الكتاب : الفصول

الفُصُولُ اللؤلؤية
في
أصول فقه العترة الزكية، وأعلام الأمة المحمدية

تأليف
العلامة الكبير السيد صارم الدين
إبراهيم بن محمد بن عبد الله بن الهادي الوزير
المتوفى (914 هـ)

دراسة وتحقيق
محمد يحيى سالم عزان

الناشر: مركز التراث والبحوث اليمني

m

مقدمة التحقيق
قبل البدء
الحمد لله رب العالمين وصلى الله وسلم على سيدنا محمد وعلى آله الطيبين الطاهرين وبعد، فهذا كتاب (الفصول اللؤلؤية في أصول فقه العترة الزكية وغيرهم من علماء الأمة المحمدية)، أقدمه للقراء الكرام بعد رحلة طويلة قطعتها معه، امتدت عبر عقد ونصف من الزمان، وذلك أنني منذ بدأت في دراسته على أحد مشايخنا الأجلاء (عام 1405هـ 1985م) كنت أتمنى أن يطَّلع عليه الباحثون ويستوعبه طلاب العلوم الشرعية، لما تظمنه من فرائد الفوائد، ونوادر المسائل، وضوابط المعرفة، لذلك كنت أزين المخطوطة التي أدرس فيها بالألوان، وأحرص من خلال ذلك على أن أبين الفصول والمقاطع والأقسام، ليسهِّل ذلك على فهمه واستيعابه.
وبعد سنوات شاء الله أن أشتغل بشأن التحقيق والطباعة، فاخترت جملة من المخطوطات كان منها هذا الكتاب، إلا أنني ظللت أتهيب من العمل فيه إلى فترة متأخرة أقدمت بعدها على صفه وبدأت العمل فيه، وما أن وصلت إلى نصفه تقريباً حتى ظهر الكتاب مطبوعاً بتحقيق د/عبد المجيد عبد الحميد الديباني ، أستاذ بجامعة قاريونس ورئيس قسم الشريعة سابقاً؛ فتوقفت عن العمل فيه، وحمدت الله على وجوده، وبعد الاطلاع عليه وجدت أن محققه قد بذل فيه جهوداً يشكر عليها، غير أن عنايته بنص الكتاب لم تكن على المستوى المطلوب، فالأخطاء والسقط لا تزال منتشرة على صفحاته بدرجة كبيرة، وبذلك فقد سلاسته، بل وتحَرِّفت بعض معانيه، دع عنك ما تضمنته المقدمة من الأخطاء الفكرية والتاريخية عن الزيدية وعن المؤلف، حتى أنه ترجِم لحفيده بدلاً عنه.

(1/1)


وهذا ما جعلني أفكر في مواصلة عملي في تحقيقه، وشجعني عليه مطالبة بعض مشايخنا الأجلاء وزملائنا الأعزاء بذلك، ولكن قلة الإمكانيات أقعدتني عن إنجازه في وقت قصير.
وعندما بزغت أنوار "مركز التراث والبحوث اليمني" تبنى طباعته ونشره إلى جانب كتب أخرى من ذخائر التراث الإسلامي، فذللت الصعاب، وتمكنت من مواصلة العمل فيه حتى أنجز بحمد الله ومَنِّه.
وفي هذه المقدمة المقتضبة سيكون لي كلمة عن موضوع الكتاب، وكلمة عن الكاتب، وكلمة عن الكتاب، وكلمة عن تحقيقه. أسأل الله العون والسداد، وأن يجعل هذا العمل خالصاً لوجهه الكريم إنه سميع مجيب.

m

أصول الفقه أدوار وأطوار
نشأة قواعد أصول الفقه وتطورها
على امتداد فترة الرسالة الإسلامية، ومع استمرار نزول الوحي؛ كانت التوجيهات السماوية تصل الناس غضَّة طريَّة، عن طريق الحبيب المصطفى المعلم الأول والمرشد الأعظم صلى اللّه عليه وآله وسلم، فلا اضطراب في معرفتها، ولا تخبط في فهمها، حيث لا يزال مبعوث السماء موجوداً بين ظهراني الأمة، يبين المجمل، ويشرح الغامض، ويرفع اللبس، ويكشف عن جوهر الحقيقة ويدفع الناس نحوها، وبذلك لم يكن ثَمَّ حاجة ملحة لتحرير ودراسة قواعد وأسس تستنبط الأحكام الشرعية على ضوءها، أو تدفع الغموض عنها.
وبموت رسول اللّه صلى اللّه عليه وآله وسلم غاض ذلك النَّبع الصافي، وتوقف إمداد الوحي السماوي، بعد أن رسم للبشرية المنهج الذي تمضي عليه لتحقيق سعادتها، وبَيَّن الطرق القويمة الموصلة إلى معرفة أحكام ما سيحدث ويتجدد في حياة الناس، ووضع الأسس المتينة التي يمكن الأمة أن تبني عليها صروح معرفتها وفكرها.

(1/2)


وبعد موت رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم واجه المسلمون من أصحابه تساؤلات كثيرة عن تحديد المواقف العملية تجاه بعض المستجدات التي لم يرد بحكمها نص صريح في القرآن أو السنة، فتوجه فقهاء الصحابة رضي اللّه عنهم إلى إمعان النظر في مصادر التشريع ومراجعة التركة العلمية التي ورثوها عن رسول اللّه صلى اللّه عليه وآله وسلم، فاستنبطوا منها ما تتطلبه الساحة من الأحكام تجاه مختلف القضايا الحادثة.
وكان من الطبيعي أن يختلفوا في استنتاج بعض الأحكام وتحديد المواقف العملية تجاه بعض القضايا؛ لأسباب كثيرة من أهمها:
(1) ـ تفاوتُ الصحابة في الذكاء والفهم، وحسن الاستيعاب، فقد كان لدى بعضهم من الحنكة والذكاء ما يمكنه من فهم الأحكام على وجهها الصحيح، ويساعده على استنباط خفايا النصوص ودقائق المعاني، بينما كان بعضهم كثيراً ما يسهو في النقل، أو يخطئ في الفهم، أو يكتفي بظاهر نص أو فتوى، أو ترجيح يأتيه من هنا أو هناك.. وتلك سنة الله في خلقه.. وعذرهم في ذلك أنهم بشر.
(2) ـ تفاوتهم في مدى ملازمة النبي صلى الله عليه وآله وسلم، فقد كان بعضهم لا يكاد يفارقه إلا في أو قات الخصوصية، كأوقات الراحة والنوم، بينما كان البعض الآخر لا يجالسه إلا نادراً، إما لبعد أو كثرة ترحال أو انشغال بأمر من الأمور، مما يجعله يسمع جزءا من حديثه صلى الله عليه وآله وسلم ولا يسمع الجزء الآخر، أو يسمع عموماً ولا يسمع مخصصه، أو مطلقاً ولا يسمع مقيده، أو منسوخاً ولا يسمع ناسخه، ونحو ذلك من العوامل المؤثرة في تقديم الحقائق وعرضها.

(1/3)


(3) ـ قابلية اللفظ العربي – مفرداً أو مركباً- لاحتمالات السامعين، خصوصاً مع غياب القرائن أو غموضها، وذلك نحو ما روي أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم بكى عند موت ولده إبراهيم، فقيل له: يا رسول الله، أتبكي وأنت تنهى عن البكاء؟! فبين لهم أنه لم ينهَ عن البكاء، وإنما نهى عن الصراخ واللطم ونحوه. ففهم السامع أن النهي عن كل مظاهر الحزن على الميت. هذا مع أن الاحتمالات في حق الصحابة يجب أن تكون محدودة؛ لأن القرائن غالباً ما تكون مع النص بسياق أو نحوه، وإلا كان الكلام قاصراً عن الفهم؛ وهو نقص في الفصاحة يعاب به الكلام، خصوصاً إذا سبب ذلك التوهم خلاف المراد.
تلك الأسباب وغيرها - إلى جانب الاختلاف في نقل الأخبار - وضعت الفقهاء بعد عصر الصحابة أمام موروث ضخم من الآراء المتعددة، والترجيحات المتباينة، والاجتهادات المختلفة، وانظم إلى ذلك ما شهده عصر التابعين من متغيرات شتى كان لها دور ملموس في التأثير على منهج التفكير والنشاط العلمي، ولعل من أهمها:
(1) ـ تَوَسُّع رقعة العالم الإسلامي، ودخول الدعوة الإسلامية إلى مجتمعات متعددة الأعراف مختلفة الأوضاع، يتطلب التعامل معها شيئاً من المرونة والشمولية من جهة، والدقة في التحرك وفق مقاصد الشريعة من جهة أخرى.
(2) ـ ظهور عدة مدارس فكرية وفقهية تنتمي إلى صحابة بارزين اعتمد كل منهم ما سمع من حديث عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم.. وكانت لهم طرق واجتهادات في فهم النصوص.
(3) ـ انعكاس الصراع السياسي على الحياة الثقافية، حيث أبرزت السياسة أفكاراً وعتمت على أخرى، وتدخل الحكام تدخلاً مباشراً في مواجهة أو تأييد بعض المفاهيم بما يتناسب مع أوضاعهم السياسية.
وفي ظل تلك المتغيرات، نشأت المذاهب الفقهية وتبلورت أفكارها، وحرص أتباع كل مذهب على حشد ما يمكن حشده من الحجج والبراهين ليثبتوا أن ما توصلوا إليه هو الراجح الصحيح.

(1/4)


وهذا بدوره وضع الفقهاء ـ الذين برزوا في ذلك العصر ـ أمام مهمة صعبة؛ لأن ما يجب أن يقرروه من اجتهادات ومسائل فقهية لا بد فيه من مراعاة المتغيرات المذكورة، إلى جانب الحرص على براءة الذمة بمراعاة مقاصد وثوابت الشرع، لذلك توجهوا إلى دراسة ما بين أيديهم من النصوص والاجتهادات، وأصَّلوا أصولاً للاستنباط ووضعوا قواعد للفهم والاجتهاد، معتمدين في ذلك على ثوابت مستمدة من: العقل، واللغة، والشرع، كالعمل بالأخبار الصحيحة، ومراعاة التقييد والتخصيص، والعلل والأسباب، والعمل بالناسخ، والاستفادة من المفاهيم، ونحو ذلك مما صار يعرف أخيراً بـ(علم أصول الفقه).
ورغم كثرة الضوابط ـ المنظمة لعملية الاستنباط ـ آنذاك وتداخلها، فإنها لم تُمَيَّز كفَنٍّ مستقل تُشرح أبعاده وتبين جذوره، وإنما كان الفقهاء يتداولونها كنظريات معروفة لديهم، يشيرون إليها في معرض استدلالاتهم وأثناء حوارهم.
وقد قيل: إن أول من أملى قواعد هذا العلم هو الإمام محمد بن علي الباقر المتوفى سنة (114 هـ/732م)، وإن أول من صنف فيه هو الإمام يعقوب بن إبراهيم المشهور بأبي يوسف صاحب أبي حنيفة المتوفى سنة (182هـ/798م)، وقيل الإمام محمد بن إدريس الشافعي المتوفى سنة (204 هـ/819م).
وفي أوائل القرن الثالث الهجري بدأ أتباع أئمة المذاهب الفقهية بجمع واستخراج الضوابط والقواعد وكل ما يمكن أن يكون أصولاً لفقه أئمتهم، ثم أفرغوا ذلك في قوالب جديدة، فجعلوا لها أبواباً ورتبوا لها فصولاً وتعاملوا معها كأصول لمذاهبهم، يُخَرِّجون ويجتهدون ويفَرِّعون على ضوءها، رغم أن الجزء الأكبر منها ـ لاسيما في أمهات المسائل ـ يعد أصولاً مشتركة بين الجميع، لا يختص بها إمام دون آخر.
وبعد ذلك أخذ أتباع كل مذهب يتفننون في تجديد وصياغة تلك القواعد حتى وصل علم أصول الفقه إلى ما هو عليه اليوم.
ولعل ما سبق يمكننا من القول بأن قواعد أصول الفقه التي خلفها لنا الأولون على نوعين:

(1/5)


النوع الأول: ثوابت عقلية ولغوية وشرعية يتحتم على فقهاء المسلمين ـ على اختلاف عصورهم ومذاهبهم ونزعاتهم ـ مراعاتها وذلك هو القدر المشترك الذي يمكن أن يطلق عليه: (أصول الفقه الإسلامي) مطلقاً غير مقيد بمذهب معين. ويتم تقديم هذا الجانب بذكر تلك الثوابت، ودراستها، والاستدلال عليها، وتطبيقها، وتقييمها? والتفريع عليها، وتمييز ما اتفق عليه منها، ومعرفة أسباب الخلاف فيما اختلف فيه منها، ونحو ذلك مما لا يخرج إلى الخصوصيات.
ويعتبر المجتهد على ضوء هذا النوع من الأصول مجتهداً مطلقاً غير مقيد بمذهب؛ لأنه يتحرك في اجتهاداته وفق الأصول العامة، ويحتاج بجانب ذلك إلى استنباط قواعد فرعية تساعده على التوصل إلى تكوين رؤية متكاملة، تتناول تفاصيل المسائل ودقائقها.
النوع الثاني: قواعد فرعية تَوَصَّل إليها المجتهدون، أو استخرجها أتباعهم من فقههم، وغالباً ما تكون جزئيات لا يؤدي الاختلاف فيها إلى تباين خطير في أحكام الشريعة.
ويعتبر المجتهد على ضوئها مجتهداً في المذهب لا مجتهداً مطلقاً، كما هو شأن كثير من المجتهدين في إطار المذهب الواحد.

الفقه الزيدي وأصوله ملامح وتطورات
لعل الفرصة مواتية هنا لعرض ملامح الفقه الزيدي وأصوله، وإطلاع الباحثين والقراء على جانب من نشاط الزيدية وإسهاماتهم في هذا المجال، ليمكن من خلال ذلك معرفة موقع المذهب الزيدي في قائمة المهتمين بهذا الشأن، وذلك ما سنلمح إليه في النقاط التالية:
أولاً: الإمام زيد بن علي الفقيه الفارس

(1/6)


الزيدية معروفون بنسبتهم إلى الإمام الأعظم زيد بن علي بن الحسين بن علي بن أبي طالب? أحد رموز العترة وعظماء المسلمين، وقد ولد الإمام زيد عام خمسة وسبعين للهجرة على أصح الروايات، ونشأ في أحضان العلم والمعارف، فأخذ عن كبار أهل بيته، كما أخذ عن بعض الصحابة، وبذلك يعد من جيل التابعين، قال الحافظ أبو عبد الله العلوي (1): كان زيد بن علي بن الحسين تابعياً سمع أبا الطفيل عامر بن واثلة (2). وقال ابن حبان(3) : رأى جماعة من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، وذكره ابن سعد(4) في الطبقة الثالثة من أهل المدينة من التابعين.
__________
(1) تسمية من روى عن الإمام زيد من التابعين، تحت الطبع بتحقيق الأستاذ صالح عبد الله قربان.
(2) أبو الطفيل عامر بن واثلة الكناني، توفي سنة (100 هـ، وقيل: 107 هـ، وقيل: 110 هـ). قال المزي: روى عن النبي (ص). وقال ابن حبان: هو آخر من مات من أصحاب رسول الله (ص) بمكة. وقال ابن حجر: رأى النبي (ص) وهو شاب وحفظ عنه أحاديث. وقال ابن عدي: له صحبة. وقال مسلم: مات سنة (100 هـ) وهو آخر من مات من الصحابة. ورواياته عن النبي (ص) ثابتة في كتب الحديث، فقد روى أبو داود في السنن رقم (5144) بإسناده إلى عمارة بن ثوبان، أن أبا الطفيل أخبره ، قال: "رأيت النبي صلى اللّه عليه وآله وسلم يَقْسِمُ لحماً بالجِعِرَّانة. ومن طريقه رواه السيد الإمام أبو طالب في الأمالي ـ الباب الثاني (فضائل النبي صلى الله عليه وآله وسلم). انظر: تهذيب الكمال 14/79، طبقات ابن سعد 5/457، و6/64، ثقات ابن حبان 3/291، الكامل لابن عدي 5/1741، رجال صحيح مسلم 2/87، الإصابة 4/113، أسد الغابة 3/96.
(3) ترجمة الإمام زيد في كتاب الثقات 4/249.
(4) الطبقات الكبرى: 5/325.

(1/7)


وتميز الإمام زيد بصفات كريمة كالشجاعة، والورع، وحسن العبادة، وسعة الأفق، والتسامح، وحب الخير للأمة، كما تميز بأفكار نافعة ومعارف واسعة في مختلف أبواب المعرفة .. والكلام في سيرته يطول ويطول، غير أن ما يعنينا هنا هو "الإمام زيد الفقيه".
ولعله يمكننا إبراز ذلك من خلال جملة من الملامح والآثار، كشهادة معاصريه له بأنه فقيه الفقهاء وإمام أهل الاجتهاد:
* فقد قال عنه أخوه الأكبر ومعلمه الفَذُّ الإمام محمد الباقر: (( لقد أوتي زيدٌ علماً لَدُنِيّاً فاسألوه فإنه يعلم ما لا نعلم )) (1).
* وقال ابن أخيه ورفيق نشأته الإمام جعفر الصادق: (( كان والله أقرأنا لكتاب اللّه وأفقهنا لدين اللّه )) (2).
* وقال الإمام أبو حنيفة النعمان كبير أئمة المذاهب السُّنِّيَّة: (( ما رأيت في زمنه أفقه منه ولا أعلم ولا أسرع جواباً ولا أبين قولاً، لقد كان منقطع القرين )) (3).
* وقال المحدث الكبير عامر الشعبي: (( ما ولدت النساء أفضل من زيد بن علي ولا أفقه منه، ولا أشجع، ولا أزهد ))(4).
* وقال التابعي الشهير أبو إسحاق السبيعي: (( رأيت زيد بن علي فلم أر في أهله مثله، ولا أعلم ولا أفضل، وكان أفصحهم لساناً وأكثرهم زهداً وبياناً ))(5).
* وقال السيد الجليل عبد الله بن الحسن بن الحسن: (( لم أر فينا ولا في غيرنا مثله )) (6).
__________
(1) الروض النضير 1/112.
(2) تاريخ ابن عساكر 19/458، المحيط بالإمامة ـ خ ـ.
(3) نور الأبصار للشبلنجي 215، الخطط للمقريزي 2: 436.
(4) الروض النضير 1/ 98، نور الأبصار 215، خطط المقريزي 2/436.
(5) خطط المقريزي 2/436، نور الأبصار 215، الروض النضير 1/89، أعيان الشيعة 7/ 108.
(6) مقاتل الطالبيين 389.

(1/8)


* وقال تلميذه المحدث الثقة أبو خالد الواسطي: (( ما رأيت هاشمياً قط مثل الإمام أبي الحسين زيد بن علي عليهما السلام، ولا أفصح، ولا أزهد، ولا أعلم، ولا أورع، ولا أبلغ في قول، ولا أعلم باختلاف الناس، ولا أشد جدلاً ولا أقوم حجة ))(1).
* وقال العلامة الفقيه حماد بن النظر: (( كان الإمام الشهيد أبو الحسين زيد بن علي متكلماً جدلاً عالماً، فقيهاً، عابداً ناسكاً، قارئا للقرآن زاهداً في الدنياً، راغبا في الآخرة، لا تأخذه في الله لومة لائم ))(2).
ويعتبر الإمام زيد صاحب مدرسة فقهية مميزة، فقد أُثر عنه فقه كثير تميز بالواقعية وسعة الأفق، وخصوبة الأفكار، استمد أصوله وفي الدرجة الأولى من منابع التشريع الإسلامي حيث اعتمد في فقهه على نصوص القرآن الحكيم، وما استخلصه من روايات عن النبي الكريم صلى الله عليه وآله وسلم، وما يلحق بذلك مما ثبت عن الإمام علي عليه السلام خصوصاً ما ليس للاجتهاد فيه مجال.
وقد روي عنه أنه قال لسائل سأله: (( من جاءك عني بأمر أنكره قَلَبُك، وكان مبايناً لما عهدته مِنِّي، ولم تفقهه عَنِّي، ولم تره في كتاب اللّه عز وجل جائزاً، فأنا منه برئ )) (3).
ولم يهمل الإمام زيد الاستفادة من الروايات عن الصحابة أو التابعين، واستشهد بالحجج العقلية ونحو ذلك مما من شأنه أن يساعد على معرفة الحقيقة ويرجح مسألة على أخرى.
__________
(1) المنهاج الجلي مخطوط.
(2) المنهاج الجلي، المحيط بالإمامة، مخطوطان.
(3) مجموع رسائل الإمام زيد بن علي (قسم جوابات وفتاوى الإمام زيد).ت حت الطبع.

(1/9)


ومن أشهر مراجع فقه الإمام زيد كتاب (المجموع) الذي يعد من أقدم ما دُوِّن في كتب الفقه الإسلامي، وقد طبع باسم (مسند الإمام زيد بن علي)، وجملته متلقى بالقبول عند الزيدية، فهم بين شارح له ومقتبس منه ومحتج بما فيه(1).
ومنها: (كتاب مناسك الحج والعمرة)، وقد طبع مرة في بغداد. وينسبه بعض الإمامية إلى والده الإمام زين العابدين.
ومنها: ما رواه عنه سائر تلاميذه، وقد ضمَّن طرفاً من ذلك الإمام محمد بن منصور المرادي كُتُبَه، لاسيما الأمالي المعروف بـ(أمالي أحمد بن عيسى)، وكذلك الإمام الحافظ أبو عبد اللّه العلوي في كتابه الشهير (الجامع الكافي).
ويوجد جملة من الفتاوى التي أجاب بها بعض أصحابه، حققتها ضمن: (مجموع رسائل وكتب الإمام زيد)، وهي تحت الطبع.
ووجدت مخطوطة صغيرة منسوبة إلى الشهيد حميد المحلى - من علماء القرن السادس في اليمن - بعنوان: (فقه الإمام زيد وأصحابه) ضمنها روايات نادرة عن الإمام زيد.
وكان الإمام زيد بن علي - رضي الله عنه - يعتمد فيما يستنتجه من فقه على ضوابط أصولية لم يبينها لنا أو يمليها على أحد من تلامذته، شأنه شأن معاصريه من الفقهاء، وإنما يمكن استيحاء بعضها واستنتاجه من خلال الدراسة العميقة لفقهه، والتأمل الجيد في اجتهاداته.
ثانياً: الفقه الزيدي وأصوله عبر القرون
بعد عصر الإمام زيد رضي الله عنه عمل بعض علماء الزيدية على جمع فقه الإمام زيد واستنباط ما أمكن استنباطه من قواعده الأصولية، واستدلوا عليها، كما فعل أتباع المذاهب الأخرى، غير أن تلك الحركة كانت محدودة، لأسباب عدة، منها:
__________
(1) الكلام عن مجموع الإمام زيد كثير ليس هذا موضع الإسهاب فيه، وللتوسع راجع: مقدمة الروض النظير، وكتاب الإمام زيد لأبي زهرة.

(1/10)


1 ـ أن معظم تلامذة الإمام زيد وقرنائه من أهل بيته قتلوا معه أو شردوا من بعده وأودعوا السجون، وبذلك قلَّت المنابع الفقهية، وتعثرت مسيرة تطويره وتوسيعه، وكاد فقه الزيدية يقتصر على المصادر التي سبق ذكرها من كتب الإمام زيد وفتاواه.
2 ـ أن السلطة الأموية ومن بعدها العباسية عملتا على إقامة حظر شامل على كل ما له علاقة بالإمام زيد في المجال الفكري، بسبب ما يتميز به من دعوة للصلاح والتغيير بروح ثورية وثَّابة، حتى عاش أنصاره وأبناؤه معظم أعمارهم متنكرين، لا يقدرون على إظهار أسمائهم وأنسابهم فضلاً عن نشر أفكارهم، حتى قال الإمام محمد بن الحسن الشيباني فقيه الحنفية المشهور المتوفى سنة (189 هـ/805م): إذا أمنت من أعداء زيد بن علي على نفسي فأنا على مذهبه? وإلا فأنا على مذهب أبي حنيفة(1).
وروي أنه قيل للإمام يحيى بن زيد: إنَّا نرى الناس إلى بني عمك أميل منهم إليكم.. فأجاب: إنهم يدعون الناس إلى الحياة وندعوهم إلى الموت(2)!
ولذلك صعب على أئمة الزيدية آنذاك تكوين مجتمع يغلب عليه طابع الفقه الزيدي.
__________
(1) الشافي 1/236، الفلك الدوار 55.
(2) ?مقدمة الصحيفة السجادية. وفي صحة جميع تلك المقدمة نظر.

(1/11)


3 ـ أن الزيدية عاشت بعد مقتل الإمام زيد ـ ما لا يقل عن قرن من الزمان ـ حالة استنفار دائمة نتيجة للصراع بين أتباع الإمام زيد وخصومهم، فبعد مقتله مباشرة، قاد ولده يحيى بن زيد مَن بقي من الزيدية ضد الحكم الأموي، حتى قتل في خراسان سنة (126 هـ/743م)، وانقرض عصر الأمويين وظهر العباسيون فسلكوا مسلك الأمويين في قمع الزيدية، فنهض الإمام محمد بن عبد اللّه النفس الزكية وأخوه إبراهيم بن عبد اللّه لتصحيح وضع الأمة، فما لبث أن استشهد محمد في المدينة سنة (145 هـ/762م)، واستشهد إبراهيم في البصرة بعده بأشهر. وبعدهما ببضع سنوات اضطر الإمام الحسين بن علي الفخي لمواجهة جنود العباسيين حتى استشهد سنة (149 هـ/766م) بالحجاز وهو محرم للحج، ثم تشتت الزيدية بعد ذلك، فذهب الإمام يحيى بن عبد اللّه إلى بلاد الجيل والديلم، وما إن بدأ في الدعوة إلى الله هناك حتى طلبه هارون الرشيد وأعاده إلى بغداد حيث استشهد في السجن مسموماً سنة (175هـ/791م). وذهب الإمام إدريس بن عبد اللّه إلى بلاد المغرب وأقام بها دولة منفصلة عن الدولة العباسية، كان لها طابع فكري مميز، ثم دس له من سافر إله وقتله بالسم سنة (177هـ/793م). واستمر ذلك الصراع دون انقطاع إلى أواخر القرن الثاني الهجري.

(1/12)


وفي ظل تلك الظروف لم يكن ثم أي مجال للتأصيل والجمع والتأليف على نطاق واسع، إلا أن أئمة العلم من الزيدية - رغم كل ذلك - حافظوا على التوجه العام لخط أهل البيت، وكانوا يوافون أتباعهم في كل عصر بما تتطلبه الساحة من المعارف الدينية، إما على شكل فتاوى وحوارات، أو على شكل كتب ورسائل كما فعل الإمام محمد بن عبد اللّه النفس الزكية حين كتب كتاباً في الفقه السياسي سماه: (كتاب السير)(1).
وفي أوائل القرن الثالث الهجري استطاع أئمة الزيدية أن يكونوا مجتمعات محدودة ذات هوية ثقافية مميزة، وتمكنوا من تدوين شطر من فتاواهم واجتهاداتهم، وشرحوا بعض الأصول التي قامت عليها، واشتهر في تلك الفترة جماعة من فقهائهم، منهم:
الإمام القاسم بن إبراهيم الرسي? المتوفى سنة (246 هـ/861م) (2)? وهو أحد أعلام الأئمة المجتهدين، له مذهب فقهي مشهور في أوساط الزيدية، وألف كتبا كثيرة في الفقه وغيره، منها: كتاب (الناسخ والمنسوخ)، وكتاب (الطهارة والصلاة) و(مسائل النيروسي)، وغيرها.
الإمام الحسن بن يحيى بن الحسين بن زيد المتوفى (260 هـ/873م) (3)، وكان في الشهرة بالكوفة في الزيدية كأبي حنيفة عند فقهائها، قال السيد صارم الدين: "كان عامة الزيدية عند الكوفة على مذهبه" (4). وأورد الحافظ أبو عبد اللّه العلوي جزءاً من فقهه في (الجامع الكافي).
__________
(1) ?كتاب (السير) في الفقه السياسي، ذكره غير واحد، وقد نقل عنه نصوصاً كثيرة الإمام أبو طالب في (التحرير) والحافظ أبو عبد اللّه العلوي في (الجامع الكافي)، والإمام يحيى بن حمزة في (الانتصار) وغيرهم.
(2) الفلك الدوار 15، الأعلام 6/5.
(3) ?طبقات الزيدية ـ خ ـ، الفلك الدوار 26.
(4) ?طبقات الزيدية ـ خ ـ، الفلك الدوار 26.

(1/13)


الإمام عبد الله بن موسى بن عبد اللّه المتوفى سنة (247 هـ/861م) (1)، وكان من فضلاء أهل البيت وعلمائهم، وقد أورد الحافظ أبو عبد اللّه العلوي جزءاً من فقهه في (الجامع الكافي).
الإمام أحمد بن عيسى بن زيد المتوفى سنة (247 هـ/861م)(2)، وهو المعروف بفقيه آل محمد، له فقه كثير ورواية واسعة، تضمن كتاب (العلوم) الذي جمعه محمد بن منصور المرادي كثيراً من فقهه وروايته حتى غلب عليه اسم: (أمالي أحمد بن عيسى).
الإمام محمد بن منصور المرادي? أبو جعفر الحافظ، أحد الفقهاء المعمرين، قيل إنه تعمر مائة وخمسين سنة وتوفي بعد سنة مائتين وتسعين، جمع فقهه وما روي عن أئمة الزيدية قبله من فقه في قرابة ثلاثين كتاباً اختصرها الحافظ العلوي في كتابه الشهير المعروف بـ: (الجامع الكافي).
ومما تقدم نلاحظ أن حركة الفقه وأصوله عند الزيدية دخلت في القرن الثالث طوراً آخر وفترة جديدة، يمكن أن نعتبرها فترة تدوين الفقه وأصوله عند الزيدية.
وفي وأوائل القرن الرابع دخل الفقه الزيدي مرحلة أخرى حيث استقرت أوضاع الزيدية نسبياً بقيام دولة لهم في اليمن بقيادة الإمام الهادي إلى الحق يحيى بن الحسين المتوفى سنة (298هـ/910م)، وأخرى في الجيل والديلم بقيادة الإمام الناصر الحسن بن علي الأطروش المتوفى سنة (304 هـ/916م)، حيث جدد في (طبرستان) ما كان قد أسسه الإمام الحسن بن زيد المتوفى حوالي (270هـ/883م) وأخوه محمد بن زيد .
وكان التأليف في قواعد الأصول في القرن الرابع قد برزت ملامحه حيث ألف الإمام الهادي كتاب (السنة)، وكتاب (القياس)، وكتاباً آخر عن القرآن وآخر عن عصمة الأنبياء، وغير ذلك، إلى جانب كتبه الشهيرة في الفقه (الأحكام، والمنتخب، والفنون).
__________
(1) ?الفلك الدوار 27.
(2) الفلك الدوار 26، الأعلام 1/191.

(1/14)


وكذلك ألف غيره كتباً كثيرة في مختلف الفنون، وكان لعلماء الزيدية عناية خاصة بأصول الفقه، حيث عمل علماء الزيدية على دراسة معظم القواعد الفقهية والاستدلال عليها، وتناولوها بشيء من الإسهاب والتفصيل، واستمرت حركة التجديد لقواعد الفقه عند الزيدية في كل عصر حتى صار المذهب الزيدي من أثرى المذاهب الإسلامية وأكثرها فقهاً.
فعند مراجعة تراث الزيدية في هذا المجال نجد أنهم قد خلفوا لنا سلسلة طويلة من الكتب التي تناولت مواضيع الفقه وأصوله بكيفيات مختلفة وأساليب شتى.
فبالإضافة إلى ما تقدمت الإشارة إليه من مشاركة أئمة الزيدية في أصول الفقه قام بعض علماء الزيدية بعد ذلك بإفراد كتب لأصول الفقه، ضمنوها الأصول الثابتة وغيرها، مع الإشارة إلى اجتهادات كل إمام مجدد ودليله، سواء كان من الزيدية أو غيرهم، وقد أحببت أن أذكر طرفاً من تلك الكتب التي ألفت إلى آخر القرن التاسع (عصر المؤلف)، لإطلاع القارئ على جانب من تراث الزيدية في هذا الفن ؛ لأن كثيراً من الباحثين يجهل أو يتجاهل ما للزيدية من مشاركة في هذا المجال.
ففي القرن الرابع
* علي بن موسى البناندشتي، من علماء الزيدية في الجيل والديلم، عاش في (القرن الرابع) وكان من أصحاب الإمام الناصر الأطروش، له الإبانة (في أصول الفقه).
وفي القرن الخامس
* الإمام أبو طالب يحيى بن الحسين الهاروني المتوفى سنة (424 هـ/1032م)، أحد مشاهير أئمة الزيدية، ألف كتاب (المجزي في أصول الفقه) وهو من أجل كتب أصول الفقه عند الزيدية.
* محمد بن يعقوب الهوسمي، أبو جعفر، من مشاهير علماء الزيدية في الجيل والديلم، من تلاميذ الإمام أبي طالب يحيى بن الحسين الهاروني، توفى بهوسم سنة (455هـ/1063م)، له (تعليق العمدة في أصول الفقه).
وفي القرن السادس
* القاضي جعفر بن أحمد بن عبد السلام، علامة أصولي مشهور، توفي سنة (567 هـ/1172م). ألف (التقريب) في أصول الفقه، و(البالغ) في أصول الفقه أيضاً.

(1/15)


* الإمام المتوكل على اللّه أحمد بن سليمان (566 هـ/1170م)، من أئمة الزيدية في اليمن، ألف كتاب (الزاهر) و (المدخل) كلاهما في أصول الفقه.
* والقاضي سليمان بن ناصر السحامي، هو علامة مجتهد، له مؤلفات عدة، توفي بعد سنة (566 هـ/1170م). ألف (النظام) في أصول الفقه.
* والشيخ الحسن بن محمد الرصاص المتوفى سنة (584 هـ/1188م)، من مشاهير علماء الزيدية، يعرف بينهم بـ(الشيخ)، ألف كتاب (الفائق)في أصول الفقه.
وفي القرن السابع
* الإمام عبد اللّه بن حمزة، علامة مجتهد، له شهرة واسعة في أوساط الزيدية، توفي سنة (614 هـ/1217م)، ألف كتاب (صفوة الاختيار).
* الإمام يحيى بن المحسن بن محفوظ، المتوفى سنة (636 هـ/1238م)، ألف كتاب (المقنع) في أصول الفقه.
* أحمد بن عُزَيو بن علي بن عمرو الخولاني، توفي سنة (650هـ/1252م تقريباً) من أهالي صعدة، وأحد شيوخ الإمام أحمد بن الحسين، له (الحاصر في أصول الفقه).
* الشيخ أحمد بن محمد الرصاص، علامة أصولي مشهور، توفي سنة (656 هـ/1258م)، ألف (جوهرة الأصول وتذكرة الفحول) وهو من أشهر كتب أصول الفقه عند الزيدية.
* محمد بن خليفة بن محمد بن يعقوب الهمداني، المتوفى سنة (656 هـ/1258م)، له (تعليق على جوهرة الأصول).
* البابي ذكر في المستطاب أنه من مشايخ الإمام أحمد بن الحسين المتوفى سنة (656هـ/1258م)، وأن له تعليقاً على الجوهرة للرصاص.
* الأمير الحسين بن بدر الدين، المتوفى سنة (662 هـ/1263م)، ألف (المدخل) في أصول الفقه.
* عبد اللّه بن زيد العنسي، علامة أصولي، وفقيه معروف، له مكانة مرموقة بين الزيدية، توفي سنة (667 هـ/1269م)، ألف كتاب (الدرر المنظومة) وكتاب (التحرير) في أصول الفقه.
* محمد بن جابر الراعي، المتوفى سنة (667 هـ/1269م)، وهو من تلامذة العلامة عبد اللّه بن زيد العنسي، له (هداية المسترشد) و(تحرير الأصول).

(1/16)


* علي بن سليمان بن أحمد بن أبي الرجال، توفي (بعد 681هـ/1282م) وهو أخو محمد بن سليمان بن أبي الرجال المذاكر، له (المستصفى) في أصول الفقه.
وفي القرن الثامن
* الإمام يحيى بن حمزة، من كبار أئمة الزيدية وأكثرهم تأليفاً وأوسعهم شهرة، توفى سنة (749 هـ/1348م)? له كتاب (الحاوي لحقائق الأدلة الفقهية) في أصول الفقه.
* محمد بن الهادي بن تاج الدين، المتوفى سنة (720 هـ/1320م)، له (الموضع المسرع إلى تمام المقنع) كمل فيه كتاب المقنع للإمام الداعي يحيى بن المحسن.
* أحمد بن حميد بن سعيد الحارثي، المتوفى سنة (737 هـ/1336م)، له (قنطرة الوصول إلى تحقيق جوهرة الأصول).
* يحيى بن الحسن القرشي، المتوفى سنة (780 هـ/1378م)، علامة أصولي مشهور، له (العقد المفصل) في أصول الفقه.
* علي بن عبد اللّه بن أبي الخير، المتوفى سنة (793 هـ/1391م)، له (تعليق على جوهرة الأصول)، و(مشكاة العقول) تعليق على مختصر ابن الحاجب.
وفي القرن التاسع
* الإمام المهدي أحمد بن يحيى المرتضى، المتوفى سنة (840 هـ/1436م)، ألف كتباً كثيرة منها في أصول الفقه: (معيار العقول في علم الأصول) و شرحه بشرح حافل سماه (منهاج الوصول إلى تحقيق كتاب معيار العقول).
* عبد اللّه بن الحسن الدواري، علامة مشهور بين الزيدية وكان يعرف بـ(سلطان العلماء)، توفى (800 هـ/1397م)، له (شرح جوهرة الأصول)، وهو من أشهر شروحها.
* القاسم بن أحمد بن حميد المحلي، من كبار علماء الزيدية، توفى سنة (800 هـ/1397م)، له (الضامنة بالوصول إلى جوهرة الأصول).
*دهماء بنت يحيى المرتضى، من مجتهدات الزيدية، توفيت سنة (837 هـ/1433م)، لها (شرح مختصر المنتهى) لابن الحاجب.
* عبد الله بن محمد النجري، علامة أصولي بارع توفي سنة (877 هـ/1472م)، له (شرح على مقدمة البيان) في أصول الفقه.

(1/17)


* محمد بن علي البكري، علامة أصولي، توفي سنة (882هـ1477م) له كتاب (النكت الكافية) شرح لما تضمنته مقدمة شرح الأزهار.
رابعاً: طبيعة الفقه الزيدي وأصوله
أصول الفقه عند الزيدية ليست مجرد نصوص يمليها هذا الإمام أو ذاك، فيدونها الأتباع ويلزمون أنفسهم بالتقليد فيها، ولكنه عبارة عن منهج للتفكير والاستنباط يعتمد على ثوابت وأصول مدروسة عامة وخاصة، يحركها كل مجتهد بارع، ويُفَعِّلها في كل زمان ومكان الفقهاء المتمكنون.
فما يتداوله أتباع المذهب الزيدي اليوم من فقه وأصول فقه لا يقتصر على فقه الإمام زيد وحده، بل هو فقه طائفة كبيرة من المجتهدين المنتمين إلى خط أهل البيت، الذين يتعاملوا مع الأصول الفقهية العامة غير متقيدين بنظريات خاصة لإمام بمفرده، ولا خاضعين لنمط خاص من الاجتهاد، ومن هنا كان كبار أئمة الزيدية كـ: الإمام الرسي، والإمام الهادي، والإمام الأطروش .. أئمة مذاهب فقهية في إطار المذهب الزيدي، شأنها شأن المذاهب الفقهية الأخرى، لهم أتباع ومقلدون، جمعوا فقههم واحتجوا له واستخرجوا أصولهم وشرحوها، وستجد في أثناء هذا الكتاب أن المؤلف يحكي عن أئمة الزيدية قولاً مختاراً ثم يحكي خلافه لبعض أئمة العلم والاجتهاد من الزيدية أنفسهم، وهذا يجعلنا ندرك أنّ اجتهاد معظم أئمة الفقه من الزيدية يعتبر اجتهاداً مطلقاً.
وهنا يبرز سؤال مهم، وهو: كيف يمكننا تسمية ألئك المجتهدين (زيدية) رغم مخالفتهم لما روي عن الإمام زيد من مسائل فقهية، أو قواعد يتم الاجتهاد على ضوئها؟
ولكي تكون الصورة جلية يمكن استيعابها والتفهم لها، فلا بد من توضيح شيئين:

(1/18)


الأول: أن من الأشياء التي يؤكدها علماء الزيدية وغيرهم، أن الإمام زيد كان صاحب مدرسة فقهية مميزة وأن له أتباعاً ومقلدين، غير أن انتساب عموم الزيدية إليه ليس لتقليدهم إياه في الفقه، ولكن لموافقتهم له في جملة من الخطوط الفكرية العامة، كمبدأ التوحيد على أساس نفي التجسيم والتشبيه للباري عز وجل. ومبدأ العدل على أساس تنْزيه الله عن أفعال العباد. ومبدأ التوسع في مفهوم الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ليشمل حمل السلاح لتقويم أمر الأمة، شريطة أن يكون ذلك بعد انعدام الوسائل الأخرى. ومبدأ اعتبار مدرسة أهل البيت وخطهم السبيل الأمثل لمعرفة الشريعة، مع أن الزيدية تختلف عن الإمامية في تحديد مفهوم أهل البيت ومعنى تفضيلهم ومعطياته.
وعلى هذا نجد من الزيدية من يأخذ بفقه الإمام زيد، ومنهم من يأخذ بفقه غيره من المجتهدين في إطار المذهب الزيدي، ومنهم من يجتهد لنفسه ويرجح ما يراه صواباً، وكل تلك خيارات أتاحها المذهب الزيدي لأتباعه، بل تعد من أهم مميزاته.
الثاني: أن الاجتهادات الفقهية عند الزيدية تتم على ضوء أنواع من القواعد الأصولية، هي:
(1) القواعد العامة الشاملة لعموم المسلمين، وهذه هي الثوابت الأصولية التي لا يمكن مدعىٍ للإسلام تجاوزها، ومنها على سبيل المثال:
ـ اعتبار القرآن وصحيح السنة مصدري التشريع الإسلامي.
ـ تقديم القطعي من الأدلة على الظني.
ـ مراعاة التخصيص في العام والتقييد في المطلق.
ـ التفريق بين المندوب والواجب، وبين المحظور والمكروه.
(2) قواعد يمكن اعتبارها إطاراً عاماً يكاد أن يَجْمَع المجتهدين ممن يطلق عليهم اسم (زيدية)، إذ هو بمثابة أصول مشتركة بالنسبة لهم، ومنها:
ـ مراعاة قضايا العقل في إصدار الأحكام، لاسيما ما كان له علاقة بالتحسين والتقبيح.
ـ اعتبار ما صح عن علي عليه السلام موضع اهتمام مميز، بل يظهر احتجاجهم به في أكثر الأحوال .

(1/19)


ـ اعتبار إجماع أهل البيت - عند تحقق وقوعه - دليلاً يعتمد عليه.
ـ اعتبار عرض الأحاديث على القرآن خير وسيلة لمعرفة صحتها.
ـ تقديم ما صح من رواية أهل البيت على غيرها.
وقواعد أخرى يمكن معرفتها من خلال هذا الكتاب وغيره من كتب الأصول.
فتلك ثوابت يندر تجاوزها والتغيير فيها عند الزيدية، في الوقت الذي لا يصح نسبتها إلى أصول مذهب إمام بمفرده.
(3) قواعد مرنة قابلة للتجديد والتغيير، وفيها تفصيل ومداخلة، ولذلك اختلفوا فيها، وهي التي يمكن للمجتهد الاجتهاد والترجيح على ضوئها، ومنها:
ـ ترجيح ظواهر النصوص القرآنية، على كثير من الأحاديث الظنية.
ـ العمل بالأحوط ، وإن قابلته أدلة ظنية.
ـ قبول روايات من يوصف عند الزيدية بفساق أو كفار تأويل، على شروط لهم في ذلك، كإفادتها للظن وكونها في الفرعيات.
ـ الاعتماد على الأحاديث المرسلة، ولهم في ذلك شروط وتفصيل.
ومن خلال تعدد الاجتهاد على ضوء القواعد في النوع الثالث ظهرت الخلافات الفرعية في المسائل العملية بين أئمة الزيدية، حتى اشتهر في تاريخ الزيدية مذاهب فقهية متعددة تشبه في نشأتها وتطورها مذهب أبي حنيفة ومالك والشافعي، ومن تلك المذاهب:
مذهب القاسمية، وهم: أتباع ومقلدوا الإمام القاسم بن إبراهيم الرسي فيما حصله من مسائل فقهية، وكان معظمهم في الحجاز والجيل والديلم. وقد غلى بعضهم فأوجب الأخذ به، قال الإمام أبو طالب الهاروني: إن الديلم كانوا يعتقدون أن من خالف القاسم بن إبراهيم عليه السلام في فتاويه فهو ضال، وكل قول يخالف قوله فهو ضلالة(1).
مذهب الهادوية، وهم: أتباع الإمام الهادي ومقلدوه، ومعظم انتشارهم كان في الجزيرة العربية وخراسان والعراق، واعتنى بفقهه علماء الزيدية عناية فائقة، ولم يكن بينه وبين مذهب جده القاسم كثير اختلاف.
__________
(1) ?الإفادة في تاريخ أئمة الزيدية

(1/20)


مذهب الناصرية، وهم: أتباع الإمام الناصر الأطروش ومقلدوه، وكان معظم أتباعه في العراق وفارس، وكان الجيل يعتقدون أن مخالفة مذهبه ضلال، وقد قام بخدمته جملة من علماء الزيدية.
وظهر بعد ذلك أئمة مجتهدون كانت لهم اجتهادات صائبة وأنظار ثاقبة، واختيارات حسنة، دونها المؤلفون وحفظت في بطون الكتب وصدور العلماء.
فهذه لمحة مقتضبة عن حركة الفقه وأصوله عند الزيدية، أسأل الله تعالى أن تكون مؤدية للغرض المقصود والحمد لله رب العالمين.

ترجمة المؤلف
مولده ونشأته
العلامة البارع المجتهد صارم الدين إبراهيم بن محمَّد بن عبد الله بن الهادي بن إبراهيم بن علي بن المرتضى بن المُفَضَّل بن منصور بن محمد (الملقب بالوزير) بن المفضَّل بن الحجَّاج بن علي بن يحيى بن القاسم بن يوسف الدَّاعي بن يحيى المنصور بن أحمد الناصر بن يحيى الهادي بن الحسين بن القاسم بن إبراهيم بن إسماعيل بن إبراهيم بن الحسن بن الحسن بن علي بن أبي طالب، رضي الله عنهم. اشتهر رحمه الله في الأوساط العلمية والثقافية بالسيد صارم الدين الوزير.
وقد ذكرت المصادر التي رجعت إليها أن مولده كان في شهر رمضان سنة (834هـ/1431م)، ولكنها لم تحدد المكان الذي وُلد فيه.
وبالرجوع إلى أخبار أسرته نجد أن والده وُلِد في (صعدة) ونشأ بها، ثم رحل إلى (عَيَان) وهي قرية صغيرة من بلاد سفيان جنوبي صعدة على بعد حوالي سبعين كيلو متراً، وأقام بها فترة، ثم انتقل إلى (صنعاء)، وأقام بها حتى تُوُفِّي، فلعل مولد المؤلف كان في إحدى هذه البلدان.

