الكتاب : الكاشف لذوي العقول

عودة
الكاشف لذوي العقول
عن وجوه معاني الكافل بنيل السؤول تأليف
العلامة شمس الدين أحمد بن محمد لقمان
تحقيق
عبد الكريم أحمد جدبان
بسم الله الرحمن الرحيم
[مقدمة]
الحمد لله الذي شرح صدورنا بمعرفة أصول الأحكام، الفارقة ما بين الحلال والحرام، المنتزعة من الكتاب العزيز وسنة سيد الأنام، والصلاة والسلام على سيدنا محمد المبعوث بشرائع الإسلام، وعلى آله الطاهرين من الأئمة الأعلام، القائمين بما أتى به على ممر الليالي والأيام، صلاة دائمة متصلة ما طلع صباح وهجم ظلام، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له شهادة أنجو بها من الشرك وأدخرها ليوم الزحام، وأن محمدا عبده ورسوله ختام الأنبياء وأيُّ ختام!!
أما بعد: فلما_ كان علم أصول الفقه الذي هو رأس علوم الاجتهاد، التي يهتدي بها إلى محجة الرشاد، وأساسها الذي عليه تبنى وتشاد، من أجَلِّ العلوم الدينية قدرا، وأعظمها خطرا، وأدقها سرا، إذ موضوعه أشرف الموضوعات، وغايته أجَلِّ الغايات، وكان العلماء رحمهم الله تعالى قد وضعوا فيه المصنفات البسيطة والمختصرات، ولم يألوا جهدا في التحقيق، ولا تركوا مجهودا في التدقيق، وكان من جملتها مختصر الشيخ المحقق، النحرير المدقق، شيخ الإسلام، وعماد الأنام، المعروف في جميع الأزمان، محمد بن يحيى بهران، الموسوم بالكافل بنيل السؤول، في علم الأصول، مختصرا من أجلِّ المختصرات، وأكمل المؤلفات، قد رتبه أحسن ترتيب، وقرَّبه أوجز تقريب، وسلك فيه محجة الإنصاف، وتَنَكَّب عن كاهل الإعتساف، تولى مكافأته، وأحسن في الدارين مجازاته _ خطر ببالي أن أجمع عليه ما يجري مجرى الشرح، لتبيين معانيه، وتوضيحها لطالبيه، وأبذل المجهود في توضيحه، وأستفرغ الوسع في تحقيقه وتنقيحه، طالبا من الله الودود الغفور، أن يجعله تجارة لن تبور، وأن ينفع به الطالبين، ويغفر لي يوم الدين، إنه أكرم مسؤول، وأعظم مرجو ومأمول.

(1/1)


وسميته: بالكاشف لذوي العقول، عن وجوه معاني الكافل بنيل السؤول.
ومعتمدي في النقل: منهاج الأصول، إلى معيار العقول، وكذلك القسطاس المقبول، وكذلك النهاية، ، شرح منهاج البيضاوي، وغيرها من كتب هذا الفن.
وأنا معترف بقلة البضاعة، وقصور الباع في هذه الصناعة، فمن تيقن فيه فسادا فأصلحه، فأجره على الله. وهآأنا أشرع في المقصود، بعون الملك المعبود.
فأقول وبالله التوفيق، وأسأله الهداية إلى واضح الطريق، وهو حسبي ونعم الوكيل:
اعلم أنها قد جرت عادة كثير من المصنفين أن يذكروا في مصنفاتهم قبل الشروع في المقصود مقدمة، تتضمن الحدَّ والموضوع والغاية، وبعضهم يزيد على هذه، وبعضهم يقتصر على بعضها، كما فعل المصنف. فإنه اقتصر على الحدِّ.
[تعريف بإصول الفقه]
فقال: (( أصول الفقه هو علم بأصول، يتوصل بها إلى استنباط الأحكام الشرعية الفرعية، عن أدلتها التفصيلية )).
اعلم أن أصول الفقه في الأصل: لفظ مركب من مضاف ومضاف إليه، ومعناه حينئذ الأدلة المنسوبة إلى الفقه، ثم نُقِل عن معناه الإضافي وجعل لقباً. أي: عَلَمًا لفن خاص. من غير نظر إلى آخر. وهو يشعر بأبناء الفقه في الدين عليه، فهو يشعر بالمدح، فإذا تقرر ذلك فلأصول الفقه حدان: حد باعتبار العَلَمِية، وحد باعتبار الإضافية.
أما حده باعتبار العَلَمِية فهو: ما ذكره المصنف.
قوله: (( عِلمٌ )) جنس الحد، وستأتي حقيقته.
وقوله: (( بأصول )) هي: جمع أصل، والأصل والقاعدة والضابط بمعنى واحد .والمراد بها هنا: صور كلية تنطبق على جزئيات، تتعرف أحكامها منها. كما يقال: الأمر للوجوب.فهذا ينطبق على جزئيات كثيرة كـ{ أقيموا الصلاة}{ وآتوا الزكاة}{ وأتموا الصيام إلى الليل} ونحوها من صيغ الأمر.
وكما يقال في القياس مثلا: كل فرع شارك أصلا في علة حكمه، فإنه يجب إلحاقه به. ونحو ذلك.

(1/2)


وقوله: (( يتوصل بها )) أي: بتلك الأصول، فيه دليل على أن هذا العلم إنما هو وصلة إلى غيره، وليس مقصودا بالذات.
وقوله: (( إلى استنباط الأحكام )) أي: استخراجها عن أدلتها. والإستنباط: الإستخراج. قال تعالى: {لعلمه الذين يستنبطونه منهم}.أي: يستخرجونه مما علموه من الأدلة.
(( والأحكام )): جمعُ حُكم، وهي النسب التآمة. كقولنا: الحج واجب، والوتر مندوب، ونحوه. واحترز به عما ليس كذلك .
وقوله: (( الشرعية )) أي: المأخوذة من الشرع. واحترز به من العقلية كالتماثل والاختلاف.
وقوله: (( الفرعية )) أي: التي يتعلق بها كيفية عمل. واحترز به عن الأصلية وهي التي لا يتعلق بها كيفية عمل.
وقوله: (( عن أدلتها التفصيلية )) . متعلق بالإستنباط، واحترز به عن الإجمالية، كمطلق الكتاب والسنة، فلا يستند في إباحة البيع مثلا، إلى كون الكتاب قاطعا يجب العمل به، بل إلى قوله تعالى: { وأحل الله البيع }. فالحكم إنما يستخرج من الدليل التفصيلي، لا الإجمالي كما بينا . فهذا حد أصول الفقه باعتبار كونه علما .
وأما حده باعتبار الإضافة _ وإنما أخرناه لأن المقصود الأهم هنا هو
العلمي، وأما الإضافي فهو وإن كان متقدما وجودا، فهو مذكور هنا تبعا –
فالأصل في اللغة: ما يبتنى عليه غيره، من جامد أو نامٍ.
قيل: وأكثر ما يستعمل في الناميات كأصل الشجرة . وأما الجمادات فيقال: فيها أساس .
وفي الاصطلاح: يطلق على معان ستة منها:
1_ الدليل .كما يقال: الأصل في هذه المسألة الكتاب والسنة . ومنه أصول الفقه أي: أدلته .
2_ ومنها: الرجحان .كما يقال: الأصل في الكلام الحقيقة. أي: الراجح عند السامع. لا المجاز .
3_ ومنها: القاعدة المطَّرِدة . كما يقال: إباحة الميتة للمضطرعلى خلاف الأصل .
4_ ومنها: الصورة المقيس عليها . كما يقال: هذا أصل، وهذا فرع . أي: هذا مقيس، وهذا مقيس عليه .

(1/3)


5_ ومنها: مذهب العالم . كما يقال بنى فلان في هذه المسألة على أصله. أي: على مذهبه .
والفقه في اللغة: الفهم لما فيه غموض. قال الله تعالى: { ولكن لا تفقهون تسبيحهم }. { فما لهؤلاء القوم لا يكادون يفقهون حديثا}. {مانفقه كثيرا مما تقول }. ولا يقال: فقهت قولك: السماء عُلوِية، والكواكب مضيئة . لعدم غموضه .
وفي الاصطلاح: العلم بالأحكام الشرعية العملية عن أدلتها التفصيلية . فقولنا: العلم .جنس الحد، دخل فيه سائر العلوم.
وقولنا: بالأحكام .احتراز عن العلم بالذوات، والصفات، والأفعال .
وقولنا: الشرعية .احتراز من العلم بالأحكام العقلية، كالعلم بأن الواحد نصف الإثنين، وأن الكل أعظم من الجزء .
وقولنا: العملية .احتراز من العلمية، كالعلم بأن الإله واحد سميع بصير.
وقولنا: عن أدلتها التفصيلية .احتراز من علم الله تعالى بالأحكام، فليس مستندا إلى دليل، بل هو عالم بهما معا، غير مستفيد أحدهما من الآخر . وكذا يخرج علم المقلد العامي، إذ ليس عن دليل تفصيلي، لأن المقلد إذا علم أن هذا الحكم أفتى به المفتي، وعلم أن ما أفتى به المفتي هو حق، علم بالضرورة أن هذا حق .فهذا عِلمٌ لحكم شرعي، لا عن دليل تفصيلي، بل إجمالي كما ترى . والله أعلم بالصواب .
وأما موضوع هذا العلم فهو: الأدلة السمعية، لأنه يبحث فيه عن أعراضها الذاتية.
وأما غايته والغرض منه فهو: العلم بأحكام الله تعالى .
(( وينحصر )) المقصود من هذا الكتاب (( في عشرة أبواب )) انحصار الكل في الأجزاء . إذ أصول الفقه مجموع هذه العشرة الأبواب، وليس كل واحد منها يسمى أصولَ فقهٍ، فلا يقال لباب الأمر والنهي مثلا: أصول فقه. فليس من انحصار الكلي في الجزئيات.
وإنما انحصر في عشرة أبواب، لأن أصول الفقه كما عرفت هو: العلم بالأصول التي يتوصل بها إلى استنباط الأحكام الشرعية عن أدلتها التفصيلية. وهو لا يحصل إلا بمعرفة هذه العشرة الأبواب.

(1/4)


هذا: وأما الحصر العقلي في عدد هذه الأبواب، فأمر متعسر بل متعذر. كيف لا وهو أمر للإصطلاح والمواضعة فيه مدخل!!!
(( الباب الأول [في الأحكام الشرعية وتوابعها]))
(( من أبوب الكتاب في )) بيان (( الأحكام الشرعية و )) في بيان (( توابعها )) من الصحة والبطلان والفساد والجواز، والأداء والقضاء والإعادة، والرخصة والعزيمة.
فالأحكام الشرعية (( هي الوجوب، والحرمة، والندب، والكراهة، والإباحة )).(( وتعرف )) هذه الأحكام (( بمتعلقاتها )) وهي الأفعال الاختيارية الحقيقة الشرعية.
فالواجب في اللغة: الثبوت، والسقوط. قال تعالى {فإذا وجبت جنوبها }أي: سقطت. ويقال:وجب الأمر، إذا ثبت.
وفي الإصطلاح: (( هو ما يستحق ))أي: الذي يستحق المكلف
(( الثواب بفعله )).يخرج الحرام والمكروه.
(( والعقاب بتركه )). يخرج المندوب، والمباح، والمكروه _ ولو كان ذلك في بعض الأوقات _ فيدخل فيه: كل واجب، معينا كان أو مخيرا، فإن تاركه يستحق العقاب إذا ترك معه الآخر. وكذا فرض الكفاية فإن تاركه يستحق العقاب إذا لم يقم به غيره في ظنه.
(( والحرام، ويرادفه القبيح )) في عرف اللغة، واصطلاح العلماء (( بالعكس )) اللغوي. أي: مايُستحق الثواب بتركه. يخرج الواجب والمندوب والمباح، والعقاب بفعله. يخرج المكروه.
ويقال لما عرف منه شرعا: المحظور. وعقلا: القبيح. فيدخل كل قبيح ولو قبح في حال دون حال، كأكل الميتة.
(( والمندوب )) في اللغة: المدعو إليه. يقال: ندبته لكذا فانتدب، أي: دعوته فأجاب. وسمي أتنفل بذلك لدعاء الشارع إليه.
وفي الاصطلاح: (( ما يُستحق الثواب بفعله )) .يخرج الحرام والمكروه والمباح.
(( ولا )) يُستحق (( عقاب في تركه )). يخرج الواجب.
(( والمكروه بالعكس )) اللغوي، وهو: ما يُستحق الثواب بتركه، يخرج الواجب والمندوب والمباح، ولا يستحق عقاب في فعله، يخرج الحرام.
وقد يطلق على الحرام، وعلى ترك الأولى، كالمندوبات.

(1/5)


(( والمباح )) في اللغة: الموسَّع فيه.
وفي الاصطلاح: (( مالا ثواب ولا عقاب في فعله ولا تركه )). تخرج الأربعة المتقدمة، لأن الواجب والمندوب في فعلهما ثواب، والمكروه والحرام في تركهما ثواب، وقد يسمى حلالا.
(( والفرض والواجب مترادفان )) على المختار. بمعنى: أن كل واحد منهما يطلق على ما يطلق عليه الآخر.
(( خلافا )) للناصر عليه السلام و(( للحنفية )). فليسا مترادفين عندهم، بل الفرض: ما دليل وجوبه قطعي، مثل الكتاب والسنة المتواترة، وذلك كالصلوات الخمس، فما كان كذلك، فإنه يسمى فرضا، ويفسق تاركه، ويكفر مستحله، ويقضى.
والواجب: ما دليله ظني. كخبر الواحد، والقياس الظني، وذلك كالوَتر عندهم، وما كان كذلك فلا يثبت فيه ما تقدم.
قلنا: إن ادعوا أن التفرقة لغوية أو شرعية، فليس في اللغة ولا في الشرع ما يقتضيها. وإن كانت اصطلاحية، فلا مَشآحَّة في الاصطلاح.
قيل: والخلاف لفظي.
[ أقسام الواجب ]
(( وينقسم الواجب )) إلى أقسام:
(أ)_ 1_ منها: بحسب فاعله (( إلى فرض عين )). وهو: ما وجوبه على جميع المكلفين، ولا يسقط بفعل البعض، كالصلوات الخمس.
2_ (( وفرض كفاية )). وهو: ما وجب على الجميع، ويسقط بفعل البعض، كصلاة الجنازة والجهاد.
(ب)_1_ (( و ))منها بحسب نفسه: (( إلى معين )). وهو: مالا يقوم غيره مقامه كالصلوات أيضا.
2_ (( ومخير )). وهو: ما يقوم غيره مقامه كخصال الكفارة .
(ج)_ (( و ))منها: بحسب نفسه أيضا:
1_ (( إلى مطلق )). وهو: مالا وقت له معين، وإنما وقته حال حصوله، كالزكاة للخضراوات مثلا، فإنه لا وقت لها معين، وإنما تجب حال الحصاد والله أعلم.
2_ (( ومؤقت )). وهو: ماله وقت معين، كالصوم، والصلاة، والحج، ونحوها.
(د)_ (( والمؤقت )) ينقسم بحسب وقته:
1_ (( إلى مضيق )). أي: إلى ما وقته مضيق، وهو الذي لا يتسع إلا للفعل فقط، كوقت الصوم، ويسمى هذا الواجب المضيق.

(1/6)


2_ (( وموسع )) أي: إلى ما وقته موسع، وهو ما يتسع لفعل الواجب وزيادة، كأوقات الصلاة، وهذا هو الواجب الموسع ، وقد يكون وقته العمر، كالحج مثلا.
(( والمندوب والمستحب مترادفان )) ويراد فهما أيضا التطوع، والمرغب فيه.
(( والمسنون أخص منهما )). لأن المسنون ما أمر به الرسول صلى الله عليه وآله وسلم _ ندبا _ وناضب عليه، كالرواتب للفرائض. والمندوب ونحوه: بخلافه. وهو: ما أمر به الرسول صلى الله عليه وآله وسلم _ ندبا _ ولم يوضب عليه.
فكل مسنون مندوب، ولا عكس. فالمندوب أعم لوجوده بدون المسنون.
هذا واعلم: أن المسنون والمندوب ونحوه لا يأثم معتاد تركهما لغير استهانة، ولا يفسق على الأصح، ويندب قضاؤهما.
فهذه هي: الأحكام الخمسة.
وأما توابعها فقد أوضحها بقوله:
(( والصحيح )) هو (( ما وافق أمر الشارع )).
اعلم: أن لفظ الصحة والبطلان تستعمل تارة في العبادة، وتارة في المعاملة.
أما في العبادة فالصحة: موافقة أمر الشارع.
والصحيح هو: ما وافق أمر الشارع. أي: ما كملت فيه الشروط التي اعتبرها الشارع، كالصلاة بالطهارة.
وأما في المعاملات فهي: ترتب الأثر المطلوب منها عليها، كحصول المِلك، وحلِّ الانتفاع في البيع، ومنفعة البضع في النكاح.
(( والباطل نقيضه )). أي: نقيض الصحيح في العبادات والمعاملات. فالبطلان في العبادة: عدم موافقة أمر الشارع.
والباطل: ما لم يوافق أمر الشارع، كصلاة من دون طهارة.
وفي المعاملة: عدم ترتب الأثر المطلوب منها عليها، كبيع الملاقي _ وهي ما في بطون الأمهات _ فإنه باطل لعدم ذكر البيع.
وتفسير الباطل في العبادة: يصلح تفسيرا له في المعاملة، والعكس والله أعلم.
(( والفاسد )) من العبادات والمعاملات (( المشروع بأصله، الممنوع وصفه )) .
أما في العبادات فكصوم الأيام المنهي عن صومها، فإن الأصل وهو الصوم مشروع، ولكن الوصف وهو كونه في تلك الأيام منعه.

(1/7)


وأما في المعاملات فكبيع الدرهم بالدرهمين، فإن أصله وهو البيع مشروع، بدليل {وأحل الله البيع}.
ولكن الوصف وهو اشتمال أحد الجانبين على الزيادة فيما لا بد فيه من علم التساوي منعه.
(( وقيل )) _ والقائل الشافعي ومالك وغيرهما _ بل الفاسد:
(( مرادف الباطل )). فيُفسَّر بما يفسر به الباطل.
فإن قلت: ما أثر الفرق بين الفاسد والباطل عند من لم يجعلهما مترادفين؟!
قلت: أما المعاملات كالبيع والنكاح، فأثره أن الفاسد يجوز الدخول فيه، وحكمه حكم الصحيح، إلا في أمور مذكورة في مواضعها، بخلاف الباطل.
وأما في العبادات ففي الصلاة والصوم لا يظهر له أثر، وأما الحج فيظهر، فالفاسد: ما فسد بالوطء قبل التحليل بالرمي وقبل مضي وقته. فيلزم فيه الإتمام والقضاء، بخلاف الباطل.
قيل: ومن قال بالترادف إنما يقول به في الصلاة والبيع دون سائر العبادات والمعاملات.
(( والجائز يطلق على ))أربعة معان:
أحدها: (( المباح )) .وقد مر حده. وذلك كما يقال التزين بثياب الزينة جائز أي: مباح.
(( و )) ثانيها: أنه يطلق (( على: الممكن ))أي: مالا مانع عنه – عقلا _نحو أن يقال: كون جبريل في الأرض جائز، أي: لا مانع منه في العقل. أو _ شرعا _ نحو أن يقال: الأكل بالشمال جائز، أي: لا يمتنع شرعا.
(( و )) ثالثهما: أنه يطلق (( على: ما استوى فعله وتركه – عقلا _)). كفعل الصبي.
وكذلك _ شرعا – كالمباح. وهذا القسم أعم من المباح، فلا يقال: أنه هو!!
(( و )) رابعها أن يطلق على: (( المشكوك فيه )). وهو: الذي تعارضت فيه أمارها الثبوت والانتفاء، أمارة تقتضي ثبوته، وأخرى تقتضي نفيه، في العقل والشرع .
مثاله في العقل: ما يقول المتوقفون في أصل الأشياء: هل على الخطر أم على الإباحة؟!
فإن المتوقف في ذلك يصفه بأنه جائز الأمرين. أي: الحظر وعدمه، لاستوائهما عند تعارض دليلهما.

(1/8)


ومثاله في الشرع: ما يقوله المتوقف في حكم لحم الأرنب، ووجوب صلاة العيد، لتعارض إمارتي الأمرين جميعا.
فذلك كله صحيح بالاعتبارين: اعتبار الامتناع، والجواز، لتعارض دليلي الصحة، والامتناع. وباعتبار: الوقوع وعدمه. لتعارض إمارتيهما. فيوصف بأنها جائز لهذين الاعتبارين.
فهذه هي المعاني التي تُعبِّر بلفظ الجائز عنها في لسان العلماء.
(( والأداء ما فعل _ أولا _ في وقته المقدر شرعا )).
قوله: (( ما فعل )) جنس الحد، يدخل: الأداء وغيره، كالقضاء والإعادة.
وقوله: (( أولا )) تخرج: الإعادة لأنه فُعِلَ ثانيا لا أولا.
وقوله: (( في وقته المقدر له )) يخرج: القضاء لأنه فُعِلَ بعد الوقت، ويخرج أيضا: ما لم يقدر له وقت كالنوافل المطلقة.
وقوله: (( شرعا )) يخرج: ما فُعِل أولا في وقته المقدر له، لكن عقلا لا شرعا، كقضاء الدين عند المطالبة، فإنه فُعِلَ في وقته المقدر له، وهو ما يتسع له بعد المطالبة، لكن ذلك التقدير ليس بالشرع، بل بالعقل. فأن قلت: إذا فعل ركعة من الفرض في الوقت وأتم بعد خروجه، هل ذلك أداء أم قضاء؟!
قلت: بل أداء . لأن الوقت المقدر للفرض هو: إلى بقية تسع ركعة كاملة . فما فعله في ذلك الوقت فهو أداء، فقد دخل ذلك في قوله: المقدر له. فتأمل!
(( والقضاء ما فُعِل بعد وقت الأداء )). وهو المقدر له أولا شرعا. يخرج الأداء والإعادة، (( استدراكا لما سبق له وجوب مطلقا )). قوله: استدراكا. يخرج ما ليس كذلك، كالصلاة مثلا إذا أداها في وقتها، ثم أعادها في الوقت لإقامة الجماعة، أو أداها خارج الوقت قضاءً، ثم أعادها لجماعة، فإنه لا يكون فعله الثاني قضاء، لأنه ليس باستدراك، كما لا يكون أداء أو إعادة، لأنه ليس في الوقت.
وقوله: لما سبق له وجوب. تخرج النوافل إذا فعلت بعد وقتها، فإن فعلها لا يسمى قضاء إلا تجوزا، إذ لم يسبق لها وجوب.

(1/9)


وقوله: مطلقا. قيد للوجوب، أي: سواء كان على القاضي أم على غيره، فيدخل في ذلك قضاء الحائض للصوم، لأنه وأن لم يسبق له وجوب عليها، فقد وجب على غيرها .
وقيل: بل على القاضي فقط. فيخرج قضاء الحائض للصوم إذ لم يسبق له وجوب عليها.
ثم لا فرق بين تأخيره عن وقت الأداء سهوا أو عمدا، مع التمكن من فعله أولا، ومع عدم التمكن لمانع من الوجوب شرعا كالحيض، أو عقلا كالنوم.
فإن قلت: إذا مات الميت فحَجَّج عنه وصيه هل يكون أداء أو قضاء؟! قلت: ذكر بعضهم أن ذلك قضاء، لأنه فعل بعد الوقت المقدر له، لأن وقته المقدر له هو عمر المكلف، فوقوعه من الوصي هو بعد وقته الموسع. فتأمل والله أعلم.
(( والإعادة ما فُعِل ثانيا في وقت الأداء لخلل في الأول )).
قوله: ثانيا. يخرج الأداء. وقوله: في وقت الأداء. يخرج القضاء. وقوله: لخلل في الأول. يخرج ما ليس كذلك، كالمنفرد إذا صلى ثانية مع الجماعة.
وقيل: لعذر. فيدخل المنفرد إذا صلى ثانيا فيه مع الجماعة، لأن طلب الفضيلة عذر.
(( والرخصة ))من الفعل والترك (( ما شُرِع )) للمكلف فعله أو تركه، (( لعذر )) وهو ما يطرأ على المكلف، فيمنع حرمة الفعل أو الترك الذي حرمه الدليل. (( مع بقاء مقتضى التحريم )). وهو دليل الحرمة لو لا ذلك العذر. فالفعل: نحو أكل الميتة للمضطر، والترك: كالفطر في السفر، والقصر فيه عند بعضهم.
(( والعزيمة بخلافها )) وهو ما شرع من الأحكام لا لعذر مع قيام المحرِّم لو لا العذر.
واعلم أنه لا ينحصر الحكم في العزيمة والرخصة، إذ لا يدخل المندوب والمباح والمكروه في العزيمة، إذ لا رخصة فيها.
ولا يوصف الفعل: بالعزيمة ما لم تقع في مقابله الرخصة. فتأمل!
((الباب الثاني [في الأدلة] ))
من أبواب الكتاب (( في الأدلة )) والأماران، وشروطها وكيفية الأخذ بها.
(( الدليل )) له معنيان، لغوي واصطلاحي.

(1/10)


أما اللغوي فهو: أنه يطلق على المرشد.
والمرشد له معنيان:
الأول: الناصب لما يُسترشد به من الأدلة، قولا أو فعلا. فالباري تعالى يوصف بأنه دليل، لأنه مرشد أي: ناصب للدلالة العقلية والسمعية. والثاني: الذاكر له.
وكذا يطلق أيضا الدليل في اللغة على: ما به الإرشاد، كالأعلام التي تنصب في المفاوز لتعرف بها الطرق، وكذا مخلوقات الباري تعالى، إذ يحصل بها الإرشاد إلى وجوده تعالى.
وأما الاصطلاحي: فحقيقة الدليل في الاصطلاح (( ما يمكن التوصل بصحيح النظر فيه إلى العلم بالغير )) وهو المدلول.
وإنما قال: ما يمكن، دون: ما يتوصل، تنبيها على أن الدليل من حيث هو دليل لا يعتبر فيه التوصل بالفعل، بل يكفي إمكانه.
والنظر هو: الفكر. وهو ترتيب أمور معلومة للتأذي إلى مجهول. كما يقال في الاستدلال على حدوث العالم _ بعد العلم بأنه متغير، وأن كل متغير حادث _: العالم متغير، وكل متغير حادث، فيؤدي هذا الترتيب إلى مجهول، وهو كون العالم حادثا.
وقوله: بصحيح النظر.لأنه لا يمكن التوصل إلى المطلوب بالنظر الفاسد.
إما صورة: بأن لا يكمل فيه شرائط المقدمتين.
وإما مادة: كما في قولنا: العالم بسيط، وكل بسيط له صانع.فصورة هذا الدليل صحيحة، ولكن مادته فاسدة. إذ ليس البساطة مما ينتقل الذهن منه إلى ثبوت الصانع، وإنما ينتقل إلى الثبوت والحدوث من الحدوث.وإن كان قد يفضي إلى المطلوب، لكن اتفاقي لا ذاتي.
وقوله: إلى العلم. لتخرج الأمارة، لأن التوصل بها إلى الظن فقط.ولذا قال: (( فأما ما يحصل عنده الظن فأمارة ))لا دليل.
وهي: ما يلزم من حصوله حصول غيره، لزوما عاديا لا ذاتيا، كان صداع الجدار، فإنه أمارة لا انهدامه.
وقد يقال في حقيقتها على انفرادها: ما يمكن التوصل بصحيح النظر فيه إلى الظن بالغير.
(( وقد تسمى )) الأمارة (( دليلا توسعا )) وتجوزا.
ومنهم من لم يفرق بينهما ويقول في حقيقتهما: ما يمكن التوصل بصحيح النظر فيه إلى المطلوب.

(1/11)


(( والعلم )) قد يطلق في المشهور على معان:
أحدها: مطلق الإدراك الذي يعم التصور _ وهو ما يحصل بالمعرِّف _ والتصديق _ وهو ما يحصل بالبرهان _ إما مطلقا، أو مقيدا بكونه يقينيا.
وثانيها: مطلق التصديق، الذي يساوي اليقيني من الأحكام.
وثالثها: التصديق اليقيني الذي (( هو )) عبارة عن (( المعنى المقتضي لسكون النفس إلى أن متعلقه كما اعتقده )) وهذا المعنى الثالث: هو المقصود بالعلم في تعريف الدليل، لأن المقصود منه: هو البرهان اليقيني، بقرينة ذكر الأمارة معه.
(( وهو )) أي: العلم نوعان:
(( ضروري )) يحصل بلا طلب واكتساب
(( واستدلالي ))لا يحصل إلا بهما.
وانقسامه إليهما: ضروري لا يحتاج إلى دليل، بدليل أن العاقل يجد من نفسه أنه يحتاج في بعضه إلى نظر، كالعلم بحدوث العالم، ولا يحتاج في بعض منه إلى نظر، كالعلم بأن النفي والإثبات لا يجتمعان ولا يرتفعان، وبأن الكل أعظم من الجزء.
(( فالضروري )) من العلم (( مالا ينتفي )) لا (( بشك ولا شبهة )) كالعلم بأن النفي والإثبات لا يجتمعان ولا يرتفعان
(( والإستدلالي مقابله )) وهو: ما ينتفي بشك أو شبهة، فيحتاج إلى دليل كالعلم بأن العلم حادث.ولهذا خالف فيه كثير من العقلاء واحتاج إلى دليل قاطع.
(( والظن تجويز راجح )) قوله: تجويز. يخرج العلم. وقوله: راجح. يخرج الوهم والشك.
(( والوهم تجويز مرجوح )) قوله: تجويز. يخرج العلم.وقوله: مرجوح. يخرج الظن والشك.
(( واستواء التجويزين )) أي: لا ترجيح لأحدهما على الأخر
(( شك )). (( والإعتقاد: هو الجزم بالشيء )).خرج الظن والوهم والشك. (( من دون سكون النفس )). خرج العلم.
(( فإن طابق )) الواقع (( فصحيح ))كاعتقاد أن الله تعالى لا يفعل القبيح. (( وإن لا )) يطابق الواقع (( ففاسد ))كاعتقاد أن الله تعالى لا يفعل القبيح، تعالى عن ذلك.
(( و ))الإعتقاد الفاسد (( هو الجهل المركَّب )). لأنه اعتقاد الشيء على خلاف ما هو عليه.

(1/12)


(( وقد يطلق )) الجهل (( على عدم العلم )) وهو المسمى بالبسيط.
وأما السهو والنسيان: فهما يخالفان الجهل، لأن السهو عدم ملكة العلم بعد حصوله، فمعناه أنه لا يصير العلم ملكة للنفس. والنسيان مثله.
وقد يفرق بينهما بأن السهو: زوال الصورة عن القوة المُدِرِكة، مع تحققه في الحافظة. والنسيان: زوالها عن المدركة والحافظة جميعا. والله أعلم.
ولما فرغ من تعريف الدليل والأمارة، شرع في بيان الأدلة الشرعية فقال :
[الأدلة الشرعية] ( فصل )
(( والأدلة الشرعية أربعة وهي:
1_ (( الكتاب )) العزيز.
2_(( والسنة )) النبوية.
3_ (( والإجماع )) . من الأمة أو من أهل البيت عليهم السلام.
4_ (( والقياس )) .
ووجه الانحصار أن يقال:
الدليل إما: وحيٌ، أو غيره. والوحي إما: متلوٌّ وهو القرآن. أولا. وهو السنة.
وغير الوحي: إن كان قولا لكل الأمة فهو الإجماع. وإن كان مشاركةُ فرعٍ لأصل في علة الحكم فهو القياس.
وسيأتي بيان الجميع إن شاء الله تعالى.
(( فالكتاب القرآن )).
غلب عليه من بين سائر الكتب المنزلة في عُرف الشرع، كما غلب على كتاب سيبويه في عرف أهل العربية. وسمي قرآنا. لأنه يُجمع ويُقرن بعضه ببعض.
وهو الكلام(( المنزل على قلب نبينا محمد صلى الله عليه وآله وسلم للإعجاز بسورة منه )).فالكلام: جنس الحد. وقوله: المنزل. يخرج كلام البشر، فإنه لم ينزل. وقوله: للإعجاز. يخرج ما نزل لا للإعجاز، كسائر الكتب السماوية، كالتوراة والإنجيل وكالسنة النبوية.
والمراد بالإعجاز: قصد إظهار صدق النبي صلى الله عليه وآله وسلم في دعوى الرسالة بفعل خارق للعادة. وقوله: بسورة منه. بيان لقدر ما به الإعجاز. إذ لا يحصل بالآية والآيتين .
والمراد بالسورة: الطائفة المترجمة _ توقيفا _ المسماة باسم خاص.وأقلها: ثلاث آيات، فبكوثر مثلا، وهذا على القول بأن البسملة ليست بآية. فتأمل!
ومِن في قوله: منه. للتبعيض. والضمير راجع إلى القرآن.

(1/13)


وإنما قلنا في تعريف السورة : الطائفة… إلى آخره. ولم نقل البعض المترجم أوله وآخره. لأن الآية أيضا كذلك، إذ لا معنى للمترجَم أولُّه وآخره إلا المبين. ولا يتبين أول الآية وآخرها إلا بالتوقيف.
فإن قلت: ما وجه الإعجاز في القرآن؟
قلت: اختلف فيه على ستة أقوال:
الأول: أنه أمر من جنس البلاغة والفصاحة، كما يجده أرباب الذوق .
الثاني: أنه الصرف. وهو أن الله سبحانه وتعالى صرف دواعي العرب عن معارضته، مع قدرتهم عليها.
الثالث: أن وجه الإعجاز: وُرُودُه على أسلوب مبان لأساليب كلامهم في خطبهم وأشعارهم، لا سيما في مطالع السور ومقاطع الآي، مثل: {يؤمنون}{ يفقهون}{ يعلمون}، ومثل: {حم} {طش} وما أشبه ذلك .
الرابع : أنه في سلامته مع طوله جدا عن التناقض .
الخامس : أنه اشتماله على الغيوب.
السادس: أنه كون قارئه لا يَكِلُّ وسامعه لا يَمِلُّ.
فهذه هي وجوه الإعجاز في القرآن على الخلاف .
والأول: هو الذي اعتمده الجمهور. ووجه الحكمة في أنه جُعِل وجه الإعجاز: أنه إذا أتى بما يخرق العادة فيما يتعاطاه المخاطَبون به ويَدَّعون الصناعة فيه، علموا عجزهم عنه. ولم يكن لأحد أن يقول: لو كنت من أهل هذه الصناعة لأتيت بمثل ما أتى به .
ورُدَّ الثاني: بأنه يُخرج القرآن عن كونه معجزا. والإجماع على خلافه. وأيضا كأن يكون غير البليغ أدخل في الإعجاز.
ورُدَّ الثالث: بأن أكثر أسلوبه يشابه أساليب الكلام، لا سيما المنثور والخطب والرسائل. وأيضا لو كان اختصاصه بأسلوب لكان التحدي بذلك لا يقع لعدم اعتيادهم له.
ورد الرابع: بأن الله تعالى إنما تحداهم بأن يأتوا بما يساويه في الفصاحة والبلاغة فقط.
ورُدَّ الخامس: بأن ذلك لا يشمل القرآن. والتحدي واقع بكله، بدليل {من مثله}، وأيضا كثير من الكتب المتقدمة فيه ذلك، وليس بمعجز.
ورُدَّ السادس: بأن للخصم أن يقول: إنما لَذَّ لكم لاعتقادكم صحته، والإيمان به، وحصول الثواب عليه.

(1/14)


فثبت أن وجه الإعجاز: هو الفصاحة لاستقلالها بذلك.
نعم. ولا يقدح هذا الاختلاف في وجه الإعجاز في: إعجازه. لأنه قد اتُّفِق على الحكم وهو: الإعجاز . فلا يضر الاختلاف في علته. بل لا يضر الجهل بها والله أعلم.
واعلم: أن التعريف المتقدم للقرآن والسورة لفظي، بالنسبة إلى من يعرف الإعجاز والسورة. فهو تعريف لهما بأي: راد لفظ أشهر، يزيل الشَّبه، وليس تعريفا باللازم البَيِّن، إذ لا يخفى أن كون القرآن للإعجاز مما لا يعرف مفهومه ولزومه إلا أفراد من العلماء، فلا يكون بَيِّنًا. كذا ذكره بعض المحققين والله أعلم.
(( وشرطه )) أي: شرط كونه قرآنا (( التواتر )) اللفظي. وسيأتي بيانه إن شاء الله تعالى.
ولا خلاف في ذلك في جملة القرآن. وأما القرآءآت المروية، فسيأتي الخلاف فيها.
(( فما نقل )) من القرآن حال كونه(( آحاديا فليس بقرآن )).
وإنما اشتُرِط ذلك(( للقطع بأن العادة تقضي بالتواتر في تفاصيل مثله )) أي: هو وما كان مثله، مما تتوفر الدواعي إلى نقله، وذلك لما تضمنه من الإعجاز الدال على صدق المُبَلِّغ . ولأنه أصل سائر الأحكام. والعادة تقضي بوجوب التواتر في تفاصيل ما كان كذلك. حتى يحصل العلم اليقين بثبوته. فما نُقِل غير متواتر عُلِم: أنه ليس بقرآن _ قطعا _.
وبهذا الطريق يُعلم أن القرآن لم يعارض
(( و ))إذا تقرر وعُلم أن القرآن شرطه التواتر عُلم: أنها(( تحرم القراءة )) للقرآن (( بـ )) القرآءآت (( الشَّوآذ )). لأنها ليست بقرآن كما تقرر.
(( و )) الشواذ (( هي ما عدى السبع )) القرآءآت التي هي قرآءة:
1_ نافع.
2_ وأبي عمر وبن العلا النحوي.
4_ فبكسائي.
5_ وابن كثير.
6_ وابن عامر.
7_ وعاصم.
7_ وحمزة.
وأما هذه فمتواترة قطعا. على الصحيح، ومن فَتَّش وجد عدد الرواة لها بالغا حد التواتر.
وقال البغي: بل الشاذة ما عدى العشر القرآءآت. وهي: السبع المتقدمة، وقراءة:
8_ أبي يعقوب الحضرمي.
9_ وأبي معشر الطبري.

(1/15)


10_ وأُبَيُّ بن خلف البراز.
وقيل: بل القرآءآت كلها آحادية. والصحيح هو الأول لما تقرر من أن شرط القرآن التواتر وهي الطريق إليه.
(( و )) الشاذة: مثل قراءة ابن مسعود {فصيام ثلاثة أيام متتابعات}
(( هي كأخبار الآحاد في وجوب العمل بها )). فيجب التتابع لذلك. لأن عدالة الراوي توجب قبول ما رواه. فيتعين كونها قرآنا أو خبرا آحادا، وقد بطل باشتراط التواتر كونها قرآنا، فتعين كونها خبرا آحاديا. فتقبل كما يقبل الخبر الآحاد، إذا تكاملت شروطه. فيجب العمل بها ولا يجب العلم بكونها قرآنا.
(( والبسملة )) بعض أي: ة في سورة النمل باتفاق و(( آية )) كاملة
(( من أول كل سورة )) من القرآن، من الفاتحة وغيرها(( على الصحيح )).
لأن منهم من ذهب إلى: أنها أي: ة من سورة الفاتحة فقط. وأُثبتت في غيرها للتبرك.
ومنهم من قال: بل هي للتبرك في جميع القرآن، وليست منه. والصحيح: هو الأول. لما ثبت من أنها مكتوبة بخط المصحف، مع المبالغة منهم بتجريد القرآن من غيره، حتى لم يثبتوا آمين. ومنع قوم العَجْمَ. وهذا دليل قطعي. لأن العادة تقضي في مثله بعدم الاتفاق. فكان لا يكتبها بعض، أو يُنكر على كاتبها.
وأيضا قال ابن عباس رضي الله عنه: من تركها فقد ترك مائة وثلاث عشرة آية من كتاب الله تعالى.
وقال أيضا: سرق الشيطان من الناس آية. لما ترك بعضهم البسملة.
واعلم أن في القرآن محكما ومتشابها، قال الله تعالى: {منه آيات محكمات هنَّ أم الكتاب وأخر متشابهات}. قوله: هن أم الكتاب. أي: المحكمات. أصل الكتاب بمعنى: أن المتشابه يُرَدُّ إليها.
(( والمحكم )) في اللغة: المتقن. لأن الإحكام الإتقان، فالقرآن بهذا المعنى كله محكم. لإتقانه في حسن نظمه وترتيبه، وفي البلاغة والفصاحة.
وفي الاصطلاح: (( ما اتضح معناه )) فلم يخف.

(1/16)


(( والمتشابه )) في اللغة: ما يشبه بعضه بعضا. وبهذا المعنى يكون القرآن كله متشابها. لأنه يشبه بعضه بعضا في الفصاحة والبلاغة والإتقان، وفي تصديق بعضه بعضا. ويدل عليه قوله تعالى: { نزل أحسن الحديث كتابا متشابها}.أي: يشبه بعضه بعضا.
وفي الاصطلاح: (( مقابله )). أي: مقابل المحكم. وهو ما خفي معناه فلم يتضح. بل احتمل وجوهًا.
وظاهر هذا أن القرآن منحصر في النوعين. وأن المجمل داخل في المتشابه.
وقد قيل: إن المجمل غير داخل فيهما. إذ لا يُعرف ما المراد به حتى يُعلم مطابقته لمقتضى العقل أولا.
فتكون حقيقة المحكم حينئذ ما لم يُرَد به خلاف ظاهره. والمتشابه مقابله. فيكون المجمل قسما ثالثا.
قيل: والظاهر الانحصار في القسمين. والله أعلم.
وسمي المتشابه: متشابها. لأن ظاهره يشبه الحق _ لصدوره من عدل حكيم _ والباطلَ لمخالفته مقتضى العقل.
مثال المحكم: {لا تدركه الأبصار}{ وليس كمثله شيء} فهذا معناه: متضح.
ومثال المتشابه: {إلى ربها ناظرة}، {الرحمن على العرش استوى} فهذا معناه: غير مُتَّضِح. فيحتاج إلى أن يُرجع إلى غيره، وهو المحكم، ليعرف معناه. قال ابن الحاجب: ويعلم الراسخون تأويله. والراسخ هو: المجتهد العدل الثابت العقيدة.
(( وليس في القرآن ما لا معنى له)). بل معانيه واضحة مستقيمة بَيِّنة لا تخفى.
إما حقيقية، أو مجازية، لغوية، أو شرعية، أو عرفية.
ويصح معرفة جميعها لكل واحد من المكلفين. وإلا انتقض الغرض بالخطاب – أعني _ فهمَ المعنى. وصار كخطاب العربي بالعجمية، وبالعكس، وذلك لا يليق بالحكيم تعالى.
(( خلافا للحشية ))فإنهم قالوا في أوائل السور التي من الحروف المقطعة مثل: {حم} {طس} {آلم}: لا معنى لها.بل هي مثل: حادث، ونحوه من المهملات.

(1/17)


وعندهم أن القرآن إنما نزل ليتلى فقط، من غير دلالة على معنى. وبطلانه ظاهر لا يخفى. إذ القرآن خطاب للنبي صلى الله عليه وآله وسلم، ولسائر المكلفين قطعا. والخطاب بما لا معنى له لا يصح، إذ لا يفيد .
وأما أوائل السور ففي معانيها: خلاف بين المفسرين مذكور في موضعه.
(( ولا ما المراد به )) معنًى باطنا (( خلاف ظاهره من دون دليل )) فأما مع الدليل فذلك كثير، كالمتشابه نحو: {إلى ربها ناظرة} فإن المراد به خلاف ظاهره، بدليل: {لا تدركه الأبصار}، ونحو ذلك.
(( خلافا للمرجئة )) فإنهم يقولون في أي: الوعيد: أن المراد بها خلاف ظاهرها، من دون دليل.
وخلافا للباطنية أيضا فإنهم يقولون: إن له معنى باطنا غير المعنى الظاهر، من دون دليل.كما يقولون: إن المراد بالبقرة في قوله تعالى: {إن الله يأمركم أن تذبحوا بقرة} عائشة. ويقولون: المراد بـ {أجبت والطاغوت} أبو بكر و عمر. إلى غير ذلك من الأباطيل الظاهرة.وبطلان ذلك ظاهر. إذ يخرج بذلك عن كونه عربيا.وقد قال تعالى{قرآنا عربيا غير ذي عوج }.وذلك لأن الكلام العربي هو: ما استعمل في الأوضاع العربية، حقيقة، أو مجازا مع قرينة مرشدة.وما هو خلاف الظاهر ليس بحقيقة ولا مجاز والله أعلم.
فائدة [في القرآن]
القرآن الشريف محفوظ من الزيادة والنقصان والتحريف _ أعني _ تبديل لفظ بلفظ آخر، ولا يجوز فيه شيء من ذلك. إذ في تحويره هدم للدين، إذ يلزم أنا لا نثق بشيء منه، لجواز التبديل والزيادة، ونقصان
الناسخ وبقاء المنسوخ، وأيضا قال تعالى: {آنا نحن نزلنا الذكر وآنا له
أتحافظون}. فتولى تعالى حفظه، وما تولى تعالى حفظه حقيقي بأن لا يغير. ووجه الاستدلال بالآية: أن المراد إما حفظه عن النسيان، أو حفظه عن الزيادة والنقص والتبديل.
والأول: باطل. إذ المعلوم أنه قد ينساه بعض من حفظه، فيتعين الثاني. إذ لو جوزنا شيئا من تلك الأمور لكان غير محفوظ، وهو خلاف صريح الآية فتأمل .

(1/18)


( فصل )والدليل الثاني: السنة.
وهي في اللغة: العادة والطريقة. قال تعالى: {قد خلت من قبلكم سنن }.أي: طُرق.
وفي الاصطلاح: تطلق على ما يقابل الفرض من العبادات، وعلى ما صدر من النبي صلى الله عليه وآله وسلم من الأفعال، والتقريرات، والأقوال، التي ليست للأعجاز.وهذا هو المراد هنا. ولهذا قال المصنف: (( السنة: قول النبي صلى الله عليه وآله وسلم، وفعله، وتقريره )).
(( فالقول ظاهر )) وهو: اللفظ المفيد. ومباحث: الأمر والنهي، والعام والخاص، وغيرها. والكلام عليها سيأتي في أبوابها مفصلا، إن شاء الله تعالى .
(( وهو )) أي: القول (( أقواها )) أي: أقوى أقسام السنة. فيرجع إليه عند التعارض بينهما. وإنما كان أقواها لأنه وُضِع لإفادة المخاطب، بخلافهما .ولأن الفعل يختص بالمحسوس فقط، والقول يفيد في المحسوس والمعقول .ولأنه متفق على الاستدلال به، بخلافهما، إلى غير ذلك، والله أعلم.
ثم بعده الفعل، ثم بعده التقرير.
(( وأما الفعل )) فالمراد به: فعل النبي صلى الله عليه وآله وسلم. وحكم اتباعه فيه، والتأسي به. وذلك مبني على مقدمة، وهي الكلام في عصمة الأنبياء عليهم السلام.
فنقول: اعلم أن الأكثر من أهل العدل على أن الأنبياء عليهم السلام يمتنع عليهم الكبائر من وقت التكليف، لأن في ذلك هزما واحتقارا لهم، فتنفر الطبائع عن اتباعهم، فيُخِل بالحكمة من بعثهم، وذلك قبيح عقلا.
وقيل: لا يمتنع منهم قبل الرسالة لا كفر ولا غيره، وأما بعد الرسالة فالإجماع على عصمتهم. فما كان طريقه البلاغ، فلا يجوز عليهم الكذب لا سهوا ولا عمدا، وأما غير الكذب من الذنوب فإن كانت من الكبائر أو من الصغائر الخسة كسرقة لقمة والتطفيف بحبة من تمر، فالإجماع على عصمتهم منها. وإن كانت من غيرها فالأكثر على جوازه. فهذه جملة ما يحتاج إليه هنا، موضوعه علم الكلام.

(1/19)


فإذا تقرر ذلك (( فالمختار وجوب التأسي به ))صلى الله عليه وآله وسلم. لقوله تعالى {لقد كان لكم في رسول الله أسوة حسنة لمن كان يرجو الله واليوم الأخر}.ووجه الاستدلال بها أن معناها: من كان يؤمن بالله واليوم الآخر، فله في رسول الله أسوة حسنة.فدلت الآية على لزوم التأسي به للإيمان، ويلزمه بحكم عكس النقيض لزوم عدم الإيمان لعدم التأسي. وعدم الإيمان حرام.فهكذا ملزوم الذي هو عدم التأسي. والإيمان واجب، فكذا لازمه الذي هو التأسي. وإلا ارتفع اللزوم.
وقيل: لا يجب التأسي به إلا فيما دل دليل خاص على أن حكمنا حكمه في الفعل والترك. كقوله: ( صلوا كما رأي: تموني أصلي ) فيُتَأسى به في الصلاة لذلك، لا فيما ليس كذلك لعدم الدليل.
قلنا: قوله تعالى {لقد كان لكم في رسول الله… }الآية. دليل واضح على وجوب التأسي به كما بينا.
(( في جميع أفعاله )) وتروقه. ولكن حيث علمنا الوجه الذي وقعت عليه. (( إلا ما وضح فيه أمر الجِبِلَّة ))كالأفعال التي[هي] من ضروريات البشر، كالقيام والقعود، والأكل والشرب.فإنه لا يجب التأسي به فيها. إذ لا خلاف في أن ذلك مباح له ولأمته.
(( أو عُلم أنه من خصائصه )) فإنه لا يجب التأسي به فيه أيضا. وذلك: (( كالتهجد، والأضحية ))، والضحى، والوتر، والمشارة، وتخيير نسائه فيه. لأن تعريفه لنا بأنه مختص بذلك أسقط عنا وجوب التأسي. ولا خلاف في هذا.
(( و )) حقيقة (( التأسي هو: إيقاع الفعل بصورة فعل الغير ووجهه اتباعا له )) أي: لذلك الغير. (( أو تركه، لذلك )) أي: لأجل اتبع الغير (( كذلك )) أي: بصورة فعل الغير ووجهه، والمراد بالوجه في قوله: ووجهه .كونه فرضا، أو نفلا، أو سنة، أو مباحا، أو نحو ذلك. (( ويعرف الوجه )):
إما: بالتنصيص. نحو أن يقول: هذا الفعل واجب، أو مندوب، أو مباح.
وإما: بالتسوية. نحو: أن يفعل فعلا، ثم يقول: هذا الفعل مثل الفعل الفلان. وذلك الفعل قد عُلمت جهته.

(1/20)


أو بأمارة دآلة على كون ذلك الفعل واجبا. كالأذان، والإقامة في الصلاة.أو مندوبا، كقضاء المندوب، ونحو ذلك كثير.
وقوله: اتباعا له. يُخرج ما كان على سبيل الاتفاق، نحو أن يتفقا على أداء الظهر تعظيما لله تعال، ى وامتثالا لأمره.
وكذا قوله: أو تركه. كذلك يخرج ما إذا اتفقا على ترك محظور خوفا من الله تعالى، وامتثالا لنهيه.
(( فما ))فعله الشارع و(( علمنا وجوبه من أفعاله ))، وتروكه (( فظاهر )) في أنه يجب علينا مثله.
(( وما علمنا حسنه )) من أفعاله، وتروكه (( دون وجوبه فندب )). أي: فيحمل على الندب إذ قد أمرنا بالتأسي.فإذا لم يكن واجبا تعيَّن الندب، لكن (( إن ظهر فيه قصد القربة ))كالصدقات النافلة (( وإلا فإباحة )). إذا لم يظهر فيه قصد القربة، كالصيد.إذ لو لم يكن مباحا لكان ظلما، وكذلك القصاص.
(( وتركه )) صلى الله عليه وآله وسلم (( لما كان أمر به ينفي الوجوب )) .فلو أمرنا بأمر في وقت معين، ثم لم يفعله في ذلك الوقت، لا لسهو، ولا لكونه نفلا، علمنا أن الوجوب قد ارتفع. ((وفعله )) صلى الله عليه وآله وسلم (( لما كان نهى عنه يقتضي الإباحة )) .فلو نهانا مثلا عن قتل القمل في الصلاة، أو عن الرمي بالنخامية في المسجد، ثم فعل ذلك اقتضى فعله الإباحة لذلك.لأنها لا تجوز عليه المعصية. فما طريقه التبليغ، فيحكم بأنه مباح لأنه قد استوى فيه الفعل والترك، وهذا حقيقة المباح.
وأما القسم الثالث: وهو (( التقرير )) منه صلى الله عليه وآله وسلم لأحد على فعل، أو ترك.
(( فإذا عَلم صلى الله عليه وآله وسلم بفعل من غيره )) وتنبه له بحيث لو كان مخالفا للشريعة لأنكره، لأنه لا يصح منه السكوت على منكر، (( ولم ينكره وهو قادر على إنكاره، وليس كمضي كافر إلى كنسية )). إذ لو كان كذلك لم يكن سكوت النبي صلى الله عليه وآله وسلم رضىً. لأنه غير راضٍ بكفره.

(1/21)


(( ولا أنكره غيره )) لجواز الاتكال على إنكار الغير، بل ذلك تقرير للإنكار من الغير، فكأنه قد أنكر بالمقال، فلا يكون ذلك الفعل حينئذ جائزا .فإذا كان كذلك (( دل ذلك )) التقرير (( على إباحته )).أي: إباحة الفعل المسكت عنه. إذ لو كان منكرا لما سكت عنه، لأن سكوته عن المنكر مع تكامل الشروط المذكورة لا يجوز.
(( واعلم أنه لا تعارض في أفعاله صلى الله عليه وآله وسلم )). التعارض بين الأمرين هو: تقابلهما على وجه يمنع كل واحد منهما مقتضى صاحبه. ولا يُتَصور التعارض بين الفعلين، بحيث يكون أحدهما ناسخا للآخر، أو مخصصا له، لأنهما إن لم تتناقض أحكامهما فلا تعارض، وإن تناقضت فكذلك أيضا. نحو: صوم يوم وإفطاره.لأن الفعلين إنما يقعان في وقتيين متباينين، ويجوز أن يكون الفعل في وقت واجبا، وفي مثل ذلك الوقت بخلافه. فحينئذ يُقطع بتأخر أحدهما. فيمكن التأسي به صلى الله عليه وآله وسلم فنكون متعبدين بالفعل في وقت، وبالترك في آخر. إلا أن يكون مع الفعل الأول قول مقتض لتكرره، فإن الفعل الثاني قد يكون ناسخا لذلك القول، لا الفعل فتأمل! بخلاف القولين، أو القول والفعل، ولذا قال (( ومتى تعارض قولان، أو قول وفعل، فالمتأخر ناسخ )) إن تراخى وقتا يمكن العمل بالأول فيه.
(( أو مخصص )) إن لم يتراخ.
(( فإن جُهل التاريخ )) فلم يُعلم أي: هما متأخر (( فالترجيح )) حينئذ يرجع إليه. وسيأتي وجوهه في بابه إن شاء الله تعالى.
(( وطريقنا إلى العلم بالسنة )) بأقسامها، (( والأخبار ))، وهي: جمع خبر. وسيأتي حقيقة الخبر إن شاء الله تعالى.
(( وهي )) أي: الأخبار. قسمان: (( متواتر، وآحاد )). لأن الخبر إما أن يفيد بنفسه العلم بصدقه أولا؟ فالأول: المتواتر.والثاني: الآحاد. وهو: الذي لا يفيد بنفسه العلم بصدقه. فالمستفيض وهو: ما زاد نقلته على ثلاثة، نوع من الآحاد. فلا واسطة بين المتواتر والآحاد.

(1/22)


(( فالمتواتر )) التواتر في اللغة: تتابع أمور واحد بعد واحد بفترة.[مأخوذ] من الوتر، ومنه{ ثم أرسلنا رسلنا تتري}. أي: شيئا بعد شيء مع فترة.
وفي الاصطلاح: (( خبر جماعة يفيد بنفسه العلم بصدقه )).قوله: خبر جماعة احتراز من خبر الواحد، وإن أفاد العلم كالمحفوف بالقرائن. فإنه لا يسمى متواترا. وقوله: يفيد بنفسه. ليخرج خبر جماعة عرف صدقهم لا بنفس الخبر، بل: بالقرائن الزائدة على مالا ينفك الخبر عنه.
(( ولا حصر لعدده )) في مقدار مُعَيَّن على الصحيح (( بل هو ما أفاد العلم الضروري )) فلا يتعين له عدد. بل يختلف ذلك باختلاف الوقائع، والمخبرين، والمستمعين. وذلك لأنا نقطع بحصول العلم بالمتوترات من البلدان، كمكة، ومصر، والأمم الماضية الخالية، كالأنبياء، والصالحين، والملوك والمتقدمين، من غير علم بعدد مخصوص لا متقدما ولا متأخرا .
وما ذهب إليه بعضهم: من اشتراط الخمسة، أو الأثنى عشر، أو العشرين، أو الأربعين، أو السبعين، فمما لا دليل عليه. والعلم الحاصل من التواتر لا يكون حجة على الغير، لجواز أن لا يكون ذلك حاصلا له.
واعلم أن شروط التواتر_ أي: ما يوصف الخبر بأنه متواتر معها، بحيث لو اختل أحدها لم يكن متواترا – أمور. منها ما يرجع إلى المخبرين، ومنها ما يرجع إلى السامعين .
أما ما يرجع إلى المخبرين فمنها: أن يبلغ عددهم مبلغا يمتنع بحسب العادة تواطؤهم على الكذب.وذلك يختلف باختلاف المخبرين والوقائع والقرائن .
ومنها: أن يكونوا مستندين إلى إحدى الحواس. كالأخبار عن البلدان، والأصوات، والمطعمات، والمشمومان.فأما ما لم يستندوا فيه إلى ذلك نحو الأخبار عن حدوث العالم، أو أن الله تعالى قادر، وليس بحسم، أو نحو ذلك من المعقولان، فإنه لا يفيد العلم قطعا .
ومنها: إذا نقل جماعة عن جماعة، اشتُرِط فيه استواء الطرفين والوسط، بمعنى: بلوغ جميع طبقات المخبرين في الأول والأخر والوسط بالغا ما بلغ عدد التواتر .

(1/23)


وأما الراجعة إلى السامعين فأمران:
أحدهما: أن لا يكون السامع للخبر المتواتر عالما بمدلوله بالضرورة، فإنه إذا كان كذلك لم يفد التواتر علما. لامتناع تحصيل الحاصل. الثاني ذكره بعضهم، وهو: أن لا يكون السامع للمتواتر معتقدا لمدلول خلافه، إما لشبهة دليل، حيث يكون من العلماء، أو لتقليد، حيث يكون من العوام.فإن ارتسام ذلك في ذهنه واعتقاه له يمنع من قبول غيره.
ومن هذا ما ورد في الأثر: ( حبك للشيء يعمي ويصم ).
وقيل: إن هذا ليس بشرط.
ودليل حصول هذه الشروط هو: حصول العلم. فمتى أفاد الخبر بمجرد العلم، تحققنا أنه متواتر، وأن جميع شرائطه موجودة. وإن لم يفده علمنا عدم تواتره، أو فقدان شرط من شرائطه.كذا ذكره بعضهم فافهم ذلك. فهذه هي الشروط المعتبرة عند الأكثر.
وقد اشتُرِط غير هذه الشروط. منها: الإسلام، والعدالة. والصحيح أنهما ليسا بشرط.ولهذا قال المصنف:
(( ويحصل )) العلم (( بخبر الفاسق والكافر )) فلا يشترط الإسلام، ولا العدالة، بدليل أنا نجد العلم الضروري بأخبار الملوك والبلدان، والنقلة غير ثقاة، وسواء جوزناها مؤمنين أم كفارا أم فساقا .
ومنها: اختلاف الدين والبلد والوطن والنسب .
ومنها: وجود الإمام المعصوم .
ومنها: دخول أهل الذل فيهم.
ومنها: كونهم بحيث لا بحصرهم عدد، ولا يحويها بلد.والصحيح أن هذه كلها ليست بشروط لما تقدم .
واعلم أن التواتر قد يكون لفظيا وهو ما تقدم، وقد يكون معنويا، وقد بينه بقوله:

(1/24)


(( وقد يتواتر المعنى دون اللفظ )) والتواتر المعنوي هو: أن ينقل العدد الذي يستحيل تواطؤهم على الكذب وقائع مختلفة مشتملة على قدر مشترك. وذلك: (( كما في شجاعة علي ))كرم الله وجهه، حيث روي أنه قتل يوم الخندق كذا، وأخبر آخر أنه هزم في خبر كذا، وأخبر آخر أنه فعل في أحد كذا، إلى غير ذلك. فكل واحدة من هذه الجزئيات لم تبلغ حد التواتر، بل أفادت بالالتزام كونه شجاعا. (( و )) كذا (( جود حاتم )) فيما يحكى أنه أعطى دينارا، وأخبر آخر أنه أعطى جملا، وأخبر آخر أنه أعطى شاة، هلم جرا حتى بلغ المخبرون عدد التواتر. فيُقطع بوجود القدر المشترك _ أعني الشجاعة، والجود _ لوجوده في كل خبر من هذه الأخبار.
قيل: والقدر المشترك هنا هو مجرد الإعطاء، لا الكرم والجود، لعدم وجودهما في كل واحد من الجزئيات.
قلت: بل والكرم والجود أيضا يقطع بوجودهما، لأنهما وإن لم يوجد لفظهما، فهذه الأخبار تتضمنهما، فتأمل ذلك. وهذا هو المسمى بالتواتر المعنوي، لأن المتواتر إنما هو المعنى فقط كما تقرر.
(( و )) القسم الثاني من الأخبار (( الآحاد )) وحقيقته: ما لا يفيد بنفسه العلم. وسواء كان خبر واحد أو جماعة، فيدخل المستفيض كما تقدم، وكذا ما أفاد العلم بقرينة.
واختلف في وجوب العلم به. والمختار: وجوبه عقلا وسمعا.
أما العقل: فأنا نعلم ضرورة أن من أُحضر إليه طعام، وأخبر معدَّل أنه مسموم، وغلب في ظنه صدقه، ثم أقدم عليه مع غلبه الظن استحق الذم قطعا. وذلك هو معنى الوجوب.
وأما السمع فما سيأتي عن قريب أن شاء الله تعال.
والآحاد قسمان: (( مسند، ومرسل )).
وحقيقة المرسل في الاصطلاح: قول العدل الذي لم يلق النبي صلى الله عليه وآله وسلم: قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم كذا.
وسواء كان تابعيا أو غيره.وسمي مُرسِلا: لكونه أرسل الحديث أي: أطلقه، ولم يذكر من سمعه منه.

(1/25)


واختلف في قبوله: والمختار القبول. لإجماع الصحابة على ذلك، ولإرسالهم أيضا. بدليل قول بعضهم: ليس كلما أحدثكم به سمعته من رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، غير أنا لا نكذب. فصرح بالإرسال ولم ينكر عليه. ونظائره كثيرة كما سيأتي في بسآئط هذا الفن.
(( ولا يفيد )) الآحاد بنفسه (( إلا الظن، ويجب العمل به في مسائل الفروع، إذ كان صلى الله عليه وآله وسلم يبعث الآحاد)) من العمال والسعاة (( إلى النواحي لتبليغ الأحكام )). وقد علمنا أن المبعوث إليهم كانوا مكلفين بمقتضى ما أتوا به، وهم آحاد.
(( و )) أيضا (( لعمل الصحابة رضي الله عنهم )) بأخبار الآحاد، فإنه قد تواتر إجماعهم على وجوب العمل به. وذلك كخبر عبد الرحمن بن عوفي: في جزية المجوس فإنه لما روى قوله صلى الله عليه وآله وسلم: (( سنوا بهم سنة أهل الكتاب… )) الخبر. عمل به عمر. وكذا كتاب عمرو بن حزم في الدية والزكاة، فإن عمر عمل بما فيه، من أن في كل إصبع عشرا من الإبل، وكان يرى أن في الخنصر ستا، وفي البنصر تسعا، وفي الإبهام خمسة عشر، وفي كل من الأُخر عشرا. وعمل أيضا بما فيه من تفاصيل زكاة المواشي. وكذا عمل الصحابة بخبر حَمَل بن مالك في أن الجنين إذا خرج ميتا وجب فيه الغرة. وأطبقوا عليه بعد أن اختلفوا. وكان عمر يرى أن لا شئ فيه إذا خرج ميتا. وكذا عملوا أيضا بخبر الضحاك بن قيس _ قيل وهو الأحنف بن قيس _ في توريث المرأة من دية زوجها، حين روى أنه كتب إليه صلى الله عليه وآله وسلم أنه يورث امرأة الضبابي من دية زوجها. وأطبقوا عليه أيضا بعد أن اختلفوا في ذلك. وعمل علي كرم الله وجهه بخبر عمر، والمداد، في حكم المذوي. وعملت الصحابة بخبر أبي بكر في أن الأنبياء يدفنون في المنزل الذي يموتون فيه، حتى حفر للرسول صلى الله عليه وآله وسلم في موضع فراشه. فدلت هذه الأخبار ونحوها: على وجوب العمل بخبر الآحاد من وجهين:

(1/26)


أحدهما: أنها تضمنت الإجماع. لأن الصحابة كانوا بين عامل وساكت سكوت رضى _ والمسألة قطعية _ فكان إجماعا.
والثاني: أنها وإن لم تتواتر لفظا فقد تواترت معنى. لأنه قد تواتر القدر المشترك، وهو العمل بخبر الواحد، كما لا يخفى. وهذا هو الدليل السمعي على وجوب العمل بالخبر الآحاد. والله أعلم.
(( ولا يؤخذ بأخبار الآحاد في )) مسائل (( الأصول )) أي: مسائل أصول الدين، ومسائل أصول الفقه القطعية، وأصول الشريعة. وذلك لأن هذه الأشياء إنما يؤخذ فيها باليقين، وأخبار الآحاد لا تثمر إلا الظن، وهو مضمحل في محل العلم. ألا ترى أن عائشة ردت خبر تعذيب الميت ببكاء أهله وتَلَتْ{ولا تزر وازرة وزر أخرى}. ووافقها على ذلك ابن عباس. ونظائر ذلك كثيرة. ولكن خبر الواحد في مثل هذه الأمور إذا وافق الأدلة القاطعة لا يكذب ناقله، لجواز أن يكون صلى الله عليه وآله وسلم إنما قصره على هذا اكتفآءً بالأدلة القاطعة. وذلك كأخبار الآحاد في نفي الرؤية، وما أشبه ذلك.
(( وكذا لا يقبل خبر الآحاد فيما تعم به البلوى علما )) بل يجب أن يرد، ويكذب ناقله.
وذلك (( كخبر الأمامية )) الذي رووه في النص على اثني عشر إماما معينين بأسمائهم وأنسابهم.
(( و )) كذا خبر (( البكرية )) الذي رووه في النص على إمامة أبي بكر .
ومعنى عموم البلوى في العلم: شمول التكليف لجميع المكلفين لو ثبت وروده عن الشارع. فما كان كذلك فإن الآحاد لا يقبل في إثباته، ولزوم التكليف به. بل يُرَدُّ كما بينا. لأن قبول مثل ذلك يؤدي إلى هدم الشريعة، وتحوير نسخها بناسخ لم تستفض، ومعارضات للقرآن قادحة في إعجازه، وغير ذلك من الجمالات. فما أدى إلى ذلك وجب منعه والله أعلم.
(( و )) أما خبر الواحد (( فيما تعم به البلوى عملا )) فقط لا علما وعملا فإنه مما يجب رده، كمسائل أصول الفقه القطعية، وأصول الشريعة كما ذكرنا.

(1/27)


وذلك (( كحديث مس الذكر )). وهو قوله صلى الله عليه وآله وسلم: (( لا يمس أحدكم ذَكَره بيمينه وهو يبول )).
وقوله صلى الله عليه وآله وسلم: (( مَن مَسَّ ذَكَره فليتوضأ )).
وكذا في وجوب الغسل من غسل الميت، وغسل اليدين عند القيام من النوم. إذ روي عنه صلى الله عليه وآله وسلم. ففي قبوله
(( خلاف )) بين الأصوليين.
والصحيح: أنه يقبل. إذ لم يفصل دليل العمل بخبر الواحد في العمليات، بين ما تعم به البلوى، وما لا تعم. وأيضا فإن الأمة قَبِلْته في تفاصيل الزكاة، ووجوب الغسل من التقاء الخطافين. وهما مما تعم به البلوى.
المانعون من قبوله قالوا: ردَّ عمر حديث الاستئذان لما رواه أبو موسى الأشعر، ولم يقبل حتى أتى بشاهد. و[رد]أبو بكر حديث المغيرة في أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: فرض للجدة السدس حتى كثر الراوي. فدل ذلك على: رد خبر الواحد فيما تعم به البلوى عملا.
قلنا: إنما ردَّاهما لعدم الثقة بالمخبرين، لا لكونه مما تعم به البلوى عملا.
قلت: ولذلك قَبِل عمر حديث أبي موسى الأشعر حير رواه معه أبو سعيد. و[قَبِلَ]أبو بكر حديث المغيرة حين رواه معه محمد بن مسلمة. وهو لم يخرج بذلك عن كونه آحاديا. فهو دليل لنا على قبول خبر الواحد في ذلك فتأمل!
(( وشرط قبولها )) أي: أخبار الآحاد أمور:
بعضها: في المخبِر _ بكسر الباء _ وهو الرواة. وبعضها: في الخبر. أما التي في المخبر فأمر أن:
الأول: (( العدالة )) وهي في اللغة: عبارة عن التوسط في الأمر من غير إفراط إلى طرفي الزيادة والنقصان.
وفي الاصطلاح: قال ابن الحاجب هي: محافظة دينية تحمل صاحبها على ملازمة التقوى، والمروءة ليس معها بدعة.
قوله: دينية. ليخرج الكافر.
وقوله: على ملازمة التقوى. احتراز عما يُذم به شرعا، فيخرج الفاسق.
وقوله: والمروءة. أي: وتحمل على ملازمة المروءة، واحترز به عما يُذم به عرفا.

