الكتاب : المركب النفيس إلى التنزيه والتقديس |
كتاب المركب النفيس (1/1)
إلى التنزيه والتقديس
تأليف
السيد العلامة محمد بن عبد الله عوض المؤيدي حفظه الله تعالى
[مقدمة]
الحمد لله خالقِ الخلقَ، ومُدَّبِرِ الأمْر، العليم القدير الحي القديم، الذي ليس كمثله شي وهو السميع البصير، وصلى الله وسلم على سيدنا محمد وعلى أهل بيته الطاهرين، حجج الله على خلقه، وشهدائه على عباده، الذين من اتبعهم نجا، ومن خالفهم ضل وغوى، أما بعد:
فهذا مختصرٌ لطيفٌ في معرفة الله تعالى وما يلحق بذلك من أصول الدين، محتوٍ على الغالب مِن ما في كتاب العقد الثمين وعلى زيادات هامة أيضاً، ينبغي معرفتها.
هذا ولَم آتِ بشيءٍ جديد، بل كل ما ذكرته فيه مستوحىً عن أئمة أهل البيت عليهم السلام، والجديد هنا هو السهولة في التعبير بحيث لا يحتاج المبتدئ إلى كثير في فَهمه، وتنبغي قراءته للمبتدئين قبل العقد الثمين أو بعده، والحمد لله رب العالمين، الذي هدانا لهذا وما كنا لنهتدي لولا أن هدانا الله، وصلى الله وسلم على محمد وآله.
[أول الطريق إلى العلم بالله]
العقلُ من طبيعته التفكيرُ، وله القُدْرَةُ وحده على معرفة الله تعالى، وما يستحقه من القداسة والكمال والجلال، غير أنَّ الله سبحانه وتعالى قد عَزَّزَ العقلَ بالرسلِ والكتبِ، فهداهم وأرشدهم إلى طرق التفكير الصحيح الذي سيوصلهم حتماً إلى معرفة الله تعالى، فمن ذلك قوله تعالى }أَمْ خُلِقُوا مِنْ غَيْرِ شَيْءٍ أَمْ هُمُ الْخَالِقُونَ{ [الطور/35].
هنا يخاطب الله العقلاء:
هل خُلِقُوا مِنْ غير شيءٍ؟ هل هم الخالقون لأنفسهم؟
ولا شك أنَّ العقلاء جميعاً لا يقبلون واحداً من هذين الافتراضين، ولا يَحتاجون في تفسيرهما إلى تفكيرٍ، بل يردون ذلك ببداهة عقولهم من غير تَرددٍ ولا تفكيرٍ ولا نَّظَرٍ، وحينئذٍ لَمْ يَبْقَ أَمامَ العقلِ إلاَّ أنْ يُصَدِّقَ ويؤمن بأن له خالقاً خلقه وسَوَّاه، وشقَّ سمعه وبصره...الخ (1/2)
وهكذا كلما يجده العاقل من المُحْدَثات، فإن العقل يفترض ثلاثة تساؤلات في تفكيره لا غير:
هل حدثت هذه الأشياء من غير شيء؟
هل أحدثت هذه الأشياء أنفسها؟
أم أحدثها مُحْدِثٌ؟
ولا يجدُ العقلُ افتراضاً آخرَ يَفْتَرِضُهُ، بل يُحَتِّمُ عليه تفكيرُهُ أنْ يَختارَ واحداً من هذه الثلاثة التقادير، و الافتراض الأخير وهو أنه أحدث هذه المُحْدَثات مُحْدِثٌ هو الذي يقبله العقل، ويطمئن إليه.
[المرحلة الثانية من التفكير]
بعد التصديق بأن هذه المُحْدَثَات قد أحدثها مُحْدِثٌ، فإن العقل حتماً ينتقل بتفكيره إلى الخالق الذي أحدثها فيؤمن ويُصَدِّقُ بأنه:
موجودٌ، لأنه لا يقبل العقل بخالق معدوم.
حيٌّ، لأن الفعل لا يصدر من ميت بالضرورة.
قادرٌ، وذلك لأن الفعل لا يصدر من عاجز.
عالِمٌ، وذلك أنَّ الفعلَ المُحْكَمَ المُشْتَمِلَ على غاية الإحكام والإتقان لا يصح ضرورةً من جاهل.
فكلُّ هذه الصفاتِ يؤمنُ بها العقلُ، ويُصَدِّقُ بها، ولا يَحتاجُ العقلُ في الإيمان بها إلى تكريرِ النَّظَرِ، بل يَكْفِي النَّظَرُ الأَولُ، فتحصلُ هذه الصفات الأربع بالتَّبَعِ للنظرِ الأولِ، فإذا عرفَ العقلُ أنَّه لا بد لهذا المُحْدَثِ من فاعلٍ عَرَفَ أنَّ هذا الفاعلَ مُتَصِفٌ بهذه الصفاتِ الأربعِ ضرورةً. (1/3)
} وهو بكل شي عليم {
إتقانُ المخلوقاتِ وتقديرُها على ما تَقْتَضيه الحِكْمَةُ والمصلحةُ وتقديرُ الأرزاقِ للحيوانات، وحِفْظُهُ لها وهدايتُهُ لها إلى مصالحها، كُلُّ ذلك يدل على إحاطة علم الخالق بكلِّ شيء، وكذلك فإنَّك تَرى إتقانَ الخلقِ وإبداعِهِ في كلِّ ورقهٍ، وفي كلِّ زهرةٍ، وفي كلِّ شَجرةٍ، وفي كلِّ ثَمَرةٍ، وفي خَلْقِ كلِّ دابةٍ، في النَّحْلَةِ والنَّمْلَةِ وإلى آخرِ ما خَلَقَ الله تعالى، كُلُّ ذلك يدلُّ على إحاطةِ علم الله تعالى بكل شيءٍ، وقد قال تعالى: }مَا يَكُونُ مِن نَّجْوَى ثَلاثَةٍ إلاَّ هُوَ رَابِعُهُمْ وَلا خَمْسَةٍ إلاَّ هُوَ سَادِسُهُمْ وَلا أَدْنَى مِن ذَلِكَ وَلا أَكْثَرَ إلاَّ هُوَ مَعَهُمْ أَيْنَ مَا كَانُوا{ [المجادلة/7]، وقال تعالى: }وَعِندَهُ مَفَاتِحُ الْغَيْبِ لاَ يَعْلَمُهَا إِلاَّ هُوَ وَيَعْلَمُ مَا فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَمَا تَسْقُطُ مِن وَرَقَةٍ إِلاَّ يَعْلَمُهَا وَلاَ حَبَّةٍ فِي ظُلُمَاتِ الأَرْضِ وَلاَ رَطْبٍ وَلاَ يَابِسٍ إِلاَّ فِي كِتَابٍ مُّبِينٍ{ [الأنعام/59].
} هو الأول والآخر{
والله ـ سبحانه وتعالى ـ قَدِيمٌ لا أولَ لوجوده، ولا آخِرَ لوجوده.
والدليلُ على أنَّ الله تعالى لا أولَ لوجوده هو: أنه لو كان لوجوده أولٌ لوَجَبَ أنْ يَكونَ مُحْدَثاً مَخْلوقاً، فيحتاجُ حينئذٍ إلى خالقٍ خَلَقَهُ، ومُحْدِثٍ أحدثَهُ، وهكذا إلى ما لا نهاية، وللعقل في هذه المسألة إفتراضان لا غير: (1/4)
إمَّا أنْ يَكونَ الخالقُ قديماً.
وإمَّا أنْ يَكونَ مُحْدَثاً.
وقد بَطَلَ بالدليل العقليِّ الذي قدمنا أنْ يكونَ الخالقُ مُحْدَثاً، فوجب أنْ يكونَ قديماً، وعلى هذا فيجبُ التصديقُ والإيمانُ بأنَّ الخالقَ تعالى قديمٌ لا أولَ لوجوده.
} وهو السميع البصير{
يَجبُ الإيمانُ بأنَّ الله تعالى سميعٌ بصيرٌ، ومعنى ذلك: أنه تعالى لا يَخْفَى عليه شيءٌ مِنَ المسموعات ولا من المرئيات، فهو سبحانه يَسْمَعُ كُلَّ شيءٍ مِمَّا يُسمَعُ، ويَرى كُلَّ شيءٍ مِمَّا يُرى، لا تَخْفَى عليه خافيةٌ في الأرضِ ولا في السماءِ، وقد قال تعالى: }لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ البَصِيرُ{ [الشورى/11]، ويَجبُ أنْ نَعْرِفَ هنا أنَّ رؤيةَ الله وسَمْعَهُ للأشياءِ ليس بآلةِ سَمْعٍ وآلةِ بَصَرٍ كما في الحيواناتِ، فليس له تعالى عينان يُبْصِرُ بهما، ولا أُذنان يَسْمَعُ بهما، وليس له قلبٌ وعقلٌ يُفَكِرُ بهما - تعالى سبحانه عن ذلك - }لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ البَصِيرُ{ [الشورى/11].
} ليس كمثله شيء {
أولاً: المخلوقاتُ الموجودةُ هي أجسامٌ، وهذه الأجسامُ لها صفاتٌ وهيئاتٌ، وهذه الصفاتُ والهيئاتُ اسمها أعراضٌ، فالأعراضُ إذن هي توابعٌ للأجسام، وليست شيئاً مستقلاً، والجسم ثلاثة أنواع:
حيوان، ونبات، وجماد، وكُلُّ هذه الثلاثة الأنواع: طبيعتُهُ الضَّعْفُ والتَّحَولُ، فالحيوان يتحولُّ إلى جمادٍ لا حياةَ به، ثم إلى ترابٍ، وكذلك الجمادُ يتحولُّ من حالةٍ إلى حالة أخرى، فالحديد وهو أقوى الجمادات وأصلبها قد يُحَوِّلُهُ الصدأُ إلى ترابٍ، والحجار قد تحول إلى تراب وإلى نُورَةٍ، والنباتُ كذلك، وتماماً كما وصفه الله تعالى }ثُمَّ يَهِيجُ فَتَرَاهُ مُصْفَرًّا ثُمَّ يَكُونُ حُطَامًا{ [الحديد/20]. (1/5)
ثانياً: الأنواع الثلاثة التي قدمنا ذكرهاكلها مُحْدَثَةٌ، أما النبات والحيوانات فبالمشاهدة والضرورة، وأما الجمادات فأثرُ التَّقْديرِ فيها يدلُّ على أن ثَمَّ مُقَدِّر قَدَّرَها، وجاعل جعلها على تلك الكيفياتِ والتشكيلات، وإذا كانت كذلك فهي مُحْدَثَةٌ لوجود دلائل الحدوث فيها.
هذا وبناءاً على ما قدمنا فلا يَجوزُ أنْ نُشَّبِهَ الله تعالى بشيءٍ من المخلوقات، وذلك أنَّهُ لو أشْبَهَ شيئاً منها لَكَانَ ضعيفاً مُعَرَّضَاً للتحولِّ، ومُعَرَّضَاً للآفاتِ والتبددِ والزوالِ، ولَكَانَ مُحْدَثاً، وقد ثبت أنَّه تعالى خالقُ الأجسامِ، وعليه فيلزمُ أن لا يكون جسماً، ولأنَّ الشيء لا يَخْلُقُ مثلَهُ.
فإذا ثبت أنَّ الله تعالى ليس جسماً، وانتفت صفاتُ الأجسامِ جميعُهَا تَبَعَاً لنفيِّ الجسميةِ، فليس تعالى في مكانٍ، ولا يُدْرَكُ بالحواس، ولا يَتَصِفُ تعالى بالحركةِ والسكونِ، والاجتماعِ والافتراقِ، والرطوبةِ واليبوسةِ، والطولِ والعَرْضِ، ولا بالألوان، ولا بالمشي والهرولةِ، والصعودِ والنزولِ، ولا بأيِّ كيفيةٍ، لأنَّ ذلك كُلَّهُ مِنْ صفاتِ الأجسامِ الضَّعَيفةِ المُحْدَثَةِ، وكذلك فلا يتصفُ بالوجْهِ والجنبِ واليدينِ والساقِ والعينينِ، ليس في مكان _ تعالىسبحانه أنْ يكونَ في السماء، أو في الأرض _، ولا تَحدُهُ الفَوقِيَّةُ والتَّحْتيةُ، ولا اليمينُ والشمالُ، والخلفُ والأَمَامُ. (1/6)
كان الله سبحانه ولا شيء، لا مكان ولا زمان، ولا سماء ولا أرض، ولا عرش ولا كرسي، وهو خالقُ المكانِ، مُسْتَغنٍ عن المكانِ، وخالقُ الزمانِ، فلم يَتَقَدمْهُ زمانٌ.