(1/21)


وقد تهيأت له ظروف النشأة الصالحة والتربية القويمة، ففي أسرة فاضلة عريقة عرفت بمكارم الأخلاق، وتميزت بالمعارف والعلوم الواسعة؛ تربى ونشأ صارم الدين.. نشأ في حجر والده - الذي كان على جانب كبير من العلم والصلاح، وكان من أعيان أهل زمانه وكبرائهم وأهل الرئاسة فيهم - فعلمه الحَسَن من الآداب، ورسم فيه مكارم الأخلاق، ودفع به نحو المعالي وطلب العلم منذ نعومة أظفاره، فأقبل عليه بجد واجتهاد، وأخذ يترقى في سلالم المعارف حتى صار نجماً لامعا في سمائها.
عصر المؤلف
عاش المؤلف معظم عمره في القرن التاسع الهجري، ذلك القرن الذي شهدت فيه اليمن كثيراً من التحولات والاضطرابات على مختلف الأصعدة، ولكي يتمكن القارئ من تصور الظروف المحيطة بحياة المؤلف، نلمح فيما يلي إلى جانب من واقع الحياة السياسية والفكرية في عصره:
الجانب السياسي
في العقد الثالث من عمر المؤلف، وبينما كان غارقاً في تحصيل العلوم والمعارف، كانت اليمن تعيش حالة مؤسفة من التمزق والانقسام، فَمُلك بني رسول أصبح يتلاشى، وعروشهم صارت تتهاوى، بعد أن حكموا معظم البلاد اليمنية أكثر من قرنين من الزمان، وعندما استحكم فيهم الضعف، انقض على ما بقي من دولتهم وزراؤهم من بني طاهر، وأقاموا على أنقاض دولتهم دولةً بدأت ببسط نفوذها على الجهات الغربية والجنوبية من اليمن.
وبينما كانت تلك المناطق تحترق تحت وطأة توسع بني طاهر، كانت المناطق الشمالية والشرقية تئن من التمزق والشتات، حيث كان بعضها تحت سيطرة رؤساء العشائر، والبعض الآخر موزعاً بين أئمة الزيدية، وأمراء الأشراف، فكوكبان ونواحيها في يد الإمام المطهر بن محمد بن سليمان الحمزي، الذي أعلن نفسه إماماً بعد وفاة الإمام المهدي أحمد بن يحيى المرتضى، وصنعاء في يد معارضه الإمام الناصر بن محمد (من أحفاد المطهر بن يحيي)، ومناطق صعدة في يد آل المؤيد، وأشراف الجوف من الحمزات.

(1/22)


وكانت إقامة المؤلف في تلك الفترة في صنعاء، ثم وقعت بينه وبين الإمام النَّاصر بن محمد وحشة، فانتقل إلى صعدة مع بعض أهله، واستقر هنالك زمناً للتدريس والتأليف.
وساعدت الأيام الإمام الناصر فتوسع نفوذه، وتمكن من أسر الإمام المطهر، وأودعه السجن بذمار، ولكنه فر منه وعاد للزعامة، وسرعان ما تطورت الأحداث، فوقع الإمام الناصر في قبضة الإمام المطهر بعد أن احتال عليه أهل (عرقب) من الحدا، وقبضوا عليه، ثم سلموه للمطهر، فأودعه السجن حتى توفي سنة (868 هـ/1464م)، ولكن ولده الأمير محمد بن الناصر خَلَفه على صنعاء، وأعلن نفسه إماماً وتلقب بالمؤيد بالله، وفي تلك الأثناء كان الطاهريون يزحفون نحو صنعاء، وعندما بلغوا مشارفها فرضوا عليها طوقاً من الحصار، فصالحهم الإمام المؤيد، وسلمهم المدينة خوفاً من أن يستولي عليها الإمام المطهر، ثم انقلب عليهم وأخرجهم منها، فحاولوا الاستيلاء عليها مرة أخرى، ولكنهم فشلوا.
أما الإمام المطهر فانتقل من كوكبان إلى ذمار باتفاق مع الطاهريين، وأقام بها حتى توفي سنة (879 هـ/1474م)، فقام ولده عبد الله بها محتسباً حتى أخرجه آل طاهر منها.
ومع مرور الأيام ضعفت شوكة بني طاهر، وشهدت البلاد مزيداً من الانقسامات. قال العلامة الكبسي في (اللطائف السنية): "ولما دخلت سنة إحدى وتسعمائة كانت اليمن شعوباً وقبائل، وقاتل ومقتول، وسيف وعَوَاسل، وكانت التهائم واليمن الأسفل مثل تعز وعدن وَلَحْج وأبْيَن إلى رداع تحت بسطة السلطان عامر بن عبد الوهَّاب (الطاهري)، وصنعاء ومخاليفها تحت يد محمَّد بن الناصر المؤيد، وكوكبان وما إليها تحت يد أولاد المطهَّر بن محمد بن سليمان، والشَّري والظواهر وصعدة متفرقة بين آل المؤيد، والأشراف الحمزات آل المنصور، والإمام محمد بن علي السِّراجي الوشلي".

(1/23)


وبعد سنوات من مطلع القرن العاشر توفي المؤيد محمد بن الناصر (سنة 908 هـ/1502م)، واستعاد بنو طاهر قوتهم على يد السلطان عامر بن عبد الوهاب، الذي أخذ في التوسع، وبسط سيطرته على مناطق كثيرة، وزحف نحو صنعاء، وحاصرها وضربها بالمنجنيق، وأسر أقطاب قادتها: الإمام محمد بن علي الوشلي، والأمير أحمد بن الناصر الذي خلف أخاه على صنعاء، وضم إليهما ولدي السيد صارم الدين: الهادي، وأحمد، وكان دخول السلطان صنعاء سنة (910 هـ/1505).
وبعد استيلاء السلطان عامر على صنعاء وبسط نفوذه فيها، توفي المؤلف سنة (914هـ/1508م)، والسلطان في أوج قوته، وظل كذلك حتى أخرجه الشراكسة من صنعاء سنة (923 هـ/1517م) وقتلوه ?وتلك الأيام نداولها بين الناس?.
الجانب الفكري والثقافي
وأما في الجانب الفكري والثقافي، فإن اليمن ـ رغم الاضطرابات السياسية والتمزق المأساوي ـ كانت تعيش زخما فكريا وأدبياً يلمسه من دقق النظر في تلك الحقبة الزمنية، فالعلماء والأئمة الذين كانوا غارقين في النزاعات والحروب لم ينشغلوا نهائيا عن الدرس والتأليف والمناظرات الفكرية والمساجلات والمراسلات الأدبية، حتى أن بعضهم ألف في سجنه محاسن الكتب، ونظم جواهر القصائد.
ومن أقرب الأمثلة على ذلك: الإمام المطهر بن محمد، الذي نظم أثناء سجنه بذمار قصيدته المشهورة في السيرة النبوية والتي سماها: (انقضاء الوطر بمدح سيد البشر)، ومطلعها:
ماذا أقول وما آتي وما أذر ... في مدح من ضُمِّنت في مدحه السور
وعند الإطلاع على كتب الإجازات، نجد أن كثيراً من السماعات والقراءات تمت أيام ذلك الصراع المرير، إما في سجن أو في حصن أو في أي مكان مستقر أو غير مستقر.

(1/24)


ومما يؤكد ما ذكرنا أنه برز في تلك الفترة كثير من العلماء الأفذاذ في ميدان المعرفة، مستمدين من آثار المدارس التي زخر بها الجيل الذي سبقهم، جيل أئمة العلم: يحيى بن حمزة، ومحمد بن الحسن النحوي، وأحمد بن يحيى المرتضى، ويوسف بن أحمد بن عثمان، ومحمد بن إبراهيم الوزير، ومن عاصرهم من أئمة العلم وأساطين المعرفة.
فممن اشتهر من العلماء في عصر المؤلف إلى جانب مشايخه وتلاميذه جملة من العلماء المبرزين خلدتهم المعارف والعلوم التي دونوها للأجيال، ومنهم:
الإمام عز الدين بن الحسن، الإمام العالم صاحب الأنظار الثاقبة، والآراء السديدة الصائبة، له مؤلفات منها: (شرح البحر، وشرح منهاج القرشي، والفتاوى، والعناية التامة)، وغيرها في شتى الفنون. توفي سنة (900 هـ/1494م).
والعلامة محمد بن علي البكري، العلامة الأصولي البارع، له (شرح على منهاج القرشي، وشرح لبيان بن المظفر)، وغيرها. توفي سنة (882هـ1477م).
والعلامة عبد الله بن محمد النجري، صاحب الكتب الشهيرة في الفقه وأصول الدين منها: (شرح القلائد، ومختصر الثمرات شرح آيات الأحكام)، وغيرها في الفقه والنحو والمنطق. توفي سنة (877 هـ/1472م) بقرية القابل شمال صنعاء، وبها دفن.
و يحيى بن أحمد بن علي مرغم? العلامة الفقيه أحد تلامذة الإمام المهدي أحمد بن يحيى، له (شرح البحر)، لم يكمله، وأكمله الإمام المطهر بن محمد، توفي سنة (836 هـ/1433م)، ودفن في مشهد له بالأبناء بهجرة السر ببني حشيش.
ويحيى بن أحمد مظفر، العلامة الفقيه، صاحب كتاب (البيان) الذي صار معتمد العلماء في معرفة المذهب، توفي سنة (875 هـ/1370م)، ودفن بهجرة حمدة من عيال سريح.
وعبد الله بن مفتاح، الفقيه الفروعي، صاحب (شرح الأزهار)، الذي لم ينتفع الزيدية بكتاب من كتب الفقه مثلما انتفعوا به. توفي سنة (877 هـ/1472م) ودفن جنوبي صنعاء القديمة، وهو اليوم على جانب ما يسمى بشارع تعز، بالقرب من باب اليمن.

(1/25)


ويحيى بن أبي بكر العامري الشافعي التهامي، العلامة المحدث، والمؤرخ الشهير، شيخ الإمام عز الدين بن الحسن، وصاحب (بهجة المحافل، والرياض المستطابة، وغربال الزمان). توفي سنة (892 هـ/1487م).
وأحمد بن محمد بن داود الخالدي، الفقيه العلامة الشهيد، قال زبارة: نادرة زمانه لاسيما في الفرائض، له (شرح على الفرائض للناضري، وشرح للتذكرة، وكتاب في المنطق)، وكان ممن استشهد مع الإمام عز الدين في (نسرين) بالقرب من مدينة صعدة على أيدي الحمزات سنة (880 هـ/1475م).
وغير هؤلاء العلماء كثير، لا يمكن استقصاؤهم في هذه العجالة، وإنما المقصود الإشارة.
صارم الدين في ميدان المعرفة
حرص السيد الإمام صارم الدين على أن يكون بعيداً عن الصِّراعات السياسيَّة، والنزاعات العقيمة، فانطلق نحو تحصيل المعارف، وقرأ بمدينتي (صعدة) و(صنعاء) على عدة من مشاهير مشايخ عصره في شتى الفنون.
فكان من أشهر مشايخه:
ـ أبو العطايا عبد الله بن يحيى بن المهدي وهو من العلماء المبرزين في عصر المؤلف، قال الإمام عز الدين: "كان مجتهد زمانه". توفي سنة ( 873 هـ/1468م). ورثاه السيد صارم الدين بقصيدة منها:
ويا بقية أخيار وأحبار
فلا يجاريه ذو علم بمضمار
ياشيبة الحمد من أبناء فاطمة
علامة العصر فرد الدهر واحده

ـ الإمام المطهَّر بن محمد بن سليمان الحمزي وهو أحد الأئمة أيام شباب المؤلف، له مؤلفات غلب على بعضها الطابع السياسي، توفي سنة (879 هـ/1474م).
ـ جمال الدين علي بن موسى الدَّوَّاري قرأ عليه المؤلف بصنعاء وصعدة. وهو علامة كبير أكثر عنه الإمام عز الدين بن الحسن، توفي في صفر سنة (881 هـ/1476م).
ـ والده محمد بن عبد الله بن الهادي بن إبراهيم الوزير الذي كان أحد تلامذة الحافظ محمد بن إبراهيم الوزير، توفي سنة (897 هـ/1491م).

(1/26)


ـ جَمَال الدين علي بن محمد بن المرتضى بن المفضل بن منصور بن المفضل بن الحجاج، قال في (طبقات الزيدية): كان له معرفة حسنة، وشعر وافر ، ولم يذكر له تاريخ وفاة.
ـ مطهَّر بن كثير الجمل الصنعاني. عالم متبحر، أخذ عن أحمد بن محمد بن إدريس بن الإمام يحيى بن حمزه، وبرع في علم الكلام، مات بصنعاء في محرم سنة (863هـ/1458م).
ـ إسماعيل بن أحمد بن عبد الله بن عطية النجراني، أخذ عن أبي العطايا، وكان شيخاً واسع المعرفة خصوصاً في اللغة العربية والتفسير، قال الهادي الصغير (ولد المؤلف): كان منفرداً في ذلك لا يشق له غبار. لم يؤرخ في الطبقات وفاته.
ـ أحمد بن إبراهيم بن أحمد بن عطيَّة، ذكره في مشايخ السيد صارم الدين ولدُه الهادي، وقال إنه ابن أخي إسماعيل بن أحمد، وعلى هذا فهو غير أحمد بن إبراهيم بن أحمد بن عطية الذي قرأ على قاسم بن أحمد بن حميد المحلي؛ لأنه من أقران عبد الله الدواري المتوفى (800 هـ/1398م)، وقد ذكر في الطبقات أنه قتل غيلة شهيداً في العشر التي بعد الثمان المائة أو بعدها. فتأمل.
ـ شمس الدين أحمد بن سليمان العِسْكَبَة. ذكره ابن أبي الرجال وقال: كان عالماً صالحاً ذكره صاحب (الصِّلة).
ـ محمد بن سليمان الحجي، قال ابن أبي الرجال: علامة الفقهاء، وفقيه العلماء، أستاذ المحققين.
ـ محمد بن سليمان النحوي، قال ابن أبي الرجال: العلامة الفاضل، إمام المعقول والمنقول، من أعيان العلماء، كان مدرساً.
ـ والغَزُولي، الواصل إلى صنعاء من الديار المصريَّة، لم أعرف اسمه، وقد ذكر السيد صارم الدين في (الفلك الدوار) أنه أخذ عنه في علم الحديث (نخبة الفكر) التي سمعها على مؤلفها الحافظ ابن حجر.
وذكر ولده الهادي الصغير، شيخين آخرين هما: إبراهيم بن يحيى المذحجي، ويحيى بن قاسم العذرِي. ولم أوفق لمعرفتهما.
من أشهر تلاميذه

(1/27)


وبعد الأخذ والطلب بَرَع صارم الدين حتى صار علماً من الأعلام، يشار إليه بالبنان، وأصبح المرجع في وقته، والمعوَّل عليه في حل المشكلات، وكشف المبهمات، فقصده طلاب العلم من كل مكان، فتخرج على يديه جملة من العلماء الأعلام اشتهر منهم:
ـ ولده الهادي بن إبراهيم بن محمد. العلامة الكبير، والمؤرخ الشهير، المعروف بـ(الهادي الصغير)، توفي صباح يوم الجمعة خامس عشر شهر محرم الحرام سنة (923 هـ/1523م) أسيراً بتعز.
ـ الإمام المتوكل على اللّه يحيى شرف الدين بن شمس الدين، من العلماء الأجلاء، وأحد مشاهير أئمة الزيدية في اليمن، توفي في جمادى الآخرة سنة (965هـ/1558م) ودفن بحصن الضفير.
ـ وعبد الله بن مسعود الحوالي، ذكره ابن أبي الرجال وأثنى عليه.وقال زبارة : أخذ عنه الإمام شرف الدين، وكان إمام المعارف بلامدافع. توفي في صنعاء سنة (936 هـ/1529م)، وقبره في مقبرة خزيمة.
ـ الفقيه العلامة أحمد بن قاسم بن أحمد بن صبرة الحميري، قرأ على السيد صارم الدين (جامع الأصول) وأجازه، وأثنى عليه كثيراً. ذكره في (مطلع البدور).
ـ السيد الباقر بن محمد بن يحيى بن القاسم رحمه الله، قرأ عليه علوم العربية، قال في (مطلع البدور): قال في تاريخ السادة: وكان سيداً منظوراً.
ـ ولده أحمد بن إبراهيم، ذكره زبارة وقال: كانت له معرفة تامة وفصاحة ووجاهة، وكان من أعظم أعوان الإمام محمد بن علي الوشلي. توفي بتعز سنة (916 هـ/1510م).
وغيرهم من العلماء والفضلاء الذين لم تنقل إلينا أخبارهم.
مؤلفاته

(1/28)


وإلى جانب التدريس وتخريج الطلاب، عكف السيد صارم الدين على التأليف والتصنيف، فاعتصر فكره، ولخص معارفه وتجاربه، ودونها على صفحات الأوراق؛ لترثها الأجيال من بعده، فتضيء العقول، وتنعش الأرواح، وبذلك خلف لنا سلسلة من المؤلفات المميزة، التي اعتبرها العلماء من الأمهات والأصول التي يُعْتَمَد عليها، لِمَا اشتملت عليه من الدقة والتحقيق، ولِمَا أودعها من الفوائد، وقيد فيها من الشوارد، ووضح فيها من الاستدراكات، حتى صارت منهجاً دراسياً يفيد منه العلماء وطلاب العلم، ومن تلك المؤلفات:
هداية الأفكار إلى معاني الأزهار في فقه العترة الأطهار، في الفقه، وهو كتاب قيم، أضاف أشياء كثيرة إلى الأزهار، ونقح بعض ألفاظه. وهو الآن تحت التحقيق في (مركز التراث والبحوث اليمني)، ضمن مكتبة السيد صارم الدين.
الفصول اللؤلؤية في أصول فقه العترة الزكية، في أصول الفقه، وهو هذا الذي بين يديك.
التلخيص على التلخيص، في علم المعاني والبيان. قال الوجيه: يوجد نسخة منه في مكتبة السيد المرتضى بن عثمان الوزير في (السر ببني حشيش) في أوراق غير مجلدة خطت سنة (909هـ/1504م) وعليها سماع من ناسخها على المؤلف سنة (886هـ/1481م)، أخرى في نفس المكتبة ـ خ ـ سنة (922هـ/1516م).
الفلك الدوار في علوم الحديث والفقه والآثار، وهو كتاب قيم، قال العلامة القاسمي: " لم يسبق إلى مثله". وكان المؤلف ينوي أن يجعله موسوعة في المقارنة بين أدلة المسائل الفقهية، ولكنه توفي رحمه الله، ولم ينجز منه إلا المقدمة التي ضمنها الكلام على علوم الحديث وقواعده، وذكر المؤلفات فيه، والإشارة إلى بعض رجاله، ثم شرع في كتاب الطهارة إلى أن وصل إلى الكلام عن أعضاء الوضوء، وقد قمت بتحقيقه ونشر عام (1414هـ/1994م)، ويجري الآن إعادة طباعته ضمن مكتبة السيد صارم الدين.

(1/29)


منقح الأنظار الموصل إلى هداية الأفكار. في الفقه، وهو (شرح للهداية)، ذكر الأستاذ الوجيه: أن منه نسخاً في مكتبة آل الهاشمي، ومكتبة المتحف البريطاني رقم (3951)، ومكتبة السيد محمد بن محمد الكبسي، ومكتبة السيد محمد عبد العظيم الهادي.
مسائل الإمامة. وهي رسالة صغيرة عبارة عن تعليق على ما دار من حوار بين الإمام عز الدين والعلامة النجري، والعلامة البكري حول مسألة قطعية الإمامة. وقد حققتها ضمن ذلك الحوار، وهي حين كتابة هذه السطور جاهزة للطبع.
الجوهر الفائق واللفظ الرائق، في الرد على بعض العلماء، قال الوجيه: منه نسخة في مكتبة الجامع الكبير الغربية (89 مجاميع) كما في مصادر الفكر الإسلامي في اليمن 135، للحبشي.
الفصول المنتخبة والطرازات المذهبة. قال الوجيه: منه نسخة مصورة في مكتبة السيد محمد عبد العظيم الهادي في 324 صفحة.
وله بحوث ورسائل وفتاوى كثيرة لم نقف عليها، ولكن مترجميه ينقلون منها ويشيرون إليها.
الشعر والأدب
حاز السيد صارم الدين جانباً من الأدب، فكانت له أشعار رائقة، ومقامات فائقة، وقد سخر قدرته في هذا الجانب على نظم الفوائد، وتقييد الشوارد، فقد ذكر ولده الهادي وابن أبي الرجال أن له كتاباً حسناً في (الحروف العربية)، ونشر له المحقق الحبشي مقامة بعنوان: (المقامة النظرية والفاكهة المخبرية والحديقة العنبرية)، ضمن كتابه (مقامات من الأدب اليمني).
وله القصيدة المشهورة بـ(جواهر الأخبار)، وتعرف بالبسامة، وهي منظومة، تشتمل على مائتين وأربعين بيتاً مطلعه:
الدهر ذو عبر عظمى وذو غِيَر ... وصرفه شامل للبدو والحضر
ذكر فيها طرفاً من السيرة النبوية، ثم سير الأئمة الدعاة، ابتداءً من الإمام علي، وانتهاء بالإمام عز الدين بن الحسن المعاصر له، والمتوفى سنة (900هـ/1494م).

(1/30)


عارض بها بسامة عبد المجيد بن عبدون الفهري المتوفى سنة (529هـ/1134م) المشهورة، والتي رثى بها ملك بني الأفطس، والتي مطلعها:
الدهر يفجع بعد العين بالأثر ... فما البكاء على الأشباح والصور
ولها ذيول كثيرة، ذكر زبارة طرفاً منها في (خلاصة المتون)، ولها شروح كثيرة، ونسخها متوفرة، ذكر الأستاذ الوجيه: أن لها عدة نسخ في الجامع الكبير بصنعاء، وفي كل من الأمبروزيانا، وبرلين، والفاتيكان، والمتحف البريطاني.
وله قصيدة في التزود من التعاليم الزيدية، وتخمسيها لأحمد بن سعد الدين المسوري (خطية) ذكرها بروكلمان في المتحف البريطاني.
ومن شعره ما ذكره مترجموه:
وما اشتملت مني عليه ضُلوعُ

وإني وحبي للنبي وآله

يكون لها بعد الأفول طلوع

وإن أفَلَت منهم شموس طَوَالِع

ألذ من الماء القراح بديع

كما قال قيس بن الذَّريح ونظمه

أبِتْ كَمِداً من قولهن صديع

إذا أمرتني العاذلات بهجرها

يؤرقني والعاذلات هُجُوع

وكيف أطيع العاذلات وهجرها

ومن لامني فيه فلست أطيع

أبى الله لي غير التَّشَيُّع مذهباً

ومذهبهم لي رَوْضة ورَبِيع

بني المصطفى لي أسرة وجَمَاعة

وإن حدثوني عنهم فَسَمِيع

أصَمٌّ إذا حُدِّثْتُ عن قول غيرهم

وإن كثرت منهم لدَيَّ جموع

وبالله إني في التَّشَيُّع واحد

قالوا: ومن أعذب ما جرى منه ما أجاب به الإمام الهادي عز الدين بن الحسن رحمه الله، وقد كتب الإمام إلى والده كتاباً فتولى الجواب عن والده، وكتبه والده بخطه وقال: وهذا الجواب للولد إبراهيم، مالي فيه إلا الرقم بالقلم، ومن يشابه أبَاهُ فما ظَلَم، فكان من الجواب هذان البيتان.
تخصك ما هبت صباً وجنوب

أعِزَّ الهدى منا عليك تحية

لَمَا بعدت منا ومنك قلوب

لئن بَعُدَتْ منا ومنك منازل

شيء من صفاته

(1/31)


كان السيد صارم الدين على جانب عظيم من العبادة والزُّهد والصبر والخشية لله في السِّر والعَلَن، وكان شغوفاً بالقراءة، لا يفتر عن المطالعة، فقد كان مع كبر السن، وضعف البصر، لا يصبر عن المطالعة، فقد ذكر مترجموه أنه كان يؤتى بالسراج قبل وقت المغرب ليكمل مطالعته.
وذُكِر من عظيم ورعه أنه كان في منزله مكان يفد إليه الطلبة، وكان فيه بساطان من الصدقة، وكان يحتاج المرور فيه، فكان لا يأمن حتى يَطوي البساطين عن موضع مروره؛ لئلا يطأهما.
ومن صفاته الإنصاف عند الحوار، والاطلاع على ما عند مخالفيه، والنظر فيه بروية وتثبت.
وكان حليماً يحسن الظن بالناس، ويحمل مخالفيه على أحسن المحامل، ولا يكفر ولا يفسق بالإلزامات، كما نجد ذلك جلياً في كتبه وقصائده.
وكان الفضلاء في زمانه يعترفون بفضله، ويقرون بشَرَفِه ونبله، فكان القاضي العلامة محمد بن إبراهيم الظفاري يزوره في كل جمعة في غالب الأحوال، وكذلك الفقيه العالم الصالح علي بن يحيى العلفي كان يزوره في كل جمعة، وكان يجهش بالبكاء حال رؤيته.
شيء مما قيل عنه
لم يُخف كل من تحدث عن السيد صارم الدين إعجابه به، وتقديره لمقامه العلمي، مهما كان مذهبه وعصره وبلده، فلم أقف على ذكر عابر، أو ترجمة مقصودة للسيد صارم الدين، إلا وقد تضمنت ثناءً عليه، ومدحاً وتعظيماً له، وذلك يدل على جلالة قدره، وعلو منزلته، ولعل من سعادة المرء وتوفيقه كثرة ثناء الصالحين عليه، لذا رأيت أن أعرض للقارئ الكريم شيئاً مما قيل عنه:
* قال ولده السيد الهادي كما في (مطلع البدور): أربى على الأوائل بكثرة الإطلاع، وملازمة الدرس آناء الليل وأطراف النهار، وإمرار ذهنه على أكثر كتب المتقدمين والمتأخرين، وقلمه على جميع ما وجد من فائدة فيها، وكان ذلك بداعٍ لم يعارضه صارف ولا مانع، وإعراض عن جميع أشغال الدنيا وملاذها مع ما أمده الله لذلك من إعانته.

(1/32)


وقال: كان له اطلاع كامل على أخبار المتقدمين والمتأخرين من أهل البيت وغيرهم، وفي علم رجال الحديث، والأنساب العامة والخاصة، وأحوال الناس وأيامهم، والمصنفين، وأسماء الكتب، وأخبار التواريخ، وله مشايخ وطرق في (علم الأسماء)، و(علم الصنعة)، وإجازات في ذلك، وفي سائر العلوم.
* وقال السيد الجليل أحمد بن عبد الله الوزير في (تاريخ بني الوزير) أنَّى للإنسان لِسَانٌ يفصح عن بعض فضائل هذا الإمام، أو قلم ينسخ غلالة أوصافه الحميدة، كلا.. إنها لَتَكِلُّ الألسنة والأقلام، أربى على نحارير علماء الأوائل، وحقق دقائق الفنون تحقيقاً يقال للمتطاول إليه أين الثريا من يد المتناول، وجمع أسباب المَحَامِد والفضائل جمعاً لا يدخل تحت رجاء الراجي، ولا أمل الآمل. إلى أن قال: عطية إلهية، ومنحة سماوية، وسعادة حقيقية، وخصائص مصطفويَّة، والله يختص برحمته من يشاء، والله ذو الفضل العظيم.
* وقال العلامة صلاح بن أحمد المهدي في (الدراري المضيئة): الإمام الفهام، والنحرير القمقام عَلم الهدي، أحد مصابيح الدجى، معدلُ ميزان المعقول والمنقولُ، ومفصَّل غوامضُ الفروع والأصول، صدر الأفاضِل، وعمدةُ العلمَاء الأماثِل، صارم الملةِ والدين، العين النَّاظرة في العترة المطهرين، المعظم الممجد، إبراهيم بن محمد، رحمه الله رحمةً واسعة، وغفرَ له مغفرةً جامعة.
* وقال العلامة الجلال في (نظام الفصول): السيد العلامة خَاتَم خنصر العترة النبوية، وخَاتِم محققي طريقتهم السوية، بقية ينابيع العلم الغزير، صارم الدين إبراهيم بن محمد الوزير، رفع الله رتبته في الجنة، وجزاه أفضل ما جزى هادياً إلى سُنَّة.
*وقال ابن أبي الرجال في (مطلع البدور): الإمام الكبير، الحافظ الشهير، ترجم له الأعلام، كولده الهادي بن إبراهيم، والعلامة السيد أحمد بن عبد الله، وغيرهما.

(1/33)


* وقال السيد صارم الدين إبراهيم بن القاسم في (طبقات الزيدية): كان السيِّد صارم الدين مبرزاً في علوم الاجتهاد جميعها، متألهاً مشتغلاً بخويصة نفسه، حافظاً للإسناد، وإماماً للزهاد والعباد، مستدركاً على الأوائل، جامعاً لأسباب الفضائل، مطلعاً على أخبار الأوائل والأواخر، مربياً على نحارير العلماء.
* وقال السخاوي في (البرق اللامع): كهل فاضل من أدباء صنعاء الموجودين بعد السبعين وثمانمائة.
* وقال الشوكاني في (البدر الطالع): العلامة الكبير، مصنف الهداية، والفصول اللؤلؤية، برع في جميع الفنون، وصار المرجع في عصره، والمشار إليه بالفضل.
* وقال العلامة أحمد بن محمد الشرفي في ( اللآلئ المضيئة): كان من عيون العترة عليهم السلام وأعلامهم وفضلائهم في أوانه.
* وقال العلامة عبد الله بن الإمام الهادي الحسن القاسمي في (الجواهر المضية): كان مبرزاً في العلوم جميعها، حافظاً للإسناد، وإماماً للزهاد، متطلعاً على أخبار الأوائل والأواخر، له المصنفات المفيدة.
* وقال الزركلي في (الأعلام): فاضل من مُجْتَهِدِي الزيدية في اليمن، كان له اشتغال بالتاريخ.
* وقال زبارة في (خلاصة المتون): هو إمام المعقول والمنقول، وصاحب التصانيف المفيدة .. له إطلاع كبير على أخبار الأولين والآخرين.
من المحن التي أصابت المؤلف في آخر عمره
يذكر في كتب السير والتاريخ أن السيد صارم الدين ابتلي في السنوات الأخيرة من عمره بمحن شتى، ومن ذلك أن السلطان عامر بن عبد الوهاب الطاهري استهدف بيته بالمنجنيق عند ما حاصر صنعاء سنة (910 هـ/1505م)، وبعد استيلائه عليها، أخذ ولديه الهادي وأحمد كرهائن مع الأمير أحمد بن الناصر، وأراد أن يلحقه بهم، فأقسم بالله أنه لن ينزل، فتركه السلطان، وبَرَّت قسمه بعد علم السلطان بما له من المنزلة الرفيعة، ثم أراد السلطان أن يتقرَّب إليه بمعونة فرفضها.

(1/34)


فأما الهادي فأُخذ إلى "رداع" ثم نقل إلى تعز حيث توفي بها سنة (923 هـ/1517م).
وأما أحمد فأخذ إلى تعز، فأقام على التدريس بجامع تعز، وهنالك عاودته الأمراض، وكان والده يرق له كثيراً.. وكتب إلى والده:
من تعز زاد قلبي وصبا
وقضينا من هواها عجبا
فَرْخُ قمري تغنى طربا
أم تناسيتن ما قد ذهبا
باقتران مثلما أيدي سبا

كلما هبت جنوب وصبا
ياليالينا التي قد سبقت
يا رعاكن إلهي كلما
هل أراكن بعهدي حُفَّظا
ثم حال الحول منا بعدها
ومن جوابات والده عليه قصيدة منها:
سلام خليل غاب عنه خليله
تضمن ما يشفي القلوب فصوله
وشق به أمر البعاد وهوله

على أحمد منا سلام مضاعف
وقفنا على نظم أتى منه رائق
وبالغ في شكوى تفرق شملنا

وفاة المؤلف وشيء من مراثيه
توفي رحمه الله قبل العشاء الآخرة من ليلة الأحد ثاني عشر شهر جمادى الآخرة سنة (914هـ/ 8 أكتوبر 1508م) بصنعاء، وقبره رحمه الله في جربة الروضة في صنعاء عند قبور أهله رضي الله عنهم، وهو مشهور مزور، وفجع الناس بموته، واهتزت له البلاد اليمنية طولاً وعرضاً، واجتمع أناس بالجوامع للقراءة عليه ثلاثة أيام. وفيه من يقول شعراً في مبلغ عمره:
قد كاد يبلغها تماماً أوقد
أو كاتباً أو ساجداً في المسجد

إلى الثمانين انتهى سنينه
لم يُلق إلا قارياً أو مُقْرِياً

ورثاه السيد البليغ المفوه عز الدين محمد بن المرتضى بن محمد بن علي بن أبي الفضائل فقال:
ووقع الخطوب المعضلات العظائم

نعم هكذا موت العلى والمكارم

حكى المصطفى مستغرباً في العوالم

وغربة هذا الدين حتى غدا كما

ومذهب يحيى بن الحسين بن قاسم

نعزِّي بإبراهيم دين محمد

وتحقيق أخبار وضبط تراجم

وتصنيف كتب في العلوم مفيدة

صحيح رواه محكماً كل عالم

وكل حديث ثابت الأصل مسند

وتصريف ألفاظ وخط رواقم

ونحوٌ حكاه سيبويه وشيخه

وعلم المعاني بعده أي هايم

ونبكي أعاريض الخليل بن أحمد

(1/35)


ويبكيه منثور ومنظوم ناظم

وتندبه الأقلام والصحف جملة

بناها لأولاد الوصي وفاطم

ينوح عليه كل فضل ورتبة

وقد كان مسروراً ضحوك المباسم

ومِنْ فَقده وجه الفصاحة عابس

وقد كان مخضراً بديع الكمائم

ترى بعده روض البلاغة ذاوياً

وعُطِّل منها كل آت وقادم

وأما تواريخ الزمان فقد خلت

فهل قام بيت قد خلا من دعائم

لقد كان للدين الحنيف دعامة

لأخذ أصول الدين أسنى المواسم

لقد كان غيثاً للأنام وموسماً

وألحق خافيها بقص القوادم

فقصت خوافي ريشه وتطايرت

وقد سدت من ساع إلى الله قادم

أبا أحمد جوزيت عنا برحمة

فديناك يا خير الهداة الأكارم

ولو كان مقبولاً فداء لميت

ولكنما الدنيا كأحلام نائم

وكنا بأموال نقيك وأنفس

وقمت بها لله أفضل قائم

فقد طال ما أحييت في غسق الدجى

فبوركتَ من محي مصل وصائم

وبالصوم قد قضيت كل هجيرة

عليك دموع العين مثل الغمائم

ويا غائباً لا يرتجى منه أوبة

لديك جزاك الله أزكى المراحم

لئن كنت عنا غائباً فقلوبنا

وممدود ظل سجسجي النسائم

هجرت وقد واصلت حوراً كواعباً

من الله ما ناحت سواري الحمائم

عليك أبا الهادي سلام ورحمة

رحمه الله رحمة الأبرار، وأسكنه جنات تجري من تحتها الأنهار.

مصادر الترجمة:
ـ تاريخ بني الوزير – خ - أحمد بن عبد الله الوزير.
ـ مكنون السر للعلامة يحيى بن حميد المقرائي. – خ.
ـ الدراري المضيئة شرح الفصول اللؤلؤية ـ خ ـ.
ـ نظام الفصول ، للعلامة الحسن بن أحمد الجلال ـ خ ـ.
ـ مطلع البدور ومجمع البحور للقاضي أحمد بن صالح بن أبي الرجال ـ خ.
ـ طبقات الزيدية الكبرى لصارم الدين إبراهيم بن القاسم ـ خ ـ.
ـ مآثر الأبرار لمحمد بن علي الزحيف ـ خ ـ، وهو أحد شروح البسامة.
ـ اللآلئ المضيئة لأحمد بن محمد الشرفي ـ خ ـ، وهو أحد شروح البسامة.

(1/36)


ـ طبقات الزيدية الصغرى (المستطاب) ليحيى بن الحسين ـ خ ـ.
ـ مقدمة الفلك الدوار. لمحمد عزان.
ـ لوامع الأنواع للعلامة مجد الدين المؤيدي ـ خ ـ.
ـ البدر الطالع للشوكاني 1/31 ـ 32.
ـ الأعلام للزركلي 1/65 ـ 66.
ـ مصادر الفكر الإسلامي في اليمن للحبشي.
ـ هَدِيَّة العارفين للبغدادي 1/21.
ـ معجم المؤلفين لعمر رضا كحالة 1/101.
ـ اللطائف السنية للعلامة الكبسي 126.
ـ الجواهر المضية في تراجم رجال الزيدية. للعلامة القاسمي ـ خ ـ
ـ الأدبيات اليمنية لكارل برولكمان 85.
ـ مجموع بلدان اليمن وقبائلها، للعلامة الجرافي.
ـ خلاصة المتون في أنباء ونبلاء اليمن الميمون. الجزء الثالث.
ـ المقتطف من تاريخ اليمن للقاضي عبد الله الجرافي 199 ـ 203.
ـ مصادر التراث اليمني في المتحف البريطاني لحسين العمري 234 ـ 240.
ـ أعلام المؤلفين الزيدية للأستاذ عبد السلام الوجيه.

هذا الكتاب
حظي هذا الكتاب بمكانة مرموقة وشهرة واسعة عند المهتمين بفن أصول الفقه، لاسيما في أوساط علماء ومثقفي الزيدية، وصار المرجوع إليه بينهم، والمعتمد عليه عندهم، وطار في الأوطان كلَّ مطار، وصار معتمداً في النواحي والأمصار، حتى قيل عنه: "لم ير مثله في كتب القدماء، ولم تسمح بمثله أنظار العلماء.
هو الشمس إلا أنه في دفاترٍ هو البدر لكن في سماء الأفاضل"
وقد سلك المؤلف في تصنيفه منهج التوسط بين الإيجاز والإسهاب، عند المقارنة بمصنفات معاصريه ومَن سبقهم، وهو ما أشار إليه في المقدمة بقوله: "ولم أبالغ في اختصارها صَوناً لها عن الإلغاز، ولا في بسطها لمنافاته للإيجاز، مع اقتفاء منهج المختصرين من أهل التصنيف، في حسن التهذيب والتَّرصيف، وإبراز المعنى الخفي اللطيف، في إبْرِيز اللفظ الجلي الطَّريف".

(1/37)


وبذل جهداً جهيداً ليجعل من فصوله هذه: " لبابٌ نُزِعَ قِشْرُه، وعُبابٌ لا يُدرك قعره، محيطة - على صغر حجمها - بِزُبَد المختصرات، ومحاسن البسيطة من الأمهات المعتمدة? والمصنَّفات الْمُنْتَقَدة"، فاقتصر على المفيد المهم، مما دوَّنه كبار العلماء السابقين، مع إشارة خاطفة إلى تفاصيل يفهمها المتمكن في هذا الفن المتضلع فيه، وهذا مما اضطر المؤلف أن يعيد النظر في كتابه عدة مرات، فقد جاء في بعض حواشي الكتاب أن له ثلاث مسودات: كبرى، ووسطى، وصغرى، والوسطى هي التي اعتمدها المؤلف وبيضها.
وإلى جانب الدقة والاختصار حرص المؤلف أن يجعل من فصوله هذه موسوعة جامعة لآراء العلماء من مختلف المذاهب والتوجهات، فقال: "وَرَصَّعْتُ جواهرَ عِقدها المُذَهَّب، بأقوال أئمتنا وما لَخَّصَه المتأخرون للمذهب وأضفتُ إليها من مذاهب شيوخ العدل والتوحيد، ما هو أعذب من الفرات وأحلى من جَنى التَّوحيد، ومن مذاهب غيرهم من علماء الأمة الأحمدية، وحكماء العصابة المحمدية".
وذلك ما لمسه العلامة صلاح بن أحمد المهدي فبادر إلى شرحه، ووصفه بقوله: "بحر محيط بمستصفى كل مزيد وبسيط، كم جمع من الجوامع، وفتش من مخبَّآتها مستوراً، فيه كفايَة لتقويم قسطاس الأصول وتهذيبُ أغصانها، وهو معيار لتحصيل معاني الفروع وتعديل أركانها، قد حوى الحاوي، وأجرى أنهار فراته والعطشان بها راوي".
وترك المؤلف في كتابه هذا الكلام على الأدلة، وتجنب الخوض في التعليل، والإكثار من التفصيل والتمثيل، مكتفياً بوضوح العبارة وسلاستها، تاركاً للشراح بذلك مجالاً واسعاً، وذلك ما أشار إليه بقوله: "وَجَرَّدتها عن الأمارات والأدلَّة، إكتفاء بشموس مسائلها والأهلَّة، وتسهيلاً لحفظها، وتقليلاً للفظها، وإحالة إلى أصولها، وحثاً للإخوان على شرح فُصُولها".
ويلاحظ أن للمؤلف منهجاً مميزاً في عرض المسائل وتقديم المعلومات:

(1/38)


ـ أما في تقديم الفكرة، فإنه يبدأ في الغالب بتصوير المسألة من خلال تصورها بالتعريف أو نحوه، ثم يوزعها في محاور وبنود، يرتبها حسب الأهمية، فيبدأ بإمكانية المسألة? ثم وقوعها، ثم حكمها، ثم أثرها وما يترتب عليها، متعرِّضاً في جميع ذلك لذكر ما عُرف من الخلاف بين العلماء في تلك البنود، وقد يختلف أسلوب العرض باختلاف أهمية المسألة وحساسيتها، فمنها ما يحتاج إلى تطويل وتفصيل بحيث توزع بنودها في عدة فصول، ومنها ما ليس كذلك.
ـ وأما في عرض الخلاف، فإنه يبدأ في الغالب بذكر الرأي المطلق في المسألة، إيجاباً أو سلباً، ويردفه بذكر مناقضه في الطرف الآخر، ثم يذكر الآراء المفصِّلة أو المتوسطة، ثم يختم بذكر المتوقفين إن كان ثَمَّ متوقف.
أما المختار للمؤلف ومن وافقه فإنه تارة يذكره أولاً? وتارة يذكره آخراً، وتارة يذكره عند أي قول موافق، فيقول بعده: وهو المختار، وقد ذكر في بعض الحواشي أنه يريد بذلك المختار للمذهب.
ـ وأما في التقسيم والتفريع في المسائل الطويلة والمتداخلة، فإنه يأخذ في ذكر التقسيمات الرئيسة، ثم يتدرج إلى التفاصيل رتبة رتبة، حتى يصل إلى أدقها.
وقد حرص المؤلف ـ في جميع ذلك ـ على ألاَّ يهمل جانب التمثيل؛ لما له من أثر في تصوير المعنى وإيصاله إلى الذهن. وفي اتجاه آخر يلاحظ أنه نادراً ما يذكر أسباب الأقوال ودوافعها.
ولعل من أهم مميزات هذا الكتاب إلى جانب ما تقدم:
ـ أنه يعد من أجمع كتب الأصول لأقوال العلماء من سائر المذاهب الإسلامية.
ـ أنه يفصل آراء علماء الزيدية في معظم المسائل، وهذا الجانب نادر في كتب الأصول المطبوعة.
ـ أنه يذكر في معظم الأحوال جذور المسائل المختلف فيها ويبين ما تفرع عليها، وبذلك يتضح سبب اختلاف المختلفين، فتتلاشى مع ذلك ظنون السوء، وتختفي الأحكام الجائرة.
شروح الفصول

(1/39)


لقد أدرك جملة من العلماء أن هذا الكتاب من المتون الجامعة والأصول المحيطة الواسعة فتبادروا إلى شرحه والتعليق عليه، وفك غوامضه، حتى قال العلامة صلاح بن أحمد وهو أحد شراحه: "وكم رأيت جمعاً من الحذاق هِمَمُهم نحو اقتناص شوارده ممتدة الأعناق، شاهدة النواظر شاخصة الأحداق، شوقاً إلى استخراجِ معانيه والتقاط جواهرها، واقتناء حائز كنوزه من حفايرهَا، كم لهم من أفئدة تهوي إليه، وأكباد حراء صاديةٍ هائمةٍ عليه، وفِكَرٍ جاثية خاضعةٍ بين يديه، ورغبات موثقةٍ بأعنة الخيول لديه، معتصمين في استنباط لطائفه بالحواشي والأطراف، قانعين في بحار علومِه عن اللؤلؤ بالأصداف، لا تحل أيدِي النَّظرِ عُقَد مُعْضِلة، ولا يُفتح بنانُ البيانِ أبوابَ مقفَله، ولا يدرك الأوهَام ظاهر مفصَّله، فعذاريه تحب الحجب مستورة، وحرائره في خيام الأستار مقصورة".
وقد وقفت أثناء البحث والتحقيق على أسماء جملة من شروح هذا الكتاب، التي تعكس مدى الإهتمام به، واطلعت على بعضها، منها:
* شرح الفصول اللؤلؤية، للشيخ المحقق العلامة لطف الله الغياث، المتوفى سنة (1035هـ/1625م) ذكره ابن أبي الرجال وقال: لم يتممه، لعله بلغ فيه إلى العموم، وهو كتاب محقق منقح مفيد.
* شرح الفصول اللؤلؤية، للعلامة المحقق أحمد بن محمد بن لقمان، وهو أحد مشاهير علماء الزيدية، مات في شهر رجب سنة (1039هـ/1629م). أشار إلى ذلك الشرح ابن أبي الرجال في مطلع البدور.
* الدراري المضيئة الموصلة إلى شرح الفصول اللؤلؤية، للعلامة صلاح بن أحمد بن المهدي، أحد العلماء الأفذاذ، توفي في ذي الحجة سنة (1044هـ/1634م). يقوم مركز التراث والبحوث اليمني على نشره.
* شرح الفصول من علم الأصول، للعلامة صلاح الدين بن أحمد بن عز الدين بن الحسين بن عز الدين بن الحسن بن عز الدين بن الحسن، المتوفى في أواخر سنة (1070هـ/1659م).

(1/40)


* نظام الفصول شرح الفصول اللؤلؤية، للعلامة الكبير الحسن بن أحمد بن محمد بن علي بن صلاح الجلال الحسني اليمني، المتوفى سنة (1084هـ/1673م). يقوم مركز التراث والبحوث اليمني على نشره.
* شرح الفصول اللؤلؤية في الأصول الفقهية، للعلامة علي بن محمد بن يحيى سلامة الصنعاني، من أصحاب الإمام المؤيد محمد بن القاسم، توفي بصنعاء في شهر رمضان سنة (1090 هـ/1679م). ذكره ابن أبي الرجال، وصفه زبارة بأنه شرح عظيم.

عملي في تحقيق الكتاب
تتميز المتون بأنها قليلة اللفظ، دقيقة التركيب، بحيث تدل الألفاظ بدقة على ذات المعاني، ليس ذلك فحسب، بل ولا بد أن يفيد اللفظ فيها معاني أخرى، تستخرج من المفاهيم والإشارات، هذا جانب، وجانب آخر هو أن علم أصول الفقه من أكثر العلوم تعقيداً وأوسعها خلافاً وأكثرها مصطلحات وضوابط، لذلك يحتاج تحقيق أي كتاب من هذا القبيل إلى تَرُّيث وتأمل، وتدقيق ومراجعة لكل نقطة إعجام، أو فصلة ترقيم، إلى جانب تذوق للنص، واستيعاب لمعانيه؛ لتقدم على وجهها الصحيح، وقد عملت في ذلك جهدي، وبذلت ما بوسعي، والكمال لله وحده. أسأل الله أن يجعل عملي هذا خالصاً لوجهه الكريم.
ضبط النص وتصحيحه
* بعد أن اخترت النسخة المناسبة دفعتها للكمبيوتر للصف، ثم قابلت المصفوفة على أصلها النسخة (أ) وعلى النسخة: (ب) مقابلة دقيقة، وأثبتُّ المناسب مما اختلفت فيه النسخ في الأصل بعد التحقق من ذلك، ونبهت على ما في النسخ الأخرى في الهامش. ثم راجعت ما أشكل أو وجدت معناه غير مستقيم؛ على المتن المضمن في (شرح الدراري) للعلامة صلاح بن أحمد المهدي، أو شرح (نظام الفصول) للعلامة الجلال.
* قرأت المخطوطة بعد المقابلة بتأمل، وأصلحت الأخطاء الإملائية وهي كثيرة، والنحوية وهي قليلة بعد التأكد منها، ونبهت على ما فيه غموض في الهامش.