(1/28)


قيل: والمروءة هي أن يسير بسيرة أمثاله، في زمانه ومكانه. فلو لبس الفقيه القباء، أو الجندي الجبة والطيلسان، ردت روايته وشهادته.
وقيل: هي أن يصون نفسه من الأجناس، ولا يهينها عند الناس.
وقيل: هي أن يتحرز عما يُسخر منه ويُضحك
قلت: والتفسير الثاني أولى لعموم والله أعلم.
وزاد قوله: ليس معها بدعه. لأن التقوى تتعلق بالعمليات خاصة، فزاد ذلك ليعم ما يتعلق بالاعتقادات، فحينئذ يخرج المبتدع .
قلت: وهذا القيد يحتاج إليه من لم يقبل رواية كافر التأويل وفاسق. وأما من قبل روايتهما فيحذفه، أو يقول في حقيقة العدالة: هي مَلَكة أي: هيئة راسخة في النفس، تمنعها عن ارتكاب الكبائر والرذائل المباحة. وسيأتي الكلام في ذلك. ثم لما كانت حقيقة العدالة – أعني_ قوله: محافظة دينية… الخ. هيئه نفسية خفية، جعل لها علامات تتحقق بها، وهي اجتناب أمور:
منها: الكبائر. وقد روي عن ابن عمر أنها: الشرك بالله تعال، ى وقتل النفس بغير حق، والقذف للمحصن، والزنا، والفرار من الزحف، والسحر، وأكل مال اليتيم، وعقوق الوالدين المسلِمَين، والإلحاد في الحرم. وزاد أبو هريرة: أكل الربا. وعلي عليه السلام: السرقة، وشرب الخمر. فهذه كبائر، وما عداها فملتبس حاله.
ومنها: الإصرار على الصغائر.
قيل: ويرجع الإصرار إلى العرف، وبلوغه مبلغا ينفي الثقة.
ومنها: ترك بعض الصغائر. وهو ما يدل على خسة النفس، ودناءة الهمة، كسرقة لقمة، والتطفيف بحبة من تمر أو نحوه.
ومنها: ترك بعض المباح. وهو ما يدل على الخِسَّة والدناءة أيضا. كاللعب بالحمام اعتيادا لا نادرا، والاجتماع بالأرذال، والحرف الدنيئة كالدباغة والحياكة، ممن لا يليق به من غير ضرورة تحمله على ذلك، لأن مرتكبها لا يتجنب الكذب غالبا.

(1/29)


(( و )) الثاني: (( الضبط )) من الراوي لما يرويه. فإن كان لا يقدر على الحفظ، بل غالب أحواله السهو، فلا تقبل روايته ولو كان عدلا، لأنه يُقدِم على الرواية ظانا أنه ضبط وما سهى. والأمر بخلافه.
واعلم أنه لا يُشترط في الضبط إلا أن يكون هو الغالب من أحواله، وإن غفل في بعض الأحوال فلا يضر.
فإن استوى الحالان؟
فقيل: يقبل.
وقيل: لا يقبل.
وقيل: موضع اجتهاد للمجتهد. وهذا هو الأولى. وذلك كأخبار أبي هريرة، ووابصة بن معبد، ومعقل بن يسار. فيعمل في ذلك الناظر بحسب القرائن الدالة على الضبط وعدمه. وإلا وجب الوقف.
(( و )) أما التي في الخبر فأمران أيضا:
الأول: (( عدم مصاد متها )) أي: أخبار الآحاد (( دليلا قاطعا )) أي: لا يتخصص، ولا ينسخ، ولا يحتمل التأويل بوجه، وسواء كان اقليا أو عقليا. وذلك كرائح الكتاب والسنة المتواترة، والإجماع القطعي، وما علم بضرورة العقل. فإن ما صادم هذه لا يقبل، لأن الظني لا يقوى على مقاومة القطعي. وقد انعقد الإجماع على تقديم المقطوع به على الظنون. فلا يجوز التمسك بخبر الواحد حينئذ. إلا أن يَقبل التأويل قُبِل وتُؤُوِّل، جمعا بين الأدلة والله أعلم.
(( و )) الثاني (( فَقدُ استلزام تعلقها الشهرة )) بمعنى: أنه لو ثبت تعلقها أي: ما تتعلق به لاستلزم الشهرة، فإذا استلزمها وفُقِدَت لم يقبل.
مثال ذلك: أن يرد آحادا فيما تعم به البلوى علما، كالمسائل الإلهية. أو علما وعملا، ألو ورد خبر آحادا بصلاة سادسة، أو حج بيت ثانٍ، أو صوم شهر ثانٍ، فإن ذلك لا يُقبل. لأنه لو ثبت لاشتهر.
فإذا عرفت هذه الشروط ومن جملتها العدالة، فَلْنُبَيِّن ما تثبت به العدالة فنقول:
(( وتثبت عدالة الشخص )) الشاهد والراوي إذا كان مجهولا غير صحابي بأحد أمرين:
الأول: الإخبار بها. وهو واضح، كأن يقول المخبر: هو عدل، أو مقبول الشهادة أو الرواية. ويكفي فيه خبر واحد كما يأتي.

(1/30)


والثاني: التزكية. وهي تحصل بأحد أمور ثلاثة:
الأول: وهو أعلاها بعد القول (( بأن يحكم بشهادته حاكم يشترط العدالة )) في الشهادة، فإن كان لا يشترطها بأن كان ممن يرى قبول شهادة الفاسق الذي عُرف منه أنه لا يكذب لم يكن حكمه تعديلا.
(( و )) الثاني: وهو بعده (( بعمل العالم بروايته )) إذا كان يرى العدالة شرطا في قبول الرواية. وإن كان لا يراها فلا.
قيل: وكذا لا يكون العمل تعديلا إذا أمكن حمله على الاحتياط، أي: إن صح ثبوته فقد خرج عن العهدة، أو على العمل بدليل آخر وافق الخبر.
قلت: هذا صحيح لعدم الجزم حينئذ بأن العمل كان لأجل ذلك الخبر فافهم والله أعلم.
الثالث: من طرق التزكية قوله: (( قيل وبرواية العدل عنه )) وهذا هو أضعفها.
واعلم أنه قد اختلف في رواية العدل هل هي تعديل للمروي عنه أم لا ؟ على ثلاثة أقوال، إطلاقكن، وتفصيل الإطلاق:
الأول : أنها تعديل مطلقا.
والإطلاق الثاني: أنها ليست بتعديل مطلقا.
وأما التفصيل فهو: أن يقال إن كان عادته أن لا يروي إلا عن عدل كانت روايته عن ذلك المجهول تعديلا. استناداً إلى عادته المعروفة، وإلا فلا. وهذا قوي جدا. لأن العادة تُقَوِّي الظن.

تنبيه
يُشترط في المزكِّي أن يكون عدلا، فيُحتاج إلى تعديله. قال بعضهم: وإن أدى إلى التسلسل. وإنما ترك هذا لوضوحه والله أعلم.
واعلم أنه قد اختلف في التزكية والجرح من ثلاث جهات:
الأولى: في العدد.
فقيل: يشترط في الرواية والشهادة، فلا بد من اثنين
عد لين في الجرح والتعديل فيهما .
وقيل يكفي واحد في الرواية، أي: حيث يكون الجرح والتعديل لشاهد، وذلك لأن الرواية تثبت بواحد، فكذلك ما هو شرط فيها. بخلاف الشهادة فلا يكفي، فكذلك شرطها.
(( و )) القول الثالث _ وهو المختار _ (( أنه يكفي واحد في التعديل والجرح )) في الرواية والشهادة، إذ القصد فيهما الظن، وهما خبر لا شهادة، فيكفي واحد عدل كسائر الأخبار. قلت: وكذا العدالة أيضا.

(1/31)


الجهة الثانية: إذا تعارض الجرح والتعديل فقد اختلف فيه على ثلاثة أقوال أيضا:
فقيل: لا يُرجَّح أحدهما على الآخر إلا بمرجع.
وقيل: يُقدَّم التعديل إذا زاد المعدلون على الجارحين.
(( و )) القول الثالث: _ وهو المختار _ أن (( الجارح أولى )) بأن يُعمَل بقوله. فتُرَدُّ رواية المجروح وشهادته. (( وإن كثر المعدِّل )). أو حصل فيه مرجح آخر. وذلك لأن في تقديم الجرح جمعاً بين التعديل والجرح. فإن غاية قول المعدِّل: أنه لم يعلم فسقاً ولم يظنه فظن العدالة. إذ العلم أتعدم لا يُتصور. والجارح يقول: أنا أعلم فسقه. فلو حكمنا بعدم فسقه كان الجارح كاذبا.ً ولو حكمنا بفسقه كانا صادقين فيما اخبرا به. والجمع أولى ما أمكن. لأن تكذيب العدل خلاف الظاهر. وهذا إذا أطلقا، وأما إذا عيَّن الجارح سبباً ونفاه المعدِّل بطريق معتبرة، كما إذا قال الجارح: قتل فلاناً ظلماً وقت كذا في مكان كذا. فقال المعدل: رأي: ته حياً بعد ذلك الوقت، أو كان القاتل ذلك الوقت عندي، أو في غير ذلك المكان الذي ادعا أنه قتله فيه. فإنهما يتعارضان. فيرجع إلى الترجيح بين الخبرين. فإن حصل مُرَجِّح عمل به، وإلا تساقطا الخبران، ورُجِع إلى البراءة الأصلي. والله أعلم
الجهة الثالثة: في بيان ما به التزكية والجرح هل يكفي الإطلاق فيهما أو لا بد من ذكر السبب ؟ اختلف في ذلك:
فقيل: لا يكفي فيهما. أما في العدالة فلأنه قد يكثر التصنُّع فيها فيتسارع الناس إلى البناء فيها على الظاهر.
وأما في الجرح فلأنه يحصل بخصلة واحدة فيسهل ذكرها. وأيضا قد اختلف الناس فيما يُجرح به؟ بخلاف العدالة فلم يختلف في سببها.
وقيل: يكفي الإطلاق فيهما. لأن المزكي إن كان بصيرا قبل جرحه وتعديله، وإلا فلا.
وقيل: يقبل في التعديل دون الجرح. للاختلاف في أسباب الجرح، دون العدالة فسببها واحد لم يُختلف فيه.
ورُدَّ بأن اجتناب أسباب الجرح أسباب للتعديل. والاختلاف فيها اختلاف في العدالة.

(1/32)


(( و )) المختار التفصيل وهو: أنه (( يكفي الإجمال )) بان يقول: هو عدل أو فاسق (( فيهما )) أي: في الجرح والتعديل. ولا حاجة إلى ذكر السبب. ولكن إن صدرا (( من عارف )) أي: إذا كان المزكي عارفا بأسباب الجرح والتعديل اكتفينا بإجماله، وإلا فلا. لأنا لو أثبتنا أحدهما بقولِ من ليس بعالمٍ بهما لأثبتناه مع الشك! بخلاف العالم والله أعلم.
(( و )) اعلم أنه إذا تعارض القياس وخبر الواحد، فإن أمكن تخصيص الخبر بالقياس خُصِّص به. كما سيأتي. وإن أمكن العكس،
قيل: فكذلك أيضا. أي: يجوز تخصيص القياس بالخبر. وإن تعارضا من كل وجه، فاختلف في ذلك؟ والمختار أنه (( يقبل الخبر المخالف للقياس فيبطله )).أي: يبطل القياس. وهذا إذا كان القياس ظنياً.وأما إذا كان قطعياً بأن تكون مقدماته – وهي الأصل، والفرع، والعلة، والحكم – ثابتة بدليل قطعي، فإنه يُقدَّم حينئذ على خبر الواحد. وذلك واضح. وإنما اختير تقديم الخبر حيث هما ظنيان لوجهين.
الأول: أن الخبر أقوى من القياس. لأن الخبر إنما يُجتهد فيه في أمرين فقط:
1_ في العدالة.
2_ وكيفيه الدلالة.
والقياس يُجتهد فيه في ستة أمور:
1_ في حكم الأصل.
2_ وتعليله.
3_ وصف التعليل.
4_ ووجوده في الفرع.
5_ ونفي المعارض فيهما.
6_ وفي[نفي المعارض في] المذكورين أولاً حيث حكم الأصل ثابت بخبر.
وإذا كان كذلك، كان تطرق الخلل إلى الخبر أقل من تطرقه إلى القياس فيقدم.
الثاني: أن الصحابة رضي الله عنهم كانت تترك القياس، وترجع إلى الخبر. كما روي عن عمر: أنه ترك القياس وعمل بالخبر في مسألة الجنين، حين روي له: أنه صلى الله عليه وآله وسلم قضى فيه بالغرة. وقال: لو لا هذا لقضينا فيه برأينا. وكما روي عنه أيضا: أنه ترك رأيه في دية الأصابع ورجع إلى كتاب عمر وبن حزم كما تقدم.
(( ويُرد ما خالف الأصول المقررة )). ما تقدم كلام في خير الواحد إذا خالف القياس.

(1/33)


وأما إذا خالف غيره، فإن كان آحاديا مثله قُبِل وتعارضا، ورُجِع إلى الترجيح.
وإن كان غير آحادا، فإنه يُرد. هذا هو المراد هنا.
قوله: المقررة. وهي كلما أفاد العلم من الأدلة العقلية، والنصوص النقلة من الكتاب والسنة المتواترة والإجماع القطعي. وذلك لأن الظن مضمحل في مقابلة القاطع.وقد قيل بقبوله.
(( و )) اعلم أنها (( تجوز الرواية )) لحديث الرسول صلى الله عليه وآله وسلم (( بالمعنى )) أي: بلفظ آخر غير لفظه.ولكن ذلك لا يجوز إلا إذا كانت الرواية (( من عدل عارف )) بمعاني
الألفاظ، (( ضابط )) بحيث لا يزيد على ما يقتضيه اللفظ ولا ينقص. ولكن الرواية بصورة اللفظ أولى، مهما أمكن. هذا هو المختار عند الأكثر.
وقيل: لا يجوز الرواية إلا باللفظ الذي نطق به صلى الله عليه وآله وسلم. لقوله صلى الله عليه وآله وسلم (رحم الله امرأً سمع مقالتي فوعاها وأداها كما سمعها ). والناقل بالمعنى لم يؤد كما سمع .
قلنا: ليس في هذا ما يدل على منع الرواية بالمعنى.وإنما يدل على أن الرواية باللفظ أولى. وذلك مما نقول به. والدليل على ما اخترناه أمران:
الأول: أن المقصود بالخطاب هو تأدية المعنى، دون اللفظ فيما لم نتعبد بتلاوته كالسنة مثلا، بخلاف القرآن.وإذا كان كذلك جازت الرواية بالمعنى مع الضبط، وهذا لا إشكال فيه .
الثاني: أن الصحابة كانوا ينقلون الواقعة الواحدة بألفاظ مختلفة، والذي نطق به صلى الله عليه وآله وسلم لفظ واحد، والثاني نقل بالمعنى قطعا. وتكرر ذلك وشاع وذاع، ولم ينكره أحد فكان إجماعا على جوازه .
قيل: وأيضا فإن الصحابة رضي الله عنهم ما كانوا يكتبون الأحاديث ولا يكررون الدرس، بل يروونها بعد أزمان طويلة على حسب الحادثة، وذلك موجب لنسيان اللفظ قطعا.

(1/34)


قلت: وهذه الحجة تدل على أن أكثر الأحاديث المروية عنه صلى الله عليه وآله وسلم إنما هي بالمعنى، فتأمل ذلك موفقا إن شاء الله تعالى. (( واختلف في قبول رواية فاسق التأويل )) وهو الباغي على إمام الحق، وهو من يعتقد أنه محق والإمام مبطل، وله مَنَعَةٌ، وحاربه أو عزم على محاربته. (( و ))كذلك (( كافر )) أي: كافر التأويل، وهم المجبرة والمشبهة .
فقيل : بقبول أخبارهم لتحاشيهم عن الكذب وتجنبهم له، سيما الخوارج. فإنهم يعتقدونه كفرا. وكذا تقبل فتاواهم .
وقيل : لا يقبلان كما في كافر التصريح وفاسق.
وقيل: تقبل أخبارهم لما تقدم. دون فتاواهم. لأن خطأهم في الأدلة العقلية يرجح الظن بخطأ هم في الإمارات. وهذا قوي والله أعلم.
(( والصحابي )) _ بياء النسبة _ اسم لنوع خاص من بين من يطلق عليه اسم الصحبة.
وهو(( من طالت مجالسته للنبي صلى الله عليه وآله وسلم متبعا لشرعه )) فمن لم تَطُل مجالسته للنبي صلى الله عليه وآله وسلم، أو طالت من دون اتباع لشرعه، لم يُسَمَّ بهذا الاسم. ولا يحتاج إلى أن يزاد في الحد: وبقي على ذلك بعد موته. لأنه يخرج بذلك من مات قبل وفاة الرسول صلى الله عليه وآله وسلم. وكذا من فَسَقَ. لأن الفسق لا يخرجه عن كونه صحابيا.
واعلم أنها تتعلق بمعرفة الصحابة أمور:
منها: العدالة. كما سيأتي .
ومنها: إذا قال: أُمرنا بكذا. هل يحمل إن الآمر الرسول صلى الله عليه وآله وسلم أم لا؟
فقيل: يحمل.
وقيل: لا يحمل.
وهذا الخلاف إنما هو في الصحابي فقط .
ومنها: إذا نَقل خبرا عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم هل يحمل على أنه سمعه منه أو أرسله؟ ومن غيره لا يحمل إلا على الإرسال .
ومنها: إذا ذكر حكما طريقه التوقيف. هل يحمل على الاجتهاد أو على التوقيف؟ إلى غير ذلك .
فإن قلت: وبماذا يُعرف الصحابي ؟!
قلت: إما بمشاهدة، أو بتواتر، كما في العشرة، أو بإجماع الأمة أن فلانا صحابي، وهذه تفيد العلم.

(1/35)


أو بقول الثقة: أنه نفسه، أو غيره صحابي. وهذا يفيد الظن. والله أعلم .
وإذا تقرر ذلك فقد اختلف في عدالة الصحابة، بمعنى: هل كونه صحابيا يغني عن تعديله أم ل؟!
(( و )) المختار عند الأكثر أن (( كل الصحابة عدول )). لقوله تعالى{محمد رسول الله والذين معه …}الآية. فوصفهم تعالى في هذه الآية بأوصاف من لازمها العدالة. فكانوا عدولا (( إلا من أبى )) العدالة منهم. بأن ظهر فسقه ولم يتب. فإنه لا يكون عدلا. لقوله تعالى{وإن طائفتان من المؤمنين اقتتلوا فأصلحوا بينهما فإن بغت إحداهما على الأخرى فقاتلوا التي تبغي حتى تفيء إلى أمر الله}. فأخبر تعالى: أن الباغية خارجة عن أمره تعالى، وأن حدها القتل حتى ترجع عن بغيها. وذلك يستلزم الفسق .
قلت: فهذه مخصصة لعموم تلك الآية الأولى.وهو يُعمل بالخاص فيما يتناوله، وبالعام فيما بقي. على الصحيح كما يأتي.فتدل الآية الأولى على عدالة من لم يبغ، والثانية على فسق من بغى. فتأمل ذلك. كالباغين على أمير المؤمنين علي، كرم الله وجهه. الذين لم تصح توبتهم من أهل الجمل، وهم الناكثون. والنهران، وهم الخوارج. المارقون. وصفين، وهم معاوية، وعمر بن العاصي. لعنهما الله تعالى.وكذلك من تابعهم، وهم القاسطون. (( على المختار في جميع ذلك )) أي: جميع ما تقدم من جواز الرواية بالمعنى، وقبول رواية فاسق التأويل وكافر، وفي تفسير الصحابي، وفي عدالته، كما تقدم تقرير ذلك.
(( وطرق الرواية )) للأحاديث ونحوها:
اعلم أن الراوي للحديث إما أن يكون صحابيا، أو غيره.
إن كان صحابيا فلروايته طرق:
منها: أن يقول: حدثني رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، أو شافهن، أو أنبأني، أو أخبرني، أو سمعته يقول، أو نحو ذلك.وهذه هي أقوى الطرق. إذ لا إشكال في أنه إنما يقول ذلك إذا سمعه منه.

(1/36)


ومنها: أن يقول: قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: كذا. ولا يضيف إلى نفسه. وهذه دون الأولى. إذ يحتمل إن فيها واسطة. والأظهر: المشافهة. لأنها ممكنة لكونه صحابيا .
ومنها: أن يقول: أمر رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم بكذا، ونهى عن كذا، على البناء للفاعل. وهذه دون ما قبلها .
قيل: لاحتمالها مع ما تقدم أن يكون السامع توهم ما ليس بأمر أمرا.أو أن يكون الأمر ليس فيه لفظ يدل على أمر الكل، أو البعض دائما.
وقيل: لاحتمال أن يكون سمعه أو ثبت عنده بدليل .
قلنا: الظاهر من الصحابي أنه لا يطلق هذه اللفظة إلا إذا سمعها منه، وتيقن المراد بها. فيكون حينئذ حجة. مثل ما تقدم. وما ذكر احتمال بعيد لا يدفع الظهور.
ومنها: أن يقول: أُمرنا بكذا، أُو نهينا. على البناء للمفعول. وهذه دن ما قبلها، ولكنها حجة. لأنها تحمل على أن الآمر: الرسول صلى الله عليه وآله وسلم لأمرين:
الأول: أن المختص بمَلِك إذا قال ذلك، فهم منه إن الآمر: المَلِك لا غيره.
الثاني: أن غرض الصحابي بأي: راد ذلك: الاحتجاج على من خالفه، ولا يكون حجة إلا إذا كان من الرسول الله صلى الله عليه وآله وسلم.
لا يقال: بل قد يكون حجة إذا كان الآمر: الكتاب، أو أهل الإجماع. لأنا نقول: لا يصح حمله على ذلك .
أما الأول: _ أعني _ كون الآمر: الكتاب. فلأنه ظاهر لكل أحد لا يتوقف على إخبار الصحاب، ي فيكون معلوما للجميع، فلا يفيد الإخبار بذلك فائدة جديدة .
وأما الثاني: _ أعني _ كون الآمر: أهل الإجماع. فلأن الصحابي منهم وهو لا يأمر نفسه. ولأن الإجماع أيضا يظهر في كل أحد على حدِّ ظهور القرآن.
وإنما كانت هذه دون ما قبلها، لأن فيها الاحتمالات المتقدمة. مع ما ذكرنا من احتمال أن يكون الآمر: الكتاب أو الإجماع. وما قل احتماله فهو أقوى .

(1/37)


ومنها: أن يقول: من السنة كذا. فيكون حجة.لأنه يحمل على سنة الرسول صلى الله عليه وآله وسلم دون غيرها. لأنهم يوردون ذلك احتجاجا على من خالفهم، ولا يُحتج إلا بالكلام النبوي. وهذه دون ما قبلها. لكثرة استعمال السنة في الطريقة الراجحة. ولكن الظاهر هو الأول. والاحتمال لا يدفع الظهور .
ومنها: أن يقول: عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم. فيحتمل أنه سمعه منه، ويحتمل الإرسال .
قيل: بل الظاهر الإرسال. لأن العنعنة لا تستعمل إلا فيه، واستعمالها في غيره قليل. وهذه دون ما قبلها لذلك .
ومنها: أن يقول: كنا نفعل، أو كانوا يفعلون. كقول عائشة: كانوا لا يقطعون السارق على التافه. فيحمل على أن المراد: كنا نفعل، أو كانوا يفعلون في عهد الرسول صلى الله عليه وآله وسلم مع علمه بذلك من غير إنكار، فيكون حجة. ويكون من باب قوله: من السنة.
وقيل: إنما كان حجة، لأنه ظاهر في قول كل الأمة. فيكون من باب الإجماع.فعلى الأول: لا يكون حجة إلا من الصحابي. لأنه يتوقف على تقييده بعهد الرسول صلى الله عليه وآله وسلم .
وعلى الثاني: يكون حجة ولو من تابعي.
وأقول: لا يبعد أن يقبل منهما، ويكون حجة. فالصحابي لأنه من باب قوله: من السنة.والتابعي لأنه من باب الإجماع. وهذا واضح. والله أعلم .
ومنها: إذا قال الصحابي قولا، أو فعل فعلا، ولا يضيفهما إلى النبي صلى الله عليه وآله وسلم. فإن كان مجتهدا، وللاجتهاد فيه مسرح، حمل على الاجتهاد، كأن يقول: يُحد الغائط مائة جلدة. أو يقول: نصاب الخضراوات ما قيمته مائتا درهم.أو يقول: من لم يجد ماء ولا ترابا، فليتيمم بما صعد على الأرض. فهذا يحتمل الاجتهاد، وأنه سمعه منه.فلا يكون حجة.
وإن لم يكن للإجتهاد فيه مسرح، أو كان. ولكن الراوي ليس من المجتهدين، فإنه يحمل على التوقيف. أي: أنه سمعه منه صلى الله عليه وآله وسلم. لا أنه قاله تبكيتا. تحسينا للظن بالصحابي.

(1/38)


مثال الأول: ما روي عن علي عليه السلام: أن الحيض ينقطع عن الحبلى. لأنه جعل رزقا للجنين .
ومثال الثاني: ما روي أن أنسا قال: الحيض ستة أيام، أو سبعة. لأن أنسا لم يكن مجتهدا.
فهذه جملة طرق الرواية من الصحابة، وقد استوفيناها لكثرة الفوائد التي فيها.
وإن كان غير صحابي، فطرق روايته:
(( أربع )) لكل واحد منها مستند. ولكلٍ لفظ يروى به. وهذه الأربع متفاوتة في القوة.
الطريق الأولى: (( قراءة الشيخ )) والتلميذ يسمع بمحضره.وهي أقواها. فالسند ظاهر، وأما اللفظ فإن قصد إسماعه وحده، أو مع غيره، قال عند الرواية عنه: حدثني، أو أخبرني، أو سمعته يقول، أو يحدث، أو يخبر.: فإن لم يقصد إسماعه، قال: حدث، أو أخبر. ولا يضيفه إلى نفسه. وله أن يقول: سمعته.
(( ثم )) بعدها في القوة الطريق الثانية وهي: (( قراءة التلميذ )) على الشيخ. (( و )) قراءة (( غيره )) أي: التلميذ (( بمحضره )) فالسند فيها أيضا ظاهر .
وأما اللفظ فيقول عند الرواية: كذلك. أي: حدثني، أو أخبرني، أو سمعت منه. ويزيد: قراءةً عليه، إن كان هو القارئ، وإن كان غيره بمحضره زاد: وأنا أسمع.
ويشترط في هذا أن يقول الشيخ: قد سمعتُ ما قرأتَ على فلان. أو يقول التلميذ بعد القراءة، أو قبلها للشيخ: هل سمعتَه ؟
فيقول: نعم. أو نحوه.
فأما لو أشار الشيخ برأسه، أو بإصبعه، إلى أنه سمعه؟
قيل: فهو أيضا يقوم مقام التصريح في الجواب، في جواز الرواية، ووجوب العمل.إلا أنه لا يقول عند الرواية: حدثني، ولا أخبرني، ولا سمعت.
وقيل: بل يقول ذلك.
وإنما كانت الأولى أقوى من هذه. لأن المستمع أخذ ذلك من لسان القارئ، وذلك اكثر تحقيقا.
(( ثم )) بعدهما في القوة:
الطريق الثالثة وهي: (( المناولة )).
وصورتها أن يقول: قد سمعت ما في هذه الكتاب، أو هو من سماعي، أو من روايتي عن فلان، أو يطلقه ولا يسند.

(1/39)


وإنما سميت هذه الطريق مناولة، لأن الشيخ كالذي ناول المخاطب كتابا يروي عنه ما فيه .
قيل: وليس من شرطها حضور الكتاب المناوَل، بل يكفي التعيين بالإشارة، وإن غاب الكتاب. وسواء قال: اروه عني، أولم يقل ذلك. فيقول عند الرواية: أخبرنا، أو حدثنا _ مناولة _ أو آذنا، أو ناولنا .
وهل له أن يطلق فيقول أخبرني أو حدثني ؟
قيل: يجوز.
وقيل: لا يجوز.
ولا يروي عن غير النسخة المناوَلة إلا إذا أمن الاختلاف. والله أعلم.
(( ثم )) بعد هذه لثلاث في القوة:
الطريق الرابعة وهي: (( الإجازة )). وهي أن يقول الشيخ للتلميذ: أجزت لك أن تروي عني الكتاب الفلان، أو اروه عني، ويزيد: فإني قد سمعته. ليكون بذلك محدثا له بما فيه، أو يقول: أجزت لك أن تروي عني ما صح من مسموعات أو مؤلفاتي .
فأما لو قال: أجزت لك. ولم يقل: قد سمعته، جاز له العمل بما فيه دون الرواية.
ويقول عند الرواية: أجاز لي، أو أخبرني _ إجازة _ أو آذنا، أو أنبأني.
فهذه هي الطرق المشهورة. وقد تزاد الجادة. وهي ما يؤخذ من العلم من كتاب من غير سماع، ولا إجازة، ولا مناولة.فهذه يجوز العمل إذا حصلت الثقة بذلك.
وأما الرواية فقيل: لا تجوز.
وقيل: تجوز. ويقول عندها: وجدت، أو قرأت بخط فلان، أو بخط ظننته خط فلان، أو أخبرني ثقة أنه خط فلان. وهذا قريب.
(( ومن تيقن أنه قد سمع جملة كتاب مُعَيَّن، جازت له روايته والعمل بما فيه وإن لم يذكر )) أنه سمع (( كل حديث بعينه )). ولكن لا يكفي ذلك إلا حيث النسخة التي سمعها متعين. أما لو لم تكن متعين، أو كانت متعين، لكن قد خرجت من يده مدة مديدة لا يأمن عليها التحريف والتصحيف في ضبطها، فإنه لا يجوز له الأخذ بما فيها لا عملا ولا رواية، إلا ما غلب على ظنه أنه سليم من ذلك. والله أعلم.

(( تنبيه ))
يتضمن تفسير الخبر، وقسمته إلى الصدق والكذب، وتفسيرهما.
وسماه تنبيها، لأنه قد سبق إليه إشارة ما، في قولنا الأخبار.

(1/40)


اعلم أن الكلام إما خب، ر أو إنشاء، لأنه لا محالة يشتمل على مسند ومسند إليه، ونسبة أحدهما إلى الأخر.
فإن كان لتلك النسبة خارج تدل عليه في الأزمنة الثلاثة فهو الخبر. وإلا فهو الإنشاء.
إذا عرفت ذلك فنقول: (( الخبر هو الكلام الذي لنسبته خارج )) في أحد الأزمنة الثلاثة. أي: يكون بين الطرفين في الخارج نسبة ثبوتية وسلبية.
والإنشاء: عكسه.
والخبر ينقسم أيضا إلى قسمين :
1_ صدق.
2_ وكذب.
ليس إلا. وذلك لأنه إما أن يطابق تلك النسبةَ ذلك الخارجُ أولا؟
(( فإن تطابقا )) أي: النسبة، وذلك الخارج. بأن يكونا ثبوتيين. كما في قولنا: السماء فوقنا. فإن النسبة دلت على ثبوت الفوقية للسماء، وهو كذلك في الخارج.
أو سلبيتين. كما في قولنا: ليست السماء تحتنا. فإن النسبة دلت على انتفاء التحتية للسماء، وهو كذلك في الخارج (( فصدقٌ )) أي: فالخبر صدق.
(( وإلا )) يتطابقا. أي: النسبة وذلك الخارج. بأن تكون النسبة المفهومة من الكلام ثبوتية، والتي في الخارج سلبية. كما في قولنا: السماء تحتنا. أو بالعكس، كما في قولنا: ليست السماء فوقنا
(( فكذبٌ )) أي: فالخبر كذب. (( ويسمى الخبر جملة )) عند النحويين.
اعلم: أنه قد اختُلِفَ في ترادف الجملة والكلام:
فمنهم من قال: بترادفهما.
ومنهم من قال: بل الجملة أعم من الكلام. ومعنى ذلك: أن كل كلام جملة. وليس كل جملة كلاما. لأن الكلام ما حصل فيه الإسناد مع الإفادة، والجملة ما حصل فيها الإسناد، وإن لم تحصل فيها الإفادة.
إذا تقرر هذا.فالجملة إما: اسمية. وهي: المصدرة باسم، كقولنا: زيد قائم، أو قام .
وإما: فعلية. وهي: المصدرة بفعل، كقولنا: قام زيد.
(( و )) يسمى الخبر أيضا (( قضية )) عند أهل المنطق، وحقيقتها: قول يحتمل الصدق والكذب.
فالقول _ وهو المركب _ : يشمل القضية، وغيرها من المركبات التقييدية والإنشائية .وبقوله: يحتمل الصدق والكذب. يخرج ما عدا القضية. وهي تنقسم إلى قسمين :

(1/41)


1_ حملية. إن حكم فيها بثبوت شيء لشيء، أو نفيه عنه.
وأجزآؤها ثلاثة :
محكوم عليه. ويسمى موضوعا، لأنه وضع ليحكم عليه بشيء.
ومحكوم به. ويسمى محمولا، لحمله على الموضوع.
ونسبة بينهما. بها تَربط المحمول بالموضوع، وهي الحكم بثبوته له، أو نفيه عنه. وتسمى رابطة.
2_ وشرطية. وهي التي ليست كذلك، بل حكم فيها بثبوت نسبة، أو نفيها على تقدير نسبة أخرى إن كانت متصلة، أو بتنافي نسبتين أولا تنافيهما إن كانت منفصلة.
وهي ثلاثة أقسام:
حقيقة. إن كان التنافي صدقا وكذبا. وتسمى مانعة الجمع والخلو
ومانعة الجمع فقط.إن كان التنافي في الصدق فقط .
ومانعة الخلو فقط. إن كان التنافي في الكذب فقط.
ويسمى الجزء الأول من الشرطية: مقدما. لتقدمه في الذكر .
والجزء الثاني: تاليا. لتلوه أي: تبعه للأول.
(( وإذا ركبت الجملة )) والقضية مع مثلها (( في دليل )) وهو القياس المنطقي (( سميت )) تلك القضية (( مقدمة )). فيقال: مقدمات القياس .كما يقال: كل جسم مؤلف، وكل مؤلف محدث. فهاتان: مقدمتان. والتي يلزم عنهما تسمى: نتيجة. وهي كل جسم محدث.
(( والتناقض )) فَسَّر التناقض والعكس هنا، لأنهما من أحكام القضايا اللازمة لها، وقد ذكر القضية .
أما التناقض فحقيقته (( هو اختلاف الجملتين )) والقضيتين. خرج اختلاف المفردين، والمفرد والقضية. (( بالنفي والإثبات )).هذا تحقيق لمفهوم التناقض. لأنه إنما يطلق: على هذا الاختلاف. يعني: أن تكون إحداهما مثبتة، والأخرى منفية.لأن نقيض الشيء: رفعه. ورفع الإثبات نفي.
(( بحيث يستلزم )) لذاته (( صدقُ كل واحدة )) من القضيتين

(1/42)


(( كذبَ الأخرى )). قوله: بحيث يستلزم…الخ.احتراز عن مثل قولنا: زيد ساكن، زيد ليس بمتحرك. مما لا يحصل بسبب الاختلاف من صدق أحدهما كذب الأخرى.وقولنا في الشرح: لذاته احتراز عن اختلاف القضيتين المقتضي لصدق أحدهما كذب الأخرى. لكن لا بالنظر إلى ذاته، بل لأجل واسطة. كقولنا: زيد إنسان، زيد ليس بناطق. فإنه إنما يقتضي صدقُ إحداهما كذبَ الأخرى بواسطة أن كل إنسان ناطق. فافهم .
واعلم أنه لا بد في تحقيق التناقض بين القضيتين من اتحاد واختلاف. فالاختلاف: يكون في الكم أي: الكلية والجزئية، والكيف. أي: الإيجاب والسلب. والجهة أي: الضرورة والإمكان والدوام والإطلاق، وغيرهما من الجهات. فإن كانت القضية: موجَبَة كلية ضرورية مثلا، فنقضيها: سالبة جزئية ممكنة عامة. مثلا قولنا: كل إنسان حيوان بالضرورة. نقضيها: بعض الإنسان ليس بحيوان بالإمكان العام. ونحو ذلك.
وأما الاتحاد ففيما عدى هذه الأمور الثلاثة.
والصحيح: أن المعتبر في تحقيق التناقض هو وحدة النسبة الحكمة، حتى يرد الإيجاب والسلب على شيء واحد. على ما هو مقرر في كتب المنطق والله أعلم.

(1/43)


(( وأما العكس المستوي )) اعلم أن العكس يطلق على: المعنى المصدري، أي: تبديل طرفي القضية، وعلى: القضية الحاصلة بالتبديل. كما يقال مثلا: عكس الموجبة الكلية موجبة جزئية. فتسمى الموجبة الجزئية عكسا. والمراد هنا هو المعنى الأول. فحينئذ حقيقته: (( تحويل جزأي: الجملة )) أي: طرفيها. بأن يجعل الجزء الأول ثانيا، والثاني أولاً. (( على وجه يصدق )) أي: لو كان الأصل صادقا كان العكس مثله. لأن العكس لازم للقضية. وإذا صدق الملزوم صدق اللازم. فحينئذ لا بد من بقاء الصدق، وكذلك لا بد أيضا من بقاء الكيف.أي: إذا كان الأصل موجبا، كان العكس مثله. وإن كان سالبا كان مثله. فلا يكون الموجب عكسا للسالب، والعكس. لما تقدم في اشتراط بقاء الصدق.فينعكس قولنا: كل إنسان حيوان. إلى: بعض الحيوان إنسان. كما هو مقرر في موضعه. فهذه حقيقة العكس المستوي.
(( و )) أما (( عكس النقيض )) فحقيقته (( جعل نقيض كل منهما )) أي: من جزأي: القضية (( مكان الآخر )). أي: جعل نقيض
الجزء الثاني: مكان الأول، ونقيض الجزء الأول: مكان الثاني.
ويشترط فيه أيضا: بقاء الكيف. أي: الإيجاب والسلب. فينعكس قولنا: كل إنسان حيوان مثلا بهذا العكس. إلى: كل ما ليس بحيوان ليس بإنسان.
فان قلت: قد اشترط في عكس النقيض بقاء الكيف، وقولنا في عكس كل إنسان حيوان: كلما ليس بحيوان ليس بإنسان، لم يبق ذلك.إذ هو سلب؟!
قلت: هذه القضية ليست سالبة. بل هي معدلة. أي: جُعِل حرف السلب جزءا من طر فيها. كما عُلم في موضعه. فتأمل والله أعلم.

(1/44)


نعم: وإنما سمي هذا عكسَ النقيض، لأن المعكوس فيه نقيض الطرفي.ن فتأمل ذلك. فهذا ما يليق بهذا المختصر من بيان النقيض، والعكس. ولاستيفاء الكلام فيه، وفي شرائطه فن آخر. أعني: علم المنطق. فمن أراد تحقيقه، فليرجع إليه. وقد استوفيت ذلك في شرح مختصر سعد الدين التفتازاني المسمى بالتهذيب. وبتمام هذا تم الكلام في شرح الدليل الثاني، أعني: السنة.
(( فصل ))
(( الدليل الثالث من الأدلة الشرعية: الإجماع ))
وهو ممكن. وكذلك العلم بثبوته ونقله ممكنان لمن بحث وطلب، أتمانع منهما عند الأكثر. وسيأتي بيان ما يُعلم به.
وما ذكره المانعون من ذلك: تشكيك في مصادمة ما علم قطعا.
يانه: أنا علمنا أن الصحابة والتابعين أجمعوا على تقديم الدليل القاطع على الظنون. وما ذلك إلا لثبوته عنهم ونقلة إلينا فتأمل ذلك.
وهو أيضا: حجه. وسيأتي وجه حجيته في آخر الفصل إن شاء الله تعالى.
إذا تبين ذلك فنقول حقيقة الإجماع في اللغة: العزم والاتفاق.
يقال: أجمعتُ على كذا. أي: عزمت عليه. وأجمع رأينا على كذا. أي: اتفقنا عليه.
وفي الاصطلاح: (( اتفاق المجتهدين العدول من أمة محمد صلى الله عليه وآله وسلم في عصر على أمر )).
قولنا: المجتهدين. احتراز من المقلد. فإنه لا يُعتبر موافقته ولا مخالفته.
قولنا: العدول. احترازا ممن ليس كذلك، فإنه لا يعتبر فيه أيضا.
وقولنا: في عصر. أي: زمان ما، قَلَّ أم كثر .
وقولنا: على أمر. أي: أمر ما، ليتناول الديني والدنيوي.
ومن لم يشترط الاجتهاد قال : هو اتفاق أمة محمد صلى الله عليه وآله وسلم …الخ.
ومن منع الإجماع بعد الخلاف قال: ولم يسبقه خلاف مستقر من مجتهد. ليخرج ما إذا سبقه خلاف كذلك، فإنه لا يكون عنده حجة. ومن اشترط انقراض العصر _ زاد _: إلى انقراض العصر.ليخرج اتفاقهم إذا رجع بعضهم .إذ ليس بدليل عنده حينئذ. فهذه حقيقة الإجماع على حسب الخلاف.
فإن قلت : هل بين الإجماع والاتفاق فرقٌ أم لا ؟

(1/45)


قلت: بل قد يُفرق بينهما بأن يقال: الاتفاق هو الإجماع اللغوي.وهو أعم من الاصطلاحي. إذ لا يشترط في أهله أن يكونوا من أهل الاجتهاد. بخلاف الاصطلاحي.
أو يقال: بينهما عموم وخصوص من وجه، بمعنى: أنه يوجد الإجماع من دون اتفاق.كما إذا لم يكن في العصر من يُعتبر به في الإجماع إلا واحد فقط.ويوجد الاتفاق من دون إجماع. كما إذا أجمع من ليس بمجتهد. ويجتمعان: بأن يجمع المجتهدون. وهذا أولى من الأول. فتأمل! (( والمختار )) عند المحققين (( أنه لا يشترط في انعقاده )) أي: الإجماع (( انقراض )) أهل (( العصر )) المجمعين. ولا يعتبر ذلك، بل إذا اتفقوا ولو حينا لم يجز لهم ولا لغيرهم مخالفته.إذ لم يَعتبر الدليل على كونه حجة ذلك. لأنه عام يتناول ما انقرض عصره، وما لم ينقرض. كما نبينه إن شاء الله تعالى .
وقيل : بل يشترط. وهو باطل لما ذكرنا. ولأنه يلزم أن لا ينعقد إجماع أصلا. لتداخل القرون.
(( و )) المختار أيضا أنه لا يشترط في (( كونه )) دليلا أنه ((لم يسبقه خلاف )). بل إذا اختلف أهل العصر الأول على قولين مثلا، واتفق أهل العصر الثاني على أحدهما، بعد أن استقر خلافهم، فإن الإجماع يصير حجة قاطعة. كما لو لم يسبقه خلاف مستقر .
وقيل: لا يكون حجة حينئذ. إذ الخلاف الأول يتضمن الإجماع على أن كلا القولين حق. فلو أجمع على أحدهما صار إجماعا على أن ذلك الحق خطأ. وهذا لا يصح.
والمختار: هو الأول. لوقوعه، كإجماعهم على عدم جواز بيع أم الولد بعد الخلاف فيه، ونحوه.ولا نسلم أن الخلاف الأول يتضمن ما ذكروا. بل هو مسكت عنه .ومن سلم فهو مشروط بأن لا ينكشف نص قاطع أو إجماع، يقتضي أن أحدهما خطأ .فبطل ما قالوا والله أعلم.

(1/46)


(( و )) المختار أيضا (( أنه )) لا يجوز لأهل الحَلِّ والعقد إذا أجمعوا على حكم أن يجمعوا جزافا من غير دليل ولا أمارة. بل (( لا بد له من مستند )) إما دلالة قاطعة، من نَص متواتر أو قياس قطعي، أو أمارة ظنية، كظاهر أي: ة أو نص قطعي، أو آحادا، أو نحوهما. (( وإن لم ينقل )) ذلك المستند (( إلينا )) إذ يجوز ترك نقل المستند استغناءً بالإجماع .فلا إجماع إلا عن مستند، وإلا استلزم الخطأ _ أعني _ كونه غير حجة. وأيضا يستحيل ذلك عادة.
ومنهم: من جَوَّز الإجماع جزافا من غير مستند .لأن العلماء مفوضون من جهته تعالى في الحكم، يحكمون بما شاءوا بعد بلوغ رتبة الاجتهاد.وأيضا لو افتقر إلى الدليل لم يكن للإجماع فائدة. بل الفائدة في الدليل !!
قلنا: لا نسلم التفويض. إذ لا دليل عليه. وفائدة الإجماع: سقوط البحث عن الدليل، وتحريم مخالفته . وأيضا يلزم من ذلك أن لا يكون شيء من الإجماع له دليل. لعدم الفائدة، ولا قائل به. فتأمل .
ومنهم: من منع الإجماع عن الأمارة الظنية. وقال: لا بد من صدوره عن دليل قاطع.
لنا: وقوعه. كإجماعهم على: أن حد الشارب ثمانون بعد أن كان أربعين، فتساهل النساك فلم يمتنعوا. فاستصلحوا زيادة أربعين، وأجمعوا على ذلك، وهو عن اجتهاد.
(( و )) اختار المصنف (( أنه لا يصح أن يكون مستنده قياسا )) وهو ما ثبت له أصل. (( أو اجتهادا )) وهو ما لا أصل له يقاس عليه، وظاهر كلامه أنه سواء كان الاجتهاد والقياس جليا أم خفيا، وعند الأكثر من الأصوليين، واختاره الإمام المهدي _ وهو الأولى _أنه يجوز أن يكونا مستنده إذ هما حجة كالخبر الذي يثمر الظن، وأيضا لم يفصل الدليل على كونه حجة بين المجتهد الواحد والأمة في صحة الاحتجاج به، فلا وجه لإنكار ذلك في الأمة، وأيضا قد وقع كإجماع الصحابة على الزيادة في حد الشارب كما قدمنا .
[ فائدة ]

(1/47)


إذا تواتر خبر وأُجمع على موجب قطعنا بأنه مستند الإجماع، إذا كان نصا صريحا فيما أجمعوا عليه، إذ لا يجوز أن يتواتر إليهم ولا يدعوهم إلى القول بما أجمعوا عليه، ولا يجوز أن يجمعوا لغيره مما لم يتواتر، وأما إذا لم يتواتر بل كان آحادا من أصله، وأُجمع على موجب فلا قطع بأنه مستند الإجماع، إذ يجوز أن يعتمدوا على غيره ولم ينقل استغناءً بالإجماع .
وقيل : بل يُقطع بأنه المستند إذا كان الإجماع على مقتضاه، ولم ينقل ردهم له ولا اعتمادهم على سواه. والله أعلم. (( و))المختار عند الأكثر من العلماء (( أنه لا يصح إجماع )) على حكم (( بعد الإجماع على )) حكم آخر (( خلافه )). وإلا لزم بطلان الإجماع الأول، أو تعارض الإجماعي. وكلاهما باطل .
وقيل: يجوز. ويكون الثاني كالناسخ للأول، وفيه ضعف. إذ الإجماع لا ينسخ ولا ينسخ به كما سيأتي.
(( و )) الصحيح المختار أيضا (( أنه لا ينعقد )) الإجماع (( بالشيخين )) أبى بكر، وعمر. إذ هما بعض الأمة، وليسا بمعصومَين. ولِما عُلم من مخالفة الصحابة لهما في كثير من المسائل.
(( ولا )) ينعقد أيضا (( بالأربعة الخلفاء )) الذين هم: علي عليه السلام، وأبو بكر، وعمر، وعثمان. لمثل ما قلنا في الشيخين. إلا أمير المؤمنين علي، كرم الله وجهه. فإن قوله حجة كالحديث النبوي الآحاد عند أهل البيت، وجمله الزبدية .لما ثبت من عصمته. مع قوله صلى الله عليه وآله وسلم: ( الحق مع علي وعلي مع الحق اللهم أدر الحق مع علي حيث دار ). وقوله عليه الصلاة والسلام: ( أنا مدينة العلم وعلي بابها ) ونحو ذلك كثير.فدلت هذه الأخبار مع العصمة على أن قوله حجة .
وأما ما روي من مخالفة الصحابة له في كثير من المسائل فجوابه أنا نقول: أن قوله كالخبر الآحاد، وقد تجوز مخالفته حيث يعارضه معارض، فكذلك هذا. فلا يكون ذلك ناقضا لما نقول فتأمل!

(1/48)


(( ولا )) ينعقد أيضا (( بأهل المدينة )). أي: مدينة النبي صلى الله عليه وآله وسلم .(( وحدهم إذ هم بعض الأمة )). والأدلة إنما تناولت كل الأمة .
وروي عن مالك: أنه حجة.
فقيل: على جهة التعميم.
قيل: بل مراده أن روايتهم مقدمة على رواية غيرهم .
وقيل: بل مراده أن إجماعهم حجة في المنقولات المستمرة، كالأذان والإقامة .وهذه التأويلات من أصحاب مالك لما استضعفوا هذه المقالة.وفي كلها بعدٌ لا يخفى على المتأمل. والله أعلم.
احتج مالك بقوله صلى الله عليه وآله وسلم: ( إن المدينة طيبة تنفي خبثها كما ينفي الكير خبث الحديد ) والباطل خبث فينتفي عنها. والجواب: أن هذا دليل على فضلها. لِما عُلم من وجود الباطل فيها كالفسق والمعاصي .ولا يدل ذلك على انتفاء الخطأ عما اتفق عليه أهلها بخصوص، فلا يدل على أن إجماع أهلها حجة.
ابن الحاجب: العادة تقضي بأن مثل هذا الجمع المختص من العلماء، لا يجمع إلا عن دليل راجح.
قلنا: يلزم مثله في غيرها من الأمصار، كمصر وبغداد. وأيضا أكابر الصحابة كانوا خارجين عنها، وذلك يستلزم أن لا يُعتد بخلافهم لأهل المدينة. كعلي عليه السلام، وابن مسعود، وغيرهما. وفي هذا من البعد مالا يخفى على أحد. والله أعلم.
(( قال الأكثر )) من الأمة أكثر المعتزلة، وبقية الفرق غير الزبدية، وروي عن القاسم عليه السلام (( ولا )) ينعقد الإجماع أيضا (( بأهل البيت عليهم السلام )). وهم: عثرة الرسول صلى الله عليه وآله وسلم الذين هم: علي، وفاطمة، والحسنان، عليهم السلام في عصرهم. ومن كان من أولاد الحسنين من قبيل الآباء من المؤمنين المجتهدين
(( وحدهم لذلك )).أي: لأنهم بعض الأمة .

(1/49)


واعلم: أنه لا خلاف هنا في أن المقصود بأهل البيت عليهم من ذكرنا. فهم الذين وقع الخلاف في كون إجماعهم حجة دون غيرهم، وهم الذين يعبرون عنهم أيضا بالعثرة على الصحيح .لأن عثرة الرجل: أقاربه الأدنون. ذكره في الضياء.فلفظ القرابة يعم الأخوة والأولاد، وغيرهم كبني الأعمام. وبقوله: الأدنون. يخرج ما عدى الذرية، لأنهم أدنى الأقارب إليه. أي: أقربهم. وهو أيضا مشتق من: العتيرة. وهو: الكَرمة التي يخرج منها العنقود في العنب.فإذا كانت العتيرة متولدة من الشجرة لأنها زيادة تخرج في عرض الغصن، فيخرج العنقود من تلك الزيادة، علمنا أنهم إنما استعاروها لما يشبهه في ذلك وهي الذرية. إذ هي المشبهة فيه دون غيرها. فيكون الرجل كالشجرة، والذرية كالثمرة المتولدة من أصلها .فتبين بهذا أن العترة هم ذريته صلى الله عليه وآله وسلم. إذ لا يوجد وجه التشبيه إلا فيهم دون غيرهم من الأقارب .
قيل: وقد أجمع أهل اللغة على ذلك. فيكون إجماعهم حجة في هذا. والله أعلم.
(( وقال أصحابنا )) الذين هم الزيدية كآفة، والشيخان أبو علي، وأبو عبد الله البصري، وقاضي القضاة، وهو المختار عند أئمة أهل البيت عليهم السلام : بل هو حجة قطعية كإجماع الأمة. لما ثبت بالأدلة القطعية أن (( جماعتهم معصومة )). (( بدليل )) قوله تعالى: { إنما يريد الله ليذهب عنكم الرجس أهل البيت ويطهركم تطهيرا }. وهم المقصودون بالآية. بدليل خبر الكساء. ووجه الإستدلال بالآية: أن الله تعالى أخبر بإرادة تطهيرهم من الرجس، وهي المعاصي. إذ الرجس يحتمل معنيين لا ثالث لهما:
أحدهما: ما يستخبث من النجاسات والأقذار .
والثاني: ما يستخبث من الأفعال القبيحة. أي: ما يستحق عليه الذم والعقاب .
ولا يُمكن حمله على الأول، لأنهم فيه وغيرهم على سواء، فينجس منهم ما ينجس من غيرهم .وجماعتهم وآحادهم في ذلك على سواء. فيتعين الثاني. وإرادة ذلك إنما هو بواسطة العصمة. إذ لو كان بغير واسطة:

(1/50)


فإما: مع الاختيار. فهم وغيرهم على سواء في ذلك.
وإما: مع الإلجاء. فيرتفع التكليف. فتعين أنه بواسطة العصمة .
ولا بد من وقوع ما يريده الله تعالى من أفعاله لتوفر الدواعي إلى ذلك، وانتفاء الموانع .فيجب الفعل مع ذلك، ويجب استمراره. فثبت عصمة جماعتهم من المعاصي، دون آحادهم لوقوعها منهم .فيكون إجماعهم حجة وهو المطلوب. (( و )) بدليل قوله صلى الله عليه وآله وسلم:
( أهل بيتي كسفينة نوح ).(( و )) قوله صلى الله عليه وآله وسلم :
( إني تارك فيكم… ) .الخبرين بكمالهما.
فتمام الأول: من ركبها نجا، ومن تخلف عنها غرق وهوى.، فنص على أن من اتبعهم فهو ناجٍ. ولا ينجو إلا من هو محق، أو متبع لمحق .وقد وجدنا آحادهم غير محقين، فتعين جماعتهم. وإلا بطل الحديث. وهو صلى الله عليه وآله وسلم لا ينطق عن الهوى. فاقتضى ذلك أن جماعتهم غير خارجين عن الحق. وذلك بواسطة العصمة كما تقدم .فتكون جماعتهم معصومة. فيكون إجماعهم حجة.
وتمام الثاني: الثقلين، ما إن تمسكتم به لن تضلوا من بعدي أبدا كتاب الله وعثرتي أهل بيتي إن اللطيف الخبير نبأني أنهما لن يفترقا حتى يردا علي الحوض .وهذا تصريح بأنهم لا يخرجون عن الحق، إذ قد جعلهم قسيم الكتاب، والكتاب لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه. فكذلك أهل البيت عليهم السلام. وإلا لكان صلى الله عليه وآله وسلم قد سوَّى بين الحق والباطل. وهذا محال. والمعلوم أنه قد خرج عن الحق بعض آحادهم. فتبين أن المقصود: جماعتهم. فيكون إجماعهم حجة، كما أن الكتاب حجة. وذلك واضح.
قوله: الثقلين. مفعول به لتارك .وقوله: كتاب الله وعثرتي. عطف بيان. نزَّل العترة والكتاب منزلة الثقلين لعظمهما. وعبَّر عنهما بهما. فتأمل ذلك موفقا إن شاء الله تعالى .

(1/51)


قوله (( ونحوهما )) أي: نحو الخبرين من الأدلة الدالة على ذلك، مثل قوله صلى الله عليه وآله وسلم: ( فأين تاه بكم عن علمٍ تتوسخ من أصلاب أصحاب السفينة حتى صار في عثرة نبيكم ). وقوله صلى الله عليه وآله وسلم: (أهل بيتي أمان لأهل الأرض كما إن النجوم أمان لأهل السماء).وقوله صلى الله عليه وآله وسلم: (أهل بيتي أمان لأهل الأرض كما أن الجم أمان لأهل السماء ). وغير ذلك مما يؤدي ذلك المعنى كثير.
ولا يبعد أن الأخبار الواردة في هذا تقتضي التواتر المعنوي، بل ذلك واضح. قال الإمام المهدي عليه السلام: ولو أمعن النظر المخالفون في هذه المسألة وجدوا أدلتها أوضح من أدلة إجماع الأمة.
لكن لله القائل شعرا :
لهوى النفوس سريرة لا تعلم ... كم حار فيه عالم متكلم
واعلم أرشدنا الله وإياك: أنه قد ثبت بهذه الأدلة القاطعة أن أهل البيت عليهم السلام هم الفرقة الناجية، فعليك بإتباع جماعتهم، والتشبث بأقوالهم. فيأبى الله أن تكون جماعة أهل بيت نبيه سيد المرسلين هالكين، وغيرهم ناجين. مع ما هم عليه من الورع الشحيح، أتتحرز الكامل عن المآتم، الذي لا يجهله إلا متجاهل.
ولله در القائل حيث يقول :
إذا كان في الإسلام سبعون فرقة ونيف على ما جاء في واضح النقل
ولم يك ناج منهمُ غير فرقة فقل لي بها ياذا التبصر والعقل
أفي الفرق الهُلاُّك آل محمد ... أم الفرقة اللاتي نجت منهم قل لي
فإن قلت في الناجين فالقول واحد وإن قلت في الهلاك حفت عن العدل
فدع لي عليا والأئمة بعده ... وأنت من الباقين في أوسع الحل
إذا كان مولى القوم منهم فإنني ... رضيت بهم لازال في ظلهم ظلي

(1/52)


(( وإذا اختلفت الأمة على قولين )) لا يتجاوزونهما (( جاز إحداث قول ثالث )) مخالف للقولين الأولين. (( ما لم يرفع ))ذلك القول الثالثُ (( القولين )) الأولين. مثال ذلك: فسخ النكاح بالعيوب الخمسة: الجنون، والجذام، والبرص _ من جهتهما جميعا – والجبُّ، والعِنَّة _ من جهة الزوج – والقرن، والرتق، والعقل _ من جهة الزوجة .
فقد اختلف فيها على قولين:
فقيل: يفسخ بها كلها .
وقيل: لا يفسخ بشيء منها .
فالتفصيل وهو: أنه يفسخ ببعضها دون بعض، قول ثالث. وهو لم يرفع القولين .إذ وافق في كل مسألة مذهبا .
وكما إذا قال بعض الأمة: بوجوب النية في جميع العبادات.
وقال باقيهم: لا تجب في شيء منها.
فيأتي بعدهم من يقول: بوجوبها في شيء دون شيء. فهذا جائز إذ لم يرفع القولين كما ترى.
وأما إذا رفعهما: فلا يجوز. إذ هو يكون خرقا للإجماع.
مثاله: مسألة الجد مع الأخ.
قيل: يرث المال كله ويسقط الأخ .
وقيل: يقاسم الأخ.
فالقول: بحرمانه قول ثالث رافع للقولين الأولين .إذ قد اتفقنا على أنه لا يُحرَم، فلا يجوز ذلك.
(( وكذلك )) يجوز (( إحداث دليل ثالث )). أي: إذا استدل أهل العصر الأول على مسألة بدليلين، جاز لمن بعدهم إحداث دليل ثالث. (( و )) كذا يجوز إحداث (( تعليل ثالث )). أي: إذا عَلَّل أهل العصر الأول مسألة بعلتين، جاز لمن بعدهم إحداث علة ثالثة. إلا أن تُغَيَّر تلك العلة المستخرجة من بعد الحكم، فإنه يكون كالقول الثالث. فإذا علل أهل العصر الأول بعلتين تقتضيان حكمين مختلفين باختلاف العلتين، وجاء من بعدهم بعلة ثالثة تقتضي خلاف دينك الحكمين، كان هذا كإحداث القول الثالث في الحكم. وقد مر بيانه .

(1/53)


(( و )) كذلك يجوز إحداث (( تأويل ثالث )). أي: إذا تأوَّل العصر الأول الظاهرَ بتأويلين، جاز لمن بعدهم إحداث تأويل ثالث. هذا كله إذا لم ينصوا على بطلا نه .أما إذا نصوا على بطلانه، فلا يجوز اتفاقا. والدليل على الجواز: أن العلماء لم يزالوا في كل عصر يستنبطون أدلة وعللا وتأويلات بلا تن كر بينهم في ذلك، فكان إجماعا على جوازه. والله أعلم .
(( وطريقنا إلى العلم بانعقاد الإجماع )) ووقوعه أمور .إذ لا يُعلم ببديهة العقل، ولا باستدلال عقلي قطعا.
فحينئذ الطريق إليه:
(( إما )) السماع لأقاويلهم .
أو (( المشاهدة )) لكل واحد من أهل الإجماع يفعل مثل ذلك الفعل الشرعي، أو يترك ذلك الشيء.ويُعلم من كلٍ منهم أنه تركه لدليل شرعي .إما مقتضٍ للتحريم أو للكراهية .ويُعرف ذلك من قصدهم .
(( وإما النقل )) حيث نقل (( عن كل واحد )) من المجمعين المعتبرين في الإجماع أنه سمع منه أو فعل أو ترك مثل ذلك كذلك .فإنه يكون إجماعا .فإن أثمر النقلُ العلمَ لبلوغ الناقل حد التواتر، فالإجماع قطعي، وإلا فظني. كما سيأتي بيانه.
(( أو )) نقل (( عن بعضهم )). أي: عن بعض الأمة القولُ به، أو الفعل، أو الترك له، كذلك .لكن (( مع نقل رضاء الساكتين )) عنه حتى أنهم لو أفتوا لما أفتوا إلا به، ولو حكموا لما حكموا إلا به.فهذا معنى الرضى. ويعرف رضاؤهم بعدم إنكارهم لما قال به المفتى، أو فعله، أو تركه. ولكن لا يكون عدم الإنكار رضىً إلا بشروط ثلاثة :
الأول: إنتشاره بينهم حتى لم يخف على أحد منهم. فلو لم ينشر لم يكن عدم الإنكار رضىً. لجواز أنهم لو علموا لأنكروه .
الثاني: عدم ظهور سبب التَّقِيَّة، حتى يُعلم أن سكوتهم ليس لأجلها، وإلا لم يكن رضىً .

(1/54)


الثالث: كونه مما الحق فيه مع واحد، والمخالف مخطئ آثم. وذلك كالمسائل القطعية. وكذلك المسائل الإجتهادية عند من يقول: إن الحق فيها مع واحد.وأما من يقول: كل مجتهد مصيب فالحق أنه حجة ظنية أيضا، كالخبر الآحادي إذا اجتمعت فيه الشروط. إذ العادة تقضي مع الإنتشار، وعدم التقية، أن ينكره المخالف ويظهر حجته، فيغلب في الظن حينئذ أن سكوتهم سكوت رضىً.
نعم: وقد بين المصنف هذه الشروط بقوله: (( ويعرف رضاؤهم )) _ يعني _ الساكتين (( بعدم الإنكار مع الإشتهار، وعدم ظهور حامل لهم على السكوت، وكونه مما الحق فيه مع واحد )) كما بيناه مفصلا.
(( ويسمى هذا )) أي: الإجماع الذي يثبت بهذه الطريق (( إجماعا سكوتيا )) ولا يخفى وجه التسمية.
(( وهو )) أي: الإجماع الجامع لهذه الشروط كلها (( حجة )). لأنه إذا كان على ما ذكره، كان سكوتهم سكوت رضى قطعا. إذ لو لم يرضوا به لأنكروه، لوجوب إنكار مثله، وإلا كانوا قد أجمعوا على ضلالة. وقد قال صلى الله عليه وآله وسلم: ( لن تجتمع أمتي على ضلالة ). فتأمل! ولكن يكون حجة (( ظنية )) لا قطعية (( وإن نقل تواترا )) أيضا. لاحتماله.
(( وكذا القول إن نقل آحادا )) فإنه يكون حجة ظنية. وهو المسمى بالإجماع الآحادي. (( فإن تواتر )) نقل الإجماع غير السكوتي ((فحجة قاطعة )). كالكتاب، والسنة المتواترة. (( يفسق مخالفه )) للوعيد عليه. وناهيك بآية المُشآقة، وهي (( قوله تعالى: ( ويتبع غير سبيل المؤمنين ...الآية ).بكمالها وهي قوله تعالى : {ومن يشاقق الرسول من بعد ما تبين له الهدى ويتبع غير سبيل المؤمنين نولِّهِ ما تولى ونصله جهنم وسآءت مصيرا }. (( لتكونوا شهداء على الناس )). (( ولقول النبي صلى الله عليه وآله وسلم: لن تجتمع أمتي على ضلالة )). ونحوه كثير ففيه تواتر معنوي.

(1/55)


(( ولإجماعهم )) أي: الصحابة (( على تخطئة من خالف الإجماع ومثلهم لا يجمع على تخطئة أحد في أمر شرعي إلا عن دليل قاطع )). فدلَّت هذه الآية على فسق مخالفه، ودلَّت أيضا على حجيته.
أما الآية فوجه الإستدلال بها: أنه تعالى تَوَّعد على اتباع غير سبيل المؤمنين كما توعد على مشآقة الرسول. فوجب كونه حجة كَهُمَا . وأما: الحديث فلأنه قد بيَّن صلى الله عليه وآله وسلم: أن أمته لن تجتمع على ضلالة. فوجب أنهم لا يجمعون إلى على الحق. إذ لا واسطة بينهما. لقوله تعالى : {فماذا بعد الحق إلا الضلال }.فاقتضى ذلك عصمتهم عن الخطأ .فحرمت مخالفتهم. وأيضا فإن ما يؤدي هذا المعنى من الأحاديث كثير جدا مثل قوله صلى الله عليه وآله وسلم:
( لا تجتمع أمتي على الخطأ ). وقوله صلى الله عليه وآله وسلم: ( لا تزال طائفة من أمتي على الحق ظاهرين ) .وهم إما: الآحاد، أو الجماعة. والمعلوم أن بعض الآحاد على غير الحق. فتعين أنهم الجماعة. وقوله: ( يد الله مع الجماعة من فارق الجماعة قِيد شبر فقد خلع ربقة الإسلام من عنقه ). إلى غير ذلك من الأخبار الدآلة على هذا المعنى .وإن اختلفت عباراتها ففيها تواتر معنوي .لأنه قد تواتر القدر المشترك كما في شجاعة علي عليه السلام، وجود حاتم.
أما قوله: ولإ جماعهم …إلخ. فوجه الإستدلال به ظاهر.وهو أن الصحابة لما أجمعوا على تخطئة من خالف إجماعهم. ومثلهم في الفضل والعلم لا يجمع على تخطئة أحد، إلا عن دليل قاطع يدل على حجية الإجماع .وإن لم نعلمه استلزم ذلك دليلا قاطعا وإن لم نعلمه .إذ تقدم أنه لايجوز الإجماع جزافا والله أعلم.
((فصل))
(( والدليل الرابع )) من الأدلة الشرعية (( القياس )).
وهو في اللغة: التقدير فقط .يقال: قاس الثوب هل يكمل قميصا قياسا. أي: : قدره تقديرا. والمساواة فقط. يقال: هذا الشيء قياس هذا. أي: : مساوٍ له. وقد يقال لهما جميعا. يقال: قست النعل بالنعل. أي: قدرته، فساواه.

(1/56)


وفي الاصطلاح: (( حمل معلوم على معلوم بإجراء حكمه عليه بجامع)). قوله: معلوم على معلوم. يتناول جميع ما يجري فيه القياس.
وقوله: بإجراء حكمه عليه. يتناول القياس في الحكم الوجودي، والحكم العدمي.
وقوله: بجامع. يريد أَيَّ جامع كان، لأنه قد يكون حكما شرعياً، إثباتا أونفيا، كقولنا: الكلب نجس فلا يصح بيعه كالخنزير .وقولنا: النجس المغسول بالخل ليس بطاهر فلا تصح الصلاة فيه كالمغسول باللبن . وقد يكون وصفا عقليا كذلك. كقولنا: النبيذ مسكر فيكون حراما كالخمر، والصبي ليس بعاقل فلا يكلف كالمجنون. وهذا الحد أجود من غيره من الحدود المذكورة للقياس. خلا أنه لا يدخل فيه قياس العكس.
قيل: فأولى منه أن يقال: هو إثبات حكمِ أمرٍ لغيره لشبه بينهما، أو نقيضٍ لمخالفته، فيدخل حينئذ قياس العكس في هذا الحد. والله أعلم.
(( وينقسم القياس إلى:
1_ (( جلي )). وهو ما قطع بنفي الفارق فيه. وذلك كقياس الأَمِة على العبد في سراية العتق، والتقويم على معتق الشقص. لأن النص ورد في العبد، وهو قوله صلى الله عليه وآله وسلم: ( مَن اعتق شقصا له في عبد قُوِّم عليه الباقي ). لأنا نعلم قطعا أنه لا فارق بينهما.وقد أجمعت الأمة على ذلك.لأن الذكورة والأنوثة في أحكام العتق مما لم يعتبره الشارع، ولا فارق إلا ذلك. ومثله قياس العبد على الأمة في تنصيف الحد في الزنا، فإنه ورد النص في الأمة، وهو قوله تعالى: { فعليهن نصف ما على المحصنات من العذاب}. فأوجب على الأمة نصف ما على الحرة، فيقاس العبد عليها لأنه لم يذكر، وقد أجمعت الأُمة على أنه لا فارق بين العبد والأمة في تنصيف الحد إلا الذكورة والأنوثة، وهي أيضا مما لم يعتبره الشارع في ذلك، فهذا قياس جلي كما ترى.
2_ (( وخفي )) وهو: نقيضه. أي: ما لم يُقطع بنفي الفارق فيه، بل ظُنَّ فقط.

(1/57)


قيل: وهو ما تجاذبته أصول مختلفةُ الحكمِ، بحيث أمكن رده إلى كل واحد منها، ولكنه أقوى شبها بأحدها فيرد إليه لذلك. مثاله ما يقال في الوضوء: عبادة فتجب فيه النية كالصلاة. فيقول الخصم: طهارة بالماء فلا تجب فيه. كإزالة النجاسة. فقد تجاذب هذا أصلان كما ترى. فيسمى خفيا لاحتياجه إلى النظر في ترجيح أيِّ الشبهين؟
ومثال ذلك: قياس النبيذ على الخمر في الحرمة، إذ لا يمتنع أن تكون خصوصية الخمر معتبرة، ولذلك اختلف فيه، فتأمل ذلك.
(( و )) ينقسم القياس أيضا (( إلى )) قسمة أخرى إلى:
1_ (( قياس علة )). وهو: ما صرح فيه الشارع بالعلة. كقوله صلى الله عليه وآله وسلم حين أتي له بروثة يستجمر بها: ( إنها رجس ). فصرح بأن العلة نجاستها، فيقاس سائر النجس عليها، ويسمى هذا قياس علة لتصريح الشارع بعلة الحكم.
2_ (( و )) إلى قياس (( دلالة )). وهو: ما لم يصرح فيه بالعلة، جمع فيه بين الأصل والفرع بما يلازم العلة ويدل عليها لا بنفسها، كما لو جمع بينهما بأحد الحكمين الذين توجبهما العلة في الأصل. حيث كانت مما يصدر عنه حكمان. لأن أحدهما ينبئ عن حصول العلة في الأصل لملازمته الآخر، فصار كأنه جمع بين الأصل والفرع بحكمي العلة الواجبين عنها، لأن وجودهما ينبئ عن وجودها، فسمي: قياس دلالة، لأن العلة فيه غير منصوصة بل مدلول عليها، والحاصل أنه إن جمع بين الأصل والفرع بنفس العلة فهو: قياس العلة.
وإن جمع بينهما بما يلازمها ويدل عليها لا بنفسها فهو: قياس الدلالة.
فتأمل!

