تأليف
السيد يحيى بن عبد الله راوية
الهروي
بسم الله الرحمن الرحيم وبه
نستعين
الحمد لله الداعي للعباده إلى رحمته وجنته وثوابه، وغفرانه، المنفر لهم عن معاصيه، والمحذر من معاصيه وغضبه، ونيرانه، والحمدلله الذي جعل الجنة لمن أطاعه، والنار لمن عصاه، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له ولا ند ولا نظير ولا شبيه، ولا مثيل، المتفضل على من أطاعه بمضاعفة الثواب، والرحيم بالعباد، العادل في العقاب، القائل في كتابه المنزه من الباطل، المنزل من الحكيم الحميد: {مَنْ جَاءَ بِالْحَسَنَةِ فَلَهُ عَشْرُ أَمْثَالِهَا وَمَنْ جَاءَ بِالسَّيِّئَةِ فَلاَ يُجْزَى إِلاَّ مِثْلَهَا}.
فرغب في الطاعة فضاعف ثوابها، ونفر عن المعصية، وجعل جزاءها مثلها، وصدق الله سبحانه إذا يقول: {وَلاَ يَظْلِمُ رَبُّكَ أَحَدًا}.
وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، وصفيه ونجيبه الداعي إلى سبيل ربه بالحكمة والموعظة الحسنة، الذي صبر على الأذى، وصابر وعبد ربه حتى أتاه اليقين، ورغب في الطاعة قولاً وفعلاً وعملاً، ونفر عن المعصية لعظم الثواب وحسنه، ومثله بأجلا مظاهره وصور العقاب أوضحه، وضرب لهما الأمثال، فقال على لسان ربه: {مَثَلُ الْجَنَّةِ الَّتِي وُعِدَ الْمُتَّقُونَ فِيهَا أَنْهَارٌ مِنْ مَاءٍ غَيْرِ آسِنٍ وَأَنْهَارٌ مِنْ لَبَنٍ لَمْ يَتَغَيَّرْ طَعْمُهُ وَأَنْهَارٌ مِنْ خَمْرٍ لَذَّةٍ لِلشَّارِبِينَ وَأَنْهَارٌ مِنْ عَسَلٍ مُصَفًّى وَلَهُمْ فِيهَا مِنْ كُلِّ الثَّمَرَاتِ وَمَغْفِرَةٌ مِنْ رَبِّهِمْ كَمَنْ هُوَ خَالِدٌ فِي النَّارِ وَسُقُوا مَاءً حَمِيمًا فَقَطَّعَ أَمْعَاءَهُمْ} صلى الله عليه وعلى آله وسلم.
وأشهد أن علياً أخوه ووصيه، والخليفة من بعده بلا فضل، المبين للأمة ما اختلف فيه بعد أخيه المنزل منه بمنزله هارون من موسى، الذي أفاض عليه من علمه ونوره الرباني، فهو بلا شك تلميذ محمد، وخريج الجامعة النبوية، والكلية الإسلامية خدين النور الإلهي، والإيمان القوي الذي شهد له محمد صلى الله عليه وآله وسلم بل ورب محمد بالعلم والإيمان، أخص الناس بنبيه وآخرهم به عهداً، المنزل فيه: {وَتَعِيَهَا أُذُنٌ وَاعِيَةٌ} والآتي فيه على لسان النبي صلى الله عليه وآله وسلم: ((أنا مدينة العلم وعلي بابها)) وكافي بقائل يقول مصوراً لهذه الأشياء:
ولا عجب أن طبت
عرساً فلم يكن |
|
على الأرض غير
البيت ضمك مولد |
وبعد فإنه وصلني كتاب من سيدي العلامة العامل الورع الحسن بن عباس يشير فيه إلى ما يرى في المعاصي من أنها محبطة للأعمال، وأن الكبائر غير محصورة، وأنها موجبة للخلود في النيران غير مفرق بين معصية ومعصية، وكأنه يرى بأن كل عمد كبيرة محبطة للأعمال الصالحة، وهذا القول في غاية البعد، لأنا إذا ما سلكنا هذا المسلك أبطلناه، وبعبارة اليق تأولنا الكثير من الآيات القرآنية الدالة على التكفير، والموازنة المضحة، والمنبهة على سعة رحمة الله وعفوه، ونظره لعباده، وأيضاً سيؤدي هذا المذهب المتشدد الضيق إلى تأويل الكثير والكثير من السنة الصحيحة الصريحة الناطقة بتكفير الذنوب، والصادعة بسعة عفو الله وغفرانه لعباده المقصرين الذين وسعتهم رحمته، الأمر الذي أوجب عليَّ أن أحرر رسالة لإيضاح الأدلة مؤيده بالبراهين النيرة، كتاباً وسنة وآثاراً علوية، وإن كنت معترفاً بقلة البضاعة وقصور الباع، لكن كما قال الله جلت رحمته: {وَمَنْ قُدِرَ عَلَيْهِ رِزْقُهُ...} الآية، وسميتها رسالة الغفران الدالة على رحمة الملك الديان، وبعد:
فهذا أوان الشروع في المقصود فأقول: وبالله التوفيق وعليه التوكل وإليه المصير، ومنه الإعانة والتسديد.
أيها القائل بأن كل عمد كبيرة: ما معنى قول الله سبحانه وتعالى: {إِنْ تَجْتَنِبُوا كَبَائِرَ مَا تُنْهَوْنَ عَنْهُ نُكَفِّرْ عَنْكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ} أليست هذه الآية ناطقة بصراحة بأن المعاصي تنقسم إلى صغيرة، وكبيرة، وأن الصغائر تكفر بمجرد اجتناب الكبائر، فما هي يا ترى هذه الصغائر أهي الخطأ والنسيان، إذا قلت: نعم، فالخطأ والنسيان مرفوعا عن هذه الأمة كتاباً وسنة، قال الله سبحانه: {لَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ فِيمَا أَخْطَأْتُمْ} {رَبَّنَا لاَ تُؤَاخِذْنَا إِنْ نَسِينَا أَوْ أَخْطَأْنَا}.
وقال الرسول الأمين عليه وعلى آله أفضل الصلوات والتسليم: ((رفع عن أمتي الخطأ، النسيان)).
فإن استدللت بمعصية آدم، وقلت: قد سماها الله معصية ونسبه إلى العصيان، فقال سبحانه: {وَعَصَى آدَمُ رَبَّهُ فَغَوَى} قلنا لك: الدليل قائم على الخطأ والنسيان مرفوعا عن هذه الأمة وهو من خصائصها، إذا عرفت هذا فلم يبق إلا التسليم أن بعض العمد صغيرة، وأن المعاصي تنقسم إلى صغيرة، وكبيرة؛ وإلا بطل معنى الآية التي تدل على تقسيم المعاصي إذا اتضح هذا فلم يبق إلا البيان للكبيرة من الصغيرة لنجمع شمل الأدلة من الإهمال والإهدار، فنقول: الكبيرة ما ورد الوعيد عليها، وهذا نص أمير المؤمنين وهو يقول في خطبته الأولى مقسماً للقرآن إلى أن قال: (ومباين بين معاصيه من كبيراً وعد عليه نيرانه، أو صغير أرصد له غفرانه) وهو مذهب حفيده إمام الأئمة زيد بن علي عليه السلام، فإذا عرفنا أن الكبيرة ماورد الوعيد عليها عرفنا أن الصغيرة عكسها، ومن هنا يمكن حصر الكبائر من تتبع الكتاب والسنة المتواترة لا كالأثر الذي أوردتموه مستدلين به على أن المعاصي الكبار لا يمكن حصرها، وهو لا صغيرة مع الاصرار، ولا كبيرة مع الاستغفار، وهذا الدليل لا ينهض ولا يمكن أن يعارض به الكتاب المعلوم متناً وإسناداً، إذا عرفت هذا فنقول أن في الكبائر ما هو محيط بجميع أعمال الخير وجاعلها هباءٍ منثوراً، فمن ذلك الكفر بجميع أنواعه من شرك وإلحاد، وزندقة، لهذا نرى الله بعد أن يذكر الكفر والكافرين، يقول: {وَقَدِمْنَا إِلَى مَا عَمِلُوا مِنْ عَمَلٍ فَجَعَلْنَاهُ هَبَاءً مَنْثُورًا} أو كما يقول: في آية أخرى: {وَمَنْ يَبْتَغِ غَيْرَ الإِسْلاَمِ دِينًا فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْهُ وَهُوَ فِي الآخِرَةِ مِنَ الْخَاسِرِينَ} وكالردة وإن كانت نوعاً من الكفر إلا أن الله سبحانه وتعالى قد نص عليها بذاتها، فقال تعالى: {وَمَنْ يَرْتَدِدْ مِنْكُمْ عَنْ دِينِهِ فَيَمُتْ وَهُوَ كَافِرٌ فَأُوْلَئِكَ حَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ فِي الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ وَأُوْلَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ} فهذه الآية تدل على إحباط أعمال الكافر المرتد بخصوصه، وإن كان داخلاً تحت عموم الآيات الدالة على الإحباط، خلا أن هذه الآية تدل على أن مجرد الردة على انفرادها لا توجب الإحباط، ولا الحكم على صاحبها بالنار، بل إذا مات عليها وكانت متصلة بالموت، لهذا ذهب نجم آل رسول الله الإمام القاسم بن إبراهيم عليه السلام إلى أن الردة بعد الإسلام لا يبطل بها الحج، وإن المرتد إذا أسلم لا يجب عليه إعادة الحج؛ لأنها مقيدة بالاتصال بالموت؛ فإذا كانت الردة من أعظم المعاصي لا توجب الإحباط ولا الحكم على صاحبها بالنار، فيكف بغيرها من المعاصي، فلم نقول بأن مجرد النظرة إلى الأجنبية تعمداً يحبط الأعمال، ومن المعاصي ما يحبط شيئاً واحداً ألا وهي الصدقة، وذلك المن والأذى يفهم ذلك من قوله تعالى: {لاَ تُبْطِلُوا صَدَقَاتِكُمْ بِالْمَنِّ وَالأَذَى} ومما يوجب الاحباط التكبر المقرون بالاستكبار، والاعتراض على حكمة الله،كما فعل إبليس اللعين لهذا أطرده الله وأحبط عمله؛ لأن استكباره عليه تعالى سلطانه وعزت عظمته، كفر وزندقة.
