الكتاب : شرح التجريد |
شرح التجريد في فقه الزيدية (1/1)
ملاحظة في هذا الكتاب أخطاء في النسخ فليتأمل
تأليف
الإمام النَّظار المؤيد بالله أحمد بن الحسين الهاروني الحسني رحمه اللّه
الجزء الأول (2)
تحقيق
محمد يحيى عزان ... ... حميد جابر عبيد
الناشر
مركز البحوث والتراث اليمني
بسم الله الرحمن الرحيم
[مقدمة الكتاب]
أخبرني أبو الغَمر المسلِّم بن علي بن المسلم، قال: أخبرنا الشيخ الفقيه العالم الزاهد أبو الحسين زيد بن علي بن أبي القاسم الهوسمي إملاء في داره المعروفة في مدينة (اللاهجان) بناحية (جيلان) في شهر ربيع الأول بتاريخ خمسمائة سنة، قال: حدثني القاضي السعيد الزاهد أبو جعفر محمد بن علي الجيلاني رحمة اللّه تعالى عليه، قال: حدثني السيد(1) المؤيد بالله أبو الحسين أحمد بن الحسين بن هارون قدس اللّه روحه، قال:
سألني بعض من وجب علىّ حقه عند فراغي من كتابي المسمى (بالتجريد) أن أورد فيه من الأخبار الصحيح عندي سندها بأسماء الرواة المجمع على عدالتهم عند الفريقين من أصحاب الحديث وغيرهم، وأسماء الرواة الذين يروون عن أمير المؤمنين علي عليه السلام، وعن الأئمة من ولده بما لا ينكره الجميع ملخصاً.
فأجبته إلى ذلك مستعيناً بالله سبحانه، ومعتمداً عليه؛ لكيلا يقول من نظر في كتابنا هذا من مخالفينا إن الخبر المروي عن رسول اللّه صلى اللّه عليه وآله وسلم، لم يصل إلينا إلاَّ من جهة سلفنا عليهم السلام من طريقة واحدة.
__________
(1) في (أ): قال القاضي: حدثنا السيد.
ولو روينا الخبر المتصل بنا عن رسول اللّه صلى اللّه عليه وآله وسلم، من جميع الجهات على(1) ألسن الرواة الذين اتسق سندهم إلينا، ولم يضطرب عندنا ولدينا، ومن اضطرب سنده، أو شذ عن الجماعة، أو خالف بعضاً ووافق بعضاً، ومن(2) طُعِن في سنده، ومن وضع الأخبار على ألسن الرواة، ومن دَلَّس في كتبهم عليهم من الملحدة وغيرهم، ومن انقطع سنده، ومن رفع الحديث إلى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، أو إلى إمام من أئمة المسلمين، ومن قلّد الرواة، وكذا في تقسيم الأخبار، لخرجنا عن طريقه ما أردناه، ولتوخينا(3) فيه غير ما نويناه، لكن غرضنا الإختصار في هذا الكتاب، وقلة التطويل والإسهاب. (1/2)
ولعل قائلاً من أصحابنا يقول: وما الغرض في نقل الأخبار عن المخالفين؟ ولو علم من ذلك ما علمناه؛ لسُر في مجالس النظر بما حصلناه ونقلناه، لكنه رضي لنفسه بالجهل، فعدل عن سبيل أهل الفضل، فاقتصر على طرفٍ من الفقه أخذه عن مثله، وظن أنَّه على شيء بجهله، يخطّئ مخالفيه، ويصوّب موالفيه(4)، ولا يدري أخطاؤهم في أصلٍ أو فرعٍ، أو فيما يوجب التكفير أو القدح(5)، أو الخروج عن الملة، والشذوذ عن الجملة، إن خاض في الفقه ارتطم، وإن طلب منه دليل على ما يقول اسُتبْهم، يُزْرِي بأهل مقالته، ولا يدري بعظيم جهالته، ولو اعتذر لعُذر، أو تعلم لشُكر.
ولو روينا الحديث الواحد عن رَاوٍ واحد، لم نشغل به كتبنا، ولا سطرناه لأهل نحلتنا، وإن كان ذلك جائزاً على أصلنا، ويقول به جميع أصحابنا، حتى نعلمه صحيحاً عن جماعة من الرواة، ونتحققه مُسنداً عن الثقات، وسنفرد لها إن يسر اللّه تعالى كتاباً يرجع في معرفتها إليه، ويعتمد في صحتها عليه، لينتفع به الناظر، ويرتفع به في الملأ المناظر، وبالله نستعين، وعليه نتوكل في كل وقتٍ وحين.
__________
(1) في (أ): عن.
(2) في (ب): وممن.
(3) في (ب) و(ج): ما أوردناه ولتوخينا.
(4) في (ب): موافقيه.
(5) في (أ): والقديح. وفي (ب): أو القديح.
وشرطنا فيه: السماع، والعدالة. (1/3)
وأجزنا فيه خبر الواحد، لئلا نخرج عن جملة أهل البيت عليهم السلام.
وقد احتج المخالف على سقوط خبر الواحد، بقول رسول اللّه صلى اللّه عليه وآله وسلم: (( الشيطان مع الواحد وهو من الإثنين أبعد )). وقالوا: لما يخشى من الوهم على هذا الواحد.
وعندنا لا يحل لأحدٍ أن يروي الحديث عن رسول اللّه صلى اللّه عليه وآله وسلم إلاَّ إذا سمعه من فم المحدِِّث العدل فحفظه، ثم يُحدث كما سمعه، فإن كان إماماً تلقاه بالقبول، وإن كان غير إمامٍ فكذلك(1) إن رواه غير مرسل، وصح سنده، فإن المراسيل عندنا وعند عامة الفقهاء لا تُقبل.
ولقد أدركت أقواماً ممن لا يُتهم يروون عن رسول اللّه صلى اللّه عليه وآله وسلم ولا يحفظون السند، ويرسلون الحديث فما قَبِلتُ أخبارهم، ولا نقلتها عنهم لقلة حفظهم للأسانيد.
والحجة في السماع، قوله تعالى: {فَلَولاَ نَفَرَ مِنْ كُلِّ فِرْقَةٍ مِنْهُمْ طَائِفَةٌ لِيَتَفَقَّهُوا فِيْ الدِّيْنِ وَلِيُنْذِرُوا قَوْمَهُمْ إِذَا رَجَعُوا إِلِيْهِمْ لَعَلَّهُمْ يَحْذَرُونَ}، فقرن تبارك وتعالى الرواية بالسماع من نبيه صلى الله عليه وآله وسلم، ثم أداؤه إلى من وراءه.
وهكذا قال رسول اللّه صلى الله عليه وآله وسلم في خُطَبٍ ذوات عدد: (( نضّر اللّه امرءاً سمع مقالتي فوعاها حتى يؤديها إلى من لم يسمعها كما سمعها )).
حدثنا أبو الحسين أحمد بن عثمان بن يحيى الأدُمي ببغداد، قال: حدثنا العباس بن محمد الدوري، قال: حدثنا محمد بن عمران بن أبي ليلى، قال: حدثنا أبي، عن أبي ليلى، عن أخيه عبد الرحمن، عن ثابت بن قيس، قال: قال رسول اللّه صلى اللّه عليه وآله وسلم: (( تسمعون ويسمع منكم ويسمع من الذين يسمعون منكم، ويسمع من الذين يسمعون من الذين يسمعون منكم، ثم يأتي(2) بعد ذلك قوم سمان يحبون السِّمَن، ويشهدون قبل أن يستشهدوا )).
__________
(1) في (أ): ثم أن.
(2) في (أ) و(ب): من بعد.
حدثنا أبو العباس محمد بن يعقوب بن يوسف، قال: أخبرنا محمد بن عبد اللّه بن عبد الحكم، قال: أخبرنا ابن وهب، قال: أخبرني مسلمة بن علي، عن زيد بن واقد، عن حرام بن حكيم، قال: سمعت أنس بن مالك يقول: سمعت رسول اللّه صلى الله عليه وآله وسلم يقول: (( حدثوا عني كما سمعتم ))(1). (1/4)
قال قدس اللّه روحه(2):
حدثني أبو العباس أحمد بن إبراهيم الحسني رحمه الله، قال: حدثني أبي رحمه الله، قال: أخبرني حمزة بن القاسم العلوي العباسي، قال: حدثنا جعفر بن محمد بن مالك، عن محمد بن منصور المرادي، عن محمد بن عمر المازني، عن يحيى بن راشد، عن نوح بن قيس، عن سلامة الكندي، عن أمير المؤمنين علي عليه السلام، عن رسول اللّه صلى اللّه عليه وآله وسلم، جميع هذه الأخبار في كتابنا هذا(3).
وقال قدس اللّه روحه:
حدثني شيخنا علي بن إسماعيل الفقيه رحمه الله، عن الناصر للحق الحسن بن علي رضي اللّه عنه، عن بشر بن هارون، عن يوسف بن موسى القطان، قال: سمعت جرير بن عبد الحميد يقول: عن المغيرة الضبي، عن زيد بن علي، عن أبيه، عن جده، عن علي عليه السلام، جميع هذه الأخبار في كتابنا هذا.
وقال قدس اللّه روحه:
أخبرنا(4) أبو العباس أحمد بن إبراهيم الحسني رحمه الله، قال: حدثنا أبو زيد عيسى بن محمد العلوي، قال: حدثني محمد بن منصور، قال: حدثنا أحمد بن عيسى، عن الحسين بن علوان، عن أبي خالد، عن زيد بن علي، عن أبيه، عن جده، عن علي عليهم السلام، جميع هذه الأخبار.
وقال قدس اللّه روحه:
__________
(1) ذكر نحوه في كنز العمال (29221) عن أنس وعزاه إلى ابن عساكر. وروى نحوه الطبراني في الكبير 3/18 (2516) عن أبي فرافصة.
(2) تكررت هذه اللفظة في الكتاب ، ولاشك انها من فعل الناسخ.
(3) لأصحابنا الزيدية كلام كثير حول معنى ما ذكره المؤلف هنا.
(4) في (أ): حدثنا.
أخبرنا أبو العباس أحمد بن إبراهيم الحسني رحمه الله، قال: حدثني أبو الحسين الهادي يحيى بن محمد المرتضى، قال: حدثني عمي الناصر أحمد بن يحيى، قال: حدثني أبي الهادي إلى الحق يحيى بن الحسين عليه السلام، قال: حدثني أبي، عن أبيه القاسم بن إبراهيم عليه السلام، قال القاسم: حدثني أبي، عن أبيه، عن جده، قال: حدثني أبي الحسن بن الحسن، عن أبيه، عن جده، عن رسول اللّه صلى اللّه عليه وآله وسلم، جميع هذه الأخبار المُحتج بها في كتابنا هذا سماعاً، وقراءة. (1/5)
قال أبو العباس رحمة اللّه عليه: (( لكل دينٍ فرسان، وفرسان هذا الدين أصحاب الأسانيد )).
وقال الناصر الحسن بن علي رضي الله عنه(1) : (( الأسانيد سلاح المؤمن، وكل حديثٍ لا سند فيه فهو خَلٌّ وبَقْل )).
قال قدس اللّه روحه: (( من فقه الرجل بصره بالحديث )).
قال، قال:(2)
حدثنا عثمان بن أبي شيبة، عن سوادة بن أبي الجعد، عن أبي جعفر محمد بن علي عليه السلام، أنَّه قال: (( من طلب العلم بلا إسناد فهو كحاطب ليل ))، وقال: أن(3) في تفسير قوله تعالى: {وَإِنَّهُ لَذِكْرٌ لَكَ وَلِقَومَكَ}، هو: حدثني أبي، عن أبيه، عن جده.
ولقد نقدنا هذه الأخبار المروية عن رسول اللّه صلى الله عليه وآله وسلم نقد الدراهم، وميزنا صحيحها من سقيمها بعون اللّه تعالى ومَنَّه.
قال قدس اللّه روحه:
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمدلله أولى من حُمِد، وأحق من عُبد، الذي شرع لنا الإسلام، وبين الحلال والحرام، فأقام عليهما الأدلة والأعلام، حمداً يفضي بنا إلى رضاه، ويوفقنا لسبيل هداه، وصلى اللّه على نبيه وأمينه على وحيه محمد وآله أجمعين.
__________
(1) في (ب): عليه السلام.
(2) كذا في النسخ.
(3) كذا في النسخ، ولعل الصواب: وقال لنا في.
كنت وعدتك حين سهل اللّه الفراغ من كتابي الموسوم (بالتجريد لفتاوى القاسم ويحيى بن الحسين عليهما السلام) أن أفرغ(1) لشرح ما أودعته من المسائل، بما يحضر من الحجاج والدلائل، وهذا أوان الشروع فيه، والله الموفق لما أضمره وأنويه، وإياه عزَّ اسمه أسأل أن يعيننا على ما يقربنا منه ويزلفنا لديه، ويعصمنا فيما نكدح له ونسعى فيه، من أن نقصد فيه غير وجهه إنَّه سميع مجيب. (1/6)
__________
(1) في (ب) : أفرع، وهو صحيح بمعنى أبداء.
كتاب الطهارة (2/1)
باب القول في المياه
الماء: طاهرٌ، وغير طاهر. والطاهر: طَهُور، وغير طهور.
فالطَّهور، هو: الماء المطلق الذي لم يَشِبْه ولا لاقاه نجس، أو طاهر غيَّر ريحَه، أو لونه، أو طعمه، ولم يُستعمل في تطهير الأعضاء.
والطاهر الذي ليس بطهور: ما شابه طاهر سواه فغيّره.
والنجس: كل ماء قليل شابه نَجَس أو لاقاه، قليلاً كان النَّجس أو كثيراً، غيّره أو لم يغيّره، أو كثير شابه من النجاسة ما غيّره.
هذه جملة تشتمل على ثلاث مسائل.
إحداها: أن الماء القليل إذا وقعت فيه نجاسة صار نجساً، وإن لم تظهر عليه النجاسة، ولم يتغير بها.
والثانية: أن الماء إذا شابه طاهرٌ سواه فغيّره لم يُجزِ التطهر به، وإن كان طاهراً.
والثالثة: أن الماء المستعمل لا يجوز التطهر به.
قال: وقد نص الهادي عليه السلام على هذه المسائل في كتاب (الأحكام)، وقال في قطرتين أو ثلاث قطرات من بولٍ، أو خمرٍ في إناء: إنَّه لا يُتَطهر به، فإنه نجس، يدفق ذلك من الإناء، ويُطهر الإناء منه(1)، وكذلك لا يجوز شربه، وإن لم يتبين منه في الماء والإناء لونٌ(2) ولا ريح ولا طعم. ونص على نجاسة الماء الذي أدخل الكافر(3) يده فيه، فدل على أن ملاقاة النجس للماء كاختلاطه به(4).
وقال في (الأحكام): وكل مائعٍ وقع في ماء يسير(5) أو كثير فغير لونه، أو طعمه، أو ريحه، من خل(6) أو سكنجبين، أو مرق مما ينتفي به عنه(7) اسم الماء القراح، فليس لأحد أن يتوضأ به(8).
__________
(1) سقطت (منه) من (ب) و(ج).
(2) في (أ): وإن لم يتبين في الإناء منه، والماء لون.. إلخ.
(3) في (أ): كافر.
(4) ذكره في الأحكام 1/56، مع اختلاف بسيط.
(5) في (أ): قليل.
(6) ظنن في (ب) بجلاب. والجميع صحيح.
(7) سقط من (ب): عنه.
(8) ذكره في الأحكام 1/64. وهو هنا بالمعنى.
وفي (المنتخب)(1)، قلتُ: فإن لم يجد الجنب إلاَّ ماء عصفر، أو ماء فيه زعفران، أو ماء مستعملاً بمعنى من المعاني، هل يغتسل به؟ أو يتوضأ إن لم يكن جنباً؟ قال: لا يجزي في الطهور، والغسل من الجنابة إلاَّ الماء القراح. (2/2)
وقال في (الأحكام) في الجنب: إذا اغتسل من ماء في مركن فأفضل فيه ماء، فقال: لا بأس بأن يتطهر بفضلته، ما لم يكن تراجع فيه من غسالة بدن الجنب شيء، فإن تراجع من غسالة بدنه فيه شيء، فلا يتوضأ به هو ولا غيره(2).
المسألة الأولى [الماء القليل إذا وقعت فيه نجاسة صار نجساً]
الذي يبين صحة ما ذهب إليه يحيى عليه السلام، من نجاسة الماء الذي وقع فيه النجس، وإن لم تظهر عليه، أن اللّه تعالى أمرنا(3) باجتناب الخمر عاماً، فقال عزَّ وجل: {إِنَّمَا الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ..} إلى قوله {تُفْلِحُونَ}، فلم(4) يخص قليل ذلك من كثيره، ولا ما كان فيه من الماء دون غيره، وإذا لم يمكن اجتناب ما حصل منه في الماء، إلاَّ باجتناب ذلك الماء وجب اجتنابه، وليس في الشرع معنى للنجس أكثر من أنَّه يجب اجتنابه على كل وجه. ويدل على ذلك:
ما أخبرنا به(5) أبو بكر محمد بن إبراهيم بن عاصم المقرئ، قال: حدثنا أبو جعفر أحمد بن محمد بن سلامة الطحاوي، قال: حدثنا محمد بن الحجاج بن سليمان الحضرمي، قال: حدثنا(6) علي بن معبد، قال: حدثنا أبو يوسف، عن ابن أبي ليلى، عن أبي الزبير، عن جابر، عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم: (( أنه نهى عن أن يُبال في الماء الراكد، ثم يتوضأ فيه ))(7).
__________
(1) في (ب): وقال في المنتخب. وانظر المنتخب ص23، بزيادة، وهو هنا بالمعنى.
(2) هو في الأحكام 1/56، بزيادة: أو يكون أدخل فيه يديه قبل أن يطهرهما.
(3) في (أ): أمر.
(4) في (ب) و(ج): ولم.
(5) سقط من (أ): به.
(6) في (ب): حدثني.
(7) أخرجه الطحاوي في شرح معاني الآثار 1/15.
وأخبرنا أبو بكر المقرئ، قال: حدثنا أبو جعفر الطحاوي، قال: حدثنا الربيع بن سليمان المؤذن، قال: حدثنا أسد بن موسى، قال: حدثنا عبد اللّه بن لهيعة، قال: حدثنا عبد الرحمن الأعرج(1)، قال: سمعت أبا هريرة يروي عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم، أنَّه قال: (( لا يبولَنَّ أحدكم في الماء الذي لا يجري ثم يغتسل فيه ))(2). (2/3)
فلما نهى النبي صلى الله عليه وآله وسلم عن التوضؤ، والاغتسال في الماء الراكد الذي قد بِيلَ فيه نهياً عاماً، ولم يشترط التغَيُّر، ثبت ما ذهبنا إليه، من أن الماء اليسير يتنجس بحلول النجاسة فيه، وإن لم يتغير بها.
فإن قيل: فإن ذلك يلزمكم في الكثير.
قيل له: نخصه بالدليل، وسنبين الكلام فيه عند قولنا في الفرق بين الماء القليل والكثير.
فإن ادعوا تخصيص ما ذكرنا(3) بما أخبرنا به أبو الحسين علي بن إسماعيل، قال: حدثنا أبو جعفر محمد بن الحسين بن اليمان، قال: حدثنا أبو عبد اللّه محمد بن شجاع، قال: حدثنا أبو قطن، عن حمزة الزيات، عن أبي سفيان السعدي، عن أبي نضرة، عن أبي سعيد الخدري، قال: انتهى النبي صلى الله عليه وآله وسلم إلى غديرٍ فيه جيفة، فقال: (( اسقوا واستقوا، فإنَّ الماء لا ينجسه شيء )).
__________
(1) في (ب): ابن الأعرج.
(2) أخرجه الطحاوي في شرح معاني الآثار 1/15. عن الربيع بن سليمان، به. إلا أنه قال: الماء الدائم يغتسل منه.
(3) في (أ): ما ذكرناه.
وما أخبرنا به أبو بكر المقرئ، قال: حدثنا أبو جعفر الطحاوي، قال: حدثنا محمد بن خزيمة، قال: حدثنا الحجاج بن المنهال، قال: حدثنا حماد بن سلمة، عن محمد بن إسحاق، عن عبيدالله بن عبد الرحمن(1) عن أبي سعيد الخدري، أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، كان يتوضأ من بير بضاعة، فقيل: يا رسول الله، إنَّه يُلقى فيها الجيف والمحائض، فقال: (( إن الماء لا ينجسه شيء ))(2). (2/4)
وما أخبرنا به أبو بكر المقرئ، قال: حدثنا الطحاوي، قال: حدثنا إبراهيم بن أبي داود الأسدي، قال: حدثنا أحمد بن خالد الوهبي، قال: حدثنا محمد بن إسحاق، عن سَليط بن أيوب، عن عبيد اللّه بن عبد الرحمن بن رافع، عن أبي سعيد الخدري، قال: قيل يا رسول الله، إنَّه يستسقى لك من بئر بضاعة وهي بير تطرح فيها عذرة الناس ومحائض النساء ولحوم الكلاب، فقال: (( إن الماء طهور لا ينجسه شيء ))(3).
الجواب، قيل له: هذه الأخبار وردت في المياه العظيمة، ونحن نذهب إلى أن مثل هذه المياه إذا اسقطت فيها النجاسات، لم تنجس، إلاَّ إذا تغير الماء بها، وقد روى قوم أن بئر بضاعة كانت طريق الماء إلى البساتين، ويحتمل أن تكون تلك البئر كانت لها عيون تغلب، ولا يمكن نزح ما فيها.
فأما الغدير، فلا يسمى مجمعاً للماء، إلاَّ إذا كان عظيماً، وكان الماء كثيراً، ومثله عندنا لا ينجس، إلاَّ أن يتغير بالنجاسة.
فليس في شيء من ذلك دليل على أن الماء اليسير لا ينجس بوقوع النجاسة فيه.
__________
(1) في (ب): عن حماد بن سليمان عن محمد بن إسحاق عبد الله بن عبد الرحمن. والصواب ما أثبتناه. وهو كذلك في شرح معاني الآثار ، ومسند الطيالسي 292.
(2) أخرجه في شرح معاني الآثار 1/11، عن محمد بن خزيمة، به. وفيه: إن الماء لا ينجس. وهو في مسند الطيالسي كما في الأصل.
(3) أخرجه في شرح معاني الآثار 1/11 عن إبراهيم بن أبي داود، وسليمان أبو داود الأسدي، عن الوهبي، به.
فإن قيل: قوله صلى الله عليه وآله وسلم: (( الماء لا ينجس ولا يُنَجِّسه شيء ))، يَحجّكم، وليس لكم أن تقصروه على ما ورد فيه؛ لأن من مذهبكم أن اللفظ إذا ورد في سببٍ، لم يُقصر عليه، بل يكون(1) عاماً؟ (2/5)
قيل له: نحن نجعل ذكر السبب الذي وردت هذه الظواهر فيه ترجيحاً، لظواهرنا التي تعلقنا بها، فنجعلها أولى من الظواهر التي تعلَّقوا بها.
فإن قيل: ليس لكم أن ترجحوا بالذكر، والخبر يعم النجس وغيره.
قيل له: ذلك غير واجب، وذلك أن اللبن لا ينجس ما ماسه من العضو وغيره، فلهذا جاز استعمال الماء الذي يقع فيه يسير من المخلل، وليس كذلك النجس، فوجب الفرق بينهما لذلك.
المسألة الثانية [ في الماء إذا شابه طاهر ]
إذا وقع في الماء طاهر كاللبن والمرق ونحوهما، حتى يتغير لذلك لونه أو طعمه أو ريحه، لم يجز التطهر به، والذي(2) خالفنا في هذه أبو حنيفة وأصحابه، فإنهم يذهبون إلى أن الماء إذا كان هو الغالب فإنه يجوز التطهر به، وإن تغير.
فالوجه لصحة ما ذهبنا(3) إليه، أنَّه لا خلاف في أنَّه لا يجوز التطهر بماء الباقلاء والمرق ونبيذ الزبيب ونحو ذلك، وكانت العلة فيه أنَّه ماء تغير بمخالطة(4) مالا يجوز التطهر به على وجهٍ من الوجوه، فكذلك الماء الذي تغير لونه أو طعمه أو ريحه، لمخالطة اللبن ونحوه. ويبين صحة هذه العلة وجود الحكم بوجودها، وعدمه بعدمها، وذلك أن الماء لو لم يتغير بما خالطة من الطاهر؛ لجاز التطهر به، وكذلك إذا تغير بما يجوز التطهر به على بعض الوجوه، وهو الطين جاز التطهر به، وإذا حصل له الوصفان، لم يجز التطهر به، فعُلِم أنها علة الحكم.
__________
(1) في (أ): كان.
(2) في (أ): وفي هذا.
(3) في (أ): نذهب.
(4) في (أ): لمخالطة.
فإن استدل المخالف بقول اللّه سبحانه وتعالى: {فَلَمْ تَجِدُوا مَاءً فَتَيَمَّمُوا صَعِيْداً طَيِّباً}. وقالوا: من وجد الماء المتغير فقد وجد الماء. وبقوله تعالى: {وَأَنْزَلْنَا مِنَ السَّمَاءِ مَاءً طَهُوراً}. كان لنا عنه(1) جوابان: (2/6)
أحدهما: أن اسم الماء المطلق يزول عند التغير، بل يصير مضافاً إلى ما تغير به.
والثاني: أنا نخص ذلك بالقياس الذي ذكرناه، فإن عارضوا قياسنا بقياسهم ـ الذي ما اختلفنا فيه ـ على الماء الذي خالطه شيء من الطين، كان قياسنا مرجحاً على قياسهم بكثرة الأصول، وبالحظر، وبالنقل، فإن راموا ترجيح علتهم بشهادة الأصول، وقالوا: قد ثبت في الأصول أن الحكم للغالب، وهاهنا الغالب(2) هو الماء، لم يصح ذلك؛ لأن الأصول تختلف في ذلك، ألا ترى أن ماء الباقلا والصابون، وغيرهما [لايجزي التطهر به مع] أن الغلبة للماء، ومع هذا لا يجوز التطهر به، فكذلك الماء الذي يقع فيه يسير النجس، هذا إن أريد(3) بالغلبة الكثرة، فأما إن أرادوا غيرها، لم يسلم الوصف لهم.
فصل [في الوضوء بالنبيذ]
الذي يقتضي قول الهادي عليه السلام، هو المنع من الوضوء بنبيذ التمر، وقد نص عليه القاسم عليه السلام في (مسائل النيروسي)، وما استدللنا به على أن الماء إذا تغير بالمرق، أو اللبن لم يجز التوضئ به، يدل على أنَّه لا يجوز الوضوء بنبيذ التمر، ويمكن أن يُقاس حاله إذا لم يوجد الماء على حاله، إذا وُجد(4)، لأن أبا حنيفة وأصحابه لا يخالفون في أن التطهر به لا يجوز مع وجود الماء.
__________
(1) في (أ): عليه.
(2) في (ب): المغالب.
(3) في (أ): أرادوا.
(4) في (ج): إذا وجد لبن.
ويمكن أيضاً أن يُقاس على سائر الأنبذة؛ إذ لا يخالفون في(1) أن التوضئ بها لا يجوز، إلاَّ ما يحكى عن الأوزاعي أنَّه كان يجيز التوضئ بسائر الأنبذة، على أنَّه لا وجه لمقايستهم(2) في هذه المسألة، فإنهم لا ينكرون أن القياس يمنع منه لكنهم ادعوا أنهم تركوا القياس للأثر. (2/7)
واستدلوا بما روي عن أبي قرارة، عن أبي زيد، عن عبد اللّه بن مسعود، أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم، قال له ليلة الجن: (( ما في إداوتك ))؟ قال: نبيذ. فقال النبي(3) صلى الله عليه وآله وسلم: (( تمرةٌ طيبةٌ، وماءٌ طهور )) وتوضأَ به وصلى.
وأخبرنا أبو بكر المقرئ، قال: حدثنا أبو جعفر الطحاوي، قال: حدثنا ربيع المؤذن، قال: حدثنا أسد، قال: حدثنا ابن لهيعة، قال: حدثنا قيس بن الحجاج، عن حنش، عن ابن عباس، أن ابن مسعود خرج مع رسول اللّه صلى الله عليه وآله وسلم ليلة الجن، فسأله رسول اللّه صلى الله عليه وآله وسلم، (( أمعك يا ابن مسعودٍ ماء ))؟ قال: معي نبيذ في إداوتي. فقال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: (( أصبب عليّ ))، فتوضأَ به، وقال: (( شرابٌ وطهور ))(4).
__________
(1) سقط من (ج): في.
(2) في (ب) و(ج): لقياسهم.
(3) سقط من (أ): النبي.
(4) أخرجه في شرح معاني الآثار 1/94. عن ربيع المؤذن، به.
وأخبرنا أبو بكر المقرئ، قال: حدثنا الطحاوي، قال: حدثنا أبو بكرة، قال: حدثنا أبو عمر الضرير(1)، قال: أخبرنا حماد بن سلمة، قال: أخبرني علي بن زيد بن جدعان، عن أبي رافع مولى عمر، عن عبد الله بن مسعود أنَّه كان مع رسول اللّه صلى اللّه عليه وآله وسلم ليلة الجن، وأن رسول اللّه صلى الله عليه وآله وسلم احتاج إلى ماء يتوضأ به، ولم يكن معه إلاَّ النبيذ، فقال رسول اللّه صلى الله عليه وآله وسلم: (( تمرةٌ طيبةٌ، وماءٌ طهور ))، فتوضأ، به رسول اللّه صلى الله عليه وآله وسلم. (2/8)
وقد طعن قوم في سند هذه الأخبار وردوها، إلاَّ أن الفضلاء من أصحاب أبي حنيفة قد قبلوها وعدلوا رواتها، بل أبو حنيفة نفسه قد قبلها، وفي قبولها تعديل رواتها، فلا وجه لردها.
وقد روي ـ أيضاً ـ أن عبد اللّه بن مسعود لم يكن مع النبي صلى الله عليه وآله وسلم ليلة الجن، إلاَّ أن ذلك محمولٌ عندهم على أنَّه لم يكن مع النبي(2) صلى الله عليه وآله وسلم وقت الخطاب، فتكون الأخبار كلها محمولة على التصديق.
والذي يجب أن يُعتمد في هذا الباب أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم، قال:(3) (( تمرةٌ طيبةٌ، وماءٌ طهور ))، فوجب بظاهر هذا القول أنَّه كان في الأداوة تمر على حياله، وماء على حياله، وهذا مما لا يُنكر جواز التوضئ به، وقول عبد اللّه: (( معي نبيذ ))، محمول على المجاز، وعلى أنَّه أخبر عن المآل(4)، وهذا أولى من حمل قوله على الحقيقة وقول النبي صلى الله عليه وآله وسلم على المجاز، وعلى أنَّه أخبر عما كان عليه في الأصل، سِيَّما وتأويلنا يعضده القياسات التي ذكرناها.
__________
(1) كذا في النسخ وفي شرح معاني الاثار أبو عمر الحوضي، وجعلهما بعض المحدثين رجلاا واحدا وهما إثنان، أبو عمر الضرير يروي عن حماد بن سلمة، وأبو عمر الحوضي رجل آخر. فأمل.
(2) في (أ): معه صلى الله عليه وآله وسلم.
(3) في (أ): قال فيه.
(4) في (أ) و(ب): ذكر في نسخة: عن الماء.
ومما يُعتمد في هذا الباب ويبين به صحة تأويلنا وفساد تأويلهم، أن النبيذ قد ثبت تحريمه، فإذا ثبت تحريمه، ثبت تنجيسه، وما كان نجساً فلا مدخل له في الطهارة. (2/9)
فمما يدل على تحريمه:
ما أخبرنا به أبو عبد اللّه محمد بن عثمان النَّقاش، قال: حدثنا الناصر للحق الحسن بن علي عليه السلام، عن محمد بن منصور، عن أحمد بن عيسى، عن حسين بن علوان، عن أبي خالد الواسطي، عن زيد بن علي عليه السلام(1)، عن آبائه، عن علي عليه السلام، قال: قال رسول اللّه صلى اللّه عليه وآله وسلم: (( ما أسكر كثيره، فقليله حرام )).
وأخبرنا به أبو الحسين عبد اللّه بن سعيد البروجردي، قال: حدثنا عبد اللّه بن محمد أبو القاسم البغوي، قال: حدثنا محمد بن عبد الوهاب، قال: حدثنا أبو شهاب، عن الحسن بن عمرو الفقيم، عن الحكم، عن شهر بن حوشب، عن أم سلمة، قالت: (( نهى رسول اللّه صلى الله عليه وآله وسلم عن كل مسكر ومفتّر )) .
وأخبرنا أبو الحسين، قال: حدثنا أبو القاسم البغوي، قال: حدثنا محمد بن عبد الوهاب، قال: حدثنا محمد بن عبد اللّه بن عمير، عن ابن أبي مليكة(2)، عن عائشة، قالت: سمعت رسول اللّه صلى الله عليه وآله وسلم، يقول: (( كلُ مسكرٍ حرام )).
ومما يُعتمد عليه في هذا الباب، قول اللّه تعالى: {فَلَمْ تَجِدُوا مَاءً فَتَيَمَّمُوا} فأوجب التيمم على من لم يجد الماء، وواجد نبيذ التمر غير واجد للماء؛ لأن اسم الماء قد زال عنه على الإطلاق، وإن كان فيه أجزاء الماء، ألا ترى أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم لو قال: لا تناول العسل، إلاَّ أن لا تجد الماء. لم يصح لقائل أن يقول: إنّ واجد نبيذ التمر ليس له أن يتناول العسل؟ وهذا ظاهر في اللسان.
__________
(1) سقط من (أ): عليه السلام.
(2) في (أ): عن أبي مليكة.
وربما استدل أصحاب أبي حنيفة بهذه الآية لصحة ما ذهبوا إليه، فقالوا: إن قوله تعالى: {فَلَمْ تَجِدُوا مَاءً فَتَيَمَّمُوا}(1)، نكرة في سياق نفي(2)، وذلك يوجب التعميم، وظاهرها يوجب أن الواجد لنبيذ التمر ليس له أن يتيمم؛ لأنَّه واجد ماءِ مَّا، وهذا بعيد جداً، وذلك أن اللفظ مُنَكَّراً ـ كان ـ أو مُعّرفاً، واقتضى التعميم أو التخصيص، فلا أقل من أن يكون بتناوله واجداً، فقد بينا أن اسم واجد الماء لا يتناول واجد نبيذ التمر، كما أن اسم واجد التمر لا يتناوله، فسقط تعلقهم بالآية، وصح استدلالنا بها. (2/10)
المسألة الثالثة [ في الماء المستعمل ]
أن الماء المستعمل لا يجوز التطهر به، وقد ذكرنا ما قاله يحيى عليه السلام في (المنتخب)(3)، من منع التطهر بما استعمل بمعنىٍ من المعاني.
وكان أبو العباس أحمد بن إبراهيم الحسني رحمه اللّه يذهب إلى أن المراد به ما اُستعمل في فرضٍ أو نفلٍ دون التَّبرد ونحوه، ويخرِّج ذلك من قول يحيى عليه السلام في (الأحكام)(4): "ولا بأس أن يتطهر بسؤر المرأة الحائض إذا لم يصبه من القذر شيء، ولم تكن أدخلت يديها فيه قبل أن تغسلهما"(5)، فكان رحمه اللّه، يقول: إن هذا الكلام يقتضي المنع(6) من استعمال الماء الذي اسُتعمل تنفلاً؛ لأن الحائض لا تغسل يديها فرضاً، وإنما تغسلهما نفلاً وقد منع عليه السلام من استعمال الماء الذي أدخلت يديها فيه، ويقتضي أنَّه إذا استعمل على غير وجه أداء الفرض والنفل، لا يكون مستعملاً؛ لأنه عليه السلام استثنى إدخالها اليد قبل أن تغسلها، وترك ما سوى ذلك على الإباحة، فبان أنَّها لو أدخلت يدها فيه بعد غسلها على غير أداء الفرض، والنفل لم يصر مُستعملاً.
__________
(1) في (ب): ماءً فتيمموا.
(2) في (ب): في نفي.
(3) انظر المنتخب ص23. وقد سبق.
(4) انظر الأحكام 1/56.
(5) في (أ): يدها فيه قبل أن تغسلها.
(6) في (أ): أن المنع.
ومما يدل على أنَّه لا يجوز التطهر بماءٍ مستعمل(1) على الوجه الذي ذكرنا: (2/11)
ما أخبرنا به أبو بكر المقرئ، قال: حدثنا أبو جعفر الطحاوي، قال: حدثنا أحمد بن داود بن موسى، قال: حدثنا مسدد، قال: حدثنا أبو عوانه، عن داود بن عبدالله، عن حميد بن عبد الرحمن، قال: لقيت مَنْ صَحِب النبي اللّه صلى الله عليه وآله وسلم كما صحبه أبو هريرة أربع سنين، قال: (( نهى رسول اللّه صلى الله عليه وآله وسلم أن يغتسل الرجل بفضل المرأة، والمرأة بفضل الرجل )).
وأخبرنا أبو بكر المقرئ، قال: حدثنا أبو جعفر الطحاوي، قال: حدثنا محمد بن خزيمة، قال: حدثنا معلى بن أسد، قال: حدثنا عبد العزيز بن المختار، عن عاصم الأحول، عن عبد اللّه بن سَرجس، قال: نهى رسول اللّه صلى الله عليه وآله وسلم أن يغتسل الرجل بفضل المرأة، والمرأة بفضل الرجل، ولكن يشرعان جميعاً(2).
واسم الفضل من الماء يقع على ما يفضل في الإناء عن المغتسل، وعلى ما تساقط من أعضائه بعد الاستعمال، وإذا قد ثبت أن الفاضل في الإناء غير ممنوع التطهر به، فقد صح أن المراد بالفاضل هو المتساقط عن الأعضاء.
ويبين أن الفاضل في الإناء يجوز استعماله:
ما أخبرنا به أبو بكر المقرئ، قال: حدثنا الطحاوي، قال: حدثنا أبو بكرة، قال: حدثنا أبو أحمد، قال: حدثنا سفيان، عن سماك، عن عكرمة، عن ابن عباس، أن بعض أزواج النبي صلى الله عليه وآله وسلم اغتسلت من جنابة بماء في إناء فأبقت في الإناء منه شيئاً، فجاء النبي صلى الله عليه وآله وسلم يتوضأ به، فقالت له(3): يا رسول الله، إنَّه بقايا ما اغتسلت به. فقال: (( إن الماء لا ينجسه شيء ))(4).
__________
(1) في (أ): استعمل.
(2) أخرجه الطحاوي في شرح معاني الآثار 1/24، عن ابن خزيمة، به.
(3) سقط من (أ): له.
(4) أخرجه الطحاوي في شرح معاني الآثار 1/26، عن أبي بكرة، به. إلا انه لم يذكر فيه: فأبقت منه في الإناء شيئاً، أنه بقياء ما اغتسلت به.
وأخبرنا أبو بكر المقرئ، قال: حدثنا الطحاوي، قال: حدثنا ابن أبي داود، قال: حدثنا الوهبي، قال: حدثنا شيبان، عن يحيى بن أبي كثير، قال: أخبرني أبو سلمة بن عبد الرحمن، عن زينب بنت أم سلمة، عن أم سلمة، قالت: كنت أغتسل أنا ورسول اللّه صلى الله عليه وآله وسلم من إناءٍ واحد(1). (2/12)
ومن المعلوم أنهما إذا اغتسلا من إناء واحد فكل واحد منهما قد اغتسل بما فضل في الإناء عن صاحبه، فصح ما قلنا: إن المراد بالنهي هو ما يتساقط عن الأعضاء. ويمكن أيضاً أن يُتعلق بعمومه؛ إذ قد ثبت على ما بينا(2) أن اسم الفضل يتناول الساقط عن الأعضاء، والفاضل في الإناء، فيجري النهي على عمومه، ونخص منه ما يجب تخصيصه.
ومما يدل على صحة ما نذهب إليه من المنع من التطهر بالماء المستعمل:
ما أخبرنا به أبو الحسين علي بن إسماعيل، قال: حدثنا محمد بن الحسين بن اليمان، قال: حدثنا محمد بن شجاع، قال: حدثنا يحيى بن حماد، عن يحيى بن سعيد، عن محمد بن عجلان، قال: سمعت أبي يحدث عن أبي هريرة، عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم أنَّه قال: (( لا يبولَنّ أحدكم في الماء الدائم، ولا يغتسل فيه من جنابة )).
فإذا ثبت بهذا الخبر النهي عن الاغتسال في الماء الدائم، ثبت أن الاغتسال يؤثر فيه، وأقل التأثير المنع من التوضئ به، ولا يجوز القول بخلافه؛ لأنه يؤدي إلى أن لا يكون لنهي النبي صلى الله عليه وآله وسلم فائدة.
فإن قال قائل: لا يمتنع أن يكون النهي عن الاغتسال من الجنابة لم يكن للاستعمال، وإنما كان للنجس الذي يكون في الأغلب على جسد الجنب؟
__________
(1) أخرجه في شرح معاني الآثار 1/25، عن ابن أبي داود، به.
(2) في (ج): بما بينا.
قيل له: هذا تخصيص بغير دليل، وذاك أنا(1) نعلم أنَّه قد يكون جنباً ليس على جسده شيء من النجس، والنبي صلى الله عليه وآله وسلم نهى نهياً عاماً كلَ جنب عن الاغتسال بالماء الدائم، فوجب أن يدخل فيه من على جسده نجس، ومن ليس على جسده نجس فإذا صح تناول عموم النهي من ليس على جسده نجس، صح أن النهي للاستعمال، وصح ما ذهبنا إليه، على أنَّه صلى الله عليه وآله وسلم قد نبّه بنهيه عن البول فيه على النهي عن إلقاء سائر النجاسات فيه، فَحَمْل نهيه عن الاغتسال فيه على أنَّه نهي للنجاسة، حمل للخبر على التكرار، وسلب للفائدة الجديدة. (2/13)
فإن قيل: إن(2) النبي صلى الله عليه وآله وسلم إنما منع عن الاغتسال في الماء الدائم بعد البول فيه، ألا ترى إلى قوله: (( لا يبولن أحدكم في الماء الدائم ))، ثم قال بعده: (( ولا يغتسل فيه من جنابة )) فليس يجب أن يكون نهياً للإستعمال بل يكون النهي؛ لأنه يصير مغتسلاً بالماء النجس؟
قيل له: ألفاظ النبي صلى الله عليه وآله وسلم إذا وردت وكانت كلها مستقلة بنفسها، ولم يكن في ظاهرها ما يقتضي حمل بعضها على بعض، كان الظاهر أن تكون كل لفظة منها مستبدة بحكمها على حيالها، حتى يكون الجمع بين تلك الألفاظ كالتفريق، فإذا(3) كان هذا هكذا، فكأنه صلى الله عليه وآله وسلم، قال: لا يبولنَّ أحدكم في الماء الدائم، ثم استأنف الكلام، فقال: لا يغتسلنَّ أحدكم في الماء الدائم من جنابة، فيكون النهي متناولاً للبول في الماء الدائم على حياله، وللاغتسال فيه من الجنابة على حياله.
على أن أبا جعفر الطحاوي، روى عن أبي هريرة بإسناده أنَّه قال: قال صلى الله عليه وآله وسلم: (( لا يغتسل أحدكم في الماء الدائم وهو جنب )) فأفرد ذلك من النهي عن البول فيه(4).
__________
(1) في (أ): أنا قد.
(2) في (أ) بأن.
(3) في (ب) و(ج): وإذا.
(4) أخرجه في شرح معاني الآثار 1/14 ـ 15، عن ابي هريرة بطرق مختلفة وألفاظ مختلفة.
ومما يدل على صحة ما ذهبنا إليه من جهة النظر أن الماء إذا أزيلت به النجاسة، لم يجز التوضئء به، كذلك إذا(1) أزيل به الحدث، والمعنى أنَّه إذا أزيل به ما حصوله يمنع من الصلاة. (2/14)
وليس لأحد أن يقول: إن هذا الأصل لا يستمر لكم على جميع المخالفين في هذه المسألة؛ لأن فيهم من لا يرى أن الماء الذي يزال به النجس يكون نجساً، اللهم إلاَّ أن يتغير به.
قيل له: ليس بواجب أن يكون كل أصل مقيس عليه متفقاً عليه، بل يكون تارة متفقاً عليه، وتارة مدلولاً عليه، ويكون المدلول عليه أوكد من المتفق عليه إذا كان الاتفاق بين الخصمين فقط، ولم يكن فيه اتفاق من الأمة، وسنذكر في هذا الكتاب ما يبين أن الماء الذي يزال به النجس يصير نجساً، فيصح أن نجعله أصلاً نقيس(2) عليه.
وعلتنا هذه يمكن أن ترجح بالحظر والنقل؛ لأن الماء قد ثبت فيه التطهير، ونحن ننقله بعلتنا هذه عما يثبت، ويمكن أن ترجح هذه العلة بما جرت عليه عادات المسلمين من لدن الصحابة إلى يوم الناس هذا، أن أحداً لم يكن يأخذ المتساقط من الماء عن العضو في المواضع التي يُعْوِزُ فيها الماء ويقل، حتى لا يحل في مثلها من المواضع إراقة ما يجوز(3) التطهر به، ويمكن أن يعتمد لذلك ما روي عن(4) النبي صلى الله عليه وآله وسلم، أنَّه(5) قال لبني عبد المطلب لما حرم عليهم الصدقة: (( إن اللّه كره لكم غُسالة أوساخ أيدي الناس ))، فشبه ما حرم عليهم من الصدقة بالغسالة، فدل على ما قلناه.
فأما استدلال من يستدل منهم بقوله تعالى: {وَأَنْزَلْنَا مِنَ السَّمَاءِ مَاءً طَهُوراً}، فقال: إن الطهور اسم المبالغة كالصبور والقتول والفروق، وذلك يقتضي التكرار، واقتضى ظاهر الآية أن تكرار التطهر مُتأتٍ في الماء.
__________
(1) سقطت من (أ): إذا. وفي حاشيته و(ب): الذي يظهر أن لفظة (إذا) محذوفة؛ لكي يستقيم المعنى.
(2) في (أ): ونقيس.
(3) في (أ وب): راقة ولا يجوز.
(4) في (أ): أن.
(5) سقط من (أ): أنه.
فقد قيل في جواب هذا: إن الطهور في هذا الموضع هو اسم الفاعل، فلا يجب أن يكون محمولاً على المبالغة. وهذا فيه نظر، وذلك أن اسم الفاعل منه مطهر، فالأقرب أن يكون الطهور موضوعاً للمبالغة، وقد قيل: إن كل جزء منه لما كان له حظ في التطهير أُجري اسم المبالغة عليه، وأكثر ما فيه أن يكون ما ادعوه في ظاهرها صحيحاً، فغير ممتنع أن تصرف عن ظاهرها بالأدلة التي قدمناها، بل ذلك هو الحكم في جميع الظواهر. (2/15)
فإن قيل: روي أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم، اغتسل فبقيت لمعة من جسده، فأخذ الماء من بعض شعره ومسحها به، فهذا يدل على أنَّه صلى الله عليه وآله وسلم استعمل الماء المستعمل.
قيل له: عندنا أن الماء لا يصير مستعملاً حتى يفارق العضو، وحكم جميع البدن في الاغتسال حكم العضو الواحد، والماء لا يصير مستعملاً بأن يساق من موضع في(1) العضو إلى موضع آخر منه، فالنبي صلى الله عليه وآله وسلم إذاً لم يستعمل الماء المستعمل، وهذا الجواب يصح أن يُجاب به على من زعم أن الماء المستعمل لو كان لا يجوز التطهر به، لكان لا يجوز أن يوضع على اليد، ثم ينقل إلى المرفق، أو على الجبهة، ثم ينقل إلى أسفل الوجه؛ إذ قد بينا أن الماء لا يصير مستعملاً حتى يفارق العضو.
فإن قيل: قد روي أن المسلمين كانوا يتمسحون بفضل وضوء رسول اللّه صلى الله عليه وآله وسلم على سبيل التبرك.
قيل له: عن هذا جوابان:
أحدهما: أنَّه يجوز أن يكونوا تمسحوا بما فضل عنه دون ما تساقط عن أعضائه، وهو فعل لا يدعى فيه العموم.
والثاني: أنَّه وإن سُلِّم(2) أنَّه أريد به المتساقط من أعضائه، فليس في الخبر أن الناس توضؤوا به رافعين للحدث، وهذا إنما يَحُجُّ من ادعى تنجيسه.
فصل [في تنجيس المستعمل ]
__________
(1) في (ب) و(ج): من.
(2) في (ج): علم.
ليس ليحيى بن الحسين عليه السلام نص في تنجيس الماء المستعمل، مع أنَّه قد ذكره، ومنع التوضئ به، فالأقرب أنَّه كان يذهب إلى أنَّه طاهر؛ إذ لو كان عنده نجساً، لذكر تنجيسه، فكان يكتفي به عن ذكر المنع من التطهر به، وكان أبو العباس الحسني يخرج تنجيسه على قوله في باب الذبائح: (( ولا بأس بذبيحة الجنب والحائض ))(1)؛ لأن نجاستهما لا تمنع من أكل ذبيحتهما، فلما وصفهما بالنجاسة عُلِم أن الماء الذي يغتسلان به يجب تنجيسه، وهذا بعيد؛ لأن وصفه لهما بالنجاسة على سبيل التجوز، والمراد به أنَّه يجب عليهما الاغتسال. (2/16)
يبين ذلك ما ذكره عليه السلام في كتاب النكاح: أنَّه يجوز للرجل أن يدنوا من امرأته وهي حائض ما دون الإزار، ولا ينبغي أن يدنو من فرجها، ولا أن يقرب من نجاستها(2)، فلما أباح له مقاربة الحائض، ومنع من مقاربة نجاستها، عُلِم أنَّه لا يجعل أعضاء الحائض نجسة إذا لم يكن عليها نجاسة، ونص على أن سؤر الحائض طاهر، مع تنجيسه سؤر الكافر، فدل على أنَّه لا ينجس أعضاء الحائض. وفي ذلك:
ما أخبرنا به أبو عبد اللّه محمد بن عثمان النقاش، قال: حدثنا الناصر للحق، عن محمد بن منصور، قال: حدثنا أحمد بن عيسى، عن حسين بن علوان، عن أبي خالد، عن زيد بن علي، عن آبائه، عن علي عليهم السلام، قال: عاد رسول اللّه صلى الله عليه وآله وسلم، ـ وأنا معه ـ رجلاً من الأنصار، فتطهر للصلاة، ثم خرجنا فإذا نحن بحذيفة بن اليمان فأومأ إليه رسول اللّه صلى الله عليه وآله وسلم، فأقبل إليه، فأهوى رسول اللّه صلى الله عليه وآله وسلم إلى ذراع حذيفة ليّدعم عليها، فنخسها حذيفة، فأنكر ذلك رسول اللّه صلى الله عليه وآله وسلم، فقال: (( مالك يا حذيفة؟ فقال: إني جنب، قال: ابرز ذراعك، فإن المسلم ليس بنجس(3)، ثم وضع كفه على ذراعه ))، وإنها لرطبة.
__________
(1) ذكره في الأحكام 2/389.
(2) ذكره في الأحكام 1/359. وهو هنا بلفظ قريب.
(3) في (أ): بنجس.
فالأولى على ما بيناه هو القول بطهارة الماء المستعمل، على أن تنجيسه ليس يحفظ إلاَّ عن أبي حنيفة، في رواية شاذة. (2/17)
قال أبو بكر الجصاص في شرحه (مختصر الطحاوي): والصحيح من مذهب أصحابنا أن الماء المستعمل طاهر، قال: وكذا كان يقول أبو الحسن الكرخي.
مسألة الفرق بين الكثير والقليل من الماء
قال: والكثير هو: الماء الذي جرت العادة في مثله، أن لا يُستوعب شرباً وطهوراً كالبيار النابعة(1)، والأنهار الجارية، والبرك الواسعة. والقليل: ما دونه.
وهذه الجملة قد نص عليها يحيى عليه السلام في كتاب الطهارة من (الأحكام)(2).
وقد ذكرنا ما يدل على تنجيس الماء القليل إذا وقعت فيه النجاسة، وإن لم يتغير الماء بها، وقد ذكرنا أيضاً الأخبار التي يُستدل بها على أن الكثير لا ينجس، من خبر أبي سعيد الخدري حين يقول: انتهينا مع رسول اللّه صلى الله عليه وآله وسلم إلى غدير فيه جيفة، فقال: (( اسقوا واستقوا ))، ومن خبر بئر بضاعة.
وقد ذكرنا ما رواه محمد بن شجاع، عن الواقدي، أن بئر بضاعة كانت طريق الماء إلى البساتين، على أنَّه لا خلاف أن الماء إذا بلغ هذا الحد من الكثرة فلا ينجس بما يقع فيه من النجاسة، إلاَّ أن يتغير، إلاَّ الآبار النابعة، فقد اختلف فيها.
والذي يدل على صحة ما نذهب إليه من الفرق بين الماء القليل والكثير:
ما أخبرنا به أبو الحسين بن إسماعيل، قال: حدثنا محمد بن الحسين بن اليمان، قال: حدثنا محمد بن شجاع، قال: حدثنا معلا بن منصور، وعبد الصمد بن عبد الوارث، وأبو معمر البصري، عن عبد الوارث بن سعيد، قال: حدثنا عطاء بن السائب، أن أبا البَخْتري، وزاذان حدثاه عن علي عليه السلام، أنَّه قال في الفأرة إذا ماتت(3) في البئر: (( فانزحها حتى يغلبك الماء )) .
__________
(1) في (أ): النابغة.
(2) الأحكام 1/56، وهي هنا بالمعنى.
(3) في (أ): كانت.
وأخبرنا أبو بكر، قال: حدثنا الطحاوي، قال: حدثنا محمد بن حميد بن هشام الرعيني، قال: حدثنا علي بن مَعْبَد، قال: حدثنا علي بن موسى بن أعين، عن عطاء، عن ميسرة وزاذان، عن علي عليه السلام، قال: (( إذا سقطت الفأرة أو الدابة في البئر فانزحها حتى يغلبك الماء ))(1). (2/18)
وأخبرنا أبو بكر المقرئ، قال: حدثنا الطحاوي، قال: حدثنا صالح بن عبد الرحمن، قال: حدثنا سعيد بن منصور، قال: حدثنا هشيم، قال: أخبرنا منصور، عن عطاء أن حبشياً وقع في زمزم، فأمر ابن الزبير فنزح ماؤها فجعل الماء لا ينقطع، فنظرنا، فإذا عين تجري قبل الحجر الأسود، فقال ابن الزبير: حسبكم(2).
وأخبرنا أبو الحسين بن إسماعيل، قال: حدثنا محمد بن الحسين بن اليمان، قال: حدثنا محمد بن شجاع، قال: حدثنا المعلى بن منصور، عن هشيم، عن منصور، عن عطاء مثله.
فقد ثبت بما رويناه أن أمير المؤمنين عليه السلام راعى فيه أن يكون الماء يغلب النازح، وكذلك ابن الزبير، وذلك نص ما ذهبنا إليه من أن الماء إذا كان لا يُستوعب بالشرب والطهور، فإنه لا ينجس إلاَّ أن يتغير.
ومن مذهبنا أن أمير المؤمنين عليه السلام إذا قال قولاً فيجب اتباعه والانتهاء(3) إليه، على أن غيرنا أيضاً يقول: إن الصحابي إذا قال قولاً، ولم يُعرف له مخالف فيه، وجب القول به.
فإن قيل: فإن في هذه الأخبار أنَّه نزح ماؤها حتى غلب، وأنتم لا تشترطون ذلك؟
قيل له: إن النزح يحتمل أن يكون أمر به؛ لأن يتبين أن الماء غالب، إذا لم يكن ذلك معلوماً، وإذا احتمل ذلك، وقد ثبت أن النازح لا يمكنه أن ينزح النجس، ويترك الطاهر، علمنا أن المراد بالنزح ما أشرنا إليه أن المراعى فيه أن يكون الماء غالباً.
فإن قيل، فقد روي:
__________
(1) أخرجه في شرح معاني الآثار 1/17، عن محمد بن حميد، به. إلا أنه قال: حدثنا موسى بن أعين..
(2) أخرجه في شرح معاني الآثار 1/17، عن صالح، به.
(3) في (ب): وإلا انتهى.
ما أخبرنا به أبو بكر المقرئ، قال: حدثنا الطحاوي، قال: حدثنا محمد بن خزيمة، قال: حدثنا حجاج بن المنهال، قال: حدثنا حماد بن سلمة، عن عطاء بن السائب، عن ميسرة أن علياً عليه السلام، قال في بئر وقعت فيها فأرة فماتت: (( ينزح ماؤها )) ، فقد أمر بنزحها مطلقاً؟(1) (2/19)
قيل له: ليس في هذا ما يفسد مذهبنا؛ لأنا لا ننكر أن البئر إذا كان يمكن نزح جميع ما فيها ينجس ماؤها بما يقع فيه من النجاسة.
ومما يدل على صحة ما ذهبنا إليه أن الماء إذا كان يمكن أن يُستوعب بالشرب والطهور، فإنه لو استوعب لكان استعمال النجاسة متيقناً، ولم يكن بعض المستعملين له أولى بالتنجيس من بعض؛ إذ لا خلاف أن حكم أبعاض ذلك الماء في التنجيس والتطهير حكم واحد؛ لأن من قال بتنجيس بعضه، قال بتنجيس كله، ومن قال بتطهير بعضه قال بتطهير كله، وإذا كان الماء مما لا يمكن استيعابه بالشرب والطهور، لم يحصل اليقين باستعمال النجاسة؛ إذ أصل الماء الطهارة، وكل بعض منه يجوز أن لا تكون النجاسة ماسته.
فإن قيل: فما تقولون في الموضع الذي يقع فيه النجس هل يجوز استعماله بعينه؟
قيل له: إذا عرف ذلك الموضع بعينه فلا يجوز عندنا استعماله، وقد نص عليه يحيى عليه السلام في (الأحكام)(2): (ينجس الطهور بأن يلغ فيه الكلب والخنزير أو أن يشرب(3) منه كافر بفيه، أو يدخل يده فيه). ولم يشترط أن يكون الماء في إناء أو بحر، بل أطلق القول فيه، فاقتضى ذلك أن يكون كل موضع من الماء مسه النجس يصير نجساً.
__________
(1) أخرجه في شرح معاني الآثار 1/17، عن محمد، به.
(2) انظر الأحكام 1/56، إلا أنه قال: أو الخنزير.
(3) في (أ): أو أن يشرب.
فإن قيل: هلا جعلتم الحد في ذلك أن يكون الماء قُلتين، واسْتَدِلُّوا في ذلك: بما أخبرنا به أبو بكر المقرئ، قال: حدثنا الطحاوي، قال: حدثنا يحيى بن نصر بن سابق الخولاني، قال: حدثنا يحيى بن الحسان، قال: حدثنا أبو أسامة، عن الوليد بن كثير، عن محمد بن جعفر بن الزبير، عن عبيد اللّه بن عبد الله، عن عبد اللّه بن عمر، أن رسول اللّه صلى الله عليه وآله وسلم سئل عن الماء وما ينوبه من السباع، فقال: (( إذا بلغ الماء قُلتين فليس يحمل الخبث ))(1). (2/20)
وأخبرنا أبو بكر المقرئ، قال: حدثنا الطحاوي، قال: حدثنا الحسين بن نصر، قال: سمعت يزيد بن هارون، يقول: أخبرنا محمد بن إسحاق، عن محمد بن جعفر بن الزبير، عن عبيد اللّه بن عبداللّه، عن عبد اللّه بن عمر، عن أبيه، عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم أنَّه سئل عن الحياض التي في البادية تصيب منها السباع؟ فقال: (( إذا بلغ الماء قُلتين لم يحمل نجساً ))(2).
وأخبرنا أبو الحسين بن إسماعيل، قال: حدثنا محمد بن الحسين بن اليمان، قال: حدثنا محمد بن شجاع، قال: حدثنا يزيد بن هارون، قال: حدثنا محمد بن إسحاق، عن محمد بن جعفر بن الزبير، عن عبيد اللّه بن عبد اللّه بن عمر، عن أبيه، قال: سمعت النبي صلى الله عليه وآله وسلم يسأل عن الماء يكون بأرض الفلاة وما ينوبه من السباع والدواب، فقال رسول اللّه صلى الله عليه وآله وسلم: (( إذا بلغ الماء قُلتين لم ينجّسه شيء )).
قيل له: هذه الأخبار قد رويت، لكن فيها وجوه من الكلام:
منها: أن في سندها اضطراباً يدل على ضعفها.
ومنها: أنها معارضة.
__________
(1) أخرجه في شرح معاني الآثار 1/15، عن بحر بن نصر، به. وهنا قال يحيى.
(2) أخرجه الطحاوي في شرح معاني الآثار 1/15، عن الحسين بن نصر، إلا أنه أسقط راوٍ، فقال: عبيد الله بن عبد الله بن عمر عن أبيه. كما أنه قال في متنه: خبثاً.
ومنها: أنها متأولة على خلاف ما يذهب إليه المخالف لنا، ثم جميع ما قدمناه من الأخبار ـ الدالة على تنجيس الماء القليل بوقوع النجاسة فيه ـ ومن القياس والاستدلال يدل على فساد ما ذهبوا إليه من القلتين، وعلى صحة ما نتأول عليه أخبارهم. (2/21)
فأما ضعف الإسناد؛ فلأن بعض الرواة، قال: قال محمد بن عباد بن جعفر بن الزبير، وبعضهم قال: قال محمد بن جعفر، ومنهم من قال: عبدالله، ومنهم من قال: عبيد اللّه بن عبد الله، فدل ذلك على ضعف إسنادها، وأنه لم يضبط حق الضبط.
فإن قيل: لا يمتنع أن يكون خبر الواحد يرويه جماعة، فيكون هذا الخبر رواه محمد بن عباد بن جعفر، ومحمد بن جعفر، وعبد اللّه بن عبد الله، وعبيد اللّه بن عبد الله، فلا يجب أن يجعل ما ذكرتم طعناً فيه؟
قيل له: نحن لم ندَّعِ أن هذا الخبر ورد على وجه يستحيل أن يرد الخبر عليه، ولو كان ذلك لقطعنا أنَّه كذب وأسقطناه. وإنما لم نقل ذلك، وقلنا: إنَّه يدل على اضطراب سنده للاحتمال الذي ذكرتموه، فقد بان أن هذا الاحتمال يمنع من القطع على كذبه، ولا يمنع من اضطراب سنده، وأنه غير مضبوط، وهذا يقتضي ضعف الخبر، فإنه لا بد من الفصل بين الضعف في الخبر وبين السقوط.
وأما ما يبين أنها معارضة فهو:
ما أخبرنا به أبو الحسين بن إسماعيل، قال: حدثنا محمد بن الحسين بن اليمان، قال: حدثنا محمد بن شجاع، قال: حدثنا يزيد بن هارون، قال: أخبرنا حماد بن سلمة، عن عاصم بن منذر، عن عبيد اللّه بن عبد اللّه بن عمر، عن أبيه، أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم، قال: (( إذا بلغ الماء قُلتين أو ثلاثاً لم ينجّسه شيء )).
وروى(1) محمد بن المنكدر، عن جابر بن عبد اللّه الأنصاري، قال: قال رسول اللّه صلى الله عليه وآله وسلم: (( إذا كان الماء أربعين قُلةً، لم يحمل الخبث )).
وروي في بعض الأخبار: (( إذا كان الماء قُلة أو قُلتين )).
__________
(1) في (أ) و(ب): وروي عن.
فبان بما ذكرناه تعارض هذه الأخبار؛ لأن هذا القول عند المخالف خرج مخرج التحديد، وكيف يجب أن يحد مرة بالقلة، ومرة بالقُلتين، ومرة بثلاث قِلال، ومرة بأربعين قُلة، ألا ترى أن التحديد لكل واحدة من ذلك ينافي التحديد للآخر، على أن قول ابن عمر: عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم في الحديث الذي رويناه أخيراً: (( إذا بلغ الماء قُلتين أو ثلاثاً )) مع ما روي عنه: (( إذا بلغ قُلتين )) يدل على أنَّه لم يضبط الحديث لتنافي الروايتين، أو على أنَّ الرواة لم يضبطوا، فهذا أيضاً يدل على ضعف الحديث؛ لأن الاضطراب في المتن كالاضطراب في السند في باب الدلالة على ضعف الخبر. (2/22)
وأما التأويل الذي يُعتمد عليه في ذلك فوجوه:
منها: أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم حين سئل عن الماء في البادية، قال: (( إذا بلغ الماء قلتين ))، وأراد(1) إذا بلغ في القلة والنزارة قلتين، لم يحتمل خبثاً، أي: ضعف عن أن يحمل الخبث.
فإن قيل: قد روي: لم ينجس؟
قيل له: أكثر الروايات على ما ذكرناه، ولا يمتنع أن يكون بعض الرواة سمع ذلك فتأوله على ما تأولتم عليه، ثم رواه على المعنى دون اللفظ.
فإن قيل: لو جاز قبول هذا الجنس من التأويل، لبطل أكثر الأخبار؛ إذ يمكن أن يقال فيه ذلك.
قيل له: نحن إنما قلنا ما قلناه في هذا الخبر، لأن اللفظ الأشهر الأكثر غير هذا اللفظ الذي تعلقتم به من أنَّه لا ينجس؛ ولأنا قد بينا في إسناد هذا الخبر ومتنه ما يدل على الاضطراب، وأنه غير مضبوط، وكل خبر شاركه في هذه الأوصاف صح أن يقال فيه ما قلناه في هذا الخبر، وما لم يشاركه فيها لم يصح أن يقال ذلك فيه.
ومنها: أن القُلَّة اسم لرأس الجبل، فلا يمتنع أن يكون النبي صلى الله عليه وآله وسلم أراد إذا بلغ الماء قلتي الجبل كثرة، لم يحمل الخبث، ولم ينجس، وهذا هو ما نذهب إليه.
__________
(1) في (ج): والمراد.
فإن قيل: أراد النبي صلى الله عليه وآله وسلم بقِلال(1) هجر، لأن قلال هجر كانت معروفة إذ ذاك، وقد ذكرها النبي صلى الله عليه وآله وسلم في بعض الأخبار. (2/23)
قيل له: نحن لا نمنع أنها كانت معروفة، ولكن كون القُلَّة اسماً لرأس الجبل كان أيضاً مشهوراً، وكونه اسماً للكوز كان اسمه أيضاً معروفاً، فإذا احتمل اللفظ معاني مختلفة، لم يكن صرفه إلى بعضها أولى من صرفه إلى بعض.
على أن قلال هجر قد قيل أنها تكبر وتصغر، فلا يمكن التحديد بها، وقد بينا ما دل على نجاسة هذا المقدار من الماء بما ذكرناه في صدر كتابنا من الأخبار والقياس، فوجب أن يكون ما تأولناه صحيحاً دون ما تأوله المخالف، على أن ترتيب الشرع يبعد أن يرد الشرع بمذهبهم في القُلتين، لأن من مذهبهم أن قُلتين من الماء منفردتين لو كانتا نجستين، ثم صب(2) إحدى القُلتين على الأخرى، لطهر جميع الماء، ومن البعيد أن يكون الماءان النجسان يصيران بالخلط طاهرين، وكذلك لو نقص ما نجس عن القلتين؛ لكان نجساً، ثم لو أكمل ذلك بالبول لصار طاهراً، وهذا أبعد من الأول، ومثل هذا لا يجوز لخبر حاله في الضعف والاضطراب والتعارض واحتمال التأويلات ما ذكرنا.
مسألة [ في سؤر ما يؤكل لحمه ]
قال: ولا بأس بالتطهر بسؤر جميع ما أُكل لحمه.
__________
(1) كذا ، ولعل الصواب : قلال.
(2) في (أ): صبت.
وهذا إذا لم يتغير باللعاب، ولست أحفظ عن يحيى فيه لفظاً صريحاً، إلاَّ أنَّه قد نص على تطهير بول ما أكل لحمه(1)، فبالأولى أن يطهر سؤره، وقد نص على الخيل والبغال والحمير، فقال: لا بأس بسؤر الفرس، والبغل والحمار، وغير ذلك من البهائم(2). وإذا لم يرَ بأساً بسؤر مالا يؤكل لحمه فبالأولى أن لا يرى بأساً بسؤر ما يؤكل لحمه، على أن عموم قوله: وغير ذلك من البهائم يقتضي ذلك، وهذا مما لا أحفظ فيه خلافاً عن أحد من الفقهاء، والوفاق أوكد الأدلة. (2/24)
وقد أخبرنا أبو العباس الحسني، قال أخبرنا علي بن سليمان، قال: حدثنا أحمد بن محمد بن سلاَّم، قال: حدثنا الحسن بن عبد الواحد، قال: حدثنا أحمد بن صبيح، عن حسين بن علوان، عن عبد اللّه بن الحسن عليه السلام، قال: قال رسول اللّه صلى الله عليه وآله وسلم: (( كل شيء يجتر فلحمه حلال، ولعابه حلال، وسؤره وبوله حلال )).
مسألة [ في سؤر ما لا يؤكل لحمه ]
قال: ولا بأس بسؤر الخيل والبغال والحمير وغير ذلك من البهائم.
وهذا قد ذكرنا أن يحيى عليه السلام قد نص عليه، وتنصيصه بعد ذكر الفرس والبغل والحمار على غير ذلك من البهائم يقتضي دخول جميع السباع فيه، إلاَّ ما نص على تنجيسه من الكلب والخنزير.
فأما الخيل فلا أحفظ خلافاً في طهارة سؤرها، إلاَّ أن من الناس من يخالفنا في علة ذلك، وإن وافق في المذهب، فيرى أن طهارة سؤرها؛ لأنها مما يؤكل لحمه، وعندنا أن سبيلها سبيل البغال والحمير، وكذا القول في السباع على ما اقتضاه كلام يحيى عليه السلام.
والذي يدل على صحة ما ذهبنا إليه:
__________
(1) ذكره في الأحكام 1/57، فقال في بول الجمل والشاة يصيب الطهور منه شيء: لا بأس في التطهر به.
(2) ذكره في الأحكام 1/56، بلفظ مقارب. واشترط عدم التغيير.
ما أخبرنا به أبو الحسين بن إسماعيل، قال: حدثنا محمد بن الحسين بن اليمان، قال: حدثنا محمد بن شجاع، قال: حدثنا ابن نافع، عن مالك، عن إسحاق بن عبد اللّه بن أبي طلحة، عن حميدة بنت عبيد بن رفاعة، عن كبشة بنت كعب أنها صبّت لأبي قتادة ماءً يتوضأ به، فجاءت هرة تشرب، فأصغى لها الإناء، فجعلت أنظر، فقال: يا بنت أخي، أتعجبين؟ قال سول اللّه صلى الله عليه وآله وسلم: (( إنها ليست بنجسة، هي من الطوافين عليكم والطوافات )). (2/25)
وأخبرنا أبو بكر المقرئ، قال: حدثنا أبو جعفر الطحاوي، قال: حدثنا علي بن مِعبَد، قال: حدثنا خالد بن عمرو الخراساني، قال: حدثنا صالح بن حسان، قال: حدثنا عروة بن الزبير، عن عائشة، (( أن رسول اللّه صلى الله عليه وآله وسلم كان يصغي الإناء للهر ويتوضأ بفضله ))(1).
وروى داود بن الحصين، عن جابر أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم سئل: أنتوضأ بما أفضلت الحمر؟ فقال: (( نعم، وبما أفضلت السباع ))، وقد قيل إن هذا الخبر مرسل؛ لأن داود لم يلق جابراً، وهذا لا معنى له، لأنا نرى قبول المراسيل والعمل بها، والمخالف لنا في هذا أبو حنيفة وأصحابه، وهم يرون قبول المراسيل، على أنَّه قد رواه إبراهيم بن أبي يحيى، عن داود بن الحصين، عن أبيه، عن جابر، فقد ثبت بهذه الأخبار طهارة سؤر الهر والحمار وسائر السباع.
وقد قيل في الخبر الوارد في سؤر الحمار إن ذلك كان قبل تحريم لحمه، وذلك فاسد من وجوه:
أحدهما: أنَّه يوجب نسخ الخبر من غير أمر يوجبه ويقتضيه، وذلك لا معنى له.
والثاني: أن اعتبار سؤر الشيء بلحمه في هذا الباب لا معنى له؛ إذ لم يثبت ذلك، بل ثبت خلافه، ألا ترى أن الهر غير مأكول، وقد ثبت طهارة سؤره، والمسلم لا خلاف في طهارة سؤره، وإن كان لحمه غير مأكول.
__________
(1) أخرجه في شرح معاني الآثار 1/19، عن علي بن معبد، به. إلا أنه قال: صالح بن حيان.
والثالث: أنَّه صلى الله عليه وآله وسلم، قال: (( وبما أفضلت السباع )) ولم يرو أن السباع كانت لحومها مأكولة، ثم حرمت، فسقط تأويلهم. (2/26)
وقد استدل أصحاب أبي حنيفة لنجاسة سؤر السباع بما رويناه عن ابن عمر، أن رسول اللّه صلى الله عليه وآله وسلم سئل، عن الماء وما ينوبه من السباع، قال: (( إذا بلغ الماء قلتين فليس يحمل الخبث ))، وهذا من العجب فإن هذا الحديث لما استدل به من أوجب التحديد بقلتين ردوه، وقالوا: إنَّه مضطرب السند والمتن، وذلك يدل على أنه غير مضبوط، وتكلموا عليه كلاماً طويلاً، فكيف جاز لهم أن يستدلوا به لتنجيس سؤر السباع؟ على أن السائل سأل عن الماء الذي تنوبه السباع، والظاهر من حال الماء الذي هذه سبيله أن السباع تبول فيه وتروث، وذلك ينجس الماء لا محالة، وليس فيه ذكر السؤر، ولا قصر السؤال عليه، بل لم يذكره السائل بوجه.
فإن قيل: ليس في الحديث أن السباع تبول فيه وتروث، بل فيه أنها تنوب، والتنجيس يتعلق بذلك القدر.
قيل له: نحن إذا بينا احتمال ما قلنا، كفانا في تأويل الحديث؛ إذ ليس على المتأول أكثر من ذلك، ونرجع إلى الحديث الذي روي عن جابر أنَّه قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: (( وبما أفضلت السباع ))، وإلى ما رويناه في الهر.
مع ما أخبرنا به أبو الحسين بن إسماعيل، قال: حدثنا محمد بن الحسين بن اليمان، قال: حدثنا محمد بن شجاع، قال: أخبرنا أبو أسامه، عن عيسى بن المسيب، عن أبي زرعه، عن أبي هريرة، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: (( الهر سبع )).
فإن استدلوا بما أخبرنا به أبو الحسين بن إسماعيل، قال: حدثنا محمد بن الحسين، قال: حدثنا محمد بن شجاع، قال: حدثني أبونعيم ضرار بن صرد، عن عمرو بن هشام(1)، عن جويبر، عن الضحاك، عن ابن عباس، قال: كنت ردف رسول اللّه صلى الله عليه وآله وسلم على حمار يقال له يعفور، فأصاب ثوبي من عرقه، فأمرني النبي صلى الله عليه وآله وسلم بغسله. (2/27)
فإذا ثبت نجاسة عَرقه، ثبت نجاسة سؤره.
قيل لهم: ليس يمتنع أن يكون النبي صلى الله عليه وآله وسلم، كان علم أن ذلك الحمار أصابه من الروث أو البول أو غيرهما ما أوجب تنجيسه، فلما أصاب ابن عباس من عرقه مع ما علم من حاله، أمره بغسله، وهذا فعل لا يمكن ادعاء العموم فيه، وخبرنا جواب عن السؤال فهو أولى، على أن المعهود من لدن الصحابة إلى يوم الناس هذا أن المسلمين يركبون الخيل والبغال والحمير ولا يتوقون من أعراقها، فصار تطهير أعراقها إجماعاً منهم، وهذا من أوكد ما يستدل به في هذا الباب.
فإن قيل: روى قرة بن خالد، عن محمد بن سيرين، عن أبي هريرة، عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم، قال: (( طهور الإناء إذا ولغ فيه الهر أن يغسل مرة أو مرتين )) شك قرة بن خالد، ففي هذا تنجيس سؤره(2).
قيل له: هذا الحديث قد روي عن محمد بن سيرين موقوفاً على أبي هريرة:
أخبرنا أبو بكر المقرئ، قال: حدثنا الطحاوي، قال: حدثنا أبو بكرة(3)، قال: حدثنا وهب بن جرير، قال: حدثنا هشام بن حسان، عن محمد، عن أبي هريرة، قال: (( سؤر الهر يهراق ويغسل الإناء مرة أو مرتين ))(4).
__________
(1) في الحاشية: عمرو بن هشيم. وقال: نسخة.
(2) أخرجه في شرح معاني الآثار 1/19، عن أبي بكرة، عن عاصم، عن قرة، به.
(3) في (أ) و(ب): أبو بكر. وهو غلط والصواب ما أثبتناه، وهو بكار بن قتيبة.
(4) أخرجه الطحاوي في شرح معاني الآثار 1/20، عن أبي بكر، به.
وأخبرنا أبو بكر، قال: حدثنا الطحاوي، قال: حدثنا إبراهيم بن أبي داود، قال: حدثنا إبراهيم بن عبد اللّه الهروي، قال: حدثنا إسماعيل بن إبراهيم، عن يحيى بن عتيق، عن محمد بن سيرين، أنه كان إذا حدث عن أبي هريرة، فقيل له: عن النبي؟ قال: كل حديث أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم(1).. (2/28)
ففي هذا أن ابن سيرين كان إذا سمع أبا هريرة يحدث كان يرى أنَّه عن النبي، فكان يستجيز رفعه، فلا يمتنع أن يكون سمع أبا هريرة يقول ما قال في سؤر الهر، فرفعه هو إلى النبي صلى الله عليه وآله وسلم للرأي الذي رآه، ألا ترى أنَّه ـ أعني ابن سيرين ـ قد رواه موقوفاً، وذلك الرأي بعيد؛ لأنَّه لا يمتنع أن يرى أبو هريرة رأياً فيفتي به ويحدث به عن نفسه، فإذا كان ابن سيرين يظن أن جميع ذلك يجب أن يكون مرفوعاً وجب ضعف ما يرويه عن أبي هريرة، عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم، وبمثله لا يعترض على الأخبار التي قدمناها.
على أن هذا الخبر يجوز أن يكون منسوخاً إن صح عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم، ألا ترى إلى تعجب كبشة حين أصغى له الإناء أبو قتادة؟
وأخبرنا أبو بكر المقرئ، قال: حدثنا أبو جعفر الطحاوي، قال: حدثنا محمد بن الحجاج، قال: حدثنا أسد بن موسى، قال: حدثنا قيس بن الربيع، عن كعب بن عبد الرحمن، عن جده أبي قتادة، قال: رأيته يتوضأ، فجاء الهر فأصغى له حتى شرب من الإناء(2).
فقلت: يا أبتاه، لم تفعل هكذا؟ فقال: كان النبي صلى الله عليه وآله وسلم يفعله، أو قال: هي من الطوافين عليكم والطوافات، فتعجب كعب أيضاً من ذلك.
والأقرب أنهما كانا قد عرفا تنجيسه من قبل، فهذا يؤكده ويوضح ما قلناه من أن خبر ابن سيرين يجب أن يكون منسوخاً.
__________
(1) أخرجه في شرح معاني الآثار 1/20.
(2) أخرجه في شرح معاني الآثار 1/19، إلا أنه لم يذكر تعجب كعب.
ومما يدل على ما ذهبنا إليه أنا نقيس سؤر هذه الحيوانات ـ أعني الحمير والسباع ـ على سؤر المسلم وسؤر الهر؛ بعلة كونها حيوانات طاهرة في حال الحياه، فيجب أن تكون آسارها(1) طاهرة، وقياسنا أولى من قياسهم إن استقر لهم القياس، لموافقة تعليلنا تعليل النبي صلى الله عليه وآله وسلم، ألا ترى إلى قوله في الهرة: (( إنها ليست بنجسة ))؟ فعلل طهارة سؤرها بكونها غير نجسة. (2/29)
ومخالفنا يقيس سائر السباع على الكلب فيقول: لما كان الكلب محرم الأكل، لا لحرمته، ويستطاع الامتناع من سؤره وجب تنجيس سؤره، فكذلك سائر السباع لمشاركتها له في هذه العلة، وهذه العلة غير صحيحة، وذلك أنَّه إن عُنى بقوله: إنَّه يستطاع الإمتناع منه، أن من لم يقتنه ولم يمسكه، ولم يخلطه بنفسه، يمكنه الامتناع عن سؤره، فهذا موجود في الهر، وذلك موجب نقض العلة، وإن أرادوا أن من اقتناه وأمسكه وخلطه بنفسه يمكنه الامتناع منه، فذلك غير مسلم في الكلب؛ بل المعلوم خلاف ذلك، فهذا الوصف أما إن يذكر على وجه لا يوجد في الأصل، أو على وجه تنتقض به العلة، فبان بذلك سقوط هذه العلة.
مسألة [ في سؤر الجنب والحائض ]
قال: وكذلك سؤر الجنب والحائض، إلا أن يتغير باللعاب فيخرج من كونه طهوراً، وإن كان طاهراً.
قد نص يحيى بن الحسين عليه السلام على جواز التطهر بسؤر الحائض(2)، فيجب أن يكون التطهر بسؤر الجنب جائزاً عنده؛ إذ الحيض عنده أعظم من الجنابة، ألا ترى أنَّه يمنع من الجماع مع بقاء حكم الحيض؟ وليس كذلك حكم الجنابة؛ ولأنه في سائر الأحكام يجمع بين الحيض والجنابة، وإن فرق في بعضها جعل حكم الحيض أشد.
فأما القاسم عليه السلام فقد نص عليه في (مسائل النيروسي).
__________
(1) في (أ): أسواراً.
(2) ذكره في الأحكام 1/56، وهو هنا بالمضي.
فأما ما تغير من الماء باللعاب فقلنا: إنَّه لا يجوز التطهر به. لما نص عليه يحيى عليه السلام في اللعاب وغيره من الأشياء الطاهرة، أنها إذا وقعت في الماء فغيرته، لم يجز التطهر به، وإن كان طاهراً، وهذا قد استوفينا الكلام فيه، فلا وجه لإعادته. (2/30)
وأما سؤر الجنب والحائض، فلا أحفظ فيه من الخلاف إلاَّ شاذاً يحكى عن قوم، وما تقدم في كتابنا هذا من الأخبار المروية، عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم أنَّه كان يغتسل مع نسائه، وبعد نسائه يصحح ما ذهبنا إليه، وكذلك ما رويناه عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم من طهارة عرق الجنب حين ادّعم على يد حذيفة، وهي رطبة مع كونه جنباً يصحح ما قلناه.
مسألة [ في سؤر الكلب والخنزير ]
قال: وسؤر الكلب نجس، وكذلك سؤر الخنزير.
وهذا مما قد نص عليه يحيى عليه السلام(1).
والذي يدل على صحة مذهبه:
ما أخبرنا به أبو الحسين بن إسماعيل، قال: حدثنا محمد بن الحسين، قال: حدثنا محمد بن شجاع، قال: حدثنا شبابة، عن شعبة، عن أبي التياح، قال: سمعت مطرف بن عبد اللّه يحدث عن عبد اللّه بن المغفل أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، قال: (( إذا ولغ الكلب في الإناء، فاغسلوه سبع مرات، وعفرّوه الثامنة بالتراب ))(2).
وأخبرنا أبو بكر المقرئ، قال: حدثنا الطحاوي، قال: حدثنا علي بن معبد، قال: حدثنا عبد الوهاب، عن شعبة، عن الأعمش، عن ذكوان، عن أبي هريرة، عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم، قال: (( إذا ولغ الكلب في الإناء، فاغسلوا سبع مرات ))(3).
__________
(1) ذكره في الأحكام 1/56.
(2) الحديث رواه مسلم 1/235 من طريق عبد الله بن معاذ عن أبيه عن شعبة، به. وأخرجه الطحاوي من طريق جرير عن شعبة، به.
(3) أخرجه في شرح معاني الآثار 1/21.
وروى ابن سيرين، عن أبي هريرة، عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم، أنَّه قال: (( طهور إناء أحدكم إذا ولغ فيه الكلب أن يغسله سبعاً ))(1). (2/31)
والتطهير إذا أطلق في الشرع كان ظاهره إزالة الحدث أو إزالة النجس، وإذا ثبت أن الأواني لا يلزمها أحكام الحدث، ثبت أن المراد به إزالة النجس، والأمر بالغسل إذا ورد في الشرع كان ظاهره ما بينا، فثبت بذلك أن الإناء ينجس بولوغه، وإذا نجس الإناء وجب أن ينجس الماء الذي فيه.
فأما ما تعلق به مالك وأصحابه من أن الأمر بغسل الإناء، إنما هو تعبد فلا معنى له؛ لأنا لا ننكر بأنا قد تعبدنا بإزالة النجاسة عن الأواني التي نريد استعمال ما فيها من المائعات.
فإن قيل: التعبد إنما هو بغسلها فقط، لا لإزالة النجس عنها؟
قيل له: ذلك ادعاء إلى مالا سبيل إلى إثباته؛ إذ قد بينا ما يقتضيه ظاهر الأمر في الغسل والتطهير في الشريعة، مع أن قد ثبت أنا قد أمرنا بإراقة ذلك الماء مع ثبوت النهي عن إضاعة المال، فلولا أنَّه كان نجساً، لم يجب ذلك.
ويمكن أن يقاس ذلك على أن سائر الأنجاس المائعة من الخمر وغيرها بوجوب إراقته، فكل مائع يلزم إراقته تجب نجاسته، وهذه علة صحيحة يوجد الحكم بوجودها ويعدم بعدمها، ويعضدها تعليل النبي صلى الله عليه وآله وسلم في سؤر الهر، بقوله: (( إنه ليس بنجس )).
ويجوز أن تقاس الآنية على سائر الجمادات التي لا يجب غسل شيء منها إلاَّ من النجاسة، فكل ما وجب غسله منها، وجب أن يكون نجساً.
وليس يصح تعليل من يُعلل طهارة الكلب بجريان الروح؛ لأن الخبر ينقضه، ولأنه لا دليل على صحة هذه العلة، على أنها لو ثبتت، لكان تعليلنا أولى؛ لكونها حاظرة ومؤدية إلى الاحتياط وشهادة الأصول لها.
__________
(1) أخرجه في شرح معاني الآثار، عن أبي بكرة قال: حدثنا أبو عاصم، عن قرة، به.
فإن قيل: فإن اللّه قد أباح لنا أن نأكل ما عض الكلب عليه من الصيد بقوله: {فَكُلُوا مِمَّا أَمْسَكْنَ عَلِيْكُمْ} الآية، فثبت بذلك أن ما عض عليه الكلب لا يصير نجساً، وإذا ثبت أن ذلك لا يصير نجساً، ثبت أن سؤره أيضاً لا يصير نجساً؟ (2/32)
قيل له: إن ذلك لا يدل على أنَّه لا يجب غسل ما عض عليه الكلب، كما أنَّه لا يدل على أنَّه لا يجب غسله مما عليه من الدم، ألا ترى أن اللّه تعالى أباح أكل ما ذكّيناه، بقوله: {إِلاَّ مَا ذَكَّيْتُمْ}؟ وهذا لا يدل على أنَّه لا يجب أن يغسل موضع التذكية مما عليه من الدم.
فإن قيل: روي عن عطاء بن يسار، عن أبي هريرة، قال: سئل النبي صلى الله عليه وآله وسلم، عن الحياض بين مكة والمدينة، تردها الكلاب والسباع. فقال: (( لها ما أخذت في بطونها، وما بقي فلنا طهور )).
قيل له: هذا وارد في الحياض العظيمة، وقد بينا ما نذهب إليه في المياه الكثيرة، بما لا طائل في إعادته، على أن هذا الخبر لو عارض سائر ما ذكرناه من الأخبار لكانت أخبارنا أولى لكونها حاظرة.
فإن قيل: الأمر بتكرير الغسل منه يدل على أن المراد به التعبد؟
قيل له: ذلك غير واجب، بل أولى من ذلك أن نقول: إنَّه يدل على تغليظ نجاسته.
فأما الخنزير فالخلاف في نجاسته مما ليس بظاهر، وقد دل عليه صريح قوله تعالى: {أَوْ لَحْمَ خِنْزِيرٍ فِإِنَّهُ رِجْسٌ}، والرجس في كلام العرب فهو(1): النجس، وإذا ثبت نجاسته بنص الكتاب، ثبت نجاسة سؤره، وليس لأحد أن يقول: إن اللحم هو المراد بقوله: {فَإِنَّهُ رِجْسٌ} دون الخنزير؛ لأن من حكم الكناية أن يرجع إلى أقرب مذكور، ألا ترى أنَّه لا التباس فيه إذا طال الكلام، فكذلك إذا قصر.
فصل [ عدد الغسلات من ولوغ الكلب ]
لم ينص يحيى عليه السلام على عدد الغسلات من ولوغ الكلب، وكان أبو العباس الحسني رضي اللّه عنه يُخرِّج ذلك على الثلاث، وكذلك كان يقول في إزالة سائر النجاسات التي لا أثر لها.
__________
(1) في (أ): هو.
والوجه في ذلك أن أبا هريرة روى حديث السَبع، ثم روى عنه: (2/33)
ما أخبرنا به أبو الحسين علي بن إسماعيل، قال: حدثنا محمد بن الحسين بن اليمان، قال: حدثنا محمد بن شجاع، قال: حدثنا إسحاق بن يوسف، قال: حدثنا عبد الملك، عن عطاء، عن أبي هريرة، قال: (( إذا ولغ الكلب في الإناء أهريق وغسل ثلاث مرات ))(1).
ولا يجوز أن يحمل قوله على مخالفة النبي صلى الله عليه وآله وسلم، فيجب أن يحمل على أنَّه عرف أن الزائد على الثلاث استحباب، أو أنَّه قد نسخ؛ إذ لا سبيل إلى غير ذلك متى حملت حاله على السلامة، على أن عبد اللّه بن المغفل روى: (( وعفروه الثامنة في التراب ))(2).
وتحديد عدد الغسلات بالثمان ينافي تحديده بالسبع، وفي تنافيهما ما يجب الرجوع إلى غيرهما(3).
فإن قيل: حديث الثمان متروكٌ بالإجماع.
قيل له: ليس الأمر على ما قَدَّرت، فقد كان الحسن البصري يأخذ به ويذهب إليه، روى ذلك أبو جعفر الطحاوي عنه(4). ويؤيد ذلك:
ما أخبرنا به أبو الحسين علي بن إسماعيل، قال: حدثنا محمد بن الحسين بن اليمان، قال: حدثنا محمد بن شجاع، قال: حدثنا: يحيى بن آدم، عن ابن عيينه، عن الزهري، عن أبي سلمة، عن أبي هريرة، قال: قال رسول اللّه صلى الله عليه وآله وسلم: (( إذا استيقظ أحدكم من منامه فلا يغمس يده في الإناء حتى يغسلها ثلاثاً، فإنه لا يدري أين باتت يده )).
__________
(1) أخرجه الطحاوي في شرح معاني الآثار 1/23، عن إسماعيل بن إسحاق قال: حدثنا أبو نعيم، حدثنا عبد السلام بن مرة، به.
(2) في (أ) و(ب) في نسخة: بالتراب.
(3) أخرجه في شرح معاني الآثار 1/29، عن أبي بكرة، عن سعيد بن عامر، ووهب بن جرير قالا: حدثنا شعبة، عن أبي التياح، عن مطرف، عن عبد الله بن المغفل.
(4) ذكره في شرح معاني الآثار 1/29.
وروي أنهم كانوا يبولون ويتغوطون وينامون قبل أن يستنجوا بالماء، فأمرهم النبي صلى الله عليه وآله وسلم بغسل أيديهم ثلاثاً قبل أن يغمسوها في الإناء ليطهروها من البول والغائط، إن أصاب أيديهم في حال نومهم، فلما كان البول والغائط أغلظ النجاسات، وأمر النبي صلى الله عليه وآله وسلم بتطهير اليد منهما بالغسلات الثلاث، علمنا أن ذلك في غيرهما أولى، على أنَّه يصح أن يقاس غسل الآنية من ولوغ الكلب على غسل اليد مما ذكرناه؛ بعلة أنَّه تطهير من نجس لا أثر له، فيجب أن يكون عدد غسله ثلاثاً. (2/34)
مسألة [ في سؤر الكافر ]
قال: وسؤر الكافر نجس، تغير أو لم يتغير.
وهذا قد نص عليه يحيى عليه السلام في (الأحكام)(1).
وقلنا تغير أو لم يتغير، لما بيناه من أن الماء اليسير ينجس بوقوع النجاسة فيه، تغير أو لم يتغير(2).
والذي يدل على صحة ما ذهبنا إليه في ذلك قول اللّه تعالى: {إِنَّمَا الْمُشْرِكُونَ نَجَسٌ} إلى قوله: {بَعْدَ عَامِهِمْ هَذَا}، فثبت بالنص أنهم نجس، وإذا ثبت ذلك، وجب تنجيس سؤرهم.
فإن قيل: إن ذلك ورد على طريق الذم لهم، لا على طريق التنجس.
قيل له: ظاهره يقتضي ما ذكرناه، وما ذكرتموه ضرب من المجاز، والآية، يجب حملها على الحقيقة، ولا يجوز صرفها إلى المجاز إلاَّ بالدلالة. على أن ما ذكروه من الذم أيضاً لو ثبت أنَّه مراد بالآية، لم يمتنع أن يكون ما ذكرنا(3) من الحقيقة مراداً؛ إذ لا يمتنع عندنا أن يراد باللفظ الواحد الحقيقة والمجاز جميعاً.
ويدل على ذلك أيضاً:
__________
(1) انظر الأحكام 1/56.
(2) في (أ): وإن لم يتغير.
(3) في (أ): ذكرناه.
ما أخبرنا به أبو بكر المقرئ، قال: حدثنا أبو جعفر الطحاوي، قال: حدثنا أبو بكرة بكار بن قتيبة، قال: حدثنا أبو داود ، قال: حدثنا أبو عقيل الدورقي، قال: حدثنا الحسن أن وفد ثقيف لما قدموا(1) على النبي صلى الله عليه وآله وسلم ضرب لهم قبة في المسجد، فقالوا: يا رسول الله، قوم أنجاس. فقال رسول اللّه صلى الله عليه وآله وسلم: (( ليس(2) على الأرض من أنجاس الناس شئ، إنما أنجاس الناس على أنفسهم ))(3). (2/35)
فلما قالوا: يا رسول الله، (قوم أنجاس)، وأجابهم النبي صلى الله عليه وآله وسلم بما أجابهم، كان مُقَارّاً لهم على ما قالوه، وإذا سمع النبي صلى الله عليه وآله وسلم من أصحابه ما يتعلق بالشريعة، وأقرهم عليه، ولم ينكره، جرى ذلك منه مجرى أن يقول مثل ما قالوه، فكأنه صلى الله عليه وآله وسلم، قال: إنهم قوم أنجاس.
وإذا ثبت ذلك ثبت نجاسة آسارهم(4)، ونجاسة ما ماسوه من المايعات(5) بأبعاضهم.
فإن قيل: قوله صلى الله عليه وآله وسلم: (( ليس على الأرض من أنجاس الناس شيء إنما أنجاسهم على أنفسهم )) يدل على أنَّه أراد بتنجيسهم ذمهم، وذم أفعالهم.
قيل له: إن هذا التأويل وإن كان محتملاً، فإنه يحتمل أيضاً أن يكون المراد أن أنجاسهم لا تضر الأرض ما لم يماسوها بأجسادهم الرطبة، وأن إزالة ذلك عن الأرض ممكن بالحفر والغسل، فليس عليها منه شيء.
وإذا احتمل التأويلين تعارضا، وصح لنا تنجيسهم بمقارة النبي صلى الله عليه وآله وسلم، لأصحابه على قولهم، أنهم قوم أنجاس، ويكون تأويلنا أولى من تأويلهم؛ لأنه لا يوجب صرف هذا الظاهر عن الحقيقة إلى المجاز، وتأويلهم يوجب ذلك.
ومما يدل على ذلك:
__________
(1) في (أ): وفدوا.
(2) في (أ): أنه ليس.
(3) أخرجه الطحاوي في شرح معاني الآثار 1/13، عن أبي بكرة، به.
(4) في (أ): أسوارهم.
(5) في (أ): من الماء.
ما أخبرنا به أبو العباس الحسني رحمه الله، قال: أخبرنا إسماعيل بن إبراهيم بن شُنبذين، قال: حدثنا عمرو بن ثور، قال: حدثنا الفريابي، قال: حدثنا سفيان، عن خالد الحذَّاء، عن أبي قِلابة، عن أبي ثعلبة الخشني، قال: قلت ـ يا رسول الله ـ، إنَّا بأرض أهل الكتاب، ونأتي(1) أرض أهل الكتاب فنسألهم آنيتهم، فقال: (( اغسلوها ثم اطبخوا فيها )). (2/36)
فليس يخلوا أمر النبي صلى الله عليه وآله وسلم بغسل آنيتهم من وجوه ثلاثة:
[1] إما أن تكون بكونها لهم، وهذا(2) لا معنى له بالاتفاق.
[2] أو لإلقائهم النجاسات فيها، وهذا أيضاً لا معنى له، لأنَّه لا يتخصص به أواني أهل الكتاب، لأن أوانيهم وأواني المسلمين في ذلك على(3) سواء.
[3] فلم يبق إلاَّ أن يكون أمر النبي صلى الله عليه وآله وسلم بذلك لمماستهم لها بأبعاضهم وشربهم منها؛ لأن هذا هو الوجه الذي يوجب تخصيص ذلك بهم، وإذا ثبت ذلك ثبت ما ذهبنا إليه من نجاسة أسارهم(4).
فإن قيل: يجوز أن يكون النبي صلى الله عليه وآله وسلم، أمر بذلك على سبيل الاحتياط، لأن الغالب أن أوانيهم لا تخلوا من النجاسة كنحو الخمر وما جرى مجراها.
قيل له: هذا إخراج للأمر من الوجوب؛ لأن ما يكون كذلك يكون سبيله سبيل الاستحباب؛ إذ لا خلاف بين المسلمين أن بالشك لا يجب تنجس الشيء، وإذا كان كذلك، فهو إخراج للأمر عما وضع له بغير دليل، وذلك فاسد.
ومما يستدل به على ذلك من طريق النظر:
__________
(1) في (ب) و(ج): أو نأتي.
(2) في (أ): وذلك.
(3) سقط من (ب): على.
(4) في (أ): أسوارهم.
أنا نقيسه على الخنزير؛ بعلة أنَّه حيوان أجرى الظاهر عليه سمة التنجيس، فكل حيوان يجري الظاهر عليه سمة التنجيس يجب أن يُحكم بنجاسته، وليس لهم أن يناكرونا الوصف في الأصل ولا الفرع(1)، فقد قال اللّه تعالى في الخنزير: {فَإِنَّهُ رِجْسٌ}، وقال: في المشركين: {إِنَّمَا الْمُشْرِكُون نَجَسٌ}، لأنهم وإن نازعوا في التأويل، لم يمكنهم أن ينازعوا في اللفظ، ونحن قد علقنا الحكم به. (2/37)
فإن عارضوا قياسنا هذا، وقاسوا المُشرك على المسلم؛ بعلة أنَّه آدمي حي كانت علتنا أولى؛ لأنها تنقل، ولأنها حاظرة، ولأن فيها الاحتياط، ولأن الظواهر التي ذكرناها تشهد لها.
فإن قال قائل: روي أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم، توضأ من مزادة مشركة.
قيل: ليس في الخبر أنَّه توضئ من مزادة مشركة قد شربت منها المشركة، ولم تُطَهَّر، فلا يمتنع أن تكون المزادة جديدة لم تستعمل، أو كانت قد طُهِرَت من مس المشركة لها، أو يكون حمل النبي صلى الله عليه وآله وسلم الأمر على الظاهر، فحملها على الظاهر أيضاً؛ إذ لم يثبت عنده تنجيسها، ونحن قد بينا أن الآنية لا تنجس بكونها ملكاً للمشرك.
وجملة الأمر أنَّه فعل ولا يمكن أن يدعى فيه العموم، فبطل تعلقهم به، وعلى هذا النحو يكون جواب من قال: إن عمر توضأ من جرة النصراني، ومن قال: إن رسول اللّه صلى الله عليه وآله وسلم استعار دروع صفوان بن أمية.
على أنَّه ليس فيها أن رسول اللّه صلى الله عليه وآله وسلم أباح الصلاة فيها، أو صلى هو فيها.
فإن استدلوا بقول اللّه تعالى: {وطعامُ الذين أوتوا الكتاب حلٌ لكم}.
__________
(1) في (ج): والفرع.
قيل لهم: هذا لا يتناول موضع الخلاف، وذلك أنا لا ننكر أن الطعام لا يحرم علينا بكونه لهم، ونقول: إن طعامنا يحرم علينا بمماستهم له على وجه مخصوص، فصار الظاهر لا يتناول موضع الخلاف، على أنا لو سلمانا لهم ما ادعوه خصصنا من أطعمتهم ما ماسوه منها بأبدانهم الرطبة بالأدلة التي قدمناها، كما نخص نحن وهم أطعمتهم المحرمة بأدلتها. (2/38)
ومما يُذكر في هذه المسألة على طريق الإلزام لهم، ما رويناه في صدر هذا الكتاب عن زيد بن علي، عن آبائه، عن علي عليهم السلام، أن رسول اللّه صلى الله عليه وآله وسلم، أراد أن يدَّعم على يد حذيفة، فنخسها حذيفة، وقال: إني جنب، فقال(1): (( ابرز يدك فإن(2) المسلم ليس بنجس ))(3).
وأخبرنا أبو بكر المقرئ، قال: حدثنا أبو جعفر الطحاوي، قال: حدثنا ابن أبي داود، قال: حدثنا المقدم(4)، قال: حدثنا ابن أبي عدي، عن حميد، قال: وحدثنا ابن خزيمة، عن الحجاج بن المنهال، قال: حدثنا حماد، عن حميد، عن بكر بن أبي رافع، عن أبي هريرة، قال: لقيت النبي صلى الله عليه وآله وسلم، وأنا جنب، فمد يده إليَّ، فقبضت يدي عنه، وقلت: إني جنب، فقال: (( سبحان اللّه! إن المسلم لا ينجس ))(5).
فمن قال بدليل الخطاب، لزمه القول بتنجيس من ليس بمسلم؛ إذ دليل الخبرين يقتضي ذلك عندهم، ونحن لم نعتمد هذا، لأنا لا نختار القول بدليل الخطاب.
ومما يقرب من هذا ما نقول لكل من ذهب إلى تنجيس بول ما يؤكل لحمه: قد أجمعنا على أن المشرك إذا شرب من أبوال ما يؤكل لحمه، ثم شرب من الإناء، أن ما يفضل عنه ينجس، فنقيس عليه سائر آسار(6) المشرك؛ بعلة أنه سؤر مشرك.
__________
(1) في (أ): قال.
(2) في (ب) و(ج): إن.
(3) قد تقدم تخريجه.
(4) في (ج): المقدمي، وكذلك في شرح معاني الآثار.
(5) في أخرجه الطحاوي في شرح معاني الآثار 1/13، عن ابن أبي داود، من طريق، وعن ابن خزيمة من آخرى. إلا أنه قال: عن بكر بن أبي رافع.
(6) في (أ): أسوار.
وليس لأحد أن يقول: إن هذه العلة لا تأثير لها، لأن التأثير يجب أن يكون على أصل المعَلِّل دون أصل المخالف، وعندنا أن المؤثر فيه سؤر المشرك، ألا ترى أنَّه لو كان مسلماً، لم ينجس الماء عندنا، لأنا نرى أن بول ما يؤكل لحمه طاهر. (2/39)
مسألة [ في بول ما يؤكل لحمه ]
قال: وبول جميع ما يؤكل لحمه طاهر لا ينجس الماء به ولا الثوب، وما لم يؤكل لحمه فنجسٌ بوله.
وهذا قد نص عليه يحيى عليه السلام في (الأحكام) و(المنتخب)(1) جميعاً، وقد نص عليه القاسم في (مسائل النيروسي)، ثم قال: إلاَّ أن يَنْتن أو يقذر.
وحكى لنا أبو العباس الحسني رحمه الله، عن القاسم عليه السلام، أنَّه قال: زبل الدجاج والبط نجس.
وذكر أبو العباس الحسني رحمه الله، أن محمد بن منصور، روى عن القاسم تطهير بول ما يؤكل لحمه وزبله.
فأما قوله في (مسائل النيروسي): إلاَّ أن ينتن أو يقذر. فإنه يدل على أنَّه لم يكن يراه طاهراً على الإطلاق، بل كان يخفف الأمر فيه إذا لم ينتن ويظهر أثر قذره، ويشدد إذا أنتن وظهر أثر قذره.
وهذا قريب مما روي عن أبي حنيفة، وأبي يوسف، فإنهما كانا يقولان: إن الثوب ينجس به إذا كان كثيراً فاحشاً.
أو يكون الوجه لما ذهب إليه القاسم عليه السلام أنَّه رأى ظواهر تقتضي نجاسته، وظواهر تقتضي طهارته، فخفف الأمر فيه على وجهٍ، وغلظ على وجه.
فأما مذهب يحيى بن الحسين عليه السلام، فهو ما حكيناه، وهو قول محمد بن الحسن.
والذي يدل على ذلك:
ما أخبرنا به أبو العباس الحسني، قال أخبرنا علي بن الحسن البجلي، قال: حدثنا أبو يحيى محمد بن يحيى التستري، قال: حدثنا أبي، قال: حدثنا إبراهيم بن نافع، عن عمر بن موسى بن وجيه، عن زيد بن علي، عن آبائه، عن علي عليهم السلام، عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم، قال: (( لا بأس بأبوال الإبل والبقر والغنم، وكل شيء يحل أكل لحمه، إذا أصاب ثوبك )).
__________
(1) ذكره في الأحكام 1/57. وذكره في المنتخب ص23.
وأخبرنا أبو الحسين عبد اللّه بن سعيد البروجردي، قال: حدثنا أبو القاسم عبد اللّه بن محمد البغوي، قال: حدثنا محمد بن عبد الوهاب، قال: حدثنا سوار، عن مطرف، عن أبي الجهم، عن البراء، قال: قال رسول اللّه صلى الله عليه وآله وسلم: (( ما أكل لحمه فلا بأس ببوله )). (2/40)
وقد ذكرنا في صدر هذا الكتاب بإسناده: ما رواه عبد اللّه بن الحسن بن الحسن عليهم السلام، عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم، أنَّه قال: (( كل شيء يجتر فلحمه حلال، ولعابه حلال، وسؤره وبوله حلال )).
وأخبرنا أبو العباس الحسني، قال: حدثنا أبو أحمد الأنماطي، قال: حدثنا علي بن عبد العزيز المكي، قال: حدثنا الحجاج بن المنهال، عن حماد، عن قتادة وحميد وثابت، عن أنس، أن أناساً من عرينة قدموا على النبي صلى الله عليه وآله وسلم، فقال لهم النبي صلى الله عليه وآله وسلم: (( اشربوا من أبوالها وألبانها )) يعني الإبل.
وأخبرنا أبو بكر المقرئ، قال: حدثنا أبو جعفر الطحاوي، قال: حدثنا أبو بكرة، قال: حدثنا عبد اللّه بن بكر، قال: حدثنا حميد، عن أنس، قال: قدم ناس من عرينة على رسول اللّه صلى الله عليه وآله وسلم المدينة، فاجتووها، فقال: (( لو خرجتم إلى ذود لنا فشربتم من ألبانها ))، قال: وذكر قتادة أنَّه حفظ عنه أبوالها(1).
وأخبرنا أبو عبد اللّه محمد بن عثمان النقاش، قال: حدثنا الناصر للحق الحسن بن علي، عن محمد بن منصور، قال: حدثنا أحمد بن عيسى، عن الحسين بن علوان، عن أبي خالد الواسطي، عن زيد بن علي، عن علي عليهم السلام في الإبل، والبقر، والغنم، وكل شيء يحل أكله، فلا بأس بشرب ألبانها وأبوالها، ويصيب ثوبك.
وأخبرنا أبو بكر المقرئ، قال: حدثنا أبو جعفر الطحاوي، قال: حدثنا حسين بن نصر، قال: حدثنا الفريابي، قال: حدثنا إسرائيل، قال: حدثنا جابر، عن محمد بن علي عليه السلام قال: لا بأس بأبوال الإبل والبقر والغنم.
__________
(1) أخرجه الطحاوي في شرح معاني الآثار 1/107، بلفظه.
وأخبر أبو بكر المقرئ، قال: حدثنا أبو جعفر الطحاوي، قال: حدثنا حسين بن نصر، قال: حدثنا الفريابي، قال: حدثنا سفيان، عن عبد الكريم، عن عطاء، قال: كل ما أكل لحمه فلا بأس ببوله. (2/41)
فقد روينا ما رُفع إلينا من أخبار النبي صلى الله عليه وآله وسلم المصرِحة بطهارة بول ما يؤكل لحمه.
ورويناه عن علي عليه السلام، ومن مذهبنا أن علياً عليه السلام إذا قال قولاً، وجب علينا(1) إتباعه، على أنه لم يُروَ عن غيره من الصحابة خلافه.
وهذا كثير من الناس يجعله مثل إجماع الصحابة، ثم قد رويناه عن التابعين، عن محمد بن علي الباقر، وعن عطاء.
ومثل هذا لا يجب أن يُعتَرض عليه بما يعترضه المخالف من عموم يتعلق به، أو قياس يورده، لأن من حكم العموم أن يخص بما ذكرناه، ومن حكم القياس أن لا يقابل به(2) ما أوردناه.
فأحد ما يتعلقون به من العموم ما روي أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم مر بقبرين، فقال: (( إنهما ليُعَذَبان، وما يعذبان في كبير، إن أحدهما كان لا يتنزه عن البول، والآخر كان يمشي بالنميمة )).
قالوا: والبول يقتضي الجنس لدخول الألف واللام.
وهذا الحديث أخبرنا به أبو الحسين بن إسماعيل، قال: حدثنا محمد بن الحسين بن اليمان، قال: حدثنا محمد شجاع، قال: حدثني القاسم، ويحيى بن آدم، عن وكيع عن الأعمش، قال: سمعت مجاهداً يقول عن طاووس، عن ابن عباس، أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم مر بقبرين، فقال: (( إنهما ليُعَذَبان وما يُعذَبان في كبير، أحدهما كان لا يستبرئ، أولا يستنزه من بوله، والآخر كان يمشي بالنميمة ))، شك أبو عبد الله.
فهذا كما تَرى ورد خاصاً في بول الإنسان، فليس له عموم يتعلق به، على أنَّه قد روي ماله عموم.
__________
(1) سقط من (ب): علينا.
(2) سقط من (ب): به.
روى أبو بكر الجصاص في كتابه المسمى (بشرح مختصر الطحاوي)، حديثاً يرفعه إلى عمار بن ياسر رضوان الله عليه، قال: مر بي رسول اللّه صلى الله عليه وآله وسلم، وأنا أغسل ثوبي من نخامة، فقال: (( إنما تغسل ثوبك من البول، والغائط، والمذي، والماء الأعظم، والدم، والقيء )). (2/42)
فإن تعلق به متعلق، أو بما رواه أبو هريرة، عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم، قال: (( أكثر عذاب القبر من البول ))، خصصناه بالأخبار التي قدمنا، لأن من مذهبنا بِناء العام على الخاص.
وليس لأحد أن يقول: إنَّا نرجح خبرنا بالحظر، لأن ذلك يكون بعد التساوي، فأما إذا كان خبرنا خاصاً وخبرهم عاماً فلا يجب ذلك، بل يجب تخصص أخبارهم بأخبارنا.
فإن قيل: الذي ورد في العُرنيين، إنما هو على سبيل التداوي، وعلى سبيل الضرورة، فليس يدل على طهارة أبوال الإبل.
قيل له: هذا زيادة في الخبر لم يتضمنه الخبر، والصحيح عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم، (( أنَّه منع من التداوي بالخمر لما كانت نجسه محرمة ))، فلو كانت أبوال الإبل كذلك لمنع التداوي بها.
أخبرنا أبو بكر المقرئ، قال: حدثنا الطحاوي، قال: حدثنا ربيع المؤذن، قال: حدثنا يحيى بن حسان، قال: حدثنا حماد بن سلمة، قال أبو جعفر: وحدثنا ابن أبي داود، قال: حدثنا أبو الوليد، قال: حدثنا حماد بن سلمة، عن سماك بن حرب، عن علقمة بن وائل، عن طارق بن سويد الحضرمي، قال: قلت يا رسول الله، إن بأرضنا أعناباً نعتصرها، أفنشرب منها؟ قال: (( لا )). فراجعته، فقال: (( لا )). فقلت: يا رسول الله، إن نستشفي بها من المرض. قال: (( ذلك داءٌ، وليس بشفاء ))(1).
وروي عن عبد اللّه بن مسعود، أنَّه قال: (( لم يجعل اللّه شفاءكم فيما حرّم عليكم ))(2).
فبان أن تعلقهم بما تعلقوا به لاوجه له.
__________
(1) أخرجه في شرح معاني الآثار 1/108، بلفظه.
(2) أخرجه الطحاوي في شرح معاني الآثار 1/109.
والمعتمد في هذا أنَّه لم يثبت قصد النبي صلى الله عليه وآله وسلم إلى الترخيص للضرورة، وإنما ذلك ادعاء هؤلاء القوم، على أن سائر ما رويناه عنه عليه السلام يدل على أن ذلك لم يُبَحْ للضرورة. (2/43)
وقد قاسوه على الروث؛ بعلة الاستحالة، وذلك لا معنى له لوجهين(1):
أحدهما: أنَّه ينتقض باللبن، لأن الاستحالة حاصلة في اللبن كحصولها في البول والروث.
والثاني: أن الأصل غير مُسلَّم لهم، لأنا لا نُنجّس أرواث ما يؤكل لحمه كما لا ننجس أبوالها.
وقد نص عليه يحيى عليه السلام في (الأحكام)(2) في مسألة الصلاة في أعطان الإبل.
على أن ما أخبرنا به أبو الحسين علي بن إسماعيل، قال: حدثنا محمد بن الحسين بن اليمان، قال: حدثنا محمد بن شجاع، قال: حدثنا شريح، عن إسماعيل بن علية، عن يونس، عن الحسن، عن عبد اللّه بن المغفل، قال: (( كنا نؤمر أن نصلي في مرابض الغنم، ولا نصلي في أعطان الإبل، فإنها خلقت من الشياطين )).
فدل على أنَّه لا فصل بين أرواثها وأبوالها، لأنَّه من المعلوم أن مرابض الغنم لا تخلو من أرواثها كما لا تخلو من أبوالها.
وربما قاسوها على أبوال سائر الحيوانات، وربما قاسوها على دمائها.
ونحن نقيسها على ألبان ما يؤكل لحمه؛ بعلة أنَّه خارج مائع معتاد من حيوان يؤكل لحمه من مخرج معتاد، فيجب أن يكون طاهراً كاللبن، ويمكن أن نقيسها على لعاب ما يؤكل لحمه بهذه العلة، ثم نرجح علتنا باستنادها إلى الظواهر التي ذكرناها.
قال: فأما بول مالا يؤكل لحمه فلا خلاف في تنجيسه، وقد ورد فيه من الأخبار ما ذكرنا في بول ما لا يؤكل لحمه، فلا طائل في إعادته.
مسألة [ في ماء البحر ]
وماء البحر طهور.
وقد نص عليه في (المنتخب)(3).
__________
(1) في (ب) و(ج): من وجهين.
(2) ذكره في الأحكام 1/119.
(3) ذكره في المنتخب ص23، ثم نفى الخلاف بين آل الرسول في ذلك.
وهذا مما لا خلاف فيه، إلاَّ ما يروى عن عبد اللّه بن عمر، والإجماع المنعقد بعده يَحُجُّه، وكذلك المشهور من كلام النبي صلى الله عليه وآله وسلم، في البحر: (( هو الطهور ماؤه، والحل ميتته )). (2/44)
مسألة [ في موت ما لا نفس له سائلة في الماء ]
ولا ينجس الماء أن يموت فيه ما لا نفس له سائلة كالذباب ونحوه.
وهذا قد نص عليه في كتاب الأطعمة من (الأحكام)(1)، وهو مذهب عامة الفقهاء.
واستدل يحيى عليه السلام:
بما أخبرنا به أبو الحسين علي بن إسماعيل، قال: حدثنا الناصر للحق الحسن بن علي عليهما السلام، قال: حدثنا محمد بن منصور، قال: حدثنا أحمد بن عيسى، عن حسين بن علوان، عن أبي خالد، عن زيد بن علي، عن آبائه، عن علي عليه السلام، قال: (( أُتِيَ رسول اللّه اله صلى الله عليه وآله وسلم بجفنة قد أَدمت، فوجد فيها خنفساه أو ذبابة فأمر به فطرح ، ثم قال: سموا وكلوا فإن هذا لا يحرم شيئاً )).
فلما أخبر صلى الله عليه وآله وسلم أنَّه لا يحرم شيئاً،كان ذلك عاماً في حال حياته وحال موته، في المائعات غيرها.
__________
(1) ذكره في الأحكام 2/402. وهو هنا بالمعنى.
وروى أبو بكر الجصاص في (شرح مختصر الطحاوي)، عن ابن قانع(1) يرفعه إلى سعيد بن المسيب، عن سلمان، قال: قال لي رسول اللّه صلى الله عليه وآله وسلم: (( إن كل طعام وشراب وقعت فيه دابة فماتت، ليس لها دم، فهو الحلال أكله، وشربه، ووضوءه )). (2/45)
هذا نصٌ صريحٌ في موضع الخلاف.
ومما يدل على ذلك الحديث المشهور عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم، أنَّه قال: (( إذا سقط الذباب في طعام أحدكم، فامقلوه فيه )).
وقد يكون مقله مؤدياً إلى موته، ولو كان موته يفسد ما يموت فيه، لم يأمر النبي صلى الله عليه وآله وسلم بما يؤدي إليه.
فإن قيل: هذا مثلٌ ما أمرنا بضرب النساء عند النشوز، وبالكي والقطع عند اعتراض الأدواء، وإن جاز أن يؤدي ذلك إلى التلف.
قيل له: إن الغرض بالضرب والكي والقطع لا يتم إلاَّ بها، فلم يكن بدٌّ من أن يؤمر بها، والغرض بمقله قد كان يتم بغير المقل، لأن الغرض به ما أخبرنا(2) به صلى الله عليه وآله وسلم، أن في أحد جناحيه داء، وفي الأخر دواء، فكان يمكن أن يقول: اغمسوا(3) بجناحيه فيما سقط فيه ليؤمن موته، فلما كان الغرض يتم به، ولم يقله النبي صلى الله عليه وآله وسلم، بل قال: (( امقلوه )) مع جواز كونه مؤدياً إلى موته، علم أن موته فيه وأن لا يموت بمنزلة واحدة في أنَّه لا ينجس ما يموت فيه.
__________
(1) في (ب) و(ج): عن نافع. وفي نصب الراية 1/114: رواه الدارقطني في سننه من حديث بقية حدثني سعيد بن أبي سعيد الزبيدي عن بشر بن منصور عن علي بن زيد بن جدعان عن سعيد بن المسيب عن سلمان قال له النبي صلى الله عليه وسلم يا سلمان كل طعام وشراب وقعت فيه دابة ليس لها دم فماتت فيه فهو حلال اكله وشربه ووضوءه. انتهى. قال الدارقطني لم يروه غير بقية عن سعيد بن أبي سعيد الزبيدي وهو ضعيف. انتهى. ورواه بن عدي في الكامل واعله بسعيد هذا وقال هو شيخ مجهول وحديثه غير محفوظ. انتهى.
(2) في (أ): أخبر.
(3) في (أ): اغمسوه.
ومما يدل على ذلك أنَّه قد ثبت بالاتفاق أن ذباب الباقلاء ودوده، إذا ماتا في الباقلاء لم ينجس بهما. (2/46)
وكذلك دود الخل إذا مات في الخل لم ينجس به الخل، فوجب أن يكون سائر ما ذكرناه كذلك، قياساً على ما أُجمع عليه، والعلة أنَّه لا نفس له سائلة.
ويمكن أن يقاس على ما ذكرنا بتعذر الاحتراز منه غالباً.
ويمكن أيضاً أن يقاس على الجراد والحوت بالعلة الأولى.
فإن قاسوه على سائر الميتة، رجحنا علتنا بشهادة(1) الأصول، وذلك أنها تشهد بالمسامحة فيما يتعذر الاحتراز منه.
فإن استدلوا بقوله تعالى: {حُرِّمَتْ عَلِيْكُمُ الْمَيْتَةُ وَالدَّمُ}، فليس في ظاهرها لهم حجة، وذلك أن الكلام ليس في إباحة أكله.
فإن استدلوا بقول اللّه تعالى: {قُلْ لا أَجِدُ فِيْمَا أُوْحِيَ إِليَّ مُحَرَّماً عَلَى طَاعِمٍ يَطْعَمُهُ إِلاَّ أَنْ تَكُونَ مَيْتاً أَوْ دَماً مَسْفُوحاً أَوْ لَحْمَ خِنْزِيْرٍ فَإِنَّهُ رِجْسٌ}، فأخبر الله تعالى أن الميتة رجسٌ.
قيل له: ليس الأمر على ما قدرت، وذلك أن الكناية ترجع إلى أقرب المذكور إليها دون ما عداه، فقوله(2) تعالى: {فَإِنَّهُ رِجْسٌ} راجع إلى الخنزير، على أن هذه الظواهر لو سُلمت، لكان ما ذكرناه من القياس، ورويناه من الأخبار، مُخصِصاً لها.
مسألة [ في جلود الميتة ]
وجلود الميتة نجسة وإن دبغت، ينجس بمسها الماء.
وقد نص على هذا الهادي عليه السلام في كتاب اللباس من (الأحكام)(3). وذكره أيضاً في كتاب الصلاة من (الأحكام)(4)، عند ذكره كراهية الصلاة في الخز، لأنه لا يدرى هل هو ذكي أم لا؟ وذكره أيضاً في (المنتخب)(5) وهو مذهب القاسم والناصر عليهما السلام، وهو المروي عن جعفر بن محمد.
__________
(1) في (أ): على شهادة.
(2) في (أ): وقوله.
(3) ذكره في الأحكام 2/413، وهو هنا بالمعنى.
(4) ذكره في الأحكام 1/131 بلفظ مقارب.
(5) ذكره في المنتخب ص122.
والأظهر فيه أنَّه إجماع أهل البيت عليهم السلام، ومن مذهبنا أنَّهم إذا أجمعوا على شيء، وجب القول به والمصير إليه. (2/47)
واستدل القاسم عليه السلام على ذلك بقوله سبحانه: {حُرِّمَتْ عَلِيْكُمْ الْمِيْتَةُ}، لم يرد أن الميتة نفسها محرمة على التحقيق، وإنما المحرم أفعالنا فيها، لأن الميتة فعلٌ من أفعال اللّه تعالى يستحيل أن يتناولها التحليل والتحريم، فإذا ثبت ذلك كان التحريم متناولاً جميع أفعالنا فيها، فثبت تحريم دبغه، وتحريم مسه، والانتفاع به، على كل وجه، ألا ترى أنه لا فعل يشار إليه من أفعالنا فيها، إلاَّ ويحسن الإستثناء منه، ومن شأن الإستثناء أن يُخْرِج من الكلام ما لولاه لوجب دخوله فيه، فإذا ثبت ذلك ثبت تنجيسه؛ إذ كل ما يحرم استعماله على كل وجهٍ فواجب تنجيسه.
ومما يدل على ذلك:
ما أخبرنا به أبو الحسين بن إسماعيل، قال حدثنا الناصر، قال: حدثنا محمد بن منصور، قال: حدثنا أحمد بن عيسى، عن حسين بن علوان، عن أبي خالد الواسطي، عن زيد بن علي، عن آبائه، عن علي عليهم السلام، قال: قال رسول اللّه صلى الله عليه وآله وسلم: (( لا يُنتَفع من الميتة بإهابٍ ولا عصبٍ )). فلما كان من الغد خرجت ـ أنا ـ وهو، فإذا نحن بسخلة مطروحة على الطريق، فقال: (( ما كان على أهل هذه لو انتفعوا بإهابها )). فقلت: يا رسول الله: أين قولك أمس؟ فقال: (( يُنتَفع منها بالشيء )) كأنه يعني الشيء الجاف الذي لا يلصق.
وأخبرنا أبو العباس، قال: أخبرنا إسماعيل بن إبراهيم بن شُنبذين، قال: حدثنا عمرو بن ثور، قال: حدثنا الفريابي، عن زمعة، عن أبي الزبير، عن جابر، قال: (( نهى رسول اللّه أن ننتفع من الميتة بشيء )).
وأخبرنا أبو بكر المقرئ، قال: حدثنا أبو جعفر الطحاوي، قال:حدثنا أبو بكره، قال حدثنا أبو عامر ووهب، قالا: حدثنا شعبه، عن الحكم، عن ابن أبي ليلى، عن عبدالله بن عكيم، قال: قرئ علينا كتاب رسول اللّه صلى الله عليه وآله وسلم، ونحن بأرض جهينة، وأنا غلام شاب: (( أن لا تنتفعوا من الميتة بإهابٍ ولا عصبٍ )). (2/48)
وأخبرنا أبو بكر المقرئ، قال: حدثنا الطحاوي، قال: حدثنا عبد الرحمن بن عمر الدمشقي، قال: حدثنا محمد بن المبارك، قال: حدثنا صدقة بن خالد، عن يزيد بن أبي مريم، عن القاسم بن مخيمرة، عن عبداللّه بن عكيم، قال: حدثنا أشياخ جهينة، قالوا: أتانا كتاب رسول اللّه صلى الله عليه وآله وسلم، أو قرئ علينا كتاب رسول اللّه صلى اللّه عليه وآله وسلم: (( لا تنتفعوا من الميتة بشيء )).
وروي بإسناد لا يحضرني، إلا أن شهرته تغني عن تتبع إسناده أن كتاب رسول اللّه صلى الله عليه وآله وسلم، ورد قبل موته بشهرٍ، وروي بشهرين.
وقد أدعي الاضطراب في هذه الأحاديث؛ لأن عبد اللّه بن عكيم مرة يقول: قرئ علينا كتاب رسول اللّه صلى الله عليه وآله وسلم، ومرة يقول: حدثني أشياخ جهينة، يقولون: ورد علينا كتاب رسول اللّه صلى الله عليه وآله وسلم بذلك. و[يحتمل أن] يكون قد قرئ عليه الكتاب أيضاً، فلا يمتنع اجتماع الأمرين جميعاً، وإذا لم يمتنع ذلك لم يمتنع أن يروي أحدهما مرة والثاني الأخرى، وليس في هذا تدافع، ولا تَمانُع.
فإن قيل: قول النبي صلى الله عليه وآله وسلم: (( لا تنتفعوا من الميتة بشيء ))، ورد في شحوم الميتة، بدلالة:
ما روى أبو الزبير، عن جابر بن عبد الله، قال: بينا أنا عند رسول اللّه صلى الله عليه وآله وسلم، إذ جاءه أناس فقالوا: يا رسول الله، إن سفينة لنا انكسرت، وإنا وجدنا ناقة ميتة سمينة، فأردنا أن ندهن بها سفينتنا، وإنما هي عود على الماء. فقال رسول اللّه صلى الله عليه وآله وسلم: (( لاتنتفعوا من الميتة بشيء )).
قيل له: قد رَوَيْنَا هذا الخبر على ما قدمنا ذكره مطلقاً من غير ذكر السبب. (2/49)
وأيضاً فإنه لا يجب قصره على السبب، وإن لم يُروَ غيره، بل يجب حمله على مقتضى اللفظ، فلا معنى للإشتغال بما ذكروه.
فإن قيل: اسم الإهاب لا يتناوله بعد الدبغ، كان ذلك ساقطاً؛ لأن الإهاب اسم للجلد ينطلق عليه قبل الدبغ وبعده.
فإن ادعوا تخصيص هذه الأحاديث بما روى عطاء، عن ابن عباس، أن شاة لميمونة ماتت، فقال النبي صلى الله عليه وآله وسلم: (( هلا أنتفعتم بإهابها )). فقالوا: إنها ميتة.
ففي بعض الأخبار: (( دباغ الأديم طهوره )). وفي بعضها: (( يطهرها الماء والقرض )). وفي بعضها (( إنما حرم أكلها )).
وبما روي عن ابن عباس، أنَّه قال: سمعت رسول اللّه صلى الله عليه وآله وسلم، يقول: (( أيما مسك دبغ، فقد طهر ))، وروي: (( أيما إهاب دبغ فقد طهر )).
وروى الأسود، عن عائشة، قالت: قال رسول اللّه صلى الله عليه وآله وسلم: (( دباغ الميتة طهورها )).
وبما روي عن سلمة بن المحبق: (( أن رسول اللّه صلى الله عليه وآله وسلم دعا بقربة من عند امرأة فيها ماء، فقالت: إنها ميتة، فقال: (( دَبغتِها ))؟ قالت: نعم. قال: (( دباغها ذكاتها )).
وروي نحو ذلك عن سودة بنة زمعة زوج النبي صلى الله عليه وآله وسلم أنها قالت: اتخذت قربة من ميتة، فبقيت عندنا إلى أن تخرقت.
قيل لهم: في قوله صلى الله عليه وآله وسلم: (( هلا انتفعتم بإهابها ))، معناه هلا ذكيتموها؟ وانتفعتم بإهابها، ألا ترى أنَّه قال بلفظ الماضي، ولو أراد في(1) الحال لقال هلا تنتفعون بإهابها، فلو جعل ذلك دلالة على أن الانتفاع لا يجوز لكان قريباً، إذ التنبيه بلفظ الماضي على هذا الحد لا يقع إلاَّ لأمرٍ فائت، ألا ترى أنَّه لا يقال: هلا صليت إلاَّ مع فوات وقتها، فأما مع بقائه، فيقال: هلا تصلي؟ وهذا ظاهر.
__________
(1) سقطت (في) من (ج).
ولا يمتنع أن يكون صلى الله عليه وآله وسلم، قال ذلك، لأن المعلوم أن الشاة إذا قاربت الموت، يُعَاف أكل لحمها ويستضر به، فقال صلى الله عليه وآله وسلم: (( هلا ذُكِيَت وانتفع بإهابها ))، وإن لم يكن في لحمها غرض. (2/50)
وما روي أنَّه قيل: يا رسول الله، إنها ميتة، فقال: (( دباغها طهورها )) إلى سائر ما روي فيه، فمعناه: أنهم أرادوا أنها كانت كالميتة، وحمله على هذا أولى من حمله على أنهم عرَّفوه صلى الله عليه وآله وسلم، أنها ميتة في الحال، لأنه لا معنى لأنْ يُعَرَّف النبي صلى الله عليه وآله وسلم ما هو مشاهد معروف؛ لأنَّه ضرب من العبث، وإذا حمل على ما قلناه من أنه عرف أنها كانت كالميتة مرضاً وعجفاً، كان صحيحاً.
وقوله صلى الله عليه وآله وسلم: (( دباغها طهورها ))، وقوله: (( يطهره الماء والقرض )). فإن المراد به أن دباغه كان يطهره من الفرث والدم والروائح الكريهة، وكذلك المراد بقوله: (( يطهره الماء والقرض ))، وقوله: (( إنما حرم أكلها )) محمول على أنَّه أراد المأكول منها دون الأصواف والأوبار. وفي هذا أن الجلد محرم لتأتي الأكل فيه.
وما روي عنه صلى الله عليه وآله وسلم، أنَّه قال: (( أيما إهاب دُبِغ، فقد طَهُر )) فمحمول على جلد المذكى.
وليس لهم أن يقولوا: إن ذلك تعرية للحديث من الفائدة؛ لأن المراد بقوله فقد طهر، أي طهر من الفرث والدم والروائح الكريهة.
وهذا يفيد أن من اشترى جلداً على أنَّه مدبوغ، ثم وجد به روائح كريهة، أنَّه يرده بالعيب؛ لقوله صلى الله عليه وآله وسلم: (( أيما أهابٍ دُبَغ فقد طَهُر ))، فقد ظهرت فائدته وصحت(1) ووضحت.
وما رواه الأسود، عن عائشة أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم، قال: (( دباغ جلد الميتة طهورها )) فقد روي ما يوجب ضعفه، وهو:
__________
(1) سقطت من (ب) و(ج).
ما أخبرنا به أبو بكر المقرئ، قال: حدثنا الطحاوي، قال: حدثنا فهد، قال: حدثنا علي بن معبد، عن جرير بن عبد الحميد، عن منصور، عن إبراهيم، عن الأسود، قال: سألت عائشة عن جلود الميتة فقالت: (لعل دباغها يكون طهورها). ففي هذا أن عائشة كانت شاكة فيه، فلو كانت حفظت عن رسول اللّه صلى الله عليه وآله وسلم ما روي عنها، لم تجب جواب الشاك، كيف وراوي هذا الحديث أيضا هو الأسود! وفيه أيضاً أنَّه لو حَفِظَ عنها رواية عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم في ذلك لما سألها. (2/51)
وأما حديث ابن المحبق، وحديث سودة، فيجب أن يكونا منسوخين؛ بدلالة ما روي أن رسول اللّه صلى الله عليه وآله وسلم كتب: (( أن لا تنتفعوا من الميتة بشيء )) قبل موته بشهر أو شهرين، وروي: بعشرين ليلة في بعض الروايات.
وحديث سودة خصوصاً يجب أن يكون متقادماً، فإن النبي صلى الله عليه وآله وسلم كان قد هجرها منذ حين؛ إذ كرهها لسنها، وكانت وهبت يومها لعائشة، والحديث في أمرها مشهور، فإذا ثبت تقادم حديثها وتأخر حديثنا، ثبت أنَّه ناسخٌ له.
ومما يُستدل به على صحة مذهبنا في هذا الباب من طريق النظر: أنا نقيس جلد الميتة على لحمها؛ إذ لا خلاف أن لحمها لا يطهر على وجه من الوجوه، كذلك يجب أن يكون جلدها، والمعنى أنَّه بعض من أبعاض ميتة صار نجساً بالموت.
ويمكن أن يقاس ما دبغ منه على ما لم يدبغ؛ بعلة أنَّه جلد ميتة، وليس لمخالفينا في هذا علة صحيحة، على أنهم إن علّلوا لمذهبهم، أمكننا أن نرجح علتنا بكونها حاظرة، وبأن الإحتياط معها، وبهذين الترجيحين ندفع قول من يقول: إن تأويلكم لخبرنا ليس بأولى من تخصيصنا خبركم بخبرنا، فبان بما بيّنا صحة مذهبنا.
مسألة: [ في أشعار وأصواف وأوبار الميتة ]
قال: فأما ما كان عليها من الأشعار والأصواف والأوبار، فطاهرٌ إذا غُسِل.
وهذا قد نص عليه يحيى عليه السلام في (الأحكام) (1) في كتاب اللباس، ورواه القاسم(2) عليه السلام، وقال محمد بن يحيى عليه السلام: إذا كان مما يؤكل لحمه. (2/52)
والذي يدل على صحة ما ذهبنا إليه في هذا الباب قول اللّه تعالى: {وَمِنْ أَصْوَافِهِا وَأَوْبَارِهَا وَأَشْعَارِهَا} الآية، فوجب أن يكون ذلك عاماً في جميع الأصواف والأوبار والأشعار التي تكون للحي والميت.
وروى الأوزاعي، عن يحيى بن كثير، عن أبي سلمة بن عبد الرحمن، قال: سمعت أم سلمة، قالت: سمعت رسول اللّه صلى الله عليه وآله وسلم، يقول: (( لا بأس بصوف الميتة وشعرها إذا غسل بالماء )).
وما روي عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم، من قوله: (( إنما حرم أكلها ))، يدل على أن التحريم يتناول ما يتأتى فيه الأكل، والشعر والصوف مما لا يتأتى فيه الأكل، فثبت أن التحريم لم يتناوله.
فإن قيل: قول اللّه تعالى: {حُرِّمَتْ عَلِيْكُمْ الْمَيْتَةُ} يدل على تحريم شعرها وصوفها، لأنهما من الميتة؟
قيل له: لسنا نسلم أنهما من جملة الميتة، ولا معنى لاستدلالكم بالآية.
وكذلك الجواب لمن تعلق بقوله صلى الله عليه وآله وسلم: (( لا تنتفعوا من الميتة بشيء )) لأنهما ليسا من الميتة.
يبين ذلك قوله صلى الله عليه وآله وسلم: (( ماقطع من الحي فهو ميت ))، ولا خلاف أن الصوف والشعر والوبر يقطع من الحي ويكون طاهراً، فعُلِم أنهما ليسا من جملته، وإذا لم يكن من جملة الحي، لم يكن من جملة الميت(3)، على أن ما يؤخذ من الميتة من الصوف مقيس على ما يؤخذ منها في حال حياتها؛ والعلة أنَّه صوف حيوان طاهر في حال حياته، فوجب أن يكون حكمهما في الطهارة حكماً واحداً.
مسألة [ في عظم الميتة وعصبها وقرنها ]
قال القاسم عليه السلام: "وعظم الميتة نجس وعصبها وقرنها".
__________
(1) ذكره في الأحكام 2/414، بلفظ مقارب.
(2) كذا في النسخ ولعل الصواب: ورواه عن القاسم.
(3) في (ب) و(ج): الميتة.
وهذا ما قد رواه عنه يحيى عليه السلام في كتاب اللباس من (الأحكام) (1). (2/53)
وقلنا في القرن سوى الأطراف التي لا يؤلم قطعها تخريجاً من قولهما جميعاً في هذا الكتاب في شعر الميتة وصوفها ووبرها إنها ليست بنجسة؛ لأنها تؤخذ من الدواب وهي حية، فلما كانت أطراف القرون هذه سبيلها، وجب أن يكون القول فيها كالصوف والشعر والوبر على قولهما.
والذي يدل على نجاسة ما نجسه القاسم عليه السلام من عصبها ولحمها(2) وعظمها وقرنها، قول اللّه تعالى: {حُرِّمَتْ عَلَيْكُمْ الْمَيْتَةُ} وهي من الميتة.
وقوله عليه السلام: (( لا تنتفعوا من الميتة بشيء ))، وقوله صلى الله عليه وآله وسلم: (( لا تنتفعوا من الميتة بأهابٍ، ولا عصبٍ )).
ويمكن أن تقاس هذه الأشياء على لحم الميتة؛ بعلة أنها بعض من أبعاض ميتة صارت نجسة بالموت.
مسألة [ في شعر الخنزير ]
قال: وشعر الخنزير نجس، لا يطهره الغسل.
وقد نص عليه يحيى عليه السلام في كتاب اللباس من (الأحكام) (3).
والوجه فيه قول اللّه تعالى: {أَو لَحْمَ خِنْزِيْرٍ فَإِنَّهُ رِجْسٌ أَوْ فِسْقٌ} فحكم فيه بالنجاسة وهو حي، وإذا ثبت أنَّه نجس في حال حياته، فالموت لا يزيده طهارة، فثبت أن شعره على كل حال نجس.
مسألة [ فيما يزيل النجاسة ]
ولا يُزال النجس عن الثياب والبدن بشيء من المائعات سوى الماء.
وها قد أشار إليه يحيى عليه السلام في كتاب الطهارة من (الأحكام)، حيث يقول: (( ألا ترى أن الطُّهْر لا يقع اسمه على شيء حتى يُطَهَّر، وتطهيره غسله وإنقاؤه بالماء )) (4).
والذي يدل على ذلك أن التطهير أمر شرعي لا يمكن إثباته إلاَّ شرعاً، وقد وردت الشريعة بكون الماء مُطهِراً، ولم ترد بكون غيره مطهراً، فلم يَجزِ التطهر بغيره.
__________
(1) ذكره في الأحكام 2/415، إلا أنه هنا بالمعنى.
(2) سقطت من (أ).
(3) ذكره في الأحكام 2/414، إلا أنه لم يقل أنه نجس، بل يحرم لبسه.
(4) ذكره في الحكام 1/78.
فإن قيل: قول اللّه تعالى: {وَثِيَابَكَ فَطَهِّرْ}، يدل على ذلك، لأن عمومه يقتضي الأمر بالتطهير بجميع المائعات. (2/54)
قيل له: هذه الآية اقتضت وجوب التطهير، لا بيان ما يقع به التطهير، وعندنا أن الذي يقع بالمائعات سوى الماء لا يكون تطهيراً.
فإن قيل: إن الغرض هو إزالة النجاسة(1)، فإذا زال بما زال، يجب أن يعود الشيء إلى أصل الطهارة.
قيل له: ليس الأمر على ما ذكرت، بل يجب إزالة النجس بما يوجبه الشرع، ألا ترى أن الثوب إذا أصابه البول ثم وقعت عليه الشمس حتى ينشف البول وتزيله لم يطهر الثوب، على أنا لا نسلم أن سائر المائعات تزيل النجس، لأن المائع ينجس بملاقاة النجس، فلا يزال الشيء نجساً، وليس كذلك الماء، لأن الشرع قد حكم بأن الماء إذا استعمل على الوجه الذي أمرنا(2) باستعماله، طهّر النجس وأزال نجساته.
على أنَّه لولا الشرع، لم يكن لأحد أن يقول: إن الماء يُطهِر كما ذكرناه في المائعات من أنها تنجس بملاقات النجس.
وليس لأحد أن يقول: إن المشاهدة تقضي بزوال النجاسة، لأن النجاسة لا يحكم بزوالها بأن لا يشاهد فلا معنى له؟
على أنا نقيس إزالة النجس على إزالة الحدث بمعنى أن كل واحد منهما مراد للصلاة، فإذا لم يجز أحدهما بسائر المائعات، فكذلك الآخر.
ونقيسهما أيضاً على المرق والدهن؛ بعلة أنَّه مائع سوى الماء، وقياسنا أولى من قياسهم؛ للحظر، والإحتياط، وفعل الكافة من المسلمين.
ولقياسنا الثاني ترجيح آخر بالتجانس، لأنَّه قياس صحيح، وهو قياس ماهو سوى الماء على ما هو سوى الماء، وهم إذا قاسوها على الماء قاسوا ما سوى الماء على الماء.
مسألة [ في الطهور بالماء المسخن ]
قال: ولا بأس بالطهور بالماء المسخن.
وهذا قد نص عليه القاسم عليه السلام في (مسائل النيروسي).
__________
(1) في (ب) و(ج): النجس.
(2) في (ب) و(ج): أمر.
والخلاف فيه غير محفوظ، فلا معنى لإطالة القول فيه، على أن عموم قول الله تعالى: {وَأَنْزَلْنَا مِنَ السَّمَاءِ مَاءً طَهُوْراً}، وقول النبي صلى الله عليه وآله وسلم: (( التراب كافيك ولو إلى عشر حجج، فإذا وجدت الماء فأمسسه ببشرتك ))، يدل على ذلك ، لأنَّه لم يستثن المسخن من غيره. (2/55)
مسألة [ في الوضوء بالماء المغصوب ]
قال القاسم عليه السلام: ولا وضوء بالماء المغصوب.
وهذا مما نص عليه القاسم عليه السلام في كتابه المسمى (كتاب الطهارة).
والذي يدل على ذلك، قول اللّه تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِيْنَ آمَنُوا لا تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُم بِالْبَاطِلِ}.
ووجه الإستدلال منه أنَّه قد ثبت أن المراد بالآية هو النهي عن استهلاك أموال الغير دون الأكل فقط، وقد ثبت على أصولنا أن النهي يدل على فساد المنهي عنه، وأنه لا يقع موقع الصحيح، فإذا ثبت ذلك، وثبت أن المتوضئ بالماء المغصوب مستهلك له ـ وقد نهى عن استهلاك ذلك الماء ـ ثبت أن الإستهلاك له بالتوضئ لا يقع موقع الصحيح، فلا يكون فاعله متوضئاً بالشرع.
ويدل على ذلك أيضاً أنَّه قد ثبت كون الوضوء قربة بدلالة ما روي عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم أنه كان يقول: (( الطهور شطر الإيمان ))، وما روي عنه صلى اللّه عليه وآله وسلم من قوله: (( تردنَّ عليّ غراً محجلين من الوضوء ))، وغير ذلك مما ورد في هذا الباب، ومما يُبين من بعد؛ أنها عباده مفتقرة إلى النيه كسائر العبادات، فإذا ثبت ذلك، ثبت أن المتوضى بالماء المغصوب عاصٍ بما يفعله، وثبت أنَّه لا يكون متوضئاً؛ لأن المعصية لا تكون قربة وعباده.
فإن قيل: ما أنكرتم أن تكون هذه المعصية تسقط وجوب تلك القربة، فإن مثله قد يوجد، ألا ترى أن من قطع رجلَ نفسه، يسقط عنه وجوب القيام في الصلاة، وكذلك من أدى زكاته في الصلاة المفروضة قاطعاً لها يكون عاصياً، ومع ذلك يسقط عنه وجوب الزكاة. (2/56)
قيل له: لسنا نقول إن ذلك مستحيل أن يرد به الشرع على الحد الذي سألت عنه، أو تتعلق به المصالح، لكنا نقول: إن الأصل امتناع ذلك، والقائل به يحتاج إلى دليل شرعي، ولم تدل الدلالة على أن هذه المعصية أسقطت وجوب تلك القربة، فوجب القضاء ببقاء وجوب تلك القربة على ما كانت.
وأيضاً فإنه مقيس على الماء النجس في أنَّه لا يجوز التطهر به؛ بعلة أن المتطهر به ممنوع من التصرف فيه، فكذلك الماء المغصوب.
فإن قاسوه على الماء الذي ليس بمغصوب كان قياسنا مرجحاً، للنقل؛ لأنَّه ينقل الماء عما كان عليه، إذ من شان الماء أنَّه يقع به التطهر، وكان أيضاً مرجحاً بالحظر والاحتياط.
باب القول في الاستنجاء (3/1)
يستحب لمن قصد الغائط أو البول أن لا يكشف عورته حتى يهوي للجلوس، وأن يتعوذ بالله(1) من الشيطان الرجيم.
وهذا قد نص عليه في أول (الأحكام) (2).
والوجه في ذلك أن كشف العورة من غير ضرورة محرم في الملأ، ومكروه في الخلاء، فاستحب أن لا يكشف عورته إلاَّ عند الضرورة، وهو بعد أن يهوي للجلوس، ليكون قد سلم مما حرم أو كره.
وهذا يدل على أنه يكره البول قائماً، لأنَّه إذا منع من كشف العورة إلاَّ بعد أن يهوي للجلوس، فقد تضمن ذلك المنع من البول قائماً.
وأخبرنا أبو العباس الحسني، قال: أخبرنا علي بن داود بن نصر، قال: حدثنا محمد بن عبد العزيز، قال: حدثنا محمد بن سعيد الأصبهاني، قال: حدثنا عبد السلام بن حرب، عن الأعمش، عن أنس، أنه قال: كان رسول اللّه صلى الله عليه وآله وسلم إذا دخل الخلاء، لم يرفع ثوبه حتى يدنو من الأرض.
فقد صح بهذا الخبر، ووضح ما اختاره الهادي عليه السلام.
فأما التعوذ: فلِما روي عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم، فيما رواه أبو بكر بن أبي شيبة، عن هشيم بن بشير، عن عبد العزيز بن صهيب، عن أنس، قال: كان رسول اللّه صلى الله عليه وآله وسلم إذا دخل الخلاء، قال: (( أعوذ بالله من الخبث والخبائث )).
وروى أبو بكر بن أبي شيبة، عن عبدة بن سليمان، عن ابن أبي عروبة، عن قتادة، عن قاسم الشيباني، عن زيد بن أرقم، قال: قال رسول اللّه صلى الله عليه وآله وسلم: (( إن هذه الحشوش مُحتضَرة، فإذا دخل أحدكم فليقل: اللهم، إني أعوذ بك من الخبث والخبائث )).
وروى محمد بن منصور، عن أحمد بن عيسى، عن حسين بن علوان، عن أبي خالد، عن زيد بن علي، عن آبائه، عن علي عليهم السلام، أنَّه كان إذا دخل المخرج، قال: (( بسم اللّه، اللهم، إني أعوذ بك من الرجس النجس الخبيث المخبث الشيطان الرجيم )).
مسألة [ في استقبال القبلة واستدبارها في قضاء الحاجة ]
__________
(1) سقطت من (ب).
(2) ذكره في الأحكام 1/48.
ولا يجلس مستقبل القبلة ولا مستدبرها. قال القاسم عليه السلام: وهو في الفضاء أشد. (3/2)
وهذه الجملة قد نص عليها القاسم عليه السلام في (مسائل النيروسي). ونص عليها الهادي عليه السلام في كتاب (الأحكام) و(المنتخب) (1) جميعاً.
فأما القاسم عليه السلام، فقد صرح بأن النهي عن ذلك على سبيل الكراهة دون التحريم، وإليه أشار الهادي عليه السلام في (الأحكام)، فأما في (المنتخب) فإنه أومأ إلى التحريم. ووجه تحريمه:
ما أخبرنا به أبو بكر المقرئ، قال: حدثنا أبو جعفر الطحاوي، قال: حدثنا يونس، قال: حدثنا سفيان، عن الزهري، عن عطاء بن يزيد الليثي، أنَّه سمع أبا أيوب الأنصاري، يقول: قال رسول اللّه صلى الله عليه وآله وسلم: (( لا تستقبلوا القبلة لغائطٍ ولا لبول، ولكن شرّقوا أو غرّبوا )). فقدمنا الشام، فوجدنا مراحيض قد بُنيت نحو القبلة، فننحرف عنها ونستغفر الله(2).
وروى أبو بكر بن أبي شيبة، قال: حدثنا أبو معاوية، عن الأعمش، عن إبراهيم، عن عبد الرحمن بن يزيد، قال: قالوا لسلمان: قد علمكم نبيكم كل شيء حتى الخِراءة! قال: أجل، قد نهانا أن نستقبل القبلة بالغائط أوالبول.
ووجه كون النهي الوارد في هذا الباب على الكراهة:
ما أخبرنا به أبو بكر المقرئ، قال: حدثنا الطحاوي، قال: حدثنا ابن أبي دواد، قال: حدثنا ابن أبي مريم، قال: أخبرنا يحيى بن أيوب، قال: حدثني محمد بن عجلان، عن محمد بن يحيى، عن واسع بن حبان، عن ابن عمر، أنَّه قال: يتحدث الناس عن رسول اللّه صلى الله عليه وآله وسلم، بحديث وقد اطلعت على رسول اللّه صلى الله عليه وآله وسلم من ظهر بيته(3) ـ وهو يقضي حاجته محجوزاً عليه بِلَبِن ـ فرأيته مستقبل القبلة.
__________
(1) ذكره في الأحكام 1/48. وفي المنتخب ص22.
(2) في (ب): فينحرف عنها ويستغفر الله.
(3) في (ب): بيت.
وأخبرنا أبو بكر المقرئ، قال: حدثنا أبو جعفر، قال: حدثنا ربيع المؤذن، قال: حدثنا أسد، قال: حدثنا حماد بن سلمة، عن خالد الحذاء، عن خالد بن أبي الصلت، قال: كنا عند عمر بن عبد العزيز، فذكروا استقبال القبلة بالفرج، فقال عراك بن مالك: قالت عائشة: ذكر عند رسول اللّه صلى الله عليه وآله وسلم أن أناساً يكرهون استقبال القبلة بفروجهم، فقال رسول اللّه صلى الله عليه وآله وسلم: (( أو قد فعلوا ذلك؟ حولوا مقعدتي نحو القبلة )). (3/3)
وفي العلماء من فَصل بينَ الإستقبال والإستدبار، فحذر الإستقبال، وأباح الإستدبار، وهو أبو حنيفة وأصحابه؛ وذلك لا وجه له، لأن النهي ورد فيهما جميعاً، وحديث ابن عمر وعراك ورد عن عائشة في الإستقبال، وأبو حنيفة يمنع منه، على أنَّ الإستقبال إذا ثبت المنع منه، كان الإستدبار مثله؛ بعلة أنَّه أفضى بالفرج إلى القبلة عند قضاء الحاجة، ولأن الغرض في ذلك تعظيم القبلة فالاستقبال كالاستدبار.
وذهب الشافعي إلى أن الحظر في الاستقبال والاستدبار جميعاً إذا كانا في الفضاء، وأباحهما في العمارة.
وكان أبو العباس الحسني رحمه اللّه يُخرِّج مذهب أصحابنا على ذلك، وقد أشار إليه القاسم عليه السلام بقوله: وهو في الفضاء أشد.
والوجه في ذلك أن الفضاء كله يجوز أن يكون موضعاً للعبادة والصلاة، وليست(1) العمارة كذلك، لأن الأَخلِيَة منها لا تجوز الصلاة فيها، فالموضع الذي يختص بقضاء الحاجة، والمنع من الصلاة فيه لا يمتنع أن لا يُراعَى فيه حكم القبلة في الاستقبال والاستدبار، وليس كذلك الفضاء؛ لكون جميعه مصلى، على أن استقبال القبلة في الفضاء لا خلاف في المنع منه، إلا ما يحكى عن صاحب الظاهر، وما لا خلاف فيه أولى بالتشدد فيه، فلذلك قال القاسم عليه السلام: إنَّه في الفضاء أشد.
وفيه أيضاً أن حديث الترخيص وهو حديث ابن عمر وحديث عراك، عن عائشة وردا في العمارة.
__________
(1) في (أ): وليس.
فإن قيل: فأبو أيوب ذكر أنهم كانوا ينحرفون ويستغفرون اللّه حين وجدوا بالشام مراحيض قد بنيت نحو القبلة؟ (3/4)
قيل له: ذلك فعل منه، ولا يمتنع أن يكون رأى ذلك لما كان يسمع من رسول اللّه صلى الله عليه وآله وسلم، دون سماع ما ورد في الترخيص.
فإن سألوا عما أخبرنا به أبو بكر المقرئ، قال(1): حدثنا أبو جعفر الطحاوي، قال: حدثنا علي بن معبد، قال: حدثنا يعقوب بن إبراهيم بن سعيد، قال: حدثنا أبي، عن أبي إسحاق، قال: حدثني أبان بن صالح، عن مجاهد بن جبر، عن جابر بن عبد الله، قال: كان نهانا رسول اللّه صلى الله عليه وآله وسلم، أن نستقبل القبلة أو نستدبرها بفروجنا للبول، ثم رأيته قبل موته بعام يبول مستقبل القبلة.
قيل لهم: لا يمتنع أن يكون رأى النبي صلى الله عليه وآله وسلم، يفعل ذلك(2) في العمارة وهو فعل لا يمكن ادعاء العموم فيه، وهذا التأويل أولى من حمله على النسخ؛ لأن الأخبار ما أمكن فيها الاستعمال، لم يجزْ حملها على النسخ.
مسألة [ في الاستنجاء ]
ويجب الإستنجاء بالماء على الرجال والنساء من كل خارج من السبيلين.
وهذا قد نص عليه في (المنتخب) (3).
والذي يدل على ذلك:
ما رواه زيد بن علي، عن آبائه، عن علي عليهم السلام، عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم، أن امرأة سألته: هل يجزي امرأة أن تستنجي بشيء سوى الماء؟ فقال: (( لا، إلاَّ أن لا تجد الماء )).
فإذا ثبت ذلك في النساء، ثبت في الرجال؛ إذ لم يفصل أحد من المسلمين بينهم في ذلك. ويدل على ذلك:
__________
(1) سقطت من (أ).
(2) سقط من (ب): (يفعل ذلك).
(3) ذكره في المنتخب ص24، وهو هنا بالمعنى.
ما أخبرنا به محمد بن عثمان بن سعيد النقاش، قال: حدثنا الناصر للحق عليه السلام، قال: حدثنا محمد بن منصور، قال: حدثنا أحمد بن عيسى، عن حسين، عن أبي خالد، عن زيد بن علي، عن آبائه، عن علي عليهم السلام، قال: قال رسول اللّه صلى الله عليه وآله وسلم: (( أُعطيت ثلاثاً لم يٌعطَهن نبي قبلي: جُعلت لي الأرض مسجداً وطهوراً، قال اللّه تعالى: {فَلَمْ تَجِدُوا مَاءً فَتَيَمَّمُوا صَعِيْداً طَيِّباً} )) إلى آخر الحديث. (3/5)
فجعل قوله عليه السلام: (( جعلت لي الأرض مسجداً وطهوراً ))، مراد قوله تعالى: {فَلَمْ تَجِدُوا مَاءً فَتَيَمَّمُوا}، فاقتضى كون الأرض طهوراً بشرط عدم الماء.
وإذا ثبت ذلك، ثبت أن الإستنجاء بالحجر والمدر لا يجوز مع وجود الماء.
وأخبرنا محمد بن عثمان النقاش، قال: حدثنا الناصر للحق عليه السلام، قال: حدثنا محمد بن منصور، عن داود بن سليمان الأسدي، قال: أخبرنا شيخ من أهل البصرة يكنى أبا الحسين، عن أصرم بن حوشب الهمداني، عن عمر بن قرة، عن أبي جعفر المرادي، عن محمد بن الحنفية، قال: دخلت على والدي علي بن أبي طالب عليه السلام، فإذا عن يمينه إناء فيه ماء، فسمى، ثم سكب على يمينه ماء(1)، ثم استنجى ـ في حديث طويل. ثم قال: (( يا بني، إفعل كفعالي )). وهذا أمر، والأمر يقتضي الوجوب.
وقد كان القاسم عليه السلام يستدل بقوله تعالى: {أَوْ جَاءَ أَحَدٌ مِنْكُم مِنَ الْغَائِطِ}، إلى قوله: {طَيِّباً}، فيقول: لم ينقل اللّه الجائي من الغائط عن الماء، إلاَّ عند عدم الماء، فيجب أن يكون الإستنجاء بغير الماء لا يجزي مع وجود الماء.
وروى أبو بكر بن أبي شيبة، قال: حدثنا يحيى بن يعلى، عن عبد الملك بن عمير، قال: قال علي عليه السلام: (( إن من كان قبلكم كانوا يبعرون بعراً، وأنتم تثلطون ثلطاً؛ فأتبعوا الحجارة الماء )) .
__________
(1) سقط (ماء) من (أ).
وروى أبو بكر بن أبي شيبة، عن عبد الرحمن بن سليمان، عن سعيد، عن قتادة، عن معاذة العدوية، عن عائشة، قالت: مُرن أزواجكن أن يغسلوا أثر الغائط والبول، فإن رسول اللّه من كان يفعله، وأنا أستحييهم. (3/6)
ومما يدل على ذلك أنَّه لا خلاف أن الزائد على قدر الدرهم من المتعدي للشرج يجب إزالته بالماء متى وجده؛ والعلة فيه أنها نجاسة يمكن إزالتها بالماء من غير مشقة عظيمة، فوجب أن يرد إليه ما خولفنا فيه من هذا الباب لهذه العلة.
والدليل على صحة هذه العلة أن تلك لو لم تكن نجاسة، أو كانت مما لا يمكن إزالتها أصلاً، أولا يمكن إزالتها إلاَّ بالمشقة كالنجاسة تكون على الجرح ونحوه، لم يجب إزالتها، ومتى حصلت هذه الأوصاف وجب إزالتها، فعُلِم أنها هي العلة.
ولا تنتقض باليسير من الدم الذي لا يسيل مثله؛ لأنَّه عندنا غير نجس، أو يقال إن ذلك يؤدي إلى المشقة.
وأما ما روي عن أبي ذر، عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم، أنَّه قال: (( ثلاثة أحجار ينقين المؤمن )) فلا ظاهر له، وذلك أنا قد علمنا أن ثلاثة أحجار قد لا تنقي، ويبقى بعدها القذر، وإذا لم يكن له ظاهر، فتأويله إذا لم يجد الماء، ولو كان له ظاهر، لكان الواجب أن يخص حال وجود الماء بالأدلة التي ذكرناها.
فأما ما روي عن ابن مسعود، أنَّه قال: خرج رسول اللّه صلى الله عليه وآله وسلم لحاجته، فقال: (( إلتمس ثلاثة أحجار، فأتيته بحجرين وروثة، فأخذ الحجرين، وطرح الروثة، وقال: إنها رجس ))، فليس فيه دلالة للمخالف؛ لأنَّه ليس فيه أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم، كان واجداً للماء، ولا أنَّه لم يستعمل الماء بعده، على أن قول عائشة كان رسول اللّه صلى الله عليه وآله وسلم يفعله ـ يعني الإستنجاء ـ بالماء بعده(1)، يبين أنه اقتصر على الأحجار، لعدم الماء، على أنَّه لا بد لأبي حنيفة أن يتأول الخبرين إذا سئل فيما زاد على قدر الدرهم من القذر المتعدي للشرج، وكذلك لا بد للشافعي من تأوله فيما تعدى الشرج قليلاً كان أو كثيراً. (3/7)
فإن قيل: إن الإستنجاء من العشر التي جعلت من سنن المرسلين.
قيل له: المراد بسنن المرسلين، ما داوموا على فعلها، ألا ترى أنَّه ذكر فيها الختان ـ وهو فرض ـ على أن اسم السنة ينطلق على الفرض،
ألا ترى إلى ما روي عن رسول اللّه صلى الله عليه وآله وسلم: (( فيما سقت السماء العُشُر )) فليس فيما ذكروا دلالة على أنَّه غير واجب.
مسألة [ في كيفية الاستنجاء ]
قال: ويبدأ بفرجه الأعلى فينقيه، ثم بفرجه الأسفل.
وهذا قد نص عليه الهادي عليه السلام في (الأحكام) و(المنتخب) (2) جميعاً.
وهذا يدل من قوله على أنَّه لا يفصل بين ورود الماء على النجاسة، وورود النجاسة على الماء، في أن الماء ينجس، لأنَّه إذا كان كذلك، يكون الوجه فيه أنه منع أن الإبتداء بالفرج الأسفل؛ لأنَّه لو ابتدأ به لكان الماء يلقى الفرج الأعلى وهو نجس، ثم ينزل إلى الفرج الأسفل، وقد صار نجساً، فلا يطهره، وإذا غسل الفرج الأعلى أولاً، كان ما ينحدر عنه من الماء طاهراً ويطهر به الفرج الأسفل.
__________
(1) ساقطة من (أ) و(ب)، إلا أنه ذكر في (ب)، في نسخة فقط.
(2) ذكره في الأحكام 1/49، وهو هنا بالمعنى. وذكره في المنتخب ص24.
ومذهب الشافعي أن الماء لا ينجس إذا ورد على النجاسة، وينجس إذا وردت النجاسة عليه، وهذا لا معنى له؛ لأن أكثر ما استدللنا به على أن الماء اليسير ينجس بوقوع النجاسة فيه، يقتضي نجاسة الماء إذا ورد على النجاسة، مثل استدلالنا بقوله تعالى: {وَيُحَرِّمُ عَلَيْهِمْ الْخَبَائِثَ} واستدلالنا بأن الماء اليسير إذا حصلت فيه النجاسة، ثم شرب أو تطهر به صار النجس مشروباً ومتطهراً به وغير ذلك، فكل ذلك يبين أنَّه لا فصل بين ورود النجاسة على الماء، وورود الماء على النجاسة. (3/8)
فإن قيل: لو كان الماء ينجس بوروده على النجاسة، لكان يجب لوروده على أن لا يطهر النجس أبداً، لأنَّه كان ينجس الماء الوارد على النجاسة، ثم كان الماء الثاني ينجس الماء(1) الأول، ثم كذلك أبداً.
قيل له: ليس الأمر على ما قدرت، وذلك أن النجاسة والطهارة أمور شرعية، فيجب أن تكون أحكامها بحسب ما تقتضيه الشريعة، وليست أموراً عقلية فيرجع فيها إلى مقتضى العقل، وإذا كان ذلك كذلك، فغير ممتنع أن يرد الشرع بأن الماء إذا ورد على النجاسة نجّس الماء، وطهر الموضع، فإذا كان ذلك غير ممتنع، فليس علينا إلاَّ بيان ورود الشرع به.
وقد بينا ذلك بما دللنا عليه، على أنَّه لا فرق بين ورود النجاسة على الماء، ووروده على النجاسة، يكشف ذلك أن الأمر لو كان في النجاسة والطهارة على ما ذكروا، لوجب في البئر إذا وقعت فيها النجاسة أن لا تطهر أبداً، لأن الماء النجس إذا نزح، فلا شك أنَّه يترشش على جوانب البئر، فلو كان الأمر بالقياس، لكانت البئر لا تطهر أبداً، ولكن الشرع ورد بأنها تطهر بأن ينزح ماؤها، وهذا واضح، والحمد لله.
فإن استدلوا بأن أعرابياً بال في مسجد رسول اللّه صلى الله عليه وآله وسلم، فأمر بأن يُصب عليه ذَنوب من ماء، فلو كان الماء ينجس بوروده على النجاسة، لكان ذلك الماء يزيد المسجد نجاسة.
__________
(1) في (ب): بالماء.
قيل له: أرض المدينة أرض حصباء، إذا صُب عليها الماء، رسب في الأرض، كحاله إذا صب على الرمل، فالماء الملاقي للنجس إذاً ليس يستقر على وجه الأرض بل يرسب فيها ويصير في باطن الأرض، فلا يجب فيه ما قدرتم. (3/9)
على أنَّه قد روي أنه صلى الله عليه وآله وسلم أمر بحفر ذلك الموضع.
أخبرنا أبو بكر المقرئ، قال: حدثنا أبو جعفر الطحاوي (قال حدثنا فهد)(1)، قال: حدثنا يحيى بن عبد الحميد الحماني، قال: حدثنا أبو بكر بن عياش، عن سمعان بن مالك الأسدي، عن أبي وائل، عن عبدالله، قال: بال أعرابي في المسجد فأمر به النبي صلى الله عليه وآله وسلم، أن يصب عليه دلو من ماء، ثم أمر به فحفر مكانه(2).
مسألة [ في الاستنجاء باليمين ]
قال: ولا يجوز لأحد أن يستنجي بيمينه إذا أمكنه وإن فعله أجزأه.
وقد نص الهادي عليه السلام في (الأحكام) (3) على المنع من الإستنجاء باليمين، فدل(4) كلامه على أنَّه إذا فعله أجزأه، لأنَّه قال: (( نهى رسول اللّه صلى الله عليه وآله وسلم، عن ذلك نظراً منه للمؤمنين، لما لهم فيها من المنافع في المآكل وغير ذلك )).
فبين أن الغرض فيه تنزيهها عن الأقذار، لا أن الإستنجاء بها لا يقع.
والذي يدل على أنَّه لا يجوز لأحد أن يستنجي بيمينه:
ما أخبرنا به أبو الحسين علي بن إسماعيل، حدثنا(5) الناصر، حدثنا محمد بن منصور، حدثنا عثمان بن أبي شيبة، حدثنا وكيع، عن هشام الدستوائي، عن يحيى بن أبي كثير، عن عبد اللّه بن أبي قتادة، عن أبيه، عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم، أنَّه قال: (( إذا دخل أحدكم الخلاء، فلا يمس ذكره بيمينه )).
__________
(1) سقط من (أ).
(2) أخرجه في شرح معاني الآثار 1/14.
(3) ذكره في الأحكام 1/48.
(4) في (ب): ودل.
(5) في (ب): قال حدثنا. في جميع السند.
وروى أبو بكر بن أبي شيبة، عن أبي معاوية، عن الأعمش، عن إبراهيم ، عن عبد الرحمن بن يزيد، قال: قالوا لسلمان: قد علمكم نبيكم كل شيء حتى الخراءة؟ قال أجل قد نهانا أن نستنجي باليمين. (3/10)
فأما جوازه إن استنجى باليمين فلا خلاف فيه؛ ولأنه مثل إزالة سائر النجاسات في أنَّه لم يؤخذ على الإنسان إلاَّ إزالته بالماء المطلق.
مسألة [ في الاستجمار ]
قال: والإستنجاء بالأحجار قبل الماء مستحب، والمدر يقوم مقام الحجر.
وهذا قد نص عليه يحيى بن الحسين عليه السلام في (المنتخب)(1)، وهو مما لا أحفظ فيه خلافاً.
وقد ثبت أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم استنجى بالأحجار وأمر به، وقد ثبت أن الإستنجاء بالماء واجب، فثبت أن الاستنجاء بالحجر وما(2) يقوم مقامه مستحب.
مسألة [ فيمن يبول قائماً ]
قال القاسم عليه السلام: ويكره البول قائماً، إلاَّ من علة.
وقد نص عليه القاسم عليه السلام في (مسائل النيروسي). والذي يدل عليه:
ما أخبرنا به أبو بكر المقرئ، حدثنا(3) الطحاوي، حدثنا إبراهيم بن مرزوق، حدثنا أبو عامر، قال أبو جعفر الطحاوي: وحدثنا فهد، قال: حدثنا أبو نعيم، قالا: حدثنا سفيان، عن المقدام بن شريح، عن أبيه، عن عائشة، قالت: (( ما بال رسول اللّه صلى الله عليه وآله وسلم قائماً منذ أنزل عليه القرآن )).
وفي بعض الروايات أن عائشة قالت: من حدثك أن رسول اللّه صلى الله عليه وآله وسلم بال قائماً، فلا تصدقه، وفي بعضها فكذبه.
والبول قاعداً أقرب إلى ستر العورة من البول قائماً، فيجب أن يكون ذلك أولى، وأن يكون البول قائماً مكروهاً؛ لأنَّه أقرب إلى إبداء العورة.
__________
(1) ذكره في المنتخب ص22. وهو هنا بالمعنى.
(2) في (أ): أو ما.
(3) في (ب): قال حدثنا. في جميع السند.
وقد أخبرنا محمد بن عثمان بن سعيد النقاش، قال: حدثنا الناصر للحق عليه السلام، حدثنا(1) محمد بن منصور، عن يوسف بن موسى، عن محمد بن الصلت، عن قيس بن الربيع، عن سماك بن حرب، عن عكرمة، عن ابن عباس، عن العباس بن عبد المطلب، أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال: (( نهيت أن أمشي وأنا عريان )). (3/11)
وفيه أيضاً وجه آخر وهو(2) أن البول قائماً أقرب إلى أن يترشش على البدن، فيجب أن يكره؛ لأنَّه خلاف الاحتياط.
وقد روي عن ابن عباس، أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم مر بقبرين، وقال: (( إنهما ليعذبان، وما يعذبان في كبير، أحدهما كان لا يستنزه من البول ))، وقد ذكرنا الحديث عند ذكرنا بول ما يؤكل لحمه بإسناده.
فكل ذلك يبين صحة ما ذهبنا إليه من كراهة البول قائماً.
فإن قيل: روي أن رسول اللّه صلى الله عليه وآله وسلم بال قائماً رواه الطحاوي يرفعه.
وروي أيضاً يرفعه إلى شعبة، عن سلمة بن كهيل، عن أبي ضبيان، أن علياً عليه السلام بال قائماً، وروى مثله عن عمر أيضاً.
قيل له: قد بينا وجه الكراهة في ذلك، وليس يمتنع أن يكون هذا الفعل وقع منهم على سبيل الضرورة، ونحن لا نمنع من إجازة ذلك عند الضرورة، وهذا أولى؛ لنكون قد استعملنا الأخبار كلها.
__________
(1) في (ب): قال حدثنا.
(2) سقطت من (ب).
باب القول في صفة التطهر وما يوجبه (4/1)
مسألة [ في النية ]
فرض الوضوء النية.
وقد نص الهادي عليه السلام عليها في (المنتخب) (1).
والدليل على ذلك قول اللّه تعالى: {وَمَا أُمِرُوا إِلاَّ لِيَعْبُدُوا اللَّهَ مُخْلِصِيْنَ لَهُ الدِّيْنَ}[البينة: 5].
ووجه الاستدلال منه أنَّه قد ثبت أن اللّه تعالى لم يأمر إلاَّ بأن يُعبَد على طريق الإخلاص، وثبت أنَّه أمر بالوضوء، فقد ثبت أنَّه أمر به على طريق الإخلاص، والشيء إذا جاز أن يقع على وجه الإخلاص، وعلى غير وجه الإخلاص، لم يجز أن يقع على وجه الإخلاص إلا بالنية؛ لأن الأفعال إذا جاز وقوعها على وجوه مختلفة، لم يجز أن يقع على بعضها إلاَّ بالقصد، وإذا ثبت ذلك ثبت أنَّه لا بد من قصد مُضَامٍّ للوضوء.
وقد سأل بعض أصحاب أبي حنيفة على هذا، فقال: لو كان الوضوء يجب أن يضامه القصد من حيث هو عبادة ومأمور به، للزم(2) ذلك في القصد نفسه؛ لأنه عبادة ومأمور به، وذلك يؤدي إلى وجوب وجود مالا يتناهى من القصد، وهذا السؤال بعيد جداً، وذلك أنا إنما قلنا في الوضوء ما قلناه؛ لأنَّه يجوز وقوعه على وجوهٍ مختلفة، وكذلك نقول في سائر الأفعال التي تصح فيها هذه القضية؛ فأما القصد نفسه فإنه لا يجوز أن يقع على وجوه مختلفة؛ بل يختص كل قصد بوجه يقع عليه؛ لأن القصد إلى أن يكون الشيء قربة إلى اللّه تعالى لا يجوز أن يكون قصداً إلى أن يكون قربة إلى غيره؛ ولهذا نقول إن القديم ـ سبحانه ـ لا بد أن يكون مريداً لجميع أفعاله خلا الإرادات والكراهات، وهذا بيّن، وسقوط ما سألوا عنه واضح.
فإن قيل: فقد أُمرنا بإزالة النجاسات عن أبداننا وثيابنا عند الصلاة، وكذلك قد أُمرنا بستر العورة، ومع ذلك لا يجب أن يضامها القصد؟
__________
(1) انظر المنتخب ص26.
(2) في (أ) و(ب): أوجب.
قيل له: لو خُلِّينا وظاهر الآية، لأوجبنا ذلك، إلاَّ أنا خصصناه بدلالة الإجماع، على أنا لو دفعنا سؤالهم في القصد بأنه مخصوص بالإجماع، لكان ذلك جائزاً، إلاَّ أنا أحببنا كشف الكلام فيه، لأنَّه أصل كبير. (4/2)
فإن قيل: العبد يكون مخلصاً من حيث اعتقد الإيمان فهو إذاً مخلص في سائر شرائعه من حيث اعتقد الإيمان، لأنَّه لو لم يكن مخلصاً، لكان مشركاً، لأن ضد الإخلاص الشرك، فكان يجب أن يكون من لم ينوِ مشركاً.
قيل له: ما قلتَ إن العبد يكون باعتقاد الإيمان مخلصاً في جميع الشرائع، فليس الأمر على ما قلتَ؛ لأنَّه لا يمتنع أن يكون يعتقد الإيمان، ويخلص في عبادةٍ ولا يخلص في أخرى، والآية اقتضت أن يُضامَّ الإخلاصُ جميع العبادات، ألا ترى أن قائلاً لو قال: ما أمر فلان إلاَّ بأن يخرج راكباً، لأقتضى ذلك أن يكون خروجه يضامه الركوب، وكذلك لو قال: ما أمر إلاَّ بأن يصلي متطهراً، فإذا كان ذلك كذلك، فلا بد من قصد يضام جميع العبادات بحكم الظاهر، إلاَّ ما خص منه الدليل.
وقوله: إن ضد الإخلاص هو الإشراك ـ فلو كان الأمر على كما قلتم، لكان من لم ينو مشركاً ـ غلط /37/، وذلك بأنا لو سلمنا أن الإشراك ضد الإخلاص، لم يجب أن يكون من خرج عن الإخلاص مشركاً؛ لأن الشيء لا يمتنع أن يكون له أضداد كثيرة، فإذا خرج عن بعضها لا يجب أن يُحَصَّل على سائرها، ألا ترى أن حركة الإنسان إلى جهة يمينه يضاد حركته إلى جهة يساره؟ وكذلك تضاد حركة أمامه وحركة خلفه، وحركة فوقه، وحركة تحته، وإذا خرج عن أن يتحرك إلى ذات اليمين، فلا يجب أن يحصل متحركاً إلى جميع تلك الجهات. وهذا وضوحه يغني عن تكثير ضرب أمثاله.
فعلى هذا لا يمتنع أن يخرج الإنسان عن كونه متطهراً على وجه الإخلاص إلى كونه متطهراً على وجه العبث، وإلى وجه التبرد وغيرهما، وإن لم يكن متطهراً على وجه الإشراك؛ لأن المتطهر يكون متطهراً على وجه الإشراك إذا قصد به العبادة لغير الله.
فإن قيل: فقد قال اللّه تعالى: {مُخْلِصِيْنَ لَهُ الدِّيْنَ}، والوضوء ليس من الدين؛ لأنَّه ليس بفرض في نفسه. (4/3)
قيل له: هذا خطأ، وذلك أن الوضوء فرض في نفسه، وإن كان فرضاً يتعلق بغيره، على أن صريح قول النبي صلى الله عليه وآله وسلم قد أسقط هذا السؤال. وهو قوله: (( الوضوء شطر الإيمان )).
ويدل على ذلك الخبر المشهور، عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم: (( الأعمال بالنيات، وإنما لامرءٍ ما نوى )).
فحقق أنَّه يكون للمرء ما نواه دون ما عداه، فمن لم ينوِ، فلا وضوء له.
ويدل على ذلك:
ما أخبرنا به أبو العباس الحسني، قال: حدثنا إسحاق بن إبراهيم الجزيري، قال: حدثنا جعفر بن محمد، عن أبيه، عن علي عليهم السلام، قال: قال رسول اللّه صلى الله عليه وآله وسلم: (( لا قول إلاَّ بعمل، ولا قول ولا عمل إلاَّ بنية، ولا قول ولا عمل ولا نية إلاَّ بإصابة السنة ))، (فقد صرح صلى اللّه عليه وآله وسلم بنفي العمل إلا بالنيَّبة فيجب ألا يكون الوضوء إلا بالنية)(1).
فإن قيل: إن النفي لا يجوز أن يكون متناولاً لذات العمل؛ لأن العمل قد يحصل وإن لم يكن نية تضامه، وهذا معلوم ظاهر، فثبت أنَّه يتناول أحكام الفعل، ولا يجوز أن يكون النبي صلى الله عليه وآله وسلم أراد أجزاءه وكماله، لأن نفي الكمال يقتضي بقاء حكم الأصل (ونفي الإجزاء يقتضي نفي حكم الأصل)(2)، وإذا لم يصح حمله عليهما، وكان المراد أحدهما، صار مجملاً لا يصح التعلق بظاهره.
قيل له: ليس الأمر على ما ذهبت إليه؛ لأن نفي حكم الأصل يتضمن نفي الكمال، ولا نسلم أن نفي الكمال أبداً يقتضي بقاء حكم الأصل، وإن كان في بعض المواضع، لا يمتنع أن ينتفي الكمال، ويبقى حكم الأصل، وإذا كان ذلك كذلك، لم يمتنع أن ينتفي حكم الأصل، فينتفي الإجزاء والكمال جميعاً، وإذا صح ذلك، وجب حكم النفي عليه بحق العموم.
__________
(1) ما بين القوسين زيادة في (ج).
(2) ما بين القوسين سقط من (ب).
يوضح ذلك أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم، لو قال باللفظ الصريح: لا عمل يكمُل ويجزي إلا بالنية. لصح ذلك، فبان أن الذي ادعوه من فساد الكلام متى حمل عليها، غلط ممن أدعاه. (4/4)
فأما قولهم هذا الذي ذكرتموه، فإنه يقتضي نسخ قول اللّه تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذَيْنَ آمَنُوا إِذَا قُمْتُم إِلَى الصَّلاةِ فَاغْسِلُوا وُجُوهَكُم..} الآية [المائدة:6]؛ لأنَّه زيادة عليها، والزيادة على النص تقتضي نسخه، فذلك ساقط على أصولنا؛ لأن هذا القبيل من الزيادة لا يكون نسخاً عندنا. واستقصاء /38/ الكلام في هذا يخرجنا عن هذه المسألة، وفيما ذكرنا كفاية.
وجوابنا في هذا الموضع ـ وإذا سألوا في سائر هذه الظواهر كقوله: {وَأَنْزَلْنَا مِنَ السَّمَاءِ مَاءً طَهُوراً}، وكقول النبي صلى الله عليه وآله وسلم: (( أما أنا، فأحثي على رأسي ثلاث حثيات، فأطهر ))، وكقوله عليه السلام: (( فإذا وجدت الماء فأمسسه جسدك )) ـ أن نقول: إنَّه لا يمتنع أن يَذْكُر اللّه تعالى ورسوله، الحكم في موضع، والشرط في موضع آخر، وينبه عليه من طريق القياس، وإذا كان الأمر كذلك، فهذه الظواهر تقتضي الحكم، وما ذكرناه يقتضي الشرط، فهذا بين بحمد الله.
ويستدل على ذلك من جهة النظر بعلل منها:
أنَّا نقيسه على التيمم؛ بعلة أنها طهارة عن حدث، ونقيس عليه أيضاً بعلة أنَّه عبادة تبطل بالحدث مع السلامة، وبالعلة الثانية نقيسه على الصلاة أيضاً، فيجب أن تكون النية شرطاً في صحته قياساً على التيمم والصلاة.
وقد يقاس أيضاً على الصلاة والصيام والحج؛ بعلة أنها عبادة لها أول وآخر قد ارتبط بعضه ببعض.
وقد يقاس أيضاً على العتق في الظهار، بعلة أنَّه عبادة ذات بدل من شرط صحته النية، فكذلك الوضوء؛ لأن بدله التيمم، ومن شرط صحته النية.
فإن قاسوه على إزالة النجاسات؛ بعلة أنها طهارة بالماء، رجحنا قياسنا بالاحتياط، وباستناده إلى الظواهر التي ذكرناها، وبأنها تفيد شرعاً، وبأن أصول العبادات تشهد لها كالصلاة والزكاة والصيام والحج والعمرة والكفارات فرائضها ونوافلها. (4/5)
وليس لهم أن يدعو أن قياسهم مستند إلى الظواهر التي تعلقوا بها؛ لأنا قد بينا أنها لا تقتضي إثبات النية، ولا نفيها.
مسألة [ في المضمضة والاستنشاق ]
قال: ومن فروض الوضوء: المضمضة، والاستنشاق.
وقد نص عليه يحيى (ع) في (الأحكام) و(المنتخب)(1) جميعاً، ونص عليه القاسم عليه السلام في (مسائل النيروسي) وفي غيرها.
واستدلا على ذلك بقوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِيْنَ آمَنُوا إِذَا قُمْتُم إِلَى الصَّلاةِ فَاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ}[المائدة:6] والفم والمنخران من الوجه فوجب غسلهما.
فإن قال المخالف: ليسا من الظاهر!
قيل له: بل هما من الظاهر حكماً، بوجوه منها: أن الصائم يتمضمض ويستنشق، ولو كانا من الباطن، لم يجز إيصال الماء إليهما في حال الصيام.
والثاني: أنَّه لو كان بهما نجس، لوجب إزالته كمن الظاهر.
والثالث: أن المخالف ذهب إلى أن غسلهما سنة، وغسل الباطن لا يكون سنة، كما لا يكون فرضاً.
فإن قيل: الفم والمنخران ليسا من الوجه؛ لأنَّه روي أنَّه صلى الله عليه وآله وسلم تمضمض واستنشق، ثم غسل وجهه، (فلو كان من الوجه لاكتفى بذكر وجهه) (2)، ولم يذكر المضمضة والاستنشاق.
__________
(1) انظر الأحكام 1/51، والمنتخب ص25.
(2) ما بين القوسين ساقط من (ج) و(ب).
قيل له: لا يمتنع أن يجري الاسم على أشياء، ثم يفرد بالذكر بعض ما يتناوله الاسم، ويذكر بعض المسميات، ثم يذكر مع غيره، قال الله تعالى: {مَنْ كَانَ عَدُوّاً لِلًّهِ وَمَلائِكَتِهِ..} الآية[البقرة:98] فأفرد بالذكر جبريل وميكائيل بعد ما سمى الملائكة، وقال: {إِنَّا أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ كَمَا أَوْحَيْنَا إِلَى نُوحٍ وَالنَّبِييِّنَ مِن بَعْدِهِ وَأَوْحَيْنَا إِلَى إِبْرَاهِيْمَ}[النساء:163]، ثم ذكر عدة من الأنبياء، وأفردهم بالذكر. (4/6)
ويدل على ذلك ما أخبرنابه أبو العباس الحسني رحمه الله تعالى، قال: أخبرنا أبو زيد/39/ عيسى بن محمد العلوي الرازي، قال: حدثنا محمد بن منصور، قال: حدثنا أحمد بن عيسى، عن حسين بن علوان، عن أبي خالد، عن زيد بن علي، عن آبائه، عن علي عليهم السلام، قال: جلست أتوضأ، فأقبل رسول اللّه صلى الله عليه وآله وسلم حين ابتدأت في الوضوء، فقال: (( تمضمض، واستنشق، واستنثر )).
وأخبرنا أبو العباس الحسني، قال: أخبرنا ابن أبي حاتم، قال: حدثنا أحمد بن سنان، قال: حدثنا ابن مهدي عن سفيان، عن إسماعيل بن كثير، عن عاصم بن لقيط، عن أبيه، قال: قال رسول اللّه صلى الله عليه وآله وسلم: (( إذا توضأت، فأبلغ في الاستنشاق، ما لم تكن صائماً )).
وروى أبو بكر ابن أبي شيبة، عن محمد بن سليم، عن إسماعيل بن كثير، عن عاصم بن لقيط، عن أبيه، قال: قلت يا رسول الله: أخبرني عن الوضوء؟ قال: (( أسبغ الوضوء، وخلل بين الأصابع، وبالغ في الاستنشاق، إلاَّ أن تكون صائماً )).
والأمر بالمبالغة في الاستنشاق يقتضي الأمر بالاستنشاق، والاستثناء واقع على المبالغة بالإجماع، والاستنشاق باقٍ على الوجوب.
وأخبرنا أبو الحسين عبد اللّه بن سعيد البروجردي، قال: حدثنا أبو بكر محمد بن عمرو الدينوري، قال: حدثنا ابن أبي ميسرة، قال: حدثنا الربيع بن بدر(1)، عن ابن جريج، عن سليمان بن موسى، قال: قال رسول اللّه صلى الله عليه وآله وسلم: (( تمضمضوا، واستنشقوا، والأذنان من الرأس ))، فهذه الأخبار كلها نصوص في إيجاب المضمضة والاستنشاق. (4/7)
وأخبرنا أبو العباس الحسني، قال: حدثنا أبو بكر الصواف، قال: حدثنا أبو زيد محمد بن موسى، قال: حدثنا إسماعيل بن سعيد، قال: حدثنا يزيد بن هارون، عن أشعث، عن أبي إسحاق، قال: قال علي عليه السلام: أول الوضوء المضمضة والاستنشاق.
وروينا عن محمد بن الحنفية أنَّه قال: دخلت على أبي وهو يتوضأ ـ في حديث طويل ـ وفيه أنَّه تمضمض واستنشق، ثم قال لي بعد فراغه: (يا بني افعل كفعالي هذا)، وقد ذكرنا إسناده في مسألة وجوب الاستنجاء بالماء، فثبت عنه عليه السلام وجوبهما، ولم نحفظ عن غيره من الصحابة خلافه، فوجب القول به، على أن مذهبنا أنَّه إذا صح القول عن علي عليه السلام وجب المصير إليه، خالفه غيره من الصحابة أم لم يخالفه.
ومن النص في هذا الباب الذي لا يحتمل التأويل:
ما أخبرنا به أبو العباس الحسني، قال: أخبرنا محمد بن علي الصواف، قال: أخبرنا أبو زيد المقرئ، قال: حدثنا إسماعيل بن سعيد في كتاب (البيان)، قال: حدثنا محمد بن بندار السباك، قال: حدثنا إسحاق بن راهويه، قال: حدثنا عيسى بن يونس، عن عبادة، عن جعفر بن إياس، عن عبيد اللّه بن عبد اللّه بن عتبة، قال: توضأ رسول اللّه صلى الله عليه وآله وسلم، ثم أتى مصلاه، فقام فيه للصلاة، فكبر، ثم انفتل، فقال: ذكرت شيئاً من الوضوء لا بد منه، فتمضمض واستنشق، ثم استقبل الصلاة.
فإن قيل: يروى عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم أنه قال: في المضمضة والاستنشاق هما سنة في الوضوء!
__________
(1) في (ب): ابن زيد، وفي الهامش: بدر.
قيل له: لا يمتنع أن يطلق اسم السنة على الفرض، ألا ترى إلى ما رُوي: (( سَنَّ رسول اللّه صلى الله عليه وآله وسلم فيما سقت السماء العشر ))، والعشر لا إشكال في أنَّه فرض، فإذا كان ذلك كذلك، لم يمتنع فرضهما بالأدلة التي بيناها. (4/8)
فأما قول من قال من أصحاب أبي حنيفة: إن إثبات فرضهما /41/ زيادة في النص لا يجوز إثباتها بأخبار الآحاد، فإنه ساقط من وجهين:
أحدهما: ما بيناه في المسألة التي قبل هذه أن هذا القبيل من الزيادة لا يجب أن يكون نسخاً، ولا يمتنع إثباته بخبر الواحد على أصولنا.
والثاني: أن الظاهر عندنا مشتمل على المضمضة والاستنشاق؛ إذ الفم والمنخران من الوجه على ما بيناه في صدر هذه المسألة.
فإن قيل: روي عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم أنَّه قال: (( عشر من سنن المرسلين )) وذكر فيها المضمضة والاستنشاق.
قيل له: قد بينا أن السنة تطلق على الفرض، ومعنى سنن المرسلين، أي ما داوموا على فعلها، وهو مأخوذ من سنن الطريق، ويبين ذلك أنَّه ذكر الختان في جملة هذه الخلال العشر، ولا خلاف في أنَّه فرض لا يسع تركه.
وليس لأحد أن يتعلق بقوله صلى الله عليه وآله وسلم: (( إذا وجدت الماء فأمسسه جلدك ))؛ لأن داخل الفم والمنخرين أيضاً جلد، فيجب أن يمسه الماء، ولو جعلناه نحن دليلنا، لكان أولى.
ومما يدل على ذلك من طريق النظر: أنَّه باطن عضو يجب غسله ـ لا مشقة في غسله ـ فيجب أن يكون غسله واجباً قياساً على باطن القدم، وعلتنا هذه مرجحة على ما يعللون به بإفادة الشرع، والإحتياط، والاستناد إلى هذه الآثار القوية والنصوص الصريحة.
وليس يلزم على ما ذكرنا داخل العين وباطن الجفن، فإنا قد جعلنا في أوصاف العلة أن لا مشقة في غسله، وداخل العين وباطن الجفن، في غسلهما مشقة عظيمة.
ويمكن أيضاً أن يقاس باطن الأنف على ظاهره؛ بعلة أنَّه بعض من الأنف وبعض من الفم يلزمه حكم النجس، فيجب أن يلزمه حكم الحدث.
مسألة [ في غسل الوجه وتخليل اللحية ] (4/9)
قال: ومن فرض الوضوء: غسل الوجه وتخليل اللحية إن كانت.
وقد نص في الأحكام على وجوب تخليل اللحية.
والذي يدل على ذلك قول اللّه تعالى: {فَاغْسِلُوا وُجُوهَكُم}[المائدة:6]، وقد ثبت أن نبات الشعر على الوجه لا يخرج الوجه من أن يكون وجهاً؛ لأن الوجه اسم للعضو المخصوص، فنبات الشعر عليه لا يزيل الاسم عنه كسائر الأعضاء.
فإن قيل: ما أنكرتم أن يجزي غسل اللحية عن غسل الوجه، كما أجزأ مسح شعر الرأس عن مسح جلد الرأس؟
قيل له: لا سبيل إلى مسح جلد الرأس إذا(1) كان عليه الشعر؛ لأن التخليل يخرج المسح عن أن يكون مسحاً إلى أن يكون غسلاً، وليس هكذا الغسل؛ لأن التخليل لا يخرج الغسل عن أن يكون غسلاً، بل هو أبلغ في كونه غسلاً، ويدل على ذلك:
ما رواه أبو بكر بن أبي شيبة، قال حدثنا وكيع، عن الهيثم، عن يزيد الرقاشي، عن أنس أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم، قال: (( أتاني جبريل عليه السلام، فقال: إذا توضأت، فخلل لحيتك ))، فثبت وجوبه على الأمة؛ لأن كل ما أوجبته الشريعة على النبي صلى الله عليه وآله وسلم يجب على كل(2) الأمة، إلاَّ ما يخصه الدليل.
وروى ابن أبي شيبة، قال: حدثنا وكيع، عن أبي عاصم، عن رجل ـ لم يسمه ـ أن علياً عليه السلام مرَّ على رجل يتوضأ فقال: (خلل لحيتك).
__________
(1) في (أ): إن.
(2) سقطت (كل) من (ب) و(ج).
وأخبرنا أبو العباس الحسني، رضي اللّه عنه، قال: أخبرنا أحمد بن خالد الفارسي، حدثنا(1) محمد بن الحسين الخثعمي، حدثنا عباد بن يعقوب/41/، حدثنا حسين بن زيد بن علي، حدثنا جعفر بن محمد، عن أبيه، عن جده، عن علي عليهم السلام، أنَّه مر برجل يتوضأ، فوقف عليه حتى نظر إليه، فلم يخلل لحيته، فقال: (ما بال أقوام(2) يغسلون وجوههم قبل أن تنبت اللحى، فإذا نبتت اللحى، ضيعوا الوضوء)، فإذا ثبت عن علي عليه السلام القول بوجوبه، كان عندنا واجباً، على أنَّه إذا لم يحفظ عن غيره من الصحابة خلافه، جرى ذلك مجرى الإجماع. (4/10)
ويدل على ذلك أيضاً ما أجمعوا عليه من أن المغتسل من الجنابة يلزمه تخليل لحيته، فكذلك المتوضئ، والمعنى أنَّه مأمور بغسل الوجه تعبداً، لا لنجاسة به.
ويجوز أن يقاس بهذه العلة الملتحي على غير الملتحي، فيقال: قد ثبت وجوب إيصال الماء إلى بشرة الوجه إذا لم تكن عليه اللحية.
مسألة [ في غسل الذراعين مع المرفقين ترتيباً ]
قال: ومن فرض الوضوء: غسل الذراع اليمنى مع المرفق، ثم كذلك اليسرى.
وقد نص في (الأحكام) (3) في باب التيمم على وجوب غسل المرفقين مع الذراعين، وهو قول أكثر العلماء.
والذي يدل على ذلك:
ما أخبرنا به أبو عبد اللّه محمد بن عثمان النقاش، حدثنا(4) الناصر للحق الحسن بن علي عليه السلام، حدثنا محمد بن منصور، عن عباد بن يعقوب، عن قاسم بن عبد اللّه، عن عبد الرحمن بن أحمد بن عقيل، عن جابر بن عبد الله، قال: كان رسول اللّه صلى الله عليه وآله وسلم إذا توضأ، يدير الماء على مرفقيه.
__________
(1) في (ب) و(ج): قال حدثنا، في جميع السند.
(2) في (ب) و(ج): قوم.
(3) انظر الأحكام 1/67 ـ 68.
(4) في (ب) و(ج): قال حدثنا. في جميع السند.
وهذا الفعل منه عليه السلام يدل على الوجوب؛ لأنَّه بيان لمجمل واجب، وفعل النبي صلى الله عليه وآله وسلم إذا كان بياناً لمجمل واجب وجب، حمله على الوجوب، والذي يدل على أنَّه بيان لمجمل واجب أن اللّه ـ سبحانه وتعالى ـ لما قال: {فَاغْسِلُوا وُجُوهَكُم وَأَيْدِيْكُم إِلَى الْمَرَافِق}، لم يُعقل من الظاهر أن المرافق تدخل في الغسل، أو لا تدخل؛ لأن ((إلى )) موضوع للحد، والحد قد يدخل في المحدود، وقد لا يدخل؛ لأن قول اللّه تعالى: {ثُمَّ أَتِمُّوا الصَّيَامَ إِلَى اللًّيْلِ}، يوجب أن لا يدخل الليل في مدة الصيام، ولو قال رجل: لا أكلم زيداً إلى أن يقوم، لكان القيام داخلاً في المدة التي وقعت اليمين عليها، فإذا ثبت ذلك، احتمل أن تكون المرافق داخلة في الغسل، واحتمل أن تكون غير داخلة فيه، فصار الخطاب مجملاً، وإذا كان الخطاب مجملاً، وكان فعل النبي صلى الله عليه وآله وسلم بياناً له، بان (أنه بيان مجمل واجب) (1). (4/11)
مسألة [مسح جميع الرأس]
قال: ومن فرض(2) الوضوء: مسح جميع الرأس مقبله ومدبره وجوانبه مع الأذنين ظاهرهما وباطنهما.
وقد نص على ذلك في (الأحكام) و(المنتخب) (3)، ونص القاسم عليه السلام في (مسائل النيروسي) على ذلك وغيره(4).
والذي يدل على ذلك قول اللّه تعالى: {وَامْسَحُوا بِرُؤُوسِكُمْ}[المائدة:6]، فوجب مسح جميع ما يسمى رأساً؛ لأن قوله: {بِرُؤوسِكُمْ}، لفظة شاملة لجميع ما يسمى رأساً، ومعلوم أن مراد الآمر إذا كان جميع ما يدخل تحت الاسم، فلا يزيد على إيراد لفظة شاملة لجميع ما يدخل تحت الاسم.
