الكتاب : حقائق المعرفة |
حقائق المعرفة (1/1)
أعد هذا الكتاب إلكترونيا
قطب الدين بن محمَّد الشَرْوَني الجعفري
للتواصل
viva_intifada@hotmail.com
المقدمة (1/2)
الحمد لله رب العالمين حمداً كثيراً طيباً مباركاً فيه، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن سيدنا محمداً عبده ورسوله صلى الله عليه وعلى آله الطاهرين وبعد:
فإن أول العبادة وأساسها هو معرفة الله تعالى ومعرفة صفاته، قال الإمام القاسم بن إبراهيم عليه السَّلام: (اعلم يا أخي -علمك الله الخير والهدى، وجنبك المكاره والردى- أن الله خلق جميع عباده المكلفين لعبادته كما قال عزّ وجلّ: {وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالإِنسَ إِلاَّ لِيَعْبُدُونِ}[الذاريات:56]، والعبادة تنقسم على ثلاثة وجوه:
أولها: معرفة الله.
والثاني: معرفة ما يرضيه وما يسخطه.
والوجه الثالث: اتباع ما يرضيه، واجتناب ما يسخطه...
إلى أن قال: فهذه ثلاث عبادات من ثلاث حجج احتج بها المعبود على العباد وهي: العقل، والكتاب، والرسول.
فجاءت حجة العقل بمعرفة المعبود، وجاءت حجة الكتاب بمعرفة التعبد، وجاءت حجة الرسول بمعرفة العبادة، والعقل أصل الحجتين الأخيرتين؛ لأنهما عرفا به ولم يعرف بهما فافهم ذلك).
ويدل على هذا التقسيم الفريد قول الرسول الأكرم صلى الله عليه وآله وسلم للأعرابي عندما جاءه يلتمس منه غرائب العلم، فقال له رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: ((وماذا صنعت في رأس العلم حتى تسألني عن غرائبه ؟)) قال: وما رأس العلم يا رسول الله؟ قال: ((معرفة الله حق معرفته))، فقال يا رسول الله: وما معرفة الله حق معرفته؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: ((أن تعرفه بلا مثل ولا شبيه ، وأن تعرفه إلهاً واحداً، فرداً صمداً، أولاً آخراً، ظاهراً باطناً، لا كفؤ له ولا مثيل)). (1/3)
ويقول الإمام علي عليه السَّلام: (أول الدين معرفته، وكمال معرفته التصديق به، وكمال التصديق به توحيده، وكمال توحيده الإخلاص له، وكمال الإخلاص له نفي الصفات عنه، لشهادة كل صفة أنها غير الموصوف، وشهادة كل موصوف أنه غير الصفة، فمن وصف الله سبحانه فقد قرنه، ومن قرنه فقد ثناه، ومن ثناه فقد جزأه، ومن جزأه فقد جهله، ومن جهله فقد أشار إليه، ومن أشار إليه فقد حده، ومن حده فقد عده، ومن قال: فيم؟ فقد ضمنه، ومن قال: علام؟ فقد أخلى منه، كائن لا عن حدث، موجود لا عن عدم، مع كل شيء لا بمقارنة، وغير كل شيء لا بمزايلة، فاعل لا بمعنى الحركات والآلة، بصير إذ لا منظور إليه من خلقه، متوحد إذ لا سكن يستأنس به، ولا يستوحش لفقده).
ومن هنا ندرك أهمية المعرفة، وضرورة سلامتها من التمثيل والتشبيه والتجسيم الذي وقع في فخه كثير من المسلمين، ولا بد أن تكون هذه المعرفة منطلقة من التفكر السليم في عجائب المصنوعات وغرائب المخلوقات، بعيدة كل البعد عن التفكر في ذات الحق جل وعلا؛ لأن التفكر في الذات يؤدي إلى الإلحاد المذموم، كما قال أمير المؤمنين عليه السَّلام: (من تفكر في المخلوق وحَّد، ومن تفكر في الخالق ألحد). (1/4)
ولا بد أن يكون الاعتقاد المنبثق من تلك المعرفة مستقراً استقراراً أكيداً في النفس، يشعر المسلم من خلاله بالتوجه الكامل نحو الله تعالى بكل قواه وحركاته في الضمير والجوارح والحياة، ويعرف أنه عبد يَعْبُد ربًّا يُعْبَد، ولا تتأتي هذه المشاعر إلا إذا كانت خالية عن التقليد الأعمى، قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: ((من أخذ دينه عن التفكر في آلاء الله ، والتدبر لكتاب الله، والتفهم لسنتي، زالت الرواسي ولم يزُل، ومن أخذ دينه من أفواه الرجال، وقلدهم فيه، ذهبت به الرجال من يمين إلى شمال، وكان من دين الله على أعظم زوال)).
قواعد أساسية لفهم مسائل العقيدة (1/5)
وهنالك قواعد أساسية استقرأتها من خلال بحثي في أصول الدين، وأرى من وجهة نظري القاصر أن تطبيقها والاسترشاد بها في أصول الدين يؤدي إلى التطبيق الفعلي للحديث النبوي السابق وهذه القواعد هي:
1- إستعمال العقل باعتباره مناط التكليف، وأداة النظر: (1/6)
قال تعالى: {وَالَّذِينَ اجْتَنَبُوا الطَّاغُوتَ أَنْ يَعْبُدُوهَا وَأَنَابُوا إِلَى اللَّهِ لَهُمُ الْبُشْرَى فَبَشِّرْ عِبَادِ ، الَّذِينَ يَسْتَمِعُونَ الْقَوْلَ فَيَتَّبِعُونَ أَحْسَنَهُ أُوْلَئِكَ الَّذِينَ هَدَاهُمُ اللَّهُ وَأُوْلَئِكَ هُمْ أُوْلُوا الأَلْبَابِ}[الزمر:17،18].
ويعتبر بمثابة النور للإنسان يميز به بين الحق والباطل، وبين الممكن والمستحيل.
والقرآن يوصي كثيراً باستخدام العقل في مسائل الاعتقاد، ومن الأمثلة على ذلك قوله تعالى: {لَوْ كَانَ فِيهِمَا آلِهَةٌ إِلاَّ اللَّهُ لَفَسَدَتَا}[الأنبياء:22]، فالآخذ بالعقل في مسائل أصول الدين آخذ بالقرآن الكريم، ولذلك انتهج المذهب الزيدي النهج القرآني في استخدام الدليل العقلي وجمع في الاستدلال على صحة معتقداته بين صحيح النقل، وصريح العقل، ولذلك لم تأسره ظواهر الألفاظ المتشابهات، كما أسرت بعض المذاهب التي عطلت العقل، وحصرت دوره، وقصرت فهمه وإدراكه على فهم من قلدوه تقليداً أعمى، {وَإِذَا قِيلَ لَهُمُ اتَّبِعُوا مَا أَنزَلَ اللَّهُ قَالُوا بَلْ نَتَّبِعُ مَا أَلْفَيْنَا عَلَيْهِ آبَاءَنَا أَوَلَوْ كَانَ آبَاؤُهُمْ لاَ يَعْقِلُونَ شَيْئًا وَلاَ يَهْتَدُونَ}[البقرة:170].
قال الإمام القاسم بن إبراهيم عليه السَّلام: (معرفة الله عزّ وجلّ ـ وهي عقلية ـ منقسمة على وجهين وهما: إثبات ونفي، فالإثبات هو اليقين بالله والإقرار به، والنفي هو نفي التشبيه عنه تعالى، وهو التوحيد، وهو ينقسم على ثلاثة أوجه:
الوجه الأول: الفرق بين ذات الخالق وذات المخلوق حتى ينفي عنه جميع ما يتعلق بالمخلوقين في كل معنى من المعاني، صغيرها وكبيرها، وجليلها ودقيقها، حتى لا يخطر في قلبك في التشبيه خاطر شك ولا توهم ولا ارتياب، حتى تُوحِّدَ الله سبحانه باعتقادك وقولك وفعلك، فإن خطرتْ على قلبك في التشبيه خاطرة شك فلم تُنفِ عن قلبك بالتوحيد خاطرَها، وتُمط باليقين البت والعلم المثبت حاضرها، فقد خرجت من التوحيد إلى الشرك، ومن اليقين إلى الشك؛ لأنه ليس بين التوحيد والشرك، واليقين والشك، منزلة ثالثة، فمن خرج من التوحيد فإلى الشرك مخرجه، ومن فارق اليقين ففي الشك موقعه. (1/7)
الوجه الثاني: هو الفرق بين الفعلين حتى لا تصف القديم بصفة من صفات المحدثين.
والوجه الثالث: هو الفرق بين الفعلين حتى لا تشبه فعل القديم بفعل المخلوقين).
2- الاعتماد على الحجج القرآنية وإرجاع متشابه الكتاب إلى محكمه: (1/8)
من المعروف أن القرآن يحمل في طياته القواعد الأساسية، والأصول العامة لكل ما يحتاجه الإنسان من عقائد وقوانين وأحكام وأنظمة وآداب، وهو الأصل الأول الذي يجب الاعتماد عليه، وإنما قدمنا الحجج العقلية للتدليل على وجوب تأويل ظواهر النصوص التي توحي بالتشبيه والتجسيم، وهي بهذا لا تلغي دوره أو تنقص من شأنه، وإنما تقودنا للعمل به وفقاً لما قال تعالى: {هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ عَلَيْكَ الْكِتَابَ مِنْهُ آيَاتٌ مُحْكَمَاتٌ هُنَّ أُمُّ الْكِتَابِ وَأُخَرُ مُتَشَابِهَاتٌ فَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ فَيَتَّبِعُونَ مَا تَشَابَهَ مِنْهُ ابْتِغَاءَ الْفِتْنَةِ وَابْتِغَاءَ تَأْوِيلِهِ وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلاَّ اللَّهُ وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ يَقُولُونَ آمَنَّا بِهِ كُلٌّ مِنْ عِنْدِ رَبِّنَا}[آل عمران:7].
فالمحكم هو أصل الكتاب والمتشابه هو فرعه، ويجب رد المتشابه إلى المحكم ولن نستطيع رده إلا باستعمال العقل في ضوء اللغة، والسياق، والمراد الإلهي، وما صعب يجب إرجاعه إلى الراسخين في العلم ليوضحوا صعوبته ويكشفوا غامضه.
ولو لم يستخدم أهل العدل والتوحيد هذه القاعدة الصحيحة لاستفحل داء المجسمة والقدرية والمرجئة والمجبرة، وصعب دواؤهم؛ لأنهم يوردون الآيات المتشابهة التي تحتمل أكثر من معنى ليبرروا صحة عقائدهم المنحرفة التي وصفوا الله من خلالها بصفات غير لائقة، وقد وضح الله مقاصدهم وكشف أستارهم، وأبان زواغ قلوبهم من خلال ما يستدلون به من الآيات المتشابهات مع تركهم للآيات المحكمات، وفي هذا الصدد يقول الإمام الهادي إلى الحق يحيى بن الحسين عليه السَّلام: (اعلم أن القرآن محكم ومتشابه، وتنزيل وتأويل، وناسخ ومنسوخ، وخاص وعام، وحلال وحرام، وأمثال وعبر، وأخبار وقصص، وظاهر وباطن، وكل ما ذكرنا يصدق بعضه بعضاً، فأوله كآخره، وظاهره كباطنه، ليس فيه تناقض، وذلك أنه كتاب عزيز على يدي رسول كريم، وتصديق ذلك في كتاب الله حيث يقول: {لاَ يَأْتِيهِ الْبَاطِلُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَلاَ مِنْ خَلْفِهِ تَنزِيلٌ مِنْ حَكِيمٍ حَمِيدٍ}[فصلت:42]، ويقول: {بَلْ هُوَ قُرْآنٌ مَجِيدٌ ، فِي لَوْحٍ مَحْفُوظٍ}[البروج:21،22]، ويقول: {أَفَلاَ يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ وَلَوْ كَانَ مِنْ عِنْدِ غَيْرِ اللَّهِ لَوَجَدُوا فِيهِ اخْتِلاَفًا كَثِيرًا}[النساء:82]. (1/9)
فالمحكم كما قال الله: {وَلَمْ يَكُنْ لَهُ كُفُوًا أَحَدٌ}[الصمد:2]، و{لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ البَصِيرُ}[الشورى:11]، و{لاَ تُدْرِكُهُ الأَبْصَارُ وَهُوَ يُدْرِكُ الأَبْصَارَ وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ}[الأنعام:103]، وغير ذلك.
والمتشابه مثل قوله تعالى: {وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ نَاضِرَةٌ ، إِلَى رَبِّهَا نَاظِرَةٌ}[القيامة،22،23]، معناها بيِّن عند أهل العلم، وذلك أن تفسيره عندهم أن الوجوه يومئذ نضرة مشرقة ناعمة، إلى ثواب ربها منتظرة، كما تقول: لا أنظر إلا إلى الله وإلى محمد، ومحمد غائب، {وَلاَ يَنْظُرُ إِلَيْهِمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ}[آل عمران:77]، معناه: لا يبشرهم برحمته ولا يبذل لهم ما أنال أهل الجنة من الثواب). (1/10)
ويقول جده الإمام القاسم بن إبراهيم عليه السَّلام: (وقد أنكرت الحشوية رد المتشابه إلى المحكم، وزعموا أن الكتاب لا يحكم بعضه على بعض، وأن كل آية منه ثابتة واجب حكمها بوجوب تنزيلها وتأويلها، ولذلك وقعوا في التشبيه وجادلوا عليه؛ لما سمعوا من متشابه الكتاب فلم يحكموا عليه بالآيات التي جاءت بنفي التشبيه، فاعلم ذلك).
3- مراعاة سياق الآيات (1/11)
ولا بد عند الاستشهاد بآيات الكتاب من مراعاة سياقها، سواء أكانت الآيات دالة على مسائل التوحيد أم مسائل العدل، أو ما يتعلق بالعقيدة بشكل عام، ومن الأمثلة على ذلك قوله تعالى: {وَاللَّهُ خَلَقَكُمْ وَمَا تَعْمَلُونَ}[الصافات:96]، استدلت بها بعض الفرق على أن الله خلقنا وخلق ما نعمله من الأعمال خيرها وشرها، ولو رجعوا إلى السياق لوجدوا زيف قولهم وفساده، فالسياق هو هكذا: {فَرَاغَ إِلَى آلِهَتِهِمْ فَقَالَ أَلاَ تَأْكُلُونَ ، مَا لَكُمْ لاَ تَنطِقُونَ ، فَرَاغَ عَلَيْهِمْ ضَرْبًا بِالْيَمِينِ ، فَأَقْبَلُوا إِلَيْهِ يَزِفُّونَ ، قَالَ أَتَعْبُدُونَ مَا تَنْحِتُونَ ، وَاللَّهُ خَلَقَكُمْ وَمَا تَعْمَلُونَ}[الصافات:91-96]، فالآية مقترنة بما قبلها والمراد بها أن الله خلقكم وخلق هذه المادة التي تعملون منها الأصنام فكيف تعبدون ما تنحتونه مما خلق؟!
4- تحديد معنى المصطلحات (1/12)
ومما يعين على فهم الكلمة المطلوبة حصرُ معانيها اللغوية ومواردها في القرآن الكريم، وكذلك شواهدها من أشعار العرب؛ لأن القرآن نزل بلغتهم، فلا مانع من الاستشهاد بكلماتهم في إيضاح معاني الكلمات، ومن الأمثلة على ذلك ما أجاب به الإمام الهادي إلى الحق عليه السَّلام على أحد المجبرة الذي زعم أن الاغفال من الله واستدل بقوله تعالى: {وَلاَ تُطِعْ مَنْ أَغْفَلْنَا قَلْبَهُ عَنْ ذِكْرِنَا وَاتَّبَعَ هَوَاهُ وَكَانَ أَمْرُهُ فُرُطًا}[الكهف:28]، فقال الإمام الهادي عليه السَّلام- موضحاً فساد قوله، وزيف اعتقاده: (وأما ما سأل عنه من قول الله سبحانه: {وَلاَ تُطِعْ مَنْ أَغْفَلْنَا قَلْبَهُ عَنْ ذِكْرِنَا}، فقال: خبرونا عن هذا الذي أغفل الله قلبه عن ذكره، هل أراد الله أن يطيعه؟ فتوهم- ويله وغوله إن لم يتب من الله ويحه ـ!! أن الله تبارك وتعالى أدخله في الغفلة، وحال بينه بذلك وبين الطاعة، فليس كما توهم، ألا يسمع إلى قول الله عزّ وجلّ: {وَاتَّبَعَ هَوَاهُ وَكَانَ أَمْرُهُ فُرُطًا}؟ فأخبر سبحانه أنه متبع في ذلك لهواه، ضال عن رشده، تارك لهداه، ولو كان من الله لم يكن العبد متبعاً لنفسه هواه، بل كان داخلاً لله فيما شاء وارتضى،وسنفسر معنى الآية إن شاء الله والقوة بالله وله: إن الله تبارك نهى نبيه عن طاعة من أغفل قلبه ممن آثر هواه على هداه، وأما معنى ما ذكر الله سبحانه من الإغفال فقد يخرج على معنيين ـ والحمد لله ـ شافيين كافيين:
أحدهما: الخذلان من الله، والترك لمن اتبع هواه، وآثره على طاعة مولاه، فلما أن عصى وضل وغوى وترك ما دل عليه الهدى؛ استوجب من الله الخذلان لما كان فيه من الضلال والكفران، فغفل وضل وجهل إذ لم يكن معه من الله توفيق ولا إرشاد، فتسربل سربال الغي والفساد. (1/13)
وأما المعنى الآخر: فبين في لسان العرب موجود، معروف عند كلها محدود، وهو أن يكون معنى قوله: {أَغْفَلْنَا قَلْبَهُ عَنْ ذِكْرِنَا} أي: تركناه من ذكرنا، والذكر هو التذكرة من الله والتسديد والتعريف والهداية إلى الخير والتوفيق، فيقول سبحانه: تركنا قلبه من تذكيرنا وعوننا وهدايتنا بما أصر عليه من الإشراك بنا والاجتراء علينا، تقول العرب: يا فلان أغفلت فلاناً، ويقول القائل: لا تغفلني أي تتركني، وتقول العرب: قم مني، أي قم عني، فتخلف بعض حروف الصفات ببعض، وتقيم بعضها مقام بعض، قال الشاعر:
شربنا بماء البحر ثم ترفعت
لدى لجج خضر لهن نئيج
فقال: لدى لجج، وإنما يريد على لجج، فذكر السحاب وشربها من البحار، واستقلالها بما فيها من الأمطار، وقال آخر:
أغفلت تغلب من معروفك الكاسي
فخلت قلبك منهم مغضباً قاسي
فقال: أغفلت تغلب من معروفك، أي تركتها من عطائك ونوالك ومنتك وأوصالك، ثم قال: فخلت قلبك منهم مغضباً قاسي، فقال: منهم، وإنما يريد عليهم غضباً، فأقام حرف الصفة وهو (من) مقام أختها وهي (على)، وأقام (منهم) مقام (عليهم)، فهذا معنى الآية ـ إن شاء الله ـ ومخرجها، لا ما توهم الجهّال على ذي المعالي والجلال من الجبر لعباده والإضلال، والظلم والتجبر بالإغفال).
5- فهم الأحاديث النبوية في ضوء القرآن (1/14)
وإذا أردنا عبودية عقائدية صادقة، فلا بد أن تكون وفق الصفات اللائقة بالله تعالى، ومن المستحيل أن يتناقض الوحي في هذه الصفات سواء في الكتاب أو السنة، فأما الكتاب فقد تقدم كيفية التعامل معه، وأما السنة فلا بد أن يكون الحديث المستدل به منها في أمر العقيدة قطعياً متواتراً، وبما لا يتعارض مع القرآن الكريم بوجه أو بآخر، ويلزمنا عدم المجازفة في الرد والقبول.
وقد أكد الرسول صلى الله عليه وآله وسلم على قاعدة العرض على القرآن الكريم فقال: ((سيكذب عليَّ كما كذب على الأنبياء من قبلي فما أتاكم عني فأعرضوه على كتاب الله، فما وافقه فهو مني وأنا قلته، وما خالفه فليس مني ولم أقله))، وبالرغم من المحاولات التشكيكية في هذا الحديث من قبل الحشوية فإنه يزداد صحةً يوماً بعد آخر، وأبسط مثال على ذلك أن عائشة زوج الرسول صلى الله عليه وآله وسلم طبقته على أحاديث كثيرة، ومنها حديث: ((إن الميت ليعذب ببكاء أهله ))، فقالت: إنه يتعارض مع قول الله تعالى: {وَلاَ تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى}[الأنعام:164].
قال النووي: (وهذه الروايات من رواية عمر بن الخطاب وابنه عبد الله -رضي الله عنهما- وأنكرته عائشة، ونسبتهما إلى النسيان والاشتباه عليهما، وأنكرت أن يكون النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال ذلك، واحتجت بقوله تعالى: {وَلاَ تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى}[الأنعام:164]، قالت: وإنما قال النبي صلى الله عليه وآله وسلم في يهودية أنها تعذب وهم يبكون عليها، يعني تعذب بكفرها في حال بكاء أهلها لا بسبب البكاء).
ويقول الشيخ الغزالي: (إنها ترد ما يخالف القرآن بجرأة وثقة، ومع ذلك فإن هذا الحديث المرفوض من عائشة ما يزال مثبتاً في الصحاح بل إن (ابن سعد) في طبقاته الكبرى كررها في بضعة أسانيد!!.. وعندي أن ذلك المسلك الذي سلكته أم المؤمنين أساس لمحاكمة الصحاح إلى نصوص الكتاب الكريم الذي لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه). (1/15)
وهكذا تتوالى الاعترافات من هنا وهناك، وتؤكد صحة قواعد أهل البيت في كيفية التعامل مع الأحاديث النبوية.
ثم لماذا ترفض الحشوية هذه القاعدة النبوية، وتقبل قواعد أصحابها؟! وبقطع النظر عن صحة حديث العرض من عدمه فإن القاعدة صحيحة ومطلوبة، ولذلك لمّا تركوها وقعوا في إشكالات كثيرة وتلونات عديدة لم تستوعبها مصطلحاتهم وقواعدهم.
يقول الإمام القاسم بن محمد معلقاً على قبولهم لحكم الشيخ من مشائخهم في الحديث بالصحة أم بالضعف، ورفضهم لحكم كتاب الله فيه: (وناهيك أن يكون كتاب الله ـ أعزه الله تعالى ـ كأصول الخطابي والذهبي، أو كحكم شيخ حكم بصحة الحديث، أو عدمها مع أن المعلوم عدم عصمة ذلك الشيخ في حكمه، ومع عدم صحة ما حكم في نفس الأمر، وهم يوجبون رد ما يخالف أصولهم وما خالف ما حكم به شيخ من مشائخهم، وهل هذا إلا الضلال؟!!).
وكم .. وكم من الأحاديث الإسرائيلية التي تسربت بطريقة أو بأخرى إلى الأحاديث النبوية، فلذا يلزم التنبه لها والتحذير منها حتى لا يقع الناس في فخ التجسيم والتشبيه، ووصف الله بما لا يليق بجلاله، وخير وسيلة لكشفها هو عرضها على القرآن وفقاً للأسس المذكورة، مع استعمال طرق التضعيف الأخرى المعتبرة.
6- اتباع نهج آل محمد عليهم السلام (1/16)
وخصوصاً ما أجمعوا عليه، باعتبارهم أحد الثقلين، الذين تركهم رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم لأمته، وأوصاهم بالتمسك بهم، فقال: ((إني تارك فيكم ما إن تمسكتم به لن تضلوا من بعدي أبدا، كتاب الله وعترتي أهل بيتي، إن اللطيف الخبير نبأني أنهما لن يفترقا حتى يردا عليّ الحوض)) وهذا الحديث من الأحاديث المجمع على صحتها، رواه الموالف والمخالف بالاتفاق في الصحاح والمعاجم والمسانيد والأماليات.
وقد يقول القائل: أليس اتباع نهجهم من التقليد المنهي عنه؟ أقول: لا والذي بسط الأرض ورفع السماء، بل هو من التقليد المأمور به؛ لأن التقليد المنهي عنه في العقيدة هو اتباع قول الغير من غير حجة ولا بينة، أما أهل البيت" فهم حجة، ألم يقرنهم الرسول صلى الله عليه وآله وسلم بالقرآن؟ وهم لا يذكرون مسألة إلا ويذكرون حجتها كتاباً وسنة، وإجماعهم حجة الإجماع، ولهم مؤلفات عديدة، ومقالات فريدة في جميع أبواب العقيدة، ألجموا فيها كبح كل مشبِّه متخيّل، أو مجبري متحيّل، وشرحوا فيها الصفات اللائقة بذي الجلال والإكرام.
هذا الكتاب (1/17)
ومن مؤلفاتهم العظيمة في أبواب العقيدة هذا الكتاب الذي بين يديك، ألّفه الإمام الصوام القوام، المتوكل على الرحمن، أحمد بن سليمان عليه السَّلام، وهو أحد أئمة الزيدية الدعاة، وكتابه هذا من المناهج المعتمدة في مدارس الزيدية وفي حوزاتها العلمية المختلفة، وقد سلك فيه مسلكاً رائعاً، جامعاً في الاستدلال على مسائله بين العقل والنقل، داحضاً شبهات المجسّمة والمشبّهة والمجبرة والقدرية، موضحاً الحق في كل مسألة من خلال الكتاب العظيم والسنة النبوية المطهرة -على صاحبها وآله أفضل الصلاة وأتم التسليم- وقد قام السيد العلامة حسن اليوسفي بمقابلته وتصحيحه على أمهات النسخ المعتمدة، ودفعه إليَّ للتقديم له والترجمة لمؤلفه، فنزلت عند طلبه رغبة في الثواب، وحرصاً على نشر هذا الكتاب؛ ليستفيد منه العلماء وطلاب العلم والباحثون عن الحق.
وقد طلبت منه أن يوصف النسخ التي اعتمدها في التصحيح والمقابلة، فكتب ما يلي:
تعريف بالمخطوطات التي اعتمدنا عليها عند المراجعة (1/18)
1- نسخة (أ): وهي التي ابتدأنا النقل عليها، وهي قطع متوسط، والخط فيها متوسط وإلى الضعف أقرب، حتى أن بعض الكلمات لا تتحقق إلا بالرجوع إلى نسخة أخرى، وفيها أخطاء ونقص، باعتبار غيرها من النسخ، وأخطاء إملائية، قال في آخر ورقة منها: (كان الفراغ من نساخته ليلة الإثنين بعد العشاء ثامن شهر القعدة سنة 1377ه، بقلم مالكه الحقير علي بن حسين الجذينة وفقه الله تعالى).
2- نسخة (ب): وهي أصح النسخ، وخطها جيد، ومراعى فيها القواعد الإملائية، وسطورها منظمة، وهي قطع صغير، وهي سليمة من الأخطاء والنقص، قال في آخرها ما لفظه: (وافق الفراغ من نساخة هذا الكتاب الجليل يوم الأحد: 28/شهر رجب سنة/1070ه بمحروس شهارة، بقلم حسن بن محمد المهلاّ وفقه الله تعالى).
3- نسخة (ت): هذه النسخة قطع صغير، والخط فيها متوسط، وفيها بعض النقص، وأخطاء، وفيها إصلاحات لبعض النقص والأخطاء، قال في آخرها: (تم نقل هذا الكتاب المبارك في شهر محرم سنة966ه، بقلم الفقير إلى ربه محمد بن عبد الله بن إبراهيم -غفر الله له ولوالديه.. آمين، وذلك بهجرة شهارة المحميّة بالله تعالى والصالحين من عباده).
4- نسخة (ج): هذه النسخة من القطع الكبير، وهي في (220) صفحة، خطها مستقيم، وفيها أخطاء، إلا أنها سليمة من النقص، مجهولة التأريخ والناسخ.
5- نسخة (د): هذه النسخة من القطع المتوسط، والخط فيها مقري، غير مراعى فيه القواعد الإملائية، فيها بعض أخطاء، قال في آخرها ما لفظه: (تمت نساخة هذا السفر المبارك في شهر ربيع سنة 1357ه، وذلك حال هجرتنا بمسجد التوت بمدينة صعدة، بقلم أفقر الورى محمد حسن الخولاني وفقه الله). (1/19)
6- نسخة (ع): هذه النسخة قطع متوسط، عدد صفحاتها (350) صفحة، خطها مقارب، وفيها أخطاء كثيرة، قال في آخر صفحة منها: (وكان تمام نساخة هذا الكتاب يوم الخميس وقت العصر، آخر يوم من شهر القعدة، سنة1315ه، بقلم أفقر عباد الله وأحوجهم إليه، الراجي عفو ربه ومغفرته السيد حامد بن صلاح الداعي اليحيوي، وذلك بهجرة ضحيان، وصلى الله على سيدنا محمد وآله وسلم).
7- نسخة (ل): النسخة في القطع الصغير، وقد أثرت الأرضة في قدر عشر ورق من آخرها، إلا أن في أول ورقة منها ما لفظه: (شرعنا في قراءة هذا الكتاب عند سيدنا القاضي العلامة عبد الله بن محمد العيزري حفظه الله وأبقاه).
8- نسخة (م): هذه النسخة الخط فيها جيد ومنظم، ولكن فيها نقص وأخطاء، قال في آخرها ما نصه: (كان تمام نساخة هذا الكتاب في آخر شهر شعبان، أحد شهور سنة 1300ه، وذلك بمدينة صعدة بمسجد الذويد، بقلم الفقير إلى عفو ربه عبد الله بن محمد المساوى الزيدي والعدلي مذهباً واعتقاداً -وفقه الله لصالح الأعمال- بحق محمد وآل محمد صلى الله عليه وآله وسلم).
9- نسخة (ص): هذه النسخة من القطع الكبير، عدد صفحاتها(230)صفحة، والخط فيها ضعيف جداً، وفيها أخطاء ونقص، وقد جرى عليها بعض إصلاح لبعض الأخطاء، وفي آخرها ما لفظه: (كان الفراغ من نقل هذا الكتاب المبارك الجليل وقت الضحى في يوم الأحد، الثالث من شهر شوال، سنة 1340ه، بقلم مالكه علي بن قاسم النقيل، وذلك بهجرة ضحيان). (1/20)
10- نسخة (س): هذه النسخة من القطع الصغير عدد صفحاتها (400)، والخط فيها متوسط، وفيها بعض نقص، وسليمة من كثرة الأخطاء، وقد جرى بعض إصلاح لبعض النقص، قال في آخرها: (كان الفراغ من زبر هذا الكتاب في آخر شهر الحجة من سنة 1345ه، وذلك في المشهد بجوار الإمام أحمد بن سليمان عليه السَّلام، وذلك حال قراءتنا وهجرتنا، بقلم مالكه، أسير الذنوب، الراجي رحمة علام الغيوب، علي بن أحمد دهمش وفقه الله تعالى).
11- نسخة (ش): هذه النسخة قطع ثلث، الخط فيها مقري، وسليمة من النقص، وفيها بعض أخطاء، قال في آخرها ما لفظه: (تم الكتاب بعون العزيز الوهاب، فله الحمد لا حصر، ثناءً عليه كما هو أثنى على نفسه، وذلك التمام بقدرة من له المنُّ والإنعام، قُبيل الظهر، يوم السبت، 13 شهر شوال، سنة 1342ه، بالمسجد الأعلى بهجرة فللة -حرسها الله بالصالحين- بقلم الحقير إلى مولاه العلي، عبد الله بن علي بن أحمد الشاذلي -ثبته الله وعفا عنه، ووفقه وحشره في زمرة النبي وآله مع الناجين يوم الدين-).
12- نسخة (ي): هذه النسخة قطع متوسط، الخط فيها جيد، وسليمة من النقص والأخطاء، إلا أن في أولها نقص ثمان ورق أو نحوها، وليس فيها تأريخ نساختها، ولا اسم كاتبها، إلا أن في آخر ورقة منها: (تم لنا قراءة هذا الكتاب النفيس، على سيدنا العلامة محمد بن أحسن المتميز -حفظه الله وأبقاه- وحرر شهر محرم، سنة 1360ه، الفقير إلى ربه، طالب العلم الشريف، محمد بن عبد الله بن سالم شيبان -وفقه الله-). (1/21)
انتهى ما كتبه في تعريف النسخ التي اعتمدها في التصحيح والمقابلة، وهذه ترجمة للإمام أحمد بن سليمان عليه السَّلام كتبتها وحاولت أن أختصرها قدر الإمكان، وصلى الله على سيدنا محمد الأمين وعلى آله الطاهرين.
وكتب
عبد الله بن حمود العزي
اليمن ـ صعدة
2/2/1424ه الموافق 4/4/2003م
المؤلف (1/22)
نسبه
هو الإمام المتوكل على الله، أحمد بن سليمان بن محمد بن المطهر بن علي بن الناصر أحمد بن الهادي إلى الحق يحيى بن الحسين بن القاسم بن إبراهيم بن إسماعيل بن إبراهيم بن الحسن بن الحسن بن علي بن أبي طالب ـ عليهم السلام أجمعين.
قوم بهم وبجدهم .... نرجوا النجاة مع الفلاح
وصلوا السيوف بخطوهم .... فإذا الممنع كالمباح
جبريل خادم جدهم .... أولاد (حي على الفلاح)
مولده ونشأته (1/23)
ولد عليه السَّلام سنة 500ه، ونشأ في ظل أسرة علوية هاشمية كريمة، تحب العلم، وتشغف مكارم الأخلاق، يقول المؤرخ الشهيد حميد المحلي، المتوفى سنة 652هـ: (وآباؤه عليه السَّلام من الصفوة الأكارم، والخيرة من الأعارب والأعاجم، مناقبهم شهيرة، وفضائلهم كثيرة، ورياض فضلهم مفترة الأزهار، وفوائد علمهم حلوة الثمار، وما عسى أن يقول فيهم المادح وإن أكثر، وقد أثنى عليهم المليك الأكبر، ورسوله المصطفى الأطهر، غير أن لذكرهم في اللسان حلاوة، وعلى الكلام بمدحهم طلاوة، ولله القائل:
قوم إذا املولح الرجال على .... أفواه من ذاق طعمهم عذبوا
أنوار الهداية إذا اعتكست دياجير ظلم الإشكال، وشموس الهدى الكاشفة لحنادس الضلال، وما أجدرهم بقول من قال:
متى يشتجر قوم يقل سرواتهم .... هم بيننا فَهم رضى وهم عدل
هم جدّدوا أحكام كلِّ مضلَّة .... من الحكم لا يلقى لأحكامهم فصل
وأمه عليه السَّلام: الشريفة الفاضلة مليكة بنت عبدالله بن القاسم بن أحمد بن أبي البركات، واسمه إسماعيل بن أحمد بن القاسم بن محمد بن القاسم بن إبراهيم بن إسماعيل بن إبراهيم بن الحسن بن الحسن بن علي بن أبي طالب".
وكان أبوه سليمان بن محمد من عباد الله الصالحين، بل كان يصلح للإمامة، ويرجى منه القيام بنصرة الدين الحنيف، فرأى في حال حمل امرأته بولده الإمام عليه السَّلام أن قائلاً يقول:
بشراك يا ابن الطهر من هاشم .... بماجدٍ دولته تحمد
بأحمد المنصور من مثله .... بورك فيمن إسمه أحمد
وأما جده المطهر بن علي بن الناصر عليهم السلام، فإنه كان عالماً مصنفاً، له التصانيف في الشريعة على مذهب جده الهادي إلى الحق عليه السَّلام، وخرَّج على مذهب الهادي أشياء كثيرة، من جملتها: أن الترتيب بين اليدين والرجلين في الوضوء لا يجب. (1/24)
وكان شاعراً فصيحاً مما يروىَ له عليه السَّلام:
لحاني في الهوى لاح نصوح .... فغالب مقودي رأس جموح
فقلت له وفي الخدين مني .... خدود خدها الدمع السفوح
أتطمع أن تريع إلى سلو .... وأن ينسى النوى قلب جريح
بروحي من برى روحي فأعجب .... بروح كيف منه ذاب روح
سأركب كل هول أو أراني .... أميح ولا أراني أستميح
ولا ألوي على وطن فتضحى .... مذلته على خدي تلوح
فسح في الأرض واطَّلب المعالي .... فكم من سيد فيها يسيح
فلولا أن فيمن ساح خيراً .... يفوز به لما ساح المسيح
وتوفي عليه السَّلام بذي جبلة سنة خمسة عشر وأربعمائة.
مشائخه وإجازاته (1/25)
أما مشائخه فمنهم الإمام الحسن بن محمد من ولد المرتضى، والعلامة الفاضل العباس بن علي بن محمد، والحافظ إسحاق بن أحمد بن عبدالباعث، والقاضي عبدالله بن علي العنسي الواصل بكتب آل محمد سنة 501ه، وقد قال عليه السَّلام عندما سأله جماعة من العلماء أن يصحح لهم نقل الأخبار التي جمعها في (أصول الأحكام): (فأنا أذكر ما حضرني من ذلك، فأما كتاب (الأحكام) فأخذته من الشيخ الأجل إسحاق بن أحمد بن عبدالباعث مناولة وهو بخطه، وأما كتاب (المنتخب) فهو عندي لما كان بخزانة الإمام الناصر أحمد بن يحيى، وفيه خطوط المتقدمين من بني الهادي إلى الحق عليه السَّلام، وأخذت الشرحين (شرح التجريد) ـ خ ـ للإمام المؤيد بالله عليه السَّلام، و(تعليق القاضي زيد) من طريق الشريف الفاضل أبي محمد الحسن بن محمد من ولد المرتضى وكتبه وخطه بيده، ومن طريق القاضي العباس بن علي بن محمد بن العباس، قال: حدثه به والده علي بن محمد، قال: حدثه به عبدالله بن علي العنسي، ولقيت عبد الله بن علي العنسي، فسألته عن ذلك، فقال: سمعه علي بن محمد، وأجاز لي أيضاً، أما روايته عنه إجازة من غير سماع ولا مناولة ولكن إجازة، وكان وصل بكتب الشروح من الديلم، وذكر أنها له سماع ممن يثق به، وأحسب أن رواية الشريف الحسن بن محمد من طريق إبراهيم بن إسماعيل البصري، وأطللت على كتب من كتب العامة وهي كانت للناصر بن الهادي عليه السَّلام، مكتوب في كل كتاب بخزانة الناصر أحمد بن يحيى، منها كتاب أبي جعفر الطحاوي، وهو من أجل الكتب).
ابتداء دعوته (1/26)
وقام بأثقال الإمامة أحمد .... سليل سليمان فلله بارع
يقول المؤرخ المعاصر أحمد محمد الشامي في كتابه (تاريخ اليمن الفكري): (كان ابتداء دعوته ـ وهو في الواحد والثلاثين ـ في بلاد الجوف، ونزح منها إلى جبل (برط) فبايعه بعض أهلها، ثم سار إلى (أملح) ثم إلى (نجران) في أوّل المحرم سنة 532هـ فبايعه أهلها، وظل يدعو الناس إلى الرشاد وينهى عما كان قد ظهر من الفواحش، ثم انتقل إلى (صعدة) وبعث رسله وعمّاله إلى بلاد وادعة وسنحان وخولان الشام، ثم إلى (صنعاء) وأعمالها، واشتهر أمره، وذاع صيته، وكان من أقوى الأصوات التي أيدته مؤلف (شمس العلوم) الشيخ العلامة الشاعر نشوان بن سعيد الحميري، وقد كان يخصه على النهوض من (صعدة) إلى البلاد الجنوبية التي يسمونها (اليمن)، وهي الأصقاع الجنوبية من صنعاء مثلما يسمّون ما شاملها (الشام) ومما قاله نشوان في ذلك:
دع (يرسماً) والمساني واقصد (اليمنا) .... فأفقر الناس من يا بن الكرام سنى
فأنت تصلح للرايات تعقدها .... وللمواكب تحيي الدين والسننا
وللمنابر تنشئ فوقها خطباً .... تُعيي اللبيب النجيب العالم الفطنا
ما كان جدك حرّاثا فتلحقه .... بل مرسل قد أتى بالوحي مؤتمنا
ما زال في عمره مستفتحاً بلداً .... أو قاسماً مغنماً، أو مالكاً مدنا
وكم هي عجيبة بعض الصدف التأريخية التي يرتّبها القدر، وكأنّه يوقّعها لحناً سماوياً نغماته تسبي العقول، وتهزّ المشاعر، فقد قدّر أن تموت الملكة أروى بنت أحمد بن الصليحية في مدينتها (ذي جبلة) سنة 532ه وهي تناهز الثامنة والثمانين، وانتهى بموتها ملك آل الصليحي، كما أن الداعي سبأ ابن أبي السعود صاحب (عدن) مات في نفس العام، وتمزّقت أصقاع اليمن شمالاً وجنوباً وشرقاً وغرباً شذر مذر، وقدّر لهذا الشاب التقي الشاعر حفيد الأئمة والشعراء، أحمد بن سليمان أن يصغي إلى صوت الواجب في ضميره ووجدانه، وأن يستجيب لدعوة الحجّة التي تلهج بها ألسنة علماء الزيدية وفقهائها، وفي مقدمتهم العلامة القاضي نشوان بن سعيد الحميري، فأعلن الدعوة لنفسه، وقد عاش بعد إعلانها، ومبايعة أهل الحل والعقد له إماماً، أربعة وثلاثين عاماً كلها جهاد وصراع وكفاح، وعرق ودموع، وشعر وتأليف، ومناظرات ومحاورات، وصداقات وخصومات، وأخيراً أَسر وسجن، ثم عُزْلة وعَمَى! لم يختزن مالاً، ولا بنى قصراً، ولم يخلف غير كتبه وأشعاره. (1/27)
صوت اليمن والإسلام (1/28)
لقد كان صوت أحمد بن سليمان يمثل بحق (صوت اليمن) العربي المسلم بين ضجيج شظايا (آل نجاح) وحشرجات المماليك والعبيد، تحاصرهم وتطاردهم صرخات (ابن مهدي) الجبار الغشوم في (زبيد)، وتمتمات وزمزمات آل (زريع) في (عدن) و(زوامل) مشايخ (جنب) ترعب (ذمار) ومخاليفها، وأشعار وأراجيف (آل حاتم) تقلق (صنعاء) وأعمالها، حتى حدود بلاد الأهنوم، حيث (أولاد القاسم العياني وأحفاده) يتخطّرون في عناد، ما بين (شهارة) و(الشرفين) و(مسور)، ويتقارعون مع (آل أبي الحفاظ) سلاطين (حجور) و(أحفاد الهادي) في (صعدة) يتنابزون، و(الأشراف) في (المخلاف) يتشاجرون مع الجميع.
وصوت هذا الشاب العالم الشاعر الزاهد الشجاع يدوّي بين كل تلك (التشويشات) في صفاء ويقين وعزم وتصميم. لقد كان بحق (صوت اليمن) العربية المسلمة).
ويقول شيخنا السيد العلامة الحجة مجد الدين بن محمد ـ أيده الله تعالى ـ مترجماً للإمام أحمد بن سليمان عليه السَّلام: (اجتمع لديه من سلالة الوصي ثلاثمائة رجل من أهل البسالة والعلم، ومن سائر العلماء ألف وأربعمائة رجل، منهم: القاضي العلامة إسحاق بن أحمد بن عبد الباعث، المتوفى سنة خمس وخمسين وخمسمائة ـ رضي الله عنه ـ واستفاض على جميع اليمن، وخطب له بينبع وخيبر، وانقادت لأحكام ولايته الجيل والديلم، ودخل إلى جهات صعدة في قدر عشرين ألفاً من فارس وراجل.
ومن ملاحمه العظام التي هدّ بها أركان الملحدين الطغام، وقعة في اليمن انجلت عن خمسمائة قتيل وخمسمائة أسير، وكانت خيله في هذه الوقعة ألفاً وثمانمائة فرس، وقد كان أشرف أصحابه على الهلاك، فمد الإمام يده إلى السماء، وقال: (اللهم إنه لم يبق إلا نصرك)، فأرسل الله عليهم ريحاً عاصفاً، فاستقبلت وجوه القوم، فحمل الإمام وحمل أصحابه، وانهزم أعداؤه، وقد أشار إلى هذه الوقعة الوصي عليه السَّلام وإلى الموضع الذي وقعت فيه). (1/29)
معاركه مع المتمردين (1/30)
1ـ وقعة الشرزة
وهذه الواقعة التي أشار إليها شيخنا ـ حفظه الله تعالى ـ هي وقعة (الشرزة) التي وقعت سنة 552هـ وقد فصلها المؤرخ الشهيد حميد المحلي ـ رحمه الله تعالى ـ قال: (ومن أيامه عليه السَّلام الغرب المحجلة يوم الشرزة، وذلك أنه عليه السَّلام جمع ألفاً وثمانمائة فارس من قبائل يعرب، ومذحج، وجنب، وعنس، وزبيد، في شهر شعبان سنة اثنتين وخمسين وخمسمائة، ونهض حاتم بن أحمد من صنعاء بمن معه من همدان، وجنب، وسنحان، في تسعمائة فارس كلها معدة، وعشرة آلاف راجل فيها ثلاثة آلاف قائس، فلم يكن رحل الإمام عليه السَّلام إلا قليل؛ فرتب عليه السَّلام عسكره: الميمنة والميسرة، وكان في القلب ومن معه من الأشراف والشيعة، فتنازل الناس، وقاتل عليه السَّلام قتالاً شديداً وصار يقصده جماعة من الشجعان لأنه بغيتهم، فقال عليه السَّلام عند ذلك: (اللهم إنه لم يبق إلا نصرك)، وقال في نفسه: إن ظفر القوم اليوم بنا ظهر مذهب الباطنية وارتفع في جميع البلاد وهدم الإسلام والمسلمون، فعند ذلك أرسل الله تعالى ريحاً عاصفاً من الشرق، فقابلت وجوه أعدائه فاستبشر الإمام عليه السَّلام وقال: إنها ريحهم فاحملوا ثم حمل من نهجه، فانهزم القوم، فأعطى الله النصر ومنح القوم أكتافهم، فلم يزل الطرد فيهم والقتل الذريع حتى انجلت المعركة عن خمسمائة قتيل وخمسمائة أسير وقريب من ذلك، ولم تزل الهزيمة في همدان إلى صنعاء، ثم انهزموا من صنعاء وتغلقوا الحصون، وعاد الإمام عليه السَّلام بعسكره إلى محطتهم فأقاموا بها ليلتين، ثم تقدم الإمام عليه
السَّلام إلى نحو صنعاء، وقد كان أمّن أهلها فحط بالقرب منها، ولم يدخل بالعسكر خوفاً من معرَّتهم بأهل المدينة، ثم أمر بخراب درب غمدان الذي عمره حاتم بن أحمد، وكانت فيه عناية أكيدة جداً فعفيت آثاره، وبعد هذه الوقعة خضعت له عليه السَّلام الملوك الأكابر، وذلت له الليوث القساور، وأقام عليه السَّلام في ناحية بيت بوس، حتى بذلت فيه الأموال الجليلة من حاتم بن أحمد إلى مائة ألف من محمد بن سبأ صاحب عدن سوى الأطيان وغيرها، فسلم الله من مكرهم...). (1/31)
وقد سجل الشاعر القاضي محمد بن عبدالله الحميري ـ رحمه الله ـ أحداث هذه المعركة في أبيات أرى من الضرورة إيرادها لما لها من أهمية في وصف المعركة، إضافة إلى هذا كونها من شاعر شارك فيها برمحه وسيفه:
تهنى بك الأعياد إذ أنت عيدها .... وإذ أنت منها بدرها وسعودها
سبقت إلى غايات كل فضيلة .... بعلياء تبديها لنا وتعيدها
أقمت منار الدين يا ابن محمد .... وصرت كمثل الشمس بادٍ عمودها
فأشرقت الآفاق منك بغُّرة .... كثير لرب العالمين سجودها
ألست الذي أحييت دين محمد .... وأسيافه مُذْ كلّ منها جديدها
ألست الذي ذكّرتنا وقعاته .... وبيض الليالي قد محتها وسودها
بنجران والغيل الشهير وصعدة .... وصنعاء والجوفين باقٍ شهودها
ويوم نهضنا من ذمار بخيلنا .... وزيد بن عمرو يوم ذاك عميدها
كتائب من جنب بن سعد ومذحج .... تعادَي بهم خيل خفاف لبودها
يهزّون أطراف الوشيج كأنما .... عليها سيوف فارقتها غمودها
فلما وصلنا نجد شيعان أقبلت .... علينا الأعادي كهلها ووليدها
وظنوا ظنوناً في الخلاء كذبنهم .... أليس عن الأخياس تحمي أسودها (1/32)
ولما أطل الموت واشتجر القنا .... ودارت رحاها واشتتبّ وقودها
ركزت لهم صدر القناة كأنما .... جبال ثبير ثمّ أرسا ركودها
وقلت لمرِّ النفس صبراً فهذه .... حياض الردى حقاً وأنى ورودها
فإن لم يكن نصر وإلا شهادة .... تكون خلاصاً لي فتلك أريدها
وواساك من أهل الديانة عصبة .... كثير إذا شدّت قليل عديدها
فليت قبوراً بالمدينة بشرت .... بما فعلت من بعد حين جنودها
صعقنا عليهم صعقة مذحجية .... فكادت لها تلك الجبال تميدها
فيا للأكام السود لولا صعودها .... لقد كادت الأبطال جمعاً تبيدها
فخمس مئين حُزّ منها وريدها .... وخمس مئينٍ ثقّلتها قيودها
وطاروا إلى روس الجبال شلائلاً .... من الخوف فيها خافقات كبودها
وسرنا لغمدان المنيف فأصبحت .... ذوائبه في الترب ثاوٍ مشيدها
وأضحى ابن عمران المتوّج حاتم .... يقول ألا عفواً فلست أعودها
وأنت بنفس لا يزال نفيسها .... إلى كل مجدٍ أو طعان يقودها
فيا ابن أمير المؤمنين ومن له .... سوابق مجدٍ ليس يحصى عديدها
إذا طلبت همدان منك إقالةً .... وسنحان يوماً واستقام أويدها (1/33)
فعُد لهم بالصفح منك وبالرضى .... فلن يبلغ الغايات إلا معيدها
وحاشاك أن تنسى السوابق منهم .... وما فعلته في القيود جدودها
أتعلم أن الحق قام بنصره .... إلى الآن قحطان ابن هود وهودها
وتعلم قحطان وهمدان إن عصت .... مقالك إنّ الله وهناً يزيدها
فقُد جمعها يا ابن النبي إلى الهدَى .... فليس يقود القوم إلا رشيدها
فما اجتمعت خيل الطعان بمشهدٍ .... تكون به إلاّ وأنت وحيدها
ولا اعتركت خيل وخيل طعائن .... بحرّ القنا إلا وأن تحيدها
ولا اجتمعت يوماً نزار ويعرب .... بمجتمع إلا وأنت تسودها
وإنك للمنصور من آل هاشم .... وما بعدها من غاية تستزيدها
وكل أناس أعرضوا عنك وامتروا .... فما هم من الإسلام إلا يهودها
فدمت مدى الدنيا لأمة أحمد .... تشد لها أركانها وتشيدها
2ـ معركة غيل جلاجل (1/34)
ومن معاركه المشهورة معركة (غيل جلاجل) وكانت بينه وبين جماعة من (وادعة الخانق) الذين أظهروا مذهب الباطنية، واستحدثوا المنكرات، يقول المؤرخ زبارة: (في رجب سنة 549هـ تسع وأربعين وخمسمائة، كانت وقعة (غيل جلاجل) بالخانق من بلاد (وادعة) الشام، وكان قد تظاهر منهم ومن (يام) بمذهب الباطنية، وأحيوا بعدة ليلة الإفاضة التي يجتمع فيها الرجال والنساء منهم، ويفضي بعضهم إلى بعض بعد إطفاء مصابيحهم، وربما وقع الرجل منهم على ابنته أو أخته أو أمه، ولما بلغ الإمام ذلك غضب، وسار إلى بلاد الشام من جهات صعدة، فوصل إلى بلاد (بني شريف) و(سنحان الشام) ودعاهم إلى جهاد أهل (وادعة) و(يام) ثم أقبلت إليه قبائل (نهد) و(جنب) و(خثعم)، وقصد بهم وادعة و (يام)، ووقع القتال الشديد، والمعارك العظيمة التي انجلت بانهزام (الباطنية) وفرار من نجا منهم إلى نجران، وقال الإمام في ذلك قصيدته التي منها:
الله أكبر أي نصر عاجل .... من ذي الجلال بفتح (غيل جلاجل)
كم منةٍ منه عليّ ونعمة .... وسعادة تترى، وفضل فاضل
كفرت به (يام) و(وادعة) معاً .... وتجبّروا، وتمسّكوا بالباطل
وأتوا من الفحشاء كل كبيرة .... فعلاً وقولاً، فوق قول القائل
دانوا بدين الباطنية وهو من .... دين المجوس وفوق جهل الجاهل
ومنها:
إني لحرب (الباطنية) قائم .... وأنا لهم ضدٌّ ولست بغافل
كم قد ظفرت بهم فلم أظلم، وكم .... جاشت بحرب الكافرين مراجلي
إني دمار الفاسقين ودمارهم .... للظالمين كمثل سم قاتل
وعلى يديّ هلاكهم، ودمارهم .... آتي عليهم بالقضاء النازل
يرجون أن حصونهم تنجيهم .... وحصونهم لهمُ ككفّة حابل (1/35)
ولسوف أنفيهم بعون إلهنا .... حقاً، وألحقهم وراء الساحل
يا قوم فاعتبروا بذاك وأبشروا .... فلقد ظفرتم بالإمام العادل
ما بعدها عاينتموه شبيهةٌ .... لمميّز في أمره أو عاقل
3ـ معركة زبيد (1/36)
ومن معاركه الحاسمة معركة وقعت يوم قصد زبيد سنة 553هـ يقول المؤرخ الشهيد حميد المحلي ـ رحمه الله تعالى ـ المتوفى سنة 652هـ ممثل عنها: ومن أيامه المحجلة الحسان يوم قصد زبيد في سنة ثلاث وخمسين وخمسمائة، فلما وصلها عليه السَّلام أقام فيها ثمانية أيام، وكان أميرها يومئذ فاتك بن محمد بن جياش، وكان فاسقاً خبيثاً يغلب عليه الخنا والفساد في نفسه، حتى روي أنه كان له بريمان في بطنه كالمرأة، فعني الإمام عليه السَّلام في هلاكه بعد بذل مال جليل في سلامته فأقسم بالله لو أعطى ملك زبيد كله ما أفداه، وذلك أنه قتله حداً، قول النبي صلى الله عليه وآله وسلم: ((من وجدتموه يعمل عمل قوم لوط فاقتلوه)) فراوده أصحابه على أخذ المال، وقالوا إنه لبيت المال، فقال: قد نزهت نفسي عن الطمع عند أهل زبيد، وقد كنت قلت لهم: إني لا أسألكم عليه شيئاً وتلوت قول الله سبحانه وتعالى: {قُلْ مَا سَأَلْتُكُمْ مِنْ أَجْرٍ فَهُوَ لَكُمْ إِنْ أَجْرِي إِلاَّ عَلَى اللَّه}[سبأ:47]، ثم نهض بهم، وكان القواد يعطون العساكر كفايتهم، فقال الإمام: أما أنا فلا أقبض منكم شيئاً كفاية ولا غيرها، وكان معه ومع أصحابه زاد، فلما فرغ الزاد كان يأمر من يشتري له الطعام ويأمر من يطحنه، وكانت حاشيته مقدار ستين رجلاً وولَّى على زبيد والياً من جهته، وعاد مُسلَّماً منصوراً قد أرضَى الله سبحانه عز وعلا، ولم يزل عليه السَّلام في جهاد بعد جهاد وجلاد عقيق جلاد، حتى أشمخ الحق قباباً، ومدَّ له أطناباً، شيَّد للإسلام في الأرض العز بنياناً، وأعلى له أركاناً، وكانت كثير
من وقعاته على الباطنية الملحدة أقماهم الله تعالى حتى دمرهم تدميرا، وأنزل بهم ويلاً وثبورا، بعد أن كانت قد تسعرت نارُهم، وسطع شرارهم، فطمس الله بحميد سيعه عليه السَّلام ربوعهم، وفرّق جموعهم، وكانوا بين قتيل وطريد تصديقاً لقول النبي صلى الله عليه وآله وسلم: ((إن عند كل بدعة تكون من بعدي يكاد بها الإيمان ولياً من أهل بيتي، موكلاً يعلن الحق وينوره، ويرد كيد الكائدين)). (1/37)
فاعتبروا يا أولي الأبصار وتوكلوا على الله.
من أوائل الداعين إلى وحدة اليمن شمالاً وجنوباً (1/38)
وقد سعى الإمام أحمد بن سليمان عليه السَّلام بكل ما أوتي من قوة إلى توحيد اليمن شمالاً وجنوباً، ودعى إلى القضاء على الدويلات والمشيخات التي فصلت أجزاء الوطن اليمني، يقول المؤرخ المعاصر أحمد الشامي: (وكان يريد أن يوحّد اليمن ويقضي على الدويلات الطفيلية والمشيخات الجائرة، والسلطنات الطائفية، ولكن صرامته فيما يعتقده حقاً وصواباً وواجباً دينياً، قد حرّمت عليه التلاعب السياسي، والمبررات الماكرة، التي ربما تمكن بها من الوصول إلى تحقيق ما يريده ويهواه، لو كان ما يريده ويهواه الجاه والسلطان وحطام الدنيا من مال وخول، فقد أبى أن يولّي سلاطين الجور على بلدانهم، ليضمن طاعتهم وخضوعهم له، وبذل الأتاوات والخراج، وكان يتشدد في إجبارهم عن التخلّي، أو تنفيذ الحدود الشرعية فيهم إذا قارفوا إثماً، أو انتهكوا حرمة دينية كما صنع مع (فاتك) الزبيدي، وبعض السلاطين الأشراف.
ولما أراد في سنة 547 أن يزحف على (عدن) بقبائل (جنب) و(مذحج) وغيرهما بهدف توحيد اليمن شمالاً وجنوباً تآزر السلطانان في (صنعاء) و(عدن) من (آل حاتم) و(بني زُريع)، ضد الإمام، وبذلا أموالاً واسعة لتلك القبائل، وخذّلا عن مناصرة الإمام، وفشلت خطته كما فشل بعده الملك عبدالنبي بن مهدي، عندما حاول القضاء على (بني زريع) في عدن عام 568، وقد استنجدوا بالسلطان علي بن حاتم ونشبت بين الجميع حروب دامية مدمّرة طاحنة سبق أن أشرنا إليها وقلنا إنها مهدت السبيل للسلطان ابن أيوب (توران شاة) وسهلت له الإستيلاء على معظم اليمن في وقت قصير). (1/39)
داعية عدالة اجتماعية (1/40)
ويقول المؤرخ الشامي متحدثاً عن عدالة الإمام أحمد بن سليمان عليه السَّلام الإجتماعية:
(ولقد كان الإمام أحمد بن سليمان من دعاة بث العدالة الإجتماعية ونشرها، ومحاربة الإثراء الفاحش القائم على الاحتكار واستغلال الجاه والمنصب، وإقامة مجتمع إسلامي فاضل تسوده المساواة وحرية التفكير والتعبير في إطار مكارم الأخلاق، يأمر بالمعروف وينهى عن المنكر فيه العلماء وأهل الحل والعقد، وكان يكلّف العلماء والمفكرين بوعظ الناس وإرشادهم، ومناظرة وحوار من يخرجون عمّا يراه صواباً، وكان من أكابر من يعتمد عليه في ذلك القاضي جعفر بن أحمد بن عبدالسلام ومناظراته مع علماء المطرفية بتوجيه من الإمام مشهورة، وكذلك مع علماء الأشاعرة، ولكنه كان شديد الوطأة على (الباطنية) والفجار والفساق، لا يحابي في ذلك ولا يجامل، وكان أحياناً ينكمش في هجرته على ضفاف (الخارد) ويشتغل بالزراعة، ولما ظهر الفساد في صعدة ولم يتمكن الأشراف بنو الهادي من إقامة الشريعة وتنفيذ أحكامها، وطلبوا منه النهوض إلى صعدة أجابهم، وبعد أن أدّى رسالته عاد إلى الجوف، ولمّا حصلت بينه وبين السلطان حاتم المراسلة وجنحا إلى المصالحة والتقيا في بيت (الجالد) كانت شروط الإمام عليه هي منع الخطبة للباطنية في صنعاء، وإظهار مذهب الهادي، والأمر بالمعروف، والنهي عن المنكر، وعاد السلطان حاتم إلى (صنعاء) والإمام إلى (الجوف) سعيداً راضياً بأن (حاتم) قد نفذ الكثير مما تعاقدا عليه، والتفت إلى محاربة القرامطة والباطنية في (وادعة) وغيرها).
شعره عليه السلام (1/41)
وأما الشعر والأدب فله فيه الباع الطويل، والبيان الجزيل، وقد اقتطفت من شعره قصيدتين احداهما قالها قبل بلوغه، وفيها طلب من الله تعالى أن يرزقه اليقين والتقوى وإكمال الفروض، وهي:
إذا أعطيت نفس الفتى قوتها الذي .... حباها به رب العباد اطمأنّتِ
وماتت ولم تغلبه إن كان عاقلاً .... وعادت إلى التقوى وصامت وصلّتِ
وإن هي لم تُعط الذي حبيتْ به .... من الرزق أمست في الهموم وظلّتِ
وكان قصارى أمرها أن تردّها .... إلى جهلها قسراً، وخابت وضلّتِ
وما تعبت نفسٌ وهانت وانصبت .... وذلت لرب الناس إلا وعزّتِ
فيا رب فارزقني اليقين فإنه .... وتقواك رأس الدين، واجعله عدتي
وأخّر مماتي رب، حتى تميتني .... وقد كملت مني الفروض وتمت
وأما الأخرى فقالها وهو مقيم في بلاد (جنب) وقد حقق الله له آماله، واستجاب دعائه، وهي زهدية رائعة، اشتملت على معانٍ عظيمة ودلالات قويمة:
دعيني أطفي عبرتي ما بدا ليا .... وأبكي ذنوبي اليوم إن كنت باكيا
لعلّ البكا يشفي من الوجد بعضه .... إذا لم يكن للكلّ من ذاك شافيا
وأشفي غليلاً في فؤادي بالبكا؛ .... وإن قال جُهال من الناس ما ليا؟!
وليس عجيباً إن بكيت ولو دماً .... وأذهب دمعي من بكاي المآقيا
وقدماً بكى قبلي رجال تذكروا .... رسوماً عفت عن أهلها، ومغانيا
وقد مات (همامٌ) لوعظ إمامه .... وصادف قلباً للمواعظ واعيا
فلِم لا إذاً أبكي على ما جنت يدي .... من الذنب لمّا أن تحققت دائيا!
فهل من مداوٍ للذنوب من الملا؟ .... فلم ألق للذنب العظيم مداويا؟! (1/42)
وهل لقروح في فؤادي مرهم .... تداوي غليلاً كامناً في فؤاديا
وليس لذنبي من دواءٍ سوى البكا .... وتوبة ذي صدق، وعفو إلهيا
هبيني نسيت الموت والبعث فينَةً .... وما كان من علم الغيوب ورائيا
ألم أعتبر نفسي، ونقصان قوّتي، .... ولم أك للموت المشاهد ناسيا؟!
وكنت امرءاً ذا قوةٍ في شبيبتي .... فأصبح مخضر الشبيبة ذاويا!
وبدلت نقصاناً بدا في جوارحي .... وجاء نذير الشيب للنفس ناعيا
فيا عجباً من غافل غير عاقل .... يجدّد من دنياه ما صار باليا!
ويعمر ما قد خرّب الدهر قبله .... يجدّد تسويفاً له وأمانيا
ومن هرم يزداد ضعفاً وقلّةً .... وآماله يرمي بهنّ المراميا
* * *
رأيت (معين) الملك قد صار خاليا .... فأورثني سقماً، وأوهى عظاميا
و(بينون) و(البيضاء) بادت وهكذا .... (براقشها) والقصر قد كان عاليا
و(غمدان) و(السوداء) و(البون) عطّلت .... منازلها، والكل قد صار خاليا
وفي( هرم) ما يهرم الطفل ذكره .... وفي (كمنا) ما كان للناس ناديا
و(صُرواح) أو(روثان) للناس عبرةٌ .... أباد الردى أسفاله والأعاليا
وفي كل أرض مثلهنّ مآثرٌ .... تزّهد في الدنيا، وتنفي الدواعيا
فيا ربّ قيْلٍ كان فيهنّ مترف .... وذي نخوةٍ قد كان في النّاس ساميا
مضى ومضت أمواله ورجالُه .... وقد كان موجوداً فأصبح خاليا،
فكيف يطيب العيش للمرء بعدهم .... ويصبح جوّ الدهر للمرء صافيا؟
* * * (1/43)
فيا أيها المغرور أقصر عن الهوى .... وأقبل إلى التقوى، ولا تك لاهيا
وكن جاهداً في طاعة الله ربنا .... تفزْ بالذي تهوى، ولا تك عاصيا
كفى بالبلاء والموت للناس زاجراً .... وبالشيب عن فعل المظالم ناهيا!
فطوبى لمن يعطى الشهادة تحفة .... ومن كان مهدياً، ومن كان هاديا
ولولا الترجّي للشهادة والهدى .... وأضحى إلى الرحمن والدين داعيا
وإعزاز دين الله بعد خموله .... لأشبع غرثاناً، وأكسو عاريا،
وأنصر مظلوماً، وأقمع ظالماً .... وأنقذ ملهوفاً، وأفني معاديا،
لما كنت بين الناس أنظر فعلهم .... وما كنت للجهّال يوماً مدانيا
وأغدو لمن عادى الإله معاديا، .... وأضحى لمن والى الإله مواليا،
لما سرتُ إلا في طريق (ابن أدهم) .... وكنت (لعمرو بن العُبيد) مواسيا
وكابن (جثيم) و(الجنيد) أخي التقى .... فما كان منهم واحدٌ متوانيا
ويمّمت أرضاً لا أرى الناس عندها .... وكنت لأصناف الوحوش مواخيا
وقلت لأولادي وأهلي وأخوتي .... وأهل ودادي اليوم أن لا تلاقيا
مؤلفاته (1/44)
وأما مؤلفاته فهي كثيرة، ومنها:
1- (كتاب أصول الأحكام في الحلال والحرام)، وعليه يعتمد أهل المذهب الشريف في أحاديث التحليل والتحريم بلا نزاع منهم، من زمانه عليه السَّلام إلى وقتنا، لتقدمه وشهرته، واستيفائه بحججنا وحجج المخالفين والرد عليهم، وجملة أحاديثه ثلاثة آلاف وثلاثمائة واثنا عشر حديثاً، هكذا وصفه السيد العلامة الكبير صارم الدين الوزير في كتابه (الفلك الدوار) ـ تحت الطبع ـ بتحقيقنا.
2- (حقائق المعرفة) ـ أصول دين ـ مخطوط، منه سبع نسخ في المكتبة الغربية من (47-50) وبرقم (124، 156) ، وأخرى في (312) صفحة بمكتبة جامع الإمام الهادي بصعدة، وهو الذي بين يديك الكريمتين.
3- (الرسالة المتوكلية في هتك أستار الإسماعيلية) . منه مخطوط سنة 1054هـ ضمن مجموعة 81 من ورقة 128 إلى 132 مكتبة الأوقاف بالجامع الكبير، أخرى ضمن مجموع بمكتبة المولى الحجة مجد الدين المؤيدي.
4- (الرسالة الصادقة في تبيين ارتداد الفرقة المارقة) [أئمة اليمن:96].
5- (الرسالة العامة) [التحف شرح الزلف: 100].
6- (الزاهر في أصول الفقه). منه نسخة ضمن مجموع بمكتبة الأمبروزيانا رقم (47g).
7- (المدخل في أصول الفقه) [أئمة اليمن: 96].
8- (المطاعن) [التحف: 100].
9- (منهاج اليقين) منه نسخة خطية مصورة مع كتاب (الحكمة الدرية) في مكتبة السيد محمد عبد العظيم الهادي، خطت سنة 1354ه.
10- (الهاشمة لأنف الظلال من مذاهب المطرفية الجهال) [أئمة اليمن:96].
11- (كتاب العمدة شرح الرسالة الهاشمة) [التحف: 100].
12- (ديوان شعر الإمام المتوكل أحمد بن سليمان). منه نبذة ضمن مجموع بمكتبة الجامع (الكتب المصادرة) برقم (61) (مصادر الحبشي: 536). (1/45)
13- (قصيدته إلى نشوان الحميري) ـ خ ـ ضمن مجموعة رقم (37) الجامع (كتب مصادرة) أخرى ضمن مجموعة رقم (117g) بمكتبة الأمبروزيانا، أخرى باسم القصيدة الفائقة والمنظومة الرائقة، بمكتبة السيد سراج الدين عدلان ضمن مجموع ـ خ ـ سنة 1320هـ.
وأما كتاب (الحكمة الدرية) فلم نذكره في مؤلفاته؛ لأن شيخنا السيد الحجة مجد الدين المؤيدي حفظه الله قد شكك فيه، حيث قال: (ولا وثوق بما في الحكمة الدرية، فقد ثبت أنه قد دس فيها كثير على الإمام، ولهذا لم نعدها في مؤلفاته)، قلت: ولا يعني هذا التشكيك في جميعها إنما في أجزاء منها.
وفاته (1/46)
وبعد حياة حافلة بالعطاء، مليئة بالتضحية، توفي عليه السَّلام سنة 566هـ، عن ست وستين سنة من مولده، وعن أربعة وثلاثين سنة من دعوته، وقبره في مديرية حيدان من نواحي محافظة صعدة باليمن مشهور مزور، عليه سلام الله ورحمته وبركاته.
مصادر ترجمته (1/47)
- أعلام المؤلفين الزيدية: 114-116.
- تأريخ اليمن الفكري: 1/456.
- الحدائق الوردية: 2/240.
- طبقات الزيدية: 1/131-134.
- التحفة العنبرية ـ خ ـ.
- اللآلئ المضيئةـ خ ـ: 2/270-333.
- مآثر الأبرار ـ خ ـ.
- الأعلام: 1/132.
- مصادر الحبشي: 534ـ 536.
- سيرة المتوكل أحمد بن سليمان/ تأليف سليمان الثقفي، ذكره زبارة في أئمة اليمن: 94.
- الترجمان ـ خ ـ.
- غاية الأماني: 295-318.
- تكملة الإفادة ـ خ ـ.
- بلوغ المرام: 25.
- الجامع الوجيز ـ خ ـ.
- فرجة الهموم والحزن: 178.
- أئمة اليمن: 1/95 -108.
- إتحاف المهتدين: 56.
- المقتطف من تأريخ اليمن: 114-115.
- التحف شرح الزلف: 99-103.
- معجم المؤلفين: 1/239.
- رجال الأزهار: 4.
- المصباح المكنون: 1/91.
- تأريخ اليمن الفكري في العصر العباسي: 1/454-473، 511.
- الجواهر المضيئة ـ خ ـ: 10.
- جناية الأكوع على ذخائر الهمداني: 61.
- مطمح الآمال في إيقاظ جهلة العمال:243.
- التراث العربي في مكتبة آية الله مرعشي: 3/421.
- الشافي:1/342، الأنوار البالغة ـ خ ـ.
- شرح الدامغة ـ خ ـ.
- حكام اليمن المؤلفون: 75-79.
- الزيدية لمحمود صبحي: 748.
- الموسوعة اليمنية: 1/53.
بسم الله الرحمن الرحيم (1/48)
وبه نستعين
الحمد لله الأول بلا غايةٍ، الآخر بلا نهايةٍ، الذي لا تحتويه الأمكنة، ولا تضمنه الأزمنة، الذي دلّ على نفسه بما أظهر من عجيب صنعه، المتنزه عن مشابهة خليقته، الذي ابتدأنا بالكرم والجود، وأخرجنا من العدم إلى الوجود، وتفضل علينا بالعقول، وأكّد حجته علينا بالكتاب والرسول، {لِئَلاَّ يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَى اللَّهِ حُجَّةٌ بَعْدَ الرُّسُلِ وَكَانَ اللَّهُ عَزِيزًا حَكِيمًا}[النساء:165].
وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله صلى الله عليه وآله وسلم تسليماً، وأن أمير المؤمنين علي بن أبي طالب أخو رسول الله ووصيّه، وخليفته في أمّته ووليه، وأن الحسن والحسين إمامان عادلانِ مفترضةٌ طاعتُهُما، وواجبةٌ على الأمة نُصرتهما، وأن الإمامة في ذريتهما محصورة، وعلى غيرهم محظورة، من سار منهم بسيرتهما واحتذا بحذوهما.
أمّا بعد ..
فإنه لما دُرس الإسلام، وعُطّلت الأحكام، وغاض العلم لعدم أهله، وادّعاه من لا يعرفه بجهله، رأيتُ أن أنشر هذا الكتاب، وأُبيّن فيه الحق والصواب، وأذكر طرفاً من علم الكلام في الأصول والفروع، والمعقول والمسموع، لينتفع به من يقف عليه، ويرجع من شذّ من الحق إليه؛ طالباً بذلك الثواب من الله، ومتعرضاً لرضاءِ الله. وقد اعتمدتُ في هذا الكتاب على الاختصار وعدلت عن الإطالة والإكثار، وأنا أسأل الله العصمة من الزّلل، والإصابة للحقِّ في القول والعمل.
(ذكر تفاصيل المعارف وتسميتها) (1/49)
المعارف ثلاثة عشر معرفة:
طريق النظر ووجوبه.
ومعرفة الصنع.
ومعرفة الصانع.
ومعرفة التوحيد.
ومعرفة العدل.
ومعرفة النعمة.
ومعرفة شكر المنعم.
ومعرفة البلاء.
ومعرفة الجزاء.
ومعرفة الكتاب.
ومعرفة الرسول.
ومعرفة الإمام.
ومعرفة الاختلاف.
باب معرفة النظر (1/50)
اعلم أيها السامع أن المكلف قد أُعطي آلة يبلغ بها -إذا استعملها- ما يُصلح دينه ودنياه. أولها ـ وهو أشرفها وأكملها ـ العقل الذكيُّ، ومنها: الحواس الخمس، ومنها: اللسان المترجم لما يفهمه المستمع، ومنها: اعتدال الخلقة في بنيةٍ مخصوصةٍ، ومنها: الحياةُ والروحُ، وغير ذلك من الآلة المركّبة في المكلف لصلاح دينه ودنياه.
فصل في الكلام في العقل (1/51)
وإنما بدأنا بذكر العقل؛ لأنه أكبر الآلات وبه تُعرف المعارف كلُّها، وجميع المعلومات. وإنما سُمي العقل عقلاً؛ لأنه يعقل صاحبه عن المنكرات، وأصل العقل: العلم، وهو عَرَضٌ ومحلّه القلب. أجمع الموحِّدُ والملحدُ على أن العقل هو العلم، وأنه عرضٌ؛ إلا فرقة من الزيدية من أهل زماننا وهم أصحاب مطرّف بن شهاب، فإنهم قالوا: (العقل) هو القلب، واستدلوا بقول الله تعالى: {إِنَّ فِي ذَلِكَ لَذِكْرَى لِمَنْ كَانَ لَهُ قَلْبٌ أو أَلْقَى السَّمْعَ وَهُوَ شَهِيدٌ}[ق:37]، ونَسَوا قول الله تعالى: {أَفَلَمْ يَسِيرُوا فِي الأَرْضِ فَتَكُونَ لَهُمْ قُلُوبٌ يَعْقِلُونَ بِهَا أو آذَانٌ يَسْمَعُونَ بِهَا فَإِنَّهَا لاَ تَعْمَى الأَبْصَارُ وَلَكِنْ تَعْمَى الْقُلُوبُ الَّتِي فِي الصُّدُورِ}[الحج:46]، وقد فسّر الهادي إلى الحق عليه السَّلام قول الله تعالى: {لِمَنْ كَانَ لَهُ قَلْبٌ}، قال: لمن كان له قلبٌ يعقل به، ولو كان العقلُ هو القلبُ، لَمَا حُسِدَ العاقلُ عليه، ولا ذُمَّ بنقصانه، ولا كان يزول عند النوم وشبهه، إذ ليس كل من له قلب بعاقلٍ؛ كالطفل والمجنون والبهيمة؛ وكل من له عقل فله قلبٌ.
وقالت الفلاسفة: محل العقل الدِّماغ، ودليلهم أنه عند فساد الدِّماغ يزول العقل ولا حجة لهم في هذا؛ لأن المجبوب لا تنبت لحيتُهُ، والفساد واقعٌ بالجبِّ، وموضع نبات الشعر سالمٌ، لكن هنالك موادُّ من ناحية الموضع جُبَّ، فلما انقطعت تلك المواد لم تنبت الشعر، فكذلك لا يمتنع أن يكون هنالك مواد من ناحية الدّماغ إلى القلب، وأيضاً فالله جعل اللحية دليلاً على الذّكر، فإذا جُبّ الذَّكر لم يكن الله ليجعل دليلاً على غير مدلولٍ عليه، فمن هنالك لم تنبت له اللحيةُ، إلا النادر من الناس الذي يُسمَّى (الكوسج) الذي ذمّه أمير المؤمنين عليه السَّلام، فقال: ((لا يوجد في أربعين كوسجاً رجل خَيِّرٌ )). (1/52)
والعقل على وجهين: ضروريٌّ واختياريٌّ؛ فالضروريُّ من فطرة الله تعالى، والاختياري فعل العبد.
فالضروريُّ مثل: معرفة استحسان الحسن، واستقباح القبيح؛ وهذه فطرةٌ من الله فطر المكلفين عليها خاصّة.
فأما استجلاب المنافع، والنّفار عن المضار فذلك عامٌّ في جميع الحيوان، وذلك مُشاهدٌ، ولا يُسمّى عقلاً لغير المكلفين، بل هو إلهامٌ من الله تعالى (لهم)، وهو سببُ حياتهم؛ وإبلاغ من الله في النعمة على المكلفين مثل ما أَلْهم اللهُ تعالى النّحل من فعل ما لا يتأتّى لصاحب عقلٍ.
وأما العقل الاختياري فهو نظر المكلف وتمييزه واستدلاله واستنباطه.
قال القاسم بن إبراهيم عليه السَّلام في جواب مسائلٍ سأل عنها ابنُهُ محمد بن القاسم" فقال: سألتَ عن العقل في الإنسان أطبعٌ هو، أم مستفادٌ؟
قال عليه السَّلام: (هو) الحفظُ والذِّكرُ، وأصل العقل: فطرةٌ وخلقةٌ.
وقال عليه السَّلام ـ في جوابه للملحد: وما يُعرف بالعقل شيئآن: (1/53)
أحدهما: يُعرف ويُدرك ببديهته مثل: تحسين الحسن، وتقبيح القبيح، ومثل: شكر المنعم وحُسن التّفضل، وتقبيح كفر المنعم، والجور، وما جانسه.
والوجه الثاني: وهو الاستدلال والاستنباط الذي ينتجه العقل؛ كمعرفة الصانع، وعلم التّعديل، والتّجوير، والعلم بحقائق الأشياءِ.
وقال محمد بن القاسم عليهما السلام في شروط الإيمان المُنجي: لأن العقل مسكنه القلب، فيصبح أنه غير القلب، وأنه حالٌّ فيه.
وقال المؤيد بالله عليه السَّلام: فصارت الآثار أصلاً في أن كل عضوٍ في الإنسان واحدٌ نحو الأنف والذَّكر ففيه الدية، وما كان فيه اثنان كاليدين والعينين والرجلين ففيه الدية؛ وفي كل واحد منها نصف الدية؛ وهكذا المعاني وإن لم تكن أعضاءَ، كالصوت والعقل والسمع والبصر، وهذا ممّا لا خلاف فيه؛ ذكره في شرح التجريد.
وقال الهادي للحق عليه السَّلام في جواب مسائل الرازي، وقد سأله عن عقل رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، وعن عقل أبي جهل؟
فقال عليه السَّلام: قد أعطى الله أبا جهلٍ (من العقل) فوق ما يحتاج إليه، فأما أن يُعطى مثل عقل رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فلا، ولا كرامة لأبي جهل. ومثّل بمن أُعطيَ شمعةً، ومن أُعطيَ شمعتينِ، وهو ما سأله عن الفؤاد، وإلا كانت الزيادة في اللحمة.
وقال أيضاً عليه السَّلام في المسترشد في صفة الإنسان: ثم علّق في صدره قلباً، ثم ركّب فيه لُبًّا، ثم جعله وعاءً للعقل الكامل، وحصْناً للرُّوح الجائل. وعلى هذا أجمعت العلماء: أهل العدل والتوحيد من الزيدية والمعتزلة ولم نعلم مخالفاً لما قلنا من (العلماءِ) المتقدمين. (1/54)
قال عمرو بن بحر الجاحظ في كتاب المعاد والمعاش: وقد أجمعت الحكماءُ أن العقل المطبوع والكرم الغريزي لا يبلُغان غاية الكمال إلا بمعاونة العقل المكتسب، ومثّلوا ذلك بالنار والحطب، والمصباح والدُّهن، وذلك أن العقل الغريزي آلةٌ، والمكتسب مادَّة، وإنما الأدب عقل غيرك تزيده في عقلك.
فصل في الكلام في الحواس (1/55)
اعلم: أن الحواسَّ جعلها الله خمساً؛ لأن المحسوسات خمس، فالحواس: السّمع والبصر والشمُّ والذّوقُ والَّلمسُ. والحواس أجسام، وفعلها أعراض، وهو الحسُّ.
والمحسوسات خمس وهي: مسموعٌ ومبصرٌ ومشمومٌ ومطعومٌ وملموسٌ، وهي أجسامٌ وأعراضٌ. فالأعراضُ: الأصواتُ والألوانُ والطّعومُ والرّوائحُ والحرارةُ والبرودةُ والآلامُ. والأجسام (هي) محالُّ هذه الأعراض، وهي: المصوِّت والْمُبصِرُ والمطعومُ والمشمومُ والملموسُ؛ وعلى هذا أجمع أهل العدل والتوحيد من الزيدية والمعتزلة، إلا المطرفيّة فإنّهم قالوا: الحواسُّ لا تُدْرِكُ إلا الأجسام، والأعراض عندهم لا تُدْرَكُ إلا بالعلم، وقالوا: هي لا تُوهم ولا تَحِلُّ ولا تُحَلُّ، فنقضوا كلامهم وأثبتوها ثم نفوها.
والعقل الضروريُّ يحكمُ أن كُلَّ معلومٍ غيرُ الله فهو حالٌّ أو محلولٌ، وعليه أجمعت الأمة، إلا ما قالت المعتزلة في الإرادة، وسنذكر إن شاء الله تعالى القول والاحتجاج عند ذكر الأجسام والأعراض في باب معرفة الصنع. وكانت هذه الحواس الخمس تُؤدِّي إلى القلب، وكان اللسان ترجماناً له مع سلامة البُنْيَةِ، وحصول الرُّوح والحياة، فأمكن النظر والتمييز، وبلغ بالعقل صاحبه ما يريد من علم الحقائق وسائر المعلومات.
فصل في الكلام في وجوب النظر والاستدلال (1/56)
اعلم أن العقل يحكم بأن العلم حسنٌ وأن الجهل قبيحٌ، ويحكم أنه يجب على العاقل أن ينظر ويُميّز إذ قد أُعطيَ آلة النظر والتمييز، ويحكم أنه إن لم ينظر ويُميز لم يبلُغ إلى استجلاب منفعةٍ، ولا دفع مضرّةٍ، ولا يبلغ إلى إصلاح دينٍ ولا دنيا.
واعلم أن العقل هو أصلح الحجج؛ والكتابُ والسُّنَّةُ تأكيدٌ له، والدليل على ذلك، أن الكتاب والسنة ما عُرفَا إلا بالعقل.
ومما يدل على وجوب النظر أن العلم بحقائق الأشياء لا يتأتّى إلا من وجهين: وهما: التقليد والنظر. والتقليد لا يُعمل به في الأصول؛ لأن المُحقّ ليس بأولى من المبطل في أن يُقلَّد.
ويؤيد ذلك ما روي عن حذيفة بن اليمان أنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: ((لا تكونوا إمَّعَةً تقولون: إن أحسَنَ الناسُ أحسنّا، وإن أساءوا أسَأنا، ولكن وطِّنوا أنفُسَكُمْ، إن أحسَنَ الناسُ أن تُحْسِنُوا، وإن أَسَاؤُا فلا تَظْلِموا)) فبانَ فسادُ التقليد، ولم يبق إلا النظر المؤدِّي إلى الصواب.
ويدلّ أيضاً على وجوب النظر قول رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: ((ستفترق أمّتي على ثلاثٍ وسبعين فرقةً كلُّها هالكةٌ إلا فرقةً واحدةً)). وما رُوي عن أمير المؤمنين عليه السَّلام قال: قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: ((لا قول إلا بعمل ، ولا قول ولا عمل إلا بنيّة، ولا قول ولا عمل ولا نِيّة إلا بإصابة السُّنّة))، فوجب على كل عاقلٍ أن ينظر ويختار (لنفسه) مذهباً يشهد له به العقل والكتاب والرُّسُلُ والإجماعُ، وأن يجتهد في إصابة السنة، بالنظر والاستدلال والبيّنات. (1/57)
وقد ندب الله تعالى إلى قبول الحق بالبراهين والحجج، وذم المعرضين والغافلين عن معرفة الآيات والبيّنات؛ فقال عزّ من قائل: {وَقَالُوا لَنْ يَدْخُلَ الْجَنَّةَ إِلاَّ مَنْ كَانَ هُودًا أو نَصَارَى تِلْكَ أَمَانِيُّهُمْ قُلْ هَاتُوا بُرْهَانَكُمْ إِنْ كُنتُمْ صَادِقِينَ}[البقرة:111]، وقال تعالى في ذمَّ من اتبع الظن والهوى، ومالَ إلى الغفلة وترك النظر: {وَيَوْمَ نَحْشُرُ مِنْ كُلِّ أُمَّةٍ فَوْجًا مِمَّنْ يُكَذّبُ بِآيَاتِنَا فَهُمْ يُوزَعُونَ ، حَتَّى إِذَا جَاءُوا قَالَ أَكَذَّبْتُمْ بِآيَاتِي وَلَمْ تُحِيطُوا بِهَا عِلْمًا أَم ماذَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ}[النمل:83-84]، وقال عزّ من قائل: {وَقَالُوا مَا هِيَ إِلاَّ حَيَاتُنَا الدُّنْيَا نَمُوتُ وَنَحْيَا وَمَا يُهْلِكُنَا إِلاَّ الدَّهْرُ وَمَا لَهُمْ بِذَلِكَ مِنْ عِلْمٍ إِنْ هُمْ إِلاَّ يَظُنُّونَ}[الجاثية:24]، وقال عزّ من قائل: {إِنْ يَتَّبِعُونَ إِلاَّ الظَّنَّ وَإِنَّ الظَّنَّ لاَ يُغْنِي مِنَ الْحَقِّ شَيْئًا}[النجم:28]، وقال تعالى وعزّ من قائل: {إِنَّ الَّذِينَ لاَ يَرْجُونَ لِقَاءَنَا وَرَضُوا بِالْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَاطْمَأَنُّوا بِهَا وَالَّذِينَ هُمْ عَنْ آيَاتِنَا غَافِلُونَ ، أُوْلَئِكَ مَأْوَاهُمُ النَّارُ...}الآية[يونس:7،8]، وروي عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أنه قال: ((تعلموا القرآن وعلّموه الناس ، وتعلموا الفرائض وعلموها الناس، فإني امرؤٌ مقبوض، وإن العلم سيُقبض من بعدي، ويختلف الرجلان فلا يجدان من يفصل بينهما))، وروي عن جابر بن (1/58)
عبد الله قال: قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: ((قوام المرء عقله ، ولا دين لمن لا عقل له))، وروي عنه صلى الله عليه وآله وسلم أنه قال: ((إنما يدرك الخير كله بالعقل ، ولا دين لمن لا عقل له))، وروي عنه صلى الله عليه وآله وسلم أنه قال: ((ما تمّ دين إنسان قط حتى يتم عقله ))، وروي عن النبيء صلى الله عليه وآله وسلم أنه قال: ((جد الملائكة واجتهدوا في طاعة الله على قدر عقولهم، فأعملهم بطاعة الله أوفرهم عقلاً))، وروي عن عمر بن الخطاب أنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: ((ما اكتسب أحدٌ مكتسباً مثل فضل العقل يهدي صاحبه إلى هدىً أو يرده عن ردًى، وما تم إيمان عبد ولا استقام دينه حتى يكمل عقله))، وروي عن الزهري عن سالم عن أبيه عن ابن عمر أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال: ((لكل شيء معدن ومعدن التقوى قلوب العارفين))، وروي عنه صلى الله عليه وآله وسلم أنه قال: ((الناس يعملون الخير ويعطون أجورهم على قدر عقولهم ))، وروي عن نافع عن ابن عمر قال: قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: ((إن الرجل يكون من أهل الصلاة ومن أهل الصوم والزكاة والحج وما يجازى يوم القيامة إلا بقدر عقله))، وروي عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم أنه قال: ((في جسد ابن آدم نطفة إذا صلحت صلح الجسد كله، وإذا فسدت فسد الجسد كله ألا وهي القلب))، فصح ما قلنا. (1/59)
ولا يبلغ العاقل درجة العقل إلا بنظر واستدلال. وهذا لا خلاف فيه. إلا ما روي عن داود الأصبهاني من قوله: بأن العقل ليس بدليل ومن طابقه من الحشوية أهل الظاهر بعدم دلالة العقول. فأنكر ذلك عليهم جميع العلماء. وقال في ذلك ابن دريدٍ يهجوهم: (1/60)
قال داود ذو الرقاعة والجهل
بأن العقول ليست بحجة
ولعمري لعقله ذلك العقل
فما أن به يصاب محجّة
ثم أصحابه يعومون عوماً
من ضلالات جهلهم وسط لجة
وقد تقدم الاحتجاج عليهم من العقل والكتاب والرسول والإجماع.
واعلم أن في الكتاب محكماً ومتشابهاً، وناسخاً ومنسوخاً. ولا يُعلم المحكم من المتشابه ولا الناسخ من المنسوخ إلا بنظرٍ واستدلالٍ عقليٍّ؛ وكذلك السُّنة وأخْذُها من الرُّواة.
واعلم أن الأخبار الواردة عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم على ثلاثة وجوهٍ:
فمنها: الخبر المشهور المستفيض الذي أجمعت عليه الأمة، وهو مثل: أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم دعا إلى الله، وأنَّ القرآن أُنزل عليه، وأنه جاهد الكفّار ومن عَنَدَ عن الحق. ومثل ما فعله وأمر به من الطهارة، والصلوات الخمس، والزكاة، والصوم، والحج، وأشباه ذلك؛ وهذا يُعلم ضرورةً؛ لأن الأمة على كثرتها واتِّساع مساكنها، واختلاف ألسنتها وأحوالها لا تتَّفق على كذبٍ، ولقول رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: ((لا تجتمع أُمَّتي على ضلالة )).
ومنها: الخبر المتواتر كقوله صلى الله عليه وآله وسلم: ((عَليٌّ مني بمنزلة هارون من موسى إلا أنه لا نبيء بعدي))، وهذا يعلم ضرورة، وليس كالأول، فلأن أكثر الفرق -فرق الإسلام- يروونه، ويعرفونه، ومنهم من رواه وتأوَّله، وهذا لا يتأتّى فيه الكذب، ولا التواطؤ بين الرواة؛ لاختلاف أديانهم، وأحوالهم، وألسنتهم، وبُعْدِ أوطانهم. (1/61)
ومنها: خبر الآحاد وهو الذي يرويه الواحدُ، وهو يُقبل بحسن الاجتهاد، وتغليب الظن في صدق راويه في الفروع والشرع. فأما في الأصول فلا يُقبل خبر الآحاد لكثرة الرواة، وأهل التدليس في الإسلام من المنافقين والباطنيّة، وغيرهم من أعداءِ الرحمن، ولتحرصهم على إفساد أُصول الدين على المسلمين كما قد رووا: ((سترون ربكم كالقمر ليلة البدر لا تضامُّون في رؤيته)).
والدليل على أن خبر الآحاد يُقبل في الفروع إجماعُ الأمة على ذلك، وهو أنهم أجمعوا على أن النبيء صلى الله عليه وآله وسلم كان يبعث العُمّال في البلاد فيُقبل خبرُ العامل، مثل معاذ بن جبل حيث بعثه النبيء صلى الله عليه وآله وسلم إلى اليمن. وأنه كان يكتب إلى من هو منتزحٌ عنه فيُقبل كتابه، مثل ما رُويَ عن عبد الله بن حكيم قال: كتب إلينا رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قبل موته بشهرٍ: ((لا تنتفعوا من الميتة بلحمٍ ولا عصبٍ )). وأجمعتِ الصّحابة على قبول خبر الواحد، كقبولهم خبر عبد الرحمن بن عوفٍ في جزية المجوس، وكقبول خبر أبي بكرٍ في إعطاءِ الجدِّ السُّدس.
وروي عن أمير المؤمنين عليه السَّلام قال: كنتُ إذا سمعتُ من رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم شيئاً نفعني الله به بما شاء، فإذا سمعتُهُ من غيره حلّفتُهُ، فإذا حلف صدَّقتُهُ. وحدّثني أبو بكرٍ، وصدق أبو بكرٍ. (1/62)
وكقبول خبر حمل بن مالك في جنين المرأة. فصحّ أن خبر الآحادي يُقبل في الفروع دون الأصول لِمَا قدّمنا. وصحّ أن النظر أصلٌ من أكبر أصول الدين، لأنه به عُرفت الأصولُ.
فأما القياس فإنه لا يصح في الأصول، وقد يصحّ أن يقاس الشيء من الفروع بمثله، كما يُقاس ما لم يُسَمّ، مما يُكال ممَّا أخرجت الأرض في وجوب الزكاة على مثله الْمُسمَّى، مثالُ ذلك: أن السّمسم والدُّخن وأشباههما لم تُسَمَّ في الخبر عن النبيء صلى الله عليه وآله وسلم فوجب أن يُقاس على ما سُمِّيَ من التّمر والزبيب والحنطة؛ لأنه رُوي عن النبيء صلى الله عليه وآله وسلم أنه قال: ((لا تجري الصدقة في تمرٍ ، ولا زبيبٍ، ولا حنطةٍ، ولا ذُرةٍ، حتى يبلُغ الشيءُ منها خمسة أوْسُقٍ))، والوسق: ستون صاعاً، وإنما قلنا إنه مثله؛ لأنه وافقه في أكثر أوصافه، وذلك أنه مما أخرجت الأرض، ومما يُطعم ويُقتات، وأنه مَكِيْلٌ، وليس كذلك قياس أبي حنيفة (في) الخل والنَّبيذ وسائر المائعات على الماءِ؛ لأنه مخالفٌ (له) في كل أوصافه، إلا في الرِّقّة والصّفاءِ؛ وهو مخالفٌ له في لونه وطعمه وريحه واسمه وحكمه، فهذا مما لا يجوز من القياس. وقد أنكر عليه القياس العلماءُ في وقته وبعد وقته.
وقد رُوي أنه دخل هو ومحمد بن أبي ليلى على جعفر بن محمد عليهما السلام وهو في المدينة، فقال لأبي حنيفة في كلامٍ طويلٍ، وقد ذمَّ قياسه الذي كان يقيسه، فقال له جعفر: يا نعمان؛ (إن) أوّل من قاس إبليس أمره الله أن يسجد لآدم فقال: {أَنَا خَيْرٌ مِنْهُ خَلَقْتَنِي مِنْ نَارٍ وَخَلَقْتَهُ مِنْ طِينٍ }[الأعراف:12]، ثم قال له: أيُّهما آكد عند الله الصلاة أم الصّيام؟ قال: الصّلاة، قال: فَلِمَ أمر الله الحائض تقضي الصوم ولا تقضي الصلاة؛ وهذا آكد من هذا؟ قال: لا علم لي، قال: أيُّهما أعظم عند الله القتل أم الزنا؟ قال: القتل، قال: فَلِمَ أمر الله في القتل بشاهدين وفي الزنا بأربعةٍ؟ قال: لا علم لي. قال: يا نعمان، أيُّهما أنجس البول أمِ الجنابة؟ قال: البول. قال: فَلِمَ أمر الله بالغسل من الجنابة وأمر بالاستنجاء من البول فقط؟ قال: لا علم لي. قال: يا نعمان، لِمَ جعل الله المرارة في الأذنينِ، والمُلُوحَة في العينينِ، والرُّطوبة في المنخرينِ، والحلاوة في اللسان والشفتينِ؟ ولِمَ جعل بطن الراحة لا شعر فيه؟ قال: لا أدري. (1/63)
فسأله ابن أبي ليلى عن تفسير ذلك؛ فقال: أمّا قضاءُ الصّيام؛ فلأنه شهرٌ في سنتها، فأمرها الله أن تقضيَه لذلك. وأما الصلاةُ فإنها تُصلِّي في كل يوم وليلةٍ سبع عشرة ركعة الفريضة، والنوافل تسع ركعات، لم يجب (عليها) القضاءُ لأجل ذلك، يُريد من قِبَلِ كثرة الصّلاة. قال: وأمّا القتل فإنه فعلٌ واحدٌ بمفعولٍ به، فَحَكَمَ فيه بشاهدين، والزنا فِعْلُ فاعلين فحكم لكل واحدٍ بشاهدين،والبول يخرجُ من المثانة لا غيرها، فأمر فيه بالاستنجاء، والمنيُّ يخرُجُ من بين الصُّلبِ والتّرائبِ، فأمر فيه بالغسل ليطهر به بدنه كله. (1/64)
قال أبو حنيفة: أَوَلَيْسَ هذا قياسٌ؟ قال: لا، بل أخبرني أبي عن أبيه عن النبيء صلى الله عليه وآله وسلم.
قال: وأمّا مرارةُ الأذنين فَلِئلاّ تدخل الهوامُّ في خروق الأذنين إلى الدِّماغ، وأمّا ملوحة العينين فلأنهما شحمتان، فأمسكهما بالملوحة لئلاّ يذوبا، وأما الحلاوة في الفم فلأن يجد به طعم الأشياء.
وأما الرطوبة في المنخرينِ فلأن يجد بهما ريح الأشياء، ولولا ذلك كانتا كسائر جسده، وجعل بطن الرّاحة لا شعر فيه ليحس الّلمس، فاعلم.
فصحّ أن القياس لا يجوز إلا فيما ذكرنا وأمثاله.
واعلم أنه لا يقيس ولا يجتهد إلا من عرف الأصول، والفروع، والمعقول، والمسموع؛ لأنه إذا أفتى بغير علمٍ زَلَّ، وضلَّ بغير شكٍّ وأَضلَّ، وبسبب ذلك هلك أكثر الناس، وقد رُوي عن أمير المؤمنين عليه السَّلام أنه قال: (خمسٌ خذوهنَّ عنِّي فلو رحلتم المطيَّ لانظبتموهنّ قبل أن تجدوا مثلهنَّ: لا يخشى العبد إلا ربَّه، ولا يخاف إلا ذنبه، ولا يستحي مَنْ لا يعلم أن يتعلّم، ولا يستحي العالم إذا سُئل عمَّا لا يعلم أن يقول: الله أعلم، ومنزلة الصَّبر من الإيمان كمنزلة الرأس من الجسد، ولا إيمان لمن لا صبر له. (1/65)
واعلم أن ما ورد عن النبيء صلى الله عليه وآله وسلم مطلقاً فإنه يقتضي الوجوبَ في الأمر، والتّحريمَ في النهي، إلا ما خصَّه الدليل، مثالُ ذلك في الأمر: قوله صلى الله عليه وآله وسلم: ((من مسح سَالِفَتَيْه أَمِنَ من الغل يوم القيامة))، فلمّا قاله على وجه التّرغيب في الزيادة، ولم يأمر به مطلقاً، عُلم أنّ مسح الرقبة مع الرأس سُنَّةٌ.
ومثله: قوله صلى الله عليه وآله وسلم: ((لولا أن أشُقَّ على أمَّتي لَفَرَضْتُ عليهمُ السُّواكَ)) فصحّ أنه سُنَّةٌ.
وفي النهي قوله صلى الله عليه وآله وسلم: ((لا تستقبلوا القبلة لغائطٍ ولا لبولٍ )). وروي عن ابن عمر قال: اطَّلَعْتُ على رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم (وهو) يقضي حاجته محجوراً عليه بِلَبِنٍ، فرأيتُهُ مستقبل القبلة، فصح أنه مكروهٌ غير مُحَرَّمٍ.
والدليل على صحة ما ذكرناه قول الله تعالى: {وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا}[الحشر:7]، وقوله عزّ من قائلٍ: {مَنْ يُطِعِ الرَّسُولَ فَقَدْ أَطَاعَ اللَّهَ }[النساء:80]، والأمة مجمعةٌ على هذا. (1/66)
والدليل على أن إجماع الأمة حُجَّةٌ قول الله تعالى: {وَمَنْ يُشَاقِقِ الرَّسُولَ مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُ الْهُدَى وَيَتَّبِعْ غَيْرَ سَبِيلِ الْمُؤْمِنِينَ نُوَلّهِ مَا تَوَلَّى وَنُصْلِهِ جَهَنَّمَ وَسَاءَتْ مَصِيرًا}[النساء:115]، وقول رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: ((لا تجتمع أمَّتي على ضلالةٍ ))، فصح ما ذكرنا ووضح جميع ما قلنا؛ من وجوب النظر، وطريق الاستدلال.
باب حقيقة معرفة الصنع (1/67)
اعلم أن الصُّنع إسمٌ للفعل، وهو مصدرٌ من صَنَعَ يَصْنَعُ صُنْعاً؛ وأصلُهُ فَعَلَ يَفْعَلُ فَعْلاً، فصح أنّ اسمه يدلُّ على أنه فعلٌ، ولا يكون الفعل إلا من فاعلٍ، ولا يكون إلا محدثاً لتقدُّم فاعله عليه.
ولا خلاف في أنّ العالم يُسمّى صُنعاً. والعالَمُ اسمٌ للهواء، وما حوى من الأرض والسماء وما بينهما من جميع خلق الله العليِّ الأعلى. والعالمُ اسمهُ مُوَحَّدٌ، فإذا جمعتَ قلتَ: الْعَالَمِينَ؛ قال تعالى: {الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ }[الفاتحة:2]، وهذا الفرق في الجمع والمُوحَّد في اللفظ، وأما في المعنى فلا فرق بين الْعَالَمِ والعالَمِين؛ لأن الاسمين يُنبيانِ عن معنًى واحدٍ، وسُمِّيَ العالمُ؛ لأنه عَلَمٌ وَدليلٌ على صانعه.
فصل في الكلام في الهواء (1/68)
من ذلك أنا نظرنا إلى الهواء وما فيه من السَّعة والرِّقة والصفاء، وكونه مكاناً للكثيف واللطيف من الأشياءِ؛ فإذا هو قد قُدِّرَ أحسن تقديرٍ، وجُعلَ حياةً للكبير من الحيوان والصغير، وجُعلَ صافياً نقيًّا من الآفات والأكدار، وجعل لونه أخضر يميل إلى السّواد لموافقة الأبصار. وقد قالت الأطبَّاءُ: من ضَعُفَ بصره فَلْيُدْمِنِ النّظر إلى زجاجة خضراءَ مملوءة ماءً، فكان كما وصفت الأطبَّاءُ، وجعله يحمل الأصوات والرّوائح (والغبار) ثم يُمْحَى ويزول فيعود نقيًّا، فتجري فيه الرياح بالسحاب والدُّخان والغبار ثم يزول منه فيعود نقيًّا، ولو كان يبقى كل ما يحمله من الدُّخان والغبار والرّوائح والأصوات؛ لكان ذلك مُؤدياً إلى الضّرر وإباحة الأسرار، والتَّأَذِّي بكثرة الأصوات والدُّخان والغبار. وما جعل في سعته ورقّته من الصلاح لصنوف المنافع وجَوَلاَنِ الأنفاس فيه والأرواح.
فلما وجدنا فيه أثر التدبير وجدناهُ قد وُضِعَ موضعه في صلاح الحيوان بأحسن تقديرٍ؛ علمنا أنه محدثٌ مبدوعٌ، ومخترع مصنوع، علماً ضروريًّا بالمشاهدة؛ إذ لا بُدّ لكل مدبَّرٍ من مدبِّرٍ، وكل مقدَّرٍ لا بُدّ له من مُقدِّرٍ، وإذا ثبت أنه مصنوعٌ ثبت أنه محدثٌ.
وقد قال أهل الدهر -وهم عباد الأهوية: الهواء هو ربُّهُم لأنه بزعمهم محيطٌ بالأشياء، فيه كل شيءٍ، وهو مع كل شيءٍ.
قالوا: وجدنا فيه الحياة، وعند انقطاعه الموت، فصح قِدَمُهُ قبل كل شيءٍ بزعمهم.
والحجة عليهم أنه مع كبره ضعيفٌ، ومع اتِّساعه لطيفٌ، وصحّ من ضعفه أنه لا يُحدِثُ في الشاهد صغيراً ولا كبيراً، ولا يغني نقيراً ولا قطميراً، وأنه محدودٌ بسواه، منقطعٌ من غيره، متغير بغيره، وأنه يتغير بالأنوار، ويختلف باختلاف الليل والنّهار، وأنه يتغيّر بالروائح والدُّخان والغبار، وبالرّياح والسحاب والأمطار، ويقطع وينقطع، ويضيق ويتّسع، ويتحوَّل منه القليل فيتحوَّل، من ذلك هَواء البئر إذا دُفنت انتقل الهواء الذي كان فيها وزال، وما جاز على القليل جاز على الكثير، وما جرى على الصغير جرى على الكبير. وأيضاً: فإنه لا يخلو من الحالتين الحادثتينِ وهما: الحركةُ والسُّكونُ. (1/69)
وقد أجمع المتكلِّمون المتقدِّمون والمتأخِّرون على أنّ الحركة والسكون حالتانِ حادثتانِ، إلا أصحاب الاضطراب وهم بعض أتباع بلعام فإنهم زعموا أن العالَمَ لم يزل متحرِّكاً بحركاتٍ لا نهاية لها، وقالوا: لو ثبت لها أوّلٌ، أو آخرٌ لثبت حدوثُ العالم.
والحجة عليهم أنّ كونه متحركاً بعد أن كان ساكناً يدلُّ على حدوث الحركة، وكونه ساكناً بعد أن كان متحركاً يدلُّ على حدوث السكون بالمشاهدة والعلم الضروري.
وقال بلعام: العالَمُ متحرِّكٌ، والحركةُ الأخرى هي الحركة الأولى معادةٌ. وهذا إقرارٌ منه بحدوث الحركةِ وأن لها مُحْدِثاً؛ لأن كل ما كان له أوّلٌ وآخرٌ محدثٌ، وإذا كانت معادةً فلا بدَّ لها من مُعِيدٍ. وقال: العالم قديمٌ وله مُدبِّرٌ، خلافُهُ من جميع المعاني.
وقال أرسطاطاليس: العالَمُ هَيُولى قديمٌ. وتفسير الهَيُولى: هو أصل الأشياءِ، كما أن القطن أصلُ الثوب، والهيولى هو المدبِّرُ. (1/70)
واختلف أهل الدّهر في ظنونهم. وقالوا: العالَمُ قديمٌ، ودليلهم على أزليّته أنهم لا يُعَايِنُوا شيئاً إلا من شيءٍ. وقالوا: الطّائرُ من البيضة، والبيضةُ من الطّائر، والنُّطفةُ من الإنسان، والإنسان من النُّطفةِ. وقالوا: لم يزل العالم بصورةٍ قديمةٍ، ومنهم من قال: لا ندري الإنسان كان قبل النطفة، أو النّطفة قبل الإنسان؟ ودليلهم: أنهم لم يروا إنساناً إلا من نطفةٍ، ولا نطفةً إلا من إنسانٍ.
وقالوا: العالم وما يتولّد منه طبعٌ قديمٌ، والصُّورةُ قديمةٌ، والخلقُ كامِنٌ فيها، وأنكروا أن يكون كامن غير صورةٍ فتحتاج إلى مصور، وقاسوا العالم بالدُّولاب.
وكل هذا من ظنونهم وخرصهم، وقد حكى الله قولهم، وذكر أنّ قولهم ظنٌّ، فقال عزّ من قائلٍ: {وَقَالُوا مَا هِيَ إِلاَّ حَيَاتُنَا الدُّنْيَا نَمُوتُ وَنَحْيَا وَمَا يُهْلِكُنَا إِلاَّ الدَّهْرُ وَمَا لَهُمْ بِذَلِكَ مِنْ عِلْمٍ إِنْ هُمْ إِلاَّ يَظُنُّونَ}[الجاثية:24].
والحجة عليهم أن إقرارهم بالكُمُونِ، والصُّورةِ والدُّولابِ، يلزمهم ويبطل قولهم؛ لأن كُمُونَ الصّورةَ في الشيءِ يدلُّ على الانتقالِ، والانتقالُ حركةٌ، والحركةُ حادثةٌ، فوجب أن تكون الصورةُ المنتقلة حادثةٌ؛ لأنها لا تتعرّى عن الحركةِ والسكونِ، وكل ما لا يتعرَّى من الحوادث محدثٌ، وقد قدّمنا الكلام في ذلك. والدُّولاب أيضاً مصنوعٌ بالمشاهدة، فكذلك العالم.
ودليل آخر: أن الصورة قد علمنا علماً ضروريًّا أنها حادثةٌ -لكونها بعد أن لم تكن- بالمشاهدة؛ لأن النُّطفةَ لا صورةَ فيها؛ ثم كذلك العلقة والمضغة، ليس فيهما صورة إنسانٍ، فحدثت بعد عدمها، فكان ذلك دليلاً مبيناً. وقد احتج الله عليهم، فقال عزّ من قائلٍ: {وَلَقَدْ خَلَقْنَا الإِنسَانَ مِنْ سُلاَلَةٍ مِنْ طِينٍ ، ثُمَّ جَعَلْنَاهُ نُطْفَةً فِي قَرَارٍ مَكِينٍ ، ثُمَّ خَلَقْنَا النُّطْفَةَ عَلَقَةً فَخَلَقْنَا الْعَلَقَةَ مُضْغَةً فَخَلَقْنَا الْمُضْغَةَ عِظَامًا فَكَسَوْنَا الْعِظَامَ لَحْمًا ثُمَّ أَنشَأْنَاهُ خَلْقًا آخَرَ فَتَبَارَكَ اللَّهُ أَحْسَنُ الْخَالِقِينَ}[المؤمنون:12-14]، فلما كان له ابتداءٌ وانتهاءٌ كان محدثاً، وكذلك سائر المصنوعات، فصحّ الحِدَثُ وانتفى القِدَمُ. (1/71)
والرد عليهم في قولهم: العالم وما تولّد منه حصل من الطبيعة الهيولية؛ أن يقال لهم: الطبعُ فعلُ الفاعلِ، وهو غيرُ الطّابع والمطبوعِ، كما أنّ الفعل فِعلُ الفاعل، وهو غيرُ الفاعل والمفعول، فصحّ أن الطبع في ذاته فِعلُ الفاعل، وإذا صحّ أنه فعل الفاعل صح أنه محدثٌ.
ودليلٌ آخر: أن الطبيعةَ لا بُدَّ لها من أن تكون حيّةً قادرةً، أو تكون غيرَ حيّةٍ قادرةٍ. فإن قيل: هي حيّةٌ قادرةٌ. قلنا: هذا مُحالٌ؛ لأن النّخلة لو شُقَّ ساقُها أو موضعُ الطَّلْعِ منها، وحُشِيَ في جوفها رُطَبٌ لم يخرُج ذلك الرُّطب إلا بمخرجٍ حَيٍّ قادرٍ غيرها، فلو كانت النخلةُ حيّةٌ قادرةٌ لأخرجت ذلك الرُّطب من جوفها، ولكانت تطلُعُ في وقت خراجها، وفي غيره. وأيضاً فإن هذا الرُّطب الذي في النخلة وجدناه بعد أن لم نجده، ولا بُدَّ من أن يكون أوجد نفسه وهو معدوم، أو أوجده غيره. فإن قيل: أوجد نفسه، فلا بُدّ من أن يوجدها وهو موجود، أو يُوجد نفسه وهو معدوم، وإيجادُ الموجود مُحالٌ، وكذلك إيجاد المعدوم موجوداً مُحالٌ، فصحّ أنّه موجودٌ أوجده غيرُهُ، وصحّ أنه محدثٌ، وكذلك النّخلة محدثةٌ، وما جاز في النّخلة جاز في جميع العالم لِمَا يُوجد فيه من الزّيادة والنقصان، والتغيير والانتقال، وأنه لا يتعرَّى من الحالتين الحادثتينِ، فكلما وجدنا للواحد منه ابتداءً وانتهاءً كذلك جميعه؛ وما كان بهذه الصفات فهو محدثٌ، علماً عقلاً ضروريًّا. ومنهم من يثبت حدوث الصنع، ويُثبت له صانعاً قديماً؛ ويقول: إن الأشياءَ المصنوعةَ حدثت من الأصول الأربعة، أو الطبايع، أو العناصر، على اختلاف عباراتهم في ذلك؛ وبه قالت المطرفيّة، وليس للكلام معهم معنًى في أنه محدثٌ، وأنّ له مُحْدِثاً قديماً؛ لأنا نحن وهم مجمعون على ذلك. (1/72)
وإنما الكلام معهم في قولهم: إن الأشياء حدثت من هذه الأصول بالتركيب لا بالقصد والعمد من القديم فيما يتولّد من هذه الأصول.
فنقول: إن الأفعال لا تكون إلا لحيٍّ قادرٍ، والجمادات ليست بحيَّةٍ ولا قادرةٍ، فصحّ أنها لا فعل لها ولا تدبير. (1/73)
ودليلٌ آخر: فنقول: أخبرونا عن الأصول الأربعة ما هي؟
فإن قالوا: الماءُ، والهواءُ، والنّارُ، والرّياحُ. قلنا: فهل هذه الأصول هي الفروع المتولّدة منها، أو غيرها؟
فإن قالوا: لا، أحالوا؛ لأن ابن الإنسان غيره، فضلاً عن أن يكون ناراً أو ماءً أو ريحاً وهواءً، فصحّ أن الفروع غير الأصول. وإذا ثبت ذلك وجب أن تكون الأصول التي ذكروا أنها تُحْدِثُ الأشياءَ موجودةً أو معدومةً.
فإن قالوا: هي موجودةٌ. قلنا: أين موضعها؟ فإن قالوا: في العالَم. قلنا: كيف يكون وجود الأصل في الفروع، هل يكون الأصل كامناً في الفروع أو ظاهراً فيها؟
فإن قالوا: هو كَامِنٌ فيها كالنار. قلنا: النّار فرعٌ حادثٌ في العُودِ؛ لأنّه لا يجتمع الماء والنّارُ في العود؛ لأن اجتماع المتضادّينِ لا يصحُّ، وليست النّارُ عندنا كامنةً في العود، ولا في الحجر.
وغيرنا يقول: إنّها كامنةٌ فيهما كَكُمُون الزّيت في الزّيتون، والدُّهن في السّمسم. قلنا: هما من أجزاءِ السّمسم والزيتون، وهو لا يكون إلا جُزءاً من الأشياءِ وبعضاً منها. فإن قالوا: هو ظاهرٌ فيه، أحالوا، لأن الماءَ غيرُ النّار، والنار غير الماءِ، وكذلك جميع الأشياءِ، ولو كانت النّار ظاهرة في الماء لأطفأها الماءُ، ولو كانت ظاهرةً في العودِ أو القطن لأحرقته فبطل ذلك، ولم يبق إلا أنّ الأصول قد عدمت وبطلت، وإذا ثبت أنّها قد عدمت، فكيف يَتَهيَّأُ للمعدوم فِعْلٌ؟! وكذلك كان يجب أن تكون هذه الحوادث التي تحدث اليوم قديمةً؛ إذ ليس المُتقدِّم بأولى من المتأخِّر بالتقديم، فبطل ما قالوا، وصح أن الجمادات لا صنع لها، وقد احتج الله عليهم فقال عزَّ من قائلٍ: {أَفَرَأَيْتُمْ مَا تُمْنُونَ ، أَأَنْتُمْ تَخْلُقُونَهُ أَمْ نَحْنُ الْخَالِقُونَ}[الواقعة:58،59]، ثم قال: {أَفَرَأَيْتُمْ مَا تَحْرُثُونَ ، أَأَنْتُمْ تَزْرَعُونَهُ أَمْ نَحْنُ الزَّارِعُونَ}[الواقعة:63،64]، وقال عزّ من قائلٍ: {وَمِنْ كُلِّ شَيْءٍ خَلَقْنَا زَوْجَيْنِ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ}[الذاريات:49]. وقال القاسم بن إبراهيم عليهما السلام في الدَّليل الصغير: أمّا أوائل الأشياء فخُلِقَتْ لا من شيءٍ، وأمّا ما حدث بعد أوائل الأشياءِ فمنها ما حدث لا من شيءٍ، ومنها ما أُحْدِثَ من شيءٍ. (1/74)
وقال عليه السَّلام في موضعٍ آخر في قول الله تعالى: {أَفَرَأَيْتُمْ مَا تُمْنُونَ ، أَأَنْتُمْ تَخْلُقُونَهُ أَمْ نَحْنُ الْخَالِقُونَ}[الواقعة:58،59]، فالله هو الخالق ونحن المُمْنُونَ، ليس لنا في ذلك -غير إمناءِ المنيِّ- من صنع، ولا نقدرُ بَعدُ لِمَا قدّر بيننا من الموت على منعٍ، من تقدير صُنعنَا وتدبيره، وتبديل خلقنا -إنْ شاء خَالِقنا- وتغييره، إلا ما تولاّه ربُّنا، وكان منه لا منَّا، قال سبحانه: {أَفَرَأَيْتُمْ مَا تَحْرُثُونَ ، أَأَنْتُمْ تَزْرَعُونَهُ أَمْ نَحْنُ الزَّارِعُونَ}[الواقعة:63،64]، فالله هو الزّارع ونحن الحارثون، ليس لنا في الزّرع سوى حرثه من حِيلةٍ موجودةٍ، ولا نقدر بعد الحرث على الإنشاءِ منه لسنبلةٍ مذمومةٍ ولا محمودةٍ، فقدرتنا إنّما هي على الحرث والأعمال، وعلى خلافهما من الترك والإغفال، وكذلك فَلِلًّه من القدرة بعدُ على إبطال الزرع وإبلائه، مثل الذي كان له من القدرة على تثميره وإنمائِهِ، ولا يقدر على أمرٍ إلا من يقدر على خلافه، وعلى فعل ما كان من نوعه وأصنافه، فمن لم يكن كذلك ويصح صفته بذلك، كان بريًّا من القدرة عليه، وكان العجز في ذلك منسوباً إليه. (1/75)
وقال محمد بن يحيى عليه السَّلام في كتاب الإيضاح: إن سأل سائلٌ فقال: هل يصح للجمادات فعلٌ من الأفعال، ويجوز ذلك في الاعتقاد والمقال؟ قيل له -ولا قوة إلا بالله: لا يصحّ الفعلُ من الجمادات إلا على مجاز الكلام، فأما الطبائع فمن ذي الجلال والإكرام، لِمَا في ذلمك من الفضل والإنعام؛ لأن الحيوانات إنما استقامت أرواحُها بطبائع الأطعمة والشّراب، وذلك من حكمة ربّ الأرباب، ومصلح الأسباب بالأسباب؛ لأن الأغذية لا تَعْقِلُ أعاجيب التدبير، ولا يُتِمُّ إصلاح الأمور وعجائب الحكمة والتصوير إلا الله العليمُ الخبيرُ. ألا ترى: إلى ما صنع من غذاء الأشجار بما نزل من الأهوية من الأمطار، وأجرى من العيون والأنهار في صلاح الحيوان والثمار، وجعل في الأشجار مداخل للمياه بمنزلة الحلوق والأفواه، فجعل لكلّ حبَّةٍ من الثمر مُستقى، وجعله للماءِ طريقاً، وأجرى ذلك بلطفِهِ في العروق، وجعلها بمنزلة الحُلُوق. وليس من طبع الماءِ أن يصعد عُلُوًّا، ولا يَسْمُو إلى أعالي الشجر سُموًّا، وإنما طبع على الثقل، والانحدار، وعلى الثبات في الأرض والقرار، فلمّا رأيناه يطلُعُ إلى بواسيق الأغصان، علمنا أنّ ذلك من الواحد المنّان الرحمن. (1/76)
وكذلك فِعْلُ سيّدنا عيسى عليه السَّلام فليس منه، وإنما نُسبَ إليه، وإنما فِعْلُهُ: الحركاتُ والسُّكونُ والضَّميرُ، والتَّقليبُ للطين والتّصويرُ، وذلك فلا يوجد الحياةَ بعد الممات، ولا يُوجدُ الأرواحَ في الجمادات ...إلى آخر الكلام. ولا خلاف في ذلك عند أهل العدل والتوحيد من الزيدية والمعتزلة، وهو إجماع الأمة.
فصل في الكلام في الأنوار واختلاف الليل والنهار (1/77)
ونظرنا إلى تضادِّ الظُّلَمِ والأنوار، واختلاف الليل والنهار، وما في ذلك من النعمة السابغة، والحكمة البالغة، فإذا هو أمرٌ عجيبٌ، ونفعٌ قريبٌ، وكذلك ما نشاهده من سماءِ الدنيا؛ من ارتفاعها وصفائها، وسَعَتها وبهائها، وما فيها من النَّيِّراتِ -التي ملأَ ضياؤها ما بين الأرَضِينَ والسّماوات- من الشّمس والقمر والنّجوم المختلفات، فإذا فيها من عجيب الصنعة، وبديع الحكمة، ما لا يقدر مخلوقٌ على وصف عشير عُشرِهِ، لكن معرفة قليلة تجزئ عن معرفةٍ كثيرةٍ.
ومن ذلك أن الشمس قريبٌ نفعها، بعيدٌ ضرّها، فإنها لمّا قُدّرت وجُعلت سراجاً -لمن في السماوات ومن في الأرض وما بينهما- وهَّاجاً جُعلت بعيدة المكان، لسلامة الأجساد منها والأعيان، ولدفع ضررها عن الأشجار والمياه والحيوان، ولو كانت قريبةً منها لأتلف شعاعُها الأبصارَ، ولأحرق لهيبُها الأجساد والأشجار، ولأزال بَرْدَ الماءِ وأيبس الأنهار. وقُدِّرتْ تطلُعُ حِيناً وتغرب حيناً لدفع هذه المضار، وإصلاح الحيوان والأشجار، وليستريح ويسكن بعد مغيبها أهل الحرص في العمل والإكثار، وجعل القمر، وفيه بعض الضِّياء لمن أراد السُّرى بالليل لبعض الأسباب، وليهتدى به عدد السنين والحساب. وجُعلت النّجوم إذا غابت الشّمس والقمر تَسُدُّ مَسَدًّا لمن احتاج إلى الذّهاب، وليهتدي بها في البر والبحر أهلُ الاغتراب، وجُعلت البروجُ الإثنا عشر مقدّرة، لا يختلف سيرُها، ولا يجتمع مفترقها، ولا يفترق مجتمعها، وجُعلت الشّمسُ تقطع البروج في سنةٍ من الحَمل إلى الحَملِ؛ تقطع في كُل يومٍ درجةً، والبرج ثلاثون درجة، فالبروج كلها ثلاثمائة وخمس وستون درجة كعدد أيَّام السَّنة. والقمر يقطع البروج كلها في شهرٍ، يقطع (في) كل يوم منزلةً، والبرج منزلتانِ وثلث. والزُّهرة تُقيم في البرج خمسة وعشرين نهاراً، وعطارد كذلك، وزحل يُقيم في البرج ثلاثين شهراً، والمشتري يقطع البرج في سنةٍ وشهرٍ، والمرِّيخ يقطع البرج في سنةٍ ونصفٍ. ومسير هذه النيِّرات السّبع التي هي: الشمسُ، والقمرُ، والزهرةُ، والمشتري، وزحلُ، والمريخُ، وعطاردُ، إلى جهة المشرق، والفَلك يدور بها إلى المغرب، (1/78)
وذلك يتبيَّن لك في أسرعها سيراً وهو القمر فكذلك سائرها، وقد مثل العلماءُ سيرها مثل دبيب النملة في الرَّحَا، فهي تسير ذات اليمين والرَّحَا تدور بها ذات الشمال. (1/79)
فلما رأينا هذه النيِّرات قد وُضعت مواضعها، وأُعدّت لصلاح الحيوان، ورأينا فيها أثر الصنعة والتدبير، ودلائل الإنشاء والتقدير، علمنا أنها محدثةٌ.
وقد قال قوم: شيئانِ خالقانِ قديمانِ: نورٌ وظلمةٌ، فخالق خَيْرٍ وهو النّور، وخالقُ شَر وهو الظُّلمة، وقالوا: هما ممتزجان وغلَّبُوا الظُّلمة على النّور. قالوا: والدليل على ذلك أن الخير لمّا وُجِدَ ثبت أن له فاعلاً من جنسه، أو أرفع منه منزلةً، وأن الشرّ لما وُجِدَ ثبت أن له فاعلاً من جنسه، أو أبلغ منه منزلةً.
والحجة عليهم أنا وجدنا النُّورَ والظُّلمةَ متضادَّينِ، ووجدنا النّور يُزيل الظُّلمة إذا حضر، وتغشى الظُّلمةُ إذا غاب، ورأينا أحدهما يزول بحضور الآخر، ويحضر بزوال ضدَّه، فثبت أنهما محدثانِ ضعيفانِ عاجزانِ؛ لأن أحدهما يزول بحضور الآخر؛ ولأن أحدهما مغيِّرٌ للثاني، وإذا عجز عن نفسه وكان الآخر مغيِّراً له فهو عن خلق غيره أعجز.
وتبيّن فساد قولهم أنهم قالوا: النّورُ والظُّلمةُ ممتزجانِ، ومنهم من قال: هما منفصلان ومعهما ثالث مُعَدِّلٌ؛ والانفصال والامتزاجُ يدلاّنِ على الحِدَثِ؛ لأن الانفصالَ هو الانتقالُ؛ وهو حركةٌ، والامتزاج أيضاً المجاورةُ، وكل منتقلٍ أو مجاورٍ محدثٌ؛ لأنهما لا يتعرَّيانِ من الحوادث.