ومنها: رفع الصوت فوق صوت النبي صلى الله عليه وآله وسلم؛ لأن الرافع لصوته يستشعر بأن رتبته أعلى من رتبة المرفوع عليه صوته، لهذا جاءت الآية تندد بالرافع لصوته قائلة: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لاَ تَرْفَعُوا أَصْوَاتَكُمْ فَوْقَ صَوْتِ النَّبِيِّ وَلاَ تَجْهَرُوا لَهُ بِالْقَوْلِ كَجَهْرِ بَعْضِكُمْ لِبَعْضٍ أَنْ تَحْبَطَ أَعْمَالُكُمْ وَأَنْتُمْ لاَ تَشْعُرُونَ} مع أن هذه الآية لا تدل على الإحباط قطعاً؛ لأن هذه هي أن المفتوحة الناصبة لا تخلو إما أن تكون في محل نصب فيكون التقدير؛ لأن وأن الناصبة تدل على الرجاء لا على التأكيد، ولهذا لم تقل الآية حبطت أعمالكم.
ومنها: الربا المتوعد عليه بالخلود في النيران، قال الله سبحانه: {فَمَنْ جَاءَهُ مَوْعِظَةٌ مِنْ رَبِّهِ فَانتَهَى فَلَهُ مَا سَلَفَ وَأَمْرُهُ إِلَى اللَّهِ وَمَنْ عَادَ فَأُوْلَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ} لهذا تأذن الله على صاحب هذه الكبيرة بالحرب منه ومن رسوله، فقال: {فَإِنْ لَمْ تَفْعَلُوا فَأْذَنُوا بِحَرْبٍ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ وَإِنْ تُبْتُمْ فَلَكُمْ رُءُوسُ أَمْوَالِكُمْ}.
ومنها: القتل والزنا المقرونان بالسُرك المهدد عليهما مع السُرك بالخلود في النار، ومضاعفة العذاب، قال الله سبحانه وتعالى: {وَالَّذِينَ لاَ يَدْعُونَ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آخَرَ وَلاَ يَقْتُلُونَ النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إِلاَّ بِالْحَقِّ وَلاَ يَزْنُونَ وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ يَلْقَ أَثَامًا، يُضَاعَفْ لَهُ الْعَذَابُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَيَخْلُدْ فِيهِ مُهَانًا...} إلى آخرها.
فهذه وأمثالها وما يساويها من المعاصي المتوعد عليها بالنار، والخلود المقيدة فيها بالتوبة، فمثل هذه لابد فيها من التوبة؛ وإلا كانت محبطة للأعمال، ومما يدل على أن المعاصي تنقسم إلى أقسام:
قول علي عليه السلام في بعض خطبه: (ألا وإن الظلم ثلاثة: فظلم لا يغفر، وظلم معفو عنه لا يطلب، وظلم لا يترك:
أما الظلم الذي لا يغفر: فالشرك بالله، وأما الظلم الذي لا يطلب: فظلم العبد نفسه عند بعض الهفات، وأما الظلم الذي لا يترك: فظلم العباد بعضهم بعض، هناك القصاص شديد ليس هو ضرباً بالسياط، ولا جرحاً بالمدى، ولكنه ما يستغفر ذلك معه، ومن هنا نعلم أن الكفر أعظم المعاصي وأشدها، وأنه لا يغفره ولا يجب ما يترتب عليه من الآثام إلا الإسلام، ومما يشير إلى الاحباط لا يقع بمجرد إيقاع المعصية بل لا بد من الاستمرار عليها إلى الموت.
قول علي عليه السلام فإذا كانت لكم برآءة من أحد فقفوه حتى يحضره الموت، وهذا ويمكن تتبع المعاصي ومعرفة الصغيرة من الكبيرة بتتبع الكتاب والسنة، وليس لنا أن نقيس سائر المعاصي على ما ذكر آنفاً وعلى ما يساويه، وإن كانت كبيرة؛ لأن القياس لا يصح إلا بعد معرفة العلة، واستوائها في التخفيف والتغليظ، ومقدار الثواب والعقاب، مما أختص به الله وحده فهو عالم بما يستحقه العامل بالطاعة من الإجلال والتعظيم، وما يستحقه العاصي من الجزاء والتنكيل، واللعنة والغضب.
فلهذا قلنا: لا يصح القياس؛ لأنه متفرع على معرفة العلة واستوائها تغليظاً وتخفيفاً فلا طريق للحكم بالإحباط إلا الكتاب والسنة، فما علمناه من المعاصي محبطاً، الحقناه بما سبق آنفاً وإلا أعلمنا آية الموازنة، والتكفير وهما متقارنان.
وبهذا نجمع شمل الأدلة ونعملها ولا نهدرها فما علمنا كبره ولم نعلم بأنه محبط أرجعناه إلى آية الموازنة والتكفير مع إنا إذا قلنا: بالموازنة فقد قلنا بالإحباط، فمن كان أكثر ثواباً كان من أهل الجنة، وأذهبت الحسنات السيئات، ومن كانت سيئاته أكثر فقد أحبطت حسناته، وحكم عليه بالنار والخلود فيها أبداً، ومن كانت معاصيه صغيرة كفرت بجنب الطاعات أو الموازنة؛ لأن الثواب يكون سبباً للستر وعدم المواخذة على الصغيرة، والموازنة معناه الغلبة إما للطاعة وإما للمعصية، فإن كثرة الحسنات غلبت السيئات، والعكس بالعكس.
بعد هذا بقى علينا مناقشة بعض الأدلة، ثم نتكلم على الخلود ومعناه، ثم ننظر في أدلة القائلين بالخروج من النار ونناقشها.
نعم إذا قال من يدعي: أن كل عمد كبيرة ألستم قد قلتم أن الكبيرة ماورد الوعيد عليها؛ فإنا نقول بالموجب؛ فإن الله جلت قدرته وتعالى شأنه قد توعد كل عاص بالنار والخلود فيها، قال الله سبحانه وتعالى: {وَمَنْ يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَإِنَّ لَهُ نَارَ جَهَنَّمَ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا}.
قلنا: هذه الآية عامة يدخل في عمومها المخطي والناسي والتائب، ومن استوت حسناته وسيئاته، والمجزي والكافر ومن أصيب بأنواع من البلاء؛ فإذا جاز لكم أن تخصصوا التائب والمخطي بموجب الدليل الدال على تخصيصهما وإخراجهما جاز لنا أن نخصص مقترف الصغيرة ومن كانت له حسنات كثيرة غالبة قاهرة للسيئات، ونحكم بأن الحسنات تحبط وتذهب السيئات، كما أن السيئات تحبط الحسنات، والكل منصوص عليه فلستم بأولى منا بالتخصيص؛ فإن قلتم بالأولوية تحكمتم، أوليس الله يقول: {إِنْ تَجْتَنِبُوا كَبَائِرَ مَا تُنْهَوْنَ عَنْهُ} ويقول سبحانه: {إِلاَّ اللَّمَمَ} ويقول: {إِنَّ الْحَسَنَاتِ يُذْهِبْنَ السَّيِّئَاتِ} كما يقول: {فَمَنْ ثَقُلَتْ مَوَازِينُهُ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ، وَمَنْ خَفَّتْ مَوَازِينُهُ فَأُوْلَئِكَ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنفُسَهُمْ فِي جَهَنَّمَ خَالِدُونَ} ويقول: {وَنَضَعُ الْمَوَازِينَ الْقِسْطَ لِيَوْمِ الْقِيَامَةِ فَلاَ تُظْلَمُ نَفْسٌ شَيْئًا وَإِنْ كَانَ مِثْقَالَ حَبَّةٍ مِنْ خَرْدَلٍ أَتَيْنَا بِهَا وَكَفَى بِنَا حَاسِبِينَ} ويقول: {وَوَجَدُوا مَا عَمِلُوا حَاضِرًا وَلاَ يَظْلِمُ رَبُّكَ أَحَدًا}ويقول: {فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْرًا يَرَه، وَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرًّا يَرَه} فقل لي بربك أيها القائل بالاحباط ما معنى هذه الآية إذا لم تقل بالموازنة أليس يلزم أن يكون الشخص العامل بالخير والشر معظماً منعماً مكرماً ملعوناً مهاناً، ذليلاً، حقيراً، معذباً في النار مخلداً في الجنان؛ لأنه مطيع عاص، وقد قالت الآية الأخرى: {وَوَجَدُوا مَا عَمِلُوا حَاضِرًا وَلاَ يَظْلِمُ رَبُّكَ أَحَدًا} تعالى الله عن الظلم وتقدس عنه وعن كل صفات النقص، فلم يبق بعد هذا أيها المرتاد للحق والطالب لرشاد والمحكم للكتاب العزيز إلا النجوع والتسليم للأدلة، والقطع بالموازنة لئلا تتعارض الأدلة وتتناقض ياأولي الألباب.