فإن قيل: إن ظاهر ذلك يقتضي من المسح مقدار ما يسمى الإنسان به ماسحاً لرأسه دون استيعاب جميع ما يقع عليه اسم الرأس؟
__________
(1) في (ج) وهامش (ب): وجوبه لكونه بيان مجمل واجب. بدلاً عمَّا بين القوسين.
(2) في (أ): فروض.
(3) انظر الأحكام 1/49. والمنتخب ص25.
(4) في (ج): وغيرها.
قيل له: ليس الأمر على ما قدرت، بل حكم اللفظ يوجب استيعاب جميع ما يدخل تحت الاسم، ألا ترى أنَّه لا خلاف بيننا وبين مخالفينا أن قول اللّه تعالى: {اقْتُلُوا الْمُشْرِكِيْنَ}، يقتضي قتل كل من يقع عليه اسم الشرك؛ لكون الاسم متناولاً لجميعهم، ولو كان حكم اللفظ ما ذكروه، لوجب أن يكون الواجب من القتل/42/ هو القدر الذي إذا أتاه الإنسان سمي به قاتل المشركين، وذلك يكون إذا قتل ثلاثة من المشركين، فلما بطل ذلك، وكان الواجب الذي يقتضيه الظاهر أن يقتل جميع من يتسمى بمشرك، صح وثبت ما قلناه من أن الحكم إذا علق باسم، وجب أن يدخل في ذلك الحكم كل ما يتناوله ذلك الاسم، إلاَّ ما منع منه الدليل، وإذا صح ذلك، صح ما قلناه من أن قوله تعالى: {وَامْسَحُوا بِرُؤُوسِكُمْ}[المائدة:6]، يوجب مسح جميع ما يسمى بالرأس. (4/12)
فإن قيل: فقول(1) اللّه تعالى: {وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ فَاقْطَعُوا أَيْدِيَهُمَا}[المائدة:38]، يقتضي قطع من يقع عليه اسم السارق سواءً(2) سرق القليل أو الكثير، إلاَّ ما منع منه الدليل، ولو كان الأمر على ما قلتم، لكان لا يوجب أن يقطع من سرق بعض مال.
قيل له: هذا غلط، وذلك أنا قلنا أن الحكم إذا علق باسم، وجب أن يدخل في ذلك الحكم كل ما يتناوله الاسم، فكان مقتضى ما قلناه فيما سألت عنه، أن يجب قطع كل سارق، إلا من قام دليله، وهذا ما لا ننكره، بل لا خلاف فيه بين كل من قال بالعموم، وهو أحد ما يوضح ما قلناه في المسح؛ لأن الأمر لو كان على ما قاله، لكانت الآية تقتضي من القطع ما يسمى الإنسان به قاطع سارق، فكان كون الواجب يقتضيه الظاهر قطع سارق واحد، وذلك فاسد، وأما المسروق فلا لفظ له، فيراعى فيه العموم أو الخصوص، فكيف يشبه حال المسروق ولا اسم له ولا لفظ في الظاهر حال ما ذكرنا. وهذا واضح بحمد الله.
__________
(1) في (أ): سقطت الفاء.
(2) في (ب) و(ج): وسواء.
فإن قالوا: الباء توجب التبعيض، فوجب بحكم الظاهر أن يكون الممسوح بعض الرأس. (4/13)
قيل لهم: الباء توجب الإلصاق، ولا توجب التبعيض، ألا ترى إلى قوله تعالى: {وَلْيَطَّوَّفُوا بِالْبَيْتِ الْعَتِيْقِ}[الحج:29]، وقوه تعالى: {فَضُرِبَ بَيْنَهُمْ بِسُورٍ لَهُ بَابٌ بَاطِنُهُ فِيْهِ الرَّحْمَة}[الحديد:13]، وقوله تعالى: {وَأْمُرْ قَومَكَ يَأْخُذُوا بَأَحْسَنِهَا}[الأعراف:145]، والباء في جميع هذه المواضع لإلصاق الفعل بالمفعول به، لا للتبعيض، ومن يقول: إنَّه للتبعيض لا يمنع(1) أنَّه يفيد الإلصاق للفعل، إلاَّ أنَّه يقول يقتضي إلصاقه، وتبعيض المفعول به، فصار اقتضاؤه للإلصاق متفقاً عليه، وما ادعوا من التبعيض مختلفاً فيه، فعلى من ادعاه الدليل، ولا دليل له.
فإن قيل: لو لم تجعل الباء للتبعيض، كنا قد سلبناه الفائدة؛ لأنَّه يكون دخوله كخروجه؛ إذ يكون المستفاد بقوله: {وَامْسَحُوا بِرُؤُوسِكُمْ}، هو المستفاد بقوله: وامسحوا رؤوسكم؟
قيل له: قد بينا أن فائدة الباء هو الإلصاق، وكون الكلام مما يستقيم مع حذفه لا يؤثر فيه، ألا ترى إلى قوله تعالى: {وَأْمُرْ قَوْمَكَ يَأْخُذُوا بِأَحْسَنِهَا}، أنَّه كان يستقيم مع حذفه، وليس فيه دليل أن الباء يفيد فيه التبعيض.
وروي أن رسول اللّه صلى الله عليه وآله وسلم توضأ مرةً مرةً، وقال: (( هذا وضوء لا يقبل اللّه الصلاة إلاَّ به ))، ثم توضأ مرتين مرتين، وقال: (( من توضأ مرتين، آتاه اللّه أجره مرتين، ثم توضأ ثلاثاً، وقال: (( هذا وضوئي ووضوء الأنبياء من قبلي )).
__________
(1) في (أ): يمتنع.
وقد علم أن التكرير في الثاني والثالث لم يكن إلاَّ لما فعل في الأول، فوجب أن يكون المفعول أولاً وضوء رسول اللّه صلى الله عليه وآله وسلم مرة مرة، وقد ثبت أن مسح جميع الرأس وضوء رسول اللّه صلى الله عليه وآله وسلم، فثبت أنَّه مما قال فيه رسول اللّه صلى الله عليه وآله وسلم: (( هذا وضوء لا يقبل اللّه الصلاة إلاَّ به )). (4/14)
وبين أنَّه وضوء رسول اللّه صلى الله عليه وآله وسلم:
ما أخبرنا به أبو بكر المقرئ، قال: حدثنا(1) أبو جعفر الطحاوي، حدثنا يونس بن عبد الأعلى الصدفي، وعبد العزيز بن عقيل، وأحمد بن عبد الرحمن، قالوا: أخبرنا عبد اللّه بن وهب، قال: أخبرني يحيى بن عبد اللّه/43/ بن سالم، ومالك بن أنس، عن عمرو بن يحيى المازني، عن أبيه، عن عبد اللّه بن زيد بن عاصم المازني، عن رسول اللّه صلى الله عليه وآله وسلم: (( أنه أخذ بيده في وضوئه للصلاة ماءً، فبدأ بمقدم رأسه، ثم ذهب بيديه إلى مؤخر الرأس، ثم ردهما إلى مقدمه ))(2).
وأخبرنا أبو بكر المقرئ، حدثنا(3) أبو جعفر الطحاوي، حدثنا إبراهيم بن مرزوق، حدثنا عبد الصمد بن عبد الوارث، قال: حدثني أُبَيُّ، وحفص بن غياث، عن ليث، عن طلحة بن مصرف، عن أبيه، عن جده، قال: رأيت رسول اللّه صلى الله عليه وآله وسلم مسح مقدم رأسه حتى بلغ القذال من مقدم عنقه ))(4).
وروي عن علي عليه السلام، أنَّه لما عَلَّمَ الناس وضوء رسول اللّه صلى الله عليه وآله وسلم، مسح رأسه مقبلاً ومدبراً.
فإن قيل: رُوي أن رسول اللّه صلى الله عليه وآله وسلم مسح بناصيته.
قيل له: لا يصح التعلق بهذا من وجوه:
__________
(1) سقطت قال من (أ).
(2) أخرجه الطحاوي بلفظه في شرح معاني الآثار 1/30.
(3) في (ب) و(ج): قال حدثنا. في جميع السند.
(4) أخرجه الطحاوي في شرح معاني الآثار 1/30.
أحدها: أنَّه ليس في الحديث أنَّه لم يمسح على غير الناصية، ويجوز أن يكون الراوي رآه حين انتهت يداه إلى الناصية، فروى ما شاهد، وهذا لا يدل على أنَّه لم يمسح الباقي. (4/15)
والثاني: أنَّه يجوز أن يكون صلى الله عليه وآله وسلم ترك مسح ما عد الناصية لعلة كانت برأسه.
والثالث: أن الناصية قد يعبر بها عن الرأس؛ لأنها اسم لما علا من الشيء، ولذلك يقال ناصية الجبل يراد ما علا منه، ومنه قول اللّه تعالى: {فَيُؤْخَذُ بِالنَّوَاصِيْ وَالأَقْدَامِ}[الرحمن:41].
والرابع: أن رسول اللّه صلى الله عليه وآله وسلم كان يجوز أن يكون تطهره حين فعل ذلك لغير الحدث، فلا يدل ذلك على أن الحدث يرتفع به، ولا يجوز أن يحمل على العموم؛ لأنَّه فعل واقع على وجه واحد.
والخامس: أنا قد رُوينا أنَّه صلى الله عليه وآله وسلم مسح بجميع رأسه، والزائد أولى.
والذي يدل على ذلك من طريق النظر أنَّه قد ثبت وجوب استيعاب سائر الأعضاء للوضوء في الطهارة، فيجب استيعاب الرأس بالمسح قياساً على سائر الأعضاء بعلتين:
إحداهما: أنَّه عضو من أعضاء الطهارة.
والثانية: أن كل جزء منه موضع للفرض، لا خلاف في كون كل جزء منه موضعاً للفرض؛ إذ الكل قائل به، إما على طريق الجمع كما نقول، أو على طريق التخيير كما يقول المخالف لنا، فليس لأحد أن ينكر الوصف.
ويجوز أيضاً أن يقاس سائر الرأس على بعضه؛ إذ لا خلاف في وجوب مسح بعضه، فيجب مسح جميعه؛ لأن كل جزء منه بعض الرأس، ويدل على صحة هذه العلة أنَّ ما لا يكون بعضاً للرأس، لا يجب مسحه، وما كان بعضاً للرأس، وجب مسحه.
فأما قياس المخالف مسح الرأس على مسح الخفين فباطل عندنا؛ لأنا لا نرى المسح على الخفين أصلاً.
فصل [ في مسح الأذنين ]
وإذا ثبت وجوب مسح جميع الرأس، وثبت أن الأذنين من الرأس، وجب مسحهما ظاهراً وباطناً.
وقد نص القاسم عليه السلام على أن الأذنين من الرأس، ودل عليه كلام يحيى عليه السلام؛ لأنَّه ذكر أنهما يمسحان مع الرأس من دون أن يؤخذ لهما ماء جديد. (4/16)
والذي يدل على ذلك:
ما أخبرنا به أبو بكر المقرئ، حدثنا(1) الطحاوي، حدثنا نصر بن مرزوق، حدثنا يحيى بن الحسان، حدثنا حماد بن زيد، عن سنان بن ربيعة، عن شهر بن حوشب، عن أبي أمامة الباهلي/44/، أن رسول اللّه صلى الله عليه وآله وسلم توضأ، فمسح أذنيه مع رأسه، وقال: (( الأذنان من الرأس ))(2).
وأخبرنا أبو الحسين البروجردي، حدثنا(3) أبو بكر محمد بن عمر الدينوري، حدثنا يزداد بن أسد الدينوري، حدثنا يحيى بن العريان أبو زيد الهروي الخراساني، حدثنا حاتم بن إسماعيل، عن أسامة بن زيد، عن نافع، عن ابن عمر، قال: قال رسول اللّه صلى الله عليه وآله وسلم: (( الأذنان من الرأس )).
وأخبرنا أبو بكر المقرئ، حدثنا(4) أبو جعفر، حدثنا أحمد بن داود، حدثنا مسدد، حدثنا أبو عوانة، عن موسى بن أبي عائشة، عن عمرو بن شعيب، عن أبيه، عن جده، أن رجلاً أتى رسول اللّه صلى الله عليه وآله وسلم، فقال: كيف الطهور؟ فدعا رسول اللّه صلى الله عليه وآله وسلم بماء فتوضأ، فأدخل اصبعيه السبابتين أذنيه، فمسح بإبهاميه ظاهر أذنيه، وبالسبابتين باطن أذنيه(5).
فهذه الأخبار كلها دالة على أن الأذنين من الرأس، وأنهما ممسوحتان مع الرأس بماء واحد.
فإن قيل: روي عن رسول اللّه صلى اللَّه عليه وآله وسلم أنَّه مسحهما بماء جديد، وكذلك روي أنَّه صلى الله عليه وآله وسلم مسح برأسه وصدغيه، ثم مسح أذنيه، ففصل بثم.
__________
(1) في (ب) و(ج): قال حدثنا. في جميع السند.
(2) أخرجه الطحاوي ي شرح معاني الآثار 1/33.
(3) في (ب) و(ج): قال حدثنا. في جميع السند.
(4) في (ب) و(ج): قال حدثنا. في جميع السند.
(5) أخرجه الطحاوي في شرح معاني الآثار 1/33.
ثُمَّ قيل له: فلا يمتنع أنَّه فعل ذلك مرة لسبب، أو لأن الماء الذي على يده كان قد جف. (4/17)
ولسنا نقول إن تجديد الماء محظور، وكذلك لو مسح مقدم رأسه بماء ومؤخره بماء جديد لم يضره، وإنما نقول أن أخذ الماء الجديد ليس بواجب، ولا مسنون، فبطل تعلقهم بما(1) تعلقوا به.
فإن قالوا: قوله صلى الله عليه وآله وسلم: (( الأذنان من الرأس ))، معناه أنهما ممسوحتان كالرأس؟
قيل له: ذلك خلاف الظاهر، بل هو في المجاز أيضاً بعيد؛ لأن مِن إذا لم تكن لابتداء الغاية، أو لم تكن صلة، كانت للتبعيض، فظاهره يقتضي أن الأذنين بعض الرأس، فأما ما ذكره فبعيد، ألا ترى أنَّه يبعد أن يقال: إن اليدين من الوجه بمعنى أنهما مغسولتان كالوجه.
ويمكن أن تقاس الأذنان على سائر أجزاء الرأس؛ بعلة أنهما بعض الرأس، فيجب أن يكون المسح عليهما مع سائر أجزاء الرأس بماء واحد، ويبين كونهما بعض الرأس الأخبار التي تقدمت.
مسألة [ في غسل القدمين ]
قال: ومن فرض الوضوء غسل القدم اليمنى مع الكعبين، ثم اليسرى كذلك.
وقد نص القاسم عليه السلام، ويحيى بن الحسين رضي اللّه عنهما في كتبهما(2) على وجوب غسل القدمين، وهو مذهب سائر أهل البيت عليهم السلام من الزيدية، ومذهب سائر الفقهاء.
والخلاف فيه بيننا وبين الإمامية، فإنهم يذهبون إلى أن الفرض هو المسح، والدليل على صحة ما نذهب إليه:
__________
(1) في (ج): لما.
(2) انظر الأحكام 1/50، والمنتخب ص26.
ما أخبرنا به أبو عبد اللّه محمد بن عثمان النقاش، حدثنا(1) الناصر للحق عليه السلام، حدثنا محمد بن منصور، حدثنا أحمد بن عيسى، عن حسين بن علوان، عن أبي خالد الواسطي، عن جعفر بن محمد، عن أبيه، عن علي عليهم السلام، قال: بينا أنا ورسول اللّه صلى الله عليه وآله وسلم جالسان في المسجد؛ إذ أقبل رجل من الأنصار حتى سلم ـ وقد تطهر وعليه أثر الطهور ـ فتقدم في مقدم المسجد ليصلي، فرأى رسولُ اللّه صلى الله عليه وآله وسلم جانباً من عقبه جافاً، فقال لي: يا علي، أترى ما أرى؟ قلت: نعم. قال رسول اللّه صلى الله عليه وآله وسلم: (( يا صاحب الصلاة، إني أرى جانباً من عقبك جافاً، فإن كنت قد أمسسته الماء، فامض في صلاتك، وإن كنت لم تمسسه الماء، فاخرج من الصلاة. فقال: يا رسول اللّه كيف أصنع؟ أَسْتقْبِل الطهور؟ قال: (( لا. بل اغسل ما بقي )). فقلت: يا رسول الله، لو صلى هكذا. كانت مقبولة؟ قال: (( لا. حتى يعيدها )). (4/18)
وأخبرنا محمد بن عثمان، حدثنا الناصر، حدثنا محمد بن منصور/45/، حدثنا(2) أبو طاهر، قال: حدثني أبي، عن أبيه، عن جده، عن علي عليه السلام، قال: قال رسول اللّه صلى الله عليه وآله وسلم: (( خللوا أصابعكم قبل أن تخلَّل بالنار )).
وأخبرنا أبو الحسين علي بن إسماعيل، حدثنا(3) الناصر، حدثنا محمد بن منصور، حدثنا أحمد بن عيسى، عن حسين بن علوان، عن أبي خالد، عن زيد بن علي، عن آبائه(4)، عن علي عليه السلام، قال: جلست(5) يوماً أتوضأ، فأقبل رسول اللّه صلى الله عليه وآله وسلم ـ في حديث فيه بعض الطول إلى أن قال ـ: وغسلت قدميَّ، فقال رسول اللّه صلى الله عليه وآله وسلم: (( يا علي، خلل بين الأصابع لا تُخلَّل بالنار )).
__________
(1) في (ب) و(ج): قال حدثنا. في جميع السند.
(2) في (ب) و(ج): قال حدثنا. في جميع السند.
(3) في (ب) و(ج): قال حدثنا. في جميع السند.
(4) في (ج) وهامش (ب): أبيه.
(5) في (ج): جئت.
وأخبرنا أبو بكر المقرئ، حدثنا(1) أبو جعفر الطحاوي، حدثنا فهد، حدثنا أبو نعيم، حدثنا إسرائيل، عن أبي إسحاق، عن سعيد بن أبي كرب، عن جابر بن عبد الله، قال رأى النبي صلى الله عليه وآله وسلم لُمعة في قدم رجل لم يغسلها فقال: (( ويل للعراقيب من النار ))(2). (4/19)
وحدثنا(3) أبو بكر، حدثنا(4) أبو جعفر، حدثنا أبو بكرة، حدثنا مؤمل بن إسماعيل، قال: حدثنا سفيان، عن أبي إسحاق، عن سعيد بن أبي كرب، عن جابر، قال: قال رسول الله صلى اللّه عليه وآله وسلم: (( ويلٌ للأعقاب من النار، أسبغوا الوضوء ))(5).
وأخبرنا أبو بكر، حدثنا(6) أبو جعفر، حدثنا إبراهيم بن مرزوق، حدثنا وهب، حدثنا شعبة، عن منصور، عن هلال بن يساف، عن أبي يحيى، عن عبد اللّه بن عمرو، أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم رأى قوماً توضؤا، وكأنهم تركوا من أرجلهم شيئاً، فقال: (( ويل للعراقيب من النار، اسبغوا الوضوء ))(7).
فهذه الأخبار كلها نصوص، أو كالنصوص في إيجاب غسل القدمين مع التوعد على الإخلال بشيء منه.
ويدل على ذلك فعل النبي صلى الله عليه وآله وسلم الواقع موقع البيان:
__________
(1) في (ب) و(ج): قال حدثنا. في جميع السند.
(2) أخرجه الطحاوي في شرح معاني الآثار 1/38.
(3) في (ب) و(ج): أخبرنا.
(4) في (ب) و(ج): قال حدثنا. في جميع السند.
(5) أخرجه الطحاوي في شرح معاني الآثار 1/38.
(6) في (ب) و(ج): قال حدثنا. في جميع السند.
(7) أخرجه الطحاوي في شرح معاني الآثار 1/40.
أخبرنا(1) أبو بكر، أخبرنا أبو جعفر، حدثنا محمد بن محمد بن خزيمة(2)، وإبراهيم بن أبي داود، قالا: حدثنا سعيد بن سليمان الواسطي، عن عبد العزيز بن محمد بن عمرو بن أبي عمرو، عن عبد الله بن(3) عبيد الله بن أبي رافع، عن أبيه، عن جده، قال: رأيت رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم توضأ، فغسل رجليه ثلاثاً(4). (4/20)
وأخبرنا أبو بكر، أخبرنا(5) أبو جعفر، حدثنا ابن أبي عقيل، حدثنا ابن وهب، قال: أخبرني ابن لهيعة، عن يزيد بن عمرو المعافري، قال: سمعت أبا عبد الرحمن بن يزيد، يقول: سمعت المستورد بن سنان القرشي يقول: رأيت رسول اللّه صلى الله عليه وآله وسلم يدلك بخنصره ما بين أصابع رجليه(6).
وأخبرنا أبو بكر، حدثنا(7) أبو جعفر، حدثنا حسين بن نصر، حدثنا الفريابي، حدثنا زائدة، حدثنا خالد بن علقمة، عن عبد خير، قال: دخل علي عليه السلام الرحبة، ثُمَّ قال(8) لغلامه: ائتني بطهور، فأتاه بماء وطشت، فتوضأ فغسل(9) رجليه ثلاثاً ثلاثاً، وقال: هذا طهور رسول اللّه صلى الله عليه وآله وسلم(10).
فإن قيل: فهذه الأخبار الواردة في الأفعال كيف تقتضي الوجوب؟
قيل له: لأن هذه الأفعال بيان للواجب، وما كان بياناً للواجب، كان عندنا محمولاً على الوجوب.
فإن قيل: فكيف صارت هذه الأفعال بياناً؟
__________
(1) في (ب) و(ج): قال أخبرنا. في جميع السند.
(2) في (ب) و(ج): محمد بن خزيمة.
(3) في (ج): عن.
(4) أخرجه الطحاوي في شرح معاني الآثار 1/36.
(5) في (ب) و(ج): قال أخبرنا.
(6) أخرجه الطحاوي في شرح معاني الآثار 1/36، إلا أنه تحيد المغافري، وأيضاً المستورد بن شداد، وأثبته عليه في هامش (ب).
(7) في (ب) و(ج): قال حدثنا. في جميع السند.
(8) في (ب) و(ج): فقال.
(9) في (ب) و(ج): وغسل.
(10) أخرجه الطحاوي في شرح معاني الآثار 1/35، إلا أنه فيه شك، فقال علقمة بن خالد أو خالد بن علقمة، والشك أيضاً ثابت في (أ) و(ج).
قيل له: لأن قوله تعالى: {فَامْسَحُوا بِرُؤُوسِكُمْ وَأَرْجُلَكُمْ إِلَى الْكَعْبَيْنِ}، قد قرئ بنصب اللام وجرها، وقد حمل النصب على الغسل بأن جُعل نسقاً على الوجه واليدين، وقد حمل أيضاً على المسح. (4/21)
وقيل: إنَّه نسق على موضع النصب؛ لأن الكلام(1) كان حقه النصب لولا دخول الباء عليه.
وقالوا أيضاً: إنَّه نُصبَ لنزع الخافض، فكان تقديره برؤوسكم وبأرجلكم، فلما نزع الخافض انتصب اللام.
وقد حمل الجر على/46/ المسح، وقالوا: إن الأرجل نسق على الرؤوس.
وحملوه على الغسل، وقالوا: إنَّه نسق على الوجه واليدين، ولكنه جر بمجاورة المجرور، كما قيل: جحر ضب خربٍ.
وهذه الوجوه كلها محتملة في اللسان والإعراب، فصارت الآية في حكم المجمل؛ إذ لم يقل أحد أن الآية موجبة للمسح والغسل جميعاً، وإذا كان الأمر على ما بينا وجب أن يكون فعل النبي صلى الله عليه وآله وسلم بياناً لها، وإذا كان بياناً، كان محمولاً على الوجوب، على أنَّه ليس يبعد أن يقال: إن الآية إذا قرئت على وجهين، وصح أن يتأول كل واحد من الوجهين على الغسل والمسح، كان ذلك كالآيتين توجب إحداهما الغسل والأخرى المسح، والمسح داخل في الغسل، فإذا الغاسل قد استعمل ما اقتضاه الوجهان من الآية.
فإن قيل: روي أن رسول اللّه صلى الله عليه وآله وسلم مسح على قدميه، وعلى نعليه؟
قيل له: قد بين أمير المؤمنين علي عليه السلام، أنَّه وضوء من لم يُحْدِث، ونحن لا ننكر أن من لم يكن مُحْدثاً وأحب تجديد الطهارة، فلا بأس أن يفعل ذلك.
__________
(1) في (ب): لأن اللام،
وأخبرنا أبو بكر المقرئ، حدثنا أبو جعفر الطحاوي، حدثنا إبراهيم بن مرزوق، حدثنا وهب بن جرير، حدثنا شعبة، عن عبد الملك بن ميسرة، عن النزال بن سبرة، قال: رأيت علياً عليه السلام صلى الظهر، ثم قعد للناس في الرحبة، ثم أُتِيَ بماء، فمسح بوجهه ويديه، ومسح برأسه ورجليه، وشرب فضله قائماً، ثم قال: إن أناساً يزعمون أن هذا يكره، وإني رأيت رسول اللّه صلى الله عليه وآله وسلم يصنع مثل ما صنعت، وهذا وضوء من لم يُحْدِث (1)، فقد صرح عليه السلام أنَّه وضوء من لم يحدث. (4/22)
فإن قاسوا القدمين على الرأس؛ بعلة أنَّه يسقط في التيمم، عارضنا قياسهم بمثله، وهو أنا نقيسهما على اليدين؛ بعلة أنَّه محدود في الوضوء، على أن القائلين بهذا القول لا يرون القياس، فليس لهم أن يعتمدوه، فإن أوردوه على طريق الإلزام، عارضناهم بما ذكرنا، ورجحنا قياسنا بالاحتياط، وبأن فيه زيادة فائدة في الشرع.
مسألة [ في الترتيب ]
قال: وفرض الوضوء ما قدّمنا ذكره مرةً مرةً على الترتيب المرتب، والثانية والثالثة فضل وسنة.
وقد نص الهادي عليه السلام في (الأحكام) (2) على وجوب الترتيب، وكذلك على وجوب ترتيب اليمنى على اليسرى من اليد والرجل، وهو مذهب الناصر، ومذهب الإمامية، ولا أحفظ فيه خلافاً عن أحد من أهل البيت عليهم السلام، وقد ذكرنا في غير موضع أن إجماعهم عندنا حجة، فهو أوكد ما نعتمده في هذه المسألة.
__________
(1) أخرجه الطحاوي في شرح معاني الآثار 1/34، إلا أنه لم يجعل قوله: وهذا وضوء من لم يحدث، من كلام الإمام (ع)، حيث لم يذكر داخل القوسين، فقط.
(2) انظر الأحكام 1/50.
ويدل على ذلك أيضاً قول اللَّه تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِيْنَ آمَنُوا إِذَا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلاةِ فَاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ..} الآية[المائدة:6]، فأحد ما نستدل به على ذلك من الآية أنَّه تعالى قال: {إِذَا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلاةِ فَاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ}، والفاء توجب التعقيب، فاقتضى ظاهر الآية أن يكون من يقوم إلى الصلاة يبدأ بغسل الوجه، وإذا ثبت وجوب الابتداء بالوجه، فلا قول بعده، إلاَّ قول من يوجب الترتيب فوجب القول به. (4/23)
ويدل على ذلك أيضاً من الآية أنَّه قد ثبت أن الواو(1) توجب الترتيب شرعاً، يدل على ذلك:
ما روي عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم أنَّه بدأ بالصفا حين أراد السعي بينه وبين المروة، وقال: (( أَبدأُ بما بدأ اللّه به ))، رواه أبو بكر بن أبي شيبة، في (كتاب الحج)، عن حاتم بن إسماعيل، عن جعفر بن محمد، عن أبيه، أنه سأل جابراً عن حجة رسول اللّه صلى الله عليه وآله وسلم ـ يقول جابر في حديث طويل ـ: فلما دنى رسول الله صلى اللَّه عليه وآله وسلم من الصفا قرأ: (( {إِنَّ الصَّفَا/47/ وَالْمَرْوَةَ مِنْ شَعَائِرِ اللَّهِ}[البقرة:158]، أبدأ بما بدأ اللّه به )) فبدأ بالصفا.
وروى أبو بكر بن أبي شيبة، أيضاً في (كتاب الحج)، عن ابن فضيل، عن عطاء، عن سعيد بن جبير، عن ابن عباس، أن رجلاً أتاه، فقال: يا ابن عباس، ابدأ بالصفاء قبل المروة، أم بالمروة قبل الصفا؟ في حديث له فيه بعض الطول.
فقال ابن عباس: خذ ذلك من قِبَل القرآن، فإنه أجدر أن يحفظ، قال اللَّه عز وجل: {إِنَّ الصَّفَا وَالْمَرْوَةَ مِنْ شَعَائِرِ اللهِ}، والصفا قبل المروة. فجعل صلى الله عليه وآله وسلم المقدم في اللفظ مقدماً في الحكم، والمؤخر فيه مؤخراً في الحكم، وكذلك فعل ابن عباس، والفاصل بينهما هو الواو، فبان أنَّه يقتضي الترتيب.
__________
(1) في نسخة: أن الآية.
وروي عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم أنَّه قال مطلقاً: (( أَبدأُ بما بدأ اللّه به ))، وهذا عام في كل ما بدأ بذكره. (4/24)
وروي عن ابن عباس أنَّه قيل له: كيف تأمر بالعمرة قبل الحج والله يقول: {وَأَتِمُّوا الْحَجَّ وَالْعُمْرَةَ لله}[ البقرة:196]؟ فقال: كيف تقرأون الدَين قبل الوصية، أم الوصية قبل الدين؟ قالوا: الوصية قبل الدين. قال: فبأيهما تبدأون؟ قالوا: بالدين. قال: فهو كذلك(1).
فدل هذا من سؤالهم على أنهم قد عرفوا أن الترتيب يوجبه الواو(2)، وكذلك جواب ابن عباس يدل على ذلك، ألا ترى أنَّه لو لم يكن عنده حكم الواو كما ذكرنا، لكان الأولى أن يقول لهم: لا وجه لسؤالكم؛ لأن الواو لا تقتضي الترتيب.
وروي أيضاً عن ابن عباس أن رجلاً قال بين يديه: من يطع اللّه ورسوله، فقد رشد، ومن يعصِهما، فقد غوي، فنهاه عن ذلك، وقال: قل من يعص اللّه ورسوله، فلولا أن الواو توجب الترتيب لما كان لهذا الكلام معنى، فإذا ثبت ذلك، ثبت ما ذهبنا إليه في الترتيب.
فإن قيل: إن الواو لا تقتضي(3) الترتيب عند أهل اللغة.
قيل له: قد حكي عن قوم من أهل اللغة أنهم قالوا: إنَّه(4) يوجب الترتيب على أنا لو سلمنا أنَّه من جهة اللغة لا يوجب الترتيب، كان ما بيناه يوجب الترتيب شرعاً والشرع أولى من اللغة، فصح ما ذهبنا إليه، ويدل على ذلك أيضاً:
ما روي عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم أنَّه توضأ مرةً مرةً، ثم قال: (( هذا وضوء لا يقبل اللّه الصلاة إلاَّ به ))، ثم توضأ مرتين مرتين، الخبر..
__________
(1) في (ب) فهو ذالك.
(2) في (أ): الواو يوجب الترتيب.
(3) في (ب) و(ج): توجب.
(4) سقطت (أنه) من (ج).
وقد ثبت أن التكرار(1) في الثاني والثالث لم يقع إلاَّ لما حصل في الأول، ولا خلاف أن وضوء رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم هو الوضوء المرتب، وإذا ثبت هذا ثبت أنَّه كان في الأول مرتباً حين قال صلى الله عليه وآله وسلم: (( هذا وضوء لا يقبل اللّه الصلاة إلاَّ به ))، فثبت به وجوب الترتيب، وهذا بعينه يدل على أن ترتيب اليمنى على اليسرى واجب؛ لأن من المعلوم أن وضوء رسول اللّه صلى اللَّه عليه وآله وسلم كان يرتب فيه اليمنى على اليسرى. (4/25)
ويستدل من هذا الخبر من وجه آخر، وهو أنا نقول: إن النبي صلى الله عليه وآله وسلم لما قال بعد ما توضأ: (( هذا وضوء لا يقبل اللّه الصلاة إلاَّ به ))، لا يخلو من أن يكون قال: ذلك في وضوء مرتب على ما نذهب إليه، أو في وضوء غير مرتب أصلاً، أو في وضوء غير مرتب فيه اليمنى على اليسرى، فلو كان النبي صلى الله عليه وآله وسلم/48/ قال ذلك في وضوء غير مرتب أصلاً، أو في وضوء غير مرتب فيه اليمنى على اليسرى، لوجب أن لا يجزئ الوضوء إلاَّ كذلك، وفي علمنا أن المرتب على ما نذهب إليه جائز، بل هو الأولى عند المخالفين، دليل على أن قوله صلى الله عليه وآله وسلم يخرَّج عليه.
ويدل على وجوب ترتيب اليمنى على اليسرى:
ما رواه أبو هريرة، قال: قال رسول اللّه صلى الله عليه وآله وسلم: (( إذا توضأتم، فابدأوا بميامنكم )). وروي عنه أيضاً: (( إذا لبستم، أو توضأتم، فابدأوا بميامنكم )).
فإن قيل: روي عن علي عليه السلام، أنَّه قال: ما أبالي بأي أعضائي بدأت، إذا أتممت الوضوء. وهذا يبطل قولكم.
__________
(1) في (ب) و(ج): التكرير.
قيل له: معناه عندنا إذا عدت فيه، فأثبته على الترتيب؛ لأنَّه قال: إذا أتممت، والإتمام هو الإتيان به على الترتيب، ويدل على صحة هذا التأويل أنَّه لا خلاف في أن المستحب هو الترتيب، وأن تركه ليس بسنة، ولا يجوز أن يقول علي عليه السلام: لا أبالي بترك المستحب والعدول عن السنة، فبان أنَّه أراد به ما قلناه. (4/26)
ويدل على ذلك من طريق النظر أنها عبادة تبطل بالحدث، فيجب أن يكون الترتيب من شرط صحتها فيما رتب بالواو، وقياساً على الصلاة، ويمكن أن يقاس على الصلاة أيضاً بعلة أخرى، وهو أنَّه عبادة ارتبط بعضها ببعض، ونسق بعضها على بعض بالواو، ويمكن أيضاً أن يقاس عليها بأنها عبادة تعود إلى شطرها في حال العذر مع القدرة عليها، فإن عارضوا قياسنا بقياسهم الوضوءَ على الإغتسال بعلة أنها طهارة، رجحنا قياسنا باستناده إلى الظواهر التي ذكرناها، وبالحظر، والاحتياط، وبأنه يفيد شرعاً، وبفعل الكافة من لدن الصحابة إلى يومنا هذا.
فصل [ في أن فرض الوضوء مرة مرة ]
ما ذكرنا من أن فرض الوضوء مرة مرة، والثانية والثالثة فضل وسنة، منصوص عليه في (المنتخب) (1)، ولا خلاف فيه إلاَّ في موضعين:
أحدهما: ما تذهب إليه الإمامية، أن المستحب منه مرتان، وأن الثالثة لا معنى لها.
والثاني: ما ذهب إليه أبو حنيفة من أن تكرير مسح الرأس غير مستحب.
والذي يفسد جميع ذلك، ويصحح ما ذهبنا إليه:
ما أخبرنا به محمد بن عثمان، قال: حدثنا الناصر، حدثنا محمد بن منصور، عن أبي كريب، عن عبد الرحيم، حدثنا شريك، عن ثابت الثمالي، عن أبي جعفر محمد بن علي، عن جابر، قال: توضأ رسول اللّه صلى الله عليه وآله وسلم مرةً مرةً، ومرتين مرتين، وثلاثاً ثلاثاً، وذلك عام في جميع الوضوء، فدخل فيه مسح الرأس كما دخل غيره.
__________
(1) انظر المنتخب ص26.
وفيه الحديث المشهور، أن رسول اللّه صلى الله عليه وآله وسلم توضأ مرةً مرةً، وقال: (( هذا وضوء لا يقبل اللّه الصلاة إلاَّ به ))، ثم توضأ مرتين مرتين، وقال: (( هذا وضوء من يضاعف اللّه له حسناته مرتين ))، ثم توضأ ثلاثاً، وقال(1): (( هذا وضوئي ووضوء الأنبياء من قبلي )). (4/27)
وأخبرنا أبو بكر المقرئ، أخبرنا أبو جعفر الطحاوي، حدثنا حسين بن نصر، حدثنا الفريابي، حدثنا زائدة بن قدامة، حدثنا علقمة بن خالد، أو خالد بن علقمة، عن عبد خير، عن علي عليه السلام، أنَّه توضأ ثلاثاً ثلاثاً، ثم قال: (هذا وضوء رسول اللّه صلى الله عليه وآله وسلم) (2).
وأخبرنا أبو بكر المقرئ، حدثنا الطحاوي، حدثنا ابن أبي/49/ داود، حدثنا علي بن الجعد، حدثنا ثوبان، عن عبده بن أبي لبابة، عن شقيق، قال: رأيت عليّاً وعثمان توضأا ثلاثاً ثلاثاً، وقالا: (هكذا كان يتوضأ رسول اللّه صلى الله عليه وآله وسلم) (3).
ويدل على أن تكرير مسح الرأس مستحب من طريق النظر أن المسح في الطهارة أصل في نفسه لا بدل(4) له، فوجب أن يستحب فيه التكرير كالغسل، وليس ينتقض ذلك بمسح التيمم؛ لأنا قد اشترطنا فيه أنَّه أصل، على أن القاسم عليه السلام قد رُوي عنه استحباب التكرير في التيمم. والمسح على الخفين عندنا منسوخ فلا يجوز القياس عليه، ولا النقض به، وما روي أن رسول اللّه صلى الله عليه وآله وسلم مسح مرة، فلا يعترض ما قلناه؛ لأنا نجيزه، فكيف وقد روينا أنَّه توضأ مرةً مرةً؟
فأما قولهم: إن المسح لو كرر، لصار غسلاً، فلا معنى له؛ لأن الغسل هو ما جرى عليه(5) الماء والمسح بالتكرير لا يصير كذلك.
مسألة [ في بيان الوجه والكعبين]
__________
(1) في (أ): فقال.
(2) أخرجه الطحاوي في شرح معاني الآثار 1/29، إلا أنه قال: هذا طهور.
(3) أخرجه الطحاوي في شرح معاني الآثار 1/29.
(4) في (أ): يدل.
(5) في (أ): عنه.
قال: (( والوجه من مقاص الشعر إلى الأذنين إلى اللحيين إلى الذقن ))، (( والكعبان هما العظمان الناتئات عند مفصل الساق من القدم )). (4/28)
وقد نص يحيى عليه السلام على تحديد الوجه بما ذكرناه في (الأحكام) من(1) باب التيمم، وقد نص على تحديد الكعبين في (المنتخب) (2).
ولا خلاف فيه إلاَّ ما يحكى عن مالك أنَّه كان يقول إن البياض الذي بين اللحية والأذن ليس من الوجه بعد نبات اللحية، وهو أيضاً ليس ينكر أنَّه قبل نبات اللحية من الوجه، فيجب أن لا يتغير حكمه بعد نبات اللحية.
والإمامية تذهب إلى أن الكعبين هما العظمان الناتئان على ظهر القدم، وهذا القول أظهر فساداً من أن يحتاج إلى الكلام؛ لأن الناس كما يعرفون سائر الأعضاء يعرفون هذا العضو، وقد ذكر أبو عبيد في كتابه المسمى (غريب المصنف) ـ ذلك، وخطَّأ من قال: إن الكعب هو: العظم الناتئ على ظهر القدم.
وروي عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم أنَّه قال: (( تحشر أمتي غراء من أثر السجود، محجلين من أثر الوضوء )).
والتحجيل لا يكون إلاَّ عند مفصل الساق، فبان أن الوضوء إليه، وقوله تعالى: {وَأَرْجُلَكُمْ إِلَى الْكَعْبَيْنِ}، يدل على ذلك؛ لأن المراد به كل رجل إلى الكعبين؛ لانه لا يجوز أن يكون المراد به الأرجل إلى الكعبين؛ لان الأرجل يكون لها أكثر من الكعبين بالإتفاق، فلم يبق إلاَّ أن يكون المراد ما قلناه، فثبت أن في كل رجل كعبين، وفي ثبوت ذلك صحة ما ذهبنا إليه؛ لأن من قال: إن الكعب هو العظم الناتئ على ظهر القدم يقول في كل رجل كعب واحد.
مسألة [ في التسمية ]
والتسمية فرض على الذاكر تخريجاً.
__________
(1) في (أ): في. وانظر الأحكام 1/68..
(2) ذكره في المنتخب ص27.
ذكر القاسم عليه السلام في (مسائل النيروسي)، أن التسمية على الوضوء كهِيَ على الذبيحة، وأومأ يحيى عليه السلام إلى هذه النكتة في (المنتخب) (1)، وقال في (الأحكام) (2): (( إن القليل من ذكر اللّه تعالى مجز ))(3) ـ يعني على الوضوء ـ وقال في (الأحكام) (4) في كتاب الذبائح: إن من ترك التسمية على الذبيحة ناسياً، أكلت ذبيحته، ومن تركها متعمداً، لم تؤكل ذبيحته، وَفُسِّر على ذلك قول القاسم عليه السلام في الذبيحة أن الملة تكفيه، فإذا شبهوا التسمية على الوضوء بالتسمية على الذبيحة ـ ونص يحيى عليه السلام على فساد الذبيحة إذا ترك التسمية عمداً ـ ثبت وجوبها على المتوضئ حسب وجوبها على الذابح(5)، فقلنا: إنها في الوضوء فرض على الذاكر؛ لأنها عند الذبيحة فرض على الذاكر/50/ عنده عليه السلام. (4/29)
والذي يدل على ذلك:
ما أخبرنا به أبو العباس الحسني رضي اللّه عنه، أخبرنا الحسن بن محمد بن مسلم المقرئ الكوفي، حدثنا محمد بن الحسين الخثعمي، حدثنا عبَّاد بن يعقوب، حدثنا عيسى بن عبد اللّه العلوي، حدثني أبي، عن أبيه، عن جده، عن علي عليه السلام، قال: قال رسول اللّه صلى الله عليه وآله وسلم: (( لا صلاة إلاَّ بطهور، ولا وضوء لمن لم يذكر اسم الله عليه )).
__________
(1) انظر المنتخب ص22.
(2) ذكره في الأحكام 1/50، ثم قال: ولو نسيه ناسٍ لم يكن لينقض عليه طهوره.
(3) في (أ): يجزي.
(4) انظر الأحكام 2/394.
(5) في (أ): الذبائح.
وحدثنا(1) أبو بكر المقرئ، حدثنا أبو جعفر الطحاوي، حدثني محمد بن علي بن داود البغدادي، حدثنا عفان بن مسلم، حدثنا وهب، حدثنا عبد الرحمن بن حرملة أنَّه سمع أبا ثفال المزني يقول: سمعت رباح بن عبد الرحمن بن أبي سفيان بن حويطب يقول: حدثتني جدتي أنها سمعت أباها يقول: سمعت رسول اللّه صلى الله عليه وآله وسلم يقول: (( لا صلاة لمن لا وضوء له، ولا وضوء لمن لم يذكر اسم الله عليه ))، وقد اقتضى ظاهر الحديث أن التسمية شرط في الوضوء، إلاَّ حيث يقتضي الدليل خلافه، وذلك في حال السهو، فإنه مخصوص بالإجماع. (4/30)
فإن قيل: هذا الخبر لا ظاهر له، وذلك أنا نعلم أن الوضوء يقع ممن لم يذكر اسم اللّه عليه، فلا بد من أن يكون معناه نفي الإجزاء، أو نفي الكمال، وإذا لم يكن بد من التأويل، لم يكن أحد التأويلين أولى من الآخر، فلا يكون في الظاهر دليل؟
قيل له: هذا الذي ادعيت عندنا لا يصح في الاسماء الشرعية، والوضوء من أسماء الشرع.
ويبين ذلك أن الشرع إنما يقتضي كون الوضوء وضوءاً متى وقع على الصحة، فأما إذا وقع على الفساد، فالاسم يجري عليه من جهة الشرع على سبيل التوسع، وإذا كان ذلك كذلك، لم يصح قولك: إن الوضوء يقع ممن لم يذكر اسم اللّه عليه؛ لأن ذلك عندنا ليس بوضوء، وإذا كان ذلك كذلك، وجب حمل اللفظ على ظاهره، وظاهره يبين أن من غسل أعضاءه ولم يذكر اسم اللّه عليه لم يتوضأ؛ لأن النفي يتناول الوضوء، على أن الاسماء اللغوية إذا ورد النفي عليها أيضاً، وجب عندنا حمله على نفي الإجزاء والكمال جميعاً، وشرح ذلك يخرجنا عن(2) المسألة.
ويدل على ذلك أيضاً:
__________
(1) في (ب) و(ج): أخبرنا.
(2) في (أ): من.
ما أخبرنا به أبو العباس الحسني، حدثنا علي بن محمد بن هارون الروياني، حدثنا محمد بن أيوب الرازي، أخبرني يحي بن هاشم، قال: حدثنا الأعمش، عن شقيق، عن ابن مسعود، قال: سمعت رسول اللّه صلى الله عليه وآله وسلم يقول: (( إذا تطهر أحدكم فليذكر اسم اللّه عليه، فإنه يطهر جسده كله، وإن لم يذكر اسم اللّه عليه لم يطهر، إلاَّ ما مر عليه الماء )). (4/31)
وقد ثبت أن المصلي مأخوذ عليه طهارة بدنه، فإذا قال صلى الله عليه وآله وسلم: لا يطهر بدنه كله بالوضوء، إلاَّ مع التسمية، ثبت وجوبها.
وليس لأحد أن يقول: إن هذه زيادة على قوله تعالى: {فَاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ..} الآية، والزيادة تقتضي النسخ؛ لأن عندنا أن الخبر يجب أن يكون كالمقترن بالآية، ومثله عندنا لا يوجب النسخ، فالسؤال عنا ساقط.
ويدل على ذلك أيضاً أن الوضوء عبادة تبطل بالحدث، فوجب أن تبطل بترك الذكر متعمداً، قياساً على الصلاة، ويجوز أن نقيسه أيضاً على الصلاة؛ بعلة أنَّه عبادة ترجع إلى الشطر مع العذر في حال القدرة عليه /51/، فإن قاسوه على الصوم بعلة أنَّه عبادة يصح المقام عليها، والخروج منها بغير نطق، فيجب أن يصح جميعه بغير نطق، رجحنا علتنا بالاحتياط، وبأنها تفيد شرعاً، وبأنها مستندة إلى الظواهر.
مسألة [في مسح الرقبة والسواك]
قال: ومسح الرقبة مع الرأس سنة، وكذلك السواك عند كل طهور سنة(1) سيما بالغدوات.
قد نص على جميع ذلك في (الأحكام) (2)، واستدل للسواك بماروي أن النبي صلى اللَّه عليه وآله وسلم قال: (( لولا أن أشق على أمتي، لفرضت عليهم السواك مع الطهور )).
وروي عنه عليه السلام أنَّه قال: (( السواك مطهرة للفم، ومرضاة للرب )).
__________
(1) زيادة في هامش (أ).
(2) انظر الأحكام 1/48، 49.
وأخبرنا محمد بن عثمان، حدثنا الناصر عليه السلام، حدثنا محمد بن منصور، حدثنا أحمد بن عيسى، عن حسين بن علوان، عن أبي خالد، عن زيد بن علي، عن آبائه، عن علي عليهم السلام قال: قال رسول الله صلى اللَّه عليه وآله وسلم: (( من أطاق السواك مع الطهور(1) فلا يدعه )). (4/32)
وحدثنا أبو العباس الحسني رحمه الله، حدثنا أبو أحمد الفرايصي، حدثنا محمد بن سليمان بن الحارث الواسطي، حدثنا مسلم بن إبراهيم، حدثنا يحيي بن كثير، عن عثمان بن ساج، عن سعيد بن جبير، عن علي عليه السلام قال: قال رسول الله صلى اللَّه عليه وآله وسلم: (( إن أفواهكم طرق القرآن فطهروها بالسواك )).
ووجه تخصيص يحيى عليه السلام الغدوات هو أن الغرض بالسواك تطهير الفم؛ لما دلت عليه هذه الأخبار؛ لأن الغدوات أجمع الأوقات للروايح في الفم، فلذلك خصها.
ويبين أن مسح الرقبة سنة، ماحدثنا(2) به محمد بن عثمان، حدثنا الناصر عليه السلام، حدثنا محمد بن منصور، حدثنا أحمد بن عيسى، عن حسين بن علوان، عن أبي خالد، عن زيد بن علي، عن آبائه، عن علي عليه السلام قال: قال رسول الله صلى اللَّه عليه وآله وسلم: (( من توضأ(3) ثُمَّ مسح سالفتيه بالماء وقفاه، أمن من الغل يوم القيامة )).
وذكر محمد بن الحنفية، عن أبيه، علي عليه السلام ـ في حديث طويل ـ أنَّه لما مسح رأسه، مسح عنقه، وقال له(4) بعد فراغه من الطهور: (إفعل كفعالي هذا).
مسألة [في الفرق بين الغسل والمسح]
قال: والغسل ما جرى عليه الماء، والمسح دون ذلك.
__________
(1) في (أ): للطهور.
(2) في (ب): أخبرنا.
(3) في (أ) من توضأ تاماً.
(4) سقطت (له) من (أ).
وذكر في (الأحكام) (1) غسل الوجه، فقال(2): (يغسله غسلاً، ولا يمسحه مسحاً)، ففصل بينهما، ولا فصل يعقل سوى ما ذكرنا، سيما(3) مع قوله بتعميم مسح الرأس، ثم قال: (ولا يجزيه حتى يحمل الماء في كفيه، فيغسل به وجهه)، فدل ذلك أيضاً على ما قلناه. (4/33)
وقال في (المنتخب) (4) في مسح الرأس: (يأخذ الماء بيديه، ثم يريقه من كفيه ويمسح بهما)، فدل على أن المسح دون الغسل، والذي يدل على ذلك أن اللّه سبحانه فصل بين الغسل والمسح، فقال عزَّ وجل: {اغْسلُوا وُجُوهَكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ إِلَى الْمَرَافِق وَامْسَحُوا بِرُؤُوسِكُمْ}، ولا فصل بينهما غير ما ذكرنا.
فإن قيل: ما أنكرتم أن الغسل يكون باستيعاب العضو، والمسح دونه، فيكون ذلك هو الفصل؟
قيل له: ذلك فاسد؛ لأن بعض العضو قد يغسل فيكون مغسولاً، وجميع العضو قد يمسح فيكون ممسوحاً، وذلك غير ممتنع في اللغة، على أنا قد دللنا فيما تقدم أن الرأس يجب استيعابه بالمسح، وأيضاً فإمساس الماء العضو، لا يقال فيه إنَّه غسل، وذلك ظاهر في اللغة، وإذا ثبت ذلك، وثبت أن اللّه تعالى قد أمر بغسل الوجه، فالماسح له لا يكون غاسلاً، فهو غير ممتثل للأمر.
وأيضاً روي عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم أنَّه قال: (( تحت كل شعرة جنابة، فبلّوا الشعر، وأنقوا البشر ))، والإنقاء لا يكون بالإقتصار على إمساس الماء/52/.
فإن قيل: فقد قال: (( بلوا الشعر ))، فالتبليل(5) دون ما تذهبون إليه؟
قيل له: إذا وجب غسل البشرة على ما نذهب إليه، فلا أحد فصل بين الشعر والبشرة في ذلك، والإنقاء لا يمنع التبليل، والاقتصار عليه يمنع الإنقاء.
فإن قيل: روي عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم أنَّه اغتسل فبقيت في جسده لمعة، فأخذ شعره ومسح اللمعة ببلته؟
__________
(1) ذكره في الأحكام 1/49.
(2) في (أ): قال.
(3) في (ج) و(ب): لا سيما.
(4) ذكره في المنتخب ص25.
(5) في (ب) و(ج): والتبليل.
قيل له: يحتمل أن يكون الشعر الذي أخذه عليه السلام كان عليه من الماء مقدار ما إذا عُصر أمكن أن يغسل به اللمعة اليسيرة، وليس في الخبر أن اللمعة كانت كبيرة، وأن الماء الذي حمله الشعر كان يسيراً، فلا حجة لكم في الخبر. (4/34)
ويدل على ذلك أيضاً أنه قد ثبت أن العضو النجس لا يُكتفي بمسحه بالماء، فكذلك مسح الوجه بالماء عن الحدث، والمعنى أنَّه غسل لعضو صحيح أريد للصلاة، وعلتنا أولى من علة من رد الوجه إلى الرأس؛ لأنَّه رد الغسل إلى الغسل؛ ولأن فيها زيادة شرع، وهي حاظرة.
[باب القول في نواقض الوضوء] (5/1)
مسألة [ فيما خرج من السبيلين ]
وتنتقض الطهارة بكل خارج من السبيلين.
وهذا قد نص عليه في (الأحكام) (1) وغيره، وهذه الجملة لا خلاف فيها إلاَّ في موضعين:
أحدهما: ما يذهب إليه فريق من الإمامية من أن المذي والودي لا ينقضان الطهارة.
والثاني: ما كان يذهب إليه مالك من أن الدم والدود إذا خرجا من السبيلين، لم تنتقض الطهارة بذلك.
والذي يدل على فساد ما ذهبت إليه الإمامية:
ما أخبرني به محمد بن عثمان النقاش، حدثنا الناصر عليه السلام، حدثنا محمد بن منصور، حدثنا أحمد بن عيسى، عن حسين بن علوان، عن أبي خالد، عن زيد بن علي، عن آبائه، عن علي عليه السلام، قال: (كنت رجلاً مذاءً، فاستحييت أن أسأل رسول اللّه صلى الله عليه وآله وسلم، فأمرت المقداد بن الأسود فسأله، فقال له رسول اللّه صلى الله عليه وآله وسلم: (( يا مقداد، هي أمور ثلاثة: الودي وهو: شيء يتبع البول كهيئة المني، فذلك منه الطهور، ولا غسل منه، والمذي: أن ترى شيئاً أو تذكره فتمذي، فذلك منه الطهور ولا غسل منه، والمني: الماء الدافق إذا وقع مع الشهوة، وجب الغسل )).
وأخبرنا أبو بكر المقرئ، حدثنا أبو جعفر الطحاوي، حدثنا صالح بن عبد الرحمن، حدثنا سعيد بن منصور، حدثنا هشيم، حدثنا الأعمش، عن منذر بن أبي يعلى، عن محمد بن الحنفية، قال: سمعته يحدث عن أبيه علي عليه السلام، قال: كنت أجد مذياً، فأمرت المقداد أن يسأل النبي صلى الله عليه وآله وسلم عن ذلك واستحييت أن أسأله؛ لأن ابنته عندي، فسأله فقال: (( إن كل فحل يمذي، فإذا كان المني ففيه الغسل، وإذا كان المذي ففيه الوضوء ))(2).
__________
(1) انظر الأحكام 1/52.
(2) أخرجه الطحاوي في شرح معاني الآثار 1/46.
ويبين صحة ما ذهبنا إليه أيضاً أن مجرى البول لا يخلو من أجزاء البول، ولا بد أن يخرج مع المذي أجزاء من البول، وذلك لا محالة يقتضي إنتقاض الطهارة، وبهذه العلة يستدل على مالك في أن الدود والدم إذا خرجا من السبيلين نقضا الطهارة؛ لأنهما لا يخرجان إلاَّ مع أجزاءٍ من الرطوبة، التي لا خلاف في أنها تنقض الطهارة، وهذه الدلالة حجتنا على الشافعي في تنجيس المني. (5/2)
وأما(1) ما ترويه الإمامية عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم: (( كل فحل مذاء فليس عليه فيه وضوء )). ففيه نظر؛ لأنا نستضعف أخبار الإمامية، ولا نرى قبولها لعلل ليس هذا موضع ذكرها، على أن الخبر/53/ لو صح، لكان محمولاً على أنه لو(2) غلب لم يجب تجديد الطهارة له كالإسحاضة، وسلس البول، وسائر الأحداث اللازمة.
ويدل على فساد ما ذهب إليه مالك أيضاً:
ما رواه ابن أبي شيبة، عن حفص بن غياث، عن العلا بن المسيب، عن الحكم، عن أبي جعفر، أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم أمر المستحاضة إذا مضت أيام أقرائها أن تغتسل، وتتوضأ لكل صلاة.
والأخبار في هذا كثيرة، فصرح صلى الله عليه وآله وسلم بإيجاب الوضوء من الإستحاضة، وإن كانت غير معتادة، على أن الدم عندنا ينقض الطهارة من أي موضع سال، وسنستقصي الكلام فيه بعد هذه المسألة، وذلك يأتي على مذهب مالك، بالإفساد.
مسألة [ في الدم المسفوح، والقيح، والقيء ]
قال: وينتقض الطهارة الدم المسفوح من أي جرح كان، وكذلك القيح، والقيء الذارع.
وقد نص على ذلك في (الأحكام)(3) وغيره. ويدل على ذلك:
__________
(1) في (ب) و(ج): فأما.
(2) في (ب) و(ج): إذا.
(3) انظر الأحكام 1/52.
ما أخبرنا به أبو العباس الحسني، أخبرنا عبد اللّه بن محمد السعدي، حدثنا عبد اللّه بن محمد بن خالد القاضي، حدثنا سليمان بن المهدي، حدثنا كادح بن جعفر، حدثنا أبو حنيفة، عن زيد بن علي، عن آبائه، عن علي عليهم السلام، قال: قلت يا رسول اللّه، الوضوء كتبه اللّه علينا من الحدث فقط؟ قال: (( بل من سبع: من حدث، وتقطار بول، ودم سائل، وقيء ذارع، ودسعة تملأ الفم، ونوم مضطجع، وقهقهة في الصلاة ))، وهذا هو النص الصريح، لما ذهبنا إليه. (5/3)
وأخبرنا محمد بن عثمان، حدثنا الناصر عليه السلام، حدثنا محمد بن منصور، حدثنا أحمد بن عيسى، عن حسين بن علوان، عن أبي خالد، عن زيد بن علي، عن آبائه، عن علي عليهم السلام، قال: قال رسول اللّه صلى الله عليه وآله وسلم: (( القَلسْ يفسد الوضوء )).
وروى ابن جريج، عن أبيه، عن ابن أبي مليكة، عن عائشة، عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم، أنَّه قال: (( إذا قاء أحدكم في صلاته، أو رعف، فلينصرف، فليتوضأ )).
وروى يحيى بن الحسين، عن أبيه، عن جده القاسم، عن إسماعيل بن أبي أويس، عن الحسين بن عبد الله بن ضميرة، عن أبيه، عن جده، عن علي عليهم السلام، قال: (( من رعف وهو في صلاته، فلينصرف، وليتوضأ، وليستأنف الصلاة )).
ويدل على ذلك ما روي أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم أمر المستحاضة بتجديد الوضوء لكل صلاة، وقال: (( إنما هو دم عرق ))، فعلل وجوب الطهارة بأن الخارج دم عرق، فوجب أن كل دم ينقض الطهارة.
فإن قيل: روي أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم، قال: (( الوضوء مما خرج من السبيلين )) فجعل كل الوضوء مما خرج من السبيلين؛ لأن الألف واللام في هذا الموضع للجنس؟
قيل له: نحن نخص ذلك بالأخبار التي رويناها، ونقول: كأنه صلى الله عليه وآله وسلم، قال: الوضوء مما خرج من السبيلين، ومن القيء الذارع، والدم السائل، ألا ترى أنَّه لم يذكر فيه النوم؟ والنوم على بعض الوجوه ناقض للطهارة بالإجماع، ومس الذكر عندهم ينقض الطهارة، وكذلك مس المرأة، فلا بد لهم من ترتيب الأخبار على ما رتبناه وبيناه. (5/4)
فإن قيل: نتأول ما ذكرتم من الأخبار على غسل الموضع؛ لأن غسل العضو يعبر عنه بأنه وضوء.
ومنه روي: (( يستحب الوضوء قبل الطعام وبعده )).
قيل له: إن هذا الوضوء وإن أفاد في اللغة ما ذكرت؛ لأنَّه من الوضاءة، فإن الشرع قد اقتضى فيه أنَّه يفيد الطهارة المخصوصة/54/، واللفظة إذا أفادت في اللغة شيئاً وفي الشرع سواه، وجب حملها متى وردت عن اللّه تعالى، وعن رسوله، على ما يفيد في الشرع، فإذا كان هذا هكذا، وجب حمل ما رويناه على ما ذهبنا إليه.
فإن قيل: روي أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم مس بإبهامه أنفه، فوجد دماً، فمسحه بيده وصلى، ولم يحدث طهوراً.
قيل له: ذلك الدم كان يسيراً لا يسيل مثله، وعندنا أن ذلك القدر من الدم لا ينقض الطهارة، فليس فيه إفساد مذهبنا.
وهذا هو ما أخبرنا به محمد بن عثمان النقاش، حدثنا الناصر عليه السلام، حدثنا محمد بن منصور، حدثنا أحمد بن عيسى، عن حسين بن علوان، عن أبي خالد، عن زيد بن علي، عن آبائه، عن علي عليهم السلام، قال: خرجت مع رسول اللّه صلى الله عليه وآله وسلم، وقد تطهر للصلاة، فأمس إبهامه أنفه، فإذا دم، فأعاد مرة أخرى فلم يرى شيئاً، وجف ما في إبهامه، فأهوى بيده إلى الأرض، فمسحها ولم يحدث وضوءاً، و مضى إلى الصلاة.
فقد صرح الخبر أن الدم كان يسيراً لا يسيل مثله.
فإن قيل: إنكم قضيتم بما رويتم من الخبر على ما رويناه من قوله صلى الله عليه وآله وسلم الوضوء من الخارج من السبيلين، وقضينا نحن بهذا الخبر على ما رويتم، فحملناه على غسل الموضع فقد استوينا فيه؟
قيل له: ليس الأمر على ما قدرتم، وقضاؤنا أولى من قضائكم؛ لأن خبركم مخصوص بالإجماع، ألا ترى أن الوضوء عندكم ينتقض من مس الذكر ومس المرأة؟ وعند أبي حنيفة من القهقهة في الصلاة، وعندنا من الكبائر، وعند الجميع من النوم على بعض الوجوه، وخبرنا غير مصروف عن ظاهره عندنا، فكان القضاء بخبرنا على خبركم أولى؛ لأن الظاهرين إذا تقابلا، وكان أحدهما مخصوصاً بالإجماع والآخر عند المستدل به غير مخصوص، كان الذي لا يدخله التخصيص أولى؛ لأن الظاهر إذا دخله التخصيص صار مجازاً، والقضاء بالحقيقة على المجاز أولى. (5/5)
فإن قيل: خبركم أيضاً يدخله التخصيص؛ لأنَّه لا(1) يتناول اليسير من الدم والقيء عندكم.
قيل له: هو عام في الرعاف؛ لأن الرعاف لا يكون إلاَّ ناقضاً للطهارة؛ لأنَّه لا يكون يسيراً، وكذلك يسير ما يخرج من المعدة لا يكاد يسمى قيئاً، على أن ما رويناه من قوله صلى الله عليه وآله وسلم: (( إن الوضوء ينتقض من دم سائل، وقيء ذارع ))، لا يدخله التخصيص على وجه.
ويستدل على ذلك من طريق النظر، بأن نقيسه على البول بأنه سائل نجس خارج من البدن، ولا يلزم عليه يسير الدم ويسير القيء؛ لأنهما لا يسيلان، ويستدل على صحة العلة بأن المخاط والبصاق واللبن لما كان كل واحد من ذلك خارجاً من الجسد غير نجس، لم تنتقض الطهارة به، والبول لما كان خارجاً نجساً نقض، فعلمنا أن الحكم به يعلق إذا وجد بوجوده، وعدم بعدمه.
فإن قيل: العلة في البول أنه خارج من مخرج معتاد.
قيل له: نقول بالعلتين جميعاً، ونرجح علتنا باستنادها إلى الظواهر التي رويناها، وبأنها حاظرة، وبأنها تفيد شرعاً مجدداً، وبأن فيها احتياطاً.
ويمكن أن تقاس سائر الدماء على دم الإستحاضة؛ بعلة أنَّه دم سائل من البدن، وترجح هذه العلة على غيرها بأن النبي صلى الله عليه وآله وسلم نبه عليها بقوله/55/ للمستحاضة حين أمرها بالوضوء: (( إنما هو دم عرق )).
__________
(1) سقطت (لا) من (ج).
فأما القيح فهو الدم المتغير، فإذا ثبت انتقاض الوضوء بالدم، وجب انتقاضه بالقيح؛ ولأن أحداً لم يفصل بين الدم والقيح في إيجاب نقض الطهارة، فإذا ثبت ذلك، ثبت في القيح، وحكي عن قوم أنهم سووا بين قليل القيء وبين كثيره في نقض الطهارة، ويحجهم قول النبي صلى الله عليه وآله وسلم فيما ينقض الوضوء: (( وقيء ذارع )) فأوجب نقض الطهارة من القيء بشرط أن يكون ذارعاً، ولا خلاف في أن الجشاء لا يفسد الوضوء، فنقيس عليه يسير القيء؛ بعلة أنَّه قيء لم يملأ الفم. (5/6)
مسألة [ في النوم ]
وينقض الطهارة النوم المزيل للعقل على أي حال كان.
وقد نص عليه في (الأحكام)(1)، وهو مذهب سائر أهل البيت عليهم السلام، ويمكن أن يستدل عليه بإجماعهم، على ما نذهب إليه من القول بأن إجماعهم حجة. ويدل على ذلك:
ما أخبرنا به أبو بالعباس الحسني رحمه الله، حدثنا الحسن بن علي بن أبي الربيع القطان(2)، حدثنا موسى بن عمر بن علي الجرجاني، حدثنا إسحاق بن إبراهيم الحنظلي، حدثنا شعبة، عن الوضين بن عطاء، عن محفوظ بن علقمة، عن عبد الرحمن بن عائذ الأزدي، عن علي عليه السلام، قال: قال رسول اللّه صلى الله عليه وآله وسلم: (( إن العين وِكاء الإست ـ أو السه ـ فإذا نامت العين، استطلق الوكاء فمن نام فليتوضأ )).
فهذا الخبر قد اقتضى وجوب الوضوء على كل من نام من غير استثناء حال من الأحوال، فأما من ثقلت عينه من النعاس، ولم يزل عقله، فإما أن نخصه بالإجماع، أو نقول: إنَّه لا يقال لمن كان كذلك نائم على الإطلاق إلاَّ توسعاً، ويدل على ذلك:
__________
(1) انظر الأحكام 1/53.
(2) في (ب): الحسين بن علي، عن أبي الربيع القطان. وفي (أ): الحسين بن علي بن أبي الربيع.
حديث صفوان بن عسَّال: (( كان النبي صلى الله عليه وآله وسلم يأمرنا إذا كنا سَفْراً، لا ننزع خفافنا ثلاثة أيام، إلاَّ من جنابة، لكن من غائط أو بول أو نوم ))(1). (5/7)
فأما حديث ابن عباس أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم نام، ثم قام فصلى، فقيل له في ذلك، فقال: (( إنما الوضوء على من نام مضطجعاً )) معناه من نام نوم المضطجع.
ويدل على صحة هذا التأويل قوله: (( فإنه إذا اضطجع، استرخت مفاصله ))، ومعلوم أنَّه إذا نام نوماً يزيل العقل، فإنه تسترخي مفاصله، ويكون ذكر الإضطجاع؛ لأن الأغلب عليه(2) في النائم أن يكون مضطجعاً، ويبين ذلك أنَّه لا خلاف أن من نام مستلقياً أنَّه ينتقض وضوءه، والشافعي أيضاً لا بد له من هذا التأويل، ويدل أيضاً على صحة هذا التأويل:
ما رواه أبو بكر بن أبي شيبة، حدثنا عبد اللّه بن إدريس، عن يزيد(3)، عن مقسم، عن ابن عباس، قال: (( وجب الوضوء على كل نائم، إلاَّ من خفق خفقة أو خفقتين )).
ومن المعلوم أن ابن عباس لا يخالف ما يرويه عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم، فيجب أن يكون عرف من قول النبي صلى الله عليه وآله وسلم التأويل الذي قلناه.
__________
(1) لفظ حديث صفوان في سنن النسائي: كان رسول الله صلى اللّه عليه وآله وسلم إذا كنا مسافرين أن نمسح على أخفافنا، ولا ننزعها ثلاثة أيام من غائط وبول ونوم، إلا من الجنابة. تمت هامش (أ) و(ب).
(2) سقطت (عليه) من (ب) و(ج).
(3) في (أ) و(ب): عن يزيد بن مقسم.
واحتجاج الشافعي، وأصحابه بحديث أنس: أنهم كانوا ينامون خلف رسول اللّه صلى الله عليه وآله وسلم جلوساً، ثم يقومون إلى الصلاة، ولا يتوضؤن، فليس فيه أنهم كانوا ينامون نوماً يزول معه العقل، ولا يمكن أن يُدعى فيه العموم؛ لأنه فعل يقع على وجه واحد، وليس لأحد أن يقول: إنكم قد قلتم/56/ إن من كان كذلك، لا يقال إنَّه نائم(1)؛ لأنا لا ننكر أن يقال ذلك توسعاً، وإن أنكرنا أن يقال ذلك حقيقة، وبهذا التأويل ندفع سائر أخبارهم المروية في هذا الباب، فنرجح أخبارنا وتأويلنا بالحظر، والاحتياط. (5/8)
ويدل على ذلك أنَّه لا خلاف في أن نوم المضطجع ينقض الطهارة، فيجب أن ينقض بالنوم على سائر الأحوال؛ والعلة أنَّه نام نوماً يزيل العقل، ويدل على صحة هذه العلة أنَّه لو اضطجع، ولم ينم هذا النوم، لا تنتقض طهارته، فعلم أن الحكم تعلق بالنوم، ونقيسه أيضاً على الإغماء بعلة زوال العقل، ونقيسه أيضاً على سائر الأحداث، فنقول: إن كل ما كان حدثاً في حال الإضطجاع، كان حدثاً في سائر الأحوال، فكذلك النوم، والمعنى أنَّه حدث في حال الاضطجاع.
فصل
الذي يقتضيه مذهب الهادي عليه السلام أن الوضوء ينتقض من الإغماء والجنون، وجميع ما يزيل العقل؛ لأنه نبه على أن العلة في النوم هو زوال العقل؛ لأنَّه قال(2) فيما ينقض الطهارة: (( والنوم المزيل للعقل ))، فوجب أن يكون الذي يخرج على مذهبه كما ذكرنا.
مسألة [ في كبائر المعاصي ]
وقال في ما ينقض الطهارة: وكبائر العصيان.
وهذا قد نص عليه في (الأحكام)(3)، وهو مذهب القاسم، والناصر، وعامة الزيدية، وروي عن جعفر بن محمد عليه السلام، أنَّه كان يقول: "إن الكذب على اللّه، وعلى رسوله ينقض الطهارة".
__________
(1) في (ب): نام.
(2) ذكره في الأحكام 1/52.
(3) انظر الأحكام 1/54.
وروى أبو بكر بن أبي شيبة، حدثنا ابن علية، عن أيوب، عن محمد، قال: نُبئت أن شيخاً من الأنصار كان يمر بمجلس لهم فيقول: أعيدوا الوضوء، فإن بعض ما تقولون شر من الحدث. (5/9)
وروى ابن أبي شيبة، حدثنا ابن علية، عن هشام، عن محمد، قال: قلت لعَبِيْدة: فيم يعاد الوضوء؟ قال: من الحدث، وأذى المسلم.
والذي يدل على ذلك قوله تعالى: {وَلا تَجْهَرُوا لَهُ بِالْقَوْلِ..} الآية[الحجرات:2] وقوله سبحانه: {لِئِنْ أَشْرَكْتَ لَيَحْبطَنَّ عَمَلُكَ}، فثبت أن المعاصي تحبط الأعمال، وإحباط الأعمال إنما هو إحباط أحكامها وثوابها؛ لأن أعيانها قد عِدِمت، وإذا كان الأمر على ما ذكرنا، ثبت بطلان طهارة العاصي، فوجب إعادتها.
فإن قيل: الإحباط يتناول ثواب الأعمال، دون سائر أحكامها، ألا ترى أن أحكام الشهادة ثابتة للفاسق؟ ولا يجب عليه أيضاً إعادة سائر الطاعات.
قيل له: الآية تقتضي بطلان جميع أحكامها إلاَّ ما خصه الدليل، فسائر ما ذكرت لولا أن الدليل قد خصه، لقلنا: إن جميعه قد بطل، وإذا ثبت هذا، ثبت وجوب بطلان جميع(1) أحكام الوضوء، إذ لا دليل على أن بعضها ثابت.
فإن قيل: إذا ثبت أن الثواب مراد بالإحباط، لم يجز أن يراد به سائر الأحكام؟
قيل له: عندنا أن اللفظة الواحدة يجوز أن يراد بها المعنيان المختلفان، فلا معنى لهذا السؤال عندنا.
ويدل على ذلك: ما أخبرنا به أبو العباس الحسني، قال: أخبرنا أبو بكر عبد اللّه بن عبد الملك الشامي، حدثنا أبو قلابة عبد الملك بن محمد الرقاشي، حدثنا بَذَل بن المحبر، حدثنا شعبة، عن قتادة، عن أنس، قال: (( كان رسول اللّه صلى الله عليه وآله وسلم يأمرنا بالوضوء من الحدث، ومن أذى المسلم )).
وإذا ثبت أن أذى المسلم ما لم يكن كبيرة لم تنتقض الطهارة به بالإجماع، ثبت أن الناقض منه ما كان كبيرة، فيجب أن يقاس عليه سائر الكبائر/57/.
__________
(1) سقطت (جميع) من (أ) و(ب).
واستدل على ذلك أصحابنا بما روي عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم أنَّه أمر من قهقة في الصلاة بإعادة الوضوء، والصلاة، فقالوا: إنما أمر بذلك من حيث كان الضحك معصية؛ لأن الضحك ليس بحدث؛ إذ لو كان حدثاً لكان لا فصل بين كونه في الصلاة، وخارجاً من الصلاة، كسائر الأحداث، فإذا ثبت ذلك ثبت أن المعاصي تنقض الطهارة، قياساً على القهقة في الصلاة الواقعة على سبيل العمد. (5/10)
فإن قيل: قولكم هذا يقتضي أن الفاسق لا صلاة له، فإنه يلزمه إعادتها؛ لأنَّه أبداً في حكم المحدث حتى يتوب، وهذا خلاف الإجماع.
قيل له: ليس الأمر كما(1) ذكرت؛ لأنه لا يصير في حكم المحدث إلاَّ إذ استحدث فعل الكبيرة، فإذا استحدث فعل الكبيرة، بين الوضوء والصلاة فعليه تجديد الطهارة، وإن لم يستحدث كان على الطهارة، وليس يجب أن يكون حصوله غير تائب بمنزلة الحدث، بل الذي بمنزلة الحدث إنما هو فعل المعصية.
فإن قيل: فقد(2) روي أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم، قال: (( لا وضوء إلاَّ من صوت، أو ريح ))؟
قيل له: الأدلة كلها كالدليل الواحد، فكأنه صلى الله عليه وآله وسلم قال: لا وضوء إلا من صوت أو ريح، أو كبيرة؛ للأدلة الَّتِي قدمناها، وهذا الجنس من التأويل لا بد لجميع الأمة منه؛ إذ لا أحد منهم إلاَّ وهو(3) يقول: إن الطهارة تنتقض من غير صوت أوريح، والأقرب أن هذا الخبر ورد في من شك هل أحدث ريحاً، أم لا، ويؤيد هذا الذي ذكرناه ما روي عنه صلى الله عليه وآله وسلم، أنَّه قال: (( إن الشيطان يأتي أحدكم فينفخ بين إليتيه، فلا ينصرفن حتى يسمع صوتاً، أو يجد ريحاً )).
فإن قيل: إن الخبر لا يجب قصره على السبب الذي خُرِّج عليه عندكم، بل يجب حمله على ما يقتضيه اللفظ.
__________
(1) في (ج) و(ب): على.
(2) سقطت (فقد) من (ب) و(ج).
(3) سقطت (هو) من (ج).
قيل له: كذلك نقول، إلاَّ أن يدل الدليل على أنَّه يجب قصره على السبب، فقد دل ما ذكرناه من الأدلة على ذلك، ألا ترى أن اللفظ لفظ(1) العام لو لم يرد في سبب خاص، ودل الدليل على أنه خاص وجب أن يحكم بذلك، فوروده في سبب خاص لا يمنعه من ذلك، بل يؤكده. (5/11)
ويمكن أن تقاس المعاصي على القهقهة في الصلاة، الواقعة على سبيل العمد؛ لكونها معاصي إذا كان الكلام مع أصحاب أبي حنيفة، ويمكن أن يقاس على لمس المرأة المحرمة بتلك العلة إذا كان الكلام مع أصحاب الشافعي، وليس لأحد أن يقول: إن هاتين العلتين ليس لهما تأثير؛ لأنهما عندنا يؤثران في الأصل، ألا ترى أنا نقول أن(2) القهقهة لو وقعت على غير سبيل العمد، وعلى وجه لا يكون معصية، لم تنتقض الطهارة، وكذلك نقول في لمس المرأة، والتأثير يجب أن يكون على أصل المعِلل.
مسألةٌ [ في مس الفرجين ]
قال: ولا ينقضها مس الفرجين.
ونص القاسم عليه السلام على ذلك في (مسائل النيروسي)، وهو المحفوظ عن سائر أهل البيت عليهم السلام، لا يعرف عن أحد منهم في ذلك خلاف، والذي يدل على ذلك:
ما أخبرنا به أبو بكر المقرئ، حدثنا أبو جعفر الطحاوي، حدثنا يونس، حدثنا سفيان، عن محمد بن جابر، عن قيس بن طلق، عن أبيه، أنَّه سأل رسول اللّه صلى الله عليه/58/ وآله وسلم أفي مس الذكر وضوء؟ قال: (( لا ))(3).
وأخبرنا أبو بكر، قال: حدثنا أبو جعفر، حدثنا محمد بن خزيمة، حدثنا حجاج، حدثنا ملازم، حدثنا عبد الله بن بدر، عن قيس بن طلق، عن أبيه، عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم أنَّه سأله رجل فقال: يا نبي الله، ما ترى في مس الرجل ذَكَره بعد ما توضأ؟ فقال النبي صلى الله عليه وآله وسلم: (( هل هو إلاَّ بضعة منك؟ )) (4).
__________
(1) سقطت (لفظ) من (ج).
(2) سقطت (أن) من (ج).
(3) أخرجه الطحاوي في شرح معاني الآثار 1/75.
(4) أخرجه الطحاوي في شرح معاني الآثار 1/76، إلا أنه زاد:أو مضغة منك.
وروى أبو بكر بن أبي شيبة، حدثنا وكيع، عن جعفر بن الزبير، عن القاسم، عن أبي أمامة، أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم سُئل عن مس الذكر، فقال: (( هل هو إلاَّ جذوة(1) منك؟ )). (5/12)
وأخبرنا أبو بكر، أخبرنا(2) أبو جعفر، حدثنا محمد بن العباس، حدثنا(3) عبد اللّه بن محمد بن المغيرة،حدثنا مَسْعَر، عن قابوس، عن أبي ظبيان، عن علي عليه السلام، قال: (( ما أبالي أنفي مسست، أو أذني، أو ذكري ))(4).
وأخبرنا أبو بكر، حدثنا أبو جعفر، حدثنا ابن مرزوق، حدثنا عمرو بن أبي رزين، حدثنا هشام بن حسان، عن الحسن، عن خمسة من أصحاب النبي صلى الله عليه وآله وسلم فيهم علي، وابن مسعود، وحذيفة، وعمران بن حصين، ورجل آخر، أنهم كانوا لا يرون في مس الذكر وضوءاً(5).
وروى الطحاوي بأسانيد تركت ذكرها كراهة الإطالة مثل ذلك، عن عطاء وشعبة مولى ابن عباس(6). وروي عن قيس بن السكن، عن ابن مسعود، وروي عن عمير بن سعيد، عن عمار بن ياسر(7).
فقد دل ما أثبتناه(8) من الأخبار على أن لا وضوء من مس الذكر من وجوه:
فمنها ما رويناه عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم لفظاً.
ومنها ما رويناه عن علي عليه السلام، ومن مذهبنا أنَّه إذا قال قولاً لم يجز أن يخالف، ووجب أن يتبع.
ومنها أن ذلك إجماع الصحابة بدلالة هذه الأخبار التي رويت عنهم.
__________
(1) في (ج): حذوة.
(2) في (ج): حدثنا.
(3) في (ب) و(ج): أخبرنا.
(4) أخرجه الطحاوي في شرح معاني الآثار 1/78.
(5) أخرجه الطحاوي في شرح معاني الآثار 1/78.
(6) انظر شرح معاني الآثار 1/77 ـ 78.
(7) انظر شرح معاني الآثار 1/78.
(8) في (ج): ذكرناه.
فإن قيل: كيف يكون ذلك إجماعاً، وقد روي خلافه(1)، وكذلك ابن عباس فكأنه لم يرو عنه ما فيه شيء، فأما ابن عمر فقد روي عنه الوضوء من مس الذكر، ولم يرو أنَّه كان يوجبه، فلا يجب أن نثبته مخالفاً لسائرهم، إذ كان لا يمتنع أن يكون فعله له على سبيل الاستحباب دون الإيجاب على أن ابن عمر كانت عادته مشهور في التشدد في الطهارة، فإنه كان يتوضأ لكل صلاة، وكان يدخل الماء في عينيه، وكان يتوضأ من أكل ما مسته النار، فيجوز أن يكون توضأ من مس الذكر على عادته على سبيل الاحتياط دون الإيجاب. (5/13)
ومنها: أن الوضوء من مس الذكر لو كان واجباً، كان لا يجوز أن يخفى على مثل أمير المؤمنين عليه السلام، وابن مسعود، وحذيفة، وعمار وغيرهم رضي اللّه عنهم؛ إذ هو من الأمور التي تعم البلوى به، ونحن وإن لم نقل كما يقوله أصحاب أبي حنيفة بأن خبر الواحد لا يقبل فيما تعم البلوى به، فلسنا نجوز أن يكون أمراً تعم البلوى به، ثم يخفى على الصحابة وأكابرهم، حتى لا نثبت القول به عن أحد من الصحابة، وأحوالهم لا تخلو من أقسام، إما أن تكون هذه الأخبار لم تقع لهم وهذا مما لا نجوزه؛ إذ تجويز ذلك يؤدي إلى أنَّه يجوز أن يكون خفي عليهم كثير من الفرائض الظاهرة، وذلك مما لا يصح، أو يكونوا عرفوا نسخها، أو عرفوا أن المراد بالوضوء هو غسل اليد، أو تكون الأخبار غير صحيحة، أو حصل فيها التعارض، فتركت، ورجع إلى الأصل في أن لا وضوء، وأي ذلك ثبت، لم يثبت معه القول بوجوب الوضوء من مس الذكر/59/.
__________
(1) في (ب): عن عمر وسعيد وأنس، قيل له: قد روي عن هؤلاء كلهم نفي الوضوء منه، فأقل أحوالهم أن تتعارض الروايات عنهم، فيصيرون كأنهم لم يحفظ عنهم شيء. وفي (أ): قال وتحرير العبادة: عن ابن عباس وابن عمر، قلنا: أما ابن عباس فقد روي عنه نفي الوضوء عنه، فكأنه لم يرو عنه شيء، وأما ابن عمر...
وجملة الكلام في أخبارهم التي رووها في هذا الباب هي ما أشرنا إليها، ونحن نشرح ذلك بإيجاز واختصار: (5/14)
فأما الوجه الذي منه يعلم أن الأخبار غير صحيحة، فهو أن العمدة في ذلك حديث بسرة.. أخبرنا به أبو بكر المقرئ، حدثنا أبو جعفر الطحاوي، حدثنا أبو بكرة، حدثنا الحسين بن مهدي، حدثنا عبد الرزاق، حدثنا معمر، عن الزهري، عن عروة أنَّه تذاكر هو، ومروان، الوضوء من مس الفرج، فقال مروان: حدثتني بسرة بنت صفوان أنها سمعت رسول اللّه صلى الله عليه وآله وسلم يأمر بالوضوء من مس الفرج(1)، فكأن عروة لم يرفع لحديثها رأساً، فأرسل مروان إليها شرطياً له(2) فرجع، وأخبرهم أنها قالت: سمعت رسول اللّه صلى الله عليه وآله وسلم يأمر بالوضوء من مس الفرج.
فقوله: إن عروة لم يرفع بحديثها رأساً يدل على أنَّه لم يقبل حديثها ورده، وليس لأحد أن يقول: إنَّه ـ يعني عروة ـ شك في مروان دون بسرة بدلالة إنفاذ مروان شرطيه ليتعرف منها، وذلك أن الراوي لم يرفع لحديثها رأساً، فأما إنفاذ مروان شرطيه، فلا يدل على قبول عروة حديث بسرة، فإنه لا يمتنع أن يكون مروان أحب أن يستبين ثانياً لنفسه، على أن عروة إذا شك في قول مروان، فلأن يشك في قول شرطيه أولى، وروي عن ربيعة أنَّه كان ينكر ذلك ويقول: لو أن بسرة شهدت على هذا الفعل ما أجزت شهادتها، فهذا كما ترى قد رد العلماء حديثها.
وقد رووا وجوب الوضوء من مس الذكر، عن عائشة، عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم.
وروي عن يحيى بن أبي كثير، أنَّه سمع رجلاً يحدث به في مسجد رسول اللّه صلى الله عليه وآله وسلم ،عن عروة، عن عائشة؛ فأحد ما يوجب ضعفه أن يحيى بن أبي كثير لم يذكر من سمعه عنه.
__________
(1) أخرجه الطحاوي في شرح معاني الآثار 1/71.
(2) سقطت (له) من (أ).
وقد روي أيضاً ذلك من غير هذه الطريق، عن عروة، عن عائشة، وعن عروة، عن زيد بن خالد، عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم، وذلك كله يضعف، بل يجب سقوطه، وذلك أن عروة أنكر الوضوء من مس الذكر، ولما روى له مروان(1)، عن بسرة، لم يقبل حديثها، وغير جائز أن يكون حديث رواه عروة، عن عائشة، وعن زيد بن خالد، عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم، ويُرَدُّ ببسرة إذا روته، وينكر القول به، فهذا يدل على أنَّه غلط على عروة ووهم، سيما ومذاكرة عروة لمروان كانت بعد موت عائشة، وزيد بن خالد بزمان. (5/15)
والكلام في كل ما روي عن عروة في هذا الباب، فهو على نحو ما قلناه، فإنهم يروون ذلك عن عروة، عن أبيه، عن أروى بنت أنيس، عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم، وعن عروة عن بسرة، على أنَّه قد طُعن في إسناد كل واحد من هذه الأحاديث، إلاَّ أنا اقتصرنا على الإشارة إلى هذا الوجه الواحد مما(2) روي عن عروة طلباً للإيجاز، وتجنباً للإطالة.
ورووه أيضاً عن صدقة بن عبد الله، عن هشام بن زيد، عن نافع، عن ابن عمر، عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم، وصدقة هذا ضعيف عندهم، وكذلك هشام بن زيد ضعيف عندهم.
ورووه عن العلاء بن سليمان، عن الزهري، عن سالم، عن أبيه، عن النبي صلى اللّه عليه وآله وسلم، والعلاء هذا عندهم ضعيف، والزهري عندنا في غاية السقوط، فقد روي أنَّه كان أحد حرس خشبة زيد بن علي عليه السلام حين صُلب.
ورووه عن يزيد بن عبد الملك النوفلي، عن أبي(3) موسى الخياط، عن أبي سعيد المقبري/60/، عن أبي هريرة، عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم، ويزيد هذا ضعيف عندهم غير مقبول، وأبو موسى الخياط مجهول، وجملة الأمر أن كل حديث رووه في هذا الباب هو ضعيف السند، أو مرسل، فيجب أن لا يحتجوا به.
فإن قيل: فأنتم تقبلون المراسيل، فيلزمكم قبولها.
__________
(1) في (أ) و(ب): عن مروان.
(2) في (ج): فيما.
(3) في (ب): ابن، وبهامشها: أبي.
قلنا: نحن ندفع ذلك من سائر الوجوه التي ذكرناها، ونذكر بعد هذا، وإنما بينا بهذا أن القوم لا يجوز لهم أن يحتجوا بهذه الأخبار على أوضاعهم، فأما نحن فندفعها بأنها منسوخة، وبأن الصحابة أجمعت على القول بخلاف موجبها، وأن أهل البيت عليهم السلام أجمعوا على ما أجمعت عليه الصحابة من ذلك، وأن أمير المؤمنين عليه السلام قال بخلاف موجبها، وروي أن يحيى بن معين ذكر في (التاريخ) أنَّه لا يصح في الوضوء من مس الذكر حديث، وكان لا يقول به. (5/16)
فأما ما يبين أن ما روي في هذا الباب يجب(1) أن يكون منسوخاً، فهو ما روي عن قيس بن طلق بن علي، عن أبيه، أنَّه سأل النبي(2) صلى الله عليه وآله وسلم: أمن مس الذكر وضوء؟ فقال: (( لا )).
وما رواه أن رجلاً سأله عن مثل ذلك، فقال: (( هل هو إلاَّ بضعة منك؟ ))
وذاك أنَّه لا يجوز أن يكونوا سألوا عن(3) ذلك إلاَّ من بعد ما بلغهم حديث الوضوء منه؛ لأنَّه لو لا ذلك، لكان سؤالهم عن ذلك كسؤال من يسأل عن سائر الأعضاء، هل في مسها أو مس شيء منها وضوء؟، وذلك لا معنى له، فعلم بذلك أنهم كانوا سمعوه من قبل، وقول النبي صلى الله عليه وآله وسلم: (( لا وضوء منه ))، يجب أن يكون متأخراً، فيجب أن يكون ناسخاً.
فإن قيل، قوله: (( هل هو إلاَّ بضعة منك؟ ))، يدل على أنَّه متقدم؛ لأنَّه لو لم يكن كذلك، لكان للسائل أن يقول قد كان الوضوء واجباً من مسه وهو كبضعة مني؟
قيل له: إنَّه صلى الله عليه وآله وسلم نبه على علة الحكم فيه في ذلك الوقت، ولا يمتنع أن يكون ذلك يصح في وقت ولا يصح في وقت، إذا منع من صحتها الشرع، ألا ترى أن علة الربا لم تكن علة للتحريم قبل تحريم الربا؟ وهي كانت على ما هي عليه الآن، فكذلك ما ذكرناه، وهذا السؤال مأخوذ ممن قال بنفي القياس، وهو ظاهر الفساد.
__________
(1) سقطت (يجب) من (أ) و(ب).
(2) في (ب) و(ج): رسول الله.
(3) في (أ): من.
وأما وجه التأويل فيها فهو أن يحمل على غسل اليد، فقد روي عن بعض الصحابة.. روى مصعب بن سعد بن أبي وقاص أن أباه أمره بذلك، وذلك كما تأول عامة العلماء ما روي في الوضوء من أكل ما مسته النار على غسل اليد، وهذا لا يمتنع أن يؤمر الإنسان به على سبيل الاحتياط؛ لأن ذلك الموضع ربما تصيبه بلة من النجاسة، كما روي: (( إذا استيقظ أحدكم من منامه، فلا يدخل يده في الإناء حتى يغسلها ثلاثاً، فإنه لا يدري أين باتت يده )). (5/17)
وأما وجه التعارض، فلأنه روي وجوب الوضوء من مس الذكر، وروي أن لا وضوء منه، فهذا ظاهر في التعارض، فإذا تعارضت، سقطت، ووجوب الرجوع إلى الأصل في أنَّه لا وضوء منه، كأنه لم يرو فيه شيء.
فإن قيل: خبر إيجاب الوضوء أولى؛ لكثرة رواته.
قيل له: بل خبر نفيه أولى؛ لسلامة سنده، ولقول عليَّة الصحابة بموجبه، وهذا الترجيح أولى من كثير من التراجيح التي تذكر في هذا الباب، فإما أن يترجح خبرنا أو يتساوي الخبران، وكلاهما يوجب أن لا وضوء منه.
فأما طريقة القياس فيه فواضحة؛ لأنه مقيس على سائر الأعضاء بعلة أنَّه بعض الإنسان، وهذه علة قوية؛ لأن النبي صلى الله عليه/61/ وآله وسلم نبه عليها بقوله: (( هل هو إلاَّ بضعة منك؟ ))، على ما بيناه فيما مضى.
مسألة [ في لمس المرأة ]
قال: ولا ينقضها لمس المرأة.
وهذا قد نص عليه في كتاب (الأحكام)(1)، وهذا أيضاً مما أجمع عليه أهل البيت عليهم السلام، ويدل على ذلك:
ما أخبرنا به أبو العباس الحسني، أخبرنا محمد بن جعفر الأنماطي، حدثنا علي بن هرمز ديار، حدثنا أبو كريب، حدثنا حسين الجعفي، عن زائدة، عن هشام بن عروة، عن أبيه، عن عائشة، قالت: كان رسول اللّه صلى الله عليه وآله وسلم يقبل بعض نسائه، ولا يتوضأ )).
__________
(1) انظر الأحكام 1/54.
وأخبرنا أبو العباس الحسني رضي اللّه عنه، أخبرنا محمد بن جعفر الأنماطي، حدثنا إبراهيم بن إسحاق الصنعاني، عن عبد الرزاق، عن إبراهيم بن محمد، عن معبد بن نباتة، عن محمد بن عمرو، عن عروة، عن عائشة، قالت: قبلني رسول اللّه صلى الله عليه وآله وسلم، وصلى، ولم يحدث وضوءاً )). (5/18)
وممن روى ذلك أبو سلمة بن عبد الرحمن، عن عائشة.. وعبد الله بن عمرو، عن عبد الكريم، عن عطاء، عن عائشة.
وروى الأوزاعي، عن يحيى بن أبي سلمة، عن أم سلمة، أن رسول اللّه صلى الله عليه وآله وسلم كان يقبلها وهو صائم، لا يفطر، ولا يحدث وضوءاً.
وروي(1) عن عائشة، أنها طلبت النبي صلى الله عليه وآله وسلم ليلاً، قالت: فوضعت يدي على صدر قدمه ـ وهو ساجد يقول كذا وكذا ـ فلو كان ذلك ينقض الطهارة، لم يمض النبي صلى الله عليه وآله وسلم في سجوده.
وهذه الأخبار كلها قد دلت على أن لمس المرأة لا ينقض الوضوء.
فإن قيل: إن الذي رويتموه من القُبلة، والمس يجوز أن يكون كان والثوب حائل بين النبي صلى الله عليه وآله وسلم وبين عائشة، وهو فعل لا يمكن ادعاء العموم فيه.
قيل له: إن ذلك صرف للحديث عن ظاهره، وذلك أن من قبل خمار المرأة، لا يكون قبلها على الحقيقة، وإن جاز أن يقال قبلها على سبيل التوسع والمجاز، وكذا إذا مست المرأة الثوب الذي على صدر قدم الرجل، لا يقال: إنها مست صدر قدمه، إلاَّ على المجاز، ولا يجوز صرف الخبر عن الحقيقة إلى المجاز إلاَّ بدليل، وعلى ما بيناه لا حاجة بنا(2) إلى ادعاء العموم فيه، فلا يقدح فيما ذكرناه تعذر ادعاء العموم؛ إذ قد بينا أن ظاهر الخبر يقتضي أنَّه لم يكن بين النبي صلى الله عليه وآله وسلم وبينها حجاب ثوب حائل.
فإن استدلوا لصحة مذهبهم بقول اللّه تعالى: {أَوْ لامَسْتُمْ النِّسَاءَ}، فإن الملامسة عندنا هي(3) الجماع دون اللمس باليد، يدل على ذلك:
__________
(1) في (ب): ورووا.
(2) في (ب) و(ج): لنا.
(3) في (أ) و(ب): هو.
ما أخبرنا به أبو العباس الحسني، أخبرنا الحسن بن علي بن أبي الربيع، حدثنا علي بن هارون، حدثنا أبو كريب، حدثنا الحسين الجعفي، عن زائدة، عن هشام بن عروة، عن أبيه، عن عائشة، قالت: قال رسول اللّه صلى الله عليه وآله وسلم: (( الملامسة الجماع )). (5/19)
وروى أبو بكر بن أبي شيبة، حدثنا حفص، عن أشعث، عن الشعبي، عن أصحاب علي، عن علي عليه السلام: أولا مستم النساء. قال: هو الجماع.
وروى ابن أبي شيبة، حدثنا حفص، عن الأعمش، عن حبيب، عن سعيد بن جبير، عن ابن عباس، قال: هو الجماع.
فإن قيل: فقد روى ابن أبي شيبة، أن أصحاب عبد اللّه رووا عن عبد الله، أنَّه قال: فما دون الجماع، وقد روي ذلك عن عمر وابن عمر.
قيل له: ما رويناه أولى؛ لأن ذلك قد رويناه عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم/62/، ورويناه عن علي عليه السلام، ومن أصلنا أنا إذا روينا الحكم عن علي عليه السلام، فلا نتعداه إلى قول غيره من الصحابة، على أن الملامسة في اللغة هي الجماع، فلو لم يُروَ فيها شيء، وجب حملها على الجماع، فكيف وقد روينا عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم، وعن علي عليه السلام وغيره من الصحابة؟
فإن قيل: فإن الملامسة هي المفاعلة من ـ اللمس ـ، فلا يصح أن يدعى فيها أنها الجماع؛ لأن اللمس والمس في اللغة واحد.
قيل له: لا يمتنع أن يكون ما ذكرت أصلاً في اللغة، إلاَّ أن الذي ادعينا في الملامسة قد صار منقولاً بالعرف عن الأصل كما أن الدابة نقلت عما كان أصلاً إلى العرف(1)، ألا ترى أنها اسم في أصل اللغة لكل ما يدب؟ ثم صار اسماً للبهيمة المخصوصة، وكذلك الغائط كان اسماً للأرض المطمئنة، ثم صار اسماً لقضاء الحاجة المخصوصة، والاسم إذا أفاد في أصل اللغة شيئاً نقله العرف عنه إلى غيره أو إلى خاص منه، ثم إذا ورد الخطاب به، وجب حمل الخطاب عليه، وإذا كان هذا هكذا، بان أن الملامسة حقيقتها هو الجماع، ويجب أن يكون حقيقة فيها(2). (5/20)
فإن قيل: لو سلمنا لكم أن الحقيقة فيها ما ذكرتم، فيجب أن يكون اللمس أيضاً مراداً بها؛ لأن من مذهبكم أن لا يمتنع أن تكون اللفظة الواحدة يراد بها الحقيقة والمجاز جميعاً.
قيل له: نحن وإن جوزنا ذلك فلسنا نوجبه؛ لأنا نقول: إن اللفظة إذا كان لها مجاز وحقيقة، فيجب أن تكون الحقيقة مراداً بها، إلاَّ أن يمنع منه الدليل، فلا يجب أن يكون المجاز مراداً بها إلاَّ بدليل، وإذا كان هذا هكذا، فلا يجب أن يكون اللمس(3) مراداً بالآية.
فإن قيل: قد قُرِأَتْ الآية {أَوْ لمَسْتُمُ النِّسَاء} وقُرِأَتْ {أَوْ لامَسْتُم..}[المائدة:6] فلو ثبت أن الملامسة هي الجماع، فلا إشكال في أن اللمس هو المس، والقراءتان كالخبرين، فيجب الأخذ بمقتضاهما.
قيل له: قد أجمعت الأمة على أن المراد بالقراءتين مراد واحد؛ لأن كل من حمل الملامسة على الجماع حمل اللمس عليه، ومن حمل اللمس على المس، حمل الملامسة عليه، فإذا ثبت ذلك، وثبت أن الملامسة هي الجماع، ثبت أن اللمس أيضاً هو الجماع.
__________
(1) في (ب) و(ج): كانت في الأصل بالعرف.
(2) في (ب) و(ج): بان أن الملامسة يجب أن يكون حقيقتها هو الجماع، ويجب أن يكون حقيقة فيها.
(3) في (ب) و(ج): المس.
فإن استدلوا لصحة مذهبهم بما روي أن رجلاً أتى النبي صلى الله عليه وآله وسلم، فقال: إني نلت من امرأة كلَّما ينال الرجل من امرأته غير الجماع، فقال له عليه السلام: (( توضأ، وصل )). (5/21)
قيل له: إن هذا لا يدل على صحة مذهبكم؛ لأن في ما ينال الرجل من امرأته أن يمذي بملاعبتها، فلا يمتنع أن يكون قوله صلى الله عليه وآله وسلم توضأ لذلك، على أن من مذهبنا أن الكبائر تنقض الطهارة، فلا يمتنع أن يكون النبي صلى الله عليه وآله وسلم أمره بالوضوء لارتكابه الكبيرة، على أنَّه ليس في الحديث أن الرجل نال ما نال من المرأة وهو متطهر، ولا خلاف في أن المرأة إذا مست المرأة، لم تنتقض طهارتها، وكذلك إذا مس الرجل شعرها، فيجب أن لا تنتقض طهارته إذا مس المرأة، والمعنى أنَّه لم يحصل إلاَّ المسيس بغير الفرجين، وهذه المسألة طريقها الأخبار، فلذلك لم نستقصِ القياس فيها، واقتصرنا على ذكر اليسير منه.
مسألة [ في القهقهة في الصلاة ]
قال: ولا ينقضها القهقهة في الصلاة.
وقد نص في (الأحكام)(1) على أن القهقهة في الصلاة، تنقض الصلاة ولا تنقض الطهارة، فهذا هو الأصل فيها، إلاَّ أن يقع على وجه التعمد، فتنتقض الطهارة بها، وهذه المسألة قد مضى الكلام فيها.
والذي يدل على صحة ما نذهب إليه/63/ هو أن الشيء لا يثبت كونه حدثاً إلاَّ بدلالة شرعية، ولم تقم دلالة شرعية تدل على أن القهقهة في الصلاة حدث، فوجب القول بأنها لا تنقض الطهارة.
فإن استدلوا بحديث أبي العالية أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم كان يصلي، وخلفه أصحابه، فجاء رجل أعمى، وثَمَّ بئر على رأسها خصفة، فتردى فيها، فضحك القوم، فأمر رسول اللّه صلى الله عليه وآله وسلم من ضحك بأن يعيد الوضوء، ويعيد الصلاة.
__________
(1) انظر الأحكام 1/111.
وروي عن الحسن، عن أسامة بن أبي المليح(1)، عن أبيه، عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم، أنَّه قال: من قهقه في صلاته فليعد الوضوء والصلاة. (5/22)
قيل له: روي عن جابر بن عبد اللّه أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم لم يأمرهم بإعادة الوضوء.
وروي بأن الضاحك في صلاته، والملتفت سواء، ولا خلاف أن الملتفت لا وضوء عليه، فيجب أن لا يكون على الضاحك أيضاً، فالأخبار إما أن تتعارض، فيسلم لنا أصل الدليل، ويحمل أيجاب الوضوء على أنَّه كان لكون الضحك معصية؛ لأن الضحك في الصلاة إذا وقع على سبيل العمد فهو معصية، ويدل على ذلك أنا وجدنا سائر الأفعال لما لم تكن حدثاً خارج الصلاة لم يكن حدثاً فيها، والأحداث كلها تشهد لهذه العلة؛ لأنها لا تختص حال الصلاة دون غيرها، بل كل ما كان منها حدثاً في الصلاة، كان حدثاً في غيرها.
فإن قيل: هذه علة تنتقض على أصولكم؛ لأن من مذهبكم أن القهقهة في الصلاة تنقض الطهارة، إذا وقعت على سبيل العمد، ولا تنقضها إذا وقعت خارج الصلاة.
قيل له: العلة صحيحة، وذلك أنا لا نراعي كونها واقعة على سبيل العمد فقط، وإنما نراعي كونها معصية، فمتى وقعت القهقهة على وجه يكون معصية، نقضت الطهارة ـ في الصلاة كانت، أم خارج الصلاة ـ وإلى هذه العلة أشار في (الأحكام) (2) حيث يقول: (ولو نقض الطهارة هذا الصوت الحقير لنقضها الصوت الكبير والكلام الدائم الكثير)، وليس لهم أن يبطلوا علتنا هذه بكونها دافعة للخبر؛ لأنا قد بينا الكلام في الخبر، وبينا فيه التعارض، وتأولناه أيضاً على الضحك الذي يكون معصية، فلا يجب أن تكون العلة دافعة للخبر.
مسألة [ في تجديد الطهارة ]
قال: ويستحب تجديد الطهارة لمن اشتغل عنها بسائر المباحات.
وهذا قد نص عليه في (الأحكام)(3).
__________
(1) في هامش (ب): صوابه عن أبي المليح بن أسامة، عن أبيه. فأبو المليح لم يكن صحابياًّ.
(2) ذكره في الأحكام ض/111.
(3) انظر الأحكام 1/54.
والأصل في ذلك ما أخبرنا به أبو بكر المقرئ، حدثنا الطحاوي، حدثنا أبو بكرة، حدثنا أبو عامر العقدي، حدثنا سفيان، عن علقمة بن مرثد، عن سليمان بن بريدة، عن أبيه أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم كان يتوضأ لكل صلاة، فلما كان يوم الفتح صلى الصلوات أجمع بوضوء واحد(1). (5/23)
وأخبرنا أبو بكر، أخبرنا أبو جعفر، حدثني يونس، حدثنا ابن وهب، أخبرني(2) عبد الرحمن بن زياد، عن أبي غطيف الهذلي، قال: صليت مع ابن عمر الظهر في مجلس في داره، فانصرفت معه حتى إذا نودي بالعصر، دعا بوضوء، فتوضأ، ثم خرج وخرجت معه، وصلى العصر، ثم رجع إلى مجلسه، فرجعت معه حتى إذا نودي بالمغرب، دعا بوضوء، فتوضأ. فقلت له: أي شيء هذا يا أبا عبد الرحمن؟ فقال: سمعت رسول اللّه صلى الله عليه وآله/64/ وسلم يقول: (( من توضأ على طهر، كتب اللّه عزَّ وجل له بذلك عشر حسنات )). ففي ذلك رغبت يا ابن أخي(3).
ففي ذلك تصحيح ما ذهب إليه يحيى بن الحسين عليه السلام في الاستحباب، وإذا لم يرو عن أحد تجديد الطهارة مع الجمع بين الصلاتين، أو اتباع نفل بفرض، أو فرض بنفل، علم أن الاستحباب فيه على ما ذكره يحيى(4) عليه السلام، لمن اشتغل عن الصلاة بغيرها من المباحات، وقد استدل يحيى عليه السلام بقول اللّه تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِيْنَ آمَنُوا إِذَا قُمْتُم إِلَى الصَّلاةِ فَاغْسِلُوا وُجُوهَكُم} فلما كان الظاهر يقتضي أن تلي الصلاةُ الطهورَ، وكان قد ثبت أنَّه ليس بواجب على المتطهر، ثبت أنَّه مستحب.
__________
(1) أخرجه الطحاوي في شرح معاني الآثار 1/41.
(2) في (ج): أخبرنا.
(3) أخرجه الطحاوي في شرح معاني الآثار 1/42 بزيادة بعد أي شيء هذا يا أبا عبد الرحمن؟ الوضوء لكل صلاة؟ فقال: وقد فطنت لهذا مني؟ ليس سنة، إن كان لكاف وضوئي لصلاة الصبح صلواتي كلها ما لم أحدث، ولكني سمعت...إلخ.
(4) انظر الأحكام 1/54.
وحكي عن قوم أنهم قالوا بوجوب الوضوء لكل صلاة على الحاضر، وذلك لا معنى له؛ لما أخبرنا به أبو بكر المقرئ، قال: حدثنا الطحاوي، حدثنا يونس، أخبرنا ابن وهب، أخبرني أسامة بن زيد، وابن جريج، وابن سمعان، عن محمد بن المنكدر، عن جابر بن عبد لله، قال: ذهب رسول اللّه صلى الله عليه وآله وسلم إلى امرأة من الأنصار ومعه أصحابه، فقدمت لهم شاة مصلية، فأكل وأكلنا، ثم حانت الظهر، فتوضأ، ثم صلى، ثم رجع إلى فضل طعامه، فأكل، ثم حانت العصر فصلى، ولم يتوضأ ))(1). (5/24)
مسألة [ في المتوضئ يحلق أو يقلم ]
قال: ومن توضأ، ثم أخذ من شعره، أو قلم أظفاره، فعليه أن يمر الماء على أثره.
وهذا منصوص عليه في (المنتخب)(2).
والوجه في ذلك أن أعضاء الطهارة يجب أن يكون كل موضع منها مغسولاً أو ممسوحاً، فإذا أخذ شعره، أو قلم أظافيره، بقي موضع القص غير مغسول، ولا ممسوح، فيكون بمنزلة أن يبقي من جملة الأعضاء موضع لم يمسه الماء، فكما يجب إمساسه الماء، كذلك(3) موضع القص يجب أن يمر الماء عليه.
مسألة [ في المسح على الخمار ]
قال: ولا يجزي مسح العمامة والخمار عن مسح الرأس.
وقد نص عليه في (الأحكام) (4)، وهو مما لا خلاف فيه، وظاهر قول اللّه تعالى: {وَامْسَحُوا بِرُؤُوسِكُمْ} يقضي بصحة ما ذكرناه؛ لأن الماسح على العمامة والخمار، لا يكون ماسحاً على الرأس على التحقيق.
مسألة [ في المسح على الخفين ]
قال: ولا يجزي المسح على الخفين، والجوربين والرجلين عن غسلهما.
وهذا أيضاً منصوص عليه في (الأحكام)(5)، وقد مضى الكلام في وجوب غسل الرجلين، وأن مسحهما لا يجزي عن غسلهما.
__________
(1) أخرجه الطحاوي في شرح معاني الآثار 1/42.
(2) انظر المنتخب ص26.
(3) في (ب) و(ج): فكذلك.
(4) انظر الأحكام 1/78، 79.
(5) انظر الأحكام 1/78، 79.
فأما المسح على الخفين فالذي يدل على أنَّه لا يجزي، قول اللّه تعالى: {وَامْسَحُوا بِرُؤُوسِكُم وَأَرْجُلَكُم إِلَى الْكَعْبَيْن} وسواء كانت القراءة بالنصب، أو الخفض، أو كانت الرجل ممسوحة، أو مغسولة، فالحكم لا محالة راجع إلى الرجلين دون الخفين، والماسح للخفين لا يكون غاسلاً للرجلين، ولا ماسحاً لهما، فبان أن ظاهر الآية يقتضي ما نذهب إليه، على أن ذلك إجماع أهل البيت عليهم السلام، لا يختلفون فيه، وما أجمع عليه أهل البيت عليهم السلام، فيجب أن يكون صحيحاً عندنا، فثبت بذلك أيضاً أنَّه لا مسح على الخفين. (5/25)
فإن استدلوا بالأخبار التي رويت في ذلك منها: ما روي أن رسول اللّه صلى الله عليه وآله وسلم مسح على الخفين.
ومنها ما روي عنه عليه السلام، أنَّه قال: (( امسح ما بدا لك )).
وما روي عنه عليه السلام أنَّه رخص فيه للمسافر ثلاثة أيام بلياليها، وللمقيم يوماً وليلة/65/.
قيل لهم: هذه الأخبار عندنا منسوخة، نسخها قول اللّه تعالى: {وَامْسَحُوا بِرُؤُوسِكُمْ وَأَرْجُلَكُم إِلَى الْكَعْبَين}، والذي يدل على ذلك أن الصحابة أجمعوا على مراعاة التقدم والتأخر في المسح والآية، ولا وجه لمراعاة التقدم والتأخر بين الآيتين أو الخبرين، أو الآية والخبر إلاَّ لعلمهم بأن أحدهما يجب أن يكون ناسخاً، والآخر منسوخاً، فإذا ثبت ذلك، ولم يثبت تأخر المسح على الآية، وثبت تقدمه عليها، ثبت أن الآية ناسخة له.
فإن قيل: ولم ادعيتم إجماع الصحابة على مراعاة التقدم والتأخر فيها(1).
__________
(1) سقطت (فيها) من (ب) و(ج).
قيل لهم: لِما أخبرنا به أبو الحسين بن إسماعيل، أخبرنا الناصر، حدثنا محمد بن منصور، حدثنا أحمد بن عيسى، عن حسين، عن أبي خالد، عن زيد بن علي، عن آبائه، عن علي عليهم السلام، قال: لمَّا كان في ولاية عمر، جاء سعد بن أبي وقاص، فقال: يا أمير المؤمنين، ما لقيتُ من عمار؟ قال: وما ذاك؟ قال: حيث خرجتُ ـ وأنا أريدك ـ ومعي الناس، فأمرتُ منادياً فنادى بالصلاة، ثم دعوت بطهور، فتطهرت، ومسحت على خفي، وتقدمت أصلي، فاعتزلني عمار، فلا هو اقتدى بي، ولا هو تركني، فجعل ينادي من خلفي: يا سعد، أصلاة من غير وضوء؟ فقال عمر: يا عمار، أخرج مما جئت به. فقال: نعم. كان المسح قبل المائدة. فقال عمر: يا أبا الحسن، ما تقول؟ قال أقول: إن المسح كان من رسول اللّه صلى الله عليه وآله وسلم في بيت عائشة، و(المائدة) أنزلت في بيتها، فأرسل عمر إلى عائشة، فقالت: كان المسح قبل (المائدة)، وقل لعمر: والله لأن تقطع قدماي بعقبيهما، أحب إليَّ من أن أمسح عليهما. قال عمر: لا نأخذ بقول امرأة. ثم قال: أنشد اللّه امرءً شهد المسح من رسول اللّه لمَا قام، فقام ثمانية عشر رجلاً كلهم رأى رسول اللّه صلى الله عليه وآله وسلم يمسح وعليه جبة شامية ضيقة اليدين، فأخرج يديه من تحتها، ثم مسح على خفيه. فقال عمر: ما ترى يا أبا الحسن، فقال: سلهم قبل المائدة أو بعدها، فسألهم، فقالوا: ما ندري. فقال علي عليه السلام: أنشد اللّه أمرءً مسلماً علم أن المسح كان قبل (المائدة) لما قام، فقام اثنان وعشرون رجلاً فتفرق القوم وهؤلاء قيام يقولون لا نترك ما رأينا، وهؤلاء يقولون: لا نترك ما رأينا. (5/26)
وأخبرنا أبو العباس الحسني رحمه الله، أخبرنا علي بن الحسن بن شيبة المروزي، حدثنا الفضل بن العباس بن موسى أبو نعيم، حدثنا عمر بن حصين، حدثنا أبو عوانة، عن عطاء عن سعيد بن جبير، عن ابن عباس، قال: مسح رسول اللّه صلى الله عليه وآله وسلم على الخفين، فسئل الذين يزعمون لك.. أقبل (المائدة) أم بعدها؟ ما مسح رسول اللّه صلى الله عليه وآله وسلم بعد (المائدة)، ولأن أمسح على ظهر عير بالفلاة، أحب إليَّ من أن أمسح على الخفين. (5/27)
وروى أبو بكر بن أبي شيبة، عن حاتم بن إسماعيل، عن جعفر، عن أبيه، عليهما السلام، قال: قال علي عليه السلام: (( سبق الكتاب الخفين )).
وروى ابن أبي شيبة، عن علي بن مسهر، عن عثمان بن حكيم، عن عكرمة، عن ابن عباس، قال: سبق الكتاب الخفين.
فقد دلت هذه الأخبار على ما ادعيناه من إجماع الصحابة/66/ على مراعاة التقدم والتأخر فيه؛ لأن أمير المؤمنين قد راعى ذلك، وكذلك عمر، وابن عباس، وعمار، وعائشة، وكان ذلك من عمر بمشهد من سائر الصحابة، واشتهر ذلك، ولم ينكره منكر، ولم يقل أحد لا وجه لمراعاة التقدم والتأخر فيه، فوجب بذلك أن يكونوا قد أجمعوا عليه، فإذا ثبت ذلك، وثبت أن المسح كان قبل المائدة بشهادة من شهد من الصحابة كأمير المؤمنين عليه السلام وابن عباس وعائشة، ولم يرو عن أحد منهم أنَّه كان بعد المائدة، ثبت أن الآية ناسخة له.
فإن قيل: إن النسخ يجب أن يكون بين الشيئين إذا كان بينهما تناف، فأما ما يصح الجمع بينهما، فلا يصح القول بأن أحدهما ناسخ للآخر، ويصح الجمع يبن المسح والآية، فيقال بالمسح في حال لبس الخفين، وبحكم الآية في حال انكشاف الرجلين.
قيل له: هذا غلط بالإجماع؛ لأنَّه لا خلاف أن صوم يوم عاشوراء نسخ بصيام شهر رمضان، وصح القول به لما دلت الدلالة عليه، وإن لم يكن بينهما شيء من التنافي على وجه من الوجوه، فكذلك القول بأن الآية ناسخة لأخبار المسح يجب أن يصح القول به؛ إذ قد دلت الدلالة عليه، على أن الجمع بين الآية وبين خبر المسح لا يمكن إلاَّ برفع بعض الحكم الذي يقتضيه ظاهر الآية، وإن كان ذلك على وجه التخصيص، وليس كذا صوم يوم عاشوراء مع صوم شهر رمضان؛ لأن أحدهما لا يعترض على الآخر بوجه من الوجوه، وإذا صح فيه النسخ، كان فيما ذكرنا أصح وأولى. (5/28)
فإن قيل: فكيف يجوز أن يكون عُقل النسخ بينهما؟
قيل له: يجوز ذلك بأن يكون الصحابة قد عرفت أن الآية قد نسخت جميع ما كان قبلها من الطهارات.
فإن قيل: روي عن جرير بن عبد الله، أنَّه قال: أسلمت بعد نزول المائدة، ورأيت رسول اللّه صلى الله عليه وآله وسلم يمسح على الخفين.
قيل له: هذا الحديث يؤكد ما ذهبنا إليه من أن الصحابة راعت فيه التقديم والتأخير، ويؤكد ذلك ما روي أن أصحاب عبد الله يعجبون بحديث جرير؛ لتأخر إسلامه.
وروى أبو بكر بن أبي شيبة، عن أبي(1) معاوية، ووكيع، عن الأعمش، عن إبراهيم، أنَّه قال: كان يعجبنا حديث جرير؛ لأن إسلامه كان بعد نزول المائدة، فأما قول جرير رأيت رسول اللّه صلى الله عليه وآله وسلم يمسح ففيه جوابان:
أحدهما: أنا لا نقبل قول جرير؛ لإنكار أمير المؤمنين عليه السلام له، ولإنكار ابن عباس، وعمار، وعائشة، وغيرهم من الصحابة له، وليس لأحد أن يقول: أنهم نفوا، وجرير أثبت، فيجب أن يكون قول جرير أولى، وذلك؛ لأنا نعلم أنهم لا ينفون إلاَّ ما يعلمون انتفاءه على التحقيق، فيجب أن يكون نفيهم أولى من إثبات جرير.
__________
(1) سقطت (أبي) من (أ) و(ب).
والجواب الثاني: أن الذي ذكره جرير حكاية فعل، وليس في الحديث أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم مسح على الخفين وهو محدث، ثم صلى، فليس لهم فيه حجة. (5/29)
ويدل على ذلك أيضاً أنَّه قد ثبت عن أمير المؤمنين عليه السلام وابن عباس وعائشة وأبي هريرة، (1)وغيرهم، إنكار المسح على الخفين.
روى أبو بكر بن أبي شيبة، حدثنا هشيم، حدثنا يحيى بن سعيد، عن القاسم بن محمد، عن عائشة، أنها قالت/67/: لأن أحزهما بالسكاكين، أحب إليَّ من أن أمسح عليهما.
وروى ابن أبي شيبة، عن يحيى بن بكير، قال: حدثنا شعبة، عن أبي بكر بن حفص، قال: سمعت عروة بن الزبير، عن عائشة قالت: لأن أحزهما أو أحز أصابعي بالسكين، أحب إليَّ من أن أمسح عليهما.
وروى ابن أبي شيبة، قال: حدثنا يونس بن محمد، قال: حدثنا عبد الواحد بن زياد، قال: حدثنا إسماعيل بن سميع، حدثنا أبو رزين، قال: قال لي أبو هريرة: ما أبالي على ظهر خفي مسحت، أو على ظهر حمار.
فإذا ثبت ذلك عنهم ـ وقد كان المسح على الخفين ثبت واستقر ـ فلا بد من أن يكونوا قالوا ما قالوا لعلمهم بأن المسح على الخفين قد نسخ؛ إذ لا مجال للرأي مع تلك الأخبار، فصح ما ذهبنا إليه.
فإن قيل، تقولون: إن علياً أنكره، وقد روي عن شريح بن هاني، قال: أتيت علياً عليه السلام فسألته عن المسح على الخفين؟ فقال: كنا نؤمر إذا كنا سَفْراً، أن نمسح ثلاثة أيام ولياليها، وإذا كنا مقيمين، فيوماً وليلة.
قيل له: إنَّه عليه السلام عَرَّف حكمه كيف كان قبل أن ينسخ، وهذا لا يدل على أنَّه لم يكن يرى أنَّه قد نسخ، ألا ترى أن من ذكر حكم صوم يوم عاشوراء حين كان واجباً، لا يكون دل بذلك على أنَّه لا يقول بنسخه.
فإن قيل: روي عنه عليه السلام أنَّه قال: لو كان الدين بالرأي، لكان باطن الخف أولى بالمسح من ظاهره، لكني رأيت رسول اللّه صلى الله عليه وآله وسلم يمسح على ظاهره.
__________
(1) وعمار بن ياسر في (ج).
قيل له: الجواب عن هذا كالجواب عن السؤال الأول، وهو أنَّه أخبر عن حالته الأولى، وليس فيه دليل على أنَّه لم يكن يرى أنَّه قد نسخ. (5/30)
وقياس الرجلين على سائر الأعضاء الظاهرة؛ ممكن بعلة أنها من أعضاء الطهارة، فيجب أن يكون المسح على ما يواريهما غير مجز عن تطهيرهما، وهذه الطريقة واضحة صحيحة، غير أنا حققنا الكلام فيه؛ لأن المسألة طريقها الأخبار، دون النظر والمقاييس.
[باب القول في الغسل] (6/1)
مسألة [ في موجبات الغسل ]
قال: ويجب الاغتسال على من أنزل الماء من الرجال والنساء، في اليقظة والمنام، ومن التقاء الختانين، وعلى النساء من الحيض والنفاس.
وهذا كله قد نص عليه في (الأحكام)(1) وغيره، وليس في هذه الجملة خلاف، إلاَّ ما يحكى عن الصدر الأول أنهم اختلفوا في التقاء الختانين إذا لم يكن معه إنزال، وحُكي مثل ذلك عن صاحب الظاهر والقاسم بن إبراهيم عليه السلام ربما صحح(2) القول فيه.
والذي يدل على أنَّ الاغتسال منه واجب:
ما أخبرنا به أبو بكر المقرئ، حدثنا الطحاوي، حدثنا فهد، حدثنا نعيم، حدثنا سفيان، عن علي بن زيد، عن سعيد بن المسيب، عن عائشة، قالت: قال النبي صلى الله عليه وآله وسلم: (( إذا قعد بين شعبها الأربع، ثم ألزق الختان بالختان، فقد وجب الغسل ))(3).
وأخبرنا أبو بكر المقرئ، حدثنا الطحاوي، حدثنا أحمد بن عبد الرحمن، حدثنا عمي، حدثنا ابن لهيعة، عن جعفر بن ربيعة، عن حبان(4) بن واسع، عن عروة، عن عائشة، قالت: قال النبي صلى الله عليه وآله وسلم: (( إذا جاوز الختانُ الختانَ فقد وجب الغسل )).
وليس لأحد أن يستدل لخلاف ما نذهب إليه في هذا الباب بما روي عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم: (( الماء من الماء ))(5)، فقد روي ما يوجب نسخه.
__________
(1) انظر الأحكام 1/58، 59، 72، 75.
(2) في (ب) و(ج): ضجع.
(3) أخرجه الطحاوي في شرح معاني الآثار 1/56.
(4) في (ج): حيان.
(5) أخرجه الطحاوي في شرح معاني الآثار 1/56.
أخبرنا أبو بكر المقرئ، حدثنا الطحاوي، حدثنا أحمد بن عبد الرحمن، حدثنا عمي أحمد بن عمر بن الحارث، قال: قال ابن شهاب: حدثني بعض من ارتضى، عن سهل بن سعد الساعدي، أن أبيُّ بن كعب الأنصاري أخبره أن رسول اللّه صلى الله عليه وآله وسلم جعل الماء من الماء رخصةً في أول الإسلام، ثم نهى عن ذلك، وأمر بالغسل ))(1). (6/2)
وقد صح القول بإيجاب الغسل من ذلك عن أمير المؤمنين عليه السلام وغيره من الصحابة، وروي أن عمر توعد من ترك الاغتسال منه، فقال: لإن أُخبرت بأحد يفعله، ثم لا يغتسل؛ لأنَّه كنه عقوبة، وذلك ظاهر بمشهد من المهاجرين والأنصار، ولم ينكر عليه قوله منكر، ومثل هذا عندنا يكون إجماعاً من الصحابة.
فإن قيل: فكيف يسوغ أن تدَّعوا أنَّ الماء من الماء منسوخ، وقد بقي حكمه؟
قيل له: لم يبقَ جميع ما اقتضاه اللفظ، بل قد ذهب بعضه؛ وذلك أن الماء الأول للجنس؛ لأن الألف واللام إذا لم يدلا على المعهود، دلا على الجنس، والماء الثاني هو المعهود ـ وهو المني ـ، فكأنه قال: جميع الماء من المني، وتحصيله: لا ماء، إلاَّ من المني، وإذا ثبت وجوب استعمال الماء من الإكسال، كان بعض الماء لا من الماء، فعلى هذا يكون نسخ بعض حكمه.
فإن قيل: هذا الذي أشرتم إليه هو التخصيص دون النسخ.
قيل له: التخصيص إذا ورد بعد استقرار العموم واستقرار حكمه يكون نسخاً، وإنما لا يكون نسخاً إذا لم يتأخر التخصيص عنه، ألا ترى أنَّه إذا تأخر فلا بد من أن يرتفع بعض الأحكام الثابتة بالنص، الذي هو العموم بعد استقراره، وهذا هو سبيل النسخ وطريقه.
مسالة [ في البول قبل الغسل ]
قال: ولا يجزي الجنب(2) إلاَّ أن يبول قبل الغسل(3).
__________
(1) أخرجه الطحاوي في شرح معاني الآثار 1/57، إلا أنه قال: حدثنا عمر، قال: أخبرني عمرو بن الحارث.
(2) في (ب) و(ج): إذا أمنى.
(3) في (ب) و(ج): الاغتسال.
وقد نص على ذلك في (الأحكام) و(المنتخب)(1). (6/3)
والدليل على ذلك: ما أخبرنا به أبو العباس الحسني، أخبرنا أبو زيد العلوي، وأخبرنا محمد بن عثمان النقاش، قالا: حدثنا الناصر للحق عليه السلام، حدثنا محمد بن منصور، عن حسين بن نصر بن مزاحم، عن خالد بن عيسى العكلي، عن حصين بن مخارق، عن جعفر بن محمد، عن أبيه، قال: قال رسول اللّه صلى الله عليه وآله وسلم: (( إذا جامع الرجل، فلا يغتسل حتى يبول، وإلا تردد بقية المني، فكان منه داء لا دواء له )).
فنهى عن الغسل قبل أن يبول، وعندنا أن النهي يدل على فساد المنهي عنه، وأنه لا يقع موقع الصحيح، وإذا كان ذلك كذلك، فالمغتسل قبل البول كأنه لم يغتسل.
فإن قيل: إنَّه صلى الله عليه وآله وسلم قد بين الغرض بالنهي عنه بقوله: (( وإلا تردد بقية المني، فكان منه داء لا دواء له ))، فيجب أن يكون النهي لذلك، لا للتحريم.
قيل له: إن النهي ظاهر للتحريم، وتنبيهه على أن فيه ضرراً يتعجل، لا يسقط حكمه؛ لأنَّه لا يمتنع أن يحرم صلى الله عليه وآله وسلم، ثم يبين أن فيه وجوهاً من المضار، ومثل هذا قد ورد في القرآن، قال اللّه تعالى: {إِنَّمَا الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ..} الآية[المائدة:90]، ثُمَّ قال: {إِنَّمَا يُرِيْدُ الشَّيْطَانُ أَنْ يُوقِعَ بَيْنَكُمُ الْعَدَاوَةَ وَالْبَغْضَاءَ فِيْ الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ}[المائدة:91]، ولم يكن لأحد أن يقول: إن الضرر الذي ذكره اللّه تعالى فيه، يدل على أن النهي ليس يقتضي التحريم، بل يكون النهي نهياً على حياله، وما ذكره من تعجل الضرر منه باقٍ على حياله، ويدل على ذلك ـ أيضاً ـ أنَّه قد ثبت وجوب الاغتسال لخروج المني، وإذا جامع الرجل، ولم يبل، فلا بد من أن يبقى في الإحليل بقية من المني، للخبر الذي ذكرناه، وللمشاهدة.
__________
(1) انظر الأحكام 1/58. وانظر المنتخب ص24.
ولِمَا روي عن أمير المؤمنين عليه السلام أن رجلاً أتاه فقال: إني كنت أعزل عن جاريتي، وقد أتت بولد فقال عليه السلام، هل كنت تعاودها قبل أن تبول؟ قال: نعم. قال: فالولد ولدك. (6/4)
فإذا اغتسل، ثم بال، فلا بد من أن يخرج مع البول ما بقي من أجزائه، وذلك يوجب الإعادة للغسل، وإذا وجب إعادة الغسل، فلا قول إلاَّ قول من لا يعتد بالغسل الأول.
ويقاس ذلك على المرأة التي تغتسل من الحيض، ثم يخرج منها شيء من دم الحيض أنَّه يلزمها إعادة الغسل، ولا تعتد بالغسل الأول، فكذلك الرجل إذا اغتسل ولم يبل، والمعنى بقاء موجب الغسل في الفرج، فكل من بقي في فرجه ما يوجب الغسل، لم يعتد بالغسل الأول.
مسألة [ في وجوب المضمضة والاستنشاق في الغسل ]
ومن فرض الاغتسال: المضمضة والاستنشاق.
وهو منصوص عليه في (المنتخب)(1)، وقد دللنا على وجوبهما في الوضوء، فإذا(2) ثبت وجوبهما في الوضوء، ثبت وجوبهما في الاغتسال؛ إذ كل من قال بوجوبهما في الوضوء، قال بوجوبهما في الاغتسال.
وما استدللنا به في مسألة الوضوء، يمكن أن يستدل به هاهنا، ومما يخص هذا الموضع قول اللّه تعالى: {وَإِنْ كُنْتُمْ جُنُباً فَاطَّهَّرُوا}[المائدة:6]، فاقتضى ذلك أن يُطَهِّر جميع جسده، على أن الآية إما أن تكون عامه، أو مجملة، فإن كانت عامة، اقتضت أن يطهر جميع البدن، وإن كانت مجملة، وجب أن يرجع إلى البيان.
وروى أبو بكر بن أبي شيبة، عن أبي زائدة، حدثنا عطاء بن السائب، حدثنا أبو سلمة بن عبد الرحمن، حدثتني عائشة، أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم كان إذا اغتسل من الجنابة، تمضمض واستنشق )).
__________
(1) انظر المنتخب ص25.
(2) في (ب) و(ج): وإذا.
وروى ابن أبي شيبة، حدثنا وكيع، حدثنا الأعمش، عن سالم، عن كريب، عن ابن عباس، عن ميمونة، قالت: وضعت للنبي صلى الله عليه وآله وسلم غسلاً، فاغتسل من الجنابة، فأكفأ الإناء بشماله على يمينه، فغسل كفيه، ثم أفاض الماء على فرجه، فغسله، ثم دلك يده بالأرض، ثم تمضمض واستنشق، وغسل وجهه وذراعيه، ثم أفاض الماء على سائر جسده، ثم تنحى عن الموضع، فغسل رجليه. (6/5)
وفعل النبي صلى الله عليه وآله وسلم يجب أن يحمل على الوجوب، إذا كان بياناً لمجمل.
ويدل على ذلك: ما روى أبو بكر بن أبي شيبة، حدثنا أسود بن عامر، حدثنا حماد بن سلمة، عن عطاء بن السائب، عن زاذان، عن علي عليه السلام، عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم، قال: (( من ترك موضع شعرة من جسده في جنابة لم يغسلها، فُعِل به كذا وكذا من النار )). قال علي عليه السلام: (( فمن ثَمَّ عاديت شعري ))، فكان يجز شعره.
وروى الحارث بن وجيه، عن مالك بن دينار، عن محمد بن سيرين، عن أبي هريرة، قال: قال رسول اللّه صلى الله عليه وآله وسلم: (( تحت كل شعرة جنابة، فبلوا الشعر، وأنقوا البشر ))، فكل ذلك يقتضي وجوب المضمضة والاستنشاق في الاغتسال.
ويدل على ذلك من طريق القياس أنَّه عضو مقدور على غسله من غير تعذر ولا مشقة، فوجب أن يكون حكمه حكم سائر الأعضاء في وجوب غسله من الجنابة.
ويمكن ـ أيضاً ـ أن يقال بأنه عضو يلحقه حكم النجس، فيجب أن يلحقه حكم الجنابة قياساً على سائر الأعضاء في وجوب غسله من الجنابة.
فإن استدلوا لإسقاط وجوبها بما روي عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم من قوله: (( أما أنا فأحثي على رأسي ثلاث حثيات، فإذا أنا قد طهرت )).
قيل له: يجمع بين هذا وبين ما رويناه في وجوب المضمضة والاستنشاق، ودللنا عليه من طريق القياس، فيكون التقدير كأنه قال: أما أنا فأتمضمض واستنشق، وأحثي على رأسي ثلاث حثيات، فأما قوله صلى الله عليه وآله وسلم: (( فإذا وجدتَ الماء فأمسسه جلدك ))، فليس يمكنهم التعلق به، بل هو دليلنا عليهم؛ لأن الجلد يكون في الفم والمنخرين. (6/6)
مسألة [ في وجوب الدلك ]
قال: ومِنْ فَرْض ذلك دلك جميع البشر، وإيصال الماء إلى أصول الشعر. وذلك منصوص عليه في (المنتخب)(1).
والوجه فيه: ما روي عنه عليه السلام: (( تحت كل شعرة جنابة، فبلوا الشعر، وأنقوا البشر )).
وما روي: (( من ترك موضع شعرة من جسده في جنابة لم يغسلها، فُعِل به كذا وكذا من النار )).
ولأن الجنب أُخذ عليه غسل جسده، ولا يكون منقياً للبشر، ولا غاسلاً له بإمرار الماء عليه حتى يكون معه دَلْكٌ، أو ما يقوم مقام الدلك من قوة جُرِيِّ الماء عليه، أو قوة إنغماسه فيه ـ وأيضاً ـ إزالة النجس لا بد فيه مما ذكرنا، فكذلك إزالة الحدث؛ والعلة أنَّه إزالة ما يمنع من أداء الصلاة بالماء، وقد أشار القاسم عليه السلام إلى هذه العلة في (كتاب الطهارة)، وأكد ذلك بأن قال: (( إن التعبد بإزالة الحدث غسلاً، كالتعبد بإزالة النجس، وأوكد منه، فإذا لم يجز في إزالة النجس إلاَّ ما ذكرناه، فكذلك في إزالة الحدث.
مسألة [ في حكم الوضوء قبل الغسل وبعده ]
__________
(1) انظر المنتخب ص24.
قال: والوضوء قبل الغسل نفلٌ، وبعده على من أراد الصلاة فرضٌ. وقد نص على وجوب الوضوء بعد الغسل في (الأحكام)(1)، وقال في (المنتخب)(2): (وذلك أحب إلينا)، فخفف الأمر فيه، ونص في (المنتخب) على أَنَّهُ لا يجب قبل الغسل، وأشار إِلِيْهِ في (الأحكام)(3)، وكان أبو العباس الحسني رحمه اللّه يقول: إن الصحيح على مذهبه عليه السلام أن الوضوء مستحب قبل الغسل، وبعده على من أراد الصلاة فرض على ما ذكرنا. (6/7)
ويدل على أنَّه لا يجب قبل الغسل، الحديث الذي روي عن ميمونة أنها قالت: اغتسل رسول اللّه صلى الله عليه وآله وسلم فغسل(4) وجهه وذارعيه، ثم أفاض الماء على رأسه، ثم أفاض على سائر جسده، ثم تنحى، فغسل رجليه.
فلو كان الوضوء قبل الغسل فرضاً، لم يكن صلى الله عليه وآله وسلم ليدع استتمامه بترك غسل الرجلين إلى بعد الغسل، ففي ذلك دليل على أنَّه ليس بفرض، ولا أحفظ خلافاً في أنَّه مستحب.
والذي يدل على أنَّه فرض بعد الغسل ما: أخبرنا به أبو العباس الحسني، أخبرنا عيسى بن محمد العلوي، حدثنا الحضرمي، حدثنا عوف(5) بن سلام، عن قيس، عن عطاء، عن زاذان، عن علي عليه السلام، قال: (( من اغتسل من جنابة، ثم حضرته(6) الصلاة، فليتوضأ )).
فقد أمر أمير المؤمنين عليه السلام بالوضوء بعد الغسل، والأمر يقتضي الوجوب، ولم يعرف عن أحد من الصحابة أنَّه خالفه، على أنا قد ذكرنا في غير موضع أن مذهبنا ـ هو ـ ألا نخالفه عليه السلام.
وأخبرنا أبو العباس الحسني، أخبرنا عيسى بن محمد، حدثنا محمد بن عبد اللّه الحضرمي، حدثنا يحيى بن الحماني، حدثنا شريك، عن عطاء، وزاذان، وميسرة، أن علياً عليه السلام كان يتوضأ بعد الغسل.
__________
(1) انظر الأحكام 1/57.
(2) انظر المنتخب ص24، إلا أنه قال: وهذا.
(3) انظر الأحكام 1/57، 58.
(4) في (ج): اغتسل (ص) من الجنابة، فتمضمض، واستنشق، وغسل.
(5) في (ج) وهامش (أ) و(ب): عون.
(6) في (ب) و(ج): حضرت.
وكان أبو العباس الحسني رضي الله عنه يستدل على ذلك بأن يقول: قد ثبت وجوب الترتيب في الوضوء، وأنه لا يجب في الاغتسال، فلو جوزنا الاقتصار على الغسل دون الوضوء، كنا قد أسقطنا الترتيب مع قيام الدليل على أنَّه مأخوذ على المتطهر، وكنا قد جعلنا مالا ترتيب فيه نائباً عما فيه الترتيب بغير دلالة، وكان يقول: إن قيل لنا فما تقولون لو اغتسل من الجنابة مرتباً؟ (6/8)
قيل لهم: ذلك الترتيب غير واجب بالإجماع، وما ليس بواجب لا ينوب عن الواجب.
وبنحو هذا يسقط سئوال من سأل، فيقول: إذا أجزأ غسل واحد عن الحيض والجنابة، والوضوء الواحد عن الأحداث الكثيرة، فلِمَ لا يجزي الغسل الواحد من الجنابة والحدث؟ لأنَّه كان يعتمد أن الترتيب مشروط في أحدهما، غير مشروط في الآخر.
فإن قيل: روى أبو بكر بن أبي شيبة، حدثنا شريك، عن أبي إسحاق، عن الأسود، عن عائشة، قالت: كان رسول اللّه صلى الله عليه وآله وسلم لا يتوضأ بعد الغسل من الجنابة.
قيل له: لسنا نقول أن وقوع الوضوء بعد الاغتسال شرط في الاغتسال، فيحجنا ما روي، وإنما نقول: إن من أراد الصلاة بعد الاغتسال وجب عليه الوضوء، وكذا لفظ الخبر عن أمير المؤمنين عليه السلام، وإذا كان هذا هكذا، لم يكن يعترض ذلك على مذهبنا؛ إذ ليس فيه أنَّه كان صلى الله عليه وآله وسلم يغتسل من الجنابة، ولا يتوضأ بعده، ويقوم إلى الصلاة.
مسألة [ في نقض شعر المرأة ]
قال: وعلى المرأة أن تنقض شعرها عند اغتسالها من الحيض دون الجنابة. وقد نص على ذلك في (الأحكام) (1)، والأقرب أن ذلك طريقه الاستحباب، والوجه في استحباب ذلك للتي تغتسل من الحيض بُعْدُ عهدها بالاغتسال، وخشية أن يكون في شعرها شعر قد فارق الأصل؛ ولأن الحيض أبداً أغلظ حكماً من الجنابة.
وروى ابن أبي شيبة، حدثنا وكيع عن هشام، عن أبيه، عن عائشة، أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال لها في الحيض: (( انقضي شعرك، واغتسلي )).
__________
(1) انظر الأحكام 1/62.
وذكر يحيى بن الحسين عليه السلام، أنَّه روي أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم لم يأمر أم سلمة بنقض شعرها عند اغتسالها من الجنابة، وأنها كانت كثيرة الشعر(1). (6/9)
مسألة [ في حكم غسل الجمعة والعيدين والإحرام ]
قال: وغسل الجمعة، والعيدين، والإحرام سنة.
قال: وقال القاسم عليه السلام: ومن اغتسل يوم الجمعة لصلاة الفجر، اكتفى به، وإن أحدث بعد ذلك.
ويستحب الغسل لمن غسل الميت، ولمن أراد دخول الحرم، وكل ذلك منصوص عليه في (الأحكام) (2) في مواضعه.
أما غسل الجمعة، فقد ورد فيه: ما أخبرنا به أبو بكر المقرئ، حدثنا الطحاوي، حدثنا محمد بن علي بن محمد بن مُحَرِّز، حدثنا يعقوب بن إبراهيم، أخبرنا أُبي، عن إسحاق(3)، عن الزهري، عن طاووس، قال: قلت لابن عباس ذكروا أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم، قال: (( اغتسلوا يوم الجمعة، واغسلوا رؤوسكم، وإن لم تكونوا جنباً، وأصيبوا من الطيب ))(4). فقال ابن عباس: أما الغسل فنعم، وأما الطيب فلا أعلمه.
وأخبرنا أبو بكر المقرئ، حدثنا الطحاوي، حدثنا صالح بن عبد الرحمن بن عمرو بن الحارث، حدثنا سعيد بن منصور، حدثنا هشام، أخبرنا يزيد بن أبي زياد، عن عبد الرحمن بن أبي ليلى، عن البراء بن عازب، قال: قال رسول اللّه صلى الله عليه وآله وسلم: (( إن من الحق على المسلم أن يغتسل يوم الجمعة، وأن يمس من طيب، إن كان عند أهله، فإن لم يكن عندهم طيب، فإن الماء طيب ))(5).
فذهب(6) قوم إلى أن الغسل يوم الجمعة واجب، واستدلوا:
__________
(1) انظر الأحكام !62.
(2) انظر الأحكام 1/151، 278.
(3) في (ج): أخبرنا ابن إسحاق، عن الزهري.
(4) أخرجه الطحاوي في شرح معاني الآثار 1/115 وفيه: قال حدثنا أُبي عن ابن إسحاق عن الزهري.
(5) أخرجه الطحاوي في شرح معاني الآثار 1/116، ومنه حدثنا هشيم، بدلاً عن هشام، وبلفظ: على كل مسلم.
(6) في هامش (ب): وذهب.
بما أخبرنا به أبو الحسين عبدالله بن سعيد البروجردي، حدثنا سفيان بن هارون القاضي، حدثنا عبد اللّه بن أيوب، حدثنا سفيان، عن صفوان بن سليم، عن عطاء بن يسار، عن أبي سعيد الخدري، يبلغ به النبي صلى الله عليه وآله وسلم: (( الغسل يوم الجمعة واجب على كل محتلم ))(1). (6/10)
قيل له: لا يمتنع أن يكون ظاهر ما تعلقتم به يوجب أن الغسل فيه واجب، لكن قد وردت أخبار دلت على أنَّه مسنون، وأنه ليس بواجب، منها:
ما أخبرنا به أبو بكر المقرئ، حدثنا الطحاوي، حدثنا ابن أبي داود، حدثنا خالد الحمصي، حدثنا محمد بن حرب، حدثني الضحاك بن حمزة، عن الحجاج بن أرطأه، عن إبراهيم بن المهاجر، عن الحسن بن أبي الحسن(2)، عن أنس بن مالك، عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم أنَّه قال: (( من توضأ يوم الجمعة فبها ونعمت، وقد أدى الفريضة، ومن اغتسل، فالغسل أفضل ))(3).
فقد صرح النبي صلى الله عليه وآله وسلم بأن الوضوء هو الفرض، وأن الغسل فضيلة.
وروى الحديث المشهور، عن ابن عباس أنَّه قال: من اغتسل يوم الجمعة، فحسن جميل، ومن لم يغتسل، فليس عليه بواجب، وسأخبركم كيف كان ذلك، كان الناس مجهودين يلبسون الصوف ويعملون على ظهورهم، وكان المسجد ضيقاً متقارب السقف، فخرج إليهم رسول اللّه صلى الله عليه وآله وسلم في يوم حار، وقد عرق الناس، فتأذى الناس بعضهم بروائح بعض، وتأذى بها رسول اللّه صلى الله عليه وآله وسلم فقال: (( أيها الناس، إذا كان هذا، فاغتسلوا، ولْيُمِسُّ أحدكم أفضل ما يجد من طيبه ودهنه ))(4).
وروي نحو هذا عن عائشة، فبين السبب فيه وأنه لإماطة تلك الروائح على سبيل التنظيف.
__________
(1) أخرجه الطحاوي في شرح معاني الآثار 1/116 عن يونس، به.
(2) في (أ) و(ب): الحسين بن أبي الحسين.
(3) أخرجه الطحاوي في شرح معاني الآثار 1/119.
(4) أخرجه الطحاوي في شرح معاني الآثار 1/116، 117 بلفظ مقارب.
وأخبرنا أبو بكر المقرئ، حدثنا الطحاوي، حدثنا ابن مرزوق، حدثنا يعقوب بن إسحاق، حدثنا شعبة، أخبرني عمرو بن مرة، عن زاذان، قال: سألت عليّاً ـ عليه السلام ـ عن الغسل فقال: اغتسل إذا شئت. قال: إنما أسألك عن الغسل الذي هو الغسل؟ قال: يوم الجمعة، ويوم عرفة، ويوم الفطر، ويوم النحر(1). (6/11)
ومن المعلوم أنَّه لم يخبر عن الغسل المباح؛ لأن السائل لم يقنع بقوله ـ عليه السلام ـ: اغتسل إذا شئت، وقال بعد ذلك: إنما أسأل عن الغسل الذي هو الغسل، وكذلك لم يخبر عن الغسل المفروض؛ إذ ذكر غسل العيدين ويوم عرفة، ولم يذكر الغسل من الجنابة، فثبت أنَّه أراد الغسل المسنون، وفي(2) ذلك صحة ما ذهبنا إليه من أن غسل الجمعة والعيدين سنة.
وأما غسل الإحرام، فالذي يدل على أنَّه مسنون:
ما رواه أبو بكر بن أبي شيبة، حدثنا حاتم بن إسماعيل، عن جعفر بن محمد، عن أبيه، عن جابر ـ في حديث طويل يصف فيه حجة رسول اللّه صلى الله عليه وآله وسلم ـ يقول: أتينا ذا الحليفة فولدت أسماء ابنة عميس محمد بن أبي بكر، فأرْسلَت إلى رسول اللّه كيف أصنع؟ فقال: اغتسلي واستذفري بثوب وأحرمي.
فلما أمرها بالغسل مع النفاس، عُلم أنَّه مسنون؛ إذ لا غرض فيه غير إقامة السنة.
وروي عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم أنَّه قال لعائشة ـ حين حاضت، وكانت مُهِلَّة بعمرةٍ ـ: (( انقضي رأسك، وامتشطي، واغتسلي وأهلي بالحج )). فدل ذلك على ما قلناه.
وأما الوجه فيما قاله القاسم عليه السلام من أن من اغتسل يوم الجمعة اكتفى، وإن أحدث بعد ذلك هو أن الغرض المقصود به من إماطة الروائح يتم، وإن توسط الحدث بينه وبين الصلاة، ولأنَّ أحداً لم يقل بخلافه.
__________
(1) أخرجه الطحاوي في شرح معاني الآثار 1/119 إلا أنه قال: قلت إنما...إلخ، وقال: ويوم الأضحى بدلاً عن النحر.
(2) في (ب) و(ج): ففي.
وأما الوجه في استحباب الغسل لمن غسل الميت، فلأنه لا يكاد يسلم من أن ينتضح عليه من غسالة الميت ما ينجسه، سيَمَا وقد بينا فيما تقدم أن الماء ينجس بوروده على النجاسة، كما ينجس بورود النجاسة عليه، ومن أهل البيت من يذهب إلى أن ذلك واجب، وذلك لا معنى له؛ إذ لم يقم عليه دليل من الشرع؛ ولأن الغسل لو وجب، لكان يجب لأنَّه لمس الميت إذا صب عليه الماء، وصب الماء لا يزيده شراً، وإذا ثبت بالإجماع أن من مس الميتة من سائر الحيوان، فلا يجب عليه الغسل، فكذلك من مس الميت من بني آدم؛ إذ(1) لا يجوز أن يكون ابن آدم أسوأ حالاً من سائر الحيوانات، سيما ما ثبتت(2) نجاستها كالكلب والخنزير. (6/12)
وأما الوجه في استحباب الغسل لمن أراد دخول الحرم، فهو أن الإنسان يحصل في ذلك المكان الشريف، فاستحب له الغسل كما استحب لمن أراد حضور الجامع يوم الجمعة، وحضور المصلى في العيدين.
وليس لأحد أن يقول: أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم لمَّا لم يأمر عائشة بتكرير الغسل لدخول الحرم حين أمرها أن تحرم من التنعيم، ثبت أنَّه لا وجه لاستحبابه، وذلك أن الغسل الواحد يقوم مقام الغسلات الكثيرة في الفرض والسنن، فكيف في الاستحباب؟! فإذا(3) كان ذلك كذلك، لم يمتنع أن يكون النبي صلى الله عليه وآله وسلم لم يأمرها بذلك؛ لقرب التنعيم من الحرم (إذ التنعيم مما يلي الحرم)(4)؛ فكأن الغسل الواحد ناب عن الإحرام، وعن دخول الحرم.
مسألة [ فيمن شك في الترتيب أو في تطهير عضو قبل الصلاة ]
قال: ومن توضأ ثم شك في تطهير عضو من أعضائه؛ طهره، ثم أعاد ما بعده، فإن شك في الترتيب، عاد إلى الموضع الذي شك فيه، ثم أعاد ما بعده. وقد نص على ذلك (ع) في (الأحكام) (5).
__________
(1) حذفت (إذ) من (ب).
(2) في (ب): ثبت.
(3) في (ب) و(ج): وإذا.
(4) ما بين القوسين زيادة في (ج).
(5) انظر الأحكام 1/54 ـ 55.
والوجه فيه أنَّه متيقن للحدث فيجب أن يتيقن الطهارة، لا خلاف في ذلك، فإذا ثبت ما ذكرناه صح ما ذهبنا إليه؛ لأنَّه إذا شك في تطهير عضو من أعضائه، لا يكون متيقناً استكمال الطهارة، وقولنا: ثم أعاد ما بعده، مبني على ما ذهبنا إليه من القول بوجوب الترتيب؛ لأنا إذا قلنا بوجوبه، قلنا: أن غسل العضو الثاني قبل غسل العضو الأول لا معنى له، وغسله معه لا يقتضي الترتيب، فكأنه شك في ذلك العضو وفيما بعده، فلذلك قلنا: إنَّه يعيد ما بعده. (6/13)
والوجه فيما قلناه أن من شك في الترتيب عاد إلى الموضع الذي شك فيه، ثم أعاد ما بعده، هو الوجه الذي ذكرنا في المسألة الأولى، وهو ـ أيضاً ـ مبني على القول بوجوب الترتيب، وقد مضى الكلام فيه مستقصى فلا طائل في إعادته.
مسألة [ فيمن شك في الترتيب بعد الصلاة ]
قال: فإن(1) كان صلى بذلك الوضوء، ثم عرض له الشك في ترتيبه، لم يعد تلك الصلاة، وإن أيقن التنكيس، أعاد الوضوء والصلاة.
وهذا منصوص عليه في (الأحكام)(2).
والوجه فيه أن الشك في الترتيب إذا عرض بعد ما صلى، فإن تلك الصلاة قد أداها على ما لزمه، ولم يعرض له بفسادها علم، ولا غالب الظن، فيجب أن يكون حكمها حكم سائر الصلوات التي تؤدى في أنَّه لا يجب قضاؤها، فإذا أيقن التنكيس، أو غلب ذلك في ظنه، فعليه إعادة الصلاة، على ما نص عليه؛ لأنَّه قد علم أن صلاته وقعت على وجه لا يصح، أو غلب في ظنه.
فإن قيل: فلم ألحقتم غالب الظن بالعلم في هذا الموضع؟
قيل له: لأن التحري قد ثبت أن له حكماً في الطهارات والصلاة، والتحري يحصل عنده غالب الظن دون العلم، فثبت أن غالب الظن له مدخل في إفساد الطهارات والصلوات، وصحتها.
__________
(1) في (ب) و (ج): وإن.
(2) انظر الأحكام 1/55.
والأقرب على مذهب الهادي عليه السلام أن من صلى، ثم أيقن أنَّه كان نكس وضوءه على طريق السهو، وما يجري مجراه، أنَّه يقضي صلاته ما دام في وقتها، ولا يقضيها إن علم بذلك بعد تصرم وقتها، فقد نص على مثل ذلك فيمن تطهر بماء نجس، وهو لا يعلم، وما أشبه ذلك، فإن كان نكس وضوءه عامداً عالماً بأنه لا يجوز، فإنه يعيد الصلاة قبل تصرم الوقت وبعده(1). (6/14)
والأصل في هذا أن من أخطأ فيما طريقه الإجتهاد من الطهارة والصلاة، ثم علم به في الوقت، فإن مذهبه أنَّه يعيد، وإن علم به بعد الوقت لا يعيد، وإن أخطأ فيما طريقه العلم، أو القطع، أو تعمد إيقاع الفعل على وجه لا يصح عنده ـ وإن كان طريقه الاجتهاد ـ فإنه يقضي الصلاة قبل تصرم(2) الوقت وبعده، فما ذكر في هذا الموضع هو فرع على الأصل الذي ذكرناه، وسيجيء الكلام فيه مستقصى في موضعه من كتاب الصلاة.
مسألة [ في تفريق الوضوء والغسل ]
قال: ولا بأس بتفريق الوضوء والغسل.
وقد نص على جواز تفريق الوضوء في (المنتخب) (3) وعلى جواز تفريق الغسل في (الأحكام) (4).
واستدل على ذلك بأن اللّه تعالى أمر بالغسل، فقال عزَّ وجل: {فَاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ..} الآية[المائدة:6]، وقال: {وَإِنْ كُنْتُمْ جُنُباً فَاطَّهَّرُوا}[المائدة:6]، فكان الواجب هو غسل ما أمر اللّه تعالى بغسله، وسواء وقع الغسل على وجه التفريق، أو وجه(5) التتابع؛ إذ لم تتضمن الآية ذكر التتابع، ولا ذكر التفريق.
فإن قيل: قد قال النبي صلى الله عليه وآله وسلم في وضوء تابع فيه: (( هذا وضوء لا يقبل اللّه الصلاة إلاَّ به )).
قيل له: المراد به ما اشتمل عليه اسم الوضوء، والتفريق والتتابع لا ينطلق عليهما اسم الوضوء.
__________
(1) انظر الأحكام 1/120.
(2) سقطت (تصرم) من (أ).
(3) انظر المنتخب ص27.
(4) انظر الأحكام 1/51.
(5) في (أ): جهة.
يدل على ذلك ما ذكرناه بإسناده فيما مضى من هذا الكتاب أن رسول اللّه صلى الله عليه وآله وسلم رأى رجلاً يصلي وعقبه يلوح، فقال: (( إن كنت أمسسته الماء، فامض في صلاتك، وإن لم تكن أمسسته(1)، فاخرج من صلاتك )). فقال: يا رسول اللّه كيف أصنع؟ أَستقبل الطهور؟ قال: (( لا، بل اغسل ما بقي )). وهذا نص صريح فيما نذهب إليه في هذا الباب. (6/15)
فإن اعتلوا لمذهبهم، فقالوا: هي عبادة مرتبط بعضها ببعض، فيجب أن تكون المتابعة شرطاً فيها قياساً على الصلاة، أو بأنها عبادة تبطل بالحدث، عارضناهم بقياسه على الزكاة، أنها عبادة يجوز تفريق النية عليها، فيجب أن يجوز تفريقها؛ إذ الزكاة جائز تفريق النية عليها، على أن قولهم: إن الوضوء عبادة مرتبط بعضها ببعض، فيجب أن يكون التتابع شرطاً فيها منتقض بالحج؛ لأنَّه عبادة مرتبط بعضها ببعض، ومع ذلك يجوز التفريق بين أبعاضه.
وترجح علتنا باستنادها إلى الظواهر من القرآن، وصريح قول النبي صلى الله عليه وآله وسلم، وبأنا رددنا عبادة ليس لها تحليل ولا تحريم إلى عبادة ليس لها تحليل ولا تحريم، فكان فرعنا بأصلنا أشبه.
ويمكن أن نقيس الكثير من التفريق على اليسير، بعلة أنَّه تفريق بين أبعاض الطهارة،
ويمكن أن نقيس ذلك على إزالة النجاسات، فنقول: إن التفريق فيه يجوز كما يجوز في إزالة النجس، والمعنى أنها طهارة تراد لاستباحة الصلاة.
وهذان القياسان مرجحان بالتنجيس(2)؛ لأن الأول هو رد حكم الوضوء إلى حكم له، والثاني يرد ما يتوصل به إلى الصلاة إلى ما يتوصل به إلى الصلاة.
مسألة [ في الأحداث المختلفة يجزي عنها غسل واحد ]
قال: والجنابة والحيض يجزي عنهما غسل واحد، وكذلك الأحداث الكثيرة يجزي عنهما وضوء واحد.
وقد نص في (الأحكام)(3) على ذلك في الجنابة والحيض.
__________
(1) في (أ): أمسست.
(2) في (ب) و(ج): التجنيس.
(3) انظر الأحكام 1/61.
والوجه في ذلك : أن الحدث لا يوجب الوضوء، ولا الحيض يوجب الغسل ولا الجنابة، وإنما يجب(1) الوضوء والاغتسال إذا أراد الصلاة، أو قراءة القرآن، أو ما يجري مجرى ذلك، يدل على ذلك أن الإيجاب لو كان يرجع إلى الأحداث أو الحيض، أو الجنابة، لكان يجب عقيب ذلك، ولا خلاف أن الإنسان له أن يؤخر ذلك إلى وقت الصلاة، وإذا ثبت ما ذكرنا، ثبت أن أعداد الأحداث لا يعتبر بها، وأن الواجب على الإنسان أن يتوضأ متى أراد الصلاة وهو محدث، وأن يغتسل متى أرادها وهو جنب، على أن المسألة لا خلاف فيها، فإطالة الكلام فيها لا طائل فيه. (6/16)
مسألة [ متى تطلق الجبائر ]
قال: ومن كسر فجبر، ولم يخش من إطلاق الجبائر عنتاً، لم يجزه إلاَّ إطلاقها، وتطهير ما يجب تطهيره، وإن خشي عنتاً، أجزأه ترك ذلك العضو دون مسح الجبائر والخرق. وقال عليه السلام في (المنتخب) (2): (يمسح على الجبائر).
وهذه المسألة فيها روايتان، فرواية (الأحكام) (3) هي الرواية الأولى، ورواية (المنتخب) هي الثانية، وبها أقول.
والوجه لمن ذهب إلى الرواية الأولى أن اللّه تعالى أمر بتطهير هذه الأعضاء، فإذا تعذر ذلك سقط فرضه قياساً على سائر العبادات إذا تعذرت، وأنه لا معنى للمسح على الجبائر والخرق كما أنَّه لا معنى عندنا للمسح على الخفين والجوربين والعمامة والخمار.
والوجه لمن ذهب إلى الرواية الثانية وهي رواية (المنتخب):
__________
(1) في (أ): يوجب.
(2) المنتخب ص28.
(3) انظر الأحكام 1/60.
ما أخبرنا به محمد بن عثمان النقاش، حدثنا الناصر للحق عليه السلام، حدثنا محمد بن منصور، حدثنا أحمد بن عيسى، حدثنا حسين بن علوان، عن أبي خالد، عن زيد بن علي، عن آبائه، عن علي عليه السلام، قال: أصيبت إحدى زندي مع رسول اللّه صلى الله عليه وآله وسلم فَجُبِّرت فقلت: يارسول اللّه، كيف أصنع بالوضوء؟ قال: (( امسح على الجبائر )). قال: قلت: فالجنابة؟ قال: (( كذلك فافعل )). فقد نص صلى الله عليه وآله وسلم على صحة ما اخترناه في هذا الباب. (6/17)
وكان أبو العباس الحسني ـ رحمه اللّه ـ يتأول ذلك على العظام المجبورة، وهذا التأويل بعيد جداً من وجهين:
أحدهما: أنَّه لا يمكن الوصول إلى المسح عليها، إلا بحَلِّ ما عليها، وذلك يؤدي إلى الضرر العظيم، وإفساد العضو، ومن المعلوم أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم لم يأمره به.
والثاني: أن الجبائر إذا أطلقت حملت على ما على العضو من الخشب ونحوه، وقول النبي صلى الله عليه وآله وسلم يجب أن يحمل على ما يقتضيه إطلاقه.
مسألة [ في المحروق والمجدور إذا اجتنبا ]
قال: ومن احترق أو أصابه جدري، ولم يخش من الاغتسال عنتاً، اغتسل، وإن خشي من الدلك، ولم يخش من صب الماء عنتاً(1) اقتصر على صب الماء، وإن خشي من ذلك عنتاً، اجتزئ بالتيمم. وكل ذلك منصوص عليه في (الأحكام) (2).
والأصل في ذلك أن الله تعالى أمر بالغسل مع الإمكان، وقد بينا فيما مضى أن الغسل هو صب الماء مع الدلك، أو ما يقوم مقامه، فإذا أمكن جميع ذلك، وجب أن يفعل، وإذا تعذر الدلك، سقط، وبقي وجوب صب الماء، وإذا تعذر صب الماء مع الدلك، سقطا جميعاً، ووجب التيمم مثل الصلاة تجب من قيام، فإذا تعذر القيام، سقط وجوبه، وصلى من قعود، فإذا تعذر القعود، سقط وجوبه، وصلى بالإيماء.
__________
(1) في (أ) وهامش (ب): اقتصر على ما لم يخش دون ما يخشى، وإن كان جدرية قد تفقأ أو تنفط جسده من الاحتراق وخشي من صب الماء اجتزئ بالتيمم.
(2) انظر الأحكام 1/59.
ويدل على ذلك قوله تعالى: {وَإنْ كُنْتُم مَرْضَى أَوْ عَلَى سَفَرٍ} إلى قوله : {فَلَمْ تَجِدُوا مَاءً فَتَيَمَّمُوا}[المائدة:6]، فجعل للمريض العدول عن الماء إلى التيمم، وهذا عام في كل مرض، فلما أجمع الجميع على أن المريض الذي لا يستضر بالماء لا يجوز له العدول عنه، خص ذلك، وبقي الباقي على عمومه، وهذا يصحح ما نذهب إليه من أن من خاف الزيادة في العلة، جاز له العدول عن الماء إلى التيمم، وهو الذي نص عليه القاسم عليه السلام فيما رواه عنه يحيى في (الأحكام) (من خشي التلف أو العنت من مجدور أو مريض، تيمم، وكان ذلك مجزياً) (1). (6/18)
وأخبرنا محمد بن عثمان النقاش، حدثنا الناصر عليه السلام، حدثنا محمد بن منصور، أخبرنا أحمد بن عيسى، عن حسين، عن أبي خالد، عن زيد بن علي، عن آبائه، عن علي عليه السلام، أن رجلاً أتاه، فقال: إن ابن أخي به جدري، وقد أصابته جنابة، فكيف أصنع؟ فقال: "يمموه".
وهذا مقيس على من خاف التلف من استعمال الماء؛ بعلة أنَّه يخاف زيادة العلة من استعمال الماء، فكل من كان كذلك، جاز له العدول عن الماء إلى التيمم، والمخالف لنا يقيسه على من لا يخاف من الأعِلاَّء ضرراً من استعمال الماء كالمحموم، وما جرى مجراه، بعلة أنَّه لا يخاف التلف من استعمال الماء، وعلتنا مرجحة بالنقل؛ ولأنها مستندة إلى قول اللّه تعالى: {وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِيْ الدِّيْنِ مِنْ حَرَجٍ}[الحج:78].
مسألة [ في غسل الأقطع ]
قال القاسم عليه السلام، وَالأَقطع يغسل ما بقي إلى الحد المحدود. وهذا منصوص عليه في (مسائل النيروسي).
والدليل على ذلك أن اللّه تعالى أوجب على المتطهر غسل اليدين إلى المرفقين بقوله: {وَأَيْدِيَكُم إِلَى الْمَرَافِقِ}[المائدة:6]، فكل جزء من أجزاء اليد إلى المرفق يجب غسله، فإذا سقط فرض بعضها بذهابه بالقطع أو غيره، بقي وجوب الغسل لسائره كما كان، وهذا أوضح مما يُحتاج فيه إلى الإطالة.
__________
(1) الأحكام 1/60.
باب القول في التيمم (7/1)
يجب التيمم على من تعذر عليه الماء المطلق من حاضر أو مسافر في آخر وقت صلاة لزمته، فإن كانت صلاته ظهراً، تحرى وقتاً يغلب عنده أنَّ ما يبقى بعدها من الوقت قبل غروب الشمس لا يتسع لأكثر من صلاة العصر وتيممها، وإن كانت صلاته عصراً، تحرى لها وقتاً، يغلب عنده أن يصادف فراغه منها غروب الشمس، وكذلك يتحرى للمغرب والعشاء حتى يصادف فراغه من العشاء طلوعَ الفجر، ويتحرى للفجر حتى يصادف فراغه منها طلوع الشمس، وهذه جملة تشتمل على ثلاث مسائل:
إحداهما: أنَّه لا فرق بين الحاضر والمسافر في وجوب التيمم عليه.
والثانية: أن التيمم لا يجوز إلا في آخر الوقت.
والثالثة: أن وقت الظهر والعصر ممتد إلى حين ما ذكرنا، وكذلك وقت المغرب والعشاء، وكذلك وقت الفجر.
فأما المسألة الثالثة، فإنها تختص كتاب الصلاة، ونحن إن شاء اللّه نذكرها إذا انتهينا إليه بشرحها.
وما يختص هذا الموضع، هذه المسألة الأولة والثانية، وكل ذلك منصوص عليه في (الأحكام) (1).
المسألة الأولى [ في استواء الحاضر والمسافر في وجوب التيمم ]
الذي يدل على(2) أن من لم يجد الماء، يتيمم حاضراً كان أو مسافراً:
ما أخبرنا به محمد بن عثمان النقاش، حدثنا الناصر عليه السلام، حدثنا محمد بن منصور، حدثنا أحمد بن عيسى، عن حسين، عن أبي خالد، عن زيد بن علي، عن آبائه، عن علي عليه السلام، قال: قال رسول اللّه صلى الله عليه وآله وسلم: (( جُعِلَت لي الأرض مسجداً، وترابها طهوراً )). قال اللّه تعالى: {فَلَمْ تَجِدُوا مَاءً فَتَيَمَّمُوا صَعِيْداً طَيِّباً}[المائدة:6]، فأطلق صلى الله عليه وآله وسلم ذلك، ولم يستثن مقيماً من مسافر.
__________
(1) انظر الأحكام 1/66، 71.
(2) انظر الأحكام 1/66.
وروى أبو بكر بن أبي شيبة، حدثنا محمد بن فضيل، عن أبي مالك الأشجعي، عن ربعي، عن حذيفة، قال: قال رسول اللّه صلى الله عليه وآله وسلم: (( جعلت تربتها لنا طهوراً، إذا لم نجد الماء ))، يعني الأرض. (7/2)
وروى ابن أبي شيبة، حدثنا ابن علية، عن أيوب، عن أبي قلابة، عن رجل من بني عامر، عن أبي ذر، عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال: (( الصعيد الطيب طهور لمن لم يجد الماء، ولو إلى عشر حجج، فإذا وجدت الماء فأمسسه بشرتك )).
فعلق صلى الله عليه وآله وسلم الحكم بعدم الماء دون المقام والسفر.
فإن قيل: إن الله ـ تعالى ـ علق جواز التيمم مع عدم الماء بالسفر.
قيل له: إنما ذكر ـ سبحانه ـ السفر كما ذكر جملة من الأحداث، ولم يدل ذلك على أنَّه لا يجوز في غير السفر، كما لا يدل على أنه لا يجزي من سائر الأحداث، وإنما ذكر السفر؛ لإن عدم الماء في غالب الأحوال يكون في السفر، والآية تقتضي جوازه في السفر، وليس فيها ذكر المنع من الإجازة في الحضر، وعموم ما رويناه عمن رواه عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم يقتضي جوازه في السفر والحضر.
ومما يدل على ذلك أنَّه لا خلاف في أن المسافر إذا عدم الماء، يجوز له التيمم، فكذلك الحاضر، والعلة عدم الماء، بدلالة أن المسافر إذا وجد الماء، لم يجز له التيمم، وإذا عدمه جاز ذلك، فعلم أن الحكم تعلق بعدم الماء، على أن هذه العلة منصوص عليها بما رويناه عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم، وهو مما يرجحها ويقويها على كل ما يُعلَّل به مما يقتضي خلاف حكمها، على أن المخالف لنا في هذا هو أبو حنيفة، وهو يوافقنا على جواز التيمم في الحضر، إذا خاف فوت الصلاة على الجنازة، فكذلك سائر الصلوات؛ بعلة أن ترك التيمم يؤدي إلى فوت الصلاة، على أن الاحتياط للصلاة المكتوبة في السفر والحضر، إذا كان يؤدي تركه إلى فوتها أوجب.
المسألة الثانية [ متى يجوز التيمم ]
استدل يحيى عليه السلام(1) على أن التيمم لا يجوز إلاَّ في آخر الوقت بأن قال: قد ثبت أن اللّه تعالى أمر بالتيمم إذا كان الإنسان غير واجد للماء؛ لقوله تعالى: {فَلَمْ تَجِدُوا مَاءً فَتَيَمَّمُوا صَعِيْداً طَيِّباً}[المائدة:6]، وقد ثبت أن الإنسان لا يصير غير واجد للماء، بأن لا يكون الماء في ملكه، ألا ترى أن من أمكنه أن يشتري، أو يستقي، يكون في حكم الواجد، فلا يكون غير واجد إلاَّ إذا يئس منه(2)، ولا يكون آيساً منه إلاَّ في آخر الوقت، فثبت أن التيمم لا يجوز إلاَّ في آخر الوقت. (7/3)
فإن قيل: إن الذي أمكنه أن يشتريه أو يستسقيه أو (يستشفعه)(3) يكون واجداً له، وإن لم يكن مالكاً له، ومن لم يمكنه شيء من ذلك، يكون غير واجد له.
قيل له: لا يعتبر(4) بوجود الماء، وإنَّما يعتبر(5) أن يتمكن منه، أو يجد السبيل إلى التمكن، أو يطمع في ذلك، ألا ترى أن من وجد الماء مع غيره، وكان واجداً لثمنه، فليس له أن يتيمم، حتى يعلم أنَّه لا يبيعه، ولا يوصله إليه؟ فثبت أنَّه يصير غير واجد إذا كان على الصورة التي ذكرنا، وذلك لا يكون إلاَّ في آخر الوقت.
ومن أصحابنا من استدل على ذلك بأن قال: قد ثبت أن الطلب للماء قبل التيمم واجب، وسيجيء ذلك بعد هذه المسألة.
مسألة [ متى يجب الطلب ]
__________
(1) انظر الأحكام 1/66، 71.
(2) في هامش (ب): فإذا يكون غير واجد إذا يئس.
(3) ما بين القوسين زيادة في (أ).
(4) في (ب) و(ج): معتبر.
(5) في (ب) و(ج): المعتبر.
قال: ولا يجب الطلب إلاَّ بعد وجوب الصلاة؛ لأنَّه تعالى قال: {إِذَا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلاةِ فَاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ}[المائدة:6]، ومعناه أردتم القيام إلى الصلاة، وذلك لا يكون إلاَّ بعد دخول وقتها، ووجوبها، والطلب للماء يكون بعد وجوب التطهر، فإذا قد ثبت أن أول الوقت للطلب، فلا يجزي التيمم فيه، وليس بعد القول بالمنع من جوازه في أول الوقت، إلاَّ قول من جوزه في آخره، فثبت بذلك ما ذهبنا إليه، ومما يعتمد عليه: (7/4)
ما أخبرنا به أبو العباس الحسني رضي الله عنه، أخبرنا محمد بن بلال، أخبرنا(1) محمد بن عبد العزيز، حدثنا الحماني، حدثنا شريك، عن أبي إسحاق، عن الحارث، عن علي عليه السلام في الجنب لا يجد الماء: يتلوم ما بينه وبين آخر الوقت، فإن وجد الماء، وإلا تيمم، وصلى.
فقوله: يتلوم على طريق(2) الأمر دون الخبر؛ إذ لو كان على طريق الخبر لم يكن صدقاً، والأمر يقتضي الوجوب.
ومما يدل على ذلك أنَّه قد ثبت أن الاعتداد بالشهور لا يجوز للمطلقة إلاَّ بعد الإياس من القروء، فكذلك التيمم لا يجوز إلاَّ بعد الإياس من الطهور، والعلة أنَّه بدل لا قربة في فعله مع المبدَل، وليس ينتقض بشيء من أبدال الكفارات؛ لأن جميعها يجوز أن تكون قرباً بنفسها مع المبدَل، ومنفرداً عن المبدَل، بل سائر أبدال الكفارات تشهد بصحة هذه العلة؛ لأنها لما صحت(3) أن تكون بأنفسها قرباً مع المبدَل، لم تكن بدلاً إلاَّ مع الإياس من الاعتداد بالأقراء.
والشافعي يوافقنا على أنَّه لا يجوز التيمم قبل دخول وقت الصلاة، فكذلك لا يجوز قبل آخر الوقت؛ بعلة أنَّه تيممٌ فُعِل قبل آخر الوقت، فيجب أن لا يجوز، قياساً على ما يفعل منه قبل الوقت، وهذا القول مروي عن الحسن، وابن سيرين، وعطاء، رواه ابن أبي شيبة عنهم.
مسألة [ في وجوب طلب الماء ]
__________
(1) في (ج): حدثنا.
(2) في (أ): سبيل.
(3) في (ج): لم تصح، وظنن بها في هامش (ب).
قال: وعليه الإراغة في طلب الماء قبل ذلك. (7/5)
وهو منصوص عليه في (الأحكام)(1).
والذي يدل على ذلك قول الله تعالى: {فَلَمْ تَجِدُوا مَاءً فَتَيَمَّمُوا}[المائدة:6]، فأمر الإنسان بالتيمم إذا لم يكن واجداً للماء، ولا يقال للإنسان: إنَّه غير واجد للشيء، إلاَّ إذا كان طَلَبه؛ متى أريد به التحقيق، فأما إذا لم يكن منه طلب للشيء، فإنما يقال: إنَّه ليس له، أو ليس معه، وإذا ثبت ما بيناه، ثبت وجوب الطلب، ويدل على ذلك:
ما روي أن رسول اللّه صلى الله عليه وآله وسلم طلب الماء ـ ليلة الجن ـ من عبد الله، وسؤال الناس مكروه، إلا من ضرورة، وإذا لم يكن بالنبي صلى الله عليه وآله وسلم ضرورة الاحتياج، فلا بد أن تكون ضرورة الشرع، وضرورة الشرع هي(2) الوجوب، فثبت بذلك وجوب الطلب.
وأيضاً روي عن أمير المؤمنين عليه السلام أنَّه قال: "يتلوم الجنب ما بينه وبين آخر الوقت"، وذلك أمر، وهو يقتضي الوجوب.
ويدل على ذلك ـ أيضاً ـ أنَّه لا خلاف في أنَّه إذا وجده عند إنسان يبيعه أو عرفه في بئر بقربه، وجب عليه أن يطلبه، فكذلك إذا لم يعرفه، والعلة أنه غير آيس من وجود الماء في وقت الصلاة التي لزمته، وقياسنا هذا أولى من قياسهم الذي ردوه إلى سائر الأبدال، وقالوا إن المعتبر هو عدم المبدل فقط؛ لأنا رددنا حال المتيمم إلى حال المتيمم، ولاستنادها إلى الظواهر وفعل النبي صلى الله عليه وآله وسلم، ولأنها حاظرة، وموجبة للاحتياط، وزيادة عبادة، على أنا لسنا نسلم في سائر الأبدال أنَّه لا يجب فيها الطلب على وجه من الوجوه، بل نوجب في الكل طلبٌ مثله؛ لأن المُظاهِرَ إذا كان عنده مال، وكان هناك مملوك يباع، وجب عليه أن يشتريه ويعتقه، وهكذا القول في غيره.
مسألة [ التيمم لكل صلاة ]
قال: وعليه أن يجدد لكل صلاة تيمماً، إلاَّ أن تكون صلاة ونافلتها، فيجزيه تيمم واحد.
__________
(1) انظر الأحكام 1/71.
(2) في (ب): على، وظنن فوقها بهي.
وذلك منصوص عليه في (الأحكام)(1). (7/6)
والذي يدل على ذلك قول اللّه تعالى: {وَإِنْ كُنْتُمْ مَرْضَى أَوْ عَلَى سَفَرٍ..} الآية[المائدة:6]، فأوجب التيمم على المريض والمسافر، كما أوجب على الجائي من الغائط والملامِس، فكما أن الجائي من الغائط والملامِس يجب عليهما التيمم إذا أرادا القيام إلى الصلاة، فكلذلك المسافر، فأوجب ذلك أنه متى أراد القيام إلى الصلاة لزمه التيمم، وإذا ثبت ذلك في المسافر ثبت في الحاضر؛ إذ لا أحد فصل بينهما في ذلك في هذا الوجه.
وليس يعترض عليه بجواز فعل الفاقد إن تيمم وصلى به صلاة واحدة، ثم عدمه للثانية؛ لأن ذلك مخصوص بالإجماع، وما عداه باق على العموم، والذي يدل على ذلك أيضاً:
ما أخبرنا به أبو العباس الحسني، أخبرنا أبو أحمد الأنماطي، ومحمد بن إبراهيم بن إسحاق الدهان، قالا: حدثنا إسحاق بن إبراهيم الصنعاني، حدثنا عبد الرزاق، عن الحسن بن عمارة، عن الحكم، عن مجاهد، عن ابن عباس، قال: "من السنة ألا يصلي الرجل بالتيمم إلاَّ صلاة واحدة، ثم يتيمم للصلاة الأخرى".
فقول ابن عباس: "من السنة" إضافة له إلى النبي صلى الله عليه وآله وسلم، فهو كالنص عنه عليه السلام.
وروى أبو بكر بن أبي شيبة، حدثنا هشيم، عن حجاج، عن أبي إسحاق، عن الحارث، عن علي عليه السلام، أنَّه قال: "تَيمَّم لكل صلاة".
ويدل على ذلك أنا قد بينا فيما تقدم أن التيمم لا يجوز أن يفعل إلاَّ في آخر وقت الصلاة، فلو جوزنا أن يصلى العصر بتيمم قد فعل قبل آخر وقته، فذلك مما دللنا على فساده.
ويدل على ذلك ـ أيضاً ـ أنَّه لا خلاف في أن المستحاضة لا تصلي الصلوات كلها بطهارة واحدة، فكذا المتيمم، والمعنى أنها طهارة مفعولة على سبيل الضرورة، وإذا ثبت ذلك، فلا قول بعده، إلاَّ قول من يقول إنَّه لا يصلى بتيمم واحد إلا صلاة واحدة من المكتوبات.
__________
(1) انظر الأحكام 1/67.
وليس لهم أن يعللوا بعلتنا هذه ويردوها إلى أصلنا هذا، فيقولوا: لما اتفقنا نحن وأنتم أن المستحاضة لا يجب عليها أن تتطهر لكل صلاة، فكذلك المتيمم، والمعنى أنها طهارة مفعولة على سبيل الضرورة، فإذا ثبت ذلك، فلا قول إلاَّ قول من يقول: إنَّه يصلي الصلوات أجمع بتيمم واحد، وذلك أن الوصف لا يؤثر في حكمهم في الأصل، ألا ترى أن الوضوء المفعول على سبيل الضرورة، والمفعول منه على سبيل الاختيار يشتركان في أنه لا يجب على المتوضئ أن يفعله لكل صلاة، فلا مزية في هذا الباب لكونها مفعولة على سبيل الضرورة، ولا تأثير لها، وليس(1) كذلك تأثيرها في حكم أصلنا، ألا ترى أن المفعول منه على سبيل الضرورة لا يجوز أن يصلى(2) به الصلوات أجمع، (والمفعول منه على سبيل الاختيار يجوز أن تصلى به الصلوات أجمع) (3)، فبان أن علتنا تؤثر في حكم أصلنا، وعلتهم لا تؤثر، فنحن إن شئنا، أسقطنا علتهم بكونها غير مؤثرة، وإن شئنا، رجحنا علتنا بالتأثير، وهذا الترجيح لا يقابله شيء من التراجيح، هذا إذا سلمنا أن العلة تصح من غير أن تكون مؤثرة. (7/7)
ويمكن أن يقال فيه ـ أيضاً ـ: إنَّه قد ثبت أن التيمم لا يرفع الحدث، وإنما يبيح الصلاة، فكما أن المحدث العادم للماء يجب أن يتمم إذا أراد القيام إلى الظهر، فكذلك يجب عليه تيمم ثانٍ إذا أراد القيام إلى العصر؛ لأنَّه محدث عادم للماء أراد القيام إلى الصلاة المكتوبة.
فإن استدلوا بقول رسول اللّه صلى الله عليه وآله وسلم: (( جُعلَت تربتها لي طهوراً لمن لم يجد الماء )).
وبما روى أبو ذر، أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال: (( الصعيد الطيب طهور لمن لم يجد الماء، ولو إلى عشر حجج )).
قيل له: نخص ذلك بالأدلة التي تقدمت، فلا معترض به علينا، على أن ذلك ورد لإجازة التطهر به، لا لكيفيته، فتعلقهم به بعيد.
__________
(1) في (ب) و(ج): فليس.
(2) في (ب) و(ج): يصلى.
(3) ما بين القوسين زيادة في (ج).
مسألة [ في التيمم بغير التراب ] (7/8)
قال: ولا يجوز التيمم بالنورة، والزرنيخ، وما أشبههما، ولا يجزي إلاَّ بالتراب لا غيره، فأما الرمل فإن كان فيه تراب يعلق بالكفين(1)، أجزأ، وإلا لم يجز. قال القاسم عليه السلام: ولا يجزي التيمم بتراب البَرذَعَة وشبهها.
ما حكيناه عن القاسم عليه السلام، قد نص عليه في كتابه المسمى بـ(كتاب الطهارة)، وما ذكرناه قبل ذلك منصوص عليه في (المنتخب)(2).
والذي يدل على ذلك قول اللّه تعالى: {فَلَمْ تَجِدُوا مَاءً فَتَيَمَّمُوا صَعِيْداً طَيِّباً} مع قوله: {وَالْبَلَدُ الطَّيِّبُ يُخْرِجُ نَبَاتُهُ بِإِذْنِ رَبِّهِ وَالَّذِيْ خَبُثَ لا يَخْرُجُ إِلاَّ نَكِداً}[الأعراف:58]، فلما أمرنا بالتيمم(3) بالصعيد الطيب، ثم بين أن الطيب، يخرج نباته، علمنا أن التيمم يجزي بما يخرج نباته، وأن ما لا يخرج نباته لا يجزي التيمم به.
فإن قيل: إنكم لا تقولون بدليل الخطاب، فكيف يسوغ لكم أن تدعوا أن مالا يخرج نباته ليس بطيب؟
__________
(1) في (ب) و(ج): باليد.
(2) انظر المنتخب ص28.
(3) في (ب) و(ج): أن نتيمم.
قيل له: ليس الاستدلال به من الوجه الذي قَدَرتَ، بل وجه الاستدلال منه هو: أن الألف واللام لما دخلا على البلد الطيب، دلا على الجنس؛ لأنهما إذا لم يدلا على المعهود، دلا على الجنس، فكأنه تعالى قال: كل البلد الطيب يخرج نباته بإذن ربه، فيعلم أن مالا يخرج نباته ليس بطيب، على أن اسم الصعيد تناول التراب، وتناول وجه الأرض، ولا يدخل فيهما الزرنيخ والنورة، وما أشبه ذلك، فلو اقتصرنا على الاستدلال بقوله، فتيمموا صعيداً، لأغنى، على أن كون الشيء مطهراً يحتاج إلى دلالة شرعية، ولم يثبت في غير الماء والتراب أنَّه مطهر، فوجب الحكم بأن لا مطهر سواهما، ويدل على ذلك أنَّه لا خلاف أن من تيمم بنحاتة الحديد والنحاس(1) والذهب والفضة، وما أشبهها، لا يجزيه، فكذلك من تيمم بالزرنيخ، والنورة وما أشبههما، والعلة أنَّه تيمم بغير التراب. (7/9)
مسألة [ في كيفية التيمم ]
قال: وإذا أراد التيمم، ضرب بيديه على التراب الطاهر، ثم مسح بيديه وجهه مسحاً غامراً، وأدخل إبهاميه من تحت غابَّته تخليلاً للحيته إن كانت، ثم عاد، فضرب يديه على التراب ضربة أخرى، وفرج بين أصابعه، ثم رفع يديه، فبدأ بمسح يمينه من ظاهرها من عند أظفارها حتى يأتي على ذلك إلى المرفق، ثم يقلب راحته اليسرى على باطن يده اليمنى، ثم يسمح جميع باطنها إلى راحته، وجميع يده وإبهامه، ثم يرد يده اليمنى على ظاهر يده اليسرى، فيفعل فيها(2) ما فعل باليمنى.
وذلك كله ذكره يحيى عليه السلام في (المنتخب)(3) بهذه الألفاظ، وأشار في (الأحكام) (4) إلى ما يؤدي إلى هذا المعنى، ونص فيه على أن تيمم اليدين إلى المرفقين، ورواه عن جده القاسم عليه السلام، وقد نص فيه ـ أيضاً ـ على أن التراب الذي يُتيمم به يجب أن يكون طاهراً.
__________
(1) سقط من (أ): والنحاس.
(2) في (ب) و(ج) بها.
(3) انظر المنتخب ص28، مع اختلاف يسير في بعض الألفاظ.
(4) انظر الأحكام 1/68.
وقد اختلف في مسح الوجه، فمن الناس من ذهب إلى أنَّه إن بقي منه شيء أجزأ، وأنَّ استيعابه غير واجب. (7/10)
والذي يدل على صحة ما ذهبنا إليه قول اللّه تعالى: {فَامْسَحُوا بِوُجُوهِكُمْ وَأَيْدِيْكُمْ}[المائدة:6]، فوجب استيعاب كل ما يسمى وجهاً، إلاَّ ما قام دليله، وقد استقصينا الكلام في مثل هذا عند ذكرنا وجوب مسح جميع الرأس، فلا وجه لإعادته.
وذكره عليه السلام تخليل اللحية هو لإتمام الاستيعاب، على أن تخليل اللحية في الوضوء قد ثبت وجوبه عندنا، فلو قسنا عليه التيمم بعلة أنَّه طهارة حدثٍ يراد للصلاة، كان ذلك قريباً.
وأما قوله: يفرِّج بين أصابعه، فإني سمعت شيخنا أبا الحسين بن إسماعيل رضي اللّه عنه، يقول: إن المراد به أن يحصل التراب بين الأصابع حتى لا يبقى موضع من اليد لم يمسه التراب، وسمعته يقول: إنَّه عليه السلام، قال: فيمسح باطنها ـ يعني باطن يده ـ إلى راحته، ولم يقل ويمسح راحته؛ لئلا يصير التراب الذي عليه مستعملاً، فيمسح به يده اليسرى.
ومسح اليدين قد اختلف فيه، والذي يدل على أنَّه إلى المرفقين قول اللّه تعالى: {فَامْسَحُوا بِوُجُوهِكُمْ وَأَيْدِيْكُمْ مِنْهُ}[المائدة:6]، واسم اليد يتناول الكف مع الذراع إلى الإبط والمنكب، فالظاهر اقتضى مسحها إلى الإبط والمنكب، فصار المسح إليهما واجباً، إلاَّ مقدار ما خصه الدليل، وذلك وراء المرفقين؛ إذ هو مخصوص بالإجماع.
فإن قيل: ومن أين ادعيتم أن اسم اليد يتناول الكف إلى الإبط؟
قيل له: لِما أخبرنا به أبو بكر المقرئ، حدثنا الطحاوي، حدثنا ابن أبي داود، حدثنا الوهبي، حدثنا ابن(1) إسحاق، عن الزهري، عن عبيد الله، عن ابن عباس، عن عمار، قال: كنت مع النبي صلى الله عليه وآله وسلم حين نزلت آية التيمم، فضربنا ضربة واحدة للوجه، ثم ضربنا ضربة أخرى لليدين إلى المنكبين ظهراً وبطناً(2). (7/11)
فإن قيل: فإنكم لا تقولون بذلك، فكيف احتججتم به؟
قيل له: نحن نقبل من عمار، ونأخذ عنه ما يجري مجرى اللغة، كما نقبل من أبي ذؤيب الهذلي، وأبي وجزة السعدي وغيرهما، فقبلنا قوله لليدين إلى المنكبين من طريق الاسم، ولم نقبله من طريق الحكم؛ لأن ذلك لا يأخذ(3) منه إلاَّ أن يعزوه إلى الرسول عليه السلام، وهو لم يفعل ذلك، وإنما عزاه إلى نفسه وفعله، إلاَّ أن ذلك قد أجمع على خلافه، والإجماع عندنا يقطع ما تقدمه من الخلاف، فلا وجه للإشتغال به.
وكذلك إن(4) قيل: إن بعض الناس قد ذهب إليه؟
قيل له: لم يعتبر به؛ لأنَّه خلاف لا حكم له، ويدل على ذلك:
ما أخبرنا به أبو بكر المقرئ، حدثنا أبو جعفر الطحاوي، حدثنا محمد بن الحجاج، حدثنا علي بن معبد، حدثنا أبو يوسف، عن الربيع بن بدر، قال: حدثني أبي، عن جدي، عن أسلع التميمي، قال: كنت مع النبي صلى الله عليه وآله وسلم في سفر، فقال لي: (( يا أسلع، قم فارحل بنا )). قلت: يا رسول الله، أصابتني بعدك جنابة، فسكت حتى أتاه جبريل عليه السلام بآية التيمم، فقال لي: (( يا أسلع، قم، فتيمم صعيداً طيباً، ضربتين: ضربةً لوجهك، وضربة لذراعيك، ظاهرهما وباطنهما )). فلما انتهينا إلى الماء، قال: (( يا أسلع، قم، فاغتسل ))(5).
__________
(1) سقطت (ابن) من (ب).
(2) أخرجه الطحاوي في شرح معاني الآثار 1/110، إلا أنه قال: عن عبد الله.
(3) في (أ) و(ب): لا يقبل.
(4) في (أ): فإن.
(5) أخرجه الطحاوي في شرح معاني الآثار 1/113.
وأخبرنا أبو بكر المقرئ، حدثنا الطحاوي، حدثنا ربيع المؤذن، حدثنا أسد، حدثنا محمد بن ثابت العبدي، حدثنا نافع، قال: انطلقت مع ابن عمر إلى ابن عباس في حاجة لابن عمر، فقضى حاجته، فكان من حديثه ـ يومئذ ـ أنَّه قال: مر رجل على رسول اللّه صلى الله عليه وآله وسلم في سكة من السكك، وقد خرج من غائط أو بول، فسلم عليه، فلم يرد عليه السلام، حتى كاد الرجل يتوارى في السكة، فضرب بيديه على الحائط، فتيمم لوجهه، ثم ضرب ضربة أخرى، فتيمم لذرعيه. قال: ثم رد عليه السلام، وقال: أما أنَّه لم يمنعني أن أرد عليه السلام، إلاَّ أني كنت لست بطاهر(1). (7/12)
وروى يحيى، عن أبيه، عن جده القاسم عليهم السلام، حدثني أبو بكر بن أبي أويس، عن الحسين بن عبد اللّه بن ضميرة، عن أبيه، عن جده، عن علي عليه السلام، أنَّه قال: "أعضاء التيمم: الوجه، واليدان إلى المرفقين" (2).
وروي عن عروة(3)، عن أبي الزبير، عن جابر بن عبد الله، عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم: (( في التيمم ضربة للوجه، وضربة للذراعين إلى المرفقين )).
فإن قيل: روي أن عماراً سأل النبي صلى الله عليه وآله وسلم عن التيمم، فأمره بالوجه والكفين.
وروي أن رسول اللّه صلى الله عليه وآله وسلم تيمم، فمسح بوجهه ويديه؟
قيل له: أما ما روي أنه صلى اللّه عليه وآله وسلم مسح بوجهه ويديه، فلا ينافي ما نذهب إليه؛ لأن الماسح إلى المرفقين مسح يديه، وإذا لم يذكر الحد الذي انتهى المسح إليه من اليد في حديث، لم يبطل ما ذكر من الحد في حديث آخر؛ إذ أحدهما لا ينافي صاحبه.
__________
(1) أخرجه الطحاوي في شرح معاني الآثار 1/85، عن حسين بن نصر وسليمان بن شعيب، قالا: حدثنا يحيى بن حسان، به.
(2) أخرجه الإمام الهادي في الأحكام 1/68 ـ 69.
(3) تم في جميع النسخ: عزرة.
وأما ما روي أنَّه أمر بالوجه والكفين، فيجوز أن يكون السامع سمع الوجه واليدين، فروى على المعنى من حيث أنَّه اعتقد أن المراد بهما واحد، فليس فيه ما يوجب إسقاط حديثنا، على أن هذا التأويل أولى؛ ليصح استعمال الأخبار كلها، ويمكن أن يقال: أنه لم ينف مسح ما زاد على الكفين. (7/13)
ويمكن أن يقاس التييم على الوضوء؛ بعلة أنها طهارة لحدث، فيجب أن تكون اليد مستوعبة إلى المرفق في التيمم، كاستيعابها في الوضوء، وقد أشار يحيى عليه السلام إلى هذا المعنى في (الأحكام) (1) حيث يقول: "وَحَد التيمم لمن لم يجد الماء، كحد الغسل لمن وجد الماء".
ويمكن أن تقاس اليد على الوجه؛ بعلة أن كل واحد منهما يثبت في التيمم، فيجب فيهما الاستيعاب كما وجب في الوجه.
مسألة [ في مقدار التراب ]
قال: ولا يجزئ حتى يعلق التراب بالكفين عند كل واحدة من الضربتين.
وذلك مخرج من قول يحيى عليه السلام في (الأحكام) (2) عند ذكر ما يجب على المتيمم: "ثم يمسح بما في كفه اليمنى من الصعيد يده اليسرى".
والذي يدل على ذلك قول اللّه تعالى: {فَلَمْ تَجِدُوا مَاءً فَتَيَمَّمُوا صَعِيْداً..} الآية[المائدة:6]، فالكناية راجعة إلى الصعيد، فوجب أن يمسح ببعضه؛ لأن (من) هاهنا للتبعيض، ولا يمكن أن يمسح منه، إلاَّ إذا علق بالكف منه شيء.
فإن قيل: روي أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم ضرب بيديه عل الجدار، ثم مسح وجهه، ثم ضرب ضربة أخرى، فمسح يديه، وفي هذا ما يبطل مذهبكم.
قيل له: ليس فيه علينا معتَرض، وذلك أن الجدار الجاف قد يكون عليه من الغبار ما يعلق بالكف، فلا يمنع أن يكون الجدار الذي ضرب عليه النبي صلى الله عليه وآله وسلم كان عليه التراب.
فإن قيل: فقد روي أنه ضرب بيديه على الأرض، ثم نفضهما ومسح وجهه.
__________
(1) الأحكام 1/ 67 ـ 68.
(2) الأحكام 1/68.
قيل له: ليس فيه أنَّه نفضهما حتى لم يبق عليهما شيء، فليس لكم فائدة فيه، على أن التراب قد أقيم مقام الماء، فكما يجب أن يلاقي الماء العضو المغسول، فالممسوح كذلك يجب أن يلاقيه التراب، والمعنى أن كل واحد منهما طهور. (7/14)
مسألة [ متى يجب شراء الماء ]
قال: وإن وجد الماء يباع بثمن غال، وكان إخراج ذلك الثمن لا يجحف به، لم يجزه التيمم.
وهذا منصوص عليه في (الأحكام) (1).