ودليل آخر: أن كل ما كان له أوّلٌ وآخرٌ فهو محدثٌ، والنّور والظُّلمة لهما أوّلٌ وآخرٌ، ولا يمتنعون من أن يقولوا: أوَّلُ النهار وآخره، وأوَّلُ الليل وآخره. (1/80)
ودليل آخر: أن الظُّلمة التي قالوا: هي تغلب النور وهي تفعل الشر فإذا كان النور مغلوباً كان ضعيفاً، والضَّعيف لا يكون خالقاً.
وأيضاً فإنا رأينا في الظُّلمة خيراً كثيراً -وصلاحاً للحيوان والأشجار- شهيراً، من ذلك: أن الليل يُبَرِّد حرارة الشمس، ويُعدِّل الزمان، وفيه يستريح الناس ويهدءون، وينامون ويسكنون، ولو كان النهار سرمداً إلى يوم القيامة لزال الصّلاح، وعدمت الرّاحةُ والفلاح. وإذا كان فعلهما لا يتم إلا بمُعدِّلٍ كانا أيضاً عاجزين عن الخلق؛ لأنهما إذا عجزا عن التّعديل، عجزا عن الخلق للدقيق والجليل، فبطل ما قالوا.
وقال قوم -وهم عُبّاد النُّجوم، وهم بعض البراهمة: العالَمُ قديمٌ، والمدبِّرات منه السبعة: الشمس، والقمرُ، والزهرةُ، والمشتريُّ، وزحلُ، والمرِّيخُ، وعطاردُ. والبروجُ الإثنا عشر: الحَمل، والثّور، والجوزاء، والسرطان، والأسد، والسُّنبلة، والميزان، والعقرب، والقوس، والجدي، والدّلو، والحُوت، هي بزعمهم المتحرِّكات بالخير والشرّ، والحياة والموت.
والحجة عليهم أنها تنتقل وتزول، وتغيب (وتحُول)، ويغيِّبها الأُفُولُ، وبذلك عابها إبراهيم الخليل صلى الله عليه وآله وسلم، وأنّها تجري بها الفلك، وتحويها الحُبُكِ، وتنقصُ، وتزيدُ، وتتحرّكُ، وهذه الحالات كلها محدثةٌ، فوجب أن تكون هي في ذاتها محدثة؛ لأنها لا تتعرّى من هذه الحوادث.
ودليل آخر: أن أكبر هذه النيِّرات الشّمسُ والقمرُ، فإنهما يُصابانِ في أنفسهما بالكسوف، فيدخلانِ في باب من يُرْمَى بالمصائب والحُتُوف، وينقص القمر في كل شهرٍ حتّى لا يبقى منه إلا الأقلُّ ثم يعود فيكون كاملاً. فلو كانَا خالقينِ، أو قادرينِ، أو مدبِّرينِ، لأزاحَا عن أنفسهما الضّرر، ولتحصّنا عن النقصان والْغِيَرِ، فلما كانت لا تملك نفسها، ولا تدفع عنها شَرًّا، ولا تدفع مكروهاً ولا ضرراً، كانت عن ملك غيرها أعجز، وعلمنا أنها مصنوعةٌ مبدوعةٌ لتغيُّرها وانتقالها، وضَعفها ونقصانها وزوالها؛ ولأنها بغيرها محدودةٌ، وحَالَّةٌ ومتحركةٌ ومحدودة، وهذه الحالات دالّةٌ على حدوثها، فبطل ما قالوا. (1/81)
فصل في الكلام في الأرض (1/82)
ونظرنا إلى هذه الأرض، وما فيها من الطول والعرض، وكم عسى أن نَصِفَ مما قد جعل الله فيها من العجائب، والأمر البديع والغرائب. قد وضعَ كلّ شيءٍ منها في مكانه، وأعدّ كُل أمرٍ منها لشأنه.
وجملة الأمر أن كل شيءٍ منها قد جُعِلَ لمصلحةٍ -عرفها من عرفها، وجهلها من جهلها- من الحيوان والطِّين والماء والأشجار والحجارة -وما كان من جنسها- والنار. ونظرنا فإذا هي بعيدةُ الأطراف، ومتراكمة الأرداف، ثقيلةٌ طويلةٌ، عريضةٌ عميقةٌ، ومن بُعْدِهَا أنه ما أخبر أحدٌ من الآدميين أنه بلغ حدّها، إلا ما حكاه الله من ذي القرنين، وكان ذلك معجزاً، وكان له من الله تَأييداً بسبب نبيءٍ كان معه. ومن عُمقها أنه ما خرقها أحدٌ؛ وقد قال الله تعالى: {إِنَّكَ لَنْ تَخْرِقَ الأَرْضَ وَلَنْ تَبْلُغَ الْجِبَالَ طُولاً }[الإسراء:37].
ونظرنا فإذا هي على الماء مبسوطة، وفي الهواءِ معلّقةٌ منوطةٌ.
وممّا دلّنا على أنها على الماء مبسوطةٌ أن البحار بها محيطةٌ، وأنها تتفجّر الأنهار من خلالها، ويُوجد الماءُ أينما حُفِرَ من سهولها، وجبالها، قريباً وبعيداً، إلا في المواضع التي لا يمكن حفرها لشدّتها، ولِبُعدِ مائها، وارتفاعها، وقد قال الله تعالى: {وَكَانَ عَرْشُهُ عَلَى الْمَاءِ }[هود:7].
ومما يدل على أنها في الهواء معلّقة منوطة أنها إذا وقعت فيها زلزلةٌ، أو تردّت من جبالها صخرةٌ عظيمةٌ رجفت، وتحركت، وأجابت.
ومما يدل أيضاً على أنها معلّقة منوطة أنا وجدنا لها جهةً واحدةً، وهي الجهة العُليا، فعلمنا أن لها جهةً سُفلَى؛ وهي حدُّها الأسفل، ولا يكون شيءٌ له أعلى إلا وله أسفل، وقُدَّام وخلف، ويمين وشمال. (1/83)
ونظرنا وإذا هي قد قُدِّرت على أربعة معانٍ وهي: الِّلينُ، والخُشُونةُ، والحرارةُ، والبرودةُ؛ وإذا هي لم تخلُ من هذه الأربعة المعاني.
ونظرنا فإذا الزمان على أربعة معانٍ: صيفٌ، وخريفٌ، وربيعٌ، وشتاءٌ. فالصّيفُ حارٌّ يابسٌ، والخريفُ باردٌ يابسٌ، والربيعُ حارٌّ رطبٌ، والشتاءُ باردٌ رطبٌ. ووجدنا الأجساد بُنيت على أربعة أمزاجٍ: مِرَّة صفراء، ومِرّة سوداء، ودم، وبلغم. فالصفراءُ حارّةٌ يابسةٌ تكثُرُ في الصيف، والسّوداء باردةٌ يابسةٌ تكثُرُ في الخريف، والدّمُ حارٌّ رطبٌ يكثر في الرّبيع، والبلغمُ باردٌ رطبٌ يكثر في الشتاء، فعلمنا أنها محدثةٌ مقدَّرةٌ، محكمةٌ مدبَّرةٌ، لظهور الصُّنع والتّدبير فيها.
ومما يدل على حدوثها أنها لا تخلو من الزيادة والنقصان، والتغيير في الأحوال والأعيان، وأنها لا تنفك من الأوقات والأزمان، وكما كان للأيام والليالي أولٌ وآخرٌ ثبت حدثُها، وإذا ثبت حدثها ثبت حدثُ ما لا ينفك منها.
والزّمان هو وقتُ حركة العالَم وسكونه، وقالت العلماءُ قبلنا: الزّمانُ مقدار الحركة، وقد أحسنوا فيه القول. ألا ترى أن السَّنَةَ هي مسير الشمس في البروج من الحَمل إلى الحَمل؟!
وقال الجالينوس ومن قال بقوله من أهل الدّهر: الأربع الطبائع التي هي اللين، والخشونةُ، والحرارة، والبرودةُ؛ هي المدبِّرةُ بزعمهم، قالوا: والدليل على ذلك أن الإنسان لما كان لا يُدرِك إلا هذه الأربعة الأشياءَ كانت مدبِّرةً قديمةً. (1/84)
وقالت الفلاسفة: الطبائع الأربع قديمةٌ، وخامسٌ معها هو خلافُها، وأثبتوا الحركات، وزعموا أن حركةً قبل حركةٍ ...إلى ما لا نهاية له.
وقال بلعام بن باعُورا: إن العالم قديمٌ، وله مدبِّرٌ بخلافه. وأثبت الحركات، إلا أنه قال: الحركةُ الأولى هي الحركة الأخرى مُعادةٌ.
والحجة عليهم أنهم قد أقرُّوا بِحِدَثِ الحركات؛ لأن قولهم: (إن حركةً قبل حركةٍ) دليلٌ على حِدَثِ الحركات؛ لأنه إذا كانت الحركةُ الآخرةُ قبلها حركةٌ فهي محدثةٌ لتقدُّم غيرها عليها، وكذلك سائر الحركات. وكذلك قول بلعام: الحركة الأولى هي الحركة الأخرى معادة، فهذا إقرارٌ منه بحدث الحركات؛ لأن كل شيء له أولٌ وآخرٌ فهو محدثٌ. وقوله: (معادة) إقرار بأن لها مُعيداً. فلما كانت الحركةُ والسكونُ حالتينِ حادثتينِ، ثبت حدوث الطبائع؛ لأنها لا تخلو من أن تكون الحركة والسكون، أو تكون المتحرك الساكن. فإن كانت أجساماً متحركةً وساكنةً، فالحركةُ والسكون دليلٌ على حِدَثِهَا؛ لأنها لا تخلو من الحركة والسكون، وإن كانت الأعراضُ الحركةَ والسكونَ فقد بيّنَّا حِدَثَ الحركة والسكون؛ لأنَّا رأينا الشيءَ في زمانٍ ساكناً ثم رأيناه في زمانٍ متحركاً، ثم رأيناه متحرّكاً بعد السكون، فصحّ حِدَثُ الحركةِ والسكونِ، وهذا مشاهد بَيِّن لا إشكال فيه.
ودليل آخر: أن كل واحدٍ من هذه الطبائع لا يخرج مما رُكِّبَ عليه من الحرارة والبرودة، والرطوبة واليبوسة، وإذا كانت لا تخرج مما رُكِّبت عليه صحّ أنها لا تملك أنفسها فكيف تُدبِّر غيرها؟! وأيضاً فلها حدٌّ لا تتجاوزه، ولا تنقص منه، ولا تزيد عليه، وبعضُها ضِدٌّ لبعضٍ ومُعدِّلٌ لبعضٍ؛ فصح أنها لا تصنع شيئاً، وأن المضادَّ بينها والْمُعدِّلَ لبعضها ببعضٍ غيرُها، فثبت أنها مُقَدَّرَةٌ مُدّبَّرَةٌ، فبطل ما قالوا. (1/85)
ونظرنا إلى ما أُعِدَّ في الأرض من النبات والماءِ، والمعادنِ والآلاتِ، وما خوّل سُكّانها من المنافع والأقوات، فإذا هي قد أُتقن خلقُها، وأُحسن رتقُها وفتقُها.
فصل في الكلام في خلق الإنسان (1/86)
فإنّا نظرنا في خلق الإنسان، فإذا لخلقه ابتداءٌ وانتهاءٌ في الدنيا، فرأيناه نطفةً ثم علقةً ثم مضغةً ثم عظاماً، ثم كُسيتِ العظامُ لحماً، ثم طفلاً، قد أُعِدَّ فيه جميع ما يُصلِحُ له دينه ودنياه قبل حاجته إليه؛ فأُعْطِيَ عينين للبصر، وأُذنينِ للسّمع، وأنفاً للشّم، ولساناً للذوقِ وللكلام، وفماً لإدخال الغذاء، وسبيلين لإخراج الأذى، ويدين للبطش واللمس، ورجلين للمشي، وأشياءَ من دقائق الخلقة لا يهتدي واصفها، ولا يُحسِنُ كشفها من عروقٍ منسوجةٍ، ومَعِدَةٍ وأمعاءٍ للأغذية، وعصبٍ ودَمٍ، وجلدٍ وشعرٍ، وغير ذلك مما يكثُر فيه الكلام. ورأيناه يزيد شيئاً فشيئاً، ويكبر قليلاً قليلاً، حتى يبلُغ أشدّه، وقد أُعْطيَ العقلَ الذّكيَّ فعند ذلك يستنفعُ بجميع جوارحه، فيما يُصلحُ دينه ودنياه، وقبل ذلك يستنفع بها فيما يصلح دنياه، فلما رأينا فيه أثر الخلقة، ورأيناه كان بعد أن لم يكن، علمنا أنه محدثٌ بالمشاهدة، والعقل الضروري، وأنه مخلوقٌ مقدَّرٌ، ومصنوعٌ مدبَّرٌ.
ونظرنا إلى ما في الأرض من الحيوان من الدواب والطير [مخلوقة] لمنافع الإنسان، فمنها ما جُعِلَ نعمةً، ومنها ما جُعِلَ بليّةً. فرأينا في جميعها ما يدلُّ على حدوثها، وأنها مصنوعةٌ مصوّرةٌ، مخلوقةٌ مقدَّرةٌ.
فصل في الكلام في الجسم والعرض (1/87)
اعلم أن الجسم سُمِّيَ جسماً لطوله وعرضه وعُمقِهِ. والعرب تسمّي ما زاد في الطول والعرض والعُمُق جسماً، يقول القائل منهم: فرسي جسيمٌ، وجملي أجسمُ من جمل فلانٍ، يريد أنه بالَغَ فيما له سُمِّيَ جسماً، وهو الطُّول والعرضُ والعُمُقُ؛ قال الله تعالى: {قَالَ إِنَّ اللَّهَ اصْطَفَاهُ عَلَيْكُمْ وَزَادَهُ بَسْطَةً فِي الْعِلْمِ وَالْجِسْمِ}[البقرة:247]، وقال الشاعر ـ وهو عامر بن الطُّفيل:
وقد علم الحيُّ من عامرٍ .... بأن لنا ذَرْوَةَ الأجْسُمِ
وللجسم دلائلٌ منها أن يكون طويلاً عريضاً عميقاً؛ ومنها أن يكون قائماً بنفسه، ومنها أنه يكون محدوداً بالجهات السّت التي هي فوق وتحت، وقدَّام وخلف، ويمين وشمال. فما كان من المصنوعات بهذه الصفات فهو جسم، وما لم يكن بهذه الصفات فهو عَرَضٌ، إذ لا يوجد شيءٌ من المصنوعات ولا يُعلم إلا جسماً أو عَرَضاً. وقد أثبت بعض المعتزلة جوهراً لا جسماً ولا عرضاً، وقالوا: هو الأجزاء المتماثلة الشّاغلة للمكان. ومعنى المتماثلة عندهم: أن يسُدَّ الجزءُ مَسَدَّ الجزء الآخر، وهذا شيءٌ لا يعقل ولا يُعلم.
واعلم أن الغرض المقصود في ذكر الأجسام والأعراض هاهنا أن يُفرق بين الجسم والعرض، وبين أفعال الله وأفعال خلقه.
فأما الأجسام فقد تكلمنا فيها بما فيه كفاية، وهذا موضع الكلام في الأعراض فنقول:
إنَّ العرضَ سُمِّيَ عرضاً لاعتراضه في الأوهام؛ ولأنه لا يُوجد منفرداً من الأجسام؛ ولأنه يضعُف عن القيام بنفسه، ويزول بضدِّهِ، وقد سَمَّى الله سبحانه وتعالى متاع الحياة الدنيا عرضاً، لضعفه وزواله، قال تعالى: {تَبْتَغُونَ عَرَضَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا }[النساء:94]، فلذلك سُمِّيَ العرضُ عرضاً وهو على وجهين: ضروريٌّ واختياريٌّ، فالضروريُّ فطرةٌ من فطرة الله سبحانه، والاختياريُّ من فعل العبد. فكل ما كان يُوجد ضرورةً لا يمكن الإنسان ردّه فهو العرضُ الضروريُّ، وهو من فعل الله سبحانه، وما كان يمكن العبد فعله ويمكنه تركه فهو العرض الاختياريُّ. (1/88)
والضروري على أفنانٍ: وهو الألوان والطُّعوم والروائح، والحركات والسكون في الجمادات، وقد يكون في الحيوان أيضاً مثل ذلك كضربان العروق.
ومن الضروري أيضاً إلهام الله تعالى لجميع الحيوانات مصالحهم الحاضرة، من استجلاب المنافع، والنفار عن المضار، فهذا اشترك فيه المكلف وغيره من سائر الحيوان. ثم زاد الله تعالى المكلَّفَ جودة النّظر، والمعرفة لمصالحه العاجلة والآجلة. والزيادة هاهنا التي هي من الله فطرةٌ، كاستحسان الحَسَنِ، واستقباح القبيحِ، وأشباه ذلك، فهذه الأعراض وما شاكلها مما لا يمكن الإنسان الإمتناع منها، فهو فطرةٌ من الله تعالى.
ومثل ذلك ما فطر الله عليه الحواس من الحسّ مما لا يكون اختياراً للإنسان؛ من ذلك أن الله تعالى قد فطر الأذنَ على سماع الأصوات مما يُريد الإنسان سماعه ومما لا يُريد سماعه، ألا ترى أن الإنسان إذا لم يرد سماع صوتٍ لم يمكنه ذلك إلا أن يسُدّ أذنه أو يبعُدَ عن المصوّت. وكذلك البصر فإنه لو فتح عينيه وقُبَالَهُ شيءٌ مما يُرى بالأعيان لرآه ولو لم يُرِدْ بصره، ولا يمنعه من بصره إلا أن يغمض عينيه عنه؛ ولأجل ذلك أن الإنسان إذا فاجأه شيءٌ مما لا يحل له نظره فنظرهُ مُفَاجَأة فلا إثم عليه في النظرة التي لم يقصدها ولم يتعمدها، وكذلك الشّمّ والذّوق، هذا ما لم يكن للإنسان فيه صنع، فأما ما تعمّده الإنسان وقصده من استعمال الحواس والقلب والجوارح، فهو عرضٌ اختياريٌّ من فعل الإنسان. (1/89)
والذي يدل على أن الحسَّ عرضٌ أن الإنسان إذا نام لم تحس حواسُّهُ شيئاً، وأيضاً فإن الحسَّ لا يقوم بنفسه، فصحّ أنه عرضٌ لبطلانه ولكونه قائماً في سواه.
والاختياري أيضاً على أفنانٍ: فمنه فعل القلب الاختياري الذي هو العقل المكتسَب مثل النظر، والتّمييز، والاستنباط، والنيّة، والاعتقاد، وأشباه ذلك، فهذه أعراضٌ من فعل العبد.
ومما يزيد ما قلناه قول الله تعالى: {أَمْ تَحْسَبُ أَنَّ أَكْثَرَهُمْ يَسْمَعُونَ أو يَعْقِلُونَ إِنْ هُمْ إِلاَّ كَالأَنْعَامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ سَبِيلاً}[الفرقان:44]، وقال عزّ من قائلٍ -حاكياً قول أهل النار: {وَقَالُوا لَوْ كُنَّا نَسْمَعُ أو نَعْقِلُ مَا كُنَّا فِي أَصْحَابِ السَّعِيرِ}[الملك:10]، فلم ينفِ عنهم القلوب، ولا العقل الغريزي؛ لأنه لو نَفَى عنهم العقل الغريزي لم يكن عليهم حجّة، فصح أنه نفى عنهم العقل المكتسب، وذكر أن تركهم للنظر ذنبٌ فقال تعالى: {فَاعْتَرَفُوا بِذَنْبِهِمْ فَسُحْقًا لأَصْحَابِ السَّعِيرِ}[الملك:11]، وقال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: ((النّاس يعملون الخيرَ ويُعْطَونَ أجورهم على قدرِ عقولهم )). (1/90)
والحس الذي يقصده الإنسان ويتعمده عرضٌ اختياريٌّ من فعل الإنسان. وكذلك الكلام الذي ينطق به الإنسان، وخلق له اللسان والأدوات والأنفاس والّلهوات. وفعل العبد فيه الهمّة، وتصعيد الأنفاس، وتحريك اللسان. فكان الصوتُ وظهورُهُ من تصعيد النَّفَسِ في الحلق. وكان الكلام من تقطيع اللسان واللهوات للنَّفَسِ، فصار حروفاً وكلاماً مفهوماً.
ألا ترى أن الإنسان إذا مدّ الصوت ولم يحرك به لسانه ولهواته أن ذلك لا يكون كلاماً، وقد حكى الله ذلك فقال عزّ من قائلٍ: {لاَ تُحَرِّكْ بِهِ لِسَانَكَ لِتَعْجَلَ بِهِ } [القيامة:16]، وقال عزّ من قائلٍ -فيما حكى عن أهل النار: {وَقَالُوا لِجُلُودِهِمْ لِمَ شَهِدْتُمْ عَلَيْنَا قَالُوا أَنطَقَنَا اللَّهُ الَّذِي أَنطَقَ كُلَّ شَيْءٍ وَهُوَ خَلَقَكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ}[فصلت:21]، فَفِعْلُ الله في ذلك خلق الأدوات والجوارح وجميع الآلات. (1/91)
واعلم أن النُّطق بالكلام على وجهين: حكايةٌ ومبتدأٌ. فالمبتدأُ، ما ينطقُ به الإنسانُ، ويبتدعهُ من نفسه من الكلام. والحكايةُ ما ينطقُ به من كلام غيره؛ من ذلك القرآنُ، فَفِعْلُهُ فيه الحكايةُ إذا تَلاَهُ، والمحكيُّ هو فِعل الله. وكذلك ما حُكِيَ من كلام المتكلِّمين؛ فذلك الكلام لِمَنِ ابتدعهُ، وهو مفعولٌ لهُ لمَّا حكاه، كما أن البَنَّاء والنجّار (والنّحات) والصّانع والنّسّاخ فعلهم التّأليف والحركة والسكون. وفِعْلُ الله الأجسام، وهي مفعولٌ لهم، وكذلك القراءةُ لهم فعلٌ والقرآنُ مفعولٌ لهم وهو فِعْلُ الله وهو عَرَضٌ.
واعلم أن العرض لا بُدّ له من شبحٍ؛ لأنه لا يقوم بنفسه، وشبحُهُ في حال الكلام المتكلّمُ، وشبحُهُ بعد ذلك الهواءُ؛ لأن الله قد فطر الهواءَ على حمل الأصوات إلى الآذان السامعات؛ لأن العرض لا يقوم بنفسه ولا يقطع المسافة. وكذلك الْمُصوِّت لا يقطع المسافة أيضاً بنفسه ولا يدخل في أُذن السّامع ولا ينتقل إليه، فلمّا لم يمكن ملاصقة المصوت لأذن السّامع ولا انتقاله إليه، ولم يمكن قيام العرض بنفسه من غير شبحٍ ولا قطعٍ لمسافةٍ؛ لم يبقَ إلا أنّ الهواءَ هو الذي حمله وهو شبحُهُ. (1/92)
ومن هاهنا غلط قومٌ من الزيدية وهم المطرفيّة فإنهم قالوا: إن السامع لم يسمع الصوت، ولكنه يسمع المصوِّت ولا يسمع ـ عندهم ـ الكلام، وقالوا: لا يُسمع القرآنُ وإنما يُسمعُ القارئُ. وقال بعضهم: ليس القرآنُ بحروفٍ وإنما هو معنًى في النّفس. وقالوا: لم يفارق قلب الملَك. وقالوا: هذا القرآنُ إنما هو حكايةٌ عنه ودليلٌ عليه.
وعلتهم (في ذلك) أن القرآنَ عَرَضٌ، والعرضُ لا يجوز عليه البقاء، وأنه إجَالَةُ الألْسُنِ، وأنه لا يقوم بنفسه، ولا يقطع المسافة، وأنّ الحروف كانت قد حصلت مع النّاس قبل نزوله. فصحّ أن الحروف بزعمهم هي الحكاية دون المحكي. واستدلوا على أنه لا يُسمع الكلامُ، وإنما يُسمع المتكلِّمُ بقول الله تعالى: {إِنَّنَا سَمِعْنَا مُنَادِيًا يُنَادِي للإِيمَانِ }[آل عمران:193]، ولقول الله تعالى: {قَالُوا سَمِعْنَا فَتًى يَذْكُرُهُمْ يُقَالُ لَهُ إِبْرَاهِيمُ}[الأنبياء:60].
والحجة عليهم من العقل أنهم مجمعون معنا على أن حُجَجَ الله على خلقه ثلاثٌ؛ وهي العقلُ والكتابُ والرسولُ، وهم أيضاً مجمعون معنا على أن الله تعالى تعبّد المكلفين بمعقولٍ ومسموعٍ. (1/93)
فنقول: لا يخلو الكتاب المسموع كله من أن يكون الكلام أو المتكلِّم.
فإن قالوا: هو المتكلم [نفسه] أوجبوا أن كل متكلّمٍ بالمسموع حُجّةً في ذاته، فيصير كلُّ إنسانٍ ممّن يتكلم بالمسموع حُجّةً لله بذاته، فهذا ما لا يتكلم به عاقلٌ.
وإن قالوا: الحجة الملَك الذي لم يُفارق القرآن قلبه، أو القرآن الذي هو في قلبه لم يفارقه. قلنا: فليس بمسموعٍ؛ لأنا لم نسمع الملَك، وإذا لم ينزل القرآنُ، ولم يفارقه فليس بحُجّةٍ، فبطل أن يكون المتكلِّمُ حَجّةً، إلا الرسولُ صلى الله عليه وآله وسلم، ونحن فلم نسمعه بذاته، لكن سمعنا كلامه، وما جاء به، إذ لم نُشاهده، فصحّ أن الحُجّةَ هو الكلامُ المسموعُ.
ومن الكتاب قوله تعالى: {وَإِذَا قُرِئَ الْقُرْآنُ فَاسْتَمِعُوا لَهُ وَأَنصِتُوا لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ}[الأعراف:204]، وقوله: {إِنَّا سَمِعْنَا قُرْآنًا عَجَبًا}[الجن:1]، وقوله: {إِنَّا سَمِعْنَا كِتَابًا أُنْزِلَ مِنْ بَعْدِ مُوسَى }[الأحقاف:30]، وقوله تعالى: {وَأَنَّا لَمَّا سَمِعْنَا الْهُدَى آمَنَّا بِهِ }[الجن:13]، وأمثال ذلك كثيرٌ في الكتاب.
وأيضاً فنقول لهم: أخبرونا عن الكلام الذي سمعه موسى من الشجرة، هل سمع الشجرة ولم يسمع الكلام، أو سمع الكلام؟
فإن قالوا: سمع الشجرة ولم يسمع الكلام. أحالوا وخالفوا جميع الأئمة والأمّة، وهذا ما لا يقول به عاقلٌ؛ ولأنه لو سمع الشجرة ولم يسمع الكلام لكانت الشجرةُ هي الحجّة دون الكلام، وهذا ما لا يُعقل. وأيضاً ففي الكلام الذي سمعه موسى من الشجرة: {إِنَّنِي أَنَا اللَّهُ لاَ إِلَهَ إِلاَّ أَنَا فَاعْبُدْنِي وَأَقِمِ الصَّلاَةَ لِذِكْرِي}[طه:14]، فهذا خطابٌ من الله لموسى، وخبرٌ وأمرٌ ونهيٌ، فلو كانت الشجرةُ مسموعةً والكلامُ غير مسموعٍ لكانت الشجرةُ هي: الْمُخْبِرَة الآمرة النَّاهِيَة. ولو كان الكلام معلوماً غير مسموعٍ وكان الجسمُ هو المسموعُ وكلامُهُ معلومٌ لكان يُعلم الكلامُ من المتكلم ومن غير المتكلم، وَلَمَا كان للكلام معنًى إذا لم يكن مسموعاً، وهذا جهلٌ كبيرٌ لم يقل به أحدٌ من الناس غير هذه الفرقة، وقد قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: ((إني تاركٌ فيكمْ ما إن تَمَسَّ كْتُمْ بِهِ لن تضلوا من بعدي أبداً كِتَابَ اللهِ وعِتْرَتِي أهلَ بيتي، إن اللطيفَ الخبيرَ نبَّأنِي أنهُمَا لن يَفترقَا حتَّى يردَا عَلَيَّ الحوض)). (1/94)
وقال صلى الله عليه وآله وسلم: ((زيِّنُوا القرآنَ بأصواتكمْ ، فإنَّ الصّوتَ الحَسَنَ يزيدُ القرآنَ حُسْناً)). وقال صلى الله عليه وآله وسلم: ((كُلُّ صلاةٍ لا يُقْرَأُ فيها بأمِّ الكتابِ وسُورةٍ معَهَا ـ)) وفي بعض الأخبار: وثلاثَ آياتٍ معهَا ـ فهيَ خدَاجٌ)). وقال صلى الله عليه وآله وسلم: ((يَؤُمُّ القومَ أقرؤهم لكتابِ اللهِ )). ورُوي عن علي عليه السَّلام أنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: ((إنّ أحقَّ الناسِ بالصلاةِ الكثيرةِ في السرِّ والعلانيّةِ حاملُ القرآنِ، وإنّ أحقَّ الناسِ بالصّومِ الكثيرِ في السرِّ والعلانيّةِ حامِلُ القرآنِ، ويَنبغي لحاملِ القرآنِ أن يُعْرَفَ في ليلِهِ إذا النّاسُ نيامٌ، وفي نهارِهِ إذا النّاسُ مُفطرونَ، وفي حُزنِهِ إذا النّاسُ يَفرحون، وفي صمتهِ إذا النّاسُ يَخْلُطُونَ، يا حاملَ القرآنِ تواضعْ للهِ يرفعكَ اللهُ ولا تَعزَّزْ فيُذِلَّكَ الله، وتَزَيَّن للهِ فيزينكَ اللهُ، ولا تزيّنَ للناسِ فيضعكَ اللهُ، الله أفضلُ لكَ من كلِّ شيءٍ هُوَ دونُ اللهِ، من وقَّرَ القرآنَ فقدْ وقَّرَ اللهَ، ومَنِ استخفَّ بحقِّ القرآنِ فقدِ استخفَّ بحقِّ الله، وحُرمةُ القرآنِ عندَ اللهِ كحرمةِ الوالِدِ عَلَى ولدِهِ، وحَمَلَةُ القُرآنِ يُدْعَوْنَ في التّوراةِ الْمَخْصُوصِيْنَ برحمةِ اللهِ الْمُلَبَّسِيْنَ نُورَ الله، الْمُعَلّمِينَ كَلاَمَ الله، من والاهم فقد والَى اللهَ، ومن عاداهم فقد عادى الله، يدفعُ اللهُ عن مُستمعِ القرآنِ بلوى الدُّنيا، ويدفعُ اللهُ عن تَالِيَ القُرآنِ بَلْوَى [الدنيا (1/95)
و]الآخِرَةِ)). وقال أمير المؤمنين عليه السَّلام: آية من كتاب الله تركها النّاس وهي: {بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ}. وقال زيد بن علي عليهما السلام: أما بعدُ يا قارئَ القرآن، فإنك لن تتلو القرآن حق تلاوته، حتى تعرف الذي حرفه [وهو الله تعالى]. وقال القاسم بن إبراهيم عليه السَّلام في مديح القرآن: كتابٌ أنزله الرحمنُ الأعلى برحمته من السماوات العلى، فأقرّ في أرضه قراره، وثبَّت في عباده أنواره ...إلى قوله: سَمَاويٌّ أحلّه الله برحمته أرضه، وأحكم به بين العباد فرضه. وذكر قوماً حرّفوه فقال: بل حتّى كادت تجعل فاءه ألِفاً وأَلِفَهُ فاءً، للجهل بالله. وقال في موضعٍ آخر: كيف بما في حَوَامِيمِهِ من غرائب حِكَمِهِ، وفي طَوَاسِينِهِ من عجائب مكنونه، وفي (ق)، و(طه)، و(يس)، من علمٍ جم للمتعلِّمين، وما في (كهيعص)، والمرسلات من سائر العلوم الخافيات. فبين أنّه كلامٌ، وأنه في الأرض حالٌّ، وأنّه حروفٌ، وأنّه مسموعٌ؛ لأنه قال فيه: فإنك إن تسمع منه بأذنٍ واعية ثم تقبل عليه منك بنفس لحكمة راعية، تسمع صوتاً منه بالهُدى صيِّتا، وتعرف مَن جعله الله حيًّا مِمَّن جعله ميِّتاً. (1/96)
وقال ولده محمد بن القاسم عليهما السلام في تفسير قول الله تعالى: {وَكَلَّمَ اللَّهُ مُوسَى تَكْلِيمًا }[النساء:164]، معنى كلام الله لموسى عليه السَّلام عند أهل العلم به أنه أنشأ كلاماً أحدثه كما شاء، فسمعه موسى وفهمه، ولم يجعل الله بينه وبين موسى مَلَكاً رسولاً، وأَسْمَعَهُ النِّداءَ فقال: {إِنّي أَنَا اللَّهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ }[القصص:30]، والنداءُ غير المنادي، والمنادي هو الله جل ثناؤُهُ، والنِّداءُ غير الله تباركت أسماؤُه. وما كان غير الله فهو محدثٌ بعد أن لم يكن. (1/97)
وقال الهادي للحق عليه السَّلام في كتاب الأصول: وإن القرآن أنزله الله على نبيئه صلى الله عليه وآله وسلم، وأنشأه وخلقهُ، ووصلهُ وفصّلهُ، وألَّفهُ وأحدثهُ. وقال عليه السَّلام في مسائل الرازي -وقد سأله: كيف يأخذ جبريل الوحيَ من الله، وكيف يَعْلَمُهُ، وكيف السبيل فيه حتى يفهمه؟- فقال الهادي للحق عليه السَّلام: اعلم هداك الله أن القول فيه عندنا كما قد روي فيه عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أنه سأل جبريل عن ذلك فقال: ((آخذه من مَلَكٍ فوقي ، ويأخذه المَلَك من مَلَكٍ فوقه، فقال صلى الله عليه وآله وسلم: كيف يأخذه ذلك الملَك ويعلّمه؟ فقال جبريل صلى الله عليه: يُلقَى في قلبه إلقاءً، ويُلْهَمهُ إلهاماً)).
قال الهادي إلى الحق عليه السَّلام: وكذلك هو عندنا أنه يُلْهَمُهُ الملَك الأعلى إلهاماً. فيكون ذلك الإلهام من الله وحياً، كما ألهَمَ تبارك وتعالى النَّحل لِمَا تحتاج إليه، وعرّفها سبيلها.
وسأله: كيف كان الكلام من الله لموسى صلوات الله عليه؟
فقال عليه السَّلام: كان معنى ذلك أن الله تعالى خلق له كلاماً في الشّجرة سمعه موسى بأُذنه، كما كان يسمع ما يأتي به الملَك إليه من وحي ربّه، فكان فَهْمُ موسى -صلى الله عليه- وسماعُهُ لذلك الكلام الذي شاء الله إسمَاعَهُ إيّاهُ لِمَا أراد من كرامته واجتبائه، ففي ما هاهنا كفاية. (1/98)
ولم يقل أحدٌ مثل مقالة هذه الفرقة؛ إلا أن قوماً من المجبرة قالوا في القرآن قريباً من قول هذه الفرقة؛ في أن القرآن ليس بمسموعٍ ولا هو كلامٌ، ولا هو حروفٌ، وقالوا: هو قديمٌ، وهو معنًى في النّفس. فاحتجّ عليهم السيد أبو طالب عليه السَّلام في التَّبصرة في كتاب الهادي فقال: وأيضاً فإن كلامه تعالى لا يخلو من أن يكون من جنس الكلام المعقول فيما بيننا، وهو أن يتركَّب من جنس الأصوات والحروف، أو مخالفاً لذلك. فإن كان من جنس الأصوات والحروف وإلا لم يكن يدرك الأجسام والأعراض، فلا شبهة في حدوثه، وإن كان مخالفاً لذلك لم يصح أن يكون كلاماً وأن يُفهم به شيءٌ، فالمثبِتُ لكلامٍ مخالف للكلام المعقول فيما بيننا، فإنه في حكم من يُثبِتُ جسماً مخالفاً للأجسام المعقولة فيما بيننا، ويُثبِتُ مع الله تعالى جسماً قديماً مخالفاً لسائر الأجسام. ومن يزعم أن الكلام معنًى في النفس، وأن الحروف المسموعَةَ دلالةٌ عليه، فهو في التَّجاهل بمنزلة من يزعم أن الصوت معنًى في النفس، وأن المسموعَ منه دلالةٌ عليه؛ وأن اللونَ معنًى في النفس، والمرئيَّ منه دلالةٌ عليه، فتبيّن جهل من يقول بهذه المقالة، وقد قال الله تعالى: {وَإِنْ أَحَدٌ مِنَ الْمُشْرِكِينَ اسْتَجَارَكَ فَأَجِرْهُ
حَتَّى يَسْمَعَ كَلاَمَ اللَّهِ ثُمَّ أَبْلِغْهُ مَأْمَنَهُ}[التوبة:6]. ورُوي عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أنه سمع خفقَ نَعْلٍ وهو يُصلِّي، وهو ساجدٌ، فلمّا فرغ من صلاته قال: ((من هذا الذي سمعت خفق نعله ))، فقال أنا يا رسول الله، قال: ((فما صنعتَ؟)) قال: وجدتُّك ساجداً فسجدتُّ [معك]، قال: ((هكذا فاصنعوا، ولا تعتدُّوا بها ، ومن وجدني قائماً أو راكعاً أو ساجداً فليكن معي على حالتي التي أنا عليها)) فبيّن أنه سمع خفق النعل، وخفق النعل هو غير النعل. (1/99)
وقول من يقول: إن كلام الله لا يُسْمَعُ مكذِّبٌ لكتاب الله، وقد قال الهادي إلى الحق عليه السَّلام في كتاب المسترشد: فلمّا سمعت حاسّة الأذن صوتاً علم السّامعُ أنه له مُصوِّتاً منه كانَ، ومن بعد خروجه من حلقه بانَ لسامعه. وهذا عكس ما قالوا: من أن المتكلم يسمع ويعلم الكلام، وقد قال الله تعالى: {وَلاَ يَضْرِبْنَ بِأَرْجُلِهِنَّ لِيُعْلَمَ مَا يُخْفِينَ مِنْ زِينَتِهِنَّ}[النور:31]، فبيّن أن الجسم معلومٌ، وأن الصوتَ مسموعٌ، وقد قال تعالى: {فَلَمَّا أَحَسَّ عِيسَى مِنْهُمُ الْكُفْرَ }[آل عمران:52]، بمعنى سَمِعَ منهم الكفر، فصحّ أن الكلام محسوسٌ، وفي هذا بيانٌ لمن كان له قلبٌ، ولا يمتنع أن نقول: سمعنا زيداً يتكلم، بمعنى أنا سمعنا الكلام منه، وأنه مُسْمِعٌ، وهذا معنى قول الله تعالى: {إِنَّنَا سَمِعْنَا مُنَادِيًا يُنَادِي للإِيمَانِ }[آل عمران:193].
فصل في الكلام في الألوان والطعوم والروائح (1/100)
اعلم أن هذه أعراضٌ؛ وهي صفاتٌ ضروريّةٌ للأجسام، والدليل على أنّها أعراضٌ أنها لا تقوم بنفسها، وأنها تبطُلُ بأضدادها؛ وكذلك الضياء والظلمةُ، واللينُ والخشونةُ، والحرارةُ والبرودةُ. ومعرفة هذه الجملة فروعٌ، ومن تأول في الفروع فأخطأ لم يُحكم عليه باسم الكفر، ولا يُحكم عليه باسم الفسق، ولا يُحكم عليه بأنّه مُعاقَبٌ بذلك.
فأما الأصول فإن من تأوَّلها فأخطأَ فإنه معاقبٌ مأثومٌ. فإن كان في خطائه مخالفاً للمسلمين، موافقاً فيه للكافرين، فهو كافرٌ لموافقة الكافرين في قولهم، مثال ذلك: من زعم أن القرآن قديمٌ، ومن يزعم أن الله يُرى يوم القيامة (بالأعيان)، ومن يزعم أن الله أجبره على فعله، وهؤلاءِ قد خالفوا المسلمين، ووافقوا الكفار في قولهم. أما موافقة الكفار فإن الكفّار الثنوية ادَّعو إلهينِ قديمينِ، وهؤلاءِ يقولون: القرآن قديمٌ مع الله، فأثبتوا إلَهَيْنِ قديمينِ. والذين يقولون: إن الله يُرى يوم القيامة وافقوا الكفار في توهُّمهم أن الله يُرى بالأعيان فَقَالُوا: يا موسى (أَرِنَا اللَّهَ جَهْرَةً) . ومن يزعم أن الله أجبره على فعل القبيح والحسن، فإنهم وافقوا الكفار في قولهم: {لَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا أَشْرَكْنَا }[الأنعام:148]، وبموافقتهم للكافرين خالفوا المسلمين. ومن كان في خطائه وتأويله موافقاً للفاسقين مخالفاً للمؤمنين فهو فاسقٌ، من ذلك: من يتأول خلاف الكتاب والسُّنة والإجماع وليس معه علمٌ من الكتاب والسُّنة والإجماع، فيكون فاسقاً لحكمه بخلاف ما أنزل الله؛ قال الله تعالى:
{وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنزَلَ اللَّهُ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ }[المائدة:47]. (1/101)
فأما من تأول في مسائل الاجتهاد فأخطأ فلا إثم عليه إذا لم يجد المسألة في كتاب الله، ولا في سنّة رسوله صلى الله عليه وآله وسلم، ولا في الإجماع، وكان عالماً بالكتاب والسُّنة والإجماع.
ويؤيد هذا ما روي عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أنه قال لمعاذ بن جبل حين بعثه إلى اليمن: ((بِمَ تحكم ؟)) قال: بكتاب الله، قال: ((فإن لم تجد؟)) قال: فبسنّة رسول الله، قال: ((فإن لم تجد)) قال: فأجتهد رأيي لا آلو اجتهاداً، فقال: ((الحمد لله الذي وفَّق رسول رسول الله لِمَا وفّق له رسول الله )). والصفات التي ذكرنا هي من مسائل الاجتهاد، وليس في الكتاب ولا في السُّنة أن الله تعبّد الخلق بمعرفتها. وقد اختلف فيها العلماءُ من العامّة، وفي غيرها من الأعراض.
فقال أبو الهذيل، ومعمر، ومن قال بقولهما بالأعراض وأثبتوا جوهراً قابلاً للأعراض، قالوا: والدليل على الجوهر أنهم لَمَّا رأوا البُسرةَ خضراءَ وعينها قائمة، ثم رأوها حمراءَ وعينها قائمة علموا أن ثَمَّ معنًى وجوهراً قابلاً للألوان، ومُحالٌ أن يكون اللونُ والطعمُ جسماً واحداً، ومُحالٌ أن يكونا جسمينِ في مكانٍ واحدٍ. وقال هشام بن الحكم ومن قال بقوله، وأبو بكر الأصم ومن قال بقوله: ليس في العالم عرضٌ لأنه لا يُعقل إلا الجسم الطويل العريض الشاغل للمكان، ومُحالٌ أن يكون ليس بشاغلٍ، ومن ثَمَّ نفوا الأعراضَ.
وقال بشر بن المعتمر ومن قال بقوله: اللونُ والطّعمُ والرّائحةُ والصّوتُ والحسُّ وما أشبه ذلك أعراضٌ وأن جوهراً قابلاً لها، وزعموا أن الحركة ليست بأعراضٍ ولا أجسامٍ؛ لأن الأعراض تبقَى زمنين، والحركة لا تبقَى زمنينِ ماضٍ وحالٍ. قال: وقد كفانا أبو الهذيل مُؤنة مناظرتهم. ذكر الإمام الناصر لدين الله أحمد بن يحيى عليهما السلام في كتاب النّجاة: أن أبا الهذيل ناظر حفصاً ـ من أصحاب بشر بن المعتمر ـ وقد نَفَى الحركات، فقال له أبو الهذيل: أخبرني كم حدّ الزّاني؟ قال حفصٌ: مائة جلدةٍ. قال أبو الهذيل: فكم حدّ القاذف؟ قال حفصٌ: ثمانون. قال أبو الهذيل: فأخبرني هل الجلد هو الجلاّد؟ قال حفصٌ: لا. قال أبو الهذيل: فهل هو جنب المجلود؟ قال حفصٌ: لا. قال: فهل هو السّوط؟ قال: لا. قال أبو الهذيل: فأرِنِي لا شيءَ، زاد على لا شيء عشرين. فانقطع حفصٌ ولم يجد جواباً. (1/102)
وقال إبراهيم النّظّام، ومن قال بقوله: إن الألوان وما أشبه ذلك أجسامٌ، وإنه ليس في العالم إلا جسمٌ، إلا الحركات فإنها أعراضٌ، قالوا: والدليل على ذلك أنه لما رُؤيَ الجسمُ الطويلُ العريضُ العميقُ، فمن حيث ما رُؤِيَ الجسمُ واللونُ فيه فكان كذلك اللونُ جسماً طويلاً عريضاً عميقاً.
هذا ما علمناه من خلاف المتقدمين من أهل الإسلام. فأما أهل البيت" فلا خلاف بينهم في العرض وثبوته، وأنه مُدْرَكٌ إلا الحركات. وأن المُدْرَكَ بالحواسِّ تسعةٌ: الألوانُ، والروائحُ، والطّعومُ، والحرارةُ، والبرودةُ، والرُّطوبةُ، واليبوسةُ، والأصواتُ، والآلامُ، وسنورد أقوالهم في ذلك في موضع الاحتجاج ـ إن شاء الله تعالى ـ على مخالفيهم. (1/103)
وقالت المطرفيَّة: الأعراضُ كلُّها تُعلم ولا تُدركُ بالحواسِّ، وقالوا: هي لا تَحلُّ ولا تُحلُّ ولا تُتوهَّمُ، وأثبتوها شيئاً لا يُرى.
وقالوا: لا يُرى اللونُ ولكنه يُعلمُ، ولا يُسمع الصّوتُ لكنه يسمع الجسم المصوتُ، ولا يُدرَكُ عندهم الطَّعمُ، ولا الرّائحةُ، ولا الحرارةُ، ولا البرودةُ، ولا الآلامُ، لكن تُدرَكُ الأجسامُ وتُعلمُ الأعراضُ.
فأوَّل ما يُحتج به عليهم من العقل أن الله قد خلق للإنسان، وغيره من الحيوان خُرُوقاً في جسده لِمَا يدخل ويخرج. فمنها ما خلق لِمَا يدخل ويخرج لصلاح العبد وهو: الفمُ والمنخرانِ، فالدّاخل هو المطعومُ، والمشروبُ، والرائحةُ، وما يستنشق من الهواءِ. والخارجُ: الأنفاسُ، والقيءُ، وشبهه. ومنها ما خلق لِمَا يخرج وهو السبيلانِ. ومنها ما خلق لِمَا يدخل وهما الأذنانِ، ولا خلاف في ذلك.
فنقول لهم: أخبرونا عن هذا الدّاخل في الأذنينِ ما هو أجِسْمٌ أَمْ عَرَضٌ؟
فإن قالوا: جسمٌ. قلنا: وأيُّ الأجسام هو؟ أتقولون: هو المتكلّم على الكمال، أو جزء من جسمه؟
فإن قالوا: هو الإنسانُ على الكمال، فالخرق ضيّقٌ لا يسعه. وأيضاً فلم ينتقل من موضعه الذي يتكلم فيه إلى أذن السّامع.
وإن قالوا: الدّاخل هو جزء منه. قلنا: هذا باطلٌ من القول أن يكون الإنسان بعضه مستقرًّا وبعضه منتقلاً، فبطل دخول الجسم من هذا المعنى، وصح أنَّ الله تعالى ما جعل خرق الأذنين إلا طريقاً للأصوات دون المصوِّتين. (1/104)
فإن قالوا: فإذا قلتم: العرضُ مسموعٌ فكيف يدخل العرض في أذن السّامع، والعرضُ لا يقوم بنفسه؟ قلنا: إنا قد بيّنا الكلام فيما تقدم أنّ الهواء هو الذي يحمل الأصوات، وقد فطره الله على حمل الأصوات، والدخول بها في الآذان السّامعات، وهو شبحُها بعد انقطاع كلام المتكلم، والمتكلّمُ شبحُها في حال كلامه.
ومما يدل على أن الهواء هو الذي يحمل الأصوات: أن المصوِّت إذا كان منتزحاً من المستمع، لم يسمع المستمع الصوت عند نطق المصوِّت به، بل يلبث على قدر بُعْدِهِ، وذلك مشاهدٌ فيمن يضرب بزبرةٍ في حجرٍ أجْوَفَ أن المستمع له من مكانٍ بعيدٍ يراهُ عند ما يُهَوِّي بالزُّبرة إلى الحجر، ولا يسمع صوت الزبرة هَوِيِّهِ للضرب، بل يسمعه بعدُ، فلما كان الصوت يلبث شيئاً، علمنا أن الهواء هو الذي لبث به، وقطع به المسافة، ومما يؤيد ذلك أنّ الرياح تردّه إذا قابلته.
ومما يُبيّن لك أنّ الهواء هو الذي يحمل الأصوات أن المنادي قد ينادي في عسكرٍ كثيرٍ يكون فيه ألوفٌ من النّاس، فيسمع كلُّهم صوتَهُ، فلم يكن المصوِّتُ ينقسم بين أُلُوفٍ من الآذان فصح أن الهواء هو الذي يحمل الصوت.
ودليل آخر: أنه لا يُعلم الكلامُ من غير طريق السمع، ألا ترى أن الأصمّ، ومن يَسُدَّ أذنيه لو رأى إنساناً يُحرِّك لسانه وشفتيه بغير كلامٍ أنه لا يفرق بينه وبين من يتكلم، فبطل قولهم: أن المتكلم يُسمعُ ويُعلمُ الكلامَ. وقد قدمنا الاحتجاج عليهم من كتاب الله في هذا، ومن سُنّة رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، ومن أقوال الأئمة الهادين ". (1/105)
فأما قولهم: إن العرضَ شيءٌ لا يُوهَمُ ولا يَحِلُّ ولا يُحَلّ، وهو يُعلمُ ولا يُحسُّ؛ ولأنهم يقولون في العرض: كونُهُ فَنَاؤه، فإنهم لو نفوا العرض ولم يثبتوه شيئاً معلوماً لكان أصلح لهم وأوفق لهم من أن يصفوه بصفات الله تعالى؛ لأن الله شيءٌ يُعلم ولا يَحِلُّ ولا يُحَلُّ ولا يُحسُّ ولا يُوهَمُ، وقد غلطوا في هذا غلطاً كبيراً؛ ولأنه إذا لم يكن حالاًّ في الجسم فليس هو في الهواءِ، ولا في الأرض، ولا في السماءِ، وإذا لم يكن في الهواءِ، ولا في الأرض، ولا في السماء فعدمُهُ ووجودُهُ [على] سواءٌ، ولا معنى له ولا نفاعة فيه.
وإذا لم يكن أيضاً محْسوساً، ولا مَوْهُوماً، لم يكن مشابهاً للأجسام ولا للأعراض؛ وكان متنزّهاً عن النقصان والأعراض.
قال أمير المؤمنين عليه السَّلام في الدرة اليتيمة: (ما تُخُيّلَ فالتشبيهُ له مُقَارِنٌ، وما تُوهِّمَ فالتنزيه له مباينٌ) وهو يريد بذلك أن الله تعالى لا يُتخيَّلُ، ولا يُتَوَهَّمُ. فإذا كان العرضُ بهذه الصفة، فالتشبيه له مباينٌ، والتنزيه له مقارنٌ، ولم يقل أحد بمثل هذه المقالة غير هذه الفرقة. ولأنهم أقرُّوا بالعرض ثم نفوه؛ فقالوا: الجسم هو الهواءُ وما حوى من الأرض والسماءِ وما بينهما من جميع الأشياءِ، فإذا لم يكن في الهواء، ولا في الأرض، ولا في السماء، ولا بينهما، ولا هو من الأشياء التي بينهما، فليس هو بشيءٍ يُعلم فمن هاهنا نفوهُ. (1/106)
واعلم أن هؤلاء القوم قد أصَّلَ لهم مشايخُهُم في الكلام أصولاً، وبنوا عليها، وعرفوها وأنكروا سواها، وصارت ديناً لهم لا يرون الخروج منه أصلاً، ولا يقبلون فيه حجّة مُحتجٍّ عليهم، بل ينسبون من قال بغير قولهم إلى الجهل والخطأِ، ولا يرون أن تُنقضَ أصول مشايخهم التي أصَّلوها، ولو كانت ناقضةً لكتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وآله وسلم، ولا يلزمهم ما يُحتج به (عليهم) (من كتاب الله)، ولقد سمعتُ رجلاً منهم يقول: إن القرآن خلقه الله في غير محلٍّ، وليس يتعلّق بحيٍّ ولا محلٍّ؛ فافتتحت عليه الحجّة من كتاب الله تعالى بقوله تعالى: {بَلْ هُوَ آيَاتٌ بَيِّنَاتٌ فِي صُدُورِ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ وَمَا يَجْحَدُ بِآيَاتِنَا إِلاَّ الظَّالِمُونَ}[العنكبوت:49]، فقال: هذا فرعٌ، وقام ولم تلزمه حجة القرآن، وذلك أنهم استكثروا عِلمَ نُفوسِهِمْ، واستقلوا عِلْمَ أهل بيت نبيئهم الذين هم في عصرهم، وجهلوا علم المتقدِّمين منهم. وإذا علموا من كتاب الله، أو من سنة رسوله صلى الله عليه وآله وسلم، أو من أقوال الأئمة الهادين شيئاً ينقض عليهم أُصولهم تأوَّلوهُ على ما يوافقهم. (1/107)
وقد روي عن جعفر بن محمد الصادق عليهما السلام: أنَّ سُديراً الصَّيرفي دخل عليه فقال: ما بال هذا الاختلاف الذي نسمعه بين أهل النِّحلة من الشيعة، وكيف اختلفوا وفي أيديهم الكتاب، والسُّنة، وأنت بين ظهرانيهم، وأمثالك من الأئمة؟ فأطرق ملياً ثم قال: يا سُديرُ، أمَّا قومٌ ردُّوا ما سمعوا من كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وآله وسلم إلى مقاييس عقولهم استصغاراً لكلام أئمتهم، واستكباراً لأنفسهم، وإني لأحدِّث أحدهم بالحديث من العلم، فلا يخرجُ من عندي حتى [يكون] قد تأوَّلَهُ وفسّرهُ على محبوب نفسه، وقاسه بتمييزه وفكره، ويزعم أن لذلك باطناً غير ظاهره، وأن الباطنَ هو الذي كُلِّفَ معرفته، حتّى كأنّ الله عزّ وجلّ قد وَكَلَ جميع الخلق إلى نظره وتمييزه). (1/108)
فمن أصولهم التي أصّلوها أنهم قالوا: إن العرض شيءٌ موجودٌ، وقالوا: ليس بحالٍّ في الأجسام، ولا هو يُوهَمُ ولا يُحسُّ. وقالوا: إنهم يسمعون المتكلِّم سماع حسٍّ، ويسمعون الكلامَ سماع علمٍ. وقالوا: ليس يُسمع القرآنُ، وإنما يُسمع القارئُ، وهذه الجملة لا خلاف عندهم فيها. وإنما اختلفوا في نزول القرآن، فقال بعضُهُم: ليس هذا الذي مع الناس القرآن، وإنما هو دليلٌ عليه.
وقال بعضهم: هو القرآنُ، لكنّه لا يُسمع، وإنما يُسمع القارئُ، ويُعلم القرآن.
وقالوا جميعاً -إلا الأقلّ منهم: القرآن في قلب الملَك الأعلى حَالَةٌ له، صفةٌ ضروريّةٌ لا يفارقه. والعرض الضروريُّ عندهم هو الذي لا يفارق شبحه.
ثم نقضوا هذه الأصول فقالوا: العالَم هو الهواء، وما حوى من الأرض والسماءِ وما بينهما من جميع الأشياءِ، فنفوا العرضَ بعد ما أثبتوهُ، إذ جعلوا جميع العالَم وما كان فيه جسماً، فنقضوا قولهم: (إن العرض شيءٌ موجودٌ)، وقالوا: القرآن في قلب الملَك واللونُ في الملوَّن، فأثبتوا حلول العرض في الجسم ونقضوا قولهم: (إن العرض لا يحلُّ في الجسم). وقالوا: إن الله تعبّد خلقه بمعقولٍ ومسموعٍ، فنقضوا قولهم: (المسموعُ هو المُسمِعُ)؛ ولأنّهم لا يقولون: إن الله تعالى تعبّد خلقه بمسمُعٍ. (1/109)
ومن الرد عليهم في قولهم: ليس العرض بحالٍّ في الجسم: من كتاب الله تعالى قولُ الله تعالى: {بَلْ هُوَ قُرْآنٌ مَجِيدٌ ، فِي لَوْحٍ مَحْفُوظٍ}[البروج:21،22]، وقوله: {وَالطُّورِ ، وَكِتَابٍ مَسْطُورٍ ، فِي رَقّ مَنْشُورٍ} [الطور:1ـ3]، وقال: {بَلْ هُوَ آيَاتٌ بَيِّنَاتٌ فِي صُدُورِ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ وَمَا يَجْحَدُ بِآيَاتِنَا إِلاَّ الظَّالِمُونَ}[العنكبوت:49]، وقال تعالى: {إِذْ جَعَلَ الَّذِينَ كَفَرُوا فِي قُلُوبِهِمُ الْحَمِيَّةَ حَمِيَّةَ الْجَاهِلِيَّةِ}[الفتح:26]، وقال: {فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ }[البقرة:10]، وقال: {فَعَلِمَ مَا فِي قُلُوبِهِمْ }[الفتح:18]، وقال: {وَقَذَفَ فِي قُلُوبِهِمُ الرُّعْبَ } [الحشر:2]، فدلّت هذه الآيات على أنّ العرض يحلُّ في الجسم؛ لأن كون العرض في الجسم يوجب حلوله فيه؛ لأن (في) حرفٌ يوجب التضمين، ومحلُّ الشيءِ في الشيءِ.
وقد استدلت المشبّهة على قولهم: (إن الله في مكانٍ) بقوله تعالى: {أَأَمِنتُمْ مَنْ فِي السَّمَاءِ أَنْ يَخْسِفَ بِكُمُ الأَرْضَ فَإِذَا هِيَ تَمُورُ}[الملك:16]. وتأويل هذه الآية عندنا: أم أمنتم إله من في السماء. وتأويل قوله تعالى: {وَهُوَ الَّذِي فِي السَّمَاءِ إِلَهٌ وَفِي الأَرْضِ إِلَهٌ }[الزخرف:84] أنه إله من في السماء، وإله من في الأرض. وروي عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أنه قال: ((لا يدخل الجنّة من كان في قلبه مثقال حبّة خردلٍ من كبرٍ )). وقال أمير المؤمنين عليه السَّلام: (لأن الصِّفةَ على نفسها تدلُّ وفي غيرها تَحُلُّ). وقال القاسم بن إبراهيم عليهما السلام في القرآن: سَماويٌّ أحلّه الله برحمته أرضهُ. وقال الهادي إلى الحق عليه السَّلام في صفة الإنسان: ثم علق في صدره قلباً، وركّب فيه لبًّا، وجعله وِعَاءً للعقل الكامل، وحصناً للرُّوح الجائل. (1/110)
وأما قولهم: ليس العرضُ يوهم ولا يُحسُّ، وإنما يُحسُّ الجسمُ ويُعلم العرضُ، فمن الرد عليهم: أنّ البهائم عندنا وعندهم لا عقول لها تَعلم بها وتُميِّز، وقد رأيناها بالمشاهدة تسمع الأصوات. وقد حكى الله تعالى أنها تسمع الدُّعاء قال عزّ من قائلٍ: {وَمَثَلُ الَّذِينَ كَفَرُوا كَمَثَلِ الَّذِي يَنْعِقُ بِمَا لاَ يَسْمَعُ إِلاَّ دُعَاءً وَنِدَاءً صُمٌّ بُكْمٌ عُمْيٌ فَهُمْ لاَ يَعْقِلُونَ}[البقرة:171]، فنصَّ الله على أنها تسمع الدعاء والنداء، والدعاءُ غير الداعي، والنداءُ غير المنادي بالإجماع، فصح أنها تسمع الأصوات وقال الله تعالى: {إِنَّكَ لاَ تُسْمِعُ الْمَوْتَى وَلاَ تُسْمِعُ الصُّمَّ الدُّعَاءَ إِذَا وَلَّوْا مُدْبِرِينَ}[النمل:80]، وقال تعالى: {وَلاَ يَسْمَعُ الصُّمُّ الدُّعَاءَ إِذَا مَا يُنذَرُونَ }[الأنبياء:45]، وقال تعالى: {فَلَمَّا أَحَسَّ عِيسَى مِنْهُمُ الْكُفْرَ } [آل عمران:52]، وقال تعالى: {هَلْ تُحِسُّ مِنْهُمْ مِنْ أَحَدٍ أو تَسْمَعُ لَهُمْ رِكْزًا}[مريم:98]. وقال المؤيد بالله: وروي عن القاسم عليهما السلام أنه قال: الرِّكز: الصوتُ، ذكره في جواب مسائل سُئل عنها. وسُئل عليه السَّلام عن قول الله: {وَخَشَعَتِ الأَصْوَاتُ لِلرَّحْمَنِ فَلاَ تَسْمَعُ إِلاَّ هَمْسًا}[طه:108]، قال: الهمسُ هو حَسُّ الأقدام، الذي ليس معه صوتٌ ولا كلامٌ. وقال المؤيد بالله -قدس الله روحه- في شرح التجريد: الرِّكز الصوتُ الخفيُّ، وقال الله تعالى: {لاَ يَسْمَعُونَ حَسِيسَهَا }[الأنبياء:102]، وقال تعالى: {لاَ يَسْمَعُونَ (1/111)
فِيهَا لَغْوًا وَلاَ تَأْثِيمًا ، إِلاَّ قِيلاً سَلاَمًا سَلاَمًا}[الواقعة:25،26]، وقال تعالى: {إِذَا أُلْقُوا فِيهَا سَمِعُوا لَهَا شَهِيقًا وَهِيَ تَفُورُ }[الملك:7]، وهذا في القرآن كثير إذا كان يلزمهم. (1/112)
وللهادي إلى الحق عليه السَّلام في المسترشد أقوالٌ تُبيّن أن الأعراضَ تُحسُّ، أعني: ما كان منها محسوساً مثل الأصوات والروائح والذَّوق واللون. وتدل على أن العرض يحلُّ في الجسم، وتدل على أن الصوت يُسمع ويُعلم المصوِّت، بخلاف قول المطرفيّة، وتدل على أن العقل غير القلب، وأنه حَالٌّ في القلب. فمن ذلك قوله عليه السَّلام في صفة العينين: جعلهما الله -جلّ جلاله عن أن يَحويهِ قولٌ أو يَنالُهُ- شحمتين اختصَّ أوساطهما بالسواد ...إلى قوله: (فلو كان مكان سواد أطباقهما ناصعاً ببياض نطاقهما لقصرتا عن بلوغ مناظرهما)، فصرح أن للسواد مكاناً، والمكانُ محلٌّ، فصح أن اللونَ يحلُّ في الجسم. ثم قال عليه السَّلام: (ثم جعل فيهما -من بعد إتقان تدبيرهما- شعراً مُسْوَدا ظاهراً عليهما، ليزيد سوادُهُ في قوَّة نظرهما). فبيّن أن السواد مرئيٌّ. وقال عليه السَّلام في صفة الأنف: (وجعله هواءً معتدلاً سواءً، ولولا ما دبَّر فيه، وركّب من الإحكام عليه لم يُؤدِّ بلطيف اعتباره، ودقيق اختياره المحسوس إلى قراره). فبيّن أن الرائحة مدركةٌ بحاسّة الأنف.
وقال عليه السَّلام في ذِكرِ الطّعم، وحاسة الذّوق: (وأجرى فيه عذوبةَ رِيقِهِ ليُميِّز بين مختلف ذوقِهِ)، فبيّن أن الذّوق مدركٌ بحاسّة الفم.
وقال عليه السَّلام في صفة السمع: (وألبَسَ [في] أرجاء السّمع أذناً لاستقرار جَوَلاَنِ الوَحْيِ في مجالهِ، وإزاحة الشّك النّازل به وإبطاله، ثم عطف سبحانه أطراف غضروفهما على البواطن من خروقهما لِلِحُوقِ جَوَلاَنِ الأصوات، ولولا ذلك لعجزت عن إدراك المقالات)، فبيّن أن الأصوات مدركةٌ بحاسّة الأذن، وصرح بالقول فيه بخلاف قول المطرفيّة. (1/113)
وقال عليه السَّلام: (فلما سمعت حاسة الأذن صوتاً، علم السامع أن له مُصوِّتاً)، فنصّ وصرّح بالقول بأنّ الصوت يُسمع وأن المصوِّت يُعلمُ، بخلاف قولهم.
وقال عليه السَّلام في صفة القلب: (ثم علّق في صدره قلباً وركّب فيه لبًّا ثم جعله وِعَاءً للعقل الكامل، وحصناً للرُّوح الجائل)، فدلّ على أن العقل غير القلب، ومثل هذا كثيرٌ في كتاب الله تعالى، وفي سنة رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، وفي قول الأئمة الهادين "، وهو إجماع أهل البيت"، وإجماع الموحِّدين من المعتزلة، وغيرهم من المسلمين.
وأما قول الله تعالى: {إِنَّنَا سَمِعْنَا مُنَادِيًا يُنَادِي للإِيمَانِ } [آل عمران:193]، وقوله: {قَالُوا سَمِعْنَا فَتًى يَذْكُرُهُمْ }[الأنبياء:60]، فالمراد به بأنّهم علموا المُنادِي، وسمعوا النِّداء، كما قال الهادي إلى الحق عليه السَّلام: فلما سمعت حاسّة الأذن صوتاً علم السّامع أن لهُ مُصوِّتاً.
وأيضاً فإن في القرآن دلائل كثيرة، مثل قوله تعالى: {وَإِذْ صَرَفْنَا إِلَيْكَ نَفَرًا مِنَ الْجِنِّ يَسْتَمِعُونَ الْقُرْآنَ}[الأحقاف:29]، وقوله: {إِنَّا سَمِعْنَا قُرْآنًا عَجَبًا }[الجن:1]، وقوله تعالى: {إِنَّا سَمِعْنَا كِتَابًا أُنْزِلَ مِنْ بَعْدِ مُوسَى }[الأحقاف:30]، وقوله تعالى: {وَأَنَّا لَمَّا سَمِعْنَا الْهُدَى آمَنَّا بِهِ }[الجن:13]. (1/114)
وقال الهادي إلى الحق عليه السَّلام في جوابه لابنه محمد بن يحيى عليهما السلام -وقد سأله عن النبوءَة والإمامة- فأجابه عن ذلك ثم قال: (إن الله سبحانه تعبَّد عباده بمعقول ومسموعٍ، فالمعقولُ ما أُدرِكَ بالتمييز والنظر بالعقول، والمسموعُ فهو ما يُسمع بالآذان من المسموع المُؤدّى عن نبيءٍ أو وصيٍّ أو إمامٍ مُهتدٍ، وإذا كان فرضُ الله وتعبُّده لخلقه بالمسموع، وكانت حاجة السّامع إلى تأدية المسموع لازمة، إذ كانت حجة الاستماع على المستمع واجبة)، فبيّن أن المسموع غيرُ المُسْمِعِ؛ ولأنه ذكر المسموعَ والْمُسْمِعَ والسَّامعَ، وبيّن أن المسموع هو المؤدَّى عن نبيءٍ أو وصيٍّ أو إمامٍ مُهتدٍ فصحّ ما قلناه.
وأما قولهم: إن القرآن لم يفارق قلب الملَك، وأن هذا الذي معنا دليلٌ عليه. فنقول: هل حُجّة الله علينا الدّليلُ أو المدلول عليه؟ فإن قالوا: الحجّةُ المدلولُ عليه. قلنا: فلم يُنزِّل الله على زعمكم حُجَّةً، إذ قلتم: القرآن لا يفارق قلب الملَك؟
وإن قالوا: الحُجّةُ الدليلُ. قلنا: فقد وجدنا فيه ما يدل على أنه هو القرآن؛ من ذلك قول الله تعالى: {وَقَالَ الرَّسُولُ يَارَبِّ إِنَّ قَوْمِي اتَّخَذُوا هَذَا الْقُرْآنَ مَهْجُورًا }[الفرقان:30]، وقال الله تعالى: {إِنَّ هَذَا الْقُرْآنَ يَقُصُّ عَلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ أَكْثَرَ الَّذِي هُمْ فِيهِ يَخْتَلِفُونَ }[النمل:76]، وقال تعالى: {إِنَّا أَنْزَلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ لِلنَّاسِ بِالْحَقِّ }[الزمر:41]، وقال تعالى: {اللَّهُ نَزَّلَ أَحْسَنَ الْحَدِيثِ كِتَابًا مُتَشَابِهًا مَثَانِيَ تَقْشَعِرُّ مِنْهُ جُلُودُ الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ ثُمَّ تَلِينُ جُلُودُهُمْ وَقُلُوبُهُمْ إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ ذَلِكَ هُدَى اللَّهِ يَهْدِي بِهِ مَنْ يَشَاءُ وَمَنْ يُضْلِلِ اللَّهُ فَمَا لَهُ مِنْ هَادٍ}[الزمر:23]، وقال تعالى: {كِتَابٌ أَنزَلْنَاهُ إِلَيْكَ مُبَارَكٌ لِيَدَّبَّرُوا آيَاتِهِ وَلِيَتَذَكَّرَ أُوْلُوا الأَلْبَابِ}[ص:29]، وقال تعالى: {أَفَلاَ يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ أَمْ عَلَى قُلُوبٍ أَقْفَالُهَا }[محمد:24]، وقال تعالى: {وَيَقُولُ الَّذِينَ آمَنُوا لَوْلاَ نُزِّلَتْ سُورَةٌ فَإِذَا أُنزِلَتْ سُورَةٌ مُحْكَمَةٌ وَذُكِرَ فِيهَا الْقِتَالُ رَأَيْتَ الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ يَنظُرُونَ إِلَيْكَ نَظَرَ الْمَغْشِيِّ عَلَيْهِ مِنَ الْمَوْتِ فَأَوْلَى لَهُمْ}[محمد:20]. (1/115)
وأيضاً فإن الكفار جحدوا نزول القرآن، وقد حكى الله قولهم، فقال تعالى: {قَالُوا مَا أَنْتُمْ إِلاَّ بَشَرٌ مِثْلُنَا وَمَا أَنزَلَ الرَّحْمنُ مِنْ شَيْءٍ إِنْ أَنْتُمْ إِلاَّ تَكْذِبُونَ}[يس:15]، وقال تعالى حاكياً قول الوليد: {ثُمَّ نَظَرَ ، ثُمَّ عَبَسَ وَبَسَرَ ، ثُمَّ أَدْبَرَ وَاسْتَكْبَرَ ، فَقَالَ إِنْ هَذَا إِلاَّ سِحْرٌ يُؤْثَرُ ، إِنْ هَذَا إِلاَّ قَوْلُ الْبَشَرِ ، سَأُصْلِيهِ سَقَرَ}[المدثر:21-26]، وقال تعالى: {إِذْ قَالُوا مَا أَنزَلَ اللَّهُ عَلَى بَشَرٍ مِنْ شَيْءٍ قُلْ مَنْ أَنزَلَ الْكِتَابَ الَّذِي جَاءَ بِهِ مُوسَى نُورًا وَهُدًى لِلنَّاسِ تَجْعَلُونَهُ قَرَاطِيسَ تُبْدُونَهَا وَتُخْفُونَ كَثِيرًا وَعُلّمْتُمْ مَا لَمْ تَعْلَمُوا أَنْتُمْ وَلاَ آبَاؤُكُمْ قُلِ اللَّهُ ثُمَّ ذَرْهُمْ فِي خَوْضِهِمْ يَلْعَبُونَ}[الأنعام:91]، ففي بعض ما هاهنا كفايةٌ (وبيانٌ). (1/116)
وقد رَوى القاسم بن إبراهيم عليهما السلام عن أمير المؤمنين عليه السَّلام أنه سأل رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم لم أنزلت: {الم ، أَحَسِبَ النَّاسُ أَنْ يُتْرَكُوا أَنْ يَقُولُوا آمَنَّا وَهُمْ لاَ يُفْتَنُونَ}[العنكبوت:1،2]؟ فأخبر بذلك. ثم قال له: ((فلا يكونن خصومك أولَى بالقرآن منك ، فإن من الفلج في الدنيا أن يخالف خصمك سنة رسول الله، وأن تخالف القرآن)). وجميع الأئمة، والأمة مجمعةٌ على أن هذا القرآن الذي مع الناس؛ هو القرآن الذي أنزله الرحمن، على نبيئه صلى الله عليه وآله وسلم. إلا فرقة من فرق المجبرة فإنهم قالوا: إن القرآن معنًى في النّفس، وهذا دليلٌ عليه. فصحّ أن القرآن هو هذا الذي مع النّاس، وهو مع الملَك الأعلى، كما هو مع من يحفظه من الملائكة، وغيرهم من المكلَّفين المؤمنين. (1/117)
فإن قال قائلٌ منهم: إذا كان هذا القرآن هو فِعل الله، فأخبرونا عن الصّلاة فِعلُ من هي؟ فإن قلتم: هي فعلُ الله، فكيفُ يُثيب على فعله؟ وأيضاً: فقد قال تعالى: {الَّذِينَ هُمْ فِي صَلاَتِهِمْ خَاشِعُونَ }[المؤمنون:2]، فنسبها إلى المؤمنين. وإن قلتم: هي فعلُكُم وفعل الله، فقد صِرتم شُركاء لله في فعله. وإن قلتم: هي فعلُكُم أوجبتم أن القرآن فعلُكُم. فنقول: الصَّلاةُ هي نيَّتنا وقيامنا وتكبيرُنا وقراءتنا وركوعُنا وسجودُنا وتسبيحُنا وتشهدُنا وتسليمُنا، وليس القرآن في ذاته بصلاةٍ، إذ ليس كل من قرأ القرآن بمصلٍّ، فصحّ أن صلاتنا هي فعلنا ولا يتم فعلنا الذي هو الصلاة إلا بقيامنا بفعل الله وقراءتنا له. كما أن الزكاة فعلنا، ولا تتم إلا بحصول المزكَّى، وهو من فعل الله، وقد قال تعالى: {وَالَّذِينَ هُمْ لِلزَّكَاةِ فَاعِلُونَ }[المؤمنون:4]، فصحّ أن الزكاةَ فعلُنا، وهي النيَّةُ وإخراجُ ما أوجبَ الله في الأموال، وهو يُسمّى زكاةً على المجاز، وكذلك الصّدقة، قال الله تعالى: {إِنَّمَا الصَّدَقَاتُ لِلْفُقَرَاءِ وَالْمَسَاكِينِ }[التوبة:60]، فسمّى الْمُخْرَجَ صدقةً ثم قال: {لاَ خَيْرَ فِي كَثِيرٍ مِنْ نَجْوَاهُمْ إِلاَّ مَنْ أَمَرَ بِصَدَقَةٍ}[النساء:114]، فبيّن أن الصّدقة هي الإخراجُ، فصحّ أن الزكاة هي فعل المزكِّي على الحقيقة، وأن الْمُخْرَجَ يُسمَّى زكاةً على المجاز. وقد يوجد في كتاب الله أشياء تُسمّى بأسماءٍ على الحقيقة، وأشياءَ تُسمّى بأسماءٍ على المجاز من ذلك قول الله تعالى: {وَقَرْنَ فِي بُيُوتِكُنَّ }[الأحزاب:33]، (1/118)
وقوله تعالى: {لاَ تَدْخُلُوا بُيُوتَ النَّبِيِّ }[الأحزاب:53]، والبيوتُ للنبيء على الحقيقة، وبيوت نسائه على المجاز. وكذلك قال عزّ من قائلٍ: {أَمَّا السَّفِينَةُ فَكَانَتْ لِمَسَاكِينَ يَعْمَلُونَ فِي الْبَحْرِ }[الكهف:79]، فنسبها إليهم. ثم قال تعالى: {وَلَهُ الْجَوَارِي الْمُنشَآتُ فِي الْبَحْرِ كَالأَعْلاَمِ }[الرحمن:24]، وقال تعالى: {وَلِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ }[آل عمران:109]، وقال تعالى: {أَنَّمَا أَمْوَالُكُمْ وَأَوْلاَدُكُمْ فِتْنَةٌ } [الأنفال:28]، فالملك لله على الحقيقة، ولأن السيد يملك عبده وما ملَك. (1/119)
ومما يدل على حلول العرض في الجسم أن الحركة والسكون لا يخلو العالَم منهما، وهما أكبر الحُجَج على حِدَثِ العالَم، فلما ثبت أن الحركة والسكونَ حالتانِ قائمتانِ في العالَم صحّ أن لهما محلاًّ وشَبَحاً. ومما يُؤيد ذلك قول أمير المؤمنين عليه السَّلام في الدرّة اليتيمة: (كلُّ معروفٍ بنفسِهِ مَصنوعٌ، وكُلُّ قائمٌ في سواهُ معلولٌ). فثبت أن الأعراض خالَّةٌ في الأجسام، وبطل قولهم: إن العرض لا يَحِلُّ ولا يُحَلُّ ولا يُوهَمُ.
وأما الحجّة في أن الألوان شيءٌ فنقول: إنا لما رأينا الشَّعر الأسود في حالةٍ أسودَ، ثم رأيناه في حالةٍ أبيض، وعينه قائمةٌ، علمنا أن البياضَ شيءٌ، وأن السواد شيءٌ، وأنهما ضِدَّانِ، يبطُلُ أحدهما بحضور الآخَرِ، ولا يكون العدم ضِدًّا لغيره يبطله، ولا يكون أيضاً العدمُ يُحدِثُ ويُبْطِلُ، فكذلك البُسرة تكون تارةً خضراء، وتارة حمراء، وعينها قائمة، فصحّ أن اللونَ شيءٌ. ومما يؤيد ذلك قول الله تعالى: {وَمِنْ آيَاتِهِ خَلْقُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَاخْتِلاَفُ أَلْسِنَتِكُمْ وَأَلْوَانِكُمْ إِنَّ فِي ذَلِكَ لاَيَاتٍ لِلْعَالِمِينَ}[الروم:22]، فَذَكَرَ أن اللونَ من آياته، فصحّ أنه شيءٌ؛ لأنه لا يكون شيءٌ من آيات الله عدماً. وأيضاً فإن الأمة مجمعةٌ على ذلك، فبطل قولهم: إن الصفة هي الوصفُ، ولا صفةَ في الجسم غيره. وثبت أن في الجسم صفةً غيرُ حَالَّة فيه غير الوصف. وقال علي بن الحسين عليهما السلام في توحيده: (ضَادَّ الظّلمةَ بالنُّور، والْجِلاَيَةَ بالْبُهمِ، والخشونة باللينِ، والصَّرد بالحرور). (1/120)
والدليل على أن اللون يُرى بالأعيان أن الأعمى لا يتأتَّى له أن يصف شيئاً بلونِهِ، وكذلك من لا يَرى الشيءَ لا يصفُهُ بلونٍ، ولا يُوصل إلى معرفة اللونِ من طريق السّمع، ولا من طريق الشمّ، ولا من طريق الذّوق، ولا من طريق اللمس، فلما لم يكن يُوصلنا إلى معرفة اللون من أيِّ هذه الطرق، وكانت تحصل معرفة اللون من طريق النظر؛ عُلِمَ أنه يُرى بالأعيان.
ودليل آخر: أن البُسرة لما رأيناها خضراءَ، ثم رأيناها حمراءَ، ثم رأيناها صفراء، وعينها قائمة، فلو كان اللونُ يُعلمُ ولا يُرى لَمَا فَرَقَ من ينظر البُسرة بين الخضرة والحمرة والصفرة، إذِ البُسرة قائمةُ العينِ، والألوان يحدث بعضها ويبطلُ بعضها، فلو فُرقَ بين الخضرة والحمرة والصفرة بغير النظر لصحّ ما قالوا. ولَمَّا صح أنه لا يُفرَّقُ بين هذه الألوان إلا بالنظر صحّ أنها مرئيّةٌ. (1/121)
فإن قالوا: أوجدُونا شيئينِ -في مكانٍ واحدٍ- جسماً ولوناً، فلا يُشاهد غير الجسم الملوَّن.
قلنا: أما قولكم أوجدونا شيئين في مكان واحدٍ، فإن كنتم أردتم أن نُثبتَ لكم شيئين: جسماً وعرضاً، فقد بيَّنا ثبوت العرض، واحتججنا عليه بما فيه كفايةٌ، وإن كنتم أردتم أن نُوجدَكُمْ شيئين قائمين بنفوسهما شاغلين للمكان، فإن العرض لا يكون قائماً بنفسه شاغلاً للمكان، وإنما هو قائم في الجسم، صفةٌ للجسم، ولا يقوم بنفسه فيكون شيئاً شاغلاً للمكان، فلا حجّة لهم بهذا السؤال.
والحُجّة من كتاب الله على صحّة ما ذهبنا إليه قول الله تعالى: {وَإِذْ قَالَ مُوسَى لِقَوْمِهِ إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تَذْبَحُوا بَقَرَةً قَالُوا أَتَتَّخِذُنَا هُزُوًا قَالَ أَعُوذُ بِاللَّهِ أَنْ أَكُونَ مِنَ الْجَاهِلِينَ ، قَالُوا ادْعُ لَنَا رَبَّكَ يُبَيِّنْ لَنَا مَا هِيَ قَالَ إِنَّهُ يَقُولُ إِنَّهَا بَقَرَةٌ لاَ فَارِضٌ وَلاَ بِكْرٌ عَوَانٌ بَيْنَ ذَلِكَ فَافْعَلُوا مَا تُؤْمَرُونَ ، قَالُوا ادْعُ لَنَا رَبَّكَ يُبَيِّنْ لَنَا مَا لَوْنُهَا قَالَ إِنَّهُ يَقُولُ إِنَّهَا بَقَرَةٌ صَفْرَاءُ فَاقِعٌ لَوْنُهَا تَسُرُّ النَّاظِرِينَ}[البقرة:67-69]، فعرّفهم الله بذاتها، وبجميع صفاتها، فكان مما وصفها به اللون، فصحّ أنّه شيءٌ وأنه مرئيٌّ، إذ لو لم يَرَوا لونها لَمَا زالت عنهم الشبهة، ولَبَقِيَتْ الجهالةُ، ولو لم تكن الصفرةُ مرئيّة لَمَا فرقوا بين الصفرة وغيرها من الألوان، فلما وصفها الله بالصّفرة، وبالغ في صفتها بالفقاعة -فلم يكونوا يبلغون إلى معرفة هذه الصفة إلا بالنظر- صحّ أنها مرئيّةٌ. (1/122)
ويكفي من هذا الاحتجاج أن الأعمى لو لمس البقرة لَمَا عرف لونَها، فسقط قولهم: (إن اللون يُعلمُ ولا يُرى). وأيضاً فإن الله أرسل موسى عليه السَّلام إلى فرعون وملائه بمعجزتين إحداهما جسمٌ، والأخرى عرضٌ، فقال تعالى فيما حكى عنه: {فَأَلْقَى عَصَاهُ فَإِذَا هِيَ ثُعْبَانٌ مُبِينٌ ، وَنَزَعَ يَدَهُ فَإِذَا هِيَ بَيْضَاءُ لِلنَّاظِرِينَ}[الأعراف:107،108]، فالجسمُ الثعبانُ، والعرض بياض اليَدِ، فبيّن أنه مرئيٌّ بقوله: {فَإِذَا هِيَ بَيْضَاءُ لِلنَّاظِرِينَ}، فمن قال: (إن اللونَ لا يُرى بالأعيان) فقد أكذب القرآن، وكفر ببعض آيات الله، ومن كفر ببعضها فقد كفر بكلها، وقد قال تعالى في آية أخرى: {إِنَّ الَّذِينَ يَكْفُرُونَ بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ وَيُرِيدُونَ أَنْ يُفَرِّقُوا بَيْنَ اللَّهِ وَرُسُلِهِ وَيَقُولُونَ نُؤْمِنُ بِبَعْضٍ وَنَكْفُرُ بِبَعْضٍ وَيُرِيدُونَ أَنْ يَتَّخِذُوا بَيْنَ ذَلِكَ سَبِيلاً ، أُوْلَئِكَ هُمُ الْكَافِرُونَ حَقًّا}[النساء:151،152]، وقد روي عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أنه قال: ((فاتقوا النّار، واتّقوا النّساءَ ، واتَّقوا الغَضبَ، فإنه جمرةٌ يتوقّد في قلب ابن آدم، ألا ترون إلى انتفاخ أوْدَاجِهِ، وحمرة عينيه)) فصحّ أن الحمرةَ تُرى، وإجماع الأمةِ أيضاً (يَحُجُّهُم)، فإن الأمة أجمعت على رؤية الألوان. (1/123)
ويدل على رؤية الألوان قول القاسم بن إبراهيم عليهما السلام في المسترشد في الرد على من زعم أن الله يُرَى يوم القيامة: (ويقال لهم: هل يدرك البصرُ إلا لوناً، أو شخصاً؟) وكرّرنا القول برؤية اللون مراراً، وإجماع الأمة أيضاً (يحجهم). وقال أمير المؤمنين عليه السَّلام في خطبته التي وصف فيها الطاووس: وإذا تصفّحتَ شعرةً من شعرهِ أرَتْكَ حمرةً ورديّة، وتارةً خضرةً زبرجديَّة، وأحياناً (أرتك) صفرةً عسجديَّة. وقال عليه السَّلام في خطبة التوحيد: وكلُّ سميعٍ غيرُهُ يخفى عنه غميض الأصوات، ويصمّهُ كثيرُها، ويذهب عنه ما بَعُدَ منها، وكل بصيرٍ غيرهُ، يَعْمَى عنه خفي الألوان ولطيف الأجسام. (1/124)
وأجمعت الأمة على رؤية الألوان إلا من نفى الأعراضَ أصلاً، وهو هشام بن الحكم، وأبو بكر الأصم، فإنها عندهم أجسامٌ، ولا ينكرون رؤيتها.
واختلف أهل الكلام في لون الماءِ. فقال قوم: لونُهُ أبيض. وقال قوم: لونه أسود. وقال قوم: ليس له لونٌ، وهو يَتلوَّنُ مع الأشياء.
واستدل من قال: (هو يتلون مع الأشياءِ) أنه إذا جُعلَ في أُجَانَةٍ خضراءَ رُؤي أخضر، وإذا كان في بيضاء رُؤي أبيض وأشباه ذلك.
وقال من زعم أن لونه أسود: إنه لما رؤي الكثير منه أسود، كالذي يكون في الغدير العظيم، والبحر، والبئر العميقة، عُلِمَ أن لونه أسود.
واستدل من يقول: (إن لونه أبيض) بأنه إذا رُمي به في الهواء أنه يُرى أبيض. فلما كان كل هؤلاء لا يستدلون عليه إلا بالنظر عُلِمَ أنه مرئيٌّ.
وللأئمة " أقوال تدل على صحة ما ذهبنا إليه؛ منها قول القاسم بن إبراهيم عليهما السلام في مناظرته للملحد: (فالبصر طريق الهيئات، والألوان). وقال في ردِّه على المجبرة: والعقل رَوحانيٌّ [لطيف] لا يُرى بالعيون، لأنه ليس بشبحٍ ولا لونٍ ولا جسمٍ. وقال عليه السَّلام في ردِّه على الملحد: على أنا نجد الصُّورَ والهيئات والألوان والصِّفات بعد أن لا نجدها فيها، ووجودُ الشيءِ بعد عدمه أدَلّ الدّلالة على حدوثه، فحدِّثني عن الصورة من أي شيءٍ حدثت؟ (1/125)
فإن قلت: إنها قديمةٌ أحَلتَ، وذلك أنها لو كانت قديمةً لكانت في هذا المُصَوَّرِ الذي ظهرت الصورةُ فيه أو في عُنصره الذي يُسمّونه هَيُولَى. فإن كانت في هذا المصوَّر بانَ فسادُ قولِكُم ودعواكم، إذ قد نجده على خلاف هذه الصّورة، وإن كانت في الذي تسمّونه هيولى فلا بدّ إذا ظهرت أن تكون قد انتقلت عنه إلى هذا.
فإن قلتَ: انتقلت أحَلْتَ، لأن الأعراض لا يجوز عليها الانتقال، على ان في الصّورة ما يُرى بالعيانِ، فإن كانت متنقّلة فما بالها خَفِيَتْ عند الانتقال، وظهرت عند اللبْثُ.
وقال الهادي إلى الحق عليه السَّلام في كتاب المسترشد: (فلما أن وجدت العقولُ والحواس أجساماً مثلها، مُصوَّراتٍ في الخلق كتصويرها، وأعراضاً لا تقوم إلا بغيرها، استدللت على الفاعل بفعله) فدلّ كلامُهُ هذا على أن العقول والحواس تُدْرِكُ الأجسام والأعراض؛ لأنه عطف الأعراض على الأجسام بواو النّسق، وإعرابُها إعرابُها. وقوله: (أجساماً مثلها مصوّراتٍ في الخلق كتصويرها) يُريد أنها مثلها في الحدث؛ لأنه احتج على أهل التشبيه بأن العقول والحواس لا تقع إلا على مثلها في الحدث، ولم يُردْ أنها أجسامٌ مثلها؛ ولأن العقل غيرُ الجسم. (1/126)
وقد بيّن في المسترشد وفي مسائل الرازي أن العقل ليس بجسمٍ، وكذلك في الأحكام قال: (والنّوم المُزيل للعقل ينقض الطهارة) فصحّ أنه عَنَى به العرض؛ لأن القلب لا يزول بالنوم، فثبت أنه أراد أنها مثلها في الحِدث لا أنها جسم.
وأما قوله: (مصوَّراتٍ في الخلق كتصويرها)، فهو يُريد به الأجسام خاصّة، ثم عطف العرضَ على الأجسام بأنها مُدركةٌ، وأنها مثلها في الحدث لا أنها جسم. ويوضح صحة ما ذهبنا إليه قول أمير المؤمنين عليه السَّلام في الدُّرة اليتيمة قال: (لأن الصّفةَ على نفسها تَدلُّ وفي مثلها تًحُلُّ).
قوله عليه السَّلام: (وفي مثلها) يريد في الحِدث لا أنها مثل الجسم في الجسميَّة. وقوله: (تَحُلُّ) يدلُّ على أن الأعراض تحلُّ (الأجسام).
وقال السيد أبو طالب عليه السَّلام ردًّا على من اعتقد الرّؤية فقال: لأن الرائي بالبصر إنما يَرى الشيء إذا كان مقابلاً له، أو في حكم المقابل، كما يَرى وجهه في المرآة، أو كان حالاًّ فيما قابله، كما يَرى السواد في الجسمِ الأسود إذا كان الجسم مقابلاً له. (1/127)
وقال في شرح كتاب البالغ الْمُدرِك في الأعراض: (إنها تختلف في أنفسها، وتُدرَكُ في أَيْنِيَّتِهَا خلافاً لبعض أهل الكلام من المعتزلة وغيرهم من العوام، وقد بيّنا فيما خالفوا. فصحّ أن جميع الألوان مرئيّة بالأعيان؛ وكذلك النّور والظّلمة القياس واحدٌ فهو سوادٌ وبياضٌ. (والشعاع جسمٌ لطيفٌ يُرى بالأعيان).
وأيضاً فإنه رُوي عن ابن عباس أن عبد المطلب بن هاشم مرَّ بولده عبد الله على يهوديّة يقال لها: فاطمة بنت مُرَّةٍ الخثعمية، وأن نور النبوءة في وجهه... الخبر، فدلّ على أن النّور يُرى. ورُوي عن النبيء صلى الله عليه وآله وسلم أنه قال: ((التفكُّر حياةُ قلبِ البصير كما يمشي المستنير في الظلمات بالنور)) وهذا معروفٌ عند الناس، يقول القائل: رأيتُ ضياءَ القمر، ورأيتُ ظلمة الليل؛ قال الشاعر:
أيها العبد كن لما لست ترجو
من نجاح أرجى لِمَا أنت راج
إن موسى مضى ليقبس ناراً
من ضياءٍ رآه والليل داج
يقول: إنه لما رأى الضّياءَ حسبهُ ضياءَ نارٍ، فمضى ليقتبس من النّار.
وقد قال القاسم بن إبراهيم عليهما السلام في ردِّه على ابن المقفع: وقد تَرى الأبصارُ إن أشرقت الأنوارُ فحينئذٍ تَرى الأشياءَ، وترى الظّلمة والضّياءَ وهو سوادٌ وبياضٌ، والشُّعاعُ جسمٌ يُرى بالأعيان. (1/128)
وقد قال القاسم بن إبراهيم عليهما السلام: والحجة عليهم في أن الريح شيء غير المشموم أنا نشاهد الأترنجة في حال غضاضتها لها ريحٌ ثم تطيبُ فيبطل ذلك الرّيح، ويحدثُ لها ريح غيره، وعينها قائمة، فصح أن الذي بطل وأن الذي حَدَثَ عرضٌ في الأترنجة غيرها.
والحجة [عليهم] من كتاب الله قوله عزّ من قائلٍ فيما حكى عن يعقوب عليه السَّلام: {إِنّي لأَجِدُ رِيحَ يُوسُفَ لَوْلاَ أَنْ تُفَنّدُونِ}[يوسف:94]، وفي هذا بيان وكفاية. وهو مُدْرَكٌ بحاسّة الأنفِ، والهواءُ هو الذي يحمله إلى الأنف، كما يحمل الكلام إلى الأذن.
وأما ما كان يتجزَّأ ويقوم بنفسه كالدُّخان والبخار وشبهه، فهو جسمٌ وله رائحةٌ. ولم تختلف الأمة في أن الريح يُدْرَكُ بحاسّة الأنف، بل هم مجمعون على ذلك.
ومن المعقول المشاهد أن البهائم تعرف أولادها بالريح، وتفرق بين أولادها وبين أولاد غيرها، وكذلك السّباع تُدْرِكُ ما جعل الله لها فيه متاعاً بالرّيح من مكانٍ بعيدٍ؛ وهذا فيه كفايةٌ وبيانٌ. والطعوم أعراضٌ كالروائح، ألا تَرى أنك تجد ريح الأترنجة وتجد لها طعماً في ابتدائها؟ ثم تجد لها طعماً غيره في انتهائها؟ وكذلك سائر الكَرْمِ فإنك تجده في ابتدائه حامضاً، وبعد ذلك ممتزجاً، ثم تجده عند انتهائه حُلواً، وعينهُ قائمةٌ، فصحّ أن هذه الصفات التي تحدُثُ وتبطل شيئاً غيرها وأنها مُدْرَكَةٌ بالفمِّ، ولو كانت الحموضة والحلاوة وأشباههما وصف الواصف لا غير لَمَا كان أحدٌ يفرقُ بين الحلوّ والحامضِ، ولو لم يكن مُدْرَكاً بحاسّة الفم لكان الإنسان يجد طعم الشيء ويعلمُهُ بغير الذّوقِ، ألا ترى أنه لو لَمَسَ جسماً أو نظره أن ذلك لا يؤدي إلى علم الطعم، ولمَّا كان يجدُ طعم الشيء إذا ذاقهُ عَلِمَ أنه أدركه بحاسّة الذّوق، فصح أن الطّعم عرضٌ قائمٌ في المطعوم ومُدْرَكٌ بحاسّة الذَّوق، وقد قال الله تعالى: {وَأَنْهَارٌ مِنْ لَبَنٍ لَمْ يَتَغَيَّرْ طَعْمُهُ }[محمد:15]، فصحّ أن له طعماً سواه؛ ولأنه قد يتغيّر الطّعم واللبنُ بحالِهِ في لونه وجنسه واسمه. (1/129)
والحرارة والبرودة أيضاً حالتان يَعْتَوِرَانِ الجسم، تَحْدُثُ حالةً وتبطل أخرى والجسم قائمٌ بعينه، وهذه كلها مُدْرّكَةٌ باللمس، وقد قال القاسم عليه السَّلام في جواب الملحد: (اعلم أن طرق العلم بالأشياء مختلفةٌ، فمنها ما يُعرفُ بالحسّ، ومنها ما يعرف بالنفس، ومنها ما يُعرف بالعقل، ومنها ما يُعرفُ بالظنِّ والحسبانِ. (1/130)
فأما ما يُعرفُ بالحسِّ فطرقه خمسٌ: سمعٌ، بصرٌ، شمٌّ، ذوقٌ، لمسٌ؛ فالسمع طريق الصّوت. والبصر طريق الهيئات والألوان. والذوق طريق الطّعوم. والشمّ طريق الروائح. واللمس طريق اللين والخشونةِ ...إلى قوله: ولو حاولتَ كل عِلْمٍ من غير طريقه لَعسُرَ عليك، وكنتَ كمن طلب علم الألوان بالسمع وعلم الذّوق بالعين).
فأما أحوال الأجسام فإنما طريق المعرفة بها من جهة البصر، والبصر يؤدي إلى الإنسان؛ لأن الأجسام لا تخلو من هذه الصفات، فصح بيان ما قلنا في الأعراض. والقرآن عرضٌ وشبحُهُ قلوب الحافظين له والمصاحف والقارئ له، كما روي عن النبيء صلى الله عليه وآله وسلم أنه قال: ((القرآنُ يوجد في ثلاثة مواضع : في القلوب محفوظاً، وعلى الألسن مَتْلُوًّا، وفي المصحف مكتوباً)). وفعل الإنسان فيه هو: الكتابةُ والتّلاوةُ والحفظُ؛ وفعل العبد لهذه اختياريٌّ إن شاء فعله وإن شاء لم يفعله، وفِعلُ الله الذي هو ذات القرآن ضروريٌّ لا يجوز عليه البطلان وإنما تبطل أفعال الناس فيه، وهذا مرادُ المؤيد بالله قدس الله روحه بقوله في الإفادة: (والقرآنُ عرضٌ لا يجوز عليه البقاءُ)، يُريد أنه لا يجوز (عليه) البقاء على الحكاية، فأما المحكيُّ فلو كان يبطل لبطلت حُجَّةُ الله. وقد قال الهادي إلى الحق عليه السَّلام في المسترشد: (ولو بطل من القرآن يسيرٌ لبطل منه كثيرٌ، ولو بطل بعضه لأشبه الباطل كله. بل هو يُؤكد بعضُه بعضاً، فلن يبطل منه حرفٌ أبداً، وكيف يبطل أو يتناقض ما أحكمه ذو الجلال والإكرام والسلطان، وحفظه من كل سوءٍ الرحمن، ألا تسمع كيف يقول: {وَإِنَّهُ لَكِتَابٌ عَزِيزٌ ، لاَ يَأْتِيهِ الْبَاطِلُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَلاَ مِنْ خَلْفِهِ تَنزِيلٌ مِنْ حَكِيمٍ حَمِيدٍ}[فصلت:41-42]؟، وقال ـ جل جلاله عن أن يحويه قولٌ أو يناله: {بَلْ هُوَ قُرْآنٌ مَجِيدٌ ، فِي لَوْحٍ مَحْفُوظٍ}[البروج:21،22]، كيف يتناقض أو يبطل ما حفظه الكريم، وحَاطَهُ من كل باطلٍ (1/131)
أو دَنَسٍ ذميمٍ وخيمٍ، ومنعه وحجره من الشيطان الرجيم. كَذَب العادلون بالله، وضلّوا ضلالاً بعيداً). (1/132)
فصحّ أنه لا يبطل في ذاته وإنما تبطل حركات العباد فيه كما تبطُل حركاتُهُم في مفعولهم من الأجسام، والأجسام باقيةٌ، كما تبطل حركات البنَّاء (التي هي التّأليفُ، والنّقلُ، والوضعُ)، والحجرُ والمدرُ باقياتٌ، فصحّ ما قلنا، ووضح ما إليه ذهبنا. وأما الحركات فإنها تُعلم ولا تُرى بالإجماع، فاعلم ففي بعض ما هنا كفايةٌ.
فصل في الكلام في الروح (1/133)
اعلم أن الرّوح جسمٌ لطيفٌ مجانسٌ للهواء.
والدليل على أنه جسمٌ أنه قائمٌ بنفسه بل لا يَعلم الحيوانُ ولا يقدرُ إلا به؛ ألا ترى أن الدوابّ تحمل الأثقال، فإذا زايلها الرُّوحُ لم تحمل أنفسها فضلاً عن حمل غيرها، فصح أنه جسمٌ، ولو كان عرضاً لضُعف عن القيام بنفسه، ومن الحمل لغيره، وقد قال القاسم عليه السَّلام في جواب مسائل سُئل عنها: وسألته عن الرّوح الذي يكون في الحيوان، فقال: هو المتحرّكُ الذي به يحيى الحيوانُ، ويذهب، ويقبل ويدبر، ويعرف وينكر، وهو شيءٌ لا يُعرفُ بالعين، وإنما يُعرف بالدليل واليقين.
وقال الهادي إلى الحق عليه السَّلام في جواب مسائل الرّازي: وسألت عن الرّوح، وهو شيءٌ خلقه الله وصوّره وافتطره بحكمته، وجعله تحيا به الأبدانُ والأعضاءُ تعيشُ به مما جعل الله في الأبدان من الأشياءِ، به تُبصرُ الأعيانُ المبصرةُ، وبه تسمع الآذانُ السامعةُ، وبه تنطق الألسنُ الناطقةُ، وتشمُّ الأنفُ، وتبطشُ اليدانِ، ويميّز القلبُ، وتمشي الرِّجلانِ، وجعله قواماً لما حملت الأبدان، ودليلاً على قدرة الرحمن ...إلى قوله: ولم يوصف الرّوح بغير ما وصفنا، ولم يُستدل عليه بغير ما دَلَلْنَا؛ وقد قال الله تعالى: {وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الرُّوحِ قُلِ الرُّوحُ مِنْ أَمْرِ رَبِّي وَمَا أُوتِيتُمْ مِنَ الْعِلْمِ إِلاَّ قَلِيلاً}[الإسراء:85].
وقال المؤيد بالله -قدس الله روحه- في تعليق شرح الإفادة: الرّوحُ والهواءُ جسمانِ لطيفانِ، والعقلُ عرضٌ، قال: واختلف العلماءُ في الرّوح. فقيل: يبقى بعد مفارقة الجسد حتى يفنى عند أَزَفِ القيامة؛ كما قال الله تعالى: {كُلُّ مَنْ عَلَيْهَا فَانٍ }[الرحمن:26]. وقيل: لا يكون حيًّا بعد مفارقة الجسد. (1/134)
ونقول: إنا لم نكلّف حقيقة معرفته لقول الله تعالى: {وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الرُّوحِ قُلِ الرُّوحُ مِنْ أَمْرِ رَبِّي}[الإسراء:85]، والذي علينا، أن نعلم أنه شيءٌ من خلق الله، وحكمته ونعمته، ولولا هو ما كان شيءٌ من الحيوان يعلم شيئاً، ولا يقدر على شيءٍ. فاعلم (ذلك) ففيه كفايةٌ.
باب حقيقة معرفة الصانع (1/135)
اعلم أنا لما وجدنا هذا العالم، ووجدنا فيه أثر الصنعة، ووجدناهُ محدثاً -وقد دَلَلْنَا على حدوثه، وبينا ذلك فيما تقدّم- علمنا أن له صانعاً، وهو الله جلّ وعلا؛ إذ لا يكون صنعٌ إلا من صانعٍ، ولا مبدوعٌ إلا من بادعٍ، وفي المشاهد أنه لا يوجد مُحْدَثاً إلا وله مُحْدِثٌ.
واعلم أن مثل هذا العالم كمثل بيت قد أُعِدَّ فيه كل ما يُحتاج إليه، ووُضِعَ كلّ شيءٍ منه في موضعه؛ فالسماء سقفه، والأرض فراشه، والشمس والقمرُ مثل الشمعتينِ في البيت، والنجوم مثل القناديل، وما أُعِدَّ في الأرض من العيون والفواكه والزروع والمعادنِ مثل ما يكون في البيت من الآلة والمتاع والذّخائر؛ والعبدُ كالمخول [في] ذلك البيت وما فيه، والعقلُ الضروريٌّ يحكمُ أنه لا يوجد بيتٌ فيه أثر البناءِ وعلامة الصنعة إلا وله صانعٌ، فكما لا يكون بناءٌ إلا وله بنَّاءٌ، ولا كتابةٌ إلا من كاتبٍ، علمنا أن لهذا الصنع صانعاً مُبتدئاً بادعاً وهو الله أحسنُ الخالقين.
فصل في الكلام في أن الله تعالى شيءٌ (1/136)
اعلم أن أعم الأشياء قولنا: شيءٌ، وهو ما يُعلم أو يُدَلُّ عليه، أو يُشاهدُ أو يُخبَرُ عنه، فكل هذه الأشياء تستحق اسم الشيءِ. وما لم يكن يُعلم أو يُدَلُّ عليه أو يُشاهدُ أو يُخْبَرُ عنه فليس يستحق اسم الشيءِ وهو معدومٌ، والعدمُ لا شيءَ، ولا منزلة ثالثة (تكون) غير الشيءِ الموجود وغير المعدوم الذي ليس بشيءٍ، فعلمنا أن الله تعالى هو شيءٌ لا كالأشياءِ، وقد سمّى نفسه شيئاً، قال تعالى: {قُلْ أَيُّ شَيْءٍ أَكْبَرُ شَهَادَةً قُلِ اللَّهُ شَهِيدٌ...}الآية[الأنعام:19].
وقلنا: إنه شيءٌ لا كالأشياء لإثبات الموجود ونفي التّشبيه، لأنه لو لم يكن شيئاً لكان منفيًّا لا حكم له، ولو كان كالأشياءِ لكان مُشْبِهاً للمحدثات، وإذا كان مشبهاً للمحدثات كان مُحْدَثاً، وإذا كان محدثاً كان مصنوعاً، فتعالى الله عن ذلك علوًّا كبيراً. فصحّ أن الله شيءٌ لا كالأشياء.
ولا يلزم على هذا قول من يقول: إنه جسمٌ لا كالأجسام؛ لأن الجسم هو الطويل العريض العميقُ، الشّاغل للمكان، وإذا كان بهذه الصفة كان جسماً، وإذا كان جسماً كان مُحْدَثاً؛ لأن جميع الأجسام لا تتعرَّى من الأحوال الحادثة التي هي الحركةُ والسّكونُ والزِّيادةُ والنُّقصانُ، وإذا كان كذلك كان محدثاً. وإذا لم يكن طويلاً عريضاً عميقاً محويًّا بالجهات شاغلاً للمكان لم يكن جسماً، فبطل تعلُّق من تعلَّق بهذا، وصحّ أن الله ليس بجسمٍ ولا عرضٍ.
فصل في الكلام في أن الله حي قادر (1/137)
اعلم أنا لما رأينا المصوَّرات في الشاهد على ضربين: فمصوَّرٌ حيٌّ قادرٌ، ومُصوّرٌ غيرُ حيٍّ ولا قادرٍ. ورأينا المصوَّرات غير الحيوان التي ليست بحيَّةٍ ولا قادرةٍ لا تتم ولا تقع إلا من حيٍّ قادرٍ، ورأينا الأموات وجميع الجمادات لا فعل لها، فعلمنا أن الله أولى بأن يوصف بالحياة والقدرة من الذي ليس في فعله حياةٌ ولا قدرةٌ، فصح أن الله حيٌّ قادرٌ.
ودليل آخر: أنا لما رأينا هذا الصّنع دائم التّدبير حَسَن الصُّورة والتّقدير، استدللنا بذلك على حياة اللطيف الخبير.
فإن قيل: فإذا كان الله حيًّا قادراً، وكان العبدُ حيًّا قادراً، فما الفرق بينهما؟
قلنا: إن الله تعالى حيٌّ لنفسه قادرٌ لنفسه، والعبدُ حيٌّ بحياةٍ هي غيره، قادرٌ بقدرةٍ هي غيره وهي الاستطاعة. وليس العبدُ يُسمّى حيًّا قادراً إلا على المجاز في بعض الوجوه، وإنما هو مُحيا ومُقدرٌ؛ لأن الله تعالى جعله حيًّا قادراً، وجعله سميعاً بصيراً. ألا ترى أنه خلق له آلة السّمع والبصر، قال عزّ من قائلٍ: {إِنَّا خَلَقْنَا الإِنسَانَ مِنْ نُطْفَةٍ أَمْشَاجٍ نَبْتَلِيهِ فَجَعَلْنَاهُ سَمِيعًا بَصِيرًا}[الإنسان:2]، والله سميعٌ بصيرٌ على الحقيقة، حيٌّ قادرٌ على الحقيقة.
وحياةُ العبد، وقدرته ناقصتان؛ لأن حياته تعود إلى الموت، وقدرتُهُ ترجع إلى العجز. ألا ترى أنه لَوِ اجتمع الخلقُ، وتظاهروا على أن يخلقوا بعوضةً، أو أن يحييوا ميِّتاً أو يدفعوا الموت عمّن أراد الله موتهُ ما قدروا ولا استطاعوا ذلك، فصحّ أن الله الحيُّ القادرُ على الحقيقة، وغيره حيٌّ قادرٌ على المجاز في بعض الوجوه، فهذا الفرق البيِّنُ. (1/138)
فصل في الكلام في أن الله عالم حكيم (1/139)
اعلم أنا لما رأينا هذا العالم قد قُدِّرَ وجُعلَ كلُّ شيءٍ منه في موضعه، وأُعِدَّ كلُّ أمرٍ منه لشأنه، ورأينا هذا الصُّنع المشاهد حسن التقدير، مُحكم التّدبير، لا خلل فيه ولا تفاوت؛ علمنا أن صانعه عالمٌ حكيمٌ.
ونظرنا في خلق الإنسان، ورزقه، من ابتدائه إلى انتهائه، فإنه عندما تحمله أُمّهُ ينقطع عنها الحيضُ ليكون الدّمُ رزقاً له، كما يكون مح البيضة رزقاً للفرخ في وسط البيضة المحضونة، فإذا ولد أحدث الله له رزقاً في ثَدي أمّهِ لم يكن من قبلُ، ويولد وقد جعل الله له آلة لا يستعملها في الحال، ولا يستغني عنها في المآل، فدلّ ذلك على أن صانعه عالمٌ حكيمٌ.
ودليل آخر: أنا نظرنا إلى الآدميين، وإلى ما يملكون من الحيوان، فإذا هم لا يَشْتَبِهُ منهم اثنان في صورة الوجوه ولهجة الأصوات، وكذلك لا يشتبه من الأنعام والخيل والدوابّ اثنان، على كثرتهم وسعتهم.
وبيان العلم في اختلافهم أن الله لما كان عالماً بكل معلوم لم يشتبه من النّاس اثنان، ولا يشتبه مما يملكون ëن الحيوان اثنان، قال عزّ من قائلٍ: {أَلاَ يَعْلَمُ مَنْ خَلَقَ وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ}[الملك:14].
ووجه الحكمة أنه لو اشتبه من الناس رجلانِ أو امرأتانِ لوقع الفساد؛ لأنه لو غاب أحدهما فأتى شبيهُهُ إلى امرأة الغائب لأفسد في زوجته وماله، وكذلك لو اشتبه امرأتانِ لأشكل أمرهما على زوجيهما، ولَمَا عرف أحدهما زوجته من زوجة الثاني. وجعل الله اختلاف صورة الوجه للنهار، وجعل اختلاف الأصوات لليل، وكذلك فرق بين البهائم، ولو اشتبه اثنان من الثمانية الأزواج، والخيل، والبغال، والحمير، لدخل على مالكها الضّررُ ولادّعى الشيءَ غيرُ مالكه. ولما لم يدخل على أحدٍ ضررٌ في اشتباه الطير والسّباع والسّمك أمكن فيهما التشابه، فهل يدبر هذا ويُقدّرهُ (ويُحكمهُ) إلا عالمٌ حكيمٌ؟ (1/140)
وكذلك القولُ في السّميع البصير أنه بمعنى العليم الحكيم.
فصل في الكلام في معرفة الصانع (1/141)
اعلم أنه لما كانت العقولُ والحواسُّ والأوهامُ والظُّنونُ لا تكون إلا حالَّةً أو محلولةً، ولا تكون إلا محدثةً مجعولةً، لم نُدرك إلا أمثالها في الحِدَثِ وأشباهها في المحلِّ والمحلول، فصحّ أن الله تعالى لا يُدْرَكُ بوجهٍ من الوجوه، لا بعقلٍ ولا بحسٍّ ولا بوهمٍ ولا بظنٍّ، وإنما تُدْرَكُ معرفتُهُ بالاستدلال والنظر، وقد دل على هذا في كتابه فقال عزَّ من قائلٍ: {أَوَلَمْ يَنظُرُوا فِي مَلَكُوتِ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَمَا خَلَقَ اللَّهُ مِنْ شَيْءٍ وَأَنْ عَسَى أَنْ يَكُونَ قَدِ اقْتَرَبَ أَجَلُهُمْ فَبِأَيِّ حَدِيثٍ بَعْدَهُ يُؤْمِنُونَ}[الأعراف:185]، وقال عز من قائلٍ: {إِنَّ فِي السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ لاَيَاتٍ لِلْمُؤْمِنِينَ ، وَفِي خَلْقِكُمْ وَمَا يَبُثُّ مِنْ دَابَّةٍ آيَاتٌ لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ ، وَاخْتِلاَفِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ وَمَا أَنزَلَ اللَّهُ مِنَ السَّمَاءِ مِنْ رِزْقٍ فَأَحْيَا بِهِ الأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا وَتَصْرِيفِ الرِّيَاحِ آيَاتٌ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ ، تِلْكَ آيَاتُ اللَّهِ نَتْلُوهَا عَلَيْكَ بِالْحَقِّ فَبِأَيِّ حَدِيثٍ بَعْدَ اللَّهِ وَآيَاتِهِ يُؤْمِنُونَ}[الجاثية:3-6]، ثم أخبرنا الله تعالى بنظر إبراهيم خليله واستدلالِهِ عليه بخلقهِ ومناظرته لنفسه، فقال عزّ من قائلٍ: {وَكَذَلِكَ نُرِي إِبْرَاهِيمَ مَلَكُوتَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَلِيَكُونَ مِنَ الْمُوقِنِينَ ، فَلَمَّا جَنَّ عَلَيْهِ اللَّيْلُ رَأَى كَوْكَبًا قَالَ هَذَا رَبِّي
فَلَمَّا أَفَلَ قَالَ لاَ أُحِبُّ الآفِلِينَ ، فَلَمَّا رَأَى الْقَمَرَ بَازِغًا قَالَ هَذَا رَبِّي فَلَمَّا أَفَلَ قَالَ لَئِنْ لَمْ يَهْدِنِي رَبِّي لاََكُونَنَّ مِنَ الْقَوْمِ الضَّالّينَ ، فَلَمَّا رَأَى الشَّمْسَ بَازِغَةً قَالَ هَذَا رَبِّي هَذَا أَكْبَرُ فَلَمَّا أَفَلَتْ قَالَ يَاقَوْمِ إِنّي بَرِيءٌ مِمَّا تُشْرِكُونَ ، إِنّي وَجَّهْتُ وَجْهِي لِلَّذِي فَطَرَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ حَنِيفًا وَمَا أَنَا مِنَ الْمُشْرِكِينَ}[الأنعام:75-79]، فصحّ أنه ما عرف ربّه إلا بخلقه، ولا استدلّ عليه إلا بصُنعه، وقد قيل في قول إبراهيم عليه السَّلام {هذا ربي} خمسة أقاويل: (1/142)
أحدها: أنه قال: هذا ربِّي في ظنِّي؛ لأنه في حال تغليب ظنٍّ واستدلالٍ.
والثاني: أنه قال ذلك اعتقاداً أنه ربُّه في الوقت الذي لم يعرف الناس يعبدون إلا الأصنام، فرأى النَّيِّرات أشرف من الأصنام؛ وهو قول ابن عباس.
والثالث: أنه قال ذلك في حال الطفوليّة والصّغر؛ لأن أمَّهُ ولدته في مغارةٍ حذراً من النّمرود عليه، فلمّا خرج منها قال هذا القول قبل قيام الحجة عليه.
والرابع: أن يكون قال ذلك على وجه الإنكار لعبادة الأصنام، إذ كان الكوكب والشمس والقمر لم يصنعهن ولا عملهن بشرٌ، فلم تكن معبودةً لزوالها، والأصنام التي هي دونها أولَى أن لا تكون معبودةً.
والخامس: أنه قال ذلك توبيخاً للمشركين، على وجه الإنكار الذي معه [يكون] أَلفَ استفهامٍ، وتقديره: أهذا ربّي؟ ومثله موجودٌ في لغة العرب، قال الشاعر:
رقوني وقالوا يا خويلد لم ترع
فقلت وأنكرت الوجوه: هم هم (1/143)
أراد: أهُمُ هُمُ.
ولا يجوز عندنا أن يقول ذلك اعتقاداً، ولو قال ذلك اعتقاداً لكان ذلك شركاً، وهو بريءٌ من الشّرك، ومن أهله.
فأما الأقوال الأربعة فيجوز أن تُحمل الآية على أحدها، إذ ليس في أيِّها ما يوجب الشِّرك عليه. وأقربها إليَّ أنه قال ذلك في وقت صِغَرِهِ وقبل بلوغهِ على وجه الاستدلال وتغليب الظّن؛ ولأن في الآية ما يدلّ على ذلك؛ وهو قوله: {فَلَمَّا رَأَى الْقَمَرَ بَازِغًا قَالَ هَذَا رَبِّي فَلَمَّا أَفَلَ قَالَ لَئِنْ لَمْ يَهْدِنِي رَبِّي لاََكُونَنَّ مِنَ الْقَوْمِ الضَّالّينَ}، فصحّ أنه دعا إلى ربه أن يهديَهُ إلى معرفته، وقطع على نفسه أن الله إن لم يهده ليكونَنَّ من القوم الضّالِّين، وهو في وقت دُعائه ونظره واستدلالهِ قد علم أن لهذا الصُّنع صانعاً، وأنه لا يجوز عليه صفةُ نقصٍ. فنظر في الشمس والقمر والكواكب فكانت أشرف المصنوعات، فلما رآها لا تخلو من صفات النّقص رَفَضَهَا، وعَلِمَ أن الله لا يُدْرَكُ بالأبصار، ولا يُشبِهُ شيئاً، ولا يُشبهُهُ شيءٌ، ويؤيد ذلك ما حكى الله عنه من قوله: {أَرِنِي كَيْفَ تُحْيِيِ الْمَوْتَى قَالَ أَوَلَمْ تُؤْمِنْ قَالَ بَلَى وَلَكِنْ لِيَطْمَئِنَّ قَلْبِي}[البقرة:260]، فصحّ أنه كان في وقت النظر والاستدلال.
ونقول: إن من وُلِدَ على فطرة الإسلام أنه يجب عليه أن ينظر ويُميّز ويستدل على معرفة ربه بما أوجد من صنعه، حتّى ترسخ معرفة ربه في قلبه، ويعرف ذلك معرفةً حقيقيَّةً، ولا يُجزئه الإقرار باللسان؛ لأن معرفة الله تعالى عقليّةٌ، والمسموعُ غيرُ المعقولِ، فصحّ ما ذكرنا من وجوب النظر في صنع الله والاستدلال به عليه، وقد رُوي عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أنه قال: ((من أخَذَ دِينهُ عنِ التفكرِ في آلا ء الله تباركَ وتعالى، وعَنِ التَّدبُّرِ لكتابهِ، والتفهم لسُنّتي، زالتِ الرّواسي وَلَمْ يَزُلَ، ومن أخذهُ من أفواهِ الرِّجالِ، وقلّدهم فيهِ، ذهبتْ بهِ الرجالُ من يمينٍ إلى شمالٍ وكانَ من دِيْنِ الله على أعظمِ زوالٍ)). (1/144)
فصل في الكلام في صفات الله والفرق بين الأسماء والصفات (1/145)
اعلم أن الله تعالى يُوصفُ بصفاتٍ راجعةٍ إلى ذاته، ويُوصفُ بصفاتٍ راجعةٍ إلى فعله. فالصفات الراجعة إلى ذاته هي التي لا تضاد ولا تنافى كقولك: الحيُّ، القادرُ، العالمُ، القديمُ، فهذه وما كان من صفات العظمة لا تضادَّ ولا تنافّى؛ لأنه يستحيل أن نقول: يعلمُ ولا يعلمُ، ويقدرُ ولا يقدرُ.
فأما الصفاتُ الراجعةُ إلى الفعل فهي كقولك: الرَّازقُ، الخالقُ، ولا يستحيل أن يدخل عليها التّضادُّ والتنافي؛ لأنك تقول: يخلُقُ ولا يخلُقُ، ويرزقُ ولا يرزقُ، وجميع هذه الأسماء يثبت لله معانيها وينتفي عنه أضدادُها.
فينتفي عن الله الموتُ بالحياة، والجهلُ بالعلمِ، والعجزُ بالقدرةِ، والحدثُ بالقِدَمِ. ومعنى قولنا: لله حياة؛ بمعنى أنه حيٌّ، ومعنى قولنا: إن له قِدَماً؛ بمعنى أنه قديمٌ، ومعنى قولنا: إن له قدرةً؛ بمعنى أنه قادرٌ، وأن له مقدوراً. ومعنى قولنا: إن له علماً؛ بمعنى أنه عالمٌ، وأن له معلوماً. فهو حيٌّ لنفسه لا بحياةٍ هي غيره، وهو عالمٌ لنفسه لا بعلمٍ هو غيرُهُ، وهو قادرٌ لا بقدرةٍ هي غيرُه. وذهب قوم من المشبهة القائلين بِقِدَمِ المعاني -وتُسمِّيهم العلماءُ الصِّفاتيَّة- أن الله عالمٌ بعلمٍ هو غيرُهُ، وقادرٌ بقدرةٍ هي غيرُهُ، وحيٌّ بحياةٍ هي غيره، وهذه المعاني عندهم هي قديمةٌ.
فيرد عليهم أن الله تعالى لو وُصِفَ بمعانٍ هي القدرةُ والعلمُ والحياةُ، والسّمعُ والبصرُ والقِدَمُ، لم تخلُ هذه المعاني من أن تكون قديمةً أو محدثةً أو معدومةً، ولا يجوز أن تكون معدومةً لأن العدم لا يُوجب حكماً، ولا يجوز أن تكون محدثةً لأنها لو كانت محدثةً لوجب أن يكون الله تعالى قبل حدوثها غيرَ قادرٍ ولا عالمٍ ولا حيٍّ ولا سميعٍ ولا بصيرٍ؛ ولو كان كذلك لم يصح منه إحْدَاث هذه المعاني، ولا يجوز أن تكون قديمةً لأنها لو كانت قديمةً لوجب أن يكون مع الله قديمٌ سواه؛ لأن كونه قديماً من أخصِّ أوصَافِهِ، وما يشارك الشيءً في أخصِّ أوصافه يجب أن يكون مثله، فبطل ما قالت الصّفاتيّة، وصح أن الله تعالى قديمٌ لنفسه، عالمٌ لنفسه، حيٌّ لنفسه، سميعٌ بصيرٌ لنفسه. (1/146)
ولمَّا ثبت أنه عالمٌ لنفسه ثبت أنه عالم بجميع المعلومات، وقد دلّ الله على ذلك بقوله: {وَفَوْقَ كُلِّ ذِي عِلْمٍ عَلِيمٌ }[يوسف:76]، فأخبر أن كل عالمٍ بعلمٍ فعلمُ الله فوقَهُ. ومعنى قوله تعالى: {أَنزَلَهُ بِعِلْمِهِ }[النساء:166]، أي أنزله وهو عالمٌ به.
ومعنى قوله تعالى: {وَلاَ يُحِيطُونَ بِشَيْءٍ مِنْ عِلْمِهِ إِلاَّ بِمَا شَاءَ }[البقرة:255]، يريد من معلومِهِ، ولو كان علمُهُ هو هو لكان مُنقسماً، فبعضُهُ يُحاط به وبعضه لا يُحاط به؛ لأنه استثنى شيئاً منه فقال: {إِلاَّ بِمَا شَاءَ}، فصحّ أن علم الله ليس هو الله.
اختلف الناس من أهل التوحيد في صفات العظمة على قولين:
فقال قوم: الصّفات هي لله، وقال قوم: هي الله. وعندنا وعند المعتزلة: هي لله.
وعند فرقة المجبرة وهم الذين قالوا: القرآن معنًى في النفس، وعند (أصحاب) مطرّف بن شهاب: أنّها هي الله، فإنهم قالوا: اسم الله هو هو. (1/147)
والرد عليهم بأن نقول: أخبرونا هل الله مستحقٌّ لهذه الأسماء أو غير مستحقٍّ لها؟ فإن قالوا: ليس بمستحقٍّ لها خرجوا من العقل والإجماع والكتاب والسُّنة. وإن قالوا: هو المستحقُّ لها صحّ أن المستحِقَّ غيرُ المستحَقِّ، وثبت أنها له، فإذا استدلوا على قولهم بقول الله تعالى: {تَبَارَكَ اسْمُ رَبِّكَ ذِي الْجَلاَلِ وَالإِكْرَامِ }[الرحمن:78]، وبقوله: {فَسَبِّحْ بِاسْمِ رَبِّكَ الْعَظِيمِ }[الواقعة:74]، وبقوله: {سَبِّحِ اسْمَ رَبِّكَ الأَعْلَى }[الأعلى:1]، وبقوله: {فِي بُيُوتٍ أَذِنَ اللَّهُ أَنْ تُرْفَعَ وَيُذْكَرَ فِيهَا اسْمُهُ }[النور:36]. قلنا: إن معنى {تَبَارَكَ اسْمُ رَبِّكَ} هو تبارك ربك، وسبِّح ربك، ويذكر فيها الله، والاسم هاهنا صِلَةٌ. ومثل هذا موجودٌ في لغة العرب، قال طرفة بن العبد:
إلى الحول ثمَّ اسم السّلام عليكما
ومن يبك حولاً كاملاً فَقَدِ اعْتَذَرْ
أراد: ثم السلام عليكما.