(1/58)


مثال ذلك: قياس قطع الجماعة بالواحد إذا اشتركوا في قطع يده. فإنها تقطع أيدهم قياسا على قتلها به، إذا اشتركوا في قتله بواسطة الإشتراك في وجوب الدية عليهم في الصورتي. لأن الدية والقصاص موجَبَان للجناية في الأصل وهو القتل، لحكمة الزجر. وقد وجد في الفرع _ أعني _ القطعَ أحدهما وهي الدية، فيوجد الآخر وهو القصاص، لأنهما متلازمان بالنظر إلى اتحاد علتهما وهي الجناية، لأنها توجب الدية في الخطأ، والقصاص في العمد، وحكمتهما وهو الزجر. فهاهنا قد جمع بين الأصل والفرع لا بنفس العلة، بل بما يلازمها كما ترى.
(( و )) ينقسم القياس أيضا إلى قسمة ثالثة:
1_ (( قياس طرد )). وهو: إثبات مثل حكم الأصل في الفرع لاشتراكهما في العلة، صريحا كما في قياس العلة، أو ضمنا كما في قياس الدلالة.
مثاله أن يقال في إيجاب النية في الوضوء: عبادة فتجب فيها النية كالصلاة، ويُثبَّت كونها عبادة بقوله صلى الله عليه وآله وسلم :
( الوضوء شطر الإيمان ) .
والصلاة من الإيمان لقوله تعالى: { وما كان الله ليضيع إيمانكم}. والمراد: الصلاة إلى بيت المقدس. وفي النبيذ: مسكر فيحرم كالخمر. ونحو ذلك. وأكثر القياسات طردية.

(1/59)


2_ (( و إلى قياس عكس )). وهو: ما ثبت فيه نقيض حكم الأصل بنقيض علته. مثاله قولنا في قياس اشتراط الصيام في الاعتكاف على عدم اشتراط الصلاة فيه: لو لم يكن _ الصوم شرطا في الإعتكاف إذا قال عليَّ لله أن أعتكف غدا، وأطلق _ لما كان الصوم من شرطه، وإن علق النذر بالإعتكاف بالصوم، لكنه شرط للإعتكاف عند النذر، فيكون شرطا له وإن لم ينذر بالصيام، كالصلاة فإنه قد ثبت فيها أن من قال: عليه لله أن يعتكف غدا، مثلا مُطلِقا أجزأ الاعتكاف بدون صلاة. كما أنه لو قيَّد النذر بالإعتكاف بالنذر بها فقال: عليه لله أن يعتكف غدا مصليا أجزأ بدونها. فالأصل الصلاة، والفرع الصيام، والحكم في الأصل عدم والوجوب بغير نذر، والعلة عدم وجوبه بالنذر. والمطلوب في الفرع وجوبه بغير نذر، والعلة وجوبه بالنذر، فثبت في الفرع نقيض حكم الأصل بنقيض علته. كما ترى. والله أعلم.
واعلم: أنه قد اختلف في التعبد بالقياس أي: هل يجوز من الله تعالى أن يوجب علينا العمل به، بأن يكون دليلا شرعيا يستدل به أم لا ؟ فعند الأكثر من الأمة: أنه قد ورد التعبد به عقلا وسمعا .
وقيل: عقلا فقط .
وقيل: سمعا فقط .فهو دليل شرعي .
وقيل: بل ورد الشرع بترك التعبد بالقياس فليس دليلا.
(( وقد شذ المخالف في كونه دليلا )) شرعيا، حيث قال: إنه ليس بطريق شرعي يعمل به لورود الشرع بتركه. (( وهو )) أي: قول المخالف إنه ليس بدليل (( محجوج )) أي: ممنوع (( بإجماع الصحابة )) على العمل به. فإنه تكرر فيهم وشاع وذاع ولم ينكر عليهم، (( إذ كانوا بين قائس وساكت سكوت رضى، والمسألة قطعية )) فكان ذلك إجماعا منهم على العمل به. إذ لو لم يكن السكوت عنها مع عدم التقية وكونها قطعية رضى بها لكان خطأ. كما تقدم. وبيان كونها قطعية أن إثبات القياس دليلا شرعيا كالكتاب والسنة أصل من أصول الشريعة، وأصول الشريعة لا يصح ثبوتها إلا بدليل قاطع، كصلاة سادسة ونحو ذلك .

(1/60)


وأما بيان وقوعه من الصحابة فمن ذلك حديث معاذ بن جبل حين وجهه رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم إلى اليمن حين قال له:
( بم تقضي فيهم ؟
قال : بكتاب الله .
قال: فإن لم تجد ؟!
قال: بسنة رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم .
قال : فإن لم تجد ؟!
قال: أجتهد رأيي – ولم ينكره صلى الله عليه وآله وسلم بل قال: الحمد لله الذي وفَّق رسول رسوله ) . فكان ذلك تقريرا لمعاذ على العمل بالقياس، وهذا أقوى دليل عليه. إذ لم ينكر هذا الحديث أحد، بل تلقته الأمة بالقبول. ومنه قول أبي بكر في الكلالة: أقول فيها برأيي. وقول عمر: أقضي فيها برأيي .وقول علي عليه السلام في أم الولد: كنت أرى أن لا تُباع ثم رأيت بيعها. فصرح بأن ذلك عن رأي لا عن نص .وأيضا فإنهم اختلفوا في إرث الجد مع الأخوة، وفي الحرام للزوجة، وفي انعقاد الإيلاء، هل مؤبد، أو يصح بأربعة أشهر، أو بدونها ؟ على أقوال بنوها على القياس لا على النص.وغير ذلك كثير مما يفيد التواتر المعنوي على وجوب العمل به. كما هو مقرر في بسآئط هذا الفن. على أن فيما ذكرناه كفاية. والله أعلم .
(( ولا يجري القياس في جميع الأحكام الشرعية )) أي لا يصح القياس عليها أجمع. (( إذ فيها )) أي: الأحكام (( مالا يُعقل )) معناه، كالدية فإنه لا يُعلم وجهُ فرضها على القدر المعلوم من كل جنس، والصفة المحدودة، ونحو ذلك مما لا يعقل معناه من الأحكام كثير. ومهما لم يُعرف الوجهُ لم يُعرف القياسُ .(( والقياس فرع تعقل المعنى )) أي: العلة. إذ هو الجامع فلا يصح القياس مع عدم معرفته.
هذا وأما إثبات الأحكام كلها بالقياس فلا خلاف في امتناعه لتأديته إلى التسلسل، أو الدور .ويصح إثبات جميعها بالنصوص إذ لا مانع منه. فافهم ذلك.

(1/61)


(( ويكفي )) القائس في صحة القياس (( إثبات حكم الأصل )) المقيس عليه (( بالدليل )). أي: النص، أو الإجماع، ثم تثبت العلة بمسلك من مسالكها التي ستأتي.ويقبل منه ذلك (( وإن لم يكن )) الأصل المقيس عليه (( مجمعا عليه، ولا اتفق عليه الخصمان، على المختار )) عند الأكثر.
وقال بشر المريسي: بل يشترط الإجماع على حكم الأصل، إما مطلقا أو بين الخصمين .
وقوله مردود، إذ لم يفرق دليل القياس بين كون الأصل متفقا عليه، أو متنازعا فيه، إذا قد قامت الدلالة على صحته. والعبرة إنما هو بالدلالة لا بموافقة الخصم .
(( و )) القياس (( أركانه )) أركان الشيء: أجزآؤه في الوجود التي لا يمكن أن يحصل إلا بحصولها .
وأركان القياس التي لا يوجد إلا بها أربعة:
(( أصل )). وهو محل الحكم _ أعني _ المقيس عليه عند
الأكثر.
(( وفرع )). وهو المقيس على الأصل.
(( وحكم )).وهو ما دل عليه النص في الأصل من وجوب وتحريم ونحوهما.
(( وعلة )). وهي وجه الشبه الجامع بين الأصل والفرع. وحقيقتها في لسان الأصوليين: ما يثبت الحكم الشرعي لأجله، باعثا أوكاشفا كما سيأتي.
ولكل واحد منها شروط، (( فشروط الأصل )) أربعة :
الأول: (( أن لا يكون حكمه منسوخا )). بل يكون باقيا لأنه إذا كان منسوخا زالت فائدة اعتبار الجامع، لأن فائدته ثبوت مثل حكم الأصل في الفرع، فإذا كان غير ثابت في الأصل فلا ثبوت لفرعه.

(1/62)


(( و )) الثاني: أن (( لا )) يكون الأصل (( معدولا به عن سَنَن القياس )) المعهود في الشرع، فلا بد أن يكون مما يمكن الإطلاع على علة شرعه، فإن كان مما لا يمكن فيه ذلك لم يصح القياس عليه. إذ القياس فرع تَعَقُّل العلة كما تقدم.فلا يصح القياس على القَسامة، والشفعة. لأنهما معدولان عن سنن القياس الشرعي .ألا ترى أن القَسامة تجب على من لم يَدَّعِ عليه وليُّ الدم القتلَ .والقياس أن الحق لا يجب إلا على من ادعي عليه .وأيضا لا تسقط بها عنهم الدية، بل تلزمهم وإن لم يبين مدعيها. والقياس أن الحق يسقط باليمين إذا لم يبين المدعي . وأيضا وجبت على عدد مخصوص وجعل الخيار إلى ولي الدم فيمن يحلف. وكل ذلك مخالف للقياس الشرعي .
وكذلك الشفعة مخالفة للقياس في وجوبها للشريك والجار، ولا سبب له من إرث أو غيره . وكذلك وجوب الدية على العاقلة في جناية الخطأ، حيث وجبت على غير الفاعل، وكأعداد الركعات في الصلاة، فإنه لا يُعقل علة جعلها على العدد المخصوص، ولِمَ جُعل الركوع مفردا والسجود مثنى، ونحو ذلك .فلا يصح القياس على ما هذا حاله لعدم تحقق المعنى كما بينا .
(( و )) الشرط الثالث: أن (( لا )) يكون الأصل المقيس عليه
(( ثابتا بقياس )). إذ لو كان كذلك لم يصح القياس عليه. إذ لو لم تنته الأصول إلى أصل منصوص عليه بل إلى مقيس، والمقيس إلى مقيس، ثم كذلك تسلسل القياس إلى مالا نهاية له .وذلك يؤدي إلى بطلان القياس .
وإن انتهى إلى أصل، فإما أن تتحد العلة في القياسين أو تختلف ؟
إن اتحدت كان ذكر الوسط – أعني – ما هو أصل في قياس، وفرع في آخر ضائعا، لإمكان طرحه وقياس أحد الطرفين على الآخر .
مثال ذلك ما يقال في السفرجل: مطعم فيكون ربويا كالتفاح. فيمنع كون التفاح ربويا، فيقال : لأنه مطعوم كالبر. فهذا باطل .لأنه كان يمكن أن يقاس السفرجل على البر من أول الأمر، فذكر التفاح عَرِيَ عن الفائدة فيكون ضائعا .

(1/63)


وإن لم تتحد العلة في القياسين بل اختلفت، مثل أن يقال في الجذام: عيب يفسخ به البيع، فيفسخ به النكاح كالقَرن والرتق، فيمنع كون النكاح يفسخ بالقرن والرتق.فيقال: لأنه مُفَوِّت للإستمتاع كالجبِّ، فإن علة الفرع وهو الجذام وهي كونه عيبا لم يعتبر في الأصل، وهو القرن، وإنما اعتبر فيه غيرها _ أعني _ فوات الإستمتاع لقياسه على الجب، وعلة الأصل وهي فوات الإستمتاع مع القَرْن غير موجودة في الفرع _ أعني _ الجذام، فلا يصح هذا القياس لعدم اتحاد العلة كما ترى. فتأمل ذلك .
وأما الشرط الرابع فلم يذكره المصنف وهو: أن لا يثبت بالقياس حكم مصادم لنص .فإن كان النص قاطعا فلا يصح القياس اتفاقا. وإن كان ظنيا فكذلك أيضا على المختار. على ما تقدم من أنه يقبل خبر الواحد المخالف للقياس .فهذه هي شروط الأصل وهي مجمع عليها، إلا كون الأصل ثابتا بقياس، فإن أبا عبد الله البصري، وقاضي القضاة لا يشترطان ذلك.
(( وأما شروط الفرع فثلاثة:
(( الأول ))وجودي وهو (( مساواة أصله )) في ثلاثة أمور: 1_ (( في علته )) بأن توجد فيه علة أصله، كالكيل في الربويات، فتقاس النورة عليها لحصول العلة وهي الكيل، بخلاف ما لو جعلنا العلة في تحريم التفاضل فيها الطعم، فإنها لا توجد في النورة، فلا يصح قياسها عليها .
2_ (( و )) مساواته أيضا في (( حكمه )) بأن يتحد الحكم
المستفاد من العلة فيهما، فلو اقتضت العلة في الفرع غير حكم الأصل،

(1/64)


لم يصح القياس. مثال ذلك ما يقوله بعضهم في الاستدلإل على زيادة الركعات في صلاة الكسوف، بالقياس على صلاة الجمعة: صلاةٌ شرع فيها الجماعة فليشرع فيها ركوع زائد كالجمعة، فإنها لما شرعت فيها الجماعة زيد فيها الخطبة. فأثبت بالعلة _ وهي شرعية الجماعة فيهما _ في الفرع حكما مخالفا لحكم الأصل، لأن حكم الأصل زيادة الخطبة، وحكم الفرع زيادة ركوع .وهذا غير صحيح على المختار. إذ لا وجه يقتضيه. ولو كان شرعية الجماعة يقتضي ذلك لاقتضاه في صلاة الخوف، إذ قد شرع فيها الجماعة.
نعم: وهذا الشرط يختص به قياس الطرد .وأما قياس العكس فإنما يثبت به خلاف حكم الأصل. كما تقدم والله أعلم .
3_ (( و )) مساواة الفرع للأصل (( في التخفيف والتغليظ )) بأن يتحد الحكم فيهما تخفيفا وتغليظا، فلا يصح القياس إلا إذا شرعا على نحو واحد في التخفيف والتغليظ، والعزيمة والرخصة، إذ اختلافهما في ذلك فارق، ولا قياس مع وجود الفارق .فلا يصح قياس التيمم على الوضوء في كون التثليث مسنونا فيه كالوضوء، بجامع كون كل منهما شرطا لصحة لصلاة .وكذلك العكس أي: لا يصح قياس الوضوء على التيمم في كون التثليث غير مسنون فيه كالتيمم بذلك الجامع لاختلافهما في التخفيف والتغليظ، لأن التيمم مبني على التخفيف إذ شرع تيسيرا للمعذور، وبدلا عما هو أشق .والوضوء مبني على التغليظ، لأنه لم يشرع بدلا عما هو أشق منه بل شرع ابتداء .
(( و )) الشرط الثاني: (( أن لا يتقدم شرعية حكمه )) أي: الفرع (( على )) شرعية (( حكم الأصل )).بل يكون الأمر بالعكس، ليصح القياس حينئذ، فلا يقاس الوضوء على التيمم في وجوب النية في الوضوء، بجامع كون كل واحد منهما طهاة تراد للصلاة، لأن شرعية التيمم متأخرة عن شرعية الوضوء، لأنها بعد الهجرة، وشرعية الوضوء قبلها .

(1/65)


(( و )) الشرط الثالث: (( أن لا يرد فيه نص )) أي: لا يرد على حكم الفرع نص ولا ظاهر، وذلك إذا كان حكم الأصل ثابتا بدليل عام، يدخل تحته حكم الفرع، أو كان حكم الفرع ثابتا بنص مستقل، فلا يستند في إثبات حكم الفرع إلى القياس حينئذ، بل إلى ذلك النص. إلا أن يستدل بالقياس مع النص استظهارا فلا بأس بذلك.وهذان الشرطان الأخيران عدميان .
(( وأما شروط الحكم هنا )) أي: الذي يثبت بالقياس الشرعي، ولعل هذا القيد لإخراج القياس في مسائل أصول الدين. فإنه يصح أن يكون الحكم فيها عقليا، كما هو مذهب البهشمية في أنه يصح الإحتجاج على وجود الباري بالقياس على أفعالنا، والثابت بالقياس حكم عقلي وهو وجوده تعالى.ولإخراج الحكم الثابت بين المشبه والمشبه به على جهة التقابل. والله أعلم. (( كونه شرعيا )) أي: كونه من الأحكام الشرعية .
إما وجوب، أو تحريم، أو ندب، أو كراهة، أو إباحة، فهذه لا يهتدي إليها العقل إلا بالأدلة الشرعية.
( لاعقليا ).أي: لا يكون الحكم الثابت بالقياس الشرعي عقليا.نحو أن يقال في العين المغصوبة: استيلاء حرَّمه الشرع فيجب كونه ظلما، كالغاصب الأول .فهذا لا يصح، لأن الظلم إنما يثبت حيث يثبت وجهه، وهو كونه ضررا عاريا عن جلب نفع ودفع ضرر، واستحقاق.
(( ولا لغويا )) أي: لا يكون الحكم الثابت بالقياس الشرعي لغويا، نحو أن يقال في اللواط: وطء وجب فيه الحد فيسمى فاعله زانيا، كواطئ المرأة .فهذا لا يصح لأن إجراء الأسماء بالقياس لا يصح، بل لا يصح إثباتها إلا بوضع أهل اللغة، لا بالقياس الشرعي .
وأما (( شروط العلة )) فستة:
الأول: (( أن لا تصادم نصا ولا إجماعا )). بأن يكون ما تثبته في الفرع مخالفا لأيهما .مثال ذلك أن يعلل الشارع امتناع أمر بكونه سهلا، فيقاس عليه أن المَلِك لا يُعتق في كفارة الظهار، لسهولته عليه، فإن هذا الحكم مخالف للكتاب والسنة والإجماع.فلا تصح هذه العلة.

(1/66)


(( و )) الشرط الثاني: (( أن لا يكون في أوصافها )) أي: العلة حيث قلنا بتعدد الأوصاف (( مالا تأثير له في الحكم )). بحيث لو قُدِّر عدم ذلك الوصف في الأصل لم يعدم الحكم فيه، بل يثبت مع فقده، فلا بد في كل واحد منها إن يكون مما يبعث على الحكم حيث هي باعثة، أو يدل عليه حيث هي إمارة. كما يقال في الإستدلال على وجوب القصاص في القتل بالمثقل بالقياس على القتل بالمحدد: قتل عمد عدوان. فإن لكل واحد من هذه الأوصاف تأثيرا في اقتضاء الحكم، وهو وجوب القصاص. وإن لم يكن كذلك لم يصح التعليل به، ولو كان تركه مما يؤرث النقض للعلة .
مثال ذلك أن يقال في ضمان التالف من النور بمثله مثلا: مثلي ليس بلبن المصرآة فيضمن بمثله .ويجعل قوله: ليس بلبن المصرآة جزأ من العلة، وهو ليس بباعث على الحكم ولا أمارة عليه، ولو أسقط لانتقض القياس بلبن المصرآة .فمثل ذلك لا يصح أن يكون علة .
(( و )) الشرط الثالث: أن توافق العلةُ الحكمَ و(( لا تخالفه في التغليظ والتخفيف )) لعدم المماثلة .
مثال ذلك أن يقول القائس في التيمم: مسح يراد به الصلاة فيسن فيه التكرار كالوضوء. فيُعترض بأن العلة وهي كونه مسحا تخفيف،
والحكم الموجَب عنها وهو التكرار تغليظ، فلا ملآءمة بين العلة وبين حكمها، فلا تكون باعثة عليه ولا أمارة له، فلا يصح.
أو يعلل كون التكرار في الغسل غير مسنون بكونه غسلا، فإن العلة وهي كونه غسلا تغليظ، والحكم الموجَب عنها وهو عدم التكرار تخفيف. فلا يتلآءمان .
(( و )) الشرط الرابع: (( أن لا تكون العلة مجرد الاسم )). نحو أن يعلل تحريم الخمر بكونه يسمى خمرا، فهذه العلة لا تصح. (( إذ )) الاسم (( لا تأثير له )) في اقتضاء الأحكام. ولا دلالة له عليها، لأنها أي: الأسماء، تابعة للإختيار. والمصالح والمفاسد لا يجوز أن تتبع الإختيار. والله أعلم.

(1/67)


(( و )) الشرط الخامس: (( أن تطَّرِد )). ومعنى الإطراد: أن يثبت حكمها عند ثبوتها في كل موضع، فلو تخلف عنها لا لخلل شرط ولا لحصول مانع، بطلت عليتها. (( على الصحيح )) المختار.
وقيل: لا يشترط ذلك.
وقد ذكر الإمام المهدي عليه السلام في شرح المعيار: أن الشرط لا خلاف فيه، وأنه إذا تخلف الحكم عنها لا لخلل شرط، ولا لحصول مانع، بطلت عِلِّيتها اتفاقا. فينظر في ذلك.
ومثال عدم اطرادها: أن يعلل _ مثلا _ شرعية التكرار في الوضوء بكونه عبادة تراد للصلاة. فإن حكم هذه العلة وهو التكرار، يتخلف عنها في التيمم .لأنه عبادة تُراد للصلاة ولا يسن التكرار .فتأمل! والله أعلم.
(( و )) الشرط السادس: (( أن تنعكس )). ومعنى انعكاسها أن يعدم الحكم عند عدمها. فلو لم تنعكس لم يصح التعليل بها(( على رأي )). وذلك عند من منع من جواز التعليل بعلتين مختلفتين، أو بعلل مختلفة، كل واحدة منهما أو منها مستقلة باقتضاء الحكم .
وأما من جوَّزه _ وكأن المصنف منهم، ولذلك قال هنا: على رأي، وفي الأول: على الصحيح. فتأمل _ فلا يشترط ذلك .لأنه إذا جاز ذلك صح أن ينتفي الوصف ولا ينتفي الحكم، لوجود الوصف الآخر، وقيامه مقامه لاستقلاله في اقتضاء الحكم، وهذا هو المختار. لوقوع ذلك والوقوع دليل الجواز، إذ لو لم يَجُز لم يقع. وبيان وقوعه أن اللمس والبول والغائط والمذي، علة للحدث الأصغر، وهي مختلفة الحقائق، ويستقل كل واحد منها باقتضاء الحكم .
وكذلك القتل لأجل الردة والقتل والزنا، إذا كان محصنا، فإذا تخلف أحد هذه الأوصاف لم يتخلف الحكم، لوجود وصف آخر مقتض له. فافهم ذلك. والله أعلم .
فهذه الشروط الستة جملة مالا بد من اعتباره في العلة على المختار. وقد زِيد عليها غيرها، ولكنها عندنا ليست بشروط، فلا نشتغل بذكرها. وموضعها البسائط والله أعلم .
(( و )) أعلم أن للعلة أحكاما منها :
أنها (( تصح أن تكون نفيا )). ولو كان الحكم ثبوتا.

(1/68)


(( وأن تكون إثباتا )). ولو كان الحكم عدما.
فلذلك أربع صور :
الأولى: أن تكون العلة ثبوتية، والحكم الثابت عنها ثبوتيا، كتعليل تحريم الخمر بكونه مسكرا .
الثانية: أن يكونا عجميين معا، كتعليل عدم نفاذ التصرف من الصبي والمجنون بعدم العقل .
الثالثة: أن تكون العلة وجودية، والحكم الثابت عنها عدما، كتعليل عدم نفاذ التصرف من المسرف بالإسراف .
الرابعة: عكس هذه الصورة، وهي أن تكون العلة عدمية والحكم الثابت عنها وجوديا، وهذه العلة مختلف فيها، والصحيح صحتها.لأن العلل الشرعية إنما هي كاشفة لا موجِبة، كالعلل العقلية.فهي إما أمارة للحكم، أو باعثة .والأمارة الباعثة كما يصح أن تكون إثباتا يصح أن تكون نفيا، ولا مانع من ذلك.
مثالها: تعليل كون المعجز معجزا، وهو أمر وجودي، بالتحدي بالمعجز مع انتفاء المعارض.فهذه علة جزؤها عدمي، وما جزؤه عدمي فهو عدمي. وقد عُلل بها وجودي .والخصم يوافق في صحة هذه العلة. فيصح ما قلنا وبطل قوله .وكذا تعليل صحة إملال ولي الصبي عن دينه، بعدم بلوغ الصبي.وتعليل جواز ضرب الزوجة بعدم الإمتثال وغير ذلك كثير ما في البسائط.
(( و )) منها أنها تصح أن تكون (( مفردة )) اتفاقا، كقولنا في الوضوء: عبادة فتجب فيه النية كالصلاة .ونحو ذلك كثير.
(( و )) يصح أيضا أن تكون (( مركبة ))من أوصاف متعددة، كتعليل وجوب القصاص بقولنا: قتل عمد عدوان.
فهذه الأوصاف بمجموعها علة في وجوب القصاص .ولا مانع من ذلك على الصحيح، إذ الوجه الذي تثبت به عِلِّية الوصف الواحد تثبت به علية الأوصاف المتعددة، من نص، أو مناسبة، أو شَبَهٍ، أو سَبْر، أو استنباط. والله أعلم.
(( و )) منها أنها تصح (( أن تكون )) العلة (( خلقا في محل الحكم )) إما لازما كالطعم في الربويات عند من علل به، وإما مفارقا كالصغر إذا علل به فساد البيع، أو نحوه .

(1/69)


(( و )) من أحكام العلة أيضا أنها (( قد تكون حكما شرعيا )) وذلك كتعليل عدم صحة بيع الكلب بكونه نجسا، وكتعليل نجاسة رطوبة الكافر بكفره، وهذا لا مانع منه على الصحيح.
(( وقد يجيء عن علة )) واحدة (( حكمان شرعيان ))، أو أكثر أيضا. مثال ذلك: تعليل تحريم دخول المسجد، والقرآءة، والصلاة، والصوم، والوطء، بالحيض. فهذه أحكام متعددة عن علة واحدة، من غير شرط كما ترى.
وقد يأتي عنها مطلقة حكم . ومشروطة حكم آخر .كالزنا فإنه يوجب الجلد بمجرده، والرجم بشرط الإحصان.
(( ويصح تقارن العلل )) المتعددة بحكم واحد، وذلك كالقتل، والردة، والزنا، إذا اقترن وجودها، فإنها علة في القتل.
(( و )) يصح أيضا (( تعاقبها )). وهو بأن تقتضي علة حكما، ثم تقتضي علة أخرى ذلك الحكم. مثاله: تعليل تحريم الوطء بالحيض، فإذا انتهت مدته علل بعدم الغسل، فإنه يتعقب الحيض في اقتضاء تحريم الوطء.
(( ومتى تعارضت العلل )) وتعارضها: بتساويها في بادئ الرأي مع تنافيها في الإقتضاء بأن يقتضي بعضها خلاف ما يقتضيه معارضتها (( فالترجيح )) حينئذ واجب. وسيأتي وجوهه في باب الترجيح إن شاء الله تعالى.
(( وطرق العلة )) أي: الطرق التي يعرف بها كون العلة علة (( أربع )):
أولها: (( الإجماع وذلك أن ينعقد )) الإجماع من الأمة، أو من أهل البيت عليهم السلام (( على تعليل الحكم بعلة معينة )). قوله: معينة. احتراز من حجة الإجماع كما سيأتي.
وهذا الطريق واضح لا إشكال فيه. ومثال ذلك: الإجماع على أن علة وجوب الحد على الشارب شرب المسكر، و أن علة معاقبة تارك الصلاة تركها، ونحو ذلك كثير.
وثانيها: (( النص. وهو )) قسمان:
1_ (( صريح )).
2_ (( و غير صريح )).
(( فالصريح )) وهو: ما دل بوضعه أي: (( ما )) صُرِّح فيه بالعلة، أو(( أُتِيَ فيه بأحد حروف التعليل )) .
فالأول: (( مثل: العلة كذا، أو )) كي يكون كذا، أو إذا يكون كذا .

(1/70)


والثاني: (( لأجل كذا، ولأنه )) كذا، (( أو فإنه )) كذا، (( أو بأنه )) كذا، ونحو ذلك مما أُتي فيه بالحروف المفيدة للعلية.
نحو{إن كنتم جنبا}. (إنها ليست بِسَبُع). {من أجل ذلك كتبنا}.{خاشعا متصدعا من خشية الله}. ( إن امرأة دخلت النار في هرة ). وهذا الذي أتي فيه بأحد حروف العلة، دون الأول الذي صُرِّح فيه بالعلة، لأن هذه الحروف قد تأتي لغير التعليل، فليست نصا في المقصود.
فاللام قد تكون: للعاقبة. نحو:
له ملك ينادي كل يوم لِدوا للموت وابنوا للخراب والباء: للمصاحبة و التعدية ونحوهما.
وإن: للشرطية أي: للزوم من غير تقييد.
ومن: للتبعيض والتعدية.
وفي: للظرفية. وغير ذلك، والله أعلم. (( و )) القسم الثاني: من النص (( غير الصريح )) وهو (( ما فُهِم منه التعليل لا على وجه التصريح )) بالعلة بأيِّ تلك الوجوه المذكورة آنفا.
ويسمى هذا القسم من النص (( تنبيه النص ))، وإيماء النص، وهو أنواع:
الأول: صدور حكم منه صلى الله عليه وآله وسلم جوابا، عقيب سماع واقعة، عرضت عليه لبيان حكمها، (( مثل )) قوله صلى الله عليه وآله وسلم للأعرابي حين قال هلكت وأهلكت‍‍‍‍‍‍.فقال: ( ماذا صنعت؟!) فقال: جامعت أهلي في شهر رمضان (( اعتق رقبة. جوابا لمن قال: جامعت )) أهلي (( في شهر رمضان )) .فإنه يعلم بذلك أن علة العتق: الجماع في شهر رمضان.
(( وقريب منه )) أي: من هذا النوع، ما إذا سأله صلى الله عليه وآله وسلم، أحد عن حكم شيء، فيذكر في الجواب ما قد ثبت فيه مثل ذلك الحكم بعلته، مما هو نظير المسؤول عنه أو دونه، ليثبت في المسؤول عنه ذلك الحكم بتلك العلة بالأولوية، أو بالمماثلة .
مثل قوله للخثعمية حين قالت له: إن أبي أدركته الوفاة وعليه فريضة الحج فإن حججت عنه أينفعه ذلك؟‍‍!

(1/71)


فقال صلى الله عليه وآله وسلم: (( أرأيتِ لو كان على أبيك دين …) إلى آخر (( الخبر )) وهو قوله صلى الله عليه وآله وسلم: فقضيتيه أكان ينفعه ذلك؟!
فقالت: نعم.
فقال صلى الله عليه وآله وسلم: ( فدَينُ الله أحق أن يقضى ).
سَأَلَتْه عن: حكم دَين الله وهو النفع. فذكر نظيره وهو دين الآدمي بِعِلَّته وهو قضاؤه، فإنه يحصل النفع إذا قضي، فكذلك دَين الله. فَنَبَّه بذكر نظيره مع العلة على أن حكم المسؤول عنه كذلك لتلك العلة، وإلا لم يكن لذكره فائدة والله أعلم.
وإنما قال في هذا: وقريب منه. لأنه في الأول ذكر في الجواب حكم المسؤول عنه، وفي هذا ذكر فيه نظير المسؤول عنه، ليثبت في المسؤول عنه ما ثبت في نظيره كما بينا.
وهذا النوع من تنبيه النص يسمى: ترتيب الحكم على الوصف، وقد عُدَّ منه قوله تعالى: { فإن كان الذي عليه الحق سفيها أو ضعيفا أو لا يستطيع أن يمل هو فليملل وليه بالعدل}. فنبه على أن العلة في صحة النيابة من الولي هي السفه، أو الضعف. والأَولى أن هذا من الطرف الثاني من صريح النص _ أعني ما أتي فيه بأحد حروف العلة _ لأنه قد أتى فيه بحرف العلة _ أعني – إن. فهو مثل: {وإن كنتم جنبا}. كما قدمنا والله أعلم.
ومن هذا النوع: قوله صلى الله عليه وآله وسلم لعمر حين سأله عن قُبلة الصائم هل تفسد الصوم ؟
( أرأيت لو تمضمضت بماء ثم مججته أكان يفسد ذلك؟!
فقال: لا.
فقال صلى الله عليه وآله وسلم: ( فصم إذاً ) .
سأله عن حكم القبلة هل يَفسد بها الصوم؟ فذكر حكم نظيرها – أعني – المضمضة، وهو كونها غير مفسدة، بعلته وهو كونه لم يصل الجوف منها شئ، ليعلم أن حكم القُبلة كذلك لتلك العلة، وإلا لم يكن لذكر نظير القبلة فائدة فتأمل ذلك!
(( و ))النوع الثاني: الفصل بين الشيئين المذكورين بالوصف، إما مع ذكر الوصفين معا (( مثل )) قوله صلى الله عليه وآله وسلم: ( للراجل سهم، وللفارس سهمان ).

(1/72)


وإما مع ذكر أحدهما فقط. مثل: القاتل عمدا لا يرث .فإنه لم يتعرض لغير القاتل وإرثه، فقد فَصَل صلى الله عليه وآله وسلم بين المجاهدين بصفة الفروسية، والرجولية. وكذلك فصل بين الوارثين بالقتل، وعدمه. فلو لا أن الصفة هي العلة في استحقاق النصيب المسمى في الأول، وعدم الإرث في الثاني، لما كان لذكرها فائدة.
(( والنوع الثالث )) أن يذكر الشارع وصفا مع حكم مناسب(( مثل )) قوله صلى الله عليه وآله وسلم: (( لا يقضي القاضي وهو غضبان )). فنبه بذكر الغضب مع الحكم على أنه العلة في عدم جواز الحكم مع غضب القاضي . وإلا لم يكن لذكره فائدة .وذلك لأنه مُشَوِّش للنظر، وموجِب للاضطراب .
(( وغير ذلك )) من الوجوه التي يُفهم منها التعليل، لا على وجه التصريح كثير.نحو المدح، أو الذم في عَرَض ذكر الفعل، نحو قوله صلى الله عليه وآله وسلم: ( لعن الله اليهود اتخذوا قبور أنبيائهم مساجد ). فلو لا قصدُ التنبيه على علة لعنهم بكونهم اتخذوا قبور أنبيائهم مساجد، لم يكن لذكر ذلك فائدة.
وكالفصل بين الشيئين بالشرط، والإستثناء .
فالشرط مثل قوله صلى الله عليه وآله وسلم: ( إذا اختلف الجنسان فبيعوا كيف شئتم )، ففصل بين الشيئين المكيلين في جواز التفاضل، بشرط اختلاف الجنس، فيعلم بذلك أن العلة في جواز التفاضل هي الاختلاف في الجنس . وإلا لم يكن لذكر الشرط فائدة .

(1/73)


والإستثناء مثل قوله تعالى: { إلا أن يعفون}. ففصل تعالى بين المطلقات العافيات، وغيرها، في سقوط المهر بالإستثناء. فلو لا أن العلة في سقوط مهر العافية هو العفو، لم يكن لذكر الإستثناء فائدة. ومن ذلك: الغايات. مثل: {ولا تقربوهن حتى يطهرن}. ونحوه. فلو لا أن العلة في جواز الوطء هو الطهر، لم يكن لذكر الغاية فائدة. ونحوه اقتران الصفة بحكم من الشارع، حيث لا وجه لذكر الصفة إلا قصد التعليل للحكم بها، وإلا لكان ذكرها عديم الفائدة. نحو قوله صلى الله عليه وآله وسلم حين امتنع من الدخول على قوم عندهم كلب.
فقيل له: إنك تدخل على آل فلان وعندهم هرة ؟!
فقال: إنها ليست بسبع، إنها من الطوافين عليكم والطوافات.
حيث ذكر ذلك جوابَ إنكارِ دخوله بيتا فيه هرة. فنبه على أن العلة كونها غير سبع . ولو لا قصد التعليل لما كان لإخباره بذلك وجه يقتضيه. كذا قيل.
والأَولى: أن هذا مما أتي فيه بأحد حروف العلة، فيكون من الطرف الثاني من الصريح كما تقدم . ونحو ذلك كثير.
فهذه الوجوه كلها تنبيه نص على العلة، من حيث أنه لو لم يقصد فيها ذلك لكان ذكر هذه الأمور لغوا لا فائدة فيه، وكلام الحكيم منزه عن ذلك.
(( وثالثها )) أي: ثالث طرق العلة (( السبر والتقسيم )).
(( ويسمى )) هذا الطريق عند الأصوليين (( حجة الإجماع )) وليس بإجماع صريح. وإنما سمي بذلك لأنه يرجع في تعيين ما أدعي أنه العلة، إلى الاحتجاج بالإجماع على أنه لا بد لذلك الحكم من علة.
(( وهو )) أي: حجة الإجماع (( حصر الأوصاف في الأصل )). التي يمكن أن تكون علة. وهذا هو التقسيم.
(( ثم )) بعد ذلك الحصر (( إبطال التعليل بها )). أي: بتلك الأوصاف، (( إلا واحدا )) منها. (( فيتعين )) حينئذ كونه علة. وهذا هو السبر.
(( و )) الطريق إلى (( إبطال ما عداه )) يكون بأمور:

(1/74)


(( إما ببيان ثبوت الحكم من دونه )). كما يقال في قياس الذرة على البر في تحريم التفاضل، بعد الإجماع على أن تحريمه لعلة من دون تعيين للعلة:
حصرتُ الأ وصاف في البر التي يمكن أن تصلح علة للتحريم في بادئ الرأي، فوجدتها الطعم، أو القوت، أو الكيل. فيبطل الطعم، والقوت بثبوت الحكم، وهو التحريم بدونهما .كما في النورة، والملح، فيتعين.
(( أو ببيان كونه وصفا طرديا )). أي: من جنس ما علم من الشارع إلغاؤه وعدم اعتباره في حكم من الأحكام. كما يقال مثلا في قياس الخل على المرق في عدم التطهير:
حصرتُ الأوصاف في المرق التي يمكن أن تصلح علة لعدم التطهير في بادئ الرأي، فوجدتها إما كونه متغيرا، أو كونه لا تبنى عليه القنطرة، ولا يصاد منه السمك. ثم تُبطل هذين الوصفين _ أعني كونه لا تبنى عليه القنطرة، وكونه لا يصاد منه السمك _ بأن الشارع لم يعتبر ذلك في حكم من الأحكام.
وكما يقال في قياس الأَمة على العبد في سراية العتق:
حصرتُ الأوصاف التي يمكن أن تُدَّعى علة لذلك، فوجدتها إما المِلك، أو الطول، أو القصر، أو الذكوة . ثم تبطل الطول، والقصر بأنه لم يعتبرهما في أحكام العتق، فيتعين المِلك.
(( أو بعدم ظهور مناسبته )). أي: بأن لا يظهر للوصف وجهُ مناسبةٍ يقتضي بها الحكم، فيلغى حينئذ. كما يقال في قياس النبيذ على الخمر:
حصرتُ الأوصاف في الخمر التي تصلح علة لتحريمه، فوجدتها إما الإسكار، أو السيلان، أو الإشتداد. فيبطل ما عدى الإسكار لعدم المناسبة بينه وبين التحريم، فيتعين الإسكار.
فهذه هي الطرق إلى إبطال التعليل بما عدى الوصف المُعلَّل به . فإن قلت: قد بينت الطريق إلى الإبطال فما الطريق إلى انحصار الأوصاف فيما ذكر المعلِّل ومن أين له ذلك؟!! قلت: الطريق إلى ذلك أن يقول: بحثت فلم أجد سوى هذه الأوصاف. وعدالته وتَدَيُّنه يقتضيان صدقه فيما ادعاه من البحث.

(1/75)


وذلك مما يغلب في الظن عدم غيرها به. لأن الأوصاف العقلية والشرعية مما لو كانت لما خفيت على الباحث عنه، أو أن يقول الأصل عدم غيرها، وبذلك يحصل الظن المقصود فإن ظهر له وصف آخر فإن ظهر بطلانه فذاك، وإلا رجع عما حكم .
(( وشرط هذا الطريق )) المسمى بحجة الإجماع، (( وما بعده )) وهو المناسبة (( الإجماع )) من العلماء (( على )) أنه لا بد من
(( تعليل الحكم في الجملة، من دون تعيين العلة )) ما هي .وإنما تتعين هذه الطريق بالسير كما بينا .وفي الثاني بالمناسبة كما سيأتي. (( ورابعها )) أي: رابع طرق العلة (( المناسبة )) بين الحكم والعلة. (( وتسمى )) هذه الطريق في لسان الأصوليين (( الإخالة، وتخريج المناط )) .
ومعنى الإخالة: الظن .لأن ذلك الوصف بالنظر إليه يخال أي: يظن إن لا علة سواه .
ومعنى تخريج المناط: استخراج العلة، إذ المناط ما يعلق عليه الشيء. ولما كانت العلة تتعلق بها الأحكام سميت: مناط الحكم.
ولما كانت المناسبة تستنبط بها العلة سميت تخريجا.
وهي أي: المناسبة .في الاصطلاح: (( تعيين العلة )) في الأصل المقيس عليه (( بمجرد إبداء مناسبة )) بين العلة والحكم (( ذاتية )) أي: من ذات الوصف، لا بنص، ولا بغيره . وبذلك سميت: مناسبة. وذلك (( كالإسكار في تحريم الخمر )) .فإن من نظر في الخمر
وحكمه، وهو التحري، ووصفه وهو الإسكار، يعلم منه كون ذلك الوصف بالنظر إلى ذاته مناسبا لشرع التحريم، لأجل حفظ العقل .
(( وكالجناية للعمد العدوان في وجوب القصاص )) فإن من نظر في القتل ووصفه، وهو كونه عمدا عدوانا، يجد ذلك الوصف بالنظر إلى ذاته مناسبا لشرع القصاص، لأجل حفظ النفوس .كما نبه على عليته تعالى في قوله: {ولكم في القصاص حياة}.
فهذه هي الطرق إلى تعيين العلة . والدليل على أنها هي الطرق:

(1/76)


إما النص وتنبيه النص. فالدليل على أنهما طريقان إلى العلة أن الشارع إذا نص على العلة أو نبه عليها، فكأنه قال هذه علة هذا الحكم .فلا يحتاج إلى سؤآله عن دليل على ذلك، كما لا يحتاج في سائر الأحكام، لأن قوله دليل . إذ قد علمنا صدقه بظهور المعجز.
وإما الإجماع. فلأن قول أهله كقول الشارع . لما ثبت من الدليل على أن قولهم حجة.وأما حجته، وكذا المناسبة، فالدليل على أنهما طريقان: الإجماع على أنه لا بد للحكم من علة في الجملة .وقد تعينت العلة بهما، فيجب اعتبارهما للإجماع على وجوب العمل بالظن في علل الأحكام .وقد حصل الظن بتعيين العلة بهما، فيجب كونهما طريقين. فتأمل ذلك ! والله أعلم
(( و )) اعلم أنها (( تنخرم المناسبة )) بين الحكم والعلة (( بلزوم مفسدة )) من إثبات الحكم بها . يعني إذا ثبت الحكم بوصف يفضي إلى حصول مصلحة على وجه يلزم منه وجود مفسدة، فإنها تنخرم تلك المناسبة، فلا تثبت بها العلة حينئذ . ولكن إنما تنخر م بذلك إذا كانت تلك المفسدة (( راجحة )) على المصلحة التي ثبتت بالمناسبة. (( أو )) كانت (( مساوية )) لتلك المصلحة .
قلت: ومثال ذلك: ما يقال فيمن غُصَّ بلقمة مثلا وخشي التلف، ولم يجد ما يُنزلها به إلا الخمر. فإن في تحريمه مناسبة لحفظ العقل كما تبين. ولكن يلزم من المناسبة حصول مفسدة، وهو هلاكه لو لم يشربه، وهذه المفسدة أرجح من المصلحة، إذ حفظ النفس أَولى من حفظ العقل .فتأمل ذلك! والله أعلم .
وإنما انخرمت المناسبة بذلك، لأن العقل يقضى بأن لا مصلحة مع حصول مفسدة مثلها .وأما إذا كانت المصلحة أرجح، فإنها لا تنخرم المناسبة لمعارضتها .
وترجيح المصلحة على المفسدة يحصل: إما بطريق إجمالي شامل لجميع المسائل، وهو أنه لو لم يعتبر رجحان المصلحة على المفسدة لزم التعبد بالحكم بلا وجه . إذ يكون الحكم قد ثبت في محل النزاع لا لمصلحة، وهو باطل.
إذ فيه التعبد بالتحكم.

(1/77)


وإما بطريق تفصيلي وهو: يختلف باختلاف المسائل والله أعلم.
(( و )) أما (( المناسب )) فحقيقته (( وصف ظاهر منضبط يقضي العقل بأنه الباعث على الحكم )) .وذلك كالإسكار في تحريم الخمر، واحترز بقوله: ظاهر. عن الخفي، وبقوله: منضبط .عن المضطرب، لأن العلة مُعَرِّفة للحكم، فإذا كان الوصف خفيا، أو غير منضبط، لم يعرف هو في نفسه، فكيف يعرف به الحكم، فما يصلح معرفا للحكم لا بد وأن يكون منضبطا، فالوصف الذي يحصل المقصود من ترتب الحكم عليه إن كان ظاهرا منضبطا اعتبر علة بعينه، كما مثلنا في الإسكار.
(( فإن كان خفيا، أو غير منضبط، اعتبر ملازمُه ومظنته )).أي: اعتبر وصف ظاهر منضبط يلازم ذلك الوصف الذي يحصل المقصود من ترتب الحكم عليه .ملازمة عقلية، أو عرفية، أو عادية. بمعنى: أن ذلك الوصف يوجد ملازمه الظاهر المنضبط، فيجعل الملازم معرفا للحكم، ويعبر عنه بالمظنة . وذلك: (( كالسفر للمشقة )) . يعني: أن المشقة مناسبة لترتب الترخيص عليها، تحصيلا لمقصود الشارع – أعني – التخفيف. ولا يمكن اعتبارها بنفسها إذ هي غير منضبطة، لأنها ذات مراتب تختلف بالأشخاص والأزمان، ولا يعلق الترخيص بالكل، ولا يمتاز للبعض بنفسه، فيعلق الحكم بما يلازمه، وهو السفر .
وكذلك القتل العمد العدوان، فإنه مناسب لشرع القصاص، ليحصل مقصود الشارع من حفظ النفوس . لكن وصف العمدية خفي، لأن القصد وعدمه أمر نفسي لا يدرك شئ منه . فيناط القصاص بما يلازم العمدية من أفعال مخصوصة، يقضي العرف عليها بكونها عمدا، كاستعمال الجارح في القتل .
(( وهو )) أي: المناسب (( أربعة أقسام )):
1_ مناسب (( مؤثر )).
2_ (( و )) مناسب (( ملائم )).
3_ (( و )) مناسب (( غريب )).
4_ (( و )) مناسب (( مرسل )).
وهذا هو الذي سماه الأصوليون إذا استنبطت العلة به، وأثبت الحكم بها: القياس المرسل.

(1/78)


والدليل على انحصار المناسب في الأربعة الأقسام أمر عقلي وهو أن يقال: لا يخلو من أن يكون ذلك المناسب قد اعتبره الشارع أولا ؟
ولا قسم ثالث. إن كان قد اعتبره فلا يخلو: إما أن يعتبره بعينه في عين الحكم المطلوب أو لا ؟ إن كان قد اعتبره كذلك، فهو المناسب المؤثر. وسواء اعتبره بنص، أو تنبيه نص، أو إجماع، أو حجة إجماع. وإن لم يعتبره كذلك فلا يخلو:
إما أن يكون قد اعتبره بعينه في جنس الحكم، أو جنسه الأقرب في عين ذلك الحكم أو جنسه، أو لا ؟ إن كان قد اعتبره كذلك، فهو
المناسب الملائم . وإن لم يكن قد اعتبره الشارع في عين ذلك المحل، وإنما اعتبر جنسا له أبعد في غير محل الحكم، فهو المناسب الغريب . وإن لم يكن الشارع قد اعتبره لا في المحل، ولا في غيره، فهو المناسب المرسل . فدل ذلك على انحصار المناسب في هذه الأربعة الأقسام .
وهذا بيانها:
(( فـ )) القسم الأول وهو المناسب (( المؤثر، ما ثبت بنص أو إجماع )) أو تنبيه نص، أو حجة إجماع، (( اعتبارُ عينه في عين الحكم )) . وذلك (( كتعليل ولاية المال )) في حق الصغير (( بالصغر الثابت بالإجماع )) .لأنه قد أجمع على اعتباره _ أعني _ الصغر في ولاية المال .
(( وكتعليل وجوب الوضوء بالحدث الخارج من السبيلين ))، الثابت بالنص اعتباره في وجوب الوضوء.
(( و )) القسم الثاني وهو المناسب (( الملائم ما قد ثبت اعتباره بترتب الحكم على وَفْقِه فقط )) . يعني: من دون أن يثبت بنص، أو إجماع، أو تنبيه نص، أو حجة إجماع، اعتباره بعينه في عين الحكم.
(( لكنه قد ثبت بنص، أو إجماع ))، أو تنبيه نص، أو حجة إجماع
(( اعتبار عينه في جنس الحكم )) الذي يراد إثباته بالقياس عليه. وذلك (( كما ثبتت للأب ولاية نكاح ابنته الصغيرة، قياسا على ولاية المال، بجامع الصغر. فقد اعتبر عين الصغر في جنس الولاية )).

(1/79)


بيانه أن يقال: ثبت للأب ولاية النكاح على الصغرى، كما ثبت له عليها ولاية المال، بجامع الصغر . فإن الوصف وهو الصغر أمر واحد، وليس جنسا تحته نوعان . والحكم وهو الولاية جنس، تجمع ولاية المال وولاية النكاح، وهما نوعان من التصرف . وعين الصغر معتبر في جنس حكم الولاية بالإجماع على الولاية على الصغير في المال، لأن الإجماع على اعتباره في ولاية المال إجماع على اعتباره في جنس الولاية العامة للمال والنكاح . فقد ثبتت الولاية مع الصغر في الجملة .
وأما اعتبار الصغر في عين ولاية النكاح، فإنه إنما يثبت بمجرد ترتب الحكم على وفقه فقط
(( أو ثبت ) بنص، أو إجماع، أو تنبيه نص، أو حجة إجماع
(( اعتبار جنسه )) أي: الوصف (( في عين الحكم )) الذي تريد إثباته بالقياس. وذلك: (( كجواز الجمع في الحضر للمطر، قياسا على السفر بجامع الحرج )) .بأن يقال: يجوز الجمع في الحضر مع المطر قياسا على السفر بجامع الحرج .فالحكم هو رخصة الجمع، وهو أمر واحد ليس جنسا تحته نوعان، والوصف المناسب وهو الحرج جنس يجمع الحاصل في السفر، وهو خوف الضلال والإنقطاع، وبالمطر وهو التأذي وهما نوعان مختلفان
(( فقد اعتبر )) كما بينا (( جنس الحرج في عين رخصة الجمع )) . وذلك بتنبيه النص _ أعني _ قولهم كان صلى الله عليه وآله وسلم: يجمع في السفر . فإن في ذلك إيماء إلى أن علة ترخيص الجمع هو حرج السفر ومشقته . والله أعلم .
(( أو )) ثبت بنص، أو إجماع، أو تنبيه نص، أو حجة إجماع

(1/80)


(( اعتبار جنسه )) أي: الوصف، حيث يكون جنسا تحته نوعان (( في جنس الحكم )) المراد إثباته بالقياس، حيث يكون جنسا تحته نوعان أيضا (( كإثبات القصاص بالمُثَقَّل قياسا على المحدد، بجامع كونهما جناية عمد عدوان )) . بأن يقال مثلا: يجب القصاص بالقتل بالمثقل قياسا على القتل بالمحدد، بجامع كونهما جناية عمد عدوان . فالحكم وهو مطلق وجوب القصاص جنس يجمع القصاص في النفس، وغيرها مما يجب فيه القصاص، كاليدين والرجلين والعينين والأنف والأذن . والوصف المناسب وهو جناية العمد العدوان جنس أيضا يجمع الجناية في النفس، وفي الأطراف وفي المال .(( فقد اعتبر جنس الجناية في جنس القصاص الثابت )) بالنص .وهو قوله تعالى: {النفس بالنفس… }إلى
قوله: { والجروح قصاص }.وبالإجماع أيضا وذلك ظاهر .
(( و )) القسم الثالث وهو المناسب (( الغريب ما قد ثبت اعتباره بمجرد ترتب الحكم على وَفْقِه، ولم يثبت بنص، ولا إجماع اعتبار عينة ولا جنسه في عين الحكم ولا جنسه )) وذلك: (( كتعليل تحريم النبيذ بالإسكار قياسا على الخمر )) فتثبت فيه الحرمة كما تثبت في الخمر، لاشتراكهما في علة التحريم وهي الإسكار، (( على تقدير عدم )) ورود (( النص بأنه )) أي: الإسكار (( علة في تحريم )) الأصل المقيس عليه وهو (( الخمر )) .فإنه على هذه التقدير لم يوجد الإسكار علة في تحريم شيء، بل ثبت بمجرد المناسبة اعتبار الإسكار في التحريم، حفظا للعقل بمجرد ترتب الحكم على وفقه، فلا يكون مرسلا، لكنه غريب من جهة عدم النص، أو الإجماع على اعتبار عينه أي: الإسكار، أو جنسه في عين التحريم، أو في جنسه .
(( و )) القسم الرابع وهو المناسب (( المرسل )) هو (( ما لم يثبت )) في الشرع (( اعتباره بشيء مما سبق )) . يعني: أن المرسل ما لم يثبت في الشرع اعتبار عينه في عين الحكم أصلا، بنص ولا إجماع ولا بمجرد ترتب الحكم على وفقه .

(1/81)


(( وهو )) أي: المناسب المرسل (( ثلاثة أقسام :
(( ملائم )) .
(( وغريب )) .
(( وملغي ))
(( فـ )) لقسم الأول (( الملائم المرسل )) وهو (( ما لم يشهد له أصل معين بالإعتبار )) .يعني: أنه لم يثبت اعتبار عينه في عين الحكم أصلا . (( لكنه مطابق لبعض مقاصد الشرع الجُمليَّة )) وذلك
(( كقتل المسلمين المُترَّس بهم عند الضرورة )) . يعني إذا تَرَّس الكفار بهم وقصدونا، فإن في قتلهم مصلحة راجحة، وهي حفظ بيضة الإسلام . وقد دعت إليه الضرورة، وهي المحافظة على الإسلام، فحينئذ يجوز قتلهم . ولا دليل على الجواز إلا القياس المرسل، ورعاية الأ صلح لجملة الإسلام . ولا أصل له معين يرد إليه ويشهد له بالإعتبار، مما ورد فيه نص، أو إجماع .وإنما يرد إلى جُملِي وهو رعاية مصالح الإسلام، فقد طابق بعض مقاصد الشرع الجملية، وهي رعاية المصالح فيقاس عليها .
(( وكقتل الزنديق )) إذا ظفرنا به، وهو من ينكر القول بحدوث العالم ويقول بقدمه، فإنه يقتل (( وإن اظهر التوبة )) . فإن توبته لا تقبل، ولا يصير بذلك محقون الدم، بل يسفك ويقتل . وذلك لأن مذهبه التَّقِيَّة بأن يظهر خلاف ما يدين به، فلو قبلناها لم يمكن زجر زنديق أصلا، والزجر مقصود في الشرع . فلم يُرجع بذلك إلى أصل معين يشهد له بالإعتبار، بل يُرجع فيه إلى مصلحة جُملية اعتبرها الشرع فَقِسناه عليها، وهي الزجر على سبيل الجملة .
(( وكقولنا يحرم النكاح على العاجز عن الوطء من تعصي لتركه )). فإن من قال بذلك لا حجة له إلا القياس المرسل، وهو أنه يعرضها لفعل القبيح، والشرع يمنع من تعريض الغير لفعل القبيح في بعض الصور، نحو المنع من الخلوة بغير المحرم من النساء، للإحتراز من المعصية، فلا أصل له معين يشهد له بالإعتبار، بل مرجعه إلى مصلحة جملية اعتبرها الشرع، وهي منعه من تعريض الغير لفعل القبيح .

(1/82)


(( وأشباه ذلك )) كثير .مما مستنده القياس المرسل . كما هو موضوع في بسائط هذا الفن .
(( وهذا النوع )) من القياس المرسل (( هو المعروف )) عند الأصوليين (( بالمصالح المرسلة )) . أي: التي لا يشهد لها معين بالإعتبار، ولا بالإلغاء، لا بالنص ولا بالإجماع ولا بالقياس . وإنما سميت مصالح لأن الظن قد غلب بأن الحكم بها يطابق مقصودات الشرع . ومصلحة المكلفين مرسلة من حيث أن نصوص الشرع لم تتناولها ولا رُدَّت إلى أصل معين يستفاد حكمها من الرد إليه . (( والمذهب اعتباره ))، وأنه من الجهات التي يتوصل بها إلى الأحكام الشرعية .
(( و )) القسم الثاني من المناسب المرسل (( المرسل الغريب )) وهو (( مالا نظير له في الشرع )) معتبرٌ لا جملة ولا تفصيلا . (( لكن العقل يستحسن الحكم لأجله، كأن يقال في قياس البآتِّ لزوجته في مرضه المخوف لئلا ترث: يعارض بنقيض قصده فتورث، قياسا على القتل عمدا، حيث عورض بنقيض قصده فلم يورث القاتل عمدا ))، بجامع كونهما فَعَلا محرما لغرض فاسد . فإنه لم يثبت في الشرع أن ذلك هو العلة في القاتل ولا غيره، فالأصل المقيس عليه القاتل عمدا، والفرع البآت لزوجته في مرضه، والحكم في الأصل عدم الإرث، والعلة المعارضة بنقيض قصده، لأنه قصد بالقتل الإرث، والحكم في الفرع ثبوت الإرث إذا قصد أنها لا ترث، والوصف المعارضة بنقيض القصد أيضا، فالمعارضة بنقيض القصد لا نظر لها في الشرع، ولكن العقل يستحسن الحكم لأجله .

(1/83)


(( و )) القسم الثالث هو (( المرسل الملغي )) وهو (( ما صادم النص وإن كان لجنسه نظير في الشرع )) وذلك (( كإيجاب الصوم )) يعني شهرين متتابعين (( ابتداء )) . يعني قبل العجز عن الإعتاق (( على المُظَاهِر )) من زوجته . (( ونحوه )) وهو المجامع في شهر رمضان على القول بالوجوب، والقاتل خطأ في الكفارة .(( حيث هو )) أي: الفاعل لأي هذه الأسباب (( ممن يسهل عليه العتق ))، ليكون ذلك (( زيادة في زجره )) لأجل صعوبة الصوم . (( فإن جنس الزجر مقصود في الشرع لكن النص )) وهو قوله تعالى : {فمن لم يجد فصيام شهرين متتابعين }.وكذلك الإجماع على تأخير الصوم أيضا (( منع من اعتباره )) أي: ما هو أوقع في الزجر وهو الصوم (( هنا )) .أي: في هذا الحكم .حيث هو يتمكن من العتق . لأن النص والإجماع صرحا بأن الصوم إنما يجزي من لم يجد رقبة يعتقها، كما هو ظاهر في الآية . (( فَأُلغي )) هذا المناسب حينئذ .
(( وهذان )) القسمان الأخيران من المناسب المرسل _ أعني _ الغريب، والملغي (( مُطَّرحان )) لا يعمل بهما اتفاقا عند العلماء .
أما الأول: فقد تقدم من أنه لا نظير له في الشرع .
وأما الثاني: فلمصادمته النص . والله أعلم .

(1/84)


(( قيل: ومن طرق العلة )) طريق خامسة وهي (( الشَّبَه )) . وله معنيان: أعم وأخص، أما الأعم فهو : ما يرتبط الحكم به على وجه يمكن القياس عليه، وهذا يعم العلل جميعها . وأما الأخص وهو المراد هنا فقد بينه المصنف بقوله: (( وهو أن يوهم الوصفُ المناسبةَ )) بينه وبين الحكم وذلك (( بأن يدور معه )) أي: مع الوصف (( الحكم وجودا وعدما ))، بأن يوجد الحكم متى وجد الوصف، ويعدم متى عدم، (( مع التفات الشارع إليه )) .بأن يكون مما قد اعتبره في بعض الأحكام . وبيان كونه من طرق العلة، أن الوصف كما أنه قد يكون مناسبا، فيُظن بذلك كونه علة، كذلك قد يكون شبيها فيفيد ظنا ما بالعلية، وذلك: (( كالكيل في تحريم التفاضل على رأي )) . أي: عند من جعله هو العلة في التحريم، فإن التعليل به لم يثبت بنص ولا تنبيه نص ولا إجماع ولا حجة إجماع، وإنما ثبت بكون الحكم يثبت بثبوته وينتفي بانتفائه .
(( و )) له مثال آخر وهو أن يقال في قياس (( تطهير النجس )) على الحدث في تعيين الماء لأزالته (( يتعين له )) أي: تطهير النجس
(( الماء كطهارة الحدث ))حيث تعين له الماء (( بجامع كون كل منهما ))أي: من تطهير النجس، وتطهير الحدث: (( طهارة تراد للصلاة فيتعين لها )) أي: لطهارة النجس (( الماء كطهارة الحدث )).

(1/85)


فالجامع بينهما وصف شبهي، وهو كون كل منهما طهارة ترادللصلاة . لأنه يوهم المناسبة بينهما، من حيث أنه قد اجتمع في تطهير النجس شيئان: كونها طهارة للصلاة، وكونها عن نجس . والشارع قد اعتبر الأول حيث رتب عليه حكم تعيين الماء في الصلاة ونحوها . ولم يعتبر الثاني وهو كونها عن النجس فاعتُبِر الأول لظهور اعتبار الشارع له والتفاته إليه، وأُلغي الثاني لعدم اعتبار الشارع له . فتوهم من ذلك أن الوصف الذي اعتبره الشارع، وهو الطهارة للصلاة مناسب للحكم، وهو تعيين الماء، لأن إلغاء ما لم يعتبره الشارع أصلا، أنسب من إلغاء ما قد اعتبره . فتأمل ذلك ! والله أعلم .
(( تنبيه [الاعتراضات] ))
(( وأما الإعتراضات )) للقياس المشهورة المتداولة في ألسنة الأصوليين (( فلا يليق إيراد ها بهذا المختصر )) لما فيها من كثرة المباحث التي أكثرها من علم الجدل الذي وضعه الجدليون باصطلاحهم، وله كتب غير كتب هذا الفن . (( ومن أتقن ما سبق )) من تفاصيل أركان القياس، وما يتصل بذلك من شرائطها، وتفطن لما تقدم من تحرير المسالك وتبييناتها (( لم يحتج إلى ذكرها إذ هي راجعة إلى منع، أو معارضة )) إذ المنازعة في كمال الشروط، وإلا لم تُسمع فحينئذ مرجعها إلى إهمال شيء مما تقرر .
(( وإنما حررت )) الإعتراضات (( للمناظرة )) بين الخصمين. هذا ونحن نذكرها في شرحنا هذا على سبيل الإختصار، إذ هي لا تخلو عن نفع في المقصود .
فنقول وبالله التوفيق: جملة الإعتراضات المتداولة في ألسنة الأصوليين على ما ذكره ابن الحاجب خمسة وعشرون اعتراضا .

(1/86)


(( الأول الإستفسار وهو طلب بيان معنى اللفظ(1) ))
وتفسيره، لإجمال فيه أو غرابة، فلا يسمع إلى إذا كان في لفظ المستدل ذلك، وبيان وجودهما في اللفظ على المعترض، إذ الأصل عدمه .
مثاله : أن يقول المستدل على قتل المكرَه على القتل، بالقياس على المكرِه: مختارٌ فيُقتص منه كالمكرِه .فيقول المعترض: ما تعني بالمختار ؟ فإن فيه إجمالا من حيث أنه يقال للفاعل القادر والفاعل الراغب .هذا في دعوى الإجمال .
وأما في دعوى الغرابة فمثاله: أن يقول في الإستدلال على أن الكلب غير المعلم لا يؤكل من صيده، بالقياس على السيِّد: أَيلٌ لم يُرَض فلا تحل فريسته كالسيِّد .
فيقول المعترض : ما معنى الأَيل ؟ وما معنى لم يرض ؟ وما الفريسة؟ وما السيِّد ؟
وجوابه: ببيان ظهور اللفظ في مقصود المستدل، فلا إجمال حينئذ ولا غرابة . وذلك إما بالنقل عن أهل اللغة أنهم يستعملون اللفظ في ذلك . إما حقيقة أو مجازا، أو بالعرف العام أو الخاص . أو بالقرآئن المضمومة معه . فإن عجز عن ذلك فالتفسير لما أراد بما يحتمله اللفظ .كأن يقول في المثال الأول: أردت الفاعل القادر. ويقول في المثال الثاني: أردت بالأيل الكلب .وبقولي : لم يرض لم يُعلَّم . وأردت بالفريسة الصيد . وبالسيد الأسد .
وهذا الإعتراض داخل في المطالبة . إذ المعترض يطلب من المستدل تقرير ما قصد باللفظ . فيرجع إلى ما ترجع إليه .كما سيأتي إن شاء الله تعالى .
(( الإعتراض الثاني ))
__________
(1) _ نص الكافل هكذا (الأول: الإستفسار.وهو طلب بيان معنى اللفظ .وهو نوع واحد، وإنما يسمع إن كان في اللفظ إجمال أو غرابة .ومن أمثلته أن يستدل بقوله تعالى : {حتى تنكح زوجا غيره}.فيقال: مالمراد بالنكاح، هل الوطء أو العقد ؟ وجوابه : أنه ظاهر في العقد شرعا، إذ لايسند إلى المرأة ) .

(1/87)


فساد الإعتبار وهو مخالفة القياس للنص (1)وسمي به لأن اعتبار القياس في مقابلة النص باطل، وإن كان تركيبه صحيحا . مثاله: أن يقول من لم يشترط التسمية في الذبح قياسا على الناسي: ذبح من أهله في محله فيحل، وأن لم يسم كناسي التسمية فيقول المعترض هذا القياس فساد الاعتبار لمخالفة النص، وهو قوله تعالى : {ولا تأكلوا مما لم يذكر الله عليه }؟
وجوابه: إما بالطعن في سند النص إن لم يكن متواترا، أو بمنع ظهوره فيما يدعى، أو بتأويله بأن المراد به خلاف ظاهره، أو بأن يقول بموجَبِه أي : النص . بأن يدعي أن مدلوله لا ينافي مدلول القياس، وإظهار كونه غير مصادم للقياس، أو ببيان كون ذلك النص معارَضا بمثل ما يطابق القياس، أوببيان ترجيح القياس على النص، بما يرجح به القياس على النص إذا ورد بخلاف القياس . فجواب هذا الإعتراض: بأحد هذه الأمور .وليس المراد أن كل نص يُعارض به القياس يمكن فيه هذه الوجوه . بل قد يمكن بعضها فيجيب بما يتأتى منها . وقد لا يمكن شيء منها، فتكون الدآئرة على المستدل، فيتأتى من هذه الجوابات في المثال المذكور :
__________
(1) _نص الكافل هكذا: النوع الثاني : فساد الإعتبار . وهو مخالفة القياس للنص . مثاله : أن يقال في ذبح تارك التسمية عمدا : ذبح من أهله في محله فيحل، كذبح ناسي التسمية .فيقول المعترض : هذا فاسد الإعتبار، لمخالفته قوله تعالى{ولا تأكلوا مما لم يذكر اسم الله عليه} .فيقول المستدل : مؤول بذبح عبدة الأوثان . بدليل قوله صلى الله عليه وآله وسلم: (ذكر على قلب المؤمن سمى أو لم يسم . و نحو ذلك ) .

(1/88)


إما التأويل .بأن يقول: الآية مؤولة بعبدة الأوثان دون المسلمين، بدليل قوله صلى الله عليه وآله وسلم: ( اسم الله على قلب المؤمن سمى أم لم يسم ) . أو بان يرجح القياس على ظاهر الآية، بكونه مقيسا على الناسي، وهو مجمع عليه . فهو مخصص للآية بالإتفاق. وهذا الإعتراض راجع إلى دعوى اختلال شرط من شروط العلة بمصادمة النص .
(( الإعتراض الثالث ))
فساد الوضع وهو أن يمنع المعترض من القياس المخصوص(1)
وحاصله: بيان كون الجامع بين الأصل والفرع قد ثبت أن الشارع اعتبره في نقيض الحكم المدعى .
وسمي بذلك: لأن المعترض يدعي أن المستدل وضع في المسألة قياسا لا يصح وضعه فيها . مثاله أن يقول المستدل على أن التكرار يسن في التغشي بالقياس على الإستجمار: مسح فيسن فيه التكرار كالإستجمار . فيقول المعترض: المسح لا يناسب التكرار، لأن الشارع قد جعله علة في سقوطه وكراهيته، وذلك في المسح على الخف، فكيف يعتبر في إثباته ؟!
وجوابه: ببيان وجود المانع في أصل المعترض . فيقول في المثال: إنما اعتبر الشار كراهية التكرار في الخف، لأنه يعرض الخف للتلف، لأن الخف يتلف بكثرة الماء وتكرره، وهذا المانع قد زال في التغشي . فاقتضاء المسح للتكرار باق فيه .
وهذا الإعتراض يعود إلى منع كون الوصف علة لانتقاضه . وذلك خلل شرط .
الإعتراض (( الرابع منع )) ثبوت (( الحكم في الأصل ))
. وهو أن يمنع المعترض من ثبوت حكم الأصل مطلقا . أي: من غير تقسيم.
__________
(1) _ نص الكافل هكذا: (الثالث : فساد الوضع . وحاصله: إبطال وضع القياس المخصوص في إثبات الحكم المخصوص، بأنه قد ثبت بالوصف الجامع نقيض ذلك الحكم . مثاله أن يقال في التيمم : مسح فيسن فيه التكرار، كالإستجمار . فيقول المعترض: المسح لايناسب التكرار .لأنه ثبت اعتباره في كراهة التكرار في المسح على الخف ‍‍‍. فيقول المستدل: إنما كره التكرار في الخف لمانع وهو التعريض لتلفه ) .

(1/89)


احتراز مما بعد هذا، فيبطل بذلك استدلال المستدل بهذا القياس، ولا يكون هذا الإعتراض قطعا للمستدل بمجرده، وإنما ينقطع إذا عجز عن إثباته بالدليل _ على الصحيح – (( مثاله أن يقول المستدل ))على عدم قبول جلد الخنزير للدباغ بالقياس على جلد الكلب (( جلد الخنزير لا يقبل الدباغ للنجاسة الغليظة كالكلب . فيقول المعترض لا نسلم أن جلد الكلب لا يقبل الدباغ )) ؟! أولِمَ قلت إن جلد الكلب لا يقبل الدباغ ؟ فالمنع والمطالبة بالدليل واحد .
(( وجوابه بإقامة الدليل )) على ذلك .ثم للمعترض بعد أن أقام المستدل الدليل على صحة ما ادعاه أن يعترض ثانيا، ولا ينقطع بمجرد إقامة الدليل، إذ لا يلزم من صورة الدليل صحته، فيطالب بصحته . والله أعلم . وهذا الإعتراض راجع إلى دعوى اختلال شرط .
الإعتراض (( الخامس التقسيم ))
أي: منع ثبوت الحكم بعد التقسيم . (( وحقيقته أن يكون اللفظ مترددا بين أمرين أحدهما ممنوع )) . فيمنعه المعترض . إما مع السكوت عن الآخر، لأنه لا يضره، أو مع التعرض لتسليمه، لأنه أيضا لا يضره . وهذا الإعتراض مقبول إذا كان المنع لما يلزم المستدلَ بيانُه .
وجوابه بمثل ما تقدم في المنع مطلقا . (( مثاله(1) أن يقول المستدل في قياس الصحيح الحاضر إذا )) تعذر عليه الماء، على المسافر والمريض في جواز التيمم: مكلف وجد السبب في جواز التيمم بتعذر الماء فساغ له التيمم كالمسافر والمريض . فيقول المعترض : ما المراد بكون تعذر الماء سببا في جواز التيمم، هل تعذر الماء مطلقا، أو تعذره في السفر والمرض ؟
__________
(1) _نص الكافل هكذا: ( مثاله: أن يقال في الصحيح الحاضر إذا فقد الماء: وجد سبب جواز التيمم . فيقول المعترض: أتيد أن تعذر الماء مطلقا سبب جواز التيمم ؟ أم تعذره في السفر والمرض ؟ فالأول ممنوع . وجوابه بإقامة الدليل على الإطلاق ) .