والوجه فيه أنَّه لا خلاف في أنَّ الإنسان بوجود الثمن واجدٌ للماء، إذا كان الثمن ثمن مثله، فيجب على هذا أن يكون سبيل الثمن سبيل الماء، في أنَّه يجب عليه إخراجه بالغاً ما بلغ، ما لم يجحف به، ويمكن أن يورد ذلك على سبيل القياس، فيقال: إن اشتراه بثمن مثله يجب بالإجماع، ولا يجوز التيمم، فكذلك إذا كان بثمن غال بالغاً ما بلغ، والمعنى أنَّ إخراج ثمنه لا يجحف به، يبين صحة هذه العلة أن ثمن مثله إن كان مجحفاً، لم يجب إخراجه، وإذا لم يكن مجحفاً، وجب ذلك، فبان أن الحكم في الأصل يتعلق بما ذكرناه.
وليس لأحد أن يقول: إن ذلك يؤدي إلى إتلاف المال، وذلك منهي عنه، وذلك أن إخراج الكثير من المال على هذا الوجه لو كان إتلافاً له، لكان إخراج اليسير من المال إتلافاً، وإتلاف اليسير كإتلاف الكثير في أنَّه منهي عنه، وإذا ثبت أن إخراج مثل ثمنه ليس بإتلاف، فكذلك إخراج الكثير.
مسألة [ فيمن يخاف التلف لقلة الماء ]
قال: ومن خشي على نفسه تلفاً إن تطهر بما معه من الماء، أجزأه التيمم.
وذلك منصوص عليه في (الأحكام) (2).
والذي يخرج على مذهب يحيى عليه السلام أنَّه إذا لم يخف تلفاً، وخاف من العطش ضرراً وعنتاً، كان له أن يستبقي الماء، ويتيمم؛ لأنَّه نص في الذي أصابه كسر، فقال: إن له أن يترك ذلك العضو إذا خاف عنتاً(3).
ونص القاسم عليه السلام على المجدور يخاف عنتاً أوتلفاً، أن له أن يتيمم.
__________
(1) انظر الأحكام 1/71.
(2) انظر الأحكام 1/69 ـ 70.
(3) انظر الأحكام 1/60.
والأصل في ذلك أن اللّه تعالى أطلق للمريض التيمم؛ لِما يخاف من استعمال الماء، فإذا خافه الصحيح، ولم يأمن أن يلحقه تلف أو عنت، فيجب أن يجوز له التيمم قياساً على المريض؛ إذ المريض لم يجز له التيمم للمرض، وإنما جوز له لخوفه من استعمال الماء، بدلالة أن المريض الذي لا يضره الماء لا خلاف في أنَّه لا يجزئه التيمم إذا وجد الماء، وإذا كانت العلة ما ذكرناه في المريض وجب أن يكون حكم الصحيح حكمَه لمشاركتهما في العلة. (7/15)
مسألة [ فيمن يخاف إن خرج للطلب ]
قال: وكذلك من خاف على نفسه، إن خرج في طلب الماء أية مخافة كانت، أجزأه التيمم، فإن لم يخف، وعلم أنه يلحق الماء قبل فوات الوقت، فعليه المسير(1) إليه، قربت المسافة إليه، أم بعدت.
وذلك ـ أيضاً ـ منصوص عليه في (الأحكام)(2).
والوجه في جواز التيمم لمن خاف على نفسه إن خرج في طلب الماء، هو الوجه الذي ذكرناه في المسألة الأولى، ووجه إيجاب المصير إليه إذا لم يخف تلفاً، ولا ضرراً، هو ما قدمنا القول فيه عند ذكرنا وجوب الطلب للماء على من أراد التيمم، فلا غرض في إعادته.
مسألة [حكم المتيمم يصلي ثم يجد الماء ]
قال: وإذا وجد الماء بعد ما تيمم وصلى ـ وهو في بقية من الوقت ـ فعليه الطهارة، وإعادة تلك الصلاة، فإن وجده بعد تقضي الوقت، لم يجب عليه إعادة تلك الصلاة، وعليه الطهارة لما يستأنف.
وذلك ـ أيضاً ـ منصوص عليه في (الأحكام)(3).
والوجه في ذلك أن التيمم عنده يجب أن يفعل في آخر وقت تلك الصلاة، وقد دللنا عليه قبل هذا الموضع، فإذا تيمم وصلى، ثم وجد الماء ـ وهو بعد في وقت من تلك الصلاة ـ وجب إعادة تلك الصلاة؛ لأن التيمم لا يكون فعل في آخر الوقت، وأمكنه أداء الصلاة متوضأً في الوقت.
__________
(1) في (ب) و(ج): المصير.
(2) انظر الأحكام 1/71.
(3) انظر الأحكام 1/67.
فإن قيل: فإذا كان المذهب ما ذكرت، فالواجب أن تلزمه إعادة الصلاة والتيمم إذا فرغ منها ـ وفي الوقت بقية ـ وإن لم يجد الماء، فلا فائدة لقولكم إن وجد الماء، بل يجب أن يستوي الحال بين أن يجد الماء، أو لا يجد. (7/16)
قيل له: ليس الأمر على ما ظننت، وذلك أنَّه لا يمكنه فعل التيمم في آخر الوقت، إلا بضرب من التحري؛ لأنَّه لا يمكنه أن يعرف الوقت الذي يصادف فراغه من الصلاة فيه فوات وقتها على سبيل اليقين، فإذا تحرى واتفق(1) أنَّه تبقى بعد الصلاة وقت، ولم يجد الماء، لم نوجب عليه إعادة الصلاة؛ لأنَّه إن أعادها، أعادها بضرب من التحري كما فعل أولاً، والتحري لا يُنقض به تَحرٍّ مثله، فأما إذا وجد الماء، فهو لا يحتاج إلى التحري، بل يصلي على اليقين بأنه مؤدٍ لها في وقتها، والتحري يعترض عليه اليقين.
ويمكن إيراد القياس فيه بأن يقال: إنَّه لا خلاف أنَّ من تمكن من الماء قبل أن يصلي بالتيمم، يجب عليه أداء الصلاة بالوضوء، فكذلك إذا وجده بعد ما صلى؛ والعلة فيه أنَّه تمكن من الماء في وقت الصلاة، فكل من تمكن من الماء في وقت الصلاة(2)، لزمه أداؤها متوضئاً، وليس لأحد أن يدعي انتقاض هذه العلة بمن تمكن من الماء ثم تعذر عليه قبل أداء الصلاة، وذلك أن التعليل هو للزوم الصلاة متوضئاً، وهذا قد لزمه حين تمكن من الماء، إلاَّ أن اللزوم زال بعد ذلك بتعذر الماء، وذلك لا يكون نقضاً، وما ذكرناه من أنَّه إن وجد الماء بعد وقت الصلاة يتطهر لما بعد، ولا يعيد الصلاة، فلا خلاف فيه، ويدل على ذلك قول النبي صلى الله عليه وآله وسلم: (( فإذا وجدت الماء، فأمسسه جلدك )).
فصل [ المتيمم يرى الماء في صلاته ]
__________
(1) في (أ) و(ب): أيقن.
(2) في (ب) و(ج): صلاته.
والذي يخرج على مذهب يحيى عليه السلام أن المصلي لو رأى الماء، وهو في الصلاة، وجب عليه الخروج منها، وإعادة الصلاة بالوضوء؛ لأنَّه إذا أوجب ذلك على من فرغ من صلاته، فبالأولى أن يوجبه على من هو في الصلاة. (7/17)
ومما يبين صحة ذلك أنَّه لا خلاف في أن رؤية الماء قبل الدخول في الصلاة يبطل حكم التيمم، فكذلك رؤيته فيها؛ بعلة أنَّه متمكن من استعمال الماء، فكل من تمكن من استعمال الماء لا حكم لتيممه، ويبين ذلك أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال: (( إذا(1) وجدت الماء، فامسسه بشرتك ))، ولم يستثن حال الصلاة من غيرها، وإذا ثبت وجوب استعمال الماء عليه، فلا قول إلاَّ قول من أبطل صلاته.
__________
(1) في (ب) و(ج): فإذا.
كتاب الحيض (8/1)
باب القول في أكثر الحيض وأقله
أقل الحيض ثلاث، وأكثره عشر. وهذا منصوص عليه في (الأحكام)(1)، وقال القاسم عليه السلام: أكثر الحيض عشر، ولا أحفظ له نصاً في أقله.
والذي يدل على صحة ما ذهب إليه الهادي إلى الحق عليه السلام:
أن الدم بمجرده لا خلاف في أنَّه لا يكون حيضاً، فلا بد من دليل على الحيض، وقد أجمعوا على أن الثلاثة والعشر تكون حيضاً، واختلفوا في أقل من ثلاث، و أكثر من عشر، ولا دليل على ذلك، فوجب القول بالثلاث والعشر؛ لقيام الدليل عليهما.
وأيضاً فقد روي في ذلك عن أنس، وعن عدة من الصحابة، ولم يرو عن أحد منهم خلافه، فهو كالإجماع منهم على ذلك، على أن هذا التحديد مما ليس فيه مساغ للاجتهاد؛ لأنَّه مثل عدد الصلاة، وعدد الركعات، فإذا روي ذلك عن بعض الصحابة؛ وجب حمله على أنَّه قاله؛ لأنَّه عرفه من جهة النبي صلى الله عليه وآله وسلم، وهذا أصل من أصول أصحابنا التي بُني عليها كثير من الفروع.
على أن محمد بن منصور، روى عن محمد بن عبد الله، حدثنا سويد بن سعيد الحديثي، حدثنا حسان بن إبراهيم الكرماني، حدثنا عبد الملك، عن رجل من أهل الكوفة، قال: سمعت العلاء يقول: سمعت مكحولاً يحدث، عن أبي أمامة، عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم، قال: (( أقل ما يكون الحيض للجارية البكر ثلاث، وأكثر ما يكون من الحيض عشرة أيام، فإذا زاد الدم أكثر من عشرة أيام، فهو استحاضة )).
__________
(1) ـ انظر الأحكام 1/72.
وقد استدل على ذلك بقول النبي صلى الله عليه وآله وسلم للمستحاضة: (( اقعدي أيام حيضك ))، وفي بعض الأخبار: (( أيام أقرائك ))، والأيام تكون من الثلاثة إلى العشرة؛ لأن المعدود إذا زاد على العشر، أو نقص من الثلاث، لم يعبر عنها باسم الجمع، وعبر عنها باسم الواحد، وهذا الدليل قريب إذا استدل به لأقل الحيض؛ لأن الأيام لا يقال فيها مضافاً إلى الشيء ومفرداً في أقل من ثلاثة أيام، فأما ما زاد على العشر، فلا يبعد أن يقال: إنَّه إذا قيد بالعدد، رُد إلى الواحد (وإذا لم يقيد، لم يرد إلى الواحد)(1)، واستعمل فيه الجمع فالأولى أن نقدره(2) بما قلناه إن أقل الحيض ثلاث، ثم يقال: وكل من قال إن الأقل ثلاث، قال: إن الأكثر عشر. (8/2)
فإن قيل: فالاثنان يعبر عنهما باسم الجمع؟
قيل له: ذلك عندنا مجاز، والحقيقة ما ذكرنا، والواجب حمل قول النبي صلى الله عليه وآله وسلم على الحقيقة دون المجاز.
فإن قيل: قول اللّه تعالى: {فَاعْتَزِلُوا النِّسَاءَ فِيْ الْمَحِيْضِ}[البقرة:222]، يوجب اعتزال النساء في قليل الأذى وكثيره، إلاَّ ما قام دليله، وإذا ثبت وجوب اعتزالهن للأذى، ثبت لهن المحيض.
قيل له: لو تأملت الآية، لعلمت أن الأمر على خلاف ما ذكرت، وذلك أن اللّه تعالى وصف المحيض بالأذى، وأمر باعتزال النساء في حال المحيض، ولم يصف الأذى بالمحيض، وهذا يوجب أن كل محيض أذى، وليس يوجب أن يكون كل أذى محيضاً، وإذا كان هذا هكذا، فيجب أن يثبت المحيض، ويعلق عليه حكم الأذى، وحكم إعتزال النساء، ولا دليل على ذلك، إلاَّ ما ذكرناه.
وليس لهم أن يستدلوا بقول النبي صلى الله عليه وآله وسلم: (( إذا أقبل الحيض، فدعي الصلاة ))، لان الخلاف في الحيض، ولا خلاف في وجوب ترك الصلاة عنده، وقد بينا أن مجرد الدم لا يكون حيضاً.
__________
(1) ـ سقط ما بين القوسين من (ج).
(2) ـ في (أ): نقرره.
فإن قيل: روي أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم، قال: (( ما رأيت ناقصاتِ عقل ودين أغلبَ لعقول ذوي الألباب منهن )). قيل له(1): وما نقصان عقولهن؟ قال: (( شهادة امرأتين بشهادة رجل، ونقصان دينهن أن إحداهن تمكث نصف عمرها لا تصلي )). (8/3)
فهذا يقتضي أن من النساء من تكون حائضاً نصف عمرها، وذلك يوجب أن يكون حيضها خمسة عشر يوماً.
وقد قيل، إن قوله: نصف عمرها ليس بثابت، بل في بعض الأخبار شطر عمرها، وفي بعضها تمكث الليالي والأيام، والشطر قد يراد به نصف الشيء، ويراد به طائفة الشيء، أو ناحيته، نحو قوله تعالى: {فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ}[البقرة:144]، على أن هذا إن ثبت، لزم أبا حنيفة دوننا، فإنه يقول: إن أقل الطهر خمسة عشر يوماً، وعندنا أن أقل الطهر عشرة أيام، فعلى مذهبنا يجوز أن يكون نصف عمر المرأة حيضاً، إن حسب من ابتداء البلوغ، وهذا الابتداء لا بد من أن يعتبره الشافعي، على أنَّه من المعلوم إن صح الخبر، أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم لم يرد النصف على التحقيق، وإنما أراد نحو النصف أو(2) قريباً منه، وذلك أنَّ من تمكث نصف عمرها حائضاً منهن لِعله لم يتفق قط، فإن اتفق ذلك، فعلى سبيل النادر، والمقصود فيما ذكره النبي صلى الله عليه وآله وسلم ليس هو ما يكون نادراً في أحوالهن بل هو كالشائع فيهن والغالب عليهن، ألا ترى إلى ذكره(3) صلى الله عليه وآله وسلم حال شهادتهن، وهذا الكلام يأتي على من أضاف من أصحاب الشافعي حال النفاس إلى حال الحيض ليستكمل نصف عمرها على(4) وجه يجب لها ترك الصلاة فيه.
مسألة [ في أقل الطهر وأكثر ]
قال: وأقل الطهر عشر، وأكثره لا حد له. وقد نص يحيى عليه السلام في رسالته المسماة (كتاب أمهات الأولاد) على أن أقل الطهر عشر.
__________
(1) ـ سقطت (له) من (ب) و(ج).
(2) ـ في (أ) و(ب): و.
(3) ـ في (أ): إلى أن ما ذكره.
(4) ـ في (أ): إلى.
وكون أكثره مما لا حد له مما لا إشكال فيه، ولا خلاف، فالكلام فيه لا يجدي. (8/4)
والمروي عن جعفر بن محمد، أن أقل الطهر عشر، وهو مذهب الإمامية.
والذي يدل على ذلك قول اللّه تعالى: {وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الْمَحِيْض قُلْ هُوَ أَذىً}[البقرة:222]، ولو خلينا، وظاهر هذه الآية لقلنا: إن المرأة متى انقطع الدم عنها كانت طاهرةً لقول اللّه تعالى: {قُلْ هُوَ أَذىً}، فإذا لم يكن أذى فالظاهر يقتضي أن لها حكم الطهر، ولقوله تعالى: {وَلا تَقْرَبُوهُنَّ حَتَّى يَطْهُرْنَ}[البقرة:222]، وهذا ـ أيضاً ـ يقتضي أن المنع من مقاربتها في الحيض هو إلى أن ينقطع الدم عنها، فلما كان هذا كله(1) هكذا، وأجمع المسلمون على أن ما دون العشر من النقاء لا يكون طهراً، سلمناه للإجماع، واستثنينا ذلك من الظاهر، وبقي ما زاد على ذلك، وهو العشر التام على موجب حكم الظاهر طهراً.
ويدل على ذلك: ما أخبرنا به أبو العباس الحسني، أخبرنا علي بن زيد بن مخلد، حدثنا أبي، حدثنا محمد بن عبيد الطنافسي، عن إسماعيل بن أبي خالد(2)، عن عامر الشعبي، عن علي عليه السلام، أن رجلاً أتاه، فقال: يا أمير المؤمنين، إني طلقت امرأتي تطليقة، وإنها ادعت أنها حاضت في شهر واحد ثلاث حيض. فقال علي لشريح ـ وكان عنده جالساً ـ: اقض بينهما. فقال: أقضي بينهما، وأنت هاهنا يا أمير المؤمنين. فقال: لتقضينَّ بينهما. فقال: إن جاءت ببينة من بطانة أهلها ممن ترضون دينه وأمانته يشهدون أنها حاضت في شهر ثلاث حيض، تطهر عند كل وقت صلاة، وتصلي، فهو كما قالت، وإلا فهي كاذبة. فقال علي عليه السلام: قالون، وهي بالرومية صدقت.
ومن المعلوم أن حصول ثلاث حيض في شهر واحد باستكمال طهرين، مع ثبوت أقل الحيض ثلاث، لا يكون أقل الطهر إلاَّ عشراً، وفي هذا ثلاثة أوجه من الاستدلال:
__________
(1) ـ سقط من (ج): كله.
(2) ـ في (ب) وهامش (أ): عن أبي خالد. وفي (أ): عن ابن خالد.
أحدها: أنَّه إذا روي عن أحد من الصحابة شيء، ولم يرو عن غيره خلافه، جرى ذلك مجرى الإجماع. (8/5)
والثاني: أن هذه التحديدات وغيرها مما لا مساغ لها في الاجتهاد، إذا قالها الصحابي، كان محمولاً على أنَّه قال: لنص(1) عنده من النبي صلى الله عليه وآله وسلم، ويتفرع على هذا كثير من مسائلنا.
والثالث: أن من أصلنا أن علياًّ عليه السلام إذا قال قولاً، وجب إتباعه.
مسألة [ فيما تفعل المرأة إذا انقطع الدم ثم عاد ]
قال: ولو أن امرأة كانت عادتها خمسة أيام، ثم زادت، تركت الصلاة إلى تمام عشرة أيام، فإذا(2) انقطع الدم في العاشر أو دونه، كان الدم الزائد حيضاً، إذا وليه طهر صحيح، فإن تمادى بعده، كانت استحاضة، وعلى المرأة قضاء ما تركت من الصلاة في الأيام التي زادت على عادتها.
ذكر يحيى عليه السلام في (الأحكام) (3)، فقال: "وقد يكون الحيض أربعاً وخمساً وستاً وسبعاً وثمانياً وتسعاً وعشراً"، بعد تنصيصه أن(4) أقل الحيض ثلاث، وأن أكثره عشر.
فدل ذلك على أنَّه أراد به أن الزائد على العادة في هذه الأيام قد يكون حيضاً، ثم قال بعد ذلك: فأما إذا جاوز العشر فهي مستحاضة، تفعل ما تفعل المستحاضة.
فدل ذلك على أن الدم إذا زاد على العشر كان كله ـ أعني الزائد على العادة ـ استحاضة، وقد نص هو على أن المستحاضة تصلي وتصوم(5)، فوجب إعادة ما تركت من الصلاة، وقد ثبت أنها مستحاضة.
والذي يدل على صحة ما ذكرناه أنَّه لا خلاف أن العادة يجوز فيها الانتقال إلى الزيادة، وإلى النقصان، فإذا ثبت ذلك، فالتي تكون عادتها خمسة أيام إذا زاد عليها الدم، كان الظاهر من أمرها أن الدم الزائد حيض؛ لأنَّه دم حيض رأته المرأة في وقت يمكن فيه الحيض متعرياً من أمارة الاستحاضة، فيجب أن يكون سبيله سبيل الدم الذي تراه المبتدأة في أنها تحيض عنده.
__________
(1) ـ في (أ): بنص.
(2) ـ في (ب) و(ج): فإذا.
(3) ـ الأحكام 1/72.
(4) ـ في (أ): على أن.
(5) ـ انظر الأحكام 1/76.
واشترطنا انقطاعه في العاشر، ونريد بالانقطاع أن ينقطع ويليه طهر صحيح؛ لأن ذلك لو لم يكن، لكانت أمارة الاستحاضة قائمة، وقد قال صلى الله عليه وآله وسلم للمستحاضة: (( اقعدي أيام حيضك ـ وفي بعض الأخبار أيام أقرائك ـ ثم اغتسلي، وصلي، ولو قطر الدم على الحصير قطراً ))، فلذلك قلنا: إن الدم إذا تمادى، كانت المرأة مستحاضة فيما زاد على عادتها. (8/6)
مسألة [ في تغير العادة ]
قال: ولو أن امرأة رأت الدم خمساً، ثم من بعد ذلك ستاً، ثم من بعد ذلك سبعاً، ثم استحيضت، كانت عادتها ستاً؛ لأنها تثبت بقرأئن.. تخريجاً.
كان أبو العباس الحسني رحمه اللّه يُخرِّج أن العادة تكون بقراين من قول يحيى عليه السلام(1): ليس في الاستحاضة عندنا وقت مؤقت غير ما تعلم المرأة من نفسها في أيام عادتها(2).
وكان يقول رده(3) أمرها إلى أقرائها، يدل على أنَّه لا يعتبر قرأً واحداً، ولا أحد قال إن العادة لا تثبت بقرائن، فوجب حمل قوله أيام أقرائها على أيام قرئيها(4).
والذي يدل على ذلك ما روي عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم من قوله: (( اقعدي أيام أقرائك )) فإذا ثبت ذلك، فالتي تكون عادتها خمساً إذا حاضت ستاً، ثم سبعاً، تكون(5) قد حاضت ستاً مرتين، فلذلك قلنا: إن عادتها تكون ستاً.
مسألة [ متى تقضي الحائض الصلاة ]
قال: ولو أن امرأة رأت الدم في الأيام التي يصلح(6) فيها الحيض تركت الصلاة، فإن انقطع في كمال العشر أو دونها، ووليه طهر صحيح، كان حيضاً، وإن كان غير ذلك، كان استحاضة، وعليها قضاء ما تركت من الصلاة، إلاَّ أن تكون الأيام أيام العادة فترجع إليها، وقد مضى الكلام في مثله مشروحاً، فلا طائل في إعادته.
مسألة [ في الصفرة والكدرة ]
__________
(1) ـ في (ج): يحيى عليه السلام في الأحكام. وانظر الأحكام 76.
(2) ـ في (ب) و(ج): أقرائها.
(3) ـ في (أ): قرئها.
(4) ـ في (أ): رد.
(5) ـ في (ب) و(ج): عادتها.
(6) ـ في (أ): يصح.
قال: "والصفرة والكدرة في أيام الحيض حيض، وفي غير أيام الحيض ليست حيضاً". (8/7)
وقد نص على ذلك في (الأحكام) (1)، وقال: "حكمه حكم الدم".
وقال القاسم عليه السلام في (كتاب الطهارة) ما كان منه بين دفقات الدمين(2) في أوقات الحيض، فهو حيض(3)، فأجراه مجرى النقاء؛ لأن النقاء إذا توسط الدمين في وقت الحيض، فهو حيض.
فأما ظاهر قول يحيى عليه السلام فهو يقتضي أنَّه بمنزلة الخالص؛ لأنَّه جعل ما كان منه في أيام الحيض حيضاً، وما كان في غير أيام الحيض، لم يجعله حيضاً، وهذا حكم الدم الخالص.
وكان أبو العباس الحسني رحمه اللّه يحمل قول يحيى عليه السلام على قول القاسم عليهما السلام، ويجعل القولين قولاً واحداً، ويقول: إن يحيى عليه السلام أراد ما كان منه بين الدمين.
ووجه قول يحيى عليه السلام هو أنَّه لا خلاف في أن الصفرة والكدرة بين الدمين تكون محيضاً إذا كانا في وقت الحيض، فيجب أن تكون محيضاً، وإن انفردت، والمعنى أنَّه صفرة أو كدرة وجدت في وقت الحيض(4).
ويؤكد ذلك أن الكدرة والصفرة هما الدم المتغير، وتغيرهما من جهة اللون لا يبطل حكمهما، ألا ترى أن التي لم تحض لم تر الصفرة ولا الكدرة، فبان أنهما من الحيض.
وروي ـ أيضاً ـ عن عائشة أنها كانت تقول: لا تصلي حتى ترى العلامة(5) البيضاء.
وروي مثل ذلك عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم، وإن كان عن عائشة أظهر وأشهر.
ووجه قول القاسم:
__________
(1) ـ الأحكام 1/77.
(2) ـ في (ب) و(ج): الدم.
(3) ـ في (أ) و(ب): من الحيض.
(4) ـ في (ب) و(ج): المحيض.
(5) ـ في (أ): الفضة. وفي هامش النسختين: ترى القطنة بيضاءة كالفضة. نسخة.
ما أخبرنا به أبو العباس الحسني رضي الله عنه، حدثنا(1) ابن أبي حاتم، حدثنا أبي، حدثنا محمد بن أبي عدي، عن محمد بن عمرو، عن ابن شهاب عن عروة(2)، عن فاطمة بنت أبي حبيش، أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم، قال لها: (( إذا رأيتِ الدم الأسود، فأمسكي عن الصلاة، وإذا كان أحمر، فتوضئي، وصلي فإنما هو دم عرق )). (8/8)
وأخبرنا أبو العباس، أخبرنا ابن أبي حاتم، حدثنا يزيد بن سنان البصري، حدثنا معاذ بن هشام، عن أبيه، عن قتادة، حدثتنا أم هذيل حفصة بنت سيرين ـ أخت محمد بن سيرين ـ، عن أم عطية الأنصارية، قالت: ما كنا نُعِدّ الصفرة والكدرة شيئا.
فاعتبار النبي صلى الله عليه وآله وسلم دم الحيض بأنه أسود دليل على أن الصفرة والكدرة ليسا من الحيض، وكذلك قول أم عطية يدل على ذلك.
مسألة [ في عدم اجتماع الحيض والحمل ]
والحيض لا يكون مع الحمل.
وقد نص على ذلك في (الأحكام)(3).
والدليل على ذلك ما روي عن علي عليه السلام، أنَّه قال: "رفع الحيض عن الحبلى، وجعل الدم رزقاً للولد"، ولا يُعرف له من الصحابة مخالف، فجرى ذلك مجرى الإجماع، على أنا نوجب الاقتداء به، خالفه من خالف ووافقه من وافق.
ومما يدل على ذلك أن الحبلى تقاس على التي يئست من الحيض في أن لا مساغ للحيض في واحدة منهما، بدلالة أنها لو طلقت لكانت تعتد بغير الحيض، ويمكن ـ أيضاً ـ أن تقاس على المسنة بعلة أخرى، وهي انقطاع الدم عنها في غالب الأحوال مع السلامة، فكل امرأة صارت إلى حالة لا تكاد ترى الدم معها في غالب الأمور مع السلامة، يجب الحكم بأنها لا تحيض في تلك الحالة.
__________
(1) ـ في (ب) و(ج): أخبرنا.
(2) ـ في (ب): شهاب بن عروة، إلا أنه كتب في الهامش ما أثبتناه، وقال إنه هكذا في سنن أبي داود.
(3) ـ انظر الأحكام 1/75.
ويمكن أن تقاس بهاتين العلتين على الصغيرة ـ أيضاً ـ على أن العادة قد جرت بين المسلمين في أنهم يجعلون انقطاع الدم في وقته أمارة الحبل، فلولا أنهم قد تقرر عندهم أن الحبل والحيض لا يجتمعان لم يجعلوا انقطاع الدم أمارة للحبل. (8/9)
مسألة [ في ما يجب على المستحاضة وما يندب ]
قال: وعلى المستحاضة أن تتوضأ لكل صلاة، وتصلي إن أحبت، وذلك أفضل، فإن توضأت، وجمعت بين الظهر والعصر، وبين المغرب والعشاء، تؤخر الظهر وتقدم العصر، وتؤخر المغرب وتقدم العشاء، فهو جائز، وهكذا حكم سائر الأحداث اللازمة من سلسل البول وسيلان الجرح، وللمستحاضة أن يأتيها زوجها.
وكل ذلك منصوص عليه في (الأحكام)(1) وغيره.
وما يلزم المستحاضة فيه خلاف من وجوه:
أحدها: أنَّه كان يذهب مالك إلى أن لا وضوء عليها من دم(2) الاستحاضة، وقد مضى الكلام في هذا الباب عند كلامنا فيما ينقض الطهارة، وما يذكر من الأخبار الواردة في هذا الباب يحجه، ويفسد مذهبه.
[وثانيها]: ومن الناس من يذهب إلى أن الواجب عليها أن تغتسل لكل صلاة، واحتجوا بما روي عن أبي بكر بن محمد بن عمرو بن حزم، عن عمرة، عن عائشة، أن أم حبيبة بنت جحش كانت تحت عبد الرحمن بن عوف، وأنها استحيضت حتى لا تطهر، فذَكر شأنها لرسول اللّه صلى الله عليه وآله وسلم، فقال: (( ليس بالحيضة، ولكنها ركضة من الرحم، تنظر قدر قرئها الذي تحيض له، فلتترك الصلاة، ثم لتنظر ما بعد ذلك، فلتغتسل عند كل صلاة، وتصلي )).
__________
(1) ـ انظر الأحكام 1/76.
(2) ـ في (ب) و(ج): عليها لدم.
وأخبرنا أبو بكر المقرئ، حدثنا الطحاوي، حدثنا ابن أبي داود، حدثنا نعيم بن حماد، حدثنا ابن المبارك، حدثنا سفيان الثوري، عن عبد الرحمن بن قاسم بن محمد، عن زينب بنت جحش، قالت: سألت رسول اللّه صلى الله عليه وآله وسلم أنها مستحاضة، فقال: (( تجلس أيام أقرائها، ثم تغتسل وتؤخر الظهر وتعجل العصر (وتغتسل وتصلي)(1)، وتؤخر المغرب وتعجل العشاء، وتغتسل وتصلي، وتغتسل للفجر وتصلي ))(2). (8/10)
وأخبرنا أبو بكر المقرئ، حدثنا الطحاوي، حدثنا ابن أبي داود، حدثنا الوهبي، حدثنا محمد بن إسحاق، عن عبد الرحمن بن القاسم، عن أبيه، عن عائشة، قالت: استحيضت سهلة بنت سهيل بن عمرو، فكان رسول اللّه صلى الله عليه وآله وسلم يأمرها بالغسل عند كل صلاة، فلما جهدها ذلك، أمرها أن تجمع بين الظهر والعصر في غسل واحد، والمغرب والعشاء في غسل واحد، وتغتسل للصبح(3).
واحتجوا بأن ذلك مروي عن علي، وابن عباس، وابن الزبير أنهم كانوا يرون ذلك، ويوجبونه عليها.
والذي يدل على صحة ما نذهب إليه في هذا:
ما أخبرنا به أبو بكر المقرئ، حدثنا الطحاوي، حدثنا محمد بن عمرو بن يونس السوسي، حدثنا يحيى بن عيسى، حدثنا الأعمش، عن حبيب بن أبي ثابت، عن عروة، عن عائشة، أن فاطمة بنت أبي حبيش أتت رسول اللّه صلى الله عليه وآله وسلم فقالت: يا رسول الله، إني استحاض فلا ينقطع عني الدم، فأمرها أن تدع الصلاة أيام أقرائها، ثم تغتسل وتتوضأ لكل صلاة، وتصلي وإن قطر الدم على الحصير(4).
وأخبرنا أبو بكر المقرئ، حدثنا الطحاوي، حدثنا علي بن شيبة، حدثنا يحيى بن يحيى، قال: قرأت على شريك، عن أبي اليقضان..
__________
(1) ـ ما بين القوسين سقط من (أ).
(2) ـ أخرجه الطحاوي في شرح معاني الآثار 1/100، إلا أن فيه عبد الرحمن بن القاسم، عن القاسم بن محمد.
(3) ـ أخرجه الطحاوي في شرح معاني الآثار 1/101.
(4) ـ أخرجه الطحاوي في شرح معاني الآثار 1/102، وزاد فيها قطراً.
وحدثنا فهد، حدثنا محمد بن سعيد بن الأصفهاني،حدثنا(1) شريك، عن أبي اليقظان، عن عدي بن ثابت، عن أبيه، عن جده، عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم، قال: (( المستحاضة تدع الصلاة أيام حيضها، ثم تغتسل، وتتوضأ لكل صلاة، وتصلي، وتصوم ))(2). (8/11)
وحدثنا فهد، حدثنا محمد بن سعيد، حدثنا(3) شريك، عن أبي اليقظان، عن عدي بن ثابت(4)، عن علي عليه السلام، مثله.
فثبت بهذه الأخبار أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم أمرها بالغسل عند تصرم أيام حيضها، ثم بالوضوء لكل صلاة، وإن قطر الدم على الحصير، فيجب أن يكون خبر الغسل منسوخاً، أو محمولاً على الاستحباب، والتنظف، على أن المستحاضة قد يكون لها(5) حال يجب عليها عندنا الاغتسال عند كل صلاة، وذلك إذا التبست عليها وقت العادة، فصارت إلى حال يُجَوَّز معها في كل وقت أن تكون حائضاً، أو خارجة من الحيض إلى الطهر، فعليها أن تغتسل، وتصلي في وقت كل صلاة، لجواز أن تكون في تلك الأوقات خارجة من الحيض، فيحمل ما روي عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم من إيجاب الغسل على من هذه حالها، لنكون قد لفقنا بين الأخبار، واستعملناها أجمع.
وهذا الوجه أولى ما يتأول به خبر الغسل، ومما يدل على ذلك أن دم الاستحاضة قد ثبت أنَّه دم كسائر الدماء، فوجب أن يكون حكمه حكمها في أن لا غسل فيه، وقد صرح النبي صلى الله عليه وآله وسلم بذلك فيما أخبرنا به أبو بكر المقرئ، حدثنا الطحاوي، حدثنا فهد، حدثنا أبو نعيم، حدثنا أبو حنيفة..
__________
(1) ـ في (ب) و(ج): أخبرنا.
(2) ـ أخرجه الطحاوي في شرح معاني الآثار 1/102.
(3) ـ في (ب) و(ج): أخبرنا.
(4) ـ في الهوامش: عن عدي بن ثابت، عن أبيه.
(5) ـ سقط من (أ): قد يكون لها.
وحدثنا صالح بن عبد الرحمن، حدثنا عبد الله بن يزيد المقرئ، حدثنا أبو حنيفة، عن هشام بن عروة، عن أبيه، عن عائشة أن فاطمة بنت أبي حبيش أتت النبي صلى الله عليه وآله وسلم فقالت: إني استحاض الشهر والشهرين. فقال رسول اللّه صلى الله عليه وآله وسلم: (( إن ذلك ليس بحيض، وإنما ذلك عرق من دم، فإذا أقبل الحيض، فذري الصلاة، وإذا أدبر، فاغتسلي لطهرك، ثم توضئي عند كل صلاة ))(1). (8/12)
وكان الشافعي يذهب إلى أنها تتوضأ لكل صلاة.
ويحيى بن الحسين عليه السلام قد جوز لها أن تجمع بين الظهر والعصر، وبين المغرب والعشاء في آخر وقت الأولى، وأول وقت الثانية، والوجه ما ذكرناه بإسناده من حديث سهلة بنت سهيل، أن رسول اللّه صلى الله عليه وآله وسلم أمرها أن تجمع الظهر والعصر في غسل واحد، والمغرب والعشاء في غسل واحد.
وحديث القاسم بن محمد، عن زينب بنت جحش، قالت: قال رسول اللّه صلى الله عليه وآله وسلم: (( تؤخر الظهر وتعجل العصر، وتغتسل وتصلي، وتؤخر المغرب وتعجل العشاء، وتغتسل وتصلي، وتغتسل للفجر )).
فلما ثبت ذلك عن رسول اللّه صلى الله عليه وآله وسلم أن المستحاضة لا يلزمها تجديد الطهارة لكل صلاة، وجب أن يحمل قوله عليه السلام تتوضأ لكل صلاة على الاستحباب، وعلى أنَّه هو الأفضل كما ذهب إليه يحيى، وحكيناه نحن في صدر هذه المسألة، أو يحمل على أنَّه أراد لوقت كل صلاة، فقد يعبر بالصلاة عن وقتها، ألا ترى أن القائل يقول: أتيته الظهر، يريد وقت الظهر، وأفعل كذا العصر، يريد وقت العصر.
__________
(1) ـ أخرجه الطحاوي في شرح معاني الآثار 1/102.
وكان أبو العباس الحسني رحمه اللّه يقول: إن وضوءها ينتقض بدخول الوقت دون خروجه خلافاً لما كان يذهب إليه أبو حنيفة، ويُخَرِّج ذلك من قول يحيى عليه السلام في (الأحكام)(1): "وتؤخر المستحاضة الظهر إلى أول وقت العصر، ثم تتوضأ، وتصلي الظهر والعصر معاً، وكذلك تفعل بالمغرب والعشاء"، فكان رضي اللّه عنه يقول: لولا أن مذهبه عليه السلام أن وضوءها ينتقض بدخول الوقت، لم يأمرها بتأخير(2) الظهر إلى أول وقت العصر، بل كان يقول: إنها تتوضأ للظهر، ثم تصلي العصر إذا دخل وقتها؛ إذ من مذهبه أن وقت العصر يدخل مع بقاء وقت الظهر. (8/13)
ووجه هذا القول ـ أيضاً ـ أمر النبي صلى الله عليه وآله وسلم المستحاضة أن تؤخر الظهر وتعجل العصر، وكذلك تفعل بالمغرب(3) والعشاء، وإياه اعتمد يحيى عليه السلام لمذهبه في جواز الجمع بين الصلاتين للمستحاضة.
فإن قيل: الخبر الذي استدللتم به لجواز الجمع، ورد في الغسل دون الوضوء.
قيل له: إذا ثبت بما بينا أن الفرض هو الوضوء دون الغسل، صار الزائد على الوضوء من الغسل نفلاً، فالصلاتان وقعتا إذاً بالمفروض الواحد من الوضوء.
فأما الأحداث اللازمة من سلس البول، وغيره، فلا خلاف أن حكمها حكم الاستحاضة، فلا وجه لإفراد الكلام له.
ولا خلاف ـ أيضاً ـ في أن لزوجها أن يأتيها؛ ولأن المنع هو في حال الحيض، وقد قال صلى الله عليه وآله وسلم في دم الاستحاضة: (( إنه ليس بحيض ))، ولأن حكمها حكم الطهر في الصلاة والصوم وقراءة القرآن، فوجب أن لا يمتنع زوجها من وطئها.
مسألة [ في المبتدأة يزيد دمها على العشر ]
قال: والمبتدأة إذا زاد دمها على العشر رجعت إلى أكثر عادة(4) نسائها من قبل أبيها، عماتها وأخواتها. (فإن جهلت رجعت إلى أكثر الحيض، وهو عشر.
__________
(1) ـ انظر الأحكام 1/76.
(2) ـ في (أ): وقت.
(3) ـ في (أ): في المغرب.
(4) ـ في (أ): عادات.
فقد نص يحيى عليه السلام في (الأحكام) على أنها إذا زاد دمها على العشر رجعت إلى أكثر عادة نسائها من قبل أبيها)(1). (8/14)
ودل كلامه على أنها إن جهلت عادتهن، رجعت إلى أكثر الحيض؛ لأنَّه قال: ولسنا نؤقت لها وقتاً، لكنها لا تجاوز عشراً، فهو أكثر الحيض.
والوجه في ذلك أنَّه قد ثبت كون عادتها معتبرة، فإذا لم يكن لها عادة تعتبر، كانت عادة نسائها أولى من غيرها قياساً على العادة لو كانت، والمعنى أنها أخص العادات بها في المحيض، والوجه لاعتبار أكثر عادتهن، وأكثر الحيض، أن أقل الحيض لا يكاد أن يكون عادة للنساء، وما زاد على الأقل من الأيام لا يكون بعضها أولى بأن يرجع إليه من بعض، فوجب الرجوع إلى الأكثر.
فإن قيل: اعتبار الأقل أولى؛ لأنَّه يقين؟
قيل له: إن النبي صلى الله عليه وآله وسلم لم يأمر باعتبار المتيقن، في هذا الباب، وإنما أمر باعتبار العادة، ألا ترى أنَّه صلى الله عليه وآله وسلم لم يقل للمستحاضة: أُتركي الصلاة أقل أيام حيضك(2)، (وإنما أمرها أن تدع الصلاة أيام حيضها)(3)، فأمرها أن ترجع إلى العادة، فبان أن ما ذكرناه أولى.
مسألة [في حد الياس]
قال: وحد الإياس من الحيض ستون سنة.
وهذا منصوص عليه في (الأحكام).
ومن الناس من حَدَّ ذلك بخمسين سنة (وحدنا أولى؛ لأنه قد علم في حال كثير من النساء أنهن حضن بعد خمسين سنة)(4)، ولأن الستين أكثر ما قيل فيه فهو أولى لأنَّه لا مانع من تجويزه فوجب أن لا يحقق المنع منه إلا بدلالة شرعية، ولا دلالة عليه إلاَّ الإجماع.
مسألة [ما لايجوز للحائض]
قال: ولا يجوز للحائض دخول المسجد، ولا حمل المصحف، ولا قراءة القرآن، وكذلك الجنب. وهذا منصوص عليه في (الأحكام)، وروى فيه عن جده القاسم عليه السلام: أن الحائض والجنب لا يقرآن القرآن.
__________
(1) ـ ما بين القوسين من (ج).
(2) ـ في (أ) و(ب): في أيام الحيض.
(3) ـ ما بين القوسين زيادة في (ج).
(4) ـ ما بين القوسين من (ج).
والوجه لمنع الحائض من دخول المسجد أن رسول اللّه صلى الله عليه وآله وسلم أمر أسماء بنت عميس حين نفست بمحمد بن أبي بكر أن تفعل جميع ما يفعله الحاج غير دخول المسجد الحرام، فثبت المنع من ذلك. (8/15)
والنفاس والحيض في جميع الأحكام سواء، فإذا ثبت ذلك وجب المنع للحائض والنفساء من دخول المساجد بعلة أنها مساجد، ويقاس عليه الجنب بعلة أنَّه ممنوع من الصلاة إلاَّ بعد الغسل مع السلامة.
والمنع من حمل المصحف لقول اللّه تعالى: {لا يَمَسُّهُ إِلاَّ الْمُطَهَّرُونَ}[الواقعة:79]، وهذا لا يخلو إما أن يكون خبراً، أو نهياً، (ولا يجوز أن يكون خبراً لوقوع مخبره على خلاف الخبر، فوجب أن يكون نهياً)(1).
وروي عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم النهي عن المسافرة بالقرآن إلى أرض العدو لئلا يمسوه، وذلك يؤكد ما قلناه.
وأما وجه المنع للحائض والجنب من قراءة القرآن فهو:
ما حدثنا به أبو بكر المقرئ، حدثنا الطحاوي، حدثنا فهد، حدثنا عمرو بن حفص(2)، حدثنا أبي، حدثنا الأعمش، قال: حدثنا عمرو بن مرة، عن عبد اللّه بن سلمة، عن علي عليه السلام، قال: كان رسول اللّه صلى الله عليه وآله وسلم يقرأ القرآن على كل حال، إلاَّ الجنابة(3).
وأخبرنا أبو بكر المقرئ، حدثنا الطحاوي، حدثنا محمد بن عمرو بن يونس السوسي الثعلبي، حدثنا يحيى بن عيسى، عن ابن أبي ليلى، عن عبد اللّه بن سلمة، عن علي عليه السلام، قال: كان رسول اللّه صلى الله عليه وآله وسلم يعلمنا القرآن على كل حال، إلاَّ الجنابة(4).
__________
(1) ـ ما بين القوسين من (ج) فقط.
(2) ـ في (ب) و(ج): أبي حفص.
(3) ـ أخرجه الطحاوي في شرح معاني الآثار 1/87.
(4) ـ أخرجه الطحاوي في شرح معاني الآثار 1/87.
وأخبرنا أبو بكر المقرئ، حدثنا الطحاوي، حدثنا بن أبي داود،حدثنا عبد اللّه بن يوسف، حدثنا إسماعيل بن عياش، عن موسى بن عقبة، عن نافع، عن ابن عمر، قال: قال رسول اللّه صلى الله عليه وآله وسلم: (( لا يقرأ الجنب ولا الحائض القرآن ))(1). (8/16)
مسألة [ في الوطء أيام الحيض، وما ذيستحب للحائض ]
قال: ولا يأتيها زوجها في فرجها أيام حيضها، ولا بعد تصرمه حتى تغتسل. قال: وقال القاسم عليه السلام: فإن فعل أجزته التوبة والاستغفار، وله أن يأتيها فيما دون الفرج.
ويستحب لها في أوقات الصلاة أن تتطهر، وتستقبل القبلة وتسبح وتهلل، ويستحب لها أن تكحل عينيها، وتمشط شعرها، ولا تعطل نفسها.
ما ذكرناه من المنع من وطئ الحائض إلى تصرم حيضها قبل أن تغتسل، ولزوجها أن يأتيها فيما دون الفرج، منصوص عليه في (الأحكام) و(المنتخب)(2).
وما(3) حكيناه عن القاسم عليه السلام في أن التوبة تجزيه من وطئ الحائض منصوص عليه في (مسائل النيروسي).
وما ذكرناه من الاستحباب للحائض منصوص عليه في (الأحكام).
__________
(1) ـ أخرجه الطحاوي في شرح معاني الآثار 1/88.
(2) ـ انظر المنتخب ص29.
(3) ـ في (أ): وبما.
فأما تحريم وطء الحائض، فلا خلاف فيه بين المسلمين، وقد نطق به ظاهر القرآن حيث يقول سبحانه: {يَسْأَلُونَكَ عَنِ الْمَحِيْضِ قُلْ هَوَ أَذىً فَاعْتَزِلُوا النِّسَاءَ..} الآية[البقرة:222]، وقوله تعالى: {وَلا تَقْرَبُوهُنَّ حَتَّى يَطْهُرْنَ}[البقرة:222]، يدل على أن الحائض إذا تصرم حيضها، لم يحل وطأها حتى تغتسل، وذلك أن الآية قد قرأت بالتشديد والتخفيف جميعاً، والقراءتان في أنَّه يجب الأخذ بموجبهما كالروايتين(1)، فإذا ثبت وجوبهما، فإما أن تستعملا على التخيير، أو على الجمع، وإذا بطل التخيير بالإجماع بأنه لو كان كذلك، لحل وطؤها إن(2) اغتسلت، وإذا لم ينقطع الحيض، فلم يبق إلاَّ وجوب استعماله، على الجمع على ما نذهب إليه. (8/17)
ومما يدل على ذلك ـ مع أن القراءة بالتخفيف ـ أن التحريم حصل منوطاً بغايتين إحداهما الطهر، والآخر التطهر؛ لأنَّه تعالى قال: {وَلا تَقْرَبُوهُنَّ حَتَّى يَطْهُرْنَ فِإِذَا تَطَهَّرْنَ فَآتُوهُنَّ}[البقرة:222]، فلا يرتفع المنع إلاَّ بحصولهما معاً، ألا ترى أن من قال لامرأته: أنت طالق إذا(3) دخلت الدار فصليت لم تطلق حتى يقع منها دخول الدار والصلاة جميعاً.
فإن قيل: ما أنكرتم أن يكون قوله: {حَتَّى يَطْهُرْنَ}، هو الحد الذي انتهى إليه الحظر، وما بعده تأكيد له.
__________
(1) ـ في (ب) و(ج): كالآيتين.
(2) ـ في (أ): وإذا.
(3) ـ في (أ): إن.
قيل له: هذا إنما يكون كذلك لو كان الكلام، انقطع بعده، فأما إذا اتصل بغيره، فمجموعهما الحد الذي انتهى إليه الحظر، وهذا مثل قوله تعالى: {فَإِنْ طَلَّقَهَا فَلا تَحِلُّ لَهُ مِنْ بَعْدُ حَتَّى تَنْكِحَ زَوجاً غَيْرَهُ فِإِنْ طَلَّقَهَا فَلا جُنَاحَ عَلَيْهِمَا أَنْ يَتَرَاجَعَا}[البقرة:230]، فلم يُحل لهما التراجع إلاَّ بحصول الشرطين اللذين هما نكاح(1) زوج آخر، وطلاقه لمَّا تعلق الحكم بهما، وجُعلا غايتين له، على أن المخالف لنا في هذا ليس ينكر أن من كانت أيامها دون العشر، فانقطع حيضها، فلا يحل لزوجها وطؤها قبل الغسل، إذا لم يمض عليها وقت صلاة (بعد تصرم الحيض، فنحن نقيس عليها التي مضى عليها وقت الصلاة)(2)، أو تكون أيامها عشراً؛ لعلة أنها لم تغتسل من حيضها من غير تعذر الغسل مع القدرة عليه، فوجب أن لا يحل وطؤها، وتعليلهم بمن مضى عليها وقت الصلاة بأنَّه قد حصل لها ما ينافي الحيض، وهو وجوب الصلاة؛ إذ الوجوب عندنا بآخر الوقت ينتقض بوجوب الغسل؛ لأن وجوب الغسل ينافي الحيض، وفرقهم بين الغسل والصلاة بأن الغسل يوجب(3) الحيض دون الصلاة لا معنى له، ولا فرق مع وجود العلة. (8/18)
فإن قيل: المانع من الوطء كان هو الحيض، فلما ارتفع الحيض زال المانع(4).
قيل لهم: نحن قد بينا أن إباحة الوطئ بعد المنع تعلق بأمرين، فلا معنى لقولهم: لما ارتفع الحيض، زال المنع، على أن الأمر فيه لو كان على ما قالوا، لوجب أن يحل وطء من تصرم حيضها قبل العشر، وإن لم يخرج وقت الصلاة، ولم تغتسل، والأمر عندهم بخلاف ذلك، فبان سقوط سؤالهم.
وأما وجه قول القاسم عليه السلام أن من وطئ امرأته في الحيض أجزته التوبة والاستغفار، فهو:
__________
(1) ـ في (أ): حصول نكاح.
(2) ـ ما بين القوسين من (ج) فقط.
(3) ـ في (ب) و(ج): موجب.
(4) ـ في (ب): المنع.
ما أخبرنا به أبو العباس الحسني رحمه الله، قال: أخبرنا علي بن محمد الروياني، والحسين بن أحمد البصري، قال علي: أخبرني، وقال الحسين: حدثني الحسين بن علي بن الحسين، حدثنا زيد بن الحسين، عن أبي بكر بن أبي أويس، عن ابن ضميرة، عن أبيه، عن جده، عن علي عليه السلام، أنَّه(1) كان يقول في الذي يأتي امرأته وهي حائض:" و عاجز لا كفارة عليه، إلاَّ الاستغفار". (8/19)
وأخبرنا أبو العباس الحسني، أخبرنا محمد بن بلال، حدثنا محمد بن عبد العزيز، حدثنا محمد بن جميل، حدثنا إسماعيل بن صبيح، عن عمرو، عن ليث، عن مجاهد، قال: أقبل رجل حتى قام على رأس علي عليه السلام، فقال: إني أتيتها وهي على غير طهر، فما كفارته؟ فقال علي عليه السلام: "انطلق فوالله ما أنت بصبور، ولا قذور، فاستغفر اللّه من ذنبك، ولا تعد لمثلها، ولا قوة إلاَّ بالله العلي العظيم".
فإن قيل: إن رسول اللّه صلى الله عليه وآله وسلم أمر الواطئ في الحيض أن يتصدق بدينار، أو نصف دينار.
قيل له: قد روي يتصدق بدينار أو بنصف دينار. وروي: يتصدق بدينار، فإن لم يجد فبنصف دينار. وهذه التقديرات تتدافع فلا يجوز أن يكون طريقها، الوجوب بل يجب أن يكون طريقها الاستحباب.
وأما ما يدل عل أن للرجل أن يأتي امرأته وهي حائض فيما دون الفرج:
فما روي عن عائشة أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم كان يباشر نساءه وهن حِيَّض في إزار واحد )).
وما روي عن أنس أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم، قال: (( افعلوا كل شيء بالحائض، ما خلا الجماع )).
وأما الاستحباب التي ذكرنا من استقبال القبلة في أوقات الصلاة والتطهر والتسبيح والتهليل إلى غير ذلك؛ فلأن جميع ذلك مندوب إليه، والحيض لم يمنع من ذلك، فوجب أن يكون على ما كان عليه، وليكون ـ أيضاً ـ فرقاً بين المسلمة والكافرة في أوقات العبادات.
__________
(1) ـ في (أ): أنه قال.
باب القول في النفاس (9/1)
أكثر النفاس أربعون يوماً، وأقله لا حد له، فإن زاد الدم على الأربعين، فهو استحاضة. وقد نص يحيى عليه السلام في (الأحكام)(1) على أن ما زاد على الأربعين من الدم فهو استحاضة، وهو صريح بأن(2) أكثر النفاس أربعون يوماً، ودل فيه على أن أقله لا حد له.
والذي يدل على ذلك:
ما أخبرنا به أبو العباس الحسني، أخبرنا عيسى بن محمد العلوي، حدثنا محمد بن منصور، حدثنا عبَّاد بن يعقوب، عن المحاربي، عن سلام بن سليم، عن حميد الطويل، عن أنس، قال: قال رسول اللّه صلى الله عليه وآله وسلم: (( تقعد النفساء أربعين يوماً، إلاَّ أن ترى الطهر قبل ذلك )).
وأخبرنا أبو العباس الحسني، أخبرنا عبد الرزاق بن محمد، حدثنا الحسن بن سفيان، حدثنا محمد بن عقبة السدوسي، أخبرنا يونس بن أرقم الكندي، حدثنا محمد بن عبد الله، عن زيد بن علي، عن مسة الأزدية، قالت: قلت لأم سلمة: هل كنتن سألتن رسول اللّه صلى الله عليه وآله وسلم عن النفساء، كم تجلس في نفاسها؟ قالت: نعم سألناه، فقال رسول اللّه صلى الله عليه وآله وسلم: (( تجلس أربعين ليلة، إلاَّ أن ترى الطهر قبل ذلك )).
وأخبرنا أبو العباس الحسني، حدثنا ابن أبي حاتم، حدثنا أبو سعيد الأشج، حدثنا شجاع بن الوليد السكوني، عن علي بن عبد الأعلى، عن أبي سهل، عن كثير بن زياد، عن مسة الأزدية، عن أم سلمة، قالت: كانت النفساء تجلس على عهد رسول اللّه صلى الله عليه وآله وسلم أربعين يوماً، وكنا نطلي وجوهنا بالورس من الكلف.
فقد دلت هذه الأخبار على أكثر ما تجلس النفساء، وعلى أن الأقل غير محدود؛ إذ في الخبرين المتقدمين: (( إلا أن ترى الطهر قبل ذلك )) فأشار إلى رؤية الطهر من غير اعتبار الدم المتقدم عليه.
__________
(1) ـ انظر الأحكام 1/75.
(2) ـ في (ب) و(ج): لأن.
يوضح ما قلناه أن المقادير التي هذه سبيلها لا تؤخذ إلاَّ عن التوقيف، أوالإجماع، ولا توقيف فيما زاد على الأربعين، ولا إجماع فوجب سقوط القول به. (9/2)
مسألة [ في حكم الدم إذا انقطع ثم عاد في الأربعين ]
قال: ولو أن امرأة نفست وطهرت، ثم عاودها الدم في الأربعين فهو نفاس، فإذا كان الذي تخلل بين الدمين طهراً صحيحاً، فالدم الثاني ليس بنفاس، وهو حيض، أو استحاضة، على ما تدل عليه العاقبة، فإن(1) لم يكن طهراً صحيحاً، كان الأربعون نفاساً.
قد نص في (المنتخب)(2) على أن معاودة الدم في الأربعين لا تخرج الطهر من أن يكون طهراً صحيحاً، ونص فيه(3) على أن الدم الثاني يكون حيضاً.
وقلنا: إنَّه يجوز أن يكون استحاضة تخريجاً؛ لأن مذهبه أن الدم في وقت الإمكان يجوز أن يكون حيضاً، ويجوز أن يكون استحاضة.
والذي يدل على أن الدم المعاود بعد طهر صحيح لا يكون نفاساً قول النبي صلى الله عليه وآله وسلم: (( تقعد النفساء أربعين يوماً، إلاَّ أن ترى الطهر قبل ذلك ))، فاستثنى رؤية الطهر من النفاس، فوجب أن لا يحكم لها بالنفاس بعد الطهر.
فإن قيل: إن الدم المعاود في مدة أكثر الحيض يكون حيضاً، فكذلك الدم المعاود في مدة أكثر النفاس يجب أن يكون نفاساً؟
قيل له: إنما وجب في الدم المعاود في مدة أكثر الحيض أن يكون حيضاً، لتعذر حصول الطهر الصحيح فيها، ألا ترى أن أكثر الحيض عشر عندنا وهو عندنا أقل الطهر، وإذا كان ذلك كذلك لم يجب أن يكون سبيل النفاس في هذا سبيل الحيض فأما إذا عاود الدم في الأربعين بعد طهر يكون دون العشر، فيجب أن يكون نفاساً؛ لأن ذلك ليس بطهر شرعي؛ إذ قد ثبت أن أقل الطهر عشر.
__________
(1) ـ في (أ) و(ب): وإن.
(2) ـ انظر المنتخب ص29.
(3) ـ لم أجد في المنتخب نصاً بذلك.
وقول النبي صلى الله عليه وآله وسلم: (( إلا أن ترى الطهر قبل ذلك )) محمول على الطهر الشرعي؛ لأن ألفاظ النبي صلى الله عليه وآله وسلم يجب أن تحمل على ما يقتضيه الشرع، فإذا ثبت أن الَّتِي ترى النقاء دون العشر، لا تكون رأت الطهر، فيجب أن يكون حكمها حكم النفاس. (9/3)
مسألة [ في المرأة إذا ولدت توأمين فنفاسها من مولد الأخير ]
ولو أن امرأة ولدت توأمين، كان النفاس من مولد الأخير منهما تخريجاً.
وكان أبو العباس الحسني رضي اللّه عنه يُخرِّج ذلك على مذهب يحيى عليه السلام؛ لأنَّه قال(1): لا يجتمع حبل وحيض، وقال في موضع آخر من (الأحكام): "الحيض والنفاس واحد في المعنى"(2).
واستدل على ذلك بما أخبرنا به أبو العباس الحسني، أخبرنا ابن أبي حاتم، حدثني الحسن بن عرفة، حدثنا إسماعيل بن علية، عن هشام الدستوائي، عن يحيى بن أبي كثير، عن أبي سلمة، عن زينب ابنة أم سلمة، عن أم سلمة، قالت: بينا أنا ورسول اللّه صلى الله عليه وآله وسلم في الخميلة؛ إذ حضت، فانسللت، فأخذت ثياب حيضي، فقال رسول اللّه صلى الله عليه وآله وسلم (( أنفست ))؟ قلت: نعم، فدعاني إليه إلى الخميلة.
فإذا ثبت أن الحيض والنفاس في المعنى واحد، وثبت أن الحيض لا يجامع الحبل، ثبت أن النفاس لا يجامعه، وإذا ثبت ذلك وولدت المراة ولداً وبقي في الرحم آخر، فالمرأة حامل بعد، وإذا كانت حاملاً، لم يكن ذلك منها نفاساً كما لا حيض، فوجب بهذا أن يكون النفاس من مولد المولود الأخير.
مسألة [ في المرأة إذا أسقطت ]
قال: وإن أسقطت ما بان بعض خلقه كالمضغة، ونحوها فهي نفساء، وإلا فلا.
__________
(1) ـ انظر المنتخب ص29.
(2) ـ الأحكام 1/75.
وهذا يخريج على قوله في (المنتخب)(1) في باب تحريم بيع أمهات الأولاد: أن الأمة تصير أم ولد "إذا أسقطت ما علم أنه شيء تضمنته الرحم من مضغة، أو شيء علم أنَّه لحمة"، فلما أجري ذلك مجرى السقط، وأثبت الأمة بذلك أم ولد يجب(2) أن تصير المرأة لذلك نفساء، ولا تصير بغيره من العلل نفساء. (9/4)
والذي يدل على ذلك أنها إذا أسقطت ما ذكرنا يعلم أنَّه ولد، فإذا أسقطت ما لم يعلم عن شيء من خلقه، لم يمكن أنَّه شيء اشتمل عليه الرحم لولادة؛ إذ يجوز أن يكون دماً، أو علة، فوجب أن تصير المرأة بإسقاط ما ذكرنا نفساء، (ولا تصير بغيره من العلل نفساء)(3).
مسألة [ في أن الحيض والنفاس في المعنى واحد ]
وحكم النفاس كحكم الحيض، تتجنب النفساء ما تتجنبه الحائض، ويستحب ويكره لها ما يستحب ويكره لها، وعليهما قضاء ما تركتا من الصيام دون الصلاة.
وقد دل على هذه الجملة في (الأحكام)(4) بقوله: "الحيض والنفاس في المعنى واحد"، وهذه الجملة مما لا أحفظ فيها خلافاً بين العلماء.
__________
(1) ـ المنتخب ص225.
(2) ـ في (أ): فيجب.
(3) ـ ما بين القوسين من (أ).
(4) ـ الأحكام 1/75.
كتاب الصلاة (10/1)
باب القول في الأذان
الأذان واجب على الكفاية. وقد نص يحيى عليه السلام في (المنتخب)(1) على أنَّه (واجب).
وقلنا: إنَّه على الكفاية لِما ثبت من مذهبه أنَّه لا يجب الأذان على كل إنسان؛ إذ قد نص على أن النساء ليس عليهن أذان(2)، وذكر أنَّه يجوز أن يؤذن للقوم غير من يُقيم لهم إذا اضطروا، فجعل مؤذن القوم غير مقيمهم، فدل أنَّه لا يوجبه على كل مصلٍ.
واستدل أصحابنا على وجوبه بقول الله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِيْنَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا الَّذِيْنَ اتَّخَذُوا دِيْنَكُمْ هُزُواً وَلَعِباً} إلى قوله: {وَإِذَا نَادَيْتُمْ إِلَى الصَّلاةِ...}الآية.
وروي أنهم كانوا إذا سمعوا الأذان قالوا: أذنوا لا أذنوا.
فدل ذلك على أن الأذان من الدين، فثبت بذلك وجوبه، ويدل على ذلك أيضاً:
ما أخبرنا به أبو بكر المقرئ، حدثنا الطحاوي(3)، حدثنا أبو أمية، حدثنا المعلى بن منصور، أخبرنا عبد السلام بن حرب، عن أبي العميس، عن عبد الله بن محمد بن عبد الله بن زيد، عن أبيه، عن جده، أنَّه أُرِيَ الأذان فأمر النبي صلى الله عليه وآله وسلم بلالاً فأذن، ثُمَّ أمر عبد الله فأقام، والأمر يقتضي الوجوب، فدل ذلك عل ما ذكرناه بوجوب الأذان.
وأخبرنا أبو بكر، حدثنا الطحاوي، حدثنا مبشر بن الحسن، حدثنا أبو عامر العَقَدي، حدثنا شعبة، عن خالد الحذَّاء، عن أبي قلابة، عن أنس، قال: أُمِرَ بلال أن يشفع الأذان، ويوتر الإقامة(4).
وروى ابن أبي شيبة، حدثنا وكيع، عن سفيان، عن خالد، عن أبي قلابة، عن مالك بن الحويرث، قال: أتيت النبي صلى الله عليه وآله وسلم ومعي ابن عم لي، فقال لي: (( إذا سافرتما، فأذنا، وأقيما، وليؤمكما أكبركما )).
__________
(1) ـ المنتخب ص30.
(2) ـ الأحكام 1/87.
(3) ـ أخرجه الطحاوي في شرح معاني الآثار 1/142.
(4) ـ أخرجه الطحاوي في شرح معاني الآثار 1/142.
فكل ذلك يقتضي الإيجاب، وأن قد أجمعوا على أن كل إنسان غير مخاطب به في نفسه على الانفراد، ثبت أن وجوبه على الكفاية كالجهاد، ودفن الميت وما أشبههما. (10/2)
مسألة [ في وقت الأذان ]
قال: ولا يجوز أن يؤذن لصلاة من الصلوات الخمس قبل دخول وقتها. وقد نص على ذلك في (الأحكام)(1).
واستدل بما رواه ابن أبي شيبة، حدثنا أبو خالد، عن الأشعث، عن الحسن، قال: أذن بلال بليل فأمره النبي صلى الله عليه وآله وسلم أن ينادي: أن العبد نام. فرجع فنادى أن العبد نام وهو يقول:
ليت بلالاً ثكلته أمه ... وابتلَّ من نضح دمِ جبينه
قال: وبلغنا أنَّه أمره أن يعيد الأذان.
وروى ابن أبي شيبة، حدثنا وكيع، عن جعفر بن الزبرقان، عن شداد مولى عياض بن عمرو بن عامر، عن بلال أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم، قال: (( لا تؤذن حتى ترى الفجر هكذا ))، ومد يده.. أي معترضاً.
والنهي يدل على أن المنهي عنه لا يقع موقع الصحيح، فدل الخبر على أن الأذان قبل طلوع الفجر لا يقع موقع أذان الفجر.
وأخبرنا أبو بكر المقرئ، حدثنا الطحاوي، حدثا فهد، حدثنا محمد بن سعيد الأصفهاني، أخبرنا شريك، عن علي بن علي، عن إبراهيم، قال: شيعنا علقمة إلى مكة، فخرج بليل فسمع مؤذناً يؤذن بليل، فقال: "أما هذا فقد خالف سنة أصحاب محمد صلى الله عليه وآله وسلم، لو كان نائماً لكان خيراً له، فإذا طلع الفجر أذن"(2).
فأخبر علقمة أن ذلك خلاف سنة أصحاب محمد صلى الله عليه وآله وسلم، فدل ذلك على أنهم أجمعوا على خلافه.
فإن قيل: روي: (( أن بلالاً يؤذن بليل فكلوا واشربوا حتى يؤذن ابن أم مكتوم )).
__________
(1) ـ انظر الأحكام 1/86.
(2) ـ أخرجه الطحاوي في شرح معاني الآثار 1/141 ـ 142.
قيل له: لسنا نمنع الأذان قبل طلوع الفجر، لكن لا يجوز أن يعتد به للفجر، وفي الحديث: ((كلوا واشربوا حتى يؤذن ابن أم مكتوم )). فقد بان أن الاقتصار على الأذان بليل لا يجوز، على أنَّه قد روي ما يدل على أن أذان بلال لم يكن للصلاة، وهو أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم ، قال: (( إن بلالاً يؤذن بليل؛ ليرجع قائمكم، ويوقظ نائمكم، فكلوا واشربوا حتى يؤذن ابن أم مكتوم )). (10/3)
فإن قيل: فما الوجه فيما روي أن بلالاً أُمِرَ بإعادة الأذان حين أذن قبل الفجر، وأن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال له: (( لا تؤذن حتى يستبين لك الفجر )). ثُمَّ روي عنه صلى الله عليه وآله وسلم (( إن بلالاً يؤذن بليل ))؟
قيل له: يجوز ما روي أولاً من أمره بإعادة الأذان، ونهيه عنه قبل الفجر كان حين كان هو المنصوب لتأذين الفجر، ويدل على ذلك أنَّه كان في أول الأمر قول النبي صلى الله عليه وآله وسلم له: (( ناد: إن العبد نام )). فبان أن الناس لم يكونوا عهدوا النداء قبل الفجر، فخاف النبي صلى الله عليه وآله وسلم أن يخطئ قوم فيصلوا قبل الفجر.
فأما ما روي أن بلالاً يؤذن بليل فيجوز أن يكون النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال ذلك؛ لأنَّه كان نصب لتأذين الفجر ابن أم مكتوم.
فإن قيل: إذا سُلم لنا أن الأفضل هو التغليس بالفجر، فلا بد من أن يقع الأذان قبل الفجر؟
قيل له: ليس الأمر على ما قدرت؛ لأن الأذان وإن وقع بعد طلوع الفجر، فإن القدر الذي يتأهب الإنسان فيه للصلاة لا يخرجه من أداء الصلاة في الغلس، على أن الأذان إنَّما هو دعاء إلى الصلاة لا إلى الاستعداد، فلا يجب أن يتقدم على وقت الصلاة، على أن من أراد الأفضل يمكنه أن يستيقظ قبل الفجر، ويستعد حتى يصادف الوقت مستعداً كما يفعله المؤذن نفسه، فبان بهذه الوجوه أنَّه لا معنى لتعلقهم بما تعلقوا به.
ويدل على ذلك أنَّه لا خلاف في أن سائر الصلوات سوى الفجر لا يجوز أن يؤذن لها قبل وقتها، فكذلك الفجر قياساً على سائر الصلوات؛ بعلة أنَّه أذان جعل دعاء إلى الصلاة فلا يجوز أن يتقدم على وقتها (ونبه النبي صلى اللّه عليه وآله وسلم على هذه العلة بقوله: (( إن بلالاً يؤذن بليل ليوقظ نائمكم ويرجع قائمكم، فكلوا واشربوا حتى يؤذن ابن أم مكتوم ))، فنبه على أن أذانه لما لم يكن للصلاة قدم على وقتها)(1). (10/4)
وحكي عن الشافعي أنَّه ترك القياس في هذه للسنة، وذلك لا معنى له؛ لأن السنة قد شهدت بصحة ما قلناه، وعضدها القياس على ما بيناه، وليس لأحد أن يستدل على ذلك بفعل أهل المدينة؛ لأنَّه لم يثبت أنهم حجة، بل هم كغيرهم، على أن ما بيناه عن علقمة أنَّه قال حين سمع الأذان قبل الفجر: هذا قد خالف سنة أصحاب محمد صلى الله عليه وآله وسلم، يبين أن فعل أهل المدينة في هذا الباب خلاف السنة.
مسألة [ في آذان الأعمى والمملوك وولد الزنى ]
قال: لا بأس بأذان الأعمى، والمملوك، وولد الزنا، إذا كانوا من أهل الدين. وهذا منصوص عليه فيه في (الأحكام)(2).
يبين صحة ذلك ما ثبت أن ابن أم مكتوم كان أعمى، وكان يؤذن للنبي صلى الله عليه وآله وسلم، ويعتد بأذانه، فكون الرجل مملوكاً، أو ولد زنا لا تأثير له في هذا الباب، فوجب أن يكون سبيلهما في ذلك سبيل سائر المسلمين، وإنما اشترطنا أن يكونوا من أهل الدين ليكونوا من أهل المعرفة بالأوقات، ولتجوز الثقة بهم وبأذانهم، وليس يتخصص به الأعمى، وولد الزنا، والمملوك، فإن غيرهم ـ أيضاً ـ يجب أن يكونوا من أهل الدين ليُسكن إلى أذانهم، على أن من لم يكن بهذه الصفة، فلسنا نمنع الاعتداد بأذانه، إذا كان من أهل الملة، إلاَّ أن الأولى ما ذكرنا.
مسألة [ ويجوز أن يقيم غير المؤذن للحاجة ]
__________
(1) ـ ما بين القوسين زيادة في (ج).
(2) ـ انظر الأحكام 1/87.
قال: ولا بأس أن يقيم للقوم غير مؤذنهم إن اضطروا. وهذا أيضاً منصوص عليه في (الأحكام)(1)، والوجه(2): (10/5)
ما أخبرنا به أبو بكر المقرئ، حدثنا الطحاوي، حدثنا يونس، أخبرنا عبد الله بن وهب، أخبرني عبد الرحمن بن زياد، عن زياد بن نعيم، أنَّه سمع زياد بن الحارث الصدائي يقول: أتيت رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فلما كان أذان الصبح أمرني فأذنت(3)، ثُمَّ قام إلى الصلاة، فجاء بلال يقيم، فقال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: (( إن أخا صداء أذن، ومن أذن فهو يقيم ))(4).
وروى أبو بكر بن أبي شيبة، حدثنا حفص، عن الشيباني، عن عبد العزيز بن رفيع، قال: رأيت أبا محذورة جاء ـ وقد أذن إنسان ـ فأذن هو، وأقام، فدل على أن إعادته الأذان حين أراد الإقامة على أنَّه يكره أن يقيم إلاَّ من أذن.
وروي أن ابن أم مكتوم كان يؤذن، ويقيم بلال، وربما أذن بلال، وأقام ابن أم مكتوم.
وروي أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أمر بلالاً أن يؤذن، ثُمَّ أمر عبد الله، فأقام ـ يعني عبد الله بن زيد الأنصاري ـ وقد تقدم إسناده قبل هذه المسألة، فحملنا هذه الأخبار على الاضطرار، ليكون ذلك جمعاً بين الأخبار والآثار(5).
مسألة [ في كلمات الأذان ]
قال: والأذان خمس عشرة كلمة، يقول المؤذن: (الله أكبر، الله أكبر . أشهد أن لا له إلاَّ الله، أشهد أن لا إله إلاَّ الله. أشهد أن محمداً رسول الله، أشهد أن محمداً رسول الله. حي على الصلاة، حي على الصلاة. حي على الفلاح، حي على الفلاح. حيّ على خير العمل، حي على خير العمل. الله أكبر، الله أكبر. لا إله إلاَّ الله).
__________
(1) ـ انظر الأحكام 1/87.
(2) ـ في (ج): والوجه فيه.
(3) ـ في (ب) و(ج): فغادرت.
(4) ـ أخرجه الطحاوي في شرح معاني الآثار 1/142.
(5) ـ في (ب): جمعاً بين الأخبار. وكتب في الهامش في نسخة الآثار.
وهذا منصوص عليه في (الأحكام) و(المنتخب)(1)، وهذا الذي ذكرناه قد اختلف فيه في خمسة مواضع منه. (10/6)
[1] ذهب بعض الناس إلى أن التكبير في أول الأذان أربع مرات، ومذهب يحيى عليه السلام أنَّه مرتان.
[2] وذهب بعض الفقهاء إلى الترجيع في الشهادتين، ولم ير ذلك عليه السلام، ولا أحد من أهل البيت عليهم السلام.
[3] ومذهب يحيى عليه السلام وعامة أهل البيت عليهم السلام التأذين بحي على خير العمل، وخالفهم على ذلك سائر الفقهاء، ولم يروا التأذين به.
[4] وذهب أكثرهم إلى التأذين بالصلاة خير من النوم، ولم يرَ يحيى عليه السلام ولا عامة أهل البيت عليهم السلام ذلك.
[5] وذهب يحيى عليه السلام إلى أن التهليل في آخر الأذان مرة واحدة، ومذهب الناصر عليه السلام، والأمامية أنه مرتان.
[التثنية في التكبير والترجيع في الشهادتين]
فالذي يدل على أن التكبير في أول الأذان مرتان:
ما أخبرنا به أبو بكر المقرئ، حدثنا الطحاوي، حدثنا أبو بكرة، حدثنا أبو عاصم، حدثني ابن جريج، أخبرني عثمان بن السائب، أخبرني أبي، عن عبد الملك ابن أبي محذورة، عن أبي محذورة، قال: علمني رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم الأذان كما أُأَذِّن الآن، الله أكبر، الله أكبر. أشهد أن لا إله إلاَّ الله، أشهد أن لا إله إلاَّ الله. أشهد أن محمداً رسول الله، أشهد أن محمداً رسول الله. حي على الصلاة، حي على الصلاة. حي على الفلاح حي على الفلاح. حي على خير العمل، حي على خير العمل. الله أكبر، الله أكبر. لا إله إلاَّ الله(2).
__________
(1) ـ الأحكام 1/84. والمنتخب ص30.
(2) ـ أخرجه الطحاوي في شرح معاني الآثار 1/130، إلا أن فيه: أخبرني أبي وأم عبد الملك بن أبي محذورة، وفيه: كما تؤذنون الآن.
وأخبرنا أبو بكر المقرئ، حدثنا الطحاوي، حدثنا أحمد بن داود(1) بن موسى، حدثنا يعقوب بن حميد بن محاسب، حدثنا عبد الرزاق، عن معمر(2)، عن حماد، عن إبراهيم، عن الأسود، عن بلال أنَّه كان يثني الأذان، ويثني الإقامة(3). (10/7)
والأخبار بهذا اللفظ، وما يرجع إلى معناه كثير، والخبر الأول ـ خبر أبي محذورة ـ قد صرح أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم علَّمه الأذان، فقال: الله أكبر مرتين، والخبر الثاني قد اقتضى ذلك، عمومه(4) بأنه قد كان يثني الأذان.
وروى أبو بكر بن أبي شيبة، حدثنا هشام، عن عبد الرحمن بن يحيى، عن المهيع(5) بن قيس، أن علياً عليه السلام، كان يقول: (أنَّ الأذان مثنى مثنى، والإقامة).
وأخبرنا أبو العباس الحسني، أخبرنا أبو زرعة أحمد بن يوسف، حدثنا محمد بن عبد الله الحضرمي، حدثنا زكريا بن يحيى الواسطي، حدثنا زياد بن عبد الله الطائي، عن إدريس بن يزيد(6) الأودي، عن عون(7) بن أبي جحيفة، عن أبيه، قال: أذن بلالٌ ـ ورسول الله صلى الله عليه وآله وسلم بمنى ـ، مرتين، وأقام كذلك.
فإن قيل: فقد روي أن التكبير في أول الأذان أربع مرات، وقد ذكر أبو محذورة في أذانه الذي علمه النبي صلى الله عليه وآله وسلم الترجيع.
قيل له: يحتمل الترجيع، وتكرير التكبيرتين أن يكون النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال ذلك على سبيل التعليم، أو قال ذلك بأنه لم يكن مد صوته، ألا ترى إلى ما روي أنَّه صلى الله عليه وآله وسلم، قال له: (( ارجع فيه، ومد صوتك ))، فإذا احتمل ذلك، وكان قد روي ما تقدم ذكره، لم يجب أن يجعل تكرير التكبيرتين، وترجيع الشهادتين من أصل الأذان، فصح ما نذهب إليه في هذا الباب.
__________
(1) ـ في (أ): ابن أبي داود.
(2) ـ في (ب): ابن معمر.
(3) ـ أخرجه الطحاوي في شرح معاني الآثار 1/134.
(4) ـ في (أ): وعمومه
(5) ـ في (ب) و(ج): الهجنع.
(6) ـ في (ب) و(ج): زيد.
(7) ـ في (أ): عوف.
على أن القياس يصحح ما نذهب إليه؛ لأنَّه لا خلاف في غيرها من كلمات الأذان، أنها لا تكرر أكثر من مرتين على الولاء، والإقامة أيضاً تشهد لنا بصحة ما ذكرناه. (10/8)
وقد قاس المخالف لنا التكبير على التهليل، فقال: لما ذكر التهليل في موضعين من الأذان، وجب أن يكون في الموضع الأول ضعف ما في الموضع الثاني، وكذلك التكبير؛ لأنَّه ذكر في موضعين من الأذان، إلاَّ أن قياسنا أولى؛ لِما ذكرناه من الأخبار؛ ولأنَّ أكثر كلمات الأذان أصلٌ لما ذكرناه.
ويمكن أن يقاس التكبير المبتدأ به على التكبير الذي في آخر الأذان.
وروي عن عمار بن سعد، عن أبيه سعد القرظي أنَّه سمعه يقول: إن هذا الأذان أذان بلال الذي أمره به رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وإقامته، وهو: الله أكبر، الله أكبر. أشهد أن لا إله إلاَّ الله، أشهد إلاَّ إله إلاَّ الله. أشهد أن محمداً رسول الله، أشهد أن محمداً رسول الله. [حي على الصلاة، حي على الصلاة. حي على الفلاح، حي على الفلاح. حي على خير العمل، حي على خير العمل](1) إلى آخره، وكل ذلك يؤكد ما نذهب إليه.
والأذان المروي عن سائر مؤذني رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم بغير ترجيع، يصحح ما نذهب إليه من ترك الترجيع، ويبين أن التأويل فيما روي من الترجيع ما ذهبنا إليه.
[التأذين بحي على خير العمل]
وأما التأذين بحي على خير العمل، فالدليل على صحته:
ما أخبرنا به أبو العباس الحسني، أخبرنا علي بن الحسين الظاهري، حدثنا محمد بن محمد بن عبد العزيز، حدثنا عبَّاد بن يعقوب، أخبرنا عيسى بن عبد الله بن محمد بن عمر بن علي بن أبي طالب عليهم السلام، حدثني أبي عن أبيه، عن جده، عن علي عليه السلام، قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، يقول: (( إن(2) خير أعمالكم الصلاة ))، وأمر بلالاً أن يؤذن بحي على خير العمل.
__________
(1) ـ ما بين المعكوفين زيادة في (أ).
(2) ـ في هامش (أ): اعلم أن.
وروى أبو بكر بن أبي شيبة، حدثنا حاتم، بن إسماعيل، عن جعفر(1)، عن أبيه، ومسلم بن أبي مريم، أن علياً بن الحسين عليه السلام كان يؤذن، فإذا بلغ حي على الفلاح قال: حي على خير العمل، ويقول هو الأذان الأول. (10/9)
وليس يجوز لأحد أن يحمل قوله: هو الأذان الأول سوى(2) أذان رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم.
وأخبرنا أبو العباس الحسني، أخبرنا محمد بن علي بن الحسن الصباغ، ويوسف بن محمد الكسائي، وأحمد بن سعيد بن عثمان الثقفي، قالوا: أخبرنا عمار بن رجاء، حدثنا أزهر بن سعد، عن ابن عون، عن نافع، عن ابن عمر، أنَّه كان يقول في أذانه: حي على خير العمل.
وروى ابن أبي شيبة، حدثنا أبو أسامة، حدثنا عبيد(3)، عن نافع، قال: كان ابن عمر ربما زاد في أذانه: حي على خير العمل.
[التأذين بالصلاة خير من النوم]
فأما التأذين بالصلاة خير من النوم، فالذي يدل على أنَّه ليس من الأذان:
ما رواه ابن أبي شيبة، حدثنا عبده بن سليمان، عن هشام بن عروة، عن رجل يقال له: إسماعيل، قال: جاء المؤذن يُؤذن عمر بصلاة الفجر، فقال: الصلاة خير من النوم، فأُعجب عمر بها، وأمر المؤذن أن يجعلها في أذانه، فدل ذلك على أنها لم تكن في أذان رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم.
وروي عن ابن جريج، قال: أخبرنا عمر بن حفص، أن جده سعد القرظي، أول من قال: الصلاة خير من النوم بخلافة عمر، ومتوفى أبي بكر، فقال عمر: بدعة.
وروى أبو بكر بن أبي شيبة، حدثنا وكيع، عن إسرائيل، عن حكيم بن جبير، عن عمران بن أبي الجعد، عن الأسود بن يزيد، أنَّه سمع مؤذناً يقول في الفجر: الصلاة خير من النوم. فقال: لا تزيدنَّ في الأذان ما ليس منه.
__________
(1) ـ في (ب) و(ج): عن جعفر بن محمد.
(2) ـ في (ج): إلا أنه. في (ب): أنه، وظنن فوقها بـ إلا أنه.
(3) ـ في (ب) و(ج): عبيد الله.
فإن قيل: روي عن أبي محذورة، قال: كنت غلاماً صيِّتاً فقال لي رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: (( قل: الصلاة خير من النوم، الصلاة خير من النوم )). (10/10)
قيل له: يجوز أن يكون النبي صلى الله عليه وآله وسلم أمر بذلك لينبه الناس، لا لأنْ يجعله من الأذان، بدلالة ما روي عن عمر: إنها بدعة، وما رُوي أنَّه أُعجب بها حين سمعها.
فإن قيل: روي عن أبي محذورة أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم علَّمه في الأذان الأول من الصبح: الصلاة خير من النوم، الصلاة خير من النوم.
قيل له: يجوز أن يكون معناه عند الأذان من الصبح ما قلناه بدلالة ما قدمناه، وبدلالة أن الأذان الذي ذكر أبو محذورة، أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم علمه إياه، وليس فيه الصلاة خير من النوم، وقد ذكرناه بإسناده في صدر هذه المسألة.
ويدل على صحة ما نذهب إليه في هذا الباب أنَّه لا خلاف في أن أذان سائر الصلوات ليس فيه الصلاة خير من النوم، فيجب أن يكون أذان الصبح مقيساً على ما ذكرناه، ويبين ذلك أن سائر الكلمات تتفق في أنَّ ما يذكر في بعض الأذان، يذكر في سائره.
[تثنية التهليل في آخر الأذان]
وأما ما يبين أن التهليل في آخر الأذان مرة واحدة، فهو أنَّه المروي عن جميع مؤذني رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، ولم يرو عن أحد منهم التثنية فيه.
وليس لأحد أن يتعلق بما روي من أن الأذان مثنى مثنى بتثنية التهليل في آخر الأذان، وذلك أنَّه مخصوص من جملة الأذان بما ذكرناه، على أن المخالف في هذا يقول: إن الإقامة مثنى مثنى، ومع هذا يقول: أن(1) آخرها مرة واحدة، فبان أن التهليل(2) مستثنى من ذلك.
مسألة [ في كلمات الإقامة ]
__________
(1) ـ في (ب) و(ج): أن التهليل.
(2) ـ في (ب): التهليل في الأخير.
قال: وكذلك الإقامة، إلاَّ أنك تزيد ـ بعد قولك: حي على خير العمل ـ : قد قامت الصلاة، قد قامت الصلاة(1). وهذا منصوص عليه في (الأحكام)(2). (10/11)
والوجه في تثنية الإقامة الأخبار التي قدمناها، منها: ما روينا عن بلال أنَّه كان يثني الأذان، ويثني الإقامة، وأنه أذنه ـ ورسول الله صلى الله عليه وآله وسلم بمنى ـ مرتين، وأقام كذلك.
وروى أبو بكر بن أبي شيبة، يرفعه إلى الهجنع(3) بن قيس، أن عليّاً عليه السلام مرَّ على مؤذن وهو يقيم مرةً مرة، فقال: ألا جعلتها مثنى، لا أُمَّ للآخَر.
وروى أبو بكر بن أبي شيبة، حدثنا علي بن هاشم، عن ابن أبي ليلى، عن عمرو بن مرة، عن عبد الرحمن بن أبي ليلى، قال: كان عبد الله بن زيد الأنصاري مؤذن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يشفع الأذان والإقامة.
وأخبرنا أبو بكر، حدثنا الطحاوي، حدثنا أبو بكرة(4)، قال حدثنا أبو عاصم، حدثنا ابن جريج، أخبرني عثمان بن السائب، عن أبيه، وأم عبد الملك بن أبي محذورة، أنهما سمعا أبا محذورة يقول: علمني رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم الإقامة مثنى [مثنى](5).
فإن قيل: فقد روي عن أنس أنَّه قال: أمر بلال أن يشفع الأذان، ويوتر الإقامة(6).
قيل له: يجب أن يكون ذلك منسوخاً بما روي أن بلالاً أقام مثنى كما أذن مثنى. وبما روي عن أبي محذورة. وبما روي عن علي عليه السلام في ذلك.
وما رواه ابن أبي شيبة، حدثنا عفان، حدثنا عبد الواحد بن زياد، حدثنا حجاج بن أرطأة، حدثنا أبو إسحاق، قال: كان أصحاب عبد الله، وأصحاب علي يشفعون الأذان والإقامة.
__________
(1) ـ في (أ): قد قامت الصلاة، مرتين.
(2) ـ انظر الأحكام 1/84.
(3) ـ في (أ): المهيع.
(4) ـ في (ب): أبو بكر.
(5) ـ سقطت من (أ).
(6) ـ أخرجه الطحاوي في شرح معاني الآثار 1/134، بهذا السند، وبسند آخر إلى أبي محذورة.
وما أخبرنا أبو بكر، أخبرنا(1) الطحاوي، حدثنا يزيد بن سنان، حدثنا يحيى بن سعيد القطان، حدثنا فطر بن خليفة، عن مجاهد في الإقامة مرة مرة: إنَّما هو شيء استخفته الأمراء. فأخبر مجاهد أن الأصل فيه التثنية(2). (10/12)
فكلها تؤيد(3) ما نذهب إليه، وإنما(4) يجوز أن تقاس الإقامة على الأذان بمعنى أنَّه دعاء إلى الصلاة، فيجب في كل واحد منهما التثنية. وإذ قد صح أنَّه قول علي عليه السلام، فيجب عندنا أن يتبع فيه، ولا نخالفه.
مسألة [ في التطريب في الأذان ]
قال: ولا بأس بالتطريب في الأذان إذا كان مع البيان. وهذا منصوص عليه في (الأحكام)(5).
والحجة فيه ما روي أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال لأبي محذورة: (( مد بها صوتك ))، وليس التطريب مع البيان إلاَّ أن يكون الحسن الصوت يمد بها صوته.
وروي عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم: (( زينوا القرآن بأصواتكم، فإن الصوت الحسن يزيد القرآن حُسْناً ))، وإذا جاز ذلك في القرآن، ففي الأذان أجوز.
مسألة [ في أخذ الأجرة على الأذان ]
قال: ولا يجوز أخذ الجعل عليه بشرط مشروط، فإن لم يكن مشروطً جاز. وهذا منصوص عليه في (الأحكام)(6).
والدليل على ذلك:
__________
(1) ـ في (ب) و(ج): حدثنا.
(2) ـ أخرجه الطحاوي في شرح معاني الآثار 1/136، ومنه قطر بن خليفة.
(3) ـ في (ب) و(ج): فكل ذلك يؤكد.
(4) ـ في (ج): وأيضاً.
(5) ـ انظر الأحكام 1/85.
(6) ـ انظر الأحكام 1/85.
ما أخبرنا به محمد بن عثمان النقاش، حدثنا الناصر عليه السلام، حدثنا محمد بن منصور، حدثنا أحمد بن عيسى، عن حسين، عن أبي خالد، عن زيد بن علي، عن آبائه، عن علي عليه السلام، أنَّه أتاه رجل فقال: يا أمير المؤمنين، والله، إني لأحبك في الله. قال: ولكني أبغضك في الله. قال: ولِم؟ قال: لأنك تتغنى في الأذان، وتأخذ على تعليم القرآن أجراً، وسمعت رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، يقول: (( من أخذ على تعليم القرآن أجراً، كان حظه يوم القيامة )). (10/13)
وروي أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قال لرجل: (( أُم قومك، واتخذ مؤذناً لا يأخذ على أذانه أجراً )).
ويدل على ذلك ـ أيضاً ـ أنا قد بيَّنا فيما تقدم أن الأذان واجب على الكفاية، فإذا كان القيام به قيام عبادة واجبة، فيحرم أخذ الأجرة عليه قياساً على أخذ الأجرة على أداء سائر المفروضات من الصلاة والزكاة والجهاد، ونحو ذلك.
فإن قيل: إنكم تجوزون أن يأخذ القاضي على قضائه أجراً.
قيل له: لسنا نجيز ذلك على سبيل الأجرة، وإنما نجيز ذلك إذا شغل نفسه بمصالح المسلمين؛ ليكون عوناً له على ما هو فيه، وسبيله سبيل ما يعطَى الغازي يستعين به على مصالحه، لا على سبيل الأجرة.
فإن قيل: ألستم تجوزون أخذ الأجرة على بناء المسجد، وحفر القبر، وإن كان ذلك واجباً على الكفاية؟
قيل له: نحن منعنا جواز ذلك فيما يكون عبادة، وبناء المسجد وحفر القبر، لا يكونان عبادة، ألا ترى أنَّه قد يجوز أن يُبنى البناء لغير المسجد، ثُمَّ يُجعل مسجداً، وقد يجوز أن يحفر لغير الميت، ثُمَّ يُجعل قبراً، وليس كذلك الأذان؛ لأنَّه لا بد من أن يقصد به قصد العبادة.
يكشف ذلك أن المشرك قد يجوز أن يُستحفر القبر، وأن يُستعمل فيما يكون عمارة المسجد، ولا يجوز أن يكون مؤذناً، فأما ما ذهبنا إليه من أن المؤذن يجوز له أن يأخذ ما يُعطى إذا لم يكن مشروطاً، فلا خلاف فيه، فإنه لا يجري مجرى الأجرة، وإنما(1) يجري مجرى الإحسان إليه كما يحسن إلى الغزاة، وأهل الفضل والدين من الفقهاء وغيرهم. (10/14)
مسألة [ في الكلام أثناء الأذان والإقامة ]
قال: ويكره الكلام في الأذان والإقامة إلاَّ من ضرورة. وهذا منصوص عليه في (الأحكام)(2).
والوجه فيه أنهما عبادتان مختصتان بالنطق، فيكره أن يقطع بينهما، كالخطبة وسائر الأذكار، ويقوي ذلك ما استقر من عادة المسلمين أنهم لا يتكلمون فيهما، بل يستمرون فيهما من غير أن يتخللهما ما ليس منهما، وهي عادة لهم من أول الإسلام إلى يومنا هذا.
مسألة [ في أذان المحدث وإقامته ]
قال: ولا يجوز للمحدث أن يقيم، ولا بأس بأذانه، قال: وقال القاسم عليه السلام: ولا(3) يؤذن الجنب. وما ذكرناه(4) أولاً منصوص عليه في (الأحكام) (5)، وما حكاه عن القاسم عليه السلام منصوص عليه في (مسائل النيرسي).
وذكر يحيى عليه السلام في (الأحكام)(6) العلة في منع المحدث من الإقامة، فقال: "لأنَّه ليس بعدها إلاَّ الصلاة"، فكأنه شبهه بالخطبة؛ لأن الخطبة لما وليتها الصلاة، لم يخطب إلاَّ المتطهر، فكذلك الإقامة لا يقيمها إلاَّ المتطهر؛ لأن الصلاة تليها؛ ولأنه لم يُروَ عن أحد من مؤذني رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، ولا أكابر الصحابة أنه أقام، ثُمَّ تطهر، بل كانوا يبتدئون الصلاة حين يفرغون من الإقامة، فبان أنهم لم يكونوا يقيمونها إلاَّ متطهرين.
__________
(1) ـ في (ج): بل.
(2) ـ انظر الأحكام 1/86.
(3) ـ في (أ): لا.
(4) ـ في (ب): ذكره.
(5) ـ انظر الأحكام 1/86.
(6) ـ الأحكام 1/86.
فأما وجه ما قاله القاسم عليه السلام من أن الجنب لا يؤذن فهو أنَّه وجد الجنابة أغلظ من الحدث، ووجد الجنب ممنوعاً من دخول المسجد، وقراءة القرآن فمنعه من الأذان؛ لأنَّ هذه أمور كلها تختص الصلاة. (10/15)
مسألة [ في الأذان والإقامة على النساء]
قال: وليس على النساء أذان ولا إقامة. وهذا منصوص عليه في (الأحكام)(1).
والوجه في ذلك أن الأذان والإقامة أمور شرعية، ولم يستقر في الشرع وجوبهما على النساء، إذ لم يثبت أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم أمرهن بذلك.
وذكر أبو العباس الحسني رحمه الله في شرحه (للأحكام) أن عليّاً عليه السلام روي عنه أن المرأة لا تُؤذن، ولا تؤم، ولا تُنْكح، وإذا لم تؤذن لم تقم؛ لما روي عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم أنه قال: [(( من أذن فهو يقيم ))، واستدل يحيى بن الحسين عليه السلام على ذلك بأن قال: إن الأذان هو الدعاء إلى الصلاة، وذلك برفع الصوت، وقد روي عن النبي صلى اللّه عليه وآله وسلم أنه قال](2): "النساء عي وعورات، فاستروا عيهن بالسكوت، وعوراتهن بالبيوت".
فلما أمر النبي صلى الله عليه وآله وسلم بأن يسترن بالسكوت، دل ذلك على أن لا أذان عليهن.
واستدل أبو العباس الحسني رحمه الله تعالى على ذلك بأن قال: قال الله تعالى: {وَلا يَضْرِبْنَ بِأَرْجُلِهِنَّ لِيُعْلَمَ مَا يُخْفِيْنَ مِنْ زِيْنَتِهِنَّ}[النور:31]، فإذا نهاهن عن إسماع أصوات أرجلهن، فلأن(3) ينهاهن عن أن يسمعن سائر أصواتهن أولى، فاقتضى ذلك أن لا أذان عليهن.
__________
(1) ـ الأحكام 1/87.
(2) ـ ما بين المعكوفين زيادة في (ج).
(3) ـ في (ب): كان.
باب القول في المواقيت (11/1)
[مسألة في وقت الظهر والعصر ]
أول وقت الظهر زوال الشمس، ويتبين(1) ذلك بازدياد ظل كل منتصب بعد انتقاصه سوى فيء الزوال. وآخر وقته حين يصير ظل كل شيء مثله، وهو أول وقت العصر، وآخر وقته عند مصير(2) ظل كل شيء مثليه.
وقد نص في (الأحكام) على أول الظهر، وأول وقت العصر على ما ذكرناه. وقال في باب الاستحاضة من (الأحكام)(3): تؤخر المستحاضة الظهر إلى أول وقت العصر، ثُمَّ تصليهما بوضوء واحد، كما روي أنها تجمع بينهما في آخر وقت الأولى، وأول وقت الأخرى. فدل ذلك على أن آخر وقت الظهر ـ على ما بيناه ـ حين يصير ظل كل شيء مثله.
فأما أول وقت الظهر فلا خلاف فيه بين المسلمين، والأخبار التي نذكرها من بعد في هذا الباب تدل على ذلك.
وقلنا: إن ذلك يتبين بازدياد ظل كل منتصب بعد الانتقاص؛ لأن زوال الشمس هو أن تميل عن وسط السماء إلى ناحية المغرب، وقد علمنا أن أطول ما يكون ظل كل منتصب إذا كانت الشمس في الأفق، وأقصر ما يكون إذا كانت في وسط السماء، فعلى هذا إذا طلعت الشمس يكون الظل أطول ما يكون، ثُمَّ لا يزال يتناقص إلى أن يبلغ وسط السماء، ثُمَّ إذا زالت عن الوسط إلى أفق المغرب زاد الظل، فذلك(4) علامة زوال الشمس.
واستثنينا فيء الزوال من الظل المراعى للمواقيت؛ لأن الزوال يختلف بحسب الأزمان والأماكن، وقد يكون في بعض الأزمنة والأمكنة فئ الزوال أطول من ظل المنتصب، فلو لم نستثنيه من الظل، لم يصح الاعتبار به، على أنه لا خلاف فيه بين العلماء.
واستدل في (المنتخب)(5) لصحة مذهبه في المواقيت:
__________
(1) ـ في (أ): وستبين.
(2) ـ في (ب) و(ج): وآخر وقته حين يصير.
(3) ـ انظر الأحكام 1/76.
(4) ـ في (ج): فذلك يكون.
(5) ـ المنتخب ص32.
بما أخبرنا به أبو بكر المقرئ، حدثنا الطحاوي، حدثنا يونس، أخبرنا ابن وهب، أخبرني يحيى بن عبد الله بن سالم، عن عبد الرحمن بن الحارث المخزومي، عن نافع بن جبير(1)، عن ابن عباس، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: (( أَمَّني جبريل عليه السلام مرتين عند باب البيت، فصلى بي الظهر حين مالت الشمس، وصلى بي العصر حين صار ظل كل شيء مثله، وصلى بي المغرب حين أفطر الصائم، وصلى بي العشاء حين غاب الشفق، وصلى بي الفجر حين حرم الطعام والشراب على الصائم، وصلى بي الظهر من الغد حين صار ظل كل شيء مثله، وصلى بي العصر حين صار ظل كل شيء مثليه، وصلى بي المغرب حين أفطر الصائم، وصلى بي العشاء حين مضى ثلث الليل، وصلى بي الغداة حين ما أسفر، ثُمَّ التفت إليَّ، ثُمَّ قال: يا محمد، الوقت فيما بين هذين الوقتين، هذا وقت الأنبياء قبلك ))(2). (11/2)
__________
(1) ـ في (ج): عن نافع، عن ابن جبير.
(2) ـ أخرجه الطحاوي في شرح معاني الآثار 1/146 ـ 147.
وأخبرنا أبو بكر، حدثنا الطحاوي، حدثنا ابن أبي داود، حدثنا حماد بن يحيى، حدثنا عبد الله بن الحارث، حدثنا ثور بن يزيد، حدثنا سليمان بن موسى، عن عطاء بن أبي رباح، عن جابر، قال: سأل رجل نبي الله صلى الله عليه وآله وسلم عن وقت الصلاة؟ فقال له صلى الله عليه وآله وسلم: (( صل معي )) فصلى مع(1) رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم الصبح حين طلع الفجر، ثُمَّ صلى الظهر حين زاغت الشمس، ثُمَّ صلى العصر حين صار ظل كل شيء مثله، ثُمَّ صلى المغرب حين وجبت الشمس، ثُمَّ صلى العشاء قبل غيبوبة الشفق [ثم صلى الصبح فأسفر، ثم صلى الظهر حين كان ظل الإنسان مثله، ثم صلى العصر حين كان فيء الإنسان مثليه، ثم صلى المغرب قبل غيبوبة الشفق، ثم صلى العشاء، قال بعضهم: ثلث الليل، وقال بعضهم: شطر الليل](2). (11/3)
فلما كان اليوم الثاني دعاه فصلى صلاة الصبح، فلما انصرف، قال القائل: طلعت الشمس أم لا؟ ثُمَّ أخر الظهر إلى أول وقت العصر أو قريباً منه، وأخر العصر والقائل يقول: غربت الشمس أم لا؟ ثُمَّ أخر المغرب إلى أن قال القائل: غاب الشفق أم لا؟ وأخر العشاء إلى شطر الليل، ثُمَّ قال: (( الوقت فيما بين هذين الوقتين ))، ثُمَّ صلى العشاء، وقال بعضهم: ثلث الليل، وقال بعضهم: شطر الليل(3).
__________
(1) ـ سقطت (مع) من (ب) و(ج).
(2) ـ ما بين المعكوفين زيادة في (ج). وقال العلامة العجري: هكذا في بعض نسخ شرح التجريد، وهو بهذا اللفظ في شرح معاني الآثار للطحاوي.
(3) ـ أخرجه الطحاوي في شرح معاني الآثار 1/147، إلى قوله: فلما، كأنه قال: حامد بن يحيى في سنده.
وأخبرنا أبو بكر المقرئ، حدثنا الطحاوي، حدثنا فهد، حدثنا أبو نعيم، حدثنا بدر بن عثمان(1)، حدثنا أبو بكر بن أبي موسى، عن أبيه، عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم، قال: أتاه سائل، فسأله عن مواقيت الصلاة، فلم يرد شيئاً، فأمر بلالاً، فأقام الفحر حين انشق الفجر والناس لا يكاد يعرف بعضهم بعضاً، ثُمَّ أمره فأقام الظهر حين زالت الشمس، والقائل يقول: انتصف النهار أو لم؟ وكان أعلم منهم، ثُمَّ أمره فأقام العصر، والشمس مرتفعة ـ حين صار ظل الإنسان مثله، ثُمَّ أمره فأقام المغرب حين وقعت(2) الشمس، ثُمَّ أمره فأقام العشاء حين غاب الشفق، ثُمَّ أخر الفجر من الغد حتى انصرف منها، والقائل يقول: طلعت الشمس أو كادت. ثُمَّ أخر الظهر حتى كان قريباً من العصر، ثُمَّ أخر العصر حتى انصرف منها، والقائل يقول: وجبت الشمس؟ ثُمَّ أخر المغرب (3) عند سقوط الشفق، ثُمَّ أخر العشاء حتى كان ثلث الليل الأول، ثُمَّ أصبح فدعا السائل فقال: (( الوقت فيما بين هذين الوقتين ))(4). (11/4)
فهذه الأخبار كلها قد اتفقت بأن النبي صلى الله عليه وآله وسلم صلى الظهر في اليوم الأول حين زالت الشمس.
ودل (5) على ذلك قول الله تعالى: {أَقِمِ الصَّلاةَ لِدُلُوكِ الشَّمْسِ}[الإسرا: ].
فإن قال قائل: قد قيل إن الدلوك هو الغروب؟
قيل له: قد قيل ذلك. وقيل(6) الزوال، وليسا بمتنافيين، فغير ممتنع أن يكونا جميعاً مرادين.
فأما أن آخر وقت الظهر حين يصير ظل كل شيء مثله، فقد صرح به حديث ابن عباس، وحديث جابر.
وقول من قال: إن أول وقت العصر بعد أن يصير ظل كل شيء مثله، فلا معنى له؛ لما رويناه عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم في ذلك.
__________
(1) ـ في (أ): عثمان أبو حمزة.
(2) ـ في (ب) و(ج): وجبت.
(3) ـ في (ج): المغرب حتى كان.
(4) ـ أخرجه الطحاوي في شرح معاني الآثار 1/147، إلا أنه قال في العصر: احمرت الشمس.
(5) ـ في (أ): ويدل.
(6) ـ في (أ): وقد قيل.
فإن قيل: الأخبار التي رويت في هذا الباب يحتمل أن يكون المراد بها أنه صلى الله عليه وآله وسلم فرغ من الظهر في اليوم الثاني في الوقت الذي كان ابتدأ العصر فيه في اليوم الأول؟ (11/5)
قيل له: ظاهر هذه الأخبار تنطق بخلاف ذلك؛ لأن فيها أنَّه صلى اللّه عليه وآله وسلم صلى العصر في اليوم الأول حين صار ظل كل شيء مثله، وصلى الظهر في اليوم الثاني حين صار ظل كل شيء مثله، فكان الوقت الذي صلى فيه العصر في اليوم الأول هو الوقت الذي صلى فيه الظهر في اليوم الثاني بعينه.
فإن قيل: روى الأعمش، عن أبي صالح، عن أبي هريرة، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: (( إن للصلاة أولاً وآخراً، وإن أول وقت الظهر حين تزول الشمس، وإن آخر وقتها حين يدخل وقت العصر ))، فثبت بذلك أن دخول وقت العصر عند خروج وقت الظهر.
قيل له: نحن لو جعلنا هذا الحديث دلالة على صحة مذهبنا، لساغ؛ لأن ظاهره يشهد لنا، ألا ترى أنَّه صلى الله عليه وآله وسلم، قال: (( وإن آخر وقتها حين يدخل وقت العصر ))، والهاء راجعة إلى جميع صلاة الظهر، لا إلى آخر جزء منها، فإذا صار ظاهره يدل على أن آخر وقت صلاة الظهر بكمالها أول وقت العصر بكمالها، على أن الوجه الذي أشاروا إليه لا يستقيم على مذهبهم؛ لأنهم لا يقولون: إن وقتاً واحداً يشترك فيه آخر الظهر، وأول العصر، بل لا يجوز دخول وقت العصر إلاَّ بعد خروج وقت الظهر، وهذا واضح، وما ذكرناه من أن هذا الخبر شاهد لمذهبنا بيِّن.
فإن استدلوا بحديث أبي قتادة، قال: قال رسول لله صلى الله عليه وآله وسلم: (( ليس في النوم تفريط، إنَّما التفريط في اليقظة، أن تؤخر صلاة إلى وقت أخرى )). فقالوا: قد دل ذلك على أن تأخير الظهر إلى(1) وقت العصر تفريط، وفيه أن الوقت الواحد لا يكون وقتاً لهما جميعاً.
__________
(1) ـ في (ج): إلى أول.
قيل له: قد ثبت بالأخبار التي مضت أن الأوقات ثلاثة: وقت يختص بالظهر، ووقت يختصر بالعصر، ووقت هو مشترك بينهما، وإذا كان ذلك على ما ذكرناه، ثبت أن المراد بهذا الخبر هو أن التفريط ترك الصلاة إلى وقت يختص بصلاة أخرى، وهذا ما لا نأباه، بل نقول به، ونذهب إليه. (11/6)
يوضح ذلك أن ذلك الوقت ـ أعني الوقت المشترك ـ لا نقول على الإطلاق أنَّه وقت للصلاة الأخرى؛ لأنَّه يمُت إلى الصلاة الأخرى، كما يمت إلى الصلاة الأولى؛ لأنَّه آخر وقت الأولى، وأول وقت الأخرى.
فإن قيل: فإن ابن عباس روى الخبر الذي اعتمدتموه في المواقيت، وقد روى ليث، عن طاووس، عن ابن عباس، قال: لا تفوت صلاة حتى يجيء وقت الأخرى، فبان أن التأويل في خبر المواقيت هو الذي ذكرناه.
قيل له: قد ثبت أن جميع الصلاة غير مراد بهذا، ألا ترى أن صلاة الفجر تفوت، وإن لم يجئ وقت صلاة أخرى، فلا يمتنع على هذا أن يكون أراد به العصر، والعشاء الآخرة، وأراد ما ذكرناه من تأويل الخبر الذي ذكرناه قبل هذا من مجيء وقت يختص بالصلاة الأخرى.
وجملة الأمر أن الأخبار التي اعتمدناها في هذا الباب مرجَحة على سائر ما ذكروه من الأخبار؛ لأنها أخبار مشهورة تلقتها العلماء بالقبول، ورجعوا في تعريف مواقيت الصلاة إليها، واعتمدوا عليها؛ ولأن المقصد فيها بيان الأوقات، وليس كذلك سائر الأخبار التي عارضوا بها.
فإن قاسوا الظهر والعصر على الفجر، وقالوا: إن وقتهما يجب أن لا يكون فيه اشتراك كصلاة الفجر، انتقض ذلك بالجمع بعرفات.
وإن شئنا قسنا سائر الأيام على يوم عرفة بعرفات، وقلنا لمن يخالفنا: يجب أن يحصل الاشتراك في وقت الظهر والعصر، على أن إثبات المواقيت بالقياس لا معنى له، إلاَّ أنا ذكرناه لاعتماد بعض المخالفين عليه مع ضعفه.
فصل [ في الرد على من قال إن أول العصر مصير ظل الشيء مثليه ]
فأما من قال: إن أول وقت العصر حين يصير ظل كل شيء مثليه، [فإن وقت الظهر ممتد إلى أن يصير ظل كل شيء مثليه](1). (11/7)
واستدل على ذلك بأن قال: إنَّما فعله النبي صلى الله عليه وآله وسلم من تأدية الظهر في اليوم الثاني حين صار ظل كل شيء مثله دلالة على أنَّه قد نسخ ما فعله في اليوم الأول من تأدية العصر في هذا الوقت، فلا معنى له؛ لأن هذا لا يدل على النسخ، بل يدل على أن الوقت وقت لهما على ما بيناه، يؤيد ذلك أنَّه قد ثبت أن المقصد به كان بيان أول الوقت وآخره، بدلالة أنَّه صلى الله عليه وآله وسلم فعل(2) ذلك بجميع الصلوات ـ يعني أداها في وقتين ـ وقال: (( الوقت فيما بين هذين الوقتين )).
وأيضاً لا خلاف بين المسلمين أن الأخبار إذا أمكن أن يبنى بعضها على بعض، فلا يجب أن يحمل على النسخ، فإذا ثبت ذلك، وأمكن أن تحمل تأدية العصر في اليوم الأول في وقت أديَ في الظهر في اليوم الثاني على أن الوقت وقت لهما جميعاً، لم يجب أن يحمل على النسخ.
ومما يدل على ذلك أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قد فعل ذلك حين أَمَّه جبريل عليه السلام، ثُمَّ فعله حين جاء رجل يسأله عن أوقات الصلوات، فلو كان ما فعله صلى الله عليه وآله وسلم في اليوم الثاني في المرة الأولى التي أمَّه فيها جبريل عليه السلام نسخاً؛ لِما فعله في اليوم الأول في تلك المرة، لم يفعله صلى الله عليه وآله وسلم بعد ذلك عند تعليمه مَن سأله عن أوقات الصلوات.
فإن قيل: ما تنكرون على من قال لكم إنَّه لا يمتنع أن يكون ائتمام النبي صلى الله عليه وآله وسلم بجبريل عليه السلام، وتعليمه من سأله عن أوقات الصلاة(3)، كان في مرة واحدة فلا يلزم ما ذكرتم؟
قيل له: هذا ممتنع لوجهين:
__________
(1) ـ ما بين المعكوفين في (ج).
(2) ـ في (ج): قد فعل.
(3) ـ في (ب) و(ج): الصلوات.
أحدهما: أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم ابتدأ التعليم في حديث جابر، وحديث أبي موسى من صلاة الفجر إلى أن صلى الصلوات كلها في يومين. (11/8)
وفي حديث ابن عباس أن جبريل عليه السلام حين أُمَّ النبي صلى الله عليه وآله وسلم بتعليم المواقيت، ابتدأ بصلاة الظهر(1)،[ثُمَّ ابتدأ النبي صلى الله عليه وآله وسلم بتعليم السائل منها ـ أي من صلاة الفجر](2)؛ ولأنه يجوز أن يعلم السائل ولم يتعلم بعد من جبريل عليه السلام ، وإذا كان ذلك كذلك فالواجب أن تكون صلاة الظهر التي تليها هي المفعولة بتعليم جبريل عليه السلام حين صار ظل كل شيء مثله.
وليس كذلك في خبر جابر، وأبي موسى، بل فيه أنَّه صلى الله عليه وآله وسلم صلى الظهر ذلك اليوم حين زالت الشمس، فصح بهذا أن التعليم لم يكن في وقت تعليم جبريل عليه السلام للنبي صلى الله عليه وآله وسلم(3).
__________
(1) ـ في (ج): فصلاة الفجر التي ابتدأ النبي صلى اللّه عليه وآله وسلم بتعليم السائل منها لا بد من أن تكون الصلاة الخامسة التي أم فيها جبريل عليه السلام صلى اللّه عليه وآله وسلم؛ لأنه لا...
(2) ـ ما بين المعكوفين ساقط من (ج).
(3) ـ في (أ) و(ب): عليه السلام حين أم بالنبي صلى اللّه عليه وآله وسلم.
[والوجه الثاني: أن في خبر ابن عباس: أن جبريل عليه السلام حين أمَّ بالنبي صلى اللّه عليه وآله وسلم صلى المغرب](1)، وصلى المغرب في الليلة الثانية حين أفطر الصائم كما كان صلاها في الليلة الأولى، وفي حديث جابر بن عبد الله، أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم صلى المغرب ـ حين علم السائل في الليلة الثانية ـ قبل غيبوبة الشفق، في الوقت الذي ذكر أنَّه صلى الله عليه وآله وسلم صلى فيه العشاء في الليلة الأولى، وكذلك في خبر أبي موسى أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم صلى المغرب في الليلة الثانية عند سقوط الشفق، فعلم أن هذه الصلاة(2) ـ أعني صلاة المغرب ـ في الليلة الثانية من تعليم [النبي صلى اللّه عليه وآله وسلم للسائل غير صلاة المغرب في الليلة الثانية](3) جبريل للنبي صلى الله عليه وآله وسلم. (11/9)
فإن استدلوا بحديث ابن عمر، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: (( إنما أجلكم في أجل من خلا من الأمم، كما بين صلاة العصر إلى مغرب الشمس، وإنما مثلكم ومثل أهل الكتابين قبلكم كمثل رجل استعمل رجلاً عملاً، فقال: من يعمل إلى نصف النهار بقيراط؟ فعملت اليهود، ثُمَّ قال: من يعمل إلى صلاة العصر بقيراط؟ فعملت النصارى على ذلك، ثُمَّ أنتم الذين تعملون من صلاة العصر إلى مغرب الشمس على قيراطين، فغضبت اليهود والنصارى، وقالوا: نحن أكثر أعمالاً، وأقل عطاءً )).
وقالوا: إنَّه يدل على أن وقت صلاة العصر حين يصير ظل كل شيء مثليه من وجهين:
أحدهما أنَّه قال: أجلكم في أجل من خلا من الأمم قبلكم، كما بين صلاة (4) العصر إلى مغرب الشمس، وإنما قصد الإخبار عن قصر المدة.
__________
(1) ـ سقط ما بين المعكوفين من (أ) و(ب).
(2) ـ في (أ): الصلوات.
(3) ـ ما بين المعكوفين موجود في (ج) وفي هامش (ب) و(أ).
(4) ـ في (ج): كما بين.
والوجه الثاني: أن قوله فغضبت اليهود والنصارى، فقالوا(1): نحن أكثر عملاً، وأقل عطاء. فمعلوم أن كثرة العمل تكون بطول مدة وقتهم [وقصر وقت أمتنا](2)، ففي هذا أن ما بين العصر إلى غروب الشمس أقل مما بين الظهر إلى العصر، فذلك يوجب أن وقت العصر حين يصير ظل كل شيء مثليه. (11/10)
قيل لهم: إن هذا الخبر ـ إن صح ـ خبر ورد على طريق التشبيه، وضرْب المثل فليس يجوز الاعتراض به على خبرنا، ولا تقديمه عليه؛ لأن خبرنا ورد المقصد به في بيان الأوقات وتعليمها، فأكثر ما علينا في هذا الخبر إذا قبلناه أن نذكر له وجهاً وتأويلاً، ثُمَّ الواجب الرجوع إلى الخبر الذي ذكرناه للوجه الذي بيناه.
فنقول: يحتمل أن يكون النبي صلى الله عليه وآله وسلم أراد بذلك آخر وقت العصر، وآخر وقته حين يصير ظل كل شيء مثليه، فعلى هذا التأويل يسقط تعلقهم بالوجهين جميعاً.
ويحتمل ـ أيضاً ـ أن يكون اليهود والنصارى بأجمعهم قالوا: نحن أكثر عملاً وأقل عطاءً ـ ولم يقله كل واحد من الفريقين على حياله ـ فلا يجب إذاً أن يكون وقت الظهر أطول من وقت العصر، وإنما يجب أن يكون من أول النهار إلى وقت العصر أطول من وقت العصر إلى غروب الشمس.
فإن قيل: لو كان ذلك كذلك، لم يقولوا بعد قولهم نحن أكثر عملاً وأقل عطاءً؛ لأن عطاء الفريقين مثل عطاء المسلمين.
قيل لهم: ليس الأمر كذلك؛ لأن عطاءهم بالإضافة إلى أعمالهم أقل من عطاء المسلمين بالإضافة إلى أعمالهم، على أن ما يقصد به ضرب المثل والتقريب لا يجب أن يكون مثل الممثَّل به على التحقيق، وإنما يجب أن يأخذ منه شبهاً على وجه من الوجوه، وهذا الكلام أضعف من أن يحتاج فيه إلى الإطالة.
__________
(1) ـ في (أ) و(ب): وقالوا.
(2) ـ ما بين المعكوفين في (ج).
وإن ذكروا في هذا الباب قياساً أمكن أن يعارضوا بأن يقاس الظهر والعصر على المغرب والعشاء؛ بعلة أنهما صلاتان يجوز الجمع بينهما على بعض الوجوه، فيجب أن لا يكون وقت الأولى أطول من وقت الأخرى. (11/11)
مسألة [ في بيان وقتي المغرب والعشاء ]
قال: وأول وقت المغرب غروب الشمس، ودخول الليل، ويستبان ذلك بظهور كوكب من كواكب الليل، وآخر وقته سقوط الشفق، وهو أول وقت العشاء، وآخره ثلث الليل.
قد نص في (الأحكام)(1) على أن: أول وقت المغرب عند دخول الليل، وأن ذلك يستبان بكوكب من كواكب الليل، وأن أول وقت العشاء سقوط الشفق، وذلك(2) في باب الإستحاضة من كتاب الطهارة من (الإحكام)(3) على أن آخر وقت المغرب أول وقت العشاء على ما ذكرناه في آخر وقت الظهر.
ودل في (المنتخب)(4) على أن آخر وقت العشاء ثلث الليل.
ولا أحفظ خلافاً في أن أول وقت المغرب عند دخول الليل.
وفي حديث ابن عباس رضي الله عنه أن جبريل عليه السلام صلى بالنبي صلى الله عليه وآله وسلم المغرب حين أفطر الصائم، إلاَّ أن الناس اختلفوا في دخول الليل: فمنهم من راعى احتجاب الشمس عن الأبصار.
وذهب يحيى عليه السلام إلى أنَّه يجب أن يستظهر بأن يرى كوكب من كواكب الليل(5)، قال: لأن الشمس قد تحتجب وإن لم تكن غابت على الحقيقة، واستدل على ذلك بقول الله تعالى: {فَلَمَّا جَنَّ عَلَيْهِ اللَّيْلُ رَأَى كَوكَباً}[الأنعام:76]، فلما قرن الله تعالى اجتنان الليل برؤية الكوكب(6)، عُلم أنها أمارة له.
قال: ولا بد من أن يكون الكوكب من كواكب الليل؛ لأن الكواكب التي ترى نهاراً قد ترى والشمس لم تحتجب، فعلم أنَّه لا معتبر به، وإنما الاعتبار بكواكب الليل، ويدل على ذلك:
__________
(1) ـ انظر الأحكام 1/89.
(2) ـ في (ج): دلّ.
(3) ـ انظر الأحكام 1/76.
(4) ـ الذي في المنتخب رواية عن عبد الرزاق عن ابن جريج عن عطاء، وفيها: شطر الليل. هذا ما ذكر فيه.
(5) ـ انظر الأحكام 1/89.
(6) ـ في (ب): الكواكب.
ما أخبرنا به أبو بكر المقرئ، حدثنا الطحاوي، حدثنا فهد حدثنا عبدالله(1) بن صالح، حدثني الليث بن سعد، عن خير بن نعيم، عن أبي هبيرة الشيباني، عن أبي تميم الجيشاني، عن أبي بصرة الغفاري، قال: صلى بنا رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم صلاة العصر(2)، فقال: (( إن هذه الصلاة عرضت على من كان قبلكم فضيعوها، فمن حافظ عليها منكم، أُوتي أجرها مرتين، ولا صلاة حتى يطلع الشهاب )) . وفي بعض الأخبار (( حتى يطلع الشاهد ))(3). (11/12)
فإن قيل: روي إن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم كان يصلي المغرب إذا وجبت الشمس، وروي: كنا نصلي المغرب مع رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم إذا توارت بالحجاب.
قيل له: ذلك لا ينافي ما ذكرناه؛ لأنَّه لا يمتنع أن تكون حقيقة غروب الشمس لا تعلم إلاَّ بطلوع النجم، وهذا أولى؛ لأنَّه جمع بين الأخبار كلها، وأخذ بها.
وأخبرنا أبو بكر المقرئ، حدثنا الطحاوي، حدثنا سليمان بن شعيب، حدثنا أسد، حدثنا ابن أبي ذؤيب، عن الزهري، عن حميد بن عبدالرحمن، قال: رأيت عمر وعثمان يصليان المغرب في رمضان، إذا أبصرا الليل الأسود، ثُمَّ يفطران بعده(4).
وأما ما يدل على أن آخر وقت المغرب هو أول وقت العشاء، فهو حديث جابر، وحديث أبي موسى؛ لأن جابراً قال: إن النبي صلى الله عليه وآله وسلم صلى العشاء في الليلة الأولى قبل غيبوبة الشفق، وذكر أبو موسى أنَّه صلى الله عليه وآله وسلم صلى العشاء في الليلة الأولى حين غاب الشفق، وذكر أنَّه صلى الله عليه وآله وسلم أخر المغرب الليلة الثانية حتى كان عند سقوط الشفق.
__________
(1) ـ في (أ) و(ج): أبو عبد الله.
(2) ـ في (ب): صلاة المغرب. وفي (ج): صلاة العصر بالمخمص.
(3) ـ أخرجه الطحاوي في شرح معاني الآثار 1/153، والتي فيه الرواية الثانية.
(4) ـ أخرجه الطحاوي في شرح معاني الآثار 1/155، وفيه: ابن أبي ذئب، بدلاً عنه ذؤيب.
ويدل على ذلك ما روي عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: (( إذا حضر العَشَاء وأقيمت الصلاة فابدأوا بالعشاء )). ولا يجوز أن يرخص في تأخيرها إلاَّ مع بقاء وقتها. (11/13)
فإن قيل: ذكر ابن عباس في حديثه أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم صلى المغرب حين أمّ به جبريل عليه السلام في وقت واحد.
قيل له: قد دللنا على أن ما رواه جابر وأبو موسى متأخر عن حديث ابن عباس، فهو أولى أن يؤخذ به.
فإن قيل: روي عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم، أنَّه قال: (( لا تزال أمتي بخير ما لم يؤخروا المغرب إلى أن تشتبك النجوم )).
قيل له: يجوز أن يكون المراد به أنَّه أول الوقت، ويعتقدوا في أول الوقت أنَّه ليس بوقت له.
وقد قلنا: إن القياس في هذا الباب مما يضعف، ولكنا نذكر ما قيل فيه، وهو أنَّه مقيس على الظهر بعلة أنَّه يجوز الجمع بينه وبين الصلاة التي تليه على بعض الوجوه، فيجب أن يكون وقته ممتداً إليها.
فأما آخر وقت العشاء، فالذي يدل على أنَّه إلى ثلث الليل الأخبارُ التي قدمناها، فأما ما روي من بقاء وقتها إلى نصف الليل وإلى ثلثيه، فهو محمول على أنَّه وقت الاضطرار، وذلك مما لا ينكر.
مسألة [ في الشفق ]
قال: والشفق المعتبر به هو الحمرة.
وهذا منصوص عليه في (الأحكام)(1)، وقد ذكره القاسم عليه السلام في (مسائل النيروسي)، وهو قول جميع أهل البيت عليهم السلام، لا يختلفون في ذلك، وهو قول عامة الفقهاء.
والدليل على ذلك حديث جابر، حيث يقول: إن النبي صلى الله عليه وآله وسلم صلى المغرب في الليلة الأولى حين وجبت الشمس، ثُمَّ صلى العشاء قبل غيبوبة الشفق. ولا خلاف أن(2) العشاء لا يصلى على الاختيار قبل غيبوبة الشفق، وهو الحمرة، فإذاً مراده قبل غيبوبة البياض، فكأنه قال باللفظ الصريح ـ صلى صلى الله عليه وآله وسلم ـ: العشاء في الليلة الأولى قبل غيبوبة البياض.
__________
(1) ـ انظر الأحكام 1/89.
(2) ـ في (أ): ولا خلاف في أن.
فإن قيل: قد قال الله تعالى: {أَقِمِ الصَّلاةَ لِدُلُوكِ الشَّمْسِ إِلَى غَسَقِ اللَّيْلِ}[الإسراء: ، والدلوك: الغروب. فأمر بإقامة صلاة المغرب إلى غسق الليل، وغسق الليل لا يكون إلاَّ مع غروب البياض، ففي ذلك أن وقت المغرب باقِ إلى غروب البياض، وإذا ثبت ذلك، ثبت أن أول وقت العشاء عند غروب البياض. (11/14)
قيل له: الصَّحيح عندنا أن دلوك الشمس أراد به زوالها، على أنا لو سلمنا أن المراد به الغروب، لم يجب ما قالو بأن الغسق هو الظلام، ونحن نعلم أن الظلام يكون مع بقاء الحمرة، فكيف مع غيبوبتها، فسقط تعلقهم بذلك، يؤكد ذلك ما روي عن ابن مسعود أنَّه صلى المغرب حين غابت الشمس، وقال: هذا والذي لا إله إلاَّ هو وقت هذه الصلاة، ثُمَّ قرأ: {أَقِمِ الصَّلاةَ لِدُلُوكِ الشَّمْسِ إِلَى غَسَقِ اللَّيْلِ}[الإسراء: ]، وأشار بيده إلى المغرب، وقال: هذا غسق الليل، وأشار بيده إلى المطلع، فبين أن المراد بغسق الليل هو حصول ظلام الليل، على أن المشهور عند أهل اللغة أن الشفق هو الحمرة، وقد ذكره الخليل في كتاب (العين)، فيجب أن يحمل عليه سائر الأخبار التي روي فيها أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم صلاها حين غاب الشفق.
فأما ما نذكره في هذا الباب على طريق المقايسة، فقد قلنا: إنَّه يضعف جداً، ويمكن أن يعارضوا على قولهم في ذلك أن(1) البياض والحمرة وقت للصلاة بالاتفاق، وهي صلاة واحدة، وكذلك يجب أن يكونا وقت صلاة واحدة، وهي المغرب بأن يقال لهم: قد ثبت أن بذهاب الحمرة ذهاب وقت صلاة واحدة، وهي المغرب، على أن أوكد ما يعتمد في هذا الباب إجماع أهل البيت عليهم السلام على أن الشفق المعتبر به هو الحمرة، وقد ذكرنا أن إجماعهم حجة.
مسألة [ في بيان وقت صلاة الفجر ]
قال: وأول وقت صلاة الفجر طلوعه، وآخره قبيل طلوع الشمس، فهذه الأوقات المندوب إليها.
__________
(1) ـ في (ب): إلى.
أما أول وقت صلاة الصبح، وآخره فلا خلاف فيه، وقد دلت على ذلك الأخبار التي تقدمت، وقد نص يحيى عليه السلام على أول وقته في (الأحكام)(1)، ونبه على آخر وقته في (المنتخب)(2)، وكون هذه الأوقات التي مضى ذكرها أوقات الاختيار، قد دلت عليه الأخبار التي قدمناها فلا غرض في إعادتها. (11/15)
مسألة [ في الجمع بين الصلوات ]
قال(3): فأما من كان مسافراً، أو خائفاً، أو مريضاً، أو مشتغلاً بشيء من أمر الله، فله أن يجمع بين الظهر والعصر بعد زوال الشمس إلى غروبها، وبين المغرب والعشاء بعد غروب الشمس إلى طلوع الفجر.
وهذا منصوص عليه في (الأحكام)(4).
وهذه الجملة تشتمل على مسألتين:
إحداهما: أنَّه يجوز أن يجمع بين الظهر والعصر في وقت كل واحدة منهما، وكذلك يجوز الجمع بين المغرب والعشاء في وقت كل واحدة منهما.
والمسألة الثانية: أن وقت العصر ممتد إلى غروب الشمس، وأن وقت العشاء الآخرة ممتد إلى طلوع الفجر.
فأما ما يدل على جواز الجمع على نحو ما ذكرناه فهو: ما أخبرنا به أبو الحسين بن إسماعيل، حدثنا محمد بن الحسين بن اليمان، حدثنا محمد بن شجاع، حدثنا عثمان بن عمر، حدثنا(5) ابن جريج، عن الحسين بن عبدالله بن عبيدالله بن العباس، عن عكرمة، عن ابن عباس أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم كان إذا زاغت له الشمس ـ وهو في منزل ـ جمع بين الظهر والعصر، فإذا لم تزغ له حتى ارتحل، سار حتَّى يدخل وقت العصر، ثُمّ نزل [في وقت المغرب](6) فجمع بينهما.
وإذا غربت الشمس وهو في منزل، جمع بين المغرب والعشاء، وإذا لم تغرب الشمس حتى ارتحل، سار إلى وقت العشاء، ثُمَّ نزل فجمع بين المغرب والعشاء.
__________
(1) ـ انظر الأحكام 1/89.
(2) ـ الذي في المنتخب رواية عن عبد الرزاق، عن ابن جرير، عن طاووس، ص34.
(3) ـ سقط من (ا): قال.
(4) ـ انظر الأحكام 1/89 ـ 90.
(5) ـ في (ب): أخبرنا.
(6) ـ سقط ما بين المعكوفين من (ب) و(ج).
ففي هذا الخبر تصريح بأنه صلى الله عليه وآله وسلم صلى في حالة العصر في وقت الظهر، والعشاء في وقت المغرب، وأنه صلى الله عليه وآله وسلم صلى الظهر في وقت العصر، والمغرب في وقت العشاء. (11/16)
وأخبرنا أبو بكر المقرئ، حدثنا الطحاوي، حدثنا ابن أبي داود، حدثنا مسدد، حدثنا عمر، عن عبيد الله، عن نافع، عن ابن عمر، أنَّه كان إذا جد به السير جمع بين المغرب والعشاء بعد ما يغيب الشفق، ويقول: إن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم كان إذا جد به السير جمع بينهما، وفي بعض الأخبار، أنَّه قال: هكذا رأيت رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يفعل(1).
ففي هذا الخبر الجمع بينهما في وقت إحداها.
وأخبرنا أبو بكر المقرئ، حدثنا الطحاوي، حدثنا يونس، حدثنا ابن وهب، أخبرنا مالك، عن أبي الزبير المكي، عن ابن جبير، عن ابن عباس، أنَّه صلى الله عليه وآله وسلم صلى الظهر والعصر جميعاً والمغرب والعشاء جميعا في غير خوف ولا سفر(2).
وروي بغير هذا الإسناد، فقلت: ما حمله على ذلك؟ قال: أراد ألا يحرِّج على أمته(3).
وروي عن ابن عباس: (( من غير سفر ولا مطر )).
__________
(1) ـ أخرجه الطحاوي في شرح معاني الآثار 12/162، إلا أن فيه: حدثنا يحيى، عن عبد الله، بدلاً عن عمر، عن عبيد الله.
(2) ـ أخرجه الطحاوي في شرح معاني الآثار 1/160، وفيه: صلى بنا.
(3) ـ أخرجه الطحاوي في شرح معاني الآثار 1/160، وفيه: صلى بنا رسول الله.
وروي عن ابن عباس، أنَّه قال: ربما جمع النبي صلى الله عليه وآله وسلم بين المغرب والعشاء في المدينة. وهذه الأخبار تبين أن الجمع غير مقصور على السفر، وليس لهم أن يحملوا ذلك على تأخير الصلاة الأولى، وتقديم الثانية حتى تكون كل واحدة منهما مفعولة في وقتها؛ لأن ذلك لا يكون جمعاً على الحقيقة، وإنما يكون جمعاً إذا جمع بينهما في وقت إحداهما، على أنه لا خلاف في جواز الجمع بين الظهر والعصر في وقت الظهر بعرفة، وفي جواز الجمع بين المغرب والعشاء بمزدلفة في وقت العشاء. فبان بذلك أن وقت كل واحدة منهما وقت لصاحبتها. (11/17)
فإن قيل: فالخبر الذي ذكرتموه في صدر باب المواقيت(1) من تعليم جبريل عليه السلام للنبي صلى الله عليه وآله وسلم، وتعليم النبي عليه السلام لمن جاء يسأله عن أوقات الصلوات.
قيل له: أخبار التعليم تدل على اختصاص كل واحدة من الصلوات بوقت على سبيل الاختيار، وهذه الأخبار دلت على أوقات العذر، على أن تلك الأخبار ـ أيضاً ـ دلت على أن آخر وقت الظهر أول وقت العصر، وأن آخر وقت المغرب هو أو وقت العشاء، فبان أن هذه الأخبار بمجموعها دلت على أوقات الاختيار، وعلى أوقات العذر، فصح ما ذهبنا إليه.
وأما كون وقت العصر ممتداً إلى غروب الشمس، فسنذكر ما ورد فيها من الأخبار بعد هذه المسألة.
وأما كون وقت العشاء ممتداً إلى طلوع الفجر، فقد استدل على ذلك بقوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الْمُزَّمِّلْ قُمِ اللَّيْلَ إِلاَّ قَلِيْلا}[المزمل:1]، فأوجب القيام في أكثر الليل، ولا صلاة تؤدى في أكثر الليل إلاَّ صلاة العشاء، فعُلم أنها المراد، وإذا ثبت ذلك، ثبت أن وقتها ممتد إلى الفجر؛ لأن كل من جعل وقتها أكثر من نصف الليل، جعله إلى آخر الليل. ويدل على ذلك:
__________
(1) ـ في (أ) و(ب): ذكرتموه في ذلك ناب.
ما أخبرنا به أبو بكر المقرئ، حدثنا الطحاوي، حدثنا يزيد بن سنان، حدثنا الحسن بن عمر بن شقيق، حدثنا جرير، عن منصور، عن الحكم، عن نافع، عن ابن عمر، قال: مكثنا ذات ليلة ننتظر رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم للعشاء الآخرة فخرج إلينا حين ذهب ثلثا الليل، أو بعده، ولا ندري أي شيء شغله في أهله، أو في غير ذلك؟ (11/18)
فقال حين خرج: (( إنكم تنتظرون صلاة ما(1) ينتظرها أهل دين غيركم، ولولا أن يَثقل على أمتي، لصليت بهم هذه الساعة ))، ثُمَّ أمر المؤذن، فأقام الصلاة، فصلى.
فإذا ثبت بهذا الخبر أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم صلاها حين ذهب ثلثا الليل، أو بعده، كان وقتها ممتداً إلى طلوع الفجر؛ إذ لا أحد جعل هذا الوقت وقتاً له، إلاَّ وجعل باقي الليل وقتاً له.
وأخبرنا أبو بكر المقرئ، حدثنا الطحاوي، حدثنا أبو بكرة(2)، حدثنا أبو أحمد، حدثنا سفيان الثوري، عن حبيب بن أبي ثابت، عن نافع، عن بن جبير(3)، قال: إن عمر كتب إلى أبي موسى: "صلِّ العشاء في أي الليل شئت، ولا تغفلها"(4).
وأخبرنا أبو بكر المقرئ، حدثنا الطحاوي، حدثنا يونس، حدثنا عبدالله ابن يوسف، حدثنا الليث عن يزيد بن أبي(5) حبيب، عن عبيد بن جريج، أنه قال لأبي هريرة: ما إفراط صلاة العشاء؟ قال: طلوع الفجر(6).
فإذا روي ذلك عن عمر، وأبي هريرة، ولم يرو خلافه، وإنكاره عن غيرهما من الصحابة، جرى مجرى إجماعهم على ذلك.
مسألة [ فيمن يدرك ركعة قبل خروج الوقت ]
قال: ومن أدرك ركعة من صلاة العصر قبل أن تغرب الشمس، فقد أدركها، ومن أدرك ركعة قبل طلوع الفجر من العشاء، فقد أدركها، ومن أدرك ركعة من صلاة الصبح قبل طلوع الشمس، فقد أدركها.
__________
(1) ـ في (أ): لم.
(2) ـ في (أ): أبو بكر.
(3) ـ في (ب)، وشرح معاني الآثار: عن نافع بن جبير.
(4) ـ أخرجه الطحاوي في شرح معاني الآثار 1/159.
(5) ـ سقط من (أ): أبي.
(6) ـ أخرجه الطحاوي في شرح معاني الآثار 1/159.
وذلك منصوص عليه في (المنتخب)(1). واستدل على ذلك: (11/19)
بما أخبرنا به أبو بكر المقرئ، حدثنا الطحاوي، حدثنا ابن مرزوق، حدثنا بشر بن عمير(2)، حدثنا مالك بن أنس، عن زيد بن أسلم، عن عطاء بن يسار، عن أبي هريرة، عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قال: (( من أدرك ركعة من الصبح قبل أن تطلع الشمس، فقد أدركها، ومن أدرك ركعة من العصر قبل أن تغرب الشمس، فقد أدرك العصر ))(3).
وأخبرنا أبو بكر المقرئ، حدثنا الطحاوي، حدثنا يونس، أخبرنا ابن وهب، أخبرني(4) يونس ابن يزيد، عن ابن شهاب، عن عروة، عن عائشة، عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم مثله.
وأخبرنا أبو الحسين بن إسماعيل، حدثنا محمد بن الحسن، حدثنا محمد بن شجاع، حدثنا يزيد بن هارون، حدثنا محمد بن عمرو، عن أبي سلمة، عن أبي هريرة، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: (( من أدرك ركعة من الفجر قبل طلوع الشمس فقد أدرك الفجر ))، وذكر في العصر مثله.
فإن قيل: فقد(5) روي عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم النهي عن الصلاة حين تطلع الشمس، وحين تغرب.
قيل له: إذا ثبت بما بينا أن من أدرك ركعة (من العصر قبل أن تغرب الشمس، فقد أدركها، ومن أدرك ركعة) (6) من الفجر قبل أن تطلع الشمس، فقد أدركها، ثبت أن النَّهي إنَّما ورد عما عدا الفوات(7) في هذين الوقتين؛ ليكون ذلك جمعاً بين الأخبار.
مسألة [ في وقت الوتر ]
قال: ووقت الوتر حين الفراغ من صلاة العشاء الآخرة إلى طلوع الفجر، والأفضل تأخيره إلى آخر الليل.
وذلك منصوص عليه في (المنتخب)(8).
__________
(1) ـ انظر المنتخب ص33.
(2) ـ في (ج): عمر.
(3) ـ أخرجه الطحاوي في شرح معاني الآثار 1/151، وفيه: بشر بن عمر، وذكر زيد يرويه عن عطاء، وبشر بن سعيد، وعبد الرحمن الأعرج، عن أبي هريرة.
(4) ـ في (ب): قال: أخبرني.
(5) ـ في (أ): قد.
(6) ـ سقط ما بين القوسين من (أ) و(ب).
(7) ـ في (أ) و(ب): عدا القولين.
(8) ـ انظر المنتخب ص56.
والدليل على أن وقته من صلاة العشاء إلى طلوع الفجر: (11/20)
ما أخبرنا به أبو الحسين، حدثنا محمد بن الحسين، حدثنا محمد بن شجاع، حدثنا يزيد، حدثنا محمد بن إسحاق، عن يزيد ابن أبي حبيب، عن عبد الله بن مرة(1)، عن خارجة بن حذافة العدوي، قال: خرج علينا رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم لصلاة الغداة، فقال صلى الله عليه وآله وسلم: (( لقد أمركم الله الليلة بصلاة لهي خير لكم من حمر النعم )).
قلنا: وما هي يا رسول الله؟ قال: (( الوتر، جعلها الله لكم ما بين صلاة العشاء إلى طلوع الفجر )).
وأخبرنا محمد بن عثمان، حدثنا الناصر للحق الحسن بن علي عليه السلام، حدثنا محمد بن منصور، حدثنا أحمد بن عيسى، عن حسين، عن أبي خالد، عن زيد بن علي، عن آبائه، عن علي عليه السلام أنَّه أتاه رجل فقال: إن أبا موسى الأشعري يزعم أنه لا وتر بعد طلوع الفجر. فقال علي عليه السلام: "لقد أغرق في النزع، وأفرط في الفتيا، الوتر ما بين الصلاتين، وما بين الآذانين".
فسأله عن ذلك فقال: "ما بين صلاة العشاء إلىطلوع الفجر، وما بين الأذانين أذان الفجر وإقامته".
ففي هذين الحديثين فساد قول من يقول: إن أول الليل لا يكون وقتاً للوتر، وأن وقته هو آخر الليل.
فإن قيل: ففي خبر أمير المؤمنين عليه السلام أنَّه قال: "ووقته بين(2) أذان الفجر إلى إقامته"، وقد قلتم: إن وقته إلى طلوع الفجر؟
قيل له: يجوز أن يتأول الأذان على الأذان الواقع بين الفجرين، ويجوز أن يقال: إن ذلك وقت لقضائه.
فإن قيل: لا فائدة في ذكر وقت القضاء؛ إذ الأوقات أجمع وقت له.
__________
(1) ـ في (ب): ابن أبي مرة. وفي (ج): عن عبد الله بن راشد، عن عبد الله بن أبي مرة.
(2) ـ في (أ): من.
قيل له: ليس الأمر كذلك، بل لتلك الساعة في هذا الباب مزية، فإنه إذا أمكنه أن يصلي الوتر قبل صلاة الفجر، كان المستحب أن لا يؤخره، وليس كذلك سائر الأوقات، ويجوز أن يقال: إنَّه وقت للمضطر ـ أعني: ما بين طلوع الفجر إلى أن يصلي الفجر ـ. (11/21)
والذي يبين أن تأخيره إلى آخر الليل أفضل: قول الله تعالى: {وَمِنَ اللَّيْلِ فَتَهَجَّدْ بِهِ نَافِلَةً لَكَ}[الإسراء:79]، والتهجد لا يكون إلاَّ بعد القيام من النوم، فلما ندب الله تعالى إلى ذلك، علم أنَّه أفضل.
وأخبرنا أبو بكر المقرئ، حدثنا الطحاوي، حدثنا صالح بن عبد الرحمن، حدثنا سعيد بن منصور، حدثنا هشم، أخبرنا أبو حمزة، حدثنا الحسن، عن سعد بن هشام(1)، عن عائشة، قالت: كان رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم إذا قام من الليل، افتتح صلاته بركعتين خفيفتين، ثُمَّ صلى ثماني ركعات، ثُمَّ أوتر(2).
ففي هذا الخبر أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم كان يوتر إذا قام من الليل بعد صلاة الليل، ومن المعلوم أنَّه صلى الله عليه وآله وسلم لا يعدل عن الأفضل.
وأخبرنا أبو بكر المقرئ، حدثنا الطحاوي، حدثنا ربيع المؤذن، حدثنا أسباط، عن مطرف، عن أبي إسحاق، عن عاصم بن ضمرة، عن علي عليه السلام، قال: كان رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يوتر في أول الليل وفي وسطه وفي آخره، ثُمَّ ثبت له الوتر في آخره.
__________
(1) ـ في (أ): هشيم.
(2) ـ أخرطه الطحاوي في شرح معاني الآثار 1/510، وفيه: أبو مرة بدلاً عن أبي حمزة.
ففي هذا الخبر تصريح بأن أول الليل إلى آخره، وقت للوتر، وقول أمير المؤمنين عليه السلام: "ثُمَّ ثبت له الوتر في آخره"، دليل على أن آخر الليل أفضل، وليس لأحد أن يحمل قوله عليه السلام: "ثُمَّ ثبت له الوتر في آخره" على النسخ لما فعل أولاً من الإيتار في أول الليل؛ لأنَّه ليس فيه النهي عن ذلك، سيما وأمير المؤمنين عليه السلام قد قال في الخبر الذي رويناه: "إن وقته بين العشاء إلى طلوع الفجر". (11/22)
ولما أخبرنا به أبو الحسين البروجردي، حدثنا أبو بكر محمد بن عمر الدينوري، حدثنا سعيد بن سيف، حدثنا القاسم بن حكم، عن أبي حنيفة، عن حماد، عن إبراهيم، عن أبي عبد الله الجدلي، عن أبي مسعود الأنصاري، قال: كان رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يوتر أحياناً أول الليل، وأحياناً وسطه، وأحياناً آخره؛ ليكون سعة للمسلمين أيما أخذوا به، كان صواباً.
مسألة [ في الصلاة قبل الوقت ]
قال: وأيما رجل ابتدأ بصلاة مفروضة قبل دخول وقتها، عالماً بذلك أو جاهلاً، ثُمَّ علم به، فعليه الإعادة لها، سواء علمها في الوقت أو بعد تصرمه.
وهذا منصوص عليه في (المنتخب)(1)، ولا خلاف فيه بين المسلمين، والوفاق أؤكد الدلالة.
__________
(1) ـ انظر المنتخب ص37.
باب القول في صلاة الكسوف والاستسقاء (12/1)
[مسألة: في صفة صلاة الكسوف]
صلاة الكسوف عشر ركعات في أربع سجدات، يقوم الإمام، ويصطف المسلمون وراءه، فيكبر، ثم يقرأ فاتحة الكتاب وما تيسر، ثم يركع، ثم يرفع رأسه، ثم يقرأ، ثم يركع، ثم يرفع رأسه، ثم يقرأ حتى يفعل ذلك خمس مرات، ثم إذا رفع رأسه من الركوع الخامس، كبر، وسجد سجدتين، ثم يقوم، ويفعل كما فعل أولاً، ثم يتشهد، ويسلم.
ويستحب أن يثبت مكانه، ويكثر من الاستغفار والتهليل، ويدعو بما حضره لنفسه وللمسلمين، ويجهر بالقراءة، وإن شاء، خافت بها.
وذلك [كله](1) منصوص عليه في (الأحكام) و(المنتخب)(2).
ووجه(3) عدد الركعات ما ذكره أبو دواد في (السنن)، قال: حدثت عن عمر بن سفيان، قال: حدثنا أبو جعفر الرازي، عن الربيع بن أنس، عن أبي العالية، عن أبي بن كعب، قال: انكسفت الشمس على عهد رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، فصلى بالناس، فقرأ في الركعة الأولى بسورة(4) من الطوال، وركع خمس ركعات، وسجد سجدتين، ثم قام الثانية، فقرأ سورة من الطوال، وركع خمس ركعات، وسجد سجدتين، ثم جلس كما هو، مستقبل القبلة يدعو حتى انجلى كسوفها.
__________
(1) سقط من (ب).
(2) انظر الأحكام 1/137 ـ 138، إلا أنه تخير في القراءة الإخلاص والفلق سبعاً. ولم يذكر فيه التخيير بين الجهر والمخافتة في الصلاة وإنما ذكر الجهر بادعاء فقال: ولا يجهد بذلك جهراً شديداً.
وانظر المنتخب ص60 ـ 61، وذكر فيه التخيير بين الجهر والمخافتة في الصلاة وفي الجهر بالدعاء، قال: ويجهر بذلك جهراً شديداً.
(3) في (ب): وجه.
(4) في (أ): سورة.
وقد ثبت ذلك عن أمير المؤمنين عليه السلام؛ لما: رواه زيد بن علي، عن أبيه، عن جده، عن علي عليه السلام، أنه كان إذا صلى بالناس صلاة الكسوف، بدأ فكبر، ثم قرأ الحمد وسورة من القرآن، يجهر بالقراءة ليلاً كان، أو نهاراً، ثم يركع نحواً مما قرأ، ثم يرفع رأسه، فيفعل في الثانية كما فعل في الأولى يكبر كلما رفع رأسه من الركوع الأربع، ويقول في الخامس: سمع الله لمن حمده، فإذا قام، لم يقرأ، ثم يكبر، فيسجد سجدتين، ثم يرفع رأسه، فيفعل في الثانية كما فعل في الأولى، يكبر كلما رفع رأسه من الركوع الأربعة، ويقول: سمع الله لمن حمده، في الخامس، ولا يقرأ بعد الركوع الخامس. (12/2)
وهو رأي أهل البيت عليهم السلام، لا يختلفون فيه.
فإن قيل: روي عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم أنَّه صلى أربع ركعات، وأربع سجدات. وروي ست ركعات، فأربع سجدات. وروي عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم أنَّه صلى ركعتين /229/ كسائر التطوع.
قيل له: قد روي ذلك، إلاَّ أنا اخترنا ما رواه أُبي، ولما(1) صح أن عليّاً عليه السلام اختاره؛ ولأنه أتم ما روي، فكان المصير إليه أولى، ويدل على(2) [أنَّه يجب أن يكون فيها ركعات زائدة، أنا وجدنا كل صلاة نفل سن فيها الاجتماع](3)، خصت بأمر زائد، كصلاة العيدين خصت(4) بالتكبيرات الزائدة، فوجب أن تختص صلاة الكسوف بأمر زائد، وليس فيها أمر زائد بالإجماع غير الركعات، فوجب أن تكون مختصة بها.
__________
(1) في (أ) لما.
(2) في (أ) و(ب): على أنها.
(3) سقط ما بين المعكوفين من (أ) و(ب).
(4) في (أ): خصتا.
وقلنا أنه يثبت مكانه، ويكثر من الاستغفار والدعاء؛ لما: أخبرنا به أبو بكر المقري، قال: حدثنا الطحاوي، عن ابن مرزوق، قال: حدثنا أبو الوليد، عن زائدة، عن زياد بن علاقة، قال: سمعت المغيرة بن شعبة قال: انكسفت الشمس يوم مات إبراهيم عليه السلام، فقال النبي صلى الله عليه وآله وسلم : (( إن الشمس والقمر آيتان من آيات الله، لا ينكسفان لموت أحد ولا لحياته، فإذا رأيتم ذلك، فصلوا وادعوا حتى تنجلي ))(1). (12/3)
وأخبرنا أبو بكر(2)، قال: حدثنا الطحاوي، قال: حدثنا فهد، قال: حدثنا أبو كريب، قال: حدثنا أبو أسامة، عن يزيد بن عبد الله، عن أبي بردة، عن أبي موسى، قال: كسفت الشمس في زمان النبي صلى الله عليه وآله وسلم، فقام فزعاً، فخشي أن تكون الساعة قد قامت، حتى أتى المسجد، فقام فصلى أطول قيام وركوع وسجود، ما رأيته يفعله في صلاة قط، قال: ثم قال: (( إن هذه الآيات التي يرسلها الله لا تكون لموت أحد ولا لحياته، ولكن يرسلها الله يخوف بها عباده، فإذا رأيتم شيئاً منها فافزعوا إلى ذكر الله ودعائه واستغفاره ))(3).
وفي حديث أُبي أنَّه جلس صلى الله عليه وآله وسلم كما هو(4) مستقبل القبلة يدعو حتى انجلى كسوفها.
وقلنا: إن شاء جهر بالقراءة، وإن شاء خافت بها لما أخبرنا به أبو بكر المقري، قال: حدثنا الطحاوي، عن حسين بن نصر، قال: حدثنا أحمد بن يونس، قال: حدثنا زهير بن معاوية، عن الأسود بن قيس، عن ثعلبة بن عبادة، عن سمرة بن جندب، قال: صلى بنا رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم صلاة الكسوف، ولم نسمع له صوتاً(5).
__________
(1) أخرجه الطحاوي في شرح معاني الآثار 1/330، وفيه حتى ينكشف.
(2) في (أ): أبو بكر المقرئ.
(3) أخرجه الطحاوي في شرح معاني الآثار 1/331 ـ 332، وفيه خسفت.
(4) في (أ): وهو.
(5) أخرجه الطحاوي في شرح معاني الآثار 1/333، إلا أنه قال: ثعلبة بن عباد.
وأخبرنا المقري، قال: حدثنا الطحاوي، قال: حدثنا ابن أبي داود، قال: حدثنا عمر بن خالد، قال: حدثنا ابن لهيعة، عن عقيل، عن ابن شهاب، عن عروة، عن عائشة أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم جهر بالقراءة في كسوف الشمس(1). (12/4)
فلما روي أنه خافت مرة، وجهر مرة أخرى، قلنا: إن المصلي بالخيار، إن شاء خافت، وأن شاء جهر.
فصل [في تكرير الفلق]
واستحب(2) يحيى عليه السلام أن يكرر قراءة (( قل أعوذ برب الفلق )) في صلاة الكسوف.
ووجهه ما روي أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم كان يعوذ(3) بها الحسن والحسين عليهما السلام، فلما كانت حالة صلاة الكسوف حال الاستعاذة، استحب يحيى عليه السلام تكرير قراءة سورة الفلق فيها.
على أن محمد بن سليمان حكى أن يحيى عليه السلام صلى بهم صلاة الكسوف، فأطال، قال فسألته عما قرأ، فقال: قرأت الكهف، وكهيعص، والطواسين، وطه، فدل هذا على أن الاختيار هو لمن لم يحفظ السور الطوال.
مسألة [في صفة الاستسقاء]
قال: والاستسقاء أن يخرج المسلمون الذين(4) في البلد الذين أصابهم الجدب إلى ساحة بلدهم، فيجتمعون، ثم يتقدم إمامهم، فيصلي بهم أربع ركعات، يفصل بينهما بتسليمة، ثم يستغفر الله، ويستغفره المسلمون، ويجأرون بالدعاء ومسألة الرحمة، ويُحْدثون التوبة /235/ لله، ويسألون قبولها.
وهذا كله منصوص عليه في (الأحكام)(5) فقط.
قلنا: إنه يخرج إلى ساحة البلد لما أخبرنا به أبو بكر المقري، قال: حدثنا الطحاوي، قال: حدثنا يونس، قال: حدثنا ابن وهب، أن مالكاً حدثه، عن عبد الله بن أبي بكر، عن عباد بن تميم، عن عبد الله بن زيد أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم خرج إلى المصلى فاستسقى، فقلب رداءه(6).
__________
(1) أخرجه الطحاوي في شرح معاني الآثار 1/333، إلا أنه قال: عمرو بن خالد.
(2) في (أ): واستحسن.
(3) في (ب): تعوذ.
(4) في (أ): الذي.
(5) انظر الأحكام 1/138،139.
(6) أخرجه الطحاوي في شرح معاني الآثار 1/323.
ووجه قولنا: إنه يصلي أربع ركعات، أنَّه قد روي عن أنس أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم استسقى يوم الجمعة، وهو يخطب للجمعة، وصلاة الجمعة أربع حكماً؛ لأن الخطبتين بمنزلة الركعتين، فلما اقتصر صلى الله عليه وآله وسلم في استسقائه على صلاة الجمعة التي هي أربع حكماً، قلنا : إنَّه يصلى أربع ركعات إذا استسقى في غيره من الأيام، قياساً على الظهر إذا صلاها في سائر الأيام. (12/5)
ووجه آخر وهو: أن صلاة الاستسقاء ليست مسنونة، لا يزاد عليها، ولا ينقص منها؛ بدلالة ما روى أنس أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم اقتصر في الاستسقاء على صلاة يوم الجمعة.
وروي أنَّه صلى الله عليه وآله وسلم صلى ركعتين أخبرنا به أبو الحسين بن إسماعيل، قال: حدثنا محمد بن الحسين، قال: حدثنا(1) محمد بن شجاع، حدثنا أبو عاصم، عن سفيان، عن هشام بن إسحاق بن عبد الله بن كنانة، عن أبيه، عن ابن عباس أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم خرج يستسقي متواضعاً متضرعاً متبذلاً، لم يخطب خطبتكم هذه، بل دعا، وصلى ركعتين، وعبد الله بن زيد حين ذكر أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم خرج إلى المصلى فاستسقى، لم يذكر الصلاة.
وأخبرنا أبو العباس الحسني رحمه الله تعالى، قال: أخبرنا علي بن الحسن البجلي، قال: حدثنا محمد بن شجاع، قال:حدثنا أبو عوانة، عن مطرف، قال: أخبرني من أدرك عليّاً عليه السلام أنَّه خرج يستسقي، فرجع ولم يصل.
وأخبرنا أبو العباس، قال: أخبرنا(2) محمد بن الحسين بن علي الحسيني، قال: أخبرني أبي، قال: حدثنا زيد بن الحسين، عن أبي بكر بن أبي أويس، عن الحسين بن عبد الله بن ضميرة، عن أبيه، عن جده، عن علي عليه السلام أنَّه كان يقول: إذا استسقيتم، فاحمدوا الله، واثنوا عليه بما هو أهله، وأكثروا من الاستغفار، فإنه الاستسقاء. ولم يذكر الصلاة.
__________
(1) سقط من (أ): حدثنا.
(2) في (أ): حدثنا.
فدلت هذه الأخبار على أن الصلاة غير مسنونة فيه، فإذا لم تكن مسنونة، جرت مجرى سائر التطوع الذي يكون للاجتهاد فيه مساغ، فاخترنا أن يكون أزيد من أقل ما يتطوع به، وذلك يكون أربعاً(1). (12/6)
ووجه آخر، وهو أنا وجدنا كل صلاة نفل يسن فيها الاجتماع خصت بأمر زائد، كصلاة العيدين، وصلاة الكسوف، فلما لم تكن زيادة تختص بها غير ما ذهبنا إليه من أنها أربع، قلنا به.
وقلنا: إنَّه يفصل بينهما بتسليمة لما روي عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم أنَّه قال: (( صلاة الليل والنهار مثنى مثنى )).
وقلنا: إنَّه يستغفر الله، ويستغفره المسلمون؛ لقول الله تعالى: {اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ إِنَّهُ كَانَ غَفَّاراً. يُرْسِلِ السَّمَاءَ عَلَيْكُمْ مِدْرَاراً}[المعارج:10ـ11]، وقال تعالى:{وَيَا قَوْمِ اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ ثُمَّ تُوبُوا إِلِيْهِ}، فوعد الله تعالى إدرار السماء بشرط الاستغفار والتوبة، ولقول علي عليه السلام في الاستسقاء: "وأكثروا من الاستغفار، فإنه الاستسقاء".
مسألة [ويقلب الإمام رداءه ثم ينصرف]
قال: ثم يقلب الإمام شق ردائه الذي على منكبه الأيمن فيجعله على منكبه الأيسر، والذي على منكبه الأيسر يجعله على منكبه الأيمن/231/، ثم ينصرف، وينصرف الناس معه.
وهذا منصوص عليه في (الأحكام)(2).
قلنا ذلك؛ لما أخبرنا به أبو بكر المقري، قال: حدثنا الطحاوي، عن محمد بن خزيمة، قال: حدثنا عبد الله بن رجاء، قال: حدثنا المسعودي، عن أبي بكر بن محمد بن عمرو بن حزم، عن عباد بن تميم، عن عمه، قال: خرج النبي صلى الله عليه وآله وسلم، فاستسقى، فقلب رداءه، قال: فقلت جعل الأعلى الأسفل، والأسفل الأعلى؟ قال: لا، بل جعل الأيسر على الأيمن، والأيمن على الأيسر(3).
__________
(1) في (أ) و(ب): أربع ركعات، وهن أقل ما يتطوع به.
(2) انظر الأحكام 1/139.
(3) أخرجه الطحاوي في شرح معاني الآثار 1/323 ـ 324.
وفي حديث عبد الله بن زيد أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم خرج إلى المصلى فاستسقى، فقلب رداءه. (12/7)
وهذا الحديث يدل على أن قلب الرداء كان بعد الاستسقاء، كما ذهب إليه يحيى عليه السلام؛ لأنَّه قال: فاستسقى، فقلب رداءه، والفاء توجب التعقيب، فاقتضى أن قلب الرداء عقيب الاستسقاء.
مسألة [وهل يشترط فيها الإمام؟]
قال: وإن لم يكن إمام ظاهر للاستسقاء يفعل إمام مسجدهم كذلك إذا أجدب بلدهم.
وهذا منصوص عليه في (المنتخب)(1).
ووجهه أنَّه لا خلاف في أن الإمام ليس بشرط في الاستسقاء، فشابه سائر الصلوات، والعبادات، وأنها تقام بغير إمام، وتقام بإمام المسجد .
__________
(1) انظر المنتخب ص62.
مسألة [ في نوافل الفرائض ] (13/1)
وأقل(1) ما يتنفل به: ركعتان بعد الظهر، وركعتان بعد المغرب، وركعتان قبل صلاة الفجر، يصليهما بعد طلوع الفجر، والوتر ثلاث ركعات بتسليمة واحدة، يقنت في الركعة الثالثة بعد الركوع.
ما ذكرناه من تحديد أقل ما يتنفل به، وأن الوتر ثلاث ركعات بتسليمة واحدة، وأن القنوت بعد الركوع منصوص عليه في (المنتخب)(2)، وقد نص ـ أيضاً ـ في (الأحكام)(3) على أن القنوت بعد الركوع(4). ونص القاسم عليه السلام في (مسائل النيروسي) على أن ركعتي الفجر تصليان بعد طلوع الفجر.
والوجه لتحديد أقل ما يتنفل به بما حده يحيى عليه السلام أنَّه(5) أقل ما قيل، وأن في كل واحد مما ذكر ورد ضرباً من التأكيد، فنحن نبين ذلك.
فأما الركعتان بعد الظهر فقد ورد فيهما:
ما أخبرنا به أبو بكر المقرئ، حدثنا الطحاوي، حدثنا عبد الله بن خشيش(6) البصري، حدثنا أبو الوليد، حدثنا حماد بن سلمة، عن الأزرق بن قيس، عن ذكوان، عن عائشة، عن أم سلمة رضي الله عنها أنها قالت: إن النبي صلى الله عليه وآله وسلم صلى في بيتي ركعتين بعد العصر، فقلت: ما هاتان الركعتان؟ فقال: (( كنت أصليهما بعد الظهر، فجاءني مال فشغلني، فصليتهما الآن ))(7).
فقد روي هذا الخبر عن أم سلمة من طرق شتى، وبألفاظ مختلفة، كلها ترجع إلى هذا المعنى، فلما ثبت أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قضاهما حين فاتتا، ثبت التأكيد فيهما.
__________
(1) ـ في (ب): قال: وأقل.
(2) ـ انظر المنتخب ص49.
(3) ـ انظر الأحكام 1/107.
(4) ـ سقط ما بين المعكوفين من (أ) و(ب).
(5) ـ في (أ): أنه قال.
(6) ـ في (أ): حبيش.
(7) ـ أخرجه الطحاوي في شرح معاني الآثار 1/302، وفيه: عبد الله بن محمد بن خشيش.
وأخبرنا أبو بكر المقرئ، حدثنا الطحاوي، حدثنا إبراهيم بن أبي داود، حدثنا أحمد بن يونس، حدثنا عبدالله بن الوليد بن معدان، عن عاصم، عن أبي وائل، عن عبدالله، قال: ما أحصي ما سمعته(1) من رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يقرأه في الركعتين قبل الفجر، والركعتين بعد المغرب بـ {قُلْ يَا أَيُّهَا الْكَافِرُونَ} و {قُلْ هُوَ اللهُ أَحَدٌ}(2). (13/2)
وأخبرنا أبو بكر المقرئ، حدثنا الطحاوي، حدثنا محمد بن خزيمة(3)، عن عبد الله بن رجاء، أخبرنا إسرائيل، عن أبي إسحاق، عن مجاهد، عن ابن عمر، قال: رمقت رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أربعاً وعشرين مرة، أو خمساً وعشرين مرة يقرأ في الركعتين قبل صلاة الغداة، وفي الركعتين اللتين بعد المغرب بـ {قُلْ يَا أَيُّهَا الْكَافِرُونَ} و {قُلْ هُوَ اللهُ أَحَدٌ}(4).
فدل هذان الخبران لما تضمنا من ذكر تكرير رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ركعتي الفجر، والركعتين بعد المغرب على أنَّه صلى الله عليه وآله وسلم كان يديم فعلهما.
وورد في ركعتي الفجر ـ خصوصاً ـ:
ما أخبرنا به أبو بكر المقرئ، حدثنا الطحاوي، حدثنا ابن أبي داود، حدثنا سعيد بن سليمان الواسطي، حدثنا خالد بن عبد الله بن إسحاق، عن محمد بن زيد بن قنفذ، عن ابن سيلان، عن أبي هريرة، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: (( لا تتركوا ركعتي الفجر، ولو طردتم على الخيل ))(5).
__________
(1) ـ في (أ): سمعت.
(2) ـ أخرجه الطحاوي في شرح معاني الآثار 1/298، وفيه عبد الملك بن الوليد بن معدان.
(3) ـ في (ب) و(ج): حبيب.
(4) ـ أخرجه الطحاوي في شرح معاني الآثار 1/298.
(5) ـ أخرجه الطحاوي في شرح معاني الآثار 1/299، إلا أنه قال: خالد بن عبد الله، عن عبد الرحمن بن إسحاق.
وأخبرنا أبو بكر المقرئ، حدثنا الطحاوي، حدثنا أبو بكرة، حدثنا مسدد، حدثنا يحيى بن سعيد، عن ابن جريج، عن عطاء، عن عبيد بن عمير، عن عائشة، قالت: إن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم لم يكن على شيء من النوافل أشد معاهدة منه على الركعتين قبل الفجر(1). (13/3)
فأما ما يدل على صحة ما ذكره القاسم عليه السلام في أن ركعتي الفجر يجب أن تصليا بعد طلوع الفجر، فهو:
ما أخبرنا به أبو بكر، حدثنا الطحاوي، حدثنا ابن أبي داود، حدثنا ابن أبي مريم، حدثنا محمد بن جعفر، حدثنا موسى بن عقبة، عن أبي إسحاق، عن عامر الشعبي، قال: سألت ابن عباس، وابن عمر، كيف كانت صلاة رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم بالليل؟ فقالا: ثلاث عشرة ركعة، ثمان ويوتر بثلاث، وركعتان بعد الفجر(2).
وأخبرنا أبو بكر المقرئ، حدثنا الطحاوي، حدثنا ربيع المؤذن، حدثنا هشيم، حدثنا خالد الحذاء، أخبرنا عبدالله بن شقيق، قال: سألت عائشة، عن تطوع رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم بالليل، فقالت: كان إذا صلى العشاء، يدخل فيصلي، وكان يصلي في الليل تسع ركعات، فإذا طلع الفجر صلى ركعتين في بيتي، ثُمَّ يخرج، فيصلي بالناس صلاة الفجر(3).
وروي عنها أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم كان يصلي بين أذان الفجر وإقامته ركعتين وكثرت، الروايات عنها في هذا المعنى بألفاظ مختلفة.
وروي محمد بن منصور، عن أحمد بن عيسى عليه السلام، عن حسين، عن أبي خالد، عن زيد بن علي، عن آبائه، عن علي عليهم السلام قال: "كان لا يصليهما حتى يطلع الفجر"، يعني ركعتي الفجر.
__________
(1) ـ أخرجه الطحاوي في شرح معانيا الآثار 1/299.
(2) ـ أخرجه الطحاوي في شرح معاني الآثار 1/279.
(3) ـ أخرجه الطحاوي في شرح معاني الآثار 1/281، وفيه: حدثنا ربيع المؤذن، حدثنا أسد، حدثنا هشيم، مع متنه، تسع ركعات فيهن الوتر.
وأما ما روي من قوله صلى الله عليه وآله وسلم: (( إِحْشِهما في الليل حشواً ))، فهو محمول على أن المراد به صلهما في وقت يلي الليل بدلالة ما مضى. (13/4)
والنظر ـ أيضاً ـ يدل على ذلك، وذلك أنا وجدنا نافلة كل مكتوبة تفعل في وقتها قبلها، أو بعدها، ولم نجد شيئاً منها يفعل(1) في غير وقت المكتوبة التي هي نافلتها، فوجب أن تكون نافلة صلاة الفجر مفعولة في وقتها، وليس لأحد أن يتأول ما رويناه من أنهما بعد الفجر (على الفجر الأول)(2)، فإن الفجر الأول لا يسمى فجراً على الإطلاق، بل لا حكم في الشرع(3) يتعلق به، فلا يجوز حمل اللفظ عليه عقلاً، ولا شرعاً، و ـ أيضاً ـ أجمع المسلمون على تسميتهما بركعتي الفجر، ووردت الأخبار بذلك، فدل ذلك على أن وقتهما بعد طلوع الفجر، ألا ترى أنَّه لا يقال في صلاة وقتها قبل الليل أنها صلاة الليل، ولا في صلاة وقتها قبل النهار أنها صلاة النهار، فكذلك ركعتا الفجر، فكل ذلك يؤكد ما ذهبنا إليه في هذا الباب، وهو مذهب زيد بن علي عليه السلام.
وروى محمد بن منصور، عن أحمد بن عيسى، عن حسين، عن أبي خالد، قال: سألت زيداً عليه السلام، فقلت: صليت ركعة قبل طلوع الفجر، وركعة بعد طلوع الفجر. فقال: أعدهما فإنهما بعد طلوع الفجر.
مسألة [ في حكم الوتر وعدد ركعاته]
والذي يدل على أن الوتر من النوافل قول الله تعالى: {حَافِظُوا عَلَى الصَّلَوَاتِ وَالصَّلاةِ الْوُسْطَى}[البقرة:238].
ووجه الاستدلال منه أن الله تعالى أمر بالمحافظة على الصلوات التي لها وسطى، والصلوات التي لها وسطى تكون وتراً لا شفعاً، فإذا ثبت (ذلك ثيت) (4) أن الصلاة الواجبة خمس صلوات، وأن السادسة ليست بواجبة، فثبت أن الوتر ليس بواجب. ويدل على ذلك:
__________
(1) ـ في (أ): ما يفعل.
(2) ـ ما بين القوسين سقط من (أ).
(3) ـ في (أ): الفجر.
(4) ـ ما بين القوسين من (ج).
ما أخبرنا به أبو بكر المقرئ، حدثنا الطحاوي، حدثنا روح بن الفرج، حدثنا يحيى بن عبد الله بن بكير، قال: حدثني بكر بن مضر، عن جعفر بن ربيعة، عن عقبة بن مسلم، عن عبدلله بن عمر، قال: بينا نحن في المسجد، إذ قام رجل، فسأل رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم عن الوتر، وعن صلاة الليل. (13/5)
فقال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: (( صلاة الليل مثنى مثنى، وإذا خشيت الصبح، فأوتر بركعة ))(1).
ووجه الاستدلال منه أن قوله صلى الله عليه وآله وسلم: (( فأوتر بركعة )) لا يخلوا من أن يكون أراد صل ركعة تكون بها موتراً، أو أراد أضف ركعة إلى الركعتين حتى تكون الثلاث وتراً، ولا خلاف بيننا وبين من يوجب الوتر من أبي حنيفة وأصحابه، أن الوتر ثلاث ركعات، من غير تسليم في الركعتين، وأن الركعة الواحدة وحدها لا تجزيء، فثبت عندنا وعندهم أن المراد به أضف ركعة إلى الركعتين.
فإذا ثبت ذلك وجب بعموم قوله صلى الله عليه وآله وسلم: (( فإذا خشيت الصبح، فأوتر بركعة ))، أن من دخل في صلاة الليل بنية التطوع، فله أن يضيف إليها ركعة حتى تصير وتراً، ولا خلاف أن الصلاة الواجبة لا يجوز أن يدخل فيها الإنسان بنية التطوع، فثبت بما بينا أن الوتر من النوافل.
وروي أن رجلاً سأل النبي صلى الله عليه وآله وسلم عن الفرض في اليوم والليلة، فقال: خمس. فقال: هل عليَّ غيرها؟ فقال: (( لا، إلاَّ أن تتطوع )). قال: لا أزيد، ولا أنقص، فقال صلى الله عليه وآله وسلم: (( أفلح وأبيه إن صدق )).
وروي عنه صلى الله عليه وآله وسلم أنَّه قال: (( صلوا خمسكم، وصوموا شهركم، وحجوا بيتكم، وأدوا زكاة أموالكم، طيبة بها أنفسكم، تدخلوا جنة ربكم )) ففي هذا أن الواجب من الصلاة خمس.
__________
(1) ـ أخرجه الطحاوي في شرح معاني الآثار 1/279، وفيه زيادة، قال: سألت عبد الله بن عمر، عن الوتر فقال: أتعرف وتر النهار؟ قلت: نعم، صلاة المغرب، فقال: أحسنت أو صدقت، ثم قال: بينا نحن...إلخ.
وروي عن ابن عباس، أنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: (( كتب(1) عليَّ الوتر، ولم يكتب عليكم )). (13/6)
وأخبرنا أبو الحسين بن إسماعيل، حدثنا محمد بن الحسين، حدثنا محمد بن شجاع، حدثنا أبو نعيم، حدثنا سفيان، عن أبي إسحاق، عن عاصم، عن علي عليه السلام، قال: "الوتر ليس بفريضة كالصلاة المكتوبة، وإنما هي سنة سنها رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم".
ومما يدل على ذلك أنَّه قد ثبت أنَّه لا يجوز لأحد أن يصلي على الرواحل غير النوافل، وثبت أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم كان يوتر على الراحلة، فثبت أن الوتر من النوافل.
أخبرنا أبو الحسين بن إسماعيل، حدثنا محمد بن الحسين بن اليمان، حدثنا محمد بن شجاع، حدثنا يحيى بن حماد، عن يحيى بن سعيد القطان، عن ابن عجلان، عن نافع، عن ابن عمر، أنه صلى على راحلته، وأوتر عليها، وقال: كان النبي صلى الله عليه وآله وسلم يفعله.
وأخبرنا أبو بكر المقرئ، حدثنا الطحاوي، حدثنا يونس، حدثنا ابن وهب، أخبرنا يونس، عن ابن شهاب، عن سالم بن عبدالله، عن أبيه، قال: كان رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يصلي على الراحلة، ويوتر عليها غير أنَّه لا يصلي عليها المكتوبة(2).
فإن قيل: هذا منسوخ لما روي أن ابن عمر، كان يصلي على راحلته ويوتر على الأرض، ويزعم أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم كان يفعل ذلك، وروى ذلك حنظلة بن أبي سفيان، عن نافع، عن ابن عمر.
ولما روى محمد بن شجاع يرفعه، إلى ثوير بن أبي فاخته، عن أبيه، أن علياً عليه السلام كان يصلي على راحلته التطوع حيث توجهت به وينزل للفريضة والوتر.
__________
(1) ـ في (ب): كتبت.
(2) ـ أخرجه الطحاوي في شرح معاني الآثار 1/420.
قيل له: إن هذا لا يدل على نسخ ما ذكرنا من جواز الإيتار على الراحلة، وذلك أن الإيتار على الأرض لا يمنع من جواز الإيتار على الراحلة؛ لأنَّه لا يمتنع أن يكون الإنسان يأخذ بالأشد في العبادة مع علمه بجواز الأسهل، بين ذلك: (13/7)
ما أخبرنا به أبو بكر المقرئ، حدثنا الطحاوي، حدثنا فهد، حدثنا علي بن معبد، حدثنا عبدالله بن عمر، عن محمد بن إسحاق، عن نافع، عن ابن عمر، قال: كان ابن عمر يوتر على راحلته، وربما نزل فأوتر على الأرض(1).
فأما أمير المؤمنين عليه السلام فقد بينا ما رويناه من قوله: "إن الوتر ليس بفرض، وأنه سنة سنها رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم".
فدل ذلك على أن نزوله إلى الأرض للإيتار، كان على الأخذ بالأفضل، لا على أنَّه لم يجز سواه.
فإن استدلوا على وجوبه بما روي من قول رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: (( إن الله زادكم صلاة وهي الوتر )).
قيل له: ذلك لا يدل على الوجوب ؛ لأنه يجوز الزيادة في النوافل المؤكدة المحصورة بالأعداد والأوقات كما يجوز في الفرائض.
فإن استدلوا بقوله صلى الله عليه وآله وسلم: (( اجعلوها بين العشاء والفجر ))، وقوله: (( أوتروا يا أهل القرآن )).
قيل لهم: ما قدمناه من الأدلة يدل على أن هذا الأمر على الندب.
فإن استدلوا بقوله صلى الله عليه وآله وسلم: (( الوتر حق، فمن لم يوتر، فليس منا )).
__________
(1) ـ أخرجه الطحاوي في شرح معاني الآثار 1/430، وفيه: عبيد الله بن عمرو بدلاً عن عبد الله بن عمر.
قيل له: أما قوله صلى الله عليه وآله وسلم: (( الوتر حق )) فليس يتناول موضع الخلاف؛ إذ لا خلاف في أنَّه حق، وإنما الخلاف في أنَّه نفل، أو واجب، واسم الحق يجمعهما، وقوله: (( فمن لم يوتر فليس منا )). معناه من لم يوتر راغباً عنه، ومستهيناً به بالأدلة التي بيناها، وبدلالة قوله: (( الوتر حق ))؛ لأنَّه لما أثبت كونه حقاً، وتوعد من لم يفعله كان الظاهر من الكلام أن التوعد لمن لم يفعله معتقداً أنَّه ليس بحق. (13/8)
فإن قاسوه على الواجبات من الصلوات بكونه مؤقتاً، كان ذلك منتقضاً بصلاة العيدين، وبركعتي الفجر، على أنا نقيسها على النوافل؛ بعلة أنَّه لا أذان فيه ولا إقامة.
فأما ما يدل على أن الوتر ثلاث ركعات بتسليمة واحدة فهو ما أثبتناه عند ذكرنا وقت ركعتي الفجر من حديث عامر الشعبي، قال: سألت ابن عباس، وابن عمر كيف كانت صلاة رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم بالليل؟ فقالا: كان يصلي ثلاث عشرة ركعة، ثمان ويوتر بثلاث، وركعتين بعد الفجر(1).
وأخبرنا أبو بكر المقرئ، حدثنا الطحاوي، حدثنا محمد بن خزيمة، حدثنا عبدا لله بن رجاء، أخبرنا إسرائيل، عن أبي إسحاق، عن سعيد بن جبير، عن ابن عباس، قال: كان رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يوتر بثلاث يقرأ في الأولى بـ {سَبِّحْ اسْمَ رَبِّكَ الأَعْلَى}، وفي الثانية: {قُلْ يَا أَيُّهَا الكَافِرُونَ} وفي الثالثة بـ{قُلْ هُوَ اللهُ أَحَدٌ}(2).
وأخبرنا أبو الحسين بن إسماعيل، حدثنا محمد بن الحسين، حدثنا محمد بن شجاع، حدثنا محمد بن بشر العبدي، والخفاف، قالا: حدثنا سعيد، عن قتادة، عن زرارة بن أوفى، عن سعد بن هشام بن عامر، عن عائشة، قالت: كان رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم لا يسلم في ركعتي الوتر.
__________
(1) ـ تقدم تخريجه.
(2) ـ أخرجه الطحاوي في شرح معاني الآثار 1/288.
وأخبرنا أبو الحسين، حدثنا محمد بن الحسين، حدثنا محمد بن شجاع، حدثنا زيد ابن الحباب، عن سفيان، عن محمد بن عبد الرحمن مولى طلحة، عن أبي سلمة، أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم كان يوتر بثلاث. (13/9)
وأخبرنا أبو الحسين، حدثنا محمد بن الحسين حدثنا محمد بن شجاع، حدثنا أبو أسامة، عن مالك بن مغول، عن سلمة بن عبد الرحمن، عن زاذان، أن علياً عليه السلام كان يوتر بثلاث.
وأخبرنا أبو الحسين، حدثنا محمد بن الحسين، حدثنا محمد بن شجاع، حدثنا الحسن بن موسى، ووهب عن شعبة، عن أبي إسحاق، قال: كان أصحاب علي، وعبد الله لا يسلمون في ركعتي الوتر.
وأخبرنا أبو الحسين، أخبرنا ابن اليمان، حدثنا ابن شجاع، حدثنا معلى، حدثنا عبد العزيز بن محمد، عن عمارة حدثه، عن محمد بن داود، عن محمد بن كعب، قال: نهى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم عن البتيراء، وهي أن يوتر الرجل بركعة واحدة.
فإن استدلوا بما رويناه قبل هذا الموضع من قول النبي صلى الله عليه وآله وسلم: (( صلاة الليل مثنى مثنى، فإذا خشيت الصبح فأوتر بركعة )).
قيل لهم: معناه أضف إلى الركعتين ركعة ليكون وتراً، بدلالة الأخبار المشروحة التي بيناها، ولما روينا من النَّهي(1) عن البتيراء.
فإن قيل: فقد روى ابن عمر(2)، عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم أنَّه قال: (( الوتر ركعة من آخر الليل )).
قيل له: هذا محمول على أن الشفع يصير وتراً بركعة على ما قلناه في قوله عليه السلام: "فأوتر بركعة"، أو يكون منسوخاً لنهي النبي صلى الله عليه وآله وسلم عن البتيراء، وذلك(3)؛ لأن النهي يدل على أن الأمر به كان قد تقدم، وأنه كان قد عرف وعهد لولا ذلك، لكان يبعد النهي عنه.
__________
(1) ـ في (ب): نهيه.
(2) ـ في (أ): روي عن عمر.
(3) ـ في (ج): عن البتيراء إذ ذلك أولى.
هذا وأخبرنا أبو الحسين، حدثنا ابن اليمان، حدثنا ابن شجاع،حدثنا يزيد بن هارون، عن هشام بن حسان، عن محمد بن سيرين، عن ابن عمر، قال: الوتر ثلاث كصلاة المغرب. (13/10)
فدل هذا على أن الخبرين على ما ذكرناهما؛ لأنهما مرويان، عن ابن عمر، عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم.
ويؤيد ما ذهبنا إليه أنا لم نجد شيئاً من الصلوات ركعة واحدة، وروي عن ابن مسعود، أنَّه قال: ما أجزت ركعة واحدة قط، وهذا هو قول القاسم والناصر، وأحمد بن عيسى عليهم السلام.
وأما ما يدل على أن القنوت في الوتر بعد الركوع فهو:
ما رواه محمد بن منصور، عن أحمد بن عيسى، عن حسين بن علوان، عن أبي خالد، عن زيد بن علي، عن آبائه، عن علي عليه السلام، أنَّه كان يقنت في الوتر بعد الركوع(1)، على أنَّه قد روي عنه عليه السلام أنَّه قنت قبل الركوع، إلاَّ أن أصحابنا اختاروا ما رويناه أولاً؛ لأن القنوت عندنا مستحب أن يكون بآية من القرآن، فلو جعلناه قبل الركوع، وكنا وصلناه بالقراءة، فلم يكن يتميز القنوت عن القراءة، وإذا جعلناه بعد الركوع تميز كل واحد منهما من صاحبه.
مسألة [ في كيفية الصلاة المستحبة في آخر الليل ]
قال: ويستحب لمن قدر ألاَّ يترك ثماني ركعات في آخر الليل، يسلم في كل ركعتين منها، وما عداها من النوافل فخير موضع يستكثر منها من شاء.
استحباب هذه الركعات منصوص عليه في (الأحكام) و(المنتخب)(2)، وما ذكرناه من أن ماعدا ذلك من النوافل يستكثر منها من شاء منصوص عليه في (المنتخب)(3).
__________
(1) ـ في (أ): قبل الركوع.
(2) ـ انظر الأحكام 1/143. والمنتخب ص56.
(3) ـ انظر المنتخب ص49.
واستدل في الأحكام بما رواه محمد بن منصور، عن علي ومحمد ابني أحمد بن عيسى، عن أبيهما عليهم السلام، عن حسين، عن أبي خالد، عن أبي هاشم، عن زاذان، عن سلمان، قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يقول: (( من صلى ثماني ركعات من الليل، والوتر يداوم عليهن حتى يلقى الله بهن، فتح الله له اثني عشر باباً من الجنة يدخل من أيها شاء )). (13/11)
ويدل على ذلك ما قدمناه من حديث الشعبي، عن ابن عباس، وابن عمر، أنَّه لما سألهما كيف كانت صلاة رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم بالليل؟
فقالا: ثمان ركعات، ويوتر بثلاث، وركعتين بعد الفجر، فأما ما ذكرناه من أن سائر النوافل يستكثر منها من شاء، فلا خلاف فيه، وعلى ذلك مضى الصالحون من أهل البيت عليهم السلام وغيرهم.
مسألة [ وتكره الصلاة في ثلاثة أوقات ]
قال: ولا تكره الصلاة في شيء من الأوقات إلاَّ في ثلاثة: حين طلوع الشمس إلى ارتفاعها، وحين استوائها إلى زوالها، وحين غروبها إلى ذهاب شعاعها، فإن كان على الرجل قضاء فوائت من الفروض، لم تكره في هذه الأوقات أيضاً.
ما ذكرناه من كراهة الصلاة في هذه الثلاثة الأوقات منصوص عليه في كتاب الجنائز من (الأحكام) و(المنتخب)(1) جميعاً.
وما ذكرناه من أن قضاء الفوائت من الفروض غير مكروه فيها قضاءه دل عليه قوله في (الأحكام)(2) في الناسي للصلاة أن "عليه إعادتها عند ما يكون من ذكره لها" من غير أن يستثني شيئاً من الأوقات.
فأما ما يدل على صحة ما نذهب إليه من أن هذه الصلاة تكره في هذه الأوقات الثلاثة، فهو:
__________
(1) ـ انظر الأحكام 1/165. والمنتخب ص56.
(2) ـ ما بين المعكوفين سقط من (أ). وانظر الأحكام 1/120.
ما أخبرنا به أبو الحسين بن إسماعيل، حدثنا محمد بن الحسين بن اليمان، حدثنا محمد بن شجاع، حدثنا أبو نعيم، عن موسى بن علي، قال: سمعت أبي، قال: سمعت عقبة بن عامر الجهني، قال: ثلاث ساعات نهانا رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أن نصلي فيهن، وأن نقبر فيهن موتانا: حين تطلع الشمس بازغة حتى ترتفع، وحين يقوم قائم الظهيرة حتى تميل الشمس، وحين ضيفت الشمس للغروب حتى تغرب. (13/12)
والذي يدل على أن هذا الخبر خاص فيما عدا المكتوبات:
ما أخبرنا به أبو الحسين(1)، حدثنا ابن اليمان، حدثنا ابن شجاع، حدثنا سعيد بن عامر، ويزيد بن هارون، قالا: حدثنا سعيد بن أبي عروبة، عن قتادة، عن أنس، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: (( من نسي صلاة، أو نام عنها، فليصلها إذا ذكرها ))، فاقتضى عموم هذا القول جواز فعل الفوائت في كل وقت يُذكرن فيه، فبان أنها تقضي في هذه الأوقات الثلاثة، وأن النهي خاص فيما عدا ما ذكرناه.
فإن قيل: ليس خبركم بأن يكون مخصِّصاً لخبر النهي بأولى من أن يكون خبر النهي مخصصاً لخبركم؛ لأنَّ كل واحد منهما عام من وجه، وخاص من وجه.
__________
(1) ـ في (ج): أبو الحسين بن إسماعيل.
قيل له: إن كان الأمر على ما ذكرتم، فإن الخبرين قد تعارضا في الوجه الذي اختلفنا فيه؛ لأن عموم النهي يحظر قضاء الفوائت في هذه الأوقات، وعموم قوله صلى الله عليه وآله وسلم: (( فليصلها إذا ذكرها )) يوجب قضائها فيها، فإذا(1) ثبت ما بينا من التعارض في الخبرين من الوجه الذي ذكرناه، لم يستقر النهي من قضاء الفوائت فيها، وإذا لم يستقر النهي لم يكن فرق بين هذه الأوقات الثلاثة، وبين سائر الأوقات في وجوب قضاء الفوائت فيها، على أن ما قدمنا ذكره من قوله صلى الله عليه وآله وسلم: (( من أدرك ركعة من صلاة العصر قبل أن تغروب الشمس، فقد أدرك العصر، ومن أدرك ركعة قبل طلوع الشمس من الفجر، فقد أدرك الفجر ))، نصٌ فيما نذهب إليه، وقد ذكرنا إسناده فيما تقدم. يؤيد ذلك: (13/13)
ما أخبرنا به أبو بكر المقرئ، حدثنا الطحاوي، حدثنا علي بن معبد، حدثنا عبد الوهاب بن عطاء، عن سعيد، عن قتادة، عن خلاس(2)، عن أبي رافع، عن أبي هريرة، عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم أنَّه قال: (( من أدرك من صلاة الغداة ركعة قبل أن تطلع الشمس فليُصلَّ إليها ركعة ))(3).
وأخبرنا أبو بكر المقرئ، قال: حدثنا أبو جعفر الطحاوي، قال: حدثنا بن مرزوق، قال: حدثنا أبو عامر العَقدي، حدثنا علي بن المبارك، عن يحيى بن أبي زكريا، عن أبي سلمة، عن أبي هريرة، أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، قال: (( من أدرك من صلاة العصر ركعة قبل أن تغرب الشمس، فقد تمت صلاته ))(4)، فكل ذلك نص صريح في إجازة فعل المكتوبة في هذين الوقتين.
__________
(1) ـ في (ب) و(ج): وإذا.
(2) ـ في (أ): جلاس.
(3) ـ أخرجه الطحاوي في شرح معاني الآثار 1/299، وفيه: فليصل إليها أخرى.
(4) ـ أخرجه الطحاوي في شرح معاني الآثار 1/399، وفيه: يحيى بن كثير، بدلاً عن: يحيى بن أبي زكريا.
فإن قيل: خبر النهي أولى في الوجه الذي اختلفنا فيه من قوله صلى الله عليه وآله وسلم: (( فليصلها إذا ذكرها ))؛ لأن خبر النهي وارد في وجه بيان الوقت وتفصيله، وخبركم وارد في بيان لزوم القضاء في الفوائت. (13/14)
قيل له(1): خبرنا وإن كان وارداً في لزوم القضاء في الفوائت فإنه يتضمن الوقت؛ لأن قوله: إذا ذكرها يوجب أن وقت ذكره لها هو وقت أدائها.
فإن قيل: فإن خبر النهي خاص، وخبركم عام، وأنتم ترون بناء العام على الخاص.
قيل له: قد مضى(2) فيما تقدم أن كل واحد من الخبرين عام في وجه، خاص في وجه، فلا يلزم فيهما ما ذكرتم.
فإن قيل: فإن خبرنا حاظر، وخبركم مبيح، وذلك أن خبرنا يحظر الصلاة في هذه الأوقات، وخبركم يبيحها؛ لأن مَنْ مذهبه قضاء الفوائت فيها يرى أنَّه يجوز تقديم نوافلها عليها، فالخبر على هذا مبيح لها عندهم؛ إذ جائز عندهم أن تفعل، وجائز أن تؤخر.
قيل له: ليس الأمر على ما قدرت، وذلك أنَّه وإن جاز تقديم النافلة عليها في ذلك الوقت، فلا يدل ذلك على أن تلك الصلاة غير واجبة فيها؛ لأن الواجب على ضربين: واجب مضيق، وواجب موسع، فأكثر ما في هذا أنَّه واجب موسع، وذلك لا يقتضي الإباحة، ألا ترى أنا نوجب الصلاة في أول وقتها، ومع هذا فيجوز تأخيرها عن أول وقتها، وإذا كان هذا هكذا، لم يكن خبرنا مبيحاً، بل يكون موجباً، ولا يمكن تقديم الحاظر عليه؛ لأن الحظر والإيجاب يتقابلان، وليسا كالحظر والإباحة.
__________
(1) ـ في (ج): قيل ليس الأمر على ما ذكرت، وذلك أن قوله صلى اللّه عليه وآله وسلم: "فليصلها إذا ذكرها"، وإن كان يتضمن لزوم قضاء الفائت فإنه يتضمن الوقت.
(2) ـ في (أ): قد نص.
فإن استدلوا بما روي عن(1) النبي صلى الله عليه وآله وسلم لمَّا نام ـ هو ـ وأصحابه عن صلاة الفجر في الوادي، فاستيقظ وقد طلعت الشمس، أمر بالرحيل حتى لما ارتفعت الشمس، نزل وصلى، وفي بعض الروايات لما خرج من الوادي، انتظر حتى استقلت الشمس، وفي بعضها: فقعدوا هنيهة، ثُمَّ صلوا. (13/15)
قيل لهم: هذه الأخبار في هذا الباب وردت مختلفة، واحتمل فيها التعارض، فحديث أبي قتادة ليس فيه ذكر الارتحال، بل فيه ما يدل على أنَّه صلى الله عليه وآله وسلم لم يكن ارتحل.
أخبرنا أبو الحسين علي بن إسماعيل، حدثنا محمد بن الحسين بن اليمان، حدثنا محمد بن شجاع، حدثنا المعلى بن منصور، عن هشام(2)، قال: أخبرنا حصين، أخبرنا عبد الله بن أبي قتادة، عن أبيه أبي قتادة، قال: فاستيقظنا وقد طلعت الشمس، فأمرهم النبي صلى الله عليه وآله وسلم، فانتشروا لحاجتهم، وتوضئوا [وارتفعت الشمس فصلى بهم الفجر، فهذا الخبر ليس فيه إلا أنهم انتشروا وتوضئوا](3)، فصلوا فصادف فعل الصلاة إرتفاع الشمس، وليس فيه أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم ارتحل، ولا أنَّه قصد تأخيرها إلى ارتفاع الشمس، فالكلام في هذا من وجهين:
أحدهما: أن التعارض قد وقع في كيفية فعله صلى الله عليه وآله وسلم، فلا يمكن التعويل عليه.
والثاني: أن التأخير يمكن أن يكون وقع للتوضؤ، ولأن يجتمع الناس، فصادف ذلك ارتفاع الشمس.
وأما الارتحال فإن صح، فيجوز أن يكون؛ لأن الموضع كان فيه شيطان على ما ورد به الخبر، فكره صلى الله عليه وآله وسلم الصلاة في الموضع، لا في الوقت.
__________
(1) ـ في (ج): أن.
(2) ـ في (ج): هشيم.
(3) ـ سقط ما بين المعكوفين من (أ) و(ب).
أخبرنا أبو بكر المقرئ، حدثنا الطحاوي، عن أبي بكرة، حدثنا أبو داود، حدثنا عباد بن ميسرة المقرئ، قال: سمعت أبا رجا العطاردي، حدثنا عمران بن الحصين، قال: أسرى بنا رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، وعرسنا معه، فلم نستيقظ إلاَّ بحر الشمس، فلما استيقظ رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قالوا: يا رسول الله، والله(1) ذهبت صلاتنا. فقال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: (( لم تذهب صلاتكم، ارتحلوا من هذا المكان )) فارتحل قريباً، فنزل وصلى(2). (13/16)
فدل هذا الخبر على أنَّه صلى الله عليه وآله وسلم كره المكان، ألا ترى إلى قوله صلى الله عليه وآله وسلم: (( ارتحلوا من هذا المكان )).
فإن قيل: ففي بعض الأخبار أنهم لما نزلوا، قعدوا هنيهة، ثُمَّ صلوا، فدل ذلك على أنهم طلبوا الوقت.
قيل له: لا يمتنع أن يكون قعودهم كان ليتلاحقوا، وليفرغ الكل من الوضوء، فيلحقوا صلاة رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، على أن أبا حنيفة وأصحابه يذهبون إلى أنَّه يجوز أن يؤدي الرجل عند غروب الشمس عصر يومه، فيمكن أن يقاس عليها سائر الفوائت، على أنَّه لا خلاف بيننا وبينهم في أن الفوائت تقضي بعد العصر، وبعد الفجر.
وإن كان النهي عن الصلاة في هذين الوقتين وارداً، فيجب أن تكون الأوقات الثلاثة كذلك في أن النهي عن الصلاة فيها يرجع إلى التطوع.
فصل [ في قضاء صلاة الليل ]
قال في (المنتخب)(3) ـ فيمن فاتته صلاة الليل حتى يطلع الفجر ـ: فقضاؤها بعد طلوع الفجر، وقد كرهه غيرنا، ولسنا نكرهه، وهو جائز.
فدل ذلك على أنَّه يجري النوافل مجرى الفرائض؛ لأن فواتها لا يكره قضاؤه في وقت من الأوقات.
__________
(1) ـ سقط من (ب) و(ج).
(2) ـ أخرجه الطحاوي في شرح معاني الآثار 1/400.
(3) ـ انظر المنتخب ص56.
ووجه ذلك قوله صلى الله عليه وآله وسلم: (( من نسي صلاته(1)، أو نام عنها، فليصلها إذا ذكرها ))، فلم يستثن فرضاً من نفل، ويمكن أن يقاس النفل على الفرض، بعلة الفوات، فوجب أن لا يكره قضاؤها في جميع الأوقات كما لا يكره قضاء الفرض؛ ولأن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قضى الركعتين اللتين كان يصليهما بعد الظهر بعد ما صلى العصر. (13/17)
مسألة [ في الحائض تطهر والمغمى عليه يفيق قبل فوات الوقت ]
قال: وأيما امرأة طهرت، أو مغمى عليه أفاق قبل غروب الشمس بقدر خمس ركعات لزمهما الظهر والعصر، ولو كان ذلك قبل طلوع الفجر بقدر أربع ركعات، لزم المغرب والعشاء، وإن(2) كان قبل طلوع الشمس بقدر ركعة، لزم الفجر، وهكذا الصبي إذا بلغ(3) والكافر إذا أسلم، والمسافر إذا أقام.