ليس بنورٍ ولا ظلامٍ، لا تجوزُ عليه الغَفْلَةُ والنُّومُ والنِّسْيَانُ، ولا يَجوزُ أنْ يُقالَ إنَّهُ تعالى يَفرحُ ويَسْتَرُّ، أو يَلْحَقهُ الهمُّ والغَمُّ، أو يتألَمُ أو يَلْتَذُّ، أو يَشتهي أو يَنفرُ، إذ أنَّ كلَّ ذلك من صفاتِ الأجسامِ الضعيفةِ المُحْدَثَةِ، وقد ثبت أن الله تعالى ليس بجسم، فوجب أن نَنْفِيَ عنه تعالى كُلَّ صفاتِ الأجسامِ على الإطلاقِ.
هذا والأمرُ الذي يدور عليه رحى التوحيدِ هو: نفي التشبيه عن الله تعالى على الإطلاق، وصدق أمير المؤمنين عليه السلام: (التوحيدُ أن لا تتوهمه)، وقال تعالى: }لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ{ [الشورى/11]، وقال تعالى }وَلَمْ يَكُن لَّهُ كُفُوًا أَحَدٌ{ [الإخلاص/4]. (1/7)
[آيات متشابهات]
قوله تعالى}بَلْ يَدَاهُ مَبْسُوطَتَانِ{ [المائدة/64] تفسيرها في الآية التي بعدها وهي قوله تعالى: }يُنفِقُ كَيْفَ يَشَاء{ [المائدة/64] وقد جاءت هذه الآية جواباً على اليهود حين قالوا: }يَدُ اللّهِ مَغْلُولَةٌ{ [المائدة/64] بمعنى أنه بخيل، فردّ الله عليهم بالآية السابقة، وقوله تعالى: }تَجْرِي بِأَعْيُنِنَا{ [القمر/14] معناه تجري في حراستنا وحفظنا وقوله تعالى: }يَا حَسْرَتَى علَى مَا فَرَّطتُ فِي جَنبِ اللَّهِ{ [الزمر/56] معناه في طاعة الله، وقوله تعالى }فَثَمَّ وَجْهُ اللّهِ{ [البقرة/115]، أي الجهة التي وجهكم إليها، وقوله تعالى: }تَعْلَمُ مَا فِي نَفْسِي وَلاَ أَعْلَمُ مَا فِي نَفْسِكَ{ [المائدة/116]، أي تعلم سِرِّي وغَيْبِي، ولا أَعْلَمُ سرَّكَ وغيبكَ، وقوله تعالى: }مِمَّا عَمِلَتْ أَيْدِينَا{ [يس/71]، أي قدرتنا، وقوله تعالى: }اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ{ [الأعراف/54]، بِمعنى استولى على الملك بالقدرة والسلطان.
وفي القرآنِ كثيرٌ من الآياتِ المتشابِهَةِ التي لا يَعْلَمُ تأَويلَها إلاَّ الله والراسخون في العلم من أهل البيت ـ عليهم السلام ـ.
[التصديق والتصور] (1/8)
نعم! العلمُ يَنقسمُ إلى قسمين: علمٌ تصديقيٌّ، وعلمٌ تصوريٌّ، والذي كَلَّفَ الله تعالى به عبادَهُ هو: الإيمانُ به، والإيمان به هو التصديق به.
أمَّا التَّفَكرُ في الله تعالى وتَصُّورُهُ فلا يَجوزُ ذلك، وذلك لأنَّ عقولَ البشرِ، وإنِ اجتهدتْ في التفكيرِ لا تستطيعُ أنْ تَتصورَ إلاَّ المخلوقاتِ، بل إنها لا تستطيعُ أنْ تتصورَ من المخلوقاتِ إلاَّ ما قد عَرَفَتْهُ، وإليكَ بعضَ الأمثلةِ:
لو أنَّ رجلاً لَمْ يَطْعَمِ الحالي ولَمْ يَذُقْهُ، فإنه لا يستطيعُ أنْ يتصورَ الحلاوةَ، وإنْ بالغتَ في شرحها له وتوضيحها، وكذلك الأعمى الذي ولد أعمى لا يستطيعُ أنْ يَتصورَ الألوانَ ولا النورَ والظلامَ، وكذلك أنتَ أيُّها البصيرُ لا تَستطيعُ أنْ تَتصورَ لوناً غير ما عَرَفْتَه من الألوانٍ.
وبناءاً على هذا فإن الفِكْرَ إذا ذَهَبَ يَتصورُ الخالقَ ـ جل وعلا ـ فإنه بلا شكٍّ ولا ريبٍ سَيُشَبِّهُهُ بالمخلوقاتِ التي أَلِفَهَا وعَرَفَها، ولا يستطيعُ أنْ يَتجاوزَها بتفكيره، فلأجلِ هذا يَحْرُمُ على العاقلِ أنْ يُفَكِّرَ في الخالقِ أو يَتصورَهُ، ويؤيدُ هذا الدليلَ العقليَّ الذي ذكرنا.
[أدلة الكتاب والسنة]
أمَّا الكتابُ فقولُهُ تعالى: }وَلا يُحِيطُونَ بِهِ عِلْمًا{ [طه/110]، ومن السنة قوله ـ صلى الله عليه وآله وسلم ـ ((تفكروا في المخلوق، ولا تتفكروا في الخالق))، وقول الوصي ـ عليه السلام ـ: (التوحيد أن لا تتوهمه).
[وفاق وخلاف] (1/9)
اتفق المسلمون جميعهم أهل السنة جميعاً، والشيعة جميعاً على:
أن الله تعالى ليس كمثله شيء، وأنه لا يشبه المخلوقات، وأنها لا تشبهه.
ثم قال بعضهم: إن له وجهاً ويدين وجنباً وقدمين وأصابع، وأنه يَضحكُ ويفرح ويغضب، ويقوم ويقعد، ويَمشي ويهرول، ويطلع وينزل، فأثبتوا لله تعالى كلَّ ذلك وشَبَّهُوه بمقولتهم هذه، ثم حاولوا الهروب من التشبيه الذي وقعوا فيه، فقالوا: إن له وجهاً يليق بجلاله، ويدين تليقان بجلاله، وعينين تليقان بجلاله و..إلخ.
وتارةً يقولون: إن له وجهاً بلا كيف و..إلخ.
وينزلُ بلا كيف، ويطلعُ بلا كيف، ويقعدُ بلا كيف، ويَمشي بلا كيف، ويُهَرْوِلُ بلا كيف، و.. إلخ.
وكلُّ ذلك لا يُخرجُهُم من دائرة المشبهين، فقولهم: إنَّ له تعالى وجهاً يليق بجلاله، ويدين تليقان بجلاله مِمَّا يؤكدُ التشبيهَ، ويُحَقِّقُ التجسيمَ، فإن الحيواناتِ كذلك، فَلِلْجَمَلِ يدان تليقانِ به، وللإنسان يدان تليقان به، ولِلذَّرَةِ يدان تليقانِ بها و…الخ، فلا تليقُ يدا الإنسان لِلْجَمَلِ ولا للحمار ولا للذَّرَة والنَّمْلَةِ، ولا يدا بعضِ الحيواناتِ للبعض الآخر، وقولُهُم له وجهٌ بلا كيف و…إلخ، ويُرى يومَ القيامة بلا كيف، ويَجْلِسُ على العرش بلا كيف، ويَمشي وينزل ويصعد ويهرول ويضحك ويتكلم بلا كيف، قولُهُم هذا لا يُمْكِنُ العقلُ أنْ يُصَدِّقَ به لاستحالته.
وتوضيح ذلك: أن اليد إذا كانت موجودة وحقيقة كما يقولون فلا بد أن تتصف بصفةٍ وكيفيةٍ، فلا بد أن تكونَ طويلةً أو قصيرةً أو بين ذلك، أو صغيرةً أو كبيرةً، أو متحركةً أو ساكنةً، أو رطبةً أو قاسيةً و...إلخ، ولا يمكن نفيُّ تلك الكيفياتِ عنها.
وكذلك لا يُمْكِنُ أنْ نُصَدِّقَ أنَّ الله تعالى ينزل ويصعد ويهرول ويجلس من غير أن يكون هناك حركة وسكون، وكذلك لا يمكن أن يُرى في الآخرة من غير أن يكون متحركاً أو ساكناً، ومن غير أن يكون في الأَمام أو الفوق أو…إلخ. (1/10)
{وربك الغني ذو الرحمة}
مِمَّا يَجبُ معرفتُهُ: التصديقُ والإيمانُ بأنَّ الله تعالى غنيٌّ لا تَجوزُ عليه الحاجة، والذي يدل على ذلك من جهة العقل: أنه قد ثبت بما تقدم أن الله تعالى ليس بجسم، وبناءاً على ذلك فيجب نفي صفات الأجسام وخصائصها عنه تعالى، ومن ذلك السرور والفرح، والهم والغم، واللذة والألم، والشهوة والنفرة، والزيادة والنقصان، والخوف والأمن، وهذه الخصائص هي دواعي الحاجة والفقر، فإذا كانت منتفية عن الله تعالى انتفى تبعاً لانتفائها عنه تعالى الفقر والحاجة، فإنه تعالى إذا انتفى عنه التلذذ فإنه ينتفي عنه تبعاً لذلك الحاجة إلى كل أنواع الملاذ، وكذلك إذا انتفت عنه تعالى الشهوة انتفى عنه الحاجة إلى كل أنواع المشتهيات، وإذا كان سبحانه وتعالى لا يَلْحَقُهُ الهمُّ والغَمُّ انتفى عنه تبارك وتعالى الحاجةُ إلى كلِّ ما يدفع ذلك وهكذا…
وقد قال تعالى: }يَا أَيُّهَا النَّاسُ أَنتُمُ الْفُقَرَاء إِلَى اللَّهِ وَاللَّهُ هُوَ الْغَنِيُّ الْحَمِيدُ{ [فاطر/15]، وقال: }وَمَن كَفَرَ فَإِنَّ الله غَنِيٌّ عَنِ الْعَالَمِينَ{ [آل عمران97]، وقال: }إِن تَكْفُرُواْ أَنتُمْ وَمَن فِي الأَرْضِ جَمِيعًا فَإِنَّ اللّهَ لَغَنِيٌّ حَمِيدٌ{ [إبراهيم/8]، وغير ذلك كثير.
وبناءاً على ما ذكرنا فإنَّ كلَّ ما خلقه الله تعالى من المخلوقات إنما خَلَقَهُ لِحِكَمٍ ومصالحَ عظيمةٍ يعود نَفْعُهَا إلى المخلوقات، ولَمْ يَخلقْها تعالى لحاجةٍ إليها، ولا لينتفعَ بها، وهكذا كل ما أَمَرَ الله تعالى به، أو نَهَى عنه في كتبه، أو على أَلْسِنَةِ رسلِهِ؛ فإنَّه لَم يفعلْ ذلك لحاجةٍ يَعودُ نفعُهَا إليه تعالى، بل إنما كان ذلك لمصالحَ ومنافعَ تعودُ إلى المكلفين، ومن هنا قال تعالى: }مَنْ عَمِلَ صَالِحًا فَلِنَفْسِهِ وَمَنْ أَسَاء فَعَلَيْهَا وَمَا رَبُّكَ بِظَلاّمٍ لِّلْعَبِيدِ{ [فصلت/46]، فهو سبحانه غنيٌّ عن الكذب وخُلْفِ الوعدِ، وظلم العبيد و....إلخ. (1/11)
وقد قال تعالى: }وَمَنْ أَصْدَقُ مِنَ اللّهِ قِيلاً{ [النساء/122]، }إِنَّ اللّهَ لاَ يُخْلِفُ الْمِيعَادَ{ [الرعد/31]، }مَا يُبَدَّلُ الْقَوْلُ لَدَيَّ وَمَا أَنَا بِظَلامٍ لِّلْعَبِيدِ{ [ق/29]، وغير ذلك كثير.