(1/90)


الأول ممنوع . والثاني: إما إن يسلمه أو يسكت عنه . وأما إذا كان المنع لما لا يلزم المستدلَ بيانُه فإنه لا يقبل . وذلك بأن يكون المنع راجعا إلى عدم التأثير . مثال ذلك أن يقول المستدل في مسألة الملتجئ إلى الحرم: القتل العمد العدوان سبب للقصاص . فيقول المعترض متى هو سبب مع مانع الإلتجاء أم بدونه ؟ الأول: ممنوع . فهذا لا يقبل، لأن حاصله أن الإلتجاء مانع من القصاص . فهو يطالِب ببيان عدم كونه مانعا ؟ والمستدل لا يلزمه ذلك . لأن الدليل مالو جُرِّد النظر إليه أفاد الظن . والله أعلم .
وهذا الإعتراض راجع أيضا إلى دعوى اختلال شرط.
الإعتراض (( السادس منع وجود المدعى علة في الأصل(1) ))
وهو أن يمنع المعترض من وجود ما ادعاه المستدل علة في الأصل،
فضلا عن أن يكون هو العلة . مثلا أن يقول المستدل في المنع من تطهير الدباغ لجلد الكلب بالقياس على الخنزير: حيوان يغسل الإناء من ولوغه سبعا، فلا يطهر بالدباغ كالخنزير . فيمنع المعترض من ذلك بأن يقول: لا نسلم بأن الخنزير يغسل الإناء من ولوغه سبعا ؟
__________
(1) _ نص الكافل هكذا: (السادس منع وجد المدعى علة في الأصل .مثاله : أن يقال في الكلب: حيوان يغسل من ولوغه سبعا، فلا يقبل جلده الدباغ كالخنزير . فيقول المعترض: لانسلم أن الخنزير يغسل من ولوغه سبعا ؟! وجوابه : بإثبات ذلك في الخنزير ) .

(1/91)


وجوابه: إثبات وجود الوصف المدعى علة في الأصل بما هو طريق ثبوت مثله، فإذا كان الوصف حسيا فبالحس، أو عقليا فبالعقل، أو شرعيا فبالشرع . مثلا إذا قال في قياس وجوب القصاص في القتل بالمثقل على القتل بالمحدد: قتل عمد عدوان، فيقتص منه كالقتل بالمحدد . فهذه أوصاف حسي وعقلي وشرعي . فإذا منع المعترض من كون القتل بالمحدد قتلا ! قال المستدل: معلوم حسا . وأن منع من كونه عمدا ! قال: معلوم عقلا بأماراته . ولو منع من كونه عدوانا ! قال: لأن الشرع حرمه . ويثبت الوصف المدعى في المثال الأول بالشرع، إذ هو شرعي . والله أعلم .
وهذا الإعتراض أيضا يعود إلى دعوى اختلال شرط.
الإعتراض (( السابع ))
(( منع كون الوصف ))المدعى أنه العلة في الأصل (( علة )) . وإن كان موجودا فيه، وهو من أعظم الأسئلة لعموم وتَشَعُّب مسالك العلل . أي: كثرتها . وهو مقبول على المختار . إذ لو لم يُقبل لأدى إلى التمسك بكل وصف طردي . أي: لا تأثير له في الحكم . فيؤدي إلى اللعب، فيضيع القياس . إذ لا بد في العلة الجامعة بين الأصل والفرع من أن يغلب في الظن صحتها، وإلا لم يصح القياس . وهذا القيد لا بد منه في حد القياس، وإن لم يذكر . مثله أن يقال في المثل السابق في الإعتراض السادس لا نسلم أن العلة في كون جلد الخنزير لا يقبل الدباغ، هي كونه يغسل الإناء من ولوغه سبعا ؟
وجوابه: أن يثبت المستدل عليه الوصف بأحد طرقها المتقدمة، وهذا الإعتراض راجع إلى ما رجع إليه ما قبله .
الإعتراض (( الثامن: عدم التأثير(1) ))
__________
(1) _ نص الكافل هكذا: ( الثامن عدم التأثير. وهو: أن يبدي المعترض في قياس المستدل وصفا لا تأثير له في إثبات الحكم. ومن أمثلته: قول الحنفية في المرتدين إذا أتلفوا أموالنا في دار الحرب: مشركون أتلفوا أموالا في دار الحرب فلا ضمان عليهم كسائر المشركين.فيقول المعترض: دار الحرب لا تأثير لها في عدم الضمان عندكم.

(1/92)


(( وهو عبارة عن إبداء المعترض في قياس المستدل وصفا لا تأثير له في إثبات الحكم )).
فإن أظهر عدم تأثيره مطلقا فهو عدم التأثير في الوصف.
أو عدم تأثيره في ذلك الأصل المقيس عليه، فهو عدم التأثير في الأصل. أو عدم تأثير قيد منه، فهو عدم التأثير في الحكم .
أو يظهر عدم تأثيره بعد اطراده في محل النزاع، وإن كان مناسبا، ويسمى عدم التأثير في الفرع . فهذه أربعة أقسام :
مثال الأول: أن يقول المستدل على أن صلاة الفجر لا يصح تقديمها قبل طلوعه، بالقياس على المغرب: صلاة لا تقصر فلا يقدم آذانه كالمغرب . فيقول المعترض: عدم القصر لا تأثير له في عدم التقديم، إذ لا مناسبة بينهما فهو وصف طردي . ولا تأثير له إتفاقا . بدليل أنه يستوي المغرب وغيره، مما يقصر في ذلك . ومرجع هذا المطالبة بكون العلة علة . وقد تقدم . فجوابه جوابها .
ومثال الثاني: أن يقول المستدل على أن بيع الشيء الغائب لا يصح، بالقياس على بيع الطير في الهواء: مبيع غير مرئي، فلا يصح بيعه، كالطير في الهواء . فيقول المعترض: كونه غير مرئي لا تأثير له في الأصل _ أعني _ مسألة الطير . إذ التأثير للعجز عن التسليم .فهو كاف في عدم الصحة . بدليل أن المرئي وغيره سواء في ذلك . ومرجع هذا إلى المعارضة في الأصل .وستأتي إن شاء الله تعالى .فجوابه جوابها. ومثال الثالث: أن يقول الحنفي في الإستدلال على أن المرتدين إذا أتلفوا أموال المسلمين لا يضمنونها، بالقياس على الحربيين: مشركون أتلفوا أموالا في دار الحرب فلا ضمان عليهم، كالحربيين . فيقول المعترض: دار الحرب لا تأثير لها عندكم في عدم وجوب الضمان، لاستواء الإتلاف من المشركين في دار الحرب وغيرها، في عدم إيجاب الضمان عندكم . ومرجع هذا إلى المطالبة بكون العلة علة . فهو كالقسم الأول . إلا أن هذا في جزء العلة وهذاك في جميعها .

(1/93)


ومثال الرابع: أن يقول المستدل على أنه لا يصح إنكاح المرأة نفسها بغير أذن وليها، بالقياس على التزويج من غير الكفء: امرأة زوجت نفسها بغير أذن وليها فلا يصح، كما لو زُوجت من غير كفء . فيقول المعترض: لا تأثير لعدم الكفاءة في فساد تزويجها نفسها، وإنما المؤثر عدم الولي، إذ الكفء وغيره سواء في ذلك . بدليل أنها لو زوجت نفسها من كفء لم يصح . ومرجع هذا إلى المعارضة في الأصل، فهو كالقسم الثاني، إلا أن المؤثر في هذا هو نفس التزويج بغير أذن الولي، وهو مذكور في القياس . وفي الثاني المؤثر العجز عن التسليم، وهو غير مذكور . فتبين أن هذا الإعتراض ليس سؤالابرأسه.
إذ الأول منه، والثالث يرجعان إلى منع كون الوصف المدعى علة. وهو الإعتراض السابع، وقد تقدم . والثاني منه، والرابع يرجعان إلى المعارضة في الأصل، وستأتي . وعدم التأثير راجع إلى المنازعة في كمال شروط العلة .
الإعتراض (( التاسع (1))
القدح في إفضاء الحكم إلى المقصود، أي:
__________
(1) _نص الكافل هكذا: (التاسع : القدح في إفضاء المناسبة إلى المصلحة المقصودة.مثاله: أن يقالفي علة تحريم مصاهرة المحارم على التأبيد أنها الحاجة إلى ارتفاع الحجاب.ووجه المناسبة أن التحريم المؤبد يقطع الطمع في الفجور . فيقول المعترض: لانسلم ذلك، بل قد يكون أفضى إلى الفجور لسد باب الزواج .وجوابه: بأن رفع الحجاب على الدوام مع اعتقاد التحرم لايبقى معه المحل مشتهى طبعا كالأمهات ) .

(1/94)


القدح في إفضاء المناسبة إلى المصلحة المقصودة من شرع الحكم له، مثاله: أن يقول المعلل في تحريم نكاح المحارم بالصهارة على التأييد: العلة في ذلك الحاجة إلى ارتفاع الحجاب . ويقول: وجه المناسبة بين تحريم المحارم بالصهارة على التأييد كأم الزوجة، وبين الحاجة إلى ارتفاع الحجاب، أن التحريم يفضي إلى رفع الفجور، لأن التحريم على التأييد يرفع الطمع المفضي إلى مقدمات الهم بها والنظر إليها، المفضية إلى الفجور . فهذه المناسبة بين التحريم وبين الحاجة إلى ارتفاع الحجاب، مفضية إلى المصلحة المقصودة من شرع الحكم – أعني _ التحريم . وهي سد باب الفجور ورفعه . فيقول المعترض: التحريم على التأييد، وسد باب النكاح لا يفضي إلى رفع الفجور . بل هو يفضي إلى الفجور أشد إفضاء منه إلى رفع الفجور. لأن النفس مائلة إلى ما منعت منه بالطبع . ولذا قال صلى الله عليه وآله وسلم: ( لو منع الناس من فت البعرة لفتوها ) .
وقال الشاعر :
مُنعت شيئا فأكثرت الولوع به أحب شيء إلى الإنسان ما منعا وجوابه: ببيان الإفضاء إليه بأن يقول: التأييد يمنع عادة مما ذكرنا من الهم والنظر، فبدوامه يصير كالأمر الطبيعي، كما في الأمهات، فحينئذ يمتنع الميل إلى الفجور، فلا يبقى المحل مشتهى .
الإعتراض(( العاشر القدح في المناسبة(1) ))
بأن يوجد معارض لتلك المصلحة، من مفسدة راجحة على تلك المصلحة، أو مساوية لها . لما مر من أن المناسبة تنخرم بمفسدة تلزم راجحة، أو مساوية .
__________
(1) _ نص الكافل هكذا: (العاشر : القدح في المناسبة وهو إبداء مصلحة راجحة أو مساوية .وجوابه بترجيح المصلحة على المفسدة .ومن أمثلته: أن يقال: التخلي للعبادة أفضل لما فيه من تزكية النفس .فيقول المعترض: لكنه يفوتأضعف تلك المصلحة، كإيجاد الولد، وكف النظر، وكسر الشهوة.وجوابه : أ، مصلحة العبادة أرجح، إذ هي لحفظ الدين، وما ذكرت لحفظ النسل ) .

(1/95)


وجوابه: بترجيح المصلحة على تلك المفسدة إما:
إجمالا: كما مر في انخرام المناسبة بمفسدة .
أو تفصيلا بحسب خصوص المسألة .كأن يقول هذه المصلحة ضرورية، وتلك المفسدة حاجة، والضروري أولى من الحاجي، وأرجح .
(( مثاله )) أن يقول المستدل على أن الكافرة لا حضانة لها على ولدها الصغير، بالقياس على العاقل: صبي مسلم فلا يجوز أن تحضنه أمه الكافرة، رعاية لمصلحة الدين كما لو كان عاقلا . فيقول المعترض: إنه يلزم من هذه المصلحة مفسدة، وهو ترك حضانة الأم للصبي مع حاجته إليها . فيجيب المستدل بأن المصلحة دينية، والمفسدة حاجية، والدينية أرجح، لأن حفظ الدين أرجح .
أو يقول المستدل: هذه ضرورية نفسية، أي: تعود إلى النفس، وتلك المفسدة حاجية . مثال ذلك: أن يقول المستدل على جواز بيع الحاكم طعام المحتكر، بالقياس على الشفعة: أخذُ مالٍ كرهًا لدفع ضرر عام، فيجوز، كالإكراه في الشفعة . فيقول المعترض: إنه يعارض هذه المصلحة _ أعني _ دفع الضرر العام، وجود مفسدة، وهي أخذ طعام الغير مع حاجته إليه . فيجيب المستدل: بأن المصلحة تعود إلى حفظ النفس، وهذه المفسدة حاجية، وضرورة النفس أرجح من الحاجية . ونحو ذلك مما ترجح به المصلحة على المفسدة بحسب خصوص المسائل كثير.
الإعتراض (( الحادي عشر (1))
كون الوصف المعلَّل به خفيا غير ظاهر .
__________
(1) _ نص الكافل هكذا (الحادي عشر: عدم ظهور الوصف المدعى، كالرضى في العقود، والقصد في الأفعال . والجواب: ظبطه بصفة ظاهرة تدل عليه عادة، كصيغ العقود على الرضى، واستعمال الجارح في المقتل على العمد .

(1/96)


وجوابه: أن يأتي المستدل بصفة ظاهرة تدل عليه عادة. مثاله: أن يقول المستدل على وجوب القصاص في القتل: قتلٌ عمدٌ عدوان، فيجب القصاص . فيقول المعترض: وصف العمدية خفي، لأن القصد وعدمه أمر نفسي لا يدرك شيء منه، ولا شك أن الخفي لا يعرف في نفسه، فكيف يعرف به غيره . فيأتي المستدل بما يلائم ذلك ويدل عليه، من أفعال مخصوصة يقضي العرف عليها بكونها عمدا، كاستعمال الجارح في المقتل. فيقول: استعمال الجارح في المقتل يدل على العمد . وكأن يقول المستدل على صحة البيع: عقدُ بيعٍ وقع من راضٍ فيصح . فيقول المعترض: الرضى في العقود أمر خفي، إذ هو أمر نفسي لا يدرك منه شيء . فيأتي المستدل بما يلائم ذلك ويدل عليه، فيقول: صيغة العقد تدل على الرضى.
الإعتراض (( الثاني عشر (1))
كون الوصف غير منضبط . كأن يعلل المستدل حكما بحكمة، أو مصلحة . مثاله: أن يقول في الإستدلال على الترخيص في الفطر في السفر، والقصر فيه: السفر مظنة الحرج والمشقة، فيجوز فيه الإفطار والقصر . إذ في ذلك حكمة ومصلحة . فيقول المعترض: المشقة غير منضبطة، لأنها تختلف باختلاف الأشخاص، والأزمان .ولا يمكن أن يعلق الترخيص بالكل، ولا يمتاز البعض بنفسه . فيجيب المستدل : إما بأنه منضبط بنفسه، كأن يقول: المشقة منضبطة عرفا . أو يأتي بوصف منضبط يلازم المشقة مثلا، كضبطها بالسفر، ونحو ذلك .
__________
(1) _ نص الكافل هكذا: (الثاني عشر: عدم انضباط الوصف .كالتعليل بالحِكَم والمصالح . مثل المشقة في جواز الإفطار والقصر، وكالزجر في شرع الكفارات والحدود .وجوابه: بانضباطه بنفسه، أو بمظنته كالسفر ).

(1/97)


الإعتراض (( الثالث عشر (1))
النقض وهو عبارة عن ثبوت الوصف المدعى علة في بعض الصور مع تخلف الحكم عنه .
وجوابه: إما بأن يمنع المستدل من وجود الوصف المدعى علة في صورة النقض . أو بأن يمنع من عدم الحكم فيها، بأن يقول: الحكم الذي يقتضيه الوصف موجود في هذه الصورة، فلا يتحقق النقص . وهذا إذا كان المستدل لا يرى جواز تخصيص العلة، فإن كان يرى ذلك فجوابه: أن يبين ما خصصها في ذلك الموضع من دليل اقتضى نقيض الحكم في صورة النقض لمصلحة أولى، أو دليل اقتضى خلافه . أو يبين تخصيصها لدفع مفسدة آكد . مثال الأول: أن يقول المستدل على تحريم التفاضل والنسأ، في بيع التمر بالرطب، بالقياس على سائر الربويات: مثليٌ استوى في الجنس والتقدير، فيحرم فيه التفاضل والنسأ، كسائر الربويات . فيقول المعترض: هذا منقوض بمسألة العرايا، وهي بيع الرُّطب في رأس النخل بخرصه تمرا مؤجلا، فإنه وجد الوصف المدعى علة، وهي كونه مثليًا استوى في الجنس والتقدير، ولم يوجد الحكم وهو عدم جواز النسأ، بل وجد نقيضه وهو جواز النساء، فيقول المستدل: إنه وُجِد في هذه الصورة دليل اقتضاء نقيض الحكم، فخصص العلة . وهو ترخيصه صلى الله عليه وآله وسلم لحاجة الفقراء إلى الرطب، وقد لا يكون عندهم ثمن آخر.
__________
(1) _ نص الكافل هكذا: ( الثالث عشر: النقض. وهو عبارة عن ثبوت الوصف في صورة مع عدم الحكم فيها. وجوابه: بمنع وجود الوصف في صورة النقض، أو بمنع عدم الحكم فيها. وذلك يكون بإبداء مانع في محل النقض، اقتضى نقيض الحكم، كما في العرايا إذا أوردت على الربويات لعموم الحاجة إلى الرطب، وقد لا يكون عندهم ثمن غير التمر، فالمصلحة في جوازها أرجح. ونحو ذلك. وكتحريم أكل الميتة إذا أورد عليه المضطر، إذ مفسدة هلاك النفس أعظم من مفسدة أكل المستقذر.

(1/98)


ومثال الثاني: أن يقول المستدل على وجوب ضمان البُر مثلا، إذا تلف بمثله: مثليٌ فيضمن بمثله كسائر المثليات . فيقول المعترض: هذا منقوض بلبن المصرآة، فإنه وجد فيه العلة، وهي كونه مثليا، ولم يوجد الحكم، وهو ضمانه بمثله، بل وجد خلافه، وهو أن يُضمن بالقيمة . فيقول المستدل: إنه وجد في هذه الصورة دليل اقتضى خلاف الحكم، وهو قوله صلى الله عليه وآله وسلم فليردها وصاعا من تمر، فخصص تلك العلة .
ومثال الثالث: أن يقول المستدل على تحريم أكل الميتة: مستقذر فلا يحل أكله، كسائر المستقذرات . فيقول المعترض: هذا منقوض بالمضطر، فإنه يجوز له أكلها . فقد وجدت العلة وهي الإستقذار، وتخلف الحكم وهو التحريم . فيقول المستدل: إنما جاز ذلك في المضطر لدفع مفسدة هلاك النفس، وهي آكد من أكل المستقذر .والله أعلم.
الإعتراض (( الرابع عشر(1) ))
الكسر وهو أن يظن المستدل أن لبعض الأوصاف تأثيرا في الحكم، فيجعله جزءاً من العلة، ويظن المعترض أنه لا تأثير له، فيسقطه ويكسر الباقي من الأوصاف .
__________
(1) _ نص الكافل هكذا: ( الرابع عشر: الكسر. وحاصله وجود الحكمة المقصودة من الوصف في صورة مع عدم الحكم فيها، كما لو قيل: الترخيص في الإفطار في السفر لحكمة المشقة. فيكسر بصنعة شاقة في الحضر. وجوابه: بمنع وجود قدر الحكمة لعسر ضبط المشقة، فالكسر كالنقض في جوابه بمنع وجود الحكمة، أو منع عدم الحكمة، أو لشرعية حكمة أرجح، كعدم قطع القاتل لثبوت القتل.

(1/99)


وجوابه: أن يبين المستدل أن للوصف الذي أسقطه المعترض تأثيرا في الحكم . مثاله: أن يقول المستدل على وجوب أداء صلاة الخوف، قياسا على صلاة الأمن: صلاة يجب قضاؤها، فيجب أداؤها، كصلاة الأمن . ويجعل كونها صلاة جزءا من العلة . فيسقطه المعترض ويقول: إنا نريك عبادة وجب قضاؤها ولم يجب أداؤها، وهي صوم الحائض في رمضان . ويقول المستدل: إن للوصف الذي أسقطت – أعني _ كونها صلاة تأثيرا في الحكم، وهو وجوب الأداء، وإن الصلاة تخالف الصوم في ذلك .
الإعتراض (( الخامس عشر(1) ))
المعارضة في الأصل .وهي إتيان المعترض بعلة أخرى للأصل المقيس عليه، غير التي علل بها المستدل . إما صالحة للإستقلال بالعلية، أو غير صالحة له . والأولى تحتمل أن تكون علة مستقلة، وأن تكون جزء علة، بأن تكون العلة هي الوصف الذي علل به المستدل، والذي أتى به المعترض . والثانية لا تحتمل أن تكون علة مستقلة، بل غايتها أن تكون جزء علة، فحينئذ لا يحصل الحكم بالوصف الذي جاء به المستدل .
مثال الأول: أن يعلل المستدل حرمة الربا في الربويات بالطعم، فيعارضه المعترض بالكيل أو القوت .فهذا يحتمل أن تكون المعارضة فيه باعتبار أن العلة الكيل أو القوت وحده . ويحتمل أن تكون باعتبار أن العلة مجموع الطعم والقوت .
__________
(1) _ نص الكافل هكذا: ( الخامس عشر: المعارضة في الأصل. كما إذا علل المستدل حرمة الربا في الطعم. فعارضه المعترض بالكيل. فيقول المستدل: لا نسلم أنه مكيل، لأن العبرة بعادة زمن النبي صلى الله عليه وآله وسلم، ولم يكن مكيلا يومئذ، أو يقول: ولم قلت إن الكيل مؤثر؟ وهذا الجواب هو المطالبة. وإنما يسمع حيث كان ثبوت العلية بالمناسبة، لا بالسبر فلا يسمع. وللمعارضة جوابات أخر).

(1/100)


ومثال الثاني: أن يعلل المستدل وجوب القصاص بالمحدد، بكونه قتلَ عمدٍ عدوان، فيجب في القتل بالمثقل مثله . فيقول المعترض: ليس العلة في وجوب القصاص بالمحدد ما ذكرت، بل كونه قتلَ عمد عدوان بالمحدد . وهذا لا يحتمل إلا أن يكون جزء علة . لأنه لا يصلح للإستقلال .
إذا عرفت ذلك، فقد اختلف في قبول المعارضة، ووجوب الجواب عنها ؟ والمختار: قبولها . إذ لو لم تقبل لَلَزِم التحكم – أعني –في المدعى علة . لأن المدعى علة عند المستدل، ليس بأَولى بكونه العلة أو جزءها، مما أتى به المعترض . لاشتراك ما أتيا به في الصلاحية للعلة ولجزئيتها، فوجب قبولها . والجواب عنها للتخلص من ذلك، إذا تقرر ذلك . فنقول: جواب المعارض يكون:
إما بمنع المعارَض به، مثل: أن يعارض المعترض القوت بالكيل . فيقول المستدل: لا نسلم أنه مكيل، لأنه كان في عصره صلى الله عليه وآله وسلم موزونا، والعبرة بعصره في ذلك .أو يقول: هو في مكة والمدينة موزون، والعبرة في الكيل والوزن بهما .
وإما: ببيان خفاء الوصف المعارَض به . أو ببيان عدم انضباطه، لما تبين من أن شرط العلة الظهور والانضباط.

(1/101)


وإما: بأن يبين استقلال ما عدى الوصف المعارَض به من الأوصاف التي أتى بها المستدل بالحكم . إما بظاهر آية، أو خبر، أو إجماع .مثل أن يقول المستدل في الإستدلال على قتل اليهودي إذا تنصر، أو بالعكس: بَدَّل دينه فيقتل كالمرتد .فيقول المعترض: بَدَّل دينه بكفر بعد إيمان . فيجيب: بأن علته مستقلة بالحكم، بظاهر قول النبي صلى الله عليه وآله وسلم: (من بَدَّل دينه فاقتلوه ) . ولا يضر المستدل كون هذا عاما، إذا لم يتعرض المستدل للتعميم، فلو تعرض له فقال: فيثبت اعتبار كل تبديل، للحديث لم يسمع منه ذلك . لأنه يكون إثباتا لحكم الفرع بالنص دون القياس.لا أنه تتميم للقياس بالإلغاء، والمقصود ذلك . فهذا تقرير المعارضة . قال الإمام المهدي عليه السلام: وإنما تقبل إذا أتى المعترض بوصف يبطل به استدلال المستدل، إما بأن يرد به الفرع إلى أصل مخالف لأصل المستدل في الحكم، أو بأن يأتي بوصف يجعله تكملة لعلة المستدل، ويبين به أن علة المستدل ناقصة، وأما إذا أتى بوصف لا يبطل استدلاله، بل يبقى على حاله .فهذه المعارضة لا يجب قبولها، ولا يلزم المستدل أن يجيب عنها .
مثاله: أن يعلل المستدل وجوب النية في الوضوء بكونه عبادة، فتجب فيه النية كالصلاة . فيقول المعترض: بل طهارة تراد للصلاة فتجب فيه النية كالتيمم . فهذه معارضة غير مخلة بالإستدلال، بل ناصرة له، فلا يلزم ردها والجواب عنها . هذا معنى ما ذكره عليه السلام .فتأمل ذلك !والله أعلم .
الإعتراض (( السادس عشر(1) ))
__________
(1) _ نص الكافل هكذا: ( السادس عشر: منع وجود الوصف في الفرع. مثاله: أن يقال في أمان العبد: أمان صدر من أهله، كالعبد المأذون له في القتال. فيقول المعترض: لا نسلم أن العبد أهل للأمان. وجوابه في ببيان معنى الأهلية. بأن يقول: أريد أنه مظنة لرعاية المصلحة، لإسلامه وعقله ).

(1/102)


التركيب . وهو أن يمنع الخصم كون الحكم معلَّلا بعلة المستدل، مع موافقته فيه. وذلك بمنع كونها علة، أو بمنع وجودها فيه _ أعني _ في الأصل. والأول: يسمى مركب الأصل، والثاني مركب الوصف . مثال الأول: أن يقول الشافعي في الإستدلال على أن العبد لا يقتل به الحر، بالقياس على المكاتب: عبد فلا يقتل به الحر كالمكاتب . ويستغني عن إثبات أن المكاتب لا يقتل به الحر بموافقة الخصم، وإن كان غير منصوص عليه، ولا مجمع عليه بين الأمة . فيقول الحنفي: الحر وإن كان لا يقتل بالمكاتب عندي، فليست العلة عندي كونه عبدا، بل جهالة المستحق للقصاص . هل السيد لاحتمال أن يبقى عبدا لعجزه عن الإيفاء بمال الكتابة أو ورثته ؟ لاحتمال أنه كان يوفى المال فيصير حرا . فإن صحت هذه العلة في عدم قتله بالمكاتب، وإلا مَنَعتَ حكم الأصل، وقلت: يقتل الحر بالمكاتب لعدم المانع . وعلى كلا التقديرين لا يصح القياس . إذ لا يخلو من عدم العلة في الفرع، أو منع حكم الأصل . ويسمى هذا مركب الأصل، لأن الأصل فيه مركب من ثبوت الحكم في نفس الأمر، وتسليم الخصم لذلك .
لأن إلقائس استغنى عن إقامة الدليل عليه، فكان مركبا من أمرين .

(1/103)


ومثال الثاني: أن يقول الشافعي في الإستدلال على أن تعليق الطلاق للأجنبية قبل النكاح على شرط لا يصح . قياسا على تنحيز طلاقها. مثل: أن يقول إن تزوجت فلانة فهي طالق، ثم تزوجها، طلاق معلق على شرط، فلا يصح قبل النكاح . كما لو قال: زينب التي أتزوجها طالق . فيقول الحنفي: العلة التي عللت بها وهي كونه تعليقا مفقودة في الأصل، إذ قوله: زينب التي أتزوجها طالق تنحيز لا تعليق .فإن صح أنها مفقودة في الأصل بطل الإلحاق للتعليق به، لعدم الجامع . وإن لم يصح منعت حكم الأصل، وهو عدم الصحة، في قوله: زينب التي أتزوجها طالق. لأني إنما منعت الوقوع لكونه تتحيزا. فلو كان تعليقا لقلت به. وعلى التقديرين فلا يصح القياس، إذ لا يخلو من منع العلة في الأصل، أو منع حكم الأصل المقيس عليه . وسمي هذا: مركب الوصف، لأن العلة فيه مركبة من وصف وتعليق، وإلا لم يثبت الحكم. وجواب هذا الإعتراض: أن يثبت المستدل أن العلة هي ما علل به، وأنها موجودة. بدليل من عقلٍ، أو حسٍ، أو شرع، أو غيرها . فيصح القياس حينئذ، وإن لم يسلم الخصم . إذ لو اشترطنا تسليمه لم تقبل مقدمة تقبل المنع. والله أعلم.
الإعتراض (( السابع عشر(1) )):
__________
(1) _ نص الكافل هكذا: ( السابع عشر: المعارضة في الفرع بما يقتضي نقيض حكم الأصل. بأن يقول: ما ذكرته من الوصف وإن اقتضى ثبوت الحكم في الفرع، فعندي وصف آخر يقتضي نقيضه. وهذا هو الذي يعنى بالمعارضة عند الإطلاق. وجواب هذه المعارضة بجميع ما مر من الإعتراضات من قبل المعترض على المستدل ).

(1/104)


التعدية. وقد ذكر في مثالها أن يقول المستدل على أن البكر البالغة تجبر كالصغيرة: بِكرٌ فتجبر كالصغيرة . ويجعل العلة المعدية هي البكارة. فيقول المعترض: هذا معارض بالصغر. وعلتك وإن تعدى بها الحكم إلى البكر البالغة، فعلتي يتعدى بها الحكم إلى الثيب الصغيرة . وهذا الإعتراض راجع إلى المعارضة في الأصل بوصف آخر. فإنه في هذا المثال عارض البكارة بالصغر، وهما متساويان في التعدية. فلا يرجح وصف المستدل بها. فلا يكون سؤآلا برأسه. والله أعلم.
الإعتراض (( الثامن عشر(1))
منع وجود الوصف المدعى علة في الفرع. وإن كان موجودا في الأصل وعلة له. مثاله: أن يقول المستدل على صحة أمان العبد الغير المأذون، قياسا على المأذون: أمانٌ صدر من أهله فيصح، كأمان المأذون. فيمنع المعترض من وجود الأهلية في المحجور، بأن يقول: لا أهليه فيه؟
وجوابه: أن يبين ما قصد بالأهلية أولا، ثم يبين وجودها في الفرع بما يبين به وجود العلة في الأصل. فيقول: أريد بالأهلية كونه مظنة لرعاية مصلحة الإيمان(2). ثم يبين وجود ذلك في الفرع، إما بحس، أو عقل، أو شرع . بأن يقول: العبد بواسطة إسلامه وبلوغه مظنة لرعاية مصلحة الإيمان. أي : يُظن فيه أنه يرعاها، بدلالة العقل. والله أعلم.
__________
(1) _ نص الكافل هكذا: ( الثامن عشر: الفرق. وهو إبداء خصوصية في الفرع هي مانع. ومرجع هذا إلى المعارضة في الأصل، وقد مر ).
(2) _أي: الأمان.

(1/105)


الإعتراض (( التاسع عشر(1) ))
المعارضة في الفرع. وهي التي تعرف بالمعارضة عند الإطلاق في باب القياس، بخلاف المعارضة في الأصل، فإنها تُقَيَّد بذلك. وهي – أعنى _ المعارضة في الفرع، أن يأتي المعترض بوصف يقتضي نقيض الحكم فيه. بأن يقول: ما ذكرتَه من الوصف، وإن اقتضى ثبوت الحكم في الفرع، فعندي وصف آخر يقتضي نفيه، فيتوقف دليلك. ولا بد فيها من بناء المعترض على أصل، بمسلك يثبت به عليته، على نحو ما يثبت المستدل علية وصفه. إلا أنه لا يجب أن يثبت عليته بالمسلك الذي أثبت به المستدل علية وصفه .إذا تقرر ذلك، فقد اختلف في قبولها؟ والصحيح: قبولها. لئلا تختل فائدة المناظرة، وهي ثبوت الحكم.إذ لا يتحقق– أعني – ثبوت الحكم بمجرد الدليل، ما لم يعلم عدم المعارض. وقصد المعارض بها هدم دليل المستدل، وقصوره عن إفادة مدلوله . فكأنه يقول: دليلك لا يفيد ما ادعيت، لقيام المعارض، وهو دليلي. فعليك بإبطال دليلي ليسلم دليلك ويفيد. وليس مقصوده بها إثبات ما يقتضيه دليله . فلا يصير استدلالا من معترض، فلا يكون فيه قلب المناظرة كما قيل .
__________
(1) _ نص الكافل هكذا: ( التاسع عشر: اختلاف الضابط في الأصل والفرع. وهو الوصف المشتمل على الحكمة المقصودة. مثاله: أن يقول المستدل في شهود الزور على القتل إذا قتل بشهادتهم: تسببوا للقتل فيجب القصاص كالمكرِه. فيقول المعترض: الضابط مختلف، فإنه في الأصل الإكراه، وفي الفرع الشهادة، ولم يعتبر تساويهما في المصلحة فقد يعتبر الشارع أحدهما دون الآخر. وجوابه: بأن الضابط هو القدر المشترك، وهو التسبيب، أو بأن إفضاءه في الفرع مثل إفضائه في الأصل، أو أرجح. ونحو ذلك ).

(1/106)


وجواب المعارضة: بما يعترض به على المستدل من جميع ما مر من الإعتراضات . مثاله أن يقول المستدل على أن العبد إذا جني عليه: إنه يُضمن بقيمته بالغة ما بلغت، قياسا على غيره من المملوكات: مملوك فتجب فيه قيمته بالغة ما بلغت، كغيره من المملوكات . فيقول المعترض: عندي وصف آخر يقتضي نقيض هذا. وهو أن يقال: آدمي فلا يتعدى به دية ا لحر . فعارض علة المستدل وهي كونه مملوكا بما يقتضي نقيض الحكم، وهو كونه آدمي .والمختار: قبول الترجيح، فيتعين الأرجح وهو المقصود.
الإعتراض (( العشرون(1))
الفرق. وهو أن يستخرج المعترض من العلة التي علل بها المستدل علة أخرى غير التي علل بها، ليبطل القياس . ويحصل الفرق بين الأصل المقيس عليه، والفرع المقيس .مثاله: قول الحنفي في الإستدلال على أن مسح الرأس لا يُسن فيه التكرار، بالقياس على مسح الخف: مسحٌ فلا يُسن فيه التكرار، كالمسح على الخف. فيقول المعترض: إن العلة في سقوط التكرار في المسح على الخف كونه بدلا عن تغليظ، وهو غسل القدمين بتخفيف. والتغشي ليس كذلك. فاستخرج علة للأصل، تعليق الحكم عليها أولى . لأنه إبداء خصوصية في الأصل هي شرط . فكأنه يدعي علية الوصف في الأصل مع خصوصية لا توجد في الفرع. والمستدل يدعي علية الوصف من دون خصوصية . فيعود حينئذ إلى المعارضة في الأصل .وإن أبدى خصوصية في الفرع لا توجد في الأصل، كانت معارضة في الفرع . وحينئذ جواب الفرق، هو جوابها. فتأمل! والله أعلم.
__________
(1) _ نص الكافل هكذا: ( العشرون: بيان اختلاف جنس المصلحة في الأصل والفرع. مثاله: أن يقول المستدل: يحد باللواط كما يحد بالزنا، لأنه إيلاج فرج في فرج مشتهى طبعا، محرم شرعا. فيقول المعترض: اختلفت المصلحة في تحريمهما ففي الزنا منع اختلاط النسب، وفي اللواط دفع رذيلته، وقد يتفاوتان في نظر الشارع. وجوابه: ببيان استقلال الوصف بالعلية من دون تفاوت ).

(1/107)


الإعتراض (( الحادي والعشرون(1))
اختلاف الضابط في الأصل والفرع. وهو الوصف المشتمل على الحكمة المقصودة .مثاله: أن يقول المستدل في الإستدلال على وجوب القصاص على شهود الزور بالقتل، إذا قُتل المشهودُ عليه بسبب شهادتهم، بالقياس على المكرِه: تسببوا للقتل بالشهادة عليه، فيجب عليهم القصاص كالمكرِه . فيقول المعترض: إن الضابط في الأصل والفرع مختلف، إذ هو في الأصل الإكراه، وفي الفرع الشهادة. فلا يتحقق التساوي ؟
وجوابه: بوجهين:
أحدهما: أن الضابط ليس هو الشهادة والإكراه . بل هو القدر المشترك، وهو التسبيب. فإنه أمر منضبط عرفا، فيصلح مظنة .
__________
(1) _ نص الكافل هكذا: ( الحادي والعشرون: دعوى المخالفة بين حكم الأصل وحكم الفرع. مثاله: أن يقاس النكاح على البيع، والبيع على النكاح بجامع في صورة. فيقول المعترض: الحكم مختلف، فإن معنى عدم الصحة في البيع حرمة الإنتفاع بالمبيع، وفي النكاح حرمة المباشرة، وهما مختلفان. والجواب: أن البطلان شيء واحد وهو عدم ترتب المقصود من العقد عليه ).

(1/108)


وثانيهما: بيان أن إفضاءه إلى الحكم في الفرع مثل إفضائه في الأصل، أو أرجح منه، فتثبت التعدية. كما لو جعل الأصل المقيسَ _ عليه قتلُ الشهودِ _ المغريَ للحيوان. بأن يقول المستدل: تسببوا للقتل فيجب القصاص، كالمغري للحيوان على القتل. فيقول المعترض الضابط في الأصل إغراء الحيوان، وفي الفرع الشهادة. فيجيب المستدل: بأن إفضاء التسبيب بالشهادة إلى القتل أقوى من إفضاء التسبيب بالإغراء . فإن انبعاث أولياء المقتول على قتل من شهدوا عليه بأنه قُتل طلبا للتشفي بالإنتقام أغلب من انبعاث الحيوان على قتل من يغرى هو عليه. وذلك بسب نفرة الحيوان المغرى عن الآدمي، وعدم علمه بالإغراء . فإذا اقتضى الإغراءُ الاقتصاصَ من المغري، فأولى وأحرى أن تقتضي الشهادةُ الاقتصاصَ من الشهود لما ذكرنا، ولا يضر اختلاف أصلي التسبب، وهو كونه شهادة وإغراء. فإنه اختلاف فرع وأصل.، وذلك كما يقاس إرث المرأة التي يطلقها زوجها في مرض موته، على القاتل عمدا في منع الإرث . فيتوهم أن الحكم في الفرع هو الإرث، وفي الأصل عدمه، فيمنع صحته، وليس كذلك. لأن الحكم هو وجوب إرث المرأة، ووجوب عدم إرث القاتل. فالإختلاف في محل الحكم لا فيه. فتأمل!
الإعتراض (( الثاني والعشرون(1))
اختلاف جنس المصلحة في الأصل والفرع .
مثاله: أن يقول المستدل في الإستدلال على وجوب الحد على اللائط، بالقياس على الزاني . إيلاج فرج في فرج محرم شرعا، مشتهًى طبعا، فيحد كالزاني. فيقول المعترض: المصلحة المقصودة من تحريمهما مختلفة،
__________
(1) _ نص الكافل هكذا: ( الثاني والعشرون: القلب. وحاصله دعوى المعترض أن وجود الجامع في الفرع مستلزم حكما مخالفا لحكمه الذي يثبته المستدل. نحو أن يقول الحنفي: الإعتكاف يشترط فيه الصوم، لأنه لبث فلا يكون بمجرده قربة، كالوقوف بعرفة. فيقول الشافعي: فلا يشترط فيه الصوم كالوقوف بعرفة. وهو أقسام وكلها ترجع إلى المعارضة ).

(1/109)


إذ هي في الأصل دفع محذور اختلاط الأنساب، المفضي إلى عدم تعهد الأولاد، وفي اللواط دفع رذيلة اللواط. وقد يتفاوتان في نظر الشارع. وهذا الإعتراض راجع إلى المعارضة في الأصل، بإبداء خصوصية مع علة المستدل، كأنه قال: ليس العلة في الأصل ما ذكرت من الإيلاج المذكور، بل مع كونه موجبا لاختلاط النسب ؟
وجوابه: بإلغاء تلك الخصوصية، وبيان استقلال الوصف بشيء من مسالك العلة، بأن يقول: لو كانت العلة هي الوصف مع الخصوصية، للزم جواز الزنا بالصغيرة، والآيسة، ونحو ذلك
الإعتراض (( الثالث والعشرون(1))
مخالفة حكم الفرع لحكم الأصل. مثاله أن يقول المستدل في الإستدلال على عدم صحة النكاح من غير إيجاب وقبول، بالقياس على البيع: عقدٌ يملك به البضع، فلا يصح من دون إيجاب وقبول، كالبيع . فيقول المعترض: علة الأصل وإن وُجدت في الفرع، فالحكم فيهما مختلف، إذ معنى عدم الصحة في الأصل: حرمة الإنتفاع في المبيع، وفي الفرع حرمة المباشرة، وهما مختلفان حقيقة، وإن تساويا بالدليل صورة . وإنما المطلوب المماثلة، لما تقرر أن معنى القياس: إثبات مثل حكم الأصل في الفرع .
وجوابه: أن البطلان الثابت بالدليل فيهما شيء واحد، وهو عدم ترتب المقصود من العقد عليه . وإنما اختلف فيهما محل الحكم، واختلاف المحل لا يوجب اختلاف الحال، بل اختلاف المحل شرط في صحة القياس. فكيف يجعل ما هو شرط فيه مانعا عنه ؟ إذ يلزم من ذلك امتناعه ابدا، فتأمل! والله أعلم .
__________
(1) _ نص الكافل هكذا: ( الثالث والعشرون: القول بالموجب. وحاصله: تسليم مدلول الدليل مع بقاء النزاع. ومن أمثلته: أن يقول الشافعي في القتل بالمثقل: قتلٌ بما يقتل غالبا فلا ينافي القصاص، كالقتل بالخارق، فيرد القول بالموجب. فيقول المعترض سلمنا عدم المنافاة بين القتل بالمثقل وبين القصاص، لاكنه ليس محل للنزاع، لأن محل النزاع هو وجوب القصاص لا عدم المنافاة للقصاص. ونحو ذلك ).

(1/110)


الإعتراض (( الرابع والعشرون(1))
القلب . وهو أن يدعي المعترض أن الوصف الذي علل به المستدل حكم الفرع، يقتضي حكما مخالفا للحكم الذي أثبته به المستدل فيه. وهو ثلاثة أقسام:
لأنه إما أن يكون بتصحيح مذهب المعترض، فيلزم منه بطلان مذهب المستدل لتنافيهما، أو بإبطاله لمذهب المستدل ابتداء، أي: من غير نظر إلى إثبات مذهب المعترض .وذلك إما صريح، أو بالالتزام .
القسم الأول: وهو القلب لتصحيح مذهب المعترض. مثاله: أن يقول الحنفي في الإستدلال على وجوب الصوم في الاعتكاف، بالقياس على الوقوف بعرفة: لبثٌ في مكان مخصوص، فلا يكون قربة بنفسه، كالوقوف بعرفة . فيقول الشافعي: فلا يشترط فيه الصوم، كالوقوف بعرفة . فصحح الشافعي مذهبه بعلة الحنفي، ولزم بطلان مذهب الحنفي لتنافيهما .
القسم الثاني: وهو القلب لإبطال مذهب الخصم صريحا. مثاله: أن يقول الحنفي في الإستدلال على أنه لا يكتفي بأقل من ربع الرأس في المسح، بالقياس على سائر الأعضاء: عضوٌ من أعضاء الوضوء، فلا يكفي فيه أقله، كسائر الأعضاء . فيقول الشافعي: فلا يقدر بالربع، كسائر الأعضاء . فعلق المعترض على علة المستدل ما يبطل به مذهبه صريحا، ولا يلزم من هذا تصحيح مذهب الشافعي، إذ مذهبه أنه يكتفي بأقل، ولم يثبته القلب .
__________
(1) _ نص الكافل هكذا: ( الرابع والعشرون: سؤآل التركيب. وهو ما تقدم من أن شرط حكم الأصل أن لا يكون ذا قياس مركب ).

(1/111)


والقسم الثالث: وهوالقلب لإبطال مذهب الخصم التزاما . مثاله: أن يقول الحنفي في الإستدلال على صحة بيع الشيء الغائب، بالقياس على النكاح: عقدُ معاوضة فيصح مع الجهل بأحد العوضين، كالنكاح. فيقول الشافعي: فلا يشترط فيه خيار الرؤية، كالنكاح . ووجهه أن من قال بصحة بيع المجهول، قال بخيار الرؤية، فخيار الرؤية لازم للصحة، فقد علق الخصم على علة المستدل ما يبطل مذهبه بالإلتزام، لأنه علق عليها إبطال اللازم _ وهو خيار الرؤية – وانتفائِه. وهو يلزم منه انتفاء الصحة، لأنه إذا انتفى اللازم انتفى الملزوم. والصحيح أن القلب بأقسامه راجع إلى المعارضة، لأنها دليل يثبت به خلاف حكم المستدل، والقلب كذلك. فيكون مقبولا كَهِيَ. بل هو أَولى بالقبول منها، لأن قصد هدم الدليل فيه بأدائه إلى التناقض أظهر منه فيها، ولأنه أيضا مانع للمستدل من الترجيح لدليله، لأن الترجيح إنما يُتصور بين دليلين، وهاهنا دليل مذهب المستدل، ومذهب المعترض واحد. والله أعلم.
الإعتراض (( الخامس والعشرون(1))
القول بالموجب. وهو تسليم مدلول الدليل، مع بقاء المنازعة. بأن يدعي المعترض: أن المستدل نصب الدليل في غير محل النزاع. وهذا الإعتراض لا يختص بالقياس، بل يجري في كل دليل، وهو على ثلاثة أَضرُبٍ:
__________
(1) _ نص الكافل هكذا: ( الخامس والعشرون: سؤآل التعدية. وذكروا في مثاله: أن يقول المستدل في البكر البالغة: بكر فتخير كالصغيرة. فيقول المعترض: هذا معارض بالصغر، وما ذكرته وإن تعدى به الحكم إلى البكر البالغة، فما ذكرتُه أنا قد تعدى به الحكم إلى الثيب الصغيرة. وهذان الإعتراضان يعدهما الجدليون في الإعتراضات. وليس أيهما اعتراضا برأسه، بل يرجعان إلى بعض ما تقدم من الإعتراضات، فالأول راجع إلى المن، والثاني إلى المعارضة في الأصل. وقد تقدم بيان ذلك ).

(1/112)


الأول: أن يستنتج المستدل من الدليل ما يتوهم أنه محل النزاع أو ملازمه، فيثبته وهو ليس كذلك . مثاله: أن يقول الشافعي في الإستدلال على وجوب القصاص في القتل بالمثقل، بالقياس على القتل بالخارق المحدد: قتلٌ بما مثله يقتل في العادة، فلا ينافي وجوب القصاص، كالقتل بالحاد الخارق. فيقول المعترض: نحن نقول بموجب هذا الدليل، وهو عدم المنافاة، لكنه ليس محل النزاع، إذ هو وجوب القتل، وهو أيضا لا يقتضي محل النزاع، إذ لا يلزم من عدم منافاته للوجوب أن يجب .
وجوابه: أن يبين المستدل أن اللازم من الدليل محل النزاع أو ملازمه، كما إذا قال المستدل: لا يجوز قتل المسلم بالذمي، قياسا على الحربي. فيقول المعترض: أنا أقول بأنه لا يجوز، لأنه ليس بجائز بل واجب . فيقول المستدل: المراد بقولي لا يجوز هو التحريم. وهو محل النزاع لا ما زعمت .وإذا كان ذلك هو المراد لزم انتفاء قولك، لأن التحريم يستلزم عدم الوجوب .

(1/113)


الضرب الثاني: أن يستنتج المستدل من الدليل إبطال أمر يتوهم أنه مأخذ الخصم ومبنى مذهبه. والخصم يمنع من كونه مأخذ مذهبه، فلا يلزم من إبطاله إبطال مذهبه . مثاله: أن يقول الشافعي في المثال المتقدم، وهو القتل بالمثقل: التفاوت في الوسيلة _ وهي آلة القتل _ لا يمنع من وجوب القصاص، كما لا يمنع من المتوسل إليه، وهي أنواع الجراحات القاتلة. فيرد القول بالموجب، بأن يقول الحنفي: نحن نقول بموجب هذا، لكن الحكم لا يثبت إلا بارتفاع جميع الموانع، ووجود الشرائط بعد قيام المقتضي. وهذا غايته انتفاء مانع واحد من وجود الحكم، ولا يلزم انتفاء بقية الموانع، ولا وجود الشرائط، ولا وجود المقتضي. فلا يلزم [منه](1) ثبوت الحكم . والمختار أن المعترض إذا قال ليس هذا مأخذ مذهبي ومذهب إمامي قُبِل قوله . لأنه أعرف بمذهبه ومذهب إمامه، فيصدق في ذلك، وأن ثم مانعا آخر، أو شرطا آخر، أو مقتضيا لم يحصل . وأكثر القول بالموجب من هذا الضرب – أعني _ ما يقع لاشتباه المأخذ لخفاء مأخذ الأحكام . وجواب هذا الضرب ببيان أنه أي: ما أستنتجه، ما أخذ الخصم باشتهاره بين أهل النظر والنقل عن أئمة المذهب .
__________
(1) _ يوجد في بعض النسخ كلمة (من)، وفي نسخ أخرى لا توجد .وما أثبتُ فهو اجتهاد .

(1/114)


الضرب الثالث: أن يسكت المستدل عن المقدمة الصغرى في القياس المنطقي، وهي الأولى لكونها مشهورة . مثاله: أن يقول المستدل في الإستدلال على أن الوضوء تجب فيه النية: ما ثبت قربةً فشرطه النية كالصلاة. ويسكت عن الصغرى، فلا يقول الوضوء قربة .فيقول المعترض: نحن نقول بموجب هذا _ أعنى _ ما ثبت قربة تجب فيه النية، لكن من أين يلزم أن الوضوء شرطه النية. فورد هذا لما سكت المستدل عن الصغرى. وأما إذا كانت الصغرى مذكورة، فإنه لا يرِدُ إلا منعها، بأن يقول: لا نسلم أن الوضوء قربة، وهو يكون حينئذ منعا لها لا قولا بالموجب. وجواب هذا الضرب ببيان أن الحذف عند العلم بالمحذوف شائع، والمحذوف مراد ومعلوم، فلا يضر حذفه . والدليل هو المجموع لا المذكور وحده .
فهذه جملة الإعتراضات على ما ذكره ابن الحاجب. وكل واحد منها نوع مستقل، ويصح تعددها إذا كانت من نوع واحد، كاستفسارات أو معارضات، تورد على قياس واحد اتفاقا . وأما إذا كانت من نوعين فصاعدا، كأن يورد على مسألة واحدة استفسار، ومنع، ونقض مثلا. فقد اختلف فيه:
قال ابن الحاجب: والمختار جوازه. وإذا جاز ذلك فينبغي إيرادها مترتبة، وإلا كان منعا بعد تسليم. مثلا إذا قال: لا نسلم أن ا لحكم معلل بكذا. فقد سلم ضمنا ثبوت الحكم حيث منع علته فقط. فإذا قال بعد ذلك: ولو سُلِّم فلا يُسلَّم ثبوت الحكم كان مانعا لما سلمه. فلا يسمع منه. وكما إذا اعترض الفرع، كان تسليما للأصل. فلو اعترضه بعد ذلك، لم يسمع منه بخلاف العكس. فإذا تقرر ذلك فالترتيب اللائق أن يقدم منها: الاستفسار، ثم فساد الاعتبار، ثم فساد الوضع، ثم منع ثبوت حكم الأصل، ثم منع وجود العلة فيه، ثم الأسئلة المتعلقة بالعلية كالمطالبة، وعدم التأثير، والقدح في المناسبة،

(1/115)


والتقسيم، وكون الوصف غير ظاهر ولا منضبط، وكونه غير مفضٍ إلى المقصود، ثم النقض والكسر، ثم المعارضة في الأصل، ثم ما يتعلق بالفرع كمنع وجود العلة، وبمخالفة حكمه حكم الأصل، واختلاف الضابط، والحكمة والمعارضة في الفرع، والقلب، ثم القول بالموجب والله أعلم . وبتمام هذا تم الكلام في الإعتراضات والقياس .
[الاستدلال](( فصل ))
(( وبعض العلماء يذكر )) من جملة الأدلة الشرعية (( دليلا خامسا)) غير الكتاب، والسنة، والإجماع، والقياس.
(( وهو )) الذي يسمى (( الإستدلال. قالوا وهو )) في اللغة: طلب الدليل، وفي العرف: يطلق على إقامة الدليل مطلقا. من نص، أو إجماع، أو غيرهما. وعلى نوع خاص منه، وهو المقصود هاهنا وهو (( ما ليس بنص، ولا إجماع، ولا قياس علة )). فيدخل قياس الدلالة، والقياس في معنى الأصل. وقد يحذف في الحد لفظ: علة. فيقال: ولا قياس. فيخرج من الإستدلال على هذا جميع أقسام القياس .
(( وهو ))أي: الإستدلال (( ثلاثة أنواع )) على المختار:
(( الأول: تلازم بين حكمين، من غير تعيين العلة )). وإلا كان قياسا.
والتلازم أربعة أقسام:
لأنه إنما يكون بين حكمين، والحكم أما إثبات أو نفي. ويحصل بحسب التركيب أربعة أقسام.
لأنه إما بين ثبوتين.
أو بين نفيين.
أو بين ثبوت ونفي، بأن يكون الثبوت ملزوما والنفي لازما.
أو بين نفي وثبوت، بأن يكون النفي ملزوما والثبوت لازما .
فالأول وهو تلازم الثبوتين. (( مثل )) أن يقال (( من صح ظهاره، صح طلاقه )). ووجه التلازم أنا تتبعنا فوجدنا كل شخص يصح ظهاره، يصح طلاقه. وكل شخص لا يصح ظهاره، لا يصح طلاقه.
والثاني وهو تلازم النفيين. نحو: لو لم تُشترط النية في الوضوء، لم تشترط في التيمم. ووجه التلازم مثل ما تقدم .
والثالث وهو تلازم الثبوت والنفي. مثل: ما يكون مباحا، لا يكون حراما .

(1/116)


والرابع وهو تلازم النفي والثبوت. مثل: ما لا يكون جائزا، يكون حراما. فهذه أقسام التلازم. والله أعلم.
النوع (( الثاني )) من أنوع الإستدلال (( الإستصحاب )) للحال،
(( وهو ثبوت الحكم في وقت، لثبوته في وقت آخر قبله، لفقدان ما يصلح للتغيير )) لثبوت الحكم في وقت دون وقت. وذلك: (( كقول بعض الشافعية في المتيمم )) إذا تيمم لعدم الماء فقط: (( رأى الماء في صلاته )) فإنه قال (( يستمر فيها )) ولا يبطل تيممه برؤية الماء. وذلك (( استصحابا للحال )) الأولى. (( لأنه )) أي: المتيمم (( قد كان وجب عيه المضي فيها )). أي: في الحال (( قبل رؤية الماء )). ولم يوجد ما يصلح للتغيير.
واعلم أنه قد اختُلِف في كون الإستصحاب دليلا شرعيا:
فقيل: ليس بحجة .
وقيل: بل هو حجة.والأَولى أن يقال: إن ساوت الحال الأولى الثانيةَ، ولم يظن طر وُّ معارضٍ يزيله عَمِل به. مثلا: إنه لو شك في حصول الزوجية ابتداء، فإنه يحرم عليه الإستمتاع، استصحابا للحال الأولى، وهي عدم الزوجية. ولو شك في دوام الزوجية جاز له الإستمتاع استصحابا للحال الأولى، وهي بقاء الزوجية. وإن لم يساو الحالُ الأولى الثانيةَ لم يعمل به. كمسألة التيمم، فإن الحال الثانية غير مساوية للأولى، لوجود الماء فيها دون الأولى. وليس المقتضي لصحة الصلاة في الحالة الأولى إلا فقدان الماء، وقد وجد فلم يتشاركا في المقتضي لجواز التيمم، وهذا واضح كما ترى .
والنوع (( الثالث )) من أنواع الإستدلال (( شرعُ مَن قَبلَنا ))
من الأنبياء عليهم السلام .
فقد قيل: إنه دليل في حقنا، يجب علينا العمل به إذا عدم علينا الدليل.
وقيل: لا .
وأما في حق النبي صلى الله عليه وآله وسلم فقد اختلف في ذلك على حالين:
الحالة الأولى قبل بعثته، فمنهم من قال: إنه تعبَّد بشريعة نوح.
وقيل: إبراهيم. وقيل: موسى. وقيل: عيسى. وقيل: ما ثبت أنه شرع.

(1/117)


(( و )) منهم من قال _ وهو (( المختار _ إن النبي صلى الله عليه وآله وسلم لم يكن قبل البعثة متعبَّدا بشرع )) من شرائع الأنبياء عليهم السلام. إذ لو كلف بذلك وتعبد به لم يكن له بد من طريق له إلى ذلك، لعدم الثقة بالنقلة مع تحريف الكتابيي. وأيضا لم يعرف بالأخذ من أحد من أهل الكتاب .
الحالة الثانية بعد البعثة، فقيل: إنه صلى الله عليه وآله وسلم أتى بشريعة مبتدأة .
(( و ))المختار عند المصنف (( أنه )) صلى الله عليه وآله وسلم (( بعدها )) أي: بعد البعثة (( متعبَّد بما لم يُنسخ من الشرائع )) المتقدمة جميعا. وأما ما نسخ بشريعته فظاهر أنه لم يتعبد به، بل بغير ذلك. وهذا القول هو مذهب المؤيد بالله، وأبي طالب، والمنصور بالله، وغيرهم. قالوا: للإتفاق على الإستدلال على وجوب القصاص بقوله تعالى : { وكتبنا عليهم فيها أن النفس بالنفس ... } الآية .
فلو لا أنه متعبد بشرع من قبله لما صح الإستدلال بوجوب القصاص في دين بني إسرآئيل، على وجوبه في دينه صلى الله عليه وآله وسلم. وأيضا فإنه صلى الله عليه وآله وسلم قال: ( من نام عن صلاته أو نسيها، فليصلها إذا ذكرها. وتلا قوله تعالى: { أقم الصلاة لذكري } وهي مقولة لموسى. فدل ذلك على تعبده بالشرائع التي لم تنسخ من شرائع مَن قَبلَه. ويمكن أن يُجاب عن هذا الإستدلال بأن يقال في الآية الأولى: إنها حكاية، وقررها الله تعالى في شريعته، فاتفق الشريعتان في الحكم. وكذا يقال في قوله تعالى : { وأقم الصلاة { لذكري } إنه اتفق الشريعتان في الحكم. كذا ذكره الإمام المهدي عليه السلام في شرح المعيار.

(1/118)


وقال بعض المحققين من أهل المذهب: الصحيح عندنا أنه صلى الله عليه وآله وسلم لم يكن متعبدا بشيء من الشرائع المتقدمة، لا قبل البعثة ولا بعدها، إلا ما حكاه الله تعالى بالوحي، ولم يثبت فيه نسخ ولا إنكار له، فإنه متعبد به. وكذلك نحن متعبدون به. والله أعلم. وإذا صح تعبده صلى الله عليه وآله وسلم بما لم ينسخ من الشرائع
(( فيجب علينا )) حينئذ (( الأخذ بذلك عند عدم الدليل في شريعتنا)). كما ذكرنا في وجوب القصاص.
(( قيل ومنه )) أي: ومن الإستدلال نوع رابع، وهو (( الإستحسان )). والمختار أنه دليل ثابت عندنا. (( وهو عبارة عن دليل يقابل القياس الجلي )). كما يقال مثل:إن القياس يقتضي أن المثليَّ مضمون بمثله. فالعلم بخبر المصرآة استحسان.لأنه دليل قابل القياس كما ترى. (( وقد يكون ثبوته )) أي: الاستحسان (( بالأثر )) كما في خبر المصرآة. (( وبالإجماع )) كما في دخول الحمام بأجرة مجهولة. والقياس(1) أن لا يجوز، لكن استحسن جوازها للإجماع .
(( وبالضرورة )) كما في طهارة الحياض والآبار على أصول الحنفية. (( وبالقياس الخفي )) كما يقال في الصيرفي مثلا، إذا ملك دون نصاب من الذهب أو الفضة، قيمته نصاب من الجنس الآخر، فالقياس الجلي على أموال التجارة، أنها لا تجب عليه الزكاة، كما إذا ملك ما قيمته دون نصاب من عروض التجارة، لأن نقود الصيارفة كسلع التجارة. والإستحسان يجب للقياس الخفي. لأنه قد ملك نصابا كاملا، مما تجب فيه الزكاة على غيره. والله أعلم.
(( و )) اعلم أنه (( لا يتحقق استحسان مختلف فيه )).لأنه قد ذكر في حقيقته أمور لا تصلح محلا للخلاف. لأن بعضها مقبول اتفاقا. مثل ما ذكره المصنف، ومثل قول أبي عبد الله البصري، وأبي الحسن الكرخي: أنه العدول عن الحكم في الشيء عن حكم نظائره لدلالة تخصه، ونحو ذلك .
__________
(1) -أي الأوفق للقواعد.

(1/119)


وبعضها متردد بين ما هو مقبول اتفاقا، وبين ما هو مردود اتفاقا. مثل ما ذكره بعضهم من أنه دليل ينقدح في نفس المجتهد يعسر عليه التعبير عنه. لأنه يقال: ما المعنى بقوله ينقدح؟ إن كان بمعنى أنه يتحقق ثبوته. فيجب عليه العمل به. ولا أثر لعجزه عن التعبير بالنسبة إليه، إذ ليس عليه إن يمكنه الحِجاج، بل العمل بما علمه بعد توفية الإجتهاد حقه . وإن كان بمعنى أنه شاكٌ فيه فهو مردود اتفاقا. إذ لا تثبت الأحكام بمجرد الشك والإحتمال .
(( وأما مذهب الصحابي )) وقوله (( فالأ كثر )) من العلماء _ وهو الصحيح والمختار _ (( أنه ليس بحجة )) يجب على المجتهد الرجوع إليها. بل الصحابي وغيره على سواء .إلا أمير المؤمنين على كرم الله وجهه فإن قوله حجة عند عآمة أهل البيت عليهم السلام، كما تقدم.
وأما غيره فليس بحجة. أما على صحابي مثله فذلك اتفاق. وأما على غيره، فالمختار: ما ذكره المصنف. وقد قيل: بل هو حجة مقدمة على القياس. واحتجوا بما روي عنه صلى الله عليه وآله وسلم (( و )) هو (( قوله: أصحابي كالنجوم… الخبر )) وهو قوله صلى الله عليه وآله وسلم: ( بأيهم اقتديتم اهتديتم ).
(( ونحوه )) من الأحاديث الدآلة، مثل قوله صلى الله عليه وآله وسلم: ( عليكم بسنتي وسنة الخلفاء من بعدي ).
وقوله صلى الله عليه وآله وسلم: ( خير القرون قرني ) .ونحو ذلك. قلنا: لا دليل في ذلك على ما ذكرتم. (( إذ المراد به المقلدون )) في أنه يجوز لهم تقليدهم .
وأما قوله صلى الله عليه وآله وسلم: ( خير القرون قرني ) . فيدل على فضلهم لا على الإحتجاج بقولهم. والله أعلم .
(( خاتمة ))
أي: هذه خاتمة للأدلة الشرعية. وهي أنه (( إذا عدم الدليل الشرعي )) من الكتاب، والسنة، والإجماع، والقياس، وأنواع الإستدلال عند من جعلها من الأدلة. فإذا عدمت هذه الأدلة (( عمل )) حينئذ

(1/120)


(( بدليل العقل )). أي: بما يقتضيه، من حسن وقبح، فمِن شرط العمل به عدم الدليل الشرعي .
واعلم: أنه قد اختُلِف في أصل الأشياء هل على الحظر أم على الإباحة؟ (( والمختار )) عند أكثر الفقهاء والمتكلمين (( أن كل ما ينتفع به من دون ضرر عاجل ولا آجل، فحكمه الإباحة )) .بمعنى أنه لا إذن ولا حرج في ذلك، (( عقلا )). أي: يقضي العقل بذلك. نحو: اقتطاع الشجر والانتفاع بها، ونحت الصخور لينتفع بها، واستخراج المعادن، ونحو ذلك. فهذه يقضي العقل بالإباحة فيها، إذ لا ضرر علينا فيها لا عاجلا ولا آجلا .
(( وقيل )) أي: قال بعض الشافعية، وبعض الأمامية: (( بل )) الأصل فيها هو (( الحظر )).
واختلف القائلون به، فمنهم من قال: ما لا يقوم البدن إلا به من طعام وشراب ونحوه فمباح عقلا، وما زاد على ذلك فمحظور. ومنهم من قال: بل كل ما مسَّت الحاجة إليه فمباح، وما سواه محظور.
ومنهم من قال: بل الجميع على الحظر.
(( وبعضهم )) وهو: أبو الحسن الأشعري والصيرفي (( تَوَقَّف ))، وقال: بل يلزمنا الإمتناع من غير أن نحكم بحظر ولا إباحة.
(( والحجة لنا: )) على القول بالإباحة (( أنا نعلم )) قطعا (( حسن ما ذلك حاله ))، أي: الإنتفاع من غير ضرر عاجل ولا آجل،
(( كعلمنا بحسن الإنصاف )) والإحسان، (( وقبح الظلم )) من غير تفرقة. ونعلم انتفاء الضرر العاجل بفقد التألم والإغتمام .
وأما الآجل فبفقد السمع، إذ لو جوزنا أن نعاقب عليه لكان مفسدة، ولو كان مفسدة، لما جاز من الله تعالى أن يُخلِيها من الأدلة. والله أعلم . وبتمام هذه الجملة تم الكلام في شرح باب الأدلة .
(( الباب الثالث ))(( من أبواب الكتاب في المنطوق والمفهوم )).