قد نص القاسم عليه السلام في (مسائل النيروسي) على ما ذكرنا في المرأة تطهر في آخر الوقت في النهار، أو آخر الليل، أو قبيل طلوع الشمس.
وقال ـ أيضاً ـ في (مسائل النيروسي): أن المغمى عليه إن أفاق في آخر نهاره صلى صلاة نهاره، وإن أفاق في آخر ليلة صلى صلاة ليله، ونص في (الأحكام)(4) على ما ذكرناه في الحائض تطهر، والمغمى عليه يفيق آخر النهار بقدر ما يصلي خمس ركعات.
فأما الصبي إذا أدرك، والكافر إذا أسلم، والمسافر إذا أقام، فإن أصحابنا خرّجُوه على ما ذكرنا من النصوص.
وروى محمد بن منصور، عن زيد بن علي عليهم السلام، أنَّه قال: إذا رأت المرأة طهراً من حيضها نهاراً، فعليها صلاة يومها، وإذا رأته ليلاً، فعليها صلاة ليلتها.
__________
(1) ـ في (ب) و(ج): صلاة.
(2) ـ في (ب) و(ج): ولو.
(3) ـ في (ب) و(ج): أدرك.
(4) ـ انظر الأحكام 1/90.
والوجه فيه ما ثبت من امتداد وقت صلاة الظهر والعصر إلى آخر النهار، وامتداد وقت صلاة المغرب والعشاء إلى آخر الليل وامتداد وقت صلاة الفجر إلى طلوع الشمس، وقد ذكرنا في ذلك ما كفى وأغنى، مع ما روي: "مَن(1) أدرك ركعة من العصر قبل أن تغرب الشمس، فقد أدرك العصر، ومن أدرك ركعة من الفجر قبل أن تطلع الشمس، فقد أدرك الفجر". فقيس عليه من أدرك من العشاء الآخرة قبل أن يطلع الفجر ركعة، فقد أدركها، فوجب أن يكون من أدرك أربع ركعات قبل طلوع الفجر في وجوب المغرب والعشاء عليه كمن أدرك خمس ركعات قبل أن تغرب(2) الشمس في وجوب الظهر والعصر عليه. (13/18)
__________
(1) ـ في (أ): روي أن من.
(2) ـ في (ب) و(ج): غروب.
باب القول في التوجه وفي البقاع التي يصلى عليها وإليها (14/1)
[ في التوجه للكعبة أو التحري لجهتها ]
يجب على كل مصلٍ أن يتوجه إلى الكعبة إن أمكنه ذلك، فإن لم يمكنه، تحرى جهتها، وصلى إليها.
قال في (المنتخب)(1): فالقليل(2) من الكعبة والكثير يجزئ إذا كانت نية المصلي إليها، وقال في قوله تعالى: {فَوَلُّوا وُجُوهَكُمْ شَطْرَهُ}، أي جانباً منه، أيّ ناحية كانت من نواحيها.
وقال(3) في راكب السفينة "يصلي على قدر ما يمكنه، غير أنَّه يتبع القبلة"(4)، فنبه على التحري.
وقال في (المنتخب)(5): من أخطأ القبلة، وصلى، ثُمَّ لم يعلم حتى خرج الوقت، لم يعدها؛ لأنَّه قد تحرى القبلة عند توجهه.
فدل ذلك على أنَّه يرى وجوب التحري، وهذا مما لاخلاف فيه بين الأمة، وقد قال تعالى: {فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَحَيْثُ مَا كُنْتُمْ فَوَلُّوا وُجُوهَكُمْ شَطْرَهُ}[البقرة:144]، والشطر لا بد من أن يكون معلوماً، أو مظنوناً؛ لأن أحكام الشريعة كلها راجعة إلى العلم، أو غالب الظن، ومن المعلوم أن العلم يحصل بالمعاينة، وأن الظن يحصل بالتحري، أو ماقام مقامه، فثبت أنه لا بد من التحري مع الغيبة عن الكعبة.
ومعنى قولنا: يجب على كل مصلٍ أن يتوجه إلى الكعبة، أو يتحرى جهتها إذا لم يكن الحال حال العذر؛ لأن المتنفل على الراحلة، والمصلي على السفينة(6)، والخائف لهم أن يصلوا إلى غير القبلة، وسنبين ذلك بعد هذا، إنشاء الله.
مسألة [ في انكشاف خطأ المتحري في الوقت وبعده ]
قال: ولو أن رجلاً تحرى القبلة فأخطأ وصلى، ثُمَّ علم بخطئه بعد مضي الوقت، لم يعد تلك الصلاة، وإن علم وهو في الوقت أعادها.
__________
(1) ـ انظر المنتخب ص50.
(2) ـ في (ب) و(ج): والقليل.
(3) ـ انظر المنتخب ص37. وفي نسخة (ج): وقال في الأحكام: يصلي صاحب السفينة على..إلخ.
(4) ـ الأحكام 1/122.
(5) ـ انظر المنتخب ص37.
(6) ـ في (ب): في السفينة.
وهذا منصوص عليه في (الأحكام) و(المنتخب)(1) جميعاً. وذكره القاسم عليه السلام في (مسائل النيروسي). (14/2)
وهذا هو في من علم أنَّه صلى إلى الجهة التي يعلم على القطع أنها غير جهة القبلة؛ لأنَّه ذكره في (الأحكام)(2)، فقال: إذا صلى إلى غير القبلة وهو لا يعلم، ثُمَّ علم وكان وقت تلك الصلاة باقياً أعادها، وإن خرج وقتها فلا إعادة عليه(3).
وقال في (المنتخب)(4): "إن كان علم أنَّه صلى إلى غير القبلة، وهو في وقت من الصلاة أعادها".
وقال القاسم عليه السلام: فيمن صلى في يوم غيم إلى غير القبلة وهو لا يعلم، ثُمَّ علم، أعادها ماكان في وقتها. فحقق أن يكون المصلي يعلم أنَّه صلى إلى غير القبلة.
والدليل على أن الإعادة تلزمه قول الله تعالى: {فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَحَيْثُ مَاكُنْتُمْ فَوَلُّوا وُجُوهَكُمْ شَطْرَهُ}[البقرة:144]، فإذا علم أنَّه صلى إلى غير جهة القبلة(5) التي يغلب في الظن أنها جهة(6) شطر الكعبة، وجب إعادتها، و ـ أيضاً ـ فقد علمنا أن الصلاة إلى غير القبلة باطلة كصلاة الجنب، ولا خلاف أن من صلى جنباً ـ وهو ناسٍ ـ أن عليه الإعادة، فكذلك من صلى إلى غير القبلة؛ ولأن سبيله سبيل من حكم ثُمَّ علم أنَّه أخطأ النص في أن عليه أن ينقض الحكم، ولا يعتد به.
فإن قيل: إن القبلة أصلها التحري لمن كان غائباً عن الكعبة، فيجب أن يكون سبيل [من أخطأها سبيل](7) من لاح له اجتهادٌ خلاف الإجتهاد الأول، في أنَّه لا يجب أن يعيد ما فعله أولاً باجتهاده، ولا ينقضه إن كان حكماً.
__________
(1) ـ انظر الأحكام 1/199، 120. والمنتخب ص37.
(2) ـ انظر الأحكام 1/119.
(3) ـ في (ج): فلا يجب عليه إعادتها.
(4) ـ المنتخب ص37.
(5) ـ في (أ): غير الجهة.
(6) ـ في (أ): أنها غير جهة.
(7) ـ سقط ما بين المعكوفين من (ب) و(ج).
قيل له: إن القبلة وإن كان أصلها التحري، ففي الجهات ما يعلم على القطع أنَّه غير جهة القبلة، فإذا صلى إليها، ثُمَّ علم، كان سبيله سبيل من يعلم أن اجتهاده الأول وقع مخالفاً للنص في أنَّه يجب أن يعيده، ولا يعتد به، وينقضه إن كان حكماً، يبين ما ذكرناه من أن في الجهات ما يعلم قطعاً أنَّه غير جهة الكعبة، وأن في الجهات ما لا يجوز للمجتهد أن يصلي إليها، ويقطع على أنَّه مخطئ متى صلى إليها، وأن صلاته باطلة، على أنَّه لا خلاف أن الأسير إذا تحرى شهر رمضان، فأدَّاه ذلك إلى صيام شعبان، ثُمَّ علم به في شهر رمضان، أن عليه الإعادة، واختلفوا إن علم بعد شهر رمضان فأحد قولي الشافعي، أنَّه لا يعيد، حكاه ابن أبي هريرة في (التعليق)، وكذلك ذكر فيمن أخطأ عرفة، فوقف يوم التروية ثُمَّ علم به يوم عرفة، فعليه إعادة الوقوف، وإن لم يعلم به إلاَّ بعد مضي عرفة لم يلزمه إعادة الوقوف، وذكر أنَّه قول واحد، وهذا يمكن أن يجعل أصلاً، ويقاس عليه الخطأ في القبلة، بأن يقال: بأنَّه أخطأ فيما طريقه الإجتهاد في عبادة مؤقتة، فعليه إعادتها في الوقت، ولا إعادة عليه بعد الوقت. (14/3)
فإن قيل: فإن سائر ما قد مضى الإستدلال به يوجب الإعادة قبل الوقت وبعده، فقد قلتم: إنَّه لا يعيد بعد الوقت.
قيل له: الإستدلال يوجب ذلك، إلاَّ أنا اتبعنا الأثر فيه، فقلنا: لا إعادة عليه، إذا علم به بعد الوقت؛ لِما روى جابر، قال: بعث رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم سرية كنا فيها، فأصابتنا ظلمة، فلم نعرف القبلة، فقالت طائفة منا: قد عرفنا القبلة ـ هاهنا قبل الشمال ـ وخطوا خطوطاً.
وقال بعضهم: القبلة هاهنا قبل الجنوب وخطوا، فلما أصبحنا، وطلعت الشمس، أصبحت الخطوط إلى غير القبلة، فسألنا النبي صلى الله عليه وآله وسلم عما فعلنا، فأنزل الله تعالى: {فَأَيْنَمَا تُولُّوا فَثَمَّ وَجْهُ الله}.
وهذا الحديث ذكره الجصاص في (شرح مختصر الطحاوي) بإسناده، وذكر فيه ـ أيضاً ـ أنَّه روي عن عاصم بن عبيدالله بن عبدالله بن عامر بن ربيعة، قال: كنا مع النبي صلى الله عليه وآله وسلم في ليلة مظلمة، فلم ندر أين القبلة، فصلى كل رجل منا على حياله، ثُمَّ أصبحنا، فذكرنا ذلك للنبي صلى الله عليه وآله وسلم، فأنزل الله تعالى: {فَأَيْنَمَا تُوَلُّوا فَثَمَّ وَجْهُ اللهِ}[البقرة:115]، فلما لم يأمرهم صلى الله عليه وآله وسلم حين علموا بالخطأ بعد مضي الوقت، اتبعنا وقلنا: لا إعادة بعد الوقت. (14/4)
فإن قيل: فقوله تعالى: {فَأَيْنَمَا تُوَلُّوا فَثَمَّ وَجْهُ اللهِ}[البقرة:115]، يوجب سقوط الإعادة قبل الوقت وبعده.
قيل له: ظاهر الآية لا يوجب سقوط الإعادة، لا في الوقت ولا بعده(1)، وإنما علم أن لا إعادة بعد الوقت؛ لأن النبي صلى الله عليه وآله وسلم لم يأمرهم بها، ولما نزلت الآية عند ذلك، علمنا أن المراد بها سقوط الإعادة في الموضع الذي نزل فيه، ولم يجب حمله على العموم؛ إذ لا ظاهر له.
فإن قيل: يلزمكم في الجنب إذا صلى ناسياً أن تقيسوه على من أخطأ القبلة، كما قستم عليه من توضأ بماء نجس وهو لا يعلم، وكذلك يلزمكم أن تقيسوا عليه من أخطأ فصلى قبل الوقت.
__________
(1) ـ في (أ): لا قبل الوقت ولا بعده.
قيل له: ليس يلزم ما ذكرت، وذلك أن الجنب يصير إلى رفع الجنابة باليقين [وكذلك الوقت يصير إليه المصلي باليقين](1)، فلم يجب أن يكون حكمه(2) حكم من أخطأ القبلة؛ لأن الذي أخطأ القبلة يصير إليها بضرب من الاجتهاد، ولهذا قسنا عليه من تطهر بماء نجس وهو لا يعلم، أنَّه(3) لا يصير إلى طهارة الماء إلاَّ بالاجتهاد دون اليقين والقطع، ومن الفرق بينهما أن القبلة مع الغيبة عن الكعبة طريقها الاجتهاد، وقد ثبت أن من أخطأها، لا يعيد الصلاة، إذا علم بالخطأ بعد الوقت للأثر الذي بيناه، فوجب أن يكون ذلك سبيله سبيل من تطهر بماء نجس، وهو لا يعلم ذلك، ثُمَّ علم به بعد الوقت، هذا إذا كان الماء مختلفاً في نجاسته، ولم يجب أن يكون سبيل الجنب أو المحدث إذا صلى ناسياً، ثُمَّ علم به بعد الوقت ذلك السبيل، وكذلك من صلى الظهر قبل الزوال وهو لا يعلم؛ لأن ذلك ـ أجمع ـ طريقه النص، وما يجري مجرى النص مما يوجب القطع. (14/5)
واستدل بعض أصحابنا على ذلك بأن قال: إن التحري هو للإلتباس والوقت(4)، ألا ترى أنَّه لا وجه للتحري إذا لم يكن التباس؟ وكذلك لو كان الوقت ممتداً، لكان يترك الصلاة إلى أن يعاين، ولا يتحرى، فإذا ثبت ذلك فمضى الوقت مع الالتباس؛ يوفر أسباب التحري، فإذا علم الخطأ ـ والوقت باق ـ فأسباب التحري غير موفرة، وتجب الإعادة.
مسألة [ في تنفل المسافر على راحلته ]
قال: والمسافر يتنفل على ظهر راحلته أينما توجهت به.
وهذا قد نص عليه في (الأحكام)(5) عند ذكره صلاة الليل، قال: "إن كان في محمل حوَّل وجهه نحو القبلة، وإن كان على الراحلة صلى حيث توجهت، وقال: فإذا جاءت الفريضة فالأرض إلاَّ من بلاء عظيم وخوف جسيم".
__________
(1) ـ ما بين المعكوفين زيادة في (ج).
(2) ـ في (ج): حكمها.
(3) ـ في (ج): لأنه.
(4) ـ في (ب): هو الإلتباس للوقت.
(5) ـ انظر الأحكام 1/144.
وأجاز القاسم عليه السلام في (مسائل النيروسي) الوتر على الراحلة، وقال: لأنها سنة، وليست بفريضة. (14/6)
واستدل يحيى عليه السلام على ذلك بما رواه محمد بن منصور، عن أحمد بن عيسى، عن حسين، عن أبي خالد، عن زيد بن علي، عن آبائه، عن علي عليهم السلام، أن رجلاً سأل رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، فقال: يا رسول الله، هل أصلي على ظهر بعيري؟
قال: (( نعم. حيث توجه ـ في النوافل ـ بك بعيرك إيماء، ويكون سجودك أخفض من ركوعك، فإذا كانت المكتوبة، فالقرار القرار )).
وقد قدمنا في مسائل الوتر سائر ما روي في ذلك، عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم، وعن أمير المؤمنين عليه السلام.
وأما قول يحيى عليه السلام أنَّه إن كان في محمل حول وجهه نحو القبلة، فإنه قال ذلك لقول الله تعالى: {فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَحَيْثُمَا كُنْتُمْ فَوَلُّوا وُجُوْهَكُمْ شَطْرَهُ}، فكان هذا الظاهر يقتضي أن يكون كل مصل يتوجه إلى القبلة، فلما ورد الأثر في جواز فعل النوافل على الرواحل للعذر ـ لما(1) يلحق من المشقة لو رام التوجه عليها ـ قال به، وخص الظاهر، فلما وجد راكب المحمل لا يشق عليه تحويل وجهه إلى القبلة، شبهه بمن على الأرض.
وظاهر قول يحيى عليه السلام يدل على أنَّه لا يفصل بين التكبيرة الأولى وغيرها في أنها تجوز إلى حيث توجهت الراحلة، وعليها يدل قول النبي صلى الله عليه وآله وسلم حين سأله السائل: هل أصلي على ظهر بعيري؟ قال: (( نعم. حيث توجه بك بعيرك ))، فلم يستثن التكبيرة الأولى من غيرها، وكذلك سائر ما روي عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم في هذا الباب.
فإن قيل: روى عمرو بن أبي الحجاج، عن الجارود بن أبي سبرة، عن أنس أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم كان إذا سافر فأراد أن يتطوع بصلاة، استقبل بناقته القبلة، فكبر وصلى حيث توجهت الناقة به.
__________
(1) ـ في (ا) و(ب): الرواحل ولما.
قيل له: هذا فعل، ولا يدل على أنَّه لا يجزي سواه، على أنَّه محمول عندنا على أنَّه صلى الله عليه وآله وسلم فعل ذلك في حال لم يكن عليه فيها مشقة، فيكون سبيله سبيل من في المحمل؛ لأنَّه لما لم يكن عليه مشقة في تحويل وجهه إلى القبلة، قلنا: إنَّه يحول وجهه إليها، فكذا القول في التكبيرة الأولى إذا كانت في حال لا مشقة عليه في تحويل وجهه عندها إلى القبلة، لا لأمر يرجع إلى الفصل بين التكبيرة الأولى وغيرها، بل للفصل بين حال المشقة وغير المشقة. (14/7)
مسألة [ في صلاة راكب السفينة ]
قال: ومن كان في السفينة صلى كيف ما أمكنه قائماً، أو قاعداً، ولا يصلي قاعداً، وهو يمكنه القيام، ويتوجه إلى القبلة، ويدور إليها بدوران السفينة ما أمكنه، فإن لم يمكنه، أجزأه.
وهذا منصوص عليه في (الأحكام)(1)، حيث يقول: "وصاحب السفينة يصلي على قدر ما يمكنه، ويجد السبيل إليه". فكان كالتصريح بأن من وجد السبيل إلى القيام، لم يجزه دون(2) ذلك.
وقال فيه: "إنَّه يتتبع القبلة، ويدور لها بدوران السفينة"(3). والمراد به الفرض؛ إذ لا خلاف في أن النفل يجوز أن يؤديه قاعداً من قدر على القيام في جميع الأحوال.
وذهب بعض الفقهاء إلى أنَّه يجوز له أن يصلي قاعداً، وإن أمكنه القيام.
__________
(1) ـ انظر الأحكام 1/122.
(2) ـ في (أ) و(ب): غير.
(3) ـ انظر الأحكام 1/122.
والوجه لصحة ما ذهبنا إليه قوله تعالى: {وَقُوْمُوا لِلَّهِ قَانِتِيْنَ}[البقرة:238]، فأمر بالقيام، ولم يخص حالاً دون(1) حال، ـ وأيضاً ـ فلا خلاف أن من صلى على البر قاعداً وهو يقدر على القيام أنَّه لا تجزئه صلاته، فكذلك من صلى في السفينة وهو يقدر على القيام، والعلة أنَّه ترك القيام مع القدرة عليه على ما أمر به، ـ وأيضاً ـ فإن القيام مقيس على الركوع والسجود في الفرض؛ لأنَّه ركن من أركان الصلاة كالركوع والسجود (فكما لا يجوز له ترك الركوع والسجود)(2) مع التمكن منهما، فكذلك القيام. (14/8)
فإن قاسوه على النوافل؛ بعلة أنها تفعل وهي سائرة، كان قياسنا أولى؛ لأن الفرض أشبه بالفرض، وإن كانت الصلاة بعضها ببعض أشبه من الفرض بالنفل؛ ولأن الاحتياط مع قياسنا، وكذلك الحظر.
فإن قالوا: فإن الحال حال العذر، فله أن يترك القيام مع التمكن منه كالمسافر لما كان حاله حال العذر، جاز له ترك الصيام(3) مع التمكن منه.
قيل له: هذا فاسد بالمريض، وذلك أن حاله ـ أيضاً ـ حال العذر، وليس له أن يترك القيام مع التمكن منه.
فإن قيل: إنَّه يخشى من دوران الرأس على راكب السفينة.
قيل له: إن غلب في ظنه أنَّ ذلك يؤديه إلى الضرر، جاز له أن يصلي قاعداً؛ لأنَّه في حكم من لا يمكنه القيام، وإنما الخلاف بيننا وبينكم إذا أمن ذلك، ألا ترى أن العليل إذا خاف ضرراً من القيام، جاز له أن يصلي قاعداً، وليس له ذلك إذا أمن.
مسألة [ في السترة لمن صلى في فضاء الأرض ]
قال: ويستحب لمن صلى في فضاء من الأرض أن يجعل أمامه سترة، فإن لم يجد، فلا بأس أن يخط بين يديه خطاً، قال: ولا يقطع صلاته ما مر بين يديه من كلب، أو حمار وغيره.
__________
(1) ـ في (أ) و(ب): من.
(2) ـ ما بين المعكوفين في (ج) وهامش (ب).
(3) ـ في (ب): القيام، وفي هامشه: لعله التمام.
وقد نص على ذلك في (الأحكام) و(المنتخب)(1)، وقال: "وليدرأ المسلم عن نفسه ما استطاع". (14/9)
واستدل على ذلك:
بما أخبرنا به أبو الحسين بن إسماعيل، حدثنا الناصر عليه السلام، عن محمد بن منصور، قال: حدثنا أحمد بن عيسى، عن حسين، عن أبي خالد، عن زيد بن علي، عن آبائه، عن علي عليهم السلام، قال: كانت لرسول الله صلى الله عليه وآله وسلم عنزة يتوكأ عليها، ويغرزها بين يديه إذا صلى، فصلى ذات يوم ـ وقد غرزها بين يديه ـ فمر بين يديه كلب، ثُمَّ مر حمار، ثُمَّ مرت امرأة، فلما انصرف قال: (( رأيت الذي رأيتم، وليس يقطع صلاة المسلم شيء، ولكن ادرأوا ما استطعتم )).
وأخبرنا أبو بكر المقرئ، حدثنا الطحاوي، حدثنا ابن مرزوق، حدثنا أبو عاصم، عن ابن جريج، عن محمد بن عمر، عن عباس بن عبيدالله بن عباس، عن الفضل بن العباس، قال: زارانا رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم في بادية لنا، ولنا كليبة(2) وحمار يرعيان، فصلى العصر وهما بين يديه، فلم يُزجرا، ولم يُؤخرا(3).
وأخبرنا أبو بكر المقرئ، حدثنا الطحاوي، عن ابن مرزوق، حدثنا معاذ بن فضالة، حدثنا(4) يحيى بن أيوب، عن محمد بن عمر بن علي بن أبي طالب عليه السلام.. فذكر بإسناده مثله(5).
فإن قيل: فقد روى أبو ذر أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم، قال: (( لا يقطع الصلاة شيء إذا كان بين يديك حاجزة الرحل )). وقال: (( يقطع الصلاة المرأة، والكلب الأسود، والحمار )).
__________
(1) ـ انظر الأحكام 1/118. والمنتخب ص47.
(2) ـ في (ب) : حليبة.
(3) ـ أخرجه الطحاوي في شرح معاني الآثار1/459، وفيه: عباس بن عبد الله.
(4) ـ في (أ): حدثني.
(5) ـ أخرجه الطحاوي في شرح معاني الآثار 1/460.
قيل له: هذا يجب أن يكون منسوخاً بما رويناه عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم، ألا ترى إلى قوله: (( رأيت الذي رأيتم، وليس يقطع صلاة المسلم شيء )) . ومن المعلوم أنَّه لم يقل لهم ذلك إلاَّ وقد علم أنهم اعتقدوا في هذه الأشياء أنَّها تقطع الصلاة؛ لأنَّه صلى الله عليه وآله وسلم بعيد أن يُعَرفهم ما لا يقطع الصلاة؛ لأنَّه أكثر من أن يحصى، فلم يشر إلى ما أشار إليه عليه السلام، إلاَّ والحال ما ذكرنا، ولا يجوز أن يكونوا اعتقدوا شيئاً معقولاً إلاَّ الشرع قرع أسماعهم، إذ لا مسرح للعقل في ذلك، فثبت بما بينا أن خبرهم متقدم، وخبرنا متأخر. (14/10)
وأخبرنا أبو بكر المقرئ، حدثنا الطحاوي، حدثنا يونس، حدثنا ابن وهب: أن مالكاً أخبره عن زيد بن أسلم، عن عبد الرحمن بن أبي سعيد الخدري عن أبيه(1)، أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، قال: (( إذا كان أحدكم يصلي، فلا يَدَعَنَّ أحداً يمر بين يديه، وليدرأ ما استطاع، فإن أبى، فليقاتله، فإنما هو شيطان ))(2).
فدل ذلك على أنَّه صلى الله عليه وآله وسلم قال ذلك حين كانت الأفعال في الصلاة مباحة؛ لأنَّه أمر بأن يقاتل المصلي، وهو في الصلاة، فبان بذلك ـ أيضاً ـ تقدم خبرهم.
وروي ـ أيضاً ـ أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم كان يصلي بالليل، وبين يديه بعض نسائه.
والنظر ـ أيضاً ـ يدل على مانذهب إليه؛ لأن سائر الحيوانات لا تقطع صلاة المسلم بالاتفاق، فكذلك يجب أن يكون الكلب الأسود، والحمار، والمرأة.
وأما الخط ـ أيضاً ـ فإنه حاجز، وإن كان دون السترة، فلذلك قال يحيى عليه السلام(3): إنَّه إن لم يجد السترة يخط بين يديه خطاً.
مسألة [ في الصلاة إلى الأقذار ]
قال: ويكره أن يصلي الرجل إلى الأقذار، فإن حالت الجدر بينه وبينها، لم يكره.
__________
(1) ـ سقط من (ب) أبيه.
(2) ـ أخرجه الطحاوي في شرح معاني الآثار 1/460.
(3) ـ انظر الأحكام 1/118.
وهذا منصوص عليه في (المنتخب)(1). (14/11)
واستدل على ذلك القاسم عليه السلام بقوله تعالى: {وَطَهِّرْ بَيْتِيَ لِلطَّائِفِيْنَ وَالْعَاكِفِيْنَ وَالرُّكَّعِ السُّجُودِ}(2)، و ـ أيضاً ـ قول النبي صلى الله عليه وآله وسلم: (( ادرأوا ما استطعتم ))، وغرزه بين يديه العنَزة يدل على أن المصلي يجب أن يراعي حال ما يصلي إليه، فإذا ثبت ذلك، ثبت أنَّه يكره أن يصلي الإنسان إلى الأقذار، فإن حالت الجدر بينه وبينها، فإن الصلاة لا تكره؛ لأن المصلي لا يكون مصلياً إلى الأقذار، وإنما يكون مصلياً إلى الجدر الطاهرة.
مسألة [ في الصلاة في فوق نشز أمامه نجس في منخفض ]
قال: ويكره أن يصلي فوق نشز من الأرض، وأمامه نجس في موضع منخفض عنه، فإذا صلى في موضع منخفض إلى النشز، وفوقه نجس، لم يكره.
وهذا منصوص عليه في (المنتخب)(3).
والوجه فيه أنَّه إذا صلى على نشز، وأمامه في موضع منخفض نجس يكون قد صلى إليه إذا قابله(4) بوجهه، فأما إذا كان المصلي في موضع منخفض وراء النشز، وفوق النشز نجس، فلا يكون صلى إلى النجس إذ ما يقابل وجهه هو النشز، فلهذا كره الأول، ولم يكره الثاني، وهذا إذا كان النشز فوق قامته؛ لأنَّه إذا كان دون قامة(5)، وكان النجس فوقه كان متوجهاً إلى النجس.
مسألة [ في التوجه إلى ما عليه تماثيل حيوان ]
قال: ويكره أن يتخذ قبلة ما عليه تماثيل الحيوان، قال في (المنتخب)(6) فيمن صلى في بيت فيه تماثيل تشبه الناس والدواب: "إذا كان الموضع الذي استقبله إلى قدر رأسه نقياً من ذلك، جازت صلاته فيه". فنبه أن ما يكره من التماثيل هي تماثيل الحيوان، والوجه في ذلك:
__________
(1) ـ انظر المنتخب ص36.
(2) ـ جواب الآية في سورة الحج آية 26.
(3) ـ انظر المنتخب ص37.
(4) ـ في هامش (ب): إذ قد قابله بوجهه.
(5) ـ في (ب) و(ج): لو كان دون قامته.
(6) ـ انظر المنتخب ص37.
ما أخبرنا به أبو بكر المقرئ، حدثنا الطحاوي، حدثنا ابن مرزوق، حدثنا محمد بن أبي الرزين، حدثنا محمد بن مسلم(1)، عن عبد الرحمن بن القاسم، عن أبيه، عن عائشة أنها جعلت ستراً فيه تصاوير إلى القبلة، فأمرها رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فنزعته، وجعلت منه وسادتين، فكان النبي صلى الله عليه وآله وسلم يجلس عليهما. (14/12)
وأخبرنا أبو بكر المقرئ، حدثنا الطحاوي، حدثنا يونس، حدثنا ابن وهب، قال: أخبرني ابن أبي ذئيب، عن الحارث بن عبدالرحمن، عن كريب مولى ابن عباس، عن أسامة بن زيد، عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم أنَّه دخل الكعبة فرأى فيها صوراً فأمرني بدلو من ماء، فجعل يضرب به الصور، وهو يقول: قاتل الله قوماً يُصَوِّرون ما لا يخلقون.
فإن قيل: فالحديث ورد في الصور عاماً، فلم خصصتم منه صور ماليس بحيوان؟
قيل له: لما رواه الطحاوي يرفعه إلى أبي هريرة، قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: (( جاءني جبيريل فقال لي: يا محمد أتيتك البارحة، فلم أستطع أن أدخل البيت؛ لأنَّه كان في البيت تمثال رجلٍ، فَمُر بالتمثال فليقطع رأسه حتى يكون كهيئة الشجرة )). فدل هذا الخبر على أن تمثال ما ليس بحيوان غير مكروه.
مسألة [في الصلاة فوق ظهر الكعبة]
قال: ولا يجوز للرجل أن يصلي فوق ظهر الكعبة إذا كان سجوده على آخر حرف منها، فإن لم يكن على آخر حرف منها، جاز، تخريجاً.
__________
(1) ـ في (أ) و(ب): محمد بن أبي مسلم.
قال في (المنتخب)(1): "ولا أحب لأحد أن يصلي فوق الكعبة، ولا أراه؛ لأنَّه لم يتوجه إلى شيء من جدرها، ولم يجعل قبلته شيئاً منها". فكان ظاهر كلامه أنَّه منع من الصلاة فوقها؛ لأنَّه غير مصلٍ إلى شيء من جدرها(2)، وأنه متى صلى إلى شيء منها، جازت صلاته، وقد ثبت من مذهبه أنَّه يرى أن المصلي إذا كان أمامه شيء يكون مصلياً إليه، وإن كان في مكان منخفض؛ (لأنه عليه السلام قد قال: وأكره الصلاة فوق النشز إذا كان أمام المصلي في مكان منخفض)(3) نجس لا يكون مصلياً إليه، فإذا ثبت ذلك، فمن المعلوم أن من صلى فوق الكعبة، ولم يكن سجوده على آخر حرف منها يكون أمامه شيء من الكعبة، فإذا كان أمامه شيء من الكعبة، فيجب أن تكون صلاته على قوله عليه السلام مجزية، فلذلك قلنا ماقلناه.. تخريجاً. (14/13)
والدليل على صحة ذلك قول الله تعالى: {فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ}[البقرة:144]، ومن المعلوم أن الساجد على آخر حرف فيها لا يكون اتخذ شيئاً منها قبلة، وأن الساجد وراء ذلك يكون متخذاً شيئاً منها شيئاً قبلة.
فإن قيل: فإن الساجد على آخر الحرف إذا قام، أو جلس، يكون أمامه منها شيء، وهو الموضع الذي يسجد عليه.
قيل له: هذا صحيح، ولكن المصلي مأخوذ عليه التوجه إلى القبلة في جميع أحواله إذا تمكن من ذلك، فإذا ترك الاستقبال في بعض أركان الصلاة لغير عذر، بطلت صلاته.
فأما ما روي من النهي عن الصلاة فوق ظهر الكعبة، وهو حديث ابن عمر أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم نهى عن الصلاة في سبعة مواطن، فذكر فوق ظهر البيت الحرام، فهو محمول على آخر جزء منه.
مسألة [ في الصلاة في الكعبة ]
قال: ولا بأس بالصلاة في جوف الكعبة.
__________
(1) ـ المنتخب ص50.
(2) ـ في (ب) و(ج): منها.
(3) ـ ما بين المعكوفين في (ج).
وهو منصوص عليه في (المنتخب)(1)، واستدل يحيى عليه السلام على ذلك بقول تعالى: {وَحَيْثُ مَا كُنْتُمْ فَوَلُّوا وُجُوْهَكُمْ شَطْرَهُ}، أي جانباً منه، قال: والمصلي في جوف الكعبة يكون قد صلى إلى جانب منها، فوجب صحة صلاته. (14/14)
ويمكن أن يورد ما ذكره عليه السلام على طريق القياس، فيقاس المصلي فيها على المصلي إليها خارجاً منها بمعنى أنَّه مصل إلى جانب منها، وظاهر قوله يدل على أنَّه لا يفصل في ذلك بين الفرض والنفل، كما روي عن بعض الفقهاء، وقد كثرت الروايات في أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم صلى في الكعبة رواه ابن عمر مطلقاً، وروي عن بلال، وعن أسامة.
وأخبرنا أبو بكر المقرئ، حدثنا الطحاوي، عن فهد، حدثنا أبو بكر بن أبي شيبة، حدثنا شبابة، عن مغيرة، عن مسلم، عن أبي الزبير، عن جابر، قال: (( دخل النبي صلى الله عليه وآله وسلم البيت يوم الفتح، فصلى فيه ركعتين ))(2).
فإن قيل: فقد روى أسامة أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم دخل البيت، وخرج، ولم يصل، وصلى خارجاً إليه، وقال: هذا هو القبلة(3).
قيل له: قد روى ابن عمر، عن أسامة، أنَّه صلى الله عليه وآله وسلم صلى فيه، فيجوز أن يكون صلى في وقت، ولم يصل في وقت، وقوله: هذا هو القبلة إشارة إلى البيت، ومن صلى فيه فقد اتخذ بعضه قبلة على مابيناه(4).
مسألة [ في الصلاة في الحمامات والمقابر والطرق السابلة ]
قال: وتكره الصلاة في الحمامات، والمقابر، والطرق السابلة.
وقد نص على ذلك في (الأحكام) (5)، وذكر أنَّه كره الصلاة في الحمامات لما يماط فيها من القذر، قال: وأما بيوتها التي لا يماط فيها القذر، وتكون طاهرة، فلا بأس بالصلاة فيها.
__________
(1) ـ انظر المنتخب ص49، 50.
(2) ـ أخرجه الطحاوي في شرح معاني الآثار 1/390. وفيه: عن مغيرة بن مسلم.
(3) ـ أخرجه الطحاوي في شرح معاني الآثار 1/389.
(4) ـ أخرجه الطحاوي في شرح معاني الآثار 1/390.
(5) ـ انظر الأحكام 1/133 ـ 134.
قال: وأكره الصلاة في المقابر؛ لكرامة أهلها إن كانوا مؤمنين، وإيثار التجنب لهم إن كانوا فاسقين، وأكره الصلاة في الطرق السابلة لما يلحق الناس من المضرة، وعلى هذا إن كان الطريق واسعاً لا ضرر على أحد من مصلٍ، إن صلى فيه، فالصلاة جائزة(1). (14/15)
أخبرنا أبو بكر المقرئ، حدثنا الطحاوي، عن زيد بن سنان(2)، وصالح بن عبد الرحمن، عن أبي عبد الرحمن المقرئ، حدثنا يحيى بن أيوب أبو العباس البصري، عن زيد بن جبير، عن داود بن الحصين، عن نافع، عن ابن عمر، قال ـ نهى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم عن الصلاة في مواضع فذكر فيها الحمام وقارعة الطريق.
مسألة [ في الصلاة في أعطان الإبل ]
قال: ولا بأس بالصلاة في أعطان الإبل، ودَمَن الغنم، إذا لم يكن فيها قذر من صديد أو دَبَر.
وهذا منصوص عليه في (الأحكام)(3)، ومروي عن القاسم عليه السلام.
والدليل على ذلك قول النبي صلى الله عليه وآله وسلم: (( جعلت لي الأرض مسجداً وطهوراً ))(4)، وذلك عام في كل الأرض.
فإن قيل: فقد روي أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم نهى عن الصلاة في أعطان الإبل.
قيل له: في سبب هذا النهي وجهان:
أحدهما: أن العادة جرت لأصحاب الإبل أنهم يتغوطون، ويبولون بين جمالهم، ويستترون بها، فكان النهي ورد لقذر المكان ونجاسته، لا لشيء يختص الإبل.
والوجه الثاني: أن النهي ورد لما في طبع الإبل من الشرود والتمرد، فلم يؤمن أن يكن منها ما يؤدِّي إلى الشغل عن الصلاة، أو قطعها، وعلى هذا يُؤَوَّل قوله صلى الله عليه وآله وسلم: (( إنها خلقت من الشياطين )) وعلى هذا يؤول قوله صلى الله عليه وآله وسلم في الكلب الأسود: (( إنه شيطان )) أي مؤذٍ.
وفي حديث رافع بن خديج، عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: (( إن لهذه الإبل أوابدٌ كأوابد الوحش )).
__________
(1) ـ انظر الأحكام 1/134.
(2) ـ في (ج): يزيد بن سنان.
(3) ـ انظر الأحكام 1/119.
(4) ـ في (ج) وهامش (أ) و(ب): وترابها طهوراً.
يدل على صحة هذا التأويل، وإن الصلاة في معاطنها لم تكره لشيء يرجع إليها، ما أخبرنا(1)به أبو بكر المقرئ، حدثنا الطحاوي، حدثنا فهد، حدثنا محمد بن سعيد(2)، وأبو بكر بن أبي شيبة، قالا: حدثنا أبو خالد الأحمر، عن عبدالله، عن نافع، عن ابن عمر أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم كان يصلي إلى بعيره(3). (14/16)
وأخبرنا أبو بكر المقرئ، حدثنا الطحاوي، حدثنا فهد، حدثنا محمد بن سعيد(4)، حدثنا عمرو بن أبي بكر العبدي، حدثنا إسرائيل، عن زياد المصفر، عن الحسن، عن المقدام، قال: جلس عبادة بن الصامت، وأبو الدرداء، والحارث بن معاوية، فقال أبو الدرداء: أيكم يحفظ حديث رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم حين صلى بنا إلى بعير من المغنم، فقال عبادة: أنا. قال: فحدث. قال: صلى بنا رسول الله صلى اللّه عليه وآله وسلم إلى بعير من المغنم، ثُمَّ مد يده فأخذ قُرَاداً من البعير، فقال: (( ما يحل لي من غنائمكم مثل هذا، إلاَّ الخمس، وهو مردود فيكم ))(5)، فبان أنَّه صلى الله عليه وآله وسلم لم يكره الصلاة في أعطان الإبل إلاَّ لما ذكرناه، وأنه لم ينه عنها لشيء يرجع إلى الإبل.
مسألة [ في الصلاة في البِيَع والكنائس ]
قال: ولا تجوز الصلاة في البِيَع، والكنائس، لتنجس آثار المشركين، فإن طهرت من ذلك، جازت.
وهذا منصوص عليه في (الأحكام)(6).
والوجه في هذا ماقد مضى في كتاب الطهارة من الدلالة على أنهم أنجاس، فإذا ثبت ذلك، ثبت أنَّه لا تجوز الصلاة في مواطنهم مالم تطهر؛ لأنها لا تسلَم من نجاستهم.
مسألة [ في الصلاة في الأرض المغصوبة والثوب المغصوب ]
__________
(1) ـ في (أ): وفي ذلك ما أخبرنا.
(2) ـ في (أ): محمد بن أبي سعيد.
(3) ـ أخرجه الطحاوي في شرح معاني الآثار 1/385، وفيه: عن عبيد الله.
(4) ـ في (أ): محمد بن أبي سعيد.
(5) ـ أخرجه الطحاوي في شرح معاني الآثار 1/385، وفيه: يحيى بن أبي بكير العبدي.
(6) ـ انظر الأحكام 1/135.
قال القاسم عليه السلام: ولا تجوز الصلاة في الأرض المغصوبة، ولا في الثوب المغصوب. (14/17)
وهذا منصوص عليه في كتابه المسمى بـ(كتاب الصلاة).
والذي يدل على ذلك أنَّه قد ثبت أن الكون في الأرض المغصوبة مع التمكن من الخروج منها معصية، وثبت أن الصلاة قربة، فثبت أن الذي يقع من الكائن في الدار المغصوبة من الصلاة على الوجه الذي بينا لا يكون صلاة.
فإن قيل: ما أنكرتم أن يكون ذلك معصية من وجه، وطاعة من وجه، فلا يجب أن يكون معصية قربة؟
قيل له: هذا لا يصح، وذلك أن الفعل لا يخلو من أن يقع على وجه يقبح، أو يقع على وجه لا يقبح، فإن وقع على وجه يقبح، لم يجز أن يكون طاعة؛ لأن الله تعالى لا يأمر بما يقبح على بعض الوجوه، وإن وقع على وجه [لا يقبح على بعض الوجوه](1)، لم يجز أن يكون معصية؛ لأن الله تعالى لا ينهى عما ليس بقبيح، فثبت فساد قول من يقول: إنَّه معصية من وجه، وطاعة من وجه.
فإن قيل: قد حصل الإجماع على خلاف مذهبكم.
قيل له: لا معنى لادعائكم الإجماع؛ لأن المسألة خلافية؛ ولأن الإجماع لا يجوز أن ينعقد على مايفسد وتتناقض، وقد بينا أن كون الإنسان في الدار المغصوبة معصية، وأن الصلاة قربة، وأن المعصية لا يجوز أن تكون قربة.
فإن قيل: ما أنكرتم أن الإجماع يجوز أن ينعقد على وجه يصح، وهو أن يجمعوا على أن ما يقع ممن في الدار المغصوبة من الصلاة، وإن كانت معصية يسقط الفرض؟
قيل له: هذا فاسد، وذلك أن الإجماع قد حصل أن المصلي يجب أن ينوي أداء الصلاة الواجبة، أو المندوبة، وذلك لا يصح إلاَّ مع اعتقاد وجوبها، أو ندبها، والمعصية لا يجوز أن يُعتقد فيها الوجوب، ولا الندب، فبان أن ما ادعيتموه من ذلك فاسد.
فإن قيل: فأنتم تذهبون إلى أن الذبح بالسكين المغصوب جائز، فما الفرق بين ذلك وبين الصلاة في الأرض المغصوبة؟
__________
(1) ـ ما بين المعكوفين في (أ).
قيل له: الفصل بينهما أن الذابح لم يؤخذ عليه أن يكون الذبح قربة، وإنما أخذ عليه أن يقطع المذبح على الوجه المخصوص، ألا ترى أنه يصح ممن لا يتقرب كالذي لم يبلغ، فلم يمتنع أن يكون الذبح معصية، ومع ذلك يذكى، وليست الصلاة كذلك؛ لأن الصلاة لا تكون إلاَّ قربة، والمعصية لا تكون قربة. (14/18)
فإن قاسوها على الصلاة في الأرض التي لم تغصب كان هذا القياس ساقطاً؛ لكونه مؤدياً إلى فساد الأصول، على أنَّه يمكن أن يعارضوا بقياسها على الصلاة في الأرض النجسة، بمعنى أنَّه منهي عن الصلاة عليها، ويكون قياسنا أولى؛ للحظر، والاحتياط.
وأما الثوب المغصوب، فهو مقيس على الثوب النجس، بمعنى أنَّه نهي الذكر والأنثى عن الصلاة فيه مع السلامة، فكل ثوب يكون كذلك، لم تجز الصلاة فيه.
وروى الناصر عليه السلام في كتاب (الإمامة) عن بشر بن عبدالوهاب يرفعه إلى ابن عمر: قال: لو أن رجلاً، كانت له تسعة دراهم من حلال، فضم إليها درهماً من حرام، فاشترى بها ثوباً، لم يقبل الله منه فيه صلاة.
فقيل له: سمعتَ هذا من رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم؟ فقال: سمعتُ من رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ثلاث مرات.
وهذا كالصريح لما ذهب إليه القاسم عليه السلام في الثوب؛ المغصوب إذ الثوب المغصوب، أسوأ حالاً من الثوب الذي اشتري بمال فيه حرام.
مسألة [ وأفضل البقاع لها المساجد ]
قال: وأفضل البقاع لها المساجد.
وهذا مما ذكره أبو العباس الحسني رحمه الله في كتابه المسمى بـ(النصوص)، أن محمد بن القاسم رواه، عن أبيه القاسم عليه السلام.
والوجه فيه أن المساجد أفضل البقاع، فوجب أن تكون الصلاة فيها أفضل، يدل على لك: ما روي من قول رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: (( ألا أخبركم بما يمحو الله به الخطايا، ويرفع به الدرجات، اسباغ الوضوء على المكاره، وكثرة الخطا إلى المساحد، وانتظار الصلاة بعد الصلاة ))، و ـ أيضاً ـ لا خلاف أن المكتوبات في المساجد أفضل منها في البيوت، فكذلك النوافل، والمعنى أنها فعلت في مواضع خصت بالعبادات. (14/19)
فأما ما روي عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم من أن النوافل في البيوت أفضل؛ فإنها محمولة على أن الغرض بها الإخفاء؛ لتكون أسلم من الرياء.
مسألة [ في طهارة المكان ]
قال: ولا يصلى في شيء من البقاع إلاَّ أن يكون نقياً من الأقذار.
وقد صرح به في (الأحكام)(1) حين منع من الصلاة في الحمام لما فيه من النجس، ومنها في البيع، والكنائس، لنجس آثار المشركين.
والوجه في ذلك أنَّه لا خلاف في أن المصلي عليه يجب أن يكون مثل المصلى فيه؛ لأن كل ما أوجب طهارة الثوب المصلي فيه، أوجب طهارة مايصلى عليه، فإذا ثبت ذلك، وثبت وجوب طهارة اللباس في الصلاة ـ بما سنبينه من بعد ـ ثبت وجوب طهارة ما يصلى عليه، واستدل القاسم عليه السلام على ذلك بقوله تعالى: {وَطَهِّرْ بَيْتِيَ لِلطَّائِفِيْنَ وَالْقَائِمِيْنَ وَالرُّكَّعِ السُّجُودِ}[الحج:26].
ويدل على ذلك ما روي أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم أمر بتطهير المسجد حين بال فيه الأعرابي، ولم يكن ذلك إلاَّ لأنَّه موضع الصلاة، فثبت بذلك أجمع ماذهبنا إليه.
مسألة [ في الصلاة على طين تحته نجاسة ]
قال: وإن كانت بالوعة أو مثلها قد ردمت، وألقي عليها طين نقي، جازت الصلاة عليها، والعدول عنها أحب إلينا.
وهذا منصوص عليه في (المنتخب) (2).
__________
(1) ـ انظر الأحكام 1/133.
(2) ـ انظر المنتخب ص36.
والوجه في ذلك أن المصلي على ما ذكرنا تكون صلاته على الطاهر، فوجب أن تجزيه صلاته، واستحب العدول عنها للقرب من النجس، ألا ترى أنَّه يستحب التنزه(1)، وقال: صلى الله عليه وآله وسلم: (( ادرأوا ما استطعتم )) واستحب الدرأ، وإن كانوا [إن](2) لم يفعلوا ذلك، لم تفسد الصلاة؛ لأنَّه تباعد عما يكره. (14/20)
مسألة [ ويمنع أهل الذمة من المساجد ]
قال: ويجب أن يمنع أهل الذمة من دخول المساجد.
وهذا منصوص عليه في (الأحكام) (3).
والذي يدل على ذلك قول الله تعالى: {إِنَّمَا الْمُشْرِكُوْنَ نَجَسٌ فَلا يَقْرَبُوا الْمَسْجِدَ الْحَرَامِ}[التوبة:28]، فمنعهم من أن يقربوا المسجد الحرام، فوجب أن تكون سائر المساجد كذلك قياساً عليها(4)، على أن الشافعي يوافقنا على ذلك في المسجد الحرام خصوصاً، فنجعل ذلك معه أصلاً، ونقيس عليه سائر المساجد.
فأما ما روي عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أنَّه أنزل وفد ثقيف في المسجد، وأنه صلى الله عليه وآله وسلم ربط رجلاً من المشركين إلى سارية من سواري المسجد، فيجوز أن يكون كان ذلك على سبيل الضرورة، ويجوز أن يكون ذلك قبل نزول الآية، على أنا قد بينا أن المشركين أنجاس في مسألة سؤر المشركين، واستقصينا الكلام فيه، فإذا ثبت ذلك، فلا خلاف بين المسلمين في أن المساجد يجب أن تمنع من الأنجاس، فثبت بذلك صحة ما ذهبنا إليه، على أن أبا حنيفة يوافقنا على أن الجنب لا يدخل المسجد، والشافعي يوافقنا على أنَّه لا يبيت فيه، فيجب أن يكون المشرك الجنب كذلك، وإذا ثبت أن المشرك الجنب لا يدخل المسجد، فلا أحد يفصل بينه وبين المشرك الذي ليس بجنب، على أنَّه لا خلاف بين المسلمين أن المساجد يجب إعظامها، بل لا يُعتقد خلاف ذلك، فلا يؤمن أن ينجسها.
__________
(1) ـ في (أ): السترة.
(2) ـ سقط من (أ).
(3) ـ انظر الأحكام 1/135.
(4) ـ في الهوامش: عليه.
باب القول في ستر العورة والثياب التي يصلي فيها وعليها (15/1)
[ مسألة: ويجب ستر العورة ]
يجب على كل مصل أن يستر عورته بثوب طاهر إن أمكنه.
وقال في (الأحكام)(1): "ولا يصلى في ثوب واحد حتى يكون صفيقاً، لا يصف المصلي فيه"، فكان ذلك نصاً في إيجاب ستر العورة. وقال ـ أيضاً ـ: ويصلي العريان جالساً، ويستر عورته، بما قدر عليه من حشيش، أو غير ذلك(2).
فدل ذلك على ماقلناه، ولقوله هذا ما اشترطنا(3) الإمكان، ألا ترى أنَّه أباح للعريان أن يصلي إذا لم يجد الثوب.
والذي يدل على وجوب ستر العورة على المصلي، قول الله تعالى: {يَا بَنِيْ آدَمَ خُذُوا زِيْنَتَكُمْ عِنْدَ كُلَّ مَسْجِدٍ}[الأعراف: 31]، فاقتضى عمومه وجوب أخذ الزينة في حال الصلاة وغيرها، وإذ(4) قد ثبت بالاجماع أن أخذ كل زينة سوى الثياب لايجب، ثبت أن أخذها هو الواجب، و ـ أيضاً ـ تخصيصه بالمسجد دلالة على أن المراد به وجوب ستر العورة من الناس، وإلا لم يكن لتخصيصه بالمسجد معنى.
ويدل على ذلك قول الله تعالى: {وَثِيَابَكَ فَطَهِّرْ}[المدثر: 3]، وإذ قد ثبت وجوب تطهير الثياب، فقد ثبت وجوب لبسها في الصلاة، إذ لا يجب تطهير مالا يجب لبسه في الصلاة بالاتفاق.
ويدل على ذلك:
ما أخبرنا به أبو بكر المقرئ، حدثنا الطحاوي، عن ابن أبي داود، حدثنا عبيد الله(5) بن معاذ، [حدثنا أُبي](6)، حدثنا شعبة، عن توبة العنبري، عن نافع، عن ابن عمر، عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم أنَّه قال: (( إذا صلى أحدكم، فليأتزر، وليرتد )) فدل ذلك على وجوب ستر العورة في الصلاة(7).
__________
(1) ـ الأحكام 1/110.
(2) ـ سقطت هذه المسألة من (أ) و(ب).
(3) ـ في هامش (ب): لعل (ما) مصدرية ليستقيم الكلام.
(4) ـ في (أ): إذا.
(5) ـ في (أ): عبد الله
(6) ـ ما بين المعكوفين سقط من (ب).
(7) ـ أخرجه الطحاوي في شرح معاني الآثار 1/378.
وأخبرنا أبو بكر، حدثنا الطحاوي، عن ابن أبي داود، حدثنا زهير بن عباد، حدثنا حفص بن ميسرة، عن موسى بن عقبة، عن نافع، عن ابن عمر، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: (( إذا صلى أحدكم، فليستتر بثوب، فإن لم يكن ثوب، فليأتز إذا صلى ))(1). (15/2)
وأخبرنا أبو بكر، حدثنا الطحاوي، عن ابن أبي داود، حدثنا ابن قتيلة، حدثنا الدراوردوي، عن موسى بن محمد بن إبراهيم، عن أبيه، عن سلمة بن الأكوع، قال: قلت: يا رسول الله، إني أعالج الصيد، فأصلي في القميص الواحد؟ قال: (( نعم، وزره، ولو بشوكة )).
فقوله صلى الله عليه وآله وسلم: (( زره ولو بشوكة )) يدل على وجوب ستر العورة في الصلاة؛ إذ لا غرض فيه أكثر من أنَّه لا يأمن أن يبدو شيء من عورته عند الركوع والسجود، إن لم يزره.
ويدل على ذلك ـ أيضاً ـ ما رواه قتادة، عن ابن سيرين، عن صفية بنت الحارث، عن عائشة، أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، قال: (( لا يقبل الله صلاة حائض إلاَّ بخمار )). ومعناه التي بلغت الحيض.
وذكر أبو العباس الحسني رحمه الله تعالى أن القاسم عليه السلام روى هذا: (( لا يقبل الله صلاة امرأة بلغت المحيض إلاَّ بخمار )).
وذكر أبو بكر الجصاص في شرحه (لمختصر الطحاوي)(2)، روي عن أبي الزناد، عن الأعرج، عن أبي هريرة، أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، قال: (( لا يصلِّ أحدكم في ثوب واحد ليس على فرجه منه شيء )) والنهي يدل على فساد المنهي عنه، فثبت أن الصلاة تفسد إذا لم تستر العورة.
مسألة [ في بيان العورة ]
قال: والعورة مادون السرة إلى دون الركبة.
__________
(1) ـ أخرجه الطحاوي في شرح معاني الآثار بهذا السند 1/377 ـ 378 بلفظ آخر، هذا نصه: (( إذا صلى أحدكم فليلبس ثوبيه، فإن الله أحق من يزين له، فإن لم يكن له ثوبان فليتزر إذا صلى، ولا يشتمل أحدكم في صلاته اشتمال اليهود )).
(2) ـ في (أ): للطحاوي.
قال في (الأحكام)(1): "ولا يصلى في ثوب واحد حتى يكون سابغاً، ينحدر عن الركبتين"، وقال فيه: "إن ائتزر بمئزر فليرفعه إلى قرب السرة"، فظاهر كلامه في هذين الموضعين من (الأحكام) يقتضي أن العورة ما دون السرة إلى الركبة، وأن السرة عندنا ليست من العورة، والركبة من العورة، ولا أعرف خلافاً بين أهل العلم في أن السرة من الرجل ليست بعورة. (15/3)
وروي عن ابن عمر، عن أبي هريرة، قال للحسن عليه السلام: أرني الموضع الذي كان يقبل رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم منك؟ فكشف ثوبه، فقبل أبو هريرة سرته.
وأخبرنا أبو عبدالله النقاش، حدثنا الناصر، عن محمد بن منصور، عن واصل بن عبد الأعلى، عن يحيى بن آدم، عن الحسن بن صالح، عن عبدالله بن محمد بن عقيل، عن عبدالله بن جرهد الأسلمي، عن أبيه، عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال: (( الفخذ من العورة )).
فإذا ثبت أن الفخذ من العورة(2)، ثبت أن الركبة عورة؛ لأن الركبة مجتمع عظم الفخذ، وعظم الساق، فبعضها(3) إذاً من الفخذ، فوجب ستر جميعها؛ إذ لا سبيل إلى ستر بعضها.
وروى بن شعيب، عن أبيه، عن جده، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: (( كل شيء أسفل من سرته إلى ركبته عورة )).
وذكر ذلك أبو بكر الجصاص في كتابه، فدل ذلك على أن السرة ليست من العورة، ودل على أن الركبة من العورة لوجهين:
أحدهما: أنَّه صلى الله عليه وآله وسلم لو قال: كل شيء أسفل من سرته عورة، دل ذلك على أن جميع ما تحت السرة عورة، فلما قال: إلى الركبة، دل ذلك على أن ما عداها ليس من العورة.
والثاني: أن الحد قد يدخل في المحدود، وقد لا يدخل فيه، وكلا الأمرين يحتمل، فوجب تغليب جهة الحظر على جهة الإباحة؛ إذ الحظر أقوى من الإباحة.
مسألة [ في بيان عورة النساء ]
قال: فأما النساء، فيلزمهن ستر جميع أعضائهن خلا الوجه.
__________
(1) ـ الأحكام 1/110.
(2) ـ في (ب) و(ج): الفخذ عورة.
(3) ـ سقاط من (أ).
قال القاسم عليه السلام: لا بأس للأمة أن تصلي بغير خمار. (15/4)
قال يحيى بن الحسين عليه السلام: ويجزئ المرأة أن تصلي في رداء واحد غامر لرأسها وجسدها إذا لم تجد خماراً(1).
فدل ذلك على أنَّه يرى أن جميع أعضائهن عورة، واستثنى الوجه؛ لأنَّه قال في (الأحكام)(2) في كتاب النكاح: ولا بأس أن ينظر الرجل من المرأة التي يريد أن يتزوجها إلى ماليس بعورة منها، فلينظر إلى وجهها.
فدل ذلك على أن الوجه ليس من العورة عنده.
قال أبو العباس الحسني رحمه الله في (النصوص): كلها عند القاسم عليه السلام عورة غير الوجه، والكف، والقدمين، ويمكن أن يخرج قول يحيى عليه السلام على ذلك، وكان الظاهر ما ذكرناه، على أن القاسم عليه السلام قال في (مسائل النيروسي): إذا لم تجد المرأة ما تختمر به، صلت، واجتزت بثوب واحد إذا سترت شعرها وقدميها.
فدل على أن القدمين عنده من العورة، وهو المأخوذ به.
والذي يدل على ذلك ما رواه أبو العباس عليه السلام في (شرح الأحكام)، يرفعه إلى أم سلمة، أنها سألت رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، أتصلي المراة في درع وخمار، ليس عليها إزار؟ قال: (( نعم. إذا خمرت الذراع والقدمين )) فدل ذلك على وجوب ستر القدمين.
وقوله صلى الله عليه وآله وسلم: (( لا يقبل الله صلاة حائض إلاَّ بخمار )). يدل على ستر الشعر.
وروي ـ أيضاً ـ عن أم سلمة أنها قالت: لرسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: إني امرأة إطيل ذيلي في الصلاة، فأمرها بإطالته شبراً.
فدل ذلك أيضاً على وجوب ستر القدمين.
فأما الوجه فلا خلاف في أنَّه ليس من العورة، ألا ترى أن المحرمة يجب عليها كشفه، والمسلمون قد أجمعوا على أن من أراد أن يتزوج بامرأة، جاز له النظر إلى وجهها، وكذلك يجوز ذلك للشهادة عليها.
__________
(1) ـ انظر الأحكام 1/110,
(2) ـ انظر الأحكام 1/364.
قال: فأما الكف، فلا أحفظ عن أحد من أئمتنا عليهم السلام نصاً في إيجاب سترها، فليس يبعد أن يكون حكمها حكم الوجه، وقد قيل في تفسير قوله تعالى: {إِلاَّ مَاظَهَرَ مِنْهَا}[النور: 31]، الكحل والخاتم، فدل ذلك على أن الكف بمنزلة الوجه، وأما سائر أعضاء المرأة فلا خلاف في أنها عورة. (15/5)
مسألة: [في عورة الأمة] (1)
قال القاسم عليه السلام: لابأس للإمة أن تصلي بغير خمار، وذلك منصوص عليه في (مسائل النيروسي)، وقال أبو العاباس في النصوص: فأما الأمة فكالرجل عند القاسم عليه السلام، والأصل أن للأجنبي أن ينظر إلى شعرها، ويروى أن عمر كان يقول للإماء: إكشفن رؤوسكن، ولا تشبهن بالحرائر. فصار حكم شعورهن حكم شعر الرجل، فوجب أن لا يكون عورة، على أن من يريد أن يشتريها يجوز أن ينظر إلى ذراعها وصدرها، فلم يبعد أن تكون عورتها مثل عورة الرجل.
مسألة [ وندب ستر الهبرية والمنكب والظهر والصدر]
قال: ويستحب للرجل أن يستر هبريته ومنكبيه، وظهره وصدره في الصلاة، ولا بأس بالصلاة في الثوب الواحد إذا كان صفيقاً، وستر جميع ما يجب ستره للرجال والنساء.
وكل ذلك منصوص عليه في (الأحكام)(2).
والوجه ما قدمنا ذكره من قول النبي صلى الله عليه وآله وسلم: (( من صلى، فليلبس ثوبيه )).
وقوله صلى الله عليه وآله وسلم: (( من صلى فيأتزر، وليرتد )).
وقوله صلى الله عليه وآله وسلم لسلمة بن الأكوع حين قال: أصلي في قميص واحد؟ قال: (( نعم وزره ولو بشوكة )). فدل قوله: (( وليلبس ثوبيه، وليرتد، وليأتزر ))، على أنَّه يستحب ستر ما ذكره يحيى عليه السلام.
__________
(1) ـ انظر الأحكام 1/122.
(2) ـ انظر الأحكام 1/110.
وأخبرنا أبو بكر، حدثنا الطحاوي، حدثنا عبدالرحمن بن عمر الدمشقي، حدثنا أبو نعيم، حدثنا فطر بن خليفة، عن شرحبيل بن سعد، حدثنا جابر أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، كان يقول: (( إذا اتسع الثوب فاعطفه على عاتقك، فإذا ضاق فأتزر به، ثُمَّ صل )). فدل ذلك ـ أيضاً ـ على أن ستر ما ذكرنا مستحب. (15/6)
وروي عن أبي هريرة، عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم، أنَّه قال: (( إذا صلى أحدكم في ثوبه، فليجعل على عاتقه منه شيئاً ))(1).
مسألة [في الصلاة في الحرير والقز والمشبع صبغاً]
قال: ولا يجوز للرجل الصلاة في الحرير المحض والقز، إلاَّ أن يكون ما سواهما غالباً عليهما، وكذلك الثوب المشبع صبغاً.
وهذا منصوص عليه في (الأحكام)(2).
قال في (المنتخب)(3): يجوز ذلك إذا كان نصفه حريراً، ونصفه قطناً.
ووجه كراهة ذلك ما ورد من النَّهي في الآثار للرجال عن لبسه، فلما ثبت كره الصلاة فيه، وشدد(4) في (المنتخب)، وقال: "لا تجوز الصلاة فيه"(5).
فأما إذا لم يكن حريراً محضاً فإنَّه لم يكرهه؛ لما ورد في الآثار في إجازة اليسير منه كالعلم ونحوه، وما نقلت عن الصحابة، وأفاضل أهل البيت عليهم السلام من لبس الخزّ.
وكذلك الثوب المشبع صبغاً كرهه، لما ورد من النهي عن لبسه للرجال، وسنذكر هذه الأخبار بأسانيدها ونوضح ما يجب إيضاحه منها في كتاب اللباس، إن شاء اللّه تعالى.
مسألة [ في الصلاة في جلود الخز ]
قال: وتكره الصلاة في جلود الخز.
__________
(1) ـ أخرجه الطحاوي في شرح معاني الآثار 1/382، إلا أنه قال: حدثنا أبو زرعة، حدثنا عبد الرحمن بن عمر، والدمشقي.
(2) ـ انظر الأحكام 1/131.
(3) ـ انظر المنتخب ص122.
(4) ـ في (ب) و(ج): وشدده.
(5) ـ المنتخب ص122.
وقال في (الأحكام)(1): "وأكره الصلاة في الخز لأني لا أدري ما هو، وما(2) ذكاه دوابه، ولا(3) أمانة عماله، وأخاف أن يكونوا يجمعون فيه بين المذكى والميتة(4). وقال في (المنتخب)(5): "ولا أحب الصلاة في الخز لأني لا آمن أن يكون أصله ميتة". (15/7)
فدل هذا الكلام على أن المراد(6) جلود الخز دون وبره؛ إذ قد نص هو، والقاسم عليهما السلام على طهارة شعر الميتة، وصوفها، ووبرها إذا غسل.
ووجه كراهته(7) ما ذكرنا من أنَّه لا يأمن أن يكون ميتة. وقد بينا فيما تقدم أن جلود الميتة لا تطهر بالدباغ.
فإن قيل: فيلزمكم هذا في كل جلد لم تعلموا فيه أنَّه بعينه مذكى، وهذا يوجب أن تكره الصلاة في جميع الجلود التي لم تعلموا حالها.
قيل له: هذا ليس بواجب؛ لأن الأغلب في الجلود التي يتبايعها المسلمون، وتكون في بلد الإسلام أنها جلود المذكى فيكون الحكم للغالب، وليس كذلك حال جلود الخز عنده؛ لأنَّه لم يتحقق أن أصلها يكون في بلد الإسلام، فلم يجد ما يرجح به طهارته كما وجد في سائر الجلود التي يكون أصلها في بلد الإسلام، فأما وبر الخز، فقد بينا مذهبه فيه، وإن كان وبر الميتة، وقد دللنا فيما مضى على طهارة صوف الميتة، وشعرها، ووبرها إذا غسل، فلا طائل في إعادته، على أن لبس الخز بين المسلمين ظاهر، وليس يبعد أن يقال فيه إنَّه إجماع، بل هو الظاهر من حاله.
وأخبرنا أبو بكر المقرئ، حدثنا الطحاوي، حدثنا علي، حدثنا فهد، حدثنا أبو نعيم، حدثنا إسماعيل بن إبراهيم بن المهاجر، قال: سمعت أبي يذكر عن الشعبي، قال: كان على الحسين بن علي عليه السلام عمامة خز.
__________
(1) ـ الأحكام 1/131.
(2) ـ في (أ): ولا ما.
(3) ـ في (أ): ولا ما.
(4) ـ في (ب) و(ج): بين الميت والذكر.
(5) ـ المنتخب ص122.
(6) ـ في (ب) و(ج): المراد به.
(7) ـ في (أ) وهامش (ب): كراهة.
وأخبرنا أبو بكر، حدثنا الطحاوي، حدثنا علي، حدثنا أبو نعيم، حدثنا يونس بن أبي إسحاق، عن العيزار بن الحارث، قال: رأيت على الحسين عليه السلام مطرف خز. (15/8)
وروى الطحاوي يرفعه إلى وهب بن كيسان، قال: رأيت سعد بن أبي وقاص، وأبا هريرة، وجابر بن عبد الله، وأنس بن مالك يلبسون الخز.
وروي أن علي بن الحسين عليه السلام كان يلبس الخز في الشتاء، فإذا جاء الصيف باعه، وتصدق بثمنه، وقال: أكره أن آكل ثمن ثوب أعبد اللّه فيه.
مسألة [ في الصلاة في جلد الميتة ]
قال: ولا تجوز الصلاة في جلود الميتة. وإن دبغت، ولا جلود مالا يؤكل لحمه، على وجه من الوجوه، فأما شعر الميتة وصوفها، فلا بأس بالصلاة فيهما بعد الغسل والإنقاء.
وكل ذلك منصوص عليه في (الأحكام)(1)، وقد مضى القول فيه بأتم بيان في كتاب الطهارة، فلا وجه لإعادته.
مسألة [ وتجب طهارة مكان المصلي ولبسَه ]
قال: ويجب على كل مصلٍ أن يطهر ما يلبسه في الصلاة، ويصلي عليه من كل نجس.
وذلك منصوص عليه في (الأحكام)(2).
والدليل على ذلك قول اللّه سبحانه: {وَثِيَابَكَ فَطَهِّرْ}[المدثر:3]، فأوجب تطهير الثياب، ولا خلاف في أنَّه لا يجب تطهيرها على من لم يرد الصلاة فيها، فثبت أنَّه يجب للصلاة.
ويدل على ذلك قول اللّه تعالى: {إِنَّمَا الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ..} الآية[المائدة:90]، فأمر عزَّ وجل بتجنب(3) الرجس على كل وجه من جميع الأحوال لعموم اللفظ، فوجب على المصلي اجتنابه، ويدل على ذلك الأخبار التي ذكرناها في كتاب الطهارة، منها:
__________
(1) ـ انظر الأحكام 2/413 ـ 414.
(2) ـ انظر الأحكام 1/131.
(3) ـ في (أ): باجتناب.
حديث ابن عباس أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم مرّ بقبرين فقال: (( إنهما ليعذبان، وما يعذبان في كبير(1)، أما أحدهما فكان لا يستنزه ـ أو لا يستتر ـ من بوله، والآخر كان يمشي بالنميمة )). ولا يجوز أن يعذب الإنسان على ترك شيء، إلاَّ إذا كان واجباً، ولا خلاف أنَّه لا يجب لغير الصلاة، فثبت أنَّه يجب للصلاة. (15/9)
ومنها: حديث عمار بن ياسر، قال: مرّ بي رسول اللّه صلى الله عليه وآله وسلم، وأنا أغسل ثوبي من نخامة، فقال: (( إنما تغسل ثوبك من البول، والغائط، والمني، والقيء )).
وقال صلى الله عليه وآله وسلم في دم الحيض: (( حتيْه، ثم اقرصيه، ثم اغسليه بالماء ))، فكل ذلك يدل على وجوب تطهير الملبوس، ولا يجب لغير الصلاة، فثبت وجوبه لها.
فأما ما يصلى عليه، فقد مضى فيما تقدم وجوب تطهيره، وبينا أن حكم ما يصلى عليه، وما يصلى فيه بالإتفاق واحد في ملاقاة الجسد، فيجب أن يكون حكمها حكماً واحداً، وقوله تعالى: {إِنَّمَا الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ..} الآية[المائدة:90]، يوجب اجتنابها من كل وجه، ومن ذلك اجتنابها أن يكون في موضع الصلاة، وقد مضى فيه ما لا وجه لإعادته.
مسألة [ في نجاسة ما خرج من السبيلين ]
قال: وكل ما خرج من السبيلين من مني، أو مذي، أوغيرهما، فهو نجس يجب تطهير الملبوس، والمصلى عليه، من قليله وكثيره.
وقد نص القاسم عليه السلام على نجاسة المني في (مسائل النيروسي).
__________
(1) ـ في (ب): كبير بهما.
ودل كلام يحيى عليه السلام في (المنتخب)(1) على نجاسة المذي، حين يقول: من انتقض طهوره من سيل الدمل أو الرعاف أو القيء أو الريح، أو المذي، أو الدود، أو ما أشبه ذلك، أعاد منه الطهور من أوله، فاقتضى كلامه الابتداء، بتطهير موضعه، على أن تصريحه بأنه ينقض الطهارة في (الأحكام)(2) كالتصريح بتنجيسه؛ لأنَّه لا مذهب إلاَّ مذهب من يرى أنَّه لا ينقض الطهارة، وأنه غير نجس، وهم طائفة من الإمامية، أو مذهب من يروي أنه ينقض الطهارة وأنه نجس. (15/10)
والذي يدل على نجاسة المني: ما روى ابن المسيب، عن عمار، قال: مر بي رسول اللّه، وأنا أسقي راحلتي، فتنخمت، فأصابتني نخامتي، فجعلت أغسل ثوبي، فقال رسول اللّه صلى الله عليه وآله وسلم : (( ما نخامتك ودموع(3) عينيك إلاَّ بمنزلة واحدة، إنما تغسل ثوبك من البول، والغائط، والمني ـ وهو الماء الغليظ ـ، والدم، والقيء )). ففصل صلى الله عليه وآله وسلم بين ما يجب أن يغسل الثوب منه، وبين ما لا يجب، وإذا ثبت أن المني مما يجب أن يغسل منه الثوب، ثبت أنَّه نجس.
وروي عن عائشة قالت: قال(4) رسول اللّه صلى الله عليه وآله وسلم: (( إذا رأيت المني يابساً، فحتيه، فإن كان رطباً، فاغسليه )). والأمر بالغسل يقتضي إيجابه، وهذان الحديثان ذكرهما الجصاص في شرحه بإسناديهما.
فإن قيل: قوله صلى الله عليه وآله وسلم: (( إذا كان يابساً، فحتيه )). يدل على أنَّه غير نجس؛ إذ النجس لا يقتصر فيه على الحت عندكم.
قلنا: قد ثبت أنَّه نجس بقوله: (( اغسليه )). وقوله: (( إذا كان يابساً، فحتيه )) معناه: حتيه مع الغسل؛ لأنَّه إذا كان يابساً، احتاج إلى الحت مع الغسل ليزول، فكأنه صلى الله عليه وآله وسلم قال: إن كان يابساً، فحتيه، وإن كان رطباً، فاقتصري به على الغسل، وترك لفظة الغسل مع الحت تعويلاً على ما نبه عليه.
__________
(1) ـ انظر المنتخب ص27.
(2) ـ انظر الأحكام 1/52.
(3) ـ في (أ): ودمع.
(4) ـ في (ج): قال لي.
وربما تعلق المخالف لنا بما روي عن ابن عباس، عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم، أنَّه سئل عن المني يصيب الثوب؟ فقال: (( أَمطه عنك باذخرة، إنما هو كمخاط(1)، أو بصاق )).. فلا دليل لهم فيه، بل فيه دليل لنا من وجه، وهو أنَّه صلى الله عليه وآله وسلم لما أمر(2) بإماطته، ثبتت نجاسته؛ لأن إماطة ما ليس بنجس لا تجب، وأمره صلى الله عليه وآله وسلم يقتضي الإيجاب، وقوله: (( بإذخرة )) وحدها لا يمكن إماطة جميعه، ومن أماط بعضه لا يكون أماطه. (15/11)
وقوله: (( إنما هو(3) كمخاط، أو بصاق ))، أراد في لُزُوجَتِهِ وشدَّة لصوقته بالثوب، وأنه يحتاج لإزالته إلى فضل(4) معالجة، على أن الحديث قد قيل فيه: إنَّه ضعيف، وقد قيل فيه: إنَّه موقوف على ابن عباس.
ومما يدل على ذلك أنَّه مائع يجري مجرى النجاسة، ولا يخرج إلاَّ مع أجزاء من النجاسة، فلو وجب كونه طاهراً في الأصل، لصار نجساً؛ بجريه مجرى(5) النجاسة.
وقد اعترض هذا الدليل بقوله تعالى: {مِنْ بَينِ فَرْثٍ وَدَمٍ لَبَناً خَالِصاً} [النحل:66]، فقالوا: قد أخبر اللّه تعالى أن اللبن يخرج من بين فرث ودم وهما نجسان.
قيل لهم: ذلك غلط، وذلك لا يمتنع أن يكون بين الدم وبينه حائل، والآية لا تدل على أنَّه لا حائل بينهما، على أن ذلك لو ثبت في اللبن، لم يثبت في المني؛ لأنا لا ندعي أن نجاسة ما يجري في مجرى النجاسة عقلاً، فيفسدوا قولنا إذا بين خلافه في موضع من المواضع.
ومما يدل على ذلك من طريق القياس أنَّه سائل من الجسد ناقض للطهارة، فوجب أن يكون نجساً قياساً على البول والغائط، وإن شئنا عللناه بأن نقول: إنَّه خارج من السبيلين، ويمكن أن يقاس على المذي بعلة أنَّه خارج من الذكر للشهوة، ويمكن أن يقاس على دم الحيض بعلة أن خروجه يوجب الغسل.
__________
(1) ـ في (أ): مخاط.
(2) ـ في (أ): أمرنا.
(3) ـ سقط من (أ): إنما هو.
(4) ـ سقط من (أ): فضل.
(5) ـ في (ب) و(ج): في مجرى.
فإن قاسوه على اللبن بعلة أنَّه خارج من الجسد تثبت به الحرمة، فيجب طهارته، كان الوصف غير مسلَّم في المني؛ لأن شيئاً من الحرمة لا تثبت به؛ لأنها إما أن تثبت بالوطء أو بما يخلق من المني، فأما بنفس المني، فلا تثبت حرمته، على أن العلة إن صحت، فعلتنا أولى؛ لأنها حاظرة؛ ولأن المني ـ بما ذكرنا ـ أشبه منه باللبن. (15/12)
فأما من استدل منهم بقول اللّه تعالى: {وَلَقَدْ كَرَّمْنَا بَنِي آدَمَ..}الآية [الإسراء:70]، فقال: تكريمهم يقتضي أنهم مخلوقون من طاهر، فقد أبعد؛ لأن ذلك لا يفهم منه على وجه من الوجوه، ومعناه: كرمناهم بالتكليف والتمكين من استحقاق الثواب العظيم، وما يسر لهم من الأحوال التي لم تيسر لغيرهم من الحيوانات، وما يسخر(1) لهم من سائر الحيوانات وغيرها، على أنَّه لا فضل بينهم وبين من استدل لنجاسة المني بقوله تعالى: {أَلَمْ نَخْلُقْكُمْ مِنْ مَاءٍ مَهَيْنٍ}[المرسلات:5]، فلإن كان التكريم يقتضي الطهارة، فالإهانة تقتضي التنجيس.
فإن قيل: روي عن عائشة أنها أضافت رجلاً، فأعطته قطيفة، فاجتنب فيها، فغسلها ثم ردها عليها، فقالت: أفسد علينا ثوبنا، لقد كنت أفرك المني من ثوب رسول اللّه صلى الله عليه وآله وسلم، لا أزيد على ذلك، فدل على أنَّه طاهر؟
__________
(1) ـ في (أ): سخر.
قيل له: لا يمتنع أن تكون عائشة أنكرت غسل القطيفة كلها وترك الإقتصار على غسل موضع المني منها، أو أنكرت ذلك في غسل القطيفة كلها خاصة؛ لأن الغالب منها أنها لا تصلي فيها وأنها تكون للنوم فيها، وما يكون خاصاً للنوم لا يؤتى فيه هذه الأشياء للمشقة؛ ولأن العادة كالجارية بذلك، ويجوز أن يكون قولها: كنت أفركه من ثوب رسول اللّه صلى الله عليه وآله وسلم، لا أزيد على ذلك. أرادت به من ثوبه الجاري مجرى القطيفة، على أنَّه يحتمل أن تكون أرادت أنها كانت تفركه مع الغسل، وقولها: لا أزيد على ذلك، أي على موضع النجاسة، وعلى هذا التأويل يجوز أن يكون إنكارها لغسل جميعها من غير فرك. (15/13)
يدل على صحة ما قدمنا من التأويل:
ما أخبرنا به أبو بكر المقرئ، حدثنا الطحاوي، حدثنا يونس بن حسان، حدثنا عبدالله بن المبارك، وبشر بن المفضل، عن عمرو بن ميمون، عن سليمان بن يسار، عن عائشة، قالت: كنت أغسل المني من ثوب رسول اللّه صلى الله عليه وآله وسلم، فيخرج إلى الصلاة، وإنَّ بقع الماء لفي ثوبه(1).
فبان أنها كانت تغسله من الثوب الذي كان رسول اللّه يصلي فيه، وتفركه من الثوب الذي كان ينام عليه وفيه.
فإن قيل: روي عنها أنها قالت: كنت أفركه يابساً بأصبعي، ثم يصلي فيه، ولا يغسله.
قيل له: ليس هذا فيه أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قد عرف ذلك، وصلى فيه، فلا متعلق به.
__________
(1) ـ أخرجه الطحاوي في شرح معاني الآثار 1/49 ـ 50, وفيه: حدثنا يونس قال: حدثنا يحيى بن حسان، حدثنا عبد الله بن المبارك ..إلخ.
وأبو حنيفة موافق في تنجيسه، ويذهب إلى أن اليابس منه يذهب بالفرك دون الغسل، وذلك بعيد؛ لأن الفرك يزيل بعضه دون كله؛ لأنَّه لا خلاف في أن سائر النجاسات لا يجوز أن تزال بالفرك ليبسها، وقد بينا تأويل ما ورد من ذكر الفرك، وأن المراد به التنقية والمبالغة في الغسل، أو يكون(1) هذا في الثياب التي لا يصلي فيها، وهذا مذهب جميع أهل البيت عليهم السلام. (15/14)
فأما(2) المذي، فطائفة من الإمامية تذهب إلى أنَّه طاهر، وعامة ما قدمنا ذكره من الاستدلال، والمقاييس لنجاسة المني يجوز أن يعتمد عليها لنجاسته، وورد فيه:
ما أخبرنا به أبو بكر المقرئ، حدثنا الطحاوي، حدثنا إبراهيم بن أبي داود، حدثنا أمية بن بسطام، حدثنا يزيد بن زريع(3)، حدثنا روح بن القاسم، عن أبي نجيح، عن عطاء، عن إياس بن خليفة، عن رافع بن خديج أن عليّاً عليه السلام أمر عماراً أن يسأل رسول اللّه صلى الله عليه وآله وسلم عن المذي، فقال: (( يغسل مذاكيره، ويتوضأ ))(4).
وأخبرنا أبو بكر، قال: أخبرنا(5) الطحاوي، حدثنا محمد بن خزيمة، حدثنا عبدالله بن رجاء، قال: أخبرنا زائدة بن قدامة، عن حصين، عن أبي عبد الرحمن، عن علي، قال: كنت رجلاً مذاءً، وكانت عندي ابنة رسول اللّه صلى الله عليه وآله وسلم، فأرسلت إلى رسول اللّه صلى الله عليه وآله وسلم فقال: (( توضأ، واغسله ))(6).
فدل هذان الحديثان على نجاسته؛ لإيجاب النبي صلى الله عليه وآله وسلم غسله.
مسألة [ في نصاب الدم النجس ]
قال: فأما الدم فيجب، إزالته إذا كان قَدراً لو كان على رأس جرح، قطر، فلو كان دون ذلك لم يجب إزالته.
__________
(1) ـ في (أ): أو أن يكون.
(2) ـ في (أ): وأما.
(3) ـ في (أ): يزيد بن ذريع.
(4) ـ أخرجه الطحاوي في شرح معاني الآثار 1/45. وفيه: عن ابن أبي نجيح.
(5) ـ في (أ): حدثنا.
(6) ـ أخرجه الطحاوي في شرح معاني الآثار 1/46. وفيه: عن أبي حصين.
وهذا منصوص عليه في (الأحكام)(1)؛ لأن الناس اختلفوا فيما فوق(2) ذلك، فأما دون(3) ذلك، فلم يختلفوا فيه، وإن كانت عبارتهم عنه مختلفة، فمنهم من قال: إذا كان مثل رؤوس الإبر، ومنهم من قال: إذا كان مثل دم البراغيث، وكل ذلك يرجع إلى معنى واحد، أو متقارب. (15/15)
ويدل على ذلك قول اللّه تعالى: {أَوْ دَماً مَسْفُوحاً}، فأخبر بأنه(4) نجس بعدما وصفه بأنه مسفوح، ويؤكد ذلك تعذر الإحتراز منه، والمشقة الغالبة فيه. ويدل على ذلك:
ما أخبرنا به محمد بن عثمان النقاش، حدثنا الناصر، عن محمد بن منصور، حدثنا أحمد بن عيسى، عن حسين(5)، عن أبي خالد، عن زيد بن علي، عن آبائه، عن علي عليهم السلام، قال: خرجت مع رسول اللّه صلى الله عليه وآله وسلم، وقد تطهر للصلاة، فأمس إبهامه أنفه، فإذا دم، فأعاد مرة أخرى، فلم يرَ شيئاً، وجف ما في إبهامه، فأهوى بيده إلى الأرض، فمسحها، ولم يحدث وضوءاً، ومضى إلى الصلاة.
ألا ترى أنه لما كان يسيراً لا يسيل، لم يغسل منه يده، ولا أنفه، فبان بأنه معفو عنه.
مسألة [في المبتلى بسلس البول وسيلان الجروح]
قال: ومن ابتلي بشيء مما ذكرنا، فليغسل ثوبه مما أصابه منه، فإن كان شيئاً لا ينقطع وقتاً من الأوقات، فلا ضير عليه في تركه، ولا يستحب له أن يتركه في ثوبه أكثر من يوم وليلة، إلاَّ أن يشق ذلك عليه، فيعذر في تركه يومين أو ثلاثة، على قدر ما يمكنه، وإن أمكنه ثوب غيره، عزله لصلاته.
وذلك كله منصوص عليه في (الأحكام)(6)، وقد تقدم الكلام في إيحاب غسله عن الثوب إذا أراد الصلاة فيه.
__________
(1) ـ انظر الأحكام 1/52.
(2) ـ في (أ) و(ب): فيها دون.
(3) ـ في (أ) و(ب): فأما فوق.
(4) ـ في (أ): أنه.
(5) ـ في (ج): عن حسين بن علوان.
(6) ـ انظر الأحكام 1/65.
فأما ما ذكرنا من أنَّه إن كان شيئاً لا ينقطع وقتاً من الأوقات، فلا ضير في تركه، فالأصل فيه الحديث الذي ذكرناه بإسناده في باب الاستحاضة، وهو(1): أن فاطمة بنت أبي حبيش لما قالت: يا رسول الله، إني أستحاض فلا ينقطع عني الدم، أمرها أن تدع الصلاة أيام أقرائها ثم تغتسل(2)، وتتوضأ لكل صلاة، وتصلي، وإن قطر الدم على الحصير قطراً، فوجب أن يكون سبيل سائر النجاسات إذا لزمت صاحبها سبيل دم الاستحاضة؛ ولأن خلافه غير مقدور عليه، فلا يجوز أن يؤمر به. (15/16)
وأما ما ذكرناه من التقديرات، فلم نذكرها على القطع، وإنما ذكرناها على التقريب.
والأصل فيه أنَّه يجب على الإنسان أن يحتاط ويزيل منه ما أمكنه؛ لأنه وإن عذر فيما يتعذر، فغير معذور فيما يمكن، ولا يتعذر، وذِكْرُنا ثلاثة أيام إنما هو لأن الغالب أن الإنسان يمكنه فيها تبديل ثوبه، فإن تعذر، كانت الثلاثة الأيام كاليومين، وكانت الأربعة كالثلاثة، في أن الإنسان يكون معذوراً فيها، إلاَّ أن يتمكن.
مسألة [ في حكم الآثار الباقية بعد الغسل ]
قال القاسم عليه السلام: ولا بأس بالآثار الباقية عن الأقذار في الثوب، بعد إبلاء العذر في إزالتها.
وهذا منصوص عليه في (مسائل النيروسي) في دم الحيض.
ووجه ذلك أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم، قال في دم الحيض: (( حتيه، ثم اقرصيه بالماء )).
وقال لعمار: (( إنما تغسل ثوبك من البول، والغائط، والمني، والدم، والقيء ))، وفيها ما تبقى آثاره، فلم يذكرها النبي صلى الله عليه وآله وسلم، وإنما اقتصر على ذكر القرص، والحت، والغسل، فبان أن الواجب ما ذكره عليه السلام دون ما سواه.
وروي عنه صلى الله عليه وآله وسلم أنَّه قال في دم الحيض حين أمر بغسله فلم يذهب أثره: (( الطخيه بزعفران )). فبان أن الأثر معفوٌّ عنه.
مسألة [ كيف يصلي العريان ]
__________
(1) ـ سقط من (أ): وهو.
(2) ـ سقط من (ب)، و(ا): ثم تغتسل.
قال: ومن ابتلي بالعرى صلى جالساً متربعاً، ويستر عورته بالحشيش، أوالتراب، أو ما أمكنه، فإن لم يجد شيئاً منها، سترها بيده يومئ إيماء كإيماء المريض، ولا يستقل من الأرض استقلالاً يبدي عورته. (15/17)
وهذا منصوص عليه في (الأحكام)(1).
والوجه فيه: أن المصلي أُخذ عليه القيام، وستر العورة، وهما فرضان، ولا بد للعريان من ترك أحدهما بصاحبه، فكان ترك القيام أولى من ترك ستر العورة؛ إذ وجوب ستر العورة أقوى وأوكد من وجوب القيام، ألا ترى أن له ترك القيام في النفل إلى القعود مع القدرة على القيام، وليس له أن يترك ستر العورة مع القدرة عليه، ولأن ستر العورة مأخوذ عليه في جميع الصلاة من أولها إلى آخرها، ولأنه ليس له تركه في عامة أحواله، وإن لم يكن مصلياً، ولأن القيام يترك إلى بدل، وليس يترك ستر العورة إلى بدل، فكانت هذه الوجوه كلها دالة على أن فرض ستر العورة أوكد من فرض القيام، فإذا ثبت ذلك، صح ما اختاره يحيى بن الحسين عليه السلام من الصلاة قاعداً للعريان.
وليس لأحد أن يقول: إن العريان قادر على القيام، عاجز عن ستر العورة، فليس له أن يترك القيام لعجزه عن غيره؛ لأنا قد بينا أنَّه لا بد له من ترك أحدهما بصاحبه.
يوضح ذلك أنَّه إذا قعد، يمكنه من ستر عورته ما لا يمكنه إذا قام.
فإن قيل: لا معنى لترك ثلاث فرائض التي هي: القيام، والركوع، والسجود، لفرض واحد الذي هو ستر العورة.
قيل له: نحن قد بينا أن ستر العورة أوكد في كل حال من هذه الفرائض التي ذكرتها، ألا ترى أن ستر العورة مأخوذ عليه في جميع الصلوات، بل في عامة الأحوال، وليس كذلك القيام، ولا الركوع، ولا السجود، وكل واحد من هذه الفروض متروك إلى بدل، وليس كذلك ستر العورة، فبان أنَّه أوكد منها.
مسألة [ كيف يصلي الواقف في الماء ]
__________
(1) ـ انظر الأحكام 1/122.
قال: والواقف في الماء يصلي قائماً إن كان الماء كثيراً، أو قاعداً إن كان يسيراً، يومئ في كل ذلك للركوع، والسجود، وإن كانت العُراة جماعة، وأراد(1) أحدهم أن يؤمهم، قعد الإمام بينهم، واصطفَّ العراة عن يمينه ويساره، وكذلك يفعل الوقوف في الماء إن أراد أحدهم أن يؤمهم، إذا كان الماء صافياً لا يستر عوراتهم، وإن كان(2) كدراً يسترها، تقدمهم الإمام. (15/18)
وكل ذلك منصوص عليه في (الأحكام)(3).
ووجه ما ذكرناه من صلاة الواقف في الماء، إذا لم يجد يبساً؛ لأنه لا يتمكن إلاَّ بما ذكرنا، فسبيله سبيل العليل أنَّه كلما تعذر عليه ركن من أركان الصلاة، تركه إلى ما يمكن، كنحو من يعجز عن القيام إنَّه يصلي قاعداً، ومن(4) عجز عن الركوع والسجود، أومأ، وكذلك الواقف في الماء.
ووجه وقوف الإمام وسط المؤتمين هو: أن ذلك أستر لعورته، وأبعد من أن يقع عليها بصر، وقد بينا أن ستر العورة أوكد من القيام في الصلاة، وكذلك يجب أن يكون مراعاته أوكد من مراعاة الموقف، على أنَّه قد ورد عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم أن المرأة إذا أمَّت النساء، وقفت وسطهنَّ، فدل ذلك على صحة ما ذهبنا إليه في العراة؛ لأن الغرض في النساء في ذلك أنَّه أمنع من وقوع أبصار المأمومات على مؤخر الآمه، وهذا هو الوجه في موقف إمام العراة في الماء إذا كان صافياً، فأما إذا كان كدراً يستر العورة، فيتقدم الإمام؛ لأن الماء يحجز الأبصار عن إدراك عورته، فلا غرض في تغيير الموقف.
مسألة [ في بيان ما يسجد عليه ]
قال: ويستحب للمصلي أن يضع جبهته على الحضيض، أو على ما أنبتت الأرض، ويكره السجود على المسوح واللبود، إلاَّ أن تدعو الضرورة إلى ذلك.
__________
(1) ـ في (أ): فأراد.
(2) ـ في (ج): وإن كان الماء.
(3) ـ انظر الأحكام 1/122.
(4) ـ في (أ): أو من.
وهذا منصوص عليه في (الأحكام)(1). وذكره ـ أيضاً ـ في (المنتخب)(2)، وأكده حتى قال: ولا أحب الصلاة على اللبود وبسط الشعر والوبر. (15/19)
والوجه في ذلك: حديث زيد بن علي، عن آبائه، عن علي عليهم السلام، قال: قال رسول اللّه صلى الله عليه وآله وسلم: (( جُعلت لي الأرض مسجداً، وترابها طهوراً )). فاستحب للإنسان أن يسجد ويصلي على ما جعله اللّه مسجداً من الأرض، ولا خلاف أن ما أنبتت الأرض في هذا الباب حكمه حكم الأرض، فلذلك قال: أو على ما أنبتت الأرض، فإذا ثبت أن ذلك مستحب، كره العدول عنه إلى المسوح واللبود إذا لم يكن ضرورة؛ لأنَّه عُدولٌ عن المستحب في العبادة لا لغرض.
مسألة [ في الصلاة على ما فيه تمثال حيوان ]
قال: وتكره الصلاة على البسط التي عليها تماثيل الحيوان.
وهذا منصوص عليه في (المنتخب)(3).
والوجه في ذلك ما ذكرناه في باب الاستقبال من الأخبار الواردة عن النبي صلى الله علي وآله وسلم في كراهة التماثيل، فلا طائل في إعادتها.
__________
(1) ـ انظر الأحكام 1/132.
(2) ـ انظر المنتخب ص37.
(3) ـ انظر المنتخب ص37.
باب القول في صفة الصلاة وكيفيتها (16/1)
فرض الصلاة:
[مسألة في ] النية، وتكبيرة الإفتتاح
قال في (المنتخب)(1): ينبغي لمن أراد الصلاة أن ينوي قبل التوجه لها، وإن لم يفعل، كانت النية المتقدمة مجزئة. فكان ذلك تصريحاً بإيجابها.
وحكى أبو العباس الحسني رحمه الله، عن القاسم عليه السلام أنَّه قال: يجب أن ينويها قبل أن يقوم إليها.
قال يحيى بن الحسين عليه السلام في (المنتخب)(2): لا خلاف أنَّه من ترك التكبيرة الأولى أن صلاته باطلة.
وقال ـ أيضاً ـ فيه(3): من سهى عن التكبير كله، فصلاته باطلة، ومن نسي بعض التكبير سجد سجدتي السهو، ولا إشكال أن سائر التكبيرات غير واجب، فإذا الواجب هو التكبيرة الأولى.
واعلم أنَّه لا خلاف في النية في الصلاة؛ ولأنها عبادة مقصودة بنفسها تقع على وجوه مختلفة، فلا بد فيها من النية، وقد شرحنا هذا الباب في مسألة النية في الطهارة.
واختلف الناس فيها، فمنهم من رأى أنها تجب أن تكون مخالطة للتكبيرة، ومنهم من أجاز أن تكون متقدمة عليها.
والدليل على جواز تقدمها قول النبي صلى الله عليه وآله وسلم : (( الأعمال بالنيات، وإنما لامرئ ما نوى ))، فاقتضى ظاهر الخبرين أن النية والمنوي متى وقعا أجزيا، سواء تقدمت النية، أو تأخرت، أو قارنت، إلاَّ ما منع الدليل منه، على أن الصوم لم يختلف الناس أن تقدم نيته على وقته جائز، فكذلك يجب أن يكون حكم نية الصلاة؛ لأن كل واحدة منهما عبادة ذات أبعاض، فيجب أن يكون تقديم النية على أولها مثل اقترانها به.
فأما التكبيرة الأولى فلا خلاف في أنها فرض، ويدل على ذلك قول النبي صلى الله عليه وآله وسلم : (( تحريمها التكبير، وتحليلها التسليم ))، ولأنه بها يتوصل إلى الصلاة، فيجب أن تكون فرضاً، كالطهارة، وستر العورة.
__________
(1) ـ انظر المنتخب ص36.
(2) ـ انظر المنتخب ص39.
(3) ـ انظر المنتخب ص45.
واختلف الناس في اللفظ به، وأجمعوا أن الصلاة تنعقد بقول القائل: اللّه أكبر، والظاهر من مذهب يحيى عليه السلام: أن الصلاة لا تنعقد بغيره؛ لأنَّه قال في (الأحكام)(1) في باب الإفتتاح حاكياً عن اللّه عزَّ وجل: "ثم أمره أن يكبر، ويفتتح الصلاة بالتكبير، فقال سبحانه: {وَكَبِّرْهُ تَكْبِيْراً}[الإسراء:111]، وهو أن يقول المصلي: اللّه أكبر"، [فصرَّح بأن المراد بالأمر بالتكبير، هو: اللّه أكبر. (16/2)
وحكى أبو العباس الحسني رضي اللّه عنه في (كتاب الصوم)، عن أحمد بن يحيى بن الحسين، أنَّه قال: إن قال: اللّه أجل، أو أعظم، أجزأه؛ لأنَّه من التكبير معنى.
ووجه قول يحيى بن الحسين عليه السلام: أن الذي يعقل من ظاهر التكبير هو قول القائل: اللّه أكبر](2)، ألا ترى أنَّه يُفصل في الشرع، واللغة، والعرف بين التكبير والتهليل، وإن كان التهليل من جهة المعنى تكبيراً، وإذا ثبت ذلك وقال النبي صلى الله عليه وآله وسلم : (( تحريمها التكبير ))، اقتضى ظاهره اللّه أكبر، وعلى أنَّه هو المشهور من فعل النبي صلى الله عليه وآله وسلم، وفِعل من بعده من الصحابة والتابعين، وقد قال صلى الله عليه وآله وسلم : (( صلوا كما رأيتموني أصلي ))، على أن أفعال النبي صلى الله عليه وآله وسلم في الصلاة تدل على الوجوب؛ لأنها بيان لمجمل واجب، وهو قوله تعالى: {أَقِيْمُوا الصَّلاةَ} [المزمل:20].
ووجه ما حاكاه أبو العباس الحسني رحمه الله، عن أحمد بن يحيى عليه السلام: هو أنه مقيس على قولنا: اللّه أكبر، بمعنى أنَّه تعظيم لله تعالى، وأن سائر ما ذكرنا هو إيجاب قولنا: اللّه أكبر، وليس فيه أن غيره لا ينوب منابه.
مسألة [ قرآءة الفاتحة وثلاث آيات مرة واحدة ]
قال: ومن فرضها قراءة فاتحة الكتاب وثلاث آيات معها مرة واحدة.
__________
(1) ـ انظر الأحكام 1/92.
(2) ـ ما بين المعكوفين في (ج).
نص على ذلك في (الأحكام)(1) فقال في باب الدخول في الصلاة: من افتتح الصلاة وكبر وجب عليه أن يقرأ فاتحة الكتاب، وما تيسر معها من السورة. (16/3)
وقال في (المنتخب)(2): من قرأ فاتحة الكتاب وحدها، بطلت صلاته، حتى يقرأ معها ثلاث آيات.
وقلنا: مرة واحدة؛ لأنَّه قال في (الأحكام)(3): من لم يقرأ فاتحة الكتاب في الصلاة بطلت صلاته، فإن قرأها في ركعة أو ركعتين كانت صلاته تامة.
والأصل فيه الحديث الذي استدل به في (الأحكام)، رواه محمد بن منصور، عن جبارة بن(4) المغلس، حدثنا مندل، عن أبي سفيان نصر بن طريف، عن أبي نضرة، عن أبي سعيد، قال: قال رسول اللّه صلى الله عليه وآله وسلم : (( مفتاح الصلاة الطهور، وتحريمها التكبير، وتحليلها التسليم، ولا تجزي صلاة لا يقرأ فيها فاتحة الكتاب وقرآن معها )).
وروي: (( لا صلاة إلاَّ بفاتحة الكتاب، وشيء معها )).
وفي بعض الأخبار: (( وسورة من القرآن )).
وعن أبي سعيد الخدري، قال: (( أمرنا أن نقرأ بفاتحة الكتاب وما تيسر )).
وقال صلى الله عليه وآله وسلم ـ في حديث رفاعة بن رافع للأعرابي ـ: (( ثم اقرأ فاتحة الكتاب، وما تيسر )).
وليس لأحد أن يقول: لا صلاة إلاَّ بفاتحة الكتاب، هو(5) لنفي الكمال دون الإجزاء؛ لأن (( لا )) موضوع للنفي، والمنفي ما يتناوله لا، فيجب على هذا أن يكون ظاهر الخبر يوجب أن من لم يقرأ فاتحة الكتاب، وقرآناً معها، فلا صلاة مجزية ولا كاملة.
فإن قيل: الخبر لا ظاهر له؛ لأنا نعلم الصلاة حاصلة، وإن لم يقرأ فيها ما ذكرتم؟
قيل له: لسنا نسلم أن اسم الصلاة ينطلق على ما ذكرتم، إلاَّ على وجه من المجاز، لأن اسم الصلاة لا يتناول إلاَّ صلاة صحيحة، وإذا لم يقرأ فيها ما ذكرنا، فلا تسمى صلاة على الإطلاق، هذا الذي نختاره في جميع الاسماء الشرعية.
__________
(1) ـ انظر الأحكام 1/93.
(2) ـ انظر المنتخب ص45.
(3) ـ انظر الأحكام 1/105.
(4) ـ في (أ): عن.
(5) ـ في (ج): وهو.
فإن قيل: فقد قال اللّه تعالى: {فَاقْرَأُوا مَا تَيَسَّرَ مِنَ الْقُرْآنِ}[المزمل:20]، فمن قرأ بشيء من القرآن فقد أدى ما عليه؟ (16/4)
قيل له: الآية مبنية؛ لأنها عامة على ما رويناه عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم؛ لأنَّه خاص، ومن مذهبنا بناء العام على الخاص.
فإن قيل: هذا لا يوجب أن يكون من بناء العام على الخاص، بل يجب أن يكون نسخاً؛ لأن الآية تقتضي التخيير في القرآءة، والخبر يقتضي المنع من التخيير، ويعين الوجوب في فاتحة الكتاب.
قيل له: ليس الأمر على ذلك؛ لأن الخبر أوجب قراءة فاتحة الكتاب، وحكم التخيير بعدها قائم؛ لأن الإنسان مخير بعدها فيما يقرأه، فليس يجب أن يكون فيه نسخ، بل يجب أن يكون على ما قلناه حتى يكون تقدير الخبر والآية: اقرأوا فاتحة الكتاب، وما تيسر من القرآن.
وهذا السؤال إنما يتوجه على من يقول: إن قرآءة فاتحة الكتاب فرض دون ما عداها، فأما نحن فمذهبنا أنَّه لا بد معها من غيرها من القرآن، فالسؤال ساقط عنّا، ونحن نرتب هذا السؤال على وجه يكون دليلاً لنا على من زعم أن الفرض هو قراءة فاتحة الكتاب دون ما عداها، بأن نقول: قد ثبت أن اللّه تعالى ألزمنا قراءة خيّرنا فيها بقوله تعالى: {فَاقْرَأُوا مَا تَيَسَّرَ مِنْهُ}[المزمل:20]، وألزمَنا على لسان رسول اللّه صلى الله عليه وآله وسلم قراءة فاتحة الكتاب، ولا يجوز أن يكون الفرض المعين هو الفرض المخيرَ فيه؛ لأن تقدير ذلك أن نقول: {اقْرَأُوا مَا تَيَسَّرَ مِنَ القُرْآنِ}[المزمل:20]، وهو فاتحة الكتاب، وهذا خلف من الكلام، ألا ترى أنَّه لا يصح أن يقول القائل لآخر: اِلق من شئت، وهو زيد، وإنما يصح أن يقول: ألق من شئت، وزيداً، وإذا ثبت ذلك، جرى تقدير الآية والخبر مجرى أن يقول: {اقْرَأُوا مَا تَيَسَّرَ}، واقرأوا فاتحة الكتاب، فيجب قراءة فاتحة الكتاب مع غيرها من القرآن.
فإن قيل: لو كان ما عداها فرضاً، لم يثبت فيه التخيير، بل عين في فاتحة الكتاب مع غيرها من القرآن؟ (16/5)
قيل له: هذا فاسد؛ لأن التخيير لا يمنع الفرض، ألا ترى أن كفارة الواجد مخير فيها، وكفارة يمين المعدم معينة؛ لأن الواجد مخير بين الإطعام، والكسوة، والعتق، والمعدم فرضه في الصيام، فكذلك التخيير فميا عدا فاتحة الكتاب لا يخرجه من أن يكون فرضاً.
فإن قيل: فلم قلتم إن تكرير القراءة غير واجب في كل ركعة؟
قيل له: لأن الآية والخبر أوجبا قراءة مرة واحدة، ألا ترى إلى قوله تعالى: {فَاقْرَأُوا مَا تَيَسَّرَ مِنْهُ}[المزمل:20]، وإلى قول النبي صلى الله عليه وآله وسلم: (( لا صلاة إلاَّ بفاتحة(1) الكتاب )) وقوله: (( لا تجزئ صلاة لا يقرأ فيها بفاتحة الكتاب ))، وقوله: (( كل صلاة لا يقرأ فيها بفاتحة الكتاب فهي خداج ))، فمن قرأ فاتحة الكتاب مرة واحدة، يكون قد خرج من عهدة الخبر، ومن قرأ معها غيرها من القرآن، امتثل حكم الآية، فبان أن الفرض من ذلك مرة واحدة.
واستدل يحيى عليه السلام على ذلك بأن قال(2): إن اسم الصلاة يتناول جملتها، دون أجزائها، فالواجب أن تحصل القراءة في جملتها دون أجزائها بقضية الظواهر التي ذكرنا من الكتاب والسنة، قال: وكل ركعة على حيالها لا تسمى صلاة، فلا يجب أن يكون(3) قوله: (( لا صلاة إلاَّ بفاتحة الكتاب، وكل صلاة لا يقرأ فيها بفاتحة الكتاب فهي خداج ))، موجباً قراءتها في كل ركعة، على أن القراءة مقيسة على سائر الأذكار، من تكبيرة الافتتاح، والتشهد الأخير، والتسليم، في أنها لا يتكرر فرضها، كما لا يتكرر فرض هذه الأذكار.
__________
(1) ـ في (أ): فاتحة.
(2) ـ انظر الأحكام 1/95 ـ 97.
(3) ـ في (ب): فلا يكون.
ومما يدل على ذلك ـ أيضاً ـ أنَّه لا خلاف في أن من أدرك الإمام راكعاً، فقد أدرك الركعة، فلو كانت القراءة فرضاً في جميع الركعات، لكان المدرك للركوع غير مدرك للركعة إذا لم يدرك القراءة، فبان أن سبيلها سبيل تكبيرة الركوع، وقياس عليها. (16/6)
فإن قيل: فإنه لم يلحق القيام مع أنَّه مدرك للركعة، وهذا لا يدل على أن القيام غير فرض.
قيل له: إنَّه يكون مدركاً للقيام، لأنَّه يجب عليه أن يكبر تكبيرة الافتتاح، ثم يركع، فيكون قد حصل له القيام، فلهذا لم يجب سقوط فرضه.
والمستحب عند يحيى عليه السلام على ما نص عليه في (الأحكام)(1): أن يقرأ مع فاتحة الكتاب بسورة تامة؛ لأن في بعض الأخبار: (( لا صلاة إلاَّ بفاتحة الكتاب وسورة )).
وقال في (المنتخب)(2): إن قرأ مع فاتحة الكتاب ثلاث آيات، أجزأه لأنَّه قاسها على أصغر السور.
مسألة [ في القيام، والركوع، والسجود ]
ومن فرضها: القيام، والركوع، والسجود.
وقال في (الأحكام)(3): "يصلي العليل على ما يمكنه، إن أمكنه قائماً، فقائماً". ومنع القائم أن يأتم بالقاعد، فنبه على توكيد فرض القيام(4).
وقال في (الأحكام)(5) في من لحق الإمام ساجداً: أنَّه قد فاتته الركعة؛ لأن الصلاة قيام وركوع وسجود، فمن لم يدرك الركوع فقد فاتته الركعة، فنبه على فرضهما، وذلك أجمع مما لا خلاف فيه، وقد قال اللّه تعالى: {وَقُومُوا للهِ قَانِتِيْنَ}[البقرة:238]، وقال اللّه عزَّ وجل: {وَإِذَا كُنْتَ فِيْهِمْ فَأَقَمْتَ لَهُمُ الصَّلاةَ}[النساء:102]، وقال عزَّ وجل: {يَا أَيُّهَا الَّذِيْنَ آمَنُوا ارْكَعُوا وَاسْجُدُوا}[الحج:77]، فأوجبها.
مسألة [ في التشهد الأخير والتسليم]
قال القاسم عليه السلام: ومن فرضها التشهد الذي يجب التسليم عقيبه، والتسليم، وترك سائر ما يفسدها.
__________
(1) ـ انظر الأحكام 1/93.
(2) ـ انظر المنتخب ص45.
(3) ـ الأحكام 1/121.
(4) ـ انظر الأحكام 1/143.
(5) ـ انظر الأحكام 1/116.
أما وجوب التشهد فهو منصوص عليه في (مسائل عبدالله بن الحسين)، عن جده القاسم عليه السلام، وكذلك وجوب التسليم. وقد نص يحيى عليه السلام في (المنتخب)(1) على وجوب التسليم. (16/7)
والدليل على وجوب التشهد قول اللّه تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِيْنَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ} [الأحزار:56]، فأوجب الصلاة على النبي صلى الله عليه وآله وسلم، ولا خلاف في أنها لا تجب في غير الصلاة، فإذاً وجوبها في الصلاة، ولا أحد أوجبها في الصلاة إلاَّ أوجب التشهد، فإذا ثبت وجوبها، ثبت وجوب التشهد، على أن قوله تعالى: {وَسَلِّمُوا تَسْلِيْماً}[الأحزاب:56]، يدل على وجوب التسليم، وإذا ثبت وجوب التسليم ثبت وجوب التشهد؛ لأن كل من قال بوجوب التسليم، قال بوجوب التشهد. يدل على ذلك:
ما أخبرنا به أبو بكر المقرئ، حدثنا الطحاوي، حدثنا ابن أبي داود، حدثنا المُقَدَّمي، حدثنا أبو معشر البراء، عن أبي حمزة، عن إبراهيم، عن علقمة، عن عبدالله، عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم، ثم ذكر التشهد، قال: (( لا صلاة إلاَّ بالتشهد ))(2).
وأيضاً فإنا وجدنا الجلوس ركناً من أركان الصلاة هيأته غير مختصة بالعبادة، فوجب أن يكون فيه ذكر مفروض، دليله القيام، يؤكد هذه العلة أن الهيئات التي تختص بالعبادة(3) لا يجب أن يكون فيها ذكر مفروض، وهي: الركوع والسجود.
ويمكن أن يقاس التشهد على القراءة بعلة أنَّه ذكر يقع في غير الركوع والسجود، فيجب أن يكون في جنسه ما هو فرض.
__________
(1) ـ انظر المنتخب ص47 ـ 48.
(2) ـ أخرجه الطحاوي في شرح معاني الآثار 1/275.
(3) ـ في (أ) و(ب): العبادة.
وأخبرنا أبو بكر المقرئ، حدثنا الطحاوي، حدثنا الحسين بن نصر، حدثنا الفريابي، حدثنا سفيان الثوري، عن عبدالله بن محمد بن عقيل، عن محمد بن الحنفية، عن علي عليه السلام، قال: قال رسول اللّه صلى الله عليه وآله وسلم : (( مفتاح الصلاة الطهور، وإحرامها التكبير، وإحلالها التسليم ))(1). وروي: (( وتحريمها التكبير، وتحليلها التسليم )). (16/8)
فقوله صلى الله عليه وآله وسلم : (( وتحليلها التسليم )) لا يخلو من أن يكون أراد به أن التحليل من الصلاة لا يكون إلاَّ بالتسليم، أو أراد: أن التحليل الصحيح لا يكون إلاَّ بالتسليم، [فلا يجوز أن يكون أراد صلى الله عليه وآله وسلم أن التحليل لا يكون إلاَّ بالتسليم](2)؛ لأن الخروج من الصلاة يتنوع من سبق الحدث(3)، أو تعمده القطع، فلم يبق إلاَّ أن يكون المراد به أن التحليل الصحيح لا يكون إلاَّ بالتسليم، فثبت فرض التسليم.
فإن قيل: روي عن عبدالله بن عمر، عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم أنَّه قال: (( إذا رفعت رأسك من آخر سجدة، وقعدت، فقد تمت صلاتك )).
قيل له(4): وقد روي عنه، عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم أنَّه قال: (( إذا رفعت رأسك من آخر سجدة(5)، فقد تمت صلاتك ))، من غير ذكر القعود.
وروي ـ أيضاً ـ عنه أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال: (( إذا رفع المصلي رأسه من آخر صلاته، وقضى تشهده، ثم أحدث، فقد تمت صلاته، ولا يعود لها )) وفي هذا الحديث(6) التشهد.
__________
(1) ـ أخرجه الطحاوي في شرح معاني الآثار 1/273.
(2) ـ ما بين المعكوفين زيادة في (ج).
(3) ـ في (أ): الحديث.
(4) ـ سقط من (ب): له.
(5) ـ في (ب): السجدة.
(6) ـ في (ج): وذكر في هذا الحديث. وفي (ب): وفي الحديث.
وأخبرنا أبو بكر المقرئ، حدثنا الطحاوي، حدثنا فهد، حدثنا أبو نعيم، وأبو غسان ـ واللفظ لأبي نعيم ـ قالا: حدثنا زهير بن معاوية، عن الحسن بن بحر(1)، عن القاسم بن عمير(2)، قال: أخذ علقمة بيدي، فحدثني أن عبد الله أخذ بيده، وأن رسول اللّه صلى الله عليه وآله وسلم أخذ بيده، وعلمه التشهد، وقال: (( فإذا فعلت ذلك، وقضيت هذا، فقد تمت صلاتك، إن شئت إن تقوم، فقم، وإن شئت أن تقعد، فاقعد ))(3)، فهذه الأخبار على ما ترى قد اختلفت. (16/9)
ووجه الخبرين الأولين، أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم أراد بالتمام مقاربة التمام، إذ محالٌ أن يكون النبي صلى الله عليه وآله وسلم يقول مرة: (( إذا رفعت رأسك من آخر السجدة، وقعدت، فقد تمت صلاتك ))، [ومره يقول: (( إذا رفعت رأسك من آخر السجدة فقد تمت صلاتك ))](4)، إلاَّ على الوجه الذي قلنا؛ لأنَّه إن لم يحمل الأمر فيه على المقاربة، تنافى الخبران.
والخبران اللذان فيهما ذكر التشهد المراد بهما مع التسليم، بالأدلة التي قدمناها، ويؤكد هذا التأويل أنَّه لا خلاف أن التشهد مستحب، وأن تركه مكروه، ولا يجوز أن يقول صلى الله عليه وآله وسلم: وإن شئت، فافعل المكروه، وإن شئت، فلا تفعل، فبان أن المراد: فإذا قضيت التشهد والتسليم، فإن شئت فاقعد، وإن شئت فقم.
وأيضاً فقد بينا أن أفعال النبي صلى الله عليه وآله وسلم في الصلاة على الوجوب؛ لأنَّه بيان لمجمل واجب، وقد قال أيضاً صلى الله عليه وآله وسلم: (( صلوا كما رأيتموني أصلي ))، وقد ثبت أنَّه كان يتشهد، ويحل الصلاة بالتسليم، فثبت وجوبهما.
__________
(1) ـ في (أ) و(ب): عن الحسن بن الحسن.
(2) ـ في (ج): عن القاسم بن خيمرة.
(3) ـ أخرجه الطحاوي في شرح معاني الآثار 1/275. وفيه الحسن بن الحر، بدلاً عن بحر.
(4) ـ ما بين المعكوفين زيادة في (ج).
وأيضاً فقد ثبت أن التحريم لا يصح إلاَّ بالمسنون فيه، وهو التكبير، فكذلك التحليل يجب أن لا يصح إلاَّ بالمسنون فيه، وهو التسليم، والمعنى أنَّه أحد طرفي الصلاة. (16/10)
فأما وجوب الترك لكل ما يفسد الصلاة، فهو أظهر من أن يحتاج إلى تبيينه؛ إذ العبارة عنه دلالة عليه.
مسألة [ في التعوذ والافتتاح ]
قال: ويستحب للمصلي أن يستقبل القبلة، وأن يتعوذ بالله من الشيطان الرجيم، ثم يقول: وجهت وجهي للذي فطر السموات والأرض، حنيفاً مسلماً، وما أنا من المشركين، إن صلاتي، ونسكي، ومحياي، ومماتي لله رب العالمين، لاشريك له، وبذلك أمرت، وأنا من المسلمين. ثم يقول: الحمدلله الذي لم يتخذ ولداً، ولم يكن له شريك في الملك، ولم يكن له ولي من الذل. ثم يكبر فيقول: اللّه أكبر.
وذلك كله منصوص عليه في (الأحكام)(1).
ونص القاسم عليه السلام في (مسائل النيروسي) على الافتتاح الثاني، وعليه نص يحيى عليه السلام في (المنتخب)(2).
فأما الاستقبال، والتكبير، فهما فرضان، وقد مضى الكلام فيهما وقولنا: مستحب ينصرف إلى التعوذ، والافتتاحين.
والوجه في تقديم التعوذ: أن اللّه تعالى يقول: {فَإِذَا قَرَأْتَ الْقُرْآنَ فَاسْتَعِذْ بَاللهِ مَنَ الشَّيْطَانِ الرَّجِيْمِ}، ومعناه إن أردت قراءة القرآن كقوله: {إِذَا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلاةِ فَاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ}[المائدة:6]، والمراد به أردتم القيام إلى الصلاة، فاغسلوا.
فلما اقتضت الآية تقديم الإستعاذة، واختار(3) يحيى عليه السلام الافتتاح بما هو من القرآن للوجه الذي نذكره من بعد.
اختار(4) تقديم الاستعاذة، واختار أن يقول: وجهت وجهي للذي فطر السموات والأرض..إلى قوله: من المسلمين؛ لما ورد فيه من الأثر.
__________
(1) ـ انظر الأحكام 1/91.
(2) ـ انظر المنتخب ص38.
(3) ـ في (أ): اختار.
(4) ـ سقط من (أ): اختار.
أخبرنا أبو بكر المقرئ، حدثنا الطحاوي، حدثنا الحسين بن نصر، حدثنا يحيى بن حسان، حدثنا عبد العزيز بن أبي سلمة الماجشون، عن عمه، عن الأعرج، عن عبدالله بن أبي رافع، عن علي عليه السلام أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم كان إذا افتتح الصلاة، قال: (( وجهت وجهي للذي فطر السموات والأرض )) إلى قوله: (( وأنا من المسلمين ))(1). (16/11)
وأخبرنا محمد بن عثمان النقاش، حدثنا الناصر عليه السلام، عن محمد بن منصور، حدثنا أحمد بن عيسى، عن حسين، عن أبي خالد، عن زيد بن علي عليه السلام، عن آبائه، عن علي عليهم السلام، قال: كان إذا استفتح الصلاة، قال: "اللّه أكبر، وجهت وجهي للذي فطر السموات والأرض عالم الغيب والشهادة، حنيفاً مسلماً وما أنا من المشركين".. إلى قوله: "وأنا من المسلمين".
فإن قيل: قد ورد الخبر بغير هذا الإفتتاح، فلم اخترتموه على غيره؟
قيل له: اخترناه لوجوه منها:
[الأول] أنَّه من رواية أمير المؤمنين عليه السلام.
والثاني: أنَّه من فعله.
والثالث: أنَّه من ألفاظ القرآن.
والرابع: أنَّه مشاكل للحال.
وأما ماله اختار الافتتاح الثاني، وهو: {الْحَمْدُللهِ الَّذِيْ لَمْ يَتَّخِذْ وَلَداً}... إلى قوله: {وَلِيٌّ مِنَ الذُّلِّ}، فلأن الكتاب نبه عليه، ألا ترى إلى قوله تعالى حين علَّم نبيه صلى الله عليه وآله وسلم الصلاة: {وَلا تَجْهَرْ بِصَلاتِكَ وَلا تُخَافِتْ بِهَا وَابْتَغِ بَيْنَ ذَلِكَ سَبِيْلاً}، {وَقُلِ الْحَمْدُللهِ}...إلى آخره ثم قال: {وَكَبِّرْهُ تَكْبِيْراً}[الإسراء:110]، واختار أن يكون التكبير يليه ليكون موافقاً للفظ القرآن، ومطابقاً له.
__________
(1) ـ أخرجه الطحاوي في شرح معاني الآثار 1/199. ومنه عبيد الله بن أبي رافع.
واختار أن يكون الافتتاح قبل التكبير؛ ليكون ما يلي التكبير الذي هو فرض القراءة التي هي فرض، ولهذا قال فيمن أدرك الإمام ساجداً أنَّه يسجد معه، ثم يقوم، ويبتدئ الصلاة لئلا يكون وقع بين فرض التكبير وفرض القراءة ما ليس بفرض(1). (16/12)
وروى أبو بكر الجصاص في (الشرح)، عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم، قال: (( إذا قمت إلى الصلاة، فارفع يديك، وكبر، واقرأ ما بدا لك )). فاقتضى ظاهره أن تكون القراءة تلي التكبير.
وروى أبو بكر ـ أيضاً ـ عن عائشة، قالت: كان رسول اللّه صلى الله عليه وآله وسلم يفتتح الصلاة بالتكبير، والقراءة بالحمدلله رب العالمين.
وروى الطحاوي بإسناد نذكره بعد هذا، عن رفاعة بن رافع أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم كان جالساً في المسجد، فدخل رجل المسجد فقال عليه السلام: (( إذا قمت في صلاتك، فكبر، ثم اقرأ إن كان معك قرآن )) فأمره بالقراءة بعد التكبير، وكل ذلك يشهد لصحة ما اختاره يحيى عليه السلام من الابتداء بالقراءة بعد التكبير.
مسألة [ في الجهر بالبسملة]
قال: ثم يقرأ ويبتدئ ببسم اللّه الرحمن الرحيم، ويقرأ فاتحة الكتاب وسورة معها، ويجهر ببسم اللّه الرحمن الرحيم إن كانت القراءة مجهوراً بها، وهي آية من فاتحة الكتاب، ومن كل سورة.
وذلك كله منصوص عليه في (الأحكام)(2).
وقد قدمنا القول في وجوب قراءة فاتحة الكتاب، وسورة، أو ثلاث آيات معها، والذي يختص هذا الموضع هو بيان وجوب الجهر ببسم اللّه الرحمن الرحيم، وأنها آية من فاتحة الكتاب، ومن كل سورة.
__________
(1) ـ انظر الأحكام 1/115.
(2) ـ انظر الأحكام 1/93، 105.
والجهر ببسم اللّه الرحمن الرحيم هو المروي عن أمير المؤمنين علي عليه السلام، وعن محمد بن علي، وزيد بن علي، وجعفر بن محمد، ومحمد وإبراهيم ابني عبدالله، وأبيهما عبدالله بن الحسن، وعن عبدالله بن موسى بن عبدالله، وعن أحمد بن عيسى عليهم السلام، رواه محمد بن منصور عنهم بأسانيده، وروى عن أكثرهم أنَّه جهر في السورتين. وروي عن بعضهم الجهر مطلقاً. (16/13)
وهو مذهب جميع أهل البيت عليهم السلام لا يختلفون فيه.
واستدل يحيى عليه السلام بما رواه عن أبيه، عن جده، عن أبي بكر بن أبي أويس، عن حسين بن عبدالله بن ضميرة، عن أبيه، عن جده، عن علي عليهم السلام أنَّه قال: "من لم يجهر في صلاته ببسم اللّه الرحمن الرحيم فقد أخدج صلاته"(1).
واستدل ـ أيضاً ـ بما رواه محمد بن منصور، عن الحكم بن سليمان، عن عمرو بن جميع، عن جعفر، عن أبيه، جده، قال: قال رسول اللّه صلى الله عليه وآله وسلم: (( كل صلاة لا يجهر فيها ببسم اللّه الرحمن الرحيم فهي آية اختلسها الشيطان )).
وروى محمد بن منصور، عن عبّاد، عن سليمان بن مفضل، عن معتمر بن سليمان التيمي، عن أبي عبيدة، عن مسلم بن حيان، وجابر بن زيد، قالا: دخلنا على ابن عمر في داره، فصلى بنا الظهر والعصر، ثم صلى بنا المغرب، فجهر ببسم اللّه الرحمن الرحيم في كلتا السورتين. فقلنا له: لقد صليت بنا صلاة ما تُعرف بالبصرة. فقال ابن عمر: صليت خلف رسول اللّه صلى الله عليه وآله وسلم، فجهر ببسم اللّه الرحمن الرحين في كلتا السورتين حتى قبض، وصليت خلف أبي بكر، فلم يزل يجهر بها في كلتا السورتين حتى هلك، وصليت خلف أبي ـ عمر ـ فلم يزل يجهر بها في كلتا السورتين حتى هلك، وأنا أجهر بها، ولن أدعه حتى أموت.
__________
(1) ـ الأحكام 1/106.
وروى محمد بن منصور بإسناده عن جعفر بن محمد، عن أبيه، عن جابر قال: قال رسول اللّه صلى الله عليه وآله وسلم : (( كيف تقول إذا قمت إلى الصلاة؟ ))، قال: أقول: {الْحَمْدُللهِ رَبِّ الْعَالَمِيْنَ}. قال: (( قل بسم اللّه الرحمن الرحيم ))، وهذا يقتضي الوجوب. (16/14)
وروى محمد بن منصور بإسناده عن جعفر، عن أبيه، عن علي عليهم السلام أنَّه قال: آية من كتاب اللّه تركها الناس: بسم اللّه الرحمن الرحيم.
وروى محمد بن منصور بإسناده عن سعيد بن جبير قال: قلت لابن عباس: كم الحمد لله آية(1)؟ قال: سبع آيات. قلت: فأين السابعة؟ قال: {بِسْمِ اللّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيْمِ}.
وأخبرنا أبو بكر المقرئ، حدثنا الطحاوي، حدثنا أبو بكرة، حدثنا أبو عاصم، قال: أخبرنا ابن جريج، عن أبيه، عن ابن جبير، عن ابن عباس {وَلَقَدْ آتَيْنَاكَ سَبْعاً مِنَ الْمَثَانِيَ}، قال: فاتحة الكتاب، ثم قرأ ابن عباس رحمه اللّه تعالى: {بِسْمِ اللّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيْمِ}، وقال: هي الآية السابعة(2).
وروي الجهر عنه، وعن ابن الزبير، وعامة الصحابة.
وروى محمد بن منصور، عن أحمد بن عثمان بن حكيم، عن أبي نعيم، عن خالد، عن سعيد بن أبي سعيد، عن أبي هريرة، عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال: (( أَمَّني جبريل عليه السلام عند البيت، فجهر ببسم اللّه الرحمن الرحيم )).
__________
(1) ـ في (ب): كم آية الحمد.
(2) ـ أخرجه الطحاوي في شرح معاني الآثار 1/200.
ومما يدل على أن بسم اللّه الرحمن الرحيم آية من فاتحة الكتاب، ومن كل سورة أن المسلمين قد أجمعوا على إثباتها في كل(1) سورة، وأجمعوا على أنها من كتاب اللّه في (طس)، فإذا ثبت أنها آية من القرآن، وأجمع المسلمون على إثباتها عند فاتحة كل سورة، دل ذلك على أنها فاتحة كل سورة؛ لأنَّه لو جاز(2) أن لا تكون آية، ما أجمع المسلمون على إثباتها في المصاحف، وليست تكون من تلك المواضع، ولجاز(3) أن يكون ذلك سبيل آي كثيرة، وهذا يؤدي إلى الطعن في القرآن، وإلى التشكيك في آي كثيرة منه. (16/15)
فصل [ في بطلان صلاة من لم يجهر بالبسملة ]
نص يحيى عليه السلام في (الأحكام)(4) على إبطال الصلاة لترك الجهر ببِسْمِ اللّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيْمِ.
والوجه فيه أن الجهر عنده واجب كوجوب القراءة، فكما أن من ترك القراءة تبطل صلاته، فكذلك من ترك الجهر عنده.
والذي يقتضيه مذهبه أن من جهر في ركعة، ولم يجهر في أخرى، تجزيه صلاته؛ لأن القراءة عنده على ما بيناه تجزي في ركعة واحدة، فكذلك يجب أن يكون الجهر؛ لأن وجوبه تابع لوجوب القراءة.
مسألة [ في كيفية الركوع والسجود ]
قال: ثم يكبر، ويركع فيطامن ظهره في ركوعه، ويفرج آباطه، ويسوي كفيه على ركبتيه، ويفرج بين أصابعه، ويستقبل بهما القبلة، ولا يحرفهما على شيء من جوانبهما، ويعدل رأسه، فلا يكبه ولا يرفعه.
جميعه منصوص عليه في (الأحكام)(5)، إلاَّ تفريج الأصابع فإنه نص عليه في (المنتخب)(6)، وذكر أنَّه مروي عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم.
والأصل في هذا الباب الأخبار الواردة فيه:
__________
(1) ـ في (ج): في فاتحة كل.
(2) ـ في (أ) و(ب): لأنَّه لو جاز أن تكون آية.. والمراد أن تكون آية واحدة لا آي كثيرة.
(3) ـ في (ب)و (أ): لجاز.
(4) ـ انظر الأحكام 1/105.
(5) ـ انظر الأحكام 1/93.
(6) ـ انظر المنتخب ص40.
أخبرنا أبو بكر المقرئ، حدثنا الطحاوي، حدثنا ابن مرزوق، حدثنا أبو عامر العقدي، حدثنا فليح بن سليمان، عن عباس بن سهل بن سعد، قال: اجتمع أبو حميد، وأبو أسيد، وسهل بن سعد، ومحمد بن سلمة فذكروا صلاة رسول اللّه صلى الله عليه وآله وسلم، فقال أبو حميد: أنا أعلمكم بصلاة رسول اللّه صلى الله عليه وآله وسلم، كان إذا ركع، وضع يديه على ركبتيه، كأنه قابض عليهما(1). (16/16)
وروى الجصاص في (الشرح) بإسناده عن أنس، قال: قال رسول اللّه صلى الله عليه وآله وسلم : (( إذا قمت إلى الصلاة، فتوجه إلى القبلة، وارفع، وكبر، واقرأ ما بدا لك، فإذا ركعت، فضع كفيك على ركبتيك، وفرج بين أصابعك، فإذا رفعت رأسك، فاقم صلبك حتى يقع كل عضو مكانه، فإذا سجدت، فأمْكِن كفيك من الأرض، فإذا رفعت رأسك، فأقم صلبك، فإذا جلست، فاجعل عقبك تحت إليتك، فإنها من سنتي، ومن تبع سنتي فقد تبعني )).
وروى أبو بكر بإسناده عن أبي الجوزاء، عن عائشة، قالت: كان رسول اللّه صلى الله عليه وآله وسلم يفتتح الصلاة بالتكبير، والقراءة بالحمد لله رب العالمين، وكان إذا ركع، لم يشخص رأسه، ولم يصوبه، ولكن بين ذلك.
وروى الجصاص بإسناده عن البراء بن عازب، قال: كان رسول اللّه صلى الله عليه وآله وسلم إذا ركع ربما يعدل ظهره، لو نصب عليه قدح من ماء، ما اهراق.
وذكر أبو العباس الحسني رحمه اللّه أن القاسم عليه السلام ذكر في (الفرائض والسنن): أن رسول اللّه صلى الله عليه وآله وسلم ركع، فوضع كفيه مفرقاً لأصابعهما على ركبتيه، واستقبل بهما القبلة، وتجافى في ركوعه حتى لو شاء صبي، دخل بين عضديه، واعتدل حتى لو صب على ظهره ماء، لم يسل.
__________
(1) ـ أخرجه الطحاوي في شرح معاني الآثار 1/229 ـ 230. وفيه: ومحمد بن مسلمة فيما يظن ابن مرزوق.
فأما التطبيق(1)، فقد روي أنَّه كان يعمل به، ثم نسخ، ولم يختلف الناس في نسخه بعد ابن مسعود. (16/17)
مسألة [ في تسبيح الركوع والرفع منه والتسميع ]
ويقول في ركوعه: "سبحان اللّه العظيم وبحمده" ثلاثاً، ثم يرفع رأسه من ركوعه، ويقول: سمع اللّه لمن حمده.
وهذا منصوص عليه في (الأحكام) و(المنتخب)(2).
وقال في (المنتخب)(3): يقول: سبحان اللّه العظيم وبحمده، ثلاثاً، أو خمساً، قال: ويقول: سمع اللّه لمن حمده.. إماماً كان، أو منفرداً، فإن كان مؤتماً، فإنه يقول: ربنا لك الحمد، إذا قال الإمام: سمع اللّه لمن حمده.
ووجه اختياره:"سبحان اللّه العظيم وبحمده" على غيره:
ما أخبرنا به أبو نضر محمد(4) بن روح الروياني، حدثنا أبو الحسن علي بن عبدالله الجزري المعروف بابن ساسان، حدثنا أبو جعفر عبدالغني بن رفاعة، حدثنا يغنم بن سالم بن قنبر مولى أمير المؤمنين علي عليه السلام، عن عبدالله بن الحسن، عن علي، قال: قال رسول اللّه صلى الله عليه وآله وسلم : (( من صلى ركعتين يقرأ في إحداهما: {تَبَارَكَ الَّذِيْ جَعَلَ فِيْ السَّمَاءِ بُرُوجاً}[الفرقان:61]، حتى يختم السورة، وفي الركعة الثانية أول سورة المؤمنين حتى يبلغ: {تَبَارَكَ اللّهُ أَحْسَنُ الْخَالِقِيْنَ}[المؤمنون:14]، ثم يقول في كل ركعة من ركوعه: سبحان اللّه العظيم وبحمده، ثلاث مرات، ومثل ذلك سبحان اللّه الأعلى وبحمده في السجود، أعطاه اللّه تعالى كذا وكذا )).
فلما رغب صلى الله عليه وآله وسلم في هذا التسبيح، علم أن له مزية في الفضل.
__________
(1) ـ التطبيق هو جعل اليدين بين الفخذين حال الركوع. وفي (النهاية): حال التشهد ...سماعاً.
(2) ـ انظر الأحكام 1/93. و المنتخب ص40 ـ 41.
(3) ـ انظر المنتخب ص40 ـ 41.
(4) ـ في (ج): أبو نضر منصور بن محمد.
وأخبرنا أبو العباس الحسني قال: أخبرنا محمد بن بلال، حدثنا محمد بن عبدالعزيز، حدثنا الحسن بن الحسين العرني، عن علي بن القاسم الكندي، عن أبي رافع، عن علي عليه السلام أنَّه كان إذا ركع قال: سبحان اللّه العظيم، ثلاث مرات. (16/18)
فإن قيل: رُوي عن عقبة الجهني، قال: لما نزل: {فَسَبِّحْ بِاسْمِ رَبِّكَ الْعَظِيمِ}[الواقعة:96. والحاقة:52]، قال النبي صلى الله عليه وآله وسلم: (( اجعلوها في ركوعكم ))، فلما نزلت {سَبِّحْ اسْمَ رَبِّكَ الأَعْلَى}[الأعلى:1]، قال صلى الله عليه وآله وسلم: (( اجعلوها في سجودكم )). وهذا يقتضي سبحان ربي العظيم؟
قيل له: ليس يخلو المراد بقوله: (( اجعلوها في ركوعكم )) من أن يكون أراد اجعلوا اللفظة كما هي، وهذا لا يقول به أحد، أو يكون المراد به أن يسبح اسم ربه، فإذا كان المراد الثاني، فيجب أن يكون سبحان الله؛ لأن قولنا: (( اللّه )) هو اسم ربنا الأخص، الذي لا يقع فيه اشتراك، ألا ترى أن إنساناً لو قيل له: ناد باسم صاحبك، لم يقتض ظاهر الأمر أن يقول: يا صاحبي، بل اقتضى أن يناديه باسمه الأخص، فنحن لو جعلنا هذا الخبر دليلاً لساغ، وأمكن؛ لأن ظاهره يدل على ما اخترناه. وهذا الحديث مما رواه: أبو بكر المقرئ، حدثنا الطحاوي، حدثنا عبد الرحمن بن الجارود، حدثنا أبو عبد الرحمن المقرئ، حدثنا موسى بن أيوب، عن عمه إياس بن عامر الغافقي، عن عقبة بن عامر الجُهنِي(1).
فإن قيل: روي عن حذيفة قال: كان النبي صلى الله عليه وآله وسلم يقول في ركوعه: (( سبحان ربي العظيم وبحمده ))، ثلاثاً، وفي سجوده: (( سبحان ربي الأعلى وبحمده ))، ثلاثاً.
__________
(1) ـ أخرجه الطحاوي في شرح معاني الآثار 1/235
قيل له: ما اخترناه مرجَحٌ بما بيناه من الوجه، ولأن قول النبي صلى الله عليه وآله وسلم: (( اجعلوها في الركوع )) يقتضي ظاهره الأمر به، على أن قوله تعالى: {فَسُبْحَانَ اللّهِ حِيْنَ تُمْسُونَ وَحِيْنَ تُصْبِحُونَ}[الروم:17]، روي أنَّه في المغرب والفجر والعشاء والظهر، فوجب أن يكون لفظ القرآن الوارد في الصلاة أولى؛ لأن ظاهره يقتضي الأمر به، كأنه تعالى قال: قل سبحان اللّه حين تمسون وحين تصبحون. (16/19)
وعدد التسبيحات على ما ذكره مما لا خلاف فيه أنَّه مستحب، وأنه لا يستحب أن يكون أقل من ثلاث.
واختار للإمام والمنفرد أن يقولا: "سمع اللّه لمن حمده"، وللمؤتم أن يقول: "ربنا لك الحمد"؛ لما أخبرنا به أبو الحسين بن إسماعيل، حدثنا محمد بن الحسين بن اليمان، حدثنا محمد بن شجاع، حدثنا شريح بن النعمان، والمعلى، عن ابن عيينة(1)، عن الزهري، قال: سمعت أنساً يقول في حديث له: قال النبي صلى الله عليه وآله وسلم: (( إنما جعل الإمام ليؤتم به، فإذا كبر، فكبروا، وإذا سجد، فاسجدوا، وإذا رفع رأسه، فارفعوا، وإذا قال: سمع اللّه لمن حمده، فقولوا ربنا لك الحمد )).
وروى ذلك أبو جعفر الطحاوي، عن أبي موسى الأشعري، عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم، [وأبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم. فدل قول النبي صلى الله عليه وآله وسلم على أن ربنا لك الحمد، يقوله المصلي بشرط أن يقول إمامه سمع اللّه لمن حمده؛ لأن إذا شرط.
ودل ـ أيضاً ـ على أن الإمام يقول: سمع اللّه لمن حمده من وجهين:
أحدهما: ما ذكرنا من أن ربنا لك الحمد، أمر صلى الله عليه وآله وسلم](2) أن يقوله بشرط أن يقول إمامه: سمع اللّه لمن حمده، والإمام لا إمام له.
__________
(1) ـ في هامش (ب): والمعلى بن عتيبة.
(2) ـ ما بين المعكوفين سقط من (أ) و(ب).
والثاني: إنَّه بين ما يقوله الإمام، ولم يذكر فيه ربنا لك الحمد، فإذا ثبت ذلك في الإمام، كان سبيل المنفرد سبيل الإمام؛ لأنَّه لا إمام له، فلذلك قلنا: إن الإمام والمنفرد يقتصران على أن يقولا: سمع اللّه لمن حمده. (16/20)
فإن قيل: فقد روي عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم أنَّه كان يقول إذا رفع رأسه من الركوع: (( سمع اللّه لمن حمده، ربنا لك الحمد )).
قيل له: وردت في هذا روايات تدل على أن ما قاله النبي صلى الله عليه وآله وسلم من ذلك بعد قوله: سمع اللّه لمن حمده، قاله على سبيل القنوت(1).
وروى أبو جعفر بإسناده، عن عبيد الله عن أبي رافع، عن علي عليه السلام، عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم، أنَّه كان إذا رفع رأسه من الركوع قال: (( اللهم ربنا لك الحمد ملء السموات، وملء الأرض، وملء ما شئت من شيء بعد )).
وروى مثله عن أبي سعيد الخدري، عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم، وزاد: (( أنت أهل الثناء والمجد، وأحق ما قال العبد، وكلنا لك عبد، لا مانع لما أعطيت، ولا ينفع ذا الجد منك الجد ))(2).
وروي عن أبي هريرة أنَّه قال: كان رسول اللّه صلى الله عليه وآله وسلم حين يفرغ من صلاة الفجر من القراءة ويكبر ويرفع رأسه من الركوع يقول: (( سمع اللّه لمن حمده، ثم يقول: ربنا لك الحمد، اللّهم أنج الوليد بن الوليد ))(3).
فبان بما ذكرناه أنَّه صلى الله عليه وآله وسلم ما زاد على قوله: سمع اللّه لمن حمده، إلاَّ على سبيل القنوت.
مسألة [ ويعتدل ثم يسجد واضعاً يديه قبل ركبتيه ]
قال: وإذا اعتدل قائماً، خرَّ لله ساجداً، ثم قال: (( اللّه أكبر ))، ويبدأ بوضع يديه قبل ركبتيه على الأرض.
__________
(1) ـ أخرجه الطحاوي في شرح معاني الآثار 1/239. وفيه: عبد الله، بدل عبيد الله.
(2) ـ أخرجه الطحاوي في شرح معاني الآثار 1/239.
(3) ـ أخرجه الطحاوي في شرح معاني الآثار 1/239 ـ 240.
قال في (الأحكام)(1): "فإذا اعتدل قائماً حتى ترجع مفاصل ظهره إلى مواضعها، كبر، وخر ساجداً". ونص في (المنتخب)(2) على وضع اليدين قبل الركبتين. (16/21)
ذكر الاعتدال لما في الخبر الذي ذكرناه من مسألة صفة الركوع، وهو حديث أنس، عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال: (( فإذا رفعت رأسك من الركوع، فأقم صلبك حتى يقع كل عضو مكانه )).
وأخبرنا(3) أبو بكر المقرئ، حدثنا الطحاوي، حدثنا ابن أبي داود، حدثنا يحيى بن صالح، قال: حدثني سليمان بن بلال، قال: حدثني شريك بن أبي نمر، عن علي بن يحيى، عن عمه رفاعة بن رافع أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم، كان جالساً في المسجد، فدخل رجل فصلى، وكان رسول اللّه صلى الله عليه وآله وسلم ينظر إليه: فقال: (( إذا قمت في صلاتك، فكبر، ثم اقرأ إن كان معك قرآن، وإن لم يكن معك قرآن، فاحمد اللّه، وكبر، وهلل، ثم اركع حتى تطمئن راكعاً، ثم قم حتى تعتدل قائماً، ثم اسجد حتى تطمئن ساجداً، ثم اجلس حتى تطمئن جالساً، فإذا فعلت ذلك، فقد تمت صلاتك، وما ينقص من ذلك فإنما ينقص من صلاتك )). فأمر صلى الله عليه وآله وسلم بأن يعتدل بعد الركوع قائماً.
وأما التكبير إذا خر ساجداً، فقد تظاهرت به الأخبار، وهو مما لا خلاف فيه.
وأما وضع اليدين قبل الركبتين، فقد اختلف فيه، ورأى كثير من الفقهاء أن يضع ركبتيه قبل يديه.
ووجه ما اخترنا من ذلك ما أخبرنا به أبو بكر المقرئ، حدثنا الطحاوي، حدثنا علي بن عبد الرحمن، حدثنا أصبغ بن الفرج، حدثنا الدراوردي، عن عبيد الله بن عمر، عن نافع، عن ابن عمر أنَّه كان إذا سجد، بدأ بوضع يديه قبل ركبتيه، وكان يقول: كان النبي صلى الله عليه وآله وسلم يصنع ذلك(4).
__________
(1) ـ الأحكام 1/94.
(2) ـ المنتخب ص41.
(3) ـ أخرجه الطحاوي في شرح معاني الآثار 1/232.
(4) ـ أخرجه الطحاوي في شرح معاني الآثار 1/254.
وأخبرنا أبو بكر المقرئ، حدثنا الطحاوي، حدثنا صالح بن عبد الرحمن، حدثنا سعيد بن منصور، حدثنا عبد العزيز بن محمد، حدثنا محمد بن عبدالله بن الحسن، عن أبي الزناد، عن الأعرج، عن أبي هريرة، قال: قال رسول اللّه صلى الله عليه وآله وسلم: (( إذا سجد أحدكم، فلا يبرك كما يبرك البعير، ولكن يضع يديه قبل ركبتيه ))(1). (16/22)
فإن قيل: روي عن أبي هريرة خلافه، عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم، وأنه شبه وضع اليدين قبل الركبتين ببروك البعير.
قيل له: خبرنا أولى؛ لأن الذي فيه من التشبيه أصح، وذلك أن البعير أول ما يضع على الأرض المفصل الذي في يديه، وذلك المفصل يجري من البعير مجرى الركبة من بني آدم، فاعتماد الإنسان على ركبتيه قبل يديه أشبه ببروك البعير على ما بيناه.
فإن قيل: فقد انفرد حديث وائل بن حجر بأن النبي صلى الله عليه وآله وسلم كان يضع يديه قبل ركبتيه(2).
والنظر أيضاً يؤكد ما اخترناه من وضع اليدين قبل الركبتين، وذلك أنا وجدنا الأحكام الشرعية المتعلقة باليد والرجل تبدأ بما يكون من حكم اليد على حكم الرجل مثل الطهارة والقطع، ولم نجد حكم الرِّجل يبدأ به على حكم اليد، فوجب أن يبدأ بوضع اليدين قبل وضع الركبتين، وليس لأحد منهم أن يرجح مذهبه بأنه أشق؛ لأنا لا نعلم في كل موضع أن الأشق أولى، كيف وقد قال اللّه عزَّ وجل: {مَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدَّيْنِ مِنْ حَرَجٍ}[الحج:87].
__________
(1) ـ أخرجه الطحاوي في شرح معاني الآثار 1/254. وفيه: ثم ركبتيه.
(2) ـ في هامش (ب): هنا سقط لا يستقيم الكلام من دونه، والذي في شرح القاضي زيد في هذا الموضع: (( فإن قيل روي في حديث وائل بن حجر بأن النبي صلى الله عليه وآله وسلم كان يضع ركبته قبل يديه. قلنا: هذا معارض بما رواه السيد المؤيد بالله بإسناده، عن نافع، عن ابن عمر، أنه صلى الله عليه وآله وسلم كان يضع يديه قبل ركبتيه )).
فإن قيل: إن ذلك أولى؛ لأنَّه على التوالي يبدأ بالركبتين ثم باليدين، ثم بالجبهة؟ (16/23)
قيل له: خلاف ذلك أولى؛ لأن الطهارة عبادة موضوعة على خلاف التوالي، ولو اعتمدنا ذلك كان أولى.
مسألة [ في هيئات السجود وكيفيته ]
قال: ثم يسجد، فيمكن جبهته من الأرض، ويضع أنفه مع جبهته، وليس وضع الأنف على الأرض بفرض، ويخوي في سجوده، ويمد ظهره، ويسوي آرابه، وينصب قدميه، ويجعل كفيه حذاء خديه، ويضم أصابعه، ويفرج آباطه، ويبين عضديه ومرفقيه عن جنبيه، وإن كانت امرأة تضممت، ثُمَّ قال في سجوده: "سبحان الله الأعلى وبحمده"، ثلاثاً.
جميع ذلك منصوص عليه في (الأحكام)(1)، غير ضم الأصابع، وتضمم المرأة، فإنهما منصوصان عليهما في (المنتخب)(2)، وأن وضع الأنف ليس بفرض رواه في (الأحكام)(3)، عن جده القاسم عليه السلام.
والأصل في ذلك الأخبار الواردة، منها:
ما أخبرنا به أبو بكر المقرئ، حدثنا الطحاوي، حدثنا ابن مرزوق، حدثنا أبو عامر، حدثنا فليح بن سليمان، عن عباس بن سهل الساعدي: اجتمع أبو حميد وأبو أسيد وسهل بن سعد، فذكروا صلاة رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، فقال أبو حميد: أنا أعلمكم بصلاة رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، كان إذا سجد مكّن أنفه وجبهته من الأرض، ونحى يديه عن جنبيه، ووضع كفيه حذاء منكبيه(4).
وأخبرنا أبو بكر المقرئ، قال: أخبرنا الطحاوي، حدثنا أبو أمية، حدثنا الحماني، حدثنا شريك، عن أبي إسحاق، قال: رأيت البراء إذا سجد، خوى، ورفع عجيزته، وقال: هكذا رأيت رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يفعل.
__________
(1) ـ انظر الأحكام 1/132.
(2) ـ انظر المنتخب ص41.
(3) ـ انظر الأحكام 1/132.
(4) ـ أخرجه الطحاوي في شرح معاني الآثار 1/257.
وأخبرنا أبو بكر المقرئ، حدثنا الطحاوي، حدثنا علي بن شيبة، حدثنا أبو صالح، حدثنا يحيى بن أيوب، عن جعفر بن ربيعة، عن عبدالرحمن بن هُرمُز، عن عبدالله بن بحينة أنَّه حدثه أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم كان إذا سجد فرَّج بين ذراعيه، وبين جنبيه حتى يُرى بياض إبطيه(1). (16/24)
وأخبرنا أبو بكر، حدثنا الطحاوي، حدثنا أبو بكرة، حدثنا مؤمل، حدثنا سفيان الثوري، عن عاصم بن كليب الجرمي، عن أبيه، عن وائل بن حجر، قال: كان رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم إذا سجد، يجعل يديه حيال أذنيه(2).
وأخبرنا أبو بكر، حدثنا الطحاوي، حدثنا ابن أبي داود، حدثنا أبو معمر، حدثنا عبد الوارث، حدثنا محمد بن جُحَادة، حدثنا عبد الجبار بن وائل بن حجر، قال: صليت ـ وكنت غلاماً لا أعقل صلاة أبي ـ، فحدثني وائل بن علقمة، عن أبي ـ وائل بن حجر ـ، قال: صليت خلف رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، فكان إذا سجد، وضع جبهته بين كفيه(3).
قال: وروى الطحاوي بإسناده عن البراء، قال: كان رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم إذا صلى يضع جبهته بين كفيه(4).
فإن قيل: ففي الخبر الأول، خبر أبي حميد أن رسول الله كان يضع يديه حذو منكبيه.
__________
(1) ـ أخرجه الطحاوي في شرح معاني الآثار 1/231.
(2) ـ أخرجه الطحاوي في شرح معاني الآثار 1/257.
(3) ـ أخرجه الطحاوي في شرح معاني الآثار 1/257. وفيه: كنت غلاماً لا أعقل صلاة، أي من غير صليت. وفيه: وضع وجهه، بدل: جبهته.
(4) ـ أخرجه الطحاوي في شرح معاني الآثار 1/257.
قيل له: أكثر الأخبار وردت بأنه كان يضع جبهته بين كفيه على ما بينا، فيحمل خبر أبي حميد على ذلك، ونقول: لعله أراد بقوله: حذو منكبيه، أي محاذ لهما أمامهما، حتى تكون اليدان محاذيتين من جهة القبلة للمنكبين، ويكون الخدان حذاء اليدين، ليكون أخذاً بالأخبار كلها، وجامعاً بينها؛ ولأن وضع اليدين حيث اخترناه أتم في التجافي الذي اتفقت عليه الأخبار، وهي أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم كان يفعله. وفيه ـ أيضاً ـ أنَّه زيادة في العبادة. (16/25)
وما قلناه من أنَّ وضع الأنف على الأرض ليس بفرض، فمما لا أحفظ فيه خلافاً مشهوراً.
والأصل فيه الآثار الواردة بالألفاظ المختلفة أن الساجد يسجد على سبعة أعضاء: الوجه، واليدان، والركبتان، والقدمان، ولم يذكر فيها الأنف.
وقلنا: إنَّه ينصب قدميه؛ لما تضمن الحديث من ذكر القدمين.
وقلنا: يضم الأصابع حتى تكون مستقبلة للقبلة، فإن تفريجها يقتضى انحراف بعضها عن القبلة يميناً وشمالاً، واليدان معدودتان في الأعضاء التي يقع السجود بها على ما نطق به الحديث.
وقلنا: إن المرأة تتضمم؛ لأن ذلك أستر لها، ألا ترى أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم أمر المرأة إذا أمت النساء أن تقف وسطهن، لأن ذلك أستر لهيئاتها، وسنذكر الحديث الوارد فيه في موضعه، فلما وجدناه صلى الله عليه وآله وسلم أمرها بتغيير الموقف ليكون ذلك أستر لهيئاتها، قلنا إنها تغير الهيئة عند السجود وتضمم؛ لأن ذلك أستر لهيئاتها.
وروى ابن أبي شيبة بإسناده عن أبي إسحاق، عن الحارث، عن علي عليه السلام، قال: إذا سجدت المرأة، فلتحتفز، ولتضم فخذيها.
وقد بينا وجه اختيارنا أن يقول المصلي في ركوعه: سبحان الله العظيم وبحمده، وذلك هو الوجه لاختيارنا أن يقول في سجوده: سبحان الله الأعلى وبحمده، ثلاثاً؛ لأن أحداً لم يفصل بينهما.
مسألة [ في الجلوس بين السجدتين وهيئته ]
قال: ثُمَّ يقعد، فيفرش قدمه اليسرى، وينصب قدمه اليمنى.
وهذا منصوص عليه في (الأحكام)(1). (16/26)
والأصل فيه الأخبار الواردة عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم، منها: حديث أبي حميد في وصف صلاة النبي صلى الله عليه وآله وسلم، فقال بعد وصفه السجدة الأولى: ثُمَّ كبر، فجلس، فتورك إحدى رجليه، ونصب قدمه الأخرى، ثُمَّ كبر فسجد.
وحديث وائل بن حجر، فقال: صليت خلف رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فقلت: لأحفظن صلاة رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قال: فكلما قعد للتشهد، فرش رجله اليسرى ثُمَّ قعد عليها.
وروي عن أبي حميد، أنَّه قال: فإذا قعد ـ يعنى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ـ للتشهد، أضجع رجله اليسرى، ونصب اليمنى على صدرها.
وروى ابن أبي شيبة بإسناده، عن إسرائيل، عن أبي إسحاق، عن الحارث، عن علي عليه السلام أنَّه كان ينصب اليمنى، ويفترش اليسرى.
مسألة [
قال: فإذا اطمأن على قدمه اليسرى قاعداً، كبر، وسجد السجدة الثانية، فسبح فيها بما سبح في السجدة الأولى، وفعل ما فعل، ثُمَّ ينهض بتكبيرة، ويعتمد على يديه حتى يستوي قائماً، ثُمَّ يمضي كذلك في باقي صلاته.
وجميع ذلك منصوص عليه في (الأحكام)(2)، غير الإعتماد على اليدين عند النهوض فإنه منصوص عليه في (المنتخب)(3)، وقد بينا الوجه في جميع ذلك في مواضعه التي مضت.
والإعتماد على يديه عند النهوض وجهه أنَّه قد ثبت أن الاعتماد عليهما عند السجود بما بيناه وشرحناه، فإذا ثبت أنهما موضعا الاعتماد بين الاستواء والانحطاط، كان هذا أولى أن يعتمد عليهما عند النهوض.
مسألة [ في المستحب في الركعتين الأخيرتين وثالثة المغرب ]
قال: ويستحب له أن يقول في الركعتين الآخرتين من الظهر والعصر والعشاء والركعة الأخيرة من المغرب: سبحان الله، والحمدلله، ولا إله إلاَّ الله، والله أكبر، ثلاثاً، فإن قرأ فاتحة الكتاب بدلاً من ذلك، أجزأه، والتسبيح أفضل.
__________
(1) ـ انظر الأحكام 1/93.
(2) ـ انظر الأحكام 1/93.
(3) ـ انظر المنتخب ص42.
وذلك كله منصوص عليه في (الأحكام) و(المنتخب)(1). (16/27)
والوجه في ذلك ـ ما ذكره يحيى عليه السلام ـ وحكاه عن القاسم عليه السلام أنَّه مروي عن أمير المؤمنين عليه السلام.
وللإستدلال به طريقان: أحدهما: أنا نذهب إلى أن أمير المؤمنين عليه السلام إذا قال قولاً، وجب اتباعه، ولم يجز مخالفته، فعلى هذا يجب أن يكون فعله أولى من فعل غيره.
والثاني: أن الأمر الذي لا مجال فيه للاجتهاد لا يجوز أن يعمل به الصحابي إذا أحسنا الظن به، إلاَّ بنص عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم، وقد علمنا أن موضع القراءة والتسبيح من الصلاة لا تعلم اجتهاداً؛ لأنهما جاريان مجرى الأصول، وإن كنا نرجح بعضها على بعض بالاجتهاد، فإذا ثبت ذلك، ثبت أن أمير المؤمنين عليه السلام لم يفعله، إلاَّ بنص عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم.
وقد استدل يحيى بن الحسين صلوات الله عليه في هذه المسألة، وفي كثير من نظائرها بهذة الطريقة، واستدل على ذلك بأن قال: إنا وجدنا أذكار الصلاة تختلف فمنها ما يجهر به في جميع الأحوال، وهو: التكبير والتسليم.
ومنها ما يجهر به في حال ويخافت به في حال، وهي القراءة في الأولتين من المكتوبات، فإنها يجهر بها في المغرب والعشاء والفجر، ويخافت بها في الظهر والعصر.
ومنها ما يخافت به في جميع الأحوال وهو التسبيح في الركوع والسجود، وما يجري مجراه من التشهد.
فلما وجدنا ما يقال في الركعتين الأخيرتين مخافتاً به في جميع الأحوال، قلنا: إن الأَولى أن يكون ذلك تسبيحاً(2).
__________
(1) ـ انظر الأحكام 1/94 ـ 95. انظر المنتخب ص45.
(2) ـ انظر الأحكام 1/95 ـ 102.
وليس لأحد أن يقول: إن قول الله تعالى: {فَاقْرَأُوا مَا تَيَسَّرَ مِنَ الْقُرْآنِ}[المزمل:20]، وقوله صلى الله عليه وآله وسلم: (( كل صلاة لا يقرأ فيها بفاتحة الكتاب فهي خداج )) يقتضي تكرير القراءة في كل ركعة؛ لأنا قد بينا فيما تقدم أن ذلك كله يقتضي قراءة مرة واحدة في الصلاة، وأوضحنا الكلام فيه. (16/28)
ووجه اختياره هذا التسبيح بعينه أنَّه كالبدل من القرآن بدلالة ما رواه أبو بكر الجصاص، بإسناده عن عبدالله بن أبي أوفى، قال: جاء رجل إلى النبي صلى الله عليه وآله وسلم فقال: إني لا أستطيع أن آخذ من القرآن شيئاً، فعلمني ما يجزيني!
فقال: (( قل سبحان الله، والحمدلله، ولا إله إلاَّ الله، والله أكبر، ولا حول ولا قوة إلاَّ بالله العلي العظيم )).
وفي الحديث الذي ذكرناه بإسناده في مسألة الانتصاب بعد الركوع عن رفاعة بن رافع أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم كان جالساً في المسجد، فدخل رجل فصلى، فقال له رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم إذا قمت في الصلاة، فكبر، ثُمَّ اقرأ إن كان معك قرآن، فإن لم يكن معك قرآن، فاحمد الله، وكبر، وهلل، ثُمَّ اركع )). فجعله صلى الله عليه وآله وسلم بدلاً من القرآن.
فإن قيل: قولكم هذا ظاهر الفساد؛ لأنَّه يؤدي إلى أن يكون غير القرآن من الذكر أفضل من القرآن.
قيل له: لسنا نقول ذلك مطلقاً، ولا يؤدي قولنا إليه، وإنما نقول: إن الركعتين الآخرتين هما موضع التسبيح، فالتسبيح فيهما أفضل، ألا ترى أنَّه لا خلاف في أن التسبيح في الركوع والسجود أفضل من القراءة، لمَّا كانا موضعين للتسبيح، ولم يؤد ذلك إلى أن يكون التسبيح أفضل من القرآن.
يؤكد ذلك أنا نمنع الحائض والجنب من قراءة القرآن، ولا نمنعهما من التسبيح، فبان أن الأحوال تختلف فمن الأحوال ما تمنع معها القراءة رأساً، ولا تمنع من سائر الأذكار.
ومنها ما يختار معها سائر الأذكار على القراءة، وشيء من ذلك لا يوجب أن يكون غير القرآن من الأذكار أفضل من القرآن. (16/29)
مسألة [ في التشهد الأوسط وصيغته ]
قال: فإذا قعد للتشهد، قال: باسم الله، وبالله، والحمدلله، والأسماء الحسنى، كلها لله، أشهد أن لا إله إلاَّ الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، ثُمَّ ينهض إن كان ذلك في الأولتين.
وهذا منصوص عليه في (الأحكام) و(المنتخب)(1).
والأصل في ذلك ما أخبرنا به أبو الحسين بن إسماعيل، حدثنا الناصر للحق، حدثنا محمد بن منصور، عن إبراهيم بن محمد بن ميمون، عن محمد بن كثير، عن محمد بن عبد الله، عن أبي إسحاق، عن الحارث، عن علي عليه السلام أنَّه كان يقول في التشهد في الركعتين الأولتين: "باسم الله، وبالله، والحمدلله، والأسماء الحسنى كلها لله، أشهد أن لا إله إلاَّ الله وحده لا شريك له، وأن محمداً عبده ورسوله".
وروى هذا التشهد محمد بن منصور، عن أحمد بن عيسى، عن حسين، عن أبي خالد، عن زيد بن علي، عن آبائه، عن علي عليهم السلام، إلاَّ أنَّه قال: وأشهد أن محمداً عبده ورسوله.
ورواه محمد بن منصور، عن القاسم عليه السلام.
وروى أبو الزبير، عن جابر بن عبدالله، قال: كان رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يعلمنا التشهد كما يعلمنا السورة من القرآن: "باسم الله وبالله.."، ثُمَّ ذكر قريباً من تشهد ابن مسعود، ولا أحد يقول ذلك في أول (2) التشهد إلاَّ أتمه، على ما يُروى عن أمير المؤمنين عليه السلام.
مسألة [ في التشهد الأخير ]
قال: وإن أراد أن يسلم عقيبه، قال: اللهم صلّ على محمد وعلى آل محمد، وبارك على محمد وعلى آل محمد، كما صليت، وباركت على إبراهيم وعلى آل إبراهيم، إنك حميد مجيد.
وهذا منصوص عليه في (الأحكام)(3).
__________
(1) ـ انظر الأحكام 1/94. وانظر المنتخب ص42.
(2) ـ سفط من (ب): أول.
(3) ـ انظر الأحكام 1/102.
وإذا ثبت وجوب الصلاة على محمد وآل محمد بما تقدم، كان الأولى أن يقال على هذا اللفظ؛ لما أخبرنا به أبو الحسين البروجردي، حدثنا سفيان بن هارون، حدثنا علي بن حرب، عن سفيان، عن يزيد بن أبي زياد، عن ابن أبي ليلى، عن كعب بن عجرة، قلنا: يا رسول الله، لو(1) علمتنا كيف نسلم عليك، وكيف نصلي عليك؟ قال: (( قل: اللهم، صل على محمد وعلى آل محمد، كما صليت على إبراهيم وعلى آل إبراهيم، إنك حميد مجيد، وبارك على محمد وعلى آل محمد، كما باركت على إبراهيم وعلى آل إبراهيم، إنك حميد مجيد )). (16/30)
مسألة [ في التسليم وكيفيته ]
قال: ثُمَّ يسلم تسليمة عن يمينه، وتسليمة عن يساره، إن كان وحده، نوى بذلك الملكين، وإن كان في جماعة، نوى الملكين ومن معه من المسلمين، يقول: السلام عليكم ورحمة الله.
وذلك كله منصوص عليه في (الأحكام)(2)، ومروي فيه عن القاسم عليه السلام.
والأصل فيه ما أخبرنا به أبو بكر المقرئ، حدثنا الطحاوي، حدثنا علي بن شيبة(3)، حدثنا عبدالله بن موسى العبسي، قال: أخبرنا سفيان، عن أبي إسحاق، عن أبي الأحوص، عن عبدالله قال: كان رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يسلم عن يمينة وعن شماله حتى يبدو بياض خده: السلام عليكم ورحمة الله، السلام عليكم ورحمة الله(4).
__________
(1) ـ (قد) في نسخة بدلاً عن لو، وهو الموافق للرواية.
(2) ـ انظر الأحكام 1/102، فحيث ذكر أنه يسلم فقط.
(3) ـ في (ب): ابن أبي شيبة، إلا أنه ذكر في الهامش أن الأصل ما أثبت.
(4) ـ أخرجه الطحاوي في شرح معاني الآثار 1/267. وفيه: عبيد الله، بدل: عبد الله.
وأخبرنا أبو بكر المقرئ، حدثنا الطحاوي، حدثنا فهد، حدثنا أحمد بن يونس، حدثنا أبو بكر بن عياش، عن أبي إسحاق، عن يزيد بن أبي مريم، عن أبي موسى، قال: صلى بنا علي صلوات الله عليه يوم الجمل صلاة ذكرنا صلاة رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، إما أن نكون نسيناها، أو تركناها على عمد، فكان يكبر في كل خفض ورفع، ويسلم عن يمينه ويساره(1). (16/31)
فإن قيل: روي عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أنَّه سلم تسليمة واحدة.
قيل له: خبرنا أولى؛ لأن فيه زيادة، سيما وأخبارنا أكثر وأشهر.
وروى أبو بكر الجصاص بإسناده، عن جابر بن سمره، قال: كنا إذا صلينا خلف رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، فسلم أحدنا، أشار بيده من عن يمينه، ومن عن يساره، فلما صلى، قال: (( ما بال أحدكم يومئ بيده(2) كأنها أذناب خيل شمس، أما يكفي ـ أو لا يكفي ـ أحدكم أن يقول هكذا ـ وأشار بإصبعه ـ يسلم على أخيه عن يمينه وعن يساره ))، فدل صلى الله عليه وآله وسلم على أن ذلك سلام على الحاضرين، فينبغي أن ينويهم حتى يقع موقعه.
على أن قول القائل: السلام عليكم مخاطبة تقتضي المخاطب، ولا بد من أن يقصد إلى أن يكون الخطاب خطاباً له، ولا مخاطب، قيل فيه ذلك إلاَّ الحفظة من الملائكة، والحُضّر من المسلمين معه في الصلاة، فوجب أن ينويهم بالسلام.
فصل [ ولا يُحل الصلاةَ إلا التسليمتان ]
قال في (المنتخب)(3): ولا يُحل الصلاةَ إلا التسليمتان، ولا صلاة إلاَّ بتسليمتين، فكأنه جعلهما جميعاً فرضين.
__________
(1) ـ أخرجه الطحاوي في شرح معاني الآثار 1/267.
(2) ـ يومئ بيديه كأنها ، في نسخة.
(3) ـ انظر المنتخب ص44.
والأصل فيه ما ثبت من النبي صلى الله عليه وآله وسلم، أنَّه كان يسلم تسليمتين على ما بيناه، وقد قال: (( صلوا كما رأيتموني أصلي )). فثبت وجوبهما، وقد بينا فيما مضى أن أفعاله صلى الله عليه وآله وسلم في الصلاة تدل(1) على الوجوب؛ لأنها بيان لمجمل واجب، فوجب بهذا ـ أيضاً ـ أن تكون التسليمتان واجبتين. (16/32)
وليس لأحد أن يقول: إن الأذكار لا ينطلق عليها اسم الصلاة؛ لأن الاسم يتناول جملتها، وجملتها مشتملة على الأفعال والأذكار، وفي حديث معاوية بن الحكم السلمي، قال: قال النبي صلى الله عليه وآله وسلم: (( إنما الصلاة التسبيح، والتحميد، وقراءة القرآن )). فبين صلى الله عليه وآله وسلم، أن الأذكار من الصلاة.
مسألة [ صيغة أخرى للتشهد ]
قال: فإن(2) قال في التشهد: التحيات لله، والصلوات، والطيبات، [أشهد أن لا إله إلاَّ الله، ويتم التشهد، فلا بأس به.
وهذا منصوص عليه في (المنتخب)(3).
والأصل فيه الأخبار الواردة عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم.
وروى ابن مسعود بهذا اللفظ: "التحيات لله والصلوات والطيبات"](4)، بإثبات الواوين.
وروى غيره بغير هذا اللفظ، إلاَّ أن هذا أولى؛ لأن عبدالله قال: أخذت التشهد من في رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، ولقننيها كلمة كلمة.
واختار يحيى بن الحسين صلوات الله عليه ما روي عن أمير المؤمنين عليه السلام، لما بيناه من أن ما يروى عنه أولى مما يروى عن غيره، وأن ما روي عنه موقوفاً مما لا مسرح فيه للاجتهاد، كان ذلك كالمسند إلى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم.
مسألة [ وتكره الحركات في الصلاة ]
__________
(1) ـ سقط من (أ): تدل.
(2) ـ في (أ) و(ب): وأن.
(3) ـ انظر المنتخب ص42.
(4) ـ ما بين المعكوفين ساقط من (أ) و(ب).
قال: "ويكره للمصلي أن ينفخ في صلاته، وأن يشير، أو يتفكر، أو يمسح جبهته من أثر السجود، وأن يعبث بلحيته، أو يفرقع بأصابعه، أو يرفع إحدى رجليه في قيامه، أو يعبث بتنقية أنفه، أو يلتفت في صلاته عن يمينه، أو عن شماله". (16/33)
وهذا كله منصوص عليه في (الأحكام)(1).
واستدل على ذلك:
بما أخبرنا به أبو الحسين بن إسماعيل، حدثنا الناصر عليه السلام، عن محمد بن منصور، حدثنا أحمد بن عيسى، عن حسين، عن أبي خالد، عن زيد بن علي، عن آبائه، عن علي عليهم السلام، قال: أبصر رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم رجلاً يعبث في الصلاة بلحيته، فقال: (( أمّا هذا، فلو خشع قلبه، لخشعت جوارحه )).
وقد قال تعالى: {قَدْ أَفْلَحَ الْمُؤمِنُونَ الَّذِيْنَ هُمْ فِيْ صَلاتِهِمْ خَاشِعُونَ}[المؤمنون:1،2]، وكل هذه الأحوال خلاف الخشوع.
وذكر أبو العباس الحسني رحمه الله في (كتاب النصوص) حديث عبدالله بن خارجة، عن زيد بن ثابت: أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم نهى أن ينفخ في الشراب(2)، وأن ينفخ بين يديه في القبلة.
وذكر أن في حديث أبي ذر، عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم: (( لا يمسح الحصى إلاَّ مرة واحدة؛ ولأن تصبر عنه خير لك من مائة ناقة، كلها سود الحدق )). فكل ذلك يصحح ما ذكرناه.
مسألة [ في التامين بعد الفاتحة ]
قال: ولا يجوز أن يقول في صلاته بعد قراءة الحمد: "آمين".
وهذا منصوص عليه في (الأحكام) و(المنتخب)(3)، وهو مذهب جميع أهل البيت عليه السلام، إلاَّ ما يروى عن أحمد بن عيسى عليه السلام أنَّه أجازه، ومنع يحيى بن الحسين عليه السلام منه؛ لأنَّه ليس من القرآن.
والوجه في ذلك:
__________
(1) ـ انظر الأحكام 1/106.
(2) ـ في (ب): في التراب.
(3) ـ انظر الأحكام 1/106.
ما أخبرنا به أبو العباس الحسني رحمه الله، حدثنا عبدالرحمن بن أبي حاتم، حدثنا يونس بن حبيب، حدثنا أبو داود الطيالسي، حدثنا حرب بن شداد، وأبان بن يزيد، عن يحيى بن كثير، عن هلال بن أبي ميمونة، عن عطاء بن يسار، عن معاوية بن الحكم السلمي، قال: صليت مع رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، فعطس رجل - إلى جنبي -(1) فقلت: يرحمك الله، فرماني القوم بأبصارهم، فقلت واثكل أماه، مالي أراكم تنظرون إليَّ، وأنا أصلي، فجعلوا يضربون بأيديهم على أفخاذهم يصمتوني، فلما قضى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم صلاته؛ بأبي وأمي ما رأيت أحداً - قبله ولا بعده - أحسن تعليماً منه، والله ما كهرني، ولا سبني، ولا ضربني، ولكنه قال: (( إن صلاتنا هذه لا يصلح فيها شيء من كلام الناس، إنَّما الصلاة التسبيح، والتحميد، وقراءة القرآن )). (16/34)
فدل ذلك على أن التأمين ليس من أذكار الصلاة.
فإن قيل: فقد روى التأمين وائل بن حجر.
قيل له: وائل عندنا غير مقبول؛ لأنَّه فيما روي كان يكتب بأسرار علي عليه السلام إلى معاوية، وفي دون ذلك تسقط العدالة، على أنَّه إن صح، كان منسوخاً بالحديث الذي قدمناه. ألا ترى إلى قوله صلى الله عليه وآله وسلم: (( إن صلاتنا هذه لا يصلح فيها شيء من كلام الناس ))(2).
ألا ترى أنَّه يمنع من كل كلام لا يكون من القرآن، وقوله: (( إنما الصلاة التسبيح والتحميد وقراءة القرآن ))، وفي بعض الروايات: (( التكبير ))، وهذا ـ أيضاً ـ يدل على ما قلناه.
__________
(1) ـ سقط من (ب): إلى جنبي.
(2) ـ في (أ): من كلام الناس، إنما الصلاة التسبيح والتحميد وقراءة القرآن. فدل ذلك على أن التأمين ليس من أركان الصلاة. فإن قيل: ألاترى ..
وأخبرنا أبو العباس الحسني رحمه الله، حدثنا أبو أحمد الأنماطي محمد بن جعفر، حدثنا محمد بن يونس، حدثنا عمرو بن عاصم، حدثنا المعتمر بن سليمان، قال: سمعت أبي يحدث عن الأعمش، عن أبي صالح، عن أبي هريرة، قال: قال رسول الله: (( إذا قال الإمام: {غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ وَلا الضَّآلِيْنَ}[الفاتحة:7]، فأنصتوا )). (16/35)
فاقتضى ذلك المنع من النطق الذي يكون تابعاً لفاتحة الكتاب، وليس ذلك إلاَّ "آمين"، فوجب نسخه.
فإن قيل: فهذا يلزمكم في القراءة بعدها.
قيل له: هذا لا يلزم، لأن القراءة ليست تابعة لفاتحة الكتاب، وآمين تابع لها، والأمر بالإنصات على سبيل الاتباع لفاتحة الكتاب، فهو ينسخ النطق الذي يؤتي به على سبيل الاتباع له، على أن وائلاً مرة روى أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم رفع بها صوته، ومرة روى خفض بها صوته، وهذا يوجب اضطراب حديثه، وضعفه، على أن ما ذهبنا إليه هو إجماع أهل البيت عليهم السلام، وقد بينا أن إجماعهم عندنا حجة.
فإن قيل: فقد روي ذلك عن أحمد بن عيسى عليه السلام، فكيف أدعيتم إجماع أهل البيت عليهم السلام؟
قيل له: روي عنه إجازة ذلك، دون الاختيار، فلا خلاف إذاً في أنَّه لا يقال في الصلاة، على أن أهل البيت عليهم السلام قد أجمعوا، والإجماع محكوم به في أي وقت انعقد.
مسألة [ والقهقهة والضحك يفسد أن الصلاة ]
والقهقهقة في الصلاة مفسدة لها، وكذلك الضحك إذا ملأ فاه، وشغله عما هو فيه من صلاته، وإن لم يبلغ أن يكون قهقهة.
وذلك منصوص عليه في (الأحكام)(1)، ولا خلاف في أن القهقة تفسدها.
والأصل فيه: ما روي أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم كان يصلي وخلفه أصحابه، فجاء أعمى، فوقع في بئر، فضحك بعضهم، فأمرهم صلى الله عليه وآله وسلم بإعادة الوضوء والصلاة.
__________
(1) ـ انظر الأحكام 1/111.
ووجه ما قلنا: إن الضحك الذي هو دون القهقهة ـ أيضاً ـ مفسد للصلاة: أنَّه قد ثبت في الأفعال التي يفسد كثيرها الصلاة، ولا يفسد قليلها، أن ما تجاوز منها القليل، وإن لم يبلغ أن يكون كثيراً، كان حكمه حكم الكثير، كالحركة التي تجاوز حد القلة، وكذلك الإشارة والإلتفات، فلما ثبت ذلك، وثبت أن الضحك الذي شغل المصلي عن الصلاة قد تجاوز التبسم الذي هو قليل في جنسه، قلنا: إن حكمه حكم القهقهة في أنها تفسد الصلاة؛ لأنَّه بالقهقهه أشبه منه بالتبسم، على أن الحديث الوارد هو بذكر الضحك دون ذكر القهقهة. (16/36)
مسألة [ في سجود التلاوة في الصلاة ]
قال: ولا ينبغي لمن قرأ في صلاة فريضة سجدة أن يسجد لها، فإن كان متطوعاً، جاز، وإن لم يفعل، كان أحب إلينا.
وجميع ذلك منصوص عليه في (الأحكام)(1). وخرَّج أبو العباس الحسني رحمه الله إبطال المكتوبة بها على ما نص عليه في (المنتخب)(2) من إبطال الصلاة على من سجد سجدتي السهو قبل التسليم.
والوجه في ذلك: أنَّه زاد في الصلاة ـ ذاكراً ـ زيادة ليست منها، لو نقص عنها مثلها، بطلت صلاته، فوجب فساد صلاته قياساً على الركعة الواحدة إذا زيدت مع الذكر، لمَّا كانت زيادة في الصلاة ليست منها، كما(3) لو نقص مثلها منها بطلت الصلاة.
فإن سأل عمن زاد في القراءة على الواجب؟
قيل له: هو من الصلاة، وإن لم يكن من واجبها، فليس يلزم هذا على علتنا.
فإن قال: ليست العلة في فساد صلاة من زاد فيها ركعة أنها زيادة على الوجه الذي ذكرتم، بل العلة في ذلك أنَّه نقض الصلاة بتركه القعود قبل الابتداء في الركعة الزائدة؛ لأنَّه لو فعله تمت صلاته.
__________
(1) ـ انظر الأحكام 1/113 ـ 114.
(2) ـ انظر المنتخب ص42.
(3) ـ سقط من (ب): كما.
قيل له: لا يضرنا ما ذكرت، وإن كان عندنا فاسداً؛ إذ فساد الصلاة على سواء قعدت للصلاة(1)، أو لم تقعد عندنا، وذلك أن قولك: إن العلة هي في ذلك النقص لا معنى له؛ لأنَّه لو أتى بتلك الجلسة بعد الركعة الزائدة، كانت الصلاة عندكم فاسدة. (16/37)
وليس لكم أن تقولوا: إن الصلاة فسدت، لأن الجلسة أُخرت؛ لأنه لو قام، ثم جلس قبل أن يتم الركعة، صحت الصلاة عندكم، فبان أن العلة هي ما ذكرناه.
فإن قيل: إنها تصير من الصلاة إذا قرئت سورة فيها سجدة، فلا تكون زيادة ليست منها؛ لأن السورة صارت من الصلاة إذا قرئت فيها، والسجدة واجبة بالسورة، فصارت من الصلاة.
قيل له: هي عندنا غير واجبة بالسورة، فبطل ما تعلقتم به، وسنبين الكلام فيه بعد هذه المسألة.
فإن قيل: روي أن رسول اللّه صلى الله عليه وآله وسلم سجد في صلاة الصبح بتنزيل السجدة.
قيل له: يحتمل أن يكون المراد به أنَّه صلى صلاة الصبح بتنزيل السجدة، فعبر بالسجود عن الصلاة كما يعبر عنها بالركوع، فيقال: ركع بمعنى صلى، ويحتمل أن يكون الراوي أراد به ركعتي الفجر، فعبر عنها بصلاة الصبح، فأما النافلة فلم يرَ يحيى عليه السلام بأساً أن يسجد فيها للتلاوة؛ لأنَّه لو زاد في النافلة ـ أيضاً ـ ما شاء من عدد الركعات لم يفسدها، فكذلك السجود، واستحب أن لا يسجد في النافلة ـ أيضاً ـ؛ لأنَّه روي أن النوافل مثنى مثنى، وأنه هو المستحب، فصار الاقتصار على ما هو الأصل منها هو المستحب.
مسألة [ في سجود التلاوة ]
قال القاسم عليه السلام: وليس السجود بفرض عند قراءة شيء من القرآن لا على من قرأ، ولا على من سمع.
وقال يحيى عليه السلام: إن المتنفل مخير في أن يسجدها.
فدل ذلك على أنَّه مستحب، إذ لم يقل أنَّه لا معنى له، على أنه لا خلاف فيه.
والأصل فيه أن وجوبه مفتقر إلى دلالة شرعية، ولم ترد دلالة شرعية تقتضي إيجابه، فوجب أن لا يكون واجباً، وأيضاً:
__________
(1) ـ في (أ): قعدت للقعدة.
أخبرنا أبو بكر المقرئ، حدثنا الطحاوي، عن يونس، حدثنا وهب، قال: أخبرني أبو صخر، عن يزيد بن عبد الله(1) بن قُسَيط، عن خارجة بن زيد بن ثابت، عن أبيه، قال: عرضت على النبي صلى الله عليه وآله وسلم النجم فلم يسجد أحد منا(2). (16/38)
وأخبرنا أبو بكر المقرئ، قال: حدثنا الطحاوي، عن روح بن الفرج، حدثنا أبو مصعب الزهري، قال: حدثنا عبد العزيز بن محمد، عن مصعب بن ثابت، عن نافع، عن ابن عمر أن رسول اللّه صلى الله عليه وآله وسلم قرأ النجم، فسجد، وسجد المسلمون معه والمشركون حتى سجد الرجل على الرجل، وحتى سجد الرجل على شيء رفعه إلى جبهته بكفه(3).
فلما ثبت ما ذكرناه من هذين الخبرين أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم سجد في حال، ولم يسجد في أخرى، ثبت أن السجود غير واجب، وأن الإنسان مخير فيه.
وأخبرنا أبو بكر [المقرئ، حدثنا أبو جعفر الطحاوي، عن ابن مرزوق، قال: حدثنا أبو عامر، وبشر بن عمر، عن](4) ابن أبي ذؤيب، عن الحارث بن عبدالرحمن، عن محمد بن عبد الرحمن بن ثوبان، عن أبي هريرة أن اللنبي صلى الله عليه وآله وسلم قرأ: {والنَّجْمِ} فسجد، وسجد الناس معه، إلاَّ رجلين أرادا الشهرة(5).
فدل هذا الخبر ـ أيضاً ـ أنه غير واجب إذ لو كان واجباً، لأنكر النبي صلى الله عليه وآله وسلم بتركه على الرجلين، ولم يقارهما عليه.
__________
(1) ـ سقط من (أ): بن عبد الله.
(2) ـ أخرجه الطحاوي في شرح معاني الآثار 1/352. وفيه: ابن وهب ويزيد بن قسيط، بدون: عبد الله.
(3) ـ أخرجه الطحاوي في شرح معاني الآثار 1/353. وفيه: إلى وجهه، بدل: جهته.
(4) ـ ما بين المعكوفين سقط من (أ) و(ب).
(5) ـ أخرجه الطحاوي في شرح معاني الآثار 1/353.
وروى الطحاوي بإسناده عن هشام بن عروة، عن أبيه أن عمر قرأ السجدة وهو على المنبر يوم الجمعة، فنزل فسجد، وسجدنا معه، ثم قرأ يوم الجمعة الأخرى، فتهيأوا للسجود، فقال عمر: على رسلكم إن اللّه عزَّ وجل لم يكتبها علينا، إلاَّ أن نشاء، فقرأها ولم يسجد، ومنعهم أن يسجدوا(1). (16/39)
ومثله إذا جرى منه بحضرة المهاجرين والأنصار، ولم ينكر منهم أحد، جرى مجرى الإجماع.
فإن قيل: فظاهره يدل على أنها قد كتبت علينا إن شئنا.
قيل: هذا التأويل خلاف الإجماع، فوجب أن يكون ساقطاً، ومعناه إلاَّ أن نشاء، فإنه مستحب، وهذا من استثناء الشيء من غير جنسه، فكأنه قال: لم يكتب علينا، لكن إن نشاء، فإنه مستحب.
وقد روي عن عطاء بن يسار أنَّه سأل أبي بن كعب، هل في المفصل سجدة؟ قال: لا.
ويجب أن يكون أراد: ليست فيها سجدة واجبة؛ لأن أُبياً قد قرأ القرآن، وعرفه حتى قال صلى الله عليه وآله وسلم: (( أُبيٌّ أقرأكم ))، ولا يجوز أن يخفي عليه أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم، سجد في "والنجم"؛ لشهرة ذلك.
وروى ـ أيضاً ـ أبو هريرة أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم سجد في {اقْرَأْ}، و{إِذَا السَّمَاءُ انْشَقَّتْ}، ومن البعيد أن يخفى ذلك على أبي رحمه الله.
وروي عن زيد بن أسلم أن غلاماً قرأ عند النبي صلى الله عليه وآله وسلم السجدة، فانتظر الغلام النبي صلى الله عليه وآله وسلم يسجد، فلم يسجد، فقال: يا رسول الله، أليس فيه سجدة؟ قال: (( بلى، ولكنك إمامنا فلو سجدت سجدنا(2) ))).
فدل ذلك على أنَّه غير واجب؛ إذ لو كان واجباً، لسجد النبي صلى الله عليه وآله وسلم وأمر القارئ أن يسجد(3).
[ومما يدل على ذلك أن آية السجدة قياس سائر الآيات التي لا سجود فيها](4).
__________
(1) ـ أخرجه الطحاوي في شرح معاني الآثار 1/354.
(2) ـ في (أ): لسجدنا,
(3) ـ في (أ): وأمر القارئ بها.
(4) ـ ما بين المعكوفين ساقط من (أ) و(ب).
بمعنى أنها آية من القرآن، فوجب أن لا يكون السجود لقرائتها واجباً، ويقاس ـ أيضاً ـ على الآية التي في آخر سورة الحج وهو قوله: {يَا أَيُّهَا الَّذِيْنَ آمَنُوا ارْكَعُوا وَاسْجُدُوا} [الحج:77]، وعلى قوله تعالى: {أُقْنِتِي لِرَبِّكِ وَاسْجُدِي وَارْكَعِيْ مَعَ الرَّاكِعِيْنَ} [آل عمران:43]، والعلة أنها آية فيها ذكر السجود. (16/40)
فإن قال قائلٌ: قول اللّه تعالى: {وَإِذَا قُرِئَ عَلَيْهِمُ الْقُرْآنُ لا يَسْجُدُونَ}[الإنشقاق:21]، يدل على وجوب السجود عند القراءة؛ لأنَّه تعالى ذمهم على تركه، ولا يذم على ترك الشيء إلاَّ إذا كان واجباً.
قيل له: إن السجود المراد بهذه الآية هو الخضوع، وهو الذي ذم اللّه تعالى على تركه، وذلك معروف في اللغة، ومنه قول اللّه تعالى: {أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللّهَ يَسْجُدُ لَهُ مَنْ فِيْ السَّمَوَاتِ وَمَنْ فِيْ الأَرْضِ وَالشَّمْسُ وَالْقَمَرُ وَالنُّجُومُ}[الحج:18]، ومنه قول الشاعر:
ترى الأكم فيه سُجداً للحوافر
ويصحح تأويلنا هذا أنَّه غير واجب عند قراءة جميع القرآن، وما ذهبوا إليه يوجبونه عند قراءة آي في مواضع من القرآن مخصوصة، فصار ما ذهبنا إليه أولى.
فإن قيل روي عن أمير المؤمنين عليه السلام أنَّه قال: عزائم السجود {أَلَم تَنْزِيْلٌ}، و{حَم}، و{النَّجْمِ}، و{اقْرَأْ}؟
قيل له: ليس فيه أنَّه واجب، ويجوز أن يكون المراد به أنَّه أوكد في الاستحباب.
مسألة [ في رفع اليدين عند التكبير ]
ولا يرفع المصلي يديه في شيء من التكبيرات، لا الأولى ولا غيرها، ولا في القنوت.
نص في (الأحكام)(1) على أن المصلي لا يرفع يديه في شيء من التكبيرات. ونص القاسم عليه السلام في (مسائل النيروسي)، على أنَّه لا يرفع يديه في دعاء القنوت.
والأصل فيه:
__________
(1) ـ انظر الأحكام 1/92.
ما أخبرنا به أبو العباس الحسني رحمه الله، قال: أخبرنا إسماعيل بن إبراهيم بن شنبذين، قال: أخبرنا أبو قلابة عبدالملك بن محمد الرقاشي، قال: أخبرنا أبو زيد الهروي، وأبو الوليد، قالا: حدثنا شعبة، عن سليمان ـ يعني الأعمش ـ، عن المسيب بن رافع، عن تميم بن طرفة، عن جابر بن سمرة، قال: دخل النبي صلى الله عليه وآله وسلم المسجد، وهم رافعون أيديهم في الصلاة، فقال: (( مالي أراكم رافعي أيديكم كأنها أذناب خيل شمس، اسكنوا في الصلاة )). (16/41)
وأخبرنا أحمد بن علي النيسابوري، حدثنا أبو سعيد أحمد بن [محمد بن](1) إبراهيم العدل، حدثنا أحمد بن العباس بن حمزة، حدثنا محمد بن مهاجر البغدادي، حدثنا أبو معاوية، ويحيى بن سعيد القطان، قالا: حدثنا الأعمش، عن المسيب، عن تميم، عن جابر بن سمرة، قال: قال رسول اللّه صلى الله عليه وآله وسلم: (( مالي أراكم رافعي أيديكم في الصلاة كأنها أذناب خيل شمس، اسكنوا في الصلاة )).
ففي هذا الحديث دلالة من وجهين على صحة ما اختاره القاسم، ويحيى عليهما السلام:
أحدهما: قوله: (( مالي أراكم رافعي أيديكم في الصلاة كأنها أذناب خيل شمس )). فذم رفع أيديهم في الصلاة، وذلك يقتضي النهي، ويجري مجرى قوله: لا ترفعوا أيديكم في الصلاة، وذلك يشتمل على التكبيرة الأولى، وسائر التكبيرات، والقنوت، في أن رفع الأيدي عندها(2) منهي عنه.
والوجه الثاني: قوله: (( اسكنوا في الصلاة ))؛ لأنه أوجب السكون في الصلاة، ورفع الأيدي ترك له، فوجب أن يكون منهيّاً عنه.
__________
(1) ـ زيادة من (ج).
(2) ـ في (ب): عندنا.
وأخبرنا أبو العباس الحسني قال: أخبرنا ابن شنبذين، حدثنا أبو قلابة، [حدثنا عبد الصمد بن عبد الوارث، وبشر بن عمر، قالا:](1) حدثنا شعبة، عن عبد ربه، عن سعيد، عن أنس بن أبي أنيس، عن عبدالله بن نافع بن العمياء، عن عبدالله بن الحارث، عن المطلب بن أبي وداعة، أن رسول اللّه صلى الله عليه وآله وسلم قال: (( الصلاة مثنى مثنى، فتباؤس وتسكن(2) ))) فأوجب صلى الله عليه وآله وسلم التسكن فيها. (16/42)
فإن قيل: يحتمل أن يكون قوله: (( مالي أراكم رافعي أيديكم في الصلاة )). خرج في قوم رفعوا أيديهم في غير موضع الرفع.
قيل له: إنَّه صلى الله عليه وآله وسلم ذم رفع الأيدي في الصلاة من غير أن يكون استثنى منها موضعاً من موضع، فاقتضى ذلك النهي عن رفع الأيدي فيها عاماً من غير تخصيص، وذلك هو ما ذهبنا إليه.
ويدل على ذلك أيضاً قوله تعالى: {قَدْ أَفْلَحَ الْمُؤْمِنُونَ الَّذِيْنَ هُمْ فِيْ صَلاتِهِمْ خَاشِعُونَ} [المؤمنون:1،2]، والخشوع هو السكون.
ومنه قيل في قوله تعالى: {وَخَشَعَتِ الأَصْوَاتُ لِلرَّحْمَنِ}، أي سكنت الأصوات.
ومنه حديث زيد بن علي، عن آبائه، عن علي عليهم السلام بإسناد له ـ تقدم في الكتاب ـ أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم رأى رجلاً يعبث بلحيته في صلاته فقال: (( لو خشع قلب هذا، لخشعت جوارحه )).
فأما الأخبار الواردة في رفع اليدين عند التكبيرات فهي عندنا منسوخة بقوله صلى الله عليه وآله وسلم: (( مالي أراكم رافعي أيديكم كأنها أذناب خيل شمس )). وبقوله: (( اسكنوا في الصلاة )).
وذكر الجصاص أن في بعض الأخبار (( كفّوا أيديكم في الصلاة ))، وعلى أن في جمل ما روي في ذلك من الأخبار ما لا خلاف في أنَّه منسوخ، وهو رفع اليدين عند القيام من السجدة، وكذلك رفع اليدين بين السجدتين منسوخ عند أكثر العلماء.
__________
(1) ـ ما بين المعكوفين ساقط من (أ) و(ب).
(2) ـ في (أ): فخشوع وتسكن.
وأخبرنا أحمد بن علي النيسابوري،، حدثنا أبو سعيد العدل، حدثنا أحمد بن العباس بن حمزة، حدثنا محمد بن مهاجر، حدثنا سفيان بن عيينة، عن يزيد بن أبي زياد، عن ابن أبي ليلى، عن البراء، قال: كان رسول اللّه صلى الله عليه وآله وسلم يرفع يديه في أول تكبيرة، ثم لم يعد(1)، [فقوله: كان يرفع يديه في أول تكبيرة، يدل](2)، على أن صلاته كانت استقرت على أن لا يرفع يديه(3)، إلاَّ في التكبيرة الأولى؛ لأنَّه فعل ذلك على سبيل التعليم لصلاة النبي صلى الله عليه وآله وسلم، ثم لم يكن يرفع يديه في غيرها، وفي ذلك نسخ رفع اليدين في غيرها من التكبيرات، وقوله: (( ثم لم يعد ))، يدل على نسخ الرفع في التكبيرة الأولى؛ لأن قوله: ثم لم يعد، يبين له تركه بعد فعله، وهو دليل النسخ. (16/43)
ومن جهة النظر أن الجميع قد أجمعوا على أن الأيدي لا ترفع عند التكبيرة التي تفعل للقيام من السجود، وكذلك لا ترفع بين السجدتين عند أكثر العلماء، فوجب أن لا يرفع عند شيء من التكبيرات، والمعنى أنها من الصلاة.
وكذلك قد ثبت أنَّه إذا كان في القراءة دعاء لم يرفع الأيدي، فكذلك في القنوت، والمعنى أنَّه دعاء، في الصلاة.
مسألة [ في حكم القنوت وموضعه ]
والقنوت سنة في الركعة الأخيرة من الفجر، والوتر، بعد الركوع، يجهر به، ولا يقنت فيهما بشيء سوى آيات من القرآن.
قد نص في (الأحكام) و(المنتخب)(4) على أنَّه في الفجر والوتر بعد الركوع، وعلى أنه ليس بواجب.
ونص في (المنتخب)(5) على أنه مجهور به.
والوجه فيه:
__________
(1) ـ في (أ): لم يعده.
(2) ـ ما بين المعكوفين ساقط من (أ) و(ب).
(3) ـ في (ج): يديه فيها.
(4) ـ انظر الأحكام 1/107. والمنتخب ص58.
(5) ـ انظر المنتخب ص58.
ما أخبرنا به أبو بكر المقرئ، حدثنا الطحاوي، حدثنا ابن أبي داود، حدثنا أبو معمر، حدثنا عبد الوراث، حدثنا عمرو بن عبيد، عن الحسن، عن أنس، قال: صليت مع رسول اللّه صلى الله عليه وآله وسلم صلاة الغداة، فلم يزل يقنت حتى فارقته(1). (16/44)
وأخبرنا أبو بكر المقرئ، حدثنا الطحاوي، حدثنا فهد، حدثنا أبو نعيم، حدثنا أبو جعفر الرازي، عن الربيع بن أنس، قال: كنت جالساً عند أنس بن مالك، فقيل له: إنما قنت رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم شهراً. فقال: ما زال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يقنت في صلاة الغداة حتى فارق الدنيا(2).
وأخبرنا أبو بكر [المقرئ، حدثنا أبو جعفر الطحاوي](3)، قال: أخبرنا الحسين بن عبدالله بن منصور الرئيس، حدثنا الهيثم بن جميل، حدثنا أبو هلال الراسبي، عن حنظلة السدوسي، عن أنس، قال: رأيت رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم في صلاة الصبح يكبر، حتى إذا فرغ، كبر، فركع، ثم رفع رأسه [فسجد، ثم قام في الثانية، فقرأ حتى إذا فرغ، كبر، فركع، ثم رفع رأسه](4) فدعا، فصرح بأنه قنت بعد الركوع(5).