ألا ترى إلى آية الكهف وما يقول المجرمون عند وضع الكتاب، ومشاهدة سيئاتهم مع قلة حسناتهم انظر ما يقول: {وَوُضِعَ الْكِتَابُ فَتَرَى الْمُجْرِمِينَ مُشْفِقِينَ مِمَّا فِيهِ وَيَقُولُونَ يَاوَيْلَتَنَا مَالِ هَذَا الْكِتَابِ لاَ يُغَادِرُ صَغِيرَةً وَلاَ كَبِيرَةً إِلاَّ أَحْصَاهَا وَوَجَدُوا مَا عَمِلُوا حَاضِرًا وَلاَ يَظْلِمُ رَبُّكَ أَحَدًا} فدلت الآية علىأن المجرمين يجدون جميع الأعمال مكتوبة مزبورة، ولهذا نراهم يدعون على أنفسهم بالويل والثبور عند مشاهدة أعمالهم جميعها صغيرها وكبيرها، وجليلها وحقيرها، ولهذا يتعجبون من الكتاب قائلين:{مَالِ هَذَا الْكِتَابِ لاَ يُغَادِرُ صَغِيرَةً وَلاَ كَبِيرَةً إِلاَّ أَحْصَاهَا}، ثم أكد الله ذلك بقوله: {وَوَجَدُوا مَا عَمِلُوا حَاضِرًا} أي مشاهداً مع أنه نكرة في سياق النفي والنكرة في سياق النفي يفيد العموم، لهذا دعوا على أنفسهم بالويل والثبور ما ذاك إلا أن سيئاتهم كثيرة محيطة بهم قاضية على الحسنات، وبالله عليك قل لي بربك ما معنى قوله تعالى: {خَلَطُوا عَمَلاً صَالِحًا وَآخَرَ سَيِّئًا عَسَى اللَّهُ أَنْ يَتُوبَ عَلَيْهِمْ} أليست هذه تدل على الموازنة وعدم الاحباط إذ لو كان هناك احباط لما قال خلطوا؛ لأنه إذا طرأ أحدهما على الآخر أبطله، وأذهبه، فلا معنى للخلط إلى غير ذلك من الآيات القرآنية، فهل ينبغي ياأولي الألباب والأفكار الصافية، والأنظار الصائبة أن نهمل هذه الأدلة ونتأولها تأويلاً بعيداً متعسفاً ما أراكم ترون هذا وحاشاكم [بياض 11] السنة وما جاءت به.
نعم أول ما أبدأ بالوضوء وما جاء فيه، قال عثمان وهو يروي وضوء رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قال: توضأ رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وضحك كما ضحكت، وقال لأصحابه: ((ألا تسألوني ما أضحكني)) قلنا: ما أضحكك يارسول الله، قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: ((اضحكني أن العبد إذا توضأ وغسل وجهه حط عنه كل خطيئة أصاب بوجهه، فإذا غسل ذراعيه كان كذلك)) وهو طرف من حديث رواه البزار.
قال في (مجمع الزوائد) ورجاله رجال الصحيح، وهو في الصحيح باختصار وله شواهد كثيرة، منها ما رواه الإمام أحمد بن عيسى في أماليه بالتصريح في كل عضو بأنها تخرج منه الذنوب عند غسله.
وقال صلى الله عليه وآله وسلم: ((لو أن رجلاً كان يعمل، وكان بين منزله ومعتمله خمسة أنهار؛ فإذا أتى معمله عمل ما شاء الله فأصابه الوسخ والعرق فكلما مر بنهر غسل ما كان يبقى عليه من درن)) رواه البزرا والطبراني في (الأوسط) و(الكبير).
وفي (أمالي أبي طالب) عليه السلام عن أبي سعيد الخدري قال: قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: ((ألا أدلكم على ما يكفر الله به الخطيئات ويزيد في الحسنات، قالوا: بلى يا رسول الله، قال صلى الله عليه وآله وسلم: اسباغ الوضوء على المكاره، وكثرة الخُطى إلى المساجد، وانتظار الصلاة بعد الصلاة)) هذا ما جاء في الوضوء من تكفيره للخطيئات، والسيئات، فقل لي بربك بإنصاف ما هي هذه الخطيئات، وما تلك السيئات التي يكفرها الوضوء هل هي الخطأ والنسيان المرفوعان بالدليل، فإما أن تقول أن هنالك خطايا متعمدة وإلا عطلت الأدلة؛ لأن تكفير ما هو مرفوع محال، فإذا لم تقل أنها بعض العمد كان معناها متروكاً به مرمياً به وراء الحائط، وكأنما جيىء بها ......بها وشخل الأوقات والدفاتر والأوراق بها، وما أظنك تقول بهذا أو يقول به عاقل فضلاً عن عالم جليل.
وإليك ما جاء في الأذان من التكفير للذنوب والمعاصي تفضلاً من الله ورحمة، روى إمام الأئمة زيد بن علي في مجموعه عن آبائه عليهم السلام عن رسول صلى الله عليه وآله وسلم قال: ((يأتي المؤذنون يوم القيامة أطول الناس أعناقاً ينادون بشهادة أن لا إله إلا الله وأن محمداً عبده ورسوله، فلا يسمع المؤذنين شيء إلا شهد لهم بذلك يوم القيامة، ويغفر للمؤذن مد صوته وله من الأجر مثل المجاهد الشاهر لسيفه في سبيل الله)).
وفي أمالي الإمام أبي طالب عليه السلام عن عبد الله بن مسعود أنه قال: لو كنت مؤذناً ما كنت أبالي أن أحج ولا أعتمر ولا أغزو، وسمعت رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يقول: ((من أذن سبع سنين تصدق له نيته، كتب له براءته من النار)) ثم قال: (( لو أن الملائكة نزلت من السماء لغلبتكم على الأذان)).
وأخرج النسائي عن البراء بن عازب أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال: ((إن الله وملائكته يصلون على الصف المقدم، والمؤذن يغفر له مدا صوته، ويصدقه من سمعه من رطب ويابس، وله من الأجر مثل أجر من صلى معه)) هذا هو الأذان، وهذا هو فضله، وهذا هو الرسول صلى الله عليه وآله وسلم يصرح بأنه مكفر للذنوب وإن كثرة وبلغت في الكثرة ملأ الجهات التي يبلغها صوت المؤذن، وهذا تمثيل وتصوير للذنوب بالأشياء المحسوسة التي تملأ الجهات، وهذا دليل واضح على فضل الأذان وإن له شأناً كبيراً ومكانة عظيمة عند المولى عزوجل، وإنه يكفر الذنوب الكثيرة ويذهبها ويرفع الدرجات ويسمو بها إلى الغاية القصوى فما هي هذه الذنوب التي يكفرها الأذان وإن بلغت مبلغاً عظيماً في الكثرة، بل يكتب لمن أذن سبع سنين صادق النية، البراءة من النار، فإذا كانت الذنوب التي يكفرها الأذان هي الخطأ والنسيان فأين التكفير يا أولي الألباب وهل هذا إلا إهدار للنص وإهمال له الصلاة، وما جاء فيها من التكفير للذنوب.
أخرج الإمام زيد بن علي عليه السلام في المجموع عن آبائه عليهم السلام عن علي كرم الله وجهه الصلوات الخمس كفارة لما بينهن ما اجتبت الكبائر، وهي قول الله عزوجل: {إِنَّ الْحَسَنَاتِ يُذْهِبْنَ السَّيِّئَاتِ ذَلِكَ ذِكْرَى لِلذَّاكِرِينَ} قال يحتمل القائل الحسين عليه السلام بالكبائر.
قال علي عليه السلام: (قتل النفس المؤمنة وأكل مال اليتيم، وقذف المحصنة، وشهادة الزور، وعقوق الوالدين، والفرار من الزحف).
وقد روى البخاري أن سبب نزول هذه الآية أن رجلاً قتل امرأة، وفي بعض كتب الحديث إنه فعل جميع المقدمات للزنا ما عدا الوطئ، ثم جاء إلى النبي صلى الله عليه وآله وسلم قائلاً له وفعلت وفعلت، وفعلت فنزلة الآية: {أَقِمِ الصَّلاَةَ طَرَفِي النَّهَارِ وَزُلَفًا مِنَ اللَّيْلِ إِنَّ الْحَسَنَاتِ يُذْهِبْنَ السَّيِّئَاتِ}فهل تراه فعل هذا على سبيل العمد أم على سبيل الخطأ والنسيان.
نعم: وإن كان ظاهر الحديث أن ما عدا هذه الأشياء المذكورة في الحديث تكفر بالصلاة إلا أنا لا نجزي على الظاهر مفهوم العدد غير معمول به؛ لأنه معارض لصرائح الكتاب والسنة، أما ترى القرآن يصرح بأن الشكر ظلم عظيم، وهو غير مذكور في هذا الأثر، وكذا الربا من المعاصي العظمىالبالغة في الكبر...وغيرها من كبار المعاصي غير مذكورة هنا؛ فكأنه قال هذه وما ساواها؛لأنك قد عرفت قوله فيما مضى أن الكبيرة ماورد الوعيد عليها من قوله عليه السلام ومباين بين معاصيه من كبير أوعد عليه نيرانه، أو صغيراً رصد له غفرانه، ومن هنا تعرف صحة هذا التأويل.
وإليك ما يوضح ويحقق ما قلنا من الرواية الأخرى الذاكرة لأشياء من المعاصي لم تذكره الأولى، فقد روى السيوطي عنه عليه السلام أنه قال الكبائر الشرك بالله، وقتل النفس، وأكل مال اليتيم، والسحر، وعقوق الوالدين، وفراق الجماعة، ونكث الصفقة، وهذا مما يدل لك أنه عليه السلام لا يريد الحصر؛ لأن الرواية الأخرى اثبتت ما لم تثبته الأولى، وتركت بعض ما اثبته الأولى، ألا ترى أن الشرك والسحر والربا وفراق الجماعة غير مذكور في الرواية الأولى كما تركت الرواية الأخرى ما ذكرته الأولى من القذف، واليمين الغموس، والفرار من الزحف، وفيه أيضاً الكبائر تسع: الشرك بالله، وقتل النفس التي حرم الله، وألك مال اليتيم، وقذف المحصنة، والفرار من الزحف، وعقوق الوالدين، واستحلال البيت الحرام قبلتكم أحياء وأمواتا، ومن رواية جمع الجوامع تعرف أن المعاصي تتفاوت في العظم والكبر، وأن هذه المذكورة هي أعظم المعاصي عقوبة وأخذاً وتنكيلاً وإيجاباً للإحباط من قوله: أشدها الشرك، ثم عد البقية المشاركة للشرك في العظم والكبر، ومثل هذه لا يكمن فيها الموازنة بل توجب لمن أرتكبها النيران إلا أن يتوب عوداً على بدء.
وأخرج مسلم والترمذي عن أبي هريرة أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قال: ((الصلوات الخمس كفارة لما بينها)).