(1/121)


وهما وصفان لما يدل عليه اللفظ العربي. ولذا قال المصنف: (( المنطوق: ما دل عليه اللفظ في محل النطق )). أي: يكون حكما للفظ المذكو، وحالا من أحواله. (( فإن أفاد ))اللفظ (( معنى لا يحتمل )) ذلك اللفظ (( غيره، فنص )) في المقصود. (( ودلالته )) أي: دلالة ذلك اللفظ على المقصود
(( قطعية. وإلا ))يفد ذلك، بل أفاد معنى يحتمل المقصود، وغيره
(( فظاهر )). أي: فهو المسمى بالظاهر. (( ودلالته )) أي: دلالة اللفظ على المقصود حينئذ (( ظنية )). للإحتمال المذكور.
(( قيل ومنه )) أي: ومن الظاهر (( العام )) قبل التخصيص. لأن دلالته على المقصود ظنية، لاحتماله للتخصيص.
(( ثم النص )):
(( إما: صريح وهو ما وضع اللفظ له )) ودل عليه دلالة مطابقة، أو دلالة تضمن. (( بخصوصه ))، يخرج العام، فإنه لم يوضع اللفظ له بخصوصه، بل مع مشاركة غير المقصود. وذلك كقوله صلى الله عليه وآله وسلم: ( فيما سقت السماء العشر ). فإنه صريح في بيان ما يجب من الزكاة. ومن ذلك حديث الغدير فإنه صريح في المقصود، ودلالته على إمامه أمير المؤمنين كرم الله وجهه، قطعية عند عآمة أهل البيت عليهم السلام.
(( وإما: غير صريح. وهو ما لم )) يوضع اللفظ له بخصوصه، بل (( يلزم عنه )). أي: يدل عليه اللفظ بالإلتزام.
فغير الصريح: ما دل عليه اللفظ، لا بالوضع بل بالإلتزام.
وغير الصريح ثلاثة أقسام:
• ... قتضاء.
2- وإيماء.
وإشارة.
وذلك لأنه إما أن يكون إفهام ذلك اللازم مقصودا للمتكلم، أول؟

(1/122)


(( فإن قصد )) إفهام ذلك اللازم بإطلاق اللفظ _ (( و )) هو قسمان: لأنه إما أن يتوقف الصدق أو الصحة العقلية أو الشرعية عليه، أولا ؟ فإن (( توقف الصدق، أو )) توقفت (( الصحة العقلية أو ))توقفت (( الصحة الشرعية عليه، )) أي: على قصد ذلك اللازم _ (( فدلالة اقتضاء )). أي: فاللفظ يدل على ذلك المعنى دلالة اقتضاء. أي: يقتضيه اللفظ وليس بنص صريح. فالذي يتوقف الصدق عليه (( مثل )) قوله صلى الله عليه وآله وسلم: ( رفع عن أمتي الخطأ والنسيان ). لم يرد نفس الخطأ والنسيان، بل أراد المؤاخذة ونحوها. وإلا لكان كذبا، لأنهما لم يرفعا عنهم، إذا المعلوم أنهم ينسون ويخطؤون. فعلم أن المراد المؤاخذة. واللفظ لا يدل عليها بصريحه، بل يقتضيها لتوقف الصدق على ذلك، كما بينا. والذي تتوقف عليه الصحة العقلية نحو قوله تعالى: { واسأل القرية } فإن العقل قاضًٍ بأنه لم يُرد نفس القرية. لأنها لا تَعقل والعالم لا يأمر غيره بسؤآل من لا يعقل. فعُلم أنه أراد أهلها. واللفظ لا يدل عليه صريحا بل يقتضيه لتوقف الصحة العقلية على ذلك.
والذي تتوقف عليه الصحة الشرعية مثل قول القائل لغيره (( اعتق عبدك عني على ألف )). فإنه لم يرد اعتقه عني وهو مملوك لك، لأن العتق عن الغير لا يصح، بل أراد اجعله مملوكا لي، ثم اعتقه. لتوقف العتق على ذلك. واللفظ لا يدل عليه صريحا، بل يقتضيه. لتوقف الصحة الشرعية على ذلك. فدلالة اللفظ على استدعاء الملك دلالة اقتضاء.
(( فإن )) قصد المتكلم ذلك اللازم، ولكن (( لم يتوقف )) صدق ذلك النطق ولا الصحة العقلية ولا الشرعية على ذلك المعنى الذي يلزم من اللفظ، (( و )) لكن قد (( اقترن )) ذلك اللفظ (( بحكم لو لم يكن )) ذلك اللفظ (( لتعليله )) أي: لتعليل الحكم الذي اقترن به

(1/123)


(( لكان )) اقتران اللفظ به (( بعيدا )). لعدم الملآئمة بينه وبين ما اقترن به: (( فتنبيه نص، وإيماء )). أي: فهو المسمى تنبيه النص، وإيماء النص. فيقال: نبه النص على هذا، وأومأ إليه. لا أنه نص صريح فيه. وذلك: (( نحو )) قوله صلى الله عليه وآله وسلم: (( عليك الكفارة. جوابا لمن قال: جامعت أهلي في نهار رمضان )). فإن الأمر بالتكفير قد اقترن بوصف، وهي المجامعة في رمضان الذي لو لم يكن لتعليله، أي: لبيان أن العلة في الإعتاق هو الوقاع لكان بعيدا. وكذلك قوله عليه السلام: (( إنها ليست بسبع ))‍‍‍‍‍‍‍‍ جوابا لمن أنكر عليه دخول بيت فيه هرة .
وكذلك قوله عليه السلام: (( أرأيتَ لو تمضمضتَ بماء ))؟ جوابا لمن سأل عن القُبلة هل تفطر؟ وقد مر تحقيق هذا عند بيان طرق العلة في فصل القياس، فليرجع إليه .
(( و )) أما (( إن لم يقصد ذلك اللازم )) للّفظ. أي:لم يقصده المتكلم، بل فُهم منه عند إطلاق اللفظ (( فدلالة إشارة )). أي: دلالة اللفظ على ذلك اللازم تسمى في الاصطلاح: دلالة إشارة. فيقال: أشار إليه النص ولم يقتضه، ولا نبه عليه، ولا أومئ إليه. وذلك:

(1/124)


(( كقوله )) صلى الله عليه وآله وسلم: (( النساء ناقصاتُ عقل ودين )). فلما (( قيل )) له صلى الله عليه وآله وسلم: (( وما نقصان دينهن؟‍ قال : تمكث إحداهن شطر دهرها لا تصلي )). (( فإنه )) صلى الله عليه وآله وسلم (( لم يقصد )) بذلك اللفظ (( بيان أكثر الحيض، وأقل الطهر. ولكن المبالغة )) _ أي: في نقصان دينهن لما قصدها صلى الله عليه وآله وسلم _ (( تقتضي ذلك )). أي: أن يكون أكثر الحيض نصف عمر المرأة، فيكون أكثره خمسة عشر يوما، وأقل الطهر كذلك. إذ لو كان زمان ترك الصلاة وهي أيام الحيض أكثر من ذلك، أو زمان الصلاة _ وهي أيام الطهر _ أقل لَذَكَرُه . فاللفظ لا يدل على ذلك بصريح، ولا باقتضائه ولا بإيمائه. بل يشير إليه إشارة فقط. كما تبين. ومن هذا قوله تعالى: { وحمله وفصاله ثلاثون شهرا } مع قوله في آية أخرى { وفصاله في عامين } فإنه يُعلم منهما أن أقل الحمل ستة أشهر. ولكنه سبحانه لم يقصد بالآيتين بيان ذلك. لأن المقصود في الأُولى: بيان حق الوالدة، وما تقاسيه المرأة من التعب في الحمل والفصال. والمقصود في الثانية: بيان أكثر مدة الفصال. ولكن لزم منه ذلك. لأنه إذا كان أكثر مدة الرضاع حولين كاملين _ ومدة الحمل والفصال ثلاثون شهرا _ لزم منه كون أقل الحمل ستة أشهر. وذلك واضح كما ترى.
[ فصل ](( والمفهوم )) حقيقته
(( ما دل عليه اللفظ لا في محل النطق )). بأن يكون حكما لغير المذكور، وحالا من غيره أحواله.
(( وهو نوعان )):
مفهوم موافقة.
ومفهوم مخالفة.
النوع (( الأول متفق عليه. ويسمى مفهوم الموافقة )).
(( وهو أن يكون )) المفهوم من اللفظ أي: (( المسكوت عنه موافقا للمنطوق به في الحكم )) المذكور. (( فإن كان فيه )) أي: في المسكوت عنه (( معنى الأول )). أي: ثبوت الحكم في المسكوت عنه أَولى من ثبوته في المنطوق به (( فهو )) المسمى في الاصطلاح:

(1/125)


(( فحوى الخطاب. نحو قوله تعالى : { ولا تقل لهما أف } فإنه يدل على )) ثبوت الحكم. وهو (( تحريم الضرب بطريق الأَولى )). فإنه يُعلم من تحريم التأفف المنطوق به، أن تحريم الضرب المفهوم منه أَول . إذ الأذية فيه أبلغ، والمقصود المنع منها. وهما متفقان في الحكم، وهو إثبات التحريم.
ومن ذلك قوله تعالى: { فمن يعمل مثقال ذرة خيرا يره ومن يعلم مثقال ذرة شرا يره } فإنه يعلم منه ثبوت الحكم. وهو الجزاء في المسكوت عنه. وهو ما فوق المثقال بطريق الأَولى. لأنه إذا ثبت الجزاء المكنَّى عنه بالرؤية في المثقال، فما فوقه أَولى وأحرى!!
(( فإن لم يكن فيه )) _أي: في المسكوت عنه _ (( معنى الأَولى )) بأن يكون مساويا للمنطوق به في ثبوت الحكم، (( فهو: لحن الخطاب )). أي: معناه. قال تعالى : { ولتعرفنهم في لحن القول } وذلك: (( نحو قوله تعالى : { إن يكن منكم عشرون صابرون يغلبوا مأتين } . فإنه )) أي: هذا اللفظ (( يدل )) بالمفهوم (( على
)) وجوب (( ثبات الواحد للعشرة )) للإتحاد في الحكم _ وهو وجوب الثبات _ لكن (( لا بطريق الأَولى )). بل بطريق المساواة. وذلك واضح. والله أعلم .
(( و )) النوع (( الثاني )) من نوعي المفهوم (( مختلف فيه )) بين العلماء.
فمنهم من يأخذ به أجمع.
ومنهم من نفاه أجمع.
ومنهم من فَصَّل، فأخذ ببعض دون بعض _ وهو المختار _
(( ويسمى )) هذا النوع (( مفهوم المخالفة )). لتخالف المنطوق، والمفهوم في الحكم .
(( و )) لذلك قيل في تفسيره (( هو: أن يكون المسكوت عنه مخالفا للمنطوق به في الحكم )) إثباتا ونفيا.
(( ويسمى )) هذا النوع من المفهوم في اصطلاح الأصوليين: (( دليل الخطاب )). أي: الدليل المأخوذ من الخطاب. فهو من باب إضافة الشيء إلى جنسه. كما في: خاتم فضة. أي: خاتم من فضة. وكذلك دليل الخطاب. أي: دليل من دلالات الخطاب .
(( وهو )) أي: مفهوم المخالفة (( أقسام ستة )):

(1/126)


الأول: (( مفهوم اللقب )). وهو نفي الحكم عما لم يتناوله الاسم. مثل: في الغنم زكاة . فيفهم منه أن غير الغنم لا زكاة فيها.
ومثل: زيد في الدار . يفهم منه أن غير زيد ليس في الدار .
(( و )) هذا المفهوم (( هو أضعفها )). أي: أضعف مفاهيم المخالفة لما يأتي إن شاء الله.
(( والأخذ به قليل )). أي: أقل من الأخذ بغيره من المفاهيم، والصحيح: أنه غير مأخوذ به. إذ لو أُخذ به للزم الكفر. إذ كان يلزم من قولنا: محمد رسول الله، نفي الرسالة عن غيره من الأنبياء عليهم السلام. وكذلك من قولنا: زيد موجود، وعمرو عالم، وبكر قادر، إذ يفهم منه نفي هذه الصفات عن غيره. فيلزم نفيها عن الله تعالى. واللوازم باطلة. فكذلك الملزومات. وهذا واضح كما ترى .
وقد قيل: إنه يؤخذ به في أسماء الأجناس، كالغنم دون الأشخاص كزيد .
(( و )) الثاني (( مفهوم الصفة )). وهو: ما يفهم من تعليق الحكم بصفة من صفات اللفظ. مثل: في الغنم السائمة زكاة. فإن للغنم صفتين السوم والعلف. وقد عُلِّق الحكم وهو وجوب الزكاة بإحدى صفتيها، وهو السوم.
(( وهو )) أي: هذا المفهوم (( أقوى )) مما قبله. (( والأخذ به أكثر )) من الأخذ بمفهوم اللقب. لأن من أخذ بمفهوم اللقب، أخذ بهذا من دون عكس .
قال الإمام المهدي عليه السلام في شرح المعيار: والصحيح أنه لا يعمل به أيضا. أما أولا: فلأنه كان يلزم من قوله تعالى: { ولا تأكلوا الربا أضعافا مضاعفة } جواز أكل القليل منه. إذ يفهم منه ذلك. والمعلوم أن القليل والكثير على سواء في التحريم .

(1/127)


وأما ثانيا: فلأن تعليق الحكم بالوصف لا يفيد نفيه _ أعني _ الحكم عما لم يتصف به. بل إنما ينتفي إما لعدم الدليل فيه، فيبقى على الأصل، أو لدليل خاص. إذ الصفة إنما وضعت في اللغة للتوضيح في المعارض. كما في: جاءني زيد العالم. والتخصيص في النكرات. كما في: جاءني رجل عالم. فلا تفيد الصفة في المثالين المذكورين إلا توضيح الذي جاء، أو تخصيصه. لا نفي المجيء عمن ليس بعالم. إذ لم توضع للتقييد _ وهو قصر الحكم على المتصف بها ونفيه عمن سواه _ والله أعلم .
واعلم أن الذين اخذوا بهذا المفهوم اختلفوا: هل يدل على نفي الحكم عما هو صفة له في اللفظ؟ أو عن كل ما يتصف به؟ مثلا: في قوله صلى الله عليه وآله وسلم: ( في الغنم السائمة زكاة ) هل تدل الصفة على نفي وجوب الزكاة عن المعلوفة من الغنم فقط، أو على نفيها عن المعلوفة من جميع الأجناس الغنم وغيرها ؟
قيل: والصحيح أنها إنما تدل على النفي في ذلك الجنس الذي وقعت الصفة له كالغنم، ولعل ذلك بالمفهوم . وأما القياس فيصح والله أعلم.
(( و )) الثالث (( مفهوم الشرط )). وهو: ما يفهم من تعليق الحكم على شيء بكلمة إن، أو غيرها من أدوات الشرط اللغوية .
(( وهو )) أي: مفهوم الشرط (( فوقهما )). أي: فوق المفهومين المتقدمين في القوة. والأخذ به أكثر من الأخذ بهما. لأن من أخذ بهما أخذ به من دون عكس. مثاله قوله تعالى : { وإن كن أولات حمل فأنفقوا عليهن } . يفهم منه أنهن إن لم يكنَّ أولات حمل، فلا ينفق عليهن.
واعلم أنه لا خلاف في أنه: يثبت المشروط عند ثبوت الشرط. بدلالة إن عليه. وفي أنه: يعدم المشروط عند عدم الشرط.
واختلفوا هل ذلك بدلالة إن عليه؟ أو هو منتف بالأصل؟
والصحيح أنه بدلالة إن عيه. لأن النحاة نصوا على: أنها للشرط. ويلزم من انتفاء الشرط انتفاء المشروط. وإلا لم يكن لذكره فائدة .

(1/128)


(( و )) الرابع (( مفهوم الغاية )). وهو استمرار الحكم إلى وقت معلوم. مثل قوله تعالى : { وأتموا الصيام إلى الليل } .فمفهومه ارتفاع وجوبه عند دخول الليل. وكذلك قوله تعالى : { فأنفقوا عليهن حتى يضعن حملهن } .فمفهومه عدم الإنفاق عقيب وضع الحمل.
(( و )) هذا المفهوم (( هو أقوى منها )). أي: من الثلاثة المتقدمة. والأخذ به أكثر من الأخذ بما قبله. لأن من أخذ بما قبله أخذ به، من دون عكس. والمختار: أنه يؤخذ به. لأن وضع حرف الغاية لرفع الحكم عما بعدها. كما في المثالين المذكورين. وإلا لم يتبين للفعل آخر. ولأنه بمنزلة قوله: آخر وقت وجوب كذا وقت كذا. وهذا يقتضي ارتفاع الوجوب عند دخول ذلك الوقت. فكذا إذا قال: إلى كذا. أو حتى كذا. والله أعلم.
(( و )) الخامس: (( مفهوم العدد )). وهو: ما يفهم من تعليق الحكم بعدد معين. مثل: قوله تعالى: { فاجلدوهم ثمانين جلدة } . فمفهومه تحريم الزيادة والنقصان. وهو مأخوذ به عند الأكثر.
(( و )) السادس: (( مفهوم إنما )). نحو قوله تعالى: { إنما الصدقات للفقراء } . وكذلك ما أفاد القصر، كالإستثناء نحو ما الصدقات إلا للفقراء. فمفهومه أنه لا شئ من الصدقة لغير من ذُكر، وأما أنها لا تجب لغيرهم فمنطوق.
وكذلك لا إله إلا الله. مفهومه أن الله إله. وأما نفي إلهية الغير فمنطوق. فتأمل!
وكتقديم الوصف على الموصوف الخاص وجعله مبتدأ والموصوف خبرا نحو: العالم زيد. يفهم منه أنه لا عالم غيره .
(( وقيل هما )) أي: مفهوما العدد، وإنما. وكذا ما أفاد الحصر مما ذكرنا: (( منطوقان )). أي: يدلان على الحكم بالمنطوق لا بالمفهوم. لإفادة الحصر فيما دلا عليه .
(( وشرط الأخذ بمفهوم المخالفة على القول به ))، أي: عند من يقول به، ويعمل بمقتضاه ثلاثة شروط:

(1/129)


الأول: (( أن لا يخرج الكلام مخرج الأغلب )). أي: ما قد اعتِيد في أغلب الأحوال. فإن كان كذلك لم يؤخذ به. مثل قوله تعالى: { وربائبكم اللاتي في جحوركم } . فلم يرد بذلك التقييد، وأن الربائب إذا لم يكنَّ في الحجور كن حلالا . للإجماع على تحريم الربيبة مطلقا. لأن الغالب كون الربائب في الجحور، ومن شأنهن ذلك. فقيد به لذلك. لا لأن اللاتي لسن في الحجور بخلافه .
(( و )) الثاني: أن (( لا )) يأتي المذكور جوابا (( لسؤآل )). أي: لسؤآلِ سائل عن المذكور. نحو أن يُسأل: هل في سائمة الغنم زكاة؟
فيقول: في سائمة الغنم زكاة. فلا يؤخذ منه أن المعلوفة لا زكاة فيها. لأن الوصف إنما أُتِيَ به لمطابقة السؤآل فقط . لا للتقييد .
والثالث: قوله: (( أو )) يأتي المذكور لسبب (( حادثة متجددة )).
(( أو )) لسبب (( تقدير جهالة )) في الحكم المسكوت عنه.
مثال الأول: أن يقال في حضرته صلى الله عليه وآله وسلم:
لفلان غنم سائمة . فيقول: فيها زكاة. فإنه لا يعمل بمقتضى هذا المفهوم. ومثال الثاني: أن يعتقد المكلف أن في المعلوفة زكاة، ولم يعلمها في السائمة. فيقول صلى الله عليه وآله وسلم: في السائمة زكاة. فلا يُؤخذ بهذا المفهوم. لأنه صلى الله عليه وآله وسلم لم يُرد: التقييد. بل أراد في الأول: مطابقة الحادثة. وفي الثاني: بيان أنها في السائمة، كما في المعلوفة. (( أو غير ذلك مما يقتضي تخصيص المذكور بالذِّكر )).
وعلى الجملة إنه لا يؤخذ بمفهوم المخالفة، إذا لم تظهر لتخصيص تلك الصفة بالذكر فائدة أخرى، غير نفي الحكم عما عدى الوصفالمذكور. فإن ظهرت له فائدة فلا يؤخذ به. والله أعلم.
(( الباب الرابع )) من أبواب الكتاب (( في الحقيقة والمجاز ))

(1/130)


الكلام هنا في لفظيهما، ومعنييهما لغة واصطلاحا. أما لفظ الحقيقة فوزنها: فعيلة. وهي مشتقة من الحق. والحق لغة: الثبوت. قال الله تعالى: { ولكن حقت كلمة العذاب على الكافرين } . أي: ثبتت .
ومن أسمائه تعالى: الحق. لأنه الثابت .
وأما معناها لغة: فهي: إما بمعنى فاعل. لأن فعيلا قد يكون بمعناه
كسميع بمعنى سامع. فمعناها: الثابتة. من قولهم: حق. إذا ثبت. وهي ثابتة فيما وضعت له .
وإما بمعنى: مفعول. لأن فعيلا أيضا قد يكون بمعناه كقتيل بمعنى:
مقتول. ومعناها حينئذ: المثبتة. من حققت الشي إذا أثبته. وهي كذلك. أي: مثبتة في محلها الأصلي. فهذا هو معناها لغة. فهي بهذا الاعتبار صفة .
وأما معناها اصطلاحا فقد بينه المصنف بقوله: (( الحقيقة هي الكلمة المستعملة فيما وضعت له في اصطلاح التخاطب )). فالكلمة: جنس الحد. لأنها تشمل الحقيقة وغيرها. ولم يقل: اللفظ. لأن اللفظ جنس بعيد، من حيث شموله للمهمل وغيره. بخلاف الكلمة، فهي جنس قريب، لخروج المهمل منها. إذ لا يسمى كلمة. وقوله: المستعملة. احتراز عن الكلمة التي لم تستعمل. وإن وضعت فإنها لا تسمى حقيقة ولا مجازا. وقوله: فيما وضعت له. ليخرج الغلط. نحو: خذ هذا الفرس، مشيرا إلى كتاب. والمجاز. لأنه مستعمل فيما لم يوضع له، كالأسد في الرجل الشجاع. وقوله: في اصطلاح التخاطب. يخرج المجاز المستعمل فيما وضع له. لكن في غير اصطلاح التخاطب، كالصلاة مثلا إذا استعملها الشارع في الدعاء. فإنه قد استعملها فيما وضعت له. لكن في اصطلاح آخر غير اصطلاحه. وهذا الحد يشمل جميع أقسام الحقيقة. والمراد بالوضع أما في اللغة فهو تخصيص اللفظ بما استعمل فيه .
وأما في غيرها فهو غلبة الإستعمال. فهذا معنى الحقيقة اصطلاحا. فالتاء فيها: للنقل من الوصفية إلى الاسمية. كالنتيجة، والأكيلة. فإنها للنقل إذ لا يأتي في الصفة. فلا يقال: شاة أكيل، ولا نطيح.

(1/131)


فإن قلت: فما يكون لفظ الحقيقة بعد استعمالها في هذا المعنى ؟
قلت: يكون إما حقيقة عرفية، إن كان استعمالها في هذا المعنى غالبا، وإن كان غير غالب فهو مجاز. لأنه قد استعمل في غير ما وضع له في الأصل. والله أعلم.
(( وهي )) على المختار: خمسة أقسام :
1_ (( لغوية )). وهي مااستعمله الواضع الأصلي فيما وضع له. كالأسد للسبُع المفترس. والإنسان، والفرس، والسماء، والأرض، في مسهياتها المعروفة.
والواضع الأصلي للغات هو: البشر واحدا، أو جماعة، على المختار. ويحصل تعرُّفها بالإشارة والقرائن كالأطفال.
وطريق معرفتها: النقل. وهو بالتواتر فيما لا يقبل التشكيك كالأرض، والسماء، والحَرّ، والبرد، ونحوها. وبالآحاد في غير ذلك. فإن طرقه النقل عن أئمة اللغة. فإن اتفقوا وهم عدد كثير لا يتواطؤ مثلهم على الكذب، فقطعي. كنصوص القرآن الصريحة. فإنها مما اتفق أئمة اللغة على أن معانيها ما دلت عليه. وإلا فظنية. فتأمل ذلك! والله أعلم .
2_ (( وعرفية عامة )). وهي: ما نقله أهل العرف من معناه الأصلي إلى معنى آخر، وغلب عليه. كالدآبة لذوات الأربع . بعد أن كانت في الأصل لكل ما دَبَّ . وكالقارورة لما استقر فيه الشيء من الزجاج. بعد أن كانت في الأصل لما استقر فيه الشيء من إناء، أو غيره، وأشباههما كثير.
3_ (( واصطلاحية )). وهي: العرفية الخاصة. وهي ما نقله ناس مخصوصون من معناه الأصلي إلى معنى آخر، وغلب عليه بينهم . وذلك: كاصطلاح النحاة في جعلهم الرفع لعلامة الفاعل، وما أشبهه. بعد أن كان في الأصل للإرتفاع ضد الانخفاض. وكاصطلاح علماء الكلام في جعلهم الجوهر للمتحيز، بعد أن كان في الأصل: للنفيس. وما أشبه ذلك.
5_ (( وشرعية )). وهي: ما نقله الشرع من معناه الأصلي إلى معنى آخر، وغلب عليه عنده. وذلك: كالصلاة لذات الأذكار والأركان المخصوصة. بعد أن كانت في الأصل: للدعاء. قال تعالى : { وصل عليهم } . أي: أدع لهم.
وقال الأعشى:

(1/132)


عليك مثل الذي صليت فاغتمضي ……………..
أي: دعوت.
وكذلك: الزكاة. فإنها في الشرع: اسم لأداء مال مخصوص. بعد أن كانت في الأصل: للنماء .
وكذا الصيام: في الشرع للإمساك عن المفطرات، من الفجر إلى الغروب مع شرائط . بعد أن كانت للإمساك مطلقا .
وكذا الحج: اسم للعبادة المختصة بالبيت الحرام. بعد أن كان في الأصل: للقصد للشيء المعظم على جهة التكرار .
6_ (( ودينية )) وهي: اسم لنوع خاص من الشرعية.
وهي: ما وضعه الشارع ابتداء. بعد أن كان لا يعرف أهل اللغة لفظه، أو معناه أو كليهما. وليس من أسماء الأفعال، كالصلاة، والصوم، والمصلي، والصائم.
والظاهر أن الواقع هو القسم الثاني. وهو ما لم يعرف أهل اللغة معناه، وذلك كالمؤمن والإيمان. فهذه هي أقسام الحقيقة على الصحيح. والدليل على إثبات الشرعية: وقوعها في لفظ الصلاة، والزكاة. كما تبين.
وعلى إثبات الدينية: أن الإيمان في اللغة: التصديق، وفي الشرع: العبادات المخصوصة. لأنها الدين المعتب.ر بدليل قوله تعالى: { ليعبدوا الله مخلصين له الدين }. والمقصود به العبادات المذكورة، وغيرها. لكن اكتفى بذكرها لأنها الأساس. والدين المعتبر: هو الإسلام. لقوله تعالى: { إن الدين عند الله الإسلام }. والمراد به: الإيمان. حيث يقبل من مبتغيه. إذ لو كان غيره لما قبل، لقوله تعالى: { فلن يقبل منه }. وهو مقبول إجماعا. فثبت أن الإيمان: هو العبادات. وهو المطلوب. والله أعلم .
واعلم: أنه يخرج المجاز عن الأقسام الأربعة بقيد الغلبة، لأن اللفظ إذا أطلق بعد أن قد غلب على شيء، فُهم منه ذلك الشيء بغير قرينة. والمجاز ليس كذلك .
(( و )) الحقيقة خمسة أقسام:
1_ متباينة.
2_ ومنفردة.
3_ ومترادفة.
4_ ومشككة.
5_ ومتواطئة .
وذلك لأنها إما أن تتعدد لفظا ومعنى، أولا ؟

(1/133)


(( إن تعددت لفظا ومعنى: فمتباينة )). كالإنسان، والفرس، فإنهما متعددان لفظا _ وهو ظاهر _ ومعنى. لأن الإنسان: هو الحيوان الناطق. والفرس: هو الحيوان الصاهل .
(( و )) إن لم تتعدد كذلك. فإما أن تتحد لفظا ومعنى، أولا ؟
(( إن اتحدت لفظا ومعنى: فمنفردة )). أي: فهي الحقيقة المنفردة. وذلك: كزيد في مفهومه. فإنه متحد لفظا ومعنى.وهو ظاهر.
(( وإن ))لم تتحد كذلك، بل (( تعددت لفظا، و اتحدت معنى: فمترادفة )). وذلك: كالإنسان والناطق، فإن لفظهما متعدد، ومعناهما واحد. ولو قال: متساوية لكان أَولى.
(( وإن تعددت معنى، واتحدت لفظا، فإن وضع )) اللفظ
(( لتلك المعاني )) المتعددة (( باعتبار أمر )) كلي (( اشتركت )) تلك المعاني (( فيه )) أي: في ذلك الأمر (( فمشكِّكٌ )).
لكن (( إن تفاوتت )) تلك المعاني في استحقاق ذلك اللفظ بأولية، أو أولوية. أي: بأن يكون حصول اللفظ في بعض أفراده قبل حصوله في الآخر، أو أولى من حصوله فيه، وذلك:
(( كالموجود، للقديم والمحدث )). فإن لفظ الموجود حاصل في القديم قبل حصوله في المحدث. وهو أيضا أولى وأتم.
وسمي مشكِّكا لأن النظر فيه يوقع في الشك، هل هو متواطئ من حيث اتفاق أفراده في أصل المعنى، أو مشترك من حيث تفاوت أفراده في الاستحقاق ؟
(( وإن لم تتفاوت )) أفراده في استحقاق اللفظ، بل تساوت فيه (( فمتواطئ )). إذا صدق عليها على سواء. كالإنسان والفرس، فإنَّ صدقهما على أفرادهما بالسوية، وليس بعض الأفراد أولى به من بعض.
وسمي متواطئا لتوافق الأفراد في معناه. من التواطؤ، وهو التوافق. (( وحينئذ )) أي: حين إذ لم تتفاوت بل اتحدت، (( فإن اختلفت حقائق تلك المعاني )) الدآل عليها اللفظ، بأن يكون فصل كل حقيقة غير فصل الأخرى. (( فهو: الجنس كالحيوان )). فإن لفظه قد دل على معانٍ مختلفة الحقائق، كالإنسان، والفرس، والجمل، والحمار. وهي لا تتفاوت في استحقاق لفظ الحيوان.

(1/134)


وحقيقة الجنس: هو المقُول على الكثرة المختلفة الحقيقة في جواب ما هو؟
وهو ينقسم إلى قسمين:
• ... قريب.
• ... وبعيد.
لأنه إن كان تمام المشترك بين المآهية، وبين جميع ما يشاركهما فيه كالحيوان مثلا، فإنه تمام المشترك بين الإنسان، وبين جميع ما يشاركه في الحيوانية. فيكون أيضا تمام المشترك بينه وبين بعض المشاركات فيه: فهو الجنس القريب. وإن لم يكن تمام المشترك بين المآهية وبين جميع المشاركات فيه، بل بينهما وبين بعض المشاركات فيه: فهو الجنس البعيد. كالجسم النامي، فإنه تمام المشترك بين الإنسان وبين بعض المشاركات فيه:وهو الشجر مثلا.
وأما بعض المشاركات فيه فليس تمام المشترك بين الإنسان وبين ذلك البعض كالفرس. إذ تمام المشترك الجسم النامي الحساس المتحرك بالإرادة.
(( وإلا )) تختلف حقائق تلك المعاني، بل اتحدت (( فهو النوع. كالإنسان )). فإن لفظه قد دل على معانٍ متحدة الحقيقة. كزيد، وعمر، وبكر، وخالد. وهي لا تتفاوت في استحقاق لفظ الإنسان. وحقيقة النوع: المقول على الكثرة المتفقة الحقيقة في جواب ما هو؟
(( وبعضهم يعكس )). ويقول: إن اختلفت حقائق تلك المعاني: فهو النوع. وإن اتحدت: فهو الجنس. وهذا هو اصطلاح الأصوليين، فإنهم قالوا: المندرج كالإنسان جنس، والمندرج فيه كالحيوان نوع. والأول: اصطلاح أهل المنطق. وعلى اصطلاح أهل الأصول يقال للإتفاق في الحقيقة: تجانس. وللإختلاف فيها تنوع.

(1/135)


(( وإن وضع اللفظ الواحد للمعاني المتعددة، لا باعتبار أمر اشتركت فيه ))، بل إنما وضع أولا لشيء واحد ثم حصل الإشتراك من بعد من جهة تعدد الوضع: (( فهو المشترك اللفظي )). إذ الإشتراك في لفظ فقط.وذلك: (( كعين. للجارية، والجارحة )). فتسمية كل واحد منهما عينا ليس باعتبار أمر اشتركتا فيه. إذ الواضع الأول وضع العين للجارية مثلا فقط. والثاني وضعها للجارحة فقط. فلما تعدد الوضع حصل الإشتراك. بخلاف لفظ الحيوان، فإنه موضوع للإنسان والفرس والجمل وغيرها. باعتبار أمر اشتركت هذه الأشياء فيه، وهي الحيوانية. إذ الواضع وضعه لكل ما يتصف بها. والله أعلم .
(( فصل ))(( و )) أما لفظ (( المجاز ))
فوزنه مَفْعَل. لأن أصله مجوز أُعِلَّ إعلال أصله، وهو جاز، بأن نُقِلت حركة حرف العلة إلى ما قبله، ثم قلب ألفا.
وأما معناه في اللغة فهو: إما بمعنى المصدر وهو الجواز، أو بمعنى مكانه أو زمانه. لأن مفعلا يستعمل لهذه الثلاثة المعاني.
ثم استعمل للكلمة الجائزة أي: المتعدية مكانها الأصلي. واستعماله فيها مجاز لغوي، لاستعماله في غير ما وضع له لعلاقة.
وهي الجزئية. إن نُقِل من المصدر لأنه جزء منه.
أو المجاوزة. إن نُقِل من اسم المكان.
قيل:ولا يمكن أن ينقل من اسم الزمان، لعدم العلاقة بينه وبين الجائزة.
وأما استعماله في المعنى الاصطلاحي أي: المصطلح عليه: فهو حقيقة عرفية خاصة. والله أعلم

(1/136)


والمعنى المصطلح عليه: (( هو الكلمة المستعلمة في غير ما وضعت له في اصطلاح التخاطب، لعلاقة مع قرينة )). قوله: الكلمة. جنس قريب للحد. وقوله: المستعملة. احتراز من الكلمة قبل الاستعمال، وبعد الوضع. فإنها ليست بحقيقة ولا مجاز. وفي اصطلاح التخاطب. متعلق بقوله. وضعت. أي(1): لا يشترط أن تكون مستعملة في غير ما وضعت له، إلا في اصطلاح التخاطب. ولو استعملت فيما وضعت له في اصطلاح آخر. وذلك: كالصلاة إذا استعملها الشارع في الدعاء، كما في قوله تعالى : {وصل عليهم} فإنها عنده مجاز. وإن كانت مستعملة فيما وضعت له. لكن في اصطلاح آخر. وقوله: لعلاقة. أي: بين المعنى الحقيقي والمعنى المجازي. واحترز به عن الغلط. نحو استعمال الأرض في السماء. فإنه لا يكون مجازا، لعدم العلاقة بينهما. والعلاقة تَعَلُّقٌ ما للمعنى المجازي بالمعنى الحقيقي. وسيأتي تفصيلها. قوله: مع قرينة. أي: تدل على أنه لم يرد معناه الحقيقي. قوله: في اصطلاح التخاطب. يشمل المجازات جميعها:
• ... اللغوي كالأسد للرجل الشجاع.
• ... والشرعي كاستعمال الصلاة في الدعاء.
• ... والعرفي العام كاستعمال الدآبة في كل ما يدب.
• ... والعرفي الخاص كاستعمال الجوهر في النفيس.
• ... والديني كاستعمال الإيمان في التصديق مطلقا.
واعلم أن المجاز لا يقف على نقل عن العرب، بمعنى أنا لا نقتصر في التجوز على ما تَجَوَّزت فيه _ على الصحيح _ بل إذا صحت العلاقة، فلكلٍ أن يتجوز. ويُعد ذلك من كمال البلاغة.
وأما العلاقة فالصحيح أنه لا بد من اعتبار العرب لها. فإذا وجدت العلاقة المعتبرة صح المجاز من كل أحد. والله أعلم.
(( وهو )) أي: المجاز باعتبار العلاقة (( نوعان )):
__________
(1) - عبارة الشارح غير دقيقة، ولو قال: ( أي يشترط أن تكون مستعملة في غير ما وضعت له في اصطلاح التخاطب لا في غيره ).لكان أحسن.

(1/137)


(( مرسل )) إن كانت العلاقة غير المشابهة، كالسببية أي: إطلاق اسم السبب على المُسبَّب. مثل قولهم: رعينا الغيث. أي: النبات. لأن الغيث سببٌ فيه.
أو العكس أي: إطلاق المسبب على السبب. نحو: شرب الإثم. أي: الخمر. لأن الإثم مسبَّبٌ عن شرب الخمر.
أو تسمية الشيء باسم آلته (( كاليد )). التي هي حقيقة في الجارحة، إذا استعملت (( للنعمة )). كما يقال: لفلان علي يد. أي: نعمة .
(( و )) إطلاق اسم الجزء على الكل. كإطلاق اسم (( العين )) التي هي حقيقة في الحدقة، إذا استعلمت (( لِلرَّبِيئَة )) وهو الجاسوس. والعكس _ أعني _ تسمية الجزء باسم الكل. كتسمية السورة قرآنا. وغير ذلك من علائق المجاز المرسل. كما هو مذكور في موضعه.
(( واستعارة )).إذا كانت العلاقة بين المعنى الحقيقي والمجازي المشابهة. فإن ذكر المشبه به وأريد المشبه، فهو الإستعارة المصرحة. (( كالأسد، للرجل الشجاع )).
وإن لم يذكر المشبه به، بل ذكر ما هو من لوازمه مضافا إلى المشبه، فهي الاستعارة بالكناية. كقولهم: أظفار المنية نشبت بفلان. شبَّه المنية بالسبع، وذكر ما هو من لوازمه وهو الأظفار، وإضافه إلى المنية. وإن ذُكِرا معا، فهو التشبيه .
(( و )) المجاز (( قد يكون )) مفردا. كما تقدم من الأمثلة.
وقد يكون (( مركبا )). إذا كان وجهه منتزعا من متعدد. (( كما يقال للمتردد في أمر: أراك تقدم رجلا، وتؤخر أخرى )). فقد شَبَّه صورة تردده في ذلك الأمر، بصورة تَرَدُّد من قام ليذهب. فتارة يريد الذهاب فيقدم رجلا، وتارة لا يريد فيؤخر أخرى. فقد انتزع وجه التشبيه من متعدد. كما ترى.
(( وقد يقع )) المجاز (( في الإسناد )) فقط. إذا كان إلى غير من هو له. وهو المسمى بالعقلي. (( مثل )) قولهم: (( جَدَّ جَدُّه )). ومنه قول أبي: فراس شعرا :
سيذكرني قومي إذا جد جدهم ... وفي الليلة الظلماء يفتقد البدر.

(1/138)


ومثل قوله تعالى : { أخرجت الأرض أثقالها }. فإسناد الإخراج إلى الأرض مجاز. إذ المخرج هو الله تعالى.
وقد يقع فيهما أي: في المفرد، والإسناد جميعا. كقولك لمن تحبه أحياني اكتحالي بطلعتك. أي: سرتني رؤيتك. فاستعمل الإحياء في السرور، والإكتحال في الرؤية. وهذا مجاز في المفرد. ثم أسند الإحياء إلى الإكتحال. وهو مجاز في الإسناد. لأن المحيي هو الله تعالى.
(( ولاستيفاء الكلام في ذلك )) أي: في الحقيقة والمجاز، وأقسامها، وما يتعلق بذلك، (( فنٌّ آخر )). وهو فن المعاني والبيان. فهذا الذي ذكره المصنف هو الذي يليق بهذا الفن، ومن أراد الإستيفاء فليرجع إلى ذلك.
(( وإذا تردد الكلام بين المجاز والإشتراك )). أي: إذا ورد لفظ يحتمل معنيين، وتردد بينهما، هل حقيقة في أحدهما مجاز في الآخر؟ أو مشتركا بينهما ؟ (( حُمِل على المجاز )) في أحدهما، والحقيقة في الآخر. أي: يحمل على أنه مجاز في أحدهما، وحقيقة في الآخر.ولا يحمل على أنه مشترك. وذلك: كالنكاح. فإنه يحتمل أنه حقيقة في العقد، مجاز في الوطء. وأنه مشترك بينهما، أي: حقيقة فيهما. فيحمل حينئذ على أنه مجاز في الوطء، حقيقة في العقد. ولا يحمل على أنه مشترك بينهما. لأن المجاز أكثر وأغلب من الإشتراك. عُلم ذلك بالإستقراء. والظن يقضي بأن المفرد يلحق بالأغلب. ولأنه قد يكون أبلغ من الحقيقة. فإن قولك: اشتعل رأسي شيبا، أبلغ من قولك: شبت. ولأنه لا يخل بالفهم، إذ يحمل مع القرينة عليه. ومع عدمها على الحقيقة. بخلاف الإشتراك عند خفاء القرينة، فإنه لا يفهم منه شيء على التعيين. ولأن المجاز يكفي فيه قرينة واحدة. والمشترك لا بد فيه من قرينتين.
(( ويتميز المجاز من الحقيقة )) بأمور:
منها: أنه يتميز (( بعدم اطِّراده )) في كل ما يصلح له، كنخلة للرجل الطويل فقط. ولا يَطَّرِد في كل طويل، فلا يقال للجدار الطويل: نخلة. بخلاف الحقيقة. فإنها تَطَّرد في كل ما تصلح له .

(1/139)


(( و )) منها: (( صدقُ نفيه )). بخلاف الحقيقة. كما يقال للبليد: ليس بحمار.
ومنها: استعمال اللفظ مع القرينة. وهي إما:
مقالية. كقولك رأيت أسدا في يده سيف.
أو حالية. كأن يحمل على القوم رجل شجاع، فيقول أتاكم الأسد.
أو يستعمل اللفظ في المستحيل. كقوله تعالى : {واسأل القرية }.
(( وغير ذلك )) من قرائن المجاز.
وأما قرائن(1) الحقيقة وهي إما: سبق فهم جماعة من أهل اللغة إلى أحد المعنيين بدون قرينة. فإن هذا يدل على أن اللفظ حقيقة في ذلك المعنى.كما روي أن الرسول صلى الله عليه وآله وسلم لما سمع قول العباس بن مرداس :
أيقسم نهبي ونهب العبيد ... بين عُيَيَنة والأقرع
قال: اقطعوا لسانه. تجوزا في تسكيته بالعطاء. فتبادر إلى فهم بعضهم أن المراد القطع حقيقة. أي: بالسكين. وسبق الفهم إليه لعدم القرينة. فدل ذلك على: أن اللفظ حقيقة فيما سبق الفهم إليه. لأن السامع لو لم يعلم أن الواضع وضعه له، لم يسبق فهمه إليه دون غيره.
وأما تَعَرِّي اللفظ عن القرائن حيث سمعنا العرب يُعبِّرون بلفظ واحد عن معنيين، لكن لا يستعملونه مع أحدهما إلا بقرينة، ومع الآخر بغير قرينة، فيكون اللفظ في المعنى الآخر حقيقة. كلفظ الأسد، فإنه يُستعمل في الرجل الشجاع، وفي السبع المفترس. لكن في الرجل بقرينة، وفي السبع بغيرها .
وإما أن ينص إمام في اللغة: على أن هذا اللفظ حقيقة، أو مجاز. ونحو ذلك من القرائن كثير.
(( الباب الخامس ))من أبواب الكتاب (( في الأمر والنهي )).
أما (( الأمر )) فالصحيح أنه حقيقة في الصيغة المخصوصة. لسبق الفهم عند إطلاقه إلى ذلك من دون قرينة.
وهي (( قول القائل لغيره: افعل، أو نحوه، على جهة الإستعلاء، مريدا لما تناوله )). قوله: افعل أو نحوه. فصلٌ يخرج النهي. ونحو افعل: لِيَفْعل ولأ فعل، واسم الفعل بمعناه نحو: تَرَاكِ .
__________
(1) _ صواب العبارة:خوآص.

(1/140)


وقد يأتي بصيغة الخبر، كقوله تعالى: {والوالدات يرضعن }.أي: ليرضعن .كما يأتي الخبر بصيغة الأمر، كقوله صلى الله عليه وآله وسلم: ( إذا لم تستحِ فاصنع ما شئت ).أي: صنعت. ونحو ذلك .
وقوله: على جهة الاستعلاء. ليخرج ما كان على جهة التسفل. وهو الدعاء. نحو : اللهم اغفر لي. وما كان على جهة التساوي، وهو الإلتماس. كقولك لمن يساويك رتبة: افعل كذا.
ومنهم من يشترط العلو. ومنهم من لم يشترطهما. والأول: هو المختار. والفرق بين العلو والإستعلاء أن العلو هو أن يكون الطالب أعلا مرتبة من المطلوب منه. فإن تساويا فالتماس. أو كان الطالب دون المطلوب فهو دعاء. والإستعلاء: هو الطلب لا على جهة التذلل، بل بغلظة ورفع صوت. وحاصله: أن العلو صفة المتكلم. والإستعلاء صفة الكلام. وقوله: مريدا لما تناولته. أي: الصيغة. ليخرج التهديد. نحو { اعملوا ما شئتم } .
(( والمختار )) عند الأكثر من العلماء (( أنه )) أي: الأمر
(( للوجوب )). أي: حقيقة فيه (( لغة وشرعا )) .
أما في اللغة فذاك. (( لمبادرة العقلاء )) من أهل اللغة (( إلى ذم عبد لم يمتثل أمر سيده )). وهم لا يذمون على ترك فعل، إلا والفعل واجب. فلو لا أنه حقيقة للوجوب لما فهموا ذلك منه، وتبادروا إليه. وكذلك فإنهم يصفون كل مأمور لم يفعل ما أُمر به بأنه عاص. ولا يوصف بالعصيان إلا من خالف ما حُتم عليه. ومن ذلك قول معاوية لعنه الله يخاطب مملوكه :
أمرتك أمرا حازما فعصيتني ……………..
(( و )) أما في الشرع فذلك (( لاستدلال السلف )) الماضين من الصحابة، والتابعين، وغيرهم، (( بظواهر )) صيغ (( الأوامر )). مطلقة مجردة عن القرائن، (( على الوجوب )). وتكرر ذلك وشاع وذاع، ولم ينكر عليهم أحد، وإلا لنقل. وذلك يوجب العلم باتفاقهم على ما اخترناه، كالقول الصريح .من ذلك حملهم قوله صلى الله عليه وآله وسلم في المجوس: ( سنوا بهم سنة أهل الكتاب ) .

(1/141)


وقوله في ناسي الصلاة: ( فليصلها إذا ذكرها ).
وقوله في ولوغ الكلب: ( فليغسله ).
ونظائر ذلك كثير. ولا يقال: إن السلف كما حملوا الأمر على الوجوب، حملوه أيضا على الندب. ونقل ذلك عنهم، كما نقل الحمل على الوجوب. وحملوه أيضا على الإباحة. فلا يصح هذا الإستدلال. لأنا نقول: إنهم وإن حملوه على الندب، أو الإباحة، ونقل عنهم ذلك، فإنه نقل عنهم أنهم إنما حكموا بذلك لقرائن أظهروها عند الإستدلال، تدل على ذلك. بخلاف الوجوب، فلم ينقل عنهم أنهم افتقروا إلى قرينة في حمل الأمر عليه، فصح ما قلنا. والله أعلم.
(( وقد ترد صيغته )) أي: الأمر، وهي افعل (( للندب، والإباحة، والتهديد، وغيرها، مجازا )). والمجاز لا بد فيه من علاقة. وسنذكرها في سياق الأمثلة إن شاء الله تعالى .
أما الندب. فذلك قوله تعالى: {فكاتبوهم إن علمتم فيهم خيرا }.
ومن الندب: التأديب. كقوله صلى الله عليه وآله وسلم: ( كل مما يليك ) . فالأدب مندوب إليه. والعلاقة بين الندب والوجوب، مشابهة معنوية، وهي الإشتراك في الطلب .
وأما الإباحة. فكقوله تعالى : {كلوا من الطيبات }.
قيل : وأما قوله تعالى : {كلوا واشربوا }فلا يكون للإباحة. لأن الأكل والشرب واجبان لإحياء النفس.
واعلم أنه يجب أن تكون الإباحة معلومة من غير الأمر، ليكون قرينة لحمله على الإباحة، كما وقع في إباحة الأكل من الطيبات. والعلاقة هنا هي الأذن، وهي مشابهة معنوية. فاستعمال صيغة الأمر في هذين استعارة، لأن العلاقة هي المشابهة كما ترى .
وأما التهديد: فكقوله تعالى: {اعملوا ما شئتم }.فليس المراد الأمر بكل عمل شاءوا. وذلك ظاهر، بل المراد التخويف، والتهديد، وهو أعم من الإنذار. لأنه إبلاغ مع التخويف. مثاله قوله تعالى: {قل تمتعوا }. والعلاقة بين التهديد والإيجاب، هي المضآدة. لأن الشيء المهدد عليه، إما حرام، أو مكروه. بخلاف الواجب. فيكون مجازا مرسلا. قوله: وغيرها. أي: غير هذه الثلاثة. وذلك:

(1/142)


كالتسوية. نحو قوله تعالى: {اصبروا ولا تصبروا سواء عليكم }.أي: الصبر وعدمه سواء. والفرق بين التسوية والإباحة، أن المخاطب في الإباحة كأنه توهم كون الفعل محظورا عليه، فأذن له فيه مع عدم الحرج في تركه. وفي التسوية كأنه توهم أن أحد الطرفين من الفعل والترك أرجح له، فرفع هذا الوهم بالتسوية بنيهما. وعلاقة التسوية هي المضآدة أيضا. لأن التسوية بين الفعل والترك، مضآدة لوجوب الفعل.
والدعاء. كقول القائل: اللهم اغفر لي. وهو طلب الفعل على سبيل التضرع. والعلاقة فيه هي الطلب.
والتعجيز. كقوله تعالى : {فأتوا بسورة من مثله }. فليس المراد طلب إتيانهم بسورة من مثله لكونه محالا. والعلاقة بينه وبين الإيجاب، هي المضآدة. لأن التعجيز إنما هو في الممتنعات، والإيجاب في الممكنات.
والتسخير. كقوله تعالى : {كونوا قردة خاسئين }.فليس المراد أن يطلب منهم ذلك، لعدم قدرتهم عليه. لكن في التسخير يحصل الفعل _ أعني _ كونهم قردة. بخلاف الإهانة. ومعنى التسخير. الإنتقال إلى حالة ممتهنة. لأن التسخير لغة: هو الذل والإمتهان في العمل. ومنه قوله تعالى : {سبحان الذي سخر لنا هذا }.أي: ذللّه وأهانه لِنَركَبَه. والعلاقة فيه مشابهة معنوية، وهو التحتم في وقوعه، وفي فعل الواجب. والإهانة. كقوله تعالى: { قل كونوا حجارة أو حديدا }.فليس الغرض طلب ذلك منهم، لعدم القدرة عليه. ولا يحصل منهم أيضا. بل المقصود قلة المبالاة بهم. والعلاقة فيه هي المضآدة. لأن الإيجاب على العباد تشريف لهم، لما فيه من رفع درجاتهم. بدليل قوله صلى الله عليه وآله وسلم: ( ما تقرب المتقربون بمثل أداء ما افترضت عليهم ).
أو كما قال.
والإلتماس. كقولك لمن يساويك رتبة: افعل كذا .
والعلاقة فيه هي الطلب. ونحو ذلك كثير، مما يرد بصيغة الأمر ولم يرد به الوجوب.

(1/143)


هذا واعلم: أن الأمر إن ورد مقيدا بالمرة حمل عليها، وإن ورد مقيدا بالتكرار حمل عليه، وكذا الفور، والتراخي. لأن ذلك قرينة دآلة عليها. وإن ورد مطلقا. أي: غير مقيد بشيء من هذه القيود، فقد اختلف فيه من جهتين :
إحداهما: هل يدل على المرة؟ أو على التكرار ؟
فقيل: يدل على المرة.
وقيل: يدل على التكرار مدة العمر. (( والمختار أنه لا يدل على المرة، ولا على التكرار )). بل يفيد طلب المآهية من غير إشعار بأيهما. إلا أنه لا يمكن إدخال تلك المآهية في الوجود بأقل من مرة واحدة . فصارت المرة من ضروريات المأمور به. فحينئذ يدل عليها من هذه الحيثية. فتأمل!
أما أنه لا يقتضي التكرار، فلأن المأمور يعد ممتثلا بمرة .وأما أنه لا يدل على المرة فلأنه لو ورد مقيدا بها لكان تكرارا. ولو ورد مقيدا بالمرات لكان نقضا لما دل عليه الأمر.
وأما إذا ورد مقيدا بشرط، كقوله تعالى: {وإن كنتم جنبا فاطهروا }. أو بصفة، كقوله تعالى: {والسارق والسارقة فاقطعوا أيديهما} فهل يتكرر المأمور به عند تكرر شرطه، أو صفته ؟ من قال بذلك في الأمر المطلق، قال به هنا. ومن قال إنه لا يدل على ذلك، فقد اختلفوا على ثلاثة مذاهب:
فقيل: لا يقتضيه لا من جهة اللفظ ولا من جهة القياس .
وقيل: يقتضيه من جهة اللفظ. أي: هذا اللفظ قد وضع للتكرار .
وقيل: _ وهو المختار _ إنه لا يقتضيه لفظا، ويقتضيه من جهة القياس.
أما أنه لا يدل عليه من جهة اللفظ فلأنه لو قال: طلقها إن دخلت الدار.لم يلزم تكرر الطلاق بتكرر الدخول. بل يعد ممتثلا بمرة. وذلك معلوم لغة وشرعا.ولو كان يقتضيه لتكرر. كما لو قال: كلما.
وأما أنه يقتضيه قياسا. فلأن ترتب الحكم على الشرط أو الصفة، يفيد كونهما علة لذلك الحكم. فيتكرر الحكم بتكرر علته.كما مر في القياس.
الثانية: هل يدل على الفور أو على التراخي ؟
فمن قال: بالتكرار، قال بالفور . ومن لم يقل به فقد اختلفوا:
فقيل: يفيد الفور. أي: وجوبا.

(1/144)


وقيل: إنه يفيد التراخي. أي : جوازا .
(( و )) المختار أنه (( لا )) يدل أيضا (( على الفور ولا )) على
(( التراخي )). بل يدل على طلب الفعل. (( وإنما يرجع في ذلك )) أي: في المرة، والتكرار، والفور، والتراخي، (( إلى ا لقرائن )) الدآلة عليها .إما على المرة. كما في الحج . وإما على التكرار. كما في الصلاة، والزكاة، والصيام .
(( و )) المختار أيضا (( أنه )) أي: الأمر إذا كان بفرض مؤقت بوقت معين (( لا يستلزم )) وجوب (( القضاء ))، ولا الأداء فيما بعد ذلك الوقت، إذا لم يفعل فيه. (( وإنما يعلم ذلك )) أي: وجوب القضاء (( بدليل آخر ))، غير الأمر. كقوله تعالى: {فعدة من أيام أخر}. وقوله صلى الله عليه وآله وسلم: ( من نام عن صلاته أو نسيها فليصلها إذا ذكرها ).
وذلك: لأنا نعلم أن حكم ما بعد الوقت حكم ما قبله. فكما لا يجب الفعل قبل الوقت إلا بدليل كذلك بعده. إذ الشرائع مصالح ولا يمتنع أن يعلم الله تعالى أن المصلحة في الفعل في وقت بعينه، دون ما قبله وما بعده. وأيضا فإن الموقت بوقت كالمعلق بمكان، فكما أن المعلق بمكان لا يقتضي الفعل في غير ذلك المكان، كذلك هذا. كما إذا قيل للعبد: اضرب زيدا في الدار. لم يلزمه ضربه في غيرها. إذا لم يفعل فيها. والله أعلم.
(( وتَكريره )) أي: الأمر (( بحرف العطف )) نحو: صل ركعتين وصل ركعتين، (( يقتضي تكرار المأمور به )).بحسب تكرار الأمر
(( اتفاقا )) بين العلماء، إذ لو لم يقتضه لكان الثاني تأكيدا للأول. ولم يعهد التأكيد بواو العطف عن العرب! أو ينقل. فإن ورد في المعطوف ما يقتضي التأكيد، كالتعريف نحو: صل ركعتين وصل الركعتين. أو غيره نحو: اقتل زيدا، واقتل زيدا. وقع التعارض بين العطف المقتضي للتكرار، والقرينة المانعة منه المناسبة للتأكيد. فيرجع حينئذ إلى الترجيح بينهما. فإن ثم مرجح رُجِعَ إليه، وإلا وجب الوقف.

(1/145)


(( وكذا )) إذا تكرر الأمر (( بغير )) حرف (( عطف )). نحو: صل ركعتين صل ركعتين. فإنه(1) يقتضي تكرار المأمور به. (( على )) القول (( المختار )). لأن فائدة التأسيس _ وهي أن يقتضي التكرار إيجابا آخر _ أظهر من فائدة التأكيد للأول. وهي نفي توهم التجوز. ولذا يقال: الإفادة خير من الإعادة. ولأنه إذا انفرد كل واحد منهما اقتضى مطلوبا، فكذا إذا اجتمعا. لأن ذلك مقتضى أصل الأمر. والله أعلم.
(( إلا لقرينة )) تمنع من ذلك، (( من تعريف )) الثاني. نحو: صل ركعتين صل الركعتي.ن فإن التعريف حينئذ للعهد الخارجي. فيكون عبارة عن الأول. لأن إعادة المُنَكَّر معرفةً تقتضي الإتحاد. فهو من باب وضع الظاهر موضع المضمر. فكأنه قيل: صلهما.
(( أو غيره )) من القرائن المقتضية أن الثاني عبارة عن الأول:
كعادة، نحو: اسقني ماء اسقني ماء. فإن العادة قاضية بأن مراده يسقيه ماء يزيل به العطش. وذلك يحصل بمرة.
أو إشارة، نحو: صم هذا اليوم صم هذا اليوم. فإن ذلك كله يقتضي أن الثاني تأكيد للأول. فلا يقتضي الأمر التكرار حينئذ. والله أعلم.
(( وإذا ورد الأمر )) بشيء (( مطلقا، أي: غير مشروط )) بما لا يتم إلا به. (( وجب تحصيل المأمور به )). (( و )) ويجب أيضا تحصيل (( ما لا يتم إلا به )). (( حيث كان )) ما لا يتم المأمور به إلا به، (( مقدورا للمأمور )).
قوله: مطلقا. أي: غير مشروط. يحترز من أن يرد الأمر مشروطا بما لا يتم إلا به، نحو قوله: اصعد السطح إن كان السلم منصوبا. فإنه لا يجب عليه الصعود إلا حيث وجده منصوبا. ولا يجب عليه تحصيل ما لا يتم الصعود إلا به _ أعني _ نصب السلم. لأن الآمر لم يوجب عليه الصعود إلا حيث وجده منصوبا لا غير.
__________
(1) -في نسخة:في أنه.

(1/146)


وقوله: وكان مقدورا للمأمور. احتراز مما لا يدخل تحت قدرة المكلف. نحو: تحصيل القَدَم للقيام. وكذلك القدرة. فإن الواجب وإن لم يتم إلا بها فليس يجب تحصيلها، إذ ليست داخلة في مقدور المكلف. وكذلك أساب الوجوب، كالوقت للصلاة، وشروطه كالتكليف، فإنه لا يجب تحصيلها، وإن كان الواجب لا يتم إلا بها. فإذا حصلت هذه الشروط، وجب حينئذ تحصيل ما لا يتم الواجب إلا به. سواء جعله الشارع شرطا للفعل _ وإن كان يُتصور وجوده بدونه كالطهارة للصلاة _ أو لم يجعله شرطا. لكنه يلزم فعله عقلا، كترك الأضداد في الواجب، وفعل ضد في المحرم.
أو عادة: كإدخال جزء من الرأس في غسل كل الوجه، وجزء من الساق في ستر كل الركبة، وجزء من الليل في الصيام. وإنما وجب ذلك لأنه يجب تحصيل ما أمر به الحكيم على أكمل حال. وهذا يقتضي وجوب تحصيل ما لا يتم إلا به. لأنا نعلم قطعا أنا لا نتمكن من الخروج عن عهدة الأمر إلا بذلك الذي يتوقف عليه. وهذا يقتضي وجوبه قطعا، إذ لو لم يجب لكان الآمر كأنه قال: افعل كذا حتما. وأنت مخير في فعل ما لا يتم إلا به. وهذا يستلزم تكليف ما لا يطاق، أو نقض الحتم. وهو لا يصدر من حكيم. فاستلزم ذلك أن الأمر بالشيء أمر بما لا يتم إلا به. فهذا هو المختار عند الأكثر.
وقيل: إن الأمر بالشيء لا يقتضي وجوب ما لا يتم به مطلقا. أي: سواء كان شرطا، أو غير شرط .
وقيل: يجب بالأمر مطلقا.قيل(1) ولا خفاء في أن وجوب الشرط الشرعي للواجب معلوم قطعا. إذ لا معنى لشرطيته سوى حكم الشارع أنه يجب الإتيان به عند الإتيان بذلك الواجب. فلا نزاع في ذلك، وإنما النزاع في أن الأمر بالشيء هل يكون أمرا بما لا يتم به وإيجابا له أم لا ؟ والله أعلم.
__________
(1) _ كلمة (قيل) محذوفة في نسخة.

(1/147)


(( والصحيح )) عند الأكثر (( أن الأمر بالشيء ليس نهيا عن ضده )). لا في المعنى _ لتغاير المفهومين، فإن مفهوم الأمر مضاف إلى شئ والنهي إلى ضده _ ولا في اللفظ. لأن صيغة الأمر: افعل، وصيغة النهي: لا تفعل.
ومنهم من قال: الشيء المعين إذا أمر به كان ذلك الأمر نفس النهي عن ضده. مثلا إذا قال: تحرك فإن ذلك بعينه نهي عن السكون. لأن فعل الحركة، هو عين ترك السكون.
قيل: وهذا الخلاف يعود إلى الفعل المأمور به، هل يسمى تركا لضده؟ أو يسمى طلبه نهيا عن ضده؟ فحينئذ يكون لفظيا والله أعلم.
(( ولا العكس )). وهو: أن النهي عن الشيء ليس أمرا بضده. والخلاف فيه كالأول.
(( فصل )) (( والنهي قول القائل لغيره: لا تفعل ))
أو نحوه (( على جهة الإستعلاء كارها )) ذلك القائل (( لما تناوله النهي )). وهذه القيود كلها قد عرفت في حد الأمر، فلا حاجة إلى إعادتها. ونحو: لا تفعل. حرمت عليك. ونهيتك. ونحو ذلك .
(( و )) النهي (( يقتضي مطلقه الدوام )) على ترك المنهي عنه. وذلك لأن المطلوب بالنهي مع الإطلاق، أن لا يكون للمنهي عنه حالة وجود في جميع الأحوال. لأن لا تفعل كذا بمثابة كف عن هذا الفعل. ولا معنى للكف عنه إلا أنه لا يوجده، فإذا أوجده في حال فقد خالف ولم يمتثل للنهي. بخلاف الأمر، فإن المطلوب به ثبوت المأمور به وإيجاده. فمتى وجد فقد امتثل. فتأمل! والله أعلم .
(( لا مقيدة )) بشرط أو وقت، أو نحوهما نحو: لا تفتح بابك إن لم يكن عندك أحد، أو ليلا. فإن هذا لا يدل على دوام ترك المنهي عنه. بل لا يدل إلا على مرة واحدة. فيمتثل بالترك مرة عند حصول القيد. وهذه المرة تتعين في أول أحوال وجود القيد .
وقيل: بل المقيد أيضا يقتضي الدوام كالمطلق، وهذا هو الأقرب.لأنه قد ثبت اقتضاؤه للتكرار مع الإطلاق، ومع التقييد أظهر.
ألا ترى أنه قال بالتكرار في الأمر المقيد بمثل ذلك، مَن لم يقل به في الأمر. كما تقدم.

(1/148)


(( و يدل )) النهي (( على قبح المنهي عنه )). فيكون حينئذ حقيقة في الحظر دون الكراهية. (( لإفساده )). أي: المنهي عنه. لأن معنى الفساد في الشيء: عدم ترتب ثمراته وآثاره عليه. والمعلوم أن المنهي عنه قد تترتب ثمراته وآثاره عليه. وذلك: كطلاق البدعة، فإنه منهي عنه، وثمرته وهي انفساخ النكاح واقعة. ولو كان يقتضي الفساد لما وقعت. وكذا البيع وقت النداء للجمعة فإنه منهي عنه، وثمرته هي
اقتضاء الملك حاصلة. (( على المختار فيهما )). أي: في الطرفين جميعا، وهما كون مطلقه يقتضي الدوام، لا مقيده. وكونه يدل على قبح المنهي عنه لإفساده. والله أعلم.
(( الباب السادس )) من أبواب الكتاب (( في العموم والخصوص والإ طلاق والتقييد ))
العموم: مصدر عَمَّ يَعُمُّ عموما. أي: شمل.
والخصوص: مصدر خص يخص. وهو خلاف العموم. واسم الفاعل منهما: عام، وخاص.
(( العام هو: اللفظ المستغرِق لما يصلح له من دون تعيين مدلوله ولا عدده)). قوله: اللفظ. جنس الحد. قيل: ولو قال: الكلمة. لكان أولى. لأن اللفظ جنس بعيد للمحدود. لأنه لا يطلق على المهمل والمستعمل، والمفرد، والمركب. بخلاف الكلمة. وقوله: المستغرق. خرج به ما لم يستغرق، كالنكرة في سياق الإثبات كرجل، ورجلين، ورجال. فإنها لا تستغرق جميع ما يصلح له .
إما في الخبر. نحو: جاءني رجل. فلا يعم .
وإما في الأمر. نحو: اضرب رجلا. فإنها تعم عموم البدل. أي: تصدق على كل واحد بدلا عن الآخر. وكذا إذا كانت النكرة عددا كعشرة، فإنها لا تستغرق جميع العشرات.
وقوله: لما يصلح له. احتراز عما لا يصلح له. فإن عدم استغراق اللفظ له، لم يمنع من كونه عاما. وذلك كَمَن. فإنها لا تستغرق إلا العقلاء. وعدم استغراقها لغير العقلاء لا يمنع من عمومها. والمراد بالصلاحية: أن يصدق عليه في اللغة .

(1/149)


وقوله: من دون تعيين مدلوله ولا عدده. ليخرج نحو: الرجال المعهودين، ونحو: عشرة. فإنهما وإن استغرقا ما يصلحان له، ولكن مع تعيين المدلول والعدد فليسا بعامين. ومنهم من زاد في الحد: بوضع واحد. وذلك ليدخل في المشترك إذا استغرق جميع أفراد معنى واحد، كالعين إذا أريد بها المبصرة، في قولك: رأيت العيون. فإنها تستغرق جميع ما يصلح له من هذا المعنى. وإن لم يستغرق غيره. لأن صلاحيتها له بوضع ثان، غير هذا الوضع. ويخرج به أيضا: المشترك. إذا استعمل في جميع حقائقه. فإنه يصدق أنه مستغرق لما يصلح له. وليس بعامٍّ. لتعدد الواضع. فتأمل! والله أعلم.
فهذا القيد يُدخل المشترك باعتبار، ويُخرجه باعتبار، كما ترى .
(( والخاص بخلافه )). وهو: اللفظ الذي لا يستغرق ما يصلح له.
(( والتخصيص: إخراج بعض ما تناوله العام )). أي: إخراجه عما يقتضيه ظاهر اللفظ من الإرادة والحكم، لا عن الحكم نفسه ولا عن الإرادة نفسها. فإن ذلك الفرد لم يدخل فيهما حتى يخرج، ولا عن الدلالة، فإن الدلالة هي كون اللفظ بحيث إذا أطلق فهم منه المعنى. وهذا حاصل مع التخصيص. هكذا ذكره بعض المحققين.
والمخصَّص _ بفتح الصاد _ هوالعام الذي أخرج عنه البعض. والمخصِّص _ بكسرها _ هو المخرِج _ بكسر الراء .
والمخرِج _ حقيقة _ هو إرادة المتكلم. وقد يطلق مجازا على الدآل على التخصيص، تسمية للدآل باسم المدلول .
(( وألفاظ العموم )) الموضوعة له، التي لا يُفهم منها عند الإطلاق سواه كثيرة منها:
(( كل، وجميع )). وهما يستعملان في كل شئ سواء كان من أولي العلم، أو من غيرهم .
(( و )) منها: (( أسماء الإستفهام، والشرط )).
نحو: مَن. للعقلاء.
وما. لغيرهم في الأغلب.
وأي. لهما.
وأين، وأنَّى. للمكان.
ومتى، وأيان. في الزمان.
وهذه تستعمل في الإستفهام، والشرط جميعا .
(( و )) منها: (( النكرة المنفية )) بما، ونحوها من حروف

(1/150)


النفي.نحو: ما من رجل. ولا رجل. فإنها في سياق النفي تفيد العموم.
(( و )) منها: (( الجمع المضاف )). نحو عبيدي، وعبيد زيد،
في قولك: أكرم عبيدي، أو عبيد زيد. بخلاف غير المضاف إذا لم يُعَرَّف. نحو: أكرم عبيدا. فإنه ليس بعآمٍّ، لأنه كرجل. فكما أن رجلا لا يعم إلا عموم البدل، في قولك: اضرب رجلا. كذلك رجل، وعبيد، لا يعم إلا عموم البدل .
(( و )) منها: (( الموصول الجنسي )).أي: الذي يراد به
الجنس. نحو: الذي يأتيني فله درهم. لا الذي يراد به العهد بأقسامه. لأن حكم الموصول، حكم المعَرَّف باللام في أقسامه .
(( و )) منها: (( المُعَرَّف بلام الجنس )) الذي يراد به
الإستغراق. (( مفردا )) كان ذلك المعرَّف، مثل: { إن الإنسان لفي خسر } . { والسارق والسارقة } فهذه تعم المفردات.
(( أو جمعا )). نحو: العبيد، والرجال، والأفراس، والناس. وهذه تعم الجموع، لأن اللام تفيد العموم فيما دخلت عليه. فإن دخلت على مفرد أفادت العموم في الأفراد. وإن دخلت على جمع أفادته في الجموع. وفائدة هذا أنه يتعذر الإستدلال به في حال النفي والنهي، على ثبوت حكمه لفرد. لأنه إنما حصل النفي والنهي عن أفراد الجموع، والواحد ليس بجمع. وهذا معنى قولهم: لا يلزم من نفي المجموع نفي كل فرد. ولا من النهي عنه النهي عن كل فرد.
(( والمختار )) عند الأكثر من العلماء (( أن المتكلم )) إذا خاطب المكلفين بخطاب هو داخل في عموم متعلق خطابه، وهو الحكم الذي ورد فيه الكلام.فإنه حينئذ (( يدخل في عموم )) متعلق (( خطابه )). لتناول صيغة الخطاب له بحسب اللغة، سواء كان الخطاب أمرا، مثل: من أحسن إليك فأكرمه. فالمتكلم داخل في عموم الإكرام. أو نهيا، مثل: من أحسن إليك فلا تهنه. أو خبرا، مثل: {والله بكل شيء عليم}. ونحو ذلك. فوجب أن يتناوله في التركيب.

(1/151)


ومنهم من قال: لا يدخل. بقرينة كونه متكلما. وأيضا يلزم في قوله تعالى: {خالق كل شيء}. والصحيح الأول لما ذكرنا من أن اللفظ يتناوله، ولا يمنع من ذلك كونه متكلما .
وأما قوله تعالى : {خالق كل شيء }فمخصَّصٌ بالعقل .
قلت: ومما يدل على أن المتكلم يدخل في عموم كلامه، قوله تعالى:
{ كل شيء هالك إلا وجهه }.إذ لو لم يدخل لما صح الإستثناء. ولا يستقيم جعل إلا بمعنى: غير. في ذلك. ولا جعل الإستثناء منقطعا. وذلك ظاهر. فتأمل! والله أعلم .
(( و )) المختار (( أن مجيء العام للمدح، أو الذم لا يبطل عمومه )). بل يبقى كذلك، فيثبت الحكم في جميع متناولاته. مثاله قوله تعالى: {إن الأبرار لفي نعيم، وإن الفجار لفي جحيم}. {والذين يكنزون الذهب والفضة ...}الآية. فيعم ذلك كل ذهب وفضة، في وجوب الزكاة. ونقل عن الشافعي: خلاف ذلك. حتى قال بعض أصحابه: إن الذهب والفضة ليس عاما، فلا يدخل فيه الحلي حتى تجب الزكاة. بناء على أن سَوقَ الكلام في قوله تعالى: {الذين يكنزون ...}الآية، للذم. لا لإيجاب الزكاة في كل ذهب وفضة .
قلنا: هو عامٌ بصيغته وضعا، ولا منافاة بين المدح والذم، وبين التعميم. فوجب التعميم .
(( و )) المختار أيضا (( أن نحو )) قول القائل: والله (( لا أكلتُ ))، ومثله: إن أكلت. (( عامٌ في )) مفعولاته، التي هي (( المأكولات ))، وغيرها. لأنه نكرة في سياق النفي، أو الشرط. فيكون عاما لكل مأكول. ولا يختص بنوع دون نوع. وإذا كان كذلك كان كألفاظ العموم. (( فيصح تخصيصه )) بأن ينوي شيئا معينا لو زمانا، أو مكانا معينا، أو يستثني ذلك. فإذا قال: أردت أني لا أكلت التمر، أو في زمان كذا، أو في مكان كذا، أو إلا التمر. لم يَحنَث .
وقيل: لا يصح تخصيصه بما ذكر. إذ هو لحقيقة الفعل من غير نسبة إلى شيء. والحقيقة الذهنية لا يدخلها زيادة ولا نقصان. فلا يصح تخصيصها .