وأخبرنا أبو العباس الحسني رحمه الله، قال: أخبرنا محمد بن الحسين العلوي المصري، حدثنا أبي، حدثنا زيد بن الحسن، عن أبي بكر بن أبي أويس، عن ابن ضميرة، عن أبيه، عن جده، عن علي عليه السلام، أنَّه كان يقنت في الوتر والصبح، يقنت فيهما في الركعة الأخيرة حين يرفع رأسه من الركوع.
__________
(1) ـ أخرجه الطحاوي في شرح معاني الآثار 1/243.
(2) ـ أخرجه الطحاوي في شرح معاني الآثار 1/244.
(3) ـ ما بين المعكوفين ساقط من (أ) و(ج).
(4) ـ ما بين المعكوفين ساقط من (أ) و(ب).
(5) ـ أخرجه الطحاوي في شرح معاني الآثار 1/244. وفيه: الحسن بن عبد الله بن منصور البائسي.
وأخبرنا(1) أبو الحسين بن إسماعيل(2)، حدثنا الناصر للحق عليه السلام قال: أخبرنا محمد بن علي بن خلف، قال: أخبرنا عمر بن عبد الغفار، حدثنا مسعود بن سعد الجعفي، عن عمران بن مسلم، قال: عُوتب سويد بن غفلة في القنوت في الفجر، فقيل له: إن أصحاب عبدالله لا يقنتون. قال: فقال سويد: أما أنا، فلا استوحش إلى أحد في القنوت، صليت خلف أبي بكر فقنت، وخلف عمر فقنت، وخلف عثمان فقنت، وخلف علي عليه السلام فقنت. (16/45)
وقد ذكرنا في مسألة الوتر ما ورد في قنوت الوتر، وبينا فيها الوجه الذي من أجله اخترنا أن يكون القنوت بعد الركوع، وحديث أنس يصرح بذلك، وكذلك حديث ابن ضميرة، عن علي عليه السلام.
فأما وجه الجهر، فهو: أن الاختيار عندنا أن يكون القنوت بآية من كتاب اللّه عزَّ وجل، ووجدنا القراءة في الصبح وفي الوتر مجهوراً بها، فألحقنا حكم القنوت بحكم القراءة فيها.
وأما ماله اخترنا أن يكون القنوت بآية من كتاب اللّه، فما ذكرناه في مسألة التأمين من قول النبي صلى الله عليه وآله وسلم: (( إن صلاتنا هذه لا يصلح فيها شيء من كلام الناس ))، ولأن الغرض في القنوت هو الدعاء، والثناء على اللّه عزَّ وجل، فإذا أمكن ذلك بآية من كتاب اللّه عزَّ وجل، كان أولى.
وأخبرنا محمد بن عثمان النقاش، قال: أخبرنا الناصر عليه السلام، عن محمد بن منصور، عن محمد بن جميل، عن إسماعيل، عن عمرو، عن جابر(3)، عن أبي جعفر، قال: كان رسول اللّه صلى الله عليه وآله وسلم يقول في القنوت: (( لا إله إلاَّ اللّه العلي العليم ـ أو العظيم ـ والحمدلله رب العالمين، وسبحان اللّه عما يشركون، والله أكبر أهل التكبير، والحمدلله الكبير، ربنا لا تزغ قلوبنا بعد إذ هديتنا وهب لنا من لدنك رحمة إنك أنت الوهاب، ربنا لا تؤاخذنا إن نسينا أو أخطأنا... )) إلى آخرها.
__________
(1) ـ في (أ): حدثنا.
(2) ـ في (ج): الحسين علي بن إسماعيل.
(3) ـ في (أ): بن جابر.
وأخبرنا أبو العابس الحسني، قال: أخبرنا عبد العزيز بن إسحاق، حدثنا علي بن محمد بن الحسن النخعي، حدثني سليمان بن إبراهيم المحاربي، حدثني نصر بن مزاحم، حدثني إبراهيم بن الزبرقان، حدثني أبو خالد الواسطي، عن زيد بن علي، عن آبائه، عن علي علهيم السلام أنَّه كان يقنت في الفجر بهذة الآية: {آمَنَّا بَاللهِ وَمَا أُنْزِلَ إِلَيْنَا وَمَا أُنْزِلَ إِلَى إِبْرَاهِيْمَ..} إلى آخر الآية [البقرة:136]. (16/46)
مسألة [ في الجهر والإسرار بالقراءة]
قال: ويجهر بالقراءة في الركعتين الأولتين من المغرب، والعشاء، والفجر، ويخافت بها في الظهر والعصر.
وقد نبه على ذلك في (الأحكام)(1) وتأول عليه قوله تعالى: {وَلا تَجْهَرْ بِصَلاتِكَ وَلا تُخَافِتْ بِهَا وَابْتَغِ بَيْنَ ذَلِكَ سَبِيْلاً} [الإسراء:79]، قال: فمنع من المخافتة في صلاة الليل، والجهر في صلاة النهار، وهو مما لا خلاف فيه بين الأمة، وهو نقل الخلف عن السلف فعلاً وراوية.
مسألة [ في عدد تسبيح الركوع والسجود ]
قال: ويستحب أن لا يسبح في ركوعه وسجوده بأقل من ثلاث تسبيحات.
وقد نص على ذلك في (المنتخب)(2)، وذكر أن أقل ما روي عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم ثلاث تسبيحات.
وروي عن ابن مسعود، عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال: (( إذا ركع أحدكم، فليقل في ركوعه: سبحان ربي العظيم وبحمده، ثلاثاً، فإذا فعل ذلك، فقد تم ركوعه وذلك أدناه ))(3).
وروى الطحاوي بإسناده عن حذيفة، قال: كان النبي صلى الله عليه وآله وسلم يقول ذلك في الركوع والسجود ثلاثاً ثلاثاً(4). على أني لا أحفظ فيه خلافاً.
مسألة [ في صلاة العليل ]
__________
(1) ـ انظر الأحكام 1/91.
(2) ـ انظر المنتخب ص40.
(3) ـ أخرجه الطحاوي في شرح معاني الآثار 1/232.
(4) ـ أخرجه الطحاوي في شرح معاني الآثار 1/235.
قال: ويصلي العليل على قدر ما يمكنه، إن أمكنه قائماً، فقائماً، وإن أمكنه جالساً، فجالساً، إن صلى جالساً، جلس متربعاً في موضع القيام، وفعل جميع ما يفعله في الصلاة، وإن لم يقدر على السجود، أومأ برأسه إيماءً، يكون سجوده أخفض من ركوعه، وإن لم يقدر على الجلوس توجه إلى القبلة وصلى، فأومأ(1) في ركوعه وسجوده كما ذكرنا، فأما أن يقرب وجهه من شيء، أو شيئاً من وجهه، فلا يجوز، إنما هو سجود لمن أطاق، وإيماء لمن لم يطق. (16/47)
وكل ذلك منصوص عليه في (الأحكام)(2)، ولا خلاف أن العليل يصلي على قدر ما يمكنه قائماً إن أمكنه، وإن لم يمكنه فجالساً، وإن لم يمكنه فبإيماء.
وأخبرنا أبو الحسين بن إسماعيل، حدثنا ابن اليمان، حدثنا بن شجاع، حدثنا أبو أسامة، عن الأعمش، عن أبي سفيان، عن جابر أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم سقط من فرس، فانقلب قدمه، فدخلنا عليه نعوده، وهو يصلي جالساً، فصلينا بصلاته ونحن قيام، فأومأ إلينا أن اجلسوا، فلما صلى قال: (( إنما جعل الإمام ليؤتم به، فإذا صلى قائماً، فصلوا قياماً، وإذا صلى جالساً، فصلوا جلوساً )).
وروى محمد بن منصور، عن أحمد بن عيسى، عن حسين بن علوان، عن أبي خالد، عن زيد بن علي، عن آبائه، عن علي عليهم السلام، قال: دخل رسول اللّه صلى الله عليه وآله وسلم على رجل من الأنصار وقد شبكته الريح، فقال: يا رسول الله، كيف أصلى؟ فقال: (( إن استطعتم أن تجلسوه، فاجلسوه، وإلا فوجهوه إلى القبلة، ومُروه فليومئ إيماءً )).
__________
(1) ـ في (أ) و(ب): وأومأ.
(2) ـ انظر الأحكام 1/121.
وروى أبو بكر بن إسحاق بن خزيمة، حدثنا محمد بن عيسى، حدثنا ابن المبارك، عن إبراهيم بن طهمان، عن حسين المعلم، عن عبدالله بن بريدة، عن عمران بن حصين، قال: كان بي بواسير، فسألت النبي صلى الله عليه وآله وسلم عن الصلاة؟ فقال: (( صلِّ قائماً، فإن لم تستطع [فجالساً، فإن لم تستطع](1) فعلى جنب )). (16/48)
ورواه محمد بن منصور، عن سفيان بن وكيع، عن أبيه، عن إبراهيم بن طهمان.
وروى أبو الحسن الكرخي في (الجامع الصغير)، عن ابن مسعود أنَّه تأول قول اللّه تعالى: {الَّذِيْنَ يَذْكُرُونَ اللهَ قِيَاماً وَقُعُوداً وَعَلَى جُنُوبِهِم}[آل عمران:191]، على نحو حديث عمران.
وأما اختياره أن يجلس متربعاً، فلما رواه محمد بن إسحاق بن خزيمة، عن محمد بن عبدالله بن المبارك، حدثنا أبو داود الحفري، وحدثنا يوسف بن موسى، حدثنا أبو داود، وعمر بن سعيد(2)، عن حفص بن غياث، عن حميد، عن عبدالله بن شقيق، عن عائشة قالت: رأيت رسول اللّه صلى الله عليه وآله وسلم يصلي متربعاً.
ومن الناس من رأى أن يجلس جلسة التشهد، ومنهم من رأى أنَّه يجلس كيف شاء، وما قلناه أولى بالحديث، ولأن في الصلاة قاعداً جلستين، جلسة هي الأصل وهي جلسة التشهد، وجلسة هي بدل القيام، فإذا جعلنا الجلسة التي هي بدل من القيام تربعاً، كنا قد فصلنا بين الجلستين، وذلك أولى.
ووجه آخر، وهو: أن الجلوس بدل من القيام، والقيام قد أخذ فيه الإستواء، فوجب أن يكون فيه الجلوس الذي هو بدل منه، كذلك بعلة أنَّه ركن يختص بالقراءة، ولا جلوس أشد استواء وتمكناً من جلوس المتربع.
فأما أن يقرب وجهه من شيء، أو يقربه إلى وجهه، فلا معنى له؛ لأنَّه لم يرد به شرع، ولأنه لا خضوع فيه، ولا هو موضع للعبادة والتذلل، وليس كذلك الإيماء؛ إذ فيه خضوع، ولا خلاف في أنَّه يأتي به إذا عجز عن سواه.
__________
(1) ـ ما بين المعكوفين سقط من (أ).
(2) ـ سقط الواو من (أ)، وفيها: عمر بن سعد.
مسألة [ ولا بأس أن تحصي الركعات بالحصى أوالخط ] (16/49)
قال: ولا بأس أن يخط الرجل عدد ركعات ما يركع في الأرض، أو يحصي ذلك بالحصى، أو يعد الآي إذا كان يفعل ذلك تحفظاً.
قال: ولا بأس أن يعتمد على الجدار أو غيره عند نهوضه في الصلاة إن احتاج إليه؛ لعلة، أو كِبر.
وذلك كله منصوص عليه في (الأحكام).
والوجه لما ذكرنا من عدد الركعات والآيات على الوجه الذي قلنا: قول اللّه تعالى: {حَافِظُوا عَلَى الصَّلَوَاتِ وَالصَّلاةِ الْوُسْطَى}[البقرة:238]، فإذا كانت المحافظة عليها لا تتم إلاَّ بما ذكرنا، وجب أن يفعل.
وأما الإعتماد على الجدار وغيره عند النهوض في الصلاة فقد اعتمد بذلك يحيى بن الحسين عليه السلام على ما رواه محمد بن منصور، عن أحمد بن عيسى بن زيد، [عن محمد بن بكر](1)، عن أبي الجارود، قال: سمعت أبا جعفر يقول: كان لرسول اللّه صلى الله عليه وآله وسلم عود في الحائط حين كبر وضعف، يعتمد عليه إذا قام يصلي، على أن حال من ترك القيام أصلاً دون حال من اعتمد عند القيام على شيء، فإذا عذر في ترك القيام؛ لضعفه، كان في الاعتماد على شيء عند القيام أعذر.
مسألة [ في الأفعال في الصلاة]
قال: ولا يجوز للمصلي أن يقتل حية، أو عقرباً في صلاته، ولا أن يرشد ضالاً، أو يشتغل عنها، ومن أضطر إلى شيء من ذلك، استأنف صلاته.
قال: ولا بأس أن يُسوِّي الرجل رداءه في صلاته إذا وقع عن كتفيه.
قال: ويكره له أن يضع يده على فيه عند التثاؤب، وأن يسوي الحصى بين يديه، إلاَّ إذا خشي أن لا يستوي سجوده.
وكل ذلك منصوص عليه في (المنتخب)(2).
والوجه في ذلك: أن الأفعال التي يفعلها المصلي مما ليست من الصلاة على ثلاثة أقسام.
قسم منها: أفعال كثيرة، وهي مبطلة للصلاة؛ بالإجماع، كالأكل، والمشي إذا كثر.
وقسم منها: أفعال يسيرة، وهي قسمان:
__________
(1) ـ ما بين المعكوفين في (أ) و(ب).
(2) ـ انظر المنتخب ص46،57.
قسم منه يفعل للصلاة، كنحو منع الثوب أن يسقط عن العورة، أو عن موضع يستحب فيه ستره، أو كدرء المار بين يديه، أو عد الركعات، أو تسوية موضع السجود، ونحو ذلك، فهي ما يجوز للرجل أن يفعله، وربما وجب عليه. (16/50)
وقسم مما يفعل لا لذلك: نحو أن يضع يده على فمه عند التثاؤب، أو يمس لحيته، أو نحو ذلك، فهو مما يكره للمصلي أن يفعله.
وقد أختلف في الفصل بين كثير الأفعال وقليلها، مع الإجماع بأن(1) الكثير يفسد، وأن القليل لا يفسد، فذهب أصحابنا إلى أن القليل هو ما أجمع على أنَّه قليل، وأن ما عداه في حكم الكثير؛ لأن الأصل في الصلاة تحريم الأفعال والأقوال، فلا يستباح فيها شيء من الأفعال والأقوال، إلاَّ بدليل، ألا ترى إلى قوله صلى الله عليه وآله وسلم: (( تحريمها التكبير، وتحليلها التسليم )). وقوله: (( اسكنوا في الصلاة ))، ولأن الاحتياط يقتضي ذلك؛ ولأنه لا دليل على الفرق بينهما، إلاَّ ما ذكرناه.
فإذا ثبت ذلك، ثبت أن قتل الحية والعقرب، وإرشاد الضال ونحو ذلك مما يفسد الصلاة، إذ الأولى على ما بيناه أن تكون تلك الأفعال في قبيل الكثير دون اليسير، فأما تسوية الرداء فلا خلاف في أنها من الأفعال اليسيرة، فإذا فعلها لئلا تنكشف عورته، أو موضع يستحب ستره من جسده لم تكره، وإذا فعلها لغير ما ذكرنا كرهت، ولذلك كره أن يضع يده على فمه عند التثاؤب، وأن يسوي الحصى بين يديه، إلاَّ أن يخاف أن لا يستوي موضع سجوده.
والأصل في كراهة ذلك: ما روي من أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم رأى رجلا يعبث بلحيته في صلاته، فقال: (( أما هذا فلو خشع قلبه، لخشعت جوارحه )) وقد مضى اسناده في الكتاب، وما قدمناه من قوله صلى الله عليه وآله وسلم: (( مثنى مثنى بخشوع وتسكن ))، ونهيه أن ينفخ في الشراب، وأن ينفخ بين يديه في القبلة، وقوله: (( لا يمسح الحصى إلاَّ مرة واحدة، ولإن تصبر عنه خير لك من مائة ناقة، كلها سود الحدق )).
__________
(1) ـ في (أ) و(ب): أن.
مسألة [في جواز حمل الدراهم ونحوها أثناء الصلاة] (16/51)
قال: ولا بأس أن يصلي الرجل وفي لبته دراهم، أو دنانير، أو قوارير، أو حجارة، أو غير ذلك إذا كان نقياً.
وهو منصوص عليه في (المنتخب)(1).
والأصل فيه أن المصلي لم يؤخذ عليه إماطة شيء عن نفسه، إلاَّ ما كان مغصوباً أو نجساً، وما ذكرناه ليس يدخل في واحد منهما، فوجب أن لا يكره أن يكون مع المصلي، وهو مما لا أحفظ فيه خلافاً بين الأمة.
مسألة [في وجوب استئناف الصلاة عند نقض الطهارة]
قال: وإذا حدث في الصلاة أمر من الأمور ينتقض به الطهور، بطلت صلاته.
وهو منصوص عليه في (الأحكام) و(المنتخب)(2).
والأصل فيه قوله صلى الله عليه وآله وسلم: (( لا صلاة إلاَّ بطهور ))، وقوله: (( لا صلاة لمن لا وضوء له ))، وقد أثبتنا الحديثين في مسألة التسمية على الوضوء، فنفى صلى الله عليه وآله وسلم الصلاة إلاَّ بالطهور، فمن فسد طهوره يجب أن تكون صلاته فاسدة.
وليس لأحد أن يقول: إن ذلك لا يوجب نفي الصلاة؛ لأنا قد بينا ما نذهب إليه في مثل ذلك في مسألة قراءة فاتحة الكتاب، وأوضحنا أن ذلك إذا ورد في الأسماء الشرعية يقتضي نفي الأصل.
وروى ابن ضميرة، عن أبيه، عن علي عليه السلام: من رعف وهو في صلاته فلينصرف، وليتوضأ، وليستأنف الصلاة.
وأيضاً هو(3) قياس من أحدث متعمداً، إذ لا خلاف في أنه تبطل صلاته، والمعنى أنَّه أحدث في صلاته، وأيضاً هو قياس من تعرى في الصلاة، أو نجس ثوبه، في أنه تفسد صلاته، ولا يجوز البناء عليها، والمعنى أنه قد حصل على حالة لا يجوز له معها الابتداء بالصلاة، فيجب أن لا يجوز له البناء.
__________
(1) ـ انظر المنتخب ص47.
(2) ـ انظر المنتخب ص47.
(3) ـ في (أ): فهو.
وذكر أبو بكر الرازي في شرحه (مختصر الطحاوي): أن القياس يوجب فساد صلاته، وأنه لا يجوز له البناء، غير أنهم اتبعوا فيه الأثر، وتركوا النظر، والأثر هو: ما رواه ابن جريج، عن أبيه، عن ابن أبي مليكة، عن عائشة أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال: (( من قاء في صلاته، فلينصرف، وليتوضأ، وليبن على صلاته ما لم يتكلم )). (16/52)
يقال لهم: هذا حديث ضعفه أصحاب الحديث، وإن صح فمعناه: المنع من الكلام في الصلاة، والنسخ له إذ كان مباحاً في الصلاة في أول الإسلام، فكأنه ابتداء قوله: وليبن على صلاته ما لم يتكلم، وأراد أن الاستمرار في الصلاة إنما يصح لمن لم يتكلم فيها إبانة عن إفساد الكلام للصلاة، وهذا كلام مستقل بنفسه غير محمول على قوله: (( من قاء في صلاته فلينصرف وليتوضأ )).
فإن قيل: كيف اعتمدتم هذا الحديث في إيجاب الطهور على من قاء، مع قولكم إنَّه قد استضعف؟
قيل له: نحن شيدنا به سائر الأدلة التي ذكرناها في نقض الطهارة بالقيء، وسيلان الدم من الأخبار والمقايسات الصحيحة، وغير ممتنع في الضعيف أن يذكر تشييداً للقوي، واعتماده للبناء على الصلاة لا يجوز مع ضعفه إذ هو العمدة عندهم، وهو ـ أيضاً ـ عندهم مما يقتضي القياس خلافه.
فإن قيل: روي عن ابن عباس أنه قال: كان النبي صلى الله عليه وآله وسلم إذا رعف في صلاته، توضأ وبنى على ما مضى من صلاته؟
قيل له: يحتمل أن يكون أراد إذا كان دم الرعاف بحيث لا يسيل، فأراد بقوله: توضأ غسل يده من يسير ما أصابه، وذلك لا ينقض الصلاة، ولا الطهارة، ويكون معنى توضأ: غسل يده بإمساسها إياه، ويكون غسل اليد منه استحباباً، ويجوز أن يكون صلى الله عليه وآله وسلم فعل ذلك وسيلان الدم حينئذ غير ناقض للطهارة، وحيث كانت الأفعال في الصلاة مباحة، وهذا أولى، ألا ترى أن حديث ابن أبي مليكة، عن عائشة يقتضي الأمرين جميعاً على إيجاب الطهارة من القيء والرعاف، ونسخ الكلام في الصلاة.
مسألة [ في بطلان صلاة من عمل فيها ما ليس منها ] (16/53)
قال: وكذلك تبطل الصلاة إذا عملت فيها شيئاً ليس من المحافظة عليها من لدن تحريمها إلى تحليلها.
قال القاسم عليه السلام: لا بأس للرجل أن يصلي وقد شد وسطه بخيط أو غيره.
ما ذكرناه من بطلان صلاة من عمل فيها ما ليس منها منصوص عليه في (المنتخب)(1).
وقد بينا تفصيل مذهب أصحابنا في ذلك قبل هذه المسألة، ودللنا على صحة ما اخترناه بما يغني عن الإعادة.
وأما ما حكيناه عن القاسم عليه السلام، فهو منصوص عليه في (مسائل عبدالله بن الحسن)، عنه.
ووجه ما ذكرناه فيها فهو أبلغ في ستر العورة، وأمنع للثياب من الانتشار.
__________
(1) ـ انظر المنتخب ص48.
باب القول في إمامة الصلاة (17/1)
[مسألة: في الصلاة خلف الأعمى والبدوي وولد الزنى والعبد]
لا بأس بالصلاة خلف كل مسلم من رقيق، أو ولد زنا، أو أعمى، أو بدوي(1) إذا علم ما يحتاج إليه في الصلاة، ولا بأس بصلاة المطلق خلف المقيد.
وذلك كله منصوص عليه في (المنتخب)(2).
والوجه فيه: ما روي عن ابن مسعود، قال: قال رسول اللّه صلى الله عليه وآله وسلم: (( يؤم القوم أقرأهم لكتاب الله، فإن كانوا في القرآن سواء، فأعلمهم بالسنة )). ولم يراع الحرية، ولا المولد، ولا صحة البصر، فبان أنَّه لا معتبر بها.
وروي أن رسول اللّه صلى الله عليه وآله وسلم استخلف ابن أم مكتوم على الصلاة بالمدينة وهو أعمى.
وروى محمد بن منصور، عن أبي كريب، عن يحيى بن أبي زائدة، عن داود بن أبي هند، عن أبي بصرة، عن أبي سعيد، قال: دعوت، أناساً من أصحاب رسول اللّه صلى الله عليه وآله وسلم إلى منزلي، فمنهم حذيفة، وأبو ذر، وابن مسعود، فحضرت الصلاة، فصليت بهم وأنا عبد، فقدموني.
وذلك يجري مجرى الإجماع منهم، إذ قد روي عن نفر، ولم يرو خلافه عن أحد، ولا معتبر في التقديم في الصلاة بالأنساب، فوجب أن لا يعتبر بالمولد، إذ المولد إنما يراد للنسب، على أن كونه ولد زنا لا يؤثر في شيء من دينه وعبادته، قال اللّه عزَّ من قائل: {وَلا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى}، فوجب أن يكون هو وغيره سواء، فيما يتعلق بالعبادة.
وكذلك العمى لا يقدح في شيء من دينه، فوجب أن يكون الأعمى في ذلك كالبصير.
وقال في (المنتخب): والأعمى فليس يشغله بصره عن الصلاة فهو أولى، وهو كما قال قريب؛ لأنَّه قد كفي الاشتغال بحفظ البصر وغضه، فيكون أشد تمكيناً من التوفر على ما سواه.
__________
(1) في (أ): أو بدوي أو أعمى.
(2) لم يذكر في المنتخب إلا الأعمى، والصلاة خلف المقيد، انظر صفحة 56. وذكر الباقي في الأحكام 1/111.
وأما البدوي في هذا الوقت، فلا فرق بينه وبين الحضري؛ إذ البادية من دار الإسلام كالحضر، قال صلى الله عليه وآله وسلم: (( لا هجرة بعد الفتح ))، فالصلاة خلف البدوي كالصلاة خلف الحضري، فإن كان في الدين/173/ على الصفة التي إذا كان عليها الحضري جازت الصلاة خلفه(1)، وإن كان على خلاف تلك الصفة لم تجز الصلاة خلفه. (17/2)
فأما المطلق، فله أن يصلي خلف المقيد إذا كان القيد لا يمنع من توفية جميع حقوق الصلاة؛ لأن المقيد إذ ذاك يكون سبيله سبيل المطلق، فأما الحديث المروي عن أمير المؤمنين علي عليه السلام في النهي عن صلاة المطلق خلف المقيد، فهو محمول على من يكون قيده ثقيلاً يمنعه من توفية حقوق الصلاة عند القيام والقعود.
مسألة: [في ائتمام ناقص الصلاة بكاملها]
ولا يصلي اللابس خلف العريان، ولا القائم خلف القاعد، ولا المتوضئ خلف المتيمم، ولا المؤدي فرضه خلف المتطوع، ولا الرجل خلف المرأة أو الصبي.
نص في (الأحكام)(2) على المنع من صلاة اللابس خلف العريان، والقائم خلف القاعد، والمتوضئ خلف المتيمم.
وخرج أصحابنا المنع من صلاة المؤدي فرضه خلف المتطوع، والصبي من قول القاسم عليه السلام في المنع من صلاة المسافر خلف المقيم، إنَّ فرضه غير فرضه.
وخرجوا المنع من صلاة الرجل خلف المرأة، من منعه ائتمام النساء بالرجال إذا لم يكن معهن رجل.
والأصل في ذلك: قول النبي صلى الله عليه وآله وسلم: (( الإمام ضامن، والمؤذن مؤتمن )).
فدل ذلك على أن صلاة المؤتم معقودة بصلاة الإمام؛ إذ لو كانت صلاة كل واحد منهما على حيالها لم يكن لقوله: (( الإمام ضامن )) معنى.
__________
(1) في (ب): الحضري صلى خلفه جازت الصلاة خلفه.
(2) انظر الأحكام 1/143.
وإذا ثبت ذلك، ثبت أن حكم صلاة المؤتم حكم صلاة الإمام، فإذا كان الإمام عرياناً، أو قاعداً، أو(1) متيمماً، كانت صلاة المؤتم صلاة العريان، أو صلاة القاعد، أو صلاة المتيمم، مع القدرة على اللباس والقيام والوضوء، فوجب أن تكون فاسدة، وكذلك القول في التطوع. (17/3)
ومما يؤكد ذلك ما قد ثبت أن الإمام إذا صلى جنباً متعمداً فسدت صلاة من ائتم به بالإجماع، وكذا إن صلى كافراً، ويلزم المؤتم من السهو ما يلزم الإمام، فكل ذلك يكشف أن صلاة المؤتم معقودة بصلاة الإمام، وأن صلاة المؤتم هي في حكم صلاة الإمام.
ويدل على ذلك الحديث الذي ذكرناه في مسألة صلاة العليل، وهو قول النبي صلى الله عليه وآله وسلم: (( إنما جعل الإمام ليؤتم به، فإذا صلى قائماً، فصلوا قياماً، وإذا صلى قاعداً، فصلوا قعوداً ))، فتضمن ذلك النهي عن صلاة القائم خلف القاعد، وهو يقتضي الفساد.
ويدل على ذلك قوله صلى الله عليه وآله وسلم: (( لا يؤم أحدٌ بعدي قاعداً )).
وروي عن أمير المؤمنين عليه السلام أنَّه قال: لا يؤم المتيمم المتوضئين، ذكره عنه عليه السلام يحيى بن الحسين عليه السلام في (الأحكام)(2)، ومحمد بن منصور في كتابه.
وروى محمد بن منصور، عن حكم بن سليمان، أخبرنا(3) أسد بن سعيد، عن صالح بن رستم، عن محمد بن المنكدر، عن جابر بن عبدالله قال: كنا في غزاة، فأصابت عمرو بن العاص جنابة، فتيمم، فقدَّمنا أبا عبيدة بن الجراح؛ لقول النبي صلى الله عليه وآله وسلم: (( لا يؤم المتيمم المتوضئين )).
وإذا ثبت ذلك في صلاة المتيمم بالمتوضئ، ثبت في سائر الصلوات التي ذكرنا؛ إذ لا أحد فيما أحفظ أبطل صلاة المتوضئ، خلف المتيمم إلا/174/ وأبطل سائر ما ذكرنا، وأيضاً لا خلاف بين المسلمين أنَّه لا صلاة للرجل خلف المرأة، فكذلك ما ذكرناه قياساً عليها، والعلة أنه ائتم بمن صلاته قاصرة عن كمال صلاته.
__________
(1) سقط من (أ): أو.
(2) انظر الأحكام 1/143.
(3) في (ب): قال أخبرنا.
فإن قيل: ماذا تريدون بقولكم: إن صلاة الإمام قاصرة؟ (17/4)
قيل له: القصر عند الكمال معقول، وإن كانت تختلف، فقصور صلاة المرأة عن صلاة الرجل أنَّها لا تعتدل في الركوع، والسجود، وتتضمم، وتترك التجافي، الذي هو مأمور به، وقصور صلاة العريان، أن صلاته تقع مع ظهور العورة، وقد قال النبي صلى الله عليه وآله وسلم: (( صلاة القاعد على النصف من صلاة القائم )).
والأصل في ذلك: أن صلاة الإمام إذا وقعت على وجه لو وقعت عليه صلاة المؤتم وهو على ما هو عليه، لكانت صلاته فاسدة، أو ناقصة، كانت صلاته قاصرة، وكل ذلك يبين أن المؤدي فرضه لا يؤدي خلف المتطوع، وإذا ثبت ذلك، ثبت أنَّه لا يجوز للرجل أن يصلي خلف الصبي؛ لأن الصبي في حكم المتطوع أو دونه، على أن العراقيين يوافقوننا على المنع من صلاة اللابس خلف العريان، فوجب أن يكون سائر ما ذكرناه قياساً عليه.
فإن قيل: روي أن رسول اللّه صلى الله عليه وآله وسلم صلى في مرضه جالساً بالناس.
قيل له: ذلك خاص فيه بدلالة قوله: (( لا يؤم أحدٌ بعدي قاعداً )).
قال: والذي خرجناه على مذهب أصحابنا المنع من صلاة القارئ خلف الأمي، وصلاة الصحيح خلف من به حدث لازم؛ لأن جميع ما ذكرنا في(1) صلاة اللابس خلف العريان، وصلاة القائم خلف القاعد يقتضيه.
مسألة [في إمامة الفاسق ومن عليه فائتة]
قال: ولا يجوز إمامة الفاسق. وقال القاسم عليه السلام: لا يؤمن من عليه صلاة فائتة.
نص يحيى عليه السلام في (الأحكام)(2) على المنع من الصلاة خلف الفاسق.
ونص القاسم عليه السلام في (مسائل عبد الله بن الحسن) فقال: لا يؤم القوم من عليه صلاة فائتة حتى يؤدي ما عليه.
__________
(1) في (أ): من.
(2) انظر الأحكام 1/111.
والأصل في ذلك ما اعتمده يحيى عليه السلام، وهو: ما رواه محمد بن منصور، عن أبي طاهر، قال: حدثني أبي، عن أبيه، عن جده، عن علي عليهم السلام، قال: كنت مع رسول اللّه صلى الله عليه وآله وسلم، فأتى بني مجمع، فقال: (( من يؤمكم؟ )). فقالوا: فلان. قال: (( لا يؤمكم ذو جرأة في دينه )). (17/5)
وروى محمد بن منصور، عن إبراهيم بن حبيب، عن يحيى بن يعلى، عن يونس بن حباب، قال: قال رسول اللّه صلى الله عليه وآله وسلم: (( لا يؤمنَّ فاجرٌ مؤمناً، ولا يصلي مؤمن خلف فاجر )).
وأخبرنا أبو العباس الحسني، قال: أخبرنا أحمد بن سعيد الثقفي، حدثنا أبو نعيم الفضل بن العباس، حدثنا عبيد بن يعيش، حدثنا الوليد بن بكير، عن عبد الله بن محمد القروي، عن علي بن زيد بن جدعان، عن سعيد بن المسيب، عن جابر بن عبدالله، قال: خطَبَنا رسول اللّه صلى الله عليه وآله وسلم فقال: (( لا تؤمنَّ امرأة رجلاً، ولا يؤمنَّ فاجرٌ مؤمناً، إلاَّ أن يخاف سيفه أو سوطه )). وذلك كله تصريح بالنهي عن الصلاة خلف الفاسق، والنهي يقتضي فساد المنهي عنه، على أنَّه إجماع أهل البيت عليهم السلام، لا أعلم فيه بينهم خلافاً.
وأيضاً لا خلاف أنَّه لا تجوز الصلاة خلف الكافر، فوجب أن لا تجوز خلف الفاسق، والعلة أن كل واحد /175/ منهما يلزمه اسم الفجور، أو يقال: إنه يستحق الوعيد، وهذه علة قد نبه النص عليها، ألا ترى إلى قوله صلى الله عليه وآله وسلم: (( لا يصلي مؤمن خلف فاجر )).
وإن تعلقوا بما روي (( صلوا خلف كل بر(1) وفاجر ))؟
قيل لهم: معناه صلوا، وإن كان أمامكم في الصف بَرٌّ أو فاجر، لا على وجه الائتمام، وهذا أولى؛ ليكون موافقاً لقوله صلى الله عليه وآله وسلم: (( لا يصلي مؤمن خلف فاجر ))، وقوله: (( لا يؤمنَّ فاجر مؤمناً )).
فإن قيل: إن ابن عمر صلى خلف الحجاج؟
قيل له: يجوز أن يكون اتقاه بما فعل، ولم يعتد بما صلى معه، أو لم ينوِ الائتمام به.
__________
(1) في (أ): بار.
فأما قول القاسم عليه السلام: لا يؤم القوم من عليه صلاة فائتة، فالأقرب عندي أنَّه قال ذلك على سبيل الكراهة. (17/6)
ووجه ذلك: أنَّه لم يأمن أن يكون من عليه صلوات(1) فائتة قد أخل بالقيام بقضائها، إذ وقت قضائها مضيق؛ لقوله صلى الله عليه وآله وسلم: (( من نسي صلاة، أو نام عنها، فليصلها إذا ذكرها، لا وقت لها غير ذلك ))، فلما لم يأمن ذلك لم يأمن أن يكون سبيله سبيل من ترك الصلاة حتى يمضي وقتها لغير عذر، فكره لذلك أن يؤتم به.
مسألة [في كيفية الوقوف في الجماعة]
قال: وإذا صلى رجل برجل، وقف المؤتم عن يمين الإمام، فإن كانوا ثلاثة أو أكثر من ذلك، تقدم الإمام.
وذلك منصوص عليه في (الأحكام)(2).
والأصل فيه: ما أخبرنا به أبو الحسين بن إسماعيل، حدثنا الناصر، عن محمد بن منصور، عن أحمد بن عيسى، عن حسين، عن أبي خالد، عن زيد بن علي، عن آبائه، عن علي عليهم السلام، قال: أتينا رسول اللّه صلى الله عليه وآله وسلم أنا ورجل من الأنصار، فتقدمنا، وخلَّفنا خلفه، ثم صلى بنا، ثم قال: (( إذا كان اثنان، فليقم أحدهما عن يمين الإمام )).
وأخبرنا أبو بكر المقرئ، حدثنا الطحاوي، حدثنا حسين بن نصر، حدثنا مهدي بن جعفر، حدثنا حاتم بن إسماعيل، عن أبي حزرة المدني يعقوب بن مجاهد، عن عبادة بن الوليد بن عبادة بن الصامت، قال: أتينا جابر بن عبد الله، فقال جابر: جئت رسول اللّه صلى الله عليه وآله وسلم وهو يصلي حتى قمت عن يساره، فأخذ بيدي فأدارني حتى أقامني عن يمينه، وجاء حيان بن صخر فقام عن يسارة، فدفعنا جميعاً حتى أقامنا خلفه(3).
__________
(1) في (أ): صلاة.
(2) انظر الأحكام 1/102.
(3) أخرجه الطحاوي في شرح معاني الآثار 1/307، إلا أنه قال المديني، بدل: المديني، وقال: وجاء جابر بن صخر بدل: حبان.
وروى مثل ذلك أنس(1)، وهو مما لم يحك عن العلماء خلافه، إلاَّ قول شاذ يحكى عن علقمة، وابن مسعود، أن الجماعة إذا كانوا ثلاثة، فالإمام وسطهم، وانعقاد الإجماع بعدهما يوجب سقوط قولهما في ذلك. (17/7)
مسألة: [في صلاة الرجل بالنساء]
قال: ولا يصلي رجل بنساء لا رجل معهن، فإن كان معهن رجل جازت الصلاة به وبهن، فإن كان واحداً وقف عن يمين الإمام، والنساء خلفهما، وإن كانوا جماعة وقفوا خلف الإمام والنساء خلفهم، وإن كان رجل وخنثى لبسة لم يصل بها، وإن كان رجلان(2)، وخنثى لبسة، وامرأة، وقف الرجل عن يمين الإمام، والخنثى وراءهما، والمرأة وراء الخنثى، وإن أحدث الإمام أتم كل واحد منهم صلاته منفرداً، وإن كان مع الإمام رجلان، فحدث به حدث أَمَّ أحدهما، وصلى بهم تمام صلاتهم.
وذلك كله منصوص عليه في كتاب (الأحكام)(3) غير قولنا. وإن كان رجل وخنثى لبسة، لم يصل به، فإن ترتيب المسألة دل عليه.
وخرَّج أبو العباس الحسني رحمه اللّه في (شرح الأحكام)، وفي (النصوص) إبطال صلاتهم إذا نوى الرجل الإمامة وهي الائتمام.
والوجه فيه: ما أخبرنا به أبو العباس الحسني رحمه اللّه قال: أخبرنا يوسف بن محمد الكسائي، حدثنا علي بن سهل بن المغيرة /176/، حدثنا يحيى بن أبي كثير، عن زهير بن محمد، عن عبد الله بن محمد بن عقيل ، عن سعيد بن المسيب، عن أبي سعيد الخدري، أنَّه سمع رسول اللّه صلى الله عليه وآله وسلم يقول: (( خير صفوف الرجال المقدم، وشرها المؤخر، وخير صفوف النساء المؤخر، وشرها المقدم ))
فاقتضى الخبر النهي عن كونهن في الصف الأول؛ لأن ما ثبت أنَّه شر لا يكون إلاَّ منهياً عنه، وإذا صلى الرجل بامرأة وحدها، كانت صلاتها في موضع الصف الأول.
وروي عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم: (( أخروهن حيث أخرهن الله ))، وهذا ـ أيضاً ـ يقتضي ما اقتضاه الحديث الأول.
__________
(1) في (ب): وروي مثل ذلك عن أنس.
(2) في (أ): رجل.
(3) انظر الأحكام 1/103.
فإن قيل: هذا يقتضي فساد صلاة المرأة، فمن أين قلتم: إن صلاة الإمام فاسدة؟ (17/8)
قيل له: لا خلاف في حكم صلاتهما في الصحة، أو البطلان، فإذا ثبت بطلان صلاة المرأة، ثبت بطلان صلاة الرجل الإمام، على أنا لو اعتمدنا لإفساد صلاة الإمام قولَه صلى الله عليه وآله وسلم: (( شر صفوف الرجال المؤخر، لكان صحيحاً ))؛ لأنَّه إذا صلى بالنساء، كان بحيث يلي صفهن، وليس يلزم عليه من كان في الصف الأخير من الرجال؛ لأنَّه مخصوص بالدليل.
ولا خلاف في أنها إذا تقدمت الإمام، فسدت صلاتها، فكذلك إذا ائتمت به وحدها، والعلة أنها عصت في الموقف، وهي قياس على من صلى على موضع نجس بهذه العلة.
فإن ناكرونا الوصف في الضرع المتنازع فيه، أثبتناه بالخبرين الذين قدمناهما.
ومن أصحابنا من يستدل على ذلك بقول النبي صلى الله عليه وآله وسلم: (( لا يخلوَنَّ رجل بامرأة ))، فنهيه ذلك يقتضي النهي أن يصلي الرجل بامرأة واحدة إذا كانت أجنبية ))؛ لأن في صلاته بها خلوته معها، وإذا صح ذلك في الأجنبية، فلا أحد يفصل بين صلاته بالأجنبية وبين صلاته بذات رحم محرم، وكذلك يجب أن يكون حكم صلاته بالنساء، إذ لا أحد فصل بين صلاته بامرأة واحدة وبين صلاته بالنساء.
وروى محمد بن منصور، عن زيد بن علي عليه السلام المنع من صلاة الرجل بنساء لا رجل معهن.
فأما إذا كان معهن رجل سوى الإمام، فلا خلاف أن صلاته به وبهن جائزة؛ ولأنهن لا يكن في الصف الأول، ووجب فيه جميع ما تقدم ذكره.
وإذا وقف المؤتم عن يمين الإمام، والنساء خلفهما، لم يكن في الصف الأول على ما بيناه.
وإذا ثبت ذلك في المرأة، ثبت في خنثى لبسة؛ لأنَّه لا يؤمن أن يكون امرأة، فيجب عليها أن تجتنب ما تجتنبه المرأة أن تحتاط (بما تحتاط)(1) به المرأة.
__________
(1) سقط ما بين القوسين من (أ).
ووجه قولنا: إنَّه إن كان مع الإمام رجلان، فحدث به حدث ائتم أحدهما، وصلوا باقي الصلاة جماعة، وإن كان معه رجل واحد، فحدث به حدث أتم كل واحد منهما صلاته منفرداً، أنه إذا كان مع الإمام رجلان، وبطلت صلاته، فأمَّ أحدهما، لم يكن أم الرجل بنساء لا رجل معهن، وإذا كان معه رجل واحد، وبطلت صلاته، فأمَّ النساء، كان قد صلى بنساء لا رجل معهن، وذلك مما قد مضى الكلام فيه. (17/9)
ووجه قولنا: إن الخنثى تقف أمام المرأة هو إذا لم يأمن أن يكون رجلاً، وإذا كان رجلاً لم يجز له أن يقف إلى جنب المرأة، أو وراءها، فوجب أن يتجنب ما يتجنبه الرجل كما قلنا: إنَّه يتجنب ما تتجنبه المرأة، فلذلك قلنا: إنَّه يقف خلف الرجل، وأمام المرأة.
فصل [وتصح صلاة الرجل النافلة بأهله جماعة]
قال في (الأحكام)(1): لا يصلي الرجل بنساء لا رجل معهن، إلاَّ أن يكون رجل يصلي في بيته بحرمته صلاة /177/ نافلة.
وفسره أبو العباس الحسني رحمه الله، في (شرح الأحكام) على صلاة الرجل نافلته في بيته بقرب حرمته، لا على وجه الائتمام، وذلك قريب؛ لأنَّ أصوله تدل على أنَّه لا يرى إتمام المرأة وحدها بالرجل على حال من الأحوال.
مسألة: [في إمامة النساء]
والمرأة تؤم النساء، تقف في وسطهن، لا تتقدمهن ولا تتأخر عنهن.
وذلك منصوص عليه في (الأحكام)(2).
__________
(1) انظر الأحكم 1/103.
(2) انظر الأحكام 1/104.
واعتمد يحيى عليه السلام لذلك: ما رواه محمد بن منصور، عن أحمد بن عيسى، عن حسين بن علوان، عن أبي خالد، عن زيد بن علي، عن آبائه، عن علي عليهم السلام، قال: دخلت أنا ورسول اللّه صلى الله عليه وآله وسلم على أم سلمة رضي اللّه عنها، فإذا نسوة في جانب البيت يصلين، فقال رسول اللّه صلى الله عليه وآله وسلم: (( يا أم سلمة، أي صلاة تصلين؟ )). قالت: يا رسول الله، المكتوبة. قال: (( أفلا أممتهنَّ ))؟. قالت: يا رسول اللّه أو يصلح ذلك؟ قال: (( نعم، لا هنَّ أمامك ولا خلفك، عن يمينك وعن يسارك )). (17/10)
وفيه أنه أستر للآمَّة، وذلك مأخوذ عليهن في الصلاة؛ لأنَّه قد استحب لهن التضمم في السجود، وقلة الانحناء في الركوع؛ ليكون أستر، فكذلك وقوف الآمَّة وسط المؤتمات.
مسألة: [في وقت نهوض المصلين للصلاة وتكبير الإمام]
قال: ويستحب للإمام ومن معه أن يقوموا إذا بلغ المؤذن في الإقامة حيَّ على الصلاة، فإذا بلغ قد قامت الصلاة، كبر ولم ينتظر شيئاً.
وذلك منصوص عليه في (الأحكام)(1).
ووجهه: ما رواه محمد بن منصور، عن أحمد بن عيسى، عن حسين، عن أبي خالد، عن زيد بن علي، عن أبيه، عن جده، عن علي عليهم السلام قال: كان رسول اللّه صلى الله عليه وآله وسلم إذا قال المؤذن قد قامت الصلاة، كبر ولم ينتظر شيئاً.
وروى محمد بن منصور، عن أحمد بن عيسى، عن حسين، عن أبي خالد، عن أبي جعفر، عن آبائه، عن علي عليهم السلام قال: كان إذا قال المؤذن: قد قامت الصلاة، كبر.
مسألة: [في من لم يجد في الصف مكاناً، كيف يفعل؟]
قال: وإذا دخل الرجل(2) في الجماعة، ولم يجد مكاناً(3)، جذب من الصف رجلاً إلى خلفه، وقام إلى جنبه، وعلى المجذوب أن يتأخر، فإنه أفضل له، ولا ينبغي لأحد أن يصلي وراء الصف وحده، إلاَّ لعلة به.
وذلك كله منصوص عليه في (الأحكام)(4).
__________
(1) انظر الأحكام 1/118.
(2) في (أ): رجل.
(3) في (ب): ولم يجد في الصف مكاناً.
(4) انظر الأحكام 1/113.
ومن أصحابنا من ذهب إلى أنَّه لو صلى منفرداً خلف الصف لا لعذر، كره، وأجزته صلاته. (17/11)
والأقرب عندي على أصوله أن صلاته تبطل؛ لأنَّه عاص في الوقوف، ومتى كان المصلي في الوقوف والكون بحيث هو عاصياً، فأصول أصحابنا تقتضي بطلان صلاته، كالمصلي إلى جنب المرأة، وكالمصلي بامرأة لا رجل معها، وكالمصلي في الدار المغصوبة، وذلك أولى؛ لأن الخبر الوارد عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم يقتضيه.
وهو ما أخبرنا به أبو الحسين بن إسماعيل، حدثنا الناصر للحق عليه السلام، عن محمد بن منصور، حدثنا أحمد بن عيسى، عن حسين، عن أبي خالد، عن زيد بن علي، عن آبائه، عن علي عليهم السلام قال: صلى رجل خلف الصفوف، فلما انصرف رسول اللّه صلى الله عليه وآله وسلم قال: (( أهكذا صليت وحدك ليس معك أحد ))؟ قال: نعم. قال: (( قم، فأعد الصلاة )).
وروى محمد بن منصور بإسناده، يرفعه إلى الشعبي، عن وابصة بن معبد، قال: صلى رجل خلف رسول اللّه /178/ صلى الله عليه وآله وسلم، فقام وحده خلف الصف، فلما قضى رسول اللّه صلى الله عليه وآله وسلم الصلاة نظر إليه، فقال: (( يا مصلي وحده، هلاَّ كنت دخلت في الصف، فإن لم تجد فيه سعة أخذت بيد رجل، فأخرجته إليك، قم، فأعد الصلاة )).
فإن استدل لجواز صلاة المنفرد مستدل بما روي أن رسول اللّه صلى الله عليه وآله وسلم أمَّ أنساً، وعجوزاً خلفه، لم يصح ذلك؛ لأن وقوف العجوز وحدها إنما هو للعذر؛ إذ لم يجز لها أن تقف مع أنس، وعندنا أنه إذا صلى منفرداً لعذر، جازت صلاته.
وقول النبي صلى الله عليه وآله وسلم لأبي بكرة حين أحرم خلف الصف وحده: (( زادك اللّه حرصاً، ولا تعد )). لا يدل على جواز صلاة المنفرد لغير عذر؛ لأنَّه أحرم قَبْل أن يلحق الصف حين خاف الفوات، فالحال حال العذر، على أنا لو استدللنا بقوله: لا تعد، على أنَّه لا يجزئ، كان صحيحاً.
مسألة [في الرجل يدرك الإمام راكعاً]
قال: وأيما رجل لحق الإمام راكعاً، كبر تكبيرة، ونوى بها الدخول في الصلاة، ثم كبر أخرى وركع، ثم صلى معه باقي صلاته يقوم بقيامه، ويقعد بقعوده، ولا يخالفه في شيء من ذلك، فإذا سلم الإمام، قام فأتم لنفسه ما بقي، واعتد بالركعة التي لحق الإمام فيها راكعاً. (17/12)
نص في (المنتخب)(1) على أن من لحق الإمام راكعاً يكبر تكبيرتين، ونص على سائر ما ذكرناه في (الأحكام)(2)، وهذه الجملة مما لا أحفظ فيه خلافاً، والتكبيرة الأولى فرض، وهي تكبيرة الافتتاح، قال صلى الله عليه وآله وسلم: (( تحريمها التكبير )) والتكبيرة الثانية سنة، وهي تكبيرة الركوع.
وقلنا: إنَّه يتبع الإمام في قيامه وقعوده، ولا يخالفه في شيء من ذلك لقوله صلى الله عليه وآله وسلم: (( إنما جعل الإمام ليؤتمَّ به )) . وإنه يتم لنفسه باقي صلاته إذا سلم الإمام، ويعتد بالركعة التي لحق الإمام فيها راكعاً مما لا خلاف فيه، ولأن الإمام يحمل قراءة المأموم في بعض الأحوال، فجاز أن يحمل قراءته في هذا الموضع؛ ولأن القراءة عندنا فرض في ركعة واحدة، فإذا قرأ في ركعة أخرى، أجزأه، وصح أن يعتد بالركعة التي لحق الإمام فيها راكعاً.
مسألة: [في الرجل يدرك الإمام ساجداً]
قال: وإن لحقه ساجداً، سجد معه استحباباً، فإذا قام الإمام، قام، وابتدأ الصلاة، ويجعل ما لحق مع الإمام أول صلاته، وكذلك النساء إذا لحقن الإمام يفعلن كذلك.
وذلك كله منصوص عليه في (الأحكام)(3).
__________
(1) انظر المنتخب 43.
(2) انظر الأحكام 1/115.
(3) انظر الأحكام 1/115 ـ 117.
ووجه قولنا: إنَّه يسجد استحباباً: ما رواه ابن أبي شيبة، حدثنا جرير، عن عبد العزيز بن رفيع، عن رجل من أهل المدينة، عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم أنَّه سمع خفق نعل، وهو يصلي، وهو ساجد، فلما فرغ من صلاته، قال: (( من هذا الذي سمعت خفق نعليه؟ )). قال: أنا يا رسول الله، قال: (( فما صنعت؟ )). قال: وجدتك ساجداً فسجدت، قال: (( هكذا فاصنعوا، ولا تعتدوا بها، ومن وجدني قائماً، أو راكعاً، أو ساجداً، فليكن معي على حالتي التي أنا عليها )). (17/13)
فلما قال رسول اللّه صلى الله عليه وآله وسلم: (( هكذا فاصنعوا، ولا تعتدوا بها ))، علم أنها استحباب، إذ هي غير معدودة في جملة الفرض، وإذا ثبت أن تلك السجدة غير معدودة من جملة الفرض، صح ما قلناه: إنَّه يبتدئ الصلاة؛ لأنا قد بينا فيما مضى إنه لا يجوز أن يفعل في الصلاة المكتوبة سجدة زائدة على سبيل العمد، واستقصينا الكلام فيه.
وقلنا: إنَّه يجعل ما لحق مع الإمام أول صلاته لما أخبرنا به أبو العباس الحسني رحمه الله، قال: أخبرنا عيسى بن/179/ محمد العلوي، حدثنا الحسين بن الحكم الجيزي(1)، حدثنا الحسن بن الحسين العرني، عن علي بن القاسم الكندي، عن ابن أبي رافع، عن أبيه، عن جده، عن علي عليه السلام، قال: "إذا سبق أحدكم الإمام بشيء، فليجعل ما يدرك مع الإمام أول صلاته، وليقرأ فيما بينه وبين نفسه، وإن لم يمكنه قرأ فيما يقضي".
فإن قيل: روي عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم (( فما أدركت فصل، وما فاتك فاقض ))، وقد علمنا أن الذي فاته مع الإمام هو أول صلاته، فيجب أن يكون هو المقضي، وإذا وجب أن يكون هو المقضي، صح أن ما يدركه هو ما فيه الإمام من الثانية أو الثالثة أو الرابعة؟
__________
(1) الحبري، بمهملتين بينهما موحدة، ذكره في المؤتلف والمختلف، انتهى طبقات] غير موجود. في (أ) و(ب): الجيزي، أثبته.
قيل له: معناه ما أدركت وقته، فصل، وما فات وقته، فاقض؛ لأن الإنسان إنما يدرك الوقت، دون المفعول فيه في الحقيقة؛ لأن الإنسان لا يقال: أدرك فعل نفسه، وإنما يقال أدرك الوقت، والوقت فعل غيره. (17/14)
فإن قيل: هذا مجاز؛ لأن الوقت ليس في اللفظ.
قيل له: لا يمتنع من ذلك، إلاَّ أن الحديث لا بد من أن يدخله المجاز، على أي وجه حُمل؛ لأنَّه إن حمل على أن معناه ما أدركت من صلاة الإمام، لم يجز أن يقول صَلِّهِ؛ لأنَّه يصلي صلاة نفسه دون صلاة الإمام، والأمر بفعل الغير محال، وإن حمل على معناه ما أدركت من صلاتك مع الإمام، كان ـ أيضاً ـ فيه مجاز؛ لأنَّه لا يقال: إن الإنسان أدرك فعل نفسه إلاَّ على سبيل التوسع، ويجوز أن يكون المراد به ما أدركت مع الإمام، فصل معه، وما لم تدركه، فصل لنفسك، ويكون معنى اقض أفعل، كما قال اللّه سبحانه: {فَقَضَاهُنَّ سَبْعَ سَمَواتٍ فِيْ يَوْمَيْنِ}[فصلت:12]، أي فعلهن، فلا يجب على هذا أن يكون بعد فراغ الإمام قاضياً.
وأيضاً لا خلاف أن المنفرد لو ابتدأ الركعة الثانية، أو الثالثة، أو الرابعة، لم تصح صلاته، فكذلك المؤتم، والعلة أنَّه ابتدأ الصلاة بغير أولها.
فإن قيل: كما لا يأتم من يصلي الظهر بمن يصلي العصر، فكذلك لا يأتم من يصلي الركعة الأولى بمن يصلي الركعة الثانية، أو الثالثة؟
قيل له: ليس تعلق الظهر بالعصر تعلق الركعات بعضها ببعض، ألا ترى أنَّه يتلافى في بعض الركعات ما يفوت في بعضها، كنحو القراءة عندنا، والسجدة عند بعض الناس، ولا يصح أن يفرَّق بينهما، وليس كذلك حكم الظهر مع العصر؛ لأنَّه لا يتلافى في العصر ما فات في الظهر، ولأنهما صلاتان متميزتان بالوقت، ولا يجوز أن يفعلا ثماناً معاً، بل يجب أن يفرق بينهما، على أن ذلك كما لم يجز لو شرع من عليه الظهر، ولم يخف فوات العصر أن يصلي العصر للجماعة، بل يجب عليه أن يرفض الجماعة، ويصلي الظهر، فبان بذلك أن حكم الظهر والعصر ليس حكم الركعات إذا كانت الصلاة واحدة، على أنا لو جعلناه حجة لنا، كان أولى، وذلك أنَّه لا يجوز أن يقدم العصر على الظهر إذا لم يخف فوات العصر إتباعاً للإمام، فكذلك لا يقدم الثانية على الأولى إتباعاً للإمام، والعلة أنَّه يقدم ما يجب تأخيره من الصلاة، مع أن الوقت وقت لهما(1)، وهذا هو مذهب محمد بن علي بن الحسين، وأحمد بن عيسى، والناصر عليهم السلام. (17/15)
فأما(2) النساء، فلا خلاف في أن حكمهن في جميع ما ذكرنا حكم الرجال.
مسألة: [في الرجلين ينوي كل منهما الإمام أو الائتمام]
قال: وإذا اصطف رجلان جاهلان بمقام الإمام، فنوى كل واحد منهما أنَّه إمام لصاحبه، فصلاتهما تامة، وإن نوى كل واحد منهما أنه مؤتم بصاحبه، بطلت صلاتهما.
وهذا منصوص عليه في (الأحكام)(3).
والوجه في ذلك: أن كل واحد منهما إذا نوى أنَّه إمام صاحبه، كان قد صلى لنفسه، مع أنَّه نوى الإمامة، فإذا لم يأتم به المؤتم، كانت صلاته صلاة المنفرد، فوجب أن تصح.
فإذا نوى كل واحد منهما الإتمام بصاحبه، لم يحمل أحدهما عن صاحبه شيئاً، فيكون كل واحد منهما قد ائتم بمن لا يكون إماماً، فيجرى مجرى الرجل يصلي خلف المرأة، أو القارئ يصلي خلف الأمي، فوجب أن تبطل صلاة كل واحد منهما.
__________
(1) في (أ): لهما معاً.
(2) في (أ): وأما.
(3) انظر الأحكام 1/145، 146.
مسألة: [في الفتح على الإمام] (17/16)
قال: ولا بأس للمؤتم أن يفتح على الإمام إذا اشتكلت عليه القراءة.
نص عليه في (كتاب الأحكام)(1)، وروي فيه عن جده القاسم عليه السلام، وذكر أنَّه مروي عن أمير المؤمنين عليه السلام.
والوجه فيه: قول اللّه تعالى: {وَتَعَاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقَوَى وَلا تَعَاوَنُوا عَلَى الإِثْمِ وَالْعدْوَان}[المائدة:2]، وليس لأحد أن يقول: إني لا أسلم إن فتح المؤتم من البر؛ لأنه لا خلاف أن قراءة الإمام من البر، والتعاون عليها يكون من البر.
ويستدل عليها ـ أيضاً ـ بقوله عزَّ وجل: {حَافِظُوا عَلَى الصَّلَوَاتِ}[البقرة:238]، وذلك من المحافظة عليها.
وروي عن أمير المؤمنين عليه السلام أنَّه قال: "إذا استطعمكم(2)، الإمام فأطعموه". وأيضاً ليس فتح المؤتم على الإمام أكثر من قراءة الآية التي أشكلت عليه، وقراءة القرآن لا تقدح في الصلاة، وليس ذلك منازعة المؤتم للإمام القرآن التي نهى النبي صلى الله عليه وآله وسلم عنها بقوله: (( مالي أنازع في القرآن ))؛ لأن المؤتم لا يفعل ذلك إلاَّ بعدها يلتبس على الإمام، ويؤديه إلى الوقوف عن القراءة.
مسألة: [في القراءة خلف الإمام]
قال: وعلى المؤتم أن يقرأ خلف الإمام إذا لم يسمع قراءة الإمام، ولا يقرأ إذا سمعها.
نص في (الأحكام)(3) على أنه لا يقرأ خلف الإمام فيما جهر فيه الإمام، ويقرأ فيما لم يجهر فيه، ورواه عن القاسم عليه السلام.
وروى محمد بن منصور القراءة فيما خافَت فيه الإمام، عن عبد الله بن موسى بن عبد الله، وعن أحمد بن عيسى عليهم السلام.
وذكر عن أبي طاهر العلوي: كراهة القراءة خلف الإمام فيما جهر، والقراءة خلفه فيما خافت.
__________
(1) انظر الأحكام 1/136.
(2) في (ب): استطعمك.
(3) انظر الأحكام 1/107.
قال: وذكر ذلك عن عبد الله بن الحسن عليه السلام، وروي عن زيد بن علي عليه السلام: إن كنت ورائي أو وراء علي بن أبي طالب عليهم السلام ـ يعني تأتم بي، أو بعلي ـ ولم نجهر فاقرأ. (17/17)
وحكى أبو العباس الحسني رحمه اللّه في (النصوص)، عن محمد بن يحيى: القراءة خلف الإمام فيما جهر إذا لم يسمع المؤتم.
قال أبو العباس: وهو أولى بقول القاسم، وخرَّج في (الشرح) الأصم الذي لا يسمع على ذلك.
والذي يدل على وجوب القراءة إذا لم يسمع قول اللّه تعالى: {فَاقْرَأُوا مَا تَيَسَّرَ مِنَ الْقُرَآنِ} [المزمل:20]، وقوله صلى الله عليه وآله وسلم: (( لا صلاة إلاَّ بفاتحة الكتاب )). و(( ولا صلاة إلاَّ بفاتحة الكتاب وقرآن معها )). وسائر الأخبار التي ذكرناها في هذا المعنى في مسألة وجوب القراءة وعمومها أجمع يقتضي وجوب القراءة على المنفرد، والإمام، والمؤتم/181/، إلاَّ من قام عليه دليله.
فإن استدلوا على أن المؤتم لا يقرأ بما أخبرنا به أبو الحسين البروجردي، حدثنا أبو بكر الدينوري، حدثنا عباد بن عمر التيمي(1)، ومحمد بن عبد العزيز، قالا: حدثنا أسد بن رؤبة(2)، حدثنا محمد بن الفضيل، عن عطية، عن أبيه، عن سالم، عن ابن عمر، قال: قال رسول اللّه صلى الله عليه وآله وسلم: (( من كان له إمام، فقراءته له قراءة )).
وأخبرنا أبو بكر المقرئ، حدثنا الطحاوي، عن أحمد بن عبد الرحمن، قال: حدثني عمي عبد الله بن وهب بن الليث، عن يعقوب، عن النعمان، عن موسى بن أبي عائشة، عن عبد الله بن شداد، عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال: (( من كان له إمام فقراءة الإمام له قراءة ))(3).
__________
(1) في (أ): التميمي.
(2) في النسخة الصغيرة: أسيد بن زيد.
(3) أخرجه الطحاوي في شرح معاني الآثار 1/217، وفيه: حدثني عمي عبد الله بن وهب، أخبرني الليث.
قيل لهم: ذلك عندنا وارد فيما يجهر فيه الإمام، وسنبين ذلك، على أنَّه إذا لم يسمع القراءة من الإمام لا يحصل له العلم بأنه(1) قد قرأ، فلا يمكنه أن يجعل قراءته بدل قراءة نفسه. (17/18)
فإن قيل: روي عن ابن عباس عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم أنَّه قال: (( يكفيك قراءة الإمام، خَافَت أو جَهر ))؟
قيل له: معنى المخافتة هاهنا هو ما دون الجهر الشديد، وإن كان في المجهور فيه من الصلاة.
ومما يدل على وجوب(2) القراءة خلف الإمام فيما لا يجهر فيه أنَّه قد ثبت وجوبها على الإمام، والمنفرد، فكذلك المؤتم فيما لا يجهر الإمام فيه، والمعنى أنَّه مصل صلاة ذات الركوع والسجود، لم(3) يؤخذ عليه الاستماع لقراءة غيره.
فإن قاسوه على من ائتم بمن جهر بعلة أنه مؤتم، كان قياسنا أولى؛ لأنَّه يقتضي زيادة عبادة، ويقتضي الاحتياط.
وأما ما يدل على أنَّه لا يقرأ فيما يجهر فيه الإمام، فهو قول اللّه تعالى: {وَإِذَا قُرِئَ الْقُرْآنُ فَاسْتَمِعُوا لَهُ وَأَنْصِتُوا}[الأعراف:204].
وروي عن إبراهيم، والحسن، ومجاهد: أن المراد به في الصلاة، على أن عموم الآية يقتضي ذلك في الصلاة وغيرها.
وأخبرنا أبو بكر المقرئ، حدثنا الطحاوي، حدثنا يونس، قال: أخبرنا ابن وهب، أن مالكاً حدثه، عن ابن شهاب، عن ابن أكيمة الليثي، عن أبي هريرة: أن رسول اللّه صلى الله عليه وآله وسلم انصرف من(4) صلاة جهرَ فيها بالقرآن(5)، فقال: (( هل قرأ معي منكم أحد آنفاً ))؟
فقال رجل: نعم. يا رسول الله، فقال رسول اللّه صلى الله عليه وآله وسلم: (( إني أقول مالي أنازع القرآن(6) ))). قال: فانتهى الناس عن القراءة مع رسول اللّه صلى الله عليه وآله وسلم فيما جهر فيه حين سمعوا ذلك عنه(7).
__________
(1) في (أ): بأن.
(2) في (أ): ذلك.
(3) في (أ): ولم.
(4) في (أ): عن.
(5) في (أ): بالقراءة.
(6) في (أ): في القرآن.
(7) أخرجه الطحاوي في شرح معاني الآثار 1/217.
وأخبرنا أبو بكر المقرئ، حدثنا الطحاوي، حدثنا حسين بن نصر، حدثنا الفريابي، عن الأوزاعي، قال: حدثني الزهري، عن سعيد، عن أبي هريرة، نحوه، غير أنَّه قال: فاتعظ المسلمون بذلك، ولم يكونوا يقرأون. (17/19)
وهذا تصريح لما نذهب إليه.
وأخبرنا أبو بكر، حدثنا الطحاوي، حدثنا ابن أبي داود، حدثنا الحسين بن عبد الأول، حدثنا أبو خالد سليمان بن حيان، حدثنا ابن عجلان، عن زيد بن أسلم، عن أبي صالح، عن أبي هريرة، قال: قال رسول اللّه صلى الله عليه وآله وسلم/182/: (( إنما جعل الإمام ليؤتم به، فإذا قرأ فأنصتوا ))(1).
ولا خلاف بيننا وبين الشافعي(2) في الصلاة التي يجهر فيها بالقراءة: أن المؤتم لا يقرأ فيها ما عدا فاتحة الكتاب، فيجب أن لا يقرأ فاتحة الكتاب قياساً عليه، والمعنى أنَّه مؤتم يسمع قراءة الإمام.
فإن قيل: روي عن عبادة بن الصامت، قال: صلى بنا رسول اللّه صلى الله عليه وآله وسلم صلاة الفجر فلما سلم، قال: (( أتقرأون خلفي؟ )) قلنا: نعم يا رسول الله. قال: (( فلا تفعلوا، إلاَّ بفاتحة الكتاب )).
[قلنا: هذا معارض بخبرنا، وما روى جابر بن عبد الله، عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم أنَّه قال: (( من صلى صلاة ولم يقرأ بفاتحة الكتاب فهي خداج، إلاَّ خلف الإمام )). فاستثنى من الخداج صلاة من يصلي خلف الإمام، فإذا تعارضا، وجب الرجوع إلى ظاهر قوله تعالى: {وَإِذَا قُرِئَ الْقُرْآنُ فَاسْتَمِعُوا لَهُ وَأَنْصِتُوا}[الأعراف:204].
على أنا نحمله أن](3) المراد به في غير المجهور فيه بدلالة سائر الأخبار والأدلة التي مضت.
__________
(1) أخرجه الطحاوي في شرح معاني الآثار 1/217.
(2) في (أ): وليس بيننا وبين الشافعي خلاف.
(3) ما بين المعكوفين ساقط من (أ).
ويبين ذلك ما أخبرنا به أبو بكر المقرئ، حدثنا الطحاوي، حدثنا يحيى بن نصر، قال: حدثني(1) يحيى بن سليمان، حدثنا مالك، عن وهب بن كيسان، عن جابر، عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم أنَّه قال: (( من صلى ركعة ولم يقرأ فيها بأم الكتاب(2) فلم يصل، إلاَّ أن يكون وراء الإمام ))(3). فدل هذا من قوله صلى الله عليه وآله وسلم على ما قلناه من تأويل حديث عبادة. (17/20)
مسألة: [في تتابع الجماعات في مسجد واحد]
قال: ولا بأس أن يصلى في مسجد واحد جماعة بعد أخرى.
وهذا منصوص عليه في (الأحكام)(4).
وذلك لقوله(5) صلى الله عليه وآله وسلم: (( صلاة الجماعة تفضل صلاة الفرادى بخمس وعشرين درجة ))، وعمومه يقتضي تفضيل الجماعة على الأحوال كلها، إلاَّ حيث منع منه الدليل.
وأخبرنا أبو الحسين بن إسماعيل، حدثنا الناصر الحسن بن علي عليه السلام، عن محمد بن منصور، حدثنا أحمد بن عيسى، عن حسين، عن أبي خالد، عن زيد بن علي، عن آبائه، عن علي عليهم السلام أنَّه أتاه رجلان، فسلما عليه وهو في المسجد فقال: "أصليتما"؟ قالا: لا.
قال: "ولكنا قد صلينا، فتنحيا، فصليا، وليؤم أحدكما صاحبه". فأمرهما بالجماعة بعد ما صلى هو عليه السلام مع أصحابه؛ لأن قوله: "لكنا قد صلينا"، يدل على ذلك.
مسألة: [في صلاة المسافر خلف المقيم والعكس]
قال: ولا يصلي مسافر خلف مقيم، إلاَّ المغرب والفجر، ويصلي المقيم خلف المسافر، فإذا انفتل المسافر، أتم المقيم باقي صلاته.
وهذا منصوص عليه في (الأحكام)، ورواه عن القاسم عليه السلام، وهو المشهور عن أصحابنا، وبه يأخذون.
__________
(1) في (أ): حدثنا.
(2) في (أ): بأم القرآن.
(3) أخرجه الطحاوي في شرح معاني الآثار 1/218، إلا أنه قال: نجر بن نصر عن يحيى بن سلام.
(4) انظر الأحكام 1/117.
(5) في (ب): قوله.
واستثنى المغرب والفجر؛ لأن كلام يحيى عليه السلام، والقاسم رضي اللّه عنه دل على ذلك؛ لأن القاسم عليه السلام علل ذلك بأن قال: إن فرضه غير فرضه، وقد علمنا أن فرض المغرب [والفجر](1) واحد على المسافر والمقيم. (17/21)
وقال يحيى عليه السلام: أكره ذلك؛ لأن المؤتم إذا كان مسافراً، احتاج أن يخرج من الصلاة قبل خروج إمامه، وهذا غير موجود في الأصول، وقد علمنا أنَّه لا يحتاج في المغرب والفجر ذلك، فلذلك استثنيناهما، وخرَّجنا جواز الإئتمام للمسافر بالمقيم فيهما.
وقال في (المنتخب)(2): يجوز للمسافر أن يصلي خلف المقيم، وللمقيم أن يصلي خلف المسافر.
وكان أبو العباس الحسني رحمه اللّه يتأول ذلك ويقول: إن المراد به في المغرب والفجر، أعني قوله في (المنتخب)، رواية واحدة.
والصحيح عندي أنهما روايتان مختلفتان؛ لأنَّه قال في (المنتخب)(3): وقد ذهب بعض علماء أهل البيت عليهم السلام إلى أن المسافر لا يصلي خلف المقيم، وأما أنا فأرى أنَّه جائز، ولا خلاف في أن ذلك في المغرب والفجر جائز، فبان أن الذي حكى المنع فيه، وأجاز هو غير المغرب والفجر.
__________
(1) ما بين المعكوفين في هامش (ب) فقط.
(2) الذي في المنتخب بعدما حكى أن بعض علماء آل الرسول يجيزه. (( والواب عندي ألا يصلي مسافر خلف مقيم )). انظر المنتخب ص56.
(3) هذا الكلام غير موجود في المنتخب. والصواب ما أثبته.
ووجه رواية (الأحكام): هو أنَّه قد ثبت أن فرض الظهر والعصر والعشاء الآخرة على المسافر ركعتان، على ما نبينه فيما بعد إذا انتهينا إلى موضعه، فإذا ثبت ذلك، فلو دخل المسافر في صلاة المقيم، لكان لا يخلو من أن يصلي أربعاً كما ذهب إليه أبو حنيفة وأصحابه، أو يصلي ركعتين، ويسلم، ويخرج من الائتمام كما تذهب إليه الإمامية، ولا يجوز أن يصلي أربعاً للائتمام؛ لأن الائتمام لا يغير عدد ما على المؤتم من الركعات، ألا ترى أنَّه لا خلاف في/183/ أن المقيم إذا صلى خلف المسافر، لم يتغير عددها عليه من الركعات، فكذلك المسافر إذا صلى خلف المقيم، والعلة أن كل واحد منهما له فرض برأسه يتميز بتميز الركعات(1) من فرض صاحبه، فلا يغيره الائتمام. (17/22)
فإن قيل: روي أن عثمان صلى بمنى أربعاً، وكان ابن عمر إذا صلى مع الإمام صلى أربعاً، وإذا صلى وحده صلى ركعتين؟
قيل له: يجوز أن يكون فعل ذلك إذ رأى أن القصر مباح، ولم يره واجباً، ونحن بنينا(2) كلامنا على وجوب القصر، على أنا لسنا ندعي المسألة وفاقاً، وأن ابن عمر عمل بخلاف قولنا.
ولا يجوز أن يصلي ركعتين، ويخرج من الصلاة؛ لأنَّه يؤدي إلى أن يكون المؤتم قد أدى فرضه خلف المتنفل؛ لأن الجلسة تكون للمسافر فرضاً، وللمقيم نفلاً، وقد ثبت أن المؤدي فرضه لا يصلي خلف المتنفل؛ ولأن قوله: إنما جعل الإمام ليؤتم به، يقتضي أن لا يأتم المؤدي فرضه بالمتنفل؛ لأن الإنسان لا يكون مؤتماً بغيره إلاَّ إذا فعل الفعل على الوجه الذي يفعله إمامه، فأما إذا فعله على غير ذلك الوجه، لا يكون قد ائتم به، فمتى كان الإمام متنفلاً، والمؤتم مؤدياً للفرض، لم يقع فعلاهما على وجه واحد، بل على وجهين مختلفين.
__________
(1) في (ب): فرض برأسه متميز الركعات.
(2) في (ب): ونحن بينا.
وليس لأحد أن يعترض ما قلناه بما ثبت أن المتطوع يأتم بالمؤدي للفرض، لأن ذلك مخصوص بالإجماع من الظاهر الذي تعلقنا به، ولأنا لم نعتل فيكون ذلك نقضاً للعلة، وإنما تعلقنا بالظاهر، فإذا ثبت أن المسافر، لو دخل(1) في صلاة المقيم، لكان لا بد له من أن يأتي أحد الأمرين الذين بينا فسادهما، ثبت ما ذهبنا إليه من أنه لا يدخل في صلاته. (17/23)
فأما وجه رواية (المنتخب) فهو أن يقال: إنه لا يمتنع أن يكون الذي ثبت من أنه لا يقتدي المؤدي للفرض بالمتطوع هو (إذا كانت تلك أحوال صلاتهما)(2)، فأما مقدار التشهد فلا حكم له؛ لأن الحكم للأغلب، ولأن اسم الائتمام يلحق إذا حصل الائتمام في عامة الأحوال، فلا يمتنع أن يقال: إن المسافر إذا جلس بعد الركعة الثانية، خرج من الائتمام، ويكون مصلياً لنفسه، ألا ترى أن الطائفة الأولى في صلاة الخوف تخرج من الائتمام والإمام بعدُ في الصلاة.
فإن قيل: إن ذلك للعذر؟
قيل له: ليس العذر أكثر من فوات الصلاة جماعة، وهذا العذر حاصل للمسافر إذا وجد الإمام مقيماً؛ لأنَّه إن لم يفعل ما قلناه، فاتته الصلاة جماعة مع الإمام.
فأما ائتمام المقيم بالمسافر، فهو جائز؛ لأنه لا يؤدي إلى ما ذكرناه من إتمام المؤدي للفرض بالمتنفل، ولأن سبيله سبيل من دخل في الإتمام وقد صلى الإمام ركعتين في أنَّه يفعل كما يفعله.
__________
(1) في (ب): إذا دخل.
(2) ما بين القوسين في هامش النسختين، وفي أصل النسخ هو: إذا ملك أحوال صلاتهما.
وأخبرنا أبو بكر المقرئ، حدثنا الطحاوي، عن أبي بكرة، حدثنا روح بن عبادة، حدثنا حماد بن سلمة، عن علي بن زيد، عن أبي نضرة أن فتى سأل عمران بن حصين عن صلاة رسول اللّه صلى الله عليه وآله وسلم بالسفر، فقال: ما سافر رسول اللّه صلى الله عليه وآله وسلم إلاَّ صلى ركعتين حتى يرجع، وإنه أقام بمكة ثماني عشرة يصلي ركعتين ركعتين، ثم يقول: (( يا أهل مكة، قوموا فصلوا ركعتين آخرتين، فإنا قوم سفر ))(1). (17/24)
وهذا صريح ما نذهب إليه في صلاة المقيم خلف المسافر.
وروي مثل ذلك عن عمر أنَّه فعله، وقاله بمكة، ولم ينكره منكر، فجرى مجرى الإجماع.
مسألة: [بطلان صلاة المؤتم ببطلان صلاة الإمام]
قال: وأيما رجل صلى بقوم جنباً، أو على غير طهور ناسياً، ثم ذكره، أعاد الصلاة، وأعادوا.
وهذا منصوص عليه في (الأحكام) و(المنتخب)(2)، وهو مما لا أحفظ فيه خلافاً بين أهل البيت عليهم السلام، وهو قول أمير المؤمنين عليه السلام.
أخبرنا محمد بن عثمان النقاش، حدثنا الناصر عليه السلام، عن محمد بن منصور، عن عبادة، عن حَرِث بن عمران، عن جعفر، عن أبيه، عن علي عليهم السلام في الرجل يصلي بالقوم على غير وضوء، قال: "يعيد ويعيدون".
ويدل على ذلك: ما رواه أبو الحسن الكرخي في (المختصر)، حدثنا أحمد بن يحيى الحلواني، حدثنا أحمد بن يونس، حدثنا قيس، وأبو معاوية، عن الأعمش، عن أبي هريرة، قال: قال رسول اللّه صلى الله عليه وآله وسلم: (( الإمام/184/ ضامن، والمؤذن مؤتمن )).
فدل هذا الخبر على أن صلاة المؤتم معقودة بصلاة الإمام، فيجب أن تكون صحة صلاته بصحة صلاة الإمام، وإذا كانت صلاة الإمام فاسدة، وجب أن تكون صلاة المؤتم فاسدة.
__________
(1) أخرجه الطحاوي في شرح معاني الآثار 1/417، بزيادة في لفظه.
(2) لم يذكر في الأحكام: أنه صلى إماماً، وإنما جعلها مبهمة إماماً أو غير إمام، انظر 1/120. وانظر المنتخب 49.
ويدل على ذلك: قوله عليه السلام: "إنما جعل الإمام ليؤتم به". والجنب ليس بمصل، فلا يصح الائتمام به، فإذا ائتم به الإنسان، كان كأنه ينوي الائتمام بمن لم يفعله، فيجب أن تفسد صلاته، ويكون سبيله سبيل من افتتح الصلاة، ثم قطعها، ولم يمضِ فيها. (17/25)
ومما يبين أن انعقاد صلاة المؤتم بصلاة الإمام: ما روي عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم: (( من كان له إمام، فقراءة الإمام له قراءة )).
وما أجمعوا عليه من أن المؤتم إذا لحق الإمام راكعاً، احتمل الإمام عنه قراءة تلك الركعة.
وما أجمعوا عليه من أن المؤتم يلزمه سهو الإمام.
فكل ذلك يبين أن حكم صلاة المؤتم حكم صلاة الإمام، فإذا كانت صلاة الإمام فاسدة، وجب أن تكون صلاة المؤتم فاسدة.
ويدل على ذلك ـ أيضاً ـ:
قول النبي صلى الله عليه وآله وسلم: (( لا يؤمنَّكم ذو جرأة في دينه )).
وقوله: (( لا يؤمنَّ فاجر مؤمناً، ولا يصلينَّ مؤمن خلف فاجر )).
وقوله: (( لا يؤم متيمم بمتوضئين )).
فإن استدلوا: بما روي عن أبي بكرة أن رسول اللّه صلى الله عليه وآله وسلم دخل في صلاة الفجر، وكبر، ثم أومأ بيده ـ أي مكانكم ـ ثم جاء ورأسه يقطر، وصلى بهم، فلما فرغ قال: (( إنما أنا بشر مثلكم، فإني كنت جنباً )).
وبما روي عن أبي هريرة، قال: أقيمت الصلاة، وصف الناس صفوفهم، وخرج رسول اللّه صلى الله عليه وآله وسلم حتى إذا قام في مقامه، فذكر أنه لم يغتسل، فقال للناس: (( مكانكم ))، فلم نزل قياماً ننتظره حتى خرج علينا، وقد اغتسل.
وفي بعض الأحاديث أنَّه صلى الله عليه وآله وسلم قال: (( كما أنتم )).
وفي بعضها: (( علي رسلكم )).
وقالوا: ما روي في أنَّه كبر يدل على أنهم ـ أيضاً ـ كانوا كبروا معه؛ لأن ذلك هو الظاهر من أحوال المؤتمين، وقوله: (( كما أنتم ))، وقيامهم يدل على أنهم كانوا في الصلاة، لأنا لو قلنا خلاف ذلك، لأدى إلى أن يكون قيامهم قد تقدم قيام النبي صلى الله عليه وآله وسلم، وقد قال: (( لا تقوموا حتى تروني قائماً )). يعني في الصلاة، وقال: (( إذا أقيمت الصلاة، فلا تقوموا حتى تروني ))(1). فنهى عن القيام قبل قيامه صلى الله عليه وآله وسلم. (17/26)
قيل له: ليس في الخبر أن القوم كانوا قد كبروا، وليس فيه أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم لما عاود، لم يستأنفوا معه التكبير، فغير ممتنع أن لا يكون القوم كبروا، أو استأنفوا التكبير، فأما قوله: (( كما أنتم ))، و(( مكانكم )) فلا يدل على أنَّه أمرهم بالقيام، بل يجوز أن يكون أمرهم أن يلزموا مكانهم، ولا يتفرقوا، ولا يصلوا منفردين.
وأما قيامهم فلا يجب أن يكون كان بأمر النبي صلى الله عليه وآله وسلم، وقد روي في بعض الأخبار أنه صلى الله عليه وآله وسلم أومأ إلى القوم أن اجلسوا، فذهب، واغتسل، فدل أمره لهم بالجلوس على أنهم لم يكونوا في الصلاة.
وقول أبي هريرة:"لم نزل قياماً ننتظره". لا يمنع مما ذكرناه؛ لأنَّه لا يمتنع أن يكون بعض القوم عرفوا الإيماء إلى الجلوس فجلسوا، وبعض لم يعرفوا/185/ فبقي قائماً، على أن الخبر متى تأولوه على ذلك يكون تكبير المأمومين قبل تكبير الإمام، وليس ذلك من سنة الإقتداء بالإجماع، وعندنا أنَّه لا يصح معه الائتمام البتة، فحمل الحديث على أن قيامهم كان قبل قيام النبي صلى الله عليه وآله وسلم أولى من حمله على أن تكبيرهم كان قبل تكبيره صلى الله عليه وآله وسلم.
فإن قيل: روي عن عمر أنَّه صلى بهم جنباً، ثم أعاد، ولم يعيدوا؟
قيل له: يجوز أن يكون عمر لم يتحقق الجنابة، فأعاد احتياطاً، لا وجوباً، ويجوز أن تكون المسألة ـ أيضاً ـ خلافاً.
__________
(1) في (أ): تروني فيها.
فإن قيل: كيف تقولون: إن صلاة المأموم معقودة بصلاة الإمام، وإنها تفسد بفسادها، ومن مذهبكم أن الإمام إذا أحدث فسدت صلاته، (ولم تفسد صلاة المؤتمين؟ (17/27)
قيل: لأن الإمام إذا أحدث فسدت صلاته) (1)، وخرج بذلك من الإمامة، ولم يأتم به القوم، فإذاً لم يأتموا بمن صلاته فاسدة؛ لأنهم(2) لم يأتموا به، إلاَّ في حال صحة صلاته، وليس كذلك الإمام إذا كان جنباً؛ لأن صلاته لا تنعقد، فهي باطلة فاسدة، وقد ائتم به القوم، فيجب أن تكون صلاتهم فاسدة.
ومما يدل على ذلك: أنَّه لا خلاف في أن الإمام إذا علم من حاله أنَّه جنب فائتم به قوم أن صلاتهم باطلة كصلاته، فكذلك إذا لم يعلموا، والعلة أنهم ائتموا بمن صلاته فاسدة، وبهذه(3) العلة يقاس على من صلى خلف الكافر، ويجوز أن تقاس على من صلى خلف المرأة، وهو لا يعلم، بعلة أنه صلى خلف من هو على صفة لو علم أنه عليها، لم يصح الائتمام به، فكذلك من صلى خلف الجنب وهو لا يعلم، بعلة أنَّه صلى خلف من هو على صفة لو علم أنَّه عليها، لم يصح الائتمام به، وعلتنا مرجَّحة بالنقل، وبأنها تقتضي عبادة زائدة.
فإن ادعوا أن ذلك يؤدي إلى المشقة، وفصلوا بين الصلاة خلف المرأة والكافر، والصلاة خلف الجنب، وقالوا: إن حال المرأة والكافر لا يخفي، وحال الجنب يخفى، كان فاسداً؛ لأنَّه فصل مع وجود العلة، ولأنه لا يؤدي إلى المشقة، وإنما يقال في مثله إنَّه يؤدي إلى المشقة إذا كان مما يكثر ويتكرر، وهذا مما يقل، ولعله لا يتفق في الأعصار، فكيف يقال في مثله: إنَّه يؤدي إلى المشقة؟
فإن قالوا: إن المأموم لا يجوز أن يكلف العلم بطهارة الإمام، وإذا لم يجز ذلك، لم يكن مفرطاً، وإذا لم يكن مفرطاً، لم يلزمه القضاء.
__________
(1) ما بين القوسين سقط من (ب) و(أ).
(2) في (ب) و(أ): قيل: لأنهم.
(3) في (أ): بمن صلاته وبهذه.
قيل له: القضاء فرض، لا يتعلق بالتفريط؛ لأنَّه قد يلزم من لم يفرط، ألا ترى أن من لم يجد الماء، ولا التراب، يصلي ويقضي عند مخالفينا ولم يكن منه تفريط، ومن تطهر بماء نجس وهو لا يعلم، يقضي عندنا إذا علمه قبل الوقت، وعند مخالفينا قبل الوقت وبعده، وإن لم يكن منه تفريط، والحائض تقضي الصوم، وإن لم يكن منها تفريط. (17/28)
مسألة: [في الجماعة تصلى على سطح والإمام أسفل والعكس]
ويكره للجماعة أن تصلي خلف الإمام على سطح، والإمام أسفل، ولو كان الإمام على السطح، والجماعة أسفل منه أعادت الجماعة.
وقال القاسم عليه السلام: إذا حال بين الإمام والمأموم طريق يسلكه الناس، بطلت صلاة المأموم.
وما حكيناه أولاً من المسألتين منصوص عليه في (المنتخب)(1).
وما حكيناه عن القاسم عليه السلام منصوص عليه في (مسائل عبد الله بن الحسن).
والوجه لكراهة أن يكون المؤتمون على سطح، والإمام أسفل، ما ثبت من أن المستحب أن يقرب المؤتم من الإمام لقوله صلى الله عليه وآله وسلم: ((ليليني منكم أولوا الأحلام والنهى ))
وقوله: ((خير صفوف الرجال أولها، وشرها/186/ آخرها )).
فلما ثبت ذلك، كره أصحابنا للمؤتمين أن يبعدوا عن الإمام من غير اتصال الصفوف؛ لأنَّه خلاف المستحب، ومن يكون على السطح يكون قد بعد عن الإمام من غير اتصال الصفوف، وأيضاً لما ثبت أن الأفعال الكثيرة تفسد الصلاة، ثبت في اليسير منها وإن لم تفسد الصلاة أن يكون مكروهاً، فكذلك البعد المتفاوت من غير اتصال الصفوف، ولا خلاف في أنَّه يفسد صلاة المأمومين، فوجب أن يكون القليل منه إذا كان من غير اتصال الصفوف مكروهاً، فوجب صحة ما قلناه من كراهة صلاة المأمومين على السطح إذا كان الإمام أسفل.
__________
(1) انظر المنتخب 49.
فأما وجه إبطالنا صلاة المؤتمين إذا كانوا أسفل، والإمام على السطح، فالأخبار الواردة في هذا الباب، منها: ما ذكره أبو العباس الحسني رحمه اللّه في (شرح الأحكام)، قال روى عمرو بن طارق، عن يحيى بن أيوب، عن زيد بن جبيرة الأنصاري، عن عبد الله بن عبد الرحمن الأنصاري: أن سلمان الفارسي، وأبا سعيد الخدري قدما على حذيفة بالمدائن، وعنده أسامه، فصلى بهم حذيفة على شيء أنشز مما هم عليه، فأخذ سلمان بضبعيه حتى أنزله، [فلما انصرف قال: من بي؟ قال سلمان: أنا، وما أدري أطال عليك العهد أم نسيت!! قال: وما ذاك؟ قال سلمان](1) سمعت رسول اللّه صلى الله عليه وآله وسلم يقول: (( لا يصلي إمام القوم على أنشز مما هم عليه )). فقال أبو سعيد، وأسامة: صدق. (17/29)
وروى أبو بكر الجصاص في (شرح المختصر): أن عمار بن ياسر كان بالمدائن، فأقيمت الصلاة، فتقدم عمار، وقام على دكان يصلي والناس أسفل منه، فتقدم حذيفة فأخذ على يده، وأتبعه عمار حتى أنزله حذيفة، فلما فرغ عمار من صلاته، قال له حذيفة: ألم تسمع رسول اللّه صلى الله عليه وآله وسلم يقول: (( إذا أمَّ الرجل القوم، فلا يقم في مقام أرفع من مقامهم ))؟
وروى هو ـ أيضاً ـ أن حذيفة صلى بالناس، فتقدم فوق دكان، فأخذ أبو مسعود بجميع ثيابه فرده، فرجع، فلما صلى، قال له أبو مسعود: ألم تعلم أن رسول اللّه صلى الله عليه وآله وسلم نهى أن يقوم الإمام فوق نشز، والناس خلفه؟ قال: أفلم ترني أجبتك حين جذبتني.
__________
(1) ما بين المعكوفين ساقط من النسختين (أ) و(ب)، وكتب مكانه : ثم قال:.
فهذه الأخبار قد تضمنت النهي عن ارتفاع الإمام على المأمومين، والنهي يقتضي البطلان، وليس يخلو الذي بطل من أن يكون هو الصلاة، أو الإمامة، ولا خلاف أن صلاته غير باطلة، فثبت أن الذي بطل هو الإمامة، فإذا بطلت الإمامة للمؤتمين به، بطلت صلاة المؤتمين؛ لأنهم يكونون قد ائتموا بمن ليس بإمام لهم ويجرى مجرى أن يأتموا بالمرأة في أن صلاتهم تكون باطلة. (17/30)
فإن قيل: أليس من صلى (في نفق) (1) إلى الكعبة، أجزته صلاته، وإن كانت القبلة فوقه، فما أنكرتم أن تجزي الصلاة خلف الإمام وإن كان الإمام فوقه؟
قيل له: القبلة ليست هي البناء، بل هي موضع البناء سفل، أم علا، بدلالة أن البناء لو نقض ورفع، كان التوجه على حاله، وليس كذلك الإمام؛ لأنَّه لو زال عن مقامه وبعد عنه، لم يصح الائتمام به، والأقرب على مذهب يحيى/187/ عليه السلام: أن صلاتهم تبطل إذا كان الارتفاع الذي عليه الإمام فوق قامتهم؛ لأنه قال في (المنتخب)(2): أكره الصلاة إذا كان أمام المصلى قذر في موضع منخفض عنه.
قال: "وإن كان القذر مرتفعاً عنه، لم أكره لأنَّه يستقبل طهارة، والقذر مرتفع عنه" (3)، فجعله غير متوجه إلى القذر إذا كان مرتفعاً عنه، ولا يكون ذلك كذلك إلاَّ إذا كان فوق قامته، فقلنا: إن الأقرب على مذهبه أن صلاة المؤتمين لا تبطل حتى يكون الارتفاع الذي عليه الإمام فوق قامتهم؛ لأنهم يكونون غير متوجهين إليه، وعلى هذا يكون قيام الإمام على ارتفاع دون القامة مخصوصاً من هذه الإخبار بالإجماع.
ومما يدل من طريق النظر على بطلان صلاة المأموم إذا كان الإمام على سطح: أن المأموم لا يكون خلفه، ولا عن يمينه، ولا عن يساره، فيجب أن تبطل صلاته كما تبطل صلاة من وقف أمام الإمام، أو فوق رأسه.
__________
(1) مصححة في (ب).
(2) انظر المنتخب ص37.
(3) انظر المنتخب ص37.
ووجه ما قاله القاسم عليه السلام من بطلان صلاة المؤتمين إذا كان بينهم وبين الإمام طريق يسلكه الناس هو: ما روي عن أبي هريرة، قال: قال رسول اللّه صلى الله عليه وآله وسلم: (( لا جمعة لمن يصل في الرحبة )). (17/31)
ولا خلاف أن الرحبة إذا لم يفصل بينها وبين الإمام طريق، أو ما يجري مجراه، فالصلاة جائزة، فإذاً المراد به إذا كان بينهما طريق.
وأيضاً لا خلاف في أنَّه إذا كان بين الإمام والمأموم بُعدٌ كثير أن صلاة المأموم تكون فاسدة، وأن اليسير من البعد لا تفسد معه الصلاة، فاحتجنا إلى الفرق بين القليل والكثير، ولم نجد دلالة شرعية تفصل بينهما، فوجب أن نرجع إلى الإجماع، فكلما أجمع عليه من البعد على أنَّه لا يفسد صلاة المأمومين استثنيناه، وقلنا فيما عداه: إنَّه يفسد صلاتهم، والطريق مما لم يجمعوا على أن حكمه حكم اليسير، فألحقنا حكمه بحكم الكثير، وهذه الطريقة هي الفاصلة عندنا بين الأفعال الكثيرة والقليلة في إفساد الصلاة على ما قدمناه.
فإن قيل: لِمَ لم تجعلوا الحد ما أجمع عليه أنَّه يفسد الصلاة؟ ولِمَ لمْ تقولوا: إن ما دونه مستثنى من الكثير، وملحق باليسير؟
قيل له: لأن هذا خلاف الاحتياط، ووقوف مع الشك في أداء الفرائض، وما قلناه هو الاحتياط، وأداء الفرائض باليقين.
وحكى أبو العباس الحسني رحمه اللّه في (النصوص)، عن محمد بن يحيى عليه السلام: أن النهر إذا حال بين الإمام والمأمومين كان سبيله سبيل الطريق في إفساد صلاة المأمومين.
ووجه ذلك ما ذكرناه في الطريق إذا حال بين الإمام والمأموم.
مسألة: [في النساء إذا تخللن صفوف الرجال]
قال: ولو أن نساء تخللن صفوف الرجال، فسدت صلاة من خلفهن من الرجال.
وهذا منصوص عليه في (المنتخب)(1)، وتخريج المذهب يقتضي فساد صلاة من عن يمينها ويسارها.
__________
(1) انظر المنتخب ص55.
والوجه فيه: قوله صلى الله عليه وآله وسلم: (( شر صفوف الرجال المؤخر )). [ومن صلى خلف الصف الذي فيه النساء، فقد صلى في الصف المؤخر](1)، فوصف النبي صلى الله عليه وآله وسلم بالشر يقتضي النهي عنه، والنهي يدل على الفساد فوجب فساد، صلاة من خلفهن. (17/32)
فإن قيل: فيجب على هذا فساد صلاة من صلى خلف الصفوف، وإن لم يكن أمامه امرأة؟
قيل له: الخبر يقضي ذلك، إلاَّ أنَّه مخصوص منه بالإجماع، وـ أيضاً ـ يكون الواقف خلفها عاصياً في الموقف، فيجب أن تبطل صلاته قياساً على من صلى أمام الإمام، وقد ثبت أنَّه لا يجوز لأحد أن يصلي خلف الصف منفرداً، إلاَّ /188/ لعذر بما تقدم بيانه.
وروي أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم صلى، وخلفه أنس، ويتيم، وعجوز خلفهما، ولا عذر لتأخر العجوز عنهما، إلاَّ كونها مفسدة للصلاة عليهما، فصح ما ذهبنا إليه.
وقوله صلى الله عليه وآله وسلم: (( أخروهن حيث أخرهن الله )). يقتضي تأخيرهن مجتمعات ومنفردات، ولا عذر لتأخير المنفردة غير ما ذكرنا من إفسادها صلاة من عن يمينها وعن يسارها، فصح به ـ أيضاً ـ ما ذهبنا إليه إذ قد ثبت أن المنفرد خلف الصف لا تصح صلاته، إلاَّ لعذر.
مسألة: [في استخلاف الإمام إذا أحدث]
قال: وإذ حدث بالإمام حدث يقطع صلاته، جذب من خلفه ثقة، فقدمه؛ ليتم بهم الصلاة، فإن كان هذا الذي قدمه فاتته ركعة، فإذا جلس في آخر صلاة القوم، قام فأتم ما فاته، وسلم الذين خلفه، ولم ينتظروه، فإن انتظروه حتى يسلم بهم، جاز.
__________
(1) سقط ما بين المعكوفين من (أ) و(ب).
نص في (الأحكام) و(المنتخب)(1) على ما تقدم: أن الإمام إذا أحدث حدثاً، جذب من يتمم باقي الصلاة بالقوم، ونص في (المنتخب) على ما ذكرنا بعده من أن الذي قدمه إن كان فاتته ركعة فعل كذا إلى آخر الفصل، وأصحابنا لم يفصلوا بين أن يكون الإمام إذا أحدث ساهياً، أو متعمداً في جميع ذلك، وهو الصحيح على المذهب. (17/33)
والدليل على صحة صلاة المأمومين في هذه الحالة، أن لصلاتهم حالتين حالة الائتمام، وحالة الخروج عن الائتمام، وهي حالة خروج الإمام عن الإمامة بفساد صلاته، وحالة الائتمام حالة كانت صلاة الإمام فيها صحيحة، فلم يجب أن تفسد صلاة المؤتمين من أجله، وحال خروجهم من الائتمام لا معتبر فيها بصحة صلاة الإمام وفسادها؛ لأن الإمام وغيره سواء في أن صلاتهم لا تتعلق بصلاته.
فإن قيل: ما أنكرتم أن يكون سبيلهم سبيل من صلى خلف الجنب؟
قيل له: الجنب لم تنعقد صلاته، ووقعت فاسدة، فوجب أن لا تنعقد(2) صلاة من ائتم به، وليس كذلك حال من أحدث في صلاته؛ لأن صلاته قد انعقدت صحيحة إلى حين الفساد، والائتمام به لم يكن إلاَّ في حال صحة صلاته.
فإن قيل: ما أنكرتم أن تكون صلاته وقعت فاسدة إذا لم تتم؟
قيل له: لا يصح ذلك؛ لأنه ليس إلاَّ الصحة، أو الفساد، وقد ثبت أن الحدث الذي هو الإفساد وقع بعد مضي بعضها، فكذلك البعض إذا تعرى من الفساد، فوجب أن يكون صحيحاً.
__________
(1) انظر الأحكام 1/103. وقال في المنتخب ص56: (( قد انقطعت صلاته في نفسه، وإذا انقطعت في نفسه فقد انقطعت صلاة من خلفه؛ لأن صلاتهم معقودة بصلاته، وقد قال غيرنا أنه يجذب رجلاً من خلفه بثوبه فيقدمه موضعه فيصلي بالقوم تمام الصلاة، ولسنا نرى ذلك )).
(2) في (أ): لا تصح.
وأما ما يدل على أن خروج الإمام من الإمامة، والمأمومين من الائتمام للعذر لا يفسد صلاة المأمومين، فهو: ما ثبت أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم لما صلى الركعة الأولى من صلاة الخوف بالطائفة الأولى، خرجت الطائفة الأولى من الائتمام، وصلوا لأنفسهم، على ما نبينه من بعد في مسألة صلاة الخوف. (17/34)
وأيضاً روي أن أبا بكر حين أَمَّ بالناس في آخر مرض رسول اللّه صلى الله عليه وآله وسلم، وجد صلى الله عليه وآله وسلم خفة، فخرج إلى المسجد يتهادى بين اثنين، فأمهم في بعض صلاتهم، وخرج أبو بكر من الإمامة، والمأمومون من الائتمام به، وهذا يدل على جواز الصلاة بإمامين للعذر؛ لأن بعض صلاتهم كانت خلف أبي /189/ بكر، وبعضها خلف رسول اللّه صلى الله عليه وآله وسلم، فلذلك قلنا: إن الإمام إذا فسدت صلاته، فقدم بعض المأمومين، وأتم بأصحابه باقي صلاتهم، جاز.
فإن قيل: ما أنكرتم على من قال لكم: أن رسول اللّه صلى الله عليه وآله وسلم صلى خلف أبي بكر، وأن أبا بكر هو الذي أتم الإمامة؟
وما أنكرتم على من قال لكم: إن أبا بكر ائتم بالنبي صلى الله عليه وآله وسلم، وإن الناس ائتموا بأبي بكر، فكلا القولين قد قيل به، وأيهما ثبت بطل قولكم: إن صلاةً واحدةً تُصلَّى خلف إمامين؟
قيل له: يفسد ما سألت عنه؛ لأن عائشة روت أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم لما جاء جلس على يسار أبي بكر، وهذا يمنع كون أبي بكر إماماً له؛ لأن المأموم لا يكون على يسار الإمام، بل الإمام يكون على يسار المأموم.
وروى ابن عباس أن رسول اللّه صلى الله عليه وآله وسلم أخذ القراءة من حيث تركها أبو بكر، وترك أبي بكر للقراءة، وأخذ رسول اللّه صلى الله عليه وآله وسلم لها، يدل على أنَّه كان مأموماً، وأن رسول اللّه صلى الله عليه وآله وسلم كان إماماً، وهذا أيضاً يمنع من كون أبي بكر إماماً لسائر المأمومين؛ لأن الإمام لا يجوز له أن يترك القراءة بالإجماع.
ومما يدل على أن خروج الإمام من الإمامة، والمأمومين من الائتمام لا يفسد صلاة المأمومين: ما أجمعوا عليه من أن الإنسان لو لحق بعض صلاة الإمام، لكان خارجاً من الائتمام إذا سلم الإمام، وكان الإمام خارجاً من الإمامة، ولا خلاف في صحة صلاته، فبان بذلك أجمع صحة ما ذكرناه. (17/35)
وما قلناه من أن الإمام الثاني إذا كان لحق بعض الصلاة قام، وأتم لنفسه إذا جلس المأمومون في آخر صلاتهم؛ لأن صلاته لم تكمل، فعليه أن يكملها.
وقلنا: إنهم إن شاءوا، انتظروا(1)، وسلموا معه، وإن شاءوا سلموا قبله ولم ينتظروه، لما بينا أن الخروج من الإمامة لا يفسد صلاة المأمومين، فلهم الخروج من إمامته إن شاءوا بالتسليم، وإن انتظروه، جاز ليخرجوا معه.
__________
(1) في (أ): انتظروه.
باب القول في السهو وسجدتيه (18/1)
[مسألة: في موجبات سجود السهو]
سجدتا السهو تجبان على من قام في موضع جلوس، أو جلس في موضع قيام، أو ركع في موضع سجود، أو سجد في موضع ركوع، أو سبح في موضع قراءة، أو قرأ في موضع تسبيح.
وذلك كله منصوص عليه في (الأحكام)(1).
والمراد به أجمع إذا كان على سبيل السهو؛ لتنصيصه على إبطال الصلاة بسجدة زائدة إذا كانت على طريق العمد، فإذا المجبور منها بسجدتي السهو هو المفعول على طريق السهو.
وقوله: من سبح في موضع قراءة، أراد به الموضع المختص بالقراءة كموضع القيام من الركعتين الأولتين.
وقوله: أو قرأ في موضع تسبيح، أراد به الموضع المختص بالتسبيح كالركوع والسجود، فأما موضع القيام من الركعة الثالثة أو الرابعة من المكتوبات فإنه عند أصحابنا موضع التسبيح والقراءة جميعاً، وإن كان التسبيح عند/190/ أصحابنا أفضل فيه، فمن قرأ فيه، أو سبح، فلا سهو عليه.
والأصل فيما ذكرنا: ما روى محمد بن منصور، عن عثمان بن أبي شيبة، حدثنا إسماعيل بن عياش الحمصي، عن زهير بن سالم العنسي، عن عبد الله بن عبيد الله، عن عبد الرحمن(2) بن جبير، عن ثوبان، قال: قال رسو ل اللّه صلى الله عليه وآله وسلم: ((لكل سهو سجدتان بعد ما يسلم ))
وهذا عام في جميع ما ذكرنا من الأركان والأذكار.
وروى أبو بكر الجصاص بإسناده، عن عبد الله بن جعفر أن رسول اللّه صلى الله عليه وآله وسلم قال: (( من شك في صلاته، فليسجد سجدتين بعدما يسلم )).
وذهب كثير من العلماء إلى أن من نسي التسبيح في الركوع والسجود، فلا سهو عليه، وما ذكرناه من الخبرين يحجهم، وأيضاً لا خلاف في أن من نسي القراءة، أو التشهد، فعليه سجدتا السهو، فكذلك من نسي التسبيح في الركوع والسجود، والمعنى أنَّه ترك الذكر المسنون في ركن من أركان الصلاة.
فصل
__________
(1) الأحكام 1/114.
(2) في (أ): بن عبد الرحمن.
خرج أبو العباس الحسني رحمه اللّه في قول يحيى عليه السلام(1): "سجدتا السهو تجبان على من قام في موضع جلوس، أو جلس في موضع قيام، أو ركع في موضع سجود، أو سجد في موضع ركوع". أن من نسي السجدة الثانية من الركعة الأولى حتى صلى الركعة الثانية وسجد لها، يكون السجدة التي يفعلها للركعة الثانية للركعة الأولى، ويكون العارض فيما بين السجدتين غير معتد به. (18/2)
قال: لأنَّه لما جبر السجدة المفعولة في موضع الركوع على طريق السهو مع تنصيصه على أن السجدة الزائدة في الصلاة المكتوبة عمداً مبطلة لها، صح أنَّه لم يعتد بها؛ لأنها فعلت في غير موضعها على سبيل السهو، فوجب أن لا يعتد بجميع ما يفعل بين السجدة المفعولة في الركعة الأولى، وبين السجدة المفعولة في الركعة الثانية.
قال: ونص(2) ـ أيضاً ـ على أن من نسي الجلسة الأولى يرجع إليها ما لم يستتم قائماً، فلم يعتد بالقيام المفعول في موضع الجلوس، فدل أيضاً على أنَّه لم يعتد بالعارض بين السجدتين، فعلى هذا لو نسي أربع سجدات من أربع ركعات، وجب أن يصح له ركعتان، لأن السجدة المفعولة بعد الركعة الثانية تكون للركعة الأولى، وما بينهما غير معتد به، وما بعدها من الركعة الثالثة، والسجدة المفعولة بعد الركعة الرابعة تكون للركعة الثانية، وما بينهما غير معتد به فيكون قد صحت له ركعتان.
والأصل في ذلك: ما رواه محمد بن منصور، عن أحمد بن عيسى، عن حسين، عن أبي خالد، عن زيد بن علي، عن آبائه، عن علي عليهم السلام، قال: صلى بنا رسول اللّه صلى الله عليه وآله وسلم الظهر خمس ركعات، فقال له بعض القوم: يا رسول اللّه، هل زِيْدَ في الصلاة شيء؟ قال: وما ذاك؟ قال: صليتَ بنا خمس ركعات. قال: فاستقبَل القبلة، فكبر(3) وهو جالس، فسجد سجدتين ليس فيهما قراءة ولا ركوع، ثم سلم.
__________
(1) الأحكام 1/114.
(2) في (أ): وقد نص.
(3) في (أ): وكبر.
ألا ترى أنَّه صلى الله عليه وآله وسلم لم يعتد بالعارض بين الركعة الرابعة وبين التشهد لما فعله على طريق السهو. (18/3)
وأيضاً فإن الترتيب في أفعال الصلاة مأخوذ على المصلي كما أن أفعال الصلاة مأخوذة عليه، فوجب أن لا يعتد /191/ بالعارض بين أفعال الصلاة، وأن لا يحتسب بالسجود قبل الركوع، ولا بالركوع من الركعة الثانية قبل السجود للركعة الأولى.
فإن قيل: إنَّه إذا صلى، وركع، وسجد سجدة واحدة، تمت الركعة وصح البناء عليها بحصول أكثرها، فلِم يجب أن لا يعتد(1) بما بعدها، كما أن من لحق الإمام راكعاً يركع، ويترك القيام، وتتم الركعة بحصول أكثرها؟
قيل له: قولك: إن الركعة قد تمت بحصول أكثرها ليس كذلك، ألا ترى أن من صلى الظهر ثلاثاً لا تكون صلاته تامة وإن حصل أكثرها، فكذلك الركعة.
فأما قولك: إن(2) من لحق الإمام راكعاً يعتد بتلك الركعة بحصول أكثرها، وإن لم يلحق القيام، فغلط، وذلك أن من لحق الإمام راكعاً، فإنه يكبر تكبيرة الافتتاح، ثم يركع، فيكون قد حصل له أدنى القيام.
ومما يبين ذلك أنَّه لا يعيد ذلك القيام بعد فراغ الإمام.
وليس كذلك السجدة المتروكة من الركعة، فإنها تعاد بالإجماع، ومن الناس من رأى أن ذلك يبطل الصلاة.
وما روي عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم أنَّه صلى الظهر خمساً على طريق السهو، فلما سلم سجد سجدتي السهو، يحجهم.
وروى محمد بن منصور، عن أبي كريب، عن حفص بن بشر الأسدي، عن حكيم، عن نافع الرقي، عن هشام بن عروة، عن أبيه، عن عائشة أن رسول اللّه صلى الله عليه وآله وسلم قال: (( سجدتا السهو تجزيان من كل زيادة ونقصان )).
ففي هذا الخبر دليل على أن شيئاً من الزيادة والنقصان في الصلاة لا يفسدها، إلاَّ ما قام دليله، فأما إذا نسي ركوعاً، أو سجوداً، ولم يذكر حتى فرغ، فإن أبا العباس الحسني ذكر في (النصوص) أن ابن مرداس روى عن القاسم عليه السلام: أنَّه يعيد الصلاة.
__________
(1) في (أ): أن يعتد.
(2) في (أ): أنه.
مسألة: [في الشك في عدد الركعات] (18/4)
وإذا شك الرجل، فلم يدرِ أرَكعتين صلى أم ثلاثاً؟ تحرى، وبنى على غالب ظنه، وسجد سجدتي السهو، فإن لم يغلب ظنه على شيء، أعاد الصلاة، وكذلك إذا أيقن أنَّه زاد، أو نقص، أعادها.
وقال القاسم عليه السلام: من ابتلي بكثرة الشك في صلاته مضى فيها، ولم يلتفت إلى عارض شكه.
ونص في (المنتخب)(1) على معنى ما ذكرناه من التحري وغالب الظن، وعلى أنَّه إذا استوى عنده الأمران يعيد الصلاة.
وأصوله في إيجاب سجدتي السهو عند عوارض الصلاة اقتضت ما ذكرناه من سجدتي السهو في هذا الموضع.
ونص في (المنتخب)(2) على وجوب الإعادة إذا أيقن أنَّه زاد ركعة أو نقص ركعة، ويقتضي ترتيب المذهب أن ذلك يكون إذا كانت الزيادة لا على طريق السهو على ما نبينه في آخر المسألة.
ونص القاسم عليه السلام في (مسائل عبد الله بن الحسن) على إبطال الصلاة إذا زاد فيها ركعة واحدة، ونص في هذا المسائل على ما حكيناه من مضي المبتلي بكثرة الشك في صلاته، ويجب أن يكون معناه أنه يمضي على اليقين، وهو الأقل؛ لأنَّه ليس المضي إلاَّ على الأقل أو الأكثر، والمضي على الأكثر خلاف الإجماع، فالمراد به أنَّه إذاً هو المضي على الأقل.
والأصل فيما نذهب إليه من التحري والعمل على غالب الظن هو:
__________
(1) انظر المنتخب ص43.
(2) انظر المنتخب ص 42، 43.
ما أخبرنا به أبو بكر المقرئ، حدثنا الطحاوي، حدثنا أبو بكرة، قال: حدثنا محمد بن عبد الله بن الزبير، حدثنا سفيان، عن منصور، عن إبراهيم، عن علقمة، عن عبد الله، عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال: (( إذا سهى أحدكم في صلاته، فليتحرَّ، وليسجد سجدتي السهو ))(1). (18/5)
وأخبرنا أبو بكر، حدثنا الطحاوي، عن ربيع المؤذن، حدثنا يحيى بن حسان، حدثنا وهب، حدثنا منصور، عن إبراهيم، عن علقمة، عن عبدالله قال: قال رسول اللّه صلى الله عليه وآله وسلم: (( إذا صلى أحدكم ولم يدر أثلاثاً صلى، أم أربعاً؟ فلينظر أحرى ذلك إلى الصواب، وليتمه، ثم يسلم، ثم يسجد سجدتي السهو ويتشهد ويسلم ))(2).
وروي هذا الخبر من طرق شتى، وألفاظ مختلفة كلها ترجع إلى معنى واحد، وهو نفس ما ذهبنا إليه.
وروي ذلك عن أبي سعيد الخدري عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم. وروي عنه أنه أفتى به. وكذلك يروى عن ابن عمر، وعن أبي هريرة.
فإن قيل: روى عطاء بن يسار، عن أبي سعيد، عن رسول اللّه صلى الله عليه وآله وسلم قال: (( إذا صلى أحدكم فلم يدر ثلاثاً صلى، أم أربعاً؟ فلْيبنِ على اليقين، وليدع الشك )).
وروي عن عبد الرحمن بن عوف، قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يقول: (( إذا شك أحدكم في صلاته فشك في الواحدة والثنتين، فليجعلهما واحدة، وإذا شك أحدكم في الثلاث والأربع، فليجعلها(3) ثلاثاً حتى يكون الوهم في الزيادة )).
__________
(1) أخرجه الطحاوي في شرح معاني الآثار 1/433، 434. بزيادة بذات من منصور قال: سألت سعيد بن جبير عن الشك في الصلاة، فقال: أما أنا فغن كانت التطوع استقبلت، وإن كانت الفريضة سلمت وسجدت، قال: فذكرته لإبراهيم، فقال: ا تصنع بقول سعيد: حدثني علقمة..
(2) أخرجه الطحاوي في شرح معاني الآثار 1/434.
(3) في (أ): فليجعلهما.
قلنا: نستعمل الأخبار كلها، فنقول: من أمكنه التحري، يتحرى، ويعمل على غالب الظن، ومن كثر شكه، وتعذر عليه التحري، يبني على الأقل، وهذا أولى من استعمال خبر البناء، وإسقاط خبر التحري؛ لأنَّه أخذٌ بهما. (18/6)
فإن قيل: فنحن أيضاً نتأول خبركم، فنقول: إن المراد بقوله: (( فلينظر أحرى ذلك إلى الصواب ))، هو أمر بالبناء على اليقين؛ لأن ذلك هو الصواب.
قيل له: هذا الذي ذكرتموه ينافي ظاهر الحديث؛ لأن المطلوب بالتحري هو غالب الظن دون اليقين، وأيضاً لو قال ذلك، لكان تقديره عمل(1) بما هو الواجب، وهذا الكلام لا يختص هذه(2) المسألة، بل يصح أن يقال ذلك لكل سائل، ولا يكون قد أجيب عن سؤاله، وبأن الإفتاء به لا يكون جواباً، عن مسألة بعينها، وهو يُعري الكلام عن الفائدة، فلا يصح حمله عليه، على أن الخبرين جميعاً قد رويا عن أبي سعيد الخدري، عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم، وأفتى هو بالتحري، فيجب أن يكون الخبران عنده صحيحين، وحملهما جميعاً على الصحة يقتضي ما ذهبنا إليه من استعمال أحدهما في وجه، واستعمال الآخر في وجه آخر.
فإن قيل: استعمالنا أولى؛ لأنَّه يؤدي إلى أداء الفرائض على اليقين؟
قيل له: ليس الأمر على ما ذكرت، وذلك أن المؤدي فرض الصلاة، قد أخذ عليه ترك الزيادة كما أخذ عليه ترك النقصان ما أمكن وجود السبيل إليه، والزيادة تفسدها كما يفسدها النقصان، على بعض الوجوه، فلا يجب على هذا أن يكون الباني على الأقل مؤدياً للفرض حسبما أُمر به على اليقين.
__________
(1) في (ب): اعمل.
(2) في (أ): بهذه.
ونقول: إن من شك وتعذر عليه التحري، ولم يصر ذلك عادة له، استأنف الصلاة ويؤديها على اليقين؛ لقول النبي صلى الله عليه وآله وسلم: (( دع /193/ ما يريبك إلى ما لا يريبك ))، وأن الأصل في العبادات أنها تؤدى على العلم، أو على غالب الظن ما وجد السبيل إليهما، فوجب على الشاك أن يستقبل الصلاة؛ إذ ليس معه علم، ولا غالب الظن، فإذا كثر شكه، وتعذر عليه الأمران، رجع إلى البناء على الأقل. (18/7)
ومما يدل على صحة ما نذهب إليه من القول بالتحري: أنا وجدنا التحري يجب استعماله في العبادات أجمع متى تعذر العلم، منها وقت الصلاة، ومنها القبلة، ومنها الماء إذا شك في طهارته ونجاسته، ومنها يوم عرفة، ومنها الصوم إذا التبس على الأسير في أرض العدو في شهر رمضان، فوجب أن يكون ذلك سبيل ركعات الصلاة.
ويفسد بما ذكرنا قول من يقول: إن الفرض لازم باليقين، فلا يجوز إلاَّ باليقين؛ لأن جميع هذه العبادات التي ذكرناها تلزم باليقين، ومع ذلك تؤدى بالتحري إذا تعذر العلم.
فصل [في المصلي إذا تيقين زيادة ركعة في المكتوبة]
وإذا أيقن المصلي أنَّه زاد ركعة واحدة في المكتوبة، فإن الزيادة على ثلاثة أوجه:
[الوجه الأول]: قد تكون زيادة على سبيل السهو، وقد بينا أن أصول يحيى عليه السلام تقتضي على ما خرَّجه أبو العباس الحسني أن الزيادة إذا وقعت على سبيل السهو، لم يعتد بها، فعلى هذا تكون الصلاة جائزة.
والوجه الثاني: أن تكون الزيادة واقعة على سبيل العمد، فهذه الزيادة تبطل الصلاة بالإجماع.
والوجه الثالث: أن يشك(1) في الصلاة، فتقع الزيادة مع الشك، أو غالب الظن، ثم يعلم بعد ذلك على التحقيق أنَّه قد زاد، فهذه الزيادة تبطل الصلاة أيضاً، والأقرب أنَّه إياها عنى بما نص عليه في (المنتخب)(2) من إبطال الصلاة إذا أيقن الزيادة.
__________
(1) في (أ): إن شك.
(2) انظر المنتخب ص42.
والوجه فيه: أنها بالواقع على سبيل العمد أشبه منه بالواقع على سبيل السهو؛ لأنها تقع مع حصول كونها زائدة مقصوداً، وهي إذاً زيادة واقعة لا على سبيل السهو، فيجب أن تكون مفسدة للصلاة قياساً على الزيادة الواقعة على سبيل العمد. (18/8)
مسألة: [في نسيان التشهد الأوسط]
قال: وإذا سهى ولم يقعد في الركعة الثانية للتشهد، وقام، فإن ذكر قبل أن يبتدئ القراءة، قعد وتشهد، ثم قام، وإن لم يذكر حتى يبتدئ القراءة، مضى في صلاته، وسجد سجدتي السهو.
نص على ذلك في (المنتخب) بأن قال: "إن كان لم يبتدئ في قراءته أو يمضي في صلاته جلس وتشهد، وإن كان مضى في بعض القراءة، أو الصلاة مضى في صلاته حتى يتمها، ثم يسجد سجدتي السهو"(1).
فدل قوله: "إن كان مضى في بعض القراءة أو الصلاة مضى في صلاته"؛ أنَّه إذا أتم القيام يمضي في صلاته، ولا يرجع إلى الجلوس؛ لأنَّه جعل للمصلي المضي في صلاته بأن يكون مضى في بعض القراءة، أو الصلاة، ففصل بينهما بأو.
فدل ظاهر الكلام على أنَّه في أيهما مضى من القراءة، أو الصلاة التي هي غير القراءة، لا يعود إلى الجلوس، وإتمامه القيام مضيٌ في الصلاة، فوجب على هذا أن يكون تحصيل المذهب أنَّه إذا سهى عن الجلسة الأولى، ثم ذكرها قبل أن يتم القيام، فعليه أن يجلس، وإن ذكرها بعد إتمام القيام، فعليه أن يمضي في صلاته، وإنما ذكر القراءة والمضي فيها لتحقيق إتمام القيام؛ لأن الابتداء بالقراءة يكون مع إتمام القيام.
والأصل فيه: حديث ابن بحينة: (( أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم /194/ قام في الركعتين، ونسي أن يقعد، فمضى في قيامه، ثم سجد سجدتي السهو )).
__________
(1) انظر المنتخب ص42.
وقلنا(1): إنَّه يعود إلى الجلوس؛ لأنَّه لم يصر إلى الركن الذي هو القيام، فهو ما لم(2) ينتصب قائماً لم يحصل في الركن الثاني فهو في حكم الركن الأول الذي هو الجلوس، فلذلك قلنا: إنَّه يجلس. (18/9)
مسألة: [في اللاحق متى يسجد للسهو]
قال: وإذا أدرك الإمام، وقد صلى ركعة، وعليه سهو، فإذا سلم وسجد سجدتي السهو، قام الرجل، ولم يسجدهما حتى يتم صلاته، فإذا أتمها، سجدهما.
وهذا منصوص عليه في (المنتخب)(3).
ووجه إيجابنا سجدتي السهو على المؤتم إذا سهى الإمام: ما روي عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم، أنَّه قال: (( ليس على من خلف الإمام سهو، فإذا سهى الإمام، فعليه وعلى من خلفه السهو ))(4).
ويدل على ذلك قول النبي صلى الله عليه وآله وسلم: (( إنما جعل الإمام ليؤتم به )).
وأيضاً قد ثبت أن صلاة المؤتم معقودة بصلاة الإمام على ما مضى(5) في هذا الباب، فإذا سهى الإمام، كان في الحكم كأن المأموم قد سهى.
ووجه قولنا: أنَّه لا يسجد حتى يفرغ من صلاته ما ثبت من أن سجدتي السهو بعد التسليم لما نبينه من بعد، وما بيناه فيما مضى أن السجدة الزائدة في الصلاة المكتوبة على سبيل العمد تكون مفسدة للصلاة.
مسالة: [ويلزم المؤتم السجود إذا سها وإن لم يسه إمامه]
قال: وإذا سهى الرجل خلف الإمام، ولم يسه الإمام، سجد ـ هو ـ سجدتي السهو.
وهذا منصوص عليه في (المنتخب)(6).
والأصل فيه: حديث ثوبان، عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم: (( لكل سهو سجدتان بعد ما يسلم )).
وروى عبد الله بن جعفر، عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم: (( من شك في صلاته، فليسجد سجدتين )).
وذلك عام في المنفرد، والإمام، والمؤتم.
__________
(1) في (أ): وقلنا: إنه يعود إلى الجلوس إن ذكر قبل أن يستتم قائماً؛ لأنه ليس بعد الركن الذي هو الجلوس إلا الركن الذي هو القيام.
(2) في (أ): ما لا.
(3) انظر المنتخب ص43.
(4) سقط من (ب): السهو.
(5) في (أ): ما قد مضى.
(6) انظر المنتخب ص43.
فإن قيل: فقد روي عنه صلى الله عليه وآله وسلم: (( ليس على من خلف الإمام سهو )). (18/10)
قيل له: معناه عند أصحابنا أنَّه أبعد من السهو، والغرض به الحث على الجماعة، على أن قوله: (( ليس على من خلف الإمام سهو ))، لا ظاهر له في موضع الخلاف؛ لأن الخلاف في السجدتين، وهما غير مذكورتين في الخبر، وإذا لم يكن له ظاهر حصل تعرض للتأويل، ووجب الرجوع إلى ما ذكرناه، على أنَّه مقيس على المنفرد بعلة أنَّه ساهٍ، والعلة لا تنتقض بالسهو الذي لا يوجب السجدتين؛ لأن الغرض بالتعليل إلحاق المؤتم بالمنفرد في باب السهو.
مسألة: [فيمن سها وسلم إحدى التسليمتين أو كليتيهما]
وإذا سهى في صلاته وسلم تسليمتين ناسياً، أعاد الصلاة، وإن لم يسلم إلاَّ تسليمة واحدة، مضى فيها، وسجد سجدتي السهو.
وذلك منصوص عليه في (المنتخب)(1).
واستدل فيه على أن من سلم تسليمتين في الثانية ناسياً يعيد الصلاة، بقول النبي صلى الله عليه وآله وسلم: (( تحليلها التسليم )).
والتحليل هو الخروج من الصلاة، فإذا فعل ما هو تحليل الصلاة، يكون قد خرج منها، وإذا خرج منها، لم يجز له البناء عليها، قياساً على من يخرج منها بأن يفسدها أو يتكلم قبل التسليم عامداً، أو يمشي المشي الطويل؛ بعلة أنَّه خارج من الصلاة، فأما إذا سلم تسليمة واحدة، فلا خلاف أنَّه يبني، فإن شئنا، خصصناه من قوله صلى الله عليه وآله وسلم: (( تحليلها التسليم )). بالإجماع، وإن شئنا قلنا: إن التسليم المعرَّف بالألف واللام /195/ هو: التسليم المعهود، الذي كان صلى الله عليه وآله وسلم يخرج به من الصلاة، وهو التسليمتان.
وقلنا: إنَّه إذا بنى سجد سجدتي السهو؛ لقوله صلى الله عليه وآله وسلم: (( لكل سهو سجدتان )). وما أشبه ذلك من الأخبار التي ذكرناها أولاً.
مسألة: [في نسيان الواجب أو المسنون]
__________
(1) انظر المنتخب ص44.
قال: وإذا نسي التكبيرة الأولى، أعاد الصلاة، وإن نسي غيرها من التكبيرات، جازت الصلاة، وسجد سجدتي السهو، وكذلك إذا نسي القراءة كلها، أعاد الصلاة، وإن قرأ في ركعة ونسي في غيرها، أجزأه، وسجد سجدتي السهو، وكذلك من نسي القنوت، سجدهما. (18/11)
نص في (المنتخب)(1) على أن من نسي بعض التكبيرات، سجد سجدتي السهو وصلاته تامة، وإن نسي التكبير كله، بطلت صلاته، فدل كلامه هذا على أن في التكبير ما هو فرض تبطل الصلاة بتركه، وفيه ما لا تفسد الصلاة بتركه، ولا خلاف أن التكبيرات أجمع حكمها حكم واحد، خلا تكبيرة الافتتاح.
ونص في (الأحكام)(2) على أن من نسي القراءة في إحدى الركعتين، سجد سجدتي السهو، وكانت صلاته تامة إذا كان قد قرأ في بعض الركعات، وعلى أن الصلاة تبطل إذا لم يقرأ فيها.
ونص القاسم عليه السلام في (مسائل النيروسي) على أن من نسي القنوت في الفجر، أو الوتر، سجد سجدتي السهو إن أحب.
أما وجه إبطالنا الصلاة إذا لم يكبر تكبيرة الافتتاح فهو: أنها فرض، وقد مضى الكلام في أنها فرض في هذا المعنى في باب صفة الصلاة، وكذلك قد مضى الكلام في أن الصلاة لا تصح إذا لم يقرأ في شيء منها، وأن الفرض من القراءة إنما هو مرة واحدة.
وقلنا: إنَّه يسجد سجدتي السهو إذا نسي سائر(3) التكبيرات، أو القراءة في سائر الركعات، وكذلك إذا نسي القنوت؛ لقوله صلى الله عليه وآله وسلم: (( لكل سهو سجدتان )). وقوله: (( من شك في صلاته، سجد سجدتين )). ولأن ذلك أجمع قياس سائر السهو في الصلاة المجمع على أن يسجد له سجدتا السهو.
مسألة: [موضع وسجدتا السهو]
وسجدتا السهو بعد التسليم لزيادة كانت، أو نقصان، ومن سجدهما قبل التسليم، بطلت صلاته.
وهذا هو مذهب القاسم عليه السلام.
ونص يحيى عليه السلام في (المنتخب)(4) على أن من سجدهما قبل التسليم، بطلت صلاته.
__________
(1) انظر المنتخب ص45.
(2) انظر الأحكام 1/105.
(3) سقط من (أ): سائر.
(4) انظر المنتخب ص42.
ووجه ذلك: حديث ثوبان عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم: (( لكل سهو سجدتان بعد التسليم )). (18/12)
وحديث عبد الله بن جعفر: أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، قال: (( من شك في صلاته، فليسجد سجدتين بعد ما يسلم )).
وحديث ابن مسعود، وقد ذكرنا إسناده، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: (( إذا صلى أحدكم، فلم يدر أثلاثاً صلى، أم أربعاً، فلينظر أحرى ذلك إلى الصواب، فليتمه، ثم يسلم، ثم يسجد سجدتي السهو، ويتشهد )).
وهذا نص صريح لما نذهب إليه لا يحتمل التأويل.
وأخبرنا أبو بكر، حدثنا الطحاوي، عن أبي بكرة، حدثنا سعيد بن عامر، حدثنا هشام الدستوائي، عن يحيى بن أبي كثير، عن عبد الرحمن الأعرج، عن عبد لله بن مالك، أنَّه أبصر رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قام في الركعتين الأولتين، ونسي أن يقعد، فمضى في قيامه، وسجد سجدتين بعد الفراغ من صلاته(1).
ولا يكون قد فرغ من صلاته إلاَّ بعد التسليم، فدل هذا أيضاً على ما نذهب إليه.
فأما ما روي عن معاوية، عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم من أنَّه سجدهما قبل التسليم، فمعاوية عندنا لا يعمل على حديثه؛ لسقوط عدالته، وقد روي أيضاً عن غيره، ومعناه إذا ثبت الحديث قبل التسليم الذي يقع عقيب التشهد المفعول بعد سجدتي السهو.
فإن قيل: ما أنكرتم من أن يكون ما رويتم من قوله صلى الله عليه وآله وسلم: (( بعد ما يسلم ))، معناه بعد ما يسلم /196/ على النبي صلى الله عليه وآله وسلم؟
قيل له: هذا يمتنع لوجهين:
أحدهما: أن التسليم في الصلاة، إذا أطلق، عُقل التسليم الذي يخرج به من الصلاة.
والثاني: أن حديث ابن مسعود قد فسر ذلك بأن قال: فليتمه، ثم يسلم، ثم يسجد سجدتي السهو، ويتشهد ويسلم )). فمنع تأويلكم.
__________
(1) أخرجه الطحاوي في شرح معاني الآثار 1/438.
فإن قيل: فكيف تأولتم أنتم ما رويناه من أنهما قبل التسليم على أنَّه قبل التسليم الثاني مع قولكم: إن إطلاق التسليم يقتضي التسليم، الذي به الخروج من الصلاة؟ (18/13)
قيل له: التسليم الثاني أيضاً خروج من الصلاة؛ لأنه يعود في الصلاة بسجدتي السهو، فصح تأويلنا.
وأحاديثنا تحج من زعم أنهما في النقصان قبل التسليم؛ لأنها وردت عامة في السهو، والسهو قد يكون في الزيادة كما يكون في النقصان، على أن حديث عبد الله بن مالك أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم نسي أن يقعد في الركعتين، فمضى وسجد سجدتي السهو بعد الفراغ من صلاته، تصريح بأنهما في النقصان أيضاً بعد التسليم؛ لأنَّه سهو في النقصان، وسجدهما له بعد الفراغ.
ومما يدل على ذلك من طريق النظر: أن التسليم موجب التحريم كالركوع والسجود، وسائر أركان الصلاة؛ إذ لا خلاف في أنهما متأخرتان عنهما(1).
فإن قيل: إن سجدتي السهو جبر للصلاة، وجبرها يجب أن يكون فيها.
قيل له: هذا فاسد من وجهين:
أحدهما: أن جبر الحج يجوز أن يكون بعده، ألا ترى أن من قتل الصيد، أو قبل امرأته، أو نحو ذلك، فله أن يكفر بعد الخروج من الحج؟
والثاني: أنَّه بسجدتي السهو يعود في حرمة الصلاة، فكأنه في الصلاة، ولهذا يتشهد، ويسلم بعدهما.
فأما الكلام في أنهما قبل تحليل الصلاة مبطلتان للصلاة، فهو الكلام في أن السجدة الزائدة في الصلاة على سبيل التعمد تبطلها، وقد مضى فيما تقدم، وذلك أيضاً يحقق أنهما بعد التسليم.
مسألة: [في تشهد سجدتي السهو ونسيانهما والسهو في التطوع]
قال: ويستحب إعادة التشهد بعدهما.
قال: ولو أن رجلاً وجب عليه سجدتا السهو، فنسيهما، سجدهما إذا ذكرهما، وإن كان قد اشتغل عن صلاته، وزال عن مقامه.
قال: وقال القاسم عليه السلام، وعلى المتطوع إذا سهى سجدتا السهو(2).
__________
(1) في (أ): عنها.
(2) في (أ): إذا سهى فعليه سجدتا السهو.
اعلم أن ما ذكرناه من إعادة التشهد بعدهما، وأن من نسيهما سجدهما، وإن كان قد اشتغل عن صلاته، منصوص عليه في (المنتخب)(1)، وما حكيناه عن القاسم عليه السلام من أن المتطوع إذا سهى، سجد سجدتي السهو منصوص عليه في (مسائل النيروسي). (18/14)
وقلنا: إنَّه يستحب إعادة التشهد؛ لما روي عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: (( ثم يسجد سجدتي السهو، ويتشهد، ويسلم ))، ولم يوجبه؛ لقوله: (( لكل سهو سجدتان )). وقوله: (( من شك في صلاته، فليسجد سجدتين بعد ما يسلم )). فاقتصر على ذكر السجدتين، فمن سجدهما يكون ممتثلاً للظاهر، ولم يثبت أنَّه يعيدهما بترك التشهد بعدهما، فلذلك قلنا إن التشهد بعدهما غير واجب، وأيضا في الحديث الذي روي عن رسول اللّه صلى الله عليه وآله وسلم /197/ أنَّه صلى الخامسة ناسياً، أنه سجد سجدتي السهو، ثم سلم، ولم يذكر التشهد(2).
وقلنا إن من نسيهما، سجدهما، وإن كان قد اشتغل عن صلاته، وزال عن مقامه؛ لما رواه زيد بن علي، عن آبائه، عن علي عليهم السلام قال: "صلى بنا رسول اللّه صلى الله عليه وآله وسلم الظهر خمس ركعات"، قال: فاستقبل القبلة، وكبر وهو جالس، وسجد سجدتين ليس فيهما قراءة ولا ركوع، ثم سلم".
فلما فعلهما النبي صلى الله عليه وآله وسلم بعد الكلام الذي يوجب انقطاع حرمة الصلاة قلنا: إنهما يفعلان بعد الاشتغال عن الصلاة إذا كان المصلي نسيهما؛ ولأنه إذا ثبت أنهما بعد التسليم، ثبت أنهما بعد حرمة الصلاة؛ لأن حرمتها تذهب بالتسليم، ألا ترى إلى قوله صلى الله عليه وآله وسلم: (( تحليلها التسليم ))، فإذا ثبت أنهما بعد ذهاب حرمة الصلاة، جاز أن يفعلهما المصلي، وإن اشتغل عن الصلاة.
__________
(1) انظر المنتخب ص43.
(2) في (أ): ولم يذكر منها التشهد.
ووجه قول القاسم عليه السلام: إن المتطوع إذا سهى، سجدهما، قول النبي صلى الله عليه وآله وسلم : (( لكل سهو سجدتان ))، وقوله : (( من شك في صلاته، فليسجد سجدتي السهو ))، ولم يستثن فرضاً من نفل (18/15)
باب القول في قضاء الصلوات (19/1)
[مسألة: فيما يجب على المغمى عليه والمجنون قضاؤه من الصلاة]
إذا أغمي على الرجل أياماً، لم يجب عليه من الصلاة إلاَّ التي أفاق في وقتها، وكذلك الذي يجن، أو يعتل علة لا يمكنه معها أداء الصلاة على وجه من الوجوه.
جميع ذلك منصوص عليه في (الأحكام)(1).
والأصل فيه: أن القضاء فرض مجدد، ثبت بدلالةٍ شرعيةٍ، ولم نجد دليلاً عليه، فقلنا: لا قضاء عليه، وأما(2) الصلاة التي يفيق في وقتها، فلا خلاف في وجوبها عليه، فلذلك قلنا به.
وقد ذكرنا في (باب المواقيت) متى يكون الرجل مدركاً لوقته.
ويدل على صحة ما ذهبنا إليه في هذا الباب: ما رواه محمد بن منصور، عن أحمد بن عيسى، عن حسين، عن أبي خالد، عن زيد بن علي، عن آبائه، عن علي عليهم السلام، قال: أُتِيَ رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، فقيل له: عبد الله بن رواحة ثقيل، فأتاه وهو مغمى عليه، فقال عبد الله بن رواحة: يا رسول اللّه، أُغْمِيَ علَيَّ ثلاثة أيام، فكيف أصنع بالصلاة؟ فقال له رسول اللّه صلى الله عليه وآله وسلم: (( صلِّ صلاة يومك الذي أفقت فيه، فإنه يجزئك )).
وهو أيضاً مقيس على من جن مدة طويلة في أنه لا قضاء عليه لما فاته من الصلاة؛ بعلة أنَّه سقط عنه فرض الصلاة بمرض مزيل للعقل.
وهو أيضاً مقيس على الحائض بعلة أن فرض الصلاة سقط عنها لمانع يجوز امتداده أياماً من جهة العرف.
فأما أبو حنيفة(3) فإنه يذهب إلى أنَّه إن أغمي على المريض يوماً وليلةً، فما دون ذلك قضى ما فاته، وإن أغمي عليه أكثر من ذلك لم يقض.
__________
(1) انظر الأحكام 1/121.
(2) في (أ): فأما.
(3) في (أ): أبو حنيفة رضي الله عنه.
وذكر أبو بكر الجصاص أنهم تركوا فيه القياس؛ لما روي عن عمار أنَّه أغمي عليه يوماً وليلةً، فقضى ما فاته، قال: ولا مخالف له من الصحابة، قال: والقياس يوجب أن الإغماء يسقط القضاء، وذلك لا معنى له؛ لأن عماراً يجوز أن يكون قضى على الاستحباب؛ لأنه روي عنه أغمي عليه ثلاثة أيام، فلما أفاق، قضى صلاة(1) ثلاثة /198/ أيام، فدل ذلك على أنَّه قضى على طريق الاستحباب. (19/2)
ومما يثبت صحة ما نذهب إليه في هذا الباب: أن الأصل في الصلاة أن ما سقط منها للمرض، لم يجب قضاؤه، مثل القيام والركوع والسجود، فكذلك(2) جملة الصلاة.
مسألة [ومن ترك الصلاة وجب عليه قضاؤها]
قال: وأيما رجل ترك الصلاة عامداً أو ناسياً، وجب عليه قضاؤها.
نص في (الأحكام)(3) على وجوب القضاء في ذلك، بشرط أن لا يكون تركه كفراً أو استحلالاً(4)، فدل ذلك على أنَّه لا يقتضتي المرتد الصلاة التي تركها كفراً، أو استحلالاً.
ونص في (المنتخب)(5) على أن المرتد لا يقضي الصيام، وقال: "إنَّه خارج من عقدة الإسلام"، فحقق ذلك أنه لا يجب قضاء الصلوات على المرتد.
وحكى أبو العباس الحسني رحمه اللّه في (النصوص)، عن محمد بن يحي عليه السلام: أن من ترك صلاة،ً أو صياماً، ردَّةً، لم يقضِ.
فأما وجوب قضاء ما تركه الإنسان من الصلاة عامداً، أو ناسياً، على غير وجوه الردة فلا خلاف فيه؛ لقول النبي صلى الله عليه وآله وسلم: (( من ترك صلاةً، أو نسيها، أو نام عنها، فليصلها إذا ذكرها )).
__________
(1) سقط من (أ): صلاة.
(2) في (أ): وكذلك.
(3) انظر الأحكام 1/120، ففيه كلام قريب من هذا، والنص علىالناسي فقط، وما ذكره هنا منصوص عليه في المنتخب ص48.
(4) في (ب): ترك كفراً أو استحلالاً.
(5) انظر المنتخب ص91.
وروى الطحاوي بإسناده عن سمرة، أنَّه كتب إلى بنيه أن رسول اللّه صلى الله عليه وآله وسلم كان يأمرهم إذا شغل أحدهم عن الصلاة أونسيها حتى يذهب حينها التي(1) تُصلَّى فيه، أن يصليها مع التي تليها من الصلاة المكتوبة(2). (19/3)
فأما المرتد، فالذي يدل على أنَّه لا قضاء عليه لما ترك من الصلاة أن القضاء فرض مجدد، ولم يرد الشرع بإيجابه، فوجب أن لا يكون لازماً.
ويدل على صحة(3) ذلك قول اللّه تعالى: {قِلْ لِلَّذِيْنَ كَفَرُوا إِنْ يَنْتَهُوا يُغْفَرْ لَهُمْ مَا قَدْ سَلَفَ}، فبين تعالى أن الكفار متى انتهوا غفر لهم ما قد سلف، فوجب أن لا يلزمهم لما مضى من الأمور قضاء، إلاَّ ما خصه الدليل.
فإن قيل: إنهم لم يكونوا(4) منتهين حتى يقضوا الصلوات.
قيل له: هذا فاسد بالإجماع؛ إذ لا خلاف أن سمة الكفر تزول عنهم، وتجري عليهم سمة الإيمان والتوبة، والانتهاء عن الكفر قبل قضاء الصلوات.
ويدل على ذلك قول النبي صلى الله عليه وآله وسلم لعمرو بن العاص: (( إن الإسلام يَجُبُّ ما قبله )).
فإن احتجوا بقول اللّه تعالى: {أَقِيْمُوا الصَّلاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ}، وقوله: {فِإِنْ تَابُوا وَأَقَامُوا الصَّلاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ فَإِخْوَانُكُمْ}[التوبة:11]، وما أشبهها من الظواهر.
قيل لهم : هذه الظواهر لا حجة لكم فيها؛ لأنها توجب إقامة الصلاة فقط، فمن أقامها مبتدئاً، فقد امتثل ما أُمر به، وليس فيها دلالة على وجوب القضاء.
فإن قيل: فقد قال اللّه تعالى في ذم المشركين: {فَلا صَدَّقَ وَلا صَلَّى}[القيامة:31]، وعنهم أنهم يقولون: {لَمْ نَكُ مِنَ الْمُصَلِّيْنَ}[المدثر:43]، فدل ذلك على أن الصلاة واجبة عليهم.
__________
(1) في (أ): الذي.
(2) أخرجه الطحاوي في شرح معاني الآثار 1/465.
(3) سقط من (أ): صحة.
(4) في (أ): إنهم لا يكونون.
قيل لهم: نحن لا ننكر أنهم يستحقون العقاب على تركهم هذه العبادات مع ما يستحقونه من العقاب على الشرك، وليس(1) فيها دلالة على وجوب القضاء، ولا دليل أيضاً في وجوب الشيء، على أن قضاءه إذا فات يكون واجباً؛ إذ القضاء فرض ثانٍ(2) يحتاج إلى دلالةٌ ثانية. (19/4)
وليس لهم أن يستدلوا بقول النبي صلى الله عليه وآله وسلم : (( من نسي صلاةً، أو نام عنها، فليصلها إذا ذكرها ))، بأن يقول قد يكون النسيان اسماً للترك، فكل من ترك الصلاة، لزمه قضاؤها، وذلك أن النسيان يستعمل في الترك على سبيل المجاز، والمجاز لا يدخل في اللفظ مع الحقيقة /199/ إلاَّ بدلالة، على أن قوله: (( فليصلها إذا ذكرها ))، يدل على أنَّه أراد النسيان في الحقيقة دون الترك.
فإن احتجوا بما روي عن أبي بكر أنَّه قال ـ بحضرة المهاجرين والأنصار، في أهل الردة ـ: لو منعوني عقالاً مما كانوا يؤدونه إلى رسول الله صلى اللّه عليه وآله وسلم، لقاتلتهم. وقالوا: إن هذا يدل على وجوب الزكاة على المرتد، وأنه مطالب بها.
قيل له: قال ذلك؛ لأنهم أصروا على أن لا يؤدوها في المستقبل، وذلك مما يجب أن يقاتَلوا عليه بعد الإسلام.
ومما يدل على ذلك: إجماع المسلمين على أن الذمي لا يقضي ما تركه في حال كفره من الصلوات، فكذلك المرتد قياساً عليه؛ والعلة أنَّه ترك للصلاة في حال الكفر.
والدليل على صحة هذه العلة: أنَّه لو تركها مع الإسلام، لزمه قضاؤها، وإذا تركها مع الكفر، لم يلزمه قضاؤها، فصح أن العلة ما ذكرناه.
__________
(1) في (أ): فليس.
(2) سقط من (أ) و(ج): ثان.
فإن قاسوا المرتد على المسلم في وجوب قضاء الصلاة عليه؛ بعلة أنَّه قد سلف منه الإقرار بالإسلام، كان قياسنا أولى، وذلك أنَّه لا مدخل مع الكفر لقضاء شيء من الصلوات، وقد يسقط قضاؤها بعد الإقرار بالإسلام؛ لعوارض، مثل الإغماء، والجنون ونحوهما، فكان الكفر في إسقاط القضاء أقوى من الإقرار بالإسلام في إيجاب القضاء، وأيضاً فإن قياس الكافر على الكافر أولى من قياسه على المسلم. (19/5)
فإن قيل : إذا ثبت أن المسلم لو ترك الصلاة، لزمه قضاؤها، لم يجب أن تسقط عن المرتد إذا تركها؛ لأنَّه لم يزد على أن ضم معصية أخرى إلى تركها.
قيل له : هذا يعترضه الذمي؛ لأنَّه أيضاً لم يزد على أن ضم معصية أخرى إلى ترك الصلاة، ومع هذا فلا قضاء عليه، على أنا قد بينا أن وجوب القضاء فرض ثانٍ، ولا يمتنع أن يثبت في وجه، ولا يثبت في آخر؛ لأن العبادات تتعلق بالمصالح، ولهذا تجب في وقت، ولا تجب في وقت، ويخاطب المكلف بها في حال، ولا يخاطب في أخرى، وعلى هذا النحو يجب أن يكون جواب من قال: إن من أقر بشيء لزمه، ولم يسقطه عنه إنكاره؛ لأن حكم العبادات مخالف لحكم الحقوق، على ما بيناه، على أن الأصول تختلف في الإقرار، ألا ترى أن من أقر بشيء يوجب حداً، ثم أنكره يُسقط(1) ما أوجبه الإقرار من الحد، وإن كان في الإقرار ما إذا وقع، لم يؤثر فيما اقتضاه الإنكار، فلم يجب أن يجري مجرى الحال فيه على أمر واحد.
__________
(1) في (أ): سقط.
وأيضاً فإنا وجدنا أكثر ما في المرتد أن كفره يخالف كفر سائر الكفار في عدة من الإحكام، وقد وجدنا كفر سائر الكفار أيضاً يختلف كثيراً في أحكامها؛ لأن الوثنية لا يَقرُّون على كفرهم، ولا تؤخذ منهم الجزية، وأهل الكتاب يقرون على كفرهم، وتؤخذ منهم الجزية، وأهل الذمة لا يُسْبَون، ولا تستباح دماؤهم، وأهل الحرب يسبون، وتستباح دماؤهم، ثم وجدنا كفرهم مع اختلاف أحكامهم، لا تؤثر في أن لا قضاء لما تركوا معه من الصلوات، فوجب أن يكون كفر المرتد كذلك، إذ قد بان أن مخالفة الكفر لا تأثير لها في هذا الباب. (19/6)
مسألة [في قضاء الفوائت إذا تعددت]
قال: وإذا فاتته صلوات عدة، قضاها كيف شاء، في وقت واحد، أو أوقات مختلفة، وتُقَدَّم النية لكل صلاة.
قال في (المنتخب)(1): يحزيه إن قضى مع كل صلاة صلاة، أو صلاها في وقت واحد، في موضع واحد، إذا قدم النية لكل صلاة.
فصح من مذهبه أن لا ترتيب في قضاء الفوائت، قلَّتْ أو كثرت.
والدليل على ذلك: قول اللّه تعالى: {أَقِمِ الصَّلاةَ لِدُلُوكِ الشَّمْسِ إِلَى غَسَقِ اللَّيْلِ}[الإسراء: 87]، فأمر بإقامة الصلاة الواجبة عند الدلوك، من غير استثناء كون الفوات عليه، فوجب أن يقيم الصلاة الواجبة عند دلوك الشمس من عليه من الفوائت خمس صلوات أو أقل منها أو أكثر، أو من لا فوات عليه ، وفي هذا صحة ما نذهب إليه، وفساد قول من يقول بوجوب الترتيب في قضاء الفوائت.
ويدل على ذلك ـ أيضا ـ: قول اللّه تعالى: {أَرَأَيْتَ الَّذِيْ يَنْهَى عَبْداً إِذَا صَلَّى} [العلق:9،10]، ومن يقول بالترتيب ينهى من يصلي صلاة وقته، وعليه من الفوائت ما هو أقل من ست صلوات.
ويد ل على ذلك ما [روي عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم: (( إذا أقيمت الصلاة، فلا صلاة، إلاَّ التي أقيمت )).
__________
(1) انظر المنتخب ص48، 49.
فإن قيل](1): روي عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم أنَّه لما فاتته أربع صلوات يوم الخندق حتى كان عند هوى من الليل، قضاهن على الترتيب، فدل ذلك على وجوب الترتيب في الفوائت. (19/7)
قيل له: ما ذكرت يدل على أن الترتيب فيهن جائز، وليس فيه أنَّه واجب، ونحن لا ننكر جواز قضاء الفوائت على الترتيب.
فإن قيل: إنَّه يدل على الوجوب؛ لأنَّه فعل وقع من النبي صلى الله عليه وآله وسلم بياناً لمجملٍ، وهو الصلاة.
قيل له: ليس للقضاء لفظ مجمل، فيكون هذا الفعل منه بياناً له، وإذا لم يكن ذلك على ما ادعيت، بطل قولك: إنَّه يدل على الوجوب.
فإن قيل: قد قال صلى الله عليه وآله وسلم : (( صلوا كما رأيتموني أصلي ))، فدل ذلك على وجوب الترتيب؛ لأنَّه عليه السلام صلى مُرَتِّباً، وأمرنا أن نصلي كما رأيناه يصلي.
قيل له: قوله : (( صلوا كما رأيتموني أصلي ))، هو أمر بما يسمى صلاة، أن نفعله على الوجه الذي يفعله صلى الله عليه وآله وسلم ما يسمى صلاة، ونحن لم نختلف في الصلاة، وإنما اختلفنا في الزمان الذي تقع فيه الصلاة، والزمان لا يسمى صلاة، فالأمر لا يتعلق به، ألا ترى أنَّه لو قال: (( صلوا كما رأيتموني أصلي ))، ثم صلى بعد ما طعم، أو طعم بعد ما صلى، أو صلى بعد ما شرب، أو نام، أو شرب، أو نام بعد ما صلى، كان لا يجب أن نفعل نحن مثل ما فعله من المطعم والمشرب والنوم قبل الصلاة، أو بعدها؛ لأن كون زمان الصلاة المفعولة قبل تلك الأفعال، أو بعدها ليس مما يتعلق الأمر به، وكذلك الصلاة التي يفعل بعضها في أثر بعض؛ إذ الصلوات الكثيرة أو الصلاتان ليست في حكم الصلاة الواحدة، فيعلق بعضها ببعض، أو في حكم الوضوء الواحد في تعلق بعضه ببعض.
__________
(1) ما بين المعكوفين سقط من (أ) و(ب)، ولا يستقيم الكلام بدونه.
ومما يدل على صحة ما نذهب إليه في هذا الباب أنا لا نختلف أن الفوائت إذا زادت على خمس صلوات، لم يكن فيها ترتيب، فكذلك إذا كانت خمساً أو دونها، والمعنى أنها فوائت صلوات منفردة، فيجب أن لا يكون الترتيب شرطاً في قضائها. (19/8)
ويمكن أن يقاس أيضاً على ما فاته من فروض صلوات، وزكوات، وصيام؛ بعلة أنها فوائت فروض متميزة، وما ذكرناه من أنَّه يقدم النية لكل صلاة، فقد مضى الكلام في أن النية يجوز أن تتقدم الصلاة، فأما وجوب حصولها، فمما لا خلاف فيه.
مسألة [في قضاء النوافل]
قال: وإذا فاتته النوافل، قضاها استحباباً.
وذلك منصوص عليه في (المنتخب)(1).
والأصل فيه قوله صلى الله عليه وآله وسلم : (( من نسي صلاةً، أو نام عنها، فليقضها إذا ذكرها )). وهو عام في الفرض والنفل، وقد أجمعوا على أنَّه لا يقضي وجوباً، فثبت أنَّه يقضي استحباباً.
ويدل على ذلك: حديث أم سلمة رحمها الله، قالت إن النبي صلى الله عليه وآله وسلم صلى في بيتي ركعتين بعد العصر، فقلت: ما هاتان الركعتان؟ فقال: (( كنت أصليهما بعد الظهر، فجاءني مال فشغلني، فصليتهما الآن )).
فدل ذلك على أن قضاء النوافل إذا فاتت مستحب، و أيضاً يجب أن يكون حكم قضائها حكم أصلها، فإذا كان أصلها مندوباً، فكذلك قضاؤها، قياساً على الصلوات الواجبة إذا فاتت؛ لأن حكم قضائها حكم أصلها، ألا ترى أن أصلها لما كان واجباً، كان قضاؤها واجباً، والعلة أنها صلاة مؤقتة.
مسألة [في قضاء ما فسد من النوافل]
قال: وإذا دخل في النافلة ثم أفسدها، لم يجب عليه قضاؤها.
قد نص في كتاب الطهارة من (الأحكام)(2) على أن من فسدت له صلاة نافلة، لم يلزمه قضاؤها، ونص في (كتاب الصوم)(3) منه على أن(4) من صام تطوعاً، ثم أفسد، فلا قضاء عليه. ورواه عن القاسم عليه السلام.
__________
(1) انظر المنتخب ص49.
(2) انظر الأحكام 1/53، 54.
(3) انظر الأحكام 1/247.
(4) سقط من (ب): أن.
والوجه فيه ما أخبرنا به أبو العباس الحسني رحمه اللّه، قال: أخبرنا أحمد بن سعيد، قال: حدثنا محمد بن علي بن زهير القرشي، قال: حدثنا عفان بن يسار، عن حماد بن سلمة، عن سماك بن حرب، عن هارون بن بنت أم هاني، عن أم هاني، قالت: دخل عليها رسول اللّه صلى الله عليه وآله وسلم، فاستسقى منها شراباً، ثم ناولها سؤره، فشربت، فقالت: يا رسول اللّه، إني كنت صائمة، ولكني كرهت أن أرد سؤرك. (19/9)
فقال صلى الله عليه وآله وسلم: (( إن كان قضاء من شهر رمضان، فصومي يوماً مكانه، وإن كان تطوعاً، فإن شئت فاقضي، وإن شئت فلا تقضي )) . فصرح بسقوط القضاء عن المتطوع بالصوم إذا أفسده، فكذلك يجب أن يكون حكم المتطوع بالصلاة، إذ لا أحد من الأمة فرق بينهما.
وروي عن أم هاني أن رسول اللّه صلى اللّه عليه وآله وسلم دخل عليها يوم الفتح (1) فَأُتِيَ بإناء، فشرب، ثم ناولني، فقلت: إني صائمة، فقال: (( إن المتطوع أمير نفسه، فإن شئت فصومي، وإن شئت فأفطري )).
وفي بعض الأخبار، عن أم هاني قالت: أتي رسول اللّه صلى الله عليه وآله وسلم بشراب يوم فتح مكة، فناولني، فشربت، وكنت صائمة، فكرهت أن أرد فضل سؤره، فقلت: يا رسول اللّه، إني كنت صائمة. فقال: (( أتقضين عنك شيئاً ))؟ قالت: لا. [قال: (( فلا يضرك )).
__________
(1) أي: عام الفتح؛ لأن الفتح في رمضان ولا تطوع فيه ولا قضاء لأنه واجبا. تمت من هامش (ب).
وأخبرنا أبو بكر المقري، قال: حدثنا أبو جعفر الطحاوي، قال: حدثنا سليمان، قال: حدثنا أسد، قال: حدثنا قيس بن الربيع، عن سماك بن حرب، عن رجل من آل جعدة بن هبيرة، عن جدته أم هاني، قالت: دخلت أنا وفاطمة على رسول اللّه صلى الله عليه وآله وسلم يوم فتح مكة، فجلست عن يمينه، فدعا بشراب، فشرب، ثم ناولني، فشربت وأنا صائمة. فقلت: يا رسول اللّه، ما أراني إلاَّ وقد أثمت، وأتيت حنثاً، عرضت عليَّ وأنا صائمة، فكرهت أن أرده عليك. فقال: (( هل كنت تقضين يوماً من رمضان ))؟ فقالت: لا](1). قال: (( لا بأس )). (19/10)
ففي هذا الحديث وجهان من الدلالة:
أحدهما: أنَّه صلى الله عليه وآله وسلم لم يقل: عليك قضاء يوم، ولا يجوز أن يكون قد لزمها قضاء يوم، ولم(2) يُعرِّفها رسول اللّه صلى الله عليه وآله وسلم ذلك.
والثاني: أنَّه قال: (( لا بأس ))، فنفى أن يكون لحقها في ذلك إثم، فإذا [لم يلحقها إثم](3)، ثبت أن لها الخيار في [إتمام التطوع أو الخروج منه، وإذا ثبت أن للمتطوع الخيار في](4) ذلك، ثبت أن لا قضاء عليها؛ إذ لا أحد قال ذلك إلاَّ قال: إنَّه لا قضاء عليه.
فإن قيل: روي عن ابن شهاب، عن عروة، عن عائشة، قالت: أصبحت أنا، وحفصة متطوعتين، فأُهدي لنا طعام، فأفطرنا عليه، فدخل علينا رسول اللّه صلى الله عليه وآله وسلم، فسألناه، فقال: (( اقضيا يوماً مكانه )).
قيل له: هذا الحديث قد ضُعِّف؛ لما أخبرنا به أبو بكر المقري، قال: حدثنا الطحاوي، قال: حدثنا علي بن شيبة، قال: حدثنا روح بن عبادة، قال: حدثنا ابن جريج، قال: قلت لابن شهاب: أحدثك عروة، عن عائشة، عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم: (( من أفطر تطوعه، فليقضه ))؟ فقال: لم أسمع من عروة في ذلك شيئاً، ولكني حُدِثت عن عائشة بغير هذا السند.
__________
(1) ما بين المعكوفين ساقط من (أ) و(ب).
(2) في (أ): ولا.
(3) سقط ما بين المعكوفين من (أ) و(ب).
(4) سقط ما بين المعكوفين من (أ) و(ب).
فإن صح الحديث، فهو محمول على أن الأمر ندب؛ ليلائم ما رويناه أولاً عن أم هاني. (19/11)
ويدل على ذلك ما روي عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم أنَّه قال: (( صلوا خمسكم، وصوموا شهركم، وحجوا بيت ربكم، وأدوا زكاة أموالكم، طيبة بها أنفسكم(1)، تدخلوا جنة ربكم )).
ففي هذا أن الواجب من الصلوات خمس، ومن الصوم(2) صوم شهر رمضان.
فإن قيل: فقد روي أن أعرابياً سأل النبي صلى الله عليه وآله وسلم عن الفرض في اليوم والليلة، فقال: (( خمس ))، فقال: هل علي غيرها؟ فقال: (( لا، إلاَّ أن تتطوع )).
فدل ذلك على أنَّه يجب عليه التطوع؛ لأنَّه استثنى من نفي الواجب، وذلك يقتضي الوجوب.
قيل له: هذا استثناء من غير جنسه بالأدلة التي ذكرناها، ونذكرها، وإذا كان كذلك، لم يقتض الوجوب، ويكون كأنه قال صلى الله عليه وآله وسلم : (( لا(3)، لكن إن تطوعت، كان ذلك ))، وقد ورد إلاَّ بمعنى لكن في القرآن والشعر في غير موضع.
ومما يدل على ذلك أنه لا خلاف بيننا وبين خصومنا أن من ظن أن عليه صلاة، فدخل فيها للقضاء، فعلم أنها لم تكن عليه، فأفسدها أنَّه لا قضاء عليه، فكذلك المتطوع إذا أفسد صلاته؛ والعلة: أنه عبادة لا يمضي في فاسدها، فوجب أن لا تلزم بالدخول.
ويمكن أن يقاس بهاتين العلتين على أن من أفسد صلاته بالارتداد، أو على من تطوع بصوم يوم النحر، أو يوم الفطر ثم أفسده أن لا قضاء في شيء من ذلك عند المخالف.
ويمكن أن يقاس ـ أيضاً ـ على من تطوع بالوضوء، ثم أفسده قبل إتمامه، ويكون(4) قياسنا أولى من قياسهم بما اختلفنا فيه على الحج والعمرة؛ لأنَّه قياس صلاة على صلاة، وصيام على صيام، فهو أولى من قياس الصلاة والصيام على الحج والعمرة، على أن قياسهم مدفوع بنص قوله لأم هاني حين أفطرت: (( إن كان تطوعاً، فإن شئت فأقضي، وإن شئت فلا تقضي )).
__________
(1) في (أ): نفوسكم.
(2) في (أ): الصيام.
(3) سقط من (أ) و(ب): لا.
(4) في (أ): فيكون.
على أن الأصول تشهد لعلتنا؛ لأن الشيء إذا لم يكن واجباً، ففعل بعضه لا يوجب سائره، كالصدقة، وقراءة القرآن، والتسبيح، والغزو، وكذلك المعاملات التي تكون بين الناس، فكل ذلك يشهد لسائر ما ذكرناه. (19/12)
فأما الحج، فإنه ورد حكمه في هذا الباب مخالفاً للأصول، وعند مخالفينا في هذه المسألة أن ما ورد بخلاف الأصول فلا يجوز أن يقاس عليه، ولهذا قالوا: أنه لا يقاس على نبيذ التمر سائرُ الأنبذة، فيجب أن يُفسِد قياسهم هذا على أوضاعهم.
مسألة: [في المرأة تحيض قبل أن تصلي]
قال: وقال القاسم عليه السلام: ولو أن امرأةً دخل عليها وقت الصلاة، فلم تصلها حتى حاضت قبل تصرم وقتها، لم يجب عليها قضاؤها.
وهذا منصوص عليه في (مسائل النيروسي)، وعلل ذلك بأن قال: لأنها لم تضيع الصلاة.
فدل ذلك على أن المراد به إذا حاضت قبل مضي الوقت ـ أجمع ـ بمقدار ما يمكن أن تؤدي الصلاة كاملا، أو أكثر من ذلك؛ لأنها إن حاضت بعده، تكون قد ضيعت.
والأصل في ذلك أن من وجب عليه الشيء عند القاسم وجوباً موسعاً يكون مخيراً بين فعله، أو العزم على فعله، في الثاني(1)، أو فيما بعده إلى آخر الوقت، فمتى فعل المكلف أحدهما، يكون قد فعل ما وجب عليه في الوقت، فعلى هذا إذا وجبت الصلاة في أول الوقت وجوباً موسعاً، كان الإنسان مخيراً بين أن يفعلها، أو يفعل العزم على فعلها فيما بعد، فإذا حاضت المرأة بعد مضي طرف من وقتها، لم تكن ضيعت الصلاة، إذا فعلت ما هو بدل منها في الوقت، فوجب أن لا يلزمها القضاء؛ لأن الحائض لا تقضي من الصلاة، إلاَّ ما ضيعته.
فإن قيل: فما تقولون لو كانت سهت في أول الوقت، فلم تعزم، أو تركت العزم مع الذكر له، ثم حاضت؟
__________
(1) في هامش (أ) و(ب): في الوقت الثاني.
قيل له: إذا ثبت ما قلناه من التي فعلت العزم، فلا أحد يفصل بينها وبين التي لم تعزم، فوجب(1) أن يكون حكمهما واحداً، وأيضاً فإن القضاء لا يلزم إلاَّ بالفوات، والفوات لا يكون إلاَّ بمضي آخر الوقت، ألا ترى أن المصلي لا يكون قاضياً، وإن لم يصل في أول الوقت ووسطه، إذا كان قد صلى في آخر الوقت؛ لأن الصلاة لم تفته بمضي آخر الوقت، وكذلك الحج لا يكون قضاء في أي وقت فُعل، إذا لم يفت بمضي آخر الوقت، وإذا ثبت ذلك، ثبت أن الحائض إذا حاضت في آخر الوقت، لم تقض تلك الصلاة؛ لأنها لم تفتها، وأيضاً لا خلاف أن الطهر إذا تجدد في آخر الوقت كان تجدده فيه كتجدده في أول الوقت في أحكام الصلاة، فكذلك الحيض، والمعنى أن كل واحدٍ منهما يغير حكم الصلاة، وهذا أيضاً لا خلاف أنها إذا حاضت في أول الوقت، لم تقض تلك الصلاة، فكذلك إذا حاضت بعد ذلك؛ والعلة تجدد حيضها في وقت كمال الصلاة. (19/13)
وعلى أصله هذا يجب أن يكون المقيم إذا سافر في آخر الوقت تلزمه صلاة المسافر، والمريض إذا أغمي عليه في آخر الوقت، لم يلزمه(2) قضاء تلك الصلاة.
مسألة [في المقيم كيف يقضي ما فاته في السفر والعكس]
وإذا فاتت المسافر صلاة، فقضاها في الحضر، يقضي صلاة المسافر، وإذا فاتت الحاضر، فقضاها في السفر، قضى صلاة الحاضر تخريجاً.
وهذا مما خرجه أبو العباس الحسني ـ رحمه الله ـ، وذكره في (كتاب النصوص) وهو الصحيح؛ لأن من أصل أصحابنا أن فرض المسافر ركعتان، كما أن فرض الحاضر أربع، وأن ذلك ليس برخصة له، وسنبين الكلام فيه بعد هذا الباب، فإذا ثبت ذلك، وجب عليه القضاء، ووجب أن يكون الاعتبار بالفائت دون الحال(3) التي يقضي فيها، كما أن من فاته المغرب أو الفجر، فقضاهما في وقت الظهر، كان الاعتبار بالفائت دون الوقت الذي يقضي فيه.
__________
(1) في (أ): فيجب.
(2) في (أ): يلزمه.
(3) في (أ): الوقت.
فإن قيل: أليس العليل الذي تفوته صلاة القاعد، إذا صح، صلى صلاة القائم، وكذلك المتيمم الذي لا يجد الماء إذا فاتته الصلاة، ثم وجد الماء، صلى متوضئاً، فما أنكرتم أن يكون المسافر إذا فاتته الصلاة، ثم أقام، إنَّه يقضي صلاة المقيم؟ (19/14)
قيل له: الفصل بينهما أن العليل أبيح له أن يصلي قاعداً؛ للعذر، وكذلك المتيمم؛ بدلالة أنَّه لو أمكنه أن يصلي قائماً في تلك الحال، لم يجز له أن يصلي قاعداً، وكذلك المتيمم لو أمكنه أن يصلي متوضئاً، لم تجزه صلاته متيمماً، فلما كان ذلك كذلك، وزال عنهما العذر، لم تجز صلاة المعذور، وليس كذلك المسافر؛ لأن فرضه ركعتان، حتى لو صلى أربعاً، لم تجزه، فلم يشبه المعذور، وأشبه ما ذكرناه، أعني من فاته الفجر والمغرب فقضى في وقت الظهر أنَّه يقضي كما فاته.
مسألة: [فيما يوجب القضاء في الوقت وبعده]
قال: وإذا تطهر الرجل بماء نجس وهو لا يعلم، فإن علم وهو في الوقت، قضاها، وإن لم يعلم إلا بعد مضي الوقت، لم يقضها.
قال: وكذلك من صلى في ثوب نجس تخريجاً.
قال: وهكذا القول في كل من فعل شيئاً من ذلك على طريق الجهل دون التعمد.
قال: ومن صلى جنباً، وهو ناسٍ، أعادها في الوقت وبعده، وكذلك من صلى قبل الوقت، وهو لا يعلم.
وجميع ما ذكرناه منصوص عليه في (الأحكام) و(المنتخب)(1) غير الصلاة في الثوب النجس، فإن أصحابنا خرجوه على سائر ما نص عليه في (الأحكام) و(المنتخب).
وقد استقصينا هذا الباب في مسألة من أخطأ القبلة، وذكرنا الفرق بين ما يعاد في الوقت وبعده، وبين ما يعاد في الوقت ولا يعاد بعده، وأنا أشير في هذا الموضع إلى بعض ما مضى مع ضرب من التلخيص.
__________
(1) انظر الأحكام 1/119،120. وانظر المنتخب ص37 ـ 49.
اعلم أن مذهب يحي عليه السلام: أن من أخطأ في أمر من الأمور المانعة لصحة الصلاة، وكانت طريق معرفته الاجتهاد وغالب الظن، فليس على المصلي إذا علم به بعد الوقت إعادة، وإن علم به وهو في الوقت، فعليه الإعادة. (19/15)
والأصل فيه القبلة وما ورد فيها عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم أنَّه لم يأمر الذين أخطأوها حين علموا بالخطأ بعد مضي الوقت بإعادة ما صلوا، فقاس عليه من تطهر بماء نجس وهو لا يعلم.
فأما من أخطأ فيما طريقه النص والإجماع، مما يقتضي العلم نحو أن يصلي قبل الوقت، أو يصلي محدثاً، أو مجنباً(1)، فعليه الإعادة إذا علم به، سواء علم به في الوقت، أو بعد مضي الوقت، وهذا مما لا خلاف فيه بين الأمة.
__________
(1) في (أ): جنباً.
باب القول في صلاة السفر والخوف (20/1)
[مسألة في فرض المسافر]
فرض المسافر ركعتان إلاَّ المغرب.
وهذا منصوص عليه في (الأحكام)(1).
وهو مذهب القاسم، وأحمد بن عيسى عليهما السلام، وإليه ذهب أبو حنيفة، وأصحابه، وهو قول عامة الصحابة، وهو مذهب الإمامية إذا كان السفر طاعة.
والدليل على ذلك ما اخبرنا به أبو بكر المقري، قال: حدثنا الطحاوي، قال: حدثنا ابن مرزوق، قال: حدثنا أبو إسحاق الضرير، قال: حدثنا أبو عوانة، عن بكير بن الأخنس، [عن مجاهد](2)، عن ابن عباس، قال: (( فرض اللّه على لسان نبيكم في الحضر أربعاً، وفي السفر ركعتين ))(3).
وأخبرنا أبو بكر المقري، قال: حدثنا الطحاوي عن ربيع المؤذن، قال: حدثنا أسد، قال: حدثنا حاتم بن إسماعيل قال: حدثنا أسامة بن زيد، قال: سألت طاووساً، عن هذا فقال: قال ابن عباس: (( فرض رسول اللّه صلى الله عليه وآله وسلم الصلاة في الحضر أربعاً، وفي السفر ركعتين ))(4).
وهذا صريح في موضع الخلاف.
فإن قيل: ما أنكرتم أن يكون أراد به الفرض الذي لا يجوز تركه، ونحن لا ننكر أن الفرض الذي لا يجوز للمسافر تركه ركعتان؟
__________
(1) انظر الأحكام 1/125.
(2) سقط ما بين المعكوفين من (أ) و(ب).
(3) أخرجه الطحاوي في شرح معاني الآثار 1/421. وفيه: قالا، بدل: قال حدثنا أبو عوانة. وفي المتن: فرض الله الصلاة.. إلخ.
(4) أخرجه الطحاوي في شرح معاني الآثار 1/422، إلا أن هنا نقص من قوله: سألت طاووساً، هذا نصه: (( عن التطوع في السفر، فقال: وما يمنعك؟ فقا الحسن بن مسلم: أنا أحدثك، أنا سألت طاووساً عن هذا.. )) إلخ.
قيل له: إذا قال: فُرِضَ في السفر ركعتان، دل على أنَّه لا فرض سواهما، كما أنَّه إذا قال: فرض في الحضر أربعاً، دل على أنَّه لا فرض سواهن، وهكذا نقول في سائر التقديرات الواردة في الشرع، كأن يقول: حد القاذف ثمانون، وحد الزاني مائة، فالظاهر في جميع ذلك يقتضي أن المراد هو المذكور، لا زيادة فيه، ولا نقصان. (20/2)
وأخبرنا أبو بكر، قال: حدثنا الطحاوي، عن ابن مرزوق، قال: حدثنا نعيم، قال: أخبرنا(1) ابن المبارك، قال: أخبرنا خالد الحذاء، عن أبي قلابة، عن رجل، قال: أتيت النبي صلى الله عليه وآله وسلم لحاجة، فإذا هو يتغدى، فقال: (( هلم إلى الغداء ))، فقلت(2): إني صائم. فقال: (( إن اللّه ـ عزَّ وجل ـ وضع عن المسافر نصف الصلاة والصوم ))، وفي بعض الأخبار شطر الصلاة.
وهذا أيضاً صريح ما نذهب إليه.
فإن قيل: فهذا يدل على أن له أن يتم الصلاة ويأتي بالموضوع منها، كما له أن يأتي الموضوع عنه من الصوم، ويكون مؤدياً للفرض.
قيل له: ظاهر الحديث يدل على أن الصوم الذي يأتيه المسافر غير مفروض، وكذلك الصلاة التي يفعلها زائدة على الركعتين، إلاَّ أن له دلالة أخرى دلت على أن المسافر إذا صام يكون مؤدياً فرضه، ولم تقم تلك الدلالة في الصلاة، فوجب أن يكون حكم الصلاة على ما دل عليه الحديث.
وروي عن أبي جعفر عليه السلام قال: (( نزلت الصلاة على النبي صلى الله عليه وآله وسلم ركعتين ركعتين(3)، إلاَّ المغرب، فزاد رسول اللّه صلى الله عليه وآله وسلم للحاضر في الظهر والعصر والعشاء، وأقر للمسافر(4) ))).
__________
(1) في (أ): حدثنا.
(2) في (أ): فقال.
(3) كذا في نسخة صحيحة، وأكثر النسخ مثل (أ) و(ب): نزلت الصلاة على النبي صلى اللّه عليه وآله وسلم ركعتان ركعتان. والصواب: ركعتين.
(4) في (أ): المسافر.
وروى الشعبي، عن مسروق، عن عائشة، قالت: (( أول ما فرضت الصلاة ركعتين ركعتين(1)، فلما قدم رسول اللّه صلى الله عليه وآله وسلم المدينة صلى إلى كل صلاة مثلها، غير المغرب فإنها وتر النهار، وصلاة الصبح لطول قراءتها، وكان إذا سافر عاد إلى صلاته الأولى )). (20/3)
وأخبرنا أبو العباس الحسني رضي اللّه عنه، قال: أخبرنا الحسين بن محمد بن مسلم المقرئ بالكوفة قال: حدثني إسحاق بن محمد بن مروان القطان، قال: حدثنا أبي، قال: حدثنا عبد الله بن جعفر، عن سليمان بن عمر، عن عبد الله بن الحسن، عن آبائه، عن علي عليهم السلام، قال: كنا نصلي مع رسول اللّه صلى الله عليه وآله وسلم في أسفاره ركعتين ركعتين، خائفاً كان، أو آمناً.
وروي عن ابن عباس قال: كان رسول اللّه صلى الله عليه وآله وسلم إذا خرج من أهله لم يصل إلاَّ ركعتين حتى يرجع إليهم(2).
[وعن عمران بن حصين: ما سافر رسول اللّه صلى الله عليه وآله وسلم إلاَّ صلى ركعتين حتى يرجع إلى أهله](3)، وإنه أقام بمكة ثمان عشرة يصلي ركعتين ركعتين، ثم يقول: يا أهل مكة، قوموا فصلوا ركعتين آخرتين، فإنا قوم سفر، وقد ذكرنا إسناد هذا الحديث في مسألة صلاة المقيم خلف المسافر.
فهذه الأخبار أيضاً تدل على ما نذهب إليه؛ لأن فعل النبي صلى الله عليه وآله وسلم في هذا الباب وقع بياناً لمجمل واجب، إذ عدد الركعات في السفر غير مبين في الكتاب، فيجب أن يكون محمولاً على الوجوب.
__________
(1) هكذا في جميع النسخ الأولى: ركعتان ركعتان. خبر عن أول، إلا أن نقدر خبراً آخر فنقول مثلاً: أول ما فرضت الصلاة ركعتين ركعتين قبل الهجرة.
(2) في (أ): إلى أهله.
(3) ما بين العكوفين ساقط من (أ)، وأشار إليه في الهامش.
فإذا ثبت ذلك، ثبت أن الاتمام غير جائز، على أن قوله: (( أتموا صلاتكم، فإنا قوم سفر ))، يدل على أن القصر من حكم السفر لا من حكم الاختيار؛ لأنَّه صلى الله عليه وآله وسلم قال: (( إنَّا قوم سفر ))، ولم يقل: فإنا اخترنا أن نصلي ركعتين للسفر. (20/4)
والأخبار في هذا الباب أكثر من أن تعد، لكنا قد اقتصرنا منها على اليسير؛ خشية الإطالة؛ ولأن كتابنا هذا ليس المقصد منه استيفاء الأحاديث.
فإن قيل: فقد قال اللّه تعالى: {وَإِذَا ضَرَبْتُمْ فِيْ الأَرْضِ فَلَيْسَ عَلِيْكُم جُنَاحٌ أَنْ تَقْصُرُوا مِنَ الصَّلاةِ إِنْ خِفْتُمْ أَنْ يَفْتِنَكُم}[النساء:101]، فرفع الجناح يدل على الجواز، لا على الوجوب، فدلت الآية على أن القصر جائز وأنه غير واجب.
قيل لهم: ليس لكم بالآية تعلق، وذلك أن القصر المذكور فيها أجيز بشرط الخوف، ألا ترى إلى قوله: {إِنْ خِفْتُمْ أَنْ يَفْتِنَكُم الَّذِيْنَ كَفَرُوا}، ولا خلاف بيننا وبينكم أن المسافر يقصر وإن لم يكن خائفاً، فبان أن القصر المذكور في الآية، ليس هو ما اختلفنا فيه.
فإن استدل بالآية من ذهب إلى أن القصر لا يجوز، إلا بشرط الخوف، لم يصح ذلك؛ لأنه قول قد سبقه الإجماع، فلا يجوز القول به؛ ولأن القصر المذكور في الآية، هو قصر الصفة، لا قصر العدد، بدلالة قوله عقيب الآية: {وَإِذَا كُنْتَ فِيْهِمْ}[النساء:102]، يعني في الذين قال لهم : {وِإذَا ضَرَبْتُم فِيْ الأَرْضِ فَلَيْسَ عَلِيْكُم جُنَاحٌ أَنْ تَقَصُرُوا مِنَ الصَّلاةِ}[النساء:101]، فيكون المراد بهذا القصر هو أن إتمام كل واحدة من الطائفتين قاصرة عن صلاة من أتم الإتمام(1).
على أن اللّه تعالى قال: {إِنَّ الصَّفَا وَالْمَرْوَةَ مِنْ شَعَائِرِ اللهِ}...الآية [البقرة:158]، ولم يدل ذلك على أن السعي غير واجب، فكذلك القصر.
__________
(1) المثبت في أصل النسختين (الإتمام)، وفي الهامش (الائتمام).
وروي عن يعلى بن منية، قال: قلت لعمر: إنما قال اللّه عزَّ وجل:{لَيْسَ عَلَيْكُم جُنَاحٌ أَنْ تَقْصُرُوا مِنَ الصَّلاةِ إِنْ خِفْتُمْ}، فقد أمن الناس، فقال: عجبت مما عجبت منه فسألت رسول اللّه صلى الله عليه وآله وسلم فقال: (( صدقة تصدق [اللّه](1) بها عليكم، فاقبلوا صدقته )). (20/5)
فنبه صلى الله عليه وآله وسلم على أن قصر العدد غير مشروط فيه الخوف، وفي الخبر دليل على وجوب القصر؛ لأنَّه صلى الله عليه وآله وسلم سماه صدقة، ثم قال: (( فاقبلوا صدقته ))، فأمر به، والأمر يقتضي الوجوب.
فإن قيل: روي عن عطاء بن أبي رباح، عن عائشة قالت: قصر رسول اللّه صلى الله عليه وآله وسلم في السفر وأتم، فلو كان القصر واجباً، لم يكن رسول اللّه صلى الله عليه وآله وسلم يدعه إلى الإتمام.
قيل له : قولها: قصر رسول اللّه صلى الله عليه وآله وسلم قصر العدد، وقولها : أتم، يحتمل أن يكون معناه أتم الركوع، والسجود، والقراءة مع القصر في العدد، ويحتمل أتم في الحكم مع القصر في العدد كما روي : (( صلاة المسافر ركعتان تماماً غير قصر )). أي تماماً في الحكم.
ويحتمل قول أنس: كنا نقصر ونتم، ولا يعيب بعضنا بعضاً على إتمام القراءة والركوع(2) والسجود وتخفيفها.
ومما يدل على فساد قول من قال: إن القصر مباح أنَّه يؤدي إلى أن يكون من صلى أربعاً في السفر يكون متنفلاً بركعتين؛ لأن حد النفل أن يكون طاعة يجوز تركها لا إلى بدل يقوم مقامه، وعندهم أن الركعتين الآخرتين هذا سبيلهما، فوجب أن يكون القصر واجباً.
ومما يدل على ذلك أنَّه لا خلاف أن الحاضر لا خيار له في عدد الركعات، فوجب أن يكون المسافر كذلك، والمعنى أنها صلاة مكتوبة، فكل مؤد صلاة مكتوبة يجب أن لا يكون له خيار في عدد الركعات.
فإن قيل: علتكم لا تصح بأن المسافر عندكم له الخيار بين أن يصلي ركعتين، وبين أن يعزم على الإقامة فيصلي أربعاً.
__________
(1) سقط من (أ).
(2) في (أ): في الركوع.
قيل له: هذا الخيار على التحقيق، ليس هو في عدد الركعات، وإنما هو خيار بين فعل العزم، وتركه، ألا ترى أن المقيم أيضاً له الخيار بين أن يسافر ويصلى ركعتين، وبين أن يعزم على الإقامة فيصلي أربعاً، ومع هذا لا نقول: إن المقيم له الخيار بين أن يصلي أربعاً، وبين أن يصلي ركعتين. (20/6)
وإذا ثبت ذلك، بانت صحة علتنا، ووضحت أن لا خيار عندنا في عدد ركعات المكتوبة على وجه من الوجوه.
وأيضاً هو مقيس على الجمعة؛ بعلة أنَّه مردود من أربع ركعات إلى ركعتين، فوجب أن يكون الاقتصار على الركعتين فرضاً.
فأما قول من قال: إنَّه لا قصر إلاَّ بشرط الخوف، فقد ذكرنا أن الإجماع قد سبقه، فوجب سقوطه، إذ هو غير محفوظ عن أحد من العلماء المتقدمين، مع كثرة اختلافهم في القصد ووجوبه، ويدل على ذلك الحديث الذي ذكرناه عن أمير المؤمنين عليه السلام أنه(1) قال: كنا نصلي مع رسول اللّه صلى الله عليه وآله وسلم في أسفاره ركعتين ركعتين، خائفاً كان، أو آمناً.
وحديث عمران أنَّه قال: ما سافر رسول اللّه صلى الله عليه وآله وسلم إلاَّ صلى ركعتين، حتى يرجع إلى أهله، وإنه أقام بمكة ثمان عشرة يصلي ركعتين ركعتين.
ومن المعلوم أنه صلى اللّه عليه وآله وسلم لم يكن خائفاً في جميع أسفاره، وكذلك حين أقام بمكة ثمان عشرة لم يكن خائفاً.
وأخبرنا أبو بكر المقري، قال: حدثنا الطحاوي، عن ابن مرزوق، قال: حدثنا وهب، عن شعبة، عن أبي إسحاق، عن حارثة بن وهب، قال: صلى بنا رسول اللّه صلى الله عليه وآله وسلم ركعتين بمنى، ونحن أكثر ما كنا وآمنة(2).
وروي عن عبد اللّه قال: صلينا مع النبي صلى الله عليه وآله وسلم بمنى ركعتين، ومع أبي بكر ركعتين، ومع عمر ركعتين(3).
__________
(1) سقط من (ب): أنه.
(2) أخرجه الطحاوي في شرح معاني الآثار 1/419.
(3) أخرجه الطحاوي في شرح معاني الآثار 1/416.
وأخبرنا أبو الحسين البروجردي، قال: حدثنا سفيان بن هارون القاضي، قال: حدثنا على بن حرب، قال: حدثنا سفيان، عن إبراهيم بن ميسرة، قال: سمعت أنس بن مالك يقول: صلينا مع النبي صلى الله عليه وآله وسلم في المدينة الظهر أربعاً، وبذي الحليفة ركعتين. (20/7)
ومن المعلوم أنَّه لم يكن بذي الحليفة خوف بالنبي صلى الله عليه وآله وسلم في مسيره إلى مكة.
فأما القصر الذي جعل الخوف شرطاً له بالآية عندنا، فهو قصر الصفة دون قصر العدد، وبينا ذلك بأن قلنا: إن اللّه تعالى قال عاطفاً على هذه الآية: {وَإِذَا كُنْتَ فِيْهِمْ فَأَقَمْتَ لَهُمُ الصَّلاةَ}[النساء:102]، وأنه تعالى أراد وإذا كنت في الذين ليس عليهم جناح أن يقصروا، ثم وصف صلاة الخوف.
ومما يبين أن حمل القصر المذكور في الآية على قصر الصفة أولى من حمله على قصر العدد، أنا إذا حملناه على قصر الصفة، حملنا الصلاة المكتوبة على العموم؛ لأن قصر الصفة بيان يتأتى في الصلوات المكتوبات أجمع.
ومن حمله على قصر العدد، جعله في ثلاث صلوات، إذ قصر العدد لا يتأتى في المغرب والفجر، وحمل الآية على العموم يكون أولى من حملها على الخصوص؛ لأن المستعمل لها على العموم يكون قد أجراها على التحقيق، والمخصص لها يكون قد أدخل عليها ضرباً من المجاز.
مسألة [في أقل السفر]
قال: وأقل السفر بريد.
وهو منصوص عليه في (الأحكام)(1)، وهو مذهب القاسم عليه السلام، ورواه محمد بن منصور، عن أحمد بن عيسى، عن أبي جعفر.
__________
(1) انظر الأحكام 1/125،126.
والأصل فيه: أنَّه قد ثبت أن صلاة المسافر ركعتان، وثبت أن البريد سفر بما أخبرنا به أبو العباس الحسني رحمه اللّه، قال: حدثنا أبو أحمد الأنماطي، قال: حدثنا حامد بن حميد، حدثنا يحيى الحماني، حدثنا خالد، عن سهيل، عن سعيد ابن أبي سعيد، عن أبي هريرة، قال: قال رسول اللّه صلى الله عليه وآله وسلم: (( لا تسافر المرأة بريداً، إلاَّ ومعها ذو(1) رحم محرم عليها )). (20/8)
وأخبرنا أبو بكر المقرئ، قال: حدثنا الطحاوي، قال: حدثنا أبو بكرة، قال: حدثنا أبو عمر، عن حماد بن سلمة، قال: أخبرنا سهيل بن أبي صالح، عن سعيد بن أبي سعيد، عن أبي هريرة، قال: قال رسول اللّه صلى الله عليه وآله وسلم: (( لا تسافر المرأة بريداً، إلاَّ مع زوج، أو ذي رحم محرم )). فجعل صلى الله عليه وآله وسلم البريد سفراً.
فإن قيل: فإنكم استدللتم بالظواهر التي وردت بذكر السفر على وجوب القصر، وقد يكون ما دون البريد سفراً.
قيل له : لسنا نعلم أن الإنسان إذا خرج من أهله دون البريد، يسمى مسافراً، ولا دون البريد يسمى سفراً، بل المعلوم خلافه على أن البريد أيضاً لم يكن يعلم أنَّه سفر لولا الأثر الذي ذكرناه، على أن القول بالقصر في يسير الخروج عن البلد مما انعقد الإجماع بخلافه، وليس يحكى إلاَّ عن صاحب الظاهر، وإذا انعقد الإجماع بخلافه، كان ساقطاً، وإذا(2) ثبت ذلك، ثبت أنَّه لا بد من التحديد فيه، والبريد أقل ما قيل في تحديده.
فإن قال قائل ممن ذهب إلى تحديد السفر بمسير ثلاثة أيام: هلاَّ استدللتم بما روي عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم: (( لا تسافر المرأة ثلاثاً فما فوقها، إلاَّ مع محرم ))، على أن أقل السفر مسيرة ثلاثة أيام، كما استدللتم بقوله: (( لا تسافر المرأة بريداً فما فوقه، إلاَّ مع محرم ))، على أن أقل السفر بريد؟
قيل له: لم نفعل ذلك؛ لوجهين :
__________
(1) في (أ): إلا مع زوج أو ذي.
(2) في (أ): فإذا.
أحدهما : أنا إنما استدللنا بهذا الخبر على حصول اسم السفر للبريد؛ إذ لم يكن ذلك معلوماً، فأما أن مسيرة ثلاثة أيام يسمى سفراً، فذلك ما لا إشكال فيه كما لا إشكال فيما زاد على ذلك. (20/9)
والثاني: إذا ثبت أن البريد سفر ـ بخبرنا ـ لم يجز أن يكون مسيرة ثلاثة أيام أقل السفر؛ لأن ذلك يتناقض.
فأما استدلالهم بما روي عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم: (( يمسح المسافر ثلاثة أيام ولياليها على مقدار السفر )). فغير صحيح؛ لأن المقصود به بيان المدة التي يجوز فيها المسح للمسافر دون بيان(1) أقل السفر، ألا ترى أنَّه قال: (( ويمسح المقيم يوما وليلة ))، وهذا لم يدل على أنَّه أقل الإقامة؛ إذ المقصود به بيان مدة المسح للمقيم، دون بيان أقل الإقامة، على أنَّه لا خلاف في أن مسيرة ثلاثة أيام سفر تقصر فيه الصلاة، فكذلك مسيرة بريد قياساً عليها، والعلة أنَّه قد سار عن أهله بريداً. أو يقال: حصل مسافراً، وليس ينتقض قولنا: إنَّه حصل مسافراً بما(2) دون البريد؛ إذ قلنا: أنَّه لا يسمى سفراً.
فإن قيل: فإن الإجماع حصل على مسيرة ثلاثة أيام؟
قيل له: إنَّا لم نخالف فيه، وإنما خالفنا فيما دونه، والإجماع لم ينعقد على أنَّه لا تحديد دونه، فيمتنع القول به كما انعقد على أنَّه لا تحديد دون البريد، وهذا القول - أعني القول بأن أقل السفر مسيرة ثلاثة أيام - هو المروي عن زيد بن علي، وقد حكي عن عبد الله بن الحسن بن الحسن رضي اللّه عنه(3)، وحكي لنا أن أبا عبد اللّه بن الداعي رضي اللّه عنه كان يذهب إليه ويختاره.
مسألة [ويقصر المسافر حين تتوارى عنه بيوت أهله]
قال: وإذا خرج مسافراً، قصر حين تتوارى عنه بيوت أهله في بَر سافر، أو بحر، في بِر، أو فجور.
__________
(1) سقط من (أ) و(ب): بيان.
(2) في (ب): مما.
(3) في (أ): عليهما السلام.
وهذا منصوص عليه في (الأحكام)(1). وقال في (المنتخب)(2) حين سئل عمن يرى بيوت أهله من بريد: إن ذلك لا يكون؛ لأن البعد يمنع من ذلك، فدل على أن المراد بقوله: حين يتوارى بيوت أهله. هو تفاصيل دور أهله دون جملها، إذ جمل البيوت والدور قد ترى من بريد، وأكثر منه. (20/10)
وذكر يحيى بن الحسين صلوات اللّه عليه أن ذلك مروي عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم، ومن طريق الاجتهاد أن ساحة البلد معدودة من البلد من طريق العادة، ومن رأى تفاصيل بيوت البلد يكون في ساحة البلد على غالب العادة، فوجب أن يكون حكمه حكم من في البلد.
فأما ما يدل على أن الأسفار كلها في القصر سواء، فهو الظواهر التي ذكرناها في صدر الكتاب، من قول ابن عباس: فرض اللّه على لسان نبيكم في الحضر أربعاً، وفي السفر ركعتين.
وقول النبي صلى اللّه عليه وآله وسلم: (( وضع عن المسافر الصوم، وشطر الصلاة ))، وغير ذلك من الأخبار الجارية مجراها، فإنها وردت مطلقة بذكر السفر، من غير استثناء حال من حال.
ومما يدل على ذلك أن المسافر مقيس على الحاضر، فكما أن الطاعة والمعصية لا تؤثران في تغيير عدد ركعات صلاة المقيم، كذلك لا يؤثران في عدد ركعات المسافر، والمعنى أن كل واحد منهما مؤد لصلاة مكتوبة.
ويمكن أن يقاس العاصي على المطيع؛ لعلة وجود السفر من كل واحد منهما.
فإن قيل: القصر رخصة، والمعصية لا تكون سبباً للرخصة؟
قيل له: القصر عندنا فرض المسافر، كما أن التمام فرض المقيم، فوجب أن لا يتغير بالطاعة والمعصية، ولسنا نسلم أنَّه رخصة، على أن كون العاصي عاصياً لا يمنعه من الرخصة(3) إذا صار على الحال التي بها تتعلق الرخصة.
__________
(1) انظر الأحكام 1/125.
(2) انظر المنتخب ص51.
(3) في (ب) الرخص.
فإن قيل: روي عن علي عليه السلام أنَّه قال: "لا يجوز قصر الصلاة لعشرة: للمكاري، والجمَّال، والملاح، والراعي، والمنتجع للقطر متبعاً أثره، والعبد الآبق، والساعي في الأرض فساداً، والصياد، والسلطان يدور في سلطانه، وصاحب الضياع يدور في ضياعه يعمرها". (20/11)
قيل له: الخبر ضعيف غير موثوق به، ولو صح، كان المراد به من يكون تنقُّله فيما دون أقل السفر.
فإن قيل: هذا التأويل يسقط فائدة الخبر؛ لأن الناس أجمع إذا كان تنقلهم فيما دون أقل السفر، لم يجز لهم القصر، فلا فائدة لتخصيص هؤلاء بالذكر.
قيل له : ليس الأمر على ما قدرت، وذلك أن هؤلاء لهم عادة في أن يكثر منهم السير القليل، كنحو الفرسخ والفرسخين، وأقل من ذلك وأكثر يداومون عليه، فيجوز أن يكون أمير المؤمنين عليه السلام نبه على أن المداومة عليه لا تجوز القصر فيه، على أن في جملتهم من يجوز أن يكون سفره طاعة لله عزَّ وجل، وهو أن يكون المكارئ، والصياد يسافران ليكسبا ما ينفقانه على عيالهما، ويقضيان به ديونهما، وقد يدور السلطان المحق في سلطانه لإصلاح أحوال الرعية والثغور والرباط، فيكون سفره طاعة، بل هو جارِ مجرى الجهاد، ولا بد لمن يخالفنا في هذه المسألة من أن يتأول أحوال هؤلاء بنحو من تأويلنا.
مسألة [في حد الإقامة]
قال: وإذا نوى المسافر إقامة عشرة أيام في أي موضع كان، فعليه الإتمام، وكذلك لو كان في سفينة، فأرست في جزيرة أو غيرها، فإن أقام على عزم السفر، قصر إلى شهر، ثم أتم بعد ذلك.
وذلك كله منصوص عليه في (الأحكام) و(المنتخب)(1)، غير المرسي في الجزيرة فإنه منصوص عليه في (المنتخب)(2)، وهو مذهب القاسم عليه السلام، والإمامية، والمروي عن أحمد بن عيسى عليه السلام أن أقل الإقامة عشر.
__________
(1) انظر الأحكام 1/125. والمنتخب ص52.
(2) انظر المنتخب ص52.
والأصل فيه: ما رواه محمد بن منصور، عن ضرار بن صرد، عن عبد العزيز بن محمد، عن جعفر، عن أبيه، عن علي عليه السلام، قال: "يتم الذي يقيم عشراً، والذي يقول: اليوم أخرج، غداً أخرج(1)، يقصر إلى شهر". (20/12)
وروى أبو سعيد الأبهري، عن عبد الرحمن بن أبي حاتم، قال: حدثنا أبي قال: حدثنا أبو نعيم الفضل بن دكين(2)، قال: حدثنا سفيان، عن جعفر، عن أبيه، عن جده، عن علي عليهم السلام، قال: "إذا أقمت عشراً، فأتم الصلاة".
