؛ لأنه لا يؤمن إفضاؤهما بمستعملهما إلى القبيح، وذلك لا يجوز، ومن ذلك قول النبي صَلَّى الله عَلَيْه وآله وَسَلَّم لمعاذ وأبي موسى(1)، وقد أنفذهما إلى اليمن: ((بم تقضيان؟))، قالا: إن لم نجد الأمر في السنة قسنا الأمر بالأمر، فما كان أقرب إلى الحق عملنا به، وهذا تصريح منهما بالعمل على القياس، وإقرار منه صَلَّى الله عَلَيْه وآله وَسَلَّم لهما عليه.
وكذلك قال لابن مسعود رضي الله عنه: ((ثم اقض بالكتاب والسنة إذا وجدتهما فإن لم تجد الحكم فيهما اجتهدت رأيك)).
ووجه الإستدلال بهذه الأخبار: أن النبي صلى الله عليه وآله أقره بل أخبره أنه يعمل بالقياس في بعضها، وأمر بالعمل بالقياس في بعضها، وهو عَلَيْه السَّلام لا يقر على أمر ويأمر به إلا وهو واجب.
أما أنه عَلَيْه السَّلام أقره عليه في بعضها وأمر به في بعضها؛ فذلك ظاهر في ألفاظها.
وأما أنه لا يقر على ذلك ويأمر به إلا وهو واجب؛ فلأنه لا واسطة بين وجوب العمل بالقياس وحظر العمل به في أقوال الأمة.
فالقول بأن العمل به جائز غير واجب قول مخالف لسبيلها، وذلك لا يجوز كما قدمنا في باب الإجماع.
وأما دلالة وجوبه من قبل الأمر به، فقد تقدم الكلام فيه في باب الأوامر والنواهي، وأن الأمر يقتضي الوجوب.
__________
(1) ـ أبو موسى الأشعري، عبدالله بن قيس، قدم مكة قبل الهجرة فأسلم ثم قدم مع جعفر بعد فتح خيبر. أحد الحكمين وخديعة عمرو له مشهورة، روي عن علي -عَلَيْه السَّلام- أنه كان يقول في أبي موسى: صبغ بالعلم صبغاً وسلخ منه سلخاً، وكان أمير المؤمنين يلعنه في القنوت ومعاوية وعمراً. توفي سنة اثنتين أو أربع وأربعين. انظر: لوامع الأنوار (ط2- 2/456، 460)، و(3/209)، والجداول.
وما يدل على وجوب العمل بالقياس من قبل السنة بطريق التنبيه على استعماله قول النبي صَلَّى الله عَلَيْه وآله وَسَلَّم لعمر وقد سأله عن القُبْلة هل تفطر الصائم أم لا؟ فقال: ((لا تفطره أرأيت لو تمضمضت بماء ثم مججته(1))) وقوله للخثعمية وقد سألته عن الحج عن أبيها، فقال: ((نعم أرأيت لو كان على أبيك دين أكنت تقضيه؟))
قالت: نعم، قال: ((فدين الله أحق أن يُقضى(2))).
ووجه الإستدلال بهذين الخبرين: أنه صَلَّى الله عَلَيْه وآله وَسَلَّم نبه على وجوب استعمال طريقة القياس، فلو لم يكن العمل بالقياس واجباً لم ينبه عليه.
__________
(1) ـ أخرجه أحمد في المسند (1/21) رقم (138)، وأبو داود (3172) رقم (2385)، والنسائي في السنن الكبرى (2/198) رقم (3048)، وابن حبان (8/313) رقم (3544)، والحاكم (1/596) رقم (1572)، وابن خزيمة (3/245) رقم (1999)، والدارمي (2/22) رقم (1724).
(2) ـ أخرجه: البخاري (3/300، و(4/5606)، ومسلم (9/97، 98)، وأحمد في المسند (1/466) رقم (3367)، والنسائي (5/89)، ومالك في الموطأ (1/359)، والطبراني في الكبير (11/109) رقم (11200) والصغير (1/405) رقم (1484).
أما أنه نبه على ذلك: فظاهر الخبرين يقضي به؛ لأنه شبه تقبيل الصائم بغير إفضاء إلى قضاء وطره من الجماع بالمضمضة بالماء، ولا يفضي إلى بلوغ غرضه من الشرب، وإذا كانت المضمضة والحال هذه لا تفطر فكذلك القبلة، وهذا هو معنى القياس، وكذلك شبه دين الله سبحانه بدين العباد في خبر الخثعمية، فإذا وجب قضاء دين العباد عليها لحرمة الولادة، فوجوب قضاء دين الله أولى، والحكم فيه ألزم، وهذه الأخبار كما ترى محض القياس، فلولا أن استعماله واجب لما أمر به النبي صَلَّى الله عَلَيْه وآله وَسَلَّم، وقد أمر به، فثبت أنه واجب، وهذه الأخبار وإن لم تبلغ درجة خبر معاذ في الإستفاضة والتواتر؛ فإن كثرتها وإتيانها من طرق شتى يوجب قوتها ويقضي بوجوب العمل عليها لما قد تقرر من خبر معاذ، فهي كالجاذبة إليه والرافدة له.
وقد كان شيخنا رحمه الله تعالى يقول: وإن كانت هذه الأخبار غير معلومة فإن القياس والإجتهاد من باب الأعمال والإعتماد على خبر الآحاد واجب في باب الأعمال كما قدمنا، ثم تفرع الكلام فيه إلا أن هذا القول يمكن اعتراضه بأن القياس والإجتهاد من أصول الشريعة وأركانها المهمة، ولا يجوز إثبات أصول الشريعة بأخبار الآحاد كما نعلمه في الصلاة والصوم وسائر الأركان دائماً يجب العمل بأخبار الآحاد فيما قد تقرر أصله بطريقة معلومة فهذه دلالة السنة.
وأما دلالة الإجماع: فلأن الصحابة لما اختلفت بعد وفاة النبي صَلَّى الله عَلَيْه وآله وَسَلَّم في مسائل لم يوجد فيها نص من النبي صَلَّى الله عَلَيْه وآله وَسَلَّم سلكوا طريقة القياس والإجتهاد، فكانوا بين سالك لها وبين راض بها، وذلك يتضمن معنى الإجماع، وإجماعهم حجة، وهذه الدلالة تنبني على أصول:
أحدها: أن الصحابة اختلفوا بعد النبي صَلَّى الله عَلَيْه وآله وَسَلَّم في مسائل لم يوجد فيها نص.
وثانيها: أنهم كانوا بين سالك طريقة الإجتهاد وبين راضٍ بها.
وثالثها: أن ذلك يتضمن معنى الإجماع.
ورابعها: أن إجماعهم حجة.
فأما الذي يدل على الأول: وهو أن الصحابة اختلفوا بعد النبي صَلَّى الله عَلَيْه وآله وَسَلَّم في مسائل لم يوجد فيها نص.
فأما أنه لم يوجد فيها نصّ: فلأنه لو وجد لاحتج به بعضهم على بعض، وكان النص يرفع الخلاف، فلما لم يوجد اختلفوا.
وأما أنهم اختلفوا: فذلك معلوم لجميع أهل العلم من حالهم؛ لأنهم لما سئلوا عن الجد مع الأخ قال علي عَلَيْه السَّلام لزيد بن ثابت: (يقتسمان المال نصفين)، وقال أبو بكر وابن عباس: (المال للجد دون الأخ).
وأما الذي يدل على الثاني: وهو أنهم سلكوا في ذلك طريقة القياس؛ فلأنهم سلكوا فيه مسلك التعليل وإجراء الحكم على ما وجدت فيه علة الأصل، وذلك ظاهر لأن علياً عَلَيْه السَّلام شبه الجد والأخ بجدولي نهر وغصني شجرة، وذلك لاستوائهما في التعصيب؛ لأن الجد بينه وبين الميت الابن والأخ بينه وبين الميت الأب؛ فالأخ ابن ابنه والجد أبو أبيه أعني الميت، وهذه طريقة القياس والإجتهاد على أوفر الوجوه.
ومن جعل المال للجد دون الأخ جعله بمنزلة ابن الابن، وابن الابن يحوز المال على الأخ؛ لأنه ابن أبيه.
قال: فإذا حازه ابن الابن وبينه وبينه درجة فيما سفل جاز أن يحوزه الجد وبينه وبينه درجة فيما علا، فهذه طريقة القياس والإجتهاد.
وأما أن من لم يعلم بها رضيها؛ فلأنه لم يعلم من أحد منهم نكير على من سلكها، ولا كان للسكوت وجه يصرف إليه سوى الرضى؛ لأن الظاهر من أمرهم المراجعة في مسائل الشريعة وقبول بعضهم من بعض، وإنكار من لم يرض من ذلك أمراً على من رضيه حتى المخدَّرات لشياع العلم منهم وقبولهم له ببركة النبي صَلَّى الله عَلَيْه وآله وَسَلَّم سيما فيما يخص الشريعة، فعلمنا أن سكوت من سكت دلالة على الرضا.
وأما أن ذلك يتضمن معنى الإجماع: فقد قدمنا الكلام فيه، وهو أن القول أو الفعل إذا ظهرا في الأمة، وكانوا بين عامل عليه وساكت عن النكير سكوتاً يدل على الرضى كان إجماعاً لا محالة.
وأما أن إجماعهم حجة، فقد تقدم الكلام فيه بما فيه كفاية.
ومن المسائل التي اختلفوا فيها: مسألة الحرام، فقال علي عَلَيْه السَّلام: (ثلاث تطليقات)، وقال أبو بكر وعمر: (هي يمين)، وقال ابن مسعود: (هي تطليقة واحدة)، وقال ابن عباس: (هي ظهار).
فمن قال هذه اللفظة بمنزلة التطليقات الثلاث، قال من قال لامرأته: هي عليه حرام، فقد قصد غاية المنع من مداناتها، وذلك لا يكون إلا بالثلاث.
ومن قال: هو يمين، قال: إن لفظه بالأيمان والنذور أشبه من لفظ الطلاق فيجري عليه حكم الأيمان دون حكم الطلاق.
ومن جعله بمنزلة تطليقة واحدة، قال: هذا خطر يمكن تلافيه، وذلك لا يمكن إلا إذا جعل بمنزلة تطليقة واحدة.
وكذلك من قال: هو بمنزلة الظهار، فهذا كما ترى سلوك طريقة القياس لاعتبار العلل في طلب الإشتباه وإجراء الأحكام.
ومن ذلك خلافهم في المشتركة(1)
__________
(1) - المشتركة هي مسألة فرضية اشتهرت (بالحمارية) وهي أن امرأة هلكت وتركت زوجاً وأماً وإخوة لأب وأم وأخوين لأم؛ فإن علياً عليه السلام جعل للزوج النصف وللأم السدس وللأخوين لأم الثلث وأسقط الأخوة لأب وأم لاستغراق ذوي السهام للمال، وأما عمر فشرك بين الإخوة لأب وأم وبين الأخوين لأم في الثلث.
وسميت بالحمارية: لقول الأخوة لأب وأم: يا أمير المؤمنين هب أن أبانا كان حماراً ما زادنا إلا بعداً، ألسنا من أم واحدة.
، فورثهم عمر، ولم يورثهم علي عَلَيْه السَّلام، ومما يؤيد ما ذكرناه ما ظهر منهم من إطلاق القول بالرأي كما روي عن أبي بكر في الكلالة: (أقول فيها برأيي)، وعن عمر: (أقضي فيها برأيي)، وعن عثمان: (نتبع رأيك فرأيك رشيد)، وعن علي عَلَيْه السَّلام: (اجتمع رأيي ورأي عمر في حديث أم الولد) حتى قال له عبيدة(1) السلماني: (رأيك في الجماعة أحب إلينا من رأيك وحدك).
والرأي إذا أطلق في مسائل الشرع أفاد القياس والإجتهاد إذ لا يجوز حمله على غيرهما من الحدس والتبخيت، فصح بما قلناه أن التعبد بالقياس والإجتهاد وردا في الشريعة على أبلغ الوجوه.
مسألة:[الكلام في جواز تعبد النبي(ص) بالقياس والإجتهاد عقلاً]
ذهب أكثر العلماء إلى أنه كان يجوز تعبد الرسول صَلَّى الله عَلَيْه وآله وَسَلَّم بالقياس والإجتهاد عقلاً، كما أنه صَلَّى الله عَلَيْه وآله وَسَلَّم تعبد بذلك في الآراء في الحروب، وربما مر لأبي علي خلافه، واختيارنا هو الأول.
والذي يدل على صحته: أن التعبد باستعمال القياس إنما يرد بتعلق المصلحة به، ولا يمتنع أن تتعلق مصلحة النبي صَلَّى الله عَلَيْه وآله وَسَلَّم بذلك كما تعلقت مصلحتنا فتعبد به كما تعبدنا، ولأن ذلك ظهر لنا من أمره عَلَيْه السَّلام في الحروب وآراء الدنيا؛ فجاز بمثله في سائر الأمور، وليس يمنع من ذلك إلا قول من يقول إنه لا يجوز أن يقتصر سبحانه بالمكلف على أدنى البيانين مع القدرة على أعلاهما، فيقول: إن النبي صَلَّى الله عَلَيْه وآله وَسَلَّم متمكن من ورود الحكم عليه بحكم الحادثة فلا يحتاج إلى القياس.
__________
(1) ـ عبيدة –بفتح العين المهملة- ابن عمرو، ويقال: ابن قيس بن عمرو السلماني –بفتح السين المهملة، وسكون اللام- وسلمان قبيلة من مراد، أسلم قبل وفاة النبي -صَلَّى الله عَلَيْه وآله وَسَلَّم- بسنتين ولم يلقه، توفي سنة (72هـ).
قلنا: إنه لا يمتنع تعلق المصلحة بتعبده بالقياس دون النص كما تعلقت المصلحة بتعبده بذلك في آراء الحروب وأمور الدنيا فلا يكون للمنع من ذلك وجه يصرف إليه، فثبت جواز ورود تعبده بذلك، وسيأتي الكلام في أنه هل تعبد أم لا؟ فيما بعد إن شاء الله تعالى.
مسألة:[الكلام في جواز العمل بالإجتهاد في عصر النبي (ص)، وتفصيل ذلك]
اختلف أهل العلم هل كان يجوز العمل بالإجتهاد في عصر النبي صَلَّى الله عَلَيْه وآله وَسَلَّم أم لا؟ وهل الغائب والحاضر في ذلك سواء أم لا؟
فحكى شيخنا رحمه الله تعالى عن قاضي القضاة أنه ذكر في الشرح أن أكثر القائلين بالقياس والإجتهاد أجازوا تعبد من غاب عن النبي صَلَّى الله عَلَيْه وآله وَسَلَّم بالقياس والإجتهاد في عصره، والأقلون منعوا منه.
وحكى أن أبا علي قال في كتاب الإجتهاد: لا أدري هل كان يجوز لمن غاب عن النبي صَلَّى الله عَلَيْه وآله وَسَلَّم في عصره أن يجتهد أم لا؟ قال: لأن خبر معاذ من خبر الآحاد.
وكان شيخنا رحمه الله تعالى يذهب إلى أن لهم أن يجتهدوا إذا ضاق زمان الحادثة عن استفتاء النبي صَلَّى الله عَلَيْه وآله وَسَلَّم ولا يمكنهم سوى ذلك، ولأنه لا فرق في العقول بينهم وبين من لا يعاصر النبي صَلَّى الله عَلَيْه وآله وَسَلَّم وأحسب أنا قلنا له: فما تقول في المجتهد إذا سئل عن الحادثة بقرب المدينة.
قال: كان فرضه النظر فيها والإجتهاد.
قلنا: فإن كان في جانب المدينة.
قال: فكذلك، فكأنه كان يرى أن حضرة النبي صَلَّى الله عَلَيْه وآله وَسَلَّم مقامه أو مسجده أو مكانه الذي يكون فيه، ووضع في كتابه الموسوم بالفائق في أصول الفقه ما يدل على خلاف هذه المقالة، وكان يقول إن قاضي القضاة رحمه الله تعالى ذكر أن خبر معاذ وإن كان من أخبار الآحاد فقد تلقته الأمة بالقبول، فمنهم من احتج به، ومنهم من تأوله، فصح التعلق به في جواز التعبد بالقياس لمن غاب عن النبي صَلَّى الله عَلَيْه وآله وَسَلَّم؛ لأنه عَلَيْه السَّلام صوب معاذاً وقال: ((الحمد لله الذي وفق رسول رسوله)) فلو لم يجز الإجتهاد لمن غاب عنه لما صوَّبه ـ عَلَيْه السَّلام ـ.
فأما إذا أمكن المجتهد مراسلته عَلَيْه السَّلام، فالقول فيه كالقول فيمن حضره إذا أمكنه سؤاله، وقد أجاز اجتهاد قوم من القايسين إلا أن يمنع من إجتهاده مانع، ومنع منه آخرون منهم الشيخان أبو علي وأبو هاشم.
وأجاز قوم لمن بحضرته عليه وآله السلام أن يجتهد إذا أذن له النبي صَلَّى الله عَلَيْه وآله وَسَلَّم في ذلك وهو قول الشيخ أبي الحسين البصري.
وذهب أبو رشيد إلى أنه يجوز للمجتهد الإجتهاد بحضرة النبي صَلَّى الله عَلَيْه وآله وَسَلَّم، وأشار إليه القاضي، وحكى عن محمد بن الحسن.
وكان شيخنا رحمه الله تعالى يصحح في هذه المسألة ما قاله أبو الحسين من أنه لا يجوز لمن حضر النبي صَلَّى الله عَلَيْه وآله وَسَلَّم الإجتهاد قبل سؤال النبي صَلَّى الله عَلَيْه وآله وَسَلَّم كما نقول في سالك بَرِّيَة لا يأمن الهلاك فيها إن سلك غير سبيلها وبحضرته من يرشده أن يعمل برأي نفسه في سلوكه يجب عليه الرجوع إلى من يرشده.
فأما من قبل الشرع فيجوز أن يسأل النبي صَلَّى الله عَلَيْه وآله وَسَلَّم فيكله إلى اجتهاده لتعلق مصلحته بذلك.
واختيارنا في هذه المسألة: أن جواز التعبد بالقياس والإجتهاد في محضر النبي صَلَّى الله عَلَيْه وآله وَسَلَّم لا يكون إلا لمن غاب دون من حضر؛ لأن الأدلة التي قدمنا ذكرها من خبر معاذ وغيره تناولت الغائب دون الحاضر فلا تستعمل في غير ما تناوله، وإنما الكلام في مقدار الغيبة التي يجوز معها الإجتهاد في حياته عليه وآله السلام.
فذكر شيخنا رحمه الله تعالى في المذاكرة ما قدمنا ذكره، وروينا عنه على غالب الظن ووضع في كتابه أن ذلك لمن لم يمكنه مراسلته عَلَيْه السَّلام في أمر الحادثة.
واختيارنا في أمر الغيبة: أنه إن كان في موضع يتحمل في وصول النبي ـ صَلَّى الله عَلَيْه وآله وَسَلَّم ـ ومراسلته سفراً، كان فرضه الإجتهاد والقياس.
وإن كان في موضع دون ذلك وجب عليه الرجوع إلى النبي صَلَّى الله عَلَيْه وآله وَسَلَّم، وإنما قلنا ذلك؛ لأن أدلة الإجتهاد قد دلت على وجوب استعماله في عصر النبي صَلَّى الله عَلَيْه وآله وَسَلَّم لمن غاب عنه، وأقل الغيبة في العرف الشائع ما يسمى سفراً وأكثرها لا يقف على حد معين، فلا يجوز الإقتصار منه على قدر دون قدر بغير دليل، وإمكان المراسلة قائم في البعد والقرب على سواء بأن تصدر الحوادث ثم يطلب أجوبتها منه عليه وآله السلام، فلما لم يكن ذلك إخترنا أن المجتهد إذا قد صار مسافراً صار غائباً، ولأن النبي صَلَّى الله عَلَيْه وآله وَسَلَّم قال له: ((بم تحكم إن لم تجد في الكتاب والسنة))، قال: أجتهد رأيي، ولم يفصل بين من سأله في طريقه وبين من يسأله من مستقره وغاية مراده، فإذا سُئِل وهو من أهل الإجتهاد لزمه فرض الحادثة فيتعيّن عليه الجواب.
مسألة:[الكلام في عدم جواز ورود التعبد بالقياس في جميع الشرعيات]
لا يجوز ورود التعبد بالقياس في جميع الشرعيات، ويجوز ورود النص في جميعها.
أما جواز ورود النص في جميعها فذلك ظاهر؛ لأنه لا يمتنع أن ينص الله سبحانه على أحكام الأنواع والأجناس لجواز تعلق المصلحة بذلك.
وأما القياس فلا يجوز ورود التعبّد به في جميع الشرعيات؛ لأنا قد قدمنا أن لا بد من الرجوع في القياس إلى أصل معين، فإذا تعبدنا بالقياس في الأصل احتاج الأصل إلى أصل لأنه مقيس أيضاً فيتصل بذلك ما لا يتناهى وذلك لا يجوز، وإن قيس بعضها على بعض لم يكن الأصل بأن يكون أصلاً أولى منه بكونه فرعاً والفرع أصلاً، فيؤدي ذلك إلى أن لا يبن الفرع من الأصل، وذلك لا يجوز، ولأنه لا يقاس إلا على أصل معلوم الصحة، ولا تعلم صحته، ولا يصح القياس عليه، إلا باعتبار غيره ليكون أصلاً له، وذلك الغير لا تستقر صحته إلا بعد صحة غيره ليكون فرعاً لذلك الغير معلوم بعد تقرر علمه بوقف بعضها على بعض وكان لا يصح العلم بشيء منها.
فأما قياسها على الأصول المتقررة في العقل فلا يجوز ذلك؛ لأنه لا مدخل للعقل في معرفة ما هذا حاله؛ لأن التعبد إنما يقع للمصلحة، والمصلحة غيب استأثر الله سبحانه بعلمه فلا سبيل للعقول إلى المعرفة به.
مسألة:[الكلام في النص على علة الحكم قبل ورود التعبد بالقياس هل هو تعبد بالقياس بها أم لا؟]
اختلف أهل العلم في النص على علة الحكم قبل ورود التعبد بالقياس هل هو تعبد بالقياس بها أم لابد من تعبد زائد؟
فمن نفاة القياس من قال: إن النص على علة الحكم يوجب إجراء الحكم على ما وجدت فيه تلك العلة، وهو أبو إسحاق النظام ومن طابقه على ذلك من نفاة القياس، وغيرهم من الفقهاء، وهو قول الظاهرية، وأبي الحسين البصري، وكان شيخنا رحمه الله تعالى يذهب إليه.
وحكى عن الجعفرين وبعض الظاهرية أن النص على العلة ليس بتعبد بالقياس بمجرده وإنما يجب إجراء الحكم إذا قد ورد التعبد بالقياس.
قال: وذهب إليه الشيخ أبو عبدالله وقاضي القضاة ثم حكى اختلافهما بعد ذلك.
فقال قاضي القضاة: إذا ورد التعبد بالقياس تعدت العلة ولا يحتاج إلى دليل يخص تلك العلّة.
وقال أبو عبدالله: لابد من اشتراط ذلك.
وحكى عن أبي هاشم وأبي الحسن أن ذلك يجري مجرى ذكر جميع ما هي علة فيه ولكن لم يثبت أنه قبل ورود التعبد بالقياس أم بعده.
وكان يحكي أن الشيخ أبا عبدالله قال بأن النص على العلة لا يكون تعبداً بالقياس إذا كانت علة في الفعل؛ فأما إذا كانت علة في الترك فإن النص عليها تعبد بالقياس، ولا يحتاج في ذلك إلى دليل آخر.
ومثال المسألة: أن يقول الله سبحانه أوجبت أكل السكر كل يوم؛ لأنه حلو؛ فكان شيخنا رحمه الله تعالى يقول: إن ذلك يوجب أن الحلاوة فيه وجه المصلحة في وجوبه في كل يوم؛ لأنه قصر التعليل عليها مع اختلاف أحوالنا، ولا يجوز حصول وجه الوجوب أو الحسن أو القبح ولا يؤثر، كما لا يجوز حصول الفعل ظلماً ولا يكون قبيحاً.
قال: وبعد فإن قَدْراً من الرفق لا يجوز أن يصلح الصبي وهو على صفة مخصوصة ولا يصلحه مثله متى كان الصبي على تلك الصفة، فإذا ثبت ذلك صح ما قلناه من كون الحلاوة مؤثرة في كل موضع فيجب لأجل ذلك أكل العسل.
والذي يدل على صحة ما ذهبنا إليه: ما تقدم من الكلام في أن التعبد إنما يكون للمصلحة لما يعلم الله سبحانه من المصلحة، ولا يمتنع أن تتعلق المصلحة بفعل الحكم المنصوص على علته على الإنفراد وإن ضم إليه ما يشاركه في ذلك كان مفسدة، فإذا كان هذا هكذا لم يجز أن يحمل غير المنصوص عليه على ما ورد به النص إلا إذا دلت الدلالة على إثبات القياس، فإنما نقطع عند ذلك على حصول المصلحة في مجموعها وارتفاع المفسدة.
وما ذكره شيخنا رحمه الله تعالى من أن التعليل يدل على أن الحلاوة وجه المصلحة، غير مسلّم في الفعل؛ لأنا نقول: وجه المصلحة فيه كونه لطفاً للمكلف في فعل ما يجب عليه فعله وترك ما يجب عليه تركه، فما شاركه في هذه العلة وجب أن يشاركه في الحكم هذا فيما نص على علته قبل ورود التعبد بالقياس.
وما ذكر رحمه الله تعالى بعد ذلك أن قدراً من الرفق لا يجوز أن يصلح الصبي وهو على صفة مخصوصة إلا ويصلحه مثله وهو على تلك الصفة، لا يلزم عليه ما ذهب إليه؛ لأنا نقول: إن قدراً من الرفق قد يصلح الصبي، ثم إذا انضاف إليه مثله لم يمتنع مصيره مفسدة، وعلى هذا قال سبحانه وتعالى: {وَلَوْ بَسَطَ اللَّهُ الرِّزْقَ لِعِبَادِهِ لَبَغَوْا فِي الْأَرْضِ وَلَكِنْ يُنَزِّلُ بِقَدَرٍ مَا يَشَاءُ} [الشورى:27]، فأخبر أن الزيادة على ذلك القدر من جنسه لو زيد لصار مفسدة، وهذا كما ترى ظاهر، ولأن الإنسان قد يتصدق بدرهم لعلةٍ، ولا يتصدق بدرهم آخر، وإن استويا في كونهما إحساناً ولا مضرة عليه في واحد منهما، وهذا بخلاف ما يترك لعلة؛ لأنه لا يصلح أن يتعبد المكلف بترك ذلك الفعل بصفة تخصة ولا يتعبد بترك ما يشاركه فيها لقيام الدلالة على أن من ترك فعلاً من الأفعال لصفة تخصه؛ فإنه يترك لا محالة جميع ما يشاركه في تلك الصفة ويتعذر خلاف ذلك، والتعبد لا يجوز وروده بما يتعذر.
ومثاله: ما يعلم أن العاقل لا يجوز أن يترك سلوك طريق مخصوص لكون اللصوص فيه أو السباع، ثم يسلك طريقاً آخر فيه هذا المخوف، وكذلك لا يجوز أن يترك أكل الطعام؛ لأن فيه السم، ثم يأكل طعاماً آخر فيه السم، وهذا الأصل الذي قدمنا يبنى عليه أن تخصيص العلة لا يجوز إن كانت علة للترك، ويجوز إن كانت علة للفعل.
مسألة:[الكلام في صحة استعمال القياس على كل أصل]
ذهب أكثر الفقهاء والمتكلمين إلى أن القياس يصح على كل أصل سواء ورد النص على القياس عليه بعينه أو لم يرد، وسواء اتفقوا على تعليله أم لم يتفقوا على ذلك.
وحكي عن بشر بن المريسي(1)المنع من القياس على أصل إلا أن تجمع الأمة على تعليله.
وعن قوم أنه يجب أن ينص لنا على وجوب القياس عليه، واختيارنا هو الأول(2).
والذي يدل على صحته وجهان:
أحدهما: أن التعبد بالقياس إذا ورد على الإطلاق وجب استعماله في كل أصل يصح القياس عليه وإلا أدى إلى حصره بغير دلالة وذلك لا يجوز، ولأنه لو كان، لا يخلو: إما أن يجوز استعماله على كل أصل وقد قدمنا ذكره، أو لا يستعمل في شيء، أو يستعمل في شيء دون شيء، ولا يجوز أن لا نستعمله في شيء من الأصول؛ لأنا قد قدمنا الدلالة على وجوب استعماله بما لا سبيل إلى نقضه، ولا يجوز أن نستعمله في بعض دون بعض لفقد المخصص، فلم يبق إلا وجوب استعماله في كل أصل يمكن استعماله فيه إلا ما خصه الدليل.
وأما الوجه الثاني: فإجماع الصحابة على استعمال طريقة القياس على أصول لم يرد عليها نصّ ولا أجمع على تعليلها، وذلك أنه لما وقع الإختلاف بينهم قاس كل منهم على أصل صحّ عنده القياس عليه مع أنهم خالفوه في القياس عليه، ولو كان منصوصاً عليه لذكر لهم النص ليجب عليهم الرجوع إلى أصله في القياس لمكان النص، فأما لو وقع الإجماع على تعليله لم يفترقوا فيه.
__________
(1) ـ بشر بن غياث بن أبي كريمة المريسي، أبو عبدالله الحنفي، الفقيه المتكلم، كان من المرجئة وإليه تنسب المرجئة، توفي سنة (219هـ).
(2) ـ أي الذي ذهب إليه أكثر الفقهاء والمتكلمين من أن القياس يصح على كل أصل.
مسألة:[الكلام في هل كان النبي -صَلَّى الله عَلَيْه وآله وَسَلَّم- متعبداً بالإجتهاد أم لا؟]
اختلف أهل العلم في النبي صَلَّى الله عَلَيْه وآله وَسَلَّم هل كان متعبداً بالإجتهاد أم لا؟
فمنهم من قال: لم يكن متعبداً بذلك في شيء من الشرعيات وهو قول أبي علي وأبي هاشم وأبي عبدالله، وهو الذي نختاره.
وحكى شيخنا رحمه الله تعالى عن أبي يوسف أنه قال: كان عليه وآله السلام متعبداً بذلك وتأوله الشيخ أبو علي على الحروب وأحكام الدنيا، وهو اختيار القاضي في بعض المواضع.
وجوّز الشافعي في رسالته أن يكون في الأحكام الشرعيات ما قاله عليه وآله السلام اجتهاداً.
وجوز قاضي القضاة ذلك في مواضع ولم يقطع عليه، وإليه ذهب الشيخ أبو الحسين البصري، وكان شيخنا رحمه الله تعالى يعتمده، ويحتج له بأنه لا دلالة في العقل ولا في الشرع توجب القطع على أنه تعبد، ولا على أنه عَلَيْه السَّلام لم يتعبد بذلك فيجب التوقف، إذ لا يجوز القطع بغير دلالة واختيارنا هو المذهب الأول.
والذي يدل على صحته: أن النبي صَلَّى الله عَلَيْه وآله وَسَلَّم لو تعبد بالإجتهاد في شيء من الشرعيات لجازت مراجعته فيه ومعلوم أن مراجعته في الشرعيات لا تجوز، فثبت أنه لم يتعبد بالإجتهاد في شيء منها.
أما أنه لو تعبد بالإجتهاد في شيء من الشرعيات لجازت مراجعته؛ فلأن ذلك حكم كل مجتهد، وهو عليه وآله السلام وغيره في ذلك سواء، ولأنه قد تقرر جواز مراجعته فيما صح تعبده بالإجتهاد فيه كآراء الحروب وأمور الدنيا من دفع المضار وجلب المنافع.
وأما أن مراجعته في الشرعيات لا تجوز؛ فذلك معلوم لنا من دين المسلمين كافة أن أمرهم معه عليه وآله السلام في الشرعيات مبني على القبول والتسليم من غير منازعة، وقد قال الله سبحانه وتعالى: {وَمَا يَنْطِقُ عَنِ الْهَوَى(3)إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يُوحَى(4)} [النجم:3ـ4].