(1/41)


* ضبطت الكلمات المحتملة لأكثر من معنى، وكذلك الأسماء المشتبهة. وما كان شديد الاشتباه أو الغرابة وضحته في الهامش.
* راجعت الآيات المذكورة في الكتاب على المصحف، وأشرت إلى مواضعها فيه، بذكر اسم السورة ورقم الآية، وجعلت ذلك بعد الآية مباشرة بين معكوفين هكذا [ ]، وميزت كلاً من الآيات وتخريجها بخط مختلف.
توزيع النص
من الملاحظ في هذا الكتاب أن مؤلفه اقتصر على وضع عناوين للأبواب، وضَمَّن كلاً منها فصولاً تتناول مواضيع مختلفة، وقد رأيت أن أضع عناوين للمباحث ذات المعاني المترابطة؛ لتساعد القارئ على تَصَوُّر محتويات الكتاب.
* قطعت النص إلى فقرات ذات معنى مترابط، ثم قسمت الفقرات إلى جمل، مستخدماً في ذلك علامات الترقيم المتعارف عليها، وقد حاولت في هذا الجانب أن أبذل ما بوسعي لما لعلامات الترقيم من أهمية في توضيح المعنى وتقريب فهمه، خصوصاً في مختصرات الكتب.
* وضعت أسماء أصحاب المقالات ـ سواء كانوا فرقاً أو جماعات أو أفراد من العلماء ـ بين قوسين هكذا ( ).
* ميزت ما اختاره المؤلف من الأقوال بقوله: (والمختار)؛ فجعلته بخط مخالف لخط الفقرات؛ ليسهل على الباحث الاهتداء إلى مختارات المؤلف سواء كانت لعموم الزيدية أو لنفسه.
* أبرزت الفصول في أوائل الفقرات وميزتها بخط واضح هكذا ( فصل ) ليسهل الاهتداء إليها.
التعليقات والحواشي
فضلت ألا أثقل الهامش بتعليقات كثيرة، خصوصاً ما يكون بمثابة التفصيل والشرح؛ لأن ذلك وضيفة الشروح، واقتصرت على ما يساعد القارئ على فهم الكتاب كمتن، فكانت التعليقات التي وضعتها في الهامش كالتالي:
ـ تعليقات لشرح الغريب من الألفاظ اللغوية.
ـ تعليقات لتوضيح ما يحتاج لكشف أو بحث، كأسماء الفرق والجماعات، وأسماء العلوم، والمصطلحات، أو التعريف بكتاب ما.
ـ تعليقات للتمثيل لما لم يمثل له المؤلف، مستعيناً في ذلك بما في هوامش الكتاب وشروحه وكتب أخرى.

(1/42)


ـ التنبيه على أهمية بعض الفصول مع إشارة إلى موضوعه وما يهدف إليه.
ـ تعليقات لتبين الغامض من الكلام، إما بيان مرجع الضمير أو الكشف عن المعنى المراد.
التراجم والتخريج
* ترجمت الأعلام المذكورين في الكتاب من أصحاب المقالات، وقد بلغت أكثر من تسعين ترجمة، ولم أكرر التراجم عند تكرر الأسماء، ولم أشر إلى موضع ترجمته، مستغنياً عن ذلك بفهرس الأعلام الذي سأضعه في آخر الكتاب.
* خرجت الأحاديث التي استشهد بها المؤلف، واقتصرت في ذلك على ذكر مصدر أو مصدرين؛ لأبين وجود الأحاديث في الأصول الحديثية المشهورة.
المقدمة والفهارس
وضعت للكتاب مقدمة اقتصرت فيها على:
ـ كلمة عن الموضوع، تناولت فيها الكلام عن أصول الفقه؛ نشأته وتطوره عند المسلمين عموماً وعند الزيدية خصوصاً.
ـ كلمة عن الكاتب، وهي عبارة عن ترجمة موسعة للمؤلف، باعتباره صاحب مشاركة نوعية في مختلف أبواب الفكر والثقافة.
ـ كلمة عن الكتاب بينت فيها مكانة الكتاب، وأهم ملامحه ومنهج المؤلف فيه، وما حظي به من عناية واهتمام.
ـ كلمة في تحقيق الكتاب بينت فيها منهجي في ذلك وقدمت وصفاً للنسخ المخطوطة التي اعتمدت عليها.
ـ أما الفهارس فقد وضعت: فهرساً للآيات، وفهرساً للأحاديث، وفهرساً للأعلام المترجمين، وفهرساً للمواضيع.
التنسيق والإخراج
حرصت على تنسيق الكتاب وإخراجه قبل الطباعة على الكمبيوتر بنفسي، وعملت ما بوسعي على تقديمه في أحسن صورة، ولاحظت التالي:
*ضبطت السطور والفقرات في الصفحات بحيث لا تترك مسافات كبيرة في أول أو آخر الصفحة.
* حرصت على أن تكون الحواشي في أماكنها المناسبة من الصفحات.
* أفردت صفحة كعنوان لكل باب من الأبواب الستة عشرة التي أشار إليها المؤلف في أول الكتاب.
* وضعت لكل باب ترويسة في رأس الصفحة تحمل اسم الباب ليتمكن القارئ والباحث من الوصول إلى الباب الذي يريده بسهولة ويسر.

(1/43)


* اخترت ما رأيته مناسباً من الخطوط لكل من: أصل الكتاب، والعناوين، والفصول، والأبواب، والحواشي.
النسخ المعتمدة
نسخ الكتاب متوفرة ولكنها تتفاوت من حيث الخدمة والصحة، فبعضها قرئ على علماء محققين زينوها بتعليقات وتوضيحات هامة، وقد اخترت للمقابلة أربع نسخ، هي:
النسخة: (أ) وهي بخط متوسط في الوضوح وليست معجمة، ويعلو صفحاتها بعض السواد، غير أنها أصح النسخ الموجودة لدي، وتقع في 324 صفحة، حجم الصفحة مع الحواشي 28 سم طولاً و18 سم عرضاً، في كل صفحة ما بين 14 إلى 16 سطراً.
وكتب في آخرها: وقد ارتفع قلم النسخ عن هذا الكتاب الجليل : وقت الظهر يوم الأربعاء الرابع من شهر القعدة أحد شهور سنة سبع وستين وألف سنة ولله الحمد على تفضله وإنعامه وأسأله المزيد من كرمه وحسن الخاتمة بلطفه وفضله إنه سميع الدعاء ومجيب النداء، ربنا تقبل منا إنك أنت السميع العليم وتب علينا إنك أنت التواب الرحيم وصلى الله على سيدنا محمد وآله.
نسخ بعناية ما لكه سيدنا وبركتنا وعمدتنا الفقيه الفاضل العلامة العامل كعبة المسترشدين وكهف الضعفاء وملاذ المؤمنين جمال الإسلام والمسلمين محمد بن قاسم العبدي حفظه الله تعالى وجزاه عن الإسلام خيراً ورزقه وإيانا حفظ معانيه وختم بالصالحات أعمالنا بحق محمد صلى الله عليه وآله وسلم.
وقد كتب على ظهر النسخة أنها قرأت على العلامة صالح بن مهدي المقبلي في مكة المشرفة.. وآخر التمالك عليها تفيد أنها من كتب القاضي العلامة عبد الرحمن بن قاسم بن علي مشحم الصعدي سنة 1410 هـ/1989م.
النسخة : (ب)، وهي بخط جيد غير أنها غير معجمة، وتقع في 406 صفحة، حجم الصفحة مع الحواشي 25 سم طولاً و17 سم عرضاً، في كل صفحة ما بين 10 إلى 12 سطراً.

(1/44)


وقد جاء في آخرها: كان تمامه قبيل الظهر يوم الأحد لعله ثاني يوم في شهر جمادى في سنة سبعة وسبعين وألف سنة (كذا) بعناية سيدنا القاضي العلامة الفهامة صفي الدين أحمد بن محمد بن أحمد بن محمد بن عز الدين السلفي حفظه الله وأبقاه ووفقنا وإياه لما يرضيه إنه على كل شيء قدير.
بخط الفقير إلى كرم الله، وأحوجهم إليه: محب آل محمد علي بن يحيى الحبشي وفقه الله تعالى، وصلى الله على سيدنا محمد وعلى آله وسلم ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم.
وتظهر التماليك على ظهر النسخة أنها كانت من كتب القاضي العلامة أحمد بن محمد السلفي، وتنقلت حتى صارت من كتب العلماء الأجلاء آل الغالبي ، حيث صارت بالقسمة إلى حسين وصلاح ابني إبراهيم الغالبي سنة 1357 هـ/1938م.
وتذكر بعض التعليقات أنها قُرأت على العلامة الكبير محمد بن عبد الله الغالبي سنة 1302 هـ/1884م.
النسخة: (ش)، وهي واحدة من نسخ شرح العلامة صلاح بن أحمد المهدي، وهي بخط جيد مُيِّز المتن فيها بالخط الأحمر، وهي من مكتبة شيخنا السيد العلامة المحدث محمد بن الحسن العجري حفظه الله.
وكتب في آخرها: كان الفراغ من رقم هذا الكتاب المبارك صبح يوم السبت لعله تاسع شهر صفر الخير من شهور سنة إحدى وأربعين وألف سنة من الهجرة النبوية.. بعناية مولانا صلاح الملة بن صلاح بن أحمد المهدي. ثم كتب بعد ذلك بخط آخر: أنه سُمع سنة إحدى وأربعين وألف على مؤلفه.
النسخة: (ج)، وهي واحدة من نسخ نظام الفصول شرح العلامة الحسن بن أحمد الجلال على الفصول، وهي بخط الأخ القاضي أحمد علي نور الدين الذي يقوم بتحقيق ذلك الشرح، وهو خط ممتاز، ميز المتن فيها بأقواس، وقد قابلها على نسخة العلامة الجلال نفسه ونسخة ولده العلامة محمد بن الحسن.

m

وبه نستعين
[مقدمة المؤلف]

(1/45)


الحمد لله رب العالمين، وصلواته على محمَّد المصطفى الأمين، وَعَلى أَخيه الأنزَعِ(1) البطِين(2)، وعَلَى سَيِّدة نساء الخلق أجمعين، وعَلى سِبْطَيهما والأئمة السَّابقين، والمقتصدين من أبنائهم المنتجبين، وعلَى أصحابهم وأتبَاعهم إلى يوم الدين. وبعد..
فهذه نُخَبٌ مُصْطَفاه من أقوال أئمتنا، ونُغَبٌ(3) مُصَفَّاة من سلسال مَعِين علمائنا، اعتَصَرْتُها من أفانين(4) دَوْحَاتِ معارفهم الواسعة، واختَصرتها من قوانين مُصَنَّفَاتهم الحافلة الجَامعة، وَرَصَّعْتُ جواهرَ عِقدها المُذْهَّب، بأقوال أئمتنا وما لَخَّصَه المتأخرون للمذهب(5) وأضفتُ إليها من مذاهب شيوخ العدل والتوحيد، ما هو أعذب من الفرات وأحلى من جَنى التَّوحيد(6)، ومن مذاهب غيرهم من علماء الأمة الأحمدية، وحكماء العصابة المحمدية، فليثق باحث كنوزها بنيل أمله، وليستعن كاشف رموزها بإخلاص نِيَّتِه وعمله.
ومن تأمَّلها مُنْصِفاً، وجعل فكره /5/ الصحيح لِمَعَانِيها مِنْصَفاً(7) علم أنها لبابٌ نُزِعَ قِشْرُه، وعُبابٌ لا يُدرك قعره، وتيقن أنها - على صغر حجمها - محيطة بِزُبَد المختصرات، ومحاسن البسيطة من الأمهات المعتمدة، والمصنَّفات الْمُنْتَقَدة.
__________
(1) الأنزع: منحسر الشعر من مقدم الرأس.
(2) البطين: من له بطن كبيرة، قال في الشرح: وكذلك كان أمير المؤمنين.
(3) النغبة: الجرعة من الشراب.
(4) الأفانين: جمع فنن، وهو: الغصن.
(5) قال المؤلف: وذلك حيث يكون لهم نص في المسألة، فحيث أقول: المختار فهو للمذهب، نصاً لأئمتنا ـ وهو الأكثر ـ أو تخريجاً لهم ـ وهو النادر ـ وقد أقول: المختار: وليس لهم فيه نصٌ ولا تخريجٌ، لكنه مقتضى قواعدهم، وأنبه عليه في الحاشية. تمت من الحواشي.
(6) التَّوحيد: نوع من التمر.
(7) المِنْصَف: الخادم.

(1/46)


وَجَرَّدتها عن الأمارات والأدلَّة، اكتفاءاً بشموس مسائلها والأهلَّة، وتسهيلاً لحفظها، وتقليلاً للفظها، وإحالة إلى أصولها، وحثاً للإخوان على شرح فُصُولها.
ولم أبالغ في اختصارها صَوناً لها عن الإلغاز، ولا في بسطها لمنافاته للإيجاز، مع اقتفاء منهج المختصرين من أهل التصنيف، في حسن التهذيب والتَّرصيف، وإبراز المعنى الخفي اللطيف، في إبْرِيز اللفظ الجلي الطَّريف، على أنه قد قال غير واحد من علمائنا الأفاضل: (( المصنفون حقيقة هم الأوائل )) فأما المتأخرون فمصنفاتهم إيجاد الموجود وتحصيل الحاصل؛ إذ الأوائل هم المفجِّرون لعيون الحِكَم الجارية في أنهارها، والملتقطون لمكنون الدُّر المُودَع في بحارها، وإن أخطأوا حيناً في معنىً أو عبارة، فكل /6/ منهم هو السابق في حَلَبة الفضل الْمَقْفُوِّ آثاره، ولا شك أن للمتقدم فضيلة السابق المبتدئ، كما أن للمتأخر - وإن قصر عنه - فضيلة اللاحق المقتدي، نسأل اللّه أن يجعل أعمالنا خالصةً لوجهه الكريم، ومِرقاةً مُوصِلةً إلى جنات النعيم، وهو حسبنا ونعم الوكيل.

مباحث الألفاظ
ومعرفة
الأدلة والأحكام

مقدمة
لا بد لطالب أصول الفقه من معرفتها
(1) فصل مبادئه: حَدُّه، وموضوعه، وفائدته، واستمداده، وحكمُه
أما حَدُّهُ مُضَافاً، فالأصل لغةً: ما يتفرَّع عليه غيرُه، وهو في عُرْفِها: حقيقة في النَّامِيَات، مجازٌ في غيرها. واصطلاحاً: الدليل.
والفِقْهُ لغة: العِلْم، أو الظن لأمر خَفِي، ولو بغير(1) خطاب في الأصح(2). واصطلاحاً: العلم أو الظن للأحكام الشرعية الفرعية، عن أدلتها التفصيلية، وأكثرها مظنون، ووجوب العمل به(3) معلوم.
__________
(1) في (ب): لغير.
(2) حصول العلم أو الظن بغير الخطاب، نحو تَعَلُّم الصنائع بالمشاهدة والممارسة، وكمعرفة الطرق بواسطة الآثار والعلامات، ومن ذلك قولهم: البعرة تدل على البعير، والقدم تدل على المسير.
(3) أي الظن.

(1/47)


وأما حَدُّه لَقَباً: فالقواعد التي يُتَوصَّل بها إلى استِنْبَاط الأحكام الشرعية الفرعيَّة عن أدلتها التفصيلية. وقيل: العلم بها أو الظن. وهي: قطعية، وظنية(1).
وأما موضوعه: فالأدلة السَّمعيَّة الكُلِّيَّة(2).
وأما فائدته: فالعِلْم بأحكام اللّه.
وأما استمداده، فمن: (الكلام)، لتوقف الأدلة السمعية(3) الكليَّة على معرفة الصَّانع وصدق /7/ المُبَلِّغ. ومن (العربيَّة)؛ لأن الأدلة من الكتاب والسُّنَّة عربية. ومن (الأحكام)، والمراد: تصورها بالحد(4)؛ ليمكن إثباتها أو نفيها بعد ذلك في أفراد المسائل، لا حُصُولها، وإلاَّ لزم الدَّور(5).
وأما حكمُه: فالوجوب على الكفاية.
__________
(1) القطعية: ما كان دليلها قطعياً، من عقل، نحو: كون الأمر للوجوب، أو سمع نحو: كون الإجماع حجة على رأي. والظنية: ما كان دليلها ظنياً من عقل، كما يذكر أن الأمر للمرة فقط، أو سمع ككون الإجماع حجة على رأي. كذا في الدراري. ولعل المراد: أن النظر الصحيح في القاعدة إن أوصل إلى معلوم فهي قطعية وإن أوصل إلى مظنون فهي ظنية.
(2) الأدلة السمعية هي: الكتاب، والسنة، والإجماع، والقياس، ومعنى الكلية أن هذا العلم لا يبحث في مثل قوله تعالى: ?وأقيموا الصلاة? عن كون الآية تدل على وجوب الصلاة، وإنما يبحث في الأمر من حيث هو، هل هو للوجوب أم لا؟ في هذه المسألة وغيرها.
(3) السمعية في (أ) فقط.
(4) لا العلم بثبوتها أو نفيها؛ لأن ذلك هو ثمرة أصول الفقه، وإنما المقصود تصور ماهية الحكم.
(5) لأنه إذا كان المراد العلم بثبوت الحكم أو نفيه، فإن ذلك لا يتأتى إلا بمعرفة الأصول، ومعرفة الأصول حين ذلك متوقفٌ على معرفة الأحكام.

(1/48)


(2) فصل وينحصر في: الأمر، والنهي، والعموم، والخصوص، والمطلق ، والمقيد، والمجمل، والمبين، والظاهر، والمأوَّل، والناسخ، والمنسوخ، والإجماع، والأفعال، والأخبار، والقياس، والإجتهاد، وصفة المفتي والمستفتي، والحَظْر، والإباحة، والتعارض، والترجيح.
[وضع الألفاظ وأقسامها ومتعلقاتها]
(3) فصل وما يَصحُّ المواضَعَة علَيه؛ إِن لم تقع فهو: (المهمل) (1)، وإن وقعت، فهو: (المستعمل)، ويسميان: كلاماً عند (جمهور الأصوليين). وينقسم المستعمل إلى: مفرد، ومركَّب.
__________
(1) نحو كادث ومادث، وما شابه ذلك من الحروف المركبة التي لم توضع لمعنى.

(1/49)


والمفرد ينقسم عند (جمهور الأصوليين والمتكلمين) إلى: مُفِيْد(1)، وهو: حقيقة ومجاز، كأسد للسَّبُع، والرَّجل الشجاع. وإلى جارٍ مجرى المفيد، وهو الموضوع بإزاء أمر لا يختص بذات دون أخرى، كشيء(2)، ولا يجوز تغييرهما واللغة بحالها(3). وإلى: غير مفيد ولا جار مجراه، وهو العَلَم، كزيد(4)، ويجوز تغييره واللغة بحالها. (الإمام (5) وبعض الأصوليين، وأهل اللغة، والعربية): بل هما(6) من المفيد وليسا بمستقلين(7).
والمركب ينقسم إلى: خِطاب، وإلى غير خِطاب. فالأول: ما قَصَد به المتكلم إفهام غيره معنىً من المعاني/8/. والثاني: ما جرى على رسم الدرس(8).
__________
(1) المفيد: ما أفاد ماهية مخصوصة لا تتغير ولا يخرج مسماها عن تلك الماهية المرتسمة في الذهن، استمراراً للغة، كرجل وامرأة وفرس، ونحو ذلك.
(2) الجاري مجرى المفيد، يشبه المفيد من حيث أنه يفيد ماهية يمكن أن تُعلم، ويشبه غير المفيد من حيث إنه لا يفيد ماهية مخصوصة ولا صفة تتميز بها.
(3) يعني باقية لم تتغير، فلا يجوز أن يسمى الحيوان الناطق باسم لم تضعه العرب، على أساس أنه عربي.
(4) غير المفيد: ما لا يفيد ماهية مخصوصة، وإنما هو للتمييز بين المسميات، وقد يوضع لأكثر من معنى، وهو ما كان عَلَماً كزيد، فليس لزيد معنىً لا يتغير بل هو لمجرد التمييز، ويصح وضعه لجميع الأشخاص على البدل، بخلاف رجل فإنه يفيد ماهية مخصوصة.
(5) المراد به الإمام يحيى بن حمزة، وأينما أطلق في هذا الكتاب فهو المراد. وهو الإمام الشهير أحد عظماء أئمة الزيدية وأكابر العلماء له مصنفات في مختلف الفنون، توفي (794 هـ).
(6) أي الجاري مجرى المفيد وغير المفيد.
(7) لأنهما يميزان المسمى بهما عن غيره؛ فقولنا: شيء، وزيد، وفرس. سواء في إفادة كل منها ما وضع له في أصل اللغة.
(8) يعني كترديد الْمُدَرِّس الألفاظ للتلميذ ليحفظها.

(1/50)


(4) فصل والمفرد عند (النُّحاة): ما لا يدل جزؤه على جزء معناه، والمركَّب بخلافه. فإن أفاد نسبة يصح السكوت عليها؛ فهو الكلام. وأقل ائتلافه من: اسمين، أو من فعل واسم.
(5) فصل وَدلاَلة المفرَد عَلى ما وضع له: مطابقة، كدلالة عشرة على خمستين، وعلى جُزئه تَضَمُّن، كدلالتها على خمسة، وعلى لازمه التزام، كدلالتها على كونها زوجاً. والأولى وضعيَّة اتفاقاً(1)، والثالثة عقلية اتفاقاً(2)، والأصح في الثانية أنها وضعيَّة(3). وشرطُ اللُّزومِ كونه ذِهنياً، وإن لم يكن خارجيَّاً(4)في الأصح. وقد تُسمى الثلاث وضعيِّة(5).
__________
(1) لأنها استعمال شيء فيما وضع له.
(2) لأن دلالة اللفظ على لازمه إنما هي من جهة أن العقل يحكم بأن حصول الملزوم في الذهن يستلزم حصول اللازم.
(3) وعند علماء المعاني أنها عقلية، ونص الرازي على أن دلالة التضمن والالتزام عقلية، وقال: إن كان اللازم داخلاً في المسمى فهو التضمن، وإن كان خارجاً فهو التزام.
(4) اللزوم الخارجي هو: ما يلزم من تحقق المسمى في الخارج تحققه فيه، ولا يلزم من ذلك انتقال الذهن، كوجود النهار لطلوع الشمس، واللزوم الذهني هو: ما يلزم من تصور المسمى في الذهن تصوره فيه، كالزوجية لاثنين. أنظر: (التعريفات) للجرجاني 245 ـ 246.
(5) بمعنى أن للوضع مدخلاً في ذلك، لا بمعنى أن اللفظ موضوع لذلك المدلول.

(1/51)


(6) فصل وهو(1)موضوعٌ للمعنى الخارجي. وقيل: للذهني. وقيل: للمعنى من حيث هو هو. ولا يجب أن يوضع لفظ لكل معنى(2) إلا فيما دعت إليه الحاجة(3)، ووضعه للمعنى الجلي لا الخفي إلا على الخواص ، كما يقول مثبتو المعاني : الحركة معنىً يوجب تحرك الذات(4). ولذلك ضعف استدلال الأشعرية على إثبات المعاني القديمة بنحو أنزله بعلمه(5).
__________
(1) أي: اللفظ المستعمل المقسم إلى مفرد ومركب.
(2) لأن المعاني التي يمكن فهمها غير متناهية، ولذلك لم يضعوا لأنواع الروائح ألفاظاً تخص كلاً منها، واكتفوا بإضافتها إلى محالها، كرائحة مسك ورائحة عنبر.
(3) كالعموم والخصوص، مثل كل وبعض .
(4) وهم الأشاعرة وتسمى تلك المعاني الأحوال، وهي: الواسطة بين الوجود والعدم، ولم يثبتها إلا بعض الأشاعرة، وبعض المعتزلة، ومعنى ذلك: أن الحركة معنى يوجب للذات كونها متحركةً، وإنما أراد مثبتو المعاني أن الحركة اسم للمتحركية الموجبة لتحرك الذات. والواقع أنه لا مسمى للحركة إلا كون الجسم منتقلاً، وإذا كان ثم معنىً آخر كما يقولون، فهو خفي لا يعرفه إلا الخواص.
(5) وذلك حيث جعلوا صفات اللّه تعالى معاني قديمة، فقالوا: علم اللّه اسم لمعنى قديم هو: العالمية، وكذلك قالوا في: حي وقادر وموجود ونحوها.

(1/52)


(7) فصل (أئمتنا(1)، والمعتزلة (2)، واللغويون، والنحاة): والكلامُ حقيقةٌ في المسموع، مجازٌ في غيره، كالنفساني، وهو: تصوُّر /9/ الكلام. فأُطلق على التصور مجازاً تسمية له باسم مَا يؤول إليه. (الأشعرية) (3): بل هو معنىً قديم في الغائب، مُحْدَث في الشَّاهد، ولفظه مشترك بينه وبين المسموع. وعن بعضهم: حقيقة في النفساني مجازٌ في غيره. واتفقوا على أن كلام الأصولي على المسموع. وفي تسمية الكلام خطاباً في الأزل خلافٌ بينهم.
(8) فصل وينقسم(4) إلى: خَبَر وإنشاء؛ لأنه إما أن يكون لِنِسْبَتِهِ خارج في أحد الأزمنة الثَّلاثة، أو لا. الأول: الخبر. والثاني الإنشاء. ويُسمَّى: تنبيهاً(5). وينقسم الخبر إلى: صِدْقٍ وكَذِبٍ لا غيرهما، خلافاً للجاحظ، وسيأتي. والإنشاء إلى: أمرٍ، ونهي، واستفهام وَيُسَمَّى: استخباراً، وإلى: تمنٍّ، وَتَرَجٍّ، وَعَرْضٍ، ونداءٍ وغيرها(6).
__________
(1) أينما أططلق فالمراد به أئمة الزيدية، إما جميعاً أو الأكثر منهم.
(2) فرقة إسلامية كبرى، إشتهرت في تاريخ الثقافة والفكر الإسلامي، وتميزت بآراء عميقة ومتحررة، معظم مشاركتهم في مسائل علم الكلام، وأغلب أقوالهم في كتب أصول الفقه في المسائل التى لها صلة بعلم الكلام.
(3) فرقة إسلامية شهيرة، كثر الصراع بينها وبين المعتزلة في مختلف العصور الإسلامية، ومعظم مشاركتها في مسائل علم الكلام وما له صلة بذلك.
(4) أي: الكلام.
(5) قيل: لأنه ينبه على ما في ضمير المتكلم.
(6) الدعاء، والقسم، والتعجب وأفعال الذم والمدح.

(1/53)


(9) فصل (جمهور المعتزلة): ولكل منهما حكم(1) يتميز به عن الآخر، معللٌ بالفاعل بواسطة الإرادة(2). (المنصور(3)، والإمام، والملاحميَّة): لا حكم لهما. (الشيخ): (4) للخبر حكم دون الإنشاء.
واختلف في الأمر لماذا كان أمراً ؟ فالأقلون: لا يعلل ذلك. والأكثرون: بل يعلل. فـ(البغدادية(5)، والفقهاء): لذاتِه. و(أئمتنا، والبصرية)(6): لإرادة المأمور به. (الأشعرية): لإرادة /10/ كونه أمراً.
(10) فصل والمفرد إما أن يتَّحد ويتحد مدلوله، أو يتعددا، أو يتحد ويتعدد مدلوله، أو عكسه.
__________
(1) المراد بالحكم هنا : نسبة مَّا بين شيئين.
(2) يعني أن العلة إرادة الفاعل، لا أن الفاعل هو نفسه العلة من غير إرادة. انظر: الدراري، والنظام.
(3) المنصور: هو الإمام المنصور بالله عبد اللّه بن حمزة بن سليمان من أئمة الزيدية في اليمن، له مشاركة في فنون كثيرة، توفي (614 هـ).
(4) الشيخ، هو: الشيخ الحسن بن محمد بن الحسن بن محمد بن أبي الطاهر الرصاص، صاحب (الفائق)، من كبار علماء الزيدية المبرزين في الأصول، توفي بهجرة سناع بحدة جنوبي صنعاء في شوال سنة أربع وثمانين وخمسمائة. وأينما أطلق (الشيخ) في هذا الكتاب فهو المراد.
(5) البغدادية: اسم يطلقه الأصوليون على إحدى مدراس المعتزلة، وقد ذكر أنه تزعمها بشر بن المعتمر، وهم يميلون إلى التشيع.
(6) البصرية: لقب أطلقه المتكلمون على إحدى مدارس المعتزلة، وقد ذكر أن أبا الهذيل الملقب بالعلاف كان رئيس هذه المدرسة وإمامها. انظر طبقات المعتزلة للإمام المهدي.

(1/54)


فالأوَّل: إِنْ منع تَصَوُّرُ معناه الشركةَ فيه؛ فجزئي حقيقي كزيد(1)، أو إضافي كالنوع باعتبار الجنس(2). وإلا فكلي؛ متواطئ إن استوى، كحيوان(3)، ومشكِّك إن تفاوت، كالموجود(4). ثم هو ذاتي وعرضي، كحيوان ومتنفِّس.
والثاني: المتباين، كأسد، وفرس، وثور، ومفترس، وصاهل، وحارث.
والثالث: إن كان حقيقة في مدلولاته؛ فمشترك كنظر، وناظر(5). وإلا فحقيقة ومجاز كبحر، وزاخر.
والرابع: المترادف، كقعود وجلوس، وقاعد وجالس. وكلها مشتق وغير مشتق.
(11) فصل وَالعَلَمُ ما وُضع لمعيَّن لا يتناول غيره بوضعٍ واحد، فإن كان التعيين خارجياً، فَعَلَمُ الشخص، كزيد، وإلا فعَلَمُ الجنس كأسامة(6)، فإن سبق له وضع في النكرات، فهو المنقُول كأسد(7)، وإلا فهو المُرتَجَل كعمران. واسم الجنس: ما وضع لشيء لا بعينه كرجل.
[مباحث في المشترك اللفظي]
__________
(1) لأن زيداً لما كان اسماً يُتَصَوَّر به شخص معين، امتنعت إمكانية الشركة فيه.
(2) كإنسان باعتبار جنسه الذي هو حيوان، وكذا حيوان باعتبار ما فوقه، أما باعتبار أفراده فهو متواطئ.
(3) فإن كلمة: حيوان تطلق على أفراده، كالبقرة والحصان والجمل وغيرها، على حد سواء.
(4) فإن ثبوت مسماه لواجب الوجود وهو الله، أولى من ثبوته لممكنه. وهو المخلوق.
(5) فالنظر مشترك بين الفكر والبصر، وناظر مشترك بين الناظر إلى الشيء والمنتظر له.
(6) وذلك لأن زيداً موضوع لشخص في الخارج، أما أسامة للأسد، فإنما هو موضوع للحقيقة الذهنية، لا لشخص منها معين.
(7) يعني: لمن سمي من الناس بأسد.

(1/55)


(12) فصل والمشترك: اللفظ الواحد /11/ الموضوع لحقيقتين فصاعِداً. (أئمتنا والجمهور): وهو ممكن عقلاً، واقعٌ لغةً وشرعاً. وأوجبَ قوم وقوعه، ونفاه (ثَعْلَب(1) وأبو زيد(2) والبلخي(3) والأبهري)(4) مطلقاً، وقوم في القرآن، وقوم فيه وفي السنة، (والرازي)(5) بين النقيضين.
__________
(1) ثعلب، هو : أحمد بن يحيى الأبهري، نحوي من المشاهير، توفي (209 هـ). معجم الأدباء 5/202 ـ 146.
(3) البلخي: أبو القاسم عبد اللّه بن أحمد بن محمود البلخي، المعروف بالكعبي، من مشاهير المعتزلة وكبار الأصوليين، توفي (309 هـ). الأعلام 4/189.
(4) الأبهري: أبو بكر محمد بن عبد اللّه بن محمد التميمي الأبهري أصوليٌّ مشهور، وهو شيخ المالكية في المغرب توفي (375 هـ). تاريخ بغداد 5/462.
(5) الرازي: هو أبو عبد اللّه محمد بن عمر بن الحسن الرازي المعروف بابن الخطيب الرازي، أصوليٌّ من الأشاعرة من أشهر كتبه في الأصول كتاب (المحصول)، توفي (606 هـ). وفيات الأعيان 3/ 381.

(1/56)


وهو: إما بوضع اللغة فقط، كشفق(1) أو العرف فقط، كدابة(2). أو الشرع فقط، كالصلاة(3)، أو باثنتين منها(4). (الشيخ، وحفيده)(5) وغيرهما: أو بمجموعها(6)، وذلك عند استواء استعماله فيها. وهو بعيد. ويكون بين ضدين، كجُوْن(7)، ونقيضين: كقُرْء(8)، ومختلفين، كعَيْن(9)، لا بين مجازين في الأصح(10).
ويعرف بالنص عليه(11)، أو بالاستدلال بسبق الفهم عند إطلاقه إلى معنيين فصاعداً، أو بحسن الاستفهام عنه(12).
والفرق بينه وبين المتواطئ - وإن كانت نسبتهما إلى مسمياتهما متساوية - أنّ مُسميات المتواطئ مشتركة في معنى يشملها، ومسميات المشترك مشتركة في اللفظ فقط.
__________
(1) الشفق: لفظ مشترك بين البياض والحمرة.
(2) فإنه مشترك في العرف يبن ذوات الأربع.
(3) فإنها مشتركة بين الصلوات الخمس وصلاة الجمعة وصلاة الجنائز وغيرها.
(4) فإما أن يكون لغوياً وعرفياً كالعدل، فإنه يفيد الفعل لغة والفاعل عُرفاً. وإما أن يكون لغوياً وشرعياً كالزكاة، فهي مشتركة بين المعنى اللغوي وهو النمو والزيادة، وبين المعنى الشرعي وهو إخراج قدر من المال مخصوص بنية مخصوصة. وإما أن يكون شرعياً عرفياً وهذا ليس له مثال؛ لأن العرفي والشرعي لابد فيه من لغوي.
(5) الحفيد: هو أحمد بن محمد بن حسن الرصاص، علامة أصولي من كبار الزيدية توفي (656هـ). طبقات الزيدية ـ خ ـ وأينما أطلق في هذا الكتاب فهو المراد.
(6) وذلك كالصلاة في إفادة الدعاء لغةً والرحمة عرفاً، والأذكار والأركان شرعاً.
(7) يطلق على: السواد والبياض.
(8) يطلق على: الطهر والحيض.
(9) تطلق على: الجارحة والجارية.
(10) لأن المجاز غير موضوع .
(11) من أهل اللغة حيث يقولون: هذا اللفظ مشترك بين كذا وكذا.
(12) كأن يقال: ماذا أردت بالقرء الطهر أم الحيض؟

(1/57)


(أئمتنا، والجمهور): ويصح إطلاقه حقيقةً على كل معانيه غير المتنافية مطلقاً. (أبو هاشم(1)، والكرخي(2)، وأبو عبد الله)(3): يمتنع مطلقاً. (الإمام، وأبو الحسين(4)، والشيخ) وبعض /12/ الأشعرية): يصح من حيث الإرادة لا اللغة. وقيل: يصح في النفي دون الإثبات(5). وقيل(6): في الجمع خاصًّة(7). (جمهور المتأخرين): يصح مجازاً.
__________
(1) أبو هاشم: هو عبد السلام بن محمد بن عبد الوهاب الجبائي من شيوخ المعتزلة، وكبار علمائهم في الأصول، توفي (331 هـ). طبقات المعتزلة للإمام المهدي.
(2) الكرخي: هو أبو الحسن عبيد اللّه بن الحسين بن دلال الكرخي أصولي مشهور، ولد بكرخ، وتوفي سنة (340 هـ). كشف الظنون 563.
(3) أبو عبد الله: هو أبو عبد اللّه الحسين بن علي بن إبراهيم الحنفي البصري، فقيه أصولي، ولد بالبصرة، وسكن ببغداد، وهو من مشاهير المعتزلة، توفي (369 هـ). الأعلام 2/245.
(4) أبو الحسين: هو أبو الحسين محمد بن علي الطيب المعتزلي، من مشاهير المعتزلة، وكبار علماء أصول الفقه، له كتاب (المعتمد) في أصول الفقه، توفي (436 هـ). تاريخ بغداد 3/100.
(5) فيقال: لا عين عندي، ويراد به: الذهب، والباصرة.
(6) في (ب) قيل: (ط وي). والظاهر أن (ط و ي) حاشية تبين أصحاب القيل: والمراد بـ (ط) الإمام أبو طالب، و(ي) الإمام يحيى بن حمزة.
(7) مثاله في الجمع: اعتدي بالأقراء، أو لا تعتدي بالأقراء. وأجيب على هذا بأن معناه: اعتدي بقرءٍ وقرءٍ وقرءٍ، فليس المراد بلفظ القرء كلا المدلولين. انظر المحصول 1/273.

(1/58)


(أئمتنا، والشافعي، وجمهور المعتزلة): فيجب حمله على جميعها عند تجرده عن القرينة؛ لظهوره فيها، كالعام، فلا إجمال فيه. (أئمتنا): ومنه (حديث الغدير)(1). وقيل: يحمل على أحدها على البدَل، فهو مجمل(2)، وسيأتي إن شاء اللّه تعالى. فأما المتنافية فيُحمل عليها على البَدَل حتى يظهر دليل الرجحان.
والخلاف في تثنيته وجمعه باعتبار معانيه(3) ينبني عند (الجمهور) على الخلاف في المفرد(4)، ومختار أكثر متأخري النحاه منعهما.
[مباحث الحقيقة والمجاز]
(13) فصل والحقيقة لغة: الراية، ونفس الشيء. واصطلاحاً: اللفظ المستعمل فيما وُضع له في اصطلاح به التخاطب.
وتنقسم إلى: لغوية كأسد للسَبُع. وعرفية عامَّة، وهي: ما لا يتعيَّن ناقلها كدابَّة لذات الأربع. أو خاصة: وهي ما تعيَّن ناقلها، كاصطلاح أهل كل عِلْم، نحو الجوهر للمتحيز الذي لا يقبل القسمة. وشرعية: كالصلاة للعبادة.
وإلى مفردة: وهي ما تفيد معنىً واحداً. ومشتركة/13/: وهي ما تفيد أكثر منه(5).
وإلى مشروطة، كالبَلَق(6). وتُسمى: المقَيَّدة. وغير مشروطة: كطويل(7)، وتُسمى: المطلقة.
__________
(1) وهو ما روي أن النبي (ص) استوقف أصحابه في غدير خم عند عودته من الحج وأخذ بيد علي، وقال: (من كنت مولاه فعلي مولاه). والاشتراك هنا في قوله: (مولاه)، فهي تطلق على أكثر من معنى.
(2) يعني أن قول النبي (ص) في حديث الغدير: فعلى مولاه يحمل على جميع معاني مولى. فيكون من قبيل المجمل لا المشترك.
(3) كقولك: عندي عيون. وأنت تريد: ناظرتين وجارية.
(4) هل يطلق على كل معانيه أم لا. وقد تقدم.
(5) ما تفيد معنى واحداً، مثل: إنسان، وما تفيد أكثر منه، مثل: قرء وعين.
(6) فإنه حقيقة فيما اجتمع فيه سواد وبياض بشرط أن يكون من الخيل .
(7) لأنه يصح إطلاقه على كل طويل.

(1/59)


(14) فصل والحقيقة الشرعيَّة ممكنة عقلاً، خلافاً (لِعَبَّاد)(1). واختلف في وقوعها، فعند (أئمتنا، والمعتزلة، وجمهور الفقهاء): أنها واقعة بالنقل عن معانيها اللغوية إلى معان مخترعة شرعية، فما نقل منها إلى أصول الدين؛ فحقيقة دينية، كمؤمن وفاسق. وما نقل منها إلى فروعه؛ فحقيقة فرعية، كالصلاة والصوم والزكاة والحج. (الباقلاَّني(2)، وبعض المرجئة)(3): لم تقع مطلقاً، بل هي باقية على حقائقها اللغوية لم تُنْقَل عنها(4). (الشيرازي(5)، وابن الحاجب(6)، والسبكي)(7): الفرعيّة واقعة لا الدينية. (الإمام، والغزالي(8)،
__________
(1) عباد: هو عباد بن سليمان الصيمري، من متكلمي المعتزلة، توفي حوالي (250 هـ). طبقات المعتزلة للإمام المهدي.
(2) الباقلاني: هو أبو بكر محمد بن الطيب بن محمد الباقلاني البصري، أصولي مشهور من الأشعرية، توفي (403 هـ). شذرات الذهب 3/16.
(3) المرجئة: قال الشهرستاني في الملل والنحل ج1/139: الإرجاء تأخير حكم صاحب الكبيرة إلى يوم القيامة، فلا يقضى عليه بحكم ما في الدنيا من كونه من أهل الجنة أو من أهل النار. والمرجئة طائفة تدين بذلك.
(4) حكي عن الباقلاني أن دلالة اللفظ على الحقيقة الشرعية من باب المجاز لا الحقيقة.
(5) الشيرازي: أبو إسحاق إبراهيم بن علي الفيروز أبادي من متكلمي الأشعرية، توفي (476 هـ). وفيات الأعيان: 1/4.
(6) ابن الحاجب: أبو عمرو عثمان بن عمرو بن أبي بكر الكردي المالكي، نحوي أصوليٌّ بارع، من أشهر كتبه في أصول الفقه (مختصر المنتهى)، توفي (664 هـ). وفيات الأعيان 1/314.
(7) السبكي هو: القاضي علي بن عبد الكافي الخزرجي الأنصاري المعروف بالسبكي، من كبار علماء الشافعية، وتوفي بالقاهرة (سنة 756هـ) انظر ذيل تذكرة الحفاظ لأبي المحاسن الدمشقي.
(8) الغزالي: الإمام أبو حامد محمد بن محمد الغزالي، من كبار علماء الأصول، ولد سنة (459 هـ) وتوفي (505 هـ)هـ. وفيات الأعيان 3/ 353.

(1/60)


والرازي): تدل على المعنيين اللغوي والشرعي معاً.
ثم اختلفوا؛ فـ(الإمام، والغزالي): تدل عليهما حقيقة. (الرازي): تدل على اللغوي حقيقة، وعلي الشرعي مجازاً، وتوقف (الآمدي)(1).
وتكون متواطئة كالحج(2)، ومشتركة كالصلاة(3).
(15) فصل واللفظ المراد به اللازم إن قامت قرينة على عدم إرادة ما وُضِعَ له فمجاز، وإلا فكناية /14/. وهي: لفظ أريد به لازم ما وضع له مع جواز إرادته معه، كطويل النَّجَاد(4).
والمجاز لغة: العُبُور، واصطلاحاً: اللفظ المستعمل في غير ما وضع له في اصطلاح به التخاطب(5)، على وجه يصح(6)، مع قرينة عدم إرادته.
وينقسم إلى: لغوي، كأسد للشجاع. وعرفي عام: كدابة لكل ما دَبَّ. أو خاص: كاستعمال اصطلاح أهل كل علم في غيره، كالجوهر للنفيس(7). وشرعي كالصلاة للدعاء.
__________
(1) الآمدي: هو أبو الحسن علي بن محمد بن سالم التغلبي، سيف الدين الآمدي، من مشاهير علماء الشافعية في الأصول. توفي (631هـ). طبقات الشافعية 5/129.
(2) فهو يطلق على: التمتع، والإفراد، والقران.
(3) فهي مشتركة بين الصلوات الخمس، وصلاة الجمعة، وصلاة العيدين، وصلاة الجنائز.
(4) هذا يعني أن الكتابة استعمال اللفظ فيما وضع له ولكن المستعمل يريد لازم المعنى الموضوع له.
(5) أما قوله: باصطلاح به التخاطب، فالمراد به دخول المجاز المستعمل فيما وضع له في اصطلاح آخر، كلفظ الصلاة إذا استعمله المخاطب بعرف الشرع في الدعاء مجازاً، فإنه وإن كان مستعملاً فيما وضع له في الجملة، فليس مستعملاً فيما وضع له في الاصطلاح الذي وقع به التخاطب.
(6) معنى استعمل على وجه يصح أن يكون مع العلاقة المعتبر نوعها، فيخرج الغلط كقولك: خذ هذا الكتاب. مشيراً إلى الثوب.
(7) إذا استعمله المتكلم للنفيس، مع أنه عنده الذي لايقبل القسمة.

(1/61)


(16) فصل وهو واقع، خلافاً (للفارسي(1)، والإسفرائيني)(2) مطلقاً، و(للإمامية(3)، والظاهرية) في الكتاب، و(للظاهرية) في السنة، وحملوا المجازات الواردة على الحقيقة. (ابن جني)(4): وهو الأغلب في اللغة.
__________
(1) الفارسي: هو أبو علي الحسن بن أحمد بن عبد الغفار النحوي من كبار علماء النحو واللغة العربية وأصول الفقه توفي ببغداد عام (377 هـ). إنباه الرواه 1/273.
(2) الإسفرائيني: هو أبو إسحاق وقيل: هو أبو حامد أحمد بن محمد بن أحمد أصولي مشهور، توفي (406 هـ).
(3) ينظر في نسبة منع المجاز في القرآن إلى الإمامية فكثير من كتبهم تحكي خلاف ذلك. والمراد بالإمامية: الطائفة الإثنا عشرية، وهي التي تعتقد أن النبي (ص) نص على إمامة إثني عشر إماماً بأسمائهم وصفاتهم.
(4) ابن جني: هو أبو الفتح عثمان بن جني من أئمة النحويين، من أشهر كتبه في النحو كتاب (الخصائص) توفي (392 هـ).

(1/62)


ويقع في المفرد والمركب كالحمار للبليد، وَشابَت لِمَّةُ الليل(1). ومنعه (السكّاكي(2)، وابن الحاجب): في التركيب(3).
__________
(1) فإن هذه الجملة تطلق لظهور الفجر، وإسناد الشيب للمة الليل كلاهما مجاز.
(2) السكاكي ، هو: يوسف بن أبي بكر بن محمد بن علي أبو يعقوب الخوارزمي، كان إماماً كبيراً عالماً متبحراً فى النحو والتصريف، وعلمي المعاني والبيان والعروض والشعر، توفي سنة ست وعشرين وستمائة رحمه الله تعالى. طبقات الحنفية1/225.
(3) أي المجاز الذي يكون في الإسناد، لا المجاز المركب مطلقاً، فإن السكاكي لم يمنعه كما هو معروف مصرح به في (المفتاح)، وأما المجاز العقلي أعني المجاز في الإسناد، في نحو: أنبت الربيع البقل، فإنه قال : الذي عندي نظمه في سلك الاستعارة بالكناية، بجعل الربيع استعارة بالكناية عن الفاعل على الحقيقة بواسطة المبالغة في التشبيه، وجعل سبب الإنبات إليه قرينة الإستعارة . وابن الحاجب حكم بأن التجوز في المسند لافي الإسناد، فجعله مجازاً عن المعنى الذي يصح اسناده إلى المسند إليه المذكور، مثلاً جعل الانبات في قولنا: أنبت الربيع البقل. مجاز عن السبب العادي، والجد في قولنا: جد جده. عن الاشتداد أي اشتد جده. كذا في هامش الفصول.