ومما جاء في صلاة الجمعة ((من توضأ فأحسن الوضوء، ثم أتى الجمعة فاستمع وانصت غفر له من الجمعة إلى الجمعة، وزيادة ثلاثة أيام)) أخرجه مسلم أليست هذه الأحاديث الواردة في الصلوات الخمس، والجمعة ناطقة ومصرحة وقائلة بأن الله يغفر بها الذنوب الصادرة من عباده المقصرين، فما هي هذه الذنوب المكفرة المغفورة أهي عمد، أم خطأ، فإن قلت: عمد عرفنا بأنه ليس كل عمد كبيرة وهو المطلوب، وإن قلت: خطأ ونسيان ابطلت الأدلة وأهملت معانيها وصيرتها بالتأويل المتعسف البعيد خالية جوفاً وعطلت المقصود منها وجعلتها ككادث ومادث، ما أراك ترضى بهذا فأعد النظر واعمل الأدلة لتخرج من هذا المأزق الحرج، والله الهادي إلى سواء السبيل.
أخرج محمد بن منصور المرادي عن أم هاني أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم علم عمه العباس صلاة التسبيح لما جاء إليه قائلاً له قد علمت يارسول الله ما كان مني في الجاهلية، فعلمه صلاة التسبيح المعروفة المذكورة في موضعها، ثم قال: ((والذي نفس محمد بيده لو كانت ذنوبك يا عباس مثل عدد نجوم السماء، وعدد رمل عالج لغفرها الله لكل)).
وفي (شرح الإبانة) وأما صلاة التسبيح فهي ما علم النبي صلى الله عليه وآله وسلم جعفر بن أبي طالب إلى آخر كلامه.
وروى أبو العباس الحسني عن الهادي مثل ذلك في مسائل محمد بن القاسم التي سأل عنها والده محمد بن إبراهيم.
أما فضل النوافل فصلاة التسبيح وهي صلاة جعفر بن أبي طالب علمه رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم بخيبر، فقال له ألا أهب لك إلا أعطيك ألا أنحلك، قال: حتى ظننت أن رسول الله سيعطيني ما لم يعط أحداً، فعلمني صلاة التسبيح، ومن هنا قول النبي صلى الله عليه وآله وسلم المتلو عليك لجعفر وللعباس عليه السلام تعرف مكانة هذه الصلاة ومالها من المزية والمرتبة، أو ما ترى ما قاله النبي صلى الله عليه وآله وسلم لعمه العباس مبيناً لفضلها وأجرها ومحوها لذنوب لمن فعلها، وإن جلت وعظمت وبلغت الغاية القصوى حتى ولو كانت عدد نجوم السماء إلى آخر الحديث، فما هذه الذنوب التي تكفرها هذه الصلاة أهي ...على سبيل العمد، فإن قلت: نعم رجعت عن قولك، وجعلت للحديث معنى قويماً واعطيته مفهوماً حسناً ورعيته حق رعايته من ترغيبه لعباده في فعل الطاعة، وإن قلت: هي الخطأ والنسيان أوقعت نفسك في مأزق حرج لا يمكن الخروج منه إلا بالرجوع عن المذهب، وبالله عليك هل جاء العباس إلى النبي صلى الله عليه وآله وسلم في وقت الهاجرة يشكو مما وقع منه في الجاهلية هذا الأمر الذي أفزع العباس وأخرجه وحمله على الذهاب إلى النبي صلى الله عليه وآله وسلم في مثل هذا الوقت هل هو صادر منه على سبيل العمد أم على سبيل الخطأ والنسيان لا شك أنه على سبيل العمد والعدوان لهذا خرج وقت الهاجرة، ومن أجل هذا سأله النبي صلى الله عليه وآله وسلم قائلاً: ((يا عباس يا عم النبي ما جاءبك في الهاجرة)) فقال العباس مجيباً عليه بأبي أنت وأمي ذكرت ما كان مني في الجاهلية، فعرفت أنه لم يفرج عليَّ بعد الله غيرك فعلمه النبي صلى الله عليه وآله وسلم صلاة التسبيح مبيناً له مزاياها، وما فيها من الفضل ومالها من المكانة عند المولى جل جلاله، وأنت لا تستطيع أن تجزم بأن هذه الذنوب المفروضة المقدرة المشبهة بنجوم السماء إلى آخر ما ذكره، تصدر على سبيل الخطأ والنسيان حتى تعد عندك صغيرة مكفرة بجانب هذه الضلاة العظيمة، سبحانك اللهم وبحمدك ما هذا بك.
عن علي بن موسى الرضى عن آبائه عن علي عليهم السلام قال سمعت رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يقول: ((قال الله تعالى لا إله إلا الله حصني، فمن دخل حصني أمن من عذابي)).
وفي رواية آخرى للحديث حدثني أبي موسى الكاظم عن أبيه جعفر الصادق عن أبيه الباقر عن أبيه زين العابدين عن أبيه شهيد كربلاء عن أبيه علي المرتضى قال حدثني حبيبي وقرة عيني رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قال: ((حدثني جبريل عليه السلام، قال حدثني رب العزة تبارك وتعالى، قال: لا إله إلا الله حصني فمن قالها دخل حصني ومن دخل حصني أمن من عذابي)) وعن علي بن موسى الرضى بالسند المذكور قال: قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: ((إن لله عموداً من ياقوت أحمر رأسه تحت العرش وأسفله على ظهر الحوت في الأرض السابعة، فإذا قال العبد لا إله إلا الله أهتز العرش وتحرك العمود، فيقول الله تعالى اسكن عرشي، فيقول: كيف أسكن وأنت لم تغفر لقائلها، فيقول الله عزوجل أشهدوا سكان سمواتي إني قد غفرت لقائلها)).
وأخرج الديلمي عن أنس قال: إذا قال العبد: لا إله إلا الله خرقت السماء حتى تقف بين يدي الله عزوجل فيقول: اسكني، فتقول: كيف أسكن، وأنت لم تغفر لقائلي، فيقول الله تعالى: ما أجريتك على لسانه إلا وقد غفرت له.
وأخرج الترمذي عن جابر مرفوعاً: ((أفضل الذكر لا إله إلا الله)) وقد جاء في اثنى حديث رواه الإمام زيد بن علي في المجموع عن آبائه عن علي عليهم السلام، قال: قال رسول اله صلى الله عليه وآله وسلم: ((لقنوها موتاكم؛ فإنه من كانت آخر كلامه من الدنيا دخل الجنة)) وظاهر هذه الأحاديث يدل على فضل لا إله إلا الله، وأنها بنفسها تكفر الذنوب وتوجب لصاحبها دخول حصن الله والأمن من عذابه، وتهز العرش وتحرك العمود حتى يشهد الله على نفسه سكان السماء بالغفران لقائلها، والظاهر من هذه الأحاديث أنها تكفر كل الذنوب فلم لا نقول أنها تكفر بعض العمد إن لم نقل أنها تكفر الكل، لهذا أمرنا رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أن نلقنها موتانا، وبين لنا أنها من كانت آخر كلامه أدخله الله الجنة، فهل ترضى منا بأن نخرج عن هذا الظاهر، ونقول بأنها مكفرة لبعض ما اظنك تخالف في هذا، وكل على أصله، والله الموفق للصواب.
روى علي الرضى بن موسى الكاظم بإسناده إلى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أنه قال: ((من قال حين يدخل السوق سبحان الله والحمد لله، ولا إله إلا الله وحده لا شريك له، له الملك وله الحمد، يحيي ويميت، وهو حي لا يموت، بيده الخير، وهو على كل شيء قدير، اعطي من الأجر بعدد ما خلق الله إلى يوم القيامة)) فهل ترى هذا الأجر العظيم والثواب الجزيل يكفر بعض العمد، أم تجرى به الموازنة أم يغلق الباب.
عن زيد بن علي عليه السلام عن آبائه عن علي عليهم السلام قاال سمعت رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يقول: ((من قال استغفر الله الذي لا إله إلا هو وأتوب إليه، ثم مات غفر الله ذنوبه ولو كانت مثل زبد البحر، ورمل عالج)).
وقال الهادي في (الأحكام): بلغنا عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أن رجلاً أتاه فشكى بعض ما يكون، فقال: أين أنت من الاستغفار، قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: ((من ختم يومه يقول عشر مرات استغفر الله الذي لا إله إلا هو الحي القيوم وأتوب إليه، اللهم اغفرلي وتب عليَّ إنك أنت التواب الرحيم؛ إلا غفر الله له ما كان منه في يومه، أو قالها في ليلة؛ إلا غفر الله له ما كان منه في ليلة)) ومثله رواه محمد بن منصور رضي الله عنه بإسناده ولفظه، قال: حدثنا محمد حدثنا علي بن أحمد بن عيسى عن أبيه عن حسين بن علوان عن عمرو بن خالد عن أبي هاشم عن زاذان عن سلمان رضي الله عنه قال سمعت رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يقول: ((عودوا ألسنتكم على الاستغفار؛ فإن الله لم يعلمكم الاستغفار إلا وهو يريد أن يغفر لكم)).
وفي أمالي أبي طالب بإسناده إلى علي عليه السلام قال: قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: ((لكل داء دواءن ودواء الذنوب الاستغفار)).
نعم هذه الأحاديث تدل دلالة واضحة لاغبار عليها بأن الاستغفار موجب لغفران الذنوب، وإن كثرة وجلت، فهل تراها صريحة في ماقلنا بحكم الذوق والعقل، وقل ما شئت في ذلك بعد الفكر والتأمل.
في مجموع زيد بن علي عن آبائه عن علي عليهم السلام قال من سبح لله في يومه مائة مرة، وحمده مائة مرة، وكبره مائة مرة، وهلله مائة مرة، وقال لا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم مائة مرة دفع الله عنه من البلاء سبعين نوعاً أدناه القتل، وكتب له من الحسنات عدد ما سبح سبعين ضعفاً، ومحى عنه من السيئات سبعين ضعفاً، ومثل هذا لا يكون إلا مرفوعاً؛ لأن فيه تقدير الثواب، وتكفير الذنوب، ودفع البلاء، ومثل هذه الأشياء لا تعلم إلا من جهة الله ورسوله، فنحكم عليه بالرفع وإن كان علي ورسول الله ينطفان بلسان، فكلام علي صلوات الله عليه مقتبس من كلام رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم.