ووجه الإستدلال بهذه الآية: أن الله سبحانه أخبرنا أن جميع ما ينطق به وحي يوحى، وذلك لا يحمل على غير الشرعيات، فلو كان فيها ما صدر عن اجتهاده عليه وآله السلام لما أطلق عليه أنه وحي يوحى؛ لأن اجتهاد الرأي لا يكون وحياً، فوجب بما ذكرنا القطع على أنه عَلَيْه السَّلام لم يتعبد في الشرعيات بشيء من ذلك، وإن كان ذلك يجوز من جهة العقل كما قدمنا.
مسألة:[الكلام في أن القياس دين مأمور به]
اختلف أهل العلم في القياس هل هو مأمور به ودين، أم ليس مأمور به ولا هو دين؟
فذهب قوم إلى أنه لا يوصف بذلك.
وذهب قوم إلى أنه دين، وأنه مأمور به، وهو الذي نختاره، وكان شيخنا رحمه الله تعالى يذهب إلى أنه مأمور به ودين من جهة المعنى لا من جهة اللفظ، على معنى أن الله تعالى نصب عليه الأدلة والأعلام.
وكان يحكي عن الشيخ أبي الهذيل أنه منع أن يطلق عليه اسم دين الله تعالى، قال: لأن اسم دين الله لا يقع إلا على ما هو ثابت مستمر.
وكان أبو علي يصف ما كان منه واجباً بذلك وبأنه إيمان دون ما كان منه ندباً.
وقاضي القضاة يصف بذلك واجبهُ وندبهُ، وذلك اختيار القاضي شمس الدين رضي الله عنه وأرضاه، وكان شيخنا رحمه الله تعالى يعتمد ذلك، ويحتج له بأن الدين في الشريعة هو الإسلام، والإسلام في الشريعة هو الإيمان لا فرق بين شيء من ذلك، وقد قال الله سبحانه وتعالى: {وَمَنْ يَبْتَغِ غَيْرَ الْإِسْلَامِ دِينًا فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْهُ} [آل عمران:85]، فلو كان الدين والإيمان غير الإسلام لم يصح قبولهما من فاعلهما، ومعلوم أنهما مقبولان بالإتفاق، فثبت أن الإيمان والإسلام والدين ألفاظ تتعلق في الشريعة على معنى واحد، وموضع تفصيل هذه الجملة هو أصول الدين.
والذي يدل على صحة ما ذهبنا إليه من أن القياس دين الله تعالى، وأنه مأمور به: قول الله سبحانه: {فَاعْتَبِرُوا يَاأُولِي الْأَبْصَارِ} [الحشر:2]، وما شاكلها من الآي التي فيها ذكر الإعتبار.
وجه الإستدلال بهذه الآية: أن الإعتبار معناه ومعنى القياس واحد بدلالة أنك لا تقول: قست الأمر بالأمر، ولم أعتبر أحدهما بالآخر، ولا اعتبرت أحدهما بالآخر، ولم أقس أحدهما على الآخر، بل يصير من قال ذلك مناقضاً جارٍ مجرى قوله: قست وما قست، أو اعتبرت وما اعتبرت.
وقد كان شيخنا رحمه الله تعالى يمنع من الإستدلال بهذه الآية، ويقول تحمل على الإستدلال العقلي وعلى الإستدلال بالنصوص، ونحن نقول إن هذا قصر للدلالة، وتحكم فيها وذلك لا يجوز؛ لأن الآية وإن حملت على ذلك فإنه لا يمتنع حملها عليه، وعلى ما ذكرنا إذ لا منافاة بينهما ولا ما يجري مجرى المنافاة؛ لأنا متعبدون بذلك جميعاً، وكل واحد من القولين مأخوذ من ظاهر الآية، فلا وجه لقصر فائدة الآية على أحدهما دون الآخر.
ومما يؤيد ذلك: قوله سبحانه وتعالى: {وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ} [المائدة:45]، عقيب قوله سبحانه: {وَأَنِ احْكُمْ بَيْنَهُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ} [المائدة:49].
ووجه الإستدلال بهذه الآية: أن الله سبحانه أمرنا أن نحكم بما أنزل، والإنزال من قبل الله سبحانه وتعالى إذا أطلق أفاد القرآن الكريم في عرف الشريعة، فلو لم يكن الأمر بالقياس مُنَزَّلاً لكان الحكم به يكون حكماً بغير ما أنزل الله وذلك لا يجوز، وقد دلت السنة على الأمر بذلك وأنه مأمور بالقياس من قبل الله سبحانه وتعالى؛ لأن ما أتى به الرسول صَلَّى الله عَلَيْه وآله وَسَلَّم من الشرعيات قطعنا على أنه منزل من عند الله سبحانه كما تقدم بيانه في الأخبار التي قدمنا ذكرها، فلا وجه لإعادتها.
فصل: في قسمة القياس الشرعي
اعلم: أن القياس الشرعي ضربان: واجب، وندب.
والواجب من ذلك ضربان: واجب على الأعيان، وواجب على الكفاية.فالواجب على الأعيان: هو قياس من نزلت به حادثة من المجتهدين، أو كان قاضياً فيها، أو مفتياً ولم يقم غيره مقامه وضاق الوقت، فإن النظر فيها يجب عليه مضيقاً معيناً.
والواجب على الكفاية: هو أن يكون من أهل الإجتهاد ثم تنزل الحادثة، ولكن في الحضرة من العلماء من ينوب عنه فيها ويقوم مقامه في الفتوى.
والندب: هو القياس فيما لم يحدث من المسائل مما يجوز حدوثه ليكون الجواب عنها معداً لوقت الحاجة، وهذا التفصيل في قسمة القياس ذكره شيخنا رحمه الله تعالى، فأوردناه كما ذكره.
فصل: في وجود العلة في الأصل والفرع والكلام في كيفية حكمها عند ذلك
فكان شيخنا رحمه الله تعالى يقول: إن القايس قد يعلل الفرع بأوصاف لا يُسَلِّم خَصْمُهُ وجودها في بعض الفرع، فيكون له أن ينازعه في ذلك، وقد لا يسلم وجودها في بعض الفرع فيمتنع - القياس - من قياس جميع الفرع بتلك العلة، وإن رام القايس أن يقيس ما وجدت فيه تلك العلة من الفرع دون ما لم توجد فيه العلة جاز ذلك إذا أمكن أن يكون بعض ذلك الفرع معللاً دون بعض، وقد يعلل القايس الأصل بعلة لا توجد في جميع الأصل دون خصمه، أولا توجد في بعضه، فله أن يمنعه من رد الفرع إلى جميع ذلك الأصل، فإن رده إلى الموضع الذي وجدت فيه تلك العلة جاز ذلك إلا أن يمنع مانع من تعليل بعض الأصل دون بعض، وذلك كمنع أصحاب الشافعي من قياس الجص على البر بعلة أنه مكيل، بقولهم إن علة تحريم التفاضل في البر هي علّة واحدة شائعة في جميع البر، والكيل غير شائع في جميع البر إذ لا يتأتى في الحبة والحبتين.
وحكى شيخنا رحمه الله تعالى انفصال أصحابنا عن ذلك بأن المحرم من البر علته واحدة وهو ما يتأتى فيه الكيل دون ما لا يتأتى فيه؛ لأن النبي صَلَّى الله عَلَيْه وآله وَسَلَّم نهى عن بيع البر إلا كيلاً بكيل، فأجاز بالكيل ما منع منه بغير كيل، والذي يجوز بيعه إذا تساوى في الكيل هو ما يتأتى فيه الكيل دون ما لا يتأتى فيه الكيل، فيجب أن يكون ما يتأتى فيه الكيل هو ما يحرم بيعه إذا تفاضل في الكيل، فهذا الذي ذكره رحمه الله تعالى من انفصال أصحابنا في كتابه في أصول الفقه، وفي المذاكرة إلا أن هذا الإنفصال لا يستقيم عندنا؛ لأن النبي صَلَّى الله عَلَيْه وآله وَسَلَّم حرم بيع البر بالبر إلا مثلاً بمثل يداً بيد، وأخبر أن من زاد أو ازداد فقد أربا، فكان هذا التحريم عاماً شاملاً دخل تحته القليل والكثير، فالإتيان بعلة خاصة لبعضه دون بعض لا يجوز لأن ذلك يؤدي إلى أحد أمرين باطلين:
إما إجراء الحكم في البعض بغير علة، وإما إخراج بعض ما تناوله النص بغير دلالة، وكل واحد من هذين الأمرين لا يجوز.
فأما الإنفصال عما ذكرت الشافعية، فإنما يصح عندنا بأن نقول إن الحبة والحبتين والحبات، وإن لم يتأت فيها الكيل على الإنفراد فهو متأت في ذلك مع الإنضمام فعلتنا شائعة في جميع البر؛ لأن كله مكيل جنس، وعلى أن مثل ما ألزمونا يلزمهم في علتهم؛ لأن الطعم أو الإقتيات لا يتأتى في كل جزء من أجزائه على الإنفراد، وإنما يتأتى فيه ذلك بانضمام بعض أجزائه إلى البعض، وإن لم يطعم منفرداً أطعم مضموماً، لذلك نقول، وإن لم يتأتّ الكيل في الحبة والحبتين منفردة يتأتى فيهما مضمومة؛ لأن الوسق وما فوقه مجموع أجزاء لا يتأتى في كل واحد منها على انفراده الطعم، ومجموع حبات لا يتأتى فيها ذلك منفردة -أعني الكيل- فمهما انفصلوا به انفصلنا بمثله، فأما الكلام في ترجيح أحد العلتين على الأخرى فسيأتي فيه الكلام إن شاء الله تعالى.
فصل:في طريق وجود العلة في الأصل والفرع
اعلم أن طريق وجود العلة فيهما قد تكون أمارة تُفْضِي إلى الظن، وقد تكون دلالة تقضي بوجودها فيهما، أو ضرورة، ولا فرق بين هذه الأقسام في صحة القياس؛ لأنه إذا جاز أن يعلق الحكم بما ظنه علة الحكم جاز أن يعلق الحكم بما ظن وجوده من علة الحكم، ألا ترى أنا نظن مجيء المطر إذا ظننا بخبر من ظاهره الصدق وجود الغيم، كما نظن ذلك وإن علمنا وجود الغيم فإذا جاز لنا التسوية بين الأصل والفرع إذا ظننا اشتراكهما في الأوصاف جاز ذلك مع العلم المكتسب لاشتراكهما في الأوصاف، وكان جواز ذلك في العلم الضروري باشتراكهما في الأوصاف أحق، وهذا التفصيل ذكره شيخنا وهو مستقيم عندنا.
فصل: الكلام في أنه لا بد للقياس من علة وطريق إليها
وذكر شيخنا رحمه الله تعالى أنه لا بد للقياس من علة وأنه لا بد أن يكون إليها طريق وهذا صحيح عندنا؛ لأن القياس على غير علة -تجمع بين الأصل والفرع- يكون لاحقاً بالتبخيت، وما لا يجوز استعماله في الشريعة من العمل على ما لا يوجب العلم ولا الظن، وذلك لا يجوز.
فأما أنه لا بد من طريق إليها: فلأن القول بغير ذلك يؤدي إلى تجويز التعبد بما لا يمكن وذلك لا يجوز أيضاً، ثم القايس لا يخلو: أما أن يُثْبِتَ الحكمَ في الفرع تبعاً لثبوته في الأصل، أو لا يثبته تبعاً له، فإن لم يثبته تبعاً له كان مبتدياً بالحكم غير قايس، وإن أثبت الحكم في الفرع تبعاً لثبوته في الأصل ولم يعتبر شبهاً بين الأصل والفرع، لم يكن بأن يتبع الفرع هذا الأصل بأولى من أن لا يتبعه إياه، أو لا يتبعه أصلاً آخراً، ويجب أن يكون لذلك الشبه تَعلُّقٌ بالحكم وتأثير فيه، وإلا لم يكن القياس بأن يعتبر بذلك الشبه بأولى من أن لا يعتبر به، ويعتبر شبه آخر بين الفرع وبين أصل آخر أو لا يعتبر شبهاً أصلاً، وطريق العلّة الشرعية ليس إلا الشرع فقط؛ لأن طريق العلة الشرعية متى لم يكن نصاً أو إجماعاً إنما هو كيفية ثبوت حكمها وتأثيرها فيه نحو أن يثبت حكمها معها في الأصل وينتفي بانتفائها، ولا يكون ثم ما يكون تعليقه به عند المجتهد أولى، ومعلوم أن ذلك موقوف على الشرع وكيفية ثبوته بحسب العلّة حاصلان بالشرع فقط، والنص والإجماع طريقان شرعيان، وهذا التفصيل ذكره شيخنا رحمه الله تعالى.
فصل: في أقسام العلل الشرعية
اعلم أن العلل الشرعية تنقسم إلى معلوم وغير معلوم، وغير المعلوم ينقسم إلى: مستنبطةٌ وغير مستنبطة.
فالمعلومة: هي كل نص من الله سبحانه، أو نص من رسوله صَلَّى الله عَلَيْه وآله وَسَلَّم، أو نص من الأمة متواتر، أو طريقة من الإستنباط يوصل النظر فيها على الوجه الصحيح إلى العلم.
وغير المعلومة: تنقسم إلى استنباط وغير استنباط؛ فالاستنباط: هو ما لا يرجع فيه إلى نصّ ولا إجماع وإنما نعرفها بتأثيرها في حكمها عند البحث.
وحكى شيخنا رحمه الله تعالى أنها تنقسم ثلاثة أقسام:
أحدها: أن يكون الوصف مؤثراً في قبيل ذلك الحكم ونوعه في الأصول، فيكون أولى بأن يكون علة من وصف لا يؤثر في نوع ذلك الحكم، ولا يؤثر فيه بعينه؛ لأن العلة تؤثر في الحكم فما لا يؤثر في الحكم لا يكون علة، وذلك كالبلوغ فإنه مؤثر في رفع الحَجْر فكان أولى بأن يكون علة في رفع الحجر في النكاح من الثيوبة؛ لأن الثيوبة لا تؤثر في جنس هذا الحكم الذي هو رفع الحَجْر.
وثانيها: أن يوجد الحكم في الأصل عند حصول الصفة وينتفي عند انتفائها، وذلك يقتضي أن لتلك الصفة من التأثير في ذلك الحكم ما ليس لغيرها.
وحكى شيخنا رحمه الله تعالى عن الشيخ أبي الحسين البصري أن هذه الطريقة معتمدة في المؤثرات العقلية.
وحكى قاضي القضاة أن الشيخ أبا عبدالله كان لا يعتمدها ويقول: يجب أن يقوى بغيرها، وكان شيخنا يصحح ما ذهب إليه أبو عبدالله، ويحتج له بأن الشرط قد ينتفي المشروط بانتفائه، ويثبت بثباته في الأصل، وإن لم يكن علة فيه، فيجب أن يقال إن العلة هي ما يثبت الحكم بثبوته وينتفي بانتفائه، وليس هناك ما تعليق الحكم به أولى، فيصح بذلك كونها علة في العقليات موصلة إلى العلم.
وأما في الشرعيات فإنه رحمه الله تعالى صححها، وإن لم يشرط فيها هذا الشرط، قال: لأن مدار أكثر العلماء في الشرعيات على الظن، وهذه وإن تعرت من هذا الشرط يحصل بها الظن المقارب للعلم، فيعمل عليها إلا أن عندنا اشتراط أن لا يكون ثم ما تعليق الحكم به أولى [لأنه إذا(1)] لم يغلب في ظنه صحة العلة فلا يغلب في ظنه صحة الحكم، ولا يجوز العمل على ما هذا حاله عقلاً ولا شرعاً.
__________
(1) - هناك في الأصل المصور إشارة لم تبن فأثبتنا هذه الزيادة ليستقيم الكلام.
وثالثها: أن تجمع الأمة والقايسون على تعليل أصل، ويختلفوا في تعليله فيبطل جميع ما يجعلونه علة فيه إلا علة واحدة، فإنا نعلم صحتها؛ لأنها لو فسدت لخرج الحق عن أقاويل الأمة، وهذه العلة التي يحصل العلم بها من طريق الإستنباط، فهذا هو الكلام في العلل المستنبطة.
وغير الإستنباط: هو ما يتأتى من علل الأحكام عن النبي صَلَّى الله عَلَيْه وآله وَسَلَّم من طريق الآحاد، ولا يحصل لنا العلم بخبرهم بأن رسول الله صَلَّى الله عَلَيْه وآله وَسَلَّم نصّ على علّة الحكم أو أشار إليها أو نبه عليها، وكذلك ما أتانا عن الأمة بهذه الطريقة.
وقد قسّم شيخنا رحمه الله تعالى الألفاظ المنبهة على علّة الحكم على أربعة أقسام، وجعل لكل قسم منها مثالاً:
أحدها: أن يكون في الكلام لفظ غير صريح في التعليل يعلق الحكم بعلته [كتعليق(1)] الحكم على علته بلفظ الفاء نحو قوله تعالى: {فَإِنْ كَانَ الَّذِي عَلَيْهِ الْحَقُّ سَفِيهًا أَوْ ضَعِيفًا أَوْ لَا يَسْتَطِيعُ أَنْ يُمِلَّ هُوَ فَلْيُمْلِلْ وَلِيُّهُ بِالْعَدْلِ} [البقرة:282]، فإنه يدل على أن العلة في قيام وليه بالإملاء هو أنه لا يستطيع أن يملَّ هو.
وثانيها: أن يعلم الحكم من النبي صَلَّى الله عَلَيْه وآله وَسَلَّم عند أن يصفه المحكوم عليه موصوفاً بصفة فنعلم أن تلك الصفة علة الحكم نحو أن يسأل النبي صَلَّى الله عَلَيْه وآله وَسَلَّم عن ذلك الحكم ويذكر صفة لذلك الشيء مما يجوز كونه علة مؤثرة في ذلك الحكم، فيجيب النبي صَلَّى الله عَلَيْه وآله وَسَلَّم عند سماعه بجواب، [نحو أن(2)] يقول قائل: يا رسول الله: (أفطرت)، فيقول: ((عليك الكفارة))، فيعلم أن الكفارة وجبت عليه لأجل الإفطار إذ لو لم يكن الإفطار مؤثراً في ذلك لما أوجبها عند سماعه، كما لا يجوز إيجابها عليه إذا سمع أنه نسي أو تحدث.
__________
(1) ـ هذه الكلمة من المعتمد نظراً لعدم وضوح الكلمة في الأصل.
(2) - هذه زيادة.
وثالثها: أن تكون الصفة مذكورة على حد لو لم تكن علة لم يكن لذكرها فائدة، نحو أن يكون الكلام مذكوراً بلفظ إن كما روي أنه عليه وآله السلام امتنع من الدخول إلى قوم وعندهم كلب فقيل: إنك تدخل إلى آل فلان وعندهم هر، فقال: ((ليست الهرة بنجسٍ إنها من الطوافين عليكم والطوافات(1)))، فلو لم يكن لكونها من الطوافين تأثير في طهارتها، لم يكن لذكره عقيب حكمه بطهارتها فائدة، إلى غير ذلك من أقسام هذا الضرب التي يطول ذكرها في هذا الموضع.
ورابعها: أن يقع النهي عن فعلٍ ما أباحه لنا لأجل منعه لنا عن فعل واجب علينا، فنعلم أن العلة في كونه محرماً كونه مانعاً لنا عن الواجب، وإن لم يصرح بذلك كقوله تعالى: {فَاسْعَوْا إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ وَذَرُوا الْبَيْعَ} [الجمعة:9]، لما أوجب علينا السعي ثم نهانا عن البيع المانع من السعي علمنا أنه إنما نهانا عنه؛ لأنه مانع من الواجب.
__________
(1) ـ لو لم يكن ذكر النجاسة للتعليل للزم إخلاء السؤال عن الجواب، وتأخير البيان وذلك بعيد جداً فيحمل على التعليل دفعاً للإستبعاد. تمت قسطاس.
وقد رواه الإمام أحمد بن عيسى في رأب الصدع (1/138) رقم (163)، والإمام المؤيد بالله في شرح التجريد، والإمام أحمد بن سليمان في أصول الأحكام، والأمير الحسين في الشفاء.
وأخرجه البيهقي (1/246) رقم (1098)، وأحمد (5/303)، والنسائي (1/55)، والدارقطني (1/70)، والحاكم (1/159)، والطحاوي في مشكل الآثار (3/270)، والدارمي (1/187)، وابن خزيمة (1/54) رقم (103)، وابن حبان (4/114) رقم (1299)، والترمذي (1/153) رقم (92)، والطبراني في الأوسط (1/116) رقم (364).
مسألة:[الكلام في الإختلاف في تعليل الأصل]
فأما إذا اختلفوا في تعليل الأصل فعلله بعضهم ولم يعلله البعض الآخر، ثم اختلف معللوه فعللوه بعلتين، ثم فسد أحد العلتين، فإن فسادها لا يغير الحق في الأخرى؛ لأنه ليس في فسادها خروج الحق عن أيدي الأمة؛ لأن الذين اختلفوا في التعليل في الأصل هم بعض الأمة.
قال شيخنا رحمه الله تعالى: فكذلك لا يكون في سلامتها من وجوه الفساد ما يدل على صحتها.
واعلم أن الكلام ينبغي أن يحقق، ونحن إنما فرضنا الكلام في علة شرعية، ولا تكون علة شرعية إلا بأن تؤثر في الحكم حتى يثبت بثبوتها، ويزول بزوالها كما قدمنا، وإذا أُجري عليها هذا الحكم ثم لم يعترضه من الوجوه التي توجب فساد العلل وجه فإنا نقضي بصحتها لسلامتها من وجوه الفساد وكونها على الوجه الذي قدمنا، ولا يكفي في ذلك مجرد سلامتها من الوجوه التي تقضي بفسادها كما لا يكفي في كون الخبر صدقاً مجرد سلامته مما يقضى بكونه كذباً؛ لأنه قد لا يقتضي أمراً بكونه كذباً، ولا يجوز لنا القطع على كونه صدقاً، فإذا لم يدل دليل على صحتها في الأصل لم يطلق عليها اسم العلّة الشرعية بل يقال: علة فاسدة، أو علة غير صحيحة، أو علة لم تقم دلالة على صحتها على سبيل التوسع والمجاز في تسميتها علة.
وكان شيخنا يؤمي إلى أن قاضي القضاة قضى بصحة العلة الشرعية إذا لم يعلم فسادها، وإن لم تقم دلالة على صحتها؛ لأن التعبد بالقياس واجب ما أمكن.
إلا أنا نقول: إن العلة إذا لم تقم الدلالة على صحتها كان القياس عليها غير ممكن؛ لأن تعليق الحكم بما لا دليل على صحته يفتح باب الجهالات، وإن لم يظهر عليه من الأدلة ما يقضي بفساده.
مسألة:[الكلام في مجاورة الحكم لأحد الأوصاف]
ذكر بعض من تكلم في أصول الفقه أن كون الحكم مجاوراً لأحد الوصفين دون الآخر دلالة على أن ما جاور الحكم هو العلة دون الآخر.
وكان شيخنا رحمه الله تعالى لا يصحح هذا القول بل يقضي بفساده؛ لأنه إن كان الحكم المجاور للوصف يحصل الحكم عند حصوله وينتفي عند انتفائه، سواء وجد الوصف الآخر أو لم يوجد، ولا شك أنه العلة دون الوصف الآخر؛ لأنا قد بينا فيما تقدم أن ذلك معنى العلّة.
قال: وإن لم يوجد بوجود وصف آخر ولا ينتفي بانتفائه فلا يجوز أن تعد تلك طريقة أخرى سوى ما قدمنا، وإن أراد أن الحكم قد يتجدد عند تجدد أحد الوصفين ولا بد من تقدم ثبوت الوصف الآخر، فذلك لا يدل على أن أحد الوصفين هو العلة وحدهُ؛ لأنه ليس يكفي حصوله وحده كالرجم المتجدد استحقاقه عند تجدد الزنا ليس يكفي فيه الزنا إلا بعد تقدم الإحصان فوجب اعتبارهما، وأن الإحصان شرط لا علة؛ لأنه لا يجوز أن يستحق عليه العقوبة.
وكلام شيخنا في هذا التعليل يحتمل كما ترى لأنه قال: لا يكون أحد الوصفين علة وَحْدَهُ ثم صرّح بعد ذلك بأنه شرط وهو الصحيح؛ لأن العلة هي ما يؤثر في الحكم، والإحصان لا تأثير له فيه؛ لأن العقوبة لا تستحق عليه كما تقدم.
مسألة:[الكلام في أن طرد العلة لا يدل على صحتها]
طرد العلة لا يدل على صحتها عند شيوخنا، وهو الذي نختاره، وكان شيخنا رحمه الله تعالى يذهب إلى ذلك، ويحكي أنه المحكي عن أبي الحسن والشيخ أبي الحسين البصري.
وقال بعض الشافعية طردها يدل على صحتها، ومعنى طردها عندهم هو جريانها في فروعها.
والذي يدل على صحة ما ذهبنا إليه: أن جريانها في معلولاتها هو فعل المعلل، فكأن قائل هذا القول قال الذي يدل على صحة علتي أن أجري حكمها في أمثالها، ولا شك أن إجراء حكمها في أمثالها لا يدل على صحتها؛ لأن لخصمه بهذه الطريقة أن يقول: إن علتك هذه فاسدة؛ لأني لا أجري حكمها في أمثالها.ودليل آخر: وهو أن جريان العلة في فروعها إنما يصح بعد ثبوت كونها علة على ما شرطنا أولاً بالدلالة، فإذا لم يكن يصح إلا بعد صحة العلة فكيف تكون دلالة على صحّتها، ولأنه لو كان لا يقضى بصحة الحكم إلا بجريانها ولا تجري إلا بعد جريانها ولا تجري إلا بعد صحتها، وقف كل واحد منهما على صاحبه، وذلك يوجب أن لا يصح واحد منها، ويؤدي إلحاقها بباب المحال، فثبت أن الإستدلال على صحة العلة بجريانها لا يجوز.
فصل:[في أن الوصف لا يصح كونه علة حكم الأصل إلا والحكم موجود]
وذكر شيخنا رحمه الله أن الوصف لا يصح كونه علة حكم الأصل إلا والحكم موجود فينبغي أن ينظر القايس هل الحكم موجود في الأصل أم لا؟ فإن كان الحكم موجوداً في الأصل صحّ كون الوصف علّة في الحكم سواء سلم له خصمه أو نازعه؛ لأن تسليم الخصم لا يدل على صحة المذهب ما لم تقم عليه دلالة.
فأما إذا كان الحكم موجوداً في بعض الأصل دون بعض لم يمكن القايس رد الفرع إلى جميع الأصل، وإنما يرده إلى ما يثبت فيه الحكم دون ما عداه إلا أن يمنع من ذلك مانع من إجماع وغيره.
مسألة:[الكلام في أن التعليل بمجرد الإسم لا يجوز]
لا خلاف بين أهل العلم أن تعليل حكم الأصل بمجرد الاسم لا يجوز كمن يعلل تحريم الخمر بأن العرب سمتها خمراً؛ لأنه لا تأثير لذلك في التحريم؛ لأن الأسامي تابعة للمواضعة التي اختارها المتواضعون، والتحليل والتحريم إنما يقعان للمصالح والمفاسد، ولا يجوز كونها تابعة لاختيار الخلق، ويجوز تعليق التحريم بكونه خمراً ويراد بذلك فائدة قولنا خمراً لأن المرجع بذلك إلى صفات عليها الخمر يصح تعليق الحكم بها عند المجتهد.
وقال شيخنا رحمه الله تعالى: ويجوز تعليل الحكم بحكم شرعي لأنه لا يمتنع أن يكون لبعض الأحكام الشرعية تأثير في بعض فيبنى على ذلك حكم آخر نحو قولنا: طهارة مزيلة للحدث وغير ذلك، ولا يمتنع أن يكون المؤثر في الحكم مجموع صفات كثيرة، كما لا يمتنع أن يكون المؤثر فيه صفات قليلة، وذلك ثابت؛ لأنه لا يمتنع أن يكون لكل واحدة من الصفات قسط من التأثير في قوة ظن المجتهد، كما أن لخبر كل واحد من المخبرين قسط من التأثير في تقوية ظنه، بل في حصول العلم به، ولأن ذلك إذا جاز في القليل جاز في الكثير.
[الكلام في تعليل الحكم بجميع صفات الأصل]
فأما تعليل الحكم بجميع صفات الأصل فقد اختلفوا فيه.
فمنهم من قال بجواز ذلك وصحته.
ومنهم من منع منه.وحكى شيخنا رحمه الله تعالى اختلاف المانعين منه.
فمنهم من منع منه لأنه يوجب أن لا تتعدى العلة وذلك هو قول أبي الحسن وأبي عبدالله.
ومنهم من منع من ذلك لوجه آخر، وهو أنه لا يجوز أن يكون لجميع أوصاف الأصل تأثير في ثبوت الحكم؛ لأنه يجوز أن يكون في أوصاف الأصل ما لا تأثير له يتعلق به الحكم، وذلك هو قول قاضي القضاة وأبي الحسين البصري والحاكم، وكان شيخنا رحمه الله تعالى يذهب إليه، وهو الذي نختاره.
والذي يدلّ على صحة ما ذهبنا إليه: أن جميع أوصاف الأصل لا تخلو إما أن تكون وجه المصلحة أو دلالة عليها، ولا يجوز تعليق جميع أوصاف الأصل بالتأثير فيهما لأنا نعلم أنه لا تأثير لكون الخمر حمراء أو بيضاء أو جسماً أو مطعوماً على الإطلاق في تحريمها من جهة الشرع ولا من جهة العقل، وما لم يدل عليه أحد هذين الأصلين قضي بفساده.
فأما منع من منع من ذلك لأنه يؤدي إلى أن لا تتعدى العلة، وهو أبو عبدالله وأبوالحسن فلا يصح؛ لأن التعليل بالعلة التي لا تتعدى يصح المنع من التعدي، وتلك فائدة ظاهرة لا يفيدها النص، وسيأتي بيان ذلك إن شاء الله تعالى.
مسألة:[الكلام في أوصاف العلة إذا كان بينها وصف لا تأثير له]
وإذا كان بين أوصاف العلة وصف لا تأثير له في الحكم حتى لو عدم في الأصل لم يعدم الحكم، فإنا نعلم بذلك أنه لا يجوز كون العلة بمجموع تلك الأوصاف بل ينبغي أن يرفض منها ذلك الوصف؛ لأنه لو وجب أن يثبت في العلة ما لا يضر عدمه لوجب إثبات ما لا نهاية له من الأوصاف ومعلوم خلافه، فإن انتقضت العلة بفرع من الفروع متى أزلنا ذلك الوصف عن العلة فسدت العلة ولا يجوز ضم الوصف إليها لتسلم من النقض.
قال شيخنا رحمه الله تعالى: لأن العلة يجب أن يعلم صحتها أولاً؛ لأن حكم الأصل متعلق بها لأنها مؤثرة فيه، ثم تجري في الفروع، فإذا كان وصف منها غير مؤثر في حكم الأصل لم يجز كونه في جملة علته فوجب إسقاطه، وإذا سقط وانتقض ما عداه لم يجز كون مجموع الأوصاف علة، ولا ما عدا ذلك الوصف.
[الكلام في عكس العلة]
ويفارقُ عدمُ التأثير عكس العلّة، فإن عكس العلة لا يوجب فسادها عندنا.
ومعنى عكس العلة: هو أن يوجد حكمها في بعض المواضع مع عدمها وليس ذلك بممتنع؛ لأن العلة إن كانت وجه المصلحة فقد ثبتت المصلحة لوجه آخر كما أن الشيء يقبح لوجه ويقبح لوجه آخر، وإن كانت أمارة لذلك فقد يكون لثبوت الحكم أمارتين وأكثر من ذلك.
فأما عدم التأثير: فهو لأن لا يؤثر وصف من الأوصاف في الحكم، ويكون التأثير لغيره فلا يجوز ضم ما لا تأثير له إلى ما له تأثير.
مسألة:[الكلام في الخبر الوارد بخلاف قياس الأصول هل يقاس عليه أم لا؟]
الخبر إذا ورد بخلاف قياس الأصول؛ فقد حكى شيخنا رحمه الله تعالى اختلاف الناس في ذلك.
فمنهم من قال: يجوز القياس عليه على أي وجه ورد، وهم الشافعية، وجماعة من الحنفية، وهو مذهب أبي علي وأبي هاشم، وقال به القاضي في بعض المواضع، واختاره السيد أبو طالب عَلَيْه السَّلام.
وذهب السيد الإمام المؤيد بالله قدس الله روحه إلى أنه لا يجوز القياس عليه.