ونقول لهم: أخبرونا عن أسماء الله هل هي موجودةٌ في الكتب وفي صدور العارفين؟ أم ليست في صدور المؤمنين ولا في كتب ربِّ العالمين؟
فإن قالوا: ليست في صدور المؤمنين، ولا في كُتُبِ رب العالمين. خالفوا الإجماع والعقل والكتاب والسُّنّة؛ وإن أقروا بها وقالوا: هي توجد في الصّحف وسائر الكتب، وفي صدور المؤمنين، صحّ أنها غيرُهُ وأنها لهُ؛ ويؤيد ذلك قول الله تعالى: {لَهُ الأَسْمَاءُ الْحُسْنَى }[الحشر:24]، وقوله تعالى: {وَلِلَّهِ الأَسْمَاءُ الْحُسْنَى فَادْعُوهُ بِهَا وَذَرُوا الَّذِينَ يُلْحِدُونَ فِي أَسْمَائِهِ}[الأعراف:180]، وقال تعالى: {قُلِ ادْعُوا اللَّهَ أو ادْعُوا الرَّحْمنَ أَيًّا مَا تَدْعُوا فَلَهُ الأَسْمَاءُ الْحُسْنَى}[الإسراء:110]، فصحّ أنها له؛ لأنه لم يقل: وهو الأسماءُ الحسنى، ولا قال: فادعوها. (1/148)
وقال أمير المؤمنين عليه السَّلام في الدُّرة اليتيمة: له سبحانه من أسمائه معناها، وللحروف مجراها، إذ الحروف مَبْدُوعَةٌ، والأنفاسُ مصنُوعةٌ.
وروي عنه عليه السَّلام أنه قال: من عَبَدَ الاسم دُون المعنى فقد كَفَرَ، ومن عَبَدَ الاسم والمعنى فقد أشركَ، ومن عَبَدَ المعنى بِحَقِيْقةِ المعرفةِ فهو مُؤمنٌ حقًّا.
وقال عليه السَّلام في الدُّرة اليتيمة: إن قلتَ: متى؟ فقد سبق الوقت كونَهُ، وإن قلتَ: قبلُ، فالقبلُ بعدَهُ، وإن قلتَ: هو، فالهاء والواو خَلْقهُ.
وقال علي بن الحسين عليهما السلام: (فأسماؤه تعبيرٌ، وأفعالُهُ تفهيمٌ، وذاتُهُ حقيقة) فصح أن التعبير غير المعبّر عنه.
وقال عليه السَّلام: ليس مُذ خلق استحقَّ اسم الخالِقِ، ولا بإحداثه البَرَايَا استحقّ البراة.
وقال القاسم بن إبراهيم عليهما السلام -في جواب مسائل سُئل عنها: معنى {اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ }[العلق:1]، وإنما اسمُ ربه الذي أمر أن يُقْرأَ به {بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ} الذي قدّمه في صدر كل سورة. وقال عليه السَّلام في معنى قول الله تعالى: {شَهِدَ اللَّهُ أَنَّهُ لاَ إِلَهَ إِلاَّ هُوَ }[آل عمران:18] -وسؤال الملحد: هل شهد الاسم للمُسمّى، أو شهد المُسمَّ للاسمِ؟- فقال: الشاهد هو الله، أي عَلِمَ، والاسمُ فهو إسمُ الله، وما كان لله فليس هو اللهُ، ولله الأسماء الحسنى، والمُسمى فواحدٌ. (1/149)
وقال ولده محمد بن القاسم عليهما السلام -في كتاب الشرح والتّبيين في صفة الله تعالى: لم يزل الجودُ له صفةٌ، وإن كان من يجودُ عليه غير موجودٍ، وكذلك كان رحيماً ولا مرحومَ بالقوّة التي يرحم بها المرحومَ إذ خلقه، ورضاهُ الرّحمة، وإنها عنده محمودةٌ من فَعَلَهُ له مَدَحَهُ، ولا يجوز أن يقال: إن الله لم يزل لهذه المخلوقات فاعلاً قبل فعلها، ولكن يقال: كان خالقاً بالقوّة إذا أراد أن يخلقه، وعالمٌ وإن لم يكن معلومٌ، ورحيمٌ لرضاه بالرّحمة، وإنها من صفته وإن لم يكن مرحومٌ، وحكيمٌ بقدرته التّامَّةِ على الحكمةِ، ولا محكمات قبل خلقه لها، وسأضرب لكم في ذلك مثلاً: ألا تعلمون أن العالِمَ بالبناءِ القويّ عليه بَنَّاءٌ وإن لم يَبْنِ، وكذلك النّجار والطبيب والعالم والفارس ...إلى قوله: فسُمِّيَ بهذه الأسماء إذ هي واجبةٌ له قبل وجود الأشياءِ).
وقال جعفر الصادق عليه السَّلام -في رده على صاحب الهليلجة عندما قال له: كيف جاز للخلق أن يَتَسَمُّوا بأسماءِ الخالق؟- فقال: إن الله جل ثناؤُه، وتقدّست أسماؤه أباح الأسماء، فقد يقول القائلُ للواحدِ من الناس: واحدٌ وقويٌّ، والله واحدٌ قويٌّ. وصانعٌ والله صانع، فَمَنْ قال: الله واحدٌ، والإنسانُ واحدٌ، فلم يُشَبِّهْهُ في المعنى، وإنما الأسماء هي دِلاَلاَتٌ على الْمُسّمَى. (1/150)
وقال علي بن موسى الرِّضَى عليهما السلام في أحد مجالسه لعمران الصابيء عند المأمون: وكذلك صار اسمُ كلّ شيءٍ غير المسمّى، وصفةُ كلِّ شيءٍ غير الموصوف...إلى قوله: أفهمتَ؟ قال: نعم.
قال عمران: يا سيدي؛ وصفاتُهُ هي نفسه؟
قال الرضى: إن أسماءه وصفاته غيرُهُ، وهو غيرُهما، ولا يخلو إذا كانت غيره من الدّلالة عليه وعلى وجوده. وتحقيقهُ والمثل في ذلك والدليل عليه قولك إذا قلتَ: السّماءُ؛ وإنما ذكرتَ خمسةَ أحْرُفٍ.
وقال الهادي إلى الحق عليه السَّلام في كتاب الأحكام مُحتجًّا على من قرأ في الركعتين الأخيرتين مُسرًّا فذكر فضل أم الكتاب وقال: هي السّبعُ المثاني التي ليس في التوراة والإنجيل والزَّبور مثلها. وروي ذلك عن النبيء صلى الله عليه وآله وسلم قال: وذلك أنها أمُّ الكتاب، ولِمَا فيها من أسماء ربّ الأرباب وتوحيده جلّ جلالُهُ ...إلى قوله: وإنما جعل الله القرآنَ منفعةً لكل إنسانٍ، وأمر نبيئه بتبيينه للعالمين، وإقراره في آذان السّامعين.
وقال الهادي إلى الحق عليه السَّلام في مسائل الرازي -وقد سأله: عن الفرق بين الاسم، والْمُسمّى- فقال عليه السَّلام: الفرق بينهما أنا لما رأينا الاسم الواحد، ينتقل في الْمُسَمَّيين، علمنا أن الاسم غيرُ المسمّى، وأنه دلالةٌ على المسمّى وعلامة له، ليست به ولا هو بها، وهذا فأبْيَنُ ما يكون، ولن يغلط في الفرق بين الاسم والْمُسمّى حتى يقول: إن الاسم المسمّى؛ إلا جاهلٌ عَمِيٌّ، وضالٌّ أبْلَهٌ غَوِيٌّ. (1/151)
فصحّ ما قلنا من أن أسماء الله له، وأنها ليست هو. وأي حجة أبهر من كتاب الله، ومن إجماع أهل بيت رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، وقد قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: ((إني تاركٌ فيكم ما إن تمسكتم ب ه لن تضلوا من بعدي أبداً، كِتَابَ الله وعِتْرَتِي أهل بيتي...))الخبر.
فصل في الكلام في أن الله تعالى قديمٌ (1/152)
اعلم أنه لما ثبت حِدَثُ العالَم -وقد دللنا على حدوثه فيما تقدّم- وقد دلّ الله تعالى عليه بقوله: {إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَاخْتِلاَفِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ ...}الآية[آل عمران:190]، وبقوله: {وَلَقَدْ خَلَقْنَا الإِنسَانَ مِنْ سُلاَلَةٍ مِنْ طِينٍ ، ثُمَّ جَعَلْنَاهُ نُطْفَةً فِي قَرَارٍ مَكِينٍ ، ثُمَّ خَلَقْنَا النُّطْفَةَ عَلَقَةً فَخَلَقْنَا الْعَلَقَةَ مُضْغَةً فَخَلَقْنَا الْمُضْغَةَ عِظَامًا فَكَسَوْنَا الْعِظَامَ لَحْمًا ثُمَّ أَنشَأْنَاهُ خَلْقًا آخَرَ فَتَبَارَكَ اللَّهُ أَحْسَنُ الْخَالِقِينَ}[المؤمنون:12-14]، فَدَلَلْنَا على حِدَثِ العالَم بِحِدَثِ هذه الحوادث، وبالحركات والتنقل والزّيادة والنُّقصان، وهذا أكبر الدلائل العقلية على حِدَثِ العالَم، فلما صحَّ حِدَثُ العالَم، ووجبَ أن له مُحْدِثاً صحّ أن محدثه متقدِّم له؛ وفي المشاهد والعقل الضروري: أن كلَّ صانعٍ متقدِّمٌ لصُنعهِ، إذ هو موجد لصنعه. ولما ثبت أن الله تعالى مُوجدٌ للعالَم، ثبت أنه لا مُوجدَ له (غيرُهُ). ولو كان له صانعٌ متقدِّمٌ له لكان للصّانع صانعٌ إلى ما لا نهاية له، فصحّ أن الله قديمٌ.
باب حقيقة معرفة التوحيد (1/153)
اعلم أنه لما ثبت أن لهذا العالَم صانعاً [صنعه]، وأنه حيٌّ، قادرٌ، قديمٌ، عالمٌ، سميعٌ، بصيرٌ، وجب أن يكون واحداً؛ ولأنه لو كان معه إلهٌ غيرُهُ، أو آلهةٌ (معه) لجاءتنا كتبهم ورسلهم، ولتبيّن لنا صنعهم وعملهم، إذ لا يُحكم بشيءٍ لغير مُدَّعٍ، فلما لم تصلنا الكتب والرّسل إلا لواحدٍ علمنا أنه لا ربَّ سواه ولا إله غيره.
ودليل آخر: أنا لمّا رأينا هذا العالَم على غايةٍ من التّدبير، والصُّنع المتقن والتّقدير، فرأينا شمسه وقمره ونجومه قد قُدّرت على غايةٍ من الصّلاح، ورأيناها لا يفترق مُجتمعها، ولا يجتمع مفترقها، ولا تَفَاوتَ فيها ولا غِيَارَ؛ ورأينا الهواء وما نشاهد من السماء والأرض وما فيهما قد وُضِعَ كلُّ شيءٍ منها في موضعه، وأُعِدّ كل شيءٍ منها لشأنه، قال الله تعالى: {مَا تَرَى فِي خَلْقِ الرَّحْمنِ مِنْ تَفَاوُتٍ فَارْجِعِ الْبَصَرَ هَلْ تَرَى مِنْ فُطُورٍ}[الملك:3]، فعلمنا أن صانع هذا الصنع ومدبِّره واحدٌ، ولو كان معه غيرُهُ لم يخلُ من أن يُريد أحدهما صنع شيءٍ ويريد الآخر خلافه، كأن يُريد أحدُهُما حياة زيدٍ، ويُريد الآخرُ موتَهُ، ولو كان ذلك كذلك لوجب التّضادُّ والتّمانُعُ، ولفسد الصُّنعُ ولَمَا اتَّسق وانتظم إلا لمدبِّرٍ واحدٍ.
وقد دلّ الله تعالى على ذلك في كتابه على لسان نبيئه صلى الله عليه وآله وسلم فقال: {لَوْ كَانَ فِيهِمَا آلِهَةٌ إِلاَّ اللَّهُ لَفَسَدَتَا فَسُبْحَانَ اللَّهِ رَبِّ الْعَرْشِ عَمَّا يَصِفُونَ}[الأنبياء:22]، وقال تعالى: {لَوْ كَانَ مَعَهُ آلِهَةٌ كَمَا يَقُولُونَ إِذاً لاَبْتَغَوْا إِلَى ذِي الْعَرْشِ سَبِيلاً}[الإسراء:42]، وقال تعالى: {مَا اتَّخَذَ اللَّهُ مِنْ وَلَدٍ وَمَا كَانَ مَعَهُ مِنْ إِلَهٍ إِذًا لَذَهَبَ كُلُّ إِلَهٍ بِمَا خَلَقَ وَلَعَلاَ بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ}[المؤمنون:91]، وقال تعالى: {قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ ، اللَّهُ الصَّمَدُ ، لَمْ يَلِدْ وَلَمْ يُولَدْ ، وَلَمْ يَكُنْ لَهُ كُفُوًا أَحَدٌ}[الإخلاص:1-4]. (1/154)
واعلم أن الكفّار افترقوا على مقالاتٍ:
ففرقة نفوا الصانع نفياً محضاً، وقد حكى الله قولهم حيث يقول تعالى: {وَقَالُوا مَا هِيَ إِلاَّ حَيَاتُنَا الدُّنْيَا نَمُوتُ وَنَحْيَا وَمَا يُهْلِكُنَا إِلاَّ الدَّهْرُ}[الجاثية:24]، وهو باطنُ الباطنية واعتقادهم الذي لا يُطْلِعُونَ عليه إلا من استحلفوه واستوثقوا منه؛ ولأنهم جمعوا بين الفلسفة والشريعة، فأقرُّوا بالإسلام واعتقدوا الكفر، وزعموا أن لكلِّ ظاهرٍ باطناً، ولَزموا مسائل من متشابه الكتاب. وقالوا في توحيدهم: لا يقال إن الله موجودٌ، ولا يقال غيرُ موجودٍ، ولا عالمٌ ولا غيرُ عالمٍ، ولا حيٌّ ولا غيرُ حيٍّ، ولا قادرٌ ولا غير قادرٍ.
قالوا: لأنك إذا قلتَ: إنه موجودٌ حيٌّ قادرٌ عالمٌ، فقد شبّهتهُ بما سواه؛ وإذا قلتَ: ليس كذلك فقد نفيته. وغرضهم بهذا القول التَّوصُّل إلى الكفر. وإذا لم يكن موجوداً فهو معدومٌ بلا شك؛ لأنه لا منزلة ثالثة تُعلم؛ وكذلك إذا لم يكن حيًّا فهو مَوَاتٌ، وإذا لم يكن قادراً فهو عاجزٌ، وإذا لم يكن عالماً فهو جاهلٌ ... تعالى الله [عن ذلك] علوًّا كبيراً. (1/155)
وقد بيّنا الفرقَ بينه، وبين من سُمِّيَ حيًّا قادراً عالماً موجوداً من خلقه فيما تقدّم.
وقالت فرقة من الملحدة وهم من الفلاسفة: الهواء هو الله. ووصفوه بأنه مع الأشياءِ ومحيطٌ بالأشياءِ، وأنه بعيدٌ قريبٌ، وقد قدّمنا الردّ عليهم.
وقال قوم: النُّورُ والظُّلمةُ الصَّانعانِ، وقد قدّمنا الرد عليهم.
وقال قوم من الفلاسفة بإثبات الصّانع، وزعموا بأنه فاعلٌ في ما لم يزل، وأن العالَم ظهر منه كظهور ضياء الشمس من الشمس، وحرّ النّار من النّار. وقال قوم من الفلاسفة: بقدم الزمان والمكان والهيولى والنفس.
وقالت النصارى بِقِدَمِ الأقانيم الثلاثة: أُقنوم أب، وأُقنوم ابن، وأُقنوم روح القدس، وقالوا: ليس الأُقنومُ الأولُ الأقنوم الثَّاني ولا الثالث ولا غيرهما، وهذا القول ظاهر الفساد، إذ لا يكون شيءٌ لا شيءَ ولا لا شيءَ.
وقالت الثنوية بِقِدَمِ النُّور والظُّلمة، وغلَّبوا الظُّلمةَ على النُّور.
وأثبت كفار العربِ الصانعَ، وأشركوا بعبادتهم الأصنام، وقالوا: ما نعبدهم إلا ليقربونا إلى الله زلفى، وقد حكى الله ذلك فقال: {وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ }[لقمان:25][الزمر:38]. ومنهم من قال: الجنُّ شركاء لله، وقالوا: الملائكة إناثٌ، وجعلوا لله بنين وبناتٍ، فقال الله تعالى: {وَجَعَلُوا لِلَّهِ شُرَكَاءَ الْجِنَّ وَخَلَقَهُمْ وَخَرَقُوا لَهُ بَنِينَ وَبَنَاتٍ بِغَيْرِ عِلْمٍ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَمَّا يَصِفُونَ ، بَدِيعُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ أَنَّى يَكُونُ لَهُ وَلَدٌ وَلَمْ تَكُنْ لَهُ صَاحِبَةٌ وَخَلَقَ كُلَّ شَيْءٍ وَهُوَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ ، ذَلِكُمُ اللَّهُ رَبُّكُمْ لاَ إِلَهَ إِلاَّ هُوَ خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ فَاعْبُدُوهُ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ وَكِيلٌ ، لاَ تُدْرِكُهُ الأَبْصَارُ وَهُوَ يُدْرِكُ الأَبْصَارَ وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ}[الأنعام:100-103]، وقال تعالى: {فَاسْتَفْتِهِمْ أَلِرَبِّكَ الْبَنَاتُ وَلَهُمُ الْبَنُونَ ، أَمْ خَلَقْنَا الْمَلاَئِكَةَ إِنَاثًا وَهُمْ شَاهِدُونَ ، أَلاَ إِنَّهُمْ مِنْ إِفْكِهِمْ لَيَقُولُونَ ، وَلَدَ اللَّهُ وَإِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ ، أَاصْطَفَى الْبَنَاتِ عَلَى الْبَنِينَ ، مَا لَكُمْ كَيْفَ تَحْكُمُونَ ، أَفَلاَ تَذَكَّرُونَ ، أَمْ لَكُمْ سُلْطَانٌ مُبِينٌ ، فَأْتُوا بِكِتَابِكُمْ إِنْ كُنتُمْ صَادِقِينَ ، وَجَعَلُوا بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْجِنَّةِ نَسَبًا وَلَقَدْ عَلِمَتِ الْجِنَّةُ إِنَّهُمْ (1/156)
لَمُحْضَرُونَ ، سُبْحَانَ اللَّهِ عَمَّا يَصِفُونَ ، إِلاَّ عِبَادَ اللَّهِ الْمُخْلَصِينَ}[الصافات:149-160]، فأخبر الله تعالى بقولهم. ثم قال: {أَمْ لَكُمْ سُلْطَانٌ مُبِينٌ} أي حجة. وقوله: {وَلَقَدْ عَلِمَتِ الْجِنَّةُ إِنَّهُمْ لَمُحْضَرُونَ} يقول: لقد علمت الجِنّةُ إنهم لمُعذّبون، ثم استثنى المؤمنين منهم، فقال: {إِلاَّ عِبَادَ اللَّهِ الْمُخْلَصِينَ} ومحضرون هاهنا بمعنى معذبين قال الله تعالى: {قَالَ تَاللَّهِ إِنْ كِدْتَ لَتُرْدِينِ ، وَلَوْلاَ نِعْمَةُ رَبِّي لَكُنتُ مِنَ الْمُحْضَرِينَ}[الصافات:56،57]، وقال تعالى: {فَكَذَّبُوهُ فَإِنَّهُمْ لَمُحْضَرُونَ ، إِلاَّ عِبَادَ اللَّهِ الْمُخْلَصِينَ}[الصافات:127،128]، وقال تعالى: {وَجَعَلُوا لَهُ مِنْ عِبَادِهِ جُزْءًا إِنَّ الإِنسَانَ لَكَفُورٌ مُبِينٌ ، أَمِ اتَّخَذَ مِمَّا يَخْلُقُ بَنَاتٍ وَأَصْفَاكُمْ بِالْبَنِينَ ، وَإِذَا بُشِّرَ أَحَدُهُمْ بِمَا ضَرَبَ لِلرَّحْمَانِ مَثَلاً ظَلَّ وَجْهُهُ مُسْوَدًّا وَهُوَ كَظِيمٌ ، أَوَمَنْ يُنَشَّؤُا فِي الْحِلْيَةِ وَهُوَ فِي الْخِصَامِ غَيْرُ مُبِينٍ ، وَجَعَلُوا الْمَلاَئِكَةَ الَّذِينَ هُمْ عِبَادُ الرَّحْمنِ إِنَاثًا أَشَهِدُوا خَلْقَهُمْ سَتُكْتَبُ شَهَادَتُهُمْ وَيُسْأَلُونَ}[الزخرف:15-19]، فاحتجّ الله عليهم بِحُجّة بالغةٍ، وأيُّ حُجّةٍ أبهر من حجّةِ الله بأن قال: {أَمِ اتَّخَذَ مِمَّا يَخْلُقُ بَنَاتٍ وَأَصْفَاكُمْ بِالْبَنِينَ ، وَإِذَا بُشِّرَ أَحَدُهُمْ بِمَا ضَرَبَ لِلرَّحْمَنِ مَثَلاً ظَلَّ (1/157)
وَجْهُهُ مُسْوَدًّا وَهُوَ كَظِيمٌ}، يقول: إن أحد هؤلاء الكفار إذا بُشّرَ بالأنثى اغْتَمَّ وتعب، وإذا بشر بالذَّكر فرح واستبشر، فهل يكون الله اختار لهم الذُّكور، ويأخذ الإناث له؟ وقد عابهم بقوله: {أَوَمَنْ يُنَشَّأُ فِي الْحِلْيَةِ وَهُوَ فِي الْخِصَامِ غَيْرُ مُبِينٍ }[الزخرف:18]، عز الله عما يقول الكافرون. (1/158)
فأما عُبّاد الأصنام والأوثان فإن الرد عليهم ظاهرٌ قريبٌ، وذلك أن الحجارة والأصنام مَوَاتٌ لا حياة فيها، ولا قدرة، ولا علم، ولا تنفع، ولا تدفع، وقد بيّن الله تعالى ذلك فقال: {وَإِنْ يَسْلُبْهُمُ الذُّبَابُ شَيْئًا لاَ يَسْتَنقِذُوهُ مِنْهُ ضَعُفَ الطَّالِبُ وَالْمَطْلُوبُ}[الحج:73]، يريد أن الذُّباب لو أخذ من الصنم شيئاً لم يستنقذوه منه، ضعف الصنم والذّبابُ. وقال تعالى: {وَمَنْ أَضَلُّ مِمَّنْ يَدْعُو مِنْ دُونِ اللَّهِ مَنْ لاَ يَسْتَجِيبُ لَهُ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ وَهُمْ عَنْ دُعَائِهِمْ غَافِلُونَ}[الأحقاف:5]، وقال تعالى: {مَثَلُ الَّذِينَ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ أَوْلِيَاءَ كَمَثَلِ الْعَنكَبُوتِ اتَّخَذَتْ بَيْتًا وَإِنَّ أَوْهَنَ الْبُيُوتِ لَبَيْتُ الْعَنْكَبُوتِ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ}[العنكبوت:41]، وقال تعالى: {قُلْ أَفَرَأَيْتُمْ مَا تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ إِنْ أَرَادَنِيَ اللَّهُ بِضُرّ هَلْ هُنَّ كَاشِفَاتُ ضُرِّهِ أو أَرَادَنِي بِرَحْمَةٍ هَلْ هُنَّ مُمْسِكَاتُ رَحْمَتِهِ قُلْ حَسْبِي اللَّهُ عَلَيْهِ يَتَوَكَّلُ الْمُتَوَكّلُونَ}[الزمر:38]، وقال تعالى
حاكياً قول إبراهيم عليه السَّلام: {أَتَعْبُدُونَ مَا تَنْحِتُونَ ، وَاللَّهُ خَلَقَكُمْ وَمَا تَعْمَلُونَ}[الصافات:95،96]، يريد: والحجارة التي تنحتون. (1/159)
ومن الكفار من ادّعى الرُّبوبيّة كالنِّمرود، وفرعون، وغيرهما من الملحدين. وقد ذكر الله احتجاج إبراهيم عليه السَّلام حين قال إبراهيم: {رَبِّي الَّذِي يُحْيِي وَيُمِيتُ }، {قَالَ} الذي كفر: {أَنَا أُحْيِي وَأُمِيتُ قَالَ إِبْرَاهِيمُ فَإِنَّ اللَّهَ يَأْتِي بِالشَّمْسِ مِنَ الْمَشْرِقِ فَأْتِ بِهَا مِنَ الْمَغْرِبِ فَبُهِتَ الَّذِي كَفَرَ وَاللَّهُ لاَ يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ}[البقرة:258] فثبتت حُجَجُ الله عليه، وغلبتْ أولياء الله، وأُهْلِكَتْ أعداء اللهِ. وقد أوردنا من الحجج على جميع فرق الكفار ما في بعضه كفاية.
فصل في الكلام في أصل التوحيد وحقيقته (1/160)
اعلم أن أصل التوحيد وحقيقته هو إثبات الصانع، ونفي كل صفة نقصٍ عنه. وقد قدّمنا الكلام في إثبات الصانع، وهذا موضوع نفي صفات النقص عنه، فنقول:
إن كل صفة نقصٍ لا تجوز على الله لا في دنيا ولا في آخرة؛ لأنه إذا كانت فيه صفةُ نقصٍ كان عاجزاً، وإذا كان عاجزاً لم يكن قادراً حكيماً، والله يتعالى عن ذلك.
فمن صفات النقص أن يكون والداً أو مولوداً، أو يكون له صاحبٌ أو صاحبةٌ أو حدٌّ أو ضدٌّ أو نِدٌّ، أو يكون معه سواه في القِدَمِ، أو يكون في مكانٍ، أو يكون حالاًّ أو محلولاً، أو يكون له جوارح وأعضاء من يدين وجَنْبٍ، ووجهٍ وعينين، أو أنه يُرى في دنيا أو آخرة، أو يُدْرَكُ بحاسّةٍ أو وَهْمٍ أو ظنٍّ، وإذا كان بهذه الصفات كان مُشْبهاً للمحدثات ولم يكن مستحقًّا للمدح، فتعالى الله عن ذلك، بل تمدّح بأنه لا يشبه شيئاً ولا يشبهه شيءٌ، فقال تعالى: {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ }[الشورى:11]، فلو كان والداً لكان مولوداً، وإذا كان مولوداً ثبت أنه محدثٌ، وإذا كان محدثاً كان مصنوعاً.
ولو كان له صاحبةٌ لكان محتاجاً، ولو كان محتاجاً لم يكن غنيًّا، وإذا لم يكن غنيًّا كان عاجزاً، وإذا كان عاجزاً كان مصنوعاً. وإذا كان له ضدٌّ كان له مانعاً عما يريد، وإذا كان له مانع كان ضعيفاً، وإذا كان ضعيفاً كان مصنوعاً، وإذا كان له ندٌّ كان له شبيهاً، وإذا كان له شبيهٌ لم يكن صانعاً للعالَم وكان مصنوعاً. وكذلك لو كان معه غيره في القِدَمِ لكان له شبيهاً، ولو كان في مكانٍ لوجب أن يكون مَحْوِياً، ولو كان مَحْوِياً لكان مصنوعاً ولكان بعضُ المواضع منه خالياً، وإذا كان في مكانٍ دون مكان كان عن المكان الذي ليس هو فيه غائباً، وإذا كان عنه غائباً كان له ولِمَا يحدث فيه جاهلاً، وإذا كان عن شيءٍ جاهلاً كان عاجزاً. (1/161)
ومعنى قول الله تعالى: {وَهُوَ الَّذِي فِي السَّمَاءِ إِلَهٌ وَفِي الأَرْضِ إِلَهٌ }[الزخرف:84]، أنه إله من في السماء، وإله من في الأرض؛ كما يقال: فلانٌ أمير في بلد كذا، وبلد كذا، وإن لم يكن فيهما ساكناً. وقوله تعالى: {أَأَمِنتُمْ مَنْ فِي السَّمَاءِ أَنْ يَخْسِفَ بِكُمُ الأَرْضَ فَإِذَا هِيَ تَمُورُ}[الملك:16]، أراد أأمنتم إله من في السماء؛ ولأنه تعالى كان ولا مكان، ولو كان المكانُ الذي يكون فيه قديماً لوجب أن يكون له في القدم شبيهاً، ولو كان المكان الذي يكون فيه محدثاً لكان منتقلاً، وإذا كان منتقلاً كان محدثاً؛ لأن الانتقال دليلُ الْحِدَثِ.
ونقول: إنه ليس بخارجٍ من الأماكن، كخروج الشيء من الشيء، ولا بغائبٍ منها، ولو كان كذلك لأدّى ذلك إلى الانتقال والجهل ... تعالى الله عن ذلك علوًّا كبيراً. ولو كان حالاًّ أو محلولاً لكان جسماً أو عرضاَ، ولو كان جسماً أو عرضاً لكان محدثاً، ولو كان محسوساً أو موهوماً لكان محدثاً ضعيفاً؛ لأن المحسوسَ والموهومَ لا يكونان إلا حَالاًّ أو محلولاً، ولا يكون الحالُّ والمحلول إلا جسماً أو عرضاَ، ولا يكون الْمُدركُ بالحواسِّ والوَهمِ إلا مقابلاً -أو في حكم المقابل- كمن يَرى وجهه في المرآة، أو حَالاًّ في الجسم كالألوان؛ وإذا كان كذلك كان ضعيفاً عاجزاً، وإذا كان عاجزاً كان مصنوعاً. ولو كان يُرى في الآخرة لوجب أن يُرى في الدنيا، ولو كان يُرى لزال عنه المدح ووجب له النقص لأنه تعالى يقول: {لاَ تُدْرِكُهُ الأَبْصَارُ وَهُوَ يُدْرِكُ الأَبْصَارَ }[الأنعام:103]، فمدح نفسه بذلك، فلو جاز أن يُرى في الآخرة لزال عنه المدح، ووجب له النقص. كما أنه مدح نفسه بأنه لا تأخذه سِنَةٌ ولا نوم، فلو جاز أن تأخذه سِنةٌ في وقتٍ من الأوقات لزال المدح، ووجب النقص، والله يتعالى عن ذلك. ولو كان له جارحةٌ يدٌ أو وجهٌ أو جنبٌ أو عينٌ لكان جسماً، ولو كان جسماً لكان مصنوعاً. والأعضاء والجوارح لا تكون إلا مصوَّرةً، والصورةُ لا بُدَّ لها من مصوِّرٍ؛ ولو كان كذلك لكان هذا غاية التَّشبيه والإلحاد وخلاف التوحيد. (1/162)
فأما ذِكرُ الوجه -في القرآن- واليد والعين والجنب، فإن الوجه هو الذاتُ، والعين هو العلم، واليدين البسط والقبض، والجنب السبيل. وهذا موجود في لغة العرب لأن القرآن نزل بلغة العرب، قال الشاعر: (1/163)
وقد يهلك الإنسانُ من وجه أَمْنِهِ
وينجو بإذن الله من حيث يحذر
وتقول العرب: لفلانٍ عليَّ يدٌ أي نعمةٌ. والعين عند العرب قد تكون الحدقة، وقد تكون عين الماءِ، وقد تكون عينُ الرُّكبة، وكذلك العلم. فقوله تعالى: {تَجْرِي بِأَعْيُنِنَا }[القمر:14]، أي بعلمنا، وقوله تعالى: {يَاحَسْرَتَا عَلَى مَا فَرَّطْتُ فِي جَنْبِ اللَّهِ }[الزمر:56] أي في سبيل الله، وقوله: {بَلْ يَدَاهُ مَبْسُوطَتَانِ يُنفِقُ كَيْفَ يَشَاءُ}[المائدة:64] يريد نعمته وبليَّته، وقوله: {وَيَبْقَى وَجْهُ رَبِّكَ ذُو الْجَلاَلِ وَالإِكْرَامِ }[الرحمن:27] أراد ويبقى ربك ذو الجلال والإكرام.
والدليل على أن وجهه ذاته وأنه لا جارحة له قوله تعالى: {كُلُّ شَيْءٍ هَالِكٌ إِلاَّ وَجْهَهُ }[القصص:88] فأوجب الهلاك على الجوارح واستثنى الوجه وهي لا تكون إلا شيئاً، فكيف تهلك الجوارحُ ويبقى الوجهُ؟ فصح أنه لا جارحةَ له، وأنَّ وجهه ذاته. وقد روي عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أنه قال: ((خمسٌ لا يُعذرُ بجهلهنَّ أحدٌ : معرفة الله سبحانه، لا يُشَبِّههُ بشيءٍ، ومن شبّه الله بشيءٍ، أو زعم أن الله يُشبهه شيءٌ، فهو من المشركين...)) الخبر. فصحّ أن الله تعالى مُنزهٌ عن صفات النقص غيرُ مُشبَّهٍ بشيءٍ، ولا شيء مُشْبِهٌ له، تعالى الله عن ذلك علوًّا كبيراً.
وقول الله تعالى: {فَمَنْ كَانَ يَرْجُوا لِقَاءَ رَبِّهِ فَلْيَعْمَلْ عَمَلاً صَالِحًا وَلاَ يُشْرِكْ بِعِبَادَةِ رَبِّهِ أَحَدًا}[الكهف:110]، تأويله أن اللقاءَ في كتاب الله هو يومُ الحساب والموقف، والعربُ تُسمّي الاجتماع والحشد لقاءً، ولما كان الله هو الذي جمعهم سُمِّيَ لقاء الله، ألا تَرى أن الأمير لو أمر بلقائه ولم يُرَ فيه، أن القائل يقول: كنا في لقاء الأمير. واللقاء الجزاءُ والثّوابُ؛ يدل عليه قول الله تعالى: {فَأَعْقَبَهُمْ نِفَاقًا فِي قُلُوبِهِمْ إِلَى يَوْمِ يَلْقَوْنَهُ بِمَا أَخْلَفُوا اللَّهَ مَا وَعَدُوهُ وَبِمَا كَانُوا يَكْذِبُونَ}[التوبة:77]، ولأن المشبهة مجمعةٌ على أن أهل النار لا يرونه. (1/164)
وروي عن الناصر عليه السَّلام أنه روى بإسناده أن رجلاً أتى إلى النبيءِ صلى الله عليه وآله وسلم فقال: يا رسول الله إني أتصدّق بشيءٍ من مالي أريد به وجه الله، وأحِبّ أن أُذكر بالخير، فأنزل الله هذه الآية: {فَمَنْ كَانَ يَرْجُوا لِقَاءَ رَبِّهِ فَلْيَعْمَلْ عَمَلاً صَالِحًا وَلاَ يُشْرِكْ بِعِبَادَةِ رَبِّهِ أَحَدًا}[الكهف:110].
فصل في الكلام فيما اتفق عليه أهل القبلة وما اختلفوا فيه من التوحيد (1/165)
فاتفق الشيعةُ والمعتزلةُ والصفاتيّة والخوارجُ والحشويّةُ على أن الله تعالى لا مِثل له. وأجمعوا على القول بأنه يَرى ولا يُرى، وهو بالمنظر الأعلى. واتفقوا في أنه لا تُدركه الأبصار في الدنيا، واتفقوا على أن الله تعالى عالمٌ فيما لم يزل ولا يزال، ويجب ذلك له ويستحيل [عليه] خلافُهُ. واتفقوا في أن القرآن تنزيلُ الله، ووحيُهُ.
واختلفوا فيما له كان الله عالماً، فقالت الزيدية، والمعتزلة: إن الله تعالى عالمٌ لذاته، وعالمٌ لنفسه؛ ومعنى عالم لذاته: أنه تعالى عالمٌ يجب ذلك له، لا لشيءٍ سوى ذاته، وكذلك قالوا في أن الله تعالى حيٌّ، قادرٌ، قديمٌ، سميعٌ، بصيرٌ، ولم يُثبتوا قديماً سوى الله تعالى، ونسبوا من أثبت معه قديماً (أو قُدماءَ) إلى الكفر وقالوا: هو مذهب النصارى قد دس في الإسلام. وأن القرآن محدثٌ.
وقالت الصفاتية من الكلابيّة والأشعرية: إن الله تعالى عالمٌ بمعنى سَمَّوْهُ عِلماً، وقادر بمعنًى سمّوه قُدرةً، وحيٌّ بمعنًى سَمَّوْهُ حياةً.
وروي عن بعض الأشعرية مثل قولنا. وقد قدّمنا الاحتجاج عليهم فيما تقدم.
ولم يختلفوا في أن القرآن قديمٌ، واختلفوا في هذا المتلوّ، فقال قوم: إن القرآن المتلوَّ ليس هو كلام الله تعالى على الحقيقة بل هو عبارةٌ عنه، وكذلك قالوا في التّوراة والإنجيل والزبور، وقالت الحشوية منهم: إن المتلوَّ هو القديمُ.
فنقول: إذا كان الله قديماً (والصوت قديماً) فقد اشتبها في القِدَمِ، وصارا قديمين اثنينِ، وكذلك إذا كان له شيء يقدر به وكان قديماً كان مُشَابهاً له، وأشبه ذلك قول النصارى في الأقانيم الثلاثة [أنها] جوهرٌ واحدٌ. وقد قال الله تعالى: {وَمَا يَأْتِيهِمْ مِنْ ذِكْرٍ مِنَ الرَّحْمنِ مُحْدَثٍ إِلاَّ كَانُوا عَنْهُ مُعْرِضِينَ}[الشعراء:5]، وقال: {مَا يَأْتِيهِمْ مِنْ ذِكْرٍ مِنْ رَبِّهِمْ مُحْدَثٍ إِلاَّ اسْتَمَعُوهُ وَهُمْ يَلْعَبُونَ}[الأنبياء:2]، وقال تعالى: {وَمِنْ قَبْلِهِ كِتَابُ مُوسَى إِمَامًا وَرَحْمَةً وَهَذَا كِتَابٌ مُصَدِّقٌ لِسَانًا عَرَبِيًّا...}الآية[الأحقاف:12]. (1/166)
وأيضاً فقد أجمعت الأمة على أن في الكتاب مُحكماً ومتشابهاً، وناسخاً ومنسوخاً، قال الله تعالى: {هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ عَلَيْكَ الْكِتَابَ مِنْهُ آيَاتٌ مُحْكَمَاتٌ هُنَّ أُمُّ الْكِتَابِ وَأُخَرُ مُتَشَابِهَاتٌ...}الآية [آل عمرن:7]، وقال: {مَا نَنسَخْ مِنْ آيَةٍ أو نُنسِهَا نَأْتِ بِخَيْرٍ مِنْهَا أو مِثْلِهَا}[البقرة:106]، فإذا ثبت أن فيه ناسخاً ومنسوخاً ثبت أن الناسخ بعد المنسوخ، وأن المنسوخ قبله، وإذا صحّ أن الناسخ بعد المنسوخ ثبت حِدَثُ الناسخ، وإذا كان بعضه محدثاً وجب أن يكون البعض الثاني محدثاً.
وأيضاً فإنه أُنْزِلَ على لغة العرب، وفيه الماضي والمستقبل، فيخبر عن الماضي بما يحسُن وقوعه في أمسِ، ويخبر عن المستقبل بما يحسُن وقوعه في غدٍ، قال عزّ من قائلٍ: {الم ، غُلِبَتِ الرُّومُ ، فِي أَدْنَى الأَرْضِ وَهُمْ مِنْ بَعْدِ غَلَبِهِمْ سَيَغْلِبُونَ}[الروم:1-3]، وقد أجمعت الأمة على أن القرآن لم ينزل على النبيءِ صلى الله عليه وآله وسلم جملةً واحدةً في وقتٍ واحدٍ وإنما نزل متفرقاً، فكان ينزل بحسب الحاجة إليه عند النازلة التي تنزلُ والحادثة التي تحدثُ، ولا يُقَدِّمُ الشَّيءَ ويدَّخره ويُعِدُّهُ قبل الحاجة إليه إلا العاجز الذي يخشى أن يطلب الشيءَ عند حاجته إليه فيتعذّر عليه، والله تعالى لا يتعذر عليه شيءٌ ولا يعجزه شيءٌ. فصحّ أن الله تعالى أحدثه [في] وقت حاجة المكلَّفين إليه. (1/167)
وأيضاً فإن الكلام الذي سمعه موسى عليه السَّلام من الشجرة لا يخلو من أن تكون الشجرةُ مَحلاًّ له، أو يكون الله محلاًّ له نطق به كما ينطق ذو الآلة.
فإن قالوا: الشجرة محلٌّ له خلقه الله فيها، فهذا قولنا، وهو يدل على أنه مُحدثٌ؛ لأن الشجرة محدثةٌ، وإذا كان المحلُّ محدثاً كان الحالُّ محدثاً، ولا يصح أن يقال: إن الشجرة قديمةٌ، ولا أن كلام الله الذي سمعه موسى قديمٌ فيها، ولا يجوز أن يكون الكلام في غير محلٍّ.
وإن قالوا: الله هو الذي نطق بالكلام، كما ينطق ذو اللسان، فقولُهُم: نَطَقَ يدلُّ على الحِدَثِ؛ لأنه بمعنى: فَعَلَ، وخرج من أن يكون قديماً.
وإن قالوا: هو المتكلم فيما لم يزل. قلنا: هذا يدل على العبث، والهذيان تعالى الله عن ذلك علوًّا كبيراً. (1/168)
وإن قالوا: هو ينطق حيناً ويصمتُ حيناً. قلنا: وهذا دليلٌ على الحِدَثِ، حِدَثُ النُّطق والنَّاطق؛ لأنه يكون متحركاً حِيناً وساكناً حيناً، وقد صحّ أن السكون بعد الحركة محدثٌ، وأن الحركة من بعد السكون محدثةٌ، فصح أنه مُحدثٌ؛ لأن فيه دليلٌ الحِدَثِ.
وأيضاً فإذا كان ينطق بآلةٍ لم تكن الآلة إلا مُصوَّرةً، وإذا كانت مُصوَّرةً ثبت أن لها مصوِّراً، فبطل ما قالوا من أن الله ينطق، وأن كلامه قديمٌ، وقد روي عن النبيءِ صلى الله عليه وآله وسلم أنه قال: ((ما خلق الله شيئاً أعظم من آية الكرسي ، وما خلق الله شيئاً أحبَّ إليه من سُورة الإخلاص)) فدلّ على أن القرآن محدثٌ.
فإن قالوا: إذا لم يكن متكلِّماً وجب أن يكون أخرس. قلنا: إن الخرسَ آفةٌ في اللسان، والله ليس بذي لسانٍ ولا جارحةٍ، تعالى الله عن ذلك علوًّا كبيراً.
وأما قول من يقول: إن القرآن المتلوّ ليس هو القرآن على الحقيقة، وإنما هو عبارة عنه. فنقول: إن الله تعبّد المؤمنين بهذا المتلوّ، ولم يتعبّدهم بقرآنٍ غيره، وتحدَّى الكافرين بأن يأتوا بسورةٍ من هذا المتلوّ، ولم يتحدَّهم بقرآن غيره، فقال تعالى: {فَاقْرَءُوا مَا تَيَسَّرَ مِنَ الْقُرْآنِ }[المزمل:20]، وقال: {وَإِذَا قُرِئَ الْقُرْآنُ فَاسْتَمِعُوا لَهُ وَأَنصِتُوا لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ}[الأعراف:204]، وقال: {فَبِأَيِّ حَدِيثٍ بَعْدَهُ يُؤْمِنُونَ }[الأعراف:185]، وقال تعالى: {أَمْ يَقُولُونَ تَقَوَّلَهُ بَل لاَ يُؤْمِنُونَ ، فَلْيَأْتُوا بِحَدِيثٍ مِثْلِهِ إِنْ كَانُوا صَادِقِينَ}[الطور:33،34]، وقال: {لَئِنِ اجْتَمَعَتِ الإِنسُ وَالْجِنُّ عَلَى أَنْ يَأْتُوا بِمِثْلِ هَذَا الْقُرْآنِ لاَ يَأْتُونَ بِمِثْلِهِ وَلَوْ كَانَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ ظَهِيرًا}[الإسراء:88]، وقال: {أَمْ يَقُولُونَ افْتَرَاهُ قُلْ فَأْتُوا بِسُورَةٍ مِثْلِهِ}[يونس:38]. (1/169)
وقول من يقول: (إن هذا المتلوّ عبارةٌ عن القرآن)، يُشبه قول السَّوْفَسْطَائيّةِ الذين نفوا الحقائقَ؛ لأنه إذا كان هذا المتلو لا حقيقة له؛ أمكن في كل الأشياء أن يكون لا حقيقة لها، فبطل قول من يقول: إن المتلو عبارةٌ عنه. ولا فائدة في شيءٍ لم يقف عليه المكلَّفون، ولا تُعُبِّدوا به.
وأما احتجاجهم على قِدَمِ المعاني بقول الله تعالى: {أَنزَلَهُ بِعِلْمِهِ } [النساء:166]، وقوله: {وَلاَ يُحِيطُونَ بِشَيْءٍ مِنْ عِلْمِهِ إِلاَّ بِمَا شَاءَ }[البقرة:255]، وبقوله: {إِنَّ اللَّهَ هُوَ الرَّزَّاقُ ذُو الْقُوَّةِ الْمَتِينُ } [الذاريات:58]، وبقول الناس: انظروا إلى قدرة الله. فإن معنى قوله: {أَنزَلَهُ بِعِلْمِهِ} أي: أنزله وهو عالمٌ به. وقوله: {وَلاَ يُحِيطُونَ بِشَيْءٍ مِنْ عِلْمِهِ} أي: من معلومه، وقوله: {ذُو الْقُوَّةِ الْمَتِينُ} معناه: القويُّ المتينُ. وقول الله تعالى: {سُبْحَانَ رَبِّكَ رَبِّ الْعِزَّةِ عَمَّا يَصِفُونَ }[الصافات:180]، المعنى: سبحان ربك العزيز. وقد تكون العزة لله إسماً وحكماً غيره تنفي عنه اسم الذلّة وحكمها كما قال تعالى: {وَلِلَّهِ الْعِزَّةُ وَلِرَسُولِهِ وَلِلْمُؤْمِنِينَ }[المنافقون:8]. وأما قول الناس: انظرو إلى قدرة الله؛ فالمعنى: انظروا إلى اقتدار الله؛ لأنهم لا يقولون ذلك إلا إذا رأوا خلقاً من خلق الله عظيماً، قال الله تعالى: {وَكَانَ أَمْرُ اللَّهِ قَدَرًا مَقْدُورًا }[الأحزاب:38]. (1/170)
وقالت الصفاتية: يصح أن يُرى الله تعالى من طريق العقل، ونراه في الآخرة قطعاً، وإنما يراه المؤمنون دون المعاقبين. ومنهم من جوز أن يراه أهل النار، واستدلوا بقول الله تعالى: {وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ نَاضِرَةٌ ، إِلَى رَبِّهَا نَاظِرَةٌ}[القيامة:22،23]، وبما روي عن النبيء صلى الله عليه وآله وسلم قال: ((سترون ربكم يوم القيامة كالقمر ليلة البدر)).
والرد عليهم -من طريق العقل- أن المرئيَّ يحتاج إلى شروطٍ يصح أن يُرى لحصول الشروط، وهي المقابلة أو ما يكون في حكمها، كمن يَرى وجهه في المرآة، أو أن يكون المرئيُّ حالاًّ في المقابل كحلول السّواد والبياض في الجسم، وهذا اعتلالُ أهل العدل والتوحيد من الزيدية والمعتزلة، وإذا كان الله مُقابلاً، أو في حكم المقابل، أو حالاًّ في الْمُقابل، احتاج أن يُرى بالحاسّة، ولو جاز أن يُرى بغير هذه الشروط لاستوى في ذلك الأعمى والبصير، وهذا هو التّشبيه -جلّ الله عن ذلك، وتعالى علوًّا كبيراً. (1/171)
ومن الشروط ألا يكون بين الرائي، والمرئي حائلٌ، يمنعُ من نظره.
ومن الشروط أن تكون آلة الرائي صحيحةً.
ومن الشروط أن لا يكون المرئيُّ لطيفاً تمنع لطافتُهُ من الرّؤية.
ومن الشروط التّحديق إلى المرئي وفتح العين وتقليب الحدقة.
وهذه الشروط كلها توجب أن المرئي محدودٌ (في مكانٍ) وأنه حالٌّ أو محلولٌ أو في حكم الحالِّ، أو جسمٌ أو لونٌ، وإذا كان بهذه الصفات كان محدثاً مصنوعاً -تعالى الله عن ذلك.
وأيضاً فإن الله تعالى تمدّح بقوله: {لاَ تُدْرِكُهُ الأَبْصَارُ وَهُوَ يُدْرِكُ الأَبْصَارَ وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ}[الأنعام:103]، والآية تدلُّ على التّمدح من قوله: {بَدِيعُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ }[البقرة:117]، وإذا زال مُوجبُ التمدّح وجب النقص. وقد مدح نفسه بأنه لم يلد ولم يولد ولم يكن له كفواً أحد، وأنه لم يتخذ صاحبةً ولا ولداً، وأنه لا يظلم العباد. فلو جاز أن يفعل شيئاً مما نفاهُ عن نفسه في وقتٍ من الأوقات لزال التّمدحُ ووجب النقص، وكذلك الإدراكُ والرؤيةُ. (1/172)
وأما معنى قول الله تعالى: {وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ نَاضِرَةٌ ، إِلَى رَبِّهَا نَاظِرَةٌ}[القيامة:22،23]، فهو أن يكون النظر إلى الله بالعقل، كما قال تعالى: {أَلَمْ تَرَ إِلَى رَبِّكَ كَيْفَ مَدَّ الظّلَّ }[الفرقان:45]، وقوله: {أَلَمْ تَرَ كَيْفَ فَعَلَ رَبُّكَ بِأَصْحَابِ الْفِيلِ }[الفيل:1]. وفي آخر الآية ما يدل على هذا التأويل؛ وهو قوله: {وَوُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ بَاسِرَةٌ ، تَظُنُّ أَنْ يُفْعَلَ بِهَا فَاقِرَةٌ}[القيامة:24،25]، فعلّق ذكر الظنِّ بالوجوه، والظن لا يتعلَّق بالوجوه، فوجب أن يكون المرادُ بها العقلُ. ويحتمل أن يكون المراد بقوله تعالى: {إِلَى رَبِّهَا نَاظِرَةٌ} أي منتظرة، قال الله تعالى: {فَنَظِرَةٌ إِلَى مَيْسَرَةٍ }[البقرة:280]، والمعنى: فانتظار إلى ميسرةٍ. وقال تعالى حاكياً قول بلقيس: {وَإِنّي مُرْسِلَةٌ إِلَيْهِمْ بِهَدِيَّةٍ فَنَاظِرَةٌ بِمَ يَرْجِعُ الْمُرْسَلُونَ}[النمل:35]، أي منتظرة، ومثل ذلك موجودٌ في لغة العرب، قال الشاعر: (1/173)
وجوهٌ يومَ بدرٍ ناظراتٌ
إلى الرحمنِ يَأتِي بالخَلاَصِ
وقال غيره:
وكنّا ناظريك بكل فجٍّ
كما للغيث ينتظر الغمام
ويحتمل أن يكون المرادُ بقوله: {إِلَى رَبِّهَا نَاظِرَةٌ} أي إلى رحمة ربها ناظرة، كما قال الله حاكياً عن إبراهيم عليه السَّلام: {إِنّي ذَاهِبٌ إِلَى رَبِّي سَيَهْدِينِ }[الصافات:99]، أراد إني ذاهبٌ إلى حيث أمرني ربّي؛ وقد رُوي هذا التفسير عن أمير المؤمنين عليه السَّلام وعن ابن عباس وغيرهما.
وأيضاً فإن النظر غيرُ الرؤية. والنّظرُ هو تقليب الحدقة وفتحها إلى جهة المرئي؛ ويدل على ذلك أنّ من ينظر الهلالَ، يقال: نظر إلى الهلال، وإن لَّم يره. (1/174)
وأما استدلالهم بالخبر: ((سترون ربكم كما ترون القمر ليلة البدر لا تضامون في رؤيته)) فإنه من خبر الآحاد، وخبرُ الآحاد لا يُقبل في الأصول. وهذا الخبر أيضاً مرويٌّ عن قيس بن حازم، وقيس هذا لا تُقبل روايته لأنّها مطعونةٌ من وجوه:
أحدها: بُغْضُ عليٍّ عليه السَّلام وكفى بذلك طعناً فيه لأن أقلَّ أحواله الفسق. والذي يدل على ضعفه وأنه ليس من النبيء صلى الله عليه وآله وسلم أنه يقتضي التَّشبيه؛ ولأن الكافَ في لغة العرب تدخل للتشبيه؛ قال الله تعالى: {يَوْمَ تَكُونُ السَّمَاءُ كَالْمُهْلِ ، وَتَكُونُ الْجِبَالُ كَالْعِهْنِ}[المعارج:8،9]، وقال: {يَوْمَ يَكُونُ النَّاسُ كَالْفَرَاشِ الْمَبْثُوثِ ، وَتَكُونُ الْجِبَالُ كَالْعِهْنِ الْمَنفُوشِ}[القارعة:4،5]، والعرب تقول: زيدٌ كعمرِو، وفرسي كفرس فلان. وقوله: ((كما ترون القمر)) وهذا هو التشبيه المحض لأنَّ القمر يُرى في مكانٍ دون مكانٍ، ويُرى مُدوَّراً على صفةٍ مخصوصةٍ. وهو جسمٌ، وإذا كان الله يُرى في مكانٍ دون مكانٍ، وكان مَحْوِياً بالجهات، وكان مُدَوراً بصورةٍ مخصوصةٍ، فهل هو إلا جسمٌ مشبهٌ للأجسام، فكيف يكون التشبيه غيره هذا؟ تعالى الله عن ذلك علوًّا كبيراً. فصحّ أنه ليس من رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم.
وإن قال قائل مستفيد: ما تقولون لو كان صحيحاً، ما يكون تأويلُهُ؟ قلنا: ليس هو بصحيحٍ، فإن صحّ فمعناه: تعلمون ربكم علمَ ضرورةٍ كما تعلمون القمر علمَ ضرورةٍ بالمشاهدة؛ لأن المشاهَدَ يُعلم علمَ ضرورةٍ، والله تعالى يُعلم في الدنيا عِلْمَ استدلالٍ، ويُعلم في الآخرة علمَ ضرورةٍ بغير مشاهدةٍ؛ ولأن الاستدلال يسقُطُ في الآخرة لأنه تكليفٌ وبحث وإزالة تشبيهٍ، وقد سقط في الآخرة التّكليفُ، فصحّ أنه يُعلم في الآخرة علم ضرورة. ولأن العبد عندما يَرى صدق الوعد والوعيد، يعلم ربه علمَ ضرورةٍ، وقد سأل موسى ربَّه أن يُريَهُ آية من آيات الآخرة حتى يعلم ربَّه علمَ ضرورةٍ، فقال: {رَبِّ أَرِنِي أَنظُرْ إِلَيْكَ قَالَ لَنْ تَرَانِي وَلَكِنِ انظُرْ إِلَى الْجَبَلِ فَإِنِ اسْتَقَرَّ مَكَانَهُ فَسَوْفَ تَرَانِي}[الأعراف:143]، ويحتمل أن يكون سأل ربَّه أن يبيِّن له نفيَ الرؤية إذ سأله قومُه الرؤيةَ، فقال: {لَنْ تَرَانِي}. و(لن) عند أهل اللغة للقطع والتأبيد، قال الله تعالى: {لَنْ يَنَالَ اللَّهَ لُحُومُهَا ...}الآية[الحج:37]، وقال: {لَنْ تَنَالُوا الْبِرَّ حَتَّى تُنْفِقُوا مِمَّا تُحِبُّونَ }[آل عمران:92]، ولأن الله عاقب الذين سألوا موسى أن يُريهم الله ولم يُعاقب موسى، ولو كان موسى سأله كسؤالهم لكان معاقباً مثلهم. وقد حكى الله عن موسى عليه السَّلام أنه نسب ذلك إلى بعض قومه، ونفاه عن نفسه بقوله: {أَتُهْلِكُنَا بِمَا فَعَلَ السُّفَهَاءُ مِنَّا }[الأعراف:155]. وأما توبة موسى فإنها من سؤاله البيان قبل الاستئذان. والأنبياء لا يُقيمون (1/175)
على صغيرةٍ ولا يسألون ربّهم حتى يستأذنوه؛ قال الله تعالى حاكياً عن نوح: {وَنَادَى نُوحٌ رَبَّهُ فَقَالَ رَبِّ إِنَّ ابْنِي مِنْ أَهْلِي وَإِنَّ وَعْدَكَ الْحَقُّ وَأَنْتَ أَحْكَمُ الْحَاكِمِينَ ، قَالَ يَانُوحُ إِنَّهُ لَيْسَ مِنْ أَهْلِكَ إِنَّهُ عَمَلٌ غَيْرُ صَالِحٍ فَلاَ تَسْأَلْنِي مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ إِنّي أَعِظُكَ أَنْ تَكُونَ مِنَ الْجَاهِلِينَ ، قَالَ رَبِّ إِنّي أَعُوذُ بِكَ أَنْ أَسْأَلَكَ مَا لَيْسَ لِي بِهِ عِلْمٌ وَإِلاَّ تَغْفِرْ لِي وَتَرْحَمْنِي أَكُنْ مِنَ الْخَاسِرِينَ}[هود:45-47]، فاستغفر ربّه من سؤاله قبل استئذانه. ولو كان موسى سأل ربه أن يُرِيَهُ نفسه، كما سأله قومه، لأصابه ما أصابهم من العقوبة، ولَمَا قال: {أَتُهْلِكُنَا بِمَا فَعَلَ السُّفَهَاءُ مِنَّا} وقد حكى الله قولهم فقال: {وَإِذْ قُلْتُمْ يَامُوسَى لَنْ نُؤْمِنَ لَكَ حَتَّى نَرَى اللَّهَ جَهْرَةً فَأَخَذَتْكُمُ الصَّاعِقَةُ...}[البقرة:55]، وقال عزّ من قائلٍ لنبيئنا صلى الله عليه وآله وسلم: {يَسْأَلُكَ أَهْلُ الْكِتَابِ أَنْ تُنَزِّلَ عَلَيْهِمْ كِتَابًا مِنَ السَّمَاءِ فَقَدْ سَأَلُوا مُوسَى أَكْبَرَ مِنْ ذَلِكَ فَقَالُوا أَرِنَا اللَّهَ جَهْرَةً...}الآية[النساء:153]، فلو كان يجوز أن يُرى في وقتٍ من الأوقاتِ، لَمَا عاقبهم الله على ما يجوز في وقتٍ من الأوقات. ألا ترى أن العبد يسأل ربَّه وهو في الدنيا المغفرة والجنّة والثواب فلا يُعاقب في ذلك. وقد سأل قوم عيسى صلى الله عليه المائدة فلم يُعاقبوا بسؤالهم ذلك قبل (1/176)
وقته؛ فبطل قول المشبهة. (1/177)
وقد وردت الأخبار عن النبيء صلى الله عليه وآله وسلم تُعارض خبر المشبهة، وتوافق العقول والقرآن، منها قوله صلى الله عليه وآله وسلم أنه قال: ((إنكم لن تروا اللهَ في الدنيا و[لا في] الآخرة)). ورُوي عن عائشة عن النبيء صلى الله عليه وآله وسلم مثله.
وروي عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أنه قال: ((المصوِّرون لن يدخلوا الجنة ، قيل: يا رسول الله، ومَنِ الْمُصوِّرون؟ قال: الذين يُصورون الله بعقولهم)). وروي عنه صلى الله عليه وآله وسلم أنه قال: ((من شبَّه الخالقَ بالمخلوقِ فقد كفر ، ومن شبَّه اللهَ بخلقه فقد كفر)). وعن علي عليه السَّلام في خُطَبِهِ ما يدل على ذلك.
وأما استدلال الحشوية بقول الله تعالى: {لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا الْحُسْنَى وَزِيَادَةٌ }[يونس:26]، بأن قالوا: الزِّيادة هي الرؤية. فهذا غلطٌ من وجوه:
منها أن الزيادة لا تكون أرفع من المزيد عليه.
ومنها أن الزيادة لا تكون إلا من جنس المزيد عليه، قال الله تعالى: {وَالَّذِينَ اهْتَدَوْا زَادَهُمْ هُدًى وَآتَاهُمْ تَقْواهُمْ }[محمد:17]، وقال تعالى: {فَيُوَفّيهِمْ أُجُورَهُمْ وَيَزِيدُهُمْ مِنْ فَضْلِهِ }[النساء:173].
ومنها أنه قد روي أن الزيادة قصرٌ في الجنة، فلا تعلُّق لهم بهذا.
فإن قال قائل [منهم] متعنّتٌ أو مستفيدٌ: إذا لم يكن يُرى ولا تُدركه الأبصارُ، فهل هو يرى نفسه؟ قلنا: إن كنتَ تعني بقولك: يَرى ذَاتهُ، أي يعلمها فكذلك نقول. وإن كنت تقول: يرى نفسه كما يَرى الواحدُ منا نفسه فلا؛ لأنا قد بيّنا أن ذاته غيرُ مرئيّةٍ، فلا يجوز أن يَرَى نفسه، كما يرى الرائي المرئي. (1/178)
وإذا قيل: إذا لم يكن جسماً، ولا عرضاً، ولا حالاًّ، ولا محلُولاً، ولا تدركه الأبصار في دنيا ولا في آخرةٍ، فكيف يتصوره المكلَّفُ في نفسه؟!
قلنا: لا يجوز أن يُتصور القديمُ تعالى؛ لأن الصورة لا تقع إلا على ما لَهُ مِثْلٌ يُشاهد، فيتصور على حسب ما شوهد من مثلهِ. فلما كان الله تعالى لا مثلَ له، علمنا أنه لا يجوز أن يتصوره المتصوِّرون، ولا يُتصور إلا ما يجب عليه الحِدَثُ، ويلحقُهُ النّقص، فصحّ أن الله لا يُتصوّر، ولهذا سمّى نفسه لطيفاً باطناً، وسمّى نفسه ظاهراً قريباً، فقال تعالى: {لاَ تُدْرِكُهُ الأَبْصَارُ وَهُوَ يُدْرِكُ الأَبْصَارَ وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ}[الأنعام:103]، وقال تعالى: {هُوَ الأَوَّلُ وَالآخِرُ وَالظَّاهِرُ وَالْبَاطِنُ }[الحديد:3]، وقال تعالى: {وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنْ حَبْلِ الْوَرِيدِ}[ق:16]، وقال: {وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنْكُمْ وَلَكِنْ لاَ تُبْصِرُونَ }[الواقعة:85]، وقال: {مَا يَكُونُ مِنْ نَجْوَى ثَلاَثَةٍ إِلاَّ هُوَ رَابِعُهُمْ وَلاَ خَمْسَةٍ إِلاَّ هُوَ سَادِسُهُمْ وَلاَ أَدْنَى مِنْ ذَلِكَ وَلاَ أَكْثَرَ إِلاَّ هُوَ مَعَهُمْ}[المجادلة:7]، فدلّ على أنه ظاهرٌ باطنٌ، قريبٌ بعيد. فمن رام إدراكه بالعقل، أو بالحواس، أو بالوهمِ، أو بالظنِّ أو التّصوُّرِ، فهو أبعدُ ما يكون، ولن يبلُغ إلى شيءٍ مما طلب، بل ترجع الأبصارُ حاسرةً والعقول والأوهام حائرةً. ومن طلب معرفته واستدل عليه بصنعه فهو أقرب من كل قريبٍ وأكبرُ من كلِّ موجودٍ، فهو الظاهر القريبُ بما أوجد من صنعه، وهو الباطن، البعيد، اللطيف من أن يُدرَكَ أو يُتوهَّم أو يُتصوّر، وقد قصرت الأبصارُ والحواسُّ والعقول عن صفة جسمٍ مرئيٍّ بصورةٍ مخصوصةٍ -وهو (1/179)
الشّمس- فلم يُقف على حقيقتها، فكيف من خلقها وصوّرها؟! فإذا قصُرت عن صفة حقيقيّة جسمٍ مشاهدة فهي عن دَرَكِ صانعه أقصرُ. (1/180)
وقد حكي عن أهل النجوم وأهل الطب والفلاسفة أنهم اختلفوا في الشمس وحقيقة صفتها؛ فقال قوم: هي فلكٌ أجوفُ مملوءٌ ناراً، له فمٌ يجيش بهذا الوهج والشُّعاع.
وقال قوم: هي اجتماع أجزاءٍ ناريّة، يرفعها البخار الرطب.
وقال قوم: هي سحابة ملتهبة.
وقال قوم: هي جسمٌ زجاجيٌّ يُرسل علينا شعاعه.
وقال قومٌ: هي صفوةٌ لطيفةٌ تصعد من البحر.
وقال قوم: هي أجزاءٌ كثيرةٌ مجتمعةٌ من النار.
وقال قوم: هي من جوهرٍ خامسٍ سوى الجواهر الأربعة.
وقال قوم: هي بمنزلة صحيفة عريضةٍ.
وقال قوم: هي كالجرّة المدحرجة.
وقال قوم: هي مثل الأرض.
وقال قوم: هي أضعاف ذلك.
وقال قوم: هي أعظم من الجزيرة الكبيرة.
ذكر ذلك عنهم وحكاه أبو عثمان عمرو بن بحر الجاحظ في كتاب الدلائل. وقال: ففي اختلاف هذه الأقاويل منهم في الشمس دليلٌ على أنهم لم يقفوا على الحقيقة من أمرها. فإذا كانت هذه الشمس التي يقع عليها البصر، ويُدركها الحسُّ، قد عجزت العقولُ عن الوقوف على حقيقتها، فكيف بالحدِّ لِمَا لَطُفَ عن الحسِّ واستسر عن الوهمِ.
فإن قالوا: لِمَ استسر؟ قلنا: لم يستسر بحيلةٍ يخلُص إليها كمن احتجب عن الناس بالأبواب والستور. وإنما معنى قولنا: (إنه استسر) أنه لَطُفَ عن مَدى ما تبلُغُهُ الأوهامُ كما لَطُفَتِ الشّمس وارتفعت عن إدراكها بالبصر.
فإن قالوا: ولِمَ لَطُفَ؟ -وتعالى عن ذلك- كان خطأً من القول لأنه لا يليق بالذي هو صانعُ كل شيءٍ إلا أن يكون فائتاً لكل شيءٍ، متعالياً عن كل شيءٍ. (1/181)
فإن قالوا: فكيف يُعقل إن كان فائتاً لكل شيءٍ مُتعالياً عن كل شيءٍ؟ قلنا: إن الذي يطلب معرفته من الشيءِ أربعة أوجهٍ:
أولها: أن ينظر أهو موجودٌ؟
والثاني: أن يعرف ما هو في ذاته وجوهره.
الثالث: أن ينظر كيف هو وما صفته؟
الرابع: لِمَاذا هو؟ ولأي علّة هو؟
فليس من هذه الوجوه شيءٌ يمكن المخلوق أن يعرفه من الخالق حق معرفته سوى أنه موجودٌ فقط. فأما ما هو؟ وكيف هو؟ فممتنع عليه كنهه وكمال المعرفة به، وأما لماذا؟ فهو ساقط في صفة الخالق؛ لأنه جلّ ثناؤه صانعُ كلِّ شيءٍ، وليس شيءٌ بصانعٍ له.
ثم ليس علم الإنسان بأنه موجودٌ يوجب له أن يعلم ما هو؟ وكيف هو؟ كما أن علمه بوجود النفس لا يوجب له أن يعلم ما هي؟ وكيف هي؟ وكذلك الأمور الروحانية اللطيفة.
فإن قالوا: أفَرَطْتُمْ فيما تصفون، من قصور العلم عنه حتى كأنه غير معلومٍ. قلنا: كذلك من جهةِ إذا رام العقل معرفة كنهه، والإحاطة به، وهو من جهة أخرى أقرب من كل قريب إذا استدل عليه بالدلائل الشافية.
وقال أرسطاطاليس في الجوِّ تشبيهاً بهذا القول في كتابه الذي يُسميه بغذاء الطبيعة، فإنه وصفه بهذه الصفة فقال: هو قريبٌ بعيدٌ؛ لأنه من جهةٍ كالواضح لا يخفى على أحدٍ، وهو من جهة كالغائب لا يُدركه أحدٌ، وكذلك العقل أيضاً ظاهرٌ بشواهده مستترٌ في ذاته.
فصل في الكلام في الإرادة (1/182)
أجمعت الأمة أن الله سبحانه يُريد ويشاءُ، واختلفوا في حقيقة الإرادة والمشيئة؛ فعندنا أن إرادة الله ومشيئته في فعله: إرادةُ حَتْمٍ وخَلْقٍ وإحْدَاثٍ وجَبْرٍ وحُكمٍ ووعدٍ ووعيدٍ، وأنه لا تسبق إرادته مرادَهُ، وأن إرادته خلقهُ، وأن خلق الشيءِ هو الشيءُ، وفناء الأجسام هو هي، وليس هو غيرها، وأن إرادته في فعل خلقه: إرادة نَهيٍ، وأمرٍ، وأنّ رضى الله ومحبته [هما] رحمته وثوابه، وأن سخط الله وكراهته وغضبه نقمته وعقابه، فمن رضي الله عنه وأحبه فقد حكم له بالرحمة والثواب، ومن سخط عليه وكره أفعاله فقد حكم عليه بالنقمة والعقاب، فهذه إرادةُ الحكم.
وقالت المعتزلة: لله إرادةٌ غير المراد، وهي محدثةٌ، وهي في غير محلٍّ، وقالوا: لا يكون مُريداً لنفسه؛ لأنه لو كان مريداً لنفسه، لكان مُريداً لكل المرادات، كما أنه لما كان عالماً لنفسه كان عالماً بجميع المعلومات.
قالوا: والدليل على أن إرادة الله غير مراده أنه آمرٌ ومخبرٌ، ولا يكون الآمرُ آمِراً إلا أن يُريد كون المأمور، ولا يكون مُخْبراً إلا إذا أراد إيقاع الحروف، واستدلُّوا بقول الله تعالى: {يُرِيدُ اللَّهُ لِيُبَيِّنَ لَكُمْ وَيَهْدِيَكُمْ سُنَنَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ وَيَتُوبَ عَلَيْكُمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ}[النساء:26]، وبقوله: {وَاللَّهُ يُرِيدُ أَنْ يَتُوبَ عَلَيْكُمْ وَيُرِيدُ الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الشَّهَوَاتِ أَنْ تَمِيلُوا مَيْلاً عَظِيمًا} [النساء:27]، وبقوله: {يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلاَ يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ}[البقرة:185]، وذلك كثيرٌ، وهذا مذهبُ البصريين منهم. فأما قول البغداديين فمثل قولنا. (1/183)
والرد على المعتزلة أن الأمة مجمعة على أنه لا يكون شيءٌ موجودٌ -غير الله- إلا في العالَم. فإن كانت الإرادة في العالَم فقد صار العالَمُ لها مكاناً، وإن كانت في غير العالَمِ فماذا غير العالم إلا الله أو العدمُ؟
فإن قالوا: هي في العدم، فيكون العدم باطلاً، فكيف كون شيء فيه فإذا لم تكن نيّة ولا ضميراً، ولا كانت الخلقَ نفسه، ولا كانت في مكانٍ، فهل هي إلا عَدَمٌ؟ ولا يعقل شيءٌ موجودٌ لا يكون حالاًّ ولا محلولاً إلا الله تعالى. فبطل ما قالوا، وصح أن إرادة الله هي خلقُهُ لا غير. وقول الله تعالى: {يُريد} بمعنى: يخلقُ، ويحكُمُ، ويُثيبُ، ويُعاقبُ. وإنما خاطب الله العرب بلغتهم وبما يعرفون؛ كما قال تعالى: {يَاحَسْرَةً عَلَى الْعِبَادِ مَا يَأْتِيهِمْ مِنْ رسول إِلاَّ كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِئُون}[يس:30]، فخاطبهم بما يعرفون. والله تعالى لا يتحسَّر؛ لأنه لا يتحسّر على شيءٍ إلا من فاته وأعجزه، والله لا يفوته شيءٌ ولا يعجزه؛ ولأنه لو كانت إرادته غير مُراده لم تكن إلا نيّةً أو هِمَّةً، أو مشبهةً للنيّة والهمّة. وهم فلا يقولون هي همّةٌ ولا نيّةٌ، إذا كانت شيئاً غير المراد أشبهت النيّةَ المتقدِّمةَ للفعل، ولا يتقدّم الفعلُ ويُريد فعله قبل فعله إلا من يفعل بآلةٍ، والله يتعالى عن ذلك. (1/184)
وأما قول الله تعالى: {إِنَّمَا قَوْلُنَا لِشَيْءٍ إِذَا أَرَدْنَاهُ أَنْ نَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ }[النحل:40]، فإنهم مجمعون معنا أنه ليس ثَمَّ قول غير إيجاد الشيء كما لم يكن ثمّ قول غير إيجاد القول، كذلك ليس ثَمَّ إرادة غير إيجاد الشيءِ.
وإذا كان الكلام مع الصفاتية قلنا: إذا كان الكافُ والنونُ غيرَ الكائنِ كَانَا قولاً، وإذا كانا قولاً فلا يكون القولُ هذا إلا أمراً. فإذا كان القول لموجودٍ فإيجادُ الموجود محالٌ، وإذا كان لمعدومٍ فمُحالٌ أيضاً أن يُؤمر المعدوم، فبطل ما قالوا، وصحّ أنه لا قول غير إيجاد الشيءِ. ومثل هذا موجود في لغة العرب قال الشاعر: (1/185)
امتلأ الحوضُ وقال قطني
مهلاً رُويداً قد ملأتُ بطني
والحوضُ لم يكن منه قول غير الامتلاء.
وقال آخر:
وقالت له العينان سمعاً وطاعةً
وحدّرتا كالدُّر لَمَّا يُثقب
ولم يكن من العينين قول غير تحدير الدمع.
وقالت الصفاتية: (الله مريدٌ بإرادة قديمةٍ)، كما قالوا: (عالمٌ بعلمٍ قديمٍ).
والدليل على أن إرادة الله محدثةٌ أنك تقول: الله يُريد، ولا يُريد، كما تقول: يخلُقُ ولا يخلُقٌ، ويرزُقُ ولا يرزُقُ. فجاز أن تصفه بصفات الفعل وأضدادها. وليس كذلك صفات الأزل. ألا ترى أن الله لما كان عالماً فيما لم يزل استحال الجهل عليه، ويُؤيد ذلك أن الله إذا أراد حياةَ زيدٍ ثم أراد موته، ألا ترى أن الإرادة التي هي الموتُ حادثةٌ، وقد قال الله تعالى: {يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلاَ يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ}[البقرة:185].
والرد عليهم في قولهم: (إن الله يُريد بهمَّةٍ ونيّةٍ) أن الهمة والنيّة لا يكونان إلا لمن يعمل الشيءِ بآلةٍ ومِثَالٍ وجَوَلاَنِ فِكرٍ، وتصوُّرٍ للصنع وضميرٍ، وهذه الأشياءُ كلُّها من صفات المحدثين -تعالى عنها رب العالمين- وهذه الأشياء (كلها) تكلُّفٌ وإدَارَةُ حيلةٍ، ولا يتكلَّف ويحتال ويفعل الشيء بالمثال إلا عاجزٌ ضعيفٌ، والضّمير والنيّةُ لا يكونان إلا عرضان، ولا يكون العرضُ إلا حَالاًّ في غيره، وإذا كان محلاًّ للعرض كان جسماً -تعالى الله عن ذلك علوًّا كبيراً- فبطل قول المشبهة. (1/186)
واعلم أن إرادة الله هي فعلُهُ، وهي تخرُجُ على وجوه:
منها إرادة حَتْمٍ وجَبْرٍ كخلق السماوات والأرض ومن فيهن وما خلق الله.
ومنها إرادةُ أمرٍ ونهيٍ، فهذه الإرادةُ إرادة تخْييرٍ وتمكينٍ وليست إرادةَ حتمٍ وجبرٍ؛ لأنه قد أراد من عباده الطاعة، فلو كانت الإرادةُ إرادة حتمٍ وجبرٍ لأنفذ ما أراده وأمضاه، ولَمَا قَدَرَ أحدٌ (على) أن يخرجَ من الطاعة إلى المعصية، فصحّ أن هذه الإرادة منه إرادة تخييرٍ وتمكينٍ.
ومنها إرادة حكمٍ ووعدٍ ووعيدٍ، وهي إرادة خَبَرٍ وليست إرادةَ حتمٍ وجبرٍ؛ لأنها لو كانت إرادة حتمٍ وجبرٍ لأنفذ ما أراده وأمضاه، ولكان قد خلق الوعد والوعيد والآخرة وما فيها، فصحّ أنها إرادة خبرٍ لا غيرُ.
واعلم أن أممَ الأنبياءِ " قد اختلفوا مثل اختلاف أمة نبيئنا محمدٍ صلى الله عليه وآله وسلم من ذلك ما قالت اليهود وهم [على] ثلاثة أصناف: فقال منهم رأسُ الجالوت -وهو سلطانُهُم الذي يقولون: هو من ذريّة موسى وهارون-: إن إلههم أبيض الرأس واللحية، وقالوا: وجدوا في سِفْر شعيا: رأيت قديم الأيام قاعداً على كرسي حوله الأملاك، فرأيته أبيض الرأس واللحية. (1/187)
وقالت العنانية منهم بنفي التَّشبيه، وزعمت أن العزير ابن الله على مثل قولك: إبراهيم خليل اللهِ.
وقالت الأصبهانية -وهم عامة اليهود- بنفي التشبيه، إلا أنهم قالو: عزيرٌ ابن الله على معنى القُربة.
وقالت السامرية بنفي التشبيه، والاستطاعة قبل الفعل، وأنكرت نبوءة داود، ولم تُؤمن إلا بما في التوراة.
وقالت النصارى: إن الله ثلاثة أقانيم-: أبٌ وابنٌ وروحُ قدس- جوهر واحد؛ وهذا منهم غلط في الحساب فضلاً عن خطائهم في اعتقادهم؛ لأن ثلاثة في العدد لا تكون واحداً؛ ولو جاز ذلك في ثلاثة لجاز في أكثر منها؛ من أربعةٍ وخمسةٍ وعشرةٍ وغير ذلك.
وإن كانت الأعدادُ الكثيرةُ شيئاً واحداً فهذا غلطٌ بَيِّنٌ لا يغبى على عاقلٍ ولا جاهلٍ.
وقالت الملكانيّة منهم: [إن] اللهُ اسمٌ لمعنيين: لماسح وممسوح. فالماسح هو الله، والممسوحَ هو الإنس، وهو متحيز بالبدنِ، قالوا: والعلمُ غيرُهُ وهو قديمٌ. وقالوا: كان عيسى عليه السَّلام ناسوتاً فصار لاهوتاً.
وقالت القولية منهم: قولك: (الله) اسمٌ لمعنًى واحدٍ، والعلم غيره، وزعمت أن المسيح ابن الله على وجه الرَّحمة، كما سُمّي إبراهيم خليلاً، وقد قال الله تعالى: {لَقَدْ كَفَرَ الَّذِينَ قَالُوا إِنَّ اللَّهَ ثَالِثُ ثَلاَثَةٍ وَمَا مِنْ إِلَهٍ إِلاَّ إِلَهٌ وَاحِدٌ}[المائدة:73]. (1/188)
واختلفوا قبلنا في الاستطاعة، فقالت اليهود قولين:
فقال رأس الجالوت ومن تبعه: لا إرادة لله غير ما يستطيع العبد، ولا يستطيع العبد غير ما فعل.
وقالت العنانية: الاستطاعةُ قبل الفعل، وإن شاء العبدُ صرف استطاعته في طاعةٍ أو معصيةٍ.
وقالت النصارى: الاستطاعة قبل الفعل.
وقالت المجوس -لعنهم الله- والثنوية والدّيصانيَّة بالجبر كلها، فزعم المجوسيُّ أن الله قضى عليه بنكاح أمِّه وابنته وغيرهما من المحرّمات، وأنه لا يستطيع ترك ذلك، وأنه لَوِ استطاع غيره لتركَهُ، وهذه علّة القدريّة من هذه الأمة ولذلك قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: ((القدرية مجوس هذه الأمّة )).
باب حقيقة معرفة العدل (1/189)
اعلم أن معنى قولنا: (إن الله عدلٌ) هو أنه مُنزَّهٌ عن صفات النّقص في أفعاله، وهو أنه لا يفعل القبيحَ، ولا يرضاهُ، ولا يُحبهُ، ولا يُريدهُ، ولا يُجبر العبدَ عليه، ولا يكلِّف أحداً فوق طاقته، وأنه لا يمنع المكلّف الاستطاعةَ، وأنه لا يجورُ ولا يظلم أحداً، ولا يكذبُ، ولا يخلف الوعد والوعيد.
والدليل على أنه مُنزّهٌ عن هذه الصفات التي تُوجب النقصَ من طريق العقل أنه قد ثبت أنَّ الله عالمٌ لنفسه، قادرٌ، حكيمٌ، غنيٌّ، فثبت أن العالِمَ القادرَ الحكيمَ الغنيَّ لا يفعل القبيح، ولا يرضاه، ولا يأمر به، والعقل يشهد أن فعل القبيح قبيحٌ، وأن من أمر به أو رضيَ بفعله يكون كمن فعل القبيح. والعقل أيضاً يحكمُ ويشهد على أنه لا يفعل القبيح إلا من جهل قبحه، أو احتاج إلى فعل القبيح لشهوةٍ داعيةٍ، أو غضبٍ مؤذٍ، أو طمع فيما لا يجوز، أو سفاهةٍ أو سخف رأيٍ، أو استماع مَشُورةِ مُضلّ أو جاهلٍ.
فمن كان فيه بعض هذه الصفات لم يُؤمن منه فعلُ القبيح، أو الرِّضَى به، أو الأمر به، مع ان فاعله وإن كان بهذه الصفات مذموماً بفعله للقبيح، أو أمره به، أو رضاه به.
وكلُّ مكلَّف من مُوحِّدٍ أو مُلحِدٍ يستحسنُ فعل الحَسَنِ ويُحبُّ أن يُذكرَ به، ويستقبح القبيح ويكره أن يُذكر به. ألا ترى أن الملحد لو رأى صبياً يُريد أن يتردّى في بئرٍ أو في نارٍ، أو يمدَّ يده ليلزم حيّةً، أنه يمنعه من ذلك، ويستحسن منعه، ويستقبح تركه وإن لم يكن بِرَحِمٍ؟ فإذا كان فعل القبيح يقبحُ بالعبد الجاهل المحتاج الضعيف، فكيف لا يقبُحُ من العالِمِ الحكيمِ القادرِ؟ فوجب أن يكون القديمُ تعالى مُنزّهاً مُتعالياً عن فعل القبيح. لأنه تعالى عالمٌ بقبح القبيح، ولأنه غيرُ محتاجٍ إليه، لا لجرِّ نفعٍ إليه، ولا لدفع ضررٍ عنه، ولا لسخفِ رأيٍ، ولا لطمعٍ فيما ليس له، ولا لمشُورةِ مُضلٍّ أو جاهلٍ. فلما كان مُنزّهاً عن فعل القبيح، وكان الظلمُ والْجَورُ والكذبُ وخلفُ الوعد والوعيد، وفعل الفواحش وجميع المنكرات قبيحاً، والرِّضى بذلك والأمر به، صحّ أن الله تعالى لا يفعل شيئاً من ذلك ولا يرضى به ولا يأمر به، ولو فعل ذلك لدخل عليه من النقص والذم أكثر مما يدخل على العبد؛ لأنه عالمٌ لذاته، قادرٌ لذاته، والعبد جاهلٌ محتاجٌ، فكان ذمُّ العبد أقلَّ لجهله وحاجته. ألا ترى أن العالم الغنيَّ من النّاس إذا فعل قبيحاً؛ كان ذمّه عند الناس ولومُهُ أكثر من ذمِّ الجاهل الفقير إذا فعل مثل فعل العالم؟ فصحّ أن الله تعالى لا يفعل ظلماً ولا جَوْراً، ولا يُجبر الخلقَ على فعلٍ، ولا يُكلّف أحداً فوق طاقته، ولا يفعل قبيحاً، ولا يريده، ولا يحبه، ولا يرضاه، ولا يأمر به، ولا يكذبُ، ولا يخلف وعداً ولا وعيداً؛ قال عز من قائلٍ: {إِنَّ اللَّهَ (1/190)
يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالإِحْسَانِ وَإِيتَاءِ ذِي الْقُرْبَى وَيَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنكَرِ وَالْبَغْيِ يَعِظُكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ}[النحل:90]، فصحّ أن الله عادلٌ، وأنه منزّهٌ عن القبائح. (1/191)
فإن اعترضَ علينا معترض في هذه الجملة فقال: إنه قد يُوجد في خلق الله القبيح والناقص، كالسّباع والهوامِّ والقمْل والدُّود والذُّباب والبقِّ، وما لا صلاح ظاهراً في خلقه، وكالصورة القبيحة من الناس، وكمن يُولد أعمى، أو أصمّ، أو مُقعداً، أو ناقصاً في جوارحه، كأنْ يولد بغير يدين أو شبه ذلك.
قلنا: لا يلزمنا هذا الاعتراض؛ لأن فعل جميع هذه الأشياء حَسَنٌ وليس بقبيح -وإن قَبُحَ عند الجهّال. فأما من أنصف عقله، وفكّر في حكمة الله، ونظر في دقائق التدبير فإن عقله يحكم بأن فعل هذه الأشياءِ التي يستقبح فعلها الجُهّال حسنٌ وصوابٌ في الحكمة والتدبير، إما في الحالِ أو في المآلِ، وإما لها وإما لغيرها. فإنك إذا نظرتَ وفكّرتَ في خلق السّباع والحيّات والعقارب؛ وجدت في خلقها وكونها مصالح للعبد؛ منها أنها تُذكِّر بمصائب الآخرة وهوامِّها، ولعل عبداً مُوقِناً إذا رآها ذكّرته العقاب ويوم الحساب فازدجر واتّعظ.
ومنها أن من نظرها وفكّر في حالها علم أنها بليّة ابتلى الله بها العباد ليصغِّر الدنيا في أعينهم ويزهدهم في نعمها، إذ لو كان فيها نعيمٌ دائمٌ لم يكن فيها هذه الأشياء.
ومنها أن من أراد السُّرى في ما لا يرضاه الله، وذكرها، امتنع من السُّرَى من خوفها. وهذه الأشياءُ تدلُّ على أن فعل اللهِ لها حسنٌ وأنه غيرُ قبيحٍ. وكذلك الدّود والقملُ والبقُّ والبعوضُ والذباب وجميع ما يُؤذي الإنسان فيها مصالحٌ، عَرَفها من عرفها، وجهلها من جهلها؛ وجملتها البليّة والتّذكير، وتصغير الدنيا في أعين الناس. (1/192)
فأما قبحُ خلق بعض الناس والنقصان الذي يكون فيه فليس ذلك بقبيحٍ قطعاً وإن قَبُحَ في أعين الناس، بل هو حَسَنٌ، وذلك أن المنقوص ينتفع بما نقص فيه في الحال وفي المآل؛ أما في الحال فيمنعُهُ النٌّقصان عن ارتكاب المعاصي، وتصغُرُ في عينه الدنيا، ويُخفّف عليه التكليفُ.
وأما في المآل فإنه بليّةٌ ابتلاه الله بها، فإن صبر عليها عوّضه الله في الآخرة أفضل مما نقصه في الدنيا؛ من تمام الخلق والزيادة في الدّرجات.
وكذلك من يكون خَلْقُهُ جَافياً يستقبحه الناس، فإذا صبر على البليّة عوّضه الله أضعاف ذلك. وإذا رأى حَسَنُ الخلْقِ الكامل قبيح الخلْقِ ـ أو الناقص ـ وشكر الله على حُسْنِ خَلْقِهِ وتمامه زاده الله في الآخرة من الأجر والثواب، فكان النُّقصان نافعاً للمنقوص وغيره.
وكذلك جفا الخلْق. ألا ترى أن العبد الزِّنجي غليظُ الخلْقِ قويّ البُنْيَةِ وهو مع ذلك راضٍ بخلقه غير مستوحش من نفسه. فإذا نظر إليه الكامل العاقل المالك لنفسه عَلِمَ أن الله قد فضّله عليه وأتمّ خلقه وأحسن إليه، فإذا علم ذلك وشكر الله على ذلك استحق الأجر والزيادة بالشكر. وإذا صبر العبد وأطاع ربه جزاه أيضاً، وأعطاه عِوضَ ذلك في الآخرة.
واعلم أن الدنيا دار بليّة وامتحانٍ، والله يبتلي عباده بالخير والشّر لعلهم يرجعون. (1/193)
وأيضاً فإن أكثر العبيد المماليك لو ملكوا نفوسهم، وسَلِمُوا من الرقِّ واستخدام الأحرار لهم لخرجوا من الحدود ولظهر منهم البطرُ والأشرُ والضّررُ ما لا يظهر من غيرهم، وهذه الأمورُ المؤذيةُ موجودةٌ فيهم إذا اجتمعوا في موضعٍ مع الرّقِّ، فكيف لو ملكوا أنفسهم.
وأيضاً فإن في خلق الله كثيراً من الأشياء يَدِقُّ علينا النظر فيها، ويخفى علينا كثير من معانيه، بل إنا نقطع ونقول: إن الله حكيمٌ، ولا يفعل الحكيمُ شيئاً إلا وفيه حكمةٌ أو حِكَمٌ. وقد يُوجد في أفعال العقلاءِ من المكلفين ما يدقُّ ويخفى على أكثر الناس، وقد حكى الله ذلك من أفعال الأنبياء والصالحين؛ من ذلك ما أخبر الله من أفعال الخضر عليه السَّلام حيث صحبه موسى عليه السَّلام وقدّم إليه أن لا يسأله عن أمرٍ حتّى يُبيّنه له، ففعل فِعَالاً استنكرها موسى ودقّ عليه ولم يعلم معناها، وذلك قوله تعالى: {فَارْتَدَّا عَلَى آثَارِهِمَا قَصَصًا ، فَوَجَدَا عَبْدًا مِنْ عِبَادِنَا آتَيْنَاهُ رَحْمَةً مِنْ عِنْدِنَا وَعَلَّمْنَاهُ مِنْ لَدُنَّا عِلْمًا ، قَالَ لَهُ مُوسَى هَلْ أَتَّبِعُكَ عَلَى أَنْ تُعَلّمَنِي مِمَّا عُلّمْتَ رُشْدًا ، قَالَ إِنَّكَ لَنْ تَسْتَطِيعَ مَعِي صَبْرًا ، وَكَيْفَ تَصْبِرُ عَلَى مَا لَمْ تُحِطْ بِهِ خُبْرًا ، قَالَ سَتَجِدُنِي إِنْ شَاءَ اللَّهُ صَابِرًا وَلاَ أَعْصِي لَكَ أَمْرًا ، قَالَ فَإِنِ اتَّبَعْتَنِي فَلاَ تَسْأَلْنِي عَنْ شَيْءٍ حَتَّى أُحْدِثَ لَكَ
مِنْهُ ذِكْرًا ، فَانطَلَقَا حَتَّى إِذَا رَكِبَا فِي السَّفِينَةِ خَرَقَهَا قَالَ أَخَرَقْتَهَا لِتُغْرِقَ أَهْلَهَا لَقَدْ جِئْتَ شَيْئًا إِمْرًا ، قَالَ أَلَمْ أَقُلْ إِنَّكَ لَنْ تَسْتَطِيعَ مَعِي صَبْرًا ، قَالَ لاَ تُؤَاخِذْنِي بِمَا نَسِيتُ وَلاَ تُرْهِقْنِي مِنْ أَمْرِي عُسْرًا ، فَانطَلَقَا حَتَّى إِذَا لَقِيَا غُلاَمًا فَقَتَلَهُ قَالَ أَقَتَلْتَ نَفْسًا زَكِيَّةً بِغَيْرِ نَفْسٍ لَقَدْ جِئْتَ شَيْئًا نُكْرًا ، قَالَ أَلَمْ أَقُلْ لَكَ إِنَّكَ لَنْ تَسْتَطِيعَ مَعِي صَبْرًا ، قَالَ إِنْ سَأَلْتُكَ عَنْ شَيْءٍ بَعْدَهَا فَلاَ تُصَاحِبْنِي قَدْ بَلَغْتَ مِنْ لَدُنّي عُذْرًا ، فَانطَلَقَا حَتَّى إِذَا أَتَيَا أَهْلَ قَرْيَةٍ اسْتَطْعَمَا أَهْلَهَا فَأَبَوْا أَنْ يُضَيِّفُوهُمَا فَوَجَدَا فِيهَا جِدَارًا يُرِيدُ أَنْ يَنقَضَّ فَأَقَامَهُ قَالَ لَوْ شِئْتَ لاَتَّخَذْتَ عَلَيْهِ أَجْرًا ، قَالَ هَذَا فِرَاقُ بَيْنِي وَبَيْنِكَ سَأُنَبِّئُكَ بِتَأْوِيلِ مَا لَمْ تَسْتَطِعْ عَلَيْهِ صَبْرًا ، أَمَّا السَّفِينَةُ فَكَانَتْ لِمَسَاكِينَ يَعْمَلُونَ فِي الْبَحْرِ فَأَرَدْتُ أَنْ أَعِيبَهَا وَكَانَ وَرَاءَهُمْ مَلِكٌ يَأْخُذُ كُلَّ سَفِينَةٍ غَصْبًا ، وَأَمَّا الْغُلاَمُ فَكَانَ أَبَوَاهُ مُؤْمِنَيْنِ فَخَشِينَا أَنْ يُرْهِقَهُمَا طُغْيَانًا وَكُفْرًا ، فَأَرَدْنَا أَنْ يُبْدِلَهُمَا رَبُّهُمَا خَيْرًا مِنْهُ زَكَاةً وَأَقْرَبَ رُحْمًا ، وَأَمَّا الْجِدَارُ فَكَانَ لِغُلاَمَيْنِ يَتِيمَيْنِ فِي (1/194)
الْمَدِينَةِ وَكَانَ تَحْتَهُ كَنزٌ لَهُمَا وَكَانَ أَبُوهُمَا صَالِحًا فَأَرَادَ رَبُّكَ أَنْ يَبْلُغَا أَشُدَّهُمَا وَيَسْتَخْرِجَا كَنزَهُمَا رَحْمَةً مِنْ رَبِّكَ وَمَا فَعَلْتُهُ عَنْ أَمْرِي ذَلِكَ تَأْوِيلُ مَا لَمْ تَسْطِعْ عَلَيْهِ صَبْرًا}[الكهف:64ـ82]، فكان هذه الفعال مما دَقَّ على موسى عليه السَّلام ولم يعلمه حتّى أعلمه الخضرُ عليه السَّلام بتأويله. (1/195)
وكذلك فِعل يوسف عليه السَّلام جَعْلَ السّقاية في رحل أخيه، ثم أذّن مُؤذنٌ: أيتها العير إنكم لسارقون. وهم لم يسرقوا الصّواع، وإنما سرقوا يوسف عليه السَّلام وألقوه في الجُبِّ، وقد قيل: إنهم أيضاً هم الذين باعوه بالدراهم المعدودة، وذلك أنه لمّا عرَّس السّفْرُ عند البئر، فأتى رجلٌ منهم يَرِدُ الماءَ، فأطلعه من البئر، وكان إخوة يوسف في جبلٍ قريباً منهم، فلما رأوهم أقبلوا إليهم وقالوا: هو عبدٌ، فباعوه إلى السَّفْرِ بثمنٍ بَخْسٍ -كما قال الله تعالى- فكان فعال يوسف عليه السَّلام ذلك من أمر الصّواع مما دقَّ على الناس.
وكذلك فعلُ طالوت حيث بعثه النبيء شمؤول، حيث مرّ على النهر فقال: من شرب منه فليس منّي، ومن لم يطعمه فإنه مني؛ ولأنه لمّا خرج لجالوت وكثر جنده -وكان منهم الصادق والمنافق- فخشي أن يتواكنوا ويفشلوا ويتنازعوا في الأمر فينكسروا، فينكسر ولا يبلغون في عدوهم مبلغاً، فأراد أن يتميَّز بعضهم من بعضٍ فامتحنهم بالنّهر، وعَلِمَ أنه من صبر منهم على الظمأ فهو يصبر على [الحروب و]القتل، ومن لم يصبر عن الماءِ لم يصبر في الحَرب. وكان أيضاً لا يمكنه تمييزهم إلا بما فعل، ومثلُ ذلك كثيرٌ موجودٌ في أفعال العقلاء، قال الشاعر: (1/196)
يَدِقُّ على الأفكارِ ما أنتَ صانعُ
فَيُتْرَكُ ما يَخفى ويُؤخَذُ ما بَدَى
فإذا كان في أفعال الناس ما يَدِقُّ على بعضهم -وكان ذلك حسناً- كان ذلك في فعل الله أولى.
وقد جهل هذا المعنى أصحابُ مطرّف بن شهابٍ، فنفوا عن الله تعالى خلق بعض هذه الأشياء التي يستقبحها الناس، مثل نقصان الخلق، واحتجُّوا بقول الله تعالى: {لَقَدْ خَلَقْنَا الإِنسَانَ فِي أَحْسَنِ تَقْوِيمٍ }[التين:4]، وقالوا: لم يقصد الله الخنثى لكونها خنثى، وكذلك من وُلِدَ أعمى، أو مُقعداً، أو أصمّ، أو بغير يدين، وقالوا: ذلك من العوارض وليس بقصدٍ من الله وعمدٍ. وكذلك خلق الدُّود وشبهه. وقالوا: إن الله قد فطر الأشياءَ؛ تحيل وتستحيل، ونسبوا ذلك إلى الفطرة والعوارض. وقد قدّمنا الكلام في أن الجمادات لا فعل لها. ولو صحّ ما قالوا لكانت الفطرةُ مشاركةً لله في الصنع، تعالى الله عن ذلك علوًّا كبيراً.
وإذا كان العقلاء من الملائكة عليه السَّلام والإنس والجنّ لو اجتمعوا وتظاهروا على خلق بعوضةٍ ما قَدَرُوا، ولا تمّ لهم ذلك، مع أنهم قد جعلهم الله عقّالاً، أحياءً قادرين، فكيف يصح للفطرة فعلٌ وليست بعاقلةٍ ولا حيّةٍ ولا قادرةٍ؟! (1/197)
وأما احتجاجهم بقول الله تعالى: {لَقَدْ خَلَقْنَا الإِنسَانَ فِي أَحْسَنِ تَقْوِيمٍ} فالمراد به الأعم والأكثر، ولم يُرد الكل بل خصّ ناساً دون ناسٍ، ومذهبنا بناء العام على الخاص، قال الله تعالى: {وَالْعَصْرِ ، إِنَّ الإِنسَانَ لَفِي خُسْرٍ ، إِلاَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ}[العصر:1-3]، فلو أراد به كل الناس لكان الطفل من أهل الخسر، إذ لم يستثنه مع الذين آمنوا من الخسر فلا حجة لهم بهذه الآية. وأيضاً فقد قدّمنا الحديث في أن الله لا يخلق قبيحاً وإن قبح في أعين النّاس، فلعلّ ذلك المعنى دقّ عليهم علمه. ألا ترى أن الخُنثى من أكثر الناس بليّةً وحسرةً، وأقلّهم في الدنيا نعمةً؛ لأنها ممنوعةٌ من النكاح ومن مجالسة الرّجال -إلا من يحرم عليها- لو كانت امرأةً؛ ومن مجالسة النساء -إلا من يحرم عليه- لو كان رجلاً، فهذا من أكبر البلايا والمحن، فإذا صبر وقَدَرَ على منع نفسه عما حرّم الله عليه كان له في الآخرة عند الله منزلة رفيعة وأجرٌ عظيمٌ، ومن نظره أيضاً من أهل الكمال، فشكر فله أجرٌ كبيرٌ على شكره، ومن جهل هذه الجملة فقد جهل خلق الله ونعمته وبليته، ومن جهل نعمة الله وبليته فقد جهله وجَهِلَ لِمَاذَا خلق الخلْقَ، وكفى بالجهل لذلك ذنباً وخطيئةً.
فصل في الكلام في اختلاف أهل القبلة في العدل وذكر ما أجمعوا عليه وما اختلفوا فيه (1/198)
(فإنهم) أجمعوا على القول: (أن الله عدلٌ، وأنه مُنزّهٌ عن صفة النقص) لأنهم جميعاً يقولون لله: سبوحٌ قُدُّوسٌ. وتأويله التنزيه له من صفات النقص. وأجمعوا على أنه لا يظلم العباد، ولا يُحبّ الفساد ولا يرضاه، وأجمعوا على أنه صادقُ الوعد، وأجمعوا على أنه لا يكلّف نفساً إلا وسعها، وأن المؤمن مُخلّدٌ في الجنة، وأن الكافر مُخلّدٌ في النار.
واختلفوا في فعل العباد وفي الاستطاعة، وفي الوعيد وفي الإرادة، وفي الهداية والإضلال. فعندنا وعند المعتزلة: أن أفعال العبد له خالصة، وأنها لا تُنسب إلى الله، وأنه لا يجبرهم على فعلها، ولا يأمر بالمعاصي، ولا يرضى بها.
وعند جهم بن صفوان ومن قال بقوله من الصفاتية: هي أفعال الله خالصةً، وليس للعبد فيها صنع وإنما هو كالظرف والوعاءِ.
وقالت النجارية والأشعريّة: إن الله وعبده مشتركان في فعل العبد؛ فقالوا: إن الله يخلُق أفعال العباد، ويُحدثها، والعبدُ مع ذلك مكتسبٌ لفعله.
وقالت النّجاريّة: هي فعله على الحقيقة.
وقالت الأشعرية: هي فعلُهُ على المجاز، وحجتهم قول الله تعالى: {اللَّهُ خَالِقُ كُلِّ شَيْء }[الزمر:62]، وقوله: {أَتَعْبُدُونَ مَا تَنْحِتُونَ ، وَاللَّهُ خَلَقَكُمْ وَمَا تَعْمَلُونَ}[الصافات:95،96].
وقد قدّمنا الرد عليهم من المعقول أن الله مُنزّهٌ عن صفات النقص، وأيُّ نقصٍ أكبر من أن يكون فاعلاً لكل فاحشةٍ ومنكرٍ ومعروفٍ وخيرٍ وشرٍّ، ولو صحّ ذلك لكان جائراً ظالماً عابثاً؛ لأنه إذا كان يُجبر العبادَ على أفعالهم كانوا مطيعين له كلهم، وإذا أجبر العبد على الكفر ثم أدخله النار كان جائراً ظالماً، وإذا نهى العبدَ عن فعل شيءٍ وجَبَرَهُ على فعله لكان عابثاً -تعالى الله عن ذلك علوًّا كبيراً. وكذلك إذا أمره بالإيمان، وسلبه الاستطاعة عليه يكونُ أيضاً ظالماً عابثاً -تعالى الله عما يقول الْمُشَبِّهُون. (1/199)
ونردُّ عليهم من المسموع: أما احتجاجهم بقول الله تعالى: {اللَّهُ خَالِقُ كُلِّ شَيْء} فهو خاصٌّ فيما خلق الله دون ما فعل العباد. كما قال تعالى في بلقيس: {وَأُوتِيَتْ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ }[النمل:23]، المراد به خاصٌّ فيما يصلُح لها، ويكون لمثلها في عصرها؛ لأنها لم تُؤتَ ذَكَراً ولا لحيةً، وقال الله تعالى: {وَضَرَبَ اللَّهُ مَثَلاً قَرْيَةً كَانَتْ آمِنَةً مُطْمَئِنَّةً يَأْتِيهَا رِزْقُهَا رَغَدًا مِنْ كُلِّ مَكَانٍ}[النحل:112]، المراد به من كثير من المواضع، وليس من جميع الأماكن حتى لا يبقى مكانٌ لا يأتيها رزقُها منه، فسقط تعلُّقهم بهذا.
واستدلوا أيضاً على قولهم بقول الله تعالى: {قُلِ اللَّهُمَّ مَالِكَ الْمُلْكِ تُؤْتِي الْمُلْكَ مَنْ تَشَاءُ وَتَنْزِعُ الْمُلْكَ مِمَّنْ تَشَاءُ وَتُعِزُّ مَنْ تَشَاءُ وَتُذِلُّ مَنْ تَشَاءُ}[آل عمران:26]، وتأويل الآية: أن الله تعالى يُؤتِي الملك من يستحقّه وهو النبوءة والرسالة والإمامة، كما قال تعالى: {اللَّهُ أَعْلَمُ حَيْثُ يَجْعَلُ رِسَالَتَهُ }[الأنعام:124]، وينزعه ممن لا يستحقه، ويُعزّ أولياءَه ويُذِلُّ أعداءهُ. (1/200)
وأما ما حكى الله من قول إبراهيم: {أَتَعْبُدُونَ مَا تَنْحِتُونَ ، وَاللَّهُ خَلَقَكُمْ وَمَا تَعْمَلُونَ}[الصافات:95،96]، فالمراد به: الله خلقكم وخلق ما تنحتون، فسمّى محل الفعل فِعلاً، والمراد به محل الفعل، قال الله تعالى في عصا موسى عليه السَّلام: {فَإِذَا هِيَ تَلْقَفُ مَا يَأْفِكُونَ }[الأعراف:117]، وهي لم تلقف أفعالهم، وإنما تلقف محل الفعل.
ومما يُبيّنُ أن أفعال العباد منسوبةٌ إليهم قول الله تعالى: {يَوْمَئِذٍ يَصْدُرُ النَّاسُ أَشْتَاتًا لِيُرَوْا أَعْمَالَهُمْ ، فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْرًا يَرَه ، وَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرًّا يَرَه}[الزلزلة:6-8]، وقال تعالى: {وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يُجَادِلُ فِي اللَّهِ بِغَيْرِ عِلْمٍ وَلاَ هُدًى وَلاَ كِتَابٍ مُنِيرٍ ، ثَانِيَ عِطْفِهِ لِيُضِلَّ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ لَهُ فِي الدُّنْيَا خِزْيٌ وَنُذِيقُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ عَذَابَ الْحَرِيقِ ، ذَلِكَ بِمَا قَدَّمَتْ يَدَاكَ وَأَنَّ اللَّهَ لَيْسَ بِظَلاَّمٍ لِلْعَبِيدِ}[الحج:8-10]، وقال تعالى: {وَلَوْ رَحِمْنَاهُمْ وَكَشَفْنَا مَا بِهِمْ مِنْ ضُرّ لَلَجُّوا فِي طُغْيَانِهِمْ يَعْمَهُونَ}[المؤمنون:75]، وقال تعالى: {وَالَّذِينَ كَفَرُوا أَعْمَالُهُمْ كَسَرَابٍ بِقِيعَةٍ يَحْسَبُهُ الظَّمْآنُ مَاءً...}الآية[النور:39]، وقال تعالى: {أَفِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ أَمِ ارْتَابُوا أَمْ يَخَافُونَ أَنْ يَحِيفَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ وَرَسُولُهُ بَلْ أُوْلَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ}[النور:50]، وقال تعالى حاكياً قول السحرة لفرعون: {إِنَّا آمَنَّا بِرَبِّنَا لِيَغْفِرَ لَنَا خَطَايَانَا وَمَا أَكْرَهْتَنَا عَلَيْهِ مِنَ السِّحْرِ وَاللَّهُ خَيْرٌ وَأَبْقَى}[طه:73]، ولم يقولوا: وما أكرهنا عليه الله. وقال تعالى: {مَنْ جَاءَ بِالْحَسَنَةِ فَلَهُ خَيْرٌ مِنْهَا وَمَنْ جَاءَ بِالسَّيِّئَةِ فَلاَ يُجْزَى الَّذِينَ عَمِلُوا السَّيِّئَاتِ إِلاَّ مَا (1/201)
كَانُوا يَعْمَلُونَ}[القصص:84]، وقال تعالى: {فَمَا كَانَ اللَّهُ لِيَظْلِمَهُمْ وَلَكِنْ كَانُوا أَنفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ}[الروم:9]، وقال تعالى: {وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ وَهُوَ يُدْعَى إِلَى الإِسْلاَمِ وَاللَّهُ لاَ يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ}[الصف:7]، وقال تعالى: {إِنَّمَا يَفْتَرِي الْكَذِبَ الَّذِينَ لاَ يُؤْمِنُونَ بِآيَاتِ اللَّهِ وَأُوْلَئِكَ هُمُ الْكَاذِبُونَ}[النحل:105]، وهل يكون أحدٌ أكذب ممن يفعل الفاحشة ثم يُبَرِّئُ نفسه ويُنزّهها وينسبها إلى الله؟ وقد قال الله تعالى: {وَمَنْ يَكْسِبْ خَطِيئَةً أو إِثْمًا ثُمَّ يَرْمِ بِهِ بَرِيئًا فَقَدِ احْتَمَلَ بُهْتَانًا وَإِثْمًا مُبِينًا}[النساء:112]، وهذا كثيرٌ في القرآن، وقد قال الله تعالى: {بَرَاءَةٌ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ إِلَى الَّذِينَ عَاهَدتُّمْ مِنَ الْمُشْرِكِينَ }[التوبة:1]، والله لم يتبرّأ من خلقهم ولا من رزقهم، فلم يبق إلا أنه تبرّأ من أفعالهم، فلو كان فاعلاً لها لَمَا تَبَرَّأَ منها. وأيضاً فلو كان أفعالُ العباد من الله لَمَا استحقّوا عليها الثواب والعقاب في الآخرة، ولا المدح والذّم في الدنيا. (1/202)
وقد روي عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أنه قال: ((القدريّةُ مجوسُ هذه الأ ُمَّة))، وروي عنه صلى الله عليه وآله وسلم أنه قال: ((القدريّة خُصماء اللهِ ، وشهداء إبليس)) ومعنى شهداء إبليس أن الله حكى عنه أنه قال: {فَبِمَا أَغْوَيْتَنِي }[الأعراف:16]، فنسب الإغواء إلى الله، ولم يفعل كذلك آدم عليه السَّلام بل قال: {رَبَّنَا ظَلَمْنَا أَنفُسَنَا }[الأعراف:23]. (1/203)
وروي عن النبيء صلى الله عليه وآله وسلم أنه قال: ((يُنادي مُنادٍ يوم القيامة: أين القدريّةُ خصماء الله وشهداء إبليس، فتقوم طائفةٌ من أمّتي يخرجُ من أفواههم دخانٌ أسود)).
وروي عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أنه قال: إضمنوا لي ستّةً أضمن لكم الجنّة: لا تَظلموا عند قَسْمِ مواريثكم، ولا تغلُّوا غنائمكم، ولا تَجَبنوا عن قتال عدوِّكم، وامنعوا ظالمكم من مظلومكم، وأنصفوا الناس من أنفسكم، ولا تحملوا على الله ذنوبكم)).
وروي عن مكحول عن أبي هريرة أن رجلاً من خثعم قام إلى النبيء صلى الله عليه وآله وسلم فقال: متى يرحم الله عباده؟ قال: ((ما لم يعملوا بالمعاصي ثم يزعمون أنها من الله تعالى، فإذا فعلوا ذلك انتزعت عنهم الرحمة انتزاعاً. قال الخثعمي: يا رسول الله، أيَضِلُّ الرّجلُ وهو يقرأُ القرآن؟ قال: إذا قال هذا القول طُبِعَ على قلبه)).
وروي عن أنس بن مالك قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يقول: ((ما هلكت أمّةٌ حتى يكون الجبرُ قولهم )).
وعن أبي ذرٍّ رحمه الله عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أنه قال: ((يقول الله عزّ وجلّ: يا عبادي إني حرمتُ الظُّلمَ على نفسي وجعلتُهُ بينكم محرّماً فلا تَظَالموا)). (1/204)
واعلم أن القول بالعدل هو إجماع المهاجرين والأنصار، فمن ذلك: ما روي عن أمير المؤمنين عليه السَّلام أنه لما انصرف من صِفِّينَ، قام إليه شيخٌ من أهل الحجاز، فقال: يا أمير المؤمنين أخبرنا عن مسيرنا إلى الشام أكانَ بقضاءِ الله وقدره؟ فقال أمير المؤمنين عليه السَّلام: والذي فلق الحبَّة وبرأَ النَّسمة ما هبطنا وادياً ولا عَلَونا تَلْعَةً إلا بقضاء من الله وقدرٍ. فقال الشيخ: في الله أحتسب عنائي ومسيري، والله ما أحسب لي من الأجر شيئاً. فقال أمير المؤمنين عليه السَّلام: لقد عظَّم الله لكم الأجر في مسيركم وأنتم ذاهبون، وفي مُنقلبكم وأنتم منصرفون، ولم تكونوا في شيءٍ من حالاتكم مكرهين، ولا إليها مضطرين.
قال الشيخ: كيف يكون ذلك والقضاءُ والقدرُ سَاقَانَا، وعنهما كان مسيرنا؟
قال أمير المؤمنين عليه السَّلام: لعلّك تظنُّ قضاءً لازماً وقدراً حتْماً؛ لو كان ذلك كذلك لبطل الثّواب والعقابُ، وسقط الوعدُ والوعيدُ، وما كانت تأتي من الله لائمةٌ لمذنبٍ ولا مَحْمَدَةٌ لمُحسنٍ، وما كان المحسنُ أولى بثواب الإحسان من المذنبِ، ولا المذنبُ أولى بعقوبة الذنب من المحسن، تلك مقالةُ إخوان الشيطان، وعبدةِ الأوثان، وخصماءِ الرحمن، وشهداءِ الزور، وأهل البغي والفجورِ، هم قدريّة هذه الأمة ومجوسها، إن الله تعالى أمَرَ تَخْيِيراً، ونَهَى تحذيراً، ولم يُكلّف عسيراً، ولا بعث الأنبياء عبثاً، ولا أرى عجائب الآيات باطلاً {ذَلِكَ ظَنُّ الَّذِينَ كَفَرُوا فَوَيْلٌ لِلَّذِينَ كَفَرُوا مِنَ النَّارِ}[ص:27]. فقال: وما ذلك القضاء الذي ساقنا؟ فقال أمير المؤمنين عليه السَّلام: أمْرُ الله تعالى بذلك وإرادته لهُ، ثم تلا عليهم: {وَقَضَى رَبُّكَ أَلاَّ تَعْبُدُوا إِلاَّ إِيَّاهُ وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا}[الإسراء:23]. (1/205)
فنهض الشيخ مسروراً بما سمع وهو يقول:
أنتَ الإمامُ الذي نرجو بطاعتهِ
يومِ النُّشُورِ منَ الرحمنِ رضواناً
أوضحتَ من ديننا ما كانَ مُشتبهاً
جزاكَ ربُّكَ عنّا فيهِ إحساناً
وروي أن أبا بكر سُئل وهو على منبر رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم عن الكلالة فقال: ما سمعتُ فيها شيئاً، وسأقول فيها برأيي -فإن أصبتُ فالله وفّقني، وإن أخطأتُ فالخطأ منّي، ومن الشيطان، والله ورسولُهُ منه بَريَّانِ- أراه ما خلا الوالد والولد. فلما وليَ عمرُ قال: أستحي أن أردَّ قضاءً، قضى به أبو بكر.
وروي أن كاتباً كتب عند عمر: هذا ما أرى الله عُمَرَ، فقال عمرُ: امحه، واكتب هذا ما رأى عمر، فإن كان صواباً فمن الله، وإن يكن غيرَ صوابٍ فمن عمر. (1/206)
وروي أن ابن مسعود سُئل عن امرأةٍ مات عنها زوجُها، ولم يفرض لها صِدَاقاً فقال: أقول فيها برأيي -فإن يكن صواباً فمن الله، وإن يكن خطأً فمنِّي، ومن الشيطان، والله ورسوله منه بريان- لها مثلُ صِدَاقِ امرأةٍ من نسائها، لا وكس ولا شطط، ولها الميراثُ، وعليها العدّةُ.
وروي عن علي بن عبد الله بن العباس قال: كنتُ جالساً عند أبي، فقال له رجلٌ: يا أبا العباس إن هاهنا قوماً يزعمون أنهم أُتُوا من قِبَلِ الله تعالى، وأنّ الله أجبرهم على المعاصي. فقال: لو علمتُ أن هاهنا أحداً منهم لقبضتُ على حلقه فعصرته حتى تزهق نفسُهُ.
وروي مثل ذلك في العدل عن جابر بن عبد الله، وحذيفة بن اليمان، وغيرهم، وهو قول أهل البيت " والمعتزلة.
وروي أن الحجاج بن يوسف كتب إلى الحسن بن أبي الحسن البصري، وإلى واصل بن عطاء، وإلى عمرو بن عبيد؛ يسألهم عن العقوبة على أفعال الشَّر، وهل هي من أفعال الله تعالى، أو من أفعال الفاعلين؟
فكتب إليه الحسن يقول: ما سمعتُ في ذلك إلا قول عليّ عليه السَّلام، فإنه قال: (أترى الذي نهاك دهاك؟! إنما دهاك أسفلُك وأعلاك، والله بريءٌ من ذاك).
وكتب إليه واصل بن عطاء: ما سمعتُ فيه إلا قول عليّ عليه السَّلام، فإنه قال: (أيَدُلُّكَ الطّريق ويلزم عليك المضيق تعالى الله عن ذلك علوًّا كبيراً).
وكتب إليه عمرو بن عبيد: ما سمعتُ في ذلك إلا قول علي عليه السَّلام، فإنه قال: (إذا كان القضاءُ حتماً كانت عقوبة المأمور ظلماً). (1/207)
فلما وصلت الكتب وكلُّها مسندةٌ إلى أمير المؤمنين عليه السَّلام قال: قاتلهم الله، لقد أخذوها من عينٍ صافية.
وروي أن أوَّل من أظهر الجبر: معاوية -لعنه الله، فروي عنه أنه قام خطيباً بالشام فقال: يا أهل الشّام إنما أنا خازنٌ من خزَّان الله، أعطي من أعطى الله، وأمنع من منع الله. فقام إليه أبو ذر فقال: كذبتَ يا معاوية، إنك تُعطي من منعه الله، وتمنع من أعطاه الله. فقام عُبادة بن الصامت فقال: صدق أبو ذر. فقام أبو الدرداء فقال: صدق عبادة. قال: فنزل من المنبر وهو يقول: فنعم إذاً، فنعم إذاً.
ومعاوية ممن لا يُعتدّ بقوله؛ لأن العلماءَ من الأمّة والفضلاءِ مجمعون على فسقه، ومنهم من يعدُّه كافراً مرتدًّا، ورووا فيه أخباراً عن النبيء صلى الله عليه وآله وسلم.
روي عن أبي سعيد الخدري وعبد الله بن مسعود وجابر بن عبد الله الأنصاري وحذيفة بن اليمان؛ كلُّهم يروون عن النبيء صلى الله عليه وآله وسلم أنه قال: ((إذا رأيتم معاوية يخطب على منبري فاضربوا عنقه)) قال: فلم يفعلوا فأذلّهم الله. وروي عن النبيء صلى الله عليه وآله وسلم أنه قال: ((إذا رأيتم معاوية يطلُبُ الملك فاضربوا عنقه)). وروي عن النبيء صلى الله عليه وآله وسلم أنه قال: ((إن هذا يُريد الأمر من بعدي -يريد معاوية- وأشار بيده إليه، فمن أدركه منكم وهو يُريده فليبقُر بطنَهُ)). وروي عن عبد الله بن عمر قال: تركتُ أبي يتهيَّأ للمضيُّ إلى النبيء صلى الله عليه وآله وسلم فدخلتُ على رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فسمعته يقول: ((ليدخلنّ عليَّ رجل يكون على غير ملتي )) فرهبت أن يكون أبي فما زالت عيني إلى الطريق حتى دخل معاوية)). وروي أنه مات وفي عنقه صليبٌ. فَمِنْ قِبَلِ هذا أنه لا يُقتدى بقوله. (1/208)
فصل في الكلام في الاستطاعة (1/209)
اختلفوا في الاستطاعة قبل الفعل وبعده (ومعه):
فعندنا وعند علماء المعتزلة أن الاستطاعة قبل الفعل، والاستطاعة الواحدةُ تكون على الشيء وضدِّه، وإن الله لا يسلُبُ عبدهُ الاستطاعة على شيءٍ ثمّ يأمره بفعله.
وقالت المجبرة من النّجارية والجهمية والأشعرية: الاستطاعة مع الفعل، وقالوا: الاستطاعة على الكفر هي غير الاستطاعةِ على الإيمان، ولا تكون الاستطاعة على الشيء وضدّه، فمن كان مستطيعاً للإيمان لا يكون مستطيعاً للكفر، ومن كان مستطيعاً للكفر لا يكون مستطيعاً للإيمان، ودليلهم أنهم قالوا: إنَّا مُحتاجون إلى الله في كل وقتٍ نحتاج فيه إلى الاستطاعة، فلما كانت حاجتنا إليه عند كل فعلٍ، والتمكين منه عند كل شيءٍ، علمنا أن استطاعتنا مع فعلنا. قالوا: ولأن أحدنا قد يُريد الفعلَ قبل أن يُريد الحركةَ، فإذا فعل تحرَّكَ، وإذا تحرَّك فَعَلَ، فصح الاستطاعة مع الفعل.
وقال أبو حنيفة، ومن قال بقوله من المرجئة، (وابن النّجار) وابن التَّمَّار، ومن قال بقوله من الزيدية: الاستطاعة مع الفعل، والشيءُ الذي يفعل به الإيمان هو الشيء الذي يفعل به الكفرُ، وعلتهم: أنّ الكافر لما أُمِرَ بالإيمان، حوَّل القوّةَ والحركة التي كان يستعملها في الكفر.
وقال أبو حنيفة: الأمرُ مع الفعل.
وقال ابن التّمار: الأمر قبل الفعل، وهو مشغول مع الفعل، ودليله: أنّك لا تفعل فعلينِ في وقتٍ واحدٍ.
وقال صاحب الطَّاق، وهشام الجواليقي: الاستطاعة قبل الفعل، ولا يكون الفعل إلا أن يشاءَ الله؛ وعلتهم: أن أحداً لا يفعل في سلطان الله شيئاً إلا أن يشاء الله ذلك. (1/210)
وقال هشام بن جرول: الاستطاعة مثل الفاس والدَّلو والإبرة.
وقالت الفضليَّة -وهم أصحاب فُضيل الرَّقاشي- والشمريّة -وهم أصحاب أبي شمر- والميمونيّة -وهم صنفٌ من الخوارج-: الاستطاعة قبل الفعل، وإنما هي سلامة الجوارح.
وقال بشر بن المعتمر، ومن قال بقوله: الاستطاعةُ قبل الفعل، وهي عَرَضٌ، وهي السّلامة وحدها، [قال] وعند الله عونٌ أعطاه أولياءَهُ ومنعه أعداءهُ، ودليله قوله تعالى: {إِنْ نَشَأْ نُنَزِّلْ عَلَيْهِمْ مِنَ السَّمَاءِ آيَةً فَظَلَّتْ أَعْنَاقُهُمْ لَهَا خَاضِعِينَ}[الشعراء:4]، وقال تعالى: {فَمَنْ يُرِدِ اللَّهُ أَنْ يَهدِيَهُ يَشْرَحْ صَدْرَهُ لِلإِسْلاَمِ }[الأنعام:125]،.
وقال أبو الهذيل العلاّف، ومن قال بقوله: الاستطاعةُ قبل الفعل، وهي عرضٌ من الأعراض، ودليله أن الاستطاعة لا تبقى زمنين لأنه إذا فعل الفعل كان غير محتاجٍ إلى الاستطاعة يفعل بها الفعل الموجود.
وقال معمّر: الاستطاعة قبل الفعل، والبدنُ مَوَاتٌ يفعل بالطبيعة، والإنسان يفعل بالاختيار.
وقال حفص الفرد، وصالح قبة: الاستطاعة قبل الفعل، وهي مع الفعل.
وقال بعضُ الإماميّة، منهم أبو مالك الحضرمي: الاستطاعة مع الفعل له، ولتركه، وقبل الفعل.
وقال ضرار بن عمرو ومن قال بقوله: الاستطاعة قبل الفعل، وهي بعضُ الإنسان، ودليله على أنها بعضُ الإنسان؛ أنه لما رأى الإنسان لا ينفك من لونٍ وطعمٍ ورائحةٍ ومَحَسّةٍ وسمعٍ وبصرٍ وقُوّةٍ وعجزٍ، فلما كان اللون بعضه كذلك كان العجزُ والقوّة بعضه. (1/211)
وقال إبراهيم النظام: أنت مستطيعٌ قبل الفعل، وأحَالَ أن تكون الاستطاعة غير المستطيع، وعلته أنه لو كانت الاستطاعة غيره لكانت مفسدةً عليه ولكانت غير مُعِينَةٍ له.
وللمتكلمين في هذا كلامٌ طويلٌ، ونحن عمدنا في كتابنا هذا [إلى] الاختصار.
ونحن نقول: إن الاستطاعة قبل الفعل، وهي جسمٌ وعرضٌ. فالجسمُ هو الحواسُّ واللسانُ واليدانِ والرِّجلانِ وسائر الجوارح، والعرضُ قُوةُ النَّفْسِ، وهي قبل الفعل، فإذا أراد الفعل تحركت له النفس.
وقُوة النفس عَرَضٌ حالٌّ في الجسم، يتناول بها المعصية كما يتناول بها الطاعة، والعبد قادر بها على الفعل، قادرٌ بها على تركه؛ ولأن الله قد جعلها في العبد وجعله مالكاً لها ولم يجعلها مالكةً له، ومكّنه بها على فعل الطاعة التي خلقه لها، وجعله مستطيعاً بها على فعل المعصية لِيَبْلُوَهُ، ولولا ذلك ما استحقّ الحمد والثواب على فعله للطاعات ولزوم نفسه عن المنكرات، ولَمَا استحقّ الذّم والعقاب على فعله للمحرّمات وتركه للواجبات. ولو كانت الاستطاعة مع الفعل، وكانت الاستطاعة على الشيءِ ولا تكون على ضدّه؛ كان الله قد كلّف ما لا يُطاق، ولو كلّف العبد ما لا يطيقه لكان (ذلك) ظلماً وعبثاً. ألا ترى أنه لو كلّف العاصي الطّاعة وسلبه الاستطاعة ثم عذّبه لكان ظلماً؟ ـ تعالى الله عن ذلك علوًّا كبيراً. (1/212)
والدليل على أن الاستطاعة جسمٌ وعرض أنه لولا الآلة لم يكن الإنسان مستطيعاً بقوة النفس، ولولا قوة النفس لم يكن مستطيعاً بالجوارح، وقد تكون الاستطاعة قُوَّة النفس، والآلة مستطيعةٌ.