{لا تدركه الأبصار وهو يدرك الأبصار}
مِمَّا يَجبُ التصديقُ والإيمانُ به: أنَّه تعالى لا يُرى، ولا تُدْرِكُهُ الأبصارُ لا في الدنيا ولا في الآخرةِ.
والذي يدل على ذلك: أنَّ الرؤيةَ لا تصحُ إلاَّ لِمَا كان جسماً، وقد ثبت أنَّ الله تعالى ليس بِجسمٍ، فلو رؤيَ الخالقُ سبحانه وتعالى لكان جسماً مُقَدَّرَاً بالطولِ والعَرْضِ والشكلِ، ومُحَدَّدَاً بالفوقيةِ والتحتيةِ والخلْفِ والأَمامِ واليمينِ والشمالِ، وفي حالةِ تَحَرُكٍ أو سكونٍ، وفي مكانٍ مَخْصوصٍ، وهذه كلُّها خصائصُ خاصة بالأجسام، وقد ثبت أنَّ الله تعالى ليس بِجسمٍ.
ولا يُعقلُ أن يُرى تعالى لا في مكان، ولا مُقَدَّرَاً بطولٍ وعَرْضٍ، ولا مُحَدَّدَاً بالجهاتِ، ولا في حركةٍ أو سكونٍ. (1/12)
فقولُ مَنْ قال: إنَّه تعالى يُرى بلا كيفٍ كلامٌ مرفوضٌ عند العقلِ، فالرؤيةُ لا تكونُ إلا لِلْمُتَكِّيفِ بتلكَ الكيفيات التي قدمنا، وقد قال تعالى: }لاَّ تُدْرِكُهُ الأَبْصَارُ وَهُوَ يُدْرِكُ الأَبْصَارَ{ [الأنعام/103]، وقال تعالى لموسى ـ عليه السلام ـ }لَن تَرَانِي{ [الأعراف/143].
هذا ولم يسألْ موسى ـ عليه السلام ـ الرؤيةَ لنفسه، بل عن سؤال قومه، وتماماً كما حكاه الله تعالى } أَمْ تُرِيدُونَ أَن تَسْأَلُواْ رَسُولَكُمْ كَمَا سُئِلَ مُوسَى مِن قَبْلُ وَمَن يَتَبَدَّلِ الْكُفْرَ بِالإِيمَانِ فَقَدْ ضَلَّ سَوَاء السَّبِيلِ{ [البقرة/108]، وقال تعالى }فَقَدْ سَأَلُواْ مُوسَى أَكْبَرَ مِن ذَلِكَ فَقَالُواْ أَرِنَا اللّهِ جَهْرَةً فَأَخَذَتْهُمُ الصَّاعِقَةُ بِظُلْمِهِمْ{ [النساء/153]، وقوله تعالى: }فَلَمَّا أَفَاقَ قَالَ سُبْحَانَكَ تُبْتُ إِلَيْكَ وَأَنَاْ أَوَّلُ الْمُؤْمِنِينَ{ [الأعراف/143].
فقد دلت هذه الآيات على أن الله تعالى لا يُرَى من وجوه:
1-التصريح بالنفي في قوله }لَن تَرَانِي{ [الأعراف/143] الشامل لجميع الأزمنة بما في ذلك الآخرة.
2-قوله { فَقَدْ سَأَلُواْ مُوسَى أَكْبَرَ مِن ذَلِكَ} [النساء/153] مما يدل على أن سؤال الرؤية عصيان كبير.
3-قوله { وَمَن يَتَبَدَّلِ الْكُفْرَ بِالإِيمَانِ } [البقرة/108]، يدل على أن سؤال الرؤية من ذلك.
4-أخذهم بعذاب الصاعقة التي لم يعهد من الله تعالى التعذيب بها إلا على الكافرين. (1/13)
5-تسمية السؤال ظلماً.
6-قوله }فَلَمَّا أَفَاقَ قَالَ سُبْحَانَكَ{ [الأعراف/143]، يدل على أن الله تعالى مُنََّزٌه عن الرؤية، ومُقَدَّسٌ عنها، وإلاَّ فما فائدة التسبيح.
7-قوله }تُبْتُ إِلَيْكَ وَأَنَاْ أَوَّلُ الْمُؤْمِنِينَ{ [الأعراف/143]، يدل على أنَّ سؤالَ الرؤيةِ ذنبٌ.
هذا ويستدل المخالفون على أن الله تعالى سوف يرى في الآخرة بقوله تعالى: }وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ نَّاضِرَةٌ * إِلَى رَبِّهَا نَاظِرَةٌ{ [القيامة/22-23]، وبآيات اللقاء كقوله تعالى: }أَنَّكُم مُّلاَقُوهُ{ [البقرة/223]، }أَنَّهُم مُّلاَقُو اللّهِ{ [البقرة/249] و }إِنَّهُمْ عَن رَّبِّهِمْ يَوْمَئِذٍ لَّمَحْجُوبُونَ{ [المطففين/15]، وبأحاديثَ رووها عن النبي ـ صلى الله عليه وآله وسلم ـ كحديث: ((سترون ربكم يوم القيامة كالقمر ليلة البدر)).
والجواب على ذلك أن التفسير لقوله تعالى: { إِلَى رَبِّهَا نَاظِرَةٌ } [القيامة/23]، عند أهل البيت ـ عليهم السلام ـ أنَّ الوجوه منتظرةٌ لرحمة الله، فالنظر في الآية بمعنى الانتظار.
وأما آيات اللقاء: فليس فيها ذكر الرؤية، والتفسير الصحيح أن لقاء الله: بمعنى لقاء جزائه.
وأما الأحاديث: فهي من الأحاديث التي لا يجوز بناء العقائد عليها، وذلك أنها من روايات الآحاد، وهي لا تُفيدُ إلا الظنَّ عند تكامل شروط الصحة، والمطلوب هنا هو العلم.
{قل هو الله أحد} (1/14)
قال الله تعالى: }فَاعْلَمْ أَنَّهُ لا إِلَهَ إِلاَّ اللَّهُ{ [محمد/19]، وقال تعالى: }شَهِدَ اللّهُ أَنَّهُ لاَ إِلَهَ إِلاَّ هُوَ وَالْمَلاَئِكَةُ وَأُوْلُواْ الْعِلْمِ قَآئِمَاً بِالْقِسْطِ لاَ إِلَهَ إِلاَّ هُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ{ [آل عمران/18]، وقال تعالى: }لَوْ كَانَ فِيهِمَا آلِهَةٌ إِلاَّ اللَّهُ لَفَسَدَتَا{ [الأنبياء/22] وقال تعالى: }أَمْ جَعَلُواْ لِلّهِ شُرَكَاء خَلَقُواْ كَخَلْقِهِ فَتَشَابَهَ الْخَلْقُ عَلَيْهِمْ قُلِ اللّهُ خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ وَهُوَ الْوَاحِدُ الْقَهَّارُ }
نعم! ما نراهُ من المخلوقاتِ يدلُ على إلهٍ واحدٍ، وخالقٍ واحدٍ، وذلك أن المخلوقاتِ على اختلافِ أنواعِها وكثرتِهَا مترابطةٌ بعضها ببعضٍ، ومُسَخَّرَةٌ لغايةٍ واحدةٍ، وغَرَضٍ واحدٍ، وحكمةٍ واحدةٍ، ومصلحةٍ واحدةٍ.
فالإنسانُ يعيشُ على ظهر الأرضِ، وكلُّ ما نراه على الأرضِ لمصلحةِ الإنسانِ، فالحيواناتُ مسخرةٌ لمصلحةِ الإنسانِ، فهو ينتفعُ بالأكلِ من لحمها، وبالركوبِ عليها، وبالحراثة، وينتفعُ بأصوافها، وكذلك تربةُ الأرضِ ينتفعُ بها الإنسانُ في الزراعةِ واستخراجِ الثمراتِ، وينتفعُ بالأشجارِ والفواكهِ والثمارِ، وكذلك الماءُ يَشْرَبُهُ الإنسانُ والحيوانُ والنباتُ، وتستخرجُ به الثمراتُ والحبوبُ، وتُطَهَّرُ الأبدانُ والثيابُ، ويُستخرجُ منه لحومُ الأسماكِ، واللؤلؤُ والمرجانُ، ويَرْكبُهُ الإنسانُ في التنقلِ، وتنشأُ منه السحابُ الثِّقَالُ التي تَحْمِلُ الأمطارَ من بلدٍ إلى بلدٍ، والشمسُ كذلك مسخرةٌ لمصلحةِ الإنسانِ، ولا تستقيمُ الحياةُ على وجهِ الأرضِ بدونها، وكذلك الهواءُ والأمطارُ والقمرُ والنجومُ، فكلُّ ذلك يدلُ على صانعٍ واحدٍ حكيمٍ. (1/15)
هذا ولم نَرَ أو نسمعْ عن إلهٍ آخرَ يدَّعِي الإلهية، ولو كان ثَمَّ إلهٌ آخرُ لأتتنا رسلُهُ، وأنزلَ كتبَهُ، والذي سمعناه هو دعوى المشركين الإلهية للأصنام، وهي حجار منحوتةٌ من الجبال لا تَسمعُ ولا تُبْصِرُ، ولا تضر ولا تنفع، وكذلك دعوى النصارى الإلهية لعيسى بن مريم، ودعوى اليهود أن عزير بن الله، وهنالك دعاوى كثيرة فمن الناس من يعبد البقر، وآخرون نوعاً من الشجر، وآخرون يعبدون الفروج إلى غير ذلك وبطلان إلهية ما ذكرنا واضح البطلان.
[عدل حكيم] (1/16)
معنى ذلك: أن الله تعالى لا يفعل القبيح، وكل أفعاله صادرة عن حكمة، وكلها أيضاً حسنة لا يوجد فيها قبيح.
والدليل على أنه تعالى كذلك من جهة العقل: أن الفعل القبيح لا يقع إلاَّ لواحد من أمرين، أو كليهما:
1-الجهل بقبح الفعل.
2- الحاجة إلى ذلك الفعل القبيح.
وهذان الأمران منتفيان عن الله تعالى، فإنه تعالى عالم بجميع القبائح }لا تَخْفَى مِنكُمْ خَافِيَةٌ{ [الحاقة/18]، وغنيٌّ عن فعلها، وقد قدمنا الدليل على غناهُ، ونفيِّ الحاجة عنه تعالى، وهو عالِمٌ أيضاً بأنه غني عنها، وكلُّ من كان كذلك فإنه لا يقع منه فعل القبيح.
هذا وقد أجمعت كلُّ طوائف المسلمين على أن الله تعالى عدل حكيم }لاَ يَظْلِمُ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ وَإِن تَكُ حَسَنَةً يُضَاعِفْهَا وَيُؤْتِ مِن لَّدُنْهُ أَجْرًا عَظِيمًا{ [النساء/40].