(1/63)


وإنما يُعْدَل عن الحقيقة لأمرٍ يرجع إليها، كثقلها(1) أوجهلها(2)، أو نحو ذلك كبلاغته(3) أو شهرته(4) أو نحو ذلك(5).
(17) فصل ولا بد من علاقة بين المدلول الحقيقي والمجازي، فإن كانت غير المشابَهة بينهما؛ فالمجاز المرسل، وإلا فالاستعارة، فإن ذكر فيها المشبه به فالتحقيقية /15/، وإن ذكر المشبه؛ فالمكنى عنها.
وقد حُصرت العلاقة بحسب الاستقراء في ثلاثة وعشرين نوعاً:
إطلاق اسم أحد المتشابهين على الآخر، إما في شكل كالإنسان على الصورة، أو في صفة ظاهرة، كالأسد على الشجاع، لا على الأبخر(6) لخفائها. وتسمية الشيء باسم ما كان عليه، كالعبد. وباسم ما يَؤُول إليه، كالخمر. وإطلاق اسم المحل على الحال، نحو جَرَى المِيْزَاب. وعكسه(7). وإطلاق السبب على المسبب(8)
__________
(1) ثقلها، كالْخُنْفقيق، اسم للداهية، فيعدل عنه إلى الحادثة، فإن الحدوث لازم لها.
(2) وجهلها، كإطلاق: (المشفر) على شفة الإنسان، لجهل المتكلم والسامع باسمها الحقيقيَّ، مع العلم بأن الموضوع له الحقيقي غير لفظ المشفر وهو الشفة.
(3) نحو: رأيت بدراً فإنه أبلغ من قولك: رأيت إنساناً كالبدر.
(4) بأن يكون أشهر من الحقيقة كالمشفر لشفة الإنسان، وهو في الحقيقة لشفة البعير.
(5) كأن يستبشع التصريح بها، نحو: ?أو لامستم النساء?، فإنما عدل عن الحقيقة لشناعتها على اللسان ومجانبتها الخلق والحياء.
(6) الأبخر هو: الذي يخرج يشم نتن من فمه.
(7) نحو: ?ففي رحمة اللّه هم فيها خالدون?[آل عمران: 107]، أي: في الجنة التي حلت بها الرحمة، فأطلق الحالّ على المحل.
(8) نحو: رعت الماشية الغيث ـ أي النبات ـ قال الشاعر:

... ... ... إذا سقط السماء بأرض قوم ... رعيناه وإن كانوا غضاباً

(1/64)


. وعكسه(1). واسم الكل على البعض(2). وعكسه(3). والمطلق على المقيد(4). وعكسه(5). والخاص على العام(6). وعكسه(7). وحذف المضاف مع إقامة المضاف إليه مقامه، أو من دون إقامته(8)، ويسمى مجاز النقص. وعكسه(9)
__________
(1) نحو: أمطرت السماء نباتاً، أي: مطراً.
(2) نحو: ?يجعلون أصابعهم في آذانهم?[البقرة:19]، وإنما جعلوا أناملهم، وهي: رؤوس الأصابع.
(3) نحو: ?فتحرير رقبة مؤمنة?[النساء: 92]، والمراد عبد أو أمة.
(4) نحو قول الشاعر:
فيا ليت كل اثنين بينهما هوى ... من الناس قبل اليوم يلتقيان
... ... يعني قبل يوم القيامة.
(5) نحو قول شريح: أصبحت ونصف الناس علي غضبان. يريد: أن الناس محكوم عليه ومحكوم له، فالمحكوم عليه غضبان، لا نصف الناس على التعديد.
(6) نحو قوله تعالى ـ حاكياً عن محمد ـ: ?وأنا أول المسلمين? ولم يرد الكل؛ لأن الأنبياء قبله كانوا مسلمين.
(7) نحو قوله تعالى: ?وحسن أولئك رفيقاً? ـ أي: رفقاء.
(8) إقامة المضاف إليه مقامه نحو: ?واسأل القرية? ـ يعني أهلها، أو من دون إقامته نحو: ?تريدون عرض الدنيا والله يريد الآخِرَةِ? ـ يعني: واللّه يريد عرض الآخرة.
(9) وهو حذف المضاف إليه نحو قوله:
أنا ابن جلا وطلاع الثنايا ... متى أضع العمامة تعرفوني
يعني ابن رجل جلا.

(1/65)


. واسم آلة الشيء عليه(1). واسم الشيء على بدله(2). والنكرة على العموم(3). واسم الضدين على الآخر(4). وإطلاق المُعَرَّف على المُنَكَّر(5). والحذف(6) والزيادة، ويسمى مجاز الزيادة(7). ولا يخفى تداخل بعضها(8).
(18) فصل والنّقل شرطٌ في هذه الأنواع(9) اتفاقاً، دون أفرادها، وقيل: يشترط فيها، وتوقف (الآمدي).
فأما امتناع: نخلة لطويل غير إنسان(10)، وشبكة للمَصِيد(11) /16/، وابن للأب(12) وعكسه(13)، فلعدم تحقق العلاقة إن صح الامتناع.
__________
(1) نحو: ?واجعل لي لسان صدق في الآخرين? ـ يعني ذكراً حسناً فأطلق اسم اللسان الذي هو آلة على الذكر الحسن.
(2) نحو: فلان أكل الدم. إذا أكل الدية؛ لأن الدية بدلٌ عن الدم.
(3) نحو: ?علمت نفس ما قدمت? ـ يعني كل نفس.
(4) نحو: ?وجزاء سيئة سيئة مثلها? [الشورى: 40] فسمى الجزاء سيئة.
(5) كقوله تعالى: ?ادخلوا الباب سجداً? أي باباً من الأبواب.
(6) نحو ?يبين اللّه لكم أن تضلواْ? ـ أي كراهة أن تضلوا.
(7) نحو: ?ليس كمثله شيء? أي: ليس مثله شيء.
(8) أهمل صاحب الغاية منها: مجاز النقص وعكسه، والنكرة والمعرف باللام، والحذف والزيادة، معللاً ذلك بعدم صدق حد المجاز عليها. راجع شرح الغاية 1/261 ـ 262.
(9) يعني أن النقل عن العرب شرط في أنواع العلاقة التي لأجلها يصح التجوز، كالكلية والجزئية، لا خصوص أفرادها، كالإصبع على رأس الأنملة.
(10) أي مع المشابهة.
(11) أي من كونه من تسمية الحال باسم المحل.
(12) أي مع كونه سبباً له، وكون الابن مسبباً عنه.
(13) يعني تسمية أب للابن، باعتبار ما سيئول إليه.

(1/66)


(19) فصل وتعرف الحقيقة: إما بالنص عليها بعينها(1)، أو بحد شامل، أو بذكر خاصيّة(2)(3). وإما بالاستدلال بسبقها إلى الفهم(4) من دون قرينة. أو عُرُوِّها عنها عند الاستعمال.
ويعرف المجاز: بالنص عليه كذلك، أو بالاستدلال بسبق غيره إلى الفهم، راجحاً لولا القرينة. أو باستحالة قيامه بما عُلِّق به(5)، وفي مَعْرِفَتِهِ بِصَحَّة نفيه ـ كقولهم للبليد: ليس بحمار ـ وجَمْعِه على خلاف جمع الحقيقة ـ كأمور جمع أمر للفعل، وامتناع أوامر(6) ـ، وَعَدَمِ الاشتقاق منه(7)، وعَدَم إطِّراده في مدلوله(8)
__________
(1) كأن يقال: هذا اللفظ لا يحتاج إلى قرينة. أو هذا يصح التجوز عنه.
(2) أي بعينه أو بحد أو بخاصة.
(3) كأن يقال: هذا اللفظ لا يحتاج إلى قرينة. وهذا يصح التجوز عنه.
(4) أي بعينه أو بحد أو بخاصة.
(5) كالمجاز العقلي نحو: ?جداراً يريد أن ينقض?[الكهف:77] فإنه يستحيل قيام الجدار بالإرادة.
(6) الأمر يطلق على الفعل مجازاً، ويجمع على: (أمور)، يقال: حدث أمر عظيم. أي: حدث جسيم. ويطلق على القول حقيقة، وهو صيغة أفعل، ويجمع على: (أوامر). ويعني هنا أنه لما امتنع جمع أمر للفعل على أوامر، علم أن المراد به المجاز لا الحقيقة. وشكك غير واحد في صحة هذا المثال. أنظر شرح الغاية 278. وهناك مثال آخر وهو: لفظ اليد إذا أطلق مجازاً على النعمة، فإنه يجمع على أيادي بخلاف الحقيقة، فإنه يجمع على أيدي إذا أريد به الحقيقة، يعني الجارحة.
(7) وذلك بأن يُعلم له معنى حقيقي وقد اشتُق من ذلك اللفظ باعتبار ذلك المعنى. ولم يشتق منه باعتبار معنى له آخر متردد في كونه فيه حقيقة أو مجازاً؛ كأمر فإنه اشتق منه بمعنى القول إذ قيل: آمر ومأمور ولم يشتق منه بمعنى الفعل. فيكون في الفعل مجازاً لعدم الإشتقاق منه بهذا المعنى.
(8) بأن يستعمل لوجود معنى في محل، ولا يجوز استعماله في محل آخر، مع وجود ذلك المعنى فيه، كـ: (نخلة) تطلق على إنسان لطوله، ولا تطلق على الجبل مع طوله.

(1/67)


؛ خِلافٌ.
(20) فصل (القاسمية(1)، والشافعي): ويصح أن يراد باللفظ حقيقته ومجازه، كالمسِّ، إذ لا مانع عقلي ولاَ لغوي، خلافاً (لأبي حنيفة، وأبي هاشم، وأبي عبد الله).
(21) فصل والأعلام ليست بحقيقة ولا مجاز، وكذا غيرها من الألفاظ، بعد الوضع وقبل الاستعمال لا بعده؛ فلا يخلو عنهما أو عن الكناية.
ولا تستلزم الحقيقة مجازاً اتفاقاً بين الأصوليين؛ إذ من الحقائق ما لا مجاز له(2) /17/، واخْتُلِف في استلزام المجاز لها، والمختار - وفاقاً (للجمهور) -: أنه لا يلزم، كالرحمن(3) وعسى(4).
(22) فصل والقرينةُ لغةً: بعيرٌ صعبٌ يُقرن بذلول. واصطلاحاً: ما أوجب صرفاً(5) أو تخصيصاً(6)، قيل: أو تكميلاً(7). وتنقسم في نفسها إلى: لفظية، ومعنوية.
__________
(1) القاسمية، هم: المتفقهون على أصول وفتاوى الإمام القاسم بن إبراهيم الرسي رضي الله عنه. تخريجاً وتفريعاً، تحدثنا عنهم في المقدمة.
(2) مثل الأسماء المبهمة، كالمذكور والمعلوم والمجهول.
(3) فإنه مجاز في الباري تعالى، ولم يستعمل في حقه تعالى على الحقيقة إذ معناه ذو الرحمة، ومعناها الحقيقي لا وجود له فيه تعالى، لأن معناها رقة القلب ولم يستعمل في غيره، وأما قولهم رحمان اليمامة فليس باستعمال صحيح. ذكر ذلك في شرح الغاية 1/287.
(4) وحبذا ونحوها من أفعال المدح؛ فإنها أفعال ماضية وقد انسلخت عن الدلالة على الزمان والحدث، فهي مستعملة في غير ما وضعت له. والإجماع على أن كل فعل موضوع لحدث وزمان معين، ولم يوجد استعمالها في ذلك بعد الإستقراء على أن عدم استعماله في المعاني الزمنية معلوم من اللغة.
(5) أي عن معناه الحقيقي إلى المجاز.
(6) أي لبعض معانيه بأن يراد به بعضها وذلك في المشترك والعام.
(7) سيأتي شرح المكملة والتمثيل لها.

(1/68)


فاللفظيَّة: اللفظ المستعمل لدفع الاحتمال في غيره، وتكون (متصلة)، وهي غير المستقلة بنفسها، كتخصيص عموم الكتاب أو السنة بالإستثناء، أو الصِّفَة، أو الشَّرط، أو الغاية. و(منفصلة): وهي المستقلة بنفسها كتخصيص عمومهما بالمستقل منهما أو بالإجماعين اللفظيين.
والمعنوية: الموضحة لإبهام ما سبق من غير لفظ، وتكون: (عقلِيَّة)، ضرورية، وهي: المستندة إلى العقل بلا واسطة نظر، نحو: ? تُدَمِّرُ كُلَّ شَيْءٍ?[الأحقاف:25] وتسمى الحاليِّة. واستدلالية: وهي المستندة إليه بواسطة النظر كالمخصصة لغير المكلَّفين من عموم خِطاب التكليف وما يترتب عليه كالوعيد. (وسمعيَّةٌ) وهي: المُسْتَنِد إيضاحها إلى السمع، كالفعل، والترك، والتقرير المخصِصَة لعموم الشرع(1). (وعرفيَّةٌ): وهي المستنِدَة إلى العرف، وتسمى العادية(2).
__________
(1) مثال الفعل: ما روي عن النبي صلى اللّه عليه وآله وسلم أنه نهى عن استقبال القبلتين بقضاء الحاجة، ثم رؤي وهو يقضي حاجته وهو مستقبل القبلة. ومثال الترك: ما ورد من أن النبي صلى اللّه عليه وآله وسلم توضأ وغسل كل عضوٍ من أعضاء الوضوء ثلاثاً، ثم توضأ وغسل كل عضو مرة، ثم مرتين، فكان الترك لغسل المرتين قرينة عدم الوجوب. ومثال التقرير ما روى أنه صلى اللّه عليه وآله وسلم نهى عن الصلاة بعد العصر، ثم رأى من يصلي بعد العصر، فقال: ما هذه الصلاة؟ فقال المصلي ركعتا الظهر، فسكت النبي صلى اللّه عليه وآله وسلم.
(2) مثاله: من حلف أنه لا يأكل اللحم، وفي عرفه أن السمك ليس بلحم، فإنه إذا أكله لم يحنث.

(1/69)


وتنقسم باعتبار فائدتها إلى: رافعة، وهي: الموجبة صرف اللفظ عن ظاهره، لفظية كانت أو معنوية(1)، وتختص بالمجاز. ومخصصة /18/: وهي الموجبة قصر العام على بعض مدلوله، والمشترك على أحد محتملاته، وتختص بهما(2). قيل: وإلى مكَمِّلة، وهي تمام فائدة خطاب بخطاب(3) أو بغير خطاب كعلل القياس(4)، ونحوها من التعلقات المخصوصة(5).
[مباحث في المترادف]
(23) فصل وَالمتَرادف: لفظان فصاعداً لمعنى واحدٍ، وهو وَاقعٌ عند (أئمتنا، والجمهور)، خلاَفاً (لثعلب، وابن فارس)(6). ويقع كل منهما مكان الآخر إلا في المتعبَّد به(7)، وتكون من واضعٍ أو واضعين.
وفائدته: التوسعة، وتيسير النظم والنثر، والتجنيس.
__________
(1) اللفظية مثل: رأيت أسداً يرمي، وغير اللفظية مثل: ?واسأل القرية?.
(2) أي: العام والمشترك.
(3) في (أ): فائدة بخطاب. ولعل الصواب ما أثبته، قال في النظام: قال في المسودة: نحو أن يرد خطاب بعصيان مخالف الأمر، وخطاب آخر بأن العاصي في النار، فيعلم أن مخالف الأمر في النار. ونظَّره بأن كل واحد من الخطابين مستقل بفائدته، وإنما الخطاب الثالث لازم للخطابين معاً. أما في الدراري: فقد جعل ذلك ثلاثة ضروب، فلتراجع.
(4) وذلك كما ورد في الخبر النبوي: (لا تبيعوا البر بالبر..)، فإنه ألحق بالأشياء المذكورة كل مكيل للاشتراك في العلة. واعترضه الجلال.
(5) وذلك نحو أن يخاطب النبي صلى اللّه عليه وآله وسلم بخطاب له معنيان لغوي وشرعي، وهما في الإستعمال على سواء، كقوله: (الوضوء مما مست النار)، فإنا نحمل مراده على المعنى الشرعي؛ لأنه منفذ لتعاليم الشريعة، ما لم تقم قرينة على خلافه.
(6) ابن فارس: هو أبو الحسين أحمد بن فارس بن زكريا القزويني، نحوي ولغوي مشهور، توفي (393 هـ). يتيمة الدهر 3/214.
(7) فإنه يجب النطق به كما تعبدنا به.

(1/70)


والأصح أن الحد والمحدود، ونحو: شيطان ليطان، غير مترادفين(1).
(24) فصل والإشتراك، والنقل، والمجاز، والإضمار، والتخصيص، والنسخ، خلاف الأصل(2)، واحتمال قول المتكلم لأحدها، هو الْمُخِل بفهم مراده، ولا خلل مع انتفائها(3).
وإذا دار اللفظ بين الإشتراك والمجاز(4) فالمجاز أولى لغلبته. وقيل: بل الإشتراك. (الإمام): يُوكل إلى نظر الفقيه.
[مباحث في المشتق]
(25) فصل والمشتق: ما وافق أصلاً بحروفه الأصول ومعناه بتغييرٍ مَّا(5)، وقد يطَّرد بحسب الوضع اللغوي(6)، كاسم /19/ الفاعل ونحوه، وقد يختص(7)، كالقارورة ونحوها.
__________
(1) يعني أن الحد لفظ، والمحدود معنى، وشيطان اسم، وليطان تابع فقط.
(2) يعني أن من ادَّعى ثبوت أحدها فعليه القرينة، والصواب مع مدعي عدم ثبوت أحدها؛ لأن الأصل عدمها.
(3) أي انتفاء الإشتراك والنقل والمجاز.. الخ
(4) كالنكاح، فإنه يحتمل أنه حقيقة في الوطء مجاز في العقد، ويحتمل أنه مشترك بينهما.
(5) بتغير في حرف أو حركة أو فيهما، نحو: ضَرْب، وضُرِبَ، وكِتَابة، ومَكْتُوب.
(6) يعني أنه متى وجد المعنى المشتق وجد الاسم، ومتى انتفى انتفى، فعالم وقادر وحي مشتقة من: العلم والقدرة والحياة، وهي مطردة بحسب الوضع اللغوي، في كل عالم وحي وقادر، لوجود المعنى وهو العلم والحياة والقدرة.. ويرى الرازي أن عالماً وقادراً وحياً تطلق على اللّه تعالى من غير اشتقاق عن العلم والقدرة والحياة؛ لأن المسمى بهذه الأسماء هي المعاني التي توجب العالمية والقادرية والحيية، وهذه المعاني غير ثابتة لله تعالى. راجع المحصول 1/239.
(7) بمعنى أنه لا يطَّرد، فلا تطلق قارورة إلا على ما استقر فيه الماء من الزجاج، ولا يقال لإناء النحاس أو الخزف: قارورة، وإن وجد فيه المعنى، وهو الاستقرار.

(1/71)


(26) فصل (الجمهور): ويشترط في كون المشتق حقيقة بقاء معناه مطلقاً(1). (أبو هاشم، وابن سيناء)(2): لا يشترط مطلقاً. وقيل: إن كان بقاؤه ممكناً بوجود أجزائه دفعة، كضارب(3) أُشْتُرِط، وإلا فلا، كمتكلم(4). وهو في المستقبل مجاز اتفاقاً(5).
__________
(1) أي معنى أصله المشتق منه، فلا يطلق ضارب إلا مع بقاء معناه، وهو الضرب لا قبله، ولا بعده فيكون مجازاً أو لا يصح إطلاقه، أو معناه في نفسه، ومطلقاً سواء كان بقاؤه ممكناً أو لا.
(2) ابن سينا، هو: الشيخ الرئيس أبو علي الحسين بن عبد الله الشهير بابن سينا، العلامة الفيلسوف، توفي سنة ثمان وعشرين وأربعمائة. كشف الظنون 1/94.
(3) لأن الضرب يوجد دفعة.
(4) لأن التكلم لا يتصور حصوله إلا بحصول أجزائه، وهي الحروف أولاً بأول.
(5) يعني أن المشتق في المستقبل مجاز، فلا يقال: ضارب للذي سيضرب، إلا على وجه المجاز.

(1/72)


(27) فصل(1) والمعنى القائم بمحل، إن لم يكن له اسم مخصوص، كأنواع الرَّوائح، لم يُشتق منه اسم لمحله(2)، واختلف فيما له اسم مخصوص، فعند (أئمتنا، والمعتزلة): لا يجب أن يشتق منه اسم لمحله(3)، ويصح الإشتقاق منه لغَيره، وهو فاعله كمتكلم(4)، وخالفَت (الأشعرية) في الأمرين(5).
__________
(1) هذا الفصل والذي بعده أصلان مهمان من أصول علم الكلام.
(2) فالرائحة التي تصعد من إحدى أنواع الورود لا يشتق منها اسم لتلك الوردة، لأنه ليس لتلك الرائحة أسماء، وإنما يكتفى فيها بالتقييد، فيقال: رائحة كرائحة ورد كذا.
(3) وذلك كالكلام الذي خلقه اللّه في الشجرة لموسى (ع)، فإنه لا يصح أن تسمى الشجرة بسبب قيامه فيها: متكلمة، وكذلك القتل، فإنه معنى يقوم بالمقتول، ولا يشتق له منه اسم، فلا يقال للمقتول: قاتل.
(4) فالكلام المخلوق في الشجرة يصح أن يشتق منه اسم لغير محله ـ وهو الشجرة ـ فيوصف اللّه أنه متكلم بذلك الكلام؛ لأنه خلقه.
(5) فأجازوا الاشتقاق لمجرد قيام المعنى بالمحل، ومن هنا جعلوا: فاعل بالنسبة للعبد صحيحاً، وإن لم يكن فاعلاً حقيقة عندهم، وإنما قام به الفعل بخلق الله، لكن لأنه محل صح اشتقاق لفظ فاعل له، وتأولوا نسبة الأفعال للعبد الواردة في القرآن لذلك، ومنعوا الاشتقاق من المعنى لغير محله وهو الفاعل، فلم يطلقوا متكلم في حق الله تعالى على معنى فاعل الكلام، كما هو رأي العدلية، بل على معنى قام به الكلام كما في العلم عندهم.

(1/73)


(28) فصل ومدلول الوصف المشتق ذات مَّا مُتَّصِفَة بالمشتق منه، من غير إشعار بخصوصيتها، فالأسود إنما يدل على ذات متصفة بالسواد من دون خصوصية، كالجسميّة أو غيرها(1)، ومن ثَمَّ قال (أبو هاشم): لو قُدِّرَ أنه تعالى مرئيٌ لم يلزم مجانسته للمرئيات، وقال (أبو علي)(2): يلزم(3).
(29) فصل وما ثبت التعميم فيه بالنقل جامداً كرجلٍ، أومُشْتقاً كعَالِم، أو بالإستقراء كرفع الفاعل؛ فمتفق على اطَّراده(4).
__________
(1) وتحقيقه أن مفهوم الأسود ـ مثلاً ـ شيء ما، له السواد، من غير دلالة في اللفظ على خصوصية كونه إنساناً، أو جسماً أو غيره.
(2) أبو علي، هو : محمد بن عبد الوهاب الجبائي والد أبي هاشم من كبار شيوخ المعتزلة، مشهور بالعلم والزهد والورع، وتنسب إليه البعلوية من المعتزلة، وهو من مشائخ أبي الحسن الأشعري، توفي (303 هـ). وفيات الأعيان 1/480.
(3) هذا الفصل أصل مهم في مسألة الصفات الإلهية، بين أهل الإثبات وأهل النفي، فالمثبتون يرون أنه لا يلزم من إثبات أصل لفظ الصفة غير المعنى العام، دون خصوصيات المحل الذي اتصف به، فكل له خصوصية، ولهذا يثبتون أصل الصفة مع نفي خصوصية الموصوف، كالجسمية ونحوها، فيقولون: يتعجب لا كتعجبنا، ونحو ذلك، بينما النافون يرون الخصوصية تابعة لأصل الصفة، ولا يجردونها عنها، ولذلك ينفون الصفة نفياً للخصوصية.
(4) لأن النقل قد دل على أن كل ذكر من بني آدم يجوز إطلاق: (رجل) عليه، وكذلك دل على أن كل ذات قام بها العلم يطلق عليها لفظ عالم، وكذلك كون الفاعل مرفوعاً والمفعول منصوباً ونحو ذلك.

(1/74)


واختلف في إثبات الأسماء اللغوية /20/ بقياس لغوي، فيسمَّى - لغَةً -: المسكوت عنه باسم غيره بجامع بينهما، كالنبيذ خمراً للتخمير، والنبَّاش سارقاً للأَخْذِ خفية، واللائط زانياً للإيلاج المحرم. والمختار: منع ذلك، إلا بالنقل والإستقراء، وِفاقاً (للجويني، والغزالي، والآمدي، وابن الحاجب)، وخلافاً (للمنصور، والباقلاني، وابن سريج(1)، وابن أبي هريرة(2)، والرازي، وجمهور أئمة العربية). وليس المجاز من ذلك؛ إذ العلاقة فيه مصححة للتجوز كرفع الفاعل. فأما إثبات الأسماء الشرعية بقياس شرعي فجائز على الأصح كما يأتي(3).
(30) فصل في الحروف
__________
(1) ابن سريج، هو: أبو العباس أحمد بن عمر بن سريج البغدادي القاضي، من أئمة الشافعية بالعراق له مصنفات كثيرة، توفي سنة ثلاث وثلاثمائة. سير أعلام النبلاء 14/201.
(2) ابن أبي هريرة، هو: الحسن بن الحسين القاضي أبو علي بن أبي هريرة البغدادي، أحد أئمة الشافعية، مات ببغداد في رجب سنة خمس وأربعين وثلاثمائة. طبقات الشافعية 2 /126.
(3) وذلك كتسمية صلاة الجنازة: صلاة، قياساً على الصلوات الخمس.

(1/75)


الواو: للجمع المطلق. عند (أكثر أئمتنا، والجمهور)، ولا يكون مُتْبَعِها في الحكم محتملاً للمعيَّة برجحان، وللتأخر بكثرة، وللتقدم بقلة، خلافاً (لبعض النحويين)، ولا للترتيب، خلافاً (لأبي طالب(1)، والشافعي، والفرَّاء(2)، وثعلب، وأبي عبيد)(3)، وعن (الفرَّاء) أنها: للترتيب حيث يستحيْل الجَمْعُ من مفردٍ أو جملة(4)، ولا للمعيَّة. قيل: وقد تُزَاد(5).
والفاء: للتعقيب خلافاً (لبعض النحويين) (من غير مهلة غالباً)(6)، وقد تقع موقع: ثم(7)، وتفيد السببيَّة حيث يعطف بها جملة أو صفة(8).
__________
(1) أبو طالب الإمام الناطق بالحق يحيى بن الحسين بن محمد بن هارون البطحاني من عظماء أئمة الزيدية وكبار علمائهم، ومن أشهر كتبه كتاب (المجزي) في أصول الفقه، توفي (424 هـ).
(2) الفراء، هو: العالم النحوي الشهير أبو زكريا بن عبد الله بن منصور السلمي الديلمي الكوفي، تلميذ الكسائي، من كبار علماء النحو واللغة، توفي سنة سبع ومأتين. معجم الأدباء 20/10.
(3) أبو عبيد، هو: القاسم بن سلام أبو عبيد البغدادي، أحد أئمة الفقه واللغة، وصاحب تصانيف شهيرة، أخذ عن الشافعي والكسائي، توفي بمكة سنة أربع وعشرين ومائتين. طبقات الشافعية 2/ 67.
(4) نحو: راكع وساجد للمفرد، واركعوا واسجدوا للجملة.
(5) نحو: ?حتى إذا جاؤها وفتحت أبوابها?، وهذا عند الكوفيين.
(6) ما بين القوسين ساقط من نسخة النظام. والتعقيب معناه: أن الذي بعدها واقع عقب الذي قبلها بغير فاصل بينهما، وسواء كان بين الاثنين وقت قصير أم طويل، لأن ذلك يختلف باختلاف المتعاقبين، فالأول نحو: جاء زيد فعمرو. والثاني نحو: تزوج زيد فولد له ولد. وأراد بقوله: غالباً، ما يكون بمهلة.
(7) نحو: توضأ زيدٌ فغسل وجهه ويديه. أي ثم غسل وجهه ويديه.
(8) مثال الجملة: ?فوكزه موسى فقضى عليه?. ومثال الصفة: ?لآكلون من شجر من زقوم فمالئون منها البطون?.

(1/76)


وثُمَّ: تشارك الفاء في الترتيب على الأصح، وتنفرد بالمهلة على الأصح، وقد تقع موقع الفاء، وفي عطف المقدم بالزمان اكتفاء بترتيب اللفظ(1). (المؤيد بالله)(2): وقد تقع موقع الواو.
وحتى: ومعطوفها بعض متبوعه أو كبعضه(3)، وغاية له في زيادة أو نقص(4)، ولا تقتضي ترتيباً خلافاً (للزمخشري).
وأو، وإمَّا: لشكٍ أو تشكيكٍ أو تقسيم أو إبهام أو تخيير(5)، وإذا استعملتَا فيما أصله الْحَظْر امتنع الجمع بين المعطوف والمعطوف عليه، لا ما أصله الإباحة(6)، وقد تكون أو بمعنى إِلاَّ(7). (الهادي) عليه السلام /22/: وبمعنى الواو(8).
__________
(1) نحو: أعطيتك درهما، ثم درهماً قبله.
(2) المؤيد بالله، هو: الإمام أبو الحسين أحمد بن الحسين الهاروني، أحد عظماء أئمة الزيدية في الجيل والديلم، له تصانيف في مختلف العلوم، توفي سنة إحدى عشرة وأربعمائة.
(3) أما كون معطوفها بعض متبوعه، فنحو: قرأت الكتاب حتى خاتمته. وأما كبعضه فنحو: أعجبتني القصة حتى مغزاها.
(4) مثال الزيادة: مات الناس حتى الأنبياء. ومثال النقص: نجح الطلاب حتى الكسالى.
(5) مثال الشك والتشكيك: جاءني إما زيد وإما عمرو، إذا كنت جاهلاً الجائي بعينه أو عالماً وتريد تشكيك المخاطب، والتقسيم نحو: الكلمة إما اسم وإما فعل. والإبهام نحو: سيأتيك إما زيد وإما عمرو. والتخيير نحو: ?إما أن تعذب وإما أن تتخذ فيهم حسناً?. وهذه المعاني مستفادة من سياق الكلام.
(6) مثال ما أصله الحظر: خذ من مالي ثوباً أو ديناراً؛ لأن أخذ المال حرام ومثال ما أصله الإباحة: امش راكباً أو راجلاً.
(7) نحو: لأقتلنه أو يسلم.
(8) نحو:
وقد زعمت ليلى بأني فاجر ... لنفسي تقاها أو عليها فجورها
... أي وعليها فجورها.

(1/77)


ولا: وهي عاطفَة بعد أمرٍ أو خبر مُثْبَتٍ أو نداء(1) وغير عاطفة نافية وزائدة(2)، وقد تحذف وهي مرادة(3).
وبل: لنفي الحكم عن الأول وإثباته للثاني(4).
ولكن: للإستدراك، ويلزمها النفي أو النهي عند عطف المفرد(5) والتناقض عند عطف الجملة(6).
وكالحروف الناصبة، كإذن للجواب والجزاء عند (سيبويه)(7). قيل: مطلقاً. وقيل: غالباً.
ولن: لتأكيد النفي في الإستقبال، وهي حقيقة في التأبيد، وفاقاً (للزمخشري) وغيره، وخلافاً (لابن مالك)(8) وغيره، ولا تَرِد في الدعاء خلافاً (لابن عصفور)(9).
وكي: للسببيَّة.
وكحروف الجر ومنها:
__________
(1) مثال الأمر: اضرب عمرواً لا زيداً. ومثال الخبر المثبت: جاء زيد لا عمرو. ومثال النداء: يا زيد لا عمرو.
(2) مثال النافية: لا صاحب جود ممقوت. ومثال الزائدة: ?ما منعك ألا تسجد?، أي: ما منعك أن تسجد.
(3) نحو: ?تالله تفتأ تذكر يوسف?، أي: لا تفتأ تذكر يوسف.
(4) نحو: ما جاء محمد بل خالد.
(5) نحو: ما جاءني زيد لكن عمرو.
(6) نحو: ما هذا ساكن لكنه متحرك، ما هو أبيض لكنه أسود.
(7) سيبويه: أبو الحسن وقيل: أبو بشر عمر بن عثمان إمام النحويين وكبيرهم، توفي (180 هـ). معجم المؤلفين 8/101.
(8) ابن مالك، هو: جمال الدين محمد بن عبد الله بن مالك النحوي، صاحب الألفية، توفي سنة اثنتين وسبعين وستمائة . كشف الظنون 1/ 133.
(9) ابن عصفور ، هو: أبو الحسن علي بن مؤمن بن عصفور النحوي الشهير، توفي سنة تسع وستين وستمائة. كشف الظنون 1/ 603، وقد حمل عليها قوله تعالى حاكياً: ?فلن أكون ظهيراً للمجرمين? مدعياً أن المعنى فا جعلني لا أكون.

(1/78)


مِن: لابتداء الغاية، والتبعيض، والتبيين، وزائدة، وللتعليل، والبدل، والمجاوزة، وللإنتهاء، والإستعلاء، وللفصل. ولموافقة: الباء، وفي. وتَرِدُ لتنصيص العموم، أو لمجرد التوكيد بعد نفيٍ أو شِبْهُهُ(1).
والباء: وهي للإلصاق، والإستعانة، (والسببية، والتعليل)، والمصاحبة، (والظرفية، والبدل، وللمقابلة: وموافقة: عن وعلى. وتُزَاد مع فاعل ومفعول وغيرهما)(2)
__________
(1) مثال ابتداء الغاية: ?سبحان الذي أسرى بعبده ليلاً من المسجد الحرام إلى المسجد الأقصى?. ومثال التبعيض: ?لن تنالوا البر حتى تنفقوا مما تحبون?. أي بعض ما تحبون. ومثال التبيين: ?وقالوا مهما تأتنا به من آية?، ومثال الزائدة: ما جاءني من رجل. ومثال التعليل: ?مما خطيئاتهم أغرقوا?. ومثال البدل: ?أرضيتم بالحياة الدنيا من الآخرة?. ومثال المجاوزة: ?فويل للقاسية قلوبهم من ذكر الله?. ومثال الإنتهاء: رأيت الهلال من داري من خلال السحاب. ومثال الإستعلاء: ?فنصرناه من القوم الذين كذبوا?، أي: على القوم. ومثال الفصل: ?والله يعلم المفسد من المصلح?. ومثال موافقة الباء: ?ينظرون من طرف خفي?. وموافقة (في) نحو: ?أروني ماذا خلقوا من الأرض?. وأما ورودها لتنصيص العموم فنحو: ?وما من إله إلا إله واحد?. وورودها لمجرد التوكيد بعد نفي، نحو: ما جاءني من أحد إلا زيد.
(2) ما بين الأقواس ليس موجودا في (ش). ومثال الإلصاق: أمسكت بزيد. ومثال الإستعانة: كتبت بالقلم. ومثال السببية: ?إنكم ظلمتم أنفسكم باتخاذكم العجل?. ومثال التعليل: عاقبت زيداً بإهماله. ومثال المصاحبة: شريت الشجرة بثمرها. ومثال الظرفية: ?ولقد نصركم اللّه ببدر?، ?نجيناهم بسحر?. ومثال البدل:
فليت لي بهم قوماً إذا ركبوا ... شنوا الإغارة ركباناً وفرساناً

... أي ليت لي بدلاً منهم. ومثال المقابلة: اشتريت الكتاب بدرهم. ومثال موافقة عن: ?فاسأل به خبيراً?، أي: عنه، قيل وتختص بالسؤال. ومثال موافقة على: ?من إن تامنه بقنطار?. وأما زيادتها مع الفاعل فنحو: أكرم بزيد، وزيادتها مع المفعول نحو: ?وهزي إليك بجذع النخلة?.

(1/79)


، ولا تكون للتبعيض /23/، وفاقاً (للجمهور)، وخلافاً (للشافعية).
واللام: للإختصاص، والتعليل، والإستحقاق، وللنِّسَب، والعاقبة، والتبليغ، والتعجب، والتبيين، والصيرورة، وَمواَفقة: في، وعند، وإلى، وبعد، وعلى، ومن(1).
وفي: للظرفية حقيقة أو مجازاً، والمصاحبة، والتعليل، والمقَايسة. وموافقة: على، والباء(2). وبين ظهورها وإضمارها فرق(3).
__________
(1) مثال الإختصاص: السرج للفرس. ومثال التعليل: هيأت نفسي للسفر. ومثال الإستحقاق: الحمد لله. ومثال النسب: الكتاب لزيد. ومثال العاقبة هي الصيرورة وسيأتي مثالها. ومثال التبليغ: قلت له. ومثال التعجب: يا لجمال الربيع. ومثال التبيين: ما أحبني لزيدٍ وتباً لزيد. ومثال الصيرورة: ?فالتقطه آل فرعون ليكون?. وأما موافقة (في) فنحو: مضى لسبيله. وموافقة (عند) نحو: كتبته لخمس خلون من رمضان. وموافقته لـ(إلى) نحو: ?كل يجري لأجل مسمى?. وموافقته لـ(بعد) نحو: ?أقم الصلاة لدلوك الشمس?. وموافقته لـ(على) نحو: ?ويخرون للأذقان?. وموافقته لـ(من) نحو:
لنا الفضل في الدنيا وأنفك راغم ... ونحن لكم يوم القيامة أفضل
... أي ونحن أفضل منكم يوم القيامة.
(2) مثال الظرفية: جلست في الدار، وسافرت في المساء. ومثال المصاحبة: ?فخرج على قومه في زينته?. ومثال التعليل: دخلت امرأة النار في هرة، أي: بسبب هرة. ومثال المقايسة: ?فما متاع الحياة الدنيا في الآخرة إلا قليل?، وهي الداخلة بين مفضول سابق وفاضل لاحق. وأما موافقة (على)، فنحو: ?ولأصلبنكم في جذوع النخل?. وأما موافقة (الباء) فنحو: أنت خبير في هذا الأمر.
(3) نحو: صمت هذه السنة، فإنه يقتضي الكل؛ لأن الظرف صار بمنزلة المفعول به حيث انتصب بالفعل، فيقتضي الإستيعاب كالمفعول به يقتضي تعلق الفعل بمجموعه إلا بدليل، بخلاف صمت في هذه السنة، فإنه يصدق بصوم ساعة بأن ينوي الصوم إلى الليل ثم يفطر، لأن الظرف قد يكون أوسع.

(1/80)


وإلى: للإنتهاء، والتبيين، والمصَاحبة. وموَافقَة: اللاَّم، وفي، ومن(1). واختلف في دخول ما بعدها في حكم ما قبلها، فقيل: يدخل. وقيل: لا يدخل. وقيل: مشتركة بينهما. وقيل: إن كان من جنسه فقط.
وعلى: للإستعلاء حقيقة أو حكماً، والمجاوزة، والمصاحبة، والظرفية، والتعليل، وموافقة مِن، والباء(2).
وحتى: لانتهاء العمل بمجرورها أو عنده.
وربَّ: وهي عند (جمهُور البصريين، والكوفيين) للتقليل، وعند (صاحب العين(3)، وابن درستويه)(4) وغيرهما للتكثير، وقيل لهما: معاً. وقيل: حرف إثباتٍ لم توضع لهما، وإنما يفهمان من السياق، واختاره (أبو حيان)/24/.
__________
(1) مثال الإنتهاء: ?ثم أتموا الصيام إلى الليل?. ومثال التبيين: ?رب السجن أحب إلي مما يدعونني إليه?. ومثال المصاحبة: الذود إلى الذود إبل، أي: الذود مع الذود. وأما موافقة اللام، فنحو: ?والأمر إليك? أي لك. وموافقة (في)، نحو قول الشاعر:
فلا تتركني بالوعيد كأنني ... إلى الناس مطليٌ به القار أجرب
... وموافقة (من): نحو قوله:
تقول وقد عاليت بالكور فوقها ... أيسقى فلا يروى إلي ابن أحمر
... أي: فلا يروى مني.
(2) مثال الإستعلاء الحقيقي: جلست على المقعد، والحكمي: ?فضلنا بعضهم على بعض?، والمجاوزة:
إذا رضيت علي بنو قشير ... لعمرو اللّه أعجبني رضاها
... ومثال المصاحبة: ?وآتى المال على حبه?. ومثال الظرفية: ?ودخل المدينة على حين غفلة?، أي: في وقت غفلة. ومثال التعليل: ?ولتكبروا اللّه على ما هداكم?، أي: لهدايتكم. وأما موافقة (من)، فنحو: ?الذين إذا اكتالوا على الناس يستوفون?. وموافقة (الباء) نحو: اركب على اسم الله.
(3) يعني كتاب العين وهو للخليل بن أحمد.
(4) ابن درستويه، هو: أبو محمد عبد الله بن جعفر بن درستويه الفارسي، نحوي مشهور له تصانيف كثيرة، وهو من تلاميذ المبرد، توفي في صفر سنة سبع وأربعين وثلاثمائة. سير أعلام النبلاء 15/531.

(1/81)


والباء، والتاء، والواو: للقسم.
وكحروف الشرط وغيرهما نحو:
لو، ويقتضي امتناع ما يليه لامتناع تاليه، إن ناسَبَ ولم يخلف المقدم غيره، نحو: ? لَوْ كانَ فيهِما آلِهَةٌ إِلاّ اللَّهُ لَفَسَدَتا?[الأنبياء: 22]، لا إن خلف. نحو: لو كان إنساناً لكان حيواناً، ويثبت إن لم يناف، وناسب بالأولى، نحو: لو لم يخف الله لم يعصه. أو المساواة نحو: لو لم تكن ربيبته لما حلت للرضاع. وهي للمُضِي، وقد تستعمل للمستقبل(1).
وإن، وهي لربط شرطها بجزائها، وكذا ما في معناها.
وأما، لتفصيل نِسَب متعددة، قيل: وقد تكون مقدرة(2).
__________
(1) يعني أن (لو) تقتضي في الإثبات امتناع ما يليها لامتناع جوابه، فإن المعنى في الآية: ليس فيهما آلهة غيره، لذلك صلح نظامها ولم يفسد، فانتفت الآلهة لانتفاء الفساد، بخلاف: لو كان إنساناً لكان حيواناً، فإنه لا تنتفى حيوانيته لانتفاء إنسانيته؛ لأن الحيوانية أعم، ونفي الأخص ـ وهو الإنسانية ـ لا يستلزم نفي الأعم ـ وهو الحيوانية ـ وفي النفي يقتضي امتناع جوابها لثبوت تاليها بشرط ألاَّ ينافيه، وأن يناسبه كمثال المتن، فإن معناه أنه لا يعصيه ولو انتفى الداعي، وهو الخوف من الله، فكيف معه، وكما تقول في الطالب الذكي: لو لم يذاكر لم يرسب. فبالأولى ألاَّ يرسب عند ما يذاكر، وفي الطالب المتوسط يستوي الأمران عدم المذاكرة والمذاكرة في النجاح، بينما في الطالب الغبي لا يناسب قولنا: لو لم يذاكر لم يرسب؛ لأنه يرسب مع المذاكرة فكيف مع عدمها.
(2) مثال تفصيل النسب: ?فأما إن كان من المقربين? الآية. ومثال تقديرها: ?والراسخون في العلم يقولون? أي، وأما الراسخون مقابل قوله: ?فأما الذين في قلوبهم زيغ?، وذلك عند بعضهم.

(1/82)


ولولا، ومعناها في الجملة الإسميَّة: امتناع جوابها لوجود شرطها(1)، وفي الفعلية: التوبيخ إن كانت ماضية(2)، والتحضيض إن كانت مضَارعة(3).
ومنها لام التعريف، فإن أُطلق اسم الجنس المعرَّف بها على نفس الحقيقة من غير نظر إلَى ما صدقت علَيه من الأفراد، نحو: الرجل خير منَ المرأة. فهو تعريف الجنس، ونحوه عَلَم الجنس كأسامة، وإن أطلق على حصَّة منهما معينة معهودة بين المخاطبين، نحو: ما فعل الرجل. لمعهودٍ بينك وبين مخاطبك، فهو تعريف العهد الخارجي، ونحوه عَلَم الشخص كزيد، وإن أطلق على حصَّة غير معينة، نحو: أدخل السوق حيث لا عهد، فهو تعريف العهد الذهني، ونحوه النكرة كسوق، وإن أطلق على كل الأفراد نحو: ?والعَصْرِ إنَّ الإنْسَانَ لَفِي خُسْرٍ?[العصر:1] فهو تعريف الإستغراق، ونحوه كل مضافٍ إلى نكرة، نحو: كل إنسان في خسر.
[مبحث في سبب وضع الألفاظ وواضعها]
(31) فصل(4) /25/ وسبب وضع اللَّفظ(5) الحاجة إلى التعبير عما في الضمير، وهو ممكن بالإشارة والمثال، لكنِ اللفظ أولى؛ لأنه أعم منهما وأسهل.
ودلالته على مسمَّى دون مسمى مع استواء النسبة إليهما ممتنعة، فلا بد من مخصِّص له بأحدهما، والمخصِّص: إما الذات وهو باطل؛ إذ ليس بينه وبين مدلوله مناسبة ذاتيَّة، خلافاً (لِعَبَّاد)، وتأوله (السكاكي). وإِمَّا الوضع وهو الأصح.
__________
(1) نحو: لو لا زيد لأكرمتك.
(2) نحو: ?لو لا جاؤا عليه بأربعة شهداء?.
(3) نحو: ?لو لا تسبحون?.
(4) المكان المناسب لهذا الفصل والذي بعده في بحث الوضع ومتعلقاته، وقد تقدم.
(5) المكان المناسب لهذا الفصل والذي بعده في بحث الوضع ومتعلقاته، وقد تقدم.

(1/83)


واختلف في واضع اللُّغات فعند (جمهور أئمتنا، والبهشمية)(1): واضعها البشر واحد أو جماعة، ويحصل تعريفها بالإشارة والقرائن كالأطفال. وعند (المرتضى(2)، وأبي مضر، والبغدادية، وأكثر الأشعرية): توقيفية. (الأشعري)(3): وذلك بالوحي، أو بعلم ضروري، أو بخلق الأصوات، إما أن يخلق في كل شيء إسماع اسمه أو في بعض الأشياء له ولغيره. (أبو علي، والإسفرائيني): القدر المحتاج إليه في التعريف توقيف، وغيره محتمل لهما، وحكي عن (بعض المعتزلة) عكسه. (الإمام، وابن أبي الخير(4)، وبعض الأشعرية): الجميع ممكن.
(32) فصل وطريق معرفتها إما العقل ولا مجال له في الوضعيَّات، أو النقل /26/ وهو بالتواتر فيما لا يقبل التشكيك كالأرض والسماء، وبالآحاد في غيره، ولو مرسلة. وثبوت الأحكام العملية بها عند توقفها عليها كثبوتها بأخبار الآحاد، وشرط قبولهما واحدٌ، وما قدح به (الرازي) وغيره في هذه القاعدة، فلا يسمع.
[الأحكام أنواعها وتوابعها]
__________
(1) البهشمية: جماعة من المعتزلة تنسب إلى الشيخ أبي هاشم المعتزلي، وقد تقدمت ترجمته.
(2) المرتضى، المراد به الإمام محمد بن يحيى بن الحسين بن القاسم الرسي، أحد أئمة الزيدية في اليمن، بويع له بالخلافة بعد أبيه، توفي سنة عشر وثلاثمائة. وأينما أطلق في هذا الكتاب فهو المراد. أما المرتضى الموسوي فالمؤلف يشير إليه بالموسوي.
(3) الأشعري، هو: الشيخ علي بن إسماعيل بن إسحاق أبو الحسن الأشعري البصري سكن بغداد، إليه تنسب الأشعرية، توفي في سنة أربع وعشرين وثلاثمائة وقيل سنة عشرين وقيل سنة ثلاثين. طبقات الشافعية 2/113.
(4) ابن أبي الخير، هو: علي بن عبدالله بن أحمد بن أبي الخير الصائدي، من أعيان علماء الزيدية في القرن الثامن الهجري، صنف في مختلف الفنون، توفي سنة ثلاث وتسعين وسبعمائة. أنظر: أعلام المؤلفين الزيدية.