ومما يدل على أن الاستطاعة قبل الفعل أن سلطاناً لو كلّف نجَّاراً، أو صائغاً، أو حدّاداً، على عمل من الأعمال وليس لأيهم شيءٌ من آلات الصناعة، ولا قوّة نفوسٍ؛ أنه لا يتم لهم صنع شيءٍ مما كلفهم عليه إلا أن تكون قد حصلت لهم الآلة والقُوّة. ألا ترى أنه كلّفهم ما لا يطيقون، وظلمهم في تكليفه لهم المعسُور. وكذلك الطِّفل إذا كُلّفَ عَمَلَ شيءٍ يكون مَنْ يُكلّفه ما لا يطيق ظالماً.
وكذلك إذا كلّف الله عبداً عمل شيءٍ، ولم يكن قد أعطاه الاستطاعة عليه يكون ظالماً في تكليفه للعبد ما لا يطيق، وأعظم من ذلك: أن يسلب الكافر الاستطاعة على الإيمان ثم يعذبه ويتوعده بأصناف العذاب إذا لم يفعل ما لا يطيق، فهل هذا إلا صريح الظلم وخلاف العدل؟! تعالى الله عن ذلك علوًّا كبيراً؛ قال الله تعالى: {وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلاً}[آل عمران:97]. وروي عن النبيء صلى الله عليه وآله وسلم أنه سُئل عن الاستطاعة على الحجّ فقال: ((هي الزّاد والرّاحلة )). ألا ترى أنه لم يجب إلا بعد حصول الاستطاعة، وأن الله تعالى ما كلّف الحج إلا مَنِ استطاع إليه؟ فصحّ أن الاستطاعة قبل الفعل، وقال الله تعالى: {فَاتَّقُوا اللَّهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ }[التغابن:16]، وقال تعالى: {لاَ يُكَلّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلاَّ وُسْعَهَا }[البقرة:286]، وقال تعالى: {لَيْسَ عَلَى الأَعْمَى حَرَجٌ وَلاَ عَلَى الأَعْرَجِ حَرَجٌ وَلاَ عَلَى الْمَرِيضِ حَرَجٌ}[النور:61]، وقال تعالى: {يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلاَ يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ}[البقرة:185]، وقال تعالى: {وَمَا رَبُّكَ بِظَلاَّمٍ لِلْعَبِيدِ }[فصلت:46]، وأبو حنيفة والشافعي يوافقاننا في أن الاستطاعة على الحج قبل الفعل -وهو الزَّاد والرّاحلة- فصح أن الاستطاعة قبل الفعل، وأن الله لا يكلِّف المعسور. (1/213)
فصل في الكلام في الوعد والوعيد (1/214)
أما الوعدُ فلا خلاف بين أهل القبلة فيه، وإنما اختلفوا في صِدْقِ الوعيد.
فعندنا، وعند المعتزلة؛ أن الله صادقُ الوعيد، كما أنه صادقُ الوعد، وأن من مات مُصرًّا على معصيةٍ أنه مُخَلّدٌ في النار وإن كان من أهل القبلة.
وقالت الحشوية، والمرجئة: لا يستحق أهل القبلة العذاب، واستدلّوا بقول الله تعالى: {إِنَّ اللَّهَ لاَ يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ}[النساء:48]، ونفوا المنزلة بين المنزلتين. وقالوا: الناس مؤمنٌ وكافرٌ، وحجتهم قول الله تعالى: {هُوَ الَّذِي خَلَقَكُمْ فَمِنْكُمْ كَافِرٌ وَمِنْكُمْ مُؤْمِنٌ }[التغابن:2].
وقالت المرجئة: يجوز أن يعذبهم، ويجوز أن يَعْفُوَ عنهم، وهو قول بعض المعتزلة، وعلتهم أنهم قالوا: ليس العفو بقبيحٍ، ألا ترى أن إنساناً لو توعد عبده بالعذاب والضّرب، والحبس ثم قَدَرَ عليه وعفا عنه أن ذلك لا يكون قبيحاً.
واستدلوا عليه بقول الشاعر:
وإني إن أَوْعَدتُّهُ أو وَعَدتُّهُ
لَمُخْلِفَ إيعادي ومُصدقُ مَوْعِدِي
وقد رُوي أن عمرو بن عبيد رحمه الله تناظر هو ورجلٌ من المرجئة، فاحتج المرجئ بقول الشاعر:
لَمُخْلِفَ إيعادي ومُصدقُ مَوْعِدِي
فاحتجّ عليه عمرو بن عبيد بقول الله تعالى: {وَنَادَى أَصْحَابُ الْجَنَّةِ أَصْحَابَ النَّارِ أَنْ قَدْ وَجَدْنَا مَا وَعَدَنَا رَبُّنَا حَقًّا فَهَلْ وَجَدْتُمْ مَا وَعَدَ رَبُّكُمْ حَقًّا قَالُوا نَعَمْ}[الأعراف:44].
وبقول الشاعر:
إن أبا ثابتٍ لمجتمع الرّأي
شريف الآباء والبيتِ (1/215)
لا يُخلف الوعد والوعيد
ولا يُصبح من ثاره على فوتِ
وقال قوم من المرجئة: يُعذّبه الله في النار ثم يخرجه. استدلّوا بما روي: ((يخرج رجلٌ من النار قد ذهب حبره وسبره )).
فنقول: إن من دخل الجنة لا يخرج منها أبداً، وهذا مجمعٌ عليه؛ فكذلك من دخل النار لا يخرج منها أبداً.
فأما قول الله تعالى: {ذَلِكَ يَوْمٌ مَجْمُوعٌ لَهُ النَّاسُ وَذَلِكَ يَوْمٌ مَشْهُودٌ ، وَمَا نُؤَخّرُهُ إِلاَّ لأَجَلٍ مَعْدُودٍ ، يَوْمَ يَأْتِ لاَ تَكَلَّمُ نَفْسٌ إِلاَّ بِإِذْنِهِ فَمِنْهُمْ شَقِيٌّ وَسَعِيدٌ ، فَأَمَّا الَّذِينَ شَقُوا فَفِي النَّارِ لَهُمْ فِيهَا زَفِيرٌ وَشَهِيقٌ ، خَالِدِينَ فِيهَا مَا دَامَتِ السَّمَاوَاتُ وَالأَرْضُ إِلاَّ مَا شَاءَ رَبُّكَ إِنَّ رَبَّكَ فَعَّالٌ لِمَا يُرِيدُ ، وَأَمَّا الَّذِينَ سُعِدُوا فَفِي الْجَنَّةِ خَالِدِينَ فِيهَا مَا دَامَتِ السَّمَاوَاتُ وَالأَرْضُ إِلاَّ مَا شَاءَ رَبُّكَ عَطَاءً غَيْرَ مَجْذُوذٍ}[هود:103-108]، فإن الاستثناء هاهنا من الحكم في الدنيا للشقيِّ باسم الشقاءِ، وللسعيد باسم السّعادة. وليست المشيئة بمستثناة من الخلود، وإنما هي مستثناةٌ ممن حُكِم له في الدنيا باسمٍ، ثم رجع عمّا كان عليه. تقديره: فأما الذين حُكِمَ عليهم باسم الشّقاء في الدنيا، ففي النار خالدين فيها، إلا أن يتوبوا في الدنيا. فهذا الاستثناءُ هو المراد بقوله: {إِلاَّ مَا شَاءَ رَبُّكَ}. وكذلك في الذين سعدوا تقديره: وأما الذين كُتب لهم اسم السعادة في الدنيا، ففي الجنة خالدين فيها
ما دامت السماوات والأرض، إلا أن يخرجوا من الطاعة إلى المعصية في الدنيا. وهو المراد بقوله: {إِلاَّ مَا شَاءَ رَبُّكَ}. (1/216)
ومما يؤيد ذلك أن الذين سُعدوا لا يخرجون من الجنة أبداً إذا ماتوا سُعداء بالإجماع. فلو جاز خروج أحدٍ من النار، جاز خروج من يدخل الجنّة؛ لأن الاستثناء هاهنا في ذكر الجنة والنار. فبطل تعلُّقهم بهذه الآية.
وقد قيل: [إن] معنى {إِلاَّ مَا شَاءَ رَبُّكَ} المراد به: وقت الحساب.
وأما الخبر الذي رووه عن النبيء صلى الله عليه وآله وسلم فهو خبرٌ ضعيفٌ؛ لأنه من خبر الآحاد، وإن صحّ فالمراد به: من حُكِمَ له بأنه من أهل النار ثم تاب في الدنيا خرج مما حُكم عليه به.
ويدل على هذا التأويل ما رُوي عن النبيء صلى الله عليه وآله وسلم أنه سمع مُؤذناً يقول: أشهد أن لا إله إلا الله وأشهد أن محمداً رسول الله. فقال صلى الله عليه وآله وسلم: ((خرج من النار )).
ونحن نعارضهم بالكتاب والسنة، قال الله تعالى: {وَمَنْ يَقْتُلْ مُؤْمِناً مُتَعَمِّداً فَجَزَاؤُهُ جَهَنَّمُ خَالِدًا فِيهَا وَغَضِبَ اللَّهُ عَلَيْهِ وَلَعَنَهُ وَأَعَدَّ لَهُ عَذَابًا عَظِيمًا}[النساء:93]، وقال تعالى: {وَإِنَّ الْفُجَّارَ لَفِي جَحِيمٍ ، يَصْلَوْنَهَا يَوْمَ الدِّينِ ، وَمَا هُمْ عَنْهَا بِغَائِبِينَ}[الإنفطار:14-16]، وقال تعالى: {مَا يُبَدَّلُ الْقَوْلُ لَدَيَّ وَمَا أَنَا بِظَلاَّمٍ لِلْعَبِيدِ}[ق:29]، وقال تعالى: {إِنَّ الْمُجْرِمِينَ فِي عَذَابِ جَهَنَّمَ خَالِدُونَ }[الزخرف:74]، وقال تعالى: {وَمَنْ يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَيَتَعَدَّ حُدُودَهُ يُدْخِلْهُ نَارًا خَالِدًا فِيهَا وَلَهُ عَذَابٌ مُهِينٌ}[النساء:14]، وقال تعالى: {بَلَى مَنْ كَسَبَ سَيِّئَةً وَأَحَاطَتْ بِهِ خَطِيئَتُهُ فَأُوْلَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ}[البقرة:81]، ومعنى قول الله تعالى: {إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعًا }[الزمر:53] المراد به مع التوبة؛ لأنه ذَكَرَ عقيب هذه الإنابة بقوله: {وَأَنِيبُوا إِلَى رَبِّكُمْ وَأَسْلِمُوا لَهُ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَكُمُ الْعَذَابُ}[الزمر:54]، فشرط التوبة. وروي عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: ((من قتل نفسه بحديدة فحديدته في يده يَجَأُ بِهَا بطنه في نار جهنّم خالداً مُخلّداً فيها أبداً، ومن ترَدَّى من جبلٍ فقتل نفسه فهو يتردّى في نار جهنّم خالداً مُخلداً فيها أبداً، ومن تحسى سُمًّا فقتل نفسه فهو يتحسّاه في نار (1/217)
جهنّم خالداً فيها مخلداً أبداً)). وروي عن النبيء صلى الله عليه وآله وسلم أنه قال: ((إياكم والزنا ، فإن فيه أربعَ خصال: يُذهب بالبهاءِ من الوجه، ويقطع الرّزق، ويُسخط الرّحمن، ويُخلّد في النّيران)). وروي عن النبيء صلى الله عليه وآله وسلم أنه قال: ((من تعلّم العلمَ ليُباهي به العلماء ، ويُمارى به السفهاء، أو يباهي به في المجالس لم يُرَحْ رائحة الجنّة)). وروي في الأخبار: ((يؤمر بالعالِمِ الفاسق إلى النّار قبل عبدة الأوثان. ويقال: ليس من يعلم كمن لا يعلم)). (1/218)
وروي عن النبيء صلى الله عليه وآله وسلم أنه قال: ((لا يقطع رجل حقَّ امرئٍ مسلمٍ بيمينه إلا حرم الله عليه الجنّة، وأوجب له النار، فقال رجلٌ من القوم: يا رسول الله وإن كان شيئاً يسيراً؟ قال: وإن كان سُواكاً من إراك)). وروي عن النبيء صلى الله عليه وآله وسلم أنه قال: ((تحرم الجنّة على أربعةٍ : المنّان، والغيّاب، والنّمام، ومُدمن الخمر)). فبطل ما قالوا.
فإن اعترض معترضٌ علينا فقال: ليس من العدل أن يعصي العبدُ عند اقتراب أجله فيعذبه الله بمعصيةٍ واحدةٍ صادفت موته، ويُخلَّد في النار ما دامت السماوات والأرض، وهو من أهل القبلة.
قلنا: ليس هذا بلازمٍ لنا؛ لأنهم مُجمعون معنا على أن إنساناً لو كفر وقت بلوغه -وهو من أولاد المشركين- ثم صادف ذلك موته، أنه يكون في النار خالداً مُخلداً فيها، مع أنهم قالوا: أطفال المشركين في النار، ولسنا نقول به. فإذا كان هذا كَفَرَ عند بلوغه فدخل النار بكفره، فالذي يعصي ربّه مع معرفته به وبالحلال والحرام أحقّ بالعذاب والنّكال، لِمَا روي: ((يؤمر بالعالِمِ الفاسقِ إلى النار قبل عبدة الأوثان. ويُقال: ليس من يعلم كمن لا يعلم)). (1/219)
ويؤيد ذلك أن الكافر يعصي الله وهو يظن أنه لا يراه، والمسلمُ العالمُ يعصي الله وهو يعلم أنه يراهُ، فلا يحتشم منه، ولا يمتنع من فعل الفاحشة، ولو علم أن إنساناً يراه -رفيعاً أو وضيعاً- لاحتشم منه، وامتنع من مواقعة الفاحشة. ألا ترى أنه لا يحتشم من ربِّه، واحتشم من أشرِّ خلقه، فجعل ربَّهُ أهون الناظرين إليه، فهذا يخلد في النِّيران، ويكون حقيقاً بالخزي، والهوان.
وأما احتجاجهم بقول الله تعالى: {إِنَّ اللَّهَ لاَ يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ}[النساء:48]، فإن المراد به الصغائر، والتوبة أيضاً من الكبائر؛ والدليل على ذلك قول الله تعالى: {الَّذِينَ يَجْتَنِبُونَ كَبَائِرَ الإِثْمِ وَالْفَوَاحِشَ إِلاَّ اللَّمَمَ إِنَّ رَبَّكَ وَاسِعُ الْمَغْفِرَةِ}[النجم:32]، فأخبر أنه واسع المغفرة؛ لمن اجتنب كبائر الإثم والفواحش، وأنه لا يغفر الفواحش والكبائر؛ إلا لمن تاب لقوله تعالى: {وَإِنّي لَغَفَّارٌ لِمَنْ تَابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ صَالِحًا ثُمَّ اهْتَدَى }[طه:82]، وقوله: {وَإِنَّ رَبَّكَ لَذُو مَغْفِرَةٍ لِلنَّاسِ عَلَى ظُلْمِهِمْ }[الرعد:6]، المراد به إذا تابوا وأخلصوا، وذلك موجود في القرآن كثير. (1/220)
فصل في الكلام في المنزلة بين المنزلتين (1/221)
فعندنا، وعند المعتزلة أن الفاسقَ ليس بمؤمنٍ، ولا كافرَ جُحُودٍ، بل هو كافرُ نعمةٍ.
وقال حسين النَّجار، ومن قال بقوله، والأشعرية: الفاسقُ فاسقٌ بفسقه، مؤمنٌ بإيمانه، والإيمان عندهم هو التصديق بالقلب.
وذهبت الخوارج إلى أنه مشرك.
وقال الحسن البصري: هو منافقٌ، واستدلوا بقول الله عزّ وجلَّ: {لاَ يَصْلاَهَا إِلاَّ الأَشْقَى ، الَّذِي كَذَّبَ وَتَوَلَّى}[الليل:15،16]، وقد قال: {إِنَّ الَّذِينَ يَأْكُلُونَ أَمْوَالَ الْيَتَامَى ظُلْمًا إِنَّمَا يَأْكُلُونَ فِي بُطُونِهِمْ نَارًا وَسَيَصْلَوْنَ سَعِيرًا}[النساء:10]، فأوجب لهم النار، وقد أخبر أنه لا يصلاها إلا الأشقى الذي كذَّب وتولى، فعلمنا أنهم مكذِّبون، ولقوله: {وَإِنَّ جَهَنَّمَ لَمُحِيطَةٌ بِالْكَافِرِينَ }[التوبة:49].
وحجّة النّجارية والأشعريّة: أن إنساناً كافراً لو صدّق بقلبه بالله وبكتبه وملائكته ورسله واليوم الآخر ثم مات أنه يموت مؤمناً.
فنقول: إن اسم المؤمن منقول من اللغة إلى العرف؛ لأن الإيمان في اللغة هو التصديقُ، فنُقل إلى اسم الدِّين، فمنِ اعتقد بقلبه ما جاء به رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وأقرّ به بلسانه وعمل به كان مؤمناً، فصار هذا الاسم منقولاً إلى العرف. ومثل ذلك: اسم الصّلاة كان موضوعاً في اللغة للدعاء فنقلت إلى الصلاة المخصوصة، ومن ذلك الغائط، والدَّابة، وأمثال ذلك. واسم الكفر في اللغة كان موضوعاً للتّغطية، فنقل إلى من جحد وكذَّب وكفر؛ وكذلك اسم الفاسق؛ كان في اللغة لخروج الشيء من موضعه، كما يقال للفأرة إذا خرجت من جُحرها: فُوَيْسِقَةٌ. وإذا خرجت النواة من الرُّطبة قيل: فسقت النّواةُ، أي خرجت، فنقل إلى اسم العاصي المتهتِّك، وكان في العرف اسم المؤمن مدحاً له، ألا ترى أن من مدح إنساناً قال: هو مؤمنٌ؟ واسم الكافر ذمٌّ له، وكذلك اسم الفاسق. ويد على ذلك: أن الكافر والفاسق يغضبان إذا قيل لهما: يا كافر، ويا فاسق، ويكرهان ذلك، وأن المؤمن يُحبّ أن يقال له: يا مؤمن، ويرضَى به، فلما صحّ أن الفاسقَ مذموم بفسقه، صحّ أنه لا يكون مذموماً محموداً في وقتٍ واحدٍ؛ ولأن المدح والذم ضدّان، ولا يجتمع ضدّان في وقتٍ واحدٍ ومحلٍّ واحدٍ، كما لا يجتمع السواد والبياضُ في محلٍّ واحدٍ. (1/222)
فأما قول العرب والمتكلمين من العلماء في أن الفرس [إذا] داخل فيه البياض والسّواد واجتمعا سُمِّيَ أبلق، ولا يسمى أبلق بأحدهما؛ فإن مرادهم إذا كان بعضُ جسد الفرس أبيض وبعضه أسود؛ لأن السوادَ والبياضَ لو اجتمعا في موضعٍ واحدٍ لم يكونا سواداً ولا بياضاً، وكانا لوناً آخرَ، فصحّ أن الفاسق لا يجتمع فيه الحمد والذَّم معاً، ولا يبقى له اسمُ الإيمان تامًّا، ولا يكون كافراً جاحداً بل يكون كافر نعمةٍ؛ قال الله تعالى: {أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ بَدَّلُوا نِعْمَةَ اللَّهِ كُفْرًا }[إبراهيم:28]. (1/223)
والمؤمن عندنا من اعتقد بقلبه التّصديق بالله وبملائكته وكتبه ورسله، واليوم الآخر، وما جاء به رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، وأقرّ به بلسانه، وعمل ما أُمِرَ بعمله من الطاعات، واجتنب ما نُهِيَ عنه من المنكرات، فمن اجتمع فيه ما ذكرنا فهو مؤمنٌ.
والدليل على ما قلنا من كتاب الله قوله عزّ من قائلٍ: {قَدْ أَفْلَحَ الْمُؤْمِنُونَ ، الَّذِينَ هُمْ فِي صَلاَتِهِمْ خَاشِعُونَ ، وَالَّذِينَ هُمْ عَنِ اللَّغْوِ مُعْرِضُونَ ، وَالَّذِينَ هُمْ لِلزَّكَاةِ فَاعِلُونَ ، وَالَّذِينَ هُمْ لِفُرُوجِهِمْ حَافِظُونَ ، إِلاَّ عَلَى أَزْوَاجِهِمْ أو مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُمْ فَإِنَّهُمْ غَيْرُ مَلُومِينَ ، فَمَنِ ابْتَغَى وَرَاءَ ذَلِكَ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الْعَادُونَ ، وَالَّذِينَ هُمْ لأَمَانَاتِهِمْ وَعَهْدِهِمْ رَاعُونَ ، وَالَّذِينَ هُمْ عَلَى صَلَوَاتِهِمْ يُحَافِظُونَ ، أُوْلَئِكَ هُمُ الْوَارِثُونَ ، الَّذِينَ يَرِثُونَ الْفِرْدَوْسَ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ}[المؤمنون:1-11]، وقال: {إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ إِذَا ذُكِرَ اللَّهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ ...}الآية[الأنفال:2]، وقال تعالى: {وَالَّذِينَ آمَنُوا وَهَاجَرُوا وَجَاهَدُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَالَّذِينَ آوَوا وَنَصَرُوا أُوْلَئِكَ هُمُ الْمُؤْمِنُونَ حَقًّا}[الأنفال:74]، وقال تعالى: {قَالَتِ الأَعْرَابُ آمَنَّا قُلْ لَمْ تُؤْمِنُوا وَلَكِنْ قُولُوا أَسْلَمْنَا وَلَمَّا يَدْخُلِ الإِيمَانُ فِي قُلُوبِكُمْ وَإِنْ تُطِيعُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ لاَ يَلِتْكُمْ مِنْ أَعْمَالِكُمْ شَيْئًا إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ ، إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ ثُمَّ لَمْ يَرْتَابُوا وَجَاهَدُوا بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنفُسِهِمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ أُوْلَئِكَ هُمُ الصَّادِقُونَ} (1/224)
[الحجرات:14،15]، وقال تعالى: {بِئْسَ الاِسْمُ الْفُسُوقُ بَعْدَ الإِيمَانِ }[الحجرات:11]، وقال تعالى: {وَلَكِنَّ اللَّهَ حَبَّبَ إِلَيْكُمُ الإِيمَانَ وَزَيَّنَهُ فِي قُلُوبِكُمْ وَكَرَّهَ إِلَيْكُمُ الْكُفْرَ وَالْفُسُوقَ وَالْعِصْيَانَ}[الحجرات:7]، وقال تعالى: {مِنْهُمُ الْمُؤْمِنُونَ وَأَكْثَرُهُمُ الْفَاسِقُونَ }[آل عمران:110]، وقال تعالى: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا تَدَايَنتُمْ بِدَيْنٍ إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى فَاكْتُبُوهُ...} إلى قوله: {وَاسْتَشْهِدُوا شَهِيدَيْنِ مِنْ رِجَالِكُمْ فَإِنْ لَمْ يَكُونَا رَجُلَيْنِ فَرَجُلٌ وَامْرَأَتَانِ مِمَّنْ تَرْضَوْنَ مِنَ الشُّهَدَاءِ أَنْ تَضِلَّ إِحْدَاهُمَا فَتُذَكّرَ إِحْدَاهُمَا الأُخْرَى}[البقرة:282]، فأمر المؤمنين بالإشهاد. ثم نَهى عن قبول شهادة الفاسق؛ فقال في من قَذَفَ، ولم يأت بالشُّهداءِ: {وَلاَ تَقْبَلُوا لَهُمْ شَهَادَةً أَبَداً وَأُوْلَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ}[النور:4]، وقال: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ جَاءَكُمْ فَاسِقٌ بِنَبَإٍ فَتَبَيَّنُوا أَنْ تُصِيبُوا قَوْماً بِجَهَالَةٍ فَتُصْبِحُوا عَلَى مَا فَعَلْتُمْ نَادِمِينَ}[الحجرات:6]، وقال تعالى في صفة النبيء صلى الله عليه وآله وسلم: {حَرِيصٌ عَلَيْكُمْ بِالْمُؤْمِنِينَ رَءُوفٌ رَحِيمٌ }[التوبة:128]، وقال في صفة المؤمنين: {أَشِدَّاءُ عَلَى الْكُفَّارِ رُحَمَاءُ بَيْنَهُمْ }[الفتح:29]، ثم قال في الزاني، والزانية: {وَلاَ تَأْخُذْكُمْ بِهِمَا رَأْفَةٌ فِي دِينِ اللَّهِ إِنْ (1/225)
كُنتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ}[النور:2]. وروي عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أنه قال: ((لا يزني الزاني حين يزني وهو مؤمنٌ ، ولا يشرب الخمر وهو مؤمنٌ، قالوا: يا رسول الله، كيف يفعل إذا وقع شيءٌ من ذلك؟ قال: إنْ راجع التّوبة راجع الإيمان، وإن لم يتب لم يكن مؤمناً)). (1/226)
وروي عن أمير المؤمنين عليه السَّلام أنه سُئل عن البُغاة -أهل النهروان- فقيل له: أكفّارٌ هم؟ قال: (من الكفر هَرَبوا)، فقيل: أمؤمنون هم؟ قال: (لو كانوا مؤمنين ما قاتلناهم، ولكنهم إخواننا بالأمس بغوا علينا). فصحّ أن البغاة ليسوا بمؤمنين ولا كافرين، وأن لهم منزلةً بين المنزلتين.
ونقول: إنهم من أهل النار مخلّدون فيها، وعذابُ الكفّار أشد من عذابهم، ولا يُحكم عليهم باسم النفاق؛ لأن المنافق مُقرٌّ في الظاهر، مُستحلٌّ في الباطن، وحُكْمُ الفاسق في الدنيا حكم المؤمن إلا في الموالاة والمعاداة والشهادات وأمثالها، فإنه يجب أن يتبرأ منه ولا يُوالَى، لكنّه يَرِثُ ويُورث، ويَنْكِحُ ويُنْكَحُ، ويُدْفَنُ في مقابر المسلمين.
وقد اختلف أهل البيت" في ذبيحته؛ فمنهم من نهى عنها، ومنهم من أجازها، وأنا لا أريدها ولا أجعلها ميتةً؛ لأنه ليس بمؤمنٍ ولا بكافرٍ جاحدٍ، هذا إذا كان مقيماً للصلاة مُؤتياً للزّكاة غير مُدمنِ خمرٍ.
وأما إذا كان مُتهتّكاً فذبيحته ميتةٌ لا يجوز أكلها. وقد ذكر الهادي عليه السَّلام أنه لا بأس بذبيحة الفاسق ما لم يبلُغ فسقه الكفر. وقال في مسائل الطبريين: وسألتَ عن رجلٍ يعرفُ العدلَ والتوحيد، وهو يشربُ الخمر هو وامرأته، أو يكذب، أو يستحل مالَ مسلمٍ فقلتَ: هل يجوز أكل ذبيحته؟ (1/227)
واعلم رحمك الله أن من شرب الخمر أو استحلّ أموال المسلمين، فليس هو عند من عرف الحق من المؤمنين، ومن لم يكن من المؤمنين، فأفعاله كلها أفعال أضداد المسلمين، ومن كان ضدّاً للمسلمين فلا يجوز أكل ذبيحته لأحدٍ من المؤمنين.
فصل في الكلام في الهداية والإضلال (1/228)
اختلف الناس في الهداية والإضلال.
فذهب الذين قالوا: الاستطاعة مع الفعل، وسائر المجبرة إلى أن الله أجبر المهتدين على الهُدَى، وأجبر الضالين على الضّلال؛ واستدلوا بظاهر قول الله تعالى: {كَذَلِكَ يُضِلُّ اللَّهُ مَنْ يَشَاءُ وَيَهْدِي مَنْ يَشَاءُ }[المدثر:31].
وعندنا وعند المعتزلة: أن الهُدى من الله على ثلاثة وجوه:
فهدىً تفضُّلٌ ابتدأ الله به المكلّفين، يستوي فيه المؤمن والكافرُ، والبر والفاجر؛ وهو العقل الضروريُّ الذي هو استحسان الحَسَنِ واستقباحُ القبيحِ. قال الله تعالى: {إِنَّا هَدَيْنَاهُ السَّبِيلَ إِمَّا شَاكِرًا وَإِمَّا كَفُورًا}[الإنسان:3]، وقال تعالى: {أَلَمْ نَجْعَلْ لَهُ عَيْنَيْنِ ، وَلِسَانًا وَشَفَتَيْنِ ، وَهَدَيْنَاهُ النَّجْدَيْنِ}[البلد:8-10]، فهذا هو الهدى المبتدا، وهو حُجّةُ الله على العبد.
وكذلك الكتابُ، والرسولُ، هَدَى الله بهما الناس؛ قال تعالى في الكتاب: {شَهْرُ رَمَضَانَ الَّذِي أُنزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ هُدًى لِلنَّاسِ وَبَيِّنَاتٍ مِنَ الْهُدَى وَالْفُرْقَانِ}[البقرة:185]، وقال في الرسول صلى الله عليه وآله وسلم: {هُوَ الَّذِي بَعَثَ فِي الأُمِّيِّينَ رَسُولاً مِنْهُمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ وَيُزَكّيهِمْ وَيُعَلّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَإِنْ كَانُوا مِنْ قَبْلُ لَفِي ضَلاَلٍ مُبِينٍ...} إلى قوله: {ذَلِكَ فَضْلُ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشَاءُ}[الجمعة:2-4]، وقال تعالى: {وَإِنَّكَ لَتَهْدِي إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ }[الشورى:52]، فصحّ أنه هُدًى [أي القرآن] من الله تفضّل به على جميع عباده، وقال تعالى: {هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدَى وَدِينِ الْحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلّهِ وَلَوْ كَرِهَ الْمُشْرِكُونَ}[الصف:9]. (1/229)
والثاني: هُدى جزاء وهو الجنة، قال الله تعالى: {وَالَّذِينَ قَاتلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَلَنْ يُضِلَّ أَعْمَالَهُمْ ، سَيَهْدِيهِمْ وَيُصْلِحُ بَالَهُمْ ، وَيُدْخِلُهُمُ الْجَنَّةَ عَرَّفَهَا لَهُمْ}[محمد:4-6]، ولأن الذين قاتلوا، قد قُتل منهم في الحال قوم، فصح أن الهُدَى الذي وعدهم الله في الآخرة؛ لأنهم لم يبقوا لهداية الدنيا. وقد قرأ أبو عمروٍ: {وَالَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ ...}الآية. ومما يؤكد هذا قول الله تعالى: {إِنَّكَ لاَ تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ }[القصص:56]، أراد به هُدَى الجزاء على الحقيقة؛ لأنه لا يُثيب من أحبَّ في الآخرة. (1/230)
فلو كان المراد بالهداية هاهنا في الدنيا، لكان هذا مخالفاً للكتاب والسُّنة، ناقضاً للأصول؛ لأنه قد هَدَى في الدنيا من أحبّ ومن لم يُحب، وأثاب أيضاً في الدنيا من أحبَّ، فصحّ أن المراد: أنك لا تُثيب في الآخرة من أحببتَ، وصحّ أن الجزاء يُسمّى هُدًى، وقول الله تعالى: {إِنَّ اللَّهَ لاَ يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ }[المائدة:51]، وقوله: {إِنَّ اللَّهَ لاَ يَهْدِي الْقَوْمَ الْفَاسِقِينَ }[المنافقون:6]، فهو يُريد هداية الثّواب؛ لأنه قد هداهم في الدنيا فلم يهتدوا، قال عز من قائلٍ: {وَأَمَّا ثَمُودُ فَهَدَيْنَاهُمْ فَاسْتَحَبُّوا الْعَمَى عَلَى الْهُدَى }[فصلت:17].
والثالث: هُدَى زيادةٍ في الثواب في الآخرة، وتوفيقٍ وتسديدٍ في الدنيا، قال الله تعالى: {وَالَّذِينَ اهْتَدَوْا زَادَهُمْ هُدًى وَآتَاهُمْ تَقْواهُمْ}[محمد:17]، وقال تعالى: {لِيَجْزِيَهُمُ اللَّهُ أَحْسَنَ مَا عَمِلُوا وَيَزِيدَهُمْ مِنْ فَضْلِهِ وَاللَّهُ يَرْزُقُ مَنْ يَشَاءُ بِغَيْرِ حِسَابٍ}[النور:38]، وقال تعالى: {وَمَنْ يُؤْمِنْ بِاللَّهِ يَهْدِ قَلْبَهُ }[التغابن:11]، فصح أن الزيادة على الأجر تُسمَّى هُدىً. وقوله تعالى: {وَآتَاهُمْ تَقْواهُمْ} يريد ثوابهم. (1/231)
فأما التوفيق والتسديد في الدنيا فهو مثل قوله: {وَلَكِنَّ اللَّهَ حَبَّبَ إِلَيْكُمُ الإِيمَانَ وَزَيَّنَهُ فِي قُلُوبِكُمْ وَكَرَّهَ إِلَيْكُمُ الْكُفْرَ وَالْفُسُوقَ وَالْعِصْيَانَ أُوْلَئِكَ هُمُ الرَّاشِدُونَ ، فَضْلاً مِنَ اللَّهِ وَنِعْمَةً}[الحجرات:7،8]، فبيّن أنه فضلٌ، والفضل غير الجزاءِ.
وأما الإضلال من الله تعالى، فلا يكونُ من الله تعالى إضلالٌ لأحدٍ، إلا أن يكون جزاءً على معصيةٍ، قال الله تعالى: {يُضِلُّ بِهِ كَثِيرًا وَيَهْدِي بِهِ كَثِيرًا وَمَا يُضِلُّ بِهِ إِلاَّ الْفَاسِقِينَ ، الَّذِينَ يَنقُضُونَ عَهْدَ اللَّهِ مِنْ بَعْدِ مِيثَاقِهِ وَيَقْطَعُونَ مَا أَمَرَ اللَّهُ بِهِ أَنْ يُوصَلَ وَيُفْسِدُونَ فِي الأَرْضِ أُوْلَئِكَ هُمُ الْخَاسِرُونَ}[البقرة:26،27]، وقال تعالى: {كَيْفَ يَهْدِي اللَّهُ قَوْمًا كَفَرُوا بَعْدَ إِيمَانِهِمْ وَشَهِدُوا أَنَّ الرَّسُولَ حَقٌّ وَجَاءَهُمُ الْبَيِّنَاتُ وَاللَّهُ لاَ يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ}[آل عمران:86]، وقال تعالى: {كَلاَّ بَلْ رَانَ عَلَى قُلُوبِهِمْ مَا كَانُوا يَكْسِبُونَ}[المطففين:14]، فصحّ أن الإضلال من الله جزاءٌ للفاسقين على فسقهم. ويؤيد ذلك قول الله تعالى: {وَنُقَلّبُ أَفْئِدَتَهُمْ وَأَبْصَارَهُمْ كَمَا لَمْ يُؤْمِنُوا بِهِ أَوَّلَ مَرَّةٍ وَنَذَرُهُمْ فِي طُغْيَانِهِمْ يَعْمَهُونَ}[الأنعام:110]، وكذلك الطبع والختم بكونان أيضاً من بعد الكفر والفسق جزاءً لهم على كفرهم وفسقهم، قال الله تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا سَوَاءٌ عَلَيْهِمْ أَأَنذَرْتَهُمْ أَمْ لَمْ تُنذِرْهُمْ لاَ يُؤْمِنُونَ ، خَتَمَ اللَّهُ عَلَى قُلُوبِهِمْ وَعَلَى سَمْعِهِمْ وَعَلَى أَبْصَارِهِمْ غِشَاوَةٌ وَلَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ}[البقرة:6،7]، وقال تعالى: {وَمِنْهُمْ مَنْ يَسْتَمِعُ إِلَيْكَ حَتَّى إِذَا خَرَجُوا مِنْ عِنْدِكَ قَالُوا لِلَّذِينَ (1/232)
أُوتُوا الْعِلْمَ مَاذَا قَالَ آنِفًا أُوْلَئِكَ الَّذِينَ طَبَعَ اللَّهُ عَلَى قُلُوبِهِمْ وَاتَّبَعُوا أَهْوَاءَهُمْ}[محمد:16]، فدلّ على أنه جزاؤهم لاتباعهم أهواءهم. (1/233)
وقد ذكر بعض مشائخ المعتزلة: أن الطبع والختم سمةٌ وعلامةٌ جعلها الله في قلوب الكافرين والفاسقين يعرفهم بها الملائكة "، قالوا: لأن الختم والطبع في الشاهد لا يمنع من الكسر.
وقال سائر المعتزلة: الإضلال من الله حكمٌ، وكذلك الختم والطبع، وأنشدوا عليه قول الكميت بن زيد:
وطائفةٌ قد كفَّروني بجمعهم
وطائفةٌ قالوا مسيءٌ ومذنبُ
ومما يدل على أن الهداية من الله جزاءٌ، وأن الإضلال من الله جزاءٌ ما روي عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أنه قال: ((ألا إنه من زَهَدَ في الدنيا وقصّر فيها أمَلَهُ أعطاه الله علماً بغير تعلّمٍ، وهُدىً بغير هدايةٍ، ألا ومن رغب في الدنيا وأطال فيها أمله أعمى الله قلبه على قدر رغبته فيها)).
والذي يدل على صحة ما ذهبنا إليه من أن الإضلال من الله لأعدائه هو الجزاءُ على عصيانهم قوله تعالى: {إِنَّ الْمُجْرِمِينَ فِي ضَلاَلٍ وَسُعُرٍ ، يَوْمَ يُسْحَبُونَ فِي النَّارِ عَلَى وُجُوهِهِمْ ذُوقُوا مَسَّ سَقَرَ}[القمر:47،48]، فصحّ أن الإضلال هو العذاب، وهو جزاءٌ لهم بما فعلوا.
وأما قول الله تعالى: {فَمَنْ يُرِدِ اللَّهُ أَنْ يَهدِيَهُ يَشْرَحْ صَدْرَهُ للإِسْلاَمِ وَمَنْ يُرِدْ أَنْ يُضِلَّهُ يَجْعَلْ صَدْرَهُ ضَيِّقًا حَرَجًا}[الأنعام:125]، فالمراد به ما ذكرنا من الجزاء، والزيادة في الدنيا للمؤمنين من سعة الصدور، واليقين والرحمة للمؤمنين. (1/234)
ومن كفر أو فسق، وعَنَدَ عن الحقّ، جزاه الله على فعاله، وجعله ضيِّق الصّدر. وليس جعْل حتمٍ وجبرٍ، لكنه جعْل حُكمٍ وإرسالٍ، وزيادة في الأعمار والأموال والأولاد وسلامة الأحوال.
والمراد بالآية أن الله وسّع صدر المؤمن [العالم] بالعلم، وتَرَكَ الآخر على أصله؛ لأن أصله الجهل. وقد قيل: العلمُ سَعَةٌ، والجهلُ ضيقٌ.
وقد قال الله تعالى: {أَنَّا أَرْسَلْنَا الشَّيَاطِينَ عَلَى الْكَافِرِينَ تَؤُزُّهُمْ أَزًّا }[مريم:83]، والمراد به أنه أرسلهم وخلاّهم وتركهم.
ومما يدل على أن ذلك، ومثله جزاءٌ من الله تعالى لهم على معصيتهم؛ قول الله تعالى: {سَنُلْقِي فِي قُلُوبِ الَّذِينَ كَفَرُوا الرُّعْبَ بِمَا أَشْرَكُوا بِاللَّهِ مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ سُلْطَانًا وَمَأْوَاهُمُ النَّارُ وَبِئْسَ مَثْوَى الظَّالِمِينَ}[آل عمران:151].
ومما يؤيد أن الله لم يضلهم ابتداءً، بل أضلوا أنفسهم، وأضلهم بعضُهم؛ فحكم الله عليهم باسم الضلال، وجزاهم به عذاب جهنم، قولُ الله تعالى: {وَيَوْمَ يَحْشُرُهُمْ وَمَا يَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ فَيَقُولُ أَأَنْتُمْ أَضْلَلْتُمْ عِبَادِي هَؤُلاَءِ أَمْ هُمْ ضَلُّوا السَّبِيلَ ، قَالُوا سُبْحَانَكَ مَا كَانَ يَنْبَغِي لَنَا أَنْ نَتَّخِذَ مِنْ دُونِكَ مِنْ أَوْلِيَاءَ وَلَكِنْ مَتَّعْتَهُمْ وَآبَاءَهُمْ حَتَّى نَسُوا الذّكْرَ وَكَانُوا قَوْمًا بُورًا}[الفرقان:17،18]، فبان أن الله ما أضلهم، ولكن أضلوا أنفسهم، وأضل بعضهم بعضاً؛ قال الله تعالى: {وَيَوْمَ يَعَضُّ الظَّالِمُ عَلَى يَدَيْهِ يَقُولُ يَالَيْتَنِي اتَّخَذْتُ مَعَ الرَّسُولِ سَبِيلاً ، يَاوَيْلَتِي لَيْتَنِي لَمْ أَتَّخِذْ فُلاَنًا خَلِيلاً ، لَقَدْ أَضَلَّنِي عَنِ الذّكْرِ بَعْدَ إِذْ جَاءَنِي وَكَانَ الشَّيْطَانُ للإِنسَانِ خَذُولاً}[الفرقان:27-29]، وقال: {فَمَاذَا بَعْدَ الْحَقِّ إِلاَّ الضَّلاَلُ }[يونس:32]، وقال تعالى حاكياً قول إبراهيم عليه السَّلام: {قَالَ إِبْرَاهِيمُ رَبِّ اجْعَلْ هَذَا الْبَلَدَ آمِنًا وَاجْنُبْنِي وَبَنِيَّ أَنْ نَعْبُدَ الأَصْنَامَ ، رَبِّ إِنَّهُنَّ أَضْلَلْنَ كَثِيرًا مِنَ النَّاسِ}[إبراهيم:35،36]، وقال تعالى: {وَأَضَلَّهُمُ السَّامِرِيُّ }[طه:85]، وقال: {وَأَضَلَّ فِرْعَوْنُ قَوْمَهُ وَمَا هَدَى }[طه:79]، فبرأ الله نفسه من الإضلال، ونسبه إلى أعدائه. (1/235)
وأما إغواء الشيطان وإضلاله للإنسان، فقد يكون الإغواءُ والإضلال من شياطين الإنس ومن شياطين الجن. (1/236)
فأما شياطين الإنس فذلك ظاهر بَيِّنٌ. وأما شياطين الجن فقد يكون بالمقاربة والمداناة من غير مباشرة، ولا ممازجةٍ، ولا مخالطةٍ، ولا كلامٍ. وقالت الحشوية: الشيطان يمازج الإنسان، ويدخل في صدره ويُخالطه.
فنقول: لو كان يُمازجه كما يقولون لكان الإنسان غير مخيّرٍ، ولا مُمَكّنٍ، ولو كان غير مخيّرٍ ولا ممكّنٍ لكان الله قد كلفه ما لا يطيق، وقد قدمنا الاحتجاج عليهم، ولو كانت نفسٌ تدخل في صدر نفسٍ وتمازجها وتشاركها في فعلها لكان ذلك من أقبح ما يكون، والله بريء من فعل القبيح وقد قال الله: {إِنَّ عِبَادِي لَيْسَ لَكَ عَلَيْهِمْ سُلْطَانٌ }[الحجر:42]، وقال تعالى: {وَلَوْلاَ فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ لاَتَّبَعْتُمُ الشَّيْطَانَ إِلاَّ قَلِيلاً}[النساء:83]، وقد قال الله تعالى حاكياً ما يقول إبليس يوم القيامة: {وَقَالَ الشَّيْطَانُ لَمَّا قُضِيَ الأَمْرُ إِنَّ اللَّهَ وَعَدَكُمْ وَعْدَ الْحَقِّ وَوَعَدْتُكُمْ فَأَخْلَفْتُكُمْ وَمَا كَانَ لِي عَلَيْكُمْ مِنْ سُلْطَانٍ إِلاَّ أَنْ دَعَوْتُكُمْ فَاسْتَجَبْتُمْ لِي فَلاَ تَلُومُونِي وَلُومُوا أَنْفُسَكُمْ...}الآية[إبراهيم:22]، ويوم القيامة موضع صدقٍ، وليس كقوله في الدنيا: {فَبِمَا أَغْوَيْتَنِي }[الأعراف:16]، لأنه في الدنيا يمكنه الكذب، ويوم القيامة لا يقبل منه الكاذب، ولا يُقر عليه، ولا يصدقه أحدٌ، ولا ينتفع بالكذب في شيء، قال الله تعالى: {يَوْمَ يَبْعَثُهُمُ
اللَّهُ جَمِيعًا فَيَحْلِفُونَ لَهُ كَمَا يَحْلِفُونَ لَكُمْ وَيَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ عَلَى شَيْءٍ أَلاَ إِنَّهُمْ هُمُ الْكَاذِبُونَ}[المجادلة:18]، يقول: يحسبون أن الكذب ينفعهم في شيءٍ، وأنهم يُصدقّون كما كانوا إذا حلفوا في الدنيا صُدِّقُوا. فصح أن الشيطان ليس له سلطان على المؤمنين قال الله تعالى: {فَإِذَا قَرَأْتَ الْقُرْآنَ فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ مِنَ الشَّيْطَانِ الرَّجِيمِ ، إِنَّهُ لَيْسَ لَهُ سُلْطَانٌ عَلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ ، إِنَّمَا سُلْطَانُهُ عَلَى الَّذِينَ يَتَوَلَّوْنَهُ وَالَّذِينَ هُمْ بِهِ مُشْرِكُونَ}[النحل:98ـ100]، فصحّ أنه ليس له إحسان في الدخول في صدر الإنسان. وقال الله تعالى: {إِنَّ كَيْدَ الشَّيْطَانِ كَانَ ضَعِيفًا }[النساء:76]، فثبت أنه ليس له قوّةٌ على الإنسان ولا له حيلة في الدخول في صدر الإنسان، فبطل ما قالت الحشوية. (1/237)
واعلم أن الأمة مجمعةٌ على أن الشيطان يُضل الإنسان؛ وقد نطق بذلك القرآن. واختلفوا في كيفية إضلاله. فقالت الحشوية: بالممازجة، وقد قدّمنا الكلام والاحتجاج عليهم. وعندنا أن إضلاله بمعنى المداناة للإنسان والمقاربة؛ ولأنه يعرف في وجه الإنسان ما يدلّ على ما في قلبه، فيدنو منه إذا علم منه المعصية وهو من جنس النفس؛ لأن النفس تدعو إلى الشهوات، وهو والنفس ضدّان للعقل، فإذا اجتمع ضدّانِ على ضدٍّ لهما واحدٍ كادا يغلبانه إلا أن يكون قويًّا. ألا ترى أن إنساناً لو كان في بعض جسده جرحٌ، ويكون ذلك الجرح مما حدث من الحرارة ثم يدنوا من النّار ولا يُماسها أنه يجد حرَّ النار في الجرح، ولا يجده في سائر جسده، وذلك لاجتماع حرارة الجرح وحرارة النار، فكذلك إذا دنا الشيطان من الإنسان توافَقَ هو والنفس، وذلك فليس بأمر من الله ولا جبرٍ. وقد جعل الله للمكلف عقلاً يغلب به النّفسَ والشيطانَ إذا استعمله، فإذا أهمل عقله، وأرخى نفسه، وتبع هواه، كان الشيطانُ في حكم الغالب عليه، قال الله تعالى: {اسْتَحْوَذَ عَلَيْهِمُ الشَّيْطَانُ فَأَنسَاهُمْ ذِكْرَ اللَّهِ أُوْلَئِكَ حِزْبُ الشَّيْطَانِ أَلاَ إِنَّ حِزْبَ الشَّيْطَانِ هُمُ الْخَاسِرُونَ}[المجادلة:19]، وقال الله تعالى: {يَابَنِي آدَمَ لاَ يَفْتِنَنَّكُمُ الشَّيْطَانُ كَمَا أَخْرَجَ أَبَوَيْكُمْ مِنَ الْجَنَّةِ يَنزِعُ عَنْهُمَا لِبَاسَهُمَا لِيُرِيَهُمَا سَوْآتِهِمَا إِنَّهُ يَرَاكُمْ هُوَ وَقَبِيلُهُ مِنْ حَيْثُ لاَ تَرَوْنَهُمْ إِنَّا جَعَلْنَا الشَّيَاطِينَ أَوْلِيَاءَ لِلَّذِينَ (1/238)
لاَ يُؤْمِنُونَ}[الأعراف:27]، وقال تعالى: {وَإِنَّ الشَّيَاطِينَ لَيُوحُونَ إِلَى أَوْلِيَائِهِمْ }[الأنعام:121]، وقال تعالى: {أَلَمْ أَعْهَدْ إِلَيْكُمْ يَابَنِي آدَمَ أَنْ لاَ تَعْبُدُوا الشَّيْطَانَ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُبِينٌ}[يس:60]، وقال تعالى: {وَلَقَدْ أَضَلَّ مِنْكُمْ جِبِلاًّ كَثِيرًا أَفَلَمْ تَكُونُوا تَعْقِلُونَ}[يس:62]، وقال تعالى حاكياً عن موسى عليه السَّلام: {قَالَ هَذَا مِنْ عَمَلِ الشَّيْطَانِ إِنَّهُ عَدُوٌّ مُضِلٌّ مُبِينٌ}[القصص:15]، وقال الله تعالى: {وَإِذَا رَأَيْتَ الَّذِينَ يَخُوضُونَ فِي آيَاتِنَا فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ حَتَّى يَخُوضُوا فِي حَدِيثٍ غَيْرِهِ وَإِمَّا يُنسِيَنَّكَ الشَّيْطَانُ فَلاَ تَقْعُدْ بَعْدَ الذّكْرَى مَعَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ}[الأنعام:68]، وقال تعالى حاكياً عن صاحب موسى: {وَمَا أَنْسَانِيه إِلاَّ الشَّيْطَانُ أَنْ أَذْكُرَهُ }[الكهف:63]، وقال تعالى: {وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رسول وَلاَ نَبِيّ إِلاَّ إِذَا تَمَنَّى أَلْقَى الشَّيْطَانُ فِي أُمْنِيَّتِهِ فَيَنْسَخُ اللَّهُ مَا يُلْقِي الشَّيْطَانُ ثُمَّ يُحْكِمُ اللَّهُ آيَاتِهِ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ ، لِيَجْعَلَ مَا يُلْقِي الشَّيْطَانُ فِتْنَةً لِلَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ وَالْقَاسِيَةِ قُلُوبُهُمْ وَإِنَّ الظَّالِمِينَ لَفِي شِقَاقٍ بَعِيدٍ ، وَلِيَعْلَمَ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ أَنَّهُ الْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ فَيُؤْمِنُوا بِهِ فَتُخْبِتَ لَهُ قُلُوبُهُمْ وَإِنَّ (1/239)
اللَّهَ لَهَادِ الَّذِينَ آمَنُوا إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ}[الحج:52-54]، ومعنى {تَمَنَّى} قرأ. وتأويل {أَلْقَى الشَّيْطَانُ فِي أُمْنِيَّتِهِ} المراد به في قراءته، وليس المرادُ به أنه يُلقي في قلب الرسول ولا على لسان الرسول، ولكن المراد (به أنه) يُلقي في قراءة بعض من يقرأ ما يأتي به الرسول، وذلك الإلقاءُ مِثْلُ الغلط والنِّسيان، والزيادة والنقصان. وقد سئل القاسم بن إبراهيم عليه السَّلام عن تأويل هذه الآية فقال: تأويل {تَمَنَّى} هو قَرَأَ، وتأويل {أَلْقَى الشَّيْطَانُ فِي أُمْنِيَّتِهِ} تأويله ألقى الشيطان في قراءته. وقراءته ( عليه السَّلام) هو ما ألقى من القرآن إلى أمته، وإلقاء الشيطانِ فيما يقرؤون من آياته هو إلقاءٌ من الشيطان في أمنيته وقراءته. والإلقاء في القراءة من الشيطان ليس إلقاءً في قلب الرسول، ولا فيما جعله الله له من اللسان، ولكنه إلقاءٌ في القراءة من الشيطان، بزيادةٍ منه في القراءة أو نقصانٍ. وقد رأينا نحن في دهرنا هذا بين من يقرأ آيات القرآن اختلافاً كثيراً في الزيادة والنقصان، فما كان من ذلك صدقاً وحقًّا فمن القرآن، وما كان منه كَذِباً وباطلاً فهو من الشيطان. وفي أيدي الروافض والغلاة من ذلك ما قد سمعتَ وسمعناهُ. وقد أمر الله نبيئه صلى الله عليه وآله وسلم بالاستعاذة من الشياطين وهمزاتهم فقال تعالى: {وَقُلْ رَبِّ أَعُوذُ بِكَ مِنْ هَمَزَاتِ الشَّيَاطِينِ ، وَأَعُوذُ بِكَ رَبِّ أَنْ يَحْضُرُونِ}[المؤمنون:97،98]، وقال تعالى: {وَإِمَّا يَنْزَغَنَّكَ مِنَ الشَّيْطَانِ نَزْغٌ فَاسْتَعِذْ (1/240)
بِاللَّهِ إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ}[فصلت:36]، وقال تعالى: {فَإِذَا قَرَأْتَ الْقُرْآنَ فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ مِنَ الشَّيْطَانِ الرَّجِيمِ }[النحل:98]، وقال تعالى: {قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ النَّاسِ } إلى آخر السورة. (1/241)
وقد جاء عن النبيء صلى الله عليه وآله وسلم ما يُوافق الكتاب، من الأمر بالتعوذ من الشيطان الرجيم. وروي عن زيد بن أرقم قال: قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: ((إن هذه الحشوش محتضرةٌ فإذا دخل أحدُكُم فليقل: اللهم إني أعوذُ بكَ من الخبث والخبائث)). وروي عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أنه قال: ((من كان يُؤمن بالله واليوم الآخر فلا يخلو بامرأة ليست له بمحرمٍ ، فإن ثالثهما الشيطان)). وعن النبيء صلى الله عليه وآله وسلم أنه قال: ((لا يزال إبليس هائباً مذعوراً من المؤمن ما حافظ على الصلوات الخمس، فإذا ضيعهنّ تجرأ عليه فألقاه في العظائم)). وروي عنه صلى الله عليه وآله وسلم أنه قال: ((إن الشيطان ليأتيَ أحدكم فينفخ بين إليتيه فلا ينصرف حتى يجد ريحاً أو يسمع صوتاً)). وروي عن أمير المؤمنين عليه السَّلام أنه كان إذا دخل المخرجَ قال: ((بسم الله، اللهم إني أعوذ بك من الرِّجس النجس، الخبيث المُخْبثِ، الشيطان الرجيم)).
وقولنا: إن الشيطان يستدلُّ إذا نظر في وجه الإنسان على ما في قلبه؛ ومثل ذلك قد يعرفه أهلُ الفطنة من الناس في الغضب والرضا؛ وقد قال الله تعالى: {تَعْرِفُ فِي وُجُوهِ الَّذِينَ كَفَرُوا الْمُنْكَرَ يَكَادُونَ يَسْطُونَ بِالَّذِينَ يَتْلُونَ عَلَيْهِمْ آيَاتِنَا}[الحج:72]، فلولا أن الإنسان يمكنه الامتناع من الشيطان وإضلاله لما أمر الله بالتعوذ منه. وقد يمكن أن يكون إضلال الشيطان للإنسان بالإرسال من الله والتّخلية، عقوبةً للإنسان على معصيته، قال الله تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا ثُمَّ كَفَرُوا ثُمَّ آمَنُوا ثُمَّ كَفَرُوا ثُمَّ ازْدَادُوا كُفْرًا لَمْ يَكُنِ اللَّهُ لِيَغْفِرَ لَهُمْ وَلاَ لِيَهْدِيَهُمْ سَبِيلاً}[النساء:137]، وقال الله تعالى: {وَمَنْ يَعْشُ عَنْ ذِكْرِ الرَّحْمنِ نُقَيِّضْ لَهُ شَيْطَانًا فَهُوَ لَهُ قَرِينٌ ، وَإِنَّهُمْ لَيَصُدُّونَهُمْ عَنِ السَّبِيلِ وَيَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ مُهْتَدُونَ}[الزخرف:36،37]، ويُحمل على هذا المعنى قول الله تعالى: {زَيَّنَّا لَهُمْ أَعْمَالَهُمْ }[النمل:4]، والعَشوُ هو المسير في غير الطريق، قال الشاعر: (1/242)
متى تأتهم تعشو إلى ضوء نارهم
تجد خير نار عندها خير موقد
باب حقيقة معرفة النعمة (1/243)
اعلم أنه لما ثبت أن المنعم حكيمٌ، وثبت أنه لا يفعل قبيحاً، ثبت أن إظهار الحسن وإيجاده حسنٌ، وإذا ثبت أن إيجاد الحسن حسنٌ، وثبت أن الله لا يفعل قبيحاً، ثبت أن إيجاد الله للعالم حسنٌ.
ولما ثبت أن الله غنيٌّ عن العالم، ثبت أنه لم يخلقه لنفسه بل خلقه لعباده نعمةً منه وتفضلاًّ، فصح أن الله خلق العالم نعمةً وتفضلاً، وقوله تعالى: {وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالإِنسَ إِلاَّ لِيَعْبُدُونِ ، مَا أُرِيدُ مِنْهُمْ مِنْ رِزْقٍ وَمَا أُرِيدُ أَنْ يُطْعِمُونِ ، إِنَّ اللَّهَ هُوَ الرَّزَّاقُ ذُو الْقُوَّةِ الْمَتِينُ}[الذاريات:56-58]، فبيّن أنه ما خلقهم له، وأخبر أنه غنيٌّ عنهم، وكذلك هو غنيٌّ عن عبادتهم ونفعها لهم لا له، فلما أمرهم بالعبادة وأعطاهم الاستطاعة عليها قَبْلَ وجوب الأمر؛ ثم أثابهم عليها وضاعف لهم الثواب، صح أن التعبد نعمةٌ وتفضُّلٌ منه ابتدأ الله به عباده المكلفين، فصح أن الله ما خلق الخلق إلا نعمةً وتفضلاً على عباده، فكان إظهاره للحكمة ابتداءً منه بالنعمة.
واعلم أنه لا يوجد شيءٌ من خلق الله إلا وفيه نعمةٌ لبعض خلق الله، تفضّل الله بها عليه؛ وكذلك لا يُفْطَرُ العبد على فطرةٍ إلا وفيها له نعمةٌ من الله تعالى، ولا يُؤمر بأمرٍ إلا وله فيه نعمة، ولا يُنهى عن فعل شيءٍ إلا وفي تركه له نعمةٌ معجّلة أو مؤجّلة.
فصل في الكلام فيما خلق الله من النعم (1/244)
من ذلك خلق الهواء، وما جعل الله فيه من السَّعة والصفاء، وكونه مكاناً للكبير والصغير من الحيوان والجماد؛ وما جعل الله فيه للعباد من المنافع والمصالح والمواد. وجملة الأمر أن من فارق الهواءَ ماتَ، وبانت عنه عند مفارقته الحياة؛ فصح أنه نعمة من النِّعم الكبار، على الكبار من الحيوان والصغار.
ومن ذلك خلق السماء، وسعتها، وبُعدها، وموافقة لونها للأبصار. وما جعل الله فيها من الأفلاك والشمس والقمر والنجوم لصالح الحيوان، وقد قدّمنا الكلام فيها، فهل هي إلا من النعم الجسام؟!
ومن ذلك خلق السحاب المسخّر بين السماء والأرض، وما فيه من المنافع والمصالح [والنعم] الجسام.
ومن ذلك [خلق] الرّياح وتسخير الله لها بين السماء والأرض ليثير بها السحاب وتصلُح بها الأجساد والأشجار، ويزيل بها من الهواء العُفُوناتُ والغبارُ، فهل هي إلا من النعم الجسام؟!
ومن ذلك خلق الأرض وما جعل الله فيها من الطُّول والعرْض. وجعل جبالها أوتاداً لأن لا تميد بأهلها. وجعل الإنسان مُخَوَّلاً لحزنها وسهلها. وبثّ فيها من كل دابَّةٍ، وجعل فيها من الفواكه والكروم والزروع والنخيل والأعناب، وصنوف المعايش والأرزاق؛ وجعل ذلك مادّةً ونعمةً للإنسان.
ومن ذلك خلق الإنسان فإن الله خلقه من طينٍ، وجعل نسله من سلالةٍ من ماءٍ مهين، ثم نقله في بطن أمه من حالةٍ إلى حالةٍ، ثم أحدث له رزقاً في ثدي أمهِ لَبَناً خالصاً سائغاً موافقاً للطفل، ثم أحدث الله له الرّحمة في قلب أمه وقلبِ أبيه رحمةً من الله ونعمةً. فإذا علم الله أنه قَوِيَ على أكل الطعام أحدث الله له أسناناً وأضراساً. ولما علم الله أن البهائم لا تقدر على ما يقدر عليه الناس من تربية أولادهم؛ جعل أولاد البهائم بخلاف أولاد الناس؛ فإن البهيمة تلد ولدها، وقام من ساعته يطلب ضرع أمه. وقد فطره الله من وقت ولادته على اجتلاب المنافع والنفار عن المضار رحمةٌ من الله ونعمةً وسبباً لحياة المولود. ثم أنعم الله على العبد بنعمٍ كثيرةٍ لا يَحصي عددها في نفسه؛ فجعل له عينين، ولساناً وشفتين، وأنفاً وأذنين، ويدين ورجلين، وغير ذلك من الآلة والبنية المخصوصة. وطُرُق ما يدخل مما يتغذى به، وطُرُق ما يخرج. وجعل له نَفَساً يستنشق به الهواء، وهو سببُ الحياةِ والنماء. وجعل له طريقاً أجوف مفتوحاً لا ينطبق وهو الحلقوم؛ وذلك لضعف النّفس وكثرة تتابعه. وجعل للطعام والماء طريقاً مُنطبقاً -وهو الْمَرِىّ- ينفتح بالماءِ والطعام. وجعل المعدة مُستقرًّا للغذاء، وجعل صفوه ينقسم على جميع الجسد والأعضاء. وجعل المخارج ترمي بالثفل والأذى. (1/245)
وقد ذكر عمرو بن بحر الجاحظ رحمه الله مثل هذا، ومثّل فأحسنَ في كتاب الدلائل فقال: فكِّر في تقدير هذه القُوى للحاجات إليها، والمآرب فيها، وما في ذلك من التدبير والحكمة، فلولا القُوى الجاذبة لما كان الإنسان يتحرّك لطلب الغذاء الذي به قوام البدن، ولولا الممسكة كيف كان الطعام يلبث في الجوف حتى تهضمه المعدة، ولولا الهاضمة كيف كان ينطبخ حتى يخلص منه الصَّفو الذي يغذو البدن، ويسد خلله، ولولا الدّافعة لما كان الثّفل الذي تخلفه الهاضمة يندفع ويخرج أوَلاً أوَلاً. أفلا ترى كيف وُكِّلت هذه القوى بالبدن، والقيام بما فيه صلاحُهُ، فصار البدن يمنزلة دار للملك فيها له حشمٌ وصبية وقُوّامٌ مُوكّلون بالدّار، فواحد لاقتضاء حوائج الحشم وإيرادها عليهم، وآخر لقبض ما يرد وخزنه إلى أن يعالج ويُهيأ، وآخر لعلاج ذلك وتهيئته وتفريقه في الحشم، وآخر لكسح ما في الدار من الأقذار وإخراجه منها. فالملك في هذا المثل هو الخلاّق الحكيم، مَلِكُ العالمين، والدّار هي البدن، والحشم هم الأعضاء، والقُوّام هي هذه القوى الأربع، فهل هذا إلا تفضل ونعمة من الله تعالى، بل هذه الأفعال التي تحدث حالاً بعد حالٍ أفعال الله سبحانه، يفعل ذلك في أوقات حدوثه لِمَا يعلم من مصالح خلقه، ولا يَكِلُ ذلك إلى تدبير غيره، وإنما كان ضرب المثال لتقريب ذلك إلى الأفهام. (1/246)
ومما يدل على عِظَمِ هذه المواهب والنعم أن العبد الفقير المملوك الذي يكون من أدنى الناس منزلةً، وأقلهم نعمةً فإنه قد أُعطي جميع ما ذكرنا من تمام الخلق، وحصول الآلة، والصحّة والسلامة والعافية.
ألا ترى أنه لو قيل له: أتحبُّ أن تُعطى مُلكاً عظيماً في الدنيا، ويكون جزاءً على أن تُسلب مادّةً من أحد المواد التي وهبها الله تعالى له كالسمع والبصر، أو قطع يده أو رجله، أو سلب (إحدى) القوى التي ذكرنا ما أراد ذلك، ولو أُعطيَ الدنيا بأسرها. ألا ترى أنه قد أعطاه الله من الآلة والسلامة، ما هو خيرٌ له من الدنيا وما فيها. (1/247)
ويوضح صحة ما ذكرنا أن سلطاناً ممن له مالٌ كثيرٌ وهيئةٌ واسعةٌ لو دخل عليه حصنه عدوٌّ له أو قربَ منه أنه يهرب بنفسه إذا أمكنه الهرب، ويُخلِّيَ حصنه وأهله وأمواله، ألا ترى أنه رأى نفسه خيراً له من ذلك؛ فهذا دليل على عِظَمِ النّعمة وكبرها.
ومن ذلك: ما خوّل الإنسان من الأرزاق والمال والخدام، فإنه جعل للأحرار عبيداً من بني آدم لتبلغ النعمة وتظهر الحكمة، ولو جعلهم سواءً لا يملك الأحرار المماليك، لدخل عليهم الضرر، ولأدى ذلك إلى أن يتولى الإنسان جميع الأعمال بنفسه التي لا يستغني عنها، ولو كان كلُّ إنسانٍ يتولّى خدمة نفسه لاشتغل كل إنسانٍ بمصالح نفسه وقوته عن العلم وطلبه وعن أعمال الآخرة وعن الجهاد، ولكان من أراد الاستئجار على الأعمال تستوعب مَالَهُ الأجرة، وقد قال تعالى: {أَهُمْ يَقْسِمُونَ رَحْمَةَ رَبِّكَ نَحْنُ قَسَمْنَا بَيْنَهُمْ مَعِيشَتَهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَرَفَعْنَا بَعْضَهُمْ فَوْقَ بَعْضٍ دَرَجَاتٍ لِيَتَّخِذَ بَعْضُهُمْ بَعْضًا سُخْرِيًّا وَرَحْمَةُ رَبِّكَ خَيْرٌ مِمَّا يَجْمَعُونَ}[الزخرف:32]، فأنعم الله على المالك بملك المملوك، وسخّره له في دنياه، فإن صبر العبدُ على هذه البليّة، وأطاع ربه أعاضه في الآخرة، وكان الثوابُ له نعمةً آجلةً، ومِلْكُ سيّده له نعمة عاجلة، وأن النعمة الآجلة خيرٌ من النعمة العاجلة؛ لأن العاجلة فانية، والآجلة باقية، فصحّ أن مِلْكَ المملوكِ نعمةٌ للمالك والمملوك، فإن شكر المالكُ كان أفضل لقوله صلى الله عليه وآله وسلم: ((اليد العليا خيرٌ من اليد السفلى )) ولأنه قد أُعطي نعمةَ الدنيا ونعمة الآخرة؛ وقد روي عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أنه قال: ((ثلاثةٌ على كُثبان المسك يوم القيامة : رجلٌ تعلّم القرآن وأمَّ به قوماً يطلب به وجه الله وما عنده، ورجلٌ يأتي كل يومٍ وليلةٍ بخمس صلواتٍ يطلب بها وجه (1/248)
الله وما عنده، ومملوكٌ لم يمنعه رقُّ الدنيا من طاعة ربِّه)). (1/249)
ومما خوّلهم أثمان الأشياء المبيعة، وهي الذهبُ والفضّةُ، وكذلك اللؤلؤُ والياقوتُ وأشباه ذلك. وجعلها قليلة بعيدة التناول؛ لأن في قلّتها نفعاً، وفي كثرتها ضرراً. أما النفع في قلتها فلأن تكون عزيزةً عند الناس محبوبةً؛ لأنها لو كثرت حتى تكون كالحجارة لَمَا بلغ أحدٌ بها غرضاً ولا قُبلت منه ثمناً لشيءٍ، ومن هاهنا أنها لو كثُرت لكان في كثرتها ضرر؛ ولأنها لا تُقتات، وصح أن النفاعةَ بسبب قلّتها. فلو كانت تُقتات بنفسها، لكان في قلّتها ضررٌ كبيرٌ، ولمّا كان ما يُقتات ولا يُستغنى منه إذا قلّ وانقطع هلكت الناس وتَلِفُوا جعله الله كثيراً رخيصاً يُمكن كل إنسانٍ أن يطلبه ممّن له قدرة، ومن لم يكن له قدرة على طلبه سهّله الله له.
ومما يوضح ما ذكرنا من جزيل النعم والكرم من الله والرحمة: أن كل ما كان لا حياة للناس إلا به أنه كثيرٌ ورخيصٌ، من ذلك: الطّعام والماءِ واللبنِ والصُّوف والوَبَرِ، وليس كذلك الذهب والفضة والدّر وما كان من جنسه، والمسك والعنبر وما كان من جنسهما، والحرير والخز؛ فلما كانت هذه الأشياء يوجد من دونها ما يغني عنها، وكان عدمُها لا يُؤدي إلى هلاك الحيوان؛ كانت قليلةً غاليةً، وكان في قلّتها صلاحُ النّاس. ألا ترى أن من كثرت هذه الأصناف عنده، -أو بعضها- ولم يُنفقها في سبيل الله أنها تدعوه إلى الأشر والبطر وظلم الناس والبغي في الأرض بغير الحق.
ولما كانت حاجة الناس إلى الماء أكثر من حاجتهم إلى الطعام جعل الله الماءَ كثيراً وأرخص من الطعام؛ ولأنهم يحتاجونه للتطهر به والغسل والشرب وسَقي الأراضي والبهائم، فمن هاهنا جعله الله أكثر وأرخص، نعمةً منه وتفضلاً. (1/250)
فإن قيل: لِمَ جعل الله الرزق يقل ويكثر ويتيسّر -وحيناً يتعسّر- وجعل أكثر الرزق في الضّرب في الأرض والتكسّب والطَّلب، والتّجارة والصناعات، والمؤآجرة والحرث، وأصناف الطّلب؛ ولم يجعله سهلاً يأكل الإنسان من فوقه ومن تحت رجليه، وكان يكون أتمّ للنعمة؟
قلنا: لو كان ذلك كما تقول لأدّى إلى وجوه من المضار.
منها أنه كان يؤدي إلى حب الدنيا؛ ولأنه من كان في (مثل) هذه النعم لم يحب مفارقة الدنيا، واطمأنّ إليها ورضي بها، وقد ذمّ الله من رضي بالحياة الدنيا واطمأنّ [إليها]، فقال تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ لاَ يَرْجُونَ لِقَاءَنَا وَرَضُوا بِالْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَاطْمَأَنُّوا بِهَا وَالَّذِينَ هُمْ عَنْ آيَاتِنَا غَافِلُونَ ، أُوْلَئِكَ مَأْوَاهُمُ النَّارُ بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ}[يونس:7،8]، وقد روي عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أنه قال: ((حبُّ الدُّنيا رأس كل خطيئةٍ )).
ومنها أنَّهم لو كانوا يأكلون من فوقهم وتحتهم لأدّى ذلك إلى البطر والأشر والبغي، ولتفرّغوا للفساد؛ وقد قال الله تعالى: {وَلَوْ بَسَطَ اللَّهُ الرِّزْقَ لِعِبَادِهِ لَبَغَوْا فِي الأَرْضِ وَلَكِنْ يُنَزِّلُ بِقَدَرٍ مَا يَشَاءُ إِنَّهُ بِعِبَادِهِ خَبِيرٌ بَصِيرٌ}[الشورى:27].
ومنها أنه لو كانت المعائش كذلك، وكان الإنسان يأكل من حيث توجّه لأدى ذلك إلى البطنة والتُّخَمِ، وكان أسرع لهلاك الناس. (1/251)
وقد قال بعض أهل الطب: إن إدخال الطعام على الطعام هو الذي أهلك البريّةَ، وقتل السباع في البرية.
ومنها أنه لو كان الرزق موجوداً بغير سببٍ لم يكن له في قلوب الناس محبّةٌ كمحبتهم لما يكسبون. والقليلُ أيضاً من المال محبوبٌ، وقد أنزل الله على بني إسرائيل المنّ والسّلوى فلم يصبروا عليه، وسألوا موسى عليه السَّلام أن يدعو ربّهم أن يبدلهم به ما هو دونه، فقال تعالى -حاكياً قولهم: {وَإِذْ قُلْتُمْ يَامُوسَى لَنْ نَصْبِرَ عَلَى طَعَامٍ وَاحِدٍ فَادْعُ لَنَا رَبَّكَ يُخْرِجْ لَنَا مِمَّا تُنْبِتُ الأَرْضُ مِنْ بَقْلِهَا وَقِثَّائِهَا وَفُومِهَا وَعَدَسِهَا وَبَصَلِهَا قَالَ أَتَسْتَبْدِلُونَ الَّذِي هُوَ أَدْنَى بِالَّذِي هُوَ خَيْرٌ}[البقرة:61].
ومنها أن اكتساب الرزق في الدنيا دليلٌ على الآخرة، فكما أنّ الدنيا يحصل الرزق فيها بالاكتساب والطلب، كذلك الآخرة لا تحصل للمكلفين إلا بطلب واكتسابٍ، فصح أن ذلك نعمةً من الله وحكمةً.
ومما خوّل الله الإنسان: الأكنان والبيوت التي يسكنها ويأمن فيها من الخوف والحرِّ والبرد والمطر.
ومما خوّل (الإنسان): اللباس ليستُرَ به سوأته، وليتجمّل به، والجُنن ليتقي بها من البأس، وقد ذكر الله هذه النعم فقال: {وَاللَّهُ جَعَلَ لَكُمْ مِنْ بُيُوتِكُمْ سَكَنًا وَجَعَلَ لَكُمْ مِنْ جُلُودِ الأَنْعَامِ بُيُوتًا تَسْتَخِفُّونَهَا يَوْمَ ظَعْنِكُمْ وَيَوْمَ إِقَامَتِكُمْ وَمِنْ أَصْوَافِهَا وَأَوْبَارِهَا وَأَشْعَارِهَا أَثَاثًا وَمَتَاعًا إِلَى حِينٍ، وَاللَّهُ جَعَلَ لَكُمْ مِمَّا خَلَقَ ظِلاَلاً وَجَعَلَ لَكُمْ مِنَ الْجِبَالِ أَكْنَانًا وَجَعَلَ لَكُمْ سَرَابِيلَ تَقِيكُمُ الْحَرَّ وَسَرَابِيلَ تَقِيكُمْ بَأْسَكُمْ كَذَلِكَ يُتِمُّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكُمْ لَعَلَّكُمْ تُسْلِمُونَ ، فَإِنْ تَوَلَّوْا فَإِنَّمَا عَلَيْكَ الْبَلاَغُ الْمُبِينُ ، يَعْرِفُونَ نِعْمَةَ اللَّهِ ثُمَّ يُنكِرُونَهَا وَأَكْثَرُهُمُ الْكَافِرُونَ}[النحل:80-83]، وقال عز من قائلٍ: {خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ بِالْحَقِّ تَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ ، خَلَقَ الإِنسَانَ مِنْ نُطْفَةٍ فَإِذَا هُوَ خَصِيمٌ مُبِينٌ ، وَالأَنْعَامَ خَلَقَهَا لَكُمْ فِيهَا دِفْءٌ وَمَنَافِعُ وَمِنْهَا تَأْكُلُونَ ، وَلَكُمْ فِيهَا جَمَالٌ حِينَ تُرِيحُونَ وَحِينَ تَسْرَحُونَ ، وَتَحْمِلُ أَثْقَالَكُمْ إِلَى بَلَدٍ لَمْ تَكُونُوا بَالِغِيهِ إِلاَّ بِشِقِّ الأَنفُسِ إِنَّ رَبَّكُمْ لَرَءُوفٌ رَحِيمٌ ، وَالْخَيْلَ وَالْبِغَالَ وَالْحَمِيرَ لِتَرْكَبُوهَا وَزِينَةً وَيَخْلُقُ مَا لاَ تَعْلَمُونَ ، وَعَلَى اللَّهِ قَصْدُ السَّبِيلِ وَمِنْهَا (1/252)
جَائِرٌ وَلَوْ شَاءَ لَهَدَاكُمْ أَجْمَعِينَ ، هُوَ الَّذِي أَنزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً لَكُمْ مِنْهُ شَرَابٌ وَمِنْهُ شَجَرٌ فِيهِ تُسِيمُونَ ، يُنْبِتُ لَكُمْ بِهِ الزَّرْعَ وَالزَّيْتُونَ وَالنَّخِيلَ وَالأَعْنَابَ وَمِنْ كُلِّ الثَّمَرَاتِ إِنَّ فِي ذَلِكَ لاَيَةً لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ ، وَسَخَّرَ لَكُمُ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ وَالنُّجُومُ مُسَخَّرَاتٌ بِأَمْرِهِ إِنَّ فِي ذَلِكَ لاَيَاتٍ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ ، وَمَا ذَرَأَ لَكُمْ فِي الأَرْضِ مُخْتَلِفًا أَلْوَانُهُ إِنَّ فِي ذَلِكَ لاَيَةً لِقَوْمٍ يَذَّكَّرُونَ ، وَهُوَ الَّذِي سَخَّرَ الْبَحْرَ لِتَأْكُلُوا مِنْهُ لَحْمًا طَرِيًّا وَتَسْتَخْرِجُوا مِنْهُ حِلْيَةً تَلْبَسُونَهَا وَتَرَى الْفُلْكَ مَوَاخِرَ فِيهِ وَلِتَبْتَغُوا مِنْ فَضْلِهِ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ ، وَأَلْقَى فِي الأَرْضِ رَوَاسِيَ أَنْ تَمِيدَ بِكُمْ وَأَنْهَارًا وَسُبُلاً لَّعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ ، وَعَلاَمَاتٍ وَبِالنَّجْمِ هُمْ يَهْتَدُونَ ، أَفَمَنْ يَخْلُقُ كَمَنْ لاَ يَخْلُقُ أَفَلاَ تَذَكَّرُونَ ، وَإِنْ تَعُدُّوا نِعْمَةَ اللَّهِ لاَ تُحْصُوهَا إِنَّ اللَّهَ لَغَفُورٌ رَحِيمٌ}[النحل:3-18]. (1/253)
فأخبر الله بجُملٍ من جزيل نعمه ثم أخبر أنها لا يُحصى لها عدد. وتبيين ذلك: أن كل ما تقلّب فيه المكلّف، وما أعطيَ من النعم التّوام، والأيادي الجزيلة الجسام، لو أراد أن يَعُدّ تكرار نعمةٍ واحدةٍ مما أعطي، ما قدر على عدِّها وهي النّفَس، وما أحسب أنه يقدر (أن) يَعُدّ أنفاسه يوماً وليلةً، وإذا لم يقدر على ذلك، كيف يقدر على عدّ أنفاس عمره، وإذا لم يقدر على عد أنفاسه، وهي نعمة واحدة فكيف يعد النعم كلها، قال الله تعالى: {وَمَا بِكُمْ مِنْ نِعْمَةٍ فَمِنَ اللَّهِ ثُمَّ إِذَا مَسَّكُمُ الضُّرُّ فَإِلَيْهِ تَجْأَرُونَ}[النحل:53]. (1/254)
ومما أنعم الله به على المكلف: الكتاب والرسول، قال الله تعالى: {لَقَدْ مَنَّ اللَّهُ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ إِذْ بَعَثَ فِيهِمْ رَسُولاً مِنْ أَنْفُسِهِمْ يَتْلُوا عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ وَيُزَكّيهِمْ وَيُعَلّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَإِنْ كَانُوا مِنْ قَبْلُ لَفِي ضَلاَلٍ مُبِينٍ}[آل عمران:164]، وقال تعالى: {آلم ، تِلْكَ آيَاتُ الْكِتَابِ الْحَكِيمِ ، هُدًى وَرَحْمَةً لِلْمُحْسِنِينَ}[لقمان:1-3].
فصل في الكلام في ما فطر الله عليه العبد (1/255)
اعلم أن الله (قد) فطر الحيوان (كله) على استجلاب المنافع العاجلة، والنِّفار عن المضار العاجلة، وفطر بعض الحيوان على الحاجة إلى الأكل والشرب والنوم والجماع. وجعل للحيوان آلة يبلغ بها الأشياء رحمةً منه ونعمةً؛ وجعل ذلك سبباً لحياته -وهي أفعالُ الحيوان- وليس لله فيها فعلٌ غيرُ الإلهام، والاستطاعة التي أعطاه على فعل هذه الأشياءِ، والحاجة الداعية إلى فعل الأشياء إلا النوم فإن الحيوان مضطرٌ إليه، وليس له فيه إلا التّعرُّض له، وهو عرضٌ ضروريٌّ يُغشيه الله الحيوان. ومما يُبيّن لك أنه ضروريٌّ أن الإنسان قد يُريد أن ينام ويتعرض لذلك في بعض الأوقات فلا يحصل له النوم، وقد [أيضاً] يغشيه الله النوم ويُريد أن لا ينام فلا يتم له ذلك في بعض الأوقات ويغلبه النوم، فصحّ أنه ضروريٌّ، قال الله تعالى: {إِذْ يُغَشِّيكُمُ النُّعَاسَ أَمَنَةً مِنْهُ }[الأنفال:11]، وقال تعالى: {وَمِنْ آيَاتِهِ مَنَامُكُمْ بِاللَّيْلِ وَالنَّهَارِ }[الروم:23]، فلو كان اختياراً للعبد لم يكن آيةً من آيات الله.
واعلم أن فيه منافع للعبد، ونِعَماً من الله سبحانه وتعالى.
منها: الاستراحة والسُّلوُّ.
ومنها: السُّكون لهضم الطعام.
ومنها: أنه يشغل كثير من الناس عن المآثم والفساد.
ومنها: أنه دليلٌ على الموت، ومُشبهٌ بهِ، ومذكِّرٌ بالموت، قال الله تعالى: {اللَّهُ يَتَوَفَّى الأَنْفُسَ حِينَ مَوْتِهَا وَالَّتِي لَمْ تَمُتْ فِي مَنَامِهَا فَيُمْسِكُ الَّتِي قَضَى عَلَيْهَا الْمَوْتَ وَيُرْسِلُ الأُخْرَى إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى إِنَّ فِي ذَلِكَ لاَيَاتٍ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ}[الزمر:42]. (1/256)
ومما فطر الله عليه المكلّف: استحسان الحسنِ واستقباح القبيحِ، وهو العقل الغريزي، وهو عطيّة من الله ونعمةٌ من أعظم النعم والعطايا، ولولا هو ما عُرفَ المنعمُ ولا عُرفت النِّعم، وهو حُجّةُ الله على عباده.
وفطرهم على السمع والبصر، قال تعالى: {وَجَعَلَ لَكُمُ السَّمْعَ وَالأَبْصَارَ وَالأَفْئِدَةَ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ}[النحل:78]، فجعل الله لهم السمع يسمعون به الأصوات والمسموعات؛ وجعل لهم البصر ينظرون به الألوان والهيئات. وجعل لهم الأفئدةَ يعقلون بها المعلومات، فكان من الله الآلة، والإنسان مستعملٌ لها، وحُجّةُ الله هي الآلة والاستطاعة، قال تعالى: {أَفَلَمْ يَسِيرُوا فِي الأَرْضِ فَتَكُونَ لَهُمْ قُلُوبٌ يَعْقِلُونَ بِهَا }[الحج:46]، فدلّ على أن العقل غيرُ القلب، كما أنك تقول: لك يدانِ تبطش بهما، ورجلانِ تمشي بهما، وسيف تضرب به. فصحّ أن الضرب غيرُ السيف، والبطشَ غيرُ اليدينِ، والمشيَ غير الرِّجلينِ، فكذلك العقل غير القلب.
ومما أنعم الله به على العبد: اللسان المترجم للقلب، قال الله تعالى: {وَمِنْ آيَاتِهِ خَلْقُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَاخْتِلاَفُ أَلْسِنَتِكُمْ وَأَلْوَانِكُمْ إِنَّ فِي ذَلِكَ لاَيَاتٍ لِلْعَالِمِينَ}[الروم:22]. (1/257)
والكلام عندنا هو إلهامٌ من الله، والدليل على ذلك أن الله عدّهُ من آياته، ولولا هو إلهام منه لما عَدَّه من آياته، وأيضاً فإن الطّفل ينطق باسم أبيه وأمه قبل أن يتلقّن مثله، وكذلك سائر الكلام، أعني معرفة أسماءِ الأشياءِ. وقول أبي علي من المعتزلة مثل قولنا. وقال أبو هاشم: معرفة الأسماء اصطلاح اصطلح عليه الناس.
ومما فطره الله عليه الشّهوةُ، والنِّفار، والكراهة، والفرح، والسرور، والغم، والخوف، والأمْنِ، والجوع، والشِّبع، والجهل، والعلم الضروري، والذِّكر، والنِّسيان، وهذه كلُّها موجودةٌ في الإنسان، فطره الله عليها. وكذلك استعجال الخير وأشباه ذلك؛ فهذه كلُّها نِعَمٌ من الله وإحسانٌ.
ومما يدل على أنها كلها نعمٌ؛ أن أَدْوَنَهَا وأضعفها النّسيان، فإن الإنسانَ لو كان لا ينسى لكان ذلك مؤديًّا إلى تنغيص النعمة في كل وقتٍ وحينٍ؛ لأنه لو كان يذكر المصائب ولا ينساها، ويذكر الموت ولا يجهل وقت هجومه عليه في كل وقتٍ لَمَا طابت له نعمةٌ، ولا فارقه همُّ ولا غمٌّ، وكان ذلك سيشغله عن كثيرٍ من الأعمال المباحة والمستحبة، ولَربما أيضاً دعاه ذلك إلى الحزن المؤدي إلى الموت أو العمى، فقد عَمِيَ يعقوب عليه السَّلام من شدة حزنه على ولده يوسف عليه السَّلام قال الله تعالى حاكياً قول يعقوب عليه السَّلام: {وَتَوَلَّى عَنْهُمْ وَقَالَ يَاأَسَفَى عَلَى يُوسُفَ وَابْيَضَّتْ عَيْنَاهُ مِنَ الْحُزْنِ فَهُوَ كَظِيمٌ}[يوسف:84]. (1/258)
والدليل على أن الله فطر الناس على الجهل؛ أن الإنسان يولد جاهلاً، قال الله تعالى: {وَاللَّهُ أَخْرَجَكُمْ مِنْ بُطُونِ أُمَّهَاتِكُمْ لاَ تَعْلَمُونَ شَيْئًا }[النحل:78]، وقال تعالى: {عَلَّمَ الإِنسَانَ مَا لَمْ يَعْلَمْ }[العلق:5]، وقال تعالى: {وَعَلَى اللَّهِ قَصْدُ السَّبِيلِ وَمِنْهَا جَائِرٌ}[النحل:9]، أراد: وعلى الله تبْيينُ قصد السبيل. وقال تعالى: {خُلِقَ الإِنسَانُ مِنْ عَجَلٍ سَأُرِيكُمْ آيَاتِي فَلاَ تَسْتَعْجِلُونِ}[الأنبياء:37]، أراد: فطر الإنسان على استعجال الخير؛ لأن العجلَ فِعْلُ المستعجلِ، ولم يُرِدْ أنه خلق الإنسان من فعله الذي هو العجلُ. وليس قولنا: إن الله تعالى فطره على شيءٍ من فعله، بمعنى أنه جَبَرَهُ، ولكن المراد به: أن الله جعل له داعياً إلى ذلك للنعمة والبليّة.
فمنها: الحاجة الداعية إلى فعل الشيء كالجوع والشّهوة وأمثال ذلك. (1/259)
ومنها: إلهامٌ من الله تعالى كاستحسان الحسن، واستقباح القبيح، وذلك هو أصل الدّين الصحيح، قال الله تعالى: {فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ حَنِيفًا فِطْرَةَ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا لاَ تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللَّهِ ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لاَ يَعْلَمُونَ}[الروم:30].
فصل في الكلام في أن ما أمر الله به العبد فهو له نعمة (1/260)
اعلم أنه لا يُؤمر العبدُ بأمرٍ إلا وله فيه نعمةٌ، عاجلة أو آجلة، أو عاجلة وآجلة.
فمن النعمة العاجلة الأمر بالمباح كقوله تعالى: {كُلُوا مِنْ طَيِّبَاتِ مَا رَزَقْنَاكُمْ }[البقرة:57]، وقوله تعالى: {كُلُوا وَاشْرَبُوا }[البقرة:60]، وكقوله تعالى: {فَإِذَا تَطَهَّرْنَ فَأْتُوهُنَّ مِنْ حَيْثُ أَمَرَكُمُ اللَّهُ }[البقرة:222]، وكقوله: {فَإِذَا قُضِيَتِ الصَّلاَةُ فَانتَشِرُوا فِي الأَرْضِ وَابْتَغُوا مِنْ فَضْلِ اللَّهِ}[الجمعة:10]، وكقوله: {وَإِذَا حَلَلْتُمْ فَاصْطَادُوا }[المائدة:2]، فهذا الأمر ليس بمُوجبٍ وإنما هو مُبيحٌ بالإجماع. ونفعُهُ عاجل.
والأمر الذي فيه نعمةٌ عاجلةٌ وآجلةٌ، وهو واجبٌ، فهو أكثر الأمر بالعبادة، وهو معرفة الله تعالى حقّ معرفته، ومعرفة أصول الدين وفروعه، والطهارة والصلاة، وبر الوالدين، وصلة القرابة، والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وموالاة أولياء الله، ومعاداة أعداء الله، وأمثال ذلك، فإن الأمر بهذه الفرائض نعمةٌ من الله، وللعبد في فعلها نعمةٌ عاجلةٌ ونعمةٌ آجلة. أما النعمة الآجلة في التطهر فثواب الله، وأما [النعمة] العاجلة فالتطهر من النجاسات، والتنزه عن المنكرات.
وأما معرفة الله ومعرفة الأصول والفروع، فإن النعمة العاجلة الشّرف والرّفعة التي جعلهما الله تعالى للعالِمِ، قال الله تعالى: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا قِيلَ لَكُمْ تَفَسَّحُوا فِي الْمَجَالِسِ فَافْسَحُوا يَفْسَحِ اللَّهُ لَكُمْ وَإِذَا قِيلَ انشُزُوا فَانشُزُوا يَرْفَعِ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَالَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ دَرَجَاتٍ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ}[المجادلة:11]، وأما النعمة العاجلة في الطهارة فإنه لولا التّطهُّر عن النجاسات والوضوء للصّلوات لكان الإنسان أقبح شيءٍ وأقذره. (1/261)
ألا ترى أن من هجر الماءَ لسخافته وكسلِهِ وسقاطة نفسه أن ذلك يدلُّ من نظرهُ على دناءته وسخافته وكسله، وقد يتطهّر ويتنزّه كثيرٌ من الناس لِحُسْنِ التَّنزُّهِ وقبح النجاسة لا لرجاءِ ثوابٍ.
وفي التطهر أيضاً وجوهٌ من النفع العاجل:
منها أنه يفسح الصدر، ويُزيل الهمَّ، ويُظهر سيما الصّالحين، والنفعُ العاجلُ في الاغتسال من الجنابة أنه يشدّ الجسد، ويُذهب بالكلال، ويزيل النجس. وفيه نفاعة أخرى وهو لولا خوف مشقّة الاغتسال وخوف مُؤنته وكلفته لكان بعض الناس لا يكاد يفتر من الجماع في أكثر وقته، وكان ذلك يضرُّ بهِ، ويُضعف جسده.
والنفاعة العاجلة في الصلاة: أنها علامةُ المسلم، وأنها تَنْهى عن الفحشاء والمنكر، أي تنهى صاحبها عن فعل المنكرات، وتُجنّبه من الفواحش، قال الله تعالى: {إِنَّ الصَّلاَةَ تَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ وَلَذِكْرُ اللَّهِ أَكْبَرُ}[العنكبوت:45].
والزكاة نفعها الآجل للمُعطِي، ونفعُها العاجلُ للمُسْتعطِي. (1/262)
والصّوم نفعه آجلٌ، ورُبّما كان فيه نفعٌ عاجلٌ، وهو أنه يُذلّ النّفسَ ويُقوِّي صاحبها عليها.
والحجُّ نفعه آجلٌ، وربّما كان فيه نفعٌ عاجلٌ لمن طلب الإجارة والتّجارة مع الحجّ، مثل أن يحجَّ لغيره بالأجرة إذا كان قد حجَّ عن نفسه، ومثل من يبيع ويشتري مع الحج إذا لم يكن البيعُ والشّراء أكثر همّه.
وبِرُّ الوالدين وصلة القرابة، فالنّفع العاجل فيه ظاهرٌ للوالدين والأقربين، وقد رُوي عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أنه قال: ((صِلَةُ الرَّحِمِ تَزِيْدُ فِي الْعُمْرِ )).
والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر نفعه العاجل عامٌّ لجميع الناس، قال الله تعالى: {وَلَوْلاَ دَفْعُ اللَّهِ النَّاسَ بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لَهُدِّمَتْ صَوَامِعُ وَبِيَعٌ وَصَلَوَاتٌ ...}الآية[الحج:40]، فمن تمام النعمة أن الله أمر بما يستحسنه العقلُ، وينفع في العاجل، ثم وعد عليه الثواب الآجل، قال الله تعالى: {الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الإِسْلاَمَ دِينًا}[المائدة:3]، وقد رُوي عن كميل بن زياد النخعي، قال: قال أمير المؤمنين عليه السَّلام: (يا سبحان الله ما أزْهدَ كثيراً من الناس في الخير، عجبتُ لرجلٍ يأتيه أخوه المسلم في حاجةٍ فلا يَرَى نفسه للخير أهلاً، فوالله لو كُنّا لا نرجو جَنَّةً ولا ثواباً، ولا نخشى ناراً ولا عقاباً لكان ينبغي لنا أن نطلب مكارم الأخلاق فإنها تدلّ على سبيل النجاة)، فقام إليه رجل فقال: يا أمير المؤمنين، أسمعتَ هذا من رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم؟ قال: نعم وما هو خير منه: لما أتي بسبايا طي وقعت جاريةٌ حَمْيَا، حّوَّا، لَعْسَا، لَمْيَا، عَبْطَاء، شَمَّاء الأنفَ، معتدلة القامة، دَرْمَا الكعبينِ، خدلجة السّاقين، لَفَّا الفخذين، خميصة الخصرينِ، مُضمرة الكشحين، فلمّا رأيتها أُعجبتُ بها، وقلتُ: لأطلبنّ إلى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أن يجعلها في فيئيِ، فلمّا تكلمتْ نسيتُ جمالها لِمَا سمعتُ من فصاحتها، فقالت: يا محمد إن رأيتَ أن تُخلِّي عَنِّي ولا تُشمت بي العرب فإني ابنةُ سُراة قومِي، كان أبي يفُك العاني، ويُقوِّي (1/263)
الضّعيف، ويُقرئ الضّيف، ويشبع الجائع، ويفرج عن المكروب، ويُطعم الطعام، ويُفشي السّلام، وما ردَّ طالبَ حاجةٍ قط، أنا ابنة حاتم الطائي. فقال النبيء صلى الله عليه وآله وسلم: ((هذه صفاتُ المؤمن ، لو كان أبوكِ إسلاميًّا لترحَّمنا عليه، خلّوا عنها، فإن أباها كان يُحبّ مكارم الأخلاق، والله سبحانه يُحِبُّ مكارم الأخلاق)). فقام أبو بردة فقال: يا رسول الله، الله يُحبُّ مكارم الأخلاق؟ فقال: ((نعم، يا أبا بردة، لا يدخل أحدٌ الجنّة إلا بِحُسنِ الخُلُق )). فصحّ أن الله ما أمر إلا بمكارم الأخلاق. (1/264)
فصل في الكلام في أن الله نهى عن فعل ما يستقبحه العقل ويضرّ في الحال والمآل (1/265)
فمما نهى الله عنه الظلم. والظلمُ مما يستقبحه العقل ويضرّ الظالم والمظلوم في الحال والمآل.
ومما يدل على أن الظلم قبيحٌ: أنك تستقبح أن يظلمك غيرُك ويضرُّك ذلك في الحال، فكما أنه قبيحٌ من غيرك كذلك هو قبيحٌ منك.
واعلم أن الظلم على وجهين: فظلمٌ يَظلِمُ العبدُ فيه نفسه لا غيرها. وظلمٌ يظلم فيه نفسه وغيرها من المخلوقين.
فأما الظلم الخاص من نفسه لنفسه فهو معصيته لربه، مثل كفر الجحود، وكفر النعمة، وقلة الصبر على البليّة، وترك العمل بالطاعة، وما جَرَى مجرى ذلك، فهذا ظلمٌ لقوله تعالى: {إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ }[لقمان:13]، ولم يظلم به إلا نفسه. وقال الله تعالى: {وَمَا ظَلَمْنَاهُمْ وَلَكِنْ كَانُوا أَنفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ }[النحل:118].
والظلم الثاني الذي يظلم فيه نفسه وغيره من المخلوقين فهو ما نقّص به غيره من المخلوقين من عِرْضِهِ ـ كالغيبة ـ أو مَالِهِ ـ كالغصب ـ أو دَمِهِ ـ كالقتل والجرح ـ أو حقِّه ـ كترك معاونة من أُمِرَ بمعاونته، فهذا الظلم وأمثاله مما يضرُّ به مخلوقاً، فإنه فيه ظالمٌ لنفسه ولمن ضرّه، فصحّ أن الله نَهَى عمَّا يُستقبح ويَضرُّ في الحالِ والمآلِ.
ومما نهى الله عنه: الزنا، ومما يدل على قبحه ومضرته في الحال أنك تكرهه وتستقبحه من حرمتك، ويضرك ذلك في الحال، فكذلك حرمة غيرك.
ومما نهى الله عنه: الخمر والميسر، ومما يدل على قبح الخمر وضره في الحال أن الإنسان يكون عاقلاً ثم يشرب الخمر فيسكر فيصير سكرانا لا عقل له، ولا يدري ما يُفعل به، فهل شيءٌ أضرُّ على الإنسان وأقبح من أن يُزيل عقل نفسه بعد أن أكمل الله له العقل؟! والميسر أيضاً يشغل عن الطاعات، ويدعو إلى الضّغناء والعداوات، قال الله تعالى: {إِنَّمَا يُرِيدُ الشَّيْطَانُ أَنْ يُوقِعَ بَيْنَكُمُ الْعَدَاوَةَ وَالْبَغْضَاءَ فِي الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ وَيَصُدَّكُمْ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ وَعَنِ الصَّلاَةِ فَهَلْ أَنْتُمْ مُنتَهُونَ}[المائدة:91]، فبيّن الله تعالى الحكمَ والعلّةَ، فصح أنه مستقبحٌ ضارٌّ في الحال والمآل. (1/266)
ومثل ذلك: ما نهى الله عنه من أكل الميتة والدم والخنزير، فثبت أن الله نهانا عن [فعل] الخبائث، وصحّ أن الله ما أمرنا إلا بما يستحسنه العقلُ، وما نهانا إلا عمّا يستقبحه العقل، وهذا من تمام النعمة وكمال الرحمة، فالحمد لله الذي أسبغ علينا نعمه ظاهرةً وباطنةً.
وأيضاً فإنه يمكن أن يكون فيما نهانا عنه أشياءٌ من المضار العاجلة لا نعلمها، ويؤيد ذلك قول رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: ((لا يغتسل الجنُبُ حتى يبول ، وإلا تردَّد فيه بقيّة المني، فكان منه داءٌ لا دواء له)). وفيما ذكرنا دليل على ما لم نذكر.
ومن تمام النعمة أن الله أمر عباده بما تستحسنه العقول، وينفع في الحال، ثم أثابهم وأعطاهم الأجر الكثير في الآخرة على فعله. ونهاهم عما يضرهم في الحال والمآل وتستقبحه العقولُ، وعاقبهم على فعله في الآخرة.
ومن كمال النعمة أنه ما كلّف أحداً فوق طاقته بل أمر المكلَّفين بالإنفاق ورغّبهم فيه، ونهاهم عن الإنفاق الذي يضرّ بهم، فقال تعالى: {وَلاَ تُلْقُوا بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التَّهْلُكَةِ }[البقرة:195]، وقال تعالى: {وَالَّذِينَ إِذَا أَنفَقُوا لَمْ يُسْرِفُوا وَلَمْ يَقْتُرُوا وَكَانَ بَيْنَ ذَلِكَ قَوَامًا}[الفرقان:67]، وقال تعالى: {لاَ يُكَلّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلاَّ وُسْعَهَا }[البقرة:286]، وقال: {يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلاَ يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ}[البقرة:185]، فالحمد لله على نعمه عدد نعمه. (1/267)
باب حقيقة معرفة شكر المنعم (1/268)
اعلم أن العقل الضروري يحكم بوجوب شكر المنعم، وأنّ شكر المنعم حسنٌ، وأن كفر النعمة قبيحٌ.
وفي الشاهد أن إنساناً لو أنعم على ملحدٍ وأحسن إليه أن الملحد يشكره ويُثني عليه، فثبت أن شكر المنعم في العقل واجبٌ.
والذي يدل على وجوبه من كتاب الله قوله تعالى: {فَاذْكُرُونِي أَذْكُرْكُمْ وَاشْكُرُوا لِي وَلاَ تَكْفُرُونِ}[البقرة:152]، وقوله تعالى: {وَلِتُكَبِّرُوا اللَّهَ عَلَى مَا هَدَاكُمْ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ}[البقرة:185]، وقوله تعالى: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُلُوا مِنْ طَيِّبَاتِ مَا رَزَقْنَاكُمْ وَاشْكُرُوا لِلَّهِ إِنْ كُنتُمْ إِيَّاهُ تَعْبُدُونَ}[البقرة:172]، وقوله تعالى: {فَكُلُوا مِمَّا رَزَقَكُمُ اللَّهُ حَلاَلاً طَيِّبًا وَاشْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ إِنْ كُنْتُمْ إِيَّاهُ تَعْبُدُونَ}[النحل:114]، وقال تعالى: {إِنَّ رَبَّكَ لَذُو فَضْلٍ عَلَى النَّاسِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لاَ يَشْكُرُونَ}[النمل:73]، وقال تعالى: {وَقَلِيلٌ مِنْ عِبَادِي الشَّكُورُ }[سبأ:13]. وقد روي عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أنه قال: ((من أُودِعَ عُرْفاً فليشكره ، فإن لم يمكنه فلينشره، فإذا نشره فقد شكره، وإذا كتمه فقد كفره)).
واعلم أن الكفر هو الجحد، وهو على وجهين: فكفرٌ بالله، وكفرٌ بنعمة الله، ومن لم يشكر الله فهو كافرٌ بنعمة الله، والكافر بنعمة الله فاسقٌ، وهو من أهل النار، وإن الشكر ضدّ الكفر، قال الله تعالى: {إِنْ تَكْفُرُوا فَإِنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ عَنْكُمْ وَلاَ يَرْضَى لِعِبَادِهِ الْكُفْرَ وَإِنْ تَشْكُرُوا يَرْضَهُ لَكُمْ}[الزمر:7]، وقال تعالى -حاكياً عن سليمان عليه السَّلام: {قَالَ هَذَا مِنْ فَضْلِ رَبِّي لِيَبْلُوَنِي أَأَشْكُرُ أَمْ أَكْفُرُ}[النمل:40]، وقال تعالى: {أَفَبِالْبَاطِلِ يُؤْمِنُونَ وَبِنِعْمَةِ اللَّهِ هُمْ يَكْفُرُونَ}[النحل:72]، وقال تعالى: {أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ بَدَّلُوا نِعْمَةَ اللَّهِ كُفْرًا }[إبراهيم:28]، وقال تعالى: {وَإِذْ تَأَذَّنَ رَبُّكُمْ لَئِنْ شَكَرْتُمْ لأَزِيدَنَّكُمْ وَلَئِنْ كَفَرْتُمْ إِنَّ عَذَابِي لَشَدِيدٌ}[إبراهيم:7]، وقال تعالى: {يَعْرِفُونَ نِعْمَةَ اللَّهِ ثُمَّ يُنكِرُونَهَا وَأَكْثَرُهُمُ الْكَافِرُونَ}[النحل:83]، وقال تعالى: {وَمَنْ يُبَدِّلْ نِعْمَةَ اللَّهِ مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَتْهُ فَإِنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ}[البقرة:211]، وقال تعالى: {ثُمَّ لَتُسْأَلُنَّ يَوْمَئِذٍ عَنِ النَّعِيمِ }[التكاثر:8]. (1/269)
فصل في الكلام في حقيقة الشكر (1/270)
اعلم أن أول ما يجب من شكر المنعم أن تعرف المنعم، وتعرف النعمة، فإذا عرفت المنعمَ والنعمةَ وجب عليك أن تعرف ما أمرك به وما نهاك عنه، وتعرف أولياءهُ فتواليهم، وتعرف أعداءه فتُعاديهم، فإذا عرفت هذه الجملة، وعرفت صدق الوعد والوعيد، وجب عليك أن تعمل بما أمرك (به) المنعمُ، وتتجنب ما نهاك عنه.
واعلم أن شكر المنعم على ثلاثة وجوه: اعتقادٌ بالقلب، وقولٌ باللسان، وعملٌ بالنفس والأركان.
فصل في الكلام فيما يجب أن يعتقد بالقلب من الشكر (1/271)
أما الشكر بالقلب فهو الاعتقاد والعلمُ؛ وهو أن تؤمن بالله، وتعرفه حقّ معرفته، وتنفي عنه كُلّ صفة نقصٍ في ذاته وفي أفعاله، وأن تؤمن بملائكته وكُتبهِ ورُسُلهِ ومن تخلّفهم من الأوصياء، والأئمة الأتقياء، واليوم الآخر، والبعث والحساب، والجنّة والنار، والتصديق بالوعد والوعيد، وخلود أهل الجنة في الجنة، وأهل النار في النار، وأن الله عدلٌ في جميع أفعاله، وأنه لا يكلف فوق الطّاقة، ولا يسلب مُكلَّفاً الاستطاعة ثم يعاقبه على ترك ما لا يطيق. وأن يعرف مُوجبات العلم وموجبات العمل، ويعلم علم الأصول وعلم الفروع.
واعلم أن مُوجبات العلم هي ما عرَّفنا الله ورسُولُهُ، وحكم به العقلُ من معرفة الله، ومعرفة الأصول التي ذكرنا ومعرفة الفروع أيضاً، ومعرفة طاعة الله، ومعرفة معصية الله، ومعرفة ما كان من قصص الأوَّلين، وما يكون في يوم الدين وأمثال ذلك. وموجبات العمل هو الأمر بفعل الطاعات، والنهي عن فعل المحرمات.
والأصول هي التي سمّيناها في كتابنا هذا وهي ثلاثة عشر باباً وهي: معرفة النّظر والاستدلال، ومعرفة الصّنع، ومعرفة الصّانع، ومعرفة التّوحيد، ومعرفة العدل، ومعرفة النِّعمة، ومعرفة شكر المنعم، ومعرفة البلاء، ومعرفة الجزاء، ومعرفة الكُتُب، ومعرفة الرُّسل، ومعرفة الإمامة، ومعرفة الاختلاف.
ولولا معرفة الاختلاف لَمَا عُرفت الفرقةُ النّاجيةُ، ولا تحقق وأيقن صاحبُ الحقّ أنه مُحِقٌّ، فلمّا لم تكمل معرفة الأصول إلا به عُلِمَ أن معرفة الوِفَاقِ والخلاف هو أصلٌ من الأصول وهو سببُ الولاءِ والبَرَاء، ولولا ذلك لَمَا عُرفَ الوليُّ من العدوِّ. (1/272)
واعلم أن هذه الأصول أجمع عليها جميعُ العلماء الصالحين من الملائكة والمرسلين "، ومن كافة المؤمنين. ولم يُنسخ منها شيءٌ ولا بُدِّل، قال الله تعالى: {إِنَّ إِبْرَاهِيمَ كَانَ أُمَّةً قَانِتًا لِلَّهِ حَنِيفًا وَلَمْ يَكُنْ مِنَ الْمُشْرِكِينَ ، شَاكِرًا لأَنْعُمِهِ اجْتَبَاهُ وَهَدَاهُ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ ، وَآتَيْنَاهُ فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً وَإِنَّهُ فِي الآخِرَةِ لَمِنَ الصَّالِحِينَ ، ثُمَّ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ أَنِ اتَّبِعْ مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفًا وَمَا كَانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ}[النحل:120-123]، وقال تعالى: {وَجَاهِدُوا فِي اللَّهِ حَقَّ جِهَادِهِ هُوَ اجْتَبَاكُمْ وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ مِلَّةَ أَبِيكُمْ إِبْرَاهِيمَ هُوَ سَمَّاكُمُ الْمُسْلِمينَ مِنْ قَبْلُ وَفِي هَذَا لِيَكُونَ الرَّسُولُ شَهِيدًا عَلَيْكُمْ وَتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ}[الحج:78]، وقال تعالى: {ذُرِّيَّةَ مَنْ حَمَلْنَا مَعَ نُوحٍ إِنَّهُ كَانَ عَبْدًا شَكُورًا}[الإسراء:3]، وقال تعالى عن نوح عليه السَّلام: {قَالَ يَاقَوْمِ إِنّي لَكُمْ نَذِيرٌ مُبِينٌ ، أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ وَاتَّقُوهُ وَأَطِيعُونِي ، يَغْفِرْ لَكُمْ مِنْ
ذُنُوبِكُمْ...}الآية[نوح:2-4]، وقال تعالى: {شَرَعَ لَكُمْ مِنَ الدِّينِ مَا وَصَّى بِهِ نُوحًا وَالَّذِي أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ وَمَا وَصَّيْنَا بِهِ إِبْرَاهِيمَ وَمُوسَى وَعِيسَى أَنْ أَقِيمُوا الدِّينَ وَلاَ تَتَفَرَّقُوا فِيهِ كَبُرَ عَلَى الْمُشْرِكِينَ مَا تَدْعُوهُمْ إِلَيْهِ اللَّهُ يَجْتَبِي إِلَيْهِ مَنْ يَشَاءُ وَيَهْدِي إِلَيْهِ مَنْ يُنِيبُ}[الشورى:13]، وقال تعالى: {آمَنَ الرَّسُولُ بِمَا أُنزِلَ إِلَيْهِ مِنْ رَبِّهِ وَالْمُؤْمِنُونَ كُلٌّ آمَنَ بِاللَّهِ وَمَلاَئِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ لاَ نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِنْ رُسُلِهِ وَقَالُوا سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا غُفْرَانَكَ رَبَّنَا وَإِلَيْكَ الْمَصِيرُ}[البقرة:285]، وقال تعالى: {وَلَقَدْ أَخَذَ اللَّهُ مِيثَاقَ بَنِي إِسْرَائِيلَ وَبَعَثْنَا مِنْهُمُ اثْنَيْ عَشَرَ نَقِيبًا وَقَالَ اللَّهُ إِنّي مَعَكُمْ لَئِنْ أَقَمْتُمُ الصَّلاَةَ وَآتَيْتُمُ الزَّكَاةَ وَآمَنْتُمْ بِرُسُلِي وَعَزَّرْتُمُوهُمْ وَأَقْرَضْتُمُ اللَّهَ قَرْضًا حَسَنًا لأُكَفّرَنَّ عَنْكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ...}الآية[المائدة:12]، وقال تعالى: {مَا يُقَالُ لَكَ إِلاَّ مَا قَدْ قِيلَ لِلرُّسُلِ مِنْ قَبْلِكَ ...}[فصلت:43]، وقال تعالى: {وَتَمَّتْ كَلِمَةُ رَبِّكَ صِدْقًا وَعَدْلاً لاَ مُبَدِّلَ لِكَلِمَاتِهِ وَهُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ}[الأنعام:115]، وقال تعالى: {سُنَّةَ اللَّهِ الَّتِي قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلُ وَلَنْ تَجِدَ لِسُنَّةِ اللَّهِ تَبْدِيلاً}[الفتح:23]، فصحّ (1/273)
ما قلنا من أن هذه الجملة لم يُختلف فيها، ولم ينسخ منها شيءٌ، وليس يُقبل في هذه الأصول خبر الآحاد، ولا فيما ينقضها، مثل ما رَوَى أهل التشبيه وأهل القدر والغلاة وغيرهم ممن دَسّ في الإسلام ما ليس منه. (1/274)
ومما يجب أن يُعتقد في القلب؛ موالاة أولياء الله، ومعاداة أعداء الله، وهو أن يعتقد حُبّ أولياء الله وبُغض أعداء الله، قال الله تعالى في صفة المؤمنين: {أَشِدَّاءُ عَلَى الْكُفَّارِ رُحَمَاءُ بَيْنَهُمْ}[الفتح:29]، وقال تعالى: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لاَ تَتَّخِذُوا عَدُوِّي وَعَدُوَّكُمْ أَوْلِيَاءَ تُلْقُونَ إِلَيْهِمْ بِالْمَوَدَّةِ}[الممتحنة:1]، وقال تعالى: {لاَ تَجِدُ قَوْمًا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ يُوَادُّونَ مَنْ حَادَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَلَوْ كَانُوا آبَاءَهُمْ أو أَبْنَاءَهُمْ أو إِخْوَانَهُمْ أو عَشِيرَتَهُمْ أُوْلَئِكَ كَتَبَ فِي قُلُوبِهِمُ الإِيمَانَ وَأَيَّدَهُمْ بِرُوحٍ مِنْهُ وَيُدْخِلُهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ أُوْلَئِكَ حِزْبُ اللَّهِ أَلاَ إِنَّ حِزْبَ اللَّهِ هُمُ الْمُفْلِحُونَ}[المجادلة:22].
ومما يجب أن يُعتقد بالقلب: النيّة والإخلاص لله، والذكر لله، والصِّدق والاستقامة والخشوع لله في جميع العبادة، قال الله تعالى: {فَاعْبُدِ اللَّهَ مُخْلِصًا لَهُ الدِّينَ ، أَلاَ لِلَّهِ الدِّينُ الْخَالِصُ}[الزمر:2،3]، وقال تعالى: {قُلِ اللَّهَ أَعْبُدُ مُخْلِصًا لَهُ دِينِي }[الزمر:14]، وقال تعالى: {قُلْ إِنّي أُمِرْتُ أَنْ أَعْبُدَ اللَّهَ مُخْلِصًا لَهُ الدِّينَ ، وَأُمِرْتُ لأَنْ أَكُونَ أَوَّلَ الْمُسْلِمِينَ}[الزمر:11،12]، وقال تعالى: {فَادْعُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ وَلَوْ كَرِهَ الْكَافِرُونَ}[غافر:14]، وقال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: ((الأعمال بالنيّات ، وإنما لكل امرئٍ ما نوى)). (1/275)
وقال الله تعالى في ذكر الخشوع: {قَدْ أَفْلَحَ الْمُؤْمِنُونَ ، الَّذِينَ هُمْ فِي صَلاَتِهِمْ خَاشِعُونَ}[المؤمنون:1،2]، وروي عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: أنه نظر رجلاً يعبث بلحيته في صلاته فقال: ((أما هذا لو خشع قلبُهُ لخشعتْ جوارحُهُ )). وقال الله تعالى في الصدق والاستقامة: {رِجَالٌ صَدَقُوا مَا عَاهَدُوا اللَّهَ عَلَيْهِ فَمِنْهُمْ مَنْ قَضَى نَحْبَهُ وَمِنْهُمْ مَنْ يَنْتَظِرُ وَمَا بَدَّلُوا تَبْدِيلاً ، لِيَجْزِيَ اللَّهُ الصَّادِقِينَ بِصِدْقِهِمْ}[الأحزاب:23،24]، وقال تعالى في الاستقامة: {إِنَّ الَّذِينَ قَالُوا رَبُّنَا اللَّهُ ثُمَّ اسْتَقَامُوا فَلاَ خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلاَ هُمْ يَحْزَنُونَ}[الأحقاف:13].
ومن واجبات القلب تعظيم أولياء الله، وشعائر الله، وحرمات الله؛ قال الله تعالى: {وَتَعَاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوَى }[المائدة:2]، وقال: {رُحَمَاءُ بَيْنَهُمْ }[الفتح:29]، وقال: {إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ }[الحجرات:10]، وقال: {وَمَنْ يُعَظّمْ حُرُمَاتِ اللَّهِ فَهُوَ خَيْرٌ لَهُ عِنْدَ رَبِّهِ }[الحج:30]، وقال: {وَمَنْ يُعَظّمْ شَعَائِرَ اللَّهِ فَإِنَّهَا مِنْ تَقْوَى الْقُلُوبِ }[الحج:32]. (1/276)
وقال تعالى في الصّبر: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اسْتَعِينُوا بِالصَّبْرِ وَالصَّلاَةِ إِنَّ اللَّهَ مَعَ الصَّابِرِينَ}[البقرة:153]، وقال تعالى: {وَالصَّابِرِينَ فِي الْبَأْسَاءِ وَالضَّرَّاءِ وَحِينَ الْبَأْسِ}[البقرة:177]، وقال: {إِنَّ الْمُسْلِمِينَ وَالْمُسْلِمَاتِ وَالْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ وَالْقَانِتِينَ وَالْقَانِتَاتِ وَالصَّادِقِينَ وَالصَّادِقَاتِ وَالصَّابِرِينَ وَالصَّابِرَاتِ وَالْخَاشِعِينَ وَالْخَاشِعَاتِ وَالْمُتَصَدِّقِينَ وَالْمُتَصَدِّقَاتِ وَالصَّائِمِينَ وَالصَّائِمَاتِ وَالْحَافِظِينَ فُرُوجَهُمْ وَالْحَافِظَاتِ وَالذَّاكِرِينَ اللَّهَ كَثِيرًا وَالذَّاكِرَاتِ أَعَدَّ اللَّهُ لَهُمْ مَغْفِرَةً وَأَجْرًا عَظِيمًا}[الأحزاب:35]. وقد روي عن أمير المؤمنين عليه السَّلام أنه قال: (منزلة الصّبر من الإيمان كمنزلة الرأس من الجسد، ولا إيمان لمن لا صبر له).
ومما يجب بالقلب: اليقين والتقوى، قال الله تعالى: {هَذَا بَصَائِرُ لِلنَّاسِ وَهُدًى وَرَحْمَةٌ لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ }[الجاثية:20]، وقال: {رَبُّ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا إنْ كُنتُمْ مُوقِنِينَ}[الشعراء:24]، وقال تعالى: {اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ }[آل عمران:102]، وقال تعالى: {فَاتَّقُوا اللَّهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ وَاسْمَعُوا وَأَطِيعُوا}[التغابن:16]. (1/277)
ويجب الذكر والتفكر في صنع الله بالقلب، قال الله: {الَّذِينَ يَذْكُرُونَ اللَّهَ قِيَامًا وَقُعُودًا وَعَلَى جُنُوبِهِمْ وَيَتَفَكَّرُونَ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ رَبَّنَا مَا خَلَقْتَ هَذَا بَاطِلاً سُبْحَانَكَ فَقِنَا عَذَابَ النَّارِ}[آل عمران:191].
ومن واجبات القلوب: التوبة، والندم، والتواضع، والمحبّة والرحمة لأولياء الله، والبغض والعداوة لأعداءِ الله، وإنكار المنكر.
فهذه الأصول والفروع يجب معرفتها بالقلب، ويجب نفيُ أضدادها عن القلب؛ فضد الإيمان الكفر، وهو جحد أو شرك أو شك، والجهل ضدّ العلم، والشكّ ضدُّ اليقين، والرّياء ضدّ الإخلاص، والشكر ضدّ الكفر، قال تعالى: {فَوَيْلٌ لِلْمُصَلّينَ ، الَّذِينَ هُمْ عَنْ صَلاَتِهِمْ سَاهُونَ ، الَّذِينَ هُمْ يُرَاءُونَ ، وَيَمْنَعُونَ الْمَاعُونَ}[الماعون:4-7]. وروي عن أنس أنه قال: الحمد الله كما قال: {الَّذِينَ هُمْ عَنْ صَلاَتِهِمْ سَاهُونَ}، ولم يقل: (في صلاتهم ساهون) ذكره المؤيد بالله في الزيادات.
واعلم أن الرياء والمباهاة يبطلان الأعمال، ويُفسدان الأفعال؛ وقد روي عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أنه قال: ((إذا كان يوم القيامة فأولُ ما يُدعَى رجلٌ جمع القرآن فيقول الله له: عبدي ألم أعلمك ما أنزلت على رسولي؟ فيقول: بلى يا رب. فيقول: ماذا عملتَ فيما علمتَ؟ فيقول: يا رب كنت أقوم به الليل والنهار. فيقول الله تعالى: كذبت بل أردتَّ أن يقال: فلان قارئٌ، فقد قيل ذلك، إذهب فليس لك اليوم عندنا شيءٌ. ثم يُدعى بصاحب المال فيقول الله تعالى: عبدي ألم أنعم عليك؟ ألم أفضُل عليك؟ ألم أُوسع عليك؟ فيقول: بلى يا رب، فيقول: ماذا عملتَ فيما آتيتك؟ فيقول: يا رب كنت أصل الرحم، وأتصدّق، وأفعل؛ فيقول الله تعالى: كذبت بل أردتَّ أن يُقال: فلانٌ جوادٌ، فقد قيل ذلك، إذهب فليس لك اليوم عندنا شيءٌ. ويُدعَى بالمقتول فيقول الله تعالى: عبدي فيم قُتِلْتَ؟ فيقول: يا رب (قتلت) فيك وفي سبيلك. فيقول الله له: كذبتَ بل أردتَّ أن يُقال: فلان جريءٌ فقد قيل ذلك، إذهب فليس لك اليوم عندنا شيءٌ. ثم قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: أولئك الثلاثة أول خلق يُسعَّرُ بهم في النّار)). (1/278)
ومما يجب أن يُنفى من القلب: الكبر والحسد، قال الله تعالى: {أَمْ يَحْسُدُونَ النَّاسَ عَلَى مَا آتَاهُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ فَقَدْ آتَيْنَا آلَ إِبْرَاهِيمَ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَآتَيْنَاهُمْ مُلْكًا عَظِيمًا}[النساء:54]، وروي عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أنه قال: ((الحسد يأكل الإيمان كما تأكل النّار الحطب))، وقال الله تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ يُجَادِلُونَ فِي آيَاتِ اللَّهِ بِغَيْرِ سُلْطَانٍ أَتَاهُمْ إِنْ فِي صُدُورِهِمْ إِلاَّ كِبْرٌ مَا هُمْ بِبَالِغِيهِ فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ}[غافر:56]، وكان أول من تكبّر وحسد إبليس لعنه الله فقال الله تعالى: {مَا يَكُونُ لَكَ أَنْ تَتَكَبَّرَ فِيهَا ...}الآية[الأعراف:13]. وروي عن عبد الله بن سلام أنه مَرّ في السُّوق وعلى رأسه حزمةُ حطبٍ فقيل له، فقال: إنِّي أردتُّ أن أخلع الكبر، وقال: إني سمعت رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يقول: ((لا يدخلَ الجنةَ عبد في قلبهِ [مثقال] حبّةُ خردلٍ من كِبْرٍ )). (1/279)
ومما يجب أن يُنفى من القلب: الظن الكاذب، وتكذيب الصادق، قال الله تعالى: {إِنَّ بَعْضَ الظَّنِّ إِثْمٌ }[الحجرات:12]، وقال: {إِنْ يَتَّبِعُونَ إِلاَّ الظَّنَّ وَمَا تَهْوَى الأَنْفُسُ وَلَقَدْ جَاءَهُمْ مِنْ رَبِّهِمُ الْهُدَى}[النجم:23].
ومما يجب أن يُنفى من القلب: الغفلة عن ذكر الله، وذكر الوعد والوعيد، وذكر الموت، قال الله تعالى: {إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ إِذَا ذُكِرَ اللَّهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ وَإِذَا تُلِيَتْ عَلَيْهِمْ آياتُهُ زَادَتْهُمْ إِيمَانَاً وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ}[الأنفال:2]. (1/280)
وفي ذكر الموت ما روي عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أنه قال: ((أُذكروا هادمُ اللذّاتِ )) يعني: الموت.
ومما يجب أن يُنفى من القلب: كراهة الحق وأهله، قال الله تعالى: {كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِتَالُ وَهُوَ كُرْهٌ لَكُمْ وَعَسى أَنْ تَكْرَهُوا شَيْئًا وَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ وَعَسَى أَنْ تُحِبُّوا شَيْئًا وَهُوَ شَرٌّ لَكُمْ وَاللَّهُ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لاَ تَعْلَمُونَ}[البقرة:216].
فصل في الكلام في واجبات اللسان (1/281)
من ذلك الإقرار بالله تعالى، وملائكته، وكتبه، ورسله، والنعمة، والبلية، والموت، والبعث، والحساب، والثواب، والعقاب، والخلود.
ومما يجب باللسان: التوحيد والعدل.
ومما يجب باللسان: قراءة ما تيسّر من القرآن، قال الله تعالى: {فَاقْرَءُوا مَا تَيَسَّرَ مِنَ الْقُرْآنِ عَلِمَ أَنْ سَيَكُونُ مِنْكُمْ مَرْضَى...}الآية[المزمل:20] في الصّلاة.
ومما يجب باللسان: ردُّ السّلام، قال الله تعالى: {وَإِذَا حُيِّيتُمْ بِتَحِيَّةٍ فَحَيُّوا بِأَحْسَنَ مِنْهَا أو رُدُّوهَا }[النساء:86]، ويجب باللسان الأذان على المنفرد والإقامة.