غير أن بعض هذه الطوائف نَقَضَتْ هذا الأصل المجمع عليه فقالت: إن كل فاحشة يفعلها العباد من كفر وفسوق وعصيان وكذب وباطل وزور كل ذلك من فعل الله، وأن الله تعالى هو الذي خلق ذلك وفعله وأراده وشاءه وقدَّرَهُ وقضاه، فنسبوا كلَّ ذلك إلى العدل الحكيم، واتهموه بفعله و...إلخ
ثم قالوا: إن الله تعالى سيعذب العباد على ذلك، فنفوا بقولهم هذا عن الله تعالى العدل والحكمة، ونسبوه إلى فعل الظلم والقبائح والكذب و…إلخ، فعطَّلوا العدل والحكمة عن معانيها، وأكفؤا الإناءَ بما فيه، فلم يتركوا للعدل والحكمة عين ولا أثر، ولَم يَبْقَ لهم من ذلك سوى تنزيه الله تعالى بالحروف والألفاظ، فنزهوه تعالى بنفي الظاء واللام والميم، وأثبتوا له تعالى العين والدال واللام و..إلخ
فمذهَبُهُم هذا مذهبٌ مُخَالفٌ للعدلِ والحكمةِ تماماً، إذ كيف يأمر الله تعالى بما قد خَلَقَهُ، أو ينهى عن ما قد خلقه، وأيُّ فائدةٍ في إرسالِ الرسلِ، وإنزالِ الكتبِ. (1/17)
ومما يدل على بطلان مذهبهم:
أنَّ الإنسان يَلْحَقُهُ حُكْم فعله من المدح والثناء والذم والاستهزاء والثواب والجزاء.
وأنَّ الإنسان يحصل منه الفعل على حسب إرادته.
فكلُّ هذا يدلُ على أن الفعل من الإنسان لا من الواحد الرحمن.
وأن الله تعالى قد أضاف أفعال العباد إليهم فقال: }يكسبون{، }يمكرون{، }يفعلون{، }يصنعون{، }يكفرون{، }وتخلقون إفكاً{، ونحو ذلك في القرآن كثير.
فالحقُّ الذي تؤيده فِطَرُ العقولِ، وتشهد له الحكمةُ والعدلُ، وتنادي بصحته آياتُ القرآن: أنَّ الإنسان هو الذي يفعل الطاعة أو المعصية باختياره وإرادته ومشيئته، وأن المكلف قادرٌ على فعل ذلك وعلى تركه، وأن الله تعالى منزه عن فعل معاصي العباد فلم يَخْلُقْها ولم يشأْها ولم يردها، وأن العصاة فعلوا العصيان من قِبَلِ أنفسهم وباختيارهم وإرادتهم، وأن الله تعالى قد هداهم النجدين، ومَكَّنَهُم في الحالين، لَم يَمْنَعْهُم عن المعاصي جَبْرَاً، ولَم يُدْخلْهُم في الطاعات قَهْراً، وأنَّه لو شاء ذلك لفعله كما قال تعالى: }وَلَوْ شَاء رَبُّكَ لآمَنَ مَن فِي الأَرْضِ كُلُّهُمْ جَمِيعًا{ [يونس/99]، يريد به تعالى مشيئة الإجبار، إذ لو أكرههم لبطلَ التكليفُ.
{ولا تزر وازرة وزر أخرى} (1/18)
المعنى في ذلك: أنَّ الله تعالى لا يُعذبُ أحداً إلا بذنبه، ولا يعاقبه بذنب غيره، والدليل على ذلك من جهة العقل: أنَّ عقابَ مَنْ لا ذنبَ له ظلمٌ، وكذلك عقابُهُ بذنب غيره، والظلمُ قبيحٌ، وهو تعالى لا يفعل القبيح كما تقدم، وقد قال تعالى: }إِنَّ اللّهَ لاَ يَظْلِمُ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ وَإِن تَكُ حَسَنَةً يُضَاعِفْهَا وَيُؤْتِ مِن لَّدُنْهُ أَجْرًا عَظِيمًا{ [النساء/40]، وقال: }وَمَا ظَلَمْنَاهُمْ وَلَكِن كَانُوا هُمُ الظَّالِمِينَ{ [الزخرف/76] وقال تعالى: }وَلاَ تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى{ [الأعراف/164]، إلى غير ذلك.
{لا يكلف الله نفساً إلا وسعها}
من مقتضى العدل والحكمة أن الله تعالى لا يُكَلَّفُ أحداً إلا ما يطيقُ، وذلك أن تكليفَ ما لا يطاق قبيحٌ، وهو تعالى لا يفعل القبيح كما قدمنا، وقد قال تعالى: }لاَ يُكَلِّفُ اللّهُ نَفْسًا إِلاَّ وُسْعَهَا{ [البقرة/286]، والوسعُ: دون الطاقة، وقال: }لا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلاَّ مَا آتَاهَا{ [الطلاق/7]، وقال تعالى: }يُرِيدُ اللّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلاَ يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ } [البقرة/185].
{والله يقضي بالحق} (1/19)
تدل هذه الآية أن الله لا يقضي بالباطل والكفر والفساد، ومن هنا فلا يجوز القول بأن المعاصي بقضاء الله تعالى ويراد بذلك أنه خلقها أو أمر بها أو أرادها أو شاءها، وقد يراد بالقضاء العلم فيقال: إن المعاصي بقضاء الله أي أنه تعالى عالم بها، وقد قال تعالى: }وَاللَّهُ يَقْضِي بِالْحَقِّ{ [غافر/20]، وقال تعالى:}وَمَا اللَّهُ يُرِيدُ ظُلْمًا لِّلْعِبَادِ{ [غافر/31]، وقال:}وَلا يَرْضَى لِعِبَادِهِ الْكُفْرَ{ [الزمر/7]، }وَاللّهُ لاَ يُحِبُّ الفَسَادَ{ [البقرة/205]، فكلُّ ذلك يدلُ على أن الله تعالى لا يُريدُ شيئاً من القبائحِ، ولا يحبه ولا يرضاه ولا يشاؤه، وقد تقدم الدليل الدالُ على أن الله تعالى لا يفعلُ القبيحَ، وإرادةُ القبيحِ قبيحةٌ.
{يريد الله بكم اليسر ولا يريد بكم العسر}
من مُقْتَضَى الحكمةِ: أنَّ الله تعالى لا يفعلُ لعباده ولا يُكَلِّفُهُم إلا بِما يَدعوهم إلى الفلاحِ، ويُكْسِبُهُم الصلاحَ سواء كان ذلك محنةً أو نعمةً أو تكليفاً، وذلك لأنَّه تعالى حكيمٌ، والحكيمُ لا يَفعلُ إلاَّ ما هو صوابٌ ومصلحةٌ، فكلُّ ما نرى مِنْ الأمراضِ والمِحَنِ والخوفِ والأمنِ والفقر ِوالغنى والخصبِ والجدْبِ و...إلخ.
أمَّا النِّعَمُ: فوجهُ الحكمةِ فيها ظاهرٌمَكْشوفٌ.
وأمَّا الْمِحَنُ: ففيها موعظةٌ وذكرى واعتبارٌ، وتماماً كما قال الله تعالى: }ذَلِكَ وَبَلَوْنَاهُمْ بِالْحَسَنَاتِ وَالسَّيِّئَاتِ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ{ [الأعراف/168] }فَلَوْلا إِذْ جَاءهُمْ بَأْسُنَا تَضَرَّعُواْ{ [الأنعام/43] }أَوَلاَ يَرَوْنَ أَنَّهُمْ يُفْتَنُونَ فِي كُلِّ عَامٍ مَّرَّةً أَوْ مَرَّتَيْنِ ثُمَّ لاَ يَتُوبُونَ وَلاَ هُمْ يَذَّكَّرُونَ{ [التوبة/126]، وهذا بالإضافةِ إلى ما أَعَدَّ الله للصابرين، وقد يكونُ بعضُ المصائبِ عقاباً، كما قال الله في سورة سبأ وقصتهم }ذَلِكَ جَزَيْنَاهُم بِمَا كَفَرُوا وَهَلْ نُجَازِي إلاَّ الْكَفُورَ{ [سبأ/17]. (1/20)
[{مُّحَمَّدٌ رَّسُولُ اللَّهِ} صلى الله عليه وآله وسلم]
الدليل على نبوة محمد ـ صلى الله عليه وآله وسلم ـ: أنَّه ـ صلى الله عليه وآله وسلم ـ حين ادَّعَى النبوةَ أرْدَفَ دعواهُ بالبرهانِ القاهرِ، وهو القرآن، فقد تحداهم ـ صلى الله عليه وآله وسلم ـ حين كَذَّبوا دعواهُ بأنْ يأتوا بِمثلِهِ، أو بعشرِ سورٍ مِنْ مِثْلِهِ، ثم بأنَّ يأتوا بسورةٍ مِنْ مِثْلِهِ، فعرفنَا حينَ لَمْ يأتوا بشيءٍ من ذلك مع شدةِ عداوتِهِم لهُ، وحرصِهِم الكبيرِ على إبطالِ دعوتِهِ أنَّه نبيٌّ صادقٌ، وأنَّ القرآنَ مِنْ كلامِ الله تعالى.
هذا والمعلومُ أنَّ النبيَّ ـ صلى الله عليه وآله وسلم ـ نشأَ في مكةَ، ولَمْ يُخَالِطْ في نشأتِهِ الحكماءَ والعلماءَ ولا أهلَ الكتابِ، ولا عرفَ الفلاسفةَ، وأهلَ الأَخبارِ، فعلِمْنَا حينَ جاءَ بالقرآنِ وقرأَهُ على النَّاسِ، وفيه أخبارُ الأنبياءِ والمرسلين، وأخبارُ كثيرينَ مِن الأُمَمِ الماضيةِ، وفيه: الحديثُ عن بدءِ الخلقِ، وقصةِ الملائكةِ، وإبليسَ، وآدمَ، وأخبارِ أهلِ الكتابِ، و…و…الخ، عَرَفْنَا حينئذٍ أَنَّه نبيٌّ صادقٌ؛ إذْ لو لَمْ يكنْ صادقاً لَكَشَفَ أهلُ الكتابِ وأهلُ العِلْمِ عن كَذِبِهِ، ونَّدَدوا بذلك، فَلَّمَّا لَمْ يكنْ شيءٌ مِن ذلك عَلِمْنَا أَنَّه نبيٌّ صادقٌ. (1/21)
وكذلك فإنَّ القرآنَ قد اشتملَ على كثيرٍ من الآياتِ التي تَحدثتْ عَمَّا يُسِّرُهُ المنافقونَ وغيرُهُم، فلو لَم يكنِ الحالُ كذلك لَسَارَعوا إلى التنديدِ به، وبتكذيبِهِ في ذلك، ومن هنا قال الله تعالى: { يَحْذَرُ الْمُنَافِقُونَ أَن تُنَزَّلَ عَلَيْهِمْ سُورَةٌ تُنَبِّئُهُمْ بِمَا فِي قُلُوبِهِم } [التوبة/64].
هذا، وفي القرآنِ شيءٌ كثيرٌ مِمَّا يدلُ على نبوةِ النبيِّ ـ صلى الله عليه وآله وسلم ـ، وأنَّ القرآنَ كلامُ الله تعالى، والغرضُ هنا هو الاختصارُ.
من هنا فيجبُ التصديقُ بنبوةِ النبيِّ ـ صلى الله عليه وآله وسلم ـ، والتصديقُ بأنَّ القرآنَ كلامُ الله تعالى، والتصديقُ بكلِّ ما جاءَ في القرآنِ، وامتثالُ أوامرِهِ، والانتهاءُ عند نواهيِهِ.
وكذلك يَجبُ الإيمانُ والتصديقُ بأنَّ الله الذي جعلَهُ وفَعَلَهُ، وخَلَقَهُ وفَصَّلَهُ، وأَنَّه كلامٌ مُحْدَثٌ ليس بِقَدِيمٍ كما يقوله بعض الطوائف؛ لقوله تعالى: { مَا يَأْتِيهِم مِّن ذِكْرٍ مَّن رَّبِّهِم مُّحْدَثٍ إِلاَّ اسْتَمَعُوهُ وَهُمْ يَلْعَبُونَ } [الأنبياء/2]. (1/22)
وأَنَّه كُلَّهُ حقٌ لا باطل فيه، لقوله تعالى: { وَإِنَّهُ لَكِتَابٌ عَزِيزٌ * لا يَأْتِيهِ الْبَاطِلُ مِن بَيْنِ يَدَيْهِ وَلا مِنْ خَلْفِهِ تَنزِيلٌ مِّنْ حَكِيمٍ حَمِيدٍ } [فصلت/42-42].