(1/84)


(33) فصل والحكم لغة: المنع. وعرفاً: الإلزام. واصطلاحاً: الوُجُوب، أو النًّدب، أو الكراهة، أو الإباحة، أو الْحَظْر. والأظهر أن إطلاق الحكم علَيها بالإشتراك المعنوي لا اللفظي(1).
ويستدعي: حاكماً، ومحكوماً فيه، ومحكوماً عليه.
فالحاكم: الشَّرع إتفاقاً، والعقل، عند (أئمتنا، والمعتزلة، وبعض الفقهاء) لاستقلاله بمعرفة بعض الأحكام، خلافاً (للأشعرية، وبعض الفقهاء)، ولذلك أنكروا التحسين والتقبيح العقليين، وحكموا بأن التكاليف كلها شَرعيَّة، وأنه لا حُكْمَ قبل الشرع، فلا يُعَاقَبُ مُنْكرُ الصانع الذي لا تَبْلُغه دعوة النبوة، وسيأتي تحقيقه إن شاء اللّه تعالى.
وينقسم خطاب الشرع - المعَرِّف لعين المصلحة أو المفسدة - إلى: تكليفي ووضعي.
[الحكم الوضعي وأقسامه]
(فالأوَّل): الخطاب المعَرِّف لغير السبب /27/ والشرط والمانع، وإنما يكون بالإقتضاء أو التخيير؛ لأنه إن اقتضى الفعلَ حَتْماً فمعرِّف الوجوب. أو غير حتم فمعرِّف النَّدب. أو الترك حتماً فمعرِّف التحريم. أو غير حَتْمٍ فمعرِّف الكراهة. أو كان بالتخيير فمعرِّف الإباحة.
والواجب والمندوب والمبَاح والمكروه والمحظور: الفعل الْمُتَّصِف بذلك.
__________
(1) يعني أن إطلاق الحكم على هذه الخمسة بالإشتراك المعنوي، كإطلاق حيوان على ما تحته من أفراد، كإنسان وفرس، وليس بالإشتراك اللفظي كقرء الذي يطلق على: الحيض والطهر.

(1/85)


(34) فصل والواجب: ما استحق المدح على فعله والذم علَى تركه بوجه مَّا(1). (أئمتنا والجمهور): ويرادفه الْفَرْض. (النَّاصر(2)، والداعي(3)، والحنفيَّة): الفرض: ما دليله قطعي، يَفْسُقُ تاركه، ويَكْفُر مستحله، ويُقْضَى. والواجب نقيض ذلك.
وينقسم الواجب - بحسب نفسه - إلى: ضروري واستدلالي. وإلى مُعَيَّن ومُخَيَّر.
وبحسَب فاعله، إلى: فرض عين، وفرض كفاية.
وبحسب وقته، إلى: مُضَيَّق، ومُوَسَّع، وأداء، وإعادة، وقضاء.
فالمعين: ظاهر. والمخير: كالكفارات الثلاث، ويأتي في الأمر إن شاء اللّه تعالى.
واختلف في فرض الكفاية، فعند أئمتنا والجمهور: أنه واجب على الجميع، ويسقط بفعل البعض. وقيل: على البعض. ثم اختلفوا، فقال (الرازي، والسبكي): بعضٌ مبهم. وقيل /28/: معيَّن عند الله. وقيل: مَنْ قام به.
ويقع في أصول الدين وفروعه(4)، وتحرم الأجرة عليه إن تعين أداؤه كالعين(5). وفي تَعَيُّنِه بالشُّروع خلاف.
__________
(1) بوجه ما متعلق بالترك، وإنما زاده ليدخل من الواجبات ما يستحق تاركه الذنب كيفما تركه، نحو فرض الكفاية فإنه يذم تاركه إذا لم يقم به غيره، وكذلك الواجب المخير فإنه يذم إذا تركه مع الآخر.
(2) الناصر، هو: الإمام الناصر الحسن بن علي الأطروش، كبير أئمة الزيدية في بلاد الجيل والديلم، كان من عظماء اللإسلام وكبار علمائه، له مصنفات، توفي سنة أربع وثلاثمائة.
(3) الداعي، هو: الإمام الداعي يحيى بن المحسن بن محفوظ بن محمد بن يحيى الهادوي الحسني، برع في سائر الفنون، وهو أحد أئمة الزيدية في اليمن، له في أصول الفقه كتاب (المقنع)، توفي بهجرة ساقين في رجب سنة ست وثلاثين وستمائة. وأينما أطلق في هذا الكتاب فهو المراد.
(4) في أصول الدين كالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر عند القائلين أنها منه، وفي فروعه كالأذان والإقامة.
(5) يعني أنه يصير كفرض العين يحرم أخذ الأجرة على تعليمه.

(1/86)


وفرض العين أفضل منه(1) وفاقاً (للجمهور)، وخلافاً (للإسفرائيني، والجويني)(2) وهو مِنْ فاعله بعد فعل مَنْ يَسْقُطُ بفعله عنه نَفْلٌ(3). وقيل: فرض، ويأثم الكل بالإخلال به إن عرفوه معاً، وإلا فَمَنْ عَرَفَه. (أبو العباس(4)، والإمام): وبعضه من فروض العلماء لا العوام(5). (بعض الفقهاء): بل عام. وقَوَّاه (المَهدي)(6).
والمضيق: ظاهر. والموسع: يأتي في الأمر إن شاء اللّه تعالى.
والأداء: ما فُعِل في وقته المقدَّر له أولاً. والإعادة: ما فُعِل في وقته ثانياً لخلل في الأوَّل. وقيل: لعذر وهو أعم. والقضاء: ما فعل بعد وقت الأداء لتركه فيه أو لوقوع خلل في فعله فيه. وإنما تُقضَى عبادة مؤقتة لم تقع في وقتها، أو وقعت فيه لكن مع خلل فيها، وورد الدليل بقضائها كالصلاة، والصَّوم.
__________
(1) ولهذا إذا اجتمعت واجبات كثيرة، قدم فرض العين.
(2) الجويني: هو إمام الحرمين عبد الملك بن محمد بن عبد اللّه الجويني، من كبار متكلمي الأشعرية، وهو أستاذ الغزالي، توفي (478 هـ). طبقات الشافعية 3/249.
(3) كصلاة الجنازة والجهاد، بعد قيام الغير بها.
(4) أبو العباس، المراد به: أبو العباس أحمد بن إبراهيم الحسني، من كبار علماء الزيدية في عصره، له مؤلفات فريدة، ولد ونشأ في بلاد الديلم، وتوفي سنة ثلاث وخمسين وثلاثمائة. طبقات الزيدية - خ -.
(5) كالفتيا وحَلّ الشُّبه.
(6) المهدي، هو: الإمام أحمد بن يحيى المرتضى، أحد أعلام أئمة الزيدية في اليمن، فقيه أصولي متكلم له تصانيف كثيرة، وشهرته واسعة، توفي رحمه الله سنة أربعين وثمانمائة.

(1/87)


(35) فصل ومالا يتم الواجب إلا به ـ إن لم يكن مقدوراً(1) ـ لم يجب، إلا عند مجِّوز تكليف مالا يُطَاق، وإن كان مقدوراً فإن قُيِّد /29/ الوُجُوب به لفظاً كالإستطاعة في الحج، لم يجب إلا عند حصوله، ولا يجب تحصيله اتفاقاً. وإن أُطْلِقَ، (فأئمتنا، والجمهور) على وجوب ذلك(2) بالأمر الذي وجب به الواجب؛ لأن الأمر بالشيء أمرٌ بمقَدِّماتِه، وسواء كان(3) شرطاً عقلياً، كترك كُلِّ ضدٍّ للواجب، أو فِعْلِ ضِدٍّ في المحرَّم، أو عادياً كغسل جزء من الرأس(4)، أو شرعياً كالوضوء في الصلاة، أو كان علة كالنار للإحراق(5).
وقيل: لا يجب فيها مطلقاً(6)، بل بغيره من الأدلة الخارجية(7). (الجُوَيني، وابن الحاجب): بل يجب الشرط الشرعي دون غيره. (الموسوي(8)، والرازي): بَل العلَّة دون غيرهَا.
وثمرة الخلاف هل يتناوله(9) الأمر، ويوصف بالوجوب، ويثاب بفعله ويعاقب بتركه أم لا؟ وإذا لم يتم الواجب إلا بقبيح(10)، أو بإخلال بواجب(11)، ولا ترك قبيح إلا بقبيح فالترجيح(12).
__________
(1) كحصول العدد في الجمعة.
(2) أي مالا يتم الواجب إلا به.
(3) ما لا يتم الواجب إلا به.
(4) عند غسل الوجه؛ لأنه لا يتم إلا بذلك عادة.
(5) أي إيجاد النار عند طلب الإحراق.
(6) أي لا يجب ذلك الذي لا يتم الواجب إلا به في العلة والشرط، سواء كان الشرط في صحة ذلك الواجب شرعياً أو عادياً أو علة أو سبباً.
(7) نحو: العقل والعادة.
(8) الموسوي، هو: أبو طالب علي بن حسين بن موسى القرشي العلوي الحسيني، المعروف بالشريف المرتضى الموسوي، من الأشراف الأجلاء وكبار العلماء والأدباء، توفى سنة ست وثلاثين وأربعمائة. كشف الظنون 1/748.
(9) أي ما لا يتم الواجب إلا به.
(10) مثل الصلاة في الدار المغصوبة، أو إخفاء المؤمن عند الخوف عليه بكذب صريح.
(11) مثل: الخروج من الصلاة لإنقاذ غريق.
(12) كما إذا علم من حال زيد أنه لا يترك الزنا إلا إذا مارس العادة السِّرية.

(1/88)


(36) فصل ويستحيل كون الشيء الواحد وَاجباً حَراماً من جهة واحدة - إلا عند مُجَوّز تكليف ما لا يطاق - عقلاً وشرعاً، ومنه الصلاة في الدار المغصوبة عند (أئمتنا، وأحمد، والظاهريَّة(1)، وجُمهور المتَكلمين /30/، وإحدى الروايتين عن مَالك)(2)؛ لاتِّحاد الْمُتَعلَّق، فلا تصح ولا يسقط الطلب.
ويجوز كونه كذَلك من جهتين، كالأمر بالخياطة والنَّهي عَن مكان مخصوص(3)، ثم فُعِلت فيه، إن كانت الخياطة ليست بغصبٍ للهوى(4). ومنه(5) الصَّلاة في الدار المغصوبة عند (الفريقين(6)، وجمهور الأشعريَّة) فتصح، وَيُثَابُ، وقيل: لا يثاب. (الباقلاني، والرازي): لا تصح ويسقط الطلب. ودعوى (الغزَّالي) الإجماع على صحتها باطلة. وفي كونها(7) قطعيّة أو ظنيَّة خلاَف.
__________
(1) الظاهرية: جماعة منسوبه إلى داود بن علي الظاهري وهو فقيه معروف، توفي سنة (270هـ) ولهم أقوال مشهورة، تدور مع ظاهر النص وحرفيته.
(2) مالك: هو الإمام مالك بن أنس الأصبحي أبو عبد اللّه، إمام دار الهجرة، ورأس المالكية، توفي (179 هـ). صفة الصفوة 2/99.
(3) يعني والنهي عن اللبث في مكان مخصوص.
(4) وذلك كإذا أمر السيد عبده بالخياطة، ثم نهاه عن اللبث في المسجد، فخاط الثوب فيه، فقد أطاع بالخياطة؛ لأن سيده لم يقيد فعلها بمكان دون مكان، وعصى بلبثه في المسجد، فهو عاص من وجه ومطيع من وجه آخر. وقول المؤلف: ليست بغصبٍ للهوى يشعر بأن هذا المثال على جهة الفرض، وإلا فهو كالصلاة في الدار المغصوبة. وقد جعل الإمام المهدي هذه المسألة قسمين، قسم كالصلاة في الدار المغصوبة، وهو ما إذا قال السيد لعبده: لا تخط هذا الثوب في المسجد. ثم خاطه فيه، فإن المتعلق هنا متحد، فأما إذا أمر بالخياطة غير مقيدة بمكان مخصوص، ثم نهى عن اللبث في المسجد فالمتعلق متعدد وهذا هو القسم الثاني.
(5) أي الذي هو حلال وحرام من جهتين.
(6) الفريقين: المراد بهما: الحنفية والشافعية.
(7) هذه المسألة.

(1/89)


وأما من خرج من مغصوب تائباً فآتٍ بوَاجب، وهو الخرُوج؛ لأنَّه مَأمُور به. (الجويني)، ومُسْتَصْحَب عنده(1) حكم المعصية، مع أنه مأمور به. وهو بعيد(2). وقول (أبي هاشم) - في الأصح - مثل قوله(3)، لا أنه ذهَب إلى تحريم الخروج كالوقوف(4)، وتحقيقُه أن أكوان خروجه عندهما لا تُوصف بكونها طاعة، وإن كان بها مأموراً ممتثلاً، واستصحابه لحكم المعصية لتسبُّبِه إلى ما لا مخلص له منه إلا معها(5).
وحظ الأصولي في ذلك بيان استحالة تعلق الأمر والنهي معاً بالخروج(6). ووجوبه /31/ أو تحريمه موكول إلى نظر الفقيه.
وتحيَّر (أكثر الفقهاء) في قول (أبي هاشم): ما حُكْم الله على من سقط فوقع على أوسط جماعة جرحى، إن استمر عليه قَتَلَهُ وإن انتقل عنه قتل كُفؤه. وجزم (الجويني) بأنها واقعة خالية عن حكم الشرع، وقيل: هو مخير، وهو المختار، وتوقف (الغزالي).
(37) فصل والمندوب: ما يستحق المدح علَى فِعْلِهِ، ولاَ يستحق الذم عَلى تركه، (بعض الشافعية): ويرادفه: التطوعُ، والسنّةُ، والمستحبُّ، والمرغبُ فيه، والنَّفْل، والْحَسَنُ.
(أئمتنا) وغيرهم: والمسنون ما أمر به النبي صلى اللّه عليه وآله وسلم ندباً وواظب عليه، كالرواتب، وإلا فالمستحب.
__________
(1) أي الخروج.
(2) لأنه لا معصية إلا بفعل منهي عنه، أو ترك مأمور به، وقد انتفى تعلق النهي بالخروج، بل فعل ما هو مأمور به.
(3) وهو قوله: من دخل أرضاً غاصباً ثم خرج بنية التوبة فهو عاصٍ.
(4) لأن ذلك تكليف ما لا يطاق.
(5) أي إلا مع أكوان الخروج.
(6) ووجه الإستحالة أنه لو تعلق بهما للزم سلب الحركة والسكون وهو محال.

(1/90)


ولاَ يأثم معتَاد تركها(1) لغير استهانة، خلافاً (للمؤيد بالله، والإمام، والقاضي)(2) وغيرهم، ولا يفسق، خلافاً (للناصر(3)، وجمهور المعتزلة)، وقد تطلق السنَّة على الواجب نحو: (( عشر من سُنن المُرسَلينَ ))(4).
والمندوب مأمورٌ به، خلافاً (للكرخي، ورازي الحنفيَّة). وليس بتكليف(5) خلافاً (للأسفرائيني)، وهو لفظي(6) . والأمر به مندوب لا واجب، خلافاً (لأبي القاسم)(7).
(38) فصل /32/ والمباح: ما لا يُسْتَحق عليه مدح ولاَ ذم، ويرادفه الحلال والطِّلْق، وكذا الجائز، وقد يطلق(8) على غيره.
__________
(1) أي المندوبات.
(2) القاضي عبد الجبار ابن أحمد بن عبد الجبار بن أحمد بن خليل أبو الحسن الهمذاني، المشهور بقاضي القضاة، أينما أطلق (القاضي) في هذا الكتاب فهو المراد، وهو علامة متكلم شيخ المعتزلة صاحب التصانيف، مات في ذي القعدة سنة خمس عشرة وأربعمائة. سير أعلام النبلاء 17/244. تاريخ بغداد 11/ 113.
(3) قد تقدم عن الناصر أنه لا يفسق من ترك الواجب الذي هو دون الفرض، فكيف يفسق من ترك المسنون؟
(4) بهذا اللفظ أورده المؤيد بالله في شرح التجريد ـ خ ـ ، وبلفظ عشر من الفطرة: رواه مسلم وأبو داود، وبلفظ: خمس من سنن المرسلين رواه آخرون.
(5) لأن التكليف إلزام ما فيه كلفة.
(6) أي الخلاف في هذه المسألة، لأن النزاع مبني على تفسير لفظ التكليف، فإن فُسر بإلزام ما فيه كلفة فليس بتكليف، وإن فسر بطلب ما فيه كلفة فهو تكليف.
(7) هو الكعبي، تقدمت ترجمته.
(8) أي: يطلق الجائز على غير المباح.

(1/91)


وليس مأموراً به عند (أئمتنا والجمهور)، خلافاً (لأبي القاسم). وقيل: لم تثبت الرّوَاية عنه، ويحتمل أن يكون إلزاماً(1)، وعلى ثبوتها فالمشهُور عنه - مع بطلانه(2) - أن المباح مأمور به، لكنه دون المندوب، كما أن المندوب مأمور به، لكنه دون الواجب. وقيل: أراد أمر الإيجاب(3)، وتأول الإجماع على انقسام الأحكام الشَّرعيَّة إلى خمسَة أَنَّ ذلك بالنَّظر إلى ذات المباح(4) لا بالنظر إلى ما يستلزم من ترك الحرام، فهو واجب(5).
والمباح جنس للواجب، ولذلك إذا نُسِخَ الوُجُوب بقي الجواز. ابن الحاجب وغيره: بل هما نوعان للحكم.
وليس الإباحة بتكليفٍ، وفاقاً (للجمهور) وخلافاً (للإسفرائيني)، وعن (بعض المعتزلة): إنها حكم عقلي(6).
(39) فصل والمكرُوه: ما يُسْتَحق المدح على تركه ولا يُذَمُّ على فعلِه. والخلاف في كونه منهيّاً عنه ومكلفاً به كالمندوب. وقد يطلق على الحرام(7)، وعلى ترك الأَوْلى كالمندوب(8).
__________
(1) أي: أُلزم به من خلال قوله بأنه لا مباح في فعل العاقل بمعنى مستوى الطرفين بلا مرجح لأحدهما.
(2) أي: مع بطلان هذا المشهور، ووجه البطلان أن الأمر حقيقة لا يستعمل لغة بمعنى نفي الحرج أصلاً، عُلم ذلك باستقراء لغة العرب.
(3) وحجته في ذلك أن المباح تُرك به الحرام، وترك الحرام واجب، فليزم أن يكون المباح واجباً.
(4) لأنه يجوز فعله في ذاته وتركه بفعل مباح غيره.
(5) وعلى هذا لا يمتنع أن يكون الشيء مباحاً لذاته واجباً لما يستلزمه. وأجيب على هذا بأن ذلك المباح غير متعين لإمكان الترك بغيره، وَضُعِّف هذا الجواب؛ بأنه سيكون من الواجب المخير.
(6) لأنها انتفاء الحرج وذلك حكم ثابت قبل الشرع.
(7) كقولهم: تكره الصلاة في الثلاثة الأوقات.
(8) أي كترك المندوب كقول صاحب الأزهار بعد تعداد المندوبات في قضاء الحاجة: ويكره ضدها.

(1/92)


(40) فصل والمحظور: ما يستحق الذم على فعلهِ والمدح على تركه، ويرادفه: القبيح والحرام. وينقسم إلى: كبير، وصغير، وملتبس(1).
[الحكم الوضعي وأقسامه]
(41) فصل (والثاني) /33/ الخطاب الْمُعَرِّف للسبب والشرط والمانع، ولا يكون بالإقتضاء أو التخيير، وفائدته سهولة معرفة ما كُلفنا به من فعلٍ أو ترك بنصب المعرِّف علامة لذلك، في كل واقعة بعد انقطاع الوحي، لئلا تخلو أكثر الوقائع من الأحكام، مع ما فيه من حكمة الإختصار (2)، واعترض بعضُ المتأخرين القدماءَ في تسميتهم ما عَرَّف بخطاب الوضع حكماً، وقال: إنما هو علامة الحكم ولا يسمى حكماً. وهو فاسد؛ لأن نصب الشارع له علامة للحكم حكمٌ شرعيٌ، فكما أن وجوب الْحَدِّ حكم شرعي، فنصب الزنا علة له؛ حكم شرعي، فكل واقعة عُرِف حكمها بعلامتها لا بدليلٍ آخر، فللَّه تعالى فيها حكمان: الحكم المعرِّف بها، والحكم عليها بكونها معرِّفة له(3).
ويشترط في التكليفي ما لا يشترط في الوضعي، كالتكليف وعِلْم المكلف، ومِن ثَمَّ وجب الضمان على غير المكلَّف، ووقع طلاق السكران ونحو ذلك.
__________
(1) ملتبس أي بين الكبر والصغر. وهذا ليس قِسْماً برأسه؛ لأنه من أحد القسمين.
(2) فإنَّ جَعْل النصاب الذي يمضي عليه الحول سببٌاً لوجوب الزكاة أمر يدخل تحته جزئيات كثيرة، بخلاف النص على أن فلاناً تجب عليه الزكاة وفلانُ.. الخ
(3) فللَّه في الزنا حكمان: أحدهما وجوب الحد، والثاني سببية الزنا في وجوبه.

(1/93)


(42) فصل وانقسام الْمُعَرِّفُ بخطاب الوضع إلى الثلاثة المتقدِّمة بحسب الإستقراء؛ لأنه إن أثَّر وجوده /34/ في وجود الحكم، وعدمُهُ في عدمه ـ عِلَّة له كَالإسكار(1)، أو غير علة كالزَّوال(2) ـ فهو (السبَب). وإنْ أثَّر عَدمه في عدمه ولم يلزم من وجوده وجود ولا عدم كالوضوء(3)، فهو (الشرط). وإن أثر وجوده في عَدمه، كالأبوة في منع القصاص، فهو: (المانع)، ويأتي تفصيلها في موضعه(4).
[توابع الأحكام]
(43) فصل والصحة والبطلان، والحكم بهما أمر عقلي لا شرعي وضعي(5)، خلافاً (للآمدي، والسبكي).
والصحة في العبَادات عند (الفقهاء وبعض المتكلمين): كون الفعل مُسْقطاً للقضاء. وعند (جمهور المتكلمين): موافقة أمر الشارع. وفي العقود: تَرَتُّب ثمراتها عليها المقصُودة منها(6). وإنما يوصف بها ما كان له وجهان(7).
والبطلان نقيضها بكل من الحدِّين. (الناصر، ومالك، والشافعي): ويرادفه الفساد في العقود. (جمهور أئمتنا، والحنفيَّة): بل هو قسم ثالث. وهو: خلل فيها(8) يوجب في حالٍ عدم ترتب ثمراتها عليها المقصودة منها(9). ويترادفان في العبادات عند الجميع. وإنما يتناول الخِطابُ الصَحيحَ(10)/35/.
__________
(1) فإن الإسكار مؤثر في تحريم الخمر.
(2) لأنه إذا وجد الزوال وجبت صلاة الظهر، وليس علة في وجوبها، فإن وجوبها عبادةً لله.
(3) بالنسبة للصلاة، فإنه إذا عدم عدمت الصلاة وإذا وُجِدَ فلا يلزم وجود الصلاة أو عدمهما.
(4) في باب القياس.
(5) كقولنا: هذه الصلاة صحيحة أو باطلة.
(6) كحصول ملك العين، والإنتفاع بالمبيع في البيع ونحو ذلك.
(7) لا وجه واحد كوجوب رد الوديعة.
(8) أي في العقود.
(9) وهذا الخلل كأن يَرِد البيع مقروناً بصريح الشرط، نحو: إذا أعطيتني الثمن فقد بعت منك.
(10) لا الفاسد فلا يقتضي النكاح الفاسد الإحلال، لقوله تعالى: ?حتى تنكح زوجاً غيره?، والنكاح هنا يتناول الصحيح لا الفاسد.

(1/94)


(44) فصل والرخصة ما شُرِعَ للمكلف فعله أو تركه لعذر، مع قيام المحرِّم أو الموجِب لولاه(1) . وثبوتها بخطاب التكليف لا الوضع، خلافاً (للآمدي)، وشرعها لدفع التلف أو رفع المشقة.
وتنقسم إلى: واجب كأكل الميتة للمُضطر. ومندوب ومباح ومكروه، كالفطر في السّفر بحسب حال المسافر(2)، وقد يكون سببهَا واجباً ومندوباً ومباحاً ومكروهاً ومحظوراً، وفعلاً لله تعالى وللعبد(3). وإطلاقها يفيد أنها من جهة الشارع(4)، والفرق بينها وبين الشبهة واضح (5).
__________
(1) يعني أن مقتضي التحريم أو الوجوب باق لم ينسخ لولا العذر العارض.
(2) فإن كان تلحقه مشقة كبيرة فمندوب له الإفطار، وإن كان لا تلحقه إلا مشقة يسيرة فمباح له الإفطار، وإن كان لا تلحقه مشقة أصلاً فمكروه. وقد اعترض على هذا المثال، بأن الإفطار ليس فيه إلا وجهان: ندب مع المشقة وكراهة عند الإستواء.
(3) الواجب مثل: سفر الحج الواجب، والمندوب مثل سفر الحج المندوب، والمباح مثل سفرلا حاجة إليه، والمكروه مثلُ من غُص بطحال فأجازه بخمر، والمحظور مثل السفر لمعصية، وفعل اللّه كالمرض، وفعل العبد كالسفر.
(4) فإن قيل: رخص لنا في كذا. حمل على أن المرخص الشارع، إلا أن تدل قرينة على خلاف ذلك.
(5) وهو أن الحكم في الرخصة بدليل، وفي الشبهة بلا دليل، والمقصود بالشبهة الأمر الملتبس تحريمه أو تحليله، لا الشبهة في مقابلة الدليل، وهي ما كانت تشبيه الدليل وليست به، كما يقال: لفلان في هذه المسألة شبهة، والله أعلم.

(1/95)


والعزيمة: ما ألزَمَ من الأحكام فعلاً أو تركاً لا لِعُذر. ولا ينحصر الحكم في العزيمة والرخصة؛ إذ لا يدخل المندوب والمباح والمكروه في العزيمة، خلافاً (للقرشي)(1) وبعض (الأشعرية).
[المحكوم فيه ومتعلقاته]
(45) فصل والمحكوم فيه: الأفعال، ويشترط في التكليف بها - عند (أئمتنا، والمعتزلة، وجمهور الأشعرية) -: تعريفُهَا(2)، ومن ثم امتنع التكليف بما لا يُعلم خلافاً (للرازي). وإمكانُها، ومِنْ ثَمَّ صح التكليف بالممكن لذاته ولغيره(3) عقلاً وشرعاً إجماعاً، وكذا الممكن لذَاتِه الممتنع /36/ باختيار الْمُكلف، كالإيمان من الكافر. وفي الممتنع بإخباره تعالى خلاف يأتي(4).
واختلف في الممتنع لذاتِه، وهو ما يمتنع تصوره، كالجمع بين الضدّين. وفيما لا يدخل تحت القدرة وإن أمكن تصوره كالطيران، فَمَنَعَهُ (أئمتنا، والمعتزلة، والْنَّجَّارِيِّة)(5) عقلاً وسمعاً، وهو أحد قولي (الأشعري) وثانيهما(6)، واختار (جمهور أصحابه) جوازه عقلاً، ووقوعه عند أكثرهم شرعاً. وقُبْح ذلك معلوم ضرورة شاهداً وغائباً. (البصرية): بل بالإستدلال في الغائب.
__________
(1) القرشي، هو: العلامة الكبير يحيى بن الحسن بن موسى القرشي الصعدي. من كبار علماء الزيدية في عصره باليمن، له مصنفات شهيرة، ضايقه بعض المتعصبين فذهب إلى العراق، ومات غريباً فيها سنة ثمانين وسبعمائة.
(2) للمكلف بها، أي أن تكون الأفعال معروفة له؛ لأن الحكم لا يصح إلا على معروف متصور.
(3) كالإيمان من الموقن فهو ممكن لذاته وممكن من جهة المكلف.
(4) عند ذكر الخلاف في جواز التكليف بالأمر بانتفاء شرط وقوعه، وسيأتي قريباً.
(5) النجارية: فرقة، تنسب إلى الحسين بن محمد النجار، وافقوا المجبرة في خلق الأفعال، ووافقوا المعتزلة في الصفات ونفي الرؤية. أنظر التعريفات للجرجاني.
(6) أي ثاني قولي الأشعري.

(1/96)


(46) فصل (أبو علي، والأخشيدِيَّة(1)، والبلخي، والمطرفيَّة(2)، والأشعرية، وروي عن القاسم والمرتضى): والمكلف به في النهى فعل ، وهو كف النفس، أي الإنتهاء إذ لا تكليف إلا بفعلٍ. (أبو هاشم، والجمهور): بل هو ألاَّ تفعل. أي نفي الفعل، وهو جهَة كافية في استحقاق المدح والثواب والذم والعقاب.
(47) فصل (أئمتنا، والمعتزلة، والجويني، والغزالي، وابن الحاجب): وإنَّما يُكَلَّف بالفعلِ قبل حدوثه، فيتعلق الأمر به قبل المباشرة إعلاماً وإلزاماً /37/، لا حال حدوثه؛ إذ هو تكليف بإيجاد الموجود، وهو محال. (الأشعري، وجمهور أصحابه): بل التكليف به حال حُدُوثه فقط، والأمر قبله إعلامٌ بأن المكلَّف يصير في الزمن الثاني مأموراً بالمباشرة. ويلزمهم أَن ما عصَى مكلف ولا استحق ذماً(3)؟ ويمتنع التكليف به بعد حدوثه، إلا عند مُجَوِّز التكليف بالمحال.
[المحكوم عليه ومتعلقاته]
__________
(1) الاخشيدية، ذكر في الشرح أنهم من أصحاب أبى علي المعتزلي، وذكر غيره أنهم أصحاب ابن الإخشيذ، واسمه: أحمد بن علي بن بيغجور أبو بكر بن الأخشيذ من رؤساء المعتزلة وزهادهم، توفي ست وعشرين وثلاثمائة.
(2) المطرفية: جماعة من الزيدية، اشتهروا بنسبتهم إلى مطرف بن شهاب، باعتباره مجددا في فكرهم الذي أثارت الجدلاً يومها، وقد أدى ذلك إلى نزاع بينهم وبين كل من الأئمة: أحمد بن سيلمان، وعبد الله بن حمزة، وأبي الفتح الديلمي، وانتهى ذلك إلى حروب وخلاف سياسي، أخذ مع الزمن طابعاً دينياً حاداً، وانتصر فيه أخيراً الإمام عبد الله فأبادهم، وانقرضت الفرقة بفكرها ورجالها، ولم يحفظ لنا التاريخ من تراثهم الفكري إلا النزر اليسير.
(3) ذلك لأنه لم يكلف عندهم إلا عند وجود الفعل، وما دام لم يفعل فلا تكليف.

(1/97)


(48) فصل والمحكوم عليه، المكلف، وشرط تكليفه - عند (أئمتنا، والمعتزلة) -: العقل، والمصلحة، والعلم بإيصال الثواب والعقاب، والقدرة، وعدم الإلجاء، والفهم. وَمِنْ ثَمَّ امتنع تكليف من لا يَعلم كالسَّاهي، والنَائم، إلا عند (بعضِ الأشعرية).. واعتبار طلاق السكران وقتله وإتلافه ليس بتكليف، بل من قبيل الأسبَاب كقتل الصبي وإتلافه(1).
(49) فصل ويستحيل تكليف المعدوم وإرادة الفعل منه في حال عدمه اتفَاقاً، وكذا عند (أئمتنا والمعتزلة) تَعَلُّق الخطاب به، خلافاً (للأشعرية) بناءً على أصلهم في قِدَمِه. واختَلَفُوا في وصفه بكونه أمراً ونهياً/38/ وخَبراً في الأزل، فمنعه (الكلابية (وأثبته غيرهم.
واختلف العلماء في كيفيّة دخوله في خطاب الموجود الحادث(2)، فقيل: يعمهم حقيقة. (بعض أئمتنا): وهي الحقيقة العُرفيَّة كالوصية للأولاد. وقيل: مجاز. وقيل: بالقياس.
__________
(1) ذلك لأنهم احتجوا على وقوع التكليف لمن لا يعلم بوقوع طلاق السكران وإتلافه، فأجيب عليهم بهذا الجواب.
(2) أي دخول المكلف الذي لم يوجد بعده، في خطاب المكلف الموجود هل يدخل فيه حقيقة أم مجازاً أم قياساًً.؟

(1/98)


(50) فصل ويصح التكليف بالشيء مع جهل الآمر والمأمور بانتفاء شرط وقوعه(1) عند وقته اتفاقاً. وكذا مع جهل الآمر وعلم المأمور، وإنما يكونان في الشاهد. وأما مع علم الآمر وجهل المأمور فإن كان خاصّاً(2) (فأئمتنا، والمعتزلة، والجويني): على امتناعه، و(جمهور الأشعرية) على جَوازِه، وروي عن (المنصور)، كأمره مكلفاً بصوم يوم قد علم موته قبله. وإن كان عاماً(3) امتنع عند (البصرية)، خلافاً (للبغداديَّة، والأشعرية) كصوموا غداً مع علمه بموتِ بعضٍ. ومع علمهما(4) يمتنع اتفاقاً أيضاً.
[الكلام في الأدلة]
(51) فصل والدليل لغة: المرشد، وهو: العلامة الهَادية، وناصبُها، وذَاكرُها. واصطلاحاً عند الأصوليين والفقهاء: ما يمكن التوصل بصحيح النَّظر فيه إلى مطلوب خبري(5). فيشمل القطعي /39/ والظني. وعند المتكلمين: ما يمكن التوصل بصحيح النظر فيه إلى العلم بمطلوب خَبري. فيخرج الظني، وهو: ما استند إلى الأمارة، وليس الظن بلازمٍ عن النظر فيها(6)، وفاقاً (للبهاشمة)، وخلافاً (للملاحميَّة).
والنظر: الفكر المطلوبُ به علمٌ أو ظن.
والإدراك بلا حكمٍ: تصورٌ، وبحكم: تصديق. وهو(7): جازم، وغير جازم. فالجازم مع المطابقة وسكون النفس: علم. والجازم مع المطابقة دون سكُونها: اعتقاد صحيح. والجازم مع عدمِهما: فاسد. وغير الجازم: ظن، ووهم، وَشكٌ. فالأوَّل الراجح. والثاني: المرجُوح، والثالث: المستَوي.
__________
(1) كأن يأمر السيد غلامه بصيام غد مع فرض أن الغلام سيموت قبل بلوغه.
(2) بذلك الشخص الذي عُلِم بانتفاء شرط وقوعه عنه.
(3) لا يختص بذلك المكلف الذي علم موته قبل الوقت.
(4) يعني علم الآمر والمأمور بأنه سيموت غداً.
(5) المطلوب الخبري: ما يخبره به عن شيء ينتقل إليه الذهن.
(6) في الأمارة.
(7) أي الصديق.

(1/99)


(52) فصل والعلم، قيل: لا يُحَد. ثم اختلفوا، فقال (الجويني، والغزَّالي): لِعِسَرِه لخفاء جنسِه وفصله. (بعض الأوائل، والرازي): بل لجلائه؛ لأنه ضروري. قيل: وهو ينبني على أن العلم بالعلم ضروري، كما هو رأي (البغدادية).
وقال (أئمتنا، والجمهور): يُحَد. قيل: وهو ينبنى على أن العلم بالعلم مكتسبٌ، كما هُو رأي (البصرية).
والجهل: مفردٌ ومركبٌ. فالمفرد: انتفاء العلم بالمقصود. والمركب: تصور المعلوم /40/ على خلاف ما هو عليه.
والسهو: الذهول عن المعلوم.
(53) فصل والحدّ - ويرادفه الحقيقة -: ذاتيٌ، وهو: ما أنبأ عن ذاتيات المحدُود الكليّة المركبة المرتبة(1). ورسميٌ، ويرادفه العرضيّ، وهو: ما أنبأ عن الشيء بلازم له يخصّه(2). ولفظي: وهو ما أنبأ عن الشيء بلفظٍ أَظْهَرَ مرادفٍ له(3).
وشرط هذه الثلاثة أن تكون مطّردةً(4) ومنعكسةً(5). ويُسمّى(6): القول الشارح. والحقيقيُّ أوّلُها.
(54) فصل والأدلة الشرعيَّة: الكتاب، والسُنَّة، والإجماع، والقياس، والإجتهاد، ونحوه(7)؛ لأنّ الدليلَ إما أن يكون وحياً أَولا. والأول إن كان متلوّاً؛ فهو الكتاب، وإلا فهو السُّنَّة. والثاني إن كان قول كل الأمةِ أو العِترة؛ فالإجماع، وإن كان إلحاق فرعٍ بأصلٍ لمشاركته له في علةِ حكمِه؛ فالقيَاس، وإلا فالإجتهاد ونحوه.
__________
(1) احترز بالكلية عن العوارض الشخصية التي هي ذاتيات الماهية كحيوانية زيد. واحترز بالمركبة عن تعقل الذاتيات واحداً فواحداً، ويعني بالمرتبة التي قدم فيها الجنس على الفصل، واحترز به عما قدم فيه الفصل على الجنس نحو الإنسان ناطق حيوان.
(2) كالضحك بالنسبة للإنسان.
(3) وذلك مثل: العقار: الخمر، فقد أنبأ عن العقار بلفظ أظهر منه.
(4) أي مانعة.
(5) أي جامعة.
(6) يعني: الحد.
(7) الإستصحاب والبراءة الأصلية.

(1/100)


(55) فصل والكتاب: الكلام المنزل عَلَى محمد صلى اللّه عليه وآله وسلم للإعجاز بأقل سورةٍ منه، أو بعدّة آياتها، متواتراً. وهو الموجُود بأيدي الأمة من غير زيادة فيه /41/ إجماعاً. ولا اعتدَاد بخلاف (الإمامية)(1)، ولا نقصان عما في العرضة الأخيرة(2). ومنه البسملة في غير براءة، وهي آية من أوّل الفَاتحة وأوّل كل سورة عند (جمهور السَّلَف: أئمتنا، والشّافعيَّة، وقُرَّاء مكة، والكوفة)، خلافاً (لبعض السلف، ومالك، وأبي حنيفة، والثوري، والأوزاعي، وقُرّاء المدينة، والبصرة، والشَّام). وقال (ابن المسيّب (3)، وَمُحمد بن كَعب)(4): هي آية من الفاتحة فقط. وقيل: بل آية مِنها، بعض أيةٍ من غيرها. (أحمد(5)، وداود(6)
__________
(1) الإمامية هم الشيعة الجعفرية الإثنا عشرية، وهي فرقة كبيرة مشهورة. وفي نسبة الخلاف في عدم تمام القرآن إلى جميع الإمامية نظر؛ لأن جميع تفاسيرهم للقرآن لم تفسر آيات محذوفة ولم تشر إليها، وقد اطلعنا على كثير من كتبهم ولقينا كثيراً من علمائهم وسألناهم فوجدناهم يعتقدون في القرآن التمام وعدم النقصان، ولعل ما ذكر المؤلف محكي عن جماعة منسوبة إليهم كانت في أحد الأزمنة القديمة. والله أعلم.
(2) أي التي استعرضه فيها نبينا صلى الله عليه وآله مع جبريل عليه السلام آخر مرة في رمضان.
(3) ابن المسيب، هو: الإمام أبو محمد سعيد بن المسيب القرشي، أحد كبار فقهاء المدينة، وسيد التابعين في زمانه، روى عن كثير من الصحابة، توفي (79 هـ).
(4) محمد بن كعب، هو: محمد بن كعب بن سليم أبو عبد الله القرظي المدني، علامة محدث من كبار التابعين، مات سنة سبع عشرة ومائة، وقيل: سنة عشرين ومائة. سير أعلام النبلاء 5/65.
(5) أحمد: هو الإمام أحمد بن حنبل الشيباني الإمام المشهور ورأس الحنبيلية، توفي (241هـ).
(6) داود، هو: داود بن علي بن خلف الأصبهاني الظاهري، إمام المذهب الظاهري، ولد بالكوفة ونشأ ببغداد، وفيها مات سنة سبعين ومائتين. وإنما قيل له الأصبهاني لأن أمه أصبهانية. طبقات الحنفية 1/419.

(1/101)


، ورازي الحنفيَّة): آية مستقلة مُنَزَّلة بين كل سُورتين. وتواترت بعض آية في النمل إجماعاً.
ومنه المعوذتان، وخلاف (ابن مسعود) في إثباتهما في المصحف، لا في كونهما قرآناً. وخلاف (أُبَيّ) في الفاتحة كذلك.
(القاسم، والهادي، والجمهور): ويكفر منكر آية، فيقتل إن لم يتب. (ابن الحاجب): وقُوَّة الشبهة في البسملة منعت التكفير من الجانبين.
(56) فصل حكى (الجزري(1) عن الجمهور) أن القراءة الصحيحة ما صح سندُها /42/ ووافقت المصاحف العثمانية لفظاً أو تقديراً، بأن يحتملها الرّسم، ووافقت العربية ولو بوجهٍ، وأنه لا يجوز إنكارها، سواء كانت عن السّبعة، أو عن العَشَرة، أو عن غيرهم من الأئمة المقبولين، وأنه لا يشترط في الصحة التواتر إلا عند بعض المتأخرين، وأنّ ما اختل فيها أحد القيود الثلاثة فشاذة أو باطلة. وحكى غير (الجزري) أن الشاذة ما وراء السَّبع. وقيل: ما وراء العشر. ومختار (أئمتنا، والحنفية، والمزني(2)، وأحد قولي الشافعي): أنها(3) كالآحادي، فيعمل بها في الأحكام العملية خلافاً (لعطاء(4)، ومالك، والشافعي، والمحاملي(5)، وابن
__________
(1) الجزري، هو: شمس الدين محمد بن محمد الجزري، عالم مشهور، له إهتمام بعلوم القرآن عامة وبالقراءات خاصة، توفى سنة ثلاث وثلاثين وثمانمائة. كشف الظنون 1/ 128.
(2) المزني، هو: أبو إبراهيم إسماعيل بن يحيى بن إسماعيل بن عمرو بن إسحاق المزني، من أجل أصحاب الشافعي، قال عنه الشافعي: المزني ناصر مذهبي، مات بمصر سنة أربع وستين ومائتين. طبقات الفقهاء 1/109.
(3) يعني ما عدا السبع.
(4) عطاء، هو: عطاء بن أبي رباح، أحد الأعلام المشهورين، روى عن الصحابة، وهو شيخ أبي حنيفة والأوزاعي، وابن جريج، (توفي 114 هـ).
(5) المحاملي، هو: أحمد بن محمد بن أحمد بن القاسم بن إسماعيل الضبي أبو الحسن البغدادي أحد أئمة الشافعية، له مصنفات، توفي في ربيع الآخر سنة خمس عشرة وأربعمائة. طبقات الشافعية 2/174.

(1/102)


الحاجب)، فأما القراءة بالمعنى فَمُحرّمة.
(57) فصل والقراءات السّبع متَواترة عند (الجمهور) أصولاً، وهو: جوهر اللفظ، وفرشاً، وهو: هيئته كالمد والإمالة والترقيق والتفخيم ونحوها. وقيل: ليست بمتواترة لا أصولاً ولا فرشاً. (القرشي، وابن الحاجب): بل المتواتر الأصول دون الفرش.
ومعتمد (أئمتنا) قراءة أهل المدينة(1). و(لزيد بن علي)(2) /43/ قراءة مفردة مروية عنه(3). ويُوصف مَا دون حَدِّ الإعجاز بأنه قرءآن متواتر كالآية والآيتين. والحرف الثابت في إحدى القراءتين دون الأخرى كـ(مالك) جزء متواتر أُتِيَ به توسعة، ولا يسمّى على انفراده قرءانا. والمجتزي بالأخرى لم يترك قرءانا، كالمجتزي بإحدى خصال الكفارة المجزية.
ولفظ القرآن يطلق على الحكاية والمحكي.
وإنما أنزل على سبعة أحرف تخفيفاً. (الجمهور): والمراد بالأحرف: سبع لغات عربية. ثم اختَلفوا في تعيينها على أقوال، وقيل: ليس المراد حقيقة العدد، بل السعة والتيسير.
__________
(1) التي هي قراءة نافع.
(2) الإمام الأعظم الشهيد السعيد أبو الحسين زيد بن علي بن الحسين بن علي بن أبي طالب، أخباره مشهورة منشورة، توفي سنة عشرين ومائة. أنظر عنه كتابنا: الإمام زيد بن علي شعلة في ليل الاستبداد.
(3) قيل: إنه جمعها أبو حيان في كتاب سماه (النور الجلي في قراءة زيد بن علي) ونقل طرفاً منها الزمخشري في (الكشاف) وأبو حيان في (البحر المحيط).

(1/103)


(58) فصل واختلاف القراءات(1): إما لبيان أصل الحق ودفع أصل الزَّيغ(2)، أو حكم مجمع عليه(3)، أو لِتَرجيحِ مختلفٍ فيه(4)، أو لجمع بين حكمين مختلفين(5)، أو لاختلافهما(6)، أو لتفسير ما لعله لا يُعْرَف(7)، أو لإيضاح حكمٍ يقتضي الظاهر خلافه(8)، أو لتَرجيح قول بعض النحويين على بعَض(9)/44/.
ومعرفة قدر الآية ومحلها توقِيْفٌ.
واختلف في وجهِ إعجاز القرآن، فعند أئمتنا والجمهور: بلاغته الخارقة للعادة. وقيل: الإخبار بالغيب. وقيل: كون قارئه لا يَكِلّ وسامعه لا يَمِلّ. وقيل: سلامته عن التناقض والإختلاف. وقيل: أمر يُحَسُّ به ولا يُدْرَك كالملاحة. وقيل: صرفه عن معارضته.
وانعقد الإجماعُ علَى أنَّه محرُوسٌ عن المطاعن، كتبدِيلٍ، وتنَاقضٍ، واختلاَفٍ، وكذبٍ، ولحنٍ، وزيادةٍ، ونقصانٍ. وقد تواتر غيره من المعجزات وفاقاً (للبغدادية) وخلافاً (للشيخين).
__________
(1) ملاحظ أن بعض التعليلات ليست وجيهة لأنها لم تأتي إلا بعد نزول القرآن.
(2) مثل لذلك بقراءة من قرأ: ?عذابي أصيب به من أساء? بالسين المهملة.
(3) كقراءة سعد بن أبي وقاص: وله أخ أو أخت من أم..
(4) كقراءة: وتحرير رقبة مؤمنة. في كفارة اليمين.
(5) كقراءة: يطهرن ويطهرن بالتشديد والتخفيف، فاختلافهما دليل على الجمع بين الحكمين، فلا يقرب الحائض حتى تطهر من حيضها وتطهر بالغسل.
(6) كقراءة: أرجلَكم وأرجلِكم بالنصب والخفض.
(7) كقراءة الصوف المنفوش مع: كالعهن المنفوش.
(8) كقراءة: فامضوا إلى ذكر الله، مكان فاسعوا إلى ذكر الله؛ لأن السعي هو المشي بسرعة وهو خلاف المقصود.
(9) قال في الدراري: كقراءة حمزة: فالأرحام. بالجر، مقابل قول من اختار العطف على المضمر.