ومما يجب باللسان: تكبيرة الإحرام، وقراءة فاتحة الكتاب في ركعة وثلاث آيات معها، وما تيسّر من التسبيح، وقول المأموم: ربّنا لك الحمد -في الصلاة- قال الله تعالى: {فَسُبْحَانَ اللَّهِ حِينَ تُمْسُونَ وَحِينَ تُصْبِحُونَ ، وَلَهُ الْحَمْدُ فِي السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَعَشِيًّا وَحِينَ تُظْهِرُونَ}[الروم:17،18]، وقال: {فَسَبِّحْ بِاسْمِ رَبِّكَ الْعَظِيمِ }[الواقعة:74].
ومما يجب باللسان: التّشهد الأخير مُشتملاً على الصّلاة على النبيء وآله -صلوات الله عليهم جميعا- والتسليم.
ومما يجب باللسان: التّعلُّم [والتعليم] وسُؤال العلماء، ودراسة كتب الأصول وكتب الشرع.
ومما يجب باللسان: أداء الشّهادة، قال الله تعالى: {وَالَّذِينَ هُمْ بِشَهَادَاتِهِمْ قَائِمُونَ }[المعارج:33]، وقال تعالى: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُونُوا قَوَّامِينَ لِلَّهِ شُهَدَاءَ بِالْقِسْطِ }[المائدة:8].
ومما يجب باللسان: الإصلاح بين الناس، والأمر بالصّدقة والمعروف، قال الله تعالى: {لاَ خَيْرَ فِي كَثِيرٍ مِنْ نَجْوَاهُمْ إِلاَّ مَنْ أَمَرَ بِصَدَقَةٍ أو مَعْرُوفٍ أو إِصْلاَحٍ بَيْنَ النَّاسِ}[النساء:114]. (1/282)
ومما يجب باللسان: الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، قال الله تعالى: {وَلْتَكُنْ مِنْكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَأُوْلَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ}[آل عمران:104]. وروي عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أنه قال: ((من رأى منكم منكراً فليُغيّره بيده فإن لم يستطع فبلسانه، فإن لم يستطع فبقلبه وذلك أضعفُ الإيمان)).
ومما يجب باللسان: الدّعاءُ إلى الله وإلى الحق على ما يستحق الإجابة، قال الله تعالى: {وَمَنْ أَحْسَنُ قَوْلاً مِمَّنْ دَعَا إِلَى اللَّهِ وَعَمِلَ صَالِحًا وَقَالَ إِنَّنِي مِنَ الْمُسْلِمِينَ}[فصلت:33].
ومما يجب باللسان: الدفع بالتي هي أحسنُ، قال الله تعالى: {وَإِذَا خَاطَبَهُمُ الْجَاهِلُونَ قَالُوا سَلاَمًا }[الفرقان:63].
ومما يجب باللسان: الحكمُ بما أنزل الله، قال الله تعالى: {وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنزَلَ اللَّهُ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ }[المائدة:47].
ومما يجب باللسان: الحمد لله والثّناءُ عليه، فإن الله تعالى افتتح كتابه بالحمد لله رب العالمين. قال: {وَقُلِ الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي لَمْ يَتَّخِذْ وَلَدًا }[الإسراء:111].
ومما يجب باللسان: الإقرار بما يكون على العبد من الحقوق متى سأله صاحبُ الحق.
ومما يجب باللسان: تعليم الجاهل -إذا سأل ذلك ولم يكن يدخل على المعلِّم مشقَّةٌ كبيرةٌ. (1/283)
ومما يجب باللسان: مناظرة المخالفين؛ روي عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أنه قال: ((لَمَقامُ أحدكم في الدنيا يتكلَّمُ بكلمةٍ يَرُدُّ بها باطلاً أو يُحيي بها حقًّا أفضلُ من هِجْرَةٍ معي)).
فهذه واجبات اللسان؛ وما كان من جنسها مما ورد به الكتاب والسنة، وفيهما بيان واجبات اللسان، وما يُستحبُّ وما يُكره وما يُحرمُ.
ومما يحرم النطق به: القول بالجحدان، والكفر، والشرك، قال الله تعالى: {وَالَّذِينَ لاَ يَدْعُونَ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آخَرَ }[الفرقان:68]، وقال تعالى: {فَفِرُّوا إِلَى اللَّهِ إِنّي لَكُمْ مِنْهُ نَذِيرٌ مُبِينٌ }[الذاريات:50]، وقال الله تعالى: {وَلاَ تَجْعَلُوا مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آخَرَ إِنّي لَكُمْ مِنْهُ نَذِيرٌ مُبِينٌ}[الذاريات:51].
ومما يحرم النطق به: الاستخفاف بحقّ الله وملائكته، ومثل النطق بالإثم والعداون، ولعلّ الناطق بالإثم يكره أن يسمعه النّاس، ويُسِرُّهُ منهم أو من بعضهم استحياءً لهم ورهبة منهم، ولا يستحيي من ربه وملائكته، ولا يرهب ربه، فهل يكون إثمٌ مثل هذا؟! وقد قال الله تعالى: {يَسْتَخْفُونَ مِنَ النَّاسِ وَلاَ يَسْتَخْفُونَ مِنَ اللَّهِ }[النساء:108]. وروي عن بعض الصالحين أنه رأى رجلاً يتكلم فيما لا يَعنيه فقال: يا هَذا إنما تُملي على حافظيك كتاباً إلى ربِّك.
ومما يحرم النطق به: الافتراء على الله، والكذب عليه؛ بما يُدخل عليه النقص، في ذاته أو في أفعاله مثل قول المجبرة: إن الله يُرى يوم القيامة. وقولهم: له جوارحٌ وأعضاءٌ، وهو في مكانٍ. وقولهم: إنه جبرهم على أفعالهم، وكلف الكافر بالإيمان وهو لا يستطيعه ثم يُعذبه، فهذا أكبر الكذب والفرية على الله، تعالى الله عن ذلك علوًّا كبيراً. قال عزّ من قائلٍ: {وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ وَهُوَ يُدْعَى إِلَى الإِسْلاَمِ وَاللَّهُ لاَ يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ}[الصف:7]، وقال عزّ من قائلٍ: {انظُرْ كَيْفَ يَفْتَرُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ وَكَفَى بِهِ إِثْمًا مُبِينًا }[النساء:50]، وقال تعالى: {سَيَقُولُ الَّذِينَ أَشْرَكُوا لَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا أَشْرَكْنَا وَلاَ آبَاؤُنَا وَلاَ حَرَّمْنَا مِنْ شَيْءٍ كَذَلِكَ كَذَّبَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ حَتَّى ذَاقُوا بَأْسَنَا قُلْ هَلْ عِنْدَكُمْ مِنْ عِلْمٍ فَتُخْرِجُوهُ لَنَا إِنْ تَتَّبِعُونَ إِلاَّ الظَّنَّ وَإِنْ أَنْتُمْ إِلاَّ تَخْرُصُونَ}[الأنعام:148]. (1/284)
ومما يحرم النطق به: الكذب على رسول الله، روي عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أنه قال: ((من كَذَبَ عليَّ مُتعمداً فليتبوأ مقعده من النار)).
ومما يحرم النطق به: الاستخفاف بحق الإمام والعالم والمؤمن لِمَا رُوي عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أنه قال: ((ثلاثةٌ لا يَستخفُّ بحقّهم إلا منافقٌ بَيِّن النّفاق : الإمام الْمُقسط، وذو الشيبة في الإسلام، ومعلم الخير)). ويحرم الكذب على جميع الناس. (1/285)
ويحرم من النطق: الحكمُ بغير ما أنزل الله.
ومما يحرم النطق به: شهادة الزّور، قال الله تعالى: {وَالَّذِينَ لاَ يَشْهَدُونَ الزُّورَ وَإِذَا مَرُّوا بِاللَّغْوِ مَرُّوا كِرَامًا}[الفرقان:72]، وقال الله تعالى: {وَاجْتَنِبُوا قَوْلَ الزُّورِ }[الحج:30].
ومما يحرم النطق به: مخاصمة أهل الحقّ، والمجادلة بالباطل؛ قال الله تعالى: {هَذَانِ خَصْمَانِ اخْتَصَمُوا فِي رَبِّهِمْ فَالَّذِينَ كَفَرُوا قُطّعَتْ لَهُمْ ثِيَابٌ مِنْ نَارٍ}[الحج:19]، وقال تعالى: {مَا يُجَادِلُ فِي آيَاتِ اللَّهِ إِلاَّ الَّذِينَ كَفَرُوا فَلاَ يَغْرُرْكَ تَقَلُّبُهُمْ فِي الْبِلاَدِ}[غافر:4]، ومن المجادلة في آيات الله قول من يقول: لم ينزل كتاب الله. وقول من يقول: ليس يُسمع كتابُ الله.
ويحرم على الجنب والنُّفساء والحائض قراءة القرآن.
ومما يحرم النُّطق به: الغيبة، قال الله تعالى: {وَلاَ يَغْتَبْ بَعْضُكُمْ بَعْضًا أَيُحِبُّ أَحَدُكُمْ أَنْ يَأْكُلَ لَحْمَ أَخِيهِ مَيْتًا فَكَرِهْتُمُوهُ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ تَوَّابٌ رَحِيمٌ}[الحجرات:12].
ويحرم النُّطق باليمين الكاذبة، وبالنَّميمة، قال الله تعالى: {وَلاَ تُطِعْ كُلَّ حَلاَّفٍ مَهِينٍ ، هَمَّازٍ مَشَّاءٍ بِنَمِيمٍ}[القلم:10،11]، وروي عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أنه قال: ((الغيبة والنَّميمة يُفَطِّرانِ الصائم ، وينقضان الوضوء)). وروي عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أنه قال: ((لا يدخل الجنّة قَتَّاتٌ )) والقتّات النّمّام. (1/286)
ومما يحرم النطق به: أذى المسلم، والقذف للمؤمنين والمؤمنات بغير بيِّنةٍ عادلةٍ؛ قال الله تعالى: {وَالَّذِينَ يُؤْذُونَ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ بِغَيْرِ مَا اكْتَسَبُوا فَقَدِ احْتَمَلُوا بُهْتَانًا وَإِثْمًا مُبِينًا}[الأحزاب:58].
ومما يحرم النطق به: الهزؤ، قال الله تعالى حاكياً عن قوم موسى حيث قالوا لموسى: {أَتَتَّخِذُنَا هُزُوًا قَالَ أَعُوذُ بِاللَّهِ أَنْ أَكُونَ مِنَ الْجَاهِلِينَ}[البقرة:67]، فسمى الهزؤ جهلاً، والجهلُ يجب الخروج منه.
ومما يحرم النّطق به: الغِنَّاءُ، واللهو، والشِّعر بالأصوات الملهية، وذِكر الحُبِّ والْمُحَبِّ؛ ولأنه من اللهو، ومما يُقويِّ هوى النفس.
فهذه الأشياء، وما كان من جملتها يحرم النطق بها والخوض فيها.
فصل في الكلام في واجبات السمع (1/287)
ومما يجب أن يُسمع: كتاب الله قال الله: {وَإِذَا قُرِئَ الْقُرْآنُ فَاسْتَمِعُوا لَهُ وَأَنصِتُوا لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ}[الأعراف:204]. وقال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: ((إنما جعل الإمام ليؤتم به فإذا كبّر فكبروا وإذا قرأ القرآن فأنصتوا)).
ومما يجب استماعه: الأذان والإقامة.
ومما يجب أن يُسمع: كلام رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، وكلام الأئمة الهادين، وكلام مُعلِّمي الخير. وقد ذمّ الله تعالى الذين لا يستمعون كتابه، وما جاء به رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، قال عزّ من قائلٍ: {وَالَّذِينَ لاَ يُؤْمِنُونَ فِي آذَانِهِمْ وَقْرٌ وَهُوَ عَلَيْهِمْ عَمًى أُوْلَئِكَ يُنَادَوْنَ مِنْ مَكَانٍ بَعِيدٍ}[فصلت:44]، وقال تعالى: {وَالَّذِينَ إِذَا ذُكّرُوا بِآيَاتِ رَبِّهِمْ لَمْ يَخِرُّوا عَلَيْهَا صُمًّا وَعُمْيَانًا }[الفرقان:73]، وقال الله تعالى: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لاَ تَقُولُوا رَاعِنَا وَقُولُوا انظُرْنَا وَاسْمَعُوا}[البقرة:104]، وقال الله تعالى: {وَلاَ تَكُونُوا كَالَّذِينَ قَالُوا سَمِعْنَا وَهُمْ لاَ يَسْمَعُونَ }[الأنفال:21].
وتأويل قوله: {لاَ تَقُولُوا رَاعِنَا وَقُولُوا انظُرْنَا} رُوي عن ابن عباس أن (رَاعِنَا) عند اليهود كلمة ذمٍّ، وهي عند العرب بمعنى أُنظرنا، ويقول القائل منهم: أَرْعِنِي سَمْعَكَ والمعنى اسمع مِنّي. فكانت اليهود يأتون إلى النبيء صلى الله عليه وآله وسلم فيقولون: راعنا، وأَرْعِنَا سَمْعَكَ. وغرضُهم السب له بلسانهم، فإذا خلا بعضهم إلى بعضٍ قالوا: قد كنّا نسبُّ محمداً سِرًّا، فقد صرنا نسبه عَلَناً. فأنزل الله هذ الآية، وخاطب بها المؤمنون، لِئَلاّ يتشبّه بهم اليهود إذا قالوا: رَاعِنَا. (1/288)
ومما يجب استماعه على القاضي: قول المدّعِي، وقول المدَّعَى عليه، وقول الشُّهود، ويجب استماع حكم القاضي على الخصمين.
فهذه الأشياء، وما جانسها يجب استماعها.
ومما يحرم استماعه: اللهو والغناء، وصوت المزمار، والطّنبور، وجميع الملاهي، واللغوِ قال الله تعالى: {وَالَّذِينَ هُمْ عَنِ اللَّغْوِ مُعْرِضُونَ }[المؤمنون:3]، وقال تعالى: {وَالَّذِينَ لاَ يَشْهَدُونَ الزُّورَ وَإِذَا مَرُّوا بِاللَّغْوِ مَرُّوا كِرَامًا}[الفرقان:72].
فصل في الكلام في واجبات البصر (1/289)
ومما يجب بالبصر: النظر إلى عجيب صُنع الله، قال الله تعالى: {أَفَلَمْ يَسِيرُوا فِي الأَرْضِ فَتَكُونَ لَهُمْ قُلُوبٌ يَعْقِلُونَ بِهَا أو آذَانٌ يَسْمَعُونَ بِهَا فَإِنَّهَا لاَ تَعْمَى الأَبْصَارُ وَلَكِنْ تَعْمَى الْقُلُوبُ الَّتِي فِي الصُّدُورِ}[الحج:46]، وقال تعالى: {أَفَلاَ يَنْظُرُونَ إِلَى الإِبِلِ كَيْفَ خُلِقَتْ ، وَإِلَى السَّمَاءِ كَيْفَ رُفِعَتْ ، وَإِلَى الْجِبَالِ كَيْفَ نُصِبَتْ ، وَإِلَى الأَرْضِ كَيْفَ سُطِحَتْ}[الغاشية:17-20].
ومما يجب أن ينظره العبد: كتاب الله، وكتب الأصول، وكتب الشرع، وما كان يُؤدي إلى العلم والعمل، ويدلُّ على الخير، ويُجنب الشر.
ومما يحرم [بصره]: النظر إلى العورات من الرجال والنساء، وحدّ العورة من الرَّجل من السرّة إلى تحت الركبة، وهو مفصل الفخذ من الساق، لقول رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: ((كل شيءٍ أسفل من سُرّته إلى ركبتهِ عورةٌ ))، وروي عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أنه قال: ((الفخذُ من العورة )). والنساء كلّهنّ عوراتٌ، لا يحلُّ نظرهن إلا للزوج والمحرم؛ قال الله تعالى: {قُلْ لِلْمُؤْمِنِينَ يَغُضُّوا مِنْ أَبْصَارِهِمْ وَيَحْفَظُوا فُرُوجَهُمْ...} إلى قوله: {وَقُلْ لِلْمُؤْمِنَاتِ يَغْضُضْنَ مِنْ أَبْصَارِهِنَّ وَيَحْفَظْنَ فُرُوجَهُنَّ}[النور:30،31]، وقال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: ((النساء عِيٌّ وعَوراتٌ فاسترُوا عِيَّهنَّ بالسّكوتِ وعَوراتِهِنّ بالبُيُوتِ)). فأما الزوجُ فإنه لا يحرم عليه نظر شيءٍ من امرأته. وأما من يحرم نكاحه على المرأة، من نسبٍ أو رضاعٍ، فإنه يحلّ له أن ينظر إلى ما ظهر منها، وهو الوجه، وما ظهر من شعر الرأس، واليدان والقدمان، وقد يكون الذِّراعان مما ظهر، وكذلك أسفل الساقين، ويحرم ما وراء ذلك؛ قال الله تعالى: {قُلْ لِلْمُؤْمِنِينَ يَغُضُّوا مِنْ أَبْصَارِهِمْ وَيَحْفَظُوا فُرُوجَهُمْ ذَلِكَ أَزْكَى لَهُمْ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا يَصْنَعُونَ ، وَقُلْ لِلْمُؤْمِنَاتِ يَغْضُضْنَ مِنْ أَبْصَارِهِنَّ وَيَحْفَظْنَ فُرُوجَهُنَّ وَلاَ يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إِلاَّ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَلْيَضْرِبْنَ بِخُمُرِهِنَّ عَلَى جُيُوبِهِنَّ وَلاَ يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إِلاَّ لِبُعُولَتِهِنَّ (1/290)
أو آبَائِهِنَّ أو آبَاءِ بُعُولَتِهِنَّ أو أَبْنَائِهِنَّ أو أَبْنَاءِ بُعُولَتِهِنَّ أو إِخْوَانِهِنَّ أو بَنِي إِخْوَانِهِنَّ أو بَنِي أَخَوَاتِهِنََّّ أو نِسَائِهِنَّ أو مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُنَّ أو التَّابِعِينَ غَيْرِ أُوْلِي الإِرْبَةِ مِنَ الرِّجَالِ أو الطّفْلِ الَّذِينَ لَمْ يَظْهَرُوا عَلَى عَوْرَاتِ النّسَاءِ وَلاَ يَضْرِبْنَ بِأَرْجُلِهِنَّ لِيُعْلَمَ مَا يُخْفِينَ مِنْ زِينَتِهِنَّ وَتُوبُوا إِلَى اللَّهِ جَمِيعًا أَيُّهَا الْمُؤْمِنُونَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ}[النور:30،31]. (1/291)
ومعنى قوله تعالى: {وَلاَ يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إِلاَّ مَا ظَهَرَ مِنْهَا} يُريد لِمَنِ استثناه بقوله: {إِلاَّ لِبُعُولَتِهِنَّ...}إلى آخر الآية.
وقوله: {وَلْيَضْرِبْنَ بِخُمُرِهِنَّ عَلَى جُيُوبِهِنَّ} فأوجب التقنّع والتّستّر. والجيب هو الفقرة من القميص والمدرعة.
وقوله: {إلا لبعولتهن} فاستثنى بعولتهن؛ لأنه لولا الاستثناء هذا لكان من جملة من يحرم عليه نظر زينتهن، ومن حال الاستثناء أنه لولا هو لدخل المستثنى في جملة من لم يُستثنَ.
وقوله: {أو نسائهن} دليل على ما قلنا: أنه لولا استثنى نسائهنّ لحرمُ عليهن أن يُبدين زينتهنّ عليهنّ.
وقوله: {أو ما ملكت أيمانهنّ} يُريد من الإماء، دون العبيد الذّكران، فإنه يحرمُ عليهنّ أن يبدين زينتهنّ عليهم. وإنما استثنى الله النساء والإماء لأنه لولا هذا الاستثناء لحرم عليهنّ أن يبدين لهنّ زينتهنّ. ونساؤهن: هن المسلمات، دون المشركات، وعلى هذا لا يجوز أن يُبدين زينتهن للمشركات والذّميات. (1/292)
وقوله: {أَوِ التَّابِعِينَ غَيْرِ أُوْلِي الإِرْبَةِ مِنَ الرِّجَالِ} والتابعون: هم ذوو الرّضاعة: الابن من الرضاعة، والأخ من الرضاعة، وابن الإبن، وابن الأخ، وابن الأخت من الرضاعة، وأشباه ذلك؛ ولأن الرضاع يتبع النسب في التحريم، لما روي عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أنه قال لعليّ أمير المؤمنين عليه السَّلام: ((أما علمت أنه يحرم من الرضاع ما يحرم من النسب )).
وقوله: {غَيْرِ أُوْلِي الإِرْبَةِ مِنَ الرِّجَالِ} والإِرْبَةُ هي الحاجةُ، قال الله تعالى: {وَمَا تِلْكَ بِيَمِينِكَ يَامُوسَى ، قَالَ هِيَ عَصَايَ أَتَوَكَّأُ عَلَيْهَا وَأَهُشُّ بِهَا عَلَى غَنَمِي وَلِيَ فِيهَا مَآرِبُ أُخْرَى}[طه:17،18]، يريد حاجاتٍ أخرى، والإربة هاهنا هي النظر للشهوة، فاستثنى الله من ينظر للشهوة من ذوي الرضاع، ولم يستثن ذلك من ذوي النّسب؛ لأن الرّحم يُلزم ما لا يُلزم الرضاع، وقد روي عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أنه قال: ((من كان يؤمن بالله واليوم الآخر فلا يخلو بامرأة ليست له بمحرمٍ ، فإن ثالثهما الشيطان)) إلا مع امرأةٍ يحرُمُ عليه نكاحها من نسبٍ أو صهرٍ.
وقوله: {أَوِ الطّفْلِ الَّذِينَ لَمْ يَظْهَرُوا عَلَى عَوْرَاتِ النّسَاءِ} وهم الذين لم يدروا ما يَطْلُبُ الرجال من النساء لصغرهم، وهو يكون من ست سنين أو سبعٍ، أو قريباً من ذلك، والله أعلم. (1/293)
واعلم أن هذا النّهي شاملٌ للناظر والمنظور من الرجال والنساء. ولا يحرم النظر إلى الصبيّة الصّغيرة على هذا القياس إلا أن يكون يُؤدي إلى الشهوة. وكذلك النظر إلى ما ظهر من الأمَةِ المملوكة للغير لِمَا رُوي عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أنه قال: ((لا تجالسوا أولاد الأغنياء فإن لهم شهوةً كشهوة النساء)) فمن هاهنا يحرُمُ النظر إلى أمَةِ الغير إذا كان النظر إليها يؤدي إلى الشهوة. فإذا لم يكن يُؤدي إلى الشهوة كالزّنجيّة وشبهها فلا يحرم النظر إلى ما ظهر منها.
قال القاسم عليه السَّلام: (يجوز أن تُصليَ الأمة بغير خمارٍ) فصح أنها كالرجل في العورة، إلا ما ذكرنا مما يدعو إلى الشهوة.
فصل في الكلام في واجبات اليدين (1/294)
فإنه يجبُ أن يستعمل العبدُ يديه فيما أمر الله به من العمل باليدين؛ من ذلك: الطهارة والصّلاة، والكتابة في التعليم، والحج والجهاد، وأمثال ذلك.
ومما يحرم عليه باليدين: أخذ مال الغير، وبخس الميزان، وتطفيف المكيال. ويحرم لمس ما يحرم نظره باليدين وبجميع الجسد.
ويحرم بسط اليد لقتل النفس التي حرّم الله إلا بالحق، قال الله تعالى: {مَنْ قَتَلَ نَفْسًا بِغَيْرِ نَفْسٍ أو فَسَادٍ فِي الأَرْضِ فَكَأَنَّمَا قَتَلَ النَّاسَ جَمِيعًا وَمَنْ أَحْيَاهَا فَكَأَنَّمَا أَحْيَا النَّاسَ جَمِيعًا}[المائدة:32]، وكذلك يحرم بسط اليد إلى الغير للضّرر، والجرح، وجميع أنواع الظلم.
فصل في الكلام في واجبات النفس على الكمال (1/295)
فإنه يجب على النفس الطهارة، والصلاة، والزكاة، والصوم، والحج، وبِرُّ الوالدين، وصلة القرابة، والأمر بالمعروف والنّهي عن المنكر، وموالاة أولياء الله، ومعاداة أعداء الله.
ومما يجب بالنفس: طلب العلم؛ قال الله تعالى: {فَلَوْلاَ نَفَرَ مِنْ كُلِّ فِرْقَةٍ مِنْهُمْ طَائِفَةٌ لِيَتَفَقَّهُوا فِي الدِّينِ وَلِيُنذِرُوا قَوْمَهُمْ إِذَا رَجَعُوا إِلَيْهِمْ}[التوبة:122]، وروي عنه صلى الله عليه وآله وسلم أنه قال: ((طلبُ العلم فريضةٌ على كل مسلمٍ )). وروي عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أنه قال: ((العلماءُ ورثة الأنبياء ، وإن الأنبياء لم يُخلفوا ديناراً ولا درهماً، وإنما ورّثوا العلم، فمن أخذ منه أخذ بحظٍّ وافرٍ)). وروي عن المسيح عليه السَّلام أنه قال: (من عَلِمَ وعمل بما علم دُعي عظيماً في ملكوت السماوات). وروي عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أنه قال: ((فضل العلم خيرٌ من فضل العبادة وخير دينكم الورع)).
ومما يجب على النفس: الورعُ فإنه رُوي عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أنه قال: ((الورع سيد الأعمال )).
ومما يجب على النفس أيضاً: دفع الضُّرّ والظلم عن النفس والوالدين والأقربين والصاحب بالجنب والجار.
ومما يحرم فعله على النفس: الظلم، وقتل النفس التي حرم الله إلا بالحق، والزنا، وشرب الخمر، وجميع ما يُسكر ويُفَتِّر لما روي عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أنه قال: ((ما أسكر كثيره فقليله حرام ))، ولما رُوي عنه صلى الله عليه وآله وسلم: ((أنه نهى عن كل مُسكرٍ ومُفَتِّرٍ )). (1/296)
ومما يحرم على النفس فعله: الرِّبا، قال الله تعالى: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَذَرُوا مَا بَقِيَ مِنَ الرِّبَا إِنْ كُنتُمْ مُؤْمِنِينَ ، فَإِنْ لَمْ تَفْعَلُوا فَأْذَنُوا بِحَرْبٍ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ وَإِنْ تُبْتُمْ فَلَكُمْ رُؤُوسُ أَمْوَالِكُمْ لاَ تَظْلِمُونَ وَلاَ تُظْلَمُونَ}[البقرة:278،279].
ومما يحرم على النفس: الوقوف على الجهل، قال الله تعالى: {وَلاَ تَكُونُوا كَالَّذِينَ قَالُوا سَمِعْنَا وَهُمْ لاَ يَسْمَعُونَ ، إِنَّ شَرَّ الدَّوَابِّ عِنْدَ اللَّهِ الصُّمُّ الْبُكْمُ الَّذِينَ لاَ يَعْقِلُونَ ، وَلَوْ عَلِمَ اللَّهُ فِيهِمْ خَيْرًا لاََسْمَعَهُمْ وَلَوْ أَسْمَعَهُمْ لَتَوَلَّوا وَهُمْ مُعْرِضُونَ}[الأنفال:21-23].
ومما يحرم على النفس: اتباع الهوى، فيما لايجوز، قال الله تعالى: {وَأَمَّا مَنْ خَافَ مَقَامَ رَبِّهِ وَنَهَى النَّفْسَ عَنِ الْهَوَى ، فَإِنَّ الْجَنَّةَ هِيَ الْمَأْوَى}[النازعات:40،41].
ومما يحرم على النفس: تركُ الواجبات، والعمل بالمحرمات.
ومما يحرم على النفس: تركُ الصّبر، وترك الحلم.
ويجب كظم الغيظ، قال الله تعالى: {وَالْكَاظِمِينَ الْغَيْظَ وَالْعَافِينَ عَنِ النَّاسِ وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ}[آل عمران:134]. (1/297)
ومما يحرم على النفس: الرضا بالظلم، والسُّكوت لأهل المنكر، قال الله تعالى: {كَانُوا لاَ يَتَنَاهَوْنَ عَنْ مُنكَرٍ فَعَلُوهُ لَبِئْسَ مَا كَانُوا يَفْعَلُونَ}[المائدة:79]، (وأمثال ذلك).
فصل في الكلام في حقيقة الشكر (1/298)
اعلم أنه لما ثبت أن كلّ نعمةٍ على العبد فهي من الله لقوله تعالى: {وَمَا بِكُمْ مِنْ نِعْمَةٍ فَمِنَ اللَّهِ }[النحل:53]، وقوله: {مَا أَصَابَكَ مِنْ حَسَنَةٍ فَمِنَ اللَّهِ وَمَا أَصَابَكَ مِنْ سَيِّئَةٍ فَمِنْ نَفْسِكَ}[النساء:79]، وجب أن يشكره عبده على كل نعمةٍ أنعمها عليه، لقوله تعالى: {إِنَّ السَّمْعَ وَالْبَصَرَ وَالْفُؤَادَ كُلُّ أُوْلَئِكَ كَانَ عَنْهُ مَسْئُولاً }[الإسراء:36]، وقال: {ثُمَّ لَتُسْأَلُنَّ يَوْمَئِذٍ عَنِ النَّعِيمِ }[التكاثر:8].
واعلم أن العبد لا يقدر [على] أن يبلُغ غاية شكر الله كما لا يُحصي عَدّ نعم الله، ولا يتم ذلك لبشرٍ كائناً من كان، لقول الله تعالى: {وَلَوْ يُؤَاخِذُ اللَّهُ النَّاسَ بِمَا كَسَبُوا مَا تَرَكَ عَلَى ظَهْرِهَا مِنْ دَابَّةٍ}[فاطر:45]، وقد حكى الله عن الأنبياء " التوبة والاستغفار، فقال تعالى -حاكياً عن آدم عليه السَّلام وحوَّاء: {قَالاَ رَبَّنَا ظَلَمْنَا أَنفُسَنَا وَإِنْ لَمْ تَغْفِرْ لَنَا وَتَرْحَمْنَا لَنَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِينَ}[الأعراف:23]، وقال تعالى -حاكياً عن نوحٍ عليه السَّلام: {رَبِّ اغْفِرْ لِي وَلِوَالِدَيَّ وَلِمَنْ دَخَلَ بَيْتِيَ مُؤْمِنًا وَلِلْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ}[نوح:28]، وقال تعالى -حاكياً عن إبراهيم عليه السَّلام: {الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي وَهَبَ لِي عَلَى الْكِبَرِ إِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ إِنَّ رَبِّي لَسَمِيعُ الدُّعَاءِ ، رَبِّ اجْعَلْنِي مُقِيمَ الصَّلاَةِ وَمِنْ ذُرِّيَّتِي رَبَّنَا وَتَقَبَّلْ دُعَاءِ ، رَبَّنَا اغْفِرْ لِي وَلِوَالِدَيَّ وَلِلْمُؤْمِنِينَ يَوْمَ يَقُومُ الْحِسَابُ}[إبراهيم:39-41]، وقال تعالى -حاكياً عن موسى عليه السَّلام: {قَالَ رَبِّ إِنّي ظَلَمْتُ نَفْسِي فَاغْفِرْ لِي فَغَفَرَ لَهُ إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ}[القصص:16]، وقال تعالى -حاكياً عن داود عليه السَّلام: {فَاسْتَغْفَرَ رَبَّهُ وَخَرَّ رَاكِعًا وَأَنَابَ }[ص:24]، وقال تعالى -حاكياً عن سليمان عليه السَّلام: {رَبِّ اغْفِرْ لِي وَهَبْ لِي مُلْكًا لاَ يَنْبَغِي لأَحَدٍ مِنْ (1/299)
بَعْدِي إِنَّكَ أَنْتَ الْوَهَّابُ}[ص:35]، وقال تعالى لنبيئنا صلى الله عليه وآله وسلم: {إِنَّا فَتَحْنَا لَكَ فَتْحًا مُبِينًا ، لِيَغْفِرَ لَكَ اللَّهُ مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِكَ وَمَا تَأَخَّرَ وَيُتِمَّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكَ وَيَهْدِيَكَ صِرَاطًا مُسْتَقِيمًا}[الفتح:1،2]، وليس خطايا الأنبياء جميعاً -صلوات الله عليهم أجمعين- بتعمدٍ منهم لمعصية الله سبحانه، ولكنهم يغفلون ويسهون، ويفترون وينسون، إلا في تبليغ الرِّسالة فإنهم معصومون عن النسيان والغفلة، وأشباه ذلك. (1/300)
وأما فيما يخصّهم في أنفسهم فليسوا بمعصومين بل يسهون، وينسون ويغفلون، بل إنهم معصومون من الكبائر، وليسوا بمعصومين من الصغائر.
والدليل على أن النبيء لا ينسى ما أرسل به قول الله تعالى: {سَنُقْرِئُكَ فَلاَ تَنسَى ، إِلاَّ مَا شَاءَ اللَّهُ}[الأعلى:6،7]، ومعنى {مَا شَاءَ اللَّهُ} يُريد وقت النوم والموت، وعلى ذلك فطرهم الله. وغيرهم من الناس، قال الله تعالى: {وَخُلِقَ الإِنسَانُ ضَعِيفًا }[النساء:28].
فأما الملائكة صلوات الله عليهم فإنهم لا يفتُرُون عن عبادة الله ولا ينسون، وقد حكى الله ذلك عنهم، فقال تعالى: {يُسَبِّحُونَ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ لاَ يَفْتُرُونَ }[الأنبياء:20]، وقال تعالى: {تَكَادُ السَّمَاوَاتُ يَتَفَطَّرْنَ مِنْ فَوْقِهِنَّ وَالْمَلاَئِكَةُ يُسَبِّحُونَ بِحَمْدِ رَبِّهِمْ وَيَسْتَغْفِرُونَ لِمَنْ فِي الأَرْضِ}[الشورى:5]، ولم يذكر عنهم أنهم يستغفرون لأنفسهم، وذلك أن الله تعالى قد خلقهم شِداداً أهل قوّةٍ، قال الله تعالى: {عَلَّمَهُ شَدِيدُ الْقُوَى ، ذُو مِرَّةٍ فَاسْتَوَى}[النجم:5،6]، وقال: {عَلَيْهَا مَلاَئِكَةٌ غِلاَظٌ شِدَادٌ لاَ يَعْصُونَ اللَّهَ مَا أَمَرَهُمْ وَيَفْعَلُونَ مَا يُؤْمَرُونَ}[التحريم:6]، فوصفهم بالقوة والشِّدة، وعصمهم عن الغذاء والنّكاح، وخوف الخلق، فأمكنهم ما هم عليه من طاعة الله تعالى. (1/301)
واعلم أنه لا يكون العبدُ شاكراً لربِّه حتى يكون مستصغراً لحسناته، مستعظماً لسيئاته، وذلك لكثرة نعم الله عليه، وعلمه بسره وجهره وقُدرته عليه. وقد رُوي أن أعرابياً سأل رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم عن صفة المُحبيّن للرحمن، فأمر عليًّا عليه السَّلام أن يُخبره، فقال له عليٌّ عليه السَّلام: (يا بَادي خُذ عني صفة المحبين: عبد استصغر بَذْله في الله، واستعظم ذنبه، وظنَّ أنه ليس في السّماوات ولا في الأرض مأخوذٌ غيره) قال: فصعق الأعرابي، فلما أفاق قال: أخبرنا يا ابن أبي طالب: هل يكون في حالةٍ أحدٌ أعلا من هذا العبد؟ قال: نعم؛ سبعين درجة.
ومما يدل على صحة ما قلنا: أنك لو عظّمت أجنبياً لا نعمة له عليك؛ أنه يستكثر منك النّعمة ويستعظمها، ويكون ذلك منك إليه عظيماً، وأنك إذا عظّمت والديك، أو عظَّم العبدُ سيّده أن ذلك يصغر عند الوالدين ويقلُّ من حقّهما، وذلك لكثرة نعمتهما عليك، وإحسانهما إليك، وكذلك السيّد يستصغر تعظيم عبده له، فإذا كان هذا معقولاً في الآدميين وجب على العبد أن يستصغر شكره لربِّ العالمين المنعم المتفضل ويستعظم ذنبه، ويخاف ربه، قال الله تعالى: {وَالَّذِينَ هُمْ مِنْ عَذَابِ رَبِّهِمْ مُشْفِقُونَ ، إِنَّ عَذَابَ رَبِّهِمْ غَيْرُ مَأْمُونٍ}[المعارج:27،28]. (1/302)
ومما يُكبّر المعصية ويُعظّمها أن العاصي لا يعصي إلا وهو في نعم الله، ألا ترى أنه لو مدّ زيدٌ يده إلى عمروٍ ليُعطيه عطيّة جزيلة يحتاج إليها ولا يستغني عنها، فمد عمروٌ يده ليلطم زيداً ألا ترى أن ذنبه كان عظيماً، وقد روي عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أنه قال: ((يقول الله تعالى: يا ابن آدم ما تنصفني أتحبَّبُ إليك بالنعم، وتتمقّت إليَّ بالمعاصي، وخيري إليك ينزل، وشرُّك إليّ صاعدٌ، ولا يزال ملكٌ كريمٌ يأتيني عنك في كل يومٍ بعملٍ قبيحٍ، يا ابن آدم لو سمعتَ وصفك من غيرك وأنت لا تدري مَنِ الموصوف لسارعتَ إلى مقته)). وروي عن بعض الصالحين أنه سئل عن الشكر فقال: ألاَّ تستعين بنعمةٍ من نعم الله على معصيةٍ من معاصي الله.
فصل في الكلام في الهجرة (1/303)
واعلم أن مِن شُكر المنعم الهجرة من أعدائه إلى أوليائه. فإن كان في الزمان إمام حقٍّ فالهجرة إليه، وإن لم يكن في الزمان -الذي يكون فيه المؤمن- إمام حقٍّ وجب عليه أن يهاجر من الظلمة والفسقة إلى حيث غلب في ظنه أنه ينجو فيه مما فرّ منه -إن أمكنه ذلك- وإن لم يمكنه فلا إثم عليه، قال الله تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ تَوَفَّاهُمُ الْمَلاَئِكَةُ ظَالِمِي أَنفُسِهِمْ قَالُوا فِيمَ كُنتُمْ قَالُوا كُنَّا مُسْتَضْعَفِينَ فِي الأَرْضِ قَالُوا أَلَمْ تَكُنْ أَرْضُ اللَّهِ وَاسِعَةً فَتُهَاجِرُوا فِيهَا فَأُوْلَئِكَ مَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ وَسَاءَتْ مَصِيرًا ، إِلاَّ الْمُسْتَضْعَفِينَ مِنَ الرِّجَالِ وَالنّسَاءِ وَالْوِلْدَانِ لاَ يَسْتَطِيعُونَ حِيلَةً وَلاَ يَهْتَدُونَ سَبِيلاً ، فَأُوْلَئِكَ عَسَى اللَّهُ أَنْ يَعْفُوَ عَنْهُمْ وَكَانَ اللَّهُ عَفُوًّا غَفُورًا ، وَمَنْ يُهَاجِرْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ يَجِدْ فِي الأَرْضِ مُرَاغَمًا كَثِيرًا وَسَعَةً وَمَنْ يَخْرُجْ مِنْ بَيْتِهِ مُهَاجِرًا إِلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ ثُمَّ يُدْرِكْهُ الْمَوْتُ فَقَدْ وَقَعَ أَجْرُهُ عَلَى اللَّهِ وَكَانَ اللَّهُ غَفُورًا رَحِيمًا}[النساء:97-100]، وقال الله تعالى: {فَاسْتَجَابَ لَهُمْ رَبُّهُمْ أَنّي لاَ أُضِيعُ عَمَلَ عَامِلٍ مِنْكُمْ مِنْ ذَكَرٍ أو أُنْثَى بَعْضُكُمْ مِنْ بَعْضٍ فَالَّذِينَ هَاجَرُوا وَأُخْرِجُوا مِنْ دِيَارِهِمْ وَأُوذُوا فِي سَبِيلِي وَقَاتَلُوا وَقُتِلُوا لاَُكَفّرَنَّ عَنْهُمْ
سَيِّئَاتِهِمْ وَلاَُدْخِلَنَّهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الأَنْهَارُ ثَوَابًا مِنْ عِنْدِ اللَّهِ وَاللَّهُ عِنْدَهُ حُسْنُ الثَّوَابِ}[آل عمران:195]، وقال الله تعالى: {ثُمَّ إِنَّ رَبَّكَ لِلَّذِينَ هَاجَرُوا مِنْ بَعْدِ مَا فُتِنُوا ثُمَّ جَاهَدُوا وَصَبَرُوا إِنَّ رَبَّكَ مِنْ بَعْدِهَا لَغَفُورٌ رَحِيمٌ}[النحل:110]. (1/304)
واعلم أن الهجرة هي سُنّة الأنبياء صلوات الله عليهم، وقد حكى الله ذلك عنهم فقال -حاكياً عن إبراهيم عليه السَّلام: {وَقَالَ إِنّي ذَاهِبٌ إِلَى رَبِّي سَيَهْدِينِ }[الصافات:99]، وقال تعالى: {فَآمَنَ لَهُ لُوطٌ وَقَالَ إِنّي مُهَاجِرٌ إِلَى رَبِّي إِنَّهُ هُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ}[العنكبوت:26]، وقال تعالى -حاكياً عن موسى عليه السَّلام: {قَالَ رَبِّ بِمَا أَنْعَمْتَ عَلَيَّ فَلَنْ أَكُونَ ظَهِيرًا لِلْمُجْرِمِينَ }[القصص:17]، وقال لنبيئه صلى الله عليه وآله وسلم: {فَتَوَلَّ عَنْهُمْ فَمَا أَنْتَ بِمَلُومٍ }[الذاريات:54]، وقد رُوي عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أنه قال: ((خمسٌ لا يُعذر بجهلهنّ أحدٌ : معرفة الله سبحانه لا يُشَبِّهْهُ بشيءٍ -ومن شَبَّهَ الله بشيءٍ أو زعم أن الله يُشبه شيئاً فهو من المشركين- والْحُبُّ في الله، والبغض في الله، والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، واجتناب الظَّلمةِ)). وكذلك فَعَلَ الأئمة الهادون": هاجر أمير المؤمنين عليه السَّلام من المدينة إلى الكوفة. وهاجر القاسم عليه السَّلام إلى جبال الرّس. وهاجر الهادي إلى الحق عليه السَّلام إلى الغيل من
صعدة، وغيرهم من الأئمة". (1/305)
فصل في الكلام في التجارة (1/306)
واعلم أنه يجب على المؤمن أن ينظر فيما يُصلح دينه ودنياه ويزيد في علمه ويقينه فما حقّ عنده أو غلب على ظنه أنه أسلم لدينه فعل ما يمكنه فعله في الحال، ويَقْدِمُ لِمَا يُصلحه في المآل، كما أن التاجر ينظر فيما يبيع ويشتري فما علم أنه يربح فيه -أو غلب في ظنه- شَرَاه وكَسَبَه، وما كان يعلم -أو يغلب على ظنه- أنه يخسر فيه لم يشتره، ويتجنّبه؛ وكذلك يجب على المؤمن أن ينظر في دينه، فما كان يزيد في حسناته فعله وتقدم إليه، وما كان ينقص حسناته ويزيد سيئاته تجنّبه؛ ولأن الدين تجارةٌ قال الله تعالى: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا هَلْ أَدُلُّكُمْ عَلَى تِجَارَةٍ تُنجِيكُمْ مِنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ ، تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَتُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ بِأَمْوَالِكُمْ وَأَنفُسِكُمْ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنتُمْ تَعْلَمُونَ}[الصف:10،11]، وقال تعالى: {مَنْ كَانَ يُرِيدُ حَرْثَ الآخِرَةِ نَزِدْ لَهُ فِي حَرْثِهِ وَمَنْ كَانَ يُرِيدُ حَرْثَ الدُّنْيَا نُؤتِهِ مِنْهَا وَمَا لَهُ فِي الآخِرَةِ مِنْ نَصِيبٍ}[الشورى:20].
وقد دلنا الله تعالى على التجارة، وضمن لنا الربح؛ وأخبرنا بما يزيد في العمل ويُوجب الربح. وأخبرنا بما يُفسد عملنا ويبطل فعلنا. وأخبرنا باجتهاد الصالحين قبلنا في التجارة الربيحة. وأخبرنا بمن فسد عليه عمله فقال تعالى: {مَنْ جَاءَ بِالْحَسَنَةِ فَلَهُ عَشْرُ أَمْثَالِهَا وَمَنْ جَاءَ بِالسَّيِّئَةِ فَلاَ يُجْزَى إِلاَّ مِثْلَهَا}[الأنعام:160]، وقال تعالى: {إِنْ تُقْرِضُوا اللَّهَ قَرْضًا حَسَنًا يُضَاعِفْهُ لَكُمْ }[التغابن:17]، وقال: {مَنْ ذَا الَّذِي يُقْرِضُ اللَّهَ قَرْضًا حَسَنًا فَيُضَاعِفَهُ لَهُ وَلَهُ أَجْرٌ كَرِيمٌ}[الحديد:11]، وقال تعالى: {آمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَأَنْفِقُوا مِمَّا جَعَلَكُمْ مُسْتَخْلَفِينَ فِيهِ فَالَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَأَنْفَقُوا لَهُمْ أَجْرٌ كَبِيرٌ}[الحديد:7]، وقال تعالى: {مَثَلُ الَّذِينَ يُنفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ كَمَثَلِ حَبَّةٍ أَنْبَتَتْ سَبْعَ سَنَابِلَ فِي كُلِّ سُنْبُلَةٍ مِائَةُ حَبَّةٍ وَاللَّهُ يُضَاعِفُ لِمَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ}[البقرة:261]، فأعطى الله عباده الثواب الجزيل، واستقرضهم بما أعطاهم القليل ثم ذخره لهم إلى وقت حاجتهم إليه، وكثّره لهم وزاد عليه. (1/307)
ثم أخبرنا بما يُبطل الصدقات فقال عزّ من قائلٍ: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لاَ تُبْطِلُوا صَدَقَاتِكُمْ بِالْمَنِّ وَالأَذَى كَالَّذِي يُنفِقُ مَالَهُ رِئَاءَ النَّاسِ}[البقرة:264]، وقال تعالى: {أَيَوَدُّ أَحَدُكُمْ أَنْ تَكُونَ لَهُ جَنَّةٌ مِنْ نَخِيلٍ وَأَعْنَابٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الأَنْهَارُ لَهُ فِيهَا مِنْ كُلِّ الثَّمَرَاتِ وَأَصَابَهُ الْكِبَرُ وَلَهُ ذُرِّيَّةٌ ضُعَفَاءُ فَأَصَابَهَا إِعْصَارٌ فِيهِ نَارٌ فَاحْتَرَقَتْ كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمُ الآيَاتِ لَعَلَّكُمْ تَتَفَكَّرُونَ}[البقرة:266]. فمثّل الله تعالى من يكون له عملٌ صالح يستحقّ به الجنّة، فيبطله، بمن يكون له في الدنيا جنّةٌ من نخيل على ما وصف، فتُصيبها ريحٌ فيها نارٌ فتحرقها فاحترقت. وقوله تعالى: {وأصابه الكبر} يُريد أنه يكون يوم القيامة كمن أصابه الكِبرُ في الدنيا لا يمكنه أن يستعيض جنّةً أخرى. وقوله: {وَلَهُ ذُرِّيَّةٌ ضُعَفَاءُ} يقول: إنه محتاج إليها كما يحتاج الشيخ الكبير الذي له ذرية ضعفاء إلى من يقوم به وبذريته. (1/308)
وقال تعالى: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لاَ تَرْفَعُوا أَصْوَاتَكُمْ فَوْقَ صَوْتِ النَّبِيِّ وَلاَ تَجْهَرُوا لَهُ بِالْقَوْلِ كَجَهْرِ بَعْضِكُمْ لِبَعْضٍ أَنْ تَحْبَطَ أَعْمَالُكُمْ وَأَنْتُمْ لاَ تَشْعُرُونَ}[الحجرات:2]، وقال تعالى: {ذَلِكَ بِأَنَّهُمُ اتَّبَعُوا مَا أَسْخَطَ اللَّهَ وَكَرِهُوا رِضْوَانَهُ فَأَحْبَطَ أَعْمَالَهُمْ}[محمد:28]، وقال تعالى: {قُلْ هَلْ نُنَبِّئُكُمْ بِالأَخْسَرِينَ أَعْمَالا ً ، الَّذِينَ ضَلَّ سَعْيُهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَهُمْ يَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ يُحْسِنُونَ صُنْعًا}[الكهف:103،104]. ثم أخبرنا بصفة الصالحين فقال تعالى: {التَّائِبُونَ الْعَابِدُونَ الْحَامِدُونَ السَّائِحُونَ الرَّاكِعُونَ السَّاجِدُونَ الآمِرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَالنَّاهُونَ عَنِ الْمُنكَرِ وَالْحَافِظُونَ لِحُدُودِ اللَّهِ وَبَشِّرِ الْمُؤْمِنِينَ}[التوبة:112]، وقال تعالى: {أَمَّنْ هُوَ قَانِتٌ آنَاءَ اللَّيْلِ سَاجِدًا وَقَائِمًا يَحْذَرُ الآخِرَةَ وَيَرْجُو رَحْمَةَ رَبِّهِ قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَالَّذِينَ لاَ يَعْلَمُونَ إِنَّمَا يَتَذَكَّرُ أُوْلُوا الأَلْبَابِ}[الزمر:9]. (1/309)
وقد مثل رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم الصلاة بالتجارة؛ فكذلك سائر أعمال البِرِّ؛ فإنه رُوي عنه صلى الله عليه وآله وسلم أنه قال لأمير المؤمنين عليه السَّلام: ((يا عليُّ مَثَلُ الذي لا يُتِمُّ صلاته كَحُبْلَى حبلت ، فلما دنى نِفاسها أسقطت، فلا هي ذات حملٍ، ولا ذات ولدٍ، ومثل المصلّي مثل التاجر لا يخلصُ ربحُهُ حتى يأخذ رأس ماله؛ كذلك المصلي لا تُقبل له نافلة حتّى يُؤدي الفريضة)) فصح أن الدِّين تجارةٌ. (1/310)
ومما يدل على وجوب تدبر العاقبة فيما يستقبل فعله العبد: ما روي عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أنه قال لعلي عليه السَّلام: ((عليك باليأس مما في أيدي الناس فإنه الغنى الحاضر))، فقلت: زدني يا رسول الله صلى الله عليك، فقال: ((يا عليُّ إياك والطمع فإنه الفقر الحاضر)) فقلت: زدني يا رسول الله صلى الله عليك، فقال: ((إذا هممت بأمرٍ فتدبّر عاقبته ، فإن يكُ خيراً فاتبعه وإن يك غيًّا فدعه))، ثم قال: ((يا عليُّ إن من اليقين أن لا ترضي أحداً بسخط الله ، ولا تحسد أحداً على ما آتاه الله، ولا تذم أحداً على ما لم يُؤتك الله فإن الرزق لا يجره حرص حريصٍ، ولا يصرفُهُ كراهة كارهٍ، إن الله بحكمه وفضله جعل الرَّوح والفرح في الرّضا، وجعل الهمّ والحزن في الشكّ والسّخط)).
واعلم أنه يجب على تاجر الآخرة أن يكون على تجارته أشد حرصاً واجتهاداً من تاجر الدنيا على تجارته؛ لأن تجار الدنيا يجتهدون في تجارتهم، وينفقون فيها نفوسهم وأموالهم، ويسهرون الليل، ويخدمون، ويجوعون ويعطشون، ويخافون ويعرون، ويصبرون على ما قابلهم من الشرور والمحن. (1/311)
ورأيناهم يُعْمِلُون أفكارهم فيما يُصلح تجارتهم، ويتدبرون عاقبة تجارتهم فإن علموا فيها ربحاً تقدّموا فيها، وإن علموا فيها خسراناً توقّفوا. وإذا ابتاع رجل منهم شيئاً بدينارٍ اجتهد في أخذ الجيِّد، واستشار فيه من يعرفه، واستنقده ولم يرضَ بنقَّادٍ واحدٍ.
فإذا كان هذا فِعَالَ تاجر الدنيا فتاجر الآخرة أحقّ بالحرصِ والاجتهاد وإعمال الفكر في سلامة رأس المال وحصول الرّبح. وكذلك يجب أن يكون اجتهاده في انتقاد دِينِهِ ومعرفة من يأخذه عنه أشدّ من اجتهاد تاجر الدنيا في استنقاد ديناره، وقد رُوي عن أنسٍ قال: قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: ((إن هذا العلمَ دِينٌ فانظروا عمن تأخذون دِينكم)).
واعلم أن تاجر الدنيا يستكثر من التجارة التي يعلم أن له فيها ربحاً حتّى أنه لا يقنع بتجارته بنفسه حتى يستعين غيره يتّجر له، ويستأجر آخرين، ويشارك آخرين، حتّى يجتمع له الربح من مواضع كثيرة، فكذلك يجب على تاجر الآخرة أن يستكثر من الأرباح، ولا يقنع بالشيءِ منها بل يطلب المزيد عليه، كما فعل رجالٌ من عباد الله الصالحين، منهم الهادي عليه السَّلام فإنه لم يقنع بكثرة جهاده وهُداهُ للناس إلى الحق، واجتهاده، وصلواته وقيامه، وصدقاته وحجه وصيامه، ودعائه إلى رب العالمين، وإعزازه للمؤمنين، وإرغامه للفاسقين، ومباينته للظالمين، فلم يقنع بما فعل من البِرِّ في حياته حتى زاد أوصى أن يُتصدق عنه بعد وفاته؛ فإنه سأل بنيه وبني عمومته والصالحين من شيعته وأهل مودّته أن يتصدقوا عنه بعد مماته، ولا يستقل المتصدّق عنه شيئاً من حسناته، فعليه من الله أفضل سلامه وتحياته. (1/312)
واعلم أن خير التجارة العلم والورع لقول رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: ((فضل العلم خيرٌ من فضل العبادة ، وخير دينكم الورع)).
واعلم أن أشرف التجارة أكثرها تعباً مع الإخلاص لله لما روي عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أنه قال: ((أشرف الإيمان أن يأمنك الناس ، وأشرف الإسلام أن تُسْلِمَ الناس من يدك ولسانك، وأشرف الهجرة أن تهجر السيئات، وأشرف الجهاد أن تُقْتَل وتُعْقَر فرسُك في سبيل الله)).
فصل في الكلام في التوبة (1/313)
فإن التوبة من واجبات الشكر على (العبد) المذنب. والتوبة هي النّدم من فعل المعاصي، والمباينة للمعاصي، والإقلاع عنها، ورد المظالم إلى أهلها.
والتوبة على وجهين: توبة من كفرٍ. وتوبةٌ من فسقٍ.
فالتائب من الكفر لا يجب عليه قضاء فرضٍ، ولا ردُّ مظلمةٍ، لقول الله تعالى: {قُلْ لِلَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ يَنتَهُوا يُغْفَرْ لَهُمْ مَا قَدْ سَلَفَ }[الأنفال:38]، ولقول رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: ((الإسلام يجب ما قبله )).
وأما التائب من الفسق فإنه يقضي ما ترك من الفروض، كالصلاة، والزكاة، والصوم، وكفارة الأيمان، والنذور، وذلك لقول رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: ((من نسي صلاةً أو نام عنها فليقضها إذا ذكرها)) وكذلك الزكاة، والصوم، وكفارة الأيمان، والنذور. فأما سائر حقوق الله فلا يجب على من ضيّعها قضاؤها إذا تاب، لقول الله تعالى: {قُلْ يَاعِبَادِي الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ لاَ تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعًا إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ}[الزمر:53]، ولقوله تعالى: {وَهُوَ الَّذِي يَقْبَلُ التَّوْبَةَ عَنْ عِبَادِهِ وَيَعْفُو عَنِ السَّيِّئَاتِ وَيَعْلَمُ مَا تَفْعَلُونَ}[الشورى:25]، ولقوله تعالى: {وَإِنّي لَغَفَّارٌ لِمَنْ تَابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ صَالِحًا ثُمَّ اهْتَدَى }[طه:82]، ولقوله تعالى: {فَمَنْ تَابَ مِنْ بَعْدِ ظُلْمِهِ وَأَصْلَحَ فَإِنَّ اللَّهَ يَتُوبُ عَلَيْهِ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ}[المائدة:39]. وروي عن علي عليه السَّلام [أنه] قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يقول: ((من قال: (أستغفر الله الذي لا إله إلا هو وأتوب إليه) غُفرت له ذنوبه ولو كانت أكثر من زبد البحر ورمل عالج)). (1/314)
قال السيد أبو طالب: والمراد: يقوله ويضم إليه عقد القلب في الندم على ما كان منه، والعزم على ترك أمثاله. فأما حقوق الآدميين فإنه يجب عليه الخروج (إليهم) منها، فإن كان الحق في دمٍ أقاد نفسه للقصاص، وإن كان في مال قضاه من ماله، وإن كان في عِرضٍ سأله الحلَّ إذا اغتابه وبلغته الغيبة، وإن لم تبلغه لم يُعلِمْه وتاب إلى الله تعالى؛ ولأنه إذا أعلمه بشيءٍ لم يعلمه من قبلُ أدخل عليه الغم. (1/315)
والغِيبةُ هي أن يتكلم على المؤمن في غيبته بما لا يتكلم في حضرته؛ يريد بذلك نقصه وإظهار عيبه، وهو أن يذكر منه ذنب فعله ويمكن أن يكون قد تاب منه فيُسميه باسمٍ قد خرج منه، وقد قال تعالى: {بِئْسَ الاِسْمُ الْفُسُوقُ بَعْدَ الإِيمَانِ وَمَنْ لَمْ يَتُبْ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ}[الحجرات:11]، وقال تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ يُحِبُّونَ أَنْ تَشِيعَ الْفَاحِشَةُ فِي الَّذِينَ آمَنُوا لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ فِي الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ وَاللَّهُ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لاَ تَعْلَمُونَ}[النور:19]، وإما أن يتكلم في المؤمن بما لم يفعل فذلك أكبر من الغيبة، وهو بُهتانٌ وافتراءٌ وإثمٌ عظيم لقول الله تعالى: {وَتَحْسَبُونَهُ هَيِّنًا وَهُوَ عِنْدَ اللَّهِ عَظِيمٌ }[النور:15].
وأما الفاسقُ المصرُّ على فسقه فلا إثم في غيبته.
ويجب على القاذف إذا قذف مؤمناً ولم يأت بأربعة شهداء التوبة وتسليم نفسه إلى الإمام ليأخذ منه حد القذف للمقذوف أو لورثته، إلا أن يعفوَ عنه المقذوف أو ورثته قبل المطالبة إلى الإمام، وإن لم يكن إمامٌ سأل المقذوف الحلَّ، وعلى من طُلبَ منه الحلُّ في هذا أو في الغيبة أن يحل ويعفوَ، لِمَا روي عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أنه قال: ((أفضل الفضائل أن تُعطي من حرمك ، وتصفح عمن شتمك، وتصل من قطعك)). (1/316)
وحقيقة التوبة الندم عن فعل الذنب كائناً ما كان -تركَ فريضةً، أو عمل معصية- فهذا يجب الندم من فعل المعاصي، وترك الواجبات، والعزم على أن لا يفعل معصية، ولا يترك واجباً، والخروج عن المظالم.
ومن الندم أن لا يتوب من ذنبٍ ويرتكب ذنباً مثله؛ وهذا مرويٌّ عن القاسم بن إبراهيم عليه السَّلام، وهو قول جميع الزيدية، وبه قال أبو هاشم وأكثر المعتزلة. وقال أبو علي وأبو القاسم البلخي: (تصح توبته من ذنبٍ، وإن كان مُصرًّا على غيره) وهذا لا أصل له؛ لأن من اعتذر إلى زيدٍ في قتل ولده، وهو مع ذلك غير مقلعٍ عن ظلمه لا يكون معذوراً في قتله، وكذلك من امتنع من شرب الخل لحموضته فأكل أحماض الأترنج لا يكون مُمتنعاً من الحامض فصح أنه لا يكون تائباً ما دام مُصرًّا على معصية. والصغائر مع الإصرار تكون كبائر (وهو قول الناصر عليه السَّلام).
باب حقيقة معرفة البلاء (1/317)
وأصل البلاء الاختبار، وهو على أفنانٍ كثيرة.
فمنها بلاء التّعبدِ؛ وهو الأمر بفعل الواجبات، والنهي عن فعل المحرّمات، وفائدته أن يُعرِّض الله المتعبَّدين لثوابه، ويُخوّفهم من عقابه؛ قال الله تعالى: {الَّذِي خَلَقَ الْمَوْتَ وَالْحَيَاةَ لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلاً }[الملك:2]، فصح أن الدنيا دار بلاءٍ، وأن الحياة والموت بلاء.
ومن البلاء: النعم التي تفضّل الله بها على العباد، قال الله تعالى -حاكياً عن سليمان عليه السَّلام: {فَلَمَّا رَآهُ مُسْتَقِرًّا عِنْدَهُ قَالَ هَذَا مِنْ فَضْلِ رَبِّي لِيَبْلُوَنِي أَأَشْكُرُ أَمْ أَكْفُرُ}[النمل:40]، وقال تعالى: {فَأَمَّا الإِنسَانُ إِذَا مَا ابْتَلاَهُ رَبُّهُ فَأَكْرَمَهُ وَنَعَّمَهُ فَيَقُولُ رَبِّي أَكْرَمَنِ}[الفجر:15].
ومن البلاء: التمحيص للعبد المؤمن قال تعالى: {وَلِيُمَحِّصَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَيَمْحَقَ الْكَافِرِينَ }[آل عمران:141]، وقال تعالى: {وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ بِشَيْءٍ مِنَ الْخَوْفِ وَالْجُوعِ وَنَقْصٍ مِنَ الأَمْوَالِ وَالأَنفُسِ وَالثَّمَرَاتِ وَبَشِّرِ الصَّابِرِينَ}[البقرة:155]، وقال تعالى: {كُلُّ نَفْسٍ ذَائِقَةُ الْمَوْتِ وَنَبْلُوكُمْ بِالشَّرِّ وَالْخَيْرِ فِتْنَةً وَإِلَيْنَا تُرْجَعُونَ}[الأنبياء:35]، وقال تعالى: {إِنَّمَا أَمْوَالُكُمْ وَأَوْلاَدُكُمْ فِتْنَةٌ }[التغابن:15]، والفتنة من التمحيص. وقال تعالى: {وَالْفِتْنَةُ أَشَدُّ مِنَ الْقَتْلِ }[البقرة:191]، وذلك لأن القتل في سبيل الله حسنٌ، والفتنة تمحيصٌ؛ قال الله تعالى: {قُلْ هَلْ تَتَربَّصُونَ بِنَا إِلاَّ إِحْدَى الْحُسْنَيَيْنِ }[التوبة:52]، فسمّى الشهادة حسناً. (1/318)
ومن التمحيص ما ذكر الله تعالى من الخوف والجوع ونقص من الأموال والأنفس والثمرات والأمراض؛ ونقصان الأنفس مثل الموت ونقصان الخلق. وقد يبتلي الله عبده بالفقر لينظر صبره، قال الله تعالى: {وَأَمَّا إِذَا مَا ابْتَلاَهُ فَقَدَرَ عَلَيْهِ رِزْقَهُ فَيَقُولُ رَبِّي أَهَانَنِ}[الفجر:16]، وقد رُوي أن في التوراة: (يا موسى إني لم أفقر الفقير بذنبٍ قدّمه إليَّ ولم أغن الغني بصنيعةٍ قدّمها إليَّ، وإنما أفقرتُ الفقير لأنظر صبره، وأغنيتُ الغني لأنظر شكره، يا موسى فلا الفقير صبر ولا الغني شكر). وقد روي عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أنه قال: ((إن المؤمن إذا أصابه السّقم ثم عافاه الله منه كان كفارةً لِمَا مضى من ذنوبه، وموعظةً له فيما يستقبل، وإن المنافق إذا مرض ثم عُوفيَ منه كان كالبعير عقله أهله ثم أرسلوه، فلم يدرِ لِمَ عقلوهُ؟ ولِمَ أرسلوهُ؟ فقال رجل: يا رسول الله، وما الأسقام والله ما مرضتُ قط؟ فقال صلى الله عليه وآله وسلم: قم عنّا فلستَ مِنَّا)). وروي عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أنه قال لعلي عليه السَّلام: ((يا عليّ غمُّ العيال سِترٌ من النار ، وطاعةُ الخالق أمانٌ من العذاب، والصّبر على الفاقة جهادٌ، وأفضل من عبادة ستين سنةً)). (1/319)
وعن علي عليه السَّلام أنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: ((يقول الله عز وجل: أيما عبد من عبادي ابتليتهُ بِبَلاءٍ على فراشه فلم يَشْكُ على (أحدٍ) من عُوّاده أبدلته لحماً خيراً من لحمه، ودماً خيراً من دمه، فإن قبضته فإلى رحمتي، وإن عافيته فليس له ذنبٌ. قيل: يا رسول الله وكيف ينبت له لحمٌ غير لحمه، ودمٌ غير دمه؟ قال: لحم لم يُذنب)). (1/320)
وعن أم العُلى قالت: عادني رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وأنا مريضة فقال: ((أبشري يا أم العُلى فإن مرض المسلم يُذهب الله به خطاياه [وسيئاته] كما تُذهب النار خبث الذهب والفضة)). وعن النبيء صلى الله عليه وآله وسلم أنه قال: ((عِظَم الجزاء على عِظَمِ البلاء ، فإن الله إذا أحب قوماً ابتلاهم، فمن رَضي فله الرضا، ومن سخط فله السخط)). وقال القاسم بن إبراهيم عليه السَّلام في المكنون: ولربما أدّب الله عبده بالفقر، وابتلاه بالعسر اختباراً له ليجعل له في عاقبة ذلك خيراً.
واعلم أنه لولا البلاءُ لما عرف الله، ولما عرف المطيع من العاصي، ولما عُرفت النّعمة؛ ولأن العبد إذا مسّه ضرٌّ دعا ربه [منيباً إليه] وتضرّع إليه؛ قال الله تعالى: {وَإِذَا مَسَّ الإِنْسَانَ ضُرٌّ دَعَا رَبَّهُ مُنِيبًا إِلَيْهِ ثُمَّ إِذَا خَوَّلَهُ نِعْمَةً مِنْهُ نَسِيَ مَا كَانَ يَدْعُو إِلَيْهِ مِنْ قَبْلُ وَجَعَلَ لِلَّهِ أَنْدَادًا لِيُضِلَّ عَنْ سَبِيلِهِ قُلْ تَمَتَّعْ بِكُفْرِكَ قَلِيلاً إِنَّكَ مِنْ أَصْحَابِ النَّارِ}[الزمر:8]. وأيضاً إنه لولا البلاء لما عُرف فضلُ النّعمة، وفي الشاهد أن المعافى لا يعرف فضل العافية حتّى يُبتلى، فإذا أصابه ألَمٌ وضُرٌّ ومرض تمنّى العافية، وعرف فضلها وقدرها. وكذلك من أضرَّ به الجوعُ والظمأ إذا وجد الطعام والماء عرف فضل النعمة بعد البليّة. (1/321)
وفي البليّة منافع أخرى، منها أنها تُذكر العبد عذاب الآخرة وأَلَمِهَا، ولولا البلاء في الدنيا ما صدَّق العبد بوعيد الله في الآخرة.
ومنها أن البلاء يمنع العبد عن كثير من المعاصي، ويرغبه في الطاعة، ويزهده في الدنيا. ولما كان في الشاهد أن الأطباء والحكماء من الناس يداوون الأَعِلاَّءَ بدواءٍ مؤلم لهم في الحال، نافع لهم في المآل، كالفصد، والكي، وشرب العقاقير، وأمثال ذلك، حكم العقل الضروريّ أن البلاء من الله حسن، وأنه نافع للمبتلى قال الله تعالى: {وَبَلَوْنَاهُمْ بِالْحَسَنَاتِ وَالسَّيِّئَاتِ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ}[الأعراف:168]، يريد أنه بلاهم بالخير ليشكروا، وبلاهم بالشر ليحذروا. والشكر والحذر رجوعٌ إلى الله تعالى.
واعلم أن الله تعالى قد ابتلى العبد بالخير لينظر شكره، وابتلاه بالشر لينظر صبره، ولولا البلاءُ لما عُرف المطيعُ من العاصي. (1/322)
فصل في الكلام في امتزاج النعمة والمحنة (1/323)
اعلم أنه لا يوجد نعمةٌ في الدنيا إلا وبجنبها محنة، فمن ذلك زوال النعمة فإنه محنة، ومنه ما جعل الله للعبد من الاستطاعة فإنه جعله مستطيعاً للإيمان ومستطيعاً للكفر، ومستطيعاً للطاعة ومستطيعاً للمعصية.
ومن البلية أنه عجّل الدنيا الفانية، وأخّر الآخرة الباقية وجعلها مغيّبة خافيةً، قال عزّ من قائلٍ: {إِنَّ السَّاعَةَ آتِيَةٌ أَكَادُ أُخْفِيهَا لِتُجْزَى كُلُّ نَفْسٍ بِمَا تَسْعَى}[طه:15]، يُريد أنه لم يجعلها مشاهدة في الدنيا ولم يُبْدِها، وأخرها وأخبر عنها. ومعنى إخفاء الله لها أنه أخفى عينها ووقتها، ولم يُخف خبرها.
ومن البلية أن الباطل قد يُشبه الحق في بعض المواضع، ولا يفصل بينهما إلا ذو العلم والحجا، وذلك في مثل مسائل الاجتهاد؛ مثال ذلك الجمع بين الأختين في ملك اليمين، وقد سُئل عن ذلك أمير المؤمنين فقال: أحلتهما آية وحرمتهما آية، فغلّب الحظر على الإباحة فحرّمهما.
وقال عليه السَّلام في خطبة له: (ألا إن الحق لو خَلُصَ لم يخف على ذي حجا، وإن الباطل لو خلص لم يخف على ذي حجا، ولكنه يؤخذ من هذا ضغثٌ ومن هذا ضغثٌ فيمزجان فيمتزجان معاً، فحينئذٍ يستولى الشيطان على حزبه، ونجا حزب الله الذين سبقت لهم من الله الحسنى. ألا إن الباطل خيل شُمْسٌ ركبها أهلها فأرسلوا لها أزمتها فسارت حتى انتهت بهم إلى نارٍ وقودها الناس والحجارة. ألا وإن الحق مطايا ذللٌ ركبها أهلها وأعطوا أزمتها فسارت بهم الهوينا حتى انتهت بهم ظلاًّ ظليلاً. فعليكم بالحق فاسلكوا سُبلهُ واعملوا به تكونوا من أهله).
واعلم أن امتزاج الحق بالباطل؛ مثل فِعَالِ المنافقين، فإنهم أقرُّوا بالإيمان واعتقدوا الكفر فأجراهم الله ورسوله مجرى المسلمين، ولم يُبدهم بأعيانهم -للبليّة- فقال تعالى: {وَلاَ تَقُولُوا لِمَنْ أَلْقَى إِلَيْكُمُ السَّلاَمَ لَسْتَ مُؤْمِنًا تَبْتَغُونَ عَرَضَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا}[النساء:94]. وروي عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أنه قال: ((أمرت أن أقاتل الناس حتى يقولوا: (لا إله إلا الله محمدٌ رسول الله)، فإذا قالوها حقنوا عنّي دماءهم وأموالهم)) فلما قُبِلَ منهم الظاهر، لم يكلف الله النبيء صلى الله عليه وآله وسلم معرفة باطنهم، ولا كلّف المؤمنين ذلك. فمن هاهنا امتزج الحق بالباطل، فصار المنافقون يروون عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم شيئاً لم يقله، فيُصَدَّقوا لتغطّيهم بالإسلام، ولو كانوا مُظهرين للكفر لم يُصدّقوا. فمن هاهنا أفسدوا الإسلام، فهذا من البليّة قال الله تعالى: {أَمْ حَسِبَ الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ أَنْ لَنْ يُخْرِجَ اللَّهُ أَضْغَانَهُمْ ، وَلَوْ نَشَاءُ لاََرَيْنَاكَهُمْ فَلَعَرَفْتَهُمْ بِسِيمَاهُمْ وَلَتَعْرِفَنَّهُمْ فِي لَحْنِ الْقَوْلِ وَاللَّهُ يَعْلَمُ أَعْمَالَكُمْ ، وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ حَتَّى نَعْلَمَ الْمُجَاهِدِينَ مِنْكُمْ وَالصَّابِرِينَ وَنَبْلُوَ أَخْبَارَكُمْ}[محمد:29-31]، فأخبر أن ترك تعريف المنافقين بليّة للمؤمنين. (1/324)
ومن البلية أيضاً: مُتشابه القرآن، فإنه لو كان كله محكماً لم يحتج أحدٌ بعده إلى العلماء، ولَمَا وجد المخالفُ للحق سبباً يتعلق به، ولو كان ذلك كذلك لزال الامتحان وسقط التكليف. (1/325)
ومن البلية: موت رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ومن تخلَّفه، فبسبب موته وقع الاختلاف.
ومن البلايا: معادات أعداء الله، والجهاد في سبيل الله، ولولا ذلك لَمَا عرف الصابر من العاجز المُتواني، قال الله تعالى: {أَمْ حَسِبْتُمْ أَنْ تَدْخُلُوا الْجَنَّةَ وَلَمَّا يَعْلَمِ اللَّهُ الَّذِينَ جَاهَدُوا مِنْكُمْ وَيَعْلَمَ الصَّابِرِينَ }[آل عمران:142].
فصل في الكلام في الرزق (1/326)
اعلم أن الرزق جعله الله للناس، والدواب، والطير، متاعاً، وجعل هذه الأصناف لا تحيا إلا به، وجعل الحاجة إليه بليّة.
واعلم أن الرزق ينقسم قسمين: فقسم منه أنعم الله به على عباده؛ كالمواريث والمطر والشجر والثمر والعافية وتمام الاستطاعة، وأمثال ذلك. وقسم يحصل بالاكتساب والطلب؛ كالتجارة والضّرب في الأرض، والإجارة والصناعة والحرث، وأشباه ذلك. فجعل الله بعض الرزق لا يحصل إلا بالاكتساب. والطلب بلية ومحنة وقد روي عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أنه قال لعلي عليه السَّلام: ((يا علي غَمُّ العيال سِترٌ من النار ، وطاعة الخالق أمانٌ من العقاب، والصبر على الفاقة جهادٌ، وأفضل من عبادة ستين سنة)).
واعلم أن الرزق من الله عامٌّ لجميع المرزوقين، المكلفين وغير المكلفين، المطيعين والعاصين. والرزق من تمام الخلق، ولولا الرزق من الله لما حَيَّ المرزوق، ولكانت الحجة على الخالق للمخلوق -تعالى الله عن ذلك، بل خلق ورزق، وأسبغ النعمة وأكمل له على خلقه الحجة.
وذهبت المطرفية إلى أن الله لم يرزق العاصي، وأن كل ما تناوله العاصي من الحلال والحرام غصبٌ اغتصبه، وليس برزقٍ له، ولم يسمعوا قول الله تعالى: {اللَّهُ الَّذِي خَلَقَكُمْ ثُمَّ رَزَقَكُمْ ثُمَّ يُمِيتُكُمْ ثُمَّ يُحْيِيكُمْ هَلْ مِنْ شُرَكَائِكُمْ مَنْ يَفْعَلُ مِنْ ذَلِكُمْ مِنْ شَيْءٍ}[الروم:40]، وهذا خطاب من الله يقال للمشركين، وقال تعالى: {كُلاًّ نُمِدُّ هَؤُلاَء وَهَؤُلاَءِ مِنْ عَطَاءِ رَبِّكَ وَمَا كَانَ عَطَاءُ رَبِّكَ مَحْظُورًا}[الإسراء:20]، وقال تعالى: {ذَرْنِي وَمَنْ خَلَقْتُ وَحِيدًا ، وَجَعَلْتُ لَهُ مَالاً مَمْدُودًا ، وَبَنِينَ شُهُودًا ، وَمَهَّدْتُ لَهُ تَمْهِيدًا ، ثُمَّ يَطْمَعُ أَنْ أَزِيدَ}[المدثر:11-15]، وقال تعالى: {لإِيلاَفِ قُرَيْشٍ ، إِيلاَفِهِمْ رِحْلَةَ الشِّتَاءِ وَالصَّيْفِ ، فَلْيَعْبُدُوا رَبَّ هَذَا الْبَيْتِ ، الَّذِي أَطْعَمَهُمْ مِنْ جُوعٍ وَآمَنَهُمْ مِنْ خَوْفٍ}[قريش:1ـ4]، وقال تعالى: {وَلاَ تَقْتُلُوا أَوْلاَدَكُمْ خَشْيَةَ إِمْلاَقٍ نَحْنُ نَرْزُقُهُمْ وَإِيَّاكُمْ}[الإسراء:31]، وقال تعالى -حاكياً عن إبراهيم عليه السَّلام: {وَارْزُقْ أَهْلَهُ مِنَ الثَّمَرَاتِ مَنْ آمَنَ مِنْهُمْ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ قَالَ وَمَنْ كَفَرَ فَأُمَتّعُهُ قَلِيلاً}[البقرة:126]، وقال: {وَلَقَدْ جِئْتُمُونَا فُرَادَى كَمَا خَلَقْنَاكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ وَتَرَكْتُمْ مَا خَوَّلْنَاكُمْ وَرَاءَ ظُهُورِكُمْ}[الأنعام:94]، وهذا في القرآن كثير. ومن أنكر هذا فقد أنكر نعمة الله. (1/327)
وروي عن النبيء صلى الله عليه وآله وسلم أنه قال: ((لا يتوارث أهل ملتين )) وعلى هذا لو أن ذميًّا مات وله ولدان أحدهما مسلم والآخر كافر لقضي بماله لولده الكافر ولم يكن للمسلم شيءٌ. والميراث رزقٌ من الله تعالى بالإجماع فسقط قولهم. (1/328)
واعلم أن أكرم الناس عند الله أكثرهم بليّة، وأكبر البلايا أكثرها ثواباً؛ من ذلك ما ابتلى الله به الأنبياء صلوات الله عليهم من إبلاغ الرسالة، وتحمّل كلفة الأمر وسياسة الناس، وفي خلال ذلك بلايا تصيبهم؛ مثل الجوع والعطش والخوف، والعلل المؤلمة، والأمراض المتعبة، مثل ما ابتلى الله به أيوب عليه السَّلام من الضرّ الذي ذكره الله، وقيل: إنه الجذام.
ومثل ما لقي يونس عليه السَّلام من الغرق، والتقام الحوت له.
ومثل ما كان نبيئنا محمد صلى الله عليه وآله وسلم يلقى من الخصاصة، والجوع، وذلك بسبب إيثاره على نفسه، واختياره للفقر لما علم فيه من الأجر، وقد قال الله تعالى فيه، وفي عليٍّ وفاطمة والحسن والحسين": {وَيُطْعِمُونَ الطَّعَامَ عَلَى حُبِّهِ مِسْكِينًا وَيَتِيمًا وَأَسِيرًا ، إِنَّمَا نُطْعِمُكُمْ لِوَجْهِ اللَّهِ لاَ نُرِيدُ مِنْكُمْ جَزَاءً وَلاَ شُكُورًا}[الإنسان:8،9]. وروي عن سويد بن علقمة قال: (أصابت عليًّا عليه السَّلام خصاصة، فقال لفاطمة+: لو أتيت النبيء صلى الله عليه وآله وسلم فسألتيه، فأتتهُ وكانت عنده أم أيمن، فدقت الباب، فقال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: ((إن هذا الداق فاطمة ، وقد أتتنا في ساعة ما عوّدتنا أن تأتينا في مثلها، فقُومي فافتحي لها الباب))، فقال عليه السَّلام: ((يا فاطمة لقد أتَيْتِنَا في ساعة ما عوّدتنا أن تأتينا في مثلها؟)) فقالت: يا رسول الله هذه الملائكة إن طعامها التسبيح والتهليل، والتّحميد والتّمجيد، فما طعامنا؟ قال: ((والذي نفس محمد بيده ما اقتبس لآل محمد نار منذ ثلاثة أيام، وقد أُتينا بأعنزٍ فإن شئت فخُذي خمس أعنزٍ، وإن شئتِ علّمتك خمس كلماتٍ علمنيهن جبريل عليه السَّلام؟)) قالت: بل علّمني الكلمات، قال: قولي: ((يا أول الأوّلين، ويا آخر الآخِرين، ويا ذا القوة المتين، ويا رازق المساكين، ويا أرحم الراحمين)) فانصرفت حتى دخلت على عليٍّ عليه السَّلام فقال: ما وراءك؟ فقالت: ذهبتُ من عندك إلى الدنيا فأتيتك بالآخرة، قال: خير أيّامك، خير أيامك). (1/329)
فاختار صلى الله عليه وآله وسلم الفقر له، ولأهل بيته "، وكان الغنى مُمْكناً له، لِمَا رُوي عن محمد بن أبي طلحة الأنصاري عن أبيه قال: لبث رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ثلاثة أيامٍ لم يطعم شيئاً فخرج علينا اليوم الرابع مستبشراً مسروراً، فقلنا له: بشرك الله يا رسول الله، وأقرّ عينك، بشّرنا بآبائنا وأمهاتنا، قال: ((نعم، جاءني حبيبي جبريل عليه السَّلام في صورةٍ لم يأتني في مثلها قط، شَعره كالمرجان والدّرّ، برّاق الثّنايا، على فرسٍ من أفراس الجنة، سرجُهُ من ذهب، ولجامه من ذهبٍ، تحته قطيفة من استبرق، فقال لي: يا رسول الله، السَّلامُ يُقْرِؤُكَ السّلام، ويقول لك: أتحبُّ أن أجعل لك تهامة ذهباً، وفضةً، تزول معك حيث تزول، ولا ينقصك ذلك مما وعدك الله في الآخرة جناح بعوضةٍ، فقلت له: أعْمُرُ ما خرب الله يا جبريل؟! إن الدنيا دارَ من لا دارَ له، ومال من لا مال له، ويجمعها من لا عقل له، فقال جبريل عليه السَّلام له صلى الله عليه وآله وسلم: يا رسول الله وفقك الله [يا رسول الله] لقد أخبرني بكلامك هذا إسرافيل تحت العرش من قبل أن آتيك)) فصح أنه صلى الله عليه وآله وسلم اختار الفقر على الغنى. (1/330)
ولم يبتل أحدٌ بمثل ما ابتلى الله به خليله إبراهيم عليه السَّلام، فإنه ابتلاه بذبح ولده إسماعيل عليه السَّلام من بعد أن دعى ربّه أن يهب له ولداً صالحاً لتوحُّده وانفراده من الأولاد والأصحاب. فلما وهب له ولداً صالحاً أمره بذبحه؛ فهذا هو البلاء العظيم الذي لم يُبْلَ به سواه، قال الله تعالى حاكياً عن إبراهيم عليه السَّلام: {وَقَالَ إِنّي ذَاهِبٌ إِلَى رَبِّي سَيَهْدِينِ ، رَبِّ هَبْ لِي مِنَ الصَّالِحِينَ ، فَبَشَّرْنَاهُ بِغُلاَمٍ حَلِيمٍ ، فَلَمَّا بَلَغَ مَعَهُ السَّعْيَ قَالَ يَابُنَيَّ إِنّي أَرَى فِي الْمَنَامِ أَنّي أَذْبَحُكَ فَانظُرْ مَاذَا تَرَى قَالَ يَاأَبَتِ افْعَلْ مَا تُؤْمَرُ سَتَجِدُنِي إِنْ شَاءَ اللَّهُ مِنَ الصَّابِرِينَ ، فَلَمَّا أَسْلَمَا وَتَلَّهُ لِلْجَبِينِ ، وَنَادَيْنَاهُ أَنْ يَاإِبْرَاهِيمُ ، قَدْ صَدَّقْتَ الرُّؤْيَا إِنَّا كَذَلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ ، إِنَّ هَذَا لَهُوَ الْبَلاَءُ الْمُبِينُ ، وَفَدَيْنَاهُ بِذِبْحٍ عَظِيمٍ}[الصافات:99ـ107]، ومثل هذا البلاء لا تُطيقه النفوس، وقد تُطيقه الأجساد. وقول الله تعالى: {رَبَّنَا وَلاَ تُحَمِّلْنَا مَا لاَ طَاقَةَ لَنَا بِهِ }[البقرة:286]، المراد: ولا تُحملنا ما لا تطيقه نفوسنا. فأما الأجساد فإن الله لا يُحملها ما لا تطيق؛ وذلك لا نخاف وقوعه من الله، وإنما أمرنا الله بالدعاء مما نخاف وقوعه منه أن لا يوقعه بنا. (1/331)
فصل في الكلام في الصبر على البلية (1/332)
اعلم أن حقيقة الصبر على البلية هو الرضا بالقضا، وترك السخط منه والشكا، وأما من ابْتُلِيَ ببلاءٍ فلم يرضَ به وسخط منه وشكاه فليس ذلك بصابرٍ، وقد روي عن جعفر بن محمد عليهما السلام: (أنه وفد عليه شقيقُ البلخي فقال له: من أين أتيتَ؟ فقال: من خراسان. فقال: كيف التّوكل هنالك؟ قال: إذا رُزقوا أكلُوا، وإذا مُنعوا صبروا. فقال جعفر بن محمد عليهما السلام: هكذا كلابُ المدينة عندنا إذا رُزقت أكلتْ، وإذا مُنعتْ صبرتْ، فقال شقيق: فكيف هو عندك يا ابن رسول الله؟ قال: التّوكّل عندنا إذا رُزقنا آثرنا، وإذا مُنعنا شَكرنا). فدل كلامه على أن من لم يرضَ بالبلية فليس بصابرٍ عليها؛ لأن الكلاب لا ترضى بالمنع، ولا فضلَ لمن لم يجد بُدًّا من الصبر فصبر وهو غير راضٍ به، وهذه صفة البهائم. وإنما الصابر من رضي بالبليّة، ورجا ثوابها من الله، ولم يَشْكُ ما أصابه إلى المخلوق.
ومن أفضل الصّبر أن لا يدعو إلى الله لزوال البلية إلا إذا أجهده الأمر ولم يجد للصبر موضعاً، كما فعل أيوب عليه السَّلام، فإنه دعا إلى الله، قال الله تعالى: {وَاذْكُرْ عَبْدَنَا أَيُّوبَ إِذْ نَادَى رَبَّهُ أَنّي مَسَّنِي الشَّيْطَانُ بِنُصْبٍ وَعَذَابٍ}[ص:41]، وكذلك قال يعقوب عليه السَّلام: {إِنَّمَا أَشْكُو بَثّي وَحُزْنِي إِلَى اللَّهِ }[يوسف:86]، ولم يَدْعُوَا ربهما بزوال البليّة إلا عندما أجهدهما الأمر، ولم يَجِدَا للصبر موضعاً؛ ولأنهما لو سألا ربهما زوال البليّة في مبتدئها لم يكونا راضيين بالبليّة. ولا يكون العبْدُ صابراً على البليّة إلا إذا كان راضياً بها وكان يقدر على الخروج منها فيختار الصبر عليها، مثل أن يصيبه الله بألمٍ فيرضى به ولا يسخط منه ولا يشكوه إلى مخلوقٍ. ومثل من يصبر على الفقر وهو يقدر على الغنى، ويصبر على كظم الغيظ وهو يقدر على الانتصار، وقد روي عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أنه قال: ((ألا إنه سيكون أقوامٌ لا يستقيم لهم الملك إلا بالقتل والتّجبر، ولا يستقيم لهم الغنى إلا بالبخل والفجور، ولا تستقيم لهم المحبّة في الناس إلا باتّباع الهوى، فمن أدرك ذلك منكم فصبر على الذل وهو يقدر على العز، وصبر على الفقر وهو يقدر على الغنى، وصبر على البُغضة في الناس وهو يقدر على المحبّة، لا يريد بذلك إلا وجه الله والدار الآخرة، أثابه الله تعالى ثواب خمسين صدِّيقاً)). (1/333)
واعلم أن أعظم ما ابْتُلِيَ به الإنسان الشهوة والكراهة، قال الله تعالى: {زُيِّنَ لِلنَّاسِ حُبُّ الشَّهَوَاتِ مِنَ النّسَاءِ وَالْبَنِينَ وَالْقَنَاطِيرِ الْمُقَنْطَرَةِ مِنَ الذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ وَالْخَيْلِ الْمُسَوَّمَةِ وَالأَنْعَامِ وَالْحَرْثِ ذَلِكَ مَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا}[آل عمران:14]، فهذه الأشياء التي سماها الله، هي أجلّ ما ولعت النفوس بشهوته، فأشدها محبّة النساء ثم البنون ثم هي على هذا الترتيب المرتّب في الآية إلى الحرث. فكانت الشهوةُ لهذه الأشياء، والحاجة إليها بليّة ابتلى الله بها الناس، فمن صبر عنها وامتنع من الهوى فلزم نفسه من اتّباع الشهوات فاز بالحسنى وكان عند الله من الكرماء، قال الله تعالى: {فَأَمَّا مَنْ طَغَى ، وَآثَرَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا ، فَإِنَّ الْجَحِيمَ هِيَ الْمَأْوَى}[النازعات:37-39]، وقال عزّ من قائلٍ: {إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ }[الحجرات:13]، فكانت الشهوةُ من أعظم البلايا. (1/334)
وكذلك الغضبُ من البلايا الكبار فإنه لا يكاد يصبر على كظم الغيظ عند الغضب مع القدرة على الانتصار إلا ذو حظٍّ عظيمٍ كما قال الله تعالى: {ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ فَإِذَا الَّذِي بَيْنَكَ وَبَيْنَهُ عَدَاوَةٌ كَأَنَّهُ وَلِيٌّ حَمِيمٌ ، وَمَا يُلَقَّاهَا إِلاَّ الَّذِينَ صَبَرُوا وَمَا يُلَقَّاهَا إِلاَّ ذُو حَظّ عَظِيمٍ}[فصلت:34،35]، وقال تعالى: {وَلَمَنْ صَبَرَ وَغَفَرَ إِنَّ ذَلِكَ لَمِنْ عَزْمِ الأُمُورِ}[الشورى:43]. وقد روي عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أنه قال: ((اتّقوا النساء، واتقوا الغضب ، فإنه جمرةٌ يتوقد في جوف ابن آدم، ألا ترون إلى انتفاخ أوداجه، وحمرة عينيه، فإذا أحس أحدكم بشيءٍ من ذلك فليذكر الله سبحانه وتعالى)). وعنه صلى الله عليه وآله وسلم أنه قال لعلي عليه السَّلام: ((يا عليُّ إن من اليقين أن لا تُرضِي أحداً بسخط الله ، ولا تحمد أحداً على ما آتاك الله، ولا تذمّ أحداً على ما لم يُؤتك الله، فإن الرزق لا يجره حرص حريصٍ، ولا يصرفه كراهة كاره، إن الله بحكمه وفضله جعل الرَّوحَ والفرح في الرضا، وجعل الهمّ والحزن في الشك والسخط)). (1/335)
وروي عنه صلى الله عليه وآله وسلم أنه قال: ((من كظم غيظاً وهو قادرٌ على أن ينفذه دعاه الله عز وجلّ [يوم القيامة] على رؤوس الخلائق حتّى يخيره في أيِّ جواره شاء)).
فصل في الكلام في الموت (1/336)
اعلم أن الموت آخر بلايا المؤمنين، وأوّل نقمة العاصين وفيه نعمةٌ، وثلاث بلايا.
أما النّعمة فإن الله جعله موعظةً للمؤمنين، وعبرةً للمسلمين، وتذكرةً لجميع المكلفين، وتحذيراً وتخويفاً للمعتدين، ولولا ذكر الموت وخوفه ما ازدجر من اتّباع الهوى مزدجرٌ، ولا فعل ما يُؤمر به مؤتمرٌ إلا من علم الله.
وأما البلايا الثلاث: فواحدةٌ منهنّ عامّة لجميع المكلفين، وواحدةٌ خاصّةٌ لعيال الميّت وأقاربه وأصحابه، ومن يضرّه موتُهُ، وواحدةٌ خاصّةٌ للميت في نفسه.
فأما البلية العامة لجميع المكلفين: فإن الله جعل الموت والفناء بليّةً ابتلى بها عباده لينظر من يُؤمن بالآخرة، ويُصدِّق بالغيب، ويعمل ما يأمره به، وينتهي عما نهاه عنه فيثيبه ويجزيه، ويخلّده في الجنان، وينظر من يُكذِّب بالآخرة والوعد والوعيد، ولا يأتمر بأمره ولا ينتهي عن نهيه، فيُخلّده في النيران ويُعذّبه بالخزي والهوان، ولو لم يكن موتٌ ولا فناءٌ ولم تكن الجنة والنار غائبتين، وكانتا حاضرتين مشاهدتين في الدنيا لم يكن إيمان من يؤمن بهما عجيباً، ولا كان من يعمل للجنة المشاهدة ويخاف النار المشاهدة مستحقًّا للأجر؛ لأن البهائم قد تستجلب المنافع المشاهدة، وتنفر عن المضار المشاهدة، فصح أن الله جعل الموت بليّة، وأن من آمن بالغيب يكون مستحقًّا للثواب، ومن كذّب به يكون مستحقا للعذاب؛ قال الله تعالى: {الم ، ذَلِكَ الْكِتَابُ لاَ رَيْبَ فِيهِ هُدًى لِلْمُتَّقِينَ ، الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ وَيُقِيمُونَ الصَّلاَةَ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنفِقُونَ}[البقرة:1ـ3]، فمدح الله من يُؤمن بالغيب. (1/337)
وأما البلية الخاصّة لعيال الميّت وأقاربه وأصحابه: فإن الله تعالى جعل الناس يحتاج بعضهم إلى بعضٍ، ولم يجعل لبعضهم غنًى عن بعض، وقد روي عن أمير المؤمنين عليه السَّلام قال: قلتُ وأنا عند النبيء صلى الله عليه وآله وسلم: (اللهم لا تحوجني إلى أحد من خلقك). فقال النبيء صلى الله عليه وآله وسلم: ((مَهٍ يا عليّ لا تقولن هكذا ، فإنه ليس أحدٌ إلا وهو يحتاج إلى الناس، قال: فقلت: كيف أقول يا رسول الله؟ قال: قل: اللهم لا تحوجني إلى شرار خلقك. قال: قلتُ: يا رسول الله ومن شرارُ خلقه؟ قال: الذين إذا أعطوا مَنُّوا وإذا منعوا عابوا)). فصح أن موت الإنسان بليّة لمن كان محتاجاً إلى الميّت. (1/338)
وأما البليّة التي تخُصُّه في نفسه، فهدم ما كان منه مبنيًّا، ومصيره إلى الضّعف بعد ما كان قويًّا، وكونه مَوَاتاً جماداً بعد ما كان حيواناً سويًّا مع تجرُّعه للمرارات، وكونه من الموت في الغمرات والألم الشديد، والكرب المفني له المبيد، وحسرة الولي وغمه، وشماتة العدوِّ العنيد، ومفارقته لما يُحبُّ من الناس والأموال والعافية والسّلامة والجمال، وكفى بالموت واعظاً وزاجراً عن المحرّمات، ومُرغّباً في أفعال الطاعات، فلو لم يشاهد الإنسان العاقل مَيّتاً ولم يره ثم أخبر عنه مُخْبِرٌ صادقٌ لوجب أن يخاف الموت ويزهد في الدنيا الفانية، ويرغب في الآخرة الباقية؛ فكيف وهو يشاهد أباه وولده وأخاه وصاحبته وأمته وأولياءه تُنزع أرواحهم في حجره ثم يحمل الواحد منهم فيدفنه في قبره، ثم ينسى ذلك ويلهو بفسقه وكفره، قال الله تعالى: {قُتِلَ الإِنْسَانُ مَا أَكْفَرَهُ ، مِنْ أَيِّ شَيْءٍ خَلَقَهُ ، مِنْ نُطْفَةٍ خَلَقَهُ فَقَدَّرَهُ ، ثُمَّ السَّبِيلَ يَسَّرَهُ ، ثُمَّ أَمَاتَهُ فَأَقْبَرَهُ ، ثُمَّ إِذَا شَاءَ أَنْشَرَهُ ، كَلاَّ لَمَّا يَقْضِ مَا أَمَرَهُ}[عبس:17-23]. (1/339)
واعلم أن الصبر على الموت هو الرضا به، وترك السخط منه؛ ولأنه لا بد لكل نفسٍ من الموت لمن صبر ولمن لم يصبر؛ قال الله تعالى: {كُلُّ نَفْسٍ ذَائِقَةُ الْمَوْتِ }[آل عمران:185]، وقال تعالى: {كُلُّ مَنْ عَلَيْهَا فَانٍ ، وَيَبْقَى وَجْهُ رَبِّكَ ذُو الْجَلاَلِ وَالإِكْرَامِ}[الرحمن:26،27].
واعلم أن الله تعالى أخفى وقت الساعة ووقت هجوم الموت ليكون العبدُ خائفاً لقيام الساعة وهجوم الموت في كل وقتٍ وحينٍ، وليكون مستعدًّا للموت ونزوله في جميع الأوقات، وليكون ذلك أقرب للبلاء وأنفع للمبتلَى؛ ولأنه لو كان العبد يعلم وقت قيام الساعة ووقت هجوم الموت عليه لكان أكثر الناس يتبع الشهوات ويلهو عن الصلوات وجميع الواجبات، فإذا قرب منه الموت وعلمه وتحقّقه تاب ورجع من سيِّءِ أفعاله وأناب، وكان هذا خارجاً من الحكمة ومجانباً للبليّة، وسبباً لكثرة الفساد، ومُسقطاً لحقوق الله وحقوق العباد، وإغراءً بالمعصية، فصحّ أن الله تعالى أخفى وقت الساعة، ووقت هجوم الموت لصلاح العباد. (1/340)
واعلم أن الغفلة ونسيان الموت وطول الأمل أضرُّ ما يكون على الإنسان؛ ولأن ذلك يدعو إلى اتِّباع الهوى، وبيع الباقي بما يزول ويفنى. وقد روي عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أنه قال: ((أخوف ما أخاف على أمتي الهوى وطول الأمل، أما الهوى فيضل عن الحق، وأما طول الأمل فيصد عن الآخرة، وهذه الدنيا مرتحلةٌ ذاهبةٌ، والآخرةُ قادمةٌ؛ ولكل واحدٍ منهما بَنون، فإن استطعتم أن تكونوا من أبناء الآخرة فافعلوا، وأنتم اليوم في دار عملٍ ولا حساب، وأنتم غداً في دار حسابٍ ولا عمل، وأنتم اليوم في المضمار وغداً في السباق، والسابق إلى الجنة، والمتخلّف إلى النار، وبالعفو تنجون، وبالرحمة تدخلون، وبأعمالكم تقتسمون)).
وعن عبد الله بن مسعود قال: قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: ((اذكروا الموت، وكونوا من الله على حذر ، فمن كان يؤمل أن يعيش غداً فإنه يؤمل أن يعيش أبداً، ومن يؤمل أن يعيش أبداً يقسُ قلبُه)). (1/341)
فصل في الكلام في الآجال (1/342)
اعلم أن الأجل أجلان: أجل محتوم، وأجل مخروم.
أما الأجل المحتوم فمن الله تعالى (جعله) كما شاء، ومتى شاء،و كيف شاء، وحَتَمهُ وقدّره، قال عز من قائلٍ: {نَحْنُ قَدَّرْنَا بَيْنَكُمُ الْمَوْتَ وَمَا نَحْنُ بِمَسْبُوقِينَ ، عَلَى أَنْ نُبَدِّلَ أَمْثَالَكُمْ وَنُنْشِئَكُمْ فِي مَا لاَ تَعْلَمُونَ}[الواقعة:60،61]، وقال تعالى: {وَمَا كَانَ لِنَفْسٍ أَنْ تَمُوتَ إِلاَّ بِإِذْنِ اللَّهِ كِتَابًا مُؤَجَّلاً}[آل عمران:145]، فهذا هو [الأجل] المحتوم.
و[الأجل] المخروم من فعل العباد، وهو كُلُّ ما كان يجب فيه القصاص أو الدية أو كان قصاصاً بذاته، أو حداً، فهذا الأجل من فعل العباد، ولا يُنسب إلى الله تعالى؛ ولأن الله قد أعطى العباد الاستطاعة على فعل الطاعة وعلى فعل المعصية، وعلى فعل الشيء وتركه، ومكّنهم وخلاهم للبلية. وقد يصرف التَّعدّي والظلم عن بعض خلقه لمصلحةٍ في ذلك، ويكون الصّرف منه باللطف، ويكون بالقهر كصرفه لفرعون عن موسى عليه السَّلام في صغره باللطف، فإن الله أوجد له في قلب فرعون وقلب امرأته رحمةً ورأفةً، وصرفه عنه في كبره بالقهر حيث فرق له البحر فأنجى وَليّه وأغرق عدوه، وذلك لِمَا أراد من موسى عليه السَّلام من تبليغ الرسالة والهدى للناس من الجهل والضلالة والردى. وكذلك إبراهيم عليه السَّلام لما رُمِيَ به في النار فجعلها الله برداً وسلاماً، وكذلك عيسى بن مريم عليه السَّلام فإن الله فداه ببعض الذين أرادوا قتله، قال الله تعالى: {وَمَا قَتَلُوهُ وَمَا صَلَبُوهُ وَلَكِنْ شُبِّهَ لَهُمْ }[النساء:157]. (1/343)
فأما من لم يصرف عنه ظلم ظالمه فوجه الحكمة في هذه البليّة من الله أنه يعيض القتيل المؤمن المظلوم في الجنة ثواباً عظيماً، ويُعذّب الظالم له عذاباً أليماً، وذلك لأن الدنيا فانية وعذابها فانٍ، وكذلك نعيمها فانٍ، والآخرة باقيةٌ ونعيمها باقٍ، وكذلك عذابها باقٍ، فاختار الله لأوليائه الآخرة ونعيمها، قال عز من قائلٍ: {إِنَّ اللَّهَ اشْتَرَى مِنَ الْمُؤْمِنِينَ أَنفُسَهُمْ وَأَمْوَالَهُمْ بِأَنَّ لَهُمُ الْجَنَّةَ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَيَقْتُلُونَ وَيُقْتَلُونَ وَعْدًا عَلَيْهِ حَقًّا فِي التَّوْرَاةِ وَالإِنجِيلِ وَالْقُرْآنِ وَمَنْ أَوْفَى بِعَهْدِهِ مِنَ اللَّهِ فَاسْتَبْشِرُوا بِبَيْعِكُمُ الَّذِي بَايَعْتُمْ بِهِ وَذَلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ}[التوبة:111]، وقال تعالى: {وَلَيَنصُرَنَّ اللَّهُ مَنْ يَنصُرُهُ }[الحج:40]، فأوجب على نفسه لمن قُتِلَ في سبيل الله الأجر، وضمن له بالإنتقام والنصر، وانتصارُ الله تعالى للشهيد في الآخرة، وقد يكون بعض النصر في الدنيا، قال الله تعالى: {إِنَّا لَنَنصُرُ رُسُلَنَا وَالَّذِينَ آمَنُوا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَيَوْمَ يَقُومُ الأَشْهَادُ ، يَوْمَ لاَ يَنفَعُ الظَّالِمِينَ مَعْذِرَتُهُمْ وَلَهُمُ اللَّعْنَةُ وَلَهُمْ سُوءُ الدَّارِ}[غافر:51،52]، وقال تعالى فيما أوعد الظالمين: {وَمَنْ يَقْتُلْ مُؤْمِناً مُتَعَمِّداً فَجَزَاؤُهُ جَهَنَّمُ خَالِدًا فِيهَا وَغَضِبَ اللَّهُ عَلَيْهِ وَلَعَنَهُ وَأَعَدَّ لَهُ عَذَابًا عَظِيمًا}[النساء:93]. (1/344)
وقد روي عن أنس بن مالك قال: قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: ((ما من أحدٍ يدخل الجنة فيُحب أن يرجع إلى الدنيا ولو أن له ما على الأرض إلا الشهيد فإنه يتمنّى أن يرجع، فيُقتل عشر مرات لما يرى من الكرامة)). وعن زيد بن علي عليه السَّلام عن أبيه عن جده عن علي " قال: قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: ((للشهيد سبع درجاتٍ : فأول درجةٍ من درجاته أن يرى منزلته من الجنّة قبل خروج نفسه فيهُون عليه ما به. (1/345)
والثانية: أن تبرز إليه زوجته من حُور العين فتقول: أبشر يا ولي الله، فوالله ما عند الله خير لك مما عند أهلك.
والثالثة: إذا خرجت نفسه جاء خزنة من الجنة فتولوا غسله وكفّنوه وحنطوه وطيبوه من طيب الجنّة.
والرابعة: فإنه لا يهون على مسلمٍ خروج نفسه مثل ما يهون على الشهيد.
والخامسة: أنه يُبعث يوم القيامة وجرحه يشخب مسكاً، ويُعرف الشهداء بروائحهم يوم القيامة.
والسادسة: ليس أحد أقرب من عرش الرحمن من الشهداء.
والسابعة: أن لهم في كل جمعةٍ زورةً فيحيون بتحية الكرامة، ويُتحفون بِتُحفِ الجنة فيقال: هؤلاء زُوّار الله تعالى)). ومعنى قوله صلى الله عليه وآله وسلم: ((إن لهم في كل جمعةٍ زورةً )) يريد في كل مقدار جُمعةٍ إذ ليس ثَمَّ أيام ولا ليالي، وقد قال الله تعالى: {خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ }[الأعراف:54] المراد به: في مقدار ستة أيام؛ لأن الأيام والليالي أحدثها الله تعالى بعد خلق السماوات والأرض، وهي مقدار حركة العالم، فثبت أنها بعده.
واختلف الناس في الآجال: فذهبت المجبرةُ ومن قال بقولهم إلى أن الآجال كلها محتومةٌ من الله تعالى، وأنه لو لم يكن من الجاني جناية لمات المجني عليه في ذلك الوقت، واستدلوا بقول الله تعالى: {وَمَا كَانَ لِنَفْسٍ أَنْ تَمُوتَ إِلاَّ بِإِذْنِ اللَّهِ كِتَابًا مُؤَجَّلاً}[آل عمران:145]، وبقوله: {وَلِكُلِّ أُمَّةٍ أَجَلٌ فَإِذَا جَاءَ أَجَلُهُمْ لاَ يَسْتَأْخِرُونَ سَاعَةً وَلاَ يَسْتَقْدِمُونَ}[الأعراف:34]. (1/346)
والرد عليهم: أن الله تعالى نهى عن قتل النفس التي حرم الله فقال تعالى: {مَنْ قَتَلَ نَفْسًا بِغَيْرِ نَفْسٍ أو فَسَادٍ فِي الأَرْضِ فَكَأَنَّمَا قَتَلَ النَّاسَ جَمِيعًا وَمَنْ أَحْيَاهَا فَكَأَنَّمَا أَحْيَا النَّاسَ جَمِيعًا}[المائدة:32] فلم يكن الله لِيُحرّم قتل النفس ويأذن به، ولا كان يُعذّب القاتل على فعل غيره. وقوله: {وَمَنْ أَحْيَاهَا فَكَأَنَّمَا أَحْيَا النَّاسَ جَمِيعًا} المراد به: من منعها من القتل وصرف ظلم الظالم عنها. ولو كان من يُقتل لو سَلِمَ من القتل لمات في ذلك الوقت، لكان من يذبح بهيمة غيره مأجوراً غير مأزورٍ، ولم يُحكم عليه لصاحبها بشيءٍ لأنه لو تركها لماتت، فكانت ميتة، فكأنه قد أحسن إلى صاحبها، وكذلك القاتل لا يجب عليه قودٌ ولا ديةٌ في جرح من قد أذن الله بموته؛ ولو كان ذلك كذلك لكان خارجاً من الحكمة أن ينهى الله عن شيءٍ ويأذن به، ويعذب عليه من فعله. وأما قوله تعالى: {وَمَا كَانَ لِنَفْسٍ أَنْ تَمُوتَ إِلاَّ بِإِذْنِ اللَّهِ كِتَابًا مُؤَجَّلاً}[آل عمران:145] فإن الموت غيرُ القتل، قال الله تعالى: {وَمَا مُحَمَّدٌ إِلاَّ رسول قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ أَفَإِيْن مَاتَ أو قُتِلَ انْقَلَبْتُمْ عَلَى أَعْقَابِكُمْ}[آل عمران:144] فصحّ أن الموت فعل الله، والقتل فعل القاتل. وقوله: {وَلِكُلِّ أُمَّةٍ أَجَلٌ فَإِذَا جَاءَ أَجَلُهُمْ لاَ يَسْتَأْخِرُونَ سَاعَةً وَلاَ يَسْتَقْدِمُونَ}[الأعراف:34] يُريد: أجل الموت الذي هو غير القتل. (1/347)
وقوله تعالى: {قُلْ لَوْ كُنْتُمْ فِي بُيُوتِكُمْ لَبَرَزَ الَّذِينَ كُتِبَ عَلَيْهِمُ الْقَتْلُ إِلَى مَضَاجِعِهِمْ}[آل عمران:154] المراد بالكتاب هاهنا العلم، يقول: لبرز الذين علم الله أنهم يُقتلون إلى مضاجعهم، وعِلْمُ الله سابق غيرُ سائقٍ. (1/348)
وذهبت المطرفية إلى أن الآجال ليست من الله، إلا أجل من بلغ مائةً وعشرين سنةً، فمن بلغ مائةً وعشرين سنةً ومات، فالله أماته، ومن مات قبل ذلك فلم يرد الله موته وإنما ذلك بتعدي من تعدّى وظلم [من ظلم]، وبأسباب وأعراضٍ وأمراضٍ ليست من الله ولا قصدها، ولا قصد موت الميت، إلا إذا بلغ الحد الذي ذكروه وقالوا: هو العمر الطبيعي، واحتجّوا بقول الله تعالى: {وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالإِنسَ إِلاَّ لِيَعْبُدُونِ }[الذاريات:56]. وقالوا: إن الله تعالى ساوى بين الناس في ستة أشياء: في الخلق والرزق، والموت والحياة، والتعبّد والمجازاة. وهذا منهم غلطٌ عظيمٌ، وخطأٌ من القول وخيمٌ.
أما قولهم: إن الله تعالى ساوى بين [الناس في] الخلق، فليس الذَّكر كالأنثى، ولا الكامل كالناقص، ولا الفصيح كالأعجم، ولا الصَّبيح كالقبيح، ولا الأبيض كالأسود، ولا العربي كالزِّنجي، ولا الشريف كالوضيع، ولا المالك كالمملوك؛ وهذا مشاهد بيِّنٌ لا ينكره عاقلٌ، ولا يُماري فيه إلا جاهلٌ، وقد قال الله تعالى: {أَهُمْ يَقْسِمُونَ رَحْمَةَ رَبِّكَ نَحْنُ قَسَمْنَا بَيْنَهُمْ مَعِيشَتَهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَرَفَعْنَا بَعْضَهُمْ فَوْقَ بَعْضٍ دَرَجَاتٍ لِيَتَّخِذَ بَعْضُهُمْ بَعْضًا سُخْرِيًّا وَرَحْمَةُ رَبِّكَ خَيْرٌ مِمَّا يَجْمَعُونَ}[الزخرف:32]، فبيّن أنه رفع بعضهم فوق بعض درجاتٍ، وقال تعالى: {ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلاً عَبْدًا مَمْلُوكًا لاَ يَقْدِرُ عَلَى شَيْءٍ وَمَنْ رَزَقْنَاهُ مِنَّا رِزْقًا حَسَنًا فَهُوَ يُنفِقُ مِنْهُ سِرًّا وَجَهْرًا هَلْ يَسْتَوُونَ الْحَمْدُ لِلَّهِ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لاَ يَعْلَمُونَ}[النحل:75]، وقال عز من قائلٍ حاكياً عن امرأة عمران: {إِذْ قَالَتِ امْرَأَةُ عِمْرَانَ رَبِّ إِنّي نَذَرْتُ لَكَ مَا فِي بَطْنِي مُحَرَّرًا فَتَقَبَّلْ مِنّي إِنَّكَ أَنْتَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ ، فَلَمَّا وَضَعَتْهَا قَالَتْ رَبِّ إِنّي وَضَعْتُهَا أُنْثَى وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا وَضَعَتْ وَلَيْسَ الذَّكَرُ كَالأُنْثَى}[آل عمران:35،36]، وقال تعالى: {الرِّجَالُ قَوَّامُونَ عَلَى النّسَاءِ بِمَا فَضَّلَ اللَّهُ بَعْضَهُمْ عَلَى بَعْضٍ }[النساء:34]. فصح أن الله تعالى ما ساوى بين الناس في الخلق. (1/349)
وكذلك لم يُساوِ بينهم في الرزق، بل رزق بعضهم أكثر من بعض، وذلك مشاهدٌ ظاهرٌ، وقَلَّ ما يوجد أخوان لأبٍ وأمٍّ مستويان في الرزق، ولو كانت صنعتهما واحدة، واستطاعتهما [واحدة]، فكيف يستوي جميع الناس؟! وبعضهم رزق في ذاته لبعض مثل الولد للوالد، والمملوك للمالك، فإن الولد رزقٌ للوالد، والمملوك رزق للمالك، فكيف يستوي الرزق والمرزوق، وقد رأينا أرضاً ينزل (الله) عليها المطر في كل وقتٍ يحتاج الناس إليه، ويصرف عنها الآفات، ورأينا أرضاً لا يكاد أهلها يعرفون المطر، ولا يزالون في عسرٍ وعسير، ورأينا أرضاً يكون فيها الزرع والثمر، فيُصيبها الله بالريح وبالجراد والبَرَد، وهذا مشاهدٌ بيّنٌ، فأين المساواة من الله؟ إلا أن يقولوا: ليس الغيث من الله، والريح والجراد والبرد؛ فإن قالوا ذلك جحدوا بعض خلق الله وبليته ونعمته؛ وقد قال الله تعالى: {وَاللَّهُ فَضَّلَ بَعْضَكُمْ عَلَى بَعْضٍ فِي الرِّزْقِ }[النحل:71]، وقال تعالى: {يَخْلُقُ مَا يَشَاءُ يَهَبُ لِمَنْ يَشَاءُ إِنَاثًا وَيَهَبُ لِمَنْ يَشَاءُ الذُّكُورَ ، أو يُزَوِّجُهُمْ ذُكْرَانًا وَإِنَاثًا وَيَجْعَلُ مَنْ يَشَاءُ عَقِيمًا إِنَّهُ عَلِيمٌ قَدِيرٌ}[الشورى:49،50]. (1/350)
وأيضاً فإن المواريث رزقٌ من الله بالإجماع، وليست المواريث سواءً؛ وقد جعل الله لبعض الورثة كل المال، ولبعضهم نصفه، وجعل لبعضهم ثلثه، ومنهم من جعل له الربع، ومنهم من جعل له السدس، ومنهم من جعل له الثمن، فأين المساواة من الله في المواريث؟ فهذا منهم غلطٌ في الحساب وفي اعتقادهم!! وأعجب من هذا في المواريث: أنه لو ماتت امرأةٌ وتركت زوجها وأمها، وإخوتها لأمها، وأخاها لأبيها وأمها؛ أنه يُقْضَى لزوجها من مالها بالنصف، ولأمها بالسدس، ولإخوتها لأمها الثلث، ولا شيء لأخيها لأبيها وأمِّها، فبطل ما قالوا من المساواة في الرزق. (1/351)
وأما قولهم: (إن الله ساوى بين الناس في الموت والحياة) فإن الله لم يساوِ بينهم في الموت والحياة فيما زاد على مائة وعشرين سنةً، وقد فرق بينهم في الموت والعمر فيما فوق مائة وعشرين، فمن الناس من عُمّر مائة وثلاثين وأكثر من ذلك إلى ألف سنة؛ قال الله تعالى في نوح عليه السَّلام: {فَلَبِثَ فِيهِمْ أَلْفَ سَنَةٍ إِلاَّ خَمْسِينَ عَامًا }[العنكبوت:14]، وكما كان الاختلاف موجوداً في الزائد على مائة وعشرين كذلك فيما دون المائة والعشرين.
وأما قولهم: (إنه لا يموت أحدٌ قبل هذا الحد الذي حدّوه بقضاء الله وفعله، بل بسببٍ عارضٍ لم يُرده الله)، وهذا القول ينتقضُ عليهم من وجوه:
منها أن الطبيعة لا تكون أكثر من العوارض والفساد، ولو كان الفساد غالباً على الطبيعة لكان الفساد غالباً للصلاح، ولو كان ذلك كذلك لكان فعل الله مغلوباً؛ ولأنه لا يكاد يبلغ المائة والعشرين إلا القليل، مع أن من بلغ هذا الحد يكون عاجزاً ضعيفاً، قال الله تعالى: {وَمَنْ نُعَمِّرْهُ نُنَكّسْهُ فِي الْخَلْقِ أَفَلاَ يَعْقِلُونَ }[يس:68]. (1/352)
ومنها أن الله تعالى لم يهمل الخلق، ولا ضيّع العباد، قال الله تعالى: {أَفَحَسِبْتُمْ أَنَّمَا خَلَقْنَاكُمْ عَبَثًا وَأَنَّكُمْ إِلَيْنَا لاَ تُرْجَعُونَ}[المؤمنون:115]، وقال تعالى: {وَمَا خَلَقْنَا السَّمَاءَ وَالأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا بَاطِلاً ذَلِكَ ظَنُّ الَّذِينَ كَفَرُوا فَوَيْلٌ لِلَّذِينَ كَفَرُوا مِنَ النَّارِ}[ص:27]. وإذا كان موت من يموت قبل هذا الحد بغير تَعَدٍّ من أحدٍ ولم يكن من الله، فمن فاعل الموت الذي لم يُشاهد للميت قاتل؟ مثل من يناله مرضٌ فيموت منه، ولم يكن من الميت استجلاب له، ولا تضييع لنفسه، مثل من تأكله الحيّة في حرزه، ومثل من تُصيبه برقةٌ في منزله، ومثل موت النفساء على أولادها، فإذا كان هؤلاء وأمثالهم لم يجنوا على أنفسهم، ولا جنى عليهم آدميٌّ، ولا كان موتهم من قِبَلِ الله، فمن فاعل موتهم؟ فإذا لم يكن من الله بليّة يجزي الميت بها، ولم يكن من متعدٍّ عليه فيجب عليه القود، ولا من مخطٍ عليه فتجب الدية، فهل يكون إلا مهملاً مضيعاً مصابه في الدنيا والآخرة؟
وإن قالوا: إن كل من أصيب بالموت قبل هذا الحد فإن مصابه من قِبَلِ تعدِّي من يتعدَّ عليه، أو تفريطه في نفسه؟ قلنا: الطفل إذا أصيب بمصيبة الموت، ولم يكن من أحد تعدٍّ عليه ولا تعدَّى على نفسه؟! (1/353)
فإن قالوا: مصابه بتعد وتفريطٍ من وليه. قلنا: فلا يكون المتعدي عليه إلا مأثوماً، وإذا كان كذلك كان مصاباً بمصيبتين: إحداهما موت ولده، والأخرى: الإثم في تفريطه فيه وترك منعه للموت عنه، وهذا ما لا يقول به أحدٌ غير هذه الفرقة، وقد رُوي أن إبراهيم إبن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم مات وهو ابن ستة عشر شهراً فإلى من ينسبون موته؟ وقد قال الله تعالى: {هُوَ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ تُرَابٍ ثُمَّ مِنْ نُطْفَةٍ ثُمَّ مِنْ عَلَقَةٍ ثُمَّ يُخْرِجُكُمْ طِفْلاً ثُمَّ لِتَبْلُغُوا أَشُدَّكُمْ ثُمَّ لِتَكُونُوا شُيُوخًا وَمِنْكُمْ مَنْ يُتَوَفَّى مِنْ قَبْلُ وَلِتَبْلُغُوا أَجَلاً مُسَمًّى وَلَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ}[غافر:67]، وقال تعالى: {اللَّهُ يَتَوَفَّى الأَنْفُسَ حِينَ مَوْتِهَا وَالَّتِي لَمْ تَمُتْ فِي مَنَامِهَا فَيُمْسِكُ الَّتِي قَضَى عَلَيْهَا الْمَوْتَ وَيُرْسِلُ الأُخْرَى إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى إِنَّ فِي ذَلِكَ لاَيَاتٍ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ}[الزمر:42].
وروي عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أنه كان إذا أراد أن ينام جعل يده اليمنى تحت خده ثم قال: ((اللهم باسمك وضعت جنبي وبك أرفعه، اللهم إن أمسكت روحي فاغفر لي وارحمني برحمتك، وإن أطلقته فاحفظني بما تحفظ به الصالحين))، فهل خاف النبيء صلى الله عليه وآله وسلم أن يُمسك الله روحه قبل وقت إمساكه؟ أو جهل هذا الحد الذي حدّه المطرفية؟ فصحّ أنه صلى الله عليه وآله وسلم كان يتوقع الموت في ليله ونهاره. وقد روي عنه صلى الله عليه وآله وسلم أنه قال: ((من كان يُؤمل أن يعيش غداً فإنه يُؤمل أن يعيش أبداً، ومن كان يؤمل أن يعيش أبداً يقسُ قلبُه)). وروي عنه صلى الله عليه وآله وسلم أنه قال: ((أخوف ما أخاف على أمتي الهوى وطول الأمل)). ومن طول الأمل أن يقول القائل: إن الله لا يريد له موتاً حتى يُعمَّر مائة وعشرين سنةً، وقد قال تعالى لنبيئه صلى الله عليه وآله وسلم: {فَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ وَكُنْ مِنَ السَّاجِدِينَ ، وَاعْبُدْ رَبَّكَ حَتَّى يَأْتِيَكَ الْيَقِينُ}[الحجر:98،99] واليقين هاهنا هو الموت. والأمة مجمعةٌ على أن النبيء صلى الله عليه وآله وسلم مات بقضاء الله وقدره، وهو ابن ثلاث وستين سنة. وروي عنه صلى الله عليه وآله وسلم أنه قال: ((معترك منايا أمتي ما بين الستين إلى السبعين )). وقد قال الله تعالى: {نَحْنُ قَدَّرْنَا بَيْنَكُمُ الْمَوْتَ وَمَا نَحْنُ بِمَسْبُوقِينَ ، عَلَى أَنْ نُبَدِّلَ أَمْثَالَكُمْ وَنُنْشِئَكُمْ فِي مَا لاَ تَعْلَمُونَ}[الواقعة:60،61]. (1/354)
ومن تقدير الله للموت بين الناس أنهم يُولدون ويموتون على مهلٍ وهونٍ، ولا يكاد يجتمع موتُ ناسٍ كثيرٍ فيشتهر ذلك اشتهاراً ظاهراً، وكذلك لا يكاد يجتمع ولادة ناسٍ كثيرٍ فيشتهر ذلك اشتهاراً ظاهراً كثيراً. (1/355)
ولا يموت الناس معاً كصريم الزرع بل يأخذهم الموت شيئاً شيئاً على مهلٍ، وكذلك ولادة من يولد منهم، فلا هم باقون ولا هم منقطعون، فمثلهم كمثل قومٍ يدخلون داراً مفترقين ويخرجون منها مفترقين، والدار هي الدنيا، ومنهم من يقيم فيها كثيراً، ومنهم من يُقيم فيها قليلاً، فهل هذا إلا بتقديرٍ من الله تعالى.
واعلم أن اعتقاد هذه الفرقة يُؤدي إلى جحدان النعمة والبلية، وضياع الشكر والصبر والأجر، وذلك في طفل يختار الله له ما لديه ويخلصه من بلاء الدنيا والآخرة، ويُنعم عليه، ويبتلي بموته والديه، فيجهلا ذلك القضا، ويُجانبا الصبر عليه والرضا ويبديا السخط منه والشكى، ولا يظنا أنه من الله نعمة على الطفل، وبلية لهما، فإذا كان ذلك كذلك كانا قد جحدا النعمة والبلية، وتركا الشكر والصبر، وضيّعا الأجر.
واعلم أن هذه الفرقة تكابر في أشياء من المسائل بغير حُجّة ولا برهانٍ من كتابٍ ولا سُنّة.
وأما ما احتجوا به من قول الله تعالى: {وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالإِنسَ إِلاَّ لِيَعْبُدُونِ }[الذاريات:56]، فالمراد به المتعبَّدون منهم كما قال تعالى: {وَالْعَصْرِ ، إِنَّ الإِنسَانَ لَفِي خُسْرٍ ، إِلاَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ} [العصر:1ـ3]، والأطفال من الناس لم يُؤمنوا ولا عملوا الصالحات فلما لم يستثنهم من الخسر (ولم يكونوا ممن استثنى) علمنا أن الآية خاصة للمتعبَّدين من الناس، فكذلك الآية الأولى، فلا حجة لهم بهذه الآية. (1/356)
وأما ما روي عن القاسم، والمؤيد بالله عليهما السلام في ذكر العمر الطبيعي فإن مرادهما غاية العمر، وأكثر ما يُعمّر أهل العصر؛ لأنهما ذكرا المفقود، وليس غرضهما (أنه) العمر الذي لا يأذن الله بموت أحدٍ قبله.