وأَنَّه لا تناقضَ فيه ولا اختلاف { وَلَوْ كَانَ مِنْ عِندِ غَيْرِ اللّهِ لَوَجَدُواْ فِيهِ اخْتِلاَفًا كَثِيراً } [النساء/82].
[الإيمان بالكتب والرسل والملائكة]
يَجبُ الإيمانُ والتصديقُ بكلِّ ذلك، وقد أخبرَ الله في كتابِهِ كيفَ كان إيمانُ النبيِّ ـ صلى الله عليه وآله وسلم ـ والمؤمنين، فقال تعالى { آمَنَ الرَّسُولُ بِمَا أُنزِلَ إِلَيْهِ مِن رَّبِّهِ وَالْمُؤْمِنُونَ كُلٌّ آمَنَ بِاللّهِ وَمَلآئِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ لاَ نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِّن رُّسُلِهِ وَقَالُواْ سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا غُفْرَانَكَ رَبَّنَا وَإِلَيْكَ الْمَصِيرُ } [البقرة/285].
ومن أشهر الملائكة: جبريلُ وميكائيلُ وعزرائيلُ وحَمَلَةُ العرشِ، قال تعالى: { الَّذِينَ يَحْمِلُونَ الْعَرْشَ وَمَنْ حَوْلَهُ يُسَبِّحُونَ بِحَمْدِ رَبِّهِمْ وَيُؤْمِنُونَ بِهِ وَيَسْتَغْفِرُونَ لِلَّذِينَ آمَنُوا } [غافر/7]، وقال تعالى: { وَإِنَّ عَلَيْكُمْ لَحَافِظِينَ * كِرَامًا كَاتِبِينَ * يَعْلَمُونَ مَا تَفْعَلُونَ } [المطففين/10-12]. (1/23)
ومنهم الموَكَّلُونَ بقبضِ الأَرْواحِ، وغير ذلك مِمَّا قَصَّ الله علينا ذِكْرَهُ في القرآنِ، وقد يَكْفي الإيمانُ والتصديقُ بِهم جُمْلَةً.
ورسلُ الله ـ صلواتُ الله عليهم ـ أولُهُم آدمُ – أبو البشر- صلوات الله عليه ـ، ومنهم إدريسُ ونوح وإبراهيم وإسماعيل وإسحاق ويعقوب والأسباط وموسى وعيسى وهود وصالح وشعيب، وممن ذكر الله أيضاً في القرآن: هارون وأيوب ولوط ويوسف وزكريا ويحيى وغيرهم ممن ذكرهم الله، وكثيرٌ منهم لَم يذكرهم الله في القرآن قال تعالى: { مِنْهُم مَّن قَصَصْنَا عَلَيْكَ وَمِنْهُم مَّن لَّمْ نَقْصُصْ عَلَيْكَ } [غافر/78]، وقد يكفي الإيمانُ والتصديقُ بهم جملةً، كما حكى الله تعالى في قوله تعالى: { آمَنَ الرَّسُولُ بِمَا أُنزِلَ إِلَيْهِ مِن رَّبِّهِ وَالْمُؤْمِنُونَ كُلٌّ آمَنَ بِاللّهِ وَمَلآئِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ.. } [البقرة/285].
وأما الإيمان بالقدر فالمراد به: أنَّ أفعالَ الله تعالى مُشْتَمِلَةٌ على الإتقانِ والحكمةِ والمصلحةِ، وكذلك أوامرُهُ ونواهيه، وليس المراد بذلك: أنَّه تعالى هو الذي خَلَقَ الكفرَ والفسادَ والظلمَ ومعاصيَ العباد ـ تعالى الله عما يقولون علواً كبيراً ـ. (1/24)
[أهل البيت ـ عليهم السلام ـ]
أهلُ البيتِ ـ عليهم السلام ـ معروفون، لا يُنازعهم اليوم في هذا الاسم مُنازعٌ، أولهم بعد النبي ـ صلى الله عليه وآله وسلم ـ (علي بن أبي طالب) ـ عليهم السلام ـ، ولا يَنْقَطِعُونَ ما بقيَ التكليفُ، وتماماً كما قال أميرُ المؤمنين في نهج البلاغة:((فهم باقون ما بقي التكليف))، والواقعُ يُصَدِّقُ مقالَ أميرِ المؤمنين ـ عليه السلام ـ، فما زال بيتُ النبي ـ صلى الله عليه وآله وسلم ـ معموراً بالعلماء المُعْلِنينَ بالدعوة إلى الحق إلى اليوم، على منهاجٍ واحدٍ، وطريقةٍ واحدةٍ، وعقيدةٍ واحدةٍ.
فعلماءُ أهلِ البيتِ ـ عليهم السلام ـ اليوم أمثال الحجة (مجد الدين المؤيدي)، وتلميذه (الحسين بن يحيى الحوثي)، هم صورة تُمَثِّلُ عليَّ بنَ أبي طالبٍ وعقيدتَهُ، ودينَهُ وطَرِيقَتَهُ.
وفرض الله تعالى على هذه الأمة محبة أهل هذا البيت ومودتهم واتِّبَاعهم، وأخبرَ أنهم أهلُ الحقِّ، وقرناءُ الكتابِ، وسفينةُ نوحٍ، وأنَّ مُتَبِعَهُم ناجٍ، ومُخالِفَهُم ضالٌ غاوٍ و.....الخ.
وأدلةُ ما ذكرنا كثيرةٌ في الكتابِ والسنةِ، وقد ألَّفَ العلماءُ فيها مؤلفاتٍ كثيرةً وشهيرةً، مثلُ: الشافي للإمامِ المنصورِ بالله عبد الله بنِ حمزةَ ـ عليهما السلام ـ، وكتاب لوامع الأنوار لشيخنا حجةِ الزَّمان مَجدِ الدِّينِ بنِ مُحَمَّدٍ المؤيدي ـ أيَّده الله تعالى ـ، وغيرُ ذلك كثيرٌ، ولو لَمْ يَرِدْ في ذلك من الأدلةِ إلاَّ حديث الثقلين المجمع على صحته بين المسلمين لكفى وأغنى، وهو قوله ـ صلى الله عليه وآله وسلم ـ: ((إني تارك فيكم ما إن تمسكتم به لن تضلوا من بعدي أبداً: كتابَ الله وعترتي أهلَ بيتي، إنَّ اللطيفَ الخبيرَ نبأني أنهما لن يفترقا حتى يَرِدا عليَّ الحوض))، وممن رواه من أهلِ السنةِ: مسلمٌ في صحيحه وغيره بحيث لا يكادُ يخلو من ذكره كتابٌ من كتبِ الحديثِ عند أهلِ السنةِ. (1/25)
وليس غرضُنا هنا سردَ الأدلةِ في هذا الباب من الكتاب والسنة، فكثرةُ المؤلفاتِ في هذا الباب تكفي كما ذكرنا، ولو لَمْ يَرِدْ شيءٌ من الأدلة لكان ينبغي لآل محمد ـ صلى الله عليه وآله وسلم ـ الذي هو أفضلُ الأنبياءِ والمرسلينَ وخاتمهم: أنْ يكونوا أفضلَ من آلِ عمران وآلِ إبراهيم الذين قال الله عنهم: { إِنَّ اللّهَ اصْطَفَى آدَمَ وَنُوحًا وَآلَ إِبْرَاهِيمَ وَآلَ عِمْرَانَ عَلَى الْعَالَمِينَ{ [آل عمران/33]، وقال: }فَقَدْ آتَيْنَا آلَ إِبْرَاهِيمَ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَآتَيْنَاهُم مُّلْكًا عَظِيمًا{ [النساء/54]،كيف؟! وقد قال الله تعالى: }إِنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيُذْهِبَ عَنكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيرًا{ [الأحزاب/33]، وقال: }قُل لا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْرًا إِلاَّ الْمَوَدَّةَ فِي الْقُرْبَى{ [الشورى/23]، وشَرَعَ الله تعالى الصلاةَ عليهم مع أبيهم في الصلاةِ إلى ما لا يَكادُ يَدْخُلُ تحت الحصرِ من السنةِ المتفقِ على صحتها بين علماءِ الإسلامِ. (1/26)
[القول الفصل] (1/27)
نعم! الأدلةُ قد قضتْ بأنَّه لا تَتمُّ حقيقةُ الإيمانِ والإسلامِ إلا لِمَنْ دَخَلَ في دائرةِ أهلِ البيتِ ـ عليهم السلام ـ، وحَكَمَتْ أيضاً على مَنْ خَرَجَ مِنْ دائرتهم بالضلالِ والنفاقِ، وقد كَثُرَتْ في ذلك الأدلةُ كثرةً عظيمةً حتى أنَّه جاء عن النبيِّ ـ صلى الله عليه وآله وسلم ـ في ذلك أكثر مِمَّا جاءَ في الصلاةِ والصيامِ والحجِّ من كتبِ أَهلِ السنةِ وحدهم، من غير ما جاء في الكتاب الكريم وحديث الشيعة، هذا في حين أنه لَمْ يَرِدْ عن الله تعالى في كتابِهِ أو عن رسولِهِ ـ صلى الله عليه وآله وسلم ـ حَرْفٌ واحدٌ يؤيدُ مذهبَ الأَشْعَرِيةِ أو المُجْبِرَةِ أو الوهابية، أو المُعْتَزِلَةِ، أو غيرهم، اللهم إلاَّ دعوى كلٍّ منهم أنَّه على الكتابِ والسنةِ، أو أنَّه على ما كان عليه النبيُّ ـ صلى الله عليه وآله وسلم ـ وأصحابه، أو أنَّه على مذهبِ السلفِ، غير أنهم لَمْ يأتوا على دعاويهم بِحججٍ وبيناتٍ وبراهين، ونقول لهم كما قال الله تعالى: { قُلْ هَاتُواْ بُرْهَانَكُمْ إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ } [البقرة/111].
[أساس الإسلام]
وصدق الرسول ـ صلى الله عليه وآله وسلم ـ حين قال: ((وأساسُ الإسلامِ حُبُّنَا أهلَ البيتِ))، أو كما قال، فإنَّ من أحب أهلَ البيت وتولاهم يوفقه الله تعالى إلى المعارف الحقيقية بالله تعالى و.و.إلخ.
إذاً فحقيقةُ الإسلامِ الذي جاء به النبي ـ صلى الله عليه وآله وسلم ـ لا يوجدُ على الإطلاقِ إلاَّ في دائرةِ أهلِ البيتِ ـ عليهم السلام ـ، أمَّا ما كانَ خارج هذه الدائرةِ فإنه إسلامٌ مَدْخولٌ، ودينٌ مَرْذولٌ، وتماماً كما قال ـ صلى الله عليه وآله وسلم ـ في حديثِ السفينةِ ((إنما مَثَلُ أهلِ بيتي فيكم كَمثل سفينةِ نوحٍ: مَنْ رَكِبَها نَجا، ومَنْ تَخلَّفَ عنها غَرِقَ وهوى))، وهذه الأدلةُ وغيرُها تَردُّ على الإمامية الذين يَدَّعُونَ أنَّ المرادَ بذلك: اثنا عشرَ شخصاً لا غير، ونقولُ لهم: }قُلْ هَاتُواْ بُرْهَانَكُمْ إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ{ [البقرة/111]، هاتوا آيةً من كتابِ الله، أو حديثاً مُجْمَعَاً على صحتِهِ بين طوائفِ المسلمين. (1/28)
[توضيح وزيادة بيان] (1/29)
مِمَّا بَيَّنَهُ النبيُّ ـ صلى الله عليه وآله وسلم ـ وَشَرَعَهُ لأُمتهِ أنْ يقولوا في الصلاةِ عليه كما جاء في البخاري ومسلمٍ وغيرهِمَا من كتبِ أهلِ السنةِ: ((قولوا: اللهم صلِّ على مُحَمَّدٍ وعلى آل مُحَمَّدٍ، وبارك على مُحَمَّدٍ وعلى آل مُحَمَّدٍ …))، ولا يَحتاجُ مثلُ هذا إلى تعليقٍ، فاللبيبُ يَعْرِفُ أنَّ مَنْ أَمَرَ الله تعالى بالصلاةِ عليه أولَى بالحقِّ مِنْ غيرهِ، وقال الله تعالى: }قُل لا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْرًا إِلاَّ الْمَوَدَّةَ فِي الْقُرْبَى{ [الشورى/23]، فقد فَرَضَ الله تعالى في هذه الآيةِ علَى كُلِّ مسلمٍ مَوَدَّةَ آلِ مُحَمَّدٍ ـ صلى الله عليه وآله وسلم ـ فَرْضَاً، وَحَتَمَهُ حَتْمَاً، وقد روى البخاريُّ ومسلمٌ في صحيحيهما أنَّ المرادَ: مَوَدَّةُ آلِ مُحَمَّدٍ ـ صلى الله عليه وآله وسلم ـ، وكذا غيرهما من أهلِ الحديثٍ.