وذهب أبو عبدالله وأبو الحسين إلى أنه لا يجوز القياس عليه إلا في ثلاثة مواضع:
أحدها: أن يرد معللاً كما روي في الهر ((إنها ليست بنجس، إنها من الطوافين عليكم والطوافات)).
والثاني: أن يحصل الإتفاق على تعليله وإن اختلف في علته.
وثالثها: أن يكون الحكم الذي ورد به الخبر موافقاً للقياس على بعض الأصول وإن كان مخالفاً للقياس على أصول أخر.
وقال محمد بن شجاع البلخي: إذا كان الخبر الوارد بخلاف قياس الأصول غير مقطوع به لم يجز القياس عليه، فاقتضى قول هذا أن الخبر المقطوع به وإن ورد بخلاف قياس الأصول جاز القياس عليه، وما ذكره قاضي القضاة في موضع آخر وأبو الحسين البصري أنه إن كان مقطوعاً به جاز القياس عليه، وإن لم يكن مقطوعاً به ولم تكن علّته ثابتة بنص ولا تنبيه نص فقد اختلفا في ذلك.
فذهب قاضي القضاة إلى أنه يجوز القياس عليه كما يجوز القياس على سائر الأصول.
وذهب الشيخ أبو الحسين إلى أن ذلك موضع اجتهاد.
وكان شيخنا رحمه الله تعالى يذهب إلى تصحيح المذهب الأول، ويجوز القياس على الخبر الوارد بخلاف قياس الأصول سواء كان مقطوعاً به أو غير مقطوع، وسواء اتفقوا على العلة أم لم يتفقوا، وإن لم يوافق قياسه قياس بعض الأصول، وإن لم يرد معللاً، ولا منبهاً على علته، وكان يستدل على ذلك: بأن الخبر الوارد بخلاف قياس الأصول مشاركاً للأصول فيما لأجله جاز القياس عليها فيجب أن يشاركها في جواز القياس عليه، ومعنى ذلك أن القياس إنما جاز عليها لورود التعبد بالقياس، وكونه ممكناً فيها فإذا شاركها هذا الخبر في ذلك كان جارياً مجراها وجاز القياس عليه.
وعندنا أن الخبر إذا كان مقطوعاً به، أو اتفق على تعليله، أو ورد التنبيه على علّته، أو وافقه قياس أصل يعضده وقوى الظن بصحته جاز القياس عليه وإلا لم يجز.
والذي يدل على صحة ما ذهبنا إليه: أن الأصول إذا صارت معلومة أو مقاربة للمعلومة بفروعها وعللها لا بد أن تكون صارت أحكامها معلومة، فإذا ورد خبر غير معلوم ثم لم يتفق على تعليله ولم يرد نص على علته، ولا تنبيه نص(1)، لم يحصل الظن بصحته ولا يجوز العمل على ما لا تظن صحته.
__________
(1) ـ في النسخة: ولا تنبيه ولا نص، وليس بمستقيم مع ما تقدم ولعلها ما أُثبت، والله أعلم.
وكان شيخنا رحمه الله تعالى يجيز القياس عليه ويوجب الرجوع إلى الترجيح، ولا شك في سقوط قياس الخبر الوارد بخلاف قياس الأصول إذا رجح بينه وبين قياس الأصول؛ لأن لتقريرها تأثيراً في قوة الظن لصحتها إن لم يحصل العلم بصحتها، وكذلك لكثرتها وتظاهرها وإجماع الأكثر من العلماء، بل أهل الحق من العلماء على وجوب القياس عليها ثم تستقرى الأخبار الواردة بخلاف قياس الأصول فما وجد فيه الشرط الذي شرطنا جاز القياس عليه؛ لأنه جارٍ مجرى الأصول، وما لم يوجد فيه لم يجز القياس عليه، فما يصح القياس عليه لما قدمنا خبر الهر؛ لأن التنبيه على علته قد ورد.
ومما لا يصح القياس عليه خبر من أكل ناسياً في شهر رمضان؛ لأنه وإن ورد بلفظ التعليل فليس بتعليل على الحقيقة؛ لأن قوله صَلَّى الله عَلَيْه وآله وَسَلَّم: ((فإن الله أطعمك وسقاك(1))) لا يصح كونه تعليلاً لأن المريض المباح له الأكل، وكذلك الحائض يجب عليهما القضاء مع وجود هذه العلة؛ لأن الله أطعمهما وسقاهما ولم يسقط عنهما القضاء، وكذلك خبر الأفواه لا يجوز أن يقاس عليه سائر المجوفات كحرافيف الأذن وما شاكل ذلك، وكذلك خبر نبيذ التمر والقهقهة وسائر الأخبار الجارية هذا المجرى.
__________
(1) ـ أخرجه بألفاظ متقاربة في: سنن البيهقي الكبرى (4/229) رقم (7862)، وسنن الترمذي (4/384) رقم (2040)، والدارقطني (2/179) رقم (34)، ورواه الإمام الأعظم زيد بن علي في المجموع (120) بلفظ مقارب وهو بإسناده إلى علي -عَلَيْه السَّلام- قال: ((من أكل ناسياً لم ينتقض صيامه فإنما ذلك رزق رزقه الله عز وجل إياه)).
مسألة:[الكلام في أن إثبات أصول الشرائع بالقياس لا يجوز ابتداء]
اتفق أهل العلم أن إثبات أصول الشرائع بالقياس لا يجوز ابتداء وإن أمكن استعمال طريقة القياس فيه، وذلك كإثبات صلاة سادسة، وحج بيت آخر، وصوم شهرٍ آخر إلى غير ذلك، وإنما اختلفوا في سائر الفروع.
فمنهم من ذهب إلى أن المقادير نحو الكفارات، والنصب، والحدود، وما شاكل ذلك جارية مجرى أصول الشرائع المبتدأة فلا يجوز إثباتها بالقياس، وهو الذي حكاه شيخنا عن أبي حنيفة وأصحابه ومن طابقهم.
ومنهم من قال: إن الكفارات، والنصب، والمقادير، والحدود المنقولة، ووقوع الفعل على صفة بعد تقرر أصولها في الشريعة يجوز إثباتها بطريقة القياس، وحكاه شيخنا عن الشافعي وأصحابه، وهو الذي نختاره، وكان شيخنا رحمه الله يذهب إليه.
والذي يدل على صحته: ما قدمنا من الدلالة على وجوب استعمال طريقة القياس ما أمكن إذا تكاملت شرائطه، وقد أمكن استعمال طريقة القياس في هذه الأبواب فوجب القضاء بصحته.
أما أن استعمال القياس واجب ما أمكن، فقد تقدمت الدلالة على ذلك بما لا طائل في إعادته.
وأما أن استعمال القياس ممكن في هذه المسائل؛ فلأنا متمكنون من معرفة العلل التي لأجلها ثبتت الأحكام في هذه المسائل، فإذا وجدنا هذه العلل في مسائل أخر أجرينا عليها تلك الأحكام، وإلا انتقض كونها عللاً؛ لأن ذلك يؤدي إلى وجود المؤثر وزوال الموانع، فلا يظهر التأثير، وذلك لا يجوز فلو لم نقل بذلك أدى إلى رفع حكم القياس عن جميع المسائل، وقد بينا الدلالة على صحة استعمالها فيجب أن يقضى بفساد ما أدى إلى فساده من الأقوال.
فأما أنها تلحق بالأصول المبتداة فغير مسلم؛ لأن الأصول المبتدأة لا مجال للعقل فيها، ولا يمكننا معرفة عللها على التفصيل من حيث كانت غيوباً استأثر الله سبحانه بعلمها، فإذا تقررت الأصول وأمكننا معرفة علة وجوب شيء منها ووجدنا ما شاركه في تلك العلّة قضينا بمشاركته به في الحكم إذا علمنا أن وجه المصلحة فيهما واحد، ثم يجب عند ذلك استقراء المسائل مسألة مسألة، فما أمكن استعمال طريقة القياس فيه على ما ذكرنا قضي بوجوب القياس فيه، وما لم يمكن لم يجز استعمال طريقة القياس.
وقد حكى شيخنا رحمه الله تعالى عن الحنفية أنهم قطعوا أن استعمال طريقة القياس في المسائل التي قدمنا ذكرها غير ممكن.
والذي يدل على بطلان ما قالوه: أن أموال التجارة إنما وجب تقدير نصابها بأن تبلغ قيمتها مائتي درهم؛ لأنها أموال وجبت فيها الزكاة ولا نصاب لها في عينها فيجب تقويمها بما تجب فيه الزكاة وله نصاب في نفسه، وهو مائتا درهم، وقد وجب الإخراج عن الجملة بقوله سبحانه: {خُذْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ صَدَقَةً} [التوبة:103]، ثم علمنا أن هذه العلة قائمة فيما أخرجت الأرض من الخضراوات وما شاكلها؛ لأنها أموال وجبت فيها الزكاة ولا نصاب لها في نفسها فوجب تقويمها، لأنها قد شاركت أموال التجارة في علة الحكم فيجب أن تشاركها في الحكم وإلا عاد على أصل تلك العلة بالنقض والفساد، وقد ثبت صحتها، ولأن المنع من ذلك بغير دليل يؤدي إلى رفع حكم القياس عن الأصل بغير دليل وذلك لا يجوز، فمن أين يصح للحنفية دعوى القطع على أن استعمال طريقة القياس فيما ذكرنا غير ممكن وقد بينا بما قدمنا أنه واقع والوقوع فرع الإمكان؟!
مسألة:[الكلام في المنع من إثبات وجوب الوتر بالقياس]
فأما إثبات الوتر واجبة بطريق القياس (1) فإنا منعنا من جوازه لتعذر العلم بصحة العلة التي يثبت بها أصل القياس؛ لأن العلم بصحة علة ذلك الأصل يجب تقديمه على القياس، وعلة حكم الأصل غير معلومة في ذلك، فلا يجوز القياس على علة غير معلومة يستوي فيها الأصل والفرع.
__________
(1) - قال الإمام المؤيد -عليه السلام- في شرح التجريد في سياق إثبات سنية الوتر وبطلان وجوبه: فإن قاسوه على الواجبات من الصلوات بكونه مؤقتاً، كان ذلك منتقضاً بصلاة العيدين وبركعتي الفجر، على أنا نقيسها على النوافل بعلة أن لا أذان فيه ولا إقامة.
فأما الصلاة بإيماء الحاجبين فيمكن أن يعلم علة أصله؛ لأنه قد تقرر وجوب الصلاة في الأصل على مقدار ما يمكن من تلك الأفعال إلا الإيماء بالحاجبين فوجب؛ لأنه إشارة تفيد تعظيم المشار إليه ممكنة للمتعبد بالتعظيم، فوجب القضاء بوجوبها دليله الإيماء.
مسألة:[الكلام في تعليل حكم الأصل بعلتين]
وإذا علل حكم الأصل بعلتين لم يخل إما يكن المؤثر فيه مجموعهما، أو كل واحدة منهما وإن انفردت، فإن كان المؤثر فيه مجموعهما، ولم تكن واحدة منهما تؤثر فيه على الإنفراد كان مجموعهما علة، ولم تكونا علتين.
وإن كانت كل واحدة منهما مؤثرة فيه وجب القضاء بصحتها وإجراء حكمها في الفروع التي يمكن جريان الأحكام فيها، ولا مانع من ذلك؛ لأنهما إن كانا وجه المصلحة فلا يمتنع كون الشيء مصلحة لوجهين، وإن كانا أمارة المصلحة فلا يمتنع أن يقوم على الشيء أمارات أو أكثر كما نعلمه في الغيم المخصوص وسماع الرعد ومشاهدة البرق أن كل واحد منها أمارة تقضي غالب الظن بوقوع المطر.
ثم لا يخلو أن تدل كل واحدة منها على حكم أو لا تدل؛ فإن دلت كل واحدة منها على حكم الأصل قضي بصحتها ولم يمتنع ذلك؛ لأنه قد يقوم على الشيء دليلان وأكثر، وكذلك الدليل على حكم الأصل سواهما من نص أو إجماع لمثل ما قدمنا؛ لأن المعتبر في صحة العلل هو التأثير على الوجه الذي ذكرنا أن تكون دلالة؛ لأنه يجوز أن تكون الدلالة غيرها.
فأما إذا كان أحد العلتين الدليل على حكم الأصل دون الأخرى، فقد اختلف أهل العلم في ذلك.
فمنهم من أجاز تعليل الحكم بالعلة التي ليست بدلالة على حكم الأصل وأجراه مع العلة التي تجري مجرى علة حكم الأصل مع النص الدال على ثبوته، فكما أن النصّ على حكم لا يمنع من تعليله بعلّة إذا دلت عليه دلالة على تعلق حكمه بها فكذلك العلة الدالة على حكم الأصل يجب أن لا تمنع من صحة تعليله بعلة أخرى إذا دلّت عليه دلالة.
ومنهم من لم يجز تعليل الحكم بها بل قضى بفساده، وكان شيخنا رحمه الله تعالى يقول إن دل على صحتها نص أو تنبيه، وجب القضاء بصحتها وإلا وجب القضاء بفسادها.
واعلم أن الكلام فيها يبنى على ما قدمناه، فما كان له تأثير في علة الأصل قضي بصحتها سواء كان هو الدليل عليه أو غيره، وما لم يكن له تأثير في ذلك قضي بفساده؛ لأن اعتبار غير ذلك يخرج العلة عن معناها، وذلك لا يجوز.
مسألة:[الكلام في صحة العلة إذا لم تتعد]
اختلف أهل العلم في العلة إذا لم تتعد.
فمنهم من صححها على الإطلاق، وحكاه شيخنا رحمه الله تعالى عن الشافعية والقاضي والشيخ أبي الحسين البصري، وكان يذهب إليه.
ومنهم من قضى بفسادها على الإطلاق وهم أكثر الحنفية.
ومنهم من صححها في حال دون حال.
ثم اختلف هؤلاء:
فمنهم من قال: إن كانت معلومة أو معللة بالإجماع صحت، وإن كانت مستنبطة لم تصح، وحكاه شيخنا عن أبي عبدالله، والسيد أبي طالب عَلَيْه السَّلام، وهو الذي نختاره.
ومنهم من قال بفسادها إلا أن يدل عليها نص، وهو المحكي عن أبي الحسن الكرخي.
وكان شيخنا يستدل لما يذهب إليه بأن المنع من ذلك كان لا يخلو من أن يكون لأحد وجهين: إما لأنها لم تتعد إلى فرع مختلف فيه، أو لأنها لم تتعد إلى فرع أصلاً.
قال: فإن كان الأول كان فسادها وصحتها قد وقفا على اختيار الناس للإختلاف في الفرع والإتفاق فيه، وهذا فاسد لأن العلة إن كانت وجه المصلحة فوجوه المصالح إذا حصلت في الشيء اقتضت كونه مصلحة، وإن لم يقع الإتفاق عليه أو وقع.
وإن كانت أمارة على الحكم وعلى وجه المصلحة فالأدلة والأمارات لا تفسد بالإتفاق غير مدلولها، وإن قال بالثاني لم يصح أيضاً، وذلك لأن العلة الشرعية إذا دلت عليها الأمارة غلب على ظننا أنها وجه المصلحة، وإن لم تتعد؛ لأن وجوه المصالح قد تختص نوعاً واحداً، وقد تتعداه كما نقوله في وجوه القبح والحسن، فهذا جل ما أتى به شيخنا، ومثل المسألة بتعليل الشافعي في الدراهم والدنانير بكونها ثمنين للأشياء.
والذي يدل على صحة ما اخترناه: أن استنباط العلل الشرعية والعمل بمقتضاها في الأصول إنما علم حسنه ووجوبه بفعل من الصحابة وإجماعهم على ذلك فلا يجوز أن نعتبر فيه غير طريقهم، ولا نسلك غير منهاجهم؛ لأن خلاف ذلك يكون اتباعاً لغير سبيلهم ومخالفة لهم، وذلك لا يجوز؛ لأن المعلوم من حالهم أنهم لما عللوا الأصول واستنبطوا العلل ليجمعوا بها بين الفروع وبينها فيجرون عليها أحكامها، فمن جوز أن ينتزع من الأصل وصفاً لا يتعدى إلى فرع يكون قد سلك في القياس طريقة لم يسلكها الصحابة، ولم تؤخذ عنهم ويكون ذلك إثباتاً لما لم يثبتوه ويتعرى عن غرضٍ مثله، وذلك لا يجوز من حيث أنه يكون عبثاً والعبث قبيح فلا يجوز فعله، فلو جاز والحال هذه لجاز تعليل القرامطة والباطنية؛ لأنهم يعللون أصول الشريعة كالصلاة وصيام شهر رمضان والحج وغير ذلك أنها لا تتعدى ولا يريدون به إثبات حكم في الفرع، وذلك لا يجوز ولا يلزم مثل ذلك في العلة الثابتة بالنص والإجماع أو دلالة العقل؛ لأنها إذا كانت معلومة استفيد منها أن المصلحة في حكم الأصل متعلقة بها، وهذه الفائدة تخرج التعليل عن كونه قبيحاً من حيث كان لا يجري والحال هذه مجرى العبث، والمستنبطة بخلاف ذلك؛ لأنها إذا كان طريق ثبوتها الظن دون العلم لم نستفد منها هذه الفائدة، فإذا عريت عن هذه الفائدة وعن فائدة استجلاب حكم الفرع كان التعليل عبثاً ولا فائدة فيه.
وقد ذكر شيخنا رحمه الله تعالى أن تعذر تعديها وإجراء الحكم عليها يكون فائدة يخرجها عن العبث وذلك لا يصح؛ لأن تعذر تعديها هو بعينه الموجب لتعريها عن الفائدة فكيف يكون هو الفائدة؟ هل هذا إلا كقول من يقول: إن تَعَرِّي الشيء عن غرض مثله وتميزه بذلك فائدة تخرجه عن باب العبث، فكما أن ذلك لا يجوز كذلك هذا.
فأما ما ذكره رحمه الله تعالى من أن ذلك لا يخلو، إما أن يكون المنع منه لأنها لم تتعد إلى فرع مختلف فيه، أو لأنها لم تتعد إلى فرع أصلاً، ثم فرع الكلام على هذين النوعين، فقد بيّنا أن المنع من ذلك بغير هذين الوجهين، وهو أن القائل بذلك سلك غير طريق الصحابة في القياس، وذلك لا يجوز، ولأن العلة التي لا تتعدى يمكن الإستدلال بها على نقيض ما دلت عليه وقلبها وذلك يقضي بفسادها على ما يأتي بيانه.
مسألة:[الكلام في اختلاف العلة والحكم تغليظاً وتخفيفاً]
اعلم أن العلة قد تكون حكماً شرعياً ويكون حكمها أيضاً شرعياً؛ فإذا اختلف موضوعها، وموضوع حكمها، فكان أحدهما مبنياً على التغليظ، والثاني على التخفيف، هل يكون ذلك أمارة تقتضي أن لا تعتبر أحدهما بالأخرى أم لا؟
فالأولى عندنا: أن الدليل إذا قام على صحتها وأمكن العمل باشتراك الفرع والأصل في علة الحكم، وأنها مؤثرة فيهما معاً جاز اعتبار أحدهما بالآخر، وإنما الكلام في أن الدليل على ذلك هل يوجد أم لا؟ وذلك يخرج إلى كشف المسائل والكلام فيه ما قلنا.
مسألة:[الكلام في أنه هل يجوز إثبات الأسامي بالقياس أم لا؟]
اختلف أهل العلم في أنه هل يجوز إثبات الأسامي بالقياس أم لا؟
فمنهم من جوزه مطلقاً، وذلك قول جماعة من أصحاب الشافعي منهم أبو العباس بن سريج.
ومنهم من منع من ذلك على الإطلاق وذلك طريقة أصحاب أبي حنيفة.
ومنهم من فصل القول في ذلك، فقال: لا يجب ابتداء الأسامي بالقياس.
فأما إذا علم أن أهل اللغة وضعوا اسماً لمعنى أو صفة ولم يخصوا به نوعاً أو جنساً، ثم وجد ذلك المعنى في موضع آخر جاز أن يقاس عليه، ولا يجوز إثبات الاسم اللغوي قياساً على الشرعي، وذلك هو قول جماعة من المتكلمين منهم القاضي وأبو رشيد وأبو الحسين البصري، والحاكم واختيار السيد أبي طالب عَلَيْه السَّلام، وكان شيخنا رحمه الله تعالى يذهب إليه، ونحن نختاره.
والذي يدل على صحة ما ذهبنا إليه: أنه لا بد للقياس من أصل يرجع إليه في تصحيح حكم الفرع وإلا لم يكن قياساً، والإبتداء في إثبات الأسامي بالقياس لا يصح؛ فإذا علم أن أهل اللغة وضعوا اسماً لمعنى أو صفة كما شرطنا أولاً، ثم وجد ذلك المعنى على الوجه الذي ذكرنا فإنه يجوز أن نقيسه عليه ويجرى عليه ذلك الاسم، كما نقول فيمن علم من أهل اللغة أنهم سموا ما حلَّه البياض من الأجسام أبيض لمجرد حلول البياض فيه، فإذا زال البياض عنه لم يسموه أبيض؛ فإنا إذا وجدنا جسماً غائباً منهم والبياض حال فيه، فإنا نسميه أبيض قياساً على تسميتهم.
فأما إثبات الأسماء اللغوية بالأقيسة الشرعية لإثبات الأحكام الشرعية فذلك لا يجوز، لأن اللغة متقدمة على الشرع فلم يأت الشرع إلا بعد تقررها، بل لم يتوصل إلى معرفة الأسامي الشرعية إلا بعد معرفتها؛ لأن الله سبحانه خاطبنا بها فلو أثبتناها بالأقيسة الشرعية لكنا قد جعلنا الفرع على ثبوت الشيء أصلاً فيه، وذلك لا يجوز كما لا يجوز أن نقيس البر على الأرز في التحريم.
وأما إثبات الأسامي الشرعية بالقياس فجائز، كما قدمنا في إثبات الأسامي اللغوية بالقياس على الوجه الذي ذكرنا.
ومعنى ذلك: أن نعلم أن أهل الشرع سموا مسمى باسم مخصوص باختصاصه بصفة، ونجد تلك الصفة ثابتة في غيره فنسميه بذلك الاسم قياساً.
ومثاله: أن يعلم أنهم سموا غسل أعضاء مخصوصة على بعض الوجوه وضوءاً، فنجد على تلك الصفة والوجه غسلاً في مكان آخر فنسميه وضوءاً، ويجري عليه حكم الوضوء.
فأما أبو العباس بن سريج فإن كان منع من إثبات الأحكام في الفروع بالعلل فذلك باطل؛ لأنّا قد بينا صحة إثبات الأحكام في الفروع بالعلل، بل ذلك هو الصحيح ألا ترى أنا نعلل تحريم الأرز بدليل أنه مكيل جنس ولا نعتبر ذلك بتسميته براً ولو اعتبرناه لما أفاد.
وإن أراد أن العلل قد يتوصل بها إلى الأسامي في بعض المواضع ثم يتوصل بتلك الأسامي إلى الأحكام وتكون العلل شرعية والأسماء لغوية كما يقول أبو العباس: إني أُثبت اسم الزنا بوطي البهيمة بعلة أنه وطي غير مستباح، فوجب أن يسمى زنا كوطي الآدمية ثم أوجب الحد بالدلالة الشرعية، وهي قوله سبحانه: {الزَّانِيَةُ وَالزَّانِي فَاجْلِدُوا كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مِائَةَ جَلْدَةٍ} [النور:2]، وأُثبت اسم الخمر المطبوخ المسكر بعلّة ما فيه من الشدة المطربة الموجبة للسكر، ثم أستدل على تحريمه بالنص الوارد بتحريم الخمر، وأثبت كون الشفعة تركة قياساً على سائر التركات ثم أستدل على كونه موروثاً بقوله تعالى: {وَلَكُمْ نِصْفُ مَا تَرَكَ أَزْوَاجُكُمْ} [النساء:12].
والذي يدل على بطلان ما ذهب إليه أبو العباس في هذه المسائل: ما قدمنا من أنه لا يجوز إثبات الأسامي اللغوية بالقياس إلا إذا علمنا أنهم قصدوا بذلك الاسم مسمى يختص بمعنى أو صفة، ثم وجدنا ذلك المعنى في غيره، فإنا نقيسه عليه.
فأما إذا وجدناهم سموا مسمى لمعنى من المعاني إذا كان من قبيل مخصوص فلا يجوز القياس عليه، ألا ترى أنهم سموا ما اجتمع فيه البياض والسواد أبلق، إذا كان من جنس الخيل، فلا يجوز لنا تسمية الغراب الذي يجتمع فيه البياض والسواد أبلق، ولا الثور؛ فإذا كان ذلك كما ذكرنا لم يمتنع أن يسموا العصير التي دون المطبوخ خمراً دون المطبوخ، وكذلك لا يمتنع تسميتهم للوطي زنا إذا كان في حيوان مخصوص كالآدميين، وكذلك لا يمنع تسميتهم للثابت من الحقوق تركة عيناً أو ديناً دون ما لم يثبت، والمثبت بهذا القياس والحال هذه مثبت للحكم بغير دلالة، وذلك لا يجوز.
مسألة:[الكلام في أن إثبات الحكم بالقياس يصح وإن لم يرد النص بإثباته]
ذهب الشيخ أبو هاشم إلى أنه لا يجوز إثبات الحكم بالقياس إلا فيما ورد النص بإثباته فيه على جملة أو تفصيل، فيكون القياس تفصيلاً لتلك الجملة كما نقوله في الجد لو لم يكن مذكوراً بالنص هل كان يجوز توريثه بالقياس مع الأخ، وكذلك الأخ لو لم يكن وارثاً بالنص هل كان يصح توريثه بالقياس مع الجد أم لا؟
فعند أبي هاشم: لا يصح.
وذهب قاضي القضاة إلى أن إثبات ذلك بالقياس يصح، وإن لم يرد به النص مجملاً ولا مفصلاً، وهو مذهب الفقهاء، واختاره الشيخ أبو الحسين البصري والحاكم، وكان شيخنا يذهب إليه، وهو الذي نختاره.
والذي يدل على صحته: أن الأدلة التي تدل على وجوب استعمال القياس لم تفصل بينما تقدمه النص وبين ما لم يتقدمه نص، والفصل بغير دلالة لا يجوز، ولا دلالة على الفصل بين ذلك لا شرعية ولا عقلية، ولأن الصحابة أجمعت على استعمال القياس فيما لم يتقدم فيه النص بجملة ولا تفصيل، وذلك ثابت في قياسهم في مسألة الحرام، ولم يتقدم فيه حكم شرعي راموا تفصيله بل أثبتوا بمقايستهم أصل الحكم، وكذلك القول في كتابة الطلاق، وقد قاس مثبتوا القياس الأرز على البر وإن لم يتقدم فيه نص بتحريم إلى غير ذلك.
مسألة: في قلب العلة والكلام في معناها وحكمها
فمعنى قلب العلة: أن تعليل المعلل الحكم بعلة يروم إثبات حكم الفرع بها قياساً على الأصل فيعتمد النافي لذلك الحكم فيقلب تلك العلة بعينها على المعلل الذي هو خصمه، ويثبت بها نقيض ذلك الحكم، وذلك كأن يعلل الحنفي وجوب الصوم على المعتكف، بأن الإعتكاف وقوف في موضع مخصوص على وجه القربة فلا بد من ضم أمر آخر إليه وهو الصوم، دليله الوقوف بعرفة، فيقول الشافعي علتي علتك ودليلي دليلك، والذي يدل على أن الصوم غير واجب على المعتكف أنه وقوف في موضع مخصوص على وجه القربة فلم يكن من شرطه الصوم، دليله الوقوف بعرفه.
واعلم أن كل قياس أدى الإستدلال به مع اعتبار علته وشرطه إلى نقيض حكمه الذي فرعه منه المستدل، أو إلى المنع من صحته فإنه يجب القضاء بفساد ذلك القياس غير أن ذلك لا يتأتى في القياس الصحيح أبداً، وإنما يتأتى هذا القلب في هذه المسائل؛ لأن عللها لن تعتبر صحتها بتأثيرها في الأحكام فأمكن أن تقلب.
فأما في العلل التي تؤثر في الحكم فإنه لا يصح أن يثبت لها نقيض حكمها فيما يعلم على التفصيل.
فأما فيما يعلم على الجملة فقد يمكن أن يفسر أحد الخصمين الجملة بنقيض ما يفسرها الخصم الآخر، كأن يقول الحنفي: الإعتكاف ليس في مكان مخصوص على وجه القربة فلا بد من اعتبار معنى ما يضم إليه هو الصيام دليله الوقوف بعرفة، فيقول الشافعي: الإعتكاف وقوف في موضع مخصوص على وجه القربة فلا بد من اعتبار معنى ما هو إليه دليله الوقوف بعرفة.
مسألة: في تخصيص العلة
اعلم أن العلة قد يوجد معناها في فرع من دون حكمها، وقد يوجد لفظها ومعناها في فرع من دون حكمها، فالأول هو المعبر عنه بكسر العلة، وذلك كأن ترفع وصفاً من أوصاف العلة ظناً أنه لا تأثير لذلك الوصف، وأن الذي يجوز أن يؤثر في الحكم ما عداه ثم ينتقض ما عداه.
مثاله: أن يعلل معلل وجوب صلاة الخوف بأنها صلاة يجب قضاؤها كصلاة الأمن، فيظن المعترض أنه لا تأثير لكون العبادة صلاة في هذا الحكم فيرفعه من أوصاف العلة، ثم ينتقض ذلك بصوم الحائض، فإنه يجب قضاؤه وليس بواجب وينبغي للمعلل إذا أراد أن يجيب عن ذلك أن يبين أن لكون العبادة صلاة في الحكم المعلل تأثيراً، وأن الصلاة تخالف الصوم في هذا الباب.
والكلام في هذه المسألة ينبني على أن هذا الوصف المتروك إن كان له تأثير في الحكم وجب ضمه لتصحيح العلة، وإن لم يؤثر في الحكم لم يكسر العلة إطراحه.
فأما العلة إذا انكسرت بأمر يختص الفرع ولا يمكن تصحيحه بما هو موجود في الأصل، فإن ذلك يقضي بفساد العلة لا محالة؛ فإن أمكن تصحيح العلة من نفسها بذكر وجه من وجوهها قضي بصحتها وإلا كان كسرها مؤذناً بفسادها.
مسألة:[الكلام في نقض العلة]
وأما نقض العلة وهو المعبر عنه بتخصيص العلة، فقد اختلف أهل العلم في جواز تخصيص العلة على ثلاث فرق:
فذهب المتقدمون من أصحاب أبي حنيفة إلى جواز تخصيص العلة منصوصة كانت أو مستنبطة وهو قول مالك، ونصره الشيخ أبو عبدالله، وحكاه عن أبي الحسن، واختاره السيد أبو طالب عَلَيْه السَّلام، وظاهر كلام شيخنا رحمه الله يقضي بأنه كان يعتمده ويرجحه، وإن كان قد احتج للمذهبين جميعاً، وربما يجري في كلام ش، وربما يجري خلافه، قال شيخنا: وهو الأظهر وأحسب أنه يعني المذهب الأول.
وذهب قوم إلى أنه يجوز تخصيص العلة المنصوصة ولا يجوز تخصيص العلة المستنبطة وهو قول ش، وهو مذهب طائفة من أصحابه.
وذهب قوم إلى أنه لا يجوز تخصيص العلة منصوصة كانت أو مستنبطة، وذلك هو قول جماعة من أصحاب ش، وجماعة من أصحاب أبي حنيفة، وتأولوا مسائل الإستحسان على وجوه، وهو اختيار القاضي والشيخ أبي الحسين البصري، وعمدتهم: أن كون العلة علة يوجب إطراحها وجريانها في فروعها فإذا وجدت في بعض الفروع ولم يوجد حكمها انتقض كونها علة ووجب القضاء بفسادها لذلك.
واختيارنا هو المذهب الأول.