(1/104)


(59) فصل وينقسم: إلى محكمٍ ومتشابه، فالمحكم: ماوضح معناه. وقيل: مَا لا يَحتمل إلاَّ معنىً وَاحداً. وقيل: ما كان إلى معرفته سبيلٌ. (الإمام): ما عُلم المراد بظاهره بدليل عقلي أو نقليٍّ. وقيل: آيات الحلاَل والحرَام.
وهو: نص جلي، وظاهر، ومفهوم، لم يُعَارَضَا، وخاص وإن عَارضه عَام، ومقيّد وإن عارضه /45/ مطلق، وما وافقه تحسين عقلي، ومنه(1) في الأظهر مجازٌ قرينته ضرورية أو جليَّة.
والمتشابه خلافه. وقيل: بل آيات مخصُوصة. ثم اختلفوا، فقيل: الحروف المقَطَّعة في أوائل السُور. وقيل: آيات السعادة والشقاوة. وقيل: الناسخ والمنسوخ. وقيل: الأوامر والنواهي. وقيل: القصص والأمثال. ووروده في الكتاب لفوائد كثيرة، أو لمصلحة علمها اللّه تعالى.
(60) فصل (بعض السلف، وأئمتنا، والجمهور): ويعلم الراسخون في العلم تأويله؛ لِوقوع الخطاب به. (بعض السلف، وأكثر الفقهاء، والمحدثون): لا يعلمونه لعدم الخطاب به. (الهادي): يعلمون منه ما يتعلق به التكليف دون غيره كـ?حم عسق?. (القاسم)(2): وقد يُطْلِعُ اللّه عَليه بَعْضَ أصفيَائه. (الإمامية): لا يعلمه إلا الإمام كالمحكم.
والراسخ: المجتهد الثابت العقيدة.
ويمتنع على القول الأوّل جَهْلُ كل الراسخين بتأويله لمخالفته لخبره تعالى(3)، لا بعضهم. وعلى القول الثاني ينقسم الكتاب: إلى ما يراد فهمه على جهة التفصيل وهو المحكم، وعلى جهة الإجمال وَهو المتشَابه /56/. فأما ورود ما لا معنَى له فممتنع، خلافاً لبَعضِ (الحشوية)(4) .
__________
(1) أي من النص، أو من المحكم.
(2) هو : ابن إبراهيم الرسي، تقدمت ترجمته.
(3) حيث أخبر أنه يعلمه هو والراسخون.
(4) الحشوية: فرقة من الظاهرية ذكر أنهم يحشون الأحاديث الرديئة مع الأحاديث الصحيحة، وقيل: كانوا يحضرون حلقة الحسن البصري فوجد كلامهم رديئاً فقال: ردوا هؤلاء إلى حَشَا الحلقة.

(1/105)


والتأويل: تَرْجِيْحُ المرجوح لدَليل عند الأُصوليّين، والتَّفسيرُ عند المفسرين. وتختلف مراتبه دِرَاية ورواية.
فالدِّرايَة، أعلاها: تفسير الكتاب بالكتاب، ثم التفسير النَّبوي، ثم تفسير القرابة، ثم الصحابة، ثم العلماء الثقات سيما أئمة اللغة والعربية، ومن لا يفسّر إلا عن توقيف.
والرواية أعلى مراتبها القرابة، ثم الصحابة، ثم مفسرو التابعين الثقات ومَنْ بعدهم كذلك. ويجب رفض تأويل المبتدعة وتحريف الملحدة.
(61) فصل وَينقَسم الكتاب: إلى قطعيٍ، وهو: ما كان نصاً في دلالته متواتراً في نقله، وظني، وهو خلافه. ويُعْرَف معناه من نفسه إن كان مُبَيَّناً، ومن بيانه إن كان مُجْمَلاً، ويختص الرسول صلى الله عليه وآله وسلم ببيان مجملاته الشرعيَّة.
(62) فصل (ابن عباس، وعكرمة)(1) وغيرهما: وفي القرآن المعَرَّب، وهو: لفظ استعملته العرب في معنىً وُضِع لَه في غير لغتهم، وقد يغيرونه. ومنه: (المشكاة) للكَوَّة، وهي هندية. و(قسطاس) /47/ للميزان، وهي روميّة. و(استبرق) لغليظ الديباج، و(سِجِّيل) للتراب المطبوخ، وهما فارسيتان.
__________
(1) عكرمة، هو: مولى ابن عباس أصله من البربر وكان ممن ينتقل من بلد إلى بلد، وهو من فقهاء التابعين، مات سنة سبع ومائة، وقيل: سنة خمس عشرة ومائة. طبقات الفقهاء 1/ 58.

(1/106)


والمختار - وفاقاً (للشافعي، وابن جرير(1)، والجمهور) -: منع ذلك، وهذه(2) مما اتفق فيه اللغتان (كالتَّنُّور، والصابون). والخلاف(3) في أسماء الأجناس المتصرف فيها بدخول اللاّم والإضافة، لا الأعلام؛ لأنها بحسب وضعها العَلَمِي ليست مما ينسب إلى لغة دون أخرى(4).
[شروط الاستدلال جملة]
(63) فصل (أئمتنا، والمعتزلة): وشروط الإستدلال بخطابه تعالى: علم المستدل: أنه لا يجوز أن يخاطب بما لا يريد به معنىً البتة، كما تقول (الحشوية) في فواتح السُّوَر. ولا على وجه يَقْبُح، كالإخبار بالكذب، والأمر بالقبيح والنهي عن الحسن. ولا بما يريد به غير ظاهره من غير بيان، كما تقول (المرجئة) في آي الوعيد.
وشروط الإستدلال بخطاب الرسول صلى اللّه عليه وآله وسلم: كذلك، وأنه لا يكتم ما أُمِرَ بتبليغه، ولا يُحَرِّفُهُ، ولا يُبَدِّله.
وشروط الإستدلال بفعله: معرفةُ شُروطِ الإستدلال بالخطاب /48/، وشُروطِ التأسي فيه، وألاَّ يكون خاصاً به صلى اللّه عليه وآله وسلم.
وشروط الإستدلال بتقريره: كون من أقَرَّهُ ممن يعتزي إلى الملّة، ووقوع ما قرر عليه بعلمه صلى اللّه وآله وسلم، وألاَّ ينكره أحد مع علمه بإنكاره.
وشروط الإستدلال بالإجماع: معرفةُ شُرُوْطِ الإستدلال بالخطاب، ومُسْتَنَدِ الإجماع من دلالة أو أمارة، وَكَيْفِيّةِ نقله من تواتر أو تلقٍ بالقبول في القطعي، وآحاد في الظَّني.
__________
(1) ابن جرير، هو: العلامة المفسر أبو جعفر محمد بن جرير بن يزيد الطبري، كانت له منزلة عظيمة وله مؤلفات شهيرة، توفي عشية الأحد ليومين بقيا من شوال سنة عشر وثلاثمائة، ودفن ببغداد. سير أعلام النبلاء 14/267.
(2) أي: الأسماء المتقدمة المدعى تعريبها ليست معربة بل عربية اتفقت فيها لغة العرب مع لغاتها.
(3) يعني في التعريب وعدمه.
(4) لأن المسمى بها شيئاً هو الواضع، كائناً من كان.

(1/107)


وشروط الإستدلال بالقياس: معرفة شروط الإستدلال بالخطاب، وشروط أركانه الأربعة، وألاَّ يكون على الحكم دليلٌ غيره إلا للتَقْوِية.
وشروط الإستدلال بالحظر والإباحة: ألاَّ يوجد حكم الحادثة في طرق الشرع، وألاَّ يكون للعقل فيها حكم.
ويأتي كل ذلك في موضعه إن شاء اللّه تعالى.

الأمر

[1] باب الأمر
(64) فصل: لفظه حقيقةٌ في الصِّيغة المخصوصة اتفاقاً(1). (الجمهور): ومجازٌ في غيرها. (الإمام، وأبو الحسين، والشيخ): مشتركٌ بينها وبين الشأن والغَرَض /49/ وجهة التأثير(2). (المنصور، والحفيد): كذلك، إلا في جهة التأثير(3). (بعضُ الشافعيّة): مشتركٌ بين الصيغَة والفعل(4). (الآمديُّ): متواطئ فيهما(5)، لاشتراكهما في معنى يشملهما، وهو: كونهما شيئاً، أو موجوداً، أو فعلاً، إذ هو أعم من أن يكونَ باللّسان أو غيره. (جمهور الأشعريَّة): مشتركٌ بينَ اللِّساني والنَّفساني، وعن أَقلِّهم حقيقة في النَّفسَاني مجاز في اللساني(6).
__________
(1) يريد بلفظ الأمر، قولنا: (أمر)، فهو يطلق على القول المخصوص. ويعني بالصيغة المخصوصة نحو قولك: (إفعل)، أو (ليفعل).
(2) أي مشترك لفظي؛ لاشتراكها في اللفظ فقط، ولذلك فمتى أطلق لفظ الأمر لم يفهم منه بعضها بخصوصه إلا بقرينة، فإذا قلت سمعت أمر فلان. فهم أنه القول. وإذا قلت جاء فلان لأمر. فهم أنه جاء لغرض. وإذا قلت: تحرك الجسم لأمر. فهم أن المراد تحرك لموجب أثر تحركه. وإذا قلت: وراء الموت أمر عظيم. فهم أن المراد به شأن عظيم.
(3) قالوا: لأن العرب لا تلاحظ ذلك في خطاباتها، ولا تنبه له فتضع له عبارة. انظر منهاج الوصول 246.
(4) نحو قوله تعالى: ?وما أمر فرعون برشيد?، أي توجيهه أو فعله.
(5) أي في الصيغة والفعل.
(6) وقد تقدم الكلام فيه.

(1/108)


وحدُّ الصيغة المخصوصة(1): طلبُ فِعلٍ بقولٍ إنشَائيّ على جهةِ الإستعلاء(2) والتَّحَتُّم. (جمهور الأشعرية): ولا يُعْتَبر فيه علوٌ ولا استعلاء. وقيل: يعتبران. (جمهور المعتزلة، والشيرازي، وابن الصباغ(3)، والسّمعاني)(4): يعتبر العلوّ(5). (أئمتُنَا، وأبو الحسَيْن، وَالمتأخرون): يعتبر الإستعلاء.
__________
(1) أي حقيقة الأمر بمعنى الصيغة.
(2) الاستعلاء: عَدُّ الآمر نفسه عالياً، فالأمر ما كان من الأعلى إلى الأدنى، سواء كان عالياً في نفس الأمر أم لا. ويخرج بذلك الالتماس لأنه من المستويين رتبة والدعاء؛ لأنه من الأدنى إلى الأعلى.
(3) ابن الصباغ، هو: عبد السيد بن محمد بن عبد الواحد أبو نصر البغدادي، من فقهاء الشافعية بالعراق، له كتب في الفقه وأصوله، توفي في جمادى الأولى، وقيل في شعبان سنة سبع وسبعين وأربعمائة. طبقات الشافعية 2/251.
(4) السمعاني، هو: منصور بن محمد بن عبد الجبار أبو المظفر التميمي المروزي الشافعي، صنف في التفسير والفقه والحديث والأصول، ومات في ربيع الأول سنة تسع وثمانين وأربعمائة. طبقات الشافعية 2/273.
(5) وهو كون الآمر عالياً بالفعل، فيخرج الالتماس والخضوع.

(1/109)


(65) فصل وتستعمل (إفعل) في معانٍ، وهي: الوجوب(1)، والندب(2)، والإباحة(3)، والتهديد(4)، والإرشاد(5)، والإكرام(6)، والتسخير(7)، والتعجيز(8)، والتَّأديب(9)، والإهانة(10)، والتسوية(11)، والدعاء(12)، والتمني(13)، والإحتقار(14)، والإنذار(15)، والتكوين(16).
__________
(1) الوجوب، مثل قوله تعالى: ?وَأَقِيْمُوْا الصَّلاَةَ?[البقرة: 43].
(2) الندب، مثل: ?فَكَاتِبُوْهُمْ إِنْ عَلِمْتُمْ فِيْهِمْ خَيْراً?[النور: 33].
(3) الإباحة، مثل قوله تعالى: ?وإذا حللتم فاصطادوا?.
(4) التهديد، مثل قوله تعالى: ?اعْمَلُوْا مَا شِئْتُمْ?[فصلت:40].
(5) الإرشاد، مثل: قوله تعالى: ?وَاسْتَشْهِدُوْا شَهِيْدَيْنِ مِنْ رِجَالِكُمْ?[البقرة: 282]. والفرق بين الندب والإرشاد: أن الندب لثواب الآخرة، والإرشاد لمنافع الدنيا.
(6) الإكرام، مثل قوله تعالى: ?ادْخُلُوْهَا بَسَلاَمٍ?[الحجر:46].
(7) التسخير، مثل قوله تعالى: ?كُوْنُوْا قِرَدَةً?[البقرة:65].
(8) التعجيز، مثل قوله تعالى: ?فَأْتُوْا بِسُوْرَةٍ مِنْ مِثْلِهِ?[البقرة:23].
(9) التأديب، مثل قول رسول اللّه صلى اللّه عليه وآله وسلم: (كل مما يليك). وهو قريب من الندب.
(10) الإهانة، مثل قوله تعالى: ?ذُقْ إِنَّكَ أَنْتَ العَزِيْزُ الْكَرِيْمُ?[الدخان:49].
(11) التسوية، مثل قوله تعالى: ?اصْبِرُوْا أَوْ لاَتَصْبِرُوْا?[الطور:16].
(12) الدعاء، مثل قوله تعالى حكاية عن المؤمنين: ?رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا?[الأعراف:151].
(13) التمني، كقول الشاعر: ألا أيها الليل الطويل ألا انجل.
(14) الاحتقار، مثل قوله تعالى: ?أَلْقُوْا مَا أَنْتُمْ مُلْقُوْنَ?[الشعراء:43].
(15) الإنذار، مثل قوله تعالى: ?تَمَتَّعُوْا قَلِيْلاً?[إبراهيم:30]، وهو قريب من التهديد.
(16) التكوين، مثل قوله تعالى: ?كُنْ فَيَكُوْنُ?[يس:82].

(1/110)


وهو مجاز فيما عدى الخمسة الأُوَل اتفاقاً. واختلف /50/ فيها، فعند (أئمتنا، والجُمهور): أنه حقيقة في الوجوب، مجاز في غيره. ثم اختلفُوا(1)، فقيل: عقلاً. (أبو طالب، والبلخي، وأبو عبدالله، والحاكم)(2): شرعاً فقط. (أكثر أئمتنا، والمعتزلة، والفقهَاء): لغةً وشرعاً. (أبو هاشم، والقاضي، وبعض الفقهاء، وأحد قولي الشافعي، وأبي حنيفة(3) وأبي علي): بل(4) حقيقةٌ في النَّدب. وعن (المنصور) روايتان. (الموسويُّ): مشتركٌ بينهما. (الماتِريدي)(5): متواطئٌ فيهما(6)، فهو للطَّلَب المُشتَرك بينهما، وهو ترجيح الفعل على الترك. وتوقَّف (الأشعريّ، والغزاليُّ، والبَاقِلاني، والآمديّ)، قيل: (7) في كونه للوجوب أو للنّدب، وقيل: في كونه مشتركاً أو متَواطئاً فيهما. وقيل: متواطئٌ فيهما(8) وفي الإباحة؛ للأذن المشترك بينها، وقيل: مشترك بينَ الثلاثة(9). (الإمامية): مشتركٌ بينها وبين التهديد. وقيل: مشتركٌ بين الخمسة.
وإذا اقترن به وعيد؛ فللوجُوب اتفاقاً.
__________
(1) اختلف القائلون بأنه حقيقة في الوجوب، هل وجب عقلاً أو شرعاً أو وضعاً أو باثنين منها.؟
(2) المراد بالحاكم هنا : الحاكم الجشمي، وهو: أبو سعيد المحسن بن محمد بن كرامة الحاكم الجشمي البيهقي، ولد في قرية جشم من ضواحي بيهق بخراسان، وهو علامة كبير من شيوخ الزمخشري، وفد إلى اليمن، واشتهر بصنعاء، وصار من الزيدية، توفي شهيداً مقتولاً بمكة في رجب سنة تسع وتسعين وأربعمائة.
(3) سقط من (ب): أبو حنيفة.
(4) لفظ: افعل.
(5) الماتريدي، هو: محمد بن محمد بن محمود أبو منصور الماتريدي، من كبار علماء الحنفية، كان يقال له إمام الهدى إليه تنسب الماتريدية له كتب شتى، مات سنة ثلاث وثلاثين وثلاثمائة. طبقات الحنفية 1/ 130.
(6) أي في الوجوب والندب.
(7) الخلاف في تعيين ما وقع فيه التوقف.
(8) في: في الوجوب والندب.
(9) الوجوب والندب والاباحة.

(1/111)


ويحمل إذا تجرد عن القرينة على حقيقته عند كلٍ. والخلاف في البحث عن خلافها كالعام(1).
(66) فصل (أئمتنا، والجمهور): والكفار مكلفون(2) بفُروع الإيمان، فيشملهم عمومات الخطاب /51/، خلافاً (للحنفية، والإسفراييني) مطلقاً، ولقومٍ في غير المرتد، وقيل: مكلفُون بالنواهي دون الأوامر، لإمكان الترك حال الكفر دون الفعل، فلا يجامعه(3).
وثمرة الخلاف هل يعاقبون على ترك غير الإيمان، كما يُعَاقَبُونَ عَلى تركه أم لا؟
(67) فصل ويقتضي الأمر الوجوب بعد الحظر العقلي باتفاق(4)، واختلف فيه بعد الحظر الشرعي، فعند (أئمتنا، والمعتزلة، وبعض الأشعرية، والفقهاء): أنه للوجوب. (جمهور الفقهاء): بل للإباحة(5)وتوقف (الجويني). وقال (الغزالي): إن كان الحظر أصلياً فالأمر بعده للوجوب، وإن كان عارضاً فللإباحة(6)، وعليه يحمل إطلاق الأوّلِين.
(68) فصل والواجب به(7) إما: واحدٌ، أو أكثر؛ على الجَمْعِ من دون ترتيب(8)، أو معه(9)، أو على التخيير(10). /52/
__________
(1) أي كالخلاف في البحث عن المخصص للعام، وسيأتي.
(2) في (ب): مخاطبون.
(3) يعني فلا يمكن إمتثال وكفر؛ لأن النية بالامتثال لا بدَّ منها، ونية الكافر غير معتبرة.
(4) وذلك كقوله تعالى: ?اقتلوا المشركين? [التوبة: 5]، فإن القتل محظور عقلاً، وقوله تعالى: ?اقتلوا? أمر بعده.
(5) نحو: ?فإذا قضيت الصلاة فانتشروا? [الجمعة: 10].
(6) الحظر الأصلي مالم يتقدم قبله إباحة، نحو: إذا انقضى حيضك فصلي. فحظر الصلاة أثناء الحيض أصلي إذ لم تتقدمه إباحة، والحظر العارض ما تقدم قبله إباحة، نحو: ?فإذا حللتم فاصطادوا?[المائدة: 2]، فإن الاصطياد كان مباحاً قبل ورود الآية.
(7) أي: بالأمر.
(8) نحو: ?فتحرير رقبة مؤمنة ودية مسلمة إلى أهله?[النساء: 92].
(9) نحو قوله: ?فاغسلوا وجوهكم وأيديكم? الآية.
(10) نحو: ?قاتلوا في سبيل الله أو ادفعوا?.

(1/112)


واختلف في الواجب المخَيّر كالكفارات، فعند (أئمتنا، والمعتزلة، وأقل الفقهاء): أنها واجبةٌ معاً على التخيير. (الأشعرية، وأكثر الفقهاء): بل الواجب منها واحدٌ لا بعينه. وقيل: واحد معينٌ عند اللّه تعالى ومجهول عند المكلّف، فإن فَعَلَه سقط الوجُوب به، وإن فعل غيره، فنفل يسقط به الفرض. وقيل: الواجب ما يُفعل منها. وكل من الطائفتين ينسب المذهبين الأخيرين(1) إلى مخالفه، فإذاً لا خلاف في بطلانهما.
الأقلون: والخلاف لفظيٌ. الجمهور: بل معنوي.
وتظهر فائدته فيمن حلف بعد حنثه وقبل تكفيره بالطلاق ما عليه عتق، فيقع على الأول(2)، ولا يقع على الثاني والثالث(3) إذ الأصل براءة الذمة، ويقع على الرابع بالعتق(4)، وقيل: لا. إذ لا يتعين الوجوب فيه(5) إلا بفعله. /53/
وقد يكون الجمع بين المخير فيها(6) مندوباً كالكفارات، ومحظوراً كتزويج الكفؤين.
وإذا فُعلت معاً؛ فإن كانت مترتبةً فالواجب أولها، ويستحق عليه ثواب واجب مخيّر، والأخيران ندبٌ، ويستحق عليهما ثواب الندب، وقيل: ثواب واجبين لا ذم على تاركهما(7). (أبو الحسين): يستحق على جميعها ثواب واجب مخير.
__________
(1) يعني أن المعتزلة تنسبهما إلى الأشعرية، والأشعرية تنسبهما إلى المعتزلة. قال في الدراري: وأنت تعرف أن المذهبين الأخيرين - في التحقيق - مذهب واحد.
(2) لأن الأول ينص على أن الواجب المخير واجب معاً.
(3) لأن الثاني ينص على: أن الواجب واحد لا بعينه. وينص الثالث على: أن الواجب معين عند الله، ونحن لا نعلمه.
(4) أي: وعلى القول الرابع يقع الطلاق بالعتق، لأن الوجوب يتعلق بالفعل على مقتضى ذلك القول.
(5) سقط من (ب): فيه، والمعنى: في ذلك الفعل بعينه إلا بفعله.
(6) يعني بين الأمور المخير فيها.
(7) بناء على أنهما صارا بعد فعل الأول واجبين مرخص فيهما.

(1/113)


وإن كانت دُفعة(1) استحَقَّ الثوابَ على أشقها، وفاقاً (لجمهور المعتزلة). والخلاف فيها كذلك.
وإذا تركت معاً، استحق العقاب على ترك أخفها، وفاقاً (لجمهور المعتزلة). وعِقَابَ تركِ واجبٍ مخير عند (أبي الحسين).
وإنما يخير بين متفقي الحكم كواجبين، أو مندوبين فصاعداً، لا ما اختلف حكمهما كواجبٍ ومندوب.
(69) فصل والأمر: مُطلق، ومقيَّد.
فالمطلق /54/ عند (جُمهور أئمتنَا، والأصُوليين): للمرَّة بوضعه، لا للتِّكرار، إلا لقرينة. (الإسفراييني): للتكرار - مُدة العُمر مع الإمكان - بوضعه، لا للمرَّة إلا لقرينة. (متأخرُو أئمتنا، والكرخي، والحاكم، والجويني، وغيرهم): لمجرد طلب الفعل، ولا يدل عليهما(2) بوضعه. وقيل: مشترك بينهما(3). (السكاكي): إن كان لقطع الواقع فللمرَّة، كقَولنا للساكن: تحرك. وإن كان لاتصاله فللإستمرار، كقَولنَا للمُتحرك: تحرك. وقيل: بالوقف، إما بمعنى: لا يُدرى هل هو حقيقة في المرَّة، أو في التكرار، أو للمُطلق من دون دلالة عليهما؟ أو بمعنى أنه مشتركٌ مُجرَّدٌ عن القرينة.
(70) فصل والقائلون بأنه للتكرار قائلون بأنه للفور، فيَعْصِي من أخّر.
__________
(1) أي إذا فعلت الواجبات المخيرة دفعة.
(2) أي على المرَّة والتكرار.
(3) أي بين المرة والتكرار.

(1/114)


واختلف القائلون بأنه للمرَّة، فعند (الهادي /55/، والنَّاصر، والمؤيد، والقاضي جَعفر(1)، وأبي حنيفة، ومَالك، وبعض أصحابهما): أنه للفَور فيعصي من أخّر عن الوقت الأول إلى الثاني، والوجوب فيه(2) بذلك الأمر. (الكرخي، وأبو عبدالله): بل بدليلٍ غيره. (القاسم، وأبو طالب، والمنصور، والشيخ، والملاحميّة(3)، والشيخان، وبعض الأشعرية): للتّراخي، ويمتثل من بادر. (الشافعي، والمتأخّرون): لمجرد طلب الفعل، ولا يدل عليهما إلا لقَرينة(4). (الجُويني): للفَور شرعاً؛ لأنه أحوط، وتوقَّف لُغَةً. الباقِلاني: يجب الفور أو العزم. وقيل: بالوقف إما بمعنى لا يُدرى هل وضعه للفور أو للتراخي؟ أو بمعنَى أنه مشتركٌ بينهما.
والْمُبَادر مُمتثلٌ عند أكثر المتوقفين، وتوقّف بعض غلاتهم فيه وفي المؤخّر، لاحتمال إرادة الشارع للتأخير أو التقديم /56/، ويأثم من أخّره مع ظن الموت اتفاقاً.
(71) فصل والمقيد بوقتٍ يَنْقُصُ عن الفعل(5)، يمتنع الأمر به، إلا عند مجوِّز تكليف ما لا يطاق. وبوقتٍ يساويه(6) كاليَوم للصوم، يتعلق الوجوب بجميعه على سواء.
__________
(1) القاضي جعفر، هو: جعفر بن أحمد بن عبد السلام البهلولي، من كبار علماء الزيدية في اليمن، له مشاركة في مختلف العلوم، وتوفي بسناع حدة جنوبي صنعاء، سنة ست وسبعين وخمسمائة.
(2) أي وجوب فعله في الوقت الثاني.
(3) جماعة من المعتزلة تنسب إلى محمود بن الملاحمي، العلامة الأصولي الكبير من كبار أصحاب أبي الحسين البصري، تأتي ترجمته.
(4) يعني لايدل على الفور والتراخي إلا لقرينة، وفي (ش): إلا القرينة.
(5) أي لا يتسع للفعل.
(6) أي: ينتهي الوقت بالفراغ من الفعل.

(1/115)


وبوقتٍ يزيد عليه هو الموسّع، كوقت اختيار(1) أداء الصَّلاة. واختلف فيه، فعند (جمهور أئمتنا، وَجُمهور المعتَزلة، والأشعريَّة، وبعض الفقهاء): أنه يتعلق الوجوب بجميعه على سواء، موسعاً في أوَّله مضيَّقاً في آخرِه. (المنصور، والملاحميّة): ومع التأخير لا يجب العزم على الفعل(2) بعينه في أوَّله، وإنما يجب العزم على الإتيان بكل واجبٍ جملةً. (أبو طالب، والجمهُور): يجب. ثم اختلفوا، فعند (أبي طالب، وأكثرهم): إنه بدل عنه(3)، وعند أقلهم: ليس ببدل.
(جمهور الشافعية): بل بأوّله(4). وخَرَّجه (أبو طالب للهادي). واختلفوا /57/ فيما فُعل في آخره، فقيل: قضاء. وقيل: أداء. وهو(5) وقتُ تأديةٍ لا وجوب.
(الحنفية، وروايةٌ عن القاسم): بل بآخره. ثم اختلفوا فيما فُعِل في أوّله. فقيل: نَفْلٌ يَسْقُط به الفرض. وقيل: واجبٌ مُعَجَّل. (الكرخي): موقوف على آخره، فإن بَلَغه المكلف ففرضٌ، وإن لم يبلغه أو سقط تكليفُه قبله فنفلٌ.
ومن مات في أثناء الموسّع بعد العزم على الفعل، لم يأثم بتأخيره، ويأثم في الأصح من أخّره لغير عذرٍ مع ظن الموت، فإن لم يمت ثم فعَله في وقتِه؛ فالمختار وفاقاً (للجُمهور): أنَّه أداءٌ خلافاً (للبَاقلاني).
(72) فصل (أئمتنَا، والجمهُور): والقضاء بأمرٍ جديد لا بأمر الأداء؛ لأنه لا يستلزمه، خلافاً (للقَاضي، ورازي الحنفيَّة، والحنَابلة، وغيرهم).
والأمر بالأمرِ بالشيء ليس أمراً به، وفاقاً (للجمهور)، وسواءٌ كان بلفظ: (مُر) أو بغيره /58/ من صيغ الأمر.
(73) فصل والمقيّد بالتأبيد يقتضي الدَّوام، وفي جواز نسخه خلافٌ سيأتي.
__________
(1) سقط من (أ): إختيار.
(2) في (أ): فعله، والمعنى أنه لا يجب العزم على أداء ذلك الواجب بعينه، بل إنما يجب العزم على أداء الواجبات عموماً.
(3) أي: بدل عن الفعل في ذلك الوقت، ولذا وجب العزم عندهم.
(4) أي: بل يتعلق الوجوب بأوله.
(5) أي: آخر الوقت.

(1/116)


والمقيَّد بالعام يقتضي التكرار، نحو: اكرمه كلما قام، وبغيره من وصفٍ أو شرطٍ إن لم يمكن فيهما التكرار لم يقتضه، نحو: ادفع إلى قاتل عمروٍ درهماً، واكسه إن قتل زيداً(1). وإن أمكن(2)؛ فإن كانا(3) علةً في المعنى ـ نحو: ?الزّانِيَةُ والزّاني فاجْلِدوا?[النور: 2]، ? وَإِنْ كُنْتُمْ جُنُباً فاطَّهَّروا ?[المائدة: 6] (4) ـ وجب التكرار اتفاقاً؛ للأمر عند القائلين إن مُطلقه يقتضيه، وللعلة عند القَائلين إنه لا يقتضيه، وإن كانا(5) غير علّةٍ ـ نحو: إعطه درهماً حال قيامه، وإن دخلت السوق فاشتر لحماً ـ لم يقتض التكرار عند (أئمتنا، وجمهور القائلين إن مطلقه لا يقتضيه)، خلافاً لأقلِّهم وللقائلين /59/ إنَّ مطلقه يقتضيه (كالإسفراييني).
(74) فصل وإذا أُمِر بفعل مطلقٍ، نحو: بع. فالمطلوب كُلُّ فردٍ - على البدل - من الأفراد الجزئيّة المطابقة للماهيَّة، لإمكان وجودها في الأعيان(6)، إلا ما عُلِم خروجه عن القصد بقرينةٍ، كالبيع بالغبن الفاحش، لا نفس الماهيَّة الكليَّة المجردة؛ لاستحالة وجودها في الأعيَان(7). (بعض الشافعية): بل هي المطلوبة فالأمر متعلقٌ بها لا بالجزئيات المُطابقَة لها.
(75) فصل (أئمتنا والجمهُور): والإتيَان بالمأمور به يفيد الإجزاء، إذ هُو(8): وقوع الفعلِ على وجهٍ يُخْرِج عن عهدة الأمر. (أبو هاشم، والقاضي، والحاكم): لا يفيده، إذ هو وقوع الفعل على وجهٍ يُسقِط القضاء. (المنصور، والحفيد): بل هو مجمُوعُهما.
__________
(1) لأن قتل عمرو لا يتكرر.
(2) يعني التكرار.
(3) أي: الوصف والشرط.
(4) فإن الزنا علة الجلد، وهو مثال الصفة، والجنابة علة التطهر وهو مثال الشرط.
(5) أي: الشرط والصفة.
(6) أي: لإمكان وجودها في الوجود الحسي العيني فيصح طلبه لإمكان الامتثال.
(7) يعني لا أن المطلوب نفس الماهية الكلية التي يستحيل وجودها في الأعيان فلا تطلب، لأنها لو طلبت لامتنع الامتثال.
(8) أي: الإجزاء.

(1/117)


والخلاف لفظيٌّ. وقيل: معنويٌّ. وتظهر فائدته فيمن صلّى /60/ يظن الطّهارة، ثم انكشف له الحدث(1).
وإنما يُوصف به(2) ما له وجهان(3) لا وجهٌ واحد، كمعرفة اللّه تعالى، وردّ الوديعة.
(76) فصل (أئمتنَا، والمعتزلة): وليس الآمر بالشيء هو عَين النَّهي عن ضدّه، ولا يَتَضَمنه، أي لا يدل عليه بالمطابقة وَلا التّضمن، إذ هما لفظان مُتَغَايران.
والمختار - وفاقاً (لبعض المعتزلة) - أنه يستلزمه، خلافاً (للإمام) وغيره. وعن (بعض المعتزلة): أن أمر الوجوب يستلزمه دون أمر النَّدب. واختلفت (الأشعرية)، فقال (الجويني، والغزالي، وابن الحاجب، وغيرهم): ليس عينه(4) ولا يتضمنه ولا يستلزمه. (الباقلاني): بل هو عين النهي عن ضدّه، ثم قال آخراً: يتضمنه. واختاره (الآمدي)، وقال (الرازي): يستلزمه. ولم يفرقوا بين أمر الوجوب والندب.
(أئمتنا، والمعتزلة): وكذلك ليس الأمر بالشيء ناهياً عن ضدِّه /61/ خلافاً (للباقلاني)، ودَعْوَاه للإتفاق في الفَاعل باطلة(5).
__________
(1) فإنه قد أتى بالمأمور به، وخرج بذلك عن العهدة لعدم توجه ذم عليه، مع أنه لم يسقط عنه القضاء، فيوصف فعله بالإجزاء على القول الأول لا على القول الثاني والثالث.
(2) أي: الإجزاء.
(3) أو وجوه يجزي باعتبار وقوعه على أحدهما، ولا يجزي بوقوعه على غيره، كالصلاة مثلاً، لا ما له وجه واحد كمعرفة الله، فليس لها إلا وجه، وهو ما إذا كانت صحيحة، وإلا فهي جهل وليست بمعرفة، وكذلك رد الوديعة ليس له وجه، وهو أن ترد فقط.
(4) أي: ليس عين النهي عن ضده.
(5) ذُكر عن الباقلاني أنه زعم أن الأمر بالشيء هو عين النهي عن ضده، مستدلاً بأن فعل السكون - مثلاً - هو عين ترك الحركة، وادعى الإجماع على ذلك، وأن الخلاف إنما هو في الفعل لا في الفاعل.

(1/118)


(77) فصل والأمران غير المتعاقبين اختلفا أو تماثلا غيران. والمتعاقبان المختلفان مع العطف وعدمه، وإمكان الجمع(1) واستحالته عقلاً(2) أو شرعاً(3) كذلك، لكنه يمتنع الأمر بالجمع في المستحيل(4)، إلا عند مجوِّز تكليف ما لا يطاق.
والمتعاقبان المتماثلان: إن كانا مع عدم العطف ولم يقبل الأول التكرار عقلاً(5) أو شرعاً(6) فالثاني تأكيدٌ، سواءً كانا عامَّين(7) أو خاصين(8)، أو الأول عاماً والثاني خاصاً(9) أو عكسه(10)، وإن قبل الأول التكرار(11) فالثاني تأسيسٌ عند (الموسوي، والإمام، والقاضيين(12)، والحاكم، والرازي)، إلا لمانعٍ من عادَةٍ(13) أو تعريفٍ(14). وتأكيدٌ عند (المنصور، والشيخ، وابن زيد)(15)
__________
(1) نحو: صم اليوم وصل، أو صم صل.
(2) نحو: قم اقعد.
(3) نحو: صم يوم الجمعة افطر يوم الجمعة.
(4) كصوم يوم وإفطاره.
(5) مثل: اقتل زيداً اقتل زيداً.
(6) مثل: حج حجة الإسلام حج حجة الإسلام.
(7) مثل: اقتل كل إنسان اقتل كل إنسان.
(8) مثل: اقتل زيداً اقتل زيداً.
(9) مثل: صم كل يوم صم يوم الجمعة.
(10) بأن كان الأول خاصاً والثاني عاماً، نحو: صم يوم الجمعة صم كل يوم.
(11) مثل: صل ركعتين صل ركعتين.
(12) المراد بهما: القاضي عبدالجبار بن أحمد، والقاضي جعفر بن أحمد بن عبدالسلام، وقد تقدمت ترجمتاهما.
(13) مثل: اسقني ماء اسقني ماء. فإن العادة قاضية بأنه إنما يريد أن يسقيه ما يزيل عطشه، وذلك يحصل بمرة، فكان ذلك مانعاً من تكرر السقي فحينئذ يتعين التأكيد.
(14) يجعل الثاني عبارة عن الأول وإشارة إليه، نحو: صل ركعتين صل الركعتين.
(15) ابن زيد، هو: العلامة الجليل عبدالله بن زيد بن أحمد بن أبي الخير العنسي، من كبار علماء الزيدية في القرن السابع الهجري، له مؤلفات شهيرة، في مختلف الفنون، قال ابن أبي الرجال: رأيت بخط بعض العلماء أن كتبه مائة كتاب وخمسة كتب ما بين صغير وكبير. توفي رحمه الله سنة سبع وستين وستمائة. مطلع البدور - خ -.

(1/119)


. وتوقف (أبو الحسين، وابن الملاحمي) /62/.
وإن كانا مع العطف ولم يقبَل الأول التكرَارَ عقلاً(1) أو شرعاً(2). وهما عامَّان(3) أو خَاصَّان(4)، فالثاني تأكيدٌ. (ابن زيد، وغيره): وكذا إذا كان الأول عاماً والثاني خَاصاً(5) أو عكسه(6). (الإمام، والقاضِي، والشيخ): بل تأسيسٌ(7). وتوقف (أبو الحسين، والرازي). وإن قبل الأول التكرار(8) فالثاني تأسيسٌ، إلا لمانعٍ من عادةٍ أو تعريفٍ(9) خلافاً (للرازي) في التعريف، وتوقف فيه (أبو الحسين).

النهي

[2] باب النهي
(78) فصل هو قول إنشائي دَالٌّ على المنع من الفعل حَتماً على جهة الإستعلاء، وله حرف واحد، وهو: (لا) الجازمة، نحو: لا تفعل، بالتاء للمخاطب، والياء للغائب.
وتستعمل صيغته في معان، وهي: التحريم(10)، والكراهة(11)، والتهديد(12)، والتحقير(13)، وبيان العاقبة(14)، والدعاء(15)، واليأس(16) /63/، والإرشاد(17).
__________
(1) مثل: اقتل زيداً واقتل زيداً.
(2) مثل: حج هذه السنة وحج هذه السنة.
(3) مثل: اقتل المشركين واقتل المشركين.
(4) مثل: اقتل زيداً واقتل زيداً.
(5) مثل: اقتل كل أحد واقتل زيداً.
(6) مثل: اقتل زيداً واقتل كل أحد.
(7) لأن العطف يقتضي التغاير.
(8) مثل: صل ركعتين وصل ركعتين.
(9) تقدم المثال.
(10) التحريم، مثل: ?وَلاَتَقْتُلُوْا النَّفْسَ..?[الأنعام: 151].
(11) الكراهة، مثل: (لا تأكل بشمالك).
(12) التهديد، كقولك لمملوكك: لا تمتثل أمري.
(13) التحقير، مثل: ?لاَتَمُدَّنَّ عَيْنَيْكَ?[الحجر: 88].
(14) بيان العاقبة، مثل: ?ولاَتَحْسَبَنَّ اللَّهَ غَافِلاً..?[إبراهيم: 42].
(15) الدعاء، مثل: ?رَبَّنَا لاَتُزِغْ قُلُوْبَنَا?[آل عمران: 8].
(16) اليأس، مثل: ?لاَتَعْتَذِرُوْا الْيَوْم? [التحريم: 7].
(17) الإرشاد، مثل: ?لاَتَسْأَلُوْا عَنْ أَشْيَاءَ إِنْ تُبْدَ لَكُمْ تَسُؤْكُمْ?[المائدة: 101].

(1/120)


وهي مجاز فيما عدا الأولين اتفاقاً، واختُلف فيهما. (فأئمتنا، والجمهور): حقيقة في الحظر. وقيل: في الكراهة. وقيل: مشتركة بينهما. وقيل: مُتواطئة فيهما، فهي للقدر المشترك بينهما، وهو طلب الكف استعلاءً، وقيل: بالوقف، بمعنى لا يُدْرى لأيّ معنىً وضعت(1). فالخلاف كما تقدم في الأمر، وإذا اقترن به وعيد فللحظر اتفاقاً، ويحمل إذا تجرد عن القرينة على حقيقته عند كلٍ(2).
(79) فصل وهو: مطلق، ومقيد، ويقتضيان القبح والفور اتفاقاً. فالمطلق لِدَوَام الإنتهاء لغة وشرعاً(3)، عند (أئمتنَا، وَالجُمهور) إلاَّ لقَرينَة(4)، ولِذَلك قيل: النفي المطلق يعم، بخلاف الوجود المُطلق. وقيل: للإنتهاء مرة لا للدوام إلا لقرينة. (السكاكي): إن كان لقَطع الوَاقِع فللمرة، كقولنا للمتحرك: لا تتحرك، وإن /64/ كان لاتصاله فللدوام، كقولنا للمتحرك: لا تسكن.
والمقيَّد بوصف، نحو: العالِم لا تهنه، أو شرط، نحو: إن كان فاسقاً فلاَ تكرمه؛ للدوام عند (أئمتنا، والجمهور) كالمطلق. (أبو عبدالله، والحاكم): للإنتهاء مرة إلاّ لقَرينة.
(80) فصل (أئمتنا، والجمهور): ويقتضي الحظر بعد الوجوب إلا لقَرينة(5). وقيل: بل الإباحة. وقيل: بل الكراهَة. وتوقف (الجُويني).
__________
(1) لأن النهي يدل على مرجوحية المنهي عنه وذلك لا يقتضي التحريم.
(2) أي أن كل أحد يحمله على الحقيقة عنده من حظر فقط أو كراهة فقط أو تواطئ أو اشتراك.
(3) أي لدلالة لا تفعل على دوام الترك بالوضع والشرع.
(4) نحو قول الطبيب للمريض: لا تأكل اللحم. أي مادمت مريضاً.
(5) وذلك نحو أن يقول: زوروا القبور. ثم يقول: لا تزوروها.

(1/121)


(81) فصل والنهي عن الشيء المقتضِي للحظر: إما لعينه، وهو: ما نهي فيه عن الجنس كله؛ لأنه منشأ المفسدة كالظلم. أو لوصفه، وهو: ما نُهِيَ فيه عن بعض الجنس لوصفٍ يلازمه كالصلاة في المنْزل الغصب، وبيع الغرر، أو لغيرهما، وهو: ما نهي فيه لأمر خارج عنهما يقارن تارة ويفارق أخرى، كالبيع وقت نداء الجمعة.
ويدل النهي /65/ في الأوّل على القبح مؤكداً في العقليات، وعليه وعلى الفساد في الشرعيَّات(1). (الأشعرية): والخلاف فيه كالثاني(2).
(82) فصل ولا يدل في الثاني(3) على الفساد، لا لغة ولا شرعاً، لا في العبادَات ولا في غيرها، عند (أبي حنيفة، ومحمد(4)، والشيخَين، وأبي عبد الله، والكرخي، والقاضي، والحاكِم، والقَفَّال(5)، وبعض الأشعرية). وحيث يفسد المنهي عنه فَلِدليلٍ غيره(6).
__________
(1) قال في النظام: هذا وهم لأن الفساد عدم الأجزاء عن الأمر وما نهي عنه لعينه لا يكون مأموراً به البتة.
(2) لأنهم لا يعللون الحسن والقبح إلا بالشرع.
(3) أي المنهي عنه لوصف ملازم.
(4) سقط من (ب): ومحمد.
(5) القفال، هو: أبو بكر محمد بن علي بن إسماعيل القفال الشافعي، كان إماماً في الفقه وأصوله، وعنه انتشر فقه الشافعي فيما وراء النهر، توفي سنة ست وثلاثين وثلاثمائة. طبقات الفقهاء 1/120.
(6) يعني أن نحو فساد الصلاة في المنزل الغصب ليس للكون في المنزل، وإنما هو لدليل آخر، وكذلك نكاح المشركات.

(1/122)


واختلفوا هل يدل على صحة المنهي عنه شرعاً قبل النهي أو لا(1)، فعن (أبي حنيفة، ومحمد): يدل عليها، وعند غيرهما لا يدل عليها، كما لا يدل على الفساد. (أبو طالب، والمنصور، وأكثر الفقهاء، وبَعض المتكلمين، والظاهريَّة): بَل يدل على الفَساد في العبادات وغيرها(2). ثم اختلفوا، فأقلهُم: شرعاً، وأكثرهم: لغة. وحيث لا يفسد المنهيّ عنه فَلدليل(3). (جمهُور أئمتنا، وبعض الفقهَاء، وأبُو الحسَين /66/، وابن الملاحمي، والرازي): يدل على الفساد في العبادات دون غيرها، إلا لدليلٍ فيهما(4).
ومعناه(5) في العبادات البطلان وفي غيرها من المعاملات والإيقاعات: البطلان أيضاً عند (الناصر، والشافعي)(6). و(عند جمهور أئمتنا، والفقهاء) أنه: خلل فيها يُوجب ـ في حالٍ ـ عدَم ترتب ثمرتها عليها المقصودة منها.
(83) فصل ولا يدل في الثالث(7) على الفساد، عند (أئمنا، والجمهور)، خلافاً (لبعض أئمتنا، ومالك، وأحمد في رواية عنه).
وحظ الأصولي(8): معرفة انحصار المناهي في الثلاثة، وتمييز كل منها عن الآخر جملة، فأمَّا النظر في آحاد الصور الجزئيّة من أيّ الأخيرين هي، والحكم عليها بأحد الأقوال المتقدمة، فموكول إلى نظر الفَقيه، ولذلك تختلف أنظار الفقهاء في كثير من صور الفروع /67/.
__________
(1) يبدو أن النزاع هنا في دلالة النهي على صحة المنهي عنه بعد النهي لا قبله لأنه لا نزاع في صحته قبل النهي.
(2) وذلك كنكاح المشركات.
(3) كطلاق البدعة فإن القياس أنه لايقع، لكنه وقع لدليل خارجي.
(4) يدل على عدم الفساد في العبادات وعلى الفساد في المعاملات.
(5) أي: الفساد.
(6) الإمام محمد بن إدريس الشافعي رأس الشافعية، جليل القدر عظيم المنزلة، توفي سنة أربع ومأتين.
(7) وهو المنهي عنه لأمر خارج عن ذات المنهي.
(8) أي: ما يتعلق بأصول الفقه من هذا البحث وينفع الأصولي.