قال: عبد الرحمن، وحدثنا أبي، قال: حدثنا أحمد بن عبد الله بن يونس، قال: حدثنا مندل، عن جعفر، عن أبيه، عن علي عليهم السلام، قال: "إذا أزمع المسافر على إقامة عشر، أتم".
فإن قيل: روي عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم أنَّه أقام بمكة ثمان عشرة، يصلي ركعتين ركعتين.
قيل له: ليس في الحديث أنَّه صلى الله عليه وآله وسلم كان ينوي إقامة هذه المدة ثم قصر، وليس يمتنع(3) أن يكون أقام ما أقام من غير تقديم العزم عليه، ونحن نقول: إن من أقام من غير تقديم العزم، يقصر شهراً، فقد بان أن ما روي عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم غير قادح في مذهبنا، على أنا قد دللنا في (كتاب الحيض) على أن أقل الطهر عشر، فوجب أن يكون أقل الإقامة عشراً؛ لأن كل واحد منهما حال يعود معها ما أسقط للحالة(4) المنافية لها من الصلاة مع(5) القدرة عليها، وأيضاً قد تقرر على أصولنا أن العشر(6) قد جعلت حداً بين القلة والكثرة في كثير من الأصول، نحو أقل المهر، وأقل ما يقطع به السارق، فصار ذلك شهادة لقياسنا، ومؤيداً له.
__________
(1) في (أ): أخرج اليوم، أخرج غداً.
(2) في (ب): الفضل بن كثير. وفي هامشها: بن دكين.
(3) في (أ): وليس يمنع.
(4) في (أ): الحالة.
(5) في (أ): على.
(6) في (أ): العشرة.
ومن أصحابنا من استدل على أن من لم يعزم على المقام، يقصر شهراً، ثم يتم بقول اللّه تعالى:{فَمَنْ شَهِدَ مِنْكُمُ الشَّهَرَ فَلْيَصُمْه}، فدل بقوله: {مَنْ شَهِدَ مِنْكُمُ الشَّهَرَ فَلْيَصُمْه}، على أن من حضر شهراً، وجب عليه الصيام، فكأنه قال تعالى: من أقام شهراً، فليصم شهر رمضان. (20/13)
فإن قيل: روي أن ابن عمر أقام بأذربيجان ستة أشهر وهو يقصر الصلاة، وروي أن أنساً أقام بنيسابور سنين يقصر(1).
قيل له: إن من أصلنا أن عليّاً عليه السلام إذا روى عنه الحكم، وجب إتباعه، ولم يجز العدول عنه إلى ما يروى عن سائر الصحابة، وقد روينا ما نذهب إليه عن علي عليه السلام، على أن ما روي عن ابن عمر يجوز أن يكون أريد به أنه بقي بناحية أذربيجان يتنقل من موضع إلى موضع ستة أشهر، فلا تكون إقامته في موضع واحد، وكذلك ما روي عن أنس.
فأما ما يدل على أن المواضع كلها - العمران منها وغير العمران - تستوي فيما ذكرناه، فهو أن الأخبار الواردة في هذا الباب كلها وردت بلفظ الإقامة والمقام، من غير استثناء موضع من موضع، فوجب أن تكون المواضع كلها على سواء، على أنَّه لا خلاف أن بعض الناس لو جعل موضعاً من البراري وطناً له أنه يلزمه الإتمام فيه، فبان أن فرض الإتمام يتعلق بالإقامة دون موضع الإقامة.
ويمكن أن يقاس المقام فيه على المقام بمواضع العمران؛ والعلة أنَّه إقامة في موضع(2) واحد.
مسألة [في المسافر ينفذ من بلدته إلى غيرها]
قال: ولو أن مسافراً، خرج من مدينته إلى بعض المواضع، ثم رجع، فمر بمدينته، فعليه أن يتم، إذا كانت المدينة وطنه، فإن كان قد انتقل عنها، وصار وطنه في غيرها، لم يتم.
وهذا منصوص عليه في (المنتخب)(3).
__________
(1) سقط من (ب): يقصر.
(2) في (أ): مكان.
(3) انظر المنتخب ص52.
وقلنا: إن من رجع إلى مدينته، يتم، وإن كان مقامه فيها يسيراً، إذا كانت هي وطنه؛ لما: روي عن ابن عباس رضي الله عنه قال: فرض النبي صلى الله عليه وآله وسلم في الحضر أربعاً، وفي السفر ركعتين. وهذا إذا حصل في وطنه يكون حاضراً غير مسافر. (20/14)
ويدل عليه أيضاً: ما روي عن محمد بن علي، وعن عائشة قالا: فرضت الصلاة ركعتين ركعتين، ثم زيد في صلاة(1) الحضر ركعتان.
وروي عن عمران بن حصين ما قدمناه من قوله: ما سافر رسول اللّه صلى الله عليه وآله وسلم، إلاَّ صلى ركعتين(2) حتى يرجع إلى أهله.
فبين أن الرجوع إلى الأهل ينقطع معه القصر.
وقلنا: إنَّه إن انتقل من مدينته، واستوطن غيرها، فإنه لا يتم إذا رجع إليها مجتازاً، ما لم ينو مقام عشر؛ لما روي أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم أقام بمكة أياماً يقصر الصلاة، فإذا فرغ منها قال: (( قوموا يا أهل مكة، فصلوا ركعتين، فإنا قوم سفر )).
وقد كانت مكة من قبلُ وطنه صلى الله عليه وآله وسلم، ولكنه لما انتقل عنها، واستوطن المدينة، صلى فيها صلاة المسافر، وهي قياس سائر البلدان، بعلة أنَّه صلى(3) فيها وهو غير مستوطن لها، فيجب أن يكون حاله إذا دخلها كحاله إذا دخل غيرها من سائر البلدان في القصر والإتمام .
مسألة [في المسافر يعزم على الإقامة أثناء الصلاة]
قال: ولو أن مسافراً دخل في الصلاة ثم عزم على الإقامة، أتمها، ثم لو عزم بعد ذلك على السفر، لم يجز له قصرها.
وهذا تخريج من قوله في (الأحكام)(4): "إذا عزم المسافر على سفر بريد، قصر حين يخرج من منزله وتتوارى عنه بيوت أهله، وإذا نوى المسافر المقام في بعض ما يمر به من البلاد عشراً أتم". فعلق القصر بالمسير مع العزم، وعلق الإتمام بالعزم فقط.
__________
(1) سقط من (أ) و(ب): صلاة.
(2) في (أ) و(ب): ركعتين ركعتين.
(3) في (أ): يصلى.
(4) الأحكام 1/125.
والأصل فيه: أنَّه لا خلاف في أن المقيم إذا عزم على السفر لا يكون مسافراً حتى يخرج ويسير، وأن المسافر إذا عزم على المقام صار به(1) مقيماً، فلما ثبت ذلك، قلنا: إن المسافر إذا دخل في الصلاة، ثم عزم على الإقامة، لزمه الإتمام؛ لأنَّه بالعزم يكون مقيماً، وصلاة المقيم أربع لا يجزي غيرها. (20/15)
وقلنا: إنَّه إذا عزم بعد ذلك على السفر، لم يجز له القصر؛ لأنَّه لا يصير المقيم مسافرًا بالعزم على ما بيناه.
مسألة [كيفية صلاة الخوف]
قال: وصلاة الخوف أن ينقسم المسلمون قسمين، تقوم فرقة منهم بإزاء العدو يدفعونه، وفرقة يصلي بهم الإمام، يبتدئ فيفتتح الصلاة، ثم يقرأ، ويركع، ويسجد، ثم يقوم الإمام مع الفرقة الأولى فيطول القراءة، وتركع الفرقة الأولى، ويتمون لأنفسهم ركعة أخرى، ويسلمون وينصرفون، ويقومون بإزاء العدو، ثم تأتي الفرقة الثانية التي لم تصل، فتفتتح الصلاة خلف الإمام، فيصلي بهم الإمام الركعة الثانية، ثم يتشهد الإمام، ويسلم، ويقوم الذين خلفه، فيصلون الركعة الباقية وحدهم.
وذلك كله منصوص عليه في (الأحكام) و(المنتخب)(2)، وهو مذهب الإمامية، والناصر عليه السلام، إلاَّ في تسليم الإمام فإنهم يذهبون إلى أن الإمام إذا قعد للتشهد، انتظر فراغ الفرقة الثانية، ثم يسلم بهم.
والأصل في ذلك(3): قول اللّه تعالى:{وَإِذَا كُنْتَ فِيْهِمْ فَأَقَمْتَ لَهُمُ الصَّلاةَ..} الآية [النساء:102]، فدلت الآية على أن الناس ينبغي لهم أن يقتسموا طائفتين، طائفة يقومون مع الإمام {فَإِذَا سَجَدُوا}[النساء:102]، فالمراد به إذا فرغوا من الصلاة، جاءت الطائفة الأخرى التي لم تصل، فيصلوا معه.
فإن قيل: ولم قلتم : إن المراد بقوله : {فَإِذَا سَجَدُوا}، إذا فرغوا من الصلاة؟
__________
(1) سقط من (أ) و(ب): به.
(2) انظر الأحكام 1/126. والمنتخب ص53.
(3) في (أ): والأصل فيه.
قيل له: لأن اللّه تعالى قد نبه على ذلك بقوله تعالى: {وَلْتَأْتِ طَائِفَةٌ أُخْرَى لَمْ يُصَلُّوا فَلْيُصَلُّوا مَعَكَ}[النساء:102]، فلو كانت الطائفة الأولى أيضاً لم تصلّ، لم يقل تعالى: {وَلْتَأْتِ طَائِفَةٌ أُخْرَى لَمْ يُصَلَّوا}[النساء:102]، إذ الطائفتان جميعاً لم تصل واحدة منهما؛ لأن من فعل بعض الصلاة لا يقال: إنَّه قد صلى، فنبهت الآية على أن الطائفة الثانية تجيء بعدما صلت الطائفة الأولى، ولا تكون صلت إلاَّ إذا فرغت. (20/16)
فإن قيل: ظاهر الآية يوجب أن الطائفة الثانية تأتي إذا سجدت الطائفة الأولى، وهو مذهب أبي حنيفة دون مذهبكم؟
قيل له: ما يقتضيه ظاهر الآية ليس مذهباً لأحد؛ لأنَّه يقتضي أن تأتي الطائفة الثانية إذا سجدت الطائفة الأولى، ومذهب أبي حنيفة أن الطائفة الثانية لا تأتي حتى تسجد الطائفة الأولى سجدتين، ثم تقوم، وتأتي موضع الطائفة الثانية ثم تجيء الطائفة الثانية، فكل منا، ومن أبي حنيفة يثبت ما لا يتضمنه ظاهر الآية، فليس يثبت لهم أن الظاهر معهم.
على أن قوله تعالى: {فِإِذَا سَجَدُوا}، يدل على أن المراد(1) ما ذهبنا إليه، لأنَّه لو كان المراد به السجود دون الفراغ من الصلاة لكان الأولى بسياق الآية أن يقول : فإذا سجدت بهم؛ لأن الخطاب للنبي صلى الله عليه وآله وسلم، فانصراف الكلام عن أصله من الخطاب، يدل على أن المراد به فراغ القوم من صلاتهم؛ ولأنه تعالى لم يذكر قضاء الطائفة الأولى لصلاتهم، فدل على أنهم لا ينصرفون إلاَّ بعد الفراغ من صلاتهم.
__________
(1) في (أ): المراد به.
ويدل على ما نذهب إليه في هذا الباب: ما رواه يزيد بن رومان، عن صالح بن خوات، عمن صلى مع النبي صلى الله عليه وآله وسلم يوم ذات الرقاع: أن طائفة صفوا معه، وطائفة وجاه العدو، فصلى بالذين معه الركعة الأولى، ثم ثبت قائماً، وأتموا لأنفسهم، ثم انصرفوا إلى وجاه العدو، وجاءت طائفة أخرى، فصلى بهم الركعة التي بقيت من صلاته، ثم ثبت جالساً، فأتموا لأنفسهم، ثم سلم. (20/17)
وروى مثله صالح بن خوات، عن سهل بن أبي حثمة(1) أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم فعل كذلك.
وروي عن القاسم بن محمد بن أبي بكر، عن صالح بن خوات أن سهل بن أبي حثمة أخبره أن صلاة الخوف.. فذكر نحوه. وزاد في ذكره الركعة الأخيرة قال: فيركع ويسجد ثم يسلم فيقومون ويركعون الركعة الباقية، ثم يسلمون.
فإن قيل: روي عن ابن عمر أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم حين صلى صلاة الخوف، مضت الطائفة الأولى حين فرغت من الركعة الأولى، فوقفت مواقف الطائفة الثانية، وجاءت الطائفة الثانية فصلت(2) مع النبي صلى الله عليه وآله وسلم الركعة الثانية، ثم سلم صلى الله عليه وآله وسلم، وصارت الطائفة الثانية في مواقف الطائفة الأولى، وقضت الطائفة الأولى ركعة، ثم قضت الطائفة الثانية ركعة.
قيل له: قد روي ذلك، إلاَّ أن رواية صالح بن خوات أشد موافقة للكتاب وأشبه بموضوع الصلاة؛ فلذلك رجحناها واخترناها، أما كونها أشد موافقة للكتاب؛ فقد قدمنا ذكره. وأما كونها أشبه بموضوع الصلاة؛ فلأن ما رووه فيه استدبار القبلة، والانحراف عنها، والمشي الكثير، والاشتغال عن الصلاة بحراسة الناس، وملاقات العدو، وتلك الأحوال تفسد الصلاة، على أن ما قد ذهبنا إليه أشبه بالحال، وأشد موافقة لما يحتاج إليه؛ لأن الطائفة الأولى إذا كانت قد فرغت من الصلاة، تكون أقوى على المدافعة، وإذا كانت بعدُ في الصلاة، لم تتمكن من المدافعة كل التمكن.
__________
(1) في (أ) : خيثمة.
(2) في (أ): وصلت.
فإن قيل: ففي روايتكم أن الطائفة الأولى تُتم صلاتها قبل الإمام، وذلك خلاف موضوع الصلاة. (20/18)
قيل له: صلاة الخوف لم تتميز عن سائر الصلوات، إلاَّ بهذا الأمر الواحد، وإذا لم تتميز به، لم تكن صلاة الخوف، إلاَّ أن تتميز بغيره مما يجري مجراه في أنَّه خلاف موضوع الصلاة، ألا ترى أن في روايتكم - مع ما قدمنا ذكره - أن الطائفة الأولى تترك متابعة الإمام في الركعة الثانية، وتشتغل بغيرها من الحراسة، وهذا خلاف موضوع الصلاة!
فإن قيل: روي عن ابن عباس أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم، صلى صلاة الخوف، فصلى بالطائفة الأولى ركعة، وبالطائفة الثانية ركعة، فكانت صلاته صلى الله عليه وآله وسلم ركعتين، ولكل طائفة ركعة.
وكذلك رواه عبد الرحمن بن القاسم، عن أبيه، عن صالح بن خوات، عن سهل بن أبي حثمة أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم فعل ذلك.
قيل له: يجوز أن يكون مراد الراوي للخبرين: الصلاة المفعولة جماعة دون ما فعلته كل طائفة على الانفراد، ليوافق هذان الخبران ما رويناه، إذ لا سبيل مع استعمال هذين الخبرين، وما رويناه إلى غير ذلك من التأويل.
فإن قيل: فقد روي عن مجاهد، عن أبي(1) عياش الزرقي ما ذهب إليه أبو يوسف في بعض ما روي عنه أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم، صلى صلاة الخوف بعسفان، فصف الناس جميعاً خلفه صفين، ثم كبر صلى الله عليه وآله وسلم، وكبروا جميعاً معه، [ثم ركع وركعوا معه جميعاً، ثم رفع، ورفعوا معه جميعاً، وكبروا جميعاً معه](2)، ثم سجد، وسجد معه الذين يلونه في الصف، وقام الصف المؤخر يحرسونهم بسلاحهم، ثم رفع، ورفعوا، ثم سجد الصف الآخر، ثم رفعوا، ثم تقدم الصف المؤخر، وتأخر الصف المقدم، وفعلوا ما فعلوه أولاً.
وحكي أيضاً أن ابن أبي ليلى كان يذهب إلى هذا.
__________
(1) في (أ): ابن.
(2) سقط ما بين المعكوفين من (أ) و(ب).
قيل له: هذا قد روي، إلاَّ أن ظاهر الكتاب يرده، فَلم نأخذ به، وذلك أن الله تعالى يقول: {وَإِذَا كُنْتَ فِيْهِمْ فَأَقَمْتَ لَهُمُ الصَّلاةَ فَلْتَقُمْ طَائِفَةٌ مِنْهُمْ مَعَكَ}[النساء:102]، وفي هذا الحديث أن الطائفتين جميعاً قامتا معه، وهذا خلاف الظاهر، ثم قال الله تعالى:{فَإِذَا سَجَدُوا فَلْيَكُونُوا مِنْ وَرَائِكُمْ وَلْتَأْتِ طَائِفَةٌ أُخْرَى لَمْ يُصَلُّوا فَلْيُصَلُّوا مَعَكَ}[النساء:102]، فأمر الله تعالى أن تأتي الطائفة الثانية التي لم تصل بعدما سجدت الطائفة الأولى، وفي هذا الحديث أن الطائفتين جميعاً جاءتا في وقت واحد، وصليا معاً، وهذا أيضاً خلاف الظاهر؛ فلهذا لم نقل به، فإما أن يكون منسوخاً بالآية إن ثبتت الرواية، أو يكون مردوداً، أو تكون روايتنا مرجحة عليها. (20/19)
وحكي عن أبي يوسف أنَّه كان يقول: إن صلاة الخوف منسوخة، وحكي عنه أنَّه كان يقول: إنَّها خاصة للنبي صلى الله عليه وآله وسلم، وكلا القولين لا معنى له؛ لأن الحكم إذا ثبت، لم يجز نسخه، إلاَّ بسمع يرد به، ولم يرد بنسخ صلاة الخوف كتاب، ولا سنة، وكذلك إذا ثبت أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قد فعلها، فلنا أن نفعلها اقتداءً به؛ لقول الله تعالى:{لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِيْ رَسُولِ اللهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ}، ولأنه لا خلاف بين الأمة أن كل ما فعله الرسول عليه السلام، فلنا أن نفعله، إلاَّ أن يثبت دلالة التخصيص، ولا دلالة تدل على أنها كانت خاصة للنبي صلى الله عليه وآله وسلم، فإن الصحابة قد قالت بها، وإن اختلفت في وجوهها.
فأما ما قلناه(1) إن الإمام يسلم إذا تشهد، ولا ينتظر الطائفة الثانية؛ لأنا وجدنا حكم الطائفة الثانية حكم من سبقه الإمام بركعة، ولا خلاف أن من سبقه الإمام بركعة، لا ينتظره الإمام، بل يتشهد، ويسلم، ثم يقوم المسبوق، فيتم صلاته، وكذلك الطائفة الثانية؛ والعلة أن الإمام سبقه بركعة فما فوقها، وقد بينا أيضاً أن صالح بن خوات روى مثل قولنا هذا، عن سهل بن أبي حثمة. (20/20)
مسألة [كيفية صلاة الخوف في المغرب]
قال: وإن(2) كانوا في المغرب، صلى الإمام بالفرقة الأولى ركعتين، وبالفرقة الثانية ركعة تخريجاً.
وهذا خرجه أبو العباس الحسني رحمه الله من قول يحيى بن الحسين عليه السلام: ولا يجوز لمصل في غير الخوف أن يقصر صلاته عن صلاة إمامه(3).
قال: فدل ذلك على أنَّه لا يجوز الخروج من صلاة الإمام إلاَّ لعذر، ولا عذر للطائفة الأولى في المغرب، إلاَّ بعد الركعتين، إذ بعدهما يصيرون إلى حالة لا يبقى معها إلاَّ أقل ما يجزي الطائفة الثانية.
وقال في (المنتخب)(4) في تفسير القصر المذكور في الكتاب: "هو قصر المسلمين صلاتهم عن صلاة إمامهم، وسلامهم قبل سلامه، ودخول الطائفة الأخرى في آخر صلاته، وإتمامها لركعتها الباقية". فجعل للطائفة الأخرى آخر الصلاة، ويكون ذلك من المغرب الركعة الثالثة.
ويدل على ذلك: ما رواه زيد بن على، عن أبيه، عن جده، عن علي عليهم السلام في صلاة الخوف في المغرب، قال: يصلي بالطائفة الأولى ركعتين، وبالطائفة الثانية ركعة.
__________
(1) في (أ): قلنا.
(2) في (أ): فإن.
(3) انظر الأحكام 1/129. والمنتخب ص53.
(4) المنتخب ص54.
ويدل على ذلك ما ذكره الهادي إلى الحق عليه السلام من أنَّه لا يجوز لمصل في غير الخوف أن يخرج عن الائتمام؛ لقول النبي صلى الله عليه وآله وسلم: (( إنما جعل الإمام ليؤتم به ))، وما ثبت عنه صلى الله عليه وآله وسلم من النهي عن أن يرفع المؤتم رأسه قبل الإمام من الركوع والسجود. فدل ذلك على أنَّه لا يجوز للمؤتم أن يخرج من الائتمام، إلاَّ لعذر، وإذا ثبت ذلك، فلا عذر للطائفة الأولى، إلاَّ خشية أن يفوت الطائفة الثانية الائتمام، وذلك لا يكون إلاَّ بعد الركعة الثانية من المغرب. (20/21)
ووجه آخر، وهو: أن الائتمام في صلاة الخوف مقسوم على الطائفتين، فكان لكل واحدة من الطائفتين نصفها، فوجب أن يكون للطائفة الأولى ركعة ونصف، وللطائفة الثانية ركعة ونصف، فلما ثبت ذلك، ولم يصح تنصيف الركعة الواحدة كان الأولى أن يجعل آخرها لمن كان له أولها؛ لأن الأول إذا حصل، لم يمنع أن يلحق به الآخر على سبيل التبع، ولا يجوز أن يلحق الأول الحاصل على سبيل(1) التبع الآخر الذي لم يحصل، وإذا كان ذلك كذلك، وجب أن تكون الركعة الثانية للطائفة الأولى.
ووجه آخر، وهو: أنا لو جعلنا الركعة الثانية من المغرب للطائفة الثانية، لكنا قد جعلنا التشهد الأول من الإمام، بحيث لاحظ فيه لواحدة من الطائفتين؛ لأن الطائفة الأولى لا تلحقه، والطائفة الثانية تجلس معه اتباعاً، ولا يعتد لها به، فوجب أن نجعلها للطائفة الأولى؛ لئلا يكون في صلاة الإمام ما لا حظ فيه لواحدة من الطائفتين.
مسألة [صلاة الخوف لاتكون إلا في السفر]
قال القاسم عليه السلام: ولا يصلي صلاة الخوف إلاَّ في السفر.
وهذا منصوص عليه في (مسائل النيروسي). ونص عليه يحي عليه السلام في (المنتخب)(2).
__________
(1) في (أ): على جهة.
(2) انظر المنتخب ص53.
والأصل فيه: أن الله تعالى أمر بها بشرط السفر، والخوف بقوله تعالى:{وَإِذَا ضَرَبْتُمْ فِيْ الأَرْضِ فَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَنْ تقصُروا مِنَ الصَّلاةِ إِنْ خِفْتُمْ}[النساء:101]، فوجب أن تكون مقصورة على السفر، ولم يروَ أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم صلاها في غير السفر، فلم يجز أن نصليها إلاَّ في السفر. (20/22)
فإن قيل: فقد روي عن أبي بكرة أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم صلى بهم صلاة الخوف، فصلى بطائفة منهم ركعتين، ثم انصرفوا، وجاء الآخرون، فصلى بهم ركعتين، فصلى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أربعاً، وكل طائفة ركعتين، وهذا يدل على أنَّه صلى الله عليه وآله وسلم صلاها وهو مقيم؛ لأنَّه صلاها أربعاً.
قيل له: لو كان كون صلاته أربعاً، يدل على الإقامة، فيجب أن يكون كون صلاة كل واحدة من الطائفتين ركعتين، يدل على السفر.
فإن قيل: يجوز أن يكون القوم قضوا الركعتين؟
قيل له: قد يجوز أن يكون النبي صلى الله عليه وآله وسلم صلى الفرض مرتين، فقد روي أن ذلك كان في أول الإسلام، ثم نسخ، وقد ورد النهي عن أن يصلَى في يوم الفريضة مرتين، فإذا احتمل ما ذكرناه، لم يمكن القطع على أنَّه صلى الله عليه وآله وسلم صلاها مقيماً.
وأيضا لا خلاف أنها لا تصلى إلاَّ في الخوف، فوجب أن لا تصلى إلاَّ في السفر قياساً على الخوف؛ والعلة أنَّه أحد شرطي القصر بمقتضى(1) الظاهر.
مسألة [تصلى الخوف على قدر الإمكان]
قال القاسم عليه السلام: وإذا كان خوف لا يقدرون معه على الصلاة قياماً، وركوعاً، وسجوداً، أومأوا برؤسهم إيماء، ويكون السجود أخفض من الركوع.
قال: وإن لم يمكنهم من الصلاة إلاَّ التكبير والذكر، كبروا وذكروا الله سبحانه، وفعلوا من ذلك قدر ما يمكنهم.
__________
(1) في (أ): لمقتضى.
وهذا كله منصوص عليه في (مسائل النيروسي)، وذلك لقوله تعال:{وَقُومُوا للهِ قَانِتِيْنَ فَإِنْ خِفْتُمْ فَرِجَالاً أَوْ رُكْبَاناً}[البقرة:238،239]، والراكب لا يمكنه أن يصلي إلاَّ مومياً. (20/23)
ولقول النبي صلى اللّه عليه وآله وسلم لعمران بن حصين: (( صل قائماً، فإن لم تستطع، فجالساً، فإن لم تستطع، فعلى جنب تومئ إيماء )).
ولا خلاف أن المريض الذي يخاف التلف من الانتصاب والركوع والسجود يصلي مومياً، فكذلك المحارب قياساً عليه، وكذلك إن تعذر الإيماء عليهم ذكروا الله وكبروه؛ لأن سقوط ما يتعذر لا يسقط ما لا يتعذر.
باب القول في صلاة الجمعة والعيدين (21/1)
[مسألة: في شروط صحة الجمعة]
لا تصح الجمعة إلاَّ بشروط:
[1] منها عدد المصلين، وهو أن يكونوا ثلاثة سوى الإمام، فصاعداً.
[2] ومنها المكان الذي يُصلَى فيه، وهو أن يكون مدينة، أو قرية، أو منهلاً، إذا كان فيه مسجد يُجمَّع فيه.
[3] ومنها الوقت، وهو حين زوال الشمس.
[4] ومنها الخطبة، وهي خطبتان يفصل بينهما بجلسة.
[5] ومنها الإمام الذي يُخطب له، وهو أن يكون ممن تجب طاعته على المسلمين.
قلنا: إن العدد ثلاثة، سوى الإمام، تخريجاً من قوله في (الأحكام)(1): إذا سافر الإمام ومن معه(2)، فأدركتهم الجمعة، أو أحد العيدين في قرية من قرى المسلمين، فليخطب بالمسلمين . وقال فيه أيضاً(3): يجب على أهل القرى والمناهل إذا كان هناك جماعة أن يختاروا إماماً يخطب بهم(4)، فبنى الكلام كله على أن الجمعة تكون بجماعة سوى الإمام، وأقل الجمع عنده ثلاثة، نص عليه في (المنتخب)(5) عند استدلاله على أن الصلوات خمس من قوله تعالى:{حَافِظُوا عَلَى الصَّلَوَاتِ وَالصَّلاةِ الوُسْطَى}[البقرة:238]، فقال: والصلاتان لا يقال لهما: صلوات، وحقق أن أقل ما يقع عليه اسم الصلوات ثلاثة.
والمكان الذي ذكرناه منصوص عليه في (الأحكام)(6). وقال فيه: "ولا ينبغي أن يبطأ بصلاة الجمعة جداً، ولا أن يعجل بها قبل الزوال"(7)، فدل ذلك على أنها لا تفعل قبل الزوال، ولا تؤخر عن وقت الاختيار للظهر، وهو إلى أن يصير ظل كل شئ مثله؛ لأنَّه ما دام في وقت الاختيار لا يكون مفَرِّطاً، فلذلك قلنا: إن الوقت من شرطها.
__________
(1) انظر الأحكام 1/144.
(2) في (أ): المسلمون معه.
(3) انظر الأحكام 1/145.
(4) في (أ): لهم.
(5) انظر المنتخب ص31.
(6) انظر الأحكام 1/145.
(7) انظر الأحكام 1/124.
وقلنا: إن الخطبتين من شرطها؛ لأنَّه نص في (المنتخب)(1) على أن من ابتدأ الخطبة في يوم غيم، ثم أصحت السماء، فعلم أنَّه كان ابتدأها قبل الزوال، لزمه إعادة الخطبة، وقال أيضاً بعد هذا الكلام: "لأن الخطبة بمنزلة الركعتين"(2). فلما لم يجوِّز في شئ من الخطبتين أن يكون قبل الزوال، دل على أن الخطبتين عنده واجبتان. (21/2)
ونص في (المنتخب) على أن الجمعة لا تجب إلاَّ بقيام الإمام العادل المحق، وقال أيضاً في (الأحكام)(3): ويجب على أهل المدن والقرى أن يختاروا لأنفسهم من يقيم لهم الجمعة، ثم قال: "وإنما أرى ذلك لهم، وأوجبه عليهم، إن كان واليهم إماماً عدلاً محقاً". فصرح في ذلك بأن الإمام شرط في صحتها، وأن الإمام يجب أن يكون محقاً.
وهذه الجملة تشتمل على خمس مسائل:
المسألة الأولى منها [في أن الجمعة تنعقد بثلاثة سوى الإمام]
الذي يدل على أن الجمعة تنعقد بثلاثة سوى الإمام قول الله تعالى:{يَا أَيُّهَا الَّذِيْنَ آمَنُوا إِذَا نُوْدِيَ لِلصَّلاةِ مِنْ يَوْمِ الْجُمعَةِ فَاسْعُوا إِلَى ذِكْرِ اللهِ}[الجمعة:9]، فاقتضى ظاهره وجوب السعي على قليل العدد وكثيره، إلاَّ ما منع منه الدليل، فإذا صح ذلك، بطل قول من قال: إنها لا تنعقد إلاَّ بأربعين رجلاً.
فإن قيل: لا يصح لكم الاستدلال بالآية إلاَّ بعد ثبوت الجمعة، والخلاف في ثبوتها بهذا العدد.
قيل له: ليس الأمر على ما قدرت، وذلك أن الله تعالى أمر بالسعي إلى الذكر إذا نودي للصلاة يوم الجمعة، ولم يعلقه تعالى إلاَّ بالنداء دون العدد، فصح ما قلناه، على أن الجمعة اسم لأفعال مخصوصة، فإذا ورد الأمر بتلك الأفعال، لزمت، ولم يعتبر قول من يقول: إنها ليست بجمعة.
ويدل على ذلك قول النبي صلى الله عليه وآله وسلم : (( فرضت الجمعة عليكم في مقامي هذا )). ولم يشترط العدد، فاقتضى ظاهره جوازها بأي عدد كان.
__________
(1) انظر المنتخب ص57.
(2) المنتخب ص58.
(3) انظر الأحكام 1/145.
وأيضاً روي أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم كتب - وهو بمكة قبل الهجرة - إلى مصعب ابن عمير - وهو في المدينة - يأمره(1) أن يصلي الجمعة بعد الزوال ركعتين، وبأن يخطب قبلهما، فجمع مصعب في دار سعد بن خيثمة، وهم اثنا عشر رجلاً، وروي أنَّه أول من جمَّع. (21/3)
فإن قيل: روي أول جمعة جمعت بالمدينة أربعون رجلاً، وهذا يعارض ما ذكرتم.
قيل له: التعارض يقع في أن الجمعة هي الأولى، وذلك مما لا يحتاج إليه في مسألتنا، فأما العدد فلا يقع فيه التعارض؛ لأنَّه لا خلاف في أن الجمعة تنعقد بأربعين وأكثر منه، وإنما الخلاف فيما دون ذلك، فيجوز أن يكون هما جمعتين، إحداهما جمعت بأربعين رجلاً، والأخرى جمعت باثني عشر رجلاً، وفي ذلك جوازها بأقل من أربعين، فإذا ثبت ذلك، بطل قول من قال: إنها لا تنعقد إلا بأربعين.
فإن قيل: روي أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم، جمع في المدينة وهم أربعون، فكان ذلك حداً به تنعقد الجمعة.
قيل له: ذلك لا يدل على أنَّه هو الحد، وإنما يدل على جواز انعقادها بأربعين، وذلك مما لا خلاف فيه، على أنا نقيس الأربعة على الأربعين؛ بعلة أنَّه عدد زائد على أقل الجمع الحقيقي، فوجب أن تنعقد الجمعة به، ويجوز أن يقال: إنَّه عدد زائد على ثلاثة.
وأيضاً وجدنا الجمعة عبادة اعتبر فيها الرجال زائداً على الاثنين، فوجب أن يكون أقلهم أربعة قياساً على حد الزنا، وهذه العلة تفسد قول من جعل الحد أقل من أربعة، أو أكثر منها، على أن القول بأنها تنعقد باثنين سوى الإمام، لم يحك إلاَّ عن أبي يوسف.
وكر الجصاص في (الشرح) أن هذا القول غير مشهور عنه، وضعفه، ويدل على فساده: أنَّه لا خلاف في أن من شرط الجمعة أن يحصل الجمع الحقيقي في عدد المؤتمين، وقد ثبت أن أقل الجمع ثلاثة، فبطل به قول من قال: إنها تصح باثنين سوى الإمام.
المسألة الثانية [في إقامة الجمعة في القرى والمناهل]
__________
(1) في (أ): فأمره.
والذي يدل على أنها تقام في القرى والمناهل قول الله تعالى:{إِذَا نُوْدِيَ لِلصَّلاةِ مِنْ يَوْمِ الْجُمعَةِ فَاسْعُوا إِلَى ذِكْرِ اللهِ}[الجمعة:9]. (21/4)
وقوله صلى الله عليه وآله وسلم: (( فرضت عليكم الجمعة في مقامي هذا ))،
وما روي عنه: (( الجمعة تجب على كل مسلم )).
فاقتضت هذه الظواهر وجوبها على جميع الناس في أي موضع كانوا، فلما أجمعوا على المواضع التي ليست بمواضع الاستيطان أن الذين بها لا جمعة لهم في تلك المواضع، خصصناهم وبقي الذين هم في المدن والقرى والمناهل.
على أنَّه قد روي عن عبد الرحمن بن كعب بن مالك، عن أبيه أن أسعد بن زرارة أول من جمع بنا في حرة بني بياضة.
وعن ابن عباس: أول جمعة جمعت في الإسلام بجواثا - قرية من قرى البحرين -.
فدل الخبر على ما نذهب إليه، وذلك يجري مجرى الإجماع؛ لأنَّه فعل وقع من جماعة من الصحابة، ولم يُرْوَ عن أحد منهم خلافه.
فإن قيل: روي عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم : (( لا جمعة إلاَّ في مِصر جامع )).
قيل له: يحتمل أن يكون المراد به نفي الكمال والفضل دون الأجزاء كما روي: (( لا صلاة لجار المسجد إلاَّ في المسجد )).
ويحتمل أن يكون المراد به لا جمعة يفسقون بتركها، إلا في مصر جامع.
ويحتمل أيضاً أن يكون المراد بقوله: مصر، موضع الاستيطان، على أن أصحاب أبي حنيفة وهم المخالفون في هذه المسألة، يذهبون إلى أنَّه لا يجوز التعلق بظاهر هذه الأخبار؛ لأنها عندهم من المجمل؛ لاحتمالها نفي الأجزاء، ونفي الكمال، فيجب أن يكون تعلقهم بقوله لا جمعة ولا تشريق إلاَّ في مصر جامع فاسداً على أوضاعهم.
وأيضا هذه المواضع قياس على المدن؛ بعلة أنها مواضع الاستيطان، فيجب أن تصح الجمعة فيها.
وقلنا: إن القرية يجب أن يكون فيها مسجد يجمع فيه، لأنَّه لم يرو عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم أنه أقام الجمعة إلاَّ في المساجد؛ ولأن ذلك فعل المسلمين وعادتهم توارثها الخلف عن السلف.
والمسألة الثالثة [في وقت الجمعة] (21/5)
الذي يدل على أن الجمعة يجب أن تفعل في وقت الظهر ما ثبت عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم أنَّه فعلها فيه، وفعله لها فيه(1) بيان مجمل واجب، فوجب أن يكون على الوجوب، فثبت بذلك وجوب فعلها في وقت الظهر.
فإن قيل : روي كنا نصلي مع رسول الله يوم الجمعة، ثم ننصرف، وليس للحيطان فئ، فدل ذلك على أنَّه صلى الله عليه وآله وسلم صلى قبل الزوال.
قيل له :قد روي في بعض الأخبار: وليس للحيطان فئ نستظل به، فكان المراد به /218/ في أول وقت الزوال.
يبين ذلك: ما رواه ابن أبي شيبة، عن جعفر، عن أبيه، عن جابر قال: كنا نصلي مع رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يوم الجمعة، ثم نرجع، فنريح نواضحنا. قال جعفر: ذلك زوال الشمس.
وروي أيضاً عن أنس أنه كان يقول: كنا نصلي الجمعة مع رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم إذا مالت الشمس، فدل ذلك أجمع على ما نذهب إليه .
ويدل عليه قوله صلى الله عليه وآله وسلم : (( صلوا كما رأيتموني أصلي )). وصح أنَّه صلى الله عليه وآله وسلم صلى الجمعة في وقت الظهر، فوجب أن يلزم فعلها في وقت الظهر.
المسألة الرابعة [في وجوب الخطبتين]
والذي يدل على وجوب الخطبتين: ما رواه ابن أبي شيبة ،عن أبي الأحوص، عن سماك، عن جابر بن سمرة قال: كانت للرسول صلى الله عليه وآله وسلم خطبتان يجلس بينهما.
وروى أبو بكر، عن حاتم بن إسماعيل، عن جعفر، عن أبيه قال: كان رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يخطب قائماً، ثم يجلس، ثم يقوم فيخطب خطبتين.
وروي أيضاً عن ابن عباس أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم كان يخطب يوم الجمعة قائماً، ثم يقعد، ثم يقوم، فيخطب.
وروي نحوه، عن نافع، عن ابن عمر، عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم.
فإذا ثبت ذلك من فعل النبي صلى الله عليه وآله وسلم، ثبت وجوب الخطبتين؛ لأنَّه بيان لمجمل واجب، فيجب أن يكون على الوجوب.
__________
(1) سقط من (ب): فيه.
فإن قيل: قول الله تعالى: {إِذَا نُوْدِيَ لِلصَّلاةِ مِنْ يَوْمِ الْجُمعَةِ فَاسْعُوا إِلَى ذِكْرِ اللهِ}[الجمعة:9]، يدل على أن أدنى الذكر يجزي في الخطبة؛ لأن الله تعالى أوجب السعي إلى الذكر، والذكر يقع على القليل والكثير. (21/6)
قيل له: ليس في الآية بيان الذكر الذي يجب السعي إليه، وفعل النبي صلى الله عليه وآله وسلم بيان له، فيجب أن تكون الآية محمولة عليه، ويجب أن يكون فعله صلى الله عليه وآله وسلم محمولاً على الوجوب.
فإن قيل: الظاهر اقتضى وجوب السعي إلى ذكر الله، فهو(1) على كل ذكر الله، إلاَّ ما يمنع منه الدليل.
قيل له: لا(2) يجب؛ لأن الذكر معرف مع الإثبات، والمعرف مع الإثبات يجب أن يكون خاصاً، فلا يمكن ادعاء العموم فيه، على أنَّه لو كان عموماً، لوجب أن يخصه فعل النبي صلى الله عليه وآله وسلم، وقد بينا أنَّه بيان مجمل واجب.
المسألة الخامسة [في اشتراط الإمام]
وقلنا: إن الإمام شرطٌ في صحة الجمعة؛ لما رواه أبو الحسن الكرخي في (المختصر) بإسناده عن ابن المسيب، عن جابر قال: خطبنا رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يوم الجمعة، فقال : (( اعلموا أن الله تبارك وتعالى فرض عليكم الجمعة، في مقامي هذا، في يومي هذا، في شهري هذا، (في عامي هذا)(3)، إلى يوم القيامة، فمن تركها في حياتي، أو بعد موتي استخفافاً بها وبحقها وجحوداً لها، وله إمام عادلٌ، أو جائر، فلا جمع الله شمله، ولا بارك له في أمره )).
فلما ذم صلى الله عليه وآله وسلم تاركها بشرط أن يكون له إمام، علم أن الإمام شرط في وجوبها، وإذا ثبت /219/ أنَّه شرط في وجوبها، ثبت أنَّه شرط في صحتها؛ لأن الجمعة متى صحت، وجبت.
__________
(1) في (أ): فهو عام. وفي هامش (ب): عام لكل.
(2) في (أ): هذا لا.
(3) سقط من (أ) و(ب).
فإن قيل: فقد قال صلى الله عليه وآله وسلم : (( من كان له إمام عادل، أو جائر ))، (وعندكم أن الجمعة لا تصح بالسلطان الجائر، وهو خلاف ما في الخبر.؟ (21/7)
قيل له : معناه عندنا من كان له إمام عادل أو جائر)(1) في الباطن دون الظاهر.
وفائدته أنَّه ليس علينا مراعاة باطن الإمام، فسواء كان في الباطن عادلاً أو جائراً، فإمامته صحيحة، والجمعة معه واجبة، إذا كانت أحواله في الظاهر سليمة.
فإن قيل : فمن أين قلتم إن السلطان الظالم لا يصح به الجمعة حتى نسلم لكم هذا التأويل؟
قيل له: لقول الله تعالى: {وَلا تَرْكَنُوا إِلَى الَّذِيْنَ ظَلَمُوا فَتَمَسَّكُمُ النَّارُ}[هود:113]، ولا ركون إليهم في باب الدين أوكد من أن نعلق بهم صحة الجمعة.
فإن قيل: لستم في تخصيص الخبر بالآية بأسعد ممن خص(2) الآية بالخبر.
قيل له: الآية أقوى من خبر الواحد، وتخصيص الأضعف بالأقوى أولى من تخصيص الأقوى بالأضعف.
ويدل على ذلك قوله صلى الله عليه وآله وسلم: (( صلوا كما رأيتموني أصلي )). وهو أقام صلاة الجمعة، وهو سلطان تلزم طاعته، ويدل فعله لها على وجه البيان على أن الإمام شرط فيها، إذ وقع فعله لها بيان لمجمل واجب، فوجب أن يدل على الوجوب.
وروى محمد بن منصور بإسناده، عن إبراهيم بن عبد الله بن الحسن أنَّه سئل عن الجمعة، هل تجوز مع الإمام الجائر؟ فقال: إن علي بن الحسين عليه السلام - وكان سيد أهل البيت - كان لا يعتد بها معهم.
وهو مذهب جميع أهل البيت عليهم السلام فيما عرفته، ومذهبنا أن إجماعهم حجة.
ومما يدل على أنها لا تقام إلاَّ مع الإمام العادل : أنها عبادة لا يجوز أن يتفرد بإقامتها كل واحد، فشابهت الحدود التي لما لم يجز أن يتفرد بإقامتها كل واحد، لم يجز إقامتها إلاَّ مع الإمام العادل.
مسألة [أركان صلاة الجمعة]
__________
(1) سقط ما بين القوسين من (أ) و(ب)، وظنن فكانه في هامش (ب) بـ: قيل له المراد أنه جائر.
(2) في (أ): خصص.
قال: وإذا(1) حصل ما ذكرنا، وأذن المؤذن، قام الإمام، فخطب بهم خطبتين يفصل بينهما بجلسة، ثم تقام الصلاة، فيقوم الإمام فيصلي بهم ركعتين، يجهر فيهما بالقراءة. (21/8)
جميع ذلك منصوص علية في (الأحكام)(2).
قلنا : إن الإمام يقوم فيخطب إذا أذن المؤذن؛ لقول الله تعالى: { إِذَا نُوْدِيَ لِلصَّلاةِ مِنْ يَوْمِ الْجُمعَةِ فَاسْعُوا إِلَى ذِكْرِ اللهِ}[الجمعة:9]، فأوجب السعي إليها بشرط النداء للصلاة، وهو الأذان.
ولما روى أبو داود في (السنن) بإسناده، عن ابن شهاب قال: أخبرني السائب(3) ابن يزيد أن الأذان كان أوله حين يجلس الإمام على المنبر يوم الجمعة في عهد النبي صلى الله عليه وآله وسلم وأبي بكر وعمر، فلما كان ولاية عثمان أمر بالأذان الثالث.
وروى أيضاً بإسناده عن الزهري، عن السائب بن يزيد، قال: كان يؤذن بين يدي رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم إذا جلس على المنبر يوم الجمعة.
وقلنا :إنه يخطب خطبتين يفصل بينهما بجلسة؛ للروايات التي ذكرناها في مسألة الخطبتين.
وقلنا : إن الإقامة بعد الخطبتين لتكون الصلاة تلى الإقامة.
وقلنا: إنَّه يصلي ركعتين؛ لأن النبي صلى الله عليه وآله وسلم كذلك فعل؛ ولأنه لا خلاف أن صلاة الجمعة ركعتان.
وقلنا: إنَّه يجهر بالقراءة؛ لِما روى /220/ محمد بن منصور بإسناده عن جعفر بن محمد عليهما السلام، أنَّه قال: اجهروا بالقراءة في يوم الجمعة، فإنها سنة. وقوله: إنها سنة يجري مجرى أن يرويه عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم.
مسألة [القراءة في الجمعة]
قال: ويستحب أن يقرأ في الركعة الأولى بأم الكتاب، وسورة الجمعة، وفي الثانية بأم الكتاب، وسورة المنافقين.
__________
(1) في (أ): فإذا.
(2) انظر الأحكام 1/123.
(3) ساقط من (أ) و(ب) : السائب.
وقال في (الأحكام)(1) فإذا قال المؤذن: قد قامت الصلاة، كبر، وقرأ بالحمد، وسورة الجمعة، وفي الثانية بأم الكتاب، وسورة المنافقين، أو سورة سبح وسورة الغاشية(2)، أي ذلك فعل ففيه كفاية. (21/9)
وقراءة سورة الجمعة وسورة المنافقين في الجمعة رأي عامة أهل البيت عليهم السلام.
وأخبرنا أبو الحسين ابن إسماعيل، قال: حدثنا ابن اليمان، قال: حدثنا ابن شجاع، قال: حدثنا قبيصة، عن سفيان، عن المخول بن راشد، عن مسلم البطين، عن سعيد بن جبير، عن ابن عباس أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم كان يقرأ في صلاة الجمعة سورة الجمعة، وإذا جاءك المنافقون.
وروى ابن أبي شيبة، وأبو داود بإسناديهما، عن جعفر، عن أبيه، عن عبيد الله بن أبي رافع قال: صلى بنا أبو هريرة الجمعة، فقرأ سورة الحمد، وسورة الجمعة، وفي الثانية إذا جاءك المنافقون، فقلنا: إنك قرأت سورتين كان علي يقرأ بهما في الكوفة، فقال أبو هريرة: إنس سمعت رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يقرأ بهما يوم الجمعة.
ولأن سورة الجمعة تختص بذكر الجمعة، وسورة المنافقين تليها في الترتيب، وما فيها أيضاً قريب مما في سورة الجمعة.
وروي أيضاً عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم أنَّه كان يقرأ في الجمعة سورة سبح والغاشية.
مسألة [فيمن لا تجب عليه الجمعة]
قال: وحضور الجمعة واجب عند حصول ما ذكرناه من الشروط، إلاَّ على المريض، والمرأة، والمملوك، ويستحب لهم الحضور.
وهذا منصوص عليه في (الأحكام)(3)، ولم يذكر الصبي وإن كان يحيى عليه السلام قد ذكره فيمن لا يجب عليهم الجمعة؛ لأن الصبي لا يلزمه سائر التكاليف، وإنما خصصنا بالذكر من لم تجب عليه الجمعة، مع لزوم سائر الواجبات له.
__________
(1) انظر الأحكام 1/123.
(2) في (أ): وسورة سبح أو سورة الغاشية.
(3) انظر الأحكام 1/142.
والأصل فيه: ما روي ابن أبي شيبة بإسناده، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: (( الجمعة واجبة على كل حالم إلاَّ أربعة: الصبي، والمرأة، والعبد، والمريض )). (21/10)
وروى أيضاً يرفعه إلى كعب القرظي، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: (( من كان يؤمن بالله واليوم الآخر، فعليه الجمعة في(1) يوم الجمعة، إلاَّ على امرأة، أو صبي، أو مملوك، أو مريض )).
وروى ذلك أيضاً أبو داود في (السنن) يرفعه إلى طارق بن شهاب، عن النبي صلى اللّه عليه وآله وسلم.
وأما الاستحباب للمملوك والمريض؛ فلأن فيها زيادة عبادة.
وأما(2) النساء، فقد روى ابن أبي شيبة يرفعه إلى الحسن قال: كُنَّ النساء يجمعن مع النبي صلى الله عليه وآله وسلم.
على أن يحيى عليه السلام ذكر في (الأحكام)(3) أن لزوم البيوت أصلح لهن، وأعظم لأجورهن، واستدل بما روي عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم : (( النساء عي وعورات، فاستروا عيهن بالسكوت، وعوراتهن بالبيوت ))/221/.
مسألة [وإذا وافق أحد العيدين الجمعة اجتُزي بأحدهما]
قال: وإن وافق أحد العيدين الجمعة، جاز الاجتزاء بأحدهما، إلاَّ للإمام.
قال في (الأحكام)(4): "إذا اجتمع عيد وجمعة، فمن شاء حضر الجمعة، ومن شاء اجتزأ عن حضورها بصلاة العيد وخطبته"(5).
فدل كلامه على أنَّه لم يجعل للإمام الاجتزاء بأحدهما؛ لأنَّه قال: من شاء حضر الجمعة، ولا يمكنه حضور الجمعة إلاَّ بحضور الإمام.
واستدل(6) بما رواه أبو داود في (السنن)، عن أبي صالح، عن أبي هريرة، عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، قال: (( قد اجتمع في يومكم هذا عيدان، فمن شاء أجزأه العيد عن الجمعة، وإنا لمجمعون(7) ))).
__________
(1) سقط من (ب): في.
(2) سقط من (أ): أما.
(3) انظر الأحكام 1/143.
(4) الأحكام 1/142.
(5) في (أ): وخطبتيه.
(6) في (أ): استدل.
(7) في (أ) و(ب): مجمعون.
وروى أيضاً أبو داود يرفعه، إلى إياس ابن أبي رملة الشامي، قال: شهدت معاوية بن أبي سفيان وهو يسأل زيد بن أرقم، هل شهدت مع رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم عيدين اجتمعا في يوم واحد؟ فقال: نعم. قال: فكيف صنع؟ قال: صلى العيد، ثم رخص في الجمعة، فقال: من شاء أن يصلي، فليصل. (21/11)
وروي أيضاً عن ابن الزبير أنَّه اجتزأ بالعيد عن الجمعة، وأنه ذُكِرَ ذلك لابن عباس فقال: أصاب السنة.
مسألة [في حكم الصلاة والكلام أثناء الخطبة]
قال: وتكره الصلاة، والكلام عندما يخطب الإمام.
نص على هذا في (الأحكام)(1)، قال: "فإذا(2) قال المؤذن في آخر أذانه لا إله إلاَّ الله، تكلم الإمام، وانقطعت صلاة من كان يصلي من الناس، ووجب عليهم الاستماع والإنصات".
ووجه ذلك قوله تعالى: {وَإِذَا قُرِئَ الْقُرَآنُ فَاسْتَمِعُوا لَهُ وَأَنْصِتُوا}[الأعراف:204]، وروي أنها نزلت في الخطبة.
وروى أبو بكر الجصاص في (شرح المختصر) بإسناده، عن الشعبي، قال: سمعت ابن عمر قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يقول: (( إذا دخل أحدكم المسجد، والإمام على المنبر، فلا صلاة له، ولا كلام حتى يفرغ الإمام )).
وروى ابن أبي شيبة بإسناده(3)، عن أبي إسحاق، عن الحارث، عن علي عليه السلام، أنَّه كره الصلاة، والإمام يخطب.
وروي عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم أنه قال: (( إذا قلت: أنصت، والإمام يخطب، فقد لغوت )).
وروى الطحاوي بإسناده، عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم: (( إذا سمعت إمامك يتكلم - يعني في الخطبة - فانصت حتى ينصرف )).
فإن قيل: روي أن سليكاً الغطفاني جاء، والنبي صلى الله عليه وآله وسلم يخطب، فأمره أن يصلي ركعتين.
قيل له: يجوز أن يكون جاء قبل أن يشرع في الخطبة.
__________
(1) الأحكام 1/123.
(2) في (ب): وإذا.
(3) سقط من (ب): بإسناده.
ويجوز أن يكون ذلك في حال كان الكلام مباحاً في الخطبة، وعلى هذا يحمل ما روي عن عمرو بن دينار، عن جابر، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: (( إذا جاء أحدكم يوم الجمعة، والإمام يخطب، أو قد خرج الإمام، فليصل ركعتين )). إذ جائز أن يكون ذلك قبل المنع من الكلام، والإمام يخطب. (21/12)
على أن الحديث يدل على أن الراوي شك في أنَّه حال الخطبة، أو حال خروج الإمام.
على أن ابن أبي شيبة روى بإسناده /222/ عن محمد بن قيس، أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم لما أمره أن يصلي ركعتين أمسك عن الخطبة حتى فرغ من صلاته، ثم عاد إلى الخطبة.
فدل ذلك على أنَّه ليس له أن يصلي، والإمام يخطب.
ومما يدل على ذلك أن من كان قاعداً في المسجد حين ابتدأ الخطبة، لم يركع، فكذلك الداخل، والعلة أن كل واحد منهما مأخوذ عليه استماع الخطبة، (أو يقال إن كل واحد منهما إمامه شارع في الخطبة)(1).
فإن قاسوا الداخل في حال الخطبة على الداخل في غير حال الخطبة، كان قياسنا أولى؛ لأنَّه حاظر؛ ولأن حال الخطبة بحال الخطبة أشبه منها بالحال التي هي غير حال الخطبة.
مسألة [فيمن تفوته الخطبة]
قال: ومن فاتته الخطبة، صلى الظهر أربعاً، وبنى على ما يدركه مع الإمام، وإن أدرك منها شيئاً، صلى ركعتين.
وهذا منصوص عليه في (المنتخب)(2)، وهو قول عطاء، وطاووس، ومجاهد، رواه ابن أبي شيبة عنهم.
وروى بإسناده، عن عمر، أنَّه قال: جعلت الخطبة مكان الركعتين، فمن لم يدرك الخطبة، فليصل أربعاً.
ويدل على ذلك أن الخطبة شرط في صحة الجمعة كالوقت، فكما أن من لم يلحق الوقت صلى الظهر أربعاً، فكذلك من لم يلحق الخطبة قياساً عليه، والعلة أنَّه لم يلحق ما هو شرط في صحة الجمعة.
وهو أيضاً مقيس على من فاتته الصلاة في أنَّه يصلي الظهر أربعاً، والمعنى أنَّه فاتته الخطبة.
__________
(1) سقط من (أ).
(2) انظر المنتخب ص57.
فإن قيل: روي عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم أنه قال: (( ما أدركت فصل، وما فاتك فاقض )). (21/13)
قيل له: كذلك نقول: إنَّه يصلى ما أدرك مع الإمام، ويقضي ما فات، والخلاف في كيفية القضاء، وليس في الخبر ما يدل على موضع الخلاف.
فإن قيل: روي: (( أن من أدرك من الجمعة ركعة، فقد أدركها )).
قيل له: المراد به قد أدرك فضلها.
فإن قيل : هذا خلاف الظاهر.
(قيل له: وما تذهبون إليه خلاف الظاهر)(1)؛ لأن الظاهر اقتضى أنَّه بإدراك ركعة منها يكون مدركاً(2)، وعندكم أنَّه لا يكون مدركاً لها حتى يصل إليها أخرى، وتأويلنا أولى؛ لأنَّه أخذ بالاحتياط.
فأما ما روي عنه صلى الله عليه وآله وسلم: (( من أدرك ركعة من الجمعة، أضاف إليها أخرى، ومن أدرك دونها، صلى أربعاً ))، فقد ذكر أبو بكر الجصاص في (شرح الطحاوي) أنَّه حديث ضعيف، ولا يثبته أهل العلم.
مسألة [في البلد النازح عن الإمام هل تقام فيه جمعة؟]
قال: وإذا كان الرجل في بلد نازح عن الإمام، جاز له أن يصلي الجمعة بالناس إذا كان يدعو إلى الإمام، ويخطب له، وإن لم يكن الإمام ولاه، وكذلك يجزيه، وإن لم يصرح بالدعاء له وكنى ضرورة عنه، إذا كان الإمام هو المقصود بالنية. فأما إذا لم يظهر الإمام، ولم تظهر دعوته، فلا تجب الجمعة.
وذلك كله منصوص عليه في (المنتخب)(3).
أما الكلام في أن الجمعة لا تجب إلاَّ مع الإمام، فقد مضى.
وقلنا: إن الإمام إذا كان في بلد(4) نازح، أقيمت الجمعة برجل من المسلمين، وإن لم يكن الإمام ولاه؛ لِما روي أن أصحاب النبي صلى الله عليه وآله وسلم قدموا أبا بكر حين خرج النبي صلى الله عليه وآله وسلم إلى بني عمرو بن عوف يصلح بينهم.
وروي أنهم قدموا عبد الرحمن بن عوف في غزوة تبوك حين خرج النبي صلى الله عليه وآله وسلم /223/ في بعض حاجاته.
__________
(1) سقط ما بين القوسين من (أ) و(ب).
(2) في (ب): مدركاً لها.
(3) انظر المنتخب ص57.
(4) في (أ): كان ببلد.
وروي أنَّه صلى الله عليه وآله وسلم لما جهز جيش مؤتة، قال: (( وليت عليكم زيداً، فإن قتل، فجعفراً، فإن قتل، فابن رواحة )). فقتلوا جميعاً، فقالوا: خالد سيف الله، فولوه عليكم. (21/14)
مسألة [في من وصله نعي الإمام قبل الفراغ من الجمعة]
ومن ابتدأ الجمعة بتولية الإمام إياه، ثم اتصل(1) به نعي الإمام قبل الفراغ منها، أتمها جمعة.
وهذا منصوص عليه في (المنتخب)(2).
ووجهه أن الجمعة قد انعقدت، فلا يحلها إلاَّ ما يفسدها قياساً على سائر الصلوات؛ لأنها إذا انعقدت، لم يحلها إلاَّ ما يفسدها، ولا خلاف أن الجمعة لا تفسد، ولا يجب أن يبتدأ الظهر(3) بورود النعي، وهو أيضاً قياس على الجمعة التي لا يرد فيها نعي الإمام؛ لعلة أنها انعقدت صحيحة.
والذي يجئ على هذا الباب أن الإمام لو انفض عنه الناس، يتمها جمعة، وكذلك لو ابتدأها في وقت الظهر، وامتدت(4) إلى وقت العصر، يتمها جمعة؛ لأنها انعقدت في الأصل صحيحة.
مسألة [فيمن ابتدأ الجمعة قبل الزوال في يوم غيم]
ولو ابتدأ الجمعة في يوم غيم قبل الزوال، ثم علم، وهو في الخطبة أو الصلاة، استأنف الخطبة والصلاة؛ لأن الخطبة بمنزلة الصلاة.
وهذا منصوص عليه في (المنتخب)(5).
وقد دللنا على وجوب الخطبتين، وأنهما من صلاة الجمعة، وأن وقت الجمعة زوال الشمس، فإذا ثبت ذلك، ثبت ما قلناه من وجوب إعادة الخطبة والصلاة، متى ابتدئت قبل الزوال، ثم علم به، في أن عليه الإعادة.
مسألة [في كيفية صلاة العيدين]
__________
(1) في (أ): ثم أنه اتصل.
(2) انظر المنتخب ص57.
(3) في (أ): بالظهر.
(4) في (أ): فامتدت.
(5) انظر المنتخب ص57،58.
قال: وصلاة العيدين ركعتان، يبتدئ الإمام فيفتتح الصلاة، ثم يقرأ فاتحة الكتاب، وسورة من المفصل، ويكبر سبع تكبيرات، يقول بين كل تكبيرتين: الله أكبر كبيراً، والحمد لله كثيراً، وسبحان الله بكرة وأصيلاً، ثم يركع، ثم يسجد سجدتين، ثم يقوم فيقرأ فاتحة الكتاب، وسورة، ثم يكبر خمساً على مثال ما كبر(1) أولاً، ثم يركع، ثم يسجد سجدتين، ثم يتشهد ويسلم. (21/15)
وهذا منصوص عليه في (الأحكام)(2).
وكلامه فيه يحتمل أن يكون جعل تكبيرة الركوع في الركعة الأولى من جملة التكبيرات السبع، وتكبيرة الركوع في الركعة الثانية من جملة التكبيرات الخمس، فيكون الزائد في الأولى ستاً، وفي الثانية أربعاً، ويحتمل أن يكون جعل تكبيرة الركوع في الأولى غير معدودة في السبع، وفي الثانية غير معدودة في الخمس، فيكون الزائد في الأولى سبعاً، وفي الثانية خمساً.
وظاهر كلام يحيى عليه السلام في (المنتخب)(3)، يدل على أنَّه يجعل تكبيرة الركوع في الأولى من جملة السبع، وفي الثانية غير معدودة في الخمس. وذهب أبو العباس الحسني رحمه الله في (النصوص) إلى أن تكبيرة الركوع في الأولى غير معدودة في السبع، وفي الثانية غير معدودة في الخمس، فجعل الزائد في الأولى سبعاً، وفي الثانية خمساً.
أخبرنا أبو العباس الحسني، قال: أخبرنا أحمد بن سعيد بن عثمان الثقفي، قال: حدثنا عمار بن رجاء، قال: حدثنا أبو نعيم، قال: حدثنا عبد الله بن عبد الرحمن بن يعلى بن كعب، قال: سمعت عمرو بن شعيب، يحدث عن أبيه، عن جده، أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم كبر في يوم العيد ـ في الفطر ـ سبعاً في الأولى، وفي الثانية خمساً سوى تكبيرة الصلاة )).
__________
(1) في (أ): ذكر.
(2) انظر الأحكام 1/139 ـ 140 وقال في عدد التكبيرات بسبع ثم يركع بالثامنة.
(3) انظر المنتخب ص62.
وقوله سوى تكبيرة الصلاة يحتمل أن يكون المراد به تكبيرة الافتتاح، فإذا كان كذا /224/، كان الزوائد في الأولى ستاً، وفي الثانية أربعاً، ويحتمل أن يكون المراد به تكبيرات الصلاة أجمع، فيكون على هذا الزوائد في الأولى سبعاً، وفي الثانية خمساً. (21/16)
وروى أبو داود في (السنن) بإسناده، عن عروة، عن عائشة أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم كان يكبر في الفطر، والأضحى، في الأولى سبع تكبيرات، وفي الثانية خمساً.
وأخبرنا أبو العباس الحسني، قال: أخبرنا أبو أحمد الأنماطي، قال: حدثنا إسحاق بن إبراهيم الصنعاني، عن عبد الرزاق، عن إبراهيم بن محمد، عن جعفر، عن أبيه، قال: كان علي عليه السلام يكبر في الفطر، والأضحى، في الأولى سبعاً، وفي الثانية خمساً، ويصلي قبل الخطبة، ويجهر بالقراءة، وكان رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، وأبو بكر، وعمر، وعثمان يفعلون ذلك.
وأخبرنا أبو العباس الحسني رحمه الله، قال: حدثنا أحمد بن خالد، قال: حدثنا جعفر بن محمد بن حرب الطحان الكوفي، قال: أخبرنا محمد بن تسنيم الحضرمي، قال: حدثنا محمد بن عبد الحميد العجلي، عن سيف بن عميرة، عن أبان بن تغلب، عن جعفر بن محمد، قال سمعته يقول: (كان علي يكبر في العيدين كليهما اثنتي عشرة تكبيرة، يكبر، ثم يقرأ بأم القرآن وسورة، ثم يكبر سبعاً، ثم يركع بأخراهن، ثم يقوم فيقرأ بأم القرآن وسورة، ثم يكبر خمساً، ويركع بأخراهن)(1).
وروى محمد بن منصور بإسناده، عن نافع، عن ابن عمر، قال: "كان النبي صلى الله عليه وآله وسلم يكبر في العيدين اثنتي عشرة تكبيرة، سبعاً في الأولى، وخمساً في الثانية".
فإن قيل: روي أن(2) سعيد بن العاص سأل أبا موسى، وحذيفة، كيف كان النبي صلى الله عليه وآله وسلم يكبر في الأضحى والفطر؟ فقال أبو موسى: كان يكبر أربع تكبيرات، على الجنائز، فقال حذيفة: صدق [صدق](3).
__________
(1) في (أ): بالخامسة.
(2) في (أ): عن.
(3) سقط من (أ).
وروي عن القاسم بن عبد الرحمن، قال: حدثنا بعض أصحاب النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال: صلى بنا رسول الله يوم عيد وكبر [أربعاً وأربعاً](1) ثم أقبل علينا بوجهه، فقال: "لا تنسوا، كتكبير الجنائز"، وأشار بأصابعه، وقبض واحدة. (21/17)
قيل له: خبرنا أولى؛ لأن فيه زيادة، والزائد أولى بالقبول، ولأنه فعل أمير المؤمنين عليه السلام، وأبي بكر، وعمر، وعثمان(2)، ولأنه مما لا أحفظ فيه خلافاً عن أهل البيت عليهم السلام.
وقلنا بتقديم القراءة في الركعتين على التكبيرات؛ لأنَّه المروي عن أمير المؤمنين في حديث جعفر بن محمد عليهم السلام. ورواه أيضاً زيد بن على، عن آبائه، عن علي عليهم السلام.
وأخبرنا أبو العباس الحسني رحمه الله، قال: حدثنا محمد بن بلال، قال: حدثنا محمد بن عبد العزيز بن الوليد، قال: حدثنا إسماعيل بن أبان، عن محمد بن أبان، عن أبي إسحاق، عن الحارث، عن علي عليه السلام: أنَّه كان في الفطر يكبر التكبيرة التي يفتتح بها الصلاة، ويقرأ، ثم يكبر، ثم يركع، ثم يقوم، فيقرأ، ثم يكبر، ثم يركع.
ورواه أيضاً ابن أبي شيبة، عن وكيع، عن سفيان، عن أبي إسحاق، عن الحارث، عن علي عليه السلام.
ويدل النظر ـ أيضاً ـ على ذلك؛ لأن التكبيرات زيادة تختص بعض الصلوات /225/، فوجب أن يكون بعد القراءة قياساً على القنوت، ولا خلاف ـ أيضاً ـ بيننا، وبين أبي حنيفة وأصحابه، وسائر أهل البيت عليهم السلام أنها في الركعة الثانية بعد القراءة، فوجب أن يكون في الركعة الأولى ـ أيضاً ـ بعد القراءة قياساً عليها، والعلة أنَّها تكبيرات زيدت في صلاة العيد.
فأما كونها ركعتين، فمما لا خلاف فيه، وهو المروي عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم، ومن بعده.
__________
(1) ما بين المعكوفين في نسخة.
(2) في (أ): رضي الله عنهم.
وقلنا: إنَّه يذكر الله تعالى بما مضى بين كل تكبيرتين؛ ليكون ذلك فصلاً بين التكبيرات؛ ولأن تكبيرات الجنائز لما تكررت، وجب الفصل بينها ببعض الأذكار، فكذلك تكبيرات العيدين. (21/18)
وروى محمد بن منصور، عن محمد بن إسماعيل، عن غالب بن فائد، قال: حدثنا قيس، عن أبي إسحاق، عن الحارث، عن علي عليه السلام، أنَّه كان يدعو في العيدين بين كل تكبيرتين.
وذلك يحقق ما قلنا من الفصل بين التكبيرات.
مسألة [في صفة خطبة العيدين]
قال: ثم يعلو راحلته أو منبره، فيخطب، ويكبر قبل أن يتكلم بالخطبة تسع تكبيرات، ويكبر بعد الفراغ منها سبع تكبيرات، ويُعلِّم الناس ما يحتاجون إليه من زكاة الفطر، ثم يجلس جلسة خفيفة، ثم يعود ويخطب الخطبة الثانية، ثم يكبر سبعاً، وينزل، وكذلك يفعل في عيد الأضحى، إلاَّ أنَّه يفصل في خطبة الأضحى بين كلامه بأن يقول: "الله أكبر، الله أكبر، لا إله إلاَّ الله، والله اكبر كبيراً، والحمد لله كثيراً على ما أعطانا، وأولانا، وأحل لنا من بهيمة الأنعام"، ثم يعود إلى الخطبة، يفعل ذلك ثلاث مرات، ويحث الناس على الذبائح، ويعرفهم ما يحتاجون إليه من جميع ذلك.
جميع ذلك منصوص عليه في (الأحكام)(1)، غير ما ذكرنا من الحث على الذبائح في خطبة الأضحى فإنه منصوص عليه في (المنتخب)(2).
قلنا: إنَّه يخطب بعد الصلاة؛ لما: روى أبو بكر بن أبي شيبة، عن عبدة بن سليمان، عن عبد الملك، عن عطاء، عن جابر، قال: شهدت رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يوم عيد، فبدأ بالصلاة قبل الخطبة.
وروي عن وكيع، عن سفيان، عن عبد الرحمن بن(3) عابس، عن ابن عباس أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم صلى بهم يوم عيد ـ عند دار قيس بن الصلت ـ فصلى قبل الخطبة.
__________
(1) انظر الأحكام 1/140 ـ 141.
(2) انظر المنتخب ص62.
(3) في (أ): بن أبي.
وروي ـ أيضاً ـ عن [ابن](1) إدريس، عن حصين، عن ميسرة بن(2) جميلة، قال: شهدت العيد مع علي عليه السلام، فلما صلى خطب الناس. (21/19)
وروى نحوه عن أبي بكر، وعمر، وعثمان، وابن عباس، وابن الزبير، وأنس.
وروى محمد بن منصور، عن إسماعيل بن موسى، عن شريك، عن أبي إسحاق، عن الحارث، عن علي عليه السلام، قال: الموعظة، والتذكير، والخطبة، في العيدين بعد الصلاة.
وقلنا : إنَّه يعلو راحلته، أو منبره لما: روى ابن أبي شيبة، عن وكيع، عن داود بن قيس، عن عياض، عن أبي سعيد، أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم خطب يوم عيد على راحلته.
وروي عن أبي بكر بن عياش، عن يزيد، عن عبد الرحمن بن أبي ليلى، قال: صلى بنا علي عليه السلام العيد، ثم خطب على راحلته.
وقلنا: إنَّه يكبر قبل الخطبة تسعاً، وبعدها سبعاً؛ لما: رواه ابن أبي شيبة، عن وكيع، عن سفيان، عن عبد الرحمن بن محمد القارئ، عن عبيد الله بن عبد الله بن عتبة، قال: من السنة أن يكبر الإمام على المنبر في العيدين تسعاً قبل الخطبة، وسبعاً بعدها.
ورَوى، عن أبي داود، عن الحسن بن أبي الحسناء(3)، عن الحسن، قال: يكبر على المنبر يوم العيدين أربع عشرة تكبيرة.
واستحب تكرير التكبير في خطبة الأضحى؛ لأن التكبير في عيد(4) الأضحى أوكد منه في عيد الفطر.
واستحب أن يذكر في خطبة الفطر زكاة الفطر، وفي خطبة الأضحى الأضاحي؛ لمساس الحاجة إلى العلم بها وبأحوالها في هذين اليومين.
مسألة [ولا أذان ولا إقامة في صلاة العيدين]
وليس لصلاة العيدين أذان، ولا إقامة.
وهذا منصوص عليه في (الأحكام)(5).
__________
(1) سقط من (أ).
(2) في (ب): أبو.
(3) في (أ): الحسن.
(4) في (أ): خطبة.
(5) انظر الأحكام 1/141.
وذلك لما: رواه محمد بن منصور، عن محمد بن إسماعيل، عن ابن فضيل، عن غالب، عن عطاء، عن ابن عباس، قال: "خرج النبي صلى الله عليه وآله وسلم يوم العيد، فصلى بغير أذان، ولا إقامة، ثم خطب الناس خطبتين، وجلس بين الخطبتين، وكانت صلاته قبل الخطبة". (21/20)
وروى ابن أبي شيبة، عن أبي الأحوص، عن سماك، عن جابر بن سمرة قال: "صليت مع النبي صلى الله عليه وآله وسلم العيدين(1) غير مرة، ولا مرتين بغير أذان، ولا إقامة".
ورَوى ـ أيضاً ـ عن وكيع، عن ابن أبي ليلى، عن عطاء، عن جابر، "أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم صلى يوم العيد بغير أذان، ولا إقامة".
مسألة [في صلاة ركعتين قبل صلاة العيد]
قال: ويستحب لمن صلى صلاة العيدين أن يصلي قبلهما ركعتين بلا تكبير.
وهذا منصوص عليه في (المنتخب)(2)، ومعنى قولنا: بلا تكبير، زائد.
ووجهه أنَّه وقت يستحب فيه الذكر والدعاء والتقرب إلى الله سبحانه، وهو وقت لا يُختلف في جواز الصلاة فيه، فاستحب أن يتنفل فيه بركعتين.
وروى ابن أبي شيبة، عن معاذ بن معاذ، عن التيمي، أنَّه رأى أنساً، والحسن، وسعيد بن أبي الحسن، وجابر بن زيد يصلون قبل الإمام في العيدين. ولم يُروَ عن أحد من الصحابة خلافه.
مسألة [في كيفية صلاة العيدين فرادى]
ومن صلى العيدين وحده، صلاهما على ما بينا [ركعتين](3) بالتكبيرات.
وهذا منصوص عليه في (المنتخب)(4).
وقلنا : إن المنفرد يصلي صلاة العيدين؛ لأنها صلاة ندب إليها، فالمنفرد كالمجتمع.
__________
(1) في (أ) و(ب): العيد.
(2) انظر المنتخب ص62.
(3) سقط من (أ).
(4) انظر المنتخب ص62.
وقلنا: إنَّه يصليهما ركعتين بالتكبيرات؛ لأن هذه صفة صلاة العيدين، ولا وجه لمن شبهها بالجمعة، وقال: إن المنفرد يصلي أربعاً؛ لأن الجمعة كانت في الأصل ظهراً، وكانت أربعاً، وإنما ردت إلى ركعتين بشرائط، فإذا عدمت تلك الشرائط رجعت إلى الأصل، وليس صلاة العيدين كذلك؛ لأنها في الأصل ركعتان بالتكبيرات، فلا وجه بأن تجعل أربعاً، وسبيلها سبيل صلاة الجنائز(1) في أن المنفرد فيها كالمجتمع، والمعنى أن كل واحدة(2) منهما أصل برأسها. (21/21)
مسألة [في صفة تكبير التشريق، ووقته]
وتكبير التشريق من صلاة الفجر يوم عرفة إلى صلاة العصر من آخر أيام التشريق، دبر ثلاث وعشرين صلاة، يقول: (( الله أكبر، الله أكبر، لا إله إلاَّ الله، والله أكبر، الله أكبر ولله الحمد، والحمد لله على ما هدانا وأولانا وأحل لنا من بهيمة الأنعام )).
هذا الذي ذكره في (المنتخب)(3).
وقال في (الأحكام)(4) يقول: (الله أكبر، الله أكبر، لا إله إلاَّ الله، والله أكبر كبيراً، والحمد لله كثيراً، وسبحان الله بكرة وأصيلاً).
وعدد الصلوات التي يكبر بعدها منصوص عليه في (الأحكام) و(المنتخب)(5) جميعاً.
والوجه فيه: أنَّه قول علي عليه السلام: أخبرنا به محمد بن عثمان النقاش، قال: حدثنا الناصر /227/ للحق عليه السلام، قال: حدثنا محمد بن منصور، عن عباد(6)، عن علي بن عاصم، عن مطرف، عن أبي إسحاق، عن علي عليه السلام، أنَّه كان يكبر غداة عرفة إلى صلاة العصر من آخر أيام التشريق.
ولا أعرف الخلاف فيه عن علي عليه السلام، ومذهبنا أنَّه إذا صح عنه، وجب أتباعه.
__________
(1) في (أ): الجنازة.
(2) في (أ): واحد.
(3) انظر المنتخب ص60 ولكنه ذكره إلى قوله: ولله الحمد ثم قال: فإذا زاد، ذُكر الباقي، فهذا أحب إلينا.
(4) الأحكام 1/145.
(5) انظر الأحكام 1/145. والمنتخب ص60.
(6) في (أ): عباده.
على أن محمد بن منصور، روى عن أحمد بن عيسى، عن حسين، عن أبي خالد، عن زيد بن علي، عن آبائه، عن علي عليهم السلام، قال: لما بعثني رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم إلى مكة، قال لي: (( يا علي، كبر في دبر [كل صلاة من](1) صلاة الفجر يوم عرفة إلى آخر أيام التشريق من صلاة العصر )). (21/22)
فإن قيل: قول الله تعالى: {فَإِذَا قَضَيْتُمْ مَنَاسِكَكُمْ فَاذْكُرُوا اللهَ كَذِكْرِكُمْ آبَاءَكُمْ أَوْ أَشَدّ ذِكْراً}[البقرة:200]، يدل على أن الابتداء به من صلاة الظهر يوم النحر؛ لأن قضاء المناسك يكون برمي جمرة العقبة، وأول صلاة بعدها هي الظهر يوم النحر.
قيل له : الآية لا تدل على أن ابتداء الذكر هو بعد قضاء المناسك، وإنما تدل على وجوب الذكر بعده، ونحن لا نخالف في أن الذكر بعده واجب، وقد يفعل الذكر على سبيل(2) الاستمرار، وقد يفعل على سبيل الابتداء، والآية تضمنت فعله فقط، على أنَّه قد قيل: إن الأيام المعلومات هي العشر، وقد قال الله تعالى: {وَيَذْكُرُوا اسْمَ اللهِ فِيْ أَيَّامٍ مَعْلُومَاتٍ عَلَى مَا رَزَقَهُمْ مِنْ بَهِيْمَةِ الأَنْعَامِ}[الحج:28]، فاقتضى الظاهر فعل(3) التكبير في جميع الأيام العشر، فلما أجمعوا على أن ما قبل صلاة الفجر من يوم عرفة أنه(4) لا تكبير فيه [خصصناه، وقلنا إنَّه يبتدئ به من صلاة الفجر يوم عرفة بحكم الظاهر](5)، وقال الله تعالى: {وَاذْكُرُوا اللهَ فِيْ أَيَّامٍ مَعْدُوْدَاتٍ}[البقرة:203]، وقيل في التفسير: إنها أيام منى، فدل ذلك على أن التكبير أيام منى، وهو الذي نذهب إليه.
على أن التكبير هو القربة، ومذهبنا هو أكثر ما قيل فيه، فهو الأولى، وهو الاحتياط ـ أيضاً ـ فهو الأولى.
__________
(1) سقط ما بين المعكوفين من (أ).
(2) في (أ): طريق.
(3) في (أ): في فعل.
(4) سقط من (أ) و(ب): أنه.
(5) بقي ما بعد صلاة الفجر من يوم عرفة بحكم الظاهر. هذا في (أ) و(ب)، وما بين المعكوفين بدلاً عنه في (ج).
والاختيار أن يكبر باللفظ الذي ذكره في (المنتخب)؛ لأنَّه اللفظ الأشهر عن السلف. (21/23)
وروى ابن أبي شيبة، عن يزيد بن هارون، قال: حدثنا شريك قال: قلت لأبي إسحاق: كيف كان يكبر علي عليه السلام، وعبد الله؟ قال: كانا يقولان: (( الله أكبر، الله أكبر، لا إله إلاَّ الله، والله أكبر، ولله الحمد )).
وقال الله تعالى: {وَيَذْكُرُوا اسْمَ اللهِ فِيْ أَيَّامٍ مَعْلُومَاتٍ}[الحج:28]، وقال: {وَلِتُكَبِّرُوا اللهَ عَلَى مَا هَدَاكُمْ}[البقرة:185]، فاخترنا أن نقول عقيب هذا التكبير: والحمد لله على ما هدانا وأولانا وأحل لنا من بهيمة الأنعام؛ لموافقة لفظ الكتاب.
وروى عن عكرمة، عن ابن عباس رحمه الله أنه كان يقول: (( الله اكبر كبيراً ))، وهو وجه ما ذكره في (الأحكام).
مسألة [والتكبير عقب الفرائض والنوافل]
قال: ويكبر دبر كل صلاة فريضة، أو نافلة، ويكبر في يوم الفطر حين يخرج الإمام إلى أن يبتدئ الخطبة.
وذلك منصوص عليه في (الأحكام)(1).
ووجه ما ذهبنا إليه من أنَّه يكبر دبر كل صلاة فريضة، أو نافلة هو أن جميع ما استدللنا به على التكبير لم يخص فرضاً من نفل، فوجب أن يكبر دبر كل صلاة فرض، أو نفل.
وروى محمد بن منصور بإسناده، عن أبي الجارود، قال: سمعت أبا جعفر عليه السلام يقول: كبر /228/ أيام التشريق دبر كل صلاة.
ولا خلاف أن المقيم إذا صلى في مصر مكتوبة في الجماعة أنَّه يكبر بعدها، فنقيس عليه سائر من صلى فرضاً، أو نفلاً، على أي حال كان؛ بعلة أنَّه صلى في أيام التشريق، فعليه أن يكبر بعدها.
وقلنا: إنَّه يكبر يوم الفطر حين يخرج الإمام إلى أن يبتدئ الخطبة؛ لما: رواه ابن أبي شيبة، عن يزيد بن هارون، عن ابن أبي ذئب، عن الزهري، عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم، أنَّه كان يخرج يوم الفطر، فيكبر حتى يأتي المصلى، وحتى يقضي الصلاة، فإذا قضى الصلاة قطع التكبير.
__________
(1) انظر الأحكام 1/145.
وروى محمد بن منصور، عن أحمد بن عيسى، عن حسين، عن أبي خالد، عن زيد بن علي عليهم السلام، أنَّه خرج يوم الفطر، ونحن نكبر معه. (21/24)
فإن قيل: هلاّ قلتم: إنَّه يكبر ليلة الفطر؛ لقول الله تعالى: {وَلِتُكْمِلُوا الْعِدَّةَ وَلِتُكَبِّروا اللهَ عَلَى مَا هَدَاكُمْ}[البقرة:185]؟
قيل له: الآية لم تقتض الأمر بالتكبير في وقت دون وقت، وإنما اقتضت الأمر مطلقاً، ففي أي وقت فعل، امتثل الأمر، وفعل النبي صلى الله عليه وآله وسلم بيان للمراد بالآية، فصح ما ذهبنا إليه.
كتاب الجنائز (22/1)
باب القول في توجيه الميت
(أحسن التوجيه أن يلقى الميت عند موته، وعند غسله على ظهره، ويستقبل بوجهه القبلة، وتُصَفُّ قدماه مستقبل القبلة ليعتدل وجهه، مستقبلاً لها بكليته).
وهذا منصوص عليه في (الأحكام)(1).
وذلك لما رواه زيد بن علي، عن أبيه، عن جده، عن علي عليهم السلام، قال: دخل رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم على رجل من ولد عبد المطلب، وهو يجود بنفسه، وقد وجهوه إلى غير القبلة، فقال: (( وجهوه للقبلة )).
فلما أمر صلى الله عليه وآله وسلم بذلك في من يجود بنفسه، استحببنا أن نفعل ذلك في الميت؛ ولأنه قد أخذ علينا أن نجعل للميت كثيراً من الهيئات التي تجب على الحي، أو تُستحب له إذا أراد الصلاة، نحو الغسل، والتوصية، وتطهير الكفن، وستر العورة، فكان الاستقبال كذلك.
مسألة [في حكم الصياح واللطم ونحوذلك]
(ولا يحل الصياح عليه، ولا لطم الوجه، ولا خمشه، ولا شق الجيب).
وهذا كله منصوص عليه في (الأحكام)(2).
واستدل بما روي عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم أنَّه قال: (( صوتان ملعونان فاجران في الدنيا والآخرة: صوت رنة عند مصيبة، وشق جيب، وخمش وجه، ورنة شيطان، وصوت عند نعمة، صوت لهو، ومزامير الشيطان(3) ))).
وروى زيد بن علي، عن أبيه، عن جده، عن علي عليهم السلام، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: (( ليس منا من حلق، ولا من سلق، ولا من خرق، ولا من دعا بالويل والثبور )). قال زيد بن علي عليه السلام: الحلق: حلق الشعر، والسلق: الصياح، والخرق: خرق الجيب.
وروى ـ أيضاً ـ عن أبيه، عن جده، عن علي عليهم السلام أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم نهى عن النوح.
__________
(1) انظر الأحكام 1/150.
(2) انظر الأحكام 1/150.
(3) في الأحكام: ومزامير شيطان.
وأخبرنا /232/ أبو بكر المقري، قال: حدثنا الطحاوي، قال: حدثنا ابن أبي داود، قال: حدثنا أحمد بن عبد الله، قال: حدثنا يونس، قال: حدثنا إسرائيل، عن محمد بن عبد الرحمن، عن عطاء، عن جابر بن عبد الله، عن عبد الرحمن بن عوف قال: (( أخذ النبي صلى الله عليه وآله وسلم بيدي، فانطلقت معه إلى ابنه إبراهيم، وهو يجود بنفسه، فأخذه صلى الله عليه وآله وسلم حتى خرجت نفسه، فوضعه، ثم بكى، فقلت يا رسول الله، أتبكي، وأنت تنهى عن البكاء؟! فقال: (( إني لم أنهَ عن البكاء، ولكني نهيت عن صوتين أحمقين فاجرين، صوت عند نعمة: لهو ولعب ومزامير شيطان، وصوت عند مصيبة، لطم وجوه، وشق جيوب، وهذا رحمة، ومن لم يَرحم لا يُرحم )). (22/2)
مسألة [في تعجيل الدفن]
قال: ولا ينبغي لمن مات في أول النهار أن يبيت إلاَّ في قبره، ومن مات في أول الليل، أحببنا أن لا يصبح إلاَّ في قبره، إلاَّ أن يكون غريقاً، أو صاحب هدم، أو مبرسَماً، فإنهم يجب التأني بهم.
وهذا منصوص عليه في (الأحكام)(1).
والوجه فيه: أنَّه يستحب تعجيل دفن الميت؛ لما روي عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم : (( اسرعوا بجنائزكم )).
وروى محمد بن منصور بإسناده، عن ابن عمر، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: (( من مات بالغداة(2)، فلا يبيتن إلاَّ في قبره، ومن مات بالعشي، فلا يصبحن إلا في قبره )).
ولأنه لا يؤمن أن يتغير حال الميت إذا أخر دفنه، واستثنى الغريق، وصاحب الهدم، والمبرسم؛ لأن هؤلاء ربما يلحقهم من الغشى ما تشبه معه أحوالهم أحوال الموتى، فلذلك قلنا:إنه يتأنى بهم.
مسألة [في المرأة تموت وفي بطنها ولد]
قال: وإذا ماتت المراة الحامل وفي بطنها ولد يتحرك، شق بطنها، واستخرج ولدها، ثم يفعل بها ما يفعل بسائر الموتى من الغسل وغيره.
وهذا منصوص عليه في (الأحكام)(3).
__________
(1) انظر الأحكام 1/150 ـ151.
(2) في (أ): في الغداة.
(3) انظر الأحكام 1/166.
ووجهه أنا لو لم نفعل ذلك، كنا قد اتلفنا الصبي، ولا ضرر على الميت من شق بطنه، فإذا لم يكن عليه ضرر، وأمكن أن تخلص نفس الصبي، وجب أن نفعله. (22/3)
باب القول في غسل الميت (23/1)
[مسألة: في من يغسل من الناس ومن لا يغسل]
يجب على المسلمين غسل من مات منهم، وكذلك الكافر إذا شهد شهادة الحق قبل أن يموت، إلاَّ أن يكون شهيداً مات في المعركة، فإنه يدفن بثيابه، ولا يغسل، إلاَّ أن يكون خفاً، أو منطقة، أو فرواً فإنه يقلع عنه، وكذلك السراويل إلاَّ أن يصيبه دم، وإن حول من المعركة، وفيه شيء من الرمق، فعل به ما يفعل بسائر الموتى، ويصلى عليه في الحالتين(1).
وهذا(2) منصوص عليه في (الأحكام)(3).
لا خلاف في وجوب غسل المسلمين إذا ماتوا، وكذا الكافر إذا شهد شهادة الحق؛ لأنَّه يصير بتلك الشهادة مسلماً.
وأما الشهيد إذا مات في المعركة، فلا خلاف في أنَّه لا يغسل، إلاَّ قول شاذ يحكى عن بعض المتقدمين، وإلا ما ذهب إليه أبو حنيفة من أنَّه يغسل إذا قتل جنباً. ويحيى بن الحسين عليه السلام أطلق القول فيه، فاقتضى ظاهره أنه لا يغسل سواء كان جنباً، أو غير جنب.
والأصل فيه ما روي عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم أنَّه قال: (( زملوهم بثيابهم ودمائهم، فإنه ليس من كلم(4) في سبيل الله، إلاَّ يأتي يوم القيامة بدم(5) لونه لون الدم، وريحه ريح المسك )).
وروى زيد بن علي، عن أبيه، عن جده، عن علي /233/ عليهم السلام، قال: لما كان يوم بدر (6) أصيبوا، فذهبت رؤس عامتهم، فصلى عليهم رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ولم يغسلهم، وقال(7): (( انزعوا عنهم الفراء )).
وروى أبو بكر الجصاص بإسناده، عن سعيد بن جبير، عن ابن عباس، قال: أمر رسول الله صلى اللّه عليه وآله وسلم بقتلى أحد أن ينزعوا عنهم الحديد والجلود، وأن يدفنوا بدمائهم وثيابهم.
__________
(1) في (أ) و(ب): الحالين.
(2) في (أ): وهذا كله.
(3) انظر الأحكام 1/152، 153، 160.
(4) في (أ): ليس كَلْم كُلِمَ.
(5) في نسخة: يدمي.
(6) في مجموع الإمام زيد بن علي وفي شرح القاضي زيد وأصول الأحكام: يوم احد. وسيأتي أنه: يوم أحد.
(7) في (أ): فقال.
وروى زيد بن علي، عن أبيه، عن جده، عن علي عليهم السلام قال: ينزع عن الشهيد الخف، والمنطقة، والقلنسوة، والعمامة، والفرو، والسراويل، إلاَّ أن يكون أصابه دم، فإن كان أصابه دم، ترك. (23/2)
والأصل فيما ينزع عنه أن ما لا يصلح أن يكفن به، ينزع عنه، وما يصلح أن يكفن به، لا ينزع عنه، والسراويل هو من جنس ما يجوز أن يكفن به، فلذلك(1) قلنا: إنَّه يترك إن أصابه دم، وينزع عنه إن لم يصبه دم.
وقلنا : إنَّه يغسل إن رفع من المعركة حيّاً؛ لأن الأصل في الأموات الغسل.
وقلنا: إنه لا يغسل من قتل في المعركة؛ للأثر الوارد فيه.
وقلنا: إنه يغسل من رفع حيّاً رجوعاً إلى أصل الحكم في الأموات. ولم نفصل في ذلك بين أن يكون الشهيد قتل جنباً، أو غير جنب؛ لعموم قوله صلى الله عليه وآله وسلم : (( زملوهم بدمائهم ))، ولأنه لما أمر بقتلى أحد، وبدر أن يدفنوا بدمائهم وثيابهم لم يميز من قتل جنباً أو غير جنب؛ ولأن الجنب مقيس على من ليس بجنب؛ بعلة أنَّه قتل في المعركة، فوجب أن لا يغسل.
فإن قيل: روي في حنظلة لما استشهد أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال: (( إن صاحبكم غسلته الملائكة )).
قيل له: لا يدل على وجوب غسله علينا؛ لأن الملائكة عليهم السلام إذا فعلت فعلاً من الأفعال، لا يكون فيه دلالة على وجوب ذلك الفعل علينا.
فإن قيل: أن الجنب كان الغسل واجباً عليه، والقتل لا يسقطه.
قيل له: سقوط وجوبه عن القتيل كسقوط سائر الواجبات لا إشكال فيه، وليس ذلك موضع الخلاف، وإنما الخلاف في وجوب غسله علينا، وذلك مما لم يثبت، فيقال: إن القتل أسقطه، أو لم يسقطه.
وقلنا : إنَّه يصلى على الشهيد في الأحوال كلها لِحديث زيد بن علي عن أبيه، عن جده، عن علي عليهم السلام أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم صلى على قتلى بدر، ولم يغسلهم.
__________
(1) في (ب): فكذلك.
وأخبرنا أبو بكر المقري، قال: حدثنا الطحاوي، قال: حدثنا إبراهيم بن أبي داود، عن محمد بن عبد الله بن نمير، قال: أخبرنا أبو بكر بن عياش، عن يزيد بن أبي زياد، عن مِقْسَم، عن ابن عباس قال: أمر النبي صلى الله عليه وآله وسلم يوم أحد بالقتلى، فجعل يصلي عليهم، فيوضع تسعة وحمزة فيكبر عليهم سبع تكبيرات، ثم يرفعون ويترك حمزة، فجاؤا بتسعة فكبر عليهم سبعاً سبعاً حتى فرغ منهم(1). (23/3)
وأخبرنا أبو بكر المقرئ، قال: حدثنا الطحاوي، قال: حدثنا فهد، قال: حدثنا يوسف بن بهلول، قال: حدثنا عبد الله بن إدريس، عن أبي إسحاق، قال: حدثنا يحيى بن عباد بن عبد الله بن الزبير، عن أبيه، عن عبد الله بن الزبير أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أمر يوم أحد بحمزة عليه السلام فسجي ببرده، ثم صلى عليه فكبر عليه بتسع(2) تكبيرات، ثم أتي بالقتلى يوضعون، فيصلي عليهم وعليه معهم(3).
وروي مثل ذلك /234/ عن أبي مالك الغفاري(4).
وروي عن عقبة بن عامر أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم صلى على قتلى أحد بعد مقتلهم بثمان سنين.
وفي بعض الأخبار عن عقبة أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم خرج يوماً فصلى على أهل أحد صلاته على الميت.
وروى شداد بن الهاد: أن أعرابياً بايع النبي صلى الله عليه وآله وسلم، فقتل بين يديه، فكفنه في جبة نفسه، ثم قدمه، فصلى(5) عليه.
فكل ذلك يدل على صحة ما ذهبنا إليه من أن الشهيد يصلى عليه.
فإن قيل: روي عن أنس أن شهداء أحد لم يغسلوا، ودفنوا بدمائهم، ولم يصل عليهم.
__________
(1) أخرجه الطحاوي في شرح معاني الآثار 1/503.
(2) في نسخة: بسبع.
(3) أخرجه الطحاوي في شرح معاني الآثار 1/503، إلا أن فيه: ابن إسحاق، وفيه: حدثنا يحيى بن عباد بن عبد الله بن الزبير، عن أبيه (يعني عن عبد الله بن الزبير).
(4) أخرجه في نفس الصفحة.
(5) في (أ): وصلى.
وروي عن جابر أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم أمره بدفن قتلى أحد بدمائهم، ولم يصل عليهم، ولم يغسلوا. (23/4)
قيل له: إذا تعارض الخبران، كان المثبت أولى، على أنَّه يحتمل أن يكون النبي صلى الله عليه وآله وسلم لم يصل على جميعهم بنفسه مما أصابه من جرح الوجه، وكسر الرباعية، وأمر بالصلاة عليهم غيره، فقد روي في ذلك أن عليّاً عليه السلام حين أصاب النبي صلى الله عليه وآله وسلم ما أصاب في وجهه ورباعيته، كان يصب الماء عليه، وأن فاطمة عليها السلام تغسله، وكان الماء لا يزيد الدم إلاَّ كثرة، حتى أخذت قطعة حصير، فأحرقتها وألصقتها على جرحه، فاستمسك الدم.
ويجوز أن يكون من روى ذلك لم يشاهد حال الصلاة، وظن أنهم كما لم يغسلوا، لم يُصلَّ عليهم.
على أن أنساً روي عنه ما أخبرنا به أبو بكر المقرئ، قال: حدثنا الطحاوي، قال: حدثنا ابن مرزوق، قال: حدثنا عثمان بن فارس، قال: أخبرنا أسامة، عن الزهري، عن أنس، أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم مرَّ يوم أحد بحمزة، وقد جرح(1)، ومثِّلَ به، فقال: (( لولا أن تجزع صفية، لتركته حتى يحشره الله من بطون السباع والطير ))، وكفنه في نمرة إذا خمر رأسه، بدت رجلاه، وإذا خمر رجليه، بدا رأسه، ولم يصل على أحد من الشهداء غيره، وقال: (( أنا شهيد عليكم اليوم ))(2). ففي هذا أنَّه صلى الله عليه وآله وسلم صلى على حمزة.
وأيضاً هو مقيس على سائر المسلمين؛ بعلة أنَّه ثابت الولاية، فوجب أن يصلى عليه، وهذه علة صحيحة؛ لأنا وجدنا من زالت ولايته بالكفر عند الجميع، وبالفسق عندنا، لم يصل عليه، وإذا عادت ولايته، صُلِّي عليه، فعلمنا أن من كان ثابت الولايه تجب الصلاة عليه، والشهادة تؤكد الولاية.
__________
(1) في نسخة: جُدِعَ.
(2) أخرجه الطحاوي في شرح معاني الآثار 1/502، 503، إلا أن فيه عثمان بن عمر بن فارس، وفيه: (( أنا شهيد عليكم يوم القيامة )).
فإن قاسوا الصلاة على الغسل، كان قياسنا أولى؛ لأن سقوط الغسل ورد بخلاف الأصول؛ لأن الأصل في أموات المسلمين الغسل، ونحن نقيس(1) الصلاة على الشهيد على الصلاة على سائر المسلمين، فصار أصلنا أولى، على أن قياس الصلاة على الصلاة أولى من قياس الصلاة على الغسل، وقياسنا يثبت شرعاً، فهو أولى. (23/5)
مسألة [في غسل السقط]
والصبي إذا مات قبل أن يستهل، لم يغسل، ولم يصل عليه، وإن استهل قبل أن يموت، فعل به ذلك.
وهذا منصوص عليه في (الأحكام)(2)، ومروي فيه عن القاسم عليه السلام.
وقلنا: إن الصبي إذا سقط ميتاً، وأمارة ذلك أن لا يستهل، لا يغسل، ولا يصلى عليه؛ لأنه ليس له في نفسه حكم الإنسان، ألا ترى أنَّه لا يرث، ولا يحجِب، ولا يجب فيه دية الإنسان، فجرى مجرى عضو منها لو بان في أنَّه لا يجب أن يغسل، ولا يصلى عليه، وإنما يوارى.
فإن قيل: إنَّه يجب فيه الغُرَّة.
قلنا له: ذلك أحد ما دلنا(3) على أن حكمه حكم العضو؛ لأنَّه لوكان له في نفسه /235/ حكم الإنسان، لوجب فيه الدية كاملة، والأعضاء فيها ديات، وإن كان فيها ما ديته دون دية النفس.
وقلنا: إنَّه إن استهل غسل، وصلى عليه؛ لما أخبرنا به أبو بكر المقري، قال: حدثنا الطحاوي، قال حدثنا أبو أمية، قال: حدثنا أبو نعيم، قال: حدثنا عبد السلام، عن ليث، عن عاصم، عن البراء، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: (( أحق ما صليتم على(4) أطفالكم ))(5).
__________
(1) في (أ) و(ب): قسنا.
(2) انظر الأحكام 1/153.
(3) في (أ): دللنا.
(4) في نسخة: عليه.
(5) أخرجه الطحاوي في شرح معاني الآثار 1/508، وفيه: (عامر)، بدل: (عاصم).
وأخبرنا أبو بكر المقري، قال: حدثنا الطحاوي، قال: حدثنا ابن مرزوق، قال: حدثنا أبو عامر، عن سفيان، عن جابر، قال: مات إبراهيم بن النبي صلى الله عليه وآله وسلم وهو ابن ستة عشر شهراً، فصلى عليه النبي صلى الله عليه وآله وسلم(1). (23/6)
وروى أبو جعفر بإسناده، عن المغيرة، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: (( الطفل يصلى عليه ))(2).
فإن قيل: روي عن عائشة أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم دفن ابنه إبراهيم عليه السلام، ولم يصل عليه.
قيل له: يحتمل أن يكون لم يتول الصلاة عليه بنفسه؛ لإشتغاله بصلاة الكسوف، فقد روي أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم خشي أن يكون ذلك من أشراط الساعة، وعجل إلى المسجد، والصلاة، ويكون ما روي عنه أنَّه صلى الله عليه وآله وسلم صلى عليه، بمعنى أنَّه أمر بالصلاة عليه، كما روي أنَّه رجم ماعزاً، أي أمر برجمه.
وروى أبو جعفر بإسناده عن عطاء، عن جابر، قال: إذا استهل الصبي، ورث، وصُلِّي عليه(3).
مسألة [في المحترق والغريق، كيف يغسلا؟]
قال: والمحترق بالنار يصب عليه الماء إن خشي أن يتقطع، وإن لم يخش، غسل، وكذلك الغريق.
وهذا منصوص عليه في (الأحكام)(4).
والأصل في هذا أن الميت يجب أن يصان ويكرم، فيجب أن يوقى ما يؤدي إلى تمزيق جلده وتقطيعه إلى أن يدفن، ألا ترى أنَّه يستر، ويكفن، ويستعمل له فيه(5) الطيب.
مسألة [في غسل الزوج زوجته والعكس والمحرم محرمه]
__________
(1) أخرجه الطحاوي في شرح معاني الآثار 1/508، وفيه: عن جابر، عن الشعبي.
(2) أخرجه الطحاي في شرح معاني الآثار 1/508.
(3) أخرجه الطحاوي في شرح معاني الآثار 1/509.
(4) انظر الأحكام 1/153.
(5) في (أ): ما فيه.
قال: ولا بأس أن يغسل الرجل زوجته، والمرأة زوجها، ويتقيان النظر إلى العورة، وكذلك إن مات الرجل بين النساء، أو ماتت المرأة بين الرجال، وكان مع الميت محرم، أزره، وسكب عليه الماء سكباً، وغسل بدنه بيديه، ولم يمس العورة، ولم يدن منها، ويسكب الماء عليها سكباً، وإن لم يكن معه محرم، يُمم، إلاَّ أن يكون الماء ينقيه بالسكب فإنه يسكب عليه، ولا يكشف شيء من بدنه وشعره. (23/7)
قال: وقال القاسم عليه السلام: والنساء يَغسلن الغلام الذي لم يحتلم إذا لم يكن معهن رجل.
جميع ذلك منصوص عليه في (الأحكام)(1)، إلاَّ ما حكيناه عن القاسم عليه السلام فإنه منصوص عليه في (مسائل النيروسي).
أما غسل المرأة زوجها، فمما لا أعرف فيه خلافاً بين الفقهاء، وقد روي أن أسماء بنت عميس غسلت زوجها أبا بكر، ولم ينكر ذلك أحد من الصحابة، فجرى مجرى الإجماع منهم.
وروي عن عائشة أنها قالت: لو استقبلت من أمري ما استدبرت لما(2) غسل رسول الله صلى اللّه عليه وآله وسلم غير نساءه، ولم ينكر ذلك القول عليها أحد، فجرى أيضاً مجرى الإجماع.
وأما غسل الرجل امرأته إذا ماتت، فالذي يدل على جوازه ما روي أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم دخل على عائشة وهي تقول: وارأساه، فقال صلى الله عليه وآله وسلم: (( لا عليك، لو مت قبلي، لغسلتك، وكفنتك، وحنطتك /236/، ودفنتك )). فدل الخبر على أنَّه كان يغسلها بعد الموت.
فإن قيل: قوله صلى الله عليه وآله وسلم: (( لو مت قبلي، لغسلتك ))، هو شرط، والإخبار هو مقدار قوله: (( لا عليك )) والشرط يجوز أن يكون صحيحاً، وأن يكون غير صحيح، ألا ترى أنَّه ليس يمتنع أن يقول: لا عليك، لو أحل الله الخمر، فشربتها(3)، وإن كان الخمر مما لا يحل، ويأثم شاربها؟
__________
(1) انظر الأحكام 1/151 ـ 152.
(2) في (أ): ما.
(3) في (أ): لشربتها.
قيل له: هذا وإن كان كذلك، فإن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قصد بهذا القول تسليتها، ولا يجوز أن يسليها بما لا يجوز أن يكون مراده صلى الله عليه وآله وسلم؛ لأن ذلك يجري مجرى التغرير، والنبي صلى الله عليه وآله وسلم منزه عن ذلك. (23/8)
فإن قيل: يحتمل أن يكون مراده بقوله: (( لغسلتك ))، أي(1) أمرت بغسلك، وكما روي أنَّه رجم ماعزاً، أي أمر برجمه؟
قيل له: نحن قد بينا أن هذا القول منه صلى الله عليه وآله وسلم تسلية منه لها وتخفيف لأمر الموت عليها، ولو كان المراد به الأمر بغسلها لم يحصل هذا المعنى؛ لأن أمر النبي صلى الله عليه وآله وسلم بالغسل قد حصل لكل مسلم، وكذلك أمر الله تعالى، وعائشة لم يكن يخفَ عليها ذلك، فصح أن المراد بذلك هو أنَّه كان يتولى الغسل بنفسه، وذلك يصحح ما نذهب إليه.
فإن قيل: روي أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم، قال لعائشة: (( إن جبريل عليه السلام أخبرني أنك زوجتي في الجنة ))، فيجوز أن يكون قال لها ذلك لعلمه أن ما بينهما في الدنيا لا ينقطع بينهما في الآخرة.
قيل له: كونها زوجة له في الجنة لا يغير شيئاً من أحكام الدنيا، فلا وجه للإعتبار به.
ويدل على ذلك ما روي أن أمير المؤمنين غسل فاطمة عليهما السلام، وفيه وجهان من الدلالة، أحدهما: أن فعله عندنا حجة. الثاني(2): أن أحداً من الصحابة لم ينكر عليه، فجرى مجرى الإجماع منهم.
فإن قيل: إن ذلك جائز له؛ لأن السبب الذي كان بينهما لم ينقطع؛ لقول النبي صلى الله عليه وآله وسلم: (( كل سبب ونسب منقطع يوم القيامة، إلاَّ سببي ونسبي )).
__________
(1) سقط من (أ): أي.
(2) في (ب): والثاني.
قيل له: هذا ـ أيضاً ـ لا تأثير له في أحكام الدنيا، ألا ترى أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم زوج ابنتيه من عثمان واحدة بعد واحدة، فلو كان لما ذكرتم تأثير في أحكام الدنيا، لكان عثمان في حكم من جمع بين الأختين، فبان بما ذكرناه سقوط ما سألوا عنه، وكذلك(1) لو كان لما ذكروا تأثير، لوجب أن يجوِّز الأولاد النبي صلى الله عليه وآله وسلم غسل نسائهم إذا متن، وبمثله يسقط قول من قال: إن ذلك ساغ لعلي عليه السلام؛ لأن فاطمة صلوات الله عليها كانت زوجته في الدنيا والآخرة. (23/9)
فإن قيل: روي عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم، أنَّه قال: (( لا ينظر الله عزَّ وجل إلى رجل نظر إلى فرج امرأة، وابنتها ))، ولا خلاف أن للرجل أن يتزوج بابنت امرأته إذا لم يكن دخل بها، فلو جوزنا له غسلها إذا ماتت، وتزوج بابنتها، لأدى إلى أن ينظر إلى فرج امرأة، وابنتها /237/، فلما لم يجز ذلك، علمنا أنَّه لا يجوز له غسلها.
قيل له: المراد بذلك أن ينظر إلى فرج امرأة وابنتها على وجه يحرم، فإذا ثبت أن للرجل أن يغسل زوجته، ثبت أنَّه غير مراد بالخبر؛ إذ النظر غير محرم على هذا الوجه، على أنا نأمر الزوج أن يتوقى النظر إلى الفرج في حال الغسل؛ لأن النظر إلى الفرج إنما أبيح لمن أبيح له الاستمتاع، والمرأة إذا ماتت خرجت عن(2) أن يستمتع بها، فيكره للزوج أن ينظر إلى فرجها، وكذلك يكره للمرأة إن(3) غسلت زوجها أن تنظر إلى العورة.
ومما يدل على ذلك أنَّه لا خلاف في أن المرأة تغسل زوجها إذا مات، فكذلك الرجل يغسل زوجته إذا ماتت؛ والعلة أن جواز الاستمتاع كان بينهما قائماً بحكم الزوجية إلى أن طرأ الموت.
فإن قيل: إن المرأة جاز لها أن تغسل زوجها؛ لأنها تكون في عدة منه.
__________
(1) في (أ): فكذلك.
(2) سقط من (أ): عن.
(3) في (أ): إذا.
قيل له: لو كانت العلة في ذلك كونها في عدة منه، لجاز أن تغسله إذا مات، وهي في عدة منه من طلاق بائن، على أن المخالف لنا في هذه المسألة هو أبو حنيفة وأصحابه، وهم لا يقولون بالعلة المقتصرة، ومتى جعلوا العلة فيما ذكرناه كونها في عدة منه(1) كانت العلة مقتصرة لا تتعدى موضع الخلاف، على أن هذه العلة(2) لا تنافي علتنا، فلو سلمناها، وقلنا بالعلتين، لم يقدح في كلامنا. (23/10)
ويدل على ذلك أنَّه لا خلاف في أن الطلاق إذا وقع، كان حكم الرجل مع المرأة في جواز النظر حكم المرأة مع الرجل، فكذلك الموت إذا وقع، والمعنى أنَّه سبب يوجب الفرقة، فيجب أن يكون حكم الرجل مع المرأة في جواز النظر حكم المرأة مع الرجل.
فإذا ثبت ذلك، وثبت أن المرأة لها أن تنظر إلى زوجها إذا مات، وجب أن يجوز للرجل النظر إلى المرأة إذا ماتت، وذلك يجوز غسله لها.
ويمكننا أن نقيس موت المرأة على موت الرجل، فنقول: إن موت الرجل لما لم يقتض تحريم النظر، وجب أن لا يقتضيه موت المرأة، والمعنى أنَّه موت أحد الزوجين.
فإن قاسوا الموت على الطلاق، بأن يقولوا: وجدنا الطلاق الذي لا يوجب العدة يقتضي التحريم، وهو طلاق المرأة التي لم يدخل بها، فوجب أن يكون الموت الذي لا يقتضي العدة يوجب التحريم(3)، والمعنى أنَّه سبب يوجب الفرقة، فوجب أن يكون موت المرأة يقتضي التحريم، كانت قياساتنا أولى؛ لأنها تلزم الزوج شرعاً مجدداً؛ ولأنها مستندة إلى فعل أمير المؤمنين عليه السلام.
وليس لهم أن يرجحوا علتهم بالحظر؛ لأن الحظر يترجح على الإباحة، ولا يترجح على الإيجاب، وعلتنا تقتضي الإيجاب، وإن كان إيجاباً مخيراً فيه إذا حضر غير الزوج، على أنَّه قد يتضيق إذا لم يحضر غير الزوج.
__________
(1) سقط من (ج): المسألة.
(2) في (أ) و(ب): العلة.
(3) في (أ): الذي لا يوجب العدة يقتضي التحريم.
وقلنا: إن الرجل إذا مات بين النساء، ولا رجل معهن، أو ماتت المراة بين الرجال، ولا امرأة معهم، وكان للميت محرم، أزره، وسكب عليه الماء، وغسله، ولم يمس عورته؛ لأن المحرم له أن ينظر إلى المحرم، ويمسه فيما عدى العورة في حال الحياة، فوجب أن يكون الحال بعد الموت كذلك؛ قياساً على الصغير والصغيرة، في أن أحوالهما بعد الموت في ذلك /238/ كأحوالهما قبل ذلك. (23/11)
فإما إذا لم يكن للميت محرم، اقتصر على التيمم، إن كان سكب الماء لا يطهره؛ لأن الأجنبي ليس له أن ينظر إلى المرأة الأجنبية، ولا أن يمسها فلذلك قلنا: إنَّه ييمم.
وما حكيناه عن القاسم عليه السلام من أن النساء يغسلن الغلام الذي لم يحتلم، فالمراد به أن يكون الصبي ممن لم يبلغ إلى حد يجامع ويشتهي دون أن يكون قد راهق؛ لأنَّه لا خلاف أن النساء ليس لهن أن يرين عورة المراهق، فكذلك بعد الموت، وجوزنا ذلك في الصبي الذي لم يبلغ إلى حد المجامعة والشهوة؛ لأنَّه لا خلاف في أن النساء يجوز لهن النظر إلى عورة الطفل، فيجب(1) أن يكون حاله بعد الموت كذلك، وعلى هذا يجب أن يكون القول في الصبية التي ماتت في حال الطفولية، إذا ماتت بين رجال لا نساء معهم.
مسألة [في الجنب والحائض هل يُغسلان، وهل يَغسلان الميت؟]
قال القاسم عليه السلام: والجنب والحائض يغسلان إذا ماتا على ذلك من حالهما، ولا يستحب لهما غسل الميت، إلاَّ أن تدعو الضرورة إلى ذلك، فأيهما كان، تيمم، وغسل.
وذلك منصوص عليه في (مسائل النيروسي).
أما الحائض والجنب، فلا خلاف في أنهما يغسلان كما يغسل غيرهما، ولم يستحب غسل الجنب والحائض للميت(2) إذا لم يكن ضرورة؛ لأنهما ممنوعان من قراءة القرآن، ودخول المسجد، والصلاة، فكان العدول عنهما أولى؛ ولأن من كان طاهراً، كان بالتطهير أولى.
__________
(1) في (أ): فوجب.
(2) في (أ): غسل الميت للجنب والحائض.
وقلنا إنهما يتيممان؛ لما ثبت أن الجنب عند الضرورة يدخل بالتيمم فيما منع منه، والحائض أجريناها مجرى الجنب في هذا الباب. (23/12)
مسألة [في صفة غسل الميت]
وغسل الميت كالغسل من الجنابة، يغسل فمه، وأسنانه، وشفتاه، وأنفه، ويتمم وضوءه.
ويستحب أن يغسل ثلات غسلات، أولاهن بالحرض، والثانية بالسدر، والثالثة بالكافور، وإن لم يوجد ذلك، فلا بأس أن يغسل الغسلات الثلاث بالماء القراح، ولا بأس بتسخين الماء له، فإن حدث بعد ذلك حدث، تمم الغسل خمساً، فإن حدث بعد ذلك حدث(1)، تمم سبعاً، وما كان بعد ذلك، احتيل في رده بالكرسف وغيره، وما حدث بعد التكفين لا يوجب تكرير الغسل، ويدفن بحاله، ولا يمشط شعره، ولا يؤخذ، ولا يقلم ظفره.
قال القاسم عليه السلام: وما يسقط عنه من شعر(2)، أو ظفر، رد في كفنه.
ويستحب أن يغسل في موضع مستور من فوقه، ويستحب الاغتسال لمن غسل الميت.
جميع ذلك منصوص عليه(3) في (الأحكام)، وبعضه في (المنتخب)(4).
قلنا: إنَّه يغسل فمه، وأسنانه، وشفتاه، وأنفه، ويتمم وضوءه؛ لما رواه أبو بكر الجصاص بإسناده، عن حفصة بنت سيرين، عن أم عطية أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال لهن في غسل ابنته: (( ابدأن بميامنها، ومواضع الوضوء منها )). وقد ثبت عندنا أن الفم داخله وخارجه، والأسنان، والشفه، والأنف داخلة وخارجة من مواضع الوضوء.
__________
(1) سقط من (أ): حدث.
(2) في (أ): و سقط من شعر.
(3) في (ب): على بعضه.
(4) انظر الأحكام 1/164، 165، إلا أنه قال: لو أن كانت امرأة لم يرح شعرها بمشط. ولم يذكر الرجل. وانظر المنتخب ص64، 65.
وقلنا: إنَّه يغسل ثلاث غسلات بالحرض، والسدر، والكافور؛ لما روي محمد(1) بن سيرين، عن أم عطية /239/ الأنصارية، قالت: دخل علينا رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم حين توفيت ابنته فقال: (( اغسلنها ثلاثاً، أو خمساً، أو أكثر من ذلك إن رأيتن ذلك بماء، وسدر، واجعلن في الآخرة كافوراً، أو شيئاً من كافور )). (23/13)
فلما قال: (( اغسلنها ثلاثاً، أو خمساً ))، قلنا: إن أقل ما يغسل الميت ثلاثاً، وقلنا: إنَّه يغسل بالسدر والكافور؛ لأمر النبي صلى الله عليه وآله وسلم بذلك.
وقلنا: إنه يغسل أولاً بالحرض؛ ليكون أنقى.
وما قلنا: من أن الماء القراح يجزي، فلا خلاف فيه.
وقلنا: إنَّه لا بأس بتسخين الماء؛ لأن ذلك أبلغ في تطهيره وتنقيته.
وقلنا:إنه إن حدث به حدث، أتم الغسل خمساً، ثم إن حدث بعده أتم سبعاً؛ لقوله صلى الله عليه وآله وسلم: (( أو خمساً، أو أكثر من ذلك إن رأيتن ذلك )). وفي بعض ما روي: (( أو خمساً، أو سبعاً إن رأيتن ذلك ))، فعلق ذلك على رأيهن، وقد علمنا أنَّه ليس المراد به شهوتهن للغسل، وإنما المراد إن عرض ما يقتضي ذلك.
وقلنا: إنَّه إن حدث(2) بعد السابع حدث، احتيل في رده بالكرسف وغيره، وكفن؛ لأن الحي أيضاً إذا لزمه حدث من الأحداث كسلس البول ونحوه، ترك واحتيل في رده، ولم يوجب تكرير الغسل أبداً(3)، فكان الميت بذلك أولى؛ ولأن خلاف ذلك يؤدي إلى ما لا يمكن.
وقلنا: إن ما حدث بعد التكفين لا يوجب تكرير الغسل؛ لأنَّه قد نقل عن حال الغسل إلى غيرها، كما أنه إذا(4) حدث بعد ما وضع في القبر لم يجب أن يرفع ويعاد غسله؛ لأنَّه قد نقل عن حال الغسل إلى غيرها.
وقلنا: إنَّه لا يمشط؛ لأن المشط من زينة الدنيا؛ ولأن أكثر الغرض به أن يأخذ الشعر المتساقط، والميت لا يحتاج إلى ذلك؛ ولأنه لم ترد السنة به.
__________
(1) في (أ): روي عن محمد.
(2) في (أ): إنه إذا أحدث.
(3) في (أ): إذاً.
(4) في (أ): إن.
وقلنا: إنه لا يؤخذ شعره، ولا يقلم ظفره كما لا يختن لو مات من غير ختان، والختان أوكد من أخذ الشعر، وتقليم الظفر. (23/14)
وقلنا: إنَّه يرد في كفنه ما تساقط من شعره وظفره؛ لأن ذلك في حكم البعض له.
ولما روى محمد بن منصور بإسناده عن علي عليه السلام قال: (( واروا هذا ـ يعني الشعر ـ فإن كل شيء وقع من بني آدم، فهو ميت، فإنه يأتي يوم القيامة له بكل شعرة نور )).
وقلنا: إنَّه يستحب الاغتسال لمن غسل الميت؛ لأن الغالب أن يكون قد أصابه من الماء المتطاير شيء في حال الغسل، ولأنه روي عن النبي صلى اللّه عليه وآله وسلم أنَّه قال:(( من غسل الميت، فليغتسل )).
وقلنا: إنه ندب؛ لما روى زيد بن علي، عن آبائه، عن علي عليهم السلام قال: الغسل من غسل الميت، وإن توضأت، أجزأك. ولأنه لو وجب، لكان يجب أن لا يمس الميت إذا صب عليه الماء، وإذا ثبت بالإجماع أن من مس الميتة من سائر الحيوان، فلا يجب عليه الغسل، فكذلك من مس الميت من بني آدم، إذ لا يجوز أن يكون ابن آدم أسوأ حالاً من سائر الحيوان؛ سيما ما ثبت نجاستها من الكلب والخنزير.
باب القول في تكفين الميت وتحنيطه (24/1)
يبسط الكفن في مكان نظيف، وتذر الذريرة عليه، ثم يوضع عليه الميت، ويوضع شيء من الكافور على مساجده: جبهته، وأنفه، ويديه، وركبتيه، ورجليه. ولا بأس أن يكون في الحنوط شيء من المسك، ويكفن فيما يمكن /240/ من الثياب من سبعة، أو خمسة، أو ثلاثة، أو واحد، فإن كفن في ثلاثة، أُزر بمئزر، وأدرج في اثنين، وإن كفن في خمسة، ألبس قميصاً، وأزر بواحد، وأدرج في ثلاثة، على ماذكره في (المنتخب)(1).
وقال في (الأحكام)(2): إن كفن في خمسة أثواب، ألبس قميصاً، وعمم بعمامة، وأدرج في ثلاثة، وإن كفن في سبعة، ألبس قميصاً، وعمم بعمامة، وأزر بمئزر، وأدرج في أربعة، والمرأة تعصب بخمار بدل العمامة.
وإذا لم يوجد شيء من الكفن، فإنه يوارى بشيء من النبات، فإن أعوز، فإنه يوارى بما أمكن، ولا بأس أن تكفن المرأة في ثيابها المصبوغة، ويصلح ذلك للرجال عند الضرورة، والبياض أحب إلينا.
وجميع ذلك منصوص عليه، بعضه في (الأحكام)، وبعضه في (المنتخب)(3).
قلنا إن الكفن يبسط في(4) موضع نظيف؛ لئلا ينجس الكفن.
وقلنا: إنَّه يذر عليه الذريرة؛ لتقطيع(5) الرائحة إن كانت، وتنشف رطوبته إن خرجت، واستحسنَّا أن يوضع شيء من الكافور على مساجده تطييباً له، و(6)لأن النبي صلى الله عليه وآله وسلم أمر أن يجعل الكافور في آخر ما يغسل به؛ ولأن أكثر العلماء استحب ذلك.
وقلنا: إنَّه لا بأس أن يكون في الحنوط شيء من المسك؛ لما روى زيد بن علي، عن أبيه، عن جده، عن علي عليه السلام، قال: كان عند علي عليه السلام مسك فَضُل من حنوط رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فأوصى أن يحنط به.
__________
(1) انظر المنتخب ص64.
(2) انظر الأحكام 1/157.
(3) انظر الأحكام 1/157. وانظر المنتخب ص68.
(4) في (أ): على.
(5) في (أ) و(ب): ليقطع.
(6) سقط من (أ): و.
وقلنا: إنَّه يكفن في ثلاثه أثواب؛ لما روي عن زيد بن علي، عن أبيه، عن جده، عن علي عليهم السلام، قال: كفنت رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم في ثلاثة أثواب، ثوبين يمانيين، أحدهما سَحْقٌ، وقميص كان يتجمل به. (24/2)
وقلنا: إنَّه يكفن في خمسة أثواب(1)؛ لما روي أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم أمر أن تكفن أم كلثوم ابنته في خمسة أثواب.
وقلنا: إنَّه يكفن في سبعة؛ لأنا وجدنا عدد الغسلات حين زادت على الخمس كن سبعاً، فقلنا: إن عدد الأكفان كذلك.
ووجه ما ذكره في (المنتخب) أنَّه إن كفن في خمسة، ألبس قميصاً، وأزر بواحد، وأدرج في ثلاثة، هو(2) أنَّه أوقى وأستر للميت؛ لأنَّه إذا كان دون اللفائف إزار، كان أبلغ في تحفظ الجثة.
ووجه ما ذكره في (الأحكام) أنَّه يلبس قميصاً، ويعمم بعمامة، ويدرج في ثلاثة: ما روي أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم حين أمر أن تكفن أم كلثوم ابنته في خمسة أثواب، جعل فيها خماراً، والعمامة تجري من الرجل مجرى الخمار من المرأة، فلهذا قلنا: إن المرأة تعصب بخمار بدلاً من العمامة.
وقلنا: إن لم يوجد، فثوب واحد، فإن(3) لم يوجد، ووري بما أمكن من النبات أو غيره؛ لما:
روي أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم كفن عمه حمزة صلوات الله عليهما وعلى من طاب من آلهما ببردة(4) إذا غطى رأسه، بدت رجلاه، وإذا غطى رجليه، بدأ رأسه، فغطى رأسه، وطرح على رجليه شيئاً من الحشيش؛ ولأنه لا بدَّ من مواراته، فإذا لم يوجد الثوب، ووري بما أمكن.
وقلنا: إنَّه لا بأس أن تكفن المرأة في شيء من ثيابها المصبوغة؛ لأنَّها لا يكره لها لبسها.
وقلنا: إنَّ ذلك يصلح للرجال عند الضرورة، وأن البياض أحب إلينا؛ لما روى سمرة عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم أنَّه قال: (( البسوا من ثيابكم البيض، فإنها أطهر وأطيب، وكفنوا فيها موتاكم )).
__________
(1) سقط من (أ) و(ب): أثواب.
(2) في (أ) و(ب): وهو.
(3) في (أ): وقلنا إن.
(4) في (أ): ببرد.
وروي عن ابن عباس، عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم أنَّه قال: (( البسوا هذه الثياب البيض، فإنها خير لباسكم، وكفنوا فيها موتاكم )). (24/3)
وروي عن عائشة أن النبي صلى الله عليه /241/ وآله وسلم كُفِّن في ثلاثة أثواب بيض.
باب القول في حمل الميت والصلاة عليه (25/1)
[مسألة: في صفة حمل الجنازة]
يستحب لمن أراد حمل الجنازة أن يبدأ بمقدم ميامنها، ثم بمؤخرها، ثم بمقدم مياسرها، ثم بمؤخرها، والمشي خلف الجنازة أفضل منه(1) أمامها.
وذلك كله منصوص عليه في (الأحكام) و(المنتخب)(2).
واستحببنا أن يبدأ بالميامن، ثم بالمياسر؛ لأن الابتداء بالميامن في سائر الأمور هو المستحب.
وقال: صلى الله عليه وآله وسلم: (( إذا لبستم أو توضأتم فأبدأوا بميامنكم )).
وقال صلى الله عليه وآله وسلم حين أمر بغسل ابنته: (( ابدأن بميامنها )).
وقلنا: إن المشي خلف الجنازة أفضل من(3) أمامها؛ لما أخبرنا به أبو الحسين البروجردي، قال: حدثنا سفيان بن هارون القاضي، قال: حدثنا عبدالله بن أيوب، قال: حدثنا سفيان، عن عروة، عن سعيد بن عبد الرحمن بن أبزى، عن أبيه أن عليّاً عليه السلام مشى خلف جنازة، فقيل له: إن أبا بكر، وعمر كانا يمشيان أمامها، فقال: إنهما كانا سهلين يحبان أن يسهلا على الناس، وقد علما أن المشي خلفها أفضل.
وروي أن عليّاً عليه السلام سئل عن ذلك، فقيل له: أهو شيء(4) قلته برأيك، أم سمعته عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم؟ فقال: بل سمعته عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم.
وروي عن ابن مسعود، عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم أنه قال: (( الجنازة متبوعة، وليست بتابعة، ليس معها من تقدمها )).
فإن قيل: روي عن المغيرة أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال: (( الراكب خلف الجنازة، والماشي حيث شاء منها )).
قيل له: هذا يدل على الجواز، ونحن لا نخالف في أن المشي أمامها جائز، ولكن الخلاف في الأفضل من الأمرين.
__________
(1) في (أ): من.
(2) انظر الأحكام 1/155، انظر المنتخب ص65، وفيهما: أنه منع من المشي أمام الجنازة.
(3) في (ب): منه.
(4) سقط من (أ): شيء.
وكذلك الجواب إن قيل: روي أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم كان يمشي أمام الجنازة، يدل على أن المشي أمامها أفضل؛ لأنَّه لم يكن يعدل عن الأفضل إلى الأدنى. (25/2)
قيل له: كان رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يعدل في بعض الأحوال عن الأفضل، ليدل على جواز العدول عنه، فإذا ثبت ذلك، فما روي من أنه كان يمشي أمام الجنازة؛ ليدل على جواز ذلك فقط كما بيناه.
مسألة [فيمن تجوز الصلاة عليه ومن لا تجوز]
قال: ويصلى على كل من مات من المسلمين، ولا يصلى على الفاسق.
قد دل على ذلك كلام يحيى عليه السلام في غير موضع من (الأحكام)(1) من أن الصلاة على كل من مات من أهل الملة ولا خلاف فيه، إلا الشهيد والفاسق.
أما(2) الشهيد، فقد مضى الكلام في الصلاة عليه.
وأما الفاسق، فالذي يدل على أنه لا يصلى عليه قول الله تعالى: {وَلا تُصَلِّ عَلَى أَحَدٍ مِنْهُمْ مَاتَ أَبَداً..}[التوبة:84] الآية، فنبّه تعالى على أنه نهى عن الصلاة عليهم؛ لأنهم كفروا، ولأنهم ماتوا وهم فاسقون، فكل من مات فاسقاً، فلا يجب أن يصلى عليه.
فإن قيل: إنه تعالى منع الصلاة عليهم لاجتماع الكفر والفسق، فمن فسق، ولم يكفر، لم يجب أن لا يصلى عليه.
قيل له: الآية دلت على أن المنع من الصلاة عليهم بكل واحد من الأمرين، وذلك المنع من الصلاة عليهم جارٍ مجرى العقاب لهم، ولا يجوز أن يعاقب الإنسان بأمرين إلا إذا كانا كل واحد منهما مما يجب العقاب به، ألا ترى أنه لا يجوز أن يعاقب لأمرين، أحدهما معصية، والآخر مباح، فإذا ثبت ذلك، وثبت أن الله تعالى منع من الصلاة عليهم للكفر والفسق، ثبت أنه لا يصلى على من كان كافراً، أو كان فاسقاً.
__________
(1) انظر الأحكام 1/154.
(2) في (ب): فأما.
ويدل على ذلك ما روي عن عمران بن حصين أن امرأة من جهينة أتت النبي صلى الله عليه وآله وسلم /242/ فقالت: إني زنيت وهي حبلى، فدفعها إلى وليها، وقال أحسن إليها، فإذا وضعت فأتني بها، فلما وضعت جاء بها، فرجمها، ثم صلى عليها، فقال له عمر: تصلي عليها وقد زنت؟ فقال له صلى الله عليه وآله وسلم: (( لقد تابت توبة لو قسمت بين سبعين من أهل المدينة، لكفتهم )). فلولا أنه كان من المعلوم عند عمر أنه لا يصلى على الفاسق، لم يكن لقوله: أتصلي عليها وقد زنت معنى، ولولا(1) أن ذلك صحيحاً، لم يقل صلى الله عليه وآله وسلم مجيباً له: (( إنها قد تابت توبة )). بل كان يقول وما في أنها زنت مما يمنع من الصلاة عليها، فثبت بذلك أنه لا يصلى على الفاسق. (25/3)
ويدل على ذلك أيضاً: ما روي عن جابر بن سمرة، أن رجلاً قتل نفسه بمشاقص، فقال النبي صلى الله عليه وآله وسلم: (( أما أنا، فلا أصلي عليه )).
فإن قيل: يجوز أن يكون صلى الله عليه وآله وسلم لم يُصل عليه، وأمر غيره بأن يصلي عليه، كما روي فيمن عليه الدين.
قيل له: لم يُروَ ذلك، ولو كان الأمر على ما قلتم، لروي كما روي فيمن عليه الدين.
ويدل على ذلك ما أخبرنا به أبو الحسين ابن إسماعيل، حدثنا الناصر للحق عليه السلام، حدثنا محمد بن منصور، حدثنا أحمد بن عيسى، عن حسين، عن عمرو بن خالد، عن زيد بن علي، عن آبائه، عن علي عليه السلام، قال: لا يصلَّى على الأغلف؛ لأنه ضيع من السنة أعظمها، إلا أن يكون ترك ذلك خوفاً على نفسه.
__________
(1) في (أ): فلولا.
فإن قيل: روي أن رجلاً مات بخيبر، فقال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: (( صلوا على صاحبكم، إنه غازٍ(1) في سبيل الله )). ففتشنا متاعه، فوجدنا فيه خرزاً من خرز اليهود ما يساوي درهمين، ففي هذا أنه صلى الله عليه وآله وسلم أمرنا بالصلاة عليه؛ لأن ذلك الفعل منه لم يبلغ أن يكون فسقاً، وهو قياس على الكافر بعلة أنه مات، وهو مصر على الكبيرة، وإذا كان الكلام بيننا وبين أبي حنيفة، قسناه على الباغي، وعلى قاطع الطريق بهذه العلة. (25/4)
وهذه المسألة عندنا مبنية على القول بالوعيد، فإذا صح ذلك، صح قياس الفاسق على الكافر بعلة انقطاع الولاية، وبأنه من أهل النار، ومع هذا الأصل تسقط أكثر عللهم وتراجيحهم؛ لأنهم يقولون إنه يرجى له الشفاعة، ويقولون: إنه ثابت الولاية ويقولون: إنه مؤمن، ومسلم، وكل ذلك عندنا غير صحيح.
مسألة [في النعي والإيذان واتباع النساء للجنائز وأوقات الصلاة على الميت]
ويكره للنساء اتباع الجنائز، ويكره النعي في الأسواق، ولا بأس بالإيذان، ويستحب الصلاة على الميت في أوقات الصلوات المفروضات.
قال: وقال القاسم عليه السلام، وكذلك التقبير.
ويكره في الأوقات التي نهي عن الصلوات فيها.
جميع ذلك منصوص عليه في (الأحكام)(2).
قلنا: إنَّه يكره للنساء اتباع الجنائز؛ لأن تركه أستر لهن، والمستحب لهن في عامة الأحوال ما كان أستر لهن.
وروي عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم أنه قال: (( النساء عي، وعورات، فاستروا عيهن بالسكوت، وعوراتهن بالبيوت )).
وروي عن محمد بن الحنفية، عن علي عليه السلام أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم رأى نسوة قال(3): (( ما يحبسكن ))؟ قلن: ننتظر جنازة.
قال: (( هل تحملن فيمن يحمل ))؟ قلن:لا. قال: (( هل تغسلن فيمن يغسل ))؟ قلن:لا. قال: (( هل تدلين فيمن يدلي ))؟ قلن: لا. قال: (( فارجعن مأزورات غير مأجورات )).
__________
(1) في (ب): عال.
(2) انظر الأحكام 1/156، 165.
(3) في (أ): فقال.
قال في (الأحكام)(1): (فإن فعلن، فليتنحين، وليكن بمعزل عن الرجال) /243/. (25/5)
وقلنا: إنَّه يكره النعي في الأسواق، ولا بأس بالإيذان؛ لما أخبرنا به أبو العباس الحسني عليه السلام، قال: أخبرنا ابن أبي حاتم، قال: حدثنا أسد بن عاصم، قال: حدثنا حفص ابن حسين، عن سفيان، عن منصور، عن أبي حمزة، عن إبراهيم، عن علقمة، عن عبد الله، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: (( الأذان من النعي، والنعي من أمر الجاهلية )).
وحدثنا أبو العباس الحسني رحمه الله، قال: أخبرنا ابن أبي حاتم، قال: حدثنا أحمد بن سنان، قال: حدثنا يزيد بن هارون، قال: حدثنا شريك(2)، عن أبي إسحاق، عن عامر، عن ابن عباس، قال: أبصر رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قبراً حديثاً، فقال: (( ألا آذنتموني به ))؟
وروي أن مسكينة مرضت، فأُخبر النبي صلى الله عليه وآله وسلم بمرضها ـ وكان النبي صلى الله عليه وآله وسلم يعود المساكين، ويسأل عنهم ـ فقال صلى الله عليه وآله وسلم : (( إذا ماتت فآذنوني )).
وقلنا: إنه يستحب الصلاة على الميت في أوقات الصلوات المفروضات، وكذلك التقبير؛ لأنها أفضل الأوقات.
وقلنا: إن الصلاة تكره في الأوقات التي نهي عن الصلاة فيها، وهي عند طلوع الشمس، وحين غروبها، وحين استوائها؛ لِما روى عقبة بن عامر الجهني، قال: ثلاث ساعات نهي النبي صلى الله عليه وآله وسلم أن نصلي فيهن، وأن نقبر فيهن موتانا، وقد ذكرنا الحديث بإسناده في (كتاب الصلاة).
مسألة [في تكبير الجنازة]
قال: ويكبر على الجنائز خمس تكبيرات.
قال: وقال القاسم عليه السلام: ويرفع يديه في أول تكبيرة فقط.
وقد نص في كتاب (الأحكام) و(المنتخب)(3) على عدد التكبيرات.
وما ذكرناه عن القاسم عليه السلام مروي عنه في كتاب (الأحكام)(4)، وفي (مسائل النيروسي).
__________
(1) انظر الأحكام 1/156.
(2) في (أ): عن شريك.
(3) انظر الأحكام 1/158، انظر المنتخب ص66.
(4) انظر الأحكام 1/159.
وقلنا: إن التكبيرات خمس؛ لما أخبرنا به أبو العباس الحسني رحمه الله، حدثنا سالم بن الحسن بن سالم البغدادي، حدثنا يوسف بن محمد العطار الواسطي، حدثنا عبد الحميد بن بُنان، حدثنا جابر بن عبد الله، عن عبد العزيز بن الحكم الحضرمي، قال: صليت خلف زيد بن أرقم على جنازة، فكبر خمساً، فسُئل عن ذلك فقال: (( سنة نبيكم )). (25/6)
وأخبرنا أبو بكر المقرئ، حدثنا الطحاوي، حدثنا أحمد بن أبي داود، حدثنا محمد بن كثير، حدثنا إسرائيل بن يونس، حدثنا عبد الأعلى أنَّه صلى خلف زيد بن أرقم على جنازة، فكبر خمساً، فسأله عبد الرحمن بن أبي ليلى فأخذ بيده فقال: أنسيت؟ فقال: لا، ولكني صليت خلف أبي القاسم خليلي صلى الله عليه وآله وسلم فكبر خمساً، فلا أتركه أبداً(1).
وأخبرنا أبو بكر المقرئ، حدثنا الطحاوي، حدثنا ابن أبي داود، حدثنا عيسى بن إبراهيم، حدثنا عبد العزيز بن أبي مسلم، عن يحيى بن عبد الله التيمي، قال: صليت مع عيسى ـ مولى حذيفة ـ على جنازة، فكبر خمساً عليها، ثُمَّ التفت إلينا فقال: ما وهمت، ولا نسيت، ولكني كبرت كما كبر مولاي وولي نعمتي ـ يعني حذيفة بن اليمان ـ صلى على جنازة فكبر خمساً، ثُمَّ التفت إلينا فقال: ما وهمت ولا نسيت، ولكني كبرّت كما كبر رسول الله صلى الله وآله وسلم(2).
فإن قيل: روي أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم كبر على النجاشي أربعاً حين نعاه الناس إليه.
وروى أنس أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم كان يكبر أربع تكبيرات على الميت.
وروي عن زيد بن أرقم أنَّه كبر على أبي شريك أربعاً، ثُمَّ قال: هكذا رأيت رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يفعل.
وروي عن ابن /244/ أبي أوفا، نحوه.
__________
(1) أخرجه الطحاوي في شرح معاني الآثار 1/494.
(2) أخرجه الطحاوي في شرح معاني الآثار 1/494.
قيل له: ما روي أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم كبر أربعاً فيحتمل أن يكون المراد به(1) غير تكبيرة الإحرام، وهو أولى ليكون جمعاً بين الأخبار أجمع، ويحتمل أن يكون صلى الله عليه وآله وسلم كبر مرة أربعاً، ومرة خمساً، فإن كان كذلك، كان ما ذهبنا إليه أولى، لأن فيه زيادة، وعلى هذا يحمل(2) ما روي عن زيد بن أرقم أنَّه كبر أربعاً، ثُمَّ قال: هكذا رأيت رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فعل، على أن فيما رويناه عنه أنَّه كبر خمساً، ثُمَّ قال سنة نبيكم؛ ما يحقق أن السنة ما ذهبنا إليه، وإن كان صلى الله عليه وآله وسلم قد كبر في بعض الأوقات أربعاً. (25/7)
فإن قيل: روي أن عمر جمع أصحاب رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم على أربع تكبيرات.
قيل له: إنَّما جمع طائفة منهم دون الجميع، يدل على ذلك: ما رويناه عن زيد بن أرقم وحذيفة أنهما كبرا خمساً، وقال زيد بن أرقم: صليت خلف رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فكبر خمساً، فلا أتركها أبداً.
وروى محمد بن منصور بإسناده عن حصين بن عامر، قال: قال لي أبو ذر: يا حصين بن عامر، إذا أنا مت، فاستر عورتي، وانق غسلي، وكفني في وتر، وكبر علي خمساً، وسلني سلاً، وربِّع قبري تربيعاً.
وروى محمد، عن الشعبي أن علياً عليه السلام كبر على سهل بن حنيف ستاً، فكل ذلك يبين أن عمر جمع على ذلك طائفة من الصحابة دون الجميع.
وروى محمد بإسناده، عن عمر بن علي بن أبي طالب أن علياً عليه السلام كبر على فاطمة عليهما السلام تكبيرات خمساً، ودفنها ليلاً.
وروى أيضاً بإسناده عن الحسن بن علي عليهم السلام أنَّه صلى على أبيه أمير المؤمنين عليهما السلام فكبر خمساً، وأن محمد بن الحنفية صلى على ابن عباس رضي الله عنهما، فكبر خمساً.
__________
(1) سقط من (ب): به.
(2) في (أ): وعلى هذا المحمل.
وروي عن زيد بن علي، عن أبيه، عن جده، عن علي عليه السلام في الصلاة على الميت قال: تبدأ في التكبيرة الأولى بالحمد والثناء على الله تعالى، وفي الثانية بالصلاة على النبي صلى الله عليه وآله وسلم، وفي الثالثة بالدعاء لنفسك وللمؤمنين والمؤمنات، وفي الرابعة بالدعاء للميت والإستغفار له، وفي الخامسة يكبر [على الميت](1) ثُمَّ يسلم. (25/8)
فدل ذلك على أنَّه كان يرى التكبيرات خمساً، على أنَّه رأى أهل البيت عليهم السلام، ولا أحفظ عن أحدٍ منهم خلافاً.
وفيه من طريق النظر أنَّه أمر يختص به الميت، قد قصد به التكبير، فوجب أن يكون وتراً قياساً على عدد الغسلات والأكفان.
وقلنا أنَّه يرفع يديه في أول تكبيرة؛ لما رواه زيد بن علي، عن آبائه، عن علي عليه السلام أنَّه كان يرفع يديه في التكبيرة الأولى، ثُمَّ لا يعود.
مسألة [بماذا يدعو بين التكبيرات]
قال: ولا نضيق على المصلي على الميت، ما قال من الدعاء بين التكبيرات، ويستحب له أن يقرأ بفاتحة الكتاب بعد التكبيرة الأولى، وقل هو الله أحد بعد التكبيرة الثانية، وقل أعوذ برب الفلق بعد التكبيرة الثالثة، وبعد الرابعة يدعو للميت إن كان من المؤمنين، ويسلم بعد الخامسة عن يمينه وعن شماله، ومن فاته شيء من التكبيرات، أتم بعد انصراف الإمام قبل أن يرفع الميت.
وهذا منصوص عليه في (الأحكام)(2)، قال فيه: ليس نضيق عليه ما قال في صلواته(3) ودعائه بعد أن يصلي على الأنبياء والمرسلين عليهم السلام ويدعو /245/ للميت ويستغفر له.
__________
(1) زيادة في (أ).
(2) انظر الأحكام 1/158 ـ 159.
(3) في (ب): صلاته.
وقلنا ذلك؛ لما روى زيد بن علي، عن آبائه، عن علي عليهم السلام أنه يبدأ في التكبيرة الأولى بالحمد والثناء على الله، وفي الثانية بالصلاة على النبي صلى الله عليه وآله وسلم، وفي الثالثة بالدعاء لنفسك وللمؤمنين والمؤمنات، وفي الرابعة بالدعاء للميت والإستغفار له. فذكر ذلك كله على الجملة ولم يحد فيه شيئاً بعينه. (25/9)
وقلنا: إنَّه يستحب القراءة فيها؛ لما أخبرنا به أبو العباس الحسني، أخبرنا محمد بن علي ابن الحسين الصواف، حدثنا أبو يزيد المقرئ، حدثنا إسماعيل بن سعد(1)، حدثنا سليمان بن داود، عن إبراهيم بن سعيد، أخبرني أبي، عن طلحة بن عبد الله بن عوف، قال: صليت خلف ابن عباس على جنازة، فقرأ بفاتحة الكتاب، وسورة، فجهر حتَّى سمعنا، فلما انصرف أخذت بيده، فسألته عن ذلك، فقال: (( سنة وحق )).
وروي عن جابر بن عبد الله أن النبي صلى الله عليه وآله سلم قرى بأم القرآن بعد التكبيرة الأولى.
وقلنا: إنَّه يسلم بتسليمتين؛ لأن التكبير تحريمها، فوجب أن يكون تحليلها التسليم كسائر الصلوات.
وقلنا: أن من فاته شيء من التكبيرات، أتمها بعد انصراف الإمام؛ لأن حكمه حكم المسبوق في العبارة، فكما أن المسبوق في الصلاة يتم صلاته بعد فراغ الإمام يتم هو.
وقلنا: قبل أن يرفع الميت؛ لأنَّه يكون مصلياً عليه ما دام هو بين يديه، فأما إذا رفع ونحي أن يكون بين يديه لا(2) يكون مصلياً عليه.
مسألة [فيمن يخشى فوات صلاة الجنازة]
قال: ومن خشي أن تفوته الصلاة على الميت، تيمم، وصلى، ولا يستحب بغير طهور، أو تيمم، ويستحب للإمام أن يقف من الرجال حذاء السرة، ومن النساء حذاء اللبة.
جميع ذلك منصوص عليه في (الأحكام) و(المنتخب)(3)، غير ما ذكرنا من أنه لا يستحب بغير طهور أو تيمم.
__________
(1) في (ب): سعيد.
(2) في (ب): فلا.
(3) انظر الأحكام 1/159، 166. والمنتخب ص67.
وقلنا: أنه يتيمم؛ لأنه ليس بأوكد من سائر الصلوات، فكما أنها تؤدى بالتيمم مع تعذر التطهر فكذلك صلاة الجنازة. (25/10)
وقلنا: أنه لا يستحب بغير طهور أو تيمم؛ لأنه يبعد أن يتعذرا جميعاً ـ أعني الطهور والتيمم ـ والقياس أنهما تعذرا بواحدة صلى بغير طهور أو تيمم كسائر الصلوات.
وقلنا: إنَّه يقف من الرجال عند السرة ومن النساء عند اللبة، لما رواه زيد بن علي، عن أبيه، عن جده، عن علي عليه السلام، أنَّه كان إذا صلى على جنازة رجل، قام عند سرته، وإن كانت امرأة، قام حذا(1) ثدييها؛ ولأنه رأى أهل البيت عليهم السلام لا أحفظ عنهم فيه خلافاً.
فصل [في حكم الصلاة على القبر]
قوله: من خشي أن تفوته الصلاة على الميت، تيمم، وصلى عليه يدل على أنَّه لا يرى الصلاة على الميت، ولا على القبر.
والوجه في ذلك أن الصلاة على الميت فرض من فروض الكفايات إذا قام به فريق، سقط عن الباقين، فلو ثبت، لم يبق إلاَّ طريق التطوع، ولا يتطوع بالصلاة على الميت؛ لأن ذلك لو جاز، لصلي على قبر النبي صلى الله عليه وآله وسلم، فلما أجمع(2) الجميع على ترك الصلاة على قبره، صح ما ذكرناه.
فإن قيل: قد صلى عليه فريق بعد فريق.
قيل له: لا يمتنع أن تكون الصلاة عليه خاصاً فرضاً على جميع من حضره، يبين ذلك أنهم صلوا عليه بغير إمام، فبان أن كل واحد منهم كان يؤدي ما عليه.
وروى زيد بن علي، عن أبيه، عن جده، عن علي عليه السلام قال: صلى بنا رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم /246/ على جنازة، فدفن الميت، فلما فرغ من الدفن، جاءه رجل فقال: يا رسول الله، إني لم أدرك الصلاة عليه، أفأصلي على قبره؟
فقال: لا. ولكن قم على قبره، فادع، وترحم عليه. فدل نهيه صلى الله عليه وآله وسلم على أنَّه لا يصلى على القبر.
مسألة [في اجتماع الجنائز المختلفة]
__________
(1) في (ب): حيال.
(2) في (أ): أجمع جمع.
قال: وإذا اجتمع جنائز العبيدُ، والأحرار، والنساء، ولإماء، وضع جنائز الرجال الأحرار أمام الإمام، وتوضع جنائز الولدان الأحرار الذكور، بحيث تلي جنائز العبيد، وجنائز الإماء بحيث تلي جنائز الولدان، وجنائز الحرائر بحيث تلي جنائز العبيد وجنائز الإماء بحيث تلي جنائز الحرائر(1). (25/11)
قال(2): وقال في (المنتخب)(3): توضع جنائز الرجال الأحرار بحيث تلي الإمام، ثُمَّ جنائز الولدان الأحرار، ثُمَّ جنائز النساء الحرائر، ثُمَّ جنائز العبيد، ثُمَّ جنائز الإماء، ويصلى عليهم صلاة جنازة واحدة، وينوي الصلاة عليهم.
ما ذكرناه أولاً هو رواية (الأحكام)(4) وهو الأصح؛ لما رواه زيد بن علي، عن آبائه عن علي عليه السلام، قال: إذا اجتمعت جنائز الرجال والنساء جعل الرجال مما يلي الإمام والنساء مما يلي القبلة.
وروي نحو ذلك عن ابن عمر.
وهو الذي يقتضيه النظر؛ لأن الإمام إذا صلى بالرجال والنساء، كان الرجال بحيث يلون الإمام، والصبيان بحيث يلونهم، والنساء بحيث تلينهم، فوجب أن يكونوا كذلك إذا صلى عليهم الإمام، وعلى هذا لو كان معهم خنثى، وضع بحيث تلي الرجال، والنساء بحيث يلين الخنثى.
وقلنا: إن الصبيان الأحرار يكونون بحيث يلون الرجال الأحرار؛ لأنهم في الحكم أقرب إليهم من العبيد فألحقناهم بهم، ألا ترى أنَّه يحكم لهم في الإسلام بأحكام آبائهم، ولا يحكم للعبيد بأحكام مواليهم.
مسالة [إذا أتت جنازة أخرى أثناء الصلاة]
وإذا وضعت الجنازة بين يدي الإمام، فكبر عليها تكبيرة، ثُمَّ أتت جنازة أخرى، نواها مع الجنازة الأولى عند التكبيرة الثانية، وأتم التكبيرات ستاً، ثُمَّ كذلك إن قدمت جنازة بعد أخرى.
__________
(1) في (ب): بحيث تلي جنائز الأحرار وجنائز العبيد، بحيث تلي جنائز الولدان، وجنائز النساء الحرائر، بحيث تلي جنائز العبيد، وجنائز الإماء، بحيث تلي جنائز الحرائر
(2) سقط من (ب): قال.
(3) انظر المنتخب ص66.
(4) انظر الأحكام 1/163.
وهذا منصوص عليه في (المنتخب)(1). (25/12)
قلنا: ذلك ليحصل لكل جنازة خمس تكبيرات، والأصل فيه: ما روي أن النبي صلى الله علي وآله وسلم لما صلى على حمزة رضي الله عنه، أُتي بجنازة بعد جنازة من الشهداء، فصلى عليهم، كان يكبر على كل جنازة(2) وترفع، وحمزة موضوع، حتَّى كبر عليه رضي الله عنه سبعين تكبيرة.
مسألة [في اجتماع المكتوبة وصلاة جنازة]
قال القاسم عليه السلام: وإذا حضرت جنازة، وصلاة مكتوبة، بدأت بأيهما شئت، إلاَّ إذا خفت فوات المكتوبة، فإنك تبدأ بها.
وهذا منصوص عليه في (مسائل النيروسي).
والوجه فيه بأنهما(3) واجبان جميعاً، أعني المكتوبة والصلاة على الجنازة، والوقت لهما فيبدأ بأيهما شاء كالصلاة والزكاة، فإذا خاف فوات المكتوبة لضيق وقتها، وجب أن يبدأ بها، إذ لو لم يبدأ بها، لفاتت وصلاة الجنازة لا تفوت.
مسألة [في التعزية لأهل الذمة]
ولا بأس بالتعزية لأهل(4) الذمة إذا لم يدع لهم بالمغفرة، ولا ينبغي أن يشهد جنائزهم.
قال: وإذا ماتت الذمية وفي بطنها ولد مسلم ميت(5)، لم يتغير حكمها عن حكم أهل ملتها، بل تدفن في مقابرهم، ولا يعمل بها، إلاَّ ما يعمل بموتاهم.
وذلك منصوص عليه في (الأحكام)(6).
__________
(1) انظر المنتخب ص66.
(2) في (أ): كل واحدة.
(3) في (ب): أنهما.
(4) في (أ): بتعزية أهل.
(5) سقط من (أ) و(ب): ميت.
(6) انظر الأحكام 1/160.
قلنا: إنَّه لا بأس بتعريتهم إذا لم يدع لهم بالمغفرة؛ لقول الله تعالى: {لا يَنْهَاكُمُ اللهُ عَنِ الَّذِيْنَ لَمْ يُقَاتِلُوكُمْ فِيْ الدِّيْنِ وَلَمَ يُخْرِجُوكُمْ مِنْ دِيَارِكُمْ أَنْ تَبَرَّوُهُمْ}[الممتحنة:8]، والتعزية ضرب من المبرة؛ ولأن التعزية وعظ، وتذكير، وأمر بالصبر، وذلك مما يحسن على وجه، واستثنى الدعاء بالمغفرة لهم منها /247/؛ لقول الله تعالى: {مَا كَانَ لِلنَّبِيِّ وَالَّذِيْنَ آمَنُوا أَنْ يَسْتَغْفِرُوا لِلْمُشْرِكِيْنَ}[التوبة:113]، وكرهنا حضور جنائزهم؛ لقول الله تعالى: {وَلا تُصَلِّ عَلَى أَحَدٍ مِنْهُمْ مَاتَ أَبَداً وَلا تَقُمْ عَلَى قَبْرِهِ}[التوبة:84]، وحضور الجنازة كالقيام على القبر. (25/13)
وقلنا: إن الذمية إذا ماتت، وفي بطنها ولد مسلم ميت، أنَّها تدفن في مقابر أهل ملتها؛ لأن الولد ما دام في بطن أمه، فحكمه حكم البعض منها، فلذلك لم يجب أن يتغير من أجله حكمها.
فصل [فيمن يلي غسل الميت]
قال يحيى بن الحسين عليه السلام في (الأحكام)(1): ولا يلي غسل الميت إلاَّ أولى الناس به، أو أطهر من يقدر عليه من أهل ملته.
فدل بذلك أن أولى الناس به هو الأولى بالصلاة عليه، فإن لم يكن فأطهر من حضر من أهل دينه.
وقلنا ذلك؛ لما رواه زيد بن علي، عن أبيه، عن جده، عن علي عليهم السلام في رجل توفيت امرأته، فيصلى عليها؟ قال: لا، عصبتها أولى بها، فدل ذلك على أن العصبة أولى من السلطان؛ لأنَّه قال: عصبتها أولى، فأطلق القول، ولم يقل بعد السلطان.
__________
(1) انظر الأحكام 1/164.
وقال زيد بن علي عليه السلام: كانت تحت أبي امرأة من بني سليم فماتت فاستأذن عصبتها في الصلاة عليها فقالوا: صل رحمك الله؛ ولأنه أمر يخص ولا يعم، فوجب أن يكون الولي المناسب أولى به من السلطان كالنكاح والقصاص، ولا خلاف أن الولي أولى بالصلاة عليه من كل أجنبي، ليس بسلطان، ولا إمام الحي، فوجب أن يكون أولى من السلطان ومن إمام الحي؛ لأنَّه ولي مناسب. (25/14)
فإن قيل: روي عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم أنَّه قال: (( لا يؤم رجل رجلاً في سلطانه إلاَّ بإذنه )).
قيل له: ذلك في غير صلاة الجنازة بدلالة ما قدمناه.
فإن قيل: روي أن الحسين عليه السلام قدم سعيد بن العاص في الصلاة على الحسن عليه السلام، وقال: لولا السنة ما قدمتك.
قيل له: إن صح الخبر، فلسنا نمنع أن يكون أراد به قطع الفتنة، وذلك أن الحسن عليه السلام كان أوصى أن لا تراق بعده بسببه دم محجمة فيكون المراد بقوله: لولا السنة في إمضاء الوصية بترك ما يثير الفتنة، سيما وقد روي أن الحسين عليه السلام كان لعن سعيد بن العاص، ولا يجوز أن يقدم من يستحق اللعن عنده، إلاَّ على طريق الإضطرار.
باب القول في الدفن (26/1)
ينبغي للمسلمين أن يلحدوا لموتاهم، إلاَّ أن يكون المكان غير محتمل للحد فيضرح، ويكره أن يبسط للميت في قبره شيء، وكذلك التزويق وإدخال الآجر فيه، ولا بأس بالقصب واللبن، وكذلك التطيين، وطرح الرضراض من(1) فوقه؛ ليمتاز من غيره.
قال القاسم عليه السلام: ويكره التجصيص، وكذلك التسقيف، قال: ويستحب أن يدخل الميت إلى القبر من جهة رأسه، توضع الجنازة عند موضع الرجلين من القبر، ويسل الميت سلاً، ويحرف وجهه إلى القبلة تحريفاً، ويوسد من بعض قبره، إما تراباً وإما نشزاً من اللحد يعمل، ولا يوسد غير ذلك.
قال: وقال القاسم عليه السلام: ولا يدفن الجماعة(2) في قبر واحد، إلاَّ من ضرورة، فإن دعت الضرورة إلى ذلك، حجز بينهم بحواجز من التراب.
قال: ويستحب للرجل أن يحثي على القبر ثلاث حثيات من التراب، ويستحب تربيع القبر، وهو أحب إلينا من التسنيم، ولا بأس به.
قال: وقال القاسم عليه السلام /248/ في من يموت في البحر ولا يتمكن من دفنه في البر: إنه يغسل، ويكفن، ويعصب، ثُمَّ يرسب في البحر.
وذلك كله منصوص على بعضه في (الأحكام) وبعضه في (المنتخب)(3) وبعضه في (مسائل النيروسي).
وقلنا: إنَّه يلحد لموتى المسلمين؛ لما رواه زيد بن علي، عن أبيه، عن جده، عن علي عليه السلام قال: لما قبض رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، وحفر له قالوا: أنلحد أم نضرح؟
فقال علي عليه السلام: سمعت رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يقول: (( اللحد لنا، والضرح لغيرنا ))، فلحد للنبي صلى الله عليه وآله وسلم.
وروي عن سعيد بن جبير، عن ابن عباس، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: (( اللحد لنا، والشق لغيرنا )).
وقلنا: إنَّه يضرح عند الضرورة إذا لم يمكن غيره.
__________
(1) سقط من (ب): من.
(2) في (ب): جماعة.
(3) انظر الأحكام 1/161، 162، 163. والمنتخب ص68.
وقلنا: إنَّه يكره أن يبسط للميت في قبره شيء؛ لأنَّه إضاعة مال؛ ولأنه لا يواري به، فلا غرض فيه. (26/2)
وكرهنا التزويق، وإدخال الآجر، والتجصيص، والتسقيف؛ لأنَّه زينة الدنيا. ولما روى أبو الزبير عن جابر أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال: "لا تجصصوا القبور، ولا تبنوا عليها".
ولم نكره التطيين، وطرح الرضراض فوقه؛ ليتميز عن غيره؛ لأنَّه لا يتميز إلاَّ بذلك، والسنة تمييز القبور.
وروى محمد بن منصور بإسناده، عن جعفر، عن أبيه، قال: رفع قبر رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم من حصباء العرصة.
وقلنا: يدخل الميت من جهة رأسه إلى القبر، ويسل سلاً، ويحرف وجهه إلى القبلة؛ لما رواه زيد بن علي، عن أبيه، عن جده، عن علي عليه السلام، قال: صلى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم على جنازة رجل من ولد عبد المطلب فأمر بالسرير، فوضع من قبل رجلي اللحد، ثُمَّ أمر به فسل سلاً، ثُمَّ قال عليه السلام: (( ضعوه في حفرته على جنبه الأيمن مستقبل القبلة، وقولوا: بسم الله وبالله وفي سبيل الله وعلى ملة رسول الله، لا تكبوه لوجهه، ولا تلقوه لقفاه )). فلما ألقي عليه التراب، حثى عليه رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ثلاث حثيات من تراب، ثُمَّ أمر بقبره فربع، ورش عليه قربة من ماء. وفي حديث حصين بن عامر أن أبا ذر حين أوصى إليّ فقال لي: يا حصين، إذا أنا مت، فافعل بي كذا وكذا، وسلني سلاً، وربع قبري تربيعاً.
وقلنا: إنَّه يوسد بعض قبره، إما تراباً، وإما نشزاً؛ ليستوي رأس الميت، وليبقى مستقبل القبلة، ولا يزول عن موضعه، ولا يدور.
وقلنا: لا تدفن الجماعة في قبر واحد إلاَّ من ضرورة، فإن دعت الضرورة إلى ذلك، حجز بينهم بحواجز من التراب؛ لأن السنة جارية في أن يدفن كل واحد في قبره على حدة، وأجزنا أن يدفن الجماعة في قبر واحد للضرورة؛ لما روي أن يوم أحد أصاب الناس فيه جهد شديد، فشُكِيَ ذلك إلى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فقال: (( احفروا، وأوسعوا، وأحسنوا، وادفنوا في القبر الاثنين والثلاثة )). (26/3)
وقلنا: إنَّه يحجز بينهم بحواجز من التراب؛ ليكون كل واحد منهم قد ووري.
وقلنا: إنَّه يستحب أن يحثى في القبر ثلاث حثيات من التراب؛ لما روي في حديث زيد بن علي عليه السلام أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم حثى ثلاث حثيات.
وروى محمد بن منصور بإسناده، عن أبي هريرة قال: قال رسول الله /249/ صلى الله عليه وآله وسلم: (( من حثى في قبر أخيه ثلاث حثيات، كفر الله عنه ذنوب عام )).
وقلنا: إنَّه يستحب تربيع القبر؛ لما في حديث زيد بن علي عليهما السلام أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم لما حثى ثلاث حثيات، أمر بالقبر فربع.
وروي أنَّه صلى الله عليه وآله وسلم ربع قبر ابنه إبراهيم عليه السلام بيده.
وروي أنَّه ربع قبر حمزة عليه السلام بيده، وهما إلى الآن مربعان.
وفي حديث حصين بن عامر أن أبا ذر رحمه الله قال لي: (( ربع قبري تربيعاً )).
واختلف في قبر النبي صلى الله عليه وآله وسلم، فمن الناس من قال: إنَّه مسنم، ومنهم من قال: إنَّه مربع.
وقلنا: في من يموت في البحر، ولا يتمكن من دفنه في البر أنَّه يغسل، ويكفن، ويعصب، ثُمَّ يُرسَّب في البحر؛ لأنَّه لا يمكن غيره، وهو أقرب ما يتأتى في مواراته؛ ولأنه لو لم يفعل به، لنتن وتغير وتأذى الناس به.
باب القول في كيفية وجوب الزكاة (27/1)
[مسألة: في شروط وجوب الزكاة]
تجب الزكاة في أصول الأموال بحصول الشرطين:
أحدهما: النصاب.
والثاني: حلول الحول.
إلاَّ ما أخرجت الأرض، فإن الزكاة تجب فيه عند بلوغه وإدراكه، ولا بد فيه من التقدير.
وتقدير(1) جميع ما تجب فيه الزكاة لا يعدو أن يكون. [1] بالوزن نحو ما يقدر به الذهب والفضة. [2] أو العدد نحو ما يقدر به المواشي من الإبل والبقر والغنم.
[3] أو الكيل، نحو ما يقدر به ما يكال مما أخرجت الأرض.
[4] أو القيمة، نحو ما يقدر به أموال التجارة وما جرى مجراها، وما لا يكال مما أخرجت الأرض.
وقد نص في (الأحكام)(2) و(المنتخب) على تفاصيل هذه الجملة، وفيها خلاف من وجهين:
أحدهما: ما ذهب إليه بعض الفقهاء أن زكاة ما أخرجت الأرض تجب في قليله وكثيره، وسنذكر الكلام فيه على ما يجب في باب زكاة ما أخرجت الأرض.
والثاني: ما كان يذهب إليه الناصر للحق الحسن بن علي عليه السلام في أن الزكاة تجب في المال المستفاد يوم يستفاد، وقد حُكي هذا القول عن ابن عباس.
وسائر فقهاء أهل البيت عليهم السلام وغيرهم مجمعون على خلاف ذلك.
والأصل فيه ما:
أخبرنا به أبو العباس الحسني رحمه الله، قال: أخبرنا أبو زيد العلوي، قال: حدثنا الحسين بن القاسم الكوفي، قال: حدثنا أحمد بن محمد بن جعفر العلوي، عن عمه علي بن الحسين، عن أبي هاشم المحمدي، قال: حدثني أبو الحسن بن علي (بن عمر بن علي) عن أبيه، عن جده، (عن علي بن الحسين)(3) ، عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال: ((لا زكاة في مال حتى يحول عليه الحول)).
__________
(1) . في (ب): بتقدير.
(2) . انظر الأحكام 1/170 ـ 195 والمنتخب 69/94.
(3) . ساقط من (ب) و (أ).
وروى الحسن بن سفيان، قال: حدثنا أبو بكر يحيى بن موسى، قال: حدثنا هارون بن صالح الطلحي، قال: حدثني عبد الرحمن بن زيد بن أسلم، عن أبيه، عن عبد الله بن عمر، قال: قال رسول اللّه صلى الله عليه وآله وسلم: ((من استفاد مالاً، فلا زكاة عليه(1) حتى يحول عليه الحول)). (27/2)
وروى الحسن بن سفيان بإسناده، عن عمر، عن عائشة، عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم نحوه. وروي غيره عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم نحوه.
وروى محمد بن منصور، عن جعفر بن محمد (بن عبد السلام)(2) ، عن أبي خلف الأحمر، عن سفيان، عن أبي إسحاق، عن الحارث، عن علي عليه السلام، قال: ((ليس في مال زكاة حتى يحل عليه الحول)).
فإن قيل: المراد به المال الذي قد زكي.
قيل له: عمومه يقتضي أن لا زكاة في شيء من الأموال، زكي أو لم يزك، حتى يحول عليه الحول.
فإن قيل: فأنتم توجبون الزكاة في الزيادة على النصاب، وإن لم يحول عليها الحول.
قيل له: نحن لا نوجب الزكاة فيها، إلاَّ بأن يحول عليها الحول، إلاَّ أن الحول المراعى هو حول الأصل دون حول الزيادة، ألا ترى أنا لا نوجب فيها الزكاة يوم حصولها، وإنما نراعي انقضاء حول الأصل، فلم نخرج من ظاهر الخبر.
فإن قيل: فما أخرجت /3/ الأرض، فإن الزكاة تجب فيه حين حصوله من غير مراعاة الحول.
قيل له: هذا مخصوص من الخبر بقوله تعالى: {وَآتُوا حَقَّهُ يَوْمَ حَصَادِهِ}[الأنعام: 141].
فإن قيل: فقوله صلى الله عليه وآله وسلم: ((في الرِّقَة ربع العشر))، يقتضي وجوبها في أعم الأحوال.
قيل له: فهو مخصوص بقوله: ((لا زكاة في مال حتى يحول عليه الحول)).
فإن قيل: ليس تخصيصكم خبرنا بخبركم أولى من تخصيصنا خبركم بخبرنا.
__________
(1) . في (أ): فلا زكاة عليه فيه.
(2) . سقط من (أ) و (ب).
قيل له: التخصيص لخبركم بخبرنا أولى؛ إذ هو بموضع الخلاف أخص؛ لأن فيه بيان الوقت الذي يجب فيه الإخراج، وفيه تنازعنا، وخبركم فيه بيان المقدار المأخوذ فقط، فصار استعمالنا أولى من استعمالكم. (27/3)
فإن قاسوها على صدقة العشر، قسناها على الزكاة في الحول الثاني؛ بعلة أنها زكاة تتكرر(1)، فوجب أن يراعى فيها الحول، ويمكن أن يقاس الحول على النصاب؛ بعلة أنَّه أحد شرطي الزكاة المتكررة، على أن المسألة وفاق؛ إذ قد انقرض فيها الخلاف بعد ابن عباس، فلم يحفظ فيها خلاف عن أحد إلى زمان الناصر (ع)، والخلاف(2) إذا انقرض في زمان، لم يصح القول به، على أن الذي نذهب إليه هو قول أمير المؤمنين، رواه زيد بن علي، عن أبيه، عن جده، عن علي عليهم السلام.
مسألة [في المال المستفاد في بعض الحول هل تجب منه الزكاة]
قال: ولو أن رجلاً ملك النصاب في أول الحول، ثم استفاد إليه في بعض الحول شيئاً من جنسه، لزمه عند رأس الحول إخراج الزكاة عن الأصل والمستفاد جميعاً سواء كان ذلك عيناً أو غيره.
وذلك منصوص عليه في (الأحكام)(3) .
والدليل على ذلك قول الله تعالى: {خُذْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ صَدَقَةً تُطَهِّرُهُمْ وَتُزَكِّيْهِمْ بِهَا}[التوبة: 103] فاقتضى عموم قوله: {خُذْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ} وجوب الأخذ من الفائدة والأصل جميعاً.
وقوله: ((في خمس من الإبل شاة، ثم لا شيء في زيادتها حتى تبلغ عشراً، فإذا بلغت عشراً، ففيها شاتان))، فأوجب الزكاة في الزيادة على سبيل الإطلاق غير مقيد بشرط، فوجب ما ذهبنا إليه.
يدل على ذلك قوله صلى الله عليه وآله وسلم: ((وفي خمس وعشرين ابنة مخاض، إلى خمس وثلاثين، فإذا زادت واحدة، ففيها بنت لبون))، ولم يشترط أن تكون الزيادة في أول الحول أو آخره، فاقتضى ما ذهبنا إليه.
__________
(1) . في (أ): تكررت.
(2) . في (أ) و (ب): فإذا.
(3) . انظر الأحكام 1/201.
ويدل على ذلك ما: روي عن عاصم بن ضمرة، عن علي عليه السلام، عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم في صدقة المواشي، أنَّه قال: ((يُعدُّ صغيرها وكبيرها))، وَعدُّ الصغير يقتضي أنه يعتد به قبل الحول. (27/4)
وروي عن عمر أنَّه قال للمتصدق: ((عِد عليهم السخلة، وإن راح بها الراعي على كفه)).
وروي عن جابر بن زيد، عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم أنَّه قال: ((اعلموا من السنة شهراً تؤدون فيه زكاة أموالكم، فما حدث من مال بعده، فلا زكاة فيه حتى يحول رأس السنة)) وذلك لا يكون إلاَّ بأن لا يعتبر حول الفوائد؛ لأنَّه لو اعتبر لكل فائدة حولها، لم يجب أن يكون وقت الأداء وقتاً واحداً، بل كان يجب أن(1) تختلف أوقاته بحسب اختلاف أوقات الفوائد.
فإن قيل: قوله صلى الله عليه وآله وسلم: ((لا زكاة في مال حتى يحول عليه الحول))، يقتضي /4/ أن الفائدة لا يجب زكاتها، إلاَّ بأن يحول حولها.
قيل له: المراد الحول(2) هو حول الأصل، ألا ترى أنَّه معرَّف بالألف واللام، وهما للعهد، وليس يمتنع أن يقال: إن حول الأصل قد حال على الأصل والفائدة؛ لأن حول الحول اسم لوقوع آخر جزء من الحول. يبين ذلك أنك تقول: (اليوم)(3) حال الحول على مالي(4) ، والمراد به وقوع آخر جزء منه، وإذا كان ذلك كذلك، كان هذا الخبر ملائماً لمذهبنا؛ لأنا لا نوجب الزكاة في الفائدة إلاَّ بأن يحول عليها الحول، إلاَّ أنا نعتبر بحول(5) الأصل دون حولها، وليس في الخبر ما يوجب أن الاعتبار يجب أن يكون بحولها، و ـ أيضاً ـ لا(6) خلاف في أن السخال تضم إلى الأمهات، فتزكى مع الأمهات بحولها، فكذلك سائر الفوائد؛ والعلة أنها زيادة مال في حول على نصاب من جنسه.
__________
(1) . في (ب): أنه.
(2) . في (أ) و (ب): بحول الحول.
(3) . ساقط من (أ).
(4) . في (أ): مال.
(5) . في (أ): حول.
(6) . في (أ): فلا.
فإن قيل: ليست العلة في ضم السخال إلى الأمهات ما ذكرتم، وإنما العلة فيها أنها من الأمهات، فوجب الحق فيها من طريق السراية. (27/5)
قيل له: هذه علة لا تتعدى موضع الوفاق، على أنها لا تدافع علتنا، فلو قلنا بهما جميعاً لم يكن علينا معتَرض، وـ أيضاً ـ لا خلاف بيننا وبين الشافعي ـ وهو المخالف في هذه المسألة ـ أنَّه لا معتبر بنصاب الفائدة، وإنما المعتبر بنصاب الأصل، فوجب أن يكون الحول كذلك قياساً عليه؛ والعلة أن كل واحد منهما سبب وجوب الزكاة.
فإن قاسوها على الأصل، أو على الفائدة من غير جنسه، كان قياسنا أولى؛ لاستناده إلى الظواهر التي ذكرناها؛ ولأن قياس الفائدة على الفائدة أولى من قياسها على الأصل؛ ولأن قياس المتجانسين أولى من قياس المختلفي الجنس، على أنَّه لا خلاف بيننا وبينهم أن من ملك مأتي درهم أشهراً، ثم اشترى عروضاً للتجارة، فصارت قيمتها يوم استكمال حول المأتين ثلاثمائة درهم أنَّه يزكى العرض بقيمته، وهذا يشهد لعلتنا، ويبين أن حكم الفوائد يجب أن يكون حكم الأصل.
مسألة [في زكاة المال المفقود]
قال: ولو أن رجلاً ضاع منه مال بسرقة، أو غيرها في بلد المسلمين، فغاب عنه سنين، لزمه أن يخرج زكاته متى ظفر به للسنين المتقدمة، وإن غلب عليه المشركون في دار الحرب، فبقي في أيديهم سنين، ثم ظفر به صاحبه، لم يلزمه زكاة لما مضى من السنين.
وهذا منصوص عليه في (الأحكام) و(المنتخب)(1) . ويدل على ذلك قول اللّه تعالى: {خُذْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ صَدَقَةً تُطَهِّرُهُمْ وَتُزَكِّيْهِمْ بِهَا}[التوبة: 103] وقوله: {أَنْفِقُوا مِنْ طَيِّبَاتِ مَا كَسَبْتُمْ}[البقرة: 267]. وقال صلى الله عليه وآله وسلم: ((في خمس من الإبل شاة)). فلم يشترط في شيء من ذلك ملك اليد، فعموم ما ذكرناه يقتضي وجوب الزكاة في الأموال، سواء كانت في يد مالكها، أو كانت خارجة عن يده.
__________
(1) . انظر الأحكام 1/202 ، 203، وانظر المنتخب 74.
وروى محمد بن منصور، عن علي بن صفوان، قال: حدثنا ابن فضيل، قال: حدثنا أشعث، عن ابن سيرين، قال: حُدِّثْنَا أن علياً عليه /5/ السلام سئل عن المال الغائب يكون لرجل أيؤدي زكاته؟ قال: (نعم. ما يمنعه)؟ قال: لا يقدر عليه. قال: (فإذا قدر عليه، فليزك ما غاب عنه). (27/6)
فإن قيل: فهلاَّ قلتم إنَّه يؤخذ عنها الزكاة، وإن لم يظفر بها؛ لأن الظواهر لم تستثن تلك الحال؟
قيل له: خصصناها بدلالة الإجماع، وبما رويناه عن علي عليه السلام، وـ أيضاً ـ قد ثبت أن ملكه كما كان لم يتغير، وأن المال مما تجب فيه الزكاة، وليس لهم أن يعترضوا هذه العلة بأن الزكاة لا تؤخذ عنها قبل أن يظفر بها؛ لأنا عللنا لإيجاب الزكاة، والإيجاب حاصل، إلاَّ أن وقت إخراجها هو حين الظفر بها.
فإن قيل: إنَّه إذا اغتصب عليه كان صاحبها ممنوعاً من ابتغاء نمائها، فأشبه المعلوفة.
قيل له: هذا لا يوجب إسقاط الزكاة، ألا ترى أن رجلاً لو حبس، ومنع التصرف (في ماله)(1) لم تسقط الزكاة عنه لما ملك، وكذلك لو سافر هو، وغاب عن المال(2) غيبة لا يمكنه معها التصرف، لم تسقط زكاة ماله، وكذا عندنا المحجور عليه للدين، والصبي، والمجنون.
وبهذا(3) الذي ذكرناه يسقط قول من يقول أنَّه يوجب نقصاً في الملك؛ لأنَّه ممنوع من التصرف فيه.
وقلنا: إن ما غلب عليه المشركون في دار الحرب إذا رجع إلى صاحبه لم يزكِّ(4) لما مضى من السنين؛ لأن ملك المالك يكون قد زال عنه، وصار ملكاً لمن اغتصبه؛ لأن الملك في دار الحرب يكون بالغلبة فقط، يبين ذلك أن أهل الحرب إذا اغتصب بعضهم أموال بعض، ثم أسلموا، خُلِّي كل إنسان منهم وما في يده.
__________
(1) . سقط من (أ) و (ب).
(2) . في (أ): عن الزمن.
(3) . في (ب) و (ب): هذا.
(4) . في (أ): لم يزكه.
والأصل في ذلك قول اللّه تعالى: {لِلْفُقَرَاءِ الْمُهَاجِرِيْنَ الَّذِيْنَ أُخْرِجُوا مِنْ دِيَارِهِمْ وَأَمْوَالِهِمْ}[الحشر:8] فوصفهم اللّه تعالى بأنهم فقراء، مع أنهم كانت لهم أموال في دار الحرب، فلو كان استيلاء الكفار عليها لا يوجب تملكهم وخروجها(1) عن أن تكون ملكاً للمهاجرين، لم يسمهم اللّه تعالى الفقراء(2) ؛ لأن الفقير على الحقيقة من لا يملك، أو يملك الشيء اليسير، ومثله لا يعبر عنه بالأموال. (27/7)
ويدل على(3) ذلك ما:
أخبرنا به أبو بكر المقرئ، قال: حدثنا الطحاوي، قال: حدثنا أحمد بن داود، قال: حدثنا عبيد الله بن محمد التيمي، قال: أخبرنا حماد بن سلمة، عن سماك بن حرب، عن تميم بن طرفة، أن رجلاً أصاب له العدو بعيراً، فاشتراه رجل منهم، فجاء به، فعرفه صاحبه، فخاصمه إلى رسول اللّه صلى الله عليه وآله وسلم، فقال: ((إن شئت، اعطه ثمنه وهو لك، وإلا فهو له)).
وأخبرنا أبو بكر المقرئ، قال: حدثنا أبو جعفر الطحاوي، قال: حدثنا أحمد بن داود، قال: حدثنا عبيد الله، قال: أخبرنا حماد بن سلمة، عن قتادة، عن خلاس، عن علي عليه السلام، قال: ((من اشترى ما أخذه العدو فهو جائز)).
وأخبرنا المقرئ، قال: حدثنا الطحاوي، قال: حدثنا محمد بن خزيمة، قال: حدثنا يوسف بن عدي، قال: حدثنا ابن المبارك، عن سعيد بن أبي عروبة، عن قتادة، عن رجاء بن حيوة، عن قبيصة بن ذؤيب، أن عمر قال فيما أحرزه المشركون، فأصابه المسلمون، فعرفه صاحبه، قال: ((إذا(4) أدركه قبل أن يقسم، فهو له، وإن جرت فيه السهام، فلا شيء /6/ له.
فكل ذلك يحقق أن ما أحرزه المشركون يصير ملكاً لهم، فلذلك قلنا: إن صاحبه إن(5) ظفر به بعد سنين، لم يزكِّ لما مضى من السنين؛ لأن سبيله يكون سبيل مال مستفاد لتجدد الملك عليه.
__________
(1) . في (أ): أخرجوها.
(2) . في (أ) و (ب): فقراء.
(3) . في (أ) و (ب): عليه.
(4) . في (أ) و (ب): فإن أدركه.
(5) . في (أ) و (ب): إذا.
فإن قيل: فأنتم تقولون: إن صاحبه لو وجده قبل القسمة، كان أولى به، وإن وجده بعد القسمة، كان أولى(1) بالقيمة، وهذا يمنع زوال ملكه. (27/8)
قيل له: لا يمتنع أن يكون الإنسان يصير أولى بالشيء من غيره لسبب من الأسباب، وإن لم يكن ملكاً له، وإنما يتملكه من بعده، ألا ترى أن الشفيع يكون أولى من المشتري بالمبيع، وإن لم يكن ملكاً له؟ فعلى هذا لا يمتنع أن يكون صاحب الشيء الذي عرفه أولى بتملكه من غيره من المسلمين، ألا ترى أنا بعد القسمة لا نجعل له أن يتملكه إلاَّ بالقيمة؟.
وروى أبو جعفر ـ بأسانيد تركتها نحو هذا القول فيما أحرزه المشركون ـ عن أبي عبيدة، وزيد بن ثابت، ولم يروَ خلافه عن أحد منهم، فجرى مجرى الإجماع.
فإن قيل: روي عن أبي بكر أنَّه قال: يرد على صاحبه، قسم، أو لم يقسم.
قيل له: لم يرو أنَّه قال: يرد بغير قيمة، ونحن لا ننكر أنَّه يرد عليه في الحالين، لكنا نقول: إنَّه يرد عليه بالقيمة بعد القسمة.
ومن طريق النظر أنَّه لا خلاف في أن بعضهم إذا أحرز أموال البعض بالغلبة ملكه، فكذلك إذا أحرزوا أموالنا قياساً عليه؛ والعلة أنَّه إحراز على سبيل الغلبة وقع من المشركين لما يصح أن يتملكوا، (فوجب أن يملكوا)(2) ، وهو ـ أيضاً ـ قياس على ما نملكه عليهم بالإحراز والغلبة، والعلة وقوع الغلبة لما يصح أن يمتلك مع اختلاف الدارين، والدينين، وانتفاء الذمة والأمان.
مسألة [في زكاة المال الذي يصرف في تجارة ثم يزيد السعر أو ينقص]
قال: ومن صرف مالاً له في تجارة تلزمه في مثله الزكاة، ثم زاد سعره، أو نقص قبل الحول، لزمته الزكاة على ما يكون من قيمته عند انتهاء الحول، زادت، أو نقصت.
وهذا منصوص عليه في (الأحكام) و(المنتخب)(3) ، وهو مما لا أحفظ فيه خلافاً بين من أوجب الزكاة في مال التجارة.
__________
(1) . في (أ): أولى به بالقيمة.
(2) . سقط من (أ) و (ب).
(3) . انظر الأحكام 1/204، وانظر المنتخب 72.
وذكر أبو بكر الجصاص في شرحه(1) (مختصر الطحاوي) أنَّه لا خلاف فيه بين الفقهاء، وإنما الخلاف في العين من الوَرْق والذهب إذا كان نصاباً (عند)(2) أول الحول وآخره؛ لأنَّه قال: ((ولو كان معه عشرة دنانير ثم ملك قبل الحول عشرة أخرى، أخرج الزكاة عنهما(3)))، فنبه على أنَّه لا معتبر بوسط السنة، زاد المال فيه، أو نقص، كما صرح به في مال التجارة. (27/9)
ووجهه أنَّه مقيس على مال التجارة؛ بعلة بقاء بعض النصاب الذي تعلق الحكم به في أول السنة وكماله في آخرها، وليس يجب أن يكون نقصان(4) كهلاك الأصل، كما لا يجب ذلك في أموال التجارة، ومن الناس من ذهب إلى أن الاعتبار بكونه نصاباً في (آخر)(5) الحول، وأنه لا اعتبار بأوله، وذلك غير صحيح عندنا؛ لأن السخال لما وجب ضمها إلى الأمهات، وجب مراعاة النصاب في أول الحول وآخره، وكذلك العرض؛ لأنَّه فرع لزكاة الناض كما أن السخال فرع الأمهات؛ ولأن أول الحول مقيس على آخره، والعلة أنَّه أحد طرفي الحول المراعى لإخراج الزكاة، فوجب أن نعتبر به.
مسألة [في الدين، هل يسقط الزكاة؟]
ومن كان عليه دين يستغرق(6) ماله، أو يوفى عليه، لم يسقط لذلك زكاة ماله.
وقد نص (يحيى بن الحسين عليه السلام)(7) في (الأحكام) و(المنتخب)(8) جميعاً على أن الدين لا يسقط /7/ الزكاة.
والدليل على ذلك قول اللّه تعالى: {خُذْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ صَدَقَةً تُطَهِّرُهُمْ وَتُزَكِّيَهُمْ بِهَا}[التوبة:103] وقوله تعالى: {أَنْفِقُوا مِنْ طَيِّبَاتِ مَا كَسَبْتُمْ}[البقرة: 267].
__________
(1) . في (أ) و (ب): الشرح.
(2) . سقط من (أ) و (ب).
(3) . في (أ) و (ب): عنها.
(4) ـ في (أ): وليس يجب أن يكون النصاب كفصان كالأصل. و (ب): كملاً كالأصل وهامشها النصاب بدل النقصان.
(5) . سقط من (أ).
(6) . في (أ) مستغرقة.
(7) . زيادة في (ج).
(8) . انظر الأحكام 1/203، وانظر المنتخب 74.
وقوله صلى الله عليه وآله وسلم: ((في الرِّقَة ربع العشر))، إلى غير ذلك من الظواهر، ولم يستثن في شيء منها من عليه الدين فاقتضى عمومها وجوب الزكاة سواء كان على صاحب المال دين، أم(1) لم يكن. (27/10)
فإن قيل: فقد قال اللّه تعالى: {إِنَّمَا الصَّدَقَاتُ لِلْفُقَرَاءِ(2)} [إلى قوله: {وَالْغَارِمِيْنَ}](3)، وقال صلى الله عليه وآله وسلم لمعاذ بن جبل حين بعثه إلى(4) اليمن: ((خذ من أغنيائهم، ورد في فقرائهم))، فدل ذلك على أن الغارم فقير؛ لأنَّه ممن يُرد فيهم، ومن يرد فيهم يجب أن يكونوا فقراء(5)، والفقير لا تلزمه الزكاة لقوله: ((خذ من أغنيائهم(6))).
قيل له: لسنا نسلم أن الغارم يعطى من الصدقة ما كان في ملكه ما يلزمه الزكاة فيه لأنه لا يكون فقيراً (حتى يؤديه في دينه، ثم بعد ذلك يأخذ الزكاة؛ لأن الغارم يأخذ بالفقر كالمجاهد، ومن كان في ملكه ما يلزمه الزكاة فيه لا يكون فقيراً)(7).
فإن قيل: عموم قوله: {وَالْغَارِمِيْنَ} يقتضي أن كل غارم يأخذها.
قيل له: إنما قام الدليل على أ ن الزكاة تؤخذ بالفقر، وأن الأصناف أصناف الفقراء يقتضي تخصيصه، وسنبين الكلام من بعد فيه إذا انتهينا إلى موضعه.
__________
(1) . في (أ): أو.
(2) . في (أ) و (ب): {.. للفقراء والمساكين}.
(3) . سقط من (أ) و (ب).
(4) . في (أ) و (ب): بعثه إليهم.
(5) . في (أ) و (ب): يكون فقيراً.
(6) . في (أ) أموالهم.
(7) . في (أ): ما بين القوسين في (ج) بدل ما أثبته.
ويدل على ذلك أنَّه لا خلاف بيننا وبين من خالفنا في هذه المسألة أن من كان عليه خمسة أوسق ديناً، (وكان له خمسة أوسق)(1) أنه يلزمه إخراج العشر، فكذلك ما اختلفنا فيه؛ بعلة أنَّه حق يلزمه في الذمة، وكل(2) حق يلزمه في الذمة لا يمنع وجوب الزكاة، وهو ـ أيضاً ـ مقيس على ملك من لا دين عليه؛ بعلة حصول النصاب في ملكه مع حول الحول عليه، وهذه العلة لا ينقضها قولنا: إن الزكاة تمنع الزكاة؛ لأن الزكاة تستحق عندنا في العين، فمن عليه الزكاة في ماله بعينه، انتقص من ملكه بمقداره، وليس كذلك الدين؛ لأنَّه لا يستحق معيناً. (27/11)
فإن قاسوه على الإرث بأنه مال يؤخذ بغير عوض، فيجب أن يمنع الدين منه، كانت علتهم منتقضة بالعشر، على أنها لو سَلِمت، لكان قياسنا أولى؛ لأنَّه قياس الزكاة على الزكاة؛ ولأن الظواهر تشهد له؛ ولأنه يوجب، وقياسهم يسقط، والموجب في الزكاة عندنا أولى.
فإن قيل: لا خلاف بيننا أن صاحب الدين إذا استوفاه زكاه لما مضى من السنين، فدل ذلك على أن المال لصاحب الدين حكماً، وإذا ثبت ذلك، لم يجب أن تؤخذ زكاته ممن في يده المال.
قيل له: هذا الذي قلتم لا معنى له؛ لأنَّه لا إشكال في أنَّه ملك لمن هو في يده، وإن كان عليه الدين لجواز تصرفه فيه كما يتصرف الملاك، فأولى أن تلزمه الزكاة، وهذه النكتة مما اعتمدها يحيى بن الحسين عليه السلام في الدلالة على المسألة، وبيَّن بها أن المال له، وأن الزكاة يجب أن تلزمه إن كان المال له.
فإن قيل: فإنه يؤدي إلى أن تؤخذ من المال الواحد زكاتان.
__________
(1) . ما بين القوسين سقط من (أ) و (ب).
(2) . في (أ) و (ب): فكل.
قيل له: وما في ذلك ما ينكر إذا دل الشرع عليه، على أنَّه لا خلاف بيننا وبينهم أن الفائدة تزكى مع الأصل إذا حصلت قبل الحول، ولو بساعة، فلو أن رجلاً يملك النصاب، ثم ملك قبل الحول بيوم مالاً من جنسه، لوجب عليه أن يزكيه مع الأصل، ثم لو ملكه(1) آخر قبل حول ماله بساعة، لزمه ـ أيضاً ـ أن يزكيه، فيكون المال الواحد قد لزم فيه زكاتان، ولم يمتنع ذلك، فلا معنى لتعلقهم بما تعلقوا به. (27/12)
فإن قيل: لو أخذ صاحب /8/ الدين مقدار دينه من ماله بغير إذنه، لكان له ذلك، وصار أولى به، فدل ذلك على أنَّه مستحق لعينه، فوجب أن تكون الزكاة لازمة له دون من هو في يده.
قيل له: لسنا نسلم أن لصاحب الدين أخذه بغير إذنه إلاَّ بحكم الحاكم(2)، وقد نص (3) يحيى بن الحسين على أن صاحب الدين لو سرق من مال غريمه بمقدار حقه لزمه القطع، على أنا لو سلمنا ذلك لم يدل على أن المال لصاحب الدين؛ لأنَّه وإن ملكه بالأخذ، وكان له أن يأخذ، فليس بمالك له قبل الأخذ.
فإن قيل: في رواية زيد بن علي، عن أبيه، عن علي عليهم السلام، قال: ((إذا كان لك دين، وعليك دين، فاحتسب بذلك، وزكِّ ما فضل عن الدين الذي عليك)).
قيل له: لا يمتنع أن يكون المراد به إخراج الزكاة من الفاضل فيكون الفرض تقديم الدين، ويكون المخرج ربع عشر الجميع، إذ ليس فيه أن يخرج ربع عشر الفاضل، وهذا هو موضع الخلاف، والخبر لم ينطق به، وعلى هذا يتأول ما روي أن عثمان خطب بحضرة الصحابة، فقال: ((من كان عليه دين، فليؤده، ثم ليزكِّ بقية ماله)) إذ جائز أن يكون الفرض تقديم الدين، وأن يخرج الواجب من البقية، وهو ربع عشر الجميع.
مسألة [في زكاة الدين متى تجب؟]
قال: وصاحب الدين إذا استوفاه، زكاه لما مضى من السنين، إلاَّ أن تنقصه الزكاة عن(4) النصاب.
__________
(1) . في (ب): ملك.
(2) ـ في (أ) و (ب): إلا بقضاء القاضي
(3) . انظر المنتخب 410.
(4) . في (أ) و (ب): بين.
قال القاسم عليه السلام، وكذلك القول في صداق المرأة يكون على زوجها. (27/13)
وكل ذلك منصوص عليه في (الأحكام)(1)، وما حكيناه عن القاسم عليه السلام منصوص عليه في (مسائل النيروسي).
ولم يفصل أصحابنا بين أن يكون الدين على مليء، أو معسر، مقر أو منكر، وأي دين كان.
ووجهه أنَّه لا خلاف في من كان له دين على مقر واجد، وكان عن ثمنٍ ما تجب فيه الزكاة أن صاحبه إذا استوفاه، زكاه لما مضى من السنين. فوجب ذلك في سائر الديون.
والمعنى أنَّه حق ثابت في الذمة، فوجب أن يكون سبيله سبيل ما ذكرنا.
وروى زيد بن علي، عن أبيه، عن جده، عن علي عليهم السلام أنَّه كان يقول : ((زك الدين الذي لك)).
وروى محمد بن منصور، عن محمد بن جميل، عن إبراهيم بن ميمون، عن جرير، عن منصور، عن الحكم، عن علي عليه السلام، قال: ((إذا كان لك، أو لرجل دين سنين، ثم قبضه، فليؤد زكاته لما مضى من السنين)).
فإن قيل: روى محمد بن منصور ـ بإسناده في كتاب الزكاة ـ عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم أنه قال: ((ليس على من أقرض مالاً زكاة)).
قيل له: يحتمل أن يكون المراد به ما دام قرضاً، وكذلك نقول: إنَّه لا يلزم أداء الزكاة حتى يرجع إليه.
وقلنا: إلاَّ أن تنقصه الزكاة عن النصاب؛ لأن الزكاة عندنا تستحق في عين المزكى، وإذا استُحق، خرج المستحق عن ملك صاحبه، وسنبين الكلام في مسألة تأخير الزكاة.
مسألة [في زكاة الحلي والمراكب والأواني]
قال: والزكاة واجبة في الحلي، والمراكب، وأواني الذهب والفضة.
وهذا منصوص عليه في (الأحكام) و(المنتخب)(2)، وهو مذهب زيد بن علي عليه السلام، وروي ـ أيضاً ـ عن الناصر، وروي عنه ـ أيضاً ـ أنَّه لا زكاة في الحلي.
__________
(1) . انظر الأحكام 1/191.
(2) . انظر الأحكام 1/189 والمنتخب 73.
وروى أبو بكر(1) بن أبي شيبة مثل قولنا عن عمر بن الخطاب، وعبدالله بن شداد، وعبدالله بن عمرو، وهو المروي عن ابن مسعود، وعن جابر بن زيد. (27/14)
والدليل على ذلك قول اللّه تعالى: {خُذْ مِنْ أَمْوَالِهْمْ صَدَقَةً /9/ تُطَهِّرُهُمْ وَتُزَكِّيهُمْ بِهَا}[التوبة: 103] وهذا عام في جميع الأموال، فوجب أن تكون الحلي داخلاً فيها، وقوله عزَّ وجل: {وَالَّذِيْنَ يَكْنِزُونَ الذَّهَبَ والْفِضَّةَ..} الآية.
وقد روي أن المراد به الزكاة.
قال أبو داود في (السنن): حدثنا محمد بن عيسى، قال: حدثنا عباد، عن ثابت بن عجلان، عن عطاء، عن أم سلمة، قالت: ((كنت ألبس أوضحاً من ذهب فقلت: يا رسول اللّه أكنز هو؟ فقال: ((ما بلغ أن تؤدى زكاته، فزكي، فليس بكنز)).
وروى أبو داود، وغيره، عن عمرو بن شعيب، عن أبيه، عن جده أن امرأة أتت النبي صلى الله عليه وآله وسلم، ومعها بنت لها، في يد ابنتها مسكتان من ذهب غليظتان، فقال: ((أتعطين زكاة هذه ))؟ فقالت: لا. قال: ((أيسرك أن يسورك اللّه بهما يوم القيامة سوارين من نار)). فدل ذلك على وجوب زكاة الحلي.
فإن قيل: يجوز أن يكون المراد بالتزكية الإعارة، فقد روي ذلك.
قيل له: قوله صلى الله عليه وآله وسلم: ((ما بلغ أن تؤدي زكاته فزكي))، دليل على أن المراد به ليس هو الإعارة؛ لأن الإعارة لا تتعلق بالنصاب، وإنما يتعلق بها الزكاة المعهودة.