قال في الروض النضير بعد ذكر هذا الأثر أخرج محمد بن منصور عن أم هاني، قالت: من كبر مائة تكيبرة قبل طلوع الشمس كان كمن عتق مائة رقبة، ومن حمد الله مائة تحميدة قبل طلوع الشمس كان كمن نحر مائة بدنة، ومن سبح مائة تسبيحة قبل طلوع الشمس كان كمن حمل على مائة فرس في سبيل الله مسرجة ملجمة، أو بسرجها ولجمها، ومن قال: لا إله إلا الله مائة مرة في كل يوم قبل طلوع الشمس لم يلحقه في ذلك اليوم ذنب، ومن قال قبل غروب الشمس كان كذلك وأخرجه من طرق متعددة، وفيها دخلت أم هاني إلى النبي صلى الله عليه وآله وسلم، فقالت: قد دق عظمي وثقلت عن الصلاة-تعني النافلة- فدلني على عمل أعمله، فقال: ((يا أم هاني إذا صليت الفجر فاجلسي في مسجدك حتى تسبحين الله مائة مرة)) وذكر الحديث ورواه السيوطي في الجامع الكبير، وعزاه إلى الطبراني، فيه قولي سبحان الله مائة مرة تعدل مائة رقبة تعتق لله، وأحمدي الله مائة مرة تعدل مائة فرس ملجم يحمل عليها في سبيل الله، وكبري الله مائة مرة تعدل بدنة مجللة تهدى إلى بيت الله، ووحدينه مائة مرة ولا يدركك ذنب بعد الشرك، وقد جاء في لا حول ولا قوة إلا بالله أحاديث دالة على فضلها، منها عن أبي موسى الأشعري أنه قال له رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: ((ألا أدلك على كنز من كنوز الجنة، قلت: ما هو، قال: قل لا حول ولا قوة إلا بالله)) والحديث الذي يدل على عظيم ثواب هذا الكنز، وقد وردة أحاديث تدل على فضيلة هذه الكلمات بخصوصها، منها ما أخرجه ابن حبان في صحيحه مرفوعاً: ((من قال لا إله إلا الله وحده لا شريك له، له الملك وله الحمد وهو على كل شيء قدير، ولا حول ولاقوة إلا بالله سبحان الله، والحمد لله ولا إله إلا الله، والله أكبر غفرت له ذنوبه وإن كانت مثل زبد البحر)).
وقال محمد بن منصور في (كتاب الذكر) قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: ((خذوا جنتكم، قالوا: يا رسول الله من عدو حضر، قال: لا بل من النار، قالوا: وما جنتنا من النار، قال: سبحان الله والحمد لله، ولا إله إلا الله، والله أكبر، ولا حول ولا قوة إلا بالله فإنهن يوم القيامة مقدمات ومؤخرات، ومعقبات، ومجنبات، وهن الباقيات الصالحات)) وأخرجه أيضاً من طرق.
نعم أليست هذه الأحاديث تدل على ما ندعيه أم لا، فانظر وتأمل وقل ما شئت، فليس لنا عرض إلا إيضاح المسألة، وأنت وما اخترت الصلاة إلى النبي صلى الله عليه وآله وسلم، في مجموع الإمام زيد بن علي عن آبائه عن علي عليهم السلام عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أنه قال: ((من صلى عليَّ صلاة واحدة صلى الله عليه عشر صلوات، وأثبت له عشر حسنات، ومحى عنه عشر سيئات، واسبق ملكاه الموكلان به أيهما يبلغ روحي السلام)).
وأخرج الديلمي عن أبي بكرة: ((اكثروا من الصلاة عليَّ، وأن صلاتكم عليَّ مغفرة لذنوبكم، واطلبوا لي الدرجة، الوسيلة؛ فإن وسيلتي عند ربي شفاعتي لكم)) أخرجه ابن عساكر عن السيد حسن انظر في هذه الأدلة بإنصاف لتعرف مادلت عليه من صلاة الرب تعالى، وإثبات الحسنات، ومحو السيئات، وإيجاب الشفاعة لمن صلى على النبي صلى الله عليه وآله وسلم، ثم قل لي ما هذه الذنوب التي محتها هذه الضلاة أهي عمد أم خطأ [بياض 23].
أخرج الإمام زيد بن علي عليه السلام عن آبائه عن علي عليهم السلام قال: من مضر ليلة كفرت عنه ذنوب سنته؛ فإذا عوفي المريض تحانت خطاياه كما تتحات ورق الشجر اليابس في اليوم العاصف.
قال في (الروض النضير) قال ابن أبي شيبة في مصنفه: حدثنا معاوية عن الأعمش عن إبراهيم التيمي عن عبد الله قال دخلت على رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وهو يوعك فمسسته، فقلت: يا رسول الله إنك توعك وعكاً شديداً، قال صلى الله عليه وآله وسلم: أجل إني أوعك كما يوعك الرجلان منكم، قلت: أجرين، قال: نعم والذي نفسي بيده ما على الأرض مسلم يمسه أذى فما سواه؛ إلا حط الله عنه خطيئاته كما يحط الشجر ورقها)).وأخرج مسلم بمعناه في صحيحه.
وفي مجموع الزوائد عن أسد بن كرز أنه سمع النبي يقول: (( أن المريض تحار خطاياه كما يتحار ورق الشجر)) وعن عبد الله بن عمر من سطع رأسه في سبيل الله فاحتسب، غفر له ما قبل ذلك من ذنب.
وفي أمالي المرشد بالله بإسناده إلى أبي جعفر محمد بن علي عن أبيه عم جده عن علي عليه السلام قال: إن المرض لا أجر فيه، ولكنه لا يدع على العبد ذنباً، وإنما الأجر في القول باللسان، والعمل بالجوارح، وإن الله عز وجل يدخل بفضله وكرمه بطيب السر، والسرسرة الجنة.
وأخرج المرشد بالله عليه السلام عن عائشة قالت: قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: ((ما من مسلم يصيبه نصب أو وصب حتى الشوكة يشأكها إلا كتب الله له حسنة وحط عنه سيئة)).
وفي أمالي أبي طالب بإسناده عن علي الرضى بن موسى الكاظم عن آبائه عن علي عليهم السلام قال: قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: ((يقول الله عز وجل أيما عبد من عبادي ابتليته ببلاء على فراشه فلم يشكوا إلى عواده إلا أبدلته لحماً خير من لحمه ودماً خير من دمه، فإن قبضته فإلى رحمتي، وإن عافيته عافيته، وليس له ذنب، قالوا: يا رسول الله كيف ينبت له لحم خير من لحمه، قال: لحم لم يذنب من قبل)) وفيه بإسناده إلى إسماعيل بن موسى عن آبائه عن علي عليهم السلام قال: قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: ((أربعة يستانفون العمل المريض إذا بري، والمشرك إذا أسلم، والمنصرف من الجمعة إيماناً واحتساباً)) وفيها بإسناده إلى أبي خالد عن زيد بن علي عن آبائه عن علي عليهم السلام قال: قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ((إذا أراد الله أن يصافي عبداً صب عليه البلاء صباً، وثج عليه البلاء ثجاً؛ فإذا دعا، قالت الملائكة: هذا صوت معروف، وقال جبريل عليه السلام: يا رب هذا عبدك فلان دعاك فاستجب له، فيقول الله عزوجل: إني أحب أن أسمع صوته؛ فإذا قال: يا رب، قلت: لبيك عبدي لا تدعوني بشيء إلا أستجبت لك على إحدى ثلاث خصال إما أن أعجل لك ما سألتني، وإما أن أدخر لك في الآخرة ما هو أفضل منه، وإما أن أرفع عنك من البلاء مثل ذلك))، ثم قال قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: ((يؤتى بالمجاهد فيجلس للحساب، ويؤتى بالمتصدق فيجلس للحساب، ويؤتى بأهل البلاء فلا ينصب له ميزان، ولا ينشر لهم ديوان، ثم يساقون إلى الجنة بغير حساب، حتى يتمنى أهل العافية أن أجسادهم قرضت بالمقاريض في الدنيا)).
وفي (نهج البلاغة) قال عليه السلام: جعل الله ما كان من شكوى حطاً لسيئاتك، فإن المرض لا أجر فيه، ولكنه يحط السيئات، ويحتها حت الأوراق، إلى غير ذلك من الأحاديث النبوية، والآثار العلوية، أجل أيها المطلع على هذه الأحاديث أليست صريحة بأن الأمراض تظهر من جميع الآثام، وتقضي على جميع السيئات، وتجعلها في حكم العدم المحض، فما هو الموجب لاطراحها وتعطيل معانيها، وهل هنالك مانع من أن يجعلها مخصصة للعمومات القرآنية، كما جعلت التوبة مخصصة، قد يقول القائل إن عمومات القرآن في الأصول قطعية، وهذه الآثار ظنية، فلا تنهض على التخصيص.
قلنا: إذا سلمنا هذه القاعدة فهذه الآثار لم تكن ظنية؛ لأنها متواترة معنا مع أنها مؤيدة بكتاب الله وهو قوله تعالى: {إِنَّ الْحَسَنَاتِ يُذْهِبْنَ السَّيِّئَاتِ}، فلم يبق هنالك مانع ولا عذر موجب لهجر الأدلة، وكسرها، وتأويلها، والله أعلم.
أخرج الإمام زيد بن علي عن آبائه عن علي عليهم السلام قال: قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: ((من غسل أخاً له مسلماً فنظفه، ولم يقذره،ولم ينظر إلى عورته، ولم يذكر منه سوء، ثم شيعه وصلى عليه، وقعد حتى يدلى في قبره خرج من ذنوبه عطلاً))، وهو في أمالي الإمام أحمد بن عيسى؛ إلا أنه بلفظ: ((أيما امرءٍ مسلم ...)) إلى آخره.
وفي (الأحكام) بلغنا عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أنه قال: ((أيما امرء مسلم ...)) إلى آخره، وقد أخرج هذا الحديث ابن ماجة عن أبي خالد الواسطي عن حبيب بن أبي ثابت عن عاصم بن ضمرة عن علي عليه السلام بلفظ قال: قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: ((من غسل ميتاً وكفنه، وحنطه وحمله، وصلى عليه، ولم يفشي عليه شيء ما رأى خرج من خطيئته كيوم ولدته أمه)).