وقد قال محمد بن القاسم عليهما السلام -في كتاب الآجال في مسائل علي بن جهشيار الطبري ردًّا على من زعم أن القتل بقضاء الله:
ولقد قال تعالى: {وَلاَ تَقْتُلُوا أَوْلاَدَكُمْ خَشْيَةَ إِمْلاَقٍ نَحْنُ نَرْزُقُهُمْ وَإِيَّاكُمْ}[الإسراء:31]، فلو لم يجعل الله أجلاً وأرزاقاً ثم ابتلاهم لم يكن ليقول: {نَحْنُ نَرْزُقُهُمْ وَإِيَّاكُمْ} وما كان الله يَعِدُهُم الرزق وقد قضى عليهم الموت، إلا أنهم حين أطاعوا ربهم وانتهوا رزقوا هم وأولادهم إلى ما شاء الله من آجالهم،فمن شاء تبارك وتعالى أن يقدِّم أجله قدّمه، ومن شاء أن يُؤخر أجله أخّره إلى أجله، إذا ترك آباؤهم الاعتداء عليهم. وقد سئل قوم عن قول الله تعالى: {وَمَا كَانَ لِنَفْسٍ أَنْ تَمُوتَ إِلاَّ بِإِذْنِ اللَّهِ كِتَابًا مُؤَجَّلاً}[آل عمران:145]. (1/357)
فقالوا: القتلُ هو الموتُ. ولسنا والحمد لله ننكر أن النفس لا تموت إلا بإذن الله، ولكن الأجل في ذلك أجلان: أجلٌ العباد فيه مبتلون، وأجلٌ إلى الله، فإن ترك العباد فيه الاعتداء على العبد، فإن شاء الله أن يقبضه في تلك الساعة فعل، وإن شاء أن يُؤخره فعل، والأمر في ذلك إلى الله في الموت والحياة، إن شاء الله أن يصرف اعتداء العباد فَعَلَ، وإن شاء أن يتركهم واعتداءهم فَعَلَ، وقد روي عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أنه قال: ((الدعاء يرد القضا ، وإن البِرَّ يزيد في العمر، وإن الحج ينفي الفقر، وإن صدقة النهار تنفي ميتة السوء، وإن صدقة الليل تطفئ غضب الرب)).
وروي عنه صلى الله عليه وآله وسلم أنه قال: ((صِلَةُ الرَّحِمِ تزيد في العمرِ )). وعن علي عليه السَّلام أنه قال: (وصلة الرّحم فإنها ثروة في المال، ومنساةٌ في الأجل، وتكثيرٌ في العدد) فصح ما قلنا من أن الله تعالى يقبض روح من يشاء كما يشاء ومتى شاء صغيراً أو كبيراً، وأنه لا حد للعمر محدودٌ. وبطل قول المطرفية في المساواة في الموت والحياة. (1/358)
وأما قولهم: (إن الله ساوى بين الناس في التعبد)، فإن في الشاهد أن الله تعالى تعبّد الأنبياء صلوات الله عليهم بتبليغ الرسالة، والقيام بصلاح الرعية، وتعبّد الأئمة بإقامة الحدود، وتنفيذ الأحكام، والقيام مقام الأنبياء ". فصح أن الناس على فرقتين: رعاةٌ ورعيّة، ولم يُساوِ في التعبد بين الرعاة والرعيّة. وأيضاً فلم يتعبّد المملوك بمثل ما تعبد المالك، فإن المملوك لا يجب عليه الحج إلا بإذن مولاه، ولا الجمعة، ولا الخروج في الجهاد ولا الهجرة إلا بإذن سيده، ولا زكاة عليه.
والمرأة أيضاً لم يتعبّدها الله بمثل ما تعبَّد به الرجال، فإنه لا يجب عليها الجهاد، ولا الجمعة، وصلاتها ناقصة عن صلاة الرجل، وقد روي عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أنه قال في النساء: ((ما رأيت ناقصات عقلٍ ودينٍ أغلب لعقول ذوي الألباب منهن . قيل: وما نقصان عقولهن؟ قال: شهادة امرأتين بشهادة رجلٍ، ونقصان دينهن أن إحداهنّ تمكث نصف عمرها لا تصلي)) وفي بعض الأخبار ((شطر عمرها))، وفي بعض الأخبار: ((تمكث الليالي والأيام)) فصح أن الله ما ساوى بين الناس في التعبد.
وأما قولهم: (إن الله ساوى بين الناس في المُجازاة). فالجزاء من الله على وجهين: جزاءٌ واجبٌ للعبد، أوجبه الله على نفسه، كقوله تعالى: {فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْرًا يَرَه ، وَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرًّا يَرَه}[الزلزلة:7،8]، وكقوله: {إِنَّ اللَّهَ اشْتَرَى مِنَ الْمُؤْمِنِينَ أَنفُسَهُمْ وَأَمْوَالَهُمْ بِأَنَّ لَهُمُ الْجَنَّةَ...} إلى قوله: {وَعْدًا عَلَيْهِ حَقًّا}[التوبة:111]، وكقوله: {وَمَنْ يَخْرُجْ مِنْ بَيْتِهِ مُهَاجِرًا إِلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ ثُمَّ يُدْرِكْهُ الْمَوْتُ فَقَدْ وَقَعَ أَجْرُهُ عَلَى اللَّهِ}[النساء:100]، وقوله: {مَنْ يَعْمَلْ سُوءًا يُجْزَ بِهِ }[النساء:123]، وقوله تعالى: {وَقَعَ} بمعنى: وجب. فهذا وأمثاله هو الجزاء الواجب، وليس الناس فيه بسواء بل يُجزى كلٌّ بقدر عمله، والأعمال مختلفة. ونقول: إن الله ساوى بينهم في أنه يجزي كُلاّ منهم على عمله ولا يظلم أحداً منهم شيئاً. (1/359)
والجزاء الثاني هو الزيادة على الأجر، وليس بسواءٍ بل قد زاد الله بعض الناس أكثر من بعضٍ، وزاد أيضاً فضل بعض الأعمال على بعضٍ في الأزمان والمكان والحال.
أما الزمان فإن الله تعالى فضّل الأعمال في شهر رمضان، وفي يوم الجمعة على سائر الزمان.
وأما المكان فإن الله فضل الكعبة، وبيت المقدس، ومسجد رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، وفضل الأعمال فيها على سائر المواضع.
وأما الحال فإن الله جعل جزاء الصدقة في غير الجهاد عشر أمثالها، وجعل الصدقة في الجهاد بجزاء سبعمائة ضعفٍ، فقال تعالى: {مَثَلُ الَّذِينَ يُنفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ كَمَثَلِ حَبَّةٍ أَنْبَتَتْ سَبْعَ سَنَابِلَ فِي كُلِّ سُنْبُلَةٍ مِائَةُ حَبَّةٍ وَاللَّهُ يُضَاعِفُ لِمَنْ يَشَاءُ}[البقرة:261]. (1/360)
ففي فضل الأوقات ما يقول الله تعالى: {إِنَّا أَنزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةِ الْقَدْرِ ، وَمَا أَدْرَاكَ مَا لَيْلَةُ الْقَدْرِ ، لَيْلَةُ الْقَدْرِ خَيْرٌ مِنْ أَلْفِ شَهْرٍ}[القدر:1-3]. وروي عن أمير المؤمنين عليه السَّلام في خطبة له: (أيها الناس إن الله لما خلق خلقه فضّل بعضهم على بعضٍ، فكان فيما فضّل من الأيام يوم الجمعة، فجعله للمسلمين سناءً ورفعةً، وكان فيما فضّل من الشهور شهر رمضان الذي أنزل فيه القرآنُ).
وفي تفضيل بعض الناس على بعض ما يقول الله تعالى: {وَهُوَ الَّذِي جَعَلَكُمْ خَلاَئِفَ الأَرْضِ وَرَفَعَ بَعْضَكُمْ فَوْقَ بَعْضٍ دَرَجَاتٍ لِيَبْلُوَكُمْ فِي مَا آتَاكُمْ إِنَّ رَبَّكَ سَرِيعُ الْعِقَابِ وَإِنَّهُ لَغَفُورٌ رَحِيمٌ}[الأنعام:165] فبيّن تعالى الحكم والعلّة، وقال تعالى: {انظُرْ كَيْفَ فَضَّلْنَا بَعْضَهُمْ عَلَى بَعْضٍ وَلَلآخِرَةُ أَكْبَرُ دَرَجَاتٍ وَأَكْبَرُ تَفْضِيلاً}[الإسراء:21].
وروي عن ابن عمر قال: قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: ((إنما أجلكم في أجل من خلا من الأمم من قبلكم كما بين صلاة العصر إلى مغرب الشمس، وإنما مثلكم ومثل أهل الكتابين قبلكم كمثل رجل استعمل رجلاً عملاً فقال: من يعمل إلى نصف النهار بقيراطٍ؟ فعملت اليهود، ثم قال: من يعمل إلى صلاة العصر بقيراطٍ؟ فعملت النصارى على ذلك ثم انتم الذين تعملون من صلاة العصر إلى مغرب الشمس بقيراطين، (قال) فغضبت اليهود والنصارى وقالوا: نحن أكثر أعمالاً وأقلُّ عطاءً)). (1/361)
وقال القاسم بن إبراهيم عليهما السلام في كتاب تثبيت الإمامة: (الحمد لله فاطر السماوات والأرض، مفضل بعض مفطورات خلقه على بعض، بلوى منه تعالى للمفضَّلين بشكره، واختباراً للمفضولين بما أراد في ذلك من أمره، ليزيد الشاكرين في الآخرة بشكرهم من تفضيله، وليُذيق المفضولين بسخطٍ إن كان منهم في ذلك من تنكيله، ابتداءً في ذلك للفاضلين بفضله، وفعلاً فَعَلَهُ في المفضولين عن عَدلِهِ).
ومثل هذا موجود كثير في الكتاب والسنة، وقد جعل الله اختلاف الأشياء، وتفضيل بعضها على بعض من آياته، قال عز من قائلٍ: {وَفِي الأَرْضِ قِطَعٌ مُتَجَاوِرَاتٌ وَجَنَّاتٌ مِنْ أَعْنَابٍ وَزَرْعٌ وَنَخِيلٌ صِنْوَانٌ وَغَيْرُ صِنْوَانٍ يُسْقَى بِمَاءٍ وَاحِدٍ وَنُفَضِّلُ بَعْضَهَا عَلَى بَعْضٍ فِي الأُكُلِ إِنَّ فِي ذَلِكَ لاَيَاتٍ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ}[الرعد:4].
واعلم أن الزيادة من الله لبعض خلقه لا تُدخل عليه جوراً ولا ظلماً بل قد أعطى كل واحدٍ من المكلفين في الدنيا من الاستطاعة ما يبلغ به مراده في الدنيا والآخرة، وزاد بعض المكلفين ما شاء في الدنيا والآخرة، واقتنع كلٌّ بما أعطاه في آخرته ودنياه. (1/362)
باب حقيقة معرفة الجزاء (1/363)
اعلم أن الله لما ثبت أنه عدل حكيم عالم، وأنه لم يهمل الخلق، ولا ضيّع التدبير، ورأينا الناس ظالماً ومظلوماً، ولا يكاد يوجد في الناس غيرهما، ولا يوجد أحد من المكلفين إلا مطيعاً أو عاصياً، ورأينا العصاة يظلمون المطيعين ويقتلونهم، ورأينا المُطيعين مقيّدين لألسنتهم وأفواههم وأيديهم وفروجهم مما حرم الله عليهم، ورأينا العاصين مطلقين لما قيّد المطيعون، ورأيناهم في دنياهم أهل نعم وتنعم، وأهل ثروةٍ في المال، وهيبة في الدنيا وجمال، فلما رأينا الظالمين العاصين ماتوا ولم يُنتصر منهم للمظلومين المطيعين، ولا عُوقبوا لهم في الدنيا، ورأينا المطيعين المظلومين ماتوا ولم يَنتَصِروا من الظالمين ولا عوقبوا لهم في الدنيا، علمنا علماً عقلاً ضرورياً أن العدل الحكيم العالم جلّ وعلا لا يترك خلقه مهملاً، ولا يضيع لعامل عملاً، وأنه سيحدث داراً للجزاء يُثيب فيها المطيعين المظلومين، ويعاقب فيها الظالمين العاصين، وأنه لا يُعجزه ذلك كما لم يعجزه خلق الدنيا وما فيها، والجزاء تمام العدل ونظامه، ولولا ذلك لكان خلق الدنيا وما فيها عبثاً -تعالى الله عن ذلك.
ألا ترى أن إنساناً لو بنى داراً وأكملها، فلما تمّت وكملت هدمها لغير معنى، ألا ترى أنه يكون عابثاً؟ فإن هدمها لفساد فيها، أو لأن يعمر خيراً منها أن ذلك يكون منه حسناً، فلو لم تكن دارٌ غير هذه الدار، يُثاب فيها الأبرار، ويعاقب فيها الفجار، لكان ذلك ضد العدل والحكمة، وكان عبثاً -تعالى الله عن ذلك- فصحّ أن الآخرة آتية لا شك فيها ولا ريب، ولا خُلف ولا كذب.
واعلم أن للنشور بعد الموت دليلين مبيّنين، وشاهدين في الشاهد مُنيرين وهما: استيقاظ النائم بعد النوم من المنام، وحياة الأرض الميتة بالماء، فإن الإنسان إذا نام يصير مثل الميت لا يعقل ولا يسمع ولا يبصر، ولا يدري ما يفعل به، ولا في أيِّ موضع هو، ولا يبقى فيه من الحياة غير النَّفَسِ، ثم يستيقض فيرجع إليه روحه وعقله وذهنه وسمعه وبصره، وكذلك يبعث الله من يموت، قال الله تعالى: {اللَّهُ يَتَوَفَّى الأَنْفُسَ حِينَ مَوْتِهَا وَالَّتِي لَمْ تَمُتْ فِي مَنَامِهَا فَيُمْسِكُ الَّتِي قَضَى عَلَيْهَا الْمَوْتَ وَيُرْسِلُ الأُخْرَى إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى}[الزمر:42]، فصح أن النوم مثل الموت. (1/364)
وأيضاً فإن الأرض الميتة تنظرها هامدةً لا شجر فيها ولا نبات، فينزل الله عليها الماء، فتنبت به الأشجار والزرع وصنوف الثمار فيحييها الله بعد الموت، وتصير مخضرّة بعد الهلاك والفوت، وقد قال الله تعالى: {اللَّهُ الَّذِي يُرْسِلُ الرِّيَاحَ فَتُثِيرُ سَحَابًا فَيَبْسُطُهُ فِي السَّمَاءِ كَيْفَ يَشَاءُ وَيَجْعَلُهُ كِسَفًا فَتَرَى الْوَدْقَ يَخْرُجُ مِنْ خِلاَلِهِ فَإِذَا أَصَابَ بِهِ مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ إِذَا هُمْ يَسْتَبْشِرُونَ ، وَإِنْ كَانُوا مِنْ قَبْلِ أَنْ يُنَزَّلَ عَلَيْهِمْ مِنْ قَبْلِهِ لَمُبْلِسِينَ ، فَانظُرْ إِلَى آثَارِ رَحْمَةِ اللَّهِ كَيْفَ يُحْيِ الأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا إِنَّ ذَلِكَ لَمُحْيِي الْمَوْتَى وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ}[الروم:48-50]، وقال تعالى: {وَتَرَى الأَرْضَ هَامِدَةً فَإِذَا أَنزَلْنَا عَلَيْهَا الْمَاءَ اهْتَزَّتْ وَرَبَتْ وَأَنْبَتَتْ مِنْ كُلِّ زَوْجٍ بَهِيجٍ ، ذَلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ هُوَ الْحَقُّ وَأَنَّهُ يُحْييِ الْمَوْتَى وَأَنَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ ، وَأَنَّ السَّاعَةَ آتِيَةٌ لاَ رَيْبَ فِيهَا وَأَنَّ اللَّهَ يَبْعَثُ مَنْ فِي الْقُبُورِ}[الحج:5-7]. ففي هذا بيانٌ وكفايةٌ. (1/365)
واعلم أن الأمة لم تختلف في أن الساعة آتية لا ريب فيها، وأن الله يبعث من في القبور، ولم يختلفوا في أن الجنة والنار حقّ، وكذلك أهل الكتابين لم يختلفوا في ذلك. وجحد الكفار البعث والنشور، والحساب، والجنة والنار، إلا فرقة من كفار العرب فإنهم يرون البعث والنشور، وقالوا: من نُحرت على قبره ناقةٌ من ماله أتى يوم القيامة راكباً لها، ومن لم تُنحر على قبره ناقة أتى ماشياً على رجليه، وقال في ذلك خراشة بن الأصم يوصي ابنه: (1/366)
أبني إما أهلكن فإنني
أوصيك إن أخا الوصاة الأقرب
لا تتركن أباك يعثُرُ خلفهم
تعباً يسير على اليدين وينكبُ
واستبق لِي مما تركتُ مطيّةً
في الناس أركبها إذا قيل اركبوا
فأما سائر الكفار من العرب والعجم فإنهم نفوا البعث. وقالوا: كيف يحيا من قد مات ودُفن ثم صار عظاماً ثم تراباً، ونسوا كونهم من ترابٍ، ثم من نطفة، ثم من علقةٍ، ثم من مضغةٍ، ثم خُلَقتِ المضغةُ عظاماً، ثم كُسيت [العظام] لحماً، ثم أنشأها الله خلقاً آخر، ذكراً أو أنثى، ثم أخرجه طفلاً، أولم يعلموا أن الذي خلقه من ترابٍ يُعيده؟ ولو كان قد صار تراباً، وقد ذكر الله قولهم واحتجّ به عليهم فقال تعالى: {أَوَلَمْ يَرَ الإِنسَانُ أَنَّا خَلَقْنَاهُ مِنْ نُطْفَةٍ فَإِذَا هُوَ خَصِيمٌ مُبِينٌ ، وَضَرَبَ لَنَا مَثَلاً وَنَسِيَ خَلْقَهُ قَالَ مَنْ يُحْيِ الْعِظَامَ وَهِيَ رَمِيمٌ ، قُلْ يُحْيِيهَا الَّذِي أَنشَأَهَا أَوَّلَ مَرَّةٍ وَهُوَ بِكُلِّ خَلْقٍ عَلِيمٌ ، الَّذِي جَعَلَ لَكُمْ مِنَ الشَّجَرِ الأَخْضَرِ نَارًا فَإِذَا أَنْتُمْ مِنْهُ تُوقِدُونَ ، أَوَلَيْسَ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ بِقَادِرٍ عَلَى أَنْ يَخْلُقَ مِثْلَهُمْ بَلَى وَهُوَ الْخَلاَّقُ الْعَلِيمُ ، إِنَّمَا أَمْرُهُ إِذَا أَرَادَ شَيْئًا أَنْ يَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ ، فَسُبْحَانَ الَّذِي بِيَدِهِ مَلَكُوتُ كُلِّ شَيْءٍ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ}[يس:77-83]، وقال تعالى: {ق وَالْقُرْآنِ الْمَجِيدِ ، بَلْ عَجِبُوا أَنْ جَاءَهُمْ مُنْذِرٌ مِنْهُمْ فَقَالَ الْكَافِرُونَ هَذَا شَيْءٌ عَجِيبٌ ، أَئِذَا مِتْنَا وَكُنَّا تُرَابًا ذَلِكَ رَجْعٌ بَعِيدٌ ، قَدْ عَلِمْنَا مَا تَنْقُصُ الأَرْضُ مِنْهُمْ وَعِنْدَنَا كِتَابٌ حَفِيظٌ ، بَلْ كَذَّبُوا (1/367)
بِالْحَقِّ لَمَّا جَاءَهُمْ فَهُمْ فِي أَمْرٍ مَرِيجٍ ، أَفَلَمْ يَنْظُرُوا إِلَى السَّمَاءِ فَوْقَهُمْ كَيْفَ بَنَيْنَاهَا وَزَيَّنَّاهَا وَمَا لَهَا مِنْ فُرُوجٍ ، وَالأَرْضَ مَدَدْنَاهَا وَأَلْقَيْنَا فِيهَا رَوَاسِيَ وَأَنْبَتْنَا فِيهَا مِنْ كُلِّ زَوْجٍ بَهِيجٍ ، تَبْصِرَةً وَذِكْرَى لِكُلِّ عبد مُنِيبٍ ، وَنَزَّلْنَا مِنَ السَّمَاءِ مَاءً مُبَارَكًا فَأَنْبَتْنَا بِهِ جَنَّاتٍ وَحَبَّ الْحَصِيدِ ، وَالنَّخْلَ بَاسِقَاتٍ لَهَا طَلْعٌ نَضِيدٌ ، رِزْقًا لِلْعِبَادِ وَأَحْيَيْنَا بِهِ بَلْدَةً مَيْتًا كَذَلِكَ الْخُرُوجُ ، كَذَّبَتْ قَبْلَهُمْ قَوْمُ نُوحٍ وَأَصْحَابُ الرَّسِّ وَثَمُودُ ، وَعَادٌ وَفِرْعَوْنُ وَإِخْوَانُ لُوطٍ ، وَأَصْحَابُ الأَيْكَةِ وَقَوْمُ تُبَّعٍ كُلٌّ كَذَّبَالرُّسُلَ فَحَقَّ وَعِيدِ ، أَفَعَيِينَا بِالْخَلْقِ الأَوَّلِ بَلْ هُمْ فِي لَبْسٍ مِنْ خَلْقٍ جَدِيدٍ}[ق:1ـ15]، وقال تعالى: {أَيَحْسَبُ الإِنسَانُ أَنْ يُتْرَكَ سُدًى ، أَلَمْ يَكُ نُطْفَةً مِنْ مَنِيّ يُمْنَى ، ثُمَّ كَانَ عَلَقَةً فَخَلَقَ فَسَوَّى ، فَجَعَلَ مِنْهُ الزَّوْجَيْنِ الذَّكَرَ وَالأُنثَى ، أَلَيْسَ ذَلِكَ بِقَادِرٍ عَلَى أَنْ يُحْيِيَ الْمَوْتَى}[القيامة:36-40]. فهل ترى حجة أفلج من حُجة الله، أو برهاناً أبهر من برهان الله؟! (1/368)
فصل في الكلام فيما اختلفت فيه الأمة من عذاب القبر والنفخ في الصور والميزان والكتاب والصراط والشفاعة وعذاب أطفال المشركين (1/369)
واعلم أن هذه الجملة قد اختلف فيها. فقال قوم: إن الإنسان يحيا بعد انصراف من يقبره، ويُقعد في قبره، ويُسأل عن فعله ثم يُمات. واستدلوا بما حكاه الله من قول أهل النار: {قَالُوا رَبَّنَا أَمَتَّنَا اثْنَتَيْنِ وَأَحْيَيْتَنَا اثْنَتَيْنِ فَاعْتَرَفْنَا بِذُنُوبِنَا فَهَلْ إِلَى خُرُوجٍ مِنْ سَبِيلٍ}[غافر:11]. وبما روي عن أمير المؤمنين عليه السَّلام من قوله: (وأُقعِدَ في قبره).
وعندنا أنه ليس بين الدنيا والآخرة غير موتةٍ واحدةٍ؛ والدليل على ذلك قول الله تعالى: {لاَ يَذُوقُونَ فِيهَا الْمَوْتَ إِلاَّ الْمَوْتَةَ الأُولَى }[الدخان:56]، وقوله حاكياً قول المتسائلين يوم القيامة: {فَأَقْبَلَ بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ يَتَسَاءَلُونَ ، قَالَ قَائِلٌ مِنْهُمْ إِنّي كَانَ لِي قَرِينٌ ، يَقُولُ أَئِنَّكَ لَمِنَ الْمُصَدِّقِينَ ، أَئِذَا مِتْنَا وَكُنَّا تُرَابًا وَعِظَامًا أَئِنَّا لَمَدِينُونَ ، قَالَ هَلْ أَنْتُمْ مُطَّلِعُونَ ، فَاطَّلَعَ فَرَآهُ فِي سَوَاءِ الْجَحِيمِ ، قَالَ تَاللَّهِ إِنْ كِدْتَ لَتُرْدِينِ ، وَلَوْلاَ نِعْمَةُ رَبِّي لَكُنتُ مِنَ الْمُحْضَرِينَ ، أَفَمَا نَحْنُ بِمَيِّتِينَ ، إِلاَّ مَوْتَتَنَا الأُولَى وَمَا نَحْنُ بِمُعَذَّبِينَ}[الصافات:50-59]. فصح أنه ليس غيرُ موتةٍ واحدةٍ. ومعنى قول الله فيما حكى من قول أهل النار فيها: {رَبَّنَا أَمَتَّنَا اثْنَتَيْنِ وَأَحْيَيْتَنَا اثْنَتَيْنِ}: أن مبتدأ خلق الإنسان من المَوات، وهو الطّين والنطفة والمضغة والعلقة، فهو في هذه الحال ميّت، فهذه موتة، والموتة الثانية المشهورة بين الدنيا والآخرة. وأما قول أمير المؤمنين عليه السَّلام: (وأُقعد في قبره) فالمراد به عند بعثه ونشره [والخلاف في إحيائه في القبر وإماتته ميتةً ثانيةً. فأما عذاب القبر للعاصين فنقول به ونُصدّق به، وقد ورد في ذلك أخبارٌ عن النبيء صلى الله عليه وآله وسلم، ولم يُؤثر في وقته أثرٌ، والله أعلم. ونحسب أنه عند بعثه والله أعلم، والقول عليه عندنا: أنه يُعذّب عند (1/370)
بعثه ونشره] ويُؤيد ما قلنا قول زيد بن علي": (أيها الناس إن الله خلقكم ليبلوكم أيكم أحسن عملاً، جعل موتاً بين حياتين: موتاً بعد حياةٍ، وحياة ليس بعدها موت). وهذا نص فيما ذهبنا إليه، وذلك أن مُقامَ الإنسان في القبر قليلٌ، ولذلك سماه الله زيارةً للقبر فقال تعالى: {أَلْهَاكُمُ التَّكَاثُرُ ، حَتَّى زُرْتُمُ الْمَقَابِرَ}[التكاثر:1،2]،ومن فنّ الزائر أنه لا يلبث إلا قليلاً، وليس هو كالحالِّ. وقد حكى الله قول أهل النار: {يَوْمَ يُنْفَخُ فِي الصُّورِ وَنَحْشُرُ الْمُجْرِمِينَ يَوْمَئِذٍ زُرْقًا ، يَتَخَافَتُونَ بَيْنَهُمْ إِنْ لَبِثْتُمْ إِلاَّ عَشْرًا ، نَحْنُ أَعْلَمُ بِمَا يَقُولُونَ إِذْ يَقُولُ أَمْثَلُهُمْ طَرِيقَةً إِنْ لَبِثْتُمْ إِلاَّ يَوْمًا}[طه:102-104]. (1/371)
ومعنى قوله تعالى: {وَنَحْشُرُ الْمُجْرِمِينَ يَوْمَئِذٍ زُرْقًا} أي يدخل سواد عيونهم في بياضها.
وقال تعالى: {وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ يُقْسِمُ الْمُجْرِمُونَ مَا لَبِثُوا غَيْرَ سَاعَةٍ كَذَلِكَ كَانُوا يُؤْفَكُونَ ، وَقَالَ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ وَالإِيمَانَ لَقَدْ لَبِثْتُمْ فِي كِتَابِ اللَّهِ إِلَى يَوْمِ الْبَعْثِ فَهَذَا يَوْمُ الْبَعْثِ وَلَكِنَّكُمْ كُنتُمْ لاَ تَعْلَمُونَ}[الروم:55،56].
فصل في الكلام في الصُّوْر (1/372)
وقد اختُلف في قول الله تعالى: {وَنُفِخَ فِي الصُّورِ }[يس:51]. فقيل: معناه: ونفخ في الصُّوَر. وروي عن ابن عباس أنه قال: الصُّور: قرنٌ ينفخ فيه إسرافيل.
وعندنا أنه صوتٌ يُحدثه الله تعالى يفزع منه من في السماوات والأرض، وقد قال الله تعالى: {وَنُفِخَ فِي الصُّورِ فَصَعِقَ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَمَنْ فِي الأَرْضِ إِلاَّ مَنْ شَاءَ اللَّهُ ثُمَّ نُفِخَ فِيهِ أُخْرَى فَإِذَا هُمْ قِيَامٌ يَنْظُرُونَ}[الزمر:68]، وقال تعالى: {يَوْمَئِذٍ يَتَّبِعُونَ الدَّاعِي لاَ عِوَجَ لَهُ وَخَشَعَتِ الأَصْوَاتُ لِلرَّحْمَنِ فَلاَ تَسْمَعُ إِلاَّ هَمْسًا}[طه:108]، وقال تعالى: {يَوْمَ يَدْعُ الدَّاعِ إِلَى شَيْءٍ نُكُرٍ ، خُشَّعًا أَبْصَارُهُمْ يَخْرُجُونَ مِنَ الأَجْدَاثِ كَأَنَّهُمْ جَرَادٌ مُنتَشِرٌ، مُهْطِعِينَ إِلَى الدَّاعِ يَقُولُ الْكَافِرُونَ هَذَا يَوْمٌ عَسِرٌ}[القمر:6-8]، وقال تعالى: {وَاسْتَمِعْ يَوْمَ يُنَادِ الْمُنَادِي مِنْ مَكَانٍ قَرِيبٍ ، يَوْمَ يَسْمَعُونَ الصَّيْحَةَ بِالْحَقِّ ذَلِكَ يَوْمُ الْخُرُوجِ}[ق:41،42]، فصح أنه صوت يسمعه السامعون.
فصل في الكلام في الميزان (1/373)
وقد اختُلف في الميزان فقيل فيه ثلاثة أقوال:
فمن الناس من حمل الآية على ظاهرها؛ أن الأعمال توزن. والآياتُ التي فيها ذكرُ الوزن قول الله تعالى: {وَنَضَعُ الْمَوَازِينَ الْقِسْطَ لِيَوْمِ الْقِيَامَةِ فَلاَ تُظْلَمُ نَفْسٌ شَيْئًا وَإِنْ كَانَ مِثْقَالَ حَبَّةٍ مِنْ خَرْدَلٍ أَتَيْنَا بِهَا وَكَفَى بِنَا حَاسِبِينَ}[الأنبياء:47]، وقوله تعالى: {فَمَنْ ثَقُلَتْ مَوَازِينُهُ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ ، وَمَنْ خَفَّتْ مَوَازِينُهُ فَأُوْلَئِكَ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنفُسَهُمْ فِي جَهَنَّمَ خَالِدُونَ} [المؤمنون:102،103]، وقوله تعالى: {فَأَمَّا مَنْ ثَقُلَتْ مَوَازِينُهُ ، فَهُوَ فِي عِيشَةٍ رَاضِيَةٍ ، وَأَمَّا مَنْ خَفَّتْ مَوَازِينُهُ ، فَأُمُّهُ هَاوِيَةٌ ، وَمَا أَدْرَاكَ مَا هِيَهْ ، نَارٌ حَامِيَةٌ}[القارعة:6ـ11].
وعندنا وعند المعتزلة أن الأعمال لا توزن بالميزان المعقول؛ لأن الأعمال أعراضٌ، والأعراض لا تقوم بأنفسها، ولا يُوزن في الشاهد إلا الأجسام، والميزانُ عندنا هو الحق والقسطُ قال الله تعالى: {وَالْوَزْنُ يَوْمَئِذٍ الْحَقُّ }[الأعراف:8]، وقال تعالى: {اللَّهُ الَّذِي أَنْزَلَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ وَالْمِيزَانَ وَمَا يُدْرِيكَ لَعَلَّ السَّاعَةَ قَرِيبٌ}[الشورى:17]، وقال تعالى: {وَالسَّمَاءَ رَفَعَهَا وَوَضَعَ الْمِيزَانَ ، أَلاَّ تَطْغَوْا فِي الْمِيزَانِ ، وَأَقِيمُوا الْوَزْنَ بِالْقِسْطِ وَلاَ تُخْسِرُوا الْمِيزَانَ}[الرحمن:7-9] فصح أن الميزان هو الحق، والوزنُ هو الحكم بالحقّ، وإنما جعل الله ذكر الميزان مثلاً. فمثّل الحكم بالحق كوزن الأجسام بالميزان المعروف. (1/374)
واعلم أن معنى هذا المثل: أن من كانت له حسنةٌ وسيئةٌ أن الحسنة في المثل بعشر وزناتٍ بالميزان، والسّيئة بوزنةٍ واحدةٍ؛ فعلى هذا يكون الرُّجحان للعشر، وهذا إذا كان الخاتمة من الأعمال صالحةً.
ويدل على صحة ما ذكرنا قول الله تعالى: {إِنَّ الْحَسَنَاتِ يُذْهِبْنَ السَّيِّئَاتِ }[هود:114] وهذا هو المراد بقوله تعالى: {مَنْ جَاءَ بِالْحَسَنَةِ فَلَهُ عَشْرُ أَمْثَالِهَا وَمَنْ جَاءَ بِالسَّيِّئَةِ فَلاَ يُجْزَى إِلاَّ مِثْلَهَا}[الأنعام:160] وليس المراد به أنه إذا أطعم مسكيناً خبزةً أنه يطعم عشر خباز، ولا إذا كسى عارياً مستحقاً ثوباً أنه كسى عشرة ثيابٍ، ولو كان ذلك كذلك لأدّى [ذلك] إلى الإنقطاع والفناء.
واعلم أن هذا المثل بالوزن، والميزان يدل على أنه لا يكاد يوجد من الناس من تكون أعماله حسنات كلها ولا سيئة له؛ لأن في الشاهد أنه لا يُجعل في أحد كفتي الميزان شيءٌ والأخرى معطلة لا شيء فيها، ولا يصح الوزن إلا أن يكون في كل واحدةٍ من كفتي الميزان شيءٌ، قليلاً كان أو كثيراً، ولا يعقل وزن شيءٍ إلا بشيءٍ، فثبت أن الإنسان المكلّف لا يخلو من سيئةٍ. (1/375)
واعلم أن كل عاملٍ مسؤولٌ عن عمله -المطيع والعاصي- ومحاسبٌ على فعله، قال الله تعالى: {فَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتَابَهُ بِيَمِينِهِ ، فَسَوْفَ يُحَاسَبُ حِسَابًا يَسِيرًا}[الإنشقاق:7،8] فدلّ على أنه لا بدّ من الحساب والمسألة، قال الله تعالى: {ثُمَّ لَتُسْأَلُنَّ يَوْمَئِذٍ عَنِ النَّعِيمِ }[التكاثر:8]، وقال تعالى: {وَقِفُوهُمْ إِنَّهُمْ مَسْئُولُونَ }[الصافات:24]، وهذا السؤال، سؤال تقريرٍ وتوبيخٍ، وقول الله تعالى: {فَيَوْمَئِذٍ لاَ يُسْأَلُ عَنْ ذَنْبِهِ إِنسٌ وَلاَ جَانٌّ }[الرحمن:39] يريد: أنه لا يُسأل سؤال جهلٍ واستفهامٍ، بل سؤال تقرير وتوبيخ، ويُؤيد ذلك قول الله: {يَوْمَ تَأْتِي كُلُّ نَفْسٍ تُجَادِلُ عَنْ نَفْسِهَا }[النحل:111]، وقوله تعالى: {كُلُّ نَفْسٍ بِمَا كَسَبَتْ رَهِينَةٌ ، إِلاَّ أَصْحَابَ الْيَمِينِ ، فِي جَنَّاتٍ يَتَسَاءَلُونَ ، عَنِ الْمُجْرِمِينَ ، مَا سَلَكَكُمْ فِي سَقَرَ ، قَالُوا لَمْ نَكُ مِنَ الْمُصَلّينَ...}الآيات[المدثر:38-43]، وأصحاب اليمين الذين استثناهم الله الأطفال؛ ويدل على ذلك سُؤالهم للمجرمين عمّا أدخلهم النار؛ لأنهم لم يكن معهم
خبر عمّا أدخلهم النار، وقد قال الله تعالى: {وَكُنتُمْ أَزْوَاجًا ثَلاَثَةً ، فَأَصْحَابُ الْمَيْمَنَةِ مَا أَصْحَابُ الْمَيْمَنَةِ ، وَأَصْحَابُ الْمَشْأَمَةِ مَا أَصْحَابُ الْمَشْأَمَةِ ، وَالسَّابِقُونَ السَّابِقُونَ ، أُوْلَئِكَ الْمُقَرَّبُونَ} [الواقعة:7ـ11]، فكانت الناس على ثلاثة أفنان: فسابقٌ وهو الذي يدخل الجنة بعمله، قال الله تعالى في آخر الآية: {جَزَاءً بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ }[الواقعة:24]، وفنٍّ وهم أهل النار، وفنٍّ وهم الأطفال؛ وهم يدخلون الجنة بغير عملٍ منهم بل تفضُّلاً من الله، تفضّل عليهم بالجنة، وعوضاً منه على ما أصابهم من الضّرِّ والأمراض والموت. (1/376)
وكذلك البهائم فإن الله يُثيبها ويعوضها بتمليكه الناس إياها وتسخيرها لهم، فيعوضها في الجنة؛ وكذلك الوحوش، وجميع ما خلق الله من الحيوان، فإنه قد نالها الضّر في هذه الدنيا من الجوع والعطش، والخوف والموت، وغير ذلك.
والدليل على ما قلنا من طريق العقل: أنه قد ثبت أن الله تعالى عدلٌ [حكيم]، وأنه رحيم رؤوف كريم، وأن عفوه يُرجى عمّن أذنب، فكيف من لم يُذنب؟ وهي تأْلم، وتجوع، وتضمأ، وتهزل، وقد رأينا الناس يكدُّون البهائم كدًّا عنيفاً، ويستخدمونها حتى تبلغ الغاية من الهزال والموت. ومنها ما يذبحه الناس ويطبخونه بالنار ويأكلونه، وقد روي عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أنه قال: ((في كل كبدٍ حَرّى أجرٌ )).
ورُوي أيضاً الخبر المشهور: ((تقربوا إلى الله بإكرام البهائم )). وروي النهي عن الإغراء بين البهائم. وروي أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم رأى حماراً موسوماً في وجهه فلعن من وسمه. فدل ذلك على أنها تأْلم، وذلك بيِّنٌ مشاهدٌ، فصح أن الله تعالى يعيضها بما سخّرها للناس وذللها لهم وملّكهم إياها، ولو لم يعضها بذلك لكان ذلك ظلماً لها -تعالى الله عن ذلك علوا كبيراً. (1/377)
وقد صح بنص القرآن وبالإجماع أن جميع الحيوان يحيا يوم القيامة ويُحشر، قال الله تعالى: {وَمَا مِنْ دَابَّةٍ فِي الأَرْضِ وَلاَ طَائِرٍ يَطِيرُ بِجَنَاحَيْهِ إِلاَّ أُمَمٌ أَمْثَالُكُمْ مَا فَرَّطْنَا فِي الْكِتَابِ مِنْ شَيْءٍ ثُمَّ إِلَى رَبِّهِمْ يُحْشَرُونَ}[الأنعام:38].
فإذا كانت تُحشر بلا شك فلا بد لها بعد حشرها من أحد ثلاثة وجوه: إما أن تدخل النار. أو الجنة، أو تُمات وتَفنَى.
فإن قيل: إنها تُماتُ. فلأيّ شيءٍ حُشرت ثم أُميتت وأُفنيت؟ فلو كان ذلك كذلك لكان عبثاً إحياؤُها يوم القيامة وإماتتها. فصحّ أن الآخرة هي دار الحيوان، وأنه لا يذوق أحدٌ موتاً بعد الحشر والنشور.
وإن قيل: تدخل النار. فما ذنبها الذي تدخل به النار؟ وهذا ما لا يُعقل ولا يقول به أحدٌ، ولم يبق إلا إدخال الله لها الجنة، وفي رحمة الله ما يسعها -الذي وسعت رحمته كل شيءٍ- وقد قال تعالى: {يَوْمَ تَأْتِي كُلُّ نَفْسٍ تُجَادِلُ عَنْ نَفْسِهَا }[النحل:111] والبهائم من ذوات النفوس، وقد روي عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أنه قال: ((أفضل الجهاد أن تُقتل وتُعقر فرسُكَ في سبيل الله )) فإذا كان الرجل يأتي يوم القيامة يجادل عن نفسه فكذلك الفرس الذي يُعقر تحته تأتي يوم القيامة تُجادل عن نفسها. وقد روي عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أنه قال: ((من قتل عصفوراً عبثاً أُوقِفَ به يوم القيامة فيقول: يا رب إن هذا قتلني عبثاً)) -أو قريباً من هذا- فإني حفظت المعنى ونسيت اللفظ. (1/378)
فأما السباع والحيّات والعقارب وما يُؤذي الإنسان من الحيوان، فيجوز أن يجعلها الله من عذاب النار ولا تكون النار تُؤذيها -كخزنة النار- ورُوي في التفسير مثل هذا عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم.
ومن مشايخ المعتزلة من قال: الميزانُ هو الميزانُ المعقول بين الناس، وأنّه يجعل مكان الحسنة في الميزان نوراً، ومكان السيئة ظلمةً، وتُوزن فيكون الحكم للراجح. ومنهم من قال: لكل واحدٍ ميزانٌ. ومنهم من قال: هو ميزانٌ واحدٌ. وقد ذكرنا ما يدل على فساد هذا القول من أن الأعراض لا يصح وزنُها، ولا توزن إلا الأجسام.
فصل في الكلام في الكتاب (1/379)
واختُلف في الكتاب الذي يُوتَى الإنسان يوم القيامة:
فقال قوم من المعتزلة: هو العلم.
وعندنا وعند بعض المعتزلة وسائر الأمّة أنه الكتاب المعقول، وأن الله تعالى وكّل الملائكة -صلى الله عليهم- على جميع المكلفين من الآدميين يكتبون ما يفعلون، وقد ورد بذلك القرآن، قال الله تعالى: {وَإِنَّ عَلَيْكُمْ لَحَافِظِينَ ، كِرَامًا كَاتِبِينَ ، يَعْلَمُونَ مَا تَفْعَلُونَ}[الإنفطار:10-12]، وقال تعالى: {إِذْ يَتَلَقَّى الْمُتَلَقّيَانِ عَنِ الْيَمِينِ وَعَنِ الشِّمَالِ قَعِيدٌ ، مَا يَلْفِظُ مِنْ قَوْلٍ إِلاَّ لَدَيْهِ رَقِيبٌ عَتِيدٌ}[ق:17،18]، وقال تعالى: {إِنَّا نَحْنُ نُحْيِي الْمَوْتَى وَنَكْتُبُ مَا قَدَّمُوا وَآثَارَهُمْ وَكُلَّ شَيْءٍ أحْصَيْنَاهُ فِي إِمَامٍ مُبِينٍ}[يس:12]، وقال تعالى حاكياً قول النادمين يوم القيامة: {يَاوَيْلَتَنَا مَا لِهَذَا الْكِتَابِ لاَ يُغَادِرُ صَغِيرَةً وَلاَ كَبِيرَةً إِلاَّ أَحْصَاهَا وَوَجَدُوا مَا عَمِلُوا حَاضِرًا وَلاَ يَظْلِمُ رَبُّكَ أَحَدًا}[الكهف:49]، وقال تعالى: {يَوْمَئِذٍ تُعْرَضُونَ لاَ تَخْفَى مِنْكُمْ خَافِيَةٌ ، فَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتَابَهُ بِيَمِينِهِ فَيَقُولُ هَاؤُمُ اقْرَءُوا كِتَابِيه ، إِنّي ظَنَنتُ أَنّي مُلاَقٍ حِسَابِيه ، فَهُوَ فِي عِيشَةٍ رَاضِيَةٍ ، فِي جَنَّةٍ عَالِيَةٍ ، قُطُوفُهَا دَانِيَةٌ ، كُلُوا وَاشْرَبُوا هَنِيئًا بِمَا أَسْلَفْتُمْ فِي الأَيَّامِ الْخَالِيَةِ ، وَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتَابَهُ بِشِمَالِهِ
فَيَقُولُ يَالَيْتَنِي لَمْ أُوتَ كِتَابِيه ، وَلَمْ أَدْرِ مَا حِسَابِيه ، يَالَيْتَهَا كَانَتِ الْقَاضِيَةَ ، مَا أَغْنَى عَنّي مَالِيه ، هَلَكَ عَنّي سُلْطَانِيه}[الحاقة:18-29]، وقال تعالى: {وَكُلَّ إِنسَانٍ أَلْزَمْنَاهُ طَائِرَهُ فِي عُنُقِهِ وَنُخْرِجُ لَهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ كِتَابًا يَلْقَاهُ مَنشُورًا ، اقْرَأْ كِتَابَكَ كَفَى بِنَفْسِكَ الْيَوْمَ عَلَيْكَ حَسِيبًا}[الإسراء:13،14]، وقال تعالى: {وَكُلُّ شَيْءٍ فَعَلُوهُ فِي الزُّبُرِ ، وَكُلُّ صَغِيرٍ وَكَبِيرٍ مُسْتَطَرٌ}[القمر:52،53]. فصحّ أن الكتاب هو الكتاب المعقول. (1/380)
ومعنى قول الله تعالى: {أَلْزَمْنَاهُ طَائِرَهُ فِي عُنُقِهِ} يريد: فِعْلَه، خيره وشرّه، وسعادته وشقاوته، قال الله تعالى: {قَالُوا إِنَّا تَطَيَّرْنَا بِكُمْ لَئِنْ لَمْ تَنتَهُوا لَنَرْجُمَنَّكُمْ وَلَيَمَسَّنَّكُمْ مِنَّا عَذَابٌ أَلِيمٌ ، قَالُوا طَائِرُكُمْ مَعَكُمْ أَئِنْ ذُكّرْتُمْ بَلْ أَنْتُمْ قَوْمٌ مُسْرِفُونَ}[يس:18،19]. وحجّة من قال: (الكتاب هو العلم) قول الله تعالى: {وَقَالَ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ وَالإِيمَانَ لَقَدْ لَبِثْتُمْ فِي كِتَابِ اللَّهِ إِلَى يَوْمِ الْبَعْثِ فَهَذَا يَوْمُ الْبَعْثِ وَلَكِنَّكُمْ كُنتُمْ لاَ تَعْلَمُونَ}[الروم:56]. قالوا: المراد به: لقد لبثتم في علم الله. وقد يمكن أن يُحمل معنى الآية على هذا، ويمكن أن يكون المراد به: لقد لبثتم فيما وجدنا في كتاب الله الذي هو القرآن أنّكم لبثتم إلى يوم البعث.
واعلم أن للكتاب في كتاب الله أربعة معانٍ: فكتابٌ وهو العلم، وكتابٌ وهو الكتاب المكتوب بالقلم -وقد ذكرنا ذلك- وكتابٌ وهو الفرض؛ قال الله تعالى: {كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ}[البقرة:183]، وقال تعالى: {كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِتَالُ وَهُوَ كُرْهٌ لَكُمْ}[البقرة:216] يريد: فرض عليكم. وكتابٌ هو الحكم؛ قال الله تعالى: {كَتَبَ اللَّهُ لاََغْلِبَنَّ أَنَا وَرُسُلِي إِنَّ اللَّهَ قَوِيٌّ عَزِيزٌ}[المجادلة:21] يريد: حكم الله. وقد يمكن أن يُحمل الكتاب على معنى خامس وهو أن يمكن أن يكون كتب الله بمعنى: جعل الله، وذلك قول الله تعالى: {أُوْلَئِكَ كَتَبَ فِي قُلُوبِهِمُ الإِيمَانَ وَأَيَّدَهُمْ بِرُوحٍ مِنْهُ}[المجادلة:22]، يقول: إنه قد أرسخ في قلوبهم الإيمان حتى صار مثل الخلق، كما قال تعالى: {وَلَكِنَّ اللَّهَ حَبَّبَ إِلَيْكُمُ الإِيمَانَ وَزَيَّنَهُ فِي قُلُوبِكُمْ }[الحجرات:7]. (1/381)
فصل في الكلام في الصِّراط (1/382)
واختلفوا في الصّراط؛ فعندنا وعند المعتزلة أن الصراطَ هو الطريقُ. والطريقُ طريقان: طريق الحقّ، وطريق الباطل. والصراط المستقيم هو طريق الحق.
وقالت الحشوية: هو أحدُّ من السيف، وأدقُّ من الشَّعرة، ولو كان كما قالوا لكان ذلك تكليف ما لا يُطاق. وأيضاً فإن التكليف قد سقط في الآخرة لقول رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: ((الدنيا دار عملٍ ولا حسابٍ ، والآخرة دار حسابٍ ولا عملٍ)).
والذي يدل على صحة ما قلنا قول الله تعالى: {اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ ، صِرَاطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ وَلاَ الضَّالّينَ}[الفاتحة:6،7]، فلو كان صراطاً واحداً للمطيع والعاصي لما أبْدل وبيّن، ولقال: اهدنا الصراط، ولم يقل: المستقيم، ولا قال: {صِرَاطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ}، فلما قال: {اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ} علم السامع أن ثمّ صراطاً غير مستقيمٍ، ثم زاد بياناً، فقال: {صِرَاطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ} وهذا يُسمّى بدل البيان، فبيّن بياناً ثانياً أن [ثم] لغير هؤلاء صراطاً.
ومما يُوضح ما ذكرنا في البدل أنّك إذا قلتَ لرجلٍ: (أُدع الرجل زيد بن عمروٍ) أن هذا البدل يكون بياناً؛ لأنك لو قلت: (أُدع الرجل)، لأشكل على المأمور مَنِ الرجل؟ لأن الرجال كثير، فلمّا قلت (زيد بن عمروٍ) بيّنت له ففهم قولك فصحّ ما قلنا.
وقول الله تعالى: {غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ وَلاَ الضَّالّينَ} دليل على أن الله قد أنعم عليهم فاستثناهم من الذين هداهم الصراط المستقيم؛ ولأنه من شرط الاستثناء أنه لولا هو لدخل المستثنى في جملة من اسْتُثْنِيَ منه، فلو لم يُنعم على المغضوب عليهم والضالين لَمَا استثناهم ولأجزأ قوله: {صِرَاطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ} ولم يقل: {غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ وَلاَ الضَّالّينَ} فصح ما قلنا. (1/383)
وقال تعالى: {وَإِنَّكَ لَتَهْدِي إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ ، صِرَاطِ اللَّهِ الَّذِي لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ}[الشورى:52،53]، وقال تعالى: {وَسِيقَ الَّذِينَ كَفَرُوا إِلَى جَهَنَّمَ زُمَرًا حَتَّى إِذَا جَاءُوهَا فُتِحَتْ أَبْوَابُهَا وَقَالَ لَهُمْ خَزَنَتُهَا أَلَمْ يَأْتِكُمْ رُسُلٌ مِنْكُمْ يَتْلُونَ عَلَيْكُمْ آيَاتِ رَبِّكُمْ وَيُنْذِرُونَكُمْ لِقَاءَ يَوْمِكُمْ هَذَا قَالُوا بَلَى وَلَكِنْ حَقَّتْ كَلِمَةُ الْعَذَابِ عَلَى الْكَافِرِينَ ، قِيلَ ادْخُلُوا أَبْوَابَ جَهَنَّمَ خَالِدِينَ فِيهَا فَبِئْسَ مَثْوَى الْمُتَكَبِّرِينَ ، وَسِيقَ الَّذِينَ اتَّقَوْا رَبَّهُمْ إِلَى الْجَنَّةِ زُمَرًا حَتَّى إِذَا جَاءُوهَا وَفُتِحَتْ أَبْوَابُهَا وَقَالَ لَهُمْ خَزَنَتُهَا سَلاَمٌ عَلَيْكُمْ طِبْتُمْ فَادْخُلُوهَا خَالِدِينَ ، وَقَالُوا الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي صَدَقَنَا وَعْدَهُ وَأَوْرَثَنَا الأَرْضَ نَتَبَوَّأُ مِنَ الْجَنَّةِ حَيْثُ نَشَاءُ فَنِعْمَ أَجْرُ الْعَامِلِينَ ، وَتَرَى الْمَلاَئِكَةَ حَافّينَ مِنْ حَوْلِ الْعَرْشِ يُسَبِّحُونَ بِحَمْدِ رَبِّهِمْ وَقُضِيَ بَيْنَهُمْ بِالْحَقِّ وَقِيلَ الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ}[الزمر:71-75] فبيّن أنهم يُساقون زُمَراً، و[بَيَّن] أن للنار أبواباً، وللجنّة أبواباً. وقال الله تعالى في النار: {لَهَا سَبْعَةُ أَبْوَابٍ لِكُلِّ بَابٍ مِنْهُمْ جُزْءٌ مَقْسُومٌ}[الحجر:44]، فلو كان الصراط كما قالت الحشوية، لَمَا كانوا يُساقون زمراً، (1/384)
ولما كان للجنة أبوب وللنار أبواب، فصح أن الصراط هو الطريق. (1/385)
قال الشاعر:
دعسنا أرضهم بالخيل حتى
تركناهم أذلَّ من الصِّراطِ
وأن للجنّة طريقاً، وللنار طريقاً.
وقد اختُلف في عدد أبواب الجنة، وقد روي عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: أنها ثمانية أبوابٍ، وروي عنه ما يدل (على) أنها أكثر من ذلك. وروي عن أنس بن مالك قال: قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: ((من اجتنب من الرّجال أربعاً ، وعمل من النساء أربعاً، فتحت له أبواب الجنة الثمانية يدخل من أيها شاء، من اجتنب من الرجال: الدّماء، والأموال، والفروج، والأشربة. والمرأةُ: إذا حصّنت فرجها، وصلّت خمسها، وصامت شهرها، وأطاعت زوجها)). وروي عن سلمان [رضي الله عنه] قال: قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: ((من صلى ثماني ركعات من الليل ، والوتر، يُداوم عليهن حتى يلقى الله بهن فتح الله له اثني عشر باباً من الجنة يدخل من أي بابٍ شاء)). فدلّ على أن أبواب الجنة أكثر من ثمانية. ويُحمل الخبر الأول في الثمانية الأبواب أنها لجنسٍ من الناس، والله أعلم.
فصل في الكلام في الشفاعة (1/386)
اختلفت الأمة في الشّفاعة.
فعندنا وعند المعتزلة أن الشفاعة للتائبين، وقد تكون أيضاً في الدّرجات، والزّيادات.
وذهبت المجبرة إلى أن الشفاعة لأهل الكبائر، واستدلّوا بما روي عن النبيء صلى الله عليه وآله وسلم أنه قال: ((شفاعتي لأهل الكبائر من أمتي )). ونحن نعارض قولهم بكتاب الله، وبقول رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم. قال الله تعالى في الملائكة صلوات الله عليهم: {وَلاَ يَشْفَعُونَ إِلاَّ لِمَنِ ارْتَضَى }[الأنبياء:28]، وقال تعالى: {مَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ حَمِيمٍ وَلاَ شَفِيعٍ يُطَاعُ}[غافر:18]، وقال تعالى: {فَمَا تَنْفَعُهُمْ شَفَاعَةُ الشَّافِعِينَ }[المدثر:48]، وقال تعالى: {وَاتَّقُوا يَوْمًا لاَ تَجْزِي نَفْسٌ عَنْ نَفْسٍ شَيْئًا وَلاَ يُقْبَلُ مِنْهَا شَفَاعَةٌ وَلاَ يُؤْخَذُ مِنْهَا عَدْلٌ}[البقرة:48]، وقال تعالى: {وَمَا أَدْرَاكَ مَا يَوْمُ الدِّينِ ، ثُمَّ مَا أَدْرَاكَ مَا يَوْمُ الدِّينِ ، يَوْمَ لاَ تَمْلِكُ نَفْسٌ لِنَفْسٍ شَيْئًا وَالأَمْرُ يَوْمَئِذٍ لِلَّهِ}[الإنفطار:17-19] فصحّ أن الشفاعة لا تكون لأهل الكبائر.
وقد ورد في الأخبار عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، أن الشفاعة للتائبين دون العاصين؛ من ذلك ما روي عنه صلى الله عليه وآله وسلم، رُوي عن محمد بن الحسين بن علي بن الحسين عن أبيه عن علي " قال: (زارنا رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ففعلنا له خزيرةً، وأهدت لنا أمُّ أيمن قعباً من لبنٍ، وزُبداً، وصحفةً من تمرٍ فأكل رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وأكلنا معه، ثم توضأ رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فمسح وجهه ولحيته بيده، ثم استقبل القبلة فدعا الله جلّ ذكره بما شاء، ثم أكبّ إلى الأرض بدموعٍ غزيرةٍ مثل المطر، ثم أكبّ إلى الأرض ففعل ذلك ثلاث مرات، فَهبنا أن نسأله صلى الله عليه وآله وسلم، فوثب الحسين عليه السَّلام على رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فبكى وضمّه إليه وقال: ((بأبي [أنت] وأمي ما يبكيك ؟ فقال: يا أبتِ إنّي رأيتك تصنع ما لم تكن تصنع مثله، قال: يا بني، إني سُررتُ بكم سُروراً عظيماً لم استر بكم قبله، وإن حبيبي جبريل -صلى الله عليه وسلم- أتاني فأخبرني بأنكم قتلى، وأن مصارعكم شتّى، فأحزنني ذلك، فدعوتُ الله لكم. فقال الحسين عليه السَّلام: يا رسول الله صلى الله عليك من يزورنا على تَشَتُّتِنَا وتباعد قبورنا؟ فقال صلى الله عليه وآله وسلم: طائفة من أمتي يريدون بذلك بِرّي وصِلَتِي، إذا كان يوم القيامة زرتهم الموقف فأخذت بأعضادهم فأنجيتهم من أهوالها وشدائدها)). (1/387)
وعن ابن عباس قال: قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: ((من حفظ على أمتي أربعين حديثاً في السّنة كنت له شفيعاً يوم القيامة)).
وعن علي بن موسى الرضا عن آبائه عن علي" قال: قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: ((ثلاثة أنا شفيعٌ لهم يوم القيامة : الضارب بسيفه أمَامَ ذرّيتي، والقاضي لهم حوائجهم عند اضطرارهم إليه، والمُحبّ لهم بقلبه ولسانه)). فصح أنه صلى الله عليه وآله وسلم لا يشفع إلا للمحسنين. (1/388)
ومما يؤيد ذلك ما روي عن عبد الله بن أبي قتادة عن أبيه قال: كان رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم إذا دُعي إلى جنازةٍ سأل عنها فإن أُثْنِيَ عليها بخيرٍ صلّى عليها، وإن أُثْنِيَ عليها بغير ذلك قال: ((شأنكم بها ))، ولم يُصلِّ عليها. فلو كان يشفع في الآخرة لأهل الكبائر لجاز له أن يصليَ عليهم، ويَدعُوَ لهم في الدنيا.
فصل في الكلام في أطفال المشركين (1/389)
اختلفت الأمة في أطفال المشركين، فعندنا وعند المعتزلة أنهم في الجنّة، وأنهم كأطفال المسلمين إلا في الميراث والقبر، فإن آباءهم يرثونهم ويقبرونهم في مقابرهم.
وذهبت المجبرةُ إلى أنهم مُعذَّبونَ مع آبائهم في النار، واستدلوا بما رووا عن خديجة + أنها سألت النبيء صلى الله عليه وآله وسلم فقالت: أين أطفالي منك؟ قال: ((في الجنّة . فقالت: فأين أطفالي من غيرك؟ قال: في النار وإن شِئتِ أسمعتُك ضُغَاءهُم)). وبما رووا عنه صلى الله عليه وآله وسلم أنه قال: ((الوائدةُ والموءودةُ في النار )) ولم يصح الخبر عندنا. فإن صحّ -أي خبر خديجة- فالمراد بذكره الكبار، وقد تُسمِّي العربُ الغلام الشاب البالغَ طفلاً. قال الشاعر:
عَرَضْتُ لِعَامر والخيلُ تُرْدِي .... بأطفالِ الحروبِ مُشمِّراتِ
وأما الموءودة فإن صح الخبر فالمراد (به) الكبيرة؛ ومما يُؤيد ذلك قول الله تعالى: {وَإِذَا الْمَوْءُودَةُ سُئِلَتْ ، بِأَيِّ ذَنْبٍ قُتِلَتْ}[التكوير:8،9] فدلّ على أنها كبيرةٌ؛ لأن الصغيرة لا تُسألُ، ولا ذنبَ لها، ولا حساب عليها. والموءودة: هي التي تُدفن في القبر حيّة، وكانت الكفار تفعل ذلك، والموئد هو المُثْقِلُ قال الله تعالى: {وَلاَ يَئُودُهُ حِفْظُهُمَا وَهُوَ الْعَلِيُّ الْعَظِيمُ}[البقرة:255] المراد به ولا يُثقِلُهُ.
وأما قول الله تعالى -حاكياً عن نوحٍ عليه السَّلام: {وَلاَ يَلِدُوا إِلاَّ فَاجِرًا كَفَّارًا }[نوح:27]، فالمراد به أن عاقبتهم إذا سَلِمُوا أن يكونوا مثل آبائهم فُجّاراً كُفاراً. قال الله تعالى: {وَلَقَدْ ذَرَأْنَا لِجَهَنَّمَ كَثِيرًا مِنَ الْجِنِّ وَالإِنسِ }[الأعراف:179] يريد: أن عاقبتهم إلى جهنم. وقال تعالى في موسى عليه السَّلام: {فَالْتَقَطَهُ آلُ فِرْعَوْنَ لِيَكُونَ لَهُمْ عَدُوًّا وَحَزَنًا}[القصص:8] المراد به: أن عاقبته أن يكون لهم عدواً وحزناً، ومثل ذلك موجود في لغة العرب، قال بعض الحكماء: (1/390)
لِدوا للموتِ وابنُوا للخرابِ .... فكلكُم يصيرُ إلى ذهابِ
فصل في الكلام في أزواج أهل الجنة (1/391)
اعلم أن الله تعالى يزوِّج عبيده من إمائه يوم القيامة بمن يشاء وكيف يشاء. فأما من مات مؤمناً وله زوجةٌ مؤمنةٌ فلم تخلف بعده زوجاً فأحسبُ -والله أعلم- أنها زوجته يوم القيامة، وكذلك لو ماتت ولم يتزوّج أختها، ولا من يحرُم عليه الجمع بينهما، فإن تزوج أُختها -بعدها- أو عمتها أو خالتها فزوجته في الجنة الأخرى دون الأولى. وإن مات وتزوّجت بعده فهي للزوج الآخر في الجنّة؛ والدليل على ما قلنا ما روي عن الهادي إلى الحق عليه السَّلام في جوابه للرازي يرفعه إلى النبيء صلى الله عليه وآله وسلم أنه سُئل عن زوجة المؤمن هل تكون له زوجة في الجنة إذا كانت مؤمنةً؟ فقال صلى الله عليه وآله وسلم: ((نعم يجمع الله بين أهل البيت إذا كانوا مُؤمنين في دار ثواب المتقين)).
وذهب أبو حنيفة وأصحابه إلى أن الزوجيّة تنقطع بينهما، واستدلوا بما روي عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أنه قال: ((كُلُّ سَببٍ ونسبٍ مُنقطعٌ يوم القيامةِ إلا سببي ونسبي)) فهذا الخبر محمول (عندنا) على الشفاعة دون الزوجية. وقول الله تعالى: {فَإِذَا نُفِخَ فِي الصُّورِ فَلاَ أَنسَابَ بَيْنَهُمْ يَوْمَئِذٍ وَلاَ يَتَسَاءَلُونَ }[المؤمنون:101] المراد به أنه لا ينفع النسبُ يوم القيامة، وقوله: {وَلاَ يَتَسَاءَلُونَ} المراد به أن كل إنسانٍ مشغولٌ بنفسه في الموقف ويوم الحساب، قال الله تعالى: {يَوْمَ يَفِرُّ الْمَرْءُ مِنْ أَخِيهِ ، وَأُمِّهِ وَأَبِيهِ ، وَصَاحِبَتِهِ وَبَنِيهِ ، لِكُلِّ امْرِئٍ مِنْهُمْ يَوْمَئِذٍ شَأْنٌ يُغْنِيهِ}[عبس:34-37]، فأما في الجنّة فإنهم يتساءلون، قال الله تعالى: {وَأَقْبَلَ بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ يَتَسَاءَلُونَ ، قَالُوا إِنَّا كُنَّا قَبْلُ فِي أَهْلِنَا مُشْفِقِينَ ، فَمَنَّ اللَّهُ عَلَيْنَا وَوَقَانَا عَذَابَ السَّمُومِ ، إِنَّا كُنَّا مِنْ قَبْلُ نَدْعُوهُ إِنَّهُ هُوَ الْبَرُّ الرَّحِيمُ}[الطور:25-28]. (1/392)
وكذلك أيضاً أهل النار يتساءلون في النار: {قَالُوا إِنَّكُمْ كُنتُمْ تَأْتُونَنَا عَنِ الْيَمِينِ ، قَالُوا بَلْ لَمْ تَكُونُوا مُؤْمِنِينَ ، وَمَا كَانَ لَنَا عَلَيْكُمْ مِنْ سُلْطَانٍ بَلْ كُنتُمْ قَوْمًا طَاغِينَ}[الصافات:28-30] فصحّ أن المراد به: ولا يتساءلون في الموقف، ولا أنساب بينهم نافعة لهم.
ويدلّ أيضاً على صحة ما قلنا أن الميّت إذا مات فقد خرج من أحكام الدنيا، وصار من أهل الآخرة، وقد جاء [أيضاً] عن الصالحين من الصحابة وغيرهم من المؤمنين أن الرجل يغسل زوجته إذا ماتت إذا أراد ذلك، والمرأة تغسل زوجها؛ وقد روي عن عائشة أنها قالت: لو استقبلتُ من أمري ما استدبرتُ لَمَا غسل رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم غير نسائه، ولم يُنكر ذلك عليها أحدٌ. وروي عن النبيء صلى الله عليه وآله وسلم أنه دخل على عائشة وهي تقول: وَارَأساه، فقال صلى الله عليه وآله وسلم: ((لا عليكِ لو متِّ قبلي لغسّلتُكِ وكفّنتُكِ وحنطتكِ ودفتكِ)). (1/393)
وروي أن أمير المؤمنين عليه السَّلام غسّل فاطمة +.
وروي أن أسماء بنت عُميسٍ غسّلت زوجها أبا بكرٍ ولم يُنكر أحدٌ من الصحابة ذلك. فلو كانت الزوجيّة قد انقطعت بينهما لما جاز لواحدٍ منهما أن يغسل صاحبه.
فإن ماتت المرأةُ وتزوج أختها فقد قدّمنا القول أن الزوجيّة قد انقطعت بينه وبين الميتة، وأنها ليست له بزوجةٍ في الجنة بل زوجته الأخرى. وعلى هذا لو ماتت امرأةُ رجلٍ ثم تزوّج أختها قبل أن تُغسل وتُدفن لم يَجزْ له غسلها هاهنا ولا النظر إلى الميتة. وكذلك لو عقد بامرأةٍ عقدة النكاح ولم يدخل بها ثم ماتت وتزوّج بإبنتها قبل أن تغسل وتدفن لم يجز له أن ينظر إلى عورة الميتة. ويؤيد ذلك ما روي عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أنه قال: ((لا ينظر الله إلى رجلٍ ينظر إلى فرج امرأةٍ وابنتها )) وهذا القول مني اجتهادٌ، وقياسٌ على ما ذكرنا من الأخبار، والله أعلم.
ويمكن أيضاً أن يكون حكم تزويج الآخرة غير تزويج الدنيا؛ لأن أحكام الآخرة غير أحكام الدنيا، إلا في العدل فإن أحكام الله تستوي (في العدل) في الدنيا والآخرة. (1/394)
واعلم أن الله تعالى يُزوج أولياءه في الجنة من حورِ العين؛ وحُورِ العين نساءٌ يخلقهن الله تعالى من الجنة كيف شاء وكما شاء أحسن خَلْقٍ وأجملَ صورةٍ، [كما] قال الله تعالى: {وَحُورٌ عِينٌ ، كَأَمْثَالِ اللُّؤْلُؤِ الْمَكْنُونِ}[الواقعة:22،23]، وقال تعالى: {وَعِنْدَهُمْ قَاصِرَاتُ الطَّرْفِ عِينٌ ، كَأَنَّهُنَّ بَيْضٌ مَكْنُونٌ}[الصافات:48،49]، وقال في تزويجه لأوليائه بهنّ: {كَذَلِكَ وَزَوَّجْنَاهُمْ بِحُورٍ عِينٍ }[الدخان:54].
وقد اختُلف في الجنة هل قد خلقت أم لم تخلق في الدنيا.
فذهب قومٌ إلى أنها قد خلقت، واستدلوا بقول الله تعالى: {وَلَقَدْ رَآهُ نَزْلَةً أُخْرَى ، عِنْدَ سِدْرَةِ الْمُنْتَهَى ، عِنْدَهَا جَنَّةُ الْمَأْوَى}[النجم:13-15].
وعندنا أنها لم تخلق، وأن الله سيُحدثُها يوم القيامة، ويخلقها كيف شاء وحيث شاء.
والدليل على ذلك من طريق العقل: أنه لا يُعِدُّ الشيء ويدّخره إلى وقتٍ طويلٍ إلا من يعجز عن إبداعه وقت الحاجة إليه، والله تعالى لا يعجزه شيءٌ ولا يفوته [شيء]. ومن الكتاب: قول الله تعالى: {كُلُّ مَنْ عَلَيْهَا فَانٍ ، وَيَبْقَى وَجْهُ رَبِّكَ ذُو الْجَلاَلِ وَالإِكْرَامِ}[الرحمن:26،27] فدل على زوال الدنيا، وما عليها. وقال تعالى: {يَوْمَ تُبَدَّلُ الأَرْضُ غَيْرَ الأَرْضِ وَالسَّمَاوَاتُ}[إبراهيم:48]، وقال تعالى: {يَوْمَ نَطْوِي السَّمَاءَ كَطَيِّ السِّجِلِّ لِلْكُتُبِ }[الأنبياء:104]، وقال تعالى: {وَالسَّماوَاتُ مَطْوِيَّاتٌ بِيَمِينِهِ }[الزمر:67]، وقال تعالى: {إِذَا السَّمَاءُ انفَطَرَتْ }[الإنفطار:1]، وقال تعالى: {إِذَا السَّمَاءُ انشَقَّتْ }[الإنشقاق:1]، وقال تعالى: {يَوْمَ تَكُونُ السَّمَاءُ كَالْمُهْلِ ، وَتَكُونُ الْجِبَالُ كَالْعِهْنِ}[المعارج:8،9] فصحّ أن السماوات تُبدّل، وكذلك الأرض. فلو كانت الجنّة قد خُلقت لم تكن إلا في السماء أو في الأرض، وإذا كانت قد خُلقت في السماء كيف تُبدّل السماء وتبقى الجنة التي فيها، وما فيها من الحُور والولدان؟ فصح ما قلنا. (1/395)
فإن قيل: إن مذهبكم أن إرادة الله هي مُراده، فهل قد أراد خلق الجنة أم لم يرده؟
قلنا: إن الخبر غيرُ المُخْبَرِ عنه فقد أراد الله الإخبار بالجنة ولم يرد خلقها، ولو أراد خلقَهَا لكانت قد خُلقت، قال تعالى: {هُوَ الَّذِي يُحْييِ وَيُمِيتُ فَإِذَا قَضَى أَمْرًا فَإِنَّمَا يَقُولُ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ}[غافر:68] وقد قدمنا الكلام في الإرادة في موضعه بما فيه كفاية فلا تعلّق لمخالفنا بهذا. (1/396)
ومعنى قول الله: {وَالسَّماوَاتُ مَطْوِيَّاتٌ بِيَمِينِهِ} يريد بقدرته، ومثل ذلك موجود في لغة العرب، قال الشاعر وهو الشّماخ:
إذا ما رايةٌ رُفعت لمجدٍ
تلقّاها عَرَابَةُ باليمينِ
يريد بالقوة.
فصل في الكلام في جزاء الأعمال وذكر الخواتم (1/397)
اعلم أن جزاء العمل موجب، والزيادة على الجزاء فضلٌ من الله تعالى ورحمةٌ، والزيادة ليس لها حدٌّ لأنها فضلٌ من الله، وفضل الله لا حدَّ له، وقد قدمنا الكلام [فيه] بما فيه كفاية، ويدل على ذلك ما روي عن ابن عمر قال: قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: ((الأعمال عند الله سبعةٌ : عملان موجبان، وعملان بأمثالهما، وعملٌ بعشرة أمثاله، وعمل بسبعمائة، وعملٌ لا يعلم ثوابه إلا الله تعالى. فأما الموجبان: فمن لَقيَ الله عزّ وجلّ يعبده ولا يشرك به شيئاً من خلقه وجبت له الجنة، ومن لَقي الله وقد أشرك به شيئاً وجبت له النار، ومن عمل سيئةً جُزيَ بمثلها، ومن أراد أن يعمل حسنةً ولم يعمل بها جُزي مثلها، ومن عمل حسنةً جُزيَ عشراً، ومن أنفق مالاً في سبيل الله ضُوعفت له نفقتهُ الدِّرهمُ بسبعمائةٍ، والدينار بسبعمائةٍ، والصيام لله لا يعلم ثواب عامله إلا الله تبارك وتعالى)).
واعلم أن الأعمال على خواتمها، فمن وافق موتُهُ عملاً صالحاً فقد فاز وظفر بالخير، ومن وافق موته عملاً سيئاً كان من المُعاقَبين النادمين الخاسرين؛ وعلى هذا لو أن عبداً كان على طريقة النجاة مُطيعاً لربّه ثمّ اعتمد معصية الله ومات عليها أنه قد أبطل عمل نفسه، وأحبط حسناته، وكان كمن لم يُطع الله، وكان من أهل النار، ولو أن عبداً كان عاصياً لربّه مُضيعاً للواجبات فاعلاً للمحرّمات ثم تاب من ظُلمه وأناب ثم مات على ذلك، كان عند الله من التائبين، وكان من الناجين الفائزين.
ووجه العدل في هذا أن الله تعالى قد أمر عبده بطاعته، ونهاه عن معصيته، ووعد من أطاعه ـ ثم استقام على طاعته إلى أن يلقاه ـ الجنّة، وأوعد من عصاه ـ واستقام على ذلك إلى أن يلقاه ـ النار، وضمن الثواب، وأخبر بما يبطل (به) على العبد عمله، فإذا خالف أمر ربه وأبطل عمل نفسه كان هو الظالم لنفسه. ألا ترى أن الطبيب إذا أعطى العليل دواءً نافعاً له، وقال له: تجنّب كذا وكذا فإنه يفسد هذا الدواء، فخالفه ولم يتجنب ما حماه عنه أن العليل هو الذي أفسد الدواء، ولم يكن على الطبيب في ذلك لائمة ولا حجة، وقد روي عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أنه قال: ((إسألوا الله السَّداد ، فإن الرجل قد يعمل الدّهر الطويل على جادّةٍ من جَوَادِّ الجنة فبينما هو كذلك دؤوباً إذ برزت له جادّة من جوادِّ النار فيعمل عليها، ويتوجه إليها، ولا يزال دؤوباً دؤوباً حتى يُختم له بها فيكون من أهلها، وإن الرجل قد يعمل الدهر الطويل على جادَّةٍ من جوادِّ النار فبينما هو كذلك دؤوباً إذ برزت له جادّةٌ من جواد الجنة فيتوجه إليها ويعمل عليها ولا يزال دؤوباً دؤوباً حتى يُختم له بها)). فصح ما قلنا وما إليه ذهبنا. (1/398)
ونحن نسأل الله السداد، وحسن الاستعداد ليوم المعاد، وأن يهدينا أوضح الجوادّ، وأن يختم لنا بصالح أعمالنا، ولا يؤاخذنا بسيء أفعالنا إنه لطيفٌ خبيرٌ.
باب حقيقة معرفة الكتاب (1/399)
اعلم أن الله تعالى جعل كتابه حُجّةً له على العباد، وداعياً إلى الحق والرشاد، وزاجراً عن الغي والفساد، ومرغِّباً في الجنة، ومُخوّفاً من النار، وجعله مُؤكِّداً لحجة العقول، وشاهداً بصدق الرسول، وحاكماً بين الناس، ومُبيّناً للإلتباس، وجعل فيه جميع ما يُحتاج إليه من علم الأصول والفروع، ومعرفة الحلال والحرام، ومعرفة القضاء والأحكام والمواريث وعلم الشّرع وقصص الأولين، وبيان ما يكون في يوم الدين، وجعله نوراً للمؤمنين، وضياءً للمهتدين، وجعله بالغاً موجزاً، وقريب المتناول معجزاً، وقد سماه الله هُدىً، وموعظةً، وذكراً، وعزيزاً، ومُباركاً ونوراً، وغير ذلك من الأسماء الحسنة، قال الله تعالى: {شَهْرُ رَمَضَانَ الَّذِي أُنزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ هُدًى لِلنَّاسِ وَبَيِّنَاتٍ مِنَ الْهُدَى وَالْفُرْقَانِ}[البقرة:185]، وقال تعالى: {وَإِنَّهُ لَكِتَابٌ عَزِيزٌ ، لاَ يَأْتِيهِ الْبَاطِلُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَلاَ مِنْ خَلْفِهِ تَنزِيلٌ مِنْ حَكِيمٍ حَمِيدٍ}[فصلت:41،42]، وقال تعالى: {كِتَابٌ أَنزَلْنَاهُ إِلَيْكَ مُبَارَكٌ لِيَدَّبَّرُوا آيَاتِهِ وَلِيَتَذَكَّرَ أُوْلُوا الأَلْبَابِ} [ص:29]، وقال تعالى: {إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ } [الحجر:9]، وقال: {وَإِنَّهُ لَذِكْرٌ لَكَ وَلِقَوْمِكَ وَسَوْفَ تُسْأَلُونَ}[الزخرف:44]، وقال تعالى: {وَكَذَلِكَ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ رُوحًا مِنْ أَمْرِنَا مَا كُنْتَ تَدْرِي مَا الْكِتَابُ وَلاَ الإِيمَانُ وَلَكِنْ جَعَلْنَاهُ نُورًا
نَهْدِي بِهِ مَنْ نَشَاءُ مِنْ عِبَادِنَا}[الشورى:52]، وقال تعالى: {فَآمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَالنُّورِ الَّذِي أَنزَلْنَا وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ}[التغابن:8]، وقال تعالى: {اللَّهُ نُورُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ مَثَلُ نُورِهِ كَمِشْكَاةٍ فِيهَا مِصْبَاحٌ الْمِصْبَاحُ فِي زُجَاجَةٍ الزُّجَاجَةُ كَأَنَّهَا كَوْكَبٌ دُرِّيٌّ يُوقَدُ مِنْ شَجَرَةٍ مُبَارَكَةٍ زَيْتُونِةٍ لاَ شَرْقِيَّةٍ وَلاَ غَرْبِيَّةٍ يَكَادُ زَيْتُهَا يُضِيءُ وَلَوْ لَمْ تَمْسَسْهُ نَارٌ نُورٌ عَلَى نُورٍ يَهْدِي اللَّهُ لِنُورِهِ مَنْ يَشَاءُ وَيَضْرِبُ اللَّهُ الأَمْثَالَ لِلنَّاسِ وَاللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ}[النور:35]، ونور الله هو القرآن. (1/400)
وقوله تعالى: {نُورٌ عَلَى نُورٍ} معناه: نورٌ مع نورٍ، فالقرآن نورٌ والرسولُ نورٌ فصار القرآنُ نوراً على نورٍ. وقد سمى الله نبيئه سراجاً منيراً فقال: {إِنَّا أَرْسَلْنَاكَ شَاهِدًا وَمُبَشِّرًا وَنَذِيرًا ، وَدَاعِيًا إِلَى اللَّهِ بِإِذْنِهِ وَسِرَاجًا مُنِيرًا}[الأحزاب:45،46].
وقول الله تعالى: {اللَّهُ نُورُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ} المراد به: الله مُنوّرُ السماوات والأرض.
واعلم أن المثل في هذا الموضع أكبر من المُمثّل به، وإنما مثّل الله للناس بما يعرفون، وقد تُمثِّل العربُ الشيء بأصغر منه، قال الشاعر:
كأن ثَبيراً في عَرانينَ وبْلِهِ
كبير أناسٍ في بُجادٍ مُزمَّلِ
فمثّل الجبل بالإنسان القاعد، والجبل أكبر من الإنسان. وقد قيل: المِشكاةُ الكوّةُ، وأحسب أنها المحراب، ومثله قول الشاعر: (1/401)
فرضتُ عليه الخوف حتى كأنما
جعلتُ عليه الأرض مشكاة رُهبانِ
فدلّ على أن المشكاة الصومعة والمحراب ومثله.
فصل في الكلام في فضائل القرآن (1/402)
اعلم أنه لما ثبت أن الله أعظم الأشياء كان كلامُهُ أعظم الكلام، ومعنى قولنا: إن القرآن كلام الله، المراد به أنه وحيُ الله وخلقه وتنزيله، وقد سمّاه الله كلاماً حيث يقول: {وَإِنْ أَحَدٌ مِنَ الْمُشْرِكِينَ اسْتَجَارَكَ فَأَجِرْهُ حَتَّى يَسْمَعَ كَلاَمَ اللَّهِ}[التوبة:6]، وقال: {وَكَلَّمَ اللَّهُ مُوسَى تَكْلِيمًا }[النساء:164]، وليس المراد به انه نطق بالكلام كما ينطق ذو اللسان واللهوات والآلة والأدوات، ولو كان ذلك كذلك لدخل عليه التشبيه -تعالى الله عن ذلك علوًّا كبيراً. وقد قدمنا الاحتجاج على المشبهة (فيما تقدم بما فيه كفاية).
واعلم أن حقيقة كلام الله أنه العلم والنعمة والرحمة، قال عزّ من قائلٍ: {قُلْ لَوْ كَانَ الْبَحْرُ مِدَادًا لِكَلِمَاتِ رَبِّي لَنَفِدَ الْبَحْرُ قَبْلَ أَنْ تَنفَدَ كَلِمَاتُ رَبِّي}[الكهف:109]، وقال تعالى: {إِذْ قَالَتِ الْمَلاَئِكَةُ يَامَرْيَمُ إِنَّ اللَّهَ يُبَشِّرُكِ بِكَلِمَةٍ مِنْهُ اسْمُهُ الْمَسِيحُ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ وَجِيهًا فِي الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ وَمِنَ الْمُقَرَّبِينَ}[آل عمران:45].
فصحّ أن الكلمة هاهنا هي عيسى بن مريم عليه السَّلام، وهو نعمةٌ، ورحمةٌ من الله تعالى لمن آمن به وبما جاء به، والكلمات أيضاً هي العلم والنعمة والرحمة، فصحّ أن كلام الله خلقه وفعله.
ومن ذكر فضائل القرآن [قوله تعالى]: {هَذَا بَصَائِرُ لِلنَّاسِ وَهُدًى وَرَحْمَةٌ لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ}[الجاثية:20]، وقول الله تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بِالذّكْرِ لَمَّا جَاءَهُمْ وَإِنَّهُ لَكِتَابٌ عَزِيزٌ ، لاَ يَأْتِيهِ الْبَاطِلُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَلاَ مِنْ خَلْفِهِ تَنزِيلٌ مِنْ حَكِيمٍ حَمِيدٍ...} إلى قوله: {قُلْ هُوَ لِلَّذِينَ آمَنُوا هُدًى وَشِفَاءٌ وَالَّذِينَ لاَ يُؤْمِنُونَ فِي آذَانِهِمْ وَقْرٌ وَهُوَ عَلَيْهِمْ عَمًى أُوْلَئِكَ يُنَادَوْنَ مِنْ مَكَانٍ بَعِيدٍ}[فصلت:41-44]، وقوله تعالى: {حم ، تَنزِيلٌ مِنَ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ ، كِتَابٌ فُصِّلَتْ آيَاتُهُ قُرْآنًا عَرَبِيًّا لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ ، بَشِيرًا وَنَذِيرًا فَأَعْرَضَ أَكْثَرُهُمْ فَهُمْ لاَ يَسْمَعُونَ}[فصلت:1ـ4]، وقال تعالى: {حم، وَالْكِتَابِ الْمُبِين ِ ، إِنَّا جَعَلْنَاهُ قُرْآنًا عَرَبِيًّا لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ، وَإِنَّهُ فِي أُمِّ الْكِتَابِ لَدَيْنَا لَعَلِيٌّ حَكِيمٌ}[الزخرف:1-4]، وقال تعالى: {حم ، وَالْكِتَابِ الْمُبِينِ ، إِنَّا أَنزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةٍ مُبَارَكَةٍ إِنَّا كُنَّا مُنذِرِينَ ، فِيهَا يُفْرَقُ كُلُّ أَمْرٍ حَكِيمٍ ، أَمْرًا مِنْ عِنْدِنَا إِنَّا كُنَّا مُرْسِلِينَ ، رَحْمَةً مِنْ رَبِّكَ إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ}[الدخان:1-6]. (1/403)
وقول الله تعالى: {إِنَّا أَنزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةٍ مُبَارَكَةٍ} يدلّ على أنه خلقه في قلب الملك الأعلى جملةً واحدة، ثم أنزله على نبيئه صلى الله عليه وآله وسلم مفصّلاً شيئاً بعد شيءٍ، وذلك مُجمعٌ عليه، فسمّاه الله نوراً وهُدىً وذِكراً، وحكمةً وموعظةً، وبياناً ورحمةً، ونعمةً وشفاءً، وبصائر وفرقاناً. ومعنى اسم الفرقان: أنه البيان الذي يفرق بين الحق والباطل، ويُبيّن الحق، قال الله تعالى: {وَمَا أَنزَلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ إِلاَّ لِتُبَيِّنَ لَهُمُ الَّذِي اخْتَلَفُوا فِيهِ وَهُدًى وَرَحْمَةً لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ}[النحل:64]. (1/404)
وفي فضل القرآن ما روي عن جعفر بن محمد عن أبيه عن آبائه" عن علي عليه السَّلام قال: قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: ((أيها الناس إنكم في زمان هُدنةٍ على ظهر سفر، وإن السير بكم سريعٌ، وقد رأيتم الليل والنهار كيف يُبليان كل جديدٍ، ويُقربّان كلّ بعيدٍ، ويأتيان بكل موعودٍ، فأعدّوا الجهازَ لبُعدِ المُقامِ)). فقام المقداد بن الأسود فقال: يا رسول الله، وما دار الهُدنةِ؟ قال صلى الله عليه وآله وسلم: ((دار بلاءٍ وانقطاعٍ، فإذا التبست عليكم الفتنُ كَقِطَعِ الليل المظلمِ فعليكم بالقرآنِ فإنه شافعٌ مُشَفَّعٌ، وشاهدٌ مُصَدَّقٌ، من جعلهُ أمَامَهُ قاده إلى الجنة، ومن جعله خلفه ساقه إلى النارِ، وهو الدليلُ على خيرِ سبيلٍ، وكتابُ تفصيلٍ، وبيانٌ وتحصيلٌ، والفصل ليس بالهزل، لا تحصى عجائبه، ولا تبلى غرائبه، فيه مصابيح الهُدى، ومنارات الحكمة، والدليل على المعرفةِ لمن عَرَفَ الطّريقَ، فليُولِجْ رجلٌ بصره، وليُبْلِغِ الطريقةَ نظرهُ، ينجُ من عَطَبٍ، ويتخلّص من نشبٍ، فإن التفكُّرَ حياةُ قلبِ البصيرِ كما يمشي المستنيرُ في الظلماتِ بالنورِ بحسنِ تخلُّصٍ وقِلَّةِ تَرَبُّصٍ)). وعن النبيء صلى الله عليه وآله وسلم أنه قال: ((يا حامل القرآن تواضع لله يرفعك الله ، ولا تعزّز فيُذلك الله، وتزين لله فيزينك الله، ولا تزيّن للناس فيضعك الله، [إن] الله أفضل لك من كل شيءٍ هو دون الله، من وقّر القرآن فقد وقّر الله، ومن استخفّ بحق القرآن فقد استخفّ بحقِّ الله، وحرمة القرآن عند الله كحرمة الوالد على ولده، وحملة القرآن يُدْعَوْنَ في (1/405)
التوراة المخصوصين برحمة الله المتلبسين نور الله، المعلّمين كلام الله، من والاهم فقد والى الله، ومن عاداهم فقد عادى الله، يدفع عن مستمع القرآن بلوى الدنيا، ويدفع عن تالي القرآن بلوى الآخرة)). (1/406)
وعن ابن أبي أوفى قال: قام رجل إلى النبيء صلى الله عليه وآله وسلم فقال: يا رسول الله، أيّ العمل أحبّ إلى الله عزّ وجلّ؟ قال: ((عملُ الحالِّ المُرتَحِلِ)) . قال: يا رسول الله، وما الحالُّ المرتحلُ؟ قال: ((صاحب القرآن يضربُ من أوّله إلى آخره، ومن آخره إلى أوّله كُلّما حلَّ ارتحلَ)).
ورُوي عن زيد بن علي عن أبيه عن جده " قال: خطب أمير المؤمنين عليه السَّلام فقال في خطبته: الحق طريق الجنّة، والباطل طريق النار، وعلى كل طريق داعٍ يدعو إلى طريقته، فمن أجاب داعي الحق أدّاه إلى الجنّة، ومن أجاب داعي الباطل أدّاه إلى النار، ألا وإن داعي الحق كتابُ الله فيه خبر ما قبلكم، ونبأ ما بعدكم، من عملَ به أُجِرَ، ومن خالفه دُحِرَ، ألا وإن الداعي إلى الباطل عدوّكم الذي أخرج أبويكم من الجنّة ينزع عنهما لباسهما ليريهما سوآتهما إنه يراكم هو وقبيله من حيث لا ترونهم، ألا فاعصوا عدوَّكم، وأطيعوا ربكم، ومن أحقّ بكم من الله الذي خلقكم ثم رزقكم ثم يميتكم ثم يحييكم.
ومما يدلّ على أن القرآن بخلاف كلام الناس: أن كلام الناس إذا رُدِّدَ وأعيدَ مراراً سَمُجَ ومُلّ، وإذا أعيدَ القرآن ورُدِّدَ ازداد حلاوةً وعُذوبةً وحسناً ولذّةٍ عند المؤمنين، وقد قال فيه بعض الحكماء:
يزدادُ في طولِ التِّلاوةِ جِدَّةً
ومتى يُعَدْ شيءٌ سواهُ يُخْلَقُ
ومما يدلّ على كمال القرآن وأن فيه كل ما يحتاج إليه الإنسان من الهدى والحق والبرهان أن جميع الأمة تستمد منه وتحتجُّ به، وأن من حسن نظره وتمييزه يجد فيه كل ما طلب؛ ويُؤيد ذلك قول الله تعالى: {مَا فَرَّطْنَا فِي الْكِتَابِ مِنْ شَيْءٍ }[الأنعام:38]. (1/407)
ومما يدل على أن في القرآن كل ما يحتاجه الإنسان من الهدى [والحق] والبرهان ما روي عن أبي هاشم الرمّاني قال: طلب زيد بن علي عليهما السلام من أخيه أبي جعفر كتاباً، فأغفل عنه أبو جعفر عليه السَّلام ثم ذكره، فأخرج إليه الكتاب، فقال له زيد بن علي عليهما السلام: قد وجدت ما أردته منه في القرآن. فقال له أبو جعفر: فأسألك؟ قال زيد: نعم إسأل عمّا أحببت. قال أبو هاشم: فافتتح أبو جعفر الكتاب وجعل يسأله وزيد يجيبه بجواب علي عليه السَّلام كما في الكتاب. فقال له أبو جعفر: بأبي أنت وأمي يا أخي أنت والله نسيج وحدك، بركة الله على أمٍّ ولدتك، لقد أنجبت حين أتت بك شبيه آبائك صلوات الله عليهم.
فصحّ أن في القرآن كل ما يحتاج إليه الإنسان من الهُدى والبرهان.
فصل في الكلام في معاني القرآن (1/408)
اعلم أن القرآن على أفنانٍ: فمنه المُحكم، ومنه المتشابه، ومنه الناسخ، ومنه المنسوخ، ومنه المُجمل، ومنه المفسّر، ومنه ما هو في مخرجه عام وفي معناه خاص، ومنه الخاص، ومنه العام، ومنه ما يوجب العلم، ومنه ما يوجب العمل، ومنه [ما هو] محذوف الجواب، ومنه مفهوم الخطاب، ومنه القصص والأخبار والأمثال، ومنه الأمر والنهي، ومنه المواعظ والزّجر، والترغيب والترهيب، وفيه الوعد والوعيد، وغير ذلك.
فالمحكم هو الجليُّ البيّن الذي يكون تأويلُهُ موافقاً لتنزيله، وهو الأكثر والمعمول عليه والأحسن، وهو أصل الكتاب الذي يرجع إليه، والذي وقع الإجماع عليه.
والمتشابه هو ما كان غامضاً، وكان تأويلُهُ بخلاف ظاهره، وكان مُشكلاً على من لا علم له، والمتشابه (هو) ما كان يحتمل الوجوه، ولا يُعرف المراد بظاهره. والمحكم ما لا يحتمل إلا وجهاً واحداً، ويُعرف المراد بظاهره.
والعلةُ في المتشابه البليّة والإمتحان لأهل العقول السَّنيَّةِ، وهو مردودٌ إلى المحكم، قال الله تعالى: {هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ عَلَيْكَ الْكِتَابَ مِنْهُ آيَاتٌ مُحْكَمَاتٌ هُنَّ أُمُّ الْكِتَابِ وَأُخَرُ مُتَشَابِهَاتٌ فَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ فَيَتَّبِعُونَ مَا تَشَابَهَ مِنْهُ ابْتِغَاءَ الْفِتْنَةِ وَابْتِغَاءَ تَأْوِيلِهِ وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلاَّ اللَّهُ وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ يَقُولُونَ آمَنَّا بِهِ كُلٌّ مِنْ عِنْدِ رَبِّنَا وَمَا يَذَّكَّرُ إِلاَّ أُوْلُوا الأَلْبَابِ}[آل عمران:7]، فبيّن الله تعالى أن الكتاب، منه المحكمُ والمتشابه، وأخبر أن المحكم هو الأصل المعمولُ عليه؛ لأن أمّ الشيء أصلُهُ، ولذلك سُميّت والدةُ الإنسان [له] أمًّا، وقد قال الله تعالى: {لِتُنذِرَ أُمَّ الْقُرَى وَمَنْ حَوْلَهَا }[الأنعام:92] يعني مكة لأنها أصل القُرى؛ لأن جميع القُرى تفرّعت منها؛ ويؤيد ذلك قول الله تعالى: {إِنَّ أَوَّلَ بَيْتٍ وُضِعَ لِلنَّاسِ لَلَّذِي بِبَكَّةَ مُبَارَكًا}[آل عمران:96]، فصح أن المحكم أصلُ الكتاب، وأنه المعمولُ عليه. ثم ذمّ من يتبع المتشابه فقال: {فَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ فَيَتَّبِعُونَ مَا تَشَابَهَ مِنْهُ ابْتِغَاءَ الْفِتْنَةِ}[آل عمران:7] يريد بالفتنة: المجادلة للحق ولأهله. (1/409)
والاستدلال بالمتشابه كقول الله تعالى: {وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ نَاضِرَةٌ ، إِلَى رَبِّهَا نَاظِرَةٌ}[القيامة:22،23]، وقوله: {أَأَمِنتُمْ مَنْ فِي السَّمَاءِ }[الملك:16]، وقوله: {هَلْ يَنظُرُونَ إِلاَّ أَنْ يَأْتِيَهُمُ اللَّهُ فِي ظُلَلٍ مِنَ الْغَمَامِ وَالْمَلاَئِكَةُ}[البقرة:210]، وقوله: {وَجَاءَ رَبُّكَ وَالْمَلَكُ صَفًّا صَفًّا }[الفجر:22]، وقوله علا وعزّ: {الرَّحْمنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى }[طه:5]، وقوله: {وَيَحْمِلُ عَرْشَ رَبِّكَ فَوْقَهُمْ يَوْمَئِذٍ ثَمَانِيَةٌ }[الحاقة:17]، وقوله: {يُضِلُّ مَنْ يَشَاءُ وَيَهْدِي مَنْ يَشَاءُ }[النحل:93]، وقوله: {خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ }[الزمر:62]، وأمثال ذلك، فهذه الآيات متشابهات، وقد اتّبعتها المشبهة والمجبرة. (1/410)
وفي أصل الكتاب المحكم المجمع عليه ما يدل على أن تأويل هذه الآيات غير ظاهرها، وهو قوله تعالى: {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ }[الشورى:11]، وقوله: {لاَ تُدْرِكُهُ الأَبْصَارُ وَهُوَ يُدْرِكُ الأَبْصَارَ وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ}[الأنعام:103]، وقد بينا هذا، وفسرناه في باب حقيقة معرفة التوحيد بما فيه كفاية.
وتأويل قول الله تعالى: {هَلْ يَنظُرُونَ إِلاَّ أَنْ يَأْتِيَهُمُ اللَّهُ فِي ظُلَلٍ مِنَ الْغَمَامِ} المراد به: بِظُلَلٍ من الغمام، وقد قال الله تعالى -حاكياً عن فرعون: {وَلاَُصَلّبَنَّكُمْ فِي جُذُوعِ النَّخْلِ }[طه:71] المراد به: على جذوع النخل، ومثل هذا موجود في لغة العرب. وكذلك قوله: {وَجَاءَ رَبُّكَ} المراد به: وجاء امر ربّك، والملك، وقوله: {الرَّحْمنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى} المراد به: على المُلك اقتدرَ. (1/411)
وكذلك قوله: {ثُمَّ اسْتَوَى إِلَى السَّمَاءِ وَهِيَ دُخَانٌ فَقَالَ لَهَا وَللأَرْضِ اِئْتِيَا طَوْعًا أو كَرْهًا قَالَتَا أَتَيْنَا طَائِعِينَ}[فصلت:11] المراد به: ثم اقتدر على السماء؛ والقول من الله هو الفعلُ، لا غير، والقول من السماء والأرض هو الإذعان لله والذلة [له].
وقوله تعالى: {وَيَحْمِلُ عَرْشَ رَبِّكَ فَوْقَهُمْ يَوْمَئِذٍ ثَمَانِيَةٌ }[الحاقة:17] المراد به ـ والله أعلم: ويتولّى مُلك ربك يوم القيامة ثمانية أصنافٍ من الملائكة، ولأنهم خزنة الجنة وخزنة النار، وقد قال الله تعالى في خزنة النار: {عَلَيْهَا تِسْعَةَ عَشَرَ ، وَمَا جَعَلْنَا أَصْحَابَ النَّارِ إِلاَّ مَلاَئِكَةً وَمَا جَعَلْنَا عِدَّتَهُمْ إِلاَّ فِتْنَةً لِلَّذِينَ كَفَرُوا لِيَسْتَيْقِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ وَيَزْدَادَ الَّذِينَ آمَنُوا إِيمَانًا وَلاَ يَرْتَابَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ وَالْمُؤْمِنُونَ وَلِيَقُولَ الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ وَالْكَافِرُونَ مَاذَا أَرَادَ اللَّهُ بِهَذَا مَثَلاً كَذَلِكَ يُضِلُّ اللَّهُ مَنْ يَشَاءُ وَيَهْدِي مَنْ يَشَاءُ وَمَا يَعْلَمُ جُنُودَ رَبِّكَ إِلاَّ هُوَ وَمَا هِيَ إِلاَّ ذِكْرَى لِلْبَشَرِ}[المدثر:30،31]، وصح أن الثمانية والتّسعةَ عشر الأصناف كما ذكرنا لقول الله تعالى: {وَمَا يَعْلَمُ جُنُودَ رَبِّكَ إِلاَّ هُوَ }[المدثر:31]. (1/412)
واعلم: أن من الكتاب ما لم يُطْلِعِ الله على علمه أحداً مثل قوله تعالى: {الم}، وقوله: {المص }، و{المر }، و{الر}، و{كهيعص }، و{طه }، و{ص }، و{حم}، و{حم ، عسق }، وأمثال ذلك، فإن هذه الحروف لم يطّلع على علمها أحدٌ من الناس، ولو أعلم الله بها النبيء صلى الله عليه وآله وسلم لأعلم بها النبيء صلى الله عليه وآله وسلم أمته.
وقد مدح الله تعالى الراسخين في العلم فسمّاهم بالرسوخ، فقال تعالى: {وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ يَقُولُونَ آمَنَّا بِهِ كُلٌّ مِنْ عِنْدِ رَبِّنَا}[آل عمران:7]، وقال الله تعالى للملائكة صلوات الله عليهم: {أَنْبِئُونِي بِأَسْمَاءِ هَؤُلاَء إِنْ كُنتُمْ صَادِقِينَ ، قَالُوا سُبْحَانَكَ لاَ عِلْمَ لَنَا إِلاَّ مَا عَلَّمْتَنَا}[البقرة:31،32]، فصحّ أن في الكتاب ما أخفى الله على الناس تفسيره، تعجيزاً للعباد، وامتحاناً لأهل الاجتهاد. (1/413)
واعلم أن تفسير غامض القرآن يخرج على ثلاثة وجوه:
فمنه ما فسّره رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وذلك مثل قوله تعالى: {وَأَقِيمُوا الصَّلاَةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ }[البقرة:43]، وقوله: {فَمَنْ شَهِدَ مِنْكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ}[البقرة:185]، وقوله: {وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلاً}[آل عمران:97] وأمثال ذلك، فإن هذا الأمر من الله تعالى ورد مُجملاً، وفسّره رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم.
ومنه ما يستنبطه الأئمة، ويفسره الأئمة (العلماء) الأتقياء، قال الله تعالى: {وَلَوْ رَدُّوهُ إِلَى الرَّسُولِ وَإِلَى أُوْلِي الأَمْرِ مِنْهُمْ لَعَلِمَهُ الَّذِينَ يَسْتَنْبِطُونَهُ مِنْهُمْ}[النساء:83].
ومنه ما يرجع فيه إلى أهل اللغة، وذلك مثل قول الله تعالى: {فَمَا أَصْبَرَهُمْ عَلَى النَّارِ }[البقرة:175] فهذا اللفظ لفظُ التَّعجُّبِ، والله تعالى يَجلَّ من أن يتعجَّب؛ لأنه لا يتعجب من شيءٍ إلا من يجهل وقوعه، أو كان عاجزاً عن فعل مثله؛ فهذا معناه: فما اضطرّهم على النار، وليس بتعجُّبٍ، قال الشاعر: (1/414)
قلتُ لها أَصْبَرَ هذا بنا
أمثال بسطام بن قيسٍ قليل
فصل في الكلام في الناسخ والمنسوخ (1/415)
اعلم أن في الكتاب ناسخاً ومنسوخاً؛ فالمنسوخ ما نُسخَ حُكمُهُ ولم يُنسخ حِفظُهُ وكتابته وتلاوته، والأمة مجمعة على ذلك، إلا فرقة ممن لا يعمل على قولها. ومن المنسوخ ما نُسخ وجوبهُ وحُرم فعله، كالتوجه بالصلاة إلى بيت المقدس.
ومن المنسوخ ما نُسخ وجوبه وبقي جوازه، كصوم يوم عاشوراء.
ومن الدليل على أن في الكتاب ناسخاً ومنسوخاً قول الله تعالى: {مَا نَنسَخْ مِنْ آيَةٍ أو نُنسِهَا نَأْتِ بِخَيْرٍ مِنْهَا أو مِثْلِهَا}[البقرة:106] وفي هذه الآية تقديمٌ وتأخيرٌ أراد: ما ننسخ من آيةٍ نأت بخير منها، أو مثلها، أو نُنْسِها فلا ننسخها، ونقرَّها على حالها، وقد قال الله تعالى: {يَمْحُ اللَّهُ مَا يَشَاءُ وَيُثْبِتُ وَعِنْدَهُ أُمُّ الْكِتَابِ}[الرعد:39]، وأم الكتاب هو أصله وهو المحكم، وقد روي عن أمير المؤمنين عليه السَّلام أنه سمع رجلاً يعظ الناس ويقصُّ عليهم، فقال له: هل علمتَ ناسخ القرآن ومنسوخه؟ قال: لا. قال عليه السَّلام: هلكتَ وأهلكتَ.
وسبب الناسخ والمنسوخ ضعف الإسلام في مبتدئه وقوّته في منتهاه، وتخفيفٌ من الله ورحمةٌ للمؤمنين.
فأول ما نُسِخَ القبلةُ، وذلك أن الكعبة كانت قبلة النبيء صلى الله عليه وآله وسلم قبل أن يهاجر إلى المدينة، وكانت قبلة أبيه إبراهيم عليه السَّلام والأنبياء " من قبله. فلما هاجر رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم إلى المدينة وكان أهلها لا يعرفون قبلةً إلا بيت المقدس، وكان الإسلام غريباً، فأنزل الله تعالى: {وَلِلَّهِ الْمَشْرِقُ وَالْمَغْرِبُ فَأَيْنَمَا تُوَلُّوا فَثَمَّ وَجْهُ اللَّهِ}[البقرة:115]، فصلّى صلى الله عليه وآله وسلم إلى بيت المقدس -على ما رُوي- ستة عشر شهراً، وقيل: سبعة عشر، فلما تقوى الإسلام، وتوقّع صلى الله عليه وآله وسلم الوحيَ من ربه، وانتظر خبر جبريل صلى الله عليه وسلم ينزل به، فأنزل الله تعالى: {قَدْ نَرَى تَقَلُّبَ وَجْهِكَ فِي السَّمَاءِ فَلَنُوَلّيَنَّكَ قِبْلَةً تَرْضَاهَا فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَحَيْثُ مَا كُنتُمْ فَوَلُّوا وُجُوهَكُمْ شَطْرَهُ}[البقرة:144] أي نحوه. (1/416)
ومما نسخ قول الله تعالى: {وَإِذَا حَضَرَ الْقِسْمَةَ أُوْلُوا الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينُ فَارْزُقُوهُمْ مِنْهُ}[النساء:8] نسختها آية المواريث.
ومما نسخ قول الله تعالى: {يَسْأَلُونَكَ مَاذَا يُنفِقُونَ قُلِ الْعَفْوَ}[البقرة:219] يريد: الزائد على كفايتهم. نسختها آية الزكاة.
ومما نُسخ قول الله تعالى: {كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ}[البقرة:183]، فكانوا لا يأكلون بالليل بعد الرُّقادِ، ولا يشربون، ولا يُجامعون، فنسخ ذلك قول الله تعالى: {أُحِلَّ لَكُمْ لَيْلَةَ الصِّيَامِ الرَّفَثُ إِلَى نِسَائِكُمْ هُنَّ لِبَاسٌ لَكُمْ وَأَنْتُمْ لِبَاسٌ لَهُنَّ عَلِمَ اللَّهُ أَنَّكُمْ كُنتُمْ تَخْتَانُونَ أَنفُسَكُمْ فَتَابَ عَلَيْكُمْ وَعَفَا عَنْكُمْ فَالآنَ بَاشِرُوهُنَّ وَابْتَغُوا مَا كَتَبَ اللَّهُ لَكُمْ وَكُلُوا وَاشْرَبُوا حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكُمُ الْخَيْطُ الأَبْيَضُ مِنَ الْخَيْطِ الأَسْوَدِ مِنَ الْفَجْرِ}[البقرة:187]. معنى قوله: {وَابْتَغُوا مَا كَتَبَ اللَّهُ لَكُمْ} يريد: إبتغوا الولد. وروي عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أنه سُئل عن تفسير الخيط الأبيض من الخيط الأسود فقال: ((الليل والنهار )). (1/417)
ومما نُسخ: نكاحُ المتعة، وهو قول الله تعالى: {فَمَا اسْتَمْتَعْتُمْ بِهِ مِنْهُنَّ فَآتُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ فَرِيضَةً}[النساء:24] نسخها قول الله تعالى: {يَاأَيُّهَا النَّبِيُّ إِذَا طَلَّقْتُمُ النّسَاءَ فَطَلّقُوهُنَّ لِعِدَّتِهِنَّ وَأَحْصُوا الْعِدَّةَ}[الطلاق:1]. وقد روي عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أنه اعتمر فشكا إليه الناس العزبة، فقال: ((استمتعوا من هذه النساء ، واجعلوا الأجل بينكم وبينهن ثلاثة أيام)) فلما كان اليوم الثالث أو الرابع من قوله خرج رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم حتى وقف بين الركن والمقام، وأسند ظهره إلى الكعبة ثم قال: ((يا أيها الناس إني كنتُ قد أمرتكم بالاستمتاع، ألا وإن الله قد حرم ذلك إلى يوم القيامة، فمن كان عنده منهن شيءٌ فليُخل سبيلها، ولا تأخذوا مما آتيتموهن شيئاً)). (1/418)
وروي أنه قال في آخر كلامه: ((متعة النساء حرامٌ ، متعة النساء حرامٌ)) قال ذلك ثلاث مرات.
وروي عن أمير المؤمنين عليه السَّلام أنه مرّ بعبد الله بن العباس وهو يفتي بنكاح المتعة، فقال أمير المؤمنين عليه السَّلام: ((قد نهى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم عنها، وعن لحوم الحمر الأهلية )).
والأمة مجمعةٌ على تحريم المتعة، إلا الإمامية فإنهم يرونها.
ومما نُسخ قول الله تعالى: {وَلاَ يَحِلُّ لَكُمْ أَنْ تَأْخُذُوا مِمَّا آتَيْتُمُوهُنَّ شَيْئًا }[البقرة:229] وهذا في المختلعة. وقوله: {وَآتَيْتُمْ إِحْدَاهُنَّ قِنطَارًا فَلاَ تَأْخُذُوا مِنْهُ شَيْئًا أَتَأْخُذُونَهُ بُهْتَانًا وَإِثْمًا مُبِينًا}[اتلنساء:20] نسخه قول الله تعالى: {إِلاَّ أَنْ يَخَافَا أَلاَّ يُقِيمَا حُدُودَ اللَّهِ فَإِنْ خِفْتُمْ أَلاَّ يُقِيمَا حُدُودَ اللَّهِ فَلاَ جُنَاحَ عَلَيْهِمَا فِيمَا افْتَدَتْ بِهِ}[البقرة:229]. وروي أن أول مختلعة في الإسلام حبيبة بنت سهل كانت عند ثابت بن قيس بن شمّاس، فأتت النبيء صلى الله عليه وآله وسلم، فقالت: يا رسول الله، لا أنا ولا ثابت، فقال لها النبيء صلى الله عليه وآله وسلم: ((أفَتَرُدِّينَ عليه ما أخذتِ منه ؟)) قالت: نعم -وكان ثابت تزوّجها على حديقةٍ من نخلٍ- فقال ثابتٌ: هل يطيب ذلك لي يا رسول الله؟ قال: ((نعم))، وأمره رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم بطلاقها. (1/419)
ومما نُسخ [قوله تعالى]: {وَالَّذِينَ يُتَوَفَّوْنَ مِنْكُمْ وَيَذَرُونَ أَزْوَاجًا وَصِيَّةً لأَزْوَاجِهِمْ مَتَاعًا إِلَى الْحَوْلِ غَيْرَ إِخْرَاجٍ فَإِنْ خَرَجْنَ فَلاَ جُنَاحَ عَلَيْكُمْ فِي مَا فَعَلْنَ فِي أَنفُسِهِنَّ مِنْ مَعْرُوفٍ وَاللَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ}[البقرة:240] كانت عدّة المتوفّى عنها زوجها سنةً، وكانت لها الوصيّة، ولم يكن لها ميراث، فنُسخت العدّة بقوله تعالى: {وَالَّذِينَ يُتَوَفَّوْنَ مِنْكُمْ وَيَذَرُونَ أَزْوَاجاً يَتَرَبَّصْنَ بِأَنفُسِهِنَّ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ وَعَشْراً }[البقرة:234]، وسببُ العدّة إظهار الحزن على صاحبها وتوقّع الولد منه، وهو في هذه المدة يتبيّن الحملُ إن كان. وقد قيل: إنه يكون في أربعين يوماً نطفةً، وفي أربعين يوماً علقةً، وفي أربعين يوماً مضغةً، فإذا بلغ أربعة أشهرٍ وعشراً صار عظاماً، ولم يخفَ كونه ولا يغبأ وجوده، ونسخت الوصية له بآية المواريث؛ وهي قوله تعالى: {وَلَهُنَّ الرُّبُعُ مِمَّا تَرَكْتُمْ إِنْ لَمْ يَكُنْ لَكُمْ وَلَدٌ فَإِنْ كَانَ لَكُمْ وَلَدٌ فَلَهُنَّ الثُّمُنُ}[النساء:12]. (1/420)
ومما نُسخ قول الله تعالى: {وَاللاَّتِي يَأْتِينَ الْفَاحِشَةَ مِنْ نِسَائِكُمْ فَاسْتَشْهِدُوا عَلَيْهِنَّ أَرْبَعَةً مِنْكُمْ فَإِنْ شَهِدُوا فَأَمْسِكُوهُنَّ فِي الْبُيُوتِ حَتَّى يَتَوَفَّاهُنَّ الْمَوْتُ أو يَجْعَلَ اللَّهُ لَهُنَّ سَبِيلاً}[النساء:15] نسخه قول الله تعالى: {الزَّانِيَةُ وَالزَّانِي فَاجْلِدُوا كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مِائَةَ جَلْدَةٍ}[النور:2]. وروي عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أنه قال: ((خذوهن واقبلوهنّ قد جعل الله لهنّ سبيلاً: البكر بالبكر جلد مائةٍ ونفي عامٍ، والثَّيِّبُ بالثيبِ الرّجمُ)). (1/421)
ومما نُسخ قول الله تعالى في أهل الذمّة: {فَإِنْ جَاءُوكَ فَاحْكُمْ بَيْنَهُمْ أو أَعْرِضْ عَنْهُمْ }[المائدة:42] نسخه قول الله تعالى: {وَأَنِ احْكُمْ بَيْنَهُمْ بِمَا أَنزَلَ اللَّهُ }[المائدة:49].
ومما نسخ قول الله تعالى: {وَأَشْهِدُوا إِذَا تَبَايَعْتُمْ }[البقرة:282] نسخه قوله تعالى: {فَإِنْ أَمِنَ بَعْضُكُمْ بَعْضًا فَلْيُؤَدِّ الَّذِي اؤْتُمِنَ أَمَانَتَهُ}[البقرة:283].
ومما نسخ حج المشركين، وفي ذلك ما يقول الله تعالى: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لاَ تُحِلُّوا شَعَائِرَ اللَّهِ وَلاَ الشَّهْرَ الْحَرَامَ وَلاَ الْهَدْيَ وَلاَ الْقَلاَئِدَ وَلاَ آمِّينَ الْبَيْتَ الْحَرَامَ}[المائدة:2] نسخه الله بقوله: {إِنَّمَا الْمُشْرِكُونَ نَجَسٌ فَلاَ يَقْرَبُوا الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ بَعْدَ عَامِهِمْ هَذَا}[التوبة:28].
ومما نسخ قول الله تعالى: {لاَ إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ }[البقرة:256]، وقوله: {وَمَا أَنْتَ عَلَيْهِمْ بِجَبَّارٍ }[ق:45]، وقوله: {لَسْتَ عَلَيْهِمْ بِمُسَيْطِرٍ }[الغاشية:22]، وقوله: {فَاعْفُ عَنْهُمْ وَاصْفَحْ }[المائدة:13]، فكانت هذه الآيات وما شاكلها نزلت على النبيء صلى الله عليه وآله وسلم قبل الهجرة، فلما هاجر أمره الله بالجهاد، ونسخ الآيات هذه بقوله تعالى: {أُذِنَ لِلَّذِينَ يُقَاتَلُونَ بِأَنَّهُمْ ظُلِمُوا وَإِنَّ اللَّهَ عَلَى نَصْرِهِمْ لَقَدِيرٌ ، الَّذِينَ أُخْرِجُوا مِنْ دِيَارِهِمْ بِغَيْرِ حَقّ إِلاَّ أَنْ يَقُولُوا رَبُّنَا اللَّهُ وَلَوْلاَ دَفْعُ اللَّهِ النَّاسَ بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لَهُدِّمَتْ صَوَامِعُ وَبِيَعٌ وَصَلَوَاتٌ وَمَسَاجِدُ يُذْكَرُ فِيهَا اسْمُ اللَّهِ كَثِيرًا وَلَيَنصُرَنَّ اللَّهُ مَنْ يَنصُرُهُ إِنَّ اللَّهَ لَقَوِيٌّ عَزِيزٌ}[الحج:39،40]، وبقوله: {قَاتِلُوا الَّذِينَ لاَ يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَلاَ بِالْيَوْمِ الآخِرِ }[التوبة:29]، وقوله: {يَاأَيُّهَا النَّبِيُّ جَاهِدِ الْكُفَّارَ وَالْمُنَافِقِينَ وَاغْلُظْ عَلَيْهِمْ}[التوبة:73]. (1/422)
ومما نُسخ قول الله تعالى: {وَمَا كَانَ الْمُؤْمِنُونَ لِيَنفِرُوا كَافَّةً }[التوبة:122] نسخها الله بقوله: {انفِرُوا خِفَافًا وَثِقَالاً }[التوبة:41].
واعلم أن سورة براءة نسخت كل عقدٍ ـ كان بين المؤمنين والمحاربين ـ وذمّةٍ، وصلحٍ، وشرطٍ، ونسخت الصّلح الذي كان في الأشهر الحرم، وفي مكة لقوله تعالى: {فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ }[التوبة:5] إلا ما استثنى الله فيها من قوله: {إِلاَّ الَّذِينَ عَاهَدتُّمْ مِنَ الْمُشْرِكِينَ ثُمَّ لَمْ يَنقُصُوكُمْ شَيْئًا وَلَمْ يُظَاهِرُوا عَلَيْكُمْ أَحَدًا فَأَتِمُّوا إِلَيْهِمْ عَهْدَهُمْ إِلَى مُدَّتِهِمْ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُتَّقِينَ}[التوبة:4]. (1/423)
ومما نُسخ قول الله تعالى: {وَالَّذِينَ آمَنُوا وَلَمْ يُهَاجَرُوا مَا لَكُمْ مِنْ وَلاَيَتِهِمْ مِنْ شَيْءٍ حَتَّى يُهَاجِرُوا}[الأنفال:72] نسخه الله بقوله: {وَأُوْلُوا الأَرْحَامِ بَعْضُهُمْ أَوْلَى بِبَعْضٍ }[الأنفال:75].
ومما نُسخ فرض الوصية للوالدين والأقربين، وذلك قول الله تعالى: {كُتِبَ عَلَيْكُمْ إِذَا حَضَرَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ إِنْ تَرَكَ خَيْرًا الْوَصِيَّةُ لِلْوَالِدَيْنِ وَالأَقْرَبِينَ بِالْمَعْرُوفِ حَقًّا عَلَى الْمُتَّقِينَ}[البقرة:180] نسخه الله بآية المواريث. وعلى هذا يُحمل قول رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم في حجة الوداع: ((ألا لا وصيّة لوارثٍ ، قد نسخَ الله ذلك بآية المواريثِ)) وهذا مما نُسخ وجوبه وبقي جوازه، يؤيد ذلك قول الله تعالى: {إِلاَّ أَنْ تَفْعَلُوا إِلَى أَوْلِيَائِكُمْ مَعْرُوفًا }[الأحزاب:6].
ومما نُسخ التغليظ في النهي عن مخالطة اليتامى في النفقة والأكل معهم؛ وذلك قول الله تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ يَأْكُلُونَ أَمْوَالَ الْيَتَامَى ظُلْمًا إِنَّمَا يَأْكُلُونَ فِي بُطُونِهِمْ نَارًا وَسَيَصْلَوْنَ سَعِيرًا}[النساء:10]. روي أنه لما نزلت هذه الآية امتنع المسلمون من قبول الوصاية في اليتامى وأن يكفُلُوهم، وتحرّجوا من مخالطتهم، فنسخ الله هذا التغليظ بقوله تعالى: {وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الْيَتَامَى قُلْ إِصْلاَحٌ لَهُمْ خَيْرٌ وَإِنْ تُخَالِطُوهُمْ فَإِخْوَانُكُمْ وَاللَّهُ يَعْلَمُ الْمُفْسِدَ مِنَ الْمُصْلِحِ وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ لأَعْنَتَكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ}[البقرة:220] يقول: لو شاء لضيّق عليكم. وقال تعالى: {وَمَنْ كَانَ غَنِياً فَلْيَسْتَعْفِفْ وَمَنْ كَانَ فَقِيرًا فَلْيَأْكُلْ بِالْمَعْرُوفِ}[النساء:6] المراد به والله أعلم: أن من كان غنياً عن المخالطة لهم والأكل معهم، فليستعفف عن المخالطة لهم والأكل معهم، ومن كان فقيراً فليأكل بالمعروف، أي ومن كان فقيراً إلى ذلك فليُخالطهم، وليأكل معهم، ولا يتعمّد الظلم لهم، و[لا] النقص لهم في مالهم. (1/424)
وقد اختُلف في هذه الآية، فمن الناس من حملها على ظاهرها، وأجاز للوصي الأكل من مال اليتيم إذا كان الوصيُّ فقيراً، وأن يُنفق منه على نفسه ومن تلزمه نفقته. ومن الناس من قال: يتناول منه مثل ما يتناول المضارِب من المضارَب له على سبيل الأجرة.
وعندنا أن ذلك لا يجوز لقول الله تعالى: {فَلْيَأْكُلْ بِالْمَعْرُوفِ} ومن المعروف أن يُخرج الوصيُّ لليتيم من ماله مثل ما يُخرج لمثله من أولاده ثم يخلطه في نفقة أولاده، ويواسيه بأولاده، ولا ينقصه في ماله ولا في نفقته، فهذا هو المعروف، ويؤيد ذلك قول الله تعالى: {وَاللَّهُ يَعْلَمُ الْمُفْسِدَ مِنَ الْمُصْلِحِ }[البقرة:220]. (1/425)
ومما نُسخ قول الله تعالى: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا نَاجَيْتُمُ الرَّسُولَ فَقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيْ نَجْوَاكُمْ صَدَقَةً ذَلِكَ خَيْرٌ لَكُمْ وَأَطْهَرُ فَإِنْ لَمْ تَجِدُوا فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ}[المجادلة:12]، وسبب نزول هذه الآية أن المسلمين أكثروا النَّجوى حتى أضرَّ ذلك برسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، فأراد الله أن يُخفف عنه، فأنزل هذه الآية، فامتنع كثير من الناس من المناجاة. وروي عن أمير المؤمنين عليه السَّلام أنه قال: (إن في كتاب الله لآيةً وفرضاً ما عمل بهما أحدٌ غيري، ولا يعمل بهما أحدٌ بعدي: لما أنزل الله: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا نَاجَيْتُمُ الرَّسُولَ فَقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيْ نَجْوَاكُمْ صَدَقَةً ذَلِكَ خَيْرٌ لَكُمْ وَأَطْهَرُ فَإِنْ لَمْ تَجِدُوا فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ}[المجادلة:12] كان معي دينار فصرفته، فكنت كلما أردت أن أناجي رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم تصدّقت بدرهمٍ، فلم يفرغ الدينار حتى نُسخت الآية الكريمة).
فنسخها الله بقوله: {أَأَشْفَقْتُمْ أَنْ تُقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيْ نَجْوَاكُمْ صَدَقَاتٍ فَإِذْ لَمْ تَفْعَلُوا وَتَابَ اللَّهُ عَلَيْكُمْ فَأَقِيمُوا الصَّلاَةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَاللَّهُ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ}[المجادلة:13]. (1/426)
ومما نُسخ قول الله تعالى: {يَاأَيُّهَا الْمُزَّمِّلُ ، قُمِ اللَّيْلَ إِلاَّ قَلِيلاً ، نِصْفَهُ أو انْقُصْ مِنْهُ قَلِيلاً ، أو زِدْ عَلَيْهِ وَرَتّلِ الْقُرْآنَ تَرْتِيلاً}[المزمل:1-4].
وروي أن أول هذه السورة نزل على النبيء صلى الله عليه وآله وسلم بمكة، وأنه أمرٌ من الله تعالى بتأخير صلاة العشاء الآخرة، فعمل به رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، والمؤمنون إلى أن نزل آخر السورة في المدينة بعد ستة أشهر، فنسخ الله ذلك بقوله: {إِنَّ رَبَّكَ يَعْلَمُ أَنَّكَ تَقُومُ أَدْنَى مِنْ ثُلُثَي اللَّيْلِ وَنِصْفَهُ وَثُلُثَهُ وَطَائِفَةٌ مِنَ الَّذِينَ مَعَكَ وَاللَّهُ يُقَدِّرُ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ عَلِمَ أَنْ لَنْ تُحْصُوهُ فَتَابَ عَلَيْكُمْ فَاقْرَءُوا مَا تَيَسَّرَ مِنَ الْقُرْآنِ...}إلى آخر السورة[المزمل:20].
ومما نسخ قول الله تعالى: {وَلَيْسَتِ التَّوْبَةُ لِلَّذِينَ يَعْمَلُونَ السَّيِّئَاتِ حَتَّى إِذَا حَضَرَ أَحَدَهُمُ الْمَوْتُ قَالَ إِنّي تُبْتُ الآنَ وَلاَ الَّذِينَ يَمُوتُونَ وَهُمْ كُفَّارٌ أُوْلَئِكَ أَعْتَدْنَا لَهُمْ عَذَابًا أَلِيمًا}[النساء:18]، نسخها الله بقوله: {قُلْ يَاعِبَادِي الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ لاَ تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعًا إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ ، وَأَنِيبُوا إِلَى رَبِّكُمْ وَأَسْلِمُوا لَهُ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَكُمُ الْعَذَابُ ثُمَّ لاَ تُنْصَرُونَ}[الزمر:53،54]، وهذا بشرط التوبة لقوله: {وَأَنِيبُوا إِلَى رَبِّكُمْ وَأَسْلِمُوا لَهُ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَكُمُ الْعَذَابُ ثُمَّ لاَ تُنْصَرُونَ}. ومن شروط التوبة الخروج من حق الآدميين. (1/427)
ومما نُسخ قول الله تعالى: {إِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ عِشْرُونَ صَابِرُونَ يَغْلِبُوا مِائَتَيْنِ وَإِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ مِائَةٌ يَغْلِبُوا أَلْفًا مِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لاَ يَفْقَهُونَ}[الأنفال:65]، فنسخ الله هذه الآية بقوله: {الآنَ خَفَّفَ اللَّهُ عَنكُمْ وَعَلِمَ أَنَّ فِيكُمْ ضَعْفًا فَإِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ مِائَةٌ صَابِرَةٌ يَغْلِبُوا مِائَتَيْنِ وَإِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ أَلْفٌ يَغْلِبُوا أَلْفَيْنِ بِإِذْنِ اللَّهِ وَاللَّهُ مَعَ الصَّابِرِينَ}[الأنفال:66]، فهذا ما جاء في الناسخ والمنسوخ.