والذي يدل على صحته: أن العلل الشرعية ليست بعلل حقيقية موجبة للأحكام؛ لأنها قد كانت موجودة قبل الشرع مع انتفاء تلك العلة، فلو كانت عللاً حقيقية لما وجدت معلولاتها مع انتفائها كما نعلمه في العلل العقلية، وإنما هي أمارات يحصل عندها الظن بالأحكام، والأمارات لا تمنع أن يقع في إيجابها للظن تخصيص بأن يقترن ببعضها أمر يمتنع أن يحصل لأجله من الظن ما يجب حصوله عند أمثاله من الأمارات، وهذا أمر يعلمه العاقل من نفسه، ألا ترى أن الأحوال التي يختص بها زيد من ظاهر الستر والعفاف والأمانة تكون أمارة لنا في وقوع الظن بعدالة من يزكيه، ثم يحصل في هذه الأمارة تخصيص حتى لا يتبعه الظن في بعض الأحوال، إذ لو قيل لنا في بعض من يزكيه إنه ابنه، أو ذو رحم منه، أو من بينه وبينه مودة وخلطة، فربما لم يحصل عند تزكيته له من الظن ما حصل من التزكية لغيره من الأجانب، فقد ثبت بهذه الجملة أن حصول الظن عند الأمارات يجوز أن يحصل فيه تخصيص، فلا يقع من الظن عند أمارة مخصوصة ما يقع عند أمثالها.
وقد كان شيخنا رحمه الله تعالى يمثل ذلك بما نعلم أنا إذا رأينا مركوب القاضي على باب الأمير فإن ذلك أمارة قوية لكون القاضي في دار الأمير، وقد نرى مركوب القاضي على باب الأمير فلا نظن كونه في دار الأمير، بأن نرى المركوب مع غلام غيره، فيجوز أنه استعاره.
فإن قيل: إن تعليلكم هذا يوجب أن العلة ليست مجرد الأمارة بل هي الأمارة مع تعريها من الأمر المانع من وقوع الظن عند أمثالها، فالموضع الذي توجد فيه الأمارة مع فقد الظن يعلم أنها لم تكن أمارة من حيث اقترن بها ما يمنع من كونها أمارة للظن، فلا يكون قد حصل في الأمارة تخصيص بهذا، وهذا يؤدي إلى أن القول بتخصيص العلة غير صحيح، وأن مذهب الجميع في ذلك واحد.
قلنا: إن الظن الذي يحصل عند وجود أمثال هذه الأمارة يتعلق بمجردها من غير أن يخطر بالبال حال المانع، وإنما يؤثر حال المانع في وقوعه عند بعضها، فمنع من أن يوجد، وهذا يبين أن المانع إنما يؤثر في انتفاء وقوعه عند بعض الأمارات في بعض الحالات؛ فأما وقوعه حيث يقع فإنما يتعلق بمجرد الأمارات، ونحن نعلم ذلك من أنفسنا ولا يمكنهم أن يقولوا إن تجويز المانع يجب أن يقدح في وقوعه عندنا؛ لأنا نعلم أن هذا التجويز لا يمنع منه كما أن العلة الثابتة بالطريقة التي تثبت بها العلل لا يقدح في الظن بكونها علة، وتعليق الحكم بها تجويز وجوب علة أخرى تترجح عليها، وإن كانت لو وجدت لم يحصل الظن بحكم العلّة الأولى، وإذا ثبت ما ذكرنا لم يمتنع أن يتعلل الحكم الشرعي بعلة ثم يقترن بمثلها في بعض المواضع ما يخرجها من كونها علة لمانع يخص ذلك الموضع.
مثال ذلك: ما يقوله أصحاب أبي حنيفة إنه إذا ثبت أن ما لا يكون حدثاً خارج الصلاة لا يكون حدثاً، اقتضت هذه الأمارة الظن أن القهقهة في الصلاة لا تنقض الوضوء، فمتى ورد نصّ يخصّ القهقهة بأنها ناقضة له حصل عندها من الظن ما لا يحصل عند تجردها، وهذا يبين أن تخصيص العلة الشرعية جائز.
وكان شيخنا رحمه الله يمثل ذلك: بأنّا نعلم أن تحريم بيع الموزونات ببعض نسأ كالحديد والنحاس وما شاكلهما مع الوزن، ويجوز مع ذلك بيع سائر الموزونات بالذهب والفضة نسأ مع ثبوت العلة فيهما وهو الوزن.
مسألة:[الكلام في فحوى الخطاب هل هو قياس أم لا؟]
اختلف أهل العلم في فحوى الخطاب هل هو قياس أم لا؟
فذهب جماعة إلى أنه قياس وذلك هو قول الشيخ أبي الحسين البصري، وكان شيخنا رحمه الله تعالى يذهب إليه، وهو الذي نصره في كتابه الموسوم بالفائق في أصول الفقه.
وذهب جماعة إلى أنه ليس بقياس، وهو قول القاضي والحاكم.
ومثال المسألة: قوله تعالى: {فَلَا تَقُلْ لَهُمَا أُفٍّ وَلَا تَنْهَرْهُمَا} [الإسراء:23]، هل المنع من ضربهما وشتمهما يثبت بالقياس أم لا؟
فعند أبي الحسين ومن طابقة كما قدمنا أن ذلك لا يثبت إلا بقياس الأولى؛ لأنه إذا منع من التأفيف لكونه إذىً ينافي التعظيم فلا شك في كون شتمهما وضربهما أبلغ في باب الإستحقاق ومنافاة التعظيم من التأفيف بهما، فإذا منع من الأدون كان المنع من الأعلى في هذا الباب أولى.
وذكر قاضي القضاة أن المنع من ضربهما معقول من ظاهر اللفظ لا من جهة القياس، ولا بد من اعتبار عادة أهل اللغة في ذلك، واختيارنا في هذه المسألة ما ذكره القاضي.
والذي يدل على صحته: أن القياس نوع من الإجتهاد في عرف العلماء، وذلك يفيد كلما لم يحصل العلم به أو الظن إلا باعتبار العلل، ورد الفروع إلى الأصول وملاحظة الأشباه كما قدمنا، ولا يريدون بذلك ما يمكن أن يسلك فيه طريقة القياس؛ لأن ما به أصل من الأصول إلا ويمكننا أن نسلك فيه طريقة القياس كالصلاة والصيام وغيرهما.
فطريقة القياس وإن أمكن استعمالها فيه كان قياساً والعلم بالمنع من ضربهما حاصل لكل عاقل من أهل اللغة العربية سمع النهي عن التأفيف بهما ونهرهما من رد الفرع إلى الأصل واعتبار الشبه والعلة الرابطة بينهما.
وقد كان شيخنا رحمه الله يحكي أن القاضي احتج للمنع من ذلك بأن هذا القبيل لو كان من باب القياس لما علمه إلا من يعلم القياس وسلك طريقته دون من لا يعتبر القياس من نفاة القياس وغيرهم من المهملين، ومعلوم خلافه.
وأجاب عنه: بأن مقدّمات هذا القياس معلومة فلا تحتاج إلى غامض فحص، ولكن ليس الأمر كذلك فإن منها ما يعلمه المكلف قبل الخطاب كالقول بأن الحكيم لا يرخص في فعل ما فيه علة الحكم وزيادة، وكالقول بمنافاة الإستخفاف والأذى العظيم(1).
ومنها ما العلم به مقارن للخطاب كالقول بأن الخطاب خرج مخرج التعظيم، فإذا كان الأمر كذلك كانت هذه المقدمات متكاملة للعاقل عند سماع الخطاب، وبها يكمل قياس الأولى، ويمكن في الجواب عن هذا أن يقال: إن من هذه المقالات ما لا يعلمه من يعلم أن هذا الخطاب يوجب المنع من ضربهما والإستخفاف بهما؛ لأن جفاة الأعراب بل أوفى منهم معرفة وأكثر لأهل العلم مخالطة لا يعلمون أن الحكيم سبحانه لا يجوز منه أن يرخص في فعل ما فيه علة الحكم والزيادة، ولا يخطر ذلك ببالهم ولا توابعه، ولو قلت له: لا تنهر والديك ولا تقل لهما أف؛ لعلم أن ظاهر هذا الخطاب يوجب المنع من ضربهما والإستخفاف بهما.
فأما ما ذكره شيخنا من أنك قد تنهى عن الأدون وتأمر بالأعظم ولا تكون مناقضة، فذلك لا يمنع مما قلناه؛ لأن ظاهر الأمر يقضي بأن السارق يستحق الإهانة عند العقلاء فيمنع من أذاه الأدون ويؤمر بالأعلى بهذه المقدمة بخلاف الوالدين؛ فإن الظاهر فيهما عند جميع العقلاء استحقاق التعظيم فيطابق الخطاب فيهما الظاهر، ويستفاد منه ما لا يستفاد من ظاهر الخطاب الآخر؛ فصح ما قلناه.
__________
(1) - هكذا في النسخة وقد ظنن فوق كلمة العظيم بكلمة [التعظيم] ولعله الأولى أي أن الإستخفاف والأذى ينافيان التعظيم.
فصل: في الإستحسان
حكى شيخنا رحمه الله تعالى إكثار المتقدمين والمتأخرين في هذا الباب، قال: وربما تقل الفائدة في ذكره وجملته أن القول بالإستحسان مذهب أصحاب ح، واختيار الشيخ أبي عبدالله، وظاهر مذهب أصحابنا.
وتكلم شيخنا رحمه الله في تصحيحه في لفظه ومعناه، وحكى الخلاف في ذلك عن الشافعي وبشر المريسي، وقد ظن كثير ممن أنكر الإستحسان أنه حكم بغير دلالة بل هو حكم شهوة النفس واختيارها، وهذا باطل بما نبينه إن شاء الله تعالى، وقد حصل المتأخرون من أصحاب أبي حنيفة أن الإستحسان هو العدول عن أن يحكم في الحادثة بحكم نظائرها لدلالة تخصها، وهذا مما ظنه مخالفوهم؛ لأنه أليق بأهل العلم، ولأن أهل المقالة أعرف بمقالتهم ومعاضد أسلافهم، ولأنهم قد نصوا على مسائل الإستحسان في الكتب فكان المعلوم فيها ما ذكرنا عنهم.
منها: أنهم ذكروا أنه لا فرق بين قول القائل: جعلت مالي صدقة في سبيل الله تعالى، وبين قوله: جعلت ملكي صدقة في سبيل الله، من جهة القياس، إلا أنهم استحسنوا أن يحمل قوله: جعلت مالي صدقة على الأموال التي تجب فيها الزكاة لقوله سبحانه: {خُذْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ صَدَقَةً } [التوبة:103]، فعدلوا عن القياس في هذا الموضع إلى الإستحسان الذي هو موجب الآية.
ومنها: أنه لا فرق بين الحدث المعتمد في الصلاة وبين حدث المسبوق في أن كل واحد منهما يفسد الصلاة من جهة القياس إلا أنهم عدلوا في حدث المسبوق للخبر وهو قول النبي صَلَّى الله عَلَيْه وآله وَسَلَّم: ((من قاء في صلاته أو رعف فلينصرف عنها وليتوضأ وليبنِ على صلاته ما لم يتكلم(1))).
ومنها: أنه لا فرق في فساد الصوم بين الأكل تعمداً ونسياناً من جهة القياس؛ لأن وجود ما ينافي الصوم لا فرق بين أن يكون حاصلاً من قبلنا أو من قبل الله سبحانه من جهة القياس، إلا أنهم عدلوا عن القياس فيما يوجد منه على سبيل النسيان للخبر وهو قول النبي صَلَّى الله عَلَيْه وآله وَسَلَّم لمن أكل ناسياً: ((تم على صومك فإن الله أطعمك وسقاك)).
ومنها: أن القياس يمنع من سلم الموزون في الموزون إذا كان رأس المال ثمناً توجد إحدى علّتي الربا فيه، إلا أنهم جوزوه استحساناً بدليل يخصه وهو الإجماع على جوازه.
__________
(1) - رواه أبو خالد رضي الله عنه عن الإمام الأعظم زيد بن علي عليهما السلام في المجموع الفقهي (120) بلفظ: حدثني زيد بن علي عن أبيه عن جده عن علي عليهم السلام:" في الرجل تخرج منه الريح أو يرعف أو يذرعه القيء وهو في الصلاة فإنه يتوضأ ويبني على ما مضى من صلاته، فإن تكلّم استأنف الصلاة، وإن كان قد تشهد فقد تمت صلاته"، وأورده ابن بهران في كتاب جواهر الأخبار والآثار في نواقض الوضوء (1/87)، وقال عقيبه: روى هذين الخبرين في الموطأ، وأخرجه بألفاظ متقاربة في: سنن الدار قطني (1/155) رقم 17، وسنن ابن ماجه(1/385) رقم 1221، وسنن البيهقي الكبرى (1/142) رقم 652.
ومنها: أن القياس كان يوجب جواز عقد السلم وإن وقع الإفتراق قبل قبض رأس المال؛ لأنه ليس من عقود الصرف، وإنما هو عين بدين، ولكنهم عدلوا عن القياس فيه لدلالة الخبر وذلك أن النبي صَلَّى الله عَلَيْه وآله وَسَلَّم ((نهى عن بيع الإنسان ما ليس عنده، ورخص في السلم)) والسلم والسلف واحد لا فرق بينهما، وهذا يقتضي افتقار عقد السلم إلى أن يكون رأس المال مقبوضاً ليصح كونه سلفاً.
وهذه الوجوه تدلّ على أنهم لم يعدوا في الإستحسان النص، وطريقة الإجتهاد، والإجماع أو أقوى القياس وهذه الوجوه يجب اتباعها عندنا.
وقد اختلف أهل العلم في حدّه:
فحدّه بعضهم: أنه العدول عن موجب قياس إلى قياس أقوى منه، وهذا الحد يبطل باستحسانهم العدول عن القياس إلى النص كما فعلوه في حكم الصائم، وكذلك استحسانهم العدول عن القياس إلى دلالة الإجماع في حكم السلم، وكاستحسان أصحابنا في فم الهر أنه يطهر من دون الغسل ليوم وليلة؛ فإنهم إنما تركوا القياس في الأفواه للخبر.
وحدّه بعضهم: بأنه ترك طريقة إلى أخرى أولى منها لولاها لوجب الثبات على الأولى، ويقرب من هذا حد أبي الحسن، وهو قوله: إن الإستحسان هو أن يعدل الإنسان عن الحكم في المسألة بمثل ما يحكم به في نظائرها إلى خلافه لوجه أقوى من الأولى يقتضي العدول عن الأول، ويلزم على هذا أن يكون القياس الذي يعدل عن الإستحسان إليه استحساناً.
قال شيخنا رحمه الله تعالى: فيجب أن نعتمد في حده ما ذكره الشيخ أبو الحسين البصري، وهو: أن الإستحسان ترك وجه من وجوه الإجتهاد غير شامل شمول الألفاظ لوجه أقوى منه، وهذا الحد صحيح إلا أنه يمكن أن يعترض: بأن من حق الحد أن يكون أظهر من المحدود، وهذا الحد أغمض من المحدود؛ فالصحيح في حده حينئذ أن يقال: الإستحسان هو العدول عن الحكم في الحادثة بحكم نظائرها بدلالة تخصها هي أقوى فيها من الأولى عند المجتهد، وبهذا القدر يتم الكلام في حد الإستحسان ومعناه.
وأما الكلام في تسميته: فاعلم أن الأسامي لا يثمر النزاع فيها إذا قد صحت المعاني؛ لأنها تعود إلى اختيار المسمين، ولا يحسن في ذلك الإعتراض، ويمكن أن يحتج على صحة هذه التسمية بأنهم لما كانوا إذا عدلوا عن الحكم في الحادثة بحكم نظائرها لدلالة تخصها خصت عقولهم بحسن ذلك العدول بل بوجوبه جاز أن يسموا ذلك استحساناً لإفادة ذلك بحسنه، كما أن في الإستقباح لكراهتنا لما يقضي العقل بقبحه؛ فإذا كان الدليل حسناً جاز وصف الإستدلال بأنه استحساناً، وبهذا يتم العلم بمعنى الإستحسان وصحة حده وتسميته.
وأما الكلام في الدلالة على صحة استعماله؛ فلأنه لو لم يصح لكان المانع من صحته لا يخلو من وجوه:
إما أن يكون لأن الأقيسة الشرعية وطرق الإجتهاد لا يجوز أن يرجح بعضها على بعض، وهذا مما قد دل الدليل على فساده بما قد تبين في غير موضع من أن الترجيح معتبر في العلل وطرق الإجتهاد.
وإما أن يكون المنع منه لأن تخصيص العلة غير جائز، وهذا أيضاً فاسد؛ لأنا قد بينا فيما تقدم الكلام في جواز تخصيص العلة الشرعية.
وإما أن يقع الخلاف فيما يجعله المستدل وجهاً للإستحسان ويوجب كونه أقوى من القياس المعدول عنه، والكلام في كيفية وقوعه وصحة وجوهه التي وقع عليها عند مثبته مبين في الكتب؛ لأنه لا يتعلق بأعيان المسائل، وإذا بطلت هذه الأقسام ثبت أن الإستحسان أحد أدلة الشرع على الفروع وأنه لا مانع من إثبات الأحكام به، وكان رحمه الله تعالى يستدل على صحته بأنه ترجيح طريق شرعي على طريق آخر شرعي، والترجيح بين الطرائق الشرعية جائز في الشرع، فجاز الإستحسان.
فصل:[في تعارض العلل وتنافيها]
ذكر شيخنا في تعارض العلل وتنافيها:
اعلم أن وصفنا بأن العلل متعارضة متنافية قد يفهم منه أنها متضادة تضاداً يستحيل معه اجتماعها كتضاد السواد والبياض، وهذا غير ثابت في العلل الشرعية؛ لأن الأكل والكيل والطعم قد اجتمعن في البر، وعلل كل قوم من أهل العلم تحريم التفاضل بواحدة منهنّ.
وإنما التضاد عند أهل اللغة يفيد اختلاف الأحكام، ولا فرق عندهم بين التضاد والإختلاف، وقد يفهم منه أنه لا يجتمع كونها عللاً وذلك ضربان:
أحدهما: أن لا يجتمع كونها مؤثرة في أحكامها لتنافي أحكامها.
والثاني: يرجع إلى أمر سوى تنافي أحكامها، وهو أن لا يوجد في الأمة من علل ذلك الأصل بعلتين بل كل منهم علله بعلة واحدة، فالمتنافي أحكامها لا بد أن يكون أصلها أكثر من واحد أو يستحيل أن يكون أصلها واحداً.
إلا أنه لو كان أصلها واحداً لكان قد اجتمع في الأصل الواحد حكمان متنافيان، وذلك محال، وإذاً ثبت أن أصل العلتين المتنافيتين الحكم إثنان فصاعداً.
مثاله: وجوب النية ونفي وجوبها في إزالة النجاسة بعلة أنها طهارة بالماء ورده إلى التيمم بعلة أنه طهارة عن حدث.
وإن امتنع كونها متضادة لعلة سوى تنافي أحكامها فبأن لا يكون في الأمة من علل ذلك الأصل بعلتين كل منهم علله بعلة واحدة.
مثاله: تعليل التفاضل في البر بكونه مكيلاً ومأكولاً ومقتاتاً، وليس كل منهم علله بتعليل واحدة منها ولا باثنتين منها، ومتى تنافت العلل واشتبه القول في فروعها وجب الرجوع إلى الترجيح، فينبغي أن يتكلم قبل ذلك في غلبة الأشباه.
مسألة:[الكلام في اعتبار الشبه بين الأصل والفرع في القياس]
لا خلاف بين مثبتي القياس في اعتبار الشبه بين الأصل والفرع، والشبه: هو ما يحصل به الإشتباه بين الأصل والفرع.
والإشتباه: هو اشتراك الشيئين في صفة من الصفات ووجه من الوجوه، وهذه الصفة وهذا الوجه هو الشبه.
فمنهم من ذهب إلى اعتبار صورة الفعل وهيئته فيه، وهو طريقة ابن علية فإنه كان يحمل القعدة الثانية على القعدة الأولى في أنها غير واجبة بعلة أنها قعود من الصلاة، ويحمل القراءة فيها على تسبيح الركوع والسجود في أنها ليست بواجبة بعلة أنها ذكر في الصلاة.
ومنهم من لا يعتبر الصورة والهيئة، وإنما يعتبر ما يجري مجرى الصفة اللازمة للأصل نحو كونه مكيلاً، أو مأكولاً، أو الحكم الذي يخص الفعل نحو كونه عبادة مخصوصة.
وحكى شيخنا أن الشافعي اعتبر الأحكام وذلك في رده(1) لعبد إذا قتله عبد إلى الحر في وجوب القود من حيث كان يقول القود من باب العبادات، والعبادات فيها حكم العبد والحر سواء.
وكان شيخنا رحمه الله يمثله بردة العبد إلى المملوكات في تقدير قيمته بالقيمة بمشابهته لها في أحكام كثيرة إلا أن هذا المثال إنما يصح في باب غلبة الأشباه وسيأتي الكلام فيه.
فالصحيح في تمثيله ما قدمنا، والصحيح عندنا أن نعتبر كل ما له تأثير في الحكم ولا فرق في ذلك بين اعتبار الصورة والأحكام والجنس وغير الجنس وبين غلبة الأشباه وبين غيرها.
وحكى شيخنا رحمه الله تعالى أن ذلك مذهب أكثر الحنفية، ومذهب كثير من المتكلّمين كأبي علي، وأبي هاشم، وأبي عبدالله، وقاضي القضاة، وأبي الحسين البصري، والحاكم، واختيار السيد أبي طالب عَلَيْه السَّلام.
والذي يدل على صحته: ما قدمنا من أنه لا يجوز العمل في الشرعيات فيما تقدم فيه العلم إلا بما يقتضي غالب الظن، وإذا كان للشبه تأثير في الحكم غلب في ظننا صحة ذلك الحكم لثبوت ذلك الشبه، وقد تقدم الكلام في أن العمل على غالب الظن في الشرعيات واجب.
__________
(1) - نخ: رَدَّتِه.
مسألة:[الكلام في قياس غلبة الأشباه]
فأما غلبة الأشباه: فهي أن يكون الشبه أقوى من شبه آخر فهو أولى لأن يعلق الحكم به لقوة أمارته، وقوة الأمارات أمر ظاهر لا إشكال فيه، والقياس ينقسم إلى قسمين: قياس معنى، وقياس غلبة الأشباه.
فقياس المعنى: يرجع إلى أصل واحد يشبهه لا يعارضه شبه آخر، وإن عارضه كان خفياً كرد العبد إلى الأمة في تنصيف حد الزنا.
وقياس غلبة الأشباه: هو مثل قياس الشافعي العبد المقتول على الأموال لمشابهة الأموال له في أحكام كثيرة مع مشابهته للحر في أنه متعبد وأنه إنسان إلى غير ذلك.
فهذه الأشباه كما ترى متعارضة كل واحد منها يساوي صاحبه أو يقاربه في قوة الظن عند المجتهد، ويخفي فضل قوة أحدهما على الآخر إلا بعد الإجتهاد، ولا يخلو قياس غلبة الأشباه: إما أن يرجع الحكم فيه إلى أصل واحد أو إلى أصلين.
فإن رجع إلى أصلين جاز أن يكون الفرع واحداً ويشبه بأحد الشبهين أحد الأصلين، ويشبه بالشبه الآخر الأصل الآخر، كما ذكرنا عن الشافعي في العبد المقتول أنه يشبه الحر في تحديد بدله(1) من حيث كان مكلفاً، ويشبه المملوكات في نفي تحديد بدله (2) من حيث كان مملوكاً، ومقوماً في أموال التجارة، ومقسوماً في التركات، وترجع الوصية فيه إلى الثلث، وكالوضوء يشبه التيمم في وجوب النية فيه من حيث كان طهارة عن حدث، ويشبه إزالة النجاسة في نفي وجوب النية فيه من حيث هو طهارة بالماء.
وإن رجعا إلى أصل واحد، فقد يكون الفرع اثنين، وقد يكون واحداً.
فإن كانا اثنين فإن كل واحد منهما يشبه الأصل بأحد الشبهين دون الآخر كالرمان والجص فإن أحدهما يشبه البر من حيث كان مأكولاً وهو الرمان، والآخر يشبهه من حيث كان مكيلاً وهو الجص.
__________
(1) - بمعنى أنه يلزم فيه دية الحر لا غير.
(2) - بمعنى أنه يلزم قيمته بالغة ما بلغت دون النظر إلى الدية.
وإن كان الفرع واحداً فهو كالأرز المشبه البر من حيث كان مأكولاً، ومن حيث كان مكيلاً، ومن حيث كان مقتاتاً، فيقع النظر في أي هذه الوجوه أولى بالتأثير فتكون علّة الحكم فما لم تدل عليه أمارة قضي بفساده، وما تساوى في دلالة الأمارات عليه عدل به إلى الترجيح، وهذان القياسان المتقدمان عندنا في الصحة سواء؛ لأن كل واحد منهما يستفاد به الحكم ويرجع في تأثير علته إلى غالب الظن المعتبر في الشرعيات على سواء، فكان حكمهما ثابتاً في الشرع على سواء، وإن كان أحدهما أغمض من الآخر فلا يجوز ترجيح أحدهما على الآخر إذ هما يقعان في أمرين مختلفين.
ثم ينبغي أن نذكر وجوه الترجيح كما ذكره شيخنا رحمه الله تعالى ليكون من أراد الترجيح عرف علته وحكمه.
فصل: في حدِّ الترجيح وفائدته وذكر أقسامه
اعلم أن الترجيح هو الشروع في تقوية إحدى الطريقتين الشرعيتين على الأخرى، وذلك لا يصح الترجيح إلا بعد تكامل كونهما طريقين لو انفردت كل واحدة منهما؛ لأدت إلى الحكم؛ لأنه لا يصح ترجيح طريق على ما ليس بطريق.
وأما فائدة الترجيح: فهي أن يُقَوِّي الظن الصادر عن إحدى الأمارتين عند تعارضهما ولذلك لا يصح الترجيح بين الأدلة لأنها لا تتعارض؛ لأن تعارضها موقوف على تنافي مدلولاتها، وفي تعارضها ثبوت مدلولاتها على تنافيها، ولأن الأدلة لا تقتضي الظن فلا يمكن القول بأن أحد الظنين أقوى، ولأن الترجيح يقتضي التمسك بما يثبت فيه الترجيح، واطراح ما لم يثبت فيه الترجيح، والدليل لا يجوز إطراحه.
فأما قسمة ترجيح العلة: فهو ينقسم إلى ما يرجع إلى طريقها، وإلى ما يرجع إلى حكمها، وإلى ما يرجع إلى مكانها، وهو الأصل والفرع، وإلى مجموعها، وسيأتي الكلام في كل واحد من هذه الأقسام في أثناء المسائل بمشيئة الله تعالى وعونه وهذا الفصل ذكره شيخنا رحمه الله تعالى في كتابه في أصول الفقه فأوردناه كما ذكره.
مسألة:[الكلام في ترجيح العلة بما يرجع إلى طريقها]
أما ترجيح إحدى العلتين على الأخرى بما يرجع إلى طريقها: فهو أن تكون طريق وجود أحدهما أقوى من طريق وجود الأخرى في أصلها أو في فرعها، أو تكون طريق إحدى العلتين في الأصل أقوى من طريق صحة الأخرى في أصلها.
وإنما تكون طريق وجودها في الأصل أو الفرع أقوى من طريق وجود العلة الأخرى بأن يكون أحدهما يعلم وجوده بالحس والصورة نحو كون البر مكيلاً أو مطعوماً، وكون الأرز مكيلاً أو مطعوماً.
ويكون وجود الأخرى معلوماً بالإستدلال نحو أن يكون حكماً شرعياً كقولنا طهارة عن حدث وغير ذلك.
أو يكون وجود أحدهما معلوماً بدليل ووجود الأخرى مظنوناً بأمارة، أو يكونا جميعاً مظنونين بأمارتين غير أن أمارة وجود أحدهما أقوى ولا شكّ أن ذلك وجه ترجيح؛ لأن الوصف لا يكون علة في الأصل ولا في الفرع إلا وهو موجود فيهما فإذا كان علمنا أو ظننا لوجود وصف فيهما أقوى، من علمنا أو ظننا بوجود الوصف الآخر، فقد صار لكونه علة حكم الأصل والفرع أقوى من علمنا أو ظننا لكون الآخر علة حكم الأصل والفرع.
وأما التي يكون طريق كونها علة حكم الأصل أقوى: فهي التي يكون طريق كونها علّة حكم صريح نص، ويكون طريق الأخرى تنبيه نص، وطريق الأخرى الإستنباط، وتكون أمارة إحداهما أقوى من أمارة الأخرى، وإنما كان ذلك ترجيحاً لأن ما قوي طريقه قوي الظن له والإعتقاد لصحته، فإذاً أقسام هذه المسألة تنحصر في أقسام صورتها أن تقول: لا تخلو طريق العلة: إما أن يكون معلوماً أو مظنوناً.
فإن كان معلوماً فلا يخلو: إما أن يعلم بالمشاهدة وما هو في حكمها أو بغيرها.
فإن علم بغير المشاهدة فلا يخلو: إما أن يكون بالنص أو الإجماع؛ فإن علم بالنص فلا يخلو إما أن يفتقر إلى الإستدلال أو لا يفتقر إلى الإستدلال.
ثم الذي يعلم بالمشاهدة لا يخلو: إما أن يعلم أنه علة الحكم الشرعي أو لايعلم، والمظنون لا يخلو إما أن يظن بأمارة شرعية أو بأمارة عقلية، والشرعية لا تخلو إما أن تكون نصاً أو تنبيه نص أو إستنباطاً.
فإن كانت العلة معلومة بالمشاهدة كالوزن، وكانت العلة الأخرى مظنونة كخروج الذهب والفضة عن حكم الموزونات لأنهما ثمن الأشياء، ولم يحصل العلم بأن الحكم الشرعي لازم لتلك العلة كانت العلة المظنونة إذا كان الطريق إليها شرعياً، وعلم أنها شرعية أولى من العلة المعلومة إذا لم يعلم معها الحكم الشرعي.
فأما تمثيل شيخنا رحمه الله تعالى بأن يكون البر مكيلاً أو مطعوماً، وكون الوضوء طهارة عن حدث فبعيد التمثيل في هذا الباب؛ لأن الترجيح إنما يقع بين العلتين المتنافيتين على حكم واحد فتثبته إحداهما وتنفيه الأخرى فيرجح بينهما، ولسنا نرجح بين علّة الطهارة وعلة الربا، وإنما نرجح بين علتي الطهارة بالماء في وجوب النية، ولو طولنا الكلام في هذا الباب لطال إلا أن هذه الإشارة كافية لمن كان له في البحث والتوفيق نصيب، وهو أنك تعلم أن العمل على العلم أقوى إذا كان يفيد حكماً شرعياً؛ فإن لم يفد الحكم الشرعي لم يكن لكونه معلوماً من جهة العقل تأثير، وكان العمل على الظن المفيد للحكم الشرعي أولى؛ لأنا قد تركنا معلوم العقل لمظنون الشرع، ولا تأثير لعلم العلة ما لم يعلم تأثيرها في الحكم.
مسألة:[الكلام في ترجيح العلة بما يرجع إلى حكمها في الأصل والفرع]
فأما ترجيح العلّة بما يرجع إلى حكمها؛ فهو ضربان:
أحدهما: يتعلق بحكمها في الأصل.
والآخر: يتعلق بحكمها في الفرع.
[ترجيح العلة بما يرجع إلى حكمها في الأصل]
أما المتعلق بحكمها في الأصل، فهو ضربان:
أحدهما: أن تكون طريق ثبوت أحد الحكمين أقوى من طريق ثبوت الأخرى في أصله، نحو أن يدل على حكم الأصل دليل قاطع، ويدل على حكم الأصل الآخر أمارة، وإنما كان ذلك وجهاً يقتضي الترجيح لأن الوصف لا يكون علة حكم الأصل إلا وحكمه ثابت، فإذا كان حكم أحد الأصلين أقوى ثبوتاً [كان ما تبعه من العلة ومن حكم الفرع أقوى ثبوتاً(1)].
والضرب الثاني: أن يكون طريق ثبوت إحداهما في أصلٍ الشرعَ، وطريق ثبوت الأخرى في أصله العقل، وإنما كان ذلك أصلاً في الترجيح؛ لأن القياس الشرعي دلالة شرعية، والقياس الذي حكمه شرعي هو أشد مطابقة للأدلة الشرعية، ولأن العلة التي حكمها شرعي تكون ناقلة عما في حكم العقل.
وقد بينا في باب ترجيح الأخبار أن الناقل عن حكم العقل أولى لأن الحكم العقلي الذي يجوز أن يرد الشرع بالنقل عنه إنما يثبت بشرط أن لا ينقل عنه شرع؛ فإذا نقل عنه الشرع لم يكن له ثبات ولا استقرار، وليس ثبوت الحكم الشرعي مشروطاً بأن لا ينقل عنه العقل فكان الشرعي أولى من هذا الوجه.