(1/123)


(84) فصل وأما نهي الكراهَة، فيدل على مرجوحيَّة المنهي عنه، لا علَى فساده، كالنهي عن الصلوات في الأماكن المكرُوهَة، ولذلك تقع عن الواجب مع النَهي عنها.
(85) فصل (أئمتنَا، والمعتزلة): وليس النَّهي عن الشَّيء هو عين الأمر بضدّه، ولا يتضمنه، أي: لا يدل علَيه بالمطابقة ولا التضمّن؛ إذ هما لفظان متغايران. (الباقلاّني): بل هو عين الأمر بضدِّه، ثم قال آخراً: يتضمنه. والمختار - على قياس ما تقدم(1) - أنه يستلزمه، وقَصَرَ بعضهم هذه القاعدة على الأمر دونه.
(86) فصل والنهي قد يكون عَنْ شَيْءٍ وَاحدٍ، وعن شيئين فصاعداً، إما: على الجمع، ويَحْسُن إن أمكن الخلوّ عنهما، نحو لا تقتل ولا تَزن. ويقبح إن لم يمكن، نحو: لا تتحرك وَلاَ تسكن. أَوْ(2) عَنِ الْجَمْعِ، ويحسُن إن أمكن، كالنهي عن الجَمع بين الأختين، ويقبح إن لم يمكن /68/ كالنهي عن الجمع بين القيام والقعود. وإما: على البَدَل، وَالخلاف في هذا القسم كما تقدم فيما أُمِر به على التخيير، نحو: لا تكلم زيداً أو عمراً أو بكراً. فله ترك كلامهم معاً، كما أنَّ له في الأمر المخير فعل الجميع، وله ترك كلام بعضهم دون بعض، كما أن له فيه فعل البعض وترك البعض، وليسَ له الجمع بين كلاَمهم كما أن لَيس له فيه ترك الجمع. أَوْ عَنِ الْبَدَلِ، إما بمعنى النهي عن فعل يُجْعل بدلاً عن غيره، نحو: لا تمسح بدلاً عن الغسل، ويرجع إلى النهي عن قصد البدلية، أو بمعنى النهي عن فعل أحدهما دُون الآخر، لكن يجمع بينها، ويَحْسُن إن أمكن، نحو: لا تفعل المسح دون الغسل، ويقبح إن لم يمكن، نحو: لا تفعل الحركة دون السكون.
[شروط الأمر والنهي]
(87) فصل وللأمر والنهي شروط.
__________
(1) تقدم الكلام عن هذا الموضوع في باب الأمر.
(2) عطف على: عن شيء واحد.

(1/124)


منها ما يرجع إليهما، وهي: ألاَّ يكون الأمر والنهي في أنفُسهما مفسدة. وأن يَتَقدما بالقَدر /69/ الذي يُتَمَكن فيه من معرفة ما تناولاه، وهو أربعة أوقات: وقت سماعهما، ووقت النظر في حكمهما، ووقت حصول العلم أو الظن لحكمهما، ووقت الأخذ فيهما(1). ويجوز بأكثر وفاقاً (للبصرية)، وخلافاً (للبغدّادية)(2)، وأوجبت (الأشعرية، والنّجّارية) مقارنتهما، كالقدرة، وما تقدم فهو للإعلام عندهم. وأن يتمكن المخاطب من فهمهما، لا ورودهما بلسانِه(3) خلافاً (للحفيد) فيه.
ومنها ما يرجع إلى الآمر والنّاهي، وهو: أنْ يُعْلَم من حالهما ما ذُكِرَ، ومن حال المأمور والمأمور به والمنهي والمنهي عنه ما سيذكر، وأن يكون له فيهما مراد صحيح. وأن يثيب ممتثل أمره، ويعاقب مُخَالف نهيه، ولا يشترط إرادة إثابته حال الأمر، ولا عقابه حال النهي خلافاً (للأخشيديّة).
ومنها ما يرجع إلى المأمُور به والمنهي عنه، وهو: العلم بهما. وألاَّ يكونا مستحيلين في أنفسهما. وأن يكون المأمور به له صفة زائدة على حُسْنِه(4) /69/، والمنهي عنه مما يترجح تركه على فعله.
ومنها ما يرجع إلى المأمور والمنهي، وهو: تمكنهما من الفعل والترك(5). وتردد دواعيهما، ووجود آلة له في الفعل المحتاج إليها(6).
__________
(1) أي الشروع فيهما.
(2) حكي عن البغدادية أنهم قالوا: يتقدم بوقت فقط.
(3) أي يكفي أن يردا بخطاب يفهم ولو بغير لغة المخاطب.
(4) كأن يخرج من الإباحة إلى الندب فيكون الندب صفة زائدة على الإباحة التي هي من قسم الحسن.
(5) يعني بألاَّ يكونا ملجأين ومضطرين إلى الفعل أو الترك، بل يكون هناك وجه للترجيح، فلا يؤمر الساقط مثلاً بالسقوط ولا بعدمه.
(6) يعني فلا يأمره بالكتابة مثلاً مع عدم الأيدي أو العلم بها.

(1/125)


(88) فصل ويتفقان في: أن كل واحد منهما يستعمل حقيقة ومجازاً. وأن سبب كل واحد منهما سبب صفة فاعلِه(1). وأن الإستعلاء معتبر فيهما عرفاً. وأنه يكون كل منهما: مطلقاً، ومقيداً بشرطٍ أو صفة؛ فَيُقْصَرُ عليهما. وأنه يشترط فيهما الشروط المذكورة في حسن التكليف.
ويختلفان في: أن لفظ الأمر مشترك (بين الصيغة والشأن وغيرهما)(2)، بخلاف لفظ النهي. وفي اختلاف صيغتهما. وفي أن الأمر المطلق يُخْرَج عن عهدته بمرة على الأصح، ولا يخرج من عهدة النهي المطلق إلا بدوام الإنتهاء على الأصح. وأن الأمر يقتضي حسن المأمور به، والنهي قبح المنهي عنه. وأن المقصود من الأمر حصول الفعل، ومن النهي الكف عنه. وأن فاعل ما يتناوله /71/ الأمر يُسمّى: مطيعاً، وما يتناوله النهي يُسَمَّى: عاصياً. وأن الأمر يفتقر إلى إرادة لفظه وإرادة مدلوله ـ (أبو علي): وإرادة كونه أمراً ـ بخلاف النهي. وأن الأمر يوصف بكونه أمراً للإرادة، والنهي يوصف بكونه نهياً للكراهَة.

العموم

[3] باب العموم
__________
(1) يعني أن ما أوجب للفاعل الوصف بكونه آمراً أو ناهياً أوجب للأمر والنهي كونهما أمراً ونهياً.
(2) ما بين القوسين من (ج).

(1/126)


(89) فصل العام: لفظ دال(1) على مسميّات باعتبار أمر اشتركت فيه مطلقاً(2) ضَرْبَة(3).
[وقيل] اللفظ (المستغرق لما يصلح له)(4)، ويشمل النادر(5) على الأصح.
__________
(1) قوله: الدال؛ ليخرج الجمع المنكر نحو: رجال، فإنه يتناول جميع الأفراد لكن على وجه الصلاحية لا على وجه الدلالة.
(2) هذا هو الحد الذي رجحه ابن الحاجب في (مختصر المنتهى). وقوله: على مسميات أخرج المفرد والمثنى، وقوله: باعتبار أمر اشتركت فيه؛ ليخرج نحو: عشرة.. لواحد؛ فإن لفظ عشرة دال على آحاده لا باعتبار أمر اشتركت فيه؛ لأن آحاد العشرة أجزاء للعشرة لا جزئيات، فلا يصدق على واحد وأجزائه عشرة. وقوله: مطلقاً ليخرج المعهود فإنه يدل على مسميات باعتبار أمر اشتركت فيه مع قيد خصصه بالمعهودين، نحو: الرجال.
(3) أي دفعة واحدة، ليخرج نحو: رجل وامرأة؛ فإنه يدل على مسماه لا دفعة بل دفعات على البدل. انظر (شرح مختصر المنتهى) 2/100 ـ 101.
(4) كذا في (ب)، وفي (أ): اللفظ المستغرق لما يصلح له. ورمز إلى أنه ثابت في نسخة. وأسقطه من الدراري، وأشار في النظام إلى أن هذا الحد في بعض نسخ المتن، وحكى هذا الحد في نظام الفصول وشرح مختصر المنتهى عن أبي الحسين البصري.
(5) النادر، مثل: دخول الفيل في حديث: لاسبق إلا في خف أو حافر أو نصل. لأن الفيل ذو خف.

(1/127)


وهو(1) حقيقة في الألفاظ؛ لأنه من عوارضها، وفي المعَاني مجاز، وفاقاً (للجمهور)، وقال (رازي الحنفيّة(2)، وابن الحاجب): حقيقة، سواء كانت(3) من الموجُودات الخارجيّة عَيناً كالمطر، وعرضاً كالأصوات، أو من الذهنيَّة كالحيوانية ونحوهَا من المعَاني الكليّة. ونَصَرَه (الحفيد). وقيل: بالوقف. وقيل: ليس من عوارضها لا حقيقة /72/ ولا مجازاً.
ولا يكون في الأفعال؛ لأنه لا ظاهر لها فيدخله الشمول أو الوحدة(4)، خلافاً (للمنصور، وأبي رشيد)، وهو لفظي، ولا في التُّرُوك أيضاً.
(90) فصل وعموم الأشخاص يستلزم عموم الأحوال والأزمنة والأمكنة(5) إلا لمخصص.
__________
(1) أي العموم.
(2) رازي الحنفية، هو: أحمد بن علي أبو بكر الرازي، المعروف بالجصاص، سكن بغداد وكان إمام أصحاب أبي حنيفة فى وقته، توفي يوم الأحد سابع ذي الحجة سنة سبعين وثلاثمائة. طبقات الحنفية 1/84.
(3) أي المعاني.
(4) يعني أن الفعل لا يقع إلاَّ على وجه معين فلا يجوز أن يحمل على كل وجه يمكن أن يقع عليه، إذاً فالفعل لا ظاهر له حتى يدخله الشمول أو الوحدة.
(5) وقد مثل لذلك بقوله تعالى: ?لاَ تُدْرِكُهُ الأَبْصَارُ? من عموم الأشخاص والأوقات والأحوال.

(1/128)


(أئمتنا، والمعتزلة): وقطعي المتن منه(1) قطعيُّ الدلالةِ في العلمي(2)، ظنِّيُّها في العملي. (الأشعرية، والفقهاء): بل ظني فيهما. (الجويني): إلا إذا لاح قصد التعميم(3).
(91) فصل واستفادة العموم منَ اللّفظ:
[1] إما: (لغة) [أ] بنفسِه من دون قرينَة مع تناول العالِمِين وغيرهم، كـ(أيّ) في الإستفهام والشرط(4)، و(كل) و(جميع). أو العالِمين فقط، كـ(مَنْ) استفهاماً وشرطاً. أو غيرهم فقط، عمُوماً كـ(ما). أو خصُوصاً كـ(أين) و(حيث) في المكان، و(متى)، و(متى ما) في الزمان /73/.
[ب] أو بقَرينة لا من نفس اللّفظ؛ فِيْ إثباتٍ كالجنس معرفاً بلامه، وكجمع الكثرة والقلة معرفين بها(5) أو مضافين(6). أَوْ فِيْ نَفْيٍ كالنكرة في سياقه(7).
[2] وإمَّا عرفاً من دون قرينة نحو: حرمت كل لحم. فيعم المتعارف فقط، أو بقرينة، نحو: ?فَأَرْسَلَ فِرْعَوْنُ في الْمَدائِنِ حاشِرينَ?[الشعراء: 53] وجَمع الأمير الصّاغة.
__________
(1) أي من العموم.
(2) يعني مما ليس الغرض منه إلا الاعتقاد كمسائل الوعد والوعيد؛ لأنه لو جاز أن يكون المراد منه غير ظاهرة من العموم لكان إغراءاً باعتقاد الجهل وهو قبيح. واعترض عليه بأن ذلك يستلزم عدم جواز تخصيصه.. لا بقطعي للزوم تعارض القطعيات، ولا بظني لأن الظني لا يعارض القطعي، وقد وقع التخصص لعمومات الوعيد المطلق بالعاصي، والوعد بالتائب.
(3) ولهذا اختلفوا في آيات الوعيد فقال أئمتنا والمعتزلة: إنها قطعية الدلالة يمتنع الإخراج عنها إلاَّ بقاطع.
(4) الاستفهام مثل: ?أي الفريقين أحق بالأمن?؟ والشرط مثل: أي خيرتفعله تؤجر عليه.
(5) سقط من (أ): بها. ويعني معرفين باللام نحو: المسلمين والكافرين.
(6) نحو: ضربت عبيدي.
(7) كقول النبي صلى الله عليه وآله وسلم: (لا يقتل مسلم بكافر).

(1/129)


[3] وإما عقلاً كما إذا عَلَّق الشارع حكماً على عِلَّة، فعمُومه في كل ما ثبتت فيه بالعقل لا باللفظ، عَلى الأصح، كما يأتي، نحو: حرَّمْتُ السُّكَّر؛ لكونه حلواً. (الباقلاّني): لاَ يعم مطلقاً، ومنه مفهوم الموافقة عند مَن جعله قيَاساً(1)، لا مفهُوم المخالفة في الأظهر.
[ألفاظ وموجبات العموم]
(92) فصل وتنقسم ألفَاظه عند مثبتها إلى: مُتَفَقٍ على عُمومه ومختلف فيه.
فالأول: (مَنْ) للعقلاء استفهاماً وشرطاً، وموصولة لغير تعيين. و(ما) لغيرهم كذلك، و(مهمَا) لغيرهم شرطاً. و(أيّ) للعقلاء /74/ وغيرهم كذلك. و(أين)، و(أينما)، و(أنى) استفهاماً وشرطاً. و(حيث)، و(حيثما)، شرطاً للمكان. و(متى)، و(متى ما)، و(أيان) للزمان فيهما. و(كل) في الإثبات، وإِذَا كَانَتْ في حيّز النّفي بأن أُخِّرت عن أداته من غير فصلٍ، نحو: ما كل بيع حلالاً. أو جُعِلَت معمولة للفعل المنفيّ، نحو: لم أجد كل الدّراهِم، وكل الدراهم لم أجد؛ تَوَجَّهَ النفي إلى الشمول خاصّة، وأفاد ثبوته لبعض، وإلاَّ(2) عمَّ كقوله صلى اللّه عليه وآله وسلم: (( وكل ذلك لم يكن ))(3). و(أجمعون) و(جمع) و(جميع). و(النكرة في سياق النفي) غالباً، (وفي النهي والإستفهام)، ولا عموم فيها(4) في الإثبات إلا مجازاً، بكثرة في المبتدأ(5)، وقلة في غيره(6).
__________
(1) أي: ومن العموم المستفاد من العقل مفهوم الموافقة عند من جعله قياساً، وذلك نحو: ?ولاتقل لهما أف? في أمارة المنع من عموم الإيذاء قياساً على التأفيف.
(2) أي: إذا لم تكن (كل) في حيز النفي.
(3) جزء من حديث ذي اليدين في سهو النبي (ص) في الصلاة، رواه غير واحد منهم مسلم 1/404 وابن خزيمة 2/199 وابن حبان 6/26 وغيرهم عن أبي هريرة.
(4) أي: النكرة.
(5) نحو قوله تعالى: ?قول معروف خير من صدقة يتبعها أذى?[البقرة:263].
(6) نحو: قوله تعالى: ?علمت نفس ما أحضرت?[التكوير:14].

(1/130)


والثاني: (الجنس) المفرد، كالرجل، و(اسم الجنس)، وهو ما يطلق على القليل والكثير، كالماء. ومختار /75/ (أئمتنا، والجمهور) عمومهما؛ إذا عُرِّفا بالأداة لغير عهد، ولم يرد بهما تنكير(1). ومثلهما (الذي) و(التي) لغير تعيين، خلافاً (لأبي هاشم، وأبي الحسين، والمحلي(2)، والرازي). وقال (الجويني، والغزّالي): لا عموم في الجنس. بخلاف اسم الجنس، ولاَ عموم في الجنس المضاف، خلافاً (لابن عياش، والمرتضى، وأبي العباس، وابن الحاجب(3)، وغيرهم). وأما اسم الجنس المضاف فعام. و(الجمع) كالحال، و(اسم الجمع) وهو ما يطلق على ثلاثة فصاعداً بغير زِنَة الجمع، كالغنم، إذا عُرِّف بالأداة لغير عهد، ومثلهما (الذين) و(اللاتي) لغير تعيين ومرادفهما (من الموصولات)(4). ومختار (أئمتنا، والجمهور): عمُومها خلافاً (لأبي هاشم)، وكذا إذا كانا مضافين.
ولا عموم في الجمع المنكر عند (أئمتنَا، والجمهور) خلافاً (لأبي علي، والحاكم). ولا في اسم الجمع المنكر.
فأمَّا المضمرات فإن كانت راجعة /76/ إلى ما قبلها، فحكمها حكمه في العموم والخصوص. وإن كانت على جهة المخاطبة فلعامٍّ عامّة ولخاصٍّ خاصة(5).
ولا عموم في لفظ: (سائر) إذ معناه: باقي الشيء، لا جملته، على الأصح.
__________
(1) ليخرج لام العهد الذهني التي هي في المعنى كالنكرة، كقولك: دخلت السوق.
(2) المحلي، هو: العلامة الكبير حميد بن أحمد بن محمد بن أحمد بن عبد الواحد المحلي الهمداني، أبو عبد الله الشهيد، من أكابر علماء الزيدية في عصره، استشهد يوم الجمعة ثاني شهر رمضان سنة إثنتين وخمسين وستمائة.
(3) سقط من (ب): وابن الحاجب.
(4) ما بين القوسين ليس في (أ).
(5) يعني إن كان الخطاب فيها لعام نحو: افعلوا . والخطاب للأمة فعامة. وإن كان الخطاب فيها لخاص نحو: افعلوا. والمخاطبون خاصون فخاصة.

(1/131)


(93) فصل واللفظ العام منه ما يختص بالمذكر، كالرجال والذكور. ومنه ما يختص بالمؤَنث، كالنساء والإناث. ومنه ما يشملهما، وهو ما لا يظهر فيه تذكير ولا تأنيث كـ(من) و(ما) عند الجمهور. فأما جمع المذكر السالم ونحوه(1) فيدخل فيه المؤنث تغليباً ـ خلافاً (لبعض الأشعرية)، وتردد (الإمام) في ذلك ـ لا وضعاً، خلافاً (للحنابلة، وابن داود(2))، و(للحفيد) في دخوله(3) في ?يا أيها الناس? وضعاً أو تغليباً قولان(4).
والمختار وفاقاً (للجمهور): أنه لاَ يخرج العام عن إفادة العمُوم لوروده في مَعرِض المدح والذم؛ إذ لا منافاة بين إرادتهِ /77/ وإرادتهما كقوله تعالى: ?إنَّ الأبْرَارَ لَفِي نَعِيْمٍ?[الانفطار: 13]، ?والَّذينَ يَكْنِزونَ الذَّهَبَ والْفِضَّةَ?[التوبة:34] خلافاً (للشافعي). وثبوت(5) العموم في مثل: ?خُذْ مِنْ أَمْوالِهِمْ صَدَقَةً?[التوبة:103] خلافاً للأقلين.
__________
(1) مثل: المؤمنين، ونحوه الذين آمنوا.
(2) ابن داود، هو: محمد بن داود الأصفهاني الظاهري، كان فقيهاً أديباً مميزاً، توفي ست وتسعين ومأتين. تاريخ بغداد 5/256.
(3) أي المؤنث.
(4) قال في (الدراري): الذي ذكره في الجوهرة أنه تغليب، والذي ذكره في شرحها أنه وضع كمن وهو اختيار المنصور بالله.
(5) يعني والمختار ثبوت العموم.. الخ.

(1/132)


(94) فصل وألفاظ العموم ظاهرة فيه، عند (أئمتنا، والجمهور) مجاز في الخصوص. بعض (المرجئة): بل عكسه، وبعضهم مشترك بينهما باللّفظ، وقيل: لم توضع لهما وإنما يستفادان بالقرينة، وقيل: للعموم في الأمر والنهي لا في الأخبار فالوقف، وقيل: إلا في آيات الوعيد، وقيل بالوقف، إمَّا على معنَى ما ندري وضع العموم لها أم لا(1)، وإما على معنَى نعلم أنه وضع، ولاَ ندري أحقيقة أم مجاز؟ قيل: ولا خلاف في عموم ألفاظ التأكيد، نحو: كل وجميع، وإنما هو فيما يدعى عمومه من غيرهما كَمن، والأصحّ: أنه(2) في جميع صيغه.
(95) فصل (أئمتنا، والجمهور): والخطاب بالشرعيات يشمل العبيد في حقه تعالى /78/ وحق غيره، فيدخلون في الناس والمؤمنين كالأحرار، خلافاً للأقلين، وقال (رازي الحنفيَّة): يشملهم في حقه تعالى فقط.
ومثل: ?يَا أيُّها النَّاس? و?يا عِبَاد? يشمَل الرسول مطلقاً، خلافاً (لبعض المتكلمين، والفقهاء) مطلقاً، و(للحليمي(3)، والصيرفي)(4) /109/ إن اقترنت بـ(قُل).
ويدخل المخاطب في عموم خطابه، عند (أبي طالب، والجمهور، وأحد قولي المؤيد بالله) إلا لقرينة، خلافاً (للقاسم، والأقلين، وأحد قولي المؤيد بالله).
(96) فصل والفعل المؤكد بمصدره مثبتاً أو منفياً عام في متعلقاته المحذوفة، نحو: إن أكلتُ أكلاً فعبدي حر، ووالله لا آكل أكلاً، وإن أكلت أكلاً، فيقبل التخصيص بالنية اتفاقاً.
__________
(1) في (أ): لا ندري، وسقط قوله: وضع العموم لها أم لا.
(2) أي: الخلاف.
(3) الحليمي، هو: الحسين بن الحسن بن محمد بن حليم القاضي أبو عبد الله الحليمي البخاري، من كبار علماء الشافعية في ما وراء النهر، مات في جمادى سنة ثلاث وأربعمائة. طبقات الشافعية 2/178.
(4) الصيرفي، هو: محمد بن عبد الله أبو بكر الصيرفي الفقيه الأصولي، تفقه على ابن سريج وله مصنفات في أصول الفقه وغيره، توفي بمصر سنة ثلاثين وثلاثمائة. طبقات الشافعية 2/116.

(1/133)


واختلف في غير المؤكد مع حذف معموله، نحو: إن أكلت، ولا آكل، بالنسبَة إلى المأكولات، وإن صمت، ولا أصوم، بالنسبَة /79/ إلى الأزمنة، وإن قعدت، ولا أقعد، بالنسبَة إلَى الأمكنة. والمختار وفاقاً (للشافعي، وأبي يوسف) أنه عام في متعلقاته، فيقبل التخصيص بالنية، فإذا نَوى مأكولاً أو زماناً أو مكاناً معيناً صحت نيته، فلا يحنث بغيره. (المؤيد بالله، والحنفية): لا عُمُوم له فيها، فلا يقبل التخصيص بالنيَّة فيحنَث بذلك، (الغزّالي): عام في مفعولاته، فيقبل التخصيص بها لاَ في الأزمنَةِ والأمكنة. فأما التخصيص باللفظِ فاتفاق في الجميع.
(97) فصل وإِذَا تَعذَّر حمل اللفظِ على ظاهرِه ووجب(1) العدول إلى الإضمار، وتعددت جهات الإقتضاء التي يمكن تقديرها لاستقامته(2) وَجَبَ إضمارها عموماً، إلا ما خصه دليل، لا أحدها فقط، خلافاً (للإمام، وبعض الأصوليين)، نحو: (( رفع عن أمتي الخطأ والنسيان )) . فإن تعيّن /80/ أحدها بدليلٍ، كان كظهوره، نحو ?واسْألِ القَرْيَة?[يوسف:82].
(98) فصل ونحو قول الصحابي: نهى عن بيع الغرر، وَقضى بالشفعةِ للجار، يعم الغرر والجار، وفاقاً (للجمهور)، وخلافاً (للإمام، والأقلين).
[من الأحكام المتعلقة بالعموم]
__________
(1) في (ب): وجب. والصواب ما أثبته وهو عطف على تعذر والتقدير: وإذا تعدد .. ووجب .. وجب إضمارها عموماً.
(2) في (أ): في استقامته.

(1/134)


(99) فصل (جمهور أئمتنا، والمتكلمين): وكل عموم خصّ فهو مجاز في الباقي مطلقاً. (الحنابلة)، وأكثر الفريقين: حقيقة مطلقاً. (الكرخي، والغزالي، وأبو الحسين، والرازي): إن خصَّ بمتصل من استثناء، أو صفة، أو شرط، أو غَاية فحقيقة، وإن خصَّ بمنفصلٍ من عقلٍ أو سمع فمجاز. (القاضي): إن خصَّ بمنفصلٍ فمجاز، وإن خصَّ بمتّصل فإن كان استثناءً فمجاز، وإن كان صفة أو شرطاً فحقيقة، ولعل الغاية عنده كذلك. وقيل: إن خص بلفظيٍّ متصل أو منفصلٍ فحقيقة، وإن خص بمعنوي عقلي /81/ أو شرعي فمجاز. (المنصور): إن كان الباقي هو السابق إلى الفهم عند إطلاق العموم لا المخرَج فحقيقة، وإلا فمجاز، (الجويني): حقيقة في تناوله الباقي مجاز في الإقتصار عليه. و(الحفيد) كذلك في المنفصل لا المتصل فحقيقة.

(1/135)


(100) فصل وما خصّ بمجمَلٍ فليس بحجة في الباقي اتفاقاً، لا بمبين متصلٍ أو منفصلٍ فحجة عند (أكثر أئمتنا، والجمهور)، وقال (الكرخي، وابن شجاع)(1): حجة إن خص بمتصل لا منفصلٍ، وقيل: حجة في أقل الجمع، (أبُو عبد اللّه): إن أنْبأ العام على الباقي قبل تخصيصه فحجة، نحو: ?فاقْتُلُوا المشْرِكِيْنَ?[التوبة: 5]، فإنه ينبئ عن قتل الحربي قبل إخراج الذمّي، وإلا فليس بحجّة، نحو: ?والسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ?[المائدة:38]، فإنه لا ينبئ عن السارق للنصاب من حرز قبل إخراج السارق لدونه أو له من غير حرزٍ. (أبو طالب، والقاضي): إن كان /82/ العام غير مفتقر إلى بيان قبل تخصيصه فحجّة، نحو: ?فاقْتُلُوا المشْرِكِيْنَ?[التوبة: 5] وإلا فلا، نحو: ? أقِيْمُوا الصّلاَةَ ?[النعام: 72]، فإنّه مفتقر إلى البيان قبل تخصيصه بالحائض. (أبو ثور(2)، وابن أبان)(3): ليس بحجة لإجماله.
__________
(1) محمد بن شجاع ابن الثَّلجي البغدادي أبو عبد الله، فقيه العراق في وقته، وهو من أصحاب أبي حنيفة، توفي سنة ست وستين ومأتين. انظر معجم الأعلام 717.
(2) أبو ثور، هو : إبراهيم بن خالد بن أبي اليمان الكلبي البغدادي، الفقيه المشهور أخذ الفقه عن الشافعي وكان من أتباعه، توفي سنة أربعين ومائتين. طبقات الفقهاء 1/101.
(3) ابن أبان، وهو: عيسى بن أبان بن صدقة أبو موسى، من كبار علماء الحنفية، تفقه على محمد بن الحسن الشيباني، وتوفي سنة إحدى وعشرين ومائتين. طبقات الحنفية 1/401.

(1/136)


(101) فصل (أئمتنا، والجمهور): ويمتنع العمل بالعام قبل البحث عن مخصصه المنفصل؛ خلافاً (للصيرفي، والبيضاوي)(1). واختلف في قَدر البَحثِ فعند (الجمهور): حتى يحصل الظن بانتفائه، (الباقلاني): حتى يُعلم انتفاؤه، وكذلك كل دليل مع معارضه كالنصّ مع ناسخِه، وقيل: حتى يحصل اعتقادٌ بانتفائه.
والمختار: أنه إن كان عَمَلِياً (فكالجمهور). وإن كان علميّاً وجب كونه قطعياً مقارناً عند (بعض علمائنا)، أو قَطعياً فقط عند أكثرهم، ويبحث عنه حتى يعلم انتفاؤه. (المهدي): بألاَّ يوجد بعد البحث، فيعرف أنه /83/ لو كان موجوداً لوجبَ على اللّه أن ينبه عليه بخاطر أو نحوه.
(102) فصل ويجوز إسماع المكلف العام الْمُخَصَّص بالعقل اتفاقاً، وإن لم يعلم دلالته على التخصيص، بألاَّ ينظر. (أئمتنا، والجمهور): وكذا يجوز إسماعه المخَصَّص بالشرع، وإن لم يسمع مُخَصِّصَه الشرعي مطلقاً، (أبو الهذيل(2)، وأبو علي): يمتنع ذلك فيه مطلقاً، فيذهله اللّه عن سماع العام حتى يبلغه الخاص معه، (أبو الحسين، والشّيخ): يجوز مع إشعاره بورود المخصص أو إخطاره بباله.
(103) فصل (أئمتنا والجُمهور): ولاَ عُموم في الخطاب الخاص بالنبي صلى اللّه عليه وآله وسلَّم، نحو: ?يَا أيُّهَا النَّبِيُّ?[الأنفال: 64] و?لئِنْ أشْرَكْتَ?[الزمر:65]، خلافاً (لأبي حنيفة، وأحمد). ولا في خطابه صلى اللّه عليه وآله وسلم لواحدٍ ابتدءاً أو بعد سؤال إلا بقياس أو نحوه(3) خلافاً (للحنابلة).
__________
(1) البيضاوي، هو: أبو سعيد عبد الله بن عمر البيضاوي، من كبار علماء الشافعية، له مؤلفات في مختلف الفنون توفي بتبريز سنة خمس وثمانين وستمائة. كشف الظنون 1/186.
(2) أبو الهذيل، وهو: محمد بن الهذيل البصري العلاف، رأس المعتزلة وصاحب التصانيف، توفي رحمه الله في سنة سبع وعشرين ومائتين. تحامل عليه الذهبي في سير أعلام النبلاء 10/542.
(3) نحو قوله: حكمي على الواحد حكمي على الجماعة.

(1/137)


ولا في فعله المثبت خلافاً لقوم؛ إذ لا يدل إلا علَى الحدث /84/ والزمان من غير نظر إلى شمول أو وِحْدَةٍ أو تكرار، فلا يكون عامَّا في أقسامه، نحو: صَلّى داخل الكعبة، فلا يعم الفرض والنفل، ولا في أوقاتِه، نحو: كان يجمع بين الصلاتين في السَّفر(1)، فلا يعم وقتيهما. فأما التكرار فيه(2) فمستفاد من العرف. ودخول الأمة في فعله صلى اللّه عليه وآله وسلم بدليل خارجي؛ من قول أو قياس أو قرينةٍ، كوقوعه بعد إجمالٍ أو إطلاقٍ أو عمُومٍ.
ولا في نفي المساواة(3)، نحو: ?لا يَسْتَوي أَصْحابُ النّارِ وَأَصْحابُ الْجَنَّةِ?[الحشر:20]، إذ يقتضي نفي الإستواء في بعض الوجوه، لا نفي الإستواء في كل وجه، خلافاً (للشافعي)؛ فلا يقتل مسلم بذميّ عنده.
ولا في ترك الشارع الإستفصال عن القضيَّة، كقوله صلى اللّه عليه وآله وسلم لغيلان حين أسلم عن عشر نسوة : ((أمسك أربعاً وفارق سائرهن))(4)؛ إذ لا يتنزل /85/ الترك منزلة عموم اللفظ، خلافاً (للشافعي).
ولا في خطاب الموجودين، نحو: ?يَا أيُّهَا الذِيْنَ آمَنُوا?، فلا يشمل من بعدهم ممن سيوجد إلا بدليل آخر من إجماع، أو نص، أو قياس، أو كونه معلوماً من ضرورة الدين، لا بمجرد الصيغة خلافاً (للحنابلة).
فأما الخلاف في مفهومي الموافقَة والمخالفة، هل لهما عموم أو لا؟ فلفظي؛ لأن المثبت له فيهما أراد عمومهما فيما سوى المنطوق به وهو اتفاق، ونافيه فيهما أراد أنه لم يثبت عمومهما بالمنطوق به وهو اتفاق.

الخصوص

[4] باب الخصوص
__________
(1) هذه إشارة إلى حديث ابن عباس عند ابن ماجة 1/ 24 (1069) وغيره، أن النبي صلى الله عليه وآله كان يجمع بين المغرب والعشاء في السفر.
(2) أي في فعله المثبت نحو كان يفعل ذلك.
(3) أي ولا عموم في نفي المساواة.
(4) الحديث أخرجه ابن حبان 9/465 والبيهقي 7/181 عن ابن عمر.

(1/138)


(104) فصل التخصيص إخراج بعض ما تناوله العام. والمخصُوص(1) العام الْمُخْرَج بعضه، وقد يطلق الخاص عليه. والمخَصَّص - بالفتح - البعض الْمُخْرَج، وقد يطلق على الباقي بعد الإخراج. والمُخَصِّص - بالكسر -: المخْرِج - بكسر الراء.
وقد يطلق التخصيص على قصر اللفظ على بعض مدلوله /86/، وإن لم يكن عاماً، كما يطلق عليه عام لتعدده كعشرة، والمسلمين لمعهودين.
ولا يمنع إيهامه للبَدَا(2) في الطلب، وللكذب في الخبر مِنْ وُقُوعِه في كلام الشارع؛ لكشف التخصيص عن عدم إرادته لذلك، خلافاً لشذوذ فيهما. ولقوم في الخبر.
وفُرِقَ بينه(3) وبين النَّسْخ بوجوه، أوضحها: أن النسخ يجب فيه التراخي، وأنه يكون لكل ولبعض بخلاف التخصيص. والتحقيق أنه(4) نوع من التخصيص خاص بالأزمان بخلاف غيره من أنواعه(5)، فيكون في الأزمان والأعيان وغيرهما(6)، فكل نسخ تخصيص ولا عكس.
[أقسام المخصص]
(105) فصل وينقسم المخَصِّص إلى: متصل، وهو: ما لا يستقل بنفسه في الإفادة. ومنفصل، وهو خلافه، ولذلك كَانَ: أكرِم الناس، ولا تكرم زيداً /87/ منفصلاً.
فالمتصل خمسة أنواع:
__________
(1) في (أ): والمخصص.
(2) البدا: هو ظهور الحجة بعد خفائها. فإنه إذا أمر بشيء ثم نهى عنه أو أمر بخلافه أوهم البدا.
(3) أي: التخصيص.
(4) أي: النسخ.
(5) أي بخلاف غير النسخ من أنواع التخصيص.
(6) نحو: صم الدهر إلاَّ أيام العيد والتشريق، هذا في الأزمان. وفي الأعيان نحو: اقتل المشركين إلاَّ المعاهدين. ونحو ذلك: مثل مس المصحف في كل حال إلاَّ في حال الجنابة والحيض.

(1/139)


(الأول): الاستثناء المتصل، وهو المُخْرَج من متعدد لفظاً أو تقديراً بإلا أو إحدى أخواتها(1)، نحو: أكرم بني تميم إلا الفساق. فتقصره على غيرهم. وفائدته: إخراجه من المستثنى منه، فأما دلالته على مخالفته في الحكم ففيه خلاف يأتي(2).
والمنقطع خلافه. والمختار أن الاستثناء فيه مجاز. وقيل: حقيقة بالتواطؤ، وقيل: بالاشتراك. وتوقف بعضهم.
وقد يطلق الاستثناء على الشرط المعلق بمشيئة الله تعالى.
(106) فصل وشروط المتصل ثلاثة:
__________
(1) في (أ): وأخواتها.
(2) يعني: أن فائدة الاستثناء في المثال إخراج الفساق من الحكم، وهو الإكرام، لا إهانتهم، فعلى الخلاف الآتي وكذلك ما أشبه.

(1/140)


[1] اتصاله بالمستثنى منه لفظاً، أو حكماً، بتخلل وقت يسير كتنفس أو بلع ريق أو عطاس أو بدورِ قَيْءٍ. (أبو مضر(1)، وأبو جعفر)(2): أو تَذَكُّرِ ما يستثنى. (الإمام): أو طولِ كلام. وجوز (ابن عباس) تراخيه أبداً، وعنه شهراً. وعنه /88/ - وهو أحد قولي (الناصر) - سنة، و(ابنُ جبيرٍ)(3) أربعةَ أشهر، و(مجاهد)(4) سنتين، و(الحسن(5)، وعطاء) في المجلس، وبعضهم بالنية(6). وقيل: يجوز في القرآن خاصة.
__________
(1) أبو مضر، هو: شريح بن المؤيد المرادي الشريحي، من كبار علماء الزيدية، في الجيل والديلم وهو من أصحاب المؤيد بالله، له كتب في الفقه والأصول. لم أقف له على تاريخ وفاة. وليس بأبي مضر المعتزلي.
(2) أبو جعفر، هو : محمد بن يعقوب أبو جعفر الهوسمي، من علماء الزيدية في الجيل والديلم، له كتب في الأصول، توفى بهوسم، سنة خمس وخمسين ومائة. مطلع البدور - خ -.
(3) ابن جبير، هو: الإمام المجاهد الشهير، سعيد بن جبير أحد الرواة عن الصحابة، ومشاهير علماء التابعين، كان يسمى: جهبذ العلماء، قتله الحجاج (سنة 95 هـ).
(4) مجاهد، هو: أبو الحجاج مجاهد بن جبر مولى مخزوم، كان فقيهاً محدثاً ومفسراً مشهوراً، توفي سنة مائة، وقيل: سنة اثنتين ومائة. طبقات الفقهاء 1/ 58.
(5) الحسن، وهو: الإمام الزاهد الحسن بن أبي الحسن البصري، أحد مشاهير التابعين وعلماء الإسلام، لقي الصحابة وروى عنهم، (توفي110 هـ).
(6) أي جوز بعضهم الاستثناء بالنية.

(1/141)


[2] وكونه غير مستغرق للمستثنى منه، كمثله أو أكثر فَيَلْغوُ. ويستثنى الأقل اتفاقاً، والمساوي عند (أئمتنا، والجمهور)، خلافاً (لبعض النحاة، والحنابلة، والباقلاني، والظاهرية). ومثلهما(1) الأكثر خلافاً (للفراء، وابن درستويه، والقفال، ومانع المساوي)، وقيل: بمنعهما(2) في العدد الصريح دون غيره، واستَقْبَحَ بعض اللغويين استثناء الجبر لا الكسر، ولو كان الجبر أقل.
[3] وكونه من جنس المستثنى منه.
ويقع(3) في كل أنواع الخطاب من الخبر، والأمر والنهي، والاستفهام، وفي الأعيان، والأوقات، والأحوال، والأسباب، والشروط والموانع، ومفرداً، ومعطوفاً، ومجملاً من مجمل، ومجملاً من مبين، وعكسه، ومستثنى من مستثنى(4)، ولا يشترط إرادته مع أول الجملة، خلافاً (لبعض الشافعية)، ولا يلغو متقدماً في الأصح.
__________
(1) أي: ومثل المساوي والأقل يستثنى الأكثر.
(2) أي: الأكثر والمساوي.
(3) أي التخصيص بالاستثناء.
(4) مثال الخبر نحو: جاءني القوم إلا زيد. والأمر نحو: أكرمهم إلا زيداً. والنهي نحو: لا يضربهم إلا زيداً. والاستفهام نحو: هل رأيت القادمين إلا زيداً.؟ والأعيان كالأمثلة السابقة. والأوقات نحو: صم إلا يوم الجمعة. والأحوال نحو: صل إلا أن تكون محدثاً. والأسباب نحو: النظر يولد العلم إلا الفاسد. والشروط نحو: الوضوء شرط في صحة الصلاة إلا لعذرٍ. والموانع نحو: الحدث مانع من الصلاة إلا لعذر يبيحها معه. والمفرد كالأمثلة السابقة. والمعطوف نحو: اضرب القوم إلا زيداً وإلا عمرواً. والمجمل من مجمل نحو: علي له ألف، الاستثناء يبين جنس الألف ونفس الشيء. والمجمل من مبين نحو: علي له عشرة دراهم إلا شيئاً. وعكسه نحو: علي له شيء إلا درهماً. ومستثنى من مستثنى نحو: قوله تعالى: ?إلا آل لوطٍ إنا لمنجوهم أجمعين إلا امرأته?.

(1/142)


(107) فصل ولإيهامه التناقص بالإخراج بعد الإدخال، أختلف في كيفية دلالته، فعند (أئمتنا، والجمهور) أنه أطلق المستثنى منه على بعضه مجازاً. وأداة الاستثناء قرينة ذلك، فهو من باب تسمية البعض باسم الكل، فالمراد بألف في قوله تعالى: ?فَلَبِثَ فيهِمْ أَلْفَ سَنَةٍ إِلا خَمْسينَ عاماً?[العنكبوت: 14]، خمسون وتسعمائة. (الحفيد، والباقلاني): ألف إلا خمسين بإزاء خمسين وتسعمائة، كاسمين: مفرد ومركب. (ابن الحاجب، وغيره): بل المراد بالمستثنى منه جميع ما تناوله، ثم أخرج المستثنى والإسناد بعد الإخراج. فهو على الأول تخصيص، وعلى الثاني ليس بتخصيص، وعلىالثالث محتمل(1) .
(108) فصل /90/ وإذا وقع بعد جملتين فصاعداً فعند (أبي طالب، والمنصور، والشافعية): أنه يعود إلى الجميع، وهو ظاهر مذهب (الهادي، والقاسم، وغيرهما من أئمتنا). وعند (الحنفية) إلى الأخيرة فقط. (الموسوي): مشترك. وتوقف (الباقلاني، والغزالي). وقال (القاضي، وأبو الحسين، وغيرهما): إن تبين الإضراب عاد إلى غير المضرب عنه، وإلا فإلى الجميع، وهو الْمُحَصَّل للمذهب.
والقسمة العقلية تقتضي ثماني صور:
ـ الاتفاق في الاسم والحكم والنوع معاً، نحو: أكرم ربيعة وأكرم ربيعة، أو وأكرمهم(2) إلا الطوال(3).
__________
(1) تخصيص على القول الأول؛ لأنه إخراج بعض ما تناوله العموم. وغير تخصيص على القول الثاني؛ لأنه ليس قصر العام على بعض مسمياته، بل على المجموع بنفس مسمياته. ومحتمل على القول الثالث أنه تخصيص أو غير تخصيص.
(2) سقط من (ب) أو. في (أ) وأكرمهم.
(3) فالجملتان متفقتان في الاسم وهو ربيعة فيهما أو في الأولى وضميرها في الثانية، وفي الحكم وهو وجوب الإكرام فيهما وفي النوع وهو الأمر (أكرم) فيهما وقس على هذا في الباقي.

(1/143)


ـ أو الاختلاف في ذلك معاً، نحو: أطعم ربيعة ولا تسلم على مضر إلا الطوال(1).
ـ أو الاتفاق في الاسم فقط، نحو: ?فاجْلِدوهُمْ ثَمانينَ جَلْدَةً وَلا تَقْبَلوا لَهُمْ شَهادَةً أَبَداً وَأولَئِكَ /91/ هُمُ الْفاسِقونَ إلا الذِّينَ تَابُوا..?[النور: 4ـ5].
ـ أو في الحكم فقط، نحو: أكرم ربيعة ومضر مكرمون إلا الطوال.
ـ أو في النوع فقط، نحو: أطعم ربيعة وسَلِّم على مضر إلا الطوال.
ـ أو في الاسم والحكم دون النوع، نحو: أكرم ربيعة، وهم مكرمون إلا الطوال.
ـ أو في الاسم والنوع دون الحكم، نحو: أطعم ربيعة وسلم عليهم إلا الطوال.
ـ أو في الحكم والنوع دون الاسم، نحو: أكرم ربيعة وأكرم مضر إلا الطوال.
فيعود في الأولى والثانية إلى الأخيرة، وفي الثالثة إلى الجميع عند (جمهور أئمتنا، والشافعية)، خلافاً (لزيد، والإمام، والحنفية)، وهي منشأ الخلاف، وفي الرابعة والخامسة إلى الأخيرة، وفي الثلاث البواقي إلى الجميع.
(109) فصل (والثاني): الشرط، نحو: أكرم تميم إن دخلوا الدار، فتقصره على الداخلين. وفائدته: تعليق الحكم على المختص به اتفاقاً. فأما دلالته على نفيه عما عداه إلا أن يدل /92/ دليل على اعتباره ففيه خلاف يأتي.
ويقع في كل أنواع الخطاب. وأدواته: إن، وإذا، وأخواتهما.
وشروطه: إمكانه في نفسه(2)، وإمكان العلم به(3)، وكونه مستقبلاً وإن تراخى(4)، ولا يقتضي التكرار إلا مقيداً بعام(5).
وهو وجودي وعدمي.
__________
(1) فالجملتان متفقتان في الاسم وهو ربيعة فيهما أو في الأولى وضميرها في الثانية، وفي الحكم وهو وجوب الإكرام فيهما وفي النوع وهو الأمر (أكرم) فيهما وقس على هذا في الباقي.
(2) فلا يصح أن يكون الشرط أمراً مستحيلاً كاجتماع السواد والبياض.
(3) في العادة فلا يصح نحو: أكرم هؤلاء إن كان جبريل في السماء.
(4) فلا يصح كونه ماضياً، وإن تراخى الشرط عن المشروط فهو باق على الشرطية.
(5) نحو: كلما دخلوا الدار فأكرمهم.

(1/144)


فالوجودي: إن استحال وجوده إلا دفعة ـ مفرداً كالعتق(1)، أو مركباً كالإيمان(2) ـ فحصول المشروط عند تمامه، وإن استحال وجوده دفعة واحدة كالكلام، فحصول المشروط عند تمام آخره. وإن جاز فيه الأمران كالعقل فكذلك(3).
والعدمي، نحو: إذا لم، وإن لم، ومتى لم. وفي تعيين وقت المشروط به تفصيل مذكور في كتب الفروع.
والجزاء المتأخر متفق عليه، واختلف في المتقدم، مثل: أكرمك إن دخلت الدار. فعند (جمهور النحاة): أنه جُمْلَةٌ خبرية /93/ قدمت للإخبار بما فيها من النِّسبة، لا جَزاءٌ؛ لامتناع تقدمه على الشرط، ولعدم جزمه، والجزاء محذوف لدلالته عليه(4). والمختار وفاقاً (للفراء، وعبد القاهر)(5) أنه جزاء. (ابن الحاجب): جزاء في المعنى لا في اللفظ.
ويتحدان(6) ويتعددان على الجمع أو على البدل، أو مختلفين، ويتحد أحدهما ويتعدد الآخر على الجمع أو على البدل. ويجوز إخراج الأكثر به اتفاقاً.
وهو كالاستثناء في: اتصاله بالمشروط، وفي: الخلاف في عوده بعد الجملتين فصاعداً. وعن (أبي حنيفة) للجميع. وقيل: للجملة الأخيرة: إن تأخر، وللأولى إن تقدم.
__________
(1) فإنه لا يتجزأ بأن يعتق ربع العبد مثلاً أو يده، فإذا علق شيئاً بالعتق وقع عند العتق، كلو قال: إن اعتقت عبدك فلك ألف.
(2) فإنه لا يكون إيماناً إلا بتمام أجزائه، وأركانه، فإذا قال مثلاً: إن آمنت فأنت حر، لم يعتق إلا بتمام أركان الإيمان وأجزائه.
(3) فإذا قال: إن عقلت كُلِّفت، لم يكلف إلا عند وجود العقل وتمامه.
(4) أي لدلالة المتقدم عليه.
(5) عبد القاهر بن عبد الرحمن بن محمد الجرجاني الأشعري، من علماء الشافعية، توفي سنة إحدى وسبعين وأربعمائة. طبقات الشافعية 3/242.
(6) أي الشرط والجزاء أن يكون الشرط واحداً والجزاء واحد، كقول: إن أكلت فأنت حر فإن كلاً من الشرط (الأكل) والجزاء (الحرية) واحد وقد يتعددان.