تَبَيَّنَ مِمَّا سَبَقَ أنَّ أهلَ البيتِ هم أهلُ الحقِّ، وبناءاً عليه فإنه إذا اشتبه على المسلمِ شيءٌ مِنْ دينِهِ وعقيدتِهِ فيكفيه لأنْ يستوضح الحقَّ أنْ يَسألَ أهلَ البيتِ، أو يَنْظُرَ في عقائدهم وأقوالِهِم.
نعم! إذا صَدَقَتِ الموالاةُ لأهلِ البيتِ، وَصَدَقَتِ المحبةُ والمودَّةُ فسيحصلُ عند ذلك الإطمئنانُ والتصديقُ بصحةِ مذاهبهم في أُصولِ الدينِ، وما يَلْحَقُ به.
فإذا عَرَفَ المسلمُ أنَّ أهلَ البيتِ يقولون: إنَّ عليَّ بنَ أَبِي طالبٍ أفضلُ الصحابةِ على الإطلاقِ بعد النبيِّ ـ صلى الله عليه وآله وسلم ـ، وأَنَّهُ الأَوْلَى بالخلافةِ، والمستحقُّ لها بعد النبيِّ ـ صلى الله عليه وآله وسلم ـ، ثُمَّ الحسن، ثُمَّ الحسين، و…إلخ. (1/30)
فإنَّه يَجْزِمُ بصحةِ ذلك، ويعتقدُهُ، وإذا عَرَفَ مَذاهبَهُم في التوحيدِ والعَدْلِ والإمامةِ والشَّفَاعةِ و…إلخ اعتقدَ ذلك، ودَانَ به، وجَزَمَ بصحتِهِ، وإذا والَى أهلُ البيتِ أحداً والاهُ، وإذا عادوا أحداً عاداه، وأنَّ الذين تَقَدَّمُوا علياً ـ عليه السلام ـ بالخلافةِ قد تَقَدَّمُوهُ بغيرِ حَقٍّ، وأَنَّهُم أَخَذُوا ما ليس لهم.
وأنَّ إمامةَ الثلاثةِ الذين هم: عليٌّ والحسنانِ ثابتةٌ بالنَّصِّ.
وأنَّ الإمامةَ مِنْ بَعدهما مَحْصُورَةٌ في أولادِ الحسنين، وأنَّ طَريقَهَا مِنْ بعدِ الثلاثةِ: الدعوةُ والقيامُ مِمَّن جَمَعَ شروطَهَا التي مِنْ أهمها:
كَثْرَةُ العلمِ، والوَرَعُ، والشَّجاعَةُ، والسخاءُ، وجودةُ الرأيِّ، وحُسْنُ التدبيرِ...
[بيان شي من مذاهب أهل البيت عليهم السلام في أُصول الدين] (1/31)
مَذهَبُهُم: أنَّ الله واحدٌ لا شريكَ له، ولا مَثيلَ ولا نَظيرَ، وأنَّه تعالى لا يَتَّصِفُ بصفاتِ المخلوقاتِ على الإطلاقِ، فليس تعالى بذي مكانٍ، وليس بِجسمٍ.
وعليه: فليس له يدانِ ولا قدمانِ، ولا جنبٌ ولا وجهٌ وعينانِ، ولا لسانٌ وشفتانِ، ولا يُوصفُ تعالى بالطولِ والقِصَرِ، ولا بالصعودِ والنزولِ، ولا المشي والهرولةِ، ولا بالضحكِ والفرحِ، والسرورِ والغضبِ، ولا يتصفُ بالألوانِ، ولا بالسِّنةِ والنومِ، } لَمْ يَلِدْ وَلَمْ يُولَدْ * وَلَمْ يَكُن لَّهُ كُفُوًا أَحَدٌ{، }لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيءٌ{ [الشورى/11] }لاَّ تُدْرِكُهُ الأَبْصَارُ وَهُوَ يُدْرِكُ الأَبْصَارَ{ [الأنعام/103]، لا يُرَى سبحانه لا في الدنيا ولا في الآخرةِ.
وأنَّ ما جاء من ذلك في القرآنِ فله عند الراسخين في العلمِ من أهل البيتِ تفسيرٌ وتأويلٌ، يشهدُ بصحتها لغةُ العربِ العَرْبَاءِ التي نَزَلَ القرآنُ بلغتهِم، ويشهدُ أيضاً بصحتها أولوا الألبابِ الزكيةِ الذين لَمْ يُدَّنِسُ عُقولَهُم التقليدُ الأعمَى، والخرافاتُ، والعقائدُ الوَهْمِيَّةُ الموروثةُ عن معاويةَ وبني أُميَّةَ، وبني العباسِ.
وهو قادر على كُلِّ شيءٍ إذا أرادَ شيئاً كان لا بآلةٍ ولا بحركةٍ وسكونٍ.
وعالِمٌ بكُلِّ شيءٍ، لا تَخْفَى عليه خافيةٌ، يَسْمَعُ ويَرى لا بآلةِ سَمْعٍ وبَصَرٍ، ويتكلمُ لا بلسانٍ وشفتينِ.
وأنَّ كلامَهُ مُحْدَثٌ غيرُ قديمٍ.
وهو تعالى حيٌّ موجودٌ، ودليلُ ذلك كلِّهِ أنَّ ما نشاهدُهُ من الموجوداتِ والحوادثِ لا بد لها مِنْ خالقٍ حَتْمَاً؛ إذ لا يوجدُ فعلٌ إلاَّ من فاعلٍ، فإذا ثبت أنَّه لا بد من فاعلٍ، فلا بد أن يكونَ موجوداً وحياً وقادراً وعالِمَاً.
وأنَّه تعالى بريءٌ من معاصي العبادِ، لا يشاؤها ولا يريدُها ولا يرضاها ولا يحبها، وأنَّ العصاةَ هم الذين وَقَعُوا في العصيان بفعلهِم وإرادتِهم ومشيئتهم، ليس لله تعالى فيها فعلٌ ولا إرادةٌ ولا مشيئةٌ. (1/32)
وأنَّ علمَهُ تعالى بِمَّا سوف يكونُ من المعاصي وغيرها: سابقٌ غيرُ سائقٍ، بمعنى أنَّ علمَهُ تعالى بِما سيكونُ من معاصي العبادِ ليس هو السببُ في وقوعِها منهم، وإلاَّ لَزِمَ في أفعالِ الله تعالى ما لَزِمَ في أفعالِ العبادِ لِسَبْقِ علمِهِ تعالى بِما سيفعلُهُ هو تعالى، ولا قائلَ بذلك.
وأنَّ الشفاعةَ يومَ القيامةِ تَكونُ خاصةً بالمؤمنينَ دون أهلِ الكبائرِ الذين ماتوا مُصِّرِينَ غيرَ تائبين.
وأنَّه لا يَكْفِي قولُ ((لا إله إلاَّ الله)) بل لا بد مع ذلك من الأعمالِ الصالحةِ، واجتنابِ الأعمالِ السيئةِ، فأمَّا مُجَرَّدُ القولِ مِنْ غيرِ عملٍ فلا يُستحقُّ به ثوابٌ، ولا يُدْفَعُ به عقابٌ، وصاحبُهُ مِنْ أهلِ النَّارِ، اللهم إلاَّ إذا شَهِدَ الكافرُ بشهادةِ الحقِّ ثُمَّ عاجلَهُ الموتُ عقيبها، أو تابَ المسلمُ توبةً نصوحاً ثُمَّ عاجلَهُ الموتُ قَبْلَ أنْ يَتَمَكَّنَ مِنَ الأَعمالِ الصالحةِ، فإنَّه يُرْجَى لهؤلاء رحمة الله، وذلك أنهم لَم يَتمكنوا من الأعمالِ الصالحةِ.
وأنَّ مَنْ دَخَلَ النارَ من الكافرين أو المنافقين، أو من عصاةِ هذه الأمةِ فإنَّه: خالدٌ فيها أبداً لا يَخْرُجُ منها.
وأنَّه لا وثوقَ بالأحاديثِ التي ذكرتْ أنَّ الشفاعةَ لأهلِ الكبائرِ مِنْ هذه الأُمةِ، والتي ذَكَرَتْ أنَّ الموحدين العصاةَ سيَخْرُجونَ مِنَ النارِ، والتي تَحدثتْ عن الصراطِ، والميزانِ، والعرشِ، والكرسيِّ، والرؤيةِ، وكشفِ الساق، وذلك لأنها من أحاديثِ الآحادِ، ورواتها غير ثقاتٍ عند أهلِ البيتٍ ـ عليهم السلام ـ مع مُخالَفَتِها للعقلِ والقرآنٍ. (1/33)
وأنَّ عليَّ بنَ أبِي طالبٍ: أفضلُ الصحابةِ على الإطلاقِ.
وأنَّه المستحقُّ للخلافةِ والإمامةِ بعد النبيِّ ـ صلى الله عليه وآله وسلم ـ، وأنَّ الذين تَقَدَّمُوه قد تقدَّموه بغير حقٍّ، وأنَّهم أخذوا ما ليس لهم.
وأنَّ المستحقَّ للخلافةِ من بعد عليٍّ ـ عليه السلام ـ هو ابنُهُ الحسنُ ـ عليه السلام ـ، ثُمَّ من بعده الحسينُ بنُ عليٍّ ـ عليهما السلام ـ…ثُمَّ …ثُمَّ … إلخ.
وهؤلاء الثلاثةُ استحقوا الخلافةَ بالنص، ولو لَم يكن إلاَّ قولُهُ ـ صلى الله عليه وآله وسلم ـ ((إني تاركٌ فيكم… الحديثَ))، ((عليٌّ مني بِمَنْزِلَةِ هارونَ من موسى...الحديثَ))، ((الحسنُ والحسينُ إمامانِ قاما أو قعدا، وأبوهما خيرٌ منهما))، ((الحسنُ والحسينُ سَيَّدا شبابِ أهلِ الجنةِ)).
وأنَّ أهلَ البيتِ خلفاءُ النبيِّ ـ صلى الله عليه وآله وسلم ـ، بمعنَى: أنَّهم القائمونَ مقامَهُ، فيجبُ لهم ما كان يَجبُ للنبيِّ ـ صلى الله عليه وآله وسلم ـ مِن الطاعةِ والنُّصْرَةِ، وتَحْرِيمِ المخالفةِ، والرجوعِ إليهم، وتعظيمِهِم، وتكريمِهم، ومودَّتِهم، ومُسالَمَةِ مَن سالموا، ومُحارَبَةِ من حاربوا، ووجوبِ النَّصيحةِ في السرِّ والعلنِ و…و….إلخ. (1/34)
وقد صح في الآثار: أنَّ الأرضَ لا تخلو من علماءِ آلِ مُحَمَّدٍ ـ صلى الله عليه وآله وسلم ـ، وها نحن اليوم وقد مضى أكثرُ من ألف وأربعمائة سنة لَم تَمُر فترةٌ من هذا التاريخِ الطويلِ غابَ عنها علماءُ أهلِ البيتِ ـ عليهم السلام ـ.