وقد اعترض شيخنا رحمه الله تعالى ذلك بأن قال:
فإن قيل: كيف يجوز أن يستخرج من حكم عقلي علة شرعية؟
وأجاب: بأن ذلك يجوز إذا لم ينقل عنه الشرع فتستخرج العلة التي لأجلها لم ينقلها عنه الشرع؛ فأما إذا كان أحد الحكمين نفياً والآخر إثباتاً، وكانا شرعيين، فقد ذكر قاضي القضاة أنه لا تكون إحدى العلتين أقوى من الأخرى.
وذكر الشيخ أبو الحسين البصري أنه لا بد في النفي والإثبات من أن يكون أحدهما عقلياً والآخر شرعياً(2).
__________
(1) ـ يوجد هنا بياض في النسخة، وما بين المعكوفين زيادة من المعتمد.
(2) ـ هكذا في الأصل، وفي المعتمد (سمعياً).
وكان شيخنا رحمه الله تعالى يذهب إلى أنه قد يكون الحكمان شرعيين وإن كان أحدهما نفياً والآخر إثباتاً له كإثبات العتاق ونفيه، وهذا وجه مستقيم في العتاق الطارئ على الرق الشرعي؛ لأن الرق الشرعي ثابت بالشرع فما نقل عنه فهو شرعي؛ فأما نفي الرق أولاً فهو عقلي لا محالة فالمثبت للرق في تلك الحال أولى؛ لأنه ناقل.
[ترجيح العلة بما يرجع إلى حكمها في الفرع]
وأما المتعلق بحكم العلّة في الفرع فضروب:
منها: أن يكون أحد الحكمين حظراً والآخر إباحة؛ فمتى كان الحظر شرعياً كان أولى من الإباحة، فكانت علته أقوى لأن الحكم الشرعي أقوى من حيث هو ناقل، ولأن الأخذ بالحظر أحوط كما تقدم بيانه في ترجيح الأخبار وإن كان الحظر عقلياً والإباحة شرعية، فكل واحد منهما فيه وجه ترجيح فالواجب الرجوع إلى ترجيح آخر، هذا الذي ذكره شيخنا رحمه الله تعالى في كتابه.
وعقلنا عنه في المذاكرة أن الإباحة متى كانت شرعية فهي أولى من الحظر العقلي لكونها ناقلة، وكونه أحوط إنما هو وجه ترجيح متى كان مساوياً للإباحة في الثبوت بأن يكونا معاً شرعيين.
فأما متى كانت شرعية دونه فإنها تكون أقوى ثبوتاً منه؛ لأن ثبوته مشروط بأن لا ينقل عنه شرع والحكم الشرعي ثابت لا بشرط، فلذلك كانت أقوى، وهذا عندنا هو الصحيح لما ذكر من تعليله رحمه الله تعالى وإن كان الحظر والإباحة شرعيين على قول من كثر كونهما شرعيين معاً فالحظر أولى؛ لأنه أحوط لأنه قد شارك الإباحة في الثبوت لكونه شرعياً، واختص بوجه قوة وهو أنه أحوط.
فأما عند الشيخ أبي الحسين البصري فإن هذا القسم الأخير مستحيل لأنهما لا يجوز كونهما شرعيين عنده؛ بل لا بد من كون أحدهما عقلياً والآخر شرعياً، والصحيح عند شيخنا ما قدمنا روايته عنه من أن ذلك لا يجوز.
ومنها: أن يكون حكم إحدى العلتين إثبات عتاق وحكم الأخرى نفيه، فقد اختلفوا في ذلك:
فحكى شيخنا رحمه الله تعالى عن الشيخين أبي الحسن الكرخي وأبي الحسين البصري أن المثبتة للعتاق أولى.
وعند القاضي والحاكم وجماعة من العلماء أنهما سواء، وهو الذي كان شيخنا رحمه الله يعتمده، وهو الذي نختاره؛ لأن إثبات العتاق وهو شرعي وطريانه على الرق الذي هو شرعي يوجب كون الحكمين شرعيين، فلا يقع لأحد العلتين مزية على الأخرى فلا يجوز الترجيح بينهما، وكون المثبت للعتاق أحوط يمكن بأن يقال بأن إزالة الملك محظورة فيستوي الوجهان في باب الحيطة.
وقد علل شيخنا رحمه الله تعالى هذه الدلالة في باب الأخبار بما لا وجه لإعادته، وذكرنا في باب الأخبار ما يشتمل بصحة ما قلناه.
ومنها: أن يكون حكم أحدهما إسقاط حد، وحكم الآخر إثباته، فقد اختلفوا في ذلك:
فعند الشيخ أبي عبدالله وعيسى بن أبان والشيخ أبي الحسين البصري أن المسقط للحد أولى.
وقال القاضي: المثبت للحد أولى، وكان شيخنا رحمه الله تعالى يذهب إلى ما قاله الشيخان أبو عبدالله وأبو الحسين ويحتج لذلك بأنه قد أخذ علينا إسقاط الحدود بالشبهات كتعارض البينتين؛ فإذا تعارضت العلتان في ذلك كان تعارضهما صحة شبهة كما ذكرنا في تعارض الخبرين واختيارنا ما ذهب إليه القاضي؛ لأن إثبات الحد حكم شرعي، ونفيه مبني على حكم العقل، والناقل أولى كما تقدّم الكلام في نظائره، ولم يؤخذ علينا إسقاط الحد بالشبهة في الجملة، إنما أخذ علينا دفعه عند وقوعه في العين المخصوص بالشبهة؛ فأما في الجملة فأخذ علينا طلب الأحكام الشرعية وقبولها والإجتهاد في إثباتها.
ومنها: أن يكون حكم إحدى العلتين أزيد من حكم الأخرى، نحو أن يكون حكم إحداهما ندباً، ويكون حكم الأخرى إباحة، فالتي حكمها الندب أولى؛ لأن الندب يتضمن شيئاً من معنى الإباحة الذي هو الحسن، ويزيد عليها فيكون أولى إذا كان الجميع شرعياً واختص الندب بزيادة شرعية، وهي كون فعله أولى، وهذا الوجه ذكره شيخنا، وهو الذي نختاره.
ومنها: أن تكون إحدى العلتين قد شهدت به الأصول نحو أن يكون جنس ذلك الحكم ثابتاً في الأصول، مثل تحريم المثلة في الجملة، فالعلة المحرمة لمُثْلَةٍ مخصوصة أولى من المبيحة لها لأن الشريعة في الجملة تشهد لها، وهذا ذكره شيخنا رحمه الله تعالى.
ألا يمكن أن يقال: إن العلة التي توجب مثلة مخصوصة أولى من حيث كانت ناقلة والناقل أولى، وهذا لا يبعد عندنا صحته، ونحو أن يكون الكتاب والسنة قد شهدت لها أو بعضها فإن وقعت صريحة فهي الأصل في الدلالة بمقتضاها ولا وجه لذكر الترجيح لها، وإن مسها احتمال شديد جاز ترجيح القياس بها لوضوح دلالة القياس على دلالتها.
ويقع الترجيح بقول الصحابي؛ لأنه أعلم بمقاصد النبي صَلَّى الله عَلَيْه وآله وَسَلَّم، وكذلك إذا عضدت العلةُ علة أخرى وكان دليلهما مختلفاً، فإن ذلك يقتضي الترجيح كما ترجح أخبار الآحاد بعضها ببعض، وكما يرجح الخبر على خبر آخر بكثرة رواته، ولذلك كانت العلة التي لا تخصص العموم أولى من التي تخصصه؛ لأن لفظ العموم يشهد لها، وإلى ذلك ذهب الشيخ أبو الحسين البصري، وكان شيخنا رحمه الله تعالى يعتمده، وهو الذي نختاره.
وذكر قاضي القضاة في الشرح أن هذا القول مخالف لما ذكرناه في الأصول لأن كلا المعللين قد اتفقا على مطابقة ذلك الأصل لإحدى العلتين، ولم يقع الإتفاق بينهما على ذلك في هذا الموضع؛ لأن أحد المعللين يقول ما أراد الله عز وجل بالعموم ما تناولته العلة المخصصة.
وكان شيخنا رحمه الله يجيب عن ذلك بأنهما سواء، قال: لأن أحد المعللين وإن لم يقل ذلك فإن العموم يشهد لمطابقة إحدى العلّتين، فكانت أولى، وبعد فعنده يعني القاضي وهو عند الجميع أنه متى اقترن بالقياس خبر مجمل رجح به مع أن أحد المعللين يمكنه أن يقول في ذلك الخبر المجمل إنه ما أريد ما يخالف علتي، وقوله ذلك في المحتمل أمكن من قوله في العموم، ولا يلزم عليه ما يقوله من يذهب إلى القول الأول من أن العموم إذا كانت العلة الأخرى مخصصة له لم يسلم ظاهره، وإذا لم يسلم ذلك لم يصح أن يكون شاهد العلة المطابقة له؛ لأن العلة الموجبة لتخصيصه إذا عارضتها العلة الأخرى لم يسلم العموم لتعارضهما؛ فإذا شهد لأحدهما مع سلامته صحت سلامته بشهادته للعلة التي طابقته.
ومنها: أن يكون حكم إحدى العلتين يتبعها في جميع فروعها دون الأخرى، وقد اختلف من أجاز تخصيص العلة في الترجيح بذلك؛ فبعضهم لا يرجح به، وبعضهم يرجح به، وهو الذي كان شيخنا رحمه الله يصححه أعني الترجيح، واختيارنا هو الأول.
وكان رحمه الله تعالى يحتج لقوله بأن لزوم الحكم بها أكسبها شبهاً بالعلل العقلية ويؤذن بلزومها لها في الأصل فكانت أولى.
والذي يدل على صحة ما اخترناه: ما قد ثبت أن قيام الدلالة على صحة العلة الشرعية هو ثبوت تأثيرها في الحكم على الوجه الذي ذكرنا في تصحيح العلل، فإذا اجتمع فيها حكم الأصل وانبنى عليه حكم الفرع لتأثير العلة في حكم الأصل صحت العلة ولم تؤثر كثرة فروع الأخرى ولا يراعى أمر سوى ما ذكرنا في تصحيح العلة؛ لأنها لم تعتمد في الأصل إلا بصحتها، وقلة فروعها لا ينقض أصلها ولا يوجب ترجيح ذات الفرع عليها، وكون الأخرى أعم منها يرجع إلى كثرة مواضعه، وكثرة مواضعها لا يؤثر في قوة أصلها.
يبين ذلك أن أحد العمومين لا يصير أقوى من الآخر بأن يكون التخصيص الذي تناوله أقل مما تناوله الآخر فيكون ما أريد به من الفوائد أكثر مما أريد بالآخر فكذلك العلتان.
مسألة:[الكلام في ترجيح العلة بما يرجع إلى أصلها]
فأما الترجيح بما يرجع إلى الأصل؛ فبأن تكون إحدى العلتين منتزعة من أصول كثيرة، والأخرى منتزعة من أصل واحد أو اثنين، وكان شيخنا رحمه الله تعالى يحكي اختلاف الناس في ذلك، وأن منهم من رجح بذلك، ومنهم من لم يرجح.
وقال قاضي القضاة: لا يرجح به إذا كانت طريقة التعليل واحدة، وإن كانت طريقته غير واحدة رجح به.
وذكر الشيخ أبو الحسين البصري أنه إن كانت علل الأصول كثيرة وأماراتها كثيرة فذلك وجه ترجيح، وإن كانت العلة واحدة وأماراتها واحدة، وكان الأصل نوعاً واحداً وإنما أشخاصه كثيرة فإنه لا يرجح بذلك، وإن كانت الأصول أنواعاً كثيرة وقع الترجيح بها.
وكان شيخنا رحمه الله تعالى يعتمد هذا القول، وهو الذي نختاره؛ لأن علل الأصول متى كانت كثيرة وأماراتها مختلفة فالترجيح بذلك يقع بشهادة العلل بعضها لبعض، ومتى كانت العلة واحدة ونوع الأصل واحد واشخاصه كثيرة لم يقع بذلك ترجيح لأن النوع واحد، فلا يعلم أن آحاد بعض الأنواع أكثر من آحاد النوع الآخر، ومتى كانت الأصول أنواعاً كثيرة فإن الترجيح يقع بها وإن كانت علتها واحدة؛ لأن الأصول الكثيرة تكون شاهدة لإحدى العلتين ويكون حكمها أشد ثبوتاً في الأصل من حكم الأخرى وذلك مقوٍ للظن.
ومثال ذلك: تعليل اشتراط النية في الوضوء بكونه عبادة يشترط في بذلها النية دليله التيمم قياساً على الكفارات فإن اختلاف أنواع الكفارات يوجب قوة هذه العلة وتكون أولى من العلة الأخرى التي يرد بها الوضوء إلى إزالة النجاسة في نفي اشتراط النية وهذا القول فيه نظر، والله الهادي.
فصل:[الكلام في ترجيح العلة بما يرجع إلى فرعها]
وأما ترجيح العلة الراجع إلى فرعها فمعناه أن تكون فروع إحدى العلتين أكثر من فروع الأخرى فتكون أعم من الأخرى، وقد اختلفوا في الترجيح بذلك.
فذهب قوم إلى أن ذلك وجه ترجيح ورجحوا المتعدية على القاصرة بذلك، وهو قول الشافعي وقاضي القضاة.
وذهب آخرون إلى أن ذلك لا يرجح به، وهو قول أصحاب أبي حنيفة وأبي عبدالله وأبي الحسن الكرخي وأبي الحسين البصري والسيد أبي طالب عَلَيْه السَّلام، وكان شيخنا رحمه الله تعالى يذهب إليه، وهو الذي نختاره.
وكان يحكي أن الأولين احتجوا لصحة مذهبهم: بأنها إذا كثرت فروعها كثرت فوائدها فكانت أولى، ويمكن أن يجابوا عن ذلك: بأن ثباتها في فروعها وتعلق فروعها بها فرع على رجحانها ليصح استعمالها فكيف يصح أن يكون ترجيحاً لها ومن حق الترجيح أن يؤثر في الأصل.
والذي يدل على صحة ما ذهبنا إليه: أن كثرة فروعها يرجع إلى كثرة مواضعها التي وجدت فيها، وكثرة مواضعها التي وجدت فيها لا تؤثر في أصلها كما قلنا في العمومين إذا كان أحدهما أكثر فروعاً من الآخر، ولأن قولهم هذا يؤدي إلى اعتبار تأثير الفرع في الأصل، وهذا مخالف لطريقة أهل العلم والدلالة فلا يجوز اعتباره.
مسألة:[الكلام في ترجيح العلة بما يرجع إلى الأصل والفرع]
فأما ترجيح العلة بما يرجع إلى الأصل والفرع، وهو أن تكون إحدى العلتين يرد بها الفرع إلى ما هو من جنسه كردّ كفارة إلى كفارة، والأخرى يُرَدُّ بها الفرع إلى ما ليس من جنسه كرد الطهارة إلى الكفارة.
فكان شيخنا رحمه الله تعالى يرى أن رد الشيء إلى جنسه أولى على كل حال، وذكر أن ذلك مذهب الشيخ أبي الحسن الكرخي وأبي الحسين البصري وأكثر الشافعية.
وذهب بعضهم إلى أن ذلك لا يرجح به.
وكان رحمه الله تعالى يحتج لصحة الأول: بأن الشيء أكثر شبهاً بجنسه منه بغير جنسه والقياس يتبع الشبه، فكونه من جنسه يقوي الظن، وإن لم تكن تلك الوجوه علة، قال: وبالجملة إن رد الشيء إلى جنسه أولى.
وعندنا: أن هذا الإطلاق لا يستمر؛ لأن الظن إنما يقوى بقوة صحة العلة الشرعية سواء رجعت إلى الجنس أو إلى غيره، ولا يمتنع أن يكون الراجع إلى غير الجنس أقوى ثبوتاً عند المجتهد فيغلب على ظنه ثبوت حكمها دون الأخرى، فإذاً لا تأثير للجنس والشبه كما يعتبر من الصورة اللازمة الجنس قد يعتبر بالحكم الذي لا يلزمه بل اعتبار الحكم أولى لاختصاصه بالشرع، إذ الحكم الشرعي إذا أمكن اعتباره في أمارة ما طريقه الشرع كان اعتباره أولى، فإذاً لا تأثير لرده إلى الجنس، فلا يكون برجوع أحدها إلى الجنس والحال هذه مرجحاً.
مسألة:[الكلام في أنه لا تتساوى الأمارات عند المجتهد]
اختلف أهل العلم في أنه هل يجوز أن تستوي عند المجتهد الأمارات حتى لا يترجح بعضها على بعض أم لا؟
فمنع من ذلك الشيخ أبو الحسين، وقال: لا بد من ترجيح، وحكى شيخنا رحمه الله تعالى ذلك عن الشيخ أبي الحسين البصري، وأجاز ذلك آخرون، وهو الظاهر من مذهب شيخنا، وهو الذي نختاره.
ثم اختلفوا في الحكم عند الإستواء من قال بجوازه:
فمنهم من قال: تطرح الأمارات المتكافية ويرجع إلى طريق سواها إن وجد وإلا رجع إلى طريقة العقل، وهو قول جماعة من الفقهاء، واختيار السيد أبي طالب عَلَيْه السَّلام، وهو الذي دل عليه ظاهر كلام شيخنا، وهو الذي نختاره.
ومنهم من قال: يكون المجتهد عند تساوي الأمارتين مخيراً في حكميهما وهو قول أبي علي وأبي هاشم والقاضي، وينبغي لنا أن نبدأ بالكلام في جواز التساوي، ثم نتبعه بالكلام في حكم المتساوي.
فأما الذي يدل على جواز وقوع التساوي: فلأنه لا مانع يمنع من ذلك لأن الموانع المعقولة من التساوي لا تعدوا طريق العلة أو مكانها أو حكمها، ولا مانع من تجويز تساويهما فيما يرجع إلى كل واحد مما ذكرنا، ولأنا نعلم من نفوسنا تساوي الأمرين الراجعين إلى الأمارات في مثل ذلك لتساوي الأمارات كالأمن والخوف في طريق تريد سلوكه وبنصه لنا على كل واحد من الجائزين منه أمارة حتى يتوقف وينتظر أمراً آخراً، وكذلك في آراء الحروب وغيرها، وأقوى الأمور ما يجده الإنسان من نفسه إذ لا يصح المنع من العلم بما نجده من نفوسنا.
وكان أبو الحسن يمنع من ذلك الذي هو تساويهما لأمر يرجع إلى حكمهما، وهو أن تساويهما يوجب الرجوع إلى التخيير والرجوع إلى التخيير لا يجوز، قال: لأنه لا لفظ منهما يدل على التخيير، ولأن الأمة مجمعة على بطلانه.
والجواب على هذا بوجهين:
أحدهما: أنه لا يؤدي إلى التخيير أعني القول بتساويهما، وإنما يؤدي إلى إطراحهما على ما سنذكره فيما بعد إن شاء الله.
والثاني: أن امتناع جواز التخيير عنده بينهما لا يمنع من صحة تساويهما؛ لأن التخيير ليس بمحال في نفسه على القطع فيكون ما أدى إليه قضى باستحالته إذ لو كان محالاً لما صحّ اعتقاده فضلاً عن أن يكون مذهباً لمن اختاره من أهل العلم.
وأما أن الأمة مجمعة على أنه لا يجوز التخيير في الأحكام؛ فلا سبيل إلى تصحيح هذه الدعوى بل خلافها مأثور من أهل العلم، وأن المروي عن أبي حنيفة التخيير في زكاة الخيل بين دفع دينار عن كل فرس في رأس الحول وبين تقويمه ودفع ربع عشر ثمنه.
وكذلك الحسن البصري قال بالتخيير بين غسل الرجلين ومسحهما مسحاً عميماً لتساوي الأمارات عنده.
وحكى عن عبيدالله بن الحسن العنبري(1)
__________
(1) ـ عبيدالله بن الحسن بن الحصين العنبري، مات سنة ثمان وستين ومائة. انظر: المنية والأمل.
التخيير في أحكام الفروع المختلف فيها، وأكثر ما يدعي في ذلك وإن كان بعيداً لما ذكرنا فإنما يثبت مع التسليم أن يقال إن ذلك لم يوجد في قضايا السلف.
والجواب عنه: بأنه لم يقع ولو وقع لكان الحكم التخيير لأنه كما جاز استواء الأمارات عنده أجاز اختلافها عنده فكل واحد من الأمرين لا مانع منه، ولأنه لو كان مؤدياً إلى التخيير فللقول بالتخيير وجه يمنع من القطع على بطلانه: وهو أن المكلف قد أخذ عليه في الشرعيات العمل بما قامت عليه دلالة الشرع، وقد قامت الدلالتان الشرعيتان على كل واحد من الحكمين وصحت كل واحدة منهما باعتبارها في نفسها في جميع الوجوه المعتبرة في صحة العلة عنده وغلب في ظن المجتهد أن الحق لا يعدوهما ولم يصح العمل بمجموعهما لكون ذلك مخالفاً لطريق العلماء فلم يبق إلا العمل بالتخيير؛ لأن المجتهد إذا كان متعبداً بأن يثبت للفرع الحكم الذي يغلب على ظنه أنه يجب الجمع بينه وبين الأصل فيه بالأمارة التي يقتضي غالب الظن في علته، وحصل له هذا المعنى في أصلين من حيث كان غالب ظنه يقتضي أن شبهه بأحدهما كشبهه بالأخرى، فما يوجب أن يكون متعبداً بأحد الحكمين فيه، يوجب أن يكون متعبداً بالآخر؛ فإذا استويا في أنه متعبد بهما على سواء ولم يصح ذلك في طريقة الجمع صح في طريقة التخيير.
وقول أبي الحسن: إنه لا لفظ يدل على التخيير، لا تأثير له في المنع من التخيير إذا صح التخيير من جهة المعنى؛ لأن المعنى هو المعتبر في باب العلم دون اللفظ.
وأما الذي يدل على صحة ما اخترناه: أن الأمارتين إذا استوتا وكانتا في أمرين مختلفين لم يغلب على ظننا صحة إحداهما دون الأخرى لتساوي الأمارتين والوجوه كما قدمنا أولاً في طريق تستوي عندنا في أمره أمارات الخوف والأمن، فلا يحصل لنا مع التساوي إلا الشك، والعمل على الشك لا يجوز عقلا ًولا شرعاً.
ولأنهما إذا استوتا مع التنافي لم يكن للمكلف إذا عمل على أحدهما من اعتقاد كون العمل عليها أولى، وهذا الإعتقاد لا يجوز إلا بأن يغلب على ظنه كونها أولى، وذلك لا يصح مع التساوي، وذكر شيخنا رحمه الله تعالى في كتابه الموسم بالفائق في أصول الفقه، الإحتجاج على ما ذهبنا إليه بوجهين:
أحدهما: يتضمن معنى الوجه الأول الذي ذكرنا.
والثاني: أن ذلك التخيير بين النفي والإثبات لا يصح بل يرجع إلى وجه واحد وهو الإباحة وذلك كالتخيير بين أن يكون الفعل محظوراً أو مباحاً أو واجباً أو غير واجب؛ لأنه إذا خير المكلف بين الحظر والإباحة وقيل له: إن شئت فافعله وإن شئت فلا تفعله، فقد أبيح له الفعل، فقد رجع التخيير إلى وجه واحد إذ ليس معنى الإباحة سوى ذلك، وليس ذلك بتخيير بينهما بل هو عمل على أحدهما وإطراح الآخر، فثبت أن التخيير في ذلك لا يصح.
مسألة:[الكلام في العالم هل يصح أن يكون له في المسألة قولان متنافيان أم لا؟]
اختلف أهل العلم في أنه هل يصح أن يكون للعالم في المسألة قولان متنافيان أو لا يصح ذلك؟ نحو ما ينسب إلى الشافعي فقد نصوا في كتبه على مسائل أن له فيها قولين أحدهما يجوز، والآخر لا يجوز من غير رجوع إلى تاريخ أو تخيير وهذا لا يجوز عند أصحاب أبي حنيفة، وكان شيخنا رحمه الله تعالى يذهب إليه، وهو الذي نختاره، وحكى أن أكثر المتكلمين يجوزه.
والذي يدل على صحة ما ذهبنا إليه: أن إضافة ذلك إلى العالم على معنى أن كل واحد منهما مذهب له من غير تغاير في الوقت والوجه يؤدي إلى اعتقاد الضدين وذلك لا يجوز وقوعه في حالة واحدة فضلاً عن جعله مذهباً لبعض المجتهدين؛ لأنا لا نعقل من أنفسنا اعتقاد كون الفعل حراماً وكونه حلالاً في حالة واحدة؛ لأنا إذا اعتقدناه حلالاً ارتفع اعتقادنا بكونه حراماً، وإن اعتقدناه حراماً ارتفع اعتقاد كونه حلالاً لاستحالة اجتماع الضدين، وموضع تقرير ذلك أصول الدين، ولا يصح أن يقال إنما نسب إليه ذلك؛ لأنه يقول بالتخيير فيهما لأن ذلك لا يعلم من مذهبه، ولأن التخيير قول واحد وليس بقولين، ولأنه يكون قولاً بأن الواجب يجوز تركه مع التمكن من فعله إلى غير واجب يسد مسده ويقوم مقامه كما قلنا في الكفارات الثلاث لا يجوز، وكذلك فلا يصح أن يقال إنما نسبنا إليه ذلك لأنه لم يثبت عنده ما عداهما ولا ندري في أيهما الحق من غير أن يقويا عنده، أو يقال إنهما قويا عنده ولكن لم يترجح أحدهما على الآخر، وذلك لا يصح؛ لأنا قد قدمنا أن من هذه حاله يكون شاكاً في المسألة والعمل على الشك لا يجوز.
فلا يجوز أن يقال إن له في المسألة قولاً فضلاً عن قولين، وذلك لا يصح أن يقال في من شك في العالم هل هو حادث أو قديم أن له في العالم قولين.
فإن قيل: إن له قولين بمعنى أنه قال أحدهما في القديم والثاني في الجديد، لم يصح أيضاً إضافة قولين إليه على هذا الوجه، وإنما له قول واحد وهو الجديد الذي رجع إليه دون القديم الذي رجع عنه.
فإن لم يعلم التاريخ بينهما قلنا له في المسألة قول هو أحد هذين القولين إلا أنا لا نعلمه بعينه لجهل التاريخ بينهما، ومما يجوز أن يتوهم أنهم أضافوا إليه القولين لأجله، أنه قال قولين بَيَّن فيهما طريقتين للإجتهاد للمجتهد ليعمل فيهما بما يؤديه اجتهاده إليه، وعلى هذا لا يجوز إضافة اعتقاد أحد القولين إليه على التخيير ولا على الجمع.
فإن قيل: إنه ذكر قولين في المسألة على حالين ويريد أنه قال بأحدهما على حال وبالآخر على حال أخرى، هذا لا يصح، لأنه يوجب أن يكون له في المسألة قول واحد إذ الحادثة التي تختص بحال تخالف التي تختص بحال آخر وهما يجريان مجرى مسألتين، كما يفتى من يمكنه الصلاة قائماً بالقيام، ومن لم يمكنه الصلاة قائماً بالقعود، فلا يقال له في الصلاة قولان أحدهما أنه يجب على المصلي تأديتها قائماً والثاني يوجب عليه تأديتها جالساً، وكذلك فإن من يذهب إلى أن النية تجب في طهارة التيمم ولا تجب في طهارة الماء، لا يصح أن يقال له في نية الطهارة مذهبان:
أحدهما: أنها واجبة.
والثاني: أنها غير واجبة، وما أمكن أن يقال فالجواب عنه يجري هذا المجرى.
فصل: في كيفية إضافة المذهب إلى العالم
وحقيقة المذهب: هو كل قول صادر عن دلالة أو أمارة أو شبهة أو تقليد، لأنه لا يقال في العلم الضروري إنه مذهب، ولا في التبخيت إنه مذهب، فمتى ظننا اعتقاد الإنسان على هذا الوجه أو عرفناه ضرورة أو بدليل مجمل أو مفصل قلنا إنه مذهبه، وقد يدلّ الإنسان على مذهبه في المسألة بوجوه أربعة:
أحدها: أن يحكم في المسألة بعينها بحكم معين.
وثانيها: أن يأتي بلفظ عام يشمل تلك المسألة وغيرها نحو أن يقول الشفعة لكل جار.
وثالثها: أن يعلم أنه لا يفرق بين مسألتين وينص على حكم إحداهما فيعلم أن حكم الأخرى عنده ذلك الحكم كالطهارتين، وقد مثله شيخنا بأن يقول: الشفعة لجار الدكان فيعلم أنه عنده لجار الدار.
ورابعها: أن يعلل الحكم بعلة في عدة مسائل فيعلم أن مذهبه شمول ذلك الحكم لتلك المسائل سواء قال بتخصيص العلة أو لم يقل، وهذا عندنا مما يمكن فيه النظر؛ لأنه لا يمتنع أن يعترض تلك العلة في بعض المسائل ما لا يقوي ظنه بصحتها في بعضها مع قوله بتخصيص العلة فلا يحصل لنا القطع بذلك.
فأما من لم يقل بتخصيص العلة وعلمنا قوله في مسألة بمجرد ثبوت تلك العلة علمنا مذهبه في جميع ما وجدت فيه تلك العلة متعرية عما يمنع من ثبوتها في الأصل، فإذا لم يقل بتخصيص العلة وقال النية واحدة في التيمم لأنه طهارة عن حدث، علمنا أن مذهبه في الوضوء وجوب النية لوجود هذه العلة؛ لأن كلام العالم كما يدل على مذهبه فكذلك تعليله من طريق العادة والعرف.
فأما إذا نص في المسألة على حكم وكانت المسألة تشبه مسألة أخرى شبهاً يجوز أن يخفى على بعض المجتهدين، فإنه لا يجوز أن يضاف إليه مثل قوله المنصوص في المسألة الأخرى نحو أن ينظر فيها غير نظره في المسألة الأخرى، أو يعتمد فيها غير تلك الطريقة فيقول بخلاف ما تضمنته، فهذه طريقة القول في المذهب وكيفية إضافته إلى العالم.
مسألة:[الكلام في جواز تفويض الله إلى المكلف التحليل والتحريم]
اختلف أهل العلم في جواز تفويض الله سبحانه إلى المكلف التحليل والتحريم والإباحة باختياره.
فمنع أكثرهم من ذلك، وهو قول جماعة الحنفية، وكثير من الشافعية، وإليه ذهب أبو هاشم وأبو عبدالله وقاضي القضاة وأبو الحسين البصري والحاكم.
وحكي عن الشيخ أبي علي أنه أجاز ذلك للنبي صَلَّى الله عَلَيْه وآله وَسَلَّم خاصة ذكر ذلك في قوله تعالى: {كُلُّ الطَّعَامِ كَانَ حِلًّا لِبَنِي إِسْرَائِيلَ إِلَّا مَا حَرَّمَ إِسْرَائِيلُ عَلَى نَفْسِهِ} [آل عمران:93]، ثم رجع عن هذا.
وحكي عن مؤيس بن عمران وجماعة من البصريين أنه تعالى قد فوض إلى رسول الله صَلَّى الله عَلَيْه وآله وَسَلَّم أن يحكم بما شاء لعلمه أنه لا يختار إلا الصواب، ثم فعل بعد ذلك مثله لصالح أمته فإذا سئل عن مسألة ليس فيها نص فله أن يفتي بما شاء.
وحكي عن الشافعي تجويز ذلك في النبي صَلَّى الله عَلَيْه وآله وَسَلَّم، والقول الأول هو الذي كان شيخنا رحمه الله يعتمده، وهو الذي نختاره.
والذي يدل على صحته: أن هذه الشرائع مصالح، والمصالح لا يجوز أن تكون موقوفة على اختيار العباد، فلا يجوز أن يفوض الأمر في ذلك إليهم، إذ لا هداية لهم إلى العلم بها لكونها من جملة الغيب الذي استأثر الله سبحانه بعلمه.
يبين ذلك ويوضحه: أن المكلف قد يختار الصلاح وقد يختار الفساد على وجه السهو والعمد؛ فلو أباح الله للمكلف أن يحكم بما يختاره لكان فيه إباحة الحكم بما لا يأمن كونه فساداً، ومتى قيل: إنه يأمن ذلك لقوله تعالى له: إنك لا تحكم إلا بالحق.