وفي سنن البيهقي عن عائشة: ((من ولي غسل ميت فأدا فيه الأمانة-يعني يستر ما يكون عند ذلك- خرج من ذنوبه كيوم ولدته أمه)).
وأخرج البيهقي بسنده إلى أبي رافع أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال: ((من غسل ميتاً فكتم عليه غفر الله له أربعين مرة، ومن حفر له أجرى عليه كأجر مسكن أسكنه، ومن كفنه كساه الله يوم القيامة من سندس واستبرق)) وإذا كان في اسناده مقال فهو معضود بما تقدم.
قلت: ورواه في مجمع الزوائد عن أبي رافع بلفطه؛ إلا أنه قال: أربعين كبيرة بدل مرة، وليس فيه: ((ومن كفنه..)) إلى آخره، فما رأيكم في هذه الأحاديث المروية عن أئمة العترة الطاهرة، وعلى رأسهم الإمام زيد بن علي، والهادي إلى الحق، والإمام أحمد بن عيسى عليهم السلام، أليست ناطقة بأنها تكفر جميع الذنوب؛ لأنها تقول أن الغاسل إلى آخره يخرج من الذنوب عطلاً، وفي بعضها كيوم ولدته أمه، فهل ترضوا منا إذا ما تأولناها، وقلنا إنها تكفر لبعض العمد، ولا نقول أنها تكفر ولا تكفر؛ لأنها على رأيكم لا تكفر إلا الخطأ والنسيان، وقد من الله برفعهما، فالتكفير على قولكم كلا تكفير لا قوة إلا بالله.
روى الإمام زيد بن علي في مجموع آبائه عن علي عليهم السلام قال: قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: ((صدقة السر تطفي غضب الرب تعالى، وإن الصدقة لتطفي الخطيئة كما يطفئ الماء النار؛ فإذا تصدق أحدكم بيمينه فليخفها عن شماله؛ فإنها تقع بيمين الرب تبارك وتعالى، وكلتا يدي ربي سبحانه، وتعالى يمين، فيربيها كما يربي أحدكم فلوه أو فصيله حتى تصير اللقمة مثل جبل أحد))، ومثله في أمالي أحمد بن عيسى بحذف يمينه، ومثل جبل أحد، أليس هذا الحديث ينطق ويصرح ويفهم بان الصدقة تطفي غضب الرب، وأنت تعلم أنه تعالى حليم كريم لا يغضبه إلا الأمر العظيم، وأما الصغير فهو لا يبالي به ولا يلتفت إليه، فمن هنا نعلم أن للصدقة تأثيراً عظيماً لا يكتنه كنهه؛ لأنها تطفي غضب الجبار؛ فيستنبط من هذا الحديث تكفير الذنوب الكبيرة، يزيدك وضوحاً وبياناً لما قلناه أن آخر الحديث يقول بأنها تطفي الخطيئة كما يطفي الماء النار، ومن المعلوم قطعاً أن الماء يصيِّر النار رماداً، ويخمدها إخماداً.
في أمالي الإمام أحمد بن عيسى عليه السلام قال القاسم عليه السلام، والحسن، ومحمد عليهما السلام، ويوم عاشوراء هو اليوم العاشر من محرم بلا اختلاف في ذلك، وصومه حسن جميل، وفيه فضل كثير، ولا حرج على من ترك صومه، قال: وروي عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم إنه كان يصومه، وقال القاسم عليه السلام: صيام يوم عرفة حسن جميل، وجاء فيه فضل كثير، وأن صيامه كفارة سنة.
وفي (الجامع الكافي) وقال محمد: بلغنا عن علي عليه السلام أنه كان يأمر بصومه، وذكر فيه فضلاً كثيراً، وفيه -أي في الجامع الكافي- روى محمد عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم: ((من صام يوم عرفة كان كفارة سنتين سنة لما مضى، وسنة لما يستقبل)).
وفي (البحر): وصوم يوم عاشوراء لقوله صلى الله عليه وآله وسلم: ((كفارة سنة)) ولفظه عن أبي قتادة عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أنه قال:((صوم يوم عاشوراء احتسب على الله أن يكفر السنة التي قبله)).
وقال في البحر: وصوم يوم عرفة لقوله صلى الله عليه وآله وسلم: ((صوم يوم عرفة)) ولفظه عن أبي قتادة أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال: ((صوم يوم عرفة إني احتسب على الله أن يكفر السنة التي قبله، والسنة التي بعده)).
نعم هذان الحديثان يدلان على أن صوم هذين اليومين يكفران الذنوب، الأول يكفر ذنوب سنة، والآخر يكفر ذنوب سنتين، فماذا أراد رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم بهذا التكفير، هل أراد الذنوب الواقعة على وجه العمد؟ أم الذنوب المترتبة على ما عفى الله عنه وتفضل بغفرانه؟، ومنَّ علينا برفعه تفضلاً منه وإكراماً، ورحمة منه وإحساناً، فأعمل الأحاديث وأخرجها مخرجاً حسناً، والله أعلم.
في مجموع الإمام زيد بن علي عن آبائه عن علي عليهم السلام قال: قال رسول صلى الله عليه وآله وسلم: ((من أراد الدنيا والآخرة فليؤم هذا البيت، فما أتاه عبد يسأل دنيا إلا أعطاه منها، ولا يسأله آخرة إلا أدخر له منها، أيها الناس تابعوا بين الحج والعمرة؛ فإنهما يغسلان الذنوب كما يغسل الماء درن الثوب، وينفيان الفقر كما تنفي النار خبث الحديد)).
وعن زيد بن علي عليه السلام عن آبائه عن علي عليهم السلام قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يقول: ((تحت ظل العرش يوم لا ظل إلا ظله رجل خرج من بيته حاجاً أو معتمراً إلى بيت الله الحرام))، وفيه عن زيد بن علي عن آبائه عن علي عليهم السلام قال: لما كان عشية عرفة ورسول الله صلى الله عليه وآله وسلم واقف، أقبل على الناس بوجهه، فقال: ((مرحباً بوفد الله-ثلاث مرات- الذين إذا سألوا الله أعطاهم، ويخلف عليهم نفقاتهم في الدنيا، ويجعل لهم في الآخرة مكان كل درهم ألفاً، إلا أبشركم، قالوا: بلى يا رسول الله، قال: فإنه إذا كان في هذه العشية هبط الله سبحانه إلى سماء الدنيا، ثم أمر الله ملائكته فيهبطون إلى الأرض، فلو طرحت إبرة لم تسقط إلا على رأس ملك، ثم يقول سبحانه وتعالى: يا ملائكتي انظروا إلى عبادي شعثاً غبراً قد جاؤني من أطراف الأرض، هل تسمعون ما قالوا، قالوا: يسألونك أي رب المغفرة، قال: أشهدكم إني قد غفرت لهم ثلاث مرات، فأفيضوا من موقفكم مغفوراً لكم)).
وفي مجموع زيد بن علي عن أبيه عن جده عن علي عليهم السلام قال: لما كان يوم النفير أصيب رجل من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فغسله وكفنه وصلى عليه، ثم أقبل علينا بوجهه الكريم، فقال: ((هذا المطهر يلقى الله تعالى بلا ذنب يتبعه))، وفي بعض الأحاديث: ((من حج ولم يرفث، ولم يفسق خرج من حجه كيوم ولدته أمه))، وفي حديث آخر: ((الحج المبرور ليس له جزاء إلا الجنة)).
نعم هذا هو الحج وهذا فضله، وهذه هبة الله لنا وكرامته، أرأيت أخي ماله من المزايا العظيمة، والفضائل الكريمة، وكيف تفضَّل الله سبحانه على عباده الضعفاء المحتاجين إلى عفوه ورحمته، المفتقرين إلى غفرانه ومنه وإحسانه، ولاشك أنه غفور رحيم، فهو قد تفضَّل سبحانه في الحديث الأول وجعل الحج غاسلاً للذنوب، كما يغسل الماء درن الثوب، ونافياً للفقر كما تنفي النار خبث الحديد، كما جاء في الحديث الثاني الخارج من بيته حاجاً أو معتمراً تحت ظل عرشه يوم لا ظل إلا ظله، كما تفضل في الحديث الثالث وأشهد على نفسه ملائكته، بعد أن سأل ملائكته وهو يعلم، وأشهدهم على نفسه، وهو لا يحتاج إلى الأشهاد؛ لأنه صادق الوعد والوعيد، فقال سبحانه ((أشهدوا يا ملائكتي فإني قد غفرت لهم))، بعد ماباهىبهم ملائكته، ولم يكتف بالغفران مرة، ولكنه كرره ثلاثاً، فيا له من فوز ويا لها من نجاة، سبحان الله ما أوسع عفو الله وما أعظم مغفرته، كما يخبر النبي صلى الله عليه وآله وسلم في الحديث الرابع أنه يخرج من ذنوبه كيوم ولدته أمه، كما يقول لنا في الحديث الخامس أنه ليس جزاء الحج المبرور إلا الجنة، فهل بعد هذا من بيان، وهل بعد هذا من إيضاح بأن الحج يكفر الذنوب ويجعل المذنب خارجاً من الذنوب كيوم ولدته أمه، وهذا لعمري دليل واضح، وبرهان قوي وحجة نيرة على أن الحسنات يذهبن السيئات.
الخلود في النار: معناه البقاء الدائم الذي لا نهاية له، يوضح ذلك ويبينه قول الله سبحانه وتعالى: {وَمَا جَعَلْنَا لِبَشَرٍ مِنْ قَبْلِكَ الْخُلْدَ أَفَإِيْنْ مِتَّ فَهُمُ الْخَالِدُونَ}، فقد نفى الله هذه الآية أن يكون لبشر البقاء المستمر، أما البقاء المنقطع فقد كان، وأما قولهم خلد السلطان فلاناً في السجن، فعلى ضرب من المجاز.