(1/152)


قلنا: نعم. ولكن نفي الحقيقة إنما يتحقق بالنسبة إلى كل مأكول. ولذا يحنث بأي أكل اتفاقا. وهذا معنى العموم. فوجب قبوله التخصيصَ كسائر العموميات. والله أعلم.
واعلم أن منشأ الخلاف: أن يكون فعلا متعديا لم يُقَيَّد بشيء، واقعا بعد النفي، أو الشرط. كما صُوِّر في الكتاب.
(( و ))المختار أيضا (( أنه يحرم العمل بالعام، قبل البحث عن مخصصه )). لأن المخصِّص في الشرع كثير. فيضعف ظن بقاء العموم على ظاهره . فقد قيل: ما من عموم إلا وقد دخله التخصيص. إلا قوله تعالى: { والله بكل شيء عليم }.وإذا كان كذلك، لم يحصل ظنٌ ببقاء العموم على ظاهره إلا بعد البحث، وإذا لم يحصل ظن لم يجز العمل به مع الشك. فيجب حينئذ على المطلع على العموم الوقف عن العمل به حتى يحصل البحث.
وقد قيل: إن هذا إجماع. ومنهم من نقل عن الصيرفي جوازَ العمل عند الإطلاع عليه حتى يوجد المخصص. وذكر بعض المحققين: أن خلاف الصيرفي إنما هو في اعتقاد عمومه. ثم إن ظهر له مخصص بعد، وجب تغيير ذلك الإعتقاد. والله أعلم.
نعم. وإذا وجب البحث عن المخصِّص كفى الباحث عنه إذا لم يجده ظن فقده، إذا كان ذلك بعد الإطلاع على ما يصح التخصيص به. فلا يجب التَّيَقُّن. إذ العلم بالعدم لا يُتصور. والله أعلم.
(( و )) كذلك المختار: (( أن )) ما وضع لخطاب المشافهة (( مثل: يا أيها الناس )). { يا أيها الذين آمنوا } .فهو خطاب للموجودين فقط. (( لا يدخل فيه من سيوجد )) بعدهم. (( إلا بدليل آخر ))، غير الخطاب. من إجماع، أو نص، أو قياس .
وأما بمجرد الصيغة فلا يدخل. وذهبت الحنابلة: إلى دخولهم في الخطاب مع الموجودين.
قلنا: المعلوم قطعا أنه لا يقال للمعدومين { يا أيها الناس } ونحوه. وإنكاره مكابرة. وأيضا فإنه لا يتناول الصبي والمجنون، إذ لا يخاطبون بمثل ذلك، لقصورهم عن الخطاب. وإذا لم يتناولهم مع وجودهم فالمعدومون أولى بأن لا يتناولهم. إذ تناوله لهم أبعد. والله أعلم.

(1/153)


(( و )) المختار: (( أن )) خطاب الذكور الذي يمتاز عن خطاب الإناث بعلامات كالمسلمين، وفعلوا، لا يدخل فيه الإناث. لإجماع أهل العربية على أن مثل ذلك جمع مذكر. إذ هو جمع مسلم، وفعل. ولا نزاع في أن مسلما، وفعل، وفاعلا، للمذكر خآصة. فكذلك جمعه .
وأما (( دخول النساء في عموم )) ذلك وما أشبهه، مثل: يا أيها (( الذين آمنوا. ونحوه )) فذلك إنما هو (( بنقل الشرع )) لدخولهن. لحمل الصحابة والتابعين من كان كذلك على الجنسين. وذلك دليل خارجي، ولا مانع من دخولهن به. ولذا لم يدخلن في الجهاد، والجمعة، في قوله تعالى: {وجاهدوا }.{فاسعوا}. لعدم الدليل الخارجي.
واعلم: أن الصيغة التي يصح إطلاقها على الذكور، قد توضع بحسب المآدة للذكور خآصة مثل الرجل. ولا نزاع في أنها لا تتناول النساء. وقد يوضع لما هو أعم مثل: الناس، ومَن، وما. ولا نزاع أيضا في أنها تتناولهن. وقد تكون بحسب المآدة موضوعة لهما، وبحسب الصيغة للمذكر، نحو مسلمين، وفعلوا. وهذا المتنازع فيه. ذكر معنى ذلك بعض المحققين.
(( أو بالتغليب )) عطف على قوله: بنقل الشرع. أي: دخول النساء في ذلك إما بنقل الشرع كما بيَّنا. أو بالتغليب للذكور على الإناث. لاشتراكهم في صفة الإيمان.
(( و )) كذا المختار: (( أن ذكر حكم لجملة لا يخصصه ذكره )) أي: ذكر الحكم مرة ثانية (( لبعضها )).يعني: إذا ورد بعد العام حكم لا يتأتى إلا في بعض أفراده، لم يكن تخصيصا لذلك العام. مثاله قوله تعالى: {يا أيها النبي إذا طلقتم النساء فطلقوهن لعدتهن }.ثم قال: {لا تدري لعل لله يحدث بعد ذلك أمرا}.يعني المراجعة. وهي لا تتأتى في البائن. فعُلم أن المراد الرجعي. والأول عام للرجعي، والبائن. فيبقى على عمومه، ولا يخصصه ذلك البعض. كذا ذكره بعض المحققين، في بيان هذه المسألة.

(1/154)


(( وكذا عود الضمير إلى بعض )) أفراد (( العام ))، لا يقتضي التخصيص. بمعنى: أنه إذا ورد عام وبعده ضمير يرجع إلى بعض ما تناوله العام، فإن عود الضمير إلى ذلك البعض لا يقتضي تخصيص العام. بل يبقى على عمومه. مثال ذلك: قوله تعالى: {والمطلقات يتربصن بأنفسهن ثلاثة قروء}. فهذا عام للرجعيات والبوآئن. ثم قال: { وبعولتهم أحق بردهن }.والضمير لا يعود إلا إلى الرجعيات فقط. لا إلى البوآئن، إذ الزوج لا يملك رجعتهن. فيبقى الأول على عمومه، ولا يخصصه عود الضمير إلى البعض. (( إذ لا تنافي بين ذلك )). أي: بين أن يُذكر بعد العام حكمٌ لا يأتي إلا في بعض أفراده، وبين بقاء العام على عمومه، ولا بين عود الضمير إلى بعض أفراد العام، وبين العام. فحينئذ يبقى العام على عمومه، (( في )) هاتين (( الصورتين )) جميعا. إذ يجوز أن يختص بعض مدلول العموم بحكم دون البعض الآخر. ولا تنافي في ذلك. والموجِب للتخصيص هو التنافي، أو ما يجري مجراه. فلا يُحمل على التخصيص إلا حيث يحصل ذلك. إذ يمتنع العمل بهما من كل وجه، فيصار إلى العلم بهما من وجه.
فمثال التنافي: اقتلوا المشركين، لا تقتلوا أهل الذمة.
ومثال ما يجري مجراه نحو: اقتلوا المشركين، اكرموا أهل الذمة. فتأمل! والله أعلم.
(( والمخصَّص )) _ بكسر الصاد _ للعام قد تقدم أن المخصص في الحقيقة هو إرادة المتكلم. وأنه يطلق _ مجازا _ على الدآل على الإرادة. وهو المراد هنا. فالمخصِّص بهذا المعنى قسمان:
(( متصل، ومنفصل )). لأنه إما أن يستقل بنفسه؟ أولا يستقل؟
إن استقل فهو المنفصل. وإن لم يستقل فهو المتصل. (( فا)) لمخصص (( المتصل )) خمسة أقسام (( هي )):
الأول: (( الإستثناء )). وهو قسمان:

(1/155)


متصل. وهو المخرِج من متعدد بإلا وأخواتها. مثل: قام القوم إلا زيدا. ومنقطع. وهو المذكور بعد إلا وأخواتها، غير مخرِج. مثل: قام القوم إلا حمارا. وتسميته مستثنى مجاز عند الأكثر، إذ لا يتبادر من لفظ المستثنى إلا المتصل.
واعلم أنه قد اختُلِف في تقرير الدلالة في الإستثناء في مثل قول القائل: عليَّ له عشرة إلا ثلاثة. لأنه يسبق إلى الذهن عند التلفظ به المناقضة، لأن قولك: عندي له عشرة إلا ثلاثة، إثبات للثلاثة في ضمن العشرة، ونفي لها صريحا. فتكون مثبتة منفية، وهو محال. وقد ورد في كلام الله تعالى الذي لا يأتيه الباطل من بين يديه، ولا من خلفه، فاحتيج إلى ذلك.
فقيل المراد بقوله: عشرة إلا ثلاثة، سبعة. ولفظ إلا قرينة تدل على ذلك، كالتخصيص بغير الإستثناء. فيكون غير داخل في المستثنى منه. وهذا غير مستقيم، للقطع بأن من قال: اشتريت الجارية إلا نصفها. لم يرد استثناء نصفها من نصفها. ولأنه كان يلزم أن يعود الضمير إلى نصف الجارية، في قوله: إلا نصفها. لأن المراد بالجارية ذلك. والمعلوم أنه للجاريةبكمالها، وإلا كان مستغرقا. وأيضا قد أجمع أهل اللغة على أن الإستثناء: إخراج، ولا إخراج إلا مع الدخول .
وقيل: بل قولنا: عشرة إلا ثلاثة بكمالها موضوع للسبعة. وكأن للسبعة اسمين، أحدهما سبعة، والآخر عشرة إلا ثلاثة. فلا دخول ولا إخراج حينئذ. وهذا القول ضعيف أيضا، لأن الإستثناء إخراج بالاتفاق. ولأنه خارج عن قانون اللغة. إذ لا اسم مركب من ثلاثة ألفاظ. ولا مُرَكَّب يعرب أوله، وهو غير مضاف. ولامتناع إعادة الضمير إلى بعض الاسم، في إلا نصفها .

(1/156)


وقيل: _ وهو الصحيح المندفع عنه ما على هذين القولين من الإشكال _ أن المراد بعشرة: عشرة باعتبار الأفراد. ثم أخرجت ثلاثة. والإسناد إنما حصل بعد الإخراج، فلم يسند إلا إلى سبعة. والله أعلم. فكأنه قال: العشرة المخرَج منها ثلاثة له عليَّ. فلا تناقض. فحصل من هذا أن الإستثناء على القول الأول: تخصيص. وعلى القول الثاني: ليس بتخصيص. وعلى القول الثالث: يحتمل.والأَول:ى أنه تخصيص. إذ لا يحتمل سواه .
(( و )) الثاني من المخصِّصات المتصلة (( الشرط )).وهو في اللغة: العلامة. ومنه اشراط الساعة. أي: علاماتها. وفي الشرع: ما يتوقف عليه تأثير المؤثر، لا وجوده .
قولنا: ما يتوقف عليه تأثير المؤثر. يدخل فيه علته، وجزء علته، وشرط علته .
وقولنا: لا وجوده. تخرج هذه. فإن التأثير والوجود كلاهما متوقفان عليها، بخلاف الشرط. فإن وجود المؤثر لا يتوقف عليه. بل إنما يتوقف عليه تأثيره فقط. كالإحصان فإنه شرط في الرجم، لتوقف تأثير الزنا فيه عليه. وأما وجود الزنا فلا يتوقف عليه، لأن البكر قد تزني.
واعلم: أن الشرط ثلاثة أقسام:
1_ شرعي. كما مثلنا.
2_ وعقلي. كما يقال: الحياة شرط في العلم.
3_ ولغوي. نحو:ا كرم الناس إن كانوا علماء. فقصر الشرط الإكرام على العلماء دون غيرهم. وهذا هو المراد هنا، وهو كالإستثناء فيما سيأتي من وجوب الإتصال. ومن أنه يأتي بعد الجُمَل المتعاقبة. ويعود إلى جميعها، إلا لقرينة. على الصحيح. كما يأتي.
(( و )) القسم الثالث من المخصِّصات المتصلة (( الصفة )). نحو: أكرم الرجال العلماء. فإن التقييد بالعلماء مخرِج لغيرهم. ويشترط فيها أيضا وجوب الإتصال. وإذا كانت بعد المتعدد عادت إلى جميعها. إلا لقرينة .
(( و )) القسم الرابع من المخصِّصات المتصلة (( الغاية )). وغاية الشيء: طرفه ومنتهاه. ولها الفظان:
أحدهما: إلى. مثل: {وأتموا الصيام إلى الليل }.

(1/157)


والثاني: حتى. نحو: {لا تقربوهن حتى يطهرن }. وما بعد الغاية مخالف لما قبلها في الحكم. لأن ما بعدها محكوم عليه بنقيض ما قبلها. لأنهما لو اتحدا في الحكم لم يكن الحكم منتهيا، ولا منقطعا. فلا تكون الغاية غاية. والله أعلم .
وأما إدخال جزء من الليل في الصوم، ووجوب غسل المرفق مع الساعد، فللإحتياط. فهي مخرِج لما بعدها من الحكم، ومخصصة له. وهي كالذي تقدم في وجوب الإتصال والعود إلى الجُمَل المتقدمة.
(( و )) القسم الخامس من المخصِّصات المتصلة (( بدل البعض )). كقولك: أكرم الناس قريشا. فإن ذكر قريش يقتضي تخصيص الناس بهم.
واعلم: أن المشهور من المخصِّصات المتصلة هي الأربعة الأُول.
وأما هذا فزاده المصنف تبعًا لابن الحاجب. فهذه أقسام المخصَّص المتصل. وأنت تعلم أن بعضها مخرِج للمذكور. كالإستثناء، والغاية. فإن في قولك: أكرم الناس إلا زيدا. {وأتموا الصيام إلى الليل} أخرجت زيدا، والليل من الحكم. وبعضها مخرِج لغير المذكور، كالثلاثة الباقية. فإن في قولك: أكرم الناس إن دخلوا الدار. وأكرم الناس العلماء. وأكرم الناس قريشا. أخرجت مَن لم يدخل في الدار، وغير العلماء، وغير قريش من الحكم. فتأمل!
(( والمختار )) عند أكثر العلماء (( أنه )) أي: الشأن (( لا يصح تراخي الإستثناء )) عن المستثني منه. بل لا بد من الإتصال لفظا.
(( إلا )) أن ينفصل عنه، ويتراخى (( قَدرَ تَنَفُّسٍ، أو بَلعِ ريقٍ ))، أو نحوهما، من سعال، أو تَفَكُّرٍ فيما يستثني، مما لا يعد معه منفصلا في العرف.
وقد روي عن ابن عباس رضي الله عنهما: جواز التراخي.
قيل إلى شهر.
وقيل : إلى سنة.
وقيل: أبدا .
وعن بعضهم: يجوز إلى أربعة أشهر .
وعن آخرين: في المجلس فقط.

(1/158)


والصحيح هو الأول. بدليل قوله صلى الله عليه وآله وسلم: ( من حلف على شيء فرأى غيره خيرا منه، فليأت الذي هو خير، ثم ليكفر عن يمينه ). معيَّنا، ولو كان يجوز تراخي الإستثناء لخُيِّر بينهما. لأن الإستثناء أسهل. فإذا لم يُعَيِّنه فلا أقل من أن يُخَيِّر بينهما. وأيضا لو جاز لم يقطع بمضمون جملة، من طلاق، وعتاق، وغيرهما. لجواز أن يرد عليها استثناء آت تصرفها عن ظاهرها. فتصيرها صادقة وإن كان ظاهرها الكذب. والعكس.وأيضا فإنا نعلم أن قائلا لو قال: عليَّ مائة. ثم قال بعد شهر: إلا عشرة. قطع بكذبه، وعُدَّ كلامه لغوا. والله أعلم.
واعلم: أنه لا خلاف في امتناع الإستثناء المستغرق، وأنه باطل. سواء كان مثل المستثنى منه، أو أكثر. ولا خلاف أيضا في جواز استثناء الأقل. أي: دون النصف، ويبقى فوق النصف.
واختلف في استثناء الأكثر حتى يبقى دون النصف؟ وفي استثناء المساوي حتى يبقى نصف المستثنى منه؟
(( و )) المختار عند الأكثر (( أنه يصح استثناء الأكثر )) حتى يبقى نصف المستثنى منه.وكذا المساوي.
ومنهم: من منع منهما.
لنا: وقوع ذلك. وأنه دليل الجواز.وذلك في قوله تعالى: { إن عبادي ليس لك عليهم سلطان إلا من اتبعك من الغاوين}. وهم أكثر من غيرهم. بدليل{وما أكثر الناس ولو حرصت بمؤمنين}. فدلت على أن الأكثر ليس بمؤمن، وكل من ليس بمؤمن غاوٍ. فالأكثر غاوٍ.

(1/159)


وفي قوله تعالى: { ومن البقر والغنم حرمنا عليهم شحومها إلا من حملت ظهورها}. يريد شحم الظهر والجنب، {أو الحوا يا}. يريد ما احتوت عليه من الشحم، وهي المباعر من الأمعاء، {أو ما اختلط بعظم}. وهو: شحم الإلية. فهذه جميعها مستثناة من الشحوم في أنها حلال لهم. وهي أكثر الشحوم كما ترى. وأيضا فإن العلماء قد أجمعوا على أن القائل لو قال: علي له عشرة إلا تسعة. لصح هذا الإستثناء، ولزم المقر درهم فحسب. وذلك دليل على جوازه لغة. وإلا لم يقع الإتفاق عليه عادة. ولذهب جماعة ولو قليلا إلى لزوم العشرة، لكون الإستثناء لغوا. كما في المستغرِق. وإذا جاز استثناء الأكثر فالمساوي بالأَولى .
(( و )) المختار أيضا (( أنه )) أي: الإستثناء (( من النفي إثبات )) لما استثني. نحو: ما عندي عشرة دراهم إلا درهما. فهو إثبات للدرهم. عند الأكثر، خلافا للحنفية. فإنه عندهم مخرَج مما قبله، غير محكوم عليه بالثبوت، لا لفظا ولا معنى .
أما اللفظ فلعدم ما يدل عليه على هذا التقدير.
وأما المعنى فلأن الأصل عدمه.
والدليل على ما ذهبنا إليه أن المعتمد في دلالة الألفاظ هو النقل عن أهل العربية، والمنقول عنهم أنه كذلك. وأيضا فلو لم يكن إثباتا لما كان قول القائل: لا إله إلا الله توحيدا. لأن معنى التوحيد: هو نفي الإلهية عما عدى الله تعالى، وإثباتها له. فإذا لم يدل هذا اللفظ على إثبات الإلهية لله تعالى، بل كان مسكوتا عنه، فات أحد شطري التوحيد.والمعلوم أنه توحيد. فثبت ما قلناه.
(( و )) كذا (( العكس )). وهو: أنه من الإثبات نفي.
قيل: وهو: اتفاق. لأنه عند الحنفية موافق لحكم الأصل. وهو براءة الذمة. والظاهر أنه ينتفي عندهم لهذا، لا للإستثناء. وعندنا للإستثناء. لنقل ذلك عن أهل العربية أيضا.
(( و )) المختار (( أنه )) أي: الإستثناء (( بعد الجُمَل المتعاطفة )) أي: المعطوف بعضها على بعض.
قيل: بالواو فقط.
وقيل: مطلقا. أي: الواو وغيره.

(1/160)


وقيل: بل الأَولى أن يفصل. ففي بل ولا ولكن لايرجع إلى الجميع. وسائر حروف العطف كالواو. فإذا عرفت هذا فلا نزاع في أنه يمكن أن يرجع إلى الجميع، وإلى الأخيرة. وإنما الخلاف في الظهور.
(( و )) المختار عند الأكثر أنه ظاهر في أنه (( يعود إلى جميعها، فيحمل )) على أنه استثناء من كل واحدة منها. (( إلا لقرينة )) تصرف عنه، وتقتضي العود إلى بعضها. مثاله قول تعالى: { والذين يرمون المحصنات ثم لم يأتوا بأربعة شهداء فاجلدوهم ثمانين جلدة ولا تقبلوا لهم شهادة أبدا وأولئك هم الفاسقون إلا الذين تابوا}. فهذا الإستثناء وقع بعد ثلاث جُمَل:
الأولى: أمرية.
والثانية: نهيية.
والثالثة: خبرية.
فيعود إلى جميعها. فلا يحكم بفسق التائب، وتقبل شهادته. وكان القياس سقوط الحد. لكنه حق لآدمي فلا يسقط إلا بإسقاطه. فلا يعود الإستثناء إليه لقيام القرينة.
وقيل: بل الظاهر رجوعه إلى التي تليه. فيخرج عن الفسق فقط. ويبقى الجلد، وعدم قبول الشهادة.
والدليل على ما ذهب إليه الجمهور: أن العطف يُصيِّرها كالجملة الواحدة. لأن العطف رابط، كما أن عطف المفردات الواقعة موقع الخبر للمبتدأ يصيرها بمنزلة اسم واحد. كما إذا قلت: اضرب الذين هم قتلة، وسرقة، وزناة، إلا من تاب. عاد الإستثناء إلى الجميع اتفاقا. لأنها بمنزلة خبر واحد. فكذلك الجُمَل في قولك: اضرب الذين قتلوا، وسرقوا، وزنوا، إلا من تاب. لعدم ما يصلح فارقا. والله أعلم.

(1/161)


نعم: فإن كان ثَمَّ قرينة تقتضي عود الإستثناء إلى البعض، وجب أن يعود إلى ذلك البعض فقط. كأن يحصل تنافٍ بين الجُمَل، أو إضراب عن أولها. مثال التنافي: اضرب بني تميم، والفقهاء هم أصحاب الشافعي، إلا أهل البلد الفلاني. فالجملتان متنافيتان، لاختلافهما في النوع. فيعود الإستثناء إلى التي تليه. إذ الجملة الأولى مستقلة بنفسها. لأنها من نوع آخر. ومثال الإضراب: اضرب بني تميم. ثُمَّ تُضرب عن هذا الكلام. وتقول: أكرم قريشا إلا الأشرار. فإن الإستثناء يعود إلى التي تليه فقط. فتأمل! والله أعلم.
ولما فرغ من بيان المخصِّص المتصل، شرع في بيان المخصِّص المنفصل فقال:
(( وأما المنفصل فهو )) الذي يستقل بنفسه (( الكتاب، والسنة )) بأقسامها. (( والإجماع، والقياس، والعقل، والمفهوم على القول به )). فهذه هي: المخصِّصات المنفصلة. وهي قسمان:
لفظي.
ومعنوي.
فاللفظي: الكتاب والأخبار.
والمعنوي: الإجماع، والقياس، والعقل، والفعل، والتقرير.
إما الكتاب والسنة. فقد اختلف في تخصيص بعضها ببعض
(( والمختار )) عند الأكثر من العلماء (( أنه يجوز تخصيص كل من الكتاب والسنة بمثله )). أي: يجوز تخصيص الكتاب بالكتاب. والسنة بالسنة .
أما الكتاب بالكتاب فقد قيل: إنه إجماع.
وقيل: بل منعه بعض الظاهرية.
لنا: وقوعه كثيرا. من ذلك قوله تعالى: { وأولات الأحمال أجلهن أن يضعن حملهن}. فإنه مخصِّص لقوله: { والذين يتوفون منكم ويذرون أزواجا يتربصن بأنفسهن أربعة أشهر وعشرا}. لأن هذا عام للحاملات وغيرهن، فخصَّص الحاملات بالأول. لأن عدتهن ليست بالأشهر فقط. بل بها مع الوضع. فأ يهما تقدم لم يحكم به. بل ينتظر الآخر. ونحو ذلك كثير. وأيضا قال تعالى: { تبيانا لكل شئ}. والقرآن شئ. والتخصيص نوع بيان. فيبين نفسه ولا مانع.

(1/162)


وأما السنة بالسنة فالمختار: أنه يجوز. إذ قد وقع، وهو دليل الجواز. وذلك قوله صلى الله عليه وآله وسلم: ( ليس فيما دون خمسة أوسق صدقة ) وقد خرج بالأول.
(( و )) كما يجوز تخصيص الكتاب بالكتاب، والسنة بالسنة، يجوز تخصيصها (( بسآئرها )). أي: بسائر المخصصات المنفصلة. فيجوز تخصيص الكتاب بالسنة، والإجماع، والقياس، والعقل، والمفهوم. وكذلك السنة.
أما تخصيص الكتاب بالسنة بأقسامها فذلك جائز. فإن كانت قولا متواترا جاز اتفاقا. وإن كان آحاديا جاز على المختار. بدليل وقوعه. فإن قوله تعالى: { وأحل لكم ما وراء ذلكم}. عام يدخل فيه جواز نكاح المرأة على عمتها، وخالتها. وقد أجمعت الصحابة على أنه مخصَّصٌ بقوله صلى الله عليه وآله وسلم: ( لا تنكح المرأة على عمتها، وخالتها ). وكذلك قوله تعالى: { يوصيكم الله في أولادكم}. فإنه يوجب الميراث للولد عموما، وقد أجمعوا على تخصيصه بقوله صلى الله عليه وآله وسلم: ( لا يرث القاتل، ولا الكافر المسلم ). ونحو ذلك. وإن كانت فعلا جاز أيضا. وذلك كرجمه صلى الله عليه وآله وسلم للمحصَن لقوله: { الزانية والزاني فاجلدوا}. وهذا على مذهب من يقول بسقوط الجلد.
وأما من لا يقول بسقوطه. فلا تخصيص. والله أعلم.
وأما تخصيص القرآن بالعقل، فذلك كما في قوله تعالى: { خالق كل شئ}. فإن العقل قاضٍ بخروجه تعالى عن هذا العموم. لاستحالة كونه مخلوقا. ونحو ذلك.
وأما تخصيص القرآن بالقياس، فإن كان جليا جاز التخصيص به، عند الأكثر. وذلك كما في قياس العبد على الأمة في تنصيف الجلد، بجامع المِلك. فإنه مخصِّص لقوله تعالى: { فاجلدوهم ثمانين جلدة}. وكذا إن كان خفيا، فإنه أيضا يُخصَّص به على الصحيح. مثل أن يعم قوله تعالى: { خذ من أموالهم صدقة}. المديون، وغيره. ثم يُخصَّص المديون. قياسا على الفقير.

(1/163)


وأما تخصيص القرآن بالإجماع، فالمختار أيضا: جوازه. مثل: إجماعهم على أن القريب إذا كان مملوكا لا يرث. فإنه مخصَّص لعموم آ ية المواريث. والتحقيق: أن التخصيص به، إنما هو لتضمنه نصا، هو المخصِّص في الحقيقة. إذ الإجماع متأخر. فتأمل!
وإنما جاز التخصيص في الحقيقة بما ذكر، لأن كل واحد منها دليل يجب العمل به. كما تبين في موضعه. فصح التخصيص بها، كما صح تخصيص الكتاب، بالكتاب وبالسنة. إذ لا فرق.
أما تخصيص السنة بالكتاب فهو أيضا جائز. بدليل قوله تعالى:
{ تبيانا لكل شيء}. فدخلت السنة. إذ هي شيء. والتخصيص نوع بيان.
وأما تخصيصها بالسنة فهو أيضا جائز. سواء كانت قولا، أو فعلا، أو تقريرا.
فالقول كما في قوله: ( فيما سقت السماء العشر ) .ثم قال: ( ليس فيما دون خمسة أوسق صدقة ).
والفعل مثل أن يقول: ( لا تستقبلوا القبلة ببول ولا غائط ). ثم يفعل ذلك من غير تراخٍ. فإن الفعل مخصِّص لعموم الأول. فلا يبقى على ظاهره.
وأما بالتقرير فمثل أن يقول: ( لا تستقبلوا القبلة ببول ولا غائط ). ثم يَرى من يفعل ذلك ويسكت. فإنه يكون مخصِّصا لذلك الفاعل. ثم يُحمل عليه غيره. إما بالقياس إن وجدت علة جامعة، أو بقوله: (حكمي على الواحد، حكمي على الجماعة ).
وأما تخصيصها بالإجماع فهو أيضا جائز. إذ هو دليل قطعي. كما تقدم.
قيل: ولا خلاف فيه.
وأما تخصيصها بالقياس فهو أيضا كذلك كما ذكر. مثل أن يقول الشارع: لا تبيعوا الموزون بالموزون تفاضلا . ثم يقول: بيعوا الحديد بالحديد كيف شئتم. فيقاس النحاس والرصاص عليه، بجامع الإنطباع. وذلك يحصل به تخصيص الأول.
وأما تخصيصها بالعقل فهو جائز أيضا _ على الصحيح _ كما إذا قال الشارع: الحج واجب على الناس. فإن العقل قاضٍ بخروج من لم يفهم الخطاب كالأطفال، والمجانين، من هذا العموم. وذلك تخصيص.

(1/164)


وأما تخصيص الكتاب والسنة بالمفهوم.فإن من قال به صح التخصيص به عنده. وسواء كان مفهوم موافقة، أو مفهوم مخالفة. كما إذا قيل في مفهوم المخالفة: في الغنم زكاة. فهذا عام للمعلوفة وغيرها. ثم يقول: في الغنم السائمة زكاة. فيدل بالمفهوم على أن ليس في المعلوفة زكاة. فيتخصص الأول.
وإنما مثل في المخالفة لأنه أضعف. ليثبت في الموافقة بطريق الأَولى.
(( والمتواتر )) من الكتاب والسنة يجوز تخصيصه (( بالآحادي )). وقد مر تحقيقه. فهذه جملة المخصِّصات المنفصلة _ على المختار _ وقد ذكر منها أمور غير هذه:
منها: عود الضمير إلى بعض العام.
ومنها: ذكر حكم لبعض جملة بعد ذكره لجميعها. وقد تقدم ذلك.
ومنها: السبب.
(( والمختار )) عند المحققين (( أنه لا يقصر العموم على سببه )). ولا يخصص به. بل يبقى العام على عمومه. بمعنى انه إذا بني عام على سبب خاص سواء كان ذلك السبب سؤآلا أم لا ؟ فهل يعتبر بعموم اللفظ؟ أو بخصوص السبب؟
المختار: أن المعتبر بعموم اللفظ لا بخصوص السبب. مثاله في السؤآل: قوله صلى الله عليه وآله وسلم وقد سئل عن بئر بضاعة: ( خلق الماء طهورا لا ينجسه إلا ما غيَّر لونه أو طعمه أو شمه ) .
ومثاله في غير السؤآل: قوله صلى الله عليه وآله وسلم حين مر بشاة ميمونة وهي ميتة: ( أيما إهاب دبغ فقد طهر ). فإنه في هاتين الصورتين يعتبر بعموم اللفظ. فيحكم بطهورية كل ماء لم يتغير أحد أوصافه. وطهور كل إهاب بالدباغ.
ومنهم: من اعتبر خصوص السبب. فيحكم بطهورية بئر بضاعة، وإهاب شاة ميمونة بذلك فقط. وهذا ضعيف. لأن الصحابة رضي الله عنهم عممت أكثر العموميات مع ورودها في أسباب خاصة.
*منها: آية اللعان. وهي نزلت في هلال بن أمية.
*ومنها: آية الظهار.وهي نزلت في سلمة بن صخر.

(1/165)


*ومنها: آية السرقة. وهي نزلت في سرقة المجن، أو رداء صفوان. على الخلاف. واحتمال كون تعدية الحكم في مثل هذه العموميات للعلم بذلك من ضرورة الدين لا للخطاب احتمال بعيد. لا يدفع الظهور. لاحتجاجهم بنفس الخطاب. والله أعلم.
وهذا الخلاف إذا كان العام مع قطع النظر عن السؤآل وافيا بالمقصود، ومستقلا بنفسه .
وأما إذا كان غير مستقل بدون السؤآل، فإنه تابع للسؤآل في عمومه وخصوصه اتفاقا. فإذا قال: هل يجوز الوضوء بماء البحر؟
فقال: نعم. كان عاما.
وإذا قال: هل يجوز لي الوضوء بماء البحر؟
فقال: نعم. كان خاصا . والله أعلم.
*ومنها: مذهب الراوي للعموم.
(( و )) المختار (( أنه لا يُخصَّص العام بمذهب راويه )). يعني : أن الصحابي إذا روى حديثا عاما وعمل بخلافه، فإن مذهبه لا يخصِّص. مثال: ما روي عن ابن عباس أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال: ( من بدَّل دينه فاقتلوه ). وكان يرى أن ذلك في حق الرجال دون النساء.
فهذا لا يخصص العموم عند الأكثر، بل يبقى على عمومه، فتقتل المرأة لدخولها في العموم.
وكذا إذا كان مذهبه ولم يكن الراوي.
*ومنهم من قال: بل يُخصَّص بمذهبه.
فبعضهم مطلقا. وبعضهم إذا كان هو الراوي للعموم.
والصحيح انه لا يخصص بمذهب الصحابي مطلقا. لأن العآم حجة. ومذهب الصحابي ليس بحجة. فلا يجوز تخصيصه به. وإلا لترك الدليل لغير دليل. وذلك لا يجوز. وكون مخالفته للعام يستدعي دليلا يُخَصَّص به، إنما هو في ظنه. وما ظنه المجتهد دليلا، لا يكون دليلا عند غيره. ما لم يعلمه بعينه، ويعلم وجه دلالته.
*ومنها: العادة.

(1/166)


(( و ))المختار عند الجمهور انه (( لا )) يخصص العام (( بالعادة )). يعني إذا ورد عام يتناول أنواعا من المتناولات، والمخاطبون إنما يعتادون نوعا واحدا مما يتناوله العام يأكلونه. فإنه لا ُيخصَّص ذلك العام بالعادة. بأن يكون المراد به ذلك النوع خآصة. مثل أن يقول: حرمت الربا في الطعام. فهذا عام يتناول البُرَّ، وغيره. والمفروض أن عادة المخاطبين يتناول البر فقط. فعند الجمهور أن حرمة الربا تعم كل مطعوم. لأن المعتبر تناول اللفظ.
وعند بعضهم: أن المعتبر تناول العادة. فيختص بالبر. والمختار هو الأول. لأن اللفظ عام لغة وعرفا.
أما في اللغة: فذلك ظاهر.
وأما في العرف: فلأن لفظ الطعام لم يطرأ عليه عرف ينقله. إذ المفروض أكلهم البر فقط.
ولفظ الطعام باقٍ على عمومه. فيجب العمل به حتى يدل دليل على تخصيصه. والأصل عدمه.
وأما إذا فرض أنه قد صار لفظ الطعام حقيقة عرفية في البر، كالدآبة لذات الأربع. فلا عموم فيه حينئذ.
*ومنها: إذا كان الخطاب مركبا من جملتين، إحداهما معطوفة على الأخرى، هل يجب إذا ظهر في الأولى شيء أن يضمر في الثانية إذا لم يظهر؟ أولا ؟ ثم إذا وجب ذلك وكان هذا المضمر في الجملة الثانية مخصَّصا بشيء، فهل يجب أن يكون المظهر في الجملة الأولى مخصصا بذلك الشيء ؟ أولا ؟
الذي عليه الجمهور: أن هذا ليس من المخصِّصات.
(( و )) أنه (( لا )) تخصيص لعموم ما أظهر في الجملة الأولى المعطوف عليها، (( بتقدير )) الذي خصص به (( ما أضمر في المعطوف )). وهو: ما أظهر (( مع العام المعطوف عليه )).

(1/167)


ومنهم: من يوجب التخصيص بذلك. مثال قوله صلى الله عليه وآله وسلم: ( ألا لا يُقتل مؤمن بكافر، ولا ذو عهد في عهده ) . فالتقدير عند من أوجب التخصيص هنا: ولا ذو عهد في عهده بكافر. وإنما قدرنا هنا بكافر لتزدوج الجملتان في الحكم. لأن حرف العطف يقتضي ذلك. ولما كان الكافر المعاهَد يُقتل بمثله، علمنا أن الكافر المنهي عن قتل المعاهد به في قولنا: ولا ذو عهد في عهده بكافر. هو الحربي. فيخصَّص بذلك. فيكون التقدير فيه: بكافر حربي. وإذا كان كذلك وجب أن يُقدَّر في المعطوف عليه: حربي أيضا. كما قُدِّر في المعطوف. فيخصَّص الكافر الأول به. لأن الثاني كذلك. فحينئذ يقتل المسلم بالذمي، لعموم قوله تعالى: { النفس بالنفس}. والمختار أن هذا لا يقتضي التخصيص. لأن الموجِب للعموم في المذكور، والمقدَّر متحقق. لوقوع النكرة في سياق النفي. والمخصِّص موجود في الثاني، وهو النص، والإجماع. دون الأول. فوجب القول بخصوص الثاني، لوجود مخصصه، دون الأول. لعدمه. فتأمل! والله أعلم.
(( و )) المختار عند المصنف (( أن العام بعد تخصيصه )) بأي المخصِّصات المتقدمة (( لا يصير مجازا فيما بقي )). داخلا في صيغة العموم بعد التخصيص. (( بل حقيقة )) فيه. وذلك لأن تناوله للباقي قبل التخصيص كان حقيقة. وذلك التناول باقٍ بعده، فكان حقيقة. والذي عليه أكثر العلماء أنه يصير مجازا في الباقي مطلقا. لأن الصيغة حقيقة في الإستغراق. فلو كانت حقيقة في البعض أيضا، لزم الإشتراك. وقد تقدم أنه إذا دار اللفظ بين المجاز والإشتراك حُمِل على المجاز. وأيضا فإنه لا يحمل على البعض إلا لقرينة، وهو علامة المجاز.
وأما ما ذكروه، فالجواب عنه: أنه إنما كان تناوله للباقي قبل التخصيص حقيقة، لدلالته عليه. وعلى سائر الأفراد لا عليه وحده. فتأمل!
وعند بعضهم: أنه إذا خُصِّص بمتصل، كالشرط والإستثناء، ونحوهما، فحقيقة. وإن خُصِّص بمنفصل كالكتاب والسنة، ونحوهما فمجاز.

(1/168)


(( و )) المختار عند المحققين: (( أنه يصح تخصيص الخبر )) كما يصح تخصيص الأمر والنهي.
ومنهم من منعه. لأنه يلزم منه الكذب. فلا يصح إلا في الإنشاءآت، كالأمر، والنهي. إذ لا تحتمل صدقا ولا كذبا. بخلاف الخبر، فهو يحتملهما. فإطلاق العموم فيه يقتضي الإخبار عن كل ما تناوله اللفظ. والتخصيص يُكَذِّب ذلك. فيلزم كذب أحدهما.
وأيضا فإنه ينفي فيصدق النفي، فلا يصدق هو. وإلا صدق النفي والإثبات معا. وهو محال. وإذا ثبت أنه كذب فلا يقع. لأن كلام الحكيم منزه عنه. والصحيح هو الأول. بدليل وقوعه كثيرا. نحو: {الله خالق كل شيء}. فإنه مخصَّص بالعقل. كما تقدم. ومثل: {وأوتيت من كل شيء }. وهو كذلك. لأنها لم تؤت من كثير الأشياء، أو أكثرها .
والجواب عما قالوا: المنع من ذلك. لأن الحكم إنما ثبت بعد التخصيص. كما تقدم في الإستثناء من أن الإسناد إنما يكون بعد الإخراج.
وأما الثاني: فلأن النفي إنما هو بقيد العموم، لا مطلقا. فمعنى قولك: لم تؤت من كل شيء ! أي: على جهة العموم.
وقولك: أوتيت من كل شيء. على جهة التخصيص. فلم يتوارد النفي والإثبات على محل واحد. فلا تناقض.
ومنهم من منع من تخصيص الأمر والنهي أيضا. قالوا: لأنه بداء.
والجواب: أنه إنما يلزم البداء لو أُِريد العموم من أول الأمر.
وأما إذا لم يُرد فلا. فالمخصص قرينة على أنه لم يرد العموم. فتأمل! والله أعلم.
(( و )) اعلم: أنه (( لا يصح تعارض عمومين في )) حكم (( قطعي)) عند جميع العقلاء. وذلك كمسائل أصول الدين التي يستدل عليها بالسمع. كالوعد والوعيد، ومسألة الشفاعة. ونحو ذلك من القطعيات. لأنهما لو تعارضا لزم حَقِّية مقتضاهما. فيلزم وقوع المتنافيين. وهو محال. ولا يمكن الرجوع إلى الترجيح. لأنه فرع التفاوت في احتمال النقيضين. وذلك لا يُتصور في القطعي.

(1/169)


(( ويصح )) التعارض (( في العام والخاص )). (( والمعمول به )) حينئذ _ على المختار _ (( المتأخر منهما )). إذا علم تأخره. لكن إذا كان المعلوم تأخره هو العام كان ناسخا للخآص. وحينئذ يجب أن يتراخى وقتا يتسع للعمل بالخآص، ويتمكن منه. لأنه شرط النسخ. كما سيأتي. وإن كان الخاص فإن تراخى الناسخ، كان ناسخا لبعض ما تناوله العام.
وإن لم يتراخى كان مخصصا. أي: مُبَيِّنا للمراد بالعام.
(( وإن جُهِل التاريخ )) فلم يعلم المتأخر منهما (( اطُّرِحا )) معا. وأخذ في الحادثة بغيرها. لكن لا يخفى أنه إنما يُطَّرح من العام ما يقابل الخاص فقط. دون ما عداه. إذ لا موجب لسقوطه. وهذا هو الذي عليه الجمهور.
(( وقال الشافعي )) وأصحابه: بل يبنى العام على الخاص. ومعنى بنائه عليه أنه (( يُعمل بالخاص فيما تناوله، وبالعام فيما عداه، تقدم الخاص أم تأخر، أم جُهِل التاريخ )). وإنما وجب ذلك عندهم
(( لتحصيل العمل بهما )) جميعا. فإنه أولى من اطِّراحهما، ومن اطِّراح أحدهما. وظاهر كلامهم: أن ذلك من قبيل التخصيص. حيث تقدم الخاص. ولو كان ورود العام متراخيا عنه.
ويقولون: تقدم الخاص قرينة مشعرة بأنه ما أريد العموم. بل المراد ما عداه. وكذا حيث جهل التاريخ.
وأما حيث تأخر الخآص متصلا بالعام، فلا إشكال في كونه تخصيصا. فهذا تحقيق مذهب الشافعي.
وكأن المصنف يقوي هذا، لما قالوا: من أن العمل بكتاب الله تعالى، وسنة رسوله صلى الله عليه وآله وسلم واجب. مهما أمكن. فلا يجوز إلغاؤهما. فلذلك ذكره المصنف على خلاف قاعدته. والله أعلم.
وهذا: (( فصل ))
في المطلق والمقيد. وهما قريبان من العام والخاص. فلذا يذكران في بابهما.

(1/170)


أما (( المطلق )) فهو: (( ما دل )) أي: شيء دل (( على مآهية مجردة )). أي: حقيقة من الحقائق غير مقيدة بشيء من القيود. فتخرج المعارف كلها، لتقييدها ببعض معين. وجميع الإستغراقات نحو: الرجال، وكل رجل. للتقييد بالإستغراق. فحينئذ معناه: ما دل على حصة ممكنة الصدق على حصص كثيرة من الحصص، تحت مفهوم كلي لذلك اللفظ كرجل. مثلا.
(( و )) أما (( المُقَيَّد )) فهو: (( ما دل عليها )) أي: على تلك المآهية. لكن لا مجردة، بل (( مع زيادة قيدٍ ) ). فتدخل المعارف كلها، وجميع الإستغراقات. كذلك يدخل فيه نحو: {رقبة مؤمنة}. فإنها وإن كانت شائعة في الرقاب المؤمنات، لكنها قد أخرجت من شياع ما، لأنها كانت شائعة بين المؤمنة وغير المؤمنة. فحين قُيِّدت بذلك القيد، زال ذلك الشياع. فتأمل!
(( وهما )) أي: المطلق والمقيد (( كالعام، والخاص )) في جميع ما تقدم من الأبحاث.
ويختصان بزيادة بحث، (( و )) هو: أنهما (( إذا وردا في حكم واحد، حُكِم بالتقييد إجماعا )). مثل أن يقول: أطعم تميميا أطعم تميميا عالما. ومثل: إن ظاهرت فاعتق رقبه، إن ظاهرت فاعتق رقبة مؤمنة. فيُحمل المطلق على المقيد. أي: يُعلم أن المراد بالمطلق هو المقيَّد. فلا يُطعم تميميا غير عالم، ولا يعتق رقبة غير مؤمنة .
قيل: بيانا. أي: أن المقيد بيان للمراد بالمطلق.
وقيل: ناسخا. إن تأخر المقيد وقتا يتسع للعمل بالمطلق.
وإنما وجب ذلك لأن العمل بالمقيَّد عمل بالمطلق. لأن المطلق جزء منه، ففي العمل به جمعٌ بين الدليلين. بخلاف العكس.
وأيضا ليخرج عن العهدة بيقين. وذلك واضح.
(( لا )) إذا وردا (( في حكمين مختلفين من جنسين )). فلا يُحمل أحدهما على الآخر (( اتفاقا )). سواء كانا نهيين، أو أمرين، اتحد سببهما أو اختلف. مثال النهيين أن يقول: لا تكس تميميا، ولا تطعم تميميا عالما.
ومثال الأمرين: اطعم تميميا، واكس تميميا عالما.

(1/171)


وكذا لو قال: اكس ثوبا يمانيا، واطعم طعاما. فلا يقيَّد التميمي المطعم بالعالم. ولا الطعام بكونه يمانيا. (( إلا قياسا )). يعني: إذا كان هناك علة جامعة وجب إلحاق أحدهما بالآخر. لأن القياس أحد طرق الشرع المقررة.
(( و )) كذا (( لا )) يُحمل أحدهما على الآخر. (( حيث اختلف السبب، واتحد الجنس )). مثل: كفارتي الظهار، والقتل. حيث أطلق في كفارة الظهار، فقال: { فتحرير رقبة من قبل أن يتماسا}. وقيد في كفارة القتل، فقال: { فتحرير رقبة مؤمنة}. فالجنس واحد. وهو الكفارة، والسبب مختلف، وهو الظهار والقتل. فلا يُحمل أحدهما على الآخر. (( على المختار )). مطلقا.
وقيل: يحمل مطلقا.
وقيل: إن حصل قياس صحيح مقتضٍ لتقييد المطلق بما قيد به المقيد قُيِّد. وذلك كاشتراك الظهار والقتل في خلاص الرقبة المؤمنة، عن قيد الرِّقِّ لشوق الشارع إليه. وإن لم يحصل ذلك فلا. هكذا ذكره بعض المحققين. فتأمل! والله أعلم .
وبتمام هذا تم الكلام في العام والخاص .
(( الباب السابع )) (( في المجمل والمبين )).
(( و )) في (( الظاهر والمأول )).
أما (( المجمل )) فهو في اللغة: المجموع، وجملة الشيء: مجموعه. وأجملت الحساب: أي: جمعته.
وأما في الاصطلاح فحقيقته: (( ما لا يُفهم المراد به تفصيلا )). عدل عن قولهم: اللفظ الذي. إلى لفظ: ما. ليعم كل مجمل من لفظ، أو فعل. لأن الإجمال يكون في الفعل، كما يكون في اللفظ. قوله: المراد به. يخرج المهمل. لأنه لم يُرد به شئ، لا جملة، ولا تفصيلا.
وقوله: تفصيلا. قيل: إنه لإ خراج المهمل. وهو غير مستقيم. لأنه خارج من قوله: المراد. كما بينا. و حينئذ فلا حاجة إليه، اللهم إلا أن يكون بيانا لقوله: لا يفهم. أي: لا يشترط في الإجمال إلا عدم الفهم التفصيلي لا الإجمالي.
هذا: واعلم أن الإجمالي قد يكون:

(1/172)


في الفعل. كالقيام من الركعة الثانية من غير تشهد، فإنه يحتمل الجواز، إذا فعله متعمدا، أو السهو. فلم يُفهم المراد به، فكان مجملا بينهما.
وقد يكون: في اللفظ المفرد. وذلك كالمشتَرَك فإنه مجمل، لتردده بين معانيه وإجماله. إما بالأصالة كالعين. أو بالإعلال كالمختار. فإنه متردد بين اسم الفاعل، واسم المفعول. ولكن بعد الإعلال، وأما قبلُ فإنه كان مُبَيَّنا بالحركة للياء، الفاعل بالكسر، والمفعول بالفتح(1). وقد يكون في اللفظ المركب وهو أنواع:
• ... منها: ما هو في جملة اللفظ. نحو قوله تعالى:{ أو يعفو الذي بيده عقدة النكاح}. فإنه متردد بين الإسقاط والزيادة. لأنه إن أريد به الزوج فالمراد به الزيادة. وإن أريد به الولي فالمراد به الإسقاط .
• ... ومنها: ما هو في مرجع الضمير. حيث تقدمه أمران يصلح أن يرجع إليهما. مثل قوله تعالى:{ أو لحم خنزير فإنه رجس }. فإنه يتردد بين اللحم والخنزير.
• ... ومنها: ما هو في مرجع الصفة. نحو: جاءني غلام زيد الكاتب. لاحتمال أن تكون الصفة لزيد، أو الغلام. ومثل: زيد طبيب ماهر. فإن الماهر يحتمل أن يرجع إلى زيد، وإلى الطبيب.
• ... ومنها: ما هو في تعدد المجاز. إذا تعذر حمل الكلام على الحقيقة. مثل: {بل يداه مبسوطتان}. فإنه _ بعد تعذر الحقيقة وهي الجارحة _ متردد بين مجازات، لاحتمال إرادة النعمة، وإرادة التشبيه. وقد يكون في غير هذه الأمور. فهذا هو المجمل بأقسامه .

(( و )) أما (( المبين )) فهو (( مقابله )). أي: مقابل المجمل، وهو: ما يفهم المراد به تفصيلا. وكما انقسم المجمل إلى مفرد، ومركب. فكذلك مقابِله، وهو المبين قد يكون مفردا، قد يكون مركبا، وقد يكون في الفعل أيضا، وقد يكون فيما سبق له إجمال، وهو واضح، وقد يكون فيما لم يسبق، كمن يقول ابتداء:{ والله بكل شئ عليم}.
والبيان يطلق على معنيين:
__________
(1) _ أصله: مختيِر للفاعل، ومختيَر للمفعول.

(1/173)


أعم. وهو فعل المبين. أي: التبيين، كالسلام بمعنى التسليم، وذلك كخلق العلوم الضرورية، ونصب الأدلة والأمارات العقلية، والشرعية.
وأخص. وهو المراد (( هنا )). وهو (( ما يبين به المراد بالخطاب المجمل )). وهذا يشمل العلم الضروري، والدلالة، والأمارة. سواء كانتا قولا، أو فعلا.
(( و )) اعلم أنه (( يصح البيان )) للمجمل (( بكل )) واحد (( من الأدلة )) والأمارات (( السمعية )). وهي: الكتاب، والسنة المقالية، والفعل، والتقرير، والإجماع، والقياس.
أما الكتاب، والسنة المقالية، والإجماع، فلا خلاف في صحة البيان بها.
وأما الفعل، والتقرير، والقياس فيصح البيان بها على المختار.
ومنهم: من منع من البيان بالفعل. لأنه لا ظاهر له، وإنما البيان بما تضمنه من القول الذي يؤخذ منه.
ومنهم: من منع من البيان بالتقرير. قال: لأن دلالته ضعيفة لاحتماله.
والصحيح هو الأول. بدليل رجوع الصحابة إليهما. أي: إلى فعله صلى الله عليه وآله وسلم، وتقريره، في بيان المجملات، واعتمادهم عليهما كاعتمادهم ورجوعهم إلى قوله في ذلك، من غير فرق.
وأيضا مشاهدة الفعل أدل في بيانه من الإخبار عنه. ولذا قيل في المثل النبوي: ( ليس الخبر كالمعاينة ).
وأيضا فإن البيان بالفعل قد وقع. كما في بيان الصلاة، والحج. لا يقال: بل هما مُبَيَّنان بقوله صلى الله عليه وآله وسلم: ( صلوا كما رأيتموني أصلي )، ( وخذوا عني مناسككم ). لأنا نقول: هذا دليل كون الفعل بيانا. لا أنه هو البيان. إذ ليس فيه بيان. فتأمل!
ولأنه لو لم يقع البيان بالتقرير لأدى إلى أن يكون صلى الله عليه وآله وسلم سكت على منكر، وذلك لا يجوز. لما فيه من الإخلال بأداء الشرائع . كما إذا رأى رجلا يفعل في الصلاة فعلا بعد أن نهى عن الأفعال فيها. فإن سكوته على منكر كالإباحة لذلك الفعل. إذ لايجوز سكوته على منكر. وفي ذلك بيان للقدر المحرم من الأفعال في الصلاة.

(1/174)


(( و )) المختار أنه (( لا يلزم شهرة البيان )) في النقل (( كشهرة المبين )). فلا يلزم إذا كان المجمل متواترا، أو جليا أن يكون البيان مثله. بل يجوز أن يبين القطعي بالظني، والجلي بالخفي.
ومنهم: من يشترط المساواة بينهما.
ومنهم: من اشترط أن يكون البيان أقوى. والصحيح هو الأول. بدليل أنه يصح البيان بالقياس، وبخبر الواحد. لأن دليل العمل بهما قطعي، ولم يُفرق بين البيان وغيره.
وأيضا لا يضر كون المبين قطعيا، والبيان ظنيا. إذ لا يمتنع تعلق المصلحة بذلك. ولأن الظن كالعلم في جلب النفع، ودفع الضرر.
وأيضا فقد وقع. وهو دليل الجواز. وذلك كتخصيص القرآن والخبر المتواتر بالخبر الآحادي. كما تقدم. إذ لا فرق بين التخصيص للعام، والبيان للمجمل. فتأمل! والله أعلم.
(( و )) المختار (( أنه يصح التعلق في حسن الشيء بالمدح )) عليه. كما يتعلق في حسن إخراج الزكاة بقوله تعالى: { والذين في أموالهم حق معلوم }.(( إذ هو )) أي: المدح على ذلك الشيء (( كالحث )) على ذلك الشيء.
(( و )) كذا يصح التعلق (( في قبحه بالذم )) عليه. كما يتعلق في قبح حبس الزكاة بقوله تعالى: { والذين يكنزون الذهب والفضة… }الآية . (( إذ هو )) أي: الذم (( آكد من النهي )) عليه. لأن النهي قد يكون عما هو حسن كالمكروه، والذم لا يكون إلا على القبيح. فيصح حينئذ الإستدلال بذلك على حسن الفعل، أو قبحه. لأنهما لم يكونا مجملين، بل ظاهرين. كالأمر والنهي. وذلك لأن الفعل الذي لا يعلم حسنه، ولا قبحه، إذا وصف به ثم تعقبه المدح أو الذم، اقتضى أنهما لأجل الفعل لا لغيره. فيلزم قبح الفعل، أو حسنة. وذلك ظاهر. والله أعلم.
(( و )) المختار (( أنه لا إجمال في )) أمور:
منها: (( الجمع المنكَّر )). نحو: رجال. (( إذ يحمل على الأقل )) مما يدل عليه، وهو ثلاثة. إذ هو المتيقن دخوله في الخطاب. والأصل برآءة الذمة عن الزائد .

(1/175)


وأيضا فإن السيد إذا قال لعبده: أكرم رجالا. فأكرم ثلاثة. عُدَّ ممتثلا، وسقط عنه الذم. ولو كان مجملا لما كان كذلك. وكذا إذا أقر شخص لآخر بدراهم، وفسَّرها بثلاثة، قُبِل ذلك منه. فلو لا أنه مبين لما قبل ذلك منه .
(( و )) منها: أنه (( لا )) إجمال (( في تحريم الأعيان )). أي: التحريم المضاف إلى الأعيان. نحو قوله تعالى:{ حرمت عليكم أمهاتكم}. { حرمت عليكم الميتة}. ونحوها. (( إذ يحمل على المعتاد )) من ذلك. كالوطء في الموطوء، والأكل في المأكول، واللبس في الملبوس، والشرب في المشروب. فإذا قال: حرمت عليكم الأمهات، والميتة، والحرير، والخمر. فُهِم تحريم الإنتفاع بها بالأكل، ونحوه. إذ لا يسبق إلى الفهم إلا ذلك. فهو متضح الدلالة، فلا إجمال.
وأيضا فإن الصحابة، ومن بعدهم استدلوا بها على تحريم الفعل المقصود منها. كما وقع منهم حين سمعوا مناديه صلى الله عليه وآله وسلم قد حرم الخمر. لم يَشُكُّوا أن المراد تحريم شربها. ولذا عَمِد كل منهم إلى ما عنده منها فأراقه. وكذا فهموا من قوله صلى الله عليه وآله وسلم: ( الذهب والحرير هما حرامان على ذكور أمتي ). أن المراد تحريم لبسهما، لا ملكهما والنظر إليهما.
(( و )) منها: أنه (( لا )) إجمال (( في )) نحو (( العام المخصص )). والمراد بنحو العام المخصص: المطلق إذا قُيِّد.
واعلم: أن التخصيص لا يخلو: إما أن يكون بمبهم، أو بمبين .
إن كان بمبهم فلا يحتج به على شيء من الأفراد اتفاقا. لوضوح إجماله. مثاله قوله تعالى:{ أحلت لكم بهيمة الأنعام إلا ما يتلى عليكم}.
وإن خُصَّ بمعين كما لو قيل: اقتلوا المشركين إلا أهل الذمة. فالمختار أنه لا إجمال فيه. فيصح الإحتجاج به على ما بقي. بدليل أنه كان قبل التخصيص حجة في الجميع. فتبقى حجيته حتى يظهر المعارض. ولم يظهر إلا في القدر المخصوص، فيبقى حجة في الباقي.

(1/176)


وأيضا فإن الصحابة كانوا يستدلون بالعمومات، مع وجود مخصصاتها. وشاع ذلك عنهم وذاع، وتكرر فيما بينهم ولم ينكر، فكان إجماعا. وذلك واضح الدلالة على عدم الإجمال.
(( و )) منها: أنه (( لا )) إجمال (( في نحو )) قوله صلى الله عليه وآله وسلم: (( لا صلاة إلا بطهور )). ( لا صلاة إلا بفاتحة الكتاب ). ( ولا نكاح إلا بولي ). ونحو ذلك كثير. مما نفي فيه الفعل، والمراد نفي صفته. والدليل على ذلك أنه إن ثبت عرف شرعي في إطلاقه للصحيح كان معناه:لاصلاة صحيحة، ولا نكاح صحيحا. ونفي مسماه ممكن، فيتعين. فلا إجمال. وإن لم يثبت عرف شرعي، فإن ثبت عرف لغوي، وهو أن مثله يقصد منه نفي الفائدة والجدوى، نحو: لا علم إلا ما نفع، ولا كلام إلا ما أفاد. فيتعين. فلا إجمال
أيضا. وإن قُدِّر انتفاء العرفين، فالأَولى حمله على نفي الإجزاء، دون الكمال. لأن ما لا يصح كالعدم، في عدم الجدوى. بخلاف ما لا يكمل. فكان أقرب المجازين إلى الحقيقة المتعذرة. فكان ظاهرا فيه. فلا إجمال.
(( و )) منها: أنه لا إجمال في قوله صلى الله عليه وآله وسلم: (( الأعمال بالنيات )). فحينئذ يصلح دليلا على وجوب النية في كل عمل. لأن المراد بذلك أنه لا عمل إلا بنية، والعمل بدون نية غير مُنتَفٍ. لعلمنا بوجوده، فيبقى المراد نفي جميع أحكامه، من الصحة، والكمال في الثواب والطاعة، ونحو ذلك. إذ لا تنافي بينها، ولا قرينة تشعر بخصوصية أحدهما، فلا إجمال.
(( و )) لا في قوله صلى الله عليه وآله وسلم: (( رفع عن أمتي الخطأ والنسيان )) . مما نفي صفته. والمراد نفي لازم من لوازمها. وذلك لأن العرف في مثله قبل ورود الشرع: رفعُ المؤآخذة والعقاب قطعا. بدليل أن السيد إذا قال لعبده: رفعت عنك الخطأ والنسيان.كان المفهوم أني لا أؤاخذك بهما، ولا أعاقبك عليهما. فكذلك بعد ورود الشرع. فلا إجمال حينئذ. والله أعلم.

(1/177)


(( و )) المختار: (( أنه يجوز )) للرسول صلى الله عليه وآله وسلم (( تأخير التبليغ )) لما أوحي إليه من الأحكام، إلى وقت الحاجة إليها. إذ لا مانع من ذلك، لا عقلا ولا شرعا.
وأيضا يجوز أن يكون في التأخير مصلحة يعلمها الله تعالى.
وقال قوم: لا يجوز ذلك. لقوله تعالى:{ يا أيها الرسول بلغ ما أنزل إليك}. والأمر للوجوب، وللفور.
قلنا: ذلك لا يمنع جواز التأخي.ر (( إذ القصد المصلحة )). فكأنه قال: بَلِّغ على ما تقتضيه المصلحة من التأخير، وغيره. لأن المقصود بالشرائع المصالح. فتبليغها يكون على وفق المصالح، لأن الفرع تابع للأصل. وقد تكون المصلحة في التأخير. والله أعلم.
(( ولا يجوز تأخير البيان )) للمجمل، (( ولا التخصيص )) للعام، والتقييد للمطلق، (( عن وقت الحاجة )). أي: وقت إمكان العمل بما اقتضاه الدليل المجمل، أو العام، أو المطلق. فلا يجوز أن يخاطبنا تعالى بالصلاة مثلا، وقد علمنا أنه لم يرد بها المعنى اللغوي، من غير أن يبين لنا ما قصد بها، مع تضييق وقتها. فهذا ممتنع (( إجماعا. إذ يلزم من ذلك التكليف )) للعباد (( بما لا يُعلم )). وهو قبيح على الله تعالى. إلا عند مجوزي تكليف ما لا يطاق. وكأنه لم يعتد بمذهبهم لخسته. فلهذا قال: إجماعا.
(( فأما )) تأخير البيان، والتخصيص، ونحوهما، (( عن وقت الخطاب )) إلى وقت الحاجة، فقد اختلف فيه على أقوال:
الأول: أنه يجوز مطلقا. لأن الصحابة سمعوا قوله تعالى: { اقتلوا المشركين كآفة}. وهو عام، ولم يسمعوا تخصيصه، وهو قوله صلى الله عليه وآله وسلم في المجوس: ( سنوا بهم سنة أهل الكتاب ). إلا بعد حين. ونحو ذلك كثير .
الثاني: لا يجوز. لأنه كالخطاب بالمهمل، وما لا يفهم معناه. وهو ممتنع.
والجواب أن بينهما فرقا، لأن المجمل ونحوه، يُفهم منه أحد مدلولاته، فيطيع أو يعصي بالعزم على فعله، أو تركه. بخلاف المهمل. إذ لا يُفهم منه شيء.

(1/178)


الثالث: يجوز التأخير في البيان. إذ لا يقطع المخاطب بالمجمل بشيء معين. إذ لا ظاهر له فيعتقد. فلا يحمل الخطاب به على اعتقاد الجهل. ولا يجوز في التخصيص، ونحوه. لأن التأخير يوجب حمل الكلام على ظاهره. فيعتقد العموم ونحوه، والمراد غيره، فيقبح لما فيه من اللَّبس. واستغرب هذا الكلام الإمام الهادي عليه السلام !!‍‍‍‍‍‍‍‍‍‍‍‍
‍‍‍‍‍‍‍‍‍‍‍ ورُدَّ بأن سامعه ممنوع من اعتقاد ظاهره. إذ المجتهد لا يعمل بظاهر العام، حتى يبحث عن تخصيصه. كما يأتي.
وأيضا فإنه منقوض بالنسخ. فإن ظاهر المنسوخ الدوام، مع انه غير مراد.
الرابع: اختاره المصنف حيث قال (( فالمختار جواز ذلك )). أي: تأخير البيان، والتخصيص، ونحوهما، (( في الأمر والنهي )). لأنهما إنشاء، فلا يُحمل سامعهما على اعتقاد جهل. فجاز الخطاب بهما، وإن لم يُبين.
(( و )) حينئذ يجب (( على السامع للعموم )) فيهما أن لا يعتقده شاملا في العام، ولا ظاهره، حتى يقع منه (( البحث )) عن تخصيصه، وبيانه. كما يأتي.
(( و لا يجوز )) ذلك (( في الأخبار )) إذ السامع إذا أُخبِر بعموم اعتقد شموله. فيكون إغراءً بالجهل، فيقبح هذا في العام.
وأما المجمل فلأنه يكون عبثا. إذ فائدة الأخبار الإفهام، ولا إفهام في المجمل. إذ لا يُفهم المراد به.
وأجيب عن هذا: بأن المخاطب بالعام لا يعتقد شموله، حتى يقع منه البحث عن تخصيصه فلا يجده.
وأما الخطاب بالمجمل ففائدته توطين النفس على الإمتثال إذا تبين. إذ يُفهم منه أحد مدلولاته كما تقدم. والله أعلم.
فائدة:
مَن منع مِن تأخير التخصيص لم يُجَوِّز إسماع بعض المخصِّصات دون بعض، ضرورة.
وأما المجوزون فقد اختلفوا في ذلك ؟ والمختار أنه يجوز. بدليل وقوعه. ألا ترى أن قوله تعالى:{ اقتلوا المشركين }. عامٌ. ثم أُخرج منه أهل الذمة، ثم العبد، ثم المرأة، بتدريج.

(1/179)


وأيضا فقد جاز مع إيهام وجوب الإستعمال في الجميع، فمع إيهام وجوب الإستعمال في البعض أجدر. فتأمل! والله أعلم.

وهذا:
(( فصل )) في الظاهر والمؤول.
(( والظاهر )) في اللغة: الواضح. ومنه الظهر.
وفي الإصطلاح: (( قد يطلق على ما يقابل النص )). فيكون قسيما له. وحقيقته بهذا المعنى: ما أفاد معنى يحتمل غير المقصود.
(( و )) قد يطلق: (( على ما يقابل المجمل )). وحقيقته بهذا المعنى: ما يُفهم المراد به تفصيلا. فيكون النص قِسما منه. لأن ما يُفهم منه المراد تفصيلا قد يفيد معنى لا يحتمل اللفظ سواه، وهو النص. وقد يفيد معنى يحتمله اللفظ، وغيره، وهو الظاهر. (( وقد تقدما )). الأول: في باب المنطوق، والمفهوم. والثاني: في صدر الباب. لأن الظاهر يرادف المبين. وقد تقدم تفسير المبين.
(( والمؤول: ما يراد به خلاف ظاهره )). فيخرج المجمل. إذ لا يُفهم المراد به. وهذا قد فُهِم أن المراد به خلاف ظاهره. ويخرج الظاهر، لأن المراد به ظاهره. ويخرج المهمل أيضا. إذ لا يراد به شيء .
(( و )) أما (( التأويل )) فهو في اللغة: مشتق من آل، يؤول. إذا رجع. ومآل الشيء: مرجعه .
وفي الاصطلاح: (( صرف اللفظ عن حقيقته إلى مجازه )) لقرينة.
إما عقلية. كتأويل اليد في بعض مواضعها في القرآن بالنعمة. إذ هي حقيقة في العضو. لكن لما قامت الدلالة العقلية القاطعة على نفي التجسيم، حملناها على خلاف حقيقتها. وقلنا: أراد بها النعمة. لكثرة استعمالها فيها عند أهل اللغة.
وإما مقالية. كصرف ما ظاهره التجسيم من الآيات، بقرينة قوله تعالى: { ليس كمثله شيء }. (( أو قصره )). أي: اللفظ (( على بعض مدلولاته )). كما يُقصر العام على بعض ما يدل عليه.

(1/180)


(( لقرينة اقتضتهما )). أي: الصرف، والقصر. فقرينة الصرف قد تقدمت. وقرينة القصر إما عقلية، كما في قوله تعالى:{ والله على كل شئ قدير }. فإن ظاهره العموم، لكن القرينة العقلية وهي كون بعض الأشياء لا تدخل في مقدوره تعالى(1)كأعيان أفعال العباد، وغير ذلك من المستحيلات عليه تعالى. قصرته على بعض مدلولاته. وكذلك سائر المخصِّصات العقلية.
وإما مقالية. كالمخصِّصات المقالية المتصلة، والمنفصلة. كما تقدم.
فإن قلت: لِمَ فُسِّر المؤول والتأويل؟! ولم يُفسَّر الظهور، وإنما فُسِّر الظاهر فقط؟‍‍‍‍!
قلت: لأن‍‍‍‍‍ المقصود بحسب العرف، هو الظاهر دون الظهور. فليس بمقصود. وإنما فسر التأويل وإن كان أيضا غير مقصود، بحسب العرف. لأن بيانه بيان للمؤول إليه. أي: المعنى الذي صرف إليه الظاهر. فتأمل! والله أعلم .
نعم: (( و )) التأويل ثلاثة أقسام:
1_ لأنه (( قد يكون قريبا، فيكفي في أدنى مرجِّح )). لقربه كما ذكرنا في تأويل اليد: بالنعمة، فإنها مجاز في النعمة قريب، لقوة العلاقة. وكتأويل آية الجلد في الزان:ي على التنصيف في العبد، قياسا على الأمة. لأن هذا النوع، من القياس الجلي. فقد قصر العام على بعض مدلوله.
__________
(1) _هذه عبارة غير لائقة بالذات القادرة المطلقة، وكان الأنسب أن يقول:كون بعض الأشياء ليس من متعلقات القدرة.

(1/181)


2 - (( و )) قد يكون (( بعيدا )). وبُعدُه بحسب خفاء العلاقة، (( فيحتاج إلى )) مرجِّح (( أقوى )) مما يترجح به التأويل القريب، ولا يترجح بالمرجِّح الأدنى. من ذلك: تأويل بعض الحنفية، وبعض أئمتنا قوله تعالى:{ فإطعام ستين مسكينا }. بأن المراد: إطعام طعام ستين مسكينا، لواحد أو أكثر. قالوا: لأن المقصود دفع الحاجة، وحاجة مسكين واحد في ستين يوما، كحاجة ستين شخصا لا فرق بينهما عقلا. ووجه بُعده: أنهم جعلوا المعدوم _ وهو طعام _ مذكورا بحسب الإرادة، مع إمكان(1) أن يكون المذكور _ وهو ستين _ هو المراد. لأنه يمكن أن يقصد إطعام ستين مسكينا، دون واحد في ستين يوما، لفضل الجماعة وبركتهم. بدليل: ( يد الله مع الجماعة ). ولتظافر قلوبهم على الدعاء للمحسن، فيكون أقرب إلى الإجابة، ولعل فيهم مستجابا. بخلاف الواحد. ونحو ذلك من التأويلات البعيدة. على ما هو مبسوط في بسآئط هذا الفن.
3_ (( و )) قد يكون (( مُتَعسَّفا )) لا يحتمله اللفظ (( فلا يقبل )). بل يجب رده، والحكم ببطلانه. وذلك: كتأويل الباطنية. مثل تأويلهم ثعبان موسى: بحجته. ونبع الماء من بين الأصابع: بكثرة العلم. وقولهم في قوله تعالى:{ حرمت عليكم أمهاتكم }. المراد بالأمهات: العلماء. وبالتحريم: تحريم مخالفتهم، وانتهاك حرمهم. وكتأويلهم الجبت والطاغوت: بأبي بكر وعمر. والبقرة في قوله تعالى: { إن الله يأمركم أن تذبحوا بقرة}: بعائشة. وغير ذلك كثير من أباطيلهم. وبتمام هذا تم الكلام في شرح باب المجمل والمبين .
(( الباب الثامن ))من أبواب الكتاب (( في النسخ. هو ))
في اللغة يطلق على: الإزالة. مثل: نَسَخَت الشمسُ الظلَّ. أي: أزالته. وعلى النقل والتحويل. مثل: نسخت الكتاب.أي: نقلت ما فيه إلى آخر .
ومنه: المناسخات. لانتقال المال من وارث إلى آخر.
وقد اختُلِفَ فيه هل هو حقيقة في أحدهما، مجاز في الآخر؟ أم مشترك بينهما؟
__________
(1) _ في نسخة: مع ظهور أن.

(1/182)


فقيل: هو حقيقة في النقل، مجاز في الإزالة .
وقيل: العكس.
وقيل: مشترك. قيل لا يتعلق بهذا الخلاف غرضٌ علمي .