قلنا: لا يجوز أن يقول له ذلك؛ لأنه لا يجوز أن يستمر من المكلف اختيار الصلاح دون الفساد من غير علم بأعيان الصلاح، كما لا يجوز أن يتعبد الأمي بالكتابة المحكمة إذ يستحيل حصول ذلك منه بالإتفاق؛ لأن حصوله على ذلك الوجه ينقض كون الفعل المحكم دلالة العلم، ومعلوم أن ما أدى إلى ذلك قضي بفساده إذ قد تقررت لديه صحته، وكذلك الأخبار بالصدق يستحيل حصوله بالإتفاق على وجه الإستمرار ممن لا يعلم مَخْبَرُهُ، وفي تجويز هذا رفع الثقة بنبوة الأنبياء عَلَيْهم السَّلام التي تكون معجزتهم الخبر بالغيب على وجه الصدق مستمراً.
ولأنه لو جاز لشخص أن يعلم بالغيب مستمراً من غير علم بالمخبر لجاز من غيره من الأشخاص بل من سائر الأشخاص، لأن ما يحصل بالإتفاق لا تفترق فيه أحوال الناس، إذ لا يرجع فيه إلى دلالة ولا أمارة، فكذلك يرفع العلم بنبوة الأنبياء، وبنقض معجزاتهم، وذلك لا يجوز على ما هو مقرر في مواضعه من أصول الدين، ولأن ذلك يؤدي إلى أن يتعبد نبي أو أنبياء لا تظهر عليهم أعلام النبوة بأن يعلم الله من حال المكلف أنه لا يصدق إلا الصادق، وذلك باطل، ولأنه لو جاز ذلك في العالم لجاز في العامي؛ لأن ما يحصل بالإتفاق لا تختلف فيه أحوال العباد، وذلك خارج عما عليه الأمة ويؤدي إلى الحكم بالأهواء وتعطيل الشرائع وذلك لا يجوز.
مسألة:[الكلام في أن كل مجتهد مصيب في الفروع]
اختلف أهل العلم في المجتهدين في الفروع؛
فمنهم من قال: كل مجتهد فيها مصيب في اجتهاده وفيما أداه إليه اجتهاده، وحكاه شيخنا رحمه الله تعالى عن أبي الهذيل، وأبي علي، وأبي هاشم، وأبي عبدالله، وقاضي القضاة، والسيدين المؤيد بالله وأبي طالب عَلَيْهما السَّلام.
وذكر أنه المحكي عن أبي الحسن، وحكاه عن أصحاب أبي حنيفة، وحكى غيره عنهم خلاف ذلك.
وحكى سفيان بن سحبان عنهم أن الحق في واحد، وكلام الشافعي يختلف، واختلف أصحابه فمنهم من قال: الحق في واحد والمخطئ معذور، ومنهم من قال: كل مجتهد مصيب، ويضيف ذلك إلى الشافعي وسوى فيه بين اجتهاده والحكم، وإن كان أحدهما أخطى الأشبه عند الله وسنذكر الأشبه فيما بعد إن شاء الله تعالى.
وكان شيخنا رحمه الله يذهب إلى ما ذهبت إليه مشائخنا من أن كل مجتهد مصيب في اجتهاده وفي ما أداه إليه اجتهاده وهو الذي نختاره.
ومنهم من ذهب إلى أن الحق في واحد، وأن ما عداه باطل، وحكاه شيخنا عن الأصم(1) وبشر المريسي وابن علية(2)
__________
(1) ـ الأصم: أبو بكر عبد الرحمن بن كيسان الأصم، من المعتزلة من الطبقة السادسة،، وكان من أفصح الناس وأفقههم وأورعهم؛ خلا أنه كان يخطي علياً -عَلَيْه السَّلام- في كثير من أفعاله ويصوب معاوية في بعض أفعاله.
قال القاضي: ويجري منه حيف عظيم على أمير المؤمنين، وله تفسير عجيب، وكان أبو علي إذا ذكره قال: لو أخذ في فقهه ولغته لكان خيراً له. انظر كتاب المنية والأمل في شرح كتاب الملل والنحل.
(2) ـ إسماعيل بن إبراهيم الأسدي، المعروف بابن علية، توفي سنة ثلاث وتسعين ومائة، قال ابن معين: كان ثقة مأموناً ورعاً تقياً وأثنى عليه غيره. انظر الجداول (خ).
، وأن الحق قولهم، وتجاوز الأصم إلى أن قال: حكم الحاكم ينقض به(1) وقال: المخطئ في ذلك كالمخطئ في أصول الدين، وبنوا ذلك على قولهم إن على أعيان المسائل أدلة قاطعة توصل إلى العلم، وبطلان قولهم هذا حاصل لأهل العلم بما يجري مجرى الضرورة فلا يحتاج فيه إلى إفراد دلالة.
وذهب أهل الظاهر فيما عدا القياس إلى أن الحق في واحد، وقال بعضهم: الحق في واحد والمجتهد مصيب في اجتهاده.
فالذي يدل على صحة ما ذهب إليه مشائخنا من أن قول كل واحد من المجتهدين حق صواب:
ما تواتر به النقل من الصحابة أنهم لما اختلفوا في مسائل الفروع نحو مسألة الإيلاء ومسألة الحرام وغيرهما من المسائل اختلفت أقاويلهم فيها، وكان كل واحد منهم يتولى من خالفه كما يتولى من وافقه على حسب علمهم في اختلافهم في القِرَآن، وكان كل منهم لا يمنع صاحبه من قوله الذي اختاره ولا يخطي المستفتي منه في فتواه.
يبين صحة هذا: أنهم لو كانوا منكرين على الغير اختياره لوجب أن يعتقد كل منهم في من خالفه أن حكمه غير جائز فيما يحكم به، وأن العامي لا يجوز له أن يستفتيه، وقد علمنا من طريق الأخبار المتواترة أنهم لم يكونوا يسلكون هذه الطريقة فيما بينهم؛ لأن بعضهم كان لا يمنع من تولية الحكم من يخالفه في الإجتهاد بل لو حكم عليه بغير اجتهاده لانقاد له وأمضاه.
__________
(1) ـ قال في المعتمد: وقالوا -أي الأصم وبشر المريسي وابن علية-: إن على الحق دليلاً يعلم به المستدل أنه قد وصل إلى الحق ويجب نقض الحكم بما خالف الحق) انتهى.
وبعضهم يعتقد إمامة صاحبه مع أنه يخالفه في مثل ذلك، فلو كان الحق في واحد لكان المخالف له مخطياً، والساكت عن النكير مخطياً، والمتولي لمن فعل الخطأ مخطياً أيضاً، فكان يقع في ذلك اتفاق الصحابة على الخطأ، وذلك لا يجوز، ولا يمكن أن يقال إنما لم ينكروا ذلك؛ لأن المخطئ معذور؛ لأنه إذا لم يكن مصيباً كما ذكرنا لم يكن معذوراً إذ هو متمكن من الوصول إلى الحق وقَصَّرَ دونه فجرى مجرى من هو متمكن من الوصول إلى العلم فاقتصر على الظن، أو متمكن من الوصول إلى النص فاقتصر على القياس، ولا شك في خطأ من فعل ذلك إليهم إلا أن يقال إنه معذور على أنه لا سبيل له إلى الوصول إلى الحق بوجه من الوجوه، فهذا يسقط عنه تكليف إصابة الحق، إذ التعبد بغير الممكن لا يجوز لأنه جارٍ مجرى تكليف ما لا يطاق، فيرجع القول إلى رفع تكليف الإجتهاد، وذلك ما لم يقل به قائل، أو إلى القول بأن كل مجتهد مصيب وهو الذي قلناه سيما إذا كان في المسائل ما يعظم فيه الأمر، ويكثر فيه الجرم؛ لأن فيها ما يتعلق بإراقة الدماء وأخذ الأموال فأخطأ في ذلك وهو متمكن من الإصابة وهذا يؤدي إلى القطع، على أن في جملة الصحابة من أقدم على كبيرة ببعض هذه الأقاويل التي اختلفوا فيها، وأن الباقين تركوا إنكار ذلك، وهذا لا يجوز عليهم على ما قدمنا في غير موضع، إلا أن يكون مرادهم بأنه معذور أنه لم يكلف إلا ما أداه اجتهاده إليه، فقد وافقونا في المعنى؛ لأن الفعل الواقع من المكلف على الوجه الذي كلف لا بد من أن يكون حقاً، ولسنا نريد بقولنا إن كل واحد من هذه المذاهب حق غير هذا المعنى.
مسألة:[الكلام في الحوادث التي اختلف فيها المجتهدون هل لها حكم عند الله تعالى هو الأشبه أم لا؟]
اختلف أهل العلم في الحوادث التي اختلفت فيها المجتهدون، هل لها حكم عند الله تعالى هو الأشبه حتى لو نص الله سبحانه وتعالى لنص عليه، أم لا؟
فمنهم من قال: لا بد من أن يكون في الحادثة حكم هو الأشبه، فإن أصابه المجتهد فذاك بتوفيق الله تعالى، وإن لم يصبه فقد أدى ما تُعبِد به؛ لأن الله تعبد بالإجتهاد في طلبه دون إصابة عينه، وقد أدى ما كلف.
وحكى شيخنا رحمه الله تعالى هذا القول عن أبي الحسن، وأبي علي، أولاً، وعيسى بن أبان، وسفيان بن سحبان، وهو المحكي عن محمد بن الحسن إلا أنه عبر عن الأشبه بالصواب عند الله، وذكر أن أبا الحسن ذكر أن ذلك مذهب أصحاب أبي حنيفة، وحكى عنهم أن أحد المجتهدين مصيب، والثاني مخط معذور.
فأما الشافعي فذهب إلى الأشبه على ما حكى عنه أبو حامد المروزي(1)والقاضي، وممن قال بالأشبه: الشيخ أبو إسحاق بن عياش(2).
وذهب أبو الهذيل وأبو هاشم وقاضي القضاة والسيد أبو طالب عَلَيْه السَّلام وأبوالحسين البصري والحاكم إلى أنه لا معنى للقول بالأشبه وهو الذي كان شيخنا رحمه الله تعالى يذهب إليه، وهو الذي نختاره.
واحتج من ذهب إلى المذهب الأول: بأن المكلف طالب ولا بد للطالب من مطلوب معين، إذ يستحيل طلب الأمر الذي لا يتعين، كما نعلم فيمن يتحرى جهة القبلة أنه لا بد له من جهة لو أصابها لأصاب الحق إلا أنه يعذر إذا أخطأها.
__________
(1) ـ أبو حامد المروزي هو أحمد بن بشر بن عامر القاضي، توفي سنة (362هـ).
(2) ـ أبو إسحاق بن عياش: هو إبراهيم بن عياش البصري، قال القاضي: وهو الذي درسنا عليه أولاً وهو من الورع والعلم والزهد على حد عظيم، أخذ عن أبي هاشم وأبي علي بن خلاد وأبي عبدالله البصري، وله كتاب في إمامة الحسنين ـ عليهما السلام ـ وكتب غيرها.
ويمكن أن يتكلم في هذا بأن يقال: إن هذا التمثيل خارج عما نحن فيه؛ لأنه فرض في أمرٍ فيه مطلوب معين، ونحن لا نسلم أن نافي الإجتهاد مشارك لهذا في هذا الوجه فيقيسونه عليه، ولا نجد إلى تصحيح ذلك سبيلاً.
وبعد فلو كان ما ذكره مستقيماً لما كان المعقول من الأشبه إلا ما تعبد به، وهو العمل على ما يغلب على ظنه أنه الحق، ولا معنى لذكر الأشبه في تلك الحال على غير هذا الوجه؛ لأنه إن أريد به غير ما كلف بإصابته فنحن لم نبن الكلام إلا على ما كلف بإصابته، وإن أريد به ما لم يكلف بإصابته فهو مما نحن فيه بمعزل، ومثلوه بأمثلة كثيرة إلا أنها لا تجري هذا المجرى.
وجملة الأمر: أنا نعلم أن الأشبه غير معقول حتى يتكلم في نفيه وإثباته، فينبغي أن يطالبوا بإثباته معقولاً حتى ينظر في أمره، ولا سبيل إلى إثباته معقولاً؛ لأن الوجه الذي يفيدها معنى قولنا إن الفرع بأصل من الأصول أشبه منه بغيره إن لم يرجع به إلى غالب الظن عند المجتهد، أن رد الفرع إلى بعض الأصول وإجراء حكمه عليه أولى من رده إلى سائر الأصول لم يكن له معنى يعقل، بدلالة أنه لو كان يعتبر في كونه أشبه بالأصل اعتبار التشابه بالصورة كما يقال: زيد أشبه الناس بعمرو، وكذلك لا يجوز اعتبار سائر الصفات التي لا تؤثر في الحكم عند المجتهد، كون الأصل موجوداً، أو مطعوماً، أو أبيض، أو أسود إلى غير ذلك من الصفات التي لا يعقل فيها التأثير، فإذا الأشبه ليس إلا ما ذكرنا.
وإن أريد بالأشبه الأمر الذي لو ورد النص من الله سبحانه وتعالى في الحادثة لورد به وهذا يمكن الجواب عنه: بأن النص إن ورد والتكليف بحاله فالمسألة بحالها وهو أن المجتهد إنما يتعبد بما يؤديه اجتهاده إليه، والأشبه ما يغلب على ظنه اجتماع الفرع والأصل فيه على الوجه المعتبر، وإن زالت المصلحة كان هذا يؤدي إلى أن في الحوادث المنصوص عليها أمراً هو الأشبه وهو الذي إذا ورد التكليف الناسخ ورد به.
مسألة:[الكلام في أن التعبد بأقاويل مختلفة جائز]
والتعبد عندنا بأقاويل مختلفة جائز، وحكي عن بعضهم المنع منه.
والذي يدل على صحة ما ذهبنا إليه: أن التعبد إنما يرد للمصلحة ولا يمتنع اختلاف مصلحة العباد فيخالف تعبد أحدهم تعبد الآخر، وتقرير هذه المسألة قد تقدم في باب الناسخ والمنسوخ، وقد ورد التعبد بذلك منصوصاً وغير منصوص.
ومثاله: ما نعلمه في من تحرى جهة القبلة فإن الإنسان قد يستقبل ما يستدبره صاحبه وكل منهم قد أدى ما تعبد به، فلا يمتنع أن يتعبد الإنسان في الحكم بنقيض ما حكم به صاحبه إذ الطريقة في ذلك واحدة، وهو أن كل واحد من الأمرين استفراغ الوسع في طلب الأمارة المقتضية لغالب الظن، أن المجتهد قد أصاب ما كلف إصابته، وكذلك قد ورد التعبد بالقراءات المختلفة وكل حق وصواب.
فصل: في الإجتهاد
اعلم أنا قد قدّمنا الكلام في حدِّه وحقيقته وينبغي أن نتكلم في طريقته.
وطريقة الإجتهاد عند أهل التحصيل من العلماء غير مردودة إلى أصل معين، وأكثر ما يعتبر فيها الحال، والحال لا يصح استقرارها ولا حصرها فيجب على العالم استفراغ الوسع في التثبت في حال الإجتهاد؛ لأنه لا يرده إلى أصل فيتوصل بمعرفة علته إلى الحكم فالأمر فيه حينئذ أهم من القياس لأن القياس يرجع إلى أصل معين وعلة مقررة، وأعيان المسائل الإجتهادية لا تنحصر، وإنما نذكر منها طرفاً ليكون منبهاً على غيره.
فمن ذلك متعة المطلقة: فإن الله تعالى أوجب لها متعة على قدر يسار الزوج وإعساره، ولم يقدرها ولا لها أصل ترد إليه في القياس، وقد ذكر فيها أعلى كما ذكر عن الحسن بن علي(1)عَلَيْه السَّلام أنه متع بعشرة آلاف درهم، وذكر فيها أدنى كثوب واحد والثوب لا يوقف له على قدر.
__________
(1) ـ الحسن بن علي بن أبي طالب، أبو محمد سيد شباب أهل الجنة، وريحانة جده من الدنيا، الإمام قام أو قعد، مولده بالمدينة في شهر رمضان عام ثلاثة من الهجرة.
..إلى قوله - أيده الله تعالى-: ثم سقته امرأته جعدة بنت الأشعث سماً في لبن بأمر معاوية فمات بعد شهر في شهر -قلت: بيض لذلك في الطبقات، وقد قيل: إنه في شهر ربيع الأول- قلت: واختلف في تاريخ موته وعمره فقيل: سنة تسع وأربعين، وقيل سنة خمسين، وقيل إحدى وخمسين، وقيل اثنتين، وله سبع وأربعون -وصححه المؤلف- وقيل: تسع وقيل ست، وقيل خمس. هكذا في الكتب المعتبرة والاختلاف واقع في مثل هذا في الأغلب فيكتفى بالأقرب.
انظر لوامع الأنوار (ط2- 3/30، 45).
وقد علم من الحسن عَلَيْه السَّلام أن ذلك لا على وجه الوجوب؛ فالواجب على العالم حينئذ الرجوع في معرفة قدر المتعة إلى تعرف حال الزوج والزوجة ويسلك في ذلك طريقة وسطاً وأقل ما في ذلك ما يكون متاعاً لمثلها في العرف من مثله لا يحتقر لقلته، ولا يضرب به المثل لكثرته، كما فعل الحسن بن علي عَلَيْه السَّلام.
والناس ثلاثة أجناس: مكثرين وأغنياء وفقراء.
ومن ذلك نفقة الزوجات: والأمر فيها أهون؛ لأنها أقرب إلى معرفة الحكم فيها من جهة عرف الناس في تلك الجهة، وعلى العالم فيها سلوك وسط؛ لأن الوسط أقرب إلى العدل بينهما من حيث هي تريد الأعلى وهو يريد الأدنى، فلا يرى الأعلى فيعد سرفاً ولا الأدنى فيعد تقصيراً.
ومن ذلك الفعل في الصلاة: فإنه إن كان كثيراً أفسدها بالإجماع، وإن كان قليلاً لم يفسدها بالإجماع، ثم يرجع في القلة والكثرة إلى الإجتهاد فلا يمكن أن يرجع في ذلك إلى أصل معين، وإن كان بعض أهل العلم قد قدر في ذلك أصلاً، وهو أن الكثير: كل فعل إذا فعله المصلي خرج عند من راءه من كونه مصلياً، وهذا لا يصح لأنه لو زاد فيها من جنسها لما خرج عند من راءه مصلياً، وتفسد صلاته بالإجماع.
فإذاً المرجع في قليل الفعل وكثيره إلى اجتهاد تقارن الحال جملته أن ما غلب على ظن المصلي كثرته كان كثيراً، وما لم تغلب على ظنه كثرته كان قليلاً، فلو قال: إن حال المجتهد فيه أصل في الإجتهاد لما كان عندي بعيداً، وعلى هذا الوجه يجري الكلام في أروش الجنايات، وقيم المستهلكات، وتولية الأمراء والقضاة، والحكم بالشهادات إلى غير ذلك من هذا القبيل، الذي يكثر لو شرحناه.
مسألة:[الكلام في الاستدلال بالأصول من طريق المعنى على الحكم]
واعلم أنه متى يقع القياس على الأصول فقد يقع الإستدلال بها من طريق المعنى كما يقع الإستدلال بها من طريق اللفظ، وذلك كالإستدلال على نجاسة الكلب بأمر النبي صَلَّى الله عَلَيْه وآله وَسَلَّم بغسل الإناء من ولوغه، وذلك لأن الغسل في الشريعة إنما يجب بوجهين:
أحدهما: العبادة، والثاني: إزالة النجاسة، وقد علمنا أنه لا عبادة علينا في غسل الإناء لأنا لو استغنينا عن الإستنفاع به واستعماله لم يجب غسله بالإجماع، فنعلم أن غسله إنما وجب لنجاسة الكلب بهذا الإستدلال.
وكذلك القول في نجاسة المني أنا نستدل على نجاسته بوجهين:
أحدهما: أن النبي صَلَّى الله عَلَيْه وآله وَسَلَّم قرنه بالنجس الذي يجب غسله بالإجماع كالغائط والبول فلو لم يكن من جنسه لما قرنه كما لا يجوز أن يقول: إنما تغسل ثوبك من ماء الورد أو غيره من الطاهرات التي لا تأثير لها في وجوب الغسل، ومن البول.
وثانيها: أن ما يخرج من الجسد ضربان: طاهر مجمع على طهارته كالعرق وما شاكله، ونجس مجمع على نجاسته كالغائط والبول، وما ينقض الوضوء هو النجس دون الطاهر، والمني مما أجمع على أنه ينقض الوضوء فيجب أن يكون نجساً، والذي يجري هذا المجرى استدلال وليس بقياس، وهو كثير لو وسعناه، وإنا نميل إلى الإختصار الذي شرطناه.
* * * * * * * * *
الكلام في صفة المفتي والمستفتي
فصل: في صفة المفتي التي يجب أن يكون عليها ليجوز له العمل باجتهاد نفسه، وفتوى غيره، والحال التي يجب على غيره الرجوع إليه لكونه عليها.
اعلم أن المفتي يجب أن يكون من أهل الإجتهاد لأنه متى لم يكن مجتهداً لم يتمكن من الوصول إلى معرفة الأحكام من جهة الإجتهاد والإستدلال فلا يجوز له أن يفتي نفسه ولا غيره، ولا أن يحكم على غيره بما لا يعرفه.
فلا يكون من أهل الإجتهاد إلا إذا كان عارفاً بالأدلة السمعية وأمكنه الإستدلال بها ولن يمكنه الإستدلال بها على الوجه الصحيح حتى يكون عارفاً بالله سبحانه وتعالى وبصفاته التي يجب إثباتها له ونفي الصفات التي يجب نفيها منه.
ويكون عالماً بأفعاله وأحكام أفعاله، وما يجوز عليه، وما لا يجوز، وما يجوز أن يريده وما لا يجوز أن يريده، ولهذا يصح له العلم بحكمته سبحانه وعدله ليصح منه الإستدلال بقوله سبحانه على الأحكام.
ويكون عارفاً بنبوة النبي صَلَّى الله عَلَيْه وآله وَسَلَّم وعصمته حتى يصح منه الإستدلال بكلامه صَلَّى الله عَلَيْه وآله وَسَلَّم وأفعاله وما يتبعهما.
ويكون عارفاً بعصمة الأمة والعترة عَلَيْهم السَّلام حتى يصح منه الإستدلال بإجماعهم فيما أجمعوا عليه من قول وفعل وتقرير.
ويجب أن يكون عارفاً بطرف من الأخبار المروية عن النبي صَلَّى الله عَلَيْه وآله وَسَلَّم والفصل بين ما يوجب العلم منها وبين ما لا يوجبه.
ويكون عارفاً بشروط قبول الآحاد وما يجوز أن يعمل عليه منها وما لا يجوز عليه العمل.
ويكون عارفاً بحقيقة الخطاب ومجازه وأقسامه وأحكامه جملة وتفصيلاً، ويدخل تحت هذا الأوامر والنواهي، والخصوص والعموم، والمجمل والمبين، والناسخ والمنسوخ.
وبكيفية الإستدلال بالخطاب ليمكنه الإستدلال به على الأحكام، ويجب أن يكون عارفاً بالقياس وشروطه وما يصح منه وما يفسد؛ ليُمْكِنَه معرفة الأحكام من جهة القياس والإجتهاد، وعارفاً بكيفية الإجتهاد، والوجه الذي تلحق لأجله المسألة بباب الإجتهاد.
فمتى اختص بما ذكرنا جاز أن يجتهد في المسائل فيفتي نفسه وغيره ويحكم على غيره ويجوز أن يجتهد في الفرائض بعلمه لأصولها؛ لأن الظاهر من أحكام الفرائض أنها لا تستنبط من غيرها إلا في النادر وإن استنبطت من غيرها فهو أيضاً يرجع إلى الأصول، ولأن الذهاب عن النادر لا يقدح في الإجتهاد، كما أن المجتهد قد يخفى عليه من النصوص اليسير ولا يقدح ذلك في كونه من أهل الإجتهاد.
فصل: في كيفية فتوى المفتي
اعلم أنه لا يجوز للمفتي أن يفتي بالحكاية عن غيره بل إنما يفتي باجتهاده؛ لأنه إنما يسأل عما عنده ولا يسأل عن قول غيره، وإن سئل أن يحكي قول غيره جاز له أن يحكيه، ولو جاز له أن يفتي بالحكاية لجاز للعامي أن يفتي بما يجده في كتب الفقهاء، والإجماع يمنع من ذلك، ومتى لم يتقدم من المفتي اجتهاد في المسألة وجب عليه الإجتهاد فيها قبل الفتوى؛ فإن تقدم منه اجتهاد وقول في المسألة، وكان ذاكراً لذلك القول وطريقة الإجتهاد لم يجب عليه تجديد الإجتهاد؛ لأنه كالمجتهد في الحال، وإن لم يذكر طريقة الإجتهاد فهو في حكم من لا اجتهاد له فالواجب عليه تجديد الإجتهاد، وإذا لم يجز له أن يفتي فيؤخذ بفتواه فالأحرى أن لا يجوز للعامي الأخذ بفتوى من مات؛ لأنه لا يدري أنه لو كان حياً لكان ذاكراً لطريقة الإجتهاد وراضياً بذلك القول أم لا؟
وكان شيخنا رحمه الله تعالى يقرر ذلك القول عن ذلك الفقيه ويوجب القطع على أنه اجتهاده، قال: لأن موته قد أزال عنه التكليف فجرى مجرى من اجتهد في مسألة قبل حدوثها ثم سأل عنها، وهو ذاكر لطريقة اجتهاده فإن التكليف زائل عنه في تلك الحال ـ أعني تكليف الإجتهاد في تلك المسألة ـ فكذلك هذا.
وإنما الكلام في الأحكام التي يقضي بها الميت قبل موته حكماً وفتوى فغير بعيد عندنا أن لا يطلق عليها اسم الفتوى، وإنما هي تنبيه على الحكم؛ لأن السنة الجارية بين المسلمين أنهم لا يسوغون للعامي الرجوع إلى الكتب للفتوى، وإنما يرجع إليها العالم للإستعانة بما فيها من الطرق المستحدثة والآثار المقرؤة، فإن وجد المستفتي من يرجع إليه في الفتوى ممن يصلح للفتوى، وجب عليه الرجوع إليه وسواء كان عليه في وصوله مؤنة أو لم يكن، ولا يجوز خلو الأعصار ممن يصلح للفتوى فيذكر الجواب عنه إن لم يوجد؛ فإن قدر ذلك وسأل عن الحكم لو كان، قلنا: يرجع إلى المعلوم في قضية العقل إن لم يعلم الحكم الشرعي ويجري مجرى العالم الذي تستوي عنده الأمارات كما قدمنا.
مسألة:[الكلام في المجتهد إذا تغير اجتهاده]
وإذا أفتى المجتهد باجتهاده بعد توفية الإجتهاد شروطه ثم تغير اجتهاده لم يلزمه أن يعرف المستفتي تغير اجتهاده إذا كان المستفتي قد عمل به؛ لأن كل واحد منهما قد خرج مما يجب عليه، المفتي في فتواه والمستفتي في العمل بمقتضى فتواه، وإن لم يكن قد عمل به فينبغي أن يعرفه ذلك إن تمكن منه؛ لأن العامي إنما يعمل بالإجتهاد الأول؛ لأنه قول المفتي ومعلوم أنه ليس بقوله في تلك الحال إلا أنه لا يبعد عندنا القول بأنه يجب عليه أن يخبره بتغير اجتهاده سواء أمضى الحكم أو لم يمضه.
أما في ما لم يمضه فلا كلام، وأما فيما أمضاه؛ فلأن لا يجري العامي ذلك الحكم على نظائره في المستقبل ولكن يعلمه أن ما أمضاه لا يجب نقضه.
مسألة:[الكلام في ما يجب على العامي في الفتوى]
ويجب على العامي تبين الفتوى دون الوجه، وقد خالف في ذلك الجعفران وقوم من متكلمة البغدادية وقالوا: إنما يجب على العامي الرجوع إليه لينبهه على طريقة الإستدلال، فإن حصل له العلم أو الظن باستدلال نفسه ونظره وإلا لم يجز له العمل، وهذا خلاف قد سبقه الإجماع بالقول والفعل والتقرير فلا يلتفت إليه؛ لأن الصحابة والتابعين وغيرهم من طبقات المسلمين يفتون العامي ولا يثبتون له الوجه بغير مناكرة بينهم في ذلك فكان إجماعاً، وعِلْمُنَا بأنهم لم يثبتوا له الوجه حاصل على حد عِلْمِنَا بأنهم أفتوا في المسائل إلى أن حدث هذا الخلاف، وقد سبقه الإجماع؛ فكان محجوجاً به، ولولا ما قلنا لما تميزت طبقة العوام عن طبقة العلماء، ولأن العامي لا يمكنه الإستدلال وإن نبه على الوجه وطريقته، وهذا معلوم لنا من حالهم فكان إعلامه بالوجه عبثاً وذلك لا يجوز، ولأنا كما نعلم أنه لا يجب على الحاكم أن يعلم المحكوم عليه بالوجه الذي حكم عليه لأجله من طريق الإجماع، نعلم مثل ذلك في المفتي فكما أن فساد الأول معلوم فكذلك هذا؛ لأن ظهور الإجماع في أحدهما كظهوره في الآخر.
مسألة:[الكلام في تخيير المستفتي بين الأقوال المختلفة]
وإذا أفتاه بقول مجمع عليه لم يخيره بلا خلاف في ذلك؛ فإن أفتاه بقول مختلف فيه؛ فقد حكى شيخنا رحمه الله تعالى عن الشيخ أبي الحسين البصري أنه ينبغي أن يخيره بين أن يقبل منه وبين أن يقبل من غيره.
وكان شيخنا رحمه الله تعالى يذهب إلى المنع من ذلك ويقول: ليس للمفتي تخييره لأن ذلك منه تخيير له بين العمل على الظن الأقوى وبين العمل على الظن الأضعف وذلك لا يجوز لانعقاد الإجماع على خلافه، وهو الذي نختاره، لمثل ما ذكره شيخنا رحمه الله تعالى.
ولأنه إنما سأله عما يغلب في ظنه صحته عنده وهو قوله دون قول غيره فكأنه صرح بسؤاله من جهة العرف عما يجب عنده العمل عليه وليس ذلك إلا قوله دون قول غيره؛ لأنه لا يجوز للعالم العمل على اجتهاد غيره على ما نبينه فيما بعد إن شاء الله تعالى.
وسواء علم من حال العامي التسوية بينه وبين مخالفه في تلك المسألة أو لم يعلم، اللهم إلا أن يعلم من حال المستفتي أن مخالفه أعلم منه كان له أن يخيره على معنى أن يقول له: هذا الذي عندي؛ فإن غلب في ظنك كون غيره أولى فاتبعه؛ لأن مخالفه وإن كان أعلم فاجتهاده عند نفسه أولى، وهذا كله عند من يقول بأن كل مجتهد مصيب.
فأما عند من يقول بأن الحق في واحد؛ فلا كلام لأنه لو خيره في تلك الحال لكان قد خيره بين الحسن الذي هو قوله عند نفسه والقبيح الذي هو قول من خالفه، وذلك لا يجوز.
وإن كان شيخنا رحمه الله تعالى قد ذكر عن الشيخ أبي الحسين البصري أن التخيير يجب على أصلهم أيضاً، قال: لأنه ليس بأن يجب عليه الأخذ بقول أحد المفتيين بغير حجة أولى من الآخر، وكان شيخنا رحمه الله يذهب إلى ما ذكرنا أولاً، وهو الصحيح عندنا؛ لأنه وإن جاز للعامي قبول الفتوى ممن يثق به وأخذه منه بغير حجة فليس للعالم أن يفتيه بذلك لأن قول غيره إذا كان من أهل هذه المقالة خطأ عنده وقوله الصواب، ولا يجوز له تخيير المستفتي بين الصواب والخطأ، وإنما اختلف حال الفتوى وحال الحكم؛ لأن الحاكم إنما وضع لفصل الخصومات وقطع الحقوق، فلو خير في الحكم لم تنقطع الخصمة.
قال شيخنا رحمه الله تعالى: وهذا إنما يرجع فيه إلى أمر المستفتي؛ فأما المفتي فالقول فيه في الحكم والفتوى واحد كما قدمنا.
فأما الحكم فليس له النزوع إلى حاكم آخر وإن غلب على ظنه أن قوله أولى؛ لأن الحكم عليه فليس له فيه خيار والفتوى حق له فكان فيه الخيار، فله أن ينزع إلى مفتٍ آخر إذا غلب على ظنه أن قوله أولى.