نعم أنا ...... الله ونعتقد أن من دخل النار من الكفار والعصاة المتمردين الفجار فلا خروج لهم أبداً، وإليك البرهان القاطع في محل النزاع، قال الله سبحانه وتعالى رداً على اليهود لما قالت: {لَنْ تَمَسَّنَا النَّارُ إِلاَّ أَيَّامًا مَعْدُودَةً}، فقال اله حاكياً لقولهم: {وَقَالُوا لَنْ تَمَسَّنَا النَّارُ إِلاَّ أَيَّامًا مَعْدُودَةً} ثم عقب عليهم بالاستكبار مكذباً لقولهم ومزيفاً له: {قُلْ أَاتَّخَذْتُمْ عِنْدَ اللَّهِ عَهْدًا فَلَنْ يُخْلِفَ اللَّهُ عَهْدَهُ أَمْ تَقُولُونَ عَلَى اللَّهِ مَا لاَ تَعْلَمُونَ}، ثم أتى بالجواب الفاصل والقول الحق مثبتاً للنفي ببلى، فقال سبحانه: {بَلَى مَنْ كَسَبَ سَيِّئَةً وَأَحَاطَتْ بِهِ خَطِيئَتُهُ فَأُوْلَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ}، وهذا رد عام، قضى الله فيه على كل كافر وفاجرن وفاسق بالخلود في النار، كما جاء في آية آخرى: {وَمَنْ يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَيَتَعَدَّ حُدُودَهُ يُدْخِلْهُ نَارًا خَالِدًا فِيهَا}، فهذه الآيات تدل على خلود العصاة في النار سواء كانوا من أهل التوحيد المتمرين أم من الكفار المعتدين، وكم وكم في القرآن من هذا، وأصرح من هذا قول الله تعالى في سورة يونس: {وَالَّذِينَ كَسَبُوا السَّيِّئَاتِ جَزَاءُ سَيِّئَةٍ بِمِثْلِهَا وَتَرْهَقُهُمْ ذِلَّةٌ مَا لَهُمْ مِنَ اللَّهِ مِنْ عَاصِمٍ كَأَنَّمَا أُغْشِيَتْ وُجُوهُهُمْ قِطَعًا مِنَ اللَّيْلِ مُظْلِمًا أُوْلَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ}، وأما ما استدل به الخصوم في قوله تعالى: {فَأَمَّا الَّذِينَ شَقُوا فَفِي النَّارِ لَهُمْ فِيهَا زَفِيرٌ وَشَهِيقٌ، خَالِدِينَ فِيهَا مَا دَامَتِ السَّمَاوَاتُ وَالأَرْضُ إِلاَّ مَا شَاءَ رَبُّكَ إِنَّ رَبَّكَ فَعَّالٌ لِمَا يُرِيدُ} فلا دلالة فيها على الخروج، أنى وكيف يكون؛ لأن المشية محتملة أن يكون المعنى أنه محكوم عليهم بالنار الآمدة البقا في الدنيا، أو إلا مدة اللبث في الموقف، وأنه تعليق بالمحال، أي إلا ما شاء ربك، والله لا يشاؤه، فهو تعليق بالمحال، والتعليق بالمحال محال، وهذا كقول العرب حتى يشيب الغراب، وكما قال الله تعالى: {حَتَّى يَلِجَ الْجَمَلُ فِي سَمِّ الْخِيَاطِ}، مع أنهم لو قالوا أنه يلزم من التعليق بالمشية خروج أهل النار من النار لزم عليهم خروج أهل الجنة من الجنة؛ لأن الكل معلق بمشيئة الله، فلماذا الفرق بين مشية ومشيئة، فإن قالوا: أنه اتبع المشية في حق أهل الجنة بقوله: {عَطَاءً غَيْرَ مَجْذُوذٍ}.
قلنا: وكذلك أهل النار قد جاءت الآيات الكثيرة تؤكد الخلود كقوله تعالى: {وَمَا هُمْ عَنْهَا بِغَائِبِينَ}، وكقوله تعالى:{كُلَّمَا أَرَادُوا أَنْ يَخْرُجُوا مِنْهَا مِنْ غَمٍّ أُعِيدُوا فِيهَا وَذُوقُوا عَذَابَ الْحَرِيقِ}، وكقوله تعالى: {اخْسَئُوا فِيهَا وَلاَ تُكَلِّمُونِ}، وكقول مالك جواباً علىأهل النار: {إِنَّكُمْ مَاكِثُونَ}، وكم وكم من آيات قرآنية محكمة تدل على الخلود الأبدي، مع أنه يلزمهم خروج الكفار من النار؛ لأن الشقاوة تعم الكل فالقول بخروج العصاة من النار دون الكفار بحكم وتخصيص من دون مخصص فإن قالوا لنا: أحاديث تخصص العصاة، قلنا: فمن الرواي لها أليس الراوي أبو هريرة الذي أتى بكل طامة في الإسلام، وتقرب من معاوية، ولا يبعد أنه تقرب بوضع مثل هذه الأحاديث تزلفاً وتقرباً إلى معاوية؛ لينال من دنياه، ولعمري لقد جرحه أمير المؤمنين علي عليه السلام ورماه بالكذب، وسماه أكذب دوس، بل لقد ضربه ابن الخطاب على الكذب، وحقاً إن جرح علي له، وابن الخطاب فوق جرح الذهبي، ويحيى بن معين، وابن حجر، وبحق أن قاعدة أهل الحديث في غاية الإنهيار، وهي قولهم: بأن كا الصحابة عدول، فالصحابة لا يدعون لأنفسهم هذه المنزلة ولا يثبتون لها العصمة، فقد جرح بعضهم البعض، بل لقد قتل بعضهم الآخر، ومما لا شك فيه أن فيهم الزاني أمثال المغيرة بن شعبة، وشارب الخمر وقاذف المحصنات، وفيهم البغاة على إمام الحق، الخارجين على أمير المؤمنين وسيد الوصيين، أمثال عبد الله بن عمر، والخارج عليه بسيفين، وهو من رواة حديث الخروج من النار، وفيهم القانت بلعن أمير المؤمنين والحسن والحسين عليهم السلام وعمار بن ياسر وغيرهم من الصحابة الأخيار رضي الله عنهم، بل لقد استباحوا لعن علي عليه السلام سبعين ألف منبر، ورموه بالإلحاد، فلقد أمر معاوية عماله أن يلعنوا علياً بهذا اللفظ، وهو: اللهم ألعن أبا تراب، فإنه ألحد في دينك، وصد عن سبيلك فالعنه لعناً وبيلاً، بل لقد قال خالد بن عبد الله القسري: اللهم ألعن علياً بن أبي طالب بن عبد المطلب بن هاشم صهر رسول الله عليه على ابنته وأبا الحسن والحسين، ثم يقبل على الناس ويقول هل كنيت، ومن المعلوم قطعاً أن حب علي إيمان، وبغضه نفاق، ولو لم يرد فيه إلا الحديث المشهور ((لا يحبك إلا مؤمن ولا يبغضك إلا منافق))، ومن المعلوم أن الله سبحانه وتعالى قد شهد على المنافقين، قال جل وعلا: {وَاللَّهُ يَشْهَدُ إِنَّ الْمُنَافِقِينَ لَكَاذِبُونَ}، أفبعد شهادة الله عليهم بالكذب هل ينبغي لنا أن نأخذ ديننا عنهم؟ ونجعلهم أمناء الله على شرعه سبحانك اللهم هذا بهتان عظيم!! أو ما قد قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: (( إن هذا العلم دين فانظروا عن من تأخذوا دينكم))، هذا ومما يؤيد ما قلنا من أن الصحابة لا تدعي نفسها هذه المنزلة المسعرة بالعصمة، وحقاً لقد جرح بعضهم الآخر كما تقدم آنفاً، فهذا علي كرم الله وجهه يقول: ما حدثني أحد بحديث عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم إلا استحلفته، وحدثني أبو بكر وصدق، وهذا لا يدل على تصديقه لأبي بكر، فلا مانع من أنه إنما صدقه إلاأن الحديث عنده معلوم له من جهة آخرى، وهذا عمر لما أستأذنه الزبير في الغزو، قال: إني ممسك بباب هذا الشعب أن تتفرق أصحاب محمد في الناس فيضلوهم، وقال عمر في سعد بن عبادة سيد الأنصار: اقتلوا سعداً قتل الله سعداً اقتلوه فإنه منافق، ولقد شتم عمر خالد بن الوليد، وحكم بفسقه، وخوَّن عمرو بن العاص، ومعاوية ونسبهما إلى سرقة مال الفيء، وقال عبد الرحمن بن عوف ما كنت أرى أن أعيش حتى يقول لي عثمان يا منافق، وقال: لو أستقبلت من أمري ما استدبرت ما وليت عثمان شسع نعلي، وهذه عائشة خرجت بقميص رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم تقول: إن هذا قميص رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم لم يبل، وعثمان قد أبلى سنته، وروى بعضهم حديث الشؤم في ثلاثة ، فكذبته، وروى بعضهم حديث التاجر فاجر، فكذبته، وأنكر العباس وعلي وفاطمة حديث أبي بكر ((نحن معاشر الأنبياء لا نورث..))، وقالوا: كيف كان النبي يعرف هذا الحكم غيرنا، ونحن الورثة وأولى الناس بأن يؤدي هذا الحكم إليه، ولم يقبل سعد بن عبادة، وكثير من الصحابة حديث أبي بكر ((الأئمة من قريش...))، وقيل: لابن عباس رضي الله عنه عنهما أن عبد الله بن الزبير يزعم أن موسى صاحب الخضر ليس موسى بني إسرائيل، فقال: كذب عدو الله، وكذَّب عروة بن الزبير وهو تابعي ابن عباس، وهو صحابي حين أخبر أن ابن عباس يقول أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم أقام بمكة بعد البعثة ثلاثة عشر سنة، فقال: كذب ابن عباس وقد جاء أمثال هذا عن كثير من الصحابة منما لا يمكننا الإطالة بذكره فلو كانوا يعتقدون عدالة الكل كما يزعم أهل الحديث لما ساغ لأحد منهم رد رواية الآخر بل يجب عليه قبولها والإذعان بما فيها، وبالجملة فالقول بعموم التعديل مردود مهدوم بما تقدم، ولم يبق بعد هذه النقول والإيرادات لدى القائلين به من حجة يدافعون بها عن هذه القاعدة التي اصطلحوا عليها، إلا أن يقولوا هذا لا يصح، وهذا لم يثبت، وإن كان ثابتاً وصحيحاً في نفس الأمر، والله أعلم.