فهم شهداءُ الله على العبادِ، وحُجَجُهُ عليهم، أَمْرُهُم ظاهرٌ، لا لَبْس فيه ولا ارتياب }لِّيَهْلِكَ مَنْ هَلَكَ عَن بَيِّنَةٍ وَيَحْيَى مَنْ حَيَّ عَن بَيِّنَةٍ{.
وعند أهلِ البيتِ ـ عليهم السلام ـ أنَّ المستحقَّ للخلافةِ من بعد الثلاثةِ هو: مَنْ قامَ ودعا من ذريةِ الحسنِ والحسينِ ـ عليهما السلام ـ جامعاً لشروطِ الخلافةِ كزيدِ بنِ عليٍّ، ويَحيى بنِ زيدٍ، ومُحَمَّدِ بنِ عبد الله، واخوتِهِ، و...إلخ.
وقد يكونُ هناكَ فتراتٌ لا يَظْهَرُ فيها قائمُ آلِ مُحَمَّدٍ ـ صلى الله عليه وآله وسلم ـ لأَسبابٍ وموانعَ هم أعلمُ بها، غير أنَّ حجةَ الله قائمةٌ، وهم المعلنون عنها، وشهداءُ الله وإنْ أغمدوا سيوفهم كما كان عليُّ بن أبي طالب ـ عليه السلام ـ هو الحجةُ بعد النبيِّ ـ صلى الله عليه وآله وسلم ـ عَرَفَهُ مَنْ عَرَفَهُ، وجَهِلَهُ مَنْ جَهِلَهُ.
وقد يقولُ قائلٌ: علماءُ أهلِ البيتِ مُخْتَلِفُونَ اليوم، وقد التبسَ علينا الأَمْرُ، وعميَ علينا الحقُّ. (1/35)
فنقولُ: قد التبسَ الأمرُ مِنْ قَبْلُ، فلَم يُعْرَفِ الحقُّ، هل هو مع عليٍّ ـ عليه السلام ـ أم مع معاويةَ؟!! ثُمَّ هل الحقُّ مع الحسينِ أم مع يزيدَ؟! ومِنْ قَبْلِ ذلك: هل الحقُّ مع النبيِّ ـ صلى الله عليه وآله وسلم ـ أم مع أبي جهلٍ؟!!، وهكذا، مع وضوحِ الحقِّ من الباطلِ وغيره كتميزِّ النهار من الليل.
ولا يلتبسُ ذلك إلاَّ على مَنْ لَبَّسَ على نفسهِ، وهذا النوعُ لا تفيدُهُم الآياتُ والأدلةُ: }وَلَوْ جَاءتْهُمْ كُلُّ آيَةٍ حَتَّى يَرَوُاْ الْعَذَابَ الأَلِيمَ{ [يونس/97].
هذا ولَم يلتبس الحقُّ من الباطلِ منذُ زمانِ النبيِّ ـ صلى الله عليه وآله وسلم ـ إلى اليوم، بل هو في غايةِ الوضوحِ، وكلمةُ الله هي العليا، وكلمةُ الذين كفروا هي السفلَى إلى أنْ يرتفعَ التكليفُ، فالحقُّ واضحٌ وإن ضَعُفَ أَهلُهُ وقلُّوا، والباطلُ واضحٌ وإنْ كَثُرَ أهلُهُ.
[من أسماء الله الحسنى]
سميع: بمعنى عالم بالمسموعات كلها، فلا يفوتُهُ شيءٌ، لا بآلةٍ، ولا يَجوزُ تشبيهُهُ بالحيوانات.
بصير: عالم بالمُبْصَراتِ، يشاهدُها ويراها لا بمعنى ولا بآلةٍ.
رحمن، رحيم، ودود، بَرٌّ، رؤوف: بمعنى أنَّ أفعالَهُ تعالى وأحكامَهُ مَبْنيةٌ على التيسيرِ والتسهيلِ، والمراعاةِ لمصالحِ العبادِ في دينِهِم ودنياهم وآخرتِهم، وليس معنى ذلك رقةٌ في القلبِ كما في الإنسانِ والحيوانِ، إذ أنَّ إثباتَ ذلك تشبيهٌ لله تعالى بِخَلْقِهِ، وذلك لا يَجوزُ.
والدليلُ على ما قلنا من التفسيرِ أنَّ الله تعالى قد قال }لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ{ [الشورى/11]، فلَمَّا رأيناهُ تعالى قد سَمَّى نفسَهُ بتلكَ الأسماءِ كان حَتْمَاً علينا أنْ نُفَسِّرَها بما لا يَتناقضُ مع هذه الآيةِ. (1/36)
… وهكذا كلُّ ما جاء من أسماءِ الله تعالى وصفاتِهِ فيجبُ أنْ يُفَسَّرَ بِمَا لا يتناقضُ مع الآية، وهي قولُهُ تعالى }لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ{ [الشورى/11]، }وَلَمْ يَكُن لَّهُ كُفُوًا أَحَدٌ{ [الإخلاص/4].
فقولُهُ تعالى }غَضِبَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ{ [الفتح/6] }رَّضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ{ [البينة/8]، فلا يَجوزُ أنْ يَفَسَّرَ غَضَبُ الله بفورانِ الدَّمِ، وانتفاخِ الأوداجِ، واحمرارِ العينينِ.
ولا يَجوزُ تفسيرُ الرضى: بانشراحِ الصدرِ، وسكونِ دَّمِ القلبِ، وسرورهِ وهدوءهِ، إذْ أنَّ ذلك كلَّهُ تشبيهٌ ومناقضَةٌ لقولِهِ تعالى تعالى }لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ{ [الشورى/11]، }وَلَمْ يَكُن لَّهُ كُفُوًا أَحَدٌ{ [الإخلاص/4].
بل يُفَسَّرُ الغضبُ: بفعلِ الانتقامِ العاجلِ أو الآجلِ أو كليهما.
ويُفَسَّرُ الرضى: بفعلِ الثوابِ العاجلِ أو الآجلِ أو كليهما، أو الحكمُ بذلك.
ومن أسمائه تعالى:
حليم: ومعنى ذلك: أنَّه تعالى لا يعجلُ بالانتقامِ من العصاةِ، بل يُمْهِلُهُم ويُمِدُّهُم بالنِّعَم.
ولا يجوز أن نُفَسِّرَ ذلك: برزانةِ العقلِ، وهدوءِ الأعصابِ؛ إذ أنَّ ذلك تشبيهٌ وتَمثيلٌ لله تعالى بِخلقه، وقد نفى الله ذلك كما ذكرنا سابقاً.
وقوله تعالى }بَلْ يَدَاهُ مَبْسُوطَتَانِ{ [المائدة/64] قد تولى الله تعالى تفسيرَ ذلك بقوله بعدها مباشرةً }يُنفِقُ كَيْفَ يَشَاء{ [المائدة/64]، ولا يَجوزُ تفسيرُ ذلك: بأنَّ لله يدينِ اثنتينِ يَبْسُطُهما، إذ أنَّ ذلك تشبيهٌ وتَمثيلٌ له تعالى بِخلقه ـ تعالى الله عن الجوارح والأعضاء ـ }لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ{ [الشورى/11]. (1/37)
وقوله تعالى: }تَجْرِي بِأَعْيُنِنَا{ [القمر/14]، بمعنى: تَجْري في حراستنا وحفظنا.
وقوله تعالى: }يَا حَسْرَتَى علَى مَا فَرَّطتُ فِي جَنبِ اللَّهِ{ [الزمر/56]، بمعنى: على ما فَرَّطتُ في طاعةِ الله. إذ التفريطُ إنَّمَا يكونُ في الطاعةِ.
وقوله تعالى: { كُلُّ مَنْ عَلَيْهَا فَانٍ* وَيَبْقَى وَجْهُ رَبِّكَ ذُو الْجَلالِ وَالإِكْرَامِ } [الرحمن/26-27]، معناه: ويبقى ربُّكَ.
وكذلك قوله تعالى { إِنَّمَا نُطْعِمُكُمْ لِوَجْهِ اللَّهِ } [الإنسان/9]، { فَثَمَّ وَجْهُ اللّهِ } [البقرة/115]، ولا يَجوزُ تفسيرُ ذلك بالأعضاءِ والجوارحِ ـ تعالى الله عن ذلك علواً كبيراً ـ.
وقوله تعالى: }وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ نَّاضِرَةٌ * إِلَى رَبِّهَا نَاظِرَةٌ{ [القيامة/22-23] نَاظِرَةٌ بمعنى: منتظرةٌ لرحمةِ الله وثوابِهِ، كما أنَّ وجوهَ العصاةِ تنتظرُ يومئذٍ النِّقْمَةَ الفاقرةَ، والعقابَ الدائمَ.
ولا يَجوزُ أن يُفَسَّرَ ذلك: بأنَّ الله يُرى يومَ القيامة، وذلك أنَّ الرؤيةَ بالعينِ لا تقعُ إلاَّ على المخلوقاتِ، فكلُّ ما يُرى بالعينِ فهو مخلوقٌ مُحْدَثٌ.
والدليل على ذلك: أنَّه لا يُرى بالعينِ إلاَّ ما كان جسماً أو عَرَضَاً، والله تعالى ليس بِجسمٍ ولا عَرَضٍ. (1/38)
[الْمُحْكَمُ والْمُتَشَابهُ]
قال الله تعالى }هُوَ الَّذِيَ أَنزَلَ عَلَيْكَ الْكِتَابَ مِنْهُ آيَاتٌ مُّحْكَمَاتٌ هُنَّ أُمُّ الْكِتَابِ وَأُخَرُ مُتَشَابِهَاتٌ فَأَمَّا الَّذِينَ في قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ فَيَتَّبِعُونَ مَا تَشَابَهَ مِنْهُ ابْتِغَاء الْفِتْنَةِ وَابْتِغَاء تَأْوِيلِهِ وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلاَّ اللّهُ وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ...الآية{ [آل عمران/7]، فقد أخبرَ الله تعالى في هذه الآيةِ: أنَّ في القرآنِ الكريمِ آياتٍ مُحْكَماتٍ هُنَّ أُمُّ الكتابِ، بمعنَى: هُنَّ أَصْلُ الكتابِ، وأنَّ فيه آياتٍ مُتَشابهاتٍ، يَتَّبِعُهَا الذين في قلوبهم زَيغٌ.
وأخبرَ الله تعالى في هذه الآيةِ: أنَّه لا يعلمُ تفسيرَ الآياتِ المتشابهاتِ إلا الله والراسخونَ في العلمِ.
نعم! المسلمونَ اليومَ طوائفُ مُختلفةٌ، وكُلُّ طائفةٍ تقول: قال الله تعالى، وقال الله تعالى، و…إلخ.
وحينئذٍ فالواجبُ على المسلمِ أنَّ يَعْلَمَ أنَّ في القرآنِ المُحْكَمَ والمتشابِهَ، فلا يغترّ بقولهم: قال الله، قال الله، فلعلهم يَستدلونَ بالمتشابِهِ الذي لا يَعلمُ تأويلَهُ إلاَّ الله والراسخونَ في العلمِ.
وحينئذٍ فيجبُ على المسلمِ: أنْ يَتَعَرَّفَ على الراسخين في العلمِ، ويبحثَ عنهم، ويأخذَ تفسيرَ آياتِ الله منهم، وقد قدَّمْنَا بعضَ الأدلةِ على أنَّ الراسخين في العلمِ هم: آلُ مُحَمَّدٍ ـ صلى الله عليه وآله وسلم ـ دون غيرهم من طوائف المسلمين، ولو لَم يكنْ مِن الأدلةِ على ما قلنا إلاَّ آيةُ التطهيرِ، وهي قوله تعالى }إِنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيُذْهِبَ عَنكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيرًا{ [الأحزاب/33]، لكفى في ثبوت ما قلنا، كيف؟! وقد جاء بِمَا يشهدُ لهم بِمَا قلنا ما ضاقتْ عنه الأسفارُ، لكثرته عند أهلِ السنةِ وغيرهم، وكفى بهذه الشهادةِ لهم مِن الله تعالى. (1/39)
نعم! فمن أصولِ الدينِ العظيمةِ: العلمُ بأنَّ أهلَ البيتِ: هم أهلُ الحقِّ، وأنَّهم الراسخون في العلم، وأنَّهم المفسرون للقرآنِ، وأنَّ مَنْ خالفهم فقد وَقَعَ في الضلالِ، والزيغِ والهَلَكَةِ، وإنْ تَمَظْهَرَ بالصلاحِ والصلاةِ والزهدِ والورعِ والعبادةِ وترتيلِ القرآنِ.