وفي الاصطلاح: (( إزالة مثل الحكم الشرعي بطريق شرعي، مع تراخٍ بينهما )). إنما قال: مثل الحكم. ولم يقل: إزالة عينه. لأن إزالة العين لا تُتَصوَّر على الله تعالى. لأنه بداء، وهو مستحيل في حقه تعالى. إذ لا ينكشف له ما لم يكن قد علمه. لأنه عالم لذاته. فحينئذ لا بد مما يتمكن المكلف من الفعل قبل النسخ. وإلا عاد على غرضه بالنقض. وإذا تمكن من فعله فقد خرج الأمر مثلا عن كونه عبثا، ثم إذا نهاه عن مثله في المستقبل، علمنا أن مدة المصلحة فيه قد انقطعت، فحسن نسخه حينئذ .
وقوله: الشرعي. احتراز عن الحكم العقلي. فإن إزالته بطريق شرعي ليس نسخا. وذلك: كالأدلة المبيحة لذبح الأنعام، بعد أن كان محرما بحكم العقل .
وقوله: بطريق. ولم يقل: بدليل. ليشمل القطعي، والظني .
وقوله: شرعي. لتخرج الإزالة للحكم الشرعي بالموت، والنوم، والجنون، والغفلة. فإن ذلك ليس نسخا.
وقوله: مع تراخ بينهما. ليخرج التخصيص. فإنه ليس نسخا، وإنما هو بيان لمراد المتكلم من لفظ العموم. وهذا الحد قد انطوى على شروط النسخ. وهي أربعة:
الأول: أن لا يكون الناسخ ولا المنسوخ عقليا. مثال الأول: ارتفاع التكليف بالنوم.
ومثال الثاني: إباحة ذبح البهائم. كما بينا.
الثاني: أن لا يكون الذي يزيله الناسخ صورة مجردة. كنسخ التوجه إلى بيت المقدس. فإن الناسخ لوجوب
التوجه إليه لم ينسخ صورة التوجه، وإنما أزال وجوبه. وكذلك كل منسوخ.
الثالث: أن يتميز الناسخ من المنسوخ. بأن يكون مخالفا له بوجه.
الرابع: أن ينفصل عنه. احترازا من الغاية، ونحوها. نحو:{ أتموا الصيام إلى الليل}. فإنها متصلة بالجملة، فلا يكون نسخا. والله أعلم .
فإن قلت: هذا الحد لا يتناول نسخ التلاوة فقط؟! إذ الحكم باق لم يرفع!

(1/183)


قلت: بل يتناوله. لأن نسخها قد رفع حكما ما. لأنه عبارة عن نسخ الأحكام المتعلقة بنفس النظم، كالجواز في الصلاة، وحرمة القرآءة على الجنب، والحائض. والله أعلم.
واعلم انه قد اختلف في النسخ هل هو باقٍ في عرف الشرع على معناه اللغوي؟ أم هو منقول إلى معنى آخر؟
والصحيح: أنه منقول. لأنه في اللغة: إزالة الأعيان. وفي الشرع: إزالة الأحكام. وأين أحدهما من الآخر!! فحينئذ يكون حقيقة شرعية. إن كان الناقل هو الشرع. وعرفية اصطلاحية. إن كان الناقل هو أهل الشرع. والله أعلم.
(( والمختار جوازه )). أي: النسخ. وقد شذ المخالف فيه من المسلمين. والأكثر على وقوعه، إلا عن الأصفهاني. فرُوِي عنه أنه وإن كان جائزا، لكنه لم يقع. ورُوِي عنه: أنه منع من نسخ القرآن بالقرآن فقط. والصحيح المختار عند جميع العلماء أنه جائز، واقع. والدليل على ذلك: العقل والنقل.
أما العقل: فلأنه قد ثبت أن الشرائع مصالح للعباد.
أما الواجبات: فلكونها الطافا مقرِّبة من فعل الطاعات العقلية.
وأما المندوبات: فلكونها مسهِّلات للواجبات.
وأما المحرمات: فلكونها مفاسد. ولا شك أن دفع المفسدة أهم من جلب المنفعة .
وأما المكروهات: فلكونها مسهِّلة لاجتناب المحرمات. وحينئذ فيلزم أن تتغير بتغيرها. فإنا نقطع بأن المصلحة قد تتغير بحسب الأوقات. كما تتغير بحسب الأشخاص. فلا بُعدَ في أن تكون المصلحة تقتضي شرعَ الحكمِ في وقت، ورفعه في وقت آخر.
وأما النقل: فقوله تعالى:{ما ننسخ من آية أو ننسها }. أي: نؤخرها. {نأت بخير منها، أو مثلها}. فإنها مصرحة بوقوع النسخ في القرآن. وأيضا فإنه قد وقع. وهو دليل الجواز. وذلك كما جاء في التوراة أن آدم عليه السلام أُمِرَ بتزويج بناته من بنيه. وقد حرم ذلك باتفاق. وإن كان قد روي عن جعفر الصادق عليه السلام: المنع من أن يكون آدم أمر بتزويج بناته من بنيه. بل: إنه أنزل لابن آدم حوراء فولدت، فجازت ابنتها لابن أخيه .

(1/184)


قال الإمام المهدي عليه السلام: لكنها رواية شآذة مغمورة غير مشهورة، عن الصادق عليه السلام. والله أعلم .
قيل: والنسخ من ضروريات الدين. فهو معلوم ضرورة. بدليل نسخ بعض أحكام الشرائع السابقة، من شرائع الأنبياء عليهم السلام. بالأدلة القاطعة على حَقِّية شريعتنا. ونسخ بعض أحكام شريعتنا بالأدلة القاطعة منها. والله أعلم.
وهو أيضا جائز (( وإن لم يقع الإشعار به )) _ على المختار _ فلا يشترط في جوازه ذلك.
ومنهم: من اشترط أن يقع الإشعار به (( أولا )). أي: عند الابتداء بذلك المنسوخ. مثل قوله تعالى:{ أو يجعل الله لهن سبيلا }.{لا تدري لعل الله يحدث بعد ذلك أمرا}.
قالوا: لأن الظاهر من الأمر الدوام. والخطاب إنما يُراد به ظاهره. فلو لم يكن ثَمَّ إشعار، لكان قد لبَّس على المكلف، وحمله على اعتقاد دوامه. وهو قبيح. فلا يجوز على الله تعالى. فيجب الإشعار بأن الحكم سينسخ دفعا لهذا الظاهر!
والجواب: أنا لا نسلم الإحتياج إلى ذلك. لأن لفظ الأمر لا يقتضي ذلك. أي: الدوام. لا لغة، ولا عرفا. لا عاما، ولا خاصا بأهل الشرع. فإذا اعتقدوا دوامه لغير دليل. فقد أُتِيَ من جهة نفسه، لا من جهة الله تعالى. فحينئذ لا يجب الإشعار به .

(1/185)


(( و )) المختار: جواز (( نسخ ما قُيِّد بالتأبيد )). إن كان التأبيد قيدا للفعل. مثل أن يقول: صوموا أبدا. والدليل على ذلك:أنه قد ثبت جواز تخصيص العام، المؤكَّد بكل، وأجمعين. فيجوز نسخ ما قيد من الفعل بالتأبيد. لأنه بمثابة التأكيد بكل وأجمعين. والنسخ والتخصيص واحد، غير أن أحدهما في الأعيان والآخر في الأزمان. وهذا لا يقتضي فرقا بينهما فيما ذكر. فإن كان التأبيد قيدا للوجوب، وبيانا لمدة بقاء الوجوب واستمراره، فإن كان نصا. نحو أن يقول: الصوم واجب مستمر أبدا. لم يُقبَل خلافه. وإن لم يكن نصا بل ظاهرا. مثل: الصوم واجب في الأيام والأزمان. ونحو ذلك. قُبِل النسخ الذي هو خلاف التأبيد، وحمل ظاهر التأبيد على المجاز. كالتخصيص، ونحوه. كذا قرره بعض المحققين. والله أعلم .
(( و )) كذلك يجوز النسخ _ على المختار _ (( إلى غير بدل )). يعني: أنه يجوز نسخ التكليف من غير تكليف آخر بدل عنه. ومنعه الشافعي. وقال: لا ينسخ فرض إلا إذا ثبت مكانه فرض آخر. والصحيح: هو الأول. والدليل على ذلك: أما أولا: فقد ثبت أن الأحكام مصالح. ويجوز انقضاء المصلحة، ولا بدل لها. ولا يمنع من ذلك عقل، ولا شرع .
وأما ثانيا: فإنه قد وقع. وإنه دليل الجواز. وذلك: كنسخ وجوب تقديم الصدقة قبل نجوى الرسول. فإنه كان واجبا، ثم نسخ إلى غير بدل. وكنسخ وجوب الإمساك بعد الفطر. كما قال جار الله: إنه كان الرجل إذا أمسى جاز له الأكل، والشرب، والجماع، إلى أن يصلي العشاء الآخرة، فإذا صلاها، أو نام ولم يفطر، حرم عليه كل مفطر إلى القابلة. ثم نسخ ذلك بقوله تعالى:{أحل لكم ليلة الصيام الرفث إلى نسائكم…} الآية. من غير بدل. ونحو ذلك كثير .
(( و )) كذا يجوز نسخ الحكم (( الأخف بالحكم الأشق كالعكس
)) أي: كما يجوز العكس. وهو نسخ الأشق بالأخف .
أما الثاني: فاتفاق بين من أثبت النسخ.
وكذلك النسخ بالمساوي .

(1/186)


وأما الأول: فمنهم من منعه. والصحيح الجواز. والدليل عليه: العقل، والسمع .
أما العقل: فلما ثبت من أن الأحكام مصالح، ولا مانع من أن تكون المصلحة بالأشق بعد الأخف أكثر. وذلك: كما ينقلهم من الصحة إلى السقم، ومن الشباب إلى الهرم. وهذا واضح .
وأما السمع: فأدلته كثيرة.
منها: نسخ التخيير بين الصوم والفدية، الثابت بقوله تعالى:{ وعلى الذين يطيقونه فدية… } إلخ. أي: على المطيقين الصيام الذين لا عذر لهم، فدية طعام مساكين. بقوله تعالى:{ فمن شهد منكم الشهر فليصمه }. ولا شك أن التزام أحد الأمرين، أشق من التخيير بينهما.
ومنها: نسخ صوم يوم عاشوراء، بصوم شهر رمضان. وصوم شهر، أشق من صوم يوم واحد.
ومنها: نسخ وجوب الكف عن قتال المشركين، الثابت بقوله تعالى: { ودع أذاهم }، ونحوها. بإيجاب القتال بآيات كثيرة، مع التشديد فيه، حتى أوجب ثبات الواحد للعشرة، ثم للإثنين، وهو أثقل من الكف. ونحو ذلك كثير .
واعلم: أن المراد بالعكس. في قوله: كالعكس. مجرد تقديم ما أخَّر، وتأخير ما قدَّم. لا معناه الاصطلاحي _ أعني _ تبديل طرفي القضية. كما تقدم بيانه. وتسمية ذلك عكسا: تجوز للمناسبة بينهما. والله أعلم .
(( و )) يجوز نسخ (( التلاوة )). فلا يبقى اللفظ قرآنا. (( والحكم )) فلا يبقى حكما معمولا به. (( جميعا )) أي: حال كون النسخ لهما جميعا. وذلك: كما روى مسلم عن عائشة أنها قالت: ( كان فيما أنزل من القرآن عشر رضعات محرِّمات، ثم نسخ بخمس ). فقد نسخ تلاوته وحكمه .
(( و )) يجوز أيضا نسخ (( أحدهما دون الآخر )). أي: إما التلاوة، فلا يبقى اللفظ قرآنا. دون الحكم فيبقى .

(1/187)


وأما الحكم دون التلاوة، بأن يبقى اللفظ قرآنا يتلى معجزا، ولا يبقى الحكم الدآل هو عليه. مثال الأول: ما روى الشافعي عن عمر أنه قال: ( مما أنزل الله تعالى في كتابه: الشيخ والشيخة إذا زنيا فارجموهما البتة ). وفي بعض الروايات: (نكالا من الله ورسوله ). والمراد بهما: المحصن والمحصنة. ثم نسخ تلاوته دون حكمه، فهو باقٍ. وهذا، والأول وهو ما نسخ تلاوته وحكمه، الأصح أنه يجوز للمحدِث، والجنب تلاوته، ولمسه. إذ ليس بقرآن حينئذ.
ومثال الثاني: نسخ الإعتداد بالحول في حق [المميتة] الثابت بقوله تعالى: {متاعا إلى الحول غير إخراج} بقوله تعالى:{ والذين يتوفون منكم ويذرون أزواجا يتربصن بأنفسهن أربعة أشهر وعشرا }. ونسخ آية السيف وهي قوله تعالى:{ فإذا انسلخ الشهر الحرم فاقتلوا المشركين … }الآية. لآيات كثيرة. كالآيات التي فيها الإعراض والصفح. وقد قيل: إنها ناسخة لمائة وأربع وعشرين آية.
نعم: والمراد بالأشهر الحرم: ذو القعدة، وذوالحجة، ومحرم، ورجب. ومفهومها منسوخ عند الأكثر.
وقيل: المراد أشهر الأجل. وسماها حرما لحرمة العهد. والله أعلم.
وما نسخ حكمه دون تلاوته كما تقدم، لا يجوز للمحدِث، والجنب تلاوته، ولمسه. لأنه قرآن.
(( و )) يجوز نسخ (( مفهوم الموافقة )). وقد تقدم بيانه. (( مع أصله)) أي: الذي له المفهوم. كما ينسخ تحريم الضرب، وأصله الذي هو تحريم التأفيف. ووجوب قيام الواحد للإثنين، وأصله الذي هو قيام المائة للمائتين .
(( و )) يجوز نسخ (( أصله )). أي: أصل مفهوم الموافقة. (( دونه )) أي: دون المفهوم. كما ينسخ تحريم التأفيف، ويبقى تحريم الضرب.
(( وكذا )) يجوز (( العكس )). أي: يجوز نسخ المفهوم، دون الأصل. لكن (( إن لم يكن )) المفهوم (( فحوى )). بل كان لحنا. كما ينسخ وجوب قيام الواحد للعشرة، ويبقى الأصل وهو قيام العشرين للمائتين .

(1/188)


وأما إن كان فحوى، فلا يجوز. فلا ينسخ تحريم الضرب الذي هو أولى بالحرمة من التأفيف. لأن الأذى فيه أكثر. دون التأفيف فيبقى تحريمه. وهذا بَيِّنٌ كما ترى .
(( و )) المختار عند المحققين من العلماء: أنه (( لا يجوز نسخ الشيء قبل إمكان فعله )). سواء كان قبل دخول الوقت، أو بعده. قبل انقضاء زمان يسع المأمور به. فلا يصح أن يقول: حجوا هذه السنة. ثم يقول قبل دخول عرفة: لا تحجوا. ولا أن يقول يوم عرفة من قبل انقضاء زمان يتسع لأسباب الحج: لا تحجوا. والدليل على ذلك: أنه لو صح نسخ الشيء قبل إمكان فعله، إذاً لنهى عن نفس ما أمر به. أو العكس. فيكون:
إما بداءً. حيث تبين له من بعدُ القبح أو الحسن.
أو قصداً إلى النهي عن الحسن أو الأمر بالقبيح.
أو عبثا. حيث لم يتبين له ما لم يكن عرفه مما ذكر. وكلٌ من ذلك محال في حقه تعال.ى وما أدى إلى المحال فهو محال. فيكون النسخ قبل التمكن من فعل المنسوخ حتى نسخ محالا. لأن المكلف مع عدم
التمكن منه: غير مكلَّف به، فلا نسخ. وإن كان قد كلِّف به، ولم يتمكن منه، فهو بداء. كما بينا .
وأما بعد التمكن فيجوز. سواء كان قبل فعله أو بعده. فلا يشترط الفعل.
ومنهم: من جوز النسخ قبل الإمكان. وأقوى حججهم على ذلك: ما احتجوا به من أن إبراهيم عليه السلام أٌمِر بذبح ولده، ثم نسخ قبل التمكن!
والجواب: أنا لا نسلم أن إبراهيم عليه السلام أُمر بالذبح على الحقيقة. وإنما أُمر بما فعله من إضجاع ولده، وأخذ المدية فقط. بدليل قوله تعالى: { يا إبراهيم قد صدقت الرؤيا }. وهو لم يذبح. وإن سلمنا أنه أُمر به! فلا يخلو الأمر: إما أن يكون مؤقتاً؟ أولا ؟

(1/189)


والأول باطل. إذ ليس في الآية ما يدل على التوقيت. وإن كان مطلقا كما هو الظاهر، فلا حجة لهم فيه. إذ ليس مما نحن بصدده. لأن الخلاف في الفعل المؤقت قبل دخول وقته، أو بعد دخول الوقت قبل انقضاء زمان يسع المأمور به. والفعل هاهنا مطلق موسع غير مضيق. بدليل: {فانظر ماذا ترى}. ولو كان مضيَّقا لما اشتغل عنه بمراودته! وحينئذ فالغرض حصول الفعل. فيجوز أن يكون قد مضى وقت يمكن فيه إيجاد الفعل. فالنسخ بعد التمكن لا قبله. وذلك جائز كما بينا. والله أعلم.
(( والزيادة على العبادة نسخ لها )). أي: للعبادة المزيد عليها. لكن لا مطلقا. بل: (( إن لم يجز المزيد عليه بدونها )). أي: إن كان الزائد مخرِجا للأصل عند الإعتداد به. بحيث يجب استئنافه لو فعل وحده. وقد كان يفعل أولاً وحده ويجزي. فحينئذ يكون نسخا. وذلك: كزيادة ركعة، أو ركوع، أو سجود، في إحدى الصلوات الخمس. وكزيادة ركعتين في الرباعية. فإنه روي أنها فرضت مثنى مثنى، فزِيدت في الحضر. فإن هذه الزيادة تبطل أجزاء المزيد عليه. وذلك واضح. وإن لم يكن كذلك، بل كان فعله معتدا به دون الزائد، وإنما يلزم ضم الزائد إليه، ولا يجب الاستئناف، فلا يكون نسخا. وذلك: كزيادة عشرين جلدة في حد القاذف. وزيادة التغريب على الجلد في الزاني. وإنما كانت الزيادة على العبادة نسخا في الأول، دون الثاني. لأنه ارتفع بها في الأول حكم شرعي، وهو الإجزاء. فإن زيادة ركعة على الفجر مثلا، تبطل إجزاء الركعتين لو اقتصر عليهما المصلي. وتوجب استئناف ثلاث ركعات متوالية، بخلاف الثاني. فإن الزيادة لم ترفع حكما شرعيا، بل عقليا. ومدار النسخ على كون المرتفع بالناسخ حكما شرعيا. والله أعلم.
وهذا في الزيادة الغير المستقلة. وأما زيادة عبادة مستقلة على ما قد شرع من العبادات المتسقلة، فليس نسخا على الصحيح. كما إذا زِيدَ على الصلوات الخمس صلاة سادسة.

(1/190)


ومنهم من قال: بل ذلك نسخ. لأنه يخرج بزيادة صلاة سادسة مثلا، الوسطى عن كونها وسطى. فيبطل وجوب المحافظة عليها، وذلك حكم شرعي.
والجواب: أنه لا يبطل وجوب ما صدق عليها أنها وسطى. وإنما يبطل كونها وسطى، وليس حكما شرعيا. وكذا لو خُيِّر المكلف بين شيئين، أو ثلاثة؟ ثم زِيدَ عليها واحد. فإن تلك الزيادة نسخ. على الصحيح. مثاله: تخيير المكلف في خصال الكفارة بين ثلاثة أشياء: العتق، والكسوة، والإطعام. فإنه يقتضى تحريم الإخلال بها. فلو زِيدَ عليها رابع كالصوم مثلا، كان نسخا. لأنه رفع تحريم الإخلال بالثلاث. وهو حكم شرعي. والله أعلم.
((والنقص منها )) أي:من العبادة. سواء كان جزءاً أو شرطا (( نسخ للساقط )) من الجزاء والشرط، (( اتفاقا )). (( ولا )) يكون نسخا (( للجميع )) من العبادة (( على المختار )). إذ لم يرفع حكما شرعيا. لأنه لم يرفع وجوبها ولا إجزاؤها. فلو نقص ركعةً من أربع، أو شرطا منها، بقيت على الوجوب، من غير دليل ثان. ولو كان نسخا، لافتقرت إلى دليل آخر. وهو باطل بالإتفاق.
(( ولا يصح نسخ الإجماع )). وذلك برفع الحكم الثابت به. لأنه لو نُسخ فإما بنص قاطع، أو بإجماع قاطع، أو بغيرهما، وكل ذلك باطل.
أما الأول: فلأنه يلزم أن يكون الإجماع على الخطأ. لأنه على خلاف القاطع. وهو محال .
وأما الثاني: فلأنه يلزم منه خطأ أحد الإجماعين، المنسوخ أو الناسخ.لأنه على خلاف القاطع.
وأما الثالث: فلأنه أبعد مما قبله. للإجماع على تقديم القاطع على غيره. فيلزم خطأ هذا الإجماع. مع تقديم الأضعف على الأقوى. وهو خلاف المعقول .
(( و )) كذلك (( لا )) يصح نسخ (( القياس )). بأن يرفع حكم الفرع، مع بقاء حكم الأصل .
قال المصنف: (( إجماعا )). يعني في كلا الطرفين. والظاهر أن هذا إنما هو قول الأكثر. وأن الخلاف ثابت في كلا الطرفي.ن كما هو مذكور في بسائط هذا الفن. والله أعلم.

(1/191)


(( ولا )) يصخ (( النسخ بهما )). أي: بالإجماع والقياس غيرهما من الأدلة. كما أنهما لا يُنسخان. (( على )) القول (( المختار )) .
أما الإجماع فإنما لم ينسخ به لأمرين :
الأول : أنا إنما تُعُبِّدنَا به بعده صلى الله عليه وآله وسلم، ولا نسخ بعده. لأن النسخ إنما يراد لتغيير المصلحة، ولا هداية للمكلفين إلى ذلك .
والثاني: أن الإجماع لا يخلو إما أن يكون عن نص، أو عن غيره. إن كان عن نص فهو الناسخ، لا الإجماع. وإن كان عن غيره، فإن كان الأول _ أي المنسوخ بالإجماع _ قطعيا، لزم الإجماع على الخطأ. وهو باطل كما مر. وإن كان ظنيا لم يبق مع الإجماع دليلا. لأن شرط العلم به رجحانه، وإفادته الظن. وقد انتفى بمعارضة القاطع له، وهو الإجماع. فلا يثبت له حكم. فلا يُتصور النسخ فتأمل!
وأما القياس فكذلك: لا ينسخ به سواء كان جليا أو خفيا. لأمرين :
الأول: إجماع الصحابة على رفضه عند وجود النص. وهذا ظاهر في عدم النسخ به .
والثاني: خبر معاذ رضي الله عنه، فإنه قدَّم فيه النص على القياس. وهذا يدل على وجوب تقديم النص عليه. وأنه لا عبرة به مع وجود النص، خالفه أو وافقه. فلو نُسخ بالقياس لكان مخالفا لذلك. والله أعلم.
(( و )) لا يصح _ على المختار _ نسخ (( متواتر بآحادي )). وذلك لأن المتواتر قطعي، والآحادي ظني، والمظنون لا يقابل القاطع.
هذا: واعلم أن عدم جواز النسخ بالقياس والإجماع، وكذا عدم جواز نسخ المتواتر بالآحادي، إنما هو عند من فرق بين التخصيص، والنسخ. وقال إن التخصيص بيان. وجمع بين الدليلين. والنسخ إبطال، ورفع لأحدهما .
وأما من لم يفرق بينهما، وحكم بأن النسخ بيان لا رفع، وجعله نوعا من التخصيص، خاصا بالأزمان، بخلاف غيره، فإنه يكون في الأعيان والأزمان، فإنه يُجَوِّز النسخ بالإجماع والقياس. كما يجوز التخصيص بهما، ويجوز نسخ المتواتر بالآحادي.

(1/192)


وجواباتهم عما استدل به المانعون مذكورة في المطولات. وهي قوية جدا. والله أعلم.
(( وطريقنا إلى العلم بالنسخ )). اعلم أن لمعرفة الناسخ والمنسوخ طرقا، منها صحيحة، ومنها فاسدة .
والصحيحة منها: أدلة يعمل بها في المعلوم والمظنون.
ومنها: أمارات يعلم بها في المظنون فقط.
أما القسم الأول من الطرق الصحيحة فهو: (( إما النص )) الصادر (( من النبي صلى الله عليه وآله وسلم، أو من أهل الإجماع )) الذين هم جميع الأمة، الذين ينعقد بهم الإجماع، أو عترة النبي صلى الله عليه وآله وسلم _ عند من جعل إجماعهم حجة _ ويكون ذلك النص الصادر ممن ذكر إما (( صريحا )). نحو أن يقول أَيُّ هؤلاء: نُسخ هذا بهذا. أو هذا ناسخ، وهذا منسوخ.
(( أو غير صريح )). بأن ذكر ما هو في معنى الصريح. نحو قوله صلى الله عليه وآله وسلم: ( كنت نهيتكم عن زيارة القبور ألا فزوروها ). ( كنت نهيتكم عن ادخار لحوم الأصاحي إلا فادخروها ). وقوله تعالى:{ الآن خفف الله عنكم } بعد قوله:{ إن يكن منكم عشرون صابرون يغلبوا مأتين، وإن تكن منكم مائة يغلبوا ألفا من الذين كفروا}.
فهذان الطريقان دليلان يُعلم بهما في المعلوم والمظنون .
والقسم الثاني من الطرق الأُوَل بيَّنه بقوله: (( وإما إمارة )). ويشترط فيها أن تكون (( قوية )) بحيث يحصل بها الظن بتعيين الناسخ من المنسوخ. وذلك: (( كتعارض الخبرين من كل وجه، مع معرفة المتأخر )) منها. (( بنقل )) من أحد الصحابة. كأن يقول: هذا الخبر متأخر عن ذاك. وهذا الآية نزلت قبل تلك. فإنا نقبله .
قال بعضهم: ولو كان يقتضي نسخ المتواتر بالآحادي، لأن النسخ إنما حصل بطريق التبع .
قلت: وهذا على قول من يعمل بهذا في القطعي والظني. وأما من لم يعمل به إلا في المظنون فقط _كما سيأتي عن قريب _ فلا يقبله، إذا كان يقتضي ذلك. فتأمل! والله أعلم.
فأما لو قال: هذا ناسخ، وهذا منسوخ. فإنا لا نقبله. لأنه من الطرق الفاسدة. كما سيأتي.

(1/193)


(( أو )) تعارضهما من كل وجه، مع حصول (( قرينة قوية )) يحصل معها غلبة الظن بتأخر أحدهما. (( كغزاة )). أي: بأن ينسب الصحابي أحدهما إلى غزاة. (( أو )) ينسبه إلى (( حالة )) متقدمة، وينسب الآخر من المتعارضين إلى غزاة أو حالة متأخرة. نحو أن يقول: نزلت هذه الآية في غزاة بدر. وتلك في غزاة أحد .
أو قال: هذا الخبر في خامس الهجرة، وذلك في سادستها. (( فيعمل بذلك في المظنون فقط )). أي: إذا كان الخبر الذي عرف نسخه بأي هذا الأمارات مظنونا فقط. لا إذا كان معلوما، فلا يعمل به. لئلا يؤدي إلى ترك القاطع، الظنيُّ. (( على المختار )). لأن منهم من قال: إنه يعمل به في القاطع أيضا. لأنه إذا تعارض قطعيان تعين أحدهما. فإذا قال الصحابي: هذا متأخر عن ذاك. سُمع منه. فالنسخ إنما حصل بطريق التبع، لا بقول الصحابي.
وأجيب عن هذا: بأنه إذا قُبِل قول الصحابي في المتأخر، كان الناسخ في الحقيقة هو قول الصحابي. إذ لولاه لما وقع النسخ. وفيه ضعف.
وأما الطرق الفاسدة:
• ... فمنها: قول الصحابي. سواء عيَّن الناسخ، بأن يقول: هذا الحكم منسوخ بكذا. أو لم يعيِّنه. نحو أن يقول: هذا الحكم منسوخ.
أما الأول: فلأنه لم يبين الوجه في كونه ناسخا. بل أحاله علينا ولم يتحمل عهدته، فلا يُقبل. ولو كان الحكم ظنيا.
وأما الثاني: فلاحتمال أن يكون ذلك مذهبا له. ومذهب الصحابي ليس بحجة كما تقدم.
• ... ومنها: قًبلِيَّتُه في المصحف. فإنه لا يشعر بقبيلته في النزول. لأن الآيات لم ترتب على ترتيب النزول.
• ... ومنها: حداثة سن الصحابي. لأنه متأخر الصحبة. فلا يدل على تأخر ما نقله. لأن منقول متأخر الصحبة قد يكون متقدما. وبالعكس.
• ... ومنها: تأخر إسلامه. وهو كالذي قبله. ونحو ذلك.
فهذه: هي الطرق إلى تعيين الناسخ ومعرفته من المنسوخ. وما ليس بناسخ ولا منسوخ. والله الهادي .

(1/194)


فإذا عرفتها ولم تعلم الناسخ من المتعارضين بطريق مُعيَّن منها، وجب التوقف حتى يظهر دليل. لا التخيير فيهما، ولا إبطالهما، والأخذ في الحادثة بغيرهما. لأن مرجعه إلى رفع حكمها، مع العلم بأن أحدهما حق. وذلك مما لا يجوز. والله أعلم.
(( الباب التاسع ))من أبواب الكتاب (( في الإجتهاد والتقليد )).
أما (( الإجتهاد ))
فهو في اللغة: استفراغ الوسع في تحصيل الشيء. ولا يستعمل إلا فيما فيه كلفة ومشقة. يقال: اجتهد في حمل الصخرة، ولا يقال: اجتهد في حمل النواة. وهو: مأخوذ من الجُهد _ بضم الجيم، وفتحها _ وهو: الطاقة.
وفي الاصطلاح: (( استفراغ الفقيه الوسع في تحصيل ظن، بحكم شرعي )). فقوله: استفراغ الفقيه الوسع. جنس الحد. وقوله: في تحصيل ظن. احتراز من استفراغ الوسع في فعل من الأفعال.
وقوله: بحكم شرعي. احتراز من العقلي واللغوي. فلا يسمى الإستفراغ لتحصيلهما اجتهادا. والحكم الشرعي أعم من أن يكون أصليا، أو فرعيا.
قيل: والأَولى أن يقال: في تحصيل حكم شرعي. ليعم القطعي، والظني.
(( والفقيه )) في اصطلاح العلماء: (( من يتمكن من استنباط الأحكام الشرعية عن أدلتها )) وأماراتها (( التفصيلية )). وقد تقدم بيان هذه القيود في أول الكتاب.
(( وإنما يتمكن من ذلك )) أي: من الإستنباط المذكور الفقيه. وهو: المجتهد _ على ظاهر كلام القوم _ وإن كان قد شاع إطلاقه على من يعلم فن الفقه، وإن لم يكن مجتهدا.
والمجتهد هو: (( من حصَّل )) من العلوم (( ما يحتاج إليه فيه )). أي: في الإستنباط. والمحتاج إليه في ذلك: علوم خمسة، قد بينها بقوله:
1_ (( من علوم العربية )). من نحو، وتصريف، ولغة. وذلك لأن الأدلة من الكتاب والسنة: عربية الدلالة، فلا يتمكن من استنباط الأحكام منهما، إلا بفهم كلام العرب. إفرادا، وتركيبا. والذي يحتاج إليه منها: قدر ما يتعلق باستنباط الأحكام من الكتاب والسنة.

(1/195)


2_ (( والأصول )). والمراد بها: أصول الفقه، دون أصول الدين. لأنه لا يسمى علم الأصول مطلقا إلا أصول الفقه. ويسمى أصول الدين: علم الكلام. كما هو محقق في البسيطة. وذلك لأن علم الأصول مشتمل على: معرفة حكم العموم والخصوص، والمجمل والمبين، وشروط النسخ، ما يصح نسخه، وما لا يصح، وما يقتضيه الأمر والنهي، من الوجوب والحظر، والفور، والتراخي، والتكرار، وغيرها. ومعرفة الإجماع والقياس، وشروطه صحيحها وفاسدها، مع ما ضم إلى هذه من معرفة المفاهيم، والترجيحات، والحقيقة والمجاز، وغيرها. فلا يمكن استنباط الأحكام إلا بمعرفة هذه الأمور.
وأما فروع الفقه التي ولَّدها المجتهدون بعد اتصافهم بالإجتهاد، فليست بشرط. لأنها نتيجة الإجتهاد. فلا تكون شرطا له، وإلا لزم توقف الأصل على الفرع. وهو دَورٌ.
نعم: يشترط أن يعرف منها مسائل الإجماع كما سيأتي. وأما غيرها فإنها ليست من كمال الإجتهاد كما ذكرنا. لكن يشترط في المجتهد: أن يكثر معرفته فيها لحاجة الناس إليها. والله أعلم.
3_ (( والكتاب )) وهو: كتاب الله تعالى. ولا يشترط معرفة جميعه، كما زعم بعضهم.بل المشترط أن يعرف منه الآيات المتعلقة
بالأحكام. أي: التي تؤخذ الأحكام من ظواهرها، وصرائحها. وقد قُدِّرت خمسمائة آية. ولا يُشترط حفظها غيبا. بل يكفي أن يكون عارفا بمواضعها من السور، حتى يرجع إليه في وقت الحاجة، من دون أن يمضي على القرآن جميعا. وقد أفرد لها كثير من العلماء كتبا مستقلة، في تعيينها، وبيان معانيها، وما يؤخذ منها من الأحكام.
4_ (( والسنة )). أي: سنة رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم. ولا يشترط فيها أيضا الحفظ غيبا _ وإن كان أحسن _ فيكفيه كتاب مصحَّح، جامع لأكثر ما ورد في الأحكام. ويعرف موضع كل باب، بحيث يتمكن من الرجوع إليها. وذلك مثل: كتاب الشفاء للأمير الحسين. وأصول الأحكام للإمام المتوكل احمد بن سليمان. وأمالي أحمد بن عيسى. وكتاب السنن لأبي دواد.

(1/196)


وقد قيل: إن عدد الأحاديث التي يحتاج إليها ألف ألف حديث.
وقد قيل: سبعمائة حديث.
5_ (( ومسائل الإجماع )). أي: المسائل التي وقع عليها الإجماع من الصحابة والتابعين، وغيرهم، من مجتهدي هذه الأُمة. وهي قليلة جدا.
قيل: سبعة عشر مسألة. وإنما اشترط معرفتها ليعلم أن ما أدى إليه اجتهاده ليس مخالفا للإجماع. بأن يعلم أنه موافق لمذهب، أو واقعة متجددة لا خوض فيها لأهل الإجماع.
فهذه علوم الإجتهاد على الصحيح. وقد اشترط غيره ذلك.
منها: حال الرواة للأدلة.
قيل: لا بد من معرفة حالهم في القوة والضعف، ومعرفة الجرح
والتعديل. وهذه ليست بشرط، إلا عند من لم يقبل المراسيل. وأما من يقبلها فالمعتبر عنده صحة الرواية عن المصنف، ثم العهدة عليه.
ومنها: علم أصول الدين.
فقيل: ليس بشرط لإمكان استفادة الأحكام من أدلتها لمن جزم، بحَقِّية الإسلام، على سبيل التقليد.
وقيل: بل هي شرط. لتوقف الإستدلال بالسمعيات على ثبوت الباري، وصدق المبلغ. ولا يُعرف ذلك إلا به.
قيل: وهذا في التحقيق من لوازم منصب الاجتهاد وتوابعه. لا من مقدماته، وشرائطه.
(( والمختار )) عند المحققين (( جواز تبعد النبي صلى الله عليه وآله وسلم بالإجتهاد )) فيما لا نص فيه (( عقلا )). فإنه لا مانع من جوازه.
ومنهم: من منع من ذلك. واحتج بأنه لو جاز ذلك لجازت مخالفته، كسائر المجتهدين. لأن جواز المخالفة من لوازم أحكام الإجتهاد. والإجماع منعقد على المنع من مخالفته. والجواب عن ذلك: أن قياسه على سائر المجتهدين قياس مع وجود الفارق. إذ الفارق بينهما أن الله أوجب علينا إتباع قول رسوله صلى الله عليه وآله وسلم، صدر عن وحي، أو عن اجتهاد. بخلاف غيره.
وأما وقوع الإجتهاد منه فقد اختلف فيه:
فمنهم من قال: لم يقع.
ومنهم من قال: بل قد وقع.

(1/197)


ومنهم من قال: _ وهو المختار _ (( إنه لا قطع بوقوع ذلك )). أي: الإجتهاد منه صلى الله عليه وآله وسلم. (( ولا انتفائه )). لعدم الدليل عليهما. وهذا في الأمور الدينية. وأما الدنيوية، وفي الآراء، والحروب، فإنه قد دل الدليل على وقوعه.
من ذلك: أذنه للمتخلفين بالتخلف. فإنه كان عن اجتهاد. بدليل أنه عوتب عليه في قوله تعالى: { عفا الله عنكَ لِمَ أذنت لهم }. إذ لا يعاتب على ما كان بالوحي. وكما روي أنه صلى الله عليه وآله وسلم في بدر أحط في موضع عن رأيه. بدليل أنه سُئِل: هل ذلك عن رأي أو عن وحي؟ فروجع فانتقل. والقصة مستوفاة في سيرة ابن هشام. وغير ذلك من الوقائع كثي.ر كما في كتب السِّيَر.
فأما ما عدى ذلك من أمور الدين فلا دليل على وقوع الإجتهاد فيه. والأصل عدمه.
[ فائدتان في الاجتهاد ]
على القول بوقوع الإجتهاد منه صلى الله عليه وآله وسلم:
الأولى: إذا اجتهد صلى الله عليه وآله وسلم في أمر هل يجوز أن يخطئ فيه؟
قيل: لا. والأوجَب اتباعه فيه.
وقيل: يجوز. بشرط أن لا يقر عليه.
قلنا: إذا قلنا بوقوعه، فلا خطأ قطعا. إذ المطلوب من المجتهد ما أدى إليه ظنه. لا غير ذلك، فلا خطأ حينئذ مع توفية الإجتهاد حقه. فتأمل.
الثانية: إذا اجتهد صلى الله عليه وآله وسلم فقاس فرعا على أصل، فإنه يجوز القياس على هذا الفرع. لأنه صار أصلا بالنص. وكذا إذا أجمعت الأُمة على ذلك. ذكره بعضهم.
(( و )) المختار أيضا أنه يصح الإجتهاد في عهده صلى الله عليه وآله وسلم. و(( أنه قد وقع )) ممن عاصره (( في غَيبته )) صلى الله عليه وآله وسلم. بدليل: خبر معاذ رضي الله عنه، حين وجَّهَه صلى الله عليه وآله وسلم إلى اليمن، حيث قال: ( اجتهد رأيي. وأَقَرَّه ) .

(1/198)


(( و )) في (( حضرته )) أيضا صلى الله عليهوآله وسلم. كقول أبي بكر يوم حنين فيمن سلب قتيل غيره: لاها الله إذًا يعمد إلى أسد من أُسد الله يقاتل عن الله ورسوله، فيعطيك سلبه! فقال صلى الله عليه وآله وسلم: صدق. وكحكم سعد بن معاذ في بني قريظة في حضرته صلى الله عليه وآله وسلم: بقتلهم وسبي ذراريهم. فقال صلى الله عليه وآله وسلم: ( لقد حكمت بحكم الله من فوق سبعة أرقعة ) .
(( و )) المختار أيضا (( أن الحق في )) المسائل (( القطعيات )) _ وهي: التي تكليفنا متعلق فيها بالعلم اليقين، ولا يكفي فيها الدليل الظني، بل لا بد من القطعي، وهي المسائل العقلية الكلامية _ (( مع واحد والمخالف مُخطٍ آثم )). سواء اجتهد، أولم يجتهد. يعني الحق فيها مع واحد. فمن أصابه فقد أصاب الحق، ومن أخطأه فقد أخطأ. فإن كان فيما يرجع إلى الله ورسوله فكفر. وإلا فابتداع.
(( فأما )) المسائل (( الظنية )). أي: التي تكليفنا متعلق فيها بالظن. ولا يُحتاج فيها إلى دليل قطعي، بل دليلها ظني. (( العملية )) أي: التي المطلوب فيها العمل دون الإعتقاد.(( فكل مجتهد فيها مصيب )). أي: لا حكم لله تعالى معين فيها قبل الاجتهاد. وإنما المطلوب من كلٍ ما أداه إليه نظره. فمراد الله تعالى وحكمه فيها تابع للظن. لا أن الظن تابع لمراده تعالى. فما ظنَّه فيها كل مجتهد فهو حكم لله تعالى فيها. في حقه وفي حق مقلده. والدليل على أن ما ذكر هو المختار في الطرفين جميعا:
أما الطرف الأول: _ أعني _ كون الحق في القطعية مع واحد. فالدليل على ذلك: أنا لو قلنا: كل مجتهد مصيب. وأن الحق فيها ليس واحدا، لأدى ذلك إلى الحكم بإجتماع النقيضين. وهو محال. كما إذا قلنا بصحة قول من يقول بحدوث العالم، وقول من يقول بقدمه. لحكمنا بصحة الحدوث والقدم، وإجتماعهما. وهو محال. ونظائر ذلك كثيرة.
وأما الطرف الثاني: فيدل عليه أمران:
عقلي.
ونقلي.

(1/199)


أما النقلي فتحريره أن يقال: كل مسألة من الأحكام العملية وغيرها، نحن مكلفون بها. ولا دليل عليها قاطع، لا يخلو: إما أن يكون مراد الله تعالى منا فيها متعينا في علمه؟ أولا؟! ولا قسم ثالث .
إن كان الأول _ أعني _ أن مراد الله تعالى متعين. فلا يخلو أيضا:
إما أن يكون المطلوب منا في معرفته _ أي مراده تعالى _ الوصول إلى العلم اليقين؟ أولا؟! ولا ثالث.
الأول باطل. _ أعني أن يكون المطلوب منا الوصول إلى العلم اليقين_ لتضمنه تكليف ما لا يطاق. إذ المفروض أن لا دليل عليها قاطع. فلا يكون ثَمَّ طريق موصل إلى العلم. إذ الموصل إليه هو القاطع.والمفروض عدمه.
وإن كان الثاني. _ أعني ليس المطلوب منا في معرفته الوصول إلى العلم اليقي، ن بل الظن فقط _ فلا يخلو:
إما أن ينصب لنا أمارة تثمر الظن المتعلق بما أراده تعالى منا فيها؟ أولا؟!
إن كان الثاني _ أعني لم ينصب لنا أمارة كذلك _ فباطل أيضا. لأنه إما أن لا يكون له منا فيها مراد، نحن مكلفون به. فهو خلاف الفرض. إذ المفروض أنا مكلفون بها. وإن كان له منا مراد فيها، ولا دلالة عليه، ولا أمارة له، فتكليفنا بمراده تعالى بعينه تكليف بما لا يطاق. وذلك واضح.
وإن نصب لنا أمارة تثمر الظن فقط بمراده، في ذلك. فلا يخلو:
إما أن يريد منا تيقن إصابة الظن المطابق لمراده تعالى المتعين ؟ أولا؟! إن أراد منا ذلك، أدى إلى أحد باطلين. لأنه إما أن يريد منا تيقن إصابة الظن المطابق لمراده تعالى، لزم أن يكون عليه دليل قاطع. حتى يحصل التيقن. وذلك يستلزم كون ذلك الظن علما. لِعِلمنا مطابقته لمتعلقه. وهذه هي حقيقة العلم. كما تقدم في صدر الكتاب. وهذا باطل. لأن الظن غير العلم قطعا.

(1/200)


أو لا يريد منا تيقن إصابة الظن المطابق لمراده تعالى. وإنما يريد منا ظن إصابته. سواء أصبناه، أو لم نصبه. لزم من ذلك أن يكون مراده تعالى منا إنما هو ما أدى إليه اجتهادنا. ولا مراد له منا سوى ذلك. لأن إرادة ما سواه إن تعلق بها تكليفنا أي كنا مكلفين بذلك، فهو تكليف ما لا يطاق. من حيث أنه أراد منا ظن إصابة الظن المطابق لمراده تعالى. وهذا يلزم منه أن مراده منا ما أدانا إليه الاجتهاد. وهو يريد منا سوى ذلك. وإن أراد منا سوى ما أدانا إليه اجتهادنا. ولم يتعلق به تكليفنا، فإرادته عبث. وهو قبيح. والله تبارك وتعالى يتنزه عن ذلك. وهذا أيضا باطل كما ترى. فبطل بما ذُكِر أن يكون مراد الله في تلك المسائل متعينا في علمه تعالى.
وأما إذا لم يكن له منا تعالى في تلك الأحكام التي لا دليل عليها قاطع مراد معين.
فإما أن يكون علينا فيها تكليف؟ أو لا ؟!
إن لم يكن علينا فيها تكليف، فلا إشكال. وهو خلاف الفرض. لأن الفرض أنا مكلفون بها. وإن كان علينا فيها تكليف أراده منا. فإما أن ينصب لنا أمارات، ويأمرنا بالعمل بما أدتنا تلك الأمارات إليه من الظنون؟ أو لا؟!
إن لم ينصب كان التكليف بالعمل بها حينئذ تكليف ما لا يطاق.
وإن نصب فالعامل بما أدى إليه اجتهاده حينئذ قد أصاب مراد الله تعالى. إذ قد عمل بمقتضى الأمارة، التي نصبها تعالى. وليس له تعالى فيها مراد متعين. وذلك واضح لا إشكال فيه. فيلزم من ذلك أن يكون كل مجتهد مصيبا. لأنه قد فعل مراد الله تعالى، من غير شك. فهذا هو الدليل العقلي على: أن كل مجتهد في المسائل الظنية العملية مصيب. ذكر معناه الإمام المهدي عليه السلام، في المنهاج.
قال عليه السلام: وهو دليل قاطع لا غبار عليه، مبني على القول بالعدل والحكمة. وهو واضح المسالك.
وأما الدليل النقلي: فمِن ذلك قوله تعالى: { ما قطعتم من لينة أو تركتموها قائمة على أصولها فبإذن الله }.

(1/201)


ووجه الإستدلال بها: أنها نزلت في رجلين من الصحابة، في حال حصار النبي صلى الله عليه وآله وسلم لبني قريظة. كان أحدهما يجتهد في إفساد نخليهم وقطعها. والآخر يجتهد في تقويمها وتصليحها. فبلغه صلى الله عليه وآله وسلم خبرهما. فاستحضرهما فسألهما عن شأنهما، في ذلك؟
فقال الذي كان يُفسدها: أما أنا يا رسول الله فخشيت أن لا يحصل الإستيلاء عليهم. وأردت أن لا ينتفعوا بها، إن بقوا.
وقال الآخر: وأنا وثقت من الله تعالى بالنصر لرسوله، وتمكينه منهم، فتبقى أرضهم فيئًا للمسلمين، ينتفعون بها. فجعلت أصلحها لذلك.
فتوقف رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: في تصويب أيهما. حتى نزلت الآية مصرَّحا فيها بأنه أراد من كل واحد منهما ما أداه إليه نظره. لقوله تعالى: { فبإذن الله }. ولا أذن منه تعالى في تلك الحال إلا الإرادة. فكذا حال المجتهدين في المسائل الظنية.
قلت: ومما يدل على الإصابة أيضا قوله تعالى في قصة موسى وهارون عليهما الصلاة والسلام، حيث قال حاكيا:{ ما منعك إذ رأيتهم ضلوا ألا تتبعني، أفعصيت أمري ؟}. فقال هارون عليه السلام:{ إني خشيت أن تقول فرقت بين بني إسرآئيل ولم ترقب قولي}.
ووجه الإستدلال بها: أنه أخبر هارون عليه السلام أن عدم اتباعه لأخيه كان عن اجتهاد. وهو أنه ظن أنه إن اتبع أخاه لأمه على مفارقة بني إسرائيل لا عن وحي، بدليل قوله: {إني خشيت}.إذ الخشية: عبارة عن الظن. ولم يعترضه موسى عليه السلام. بل قَبِل ذلك منه، وصوبه وقرره. فدل ذلك على أنه مصيب في اجتهاده. وأن كل مجتهد مصيب. فتأمل!

(1/202)


ومما يدل على الإصابة قوله صلى الله عليه وآله وسلم: ( أصحابي النجوم بأيهم اقتديتم اهتديتم ). فدل ذلك على أن كل مجتهد منهم مصيب. إذ لو كان الحق مع واحد، وغيره مخطٍ في اجتهاده لم يكن في متابعته هدى. إذ الهدى إنما يكون في متابعة المحق، دون المخطئ. وقد جعل صلى الله عليه وآله وسلم الهدى في متابعة أيهم كان. واختلافهم في المسائل الظنية معلوم. فدل ذلك على إصابتهم جميعا فيها. وذلك واضح كما ترى. فهذه الأدلة التي ذكرناها هي أقوى ما يُستدل به على الإصابة. لظهورها في ذلك. وقد يُستدل بغيرها لكن يمكن الجواب عليها بأدنى نظر. فتركناها لعدم الحاجة إليها، وخشية التطويل بذكرها لغير فائدة. والله أعلم.
(( و )) المختار عند الجمهور أيضا: (( أنه )) _ أي الشأن _ (( لا يلزم المجتهد )) إذا كان قد اجتهد في حادثة ووفَّى الإجتهاد حقه، فأداه نظره فيها إلى الحكم، فإنه لا يلزمه حينئذ (( تكرار النظر )) في وجه الإستنباط، (( لتكرر الحادثة )) بعينها. بل يكفيه النظر إلى الأول فيها. إذا كان ذاكرا لما مضى من طرق الإجتهاد. وما قضى بها رأيه فيها. فيفتي به إذ قد اجتهد فيها الإجتهاد الأول. وإن جوزنا ما يقضي ببطلانه. لكن الأصل عدمه. وأيضا لو وجب التكرار لذلك التجويز، لوجب تكرار النظر أبدا. وإن لم تتكرر الواقعة. لأن تجويز ما يقضي بالتغيير محتمل أبدا، غير مقيد بتكرار الواقعة. والإتفاق على بطلانه. والله أعلم.
فإن نسي ذلك، لزم استئناف الإجتهاد. فإن تغير اجتهاده لزمه العمل بالثاني.
(( و )) المختار عند جمهور العلماء: (( أنه )) أي: المجتهد إذا استدل بدليل، (( يجب عليه البحث عن الناسخ )) لذلك الدليل. هل هو موجود ؟أم لا ؟.

(1/203)


(( و )) كذلك (( المخصص له حتى يُعلم عدمهما )). أي: الناسخ والمخصص. _ يعني _ أن المجتهد إذا أراد أن يستدل بدليل فإن كان نصا في المقصود، أو ظاهرا فيه، لم يستدل به حتى يعلم أو يظن أنه غير منسوخ ولا متأول بتأويل يخالف ظاهره. وإن كان عآما فلا بد أيضا أن يعلم، أو يظن هل هو مخصص؟ أم غير مخصص ؟ وقد روي عن الصيرفي: أن ذلك لا يجب. وقد تقدم في باب العموم استيفاء الكلام في بيان هذه المسألة، وتحقيق كلام الصيرفي. فليرجع إليه. واعلم: أنه لايجب عليه البحث، إلا في كتاب مما قد ظهر تصحيحه، كأحد الصحاح المشهورة، أو ما رواه علماء أهل البيت عليهم السلام، في الكتب التي قد صحت عنهم.
وأما أنه يجب عليه استيفاء جميع الأخبار الواردة عنه صلى الله عليه وآله وسلم، واستقصاؤهما فلا. لتعذر ذلك. لكثرة الرواية عنه صلى الله عليه وآله وسلم، والرواة. حتى خرجت عن حد الضبط. فتأمل ذلك! موفقا إن شاء الله تعالى.
(( و )) المختار أيضا عند أكثر العلماء: (( أنه لا يجوز له )) أي: المجتهد (( تقليد غيره )) من العلماء، في شيء من الأحكام الشرعية. (( مع تمكنه من الإجتهاد )). لأنه إنما يُكلف بظنه. ولا شك أن المجتهد يجد الطريق إلى الظن. فليس له العمل بغير ظنه. وهو ظن من يقلده. ولو كان ذلك في بعض المسائل، على القول بتجزؤ الإجتهاد والله أعلم.
(( ولو )) كان ذلك الغير (( أعلم منه )).
ومنهم من ذهب إلى: جواز تقليد الأعلم. (( ولو )) كان الأعلم منه (( صحابيا )) أيضا.
ومنهم من قال: يجوز تقليد الصحابي. ولو لم يكن أعلم. والحجة لنا: ما مر آنفا.
(( و )) لا يجوز له التقليد أيضا (( فيما يخصه )).
ومنهم من قال: يجوز فيما يخصه، دون ما يفتى به.
نعم: هذا الخلاف إنما هو قبل أن يجتهد في الحكم، وأما بعده فإنه
(( يحرم )) عليه أن يقلد، (( بعد أن )) قد (( اجتهد اتفاقا )) بين العلماء.

(1/204)


(( وإذا تعارضت )) على المجتهد (( الأمارات )) في حكم، (( رجع إلى الترجيح )) بينهما. فيعمل بما ظهر له فيها. من أي وجوه الترجيح الآتية إن شاء الله تعالى.
(( فإن لم يظهر له رجحان )). فقد اختلف العلماء في ذلك:
(( فقيل )) أي: قال أبو علي، وأبو هاشم: أن المجتهد (( يُخَيَّر حينئذ )). بمعنى: أن له أن يعمل بأيها شاء.
(( وقيل )) أي: قال ابن أبان: بل يجب عليه أن (( يقلد أعلم منه )) في جميع العلوم، أو في ذلك الفن التي تلك الحادثة فيه. يعني أنه إذا روى أحد المتعارضين أعلم ممن روى الآخر، فإنه يعدل إلى رواية الأعلم. لأن رواية الأعلم من المرجحات. لأن العلوم على اختلافها تزكي الفطن العقلية. فأكثر الناس علما أثبتهم عقلا، وأجودهم ضبطا لما يروي.
(( وقيل )) والقائل أبو طالب عليه السلام، وأكثر الفقهاء: بل إذا لم يظهر له مرجِّح فإنه يجب عليه أن يطرحهما، لأنهما صارا بالتعارض كأنهما لم يوجدا. وحينئذ (( يرجع )): إما إلى غيرهما من أدلة الشرع، إن وجد. وإلا رجع (( إلى حكم العقل )). فيعمل بمقتضاه في ذلك الحكم. ورجَّح هذا القول الإمام المهدي عليه السلام .
(( و )) اعلم: أنه (( لا يصح لمجتهد قولان متناقضان في )) حادثة واحدة، في (( وقت واحد )). بمعنى: أنه لا يصح له أن يقول في وقت واحد بتحليل أمر وتحريمه. أو ندبه وإباحته. بالنسبة إلى شخص واحد. لتعذر اجتماع النقيضين في حكم واحد. ولأنه إن تعادل دليلاهما وجب الوقف. وإن ترجح دليل أحدهما فهو قوله. فيتعين. قولنا: لمجتهد. احتراز من الأكثر، لكثرة تناقض أقوال المجتهدين. وقولنا: في حادثة واحدة. لأنه لا تناقض عند تعدد الحوادث. وقولنا: في وقت واحد. للقطع بجواز تغير الإجتهاد. وقولنا: بالنسبة إلى شخص واحد. لأنه لا تناقض في التحليل لزيد، والتحريم لعمر. وعند تعادل الأمارتين عند من يقول بالتخيير. فيصح أن يفتي بهما في وقت، لشخصين. ولا تناقض.

(1/205)


(( وما يحكى عن الشافعي )) رحمه الله تعالى. هذا جواب عن سؤآل مقدَّر. كأنه قيل: قد حكمتم بأنه لا يصح لعالم قولان.فما تقولون فيما يحكى عن الشافعي؟! فإنه قد حكي عنه أنه قال في أربع عشرة مسألة لي فيها قولان! فأجاب: أنه (( متأول )) بوجوه:
أصحها أنه يعني أن له فيها قولين. قال بأحدهما. ثم قال بضده من بعد. واعتمده والله أعلم.
(( ويُعرف مذهب المجتهد في المسألة )) بأمور:
منها: قوله (( بنصه )) _ أي المجتهد _ (( الصريح ))، على
تلك المسألة. نحو أن يقول: المثلَّث حرام.
(( و )) منها: (( بالعموم الشامل لتلك المسألة )) ولغيرها. نحو
أن يقول: كل مسكر حرام. فيُعلم أنه يحرُم المثلث عنده.
(( و )) منها: (( مماثلة )) تلك المسألة (( ما نص عليه )) من
نظائرها. نحو أن يقول: الشفعة لجار الدكان. فيُعلم أن جار الدار مثله عنده. إذ لا فرق بين الدار والدكان.
(( و )) منها: (( تعليله )) لمسألة (( بعلة توجد في غير ما نص
عليه )). نحو أن يقول: يحرم التفاضل في بيع البر بالبر. للإستواء فيالجنس والتقدير. فيُعلم منه أن مذهبه في الشعير وغيره كذلك.
(( وإن كان )) ذلك المجتهد (( يرى جواز تخصيص العلة ))، فإن ذلك لا يمنعنا من الجزم بثبوت الحكم. حيث وجدت العلة. وأنه مذهبه في ذلك. ولا يلزمنا أن نتوقف حتى نبحث هل هو يقول بتخصيصها في ذلك النظر؟ أم لا ؟ مهما لم يكن منه نص على تخصيصها بذلك المحل. فهذه الأمور هي التي يعرف بها مذهب العالم. فيصح أن نخرج له مذهبا على أيها. والله أعلم.
(( وإذا رجع )) المجتهد (( عن اجتهاد )) كان قد قلده فيه غيره.
(( وجب عليه إيذان مقلده )) برجوعه. حتى يرجع إن كان مؤخرا للعمل بفتواه. أو كان العمل بها في المستقبل مما يتكرر كالصلاة. أو كان مما له حكم مستدام كالنكاح .

(1/206)


وأما ما قد فعله وليس مما يتكرر، ولا مما له حكم مستدام.بل قد نفذ فلا حكم لرجوعه فيه. نحو: أن يقلده في شيء من أعمال الحج. ثم يرجع المجتهد بعد أن قد أداه مقلده على اجتهاده الأول، فهذا لا حكم لرجوعه فيه. فلا يجب الإيذان. فتأمل! والله أعلم.
(( وفي جواز تجزؤ الإجتهاد )) في فن دون فن، ومسألة دون أخرى، (( خلاف )) بين العلماء.
فمنهم من قال: يصح. لجواز أن يطلع القاصر عن الإجتهاد الأكبر على أمارات فن أو مسألة، دون فن آخر ومسألة أخرى. فيصير في ذلك مجتهدا. ولا مانع من ذلك.
ومنهم من قال: لا يصح ذلك. بمعنى أنه لا يكمل للإجتهاد الأصغر إلا من كمل للإجتهاد الأكبر. لجواز أن يتوقف شيء من ذلك على مالا يعلمه .
قلنا: ذلك خلاف الفرض. والله أعلم.
(( فصل ))(( والتقليد )) في اللغة:
مشتق من القلادة. كأن المقلد يجعل قول العالم الذي يتبعه فيه، قلادة في عنقه. أو يجعل قوله الذي تبع فيه العالم قلادة في عنق العالم.
وفي الاصطلاح: (( إتباع قول الغير من دون حجة ولا شبهة )). أي: من دون أن يطالب المتَّبِع صاحبَ القول بحجة، ولا شبهة. إذ لو طالب في أيهما لم يكن مقلدا. فحينئذ المقلد: هو المتبع للغير. سواء كان ناويا للعمل بقوله، أم لا .
وأما المستفتى: فهو من لم ينو العمل بقول عالم. وإنما يَعتمد على السؤآل. وسواء عمل، أم لا .
وأما الملتزِم: فهو من نوى العمل بقول عالم في مسألة أو اكثر، مستمرا. وسواء عمل، أم لا .

(1/207)


(( و )) اعلم (( أنه لا يجوز التقليد في )) علم (( الأصول )). سواء كان من أصول الدين، كمعرفة الباري تعالى وقدمه، ومعرفة صفاته وأسمائه، ومعرفة النبوات وما يتعلق بها، والوعد والوعيد. أو من أصول الفقه. أو من أصول الشريعة. التي هي: الصلاة، والصوم، والحج، ونحوها. لما تقرر أن الحق فيها مع واحد، والمخالف مخطٍ آثم. فلا يأمن المقلد أن يكون من قلده مخطئا. فيكون على ضلالة في دينه، ويكون هالكا. لهذا حث الله تعالى على النظر والتفكر. فقال:{ويتفكرون في خلق السموات …}الآية. { أفلا ينظرون إلى الإبل كيف خلقت }. وغير ذلك في القرآن كثير.
واحتج تعالى على الكفار في جميع القرآن، وذمهم على تقليدهم الأباء. في قولهم { إنا وجدنا آباءنا على أمة وإنا على أثارهم مقتدون }.
(( ولا )) يجوز أيضا التقليد (( في العلميات )). وإن كانت من الفروع. وذلك كمسألة الشفعة، وفسق من خالف الإجماع.
وسميت علمية. لأنها لم تتعلق بها كيفية عمل.
وفرعية لابتنائها على غيرها. لأن المسائل المأخوذة من الأدلة، إما أن لا تتعلق بها كيفية عمل.
وتسمى اعتقادية علمية. وذلك كقولنا: الباري تعالى سميع بصير. لأن الغرض منها مجرد اعتقاد لا عمل.
وتسمى أصلية أيضا. لإبتناء العمليات عليها .
وإما أن تتعلق بها كيفية عمل،
وتسمى عملية. كقولنا: الوتر مندوب. إذ المقصود منها: الأعمال. وفرعية لإبتنائها على الإعتقادية. ولتعلقها بالعمل الذي هو فرع على العلم. وهذه يجوز التقليد فيها. كما سيأتي.

(1/208)


(( ولا )) يجوز أيضا التقليد (( فيما يترتب عليها )). أي: على العلميات. وذلك كالموآلاة للمؤمن. وحقيقتها: أن تحب له كلما تحب لنفسك، وتكره له كلما تكره لها. ومن ذلك: تعظيمه، واحترام دمه، وماله، وعرضه. فذلك وإن كان عمليا، فلا يجوز التقليد فيه. لترتبه على أمر علمي وهو الإيمان. وكذلك المعاداة. وهي نقيض الموالاة. فهذه الأمور المتقدمة لا يجوز التقليد فيها، ولا العمل بالظن. بل لا بد من العلم اليقين عن الدليل الدآل عليها. والله أعلم.
(( ويجب )) التقليد من غير شرط (( في العملية المحضة )). أي: التي لا تَعَلُّق لها بالعلم. وذلك بدليل قوله تعالى:{ فاسألوا أهل الذكر إن كنتم لا تعلمون }. فقيد تعالى الأمر بالعلة التي هي عدم العلم. فيتكرر بتكررها. فكلما تحقق عدم العلم، تحقق وجوب السؤآل. فتأمل! والله أعلم.
ومنهم من قال: إنه إنما يجب عليه التقليد بشرط أن يسأل العالم لينبهه على طريق الحكم، ويبين له صحة اجتهاده بدليله. والمختار أنه يجب عليه التقليد بغير شرط في العملية المحضة. وسواء في ذلك (( الظنية )) _ وهي التي دليلها يثمر الظن. كمسائل الخلاف من الفروع _
(( والقطعية )). وهي التي دليلها يثمر القطع. كوجوب الوضوء، بقوله تعالى:{ إذا قمتم إلى الصلاة }. وكتحريم الربا في الأشياء الستة. الثابت بالنص منه صلى الله عليه وآله وسلم.
ومنهم من قال: إنما يجب ذلك في الظنية فقط. وأما القطعية فلا. والصحيح ما ذكره المصنف رحمه الله تعالى من وجوبه مطلقا. والدليل على ذلك: أن العلماء رحمهم الله تعالى، لم يزالوا يُستفتون في المسائل القطعية والظنية، فيُفتون ويُتبعون في ذلك، من دون تفرقة بين معلوم ومظنون. ولا إبداء مستند. وشاع ذلك عنهم وذاع وتكرر. ولم ينكر عليهم أحد. فكان إجماعا على ما ذهبنا إليه، من اللزوم من غير شرط، واقتضاء التعميم أيضا. فثبت ما قلنا. وبطل ما قاله الخصم. والله الموفق.

(1/209)


وإنما يجب التقليد فيما ذكر (( على غير المجتهد )). سواء كان عآميا صِرفا، أو عارفا بطرف صالح من علم الإجتهاد. لا المجتهد فلا يجوز له التقليد. كما تقدم.
(( و )) يجب (( على المقلد البحث عن كمال من يقلده )). إذا جهل حاله (( في علمه وعدالته )). وذلك لأنه يُشترط في المقلد.
وصلاحيته للتقليد: العلم والعدالة. ولا طريق إليهما مع جهل الحال إلا البحث. فيجب عليه ، حتى يعلم هل هو جامع للإجتهاد والعدالة، فيقلده؟ أو لا؟ فلا يقلده.
(( ويكفيه )) أي: المقلد عن البحث في جواز تقليد من أراد تقليده
(( انتصابه )). أي: المقلد (( في بلدِ )) إمامٍ (( محقٍ لا يجيز تقليد كافر التأويل )) _ وهو المجبر والمشبه _ (( وفاسقه )) _ وهو الباغي على إمام الحق. وإنما اشتُرِط ذلك: لأنه مهما لم يكن انتصابه كذلك، لم يأمن المستفتى الذي يَحرم عنده تقليد فاسق التأويل وكافره، أن يكون هذا المنتصب فاسق تأويل أو كافره عنده. فلا يجوز الأخذ عنه. إذ لا يحصل ظنٌ بصلاحيته حينئذ. فإما إذا كان انتصابه في البلد المذكور، فإنه يغلب في الظن أنه ليس كذلك.
نعم: وهذا إذا كان المقلد مُغرِبا عن حال المفتى. لا إن كان مختبرا له، وعارفا بصلاحيته. فإنه يجوز له التقليد، والأخذ عنه. وإن لم يكن كذلك. والله أعلم.
(( و )) يلزم المقلد (( أن يتحرى الأكمل )) من المجتهدين في العلم، والورع. من علماء بلده، وغيرهم. وذلك: لأن أقوال المجتهدين بالنسبة إلى المقلد، كالأدلة بالنسبة إلى المجتهد إذا تعارضت. فكما لا يجوز للمجتهد إذا تعارضت الأدلة أن يصير إلى أيها تحكما. بل لا بد من مرجِّح. كذلك المقلد. والترجيح في حقه إنما يكون بالأكملية في العلم، والورع. فيلزمه تحري ذلك، ليقوى الظن بصحة قوله .

(1/210)


(( و )) تقليد المجتهد (( الحي أولى من )) تقليد المجتهد (( الميت )). وإن كان يجوز تقليده على الصحيح. وإنما كان أولى للعلم باستمراره على قوله. بخلاف الميت. إذ لا يٌؤمن أنه لو كان حيا لرجع عنه. وأيضا فإن الطريق إلى كماله يكون أقوى من الطريق إلى الميت، في غالب الأحوال. وأيضا فإنه قد خالف في صحة تقليده، بعض مَن قال بالتقليد. بخلاف الحي.
(( و )) كذلك تقليد المجتهد (( الأعلم )). وسواء كان حيا، أم ميتا. (( أولى من )) تقليد المجتهد (( الأورع )). بعد استكمالهما لنصاب الإجتهاد، والعدالة. ولكن أحدهما زاد في العلم، والآخر في الورع. فإن الذي زاد في العلم أولى بأن يُقلد، ممن زاد في الورع. لأن الظن بصحة قوله: أقوى. لقوة معرفته بطرق الحادثة. والله أعلم.
(( والأئمة المشهورون )) بكمال الإجتهاد، والعدالة، من أهل البيت عليهم السلام، وسوءا كانوا ممن قام ودعا، كالقاسم، والهادي عليهما السلام وغيرهما. أم لا، كعلي بن الحسين زين العابدين، والصادق عليهما السلام، وغيرهما. (( أولى )) بأن يقلدوا (( من غيرهم )) من سائر المجتهدين عندنا. وذلك لما بيَّنا آنفا. من أنه يلزم المقلد تحري الأكمل علما وعدالة. وأئمة أهل البيت عليهم السلام هم المختصون بالكمال فيهما. لأن مذهبهم عليهم السلام متضمن للعدل والتوحيد. لما عُلم من نصوصهم بذلك، ومن تخطئتهم المجبرة والمشبهة. إذ لم يُسمع عن أحد من الناس أنه نقل عن واحد من مجتهديهم ما يخالفهما. فهم منزهون عن الرذائل التي رويت عن غيرهم.
منها: إيجاب القدرة لمقدورها. فإنها تستلزم الجبر. من حيث أنه يلزم أن لا يتعلق الفعل بالقادر، ولا ينسب إليه.بل إنما يتعلق بفاعل القدرة. لأنها موجِبَة له، وسبب فيه. وفاعل السبب فاعل المسبب. وهذا قد روي عن النعمان بن ثابت أبي حنيفة. بخلاف من قال: إنها مجوزة له. فإنه لا يلزم ذلك. كما هو مذهب أهل البيت عليهم السلام.

(1/211)


ومنها: تجويز الرؤية على الله تعالى يوم القيامة. فإنها تستلزم التشبيه له تعالى بالأجسام، والإعراض. تعالى عن ذلك علوا كبيرا. إذ لا يُرى إلا ما هو جسم، أو عرض. وذلك يستلزم حدوثه تعالى. وهذا قد روي عن محمد بن إدريس الشافعي.
ومنها: المصالح المرسلة. وهي التي لا يشهد لها أصل معين بالإعتبار، ولا بالإلغاء. كما تقدم. وهي مروية عن مالك بن أنس الحميري. وأنه كان له بها لَهَجٌ كثير. حتى أنه نسب إلى إفراط مذموم. وهو: القول بجواز قتل ثلثِ مَن لا يُستباح دمه لبقاء الثلثين. والله أعلم. ومنها: التجسيم لله تعالى. فإنه يروى عن أحمد بن حنبل.
فهذه الرذائل أهل البيت عليهم السلام منزهون عنها. فكانوا أكمل علما، وعدالة. بخلاف غيرهم. فإنه قد روي عنهم شيء منها. كما ذكرنا. وهي تقتضي الإختلال في العلم، والعدالة. وإن كان قد ذكر الإمام المهدي عليه السلام: أن الفقهاء المذكورين منزهون عن تلك الرذائل. لأنها تقتضي اختلالا في الدين. ونحن من إسلامهم على يقين. فلا تنتقل عن هذا اليقين إلا بيقين. ولا يفيد اليقين في مثل ذلك إلا التواتر. ولا تواتر عنهم. سيما الثلاثة _ يعني أبا حنيفة، والشافعي، ومالكا _ لكن قيل في المثل: من يَسمع يَخل.
ومما يدل على أن أهل البيت عليهم السلام أولى بأن يُقلدوا: ما روي فيهم من الآيات القرآنية، والأخبار النبوية، الدآلة على أنهم الفرقة الناجية. كما تقدم بيان ذلك. وتحرير تلك المسالك في آخر باب الإجماع. فليُرجع إليه. والله أعلم.