مسألة:[الكلام في اعتدال القولين عند المفتي]
وإذا اعتدل القولان عند المفتي وكان ممن يرى أنه لا بد من ترجيح بينهما يتميز به أحدهما على الآخر ولا يجوز استوائهما من كل وجه وجب عليه معاودة النظر حتى يرجح عنده أحدهما فيفتي به.
وإن كان ممن يرى جواز الإعتدال في الأمارات وهو الذي اخترناه وكان يرى الإطراح عند التساوي كما قلنا وصححناه أيضاً لم يكن له أن يفتي بواحد منهما بل الواجب عليه الرجوع إلى ما سوى الأمارتين المعتدلتين من الطرائق الشرعية إن وجد ذلك، وإلا رجع إلى طريقة العقل فأفتى بحسب ما يؤديه اجتهاده إليه من جهة العقل.
وإن كان ممن يرى القول بالتخيير عند التساوي؛ فقد ذكر قاضي القضاة في الشرح أن له أن يفتي بأيهما شاء، وذكر قولاً آخر وهو أنه إنما يفتيه بما يراه والذي يراه هو التخيير فينبغي أن يفتيه بلفظ التخيير ولا يفتيه بأحد الأمرين على القطع والبتات.
وكان شيخنا رحمه الله تعالى يقول: إن الأول أولى، وهو الذي نختاره، ويحتج له: بأنه يجوز للمفتي أن يعمل بأي القولين شاء، فكذلك يجوز له أن يفتي بأيهما ولا يجب عليه تخيير العامي بينهما.
وعندنا أن قول القاضي آخراً أولى؛ لأن التخيير حكم زائد على أحدهما ويتعلق به من الفائدة ما لا يتعلق بأحدهما من توسعة التخيير، ولا شك في أنه يلزمه أن يفتي على الوجه الصحيح عنده، والصحيح عنده التخيير فيفتي المستفتي بالتخيير ليطابق هواه اعتقاده، وذلك هو الواجب، ويكون العامي مخيراً في العمل بأيهما شاء كما المفتي مخير، ولو أفتاه بأحدهما على وجه القطع لكانت فتواه مخالفة لمذهبه، وذلك لا يجوز.
مسألة:[الكلام في جواز تقليد العامي للمفتي في الفروع]
يجوز للعامي أن يأخذ بقول المفتي ويقلده في مسائل فروع الشرع عند جميع الفقهاء وجل المتكلمين.
وحكى شيخنا رحمه الله تعالى عن الشيخ أبي علي أنه فصل القول في ذلك؛ فقال: يجوز تقليده في المسائل الإجتهادية دون المسائل التي الحق فيها واحد؛ لأنه لا يأمن خطأ العالم فيها فيكون قد عمل على الخطأ فذلك لا يجوز.
وذهب جعفر بن حرب وجعفر بن مبشر ومن طابقهما من متكلمي البغدادية إلى أنه لا يجوز للعامي تقليد العالم في ذلك، ولا الرجوع إليه إلا ليدله على طريقة الإجتهاد ليعمل باجتهاد نفسه، وقد تقدم الكلام على بطلان هذه المقالة بما فيه كفاية.
وكان شيخنا رحمه الله يعتمد القول الأول، وهو الذي نختاره.
والدليل على صحته: إجماع الأمة على وجوب رجوع العامي إلى العالم في الفتوى من غير تفصيل منهم بينما الحق فيه واحد، وبين غيره من المسائل، فلا يجوز لمن بعدهم الفصل بغير دلالة.
وما ذكره أبو علي من تجويز خطأ العالم فيما الحق فيه واحد لا يكون مانعاً من جواز تقليده؛ لأنه لا يقلد إلا من وثق بعلمه وورعه وجودة تمييزه بحيث يصلح للفتوى فيعلم والحال هذه أنه لا يكون أثقب نظراً من العالم وأهدى إلى طريقة الصواب؛ فيكون ظنه لتقليده أغلب فيجب عليه الرجوع إلى التقليد؛ لأنه يكون عنده أولى وظنه لصحة قول العالم أقوى، اللهم إلا أن يقدر أنه ظفر بطريق توصله إلى العلم فيما الحق فيه واحد فإنه يجب عليه العمل على مقتضاها ولا يجوز له التقليد.
فصل: في ذكر الوجوه التي معها يجوز للمستفتي الرجوع إلى المفتي وقبول فتواه:
اعلم أن شروط الإستفتاء ترجع إلى أصل واحد وهو أن يغلب على ظن المستفتي أن من يستفتيه من أهل الإجتهاد والعلم، ويحصل له هذا الظن بوجوه:
أحدها: أن يراه منتصباً للفتوى بمشهد من أعيان الناس، وأخذ الناس عنه، أو يعلم علمه أو يظنه.
وأن يراه من أهل الدين بأن يرى سماة الخير عليه ظاهرة ويرى الجماعة مطبقة على سؤاله والأخذ عنه والفزع إليه.
أو يعلم علمه أو يظنه وهو من أهل الدين، ولكن صرف الجماعة عن سؤاله بعض الصوارف من خوف السلطان وغيره؛ فإنه إذا أمكنه سؤاله جاز له العمل بفتواه، وإن لم يكن منتصباً للفتوى ولا مسؤولاً في تلك الحال.
ولا شبهة في أنه لا يجوز للعامي أن يستفي من غير العالم الذي ليس بمتدين بل لا يكفي في جواز الإستفتاء كونه عالماً إذا لم يكن متديناً ورعاً؛ لأنه لا يأمن إذا لم يكن على تلك الحال تساهله في النظر ولا يؤدي الإجتهاد حقه فيفتيه بالخطأ أو يغشه فيفتيه بما لا يجوز له العمل عليه لقلة دينه وورعه.
فمتى لم يظن فيه العلم والدين باطناً ويعلمهما منه ظاهراً لم يجز له الرجوع إلى فتواه والأخذ بقوله.
وذهب قوم إلى أنه لا يجب عليه ذلك بل له أن يقبل قول المفتي من غير نظر في حاله، وما ذكرناه هو الذي كان شيخنا رحمه الله يذهب إليه، وهو الذي نختاره.
والدليل على صحته: أن العامي متمكن فيما ذكرناه من التثبت في الأمر، والإحتياط للدين والوصول إلى غالب الظن في علم المفتي ودينه بما قدمنا ذكره من الأمارات، فلم يجز أن يعدل عما يمكنه العمل عليه باستعمال طريقة شرعية؛ لأن العمل على الظن في الشرعيات واجب على من أمكنه.
ومثاله: ما نعلمه أن العالم المتمكن من الإجتهاد في الأمارات التي توصله إلى غالب الظن لا يجوز له العدول عنها والحكم بغير اجتهاد ولا نظر لأنهما قد استويا في أن كل واحد منهما متمكن من تحصيل غالب الظن لصحة ما يعتمده.
مسألة:[الكلام في ترجيح المستفتي بين من يأخذ بقوله عند الإختلاف]
ومتى اتفق أهل العلم والإجتهاد في الفتوى وجب على المستفتي قبولها بلا خلاف بين أهل العلم في ذلك؛ فإن اختلفوا وجب عليه عندنا الإجتهاد في أعلمهم وأدينهم وطلب الأمارات على ذلك؛ لأن ذلك يمكنه، وهو مقوٍ لظنه، وقد تقرر وجوب طلب الظن الأقوى لمن لم يمكنه العلم، وأنه لا يجوز العدول عنده إلى الظن الأضعف مع التمكن من الظن الأقوى كما قلنا في المجتهد في المسائل إنه يجب عليه البحث والإجتهاد حتى يحصل له العلم أو غالب الظن فيما لا يتمكن فيه من الوصول إلى العلم.
وحكى شيخنا رحمه الله تعالى عن قوم أنهم أسقطوا عنه الإجتهاد في ذلك، ونصره الشيخ أبو الحسين البصري، واحتج له: بأن العلماء في كل عصر لا ينكرون على العامي ترك الإجتهاد في أمر العلماء بل يسوغون له العمل على فتوى من أفتاه بغير إنكار منهم عليه، فكان ذلك إجماعاً.
وأجاب عن ذلك رحمه الله تعالى: بأنا لا نعلم إجماعهم على ذلك حتى نعلم أنهم علموا أن العامي استفتى من العالم بغير نظر في أمره ولا ترجيح له على غيره في ظنه، وهذا لا سبيل إليه، وإذا لم يعلم العلماء ذلك من حاله لم ينكروا عليه؛ لأن أمور المسلمين محمولة على السلامة إلا فيما ظهر خلافها، فإذا رأوه يستفتي جوزوا أنه ما استفتى إلا ممن غلب على ظنه أنه أولى من غيره بأن يرجع إليه ويؤخذ منه، بل ذلك هو الواجب عليهم؛ لأن تحسين الظن بالمسلمين واجب ما أمكن، وقد أمكن فلا يصح دعوى الإجماع على خلاف ما ذكرنا.
مسألة:[الكلام في اختلاف المفتين في الورع والعلم وتفصيل ذلك]
فإن استويا عنده في العلم وكان أحدهما أشد ورعاً من الآخر، كان أشدهما ورعاً أولى بالإستفتاء لأن شدة ورعه تحمله على التثبت في أمر الإجتهاد، وتدقيق النظر في المسائل وقلة التساهل عن أمر الحادثة فيكون الظن بما يفتي به أقوى، والعمل على الظن الأقوى هو الواجب.
وكذلك القول إذا استويا عنده في الدين والورع، وكان أحدهما أعلم؛ فإنه يجب عليه الأخذ بفتوى الأعلم.
وقال قوم: يجوز له الأخذ بفتوى الأنقص علماً، وإن كان الأخذ بفتوى الأعلم أولى، وهذا عندنا غير صحيح؛ لأن ظنه بصحة فتوى الأعلم أغلب من حيث هو أهدى إلى طريق الإجتهاد، وأعرف بأصول الأدلة، وأثقب نظراً فيحصل غالب الظن بصحة فتواه دون الآخر، إذ لا يجوز العدول عن العمل على الظن الأقوى مع إمكان حصوله والعمل على الظن الأضعف مع إمكان الإنفصال عنه.
فإن كان أحدهما أعلم، والثاني أشد ورعاً؛ فقد ذكر شيخنا رحمه الله تعالى أنه يحتمل أن يقال: إنهما سواء، ثم قال بعد ذلك: والأولى أن يأخذ بقول الأعلم لزيادته فيما يعين على الإجتهاد والوقوف على الصواب إلا أن يعلم من العالم التساهل في أمر الفتوى، فيعمل حينئذ على قول الأورع، ومثل هذا النظر لا يخفى على العوام؛ لأنه كتدبير الدنيا، ومعرفة أهل السياسة فيها من غيرهم فلم يسقط ذلك عنهم.
مسألة:[الكلام في حال المستفتي إذا استوت عنده أحوال المفتين]
فأما إن إستوت أحوال المفتين عند العامي في العلم والدين والورع على بُعْدِ ذلك؛ فقد حكى شيخنا رحمه الله تعالى اختلاف أهل العلم في أنه هل يكون مخيراً في أقاويلهم أم لا؟
فعند جماعة من العلماء أنه يكون مخيراً في أقاويلهم، وذلك هو قول الحاكم.
وذكر أبو القاسم البلخي في عيون المسائل أربعة أقوال، ولم يبين أيها يختار، فكأنه توقف.
أحدها: أن يأخذ بالأول.
والآخر: أن يأخذ بالأخف إلا في حق العباد.
والثالث: أنه تخيير.
والرابع: أنه يأخذ بأيها شاء في حقوق الله تعالى، وفي حقوق العباد يرجع إلى القاضي.
وذكر قاضي القضاة: أن المفتين متى تساووا لم يكن له الأخذ بالأخف من الأقوال طلباً للتخفيف.
وكان شيخنا رحمه الله تعالى يذهب إلى أن للعامي أن يختار أي العلماء شاء فيجعله مفزعاً له في الفتوى ويأخذ برخصه وتشديده، فإذا اعتمد واحداً في الفتوى لم يعدل إلى غيره إلا أن يكون قوله أحوط فإنه يجوز له العمل بفتوى غيره فيما قوله فيه أحوط.
وهذا الذي نختاره، إلا في رجوعه إلى الأحوط إذا كان قولاً لغير إمامه، فإنا لا نجيز له الرجوع إليه على الإطلاق إلا أن يتفق قول إمامه وقول العالم الآخر في كون الفتوى عن قبيل واحد، كأن يكونا جميعاً من قبيل الحسن، ويقول أحدهما فعله أولى مثلاً، ويقول الآخر هو مباح، فإن فتوى النادب أولى.
فإن قال أحدهما: بأن الفعل مندوب، وقال الآخر: هو واجب، عمل بقول إمامه، وإن كان قوله الندب وكان قول العالم الآخر الوجوب فلا يلزمه الرجوع إليه، ولا يكون في حقه أحوط لأنه إذا اعتقد وجوبه اعتقد قبح تركه، فيكون مُقْدِمَاً على ما لا يأمن من كونه قبيحاً، والإقدام على مثل ذلك قبيح، وهو مع تركه راجع إلى أصل يؤمنه من الخطأ وهو العمل على قول من وجب عليه اتباعه.
وما ذكره شيخنا رحمه الله تعالى من أن للعالم الرجوع إلى قول غيره إذا كان أحوط فكذلك المستفتي غير مستمر على أصولنا؛ لأن قوله عنده أرجح، وظنه به أقوى، وإن كان قول غيره أحوط فلا يجوز له الرجوع إليه لحيطته؛ لأنه متعبد باجتهاده لا باتباع الأحوط، وهذا ظاهر في مذاهب أصحابنا، وهذه المسألة يطول الكلام فيها جداً لو بلغنا به إلى غايته إلا أن فيما ذكرنا إشارة كافية بحمد الله تعالى.
ثم نعود إلى الدلالة على صحة ما اخترناه، فنقول: الدليل على ذلك: أنه قد تقرر وجوب اتباع العالم في الفتوى على سبيل الجملة، فإن استوت عنده أحوال العلماء وبَعُدَ عليه اتباعهم في سبيل الجمع لتنافي أقوالهم، ولا بد من اعتقاد وجوبها إن قيل برجوعه إلى جميعهم، واعتقاد وجوب الأمور المتنافية مستحيل على ما ذلك مقرر في غير موضع من كتب العلم؛ لأنه يستحيل اعتقاده لوجوب الفعل الواحد في الوقت الواحد على الوجه الواحد، وإباحته أو ندبه في الحال الواحد، وما هذا حاله لا يجوز ورود التعبد به، فلم يبق إلا وجوب اتباعه لهم على وجه التخيير لاستوائهم عنده في باب العدالة والعلم.
ويكون حالهم معهم كحال أحدنا مع البقاع الطاهرة فإنه لما وجب عليه الصلاة في بقعة طاهرة واستوت عنده البقاع في الطهارة وتعذر عليه استعمالها على وجه الجمع كان الواجب عليه الصلاة في بعضها دون مجموعها.
كذلك إذا وجب على العامي الرجوع إلى العالم بحال يخصه واستوى عنده العلماء وتعذر عليه الرجوع إلى جميعهم وجب عليه الرجوع إلى أحدهم على وجه التخيير.
وكان شيخنا رحمه الله تعالى قد اعترض على نفسه بأن قال: إذا استوى حالهم عنده كان شاكاً والعمل على الشك لا يجوز، فلم لا يقولون باطراح فتاويهم ولا يرجع إلى واحد منهم كما قلتم في العالم إذا استوت عنده الأمارات؟
وأجاب عن ذلك: بأن بين الموضعين فرقاً؛ فإن العامي إذا استوت عنده أحوال المفتين فليس شاكاً في الأقاويل في حكم الحادثة؛ لأنه لم يبلغ درجة الإجتهاد فتعتدل عنده الأمارات، ولا قلنا بتخييره بين الأقاويل فيكون شاكاً في الأقاويل، وإنما هو شاك في تفاضل المفتين أو عالم أو ظان لفقد تفاضلهم مع علمه أو ظنه لاشتراكهم في العلم والدين.
فإذا علم اشتراكهم وتساويهم في الوجه الذي يجوز لأجله استفتاؤهم فقد علم تساويهم في جواز الإستفتاء من أيهم شاء، بخلاف العالم إذا اعتدلت عنده الأمارات، فإنه لم يعلم اشتراك الأمارتين في الوجه الذي يجوز لأجله العمل بأيهما شاء؛ لأنه إنما يجوز له العمل على الأمارة متى غلب على ظنه أنها أقوى مما يعارضها من الأمارات فمتى لم يقو عنده بعض الأمارات على بعض لم يحصل له في واحدة منها شرط جواز العمل عليها، فوجب إطراح الجميع، بخلاف حال العامي فإن ظنه يغلب على تصويب الرجوع إلى كل واحد منهم على سبيل البدل في اجتهاده، وأن قوله حق فيجوز الرجوع إليه فيكون التخيير والحال هذه تخييراً بين واجبين.
وإنما قلنا بأنه إذا اختار أحدهم للفتوى لم يجز له الرجوع إلى غيره؛ لأن رجوعه إلى غيره يمنعه من العمل ويخرجه من اليقين إلى الشك الذي لا يجوز المضي عليه؛ لأن أحدهما إذا أفتاه بحظر أمر وأفتاه الآخر بإباحته أو بوجوبه، وأفتاه الآخر بندبه، وكل واحد منهما مساوٍ للآخر في باب الظن لصحة قوله استوى عنده الأمارتان في النفي والإثبات ولم يحصل إلا شك مطلق، ولا يجوز العمل على الشك، فما أدى إلى خروجه من اليقين إلى الشك قضي بفساده.
وكان شيخنا رحمه الله تعالى يفرق بين كون قول العالم الثاني أحوط وبين كونه مساوياً في باب الحيطة، بأنه يجوز له الأخذ بقول غير إمامه إذا كان أحوط بالإمامة، وهذا عندنا لا يستقيم لما قدمنا أولاً، ولأن هذا يوجب كون قول العلماء في القول الآخر الأحوط قولاً واحداً، ومعلوم خلافه فصح ما قلناه.
مسألة:[الكلام في فتوى فاسق التأويل]
اختلف أهل العلم في الفاسق من جهة التأويل كالخارجي وغيره، هل تقبل فتواه أم لا؟
فحكى شيخنا رحمه الله تعالى عن الشيخ أبي القاسم البلخي أنه قال: تقبل فتواه وجرى فيه على أصله في تجويز قبول خبره.
وحكى عن الشيخين أبي علي وأبي هاشم أن فتواه لا تقبل وذلك مستمر أيضاً على أصلهما في المنع من جواز قبول خبره بطريقة الأولى.
وذهب قاضي القضاة كما قدمنا في باب الأخبار إلى قبول خبره ولم يجز قبول فتواه، ولم يبين وجه الفرق بين الخبر والفتوى.
وكان شيخنا رحمه الله يذكر في الفرق وجهاً حسناً، وهو: أن خبره مستند إلى غيره وسلامة ظاهره تقضى بأنه لا يقدم على الكذب لتقرر قبحه عند الجميع فيقبل خبره لذلك، وليس كذلك فتواه لأنها اعتقاده ومذهبه، وفسقه يمنع من اتباعه في مذهبه واقتفاء أثره، كظهور صلاته وعظم جهالته في المذهب وانكشاف أمره لأنه إذا أخطأ فيما نصب الله سبحانه عليه الأدلة الموصلة إلى العلم وهو الإعتقاد فبأن يخطي فيما ليس عليه إلا أمارات وعلل غامضة أولى وأحرى.
وكان شيخنا رحمه الله يذهب إلى أن فتواه لا تقبل، وهو الذي نختاره.
والدليل على صحته: أن الفاسق من جهة التأويل كالفاسق من جهة التصريح؛ لأن كل واحد منهما خارج من ولاية الله إلى عداوته، فإذا لم يجز قبول فتوى الفاسق من جهة التصريح فكذلك لا يجوز قبول فتوى الفاسق من جهة التأويل؛ لأنه جارٍ مجراه، وكذلك إذا علمنا غلطه في باب الإعتقاد مع أن الأدلة عليه أظهر وأشهر، وكونها موصلة إلى العلم فبأن يغلط في باب الإجتهاديات أولى لغموض أدلتها وضعف مذاهبها، ولأن أكثر مسائل الإجتهاد والقياس مأخوذة الأصول عن النبي صَلَّى الله عَلَيْه وآله وَسَلَّم بنقل الصالحين، وقد أفسدوا على نفوسهم النقل بتبرئهم من السلف الصالح فلا يوثق بقولهم بذلك.
ولأنه لا يؤمن اجتهادهم في المسائل المنصوص عليها لردهم للنص الذي رواه أيضاً نجوز بل لنفورهم عنهم وقلة مخالطتهم لهم ولا يتميز للعامي ما يجوز لهم فيه الإجتهاد من غيره فلا يجوز الرجوع إليهم في الفتوى والحال هذه.
مسألة:[الكلام في عدم جواز التقليد في أصول الدين]
فأما أصول الدين فلا يجوز التقليد فيها، وهذا مذهب الفقهاء وجل المتكلمين بل كلهم، وإنما خالف في ذلك جماعة من أصحاب الشافعي، حكى ذلك شيخنا رحمه الله تعالى عنهم مع أنهم منعوا من التقليد في أصول الشريعة كالصلاة والصيام.
والذي يدل على بطلان ما قالوه: أن التقليد هو قبول قول الغير من دون مطالبة ببرهان ولا حجة، والمقلد -والحال هذه- لا يأمن خطأ من قلده خطأً يوجب الخلود في النار، ولا شك أن الله تعالى قد نصب على الأصول التي تعبدنا بالمصير فيها إلى العلم أدلة توصل كل ناظر إلى العلم إذا كان عاقلاً سليم الأحوال على ما ذلك مقرر في مواضعه من أصول الدين فلا يجوز التقليد والحال هذه لوجوه:
أحدها: أن المقلد لا يأمن وقوعه في الضرر من أجل التقليد بأن يكون من قلده مخطئاً خطأ يستوجب به الخلود في النار، ودفع الضرر عن النفس واجب إذا أمكن وهو ممكن؛ لأنه إذا نظر على الوجه الصحيح حصل له ثلج الصدر، وطمأنينة النفس، وصار هذا بمثابة ما يعلم من حال أحدنا إذا سلك طريقاً مخوفاً لا يأمن كون العدو الغالب فيها أو السبع العادي، وأخبر الغير بسلامتها وبإزاء ذلك أيضاً من يخبره بكون الخوف فيها وظاهر الجميع الستر، ولم يصل إلى العلم بخبر واحد منهما وكان متمكناً من استقرائها بالمشاهدة والمصير في أمرها إلى العلم؛ فإنه لا يجوز له عند جميع العقلاء -بل المقاربين لهم في الجنس كالمراهقين ومن جرى مجراهم- الإقتصار على التقليد دون المشاهدة الموصلة إلى العلم.
ومنها: أنه لا يأمن الإقدام على القبيح وكل ما لا يأمن الإنسان الإقدام فيه على القبيح فإنه لا يجوز له الإقدام عليه، كما نعلمه من حال أحدنا أنه يقبح منه القطع على مخبر خبر لا يأمن كونه كذباً وليس ذلك إلا لأنه إقدام على ما لا يأمن كونه قبيحاً.
ومنها: أنه لو جاز تقليد واحد لجاز تقليد الجميع وفي ذلك اعتقاد المتناقضات وذلك محال فما أدى إليه قضي بفساده، ولأنه كان يسوغ لليهود والنصارى تقليد أسلافها لأن الحال واحدة إذ ليس التقليد أكثر من قبول قول من يأنس به من غير اعتماد على برهان وفي ذلك تصويبها، وذلك ما لم يقل به أحد من المسلمين، ولا عليه برهان مبين، وكفى بالمذهب فساداً أن لا تشهد بصدقه دلالة بل قد قامت الدلالة على بطلانه.
ولأن الله تعالى قد ذم المقلدين وعنفهم بالتقليد في كتابه المبين فقال وهو أصدق القائلين: {وَإِذَا قِيلَ لَهُمُ اتَّبِعُوا مَا أَنْزَلَ اللَّهُ قَالُوا بَلْ نَتَّبِعُ مَا أَلْفَيْنَا عَلَيْهِ ءَابَاءَنَا أَوَلَوْ كَانَ ءَابَاؤُهُمْ لَا يَعْقِلُونَ شَيْئًا وَلَا يَهْتَدُونَ} [البقرة:170].
فلو كان التقليد صواباً لما ذمهم عليه سبحانه وتعالى؛ لأنه لا يذم إلا على فعل القبيح دون الحسن لعدله وحكمته وكون الذم على فعل الحسن قبيحاً معلوم لكل عاقل وهو تعالى لا يفعل القبيح.
وتقرير هذه الجملة موضوع في أصول الدين لأنها أليق به فلا وجه لتطويل الكلام بها هاهنا، وقد ذكر فيه أهل العلم من الأئمة صلوات الله عليهم والعلماء من أهل العدل والتوحيد رحمهم الله تعالى ما فيه كفاية لمن نظر بعين البصيرة، فلا وجه لتطويل الكلام به هاهنا.
فأما فروع الشريعة التي يكون الحق فيها واحداً: فإنما جوزنا التقليد فيها لدلالة شرعية، وهي إجماع الصحابة على ذلك، وهم لا يجمعون على الخطأ كما تقدم في باب الإجماع، ولولا ذلك لما جوزنا التقليد أصلاً فيها، ولا في غيرها؛ لأنه لا يجوز كما قدمنا.
فأما أصول الدين فلم يقم على جواز التقليد فيها دلالة بل قامت الدلالة على أن التقليد فيها لا يجوز، ولأن قيام الدلالة على جواز التقليد فيها مستحيل؛ لأنه لا يصح إلا بدلالة من الخطاب، ودلالة الخطاب لا تصح إلا بعد معرفته سبحانه بصفاته الواجبة له، وما لا يجوز عليه وما يجوز، ومعرفة أفعاله وأحكام أفعاله، وصحة نبوة النبي صلى الله عليه وآله [وسلم]، وأن الكذب لا يجوز عليه، ولا التلبيس والتغرير إلى غير ذلك، وهذا لا يتم إلا بعد الإحاطة بأصول الدين بالأدلة والبراهين فكيف يقدر المستحيل فضلاً من تحقيقه.
مسألة:[الكلام في المجتهد هل يجوز له التقليد أم لا؟]
اختلف أهل العلم في المجتهد هل يجوز له تقليد مجتهد آخر، أم لا؟
فحكى شيخنا رحمه الله تعالى أن أبا علي منع من ذلك، وقال: لا يجوز له الأخذ بقول آحاد الصحابة إذا اختلفوا إذا كان من أهل الإجتهاد، فإن ترجح عنده قول بعضهم عمل به، وأحسب أنه يوجب عليه عند استوائهم الرجوع إلى اجتهاد نفسه.
وذكر قاضي القضاة: أن الأولى للمجتهد العمل على اجتهاد نفسه، وحكى عن محمد بن الحسن: أنه جعل الأصول أربعة ذكر منها: إجماع الصحابة واختلافها، فَجَعْلُهُ الإختلاف من الأصول يقضي بجواز الأخذ بالقول المختلف فيه.
وذكر الشافعي في رسالته القديمة جواز تقليد الصحابة ورجح قول الأئمة منهم، ومنع أكثر الفقهاء والمجتهدين من ذلك.
واختلفوا في جواز تقليد العالم من هو أعلم منه من الصحابة وغيرهم؛ فجوز ذلك محمد بن الحسن، واختلفت الرواية عن أبي حنيفة في جوازه والمنع منه، وأجاز ابن سريج تقليد العالم من هو أعلم منه إذا تعذر عليه وجه الإجتهاد، وأكثر الفقهاء يمنعون العالم من تقليد من هو أعلم منه وهو مذهب القاضي وأبي الحسين البصري والحاكم، وكان شيخنا رحمه الله يذهب إليه، وهو الذي نختاره.
والدليل على صحته: ما تقرر في الجملة من الأصول أن التقليد لا يجوز؛ لأن المقلد لا يأمن خطأ من قلده سهواً أو عمداً، والإقدام على ما لا يأمن الإنسان كونه مخطئاً فيه قبيح على ما قررناه اولاً على ما هو مقرر في مواضعه من أصول الدين، فلا يجوز التقليد إلا لدلالة شرعية.
وإنما جوزنا للعامي التقليد في مسائل الفروع لدلالة تخص ذلك، وهو الإجماع من الصحابة على جوازه كما قدمنا ذكره، ولا يجوز قياس ما لم تقم عليه الدلالة لا على جملة ولا تفصيل على ما قامت عليه الدلالة بأحد الوجهين لأن ذلك يقتضي باب الجهالات؛ لأن الدلالة إذا قامت على جواز تقليد بعض مخصوص كالنبي صلى الله عليه وآله [وسلم] وكتقليد العامي للعالم أمنا من الخطأ في التقليد وارتفع الوجه الموجب لقبح التقليد.
وكذلك إن قامت الدلالة على جواز تقليد بعض الصحابة لبعض إن صح دعوى ذلك فهذه طريق شرعية توجب التخصيص لجواز بعض التقليد، وهو الذي قامت عليه الدلالة، فلو أدخلنا في ذلك ما لم تقم عليه دلالة لجاز التقليد الذي قضت الأدلة بقبحه، وذلك لا يجوز، والعالم لم ترد دلالة شرعية تجوز تقليده لغيره من العلماء.
فأما إذا كان غيره أعلم منه على معنى أنه قد بلغ درجة الإجتهاد، وهو لم يبلغها فلا كلام في أنه يقلده لأنه في حكم العامي في تلك الحال.
فأما إذا بلغا جميعاً درجة الإجتهاد فلا يجوز له تقليده لأن كل واحد منهما متمكن من الإتيان بما كلف فلا يجوز له تركه مع التمكن.
فإن قيل: إنه يقلده لكونه أوسع علماً وأهدى إلى استنباط العلل وأثقب نظراً فجاز تقليده لهذه الوجوه.
قلنا: لو جاز ذلك لهذه العلة لجاز للبليد تقليد الفطين في أصول الدين لمثل ما ذكرتم، والمعلوم خلافه.
فإن قيل: إنه يرجح قوله على قول نفسه، فيجوز له تقليده.
قلنا: إن رجحه بأن نظر في علته ودليله وعلم أنه أقوى من دليل نفسه وعلته فذلك جائز ولكنه من التقليد بمعزل؛ لأنه إنما أخذه بالنظر والإستدلال والترجيح بين الأقوال جائز للمجتهد.
* * * * * * * * * * *
الكلام في الحظر والإباحة
فصل:[الكلام في حد الحظر والإباحة]
وينبغي لنا أن نتكلم في حدّ المحظور والمباح، والحظر والإباحة أولاً، ثم ننهي الكلام بعد ذلك في فروع مسائله وتفاصيلها؛ لأن الكلام في حكم الشيء يتفرع على معرفته في الأصل كما لا يجوز لك أن تقول: الخمر حرام أو حلال وأنت لا تعرف الحرام والحلال ولا الخمر.
اعلم أن شيخنا رحمه الله تعالى قد ذكر في ذلك حدوداً كثيرة من أهل العلم رحمهم الله تعالى وصحح بعضها واختار، ونحن نذكر ما ذكره من ذلك رحمه الله على وجهه الذي ذكره ليكون ذلك أوضح للناظر وأقرب متناولاً للمجتهد المميز بين صحيح الأقوال وسقيمها، وموتشبها(1) وصميهما، فإن الله تعال من كرمه وسعة جوده لم يجعل قول أحد من خلقه غاية لا يجوز مجاوزتها، وكيف وقد قال في كتابه الكريم: {وَفَوْقَ كُلِّ ذِي عِلْمٍ عَلِيمٌ} [يوسف:76]، وإنما ذكرت هذه الألفاظ رجاء أن ينفع الله سبحانه بها الناظر في هذا الكتاب وغيره من أهل المعرفة، ويكون ذلك داعية إلى الترجيح بين الأقوال، والنظر في طرق الإستدلال ليكون من أمره على يقين كما قال أصدق القائلين، في كتابه المبين: {إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِلْمُتَوَسِّمِينَ} [الحجر:75].
عدنا إلى ما كنا فيه من التحديد، قال رحمه الله تعالى:
حدّ المحظور، هو: الفعل الذي منع الله منه بالنهي والوعيد والزجر،وهذا حد صحيح؛ لأنه يطرد وينعكس، وذلك أمارة صحة الحد.
__________
(1) ـ الموتشب هو المختلط، والصميم هو الخالص من الشوائب.