ومن الكتاب مُجْمَلٌ، ومنه مفسِّر للمجمل؛ من ذلك قول الله تعالى: {وَلاَ تَأْكُلُوا مِمَّا لَمْ يُذْكَرِ اسْمُ اللَّهِ عَلَيْهِ }[الأنعام:121]، فهذا مجملٌ ظاهره يوجب أن ذبيحة الناسي للتسمية، والصبي الذي لم يبلغ لا تجوز، ثم فسّره الله بقوله: {حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةُ وَالدَّمُ وَلَحْمُ الْخِنزِيرِ وَمَا أُهِلَّ لِغَيْرِ اللَّهِ بِهِ وَالْمُنْخَنِقَةُ وَالْمَوْقُوذَةُ وَالْمُتَرَدِّيَةُ وَالنَّطِيحَةُ وَمَا أَكَلَ السَّبُعُ إِلاَّ مَا ذَكَّيْتُمْ وَمَا ذُبِحَ عَلَى النُّصُبِ}[المائدة:3]، فبيّن أن المراد بالآية الأولى أن النهيَ إنما ورد عن أكل ما أهل به لغير الله. (1/428)
ومن المجمل أيضاً قول الله تعالى: {الْيَوْمَ أُحِلَّ لَكُمُ الطَّيِّبَاتُ وَطَعَامُ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ حِلٌّ لَكُمْ وَطَعَامُكُمْ حِلٌّ لَهُمْ وَالْمُحْصَنَاتُ مِنَ الْمُؤْمِنَاتِ وَالْمُحْصَنَاتُ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِكُمْ إِذَا آتَيْتُمُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ مُحْصِنِينَ غَيْرَ مُسَافِحِينَ وَلاَ مُتَّخِذِي أَخْدَانٍ وَمَنْ يَكْفُرْ بِالإِيمَانِ فَقَدْ حَبِطَ عَمَلُهُ وَهُوَ فِي الآخِرَةِ مِنَ الْخَاسِرِينَ}[المائدة:5]، ثم فسر الله هذا فقال: {وَلاَ تَنكِحُوا الْمُشْرِكَاتِ حَتَّى يُؤْمِنَّ }[البقرة:221]، وقال: {إِنَّمَا الْمُشْرِكُونَ نَجَسٌ }[التوبة:28]، وقال تعالى: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لاَ تَتَّخِذُوا عَدُوِّي وَعَدُوَّكُمْ أَوْلِيَاءَ تُلْقُونَ إِلَيْهِمْ بِالْمَوَدَّةِ وَقَدْ كَفَرُوا بِمَا جَاءَكُمْ مِنَ الْحَقِّ}[الممتحنة:1]، فبيّن أن المراد بالآية الأولى: من آمن من أهل الكتاب، ويُؤيد ذلك قول الله تعالى: {وَإِنَّ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ لَمَنْ يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَمَا أُنْزِلَ إِلَيْكُمْ وَمَا أُنْزِلَ إِلَيْهِمْ خَاشِعِينَ لِلَّهِ لاَ يَشْتَرُونَ بِآيَاتِ اللَّهِ ثَمَنًا قَلِيلاً أُوْلَئِكَ لَهُمْ أَجْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ إِنَّ اللَّهَ سَرِيعُ الْحِسَابِ}[آل عمران:199]. (1/429)
ومن متشابه الكتاب قول الله تعالى: {لاَ تَقْرَبُوا الصَّلاَةَ وَأَنْتُمْ سُكَارَى حَتَّى تَعْلَمُوا مَا تَقُولُونَ}[النساء:43]، وقوله: {تَتَّخِذُونَ مِنْهُ سَكَرًا وَرِزْقًا حَسَنًا }[النحل:67]، وقوله: {يَسْأَلُونَكَ عَنِ الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ قُلْ فِيهِمَا إِثْمٌ كَبِيرٌ وَمَنَافِعُ لِلنَّاسِ وَإِثْمُهُمَا أَكْبَرُ مِنْ نَفْعِهِمَا}[البقرة:219]، ثم بيّن الله تعالى تحريم الخمر والميسر بآية محكمةٍ فقال عزّ من قائل: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّمَا الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ وَالأَنصَابُ وَالأَزْلاَمُ رِجْسٌ مِنْ عَمَلِ الشَّيْطَانِ فَاجْتَنِبُوهُ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ}[المائدة:90]، فبين الله تعالى بهذه الآية تحريم الخمر والميسر. (1/430)
وقد قال غيرنا: إن الآيات الأولة تُوجب الترخيص، وقد نُسخ الترخيص بهذه الآية، وهي ناسخةٌ له.
وعندنا أنه لم يكن في الخمر والميسر ترخيصٌ؛ لأن الله تعالى لم يكن ليُنعم على عباده بالعقول، ويجعلها أكبر حجةٍ عليهم ثم يحل لهم فعل شيءٍ يُفسد عليهم عقولهم. ويُحمل قوله تعالى: {لاَ تَقْرَبُوا الصَّلاَةَ وَأَنْتُمْ سُكَارَى حَتَّى تَعْلَمُوا مَا تَقُولُونَ}[النساء:43]، على سكر النوم. ويمكن أيضاً أن يكون هذا النهي نزل في أول الإسلام في وقت ضعفه، فلما تمكن الإسلام نهى عنه قطعاً وعزماً لأن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يوم دخل المدينة مهاجراً لو أمر أهل المدينة بكل الفروض لثقل ذلك عليهم ولامتنع أكثرهم عن الدّخول في الإسلام؛ ولتسهيله عليهم الدخول في الإسلام صلّى إلى بيت المقدس، وكانت قبلته الكعبة؛ وقد رُوي مثل هذا التفسير عن ابن عباس. (1/431)
وأما قوله: {تَتَّخِذُونَ مِنْهُ سَكَرًا وَرِزْقًا حَسَنًا}: فليس هذا بأمرٍ ولا إباحةٍ، وإنما هو إخبارٌ من الله تعالى بفعلهم أنهم يتخذون مما أخرج لهم من الأرض حراماً وحلالاً. والرزق الحسنُ هو الحلال، مثل الزبيب والخل وشبهه، ومثل ذلك كثير في الكتاب كقوله تعالى: {الَّذِينَ آمَنُوا يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَالَّذِينَ كَفَرُوا يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ الطَّاغُوتِ}[النساء:76]، فهذا إخبارٌ من الله؛ وليس هذا الإخبار يُوجب الأمر والإباحة. وقد قيل: إن السكر [هو] حبس الشيء. ويقال: سَكر النّهر إذا سدّه، وقال الله تعالى: {وَلَوْ فَتَحْنَا عَلَيْهِمْ بَابًا مِنَ السَّمَاءِ فَظَلُّوا فِيهِ يَعْرُجُونَ ، لَقَالُوا إِنَّمَا سُكّرَتْ أَبْصَارُنَا بَلْ نَحْنُ قَوْمٌ مَسْحُورُونَ}[الحجر:14،15]، فصحّ أن السكر هو المنع والحبس. (1/432)
وأما قول الله تعالى: {يَسْأَلُونَكَ عَنِ الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ قُلْ فِيهِمَا إِثْمٌ كَبِيرٌ وَمَنَافِعُ لِلنَّاسِ وَإِثْمُهُمَا أَكْبَرُ مِنْ نَفْعِهِمَا} فإن قول الله تعالى: {قُلْ فِيهِمَا إِثْمٌ كَبِيرٌ} وهذا تحريمٌ عامٌّ، وتشديدٌ، وتغليظٌ، والله لا ينقض ما أكّد، ولا يُحل ما حرّم.
وقوله: {وَمَنَافِعُ لِلنَّاسِ} ليس المراد به منافع للناس فيهما، ولا [في] ثمن الخمر وإنما المراد بالمنافع هاهنا أن الجلد الذي يكون على فاعلهما هو المنافع للناس؛ لأن شارب الخمر إذا جُلِدَ ازدجر هو وغيره، فكان جلده نافعاً للناس كما قال الله تعالى: {وَلَكُمْ فِي الْقِصَاصِ حَيَاةٌ يَاأُوْلِي الأَلْبَابِ}[البقرة:179]، وقد روي عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أنه قال: ((إن الله لم يجعل شفاءكم فيما حرم عليكم )) فصح ما قلنا. (1/433)
ومن غامض الكتاب قول الله تعالى: {وَلاَ تَجْهَرْ بِصَلاَتِكَ وَلاَ تُخَافِتْ بِهَا وَابْتَغِ بَيْنَ ذَلِكَ سَبِيلاً}[الإسراء:110]، وقد استدلت الباطنية ـ لعنهم الله ـ بهذه الآية على إبطال القرآن وإظهار عيبه، وقالوا: هو ينقض بعضه بعضاً، وإذا كان يتناقض كان باطلاً، وقالوا: قوله: {وَلاَ تَجْهَرْ بِصَلاَتِكَ وَلاَ تُخَافِتْ بِهَا} يوجب ترك الصلاة؛ لأنه بزعمهم لا يمكنه أن يُصلي بغير جهرٍ ولا مُخافتة.
فنقول: ليس هذا الأمر بمتناقضٍ وإنما أمَرَهُ أن لا يجهر بكل الصلاة، ولا يُخافت بكلها، وأمَرَهُ بأن يبتغي بين ذلك سبيلاً، وقد ابتغى صلى الله عليه وآله وسلم بين ذلك سبيلاً، وهو أنه جهر بالقرآة في صلاة الليل وصلاة الفجر، وخافت بها في صلاة الظهر والعصر، وجهر بالأذان، والإقامة والتكبير، وقوله: (سمع الله لمن حمده)، والتسليم في جميع الصلوات؛ وذلك مرويٌّ عنه صلى الله عليه وآله وسلم بالأخبار المتظاهرة، وهو إجماعُ الأمة، وقد أمرنا الله باتباعه فقال: {وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا}[الحشر:7] فبطل قول الباطنية. (1/434)
ومن القرآن ما هو في مخرجه عامٌّ، وفي معناه خاصٌّ؛ وذلك مثل قول الله تعالى: {إِنَّ اللَّهَ اصْطَفَى آدَمَ وَنُوحًا وَآلَ إِبْرَاهِيمَ وَآلَ عِمْرَانَ عَلَى الْعَالَمِينَ ، ذُرِّيَّةً بَعْضُهَا مِنْ بَعْضٍ وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ}[آل عمران:33،34]، فمخرج الآية يدل على أن الله تعالى اصطفى آل إبراهيم وآل عمران على العموم والكمال، والمعنى: أنه خصّ بالاصطفاء من آل إبراهيم وآل عمران من يستحق الاصطفاء لقوله تعالى: {لاَ يَنَالُ عَهْدِي الظَّالِمِينَ }[البقرة:124].
ومن الكتاب العام لجميع العباد، مثل قوله تعالى: {يَاعِبَادِ فَاتَّقُونِ }[الزمر:16].
ومنه العام لجميع الناس المتعبّدين مثل قوله تعالى: {يَاأَيُّهَا النَّاسُ اعْبُدُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ وَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ}[البقرة:21].
ومنه العام للمؤمنين مثل قوله: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا نُودِي لِلصَّلاَةِ مِنْ يَوْمِ الْجُمُعَةِ فَاسْعَوْا إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ}[الجمعة:9]، فهذا الأمر عامٌّ للمؤمنين دون الكافرين، وذلك لاستماع المؤمنين الأمر، وبُعد الكافرين عن (استماع) الأمر والطاعة. (1/435)
ومنه الخاص لبعض المؤمنين وهو مثل قوله تعالى: {إِنَّمَا وَلِيُّكُمُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَالَّذِينَ آمَنُوا الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلاَةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَهُمْ رَاكِعُونَ}[المائدة:55]، فهذه الآية خاصة لعلي أمير المؤمنين عليه السَّلام إذ لا يكون الولي إلا غير الموَلّى عليه.
ومنه ما يوجب العلم مثل قول الله تعالى: {اعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ يُحْييِ الأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا }[الحديد:17] وأشباه ذلك.
ومنه ما يوجب العمل مثل قوله تعالى: {وَأَقِيمُوا الصَّلاَةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ }[البقرة:43] وأشباه ذلك.
ومنه محذوف الجواب مثل قوله تعالى: {وَلَوْ أَنَّ قُرْآنًا سُيِّرَتْ بِهِ الْجِبَالُ أو قُطّعَتْ بِهِ الأَرْضُ أو كُلّمَ بِهِ الْمَوْتَى بَلْ لِلَّهِ الأَمْرُ جَمِيعًا}[الرعد:31]، المراد به: لكان هذا القرآن، فحذف الجوابُ لعلم السامع.
ومثل قول الله تعالى: {أَلْهَاكُمُ التَّكَاثُرُ ...} إلى قوله: {كَلاَّ لَوْ تَعْلَمُونَ عِلْمَ الْيَقِينِ ، لَتَرَوْنَ الْجَحِيمَ}[التكاثر:1-6]، أراد: كلا لو تعلمون علم اليقين لَمَا ألهاكم التكاثر، فحذف الجواب لعلم السامع.
ومنه مفهوم الخطاب في مثل قوله تعالى: {فَلاَ تَقُلْ لَهُمَا أُفّ }[الإسراء:23]، فَفُهِمَ من هذا الخطاب أنه لا يجوز للولد أن يفعل بالوالدين ما كان فوق قوله: (أُفٍّ)، كالضرب، والشتم، والغضب، وأمثال ذلك. (1/436)
ومثله قوله تعالى: {أَمَرْنَا مُتْرَفِيهَا فَفَسَقُوا فِيهَا }[الإسراء:16]، المراد به: أمرنا مترفيها بالطاعة ففسقوا فيها.
ومثله قوله تعالى: {فَمَنْ لَمْ يَسْتَطِعْ فَإِطْعَامُ سِتّينَ مِسْكِينًا }[المجادلة:4]، المراد به: من قبل أن يتماسّا، كسبيله في العتق والصيام، إذ المعنى واحدٌ. ومثل هذا موجودٌ في لغة العرب، قال الشاعر:
عفى الله عنكم كل شاةٍ برجلها
على نفسه يخطي الفتى ويصيب
أراد: كلّ شاةٍ برجلها معلّقة.
وأما القصص، والعبر والأمثال، والمواعظ والأخبار، وأمثال ذلك، فذلك ظاهر لا يحتاج إلى تفسير.
ومن الكتاب آياتٌ مكررة مثناة وذلك لاتِّساع الكلام، والإبلاغ والبيان من الله تعالى لعباده. فهذا ما نذكر في معاني الكتاب، وفيما ذكرنا دليل على ما لم نذكره.
فصل في الكلام في الاختلاف في الكتاب (1/437)
اعلم أن جميع الكفار قد اختلفوا [في الكتاب، ونفو الكتاب].
فقالت كفار العرب: إنه شِعْرٌ. لِمَا سمعوا فيه من الفصاحة والبلاغة والمعاني الحسنة.
وقال بعضهم: هو سحر. لمّا عجزوا أن يأتوا بمثله.
وقال أهل الكتابين: هو مأخوذ ومنتزع من كتبهم، وقالوا: النبيء صلى الله عليه وآله وسلم مُعَلَّمٌ علّمه بعضهم. وذلك لِمَا وجدوا فيه من تصديق ما قبله من الكتب، ولِمَا عرفوا فيه من الحق والقصص والأحكام والمعاني التي يجدونها في كتبهم، وقد ذكر الله قولهم فقال الله تعالى: {أَمْ يَقُولُونَ افْتَرَاهُ قُلْ إِنِ افْتَرَيْتُهُ فَلاَ تَمْلِكُونَ لِي مِنَ اللَّهِ شَيْئًا هُوَ أَعْلَمُ بِمَا تُفِيضُونَ فِيهِ كَفَى بِهِ شَهِيدًا بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ وَهُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ ، قُلْ مَا كُنْتُ بِدْعًا مِنَ الرُّسُلِ وَمَا أَدْرِي مَا يُفْعَلُ بِي وَلاَ بِكُمْ إِنْ أَتَّبِعُ إِلاَّ مَا يُوحَى إِلَيَّ وَمَا أَنَا إِلاَّ نَذِيرٌ مُبِينٌ ، قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ كَانَ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ وَكَفَرْتُمْ بِهِ وَشَهِدَ شَاهِدٌ مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ عَلَى مِثْلِهِ فَآمَنَ وَاسْتَكْبَرْتُمْ إِنَّ اللَّهَ لاَ يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ}[الأحقاف:8ـ10]. والشاهد الذي آمن به من بني إسرائيل هو عبد الله بن سلام رحمه الله، ولذلك قالت اليهود: إنه علّم رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم القرآن، فأنزل الله تعالى في ذلك آيةً، وحُجّةً باهرةً، حيث يقول تعالى: {وَلَقَدْ نَعْلَمُ أَنَّهُمْ يَقُولُونَ إِنَّمَا
يُعَلّمُهُ بَشَرٌ لِسَانُ الَّذِي يُلْحِدُونَ إِلَيْهِ أَعْجَمِيٌّ وَهَذَا لِسَانٌ عَرَبِيٌّ مُبِينٌ}[النحل:103]. (1/438)
وأيضاً فإنهم يعلمون أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أتى بقرآنٍ قبل أن يُسلِمَ عبد الله بن سلام، وأنه لو كان تعلّمه منه أو من غيره لتعلّم الكتابة، وأنه ما كان يكتب ولا ينبغي له، وأن صورة حروف القرآن بخلاف صورة حروف التوراة والإنجيل، قال الله تعالى: {وَكَذَلِكَ أَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ فَالَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ يُؤْمِنُونَ بِهِ وَمِنْ هَؤُلاَء مَنْ يُؤْمِنُ بِهِ وَمَا يَجْحَدُ بِآيَاتِنَا إِلاَّ الْكَافِرُونَ ، وَمَا كُنْتَ تَتْلُو مِنْ قَبْلِهِ مِنْ كِتَابٍ وَلاَ تَخُطُّهُ بِيَمِينِكَ إِذًا لاَرْتَابَ الْمُبْطِلُونَ}[العنكبوت:47،48]، فما بَقيَ لأهل الكتاب من حجة.
وأما كفار العرب فإنهم قالوا: هو شعرٌ، ومنهم من قال: هو سحرٌ.
وقد علموا أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ما كان يقول الشعر، ولا ينبغي له، ولا كان ممن يتعلّق بكتب السحر، وأنه كان أمّياً لا يقرأ كتاباً، ولا يخطّه، وقد احتج الله تعالى على جميع كفار العرب والعجم بحجّةٍ واحدةٍ لم يجدوا لها جواباً بقوله: {قُلْ لَئِنِ اجْتَمَعَتِ الإِنسُ وَالْجِنُّ عَلَى أَنْ يَأْتُوا بِمِثْلِ هَذَا الْقُرْآنِ لاَ يَأْتُونَ بِمِثْلِهِ وَلَوْ كَانَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ ظَهِيرًا}[الإسراء:88]، وقال تعالى: {أَفَلاَ يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ وَلَوْ كَانَ مِنْ عِنْدِ غَيْرِ اللَّهِ لَوَجَدُوا فِيهِ اخْتِلاَفًا كَثِيرًا }[النساء:82]، وقال تعالى: {وَإِنَّهُ لَتَنْزِيلُ رَبِّ الْعَالَمِينَ ، نَزَلَ بِهِ الرُّوحُ الأَمِينُ ، عَلَى قَلْبِكَ لِتَكُونَ مِنَ الْمُنذِرِينَ ، بِلِسَانٍ عَرَبِيّ مُبِينٍ ، وَإِنَّهُ لَفِي زُبُرِ الأَوَّلِينَ ، أَوَلَمْ يَكُنْ لَهُمْ آيَةً أَنْ يَعْلَمَهُ عُلَمَاءُ بَنِي إِسْرَائِيلَ}[الشعراء:192ـ197]. (1/439)
وأما من خالف في القرآن من المسلمين فإنهم المجبرة، وهم فيه فرقتان: فقالوا جميعاً: (القرآن قديم). ثم افترقوا.
فقالت فرقة: هو هذا المتلوّ.
وقالت فرقة: ليس هو به، لكنّه عبارةٌ عنه، وليس بحروفٍ بل هو معنىً في النفس وهذا حكايةٌ عنه.
وقالت فرقة: هو هذا المتلوّ وهو قديم. وقد قدمنا الاحتجاج عليهم بما فيه كفاية.
وقالت المطرفية: القرآن صفةٌ لقلب الملَك ضرورية لا تفارق قلبه، والضروريُّ عندهم لا يفارق شبحه، وهو عرضٌ حالٌّ في قلب الملَك موجود فيه. وقالوا: هذا الذي معنا عبارةٌ عنه وحكاية، وليس هو به، وقد قدمنا الردَّ عليهم بما فيه كفاية عند ذكر الأعراض، إلا أن قولهم: (هو عرضٌ موجودٌ في قلب الملَك) ينقض عليهم اعتقادهم أن العرضَ لا يحلُّ في الجسم. (1/440)
ومن الرد عليهم وعلى المجبرة: أن الله تعالى ما تعبّد العباد إلا بهذا المتلوِّ، ولا تحدّى الكفار إلا بهذا المتلوّ.
باب حقيقة معرفة النبيء صلى الله عليه وآله وسلم (1/441)
اعلم أنه لما ثبت أن الله ما خلق الخلق إلا لمصلحة، وما خلق المتعبَّدين إلا ليعبدوه، وأنه قد أعطاهم من الاستطاعة والعقل ما يبلغون به المراد من التكليف العقلي.
والتكليف العقلي معرفة العبد لخالقه ونفي صفات النقص عنه في ذاته وفي أفعاله، ومعرفة النعمة والبلاء والجزاء، واستحسان الحسن والعمل به، واستقباح القبيح والتجنب له. وكان العقل يحكم بحصول الحاجة الداعية إلى التكليف الشّرعي؛ لأن العقل لا يُؤدي إلى معرفة كيفية العبادة كالطهارة والصلاة والزكاة والصوم والحج، وأشباه ذلك.
وكان التكليف الشرعي لا يحصل إلا برسول من عند الله تعالى، وكان إرسال الرسل من تمام الحجة وكمال النعمة.
ولما كان العقل الذي هو أكبر حُجج الله على عبده يجده العبد في نفسه لنفسه ولم يكن العقل غير استحسانه للحسن، واستقباحه للقبيح، ونظره وتمييزه لنفسه بنفسه وجب أن يكون الرسول من الله تعالى إلى الناس من أنفسهم؛ ولأنه لو كان من غيرهم لثقُل ذلك عليهم، ولما أنسوا إليه بجميع حوائجهم، فحكم العقل أن الكتاب والرسول من الله من تمام الحجة وكمال النعمة، وقد قال الله تعالى: {كَانَ النَّاسُ أُمَّةً وَاحِدَةً فَبَعَثَ اللَّهُ النَّبِيِّينَ مُبَشِّرِينَ وَمُنذِرِينَ وَأَنزَلَ مَعَهُمُ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ لِيَحْكُمَ بَيْنَ النَّاسِ فِيمَا اخْتَلَفُوا فِيهِ وَمَا اخْتَلَفَ فِيهِ إِلاَّ الَّذِينَ أُوتُوهُ مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَتْهُمُ الْبَيِّنَاتُ بَغْيًا بَيْنَهُمْ فَهَدَى اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا لِمَا اخْتَلَفُوا فِيهِ مِنَ الْحَقِّ بِإِذْنِهِ وَاللَّهُ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ}[البقرة:213]، وقال تعالى: {وَمَا كُنَّا مُعَذّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولاً }[الإسراء:15]، وقال تعالى: {لَقَدْ مَنَّ اللَّهُ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ إِذْ بَعَثَ فِيهِمْ رَسُولاً مِنْ أَنْفُسِهِمْ }[آل عمران:164]. (1/442)
قوله تعالى: {مِنْ أَنْفُسِهِمْ} يريد: من بعضهم؛ قال الله تعالى: {وَإِذْ أَخَذْنَا مِيثَاقَكُمْ لاَ تَسْفِكُونَ دِمَاءَكُمْ وَلاَ تُخْرِجُونَ أَنفُسَكُمْ مِنْ دِيَارِكُمْ ثُمَّ أَقْرَرْتُمْ وَأَنْتُمْ تَشْهَدُونَ ، ثُمَّ أَنْتُمْ هَؤُلاَء تَقْتُلُونَ أَنفُسَكُمْ وَتُخْرِجُونَ فَرِيقًا مِنْكُمْ مِنْ دِيَارِهِمْ...}الآية[البقرة:84،85]، فصحّ أنه أراد بقوله: {مِنْ أَنْفُسِهِمْ} من بعضهم. ومثل هذا قوله تعالى: {هُوَ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَجَعَلَ مِنْهَا زَوْجَهَا}[الأعراف:189]، يريد أنه خلق الناس بعضهم من بعض وزوّج بعضهم ببعضٍ. ولا يصلح رسول إلى شيء إلا من جنسه قال الله تعالى لنبيئه صلى الله عليه وآله وسلم: {قُلْ لَوْ كَانَ فِي الأَرْضِ مَلاَئِكَةٌ يَمْشُونَ مُطْمَئِنّينَ لَنَزَّلْنَا عَلَيْهِمْ مِنَ السَّمَاءِ مَلَكًا رَسُولاً}[الإسراء:95]، فثبت أن الرسول من الله إلى الناس لا يكون إلا منهم. (1/443)
ولما صح أن الله تعالى مُتَعالٍ عن مشابهة خلقه، ولم يكن لِيُشَافِهَ أحداً ولا يُكلمه كما يُكلم ذو اللسان واللهوات، ولم يكن العلم يَصِلُ منه إلى العبد إلا بالوحي.
والوحيُ ينقسم على وجوه:
فمنها الإلهام؛ كما ألهم الله الملك الأعلى -صلى الله عليه- القرآن وغيره من الكتب.
ومن الإلهام ما ألهم الله [به] الحيوان من استجلاب المنافع والنفار عن المضار كإلهام النحل، وغيره مما لا يعقل ومما يعقل، فهذا وحيٌ؛ قال الله تعالى: {وَأَوْحَى رَبُّكَ إِلَى النَّحْلِ أَنِ اتَّخِذِي مِنَ الْجِبَالِ بُيُوتًا وَمِنَ الشَّجَرِ وَمِمَّا يَعْرِشُونَ}[النحل:68]. (1/444)
ومن الوحي ما أراه الله تعالى النبيء صلى الله عليه وآله وسلم في المنام قال الله تعالى -حاكياً عن إبراهيم- صلى الله عليه- من قوله لابنه إسماعيل -صلى الله عليه: {يَابُنَيَّ إِنّي أَرَى فِي الْمَنَامِ أَنّي أَذْبَحُكَ فَانظُرْ مَاذَا تَرَى}[الصافات:102]، وقال الله تعالى لنبيئه صلى الله عليه وآله وسلم: {إِذْ يُرِيكَهُمُ اللَّهُ فِي مَنَامِكَ قَلِيلاً وَلَوْ أَرَاكَهُمْ كَثِيرًا لَفَشِلْتُمْ وَلَتَنَازَعْتُمْ فِي الأَمْرِ}[الأنفال:43].
ومن الوحي: الكلام الذي يُحدثه الله في بعض ما خلق، مما لا ينطق، كالكلام الذي سمعه موسى صلى الله عليه وسلم من الشجرة.
ومن الوحي ما أتى به جبريل عليه السَّلام من المَلَكِ الأعلى إلى النبيء المصطفى؛ وقد حكى الله مثل ذلك فقال: {وَمَا كَانَ لِبَشَرٍ أَنْ يُكَلّمَهُ اللَّهُ إِلاَّ وَحْيًا أَوْ مِنْ وَرَاءِ حِجَابٍ أو يُرْسِلَ رَسُولاً فَيُوحِيَ بِإِذْنِهِ مَا يَشَاءُ إِنَّهُ عَلِيٌّ حَكِيمٌ ، وَكَذَلِكَ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ رُوحًا مِنْ أَمْرِنَا مَا كُنْتَ تَدْرِي مَا الْكِتَابُ...}الآية[الشورى:51،52]، فصحّ أن كلام الله هو الوحي، و(أنه) ليس بنطقٍ كما قالت المشبهة. وصح أن كلام الله محدثٌ مخلوقٌ.
وأما قوله تعالى: {أَوْ مِنْ وَرَاءِ حِجَابٍ} أراد: أو كلاماً يسمعه العبد من غير ناطقٍ مشاهدٍ، كما سمع موسى -صلى الله عليه- الكلام من الشجرة. وليس بين الله وبين خلقه حجابٌ؛ لأنه لو كان بينه وبين خلقه حجابٌ لكان مشابهاً لخلقه، ولكان غائباً عن المحتجب منه، تعالى الله عن ذلك علوًّا كبيراً. وقد روي عن الحارث عن علي أمير المؤمنين عليه السَّلام أنه دخل السوق فإذا هو برجل مُولٍّ ظهره يقول: لا والذي احتجب بالسبع. فضربه عليٌّ عليه السَّلام على ظهره ثم قال: من الذي احتجب بالسبع؟ قال: الله، يا أمير المؤمنين. قال: أخطأتَ ثكلتك أمك إن الله عزّ وجل ليس بينه وبين خلقه حجاب؛ لأنه معهم أينما كانوا، قال: فما كفارة ما قلتُ يا أمير المؤمنين؟ قال: الله معك أينما كنتَ. قال: أطعم المساكين؟ قال: لا إنما حلفتَ بغير ربك. (1/445)
فلما كان العلم من الله لا يصل إلى الناس إلا من الوحي، وكان الوحيُ لا يصلحُ إلى كل الناس لوجوه:
منها أنه لو كان يُوحى إلى كل إنسانٍ في نفسه لكان ذلك سبباً لفساد الناس، ولكان كلُّ ظالمٍ يدّعي أنه أُذن له في الظلم، ولما تبيّن المطيعُ من العاصي.
ومنها أنه إذا لم يكن أمر الناس إلى واحدٍ افترقوا، وإذا افترقوا تباغضوا وتحاسدوا وفسدوا.
ومنها: أن أعداء الله لا يستحقون أن يُوحي الله إليهم لكفرهم ومعصيتهم. فلما كان ذلك لا يصلحُ، حَكَمَ العقلُ بأن الله لا يُوحي إلا إلى من ارتضى من عباده، وأنه يُرسل الرسول إلى أمّته ويقرنُ طاعته بطاعته، فإذا علم الله من الرسول الصّدق والإخلاص، والقُوّة على إبلاغ الرّسالة، والصّبر والعزم؛ أوحى اللهُ إليه، وأرسله إلى خلقه. (1/446)
ولو أرسل من لا يُعرف بالصدق والصبر والطهارة لأدّى إلى وجوه:
منها أن يكون عند الناس من أهل التهمة والظّنة، لما يعرف منه من خلاف الصدق، ولم يكن أحدٌ ليصدقه لما قد عرف منه.
ومنها أن الله تعالى لم يكن ليُرسل لصلاح الناس من لم يُصلح نفسه.
ومنها أنه لم يكن ليبلِّغ ما أمر به إذا لم يكن صادقاً نقياًّ مخلصاً. فصح أن الله لا يُرسل إلا الصادق الصابر المخلص البر التقي النقي طيِّب الباطن والظاهر.
ولما كان الرسولُ لا يُصدَّق إلا ببرهانٍ بيّن، وحجّة واضحةٍ أظهر الله على يدي الرسول من الدلائل والآيات والبراهين والمعجزات ما يعجز عنه غيره من الناس ليصحّ ما هو عليه من البناء والأساس.
وقد قصّ الله قصص الأنبياء"، وذكر معجزاتهم وما كان من اجتهادهم وإظهار براهينهم ودلالاتهم، قال عزّ من قائلٍ: {وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا رُسُلاً مِنْ قَبْلِكَ مِنْهُمْ مَنْ قَصَصْنَا عَلَيْكَ وَمِنْهُمْ مَنْ لَمْ نَقْصُصْ عَلَيْكَ وَمَا كَانَ لِرَسُولٍ أَنْ يَأْتِيَ بِآيَةٍ إِلاَّ بِإِذْنِ اللَّهِ فَإِذَا جَاءَ أَمْرُ اللَّهِ قُضِيَ بِالْحَقِّ وَخَسِرَ هُنَالِكَ الْمُبْطِلُونَ}[غافر:78].
فصل في الكلام في نبيئنا محمد صلى الله عليه وآله وسلم (1/447)
فأول ما نذكر من أمره صلى الله عليه وآله وسلم أنه كان عارفاً لربّه مرضياً برًّا تقيًّا طاهراً نقيًّا، وكان عالماً بالتكليف العقلي، ضالاًّ عن التكليف الشرعي، وكان يأخذ بعض ما يفعل من البرّ والتُّقى من عقله، وأخذ بعضه من جدِّه عبد المطلب، فإنه رُوي عنه صلى الله عليه وآله وسلم أنه قال: ((يبعث عبد المطلب يوم القيامة أمةً وحده ، قال: وكان لا يستقسم بالأزلام، ولا يعبد الأصنام و(كان) يقول: أنا على دين إبراهيم)).
وقال صلى الله عليه وآله وسلم: ((إن عبد المطلب سَنّ خمساً من السُّنن أجراها عزَ وجلّ في الإسلام: حرّم نساء الآباء على الأبناء، فأنزل الله تعالى: {وَلاَ تَنكِحُوا مَا نَكَحَ آبَاؤُكُمْ مِنَ النّسَاءِ }[النساء:22]. وسنّ الدية في القتيل مائةً من الإبل فجرت في الإسلام. وكان يطوف بالبيت سبعة أشواطٍ ثم يقفُ على باب الكعبة فيحمد الله عزّ وجلّ ويُثني عليه، وكانت قريش تطوف [بالبيت] ما شاءت قلّ أو كثر، فسنّ عبد المطلب سبعةً سبعةً. ووجد كنزاً فأخرج خُمسه فتصدّق به، فجرى ذلك في الإسلام. ولما حفر زمزم سمّاها سقاية الحاجِّ، فأنزل الله تعالى قرآناً يقول: {أَجَعَلْتُمْ سِقَايَةَ الْحَاجِّ وَعِمَارَةَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ ...}الآية[التوبة:19])). وروي عن سفيان بن عيينة قال: قيل لعبد المطلب: لِمَ سميتَ ابن ابنك مُحمداً وليس هو من أسماء آبائك؟ قال: أردت أن يحمده أهل السماء وأهل الأرض، فأطرق سفيان ساعةً ثم رفع رأسه فقال:
فشقّ لَه من اسمه لِيُجلّهُ
فذو العرشِ محمودٌ وهذا محمد (1/448)
فهدى الله عبد المطلب إلى اسم النبيء صلى الله عليه وآله وسلم، وصدق رجاءه فيه وأنبته نباتاً حسناً، وجعله من أشرف منصبٍ في العرب، وأكرم بيتٍ وأعلاهم شأناً، وأفصحهم لساناً، وأقواهم سلطاناً، وأعزّهم مكاناً، وأمضاهم حساماً. وقد روي عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أنه قال: ((إن الله اصطفى كنانة من بني إسماعيل ، واصطفى من كنانة قريشاً، واصطفى من قريش بني هاشم، واصطفاني من بني هاشم)). فلما اختاره الله واصطفاه، أرسله إلى الأبيض والأسود والأحمر.
وكان أول ما ظهر له من المعجزات نزول جبريل عليه السَّلام عليه صلى الله عليه وآله وسلم، وكان جبريل رسولاً من الله إلى محمد صلى الله عليه وآله وسلم قال الله: {جَاعِلِ الْمَلاَئِكَةِ رُسُلاً أُولِي أَجْنِحَةٍ مَثْنَى وَثُلاَثَ وَرُبَاعَ يَزِيدُ فِي الْخَلْقِ مَا يَشَاءُ إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ}[فاطر:1].
والذي دلّ محمداً صلى الله عليه وآله وسلم على أن جبريل -صلى الله عليه- رسول من الله (إليه) ما أراه من المعجزة الخاصّة لنفسه؛ لأنه لو لم يُرِهِ معجزةً لنفسه لم يتحقّق صدقه، كما أنه لا يتحقق صِدْق النبيء صلى الله عليه وآله وسلم إلا بمعجزة.
فأول ما نزل جبريل إلى النبيء صلى الله عليه وآله وسلم ما رُوي عن جعفر بن محمد عن أبيه عن جده عن علي" قال: نزل إلى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم جبريل وعليه جُبّة من سُندس بأعلى الوادي وهو يرعى غنماً لأبي طالب، فأخرج [له] درنوكاً من درانيك الجنة فأجلسه عليه، ثم أخبره أنه رسول الله (إليه) يأمره بما أراد الله أن يأمره به، فلما أراد جبريل ـ صلى الله عليه ـ أن يقوم أخذ رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم بطرف ثوبه ثم قال له: ما اسمك؟ فقال: جبريل، فقام رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فلحق بالغنم فما مرّ بشجرة ولا مدرةٍ إلا وهي تسلّم عليه تقول: السلام عليك يا رسول الله. (1/449)
ومن معجزات جبريل -صلى الله عليه- وسلام الخاصة ليُصدِّقه محمدٌ صلى الله عليه وآله وسلم: ما روي أن النبيء صلى الله عليه وآله وسلم رأى جبريل صافاًّ في الهواء قد سدّ الأفق. ورُوي أن جبريل جاءه صلى الله عليه وآله وسلم فأخرجه إلى البقيع وانتهى به إلى مقبرةٍ فإذا جثوة في التراب، فضربها برجله وقال: قم بإذن الله، فانتفض التراب فإذا شخص قد صار حيًّا وهو يقول: يا حسرتا على ما فرطت في جنب الله، ثم ضربها فعادت إلى ما كانت عليه، وانتهى به إلى جثوة أخرى فضربها فقام صاحبها وهو يقول: الحمد لله، ثم ضربها فعادت إلى ما كانت عليه، فقال: يا محمد فعلى هذا تبعثون.
وأما معجزات محمد رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فكثيرةٌ منها: ما روي بالأخبار المتواترة وإجماع الأمة.
فمن معجزاته صلى الله عليه وآله وسلم: مجيء الشجرة إليه، ورجوعها إلى موضعها، وإنباء الناس بما في صدورهم، وإعلامهم بما في ضمائرهم، وذلك من إنباء الله بذلك، وإعلامه إياه به، ومثل ما كان منه في شاة أم معبد، و[مثل] ما كان منه من الفعل في التمرات من غداء جابر بن عبد الله، وذلك أنه أخذ كفًّا من تمرٍ فوضعه في وسط ثوبٍ كبيرٍ ثم حرّكه ودعا فيه، فزاد وربا حتى امتلأ الثوب تمراً، ومثل ما كان منه في عشاء جابر بن عبد الله وهو صاع شعيرٍ وعناق صغيرةٍ أكل منها ألف رجل، وما كان منه في الوشل الذي ورده هو والمسلمون في غزوة تبوك فوضع يده تحت الوشل فوشل فيها مِلأها من الماء ثم ضربه ودعا فيه فانفجر بمثل عنق البعير. (1/450)
ومن معجزاته صلى الله عليه وآله وسلم: ما روي أن يهودياً قال لعلي أمير المؤمنين عليه السَّلام: إن موسى بن عمران عليه السَّلام قد أُعطي العصا فكان ثعباناً. قال: فقال له علي عليه السَّلام: قد كان ذلك، ومحمدٌ صلى الله عليه وآله وسلم قد أُعطيَ ما هو أفضل من هذا: إن رجلاً كان يطلب أبا جهل بن هشام لعنه الله بدينٍ كان له عنده فلم يقدر عليه، واشتغل عنه وجلس يشرب، فقال له بعض المستهزئين: من تطلب؟ فقال: (أطلب) عمرو بن هشام (يعني أبا جهل) ولِيَ عليه دينٌ. فقالوا: ندلُّك على من يستخرج لك حقك؟ قال: نعم، فدلوه على النبيء صلى الله عليه وآله وسلم، وكان أبو جهل يقول: ليت لمحمدٍ إليّ حاجة فأسخر به وأردّه، فأتى الرجل إلى النبيء صلى الله عليه وآله وسلم فقال: يا محمد بلغني أن بينك وبين أبي الحكم حسباً، وأنا أستشفع بك إليه، فأتاه فقال له: ((قم فأدِّ الرجل حقه )) فقام مسرعاً حتى أدّى إليه حقه، فلما رجع إلى مجلسه قال له بعض أصحابه: كل ذلك فرقاً من محمدٍ؟ قال: ويحكم أعذروني إنه لما أقبل إليَّ رأيت عن يمينه رجالاً بأيديهم حرابٌ تلألأ، وعن يساره ثعبانين تصطكُّ أسنانهما، وتلمع النيران من أبصارهما، فلو امتنعت لم آمن أن يبعجوا بالحراب بطني، ويبتلعني الثعبانان، فهذا أكبر مما أعطي موسى -صلى الله عليه- ثعبانٌ بثعبان موسى، وزاد الله محمداً صلى الله عليه وآله وسلم ثغباناً وثمانية أملاك. (1/451)
ومن معجزاته صلى الله عليه وآله وسلم ما رُوي أنه لما كان في غزوة تبوك ضلّت ناقته، فنادى الناس: [أن] أقيموا فإن ناقة رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قد ضلّت، فاجتمع ناسٌ من المنافقين فقالوا: يحدثنا عن القيامة وما يكون في غدٍ وما يعلم مكان ناقته!! فأتاه جبريل -صلى الله عليه- فقال: أترى أولئك الجلوس إنهم يقولون: يحدثنا عن القيامة وما يكون في غدٍ ولا يعلم مكان ناقته. فإن ناقتك في شعب كذا وكذا، متعلِّق زمامها بشجرةٍ. فنادى النبيء صلى الله عليه وآله وسلم بالصلاة جامعة، فحمد الله وأثنى عليه ثم قال: ((إن أناساً يزعمون أنّي أحدثهم عن القيامة وما يكون في غدٍ ولا أعلم مكان ناقتي، وإن ناقتي في شعب كذا وكذا متعلِّقٌ زمامها بشجرةٍ تجتر)) فبادر المسلمون إليها حتى أتوها. (1/452)
ومن معجزاته صلى الله عليه وآله وسلم ما روي أنه كان يخطب على الجِذْعِ من قبل أن يُنصب المنبر، فلما نصب وتحوّل النبيء صلى الله عليه وآله وسلم حنّ الجذع كما يحن الفصيل فلم يسكن حتى ضمّه إليه النبيء صلى الله عليه وآله وسلم .
ومن معجزاته صلى الله عليه وآله وسلم: إذعان البعير الصّائل، وإصغاؤه رأسه إليه، وسجوده بين يديه، فقيل له: سجد لك يا رسول الله حين رآك، فقال: ((لا، لا تبلغوا بي ما لم أبْلغ فلعمري ما سجد لي ولكن الله سخّره لي)).
ومن معجزاته صلى الله عليه وآله وسلم ما كان من الاستسقاء.
ومعجزاته صلى الله عليه وآله وسلم كثيرةٌ، وأكبرها القرآن، فإنه من أكبر معجزاته صلى الله عليه وآله وسلم. والدليل على أنه معجزٌ أن الله تحدّى به من جحده بأن يأتي بسورةٍ من مثله فما قدروا، قال الله تعالى: {وَإِنْ كُنتُمْ فِي رَيْبٍ مِمَّا نَزَّلْنَا عَلَى عَبْدِنَا فَأْتُوا بِسُورَةٍ مِنْ مِثْلِهِ}[البقرة:23]، وقال تعالى: {أَمْ يَقُولُونَ افْتَرَاهُ قُلْ فَأْتُوا بِعَشْرِ سُوَرٍ مِثْلِهِ مُفْتَرَيَاتٍ }[هود:13]، وقال تعالى: {قُلْ لَئِنِ اجْتَمَعَتِ الإِنسُ وَالْجِنُّ عَلَى أَنْ يَأْتُوا بِمِثْلِ هَذَا الْقُرْآنِ لاَ يَأْتُونَ بِمِثْلِهِ وَلَوْ كَانَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ ظَهِيرًا}[الإسراء:88]. فتحدّى العرب مع فصاحتهم وبلاغتهم، وكانوا يتباهون بالبلاغة، ويتفاخرون بالفصاحة، ويرون ذلك من أشرف المناقب وأفخر المآثر، فكفّوا عن المعارضة فيه، وأمسكوا عن المحاورة، مع أنهم كانوا من أحرص الناس في توهين أمر النبيء صلى الله عليه وآله وسلم، وفي إطفاء نوره، قال الله تعالى: {يُرِيدُونَ لِيُطْفِئُوا نُورَ اللَّهِ بِأَفْوَاهِهِمْ وَاللَّهُ مُتِمُّ نُورِهِ وَلَوْ كَرِهَ الْكَافِرُونَ}[الصف:8]. فكان من كفار العرب والعجم أنهم أعرضوا عن هذا التحدّي، وعجزوا أن يأتوا بسورةٍ مثله وعادوا إلى الحرب. وفي الشاهد أنه إذا تُحُدِّيَ إنسانٌ بفعل شيءٍ ولم يفعله، وعاد إلى غيره أنه قد أعجزه. (1/453)
وأيضاً ففي القرآن من الإعلام بالغيب ما قد تبيّن منه شيءٌ مثل قوله: {إِذْ يَعِدُكُمُ اللَّهُ إِحْدَى الطَّائِفَتَيْنِ أَنَّهَا لَكُمْ }[الأنفال:7] فكان ذلك. ومثل قوله: {الم ، غُلِبَتِ الرُّومُ ، فِي أَدْنَى الأَرْضِ وَهُمْ مِنْ بَعْدِ غَلَبِهِمْ سَيَغْلِبُونَ}[الروم:1-3]، فكان ذلك. ومثل قوله: {لَقَدْ صَدَقَ اللَّهُ رَسُولَهُ الرُّؤْيَا بِالْحَقِّ لَتَدْخُلُنَّ الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ إِنْ شَاءَ اللَّهُ آمِنِينَ}[الفتح:27]، فكان ذلك، وأمثال ذلك كثير. (1/454)
ومن الدليل على أن القرآن من أكبر معجزات النبيء صلى الله عليه وآله وسلم قول الله تعالى: {أَوَلَمْ يَكْفِهِمْ أَنَّا أَنْزَلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ يُتْلَى عَلَيْهِمْ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَرَحْمَةً وَذِكْرَى لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ}[العنكبوت:51].
وفي القرآن أيضاً خلّةٌ أخرى وهو أنه سهلٌ معجزٌ، بليغٌ موجزٌ، ولا يوجد في كلام المخلوقين، مثل قوله تعالى: {قُلْ مَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ وَمَا أَنَا مِنَ الْمُتَكَلّفِينَ ، إِنْ هُوَ إِلاَّ ذِكْرٌ لِلْعَالَمِينَ ، وَلَتَعْلَمُنَّ نَبَأَهُ بَعْدَ حِينٍ}[ص:86ـ88]، ففي هذه الكلمات ـ من الإبلاغ والإيجاز والمعاني العجيبة والدلائل الغريبة ـ ما يدلّ على أنه ليس يقدر على مثله أحدٌ من المخلوقين، فالحمد لله رب العالمين.
فصل في الكلام في معنى الرسالة (1/455)
اعلم أن الله لما خلق عباده، أعد لهم الجنة والنار والثواب والعقاب، فأعدّ لمن أطاعه الجنة، وأعدّ لمن عصاه النار. ثم أرسل إليهم رسولاً يدعوهم إلى الجنة ويُحذرهم من النار، فمن اتّبع الرسول دخل الجنة، ومن تخلّف عنه دخل النار. وقد روي عن جابر بن عبد الله الأنصاري قال: خرج علينا رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يوماً فقال: ((إني رأيت في المنام كأن جبريل عليه السَّلام عند رأسي، وميكائيل عند رجلي، فيقول أحدهما لصاحبه: إضرب له مثلاً، فقال: إسمع -سمعت أذناك- واعقل -عقل قلبك- إنما مثلك ومثل أمّتك كمثل ملك اتّخذ داراً، ثم بنى فيها بيتاً، ثم جعل فيه مائدةً، ثم بعث رسولاً يدعو الناس إلى طعامه، فمنهم من أجاب الرسول، ومنهم من تركه، فالله عزّ وجلّ هو الملك، والدّار الإسلام، والبيت الجنّة)) فكان كذلك رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أبلغ الرسالة، وأدّى الأمانة، وأنذر وحذّر، ورغّب وعلّم، وبصّر وبيّن، وفسّر، فهدى الله به إلى الإيمان، وأظهر دينه على الأديان، قال عزّ من قائلٍ: {هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدَى وَدِينِ الْحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلّهِ وَلَوْ كَرِهَ الْمُشْرِكُونَ}[الصف:9]، وقال تعالى: {هُوَ الَّذِي بَعَثَ فِي الأُمِّيِّينَ رَسُولاً مِنْهُمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ وَيُزَكّيهِمْ وَيُعَلّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَإِنْ كَانُوا مِنْ قَبْلُ لَفِي ضَلاَلٍ مُبِينٍ ، وَآخَرِينَ مِنْهُمْ لَمَّا يَلْحَقُوا بِهِمْ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ ،
ذَلِكَ فَضْلُ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ}[الجمعة:2-4]، فختم الله به الرسل، ونسخ بملّته الملل، فالحمد لله على فضله. (1/456)
فصل في الكلام في اختلاف الناس في النبيء صلى الله عليه وآله وسلم (1/457)
فإنه لا خلاف بين الأمة فيما ذكرنا من نبوءة نبيئنا محمد صلى الله عليه وآله وسلم، وأنه خاتم النبيئين، وسيد المرسلين، ورسول رب العالمين، وبمعجزاته، وأن كل ما جاء به صلى الله عليه وآله وسلم حق، وجميع ما نطق به صلى الله عليه وآله وسلم صدق، وإنما وقع الخلاف بيننا وبين الكفار؛ فإن كفار العرب وكفار العجم جحدوا محمداً صلى الله عليه وآله وسلم وما جاء به من ربه.
وقالت البراهمة بالتكليف العقلي، ونفوا التكليف الشرعي، وجحدوا الرسل، وعلتهم أن الصانع عالمٌ حكيمٌ، والعالم الحكيم لا يُرسل الرسل وهو يعلم أنه يُعصى.
ومنهم من يُقرّ بآدم و[منهم من يقر] بولده شيث عليهما السلام. ومنهم من يقرّ بآدم عليه السَّلام.
والحجّة على الذين نفوا جميع الأنبياء قريبةٌ؛ وذلك أنهم قد أقروا بالتكليف العقلي، فكما كان في التكليف العقلي صلاحٌ للعقلاء كذلك التكليف الشرعي، ولما لم يكن التكليف الشرعي يحصل إلا بالإرسال من الله تعالى وجب إرسال الرسل.
والحجة على الذين أقروا بآدم عليه السَّلام أقربُ، وذلك أنه إذا كان في نبوءة آدم وشيث صلاح فكذلك سائر الرسل.
وأما قولهم: (إن العالِمَ الحكيمَ لا يُرسل الرسل وهو يعلم أنه يُعصى). فالحجة [عليهم] أنه لما جاز أن يكلّف الله عباده التكليف العقلي، وأراد منهم العمل بما كلّفهم -وهو يعلم أن بعضهم يعمل بما كلّفه وينتفع به، وبعضهم لا يعمل بما أراد منه ولا ينتفع به- فكذلك التكليف الشرعي يجوز أن يُرسل الله الرسل إلى عباده وهو يعلم أنّ منهم من يطيع وينتفع ومنهم من لا ينتفع ولا يطيع، ولولا إرسال الله الرسل لما تبيّن المطيع من العاصي، ولو عذّب الله العاصي ولم يُرسل إليه رسولاً لقال: لو جاءني رسول لأطعت ولعملتُ ما أمرت به. وقد قال الله تعالى: {وَلَوْ أَنَّا أَهْلَكْنَاهُمْ بِعَذَابٍ مِنْ قَبْلِهِ لَقَالُوا رَبَّنَا لَوْلاَ أَرْسَلْتَ إِلَيْنَا رَسُولاً فَنَتَّبِعَ آيَاتِكَ مِنْ قَبْلِ أَنْ نَذِلَّ وَنَخْزَى}[طه:134]. (1/458)
وأيضاً فإن الله تعالى ما خلق المتعبَّدين إلا للعبادة، وقد علم أن أكثرهم لا يعبدونه، فلم يمنعه علمه بمعصية من يعصيه عن خلق المتعبَّدين، وتعبدهم لما علم أنه يلحق المطيعين من الصلاح والانتفاع؛ ولأن تبلغ الحجّة على العاصين فكذلك الإرسال من الله تعالى.
وأنكرت اليهود نسخ الشرائع مع جحدهم لمحمدٍ صلى الله عليه وآله وسلم وقد عرفوه ووجدوه مكتوباً عندهم في التوراة كما قال تعالى: {النَّبِيَّ الأُمِّيَّ الَّذِي يَجِدُونَهُ مَكْتُوبًا عِنْدَهُمْ فِي التَّوْرَاةِ وَالإِنجِيلِ}[الأعراف:157]. ورووا عن موسى عليه السَّلام أنه قال: (إن شريعتي لا تنسخ أبداً).
وأقروا بأن قبلة إبراهيم عليه السَّلام كانت الكعبة. وإذا جاز نسخ الكعبة لموسى عليه السَّلام إلى بيت المقدس، جاز نسخ بيت المقدس لمحمدٍ صلى الله عليه وآله وسلم إلى الكعبة، فبطل قولهم: إن الشريعة لا تنسخ. (1/459)
وأما ما رووا من قول موسى عليه السَّلام: (إن شريعتي لا تنسخ أبداً). فإن شيوخ المعتزلة ذكروا أن العلماء من اليهود الذين يُرجع إلى قولهم لم يذكروا أكثر من أن موسى عليه السَّلام قال لهم: (إن تمسكتم بشريعتي حييتم أبداً).
فصل في الكلام في خطايا الأنبياء عليهم السلام (1/460)
اعلم أن الأنبياء صلوات الله عليهم بشرٌ من الناس، يأكلون الطعام، ويمشون في الأسواق -كما قال الله تعالى- وأنهم مُركبون على الشهوات والكراهة، والغفلة والذِّكر والنسيان إلا في تبليغ ما أمروا به فإنهم معصومون عن النسيان والغفلة والسهو والكذب؛ لأن الله قد اختارهم لتبليغ رسالته وأداء أمانته، ولا يجوز أن يُرسل من ينسى شيئاً من تبليغ الرسالة أو يسهو عنها أو يكذب، فهذه الجملة لا تجوز على الأنبياء بل هم معصومون عنها. وكذلك تعمّد معصية الله، قال الله تعالى: {لاَ يَنَالُ عَهْدِي الظَّالِمِينَ }[البقرة:124]، فأما في سائر أفعالهم غير تبليغ الرسالة، فإنه يجوز عليهم النسيان والغفلة، والخطأ في التأويل، والعجلة، وقد ذكر الله عنهم ذلك، وذكر توبتهم منه وندمهم وإقلاعهم واستغفارهم، فقال في النسيان والخطأ في آدم عليه السَّلام: {فَنَسِيَ وَلَمْ نَجِدْ لَهُ عَزْمًا }[طه:115].
وقال -حاكياً قول موسى للخضر عليهما السلام: {لاَ تُؤَاخِذْنِي بِمَا نَسِيتُ }[الكهف:73]. وقال الله تعالى لنبيئنا صلى الله عليه وآله وسلم: {وَإِمَّا يُنسِيَنَّكَ الشَّيْطَانُ فَلاَ تَقْعُدْ بَعْدَ الذّكْرَى مَعَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ }[الأنعام:68].
وقال تعالى في يونس عليه السَّلام وعجلته: {وَذَا النُّونِ إِذْ ذَهَبَ مُغَاضِبًا فَظَنَّ أَنْ لَنْ نَقْدِرَ عَلَيْهِ}[الأنبياء:87]. وقد قيل: إن سبب إبَاقِهِ أنه أرسله الله إلى قومه فكذّبوه، فوعدهم بنقمةٍ من الله تُصيبهم بعد ثلاثة أيامٍ، وقال لهم: وعلامة ذلك أن وجوههم تُصبح غُبراً أوّل يومٍ من هذه الأيام، واليوم الثاني تُصبح حمراً، واليوم الثالث تُصبح وجوههم سوداً ويأتيهم العذاب، ثم إنه تنحى عنهم لئلاّ يناله ما نالهم، فلما أصبحت وجوههم كما ذكر لهم [في] اليوم الأول واليوم الثاني، صدّقوا وخافوا العذاب، فآمنوا به وجأروا إلى الله بالدّعاء والتوبة، فرفع الله عنهم العذاب، فلما كان بعد ثلاثة أيّامٍ أتى يونس عليه السَّلام لينظر كيف كانت مصيبتهم من الله تعالى، فأتى وهم سالمون، فاغتمّ لذلك، وأبق خوفاً من أن يكذّبوه واستعجل ولم ينتظر الوحي من ربه، فكان من أمره ما حكاه الله [تعالى]، وقد قال الله لنبيئنا صلى الله عليه وآله وسلم: {فَاصْبِرْ لِحُكْمِ رَبِّكَ وَلاَ تَكُنْ كَصَاحِبِ الْحُوتِ إِذْ نَادَى وَهُوَ مَكْظُومٌ ، لَوْلاَ أَنْ تَدَارَكَهُ نِعْمَةٌ مِنْ رَبِّهِ لَنُبِذَ بِالْعَرَاءِ وَهُوَ مَذْمُومٌ}[القلم:48،49]، فبيّن أن فعله كان مكروهاً ومذموماً؛ ولأنه نهى نبيئنا صلى الله عليه وآله وسلم أن يكون مثله، وليس ينهاه إلا عن مذمومٍ، فكان ذنبه الاستعجال، وترك الإنتظار لوحي ربه. وكذلك كانت معصية آدم عليه السَّلام استعجاله في أكل الشجرة قبل أن ينزل إليه وحي ربه. وقال تعالى في داود وتأويله الذي ظن أنه جائزٌ له: {وَهَلْ (1/461)
أَتَاكَ نَبَأُ الْخَصْمِ إِذْ تَسَوَّرُوا الْمِحْرَابَ ، إِذْ دَخَلُوا عَلَى دَاوُودَ فَفَزِعَ مِنْهُمْ قَالُوا لاَ تَخَفْ خَصْمَانِ بَغَى بَعْضُنَا عَلَى بَعْضٍ فَاحْكُمْ بَيْنَنَا بِالْحَقِّ وَلاَ تُشْطِطْ وَاهْدِنَا إِلَى سَوَاءِ الصِّرَاطِ ، إِنَّ هَذَا أَخِي لَهُ تِسْعٌ وَتِسْعُونَ نَعْجَةً وَلِيَ نَعْجَةٌ وَاحِدَةٌ فَقَالَ أَكْفِلْنِيهَا وَعَزَّنِي فِي الْخِطَابِ ، قَالَ لَقَدْ ظَلَمَكَ بِسُؤَالِ نَعْجَتِكَ إِلَى نِعَاجِهِ وَإِنَّ كَثِيرًا مِنَ الْخُلَطَاءِ لَيَبْغِي بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ إِلاَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَقَلِيلٌ مَا هُمْ وَظَنَّ دَاوُودُ أَنَّمَا فَتَنَّاهُ فَاسْتَغْفَرَ رَبَّهُ وَخَرَّ رَاكِعًا وَأَنَابَ}[ص:21-24]، فكان فِعاله صلى الله عليه وسلم في ذلك مذموماً، فتاب منه وندم. (1/462)
وقد روي عن نبيئنا محمد صلى الله عليه وآله وسلم أنه قال: ((أعطيت ما لم يُعط أحد من الأنبياء قبلي : جُعلت ليَ الأرضُ مسجداً وطهوراً، وذلك قول الله تعالى: {فَلَمْ تَجِدُوا مَاءً فَتَيَمَّمُوا صَعِيدًا طَيِّبًا }[النساء:43]، وأحلّ لِيَ المغنمُ ولم يُحل للأنبياء قبلي وذلك قوله تعالى: {وَاعْلَمُوا أَنَّمَا غَنِمْتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَأَنَّ لِلَّهِ خُمُسَهُ وَلِلرَّسُولِ}[الأنفال:41]، ونُصرتُ بالرّعب على مسيرة شهرٍ، وفُضِّلتُ على الأنبياء بثلاثٍ: تأتي أمتي يوم القيامة غرًّا مُحجلين معروفين من بين الأمم، ويأتي المؤذنون يوم القيامة أطول الناس أعناقاً ينادون بشهادة أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله، والثالثة ليس من نبيء إلا وهو يحاسب يوم القيامة بذنبٍ غيري؛ لقول الله تعالى: {لِيَغْفِرَ لَكَ اللَّهُ مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِكَ وَمَا تَأَخَّرَ}[الفتح:2])). (1/463)
فدل هذا الخبر على صحة ما قلنا في خطايا الأنبياء. ودل أيضاً على أن محمداً رسول الله أفضل المرسلين، ويؤيد ذلك ما رُوي عنه صلى الله عليه وآله وسلم أنه قال: ((من صلى عليَّ صلاةً صلى الله عليه بها عشر صلواتٍ ومحا عنه عشر سيئات واستبق ملكاه الموكلان به أيّهما يُبلِّغُ روحي منه السلام)). وقال صلى الله عليه وآله وسلم: ((إكثروا من الصلاة عليّ يوم الجمعة فإنه يوم تُضاعف فيه الأعمال، واسألوا الله لِيَ الدرجة الوسيلة من الجنة، قيل: يا رسول الله وما الدرجة الوسيلةُ من الجنة؟ قال: هي أعلا درجةٍ من الجنة لا ينالها إلا نبيء أرجو أن أكون أنا هو))، فصح أنه صلى الله عليه وآله وسلم أفضل الأنبياء. (1/464)
ومما يدل على أن النبيء يسهو وينسى ما روي عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أنه صلى بجماعةٍ الظّهر خمس ركعاتٍ، فقال له بعض القوم: يا رسول الله هل زِيدَ في الصلاة شيءٌ؟ قال: ((وما ذاك؟)) قال: صليتَ بنا خمس ركعاتٍ، فاستقبل القبلة وهو جالسٌ، وسجد سجدتين، ليس فيهما قراءة ولا ركوعٌ ثم سلّم.
واعلم أنه لا يُقال: إن النبيء معصومٌ عن جميع المذمومات والمعاصي. لأنه لو كان كذلك لم يكن له ثوابٌ في لَزْمِهِ لنفسه عن المحرّمات، ولَمَا كان محموداً في ترك اتباع الشهوات، ولَمَا كان يوسف عليه السَّلام في لزمه لنفسه عن امرأة العزيز محموداً ومُثاباً، وقد قال الله تعالى: {وَلَقَدْ هَمَّتْ بِهِ وَهَمَّ بِهَا لَوْلاَ أَنْ رَأَى بُرْهَانَ رَبِّهِ}[يوسف:24]، فصحّ أنه لزم نفسه (عنها) لا عن عصمةٍ. ولا نقول إن الله عصمه منها بل نقول: إن الأنبياء" مُخيَّرون مُمَكّنون كغيرهم من الآدميين بل إنهم أقوى على نفوسهم وعلى لزمها من المحرمات لِمَا شاهدوا من الدلائل والمعجزات والرسالة من الله لهم والآيات. (1/465)
وقد يمكن أن يصرف الله عنهم بالتوفيق والتسديد كثيراً من المحظورات كما قال الله -حاكياً عن يوسف عليه السَّلام: {وَإِلاَّ تَصْرِفْ عَنّي كَيْدَهُنَّ أَصْبُ إِلَيْهِنَّ وَأَكُنْ مِنَ الْجَاهِلِينَ ، فَاسْتَجَابَ لَهُ رَبُّهُ فَصَرَفَ عَنْهُ كَيْدَهُنَّ إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ}[يوسف:33،34].
واعلم أنا لا نقطع على من كان عصى الله معصيةً عمداً ثم تاب منها وأناب وأخلص واشتهر إخلاصه وتوبته عند الخاص والعام، وظهر صدقه ووفاؤه وطهارته ونقاؤه أنه لا يجوز أن يرسله الله إلى قوم، بل نقول: إنه قد يمكن ويجوز ذلك؛ لأنه قد خرج من جملة الظالمين، وأهل الظِّنّةِ والمُتّهمين. ألا ترى أن الشاهد الفاسق إذا تاب من فسقه عند أداء الشهادة أنه لا يُقبل منه، ويكون من أهل الظنة، وإذا تاب قبل ذلك بزمانٍ طويلٍ أنه تُقبل شهادته، ولا يُظن فيه كذبٌ ولا شهادة زورٍ. (1/466)
والدليل على ما قلنا: ما كان من قصة أولاد يعقوب" من عقوق أبيهم وظلم أخيهم، ثم تابوا من ذلك وسألوا أباهم أن يستغفر لهم فغفر الله لهم، ثم كانوا أنبياء بعد ذلك، وقد ذكرهم الله في جملة الأنبياء قال تعالى: {قُولُوا آمَنَّا بِاللَّهِ وَمَا أُنزِلَ إِلَيْنَا وَمَا أُنزِلَ إِلَى إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ وَالأَسْبَاطِ وَمَا أُوتِيَ مُوسَى وَعِيسَى وَمَا أُوتِيَ النَّبِيُّونَ مِنْ رَبِّهِمْ لاَ نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِنْهُمْ وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ}[البقرة:136]، وفي تفسير ابن عباس: أن الأسباط هم أولاد يعقوب، وأنهم أنبياء، وهو إجماع الأمة، ولم يخالف أيضاً اليهود في أن الأسباط هم أولاد يعقوب، وأنّهم أنبياء.
والدليل على صحة ما ذكرنا قول الله تعالى لموسى عليه السَّلام: {وَأَلْقِ عَصَاكَ فَلَمَّا رَآهَا تَهْتَزُّ كَأَنَّهَا جَانٌّ وَلَّى مُدْبِرًا وَلَمْ يُعَقّبْ يَامُوسَى لاَ تَخَفْ إِنّي لاَ يَخَافُ لَدَيَّ الْمُرْسَلُونَ ، إِلاَّ مَنْ ظَلَمَ ثُمَّ بَدَّلَ حُسْنًا بَعْدَ سُوءٍ فَإِنّي غَفُورٌ رَحِيمٌ}[النمل:10،11] فصحّ ما قلنا، وقول الله: {لاَ يَنَالُ عَهْدِي الظَّالِمِينَ }[البقرة:124]، فليس التائب المخلص بظالمٍ. (1/467)
ومما يؤيد ما قلنا في خطايا الأنبياء ": ما ذكره المرتضى عليه السَّلام في كتاب الشرح والبيان قال: إن الأنبياء " غيرُ معصومين، وأنهم يغفلون ويسهون، وأنّ بُنْيَتَهُمْ مركّبة على بنية الآدميين.
وقال في قول الله تعالى: {وَعَصَى آدَمُ رَبَّهُ فَغَوَى ، ثُمَّ اجْتَبَاهُ رَبُّهُ فَتَابَ عَلَيْهِ وَهَدَى}[طه:121،122]: فلا تكون التوبةُ إلا من بعد الخطيئة.
وقال فيه: من قال إن آدم لم يعص، ولم يظلم موسى نفسه، وكذلك يونس، فقد أكذب كتاب الله تعالى.
باب حقيقة معرفة الإمام (1/468)
اعلم أنه لمّا كانت النبوءة لا تحصل لأحدٍ بعد رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، وأن الله قد ختم به الرسل كما قال تعالى: {وَلَكِنْ رسول اللَّهِ وَخَاتَمَ النَّبِيِّينَ }[الأحزاب:40]، وقال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: ((لا نبيء بعدي )). وكان الناس محتاجين إلى من يقوم [في] مقام النبيء صلى الله عليه وآله وسلم لينفِّذ الأحكام، ويحل الحلال، ويحرم الحرام، ويكفل الضعفاء والأيتام، وينصف المظلومين من الظالم، ويدعو إلى عز الإسلام وبناء المكارم، ويدفع كل خائنٍ وغاشمٍ، ويدعو إلى الجهاد في سبيل رب العالمين، ويعزّ المؤمنين، ويذل الفاسقين؛ حكم العقل بوجوب قيام إمامٍ من المؤمنين لصلاح الإسلام والمسلمين، وحكم العقل بأنه إن لم يقم إمامٌ أن الإسلام يَضعف، وأن الكفر يتقوّى، وأن الفساد يلحق جميع الناس، فوجب قيام الإمام بعد النبيء صلى الله عليه وآله وسلم. وكذلك القول إذا مات الإمامُ، أو قُتل أنه يجب قيامُ إمامٍ بعده، إلى آخر الدّهر.
وحكم العقل أيضاً بأن الإمام بعد النبيء صلى الله عليه وآله وسلم يكون مختاراً ولا يكون في الأمة من هو أفضل منه، وأن يكون جامعاً للخصال المحمودة ولا يكون في الأمة من هو أجمع منه للمحامد.
فمن الخلال المحمودة: أن يكون أقرب الناس إلى النبيء صلى الله عليه وآله وسلم، وأن يكون أسبقهم إلى طاعته، وأن يكون أكثرهم بذلاً وعناءً معه، وأن يكون أعلم الناس بالكتاب والسُّنّة، وأن يكون أسخاهم بماله ونفسه.
والأمة مجمعةٌ على أنّ هذه الخلال كلها في علي أمير المؤمنين عليه السَّلام وقائد الغر المحجّلين دون غيره من الأمة. (1/469)
ومما يؤيد ما قلنا من الكتاب ـ في وجوب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر وقيام الإمام ووجوب دعوته إلى الله ـ قول الله تعالى: {وَمَنْ أَحْسَنُ قَوْلاً مِمَّنْ دَعَا إِلَى اللَّهِ وَعَمِلَ صَالِحًا وَقَالَ إِنَّنِي مِنَ الْمُسْلِمِينَ}[فصلت:33]، وقال تعالى: {وَلْتَكُنْ مِنْكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَأُوْلَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ}[آل عمران:104]، وقال تعالى: {كُونُوا قَوَّامِينَ بِالْقِسْطِ شُهَدَاءَ لِلَّهِ وَلَوْ عَلَى أَنفُسِكُمْ...}الآية[النساء:135]، وقال تعالى: {كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ ...}[آل عمران:110]، وقال تعالى: {وَإِنْ طَائِفَتَانِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ اقْتَتَلُوا فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا فَإِنْ بَغَتْ إِحْدَاهُمَا عَلَى الأُخْرَى فَقَاتِلُوا الَّتِي تَبْغِي حَتَّى تَفِيءَ إِلَى أَمْرِ اللَّهِ}[الحجرات:9]، وقال تعالى: {وَمِنْ قَوْمِ مُوسَى أُمَّةٌ يَهْدُونَ بِالْحَقِّ وَبِهِ يَعْدِلُونَ } ..إلى قوله: {وَإِذْ قَالَتْ أُمَّةٌ مِنْهُمْ لِمَ تَعِظُونَ قَوْمًا اللَّهُ مُهْلِكُهُمْ أو مُعَذّبُهُمْ عَذَابًا شَدِيدًا قَالُوا مَعْذِرَةً إِلَى رَبِّكُمْ وَلَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ}[الأعراف:159-164]، وقال تعالى: {وَلَقَدْ آتَيْنَا مُوسَى الْكِتَابَ فَلاَ تَكُنْ فِي مِرْيَةٍ مِنْ لِقَائِهِ وَجَعَلْنَاهُ
هُدًى لِبَنِي إِسْرَائِيلَ ، وَجَعَلْنَا مِنْهُمْ أَئِمَّةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنَا لَمَّا صَبَرُوا وَكَانُوا بِآيَاتِنَا يُوقِنُونَ}[السجدة:23،24]، وقال تعالى: {وَتِلْكَ الأَيَّامُ نُدَاوِلُهَا بَيْنَ النَّاسِ وَلِيَعْلَمَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَيَتَّخِذَ مِنْكُمْ شُهَدَاءَ وَاللَّهُ لاَ يُحِبُّ الظَّالِمِينَ ، وَلِيُمَحِّصَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَيَمْحَقَ الْكَافِرِينَ ، أَمْ حَسِبْتُمْ أَنْ تَدْخُلُوا الْجَنَّةَ وَلَمَّا يَعْلَمِ اللَّهُ الَّذِينَ جَاهَدُوا مِنْكُمْ وَيَعْلَمَ الصَّابِرِينَ}[آل عمران:140ـ142]، وقال تعالى: {وَجَاهِدُوا فِي اللَّهِ حَقَّ جِهَادِهِ هُوَ اجْتَبَاكُمْ وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ مِلَّةَ أَبِيكُمْ إِبْرَاهِيمَ هُوَ سَمَّاكُمُ الْمُسْلِمينَ مِنْ قَبْلُ وَفِي هَذَا لِيَكُونَ الرَّسُولُ شَهِيدًا عَلَيْكُمْ وَتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ}[الحج:78]، وقال تعالى: {وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا لِتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ وَيَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيدًا}[البقرة:143]، ومعنى قوله: {وَسَطًا} أي خياراً، قال الشاعر: (1/470)
هم وسط يرضى الأنامُ بحكمهم
إذا نزلت إحدى الليالي بمعظم
وقال تعالى يذم من لا ينهى عن المنكر: {لُعِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ عَلَى لِسَانِ دَاوُودَ وَعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ ذَلِكَ بِمَا عَصَوْا وَكَانُوا يَعْتَدُونَ ، كَانُوا لاَ يَتَنَاهَوْنَ عَنْ مُنكَرٍ فَعَلُوهُ لَبِئْسَ مَا كَانُوا يَفْعَلُونَ}[المائدة:78،79]. وقال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: ((لتأمرنّ بالمعروف ولتنهُنّ عن المنكر أو لَيُسلطنّ الله عليكم شراركم فيدعو خياركم فلا يُستجاب لهم))، وروي أنه قال: ((مروا بالمعروف، وانهوا عن المنكر ولو حبواً))، وروي عنه صلى الله عليه وآله وسلم أنه قال: ((لا يحل لِعَيْنٍ ترى الله يُعصى فتطرف حتى تُغيّر أو تنصرف)) . (1/471)
ورُوي عنه صلى الله عليه وآله وسلم أنه قال: ((من رأى منكم منكراً فليُغيره بيده ، فإن لم يستطع فبلسانه، فإن لم يستطع فبقلبه، وذلك أضعف الإيمان)) فثبت ما ذكرنا من وجوب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، من طريق العقل والكتاب والسنة، وهو إجماع الأمة. وكذلك وجب تقديم الأفضل لقول الله تعالى: {أَفَمَنْ يَهْدِي إِلَى الْحَقِّ أَحَقُّ أَنْ يُتَّبَعَ أَمَّنْ لاَ يَهِدِّي إِلاَّ أَنْ يُهْدَى}[يونس:35]، وقال تعالى: {هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَالَّذِينَ لاَ يَعْلَمُونَ إِنَّمَا يَتَذَكَّرُ أُوْلُوا الأَلْبَابِ}[الزمر:9]، وقال تعالى: {إِنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاءُ إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ غَفُورٌ}[فاطر:28].
فصل في الكلام في إمامة أمير المؤمنين علي بن أبي طالب عليه السلام (1/472)
وقد ذكرنا فيما تقدم أن الأمة مجمعةٌ على أنه ما جمع الخلال المحمودة بعد النبيء صلى الله عليه وآله وسلم غيره.
فأول الخلال المحمودة: القرابة من رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، فإنه أخُو رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وابن عمه وزوج ابنته، وأبو سبطيه.
ومنها: السبق بالإيمان، والأمة مجمعةٌ (على) أنه أول رجلٍ آمن برسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، وهي مجمعة على أنه ما عبد صنماً، ولا أشرك بالله. وغيرُهُ -من أجلاّء الصحابة- آمن بعد الشرك.
ومنها: أنه أكثر الناس عناءً وجهاداً مع رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، ومن عنائه وبذله لنفسه دون رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: أنه فداه بنفسه ليلة رقد على فراشه.
ومنها: شجاعته عليه السَّلام التي خُصّ بها، فإنه نازل الأقران، وقتل الشّجعان، وأباد صناديد العرب، وفرّج عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم كثيراً من الكرب، فَقَوِيَ الإسلام بجهاده، وضعُف الكفر بصبره واجتهاده.
ومنها: علمه الغزير وفقهه الكثير حتى قال عمر فيه مع مكانه في الفقه: (لولا عليٌّ لهلك عمر). وقال: (لا أبقاني الله لمعظلةٍ لا أرى فيها أبا الحسن).
ومنها: كرمه المعروف وسماحه الموصوف، فإنه كان يؤثر غيره في القُوت على نفسه ولا يدّخر طعاماً لغده من أمسه.
ومنها: زهده في الدنيا مع قدرته على بلوغ كثيرٍ من الأشياء، فرضيَ من قُوته بأدْوَنِهِ، ومن لباسه بأخشنه، وفيه ما يقول الله تعالى: {إِنَّمَا وَلِيُّكُمُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَالَّذِينَ آمَنُوا الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلاَةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَهُمْ رَاكِعُونَ ، وَمَنْ يَتَوَلَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَالَّذِينَ آمَنُوا فَإِنَّ حِزْبَ اللَّهِ هُمُ الْغَالِبُونَ}[المائدة:55،56]. (1/473)
وبإجماع الأمة أنه لم يُزَكِّ أحدٌ راكعاً غير عليّ عليه السَّلام، فنزلت هذه الآية فيه، فثبت أنه الوليّ بعد رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم.
فإن قيل: فما أنكرتم أن تكون هذه الآية عامة لجميع المؤمنين؟
قلنا: لا يجوز ذلك لأن الله تعالى ذكر الوليَّ والمُوَلَّى عليه، فخاطب المُوَلّى عليه بقوله: {إِنَّمَا وَلِيُّكُمُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَالَّذِينَ آمَنُوا الَّذِينَ} فصحّ أن الوليّ غيرُ المُوَلّى عليه، فثبت أن الآية خاصّة لعلي عليه السَّلام إذ لم يدّعيها غيرُه، ولا تصدّق راكعاً سواه بإجماع الأمة، فثبت أنه أولى بالإمامة؛ لأن الله تعالى أحَلَّهُ في ولاية المؤمنين محلَّ رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم.
ومما يدلّ على أنه أقرب الناس من رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ما كان من قصة المباهلة؛ فإنه لمّا وردت نصارى نجران أنزل الله تعالى آية المباهلة، قال عزّ من قائلٍ: {فَقُلْ تَعَالَوْا نَدْعُ أَبْنَاءَنَا وَأَبْنَاءَكُمْ وَنِسَاءَنَا وَنِسَاءَكُمْ وَأَنْفُسَنَا وَأَنْفُسَكُمْ ثُمَّ نَبْتَهِلْ فَنَجْعَلْ لَعْنَةَ اللَّهِ عَلَى الْكَاذِبِينَ}[آل عمران:61]، فدعا رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم عليًّا وفاطمة والحسن والحسين، فأحجمت نصارى نجران ولم يباهلوا، فصحّ أنه من نفس رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم. ورُوي أيضاً في الأخبار المتظاهرة: أنه لما نزلت البراءة من المشركين أمر رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم بعشر آياتٍ من أول السورة إلى قريش أبا بكر فأتاه جبريل صلى الله عليه وسلم وقال: (إنه لا يبلّغها إلا أنت أو من هو منك) يعني أمير المؤمنين عليه السَّلام، فأمر رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم بأبي بكر يُرَدُّ ويبلّغها أمير المؤمنين إلى قريش، وقرأها عليهم بمكّة فصحّ أنه من رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم. (1/474)
ورُوي عن أنس بن مالك قال: لما خرج رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم إلى غزوة تبوك استخلف علي بن أبي طالب عليه السَّلام على المدينة وما هنالك، فقال المنافقون عند ذلك: إن محمداً قد شنئ ابن عمه وملّه، فبلغ ذلك عليا عليه السَّلام، فشدّ رحله، وخرج من ساعته، فهبط جبريل صلى الله عليه وسلم على رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فأعلمه بقول المنافقين، وخروج علي عليه السَّلام للّحاق، فأمر رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم منادياً فنادى بالتّعريس في مكانكم، فاجتمع الناس إليه يسألونه عن التعريس في غير وقت التعريس، فأخبرهم بما أتى به جبريل صلى الله عليه وسلم عن الله عزّ وجلّ، وأخبرهم أن الله تعالى أمره أن يستخلفه في المدينة قال: فركب بعض أصحاب النبيء صلى الله عليه وآله وسلم ليتلقّوه، فما زالوا من مواضعهم إلا قليلاً، وطلع عليهم عليٌّ عليه السَّلام مُقبلاً فتلقاه رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وحوله الناس، فقال له رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وقد تلقاه ماشياً والناس حوله: ((ما أقبل بك يا علي بن أبي طالب ))، وهو يعانقه، فقصّ عليه القصة، فقال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: ((يا علي، ما خلفتك إلا بأمر الله سبحانه ، وما كان يصلُح هناك غيري وغيرك، أما ترضى أن تكون خليفتي كما استخلف موسى هارون، أما والله إنك مني بمنزلة هارون من موسى غير أنه لا نبيء بعدي)) فلما أقبل رسول الله قسم للناس فدفع إلى علي سهمين، فأنكر ذلك قوم. فقال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: ((أيها الناس، هل أحدٌ أصدق مني ؟ قالوا: لا (1/475)
يا رسول الله، فقال: أيها الناس، أما رأيتم صاحب الفرس الأبلق أمام عسكرنا في الميمنة مرّةً، وفي الميسرة مرّةً؟ قالوا: رأيناه يا رسول الله فمن هو؟ قال: ذلكم جبريل -صلى الله عليه- فقال لي: يا محمد إن لِي سهماً مما فتح الله عليك، وقد جعلته لابن عمك علي بن أبي طالب عليه السَّلام فتسلمه إليه))، قال أنس بن مالك: فكنت ممن بشّر عليًّا عليه السَّلام بقول رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم. (1/476)
وروي عنه صلى الله عليه وآله وسلم أنه قال يوم غدير خُمٍّ: ((أيها الناس ألست أولى بكم من أنفسكم ؟ قالوا: بلى يا رسول الله، قال: من كنت مولاه فعلي مولاه، اللهم والِ من والاه، وعادِ من عاداه، وانصر من نصره، واخذل من خذله)).
وروي عن جابر بن عبد الله قال: جاء علي عليه السَّلام إلى النبيء صلى الله عليه وآله وسلم يوم أحدٍ، فقال له رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: ((إذهب، فقال: والله لا أذهب وأدعك، قال: فقال جبريل: هذه والله المواساة يا محمد، فقال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: يا جبريل إنه مني وأنا منه ، فقال جبريل صلى الله عليه: وأنا منكما)).
وروي عن النبيء صلى الله عليه وآله وسلم أنه قال لعلي عليه السَّلام: ((أنت أخي في الدنيا والآخرة )).
وروي عن علي عليه السَّلام أنه كان يقول: (أنا عبد الله وأخو رسول الله). وروي أنه صلى الله عليه وآله وسلم قال لعلي عليه السَّلام: ((لا يُحبُّك إلا مؤمنٌ ولا يبغضك إلا منافقٌ)). وروي أنه صلى الله عليه وآله وسلم قال: ((من آذى عليًّا فقد آذاني [ومن آذاني فقد آذى الله] )).
وروي عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أنه قال في عليّ يوم خيبر: ((لأعطينّ الراية رجلاً يحب الله ورسوله ، ويحبّه الله ورسوله، كرار غير فرّارٍ))، ثم دعا بعلي عليه السَّلام وهو أرمد فتفل في عينيه فبرئ، وأعطاه الرّاية ففتح الله على يديه، ودعا له رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فقال: ((اللهم انصره وانصر به فإنه عبدك وأخو رسولك، اللهم أدر الحقّ معه ما دار)). وروي عنه صلى الله عليه وآله وسلم أنه قال: ((إن الجنة تشتاق إلى علي وعمارٍ وسلمانَ)). وروي عنه صلى الله عليه وآله وسلم أنه قال: ((من أحب أن يتمسك بقضيب الياقوت الأحمر الذي غرسه الله تعالى في جنة عدنٍ، فليتمسك بحبِّ علي)) عليه السَّلام. وروي عنه صلى الله عليه وآله وسلم أنه قال: ((علي سيد المسلمين ، وإمام المتقين، وقائد الغرّ المحجلين)) وهذا كثيرٌ. (1/477)
وقد رُوي عن ابن عباس: أنه مرّ بناس وهم يتناولون عليًّا عليه السَّلام، فوقف فقال: أيّكم سبَّ الله؟ فقالوا: ما منّا أحدٌ سب الله. قال: فأيكم سبّ رسول الله؟ قالوا: ولا كان هذا. قال: فأيكم الساب عليًّا؟ قالوا: قد كان ذلك. قال: فإني سمعت رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يقول: ((من سبَّ عليًّا فقد سبّني ، ومن سبّني فقد سبّ الله، ومن سبّ الله فهو في النار)).
وعن ابن عباس أيضاً: أنه سأله رجل من أهل الشام من حمص عن علي عليه السَّلام، وكان أهل حمص يلعنون عليًّا، فقال له ابن عباس: له القرابة من رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، وهو أول الناس إيماناً، قال الشامي: هم لا يجحدون ذلك، ولكنه أحدث أحداثاً، وهو أنه قتل قوماً مسلمين، فقال له ابن عباس: مثل علي عليه السَّلام كمثل العبد الصالح الذي لقيه موسى عليه السَّلام فقصّ له قصته، ثم قال: وأخبرك أنّ رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم تزوّج زينب بنت جحش بعد ما طلقها زيد بن حارثة فأولم رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، وكانت وليمته الحيس، فكان يدعو كل عشرةٍ على قطعةٍ ثم كانوا إذا فرغوا استأنسوا الحديث، فأنزل الله تعالى: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لاَ تَدْخُلُوا بُيُوتَ النَّبِيِّ إِلاَّ أَنْ يُؤْذَنَ لَكُمْ إِلَى طَعَامٍ غَيْرَ نَاظِرِينَ إِنَاهُ}[الأحزاب:53]، قال: فلما نزلت هذه الآية كانوا إذا أكلوا قالوا: الحمد لله المنعم المُطعم ثم مضوا ولم ينتظروا الخِرَقَ ليمسحوا بها أيديهم. قال: فمكث رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم عندها أسبوعاً ثم تحول إلى بيت ام سلمة ابنة أبي أميّة، فلبث عندها ليلتين، فلما كان من الغد وقد تعالى النّهار أتى علي بن أبي طالب عليه السَّلام فدقّ عليه الباب دقًّا خفيفاً، فعرفه رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، وأنكرت أمّ سلمة، قال النبيء صلى الله عليه وآله وسلم: ((قومي يا أمّ سلمة فافتحي [له] الباب ، قالت: من هذا الذي بلغ من خطره أن أقوم فأفتح له الباب؟ قال رسول الله صلى الله عليه وآله (1/478)
وسلم: إن طاعتي طاعة الله، ومن يطع الرسول فقد أطاع الله، قومي فافتحي الباب، فإن بالباب رجلاً ليس بالخرق ولا بالنزق ولا بالعجل في أمره، يُحبّ الله ورسوله، ويحبُّه الله ورسوله، فلما فتحت أم سلمة الباب أخذ بعضادتيْ الباب، فلما يزل قائماً حتى خَفيَ عليه الوطيّ ثم فتح ودخل، فقال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: يا أم سلمة هل تعرفين الرجل؟ قالت: نعم يا رسول الله هو علي بن أبي طالب وهنيئاً له، فقال النبيء صلى الله عليه وآله وسلم: لحمه لحمي، ودمه دمي، وهو منّي بمنزلة هارون من موسى، إلا أنه لا نبيء بعدي، يا أم سلمة هذا علي سيد المسلمين، وأمير المؤمنين، والوصي من بعدي، والخليفة على الأخيار من أمتي، أخي في الدنيا، ورفيقي في الآخرة، يكون معي في السَّنام الأعلى، إسمعي واشهدي يا أم سلمة أنه يقتل الناكثين، والقاسطين، والمارقين))، قال الشامي: وما الناكثون؟ قال ابن عباس: الذين أقرُّوا بالمدينة، وأنكروا بالبصرة؛ كطلحة والزبير ومن تبعهما. وأما القاسطون فمعاوية وأصحابه، و[أما] المارقون فأهل النّهروان؛ ذو الثدية وأصحابه. قال الشامي: فرّجتَ عنِّي، فرّجَ الله عنك. وروي عن أنس أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أُتِيَ بطائرٍ مشويٍّ فقال: ((اللهم ائتني بأحب الناس إليك ))، فكان ذلك علي بن أبي طالب. والأخبار فيه كثيرةٌ، وهذه الأخبار متظاهرة مشهورةٌ متواترة تتلقاها الأمة بالقبول، ولا ينكرها ذوو العلم والعقول. (1/479)
فثبت أنه عليه السَّلام أحق الناس بمقام رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وأنه ظُلِمَ حقّه، وجحد من قدّم عليه غيره سبقه. (1/480)
فصل في الكلام في اختلاف الأمة في إمامة علي بن أبي طالب عليه السلام (1/481)
فقالت الشيعة جميعاً: الإمام علي بن أبي طالب بعد رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، وحجتهم ما قد ذكرنا من العقل والكتاب والسنة.
وقالت المعتزلة والمرجئة وأصحاب الحديث -وهم أهل الظاهر: الإمام أبو بكر، ثم عمر، ثم عثمان، ثم علي.
وجحدت الخوارج إمامة علي عليه السَّلام.
واستدل من قدّم على علي غيره بحججٍ لهم:
منها: أنهم قالوا: أبو بكر صاحب رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم في الغار، وقد ذكره الله في كتابه فقال تعالى: {إِذْ هُمَا فِي الْغَارِ إِذْ يَقُولُ لِصَاحِبِهِ لاَ تَحْزَنْ إِنَّ اللَّهَ مَعَنَا}[التوبة:40].
ومنها: أنهم قالوا: إنه المُولَّى في الصلاة.
ومنها: ما رووا عن النبيء صلى الله عليه وآله وسلم أنه قال: ((إن ولّيتم أبا بكرٍ وجدتموه قويًّا في دينه ضعيفاً في بدنه، وإن وليتم عمر وجدتموه قويًّا في دينه قويًّا في بدنه، وإن وليتم عثمان وجدتموه هادياً مهديا، وإن وليتم عليًّا -ولا أراكم تفعلون- أكلتم من فوقكم ومن تحت أرجلكم)).
وبما رووا من قوله صلى الله عليه وآله وسلم: ((أصحابي كالنجوم بأيِّهم اقتديتم اهتديتم)). وأكبر حججهم -بزعمهم- إجماع الأمة عليهم، وسكوت علي عليه السَّلام. وبما رووا من قول أبي بكر أنه سمع رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يقول: ((إنا معاشر الأنبياء لا نورث )). والأكثر منهم والأعم يقولون: إن مقام أبي بكر كان بالشورى، وبنظرٍ من المسلمين.
وقالت شرذمة منهم وهي الأقلُّ: بل كان ذلك بوصاةٍ من رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم. (1/482)
والرد عليهم -في قولهم واحتجاجهم بالغار- فإنه لم يُذكر في الغار بمدحٍ، لكنه ذُكِرَ بنهيٍ؛ لأن قول النبيء صلى الله عليه وآله وسلم له: {لا تحزن} دليلٌ على أنه كان قد ظهر منه الحزن والجبن. وأيضاً فإن السكينة التي نزلت على رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم لم تنزل على أبي بكر قال الله تعالى: {فَأَنزَلَ اللَّهُ سَكِينَتَهُ عَلَيْهِ وَأَيَّدَهُ بِجُنُودٍ لَمْ تَرَوْهَا}[التوبة:40]، ولم يقل فيه كما قال في المؤمنين: {فَأَنْزَلَ اللَّهُ سَكِينَتَهُ عَلَى رَسُولِهِ وَعَلَى الْمُؤْمِنِينَ وَأَلْزَمَهُمْ كَلِمَةَ التَّقْوَى...}الآية[الفتح:26]. فصحّ أن صحبته لا توجب له ما ادّعوه. وأيضاً فإن كانت له بذلك فضيلةٌ، فصبر أمير المؤمنين ومرقدهُ على فراش رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أفضلُ.
وأما قولهم: (إنه المُولَّى في الصلاة). فإنه روي أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: خرج متكئاً على كتف علي عليه السَّلام، والثاني اختلف فيه، فقيل: عبد الله بن العباس، حتّى نحّى أبا بكرٍ، وصلّى بالناس قاعداً، فلو لم يُنحِّهِ لكان ذلك فضلاً. وأيضاً فقد يجوز أن يُصلي الرجل بأفضل منه، وقد رُوي أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ولّى ابن أمِّ مكتوم على الصلاة بالمدينة.
وأما ما رووا من قول رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: ((إن ولّيتم أبا بكرٍ وجدتموه قويًّا في دينه ضعيفاً في بدنه، وإن وليتم عمر وجدتموه قويًّا في دينه قويًّا في بدنه، وإن وليتم عثمان وجدتموه هادياً مهديًّا، وإن وليتم عليًّا -وما أراكم تفعلون-، أكلتم من فوقكم ومن تحت أرجلكم)) ففي هذا الخبر وجوه: (1/483)
منها: أنه لم يصح لنا.
ومنها: أنه ليس بأمرٍ لهم، لكنه إخبارٌ منه يما يكون بعدهُ من فعالهم؛ ويدل على ذلك قوله في علي عليه السَّلام: ((وما أراكم تفعلون)).
ومنها: أن هذه الصفات فيهم تدل على أن الآخر أفضل ممن ذكر قبله، وذلك: أن القويَّ في دينه وفي بدنه أفضل من القويِّ في دينه الضعيف في بدنه لهذا الأمر، فكان على هذا يجب أن يُقدم عمر على أبي بكر، والهادي المهدي يكون أفضل من القويّ في دينه وبدنه، فعلى هذا يجب أن يُقدّم عثمان على عمر وأبي بكر وقوله: ((إن وليتم عليًّا -وما أراكم تفعلون- - أكلتم من فوقكم ومن تحت أرجلكم)) وهذه الصفة هي أفضل من صفات المتقدمين، قال الله تعالى: {وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ الْكِتَابِ آمَنُوا وَاتَّقَوْا ...} إلى قوله: {لأَكَلُوا مِنْ فَوْقِهِمْ وَمِنْ تَحْتِ أَرْجُلِهِمْ}[المائدة:65،66]، فوجب على هذا تقديم علي عليه السَّلام على جميعهم. وقد روي أنه لم يُذكر في الخبر عثمان، وأنه قال بعد ذكر عمر: ((وإن وليتم عليًّا وجدتموه هادياً مهديًّا يسلك بكم الطريق المستقيم)).
وأما ما رووا من قوله صلى الله عليه وآله وسلم: ((أصحابي كالنجوم بأيهم اقتديتم اهتديتم))، فهذا الخبر إن صح فإن مخرجه عامٌّ ومعناه خاصٌّ، والمراد به: أنه أراد بهم أن يُقتَدَى بأصحابه المؤمنين الصالحين في شرائع الدين، ويُؤخذ منهم العلم، ويقبل منهم الخبر إذا كان موافقاً للكتاب. ولو كان هذا الخبر يؤخذ بظاهره لجاز أن يكون سلمان خليفةً وإماماً، لو طلب ذلك؛ وكذلك عمار وأبو ذرّ وسائر الصحابة، فسقط تعلّقهم بهذا. (1/484)
وأما ما رووا من قول أبي بكر: إن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قال: ((إنا معاشر الأنبياء لا نورث ))، فإنه رُوي عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم بالأخبار المتواترة أنه قال: ((ما رُوي لكم عنّي فاعرضوه على كتاب الله ، فما وافقه فهو مني، وأنا قلته، وما لم يوافقه فليس مني ولم أقله)) وقد وجدنا في كتاب الله ما يخالف خبر أبي بكر وهو ما قصّ الله تعالى من وراثة أولاد الأنبياء" لآبائهم، وذكر وراثتهم لهم، فقال تعالى: {وَوَرِثَ سُلَيْمَانُ دَاوُودَ }[النمل:16]، وقال تعالى حاكياً عن زكريا: {وَإِنّي خِفْتُ الْمَوَالِيَ مِنْ وَرَائِي وَكَانَتِ امْرَأَتِي عَاقِرًا فَهَبْ لِي مِنْ لَدُنْكَ وَلِيًّا ، يَرِثُنِي وَيَرِثُ مِنْ آلِ يَعْقُوبَ وَاجْعَلْهُ رَبِّ رَضِيًّا}[مريم:5،6]، فصحّ أن الخبر الذي رواه أبو بكر لا يصح من رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم.
وأما احتجاجهم بإجماع الأمة، وسكوت عليٍّ عليه السَّلام عن حقه فليس ذلك لهم بحُجّةٍ من وجوهٍ:
منها: أن أكابر الصحابة وعلماء الأمة لم تُجمع على ذلك بل أنكروه واجتنبوه، فإنه رُوي عن الزبير لمّا امتنع من البيعة لأبي بكر حُمل عليه وانتهى الأمر إلى كسر سيفه. وروي أن عمار بن ياسر ضُربَ، وأن سلمان استُخِفّ بِهِ إذ لم يُبايعا لأبي بكر. ورُوي أن فاطمة+ هجموا بيتها، لما تأخّر عليّ عليه السَّلام عن البيعة، وأن سعد بن عبادة لما أظهر الكراهة للبيعة اضطر إلى مفارقة المدينة ثم رُمي بسهمٍ في أيام عمر ومات. وروي أنه لما قُبض رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وولي أبو بكر الأمر واجتمع عليه الناس فرقى المنبر خطيباً، واجتمع الناس حول منبر رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وكان ممن قعد عن بيعته اثنا عشر رجلاً: ستّةٌ من المهاجرين، وستة من الأنصار، فكان من المهاجرين: خالد بن سعيد، وأبو ذر، وعمار، والمقداد، وسلمان، وأبيّ بن كعب. (1/485)
وكان من الأنصار: قيس بن سعد بن عبادة الخزرجي، وأبو الهيثم بن التَّيهان، وسهل بن حُنيف، وأبو بردة الأسلمي، وخزيمة بن ثابت ذو الشهادتين، وأبو أيوب الأنصاري. وفي بعض الأخبار: فكان من المهاجرين: عمرو بن سعيد بن العاص، والمقداد بن الأسود، وعمار بن ياسر، وأبو ذر الغفاري، وسلمان الفارسي، وبريدة الأسلمي. وكان من الأنصار: خزيمة بن ثابت ذو الشهادتين، وسهل بن حُنيف، وعثمان بن حُنيف، وأبو أيوب الأنصاري، وأُبَيّ بن كعب، فقال بعضهم لبعض: قوموا إلى هذا الرجل فأنزلوه عن منبر رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، فقال بعضهم: إن هذا الرجل اتّفقت عليه هذه الأمة، ولكن انطلقوا بنا إلى صاحب هذا الأمر حتى نشاوره ونستطلع رأيه، فانطلق القوم حتى أتوا أمير المؤمنين علي بن أبي طالب عليه السَّلام فقالوا له: يا أمير المؤمنين كنا في مسجد رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ورأينا هذا الرجل قد صعد منبر رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فأردنا أن ننزله عن منبر رسول الله، وكرهنا أن ننزله دونك، ونحن نعلم أن الحقّ لك. فقال علي عليه السَّلام: (أما إنكم لو فعلتم ما كنتم إلا حرباً لهم، وما كنتم إلا كالكحل في العين أو كالملح في الزاد، وقد اتفقت هذه الأمة التاركة قول نبيئها، الذين باعوا آخرتهم بدنياهم. وقد شاورتُ في ذلك أهل بيتي فأبوا إلا السكوت لما يعلمون من وَغَرِ صدور القوم وبُغضهم لأهل بيت محمدٍ صلى الله عليه وآله وسلم، ولكن انطلقوا إليه فأخبروه بما سمعتم من قول نبيئكم محمد صلى الله عليه وآله وسلم ولا تتركوه في شبهةٍ من أمره، ليكون ذلك أوْكد (1/486)
في الحجّة وأبلغ في العقوبة إذا لقي الله وقد عصاه وخالف أمر نبيئه). فانطلق القوم في يوم جمعةٍ في وقت صلاة الظهر حتى جَثوا حول منبر رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فأقبل أبو بكر فصعد المنبر، فقال المهاجرون للأنصار: قوموا فتكلّموا بما سمعتم من قول نبيئكم محمدٍ صلى الله عليه وآله وسلم. فقال الأنصار للمهاجرين: بل أنتم قوموا، فتقدموا فإن الله قدّمكم علينا في كتابه فقال: {لَقَدْ تَابَ اللَّهُ عَلَى النَّبِيِّ وَالْمُهَاجِرِينَ وَالأَنصَارِ}[التوبة:117]، فكان أول من تكلم خالد بن سعيد، فقام قائماً على قدميه فقال: معاشر المسلمين أنشدكم بالله وبحق رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم تشهدون بأن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قال لي: ((هذا خالدٌ صِدِّيقُ قومه ))؟ قالوا: بلى والله نشهد بذلك. قال: معاشر الناس فأنا أشهد أني سمعت رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وهو يقول: ((علي قائد البررة ، وقاتل الكفرة، وهو أحق بالأمر من بعدي)). ثم جلس. وقام من بعده أبو ذر الغفاري فقال: يا معاشر المسلمين أنشدكم بالله وبحقِّ رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم تشهدون بأن رسول الله قال: ((رحمك الله يا أبا ذرٍّ تموتُ وحدك، وتدفن وحدك، وتُحشر وحدك، وتُحاسب وحدك، وتدخل الجنّة وحدك، يُكرم الله بك سبعة نفرٍ يلونَ غسلك ودفنك)). قالوا: نشهد والله بذلك. قال: فأنا أشهد أني سمعت رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يقول: ((علي أخي وابن عمي وأبو سبطي والحُجة من بعدي)). ثم جلس. (1/487)
وقام سلمان الفارسي وقال: يا معاشر المسلمين فأنشدكم بالله وبحق رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم تشهدون بأن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قال: ((سلمان منا أهل البيت ))؟ قالوا: بلى والله نشهد بذلك، فقال: فأنا أشهد أني سمعت رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وهو يقول: ((علي إمام المتقين ، وقائد الغر المحجلين، وهو الأمير من بعدي)) ثم جلس. (1/488)
ثم قام من بعده المقداد بن الأسود الكِندي فقال: معشر المسلمين، أشهد أني سمعت رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وهو يقول: ((علي مني بمنزلة هارون من موسى إلا أنه لا نبيء بعدي، الفائز من تولاه، والكافر من عاداه)) ثم جلس.
وقام من بعده عمار بن ياسر فقال: معاشر المسلمين فأنشدتكم بالله وبحق رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ألستم تشهدون أن النبيء صلى الله عليه وآله وسلم قال: ((يا آل ياسر أبشروا [فإن] موعدكم الجنة))، وقال: ((عمار مع الحق والحق مع عمار، حيثما دار عمار دار الحق معه))، وقال: ((يا عمار تقتلك الفئة الباغية ، يكون آخر زادك من الدنيا قعبٌ من لبنٍ))؟ قالوا: بلى والله نشهد بذلك، ثم أقبل إلى أبي بكر فقال: يا أبا بكر ارجع عن ضلعك، واقبر شرّك، والزم منزلك، وابكِ على خطيئتك، ورُدَّ الأمر على من جعله الله له ورسولُهُ، ولا تركنن إلى الدنيا، ولا يغرك من قريشٍ أوغادُها، فعن قليلٍ ترحل عن دنياك ثم تصير إلى ربك فيسألك عما جنته يداك، وما ربك بظلامٍ للعبيد. ثم جلس.
وقام من بعده أبي بن كعب فقال: يا معاشر المسلمين ألستم تشهدون بأن النبيء صلى الله عليه وآله وسلم رقى المنبر يوم غدير خُمٍّ، وقام عليٌّ إلى جانبه وحط يده اليمنى وشالا أيديهما حتى رُؤيَ بياض آباطيهما ثم قال: ((معاشر الناس من كنتُ نبيئه فهذا عليٌّ وليّه ألا من كنت مولاه فعلي مولاه، اللهم وال من والاه، وعاد من عاداه، وانصر من نصره، واخذل من خذله)) ثم جلس. (1/489)
وقام من بعده قيس بن سعد بن عبادة فقال: يا أبا بكر، ألست تشهد بأن النبيء صلى الله عليه وآله وسلم يوم كنّا بين يديه فأقبل عليك بوجهه فقال: ((يا أبا بكر من أحب عليًّا فقد أحبّني ، ومن أحبّني فقد أحبّ الله، ومن أبغض عليًّا فقد أبغضني، ومن أبغضني فقد أبغض الله، ومن أبغض الله كان حقيقاً على الله أن يكبّه على منخريه في نار جهنم))؟ فقال: بلى أشهد بذلك. ثم قال: يا معاشر المسلمين أشهد أني سمعت رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يقول: ((أنا حرب لمن حارب عليًّا وسلمٌ لمن سالم عليًّا)) ثم جلس.
وقام من بعده أبو الهيثم بن التّيهان فقال: يا معاشر المسلمين ألستم تشهدون بأن النبيء صلى الله عليه وآله وسلم قال: ((هذا ابن التّيهان ما كذبني منذ آمن بي ، ولا نافقني منذ صدّقني))؟ قالوا: بلى نشهد بذلك. قال: فأنا أشهد أني سمعتُ رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وهو يقول: ((علي سفينة من ركبها نجا ومن تخلّف عنها غرق))، أو قال: ((في النار هوى)) ثم جلس.
وقام من بعده سهل بن حُنيف فقال: معاشر المسلمين أشهد أني سمعت رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يقول: ((علي باب حطّة من دخلها كان آمناً)) ثم جلس. (1/490)
وقام من بعده أبو بردة الأسلمي فقال: معاشر المسلمين أشهد أني سمعت رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وهو يقول: ((علي أخي وابن عمي ووارث علمي، وحامل رايتي يوم القيامة، والخليفة من بعدي، المؤمن من تابعه، والكافر من خالفه)) ثم جلس.
وقام من بعده خزيمة بن ثابت ذو الشهادتين وقال: يا معاشر المسلمين ألستم تشهدون بأن النبيء صلى الله عليه وآله وسلم قَبِلَ شهادتي وحدي ولم يزد معي غيري قالوا: بلى نشهد بذلك. قال: أشهد أني سمعت رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وهو يقول: ((ألا إن الله ربكم، ومحمداً نبيئكم ، والإسلام دينكم، والقرآن إمامكم، وعلياً هاديكم، فَوَالَى الله من والاه وعادى من عاداه)) ثم جلس.
وقام من بعده أبو أيوب الأنصاري فقال: يا أبا بكر ألست تذكر هذه الآية يوم أنزلت: {إِنَّمَا وَلِيُّكُمُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَالَّذِينَ آمَنُوا} فقمت أنتَ وصاحبك فقبّلتما بين كتفيه وقلتما: أصبحتَ والله مولانا ومولى كل مؤمنٍ ومؤمنةٍ؟ فقال: بلى قد كان ذلك. فقال: أشهد أني سمعتُ رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وهو يقول: ((علي عين الله في خلقه ، وولايته الصراط المستقيم، والحجة على الأمة بعدي)) ثم جلس.
فلما أن سمع أبو بكر ذلك نزل عن المنبر ودخل منزله، فمكث لا يخرج إلى الناس ثلاثة أيامٍ، فلما أن كان اليوم الرابع أتى عمر وعثمان وعبد الرحمن بن عوف، وسالم مولى أبي حذيفة، والأشعث بن قيس، وأبو موسى الأشعري، وقنفذ مولى عمر، مع كل رجلٍ منهم عشرة رجال، شاهرين أسيافهم، حتى أخرجوه من منزله، وعلا المنبر فخطب، وجعلوا يدُورون في المدينة وهم يقولون: والله لئن عاد أحدٌ إلى مثل ما تكلم به بالأمس لنعلونّه بأسيافنا، فأمسك القوم عند ذلك ولم يردوا جواباً. (1/491)
فأين الإجماع من الأمة؟ وهؤلاء كبار الصحابة وعلماء الأمة أنكروا ذلك. فأما إجماع من لا يعتد به من الجهال [ومن الرعية] فليس إجماعهم بحجةٍ؛ لأن الله تعالى ذكر أمم الأنبياء بالتكذيب قال تعالى: {كَذَّبَتْ قَبْلَهُمْ قَوْمُ نُوحٍ وَأَصْحَابُ الرَّسِّ وَثَمُودُ ، وَعَادٌ وَفِرْعَوْنُ وَإِخْوَانُ لُوطٍ}[ق:12،13]، وحكى قول نوح عليه السَّلام: {قَالَ نُوحٌ رَبِّ لاَ تَذَرْ عَلَى الأَرْضِ مِنَ الْكَافِرِينَ دَيَّارًا ، إِنَّكَ إِنْ تَذَرْهُمْ يُضِلُّوا عِبَادَكَ وَلاَ يَلِدُوا إِلاَّ فَاجِرًا كَفَّارًا}[نوح:26،27]، وقد أخبرنا الله تعالى أنه ما آمن للرسل إلا الأقل من أممهم فقال تعالى: {وَمَا آمَنَ مَعَهُ إِلاَّ قَلِيلٌ }[هود:40]، وقال: {فَشَرِبُوا مِنْهُ إِلاَّ قَلِيلاً }[البقرة:249]، وقال تعالى: {اعْمَلُوا آلَ دَاوُودَ شُكْرًا وَقَلِيلٌ مِنْ عِبَادِي الشَّكُورُ}[سبأ:13]. وقال -فيما حكاه عن داود عليه السَّلام: {وَإِنَّ كَثِيرًا مِنَ الْخُلَطَاءِ لَيَبْغِي بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ إِلاَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَقَلِيلٌ مَا هُمْ}[ص:24]، وقال تعالى: {وَالْعَصْرِ ، إِنَّ الإِنسَانَ لَفِي خُسْرٍ ، إِلاَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ}[العصر:1ـ3] ولا يستثنى من الشيء إلا الأقل. وأخبرنا: أن أكثر الناس لم يؤمنوا ولم يعقلوا فقال تعالى: {وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لاَ يُؤْمِنُونَ }[هود:17]، وقال تعالى: {وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لاَ يَعْلَمُونَ }[الأعراف:187]، وقال: {وَلَكِنَّ (1/492)
أَكْثَرَ النَّاسِ لاَ يُؤْمِنُونَ} فصحّ أن إجماع من أجمع من الأمة على إمامة أبي بكر لا يُؤخذ به، وإنما يُؤخذ بإجماع العلماء والصحابة، والإجماع وقع في علي عليه السَّلام؛ لأنهم مجمعون معنا أنه مستحقٌّ للمقام، وأنه وصيُّ رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم في ديونه وأموره الخاصة، ونحن غير مجمعين معهم في أصحابهم وأئمتهم، فنحن أولى بحجة الإجماع منهم. (1/493)
وأما سكوت أمير المؤمنين عليه السَّلام عن حقه: فإنه اجتهد مع رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم في جمع المؤمنين وتألُّفهم، وخشي إن نازع في حقه أن يُفرّق ما جمع رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، وكان لو نازع القوم وعارضهم لشق عصا الإسلام، وكان عهد الناس بالشرك قريباً، وكان المشركون والكفار، والمنافقون والفاسقون، يُريدون ذلك ليشتغل المسلمون بعضهم ببعضٍ، وكان في ذلك فساد الإسلام، فرأى تغطية المسلمين على ما هم عليه أولى، وهو أهون العُسرين. فهذا سببُ وقوفه وسكوته عن حقه، وقلة أيضاً نصيحة أعوانه وأنصاره؛ وليس ذلك بعجيبٍ، قد أُخرج رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم من بيته، وتُبع فاختبأ في الغار للتُّقية، فلم يُعب بذلك؛ فكذلك أميرُ المؤمنين عليه السَّلام، وله برسول الله أسوةٌ حسنةٌ، مع أنه عليه السَّلام لم يسكت عن حقه. رُوي عنه عليه السَّلام أنه قال لولده الحسن عليه السَّلام: (يا بني ما زال أبوك مدفوعاً عن حقه، مُستأثراً عليه، مُنذُ قُبضَ رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم حتى يوم الناس، وسيعلم الذين ظلموا أي منقلبٍ ينقلبون) فنسب من دفعه عن حقه ظالماً، وقد تهدّد الله
الظالمين بالعذاب. (1/494)
وقال أيضاً في خُطبةٍ له: (أما والله لقد تقمصها ابن أبي قحافة، وإنه ليعلم أن محلّي منها محلّ القُطبِ من الرَّحَى، يَنحدرُ عني السيلُ ولا يرقأ إليّ الطّير، فسدلت دونها ثوباً وطويتُ عنها كشحاً...) إلى آخر كلامه. فلم يسكت عليه السَّلام، وإنما وقف لمّا عَدِمَ الأنصار.
ومن ظُلم أبي بكر الظاهر أنه منع فاطمة + حقّها من ميراث أبيها في فدكٍ والعوالي وغير ذلك، ولم يرض بظلمه لها حتى زاد فنسب ذلك إلى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، ولم يكن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ليُحرِّم على ابنته وسائر ورثته الميراثَ منه، وهو يعلم أنّ الصّدقة محرّمةٌ عليهم، والنذور والكفّارات. وإذا منعوا آل رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم الميراث -وقد أيضاً منعوهم الأخماس- فهل هذا إلا أكبر الظّلم؟
والقول في تقديم عمر وعثمان على علي عليه السَّلام كالقول في تقديم أبي بكر.
وأما قيام أمير المؤمنين عليه السَّلام على معاوية بن أبي سفيان فإنه لما قتل المسلمون عثمانَ، واضطروا إلى عليّ عليه السَّلام وأُلجؤوا إليه من خوف معاوية لعنه الله، ولحاجتهم إلى القائم، فامتنع من القيام بهم لِمَا علم منهم من قلّة الوفاءِ والصِّدق، ولم يثق بهم لما تقدم منهم من تقديم أبي بكر وعمر وعثمان عليه، فكره ذلك، فما زالوا يطلبونه القيام، ويَعدونه الصبر معه والوفاء له، فلما وجبت عليه الحُجّة بوجود الأنصار، قام وبايعه المسلمون، فما لبث الزبير بن العوام وطلحة ومن والاهما إلا قليلاً ثم نكثوا البيعة، وخرجوا بعائشة إلى البصرة لحرب عليٍّ عليه السَّلام. وموجب ذلك أنهم أرادوا الدنيا، وكان أمير المؤمنين عليه السَّلام يريد الآخرة، فاختلفت نيّاتهم وقد قال الله تعالى: {أَفَكُلَّمَا جَاءَكُمْ رسول بِمَا لاَ تَهْوَى أَنفُسُكُمُ اسْتَكْبَرْتُمْ فَفَرِيقًا كَذَّبْتُمْ وَفَرِيقًا تَقْتُلُونَ}[البقرة:87]، فجمعوا على أمير المؤمنين الأعداء، وحاربوه حرباً شديداً. وروي عنه عليه السَّلام أنه قال: (بُليتُ بأربعةٍ لم يبلَ بهم أحدٌ: بعائشة بنت أبي بكر أطوع الناس في الناس، وبطلحة بن عبيد الله أنطق الناس في الناس، وبالزبير بن العوام أشجع الناس بالناس، وبيعلى بن منبه التميمي الذي يعين عَليَّ بأصواع الذهب والفضة). ثم خرج أمير المؤمنين عليه السَّلام إلى الكوفة ودعا أصحاب عائشة إلى كتاب الله وسنة رسول الله فأبوا أن يُجيبوا، وسألهم الرّجوع إليه فلم يرجعوا، فلمّا أبوا إلا القتال والفساد (في الأرض) حاربهم ووضع فيهم السيف فقتلهم، (1/495)
وعُقر بعير عائشة، فأمر أمير المؤمنين عليه السَّلام ولده الحسن ومحمد بن أبي بكر أن يمنعا حرم رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ففعلا، وأمر معهما عمار بن ياسر، والأشتر النّخعي، وسعد بن قيس الهمداني، ونصره الله عليهم، وقُتل طلحة بن عبيد الله، وفرّ الزبير بن العوّام، فبات عند عُمير بن جرموز فقتله، فأنكر ذلك عليه أمير المؤمنين عليه السَّلام وقال: سمعتُ رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يقول: ((بشِّروا قاتل ابن صفية بالنار )) ثم عاد إلى المدينة، فأقام بها مُدّة، ثم خرج إلى الكوفة في قتال معاوية، فدعاه إلى كتاب الله، وسنة رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فأبى أن يُجيبه، فكان بينهما من الحرب ما قد اشتهر وظهر على الناس، إلى أن كان آخر أيّام صِفّين، وأشفق معاوية من علي عليه السَّلام، ووقع أكثر القتل في أصحاب معاوية، قيل: إنه قُتِلَ منهم خمسةٌ وسبعون ألفاً، ومن أصحاب عليٍّ خمسة وعشرون ألفاً، ثم إن معاوية -لعنه الله- أمر عمرو بن العاص -أخزاه الله- فجعل المصاحف على الرماح، وأمر من يحملها أن يقول: بيننا وبينكم كتاب الله وسُنّة رسوله، فكفّت أصحابُ عليٍّ عليه السَّلام، فقال لهم عليٌّ: (إنها كلمة حق يراد بها باطل) فلم يقدموا عليهم بعد ذلك، فأقبل على أمير المؤمنين عليه السَّلام أصحابه وسألوه المحاكمة فقال: أنا أحكِّمُ عبد الله بن العباس. فأبوا إلا أبو موسى الأشعري لعنه الله. وحكّم معاوية عمرو بن العاص لعنهما الله، فخدع أبا موسى الأشعري وقال: إن عليًّا ومعاوية قد سفكا دماء المسلمين، وشقّا العصا، وأهلكا الناس، وأنا أرى (1/496)
أن تخلع صاحبك عن الأمر، وأخلع صاحبي. فساعده أبو موسى إلى ذلك، وقدّمه عمروٌ فقال للناس: إنه قد خلع عليًّا عن الأمر، وقال عمرو: قد ولّى معاوية الأمر، فقال أبو موسى له: خدعتني. فأجازها عليه. فافترقت أصحاب علي عليه السَّلام، فاستقام معه المخلصون لله، ونفر عنه أكثر الناس، فاختلفت الناس في الحكمينِ على خمس مقالاتٍ: (1/497)
فقالت الخوارج: الحكمان قد كفرا، وكفر عليٌّ عليه السَّلام حين حكّمهما، وعلتهم قول الله: {وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنزَلَ اللَّهُ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الْكَافِرُونَ }[المائدة:44]، وفي تكفير علي عليه السَّلام بتركه القتال، وقد قال الله تعالى: {فَقَاتِلُوا الَّتِي تَبْغِي حَتَّى تَفِيءَ إِلَى أَمْرِ اللَّهِ }[الحجرات:9] وتركُ القتالِ كفرٌ.
وقالت الإمامية: إن عليًّا عليه السَّلام حكّم للتّقية، والتُّقية تَسَعُهُ لِمَا يخاف على نفسه، واعتلوا أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قد كان للتّقية يكتم الدين في أول أمره.
وقالت الزيدية، والمرجئة، وإبراهيم النظام، وبشر بن المعتمر: إن عليًّا عليه السَّلام كان مُصيباً في تحكيمه الحكمين، وأنه إنما حكّم حين خاف على عسكره الفساد، وكان الأمر عنده بيِّناً واضحاً، فنظر للمسلمين ليُتَابِعَهُمْ، وإنما أمرهما أن يحكما بكتاب الله، فخالفا، فهما اللذان اخطئا وأصاب هو، واعتلوا في ذلك أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وَادَعَ أهل مكّة، وردّ أبا الجندل بن سهيل بن عمرو وتحول في قيده.
وقالت الحشوية: نحن لا نتكلم في هذا، ونَرُدّ أمره إلى الله تبارك وتعالى، والله أعلم به حقًّا كان أو باطلاً. (1/498)
وقال أبو بكر الأصم: نفس خروجه كان خطأً، وتحكيمه خطأً، إلا أن أبا موسى أصاب حين خلعه، حتى يجتمع المسلمون على إمامٍ.
وقال سائر المعتزلة: إن كل مجتهدٍ مصيب، وعليٌّ قد اجتهد، ولسنا نتَّهِمُهُ.
فهذا ما قيل في الحكومة، والصحيح عندنا أنه غُلِبَ على أمره وأُلجِئَ إلى قبولها، كما غُلب على الأمر في أيام أبي بكر وصاحبيه وأُلجئ إلى القعود. ثم كان من قتله أهل النهروان ما قد اشتهر لتكفيرهم له وخلافهم عليه. ثم قتله اللعين ابن ملجم -لعنة الله- عليه ليلة الأحد لإحدى وعشرين ليلةً من شهر رمضان سنة إحدى وثلاثين مُنذ قُبض رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وهي سنة إحدى وأربعين من الهجرة. وخرج عليه السَّلام لتهجُّده لمصادفة ليلة القدر.
وأجمعت شيعته عليه السَّلام على القول: بأنّ مُخالفه من أهل النار، وكذلك قال أكثر المعتزلة، ومن شيعته من حَكَمَ على مخالفه بالكفر.
واختلفوا في القول فيمن تقدّمه أو قدَّم عليه.
فقال أبو الجارود، ومن قال بقوله من الزيدية: عليٌّ وصيُّ رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم والإمام بعده بلا فصل، وأن الأمة قد كفرت في تركها بيعته. ثم الإمام بعده الحسن والحسين بالنّص، ثم هي بينهم شُورى، فمن خرج من أولادهما مستحقًّا للإمامة فهو الإمام. وكذلك قالت الصالحية [أصحاب] الحسن بن صالح بن حيّ ومن قال بقوله في الإمامة، إلا أنهم قالوا: إن أبا بكر وعمر غيرُ مخطئين، بسبب سكوت علي عليه السَّلام عن حقِّه، وكذلك عثمان إلى أن تبرّأ منه المسلمون، وتوقف فيه بعد ذلك. (1/499)
وكذلك قال ابن التّمار ومن قال بقوله من الزيدية، إلا أنهم تبرّؤا من عثمان بعد ما عزله المسلمون، وشهدوا على من خالف عليًّا بالكفر.
وقال سليمان بن جرير ومن قال بقوله في علي والحسن والحسين مثل ذلك، وأن بيعة أبي بكر وعمر خطأٌ، لا يستحقان عليه إسم الفسق من قِبَلِ التأويل، وتبرّءوا من عثمان، وشهدوا عليه بالكفر.
وقالت الإمامية في علي والحسن والحسين مثل قولنا، وأثبتوا النَّص، وقالوا: لا يكون الإمام إلا منصوصاً عليه من نبيءٍ أو وصيٍّ أو إمامٍ، وسنذكر الرد عليهم في موضعه، إن شاء الله تعالى.
وعندنا أن من تقدّم على أمير المؤمنين عليه السَّلام، أو قدّم عليه غيره بعد رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فقد ظلمه، وجحد حقه، وفسق، وهو كافر نعمةٍ، فاسقٌ ظالمٌ، وقد تهدَّد الله الظالمين بالنار والخزي والبوار، وقد صحّ أنهم ظلموه حقّه، وأنكروه سبقه، غير جاهلين ولا شاكِّين، وكذلك من قدّم على الحسن، والحسين، والصّالح من أولادهما".
فصل في الكلام في إمامة الحسن والحسين عليهما السلام (1/500)
وقد قدّمنا الكلام من العقل والإجماع أنه يجب أن يُقدّم في الإمامة الأفضل من الأمة؛ والأفضل: من جمع وجوهاً من المحامد لا يجمعها غيره.
منها: القرابةُ إلى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم المشبه به بالنص.
ومنها: العلمُ، والدّين، والورع، واليقين، والزهد، والكرم، وطيب المولد، وحُسن الشّيم.
والأمة مجمعة على أنه ما كان في عصرهما ـ بعد أبيهما ـ أجمعُ لهذه المحامد منهما، فأما القرابة فلأنهما من ذريّة رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ونسلهِ؛ ولأنهما ابنا ابنته وولدا ابن عمِّه.
والذي يدل على أن ابن البنت من الذريّة قول الله تعالى في إبراهيم صلى الله عليه وآله وسلم: {وَوَهَبْنَا لَهُ إِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ كُلاًّ هَدَيْنَا وَنُوحًا هَدَيْنَا مِنْ قَبْلُ وَمِنْ ذُرِّيَّتِهِ دَاوُودَ وَسُلَيْمَانَ وَأَيُّوبَ وَيُوسُفَ وَمُوسَى وَهَارُونَ وَكَذَلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ ، وَزَكَرِيَّا وَيَحْيَى وَعِيسَى وَإِلْيَاسَ كُلٌّ مِنَ الصَّالِحِينَ ، وَإِسْمَاعِيلَ وَالْيَسَعَ وَيُونُسَ وَلُوطًا وَكُلاًّ فَضَّلْنَا عَلَى الْعَالَمِينَ ، وَمِنْ آبَائِهِمْ وَذُرِّيَّاتِهِمْ وَإِخْوَانِهِمْ وَاجْتَبَيْنَاهُمْ وَهَدَيْنَاهُمْ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ}[الأنعام:84-87]، فبيّن أن عيسى عليه السَّلام من ذريّة إبراهيم عليه السَّلام بسبب أمّهِ. والحسن والحسينُ إلى محمدٍ صلى الله عليه وآله وسلم أقربُ من عيسى إلى إبراهيم صلى الله عليهما، فصح أنهما من ذريته ونسله.
ويُؤيد ذلك ما رُوي عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أنه قال: ((كل بني أنثى ينتسبون إلى أبيهم غير إبنَي فاطمةَ فأنا أبوهما وعَصبتهما)) فصحّ أنهما أقرب الناس إلى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، ولم يُنازعهما أحدٌ في ادّعاء الأمر من بني هاشم، وفي الإشارة ما روي عن ابن عباس رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم في الحسن والحسين: ((من أحبهما في الجنة ومن أبغضهما في النار)). وعن أبي هريرة قال: نظر رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم إلى علي وفاطمة والحسن والحسين فقال: ((أنا حرب لمن حاربهم ، سلمٌ لمن سالمهم)). وعن حذيفة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: ((جاءني ملك من الملائكة لم يهبط إلى الأرض قبل ليلتي هذه ، فاستأذن ربّه عزّ وجلّ أن يُسلّم عليّ فبشَّرني (أو فأخبرني) أن الحسن والحُسين سيِّدا شباب أهل الجنة، وأن فاطمة سيِّدة نساء أهل الجنة)). (1/501)
وروي عن النبيء صلى الله عليه وآله وسلم أنه قال: ((الحسن والحسين إمامان قاما أو قعدا )). وروي عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: ((الحسن والحسين إمامان وأبوهما خير منهما )) فصحّ أنهما أولى الناس بمقام رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم بعد أبيهما، وأن النص في إمامة علي، والحسن، والحسين، دون غيرهم. وثبت أيضاً أن الحسن الإمام ـ في عصر أخيه ـ القائم، لكبره، وتقدُّمه، ودعوته، وتسليم [أخيه] الأمر إليه.