__________
(1) . انظر المصنف 2/332.
وقوله: في الخبر الثاني: ((أتعطين زكاة هذا))، ـ أيضاً ـ يدل على أنَّه أراد إعطاء غيرها؛ لأن زكاتها ليست هي، والإعارة تكون إعطاءها نفسها، فبان أن المراد به هو الزكاة (التي نذهب إليها دون الإعارة، على أن الزكاة)(1) التي نذهب إليها دون الإعارة، على أن الزكاة إذا أطلقت في الشريعة، فإنها تفيد إخراج المال على وجه مخصوص دون الإعارة،، والواجب في ألفاظ النبي صلى الله عليه وآله وسلم أن تحمل على المعهود في الشريعة دون ما سواه إلاَّ بدليل، على أن الإعارة غير واجبة بالإجماع، فإذاً ما اقتضى الخبر إيحابه ليس هو الإعارة، فاقتضى ظاهر ما ذكرناه أن يكون المراد به التزكية دون الإعارة. (27/15)
وروى أبو بكر الجصاص بإسناده، عن حماد، عن إبراهيم، عن علقمة، عن عبدالله، أن زينب الثقفية امرأة عبدالله سألت النبي صلى الله عليه وآله وسلم: إن لي طوقاً فيه عشرون مثقالاً، أفأؤدي زكاته؟ قال: ((نعم، نصف مثقال)). قالت: فإن في حجري بني أخ لي أيتام أجعله ـ أو أضعه ـ فيهم؟ قال: نعم.
وهذا صريح فيما ذهبنا إليه لا يحتمل التأويل.
ويدل على ذلك قوله صلى الله عليه وآله وسلم :((في الرِّقة ربع العشر))، وليس لهم أن يمنعوا من إجراء اسم الرقة على الحلي؛ لأنَّه اسم جنس الفضة.
ومما يدل على ذلك أنَّه لا خلاف في النقرة، والسبائك، وفي أواني الذهب والفضة، أن الزكاة تجب فيها، فكذلك (في)(2) الحلي، والعلة أنه جنس الأثمان التي يدور عليها البياعات (عاماً)(3).
ويمكن أن تقاس على المضروب؛ بعلة أنَّه جوهر يجري في جنسه الزكاة، أو(4) بأنه ذهب وورق.
وقياسهم على الإبل العوامل بعلة أنَّه غير مرصد للنماء منتقض بالسبائك والنقرة، على أنَّه لو سلم لكان قياسنا أولى؛ لأنَّه قياس الجنس على الجنس؛ ولأنه يفيد، ويوجب شرعاً.
مسألة [في زكاة مال اليتيم]
__________
(1) . ما بين القوسين سقط من (أ) و (ب).
(2) . سقط من (ب).
(3) . سقط من (أ) و (ب).
(4) . في (أ) و (ب): وبأنه.
والزكاة واجبة في مال اليتيم. (27/16)
وهذا(1) منصوص عليه في (الأحكام)(2)، وبه قال: أحمد بن عيسى، والقاسم بن إبراهيم عليهم السلام.
قال محمد بن منصور: سمعت القاسم عليه السلام ينفي الزكاة في مال اليتيم، ثم سمعت جعفر بن محمد يروي عنه أنه قال: ((في مال اليتيم زكاة (3))) فكأنه هو قوله المرجوع إليه.
وقال محمد، زيد ابنا علي بن الحسين عليهم السلام: ((لا زكاة فيه))(4).
ويدل عليه قول اللّه تعالى: {وَالَّذِيْنَ يَكْنِزُونَ الذَّهَبَ /10/ وَالْفِضَّةَ..} الآية. وقوله صلى الله عليه وآله وسلم: ((في الرقة ربع العشر))، . وقوله: ((في أربعين شاة شاة، وفي خمس من الإبل شاة))، وغيرها من الظواهر؛ إذ لم يخص ملكاً من ملك، فاقتضى عمومها وجوب الزكاة في مال الصبي كوجوبها في مال البالغ.
وروى الحسن بن سفيان بإسناده، عن عمرو بن شعيب، عن أبيه، عن جده، أن رسول اللّه صلى الله عليه وآله وسلم خطب الناس فقال: ((من ولى يتيماً له مال، فليتجر له فيه، ولا يتركه حتى تأكله الصدقة)).
فدل ذلك على أن فيه الزكاة؛ إذ لو لم تجب فيه الزكاة لم يكن لقوله صلى الله عليه وآله وسلم: ((تأكله الصدقة))، معنى.
وروى محمد بن منصور، عن علي بن منذر، عن ابن فضيل، قال: حدثنا أشعث، عن حبيب، عن الصلت المكي، عن ابن أبي رافع، قال: كنا أيتاماً في حجر علي عليه السلام، وكان يزكي أموالنا، فلما دفعها إلينا وجدناها ناقصة. فقلنا له: يا أبا الحسن، مالنا ناقص. فقال: ((احسبوا زكاته)). فحسبنا زكاته، فوجدناه كاملاً، فقال: ((أترون أنَّه كان عندي مال يتيم فلا أزكيه)).
وروى محمد بن منصور بإسناده، عن حسين بن عبدالله بن ضميرة، عن أبيه، عن جده، عن علي عليه السلام، قال: ((يزكى مال اليتيم)).
__________
(1) . في (أ): وهو منصوص.
(2) . انظر الأحكام 1/191.
(3) . في (أ) و (ب): زكاته.
(4) . في (ب): عليه.
وروى(1) ابن أبي ليلى، عن علي عليه السلام (مثله)(2). (27/17)
وروى محمد بن منصور، عن علي بن منذر، عن وكيع، عن إسرائيل، عن عبدالعزيز، عن مجاهد، قال: قال عمر: ((ابتغوا في أموال اليتامى قبل أن تستهلكها الزكاة)).
وروي مثل قولنا عن ابن عمر، وعائشة، فجرى ذلك مجرى الإجماع منهم.
فإن قيل: روي عن ابن مسعود أنَّه قال: توقف زكاة مال اليتيم إلى أن يبلغ، ثم يُعَرَّف فإن شاء أخرج لما مضى من السنين، وإن شاء ترك.
قيل له: قول عبدالله لا يدل على أنَّه لم ير الزكاة، بل يدل على أنَّه رأى أن يجعل إخراجها إلى الصبي إذا بلغ؛ لأنَّه قال: يوقف، ويعرف اليتيم إذا بلغ، فلو كان لا زكاة، في ماله لكان لا معنى لقوله: يوقف ويعرف.
وقوله: إن شاء أخرج، وإن شاء ترك محمول على أن المراد التغليظ دون التخيير(3) مثل قوله تعالى: {فَمَنْ شَاءَ فَلْيُؤْمِنْ وَمَنْ شَاءَ فَلْيَكْفُرْ}[الكهف:290] ليكون موافقاً لصدر كلامه، ولمذهب سائر الصحابة.
فإن قيل: روي عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم أنَّه قال: ((رفع القلم عن ثلاثة، عن النائم حتى يستيقظ، وعن المجنون حتى يفيق، وعن الصبي حتى يحتلم))، فوجب بهذا الظاهر نفي الزكاة عن ماله؛ لأن إيجابها ينافي رفع القلم.
قيل له: نحن لا نوجب عليه شيئاً، وإنما نوجب على الولي إخراج الزكاة من مال اليتيم، يبين ذلك أن الولي هو الذي يستحق المأثم بأن لا يخرجها دون اليتيم.
وكذلك الجواب عن قولهم: الصبي لا تكليف عليه. فإن الخطاب لا يتوجه عليه، يكشف ذلك أن أروش الجنايات والنفقات وزكاة العشور تلزم في مال من لا تكليف عليه.
__________
(1) . في (أ) و (ب): وعن.
(2) . ساقط من (أ).
(3) ـ في (أ) و (ب): التخفيف.
فإن قيل: قول اللّه تعالى: {وَأَنْ لَيْسَ لِلإِنْسَانِ إِلاَّ مَا سَعَى}[النجم:39] وقوله تعالى: {وَلا تَكْسِبُ كَلُّ نَفْسٍ إِلاَّ عَلَيْهَا} يقتضي أن الولي لا يؤدي عن اليتيم شيئاً، فإذا ثبت بالآية أن الولي لا يؤدي عن اليتيم، وثبت أن اليتيم لا يجب عليه، ثبت سقوطها عن /11/ ماله. (27/18)
قيل له: ظاهر الآية يقتضي أن الإنسان لا يستحق إلاَّ ثواب ما سعى واكتسب، أو عقابه، وليس فيه أن أحداً لا يؤدي حقاً من مال غيره، ونحن نقول: إن ثواب السعي في إخراج الزكاة يكون للولي، وعقاب الترك لإخراجها يكون عليه، فقد قلنا بموجب الظاهر، وسقط ما ظنوا أنَّه يوجب أن الولي لا يؤدي عن اليتيم، وما أجمع عليه من أن الولي يخرج من مال اليتيم أروش الجنايات، والنفقات، وزكاة العشور، فصح ما ذكرناه في هذا.
فإن قيل: فإن أبا بكر قال بحضرة الصحابة: ((لأقاتلن من فرق بين الصلاة والزكاة)) ولم يُنكر عليه فدل على أن الصبي لا زكاة عليه؛ لأنه لا صلاة عليه.
قيل له: كلام أبي بكر لا يصح أن يكون حجة لشيء من المذهبين في هذا الباب](1)، (وموجب الزكاة على اليتيم دون الصلاة مفرق بينهما.
قيل له: نحن لا نفرق بين الصلاة والزكاة في هذا الباب)(2)؛ لأن واحدة منهما لا توجب على اليتيم، وإنما يوجب على الولي إخراج الزكاة من مال اليتيم، وعلى أنَّه كان من المعلوم أن مراده بالفرق بين الصلاة والزكاة كان أداء الصلاة، والامتناع من أداء الزكاة دون سائر الفروق، ألا ترى أن الفرق بينهما يكثر؛ لأن الزكاة لا تسقط عن الحائض، وتسقط الصلاة، والسفر يرد الصلاة إلى الشطر، ولا يرد الزكاة، والزكاة لا تلزم الفقير، وتلزمه الصلاة.
__________
(1) ـ ما بين المعكوفين في نسخة.
(2) . ما بين القوسين ساقط من (أ) و (ب).
ومما يبين أن الفرق الذي نذهب إليه بين الصلاة والزكاة لم يكن مراد أبي بكر حين قال ما قال مع مقارة الصحابة له عليه، أن الجميع قد أجمعوا أن من فرق بينهما هذا الفرق لا يحل قتاله، وهذا يحسم شغبهم في هذا الباب بواحده. (27/19)
فإن قيل: قال اللّه تعالى: {أَقِيْمُوا الصَّلاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ} والصبي لا(1) يدخل في وجوب الصلاة فوجب ألا يدخل في وجوب الزكاة.
قيل له: قد بينا أن الخطاب عندنا هو لولي اليتيم دون اليتيم، على أن الصلاة لم يصح في أدائها النيابة، والتوكيل، فلم يصح أن يدخل في وجوبها من لم يكن مخاطباً، والزكاة يصح فيها النيابة، والتوكيل، فلم يمتنع أن يلزم في مال من لم يصح أن يكون مخاطباً.
ومما يدل على ذلك من طريق النظر أنَّه لا خلاف في وجوب العشر، وزكاة الفطر في ماله، فكذلك (سائر)(2) الزكاة، والمعنى أنَّه حق يصرف في الأصناف الثمانية، فوجب أن يستوي فيه الصغير والكبير.
وـ أيضاً ـ يمكن أن يقاس اليتيم على البالغ؛ بعلة وجوب زكاة الفطر، والعشر في ماله، فكل من لزمت زكاة الفطر والعشر في ماله، لزمه سائر الزكوات.
وـ أيضاً ـ نقيس مال اليتيم على مال البالغ، والمعنى أنَّه مال من يُحكم له بالإسلام، فيجب أن تلزم فيه الزكاة.
وقياسنا أولى من قياسهم الصبي على الكافر؛ بعلة أن ليس له عقد الإيمان، وذلك أن الصبي مسلم حكماً، فقياس المسلم على المسلم أولى من قياس المسلم على الكافر.
على أن الأصول تشهد لقياسنا؛ لأنَّها تقتضي أن يحكم لليتيم بأحكام المسلمين فيما له، وعليه.
وكذلك وجدنا سائر الحقوق الواجبة في الأموال تؤخذ من أموال اليتيم، فكان هذا ـ أيضاً ـ أصلاً يشهد لقياسنا، ويوجب ترجيحه.
مسألة
قال: وما يأخذ السلطان الجائر لا يسقط الزكاة الواجبة.
وهذا منصوص عليه في (الأحكام).
__________
(1) . في (أ) و (ب): والصبي لم.
(2) . سقط من (أ) و (ب).
إذا أخذ السلطان الجائر زكاة رجل نظر فيه فإن أعطاه طوعاً ليضعها في أهلها، وعلم أنَّه يضعها فيهم أجزت؛ لأن المتغلب إذ ذاك يجري مجرى الوكيل، ولا خلاف أن وكيل رب المال إذا فرق الزكاة أجزت عنه. (27/20)
وقد نص على ذلك في زكاة الفطر حيث يقول: فإن لم يجد المخرج مستحقاً لها في بلده، وعرف في غير بلده، وجه بها إليه، ومن يوجهه رب المال يكون وكيلاً له، ولم يشترط فيه أن يكون براً ولا فاجراً فلذلك قلنا: إن المتغلب الجائر إذا أخذ الزكاة بإذن ربها ووضعها موضعها أجزت عنه، فأما إذا أخذها بإذن أهلها ولها ولم يضعها موضعها أجزت عنه، فأما إذا أخذها بإذن أهلها ولم يضعها في مستحقها، أو أخذها كرههاً من أصحابها لم يجز عن رب المال؛ لأن الإجزاء يتعلق حينئذ بالولاية، والله تعالى لم يجعل للظالم هذه الولاية بدلالة قوله تعالى لإبراهيم: {إِنِّي جَاعِلُكَ لِلنَّاسِ إِمَاماً قَالَ وَمِنْ ذُرِّيَّتِيْ قَالَ لا يَنَالُ عَهْدِ الظَّالِمِيْنَ}.
فإن قيل: قد قال اللّه تعالى: {خُذْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ صَدَقَةً تُطَهِّرُهُمْ وَتُزَكِّيَهُمْ بِهَا} وقال صلى الله عليه وآله وسلم لمعاذ: ((خذ من أغنيائهم، ورد في فقرائهم))، فأمر بالأخذ من أرباب الأموال.
قيل له: نحن نوجب أخذها من أربابها على النبي صلى الله عليه وآله وسلم والإمام ومن يقوم مقامهما، وليس في شيء من ذلك دليل على أن المتغلب الجائر له أخذها منهم.
على أنَّه لا خلاف أن اللص أو قاطع الطريق أو المتغلب الحربي إذا أخذ الزكاة لم يجز، فكذلك إذا أخذها المتغلب الظالم، والمعنى أن الآخذ لها فاسق.
مسألة
والخراج لا يسقط العشر بل يجمع بينهما.
وهذا منصوص عليه في (الأحكام)، وهو قول القاسم عليه السلام فيما روى عنه النيروسي.
والذي يدل على صحة ما نذهب إليه من إيجاب العشر في أرض الخراج قول اللّه تعالى: {وَآتُوا حَقَّهُ يَومَ حَصَادِهُ} وقوله تعالى: {أَنْفِقُوا مِنْ طَيِّبَاتِ مَا كَسَبْتُمْ وَمِمَّا أَخْرَجْنَا لَكُمْ مِنَ الأَرْضِ} وقول النبي صلى الله عليه وآله وسلم: ((فيما سقت السماء العشر))، ولم يستثن في شيء من ذلك أرض الخراج، فاقتضت هذه العمومات إيجاب العشر في أرض الخراج وجوبه في غيرها. (27/21)
فإن قيل: إن عمر حين وضع الخراج على أرض السواد بمحضر من الصحابة لم يطالبهم بالعشر.
قيل له: يجوز أن يكون ترك المطالبة بالعشر؛ لأن أهلها لم يكونوا أسلموا، أو لأن من أسلم منهم كان مؤتمناً، فكان يخرجه من غير مطالبة.
ويحتمل ـ أيضاً ـ أن تكون المطالبة لم تنقل لظهورها؛ لأن سبيلها كانت سبيل غيرها من الأراضي، وإنما نقل من حالها ما تميز عن أحوال سائر الأرضين.
فإن قيل: لا يجوز أن يجتمع الخراج والعشر؛ لأن سببيهما متنافيان؛ لأن سبب الخراج الكفر، وسبب العشر الإسلام.
قيل له: حكم الخراج باق بالإجماع مع انتفاء السبب الموجب له من الكفر، وحصول السبب الموجب للعشر هو الإسلام، وإذا جاز أن يبقى الخراج مع انتفاء السبب الموجب له [فبالأولى أن يلزم العشر مع وجود السبب الموجب له](1)لم يمتنع أن يجامع العشر.
فإن قيل: إن النبي صلى الله عليه وآله وسلم أخذ العشر من أرض العرب ولم يوجب فيها خراجاً، فصار ذلك أصلاً في انتفاء اجتماعهما.
قيل له: هذا يوجب أن أرض العشر لا خراج عليها، ولا يوجب أن أرض الخراج لا عشر في غلتها، فإذاً دليلكم لم يتناول موضع الخلاف، وإنما يتناول موضع الوفاق.
فإن قيل: إن النبي صلى الله عليه وآله وسلم أسقط نصف العشر لمؤنة الدوالي، فيجب أن يسقط النصف الباقي؛ لمؤنة الخراج.
__________
(1) ـ ما بين المعكوفين في (ج) وهامش (ب).
قيل له: ليس كل مؤنة تلزم الأرض تسقط العشر أو شيئاً منه فلا يجب ما قالوه على أن ذلك لو كان على ما قالوا، لوجب أن يكون الخراج يسقط نصف العشر، كما أسقطت مؤنة الدوالي نصف العشر، فكان يجب أن يؤخذ من أرض الخراج نصف العشر، وهذا فاسد. (27/22)
ومما يدل على ذلك من طريق النظر أن أرض الخراج مقيسة على أرض العشر؛ والعلة أنها ملك المسلم، فوجب أن يكون العشر و غلتها واجباً كوجوبه في غلة أرض العشر.
ويبين صحة هذه العلة أن أرض العشر إذا ملكها الذمي لم يلزمه العشر في غلتها، فبان أن تعلق حكم العشر هو بتملك المسلم لها، ويمكن أن تقاس غلة أرض الخراج على غلة أرض العشر في إيجاب العشر، وكذلك يمكن أن يقاس مالك أرض الخراج على مالك أرض العشر في إيجاب العشر فيما تخرجه أرضه.
فإن قيل: السائمة إذا كانت للتجارة لم يجتمع فيها زكاة السوم وزكاة التجارة، فكذلك أرض الخراج يجب أن لا يجتمع فيها الخراج والعشر قياساً عليها، والمعنى أنهما جميعاً حقان لله تعالى في مال واحد في سنة واحدة.
قيل له: هما حقان مختلفان، فلا يمتنع أن يجتمعا قياساً على زكاة الفطر، وزكاة المال، وجزاء الصيد والكفارات.
يبين ما ذكرنا من أن العشر والخراج حقان مختلفان أن الخراج جار مجرى كراء الأرض، ومصرفه مصرف الفيء، والعشر يجب في الغلة، ومصرفه مصرف الزكوات، والأصول تشهد بصحة ما ذكرناه؛ لأن الحقوق المختلفة في الأصول لا يمتنع أن تلزم في المال الواحد.
فإن قيل: لو كان الخراج كراء الأرض لكان يجب أن يعقده من في يده الأرض على نفسه.
قيل له: لسنا نقول: إنَّه كراء محض بل نقول: إنه جار مجرى الكراء فلا يلزم فيه ما ذكرت، على أنَّه لو وجب أن لا يجتمع الخراج والعشر لكان الخراج بأن يسقط للعشر أولى من أن يسقط العشر للخراج؛ لأن العشر ثابت بالكتاب والسنة المجمع عليها، وليس كذلك الخراج في القوة، فإذا كان الخراج لا يجب أن يسقط العشر مع أن طريق إثباته دون طريق إثبات العشر في القوة، فكذلك العشر لا يجب أن يسقط للخراج، وإذا كان هذا هكذا وجب أن يجتمعا. (27/23)
مسألة
قال: وأموال العبد زكاتها على مولاه يخرجها مما في يده أو من غير ذلك، وكذلك مال المدبر وأم الولد.
وهذا منصوص عليه في (الأحكام).
والوجه فيه ما ثبت من أن المملوك لا يملك شيئاً، وأن ماله يكون ملكاً لسيده، فوجب أن يكون سبيل ما في يده سبيل ما في يد الوكيل في أن زكاته تجب على مالكه، إن شاء أخرجها منه، أو من غيره، وحكم المدبر وأم الولد حكم العبد لبقاء الملك عليهما(1)؛ ولأنهما لا يملكان.
مسألة
قال: فأما المكاتب فماله موقوف إلى أن يعتق أو يرجع في الرق، فإن عتق لزمته الزكاة لما مضى من السنين، وإن عاد في الرق لزمت مولاه.
وهذا منصوص عليه في (الأحكام)، والدليل على ذلك قول اللّه تعالى: {وَالَّذِيْنَ يَكْنِزُونَ الذَّهَبَ وَالْفِضَّةَ..} الآية. وقوله تعالى: {خُذْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ صَدَقَةً} وقوله: {أَنْفِقُوا مِنْ طَيِّبَاتِ مَا كَسَبْتُمْ وَمِمَّا أَخْرَجْنَا لَكُمْ مِنْ الأَرْضِ}، وقوله صلى الله عليه وآله وسلم: ((في الرقة ربع العشر، وفي أربعين شاة شاة، وفي خمس من الإبل شاة))، فكل ذلك يوجب في الأموال سواء كانت للمكاتب أو لغيره، وـ أيضاً ـ فهو مقيس على سائر الأموال؛ بعلة أنَّه ملك يتملكه أهل الإسلام، فوجب أن تلزم الزكاة فيه كما تلزم في سائر الأموال، فإذا ثبت الوجوب، فلا أحد قال في التزكية، إلاَّ على ما قلناه.
__________
(1) ـ في نسخة: فيهما.
وـ أيضاً ـ وجدنا هذا المال لم يزل عنه ملك المولى، ووجدنا المكاتب ـ أيضاً ـ في حكم المالك له، وإن كان بعد لم يتم ملكه، فوجب أن يوقف زكاته إلى أن يستقر الملك لأحدهما فيزكيه كالمال المشتبه حاله بين اثنين من الوديعة أو غيرها. (27/24)
وقلنا: إن المولى لم يزل عنه ملكه؛ لأنَّه لم يزل ملكه عن المكاتب نفسه، فيجب أن لا يكون قد زال عما في يده؛ لأن حكمه في هذا الباب حكم من هو في يده، ومنع المولى من التصرف فيه لا يقدح فيما ذكرنا إذ المنع من التصرف لا يزيل الملك، ألا ترى أن الصبي ممنوع من التصرف، وكذلك المجنون والمحجور عليه وأملاكهم غير زائلة، فكذلك مولى المكاتب سبيله سبيل ما ذكرنا من الصبي والمجنون والمحجور عليه.
وقلنا: إن المكاتب في حكم المالك، وإن كان تصرفه تصرف الوكيل على بعض الوجوه؛ لأنَّه لا يتصرف فيه عن غيره، بل يتصرف عن نفسه.
فإن قيل: فلِمَ لم توجبوا الزكاة فيه عند حلول الحول، ولِمَ انتظرتم استقرار الملك لأحدهما باستقرار العتق للمكاتب أو الرق؟
قيل له: لأنا لو أوجبناها لم تخل من قسمين:
أحدهما: أن نوجبها على كل واحد منهما، وهذا فاسد؛ لأنَّه يؤدي إلى أن يكون المأخوذ من الرقة نصف العشر، ومن أربعين شاة شاتين، ومن خمس وعشرين من الإبل ابنتي مخاض، وذلك فاسد. أو نوجبها على واحد منهما، وهذا ـ أيضاً ـ فاسد؛ لأنا لو أوجبناها على أحدهما كنا قد جوزنا أن ينقطع ملكه، ويستقر ملك غيره من المولى أو المكاتب، فنكون قد أوجبنا عليه زكاة ما لا يملكه، فلم يبق إلاَّ أن يوقف على ما ذكرناه.
وبمثل هذه الطريقة، يبطل سؤال من يقول: هلا أوجبتم أن يؤدي الزكاة على قدر ما أدى من مال الكتابة، كما اعتبرتم ذلك في سائر أحكامه، ألا ترى أنَّه يؤدي إلى جواز أن يكون المؤدي هو الذي لا يستقر ملكه.
مسألة
قال: ولا زكاة في الدور والخدم والكسوة والخيل، والإبل العوامل، ما لم تكن للتجارة، أو ما يجري مجراها، ولا يضم شيء من الأصناف إلى غيره لتجب فيه الزكاة خلا الذهب والفضة. (27/25)
وجميع ما ذكرنا منصوص عليه في (الأحكام).
أما الدور والخدم والكسوة والخيل مالم يكن للنتاج أو التجارة فلا خلاف في أنها لا زكاة فيها.
واحتج يحيى بن الحسين عليه السلام بما رواه زيد بن علي، عن آبائه، عن علي عليهم السلام أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم عفا عنها.
واشترطنا في الخيل والإبل أن لا تكون جارية مجرى ما يكون للتجارة؛ لأنا نوجب فيها الزكاة إذا كانت لكراء، وما كان منها للكراء يجري مجرى ما يكون للتجارة؛ لأن النماء يبتغي فيهما جميعاً.
وأما الإبل العوامل والضم إليه حيث يمنع منه وحيث نوجبه، فسنبين الكلام فيه في موضعه من هذا الكتاب إن شاء اللّه تعالى.
مسألة
قال: وكل مال تلف قبل وجوب العشر فيه فلا زكاة على صاحبه، ووقت وجوبها هو أن يصير فيه حبه، ويؤمن فساده، ويبن صلاحه.
وهذا منصوص عليه في (الأحكام)، ونص فيه في زكاة الذهب على أن من تلف ماله بعد وجوب الزكاة، ضمن الزكاة.
وكان أبو العباس الحسني يقول: إن الزكاة تجب وتتحول إلى الذمة بنفس الوجوب والضياع، ولم يكن يشترط فيها التفريط، والأصح عندي أن يكون التفريط مشترطاً فيها؛ لأن الوجوب لا يستقر على التحقيق إلاَّ مع إمكان الأداء، وإذا لم تؤد مع الإمكان مفرطاً يبين ذلك أن الواجب هو الذي إذا لم يفعله الفاعل استحق الذم عليه، وذلك لا يكون إلاَّ مع الإمكان.
فإن قيل: فقد أطلق يحيى عليه السلام إن وقت وجوبها هو أن يصير فيها حبة، وتلك الحال حال لا يمكن معها إخراج الصدقة منها؛ لأن إمكان إخراجها يكون بعد أن يقطف ويجذ ويحصد.
قيل له: المراد بذلك حصول سبب الوجوب، وحصول وجوب الخرص، ألا ترى أنَّه يقول: فإذا كان كذلك وجب خرصها فإذا حصد أو جذ أو قطف، أخذ منه عشره أو نصف عشرة، فدل بذلك على أن المراد ما ذكرنا دون وجوب الإخراج. (27/26)
وقد قال في آخر كتاب الزكاة من (الأحكام): والزكاة شيء من اللّه جعلها لكل فقير معسر عند كل ذي جدة مؤسر، فنبه على أن حكم الوديعة، والوديعة لا يضمنها المستودع إذا تلفت بغير تعد منه أو تفريط في الرد، وقال في زكاة الفطر: ولا يبطئ بها بعد الإمكان، فإن لم يمكنه فهو في فسحة من أمرها إلى أن يتهيأ ذلك، فنبه على أن التضمين يكون بعد الإمكان؛ لأنه إذا كان في فسحة منها قبل الإمكان، فكذلك يكون في فسحة من سائر الزكوات قبل الإمكان، وإذا كان في فسحة منها قبل الإمكان، وإذا كان في فسحة منها لم يضمنها.
وليس له أن يقول: إن زكاة الفطر وإن كان في فسحة منها فإنه يضمنها، وإن تلف ماله بعد الوجوب وقبل الإمكان، فكذلك سائر الزكوات، وذلك أن زكاة الفطر تجب في الذمة، فالواجب يكون حاصلاً تلف المال أو لم يتلف، ويكون سبيلها سبيل الدين، والزكاة تجب في المال معينا لتنصيصه على أن صاحب الزرع عليه أن يخرج عشر زرعه منه لا من غيره، وتنصيصه على أن الزكاة تمنع الزكاة، وأن الدين لا يمنعه، فيجب أن يكون سبيلها سبيل الوديعة، وكل ذلك يصحح ما اخترناه من أن الضمان لا يكون إلاَّ بعد التفريط.
ووجه ما كان يذهب إليه أبو العباس الحسني رحمه اللّه أن ترد الزكاة إلى سائر ما يجب من مهر أو دية أو زكاة فطر، فإنه إذا وجب شيء من ذلك، ثم تلف المال قبل إمكان الأداء، أو بعده يجعله مضموناً، وكذلك الزكاة ويمكنه أن يقول: إن قول يحيى عليه السلام في من سرق ماله، ثم ظفر به بعد سنين أن عليه إخراج زكاته لما مضى من السنين، يدل على أنَّه لا يراعى التفريط؛ لأنه من المعلوم أن صاحبه لم يتمكن من أداء زكاته مع كونه مسروق، وجوابنا لمن قال ذلك أن ذلك ليس بتضمين، ألا ترى أنه لا يضمنه وإنما يوجب عليه إخراج زكاته إذا وجده؛ لأنَّه إذا وجده وجده وقدر الزكاة عنه مستحق فعليه أن يخرجه إلى الفقراء والمساكين من غير أن يضمنه لو لم يجد المال، فأما التضمين فلا يثبت إلاَّ مع التفريط على ما بيناه. (27/27)
وكذلك نقول في المهر والدية إنهما يجبان في الذمة ابتداء، فلا يجب أن يكون حكم الزكاة حكمه ما إذا تلفت ويجب أن يكون حكم الزكاة حكم الوديعة.
فأما أبو حنيفة فإنه كان يذهب إلى أنَّه لا يضمن وإن فرط.
والأصل فيه ما بينا من أن حكمه حكم المودع في أنه إذا فرط ضمن، وتحرير العلة فيه أنَّه حصل عاصياً لله بمنع ذي حق حقه، فوجب أن يضمنه قياساً على من غصب أو امتنع من رد الوديعة.
فإن قيل: الوديعة لمعين فلم يمتنع أن يضمن له، والزكاة لا لمعين فلا يجب أن يضمنها.
قيل له: كونها لمعين أو لا لمعين لا يؤثر في إيحاب الضمان كما لا يؤثر في إيجاب الأصل، على أن رجلاً لو غصب مالاً من الفقراء، ضمنه لهم، فصح أن الضمان لا يتعين بأن يكون لمعين أو لأقوام غير معينين.
فإن قيل: المودع لا يضمن إلاَّ بالتفريط في رد الوديعة بعد مطالبة ربها بها، وأنتم ما تشترطون المطالبة في تضمين الزكاة.
قيل له: أمر اللّه عزَّ وجل بإخراجها على الإطلاق من غير مطالبة مطالب يوجب عليه إخراجها فهو جار مجرى مطالبة صاحب الوديعة بردها، فقد حصل في الزكاة ما يجري مجري مطالبة رد الوديعة بردها، فقد حصل في الزكاة ما يجري مجرى مطالبة رد الوديعة بردها، وهو أمر اللّه تعالى بإخراجها. (27/28)
فإن قيل: فلو أن جماعة أودعوا رجلاً شيئاً واشترطوا أن لا يرده إلاَّ على جماعتهم، فطالبه به واحد منهم فلم يرده عليه لم يضمن لما كان الشرط لجماعة، فكذلك الزكاة؛ لأنها لجماعة.
قيل له: إنَّه لا يضمن الوديعة إذا كانت الحال ما ذكرت؛ لأنَّه لا يجب عليه ردها على واحد بل يحرم ذلك عليه، وليس كذلك الزكاة؛ لأنها واجب عليه إخراجها، فحصل فيها التفريط، ولم يحصل التفريط من لم يرد الوديعة، والحال ما وصفت. يبين ذلك أن الجماعة لو طالبوه بردها ولم يردها وتلفت ضمنها، فبان أن الحكم تعلق بالتفريط لا بكون المفرط فيه لجماعة أو لواحد.
وما يشهد لصحة علتنا ويؤكدها أنا وجدنا كل مال يضمنه الإنسان بالاستهلاك يضمنه إذا تلف مع امتناعه من توفيره على مستحقه مع وجوب التوفير عليه، فوجب أن تكون الزكاة كذلك؛ لأنَّه لا خلاف أنها تضمن لو استهلكت.
فأما ما ذكرناه في أول المسألة من أن المال إذا تلف قبل وجوب الزكاة فيه فلا زكاة فيه على صاحبه، فلا خلاف فيه، وأنه لا وجه لتضمينه مالم تجب؛ لأن التضمين تابع للوجوب.
وقلنا: إن وقت وجوب العشر هو أن يصير فيه حبة، ويتبين صلاحه؛ لأنَّه قبل ذلك لا خلاف أنَّه لا يجب فيه شيء؛ ولأنه هو الوقت الذي يجوز أن ينتفع به؛ ولأنه لا خلاف أن قبل ذلك الوقت لا يكون وقت الخرص.
مسألة
قال: وإذا كان كذلك وجب خرصه إذا حصد أوجذ أو قطف، أخذ منه عشر ما كان خرص أو نصف عشره على قدر سقيه.
ونص في (الأحكام) على أن العنب إذا كان يزبب، فإنه يؤخذ منه عشره، أو نصف عشره على قدر سقيه عند كمال تزبيبه، وما لم يكن يزبب فإنه يخرص، ثم يفعل فيه الإمام برأيه، فإن رأى أخذه رطباً، أو بيعه كذلك في رؤوس الشجر فعل، وإن رأى تركه في رؤوس الشجر حتى يجف فعل، ووكل به من يحفظه، وإن دفعه إلى أربابه أخذ منهم عند الجفاف ما كان خرص فيه، والتمر والعنب في ذلك سواء. (27/29)
والأصل في الخرص ما:
أخبرنا به أبو العباس الحسني رحمه اللّه، قال: أخبرنا عيسى بن محمد العلوي، قال: حدثنا الحسين بن القاسم القلانسي، قال: حدثنا أحمد بن محمد بن جعفر العلوي، عن عمه علي بن أبي الحسين عليه السلام، عن أبي هاشم المحمدي، قال: حدثني أبوك الحسين بن علي بن [الحسن بن] عمر بن علي بن الحسين بن علي، عن أبيه، عن جده، عن علي بن الحسين عليهم السلام ((أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم أمر أن تخرص أعناب ثقيف كخرص النخل، ثم تؤدى زكاته زبيباً ما تؤدى زكاة النخل تمراً))، فجعل الخرص علماً لمعرفة حق المساكين.
وأخبرنا أبو العباس الحسني رحمه الله، قال: أخبرنا أبو أحمد الأنماطي، قال: حدثنا إسحاق بن إبراهيم الصنعاني، عن عبد الرزاق، عن معمر، عن حرام بن عثمان، عن ابن جابر، عن جابر بن عبدالله الأنصاري: أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم بعث رجلاً من الأنصار يقال له: فروة بن عمرو يخرص تمر أهل المدين.
وأخبرنا أبو بكر المقرئ، قال: حدثنا الطحاوي، قال: حدثنا ابن أبي داود، قال: حدثنا أبو عون الزيادي، قال: حدثنا إبراهيم بن طهمان، قال: حدثنا أبو الزبير، عن جابر، قال: لما أفاء اللّه خيبر على رسوله صلى الله عليه وآله وسلم أقرهم كما كانوا وجعلها بينه وبينهم، وبعث عبدالله بن رواحة فخرصها عليهم، ثم قال: يا معشر اليهود، أنتم أبغض الخلق إليَّ، قتلتم أنبياء اللّه، وكذبتم على الله، وليس يحملني بغضي إياكم أن أحيف عليكم، وقد خرصت عشرين ألف وسق من تمر، فإن شئتم فلكم، وإن شئتم فلي. (27/30)
وأخبرنا أبو بكر، قال: حدثنا الطحاوي، قال: حدثنا أحمد بن داود، قال: حدثنا إبراهيم بن المنذر، قال: حدثنا عبد الله بن نافع وهو الصائغ، قال: حدثنا محمد بن صالح، عن ابن شهاب، عن سعيد بن المسيب، عن عتاب بن أسيد: أن رسول اللّه صلى الله عليه وآله وسلم أمره أن يخرص العنب زبيباً كما يخرص التمر.
وروي عن أبي بكر أنَّه كان يأمر بالخرص.
وعن عمر أنَّه بعث سهل بن أبي خيثمة يخرص على الناس.
وروي عنه أنَّه بعث ابنه عبدالله ليخرص على أهل خيبر، ولم يرو أن أحداً من الصحابة أنكر ذلك.
وأخبرنا أبو بكر، قال: حدثنا الطحاوي، قال: حدثنا علي بن عبدالرحمن، وأحمد بن داود، قالا: حدثنا القعنبي، قال: حدثنا سليمان بن بلال، قال: حدثنا عمرو بن يحيى المازني، عن عباس بن سهل بن سعد الساعدي، عن أبي حميد الساعدي، قال: خرجنا مع رسول اللّه صلى اللّه عليه وآله وسلم في غزوة تبوك، فأتينا وادي القرى على حديقة امرأة، فقال النبي صلى الله عليه وآله وسلم: ((اخرصوها ))، فخرصها النبي صلى الله عليه وآله وسلم عشرة أوسق، وقال: ((أحصيها حتى أرجع إليك إن شاء الله ))، قال: فلما قدمنا سألها النبي صلى الله عليه وآله وسلم: ((كم مبلغ ثمرها ))؟ فقالت: عشرة أوسق، يا رسول اللّه.
ومما يدل على ذلك أنَّه قد ثبت أن للفقراء حقاً في الثمار، وأنه لا يجوز أن يعدل عنه إلى القيمة، ولا خلاف أن لأربابها الانتفاع به في حال كونه رطباً، وذلك لا يمكن إلاَّ بالخرص، فوجب أن يكون القول به صحيحاً. (27/31)
فإن قيل: روى أبو الزبير عن جابر، أن رسول اللّه صلى الله عليه وآله وسلم نهى عن الخرص، وقال: ((أرأيتم إن هلك الثمر، أيحب أحدكم أن يأكل مال أخيه باطلاً))؟
قيل له: المراد به أن يلزم بالخرص إلزاماً يؤخذ به وإن هلك الثمر؛ لأنَّه قد نبه على ذلك في آخر الحديث.
فإن قيل: إن الخرص ضرب من المخاطرة وهو من القمار، فيجب أن يكون منسوخاً.
قيل له: إنَّه لا يجري مجرى القمار، وإنما يجري مجرى التقدير في قيم المتلفات، وأروش الجنايات، فلا يجب أن يكون منسوخاً، على أنَّه لو كان منسوخاً لم يعمل به بعد النبي صلى الله عليه وآله وسلم، وقد ثبت أن أبا بكر وعمر قد أمرا بالخرص بمحضر جماعة من المهاجرين والأنصار، ولم يرو أن أحداً أنكره، فبطل بذلك قول من ادعى نسخه، على أن النسخ لا يثبت إلاَّ بشرع يوجبه، ولم يرو شرع يقتضيه، فلا وجه للقول به.
فإن قيل: لو كان الخرص صحيحاً لم يجب الرجوع إلى قول صاحب المال إذا ادعى نقصان الثمر.
قيل له: لا يمتنع ذلك؛ لأن الخرص دخل رفقاً برب الثمر ليمكنه من الانتفاع به، فلم يمتنع أن يسمع قوله إذا ادعى نقصان المال بعد الخرص، على أنَّه غير محفوظ عن يحيى عليه السلام أنَّه يسمع قول رب المال إذا ادعى النقصان بعد الخرص، فلو امتنعنا منه لم يبعد.
فإن قيل: إن الخرص لو أمكن أن يعلم به مقدار الثمر، لجازت القسمة به، وكذلك البيع، ولجاز ذلك والثمار على الأرض.
قيل له: الخرص يستعمل حيث وردت به السنة، فأما حيث لم ترد به السنة، فأما حيث لم ترد به السنة فلا وجه لاستعماله فيه إلاَّ من طريق القياس، وقد أجمعوا على أن لا يستعمل في غير ما وردت به، فلم يكن للقياس فيه مساغ، على أنَّه إذا لم يجز استعماله في مواضع، لم يجب أن لا يجوز استعماله حيث استعمله النبي صلى الله عليه وآله وسلم وأصحابه من بعده. (27/32)
فإن قيل: الخرص هو رجوع إلى الظن، والظن يصيب ويخطئ، وليس له أصل يرجع إليه.
قيل له: هذا الذي قلتم لا معنى له؛ لأن قيم المتلفات وأروش كثير من الجنايات هذا سبيلها، ومع ذلك فلا يجب أن تبطل.
فإن قيل: لو صح أن يعرف بالخرص مقدار حق المساكين من العنب والتمر، صح أن يعرف به ذلك من الحبوب.
قيل له: الجواب عنه ما قدمنا من أن الخرص يستعمل حيث وردت به السنة على أن البر لا ينتفع به غالباً إلاَّ في حال اليبس فلم تدع الضرورة إلى خرصه، والتمر ينتفع به غالباً في حال الرطوبة، فدعت الضرورة إلى خرصه، فوجب الفرق بينهما.
باب القول في زكاة الذهب والفضة
لا زكاة في الذهب حتى يبلغ عشرين مثقالاً، ففيه ربع عشرها، وهو نصف مثقال، فإن زاد عليه قليل أو كثير، وجب في الزيادة ربع عشرها، ولا يجب في الفضة حتى تبلغ مأتي درهم، فإذا بلغت مائتي درهم ففيها ربع عشرها، وهو خمسة دراهم، والقول فزيادتها كالقول في زيادة الذهب.
وذلك كله أجمع منصوص عليه في (الأحكام) و(المنتخب)، خلا زيادة الذهب، فإنه منصوص عليه في (الأحكام) دون (المنتخب)، وهو قول القاسم عليه السلام، رواه عنه النيروسي.
والقول في: أنَّه لا زكاة في الذهب حتى يبلغ عشرين مثقالاً، هو قول عامة الفقهاء من أهل البيت عليهم السلام وغيرهم.
وروي عن عطاء أنَّه قال: إذا كان لرجل خمسة عشر ديناراً قيمتها مائتا درهم ففيها ربع العشر. وروي نحوه عن الناصر عليه السلام، وروي عنه ـ أيضاً ـ خلافه.
والأصل فيه ما:
رواه زيد بن علي، عن أبيه، عن جده، عن علي عليه السلام، أنَّه قال: (ليس فيما دون عشرين مثقالاً من الذهب صدقة، فإذا بلغ عشرين مثقالاً، ففيه نصف مثقال، وما زاد فبالحساب). (27/33)
وروى محمد بن منصور بإسناده، عن أبي إسحاق، عن عاصم، عن علي عليه السلام، وأبو بكر بن أبي شيبة، بإسناده، عن أبي إسحاق، عن عاصم بن ضمرة، عن علي عليه السلام، أنَّه قال: ((ليس في أقل من عشرين ديناراً شيء، وفي عشرين ديناراً نصف دينار، وفي أربعين ديناراً دينار)).
وفي بعض ما روى محمد بن منصور عنه عليه السلام أنَّه قال: ((ليس في تسعة عشر مثقالاً زكاة، فإذا كانت عشرين مثقالاً ففيها ربع العشر))، على أنَّه لا خلاف في أن للدراهم نصاباً، فوجب أن يكون للذهب نصاب، والمعنى أن كل واحد منهما يقول به المتلفات غالباً، أن يقاس على سائر ما تجب فيه الزكاة من المواشي وغيرها؛ والعلة أنَّه مال يجب في عينه الزكاة، فوجب أن يكون له نصاب في نفسه، فأما إذا بلغ عشرين مثقالاً، فلا خلاف أن فيه الزكاة، إلا ما روي عن الحسن البصري أنَّه قال: لا زكاة فيه حتى يبلغ أربعين ديناراً، وقد روي ـ أيضاً ـ عنه أنَّه قال: في عشرين ديناراً نصف دينار. وروى القولين أبو بكر بن أبي شيبة عنه، فوجب أن يتعارضا، فكأنه لم يرو عنه شيء فاستقر الإجماع فيما قلناه.
وأما الفضة فلا خلاف أنَّه لا زكاة فيها حتى تبلغ مائتي درهم.
والأصل في ذلك ما:
أخبرنا به أبو بكر المقرئ، قال: حدثنا الطحاوي، قال: حدثنا حسين بن نصر، قال: حدثنا أبو نعيم، قال: حدثنا سفيان الثوري، عن عمرو بن يحيى المازني، عن أبيه، عن أبي سعيد الخدري، قال: قال رسول اللّه صلى الله عليه وآله وسلم: ((ليس فيما دون خمسة أوسق صدقة، وليس في ما دون خمس أواق صدقة، وليس فيما دون خمس ذود صدقة)).
وأخبرنا أبو بكر، قال: حدثنا الطحاوي، قال: حدثنا يزيد بن سنان، قال: حدثنا سعيد بن أبي مريم، قال: حدثنا محمد بن مسلم، قال: حدثنا عمرو بن دينار، عن جابر بن عبد الله، قال: قال رسول اللّه صلى الله عليه وآله وسلم: ((لا صدقة في شيء من الزرع، أو الكرم، حتى تبلغ خمسة أوسق، ولا في الرقة حتى تبلغ مأتي درهم)). (27/34)
وروى ابن أبي شيبة، قال: حدثنا حفص بن غياث، عن جعفر، عن أبيه، قال: قال رسول اله صلى الله عليه وآله وسلم: ((إذا بلغ المال مائتي درهم ففيه خمسة دراهم)).
وروى زيد بن علي، عن أبيه، عن جده، عن علي عليهم السلام، قال: ((ليس فيما دون المائتين من الورق صدقة، فإذا بلغت مائتين، ففيها خمسة دراهم)).
وروى ابن أبي شيبة، قال: حدثنا عبد الرحيم بن سليمان، عن زكرياء، عن أبي إسحاق، عن عاصم بن ضمرة، عن علي عليه السلام، قال: ((إن لم يكن لك إلاَّ تسعة وتسعين ومائة فليس فيها زكاة)).
وأما الزيادة قول الناصر عليه السلام فيها مثل قولنا، وهو قول القاسم عليه السلام. وعند جعفر لا زكاة في الزيادة، حتى تبلغ أربعين درهماً. وهو قول أبي حنيفة.
والحجة فيه عموم ما روي عنه صلى الله عليه وآله وسلم من قول: ((في الرقة ربع العشر)). وروي في حديث أيوب بن جابر، عن أبي إسحاق، عن عاصم، عن علي عليه السلام، قال: قال رسول اللّه صلى الله عليه وآله وسلم: ((هاتوا ربع العشر في كل أربعين درهماً درهم، وليس فيما دون المائتين شيء، فإذا كانت مائتين ففيها خمسة دراهم، وما زاد فبحساب ذلك)).
وفي حديث زيد بن علي، عن أبيه، عن جده، عن علي عليهم السلام، قال: ((إذا بلغت مائتي درهم ففيها خمسة دراهم، فما زاد فبالحساب)).
فإن قيل: ما روي عن علي عليه السلام، عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم: ((هاتوا ربع العشر من كل أربعين درهماً درهم، وليس فيما دون المائتين شيء))، دليل على أن الزائد على المائتين ليس فيه شيء حتى يكون أربعين درهما؛ لأنَّه عليه السلام ذكر المأتي وما دونها على الإنفراد، فدل ذلك على أن قوله: ((من كل أربعين درهماً درهماً))، المراد به فيما زاد على المأتيين. (27/35)
قيل له: المراد بيان المقدار، وبيان أن الأوقية أربعون درهما، دون أن يجعل ذلك نصاباً؛ إذ كان قد روي ((لا زكاة فيما دون خمس أواق))، فإذا كان ما ذكرنا محتملاً، لم يجب أن يحمل على الوجه الذي ذكره.
يدل على صحة هذا التأويل أن علياً عليه السلام روى هذا الحديث وأفتى أن الزائد على المأتين فيه الزكاة بحسابه، لا يجوز أن يروي الحديث عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم وهو يقول بخلاف، فدل على أنَّه عليه السلام عرف من تأويل الحديث ما ذكرناه.
فإن قيل: روي عن معاذ بن جبل أن رسول اللّه صلى الله عليه وآله وسلم أمره حين وجهه إلى اليمن أن لا يأخذ من الكسور شيئاً، فإذا بلغ الورق مأتي درهم أخذ خمسة دراهم، ولا يأخذ مما زاد حتى يبلغ أربعين درهماً فيأخذ درهماً.
قيل له: لا يمتنع أن يكون ما في الحديث من قوله: ((إذا بلغ الورق مأتي درهم أخذ خمسة دراهم، ولا يأخذ مما زاد حتى يبلغ أربعين درهماً))، قول الراوي؛ إذ ليس فيه ما يدل على أنَّه في قول النبي صلى الله عليه وآله وسلم بل فيه ما يدل على أنَّه من قول الراوي؛ لأنَّه حكاية قول معاذ، ألا ترى أنَّه قال: فإذا بلغ الورق كذا أخذ كذا، وهذا لأن يكون قول الراوي أولى؛ لأن النبي صلى الله عليه وآله وسلم إنما يأمر ويحكم، فأما حكاية فعل الصحابي فالأشبه أن يكون من قول الراوي عنه.
ويحتمل ـ أيضاً ـ أن يكون المراد به أنَّه لم يكن يأخذ درهما كاملاً إلا إذا بلغ أربعين، فيكون الغرض بيان أن مقدار المأخوذ لا يتغير كما يتغير في زكاة المواشي، هو مقيس على زكاة ما أخرجت الأرض في أنَّه لا عفو له بعد أن يبلغ الحد الذي تجب فيه الزكاة بالإجماع بعلتين: (27/36)
إحداهما: أنَّه لا ضرر في وقوع الاشتراك ودخول الكسر في الموجب.
والثانية: أن مقدار المأخوذ لا يتغير بعد النصاب.
يبين صحة هاتين العلتين أن ما يضر الاشتراك ودخول الكسر في موجبه، وأن ما يتغير مقدار المأخوذ بعد النصاب، يجب أن يكون له عفو بعد النصاب، وما لا يحصل له الوصفان لا يجب أن يكون له عفو بعد النصاب، فبان أن الحكم يتعلق بعلتنا، ويوجد بوجودها، فصار قياسنا يترجح على قياسهم الورق على المواشي؛ بعلة أن لابتداء زكاتها نصاباً؛ لأن مثل هذا الاعتبار لا يوجد في قياسهم على أن قياس ما ليس بحيوان على ما ليس بحيوان أولى من قياس ما ليس بحيوان على الحيوان، على أن قياسنا يتضمن الاحتياط والإثبات، فصار أولى.
مسألة
قال: ولو نقص من الذهب عن عشرين مثقالاً مقدار حبة، أو من الفضة عن مأتي درهم ذلك القدر، لم تجب فيه الزكاة.
وهذا منصوص عليه في (المنتخب)، وهو قول عامة العلماء.
وحكي عن مالك أنَّه قال: تجب الزكاة فيه إذا جازت جواز الوازنة..
والأصل فيه:
حديث أبي سعيد الخدري، قال: قال رسل اللّه صلى الله عليه وآله وسلم: ((ليس فيما دون خمسة أواق صدقة)).
وحديث جابر، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: ((لا صدقة في الرقة حتى تبلغ مأتي درهم))، وقد ذكرنا إسناد هذين الخبرين قبل هذه المسألة.
وروى ابن أبي شيبة، عن جعفر، عن أبيه، قال: قال رسول اللّه صلى الله عليه وآله وسلم: ((لا يكون في الدراهم زكاة حتى تبلغ خمس أواق)).
وعن أبي إسحاق، عن عاصم، عن علي عليه السلام أنَّه قال: ((ليس فيما دون مائتي درهم صدقة)).
وروى زيد بن علي، عن أبيه، عن جده، عن علي عليهم السلام، أنَّه قال: ((ليس فيما دون المأتين من الورق صدقة))، فكل ذلك يحقق صحة ما نذهب إليه من أن مع نقصان القليل والكثير عن النصاب لا تلزم الزكاة. (27/37)
و ـ أيضاً ـ ما نقص مقدار حبة مقيس على ما نقص درهماً أو أكثر لا خلاف في أنَّه إذا كان كذلك لم يلزمه في الزكاة؛ والعلة أنَّه قاصر عن النصاب.
فإن قيل: إذا جاز جواز الوازنة فلا فرق بينه وبين الوازنة، فوجب أن تلزم فيه الزكاة.
قيل له: قولكم: إذا جاز جواز الوازنة لا يخلوا من أن يكون المراد به أنَّه يجوز جواز الوازنة على طريق المسامحة، وهذا لا يختلف باليسير والكثير، أو لا على طريق المسامحة فلا معنى له؛ لأن من كان حقه مائة درهم لا يجبر على أن أخذ مائتي درهم إلاَّ حبة، كما لا يجبر على أخذ مائتي درهم إلاَّ درهماً، فبان سقوط ما اعتمده في هذا الباب، على أنَّه لو كان الأمر كذلك لوجب أن يجوز ذلك في الربا، ولا خلاف أنَّه لا يجوز.
فإن قيل: نقصان حبة وزيادة حبة قد يقع في التفاوت بين الميزاني، فوجب أن لا يكون له مدخل في الاعتبار، وإذا لم يجب الاعتبار به لم تسقط الزكاة من أجله ألا ترى أنَّه لما وقع بين صاعين فضل حبة أو حبتين لم يعتبر ذلك في الأوسق، فكذلك ما اختلفنا فيه.
قيل لهم: هذا الذي اعتمدتموه لا معنى له؛ لأنَّه قد يقع التفاوت بين الميزانين بمقدار درهم أو نحوه، ولا خلاف في أن الاعتبار به واجب على أن ذلك لو كان كذلك، لجاز ذلك في الربا ولأجبر صاحب الحق على أن يأخذ ما نقص من حقه ذلك القدر.
فأما ما ذكروه في الحبة والحبتين في المكيال فإنما لم يعتبر ذلك؛ لأن بذلك القدر لا يمكن أن يعلم الفضل أو النقصان في الكيل على الحقيقة، وليس كذلك حال الميزان؛ لأن بذلك القدر يعلم زيادة الوزن ونقصانه، فوجب الفرق بينهما.
مسألة
قال: ولو كان في الذهب أو الفضة رديء لم تسقط الزكاة، إلاَّ أن يكون ستوقاً، أو ما كان في حكمه.
وذلك منصوص عليه في (المنتخب). (27/38)
والأصل فيه أنَّه إذا كان ردياً في الجنس، فإن الزكاة تجب فيه إذا بلغ النصاب، كما يجب في رديء السائمة، ورديء ما أخرجت الأرض، ولعموم قوله سبحانه: {أَنْفِقُوا مِنْ طَيِّبَاتِ مَا كَسَبْتُمْ} وقوله صلى الله عليه وآله وسلم: ((في الرقة ربع العشر، وفي مأتي درهم خمسة دراهم))، ولم يستثن في شيء من ذلك الرديء من الجيد، فوجب أن لا يكون فصل بين الرديء والجيد في التزكية.
فأما المغشوش وإياه عني بالستوق، فإن الزكاة لا تجب فيه حتى يكون نقرته مائتي درهم؛ لقوله صلى الله عليه وآله وسلم: ((ليس فيما دون خمس أواق صدقة)). وقوله: ((لا صدقة في الرقة حتى تبلغ مائتي درهم))، والغش لا يكون من الرقة، فوجب أن يكون الاعتبار بالنقرة على ما بيناه، على أنَّه لا خلاف في أن الغش إذا زاد على النقرة، كان الاعتبار بالنقرة في التزكية، فكذلك إن نقص، والمعنى أنَّه جنس، خلاف الذهب والفضة، فوجب أن لا يعتد به في تزكية الذهب والفضة.
مسألة
ومن كان عنده ذهب قاصر عن النصاب، ومثله من الفضة، متى ضم أحدهما إلى صاحبه تم النصاب، وجب أن يضم ضماً يحصل معه النصاب، ويخرج منه الزكاة، وكذلك القول في الحلي الذي يكون بعضه ذهباً وبعضه فضة.
القول بوجوب الضم منصوص عليه في (الأحكام) و(المنتخب). وتفصيل الضم وتفسيره منصوص عليه في (الأحكام).
والقول بالضم هو قول زيد بن علي، والقاسم بن إبراهيم، والناصر عليهم السلام.
والحجة فيه قول اللّه تعالى: {وَالَّذِيْنَ يَكْنِزُونَ الذَّهَبَ وَالْفِضَّةِ وَلا يُنْفِقُونَهَا فِيْ سَبِيْلِ اللّهِ فَبَشِّرْهُمْ بِعَذَابٍ أَلَيْمٍ..} الآية، وقال النبي صلى الله عليه وآله وسلم: ((كل مال أديت زكاته فليس بكنز))، فلما توعد اللّه سبحانه وتعالى الذي يكنزون الذهب والفضة، وبين صلى الله عليه وآله وسلم أن التزكية هي التي تخرج المال من أن يكون كنزاً، دل مجموع ذلك أن تزكيتهما في حال الاجتماع واجب؛ إذ الواو في قوله: ((الذهب والفضة))، للجمع. (27/39)
ويدل عليه عموم قوله تعالى: {خُذْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ صَدَقَةً} وقوله: {أنْفِقُوا مِنْ طَيِّبَاتِ مَا كَسَبْتُمْ}.
فإن قيل: فقد قال صلى الله عليه وآله وسلم: ((ليس فيما دون خمس أواق صدقة، وليس فيما دون مائتي درهم صدقة))
قيل له: المراد به إذا لم يكن معها غيرها، ألا ترى أن في حديث أنس في كتاب أبي بكر أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال: ((في الرقة ربع العشر، فإذا لم يكون للرجل إلاَّ تسعون ومائة، فليس فيها صدقة))، فنبه على أن الفرض به في حال الانفراد.
يبين ذلك أنَّه لا خلاف في أنَّه لو كان مع الرجل ما للتجارة، وجب عليه أن يضمه إلى الذهب أو الفضة، ويكمل به النصاب، وـ أيضاً ـ لا خلاف في أن أموال التجارة يضم بعضها إلى بعض، وإن كانت أجناسها مختلفة، فنقيس عليها الذهب والفضة بعلتين: أحدهما أن المأخوذ منهما في جميع الأحوال ربع العشر، فكل مال يكون المأخوذ منه في جميع الأحوال ربع العشر يجب أن يضم منها الأجناس المختلفة، بعضها إلى بعض، وشرطنا في العلة جميع الأحوال؛ لأن الغنم يؤخذ منها في الأول ربع العشر، إلا أن ذلك يتغير إذا كثرت الغنم.
والعلة الثانية: أنَّه مال يبتغي به النماء على سبيل الاستعاضة، فوجب أن يكون مثل أموال التجارة في الضم.
فإن قيل: أموال التجارة لم تجب فيها الزكاة، وإنما وجبت في قيمتها.
قيل له: هذا فاسد، وذلك أن القيمة غير حاصلة، وإنما وجبت الزكاة في رقبتها، فالتقويم جعل لمعرفة النصاب ـ أيضاً ـ ما ذهبنا إليه، قياس على ضم الدراهم المختلفة الأوصاف بعضها إلى بعض، إذ لا خلاف فيه؛ والعلة فيه أنَّه قيم المتلفات، وأثمان الأشياء غالباً، فوجب أن يضم ما اختلف منه بعضه إلى بعض. (27/40)
فأما قياسهم على حال الانفراد بعلة القصور عن النصاب فهو منتقض بضم مال التجارة إليه؛ إذ لا خلاف أن من كان معه مائة درهم ومال التجارة يساوي مائة درهم، أنَّه يضم إليها.
فإن قاسوا الذهب والفضة على السوائم وما أخرجت الأرض في أنَّه لا يضم بعضها إلى بعض كان قياسنا على أموال التجارة أولى؛ لأن الذهب والفضة يضمان إليها، فكان حكمها أقرب إلى حكمها وأشبه به.
وقلنا: يضم ضماً به يحصل معه النصاب؛ لأن الغرض بالضم إيجاب الزكاة فلا وجه لضم لا يوجبها؛ ولأن فيه احتياطاً للمساكين؛ ولأن أموال التجارة لا خلاف أنها تقوم بالذهب إذا كان التقويم به يوجب الزكاة دون التقويم بالفضة، وأنها تقوم بالفضة إذا كان التقويم بها يوجب الزكاة دون التقويم بالذهب، فكذلك ما قلناه، وقلنا: إن الحلي فيه كالمضروب؛ لأن أحداً لم يفصل بينهما؛ ولأن جميع ما استدللنا به من الظواهر والقياس لا يفصل في ذلك بين الحلي وغير الحلي من الذهب والفضة.
فصل
قال يحيى بن الحسين عليه السلام: يضم بالتقويم، وهو قول القاسم عليه السلام، والناصر للحق رضي اللّه عنه، وقال زيد بن علي صلوات اللّه عليه: يضم بالأجزاء، ووجه قولنا: إن أموال التجارة لما لم يراع نصابها في ذاتها، ووجب فيها الضم بالقيمة، فكذلك الذهب والفضة، يجب أن يكون ضمها بالقيمة.
فإن قيل: أموال التجارة وجب فيها ذلك؛ لأنها لا نصاب لها.
قيل له: قد يكون من أموال التجارة ماله نصاب، ولكن إذا وجب فيها الضم، وجب الرجوع إلى التقويم، على أن شيئاً من الضم للتزكية في الأصول لا يكون بالأجزاء، فإذاً ما ذهبوا إليه لا أصل له يقاس عليه. (27/41)
مسألة
قال: وإذا بقي عند رجل ذهب أو فضة، أوهما جميعاً سنين لم يزكها فيها لزمه إخراج الزكاة للسنة الأولى منها كاملاً، ثم للثانية مما بقي بعد إخراج الزكاة للسنة الأولى، ثم كذلك إلى أن ينحط عن النصاب، وكذلك القول في زكاة الماشية إذا تأخرت.
فهذا منصوص عليه في (الأحكام).
وأبو حنيفة يوافقنا في أن الزكاة تمنع الزكاة، وإن كان يخالفنا في علة المسألة؛ لأنَّه يذهب إلى أن الدين يمنع الزكاة، ويجري الزكاة مجرى الدين، وعندنا أن الدين لا يمنع الزكاة على ما قدمنا من القول فيه، وإنما نقول: إن الزكاة تمنع الزكاة؛ لأن قدر الزكاة عندنا يصير مستحقاً للمساكين، فيخرج عن أن يكون ملكاً لصاحب المال، فلذلك قلنا: إنَّه لا زكاة فيه.
والذي يدل على ذلك قول اللّه تعالى: {خُذْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ صَدَقَةً}، ومن إذا لم تكن للصلة أو لابتداء الغاية، فهي للتبعيض، فأوجبت الآية أخذ بعض أموالهم، وذلك يقتضي أن يكون ذلك القدر مستحقاً عليهم، فوجب أن يكون خارجاً من ملكهم.
فإن قيل: ما أنكرتم أن تكون من هاهنا للصلة أو لابتداء الغاية.
قيل له: لو كان من للصلة، لوجب أن يكون جميع المال مأخوذاً، وهذا فاسد، ولو كان الابتداء الغاية، لم يكن له معنى مفهوم، فبان أنها للتبعيض على ما قلناه.
ويدل على ذلك قول اللّه تعالى: {إِنَّمَا الصَّدَقَاتُ لِلْفُقَرَاءِ وَالْمَسَاكِيْنَ} فجعلها لهم، فثبت أنهم قد استحقوها، وـ أيضاً ـ لا خلاف أن من جعل ثلث ماله أو ربعه أو جزءاً منه للفقراء، يصير ذلك مستحقاً لهم، فكذلك قدر الزكاة، والمعنى أنَّه جزء معلوم من مال معلوم جعل للفقراء، فوجب أن يستحقوه.
فإن قيل: فقولكم هذا يؤدي إلى أن يزول ملك المالك عن المال بمضي الزمان؛ لأن قدر الزكاة عندكم يصير مستحقاً للفقراء بحول الحول، وهذا ما لا يوجد في الأصول. (27/42)
قيل له: قد وجد ذلك في الأصول، ألا ترى أن رجلاً لو قال لعبده: إذا انقضت السنة فأنت حر، لكان ملكه يزول عنه بانقضاء السنة، على أن ذلك لو لم ينجده في الأصول، لكان لا يمتنع القول القول به إذا قام الدليل عليه.
فإن قيل: لو كان ذلك مستحقاً للفقراء، لكان لهم أن يأخذوه بغير إذن صاحب المال.
قيل له: لا يجب ذلك، ألا ترى أن الفقراء يستحقون ما يوصى لهم به من الثلث أو دونه، ومع ذلك فليس لهم أن يأخذوه من المال إلاَّ بإعطاء الوصي، أو بحكم الحاكم؟ فكذلك الزكاة، على أن أحد الشريكين لا يقاسم صاحبه، إلاَّ برضاه أبو بحكم الحاكم، وهذا لا يمنع أن يكون نصيب كل واحد منهما في المشترك فيه ملكاً له.
فإن قيل: لو كان ذلك مستحقاً لهم، لوجب أن يكون المستحق معيناً، وأن يكون الذي يستحقه معيناً.
قيل له: هذا فاسد بالوصية، وبالرجل يجعل جزءاً معلوماً من ماله للفقراء.
فإن قيل: لو كان ذلك مستحقاً، لم يجب أن يكون تعينه موقوفاً على اختيار رب المال.
قيل له: هذا ـ أيضاً ـ فاسد بمن يجعل جزءاً معلوماً من ماله للفقراء؛ لأنَّه يصير مستحقاً لهم، ويكون تعيينه موقوفاً على اختيار رب المال.
وما قدمناه من الأدلة في هذه المسالة، يوجب أن لا يكون فرق في هذا الباب بين الذهب والفضة، وبين المواشي إذا تأخرت زكاتها، فلذلك قلنا: إن سبيل المواشي في هذا الباب سبيل الذهب والفضة.
مسألة
ولا بأس بأخذ الذهب عن الفضة، والفضة عن الذهب في الزكاة، ولا يجوز ذلك في غيرهما من الأموال، وهذا منصوص عليه في (الأحكام).
ووجهه أنَّه مبني على وجوب الضم، فإذا ثبت ذلك، فلا أحد قال به إلاَّ قال بجواز أخذ بعضه عن بعض؛ ولأنهما في التزكية قد صارا كالجنس الواحد، فوجب أن يجوز إخراج بعضه عن بعض؛ ولأن أموال التجارة لما وجب فيها الضم جاز أن يخرج عنه كل واحد من الذهب أو الفضة، فكذلك الذهب والفضة؛ إذ قد وجب فيهما الضم. (27/43)
باب القول في زكاة المواشي (28/1)
مسألة
قال أحمد بن الحسين ـ رحمه الله ـ: لا زكاة في الماشية، إلاَّ أن تكون سائمة، فأما العوامل من الإبل والبقر المعلوفة، وكذا المعلوفة من الشاء، فلا زكاة فيها.
وذلك منصوص عليه في (الأحكام)، وإليه ذهب عامة الفقهاء، وكان مالك يوجبها في العامل.
واستدل يحيى بن الحسين عليه السلام لذلك بما رواه زيد بن على، عن أبيه، عن جده، عن علي عليهم السلام ، قال: ((عفا رسول اللّه صلى الله عليه وآله وسلم عن الإبل العوامل تكون في المصر، عن الغنم تكون في المصر، فإذا رعت وجبت فيها الزكاة)).
وروى أبو بكر الجصاص بإسناده عن ليث، عن طاووس، عن ابن عباس، أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال: ((ليس في البقر العوامل صدقة))، وفي كتاب أنس الذي كتبه له أبو بكر: هذه فريضة الصدقة التي فرضه رسول اللّه صلى الله عليه وآله وسلم على المسلمين، هي التي أمر اللّه بها نبيه، فمن سألها من المسلمين على وجهها فليعطها، ومن سئل فوقها فلا يعطه))، وفيه ((وفي سائمة الغنم إذا كانت أربعين شاة شاة، فدل ذلك على أن غير السائمة لا زكاة فيه؛ لأنه قال: ((ومن سئل فوقها فلا يعطه)).
وروى محمد بن منصور بإسناده عن علي عليه السلام، قال: ليس في الإبل النقالة صدقة)).
فإن قيل: روي عنه صلى الله عليه وآله وسلم [أنه] قال: ((في خمس من الإبل شاة))، وعمومه يجب في السائمة وغيرها.
قيل له: قوله ((في خمس من الإبل شاة))، يقتضي خمساً ما، وليس في ما يقتضي العموم، على أنَّه لو كان عاماً لخصه ما ذكرناه من النصوص.
فإن قاسوا المعلوفة على السائمة؛ بعلة أنَّه حيوان يجري في جنسه الزكاة، عارضناهم بقياس العوامل على عبيد الخدمة؛ بعلة(1) أنَّه حيوان يرتبط للاستعمال، ونرجح علتنا بأموال التجارة، فأنها متى جعلت للقنية، لم يلزم فيها الزكاة، ونرجحها ـ أيضاً ـ بما وجدناه في الأصول من أن لا زكاة في الخيل التي تكون للركوب، وفي البغال، وفي الظباء، وبقر الوحش لما كانت غير مرصدة للنماء، فكذلك ما اختلفنا فيه، وليس يعترض ذلك إيجابنا الزكاة في الحلي، فإن الحلي كالورق، والسبائك في أن التبائع به ممكن، وطلب النماء به متأت، كما يتأتى في الورق والسبائك، على أن الناضح كانت كثيرة على عهد رسول اللّه صلى الله عليه وآله وسلم، فقد روي أن عثمان، وعبد الرحمن بن عوف كانت لهما نواضح كثيرة، ولم يرو أن رسول اللّه صلى الله عليه وآله وسلم أخذ الزكوات منها، وليس يلزم على ذلك الخضراوات، وقول من يقول: إنَّه لم يرو أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم أخذ منها الصدقة؛ لأنها كانت قليلة بمكة والمدينة، ولعل الرجل الواحد لم يكن يبلغ ماله من الخضراوات حداً تلزم فيه الزكاة. (28/2)
مسألة
قال: ولا زكاة في الإبل حتى تبلغ خمساً، فإذا بلغت خمساً ففيها شاة، وفي عشر شاتان، وفي خمس عشرة ثلاث شياة، وفي عشرين أربع شياة، وفي خمس وعشرين بنت مخاض، وفي ست وثلاثين بنت لبون، وفي ست وأربعين حقه، وفي إحدى وستين جذعه، وفي ست وسبعين ابنتا لبون، وفي إحدى وتسعين حقتان إلى عشرين ومائة، ثم تستأنف الفريضة بعد ذلك بالغة ما بلغت ما ذكرناه في فريضة الإبل إلى عشرين ومائة.
منصوص عليه فيه في (الأحكام) و(المنتخب)، ومروي في (الأحكام) عن القاسم عليه السلام النيروسي عنه في خمس وعشرين خمس شياة، فإذا زادت واحدة فبنت مخاض، وروي نحوه عن علي عليه السلام، إلا أن يحيى عليه السلام ضعف هذه الرواية عنه ولم يصححها، وكذلك سائر أهل العلم ضعفوها.
__________
(1) ـ في نسخة: على.
والرواية الصحيحة عنه ما رواه زيد بن علي، عن أبيه، عن جده، عن علي عليه السلام، أنَّه قال: ((في خمس وعشرين من الإبل بنت مخاض))، ونسق فريضة الإبل من أولها إلى عشرين ومائة على ما ذكرناه في كتاب أبي بكر الذي كتب لأنس الذي يقول في أوله هذه فريضة الصدقة التي فرض رسول اللّه صلى الله عليه وآله وسلم، فريضة الإبل إلى عشرين ومائة، على ما ذكرناه. (28/3)
وروى ابن أبي شيبة بإسناده نحوه عن الزهري، عن سالم، عن ابن عمر، أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم كتب كتاب الصدقة فقرنه بسيفه أو قال بوصيته، ونسق فيه فريضة الإبل على ما ذكرناه إلى عشرين ومائة.
وأخبرنا أبو العباس الحسني رضي اللّه عنه، قال: أخبرنا عيسى بن محمد العلوي، قال: حدثنا الحسين بن القاسم القلانسي الكوفي، قال: حدثنا أحمد بن محمد بن جعفر العلوي، عن عمه علي بن الحسين، عن أبي هاشم المحمدي، قال: حدثني أبوك الحسين بن علي، عن أبيه، عن جده، عن علي بن الحسين، أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم كتب لعمرو بن حزم: ((بسم اللّه الرحمن الرحيم ـ فذكر ما يخرج من صدقة الإبل ـ إذا كانت أقل من خمس وعشرين، ففي كل خمس شاة، فإذا بلغت خمساً وعشرين، ففيها بنت مخاض، فإن لم يجد بنت مخاض فابن لبون ذكر، فإذا كانت ستاً وثلاثين إلى خمس وأربعين، ففيها ابنة لبون، فإذا كانت ستاً وأربعين إلى أن تبلغ ستين، ففيها جدعة، فإذا كن أكثر من ذلك، ففيها ابنتا لبون إلى أن تبلغ تسعين، فإذا كانت أكثر من ذلك إلى أن تبلغ عشرين ومائة، ففيها حقتان، فإذا كانت أكثر من ذلك، فخذ من كل خمسين حقة.
فأما ما ذكرناه من استقبال الفريضة بعد العشرين والمائة، فهو منصوص عليه في (المنتخب).
وقال في (الأحكام): فإذا كثرت الإبل، ففي كل خمسين حقة، فكان أبو العباس الحسني رحمه اللّه يلفق بين الروايتين، ويقول: إن الأصل استئناف الفريضة، ويحمل قوله في (الأحكام): فإذا كثرت الإبل ففي كل خمسين حقة، على أن المراد به الزائد على المائة وعشرين، ووجوب الحقة في ست وأربعين إلى ستين، ليس يمنع وجوبها في خمسين. (28/4)
واختلف أهل العلم إذا زادت الإبل على المائة والعشرين، فذهب مالك إلى أن الفرض لا يتغير حتى تكون الزيادة عشراً، فإذا كانت الإبل مائة وثلاثين، ففيها حقة وابنتا لبون.
وذهب الشافعي إلى أن الفرض يتغير بزيادة الواحد، فإذا صارت الإبل مائة وعشرين وواحدة، فيها ثلاث بنات لبون.
ومذهبنا هو استئناف الفريضة، ولا يزاد في الفرض عندنا حتى يكون الزائد خمساً، فإذا كانت الإبل خمساً وعشرين ومائة كان فيها حقتان وشاة. وهو مذهب أبي حنيفة، وهو قول أمير المؤمنين علي عليه السلام وابن مسعود.
والحجة فيه ما:
أخبرنا أبو العباس الحسني، قال: أخبرنا ابن الشروشاني، قال: أخبرنا أبو حاتم الرازي، قال: حدثنا أبو سلمة موسى بن إسماعيل، قال: حدثنا حماد بن سلمة، قال: قلت لقيس بن سعد خذ لي كتاب عمرو بن حزم فأعطاني كتاب، أخبرني فيه أنَّه أخذه من أبي بكر بن محمد بن عمرو بن حزم، أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم كتبه لجده، فقرأته وكان فيه: فإذا كانت أكثر من ذلك ـ يعني تسعين ـ ففيها حقتان إلى أن تبلغ عشرين ومائة، فإذا كانت أكثر من ذلك ففي كل خمسين حقة، وما فضل فإنه يعاد إلى أول فريضة الإبل.
وروي عن عبد الرزاق، عن معمر عن عبدالله بن أبي بكر، عن أبيه، عن جده، عن عمرو بن حزم أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم، قال: ((إذا كانت الإبل مائة وعشرين، ففيها حقتان، فإذا كانت أكثر من ذلك، فاعدد في كل خمس شاة، وفي كل خمسين حقة)).
وأخبرنا أبو العباس الحسني، قال: أخبرنا ابن الشروشاني، قال: حدثنا الحسين بن علي بن الربيع، قال: حدثنا ابن أبي شيبة، قال: حدثنا محمد بن سعيد، عن سفيان، عن أبي إسحاق، عن عاصم، عن علي عليه السلام، قال: إذا زادت الإبل على العشرين والمائة، فيجب إذاً أن يستقبل بها الفريضة، [فبالحساب، استقبل بها الفريضة]. (28/5)
وأخبرنا أبو العباس الحسني، قال: أخبرنا ابن الشروشاني، قال: حدثنا أبو حاتم، قال: حدثنا أبو نفيل، قال: حدثنا عتاب بن بشير، عن خصيف، عن أبي عبيدة بن عبد الله بن مسعود، عن أبيه، في الإبل، قال: إذا كانت إحدى وستين ففيها حقتان إلى عشرين ومائة، ثم ترجع الفريضة إلى أولها.
وروي عن شريك بن مخارق، عن طارق، قال: خطبنا علي عليه السلام، قال: (والله ما عندنا كتاب نقرأُه، إلاَّ كتاب اللّه، وهذه الصحيفة)، قلنا: وما فيها؟ قال: (أسنان الإبل، أخذتها من رسول اللّه صلى الله عليه وآله وسلم).
وروي عن ابن عمر، قال: بعث علي عليه السلام إلى عثمان بصحيفة فيها كتاب يقول: مر سعاتك يعملوا بما فيها، فإن فيها سنن رسول اللّه صلى الله عليه وآله وسلم، فكان فيما روي في ذلك عن أمير المؤمنين عليه السلام وجهان من الدلالة:
أحدهما: أنَّه إذا قال قولاً، وجب أتباعه.
والثاني: إن هذين الخبرين دَلاَّ على أنَّه أخذ صدقات الإبل عن رسول اللّه صلى الله عليه وآله وسلم، فيكون الموقوف عنه في هذا الباب كالمسند إلى النبي صلى الله عليه وآله وسلم، فثبت بما ذكرناه من هذه الآثار صحة ما نذهب إليه من القوم باستئناف الفريضة.
فإن قيل: فقد روي عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم أنَّه قال: ((فإذا كثرت الإبل))، وفي بعض الأحاديث ((فإذا زادت الإبل على المائة والعشرين، ففي كل خمسين حقة، وفي كل أربعين ابنة لبون)).
قيل له: المراد به هو المأخوذ من الزائد على المائة والعشرين، وهو الذي نذهب إليه؛ لأن الزائد إذا كان أربعين، وجبت فيه ابنة لبون، فإذا كان خمسين، وجب فيه حقة، والغرض في هذا القول هو التنبيه على أن حكم الفرض بعد العشرين ومائة حكم الابتداء لا يتغير، على أنا لو لم نقل بهذا التأويل، لم يكن استعمال الأخبار كلها، ووجب أن يسقط خبر الاستئناف، فبان به صحة تأويلنا. (28/6)
فإن قيل: كيف يسوغ لكم أن تقولوا في أربعين ابنة لبون، وفي خمسين حقة، وابنة لبون تجب في ست وثلاثين، وحقة تجب في ست وأربعين.
قيل له: كون ابتداء وجوب ابنة لبون في ست وثلاثين لا يمنع أن تكون هي الواجبة في الأربعين؛ لأن وجوبها يستمر إلى خمس وأربعين، وكذلك كون ابتداء وجوب الحقة في ست وأربعين لا يمنع أن تكون هي الواجبة في خمسين؛ لأن وجوبها يستمر إلى ستين.
وهذا نحو ما رواه ابن أبي شيبة بإسناده عن ابن عمر، قال: كتب رسول اللّه صلى الله عليه وآله وسلم كتاب الصدقة ثم ذكر فيه: ((فإذا زادت الغنم على عشرين ومائة ففيها شاتان إلى مائتين ، فإذا زادت واحدة ففيها ثلاث شياة إلى ثلاث مائة، فإذا زادت ففي كل مائة شاة))، قال: فإذا زادت على المأتي واحدة ففيها ثلاث شياة إلى ثلاثمائة وإن كانت ثلاث شياة هي الواجبة إلى أربعمائة.
فإن قيل: روي عن يونس عن الزهري، قال: هذه نسخة كتاب رسول اللّه صلى الله عليه وآله وسلم التي كتب في الصدقة، وأقرأنيها سالم، وفيه: فإذا كانت إحدى وعشرين ومائة ففيها ثلاث بنات لبون.
قيل له: الأخبار الواردة في هذا الباب وردت باللفظ الذي قدمناه، وهذا الراوي يجوز أن يكون اعتقد أن أقل الزيادة واحدة، وكان قد سمع فإذا زادت الإبل ففي كل أربعين ابنة لبون، فرواه بالمعنى الذي اعتقدوه، دون اللفظ الذي سمع؛ فإذا زادت الإبل، ففي كل أربعين ابنة لبون. فرواه بالمعنى الذي اعتقده دون اللفظ الذي سمع؛ إذ سائر الأخبار ليس فيها ذكر الواحدة ولا فيها ذكر ثلاث بنات لبون، وقد قيل: إن هذا اللفظ لم يروه غير يونس عن الزهري، على أنَّه قد روي ما يعارض هذا الحديث، عن عمرو بن حزم، عن محمد بن عبد الرحمن الأنصاري أن في كتاب النبي صلى الله عليه وآله وسلم في كتاب عمرو: ((أن صدقة الإبل إذا زادت على عشرين ومائة، فليس فيما دون عشرين ومائة شيء، حتى تبلغ ثلاثين ومائة، فيكون فيها حقة وابنتا لبون))، فهذا الحديث يمنع تغير الفرض بالواحد، والحديث الأول يوجب تغيره بالواحد، فوجب أن يكونا متعارضين، وإذا تعارضا سقطا، وسلم لنا خبر الاستئناف. (28/7)
فإن قيل: هذان الخبران يعارضان خبركم.
قيل له: خبرنا أولى بالإستعمال؛ لأنَّه لا يوجب تغيير الفرض المتقدم، وأخبارهم تقتضي تغييره، على أن الفرض الثابت لا يوجب نقله إلاَّ بالتوقيف أو الاتفاق، فإذا عدم الاتفاق ولم يثبت التوقيف للتعارض الحاصل بين الأخبار وجب إبقاؤه، وإذا وجب إبقاؤه فلا قول بعده، إلاَّ القول باستئناف الفرض.
ويدل على ذلك فساد قول من أوجب تغيير الفرض بزيادة الواحد، أن الواحد الزائد لا يخلوا من أن يكون عفواً، أو يكون الوجوب فيه وفيما قبله، فإن كان عفواً، فيجب أن لا يتغير الفرض المتقدم؛ ولأن أصول الزكوات أجمع مبنية على أن العفو لا يغير الفرض، أو يكون الوجوب فيه، وفيما قبله، فإذ كان كذلك وجب أن تكون ابنة لبون تجب في كل أربعين، ثلث من الإبل، وهذا خلاف السنة التي تعلقوا بها، فلا بد لهم من مخالفة خبرهم، أو مخالفة أصول الزكوات.
فإن قيل: ليس فيه مخالفة الأثر، وإن قلنا: إن الواجب فيه وفي الأصل كما قلتم أنتم في كل أربعين ابنة لبون، وإن كان وجوبها في ست وثلاثين. (28/8)
قيل له: إذا وجبت ابنة لبون في ست وثلاثين، ولم يتغير الفرض إلاَّ في ست وأربعين فلا شك أن فرض الأربعين ابنة لبون، فكان ما قلناه في هذا الباب صحيحاً، فإذا كان مذهبكم أن ابنة لبون تجب في أربعين وثلث، لم يصح أن تقولوا في كل أربعين ابنة لبون، وجرى الفساد مجرى أن تقولوا: إنها تجب في ثلاثين، وإن كان لا تجب إلاَّ في ست وثلاثين.
ويدل على ذلك من طريق النظر أنَّه لا خلاف في أن ابنة لبون والحقة تتكرر في صدقات الإبل، فوجب أن تتكررابنة مخاض والجذعة، والمعنى أنها أسنان صدقة، وكل سن لصدقة الإبل يجب أن يتكرر في بعض الأحوال، وإذا ثبت فلا قول معه إلاَّ قولنا.
وبهذه العلة نحتج على أبي حنيفة في الجذعة؛ لأن الجذعة عنه لا تتكرر.
فإن قيل: فقولكم يؤدي إلى مخالفة أصول ما ثبتت عليه صدقات الإبل، وذلك أن كل زيادة يتغير بها حكم الصدقات هي زيادة واحدة، وقلتم فيما زاد على عشرين ومائة لا يتغير حتى تكون الزيادة خمساً.
قيل له: عن هذا الوجه أجوبة:
أحدها: أن في ابتداء فريضة الإبل لم يتغير حكم الفرض إلا بخمس؛ لأن في خمس من الإبل شاة، ولا تجب شاة ثانية إلاَّ بزيادة خمس، فلم يجب على هذا أن يكون قولنا خارجاً عن الأصول.
والثاني: أنا لا نغير حكم الفرض الأول، بل يبقى الفرض على حاله، ونوجب بالخمس الزائدة من الإبل شاة، فلا يجب أن يكون ذلك خروجاً عن الأصول؛ لأن ما ذكروه في أصول زكاة الإبل إنما وجب حيث كان الفرض يتغير دون الموضع الذي يقضى فرض الحول على حاله.
والجواب الثالث: أن هذا كلام في العبارة دون المعنى؛ لأن لنا أن نقول: إن في أربع وعشرين ومائة حقتين، فإذا زادت على ذلك واحدة، وجب الشياة مع الحقتين.
وإن قلنا بالعفو عن الأوقاص وهو الأصح عندنا، قلنا: إن في إحدى وتسعين حقتين وثلاث وثلاثون عفو، فإذا صارت مائة وخمساً وعشرين وجبت الشاة مع الحقتين، وكل ذلك يبطل ادعاءهم علينا أن قولنا يؤدي إلى مخالفة الأصول. (28/9)
فصل
قال: أبو العباس الحسني رحمه اللّه في (كتاب النصوص): روى أصحاب القاسم عليه السلام عنه في من له خمسة فصلان، أن يؤخذ منا واحد، إلاَّ أن يكون أفضل من شاة فيخير ربها فيهما.
فدل ذلك على أن رب الإبل لو أعطى عن خمس من الإبل بعيراً أخذ منه.
وكذلك من كان له إبل عجاف معيبة، فأعطى واحداً من خمس منها أخذ منه.
والأصل في ذلك ما:
رواه أبو داود في السنن بإسناده عن عمارة بن عمرو بن حزم، عن أبي بن كعب، قال: بعثني رسول اللّه مصدقاً فمررت برجل فقلت له: أدِّ ابنة مخاض فإنها صدقتك. فقال: ذلك ما لا لبن فيه ولا ظهر، ولكن هذه ناقة فتية عظيمة سمينة فخذها. فقلت: ما أنا بآخذ ما لم أؤمر به، وهذا رسول اللّه منك قريب، فإن أحببت أن تأتيه فتعرض عليه ما عرضت عليَّ، فافعل. فجاء بها إلى النبي صلى الله عليه وآله وسلم فذكر قصته، وقال: قد جئتك يا رسول اللّه بها فخذها. فقال له صلى الله عليه وآله وسلم: ((ذاك الذي عليك، فإن تطوعت بخير آجرك اللّه فيه وقبلناه))، وأمر رسول اللّه صلى الله عليه وآله وسلم بقبضها ودعا له.
وروى محمد بن منصور، عن علي بن منذر، عن ابن فضيل، عن عبدالملك، عن عطاء، قال: بعث رسول اللّه صلى الله عليه وآله وسلم علياً إلى قوم يصدقهم، فقال: إن عليكم في صدقاتكم كذا وكذا. فقالوا: لا نجعل لله اليوم، إلاَّ خير أموالنا. فقال علي عليه السلام: ما أنا بعاد عليكم السنة حتى أرجع إلى رسول اللّه صلى الله عليه وآله وسلم فأستأذنه، فرجع إلى النبي صلى الله عليه وآله وسلم فقص عليه القصة، فقال له: ((بين لهم ما عليهم في صدقاتهم، فما طابت به أنفسهم بعد، فخذه منهم))، فدلت السنة على أن صاحب المال إذا أعطى من جنس ما وجبت فيه الصدقة أفضل مما لزمه أخذ منه، فلذلك قلنا: من أن صاحب الخمس من الإبل إذا أعطى واحداً منها بدل الشاة أخذ منه، وـ أيضاً ـ قد ثبت في أصول الزكوات أن الزكاة تؤخذ من عين ما أخذ منه، فلما كان ذلك كذلك، ووجدنا القليل من الإبل يؤخذ منه الأغنام، ثم إذا كثرت تعود الصدقة على الإبل، علمنا أن الأغنام دخلت في صدقات الإبل على سبيل الرخصة في الابتداء، فلما ثبت ذلك، وثبت في الرخص أن العدول عنها إلى الأصل جائز، قلنا: إن العدول عن الشاة إلى البعير لصاحب الخمس من الإبل جائز. (28/10)
وـ أيضاً ـ وجدنا من لزمته شاة فعدل عنها إلى البعير أجزأه كالمضحي، والمتمتع، فوجب أن يكون المتصدق كذلك.
فأما صاحب الإبل العجاف والمعيبة، وصاحب الفصلان، فقلنا: إنَّه يؤخذ منه واحد من ماله ولا يكلف شاة؛ لأن الرديء والمعيب لو لم يؤخذا لواجبا أن يلزم صاحبه خيراً مما عنده؛ ولأن الأغنام على ما بينا دخلت تخفيفاً على أرباب الأموال، ورخصة لهم، فإذا كان إلزامها لهم يأتي على أكثر أموالهم، خرج عن أصل موضوعه، بل خرج عن أصل موضوع الزكاة؛ لأن أصول الزكوات موضوعة على إخراج اليسير من الكثير، فلذلك قلنا ذلك؛ ولأن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال لمعاذ: ((إياك وكرائم أموالهم))، فإذا طولب صاحب المعيبة من الذود بشاة صحيحة، كان قد طلب منه ما هو أكرم من ماله، والظاهر يمنع منه. (28/11)
مسألة
وإذا لزم صاحب الإبل سن ولم يوجد في إبله، أخذ منه ما يوجد، فإن كان فوق ما لزمه رد المصدق عليه فضل ما بينه وبين ما لزمه، وإن كان دونه رد على المصدق فضل ما بينهما.
وهذا منصوص عليه في (الأحكام) و(المنتخب).
والوجه فيه أن ما هو الأصل من السن، وبه ورد الشرع إذا لم يوجد، وأخذ البدل كان مأخوذاً، على أنَّه يقوم مقامه، ولا يكون قائماً مقامه، إلاَّ إذا وازاه في القيمة، فوجب أن يعدل البدل بالقيمة على ما ذكرناه.
فإن قيل: روي عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم أنَّه أمر أن يتراد صاحب المال والمصدق لتفاوت ما بين السنين عشرين درهماً أو شاتين.
قيل له: لا نمتنع من ذلك إذا كان هو القيمة، والخبر عندنا منبه على وجوب أخذ العين على التقويم.
يبين ذلك أن الأصل في الأسنان الواجبة قد ثبت بإجماع الأمة، والأثر الوارد فيه قد تلقته الأمة بالقبول، والخبر الذي استدللتم به متى حمل على ما ذهبتم إليه يؤدي إلى رفع بعض ما ثبت بالإجماع؛ لأن المأخوذ من ذلك على غير تقويم، أما أن يكون زائداً على الأصل أو ناقصاً عنه، وإذا حمل الخبر على ما نذهب إليه من التقويم كان ملائماً للأصل فوجب أن يكون تأويلنا أولى.
فإن قيل: ما أنكرتم من أن يكون تخصيص الخبر الوارد في أصول أسنان الإبل بخبرنا أولى من تخصيصكم خبرنا بخبركم الوارد في أصول الأسنان؛ لأنَّه أخص بموضع الخلاف، ألا ترى أنَّه قد ورد في الموضع الذي لا يوجد فيه الأسنان الواجبة؟ (28/12)
قيل له: تخصيصنا أولى؛ لأن الأصول تشهد له، وذلك أنا وجدنا الواجب على الإنسان إذا لم يوجد ووجد ما فوقه أو دونه رجع في التعديل إلى التقويم، وكان ذلك هو الأصل المعمول عليه، إلاَّ في مواضع مخصوصة، فكان تأويلنا أولى وأشبه بالأصول.
فأما إذا وجبت في الإبل ابنة مخاض، فلم توجد ووجد ابن لبون، فقد نص القاسم عليه السلام فيما رواه عنه يحيى عليه السلام في (الأحكام)، وفي رواية النيروسي: أنَّه يؤخذ من غير مراعاة التقويم.
والأصل فيه أن الخبر الوارد في صدقة الإبل صرح به ونص عليه، فصار ذلك أصلاً، ألا ترى أنَّه لم يذكر فيه الدراهم، وإنما أوجب ابن لبون بشرط أن لا توجد ابنة مخاض، فجرى مجرى الصيام للمظاهر إذا لم يستطع العتق.
مسألة
قال: ولا تؤخذ قيمة ما وجب من الزكاة، بل تؤخذ من عين ما وجبت فيه.
وذلك منصوص عليه في (الأحكام) و(المنتخب)، وهو قول القاسم عليه السلام.
والحجة عليه قول اللّه تعالى: {انْفِقُوا مِنْ طَيِّبَاتِ مَا كَسَبْتُمْ وَمِمَّا أَخْرَجْنَا لَكُمْ مِنْ الأَرْضِ}، ومن توجب التبعيض، فاقتضى الظاهر إخراج بعض ما كسبنا، وبعض ما أخرجت الأرض.
وما روي عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم أنَّه قال: ((في أربعين شاة شاة، في خمس من الإبل شاة، وفي خمس وعشرين من الإبل ابنة مخاض، وفي ثلاثين من البقر تبيع، وفيما سقت السماء العشر))، فاقتضت هذه الظواهر أن يكون المأخوذ من جملة المأخوذ منه، وكما أوجبت المقدار من المأخوذ منه والمأخوذ فكما لا يجوز العدول عن المأخوذ إلى البدل.
ويدل على ذلك قوله صلى الله عليه وآله وسلم: ((في خمس وعشرين من الإبل ابنة مخاض، فإن لم يكن ابنة مخاض فابن لبون ذكر ))، فلم يجز العدول عن ابنة مخاض إلى ابن لبون إلاَّ بشرط عدم ابنة مخاض، كما لا يجوز العدول عن ابنة مخاض إلى ابن لبون إلاَّ بشرط عدم ابنة مخاض، كما لا يجوز العدول عن ابنة مخاض إلى ابن لبون إلاَّ بشرط عدم ابنة مخاض، كما لا يجوز العدول عن الماء إلى التراب إلاَّ بشرط عدمه، فدل ذلك على تعيين الوجوب في ابنة مخاض متى وجدت، كما وجب تعيين الوجوب على المتطهر في الماء متى وجده. (28/13)
ويدل على ذلك ما رواه أبو داود في السنن بإسناده عن معاذ بن جبل أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم بعثه إلى اليمن، فقال: ((خذ الحب من الحب، والشاة من الغنم، والبعير من من الإبل، والبقرة من البقر ))، وهذا صريح ما نذهب إليه.
فإن قيل: روي أن أُبيّ بن كعب حين بعثه النبي صلى الله عليه وآله وسلم مصدقاً أتى على رجل وجبت في إبله ابنة مخاض، فأعطى ناقة سمينة، قال: فأبيت أن آخذها، فخرج معي حتى قدمنا على رسول اللّه صلى الله عليه وآله وسلم فقال له: ((ذاك الذي عليك، فإن تطوعت خيراً آجرك اللّه فيه وقبلناه))، فصار ذلك مأخوذاً على وجه البدل؛ إذ بعضه تطوع، وليس في فرض الإبل بعض ناقة.
قيل له: عن هذا جوابان:
أحدهما: أن يقال إن جميعه فرض، وهو أعلى الفرضين، معنى قوله صلى الله عليه وآله وسلم ((فإن تطوعت خيراً آجرك الله))، إن تطوعت بالعدول عن أخف الفرضين إلى أثقلهما لا أن بعضه فرض وبعضه غير فرض، وفي هذا ما يسقط كونه مأخذواً على وجه البدل.
والجواب الثاني: أن يقال: إنه إذا سمح بأن يعطي من جنس ما وجبت الزكاة في أفضل مما وجب عليه، صار بعض ذلك فرضه، ويكون مخيراً بين إخراجه، على أن يسمع بما زاد عليه، وبين إخراج الواجب عليه، فيكون الفرض على هذا متعلقاً بعينه، ولا يكون مأخوذاً على سبيل البدل. فعلى كلا الجوابين يسقط تعلقهم بما تعلقوا به. (28/14)
فإن قيل: روي عن معاذ أنَّه قال لأهل اليمن: ائتوني بالبعض ثياباً أخذه منكم فهو أهون عليكم، وخير للمهاجرين والأنصار بالمدينة، فدل ذلك على جواز أخذ القيمة إذ ليس في شيء من الزكوات ثياب تؤخذ.
قيل له: قد قيل إن ذلك في الجزية دون الزكاة، واستدل على ذلك بأنه قال: خير للمهاجرين بالمدينة، والزكاة يكره إخراجها من بلد وفيه فقير، وقد قال له صلى الله عليه وآله وسلم : ((خذ من أغنيائهم ورد في فقرائهم))، على أن قوله: هو خير للمهاجرين بالمدينة يدل من وجه آخر على أن المراد به الجزية؛ لأن في المهاجرين من لا تحل له الصدقة لغناه، وفيهم من لا تحل له لنسبه، فلما أطلق معاذ القول في ذلك علم أنَّه أراد به ما يجوز صرفه إلى جميعهم، وهو الجزية، على أنَّه لو ثبت أن المراد به في الزكاة، لم يمتنع أن يكون ذلك رأياً رآه معاذ؛ إذ لم يسنده إلى النبي صلى الله عليه وآله وسلم.
فإن قيل: عموم قول اللّه تعالى: {خُذْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ صَدَقَةً}، توجب أخذ كل ما يسمى صدقة سواء كان من جنس ما وجبت في الزكاة أم لم يكن من جنسه.
قيل له: لا عموم في الآية للمأخوذ؛ لأنَّه إثبات في نكرة، وذلك يقتضي التخصيص، وإما العموم في المأخوذ منه، وهذا يمنعهم من التعلق به على الوجه الذي ذكروه، على أن ما ذكروه لو كان عموماً، لوجب أن يخص بالأدلة التي ذكرناها ونذكرها من بعد على طريق القياس.
فإن قيل: روي أنَّه صلى الله عليه وآله وسلم قال: ((أغنوهم عن الطلب في مثل هذا اليوم))، والغنى يكون بالطعام، وقيمة الطعام.
قيل له: هذا مخصوص بما روي أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم فرض زكاة الفطر في رمضان صاعاً من تمر أو صاعاً من شعير))، وسائر ما يرد في هذا الباب. (28/15)
فإن قيل: روي عن أبي بكر أنَّه قال بحضرة المهاجرين والأنصار: لو منعوني عقالاً مما أعطوا رسول اللّه صلى الله عليه وآله وسلم لقاتلتهم. والعقال لا يؤخذ إلاَّ بالقيمة، ولم ينكر ذلك أحد من المهاجرين والأنصار.
قيل له: يجوز أن يكون المراد به صدقة عام فإنها تسمى عقالاً، وذلك معروف في اللغة.
ويدل على ذلك من طريق القياس أن الزكاة حق على المسلمين في المال لا يسقطه الإبراء والعفو، فيجب أن لا يجوز دخول القيم في أدائه، قياساً على ما يذبح من الأضاحي والهدايا والعتق، وليس يعترض هذه العلة قولنا في الخضراوات التي لا يمكن حبس أولها على آخرها، أنَّه يخرج قيمة العشر منها إذا لم يكن ما يحصل في كل وقت مما يبلغ قيمته مائتي درهم؛ لأن ذلك يكون قضاء ولا يكون أداء، ونحن إنما نمنع دخول القيم في الأداء، وكذلك شرطناه في علتنا.
فإن قيل: إن الضحايا والهدايا لم يجز فيها لا قيمة؛ لأن الحق تعلق بإراقة الدم، ولم يدخل في العتق؛ لأن العتق حق للمعتق.
قيل له: قد يجوز العدول في الهدايا وفي العتق إلى الصيام والإطعام على بعض الوجوه، فسقط ما تعلقوا به، على أنا لا نمتنع أن نقول: إن الزكاة تعلقت بالجنس فلا يجوز العدول عنه، على أن ما قالوه لو كان صحيحاً لجاز إخراج قيمة اللحم في الضحايا والهدايا بعد إراقة الدم، وهذا ما لا يقولون به.
على أنا لو سلمنا لهم ما ذكروه لم يمنع ذلك من صحة علتنا؛ إذ كان لا يمتنع أن يتعلق الحكم بعتلين، وـ أيضاً ـ لا خلاف أنَّه لا يجوز أن يجعل السكنى عوضاً مما يعطون من الصدقة، فوجب أن تكون القيمة كذلك قياساً ؛ والعلة أنَّه عدول عن المسنون في أدائها إلى العوض.
فإن قيل: الغرض بالصدقة هو المواساة، وذلك يتم بالقيمة.
قيل له: هذا فاسد بالأضاحي والهدايا.
فإن قيل: قد أجزتم البعير عن شاة في خمس من الإبل، فيجب على هذا أن تجزوا سائر الأبدال. (28/16)
قيل له: لأن ذلك عندنا أحد الواجبين على ما قدمنا القول فيه، وليس هو مأخوذاً على سبيل البدل...
مسألة
قال: ولا زكاة في البقر حتى تبلغ ثلاثين، فإذا بلغت ثلاثين ففيها تبيع أو تبيعة.
وهذا منصوص عليه في (الأحكام) و(المنتخب).
والأصل فيه ما رواه محمد بن منصور، عن محمد بن عبيد، عن معلى بن هلال، عن أبي إسحاق، عن عاصم بن ضمرة، عن علي عليه السلام، قال: قام فينا رسول اللّه صلى الله عليه وآله وسلم ذات يوم، فقال: ((في ثلاثين من البقر تبيع أو تبيعة حولي، وفي أربعين مسنة)).
وروي عن مسروق، قال: بعث رسول اللّه صلى الله عليه وآله وسلم معاذاً إلى اليمن، فأمره أن يأخذ من كل ثلاثين من البقر تبيعاً أو تبيعة، ومن كل أربعين مسنة.
وأخبرنا أبو العباس الحسني رحمه الله، قال: أخبرنا عبدالعزيز بن إسحاق البغدادي، قال: حدثنا علي بن محمد بن الحسن النخعي، قال: حدثنا سليمان بن إبراهيم المحاربي، عن نصر بن مزاحم، عن إبراهيم بن الزبرقان، عن أبي خالد، عن زيد بن علي، عن أبيه، عن جده، عن علي عليهم السلام، قال: ((ليس فيما دون ثلاثين من البقر شيء، فإذا بلغت ثلاثين ففيها تبيع أو تبيعة جذع أو جذعة إلى أربعين، فإذا بلغت أربعين، ففيها مسنة إلى ستين، فإذا بلغت ستين ففيه اتبيعان إلى سبعين، فإذا بلغت سبعين ففيها تبيع ومسنة، فإذا كثرت البقر ففي كل ثلاثين تبيع أو تبيعة، وفي كل أربعين مسنة)).
ولا خلاف فيما ذكرناه من صدقة البقر إلاَّ قول شاذ يحكي عن بعض المتقدمين أنه جعل في خمس من البقر شاة قياساً على الإبل، وهذا فاسد؛ لأنَّه قياس يبطله النص؛ ولأنه لا يجوز قياس الأصول بعضها على بعض على أن موضوع صدقة البقر بخلاف موضوع صدقة الإبل.
على أن هذا القياس يبطله الإجماع المنعقد بعد قائل هذا القول، على أن هذا القياس لو جاز لأمكن أن يعارض بأن تقاس البقر على الغنم؛ بعلة أن زكاتها لا تخرج عن جنسها، فكان يكون ذلك أولى من قياسهم على الإبل. (28/17)
مسألة
قال: وفي أربعين مسنة، وفي ستين تبيعان، وما زاد على هذا الحساب في كل ثلاثين تبيع أو تبيعة، وفي كل أربعين مسنة.
وهذا منصوص عليه في (الأحكام) و(المنتخب)، نص على أنَّه لا شيء فيما زاد على الأربعين حتى تبلغ ستين، وهو قول عامة الفقهاء، وإحدى الروايات عن أبي حنيفة، وعنه في ذلك ثلاث روايات: أحدها ما ذكرناه، والثانية: أن ما زاد على الأربعين فبحساب ذلك، والثالثة: أنَّه لا شيء بعد الأربعين حتى تبلغ خمسين، ثم فيها مسنة وربع مسنة.
والأصل في ذلك ما:
رواه ابن أبي شيبة، عن عبد الله بن نمير، عن ابن أبي ليلى، عن الحكم، قال: بعث رسول اللّه صلى الله عليه وآله وسلم معاذا،ً وأمره أن يأخذ من كل ثلاثين من ابقرتبيعاً أو تبيعة، ومن كل أربعين مسنة، فسألوه عن فضل ما بينهما، فأبى أن يأخذ حتى سأل رسول اللّه صلى الله عليه وآله وسلم فقال: ((لا تأخذ شيئاً)).
وروى أبو بكر الجصاص بإسناده عن الحكم، عن معاذ، قا: ((بعثني رسول اللّه صلى الله عليه وآله وسلم على الصدقة إلى اليمن، وأمرني أن آخذ منكل ثلاثين من البقر تبيعاً أو تبيعة))، وذكر في الحديث (( قال: فعرض علي أهل اليمن أن يعطوني مابين الخمسين والستين، ومابين الستين والسبعين فلم آخذ، وسألت رسول اللّه صلى الله عليه وآله وسلم فقال: هي الأوقاص لا صدقة فيها)).
وروى محمد بن منصور بإسناده، عن معاذ نحوه.
وروى ابن أبي شيبة بإسناده عن الشعبي، عن علي عليه السلام، أنه قال: ((في أربعين مسنة، وفي ثلاثين تبيع، وليس في النيف شيء))، وفي حديث زيد بن علي، عن أبيه، عن جده، عن علي عليهم السلام ((فإذا بلغت أربعين ففيها مسنة إلى ستين، فإذا بلغت ستين ففيها تبيعان إلى سبعين)).
وفي ثبوت ذلك عن علي عليه السلام وجهان من الدلالة: (28/18)
أحدهما: أنَّه إذا ثبت عنه وجب اتباعه عندنا.
والثاني: أنَّه لم يرو عن أحد من الصحابة خلافه، جرى ذلك مجرى الإجماع منهم.
فإن قيل: روي عن عمرو بن دينار، عن طاووس، عن معاذ، قال: لم يقل رسول اللّه صلى الله عليه وآله وسلم في الأوقاص شيئاً، وهذا يعارض خبركم.
قيل له: يجمع بين الخبرين فيحمل قوله: لم يقل شيئاً، على معنى أنَّه لم يقل ابتداء، وقبل أن يبتدأ بالسؤال فيكون جمعاً بين الخبرين، ويحتمل أن يكون أراد بقوله: لم يقل شيئاً أنَّه لم يأمر بأخذ شيء منها.
على أن الخبر الذي استدللنا به أشهر وأظهر من خبرهم فصار أولى.
فإن قيل: عموم قوله تعالى: {خُذْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ صَدَقَةً} توجب أخذ الصدقة من النيف بعد الأربعين.
قيل له: الآية مخصوصة بالآثار التي ذكرناها على أنه ليس بالبعيد [يبعد] أن يقال أن المسنة ماخوذة عن الأربعين والنيف جميعاً.
فإن قيل: وجدنا أوقاص البقر تسعة تسعة، ولم نجدها تسعة عشر، وقولكم إنَّه لا يجب فيها شيء بعد الأربعين حتى تبلغ الستين ويجب أن يكون تسعة عشر وقصاً، وذلك خلاف أوقاص البقر، فوجب أن لا يصح.
قيل له: إنها تختلف في كل جنس من الماشية، ألا ترى أن أوقاص الإبل تختلف،وكذلك أوقاص الغنم تختلف، فوجب أن تكون أوقاص البقر ـ أيضاً ـ تختلف، قياساً على أوقاص الإبل والغنم، فإذا صح ذلك لم يمتنع ما ذكرناه، على أنا لم نجد الكسور في شيء من صدقات المواشي، فكان قولهم مخالفاً لأصل موضوع هذه الصدقات أجمع، فوجب أن يكون قولنا أولى وأشد موافقة للأصول، فوجب الانتهاء إليه.
مسألة
قال: وإذا بلغت البقر مبلغاً يصلح أن يؤخذ منه عدد من التبائع، وعدد من المسان أخذ من المسان.
نص في (الأحكام)، على أن من كان له من البقر مائة وعشرين أخذ منها ثلاث مسان.
ووجه ذلك أن ثلاث مسان أنفع للفقراء من أربع تبائع، وأصل الزكاة مبني على نفع الفقراء، فكل ما كان أنفع لهم كان أولى. على أن أبا حنيفة قال في الخمسين من البقر: مسنة وربع مسنة، ولم يقل تبيع وثلثا تبيع، ولا مسنة وثلث تبيع، فصار على أصله اعتبار المسان أولى، فوجب أن نعتبرها ـ أيضاً ـ في المواضع التي ذكرناها. (28/19)
مسألة
قال: ولا زكاة في الغنم حتى تبلغ أربعين شاة، فإذا بلغت أربعين شاة ففيها شاة، وفي إحدى وعشرين ومائة شاتان، وفي مأتي شاة وشاة، ثلاث شياة، فإذا كثرت الغنم ففي كل مائة شاة شاة.
وهذا منصوص عليه في (الأحكام) و(المنتخب) جميعاً.
والأصل فيه ما احتج به يحيى عليه السلام، وهو ما رواه محمد بن منصور، عن محمد بن عبيد، عن معلى بن هلال، عن أبي إسحاق، عن عاصم بن ضمرة، عن علي عليه السلام، قال: قام فينا رسول اللّه صلى الله عليه وآله وسلم ذات يوم فقال في الغنم: ((في كل أربعين شاة شاة إلى عشرين ومائة، فإذا زادت واحدة فثنتان إلى مأتين، فإذا زادت واحدة فثلاث إلى ثلاثماة، فإن كثرت الشاء، ففي كل مائة شاة لا يفرق بين مجتمع ولا يجمع بين مفترق خشية الصدقة، ولا يأخذ المصدق فحلاً ولا هرمة ولا ذات عوار)).
وروى زيد بن علي، عن أبيه، عن جده، عن علي عليهم السلام، قال: ليس في أقل من أربعين شاة شيء، فإذا كانت أربعين ففيها شاة إلى عشرين ومائة، فإذا زادت على المائتين واحدة ففيها ثلاث شياة، إلى ثلاث مائة، فليس في الزيادة شيء حتى تبلغ أربعمائة، فإذا بلغت أربعمائة، ففي كل مائة شاة.
وروى ابن أبي شيبة، عن عاصم، عن علي عليه السلام، قال: إن لم يكن لك إلاَّ تسع وثلاثون شاة، فليس فيها صدقة.
وروى ابن أبي شيبة، عن عمرو بن شعيب، عن أبيه، عن جده، عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم، قال: ((ليس في أقل من أربعين شاة شيء))، والأخبار في هذه الجملة كثيرة، وهي مما لا خلاف فيه، إلاَّ ما رواه ابن أبي شيبة، عن عبدالله، أنَّه قال: فإذا زادت واحدة على ثلاثمائة ففيها أربع شياة، والإجماع المنعقد بعده يسقطه. وكذلك يسقطه قول النبي صلى الله عليه وآله وسلم: ((فإذا زادت فثلاث شياة إلى ثلاثمائة، فإذا زادت ففي كل مائة شاة)). في رواية ابن أبي شيبة: ((ليس فيها شيء حتى تبلغ المائة)). (28/20)
وروى محمد بن منصور بإسناده، عن الزهري، عن سالم، عن أبيه، قال: ((كان النبي صلى الله عليه وآله وسلم كتب كتاب الصدقة، فكان فيه في الغنم إذا زادت ففيها ثلاث شياة إلى ثلاثمائة، ثم ليس فيها شيء إلى أربعمائة، فإذا كثرت الغنم ففي كل مائة شاة شاة)).
مسألة
قال: ولا معتبر باجتماع المواشي وتفرقها في المراعي، وإنما المعتبر باجتماعها في الملك وتفرقها فيه.
وهذا منصوص عليه في (الأحكام) و(المنتخب).
والأصل فيه ما روى محمد بن منصور، عن ثمامة بن عبدالله بن أنس، وراه أبو داود في السنن، عن ثمامة أن أبا بكر كتب لأنس كتاباً حين بعثه مصدقاً، وفي رواية أبي داود، وعليه خاتم رسول اللّه صلى الله عليه وآله وسلم، وفيه هذه فريضة الصدقة التي فرضها رسول اللّه صلى الله عليه وآله وسلم على المسلمين التي أمر اللّه بها رسوله ـ في حديث طويل في آخره ـ ((فإن لم تبلغ سائمة الرجل أربعين شاة، فليس فيها شيء إلاَّ أن يشاء ربها)).
ولفظ رواية محمد بن منصور: ((فإذا ذكانت سائمة الرجل ناقصة عن أربعين شاة واحدة، فليس فيها صدقة، إلا أن يشاء ربها )).
وفي هذا الحديث في رواية محمد بن منصور ((ومن لم يكن له إلاَّ أربع من الإبل فليس فيها صدقة إلاَّ أن يشاء ربها)).
وروى أبو داود في السنن، قال: حدثنا عبدالله بن محمد النفيلي، قال: حدثنا زهير، قال: حدثنا أبو إسحاق، عن عاصم بن ضمرة والحارث، عن علي عليه السلام، قال زهير: أحسبه عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم في حديث طويل، وفيه: ((فإن لم يكن لك إلاَّ تسع وثلاثون، فليس عليك فيها شيء)). (28/21)
وروى نحوه ابن أبي شيبة، عن عاصم، عن علي عليه السلام.
وروى أبو داود في السنن بإسناده، عن أبي إسحاق، عن عاصم بن ضمرة، والحارث الأعور، عن علي عليه السلام، عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم ((وليس عليك شيء ـ يعني في الذهب ـ حتى يكون لك عشرون مثقالاً، فإذا كانت لك عشرون ديناراً، وحال عليها الحول ففيها نصف دينار)).
وفي شرح أبي بكر الجصاص روي عن عمرو بن دينار، قال: سمعت جابر بن عبدالله يقول: قال النبي صلى الله عليه وآله وسلم: ((ليس على امرء مسلم صدقة فيما دون خمسة ذود)).
فكل هذه الآثار تحقق ما نذهب إليه من أن الصدقة لا تلزم حتى يحصل النصاب في الملك.
فإن قيل: هذا وارد في المنفرد.
قيل له: إنَّه لم يستثن حالة الإجتماع عن حالة الإنفراد فهو عام فيهما جميعاً.
ويدل على ذلك قوله صلى الله عليه وآله وسلم: ((ليس فيما دون خمس ذود صدقة))، وجائز أن يطلق اللفظ في أحد الشريكين إذا كان بينهما خمسة ذود فقط، فيقال: ليس له إلاَّ دون خمسة ذود، فوجب أن تنتفي عنه الصدقة لقوله: ((ليس فيما دون خمسة ذود صدقة))، وعلى هذه الطريقة يستدل بقوله صلى الله عليه وآله وسلم: ((ليس في أقل من أربعين شاة زكاة)).
فإن قيل: فقد قال صلى الله عليه وآله وسلم: ((في خمس من الإبل شاة))، وقال: ((في أربعين شاة شاة))، فأشار إلى العدد وهو ينتظم حالة الشركة والإنفراد.
قيل له: لا دلالة لكم فيما ذكرتم؛ لأنَّه يقتضي وجوب الشاة في خمس ما من الإبل، وفي أربعين ما من الشاء، وذلك لا يقتضي العموم، فإذا أوجبنا الصدقة في خمس ما من الإبل، وفي أربعين شاة ما من الغنم، فقد خرجنا من عهدة الخبر، على أنا لو سلمنا لكم ما ادعيتموه لعارضه عموم قوله صلى الله عليه وآله وسلم: ((ليس يما دون خمسة ذود من الإبل صدقة، وليس فيما دون أربعين شاة شيء))، وانفرد لنا سائر ما اعتمدناه. (28/22)
على أن ما اعتمدناه أولى؛ لأنَّه يتضمن ذكر الملك والعدد، وما اعتمدوه يتضمن ذكر العدد فقط، والخلاف إنما وقع في الملك، فكان ما اعتمدناه أولى؛ لأنَّه أخص بموضع الخلاف.
فإن قيل: فما تقولون فيما روي من قوله صلى الله عليه وآله وسلم: ((لا يجمع بن مفترق، ولا يفرق بين مجتمع))؟
قيل له: لا يخلو من أن يكون أراد الاجتماع والافتراق في الملك، أو في الرعي أو فيهما، ولا خلاف أن الاجتماع والافتراق في الملك قد يراعى على بعض الوجوه، ولسنا نسلم أنهما يراعيان في الرعي على وجه من الوجوه، وتأويلهم قد انفردوا به على كل وجه.
ويحتمل أن يكون المراد به أن المواشي إذا كانت مفترقة في المراعي لم يجمعها المصدق ترفيهاً على نفسه؛ إذ فيه مشقة على أصحاب المواشي، وكذلك إذا كانت مجتمعة لم يفرقها بأن يستدعيها إلى مواضع، بل يقصدها في مواضعها.
فإن قيل: قوله صلى الله عليه وآله وسلم: ((وما كان من خليطين فإنهما يتراجعان بالسوية)).
ويدل على ما ذهبنا إليه؛ لأنَّه أكد دخول الخلطة، وعرف حكمها، ولو كان الحكم لا يتناول إلاَّ الملك فقط لم يكن لذكر الاختلاط معنى.
قيل له: المراد بذلك أن يكون بين الرجلين مائة وعشرون شاة لأحدهما أربعون وللآخر ثمانون، فأخذ المصدق شاتين منهما، فإن صاحب السهمين يرجع على صاحب السهم بثلث شاة أو نحوا من المسائل، فعلى هذا يكون قد بان الغرض من ذكر الاختلاط على أصولنا، ولم يجب أن يكون ذلك مؤديا إلى صحة ما يدعونه.
فإن قيل: روي ((والخليطان ما اجتمعا في الرعي والفحولة والحوض)). (28/23)
كان الجواب عن هذا نحو الجواب الأول؛ لأن المراد به يجوز أن يكون بيان الاختلاط الذي معه يأخذ غير متميز.
فإن قيل: قول الله تعالى: {خُذْ مِنْ أَمْولِهِمْ صَدَقَةً}، يوجب بعمومه أخذ الصدقة من أربعين شاة، وإن كانت بين اثنين.
قيل له: الآية مخصوصة بما قدمناه.
ويدل على ما نذهب إليه ـ أيضاً ـ قوله صلى الله عليه وآله وسلم: ((أمرت أن آخذ الصدقة من أغنيائكم وأردها في فقرائكم))، فجعل الناس صنفين، أحدهما غني مأخوذ منه. والثاني فقير مدفوع إليه. فإذا ثبت ذلك وثبت أن من له شاة واحدة له أن يأخذ الصدقة، وإن كانت مخالطة لتسع وثلاثين لغيره، ثبت أنَّه فقير، وإذا ثبت أنَّه فقير، ثبت أن الصدقة لا تؤخذ منه.
يبين ذلك أنَّه لا خلاف في أنَّه فقير إذا كان منفرداً، وكذلك يجب أن يكون وإن صار خليطاً؛ لأن الخلطة لا تكسبه غنى.
ويدل على ذلك من طريق النظر أن المخالطة مقيس على المنفرد؛ بعلة أن نصاب ماله لم يكمل، فوجب أن لا تلزمه الصدقة، وـ أيضاً ـ لا خلاف أنَّه لو خالط الذمي والمكاتب، لم تلزمه الصدقة، فكذلك إذا خالط المسلم؛ والعلة أن نصاب ماله كمل بملك غيره.
ويمكن أن يقاس النصاب على الحول بمعنى أنَّه أحد شرطي الزكاة، فكما أن رجلاً لو ملك أربعين شاة ستة أشهر، ثم ملكه آخر، لم يلزم فيه الصدقة؛ للاشتراك في الحول، فكذلك يجب أن لا يلزم فيه الصدقة للاشتراك في الحول، فكذلك يجب أن لا يلزمه للاشتراك في النصاب قياساً عليه على أن أحد قولي الشافعي: إن الشركة فيما عدا المواشي لا تغير حكم الانفراد.
فوجب أن تكون كذلك في المواشي، وقياساتنا يترجح على قياسهم المختلط على المنفرد؛ بعلة وجوب النصاب واجتماعه مع خفة المؤنة عند من له مدخل في الطهرة وتمام الملك بشهادة الأصول، وذلك أنا وجدنا وجوب الحج والكفارات والنفقات وسائر ما يجب على الإنسان، لا يجب للاشتراك والاختلاط، بل ما لا يلزم منه المنفرد، لا يلزم الشريك والمخالط. (28/24)
فإن قيل: فأنتم تقولون: لو أن جماعة اجتمعوا على سرق ما قيمته عشرة دراهم، وجب أن يقطعوا، فكذلك إذا اشتركوا في المواشي يجب أن تؤخذ منهم الصدقة.
قيل له: نحن إنما أوجبنا القطع فيما سألت؛ لأن كل واحد منهم سارق لذلك المسروق، فكان كل واحد منهم سرق ما يساوي عشرة دراهم، وليس كذلك حال الخليطين؛ لأن كل واحد منهما لا يملك الجميع، وإنما يملك الشقص منه، فوجب أن يكون سبيلهما سبيل المنفردين.
فأما مالك فإنه يوافقنا على أنَّه لا اعتبار بالخلطة فيما دون النصاب فنقيس عليه ما زاد على النصاب بعلة تمايز الملكين، وحكي عنه الفرق بين الخلطة فيما دون النصاب، والخلطة فيما فوقها، وهو أنَّه قال: لو أني قلت بالخلطة فيما دون النصاب؛ لجعلت الرفق أبدى للمساكين، والبخس على أرباب الأموال، وإذا قلت بالخلطة فيما زاد على النصاب، كان الرفق للفقراء مرة ولأرباب الأموال أخرى؛ لأني إذا قلت بالخلطة في مائة وعشرين شاة تكون بين ثلاثة، لوجبت شاة واحدة، فكان فيه رفق لأرباب الأموال بشاتين، وإذا قلت بالخلطة في مأتي شاة وشاة بين نفسين أوجبت فيها ثلاث شياة، فيكون فيه رفق للمساكين شاة.
يقال له في ذلك: أنت لو قلت بمراعاة الملك دون الخلطة فيما زاد على النصاب كما قلت فيما نقص عنه على ما نذهب إليه، لكان ـ أيضاً ـ يكون الرفق تارة لأرباب الأموال، وتارة للمساكين؛ لأن مائة وعشرين إذا كانت بين ثلاثة على سواء يكون فيه ثلاث شياة، فيكون الرفق فيه للمساكين، ويكون الرفق لأرباب الأموال في مائتي شاة وشاة إذا كانت بين نفسين سواء؛ إذ الواجب أن يكون فيه شاتان، فإذا كان الأمر على ما ذكرنا، فالقول بمراعاة الخلطة، ومراعاة الملك فيما أشرت إليه على سواء، فسقط اعتبارك، ووجب الرجوع إلى سائر ما قدمنا من الأدلة، على أن لمن يقول بالخلطة فيما دون النصاب أن يقول لمالك: وإذا لم تقل بالخلطة فما دون النصاب، جعلت الرفق أبداً لأرباب الأموال، والبخس على المساكين، فلئن وجب أن يبطل القول بالخلطة فيما دون النصاب؛ لأن الرفق أبداً يكون فيه للمساكين ليبطلن القول بمراعاة الملك فيما دون النصاب؛ لأن الرفق فيه أبداً يكون لأرباب الأموال. (28/25)
مسألة
قال: ولا شيء في الأوقاص، وهي التي بين عددي ما يجب فيه الزكاة، مثل ما بين خمس من الإبل إلى عشر، بين عشر منها إلى خمس عشرة، وبين ثلاثين من البقر إلى أربعين، وبين أربعين منها إلى ستين، وبين أربعين من الشاء إلى إحدى وعشرين ومائة، وما بين ذلك منها إلى مائتي شاة شاة.
وهذه الجملة منصوص عليها في (الأحكام) و(المنتخب).
وهذا القول يحتمل وجهين:
أحدهما أن يكون المراد به أنَّه لا شيء فيه غير ما وجب في النصاب الذي قبله فيكون المأخوذ على هذا مأخوذاً عن النصاب، وعن الوقص جميعاً.
والوجه الثاني: أن يكون المراد به الأوقاص عفو لا شيء فيها على التحقيق، فيكون المأخوذ على هذا مأخوذاً على النصاب دون الوقص، وهذا الثاني هو الأصح أن يكون مراداً، وعليه يدل الدليل؛ لأن يحيى عليه السلام قد صرح فقال في (الأحكام) وفي (المنتخب) فيما زاد على خمس وعشرين من الإبل إلى ست وثلاثين أنَّه لا شيء فيها، وأن النبي صلى الله عليه وآله وسلم عفا عنها فاقتضى ظاهر إطلاقه أن المأخوذ مأخوذ عن النصاب فقط. (28/26)
والدليل على ذلك ما:
روى ابن أبي شيبة، أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم لما بعث معاذاً مصدقاً إلى اليمن، سئل عن فضل ما بين الثلاثين والأربعين، فأبى أن يأخذ شيئاً حتى سأل رسول اللّه صلى الله عليه وآله وسلم فقال: ((لا تأخذ شيئاً)).
وفي رواية الجصاص عن معاذ، أنَّه قال: فعرض عليَّ أهل اليمن أن يعطوني عما بين الخمسين والستين وما بين الستين والسبعين فلم آخذه، وسألت النبي صلى الله عليه وآله وسلم، فقال: ((هي الأوقاص لا صدقة فيها )).
ولابن أبي شيبة بإسناده عن الشعبي، عن علي عليه السلام، قال: ((في أربعين مسنة وفي ثلاثين تبيع وليس في النيف شيء)).
وروى ابن أبي شيبة بإسناده عن ابن عمر، قال: كتب النبي صلى الله عليه وآله وسلم كتاب الصدقة نسق الحديث، ثم يقول في صدقة الغنم بعد الثلاثمائة: ((فإذا زادت، ففي كل مائة شاة، وليس فيها شيء حتى تبلغ المائة))، فصرح أن الزائد لا شيء فيه حتى يبلغ المائة، فكل ذلك يحقق صحة هذا الوجه الذي اخترناه من الوجهين اللذين ذكرناهما، على أنَّه لا فائدة للقول بأن المأخوذ مأخوذ عن النصاب والوقص إلاَّ في مسألة واحدة، وتلك الفائدة منافية للسنة، وهي أنا إذا قلنا بذلك، وجب أن نقول في من ملك تسعاً من الإبل ثم هلك منها أربع بعد الحول وقبل الإمكان أن الواجب في الخمس الباقية خمسة أتساع شاة؛ لأن الشاة إذا كانت مأخوذوة عن التسع تلف أربع منها لم يلزمه إلاَّ خمسة أتساع شاة بقسط الخمس من الإبل ويسقط أربعة أتساع الشاة بقسط الأربع من الإبل التالفة، وهذا مخالف للسنة، ألا ترى ألى قوله: ((في خمس من الإبل شاة ))، فصح بهذا ـ أيضاً ـ أن الأولى في الأوقاص أن يقال: إنها عفو لا شيء فيها، وأن المأخوذ مأخوذ عن النصاب فقط. (28/27)
على أن الوقص بعد النصاب مقيس على الوقص قبله؛ بعلة أنَّه وقص، فوجب أن لا يجب فيه شيء، على أن القول بخلاف ذلك يؤدي إلى خلاف موضع الزكاة؛ لأنَّه يؤدي إلى أن يكون تزايد المال يوجب تناقص الزكاة، ألا ترى أن الواجب في أربعين شاة شاة، فلو قلنا: إن الشاة مأخوذة عن الثمانين لكان ذلك يقتضي أن الواجب في الأربعين صار نصف شاة؛ لما تزايدت الغنم، وموضوع الزكاة يوجب زيادة المأخوذ بزيادة المال، فوضح ما قلناه.
مسألة
قال: ويعد المصدق ما سرح من الماشية في المرتع وتقرم من صغارها وكبارها إبلها وبقرها وغنمها.
وهذا منصوص عليه في (الأحكام).
ولا خلاف في أن صغار الماشية تعد إذا كانت مع أمهاتها، والخلاف إذا تلفت الأمهات وبقيت الأولاد، فإن أبا حنيفة ومحمداً يذهبان إلى أنَّها لا تعد إذا تلفت الأمهات، وإطلاق يحيى عليه السلام ما أطلق يدل على أنَّه يوجب عدها على الحول كلها، وكذلك ما حكاه أبو العباس الحسني في (النصوص)، عن أصحاب القاسم عليه السلام أنهم رووا عنه في من له خمسة فصلان، أنَّه يؤخذ منها واحد تصريحاً فإيحاب عد صغار الماشية على الأحوال كلها. (28/28)
والأصل في ذلك ما:
روي عن أبي إسحاق، عن عاصم، عن علي عليه السلام، عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم في الصدقة يعد صغيرها وكبيرها، فاقتضى ظاهر قوله أن يكون الصغير معدوداً على أي حال كان.
فإن قيل: قوله صلى الله عليه وآله وسلم يعد صغيرها وكبيرها، يوجب أن يعد الصغير مع الكبير؛ لأن الواو يوجب الجمع، وهذا إذا كانت هكذا، لم يتناول موضع الخلاف.
قيل له: الواو يوجب الجمع في الحكم، ولا يوجب الضم، ألا ترى أن قائلاً لو قال رأيت زيداً وعمراً يوجب أن يكون زيد وعمرو قد اجتمعا، في أن كل واحد منهما قد روي، ولم يجب أن يكون الرائي رآهما معاً في حالة واحدة، فكذلك الخبر إنما يوجب أن يكون كل واحد منهما ـ أعني الصغير والكبير ـ معدوداً، ولا يجب أن يكونا معدودين معاً.
ويدل على ذلك ما:
روي عن عمر أنَّه قال: عد السخلة عليهم، ولو جاء بها الراعي على كفه، ولم يشترط أن يكون معها أمهاتها، ولم ينكر ذلك أحد من الصحابة، فجرى مجرى الإجماع منهم.
ويدل على ذلك ما:
روي عن أبي بكر، أنَّه قال: لو منعوني عناقاً مما أعطوا رسول اللّه صلى الله عليه وآله وسلم لقاتلتهم، ولم ينكر أحد أن يكونوا قد أعطوا رسول اللّه صلى الله عليه وآله وسلم عناقاً، والعناق لا يجب إلاَّ في هذه المسألة.
فإن قيل: إن المراد به أن العناق لو كانت واجبة، ثم منعوها، لقاتلتهم.
قيل له: ظاهر هذا الخبر لا يطابق هذا التأويل؛ لأنَّه يوجب أن يكون العناق كانت فيما أعطى رسول اللّه صلى الله عليه وآله وسلم. (28/29)
فإن قيل: فيجوز أن يكونوا أعطوا ذلك على التقويم.
قيل له: نحن قد دللنا على أن التقويم في الزكوات لا يجوز، فسقط هذا التأويل. على أنَّه لو كان أعطي على التقوي لم يكن ذلك واجباً يحل القتال عليه؛ أنَّه كان يجب برضاء صاحب المال، فلا وجه لهذا التأويل.
ويدل على ذلك أنهم قد أجمعوا على أنها معدودة مع الأمهات مغيرة للفرض، ألا ترى أنها لو كانت مائة وعشرين شاة لكانت فيه الشاة، فإذا زادت سخلة واحدة، صار فيها شاتان، فوجب أن يكون ذلك حكمها إذا انفردت؛ قياساً على الكبار، والمعنى أن زيادتها مغيرة للفرض، فيجب أن يكون الفرض قائماً فيها إذا كانت نصاباً، وـ أيضاً ـ هي معدودة، فكذلك إذا انفردت، والمعنى أنَّه حال عليها حول الأمهات، ووجدنا الأصول تشهد لذلك؛ لأنا وجدنا الحيوان التي تجري فيها الزكاة إذا عدت مع جنس ثبت فرض الزكاة فيها إذا انفردت، وجب بوجوب العدد، كالمعز والضأن، وكذلك عندنا وعند مخالفينا في هذه المسألة حال الدراهم والدنانير، فإن بعضها لما عد مع بعض، ثبت الفرض في كل واحد منهما إذا انفرد.
وـ أيضاً ـ رأينا تغير حال المعدود بالزيادة والنقصان في السمن والهزال، والصحة والمرض، والقيمة لا تؤثر في إسقاط الفرض، فكذلك الصغار؛ لأن ما أوجب نقصانها هو السن دون العدد والجنس والسوم، وهذا يمكن أن يحرر حتى تكون علة برأسها.
فإن قيل: روي عن سويد بن غفلة، قال: أتانا مصدق رسول اللّه صلى الله عليه وآله وسلم، فجلست إليه، فسمعته يقول: ((في عهدي أن لا آخذ من راضع لبن )).
قيل له: يحتمل أن يكون المراد بذلك إذا لم يحل عليه حول الأمهات على أن الخبر لا خلاف في أنَّه خاص؛ إذ لا خلاف في أنَّه يؤخذ منه إذا كان مع الأمهات.
فإن قيل: فقوله صلى الله عليه وآله وسلم: ((لا زكاة في مال حتى يحول عليه الحول))، يبطل قولكم. (28/30)
قيل له: عندنا أنَّه قد حال عليه حول الأمهات، وحولهن يجري في الشرع مجرى السخال؛ لدخول السخال في حكمهن في باب الحول.
ألا ترى أن الأمهات إذا بقيت فلا يختلف أن أحوال الأمهات يجري مجرى السخال، وبمثل هذا نجيب نحن وخصومنا إذا استدل بهذين الخبرين لإبطال قولنا في تزكية الفوائد مع الأصول إذا حال حول الأصل.
فصل
قال يحيى بن الحسين عليه السلام في (الأحكام): ولا يؤخذ خيارها ولا شرارها، ويأخذ الوسط منها، فدل ذلك أن المأخوذ عنده من السخال إذا انفردن سخلة؛ إذ لو أخذت مسنة كان قد أخذ خيارها.
ويحقق ذلك ما:
روي عن القاسم عليه السلام، أنَّه قال: إذا كان لرجل خمسة فصلان، أخذ منها واحداً، إلاَّ أن يكون خيراً من شاة، فيخير ربها بينه وبين الشاة، فأوجب أن يؤخذ، وإن كان دون الشاة، والشاة هي الواجبة، فيكشف ذلك عن مذهبه في السخال أن المأخوذ منه سخلة، وإن كانت دون الشاة، وهذا قول الشافعي وأبي يوسف، وحكي عن مالك وزفر أنَّه يؤخذ منها مسنة.
والأصل في ذلك ما:
روى ابن أبي شيبة، وأبو داود في السنن، عن وكيع، عن زكرياء بن إسحاق، عن يحيى بن عبدالله ابن صيفي، عن أبي معبد، عن ابن عباس، أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال لمعاذ حين بعثه إلى اليمن: ((إياك وكرائم أموالهم))، فلما منعه من أخذ أفضل أموالهم، دل على أنَّه لا يجوز أن يكلفوا أفضل أموالهم، على أن المسنة كريمة في السخال، ونهيه عن كرائم أموالهم، نهي عن أخذ المسنة من صاحب السخال.
ويدل على ذلك ما:
روي عن أبي بكر أنَّه قال: لو منعوني عناقاً مما أعطوا رسول اللّه صلى الله عليه وآله وسلم لقاتلتهم، والعناق لا يؤخذ إلاَّ في هذه المسألة على ما أوضحنا القول فيه في المسألة التي تقدمته.
وهي ـ أيضاً ـ مقيسة على المعيبة في أنها تؤخذ إذا كان الشاء كله معيباً؛ بعلة أنها على صفة تعم ماله. (28/31)
فإن قيل: علتكم تنقض بمن كانت له ست وثلاثون ابنة مخاض أنه يكلف ابنة لبون، ويكلف خلاف الصفة التي تعم ماله.
قيل له: نحن عللنا بجواز أخذ ذلك على بعض الوجوه، ولا نعلل بإيجاب أخذه في كل موضع، فلا تنتقض علتنا بما ذكرتم، ألا ترى أن مخالفنا لا يجوز أخذ السخلة فقط على وجه من الوجوه، فإذا ثبت أنها مأخوذة على بعض الوجوه، ثبت ما ذهبنا إليه. على أن ما ذكرت يؤخذ منه ابنة مخاض، ثم يكلف تفاوت ما بينها وبين ابنة لبون.
فإن قيل: في حديث سويد بن غفلة إن مصدقاً لرسول اللّه صلى الله عليه وآله وسلم قال: ((في عهدي أن لا آخذ من راضع لبن )).
قيل له: يحتمل أن يكون المراد به إذا كانت الأمهات مع السخال، على أن ظاهر الخبر منع أن يكون راضع لبن مأخوذاً منه، ولم يمنع أن يكون مأخوذاً، فلا وجه للتعلق به في هذا الموضع.
فإن قيل: روي عن عمر أنَّه قال: اعتد عليهم بالسخلة ولا تأخذها. حتى قال السعادة لعمر: إن أهل الأموال يتظلمون منا وينسبوننا إلى الحيف بأنا نعتد عليهم بالسخلة، ولا نأخذها. فقال: قد تركنا لهم الربّى والماخض والأكولة، وفحل الغنم، فدل ذلك على أن السخلة لا تؤخذ.
قيل له: هذا لا يصح التعلق به، من وجهين:
أحدهما: أنَّه قال: قد تركنا لهم الربّى والماخض والأكولة والفحل، فدل ذلك على أن قوله : ولا يأخذها، يعني السخلة، خرج على السخلة التي معها سواها.
والثاني قول السعاة: إن أرباب الأموال يتظلمون منا، وينسبوننا إلى الحيف، وفي ذلك أن قول عمر قد أنكر وخولف، وإذا كان هذا هكذا، لم يصح الاحتجاج به.
فإن قيل: إذا لم تجز السخلة في الأضحية لم تجز في الزكاة.
قيل له: هذا منتقض بالمعيبة التي تجزي إذا كان الشاء كله معيباً على أن موضوع الزكاة يشهد لما ذهبنا إليه؛ لأنها موضوعة على الرفق لأرباب الأموال، ألا ترى أنَّه لا يؤخذ منهم فحل الغنم، ولا الأكولة، وأن الماشية يقسمها المصدق قسمين، يخير صاحب المال فيهما، ثم يأخذ الصدقة من القسم المتروك. (28/32)
وـ أيضاً ـ روي ((أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم رأى ناقة حسنة في إبل الصدقة، فقال: ما هذه؟ فقال صاحب الصدقة إن ارتجعتها ببعير من حواشي الإبل. قال: فنعم إذاً))، فكل ذلك يبين أن صاحب المال لا يكلف أفضل مما يوجد في ماله.
فإن قيل: أليس من له ست وثلاثون بنت مخاض يكلف ابنة لبون، وإن لم تكن في ماله؟
قيل له: إن السن في هذه المسألة يجري مجرى العدد يرتفع بزيادة المال، فلذلك يجب أن لا يؤخذ دونها، كما أن من له مائة وإحدى وعشرون سخلة، لا يجوز أن يؤخذ منه دون السخلتين، على أنه عندنا لا يكلف ابنة لبون؛ بل يؤخذ منه ابنة مخاض، وفضل ما بينها وبين ابنة لبون.
مسألة
قال: والإبل السائمة، وإن حمل عليها في السنة دفعات فهي سائمة إذا كانت ترعى أكثر السنة، فإن حمل عليها أكثر السنة، وكان رعيها دون ذلك، لم لتلزمه الزكاة إلاَّ إذا كانت موقوفة للكراء أو التجارة، فإن فيها إذا حال عليها الحول ربع عشر قيمتها.
وهذا منصوص عليه في (المنتخب)، والوجه فيه أنَّه لا إشكال في أن الإبل السائمة إذا حمل عليها يوماً أو يومين أو أياماً أنها تكون سائمة، فبان أن السوم مراعى فيه الأغلب، وأنه ليس كالعدد والحول، ألا ترى أنَّه لو انتقص من العدد واحد، ومن الحول يوم لم تجب فيه الزكاة ، وليس كذلك إذا حمل على السائمة يوماً أو يومين.
وـ أيضاً ـ فإن اسم السوم لا يزول عنه بأن يستعمل في بعض السنة، فوجب أن تلزمه الزكاة لحصول الاسم، وما رواه زيد بن علي عليه السلام: أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم، عفى عن الإبل العوامل تكون في المصر، وعن الغنم تكون في المصر، فإذا رعت وجبت فيها الزكاة، يوجب ما قلناه؛ لأنَّه علق وجوب الزكاة بالرعي، ولم يشترط حصوله السنة أجمع. (28/33)
فإن قيل: فهذا يوجب أن تلزم الزكاة، وإن كان الرعي يوماً واحداً.
قيل له: ذلك مخصوص بالإجماع؛ لأن كل من راعى السوم أبطل حكمه، إذا كان يسيراً؛ ولأن سائر ما أوجب أن تكون الزكاة في السائمة اقتضى تخصيصه؛ لأن اسم السوم لا ينطلق بأن يرعى يوماً أو يومين.
فأما إذا كان السوم نصف السنة، والعمل نصف السنة، فالأقرب أنَّه لا زكاة في؛ لأن حكم السوم يكون إذا غلب السوم، فأما إذا تساوى الاستعمال فلا حكم له.
يؤكد ذلك أن ما يسقى بالدوالي وإن سقتها السماء في بعض الأوقات، لم يتغير حكمها؛ لما لم يكن ذلك أصلاً وغالباً، فكذلك السوم لا يزيل حكم الاستعمال حتى يكون غالباً؛ لأن المستعمل ـ أيضاً ـ قد يرعى في بعض الأوقات.
فإن قيل: فهلا قلتم في هذا كما قلتم في الأرض تسقى بعض السنة سيحاً، وبعضها بالدوالي.
قيل له: لأن لكل واحد من السقيين حكماً لم يمكن الاعتراض به على صاحبه، فراعينا كل واحد منهما على حياله، ووزعنا المأخوذ عليها، وليس كذلك صدقة المواشي، فإنها وجبت في صفة هي السوم، فقلنا: إن الصفة إما أن تكون مستوفاة أو تكون غالبة، فإذا لم يحصل واحدة من الحالتين لم نجعل لها حكماً؛ إذ لا خلاف أنَّه لا اعتبار باليسير من السوم كنحوا ما يكون في يوم وأيام.
فأما ما قلناه من أنها إذا كانت موقوفة للكراء أو للتجارة، ففي قيمتها ربع العشر، فسنبين الكلام فيه في باب أموال التجارة.
مسألة
قال: وكذلك الخيل والحمير إذا كانت للنتاج أو للكراء أو التجارة، ففيها ربع عشر قيمتها، وذكر يحيى عليه السلام صدقة الخيل والحمير في (المنتخب)، وكلامه فيها يحتمل أن يكون المراد به إذا كانت للتجارة؛ لأنَّه قال: عاطفاً على كلام له في إيحاب الزكاة في الدواب التي تكون للتجارة. (28/34)
ويحتمل ـ أيضاً ـ أن يكون أراد به زكاة السوم؛ لأنَّه ذكر النتاج، ونسق عليه كلامه؛ ولأنه لما فسر الخيل التي عفا عنها رسول اللّه صلى الله عليه وآله وسلم، قال: هي التي يركبها صاحبها في سبيل الله، أو إلى ضيعته ومنافعه، وليست للتجارة.
وخرج أبو العباس الحسني رحمه اللّه في (كتاب النصوص) ذلك على أن المراد به إذا كانت للتجارة.
وذكر يحيى عليه السلام الحمير مع الخيل، يؤكد تخريج أبي العباس الحسني رحمه الله؛ إذ لا خلاف أن الزكاة لا تجب في سائمة الحمير.
والأصل في ذلك ما:
أخبرنا به أبو بكر المقرئ، قال: حدثنا الطحاوي، قال: حدثنا فهد، قال: حدثنا عمر بن حفص، قال: حدثنا أبي، عن الأعمش، قال: حدثنا أبو إسحاق، عن عاصم، عن علي عليه السلام، عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم، قال: ((عفوت لكم عن صدقة الخيل والرقيق)).
وأخبرنا أبو بكر المقرئ، قال: حدثنا الطحاوي، قال: حدثنا ربيع، قال: حدثنا يعقوب بن إسحاق، عن أبي عباد، قال: حدثنا إبراهيم بن طهمان، عن أبي إسحاق، عن الحارث، عن علي عليه السلام، عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم، مثله.
وروى زيد بن علي، عن أبيه، عن جده، عن علي عليهم السلام، عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم نحوه. وذلك عام في الخيل أجمع.
وروي عن أبي هريرة، عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم (( ليس على المسلم في عبده ولا في فرسه صدقة)).
فإن قيل: روي عن أبي هريرة، أنَّه ذكر للنبي صلى الله عليه وآله وسلم الخيل، فقال: ((ثلاث لرجل أجر، ولرجل ستر، وعلى رجل وزر، فأما الذي له ستر، فالرجل يتخذها تكرماً وتجملاً، ولا ينسى حق اللّه في ظهورها ورقابها، وأما الرجل الذي له أجر، فرجل ربطها في سبيل الله، وأما الذي له وزر، فرجل ربطها فخراً ورياءً لأهل الإسلام))، فدل ذلك على أن لله حقاً في ظهورها ورقابها، وسائر الحقوق غير واجب، فثبت وجوب الصدقة. (28/35)
قيل له: قد يجب لله في رقابها وظهورها حقوق سوى الصدقة.
منها: حمل من يخاف ضياعه وتلفه من المسلمين عليها إن لم يحمل. ومنها: ركوبها للجهاد. ومنها إعارتها في الجهاد وغيره.
وقد أخبرنا أبو بكر المقرئ، قال: حدثنا الطحاوي، قال: حدثنا ربيع المؤذن، قال: حدثنا أسد، قال: حدثنا شريك بن عبدالله، عن أبي حمزة، عن عامر، عن فاطمة ابنة قيس، عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم، قال: ((في المال حق سوى الصدقة ))، وتلا هذه الآية: {لَيْسَ الْبِرَّ أَنْ تُوَلُّوا وُجُوهَكُمْ قِبَلَ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ..} إلى آخر الآية، فإذا كان الأمر على ما ذكرناه، لم يجب أن يكون الحق الذي ذكره صلى الله عليه وآله وسلم هو الصدقة، وقد قيل: إنَّه لا يمتنع أن يكون الحق الذي ذكره عليه السلام من النذور.
على أنَّه يحتمل أن يكون أراد به الخيل التي تكون للتجارة، فكل ذلك يبين أن الخيل ليس فيها صدقة السوم.
فإن قيل: روي عن السائب بن يزيد، قال: رأيت أبي يقوم الخيل، ويدفع صدقتها إلى عمر.
قيل له: يحتمل أن يكون قوم خيل التجارة، على أنَّه قد روي أن عمر أخذ صدقة الخيل على غير طريق الوجوب.
أخبرنا بذلك أبو بكر المقرئ، قال: حدثا الطحاوي، قال: حدثنا فهد، قال: حدثنا محمد بن القاسم المعروف بسحيم الخراز، قال: حدثنا زهير بن معاوية، قال: حدثنا أبو إسحاق، عن حارثة بن مضرب، قال: حججت مع عمر، فأتاه أشراف من أشراف أهل الشام، فقالوا: يا أمير المؤمنين، إنا قد أصبنا دواباً وأموالاً، فخذ من أموالنا صدقة تطهرنا وتكون لنا زكاة. قال: هذا شيء لم يفعله اللذان من قبلي، ولكن انظروا حتى أسأل المسلمين، فسأل أصحاب محمد صلى الله عليه وآله وسلم منهم علي عليه السلام، فقالوا: حسن، وعلي عليه السلام ساكت لم يتكلم معهم، فقالوا: مالك يا أبا الحسن لا تتكلم؟ فقال: قد أشاروا إليك، ولا بأس بما قالوا إذا لم يكن أمراً واجباً وجزية راتبة يؤخذون بها. (28/36)
وفي هذا الخبر وجوه من الأدلة، على أن لا صدقة في سائمة الخيل، منها قول عمر في ملاء من المهاجرين والأنصار، أن الذين من قبلي لم يفعلا ذلك، وعنى بأحدهما رسول اللّه صلى الله عليه وآله وسلم، ولم ينكر عليه في ذلك منكر، فجرى مجرى الإجماع على أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم لم يأخذها.
ومنها قولهم: إن ذلك حسن من غير أن قال أحدهم: واجب.
ومنها قول علي عليه السلام لا بأس بما قالوا: إن لم يكن أمراً واجباً وجزية راتبة، فنبه على أنها مأخوذة لا على سبيل الوجوب، وقبل الجميع منه ذلك فصار إجماعاً.
ولا خلاف أن لا زكاة في سائمة الحمير والبغال، فكذلك الخيل؛ والعلة أن لحومها محرمة، وكل حيوان حرم أكل لحمه لا زكاة فيه للسوم، وـ أيضاً ـ لا خلاف أنَّه لا زكاة في ذكور الخيل إذا انفردت، فكذلك في إناثها قياساً على البغال لما لم تجب الصدقة في ذكورها منفردة لم يجب في إناثها، والأصول تشهد لصحة هذه العلة؛ لأنا وجدنا الحيوان أجمع لا ينفصل ذكورها عن إناثها في باب الصدقة.
فأما الكلام فيها إذا كانت للتجارة أو الكراء فسيأتي من بعد في موضعه إنشاء اللّه تعالى.
مسألة
قال: فإن أمسك شيء مما ذكرنا للركوب أو ما أشبهه، لم يلزم فيه الزكاة أصلاً. (28/37)
وهذا منصوص عليه في (الأحكام) و(المنتخب) جميعاً.
ولا خلاف في ذلك، وما استدللنا به من قوله صلى الله عليه وآله وسلم: ((عفوت لكم عن صدقة الخيل))، وقوله : ((ليس على المسلم في عبده وفرسه صدقة))، يدل على أن لا صدقة فيهما في شيء من الأحوال، سواء كانت للركوب أو لغيره.
مسألة
قال: ولو أن رجلين ملكا خمساً من الإبل، أو أربعين شاة، لم يلزم واحداً منهما الزكاة، فإن كانا ملكا عشراً من الإبل أو ثمانين شاة بينهما نصفين، لزم كل واحد منهما شاة شاة، وهذا قد مضى الكلام فيه مستقصى في مسألة الخلطة، فلا وجه لإعادته.
مسألة
قال في (المنتخب): ولو أن رجلاً مات وخلف ثلاثة بنين ومائة شاة، ولم يقتسموها حتى حال عليها الحول، أخذ المصدق منها شاة.
قال: وكذلك إن بقيت في أيديهم سنين كثيرة، أخذ المصدق كل سنة شاة.
قال أبو العباس الحسني رضي اللّه عنه: الوجه في ذلك أن المال يكون موقوفاً على ملك الميت حتى تجري فيه القسمة.
ويمكن أن نوضح ذلك بأن وصاياه تنفذ من ثلثة، وديونه تقضى من جميعه.
وكذلك لو وطئ رجل امرأته ثم مات، ثم حملت امرأته، وولدت، أن الولد وارث بالإجماع، ولا يجوز أن يكون ورث ساعة موت أبيه؛ لأنَّه إذ ذاك كان نطفة، ولا حكم لها، فلولا أن المال مبقى على ملكه، كان لا يورث إذا ولد.
فإن قيل: فإن جميع ما ذكرت هنا لا يتغير حكمه بالقسمة؛ لأن القسمة لو وقعت ثم ظهر الدين أو ولد الولد، لكانت القسمة تنتقض، فعلم أنها لم تقرر ملكاً لم يكن.
قيل له: إن القسمة إذ ذاك تنتقض؛ لأنها تكون وقت غير صحيحة، والقسمة الصحيحة هي التي تقرر الملك، فلم يجب أن يكون ما ذكره مانعاً من بقاء المال على ملك المالك الميت إلى أن تجري فيه القسمة، وـ أيضاً ـ لو كان على الميت دين فأبرأه صاحب الدين لصح ذلك فجرى مجرى أن يبرئه وهو حي في أن المال يخلص للورثة، فكشف ذلك أن بالموت لا ينقطع حكم ملكه، ويمكن أن يشبه ذلك بالغنيمة، فيقال: إن الملك لا يستقر للورثة إلاَّ بعد القسمة، كما لا يستقر ملك الغانمين إلاَّ بعد القسمة؛ لأنَّه مال مملوك، ينقل الملك فيه من غير اعتبار رضاء المالك بوجه من الوجوه. (28/38)
ويبين أن الغانمين لا يستقر ملكهم إلاَّ بعد القسمة ما ثبت من أنَّه إذا استحق منه مسلم شيئاً قبل القسمة أخذه، وإن وجده بعد القسمة لم يأخذه إلاَّ بالقيمة، وقد بينا ذلك فيما تقدم، وـ أيضاً ـ قد ثبت أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم كان يأخذ الصفي من الغنيمة، وأنه كان ينفل منها قبل القسمة، ولا يعمل شيئاً من ذلك بعد القسمة، وكل ذلك يبين أن ملكهم استقر بعد القسمة، فكذلك ملك الورثة على ما بينا.
فإن قيل: فقد قال يحيى عليه السلام في (الأحكام) في (كتاب الفرائض): لو أن رجلاً ذمياً أسلم بعد موت أبيه المسلم بساعة، لم يكن له حق في الميراث؛ لأن الميراث وجب لأهله ساعة موت الميت، وهذا يبطل ما ذهبتم إليه من أن المال يكون على ملك الميت.
قيل له: ليس الأمر على ما قدرت؛ لأن معنى قوله: إن الميراث وجب لأهله ساعة موت الميت، هو أنَّه قد وجب قسمته فيهم، وأنه لا حق فيها لغيرهم، فعلى هذا أطلق عليه السلام لفظته هذه.
مسألة
قال: ولو ملك رجلان ثمانين شاة، لأحدهما ثلاثة أرباعها، وللآخر ربعها، وجب فيها شاة على صاحب الأكثر، فإذا أخذها المصدق رد صاحب الأكثر على صاحب الأقل قيمة ربع شاة ولو كان بينهما مائة شاة وكان لأحدهما ثلاثة أخماسها وللآخر خمساها لزم كل واحد منهما شاة شاة، فإذا أخذ المصدق منها شاتين، رد صاحب الأقل على صاحب الأكثر قيمة خمس شاة، وكذلك القول في الإبل والبقر يكون بين الشريكين أو الشركاء. (28/39)
وهذا منصوص عليه في (الأحكام).
والأصل فيه قول النبي صلى الله عليه وآله وسلم: ((وما كان من خليطين فإنهما يتراجعان بينهما بالسوية))، فنبه بذلك على أن المصدق يأخذ من الشريكين ما يتراجعان فيه، وهذا لا يصح إلاَّ في المسائل التي ذكرناها ونحوها.
وقلنا: إن الشاة إذا أخذت وكانت تلزم صاحب الأكثر دون صاحب الأقل، أن صاحب الأكثر يرد على صاحب الأقل؛ لأن صاحب الأقل يكون قد أخذ منه قسط لم يلزمه، وصاحب الأكثر أخذ منه دون ما يلزمه، فإذا رد رد صاحب الأكثر على صاحب الأقل ما أخذ من نصيبه، يكون قد وفى ما لزمه.
وقلنا: إنَّه إذا لزم كل واحد منهما شاة شاة، فأخذ المصدق منهما شاتين يرد صاحب الأقل على صاحب الأكثر؛ لأن صاحب الأكثر يكون قد أخذ منه أكثر من شاة، وصاحب الأقل يكون قد أخذ منه دون شاة، فإذا رد على صاحب الأكثر يكون كل واحد منهما قد أخرج شاة شاة.
باب القول في زكاة ما أخرجت الأرض (29/1)
يلزم العشر في كل ما أخرجت الأرض إن كان سقيه سيحاً أو بماء السماء، أو ما كان مما يسقى بالدوالي والخطارات، ففيه نصف العشر، وإن كان يسقى نصف السنة بالدوالي ونصفها سيحاً، أخذت الصدقة بحساب ذلك.
وهذا منصوص عليه في (المنتخب).
وذهب بعض الفقهاء إلى أنَّه لا زكاة إلاَّ فيما يقتات.
والذي يدل على ما ذهبنا إليه قول اللّه تعالى: {وَآتُوا حَقَّهُ يَوْمَ حَصَادِهِ} وقوله تعالى: {خُذْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ صَدَقَةً..} الآية، وهذا عام في جميع الأموال، وقوله تعالى: {انْفِقُوا مِنْ طَيِّبَاتِ مَا كَسَبْتُمْ وَمِمَّا أَخْرَجْنَا لَكُمْ مَنْ الأَرْضَ}، وهذا عام في كل ما أخرجت الأرض.
ويدل على ذلك قوله تعالى: {وَالنَّخْلَ وَالزَّرْعَ مُخْتَلِفاً أُكُلُهُ وَالزَّيْتُونَ وَالرَّمَّانَ مُشْتَبِهاً وَغَيْرَ مُتَشَابِهٍ..} الآية، فأوجب فيها حقاً، ولا حق سوى الصدقة يجب.
فإن قيل: قوله تعالى: {وَآتُوا حَقَّهُ يَوْمَ حَصَادِهِ} راجع إلى الزرع دون الثمار؛ لأن الحصد يستعمل في الزرع دون الثمار؟
قيل له: الحصد هو الإستئصال، فكلما أخذ من ثمر أو زرع لم يمتنع أن يستعمل ذلك فيه، على أن التعلق بقوله تعالى: {وَآتُوا حَقَّهُ يَوْمَ حَصَادِهِ} هو أنَّه راجع إلى جميع ما تقدم، فلو سلمنا أن قوله: {يَوْمَ حَصَادِهِ} راجع إلى الزرع لم يممتنع أن يكون قوله: {وَآتُوا حَقَّهُ} راجع إلى جميع ما تقدم.
فإن قيل: المراد به غير الزكاة وهو منسوخ؟
قيل له: لا يمكن إثبات النسخ إلاَّ بدلالة، وإذا كان هذا هكذا، وأثبتت الآية حقاً في الثمار والزرع، وأجمعوا أن لا حق فيها سوى الزكاة، ثبت أنَّه هو الزكاة.
ويدل على ذلك ما:
أخبرنا به أبو بكر المقرئ، قال: حدثنا الطحاوي، قال: حدثنا ربيع، قال: حدثنا أبو الأسود، قال: حدثني ابن لهيعة، عن يزيد بن أبي حبيب، عن ابن شهاب، عن سالم، عن أبيه، ((أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم فرض فيما سقت الأنهار والعيون أو كان يسقى بماء السماء، العشر، وفيما كان يسقىالناضح، نصف العشر. (29/2)
وأخبرنا المقري، قال: حدثنا الطحاوي، قال: حدثنا يونس، قال: حدثنا ابن وهب، قال: أخبرنا عمرو بن الحارث أن أبا الزبير حدثه أنَّه سمع جابراً يذكر عن النبي (ص) أنَّه قال: (فيما سقت الأنهار والعيون العشر، وفيما يسقى بالسانية نصف العشر).
فإن قيل: روي عن موسى بن طلحة عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم أنَّه قال: (ليس في الخضروات صدقة).
وروي نحوه عن علي عليه السلام. وعن عائشة: جرت السنة على أن لا صدقة في الخضروات.
قيل له: لا يمتنع أن يكون المراد به خضروات المدينة من حيث لم تكن تبلغ القدر الذي تجب فيه الزكاة، وبهذا يسقط قولهم: إن الخضروات كانت على عهد رسول اللّه صلى الله عليه وآله وسلم، ولم يروى أنه أخذ منها صدقة؛ إذ معلوم في كثير من بلاد الريف والخصب أن الخضروات لا تكاد تجتمع في ملك الرجل الواحد حتى تبلغ الحد الذي تجب فيه الصدقة، إلاَّ نزراً، فكيف بلاد الحجاز.
فإن قيل: فهلا بنيتم قوله صلى الله عليه وآله وسلم: ((فيما سقت السماء العشر ))، مع الآيات التي تعلقتم بها على قوله (ليس في الخضروات صدقة) ومن مذهبكم بناء (318)
ــــــــــــــــــــــــــــــــــ
هنا نقص من من صفحة 73 ـ 80
ـــــــــــــــــــــــــــــــــ
حتى يبلغ خمسة أمناء، وفي القطن حتى يبلغ خمسة أحمال، قال: والحمل ثلاثمائة مناً بالبغدادي، وفي العسل حتى يبلغ خمسة أفراق، وهذا الاعتبار لا يصح؛ لأن أحوال البلدان تختلف في هذه التقديرات؛ ولأنه ليس له أصل يرد إليه.
وما اخترناه أصح لما قيل فيه؛ لأن له أصلاً في الشريعة، وهو أموال التجارة على مابيناه، والأصل تشهد لقياسنا؛ لأن التقويم مرجوع إليه في تعرف ما يلتبس من الأروش، وغيرها، فإذا ثبت التقويم وحصل فلا وجه لطلب تقويم ثان كما ذهب إليه أبو يوسف. (29/3)
واعتبرنا أن يكون قيمة ما يخرج مائتي درهم في السنة الواحدة؛ لأنَّه لا خلاف أن الأوسق تعتبر في سنة واحدة.
مسألة
قال: وأما العنب فإنه يخرص، فإن غلب في الظن أنَّه إذا زبب بلغ خمسة أوسق وجبت فيه الصدقة، وإن كان دون ذلك لم يجب.
نص في (الأحكام) و(المنتخب) على أن العنب إن كان يزبب، فإنه يخرج منه عشره، أو نصف عشره كما يخرج من سائر الحبوب.
وقال في (الأحكام): إن كان مما لا يزبب خرص، فإذا كان قدراً يبلغ عند التزبيب خمسة أوسق أخرجت منه الصدقة.
وقال في (المنتخب): إن كان مما لا يزبب فسبيله سبيل سائر ما لا يكال، في أنه يجب أن يقوم، وما ذكره في (الأحكام) هو الأصح والأقوى، وهو المعمول عليه عند أصحابنا.
والأصل في ذلك ما: رويناه بإسناده في مسألة الخرص، عن علي بن الحسين، أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم أمر بخرص أعناب ثقيف كخرص النخل، ثم تؤدى زكاته زبيباً كما تؤدى زكاة النخل تمراً.
وما رويناه بإسناده، عن ابن المسيب، عن عتاب بن أسيد أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم أمر أن يخرص العنب زبيباً كما يخرص التمر، ولا خلاف أن التمر لا يقوم، فوجب أن يكون الكرم لا يقوم؛ لأنَّه صلى الله عليه وآله وسلم أمر بخرصه كما تخرص النخل؛ ولأنه لو قوم لم يحتج فيه إلى الخرص، فلما أمر النبي صلى الله عليه وآله وسلم بالخرص علم أن لا تقويم فيه.
وـ أيضاً ـ وجدنا التقويم إنما يطلب في التزكية للشيء إذا لم يكن له في نفسه وجنسه نصاب، يدل على ذلك أن شيئاً مما له في نفسه وجنسه نصاب لا يطلب تقويمه؛ لأن المطلوب بالتقويم إنما هو النصاب، فوجب على هذا أن لا يقوم العنب؛ لأنَّه مما يزبب ويوسق، فيكون له في نفسه وجنسه نصاب، فهو أولى أن يعمل به. (29/4)
ووجه رواية (المنتخب) أنَّه لما وجد العنب قبل أن يصير زبيباً مما لا يكال ولا يوسق، لم يجعل له في نفسه نصاباً، ولما لم نجد له نصاباً رجع إلى التقويم كما عمل في سائر ما لا نصاب له في نفسه.
مسألة
قال: ولا يضم شيء من الأجناس إلى غيره لتجب فيه الزكاة لو كان عنده خمسة أوسق إلاَّ صاعاً من الحنطة، ومثله من الشعير، ومثله من الذرة، ومثله من الأرز لم يلزم في شيء منه زكاة، وكذلك إن كان له خوخ قيمته مائة وتسعون درهماً، ومثله من الأجاص، ومثله من الرمان، ومثله من البطيخ، لم يلزم في شيء منه زكاة، وكذلك القول في القطن والحناء والقضب والكتان.
نص في (الأحكام) على هذه الجملة، وهو قول عامة الفقهاء، وحكي عن مالك أنَّه قال: تضم الحنطة إلى الشعير.
والأصل في ذلك حديث جابر، وقد ذكرناه بإسناده في مسألة زكاة الذهب والفضة، قال: قال صلى الله عليه وآله وسلم: ((لا صدقة في شيء من الزرع والكرم حتى يبلغ خمسة أوسق))، فاقتضى ذلك أن لا صدقة في البر والشعير حتى يكون كل واحد منهما خمسة أوسق؛ لأنَّه صلى الله عليه وآله وسلم لما قال: ((لا صدقة في شيء من الزرع))، تناول ذلك كل زرع من بر أو شعير أو غيرهما على حياله، ثم قال: ((حتى تبلغ خمسة أسق ))، فكان ذلك راجعاً إلى كل ذلك منه؛ لأن تقديره في الكلام أن يقول: لا صدقة في البر حتى يكون خمسة أوسق، ولا صدقة في الشعير حتى يكون خمسة أوسق، ولا صدقة في الأرز حتى يكون خمسة أوسق.
ويدل على ذلك ما:
رواه زيد بن علي، عن أبيه، عن جده، عن علي عليهم السلام، قال: ((ليس فيما أخرجت أرض العشر صدقة من تمر، ولا زبيب، ولا حنطة، ولا شعير ، ولا ذرة حتى يبلغ كل صنف من ذلك خمسة أوساق)). (29/5)
وروى محمد بن منصور، عن جعفر بن محمد الهمداني، عن يحيى بن آدم، عن شريك، عن ابن أبي ليلى، عن عمرو بن مرة، عن أبي البختري، عن أبي سعيد الخدري، عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم، أنَّه قال: ((ليس فيما دون خمسة أوساق من الحنطة والعشير والتمر والزبيب صدقة تؤخذ))، فليس يخلوا قوله صلى الله عليه وآله وسلم: ((دون خمسة أوساق))، من أن يكون المراد به الأصناف الأربعة على الضم، أو يكون المراد به صنف منها على الإنفراد، ولا يجوز أن يكون المراد به الأصناف الأربعة على الضم؛ إذ لا خلاف في أن الحنطة لا تضم إلى التمره، فوجب أن يكون المراد به كل منفي على الإنفراد، وهو الذي نذهب إليه.
وـ أيضاً ـ قد ثبت أن البر والشعير جنسان مختلفان؛ لقول النبي صلى الله عليه وآله وسلم: ((البر بالبر، والشعير بالشعير، ها بها يداً بيد))، وفي بعض الأخبار: ((بيعوا الحنطة بالشعير كيف شئتم)). وثبت أن لا مسرح للتقويم في تزكيتهما، فوجب أن لا يضم بعضه إلى بعض؛ قياساً على التمر، وعلى الإبل البقر؛ بعلة أنهما جنسان مختلفان لا مسرح للتقويم في تزكيتهما ما لم يكونا للتجارة.
ومما يبين أن كل واحد منهما جنس مخالف للآخر أن كل واحد منهما قد خص باسم لا يرجع إلى صاحبه بنوع ولا صفة، فلا يقال: بر شعير، ولا شعير بر، كما يقال: تمر صيحاني، وتمر أزاذ، وعنب ملاحي، ولا يعترض على ذلك المعز والضأن؛ لأن اسم الشاء يجمعهما وبه تعلق الحكم.
فإن قيل: إنهما في غالب البدلان قوت الناس، والمقدار في زكاتهما واحد، فكانا كأنواع البر.
قيل له: هذا منتقض بالأرز والزبيب والتمر؛ إذ هي من الأقوات في كثير من البلدان، على أن قياسهم إن سلم كان قياسنا مرجحاً؛ لأنا رددنا الأجناس المختلفة إلى الأجناس المختلفة، وهم ردوا الأجناس المختلفة إلى الأجناس المتفقة، فكان فرعنا بأصلنا أشبه من فرعهم بأصلهم. (29/6)
وقال مالك: تضم القطنية بعضها إلى بعض كالعدس والحمص، والباقلاء واللوبيا، وما قدمنا يبطل قوله هذا؛ لأنَّه لا أحد فرق بينهما.
مسألة
قال: ولا تؤخذ القيمة من شيء مما ذكرنا لا مما يكال ولا مما لا يكال، وإنما تؤخذ من عين ما وجبت في الصدقة، إلاَّ أن يكون قثاء، أبو بطيخاً، أو ما أشبه ذلك مما يأتي في السنة دفعات كثيرة، ولا يمكن حبس أولها على آخرها، فإنها تؤخذ من ثمنها آخراً إن بلغ مائتي درهم أو أكثر من ذلك عشرة، أو نصف عشره، على قدر سقيه.
قال: فإن خرج منها في كل دفعة ما يكون قيمته مائتي درهم أخذت الصدقة من عينه، ولم تؤخذ من قيمته.
وهذا منصوص عليه في (الأحكام)، وقد مضى الكلام في أن القيمة لا تؤخذ من المزكي بدلاً مما وجب فيها في باب صدقة المواشي، فلا غرض في إعادته.
وقلنا في الخضراوات التي لا يمكن حبس أولها على آخرها: إن الشعر يؤخذ من قيمتها؛ لأنها تصير مستهلكة أولاً فأولاً، ولا يحصل منها القدر الذي تجب فيه في الزكاة، إلاَّ في آخرها وبعد استهلاك أولها، فإذا استهلكها صار ضامناً لها وفاتت العين التي كان الحق متعلقاً بها، فقلنا: إنَّه يؤخذ منها القيمة إذا لم يكن سبيل إلى أخذ العين، وأما إذا أدرك منها في دفعة واحدة ما يكون قيمته مائتي درهم أخذ من عينها؛ إذ لا ضرورة تدعو إلى العدول عنها إلى قيمتها.
والأولى على أصل الهادي عليه السلام: إن باع من ذلك ما قيمته مائة وثمانون درهماً وبقي ما قيمته عشرون درهماً، أن يخرج من ذلك إلى الفقراء بعينه، إن أمكن ذلك، ولم تدع الضرورة إلى بيعه.
مسألة
قال: والعسل يعمل في تزكيته كما يعمل في سائر ما ذكرناه مما لا يكال مما أخرجت الأرض. (29/7)
وهذا منصوص عليه في (الأحكام) و(المنتخب).
والدليل على وجوب الصدقة فيه قول اللّه تعالى: {خُذْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ صَدَقَةً} وهو من جملة الأموال.
وروى محمد بن منصور بإسناده، عن يحيى بن سعيد، قال: جاء رجل إلى النبي صلى الله عليه وآله وسلم فقال: إن لي عسلاً فما أخرج منه؟ قال: ((من كل عشر قرب قربة))، واحتج الهادي إلى الحق عليه السلام بهذا الحديث.
وروى محمد بن منصور بإسناده عن أبي سيارة المتعي، قال: قلت يا رسول الله، إن لي عسلاً؟ قال: ((أدِّ العشر)).
فإن قيل: روى محمد بن منصور، عن علي عليه السلام، أنَّه قال: ((ليس في العسل زكاة)).
قيل له: نحصله على اليسير منه كما قلنا ذلك فيما روي عنه عليه السلام في الخضراوات ليكون ذلك موافقاً لما روي عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم.
والوجه في اعتبار نصابه بأن تكون قيمته مائتي درهم كما مضى في صدقة ما لا يكال مما أخرجت الأرض، فلا غرض في إعادته.
مسألة
قال: وينبغي أن تؤخذ أعشار الزروع قبل أن يرفع منها شيء لمؤنة من حفر أو دلو أو نفقة عمال أو غير ذلك.
وهذا منصوص عليه في (الأحكام).
والأصل في ذلك:
قول النبي صلى الله عليه وآله وسلم: ((فيما سقت السماء العشر، فأوجب فيه العشر ))، من غير أن يستثني شيئاً من ذلك، وـ أيضاً ـ جعل النبي صلى الله عليه وآله وسلم المأخوذ مما يسقى بالدوالي نصف العشر، فلو وجب أن يعتبر غيره لذكره صلى الله عليه وآله وسلم.
فإن قيل: رد النبي صلى الله عليه وآله وسلم المأخوذ مما يسقى بالدوالي إلى نصف العشر، يدل على أن المؤمن معتبر بها، وهذا يسقط قولكم: إنَّه لا اعتبار بها.
قيل له: لسنا نقول: إنَّه لا اعتبار بها أصلاً، لكنا نقتصر على اعتبار النبي صلى الله عليه وآله وسلم؛ لأنا لو قلنا بخلاف ذلك؛ لأسقطنا اعتباره صلى الله عليه وآله وسلم، ولم نجعل له حكماً؛ إذكان يكون المأخوذ أبداً بعد حط المؤن، فكان لا يكون لأخذ نصف العشر مما يسقى بالدوالي فائدة ولا معنى؛ لأن المأخوذ منه أبداً يكون الفاضل عن المؤن. (29/8)
وـ أيضاً ـ لا خلاف في أن من كانت له أربعون شاة سائمة يلزمه شاة من غير مراعاة أجرة الراعي، ومؤنة العلف إن احتيج إليها في بعض الأوقات، فكذلك يجب أن يكون حكم الزرع وما يؤخذ منه.
باب القول في أحكام الأرضين
اعلم أن أحكامها تختلف.
فمنها أرض افتتحها المسلمون عنوة، فاقتسموها بينهم، فهي لهم ملك، ولا يلزمهم فيها إلاَّ العشر.
وأرض أسلم عليها أهلها طوعاً، فليس عليهم فيها إلاَّ العشر.
وأرض أحياها رجل مسلم، فهي له، ولا يلزمه فيها ـ أيضاً ـ إلا العشر.
وهذا منصوص علي في (الأحكام).
والأصل فيه أن الأرضين التي سبيلها ما ذكرنا صارت ملكاً للمسلمين من غير أن تعلق بها حق لأحد، فلم يلزمهم فيها إلاَّ العشر أو نصف العشر؛ لقول النبي صلى الله عليه وآله وسلم: ((فيما سقت السماء العشر، وفيما سقي بالدوالي نصف العشر))، على أن هذه الجملة لا خلاف فيها بين المسلمين، وإنما الخلاف في أرض الفتوح أنها تكون ملكاً للغانمين بنفس الغلبة، أو بأن يقسمها الإمام فيما بينهم إذا رأى ذلك صلاحاً، وسنبين الكلام فيه بعد هذه المسألة.
مسألة
قال: وأرض أجلي عنها أهلها من غير أن يوجف عليهم بخيل ، ولا ركاب فهي لإمام المسلمين، ولا يلزمه فيها إلاَّ العشر.
نص في (الأحكام) على أن الأرض التي هذه سبيلها يكون الإمام أولى بها يصرفها حيث شاء ورأى.
وقال ـ أيضاً ـ في كتاب السير من (الأحكام) عند ذكر الغنائم: والصفي منها وما كان من الحق، والحكم في ذلك لرسول اللّه صلى الله عليه وآله وسلم، فهو للأئمة المحققين من أهل بيته. ونص ـ أيضاً ـ على أن سهم النبي صلى الله عليه وآله وسلم من الخمس يكون للإمام. (29/9)
فحقق أن سبيل الإمام في سبيل النبي صلى الله عليه وآله وسلم.
وقلنا: أنَّه لا يلزمه فيها إلاَّ العشر؛ لأنها إذا صارت ملكاً له كان حكمها حكم الأرض، التي مضت ذكرها قبل هذه المسألة.
والأصل في هذا ما صح بالأخبار المتواترة أن فدك لما أجلي عنها أهلها من غير أن يوجف عليهم بخيل ولا ركاب صارت لرسول اللّه صلى الله عليه وآله وسلم، قال اللّه تعالى: {وَمَا أَفَاءَ اللَّهُ عَلَى رَسُولِهِ مِنْهُمْ فَمَا أَوْجَفْتُمْ عَلَيْهِ مِنْ خَيْلٍ وَلا رُكْابٍ}، فبين أن ما أفاء اللّه على رسوله هذه صفته، فإذا ثبت أن ذلك لرسول اللّه صلى الله عليه وآله وسلم، ثبت أنه يجب أن يكون بعده للإمام، إذ هو القائم مقامه في أمور المسلمين وسد شملهم وتحمل أعباء ما عرض لهم، على أن ما هذا سبيله من الأرضين لا يخلو من أن يكون لجميع المسلمين ولمصاحلهم العامة، أو يكون خاصاً للإمام، ولا يجوز أن يكون لجميع المسلمين ولمصالحهم العامة؛ لأن ما كان هذا سبيله لا يجوز أن يستبد به النبي صلى الله عليه وآله وسلم، وفي استبداده عليه السلام بفدك، دلالة على أن ما أجلي عنها أهها، لا يكون لجميع المسلمين، فإذا ثبت أنها لا تكون لجميع المسلمين، ثبت أنها لخاص منهم، فلم يجعلها أحداً خاصةً إلا جعلها لإمام المسلمين.
فإن قيل: يجوز أن يكون النبي صلى الله عليه وآله وسلم استطاب نفوس المسلمين للإستبداد بها واستوهبها منهم.
قيل له: ذلك فاسد لوجوه:
أحدها: أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم نهى عن المسألة، فروى سمرة عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم فيما روى عنه أبو داود في السنن أنَّه قال: ((المسائل كدوح يكدح بها الرجل وجهه، ومن شاء أبقى على وجهه ومن شاء ترك، إلا أن يسأل الرجل ذا سلطان أو في أمر لا يجد منه بداً)). (29/10)
وروى قبيصة بن مخارق الهلالي، عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم ـ في حديث طويل ـ، قال: ((إن المسألة لا تحل إلاَّ لأحد ثلاثة، رجل تحمل حمالة، ورجل أصابته جائحة، فاجتاحت ماله، ورجل أصابته فاقة، وما سواهن من المسائل، سحت يأكلها الرجل سحتاً)).
وروي عن صلى الله عليه وآله وسلم ((المسألة لا تصلح إلاَّ لثلاثة: لذي فقر مدقع، أو لذي غرم مفظع، أو لذي دم موجع))، فإذا ثبت أن المسألة لا تحل لمن يجز أن يكون النبي صلى الله عليه وآله وسلم استوهب فدك من المسلمين؛ لأن ذلك يكون ضرباً من المسألة، والنبي صلى الله عليه وآله وسلم منزه عن ذلك.
والوجه الثاني: أنها لو كانت لجماعة المسلمين، لدخل فيهم الطفل، ولا يجوز الإستيهاب من الطفل، ولا يجري ذلك مجرى الغنيمة التي تكون لأقوام بأعيانهم، ولا يكون فيهم إلاَّ بالغاً.
والوجه الثالث: أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم لو كان استوهبها من المسلمين، لظهر ذلك ونقل، ولما لم يرو أنَّه فعل ذلك، علم أنه لا أصل له.
فإن قيل: ما أنكرتم أن يكون صلى الله عليه وآله وسلم أمسكها للمسلمين، ولم يمسكها لنفسه.
قيل له: عندنا نه صلى الله عليه وآله وسلم كان جعلها نخلاً لفاطمة صلوات اللّه عليها، وقد تظاهرت به الأخبار، على أن أبا بكر صرفها عن فاطمة عليها السلام بأن قال: سمعت النبي صلى الله عليه وآله وسلم يقول: ((نحن معاشر الأنبياء لا نورث ما تركناه صدقة))، فلو كان صلى الله عليه وآله وسلم أمسكها للمسلمين دون نفسه، لكان أبو بكر يقول ذلك، ولم نحتج إلى إبطال إرث النبي صلى الله عليه وآله وسلم في صرف فاطمة عن فدك.
مسألة
قال: وأرض افتتحها المسلمون، وتركوها في أيدي الذين كانت لهم من قبل وضربوا عليها خراجاً، أو عوملوا على شيء بعينه من النصف أو الثلث أو أقل أو أكثر، فهي أرض خراج، يؤخذ ذلك منهم. (29/11)
وهذا منصوص عليه في (الأحكام) و(المنتخب).
والأصل في هذا أن الإمام إذا افتتح أرضاً عنوة، كان فيها بالخيار، إن شاء قسمها بين الغانمين، فصارت ملكاً لهم، وإن شاء تركها في أيدي أهلها، وضرب عليها خراجاً ومقاسمة، واحتج لذلك يحيى بن الحسين عليه السلام، أن قال: إن رسول اللّه صلى الله عليه وآله وسلم لما فتح خيبر، ففقسم بعضها بين الغانمين، وعامل على بعضها بالنصف، فتركها في أيدي الذي كانت لهم أولاً، يعملونها ويؤدون نصف ما يخرج.
وذلك ما أخبرنا به أبو بكر المقرئ، قالك حدثنا الطحاوي، قال: حدثنا الربيع بن نسليمان المؤذن، قال: حدثنا أسد بن موسى، قال: حدثنا يحيى بن زكرياء بن أبي زائدة، قال: حدثني سفيان، عن يحيى بن سعيد، عن بشير بن يسار، عن سهل بن أبي حثمة، قال: قسم رسول اللّه صلى الله عليه وآله وسلم خيبر نصفين، نصفاً لنوائبه وحاجته، ونصفاً بين المسلمين قسمها بينهم على ثمانية عشر سهماً.
وأخبرنا المقرئ، قال: حدثنا الطحاوي، قال: حدثنا ابن أبي داود، قال: حدثنا أبو عون الزيادي، قال: حدثنا إبراهيم بن طهمان، قال: حدثنا أبو الزبير، عن جابر، قال: (أفاء اللّه خيبر، فأقرها رسول اللّه صلى الله عليه وآله وسلم في أيديهم، كما كانت وجعلها بينه وبينهم، وبعث عبدالله بن رواحة، فخرص عليهم.
وأخبرنا أبو بكر المقرئ، قال: حدثثا الطحاوي، قال: حدثنا يونس، قال: أخبرنا وهب، قال: أخبرني هشام بن سعد، عن زيد بن أسلم، عن أبيه، عن عمر، قال: لو لا أن يكون الناس يباباً ليس لهم شيء، ما فتح اللّه على قرية إلاَّ قسمتها، كما قسم رسول اللّه صلى الله عليه وآله وسلم خيبر.
فدل هذان الخبران على ما روي عن سهل بن أبي حثمة، أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قسم بعض خيبر بين المسلمين، وبعضها لنوائبه وحاجته؛ إذ في حديث جابر أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم أقرهم كما كانوا. (29/12)
وفي حديث عمر: أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قسمها، فكان كل واحد منهما ـ أعني جابراً وعمراً ـ أخبر عن بعض خيبر.
فدل هذان الخبران على أن للإمام الخيار في الأرض المغنومة، بين أن يجعلها بين الغانمين، وبين أن يتركها في أيدي أهلها على خراج يضربه، أو مقاسمة، وأنها لا تصير ملكاً للغانمين، إلاَّ بتمليك الإمام لهم.
فإن قيل: يجوز أن يكون النبي صلى الله عليه وآله وسلم جعل في أيدي الذين كانت لهم من قبل ما كان خالصاً له مما لم يوجف عيله بخيل ولا ركاب، دون ما غنمها المسلمون.
قيل له: هذا غلط، وذلك أن الخالص لرسول اللّه صلى الله عليه وآله وسلم كان أرض فدك، وقيل أرض بني النضير أيضاً، فأما خيبر فلم يختلفوا في أنها كانت مغنومة.
وفي حديث سهل بن أبي حثمة أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قسم خيبر نصفين، نصفاً لنوائبه، ونصفاً بين المسلمين.
وفي حديث جابر: أفاء اللّه خيبر فأقرهم رسول اللّه صلى الله عليه وآله وسلم، إلى آخر الحديث. والأخبار واردة في هذا الباب في خيبر، ولا التباس في أنها افتتحت وغنمت لتواتر الأخبار بها.
فإن قيل: ما أنكرتم أن يكون النبي صلى الله عليه وآله وسلم فعل ذلك بعد ما استطاب نفوس الغانمين.
قيل له: لو كان ذلك كذلك لنقل، ولم يكن ليخفى، ولما لم ينقل، علمنا أنَّه لا أصل له.
فإن قيل: ما أنكرتم أن يكون النبي صلى الله عليه وآله وسلم جعل ذلك في أيدي اليهود على سبيل المزارعة أ والإجارة للمسلمين، فكان الملك للغانمين.
قيل له: هذا فاسد من وجهين:
لأن ذلك لو كان على ما ذكرتم، لوجب أن يكون المسلمون هم العاقدين، أو أن يفعل النبي صلى الله عليه وآله وسلم ذلك بتوكيلهم إياه، ولو كان ذلك كذلك لنقل.
والثاني: أنَّه لا خلاف في أن المزارعة والإجارة لا يصحان إذا لم يكونا إلى مدة معلومة. والنبي صلى الله عليه وآله وسلم لم يجعل ذلك إلى مدة معلومة، على أن الأرض لو كانت للمسلمين، وكانت في أيدي اليهود على سبيل المزارعة، لوجب عليهم فيها العشر، ولم يرو أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم أخذ من غلة خيبر العشر. (29/13)
فإن قيل: يجوز أن يكون الذي وقفه النبي صلى الله عليه وآله وسلم من أرض خيبر على نوائبه، كان من جملة الخمس، الذي لا حق للغانمين فيه.
قيل له: هذا لا معنى له؛ لأن سهل بن أبي حثمة روى أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قسم خيبر نصفين، نصفاً لنوائبه وحاجته، ونصفاً بين المسلمين، والخمس لا يكون نصفاً.
ويدل على ذلك ـ أيضاً ـ أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم فتح مكة عنوة بالسيف، ومن على أهلها، وأقرهم على أملاكهم فيها.
[مسألة في فتح مكة]
فإن قيل: ما أنكرتم على من قال لكم: إن مكة فتحت صلحاً.
قيل له: لا يقول ذلك من عرف الأخبار والمغازي؛ لأن كل من نقل المغازي نقل أنها فتحت عنوة، ثم الأحوال التي جرت كلها تدل على أنها فتحت عنوة، فمنها أنَّه لم يعرف لرسول اللّه صلى الله عليه وآله وسلم صلح انعقد بينه وبين أهل مكة، إلاَّ صلح الحديبية. وقد نقضته قريش بما كان منها في غزاعة، وهم حلفاء رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم في إعانتها بكراً، وهم حلفاء قريش، وكانت خزاعة حالفت رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يوم الحديبية.
ومما يدل على أن ما جرى من قريش في ذلك كان نقضاً ما تظاهرت به الأخبار من مجي أبي سفيان إلى النبي صلى الله عليه وآله وسلم لتجديد الصلح، فلم يكلمه صلى الله عليه وآله وسلم، ثم جاء إلى أبي بكر فأبى، ثم أتى عمر، فقال له ـ على ما رواه ابن جرير الطبري ـ: أنا أشفع لكم إلى رسول اللّه صلى الله عليه وآله وسلم، فقال: والله لو لم أجد إلاَّ الذر لجاهدتكم. ثم جاء إلى فاطمة وإلى أمير المؤمنين، فقال له علي: يا أبا سفيان، لقد عزم رسول اللّه صلى الله عليه وآله وسلم على أمر ما نستطيع أن نكلمه، ولا أعرف لك شيئاً، ولكنك سيد بني كنانة، فأجر بين الناس، ثم الحق بأرضك. فقال: أو يغني ذلك شيئاً؟ قالك لا ولكني لا أعرف غير ذلك، فقالم أبو سفيان في المسجد، فقال: أيها الناس إني أجرت بين الناس، وانصرف، فحكى ذلك لأهل مكة، فقالوا له: ويلك ما زاد على علي أن لعب بك، فما يغني عنها ما قلت. (29/14)
فكل هذا يبين أن الصلح كان قد انتقض، ولولا ذلك لما جاء أبو سفيان لتجديده إذ جاء، ثم يرده أبو بكر وعمر وأمير المؤمنين عليه السلام وفاطمة رحمها الله، ولقالوا له: ما يجشمك من صلح هو باق منعقد.
وما روي أن حاطب بن أبي بلتعة كتب إلى قريش يخبرهم بما أجمع عليه رأي رسول اللّه صلى الله عليه وآله وسلم من المسير إليهم، ودفع الكتاب إلى امرأة من مزينة، فجعلته في رأسها، وفتلت عليه شعرها، حتى عرف رسول اللّه صلى الله عليه وآله وسلم ذلك، فأنفذ في أثرها علياً عليه السلام والزبير، حتى أخذا الكتاب منها، فلو كان الصلح باقياً، لكان ما فعله النبي صلى الله عليه وآله وسلم من العزم على المسير إليهم غدراً، وقد نزهه اللّه تعالى عن ذلك.
ثم ما روي أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم لما أراد المسير إلى مكة، وتقدم إلى أصحابه بالجد والإستعداد، قال: ((اللهم خذ العيون والأخبار عن قريش لنبغتها في بلدها))، ولا يجوز أن يدعوا بذلك على قوم بينه وينهم صلح.
وفيما رواه ابن جرير الطبري بإسناده عن عكرمة، عن ابن عباس، قال: لما نزل النبي صلى الله عليه وآله وسلم مر الظهران، قال العباس: يا صباح قريش، والله لئت بغتها رسول اللّه صلى الله عليه وآله وسلم في بلاها، فدخل مكة عنوة إنَّه لهلاك قريش آخر الدهر، فجلس على بغلة رسول اللّه صلى الله عليه وآله وسلم البيضاء، وقالا: أخرج الأراك لعلي أرى حاطباً أو صاحب لبن، أو داخلاً مكة، فيخبرهم بمكان رسول اللّه، فيأتونه ويستأمنون. (29/15)
فدل ذلك على أنَّه لم يكن هناك صلح؛ لأن النبي صلى الله عليه وآله وسلم إذا حصل بينه وبين قوم صلح لا يجوز أن يهلكهم؛ ولأن لصلح لو كان باقياً لم تحتج قريش أن تأتي رسول اللّه صلى الله عليه وآله وسلم مستأمنين.
وفي الحديث أن العباس لما سار لقي أبا سفيان، فقال له: ما وراءك؟ قال العباس: رسول اللّه ورائي، قد زلف إليكم بما لا قبل لكم به بعشرة آلاف من المسلمين، فلولا أن صلى الله عليه وآله وسلم كان يسير لحربهم لم يكن لقول العباس عليه السلام: قد جاءكم بما لا قبل لكم به معنى، فقال أبو سفيان: فمتى تأمرني؟ فقال له العباس: تركب عجز هذه البلغة فأستأمن لك إلى رسول اللّه صلى الله عليه وآله وسلم، فواللّه لئن ظفر بك ليضربن عنقك، فكيف يقول ذلك لرجل يكون عظيم قوم بينهم وبين النبي صلى الله عليه وآله وسلم صلح منعقد.
وفي الحديث أنَّه ركب وسار به العباس حتى مر به على عمر، فقال له: الحمد لله الذي مكن منك من غير عقد، ولا عهد، وهذا تصريح بأنه لم يكن عقد باق، وكل ذلك يدل على أن الصلح الواقع بالحديبية كان منتقضاً، ولم يرو في شيء من الأخبار أنَّه عقد صلحاً آخر بعد ذلك الصلح.
ثم مما يدل على أنَّه صلى الله عليه وآله وسلم دخل مكة حرباً قوله: ((من دخل دار أبي سفيان فهو آمن، ومن دخل المسجد فهو آمن، ومن أغلق عليه بابه فهو آمن))، فلو كان القوم آمنين بالصلح، لم يكن لتخصيص هؤلاء بالأمان معنى.
يدل على ذلك ما:
روى لنا بإسناده أبو بكر المقرئ، عن الطحاوي، أن أم هانئ بنت أبي طالب أجارت رجلين من أحمائها بني مخزوم، فدخل عليها أخوها علي عليه السلام فأراد قتلهما، فجاءت أم هانئ إلى النبي صلى الله عليه وآله وسلم، وعرفته ذلك، فقال: ((قد أجرنا من أجرت، وأمنا من أمنت))، فلو كان هناك صلح لم يطلب علي عليه السلام دمهما، ولأنكر النبي صلى الله عليه وآله وسلم ذلك حين سمعه، ولم يقل: ((قد أجرنا من أجرت، وأمنا من أمنت))، بل كان يقول: إن دمهما محظور لأنهما في الصلح. (29/16)
وروى الطحاوي بإسناده عن أبي هريرة، قال: أقبل النبي صلى الله عليه وآله وسلم حتى قدم مكة فبعث الزير بن العوام من جانب، وخالد بن الوليد من آخر، وبعث أبا عيبدة على الجيش، فأخذوا بطن الوادي، ورسول اللّه صلى الله عليه وآله وسلم في كتيبة، فقال لي: يا أبا هريرة، اهتف بالأنصار، فهتفت بهم حتى إذا أطافوا به، وقد وبشت قريش أوباشها وأتباعها، فقال صلى الله عليه وآله وسلم للأنصار: ((انظروا إلى أوباش قريش وأتباعها ـ ثم قال بإحدى يديه على الأخرى ـ احصدوهم حصداً حتى توافوني بالصفاء، فانطلقوا فما شاء أحد منا أن يقتل ما يشاء، إلاَّ قتل فقال أبو سفيان: أبيدت خضراء قريش، ولا قريش بعد اليوم، فقال النبي صلى الله عليه وآله وسلم: ((من أغلق عليه بابه فهو آمن، ومن دخل دار أبي سفيان فهو آمن))، فكيف يقول رسول اللّه صلى الله عليه وآله وسلم: ((احصدوهم))، إلاَّ والقوم له حرب.
وروى أبو جعفر بإسناده أن رسول اللّه صلى الله عليه وآله وسلم قال: ((إن اللّه حرم مكة يوم خلق السماوات والأرض والشمس والقمر، ووضعها بين هذين الأخشبين لا تحل لأحد قبلي ولا تحل لي إلاَّ ساعة من النهار))، وذلك لا يكون مع الصلح، وفيما رواه ابن جرير بإسناده عن قتادة، أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال ـ وهو واقف على باب الكعبة ـ: ((يا معشر قريش، أو يا أهل مكة، ما ترون أني فاعل بكم ))؟ قالوا: خيراً أخ كريم وابن أخ كريم، ثم قال: ((اذهبوا فأنتم الطلقاء))، فأعتقهم النبي صلى الله عليه وآله وسلم وقد أمكنه اللّه تعالى من رقابهم عنوة وكانوا له فيئاً، ولذلك يسمى أهل مكة الطلقاء، فقوله: اعتقهم، وقوله صلى الله عليه وآله وسلم: ((أنت الطلقاء))، يدل على أنهم كانوا حرباً؛ لأنهم لو كانوا في الصلح كانوا أحراراً، ولم يحتج إلى أن يطلقهم. (29/17)
وروى أبو جعفر الطحاوي بإسناده أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم دخل مكة يوم الفتح وعلى رأسه مغفر، وروي عمامة، فلو كان دخوله على وجه الصلح، ولم يكن على وجه الحرب، لدخلها محرماً، كما دخل يوم صلح الحديبية، فدل تركه الإحرام على أنَّه كان لأجل القتال.
وذكر ابن جرير، عن الواقدي، أن رسول اللّه صلى الله عليه وآله وسلم أمر بقتل ستة نفر من أهل مكة، وأربع نسوة، فقتل من قتل، وأسلم من أسلم، وهرب من هرب، فلو كان الصلح قائماً بينه وبينهم، لم يحل قتل هؤلاء.
فإن قيل: لو كان صلح الحديبية منتقضاً، لأمر النبي صلى الله عليه وآله وسلم بقتل أبي سفيان حين ورد لتجديد الصلح.
قيل له: لم يقتله رسول اللّه صلى الله عليه وآله وسلم؛ لأنَّه كان وافداً لأهل مكة، ورسولاً لهم، ولا يجوز قتل الرسل بدلالة ما:
روى الطحاوي بإسناده أن رجلين وفدا على النبي صلى الله عليه وآله وسلم من مسيلمة، فقال لهما رسول اللّه صلى الله عليه وآله وسلم: ((أتشهدان أني رسول اللّه صلى الله عليه وآله وسلم))،؟ فقال: نشهد أن مسيلمة رسول الله. فقال: ((آمنت بالله وبرسوله لو كنت قاتلاً وفدا لقتلتكما)). (29/18)
فإن قيل: ما تنكرون على من قال لكم: إن صلحاً انعقد بعد انتقاض صلح الحديبية.
قيل له: أنكرنا ذلك من حيث علمنا أنَّه لو كان لنقل، ولتواترت به الأخبار ما نقل صلح الحديبية، وسائر الأحوال التي جرت ولنقل كيف عقد الصلح، وعلى أي وجه عقد، على أن اللّه تعالى قد نهى عن الصلح بعد القدرة على الكفار بقوله:{وَلا تَهِنُوا وَتَدْعُوا إِلَى السَّلْمِ وَأَنْتُمُ الأَعْلَوْنَ}. وقد كان صلى الله عليه وآله وسلم في قوة عظيمة، فلم يكن يجوز له معها أن يوقع الصلح، كيف وقد بعث على القتال بقوله تعالى: {أَلا تُقَاتِلُونَ قَوماً نَكَثُوا أَيْمَانَهُمْ وَهَمُّوا بِإِخْرَاجِ الرَّسُولِ..} إلى قوله تعالى: {قَاتِلُوهُمْ يُعَذِّبْهِمُ اللَّهُ بَأَيْدِيْكُمْ وَيُخْزِهِمْ وَيَنْصُرْكُمْ عَلَيْهِمْ وَيَشْفِ صُدُورَ قَوْمٍ مُؤْمِنِيْنَ}.