قال: وقد يستعمل في الفعل إذا كان قبيحاً سواء كان قبحه معلوماً بالعقل أو بالشرع، وسواء زجر الله عن فعله بالنهي والوعيد أم لا، ومتى استعمل في ذلك كان على طريق التوسع والمجاز ولا يستعمل على جهة الحقيقة إلا على ما ذكرناه أولاً.
واحتج لذلك: بأن ما يحصل من الصبي والساهي والنائم من القبيح لا يسمى محظوراً لما لم يتعلق به النهي والوعيد والزجر.
وحدّ القبيح: بأنه ما ليس للقادر عليه أن يفعله متى كان عالماً بقبحه أو متمكناً من ذلك، وإن شئت قلت: هو ما للإقدام عليه تأثير في استحقاق الذم، واحترزنا بقولنا: متى كان عالماً بقبحه أو متمكناً من ذلك من القبيح من البهيمة والساهي والنائم، فإنه لا يقال ليس لهم الإقدام على ذلك، وإن كان قبيحاً، ولكنهم لو كانوا عالمين بقبحه أو متمكنين من علمه لما كان لهم الإقدام عليه، فهذا هو حد المحظور الذي ذكره رحمه الله تعالى في كتابه الفائق في أصول الفقه، وهو الصحيح فيما نختاره.
فأما المباح، فقد حكى اختلاف أهل العلم في حده؛
فمنهم من حده بأنه: ما لم يؤمر به فاعله ولم ينهه عنه ناهي، ونقض هذا الحد بفعل الساهي والنائم بأنهما لم يؤمرا به، ولم ينهيا عنه، وليس بمباح على الإطلاق ويلزم عليه كون أفعال القديم سبحانه مباحة؛ لأنه لم يؤمر بها ولم ينه عنها.
ومنهم من حده بأنه: ما أعلم فاعله بأنه لا صفة له زائدة على حُسْنِهِ.
وحده بعضهم: أنه ما أعلم فاعله أو دل على أنه حسن لا ضرر عليه في أن يفعله أو لا يفعله، ولا يستحق عليه مدحاً.
وحدّه بعضهم: بأنه ما أعلم فاعله بأن لا مدخل لفعله في استحقاق المدح ولا الذم.
قال رحمه الله تعالى: وهذه الحدود الثلاثة يدخل عليها النقض بالمكروه فإنه داخل تحت هذه الحدود وليس بمباح.
ويرد على الآخر منها النقض بالكلام اليسير والحركة اليسيرة الواقعين من الساهي والنائم بحيث لا يقع فيها نفع لأحد ولا ضرر على أحد فإنهما لا يوصفان بالحسن ولا بالقبح فضلاً أن يقال إنهما مباحان إلا أنه يمكن أن يقال إن فيهما نفعاً أو ضرراً للنائم لأنهما أمر حصل مع جواز أن لا يحصل فلا بد من أمر لأجله حصل، وليس إلا داعي النائم فإن هو كان داعي علم بذلك القدر ووجهه كان له فيها نفع، وإن كان داعي جهل كأن يصدر عن اعتماد جاز أن يكون له فيه نفع وجاز أن يكون عليه فيه ضرر.
وما ذكره رحمه الله تعالى من أن فاعلهما قد أعلم في حال تكليفه بأن لا مدخل لفعلهما في باب استحقاق المدح ولا الذم لا يستقيم؛ لأن حال التكليف لا يعترض بها على حال الإهمال في تحديد التكليف كما لا يعترض بحال الصبي الذي لم يبلغ على حال البالغ في أحكام أفعالهما عند التحديد؛ لأن الساهي والنائم كما جاز تعريفهما في الثاني كذلك الصبي يجوز تعريفه في الثاني، فكما لم يعترض بحال الصبي على حال المكلف كذلك لا يعترض بحال النوم والسهو على حال اليقظة؛ لأن المعلوم من غرض أهل العلم تحديد فعل المكلف في حال التكليف، وذكر حكمه في تلك الحال.
وحده بعضهم: بأنه ما أعلم فاعله بأن لا صفة له زائدة على حسنه ولا ترجيح لتركه على فعله، وذكر رحمه الله تعالى أن ذلك ينقض بكثير من المباحات التي يترجح تركها على فعلها كتقاض الدين من الغريم، فإن الأولى أن لا يتقاضاه ترفيهاً عليه.
وقال: ولذلك يستحق المدح على فعله فلو لم يترجح تركه على فعله لم يستحق بذلك مدحاً، ولذلك استحب الزهد في كثير من المباحات.
قال رحمه الله تعالى: وقد ذكرنا في كتاب التبيان أن الأولى أن لا يكون المكروه قسماً زائداً على المباح بل يكون داخلاً في حده، وكان ذلك هو الواجب.
قال: ويكون الصحيح في حد المباح أحد الأولين من الحدود الثلاثة التي تقدم ذكرها لولا ما تقرر من إجماع العلماء من الفقهاء وغيرهم على إثبات أفعال مكروهة في الشريعة كالأكل بالشمال والإستنجاء باليمين، وهذا الاعتراض عندنا غير لازم؛ لأن ترك التقاضي للغريم على وجه طلب الترفيه عنه من قبيل المندوب لا من قبيل المباح، فينتقض بأن تركه أولى من فعله؛ لأن الندب إلى ترك التقاضي ظاهر في الشريعة، وقد وردت به الآثار عن النبي صَلَّى الله عَلَيْه وآله وَسَلَّم كما روينا عنه بالإسناد أنه قال: ((من أقرض قرضاً كان له مثله صدقة، ثم قال: من أقرض قرضاً كان له مثلاه في كل يوم صدقة، فسأل صَلَّى الله عَلَيْه وآله وَسَلَّم فقال: من أنظر به بعد حلول أجله كان له كل يوم مثلاه صدقة(1))) وإنما يكون مباحاً إذا لم يكن في تركه ترفيه على الغريم فتغيُّر الحالات لا يعترض بها على أصول الدلالات.
ألا ترى أن المحظور قد يصير بتغير الحال مباحاً بل واجباً كأكل الميتة؛ فإنه محظور في حال وواجب في حال آخر إذا خاف على نفسه التلف ولا يعترض به على حال السلامة.
فكذلك تقاضي الدين المباح، فإذا كان فيه على المدين مشقة أو كلفة، أو تعلق بتركه قربة أيما قربة كان تركه مندوباً ولم يلحق بالمباح في تلك الحال، ولأنه رحمه الله تعالى ذكر إجماع العلماء على إثباته قسماً خامساً، وهم لا يجمعون على أمرٍ يكون الواجب خلافه.
__________
(1) ـ رواه الإمام زيد بن علي -عليهما السلام- في المجموع في باب القرض (ص200)، ورواه أيضاً الإمام أبو طالب -عَلَيْه السَّلام- في الأمالي (ص247).
وكان رحمه الله تعالى يفرق بين المكروه والمباح بأن المكروه يترجح تركه على فعله على الإطلاق من دون أن تنضاف إليه قرينة، والمباح لا يترجح إلا متى اقترن بالترك قرينة، فإن ترك المباح لا يكون أولى من فعله إلا إذا اقترنت به قرينة، وهي أن يكون على وجه التقرب إلى الله سبحانه بالزهد في الدنيا أو غير ذلك.
والكلام عندنا في ذلك على نحو ما قدمنا من أن القرينة لا يمتنع أن يصير لها المباح مكروها والمحظور مباحاً أو واجباً فيخرج عن قبيله ويلحق بالقبيل الآخر وحده مستقيم لا يقدح ذلك فيه؛ لأن ما خرج لأمر طارئ لا يؤثر فيه وكذلك ما ذكر من ترك المباحات للزهد في الدنيا لا يمتنع عند حصول هذه القرينة لكون ذلك الفعل مكروهاً، ولهذا نكره لكثير من الصالحين أفعالاً كثيرة مباحة لما علمنا غرضهم في ذلك، بخلاف غيرهم ممن لم نعلم عنه ذلك فإن ذلك الفعل لا يكره له ولا يترجح تركه على فعله، ولا فعله على تركه لتعريه عن الغرض ولو أنهينا الكلام في هذا الفصل إلى غايته لطال الباب، وخرجنا إلى الإسهاب، ونقضنا شرطنا في أول الكتاب، وفيما ذكرنا بحمد الله كفاية.
فإذاً حدّ المباح عندنا: ما لا يترجّح تركه على فعله ولا فعله على تركه إذا كان صادراً من العالِم به.
وذكر رحمه الله تعالى حدّ الحظر فقال: هو المنع من الفعل بالنهي والزجر والوعيد، وهذا صحيح عندنا؛ لأن الحظر وإن كان يفيد من أصل اللغة المنع الحقيقي ومنه سميت الحظيرة حظيرة لمنعها للإبل من الندود والتفرق إلى غير ذلك من الأمثلة فإنه لما كان النهي والزجر والوعيد كالمانعة للمكلف من تعدي الحدود جاز أن يسمى حظراً، ولا يبعد كون ذلك حقيقة شرعية لكثرة الإستعمال، وإن كان في الأصل مجازاً؛ لأنه أفيد به ما استعير له، ولم يفد به ما وضع له في الأصل الذي هو ما ذكرنا.
وأما الإباحة فهي: تعريف الغير جنس الفعل، وأنه لا مدخل لفعله في استحقاق المدح ولا الذم ولا يترجح تركه على فعله على الإطلاق، وهذا الحد على ما ذكرنا عنه رحمه الله تعالى.
فإذاً تحديد الإباحة عندنا: تعريف المكلف جنس الفعل وأن فعله لا يترجح على تركه ولا تركه على فعله.
وقولنا المكلف يخرج النائم والساهي والصبي وما ليس بعاقل عنه؛ لأنه لا تكليف على من ذكرنا في تلك الحال فهذا هو القول في هذه المسألة على وجه الإيجاز والله الموفق للصواب.
مسألة:[الكلام في حكم الأشياء قبل ورود الشرع]
اختلف أهل العلم في الأشياء التي يصح الإنتفاع بها ولا ضرر على أحد في تناولها كالشرب من الأنهار الواسعة، والتناول من الثمار التي لا يتعلق بها لأحد ملك كأشجار القفار والجبال قبل ورود الشرع هل هي على الحظر أم على الإباحة؟
فحكى شيخنا رحمه الله تعالى اختلاف الناس في ذلك على ثلاثة أقوال:
منهم من قال: إنها على الحظر قبل ورود الشرع، وهم طائفة من أصحابنا البغدادية، وبعض الإمامية، ونفر من الشافعية.
ومنهم من قال: إنها على الإباحة قبل ورود الشرع، وهو مذهب أكثر الفقهاء وجل المتكلمين، وهو الذي كان شيخنا رحمه الله يذهب إليه، ونحن نختاره.
ومنهم من قال: بالتوقف.
والذي يدلّ على صحة ما اخترناه: أن المعلوم ضرورة عند كل عاقل أنه إذا بلغ إلى دجلة مثلاً أو ما شاكلها من الأنهار وكان له داع إلى الشراب فإنه يستحسن الشرب بعقله ضرورة ولو توقف لانتظار الدليل والحال هذه لذمه العقلاء على ذلك، وهم لا يذمون على استقباح فعل إلا وقد تقرر عندهم حسنه ضرورة، وإنما اعتقدوا ذلك من حيث أنه ينتفع به ولا ضرر فيه عليه ولا على أحد عاجلاً ولا آجلاً.
فإن قيل: أما الضرر العاجل فقد علم انتفاءه، وأما الضرر الآجل فهو يجوزه بأن يكون الله سبحانه قد حظره.
قلنا: هذا باطل بأن الله سبحانه لو حظره لكان لا يحظره إلا لكونه مفسدة في الدين فلو كان كذلك لوجب أن ينصب على ذلك دلالة، ومعلوم أنه لا دليل على ذلك بل الدليل قام على خلافه، ولأن هذا التجويز لو كان مؤثراً لما علمنا حسن الشرب والحال ما ذكرنا ضرورة.
ودليل آخر وهو: أنا نعلم بأول عقولنا أنه يحسن التنفس في الهواء والإستمداد منه ولا ينكر ذلك أحد من العقلاء، ولا علة بجوازه إلا أنه انتفاع ليس على أحد منه مشقة عاجلاً ولا آجلاً.
فإن قيل: إنما يحسن لأنه يمسك به روحه، وهذه الحال يعلم بالعقول لأجلها جواز الإقدام على المحظور على بعض الوجوه.
قلنا: لو كان كما ذكرتم لما حسن منه الإستمداد إلا عند مخافة التلف، ولا حسن منه تناول إلا القدر الذي يمسك روحه، ومن بلغ إلى هذه الغاية فقد خرج من حد العقلاء، وعلم قبح ذلك ضرورة.
مسألة:[الكلام في النافي للحكم هل عليه دليل أم لا؟]
اختلف أهل العلم في النافي للحكم هل عليه دليل أم لا؟
فذهب نفر منهم إلى أن النافي للحكم لا دليل عليه كما لا بينة على المنكر.
وحكى شيخنا رحمه الله عن قوم أنهم فصلوا القول في ذلك، فقالوا: إن نفى حكماً عقلياً فعليه البينة والدلالة، وإن نفى حكماً شرعياً فلا دليل عليه.
وذهب جماعة من العلماء إلى أن من نفى حكماً عقلياً كان أو شرعياً فعليه إقامة الدليل.
وحكى شيخنا رحمه الله تعالى عن الشيخ أبي الحسين البصري والحاكم، وأنه اختيار القاضي شمس الدين رضي الله عنه وأرضاه، وكان يذهب إليه ونحن نختاره.
والذي يدل على صحة ما ذهبنا إليه: أن النافي للحكم لا يخلو إما أن يكون عالماً بانتفاء ما نفى أو ظاناً أو شاكاً.
فإن كان عالماً بانتفاء ما نفى فلا بد للعلم من طريق وهي دلالة.
وإن كان ظاناً فلابد للظن من أمارة، وإلا كان سوداوياً.
وإن كان شاكاً فالشك ليس بمذهب، وكان الواجب عليه نفي الشك بالنظر في الدلالة.
ولأن نفيه للحكم مذهب له، ولا يصح المذهب إلا بدليل، ولا يلزم عليه ما مثلوه من أن المنكر لحق الغير لا بيّنة عليه لوجوه:
أحدها: أنه لا تكليف علينا في الذي في يده هل هو له أم ليس له؟ فيجب علينا البحث عن الدليل ويجب عليه إيضاحه.
والثاني: أن مطالبته بالدليل لم تلزم لظهور دلالته التي توجب ملكه في الشرع وهي اليد.
ومنها: أنه لا يلزمنا اعتقاد صحة ملكه لها فنطالبه بإيجادنا دلالة يجوز لنا العمل عليها بخلاف النافي للحكم.
وما قالوه من أن النافي له والمدعي لا دليل عليه، وكذلك النافي لصلاة سادسة وصيام شهرٍ آخر سوى شهر رمضان لم ينف ذلك إلا بدليل وهو عدم المعجز.
ولو سألنا عن الإمتناع لاعتقاد ثبوته لاستدللنا بأنه لم يظهر على يديه المعجز فلو كان نبياً لظهر المعجز على يديه، وكذلك لو فرضت علينا صلاة سادسة وصيام شهر آخر لنصب لنا على ذلك دليلاً ومعلوم أنه لا دليل؛ إذ لو كان لعُلِمَ لأن الحكيم سبحانه وتعالى لا يجوز منه التكليف بما لا دليل عليه على ما ذلك مقرر في مواضعه من أصول الدين.
مسألة:[الكلام في طريقة استصحاب الحال]
ذهب جماعة من أصحاب الظاهر إلى استعمال طريقة في الأحكام الشرعية يسمونها استصحاب الحال، ومعنى ذلك: أن المكلف متى لزمه الحكم الشرعي على حال مخصوصة وتغيرت تلك الحال في الثاني استصحبوا الحال الأولى في الحكم بعد تغيرها وأجروا عليه الحكم الأول، وقالوا: لا يزول هذا الحكم ولا يتغير إلا بدلالة مبتدأة، وطابقتهم على ذلك فرق من الشافعية.
والظاهر من مذهب أصحابنا إبطال هذه الطريقة وإحالة الإعتماد عليها، وكان شيخنا رحمه الله تعالى يصحح هذه الطريقة على وجه دون وجه على ما نذكره إن شاء الله تعالى.
والصحيح عندنا: أن استصحاب الحال طريقة فاسدة غير صحيحة على كل وجه من الوجوه على ما نبينه.
ومثال المسألة: ما قالوه من أن المصلي يجب عليه التيمم عند عدم الماء بالإجماع، فإذا دخل في الصلاة ورأى الماء استصحب الحال الأولى لأنه قد أجمع على وجوب الصلاة عليه بالتيمم وهذا يبطل عندنا؛ لأنا نقول: بأن الإجماع تناول الحال الأولى دون الثانية لأن حال عدم الماء يخالف حال وجوده فلا يجوز الجمع بينهما في الحكم بغير دليل سيما والتكليف يتغير بتغير الحالات لاختلاف المصالح باختلاف الأوقات كما قررنا ذكره في باب الناسخ.
وكان شيخنا رحمه الله تعالى يفصل القول في ذلك، ويقول: إن الحكم المستصحب قد يكون عقلياً، وقد يكون شرعياً:
فالعقلي أن يقول القائل في المتيمم المصلي إنه إذا لم يرَ الماء لم تلزمه الطهارة، ووجب أن يمضي في صلاته، فكذلك إذا رأى الماء وهذا يبطل لما قدمنا من عدم الطريقة الجامعة بين الحالين، إذ لو جاز الجمع بغير دلالة رابطة لأدى إلى فتح باب الجهالات، بأن نقول إن الفقير لا يلزمه إخراج الزكاة قبل وجود المال فكذلك إذا وجده لا يلزمه الزكاة؛ لأن دلالة الخطاب العام بوجوب إخراج الزكاة وطهارة من أراد الصلاة ثابت على سواء.
وكان رحمه الله تعالى يقول: إن هذا يصح من وجه دون وجه:
أما الوجه الذي يصح منه: فهو أن يسقط عنه الوضوء بعد رؤية الماء؛ لأن إيجابه شرعي فلو كان ثابتاً لكان عليه دليل شرعي وليس عليه دليل شرعي، فمتى بين المستدل بذلك أنه ليس عليه دليل شرعي صح استدلاله إلا أنه إذا بين بأنه لا دليل عليه من جهة الشرع صح مذهبه بالإستدلال لا باستصحاب الحال.
قال رحمه الله تعالى: فإن عورض على ذلك فقيل: الأصل وجوب الطهارة بالماء في الشرع فلو سقطت عن الرائي للماء في الصلاة وهو متيمم لكان عليه دليل شرعي لم يسلم الخصم أن الطهارة واجبة في كل حال، وإن رأى المتيمم الماء، فإن استدل على وجوب ذلك بعموم الخطاب كان استدلالاً بالعموم، ولم يكن استدلالاً باستصحاب الحال.
واعلم أن الوجه عندنا هو الذي قدمنا، وكون الطهارة بالماء غير واجبة على عادمه حال عدمه ليست بحكم عقلي عندنا، وإنما هو حكم شرعي ثابت بطريق شرعي، وما ذكره شيخنا رحمه الله تعالى عائد إلى ما ذكره الشيخ أبو الحسين البصري أنه لا بد من بقاء حكم عقلي، وهذا غير مسلم عندنا على الإطلاق.
وقد كان شيخنا رحمه الله تعالى يذهب إلى ما اخترناه على نحو ما قدمنا في مسألة العتاق والرق ونظائرها، ونحن لا نسلم أنه حكم عقلي؛ لأنا لا نعلم علم ذلك الوجه بالعقل وهذا ظاهر ولا يمكن الخصم تصحيحه، وإنما هو حكم شرعي واجب في الأصل على حال فإن تغيرت الحال زال الحكم كما نعلمه في المطالب بالدين في حال عدمه أن القضاء ساقط عنه لعدمه، فإذا وجد المال لم يجز له استصحاب الحال ووجوب القضاء عليه هو الأول، وكذلك من لا تلزمه الزكاة لقصور ماله عن النصاب أو لا يلزمه قدراً زائداً؛ لأن المال لم يبلغ الحد الذي يجب معه إخراج تلك الزيادة لا يجوز له استصحاب الحال عند بلوغ ذلك القدر ولا علة لتجدد الوجوب إلا لتغير الحال الأولى؛ لأن الحكم يثبت بثبوتها ويزول بزوالها، وذلك أمارة العلة الشرعية.
وقد كنا في باب العلل شرطنا صحة العلة بأن لا يكون ثم ما تعليق الحكم به أولى، ثم تدبرنا الأمر فوجدنا ظاهر أحوال أهل العلم يقضي بأن ذلك لا يجب اعتباره في العلة الشرعية، وأنه لا يلزم فيها ما يلزم في العقلية، ويكون الفرق بينها وبين الشرط أنها لا يجب تكررها والشرط يجب تكرره لتكرر وجوب المشروط.
فهذا هو الكلام على الوجه الذي ذكره شيخنا رحمه الله تعالى أنه يصح من استصحاب الحال.
وأما الوجه الذي لا يصح منه: فإن سقط عنه طهارة أخرى لأجل سقوطها يعني الطهارة بالماء إذا لم يرَ الماء عند التيمم، وهذا لا يصح لأنه جمع بين أمرين من غير علة تجمعهما فلا طريقة تنظمهما وما هذه حاله فليس إثباته أولى من نفيه، يبين ذلك ويوضحه: أنه لا يمتنع أن تختلف مصلحة المكلف في ذلك بحسب اختلاف الحالين فتسقط عنه الطهارة بالماء في حال وتجب في حال بحسب اختلاف المصلحة، ولهذا جاز ورود النص على الرائي للماء في الصلاة مع سقوطه عمن لم يره فيها.
وأما إذا كان الحكم المستدام شرعياً فمثاله أن يقول القائل للمتيمم إنه إذا رأى الماء قبل صلاته وجب عليه التوضي به فكذلك إذا راءه بعد دخوله في الصلاة، ومن زعم أن فرض الوضوء يتغير بالدخول في الصلاة فعليه الدليل.
قال رحمه الله تعالى: وهذا بعيد لأنه إن شرك بين الحالين في وجوب الوضوء لاشتراكهما فيما دل على وجوب الوضوء فليس باستصحاب الحال الذي ننكره، ويذهب إليه المخالف، وإن شرك بينهما في ذلك لاشتراكهما في علته فهذا قياس، وإن شرك بينهما بغير دلالة ولا علة فليس هو بأن يجمع بينهما أولى من أن لا يجمع بينهما.
وبعد، فهذا قياس بغير علة وأصحاب الظاهر يمنعون من القياس بعلة فكيف يجوزونه بغير علّة هل هذا إلا مناقضة ظاهرة في الحكم والتعليل؟
فإن قيل: حدوث الحادث لا يغير الأحكام فحدوث الصلاة إذاً لا تغير وجوب الوضوء.
قلنا: ليس يمتنع اختلاف المصالح بحدوث الحوادث وبهذا ورد النص بإسقاط الوضوء على الرائي للماء في الصلاة مع وجوبه على من راءه قبل الصلاة.
فإن قيل: لو لم يتعد الحكم من حالةٍ إلى حالةٍ لوجب قصره على الزمان الواحد.
وأجاب عن ذلك: بأنه يجوز أن لا يكون دليل الحكم وعلته قد عما الأزمنة، وقد قدّمنا الكلام في هذه المسألة وأن استصحاب الحال لا يصح عندنا على وجه من الوجوه أعني أنه لايكون لمجرده دلالة.
فأما قصر الحكم فلا يجوز عندنا بغير دلالة كما قلنا في تخصيص العلة ما دام العبد مكلفاً لذلك الحكم الذي دل الدليل على وجوبه عليه، ولا يكون التجويز دلالة لأنا لا نمنع من ثبوت الحكم الممكن إن قامت عليه دلالة فهذا ما احتمله هذا المكان من الكلام في هذه المسألة.
فصل:[الكلام في طرق المعلوم بالدليل]
ذكر شيخنا رحمه الله تعالى فيما يعلم بمجرد دلالة العقل وما يعلم بمجرد دلالة السمع، وما يعلم بمجموعهما.
فقال: اعلم أن المعلوم بالدليل لا يخلو إما أن يعلم بالعقل فقط، أو يعلم بالشرع فقط، وإما بمجموع العقل والشرع.
أما ما يصح أن يعلم بالعقل فقط، فهو: ما كان في العقل دليل عليه وكان العلم بصحة السمع موقوفاً على العلم به كالعلم بالله سبحانه وتعالى، وبصفاته من كونه قادراً على جميع أجناس المقدورات، وعالماً بجميع المعلومات، وحياً وغنياً، وأنه عدل حكيم، قال رحمه الله تعالى: وقد أشرنا إلى ذلك في باب الإجماع.
واعلم أنه يلحق عندنا بهذه المسائل أنه تعالى لا يشبه الأشياء، وأنه موجود، وقد بينا في باب الإجماع أن ذلك مما لا يصح العلم بالسمع إلا بعد العلم به مما فيه الكفاية إن شاء الله تعالى.
وأما ما يصح أن يعلم بالعقل وبالشرع: فهو ما كان في العقل دليل عليه، ولم يكن العمل بالشرع موقوفاً على العلم به، ومثله بالعلم بأن الله تعالى موجود بناء على أصله في ذلك، وقد بينا الكلام فيه فيما تقدم وأنه لا يشبه الأشياء، وأنه مدرك للمدركات.
فأما كونه تعالى مدركاً للمدركات فيمكن الإستدلال عليه عند من يرجع بالإدراك إلى معنى غير العلم زائد على العلم، فأما من يرده إلى العلم فلا يمكنه الإستدلال عليه بذلك ابتداء.
قال: وكالعلم بأنه تعالى لا يرى لا في الدنيا ولا في الآخرة، وقد بينا في باب الإجماع أن الإستدلال على أنه تعالى لا يشبه الأشياء لا يصح الإستدلال عليه بالسمع فيلزم عليه أن لا يصح الإستدلال على نفي الرؤية بالسمع ابتداء.
فأما بعد دلالة عقلية يمكن المنع بها أولاً من جواز الرؤية عليه فيجوز الإستدلال بالسمع بعد ذلك، لأن تظاهر الأدلة يكسبها قوة ويولد العلم بمدلولاتها، فيمكنا الإحتجاج بقوله تعالى: {لَا تُدْرِكُهُ الْأَبْصَارُ وَهُوَ يُدْرِكُ الْأَبْصَارَ} [الأنعام:103]، بعد العلم بقوله: {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ} [الشورى:11]، فنفي الرؤية على التحقيق يدخل تحت نفي التشبيه؛ لأن الرؤية المعقولة تفيد التشبيه، والرؤية التي ليست بمعقولة لا يصح إثباتها.
فأما ما يصح معرفته بالعقل والشرع: فقد ذكر رحمه الله تعالى أنه كاستدلالنا على أن القياس وخبر الواحد طريقان شرعيان يجب العمل بهما، وقد تقدم الكلام على ذلك في باب الأخبار وباب القياس، وأن ذلك معلوم بالعقل والشرع.
وأما ما يعلم بالشرع وحده: فهو ما كان في السمع دليل عليه دون العقل وذلك كالمصالح الشرعية والمفاسد الشرعية فلا هداية للعقول في معرفتها؛ لأن العلم بها موقوف على العلم بأحكامها أو بوجوهها وذلك مما استأثر الله تعالى بالعلم به فلا يجوز معرفته إلا بوحي من جهته سبحانه.
وأما بعض ما له تعلق بهما: فهو بعض طرق الأقسام الشرعية نحو كون الإجماع حجة، وقد تقدم الكلام عليه في باب الإجماع، وأنه لا يعلم إلا بالسمع.
[الكلام في الأسباب والعلل والشروط]
وما به تعلق بهما أسباب الأحكام الشرعية وعللها وشروطها.
أما الأسباب: فيجوز زوال الشمس الذي هو سبب لوجوب الصلاة، ونحو الزنا الذي هو سبب لوجوب الحدّ وغير ذلك.
وأما العلل: فنحو الكيل مع الجنس الذي هو علة الربا إلى غير ذلك.
وأما الشروط: فهي منقسمة قسمين:
منها ما هي شروط في الأحكام معلومة بالعقل كالشروط التي شرطتها الشريعة في البياعات؛ لأن وقوع الملك بالبيع معلوم بالعقل، ويمكن أن يقال إن ذلك الحكم على ذلك الوجه معلوم بالشرع؛ لأنه لا يعلم صحته على ذلك الوجه إلا بالشرع؛ لأن الشرع يصحح بعضها ويفسد بعضها.
قال: ومنها ما هي شروط في أحكام شرعية كستر العورة والطهارة فإنهما شرطان في صحة الصلاة إلى غير ذلك.
وذكر رحمه الله تعالى الفرق بين العلة والسبب بوجوه ثلاثة:
أحدها: أن العلة لا يجب تكررها، والسبب يجب تكرره كالإقرار بالزنا فإنه سبب الحد ومع ذلك يعتبر تكرره.
وثانيها: أن العلة قد تختص بالمعلل والسبب قد لا يختص به كزوال الشمس الذي هو سبب لوجوب الصلاة.
وثالثها: أن السبب قد تشترك فيه جماعة ولا يشتركون في حكمه كزوال الشمس، فإنه يشترك فيه الحائض والطاهر، ولا يشتركان في وجوب الصلاة، وليس كذلك العلة؛ لأنها لا يجوز أن تشترك فيه جماعة ولا يشتركون في حكمها.
قال رحمه الله تعالى: واعلم أن التفريق بين العلة والسبب بهذا الوجه إنما يصح على رأي من يمنع من تخصيص العلة.
فأما من يجيز تخصيصها فلا يصح الفرق بينهما بذلك، وهذا صحيح عندنا كما ذكره رحمه الله تعالى، فهذا هو الكلام في هذه المسألة.
[خاتمة]
وبهذه المسألة تمّ كتاب صفوة الإختيار، بمعونة العزيز الجبّار، والحمد لله أولاً وآخراً، وباطناً وظاهراً، ما اختلف الليل والنهار، ودار الفلك الدوار، وأشرقت الشموس وأضاءت الأقمار، على الهداية في البداية والنهاية، والبلوغ إلى هذه الغاية.
واعلم أنا قد توخّينا في هذا الكتاب مطابقة شيخنا رحمه الله تعالى بمتابعته ببركاته واستشعاراً باقتفاء أثره، واجتهدنا فيما اختلف فيه النظر حيث لم نجد إلى الوفاق سبيلاً لوجوب اتباع ما ظهر عند المجتهد برهانه، وظاهر عنوانه، في تبين احتجاجه رحمه الله تعالى إيضاح دلائله؛ لأن من الجائز أن يطلّ الغير على كتابنا هذا فينظر احتجاج شيخنا رحمه الله تعالى على وجهه فيغلب على ظنّه اتباعه أو يظهر له من دلالته ما لم يظهر لنا فيأخذ أجر هدايته، ويجني ثمرة سعايته، بغير واسطة منّا ولا من غيرنا، وفعلنا ذلك رعاية لحقه، والتزاماً بما يجب علينا من تعظيمه؛ لأنه شيخ ما انتهينا إليه وقاعدته - بعد توفيق الله وهدايته- ولا نبرّي نفوسنا مع ذلك من الوهم العارض؛ بل ذلك الأولى بمن حيل على النقصان، واشتُقّ اسمه من النسيان، سيما في مثل هذا الزمان، فالله المستعان وعليه التكلان؛ فما الفزع إلا إلى الله ولا الإستعانة إلا به، ونسأله أن يجعل الأعمالَ الموجبة لرحمته والخلود في جنته خاتمةَ أعمالنا، وأن يبلّغنا من المنابذة عن دينه والإيضاح لسبيله وإرادته صالح آمالنا، ولا يجعلنا من المأخوذين على غرّة، ولا من المفتونين بظاهر الشبهة، ويجعلنا من الناظرين بعين النصفة، المنقادين لأزمة الهداية، بحقّه العظيم واسمه الكريم، وأن يخصّ بالصلاة الزاكية المباركة الوافية محمداً الأمين وآله الطيبين وسلام على المرسلين والحمد لله رب العالمين.
ــــــــــــ
تم الكتاب والحمد لله المنعم الوهاب
وافق الفراغ من زبره قبيل غروب الشمس في يوم الأربعاء الحادي عشر من شهر جمادى الأولى سنة (1034هـ) والحمد لله أولاً وآخراً وهو حسبنا ونعم الوكيل ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم.
---