وكان من دعوته عليه السَّلام: أنه لما قتل والدُهُ أمير المؤمنين، وغسّله، وكفَّنه، وقبره، وضُربت عنق ابن ملجم -لعنه الله، صعد المنبر فخطب الناس ونَعَى عليًّا عليه السَّلام، فقال في خطبته: (إن رجلاً من أعداء الله، المارقة عن دينه اغتال أمير المؤمنين ـ كرم الله وجهه ومثواه في الجنة ـ في مسجده، وهو خارج لتهجُّده في ليلة يرجو فيها مصادفة ليلة القدر، فقتله، فيا لله من قتيلٍ، فأكرم به وبروحه من روح عرجت إلى الله بالبرِّ والتقوى والإيمان، والهدى والإحسان، لقد أطفأ به نُور الله في أرضه، وهدم ركناً من أركان الإسلام، لا يُشاد مثله، فإنا لله وإنا إليه راجعون، وعند الله نحتسب مصيبتنا في أمير المؤمنين، ورحمه الله يوم وُلدَ ويوم قُتلَ ويوم يُبعث حيًّا). ثم بكى حتى اختلجت أضلاعه ثم قال: (وقد أوصى بالإمامة إلى ابن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وابنه وسليله، وشبهه في خلقه، لأن يجبر الله به ما قد وهى، ويسد به ما ثلم، ويجمع الشمل، ويطفئ نار الفتنة، فبايعوه ترشُدُوا). (1/502)
فبايعه الشيعة كلهم، وهرب قومٌ فلحقوا بمعاوية، وأرسل معاوية إلى الذين بايعوه، فلم يزل يعمل فيهم بالكتب حتى خذلوه، ودخل عليه قومٌ منهم فطعنوه بخنجرٍ، وأرادوا قتله وقتل أخيه وأهل بيتهما، وكان قد خرج من المدينة في حرب معاوية، فكتب إليه معاوية لعنه الله يسأله الرجوع إلى المدينة والمهادنة، ويلزم كما لزم أبوه في عصر أبي بكر وعمر وعثمان، وعلى أنه يحكم في أمة محمدٍ صلى الله عليه وآله وسلم بالكتاب والسنة، وعلى انه يدفع الخُمس إليه الذي أوجبه الله لبني هاشم، كما كان يُدفع إلى أبيه في وقت أبي بكر وعمر وعثمان، ففعل ذلك، وهادنه لما عدم الأنصار، ورجع المدينة هو وأخوه ومن كان معهما، فما زال معاوية لعنه الله يعمل فيه حتى قتله بالسم. (1/503)
ثم مات معاوية، وولّى أمره ولده يزيد لعنه الله، وهو أول من أظهر الفسق وشرب الخمر في الإسلام، ثم إن قوماً من أهل الكوفة استدعوا الحسين بن علي عليهما السلام وبايعوه ووعدوه بالنصر، فخرج إليهم ووالِيَ البلد عبيد الله بن زياد من قبل يزيد بن معاوية لعنهم الله، فحاربه حتى قتله بكربلاء ـ وأهل بيته، ووجّه بحُرمه وبرأسه إلى يزيد بن معاوية، وردّهم يزيد إلى المدينة. فجاهدا عليهما السلام، ولم يتركا لله عليهما حُجّة، وفُعل بهما كما فُعل بالأنبياء والأئمة من قبلهما.
فصل في الكلام في الأئمة من بعدهما (1/504)
وقد قدّمنا الكلام في إجماع الأمة على أن الإمام [هو] الجامع للمحامد؛ منها: القرابة إلى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، ودللنا على أن الحسن والحسين أقرب الناس إلى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، فكما كانا أقرب الناس إلى رسول الله كذلك أولادهما.
ومن طريق النظر أن الإمامة لو كانت في جميع الناس لأدّى ذلك إلى الفساد والإلتباس، ولَوُضِعَ الشيء في غير أهله، ورُدّ الفرعُ إلى غير أصله، ولعسر على الناس طلبُ الإمام، وكان في ذلك فساد الإسلام، وكثُر المُدّعون للمقام وكان ذلك سبباً لتعطيل الأحكام. وأيضاً فقد جرت سُنّة الله في الأوّلين بتقديم ذرية النبيئين صلوات الله عليهم أجمعين. فصحّ أن الإمامة في ولد الحسن والحسين محصورةٌ، وعلى غيرهم محظورة. والذي يدل على ما ذهبنا إليه قول الله تعالى: {قُلْ لاَ أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْرًا إِلاَّ الْمَوَدَّةَ فِي الْقُرْبَى }[الشورى:23]، وقوله: {أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُوْلِي الأَمْرِ مِنْكُمْ}[النساء:59]، وقد وصّى بمودة ذوي القربى وهي أجرُ الرسالة، فصحّ أن ذوي القربى هم أولو الأمر.
وقد دللنا على أن أولاد الحسن والحسين أقرب ذوي القربى، فثبت أنهم وُلاة الأمر، وقال الله تعالى: {ثُمَّ أَوْرَثْنَا الْكِتَابَ الَّذِينَ اصْطَفَيْنَا مِنْ عِبَادِنَا فَمِنْهُمْ ظَالِمٌ لِنَفْسِهِ وَمِنْهُمْ مُقْتَصِدٌ وَمِنْهُمْ سَابِقٌ بِالْخَيْرَاتِ بِإِذْنِ اللَّهِ ذَلِكَ هُوَ الْفَضْلُ الْكَبِيرُ}[فاطر:32]، فصحّ أن أهل الصّفوة الذين أورثهم الله كتابه همُ الذين أمر الله بمودّتهم؛ وهم: علي والحسن والحسين وأولادهما. (1/505)
وقوله: {فَمِنْهُمْ ظَالِمٌ لِنَفْسِهِ} فإنه أراد أنه منهم في النسب، وقد ظلم نفسه وأخرجها من الطاعة لربه إذ لم يحل بينه وبين ما أراد الله منه إلا نفسه، وهو العاصي لربِّه المضيِّع لحقِّه.
وقوله: {وَمِنْهُمْ مُقْتَصِدٌ} يريد أن منهم من لم يبلغ درجة الإمامة، وهو من حدِّ العالم الذي لم يدّع الإمامة إلى حدِّ المتعلِّمِ المطيع لربِّه، وكل هؤلاء مقتصدٌ عن درجة السّبق، وليس اقتصادهم بسواءٍ، منهم من لم يمنعه من القيام إلا عدم الأنصار، ومنهم من هو دون ذلك.
وقوله: {وَمِنْهُمْ سَابِقٌ بِالْخَيْرَاتِ بِإِذْنِ اللَّهِ} يُريد الإمام الذي دعا الناس إلى طاعة ربه، وباين الظالمين، وعادى الفاسقين، فذلك هو السّابق، ويُبين ذلك ما يتلو هذه الآية من قوله: {جَنَّاتُ عَدْنٍ يَدْخُلُونَهَا يُحَلَّوْنَ فِيهَا مِنْ أَسَاوِرَ مِنْ ذَهَبٍ وَلُؤْلُؤًا وَلِبَاسُهُمْ فِيهَا حَرِيرٌ}[فاطر:33]، فوعد المحسنين السابقين، والمقتصدين، وأوعد الظالمين فقال: {وَالَّذِينَ كَفَرُوا لَهُمْ نَارُ جَهَنَّمَ لاَ يُقْضَى عَلَيْهِمْ فَيَمُوتُوا وَلاَ يُخَفَّفُ عَنْهُمْ مِنْ عَذَابِهَا...} إلى قوله: {فَذُوقُوا فَمَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ نَصِيرٍ}[فاطر:36،37]، فبيّن أنهم الذين عنى بقوله: {فَمِنْهُمْ ظَالِمٌ لِنَفْسِهِ} وذِكْرُ الكفر هاهنا هو يجمع كفر الجحدان وكفر النعمة، ثم قال بعد ذلك: {هُوَ الَّذِي جَعَلَكُمْ خَلاَئِفَ فِي الأَرْضِ فَمَنْ كَفَرَ فَعَلَيْهِ كُفْرُهُ وَلاَ يَزِيدُ الْكَافِرِينَ كُفْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ إِلاَّ مَقْتًا وَلاَ يَزِيدُ الْكَافِرِينَ كُفْرُهُمْ إِلاَّ خَسَارًا}[فاطر:39] فبيّن ما قلنا. (1/506)
وذهبت المطرفية: إلى أن الظالم هو الذي ظلم نفسه درجة السّبق، ولو كان مطيعاً لله مُتعلّماً تقياً، وهذا التفسير خلاف الكتاب والسنة. ولو كان ذلك يُسمّى ظالماً، لكان يستحق النار؛ لأن الله تعالى قد أوعد الظالمين بالنار فقال تعالى: {فَمَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ نَصِيرٍ }[فاطر:37]، وقال تعالى: {تَرَى الظَّالِمِينَ مُشْفِقِينَ مِمَّا كَسَبُوا وَهُوَ وَاقِعٌ بِهِمْ} [الشورى:22]، وقال: {وَمَا ظَلَمُونَا وَلَكِنْ كَانُوا أَنفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ }[البقرة:57]. (1/507)
وعن الحسكاني بإسناده عن زيد بن علي عليهما السلام في قول الله تعالى: {ثُمَّ أَوْرَثْنَا الْكِتَابَ الَّذِينَ اصْطَفَيْنَا مِنْ عِبَادِنَا ...}الآية[فاطر:32] قال: (الظالم: المختلط منّا بالناس، والمقتصد: الفائز، والسابق: الشَّاهر سيفه يدعو إلى سبيل ربه). وعنه أيضاً بإسناده عن علي عليه السَّلام قال: سألت النبيء صلى الله عليه وآله وسلم عن تفسير هذه الآية فقال: ((هم ذريتك وولدك ، إذا كان يوم القيامة خرجوا من قبورهم على ثلاثة أصناف: الظالم لنفسه يعني الميت بغير توبةٍ، ومنهم مقتصد استوت حسناته وسيئاته من ذريتك، ومنهم سابق بالخيرات: من زادت حسناته على سيئاته من ذريتك))، فسقط قولهم وصحّ قولنا. فهذا ما جاء في الكتاب من ذِكْرِ أهل البيت ".
ومن سُنّة رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ما نورده، فإنه رُوي عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أنه قال: ((تركت فيكم الثقلين ما إن تمسكتم بهما لن تضلوا من بعدي أبداً كتاب الله وعِترتي أهل بيتي فإنهما لن يفترقا حتى يردا عليَّ الحوضَ)). (1/508)
ورُوي عنه صلى الله عليه وآله وسلم أنه قال: ((إتقوا الله في عِتْرَتِي )) (قال ذلك ثلاث مرات). وعترته هم أهل بيته، وعِترةُ الرجل هم ذريته وأهل بيته، قال الشاعر:
كأن أباهم دَارِماً وكأنّهم
لشقشقةٍ من نسل قيس بن عاصمِ
إذا عِترة القوم الشريف تفاخرت
لصلب أبٍ من حيّ سعد ودَارمِ
وجدتَ لنا في خندفٍ خير بيتها
إذا لم تجد نِداً لنا في الأراقمِ
فصح أن العترة هم أهل البيت".
ورُوي عنه صلى الله عليه وآله وسلم أنه قال: ((مثل أهل بيتي فيكم كمثل سفينة نوحٍ من ركبها نجا، ومن تخلف عنها غرق وهوى)).
وروي عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أنه قال: ((ما بال أقوام من أمتي إذا ذكرَ عندهم آل إبراهيم استبشرت قلوبهم وتهللت وجوههم، وإذا ذُكِرَ عندهم أهل بيتي اشمأزّت قلوبهم، وكلحت وجوهُهُم، والذي بعثني بالحق نبيئاً لو أن الرجل منهم لقي الله بعمل سبعين نبيئاً ثم لم يلقه بولاية أولي الأمر من أهل بيتي ما قَبِلَ الله منه صرفاً ولا عدلاً)).
وأيضاً فإن أهل البيت " مجمعون على أن الإمامة محصورةٌ في ولد الحسن والحسين، وأنها محظورة على غيرهم، وإجماعهم حُجّةٌ.
وذهبت بعض المعتزلة إلى أن الإمامة في جميع الناس جائزةٌ. وكذلك قالت الخوارج، إلا النجدات منهم، فإنهم قالوا: لسنا نحتاج إلى إمامٍ، إنما علينا أن نُقيم كتاب الله فيما بيننا. (1/509)
وقد قدمنا الرد على المعتزلة والخوارج في قولهم: الإمامة في كل الناس، بما قدّمنا من الكتاب والسّنة والعقل.
والرد على النّجدات من كتاب الله، قوله تعالى: {وَلْتَكُنْ مِنْكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَأُوْلَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ}[آل عمران:104]، ولا يصح الدعاء إلى الخير، وإلى الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر إلا للإمام، وقوله تعالى: {أَمْ حَسِبْتُمْ أَنْ تَدْخُلُوا الْجَنَّةَ وَلَمَّا يَعْلَمِ اللَّهُ الَّذِينَ جَاهَدُوا مِنْكُمْ وَيَعْلَمَ الصَّابِرِينَ}[آل عمران:142]، ولا يتم لهم الجهادُ إلا مع الإمام. وقد رُوي عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أنه قال: ((من مات لا يعرف إمام عصره مات ميتةً جاهلية)) وتفسير ذلك: أن تعرفه فإن كان عادلاً اتّبعته، وإن كان جائراً اجتنبته.
وروي عن معاذ بن جبل قال: قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: ((إن الجنة لا تحل لعاصٍ ، ومن لقي الله ناكثاً بيعته لقي الله وهو أجذم، ومن خرج من الجماعة قيد شِبرٍ مُتعمّداً فقد خلع رِبْقَةَ الدّين من عنقه، ومن مات ليس إمام جماعةٍ -ولا لإمام جماعةٍ في عنقه طاعة- أماته الله ميتةً جاهليةً)).
والعقل يحكم أن الأمة لا تستغني عن الإمام، وبسبب فُقده وعدمه ومعصية الناس له فسد الدين وفسد الناس، والأمة مجمعةٌ على أن قيام الإمام واجبٌ، وأنه لا غنى للناس عنه. وأيضاً فإن أهل البيت" مجمعون على أن الإمامة محصورةٌ في ولد الحسن والحسين، محظورةٌ على غيرهم، وإجماعهم حُجّة. (1/510)
والدليل على أن إجماعهم حجة قول الله تعالى: {قُلْ لاَ أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْرًا إِلاَّ الْمَوَدَّةَ فِي الْقُرْبَى }[الشورى:23]، فلما أوجب الله مودّتهم وجب تركُ مخالفتهم، لأن مخالفتهم خلافُ المودّة، والعقلُ يحكم بذلك، وقال تعالى: {وَجَاهِدُوا فِي اللَّهِ حَقَّ جِهَادِهِ هُوَ اجْتَبَاكُمْ وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ مِلَّةَ أَبِيكُمْ إِبْرَاهِيمَ هُوَ سَمَّاكُمُ الْمُسْلِمينَ...}الآية[الحج:78]، وهو تعالى لا يختار شهداء إلا العدول الذين لا يُجمعون على خطأٍ، وليس لأحدٍ أن يقول: (إن) هذا عامٌّ في ولد إبراهيم؛ لأن من سوى أهل البيت " خرج من حكم هذه الآية بالإجماع، فبقيت الآية متناولة لهم.
وقالت المرجئة والحشوية، وسائر المجبرة: الإمامة في قريش من صَلُح منهم للإمامة. وقد قدمنا الاحتجاج عليهم وعلى المعتزلة والخوارج ما فيه كفاية، وقد قال الله تعالى: {قَدْ أَنزَلَ اللَّهُ إِلَيْكُمْ ذِكْرًا ، رَسُولاً}[الطلاق:10،11] فسمّى رسوله ذكراً، ثم قال: {فَاسْأَلُوا أَهْلَ الذّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لاَ تَعْلَمُونَ }[النحل:43].
وقال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: ((إني تارك فيكم الثقلين كتاب الله وعِترتي أهل بيتي)). وروي عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أنه قال: ((أحبوا الله لِمَا يغذوكم به من نعمته ، وأحبوني لحب الله، وأحبوا أهل بيتي لحبي)) فصحّ أن لأهل بيته صلى الله عليه وآله وسلم مزيّةً ليست لغيرهم؛ ولأنهم مجمعٌ عليهم، وغيرهم مختلفٌ فيه. (1/511)
واختلفت الأمة في الإمامة وفي عقدها، فعند الزيدية أن الإمامة تحصل للإمام وتجب عند من تعرف منه القرابة بأن يكون من ولد الحسن والحسين، ويكون عالماً بما يحتاج إليه من أصول الدين وفروعه، ويكون جيّد التّمييز، عارفاً لمُحكم الكتاب ولمتشابهه، عارفاً بجملةٍ من الأخبار عن النبيء المختار صلى الله عليه وآله وسلم، ويكون عارفاً بجملةٍ من الوفاق والخلاف، ويكون ورعاً عفيفاً، طيّب المولد والمنشأ، ويكون مستقيم اللّسان، معروفاً بالكرم والإحسان، غير مَهِينٍ ولا جبانٍ، فإذا تم فيه ما ذكرنا، ودعا الناس إلى طاعة الله وإلى الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر وجبت بيعتهُ ولزمت طاعته.
والإمامة عند جميع الشيعة الزيدية والإمامية حكمٌ من الله تعالى وأمرٌ؛ وهي نعمةٌ وبليّةٌ، ومن العبد الائتمار، وهو الشّكرُ على النعمة، والصبر على البليّة، وكذلك النّبوءة، قال الله تعالى: {وَإِذِ ابْتَلَى إِبْرَاهِيمَ رَبُّهُ بِكَلِمَاتٍ فَأَتَمَّهُنَّ قَالَ إِنّي جَاعِلُكَ لِلنَّاسِ إِمَامًا قَالَ وَمِنْ ذُرِّيَّتِي قَالَ لاَ يَنَالُ عَهْدِي الظَّالِمِينَ}[البقرة:124]، فصحّ أن النبوءة والإمامة، أمرٌ من الله تعالى، وقد قال الله تعالى: {وَلَقَدْ آتَيْنَا بَنِي إِسْرَائِيلَ الْكِتَابَ وَالْحُكْمَ وَالنُّبُوَّةَ }[الجاثية:16]، وقال: {وَجَعَلْنَا مِنْهُمْ أَئِمَّةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنَا لَمَّا صَبَرُوا وَكَانُوا بِآيَاتِنَا يُوقِنُونَ}[السجدة:24]، وقال تعالى: {أَمْ يَحْسُدُونَ النَّاسَ عَلَى مَا آتَاهُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ فَقَدْ آتَيْنَا آلَ إِبْرَاهِيمَ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَآتَيْنَاهُمْ مُلْكًا عَظِيمًا}[النساء:54]، وقال تعالى -حاكياً عن موسى عليه السَّلام: {اذْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ جَعَلَ فِيكُمْ أَنْبِيَاءَ وَجَعَلَكُمْ مُلُوكًا وَآتَاكُمْ مَا لَمْ يُؤْتِ أَحَدًا مِنَ الْعَالَمِينَ}[المائدة:20]، فصحّ أن النبوءة والإمامة (أمرٌ) من الله تعالى نعمةٌ وبليّةٌ. (1/512)
وذهبت المطرفية إلى أن النبوءة والإمامة فعل النبيء والإمام. وقد قدّمنا الاحتجاج عليهم، وعلى من قال بقولهم في الإمامة بما فيه كفاية.
وقد نص القاسم بن إبراهيم والهادي إلى الحق عليهما السلام على أن الإمامة من فعل الله تعالى، فقال القاسم عليه السَّلام في كتاب (تثبيت الإمامة) بعد (أن) ذكر الأنبياء" قال: ثم أبانَ الإمامةَ من بعدهم، ودلّ الأمة فيهم على رشدهم، بدليلين مُبيّنين، وعَلَمين مُضيئين، لا يحتملان لبس تغليطٍ، ولا زيغ شُبهة تخليطٍ، لا يطيق خلقهما متقنٌ، ولا يُحس تخلّقهما محسنٌ، وليُّ ذلك منهما وفيهما، ومُظهر دلالة صُنعه عليهما الله رب العالمين، وخالقُ جميع المحدثين، وهما: ما لا يدفعه عن الله دافع، ولا ينتحل صنعه مع الله صانعٌ؛ من القرابة إلى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، وما جعل من احتمال كمال الحكمة في من الإمامة فيه. وحدُّ الحكمة وحقيقة تأويلها: دَرَكُ حقائق الأحكام كلِّها، فاسمع لقول الله تعالى فيما ذكرنا من مكان قرابة المرسلين، وما جعل الله من وراثة النبوءة من أبناء النبيئين، قال تعالى: {وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا نُوحًا وَإِبْرَاهِيمَ وَجَعَلْنَا فِي ذُرِّيَّتِهِمَا النُّبُوَّةَ وَالْكِتَابَ فَمِنْهُمْ مُهْتَدٍ وَكَثِيرٌ مِنْهُمْ فَاسِقُونَ}[الحديد:26]. وقال الهادي إلى الحق عليه السَّلام في كتاب الأحكام: (تثبت الإمامة للإمام، وتجبُ له على جميع الأنام بتثبيت الله لها فيه، وجعله إياها له. وذلك فإنما يكون من الله إليه إذا كانت الشروط المتقدمة التي ذكرنا فيه، فمن كان من أولئك كذلك، فقد حكم الله سبحانه له بذلك، رضِيَ بذلك الخلقُ أم سخطوا) إلى آخر الباب. فإنه جعل لذلك باباً مُفرداً. وقد غلطت المطرفية في قولها، وخالفوا أهل البيت" (1/513)
وشيعتهم، ووافقوا مخالفي أهل البيت. (1/514)
وقالت المعتزلة والمجبرة والخوارج: تثبت الإمامة للإمام بالشورى. واختلفوا في كمية من تثبُتُ به. فقال قوم: تثبت بالإجماع. وقال قوم: تثبت بالخبر المتواتر. وقال قوم: تثبت بالخبر الذي يُضطر إلى قبوله.
وقال أبو الهذيل: تثبت بعشرين رجلاً، واستدلّ بقول الله تعالى: {إِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ عِشْرُونَ صَابِرُونَ }[الأنفال:65].
وقال قوم: تثبت باثنين كما أنه يُقتل القاتلُ بشهادتهما. وقال قوم: تثبتُ بواحدٍ.
وقد قدمنا الاحتجاج عليهم أنها لا تثبت إلا بحكم الله. ولم يُخالفوا في النبوءة.
وذهبت الإمامية إلى أن الإمامة لا تجب إلا بالنص، وسنورد قولهم والاحتجاج عليهم -إن شاء الله- في موضعه.
فصل في الكلام في إمامة زيد بن علي عليهما السلام ومن قام بعده من الأئمة عليهم السلام (1/515)
فإنه لما قُتل الحسين عليه السَّلام وأهل بيته، وجرى عليهم ما جرى في كربلاء، ضعفوا لذلك، ولم يسلم من القتل إلا أولادٌ صغارٌ، منهم علي بن الحسين عليه السَّلام، ومنهم زيد بن الحسن، والحسن بن الحسن، وأقاموا مُدّةً طويلةً لم يقم منهم أحدٌ، وبلغ علي بن الحسين السّعيَ، وانتهى في الدِّين والعلم والورع والزّهد واليقين، وسُمّيَ عليه السَّلام زين العابدين. وقد روي عن النبيء صلى الله عليه وآله وسلم أنه قال للحسين بن علي عليهما السلام: ((يُولد لك بعدي غُلامٌ يُسمى سيد العابدين)).
وروي في الخبر: ((يُنادَى يوم القيامة: لِيَقُم سيد العابدين ، فيقوم علي بن الحسين عليهما السلام)).
وكان من أمرِ زيد بن علي عليهما السلام: أنه لما عَلِمَ أن الحُجّة قد وجبت عليه لله دعا إلى طاعة الله، وإلى الجهاد في سبيل الله، وإلى الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وكان في وقت هشام بن عبد الملك، فأجابه قومٌ، والْتأَمُوا إليه بعد مُدةٍ، ثم إنه خرج في قتال هشام، وقد خرج في لقائه يوسف بن عمرو الثقفي فإنه بلغنا عن زيد بن علي عليهما السلام أنه كَتَّبَ كتائبه، فلما خفقت راياته رفع يديه إلى السماء ثم قال: (الحمد لله الذي أكمل لي ديني، والله ما يسرني أني لقيت محمداً صلى الله عليه وآله وسلم ولم آمر (في) أمته بالمعروف، ولم أنههم عن المنكر، والله ما أبالي إذا أقمت كتاب الله عزّ وجلّ، وسُنّة رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أن أُجِّجَتْ لي نارٌ ثم قُذِفتُ فيها ثم صرتُ فيما بعد ذلك إلى رحمة الله، والله لا ينصرني أحدٌ إلا كان في الرفيق الأعلى مع محمدٍ صلى الله عليه وآله وسلم، ونحن بنوه يا معاشر الفقهاء ويا أهل الحجا أنا حجة الله عليكم، ثم هذه يَدي مع أيديكم، على أن نُقيم حدود الله، ونعمل بكتاب الله، ونقسم بينكم بالسّويّة، فاسألوني عن مَعَالمِ دينكم فإن لم أنبئكم عما سألتم عنه فولوا من شئتم ممن علمتم أنه أعلم منّي، والله لقد علمتُ علم أبي علي بن الحسين، وعلم جدّي الحسين بن علي، وعلم علي بن أبي طالب وصيّ رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وعيبة عِلمه، وإني لأعلم أهل بيتي، والله ما كَذَبتُ كذبةً مُنْذُ عرفتُ يميني من شمالي، ولا انتهكتُ مُحرّماً مُنذُ عرفتُ أن الله يُؤاخذني به، هلمّوا فاسألوني) ثم سار حتى انتهى إلى (1/516)
الكُناسة فحمل على جماعةٍ من أهل الشام كانوا بها، ثم سار إلى الجبّانة، ويوسف بن عمرو مع أصحابه على التَّلِّ فشدّ بالجمع على زيد وأصحابه. (1/517)
قال راوي الحديث وهو أبو معمر: فرأيته عليه السَّلام يشدُّ عليهم كأنه الليثُ حتى قتلنا منهم أكثر من ألفي رجلٍ، ما بين الحيرة والكوفة، وتفرّقنا فريقين، وكنا من أهل الكوفة أشدّ خوفاً.
قال أبو معمر: فلما كان يوم الخميس حاصت منّا حيصةٌ (منهم)، واتبعتهم فرساننا فقتلنا أكثر من مائتي رجلٍ، فلما جنَّ الليل -ليلة الجمعة -كثُر فينا الجراح، واستبان فينا الفشلُ، وجعل زيدٌ يدعو ويقول: (اللهم إن هؤلاء يقاتلون عدوك، وعدو رسولك عن دينك الذي ارتضيته لعبادك فأجزهم أفضل ما جزيت أحداً من عبادك المؤمنين)، ثم قال: احيُوا هذه الليلة بقراءة القرآن، والدعاء والتهجّد، والتضرّع إلى الله، وأنا أعلم والله ما أمسى على وجه الأرض عصابةٌ أنصح لله تعالى ولرسوله عليه السَّلام وللإسلام منكم. فكان غاية أمره أنه قتله يوسف بن عمرو -لعنه الله- وصلبه في الكُوفة، فأقام على الخشبة سنتين ثم أحرقه، ونسف رماده في البحر، لعن الله قاتله وباغضه وخاذله.
ثم قام من بعده ولده يحيى بن زيد عليهما السلام في ولاية يزيد بن عبد الملك، فخرج له عسكره فقُتل هو وشيعته بخراسان بموضعٍ يقال له: (جوزجان). ثم انتقم الله من بني أميّة بعده ودمرهم، فقُطع دابرهم -لعنهم الله- وكانت ولايتهم ألف شهرٍ.
وقيل: إن بني أمية -لعنهم الله- هم الشجرة الملعونة في القرآن.
ثم آل الأمر بعدهم إلى بني العباس، ثم قام محمد بن عبد الله بن الحسن بن الحسن " وهو النفس الزكيّة فدعا الناس إلى طاعة الله، فخرَّج إليه أبو الدوانيق عسكره فقُتل عليه السَّلام وجماعةٌ من أهل بيته وأصحابه رحمهم الله، وسال دمه إلى أحجار الزيت في جانبٍ من المدينة كما جاء في الخبر، فإنه رُوي عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أنه خرج ذات يومٍ فوقف في موضع من المدينة ثم قال لأصحابه: ((ألا إنه سيقتل في هذا الموضع رجلٌ من ولدي إسمه كاسمي، واسم أبيه كاسم أبي، حتى يسيل دمه إلى أحجار الزّيت على قاتله ثلث عذاب أهل النار)). (1/518)
وقد روي عن الهادي إلى الحق عليه السَّلام أنه قال: بين محمد بن عبد الله النفس الزكية، وبين المهدي عليه السَّلام خمسة عشر إماماً، والمهدي آخر الأئمة".
ثم قام من بعده أخوه إبراهيم بن عبد الله" فدعا الناس إلى طاعة الله، بناحية البصرة، فخرَّج إليه أبو الدوانيق عسكره، فحاربه حتى قُتِلَ عليه السَّلام بموضعٍ يُقال له: بَاخَمْرَا.
ثم قام الحسين بن علي بن الحسن بن الحسن بن الحسن" فدعا إلى طاعة الله، فبايعه قومٌ ثم خرج يُريد الحجّ هو ومن معه، فلما صار بفخٍّ في جانب مكة خرج إليه أمير مكّة بعسكره ومن أجابه من الحاج، فحاربوه حتى قتلوه وجماعةً من أهل بيته وأصحابه رحمهم الله، والذي جهد في قتله موسى بن محمد بن أبي الدوانيق لعنه الله.
ثم قام من بعده يحيى بن عبد الله -أخو النفس الزكيّة"- فبايعه قومٌ وخرج إلى ناحية طبرستان، فلم يزل هارون بن محمد -لعنه الله- يتعمّل فيه، حتى وقع في يده، وكان قد عقد له العقود، وحَمَلَ المواثيق المغلّظة، فلم ينظر في ذلك وقتله. (1/519)
ثم قام محمد بن إبراهيم بن إسماعيل بن إبراهيم بن الحسن بن الحسن بن علي بن أبي طالب" بسواد الكوفة، فدعا إلى طاعة الله -وكان ذلك في عصر المأمون- فأدركه الموتُ بعد أربعة أشهرٍ من مقامه فمات عليه السَّلام.
وكان المأمون مُحباً لآل بيت رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، وكان يُناظر فقهاء العامّة على فضل أمير المؤمنين عليه السَّلام ويُفضّله على أبي بكر وعمر وعثمان، ويقول: إنه أولى منهم بمقام رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم.
ومن حُبّه لآل رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم رُوي عنه: أنه لما مات محمد بن جعفر الصادق عليهما السلام ركب ليشهده -وكان موته عنده- فلقيهم وقد خرجوا به، فلما نظر السرير، نزل ودخل تحت العمود حتّى وُضع، وتقدّم وصلى عليه، ولم يزل حتى بُني عليه، ثم قام على القبر، فقال له عبيد الله بن الحسين ودعا به: يا أمير المؤمنين إنك [قد] تعبتَ فلو ركبتَ، قال المأمون: هذه رحمٌ مَجْفُوّة مُنذ مائتي سنةٍ. قال إسماعيل بن محمد بن جعفر: قلت لأخي -وهو إلى جنبي: لو كلّمناه في دَيْنه فلا نجده في وقتٍ أقرب من وقتنا هذا، فابتدأ هو فقال: كم ترك أبو جعفر من الدين؟ قلنا: خمسة وعشرين ألف دينار، قال: قد قضى الله عنه، وترجّل له إسماعيل بن محمد بن جعفر، قال الشيخ بن الشيخ فأمر له بخمسةٍ وعشرين ألفاً بدين أبيه، فصكّ له بها إلى الأهواز، يُعطى بها الآرز، فغلا الآرز فباعه بخمسين ألف دينارٍ. (1/520)
وروي أنه كان أمر إلى القاسم بن إبراهيم عليه السَّلام بمالٍ كثيرٍ فردّه ولم يقبله اختياراً منه للفقر على الغنى، وزُهداً منه عليه السَّلام في الدنيا وفي أهلها. فلم يفعل فِعَالَ المأمون بن هارون من بني العباس سُواهُ.
ورُوي أنه رد فدكاً والعوالي على بني فاطمة، ومثلُ ذلك فعل عمر بن عبد العزيز من بني أميّة، فإنه رُوي أنه ردّ فدكاً على محمد بن علي الباقر عليهما السلام، وفي عمر بن عبد العزيز يقول كثير عزّة:
وُلِّيت فلم تَشتم عليًّا ولم تَخَفْ
بريًّا ولم تتبع سجيّة مُجرمِ
وقُلتَ فصدَّقتَ الذي قلت بالذي
فعلتَ فأضحى راضياً كُلُّ مُسلمِ
ثم قام القاسم بن إبراهيم بن إسماعيل بن إبراهيم بن الحسن بن الحسن بن علي بن أبي طالب" فدعا إلى طاعة الله، وكان خروجُهُ بغربي مصر فأجابه منهم كثيرٌ، وبايعوه وأقام معهم مُدّةً قليلةً ثم سألوه عن أبي بكر وعمر فقال: كانت لنا أمٌّ صدِّيقةٌ ابنة صدِّيقةٍ ماتت وهي غضبانة عليهما، ونحن غاضبون لغضبها، لقول رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: ((إن الله يغضب لغضب فاطمة )). فغضبوا عليه، فلما رأى منهم الكراهة له والإدبار عنه لحق بجبال الرسّ فأقام بها مُدّةً وأظهر دين جدّه رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، وأظهر علم أهل البيت " ـ ولم يُظهر قبله أحدٌ لأجل ولاية بني أميّة وبني العباس ـ كما ظهرت علوم العامّة، وسنذكر من ذلك طرفاً في موضعه إن شاء الله تعالى. فما زال عليه السَّلام يُعلِّم الناس، وينشر العلم حتّى تُوفّي هنالك عليه السَّلام ثم لزم مجلسه ولده محمد بن القاسم ". (1/521)
ثم قام الهادي إلى الحق يحيى بن الحسين بن القاسم بن إبراهيم بن إسماعيل بن إبراهيم بن الحسن بن الحسن بن علي بن أبي طالب"، فخرج إلى اليمن وكان قد استدعاه بعضُ أهل اليمن، فدعا إلى كتاب الله وسُنّة رسوله صلى الله عليه وآله وسلم، وإلى طاعة الله والجهاد في سبيله، فأجابه قومٌ من أهل اليمن وخالفه أكثرهم، فحارب الظالمين وحاربوه، وأخافهم وأخافوه، وباينهم وباينوه، ثم وصل إليه قومٌ من أهل طبرستان، أهل علمٍ ودين فنصروه، وأظهر من علم أهل البيت" ما لم يُظهره غيره (من الأئمة)، وجاهد جهاداً شديداً، وبلغ في أعداء الله وأعدائه ما لم يكن يبلغه غيره من الأئمة "، ونفى وُلاة بني العبّاس من اليمن، حتّى بلغ بعضُهم العراق يطلب النصرة عليه من هنالك، وبلغ له شعرٌ إلى العراق يتهدّدهم فيه يقول فيه: (1/522)
فلئن تمكنني المنية فينة
إن المنية قد تعول وتصرع
فعليَّ أن أوطئَ السنابك عنوةً
مدن العراق ومن بها يترفّع
حتى أجازيهم بما قد قدّموا
مثلاً بمثلٍ والأنوف تُجدع
فأظهر الأحكام، وأعزّ الإسلام، وكفل الأيتام، وعدل في الرعيّة، وقسم بالسويّة، وأحيا الدين، وأعزّ المؤمنين، وأذلّ الفاسقين، وأخرج أكثر أهل اليمن من قول المجبرة المشبِّهين، ثم تُوفي بصعدة عليه السَّلام ورحمه الله يوم وُلِدَ ويوم يموتُ ويوم يُبعث حيا.
ثم قام ولده محمد بن يحيى المرتضى" فبايعه شيعةُ أبيه، وأمر بالمعروف ونهى عن المنكر مُدّة ثم ناله مرضٌ، فقام أخوه أحمد بن يحيى الناصر" فدعا إلى طاعة الله، وإلى الجهاد في سبيله، فجاهد القرامطة والظالمين حتى أذلّهم وكف حدّهم وأوهن عُراهم، وطردهم من كثير من البلاد ونفاهم، وأكّد شريعة أبيه في اليمن، وأظهر فيه كل الفرائض والسّنن. وتُوفي هو وأخوه عليهما السلام بصعدة. (1/523)
وكانت ولاية الهادي إلى الحق عليه السَّلام خمس عشرة سنة، وتُوفي عليه السَّلام يوم الأحد لعشرين يوماً من ذي الحجة سنة ثمانٍ وتسعين ومائتين(298ه) وكانت ولاية المرتضى عليه السَّلام سنتين، وتُوفي في المحرّم سنة عشر وثلاثمائة سنة (310ه) وكان في مُدّة حياته في ولاية أخيه بصعدة، يعضده ويُعينه ويُقوّيه ويقول بإمامته.
وبلغنا أنه لما قَتَلَ قتلةً من القرامطة يقال: إنه قتل منهم ألفي قتيلٍ أبرد إلى أخيه يُبشّره بذلك، فردّ عليه المرتضى عليه السَّلام الجواب يقول فيه:
ورد البريد مُبشِّراً برسالةٍ
من بعد قتلك للعدى بثلاث
فوددت أني كنتُ حاضر وقعةٍ
أوْدَتْ بكلّ منافقٍ نكّاثِ
حتى أجول على الحصان بصعدة
ولَدَى النّزال بالمهنّد جاثِي
دون الإمام بن الإمام أخ النهى
أبغي الرضا لخالقي وغياثي
وكانت ولاية أحمد بن يحيى الناصر ثلاثاً وعشرين سنةً.
وقام الحسن بن علي الناصر عليه السَّلام -من ولد الحسين بن علي عليه السَّلام- في عصر الهادي إلى الحق عليه السَّلام وجاهد في الدّيلم فدعا إلى طاعة الله، وجاهد في سبيل الله، وكان أهل الدّيلم من قبله مشركين، فردّهم مؤمنين. (1/524)
رُوي عنه عليه السَّلام أن أصناف الرعيّة ازدحموا في مجلسه حين دخل آمل، فخطب خُطبةً قال فيها: (أيها الناس إني دخلت بلاد الديلم وهم مشركون يعبدون الشجر والحجر، لا يعرفون خالقاً، ولا يدينون ديناً، فلم أزل أدعوهم إلى الإسلام وأتلطّف بهم حتى دخلوا فيه أرسالاً، وأقبلوا إليه إقبالاً، وظهر فيهم الحق، وعرفوا العدل والتوحيد، فهدى الله بي منهم زُهاء مائتي ألفٍ من رجلٍ إلى امرأةٍ، فهم الآن يتكلّمون بالعدل والتوحيد مستبصرين، ويتناظرون مجتهدين، ويدعون إلى الله محسنين، يأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر، ويُقيمون حدود الصلوات المكتوبات والفرائض المفروضات، وفيهم من لو وجد ألف دينارٍ ملقىً على الطريق لم يأخذ ذلك لنفسه، وينصبه على رأس عودٍ يُنشده ويعرّفه، ثم قاموا بنصرتي، وناصبوا آباءهم وأبناءهم وأكابرهم الحرب، فهم من هَوَايَ وأتباع رأيي في نصرة الحق وأهله، لا يُولِّي أحدٌ منهم من عدوِّه، ولا يعرف غير الإقدام، فلو لقيتَ منهم ألف جريح، لم تلق منهم جريحاً في قفاه وظهره، وإنما جراحاتهم في وجوههم وأحداقهم، يرون الفرار من الزحف كُفراً، والقتل شهادةً وغُنماً). ثم قال في آخر خطبته: (وأنتم معاشر الرعيّة فليس عليكم دوني حجابٌ، ولا على بابي بَوّابٌ، وليس على رأسي خلق من الزّبانية، ولا أحدٌ من أعوان الظلمة، كبيركم أخي،
وشابكم ولدي، ولا آنس إلا بأهل العلم منكم، ولا أستريح إلا إلى مفاوضتكم، فاسألوني عن جميع أمر دينكم وما يُعييكم من العلم وتفسير القرآن، فإنا نحن تراجمته، وأولى الخلق به، وهو الذي قُرِنَ بنا وقُرِنَّا به، قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: ((إني مخلف فيكم ما إن تمسكتم به لن تضلوا من بعدي أبداً، كتاب الله وعِتْرَتي أهل بيتي)) الله وليُّ توفيقكم لرشدكم، وحسبي الله وحده عليه توكلت وإليه أنيب). ثم تُوفي هنالك عليه السَّلام. (1/525)
ثم قام في ناحيته أبو عبد الله محمد بن الحسن بن الداعي عليه السَّلام فدعا إلى طاعة الله وإلى الجهاد في سبيل الله.
ثم قام بعده المؤيد بالله أحمد بن الحسين بن هارون عليه السَّلام فدعا إلى طاعة الله وإلى الجهاد في سبيل الله.
وقام من بعده أخوه السيد أبو طالب يحيى بن الحسين بن هارون عليه السَّلام فدعا إلى طاعة الله.
وقام من بعده أبو الحسن الحسني الحُقَيْنِي بالدّيلمان.
ثم قام من بعده الناصر الأخير الحسن من أولاد الناصر الأكبر.
ثم من بعده يحيى بن الحسن الحقيني -من بني الحسن- قام بعد أبيه من بني الحسن.
ثم القاسم بن علي بن عبد الله بن محمد بن القاسم بن إبراهيم" فدعا في اليمن إلى طاعة الله، وجاهد في سبيل الله.
ثم قام بعده ولده الحسين بن القاسم، فدعا إلى طاعة الله وإلى الجهاد في سبيل الله، ثم بدا منه بعد ذلك أنه هو المهدي، قال: الذي تُملأ به الأرض عدلاً كما مُلئت جَوْراً. وقيل: إنه قال: هو أفضل من رسول الله، وكلامه أبهر من كلام الله، وكان قد طلّق زوجة له وانقضت عِدّتها، وتزوّجها رجلٌ، فلما علم بنكاحه لها أخرجها منه بغير طلاقٍ، وتشبّه برسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، واحتجّ بقول الله تعالى: {وَمَا كَانَ لَكُمْ أَنْ تُؤْذُوا رسول اللَّهِ وَلاَ أَنْ تَنْكِحُوا أَزْوَاجَهُ مِنْ بَعْدِهِ أَبَدًا إِنَّ ذَلِكُمْ كَانَ عِنْدَ اللَّهِ عَظِيمًا}[الأحزاب:53]. (1/526)
وقال في كتاب كتبه إلى محسّن بن محمد بن المختار بن الناصر بن يحيى الهادي عليه السَّلام، وكان من فُضلاء أهل البيت وعلمائهم، وقد سأله عن مسائل، وأنكر عليه كلامه الذي تكلّم به، فردّ عليه كلاماً فظيعاً، وسبّه سباً شنيعاً، ثم قال في كلامه: (وما عسى أن تكون مسائلك في علمنا، وأدواتك في بحرنا، وما فضل علمنا على جميع العلوم إلا كفضل الشمس على جميع النجوم، وكل معجزةٍ من الله الواحد الحي القيّوم، وما الفرق بيني وبين الأئمة الأخيار إلا كفرق ما بين الليل والنهار، وشتان -يا جاهل- بين النجوم والشمس، وهل يوجد لنا نظيرٌ من الجن والإنس؟ وقد علم الله مقتي لَلْفُجار، ولكن يجوز ويحسن عند الاضطرار. ثم أغرق في كلامه وأفرط وقال: (ما يكون علم [جميع] الأنبياء -وعدّ من علي بن أبي طالب عليه السَّلام إلى أبيه القاسم بن علي عليه السَّلام- إلا كعشر العشير من علمه، ثم قال: فأحضروا التوراة والإنجيل والفرقان، وكل علمٍ أوجد الرحمن ونزَّله فإنكم تجدون قولي أقوى من ذلك حُججاً، وأبين بياناً، وأوضح نوراً، وأعظم برهاناً، فما عسى أن تكون مسائلك). وذكر كثيراً من جنس هذا. (1/527)
فردّ عليه محسّن بن محمد جواب عاقلٍ عالمٍ، يذُمُّ فيه السب، والكلام المُعوِر، وأورد [عليه] من كلام الله حُججاً مثل قول الله: {لاَ يُحِبُّ اللَّهُ الْجَهْرَ بِالسُّوءِ مِنَ الْقَوْلِ }[النساء:148]، وكقوله: {وَإِذَا خَاطَبَهُمُ الْجَاهِلُونَ قَالُوا سَلاَمًا }[الفرقان:63]، وكقوله: {وَالْكَاظِمِينَ الْغَيْظَ وَالْعَافِينَ عَنِ النَّاسِ وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ}[آل عمران:134]، ومثل قوله: {فَاعْفُوا وَاصْفَحُوا }[البقرة:109]، وكقوله: {وَإِنْ تَعْفُوا وَتَصْفَحُوا وَتَغْفِرُوا فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ}[التغابن:14]، وأورد أيضاً أبياتاً من أشعار العرب، منها قول الشاعر: (1/528)
ويُشْتَمُوا فترى الألوان مُشرقةً
لا عفو ذل ولكن عفو أحلام
واحتج عليه في ادّعائه أن كلامه أبلغ من كلام الله، بآياتٍ من كتاب الله منها: أن الله تعالى قد تحدّى الجنّ والإنس بأن يأتوا بسورةٍ من مثله، فما فعلوا ولا قدروا وذلك قول الله تعالى: {قُلْ لَئِنِ اجْتَمَعَتِ الإِنسُ وَالْجِنُّ عَلَى أَنْ يَأْتُوا بِمِثْلِ هَذَا الْقُرْآنِ لاَ يَأْتُونَ بِمِثْلِهِ وَلَوْ كَانَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ ظَهِيرًا}[الإسراء:88]، وبقوله: {لَوْ أَنْزَلْنَا هَذَا الْقُرْآنَ عَلَى جَبَلٍ لَرَأَيْتَهُ خَاشِعًا مُتَصَدِّعًا مِنْ خَشْيَةِ اللَّهِ}[الحشر:21] وأمثال ذلك.
وأورد في ذمِّ الإفتخار قوله تعالى: {فَلاَ تُزَكُّوا أَنفُسَكُمْ هُوَ أَعْلَمُ بِمَنِ اتَّقَى}[النجم:32]، وبما أشبه ذلك.
ونحن ننفي عنه هذا الكلام، ونقول: هو مكذوبٌ عليه، ولا يصح [هذا] عنه، وهذا ادعاء أمرٍ باطلٍ، وفساده ظاهرٌ، وإنما أردنا أن نُبيّن القول فيه، لأن قوماً من بني إخوته وشيعته قد صاروا يرون قوله هذا ديناً، وقد صاروا فرقةً يُناظرون عليه، ويَحيَون ويموتون عليه، وينسبون من لم يَقل به إلى الكفر، ويقولون: لم يُقتل ولم يمت ولا يموت حتى يملأ الأرض عدلاً كما مُلئت جَوراً، ويقولون: إنه يعلم الغيب، وذلك لجهلهم، وقلّة معرفتهم لكتاب الله وسُنّة رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم. (1/529)
ومن جهلهم أنهم قالوا: هو يحكم بحكم آل داود، فإذا سألهم سائلٌ عن حكم آل داود كيف كان؟ قالوا: يعرف المُحقّ من المبطل من الخصمين قبل أن يتكلما. ولم يعلموا أن داود عليه السَّلام سُئل عن نفسه فلم يعلم وذلك قول الله تعالى: {وَهَلْ أَتَاكَ نَبَأُ الْخَصْمِ إِذْ تَسَوَّرُوا الْمِحْرَابَ ، إِذْ دَخَلُوا عَلَى دَاوُودَ فَفَزِعَ مِنْهُمْ قَالُوا لاَ تَخَفْ خَصْمَانِ بَغَى بَعْضُنَا عَلَى بَعْضٍ فَاحْكُمْ بَيْنَنَا بِالْحَقِّ وَلاَ تُشْطِطْ وَاهْدِنَا إِلَى سَوَاءِ الصِّرَاطِ ، إِنَّ هَذَا أَخِي لَهُ تِسْعٌ وَتِسْعُونَ نَعْجَةً وَلِيَ نَعْجَةٌ وَاحِدَةٌ فَقَالَ أَكْفِلْنِيهَا وَعَزَّنِي فِي الْخِطَابِ ، قَالَ لَقَدْ ظَلَمَكَ بِسُؤَالِ نَعْجَتِكَ إِلَى نِعَاجِهِ...} إلى قوله: {وَظَنَّ دَاوُودُ أَنَّمَا فَتَنَّاهُ فَاسْتَغْفَرَ رَبَّهُ وَخَرَّ رَاكِعًا وَأَنَابَ}[ص:21-24].
واعلم أن قولهم هذا غلطٌ بيِّنٌ من وجوه:
منها أن الله تعالى يقول: {قُلْ لاَ يَعْلَمُ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ الْغَيْبَ إِلاَّ اللَّهُ وَمَا يَشْعُرُونَ أَيَّانَ يُبْعَثُونَ}[النمل:65]، وقولهم: (إنه يعلم الغيب)، تكذيبٌ لكتاب الله. وقال تعالى: {وَمَا تَدْرِي نَفْسٌ مَاذَا تَكْسِبُ غَدًا وَمَا تَدْرِي نَفْسٌ بِأَيِّ أَرْضٍ تَمُوتُ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ}[لقمان:34]، وقوله: {وَلاَ يُحِيطُونَ بِشَيْءٍ مِنْ عِلْمِهِ إِلاَّ بِمَا شَاءَ}[البقرة:255]. وقولهم: (إن كلامه أبلغ من كلام الله وأقوى حُججاً)، تكذيبٌ أيضاً لكتاب الله؛ لأن الله تعالى يقول: {قُلْ لَئِنِ اجْتَمَعَتِ الإِنسُ وَالْجِنُّ عَلَى أَنْ يَأْتُوا بِمِثْلِ هَذَا الْقُرْآنِ لاَ يَأْتُونَ بِمِثْلِهِ وَلَوْ كَانَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ ظَهِيرًا}[الإسراء:88]، وقال تعالى: {وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِبًا أو قَالَ أُوحِيَ إِلَيَّ وَلَمْ يُوحَ إِلَيْهِ شَيْءٌ وَمَنْ قَالَ سَأُنزِلُ مِثْلَ مَا أَنزَلَ اللَّهُ وَلَوْ تَرَى إِذِ الظَّالِمُونَ فِي غَمَرَاتِ الْمَوْتِ وَالْمَلاَئِكَةُ بَاسِطُوا أَيْدِيهِمْ أَخْرِجُوا أَنفُسَكُمُ الْيَوْمَ تُجْزَوْنَ عَذَابَ الْهُونِ بِمَا كُنتُمْ تَقُولُونَ عَلَى اللَّهِ غَيْرَ الْحَقِّ وَكُنتُمْ عَنْ آيَاتِهِ تَسْتَكْبِرُونَ}[الأنعام:93]. (1/530)
وأما قولهم: إنه أفضل من الملائكة والأنبياء " فهذا ضربٌ من الجنون، وغلطٌ من ادّعاء الرّبوبية، وذلك أنه قد أتى في كتاب الله أنّ الملائكة مُوكّلونَ بأمر الله، قال عزّ من قائلٍ: {وَالسَّابِحَاتِ سَبْحًا ، فَالسَّابِقَاتِ سَبْقًا ، فَالْمُدَبِّرَاتِ أَمْرًا}[النازعات:3-5]، وقال: {قُلْ يَتَوَفَّاكُمْ مَلَكُ الْمَوْتِ الَّذِي وُكّلَ بِكُمْ }[السجدة:11]، وقال تعالى: {مَا يَلْفِظُ مِنْ قَوْلٍ إِلاَّ لَدَيْهِ رَقِيبٌ عَتِيدٌ }[ق:18]، فإن كان ممن يموت فملَك الموت مُوكّلٌ عليه، والوكيل أفضل من الموكَّل عليه، وإن كان لا يذوق الموت فهو ربٌّ ـ تعالى الله عما يقول الجاهلون علوا كبيراً، وأيضاً فإن الملائكة ـ صلوات الله عليهم ـ هم خزنة الجنّة وخزنة النار، والخازنُ يكون أفضل ممن يَخْزُنُ عليه، فبطل قولهم: هو فوق الملكوتية. (1/531)
وأما قولهم: هو أفضل من رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ولم يعلموا ما استحق الإمامة إلا بفضل رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، وذلك عِلمُ رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، والقرابة من رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم. ولو كان أفضل من رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم لَجُعِلَ في مكان رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، ولأنزل عليه الكتاب والمعجزات، وهذا القول خروجٌ عن الحدود المضروبة، والله تعالى يقول: {فَلاَ تُزَكُّوا أَنفُسَكُمْ هُوَ أَعْلَمُ بِمَنِ اتَّقَى}[النجم:32]، وقال تعالى: {النَّبِيُّ أَوْلَى بِالْمُؤْمِنِينَ مِنْ أَنْفُسِهِمْ }[الأحزاب:6]، وقال تعالى: {لاَ تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ يَفْرَحُونَ بِمَا أَتَوا وَيُحِبُّونَ أَنْ يُحْمَدُوا بِمَا لَمْ يَفْعَلُوا فَلاَ تَحْسَبَنَّهُمْ بِمَفَازَةٍ مِنَ الْعَذَابِ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ}[آل عمران:188]. (1/532)
وأما قولهم: (هو أفضل من رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم؛ لأنه يملك الأرض كلها، ولم يملك رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم كل الأرض)، فليس مِلكُ الأرض يُوجب فضلاً على رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، وقد ملك آل داود ما لا يملكه أحدٌ من بعدهم، ولا ملكه أحدٌ من قبلُ، قال الله تعالى: {وَلَقَدْ فَتَنَّا سُلَيْمَانَ وَأَلْقَيْنَا عَلَى كُرْسِيِّهِ جَسَدًا ثُمَّ أَنَابَ ، قَالَ رَبِّ اغْفِرْ لِي وَهَبْ لِي مُلْكًا لاَ يَنْبَغِي لأَحَدٍ مِنْ بَعْدِي إِنَّكَ أَنْتَ الْوَهَّابُ ، فَسَخَّرْنَا لَهُ الرِّيحَ تَجْرِي بِأَمْرِهِ رُخَاءً حَيْثُ أَصَابَ ، وَالشَّيَاطِينَ كُلَّ بَنَّاءٍ وَغَوَّاصٍ ، وَآخَرِينَ مُقَرَّنِينَ فِي الأَصْفَادِ ، هَذَا عَطَاؤُنَا فَامْنُنْ أو أَمْسِكْ بِغَيْرِ حِسَابٍ}[ص:34-39]، فصحّ أنه لا يُعطى أحدٌ بعده مُلكاً في الدنيا واقتداراً مثل ما أُعطي سليمان عليه السَّلام. ومع ذلك أن سليمان لم يدّع أنه أفضل الأنبياء لما أعطيَ من ملك الدنيا ما لم يُعطوا مع ملك الآخرة. وقد عُرض على رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم مُلك الدُّنيا، فكره ذلك وقال: ((الدنيا دار من لا دار له ، ومال من لا مال له، ويجمعها من لا عقل له))، فلو كان الحسين بن القاسم قد ملك الدنيا بأسرها ثم افتخر بملكها وادّعى ما ادّعى لكان ذلك قبيحاً منه، فكيف ولم يكن من ذلك شيءٌ؟ (1/533)
وأيضاً فإن المؤمن لا يكون مؤمناً حقا حتى يكون مُستعظماً لسيئاته، مُستصغراً لحسناته، قال الله تعالى: {وَالَّذِينَ هُمْ مِنْ عَذَابِ رَبِّهِمْ مُشْفِقُونَ ، إِنَّ عَذَابَ رَبِّهِمْ غَيْرُ مَأْمُونٍ}[المعارج:27،28]، وبأقل قليلٍ مما تكلم به تسقط إمامته، اللهم إلا أن يكون الكلام مكذوباً عليه. (1/534)
وممن قام من أهل البيت ": أبو الفتح الناصر بن الحسين الحسني أتى من الديلم إلى اليمن، ودعا إلى طاعة الله، وأجابه قومٌ من أهل اليمن، وجاهد في سبيل الله، واستشهد في نواحي مذحج.
وممن قام ودعا أيضاً يحيى بن أحمد بن المؤيد بالله قدّس الله روحه، دعا في أرض الدّيلم وجيلان، وحارب الباطنية لعنهم الله بحضرموت.
فهؤلاء الذين سمّينا من أهل البيت" الذين اشتهر عندنا أمرهم، وثبت عندنا قيامهم، وظهرت دعوتهم. وفي خلال هؤلاء الذين سمّينا فضلاء من أهل البيت" لم يمنعهم من القيام إلا عدم الأعوان، فإنهم بلغوا في العلم والزّهد، والعبادة والتّقى ما لا مزيد عليه؛ مثل علي بن الحسين عليه السَّلام، ومثل ولده محمد بن علي الباقر، وإنما سُمّي الباقرُ لأنه بقر العلم. وروي أن جابر بن عبد الله عُمِّر حتى لحقه فأقرأه السلام عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، وقال: أمرني رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أن أقرئك عنه السلام.
ومثل عبد الله بن الحسن بن الحسن فإنه رُوي أنه مكث يُصلي صلاة الفجر بوضوء المغرب ستين سنةً.
ومثل أحمد بن عيسى بن زيد "، ومثل جعفر بن محمد الصادق عليه السَّلام، ومثل موسى بن عبد الله، وعلي بن موسى، ومثل أولاد القاسم بن إبراهيم: محمد والحسين والحسن أولاد القاسم"، ومثل علي بن العباس، ومثل أبي العباس أحمد بن إبراهيم. (1/535)
فهؤلاء وأمثالهم لم يمنعهم من القيام إلا عدم الأنصار وخوف الأشرار، واستظهار أهل الدولتين الأموية والعباسية.
فصل في الكلام في فرق الشيعة (1/536)
اختلفت الشيعة على ثلاث فرق، ففرقة هم الزيدية، وقد ذكرناهم بما فيه كفاية.
وفرقة هم الكيسانية فإنهم قالوا: إن الإمام بعد الحسين بن علي أخوه محمد بن الحنفيّة".
ثم اختلفوا فيما بينهم، فقال السيد الحميري ومن قال بقوله: هو بجبال رِضوى أسدٌ عن يمينه ونمرٌ عن شماله، يأتيه رزقه بكرةً وعشيةً، ثم يظهر فيملأ الأرض عدلاً كما مُلئت جَوراً.
وقال حيان السراج ومن قال بقوله: هو بجبال رِضْوَى ميِّتٌ، وأن الله يبعثه فيملأها عدلاً كما مُلئت جَوراً.
وقال الصنف الثالث ـ أبو مسلم وأصحابه: إنه مات وقد أوصى إلى ابنه أبي هاشم عبد الله بن محمد ـ وقالوا: هي في ولده بالوصاية.
وفرقة هم الإمامية -ويسميهم أهل العراق الروافض والغلاة- فإنهم قالوا: لا تصح الإمامة إلا بالنص، ولا تُقبل الأخبار إلا من إمام ممن نصوا عليه، ولا يجوز عندهم الاجتهاد إلا له، ووصفوه بصفة الله، بأن قالوا: هو يعلم الغيب. ورووا عن بعض أئمتهم أنه قال: كلامي كلام أبي، وكلام أبي كلام جدي، وكلام جدي كلام رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، فلا يمتنع الرجل منهم -إذا سمع أحد أئمتهم يتكلّم بكلامٍ- أن يقول: سمعتُ رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم؛ ولهذا امتنعت العلماء من قبول الأخبار منهم.
فمن أئمتهم الذين أجمعوا عليهم أنهم يقولون: أوصى الحسين بن علي عليهما السلام إلى علي بن الحسين، وأوصى علي بن الحسين إلى محمد بن علي، وأوصى محمد بن علي إلى جعفر بن محمد.
واختلفوا في جعفر، وفيمن بعده، فقالت الناروسية: إن جعفر بن محمد حيٌّ لم يمت، وهو المهدي، ونُسبوا إلى رئيس لهم يقال له: ناروس، من أهل البصرة. (1/537)
وقالت الفطحية: بإمامة عبد الله بن جعفر، وكان أفطح الرأس، فلذلك سُموا الفطحية.
وقالت الشمطية: بإمامة محمد بن جعفر، ونُسبوا إلى يحيى [بن] الأشمط وكان رئيساً لهم، وقيل: إن الفطحية نُسبوا إلى رئيس لهم، يقال له عبد الله بن فُطيح، وقد انقضت هذه الفرق.
وفرقة منهم وهم الإسماعيلية، وهم المباركية والخطابية.
فقالت المباركية بإمامة محمد بن إسماعيل.
وقالت الخطابية بإلاهية جعفر -تعالى الله علوا كبيراً- ونُسبوا إلى رئيس لهم يقال له: أبو الخطاب لعنه الله.
ومنهم الواقفة الممطورة، وهم الذين قالوا بإمامة موسى بن جعفر، وأنه حي لم يمت.
ومنهم القطعية، وهم فرقة يقولون بإمامة علي بن موسى الرضى الذي سمّه يحيى بن خالد في حبس هارون ببغداد في عنبٍ ورُطَبٍ فمات.
ومنهم فرقة يقال لهم الحماريّة، قالوا بإمامة الحسن بن جعفر. فاختلفوا فيه، فمنهم من قال مات. ولم يكن إماماً، وكانوا مخطئين في إمامته، وذلك أنهم (كانوا) قالوا: هو المهدي، ولا يموت حتى يملأ الأرض عدلاً [كما ملئت جوراً]، ورووا في ذلك من أخبارهم الكاذبة، فلما مات وصحّ موته بانت فضيحتهم، ولهذا سُميت هذه الفرقة الحماريّة.
وقال قوم منهم: قد مات، ولكنه يحيا وهو المهدي، وقال قوم: ليس له ولدٌ. وقال قوم منهم: له ولدٌ وُلِدَ بعده، وهو محمد بن الحسن الذي هو بزعمهم أحد أئمتهم.
وانتسبت الباطنية إلى الإسماعيلية، وهم فرقة أبطنوا الكفر وأظهروا الإسلام، وقالوا: لكل ظاهرٍ باطنٌ، وجحدوا الرب والبعث والحساب والجنّة والنار، واستحلوا المحرمات من الأمهات والبنات والأخوات، وغير ذلك. وقالوا: الحيوان مثل النبات يأتي شيءٌ ويذهب شيءٌ، والأرواح تنتقل في الحيوان، وتنسخ بزعمهم روح الإنسان إلى إنسان أو إلى كلبٍ أو خنزيرٍ أو حمارٍ، وجحدوا الملائكة والأنبياء "، وقالوا: كان قبل آدم آدم إلى ما لا نهاية له، ونفوا الجنّ، ولبّسوا على الناس، واتبعوا متشابه الكتاب، ففتنوا به أهل الحيرة والإرتياب، وقالوا في رسالة لهم يُسمونها (البلاغ الأكبر): فأمر صاحبها فيها أن لا يطلع عليها أحدٌ إلا بعد الأيمان المغلّظة، والمواثيق المشدّدة، على كتمان السر، فإذا فعل ذلك لبّس عليه، ولم يزل يُخلّصه من شبهةٍ إلى شبهة إلى حدٍّ، قال: فإذا بلغ هذا الحد فاحلل له عقاله وأبح له ما ناله. (1/538)
والرد على هؤلاء وعلى أهل الكفر واحدٌ. وقد قدمنا الرد عليهم فيما تقدم.
وأيضاً فإنهم لا يستقيمون للمناظرة بل يجحدون هذا القول، ويُقرون ببطلانه، وبأنه كفرٌ وجحدٌ. وكفى بذلك عليهم حجّة أن يبطنوا شيئاً ثم يجحدوه ويظهروا غيره عليه.
وأما قولهم في كتمان الدين وإبطال المذهب؛ فإنه لا يُبطن ويُسرّ إلا ما كان معيباً قبيحاً، وفي الشاهد أن الإنسان إذا فعل فعالاً حسنا أحب أن يظهر فعاله، ويشيع، ويُذكر به، وإذا فعل فعالاً قبيحاً كتمه، وودّ أن أحداً لا يعلم به. وأيضاً فإن وجه الإنسان أفضل من جسده وأحسنه فإنه يظهر، ولما كانت عورته أقبح جسده فأمر بسترها وتغطيتها، وقد أمر الله تعالى بإظهار دينه وتبيينه للناس، وذمّ قوماً كتموا ما أنزل الله، فقال تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ يَكْتُمُونَ مَا أَنزَلْنَا مِنَ الْبَيِّنَاتِ وَالْهُدَى مِنْ بَعْدِ مَا بَيَّنَّاهُ لِلنَّاسِ فِي الْكِتَابِ أُوْلَئِكَ يَلْعَنُهُمُ اللَّهُ وَيَلْعَنُهُمُ اللاَّعِنُونَ ، إِلاَّ الَّذِينَ تَابُوا وَأَصْلَحُوا وَبَيَّنُوا فَأُوْلَئِكَ أَتُوبُ عَلَيْهِمْ وَأَنَا التَّوَّابُ الرَّحِيمُ}[البقرة:159،160]. (1/539)
ومن الرد على الإمامية في قولهم بالنص، وأن الأخبار لا تُقبل إلا من إمامٍ منصوصٍ عليه فإنهم قطعوا عنهم أسباب الخير بهذين القولين، وتكلّفوا بسببهما الكذب.
ومما يبين كذبهم في القولين: أنهم يقولون بإمامة إمامٍ في حياته، ويزعمون أنه المهدي، وأنه لا يموت حتى يظهر أمره ثم يموت، فيتبين كذبهم، فيزيدون كذبةً أخرى أكبر من الأولى، أن يُبرِّءوا نفوسهم من الكذب، فيقولون: هو يحيا بعد الموت، ويملأ الأرض عدلاً، فهم لا يسلمون من الكذب؛ إن كان حيا قالوا: هو المهدي وليس يموت، وإن مات ولم يعاينوا موته جحدوا موته، وقالوا: هو غائبٌ لم يمت، فإن صح عندهم موته قالوا: هو يحيا ويُبعث في الدنيا بعد ما مات.
وأما قولهم: إن إمامهم يعلمُ الغيب. فهذا كذبٌ منهم وكفرٌ وتكذيبٌ بكتاب الله، قال الله تعالى: {قُلْ لاَ يَعْلَمُ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ الْغَيْبَ إِلاَّ اللَّهُ وَمَا يَشْعُرُونَ أَيَّانَ يُبْعَثُونَ}[النمل:65]، وقال الله تعالى: {إِنَّ اللَّهَ عِنْدَهُ عِلْمُ السَّاعَةِ وَيُنَزِّلُ الْغَيْثَ وَيَعْلَمُ مَا فِي الأَرْحَامِ وَمَا تَدْرِي نَفْسٌ مَاذَا تَكْسِبُ غَدًا وَمَا تَدْرِي نَفْسٌ بِأَيِّ أَرْضٍ تَمُوتُ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ}[لقمان:34] فبطل قولهم. (1/540)
وأما قولهم: بأن إمامهم قال: (حديثي حديث أبي، وحديث أبي حديث جدي، وحديث جدي حديث رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم) وقولهم هو عامّ في جميع الكلام. وهذا بطلانه ظاهرٌ من أمور:
منها: أنهم يعلمون أن النبيء صلى الله عليه وآله وسلم لم ينطق بهذا الحديث الذي يقول فيه: (حديثي حديث أبي) ويعلمون أن إمامهم هذا لو قال لخادمه: إسقني ماءً أو اعطني ثوبي، أو خُذ هذا الثوب، أو يأمر، أو ينهى، أو يستخبر، أن ذلك الحديث لم ينطق به رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم. وكذلك لو دعا زوجته إلى فراشه، فهذا ما لا يتكلم به عاقل. فأما الخبر الخاص الذي يرويه عن أبيه عن جده عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فإنه ما كان منه موافقاً لكتاب الله صُدِّقَ، وما كان مخالفاً لكتاب الله لم يُصدَّق.
ومما يبطل قولهم في النص، قول الله تعالى: {وَلْتَكُنْ مِنْكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَأُوْلَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ}[آل عمران:104]، وقوله: {فَاسْأَلُوا أَهْلَ الذّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لاَ تَعْلَمُونَ }[النحل:43]، وقد سمّى الله تعالى رسوله ذكراً، وقال تعالى: {ثُمَّ أَوْرَثْنَا الْكِتَابَ الَّذِينَ اصْطَفَيْنَا مِنْ عِبَادِنَا فَمِنْهُمْ ظَالِمٌ لِنَفْسِهِ...}الآية[فاطر:32]، وقال تعالى: {أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُوْلِي الأَمْرِ مِنْكُمْ }[النساء:59]، وقال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: ((إني تارك فيكم ما إن تمسكتم به لن تضلوا من بعدي أبداً كتاب الله وعترتي أهل بيتي، إن اللطيف الخبير نبأني أنهما لن يفترقا حتى يردا عليّ الحوض))، وقال صلى الله عليه وآله وسلم: ((مثل أهل بيتي فيكم كمثل سفينة نوحٍ من ركبها نجا ومن تخلف عنها غرق وهوى)). (1/541)
فهذه الآيات والأخبار لم تخص ولد الحسين دون ولد الحسن، بل كلّهم داخلٌ في الأمر لا فرق بينهم فيه؛ وأيضاً فإن ولد الحسين لم يدّعوا ذلك دون ولد الحسن، بل هم مُقرّون أنهم في الأمر سواءٌ، وقد رُوي عن عيسى بن المتوكل بن هارون قال: حدثني أبي المتوكل بن هارون قال: لقيتُ يحيى بن زيد بعد مقتل أبيه عليه السَّلام وهو متوجّهٌ إلى خراسان فسلمت عليه فقال: من أين أقبلت؟ فقلتُ: من الحج، قال: فسألني عن أهله وبني عمّه، فأخبرته بحزنهم على أبيه، فقال: قد كان عمّي أبو جعفر عليه السَّلام أشار عليه بترك الخروج، وعرّفه إلى ما صار إليه أمره. فهل لقيتَ ابن عمي جعفراً، فقلت: نعم، فقال: فهل سمعته يذكر من أمري شيئاً، قلت: جُعلت فداك إنك تُقتل قتلة أبيك وتُصلب، فقال: {يَمْحُوا اللَّهُ مَا يَشَاءُ وَيُثْبِتُ وَعِنْدَهُ أُمُّ الْكِتَابِ}[الرعد:39]، إن الله سبحانه وتعالى يا متوكل أيّد هذا الدين بنا، وجعل العلم والسيف فجعلهما لنا، وخصَّ بني عمّنا بالعلم وحده، فقلت له: جُعلت فداك إني رأيتُ الناس إلى ابن عمك وإلى أبيه أميل منهم إليك، فقال: إن ابن عمي وأباه دعوهم إلى الحياة ونحن دعوناهم إلى الموت، فقلت له: يابن رسول الله أهم أعلم أم أنتم؟ قال: فأطرق إلى الأرض مليًّا ثم رفع رأسه فقال: كلّنا له علم غير أنهم يعلمون كل ما نعلم، ولا نعلم كل ما يعلمون، ثم قال: أكتسبتَ من ابن عمي شيئاً؟ قلت: نعم، قال: أرنيه، فأخرجت له دعاءً أملاه عليَّ أبو عبد الله، أخبرني أن أباه محمداً ـ رحمه الله ـ أملاه عليه وكان يدعو به ويسميه الكامل، فنظر فيه حتى أتى إلى (1/542)
آخره، فقال: أتأذن لي في نسخه؟ فقلتُ: يابن رسول الله أتستأذنني فيما (هو) منكم صار إليَّ، فقال: لأخرجنّ إليك صحيفةً كان أبي رحمه الله يُسميها الكاملة مما حفظها عن أبيه، ولقد أوصاني أبي رضي الله عنه بصونها ومنعها من غير أهلها، فقال المتوكل: فقمت إليه فقبلتُ رأسه وقلتُ: يابن رسول الله والله إني لأديننّ الله بحبِّكم وطاعتكم، وأرجو أن يُسعدني الله بولايتكم، فرمى بالصحيفة التي دفعتها إليه إلى غلام كان بقربه، وقال: اكتب هذا الدعاء بخطٍّ حسنٍ بيِّنٍ، واعرضه عليّ فإني كنتُ أطلبه من جعفر فمنعنيه، قال المتوكل: فندمت على ما فعلتُ، ولم أدر ما أصنع، ولم يكن أبو عبد الله أمرني أن أدفعه إلى أحدٍ، ثم دعا بعيبةٍ فاستخرج منها صحيفةً مقفلةً مختومةً فنظر إلى الخاتم فبكى، وقبّله وفضّه، وفتح القفل، ونشر الصحيفة فقبّلها ووضعها على عينيه وأمرَّها على وجهه، ثم قال: يا متوكل لولا ما ذكرتَ لي من قول ابن عمي أني أُقتل وأُصلب ما دفعتها إليك ولكنتُ بها ضنيناً، ولكني أعلم أن قوله سيصحّ، وخفت أن يقع مثل هذا العلم والدعاء إلى بني أميّة، فيكتبوه ويدّخروه في خزائنهم، فدونك هذه الصحيفة فاكتبها وتربّص بها، فإذا قضى الله جلّ ثناؤه من أمري ما هو قاضٍ فهي أمانة في عنقك حتى توصلها إلى ابني عمي؛ محمد وإبراهيم ابني عبد الله بن الحسن بن الحسن " فإنهما القائمان بعدي. قال المتوكل: فأخذت الصحيفة، فلما قُتل رحمه الله صرت إلى المدينة فلقيت أبا عبد الله فحدثته بالحديث فبكى فقال: رحم الله ابن عمّي وألحقه بآبائه وأجداده، والله يا متوكل ما منعني من دفع (1/543)
[هذا] الدّعاء إليه إلا الذي خافه على صحيفة أبيه فأين الصحيفة؟ فقلت: هاهي هذه، ففتحها فقال: هذا والله خط عمي زيد وإملاء جدّي علي بن الحسين "، ثم قال: قم يا إسماعيل فأتني بالدعاء الذي أمرتك بحفظه وصونه، فقام إسماعيل فأخرج صحيفةً كأنها الصحيفة التي دفعها إليّ يحيى، فقبلها أبو عبد الله ووضعها على عينيه، فقال: هذا خط أبي وإملاء جدي عليهما السلام، فقلت: يابن رسول الله إن رأيت أن أعارض بها ما كتبت من هذه الصحيفة، فَأَذِنَ لي في ذلك، فعارضت بصحيفة زيد صحيفة محمد عليهما السلام فلم أجد ما يغادر منها حرفاً، ثم استأذن أبا عبد الله في دفعها إلى ابني عبد الله بن الحسن فقال: (إن الله يأمركم أن تؤدوا الأمانات إلى أهلها) فلما نهضتُ قال: مكانك. ثم وجّه ابنه إلى محمد وإبراهيم ابني عبد الله فجاءا فقال: هذا ميراثُ ابن عمّكما من أبيه قد خصّكما دون إخوته ونحن مشترطون عليكما فيه شرطاً، قالا: قل يرحمك الله، فقولك المقبول. قال: لا تخرجا هذه الصحيفة من المدينة. قالا: ولِمَ ذاك يغفر الله لك؟ قال: إن ابن عمكما خاف عليها أمراً أخافه أنا عليكما. قاال: إنما خاف عليها حين علم أنه يُقتل، قال أبو عبد الله: وأنتما فلا تأمنا، فوالله إني أعلم أنكما ستخرجانِ كما خرج، وستُقتلان كما قُتل، فقاما وهما يقولان: لا حول ولا قوة إلا بالله. (1/544)
وروي أيضاً: أنه اجتمع القاسم بن إبراهيم، وأحمد بن عيسى بن زيد بن علي، وموسى بن عبد الله بن الحسن بن الحسن، وعلي بن موسى الرضى في دار محمد بن منصور المرادي بالكوفة، فتحدث معهم محمد بن منصور، وذكر ما قد لحق الإسلام من الأموية والعباسية، وسألهم أن يُبايعوا الرجل فأجمع أمرهم على أن يبايعوا القاسم بن إبراهيم عليهما السلام، فبايعوه في دار محمد بن منصور. (1/545)
فصح أن بني الحسين لم يدّعوا أنهم أولى بالأمر من ولد الحسن، وأنهم لا يقولون بالنص؛ لأن هؤلاء الذين سمّينا من ولد الحسين: يحيى بن زيد، وجعفر بن محمد، وأحمد بن عيسى، وعلي بن موسى، فُضلاء ولد الحسين وعلماؤهم، والمنظور إليهم في عصرهم، فلم يروا النص، ولا أنكروا قيام من قام من ولد الحسن عليهم جميعاً السلام. وولد الحسين -أهل العلم منهم والدين- لا ينكرون ذلك إلى يومنا هذا. فبطل قول الإمامية في النص، وإذا بطل (خبر) النص بطل جميع ما خالفونا فيه.
وأما قولهم: إن الأخبار لا تُقبل إلا من أئمتهم، فإن أكثر أخبار الشرع رواها الحسن بن علي الناصر عن محمد بن منصور عن أحمد بن عيسى عن حسين بن علوان عن أبي خالد عن زيد بن علي". فلو كانت لا تُقبل إلا من إمامٍ منصوصٍ عليه، لَمَا قبلها أحمد بن عيسى عن الحسين بن علوان، ولا عن أبي خالد، ولا قبلها الناصر عن محمد بن منصور، فبطل قول الإمامية. وأيضاَ فلو كان الأمر كما قالوا لم يُقبل منهم ما يروون عن أئمتهم.
وأما قولهم: إنه لا يجتهد إلا إمام منصوص عليه. فقد جاء عن النبيء صلى الله عليه وآله وسلم ما يسقط قولهم، وذلك أنه لما أمر معاذاً إلى اليمن قال: بِمَ تحكم ؟ قال: بكتاب الله، قال: فإن لم تجد؟ قال: فبسنّة رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، قال: فإن لم تجد؟ قال: أجتهد رأيي لا آلو اجتهاداً، فقال: ((الحمد لله الذي وفّق رسول رسول الله لما وفّق له رسول الله)) ولو كان القول كما قالوا، لكان أكبر حُجج الله قد سقط وهو العقل، ولو سقطت حُجّة العقل لما انتُفِعَ بالكتاب والسنة، فسقط ما قالوا وثبت قولنا، فالحمد لله الذي أبلج حُجّتنا، وثبّت أقدامنا على الصراط المستقيم. (1/546)
باب حقيقة معرفة الاختلاف (1/547)
وقد ذكرنا جميع مسائل الاختلاف في الأصول، وذكرنا جميع من خالف فيها، وأوردنا على جميع المخالفين من الحجج والبراهين ما فيه كفايةٌ، وذكرنا ذلك في مواضعه، ليسهل تناوله، ويقرب أخذه، فلا معنى لإعادة ذلك. وإنما غرضنا في هذا الباب [حينئذ] إيضاح سبب الاختلاف وتبيين الفرقة الناجية، فأول ما نذكر من ذلك سبب الاختلاف.
واعلم أن سبب الاختلاف بين الأمة البليّة، وذلك أن طرق العلم ثلاثٌ وهي: العقلُ، والكتابُ، والرسولُ. وقد جعل الله عقول المتعبَّدين مختلفةً للبلية، فمن هنالك وقع الاختلاف في المسائل المعقولة على قدر اختلاف العقول. وقد جعل الله تعالى الكتاب مُحكماً ومُتشابهاً، وناسخاً ومنسوخاً، وعامًّا وخاصًّا؛ فمن أجل ذلك وقع الاختلاف في المسائل التي طريقها الكتاب. ولما كان في المسلمين الصادق والمنافق؛ وكان السكوت من الله ورسوله صلى الله عليه وآله وسلم عن المنافق وتغطيته بليّةً، فمن قِبَلِ المنافقين وقع الدّخلُ في الأخبار، ووقع فيها أيضاً الفساد من طُرقٍ أخرى، وهي أن ممن يروي الأخبار النّاسي والذاكر، والغائب والحاضر. وفي الأخبار أيضاً المُتشابه والمنسوخ، ومنها أيضاً ما دُلِّسَ على الرواة، ومنها ما روي مُرسلاً ولم يشتهر اشتهاراً كثيراً، ولا تواترت به الأخبار.
فمن المتشابه: ما روي عن النبيء صلى الله عليه وآله وسلم من قوله: ((لا ينتطح فيها عنزان )). ومن ذلك ما رُوي عنه من قوله: ((من فارق الجماعة قيد شبر فقد خلع رِبْقَةَ الإسلام من عنقه)). ومن ذلك ما رُوي عنه من قوله في الإبل: إنها خُلقت من الشياطين.
ومثل ما رُوي عنه صلى الله عليه وآله وسلم من قوله لسودة بنت زمعة في الشاة الميتة: ((هلاّ انتفعتم بإهابها )) وهذا الخبر عندنا متشابهٌ، والمراد به هلاّ ذكيتموها فانتفعتم بإهابها؛ لأنه يمكن أن تكون عجفةً لا ينتفع بلحمها. وقال غيرنا: الخبرُ منسوخٌ، نسخه ما رُوي عنه صلى الله عليه وآله وسلم أنه كتب قبل موته بشهرٍ قال: ((لا تنتفعوا من الميتة بشيءٍ )). (1/548)
والمنسوخ مثل ما روي من المسح على الخُفّين، نسخه آية الغَسْل في [سورة] المائدة.
وأما المراسيل في الأخبار فكثيرٌ، وما دُلِّس على الرّواة أكثر، وقد رُوي عن بعض الملحدين أن السلطان أمر بقتله، فقال: افعلوا ما شئتم فقد حلّلت لكم الحرامَ وحرّمت عليكم الحلال، ودسستُ في مذهبكم أربعة آلاف حديثٍ. وروى عن عمر أنه كان ينكر على أبي هريرة كثرة الرواية عن النبيء صلى الله عليه وآله وسلم، وقال له: لَتُقِلّن الرواية عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أو لأنفيك إلى جبال دوسٍ.
فهذه الأمور التي ذكرناها هي سبب الاختلاف. وقد جعل الله سبب الاختلاف بليّة لعباده؛ لأن يرجعوا إلى أولي الأمر منهم وهم أهل بيت نبيئهم صلى الله عليه وآله وسلم وقد قال تعالى: {وَمَا اخْتَلَفْتُمْ فِيهِ مِنْ شَيْءٍ فَحُكْمُهُ إِلَى اللَّهِ }[الشورى:10] أراد بقوله: {فَحُكْمُهُ إِلَى اللَّهِ} أن يردُّوا ما اختلفوا فيه إلى من أمرهم الله بردِّه إليهم حيث يقول تعالى: {وَلَوْ رَدُّوهُ إِلَى الرَّسُولِ وَإِلَى أُوْلِي الأَمْرِ مِنْهُمْ لَعَلِمَهُ الَّذِينَ يَسْتَنْبِطُونَهُ مِنْهُمْ}[النساء:83]، وقد ذكر الله تعالى الاختلاف فقال عزّ من قائلٍ: {كَانَ النَّاسُ أُمَّةً وَاحِدَةً فَبَعَثَ اللَّهُ النَّبِيِّينَ مُبَشِّرِينَ وَمُنذِرِينَ وَأَنزَلَ مَعَهُمُ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ لِيَحْكُمَ بَيْنَ النَّاسِ فِيمَا اخْتَلَفُوا فِيهِ وَمَا اخْتَلَفَ فِيهِ إِلاَّ الَّذِينَ أُوتُوهُ مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَتْهُمُ الْبَيِّنَاتُ بَغْيًا بَيْنَهُمْ فَهَدَى اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا لِمَا اخْتَلَفُوا فِيهِ مِنَ الْحَقِّ بِإِذْنِهِ وَاللَّهُ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ}[البقرة:213]، وقال تعالى: {وَلاَ يَزَالُونَ مُخْتَلِفِينَ ، إِلاَّ مَنْ رَحِمَ رَبُّكَ وَلِذَلِكَ خَلَقَهُمْ}[هود:118،119]، يريد: أنه خلقهم للرحمة، ولئلاّ يخالف أهل الحق أهل الباطل. وقد روي عن أمير المؤمنين عليه السَّلام قال: سألت النبيء صلى الله عليه وآله وسلم لِمَ أنزلت: {الم ، أَحَسِبَ النَّاسُ أَنْ يُتْرَكُوا أَنْ يَقُولُوا آمَنَّا وَهُمْ (1/549)
لاَ يُفْتَنُونَ ، وَلَقَدْ فَتَنَّا الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ فَلَيَعْلَمَنَّ اللَّهُ الَّذِينَ صَدَقُوا وَلَيَعْلَمَنَّ الْكَاذِبِينَ}[العنكبوت:1-3]؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: ((يا علي ويا فاطمة، إن الله قد جعل الفتنة على الذين يقولون: آمنا . ليعلم الذين صدقوا في قولهم، ويعلم الكاذبين في إيمانهم، فهذا وعدٌ واقعٌ واجبٌ، ثم أنزلت {أَمْ حَسِبَ الَّذِينَ يَعْمَلُونَ السَّيِّئَاتِ أَنْ يَسْبِقُونَا سَاءَ مَا يَحْكُمُونَ}[العنكبوت:4]، (ثم) قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: ((يا علي ويا فاطمة؛ قد علم الرب أنّ أقواماً من بعدي عند الفتنة سيعملون السيئات ، ويحسبون أنهم سابقون)). فقال علي عليه السَّلام: فكيف يحسبون أنهم سابقون يا رسول الله ومن ورائهم الموت؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: ((يا علي إنهم لم يسبقوا قضاء الله الذي قضى فيهم الموت)). ثم أُنزل {مَنْ كَانَ يَرْجُو لِقَاءَ اللَّهِ }[العنكبوت:5]، لأنه يعني أن من رجا لقاء الله أن يستعد لأجل الله، فإن يكن تائباً تابعاً لطاعته، مُجتنباً لخلاف الله ومعصيته، يعلم أن الله يعلم ما يعمل، ويسمع ما يقول؛ ولذلك قال سبحانه: {وَهُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ }[العنكبوت:5]، ثم أنزل سبحانه: {وَمَنْ جَاهَدَ فَإِنَّمَا يُجَاهِدُ لِنَفْسِهِ إِنَّ اللَّهَ لَغَنِيٌّ عَنِ الْعَالَمِينَ}[العنكبوت:6]، فقال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: قد قضى الله على المؤمنين عند الفتنة بعدي الجهاد، فقال علي: يا رسول الله على ما نجاهد الذين يقولون آمنا؟ فقال (1/550)
رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: ((تجاهدونهم على الإحداث في الدين)). فقال علي: يا رسول الله إنك تقول تجاهدونهم كأني سأبقى بعدك إلى مجيء الفتنة، فأعوذ بالله والرسول أن أؤخر بعدك، فادع إلى ربك أن يتوفاني قبل ذلك، فقال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: ((ما كنتَ حقيقاً أن تأمرني أن أدعو الله لك أن يُقدم أجلك قبل ما أجّل الله وقضى والله يقول سبحانه: {وَمَا كَانَ لِنَفْسٍ أَنْ تَمُوتَ إِلاَّ بِإِذْنِ اللَّهِ كِتَابًا مُؤَجَّلاً }[آل عمران:145]، فقال علي: يا رسول الله، فما هذا الأحداث التي نجاهدهم عليها؟ قال: ((ما خالف القرآن وخالف سُنّتي؛ إذا عملوا في الدِّين بغير الدِّين. وإنما الدين أمر الربّ ونهيه)). فقال علي: يا رسول الله، فإنك قلتَ لي يوم أحدٍ ـ إذ استشهد من المؤمنين من استشهد. فأخرت عني الشهادةُ، فرأيت وُجدي وأسفي ـ إن الشهادة من ورائك. فقال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: ((فإن ذلك إن شاء الله كذلك، وكيف ترى صبرك إذا خُضبت هذه من هذا؟)) -وأهوى بيده إلى لحيته ورأسه-. فقال علي: ليس ذلك حينئذٍ يا رسول الله من مواطن الصبر، ولكنه من مواطن البُشر والشّكر. فقال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: ((فأعدد قبل خصومتك، فإنك مُخاصَمٌ)). فقال علي: يا رسول الله فأرشدني إلى الفلج عند الخصومة. فقال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: ((إئثر الهُدى، واعطفه على الهوى من بعدي، إذا عطف قومك الهوى على الهدى وآثروه، واعطف القرآن على الرأي إذا عطف قومك الرأي على القرآن وحرّفوا الكَلِمَ عن مواضعه بالأهواء العارضة (1/551)
والآمال الطامحة، والأفئدة الناكثة، والغش المطويِّ، والإفك المردي، والغفلة عن ذكر الموت والمعاد، فلا يكوننّ خصومك أولى بالقرآن منك، فإن من الفلح في الدنيا أن يخالف خصمك سُنة رسول الله، وأن يخالف القرآن بعمله يقول الحق ويعمل الباطل، وعند ذلك يُملَى لهم ليزدادوا إثماً، ويضلوا ضلالاً كبيراً؛ وعند ذلك لا يدين الناس بالمعروف والنهي عن المنكر، ولا يكون فيهم شُهداء لله بالحق، وعند ذلك يتفاخرون بأموالهم وأنسابهم، ويزكون أنفسهم، ويتمنّون رحمة ربهم، ويستحلّون الحرام والمعاصي بالشبهات والأسماء الكاذبة، فيستحلون الربا بالبيع، والخمر بالنبيذ، والنجس بالزكاة، والسحت بالهديّة، ويُظهرون الباطل، ويتعاونون على أمرهم، ويتولون الجهلاء، ويفتنون العلماء من أولي الألباب، ويتخذونهم سُخريا)). فقال علي: يا رسول الله أفبمنزلة رِدَّةٍ إذا فعلوا ذلك، أم بمنزلة فتنةٍ؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: ((بل بمنزلة فتنةٍ، لو كانوا بمنزلة ردةٍ أتاهم رسول من بعدي يدعوهم إلى الرجعة من بعد الرِّدّة، ولكنها فتنةٌ يستنقذهم الله منها ـ إذا تأخرت آجال السعداء ـ بأولياء من أولياء الله، فيهديهم بهم، ويهدي بهم، حتى لا تكون فتنةٌ ويكون الدين كله لله)). فقال علي: من آل محمد الهداة أم من غيرهم؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: ((بل بنا يختم الله كما فتح بنا، وبنا يستنقذون من الفتنة، كما بنا أُنقذوا من الشرك بعد عداوة الشرك فصاروا إخواناً في دينهم)). (1/552)
وروي عن أمير المؤمنين عليه السَّلام أنه قال: سمعتُ رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يقول: ((أتاني جبريل صلى الله عليه وسلم فقال : إن أمتك مختلفةٌ من بعدك، فقلت: فأين المخرج يا جبريل؟ فقال: ((كتاب الله به يُقصم كل جبارٍ عنيدٍ، من اعتصم به نجا، ومن تركه هوى، قولٌ فصل، وليس هو بالهزل، لا تخلقه الألسن، ولا يثقل على طول الرد، ولا تفنى عجائبه، فيه أثر من [كان] قبلكم، وخبر من هو كائنٌ بعدكم)). وروي عن أمير المؤمنين عليه السَّلام أنه قال: (حفظت ونسيتم)، ثم قال: (ألا وإن بليتكم قد عادت كهيئتها يوم بعث الله نبيئكم، والذي بعثه بالحق [نبيئا] لَتُبَلْبَلُنّ بلبلةً، ولَتُغربلُنّ غربلةً، ولتُساطُنّ سوط القِدْرِ حتى يعود أسفلكم أعلاكم، وأعلاكم أسفلكم، وليَسْبَقَنّ سباقون كانوا قَصُرَوا، وليقصرنّ سباقون كانوا سبقوا، والله ما كتمت وسْمةً، ولا كذبت كذبةً، ولقد نبّئت بهذا المقام في هذا اليوم). (1/553)
وروي عنه عليه السَّلام أنه سأله ابن الكوى عن السنة والبدعة، وعن الجماعة والفرقة. فقال: يابن الكوى؛ حفظت المسألة فافهم الجواب: (السنة والله سنة محمدٍ صلى الله عليه وآله وسلم، والبدعة ما خالفها، والجماعةُ والله أهل الحق وإن قلّوا، والفرقة والله متابعة أهل الباطل وإن كثروا).
فصل في الكلام في الفرقة الناجية (1/554)
فإنه روي عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أنه قال في خطبة الوداع: ((أيها الناس إني امرؤٌ مقبوضٌ ، وقد نُعيتْ إليَّ نفسي، ألا وإنه سيُكذب عليَّ كما كذب على الأنبياء من قبل ي، فما أتاكم عنّي فاعرضوه على كتاب الله، فما وافق كتاب الله فهو مني وأنا قلته، وما خالفه فليس مني ولم أقله))، ثم قال صلى الله عليه وآله وسلم: ((أمة أخي موسى افترقت على إحدى وسبعين فرقةً، وافترقت أمة أخي عيسى على اثنتين وسبعين فرقةً، وستفترق أمتي من بعدي على ثلاثٍ وسبعين فرقةً كلها هالكةٌ إلا فرقةً واحدةً)). فلما سُمِعَ ذلك منه ضاق به المسلمون ذرعاً وضجوا بالبكاء وأقبلوا عليه قالوا: يا رسول الله كيف لنا بعدك بطريق النجاة، وكيف لنا بمعرفة [الفرقة] الناجية حتى نعتمد عليها؟ فقال صلى الله عليه وآله وسلم: ((إني تارك فيكم ما إن تمسكتم به لن تضلوا من بعدي أبداً: كتاب الله وعِتْرَتِي أهل بيتي إن اللطيف الخبير نبأني أنهما لن يفترقا حتى يردا عليَّ الحوض)).
والأمة مجمعة على صحة هذا الخبر، وكُلّ فرقة من فرق الإسلام تتلقّاه بالقبول، وتزعم أنها هي الناجية.
والأمة أيضاً مجمعةٌ على أن إجماع الأمة حجّة لقول رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: ((لن تجتمع أمّتي على ضلالة )).
والأمة أيضاً مجمعةٌ على أن الأخذ بالمُحكم من كتاب الله أولى من الأخذ بالمتشابه. وهي أيضاً مجمعةٌ أن في الكتاب مُحكماً ومتشابهاً، وناسخاً ومنسوخاً، فلما كان ذلك كذلك ثبت أن من اجتمعت فيهم هذه الأشياء من الفرق فهم الفرقة الناجية.
وصح أن الزيدية قد اجتمعت فيهم هذه الأشياء، وذلك أنهم تمسّكوا بالكتاب، وبالعترة، وهم الذين وقع عليهم الإجماع أنهم آل رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، وفي التمسك بالكتاب ما يقول الله تعالى: {وَالَّذِينَ يُمَسِّكُونَ بِالْكِتَابِ وَأَقَامُوا الصَّلاَةَ إِنَّا لاَ نُضِيعُ أَجْرَ الْمُصْلِحِينَ}[الأعراف:170]. والزيدية هم الذين اتبعوا المحكم وتركوا المتشابه، وعملوا بالناسخ وتركوا المنسوخ، وقد بين الله تعالى ذلك فقال عزّ من قائلٍ: {هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ عَلَيْكَ الْكِتَابَ مِنْهُ آيَاتٌ مُحْكَمَاتٌ هُنَّ أُمُّ الْكِتَابِ وَأُخَرُ مُتَشَابِهَاتٌ فَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ فَيَتَّبِعُونَ مَا تَشَابَهَ مِنْهُ ابْتِغَاءَ الْفِتْنَةِ وَابْتِغَاءَ تَأْوِيلِهِ وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلاَّ اللَّهُ وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ يَقُولُونَ آمَنَّا بِهِ كُلٌّ مِنْ عِنْدِ رَبِّنَا وَمَا يَذَّكَّرُ إِلاَّ أُوْلُوا الأَلْبَابِ}[آل عمران:7]، فبين أنه لا يؤخذ إلا بالمحكم وذمّ الذين أخذوا بالمتشابه، وقال تعالى: {اتَّبِعُوا أَحْسَنَ مَا أُنْزِلَ إِلَيْكُمْ مِنْ رَبِّكُمْ }[الزمر:55]، وقال تعالى: {الَّذِينَ يَسْتَمِعُونَ الْقَوْلَ فَيَتَّبِعُونَ أَحْسَنَهُ أُوْلَئِكَ الَّذِينَ هَدَاهُمُ اللَّهُ وَأُوْلَئِكَ هُمْ أُوْلُوا الأَلْبَابِ}[الزمر:18]، فدلّ هذا على أن القرآن كله حسنٌ، وعلى أن بعضه أحسن من بعض، وعلى أن الله أمر باتباع الأحسن، والأحسن هو المحكم، والمجمع على أنه أحسن من المتشابه. والمحكم: هو الذي (1/555)
لا يُخالف تأويله تنزيله. (1/556)
ومن الدليل على أن الزيدية هم الفرقة الناجية: أنهم أخذوا بالأحسن من كتاب الله -وهو المحكم- كما أمرهم الله، وتركوا المتشابه، وتمسكوا بعترة رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم كما أمرهم الله ورسوله، وأخذوا بالإجماع وتركوا المختلف فيه، فثبت أنهم على الحقِّ ومن خالفهم على الباطل.
واعلم أنك لا تعرف الفرقة الناجية حتى تعرف الفرق الهالكة، ولن تعرف المحكم من الكتاب حتى تعرف المتشابه، والناسخ والمنسوخ، ولن تعرف الإجماع حتى تعرف الاختلاف؛ ولهذا عددنا معرفة الاختلاف أصلاً من الأصول التي سمينا في كتابنا هذا، ومما يؤيد ما قلنا: ما روي عن زيد بن علي عليهما السلام أنه قال في خطبة له: (أما بعد يا قارئ القرآن فإنك لن تتلو القرآن حق تلاوته حتى تعرف الذي يقصّه، ولن تعرف الهدى حتى تعرف الضلالة، ولن تعرف التّقِي حتى تعرف الذي تعدّى. فإذا عرفت البدعة في الدين والتكليف، وعرفت الفرية على الله والتحريف، عرفت كيف هذا من هذا).
واعلم أن الأمة افترقت في بدء الأمر عند وفاة رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فرقتين:فرقةٌ بايعت أبا بكر طائعين، ورأوا إمامته وإمامة عمر وعثمان. وفرقةٌ توقّفوا مع علي أمير المؤمنين عليه السَّلام.
فلما قام علي وبايعه الناس افترقت الأمة على أربع فرق:
ففرقة نصحوا لله وله، وأطاعوه، وقالوا بقوله، وبايعوه، وهم الشيعة. وإنما سُمُّوا الشيعة لأنهم والوه ونصروه. والشيعة هم الأولياء، قال الله تعالى: {وَإِنَّ مِنْ شِيعَتِهِ لاَِبْرَاهِيمَ ، إِذْ جَاءَ رَبَّهُ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ}[الصافات:83،84]، وقال تعالى في قصة موسى عليه السَّلام: {فَوَجَدَ فِيهَا رَجُلَيْنِ يَقْتَتِلاَنِ هَذَا مِنْ شِيعَتِهِ وَهَذَا مِنْ عَدُوِّهِ}[القصص:15]، فصحّ أن الشيعة هم الأولياء. (1/557)
وفرقة -وهم المرجئة- وهم الذين قدّموا أبا بكر وعمر على عليّ عليه السَّلام وأرجئوا عليا وعثمان ومعاوية. وهم الذين قال فيهم السيد الحميري:
رفيقي لا ترجيا واعلما
بأن الهدى غير ما تُرجيان
فإرجاء ذي الشك بعد اليقين
ضعف البصيرة بعد البيانِ
ضلال أزالتهما عنكما
فبئست لعمركما الخصلتانِ
أيُرجا علي إمام الهدى
وعثمان، ما اعتدل المرجئانِ
ويرجا ابن هند وأحزابه
يقود اليمامة بالنّهروانِ
وافترقت المرجئة فرقتين: فرقةٌ يقال لهم أصحاب الحديث، وفرقة يُقال لهم أصحاب الرّأي.
وأصحاب الحديث هم أصحاب الظاهر، وهم الذين يقولون: نتّبع ما رُويَ لنا، ولا نقيس ولا نجتهد، ويقولون: القرآن مخلوقٌ، ويُسمون أيضاً الحشويّة لحشوهم الأخبار المتناقضة والقول المتناقض، وقد قال فيهم بعض من أنكر عليهم: يروي الأحاديث، ويروي نقضها.
ومنهم المشبهة، وسموا بذلك لقولهم بالتشبيه.
ومنهم الشّكاك، وسُمُّوا بذلك لأنهم لم يثبتوا الشهادة على من يشهد الشهادتين أن يكون مؤمناً حتى يقولوا للمؤمن: نرجو أن يكون مؤمناً. (1/558)
وفرقة من المرجئة -وهم أصحاب الرأي- وسُمُّوا بذلك لأنهم يرون القياس والرأي والاجتهاد في الفقه.
ومنهم الجهمية، نُسبوا إلى جهم بن صفوان، ويُقال لهم مرجئة خراسان. ورُوي أن جهماً كان يكفِّر أهل التشبيه، ويُظهر القول بخلق القرآن، وكان يقول بالجبر وقد ذكرنا قوله فيما تقدم.
ومنهم الغيلانيّة، نُسبوا إلى غيلان بن مروان، ويقال لهم مرجئة أهل الشام، وكان يخالف جهماً وأبا حنيفة في أشياء، منها أنه كان يقول: الإمامة تصلح في غير قريشٍ. ويقول بخلق القرآن.
ومنهم الماضريّة، نُسبوا إلى قيس بن عمرو الماضري، ويُقال لهم مرجئة أهل العراق، وكان يقول: الإمامة في قريشٍ. ويقول بخلق القرآن.
ومنهم الشِّمريّة، نُسبوا إلى أبي شمرٍ، وكان يقول: الإمامة في كل الناس. فهذه فرق المرجئة.
وفرقةٌ وهم الخوارج، وهم الذين خرجوا على علي عليه السَّلام، وحاربوه. ومنهم الأباضيّة، نُسبوا إلى عبد الله بن أباضٍ.
ومنهم الأزارقة، نُسبوا إلى نافع بن الأزرق، وكان رئيس الخوارج بالبصرة والأهواز.
ومنهم النّجدات، نُسبوا إلى نجدة بن عامر الحنفي، وهم المارقون، وسُموا بذلك لأنهم مرقوا من الإسلام، وقد روي عن النبيء صلى الله عليه وآله وسلم أنه قال: ((يكون فيكم قومٌ تحتقرون صلاتكم مع صلاتهم ، وأعمالكم مع أعمالهم، يقرؤون القرآن لا يجاوز تراقيهم، يمرُقون من الدِّين كما يمرق السهم من الرمية تنظر في النصل فلا ترى شيئاً))، وكان سبب خروج هذه الفرقة من الدين أنه لما كان من أمر الحكمين في صِفين ما كان، اجتمع قومٌ من أصحاب أمير المؤمنين عليه السَّلام منهم عبد الله بن الكوى، وعروة بن جرير، ويزيد بن عاصم المخارقي، وجماعة معهم، فاعتزلوا، وبايعوا عبد الله بن وهب الراسبي وتبرّءوا من الحكمين، وكفّروا عليًّا عليه السَّلام. فهذه الفرق المتقدمة. (1/559)
ثم تفرقت كل فرقةٍ منهم فرقاً كثيرةً، وقد ذكرنا فرق الشيعة فيما تقدم بما فيه كفايةٌ.
فأما المعتزلة فكان سبب اعتزالهم أن شيخ المعتزلة واصل بن عطاء كان يرى رأي أهل البيت"، وكان يُظهر القول بالعدل والتوحيد ومحبّة أهل البيت" في البصرة في وقت غلبة الخوارج، وكان تربّى مع أبي هاشم عبد الله بن محمد بن الحنفية رحمه الله، وكان محمد بن الحنفية يراه مثل الولد، وكان يأخذ العلم عن أبي هاشم، ويأخذه أبو هاشم عن أبيه محمد بن علي عليه السَّلام ويأخذه محمد عن أبيه علي عليه السَّلام. وكان اختلف هو والحسن البصري في [مسألة] المنزلة بين المنزلتين. فقال الحسن بن أبي الحسن البصري: الفاسق منافقٌ. وقال واصل: الفاسق ليس بمؤمن ولا كافرٍ بل له منزلة بين المنزلتين.
وكان عمرو بن عبيد يقول بقول الحسن، ثم رجع إلى قول واصل بن عطاء، وبرجوعه واعتزاله عن قول الحسن سُمّيت المعتزلة معتزلةً، مع ما تقدّم من اعتزال واصل بن عطاء للخوارج، وإظهاره للتشيع، فبسبب ذلك سُميت المعتزلة معتزلةً. (1/560)
ثم افترقت المعتزلة فرقتين: فرقةٌ لزمت بقول واصل بن عطاء في تفضيل أمير المؤمنين عليه السَّلام وتقديمه على أبي بكر وعمر وعثمان، والقول بإمامة الحسن والحسين، وزيد بن علي، ومحمد وإبراهيم ابني عبد الله"، وهم مشائخ البغداديين، مثل جعفر بن حرب، وجعفر بن مُبشّر، وأبي عثمان عمرو بن بحر الجاحظ، والمرشد، ومن قال بقولهم وهؤلاء يُسمون شيعة المعتزلة، ومعتزلة الشيعة. وسموا الزيدية معتزلة الشيعة، وصوّبوا الزيدية في جميع أقوالهم، وذكروا أن الفرقة الناجية هم شيعة المعتزلة ومعتزلة الشيعة، يعنون الزيدية.
وفرقة وهم المعتزلة البصريين فإنهم خالفوا في الإمامة وفي الإرادة، ووافقونا في العدل والتوحيد، وصدق الوعد والوعيد، والنبوءة، وغير ذلك من الأصول. فأما الإمامة فإنهم خالفونا فيها خلافاً كثيراً، وذلك أنهم يقولون: الإمام أبو بكر، ثم عمر، ثم عثمان، ثم علي عليه السَّلام، ثم الإمامة جائزةٌ في كل الناس، وهذا قول فريق منهم.
ومنهم من قال: الإمامة في قريشٍ، وقالوا: إذا اجتمع قرشيٌّ ونِبطيٌّ وُلِّيَ القرشي على النبطي.
وقال ضرارٌ: إذا اجتمع قرشي ونبطي وُلِّيَ النبطي لأنه أقل عشيرةٍ وأهون شوكةٍ، وعلته أنه إذا عصى الله كان أسهل لخلعه.
ومنهم من توقّف في تفضيل علي عليه السَّلام على أبي بكر وعمر، وهم: أبو علي، وأبو هاشم، وقالا: إن صحّ خبرُ الطائر المشوي فعليٌّ أفضل من أبي بكرٍ، وإذا كان أفضل منه كان أولى بالمقام منه، وعلتهما: أن راوي خبر الطائر المشوي أنس بن مالك، ومن مذهبهما أنهما لا يقبلان الخبر إلا من اثنين كالشهادة. (1/561)
وخبر الطائر المشوي: ما روي عن أنس بن مالكٍ أنه أُتي إلى النبي صلى الله عليه وآله وسلم بطائرٍ مشويٍّ ووضع بين يديه فقال: ((اللهم ائتني بأحب خلقك إليك يأكل معي من هذا الطائر)) فلم يحضر غير علي عليه السَّلام، وعلى ما رُوي أنه رُدّ من بابه مرّةً بعد أخرى.
وذكرت شيعة المعتزلة الذين قالوا بفضل علي عليه السَّلام أن الخبر ذكره أمير المؤمنين عليه السَّلام يوم الشُّورى بمحضرٍ من أصحاب الشورى فلم يردّ أحدٌ منهم عليه، وشهدوا له بصحة ذلك، ولم يكن ذلك الوقت وقت عصبيّة معه، ولا ميلٍ إليه. فهذه فرق المعتزلة.
ومن الدليل على أن الزيدية هم الفرقة الناجية أنهم لم يفارقوا الكتاب ولا السنة ولا الإجماع ولا العقل، بل لزموا بهذه الحجج الأربع، وقد قدمنا الكلام في الكتاب والسنة بما فيه كفاية.
وأما الإجماع فإن الأمة مجمعةٌ على أن الله تعالى واحدٌ قديمٌ، لا قديم معه غيره، وأنه لا مثل له في وجهٍ من الوجوه، وقد أتى في الكتاب والسنة ما قلنا به قال الله تعالى: {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ }[الشورى:11]، وقال: {هُوَ الأَوَّلُ وَالآخِرُ وَالظَّاهِرُ وَالْبَاطِنُ }[الحديد:3]، وقال: {قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ ، اللَّهُ الصَّمَدُ ، لَمْ يَلِدْ وَلَمْ يُولَدْ ، وَلَمْ يَكُنْ لَهُ كُفُوًا أَحَدٌ}[الإخلاص:1-4]. (1/562)
وروي عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أنه قال: ((إن الله لا مِثل له بوجهٍ من الوجوه في صفةٍ من صفات العظمة)).
ثم قال مخالفونا: الله قديمٌ بقدمٍ، وعالمٌ بعلمٍ، وقادرٌ بقدرةٍ قديمةٍ، وقالوا: القرآن غير مخلوقٍ وهو قديمٌ، فأثبتوا مع الله قديماً سواه فخالفوا الإجماع ونقضوا ما كانوا قد أجمعوا عليه، واستقمنا نحن على الإجماع.
وأجمعت الأمة على أن الله ليس كمثله شيءٌ ثم نقضت المشبهة قولهم هذا فقالوا: له وجهٌ ويدان، وجنبٌ وعينان، وجوارح ولسانٍ، وهو يُرى يوم القيامة بالأعيان، وهو يستقر في المكان -تعالى الله عما يقولون علوا كبيراً، فخرجوا عن قولهم الأول: (ليس كمثله شيءٌ)، واستقمنا نحن على الإجماع.
وأجمعت الأمة على أن معنى (سبحان الله) تنزيه الله من كل صفة نقصٍ في ذاته وفي أفعاله، وأجمعوا على أنه عدلٌ لا يجورُ، وأنه لا يفعل القبيح، ولا يأمر بفعله، ولا يريده، ولا يحبه، ولا يرضاه، ثم نقضت المجبرة هذا القول بأن قالوا: الله فاعل كل حسنٍ وقبيحٍ، وقالوا: إن الله أجبرهم على أفعالهم، وقالوا: إن الله أمر الكافر بالإيمان، وسلبه الاستطاعة على الإيمان. فنقضوا قولهم الأول، ونسبوا إلى الله فعل القبيح، ونزّهوا أنفسهم، وخرجوا من الإجماع وقد قال الله تعالى فيهم: {وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ تَرَى الَّذِينَ كَذَبُوا عَلَى اللَّهِ وُجُوهُهُمْ مُسْوَدَّةٌ أَلَيْسَ فِي جَهَنَّمَ مَثْوًى لِلْمُتَكَبِّرِينَ}[الزمر:60]، واستقمنا نحن على الإجماع. (1/563)
وأجمعت الأمة على أن الله صادق الوعد، ثم نقضت المرجئة هذا الإجماع بأن قالوا: يجوز أن يُخلف الوعيد. فنقضوا قولهم في صدق الوعد؛ لأن وعيده للظالمين هو وعده للمظلومين، كما قال تعالى: {إِنَّا لَنَنصُرُ رُسُلَنَا وَالَّذِينَ آمَنُوا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَيَوْمَ يَقُومُ الأَشْهَادُ}[غافر:51]، فإذا أخلف وعيده للظالمين فقد أخلف وعده للمظلومين -تعالى الله عن ذلك علوا كبيراً. واستقمنا نحن على الإجماع.
وكذلك أخذنا في الإمامة بالإجماع، فإن الخوارج وبعض المعتزلة قالوا: الإمامة في كل الناس. وعلي والحسن والحسين وذريتهما من الناس.
فأما قول ضرار: يُولّى النبطي على القرشي، فإن الله تعالى قد جعل النبيء صلى الله عليه وآله وسلم من أشرف بيتٍ في العرب، فكما كان صلى الله عليه وآله وسلم من أشرف بيتٍ في العرب وجب أن يكون الإمام من أشرف بيتٍ في العرب، وأشرفُ بيتٍ في العرب بيت النبيء صلى الله عليه وآله وسلم. (1/564)
وقالت المجبرة وبعض المعتزلة: الإمامة في قريشٍ. وعلي والحسن والحسين" من قريشٍ، فثبت لنا الإجماع.
وأما قول الإمامية في النص والغُلُوّ، فإنه خلاف لجميع الأمة.
والدليل على أن الإجماع حُجّة قول الله تعالى: {وَمَنْ يُشَاقِقِ الرَّسُولَ مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُ الْهُدَى وَيَتَّبِعْ غَيْرَ سَبِيلِ الْمُؤْمِنِينَ نُوَلّهِ مَا تَوَلَّى وَنُصْلِهِ جَهَنَّمَ وَسَاءَتْ مَصِيرًا}[النساء:115]، وقال تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ قَالُوا رَبُّنَا اللَّهُ ثُمَّ اسْتَقَامُوا تَتَنَزَّلُ عَلَيْهِمُ الْمَلاَئِكَةُ أَلاَّ تَخَافُوا وَلاَ تَحْزَنُوا وَأَبْشِرُوا بِالْجَنَّةِ الَّتِي كُنْتُمْ تُوعَدُونَ ، نَحْنُ أَوْلِيَاؤُكُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الآخِرَةِ وَلَكُمْ فِيهَا مَا تَشْتَهِي أَنفُسُكُمْ وَلَكُمْ فِيهَا مَا تَدَّعُونَ ، نُزُلاً مِنْ غَفُورٍ رَحِيمٍ}[فصلت:30-32]، وقال تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ قَالُوا رَبُّنَا اللَّهُ ثُمَّ اسْتَقَامُوا فَلاَ خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلاَ هُمْ يَحْزَنُونَ}[الأحقاف:13]، وقال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: ((لا تجتمع أمتي على ضلالة )) فصحّ أن الزيدية هم الفرقة الناجية.
ومن طريق العقل: أن جميع الفرق لا يجدون علينا طعناً ولا تشنيعاً في مقالتنا. (1/565)
ومما يدل على صحة ما ذهبنا إليه ما يحتج به مخالفونا من كثرتهم وقلّتنا، وهذا من الدلائل [الواضحة] على صحة مذهبنا وذلك أن الله تعالى قد أخبرنا في القرآن أن أكثر الناس لا يؤمنون، وأخبرنا أنه لا يؤمن إلا أقل الناس، وأخبرنا أن الأمم قبلنا كذّبوا الرسل، فقال تعالى: {كَذَّبَتْ قَبْلَهُمْ قَوْمُ نُوحٍ وَأَصْحَابُ الرَّسِّ وَثَمُودُ ، وَعَادٌ وَفِرْعَوْنُ وَإِخْوَانُ لُوطٍ ، وَأَصْحَابُ الأَيْكَةِ وَقَوْمُ تُبَّعٍ كُلٌّ كَذَّبَ الرُّسُلَ فَحَقَّ وَعِيدِ}[ق:12-14]، وقال تعالى: {وَإِنْ يُكَذّبُوكَ فَقَدْ كُذّبَتْ رُسُلٌ مِنْ قَبْلِكَ وَإِلَى اللَّهِ تُرْجَعُ الأُمُورُ}[فاطر:4]، وقال تعالى: {إِنَّ السَّاعَةَ لاَتِيَةٌ لاَ رَيْبَ فِيهَا وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لاَ يُؤْمِنُونَ}[غافر:59]، وقال: {وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لاَ يَعْلَمُونَ }[غافر:57]، وقال: {وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لاَ يُؤْمِنُونَ }[هود:17]، وقال: {وَأَكْثَرُهُمْ لاَ يَعْقِلُونَ}[المائدة:103]، وقال: {وَمَا أَكْثَرُ النَّاسِ وَلَوْ حَرَصْتَ بِمُؤْمِنِينَ }[يوسف:103]، وقال: {وَلَقَدْ ضَلَّ قَبْلَهُمْ أَكْثَرُ الأَوَّلِينَ }[الصافات:71]، وقال تعالى: {وَإِنْ تُطِعْ أَكْثَرَ مَنْ فِي الأَرْضِ يُضِلُّوكَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ }[الأنعام:116]، وقال تعالى: {وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا نُوحًا وَإِبْرَاهِيمَ وَجَعَلْنَا فِي ذُرِّيَّتِهِمَا النُّبُوَّةَ وَالْكِتَابَ فَمِنْهُمْ مُهْتَدٍ
وَكَثِيرٌ مِنْهُمْ فَاسِقُونَ}[الحديد:26]، وهذا في القرآن كثيرٌ. (1/566)
ثم ذكر الله المؤمنين المخلصين بالقلّة، فقال تعالى: {اعْمَلُوا آلَ دَاوُودَ شُكْرًا وَقَلِيلٌ مِنْ عِبَادِي الشَّكُورُ}[سبأ:13]، {وَمَا آمَنَ مَعَهُ إِلاَّ قَلِيلٌ }[هود:40]، وقال: {فَشَرِبُوا مِنْهُ إِلاَّ قَلِيلاً مِنْهُمْ }[البقرة:249]، وقال: {قَلِيلاً مَا تَذَكَّرُونَ }[الأعراف:3].
وذكر ما كان من أصحاب موسى عند باب حطّة، وقولهم لموسى: {فَاذْهَبْ أَنْتَ وَرَبُّكَ فَقَاتِلاَ إِنَّا هَاهُنَا قَاعِدُونَ }[المائدة:24]، وذكر قول موسى عليه السَّلام: {رَبِّ إِنّي لاَ أَمْلِكُ إِلاَّ نَفْسِي وَأَخِي }[المائدة:25]، وذكر من قوم موسى رجلين وهم ألوفٌ فقال تعالى: {قَالَ رَجُلاَنِ مِنَ الَّذِينَ يَخَافُونَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِمَا ادْخُلُوا عَلَيْهِمُ الْبَابَ فَإِذَا دَخَلْتُمُوهُ فَإِنَّكُمْ غَالِبُونَ}[المائدة:23]، وقد قيل: إنهما يوشع بن نون، وكالب بن نفثا القناري من أرض قنار. وقيل: إنه المؤمن الذي كان يكتم إيمانه. فصح أن القليل ممدوحٌ، وأن الكثير من الفرق مذمومٌ.
وبسبب قلة الفرقة الناجية تظاهر أعداء الله عليهم. وقد ذكرنا ما فعل بنو أميّة وبنو العباس بأولاد رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم؛ وذلك أن معاوية لعنه الله لما غلب على الأمر جعل سبّ أمير المؤمنين عليه السَّلام سيرةً وسجيّةً، حتى كتب إلى والٍ له من جهته يقول له: أُقتل من كان على دين علي، واضرب عنق حِجر بن عديٍّ؛ لأنه لم يتبرّأ من علي عليه السَّلام وأنكر سبّه.
وكانوا يلعنون عليًّا على المنابر، ويدعونه أبا ترابٍ، حتى وَلِيَ عمر بن عبد العزيز فمنع ذلك، فقال في ذلك كثير عزّة: (1/567)
طبت بيتاً وطاب أهلك أهلاً
أهل بيت النبيء والإسلام
لعن الله من يسبّ عليًّا
وبنيه من سوقةٍ وإمامِ
تأمن الطير والوحوش ولا يأ
مَن أهل البيت عند المقام
وسُمّ الحسن على يدي جعدة بنت الأشعث بن قيس، حتى رُوي أنه قال: سُقيت السم مراراً وما سُقيتُ مثل هذه المرّة، ولقد مشت طائفة من كَبِدِي.
وفُعل بالحسين بن علي عليهما السلام ما فُعل، وخبرهُ مشهورٌ.
ورُوي أنه لما قُتل كتب عبيد الله بن زياد أن تُوطأ الخيل على ظهره، وحزّ رأسه وأمر به إلى يزيد بن معاوية ـ لعنهما الله سبحانه ـ وسيق حريمه وأهله على الأقتاب إلى دمشق.
وقُتل زيد بن علي" وصُلب، ثم قُتل ولده يحيى بن زيد" وهُرِسَ في المهراس.
وقُتل محمد وإبراهيم ويحيى أولاد عبد الله بن الحسن" وغيرهم من أهل بيت النبيء صلى الله عليه وآله وسلم. ولهم أسوةٌ حسنةٌ بمن سبقهم من الأنبياء" والصالحين، وقد قال الله تعالى: {أَفَكُلَّمَا جَاءَكُمْ رسول بِمَا لاَ تَهْوَى أَنفُسُكُمُ اسْتَكْبَرْتُمْ فَفَرِيقًا كَذَّبْتُمْ وَفَرِيقًا تَقْتُلُونَ}[البقرة:87]، وقال تعالى: {وَكَأَيِّنْ مِنْ نَبِيّ قَاتَلَ مَعَهُ رِبِّيُّونَ كَثِيرٌ فَمَا وَهَنُوا لِمَا أَصَابَهُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَمَا ضَعُفُوا وَمَا اسْتَكَانُوا}[آل عمران:146]، وقال تعالى: {قُتِلَ أَصْحَابُ الأُخْدُودِ ، النَّارِ ذَاتِ الْوَقُودِ ، إِذْ هُمْ عَلَيْهَا قُعُودٌ ، وَهُمْ عَلَى مَا يَفْعَلُونَ بِالْمُؤْمِنِينَ شُهُودٌ ، وَمَا نَقَمُوا مِنْهُمْ إِلاَّ أَنْ يُؤْمِنُوا بِاللَّهِ الْعَزِيزِ الْحَمِيدِ}[البروج:4-8]، وكذلك أهل البيت". ولذلك قلّت هذه الفرقة الناجية، ولم يشتهر علمهم لأجل ذلك، كما اشتهر علمُ الفقهاء كأبي حنيفة والشافعي من العامة، ومالك، ومحمد بن الحسن، وأبي يوسف في أكثر الأمصار. وقد رُوي عن أصحاب أبي حنيفة أنهم كانوا إذا تكلّموا في المسائل فأرادوا أن يحكوا قولَ علي عليه السَّلام قالوا: قال الشيخ، ولم يُفصحوا باسمه خوفاً من السلطان، فكيف يظهر علمهم والأمر كذلك مع طول المدّة؟ فإن دولة بني أمية انقضت في سنة اثنتين وثلاثين ومائة هجرية، فصار الأمر إلى بني العباس فساروا طريقة بني أمية في قتل أهل البيت" فإنهم قتلوهم بضروبٍ من القتل، فما زالت تلك حالتهم حتى ضعفت دولتهم بظهور الجيل (1/568)
والديلم. (1/569)
وأيضاً فإن فقهاء العامة الذين سمّينا كانوا يرون ولاية آل رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فرضاً، ويشهدون لهم بالتفضيل، ويقولون: إن مودّتهم هي أجر الرسالة. وقد رُوي أن سبب موت أبي حنيفة: أن أبا جعفر -الثاني من خلفاء بني العباس- كتب إليه كتاباً، وإلى الأعمش كتاباً على لسان إبراهيم بن عبد الله، فلما رأى أبو حنيفة الكتاب الذي كتبه إليه أخذه وقبّله وقرأه، ولما رأى الأعمش الكتاب الذي كتب إليه رمى به. وكذلك الشافعي كان يظهر محبّة أهل البيت" وهو القائل فيهم:
يا راكباً قف بالمحصب من منى
واهتف بقاطن أهله والناهض
سحراً إذا جاش الحجيج إلى منى
سيلاً كملتطم الفرات الفائض
قف ثم ناد بأنني لمحمدٍ
ووصيه وبنيه لست بباغض
إن كان رفضاً حب آل محمدٍ
فليشهد الثقلان أني رافضي
وروي أن محمد بن الحسن غضب عليه هارون في ميله إلى أهل البيت فرماه بالدّواة فشجّ رأسه. فصح لنا الإجماع، وصحّ أن الزيدية هم الفرقة الناجية.
وقد شذ من الزيدية فرقتان في عصرنا هذا:
إحداهما: المُطرفيّة الذين قالوا: ليس يُسمع القرآن، ولا يُسمع الكلامُ، وأنه صفةٌ ضروريّةٌ لقلب الملَك لا تفارقه. فأنكروا نزول القرآن، وقالوا: إن الله سبحانه لا يقصد كثيراً مما يحدث من الخلق والرزق والموت والحياة، بل ذلك يحصل بإحالات الأجسام، فأنكروا تدبير الله سبحانه لخلقه حالاً بعد حالٍ. وقالوا: إن فعل العبد لا يعدوه، ولا يوجد من الظالم فعل في المظلوم، فنسبوا أكثر الظلم إلى الله سبحانه، وما أشبه ذلك من الجهالات القبيحة، وهذا القول مخالفٌ للكتاب والسنة والإجماع، فخرجوا من الفرقة الناجية بخروجهم عن الكتاب والسنة والعقل والإجماع. (1/570)
والفرقة الأخرى: الذين قالوا: إن الحسين بن القاسم أفضل من رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، وكلامُهُ أبهر من كلام الله، وهؤلاء خرجوا من الفرقة الناجية بخروجهم عن العقل والكتاب والسنة والإجماع.
ومن أهل مقالتنا في عصرنا: قومٌ توانوا وسهّلوا في العمل، وغفلوا عن طلب العلم، وركنوا على إصابة الطريق، فضيّعوا الدين، وتخلّفوا عن طريق المؤمنين، فمثلهم كمثل النائم على الطريق؛ ومثل مخالفهم كمن يمشي مجتهداً في غير الطريق، فكلا الفريقين لا يبلُغُ المراد، إلا أن يستيقظ النائم، ويرجع الضال عن الطريق إلى الطريق.
نسأل الله أن يوفقنا لما يحب ويرضى من طاعته حتى يصدُق قولنا بعملنا، ونسأله أن يتجاوز عن خطايانا وزللنا، وأن يبلِّغنا صالح آمالنا ويختم لنا بخير أعمالنا.
تم الكتاب والحمد لله رب العالمين وصلى الله وسلم على سيدنا محمد وآله خير آل