وروي عن عدة من المفسرين أنهم قالوا: {يَشْفِ صُدُورَ قَوْمٍ مُؤْمِنِيْنِ} أراد خزاعة.
فإن قيل: ترك رسول اللّه صلى الله عليه وآله وسلم قسمة أرض مكة، وأموال أهلها، وذراريهم بين الغانمين، وتركه تخميسها مع قول اللّه تعالى: {وَاعْلَمُوا أَنَّمَا غَنِمْتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَأَنَّ للهِ خَمُسَهُ وَلِلرَّسُولِ}، دليل على أنها فتحت صلحاً.
قيل له: يحتمل أن يكون اللّه تعالى جعل للنبي وللإمام الخيار إذا فتح بلداً بين أن يمن على أهله، وبين أن يتركهم على أملاكهم، وبين أن يقسمها بين الغانمين ويخمسها، فإذا احتمل ذلك ووردت الأخبار المتواترة بأنه صلى الله عليه وآله وسلم فتحها عنوة بالسيف، جمعنا بينها ويبن الآية، وخصصن الآية بها، وهذا أولى من إبطال الأخبار المتواترة لعموم الكتاب. (29/19)
فإن قيل: قول النبي صلى الله عليه وآله وسلم: ((اللهم إني أبرأ إليك من فعل خالد ))، يدل على أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم لم يرض مما كان من خالد من القتال يوم فتح مكة، وأنه لم يكن لخالد أن يقتل من قتل، وهذا يدل على أن الصلح كان قائماً.
قيل له: قول النبي صلى الله عليه وآله وسلم لم يقل ذلك يوم الفتح، إنما كان بعث خالداً بعد ذلك إلى قوم يدعوهم إلى الإسلام فقتلهم خالد، فقال: ((اللهم إني أبرأ إليك مما فعله خالد)).
وفي الحديث المروي في هذا الباب أن خالداً أمرهم بوضع السلاح، فوضعوها، فظنوا أنَّهم لا يقتلون، فقتلهم، وأن النبي صلى الله عليه وآله وسلم، بعث علياً، فوداهم، فكيف يظن أن ذلك كان يوم فتح مكة.
فإن قيل: روي أن سعد بن عبادة، قال يومئذ حين تناول الراية: اليوم يوم الملحمة، فقال النبي صلى الله عليه وآله وسلم: ((اليوم يوم المرحمة))، وأخذت الراية من يده، فدل ذلك على أن الدخول كان على الصلح.
قيل له: يحتمل أن يكون قال ذلك لما كان يقومل عليه من بسط العفوا كما كان فعل صلى الله عليه وآله وسلم وأن يكون كره أن يكثر القتل، وليس في هذا دليل على أن القوم لم يكونوا حرباً.
فإن قيل: روي أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم حين فتح مكة، قيل له: هلا تنزل دارك؟ فقال: ((وهل ترك عقيل لنا من رباع))، فدل ذلك على أنها فتحت صلحاً؛ لأنَّه لو كان فتحها عنوة لأخذ داره.
قيل له: فمن أين لكم أن الصلح كان وقع عل أن لا ترد لرسول اللّه صلى الله عليه وآله وسلم داره، على أن ذلك لو كان على ما قلتم، لكان صلى الله عليه وآله وسلم يقول: ((اقتضى الصلح أن يكون داري لهم ))، ولم يقل: ((هل ترك عقيل لنا من رباع))، لأن خروجها عن أن يكون له صلى الله عليه وآله وسلم، إنما هو للصلح على قولكم، فلم يكن لقوله: ((وهل ترك عقيل لنا من رباع))، معنى. (29/20)
وتأويل الخبر عندنا ما روي أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم لما هاجر إلى المدينة، باع عقيل دوره، فصارت ملكاً لهم باحتواء عقيل عليها وبيعها منهم، وهذا أحسن ما نعتمده في أن أهل الحرب يملكون علينا أمولانا في دورهم بالغلبة، فقال صلى الله عليه وآله وسلم: ((هل ترك عقيل لنا من رباع ))، أراد أنها باعها، فصارت ملكاً لهم.
فإن قيل: فعندكم أنها لما فتحت صارت تلك الدور مع سائرها غنيمة، فخرجت من أن تكون ملكاً لهم، وكان للنبي صلى الله عليه وآله وسلم أن يأخذها على قولكم، إن المسلم إذا وجد ماله بعينه في الغنيمة قبل القسمة، فهو أولى به، فلم يكن لقوله صلى الله عليه وآله وسلم: ((هل ترك عقيل لنا من رباع )) معنى؛ لأن رباعه كانت عادت إليه على قولكم.
قيل له: يجوز أن يكون قال ذلك بعد ما منّ عليهم، وقرر أملاكهم في أيديهم، فيكون رباعه من جملة الأملاك المقررة في أيديهم، فلم يجز انتزاعها بعد ذلك.
مسألة
قال: وأرض صالح عليها أهلها، وهم في منعة فيؤخذ منهم ما صالحوا عليه، فما أخذ من الصنفين من الأرض فهو فيٌّ يرد إلى بيت مال المسلمين، ولا يجري مجرى الصدقات، بل يحل لمن لا تحل له الزكوات، فإن أسلم أهلها بعد ذلك، أوصارت الأرض في أيدي المسلمين، لزم فيها العشر مع الخراج.
وجميع ذلك منصوص عليه في (الأحكام) و(المنتخب)، ولا خلاف بين المسلمين أن أرض الصلح يؤخذ منها ما وقعت المصالحة عليه بين المسلمين والمشركين، وأن المأخوذ من مال الصلح، ومال الخراج يجري مجرى الفيء، ولا يجري مجرى الصدقات، فأما الجمع بين العشر والخراج إذا صارت الأرض الخراجية في أيدي المسلمين، فقد مضى القول فيه، فلا وجه لإعادته. (29/21)
مسألة [الإحياء والتحجر]
قال: وأيما أرض أحياها رجل مسلم، فهي له ولورثته من بعده مالم يكن ملكها أحد قبله.
وقال في (المنتخب): أمر الأرض التي لا مالك لها إلى الإمام، قال: ومن تحجر محجراً على أرض، فهو أولى بها ما لم يضيعها ثلاث سنين، فإن ضيعها ثلاث سنين، فأمرها إلى الإمام يأخذه بعمارتها، فإن فعل وإلا دفعها إلى غيره.
ما ذكرناه من إحياء الأرض منصوص عليه في (الأحكام) و(المنتخب)، وما ذكرناه أخيراً فيمن تحجر محجراً على أرض إلى آخر الفصل، منصوص عليه في (المنتخب).
وتحصيل المذهب أن إحياء الأرض والتملك به جائز لكل مسلم بإذن الإمام وبغير إذنه.
وما ذكره في (المنتخب) من أن أمر الأرض التي لا مالك لها إلى الإمام. قال عاطفاً على قوله: فيمن تحجر محجراً على أرض ثم ضيعه، وكذلك نقول: إنَّه إذا فعل ذلك كان أمرها إلى الإمام على ما ذكرناه.
وقد استدل يحيى عليه السلام في (الأحكام) و(المنتخب) على صحة قوله: إن من أحيى أرضاً، فهي له؛ بما:
أخبرنا به أبو بكر المقرئ، قال: حدثنا الطحاوي، قال: حدثنا صالح بن عبد الرحمن، قال: حدثنا عبد الله بن مسلمة القعنبي، قال: حدثنا كثير بن عبد الله، عن أبيه، عن جده، قال: قال رسول اللّه صلى الله عليه وآله وسلم: ((من أحيى أرضاً مواتاً، فهي له، وليس لعرق ظالم حق)).
وروي ((من أحيى أرضاً ميتة، فهي له)).
فاقتضى عموم الخبر أن من أحيى أرضاً مواتاً، صارت ملكاً له.
وروي ـ أيضاً ـ عنه صلى الله عليه وآله وسلم: ((من احتاط حائطاً على أرض، فهي له))، رواه الطحاوي بإسناده عن جابر، عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم. (29/22)
فإن قيل: روي عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم أنَّه قال: ((ليس للمرء إلاَّ ما طاب به قلب إمامه))، وهذا عام في كل شيء إلا ما قام دليله.
قيل له: لا يصح لكم الاحتجاج بهذا الخبر؛ لأنه لا خلاف أن الأملاك المعينة غير مراد له؛ إذ لاخلاف أن من ملك شيئاً بعينه لا يحتاج إلى استطابة نفس الإمام للتصرف فيه، والأخبار التي رويناها قد أوجبت أن من أحيى أرضاً ميتة، صارت ملكاً له.
فإن قيل: فقد روي عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم أنَّه قال: ((موتان الأرض لله ولرسوله(1)، ثم لكم ))، فأثبتت فيها حقاً للمسلمين، فيجب أن تجري مجرى الغنيمة في أن الملك لا يتعين فيها إلا بالإمام.
قيل له: هذا لم يثبت فيها حقاً لجماعة المسلمين، وإنما نبه على أنها مباحة لهم، وأن لهم إحياءها، كما روي عنه صلى الله عليه وآله وسلم: ((إن الناس شركاء في ثلاثة: الماء، والكلأ، والنار))، ولم يثبت فيها حقاً لجماعتهم يحتاج إلى الإمام لتمييزه، وإنما نبه بذلك على أنها مباحة لهم، وأنه لا يجوز منعهم منها، وهذا لو اعتمدناه ابتداء جاز؛ لأنَّه يقتضي أن ليس للإمام منع أحد من شيء منها، ومن وجه النظر لا خلاف في أن الماء والحشيش والصيد لا يحتجاج إلى إذن الإمام لتملك شيء منها، فكذلك الأرض الموات، والمعنى أن كل واحد منهما مباح في الأرض.
__________
(1) ـ موتان الأرض لله ولرسوله، يعني مواتها الذي ليس ملكاً لأحد، وفي لغتان سكون الواو وفتحها مع فتح الميم، تمت نهاية.
فإن امتنعوا من وصف الأرض الموات أنها مباحة لم ينفعهم، وذلك أنا نريد بالمباح أنَّه منتفع به لم يملكه آدمي، على أن كل ما يمكن الإستدلال به على أن الأشياء على الإباحة يدل على أن الأرض الموات مباحة، فإن قاسوها على الغنائم؛ بعلة ثبوت الحقوق فيها لم يصح؛ لأنا لا نسلم أن في الأرض الموات حقاً لأحد، على أنه لو كان فيها حقوق على ما ادعوا، لوجب أن تكون الحقوق تنقطع بالإحياء؛ لقوله صلى الله عليه وآله وسلم: ((من أحيى أرضاً ميتة، فهي له))؛ لأنَّه صلى الله عليه وآله وسلم قد جعلها لمن أحياها، فيكون بذلك قد قطع حقوق الغير عنها لو كانت. (29/23)
فإن قيل: فأنتم لا تجعلون قول النبي صلى الله عليه وآله وسلم: ((من قتل قتيلاً فله سلبه))، قطعاً لحقوق الغانمين، وتجعلونه خارجاً على سبب، وتذهبون إلى أن الإمام إن لم يكن قال ذلك في الحرب لم يكن السلب للقاتل، فيجب أن تقولوا فيما اختلفنا فيه بمثل ذلك.
قيل له: لو لا قيام الدلالة في القاتل أنَّه لا يستحق، لكان هذا العموم الذي ذكرتموه يوجبه ويقتضيه، لكن دلت الدلالة على أن خاص على ما نبينه في كتاب السير، وأن ذلك لا يجب إلاَّ بقول الإمام عند المحاربة لأقوام بأعيانهم.
واشتطرنا أن لا يكون ملكها أحد قبله؛ لأنَّه إذا ملكها مالك قبله يكون سبيلها سبيل سائر الأموال المتملكة؛ ولقول اللّه تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِيْنَ آمَنُوا لا تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبَاطِلِ}، ولقول النبي صلى الله عليه وآله وسلم: ((لا يحل مال امرء مسلم، إلاَّ بطيبة من نفسه)).
وقلنا: إن من تحجر محجراً فهو أولى به، ما لم يضيع ثلاث سنين، فإن ضيعها كان الأمر فيه إلى الإمام؛ لأنَّه يحصل له بالتحجر مزية على غيره، فيكون أولى بما تحجر، كما أن من جلس في مقعد من السوق يكون أولى به، إلاَّ أن يقوم للمزية التي حصلت له، وكذلك من سبق إلى موضع من المسجد، يكون أولى به للعبادة.
واشترطنا ثلاث سنين، ولما روي عن عمر أن قال: ليس لمتحجر بعد ثلاث سنين حق. ولم يرو فيه عن أحد من الصحابة خلافه، فجرى مجرى الإجماع. (29/24)
قال أبو العباس الحسني رحمه الله: وأظنه عن علي عليه السلام.
وقلنا: إن أمره إلى الإمام؛ لأن الحق الذي حصل له بالتحجر لا يقطعه إلى الإمام كسائر الحقوق التي يحتاج فيها إلى القطع، لا بد فيها من الإمام أو من يقوم مقامه.
فإن قيل: هلا استدللتم بقول عمر: ليس لمتحجر حق بعد ثلاث سنين، على أنها قد عادت إلى الإباحة، وهلا قلتم إنَّه لا يحتاج إلى إذن الإمام لعمارتها.
قيل له: لأن الحق المنفي هو التملك؛ لأنا نعلم أن المزية الحاصلة لم تنتف؛ ولأنه لا خلاف أنَّه يكون أولى بعمارتها، أو يدفعها إلى غيره ليعمرها.
وقد حكى يحيى عليه السلام في (الأحكام)، عن قوم أنهم قالوا: إن غيره لو عمرها كان له ذلك، إلاَّ أنَّه حقق في (المنتخب) أن الأمر فيها إلى الإمام إذا كانت الحال هذه.
باب القول في زكاة أموال التجارة وما كان في حكمها
كل مال للتجارة إذا بلغت قيمته النصاب وحال عليه الحول، وجب فيه ربع عشر قيمته، ثياباً كانت الأموال أو ما شية، أو مأكولاً، أو غير ذلك.
وهذه الجملة منصوص عليها في (الأحكام) و(المنتخب)، وهو قول عامة الفقهاء، وحكي الخلاف فيه عن مالك وصاحب الظاهر.
والأصل في ذلك قول اللّه تعالى: {خُذْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ صَدَقَةً} وقوله تعالى: {أَنْفِقُوا مِنْ طَيِّبَاتِ مَا كَسَبْتُمْ وَمِمَّا أَخْرَجْنَا لَكُمْ مِنْ الأَرْضِ}، فاقتضى ذلك إخراج الزكاة من جميع الأموال سواء كانت للتجارة أو غيرها، إلاَّ ما خصه الدليل.
وروى زيد بن علي يرفعه إلى علي عليه السلام، قال: عفا رسول اللّه صلى الله عليه وآله وسلم عن الإبل العوامل تكون في المصر، وعن الغنم تكون في المصر، وعن الدور والرقيق والخيل وكذا وكذا، مالم يرد به تجارة ـ حتى عد الياقوت والزمرد والكسوة وغير ذلك ـ، فدل ذلك على أن العفو وقع بشرط أن لا تكون هذه الأشياء للتجارة، فإذا كانت للتجارة، وجب أن ينتفي عنها العفو، وتجب الزكاة. (29/25)
وروى سمرة، عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم أنَّه كان يأمر أن تخرج الصدقة من الرقيق الذي يعد للبيع، وهذا صريح في إيجاب الزكاة فيما يكون للتجارة؛ إذ الإعداد للبيع ليس أكثر من التجارة.
ويدل على ذلك ما:
روي أن سعاة النبي صلى الله عليه وآله وسلم حضروا يشكون العباس وخالداً، فقال صلى الله عليه وآله وسلم: ((أما العباس، فإني تسلفت صدقته لعامين، وأما خالد، فإنه حبس أدراعه وأعبده في سبيل الله))، فلا تخلوا الأعبد والأدرع التي ذكرها النبي صلى الله عليه وآله وسلم ونبه على سقوط زكاتها لكونها محبوسة في سبيل اللّه من أن تكون تجب فيها لأعيانها، أو لكونها للتجارة، فلما أجمعوا على أن لا زكاة في أعيانها صح أن الزكاة تعلقت بها لكونها للتجارة.
وروي عن عمر أنَّه قال لحماس بن عمر: أدِّ زكاة مالك. فقال: إنما مالي الجعاب والأدم. فقال: قومها وأدِّ زكاتها.
وروي عن عمر وابن عباس القول بزكاة العروض، ولم يرو عن غيرهما خلافهم، فجرى ذلك مجرى الإجماع.
فإن قيل: روي عن ابن عباس، أنه قال: لا زكاة فيه.
قيل له: إذا روي عنه الأمران كان بمنزلة أن لا يكون روي عنه شيء.
وروي عن عمر، وابن عمر، ولم يرو عن غيرهما خلافه، فصار ذلك إجماعاً.
فإن قيل: روي أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم: ((ليس على المسلم في عبده ولا في فرسه صدقة))، فعم، ولم يخص.
قيل له: الأدلة التي قدمناها تخصصه على ما رواه علي عليه السلام، عن رسول اللّه صلى الله عليه وآله وسلم، أنه عفا عن الإبل العوامل تكون في المصر، وكذا مالم يرد به تجارة، فدل على أن الزكاة سقطت بشرط أن لا تكون للتجارة. (29/26)
فإن قيل: لو كانت الزكاة واجبة فيه، لوجبت في عينه دون قيمته.
قيل له: هذا الذي ذكرت غير واجب؛ إذ لا يمتنع وجوبها في القيمة في بعض المواضع، فلما كان ذلك كذلك، وكان قد ثبت وجوب الزكاة فيه، وأجمع الموجبون لها على أنها في قيمتها دون عينها، وجب ذلك، على أنا قد نوجب الزكاة في القيمة في الذهب والفضة؛ لأنا نأخذ الفضة عن الذهب بالتقويم، ونأخذ الذهب عن الفضة بالتقويم، فلا تصح دعوى من يرى أن أصول الزكاة، على أنها لا تؤخذ في القيم.
وروى محمد بن منصور، عن علي بن منذر، عن وكيع، عن الربيع بن صبيح، عن أبي معشر، عن إبراهيم قال: كان لزينب ـ امرأت بنت مسعود ـ طوق فيه عشرون مثقالاً ذهباً، فأمرها ابن مسعود أن تخرج زكاته، خمسة دراهم.
ومن جهة النظر أنَّه مرصد للنماء، فيجب أن يكون له مدخل في الزكاة قياساً على السوائم، ويمكن أن يقاس على الذهب والفضة؛ بعلة أنَّه يبتغي للنماء بتصريفه.
وقياسنا أرجح من قياسهم مال التجارة على نفسه قبل التجارة؛ بعلة أن الزكاة لا تجري فيه، ولاستنادها إلى الظواهر؛ ولأنه موجب، والقياس الموجب للزكاة عندنا أولى من المسقط، على أن صاحب الظاهر لا يقول بالقياس، فلا معنى لقياسه.
وأما مالك فعنده أنَّه إذا باعه بعين اعتد بما مضى من الحول، وهو عرض، فكذلك إذا باعه بعرض، والمعنى أنَّه مالٌ للتجارة.
مسألة
قال: وأيما رجل اتخذ دوراً أو حوانيت ليسكنها ويتجر فيها، فليس عليه في قيمة شيء منها زكاة، وكذلك إن اتخذ عبيداً؛ ليستخدمهم في التجارة أو غيرها، أو ماشية يركبها، أو يحمل عليها أموالاً، أو غيرها، فلا زكاة في قيمة شيء منها.
قد نص الهادي عليه السلام في (الأحكام) على أن لا زكاة في الدور والخدم والكسوة والخيل مالم تكن للتجارة. (29/27)
ونص في (المنتخب) على أن لا زكاة فيما يستعمل في التجارة من العبيد والحوانيت وغير ذلك إذا لم تكن أنفسها للتجارة.
واستدل بما رواه زيد بن علي، عن أبيه، عن جده، عن علي عليه السلام، قال: عفى رسول اللّه صلى الله عليه وآله وسلم عن الإبل العوامل تكون في المصر، وعن الغنم تكون في المصر، وعن الدور والرقيق، والخيل والخدم والبراذين والكسوة واليواقيت والزمرد ما لم ترد به تجارة.
ويدل على ذلك ما:
روي عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم: ((ليس على المسلم في عبده وفرسه صدقة))، على أن المسألة لا خلاف فيها، بل معلوم من دين المسلمين أنهم لا يقومون كسوتهم ودورهم للتزكية.
مسألة
قال: وإن اتخذ الدور والحوانيت، وكذلك العبيد والماشية ليستغلها، أو ليتجر فيها
نفسها، لزمت الزكاة في قيمتها.
وهذا منصوص عليه في (المنتخب).
أما ما كان منها للتجارة، فقد مضى الكلام فيه.
وأما ما كان للاستغلال، فالأصل فيه قول اللّه تعالى: {خُذْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ صَدَقَةً تُطَهِّرُهُمْ وَتُزَكِّيْهِمْ بِهَا}، وهذا عام في جميع الأموال، فوجب أن تلزم الزكاة فيها بظاهر الآية.
ويدل على ذلك ما:
روي عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم أنَّه قال: ((ابتغوا في أموال اليتامى، لا تأكلها الزكاة))، فدل هذا الخبر على وجوب الزكاة في جميع الأموال.
وـ أيضاً ـ روي عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم أنَّه قال لمعاذ حين بعثه إلى اليمن: ((خذ من أغنيائهم ورد في فقرائهم))، وقد يكون الرجل غنياً بملكه للمستغل، كما يكون غنياً بالمستغل، كما تؤخذ ممن يكون غنياً بسائر الأموال.
فإن قيل: روي عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم أنه عفا عن الإبل العوامل، وذلك يحجكم.
قيل له: نحمله على أنها عومل لصاحبها، لا على وجه الاستغلال منها؛ إذ أكثر العوامل كذا كانت على عهد رسول اللّه صلى الله عليه وآله وسلم، وكذلك نقول لمن احتج بقوله صلى الله عليه وآله وسلم: ((ليس على المسلم في عبده ولا فرسه صدقة))، ونحمله على أن المراد إذا كان للركوب والاستخدام. (29/28)
فإن قيل: لستم في تخصيصكم خبرنا في ما اعتمدتموه من الظواهر بأولى منا إذا ما اعتمدتموه من الظواهر بخبرنا.
قيل له: نحن أولى بذلك؛ لأن الاستعمالين في باب الزكاة إذا كان أحدهما موجباً والآخر مسقطاً، فالموجب أولى عندنا.
ومن جهة النظر: أن مال التجارة إذا وجبت فيه الزكاة، وجبت في المستغل قياساً عليه، والمعنى أن كل واحد منهما مال يبتغي به النماء بالتصرف فيه، وليس يلزم على ذلك الخيل والحمير إذا كانت للنتاج؛ لأن النماء فيها لا يبتغي بالتصرف فيها، وإنما يبتغي بتوالدها، وهذه علة قوية؛ لأن حكم الأصل يوجد بوجودها، ويعدم بعدمها، ألا ترى أن عين مال التجارة إذا كانت للقنية ولم يبتغ النماء بالتصرف فيها، لم تجب الزكاة، وإن ابتغي النماء فيه، وجبت الزكاة.
وـ أيضاً ـ إذا اشترى الرجل مالاً للتجارة ونوى الاستغلال مع ذلك، ففيه الزكاة، وكذلك إذا اشتراه للاستغلال، والمعنى أنَّه مستغل، فكل مستغل يجب أن يكون حكمه في الزكاة حكم مال التجارة.
فإن ادعى في المسألة خلاف الإجماع.
قيل لهم: أكثر ما فيها أنَّه لا يحفظ عن الفقهاء مثل قولنا؛ إذ ليس بمحفوظ عنهم التنصيص على خلاف قولنا، ومثل هذا لا يمكن ممن يرى مخالفة الإجماع، فيجوز أن يكون وقع إليه من الرواية في ذلك ما لم يقع إلينا.
مسألة
قال: ولو أن رجلاً اجتمع عنده من صوف أغنامه ووبر أنعامه، وما أشبه ذلك من الألبان والأدهان ما تزيد قيمته على النصاب، لم يلزمه فيه الزكاة، إلاَّ أن يعاوض بها غيرها متجراً، فتجب الزكاة حينئذ في قيمة ما يأخذ عوضاً إذا حال عليه الحول.
وهذا كله منصوص عليه في (المنتخب).
والأصل في ذلك أن هذه العروض إذا حصلت ملكاً لإنسان من أي وجه حصلت، لم يلزمه الزكاة فيها ما لم تكن للتجارة، وهذا مما لا خلاف فيه بين المسلمين، فأما ما جعل منها للتجارة، فالزكاة واجبة فيه؛ للأدلة التي قدمناها، وعلى أن مال التجارة يصير للقنية بالنية، وما كان للقنية لا يصير للتجارة بمجرد النية حتى يبيعها بغيرها ناوياً للتجارة، وقد ذكره أبو العباس الحسني رحمه اللّه في (النصوص). (29/29)
والوجه فيه: أن التجارة ضرب من التصرف، فمجرد النية لا يجعلها للتجارة حتى يضامها التصرف، والقنية ترك التصرف وهو حاصل في كيفة النية، وهذا كما يقول: إن المسافر يصير مقيماً بالنية، فإن الإقامة ليست أكثر من الكف عن السير، فيكفي فيه النية، ولا يصير المقيم مسافراً إلاَّ بسير مخصوص تضامه النية؛ لأن السفر ضرب من السير.
قال أبو العباس الحسني في (النصوص): وكذلك القول فيمن اشترى داراً للسكنى، ثم جعلها للكراء، أو اشتراها للكراء ثم جعلها للسكنى.
باب القول فيما يؤخذ من أهل الذمة (30/1)
يؤخذ من تجار أهل الذمة نصف عشر ما يأتون به من أموالهم، ويتجرون فيه على المسلمين في أرض الإسلام إذا أتوا من بلد شاسع إلى بلد شاسع، فأما من اتجر منهم في مصره، فلا يؤخذ منه شيء سوى الجزية.
وهذا منصوص عليه في (الأحكام) و(المنتخب).
قال الهادي إلى الحق عليه السلام: وعلى ذلك وقعت المصالحة.
والأصل في ذلك ما:
روي عن أنس أن عمر جعل بمشورة أصحاب رسول اللّه صلى الله عليه وآله وسلم على أهل الذمة نصف العشر، وعلى أهل الشرك ممن لا ذمة له ـ يعني المستأمنين من أهل الحرب ـ العشر ، ومعلوم أن المراد به إذا اتّجروا وسافروا؛ إذ لا يقول أحد أنَّه يؤخذ منهم شيء سوى الجزية إذا كانوا في بيوتهم.
فإن قيل: كيف احتججتم بعمر واتباعه عندكم غير واجب، بل لا توجبون اتّباع أحد من الصحابة غير علي عليه السلام.
قيل له: لأن ما فعله عمر على الوجه الذي فعل لا يكون ذلك قوله وحده، بل يكون ذلك إجماع الصحابة، ألا ترى أن يحيى عليه السلام احتج في باب الرجم بأن قال: وقد رجم عمر وهو في وفارة أصحاب رسول اللّه صلى الله عليه وآله وسلم.
على أن واحداً من الصحابة إذا قال قولاً ولم يحفظ خلافه عن أحد منهم، كان ذلك كالمتفق عليه، على أنَّه قد روي في ذلك ما يدل على أن القوم لم يصدروا فيه إلاَّ عن السنة، وهو ما رواه محمد بن منصور، عن محمد بن جميل، عن أبي الأحوص، عن عطاء بن السائب، عن جده أبي أبيه، عن أبيه، قال: قال رسول اللّه صلى الله عليه وآله وسلم: ((ليس على المسلمين عشور، وإنما العشور على اليهود والنصارى))، وقد علمنا أنَّه لم يرد به عشور الزرع؛ إذ لا خلاف في وجوبها على المسلمين، وليس العشور الواجب على اليهود والنصارى إلاَّ ما ذكرناه بالاتفاق.
فإن قيل: فالخبر ورد بذكر العشور، وأنتم توجبون على أهل الذمة نصف العشر.
قيل له: لا يمتنع أن ينطلق اسم العشور، وإن كان الواجب في بعض المواضع نصف العشر كما يجب عشور الزرع، وإن كان يجب في بعضه نصف العشر، على أن أبا جعفر الطحاوي روى بإسناد ـ نذكره فيما بعد ـ أن عمر بن عبد العزيز كتب إلى أيوب بن شرحبيل: أن خذ من أهل الكتاب من كل عشرين ديناراً ديناراً، فإني سمعت ممن سمع رسول اللّه صلى الله عليه وآله وسلم يقول ذلك. (30/2)
فدل ذلك على أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم كان قد أمر بذلك.
مسألة
قال: وتؤخذ الجزية من مياسيرهم ورؤسائهم من كل واحد ثمانية وأربعون درهماً، ومن أوساطهم وتجاهم من كل واحد أربعة وعشرون درهماً، ومن ضعفائهم وفقرائهم من كل واحد منهمن اثنا عشر درهماً.
وهذا منصوص عليه في (الأحكام) و(المنتخب).
والأصل في ذلك قول اللّه تعالى: {قَاتِلُوا الَّذِيْنَ لا يُؤْمِنُونَ بِاللهِ وَلا بِالْيَوْمِ الآخِرِ ولا يُحَرِّمُونَ مَا حَرَّمَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ..} الآية، فأمر بقتالهم إذا أبوا الإسلام حتى يذعنوا بإعطاء الجزية، فكان ذلك أصلنا في وجوب الجزية.
فأما المقدار المأخوذ منهم، فالأصل فيه ما روى زيد بن علي، عن أبيه، عن جده، عن علي عليهم السلام، أنه كان يجعل على المياسير من أهل الذمة ثمانية وأربعين درهماً، وعلى الأوساط أربعة وعشرين درهماً، وعلى الفقراء اثني عشر درهماً.
وـ أيضاً ـ روي عن عمر أنَّه وضع الجزية على أهل السواد، وجعلهم ثلاث طبقات، على نحو ما ذكرنا، وذلك بمحضر من الصحابة من غير نكير أحد منهم، فجرى ذلك مجرى الإجماع منهم.
فإن قيل: روي عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم:((أنه أخذ من أيلة وكانوا ثلاثماة ثلاثمائة دينار)).
وروي أنَّه قال لمعاذ: ((خذ من كل حالم دينار)).
قيل له: يحتمل أن يكون النبي صلى الله عليه وآله وسلم علم أن هؤلاء المأخوذ منهم كانوا فقراء، فأمر أن يؤخذ من كل واحد منهم دينار.
وهكذا نقول: إن الفقير منهم لا يؤخذ منه أكثر من دينار، ويحتمل أن يكون ذلك على وجه المصالحة، كما روي أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم أمر أن يؤخذ من كل حالم وحالمة دينار. (30/3)
وروي عن الحسين، قال: بلغني أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم فرض على أهل اليمن في كل عام على كل حالم ذكر أو أنثى حراً أو عبد ديناراً أو قيمته من المعافرية، ومعلوم أن المرأة لا يؤخذ ذلك منها إلاَّ على سبيل الصلح، فإذا احتمل ما ذكرنا من الوجهين وصح عن علي عليهم السلام ما ذكرناه في هذا الباب، وعن عمر أن فعل ذلك بمحضر من الصحابة من غير نكير منهم، بان أن الواجب فيه ما ذكرناه.
فإن قيل: ما ذكرتم في الوجه الأول حين تأولتم أخذ الدينار من كل واحد منهم على الفقر لا يستمر على أصلكم؛ لأنكم توجبون على الفقير اثني عشر درهماً، وقلتم في باب الديات إن قيمة الدينار عشرة دراهم.
قيل له: يحتمل أن تختلف قيمة الدينار باختلاف المواضع، فتكون قيمة الدينار حيث فرض النبي صلى الله عليه وآله وسلم الدية عشرة دراهم، وتكون قيمته في تلك المواضع اثني عشر درهماً، فلا يكون في ذلك ما يوجب التناقض.
مسألة
قال: ولا تؤخذ الجزية من نسائهم ولا من صبيانهم، ولا من مماليكهم.
وهذا منصوص عليه في (المنتخب).
واستدل يحيى بن الحسين عليه السلام على أن لا جزية على النساء والوالدان، بأن قال: إن الجزية جعلت بدلاً من القتل بقوله تعالى: {قَاتِلُوا الَّذِيْنَ لا يُؤْمِنُونَ بِاللهِ وَلا بِالْيَومِ الآخِرِ} إلى قوله: {حَتَّى يُعْطُوا الْجِزْيَةَ عَنْ يَدٍ وَهُمْ صَاغِرُونَ} فلما لم تكن النساء من أهل القتال، وكان النبي صلى الله عليه وآله وسلم نهى عن قتلهن، وكذلك الولدان، علم أن لا جزية عليهم.
قال أبو العباس الحسني رحمه الله: اعتلاله يوجب أن لا جزية على الشيخ الهرم والزمن إذا لم يطيقوا القتال.
وذكر أنَّه مروي عن محمد بن عبد اللّه صلوات اللّه عليه في سيره، وهذا قوي، إذ الإجماع حاصل على أن لا جزية على النساء؛ والعلة فيه أنهن لسن من أهل القتال، فكل من لم يكن من أهل القتال فلا جزية عليه. (30/4)
وأما العبيد فإنهم لا أموال لهم، فلو أخذنا الجزية منهم، كانت ما أخذوه من أموال مواليهم، وفي ذلك تضعيف الجزية على أرباب المماليك، على أنَّه لا خلاف أن سائر أموالهم لا يجب فيها حق بحكم الجزية المطلقة، بل هي لمصالحة وقعت، فكذلك المماليك؛ لأنهم من جملة أموالهم، ولا يلزم على ذلك ما نأخذه من نصارى بني تغلب؛ لأن المأخوذ منهم ليس بحكم الجزية المطلقة، بل هي لمصالحة وقعت عليهم، فلا يكون ذلك نقضاً لعلتنا.
وـ أيضاً ـ لو وجب ذلك، لوجب على المسلم عن عبده الذمي، وهذا فاسد؛ لأنَّه مال الصغار، ولا صغار على مسلم.
مسألة
قال: وتؤخذ من بني تغلب نصارى الجزية ضعف ما يؤخذ من المسلمين من زكاتهم إلى آخر الفصل.
وجميع ذلك منصوص عليه في (الأحكام) و(المنتخب).
وذكر يحيى بن الحين عليه السلام فيهما أن ذلك مما وقعت المصالحة عليه معهم يدلا من الجزية، ولا خلاف أن ما يجري بيننا وبينهم من المصالحة في هذا الباب جائز ماض.
والأصل فيه ما روي أنهم أنفوا من الجزية، وهموا بالانتقال إلى دار الحرب، فصالحهم عمر على ذلك فرضوا به.
قال أبو العباس الحسني رحمه الله: قد روي أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم كان صالحهم على ذلك، فإن صح ذلك، فيجب أن يكون ما جرى من عمر في هذا الباب كالتقرير لذلك الصلح المتقدم والتأكيد له، وأي ذلك كان فلا التباس في أن ذلك حكمهم اليوم؛ إذ قد تقرر ذلك في زمان عمر بمحضر من الصحابة واتفاق كلمة.
فإن قيل: هذا يؤدي إلى إسقاط الجزية عن كثير منهم، وهم الفقراء الذين لا يملكون ما يجب على المسلمين في مثله الصدقة؛ لأنَّه لا يؤخذ منهم شيء، ولا يجوز أن تقع المصالحة على رفع ما ثبت عليهم بقول اللّه تعالى حيث يقول: {قَاتِلُوا الَّذِيْنَ لا يُؤْمِنُونَ بِاللهِ..}، إلى قوله: {حَتَّى يُعْطُوا الْجِزْيَةَ عَنْ يَدٍ وَهُمْ صَاغِرُونَ}. (30/5)
قيل له: قد علمنا أن المأخوذ منهم على هذه الطريقة أكثر من الجزية، فيكون ذلك كأن الأغنياء منهم صالحوا على أنفسهم، وعن فقرائهم بما بذلوا من ذلك، فلا يجب على ما بيناه أن يكون شيء من الجزية قد أسقط، يبين ذلك أن هذا يدخل فيه أموال نسائهم وصبيانهم، وهؤلاء لا جزية عليهم.
مسألة
قال: وجميع ما يؤخذ من أهل الذمة فيء يحل لمن لا تحل له الصدقة.
وهذا منصوص عليه في (الأحكام)، ولا خلاف فيه؛ لأن الصدقات تطهير وتزكية لأهلها، قال اللّه تعالى: {خُذْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ صَدَقَةً تُطَهِّرُهُمْ وَتُزَكِّيْهِمْ بِهَا}، فصح أنها مأخوذة من الطهارة، سبيل ما يؤخذ من أهل الذمة سبيل الغنائم والفيء، فلم يجب أن تكون مصروفة مصرف الصدقات؛ ولأن المسألة وفاق، فلم نستقص الكلام فيها واقتصرنا على الإشارة إلى جملتها.
مسألة
قال: ولا يؤاجر أهل الذمة شيئاً من الأراضي المغلة التي هي للمسلمين، ولا تباع منهم مزارعهم؛ لئلا تطل أعشارها.
وهذا منصوص عليه في (الأحكام)، وهو محمول على الكراهة، لا على إبطال العقد، لو وقع لتصريحه المراد بقوله في (الأحكام): (لا أحب ذلك ولا أراه؛ لئلا تبطل الأعشار)، فبان من مذهبه أنهم كانوا إذا ملكوا علينا الأرضين لم يلزمهم فيها الأعشار، وفي هذه صحة تملكهم لها).
وقد اختلف في ذلك. فمن الناس من ذهب إلى أن الذمي إذا ملك أرض العشر لزمه فيها الخراج، وهو أبو حنيفة. قال أبو يوسف: يؤخذ منه فيها عشران، وقال محمد: يؤخذ منه فيها العشر.
والذي نذهب إليه أن لا شيء عليهم فيها.
وروى محمد بن منصور، عن الحسن بن صالح، وشريك، وسفيان، في الذمي يستأجر من المسلم أرض العشر، أنَّه لا شيء عليه مثل قولنا. (30/6)
والوجه في ذلك أن العشر صدقة تلزم بحكم الإسلام، فكما أن الذمي لو ملك الذهب والفضة والسائمة من الإبل والبقر والغنم، لم يلزمه فيها شيء مما كان يلزمنا، وجب أن تكون الأرضون ـ كذلك ـ بمعنى أنها مال مملوك علينا، فلا يجب أن يلزمهم به شيء.
وأما الخراج فإنه يجب أن يضرب على ما يفتح من بلادهم على ضرب من المصالحة، فأما ما ملكوه علينا بالعقد، ولم يجر بيننا وبينهم فيه مصالحة، فلا وجه لإلزامهم فيه الخراج؛ قياساً على سائر الأموال التي يملكونها علينا بالعقود.
فإن قيل: فما وجه الكراهة لبيع الأرض منهم مع أنكم لا تكرهون بيع سائر الأموال منهم، وكذلك تمليكهم الذهب والفضة، مع أن حقوق هذه الأموال ـ أيضاً ـ تبطل إذا صارت أملاكاً لهم.
قيل له: الوجه في ذلك أن سائر الأموال قد تستهلك ولا يتأبد بقاؤها في العادة، فكان تمليكنا إياها لهم جارياً مجرى الاستهلاك، فلم يكره ذلك، والأرضون لا تستهلك، بل يتأبد بقاؤها، فكره تمليكنا إياها لهم؛ لأنَّه يؤدي إلى أن تبطل الحقوق الواجبة في زرعها مع تأبد بقائها.
يؤكد ذلك أنَّه قد أخذ علينا التوصل إلى الاحتياط للفقراء، ألا ترى أنَّه قد أخذ علينا ضم الذهب إلى الفضة لوجوب الزكاة، وكذلك نقول في البقر إذا بلغت مبلغاً يصح أن يؤخذ منه المسان والتبايع أخذت المسان احتياطاً للفقراء، ونقول ـ أيضاً ـ في العلتين والخبرين والاستعمالين إذا تقابلا، وأحدهما موجب للزكاة، والآخر مسقط، أن الموجب أولى، فإذا ثبت أن الاحتياط للفقراء مأخوذ علينا في باب الصدقات، كان وجهاً لكراهة ما أدى إلى أبطال حقوقهم.
ومما يزيد ذلك وضوحاً أنَّه لا خلاف فيمن تحجر محجراً على أرض، ثم عطلها ثلاث سنين، أن للإمام أن يدفعها إلى غيره ليعمرها إن أبى هو عمارتها لرجوع عائدتها إلى المسلمين، فلما كان تثمير ما يرجع نفعه إلى المسلمين مأخوذاً على الإمام، وصح ما ذهبنا إليه من كراهة ما يبطل النفع والعائد على فقرائهم. (30/7)
باب القول في كيفية أخذ الزكاة (31/1)
يجب على المصدق أن لا ينزل على أحد ممن يأخذ منه الصدقة، ولا يأخذ منه الهدية، فإن قبل شيئاً من ذلك فهو لبيت مال المسلمين، إلا أن يطلقه له الإمام لضرب من الصلاح، وكذلك حكم جميع عمال الأئمة.
وهذا منصوص علي في (الأحكام).
وجه منعنا نزول المصدق على أهل الصدقات: أن نزوله لا يخلوا من أن يكون طوعاً من أرباب الموال أو كرهاً، ولا يجوز أن ينزل عليهم كرهاً؛ لأنَّه لا حق عليهم سوى ما يؤخذ.
وروى ابن أبي شيبة يرفعه إلى من سمع الحسن يقول: قال نبي الله: ((من أدى زكاة ماله أدى الحق الذي عليه)).
وقال صلى الله عليه وآله وسلم: ((لا يحل مال امرء مسلم إلاَّ بطيبة من نفسه)).
ولا يجوز أن ينزل عليهم طوعاً؛ لأنَّه يتهم، ولهذا يجب على القضاة الامتناع من حضور دعوات المتداعيين، وقبول الهدايا منهم.
وروي عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم أنَّه قال: ((ما بال أقوام نبعثهم، فيجيئون فيقولون: هذا لي، وهذا لك، أفلا جلس في بيت أبيه)).
وعن أمير المؤمنين عليه السلام (هدايا الأمراء غلول)، وكل ذلك يصحح ما ذهبنا إليه.
وقلنا: إنه يرد العامل إن كان من قبل ذلك شيئاً إلى بيت مال المسلمين؛ لأنه أعطى ما أعطي لمعنى الولاية، فلا يصير ملكاً له، ولقول أمير المؤمنين: (هدايا الأمراء غلول)، والغلول اسم لما غل من بيت المال.
وقلنا: إلاَّ أن يطلقه الإمام؛ لأن للإمام أن يتصرف فيه بما يراه صلاحاً للمسلمين من إعطائه إعطاء غيره.
مسألة
قال: ويجب إذا ورد المناهل أن يقسم غنم كل رجل قسمين، ثم يخيره في القسمين، ويأخذ الصدقة من القسم الثاني، وكذلك يفعل بالإبل والبقر إلى آخر ما ذكر أنَّه يفعل إذا أراد أن يأخذ العشر من الكرم نحواً من ذلك.
وهذا منصوص عليه في (الأحكام).
وروى ابن أبي شيبة نحو قولنا عن الحكم والشعبي.
ووجهه ما رواه ابن أبي شيبة، قال: حدثنا وكيع، عن زكريا بن إسحاق، عن يحيى بن عبد الله بن صيفي، عن ابن معبد، عن ابن عباس، عن معاذ، عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم، أنَّه لما بعثه إلى اليمن قال: ((إياك وكرائم أموالهم)). (31/2)
واخترنا أن يفعل المصدق ذلك؛ احترازاً من أن يتفق أخذ كرائم الأموال؛ لأنَّه إذا فعل ذلك يعلم أنَّه لم يأخذ إلاَّ ما هو دون الخيار عند صاحب المال في أغلب الأحوال.
مسألة
قال: ولصاحب المال أن يشتري من المصدق ما يأخذه من الصدقة.
وهذا منصوص عليه في (الأحكام) في (باب صدقة العنب)، ومالك يخالف فيه.
والأصل فيه قول اللّه تعالى: {وَأَحَلَّ اللَّهُ الْبَيْعَ وَحَرَّمَ الرِّبَى} وقوله: {وَلا تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبَاطِلِ إِلاَّ أَنْ تَكُونَ تَجَارَةً عَنْ تَرَاضٍ مِنْكُمْ} وعموم الآيتين يقتضي جواز ما ذكرناه.
ويدل على ذلك ما:
أخبرنا به أبو الحسين البروجردي، قال: حدثنا سفيان بن هارون القاضي، قال: حدثنا أحمد بن يحيى، عن سفيان، عن زيد بن أسلم، عن عطاء بن يسار، عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم: ((لا تحل الصدقة لغني، إلاَّ لخمسة: رجل اشتراها بماله، أو أهديت له، أو عامل عليها، أو غاز في سبيل الله، أو غارم))، وهذا عام في كل من اشتراها من صاحبها أو غيره، ولا خلاف أنَّه يجوز أن ترجع عليه بالإرث.
وروى أبو داود في السنن، قال: حدثنا أحمد بن عبد الله بن يونس، قال: حدثنا زهير، قال: حدثنا عبد الله بن عطاء، عن عبد الله بن بريدة، عن أبيه، أن امرأة أتت النبي صلى الله عليه وآله وسلم فقالت: كنت تصدقت على أمي بوليدة، وأنها ماتت وتركت تلك الوليدة. فقال: ((قد وجب أجرك، ورجعت إليك في الميراث))، فلما جاز رجوعها إليها بالإرث جاز رجوعها بالشراء والهبة؛ قياساً على سائر الأموال، والعلة أنها رجعت إليها بوجه يوجب التمليك الصحيح.
وـ أيضاً ـ لا خلاف أنَّه يجوز بيعها من غير المتصدق بها، فكذلك يجوز بيعها منه؛ والعلة أنَّه يجوز بيعها من المسلمين، ولم يختص بها مسلم دون مسلم. (31/3)
ويجوز أن يقال فيها: إنَّه عقد بيع بين جائزي الأمر فيما يصح بيعه.
فإن قيل: روي عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم أنَّه قال لعمر: ((لا تعد في صدقتك))، حين أراد ابتياع فرس كان حمل عليه في سبيل الله.
قيل له: يجوز أن يكون قال ذلك خشية من المحاباة التي ربما تقع لمشتريها؛ إذ كان هو المتصدق بها، أو لأمر خاص اختصت تلك الصدقة بعينها بسائر الأدلة التي ذكرناها.
فإن قيل: فإن من مذهبكم بناء العام على الخاص، فهلا خصصتم تلك العمومات بهذا الحديث؟
قيل له: نحن نوجب تخصيص العام بالخاص إذا لم يمكن استعمال الخاص إلاَّ مع تخصيص العام، فأما إذا أمكن لم نوجب ذلك، ولا يمتنع أن يتأول الخاص بضرب من التأويل ويبقى العام على عمومه، سيما إذا كان الخاص لا يصير مما يتناوله مجازاً، فإن ذلك إذا كان كذلك، فإنه يكون أولى من تخصيص العام به، على أن أصول البيعات تشهد لاستعمالنا وقياسنا؛ لأن ما جاز بيعه من مسلم أو بيعه من جميع المسلمين.
مسألة
قال: وللإمام أن يجبر الرعية على دفع زكاة أموالهم كلها إليه من الذهب والفضة وغيرهما، ومتى اتهم صاحب المال بإخفاء شيء تلزمه فيه الصدقة استحلف احتياطاً.
وهذا منصوص عليه في (الأحكام) و(المنتخب).
والأصل في ذلك قوله تعالى: {خُذْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ صَدَقَةً}، وكلما أمر النبي صلى الله عليه وآله وسلم بفعله في أمته، فالإمام قائم مقامه، إلاَّ ما منع منه الدليل.
وروى ابن أبي شيبة، عن وكيع، عن ابن عباس أن معاذاً، قال: بعثني رسول اللّه صلى الله عليه وآله وسلم، وقال: ((إنك تأتي قوماً أهل الكتاب، فادعهم إلى شهادة أن لا إله إلاَّ اللّه، وأني رسول الله، فإن هم أطاعوك، فأعلمهم أن الله افترض عليهم صدقة في أموالهم تؤخذ من أغنيائهم وترد في فقرائهم))، فأخبر رسول اللّه صلى الله عليه وآله وسلم أن صدقة أموالهم مفترضة عليهم، وأن من حكمها أن تؤخذ من أغنيائهم، وترد في فقرائهم، وذلك عام في جميع الصدقات المفترضات. (31/4)
وأخبرنا أبو بكر المقرئ، قال: حدثنا الطحاوي، قال: حدثنا أبو بكرة، وابن مرزوق، قالا: حدثنا أبو عامر، قال: حدثنا ابن أبي ذؤيب عن عبد الرحمن بن مهران، أن عمر بن عبد العزيز كتب إلى أبي أيوب ابن شرحبيل: أن خذ من المسلمين من كل أربعين ديناراً ديناراً.
ومن أهل الكتاب من كل عشرين ديناراً ديناراً، ثم لا تأخذ منهما شيئاً حتى رأس الحول، فإني سمعت ذلك ممن سمع رسول اللّه صلى الله عليه وآله وسلم، ففيه أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم أمر بذلك على ما نذهب إليه.
وروى ابن أبي شيبة بإسناده عن ابن عمر وعائشة أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم كان يأخذ من عشرين ديناراً نصف دينار، ومن كل أربعين ديناراً ديناراً.
وأخبرنا المقرئ، قال: حدثنا الطحاوي، قال: حدثنا أبو بشر الرقي، قال: حدثنا معاذ بن معاذ العنبري، عن ابن عون، عن أنس بن سيرين ـ في حديث له ـ:، قال: قلت لأنس بن مالك: اكتب لي سنة عمر، قال: فكتب: أن خذ من المسلمين من كل أربعين درهماً درهماً، ومن أهل الذمة من كل عشرين درهماً درهماً، وممن لا ذمة له من كل عشرة دراهم درهماً، فإذا صح أن عمر جعله سنة بمحضر من الصحابة، ولم يرو أن أحداً أنكره، كان ذلك إجماعاً منهم.
ويدل على ذلك أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم كان يبعث سعاته ومصدقيه لأخذ الصدقات، وكذلك فعل أبو بكر وعمر من غير أن يكون أحد من الصحابة أنكر ذلك، وكذلك فعل أمير المؤمنين عليه السلام، وكل ذلك يحقق ما ذهبنا إليه. (31/5)
وروى ابن أبي شيبة، بإسناده، عن عمر: ادفعوا صدقة أموالكم إلى من ولاه اللّه أمركم.
وعن أبي بكر: لو منعوني عقالاً مما أعطوه رسول اللّه صلى الله عليه وآله وسلم لقاتلتهم عليه.
فإن قيل: روي أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم: ((ليس على المسلمين عشر، وإنما العشور على اليهود والنصارى)).
قيل له: المراد به العشور الذي يؤخذ من أهل الذمة، إذا اتجروا في بلد المسلمين، ألا ترى أنه لا خلاف في وجوب الصدقات عليهم، وإنما الخلاف في بعض الصدقات، هل للإمام أخذها منهم كرهاً؟ والخبر لم يتناول موضوع الخلاف، ولا خلاف أن صدقات المواشي والزرع يأخذها الإمام منهم، فكذلك صدقات الذهب والفضة؛ والعلة أنها صدقات وجبت في الأموال ابتداء.
وقلنا: إن صاحب المال إذا اتهم استحلف احتياطاً؛ لأنَّه إذا ثبت أن للإمام حق الاستيفاء والمطالبة، جاز له استحلافه؛ قياساً على من أله المطالبة والاستيفاء في سائر الحقوق.
مسألة
قال: ولا ينبغي أن يخرج زكاة قوم من بلدهم وفيهم فقراء، إلاَّ أن يرى الإمام ذلك صلاحاً.
وهذا منصوص علي في (الأحكام).
والأصل فيه ما:
روي أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال لمعاذ: ((أعلمهم أن عليهم في أموالهم صدقة، تؤخذ من أغنيائهم وترد في فقرائهم)).
وروى أبو داود في السنن أن عمران بن حصين بعثه بعض الأمراء على الصدقة، فلما رجع قال لعمران بن حصين: أين المال؟ قال: وللمال أرسلتني؟ أخذناها من حيث كنا نأخذ من عهد رسول اللّه صلى الله عليه وآله وسلم، ووضعناها حيث كنا نضعها على عهد رسول اللّه صلى الله عليه وآله وسلم، فنبه بذلك على أن التفرقة كانت حي ثكان الأخذ، وأن ذلك هو المعمول به على عهد رسول اللّه صلى الله عليه وآله وسلم. (31/6)
وروي من انتقل من مخلاف عشيرته إلى غير مخلاف عشيرته، فعشره وصدقته في مخلاف عشيرته.
وقلنا: إلاَّ أن يرى الإمام ذلك صلاحاً؛ أنَّه الناظر في أمور المسلمين، والقاسم للصدقة والفيء على ما فيه صلاحهم.
مسألة
قال: ولو أن قوماً أبطأ عنهم المصدق، فأخرجوا صدقاتهم إلى مستحقيها من الفقراء، أجازه المصدق بعد أن يعلمهم إن عادوا لمثله لم يجزه لهم، فإن عادوا إلى مثل ذلك لم يجز لهم، وأخذهم بإعادة الصدقة.
وإذا ادعوا في أول الأمر أنهم قد أخروها، بحث المصدق عن ذلك، وطلب البينة، فإن صح ذلك، وإلا طالبهم بها، وأخذها منهم.
جميع ذلك منصوص عليه في (الأحكام).
ووجه ما ذكرنا من أن المصدق يجيز ذلك هو أن المصدق إذا تأخر عنهم، ولم يكن قد قدم عليهم بانتظار المصدق، يكون حالهم حال الذين لا إمام لهم أو حال من أذن لهم الإمام في تفريقها، فكما أن هؤلاء لا يؤخذون بالإعادة، فكذلك من ذكرنا، والمعنى أنهم لم يكن عليهم مطالبة، ولا ما يجري مجرى المطالبة من جهة الإمام في وقت وجوب الصدقة، فكل من كان كذلك، وأخرج صدقته إلى مستحقيها من الفقراء، لم تلزمه الإعادة، يكشف ذلك أن حق الإمام يثبت فيها بالمطالبة، وما يجري مجراها، فأما إذا تقدم الإيذان فالمطالبة بها قائمة، فإذا فرقوها على هذه الحلاة يكون سبيلهم سبيل من امتنع من دفعها إلى الإمام، وأعطاها الفقراء في أنهم يأخذون بإعادتها؛ إذ التفرقة وقعت مع مطالبة الإمامة بها، فهم في حكم من لم يخرجها أصلاً.
ووجه ما ذكرناه من المطالبة بالبينة ما تقدم القول فيه في الاستخلاف. (31/7)
مسألة
قال: وإذا لم يكن في الزمان إمام عادل، فرق الزكوات أهلها على ما ذكره اللّه تعالى.
وهذا منصوص عليه في (الأحكام) و(المنتخب).
والوجه فيه قول اللّه تعالى: {أَقِيْمُوا الصَّلاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ}، ولأن تلك الحقوق عندهم للفقراء لقول اللّه تعالى: {وَفِي أَمْوَالِهِمْ حَقٌ مَعْلُومٌ لِلسَّائِلِ وَالْمَحْرُومِ}، فإذا لم يكن من يستوفيها عليهم، استوفوها على أنفسهم، ولا بد من الخروج من الحق، على أن المسألة وفاق، فلا وجه للإطالة فيها.
مسألة
قال: ولو أن من وجبت عليه الزكاة أخرجها من ماله وعزلها، فهلكت قبل تفريقها في أهلها فعليه ضمانها.
وكذلك إن أخرجها من بلد هو فيه، فضاعت في الطريق فعليه الضمان، فإن تلفت بعد ما صارت في يد الإمام أو في يد وكيل الإمام، فلا ضمان على صاحب المال.
ولو أن الإمام تسلمها من صاحب المال، أو تسلمها وكيل الإمام، ثم أودعها صاحب المال، فتلفت لم يكن على صاحب المال ضمانها، فإن أمره المصدق أن يعزلها فعزلها، فتلفت قبل أن تصل إلى المصدق، ضمنها صاحب المال.
نص في (الأحكام) على أن صاحب الصدقة ضامن لها حتى يخرجها إلى أهلها، ويؤديها إلى أربابها.
ونص في (المنتخب) على سائر ما اشتمل هذا الفصل عليه.
ووجه قولنا: إنَّه إذا عزلها فتلفت قبل أن يضعها موضعها أو يسلمها إلى المتوالي لقبضها أنها بعد في يده، ويده ليست يد المساكين ولا يد المتولي لقبضها، فإذا ضاعت كان الضائع بعض ماله، ولزمه أداء ما عليه كما يلزمه لو لم تكن عزلها؛ إذ عزلها ليس هو أكثر من تحويلها من موضع إلى موضع، وحكمها كما كان لو لم يعزلهما، وهذا هو وجه ما ذكرنا من أنه إذا أخرجها من بلد إلى بلد فيه الإمام، وضاعت في الطريق، فعليه ضمانها، فلا وجه لإعادته.
ووجه قولنا: إنها إن تلفت بعد ما صارت في يد الإمام، أو يد وكيل الإمام، فلا ضمان على صاحب المال، هو أن يد الإمام ويد وكيله يد الفقراء، فكما أنها لو تلفت بعد ما صارت في أيدي الفقراء لم يضمنها صاحبها، وكذلك إذا صارت في يد الإمام أو يد وكيله؛ لأن يدهما يد الفقراء. (31/8)
وـ أيضاً ـ إذا كان الإمام وكيل الفقراء في قبض الصدقات ووجدنا الحقوق إذا صارت في أيدي وكلاء مستحقيها، ثم تلفت لم يضمنها الموفي لها الوكلاء، فكذلك ما ذكرنا، والمعنى أنَّه تلف في يد الوكيل بعد ما استوفاه.
وقلنا: إن المتولي إذا استوفاها وقبضها من صاحب المال، فتلفت، لم يضمنها صاحب المال؛ لأن المتولي إذا استوفاها وقبضها من صاحب المال، خرجت عن ملك المزكي، فإذا أعادها في يده على سبيل الوديعة يكون سبيلها سبيل سائر الودائع، في أن المودع لا يضمنها إذا تلفت.
وقلنا: إن المصدق إذا أمره بعزلها من ماله فعزلها فتلفت، ضمن صاحب المال؛ لأن القبض لم يحصل بعد فهي في حكم سائر أمواله، على ما بيناه ي صدر المسالة، فعليه إذا تلفت ضمانها.
فإن قيل: أليس يحيى بن الحسين عليه السلام قال في بعض مسائل البيوع: إن الإنسان يصح أن يقبض الشيء من نفسه لغيره، فكيف تقولون: إن القبض هاهنا لم يصح؟
قيل له: قد أشار هو إلى ما ذكرت في بعض المسائل، إلاَّ أن حكم هذا الموضع مخالف لذلك، وذلك أن الوكيل ليس له أن يوكل إلاَّ بإذن الموكل، وإذا كان الأمر على ما ذكرنا لم يصح توكيل المصدق رب المال بالقبض، فيجب أن لا يصح قبضه، وإذا لم يصح قبضه كان الأمر على ما قلناه، وعلى هذا القول ليس يبعد أن نقول: إن الإمام لو أمر صاحب المال بعزل صدقته عن ماله فعزلها فتلفت، لم يضمنها؛ لأن التوكيل بالقبض إذ ذاك يكون صحيحاً، وكذلك لو كان الإمام أذن للوكيل للتوكيل، وذلك كله إذا قلنا: إن الإنسان يصح قبضه من نفسه لغيره، فأما إذا لم نقل بذلك، فيجب أن يكون صاحب المال ضامناً لها، وإن عزلها بإذن المتولي، ما لم يخرجها عن يده إلى الفقراء أو المتولي. (31/9)
مسألة
قال: ولو أن مصدقاً جاء إلى من وجب عليه العشر، فوجده قد باع غلته كلها، أخذ العشر من المشتري، ورجع المشتري على البائع بثمن العشر الذي أخذ منه، وإن كان المشتري قد استهلكه، أخذ المصدق من البائع قيمته.
وهذا منصوص علي في (الأحكام).
ووجهه ما بيناه في ماضي من هذا الكتاب: أن قد الصدقة يستحق من المال، فإذا ثبت ذلك وباع صاحب الغلة الغلة أجمع، كان قد باع ماله، وما ليس له مما هو يستحق من جملته للفقراء، فللمصدق أن يأخذه من المشتري، ويرجع المشتري على البائع بالثمن، هذا إذا كان قائماً بعينه، فأما إذا استهلكه، فليس إلاَّ أخذ بدله من مثل أو قيمه.
وقوله عليه السلام: يأخذه من البائع يعني المثل أو القيمة، بعد استهلاك المشتري له، ليس على القطع، بل له الخيار بين أن يأخذه من البائع أو من المشتري، ما كان يقول في سائر المستحقات إذا تلفت في يد المشتري، فتقدير الكلام أن المصدق إن شاء أخذه من البائع، إلاَّ أنَّه إن أخذه من المشتري رجع به على الباع، وإن أخذه من البائع لم يرجع على المشتري.
مسألة
وتعجيل الزكاة جائز. نبه عليه في (الأحكام) بقوله: إن ذلك مروي عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم في العباس رحمه الله. (31/10)
وذكر أبو العباس الحسني رضي اللّه عنه في (النصوص) أن القاسم عليه السلام، قال في مسائل علي بن العباس: لا بأس بتعجيل الزكاة.
قال أبو العباس: تجويزه تقديمها قبل الحول إيجاباً منه إياها موسعاً، وتجويز تعجيلها مذهب أكثر الفقهاء، وخالف فيه مالك.
والأصل فيه ما:
أخبرنا أبو العباس الحسني، قال: حدثنا حامد بن معاذ الشامي، قال: حدثنا محمد بن يونس، قال: حدثنا وهب بن جرير، قال: حدثني أبي، قال: سمعت الأعمش، عن عمرو بن مرة، عن أبي البختري، عن علي عليه السلام أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم تعجل من العباس صدقة عامين.
وروى ابن أبي شيبة أن رسول اللّه صلى الله عليه وآله وسلم بعث ساعياً على الصدقة، فأتى العباس، فقال له العباس: إني أسلفت صدقة مالي لسنتين، فأتى النبي صلى الله عليه وآله وسلم فأخبره، فقال: ((صدق عمي)).
وروى أبو داود بإسناده في السنن يرفعه إلى حجية، عن علي عليه السلام أن العباس رحمه اللّه سأل النبي صلى الله عليه وآله وسلم في تعجيل صدقته قبل أن تحل، فرخص له في ذلك، فكل ذلك يدل على ما ذهبنا إليه من جواز تعجيل الزكاة.
ويدل على ذلك قول اللّه سبحانه: {خُذْ مِنْ أَمْوالِهِمْ صَدَقَةً} وقوله: {أَقِيْمُوا الصَّلاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ}، من غير تقييد لوقت، وهو قبل الحول مقيس عليه بعد الحول في جواز إخراج الزكاة، والمعنى حصول النصاب، من حصل النصاب جاز له إخراج زكاته، وإن شئت قلت حصول سبب الزكاة، ولا ينتقض ذلك بحصول الحول من غير كمال النصاب؛ لأن الحول شرط في نفس وجوب الزكاة، وليس هو السبب الموجب لها، بل السبب الموجب لها هو النصاب.
فإن قيل: روي عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم، أنَّه قال: ((لا زكاة في ملك حتى يحول عليه الحول)).
قيل له: المراد لا زكاة تجب وجوباً مضيقاً حتى يحول عليه الحول، بدلالة ما روي من استلافه صلى الله عليه وآله وسلم صدقة عمه العباس. (31/11)
فإن قيل: لا خلاف أنها لا تجزي قبل النصاب، فكذلك قبل الحول، والمعنى أنهم يعنون الحول والنصاب شرطاً الزكاة، أو قاسوها على الصلاة والصوم في أن تعجيلهما لا يجوز؛ بعلة أنهما عبادة وجبت ابتداء، فكذلك الزكاة.
قلنا في ذلك أجوبة:
أحدها: أنا نقول: إن هذه القياسات باطلة؛ لأنها تدفع النص الذي روي في صدقة العباس.
والثاني: أنا لا نسلم أن النصاب شرط في وجوب الزكاة، بل نجعل النصاب سبباً موجباً لها، ونجعل الحول شرطاً لتضيق وجوبها، فلا نسلم علتهم.
وأما الصلاة فيجوز تعجيلها في أول وقتها، وعندنا أن النصاب إذا حصل كان ذلك أو وقت وجوب الزكاة على ما حكيناه في صدر المسألة عن أبي العباس الحسني رضي اللّه عنه.
فإن قيل: لا يصح قولكم: إنها تجب عند حصول النصاب؛ لأن ما جاز أن يفعل، وجاز أن لا يفعل لا يكون واجباً.
قيل له: نقول في ذلك ما نقول في أول وقت الصلاة، ألا ترى أنها وإن جاز تأخيرها إلى آخر الوقت، لا تخلو من أن تكون واجبة في أول الوقت، إلاَّ أن ذلك الوجوب يكون وجوباً موسعاً، ويكون الإنسان مخيراً فيه بين أن يفعلها أو يفعل ما يقوم مقامها من العزم على فعلها، فقد بان لك أن جوابنا في الصلاة وفي الزكاة في أول وقتيهما على حد واحد، على أن عللهم لو سلمت كانت معارضة بعلتنا، ويسلم لنا ما رويناه في صدقة العباس، أو ترجح علتنا بأنها تقتضي الإيجاب للفقراء، وبأنها تفيد حكماً شرعياً عند حصول النصاب، وتقتضي وجوباً، وإن كان موسعاً، وقد قالوا هم: إنها إذا لم تجب في أول الحول، كان نفلاً، والنفل لا يسقط الفرض، وهذا غير لا زم، على ما بيناه من أنها تجب في أول الحول وجوباً موسعاً، على أنا لو سلمنا ما ادعوه من أنها في أول الحول نفل، لم يجب ما ذكروه من أن النفل لا يسقط الفرض، بل ذلك غير ممتنع إذا دل الدليل عليه. (31/12)
باب القول في صفة من توضع فيهم الزكاة (32/1)
توضع الزكاة في الثمانية الأصناف الذين وصفهم اللّه في كتابه، وكلما استغنى صنف منهم رجعت حصته على المحتاج منهم.
وللإمام أن يضع ذلك في صنف منهم إذا لم يكن فيه إجحاف بالباقي.
وهذا منصوص عليه في (الأحكام).
ولا خلاف في وضع الصدقة في الثمانية الأصناف غير المؤلفة قلوبهم، فقد اختلف فيهم، وسنذكر فيه ما يجب إذا انتهيا إلى ذكرهم.
واختلف في جواز وضعها في صنف منهم، فمذهب أبي حنيفة وأصحابه أن ذلك جائز، وذكر أبو بكر الجصاص في شرحه أنَّه مروي عن عمر وحذيفة، وابن عباس، قال: وروي نحوه عن سعيد بن جبير، وإبراهيم، وأبي العالية، ولم يرو عن أحد من الصحابة خلافه، فصار ذلك إجماعاً.
ويدل على ذلك قول اللّه تعالى: {إِنْ تُبْدُوا الصَّدَقَاتِ فَنِعِمَّا هَيِ وَإِنْ تُخْفُوهَا وَتُؤْتُوهَا الْفُقَرَاءَ فَهُو خَيْرٌ لَكُمْ}، فأجاز إعطاءها الفقراء، وهو مصنف واحد، وأخبر أنَّه خير لنا، فصح به ما ذهبنا إليه.
ويدل عليه حديث معاذ حيث قال له النبي صلى الله عليه وآله وسلم: ((أعلمهم أن اللّه افترض عليهم صدقة أموالهم، تؤخذ من أغنيائهم وترد في فقرائهم))، فاقتضى ذلك وجوب ردها في الفقراء وهم صنف واحد، وهذا الذي اعتمدناه يكشف أن الصدقات كلها تستحق بالفقر دون ما سواه، وأن المذكور في الآية إنما هي أسباب الفقر، يبين ذلك قوله تعالى: {إِنَّمَا الصَّدَقَاتُ لِلْفُقَرَاءِ وَالْمَسَاكِيْنَ} وقد علمنا أنهما في حكم الصنف الواحد، وإن كان أحدهما أشد خصاصة من الآخر.
ويدل على ذلك أن سلمة بن صخر حين ظاهر من امرأته، أمره النبي صلى الله عليه وآله وسلم أن ينطلق إلى صاحب صدقة بني زريق ليدفع إليه صدقاتهم، وسلمة لا بد من أن يكون من أحد الأصناف.
ويدل على ذلك أن الصدقة لا تخلو من أن تكون مستحقة لمجرد الاسم من هذه الأسماء، أو لمعنى هو الحاجة والفقر، أو بالاسم والمعنى، ولا يجوز أن تكون مستحقة بالاسم إذ لو كانت مستحقة بالاسم كان يجب أن يستحقها الغارم وابن السبيل والمكاتب، وإن كانوا أغنياء، وهؤلاء لا يستحقون منها شيئاً مع الغنى بالاتفاق، مع أن الأسماء لازمة لهم، ولا يجوز أن تكون مستحقة بالاسم والمعنى جميعاً؛ لأن ذلك يؤدي إلى أن يكون الاستحقاق في التحقيق راجعاً إلى المعنى الذي هو الفقر، بدلالة أن الفقر إذا حصل من غير اسم ابن السبيل والغارم والمكاتب حصل الاستحقاق من غير حصول الأسماء، وإن حصلت الأسماء ولم يحصل المعنى، لم يحصل الاستحقاق، إلاَّ أن يجعل للاستحقاق في كل وقت قسط، فيقال: إن الغارم إذا كان ابن السبيل، وكان فقيراً استحق بالاسم ثلاثة أسهم، فإن أنضارف إلى ذلك أن يكون غازياً استحق أربعة، وذلك خلاف الإجماع، فبان أن الاستحقاق راجع إلى المعنى الذي هو الفقر والحاجة. (32/2)
ومما يبين ذلك أن قول اللّه تعالى: {إِنَّمَا الصَّدَقَاتُ لِلْفُقَرَاءِ..} إلى آخر الآية، ينتظم الصدقات أجمع لا صدقة واحدة، ومعلوم أنَّه لم يرد أن يكون كل جزء منها بين الأصناف؛ إذ لا خلاف أن فقيراً ما يجوز أن يعني شيئاً من الصدقة، وأن حق سائر الفقراء ينقطع عنه، فكذلك سائر الأصناف؛ إذ قد وصل ذلك إلى من له فيه حق، فإذا صح ذلك استدلالاً وقياساً، جاز أن تدفع صدقة رجل واحد أو عام واحد إلى صنف واحد، ثم يعطى الباقون سائر الصدقات في مستقبل الأوقات.
وإن شئت حررت القياس، فقلت لا خلاف أن بعض الصدقات يجوز دفعه إلى بعض الفقراء، وإن كانت الآية اقتضت التعميم فيهم، فكذلك يجوز دفعها لسنة واحدة، أو أكثر من ذلك إلى بعض الأصناف؛ والعلة أنه دفع الصدقة إلى من له فيها حق، ولا يمكن نقض هذه العلة بما نقوله: إن الفقير الواحد لا يدفع إليه ما يجب فيه الزكاة، وما نقوله: إن دفعها إلى الفقراء مع مطالبة الإمام بها لا يجزي؛ لأنا عللنا بجعل حكم بعض الأصناف حكم بعض الفقراء، فما جاز في الأصل جاز في الفرع، وما امتنع في الأصل امتنع في الفرع. (32/3)
فإن قيل: فالعامل عندكم لا يأخذ بالفقر.
قيل له: الذي يأخذه العامل يجري مجرى الأجرة على عمله، ولا نقول: إن له سهماً في الصدقة، وكذلك نقول في المؤلفة قلوبهم: إنَّهم لا يستحقونها، وإنما يعطون ذلك على جهة الصلاح للمسلمين، فأما الاستحقاق، فهو للفقراء فقط.
فإن قيل: فقد روي عنه صلى الله عليه وآله وسلم أنَّه قال: ((لا تحل الصدقة لغني إلاَّ لخمسة..))، وذكرهم فيهم الغازي في سبيل الله، فبان أنَّه يستحق لا بالفقر؛ لأنَّه إستثناء من جملة الغنى ، فجيب أن يكون غنياً.
قيل له: قد قال كثير من أصحابنا أن هذا الاستثناء من غير جنسه، وهو بمعنى، لكن كأنه صلى الله عليه وآله وسلم قال: ((لا تحل الصدقة لغني، لكن لغاز في سبيل الله، وهذا وإن كان صرفاً للكلام عن ظاهره، فلا يمتنع ذلك بالأدلة التي قدمناها.
يؤكد ذلك ما روي عنه عليه السلام، أنَّه قال: ((لاحظ لغني فيها ولا لقوي مكتسب)).
مسألة
قال: والأصناف الثمانية هم: الفقراء، وهم الذي لا يملكون إلاَّ المنزل والخام، وثياب الأبدان، وما أشبه ذلك.
والمساكين، وهم: الذي يربون على الفقراء في الدفع والفاقة ومساس الحاجة.
والعاملون عليها، وهم: البجاة لها، المتكلون لأخذها.
وهذا منصوص عليه في (الأحكام)، ولا خلاف في هذه الجملة، إلاَّ ما ذكرناه من أن المسكين أضعف حالاً من الفقير.
أما ما يأخذه العامل، فإنه جار مجرى الأجرة على عمله، وإن لم يكن ذلك إجارة محضة، فيجب أن يعطى على قدر عمله. (32/4)
وقد ذكر أبو العباس الحسني أنَّه لا حق لبني هاشم في ذلك، واستدل أن فئة من بني هاشم سألوا النبي صلى الله عليه وآله وسلم أن يوليهم شيئاً من الصدقات ليصيبوا منها ما يصيب الناس، ويؤدوا ما يؤدون فامتنع، وقال: ((إن الصدقة لا تنبغي لآل محمد، إنما هي أوساخ الناس)).
وفيه من جهة النظر أنهم لما لم يجز أن يأخذوها بسائر الأسباب، لم يجز أن يأخذوها بالعمالة، والمعنى أنَّها سبب أحد الأصناف الثمانية في أخذ الصدقة.
وقلنا: إنهم لا يأخذونها بالعمالة، كما لا يأخذونها بسائر الأسباب.
وأما كون المساكين أضعف حالاً من الفقراء، فليس فيه كثير تعلق بالفقه على أصولنا؛ لأن شيئاً منحكم الصدقات فيه ما لا يتعين أيهما كان أضعف حالاً.
ووجه ما ذهبنا إليه أنَّه محكي عن أهل اللغة رواه أبو بكر الجصاص، عن أبي الحسن الكرخي، عن ثعلب، عن أبي العباس، قال: وقال أبو العباس، قيل: لأعرابي أفقير أنت؟ قال: لا، بل مسكين، وأنشد ابن الأعرابي:
أما الفقير الذي كانت حلوبته ... وفق العيال فلم يترك له سبد
فسماه فقيراً مع أن له حلوبة.
وروي عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم: ((ليس المسكين بالطواف الذي ترده التمرة والتمرتان والأكلة والأكلتان، لكن المسكين الذي لا يجد ما يغنيه))، فنفى المسكنة عمن يرده ما يعطى، وجعل المسكين من لا يجد ما يكفيه.
ويدل على ذلك قوله تعالى: {أَوْ مِسْكِيْناً ذَا مَتْرَبَةٍ}، وقيل في التفسير: إنَّه الذي ألزق جلده في التراب لعرية هو ذلك.
فإن قيل: فقد قال اللّه تعالى: {أَمَّا السَّفِيْنَةُ فَكَانَتْ لِمَسَاكِيْنَ يَعْمَلُونَ فِيْ الْبَحْرِ} فوصفهم بالمسكنة مع كون السفينة لهم.
قيل له: قد روي أنها كانت لغيرهم ملكاً، وإنهم كانوا أجراء يعملون فيها، فنسبت إليهم، كما تنسب الدار إلى من يسكنها وإن لم يملكها، وعلى هذا قال اللّه تعالى: {لا تَدْخُلُوا بُيُوتَ النَّبِيَّ}، وقال في موضع لنساء النبي: {وَقَرْنَ فِيْ بُيُوتِكُنَّ}، فأضافها سبحانه تارة إلى النبي صلى الله عليه وآله وسلم وتارة إلى أزواجه، ولا يمتنع ـ أيضاً ـ كون السفينة قليلة الثمن بين شركاء كثيرين، فيكون ما يخص كل واحد منهم طفيفاً نزراً. (32/5)
مسألة
قال: والمؤلفة قلوبهم، وهم أهل الدنيا المأمون إليها إذا لم يكن بالمسلمين غنى عنهم، فحينئذ يلزم الإمام من تألفهم ما كان يلزم النبي صلى الله عليه وآله وسلم.
وهذا منصوص عليه في (الأحكام).
ونص ـ أيضاً ـ في (المنتخب) على أن المؤلفة قلوبهم من ذكرناهم، وظاهر قوله يدل على أن أهل الكفر وأهل الملة فيه سواء، وذهب أبو حنيفة أنَّه لا سهم لهم بالمال [إلى سقوط التأليف بالمال](1).
وحجتنا أن الآية قد أوجبت السهم له، ولا دليل على نسخها والقرآن لا ينسخ بالاعتبار، على أن اعتبارهم الذي ذكروه فاسد؛ لأنه لا يمتنع أن يحتاج إلى المؤلفة قلوبهم في كثير من الأوقات والأحوال لشيء يعرض، فلا يكون من تألفهم واستمالة قلوبهم بدّ.
__________
(1) ـ ما بين المعكوفين في نسخة.
على أن غالب ظني أن أبا حنيفة قال هذا القول، على ما يشاهد في ذلك الزمان من صدق نيات المسلمين، فأما لو شاهد هذا الزمان، وتخاذل المحقين فيه، لعلم أنَّه لا بد من تدبير أمور المسلمين فيه من تألف كثير من المنحرفين عن الحق والاستعانة بهم، ولم يجب أن يعتبر فيه حال المؤلفة قلوبهم في الكفر والملة؛ لأن هذا السهم لم يجعل حقاً لهم، فيراعى في أحوالهم، وإنما جعل لمصالح المسلمين، ألا ترى أنهم ـ أعني المؤلفة قلوبهم ـ إذا رأى الإمام أنَّه مستغني عنهم لم يعطهم شيئاً منه، وإنما يعطيهم إذا رأى الحاجة تمس إليهم في الاستعانة بهم والتخذيل لهم من الأعداء المخالفين، فلذلك لم يعتبر حالهم في الفقر الغناء، فكذلك لا يعتبر حالهم في الكفر والملة؛ لأن المقصود بهذا السهم ابتغاء صلاح المسلمين والدين وحفظ البيضة وسد الثلمة. (32/6)
مسألة
قال: والرقاب هم المكاتبون.
وهذا منصوص عليه في (الأحكام) و(المنتخب).
وذكر أبو العباس الحسني رحمه اللّه في (النصوص) أن يحيى عليه السلام تأول الإيتاء في أية الكتابة على سهم الرقاب، وقال: يجب معاونتهم على مقدار ما يرى الإمام، وهذا قول عامة الفقهاء، وقال مالك: المراد به رقاب يبتاعون من الزكاة، ويعتقون ، ويكون ولاؤهم لجميع المسلمين، وما ذهبنا إليه أولى؛ لأن الآية تناولت كل صدقة في نفسها، وقد علمنا أن صدقة كل إنسان لا تسع لأن يشتري بها رقبة لو صرفت بمجموعها إليه، فكيف إذا صرف بعض سهامها إلى غير الرقبة، والمعونة التي ذهبنا إليها ممكنة في كل صدقة، ولكل متصدق، على أن في تحرير الرقاب ثبوت الولاء لمن حررها، قال صلى الله عليه وآله وسلم: ((الولاء لمن أعتق))، وموضوع الصدقات أن نفعها لا يجوز أن يعود إلى صاحبها، فبان بذلك أن ذلك لا يجزي في الصدقات.
وإن شئت جعلت ذلك قياساً، فقلت: لأنَّه لا خلاف أنَّه لا يجوز لصاحب الصدقة أن يصرفها في حوائج نفسه، فكذلك لا يجوز أن يعتق بها نسمة، والمعنى أنَّه صرف فيما يرجع نفعه على خاصته، فوجب أن لا يجزي، وعتق النسمة يوجب حصول النفع بالولاء، ولا يلزم عليه ما نذهب إليه من أن سهم السبيل يجوز صرفه إلى إصلاح الطرق، وما جرى مجراها؛ لأن نفعه لا يرجع إلى خاصته، ولا يلزم عليه ـ أيضاً ـ جواز إعطائه الغريم، ثم مطالبته بحقه؛ لأن المطالبة إنما هي فيما كان في ذمته لا بمعنى حادث، يبين ذلك أن للغريم أن لا يعطيه ما أعطاه المتصدق، ويعطيه من غيره، والولاء يثبت بنفس العتق، لا بمعنى متقدم، ولا يلزم عليه الكفارات؛ لأنها لا يصح فيها غير ذلك. (32/7)
على أن قوله في هذا ينافي النص؛ لأن النبي صلى الله عليه وآله وسلم، قال: ((الولاء لمن أعتق))، وهذا يوجب أن يكون الولاء لجميع المسلمين، إذا أعتق من جملة الصدقات، فيكون الولاء على هذا قد صار لمن لم يعتق، وهذا خلاف النص، فبان أن قولنا أولى وأشبه بالأصول.
مسألة
قال: والغارمون، هم: الذي لزمتهم الديون في غير سرف، ولا إنفاق في معصية.
وهذا منصوص عليه في (الأحكام) و(المنتخب).
ولا خلاف أن هؤلاء يعطون على الفقر؛ لأنَّه لو كان غنياً لم يعط لكونه غارماً بالاتفاق.
ووجه قولنا: إنهم الذي لزمتهم الديون في غير معصية ـ قول اللّه تعالى: {وَتَعَاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوَى وَلا تَعَاوَنُوا عَلَى الإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ}، ومعاونة من لزمته الديون في المعاصي معاونة على الإثم والعدوان، فوجب أن يكون ذلك غير مراد بالآية.
فإن قيل: قضاء الدين على أي وجه لزم واجب، فالمعاونة عليه معاونة على البر والتقوى.
قيل له: إنَّه وإن كان من وجه على ما قلت، فإنه معاونة على الإثم والعدوان من وجه آخر، وذلك أنهم إذا علموا أنا نعاونهم على قضاء ديونهم التي لزمتهم في المعاصي، يكون ذلك أدعى لهم إلى الاستمرار على الاستدانة على المعاصي، فيكون ذلك إعانة لهم على المعاصي وداعياً لهم إليها، والشيء إذا حصل فيه عون على الحق من وجه وعون على الباطل من وجه، كان التغليب للباطل، كما نقول في الشيء إذا حصل فيه من وجه من وجوه الحسن ووجه من وجوه القبح، أن يكون الحكم للقبح، وكما نقول في وجه الحظر، وجه الإباحة إذا اجتمعا في الشيء أن الحكم للحظر. (32/8)
مسألة
وأما ما يصرف إلى السبيل فوجهه أن يصرف في المجاهدين وما يحتاجون إليه من السلاح والكراع، ويجوز صرف بعضه إلى بناء المساجد، وحفر القبور، وبناء السقايات، وتكفين الأموات إن فضل عما سواه.
وهذا منصوص عليه في (الأحكام) و(المنتخب).
غير ما ذكرناه من صرف بعضه إلى بناء المساجد، وحفر القبور، وبناء السقايات والتكفين، فإنه منصوص عليه في (المنتخب) فقط.
ولا خلاف في صرفه إلى المجاهدين، واختلفوا في سائر ما ذكرناه، ووجهه أن جميع ذلك يصح أن يقال في أنَّه سبيل من سبيل الله، فوجب أن يكون الاسم يعمه.
وروي عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم أنَّه قال: ((الحج والعمرة من سبيل الله))، فصح أن سمة سبيل اللّه ينطلق على غير الجهاد.
مسألة
قال: وبنوا السبيل: فهم مارة الطريق والمسافرون الضعاف منهم، وإن كانت لهم أموال في بلدانهم وأهاليهم.
وهذا منصوص عليه في (الأحكام).
ونص في (المنتخب) على: أنهم مارة الطريق، وهؤلاء ـ أيضاً ـ يأخذون بالفقر؛ لأنَّه لا خلاف أنهم إذا كانوا أغنياء لا يأخذون.
وقلنا: إنهم وإن كانت لهم أموال في أهاليهم فهم فقراء في الحال، إذا كانت أيديهم لا تصل إليها وإلى الانتفاع بها؛ لأنَّه لا خلاف أن من كان له مال فاغتصبه السلطان أو أذاه اللصوص وقطاع الطريق حتى احتاج ولم يمكنه الانتفاع بماله، أنَّه يحل له الصدقة، فكذلك المسافر المحتاج الذي لا يمكنه الانتفاع بماله، والمعنى أنه لا يمكنه الانتفاع بماله. (32/9)
مسألة
قال، والذين لا تحل لهم الصدقة على وجه من الوجوه، فهم بنوا هاشم، وهم: آل علي، وآل جعفر، وآل عقيل، وآل العباس.
وهذا منصوص عليه في (الأحكام).
وإنما ذكر يحيى عليه السلام البطون الأربعة؛ لأنهم الجل والمعظم من بني هاشم، وإلا فسبيل الحرث بن عبد المطلب سبيلهم؛ لأنهم بنو هاشم كسائر هؤلاء البطون، وقرب الجميع من رسول اللّه صلى الله عليه وآله وسلم بالعمومة قرب واحد.
والأصل في هذا: الأخبار المروية عن رسول اللّه صلى الله عليه وآله وسلم في هذا الباب، فمنها ما:
أخبرنا به أبو بكر المقرئ، قال: حدثنا الطحاوي، قال: حدثنا إبراهيم بن مرزوق، قال: حدثنا وهب بن جرير، قال: حدثنا شعبة، عن بريد بن أبي مريم، عن أبي الحوراء السعدي، قال: قلت للحسن بن علي عليهما السلام: ما تحفظ من رسول اللّه صلى الله عليه وآله وسلم؟ قال: أذكر أني أخذت تمرة من تمر الصدقة فجعلتها في فيّ، فأخرجها رسول اللّه بلعابها، فألقاها في التمر، فقال رجل: يا رسول اللّه، ما كان عليك من هذه التمرة لهذا الصبي؟ فقال: ((إنا آل محمد لا تحل لنا الصدقة)).
وأخبرنا علي بن إسماعيل، قال: حدثنا الناصر للحق الحسن بن علي عليه السلام، قال: حدثنا محمد بن منصور، عن محمد بن عمر الكندي، عن يحيى بن آدم، قال: حدثنا الحكم بن ظهير، عن بشير بن عاصم، عن عثمان بن أبي اليقظان، عن عبد الرحمن بن أبي ليلى، قال: قال علي عليه السلام: (إن اللّه حرم الصدقة على رسول اللّه صلى الله عليه وآله وسلم، فعوضه سهماً من الخمس عوضاً مما حرم عليه، وحرمها على أهل بيته خاصة دون أمته، فضرب لهم مع رسول اللّه صلى الله عليه وآله وسلم سهماً عوضاً عما حرم عليهم). (32/10)
وأخبرنا أبو بكر المقرئ، قال: حدثنا الطحاوي، قال: حدثنا ربيع المؤذن، قال: حدثنا أسد، قال: حدثنا سعيد وحماد ابنا زيد، عن أبي جهضم موسى بن سالم، عن عبد اللّه بن عبيد الله بن عباس، قال: دخلنا على ابن عباس فقال: ما اختصنا رسول اللّه صلى الله عليه وآله وسلم بشيء من دون الناس إلاَّ بثلاث: إسباغ الوضوء، وأن لا نأكل من الصدقة، وأن لا ننزي الحمير على الخيل.
وروي أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم، قال لأبي رافعك: ((الصدقة لا تحل لآل محمد، ومولى القوم منهم)).
والأخبار في هذا كثيرة مشهورة، كرهنا ذكر جميعها للاستطالة.
فإن قيل: روي عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم أنَّه تصدق على آرامل بني عبد المطلب.
قيل له: يحتمل أن يكون ذلك من التطوع، ويحتمل أن يكون أضافهن إلى بني عبد المطلب لا من جهة النسب.
فأما بنو المطلب، فقد نص يحيى عليه السلام على أنَّه لا حظ لهم في الخمس، فدل ذلك على أن الصدقة تحل لهم.
والأصل في هذا أن المطلب هو أخوا هاشم، كما أن عبد شمس أخو هاشم، وهم بنوا عبد مناف، ولا خلاف أن بني أمية تحل لهم الصدقة، وأمية هو ابن عبد شمس، فلما ثبت ذلك ثبت أنها تحل لبني المطلب؛ لأن قربهم من رسول اللّه صلى الله عليه وآله وسلم مثل قرب بني أمية.
مسألة
قال: ومن احتاج منهم ـ يعني بني هاشم ـ واضطر إلى أكل شيء من الصدقة، فله ذلك على طريق الاستقراض، فإذا وجد مقدار ما أكل منها رده إلى أهله، وإن كانت الضرورة قد بلغت به إلى حال يحل له معها أكل الميتة. (32/11)
هذا منصوص عليه في (الأحكام).
والوجه فيه أنَّه قد ثبت تحريم الصدقة على بني هاشم، وأنه لا حق لهم فيها، فمن اضطر منهم إلى أكل شيء من الصدقة ضرورة شديد،ة كان له أن يتناول منها بالعوض، كالمضطر إلى ملك غيره، له أن يتناول منه، ويلزمه التعويض متى أمكنه، فكذلك المضطر إلى الصدقة من بني هاشم.
مسألة
قال: ولا يجوز لأحد أن يأخذ من الصدقة، وله من أي أصناف الأموال ما تجب فيه الصدقة، وهذا منصوص عليه في (الأحكام).
ووجهه قول اللّه تعالى: {إِنَّمَا الصَّدَقَاتُ لِلْفُقَرَاءِ وَالْمَسَاكِيْنِ} وقد ثبت أن من ذكرنا غني لقول النبي صلى الله عليه وآله وسلم لمعاذ: ((أعلمهم أن عليهم في أموالهم صدقة، تؤخذ من أغنيائهم وترد في فقرائهم))، فجعل المأخوذ منه الصدقة غنياً، والمردود عليه فقيراً، ففي هذا أن كل من أخذت منه الصدقة غني حكماً، فلا يجوز أن يعطى من الصدقة شيئاً كسائر الأغنياء لحصول اسم الغنى له.
فإن قيل: لا يمتنع من جهة العرف أن يسمى الرجل فقيراً إذا كان ضعيفاً في نفسه، وكانت عائلته كثيرة، وإن كان له ما يجب فيه الصدقة، بل يبعد أن يسمى من كانت هذه صفته غنياً.
قيل له: لا يمتنع أن يكون الحال من جهة العرف ما ذكرت، إلاَّ أن الشرع قد جعل له سمة أغنى بما ذكرناه من الخبر وأسماء الشرع أولى أن يحمل عليها أحكام الشرع من أساء العرف، فصح ما ذنبنا إليه.
على أنَّه لا خلاف أن من له الأموال الكثيرة لا يجوز أن يعطى من الصدقة شيئاً، وأن من له اليسير منها يجوز أن يعطى منها، ولم يكن بد من فرق، فكان أولى الفقر ما نبه الشرع عليه، وقد نبه على أن المأخوذ منه غني، والمردود عليه فقير، فصح ما ذهبنا إليه.
فصل
لم يفرق أصحابنا بين من كان قوياً في جسمه، وبين من كان ضعيفاً من الفقراء، وهو مذهب أبي حنيفة. (32/12)
والوجه في ذلك عموم قوله تعالى: {إِنَّمَا الصَّدَقَاتُ لِلْفُقَرَاءِ وَالْمَسَاكِيْنِ} فعم ولم يخص، وكذلك قوله صلى الله عليه وآله وسلم: ((تؤخذ من أغنيائهم وترد في فقرائهم))،، فلم يخص فقير من فقير.
ويدل على ذلك ـ أيضاً ـ ما روي أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم عل صدقة بني زريق لسلمة بن صخر، وكان سلمة قوياً في بدنه.
فإن قيل: إن رجلين أتيا النبي صلى الله عليه وآله وسلم فسأله من الصدقة، فرءاهما جلدين، فصعد البصر فيهما وصوبه، وقال: إن شئتما أعطيتكما، ولا حظ فيها لغني ولا لقوي مكتسب)).
قيل له: هو محمول في القوي على الكراهة؛ بدلالة قوله صلى الله عليه وآله وسلم: ((إن شئتما أعطيتكما))، ولو كانت محرمة لم يقل: إن شئتما أعطيتكما؛ لأنَّه صلى الله عليه وآله وسلم لا يعطي الحرام بأن يشاء المعطي له، وهكذا يحمل قوله: ((لا تحل الصدقة لغني ولا لذي مرة سوي))، أو يحمل على المسألة.
مسألة
قال: ولا يجوز أن يعطى أحد من الفقراء، إلاَّ دون ما يجب فيه الزكاة من أي الأصناف كان.
وهذا منصوص عليه في (الأحكام) و(المنتخب).
والأصل يه قوله صلى الله عليه وآله وسلم: ((لا تحل الصدقة لغني))، ولو أعطيناه ما يوجب الغنى، كنا قد أحللنا الصدقة للغني، وقد دللنا على أن حصول القدر الذي تجب فيه الزكاة يوجب الغنى.
فإن قيل: ما تنكرون على من قال لكم: إن الصدقة إذا قبضها المستحق لها خرجت عن أن تكون صدقة.
قيل له: هي صدقة ما دام ملكه قائماً فيها بدلالة ما:
أخبرنا به أبو بكر المقرئ، قال: حدثنا الطحاوي، قال: حدثنا علي بن عبد الرحمن، قال: حدثنا عفان، قال: حدثنا همام، قال: حدثنا قتادة، عن عكرمة، عن ابن عباس، قال: تصدق عليَّ بريرة بصدقة، فأهدت منها لعائشة، فذكرت ذلك للنبي صلى الله عليه وآله وسلم، فقال: ((هو لنا هدية، ولها صدقة)).
فدل ذلك على أنها تكون صدقة ما دام ملك المتصدق عليه بها قائماً. (32/13)
ووجه آخر وهو أن تملكه الصدقة لما صادف حال الغنى لم يستقر.
مسألة
قال: ولا يجوز أن يعطي أحد شيئاً من صدقته أباه ولا أمه، ولا ولده، ولا مملوكه، ولا مدبره، ولا أم ولده، إلاَّ أن يكون قد بت عتقهم، ولا أحداً ممن تلزمه نفقه، فأما من لم تلزمه نفقتهم من أقاربه وذوي أرحامه، فلا بأس أن يعطي عم الرجل من زكاته، وهم أولى بها من غيرهم، وهذا منصوص عليه في (الأحكام).
أما الأبوان والأولاد والمملوك والمدبر وأم الولد، فلا خلاف أنَّه لا يجوز للرجل أن يعطيهم شيئاً من زكاته.
وأما سائر من تلزمه نفقتهم، فالوجه في أنهم لا يعطون من الزكاة شيئاً، أنَّه لا خلاف في الأبوين والولد أنهم لا يعطون، فكذلك سائر ما ذكرنا؛ لعلة لزوم نفقاتهم، وكل من لزمته نفقته لا يجوز أن يعطيه شيئاً من زكاته؛ لأنَّه يكون مخففاً عن نفسه، ومنتفعاً به، ولا يجوز للإنسان أن يجعل زكاته نفعاً لنفسه.
فإن قيل: أليس يجوز له أن يدفع زكاته إلى من له عليه دين، ثم يأخذها من منه بحقه، فقد جاز له الانتفاع بزكاته.
قيل له: هذا لا ينتفع بنفس إعطاء الزكاة، وإنا انتفع بما سواه، ومن ذكرنا ينتفع بنفس إعطائه؛ لأنَّه يسقط عن نفسه ما كان واجباً عليه، فيكون قد حصل له على التحقيق الانتفاع بزكاته، وهذا لا يجوز.
فإن قيل: فجوزوا أن يعطيه من زكاته اليسير الذي مثله لا يخفف عنه.
قيل له: ما فرق أحد في هذا الباب بين اليسير والكثير، فإذا ثبت أن الكثير لا يجوز أن يعطى، ثبت أن لا يجوز أن يعطي اليسير، فأما من لم تلزمه نفقته من أقاربه، فالوجه في جاوز إعطائها إياه أنَّه لا خلاف في أنَّه يجوز أن يعطي الأباد منهم، وكذلك الإدنين، والمعنى أنَّه لا تلزمه نفقتهم.
وروي أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم أذن لزينب زوجة ابن مسعود أن تجعل زكاتها في بني أخيها.
وقلنا: إنهم أولى من غيرهم؛ لأن إعطاءها إياهم يجمع بين كونه أداء الواجب صلة الرحم، وقد دعا اللّه سبحانه العباد إليها ومدحهم سبحانه عليه. (32/14)
باب القول في صدقة الفطر (33/1)
يجب على الرجل إخراج صدقة الفطر عن نفسه، وعن كل عيال كان له من المسلمين، من حر أو عبد، صغير، أو كبير، ذكر أو أنثى.
وهذا منصوص عليه في (الأحكام).
والأصل فيه ما:
أخبرنا به أبو بكر المقرئ، قال: حدثنا الطحاوي، قال: حدثنا صالح بن عبد الرحمن، قال: حدثنا عبد اللّه بن مسلمة القعنبي، عن مالك، عن نافع، عن ابن عمر، عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم، أنه أمر بصدقة الفطر على كل صغير وكبير، حر وعبد، ذكر وأنثى من المسلمين صاعاً من شعير، أو صاعاً من تمر.
وروى محمد بن منصور بإسناده، عن حاتم بن إسماعيل، عن جعفر، عن أبيه، قال: فرض رسول اللّه صلى الله عليه وآله وسلم على كل صغير وكبير، حر وعبد، ذكر وأنثى ممن تمونون، صاعاً من تمر، أو صاعاً من زبيب، أو صاعاً من شعير على كل إنسان.
وروى زيد بن علي، عن أبيه، عن جده، عن علي عليهم السلام، قال: قال رسول اللّه صلى الله عليه وآله وسلم: ((صدقة الفطر على المرء المسلم يخرجها عن نفسه، وعن من هو في عياله، صغيراً كان أو كبيراً ذكراً أو أنثى، حراً أو عبداً)).
قال أبو حنيفة: يخرجها عن العب الكافر، وعندنا لا تخرج إلاَّ عن المسلم.
ووجه ما ذهبنا إليه ما: روي أنَّه صلى الله عليه وآله وسلمك ((أمر بصدقة الفطر على كل صغير وكبير، حر وعبد، ذكر وأنثى من المسلمين))، فنبه على أنها تختص المسلمين.
وروى أبو داود في السنن بإسناده عن عكرمة، عن ابن عاس، قال: فرض رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم زكاة الفطر طهرة للصائم من اللغو والرفث، وطعمة للمساكين، فدل على أنها تختص من كان من أهل الطهرة، والكافر ليس من أهل الطهرة، ولا من أهل الصيام، فثبت أنَّه لا يجب أداؤها عنه.
وليس لأحد أن يقول: إن هذا قول ابن عباس، ويجوز أن يكون رأياً رآه؛ لأنَّه أخبر عن الوجه الذي من أجله فرض رسول اللّه صلى الله عليه وآله وسلم ، وذلك مما ليس للرأي فيه مجال، بل لا يجوز أن يكون قال ذلك إلاَّ توقيفاً. (33/2)
فإن قيل: روي أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم فرض صدقة الفطر صاعاً من شعير أو تمر، على الصغير والكبير، والحر والمملوك، وعمومه يوجب أداؤها عن المملوك الكافر.
قيل له: هذا مخصوص بما ذكرناه، وبما نذكره من القياس، وهو أنَّه لا خلاف أن الكافر لا يؤدي عن نفسه، فكذلك عن العبد الكافر، والمعنى أنَّه كافر، وكل كافر لا تؤدى عنه الفطرة، وكذلك لا خلاف أنَّه لا يؤديها عن أبيه الذمي الفقير الذي يمونه إذا كان كافراً، وإن شئت قلت: إنَّه ليس من أهل الطهرة على وجه من الوجوه، وليس يلزم عليه الطفل؛ لأن من أهل الطهرة حكماً، ويقاس على عبد التجارة إذا كان كافراً؛ إذ لا خلاف أنَّه لا يؤدى عنه زكاة الفطر؛ والعلة ما تقدمت.
فإن قيل: إذا كان المولى هو المؤدي، وهو الذي تلزمه الزكاة عن العبد دون العبد، فوجب أن يكون المعتبر به هو المولى دون العبد، كما أن المولى هو المعتبر به في أداء الزكاة عن العبد إذا كان للتجارة دون العبد.
قيل له: ليس الأمر على ما ذكرت، بل لا بد في الموضعين من اعتبار حال المؤدى عنه، وإن كان المؤدي الذي تلزمه معتبراً به، ألا ترى أن عبد التجارة يعتبر في قيمة النصاب والحول، إذا كان الاعتبار في مال التجارة بهما؛ لأن الزكاة فيه تتعلق بالنصاب والحول، وكذلك العبد المؤدى عنه زكاة الفطر، يجب أن يعتبر، فيراعى فيه الإسلام؛ لأن الإسلام هو المراعى في زكاة الفطر.
فصل
الذي يقتضيه قول يحيى بن الحسين عليه السلام: تلزم زكاة الفطر عن كل من كان له عيال: أن الرجل تلزمه زكاة الفطر عن زوجته. وحكى ذلك أبو العباس الحسني رحمه اللّه تعالى عنه في (النصوص).
والأصل فيه:
حديث زيد بن علي، عن أبيه، عن جده، عن علي عليهم السلام، قال: قال رسول اللّه صلى الله عليه وآله وسلم: ((صدقة الفطر على الرجل المسلم، يخرجها عن نفسه، وعن من هو في عياله، صغيراً كان أو كبيراً ذكراً أو أنثى، حراً أو عبداً)). (33/3)
وحديث جعفر، عن أبيه، قال: ((فرض رسول اللّه صلى الله عليه وآله وسلم صدقة الفطر على كل صغير وكبير، حر وعبد، ذكر وأنثى ممن تمونون)).
وروي عن أبي معشر، عن نافع، عن ابن عمر، أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم فرض زكاة الفطر صاعاً من تمر أو شعير، على كل حر وعبد ممن تمونون)).
فدلت هذه الأخبار على أنها تلزم الرجل على كل من يمونه، يكون في عياله، ولا شك أن الرجل يمون زوجته، وتكون في عياله، فوجب أن يلزم إخراجها عن امرأته.
فإن قيل: فقد قال صلى الله عليه وآله وسلم: ((على كل حر وعبد، ذكر وأثنى))، وألزمها نفسها بهذا الظاهر، وإذا ثبت أنها لازمة، ثبت أنها لا تلزم زوجها عنها.
قيل له: قد فسر ذلك صلى الله عليه وآله وسلم بأن قال: ((ممن تمونون))، وبقوله: ((يخرجها عن نفسه، وعن من هو في عياله))، فصرح بأنها تلزم من يمونه ويعوله.
يحقق ذلك أن في خبرهم على كل حر وعبد ذكر وأنثى، ولا خلاف أنها لا تلزم العبد، وإنما تلزم مولاه عنه، والظاهر تناول العبد على حد تناوله الأنثى.
ومن جهة النظر لا خلاف أن الرجل يخرجها عن عبده المسلم، فكذلك عن زوجته، والمعنى أن كل واحد منهما يلزمه مؤنته، مع أنها من أهل الطهرة، ويمكن أن تقاس بهذه العلة على الولد الصغير الذي يلزمه مؤنته، ويكشف صحة هذه العلة أنَّه إذا بلغ وخرج من مؤمنته، لم يلزمه زكاة الفطر عنه.
فإن قيل: العلة في العبد والابن الصغير أن له عليهما ولاية.
قيل له: لو سلمنا ذلك لم يضرنا، وقلنا بالعلتين جميعاً، على أن علتنا أولى؛ لأن النص نبه عليها، ألا ترى إلى قوله صلى الله عليه وآله وسلم: ((..ممن تمونون))،، وقوله: ((..عمن هو في عياله)).
فإن قيل: مؤنتها من جنس مؤنة الأجير، فلا يجب أن تكون بمؤنتها معتبرة في زكاة الفطر، كما أنَّه لا معتبر بمؤنة الأجير. (33/4)
قيل له: ليس الأمر على ما ذكرت؛ لأن ما يدفعه المستأجر إلى الأجير أجرة مقدورة، وليس كذلك مؤنة المرأة؛ لأنها تجب بحسب اليسار والإعسار، فهي من جنس مؤنة الأب الفقير والولد الصغير.
ويمكن أن تقاس المرأة على أم الولد؛ بعلة أنَّه يحل وطؤها، فكل من حل له وطؤها، لزمته زكاة الفطر عنها، وترجح قياساتنا باستنادها إلى قوله عزَّ وجل: {الرِّجَالُ قَوَّامُونَ عَلَى النِّسَاءِ}، وإلى سائر ما ذكرنا من النصوص، ولا ينتقض بالأمة الذمية؛ لأن وطأها لا يحل للمسلم.
مسألة
قال: ووجوبها من أول ساعة من يوم الفطر.
وهذا منصوص عليه في (الأحكام). وهو قول أبي حنيفة. والشافعي يخالف فيه، ويقول: إنها تجب عند غروب الشمس ليلة الفطر.
والأصل فيه ما:
رواه أبو داود في السنن يرفعه إلى موسى بن عقبة، عن نافع، عن ابن عمر، قال: أمرنا رسول اللّه صلى الله عليه وآله وسلم بزكاة الفطر تؤدى قبل خروج الناس إلى الصلاة، والأمر يقتضي الوجوب، وهو متعلق بنهار الفطر، وأوله أول ساعة منه.
وروى محمد بن منصور، عن علي بن منذر، عن وكيع، عن أبي معشر، عن نافع، عن ابن عمر، قال: فرض رسول اللّه صلى الله عليه وآله وسلم صدقة الفطر، وقال: ((أغنوهم في اليوم))، فعلق الإغناء باليوم، فدل على تعلق الوجوب به.
وروي عن ابن عمر، أنَّه قال: فرض النبي صلى الله عليه وآله وسلم صدقة الفطر من رمضان، والفطر من رمضان إذا أطلق، عقل به يوم الفطر دون ليله، يدل على ذلك ما:
روي عن عمر أنَّه قال: نهى النبي صلى الله عليه وآله وسلم عن صيام يومين، يوم فطركم من صيامكم، ويوم تأكلون فيه لحم نسككم، فأخبر أنَّه يوم فطرنا من صيامنا.
فإن قيل: الفطر يقع بغروب الشمس من آخر يوم من شهر رمضان.
قيل له: الفطر يقع في هذا الوقت، كما يقع قبله في مثل هذا الوقت، وهذا مما لا ينازع فيه، إلاَّ ما قلنا: إن الفطر من رمضان إلاَّ أطلق على يوم الفطر من جهة العرف، فوجب أن يحمل الخبر عليه، على أن الفطر لما أضيف إلى اليوم، دل على أن الفطر هو ما يقع فيه كان أنَّه لما أضيفت الجمعة والنحر إلى اليوم، كانت الجمعة ما يقع فيه، وكذلك النحر، فوجب أن يكون الفطر كذلك، وزكاة الفطر، قياساً على الأضحية؛ بعلة أنها قربة مال تختص العيد، فوجب أن يكون وقتها نهار العيد دون ليله، وقياساً على صلاة العيد؛ بعلة أنها قربة تختص العيد، فوجب أن لا تكون ليلة العيد وقتاً لوجوبها. (33/5)
فإن قيل: إنها جبران للصوم، فيجب أن يكون سبيله سبيل سجدتي السهو في أنهما يليان الصلاة.
قيل له: لسنا نسلم أنها جبران للصوم، ألا ترى أنها تخرج عن الطفل، وعن النفساء التي لم تصم شيئاً منه، وكذلك عن العليل الذي لم يصم منه شيئاً، على أن الجبران ليس يمتنع أن يتراخى وقت عما جبر، ألا ترى أن صوم سبعة أيام التي هي بدل من هدي المتمتع تكون بعد الرجوع إلى الأهل، وهو جبران للحج؟ على أن الشافعي يرى أن سجدتي السهو قبل التسليم، فكان يجب ـ على أصله ـ أن يكون وجوبها من قبل غروب الشمس من آخر يوم من رمضان، وهذا ما لا يقول به.
مسألة
قال: وهي صاع من بر.
وهذا منصوص عليه في (الأحكام) و(المنتخب). وهو قول الشافعي. وقال أبو حنيفة: نصف صاع من بر.
والأصل فيه ما:
أخبرنا به أبو بكر المقرئ، قال: حدثنا الطحاوي، قال: حدثنا يزيد بن سنان، قال: حدثنا عبد الرحمن بن مهدي، قال: حدثنا داود بن قيس، عن عياض بن عبد عبد الله بن سعد بن أبي سرح، عن أبي سعيد، قال: كنا نخرج زكاة الفطر على عهد رسول اللّه وبعده، إما صاعاً من طعام، وإما صاعاً من تمر، وإما صاعاً من شعير، وإما صاعاً من زبيب، وإما صاعاً من إقط، فلم نزل على ذلك حتى قدم معاوية حاجاً أو معتمراً، فقال: أدوا مدين من سمراء الشام، تعدل صاعاً من شعير. (33/6)
وأخبرنا المقرئ، قال: حدثنا الطحاوي، قال: حدثنا ابن أبي داود، قال: حدثنا الوهبي، قال: حدثنا إسحاق بن عبد الله بن عبيد اللّه بن عثمان بن عياض، عن عياض بن أبي عبد الله، قال: سمعت أبا سعيد وهو يسأل عن صدقة الفطر، فقال: لا أخرج إلاَّ ما كنت أخرج على عهد رسول اللّه صلى الله عليه وآله وسلم صاعاً من تمر، أو صاعاً من شعير، أو صاعاً من زبيب، أو صاعاً من إقط، فقال له رجل: أو مدين من قمح؟ قال: لا، تلك قيمة معاوية، لا أقبلها، ولا أعمل بها.
فدل هذان الخبران على أن المعمول به على عهد رسول اللّه صلى الله عليه وآله وسلم، كان إخراج صاع من بر، وأن معاوية هو الذي رده إلى نصف صاع.
وأخبرنا أبو بكر المقرئ، قال: حدثنا الطحاوي، قال: حدثنا ابن أبي داود، قال: حدثنا سليمان بن حرب، قال: حدثنا حماد بن زيد، عن أيوب، عن نافع، عن ابن عمر، قال: أمر النبي صلى الله عليه وآله وسلم بصدقة الفطر عن كل صغير وكبير حر أو عبد صاعاً من تمر، قال: فعدله الناس بمدين من حنطة، فقد بين ابن عمر أن هذا مما عدله الناس، وهذا قريب مما ذكره أبو سعيد أنَّه قيمة معاوية، إلاَّ أن ابن عمر لم يذكر معاوية.
وروى أبو داود في السنن بإسناده عن نافع، عن ابن عمر، قال: كان الناس يخرجون صدقة الفطر على عهد رسول اللّه صلى الله عليه وآله وسلم صاعاً من شعير، أو صاعاً من زبيب، فلما كان في أيام عمر وكثرت الحنطة، جعلها عمر نصف صاع من حنطة، مكان صاع ممن تلك الشيئان، فحقق أن ذلك رأي من عمر، ولو كان ذلك محفوظاً عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم، لم يكن لإيراده إلى عمر وجه. (33/7)
وأخبرنا أبو العباس الحسني، قال: أخبرنا عبد الرحمن بن أبي حاتم، قال: حدثنا محمد بن عزيز الاُبليِّ، قال: حدثنا عقيل، عن عتبة بن عبد اللّه بن مسعود، عن أبي إسحاق الهمداني، عن الحارث الأعور، قال: سمعت علياً عليه السلام يأمر بزكاة الفطر فيقول: ((هي صاع من تمر، أو صاع من شعير، أو صاع من حنطة، أو سلت أو صاع من زبيب)).
فإن قيل: وروي عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم أخبار، فيها: أو نصف صاع من بر، منها: حديث ابن عمر. وحديث عمرو بن شعيب، عن أبيه، عن جده. وحديث ابن عباس.
قيل له: قد قيل إن هذه الأخبار ضعيفة، على أنها متأولة ومحمولة على أن المراد بها حال الضرورة، وعلى سبيل التقويم؛ لأن الرجوع إلى القيمة فيها عندنا جائز للضرورة.
فإن قيل: فنحن ـ أيضاً ـ نتأول أخباركم، ونقول: إن الواجب من البر نصف صاع، والنصف الآخرة تطوع، فليس استعمالكم أولى من استعمالنا.
قيل له: استعمالنا أولى؛ لأنه يتضمن زيادة شرع، واحتياطاً للفقراء، والأصول تشهد لنا؛ لأن سائر أحكام الصدقات يسوَّى فيها بين حكم البر والشعير، وكذلك أحكام البيوع، والقياس يشهد لنا، وهو أنَّه لا خلاف أن الواجب في زكاة الفطر صاع من شعير، أو صاع من تمر، فكذلك البر، والمعنى أنَّه مقتات يخرج عن زكاة الفطر، لا على سبيل البدل، فوجب أن لا يجزي أقل من صاع، وـ أيضاً ـ أبو يوسف ومحمد يوافقانا على أن أقل المخرج من صدقة البر لا يجوز أن يكون أقل من المخرج من صدقة التمر والشعير في العشور، فوجب أن يكون ذلك حكمه في صدقة الفطر، والمعنى أن كل واحد منهما صدقة وجبت ابتداء لا على سبيل البدل، أو يقال لجميع من يخالف: إن المأخوذ من البر بصدقة العشور مثل المأخوذ من الشعير والتمر، فوجب ذلك في صدقة الفطر، للعلة التي تقدمت. (33/8)
مسألة
قال: أو صاع من تمر، أو صاع من شعير، أو صاع من ذرة، أو صاع من إقط لأصحاب الإقط، أو صاع من زبيب، أو غير ذلك مما يستنفقه المزكُّون.
وهذا منصوص عليه في (الأحكام).
ونص ـ أيضاً ـ في (المنتخب) على هذه الأجناس الخمسة.
والأصل فيه هذه الأخبار التي تقدمت.
ومنها ما:
أخبرنا به أبو الحسين البروجردي، قال: حدثنا أبو بكر محمد بن عمر الدينوري، قال: حدثنا أبو قلابة الرقاشي، عن محمد بن خالد بن عثمان، قال: حدثنا كثير بن عبد الله بن عمرو بن عوف، عن أبيه، عن جده أن رسول اللّه صلى الله عليه وآله وسلم ، قال: ((زكاة الفطر صاع من شعير، أو صاع من زبيب، أو صاع من تمر، أو صاع من إقط))، فنص على هذه الأجناس الأربعة، وعلى أن الواجب من كل واحد منهما صاع.
اختلفت الرواية عن أبي حنيفة في الزبيب، فروي صاع، وروي نصف صاع.
وما ذكرناه من إيجاب صاع من البر، يوجب صاعاً من الزبيب، على أني لم أحفظ عن أحد أنَّه روى عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم نصف صاع من زبيب، وروي صاع منه، فسقط قول من قال: نصف صاع من زبيب.
وروي: أو صاع من ذرة، رواه محمد بن منصور، قال: حدثنا علي بن منذر، عن محمد بن فضيل، قال: حدثنا أبان، عن أنس، قال: قال رسول اللّه صلى الله عليه وآله وسلم: ((إذا أعطيتم صدقة الفطر، فاعطوا نصف صاع من بر أو صاعاً من تمر، أو صاعاً من شعير، أو صاعاً من ذرة)). (33/9)
وقلنا: أو غير ذلك مما يستنفقه المزكُّون، قياساً على ما وردت هذه النصوص فيه، بمعنى أنَّه مقتات، فكل مقتات يجوز إخراج زكاة الفطر منه، وـ أيضاً ـ لما كانت جارية مجرى المؤاساة جعلت مما يستنفقه المزكِّي يكشف ذلك أن أكثر اقتيات أهل المدينة لما كان الشعير والتمر، ورد أكثر الأخبار فيهما، ثم لما كان البر قوت عامة البلدان، ذكر ـ أيضاً ـ في عدة من الأخبار، ثم ذكر في أخبار يسيرة سائر ما يقتات في البلدان النادرة، فدل ذلك على أن المقصد فيها هو المقتات.
مسألة
قال: ويستحب أن يتناول المخرجون لها قبل إخراجها شيئاً، ثم يخرجونها قبل صلاة العيد، وليس يضيق على من أخرها إلى آخر النهار، والمستحب التعجيل.
وهذا منصوص عليه في (الأحكام).
ووجهه أن تعجيل الإفطار فيه مستحب:
أخبرنا أبو الحسين البروجردي، قال: حدثنا أبو القاسم البغوي، قال: حدثنا محمد بن عبد الوهاب، قال: حدثنا مندل، عن الأعمش، عن مسلم بن صبيح، عن ابن عباس، قال: إن من السنة أن تطعم قبل أن تخر يوم الفطر، ولو لقمة أو تمرة)).
وروى ابن أبي شيبة بإسناده عن أنس، قال: كان النبي صلى الله عليه وآله وسلم لا يصلي حتى يفطر، ولو على شربة من ماء.
وروي عن أمير المؤمنين علي عليه السلام أنَّه كان يفطر قبل أن يصلي صلاة العيد، فلما استحب تقديم الإفطار على صلاة العيد، استحب تقديمه على زكاة الفطر؛ لأن كل واحد منهما قربة تختض يوم الفطر، واستحب تعجيل زكاة الفطر بعد ذلك؛ لأن الواجب قد حصل بالاتفاق، فلا غرض في التأخير؛ ولأنه مسارعة إلى الخير والبر، وقد مدح اللّه تعالى قوماً بذلك، فقال عزَّ من قائل: {أَوْلَئِكَ يُسَارِعُونَ فِي الْخَيْرَاتِ وَهُمْ لَهَا سَابِقَونَ}، ولم يضيق تأخيرها؛ لأن وجوبها متعلق بالنهار أجمع؛ لما روي: فرض الصدقة يوم الفطر، ولقوله صلى الله عليه وآله وسلم: ((أغنوهم في هذا اليوم))، فدل ذلك على أن فعلها في اليوم أجمع، ولا خلاف في جوازها أول النهار، فكذلك آخره، والمعنى أنَّه يوم الفطر. (33/10)
مسألة
قال: ولا ينبغي أن تخرج زكاة الفطر إلاَّ طعاماً، فإن أعوزه أجزته القيمة.
هذا منصوص عليه في (الأحكام) و(المنتخب).
والوجه في ذلك أن النص ورد بالطعام، فلا يجوز مجاوزته إلاَّ بدليل، ولا دليل، وكلما دللنا على أن القيم في الزكوات لا تجزي، فهو دليل في هذا الموضع، ويمكن أن تقاس زكاة الفطر على الأضحية في أنَّه لا خيار بينها وبين القيمة، والمعنى أنها قربة مال تختص العبد، وأجزنا القيمة إذا تعذر الطعام؛ لأنَّه لا سبيل إلى سواها؛ ولأنه قال: ((أغنوهم في هذا اليوم))، فلا بد من الإغناء، فإذا لم يكن بالمنصوص عليه عدل عنه إلى ما يقوم مقامه، ليوم الإغناء قد حصل.
ولأنا قد وجدنا في الأصول أن من لزمه حق يتجدد في المال متى لم يجد ذلك الشيء بعيه يلزمه ما يقوم مقامه، فوجب أن يكون ذلك حكم زكاة الفطر، وليس يلزم عليه الأضحية؛ لأن الأضحية غير واجبة عندنا، على أن الحق لم يتعلق في الأضحية بمجرد المال؛ لأنَّه يتعلق بإراقة الدم في الأضحية.
مسألة
قال: ولا بأس بتفريق زكاة الواحد في الجماعة إذا اشتدت بهم الحاجة، وإلا فالمستحب أن يدفع إلى كل واحد من الفقراء ما يلزم الواحد. (33/11)
وهذا منصوص عليه في (المنتخب).
ووجهه أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم أوجب إخراج صاع من الأشياء التي ذكرناها، ولم يشترط إخراجه إلى واحد، ولا جماعة، فعلمنا أنَّه لا بأس أن يجعله في واحد إن شاء، أو في جماعة على ما يراه أصلح للفقراء، واستحببنا عند السعة أن يدفع صدقة الواحد إلى من الفقراء؛ ليكون أهنأ للفقير، وليحصل الإغناء به، امتثالاً لقول النبي صلى الله عليه وآله وسلم: ((أغنوهم هذا اليوم)).
مسألة
قال: ولا بأس أن يخرج الرجل زكاة فطرته من غير ما يأكله، والأولى مما يأكله، إلاَّ أن يعدل منه إلى ما هو أفضل منه.
نص في (المنتخب) على أن من يأكل التمر، فله العدول إلى الشعير، قال: وأحب إليَّ أن يدفع مما يأكل.
فدل ذلك على أن له العدول إلى الأدون مما يأكله.
وقال في (الأحكام) فيمن أعوزه الطعام: يخرج قيمة صاع مما يأكله، إن أحب العدول إلى قيمة أفضل الأشياء فيكون له فضيلة.
والوجه في جواز العدول إلى الأفضل والأدون بعد أن يكون الذي يخرجه من جملة المقتات هو ما:
روي عن رسول اللّه صلى الله عليه وآله وسلم من التخيير بين هذه الأجناس الستة بقوله: ((صاع من كذا، أو صاع من كذا ))، ومن المعلوم أن كل قوم يكون قوتهم جنساً من ذلك أو جنسين أو ثلاثة، ولا يجوز أن يكون الجميع أقواتاً للجميع، وقد خير صلى الله عليه وآله وسلم الجميع في تلك الأجناس، وفي الناس من يكون قوته أوسطها، فلما خير صلى الله عليه وآله وسلم في جميعها، ثبت جواز العدول عن الأفضل إلى الأدنى، وعن الأدنى إلى الأفضل.
وقلنا: إن الأحب إلينا أن لا يعدل إلى الأدون؛ لأنَّه أدخل في المواساة؛ ولأنه الأخذ بالأفضل، ولا خلاف فيه.
وقلنا: إن عدل إلى الأفضل كان أحب إلينا؛ لأنَّه أخذ بالأفضل وأبلغ في الإحسان؛ ولأنه أعلى الواجبين.
مسألة
قال: ولا يلزم الرجل إخراجها عن الجنين، وهي تلزم من كان معه يوم الفطر قوت عشرة أيام فما فوقه، فأما من لم يملك ذلك يوم الفطر فلا شيء عليه، وإن جاز عليه يوم الفطر، وهو معدم، ثم أيسر فال شيء عليه. (33/12)
وجميع ذلك منصوص عليه في (المنتخب).
قلنا: إن الجنين لا يخرج عنه زكاة الفطر؛ لأنَّه في حكم عضو من أعضاء الأم، وبعض من أبعاضها؛ لأنَّه داخل في أحكام الأم في حياتها ومماتها، ما لم يعرض أمر يقتضي خلافه، وكذلك إن أسقطته ميتاً لم يغسل، ولم يصل عليه، ولم يفرد بدية كاملة، وإنما يوارى بعض من أبعاضها لو سقط، فلما وجدنا حاله هذه، قلنا: إنَّه لا يجب أن تخرج عنه زكاة الفطر، كما لا يخرج عن سائر أبعاضها.
فأما من يلزمه زكاة الفطر ففيه خلاف لأبي حنيفة من وجه، وللشافعي من وجه؛ لأن أبا حنيفة يذهب إلى أنها لا تلزم، إلاَّ من كان له مائتا درهم بعد الدار والأثاث، وما لا يستغنى عنه. وقال الشافعي: إنها تلزم من كان له قوت يومه وزيادة صاع يخرجه.
والدليل على أنَّه لا اعتبار بالنصاب في زكاة الفطر: قوله صلى الله عليه وآله وسلم: ((فعوت لكم عن صدقة الخيل والرقيق إلاَّ صدقة الفطر))،، فلم يعلقه بالنصاب، ولم يستثن منه الفقير من الغني.
وروي: فرض رسول اللّه صدقة الفطر صاعاً من تمر أو صاعاً من شعير. ولم يشترط الغنى ووجوب النصاب.
وعن علي عليه السلام، عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم: ((صدقة الفطر على المرء المسلم يخرجها عن نفسه، وعن من هو في عياله))، ولم يشترط النصاب، فكل ذلك يدل على صحة مات نذهب إليه.
فإن قيل: تختص هذه الأخبار بما روي عنه: ((في فقرائهم))، فبين أنها مأخوذة من الأغنياء.
قيل له: هذه الصدقة مخصوصة تلزم الفقراء، بدلالة ما:
أخبرنا به أبو بكر المقرئ، قال: حدثنا الطحاوي، قال: حدثنا علي بن عبد الرحمن، قال: حدثنا عفان، قال: حدثنا حماد بن زيد، عن النعمان بن راشد، عن الزهري، عن ثعلبة بن أبي صعير، عن أبيه، قال: قال رسول اللّه صلى الله عليه وآله وسلم: ((أدوا زكاة الفطرة عن كل إنسان، صغير أو كبير، حر أو عبد، ذكر أو أنثى، غني أو فقير))، وفي بعض الحديث: (( أما غنيكم فيزكيه الله، وأما فقيركم، فيرد اللّه عليه خيراً مما أعطى))، فصرح رسول اللّه صلى الله عليه وآله وسلم بأنها تلزم الفقراء، على أن أبا حنيفة يذهب إلى أن من معه عشر باذنجانات يلزم خراج واحدة منها، فلم يجب أن يمتنع من وجوب إخراج زكاة الفطر لمن له قوت عشرة أيام. (33/13)
وفيه من طريق النظر أنَّه حق لا يزداد بزيادة المال، فوجب أن لا يراعي فيه الغني، قياساً على كفارة اليمين وفدية الذى، وسائر الكفارات.
فأما ما يدل على أنها لا تلزم من لم يجد إلاَّ قوت يومه وزيادة صاع: قول اللّه تعالى: {وَلا تَجْعَلْ يَدَكَ مَغْلُولَةً إِلَى عُنُقِكَ وَلا تَبْسُطْهَا كُلَّ الْبَسْطِ}، وليس في البسط أظهر من أن يكون الإنسان يأكل ويخرج باقي ما عنده حتى لا يبقى له منه شيء، فيقعد كما قال اللّه {مَلُوماً مَحْسُوراً}.
وروي عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم في حديث رواه أبو بكر الجصاص: ((إنما الصدقة عن ظهر غنى))، فهذا يمنع وجوبها على من هذه صفته؛ لأن الصدقة المعروفة بالألف واللام تقتضي الجنس، على أنَّه لا بد من الفرق بين من تلزمه زكاة الفطر وبين من لا تلزمه، فكان أقرب إلى الأصول ما وجد مثله في الأصول، وقد وجدنا في أكثر الأصول الفرق في عشرة كأقل المهر وأقل ما يقطع فيه وأقل الإقامة، وأقل الطهر، فكان الرجوع إليه أولى. على أنه مقيس على سائر الصدقات في أن المأخوذ يجب أن يكون يسيراً من كثير؛ بعلة أنها صدقة فرضت ابتداء.
وقلنا: إن يوم الفطر إن جاز وهو معدم، ثم أيسر، فلا شيء عليه؛ لأن المر بصدقة الفطر تعلق باليوم، لقوله صلى الله عليه وآله وسلم: ((أغنوهم في هذا اليوم))، فأشار إلى يوم الفطر. (33/14)
وعن ابن عمر، أمرنا رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم بزكاة الفطر أن تؤدى قبل خروج الناس إلى الصلاة، فعلق الأمر باليوم، على أن المسألة وفاق، فلا وجه لتقصي الكلام فيها.
فصل
التبست لفظة ليحيى بن الحسين عليه السلام في (المنتخب) على بعض أصحابنا، فظن أنها تقتضي أن من ملك قوت عشرة أيام، فليس له أن يأخذ زكاة الفطر، وهذا غلط؛ لأن السائل سأله عمن يأخذ زكاة الفطر، ولا يخرجها، فقال: مجيباً له من لم يملك قوت عشرة أيام، فظن القرائ لذلك أن من له أخذ زكاة الفطر هو الذي لا يملك قوت عشرة أيام، وليس الأمر كذلك؛ لأن السائل لم يسأل عمن له أخذ زكاة الفطر مطلقاً، وإنما سأله عمن يجمع أمرين، أحدهما: أخذها. والثاني ترك إعطائها، فأجاب بأن الذي يجمع بين الأمرين هو الذي لا يملك قوت عشرة أيام.
وهذا القول الذي ذهب إليه بعض أصحابنا على سبيل الغلط، ليس له وجه يعتبر، وليس هو محفوظ عن أحد من أهل العلم، قال اللّه تعالى: {إِنَّمَا الصَّدَقَاتُ لِلْفُقَرَاءِ وَالْمَسَاكِيْنِ}، فعم، وقال: {إِنْ تُبْدُوا الصَّدَقَاتِ فَنِعِمَّ هِيَ وَإِنْ تُخْفُوهَا وَتُؤْتُوهَا الْفُقَرَاءَ فَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ}، فعم ولم يخص بشيء منها من لا يجد قوت عشرة أيام.
وقال صلى الله عليه وآله وسلم: ((أغنوهم في هذا اليوم))، فأشار إلى جملة الفقراء على أن هذا مما يبعد أن يرد به التكليف، وذلك أن هذه البلدان التي هي بلدان الريف، يقل فيها من لا يجد قوت عشرة أيام، فلو قلنا: إنَّه لا يعطى إلاَّ من لا يجد قوت عشرة أيام، لم يمكن إخراج صدقة الفطر لجميع من يلزمه سيما على مذهبنا، فإنا نوجبها على من يملك قوت عشرة أيام. فليت شعري من الآخذ لها.
أول كتاب الخمس (34/1)
كتاب الخمس
باب القول فيما يجب فيه الخمس
[مسألة هل يعتبر الحول والمقدار في الخمس؟]
كل ما يجب فيه /93/ الخمس يجب في قليله وكثيره(1)، ولا اعتبار فيه بالمقدار، ولا بحول الحول، ويجب الخمس في كل ما يُغْنَم من أهل الحرب، وأهل البغي.
وهذا كله منصوص عليه في (الأحكام)(2) .
ونص في (المنتخب) (3) على: أن الخمس إذا وجب في الشيء، وجب في قليله وكثيره.
والأصل في ذلك قول اللّه تعالى: {وَاعْلَمُوا أَنَّمَا غَنِمْتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَأَنَّ للهِ خُمُسَهُ..} الآية، وفيه دلالة على أنَّ الغنائم فيها الخمس وفيه دلالة على أنه يجب في القليل والكثير، وأنه يجب حين يملك الْمُخَمَّس؛ لأن الاسم يتناول كل مغنوم، ويتناول كثيره وقليله، ولا يملك إلاَّ والخمس غير ملك للغانم بقوله: {فَأَنَّ للهِ خُمُسَهُ} فدل ذلك على وجوب تخميس الغنائم، وأن لا اعتبار فيها بالمقدار ولا بالحول.
وأخبرنا أبو بكر المقرئ، قال: حدثنا الطحاوي، قال: حدثنا فهد، قال: حدثنا الحجاج بن المنهال، قال: حدثنا حماد بن سلمة، عن يزيد بن مَيْسَرة العقيلي، عن عبد اللّه بن سفيان، عن رجل من قومه قال: أتيت النبي صلى الله عليه وآله وسلم بوادي القرى، فقلت: يا رسول الله، لمن المغنم؟ فقال: ((لله سهم، ولهؤلاء أربعة أسهم)). قلت: فهل أحد أحق بشيء من المغنم من أحد؟ فقال(4): ((لا حتى السهم يأخذه أحدكم من جنبه، فليس به أحق من أخيه)) (5).
__________
(1) ـ في نسخة: كل مال يجب فيه الخمس يجب في قليله وكثيره حين يملك.
(2) ـ انظر الأحكام 1/189 ـ 190 وهو بالمعنى، أو ما وجوب الخمس في ما غنم من أهل الحرب والبغي، فنص عليه في الأحكام 2/494 ـ 509.
(3) ـ انظر المنتخب 81 ـ 82.
(4) ـ في (أ): قال.
(5) ـ أخرجه الطحاوي في شرح معاني الآثار 3/229، وفيه عن بديل بن ميسرة عن عبد الله بن شقيق عن رجل من بلقين.
فدل ذلك على أن الخمس مأخوذ من جميع المغنم من غير اعتبار مقدار وزمان، ألا ترى أن السائل عرَّف المغنم بالألف واللام؟ وذلك يدل على الجنس، ويقتضي العموم. (34/2)
وروى محمد بن منصور، عن أحمد بن عيسى، عن حسين بن علوان، عن أبي خالد، عن زيد (بن علي)(1)، عن آبائه، عن علي عليهم السلام، قال: قال رسول اللّه صلى الله عليه وآله وسلم: ((في الركاز الخمس))، ولم يشترط فيه المقدار، ولا الحول، فوجب في قليله وكثيره، وحين يوجد؛ لأن الألف واللام يدلان على الجنس؛ فهو على القليل والكثير.
فأما أهل البغي فالخلاف بيننا وبين مخالفينا في أنها تغنم، أم لا، فأما إذا ثبت أنها تغنم، فلا خلاف [في](2) أنها تَخَمَّس، ويدل على ذلك قول اللّه تعالى: {وَاعْلَمُوا أَنَّمَا غَنِمْتُمْ مِنْ شَيْءٍ..} الآية.
مسألة [فيمن قتل قتيلاً هل له سلبه؟]
قال: ولو جعل الإمام لرجل سلبَ عدو إن قتله، فقتله، استحق سلبه، ووجب فيه الخمس.
وهذا منصوص عليه في (الأحكام) (3).
والدليل على وجوب الخمس قوله تعالى: {وَاعْلَمُوا أَنَّمَا غَنِمْتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَأَنَّ للهِ خُمُسَهُ [وَلِلرَّسُولِ](4)..} الآية، وهذا من الغنيمة، فوجب فيه الخمس.
ويدل عليه قوله صلى الله عليه وآله وسلم حين سئل لمن المغنم؟ فقال: ((لله سهم، ولهؤلاء أربعة أسهم))، فعم السائل المغنم.
فإن قيل: روي عن عدة من القاتلين أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم أعطاهم سلب القتلى، ولم يُرْوَ أنَّه أخذ منها الخمس.
وروي عن عوف بن مالك أنَّه قال: قلت لخالد بن الوليد يوم مؤتة: ألم تعلم أن رسول اللّه صلى الله عليه وآله وسلم لم يُخَمَّس السلب؟ فقال: نعم.
__________
(1) ـ سقط من (ب).
(2) ـ سقط من (ب).
(3) ـ انظر الأحكام 2/502.
(4) ـ سقط من (أ).
قيل له: أما ما روي أنه أعطى عدة من القاتلين السلَب، ولم يُروَ أنَّه أخذ منها الخمس، فإنه يحتمل(1) أن يكون أخذ ـ صلى الله عليه وآله وسلم ـ الخمس منها، ولم يُروَ، كما أنَّه لم يرو في كثير من الحديث ما الذي جُعِل سلباً، وما الذي لم يُجعل سلباً، ولم يرو أنَّه جعله للقاتل مع تقدم قوله عند اللقاء من قتل قتيلاً فله /94/ سلبه، أو كان ذلك بغير تقدم هذا القول منه صلى الله عليه وآله وسلم، فلما جاز ترك رواية سائر ما ذكرنا، لم يمتنع أن يكون تُرِك رواية أُخِذ الخمس، وإن كان قد أخذ، ويحتمل ـ أيضاً ـ أن يكون ـ صلى الله عليه وآله وسلم ـ ترك الخمس على القاتل على سبيل التنفيل، فلا يدل ذلك على أنَّه غير واجب. (34/3)
وأما قول عوف بن مالك لخالد بن الوليد: ألم تعلم أن رسول اللّه صلى الله عليه وآله وسلم لم يخمس(2) السلب، فقال(3): نعم، فهو ـ أيضاً ـ لا يدل على أنَّه لا يجب الخمس؛ لأنه لا يمتنع أن يكون صلى الله عليه وآله وسلم ترك ذلك على سبيل التنفيل، فإذا احتمل ما ذكرناه، دلت الآية والخبر الذي اعتمدناه على أن السلب يخمس كسائر الغنائم.
وروى الطحاوي بإسناده عن الزهري، عن القاسم بن محمد، عن ابن عباس، قال: كنت جالساً عنده، فأقبل رجل من أهل العراق، فسأله(4) عن السلب، فقال: ((السلب من النفل، وفي النفل الخمس)) (5)، فدل ذلك على أنَّه أوجب الخمس فيه، ولم يُروَ عن أحد من الصحابة خلافه.
__________
(1) ـ في (أ): محتمل.
(2) ـ في (أ): لم يخمس ترك السلب.
(3) ـ في (ب): قال.
(4) ـ في (أ): سأله.
(5) ـ أخرجه الطحاوي في شرح معاني الآثار 3/230، ومنه حدثنا يونس وربيع المؤذن، قالا: قال: حدثنا بشر بن بكر: حدثني الأوزاعي.
فإن قيل: روي أن البراء بن مالك لما قتل المرزُبان بلغ سلبه ثلاثين ألف درهم، فقال عمر: ((إنا كنا حين نسلب لا نخمس الأسلاب، وأن سلب البراء قد بلغ مالاً، ولا أرانا إلاَّ خامسيه))، فقُوم ثلاثين آلاف درهم، ودفع إلى عمر ستة آلف، فدل قوله: إنا كنا لا نخمس الأسلاب، على أنَّه رأى أن أخذ الخمس منها غير واجب. (34/4)
قيل له: هذا لا يدل على ما ذكرت؛ لأن عندنا أن للإمام أن ينفل، فيجوز أن يكون ترك الخمس منها على سبيل التنفيل، وَأَخْذه الخمس من سلب المرزبان دال على وجوب أخذه؛ لأنَّه لو لم يجب أخذه، وكان القاتل قد استحقه، لم يجز أخذه، فالأخذ يدل على أنَّه رآه واجباً لولاه لم يكن يجوز أخذه، وتركه لا يدل على أنه لم يكن واجباً، إذ جائز أن يكون تركه على سبيل التنفيل، فإذا ثبت ذلك، ولم يرو أن أحداً أنكره، جرى مجرى الإجماع بين الصحابة، والقياس يدل على أن في السلب الخمس، وذلك أنَّه مقيس على سائر الغنائم، والمعنى أنَّه مال استحقه المسلم على العدو بالغلبة، فكل مال هذه سبيله يجب أن يخمس.
فإن قيل: سبيل السلب سبيل ما يأخذه الإنسان على عمله كالأجرة وما جرى مجراها، فلا يجب أن يخمس.
قيل له: إنَّه وإن شَابَهَ العوض على العمل، فليس هو بأجرة صحيحة، وسبيله سبيل الغنائم؛ لأن سائر الغنائم ـ أيضاً ـ تصير للغانمين على سبيل العوض على أعمالهم، ألا ترى أن من لم يحضر الوقعة، لا يضرب له في الغنيمة بسهم، ومع ذلك يجب فيه(1) الخمس، فكذلك يجب أن يكون حكم السلب.
مسألة [في إخراج الخمس من الأموال التي تجنى من أرض الخراج أو الأرض التي أخذت صلَّى]]
__________
(1) ـ في هامش (ب) في بعض النسخ ما لفظه: ((ومع ذلك يجب له حقه من الخمس)) معناه أن القاتل يجب له السلب دونهم وهم أسوة في خمسه وخمس غيره، أعني من يستحق الخمس ممن لم يحضر الوقعة. تمت
وكذلك في هامش (أ) إلا أنه قال في الخمس: وخمس غيره.
قال: ويجب الخمس في الأموال التي تجبى من الخراج، أو جبايات الأرض التي أخذت صلحاً. (34/5)
وهذا منصوص عليه في (الأحكام) (1).
ووجهه: أنَّه مال استُحق في الأصل بالإسلام على أهل الكفر فشابه الغنيمة.
فإن قيل: فالخراج قد يؤخذ من المسلم إذا ملك أرض الخراج.
قيل له: علتنا هذه عمت ما سألت عنه؛ لأنا قلنا: إنَّه مال استحق في الأصل بالإسلام، وهكذا سبيل الخراج الذي يؤخذ من المسلم؛ لأنَّه كان في الأصل مستحقاً على أهل الكفر لرقبة /95/ الأرض التي جعلت لهم بعد استحقاق المسلمين لها، ولا يجب أن يتغير حكم الخراج عما كان عليه في الأصل في باب الخمس، وإن كان مأخوذاً من المسلم، ألا ترى أن حكمه في المصرف لا يتغير عما كان عليه في الأصل؟ وإن كان مأخوذاً من المسلَّم فكذلك في باب الخمس.
مسألة [في حكم ما يخرج من البحر والمعادن]
قال: ويجب الخمس في كل ما يخرج من البحر من الدر، والياقوت، واللؤلؤ، وفي كل ما يخرج من المعادن نحو الفيروزج، والذهب، والفضة، والكحل، والمغرة، والزئبق، والشب، والزرنيخ، والفصوص، والزمرد.
وجيمع ذلك منصوص عليه في (المنتخب) (2).
ونص في (الأحكام) (3) على إيجاب الخمس في الدر واللؤلؤ، وما يخرج من معادن الذهب والفضة.
والأصل في ذلك الحديث المشهور، عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم أنَّه قال: ((في الرِّكَاز الخمس))، وقد ثبت أن الركاز اسم للمعدن، كما أنه اسم للمال المدفون.
يدل على ذلك ما:
__________
(1) ـ انظر الأحكام 2/501 وهو بلفظ قريب.
(2) ـ انظر المنتخب 82 ـ 83 لكنه لم يذكر الفيروزج.
(3) ـ انظر الأحكام 1/189 ـ 190 وكذلك ص 177.
أخبرنا به أبو العباس الحسني(1)، قال: أخبرنا أبو أحمد الأنماطي، قال: حدثنا صالح بن محمد الرازي، قال: حدثنا سهل بن نصر، قال: حدثنا حيان بن علي بن عبد الله بن سعيد، عن أبيه، عن أبي هريرة، قال: قال رسول اللّه صلى الله عليه وآله وسلم، ((الركاز الذي ينبت مع الأرض)). (34/6)
وروى عبد اللّه بن سعيد، عن جده، عن أبي هريرة، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: ((في الركاز الخمس )). قالوا: يا رسول الله، وما الرِّكَاز؟ قال: ((الذهب والفضة الذي خلقه اللّه في الأرض يوم خلقه)).
وروي عن عمرو بن شعيب، عن أبيه، عن جده، أن رجلاً سأل رسول اللّه صلى الله عليه وآله وسلم عما يوجد في الخراب العادي، فقال صلى الله عليه وآله وسلم: ((فيه وفي الركاز الخمس)).
فدل ذلك على أن الركاز اسم للمعدن؛ لأنَّه صلى الله عليه وآله وسلم فصل بينه وبين ما يوجد في الخراب العادي وهو المدفون بالواو.
ويدل على ذلك ما حَكي عن العرب أنهم يقولون: ركز المعدن، إذا كثر فيه المطلوب.
ويدل ـ أيضاً ـ على أن الرِّكاز اسم لما خفي في الأرض، وغُيِّب فيها قولهم(2): ركز فلان رمحه، إذا ركزه في الأرض.
ومنه الرِّكْز، وهو الصوت الخفي، فإذا ثبت ذلك، ثبت أن اسم الركاز ينطلق على الذهب والفضة المخلوقَين في الأرض، فيجب فيه الخمس بدلالة قوله: ((وفي الرِّكاز الخمس)) على أن الركاز يسمى به الكنز؛ لأنَّه غُيِّب في الأرض، وكذلك ما في المعادن، ولا فرق بينهما إلاَّ أن الكنز غيبه الآدميون، وما في المعدن غيبه الله، وأسماء الأفعال لا تتغير بالفاعلين.
وقد روي إيجاب الخمس في المعادن، عن أمير المؤمنين عليه السلام، وعن عمر.
__________
(1) ـ في (أ): رحمه الله تعالى.
(2) ـ في (أ): وقولهم.
أخبرنا أبو العباس الحسني، قال: أخبرنا أبو أحمد الأنماطي، قال: حدثنا علي بن عبد العزيز البغوي، قال: حدثنا أبو عبيد القاسم بن سلام، قال: حدثنا حجاج، عن حماد بن سلمة، قال: حدثنا سماك بن حرب، عن الحارث، عن أبي الحارث الأزدي، أن أباه كان اشترى معدناً استخرجه رجل بمائة شاة متْبَع، فقال علي عليه السلام للبائع: ما أرى الخمس إلاَّ عليك، فخمَّسَ المائة الشاة. فهو قياس [على] (1) المدفون؛ بعلة أنَّه مال مستخرج من الأرض لا مالك له حين الاستخراج، فوجب فيه الخمس، فإذا ثبت بما بيناه أن الخمس واجب فيما يستخرج من المعادن من الذهب والفضة، وجب /96/ في سائر ما ذكرناه قياساً عليه، والمعنى أنه مستخرج من الأرض بتَموُّل غالباً، لا مالك له حين الاستخراج، ونحترز بقولنا بتمول غالباً من المال والطين المبتذل والأحجار المبتذلة. (34/7)
فإن قيل: ما تنكرون على من قال لكم، إن العلة في الذهب والفضة المستخرَجين من المعدن هي الانطباع، فيجب على هذه العلة في الحديد والرصاص وما يجري مجراهما، على ما ذهب إليه أبو حنيفة وأصحابه؟.
قيل له: علتنا أولى من علتكم؛ لأنها تشتمل على علتكم، وتفيد فائدتها، وتزيد فوائد أخر، على أنها لو لم تفد إلاَّ فائدة علتكم، لكُنا نقول بالعلتين، إذ لا تنافي بين موجَبيهما، على أن التعليل بكونه مما يُتمول أولى من التعليل بكونه مما ينطبع؛ لأنا وجدنا الحقوق تتعلق بالتمول، ولها تأثير في تعلق الحقوق به، والانطباع لا تتعلق الحقوق به، ولا تأثير له في ذلك، فما له تأثير في تعليق الحقوق به أولى بالتعليل مما لا تأثير له فيه، وهذا كما نقول: إن التعليل لتحريم التفاضل بالكيل(2) أولى منه بالأكل؛ لأن الكيل له تأثير في التحليل والتحريم، ولا تأثير للأكل فيه.
فإن قيل: فنحن نقيسه على الماء والحجر؛ بعلة أنَّه لا ينطبع.
__________
(1) ـ سقط من (أ) و (ب): ونبه في الهامش أنها نسخة.
(2) ـ في (أ): منذ أولى؛ لأن الكيل.. الخ.
قيل له: ما ذكرناه أخيراً من التأثير لترجيح علتنا يرجحها على هذه العلة كما يرجحها على الأولى، على أن الماء والحجر مما يشهد لعلتنا، ألا ترى أنهما لما لم يتمولا غالباً لم يجب فيهما الخمس. (34/8)
فإن قيل: روي عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم أنَّه قال: ((ليس في الحجر زكاة )).
قيل له: كذلك نقول، وما أوجبناه فيما تقدم ليس بزكاة، ألا ترى أنا لا نجعل مصرفها مصرف الزكوات، على أنَّه يمكن الاستدلال بقوله: ((في الركاز الخمس)) في جميع ذلك؛ لأنا قد بينا أن الركاز اسم لكل ما يغيب في الأرض سواء غيبه اللّه تعالى، أو غيبه الناس، وكل ذلك مما هو مغيب في الأرض.
فإن قيل: ما يخرج من البحر ليس بمغيب في الأرض.
قيل له: هو مغيب فيها، وإن كان الماء زاده تغييباً.
فإن قيل: ربَّما رمى(1) البحر بالدر وما أشبهه.
قيل له: لا يخرجه ذلك من أن يكون(2) مغيباً في البحر، ألا ترى أنَّه ربما سقط الجدار فظهر بعض ما كنز تحته، وذلك لا يخرجه من أن يكون مغيباً في الأرض، فلا يتغير حكمه.
فأما أبو يوسف فإنه يوافقنا في إيجاب الخمس في الدر واللؤلؤ، وكل ما يخرج من البحر من الحلية، فيكون الكلام معه أحرى؛ لأن شيئا من ذلك لا ينطبع.
[مسألة في المسك والعنبر والقير والنفط]
قال: وفي المسك الخمس، وكذلك في العنبر والقير والنفط، فأما القير والنفط والعنبر فالكلام فيها ما تقدم، ولا يفصل أحد بين المسك والقير والنفط في ذلك، فإذا ثبت ذلك في القير والنفط، ثبت في المسك(3).
مسألة [في وجوب تخميس الصيد]
قال: ويجب الخمس في كل ما يصطاد. [وهو] منصوص عليه في (المنتخب) (4).
__________
(1) ـ في هامش (أ): رمى في البحر بالدر.
(2) ـ في (أ): كونه.
(3) ـ ذكره في الأحكام 1/190.
(4) ـ انظر المنتخب وهو بالمعنى.
وإيجابه في الركاز. منصوص عليه في (الأحكام) (1) و(المنتخب) (2) جميعاً، وقد تقدم الكلام فيه، وفي ذكر ما روي فيه، والمسألة وفاق. (34/9)
فأما إيجاب الخمس فيما يصطاد في [البر، و](3) البحر والنهر، فوجهه أنَّه لم يفرق أحد بينه وبين القير والنفط /97/ والمغرة، فإذا ثبت وجوب الخمس في ذلك، ثبت وجوبه فيما يصطاد في البحر.
وروي عن علي عليه السلام فيما ذكره محمد بن منصور في كتابه أنَّه وضع على أجمة الْبَرْسِ أربعة آلاف كل سنة، وقد علمنا أنَّه لا شيء في الأجام يؤخذ عنه شيء إلاَّ السمك، فإذا ثبت أن السمك مأخوذ [منه](4)، فما قال أحد فيه إلاَّ بالخمس.
فإن قيل: لو كان ذلك مأخوذاً على سبيل الخمس لم يجز أن يقع عليه مقاطعة مقدرة.
قيل له: لا يمتنع ذلك إذا رآه الإمام صلاحاً، وعلم أن قدر المستحق من الخمس نحو من ذلك، وهو قياس على الدر، واللؤلؤ، والعنبر، والمعنى أنَّه يستخرج من البحر بتمول غالباً.
وإذا ثبت وجوب الخمس في صيد البحر، ثبت وجوبه في صيد البر؛ إذ لا أحد يفصل بينهما في ذلك.
مسألة [هل يخرج الخمس من العين أو القيمة؟]
قال: وكل ما وجب فيه الخمس أخرج منه، لا من قيمته، إلاَّ أن يكون شيئاً لا يمكن القسمة فيه، أو كانت القسمة تضره.
قال: ولو أن رجلاً أنفق مالاً في استخراج بعض ما يجب فيه الخمس، لزم في جميع ما يخرج، ولا يُنظر إلى ما أنفق(5).
ولو أن رجلاً وجد شيئاً مما يجب في الخمس، فباعه قبل أن يخرج الخمس، وجب على المشتري إخراج خمسه، ويرجع على البائع.
ولا يتكرر وجوب الخمس في شيء من الأموال.
__________
(1) ـ انظر الأحكام 1/191، وهو بلفظ قريب وجعل الركاز كنوز الجاهلية.
(2) ـ انظر المنتخب 80 وهو بالمعنى.
(3) ـ سقط من (ب).
(4) ـ سقط من (أ) و (ب)، ونبه في الهامش على أنها نسخة.
(5) ـ في (أ): يتفق.
نص في (المنتخب) (1) على أن من اشترى سمكاً من الصياد مع علمه أن الصياد لم يخرج خمسه، لزمه إخراج خمسه، فدل ذلك على أن الحق تعلق بعين ما اصطيد، ووجه ذلك قول اللّه تعالى: {وَاعْلَمُوا أَنَّمَا غَنِمْتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَأَنَّ للهِ خُمُسَهُ وَلِلرَّسُولِ}، وقوله صلى الله عليه وآله وسلم: ((في الرِّكاز الخمس)) فدل ذلك على أن الخمس مستحق من جملة المال الذي وجب فيه الخمس، فلما دلت الدلالة التي تقدم ذكرها أن سبيل هذه الأشياء التي وجب فيها الخمس سبيل الغنائم والركاز في ذلك، قلنا إن الخمس يجب في عينه، وهو قياس من كان له مال، ومعه شريك في جزء منه، أن الواجب تسليم ذلك الجزء من(2) عين ذلك المال إلى شريكه، والمعنى أن ذلك الجزء حق لصاحبه، فكذلك الخمس؛ لأنَّه جزء مستحق لأهله. (34/10)
ويمكن أن يقاس على الزكوات بهذه العلة؛ إذا الزكوات لا تؤخذ فيها القيم على ما بينا.
ونص في (المنتخب) (3) على أن من وجد ياقوتة، أخرج الخمس من قيمتها، فدل ذلك على جواز إخراج القيمة(4) مما لا ينقسم، أو كانت القسمة تضره، ووجهه أن مالكه أولى بإخراجه، وله أن يخرج أي جزء منه أراد، فلما كان هذا هكذا، قلنا فيما يضره القسمة، أو لا يمكن القسمة فيه: إنَّه يخرج قيمة الخمس منه، كما قلنا فيمن له فواكه لا يمكن حبس أولها على آخرها: إنَّه يخرج قيمة العشر منها.
ونص في (المنتخب) (5) ـ أيضاً ـ على أن من أنفق مالاً للاصطياد في البحر، لزمه إخراج الخمس مما يصطاد من غير مراعاة ما أنفق فيه.
__________
(1) ـ انظر المنتخب 81 ـ 82 وهو فيه بلفظ مقارب.
(2) ـ في (أ): في.
(3) ـ انظر المنتخب 83 وهو بلفظ مقارب.
(4) ـ في (أ): قيمة الخمس.
(5) ـ انظر المنتخب 81 وهو بلفظ قريب.
ووجهه قول اللّه تعالى: {وَاعْلَمُوا أَنَّمَا غَنِمْتُمْ مِنْ شِيْءٍ فَأَنَّ لِلَّهِ خُمُسَهُ} وقوله صلى الله عليه وآله وسلم: ((في الركاز الخمس)) من غير اشتراط حط ما لزم المتملِك للشيء منه من المؤمنة في تملكه، وهو مقيس على ما يؤخذ من صدقات العشور والمواشي في أنها تؤخذ من غير مراعاة المؤن والإنفاق، والمعنى أنَّه حق لله تعالى تعلق ببعض المال، فوجب إخراجه من غير مراعاة ما يلزم عليه، وليس يلزم عليه ما ورد النص به من أخذ نصف العشر مما يسقى بالدوالي؛ لأن ذلك مما ثبت /98/ بالنص، لا بمراعاتنا واجتهادنا. (34/11)
ووجه ما ذكرناه من أن المشتري إذا اشترى ما يجب فيه الخمس يخرج خمسه؛ لأنَّه اشترى ما لم يكن لبايعه أن يبيعه، وما هو حق لغير البائع، فلزمه إيصاله إلى مستحقه، كما نقول في الغصب؛ ولأن يحيى عليه السلام شبهه بالغصب.
وقلنا: إن المشتري يرجع بقدره من الثمن على البائع كما نقول في الغصب.
ونص في (الأحكام) (1) و(المنتخب)(2) على أن الخمس لا يتكرر وجوبه في شيء من الأموال.
ووجهه أن الخمس لزمه لتملكه ما وجب فيه الخمس، وهذا قياس على صدقة ما أخرجت الأرض، والمعنى أنَّه حق لله تعالى تعلق بعين المال من غير مراعاة الحول فيه، فوجب أن لا يتكرر.
باب القول في قسمة الخمس وفيمن(3) يوضع فيهم
(يقسم الخمس على ستة أجزاء، فجزء لله، وجزء لرسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) (4)، وجزء لقربى رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) (5)، وجزء لليتامى، وجزء للمساكين، وجزء لابن السبيل.
فأما السهم الذي لله فيصرفه الإمام في أمور اللّه التي تقرب إليه من إصلاح طرق المسلمين، وحفر آبارهم(6)، وبناء مساجدهم، ورمها، وما أشبه ذلك بحسب ما يؤديه اجتهاده إليه.
__________
(1) ـ انظر الأحكام 1/90 وهو بالمعنى.
(2) ـ انظر المنتخب 81.
(3) ـ في (أ): وفي الذين.
(4) ـ سقط من (ب).
(5) ـ سقط من (ب).
(6) ـ في (ب): بيارهم.
وأما السهم الذي لرسول اللّه صلى الله عليه وآله وسلم فهو لإمام المسلمين(1)، ينفق منه على عياله، وعلى خيله، وغلمانه، ويصرفه فيما ينفع المسلمين). (34/12)
جميع ذلك منصوص عليه في (الأحكام) (2).
والأصل فيه قول(3) اللّه تعالى: {وَاعْلَمُوا أَنَّمَا غَنِمْتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَأَنَّ للهِ خُمُسَهُ وَلِلرَّسُولِ..} الآية. وقوله تعالى: {مَا أَفَاءَ اللّهُ عَلَى رَسُولِهِ..} الآية.
فدلت هاتان الآيتان على أن الخمس يقسم على ستة أجزاء على ما ذهبنا إليه.
فإن قيل: ما أنكرتم على من قال لكم: إنَّه لا يجب أن يجعل منها سهماً لله تعالى؛ لأن له الدنيا والآخرة؛ ولأن المراد بقوله(4): {للهِ} هو افتتاح الكلام، لا أنَّه يجب أن يُجْعَل له سهم؟.
__________
(1) ـ في (أ): الحق.
(2) ـ انظر الأحكام 2/485 ـ 487.
(3) ـ في (أ): قوله تعالى.
(4) ـ في (أ): بقول.
قيل له: إن اللّه له الدنيا والآخرة، وما فيهما، وهذا مما لا يرتاب فيه مسلم، ولسنا نقول: إن لهذا السهم اختصاصاً بكونه له ملكاً ليس لغيره مما هو في الدنيا والآخرة، إلاَّ أنا نقول: إن الكلام لا يجب أن يعرى من فائدة، ألا ترى أن الله تعالى لما ذكر أصناف أهل الصدقات، قال: {وَفِيْ سِبَيْلِ اللهِ}، ومن المعلوم أن صرف الصدقات إلى الأصناف السبعة صرف لها في سبيل الله تعالى، إلا أن الكل من العلماء جعلوا لهذا السهم ـ وهو السهم الذي قال الله تعالى: {وَفِيْ سِبَيْلِ اللهِ} ـ وجهاً ومزية، ولم يجعلوه وصلاً للكلام، ولم يُخلوه من فائدة، فوجب أن يكون ذلك لحكم السهم الذي نسبه اللّه تعالى إلى نفسه من جملة سهام الخمس؛ لأنا لو قلنا غير ذلك كنا قد أخرجنا قوله: {فَأَنَّ للهِ خُمُسَهُ} من أن يكون له فائدة في الحكم، كما أنا لو لم نجعل لسهم السبيل من سهام الصدقات حكماً يختص به، كنا قد أخرجنا قوله: {وَفِيْ سَبِيْلِ اللهِ} من أن يكون له فائدة في الحكم، وأقوال اللّه تعالى ما أمكن حملها على الفوائد المحدودة في الأحكام، لا يجوز حملها على التكرير، أو على ما في العقول، وإذا ثبت أن هذا السهم /99/ يجب أن يكون له حكم يختصه بما بيناه، فأولى مصارفه وجوه القُرب مما ذكرناها وغيرها مما يراه الإمام صلاحاً. (34/13)
وقلنا: إن سهم النبي صلى الله عليه وآله وسلم يقوم الإمام فيه مقامه؛ لأنَّه ينوب منابه في النهوض بأعباء الدين، وتحمل المؤن في مصالح المسلمين، فيجب أن يكون سهم النبي صلى الله عليه وآله وسلم مصروفاً إليه؛ للعلة التي قلناها، على أن هذا السهم لا يخلو من أن يكون قد أُسقط، أو جعل للمسلمين، أو للإمام خاصة، وكونه للإمام خاصاً أولى؛ لأنَّه واحد من المسلمين، وله مزية قيامه مقام النبي صلى الله عليه وآله وسلم ونيابته منابه، وهذا كما ثبت في الميراث أن سبيل ما يؤخذ منه ـ ولا وارث للميت ـ أن يكون للمسلمين، فإذا وجد أحد من ذوي الأرحام، قلنا: إنَّه أولى به؛ لأنَّه شارك المسلمين في الإسلام، وحصلت له مزية القربى، فكذلك الإمام في سهم الرسول صلى الله عليه وآله وسلم. (34/14)
فإن قيل: لم يرو عن علي عليه السلام، ولا غيره من الأئمة عليهم السلام أن واحداً منهم أخذ سهم النبي صلى الله عليه وآله وسلم، واستبد به لنفسه، فدل ذلك على فساد ما قلتم.
قيل له: يحتمل أن يكونوا تبرعوا به وصرفوه إلى مصالح المسلمين، وإلى سائر أهل السهام، وهذا لا يدل على أنهم لم(1) يستحقوه.
__________
(1) ـ في (أ): لا.
وقيل له: فإن للإنسان أن يصرف ما يستحقه إلى المسلمين، وإلى مصالحهم، ويحتمل أن يكونوا، أو بعضهم أخذه، ولم ينقل؛ لأنَّه ليس ينقل تفاصيل ما يجري في مثل هذا ، ألا ترى أنَّه لم ينقل ما فعلوه في سهم اليتامى، والمساكين، وابن السبيل، وإذا كان هذا هكذا، لم يدل ما ذكرتموه على ما ادعيتموه، كيف وقد روي أن فاطمة عليها السلام بعثت إلى أبي بكر، فقالت: مالك يا خليفة رسول اللّه ـ صلى الله عليه وآله وسلم ـ أنت ورثت رسول اللّه، أم أهله؟ قال: بل أهله. قالت: فما بال سهم رسول اللّه صلى الله عليه وآله وسلم؟ قال: إني سمعت رسول اللّه صلى الله عليه وآله وسلم يقول: ((إن اللّه سبحانه إذا أطعم نبيه طعمة، ثم قبضه، جعلها للذي يقوم مقامه، فرأيت أن أرده على المسلمين)). فقالت عليها السلام: ((أنت وما سمعت عن رسول اللّه صلى الله عليه وآله وسلم أعلم)). (34/15)
وليس لأحد أن يدعي في ذلك خلاف الإجماع، فقد حكى الطحاوي في شرح(1) الآثار أن قوماً قالوا: إن سهم رسول اللّه صلى الله عليه وآله وسلم للخليفة.
وروي عن الحسن بن محمد بن علي أنَّه حكاه عن قوم.
مسألة [في سهم ذوي القربى]
قال: وأما سهم قربى رسول اللّه صلى الله عليه وآله وسلم فإنه يوضع فيهم، وهم أربعة بطون: آل علي، وآل جعفر، وآل عقيل، وآل العباس.
وهذا منصوص عليه في (الأحكام) (2).
والحجة لذلك قول اللّه تعالى: {وَاعْلَمُوا أَنَّمَا غَنِمْتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَأَنَّ للهِ خُمُسَهُ وَلِلْرَّسُوْلِ..} الآية، فجعل سبحانه لهم سهماً مسمى في الآيتين، فلا يجوز صرفها عنهم، كما لا يجوز صرف باقي السهام عن أهلها.
__________
(1) ـ أخرجه الطحاوي في شرح معاني الآثار 3/277.
(2) ـ انظر الأحكام 2/487.
فإن قيل: إن اللّه تعالى قال: {لِذِي الْقُرْبَى} ولم ينسب القربى إلى أحد، واحتمل أن يكون المراد به قربى الرسول صلى الله عليه وآله وسلم، واحتمل أن يكون المراد به قربى الإمام، واحتمل أن يكون قربى الغانمين، فلا متعلق لكم بظاهره. (34/16)
قيل له: هذا الكلام(1) فاسد؛ لأن المسلمين أجمعوا على أن المراد به قربى رسول اللّه صلى الله /100/ عليه وآله وسلم، ولم يختلفوا فيه، وإنما اختلفوا في سهمهم بعد النبي صلى الله عليه وآله وسلم، فادعى قوم أنَّه بطل بموت رسول اللّه صلى الله عليه وآله وسلم، وقال قوم: هو باقٍ كما كان، واختلفوا في الوجه الذي أخذوا به، فقال قوم: أخذوه بالفقر، وقال قوم: بل استحقوه، وأخذوه مع الغنى والفقر، يكشف ذلك ما:
أخبرنا به أبو بكر المقرئ، قال: حدثنا الطحاوي، قال: حدثنا محمد بن يحيى بن مطر، قال: حدثنا يزيد بن هارون، قال: حدثنا محمد بن إسحاق، عن الزهري، عن ابن المسيب، عن جبير بن مطعم، قال: لما قسم رسول اللّه صلى الله عليه وآله وسلم سهم ذوي القربى أعطى بني هاشم وبني المطلب، ولم يعط بني أمية شيئاً، فأتيت أنا وعثمان النبي صلى الله عليه وآله وسلم، فقلنا(2): يا رسول اللّه، هؤلاء بنو هاشم فضلهم اللّه بك، فما بالنا وبني المطلب، وإنما نحن وهم في النسب شيء واحد، فقال: ((إن بني المطلب لم يفارقوني في جاهلية ولا إسلام))(3).
__________
(1) ـ في (أ): كلام فاسد.
(2) ـ في (أ): وقلنا.
(3) ـ أخرجه الطحاوي في شرح معاني الآثار 3/235 وفيه: حدثنا محمد بن بحر بن مطر، وعلي بن شيبة البغداديان، قالا به، وفي متنه لم يعط بني أمية شيئاً وبني نوفل.
ألا ترى أنهما قالا: نحن، وهم ـ يعنيان بني المطلب ـ في النسب شيء واحد؛ إذ علمِا أن هذا السهم مستحق بالنسب؛ إذ لو كان استحقاقه بغير النسب، لكان كلامهما باطلاً، ثم قول النبي صلى الله عليه وآله وسلم: ((إنهم لم يفارقوني في جاهلية ولا إسلام)) تقرير لهما على ما علم من كون هذا السهم مستحقاً بالنسب؛ لأنَّه لو لم يكن كذلك، لأنكر عليهما، ولعرَّفهما أن النسب لا مدخل له في هذا الباب، فلما لم ينكر ذلك عليهما، وعرفهما أنَّه خص بني المطلب للوجه الذي ذكره، صح أن ما علمناه من كونه مستحقاً بالنسب، كان ما علماه(1)، ولم يذكر صلى الله عليه وآله وسلم أنَّه مستحق بالفقر، فبان أن الغني فيه كالفقير، على ما اقتضاه ظاهر قوله تعالى: {وَلِذِيْ الْقُرْبَى} من غير تخصيص غني من فقير. (34/17)
ويدل على ذلك ما:
__________
(1) ـ في (أ): ما علمناه.
أخبرنا به أبو الحسين بن إسماعيل، قال: حدثنا الناصر عليه السلام، عن محمد بن منصور، عن محمد بن عمر بن وليد الكندي، قال: حدثنا يحيى بن آدم، قال: حدثنا الحكم بن ظهير، عن بشير بن عاصم، عن عثمان بن أبي اليقظان، عن عبد الرحمن بن أبي ليلى، قال: سألت علياً عليه السلام، فقلت: يا أمير المؤمنين، أخبرنا كيف كان صُنْع أبي بكر وعمر في الخمس؟ فقال: (أما أبو بكر، فلم يكن في ولايته أخماس، وأما عمر، فلم يزل يدفعه إليّ في كل مخموس، حتى كان خمس سوس وجندي سابور، فقال وأنا عنده: هذا نصيبكم أهل البيت من الخمس، وقد أحل ببعض المسلمين، واشتدت حاجتهم إليه، أفتطيب أنفسكم عنه؟ قال: فقلت: نعم، قال: فوثب العباس، وقال: لا أنعمن بالذي لنا. قال: فقلت: ألسنا أحق مَنْ رَفَّق بالمؤمنين، وشَفْع أمير المؤمنين؟ قال: فقبضه اللّه وما قضاناه(1)، ولا قدرت عليه في ولاية عثمان، ثم أنشأ علي عليه السلام يحدث. فقال: (إن اللّه حرم الصدقة على رسول اللّه صلى الله عليه وآله وسلم فعوضه اللّه سهماً من الخمس، عوضاً عما حرم عليه، وحرمها على أهل بيته خاصة، فضرب لهم مع رسول اللّه صلى الله عليه وآله وسلم سهماً عوضاً مما حرم عليهم). (34/18)
وأخبرنا أبو الحسين بن إسماعيل، عن الناصر عليه السلام، قال: حدثنا محمد بن منصور، عن محمد بن عمر، عن يحيى بن آدم، عن علي بن هاشم، عن أبيه، عن حسن بن ميمون، عن عبد اللّه بن عبد اللّه مولى بني هاشم، عن عبد الرحمن بن أبي ليلى، عن علي عليه السلام، قال: ولاني عمر حقنا من الخمس فقسمته حتى كان آخر سنِّي عمر، فأتاه مال كثير، فقال: يا علي، هذا حقك، أو حقكم، قد عزلناه لكم، فخذه، واقسمه حيث تقسمه، قال: فقلت: إن بنا عنه غنى، وبالمسلمين حاجة، فأردده عليهم، قال: فقال العباس: لقد نزعت عنا اليوم شيئاً لا يرجع إلينا، قال: فقال علي ما دعاني إليه أحد حتى قمت مقامي هذا.
__________
(1) ـ في الهامش كذا في نسخة ((فقبضه والله وما قبضناه)).
وأخبرنا أبو بكر المقرئ، قال: حدثنا /101/ الطحاوي، قال: حدثنا ابن أبي داود، قال: حدثنا عبد اللّه بن محمد بن أسماء، قال: حدثني جويرية بن أسماء، عن مالك، عن ابن شهاب، أن يزيد بن هرمز حدثه أن نجدة صاحب اليمامة، كتب إلى ابن عباس يسأله عن سهم ذوي القربى، فكتب ابن العباس أنَّه لنا، وقد كان عمر دعانا إلى رأيه في تسليم بعضه لننكح(1) به ايمنا، ونقضي به غراماتنا، فأبينا إلاَّ أن يسلم كله لنا ورأينا أنَّه لنا(2). (34/19)
وروي عن عبد الرحمن بن أبي ليلى، قال: سمعت علياً عليه السلام، يقول ـ في حديث طويل ـ قلت: يا رسول اللّه ، إن رأيت أن تولينا حقنا من الخمس في كتاب الله، فاقسمه [في] (3) حياتك حتى لا ينازعنيه أحد بعدك، فافعل، ففعل ذلك، فولانيه رسول اللّه صلى الله عليه وآله وسلم، فقسمته حياته.
__________
(1) ـ في (أ): لينكح.
(2) ـ أخرجه الطحاوي في شرح معاني الآثار 3/235، وفيه حدثني جويرية بن أسماء وفي متنه: ((إنه لنا، وقد كان دعانا عمر بن الخطاب لينكح منه أيمنا ويقضي عنه من غارمنا فأبينا إلا أن يسمه لنا كله.. الخ.
(3) ـ سقط من (أ) و (ب).
فهذه الأخبار كلها دالة على ما نذهب إليه في سهم ذوي القربى، ألا ترى إلى قول عمر في الحديث الأول: هذا نصيبكم أهل البيت من الخمس، فجعله نصيباً لهم، ولم يشترط الفقر، فدل على ما نقول(1) من أن ذلك السهم لهم، وأنه لا معتبر فيه بالفقر، ولا بالغنى، ثم قول العباس لعمر: ((لا أنعمن في الذي لنا))، وقوله: ((لقد نزعت منا اليوم شيئاً لا يرجع إلينا))، فكان قوله في ذلك كقول عمر في أن ذلك نصيب لهم من غير اشتراط الفقر، وقوله لعمر حين قال تصديقاً له فيما قال: من كون ذلك نصيباً لأهل البيت عليهم السلام، وقول علي للعباس ألسنا أحق مَنْ رَفَّق بالمؤمنين(2)، وشفع أمير المؤمنين يدل على ذلك، وأن عمر صرف ما صرف عنهم بعد ما شفع إليهم، ووقعت منهم الإجابة، وقوله عليه السلام: ((ولاني عمر حقنا من الخمس))، دل على أنَّه حقهم، وكذلك قول عمر: ((هذا حقكم قد عزلناه)). (34/20)
يؤكد ذلك قول علي عليه السلام: ((إن اللّه حرم الصدقة على أهل بيته، فضرب لهم مع رسول اللّه صلى الله عليه وآله وسلم سهماً من الخمس عوضاً عما حرم عليهم)) [و] يدل على ذلك، وعلى أنَّه مبقي لهم ما بقي تحريم الصدقة، وهو باق إلى التناد؛ لأنَّه عليه السلام أخبر أنَّه جعله عوضاً منه، وكذلك قول ابن عباس حين سأله نجدة عن ذلك، إنَّه لنا مثل قولهم في جميع ما ذكرناه.
فلما أجمع عليه هؤلاء الأعيان من الصحابة، ولم يحفظ فيه خلافه من غيرهم صار ذلك إجماعاً لا يسمع خلافه.
__________
(1) ـ في (أ): يقول.
(2) ـ في (أ): المؤمنين.
ثم يحقق ذلك قول علي عليه السلام، قلت: يا رسول الله، إن رأيت أن توليني حقنا من الخمس، فأقسمه في حياتك حتى لا ينازعنيه أحد بعد وفاتك، فافعل، ففعل ذلك، ألا ترى أن علياً عليه السلام ادعى بحضرة النبي صلى الله عليه وآله وسلم أنه حقهم من الخمس، وأنه يريد أن لا يُنَازَع فيه بعد موته، فقرره النبي صلى الله عليه وآله وسلم على ذلك فجرى مجرى أن يقول هو حقكم، ولا يجب أن تُنَازَعوا فيه بعدي. (34/21)
فإن قيل: فابن عباس يذكر أن عمر دعانا إلى رأيه في ذلك، لتنكح(1) به أيمنا، وتقضى به غراماتنا، فأبينا، فدل ذلك على أن رأي عمر فيه كان خلاف رأيهم.
قيل له: إنَّه رأى أن يتصرف عليهم فيه، ولم يذكر أنَّه رأى أن الحق لغيرهم، فما ادعيناه من الإجماع حاصل، والخلاف في أنَّه كان(2) له أن يتصرف عليهم بالولاية، أم لا.
فإن قيل: روي أن عمر، قال: إن لكم حقاً، فلا يبلغ، علمي أقليل لكم، أم كثير؟ فإن شئتم أعطيتكم منه بقدر ما أرى، فأبينا عليه إلاَّ كله، فأبى أن يعطيناه كله، ففي هذا أن رأيه كان مخالفاً لرأيهم.
قيل له: هذا يدل على أنَّه وافقهم على أن حقهم ثابت، /102/ وأن الخلاف كان في المقدار، وفي هذا ما يدل على إطباقهم على ثبوت حق ذوي القربى.
فإن قيل: روي أن فاطمة أتت النبي صلى الله عليه وآله وسلم تشكو أثر الرحى في يدها، وبلغها أنَّه أتاه سبي، فسألته خادماً، فلم يجبها إلى ذلك، وقال: ((ألا أُعَلِّمك شيئاً خيراً لك من ذلك، تكبرين اللّه سبحانه، كذا وكذا، وتهللينه كذا وكذا))، فدل ذلك على أنها لم يكن لها فيه حق مستحق.
قيل له: هذا لا يدل على ما ذكرت؛ لأنَّه لا يمتنع أن يكون النبي صلى الله عليه وآله وسلم استطاب نفسها لما كان بالمسلمين من الخلة، كما روي في بعض الأخبار ((لا أدع أهل الصفة تطوى بطونهم، ولا أجد ما أنفق عليهم)).
__________
(1) ـ في (أ): لينكح.
(2) ـ في نسخة: لو كان.
ويحتمل ـ أيضاً ـ أن يكون نصيبها من الخمس لم يبلغ أن يكون خادماً. (34/22)
وإذا كان الحال على ما ذكرنا، لم يدل ذلك على أنها لم تكن تستحق من الخمس شيئاً.
فإن قيل: روي عن محمد بن إسحاق، قال: سألت أبا جعفر، فقلت: أرأيت أمير المؤمنين علياً عليه السلام حيث ولي العراق كيف صنع بسهم ذوي القربى؟ قال: سلك به والله سبيل أبي بكر وعمر. قلت: كيف وأنتم تقولون ما تقولون؟ قال: أي والله ما كان أهله يصدرون إلا عن رأيه، وفي هذا أن علياً لم يعطهم سهم ذوي القربى، ولا يكون ذلك إلاَّ لأنَّه لم يره واجباً.
قيل له: قولك: سلك به سبيل أبي بكر وعمر، لا يدل على ما ذكرت؛ لأن المروي أن أبا بكر لم يبخسهم حقهم من الخمس، وروي عن علي عليه السلام فيما تقدم (من الأخبار) (1) فكان أبو بكر يعطيني حقنا من الخمس، فكنت أقسمه، وقد قيل: إن الأخماس لم تكن في زمان أبي بكر، ويجب أن يحمل ذلك على أنها كانت قليلة؛ لئلا يتناقض الخبران.
فأما عمر فلم يزل ـ أيضاً ـ يعطيهم نصيبهم من الخمس إلى آخر أيامه، ثم استطاب نفوسهم للخلة التي وجدها في المسلمين، فعلي ـ عليه السلام ـ إذا سلك سبيلهما، يجب أن يكون أعطى ذوي القربى سهمهم في بعض الأوقات، ويجب أن يكون استطاب نفوسهم بصرفه إلى المسلمين لما عرف من خلتهم في بعض الأوقات.
يدل على ذلك قول أبي جعفر: إن أهله لم يكونوا يصدرون إلاَّ عن رأيه، فنبه أن فعله لضرب من الصلاح كان عن رأي أهله ورضاهم، وهذا يدل على صحة مذهبنا دون مذهب المخالفين في هذا الباب.
فإن قيل: روي عن الحسن بن محمد بن علي عليهم السلام، أنَّه قال في سهم النبي صلى الله عليه وآله وسلم وسهم ذوي القربى: أجمع رأيهم أن جعلوا هذين السهمين في الخيل والعدة في سبيل الله، وذلك في إمارة أبي بكر وعمر.
__________
(1) ـ سقط من (ب).
قيل له: يحتمل أن يكونوا فعلوا ذلك؛ لأنهم رأوه صلاحاً، أو بعد استطابة نفوس المستحقين لهما؛ ليكون موافقاً لسائر ما قدمناه، وهذا ما لا نأباه، على أنَّه لا بد من أن يُحمل على أن المراد بقوله: أجمع رأيهم على أن جعلوهما في الخيل والعدة في بعض الأوقات، لما روي أن أبا بكر وعمر كانا يعطيان أمير المؤمنين عليه السلام سهم ذوي القربى ليقسمه، إلى أن قال: عرضت للمسلمين خلة، على ما تقدم ذكره في الأخبار، وإذا كان الأمر على ما ذكرنا، لم يكن للمخالف دليل فيما روي عن الحسن بن محمد بن علي عليهم السلام. (34/23)
فإن قيل: ما روي أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم أعطى سهم ذوي القربى بني المطلب مع بني هاشم مع أنَّه لم يعط منه شيئاً بني عبد /103/ شمس، وبني نوفل، دليل على أنَّه صلى الله عليه وآله وسلم لم يعط ذلك للقرابة؛ لأن قرابة بني المطلب مع النبي صلى الله عليه وآله وسلم كقرابة بني عبد شمس، وبني نوفل.
قيل له: عندنا أن النبي لم يعط بني المطلب ما أعطاهم، على أنَّه حق لهم، وإنما صرف بعض السهم إليهم لما كان يجب من حق نصرتهم، ويحتمل أن يكون صلى الله عليه وآله وسلم فعل ذلك برضى بني هاشم، كما فعل عمر حين رأى احتياج المسلمين إليه، أو يكون النبي صلى الله عليه وآله وسلم رخص له في أن يفعل في ذلك برأيه، وليس في هذا دليل على أنَّه لم يعط بني هاشم للقرابة.
فإن قيل: قوله تعالى: {كَيْلا يَكُونَ دُوْلَةً بَيْنَ الأَغْنِيَاءِ مِنْكُمْ}، يدل على أن لا حظ فيه للغني.
قيل له: يحتمل أن يكون المراد به أنَّه تعالى جعل في الخمس سهماً لليتامى، وسهماً للمساكين، وسهماً لابن السبيل؛ لئلا يكون الجميع دولة بين الأغنياء.
ويحتمل أن يكون المراد به الأغنياء من ذوي القربى، ومن سائر الغانمين.
فإن قاسوه على سهم اليتامى فقالوا: إن سهم اليتامى لما ثبت أنَّه لا يعطَى إلاَّ بالفقر، فكذلك سهم ذوي القربى؛ والعلة أنَّه من سهام الخمس.
قيل له: هذا منتقض بسهم النبي صلى الله عليه وآله وسلم فإنه كان يستحقه من غير شرط الفقر، على أنا نقيس سهم ذوي القربى على سهم النبي صلى الله عليه وآله وسلم فنقول: إنَّه سهم جعل عوضاً من الصدقات، فوجب أن لا يكون الفقر شرطاً في استحقاقه كسهم النبي صلى الله عليه وآله وسلم، على أن عوض الشيء هو الذي يقوم مقامه، فإذا كان تحريم الصدقات يشمل غني بني هاشم وفقيرهم، وجب أن يكون عوضه شاملاً لغني بني هاشم وفقيرهم، على أنَّه قد روي أن العباس أعطي من سهم ذوي القربى، والعباس كان معروفاً باليسار حتى روي أنَّه كان يمون عامة بني عبد المطلب. (34/24)
فأما قول من يقول: إن سهم ذوي القربى كان ثابتاً في حياة رسول اللّه صلى الله عليه وآله وسلم ثم بطل بموته، فقول واه، وذلك أنهم أعطوا للقرابة، والقرابة باقية، فلا معنى لإبطال السهم مع بقاء المقتضي له، وهو القرابة، على أنَّه ـ لا شك ـ إنما(1) جعل شرفاً لرسول اللّه صلى الله عليه وآله وسلم، فيجب أن يكون ثابتاً بعد موته، قياساً على سائر ما تشرف به من المنع من تزوج أزواجه، وتعظيم أهل بيته، وتحريم الصدقة عليهم، والعلة أنَّه تشريف للنبي صلى الله عليه وآله وسلم لا مانع من تأبيده، على أن المسألة إجماع أهل البيت عليهم السلام، وقول أمير المؤمنين عليه السلام، وما كان كذلك فإنه عندنا حجة لا يجوز خلافه.
مسألة [في نصيب كل من الذكر والأنثى من الخمس وشرط استحقاقه]
قال: ويقسم بينهم قسماً يستوي فيه[بين] (2) الذكر والأنثى، من كان منهم، متمسكاً بالحق ونصرته، فأما من صدف عنه منهم فلا حق له فيه.
وهذا منصوص عليه في (الأحكام) (3) من (كتاب السير). وذهب الشافعي إلى أن للذكر مثل حظ الأنثيين.
__________
(1) ـ في (ب): مما.
(2) ـ زيادة في (أ).
(3) ـ انظر الأحكام 2/487 ـ 488، وهو بلفظ مقاب.
ووجه قولنا: إنَّه مال مستحق للرجال والنساء على الإطلاق؛ إذ قد ثبت أن النساء قد أُرِدْنَ بقوله تعالى: {وَلِذِيْ الْقُرْبَى} فكان سبيله سبيل مال أُقر به لرجال ونساء(1) معدودين من غير ذكر التفضيل، فالواجب أن يستوي فيه الذكر والأنثى، فوجب أن يكون كذلك سهم ذوي القربى؛ والعلة أنه جُعل حقاً لرجال ونساء من غير ذكر التفضيل، فوجب التسوية، وهو قياس سهم اليتامى، وسهم المساكين، /104/ وسهم ابن السبيل في أنَّه لا يجب تفضيل الذكر على الأنثى فيه، والمعنى أنَّه من سُهمان الخمس، وليس هذا مما يصح للمخالف أن يعلله علينا بأن يقول: هذه السُهمان لا يجب(2) التسوية فيها بين الذكر والأنثى إذا رأى الإمام ذلك صلاحاً، وذلك أن لنا مثل هذا، وهو أنَّه قد تجب التسوية في هذه السُهمان، أعني سهم اليتامى، والمساكين، وابن السبيل إذا رأى الإمام ذلك صلاحاً، فكلا الجائزين فيها على حد واحد. (34/25)
ويجوز أن يُعترضا، ويجوز أن لا يعترضا، وما ذكرناه حكم ثابت، وهو أنَّه لا يجب التفضيل فيه بالذكورة، فصح ما بيناه قياساً، واطرد، فقياسنا أولى من قياسهم سهم ذوي القربى على الإرث المستحَق بنسب الأب في إيجاب تفضيل الذكور على الإناث؛ لأنا قسنا سهم الخمس على سهم الخمس، وهم قاسوا سهم الخمس على الإرث؛ ولأنا قياسنا الأول تشهد له الأصول؛ لأن كل مال استحقه رجل وامرأة كمالٍ يكون في يد رجل وامرأة.
ويشهد لقياسنا سهام الصدقات؛ لأنَّه لا يجب في شيء منها تفضيل الذكور على الإناث، على أن قياسهم منتقض بما يوصي المريض على أقارب أبيه بصدقته؛ لأنَّه مال مستحق بنسب الأب، فلا يجب فيه تفضيل الذكر على الأنثى.
__________
(1) ـ في (أ): لنساء ولرجال.
(2) ـ في (أ): يصح.
وجعلنا الإسلام والنصرة شرطاً في استحقاق ذوي القربى لِما ثبت من أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم لم يجعل لأبي لهب وأولاده في شيء من الخمس نصيباً حين كانوا على المشاقة والكفر، فكذلك من لم يحصل فيهم الإسلام والنصرة، فيجب أن لا يكون لهم فيه حظ، ولسنا نريد بالنصرة المحاربة(1)؛ لأن النصرة لو كانت مقصورة عليها، لم يكن للنساء فيه حق، وإنما نريد(2) بالنصرة لمعاونة بما أمكن من قول، أو فعل، أو نية. (34/26)
مسألة [في سهم اليتامى والمساكين وابن السبيل]
وأما سهام اليتامى، والمساكين، وابن السبيل، فيتامى آل رسول اللّه صلى الله عليه وآله وسلم، ومساكينهم، وابن سبيلهم أولى به من غيرهم [إن وجدوا] (3)، فإن لم يوجدوا، صُرِف إلى أمثال هؤلاء الأصناف الثلاثة من أولاد المهاجرين، فإن لم يوجدوا صرف إلى أمثالهم من أولاد الأنصار، فإن لم يوجدوا، صرف إلى سائر اليتامى، والمساكين، وبني السبيل من سائر المسلمين.
وجميع ذلك منصوص عليه في السِير من (الأحكام)(4).
ذكر يحيى عليه السلام أنَّه جعل يتامى آل الرسول عليهم السلام، ومساكينهم، وابن سبيلهم(5) فيها أحق، فرأى صرف ذلك إلى من ذَكره أولى؛ لأن صرف هذه الأشياء إلى من تصرف إليه طريقه المصالح، فكان صرفه إلا من لاحظ له في الصدقات أصلح من صَرفه إلى من له فيها حظ.
وأيضاً لَمَّا خص النبي ـ صلى الله عليه وآله وسلم ـ بسهم من الخمس، وخص أهل بيته بسهم قلنا: إن يتاماهم، ومساكينهم، وابن سبيلهم، أولى بالباقي منه؛ لأن موضوعه موضوع التشريف للنبي صلى الله عليه وآله وسلم.
__________
(1) ـ في (أ): المحاربة والمعاونة.
(2) ـ في (أ): يريد.
(3) ـ ما بين المعكوفين سقط من (أ).
(4) ـ انظر الأحكام 2/488 ـ 489 وهو بلفظ مقارب.
(5) ـ في (أ): وابن السبيل فهم.
وذكر يحيى بن الحسين، عن علي بن الحسين عليهم السلام، أنَّه قال في قوله تعالى: {وَاعْلَمُوا أَنَّمَا غَنِمْتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَأَنَّ للهِ خُمُسَهُ..} الآية، هم يتامانا، ومساكيننا، وابن سبيلنا، وليس يظهر من مذهبه أن هذا على التحريم على غيرهم من اليتامى، والمساكين، وابن السبيل، والأقرب عندي أنَّه على الاستحباب، وتحري الصلاح في ذلك. (34/27)
/105/ تقديم يتامى المهاجرين، ومساكينهم، وابن السبيل منهم بعد من ذكرنا؛ لأنهم أقرب إلى الرسول صلى الله عليه وآله وسلم؛ ولأن عناءهم كان أعظم، وهم كانوا المقدمين، وموضوع الغنائم أن للعناء فيه تأثيراً، ولذلك جاز للإمام أن ينفل، وجاز له أن يجعل سلب القتيل لقاتله، ورأى بعد هؤلاء تقديم أيتام الأنصار، ومساكينهم، وابن سبيلهم؛ لأن الأنصار يلون المهاجرين في جميع ما ذكرنا.
قال يحيى بن الحسين عليهم السلام: والآية قد نبهت على ذلك حيث يقول تعالى بعد قوله: {لِئَلاّ يَكُونَ دُولَةً بَيْنَ الأَغْنِيَاءِ مِنْكُمْ} {لِلْفُقَرَاءِ الْمُهَاجِرِيْنَ الَّذِيْنَ أُخْرِجُوا مِنْ دِيَارِهِمْ وَأَمْوَالِهِمْ} ثم قال: {وَالَّذِيْنَ تَبَوَّؤُا الدَّارَ وَالإِيْمَانَ مِنْ قَبْلِهِمْ يُحِبُّونَ مَنْ هَاجَرَ إِلِيْهِ} فكان(1) قوله تعالى: {لِلْفُقَرَاءِ الْمُهَاجِرِيْنَ} تفسيراً لقوله: {وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِيْنِ وَابْنِ السَّبِيْلِ} بعد قوله تعالى: {وَمَا أَفَاءَ اللَّهُ عَلَى رَسُولِهِ مِنْ أَهْلِ الْقُرَى فَللَّهِ وَلِلرَّسُولِ} وكل ذلك عندي وفيما أراه قاله يحيى بن الحسين(2)، على طريق الاستحباب والأولى(3)، والله أعلم.
مسألة [من يفرق الخمس]
قال: ولو أن رجلاً أصاب بعض ما يجب فيه الخمس، أخرج خمسه إلى الإمام ليصرفه(4) في أهله، فإن لم يجد الإمام، فرقه ـ هو ـ في مستحقيه.
__________
(1) ـ في (أ): كان.
(2) ـ في (أ): عليه السلام.
(3) ـ في (ب): هو الأولى.
(4) ـ في (أ): ليُفرَّق.
وهذا منصوص عليه في (كتاب الزكاة) في (الأحكام) (1). (34/28)
والأصل فيه أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم والأئمة بعده كانوا يتولون أخذ الخمس من الغنائم، ولم يكونوا يولون قسمته الغانمين، وكذلك روي عن أمير المؤمنين عليه السلام أَخْذ خمس المعدن على ما مضى ذكره في مسألة خمس المعدن.
وعن عمر أنَّه أخذ من البراء بن مالك خمس سلب قتيله المرزُبان، ولم يُنْكَر عليه، فدل ذلك على أن الإمام هو المستوفي له، وهو قياس الصدقات، والمعنى أنَّه حق تعلق بالأموال لأقوام غير معينين، فوجب أن يكون استيفاؤه إلى الإمام.
وقلنا: إنَّه إذا لم يكن إمام، وضعه من لزمه في مستحقيه كما قلناه في الصدقات؛ لأنَّه حق لزمه، فإذا لم يكن من يستوفي عليه، استوفاه على نفسه؛ لئلا يضيع الحق.
__________
(1) ـ انظر الأحكام 1/189 وهو بلفظ قريب.
كتاب الصوم (35/1)
باب القول في كيفية الدخول في الصوم
[مسألة: متى يجب صيام رمضان؟]
لا يجب صيام شهر رمضان إلاَّ بعد رؤية هلاله أو ثبوتها بالخبر المتواتر، أو شهادة عدلين فما فوقهما، وكذلك حكم الإفطار، فإن كان في السماء علة من السحاب أو غيره عد الشهر ثلاثين يوماً.
قال في (الأحكام) (1): (إذا شهد شاهدان على رؤية الهلال في الصوم والإفطار، جازت شهادتهما، إذا كانا عدلين)، فجَعْلُه عدالتهما بمجموعهما شرطاً في جواز الشهادة بيانٌ أن شهادة الواحد لا تجزي في الإفطار، حَقِق ذلك.
وقال في آخر الكتاب(2): من رآه وحده، جاز له فيما بينه وبين اللّه أن يصوم، فدل بذلك أن شهادة الواحد لا تُلزم غيره حكماً في الصوم.
وذكرنا الخبر المتواتر تخريجاً؛ لأن عنده أن الغرض حصول العلم، ألا ترى إلى قوله فيمن رأي وحده للصوم والإفطار أنَّه يصوم ويفطر؟ والخبر المتواتر يوقع العلم، كما توقع /106/ الرؤية.
ونص ـ أيضاً ـ في (الأحكام) (3) على أنَّه إذا كان في السماء علة، عُدَّ الشهر ثلاثين يوماً.
وذهب أبو حنيفة والشافعي إلى أنَّه يجب الصوم بشهادة الواحد، ووافقانا في الإفطار أنَّه لا يجب إلاَّ بشهادة عدلين، وحُكي عن مالك مثل قولنا في الصوم.
والأصل في ذلك ما:
رواه ابن أبي شيبة ـ بإسناده ـ قال: قدم على رسول اللّه صلى الله عليه وآله وسلم رجلان وافدان أعرابيان، فقال لهما النبي صلى الله عليه وآله وسلم: (( أمسلمان أنتما ))؟ قالا: نعم. فقال لهما: ((أهللتما ))؟ قالا: نعم. فأمر الناس فأفطروا، أو صاموا، فلما سأل النبي صلى الله عليه وآله وسلم عن إسلام كل واحد منهما، وسألهما هل أهللتما، دل ذلك على أن الحكم تعلق بشهادتهما(4).
__________
(1) ـ انظر الأحكام 1/ 261.
(2) ـ انظر الأحكام 1/262 وهو بلفظ قريب.
(3) ـ انظر الأحكام 1/230 وهو بلفظ قريب.
(4) ـ أخرجه ابن أبي شيبة في الكتاب المصنف 2/320 وإسناده يزيد بن هارون عن عاصم عن أبي عثمان.
وروى أبو داود في السنن أن أمير مكة خطب، ثم قال: عهد إلينا رسول اللّه صلى الله عليه وآله وسلم أن ننسك لرؤيته، فإن لم يره، وشهد شاهدا عدل، نسكنا بشهادتهما، ثم قال: وشهد هذا من رسول اللّه صلى الله عليه وآله وسلم ـ وأومأ بيده إلى ابن عمر ـ فقال: بذلك أمرنا رسول اللّه صلى الله عليه وآله وسلم، فدل ذلك على أنَّه أمر ـ إذا لم يكن رؤية ـ أن ننسك بشهادة عدلين، على أن الأصل أن لا رؤية، فلا يثبت إلاَّ بما ورد به الشرع، والشرع ورد بما ذكرناه. (35/2)
فإن قيل: روي أن ابن عمر قال: تراءينا الهلال مع النبي(1) صلى الله عليه وآله وسلم، فرأيته ـ أنا ـ وأخبرته(2) فصام، وأمر الناس بالصيام، وهذا يدل على أن شهادة الواحد توجب الصوم.
قيل له: لا يمتنع أن يكون النبي صلى الله عليه وآله وسلم كان شهد عنده قبله عدل آخر، فتمت الشهادة لَمَّا شهد ابن عمر؛ إذ ليس في الخبر أنَّه لم يكن إلاَّ بشهادته.
وهكذا الجواب عما روي عن عكرمة، عن ابن عباس، أن أعرابياً أخبر أنَّه رأى الهلال، فامتحنه النبي صلى الله عليه وآله وسلم بالشهادتين، ثم أمر الناس بالصيام؛ إذ ليس في الخبرـ أيضاً ـ أنَّه لم يكن إلاَّ بشهادته.
ويؤكد ذلك ما روي عن علي عليه السلام أنَّه قال: (إذا شهد ذوا عدل أنهما رأيا الهلال، فصوموا، وافطروا).
ومن جهة النظر لا خلاف أنَّ هلال شوال، وذي الحجة لا تثبت إلاَّ بشهادة عدلين، فكذلك هلال رمضان، والمعنى أنها شهادة على رؤية الهلال.
فإن قاسوها على شهادة الواحد بزوال النجاسة عن الثوب أنها تجيز الصلاة، فكذلك شهادة الواحد بالرؤية تجيز الصوم على أنَّه من رمضان؛ لأن كل واحد منهما شهادةٌ بارتفاع المانع من تلك العبادة من غير أن يتعلق بحقوق(3) الآدميين، فإذا حصل الجواز، ثبت الوجوب؛ إذ لا قول بعده إلاَّ القول بالوجوب.
قيل له: قياسنا أولى من وجوه:
__________
(1) ـ في (أ): رسول الله.
(2) ـ في (أ): فأخبرته.
(3) ـ في (أ): به حقوق.