وذلك أنَّ مَن خالفهم فقد خالفَ الحقَّ الذي نَزَلَ به جبريلُ من السماءِ على مُحَمَّدٍ ـ صلى الله عليه وآله وسلم ـ، وخالفَ النبيَّ ـ صلى الله عليه وآله وسلم ـ، وخالفَ رَبَّ العالمين، وأنَّ مَنْ أطاعَهُم ودَانَ بدينهم فقد دان بالحقِّ، وأطاعَ الله ورسولَهُ.
نعم! لَمَّا نََزَل قولُ الله تعالى }إِنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيُذْهِبَ عَنكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيرًا{ [الأحزاب/33]، جَمَعَ رسولُ الله ـ صلى الله عليه وآله وسلم ـ علياً وفاطمةَ والحسنَ والحسينَ، وَلَفَّ عليهم كساءاً، ثُمَّ قال ((اللهم هؤلاءِ أهلُ بيتي، فأَذْهِبْ عنهم الرِّجْسَ، وطَهِّرْهُم تَطهيرا))، هكذا رواهُ أهلُ الحديثِ من أهلِ السنةِ وغيرهم، منهم مسلمٌ في صحيحه ذكر ذلك ابنُ كثيرٍ في تفسيرهِ عند تفسير هذه الآية من سورةِ الأحزابِ. (1/40)
[تفسير آيات قد تشتبه معانيها]
}لِمَن شَاء مِنكُمْ أَن يَسْتَقِيمَ * وَمَا تَشَاؤُونَ إِلاَّ أَن يَشَاء اللَّهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ{ [التكوير/28-29] المعنى: أنَّ الله تعالى قد شاءَ للإنسانِ أنْ يَخْتارَ أحَدَ الطريقينِ: طريقَ الهدايةِ، أو طريقَ الضلالةِ، ورغَّبَهُ في طريقِ الهدايةِ غايةَ الترغيبِ، وحَذَّرَهُ من طريقِ الضلالةِ غايةَ التحذيرِ.
فعلى هذا مشيئة البشرِ ليستْ مشيئةً مستقلةً عن مشيئةِ الله تعالى، فقد شاءَ الله للمكلفِ أنْ يَختارَ أيَّ الطريقين.
وقولُهُ تعالى }يُضِلُّ مَن يَشَاء وَيَهْدِي مَن يَشَاء{ [فاطر/8].
نقولُ: إنَّ الهدايةَ والضلالَ من الله تعالى تكونُ نتائجَ لأسبابٍ ومقدماتٍ يَعْمَلُهَا الإنسانُ، فالهدايةُ هي من نتائجِ الأعمالِ الصالحةِ، والإضلالُ هو من نتائجِ الأعمالِ القبيحةِ، وهذا هو ما نَجدهُ واضحاً في قوله تعالى: }وَيَهْدِي إِلَيْهِ مَنْ أَنَابَ{ [الرعد/27]، }وَالَّذِينَ جَاهَدُوا فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا{ [الروم/69]، }وَالَّذِينَ اهْتَدَوْا زَادَهُمْ هُدًى{ [محمد/17]، }يُضِلُّ بِهِ كَثِيراً وَيَهْدِي بِهِ كَثِيراً وَمَا يُضِلُّ بِهِ إِلاَّ الْفَاسِقِينَ * الَّذِينَ يَنقُضُونَ عَهْدَ اللَّهِ مِن بَعْدِ مِيثَاقِهِ وَيَقْطَعُونَ مَا أَمَرَ اللَّهُ بِهِ أَن يُوصَلَ وَيُفْسِدُونَ فِي الأَرْضِ{ [البقرة/26-27]، }كَذَلِكَ يَطْبَعُ اللَّهُ عَلَى كُلِّ قَلْبِ مُتَكَبِّرٍ جَبَّارٍ{ [غافر/35]، }فَلَمَّا زَاغُوا أَزَاغَ اللَّهُ قُلُوبَهُمْ وَاللَّهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الْفَاسِقِينَ{ [الصف/5]، }كَلاَّ بَلْ رَانَ عَلَى قُلُوبِهِم مَّا كَانُوا يَكْسِبُونَ{ [المطففين/14]، }بَلْ طَبَعَ اللّهُ عَلَيْهَا بِكُفْرِهِمْ فَلاَ يُؤْمِنُونَ إِلاَّ قَلِيلاً{ [النساء/155]. (1/41)
نعم! الإضلالُ والطبعُ والزيغُ الذي ذكره الله تعالى هنا فإنه وإنْ حصلَ بسببٍ من الإنسانِ فليس معنى ذلك أنَّ الله تعالى أدخلهم بسببِ معاصيهم في الضلالِ والزيغِ، فهم داخلون في ذلك، بل المعنى أنَّ الله تعالى حَجَبَ عنهم ألطافَهُ، ومَنَعَهُم من توفيقه، ووَكَلَهُم إلى أنفسهم، وعند ذلك تُسَيِّطِرُ عليهم الأهواءُ، وتستولي عليهم شياطينُ الإنسِ والجنِ. (1/42)
[الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر]
يَجبُ الأمرُ بالمعروفِ، والنهيُّ عن المنكر لقوله تعالى }وَلْتَكُن مِّنكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنكَرِ وَأُوْلَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ{ [آل عمران/104].
وإنما يجب ذلك: بشرطِ القُدْرَةِ والتَّمَكُّنِ على ذلك لقوله تعالى }لاَ يُكَلِّفُ اللّهُ نَفْسًا إِلاَّ وُسْعَهَا{ [البقرة/286]، وبشرطِ المعرفةِ بأنَّ ما يأمرُ به واجبٌ، وما ينهى عنه مُحَرَّمٌ، وذلك لأنَّ مَنْ لَم يكنْ كذلك قد يأمرُ بالمنكرِ، وينهى عن المعروفِ، وبشرطِ ألاَّ يُؤدي الأمرُ والنهيُّ إلى زيادةِ المنكرِ؛ لأنه حينئذٍ يكونُ كالإغراءِ بالقبيحِ، وذلك لا يجوز.
ويجبُ أن تكونَ الدعوةُ إلى الله، والأمرُ بالمعروفِ، والنهيُّ عن المنكرِ: باللينِ والرِّفْقِ، وحُسْنِ القولِ لقوله تعالى }ادْعُ إِلِى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ وَجَادِلْهُم بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ{ [الإسراء/125].
ولا يجوزُ ذلك بالمخاشنةِ والمغالظةِ والذَّمِّ، وقد قال الله تعالى لموسى وهارون ـ عليهما السلام ـ حين أرسلهما إلى فرعون: }فَقُولا لَهُ قَوْلاً لَّيِّنًا لَّعَلَّهُ يَتَذَكَّرُ أَوْ يَخْشَى{ [طه/44]. (1/43)
[الإيمان باليوم الآخر]
يَجبُ الإيمانُ والتصديقُ والاعتقادُ بالبعثِ مِنْ بعدِ الموتِ بعث الروحِ والبدنِ، وذلك ليجزيَ الله كلَّ نفسٍ بِمَا كسبتْ، فمن كان من أهل الإيمانِ والتقوى فسينالُ الرحمةَ من الله، والرضوان والمغفرة والإحسان، وسَيُدْخِلُهُ الله تعالى برحمته جناتِ النعيمِ المشتملةِ على ما تشتهيه الأنفسُ، وتَلَذُّ الأعينُ، وأنتم فيها خالدون، وفيها من النعيمِ ما لا يَخْطُرُ على قلبِ بشرٍ.
وقد اشتملَ القرآنُ على كثيرٍ مِمَّا أعدهُ الله تعالى لعبادهِ المؤمنين التائبين، وكلُّ ذلك حقٌّ لا بُدَّ من وقوعه }مَا يُبَدَّلُ الْقَوْلُ لَدَيَّ{ [ق/29]، }إِنَّ اللّهَ لاَ يُخْلِفُ الْمِيعَادَ{، }وَمَنْ أَصْدَقُ مِنَ اللّهِ حَدِيثًا{ [النساء/87].
وكذلك يَجبُ التصديقُ والاعتقادُ: أنَّ مَنْ مات مُصِّرَاً على العصيانِ والكفرانِ فإنَّ له جهنمَ خالداً فيها مُخَلداً في العذاب الأليم، وشرابِ الحميمِ، ومُقَطّعَاتِ النيرانِ، كلما نَضجتْ جلودُهُم بَدَّلَهُم الله جلوداً غيرَها ليذوقوا العذابَ، وكلُّ ما قدمنا مِمَّا لا خلاف فيه.
[المؤمن، والفاسق، والمنافق، والكافر] (1/44)
المؤمن: هو من أتى بالواجباتِ، واجتنبَ المُقَبَّحَاتِ.
والفاسق: هو الذي يَرْتِكِبُ معصيةً كبيرةً، أو يتركُ فريضةً قطعيةً جراءةً وتعمداً.
وحكمُهُ: أنه لا يَخْرجُ من الإسلامِ، فَيُسَمَّى مسلماً، ولا يسمى مؤمناً، بل يُسَمَّى فاسقاً، وظالماً، ومُجْرِماً، وآثماً، وغاشماً، وقد قال الله تعالى: }أَفَمَن كَانَ مُؤْمِنًا كَمَن كَانَ فَاسِقًا لا يَسْتَوُونَ{ [السجدة/18].
هذا وإن كان يُظْهِرُ الإيمانَ ويُبْطِنُ الكفرَ جاز أن نُسَمِّيَهُ مُنافقاً.
والكافر: هو من يُنْكِرُ الصانعَ الحكيمَ، أو يُنْكِرُ شيئاً من أسمائِهِ الحسنى، أو من يُشَبِّهُهُ بِخَلْقِهِ، أو أنَّه يَفْعَلُ المعاصي أو يُريدُها، أو أنَّ له شريكاً، أو يُنْكِرُ الرسولَ ـ صلى الله عليه وآله وسلم ـ، أو شيئاً مما عُلِمَ أنَّه من الدينِ قطعاً.
[فِعلُ الله، وفعلُ العبدِ] (1/45)
أفعالُ الله تعالى هي: أجسامٌ، وما يَلْحَقُها من الأعراض.
وأفعالُ العبيدِ هي: حَرَكاتٌ وسكونٌ لا غير، فالإنسانُ يَجْمَعُ أشياءَ موجودةً، ويَضُمُّ بَعْضَهَا إلى بعضٍ، أو يُفَرِّقُ بينها، ونَحو ذلك مما لا عَمَلَ له سوى الحركاتِ والسَّكَنَاتِ، ثَمَّ يَلْحَقُ الإنسانَ في عَمَلِهِ من التَّعَبِ والنَّصَبِ ما يَلْحَقُهُ، وذلك على حَسَبِ قلةِ العمل وكَثْرَتِهِ، وعلى حَسَبِ أحوالِ الفاعلِ.
أمَّا أَفْعَالُ الله تعالى: فإنها على خلافِ أفعالِ العبدِ، فليس في أفعاله تعالى لا حركة ولا سكون، ولا يَلْحَقُهُ تعبٌ ولا نَصَبٌ، ولا يَحْتاجُ سبحانه إلى آلةٍ ولا أعوان }لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ البَصِيرُ{ [الشورى/11].
{سُبْحَانَ رَبِّكَ رَبِّ الْعِزَّةِ عَمَّا يَصِفُونَ *
وَسَلامٌ عَلَى الْمُرْسَلِينَ *
وَالْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ}
وصلى الله على محمد وآله الطاهرين
تحريراً في العشر الأواخر من ذي الحجة سنة 1420 هـ