هذا وقد أهمل كثير من أهل الحديث واجب التثبت في الرواية كما أمر الله من جانب وتجاوزوا القدر المطلوب من التثبيت من جانب آخر، فتراهم يصححون ويقبلون بلا أدنى توقف رواية من أخبر الله عنه في كتابه أنه فاسق، كالوليد بن عقبة، ومن أخبر النبي أنه وزغ ملعون كالحكم، ومن أخبر عنه أنه في النار كسمرة، ومن أخبر النبي أنه داع إلى النار، كمعاوية، وعمرو وأمثالهم، ثم تراهم يضعفون من يقل فيه يحيى بن معين، أو أبو حاتم، أو ابن القطان، أو ابن أبي خيثمة، أو أمثالهم لا أعرفه أو لا أحب حديثه، أو في نفسي منه شيء، أو كان يتشيع، أو ربما يهم، وأمثال هذا فيما لا يثبت به جرح، ولم يقم عليه دليل، ولو كان من قيل فيه ما قاله أحدهم من أصدق الناس وأتقاهم درج علىهذا طائفة بعد طائفة، وقبيل بعد قبيل، داء عظال لا علاج له إلا الإبتهال إلى الله عزوجل أن يجعلنا على بصيرة من هذا الأمر بتوفيق منه وإحسان، ثم نقل هذا البحث من عند قوله، فهذا علي يقول ما حدثني أحد بحديث إلى آخره، من النصائح الكافية بتصرف يسير، أفبعد هذا يليق بنا أن نجعل هؤلائي-أعني أهل الحديث- هم الواسطة بيننا وبين رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، على ما فيه من الإفراط والتفريط، والغلو الشديد.
أوما قد بين لنا رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم عن من نأخذ ديننا عنه، فقال: ((أنا مدينة العلم وعلي بابها))، كما قال صلى الله عليه وآله وسلم: ((أنا دار الحكمة وعلي بابها))، وكما بين لنا صلى الله عليه وآله وسلم بقوله لعلي عليه السلام: (( أنت تبين للأمة ما اختلفت فيه من بعدي))، إلى غير ذلك من الأحاديث، مع أنا نعارضهم أحاديثهم بأحاديث مروية عن القول أنفسهم، فقد روى مسلم والترمذي: ((لا يدخل الجنة من كان في قلبه مثقال ذرة من كبر)).
وعن عبد الله بن عمر انه سمع رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يقول: ((من كان في قلبه مثقال حبة خردل من كبر كبه الله في النار على وجهه))، كما روي عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم أنه قال: ((لا يدخل الجنة جبار ولا بخيل، ولا سيئ الملكة))، كما جاء عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم أنه قال: ((لا يدخل الجنة نمام))، وكما روى الإمام أبو طالب في الأمالي بإسناده إلى الرسول صلى الله عليه وآله وسلم أنه قال: ((من اقتطع حق مسلم بيمينه لم يرح رائحة الجنة، قيل يار سول الله: ولو يسيراً، قال: ولو سواكاً من أرك))، إلى غير ذلك من الأحاديث المصرحة بخلود أهل النار في النار، وعدم الخروج منها، وعلى فرض التعارض فلنرجع إلى كتاب الله، ولا شك أن أصل هذا المذهب مذهب اليهود الذي حكى الله عنهم هذا المذهب، المذهب الخسيس المنهار، الحامل للعباد على مخالفة رب الأرباب: {وَقَالُوا لَنْ تَمَسَّنَا النَّارُ إِلاَّ أَيَّامًا مَعْدُودَةً}، فكر الله عليهم بالإنكار والتوبيخ والتكذيب بقوله: {أَاتَّخَذْتُمْ عِنْدَ اللَّهِ عَهْدًا فَلَنْ يُخْلِفَ اللَّهُ عَهْدَهُ أَمْ تَقُولُونَ عَلَى اللَّهِ مَا لاَ تَعْلَمُونَ}، ثم جاء ببلى المفيدة للإثبات بعد النفي معمماً للحكم على كل عاص، ومن المعلوم عند الأصوليين أن العام لا يقصر على سببه، فقال سبحانه وتعالى: {بَلَى مَنْ كَسَبَ سَيِّئَةً وَأَحَاطَتْ بِهِ خَطِيئَتُهُ}، ثم رتب الحكم على الوصف، فقال سبحانه وتعالى: {فَأُوْلَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ}، وهذا نص في محل النزاع، كما قال سبحانه وتعالى: {وَمَنْ يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَإِنَّ لَهُ نَارَ جَهَنَّمَ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا}، وكما قال سبحانه وتعالى:{وَمَا هُمْ عَنْهَا بِغَائِبِينَ}، وكما قال جل وعلا: {كُلَّمَا أَرَادُوا أَنْ يَخْرُجُوا مِنْهَا مِنْ غَمٍّ أُعِيدُوا فِيهَا}، وكما قال سبحانه وتعالى حاكياً عن مالك في جوابه على أهل النار عندما طلبوا تخفيف يوماً من العذاب، فقال: {إِنَّكُمْ مَاكِثُونَ}، إلى غير ذلك من الآيات القرآنية.
أجل، وهذا المسلك هو الذي ينبغي أن نسلكه عند التنتزع عملاً بقوله سبحانه وتعالى: {فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ}.
قال علي كرم الله وجهه مفسراً للآية: فالرد إلى الله الأخذ بمحكم كتابه، والرد إلى الرسول الرد إلى سنته الجامعة غير المفرقة، قال الشيخ محمد عبده المصري شارح النهج عند تعليقه على هذه الكلمة المراد بالسنة الجامعة: ما اتفق عليه الخصمان، والقرآن نحن متفقون عليه جميعاً، فلا نحتاج فيه إلى تزكية الذهبي، ولا يحيى بن معين، ولا ابن حجر المكي، ولا العسقلاني، ولا غيرهم من رجال الجرح والتعديل، كابن الصلاح وأمثاله من النواصب.
ولنختم الرسالة بقول علي عليه السلام -تبركاً به-، قال عليه السلام وهو يحذرنا من الموت ويخوفنا من مغبته: فاحذورا الموت؛ فإنه يأتي بأمر عظيم وخطيب جسيم، بخير لا يكون معه شر أبداً، وشر لا يكون معه خير أبداً، ثم يقول في التحذير من النار: فاحذروا ناراً قعرها بعيد، وحرها شديد، وعذابها جديد، دار ليس فيها رحمة، ولا تسمع فيها دعوة، ولا تفرج فيها كربة، كما يقول عليه السلام في خطبته الغراء واصفاً للإنسان ومصيره بعد حمله إلى قبره: حتى إذا أنصرف المشيع، ورجع المتفجع، أقعد في حفرته نجياً لبهتة السؤال، وعثرة الإمتحان، وأعظم ما هنالك بلية، نزول الحميم، وتصلية الجحيم، وفواران السعير، وسورات الزفير، لا فترة مريحة، ولا دعة مزيحة، ولا قوة حاجزة، ولا موتة ناجزة، ولا سنة مسلية بين أطوار الموتات، وعذاب الساعات، إنا بالله عائذون ... أهل المعصية أنزلهم شر دار، وغل الأيدي إلى الأعناق، وقرن النواصي بالأقدام، وألبسهم سرابيل القطران، ومقطعات النيران، في عذاب قد أشتد حره، وباب قد أطبق علىأهله، في نار لها كلب ولجب، ولهب ساطع، وقصيف هائل، لا يظعه مقيمها، ولا يفدى أسيرها، ولا تفصم كبولها، لامدة للدار، فتفني، ولا إجابة للقوم فيقضى، فلينظر الناظر بعقله في كلام الوصي، فهو الكلام الذي عليه مسحة من الكلام الإلهي، وعبقة من الكلام النبوي، وليتأمل فيه هل يدل على الخلود في النيران والمكث الأبدي الذي لا نهاية له، أم يدل على الخروج منها، والإنتقال إلى جنات تجري من تحتها الأنهار، ولعمري أنا نورد هذا لو كان صحيحاً مؤيداً بالأدلة والبراهين الصحيحة؛ لأنا نعرف من أنفسنا بأنا مذنبون، وفي حق الله مقصرون، لا يصلج لنا إلا مثل هذا المذهب المرن، المغري للعباد على المعاصي، فلنتق الله تعالى في أنفسنا ولنحاسبها حساباً دقيقاً، ولنعلم أنه ليس بعد الموت مستعتب، وما بعد الدنيا من دار إلا الجنة أو النار، فلا نمني أنفسنا بالأماني الباطلة، وإلاقوال الخيالية، فالعاقل من دان نفسه وعمل لما بعد الموت، والأحمق من أتبع نفسه هواها، وتمنى على الله، وصدق الله العظيم إذ يقول: {لَيْسَ بِأَمَانِيِّكُمْ وَلاَ أَمَانِيِّ أَهْلِ الْكِتَابِ مَنْ يَعْمَلْ سُوءًا يُجْزَ بِهِ}.
ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم، واستغفر الله العظيم لي ولجميع إخواني المؤمنين، كما أسأله حسن الختام والتوفيق، وصلى الله وسلم على سيدنا محمد وآله الطاهرين. آمين.
هذا ولقد كان الفراغ من نسخ هذه الرسالة التي هي لمولانا العلامة عماد الإسلام، وتاج الآل الأعلام، يحيى بن عبدالله راوية الهروي، حفظهم الله وأبقاهم وزاد في الرجال من أمثالهم.
يوم الثلاثا الموافق 5شهر جمادى الآخرة عام 1399هـ.
بقلم الفقير إلى ربه الراجي من الله غفران ذنوبه محمد بن عبد الله الحجازي غفر الله له ولوالديه ولكافة المؤمنين والمؤمنات آمين آمين.