(1/212)


(( والتزام مذهب إمام معين )) في رخَصه وعزائمه، كالهادي، والقاسم عليهما السلام، وغيرهما من مجتهدي أهل البيت عليهم السلام، وكأبي حنيفة، والشافعي، من مجتهدي غيرهم، وسواء كان حيا، أم ميتا (( أولى )) من ترك الإلتزام رأسا. والإعتماد على سؤآل مَن عَرَضَ من العلماء، فيما عَرَضَ من الأحكام (( اتفاقا )) بين العلماء القائلين بالتقليد. وإنما كان أول:ى لبعده عن التهور في الدين، وتتبع الشهوات. كما سيأتي
(( وفي وجوبه )) أي: الإلتزام لمذهب إمام معين (( خلاف )) بين العلماء القائلين بالتقليد.
فمنهم من قال _ وهو المختار _ لا يجب عليه ذلك. بل له أن يقلد هذا في حكم، وهذا في آخر. بدليل وقوع ذلك من الصحابة رضي الله عنهم. فإنه كان العآمي يسأل من صادف منهم، عما عرض له. ولم يُسمع منهم الإنكار على أحد من العآمة بترك الإلتزام لمذهبِ واحدٍ منهم. فاقتضى ذلك الإجماع على جوازه. وإلا لأنكروا. ولو أنكروا لنُقل كما نقل عنهم الإنكار في غير ذلك.
ومنهم من قال: بل يجب عليه ذلك. والله أعلم.
(( وبعد التزام )) المقلد (( مذهب مجتهد )). بأي وجوه الإلتزام الآتية، وسواء كان الإلتزام لمذهبة (( جملة )). أي: في جملة المذهب، بأن ينوي إتباعه في رخصه وعزائمه، (( أو في حكم معيَّنٍ )) فقط. بأن ينوى إتباع المجتهد في ذلك الحكم وحده، أو في أحكام معينة أيضا. فإنه متى حصل ذلك (( يحرم )) على المقلد (( الإنتقال )) حينئذ. (( بحسب ذلك )) الإلتزام. إما جملة، أو في حكم، أو في أحكام معينة. فأي ذلك حصل من المقلد حرم عليه الإنتقال. (( على المختار )).
ومنهم: من جوز ذلك. والصحيح الأول. قياسا على المجتهد.

(1/213)


وبيانه: أن المجتهد إذا أداه اجتهاده إلى حكم من الأحكام، بعد أن وفى الإجتهاد حقه، لم يجز له العمل بقول غيره، لغير مرجِّح. كما تقدم. فكذلك: المقلد الذي قد التزم قول إمام. وأراد العمل بقوله، لا يجوز له العمل بقول غيره لغير مرجح. سوى هوى النفس.
فالأصل: المجتهد. والفرع: الملتزم. والحكم: حرمة الإنتقال. والعلة: كونه خروجا عما ثبت عنده لا لمرجح. وهذا قياس قطعي. إذ الأصل مجمع عليه. والعلة: كذلك. وحصولها في الفرع معلوم ضرورة.
قالوا: تصويب المجتهدين اقتضى ذلك. إذ هو انتقال من صواب إلى صواب، لا إلى خطأ.
قلنا: هو مُسلَّمُ. ولكنه يؤدي إلى التهور في الرذائل، والمروق من الدين. ويؤدي أيضا إلى تتبع الشهوات، ورفض العزائم. وهذا مما لا يقول به أحد. (( إلا )) أنه يجوز الإنتقال بعد الإلتزام في صورة واحدة. وذلك: حيث ينتقل المقلد عن مذهب من التزمه (( إلى ترجيح نفسه. إن كان )) ذلك المقلد (( أهلاً للترجيح )). بأن يستوفي طرق الحكم الذي يريد الإنتقال فيه. وهي الأدلة عليه. من الكتاب، والسنة، والإجماع، والقياس، ودليل العقل. فمتى استوفاها حتى لا يغيب عنه شيء مما يُحتج به عليه. ورجح ما رجح عنده. جاز له الإنتقال حينئذ، إلى ما رجح عنده. بل يجب عليه ذلك. كالمجتهد إذا رجح عنده خلاف الإجتهاد الأول. وأيضا فإنه يصير في ذلك الحكم مجتهدا. فلا يجوز له فيه التقليد،
وهذا مبني على جواز تجزؤ الاجتهاد وتَبَعُّضِه. وقد تقدم بيان ذلك الحكم .
واعلم: أن ثَمَّ وجوهًا أخر، مجوِّزة للإنتقال. غير ما ذكره

(1/214)


المصنف. منها: الإنتقال إلى مذهب أهل البيت عليهم السلام، ممن كان قلد غيرهم، من سائر المجتهدين، فإنه يجوز له الإنتقال إلى مذهبهم. لما ثبت بالأدلة القاطعة، من عصمتهم. وأن متبعيهم الفرقة الناجية. كما بيَّنا فيما مضى. فذلك وجهُ ترجيحٍ فيكون تقليدهم أولى. حتى قيل: لو لا الإجماع على جواز تقليد غيرهم لكان يجب تقليدهم وحدهم. لتلك الأدلة.
ومنها: أن ينكشف للمقلد نقصان من التزم مذهبه عن درجة
الإجتهاد، أو كمال العدالة المشروطة في المجتهد. فإنه يجب على المقلد حينئذ الإنتقال.
ومنها: أن ينكشف له أن ثَمَّ أعلم منه، أو أورع. فإنه أيضا
يجوز له الإنتقال عن مذهبه. لأن المقلد لا يرى الترجيح بين من يقلده من المجتهدين، إلا بالأعلمية، والأورعية. فهذا وجه مجوِّز للإنتقال.
وأما انه يوجبه فلا.
ومنها: أن يفسق المجتهد الذي قد كان المقلد التزم مذهبه. فإنه
أيضا يجب عليه الإنتقال عن مذهبه، فيما تعقب الفسق، من أقواله.لا فيما قبله. إلا أنه ينبغي له أن لا يعتزي إليه فيها. بل إلى موافقه، إن كان ثَمَّ موافق. وإلا وجب عليه الإنتقال فيها أيضا. إذ قد ارتفع خلافه بفسقه. فإن تاب قبل أن ينتقل المقلد، وجب عليه البقاء. والله أعلم.
(( و )) أما ما (( يصير )) به المقلد (( ملتزما ))، فهو يصير كذلك (( بالنية )) فقط. وإن لم يحصل لفظ، أو عمل. بل إذا قد عزم على العمل بقول الإمام صار ملتزما. لأن ذلك هو المفهوم من معنى الإلتزام.
(( وقيل )): بل لا بد (( مع )) النية والعزم من (( لفظ )). بأن يقول: التزمت مذهب المجتهد. مثلا. (( أو عمل )). كأن يعمل بقول المجتهد.
(( وقيل )): بل يصير ملتزما (( بالعمل وحده ))، من دون نية.
قلنا: لا عمل إلا بنية.

(1/215)


(( وقيل: بالشروع في العمل )). وإن لم يتم ذلك العمل. والفرق بين هذا القول، والأول. أن الأول قال لا يصير ملتزما إلا بجميع العمل. فيجوز له الإنتقال بعد الشروع، قبل التمام. بخلاف صاحب هذا القول. مثلا: إذا شرع في الوضوء مقلدا لمن يقول بوجوب الترتيب. فعلى القول الأول يجوز له بعد الشروع وقبل التمام أن يلتزم من يقول بوجوبه. لا بعد التمام فلا يجوز له.
وعلى القول الثاني: يصير ملتزما بالشروع. فلا يصح منه ذلك. فتأمل! والله أعلم.
و (( قيل )): بل يصير ملتزما (( باعتقاد صحة قوله )). أي: المجتهد. وإن لم يعزم على متابعته، ولا لفظ بها، ولا عمل أيضا، ولا سأل.
(( و قيل: بمجرد سؤآله )). أي: إذا سأل العآمي العالم عن مذهبه جملة، أو في حكم معين، صار السائل مقلدا لذلك العال، م بمجرد السؤآل. وإن لم تحصل منه نية، ولا عمل، ولا لفظ. والله أعلم.
(( واختلف )) أي: اختلف العلماء (( في جواز تقليد )) العآمي
(( إمامين فصاعدا )). أي: فأكثر من إمامين. فمن أوجب التزام مذهب إمام معين منع من ذلك. ومن جوزه كمن جوز التزام مذهب أهل البيت عليهم السلام جملة، دون الفقهاء، لم يمنع من ذلك. بل يجوزه.
قال الإمام المهدي عليه السلام: وأما من لم يوجب الإلتزام فلم أقف لهم في ذلك على نص. قال: وأصولهم تحتمل الأمرين.
(( نعم )) وإذا قلنا: بجواز تقليد إمامين، كان المقلد مقلدا لهما معا حيث يتفقان. مخيَّرا بين العمل بقول أيهما شاء حيث يختلفان. لا بقول غيرهما. لو كان مقلد ثالث في ذلك الحكم.
(( و )) اعلم أنه (( لا )) يجوز أن (( يجمع )) مقلد أو مستفتٍ

(1/216)


(( بين قولين )) مختلفين، (( في حكم واحد )).إذا كان ذلك (( على وجه لا يقول به )) أي: بذلك الحكم الواحد (( أيُّ )): واحدٍمن (( القائلين )) بالقولين. إذ يكون خارقا للإجماع. مثال ذلك: ما إذا نكح من غير ولي. عملا بقول أبي حنيفة. ومن غير شهود. عملا بقول مالك. فإن هذا جمع بين قولين في حكم واحد، وهو النكاح على وجه لا يقول به أحد من القائلين اللذين قلدهما فيه. ولا من غيرهم. فهو حينئذ خارق للإجماع. لأن الأمة اختلفت في ذلك على ثلاثة أقوال :
الأول: المذهب _ وهو قول الشافعي _ أنهما يجبان معا.
الثاني: لأبي حنيفة أنه يجب الشهود فقط، دون الولي .
الثالث: لمالك عكس قول أبي حنيفة _ أعني أنه يجب عنده الولي دون الشهود. فالنكاح على الوجه المذكور خارق للإجماع. إذا هو خارج عن الأقوال الثلاثة كما ترى .
وما يروى عن مالك أنه أجاز نكاح الدَّنيَّة من النساء من غير ولي ولا شهود، إذا لم يتواطئا على الكتمان رواية شآذة. لا تقدح في المثال المذكور.
وأما الجمع بين القولين لا على الوجه المذكور، فلعل فيه الخلاف السابق في جواز تقليد إمامين. والله أعلم. فكان هذه المسألة فرعا لتلك. ولذلك ذكرت بعدها. فتأمل! والله أعلم.
(( و )) اعلم أنه (( يجوز لغير المجتهد أن يفتى بقول المجتهد ))
المنصوص عليه. (( حكاية )) لذلك (( مطلقا )). أي: سواء كان مُطَّلِعا على المأخذ، أهلاً للنظر، أم لا! فلا يشترط ذلك. وإنما يشترط الحفظ والعدالة.
(( و ))) أما إذا كان إفتاؤه (( تخريجا )) لمسألة من مفهوم مسألة، نص عليها المجتهد، فإنه لا يجوز ذلك. إلا (( إذا كان )) غير المجتهد (( مطلعا على المأخذ )) الذي يريد أن يأخذ منه تلك المسألة. وهي المسألة التي قد نص عليها ذلك المجتهد .
(( أهلاً للنظر )) في التخريج. بأن يكون عارفا لدلالة الخطاب، وما هو ساقط منها، وما هو مأخوذ به. وقد تقدم بيانها في باب المنطوق والمفهوم. فإذا كان كذلك قُبِل منه التخريج.

(1/217)


وألفاظه نحو أن يقول: تخريجا. أو على أصل. أو على قياس. أو على مقتضى. أو على موجب. أو على ما دل.
مثال ذلك: أن يسأل العامي غير المجتهد هل تجب في معلوفة الغنم زكاة على مذهب المجتهد الفلاني؟ وقد كان المجتهد نص على أنه يجب في سآئمة الغنم زكاة. وقد عرف هذا النص، وعرف مفهوم الصفة، وشروطه، وأنه مأخوذ به عند ذلك المجتهد. فيقول: لا تجب فيها الزكاة عنده. تخريجا من قوله في سآئمة الغنم زكاة. ويقبل منه ذلك هذا في التخريج .
وأما القياس: فإنه لا يُقبل منه إلا إذا كان عارفا بكيفية رد الفرع المقيس إلى الأصل المقيس عليه. بأن يعرف أركان القياس التي هي الأصل، والفرع، والعلة، والحكم، وشروطها. فلا بد أن تكون له مَلَكةٌ يقتدر بها على استنباط حكم الفرع من الأصل. بأن يكون مجتهدا في المذهب. كالمؤيد بالله، وأبي طالب عليهما السلام، وغيرهما. ممن هو بصفتهما من سائر المذاكرين. فإنه يُقبل منهم ما أفتوا به على مذهب الهادي، والقاسم عليهما السلام. مما لا نص لهما فيه. قياسا على ما قد نصوا عليه. لمعرفتهم بشروط القياس. لأنهم مجتهدون. فتأمل! والله أعلم.
(( وإذا اختلف المفتون على المستفتي غير الملتزم ))، مع استوائهم في العلم والورع _ وقوله: غير الملتزم. إذ لو كان ملتزما وجب عليه إتباع من ألتزمه منهم. فإن التزم مذهبهم جميعا فقد تقدم بيان حكمه _ نعم: إذا كان كذلك فقد اختلفوا بماذا يأخذ المستفتي:
(( فقيل )): إنه (( يأخذ بأول فتيا )). من أيهم حصلت. فيجب إتباعه في تلك الحادثة .
(( وقيل )): بل يأخذ (( بما ظنه الأصح )) من أقاويلهم. فيجب عليه العمل به .

(1/218)


(( وقيل )): بل (( يُخَيَّر )). فيأخذ بأي الأقوال شاء، في أي حادثة. من غير حَجْرٍ. لأن المفروض استواؤهم في العلم، والورع. فليس بعضهم حينئذ أولى من بعض. فله أن يسأل أولا من شاء. وأن يسأل ثانيا غير من سأل أولا. وأيضا فإن ذلك قد وقع في زمن الصحابة، وغيرهم. فإن الناس في كل عصر يستفتون المفتين كيف ما اتفق، من غير تفصيل. ولا فَرْق، ولا التزام لسؤآل مفتٍ بعينه. وشاع ذلك، ولم ينكر. والله أعلم.
(( وقيل )) يُفصَّل بأن يقال: (( يأخذ بالأخف )) من أقوالهم، إذا كان ذلك (( في حق الله تعالى )). لقوله تعالى {يريد الله بكم اليسر }.{وما جعل عليكم في الدين من حرج }. فالأخذ بالأخف في حق الله تعالى يوافق الآيتين .
(( و )) يأخذ (( بالأشد )) منها (( في حق العباد ))، لأنه أحوط.
(( وقيل )) بل (( يُخَيَّر في حق الله تعالى )). فيأخذ بأيها شاء، لأنه أسمح الغرماء .
(( و )) أما (( في حق العباد )) فلا يعمل فيه بقول أيهم. بل (( بحكمٍ )) من (( الحاكم )). لأنه أقطع للشجار. والله أعلم.
(( ومن لا يعقل معنى التقليد لفرط عآميته )). بل لا يعرف شروط صحته وحقيقته. وأن حصل منه فإنه إذا قلد إماما وهو لا يعرف شروط التقليد كان تقليده كلا تقليد. فإذا كان كذلك (( فالأقرب )) إلى الصواب (( صحة ما فعله )) من الأحكام الشرعية. وإن كان خلاف ما يقوله مَن قلَّده. إذا كان (( معتقدا لجوازه )). كما يحصل من العوام في صلاتهم من اللحن، وعدم استيفاء الأركان. فإنها تصح منهم، وإن كانت مخالفة لقول من هم منتمون إليه من الأئمة. وكذلك من أسلم عن نكاح موافق لبعض الإجتهادات، فإنه يُقَرُّ عليه.

(1/219)


نعم: وإنما يصح ما فعله من لا يعقل التقليد (( ما لم يخرق الإجماع )). بأن يوافق اجتهادا اعتُدَّ به، لم ينعقد الإجماع قبله، أو بعده. إذ لو خرق الإجماع لم يصح منه. ولا يقر عليه. لعدم موافقته لقائل من أهل العلم.كما يقع من كثير من العوام: من ترك الركوع في الصلاة رأسا. فإن صلاة من تركه لا تصح. لعدم موافقتها لقول قائل. والله أعلم . (( ويُعامَل )) من لا يعقل التقليد (( فيما عدى ذلك )) أي: ما عدى ما فعله كذلك (( بمذهب علماء جهته )). الذين يحويهم البريد في ذلك العمل.
(( ثم )) إذا عدم علماء جهته، عُومل بمذهب علماء (( أقرب جهة إليها )). أي: إلى بلده. والله أعلم. وبتمام ذلك تم الكلام في شرح الباب التاسع .
(( الباب العاشر ))من أبواب الكتاب (( في الترجيح ))
بين الأمارات العقلية والنقلية. ويلحق به بيان الحدود، وترجيح السمعية منها بعضها على بعض. كما يأتي في الخاتمة. إن شاء الله تعالى.
(( وهو )) أي: الترجيح. في اللغة: جعل الشيء راجحا.
وفي الاصطلاح: (( اقتران الأمارة بما تقوى به على معارضتها )). أي: أمارة أخرى تعارضها. ومعنى المعارضة: أن تقتضي كل
واحدة منهما خلافَ ما تقتضيه الأخرى. فإذا حصل اقتران إحدى الأمارات بما تقوى به على المعارضة لها، كانت سببا لترجيحها عليها. إذ لا يمكن ترجيح إحداهما تحكما. بل لا بد من مرجح.
(( فيجب )) حينئذ (( تقديمها )). أي: الأمارة المقترنة بما تقوى به على الأخرى، والعلم بها، واطِّراح الأخرى. وإنما وجب ذلك:
(( للقطع عن السلف )) الماضين من الصحابة، وسائر المجتهدين، بإيثار الأرجح. فإن من بحث عن وقائعهم المختلفة في الحوادث التي تتعارض فيها الأمارات، وجدهم يقدمون الأرجح منها قطعا. فكان ذلك دليلا على وجوب الترجيح. لتضمنه الإجماع. والله أعلم.

(1/220)


(( و )) إذا تقرر ذلك. فاعلم أن الدليلين القطعيين (( لا تعارض )) بينهما قطعا. إذ يلزم من ذلك اجتماع النقيضين، إن عُمِل بهما. أو ارتفاعهما، إن أُهمِلا معا. أو التحكم، إن عُمِل بأحدهما. ولا يمكن الترجيح بينهما. لأنه إنما يكون إذا أمكن حِقِّية الدليلين معا. والقطعيان المتعارضان أحدهما باطل لا محالة. فلا يمكن الترجيح. وذلك كأدلة ثبوت الرؤية، وانتفائها.
ولا بين قطعي، وظني. إذ الظني لا يقاوم القاطع. فينتفي الظن عند حصوله. فلا يكون ذلك (( إلا بين )) دليلين (( ظنيين )) فقط. وسواء كانا (( نقليين )) معا، كنَصَّين. إما خبرين، أو ظاهر آيتين، أو إجماعين آحاديين، (( أو عقليين )) معا، كقياسين ظنيين، (( أو مختلفين )). بأن يكون أحدهما نقليا، والآخر عقليا، كتعارض خبر آحادي، وقياس ظني. فهذه الصور هي التي يصح التعارض فيها، والترجيح. فهي ثلاثة فصول. كما ترى.
أما الفصل الأول: وهو الترجيح بين النقليين. فترجيحه من أربع جهات:
إما من جهة سنده.
أو من جهة متنه.
أو من جهة مدلوله.
أو من جهة أمر خارج عنه.
أما الجهة الأولى: وهي الترجيح بحسب السند. وهو طريق ثبوته. فوجوهه كثيرة:
منها ما يرجع إلى الراوي.
ومنها ما يرجع إلى الرواية.
ومنها ما يرجع إلى المروي.
ومنها ما يرجع إلى المروي عنه، فهي أربعة أقسام:
القسم الأول: في الترجيح بالسند بحسب الراوي. وهو في نفسه أوفي تزكيته. فهما طرفان .
الطرف الأول: ما هو في نفس الراوي وهو وجوه:
منها كثرة رواته. وقد بينه بقوله (( فيرجح أحد الخبرين )) المتعارضين على الخبر الآخر المعارض له. (( لكثرة رواته )) دون معارضه. يعني إذا كان رواة أحد المتعارضين أكثر عددا من رواة الآخر، فما رواته أكثر يكون مقدما.

(1/221)


مثاله رواية أبي رافع رضي الله عنه، وميمونة رضي الله عنهما، أنه صلى الله عليه وآله وسلم نكحها وهما حلالان. على رواية ابن عباس رضي الله عنه، أنه صلى الله عليه وآله وسلم: نكحها وهو حرام. وذلك لقوة الظن. لأن العدد الأكثر أبعد من الخطأ، من العدد الأقل. ولأن كل واحد من الرواة يفيد ظنا، فإذا انضم إلى غيره قَوِيَ، حتى ينتهي إلى التواتر المفيد لليقين.
(( و )) منها: أنه يرجح أحد الخبرين المتعارضين (( بكونه )) _ أي الراوي لأحد المتعارضين _ (( أعلم بما يرويه )) من الراوي الآخر. بأن يكون ذا بصيرة في علم العربية، وعلم الشرائع والأحكام، دون الآخر، أو يزيد عليه في فطنة.
(( و )) منها (( ثقته )). بأن يكون أكثر ورعا، وتحرزا في دينه، (( وضبطه )) لما يرويه. دون الآخر. فإن رواية المتَّصِف بهذه الأوصاف أرجح. إذ يغلب بذلك ظن الصدق. وهذه الأوصاف راجعة إلى شئ واحد. وهو كون أحد الراويين راجحا على الآخر، في وصف يغلب الظن بصدقه. والله أعلم.
وذلك كما يُرجح ما يرويه علي كرم الله وجهه، على ما يرويه غيره من الصحابة رضي الله عنهم. وذلك ظاهر.
(( و )) منها (( كونه )) _ أي الراوي لأحد المتعارضين _
(( المباشر )) لما يرويه. دون الآخر. فإن روايته أرجح. مثال ذلك: ما رواه أبو رافع رضي الله عنه، مولى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: أنه نكح ميمونة رضي الله عنها عام قضى عمرة الحديبية، وهو حلال.
وروى ابن عباس رضي الله عنه: أنه نكحها وهو حرام. فإن رواية أبي رافع أرجح. لأنه المباشر إذ كان هو السفير بينهما. بخلاف ابن عباس. وذلك لأن المباشر أعرف بالحال.
(( أو )) كونه (( صاحب القصة )). فإن روايته أرجح أيضا. وذلك: كقول ميمونة رضي الله عنها: تزوجني رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ونحن حلالان. على رواية ابن عباس رضي الله عنه. فإن روايتها أرجح. إذ هي صحابة القصة. فهي أعرف منه بحالها.

(1/222)


(( أو )) كونه (( مشافهاً )) لمن يروي عنه. دون الآخر. مثال ذلك: ما رواه القاسم بن محمد بن أبي بكر، عن عائشة: أن بريرة أعتقت، وكان زوجها عبدا، فخيَّرها رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، فاختارت نفسها. وروى عنها الأسود بن يزيد النخعي، أنه حين أعتقت حر. فإن رواية القاسم أرجح. لمشافهته لعائشة، إذ هي محرم له، لكونها عمته. فقد سمعه منها مشافهة. والأسود من خلف حجاب. فكان أرجح. والوجه ظاهر.
(( و )) كونه أي: الراوي لأحد المتعارضين عند سماعه للحديث
(( أقرب مكانا )) ممن يروي عنه. والآخر أبعد منه. فإن رواية الأقرب أرجح. مثال ذلك: رواية عبد الله بن عمر عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم: أنه أفرد التلبية.
ورواية ابن عباس رضي الله عنهما: أنه قرن.
ورواية سعد بن أبي وقاص رضي الله عنه: أنه تمتع.
فإن رواية عبد الله بن عمر أرجح. لقربه من رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم حين التلبية. إذ كان تحت ناقته صلى الله عليه وآله وسلم حين لبى. فالظاهر أنه أعرف.
(( أو )) كونه (( من أكابر الصحابة، أو متقدم الإسلام )). والآخر من أصاغرهم، أو متأخر الإسلام. فإنه أرجح. لقربه من رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم. فيكون أعرف بحاله. ولأنه أشد صونا لمنصبه. فيبعد عن الكذب.
(( أو )) كونه (( مشهور النسب )). والآخر غير مشهور النسب.
(( أو )) كونه (( غير ملتبس بمُضَعَّف )).
قيل: في روايته. وقيل: في اسمه. والآخر ملتبِس به. فإن رواية هؤلاء أرجح. لأن التحرز فيهم، وحفظ الجاه، أكثر من سواهم.
(( و )) منها: أن يكون الراوي لأحد المتعارضين، تحمَّل الرواية بالغا. والآخر صبيا. فإنه يرجح روايته، على الآخر. (( بتحمله بالغا )). وذلك للإتفاق على قبول روايته. دون الآخر. فيكون الظن به أقوى. فهذه وجوه الترجيح التي بحسب نفس الراوي.

(1/223)


والطرف الثاني: الترجيح باعتبار تزكيته. أي: الراوي. وقد بينها بقوله: (( وبكثرة المزكين )) لراوي أحد المتعارضين، دون الآخر.
(( أو )) كثرة (( أعدليتهم )). بأن لا يكونوا متساهلين في رعاية التزكية. بخلاف المزكين للآخر. فإن حديث من كان كذلك أرجح. لقوة الظن.
(( و )) إذا كان الراويان للخبرين المتعارضين مُرسِلَين جميعا. فإنه يرجح رواية أحدهما (( بكونه عُرِف )) من حاله (( أنه لا يرسل إلا عن عدل )) عارف. (( في )) الخبرين (( المرسَلَين )). والآخر عُرِف منه خلاف ذلك. أو جُهِل حاله. فإن رواية من عُرف منه ذلك أرجح. لقوة الظن.
وكان تقديم هذا، على قوله: وبكثرة المزكين. إذ هو مما يرجع إلى نفس الراوي.
ومما يرجع إلى الترجيح باعتبار التزكية، ما يرجع إلى نفسها. وقد بينه بقوله: (( ويُرجَّح الخبر الصريح )) بالتزكية للراوي (( على الحكم )). أي: إذا كانت تزكية أحد الراويين بالقول الصريح، كأن يقول المزكي: إنه عدل. وتزكية الآخر بالحكم بشهادته، كأن يقول المزكي: إنه قد حكم بشهادته حاكم. فإن رواية مَن تزكيته بالقول أرجح. لأن التزكية بالحكم إنما تكون لتضمنها القول. والقول الصريح أولى من المتضمن. والله أعلم.
(( و )) يُرجَّح (( الحكم على العمل )). أي: إذا كانت تزكية أحد راويي المتعارضين بالحكم بشهادته، وتزكية الآخر بالعمل بقوله، فإنها تقدم رواية مَن حُكِم بشهادته، على راوية مَن عُمِل بقوله. وذلك: لأن الإحتياط في الشهادة أقوى من الإحتياط في العمل. بدليل قبول خبر الواحد، والمرأة. دون شهادتهما.
القسم الثاني: الترجيح بالسند. بحسب ما يرجع إلى نفس الرواية للحديث. وهو يحصل من وجوه. وقد بينها بقوله:

(1/224)


(( قيل )) أي: قال الرازي:(( و )) يرجح (( المسند على المرسل )). أي: إذا كان أحد الخبرين المتعارضين مسندا، والآخر مرسلا، فإنه يقدم المسنَد على المرسَل. وذلك للإتفاق على قبول المسنَد دون المرسَل. فيكون الظن به أقوى. والله أعلم.
(( وقيل )) أي: قال ابن أبان: بل يجب (( العكس )). أي: يُرجَّح المرسَل على المسنَد. لأن المرسِل لا يرسِل إلا وهو كالقاطع بأن ما رواه صدر عن الرسول صلى الله عليه وآله وسلم. بخلاف ما إذا أتى بأهل السند، فإنه قد حمل السامع العهدة.
(( وقيل )) بل هما (( سواء )). أي: المسنَد والمرسَل. إذا تعارض مقتضاهما فهما سواء. لا ترجيح لأحدهما على الآخر. إذ المعتبر في الراوي إنما هو العدالة، والضبط. والفرض تساويهما. وقد قُبِل كل واحد منهما على انفراده. فلا يكون لأيهما على الآخر مَزِيَّة إذا اجتمعا. وهذا القول هو الذي اختاره: الإمام المهدي عليه السلام في المعيار وشرحه.
نعم: والتعارض من دون ترجيح ممكن عند الأكثر. إذ لا مانع من ذلك. فيثبت التخيير، ويعمل بأيهما شاء على قول. أو الإطِّراح على الصحيح. والله أعلم.
ومن الترجيح بحسب الرواية قوله: (( ويرجَّح المشهور )). أي: الذي ثبت بالشهرة، غير مسنَد إلى كتاب. وغيره أي: إذا ثبت أحد المتعارضين بالشهرة والآخر بغيرها، كان ما ثبت بالشهرة أرجح.
(( و )) يرجح أيضا (( مرسَل التابعي )). أي: إذا كان الخبران المتعارضان مرسَلَي، ن لكن أحدهما أرسله تابعي، والآخر غير تابعي. فإن مرسَل التابعي أرجح.
(( و )) يرجَّح ما أُسنِد إلى كتاب مشهور بالصحة، (( مثل )) ما أُسنِد إلى (( البخاري، ومسلم ))، (( على )) ما أُسنِد إلى كتابٍ

(1/225)


(( غيرهما )) من سائر الكتب، التي لم تعرف بالصحة. يعني إذا أسند أحد المتعارضين إلى صحيح البخاري، أو صحيح مسلم، أو نحوهما، مما عُرِف بالصحة من كتب الحديث النبوي، وأسند الآخر إلى غيرهما مما لم يُعرف بالصحة، كان ما أُسنِد إلى الصحيح أقوى وأرجح. فهذه وجوه الترجيح بحسب الرواية.
القسم الثالث: من الترجيح بالسند. بحسب ما يرجع إلى نفس المروي. وهو أيضا من وجوه:
منها : أنه إذا روي أحد المتعارضين بالسماع من الرسول صلى الله عليه وآله وسلم، كان يقول: سمعت رسول صلى الله عليه وآله وسلم. والآخر بالتَّحمُّل، كأن يقول: قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم. فإنه يُرجح ما ثبت بالسماع، على ما ثبت بالتحمل. لاحتمال أنه لم يسمع .
ومنها: أن يكون المتعارضان ثبتا بالسكوت منه صلى الله عليه وآله وسلم، والتقرير. لكن أحدهما في حضرته بأن شاهده وسكت عنه.
والآخر في غيبته، بأن سمعه وسكت عنه. فإنما سكت عنه مع الحضور أرجح، مما سكت عنه مع الغيبة والسماع. لأن الأول أغلب على الظن .
ومنها: أن يكون أحد المتعارضين ورد فيه صيغة منه صلى الله عليه وآله وسلم. والآخر إنما فُهِم منه فقط، فرواه الراوي بعبارة نفسه. فإنه يقدم ما ورد فيه صيغة منه صلى الله عليه وآله وسلم، على ما فُهِم فقط. لقوة دلالة الصيغة، وضعف دلالة غيرها.
القسم الرابع: من الترجيح بالسند. بحسب ما يرجع إلى نفس المروي عنه. وذلك: نحو أن يكون أحد المتعارضين ثبت من المروي عنه إنكار لروايته. والآخر لم يثبت. فإن ما لم يثبت فيه إنكار أرجح، مما ثبت فيه. وذلك لأن الظن الحاصل به أقوى. وسواء كان إنكار نسيان ووقوف، أو إنكار جحود وتكذيب. فأما إذا كان أحدهما أنكر إنكار جحود، والآخر أنكر إنكار نسيان. فإن ما أُنكر إنكار نسيان أرجح، مما أُنكر إنكار جحود. والله أعلم.
فهذا ما يُحتاج إليه من جهة الترجيح بين النقليين بحسب السند .

(1/226)


وأما الجهة الثانية: وهي الترجيح بحسب المتن. فهو يقع من وجوه: الأول: قوله: (( ويرجَّح النهي على الأمر )). يعني: إذا كان مدلول أحد المتعارضين نهيا، والآخر أمرا، فإنه يرجَّح ما مدلوله النهي، على ما مدلوله الأمر. لأن النهي أكثره لدفع المفاسد. والأمر لجلب المنافع. والإهتمام بدفع المفسدة، أشد من الإهتمام بجلب المنفعة. وأيضا فإن ما يحتمله النهي من المعان، ي أقل مما يحتمله الأمر. وما كان أقل احتمالا أرجح .
الثاني: قوله: (( والأمر على الإباحة )). يعني: إذا كان مدلول أحد المتعارضَين أمرا، ومدلول الآخر إباحة، فإنه يرجَّح ما مدلوله الأمر، على مدلوله الإباحة. وذلك للإحتياط، والخروج عن العهدة. والله أعلم.
وأما إذا كان مدلول أحد المتعارضين إباحة، والآخر نهيا، فإن ما مدلوله الإباحة أرجح. إذ أَبحتُ كذا، قرينة على تقدم النهي عنه. وقيل: بل يرجَّح النهي على الإباحة. لمثل ما ذكرنا في ترجيح الأمر، على الإباحة .
قلت: وهو الأولى. والله أعلم.
والثالث: قوله: (( والأقل احتمالا على الأكثر )). أي: إذا كان أحد المتعارضين أقل احتمالا لغير المطلوب، والآخر أكثر، فإنه يرجَّح الأقل على الأكثر. نحو: أن يكون أحدهما مشترَكا بين ثلاثة معانٍ، والآخر بين معنين، فإن ما هو مشترَك بين معنيين أرجح. لأن ما قل احتماله، أقرب إلى المطلوب. والله أعلم.
والرابع: قوله: (( والحقيقة على المجاز )). أي: إذا كان أحد المتعارضَين يستعمل في المطلوب حقيقة، والآخر لا يستعمل فيه إلا مجازا، فإن الحقيقة أرجح. إذ لا يتطرق إليها الخلل. بخلاف المجاز. والله أعلم .
والخامس: قوله: (( والمجاز على المشترَك )). يعني: إذا كان أحد المتعارضَين مجازا، والآخر مشترَكا، فإن المجاز أرجح من المشترك. إذ المجاز أقرب. ولا يُخِلُّ بالتفاهم. على ما تقدم في أول الكتاب. والله أعلم.

(1/227)


والسادس: قوله: (( والأقرب من المجازين على الأبعد )). يعني: إذا كان المتعارضان مجازين، ولكن أحدهما أقرب إلى الحقيقة من الآخر، فإنه يرجح الأقرب. وقرب المجاز من الحقيقة المقتضى لترجيحه، إما أن يكون أكثر من الآخر. أي: التجوز فيه أكثر من الآخر. نحو: التجوز بالأسد في الشجاعة. فإنه أكثر من التجوز به في البَخِر. والله أعلم. أو بان يكون أقوى في التجوز من الآخر. نحو: التجوز بإطلاق اسم الكل على الجزء. فإنه أقوى من إطلاق اسم الجزء على الكل. لأن
الكل يستلزم الجزء. بخلاف العكس. نحو: من سرق قطعت يده. مع من سرق لم تقطع أنامله. أو بأن يكون دليل التجوز فيه أرجح من دليل التجوز في الآخر. أو غير ذلك مما يقتضى قرب المجاز من الحقيقة. والله أعلم.
السابع: قوله: (( والنص الصريح، على غير الصريح )). يعني: إذا ثبت أحد المتعارضين بالنص الصريح الذي لا احتمال فيه، والآخر بالنص المحتمل. نحو: أن يكون أحدهما صريحا في المقصود، والآخر يحتمل المقصود، وغيره. فإن الصريح أولى. لعدم الإحتمال. ونحو: أن يكون أحدهما مجمَلا، والآخر مبيَّنا، فإن المبيَّن أرجح. لعدم احتماله. والله أعلم .
والثامن: قوله: (( والخاص على العام )). أي: إذا كان أحد المتعارضَين خآصا، والآخر عاما، فإن الخآص أرجح. لأن دلالته على المقصود أقوى من العام. لاحتمال التخصيص فيه. والله أعلم.
التاسع: قوله: (( وتخصيص العام على تأويل الخاص )). يعني: إذا كان أحد المتعارضَين يقتضي تخصيص دليل عام، والآخر يقتضي تأويل دليل خاص، فإنه يُقَدَّم ما يقتضي تخصيص العام. لكثرة التخصيص، على ما يقتضي تأويل الخاص لقلة التأويل. والله أعلم.

(1/228)


العاشر: قوله: (( والعام الذي لم يُخصَّص، على الذي خُصِّص )). يعني: إذا كان المتعارضان عامي، ن لكن أحدهما خُصَّص بديل، والآخر لمَّا يُخَصَّص، بل باق على عمومه، فإن ما لم يُخصص أرجح. للإتفاق على حجيته. بخلاف المخصَّص، ففيه الخلاف. والله أعلم.
الحادي عشر: قوله: (( والعام الشَرطي، على النكرة المنفية، وغيرها. ومَن، وما، والجمع المعرف باللام، على الجنس المعرف به )). هذا الترجيح باعتبار صيغ العموم. فإذا كان عموم أحد المتعارضَين بصيغة الشرط، وعموم الآخر بكونه نكرة منفية، فإن العام الشرطي أرجح. لأن الحكم فيه معلل. فيكون ذلك أدعى إلى قبوله. مثل: ( من بدل دينه فاقتلوه ). مع ما لو قيل: لا قتل على مرتد. وكذا إذا كان عموم أحد المتعارضين باعتبار مَن، أو ما، أو الجمع المعرف باللام، وعموم الآخر باعتبار كونه جنسا معرفا باللام، فإن ما عمومه باعتبار مَن، أو ما، أو الجمع أرجح، من الجنس المذكور. لأن دلالته على العموم أضعف، لكثرة استعماله في المعهود. مثل: {اقتلوا المشركين}. أو مَن أشرك. مع ما لو قيل: المشرك لا يُقتل. ومثل: ما خرج من السبيلين حدثٌ. مع ما لو قيل: الخارج من السبيلين ليس بحدث. فهذا إيضاح ما يُحتاج إليه من الترجيح، بين النقليين بحسب المتن .
الجهة الثالثة: الترجيح بحسب المدلول. أي: ما يدل عليه المتعارضان.
(( و )) هو من وجوه:
لأول: أنه (( يرجح الوجوب على الندب )). أي: إذا كان أحد المتعارضَين يقتضي وجوب أمر، والآخر ندبه، فإنه يقدم الوجوب على الندب. للإحتياط. ولأنه قد حصل الندب وزيادة، بخلاف العكس.

(1/229)


(( و )) الثاني: أنه يرجح (( الإثبات على النفي )). أي: إذا كان أحد المتعارضَين يقتضي إثبات أمر، والآخر نفيه، فإنه يرجح ما يقتضي الإثبات. لاحتمال أن يكون النافي غفل عن الفعل، لكثرة غفلة الإنسان عنه. مثاله: حديث بلال رضي الله عنه، أنه صلى الله عليه وآله وسلم: دخل البيت الحرام وصلى. وقال أسامة: دخل ولم يصل. فإن حديث بلال أرجح. لكونه أثبت الفعل. والله أعلم.
(( و )) الثالث: أنه يُرجَّح (( الدآرء للحد على الموجب له )). يعني: إذا كان أحد المتعارضَين يقتضي درء الحد وإسقاطه، والآخر يقتضي وجوبه وإثباته، فإن ما يقتضي الدرء أرجح. لما في الدرء من التيسير، ونفي الحرج المقصودين للشارع. بدليل قوله تعالى { يريد الله بكم اليسر }. {ما جعل عليكم في الدين من حرج }.
(( و )) الرابع: أنه يرجح (( الموجب للطلاق، والعتق، على الآخر )). أي: الذي لا يوجبهما. يعني: إذا كان أحد المتعارضَين يوجب العتق، أو الطلاق، والآخر خلافه، فإنه يرجح الموجب لذلك. لموافقة الأصل. إذ الأصل عدم ملك البضع، وملك اليمين. والله أعلم .
وأما الجهة الرابعة: (( و )) هي الترجيح بأمر خارج. فهو أيضا يحصل من وجوه:
منها: أنه (( يرجح الخبر أيضا لموافقته لدليل آخر، أو لأهل المدينة، أو للخلفاء، أو للأعلم )). يعني: أنه إذا وافق أحد المتعارضَين أيَّ هذه الأمور الأربعة، فإنه يكون أرجح.
الأول أن يوافق دليلا آخر من كتاب، أو سنة، أو إجماع، أو عقل، أو حس. فإنه أرجح. لأنه أغلب على الظن. ولأن مخالفة دليلين أشد محذور من مخالفة دليل واحد .
الثاني: أن يوافق أحد المتعارضَين عمل أهل المدينة النبوية على صاحبها أفضل الصلاة والسلام، دون الآخر، فإنه أرجح. لأن المدينة موضع الوحي، فهم أعرف بأحكامه.
الثالث: أن يوافق عمل الخلفاء الراشدين فإنه أرجح لأن أمره صلى الله عليه وآله وسلم باتباعهم، والاقتداء بهم، يفيد غلبة الظن.

(1/230)


الرابع: أن يوافق أحدهما عمل الأعلم، فإنه أرجح. لكونه أعرف بأحكام التنزيل، وأسرار التأويل. والله أعلم.
(( و )) منها: أنه يُرجَّح أحد المتعارضَين (( بتفسير راويه )) لمعناه، إما بقول، أو فعل، على ما لم يفسِّره. يعني: إذا فسَّر راوي أحد المتعارضَين ما رواه دون الآخر، كان خبره أرجح. لأن تفسيره يقوِّي الظن. والله أعلم.
(( و )) منها: أنه يرجح أحد المتعارضَين باقترانه (( بقرينة )) دآلة على (( تأخره )). أي: إذا كانت في أحد المتعارضَين قرينة دآلة على تأخره، فإنه يرجح على الآخر.
وهي إما: تأخر إسلام راويه، فإنه يجوز أن الراوي الآخر سمعه قبل إسلام هذا.
وإما: تاريخه تاريخا مضيقا كقبل موته صلى الله عليه وآله وسلم بشهر، والآخر موسعا.
وإما: بأن يكون فيه تشديد دون الآخر، فإنه قرينة.لتأخر التشديدات، إذ لم تجيء إلا بعد ظهور الإسلام، وقوة شوكته.
(( و )) منها: أنه يرجح أحد المتعارضَين (( بموافقته للقياس )). وهذا قد دخل في قوله: ويرجح الخبر بموافقته لدليل آخر. إذ القياس دليل. كما لا يخفى. فهذا جملة الترجيحات بين النقليين بأقسامها.
وأما الفصل الثاني: وهو الترجيح بين العقليين. وهما إما قياسان، أو إستدلالان .
أما الأول: فالترجيح فيه من جهتين:
إما: من جهة أصله.
أو من جهة فرعه. فهما قسمان .
أما القسم الأول: وهو الترجيح بين القياسين بحسب الأصل.
فهو نوعان بحسب حكم الأصل، وبحسب علته .
أما النوع الأول:فقد بيَّنه بقوله:(( ويرجح أحد القياسين على الآخر)) بوجوه:
الأول:أنه يرجح (( بكون حكم أصله قطعيا، والآخر ظني)).يعني:إذا كان حكم الأصل في أحد القياسين قطعيا، والآخر ظنيا، فإن ما حكمه قطعي أرجح.
الثاني: قوله: (( أو )) لم يكن حكم الأصل في أحدهما قطعيا، فإنه يرجح ما (( دليله أقوى )). أي: يكون الترجيح بينهما بحسب الدليل في الأصل، فيقدم الأقوى فالأقوى. وقد تقدم في ترجيح النقليين وجه القوة.

(1/231)


الثالث: قوله: (( أو )) كون حكم أصل أحد القياسين (( لم يُنسخ باتفاق )). والآخر مختلف في حكم أصله هل نسخ؟ أم لا ؟ فإن ما اتُّفق على عدم النسخ فيه أرجح من الآخر. والوجه في ذلك ظاهر. فهذه الوجوه الثلاثة بحسب حكم الأصل .
وأما النوع الثاني: _ أعني الترجيح بين القياسين بحسب علة حكم الأصل _ فهو أنه يرجح أحد القياسين (( بكون علته )) أي: علة حكمه (( أقوى )) من علة حكم الآخر.
وقوتها إما: (( لقوة طريق وجودها في الأصل )) في أحد القياسين. بأن يكون وجودها في أحدهما معلوما، أو مظنونا بالظن الغالب. وطريق وجودها في الآخر دون ذلك. مثاله: ما إذا قيل في الوضوء: طهارة حكمية، فتفتقر إلى النية كالتيمم. مع قول الآخر: طهارة بمائع، فلا تفتقر إليها كغسل النجاسة. فإن الأول أرجح. لقوة طريق وجود علته _ أعني كونه طهارة حكمية _ لكونه معلوما .
(( أو )) لقوة (( طريق كونها علة )). بأن يكون طريق عليتها في أحدهما نصا، وفي الآخر تنبيه نص. فإن ما طريق علته النص أرجح. على ما تقدم في بيان طرق العلة، في فصل القياس.
(( أو بأن يصحبها )) أي: علة أحد القياسين المتعارضَين (( علة أخرى )) غيرها (( تقويها )). أي: تقوي تلك العلة. فيكون أحد القياسين كالمعلَّل بعلتين دون الآخر. مثال ذلك: تعليل وجوب النية في الوضوء بكونه طهارة حكميه، كالتيمم. فإن هذه تصحبها علة أخرى، وهو كونه عبادة كالصلاة. بخلاف تعليله كونه طهارة بمائع. والله أعلم.
فما كان علته أقوى بأيِّ هذه الوجوه، فإنه أرجح وأقدم. وذلك ظاهر.

(1/232)


(( أو بكون حكمها حظرا أو وجوبا، دون معارضتها )). يعني: أنه إذا كان الحكم الصادر عن علة أحد القياسين المتعارضَين حظرا أو وجوبا، والحكم الصادر عن علة الآخر إباحة أو ندبا، فإن ما حكم علته الحظر، أو الوجوب أرجح. مثال ذلك: تعليل الوضوء بأنه عبادة، فتجب فيه النية كالصلاة. لا طهارة، فلا تجب، كغسل النجاسة. وتعليل حرمة التفاضل في البر مثلا بالكيل، فيقتضي ذلك تحريمه في النورة وحظره. لا الطعم، فلا يقتضي ذلك فيها. والله أعلم. (( أو بأن تشهد لها الأصول، أو تكون أكثر اطرادا )). يعني: إذا كانت علة أحد القياسين المتعارضَين تشهد لها الأصول، بأن تكون منتزعة من عدة أصول، دون علة الآخر. فإن ما تشهد لعلته الأصول أرجح. كما في تعليل وجوب النية في الوضوء، بكونه عبادة. فإن هذه تنتزع من الصلاة، والصوم، والحج، بخلاف تعليله: بكونه طهارة. فلا أصل لها، إلا إزالة النجاسة.
(( أو منتزعة من أصول كثيرة )). فإن ما علته كذلك أرجح. وينظر في الفرق بين هذا، وبين قوله: أو تشهد لها الأصول. فإن الظاهر أنهما شيء واحد. كما في غير هذا المختصر. والله أعلم.
(( أو يعلل بها الصحابي، أو أكثر الصحابة )). يعني: أنه يرجح أحد القياسين على الآخر، بأن علته علَّل بها صحابي، وعلة الآخر علَّل بها غير صحابي. أو علَّل بعلته أكثر الصحابة، والآخر الأقل. فإن ما علَّل بعلته الصحابي، أو أكثر الصحابة أرجح. كأن يعلل الصحابي أو أكثر الصحابة: تحريم التفاضل في البر بالكيل، والتابعي أو الأقل: بالطَّعم.
(( ويرجَّح الوصف الحقيقي على غيره )). يعني: إذا كانت علة أحد القياسين وصفا حقيقيا، وعلة الآخر اعتباريا، فإن ما علته الوصف الحقيقي أرجح. للإتفاق على تعليل الحكم به، دون غيره. وقد تقدم.

(1/233)


(( و )) يرجح (( الوصف الثبوتي على )) الوصف (( العدمي )). أي: إذا كانت العلة في أحد القياسين وصفا ثبوتيا، وفي الآخر وصفا عدميا، فإن ما علته الوصف الثبوتي أرجح مما علته الوصف العدمي. للإتفاق أيضا على التعليل بالثبوتي، دون العدمي. والله أعلم .
(( والباعثة على الأمارة )). أي: إذا كانت العلة في أحد القياسين باعثة على الحكم، وفي الآخر أمارة فقط، فإن ما علته باعثة أرجح. للإتفاق عليها.
(( و )) ترجح العلة (( المطَّرِدة، والمنعكسة على خلافها )). وهي غير المنعكسة .
(( و )) ترجح العلة (( المطردة فقط )) أي: من دون انعكاس (( على المنعكسة فقط )). أي: من دون اطِّراد. يعني: إذا كانت علة أحد القياسين مطردة، بأن يوجد الحكم بوجودها، ولا تنعكس أي: لا ينتفي الحكم بانتفائها، وعلة الآخر بالعكس، فإن ما علته مطَّرِدة أرجح مما علته منعكسة.
(( و )) يرجح (( السَّبر، على المناسبة )). أي: إذا ثبتت علة أحد القياسين المتعارضَين بالسبر والتقسيم، وعلة الآخر بالمناسبة بينهما وبين الحكم، فإن ما ثبت علته بالسبر أرجح. لتضمنه انتفاء غيرها. كما تقدم في القياس .
(( و )) ترجح (( المناسبة على الشَّبهِيَّة )). أي: إذا ثبتت علة أحد القياسين بالمناسبة، وعلة الآخر بالشَّبه، فإن ما ثبت علته بالمناسبة أرجح. لأن الظن الحاصل بها أقوى. والله أعلم.
(( و )) أما القسم الثاني: وهو الترجيح بين القياسين بحسب الفرع. فإنه (( يرجح )) أحد القياسين (( بالقطع لوجود العلة في الفرع )). يعني: إذا قُطِع بوجود العلة في الفرع في أحد القياسين، وظُنَّ وجودها فيه في القياس الآخر، كان ما قُطع بوجوده العلة في فرعه أرجح.

(1/234)


(( و )) يرجح أحدهما (( بكونه )) أي: حكم الفرع (( ثابتا بالنص في الجملة )). في أحد القياسين دون الآخر. أي: إذا كان قد ثبت حكم الفرع فيه في أحد القياسين بالنص في الجملة، وجيء بالقياس للتفصيل، والآخر ليس كذلك، بل يحاول إثبات الحكم في الفرع بالقياس ابتداءً، فإن ما ثبت فيه حكم الفرع بالنص جملة أرجح. لأن تفصيل الشيء الثابت أهون، من إثباته من أصله. والله أعلم.
(( و )) يُرجَّح (( بمشاركته )) أي: الفرع للأصل (( في عين الحكم، وعين علته، على الثلاثة الأُخر )).
1_ وهي: المشاركة في جنس الحكم، وعين علته.
2_ أو عين الحكم، وجنس العلة.
3_ أو جنس الحكم، وجنس العلة.
يعني إذا كان الفرع في أحد القياسين مشارِكا للأصل في عين العلة، وعين الحكم، وفي الآخر الفرع مشارِكا للأصل في الثلاثة الأخيرة، فإن الأول أرجح. على ما تقدم في تفصيل المناسب .
(( و )) يرجح أحد القياسين على الآخر، بمشاركة الفرع للأصل
(( في عين أحدهما )). إما العلة. أو الحكم. (( وجنس الآخر ))، على المشاركة له (( في الجنسين )). يعني: إذا شارك الفرعُ الأصلَ في أحد القياسين، في عين الحكم، وجنس العلة، كان ما يشارك فيه الفرعُ الأصلَ في عين أحدهما، وجنس الآخر أرجح مما يشارك فيه الفرعُ الأصلَ في الجنسين.
(( و )) يُرجَّح أحد القياسين على الآخر، بمشاركة الفرع للأصل
(( في عين العلة، مع )) المشاركة في (( في جنس الحكم، على )) المشارك في (( العكس )). أي: في عين الحكم، مع جنس العلة. يعني: إذا كان الفرع في أحد القياسين مشارِكا للأصل في عين العلة، وجنس الحكم، وفي الآخر بالعكس، فإن الأول أرجح. إذ العلة هي الأصل في التعدية. والله أعلم.
هذا ما يُحتاج إليه من الترجيحات بين العقليين. وبالله التوفيق.
وأما الفصل الثالث: وهو الترجيح بين المختلفين. أي: النقلي، والعقلي.

(1/235)


فبيانه أن نقول: النقلي إما خآص، أو عام. والخآص إما أن يدل بمنطوقه، أو بمفهومه. فإن كان خآصا دآلا على الحكم بمنطوقه، فإنه يرجح على المعقول. من قياس، أو اجتهاد. لأن النص أصلٌ بالنسبة إلى القياس والإجتهاد. ولأن تطرق الخلل إليه أقل من تطرقه إليهما. مثاله: أن يقول الشارع: تجب النية في الوضوء. مع قياسه على إزالة النجاسة، بكونه طهارة بمائع فلا تجب. فإن النص أرجح. والله أعلم. وإن كان خآصا دآلا بمفهومه، فله درجات مختلفة، باختلاف المفهوم في القوة والضعف. والترجيح فيه على حسب ما يقع للناظر.
وإن كان النقلي عاما، فهو على الخلاف في جواز التخصيص بالقياس. هل يجوز؟ أم لا؟ فهذا هو العمدة في باب الترجيح. والله الهادي إلى الصواب.
(( و )) إن كان قد يحصل بغير ذلك، إذ المعلوم أن (( وجوه الترجيح لا تنحصر )) فيما ذكر فقط .
(( و )) لكن بعد التحقيق لهذا المذكور ومعرفته، (( لن يخفى )) على الفَطِن (( اعتبارها )). أي: اعتبار غير الوجوه المذكورة. (( مع توفيق من الله عز وجل ))، ولطف للعبد يحصل به التنوير في القلب. والله سبحانه وتعالى أعلم. وصلى الله وسلم على سيدنا محمد وآله الطيبين الطاهرين.
[ خاتمة لباب الترجيحات ]
وهي في بيان مآهية الحدود، وأقسامها، ووجوه ترجيح السمعية منها.
(( و )) اعلم أن (( الحدُّ )) في اللغة بمعنى: المنع. ومنه: سمي البواب حدادا. لمنعه الداخل والخارج.
وفي الإصطلاح (( ما يُميِّز الشيء عن غيره )). أي: ما يُمَيِّز المحدود عن دخول غيره فيه. وسمي: بذلك لمنعه غير المحدود عن الدخول في المحدود. وهذا التعريف شامل للعقلية كتعريف المآهيات، والسمعية كتعريف الأحكام. واللفظي والمعنوي أيضا.
(( وهو )) أي: الحد. قسمان:
(( لفظي )). وهو ما يقصد به تفسير مدلول اللفظ.
(( ومعنوي )). وهو ما يُقال على الشيء لإفادة تصوره.

(1/236)


(( فاللفظي )) حقيقته: (( كشف لفظ بلفظ أجلى منه مرادف له )). كما يقال: الغضنفر: هو الأسد. والعقار: هي الخمر.
وفي إشتراطه للمرادفة نظر. إذ يجوز أن يكون بالأعم. لأن المقصود به إنما هو تفسير مدلول اللفظ. كما يقال: سعدان: نبت. فإن النبت يعم السعدان وغيره. وذلك ظاهر .
(( والمعنوي )) وقد عرفت حقيقته. ينقسم إلى قسمين:
(( حقيقي )). وهو المسمى بالحد عند المنطقيين.
(( ورسمي )). وهي المسمى بالرسم عندهم. (( وكلاهما )). أي: كل واحد من الحقيقي والرسمي، ينقسم إلى قسمين أيضا:
(( تام )).
(( وناقص )).
(( فالحقيقي التام: ما رُكِّب من جنس الشيء )). وحقيقة الجنس: هو المقول على الكثرة المختلفة الحقائق في جواب ما هو ؟
(( وفصله )). وحقيقة الفصل: ما يقال على الشيء في جواب أيُّ شيء هو في ذاته ؟
وقوله: (( القريبين )). صفة للجنس والفصل. فالقريب من الجنس: ما يكون الجواب به عن المآهية ؟ وعن بعض المشاركات لها فيه هو: الجواب عنها. وعن كل المشاركات فيه أيضا، كالحيوان في حق الإنسان، فإنه جنس قريب له.
والبعيد منه: مالا يكون الجواب عن السؤآل عن المآهية. وعن بعض
المشاركات فيه جوابا عن الماهية. وعن جميع المشارِكات فيه. بل عنها وعن البعض. كالجسم مثلا: في حق الإنسان. وقد تقدم معنى ذلك في باب الحقيقة والمجاز.
والقريب من الفصل: ما يميز الشيء عن المشارِكات في الجنس القريب. كالناطق في حق الإنسان. فإنه يميزه عن المشارِكات له في الحيوانية.

(1/237)


والبعيد منه: ما يميز عن المشارِكات في الجنس البعيد، كالحساس في حق الإنسان أيضا. فإنه يميزه عن المشارِكات له في الجسمية. فما تركب من جنس الشيء وفصله القريبين: فهو الحد التام. وذلك (( كحيوان ناطق. في تعريف الإنسان )). فالحيوان: جنس قريب للإنسان. والناطق: فصل قريب له. كما بيَّنا. وسمي حدا. لما تقدم من أنه مانع من خروج شيء من أفراد المحدود، وعن دخول غيره فيه. وتاما. لاشتماله على جميع الذاتيات.
والأكثر في التركيب: تقديم الجنس على الفصل. ويجوز العكس. فيقال: ناطق حيوان .
(( و )) الحد (( الحقيقي الناقص: ما كان بالفصل )) القريب (( وحده، كناطق )) في تعريف الإنسان.
(( أو )) بالفصل القريب (( مع جنسه ))، أي: المحدود (( البعيد )). وذلك: كجسم ناطق. في تعريف الإنسان أيضا. فالجسم: جنس بعيد له. والناطق: فصل قريب. كما تقدم. وسمي ناقصا. لخلوه عن بعض الذاتيات كالحيوانية.
((والرسمي التام: ما كان بالجنس القريب )). وقد تقدم بيانه . ((والخآصة )). وحقيقتها هي: المقول على ما تحت حقيقة واحدة فقط. (( كحيوان ضاحك )). في تعريف الإنسان. فإن الضاحك خآصة للإنسان.
وسمي رسميا. لكونه تعريفا بالخآصة التي هي من آثار الشيء. ورسم الشيء أثره. وتاما. لشبهه بالحد التام. من حيث أنه وضع فيه الجنس القريب، وقيد بما يخص المآهية.
(( والرسمي الناقص: ما كان بالخآصة وحدها )). كضاحك في تعريف الإنسان. (( أو )) بالخآصة (( مع الجنس البعيد )). كجسم ضاحك في تعريفه . وسمي ناقصا. لخلوه عن بعض الذاتيات أيضا. ورسما. لما تقدم في التام.
(( أو )) يكون التعريف (( بالعَرَضيات التي تختص جملتها بحقيقة واحدة )). ولا توجد مجتمعة إلا فيها. وإن وجد كل واحد منفردا في غيرها. فإن التعريف بها يكون رسما ناقصا أيضا. أما كونه رسما. فلأنه أيضا بالأثر. وأما كونه ناقصا. لعدم ذكر الذاتي. بل إنما ذكرت العرضيات العامة. والله أعلم.

(1/238)


وذلك (( كقولنا في تعريف الإنسان: ماشٍ على قدميه، عريض الأظفار، بادي البشرة، مستوي القامة، ضاحك بالطبع )). فإن هذه العرضيات الخمسة لا توجد مجتمعة إلا في الإنسان. فصح التعريف بها. إذ قد أفادت تمييز الإنسان عن غيره، المقصود من الحد. والله أعلم.
(( و )) اعلم أنه (( يجب الإحتراز في الحدود عن )) أمور:
منها: (( تعريف الشيء بما يساويه في الجلاء والخفاء )). فلا بد في المعرِّف من أن يكون مساويا للمعرَّف. بحيث يصدق أحدهما على جميع ما يصدق عليه الآخر. فإذا وُجِدَ أحدهما وُجِدَ الآخر. وهو معنى الإطِّراد. وبه يكون الحد جامعا. وإذا عدم أحدهما عدم الآخر. وهو معنى الإنعكاس. وبه يكون مانعا. ولا يكو نفس المعرَّف. وأن يكون أجلى من المعرَّف ووأضح منه. فحينئذ لا يصح بالأعم من المعرِّف والأخص منه. فلا يصح تعريف الإنسان: بالحيوان فقط. ولا تعريف الحيوان: بالإنسان. وذلك: لأن المقصود بالتعريف: هو إفادة تصور المعرَّف. سواء كان بكنه المعرَّف أي: نفسه. كما في الحد التام. أو بوجه يميزه عما عداه. وإن لم يوصل إلى كنهه. كما في الحد الناقص، والرسم مطلقا. والأعم والأخص لا يحصل بهما ذلك. فتأمل! والله أعلم.
وإذا لم يصح التعريف بالأعم من المعرِّف، والأخص منه، كان عدم صحته بالمبائن أولى وأحرى .
وكذلك: لا يصح التعريف بما لا يكون أجلى من المعرَّف. بل مساويا له. فلا يصح تعريف الأب: بمن له الابن. والعكس. لأنهما متساويان ضرورة. بمعنى: أنهما يُتعقَّلان معا.وكذلك لا يصح بالأخفى من المعرَّف. فلا يصح تعريف الحركة: بما ليس بسكون. لكونه أخفى منها. إذ السكون: عدم الحركة عما من شأنه أن يتحرك. ولا تعريف النار بالجوهر الشبيه بالنفس. لذلك. ولا تعريفها: بالخفيف المطلق. لمن لا يعرف معنى الخفة.

(1/239)


(( و )) منها: (( تعريف الشيء بما لا يُعرف )) ذلك الشيء (( إلا به )). بأن تكون معرفة الحد: متوقفة على معرفة المحدود. لأنه دَورٌ. سواء كان ذلك التوقيف (( بمرتبة )). ويسمى ذلك: الدور الظاهر. مثل تعريف الكيفية: بما به تقع المشابهة. وإلا فلا مشابهة. ثم تعريف المشابهة بالإتفاق في الكيفية. فالمشابهة مترتبة على الكيفية بمرتبة واحدة.
(( أو كان بمراتب )) أكثر من واحدة. ويسمى الدَّورُ الخفي. مثل تعريف الاثنين: بأول عدد ينقسم بمتساويين. ثم تعريف المتساويين: بالشيئين الغير المتفاضلين. ثم تعريف الشيئين: بالإثنين. فالمتساويان يتوقفان على الاثنين بمرتبتين:
إحداهما توقف المتساويين على الشيئين.
والثانية: توقف الشيئين على الإثنين.
(( و )) منها: الإحتراز (( عن استعمال الألفاظ الغريبة ))، التي لا تعرف (( بالنظر إلى المخاطب )). أي: الذي التعريف له. بأن تكون غير مأنوسة الإستعمال عنده. كما تقدم في تعريف النار: بالخفيف المطلق. لمن لا يعرف الخفة. فهذا بيان الحدود وأقسامها .
وأما ترجيح السمعيات منها فقد بيَّنه بقوله: (( ويرجح بعض الحدود السمعية )). وهي الموصلة إلى التصورات الشرعية. أي: المقصود بها تعريف الأحكام الشرعية، لا العقلية، وهي التي يقصد بها تعريف الماهيآت. والمراد من الحدود السمعية: الظنية. لا القطعية. فلا تعارض بينهما. كالحجج. إذا تقرر ذلك فترجح بعضها (( على بعض )) منها إذا تعارضت. بأن يقتضي أحد الحدين، غير ما يقتضيه الآخر. كما في الحجج بأمور:

(1/240)


الأول: (( بكونه ألفاظه )) أي: ألفاظ أحد الحدين المتعارضَين (( أصرح )) من ألفاظ الآخر. بأن يكون ألفاظ أحدهما نآصة على الغرض المطلوب، دآلة عليه بالمطابقة، والتضمن. وألفاظ الآخر غير صريحة. بأن يكون فيها تَجَوُّزٌ، أو استعارة، أو اشتراك، أو غرابة، أو اضطراب، أو دآلة على الغرض بالإلتزام. فإن ما ألفاظه أصرح، أرجح من الآخر. ولكونه أقرب إلى الفهم، وأبعد من الخلل، والاضطراب. مثال ذلك: ما يقال في الجنابة: حدوث صفة شرعية في الإنسان عند خروج المني، أو عند سببه، تمنع من القراءة، لا الصوم. مع قول الآخر: الجنابة: خروج المني على وجه الشهوة. فإن الأول أرجح من الثاني. لأن في الثاني تجوُّزٌ .إذ يسبق إلى الفهم منه أن خروج المني الجنابة. وإنما الجنب صاحب المني. والأول يدل على ذلك بالنص. كما ترى. ووجه التعارض فيهما: أن الأول يقتضي أن الجنابة غير خروج المني. كما أَوضَحه بقوله: حدوث صفة عند خروج المني. والثاني: يقتضي أن الجنابة نفس خروج المني. والله أعلم.
الثاني: قوله (( أو المعرَّف فيه أعرف )) أي: يرجح أحد الحدين المتعارضَين، بكون المعرَّف فيه أعرف وأشهر من المعرَّف في الآخر. فيكون إلى التعريف أقرب.
كما إذا كان في أحدهما حسيا، وفي الآخر عقليا، أو شرعيا. فالحسي أولى من غيره.
أو كان في أحدهما عقليا، وفي الآخر عرفيا، أو شرعيا. فإن العقلي أولى من غيره.
أو كان في أحدهما عرفيا، وفي الآخر شرعيا. فإن العرفي أولى. مثاله:الحوالة:نقل الدين من ذمة إلى ذمة.مع قول تلآخر:ضم ذمة إلى ذمة. فالأول أشهر.

(1/241)


الثالث: قوله: (( وبعمومه )). أي: يرجح أحد الحدين المتعارضَين، بكون مدلوله أعم من مدلول الآخر. بأن يكون باعتبار جنسه متناولا لمحدود آخر. فإنه يرجح بذلك. لفائدته. إذ الأعم يتناول ذلك وغيره. فتكثر جزئيات المحدود فيه. مثاله: ما يقال في الخمر: هو ما أسكر. مع قول الآخر: هي التي من ماء العنب إذا أسكر. فإن الحدين متعارضان. والأول أرجح. لتناوله غير الخمر من سائر المسكرات. ووجه التعارض: أن الأول يقتضي أن كل مسكر يسمى خمرا. بخلاف الثاني. والله أعلم.
والرابع: قوله: (( وبموافقته النقل السمعي، أو اللغوي )). أي: يرجح أحد الحدين المتعارضين بموافقته النقل السمعي، أو النقل اللغوي. وتقريره: لوضعهما على ما لم يوافقهما. لبعد الخلل عن الموافق لهما. ولكونه أغلب على الظن. كما مر في الخمر. فإن الأول موافق للنقل السمعي. لقول الشارع: كل مسكر خمر. واللغوي أيضا. لأن معناه عند أهل اللغة: ما يخامر العقل. وهو معنى الإسكار.
والثاني: لا يوافق أيهما. فتأمل!
والخامس: قوله: (( وبعمل أهل المدينة، أو الخلفاء الأربعة ))، الذين هم: علي كرم الله وجهه، وأبو بكر، وعمر، وعثمان.
(( أو بعمل العلماء، أو بعمل بعضهم )). يعني: إذا عمل بأحد الحدين المتعارضين أهل مدينة النبي صلى الله عليه وآله وسلم، أو الخلفاء الأربعة، أو العلماء أو بعضهم، من المشهورين بالإجتهاد، والعدالة، دون الآخر، فإنه يرجح منهما ما عمل به أيُّ هؤلاء، على ما لم يعمل به. إذ هو أقرب إلى الإنقياد، وأغلب على الظن. كما إذا نقل عن أيِّ هؤلاء: أنه يقول في الخمر: هو ما أسكر. ويعمل بمقتضاه. وعن غيرهم هي: التي من العنب، إذا أسكر.

(1/242)


والسادس: قوله: (( وبتقرير الحكم الحظر، أو حكم النفي )). يعني: إذا كان أحد الحدين المتعارضَين يقرر حكم الحظر، والآخر يقرر حكم الإباحة، كان ما يقرر حكم الحظر أرجح. أو كان أحدهما يقرر حكم الحظر، والآخر يقرر حكم الإثبات أي: يلزم من العمل بأحدهما تقرير حكم النفي، والآخر تقرير حكم الإثبات، فإن ما يقرر حكم النفي أرجح.
مثال الأول: ما مر في الخمر. فإن قولنا: هو ما أسكر. يقرر حكم الحظر في كل مسكر. بخلاف الآخر.
ومثال الثاني: ما يقال في الحدث: هو انتقاض الشرعية، بخروج شيء من السبيلين، أو بسبب خروجه. مع قول الآخر: إنه انتقاض الطهارة بخروج ما يخرج من باطن الآدمي، أو بسببه الأكثري، أو القهقهة في صلاة البالغ، فإن الأول يقرر حكم النفي الأصلي في الرعاف، والقيء، والقهقهة، _ أعني أنها غير ناقضة _ بخلاف الثاني. فيكون الأول أرجح. ووجه التعارض بينهما واضح.
والسابع: قوله: (( وبدرء الحد )). يعني: إذا كان يلزم من العمل بأحد الحدين المتعارضين درء الحد والعقوبة، ومن العمل بالآخر إثباته، فإن ما يلزم منه الدرء أرجح. مثال ذلك: ما يقال في الزنا الموجب للحد: إتيان المرأة في قبلها من غير ملك النكاح، أو شبهة. مع قول الآخر: إيلاج فرج في فرج محرم قطعا، مشتهى طبعا. فإن الأول موافق لدرء الحد في إتيان المرأة في دبرها، فيكون أرجح. بخلاف الثاني. ووجه التعارض: أن الأول يقتضي أن إتيان المرأة في دبرها، وإتيان غيرها لا يسمى زنا. بخلاف الثاني. والله أعلم.
(( إلى غير ذلك )) المذكور من مرجحات الحدود السمعية. (( مما لا يعزب )) اعتباره (( عمن له طبع سليم ))، وفهم غير سقيم
(( وتوفيق )) وهداية، (( من الفتاح العليم، والله يهدي من يشاء إلى صراط مستقيم )). ولا حول ولا قوة، إلا بالله العلي العظيم .
وعلى النبي وآله أفضل الصلاة والتسليم.

(1/243)