(1/145)


(110) فصل (والثالث): الغاية، نحو: أكرم تميم حتى يدخلوا، فتقصره على غير الداخلين(1).
وفائدتها: تعليق الحكم بما قبلها اتفاقاً، فأما دلالتها على نفيه عما بعدها إلا أن يدل دليل على اعتباره، ففيه خلاف يأتي.
وتقع في كل أنواع الخطاب. وقد تكون معلومة الوقوع، نحو: استأجر تميم إلى غروب الشمس، وغير معلومته، نحو: إلى أن يدخلوا الدار /94/، وتكون هي والمقيد بها مفردين ومتعددين على الجمع أو على البدل أو مختلفين، ومع اتحاد أحدهما وتعدد الآخر على الجمع أو على البدل كالشرط.
والخلاف في عودها بعد الجملتين فصاعداً كالخلاف في الاستثناء.
(111) فصل (والرابع): الصفة، نحو: في الغنم السَّائمة زكاة.
وفائدتها: تعليق الحكم على المختص بها اتفاقاً، فأما دلالتها على نفيه عما عداه إلا أن يدل دليل على اعتباره، ففيه خلاف يأتي. ويقع في كل أنواع الخطاب، ويَتَّحِد ويتعدد، والخلاف فيها بعد المتعدد كالخلاف في الاستثناء، وعن (أبي حنيفة) للجميع.
(112) فصل (والخامس): بدل البعض، ولم يذكره الجمهور، نحو: ?وَلِلَّهِ عَلى النّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطاعَ إِلَيْهِ سَبيلاً?[آل عمران:97] فيقصر الناس على المستطيعين، ولا بد فيه من رابط لفظاً أو تقديراً.
(113) فصل /95/ والمنفصل، قسمان:
لفظي، ومعنوي. فالأول: أربعة أنواع:
(أولها): تخصيص الكتاب بالكتاب، كآيتي العدتين(2)، ومنعه: (بعض الظاهرية). والسنة به، ومنعه: (بعض الشافعية).
__________
(1) الصواب أن يقول: فتقصره عليهم إلى أن يدخلوا.
(2) عدة المتوفى عنها زوجها بأربعة أشهر وعشر، وعدة الوضع بالحمل. والآية الأولى هي: قوله تعالى: ?وَالَّذِيْنَ يُتَوَفَّوْنَ مِنْكُمْ وَيَذَرُوْنَ أَزْوَاجاً يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ وَعَشْراً? والآية الثانية هي: قوله تعالى: ?وَأُوْلاَتِ الأَحْمَالِ أَجَلُهُنَّ أَنْ يَضَعْنَ حَمْلَهُنَّ?.

(1/146)


(والثاني): السنة بالسنة خلافاً لقوم، كخبر الأوساق(1) المخصِّص لقوله صلى الله عليه وآله وسلم: ((فيما سقت السماء العشر))(2). والكتاب بمتواترها.
واختلف في تخصيص المعلوم منهما بالآحادي، فجوزه (الفقهاء الأربعة، وغيرهم) مطلقاً، ومنعه (بعض الأصوليين) مطلقاً. (ابن أبان): إن سبق تخصيصه بقطعي متصل أو منفصل جاز(3) وإلا امتنع، ووافقه (الكرخي) في المنفصل. (الباقلاني): كل منهما قطعي من وجه(4)، فوجب الوقف. (أئمتنا، والمعتزلة) يجوز في العملي دون العلمي؛ للقطع بمتنه؛ لتواتره وبمدلوله؛ لأنه عِلْمِي؛ فيمتنع إلا بقاطع. وفي وجوب مقارنته قولان تقدما، ولذلك منعوا تخصيص عمومات الوعيد بأخبار الوعد، (وهي متناولة للصغيرة /96/ ولذلك وجبت التوبة عليها شرعاً)(5).
(والثالث): إجماع الأمة، خلافاً (لبعض الظاهرية)، كتنصيف آية القذف على العبد، وإجماع العترة عند (أئمتنا)، ومعناه(6) تعريفهما أن ثم مخصصاً؛ لا أن أنفسهما مخصص، فإن كانا(7) بالفعل أو السكوت أو التقرير فهما من المعنوي(8).
(والرابع): المفهوم سواء كان مفهوم موافقة أو مفهوم مخالفة، عند معتبره، خلافاً لقوم.
__________
(1) خبر الأوساق هو: ما روي عن النبي (ص) أنه قال: (ليس فيما دون خمسة أوسق صدقة) أخرجه البيهقي 4/84 وغيره عن أبي سعيد الخدري.
(2) أخرجه ابن خزيمة 4/37 وابن حبان 8/80 (3285) وغيرهم عن ابن عمر.
(3) لأنه قد صار بعد التخصيص ظنياً.
(4) فالمخصص الظني قطعي من جهة الدلالة والعموم القطعي السند ظني من جهة الدلالة.
(5) ما بين القوسين في (أ) فقط.
(6) أي: معنى صحة التخصيص بالإجماعين: التخصيص بمستندهما فهما معرفان للمخصص لا مخصصان.
(7) أي: الإجماعين.
(8) أي: من المخصص المعنوي لا اللفظي.

(1/147)


ويخصصانه إذا كان عملياً(1) مطلقاً كما يخصصه المنطوق، نحو: كل من دخل داري فاضربه، وإن دخل أبي فلا تقل له أف، وفي الغنم زكاة؛ ثم قوله: في الغنم السائمة زكاة.
ولا يُخصَّصُ مفهوم الموافقة مع منافاة معنى أصله كضرب الأب بلا سبب منه(2)، فأما مع عدم منافاة معنى الأصل فيجوز؛ كحبسه لنفقة ولده عند مجوزه(3)، مع بقاء تحريم التأفيف. ويجوز تخصيص مفهوم المخالفة، كإيجاب الزكاة /97/ في معلوفة التجارة(4).
(114) فصل والثاني نوعان:
(عقلي) وهو: التخصيص بضرورة العقل، نحو: ? تُدَمِّرُ كُلَّ شَيْءٍ?[الأحقاف:25] في خروج السماء والأرض، أو بدلالته نحو: ?وَلِلَّهِ عَلى النّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ?[آل عمران:97] في خروج الأطفال، ومنع (داود، والقفال) من التخصيص به(5)، و(الشافعي) من تسميته تخصيصاً.
(وشرعي) وهو: أربعة أنواع:
__________
(1) أي: أن المفهومين يخصصان العموم إذا كان في الفروع العملية.
(2) العلة في تحريم التأفيف هو الإكرام للوالدين وعدم تضييع الإحسان، والضرب مناف لذلك المعنى؛ لأنه إهانة.
(3) أي: عند مجوز حبس الوالد لنفقة الولد.
(4) فالدليل الدال على وجوب الزكاة فيها مخصص بعموم مفهوم: في السائمة زكاة. إذ يفهم منه أنه لا زكاة في المعلوفة مطلقاً، سواء كانت للتجارة أم لا.
(5) أي: بالعقل.

(1/148)


أولها: فعله أو تركه صلى الله عليه وآله وسلم المعارضان للعام عند (أكثر أئمتنا، والجمهور)؛ كما لو قال: الاستقبال لقضاء الحاجة حرام على كل مسلم؛ ثم فعل، أو صوم عاشوراء واجب على كل مسلم؛ ثم ترك(1)، خلافاً (للمنصور، والكرخي، وبعض الفقهاء)، فإن ثبت اتباع الأمة له فيهما بدليل خاص بهما، فنسخ للعام عن الجميع اتفاقاً، أو بعام، وهو دليل التأسي؛ فالمختار تخصيصه بالعام الأول. وقيل: بل العمل بموافق الفعل والترك أولى، وهو دليل التأسي، فيكون ناسخاً، وتوقف (الآمدي).
ويعرف كونهما مخصِّصَين بوقوعهما بعد عام يَشْمَله صلى الله عليه وآله وسلم وغيره؛ ثم يفعل الضد أو يترك(2) /98/.
والثاني: تقريره لمسلم على فعل أو ترك معارض للعام مع كون ذلك الفعل أو الترك لا يمكن سهوه عن مثله، ولم ينكره أحد، فهو مخصص عند (أئمتنا، والجمهور) خلافاً لشذوذ، كنهيه عن نافلة الفجر بعده؛ ثم تقريره من رآه يفعل ذلك. فإن كان تخصيصه لسبب معين ألحق به مشاركه فيه بالقياس(3)، وإن لم يكن لسبب فقيل: يلحق به غيره ويكون العام منسوخاً، وهو مقتضى كلام (بعض علمائنا)، وقيل: لا يلحق به لتعذر دليله، واختاره (ابن الحاجب).
__________
(1) فالفعل والترك منه صلى الله عليه وآله خاص به، بناء على دخوله في عموم كل مسلم، أما الأمة إذا ثبت اتباعها له فيهما بدليل خاص، فعلى التفصيل المذكور.
(2) كالمثال السابق.
(3) كما لو كان التقرير لأجل فوت صلاة الفجر جماعة في المذكور.

(1/149)


والثالث: القياس، واختلف في تخصيص العموم القطعي به(1)، فجوزه (أئمتنا، والفقهاء الأربعة، والجمهور) مطلقاً(2)، ومنعه (أبو علي، وبعض الفقهاء) مطلقاً. (ابن أبان): إن سبق تخصيصه بقطعي متصل أو منفصل جاز، وإلا امتنع، ووافقه (الكرخي) في المنفصل /99/. (ابن سريج): يجوز إذا كان القياس جلياً. (الإمام، والغزالي): محل اجتهاد. وتوقف (الجويني، والباقلاني). ومقتضى كلام (أئمتنا، والمعتزلة) جوازه في العملي لا العلمي إلا بقياس قطعي، فأما الظني فجواز تخصيصه به أظهر. والمختار: أن المسألة ونحوها ظنية، خلافاً (للباقلاني، وغيره).
والرابع: الإرادة عند (القاسمية، والفريقين)، فيصح تخصيصها لعموم غير الشارع(3) مذكوراً اتفاقاً، ومحذوفاً عند (القاسمية)، خلافاً (للحنفية)، و(للمؤيد، والشافعي) قولان.
[المخصصات المختلف فيها]
__________
(1) المقصود بالقطعي هنا: القطعي من الفروع العملية.
(2) يفهم مراد الإطلاق من التقييد التالي.
(3) فإذا قال والله لا دخلت السوق مثلاً، وليس قصده سوقاً معهوداً وأراد سوقاً معيناً انصرف اللفظ إليه.

(1/150)


(115) فصل (أئمتنا، والجمهور): ولا يخصص العام بوروده على سبب خاص مطلقاً، خلافاً (لبعض السلف، ومالك، والشافعي، وأبي بكر الفارسي)، وهو نص في السبب ظاهر في غيره، كقوله صلى الله عليه وآله وسلم - لما سئل عن بئر بضاعة -: (( خُلق الماء طهوراً لا ينجسه إلا ما غير ريحه أو لونه أو طعمه ))(1)، فأما جواب السائل غير المستقل دونه(2) فتابع للسؤال في عمومه/100/ اتفاقاً(3).
ولا بعطفِ خاصٍّ عليه مما قد تناوله كقوله: ?وجِبْرِيْلَ ومِيْكَائِيلَ?[لبقرة:98]، خلافاً لقوم(4). وكذا بعطف عام على خاص نحو: ?آتيناكَ سَبعاً مِنْ المثَانِي وَالقُرآن العَظِيْم?[الحجر: 87].
ولا بالضمير الراجع إلى بعض ما يتناوله نحو: ?وَبُعُولَتُهُنَّ أحَقُّ بِرَدِّهِنَّ?[البقرة: 228] (5)، خلافاً (للحفيد، وابن زيد، والجويني)، وتوقف (أبو الحسين، وابن الملاحمي، والرازي)، وقال (الداعي): يوجب صرف العموم إلى العهد.
__________
(1) ذكر المؤلف في (الفلك الدوار 252) أنه رواه الأمير الحسين في الشفاء، وقواه وقال: احتج به علماء الإسلام. ورواه ابن ماجة 1/174 والطبراني 8/123 عن أبي أمامة.
(2) أي الجواب غير المستقل عن السؤال.
(3) فلو قال: ما على من أفطر في نهار رمضان بالجماع؟ فقيل: عليه الكفارة، فالجواب تابع لعموم السؤال، أما لو قال: واقعت أهلي في نهار رمضان، فقال: عليك الكفارة، فالجواب خاص تبعاً للسؤال، فلا يدخل غيره إلا بدليل.
(4) فلا يقال: إن عموم (ملائكته) قد تخصص بعطف جبريل وميكائيل عليه، بل يبقى على عمومه ويخصص المذكورون بالذكر لفضلهم على سائر الملائكة.
(5) فإن لفظ (المطلقات) يجعله في أول الآية عاماً للرجعية وغيرها، بينما الضمير في (وبعلوتهن) عائد إلى الرجعيات فقط، فلا يقال: إن عود الضمير يصيِّر لفظ (المطلقات) خاصاً بالرجعيات، بل يبقى على عمومه، ويكون التخصيص بدليل خارجي.

(1/151)


ولا بذكر بعض أفراده الموافقة له في الحكم، وليس لها مفهوم معتبر خلافاً (لأبي ثور)، كقوله صلى الله عليه وآله وسلم: (( أيما إهاب دبغ فقد طهر ))(1)، ثم قوله في شاة ميمونة: (( دباغها طهورها ))(2) بخلاف(3): في الغنم زكاة، ثم: في الغنم السائمة زكاة.
ولا بمقدر مخصوص(4) في الجملة الثانية، خلافاً (للحفيد)، كقوله صلى الله عليه وآله وسلم: (( ألا لا يقتل مسلم بكافر، ولا ذو عهد في عهده ))(5)، فخصصوا بكافر /101/ في الجملة الأولى بتقديره في الثانية مخصصاً(6)، وتوقف (أبو الحسين).
ولا بمذهب الصحابي حيث يخالفه غالباً(7)، ولو كان راويه، خلافاً (للحنفية، والحنابلة، ولبعض علمائنا)، حيث لا يكون للاجتهاد فيه مسرح(8). (الشافعي): إن حَمَل العموم على الخصوص لم يخص بمذهبه وإن حَمَل ما يحتمل معنيين على البدل على أحدهما خص به(9). (القاضي): إن حَمَله على الخصوص لفهمه من قصد النبي صلى الله عليه وآله وسلم وعلم ذلك منه بقصد أو قرينة، وجب اتباعه في التخصيص، وفي الحمل على أحدهما، وإلا فلا، وهو اتفاق.
__________
(1) رواه ابن الجارود في المنتقى 27 وابن حبان 4/204 وغيرهما عن ابن عباس.
(2) أخرجه الدارمي 2/117 عن ابن عباس والنسائي 7/174 عن عائشة.
(3) فلا يعتبر التنصيص على شاة ميمونة تخصيصاً لعموم (أيما إهاب) بحيث تقول: إن دباغ الأديم لا يطهر إلا فيها؛ لأنه ليس له مفهوم معتبر؛ إذ هو مفهوم لقب.
(4) في النظام مخصَّص.
(5) أخرجه ابن الجارود في المنتقى 269 عن ابن عمر وأخرجه الحاكم 2/153 عن علي.
(6) بحيث إذا قتل المعاهد كافراً لم يقتل به على مقتضى هذا القول.
(7) الاحتراز هنا من الإمام علي؛ لأنه مع الحق.
(8) فقالوا: يكون مخصصاً حينئذٍ.
(9) في نسخة: حمل عليه. أشار إليها في هامش (أ).

(1/152)


ولا بالعادة الجارية بترك بعض مدلوله مثل: حرمة الربا في الطعام، وعادتهم تناول البر، خلافاً (للحنفية) مطلقاً(1). و(للرازي) إن جرت في زمنه صلى الله عليه وآله وسلم وعلمها وقررها أو أُجْمِع عليها لا غير، وليس من ذلك ما نقله عرف اللغة إلى غير معناه الأصلي كالدابة فإنه مخَصَّصٌ بما نقل إليه اتفاقاً.
[كون التخصيص دفع عن العمل بالعام لا رفع له]
(116) فصل /102/ وكل أنواع التخصيص المتصلة والمنفصلة مخصِّصًة بالدفع لا بالرفع(2)، وكذا النسخ في الأصح(3).
وَيَقْبَلُه كل عام معنى كالعلة، أو لفظاً(4)، إلا المؤكَّد بما يفيد الشمول إلا بمتصل(5)، وقول بعضهم كل عمومات القرآن مخصوصة إلا: ?وَاللهُ بِكُلِّ شَيء عَلِيْمٌ?[البقرة: 282]، ?وَمَا مِنْ دَابَّةٍ في الأرْضِ إلاَّ عَلَى الله رِزْقُهَا?[هود: 6]، فيه نظر.
(117) فصل ويمتنع تخصيص العام حتى لا يبقى شيء مما يتناوله اتفاقاً.
__________
(1) فيحمل التحريم عندهم على المعتاد، وهو: البر، ولا يدخل غيره من الطعام.
(2) معنى ذلك أن مخصص العموم ـ سواء كان متصلاً أو منفصلاً ـ دافع لوهم العمل بمقتضى العموم، ومبين أن الشارع ما أراد بالعموم إلاَّ ما عدا المخصص، لا أنه أريد ثم رفع وقطع عما يقضي به ظاهراً؛ لأن ذلك قد يكون من البدا، بل لم يرد العموم بدليل التخصيص.
(3) فهو دافع لوهم عموم الأزمان والأحوال ببيان انتهاء الحكم.
(4) يعني ويقبل التخصيص كل عام، سواء كان عمومه للمعنى، أي: العلَّة في نحو: اعطه الزكاة لفقره، فيخصص بالكافر والفاسق. أم في اللفظ كالمشركين.
(5) كقوله تعالى: ?فَأَنْجَيْنَاهُ وَأَهْلَهُ أَجْمَعِيْنَ إِلاَّ امْرَأَتَهُ?.

(1/153)


واختلف في الغاية التي ينتهي إليها التخصيص، فعند (الشيخ، والجويني، وبعض اللغويين، وغيرهم): يجوز إلى واحد في كل ألفاظ العموم. (الإمام، وأبو الحسين، والغزالي، والرازي): يمتنع في كلها إلى دون أقل الجمع. (المنصور، والحفيد): إن كان جمعاً معرفاً جاز إلى واحد، وإن كان غيره فإلى ثلاثة. وعكَّس (القفال). (الداعي، وابن زيد): إن كان بالاستثناء جاز إلى واحد، وإن كان بغيره كان الباقي أكثر أو مساوياً /103/، فأما إطلاق لفظ الجمع على الواحد المعظم فجائز.
واختلف في أقل الجمع، فعند (أئمتنا، والجمهور، وبعض السلف): أنه ثلاثة. وعند (أبي العباس، وثعلب، والباقلاني، وبعض السلف، والفقهاء): أنه اثنان، وهو أحد قولي (المؤيد بالله).
(118) فصل وإذا تعارض العام والخاص في غير الأخبار(1): فإما أن يعلم تقارنهما، أو تأخر الخاص، أو تأخر العام، أو يجهل ذلك.
إن علم تقارنهما خصص العام به عند (أئمتنا، والجمهور). (ابن القاص)(2): يتعارضان فيما تناوله الخاص كالنصين، فيجب الترجيح أو الرجوع إلى دليل آخر إن أمكنَا، وإلا فالوقف.
وإن علم تأخر الخاص، فإن تأخر بمدة لا يمكن فيها العمل بالعام، فتخصيص على المختار(3)/104/، وإن تأخر بمدة يمكن فيها العمل فقيل: ناسخ، ويأتي ـ على أصل ـ مانع تأخير البيان إلى وقت الحاجة. وقيل: مخصص، ويأتي على أصل مجوزه.
__________
(1) أما في الأخبار فلا تعارض؛ لأن العمل بالقاطع فيها ولا تعارض في القطعيات.
(2) ابن القاص، هو: شيخ الشافعية أبو العباس أحمد بن أبي أحمد الطبري ثم البغدادي، تلميذ أبي العباس بن سريج، له كتب، توفي مرابطا بطرسوس سنة خمس وثلاثين وثلاثمائة. سير أعلام النبلاء 15/371.
(3) كما لو قال: أكرم من دخل إلا فلان.

(1/154)


وإن علم تأخر العام فإن تأخر بمدة لا يمكن فيها العمل بالخاص، فتخصيص على المختار. وإن تأخر بمدة يمكن فيها العمل فهو ناسخ للخاص عند (جمهور أئمتنا، والحنفية، والقاضي، والباقلاني، والجويني)، ومخصَّص بالخاص عند (بعض علمائنا، والشافعي، وأبي الحسين، والرازي، وبعض الظاهرية). ابن (القاص): يتعارضان فيما تناوله الخاص كالنصين، فيجب ما تقدم.
وإن جهل التاريخ بينهما فهو مخصص للعام عند (بعض علمائنا، والشافعي). وحكى (ابن زيد، وأبو الحسين)، الإجماع على ذلك. وعند (جمهور أئمتنا، والحنفية، والقاضي، والباقلاني): يتعارضان فيما تناوله الخاص، فيجب ما تقدم.
وأما تعارض العامين والخاصين فسيأتي.

المطلق والمقيد

[5] باب المطلق والمقيد
(119) فصل المطلق: اللفظ الدال على شائع في جنسه، كرجل. فتخرج المعارف الشخصية، كزيد، ونحو: كل رجل؛ لاستغراقه.
والمقيد: اللفظ الدال على مدلول معين، كزيد، وأنا، وأنت، وهذا الرجل، وقد /105/ يطلق المقيد على ما أخرج من شائع في جنسه: كـ?رَقَبَةٍ مُؤمِنَة?[النساء: 92]، فهي وإن كانت مطلقة في جنسها من حيث هي رقبة مؤمنة، فهي مقيدة بالنسبة إلى مطلق الرقبة.
والمبحوث عنه عند الأصوليين هو الثاني، وتقييد المطلق شبيه بتخصيص العام، فما ذكر في التخصيص من متصل ومنفصل ومتفق عليه ومختلف فيه ومختار ومزيف يجري في تقييد المطلق.
(120) فصل وإذا ورد مطلق ومقيد مثبتان، فإن اتحد سببهما وحكمهما، نحو: اعتق رقبة في الظهار، أعتق رقبة مؤمنة(1). فإن تأخر المقيد بمدة لا يمكن فيها العمل بالمطلق؛ فهو مقيد به على المختار. وإن تأخر بمدة يمكن فيها العمل؛ فناسخ عند مانع تأخير البيان إلى وقت الحاجة، ومقيد عند مجوزه. وإن تقدم المقيد على المطلق أو جهل ذلك فقياس الخلاف فيه كما تقدم.
__________
(1) فإن السبب وهو الظهار واحد، وكذلك الحكم وهو وجوب الإعتاق.

(1/155)


وإن اختلَف سببهما وحكمهما نحو: اهد بدنة عن القران، وزك بدنة /106/ سائمة عن النصاب. لم يحمل المطلق على المقيد اتفاقاً.
وإن اتحد سببهما واختلف حكمهما، نحو: اكس ثوباً عن الكفارة، وأطعم طعام الملوك عن الكفارة. فكذلك.
وإن اتحد حكمهما واختلف سببهما كقوله تعالى في الظهار: ? فَتَحْرِيْرُ رَقَبَةٍ?[المجادلة: 3]، وفي القتل: ?وِتَحْرِيْرُ رَقَبَةٍ مُؤمِنَة?[النساء: 92]؛ فعند (أقل الشافعية)، أنه يحمل المطلق على المقيد، سواء كان بجامع أو بغيره. وعند (الحنفية): لا يحمل سواء كان بجامع أو بغيره. (أئمتنا، والمعتزلة، والأشعرية، وصُحح للشافعي)، إن قام دليل على الحمل من قياس أو غيره حمل عليه، وإلا فلا.
(121) فصل ويحمل المطلق المشْبِه لمقيدين قيد كل منهما مخالف لقيد الآخر، على أكثرهما شبهاً، كإطلاق قضاء رمضان، وتقييد صوم الظهار بالتتابع، وصوم التمتع بالتفريق. فإن تساويا فالوقف، وقيل /107/: مخير بينهما.
والمطلق الواقع بعد المقيد مقيد إن كان بينهما تعلق بضمير أو نحوه(1) إلا لمانع(2). وكذا المطلق المتأخر في الأمر بعد المقيد في النهي المتقدم، نحو: اعتق رقبة بعد لا تملك رقبة كافرة.
والمطلق المتقدم في الأمر المقيد في النهي المتأخر المقارِن له(3)، نحو: قوله للقاتل: اعتق رقبة ولا تملك رقبة كافرة. فأما النهي غير المقارن له فكما اتحد سببهما وحكمهما. ولا يحمل مطلق النهيين على مقيدهما نحو: لا تعتق المكاتب، لا تعتق المكاتب الكافر.

المجمل

[6] باب المجمل
(122) فصل المجمل لغة: الشي المجموع. واصطلاحاً: ما لم تتضح دلالته.
__________
(1) التعلق بالضمير، نحو: أعتق مملوكاً أعتق أختاً له. ونحوه العطف في: ?وَالْذَّاكِرِيْنَ اللَّهَ كَثِيْراً وَالْذَّاكِرَاتِ?.
(2) نحو أكرم الرجال، أكرم النساء من لم تحض.
(3) المراد بالمتأخر المقارن له: المتأخر في الصدور المقارن له بحيث لا يبقي وقت يمكن فيه العمل.

(1/156)


ويقع في القول مفرداً، ومركباً، وفي الفعل والترك والقياس والتقرير.
ويكون بالإشتراك: وضعاً.. اسماً، كقرء، وفعلاً، كعسعس /108/، وحرفاً كمن. أو عُرُوضاً(1)، كمختار(2).
وبالنقل، كالصلاة.
وبالقصر، كالعام المخصوص باستثناء ،أو صفة، أو دليل منفصل، مجهولات(3).
وبالوصف أو الإشارة أو الضمير المترددة بين أمرين فصاعداً(4).
وبالواو المتردد بين العطف والاستئناف(5).
وبورود جملة عقيب جملتين متنافيتين(6).
وبتعدد المجازات المتساوية بعد منع الحقيقة، كبقرة لمعينة(7).
وهو واقع في الكتاب خلافاً( لبعض الحشوية)، وفي السنة خلافاً لشذوذ.
[من صور المجمل]
(123) فصل ومما أخرج من المجمل وهو منه صور:
__________
(1) عطف على وضعاً، يعني أن الإجمال عارض وليس بالوضع.
(2) فإنه متردد بين الفاعل والمفعول.
(3) كلمة: (مجهولات) عائدة على الثلاث السابقة. ومثال المخصوص بالاستثناء: ?إلا ما يتلى عليكم? والمخصوص بالصفة: ?محصنين غير مسافحين? وبالدليل: ?اقتلوا المشركين?.
(4) كلمة المترددة بين أمرين فصاعداً عائدة على الثلاثة. مثال الوصف: جاءني غلام زيد الكاتب. ومثال الإشارة: ?ذلك لمن لم يكن أهله حاضري المسجد الحرام? ومثال الضمير: قول بعضهم وقد سئل عن أبي بكر والإمام علي أيهما أفضل فقال: من كانت بنته في بيته.
(5) كقوله تعالى: ?وما يعلم تأويله إلاَّ الله والراسخون في العلم يقولون آمنا به?.
(6) نحو قوله تعالى: ?قلنا احمل فيها من كل زوجين اثنين وأهلك إلاَّ من سبق عليه القول ومن آمن?، فالجملة المتأخرة وهي قوله: ?ومن آمن? يحتمل أن تكون راجعة إلى كل من الجملتين المتقدمتين.
(7) لأن حقيقة المتواطئ عدم التعين، فإذا عين صار مجازاً، ومنه: لأعطين الراية غداً رجلاً. فإنه دال على مشاع وقد صار لعلي عيله السلام. ذكر ذلك في الحواشي.

(1/157)


منها: قوله تعالى: ?وَلا تَيَمَّمُوا الخَبِيْثَ مِنْهُ تُنْفِقُوْنَ?[البقرة: 267]، فاستدل به بعض الشافعية على أن الرقبة الكافرة لا تجزي في كفارة الظهار، مع أن لفظ الخبيث مجمل؛ لاستعماله في النجس والشرير والمنفور عنه، ولا قرينة تعين أحدها/109/.
ومنها: قوله تعالى: ?وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ فَاقْطَعُوْا أيْدِيَهُمَا?[المائدة: 38]، لتردد القطع بين الإبانة والشق، واليد بين كونها من أصول الأصابع، أو من الكوع، أو من المرفق أو المنكب. وقيل ليس بمجمل؛ لأن القطع الإبانة، واليد إلى المنكب، واختاره (ابن الحاجب).
(124) فصل ومما أدخل فيه وليس منه صور:
منها: قوله تعالى: ?وَامْسَحُوا بِرُؤوسِكُم?[المائدة: 6]، وليس بمجمل عند (أكثر أئمتنا، والجمهور). ثم اختلفوا، فقال (أكثر أئمتنا، والمالكية): لأن الباء للإلصاق. (الحفيد) وغيره: بل لأنها زائدة، فالظاهرالتعميم. (بعض الشافعية): بل لأنها للتبعيض. وبعضهم، لاستفادته من العرف. (بعض أئمتنا، والحنفية): بل مجمل؛ لاحتمال الكل والبعض. ثم ورد البيان من السنة.

(1/158)


ومنها: الفعل المنفي، والمراد نفي الصفة، نحو: (( لا صلاة إلا بطهور ))(1)، وليس بمجمل عند (أئمتنا، والجمهور). ثم اختلفوا، فقيل: لحمله على ما هو أقرب /110/ إلى الحقيقة المتعذرة، وهو: نفي الإجزاء في عرف الشرع، إن ثبت في مثله عرف شرعي. أو نفي الفائدة في عرف اللغة إن لم يثبت فيه ذلك(2). وقيل - وهو المختار - :لحمله على نفي جميع الأوصاف، لوجوب حمل اللفظ على كل ما يحتمله إلاَّ لتناف. (الكرخي، وأبو عبد الله، وأبو الحسين، والباقلاني): بل مجمل؛ لأنه لا بد من إضمار شيء يتعلق به النفي، وهو متردد بين الإجزاء والكمال، وما أضمر للضرورة قيد بقدرها، فلا يضمر الجميع ولا أحدهما معيناً، إذ ليس أحدهما أولى من الآخر، فكان مجملاً.
ومنها: العموم المخصص بمبيَّن، وليس بمجمل عند أئمتنا والجمهور، وقد تقدم تفصيل ذلك .
ومنها: تعليق التحريم والتحليل بالأعيان، نحو: ?وأحِلَّتْ لَكُمْ بَهِيْمَةُ الأنْعَامِ?[الحج: 30]، و?حُرِّمَتْ عَلَيْكُمْ أمَّهَاتُكُمْ?[النساء: 23]، وليس بمجمل عند /111/ (أئمتنا، والجمهور). ثم اختلفوا، فقيل وهو المختار ـ: لدلالة العقل على الحذف، والعرف على تعيين المحذوف المراد إثباته كالأكل، أو نفيه كالوطئ. وقيل: بل لحمله على جميع ما يحتمله، كالأكل وغيره، والوطء وغيره، إلا لدليل. (الكرخي، وأبو عبد الله): بل مجمل لتعذر حمله على ظاهره كما سبق تفصيله.
__________
(1) أخرجه الطيالسي 33، والدار قطني 1/73، والطبراني في الكبير 22/296.
(2) أي إن لم يثبت فيه عرف الشرع، فيكون معنى الخبر: لا صلاة مجزئة أو لا صلاة مفيدة، كقولك فلان لا شيء. واعترض الجلال على اشتراط المؤلف عدم ثبوت عرف الشرع، بأن الواقع في خطاب أهل اللَّغة يحمل على عرفهم، سواء تعقَّبه شرع أو لا. وخطاب الشارع يحمل على عرفه، سواء تقدَّمه عرف لغوي، أو لا، فلا وجه للشرط.

(1/159)


ومنها: قوله صلى الله عليه وآله وسلم: (( الأعمال بالنيات ))(1)، وليس بمجمل عند (أئمتنا، والجمهور) لحمله على الصحيحة شرعاً. (بعض المتكلمين، والفقهاء): بل مجمل لتعذر حمل اللفظ على ظاهر عمومه كما تقدم.
ومنها: قوله صلى الله عليه وآله وسلم: (( رفع عن أمتي الخطأ والنسيان ))(2)، وليس بمجمل عند (أئمتنا، والجمهور). ثم اختلفوا، فقيل - وهو المختار - : لحمله على رفع كل الأحكام الدينية والدنيوية إلا ما خصه دليل، كإيجاب الكفارة على القاتل خطأ، والحانث الناسي، وكغرامات الأموال المتلفة. (الغزالي، والرازي): بل لحمله على /112/ رفع الأحكام الأخروية، كالعقاب وما يتعلق به، لا الدنيوية كالغرامات وغيرها. (أبو عبد الله، وأبو الحسين): بل مجمل لما تقدم(3).
ومنها: المشترك، وليس بمجمل عند (جمهور أئمتنا، وأبي علي، والقاضي)؛ لحمله على جميع معانيه إلا عند قيام قرينة على إرادة بعض ما وضع له من غير تعيينه، أو احتماله للمعاني المتنافية من غير قرينة تدل على أحدها(4). (أبو هاشم، والكرخي، وأبو عبد الله، والإمام، والشيخ، وأبو الحسين): بل مجمل، إلا لقرينة معينة لبعض ما وضع له.
__________
(1) هذا حديث مشهور، رواه أكثر المحدثين من طرق، عن يحيى بن سعيد القطان، بإسناده عن عمر بن الخطاب.
(2) الحديث معروف بلفظ: إن الله تجاوز عن أمتي الخطأ والنسيان، أخرجه : ابن ماجة 1/659، والدار قطني 4/170، وابن حبان 16/202، والحاكم 2/216، والطبراني في الصغير 2/52.
(3) لأنه لا إضمار إلا لضرورة وللضرورة ببقدرها، فلا يضمر الجميع ولا البعض للتحكم.
(4) فهو حينئذٍ مجمل.

(1/160)


ومنها: الجمع المنكَّر، كأعبد ورجال. وليس بمجمل عند (أئمتنا، والجمهور)؛ لأن له ظاهراً يعمل عليه كجماعة الأعبد والرجال على البدل، وقيل: مجمل، إذ ليس بعض الجموع أولى به من بعض، فيجب الوقف حتى يتبين. (أبو علي): إن صدر من حكيم، فمبيَّن، ويحمل على الاستغراق، وإن صدر من /113/ غيره فمجمل.
ومنها: ما له محمل لغوي ومحمل في حكم شرعي، كقوله صلى الله عليه وآله وسلم: (( الاثنان فما فوقهما جماعة ))(1) يحتمل أنه أراد أنهما جماعة لغة، ويحتمل أنه أراد انعقاد الجماعة بهما، فيجب تأخرهما خلف الإمام كالجماعة. وليس بمجمل وفاقاً (للجمهور)، لحمله على المحمل الشرعي لتجدده؛ ولأنه صلى الله عليه وآله وسلم لم يبعث لتعريف اللغة. (الإمام، والغزالي): بل مجمل، إذ لا مرجح لأحدهما على الآخر.
ومنها: ما له مسمى لغوي ومسمى شرعي، كقوله صلى الله عليه وآله وسلم: (( إني إذاً لصائم )) (2) . وليس بمجمل عند (أئمتنا، والجمهور) مطلقاً. (الباقلاني): مجمل مطلقاً تفريعاً على ثبوت الحقيقة الشرعية. (الغزالي): مجمل في النهي دون الإثبات لحمله فيه على الشرعي(3). (الآمدي): ليس بمجمل فيهما؛ إذ يحمل في النهي على اللغوي، وفي الإثبات على الشرعي، فأما ما له مسمى لغوي، ومسمى عرفي، كدابة، فلا إجمال فيه لحمله على العرفي اتفاقاً./114/ .

المبين

[7] باب المبين
(125) فصل المبين نقيض المجمل، ويرادفه: المفصَّل والمفَسَّر.
__________
(1) أخرجه الحاكم 4/371، والدار قطني1/280، عن أبي موسى الأشعري.
(2) ذكره ابن حجر في الدراية من تخريج أحاديث الهداية 1/275 وقال: رواه مسلم عن عائشة، وكذلك في نصب الراية 2/436.
(3) قال في النظام: لأن اللفظ يحمل على الصحيح فلا ينافيه الأمر بالصحيح، بخلاف النهي؛ فإنه بدافع اللفظ، فيحتمل ترجيح مدلول اللفظ وهو الصحيح، ويحتمل ترجيح ما لا ينافي النهي وهو اللغوي، ولا دليل على أحد الأمرين، فبقي مجملاً.

(1/161)


ويقع في: القول منطوقاً ومفهوماً ومفرداً ومركباً، وفي الفعل، والترك، والتقرير، والقياس(1).
__________
(1) مثاله في القول المنطوق المفرد: قوله تعالى: ?بقرة صفراء فاقع لونها?، فإنه مبين لقوله تعالى: ?إن الله يأمركم أن تذبحوا بقرة?. وكقوله صلى الله عليه وآله: (فيما سقت السماء العشر)، فإنه ورد بياناً لقوله تعالى: ?وآتوا حقه يوم حصاده?.
... ... ومثاله في القول المفهوم: كقوله تعالى: ?ولا تقل لهما أفٍ?، فإن ما يفهم منه وهو تحريم الضرب مبين، وكقوله صلى الله عليه وآله وسلم: ( في سائمة الغنم زكاة )، فإن ما يفهم منه وهو كون المعلوفة لا زكاة فيها مبين.
ومثاله في المركب، مثل ما لو قيل: أو يعفو الزوج.
ومثاله في الفعل: صلاة النبي صلى الله عليه وآله وسلم، فإنها مبينة لقوله تعالى: ?أقيموا الصلاة?.
ومثاله في الترك: كما لو ترك التشهد الأوسط من غير سهو، فإنه مبين لجوازه.
ومثال التقرير: كأن يرى النبي صلى الله عليه وآله وسلم إنساناً يصلي ويفعل أفعالاً في الصلاة ولا ينهاه عنها، فإنه يدل على جوازها.
ومثاله في القياس: كما لو قال صلى الله عليه وآله وسلم: (يحرم الخمر لكونه مسكراً)، فإن ذلك يدل على تحريم النبيذ، بالقياس على تحريم الخمر، وذلك بجامع الإسكار دلالة مبينة.

(1/162)


ويكون مبتدأ، كالفعل(1) أو الخطاب المستغني عن البيان بنفسه، كالنص والظاهر الذي لم يخصص. وغير مبتدأ، كالفعل غير المستغني(2)، والمشترك بين المعاني المتنافية بعد بيانهما(3)، والعام المخصص، والمطلق المقيد.
والبيان: ما يفهم به المراد بالمجمل، وهو الدليل، وقد يطلق على مدلول ذلك، وعلى فعل المبيِّن.
ويكون بالعقل، كالتخصيص به. وبطرق الشرع، كقوله تعالى، وقول رسوله صلى الله عليه وآله وسلم، اتفاقاً، وفعله كصلاته وحجه وإشارته، خلافاً (للدقاق)، وتركه، [كسكوته، وكذا بتقريره](4)، خلافاً (لأبي عبد الله)، وبالإجماع، والقياس.
ويعرف /115/ كون فعله أو تركه بياناً بنصه على ذلك، أو بألاَّ يوجد غيرهما مع صحة كونهما بياناً.
(126) فصل وإذا وقع بعد المجمل قول وفعل: فإن اتفقا في صُلُوحِهِمَا لبيانه وعلم المتقدم فهو البيان، والثاني تأكيد، كما لو أمر صلى الله عليه وآله وسلم بعد آية الحج بطواف، وفعل طوافاً، وإن لم يعلم، فإن علم وجودهما دفعة، فكلاهما بيان، وإن لم يعلم ذلك، فإن نقلا دفعة فكذلك وإن تقدم أحدهما على الآخر في النقل فهو البيان، والثاني تأكيد، وأولهما بيان لمن شاهد حضرته صلى الله عليه وآله وسلم. وقيل: يتعين المرجوح للتقدم، فيكون هو البيان والراجح تأكيداً إذ المرجوح لا يؤكد الراجح.
__________
(1) فإنه لا إجمال فيه من جهة ذاته لا من جهة وجهه فهو محتمل.
(2) أي غير المستغني عن البيان، وهو الذي لم يقترن به ما يدل على البيان، كالقيام من الركعة الثانية إلى الركعة الثالثة من غير جلوس.
(3) أي بعد بيان المراد من المتنافيين، فالفعل كأن يبين بأحد الوجهين، والقول كأن يقول الشارع: المراد بالإقراء في قوله تعالى: ?يتربصن بأنفسهن ثلاثة قروء? الحيض أو يقول الأطهار، أو بنصب قرينة تدل على ذلك.
(4) ماب ين المعكوفين ساقط من (ج). والمعنى أنه يقع البيان بتركه كما يقع بسكوته. وكذلك يقع بتقريره.

(1/163)


وإن اختلفا، كما لو أمر بعد آية الحج بطواف وفعل طوافين، فالمختار: أن المتقدم منهما هو البيان إن علم، وفاقاً (لأبي الحسين)، والمتأخر /116/ ناسخ له إن أمكن العمل بالمتقدم ومبين للمجمل. (الفقهاء): بل القول هو البيان، تقدم أو تأخر، إذ هو بيان بنفسه، وفعله الثاني ندب في حقه وحقنا، أو واجب في حقه. وإن جهل فالترجيح، ثم الوقف.
(127) فصل ويجب تبيين الخطاب لمن أريد منه فهمه، وهو بالنسبة إليهم نوعان، ما أريد به علم وعمل كالصلاة والصيام بالنسبة إلى العلماء، وعلم دون عمل كالزكاة والحج بالنسبة إلى العالم الفقير.
ولا يجب تبيينه لمن لم يرد منه فهمه. وهو بالنسبة إليهم نوعان: ما لم يرد به علم ولا عمل كالكتب السالفة بالنسبة إلى هذه الأمة، على القول بأن شرع من قبلنا ليس بحجة(1)، وما أريد به عمل فقط، كالحيض والنفاس بالنسبة إلى النساء عند تضيق الحادثة /117/.
(128) فصل واختلف في البيان، هل يجب مساواته للمبين في حكمه فيكون بيان الواجب واجباً والمندوب مندوباً والمباح مباحاً، أو يجب مطلقاً، فعند (أئمتنا، والجمهور): يجب مطلقاً وإلا لزم تكليف ما لا يعلم، وقيل: بل هو مساوٍ للمبين في ذلك.
ويجب كون البيان أوضح منه في الدلالة، لا في القوة؛ فيصح تبيين القطعي بالظني عند (أئمتنا، والجمهور): على ما تقدم مجملاً، كقرءٍ، أو عاماً أو مطلقاً. (الكرخي، وأبو عبد الله): بل تجب المساواة. (الآمدي، وابن الحاجب): يجب في العام والمطلق كون المخصص والمقيد أقوى. (الآمدي): لا، كالمشترك، فيصح بيانه بالأضعف.
__________
(1) ولعل منه: أوائل السور؛ لأنه لم يرد منا فهمها؛ إذ لا تكليف فيها علمي ولا عملي.

(1/164)


(129) فصل ويمتنع تأخير البيان عن وقت الحاجة؛ خلافاً لمجوز تكليف ما لا يعلم، فأما تأخير التبيين فممكن اتفاقاً(1)، واختلف في تأخيره عن وقت الخطاب /118/ إلى وقت الحاجة، فعند (الموسوي، والإمام، وبعض الأشعرية، وأكثر الفقهاء): يجوز مطلقاً. وعند (أبي طالب، والشيخين، والقاضي، والظاهرية، وبعض الفقهاء): يمتنع مطلقاً. (الكرخي، وأبو الحسين، والشيخ، وحفيده، وبعض الفقهاء): يجوز تأخير بيان ما لا ظاهر له كالمشترك(2) لا ما له ظاهر، وأريد به خلافه كالعام المخصوص والمطلق المقيد أو المنسوخ، والاسم الشرعي والنكرة لمعين. (أبو الحسين): فإن اقترن إشعار جملي بما له ظاهر جاز تأخير بيانه التفصيلي، نحو: هذا العام سيُخَص، والمطلق سيقيد أو سينسخ، وهذه النكرة لمعين، وقيل: يجوز في الأمر والنهي دون الخبر. وقيل: عكسه. ومن ثمرات الخلاف جعل الوارد بعد الخطاب مخصصاً أو مقيداً لا ناسخاً أو عكس ذلك.
(130) فصل /119/ والمختار - على القول بجواز تأخير البيان - : جواز تأخير بعض البيانات دون بعض، ويعبر عنه بتدريج البيان. وقيل: يجب ذكرها دفعة واحدة دفعاً للإيهام.
(أئمتنا، والجمهور): ويجوز تأخيره صلى الله عليه وآله وسلم لتبليغ الحكم الموحى إليه قبل وقت الحاجة إلى وقتها، خلافاً لمانع تأخير البيان عن وقت الخطاب وبعض المجيزين.

الظاهر والمؤول

[8] باب الظاهر والمؤول
(131) فصل اللفظ المستعمل: نص، وظاهر، ومؤول.
__________
(1) كأن يخاطب بالمجمل كصل، ثم يبين وقتها ومقدارها، والمقصود بوقت الحاجة: وقت العمل، لا وقت الخطاب.
(2) لأنه ليس مطلوباً به الامتثال؛ لأنه لا يمكن، وإلا وجب البيان كما في ماله ظاهر، وأريد به خلافه.

(1/165)


(فالنص) لغة: الظهور. واصطلاحاً: جلي، وهو: اللفظ الدال على معنى لا يحتمل غيره بضرورة الوضع، اسماً أو فعلاً أو حرفاً، كمحمد، وعشرة، وطلقت، وكي. وخفي، وهو: الدال على معنى لا يحتمل غيره بالنظر، لا بضرورة الوضع. ومنه الدليل على إمامة الوصي عليه السلام، عند (جمهور أئمتنا) /120/ لا من الأول، خلافاً (للجارودية(1)، والإمامية). وقصره (التهامي(2)، والغزالي والطبري)(3) على الأول. ويطلقه الفقهاء على ما دل على معنى كيف كان(4).
(والظاهر) لغة: الواضح. واصطلاحاً: اللفظ السابق إلى الفهم منه معنى راجح مع احتماله لمعنى مرجوح(5)، ودلالته ظنية في العمليات بخلاف النص. وهو(6) إما بالوضع لغة، كأسد، أو شرعاً، كالصلاة، أو بالعرف كالدابة، وقد يصير نصاً لعارض.
__________
(1) الجارودية، فرقة من الزيدية تنسب إلى أبي الجارود زياد ابن المنذر الكوفي لموافقتها له في بعض المقالات المتشددة في الإمامة والصحابة.
(2) التهامي، هو: الحسن بن مسلم التهامي، من علماء الزيدية في القرن السادس، وهو من تلاميذ الشيخ الحسن الرصاص، قال في مطلع البدور: كان عالماً، فاضلاً كبيراً، له مصنفات، ومراجعات، وإفادات. قال في الدراري: وله كتاب (الإكليل على التحصيل) للشيخ الحسن. نقل القول بقصر النص على الجلي عنه الفقيه قاسم في (شرح الجوهرة).
(3) الطبري، المراد به: أحمد بن موسى أبو الحسين الطبري، من أصحاب الإمام الهادي، وكبار علماء الزيدية في عصره، ولد في طبرستان وهاجر إلى اليمن لمناصرة الإمام الهادي، مات بعد عام أربعين وثلاثمائة.
(4) أي: أن الفقهاء يستعملون النص بما يرادف (اللفظ المستعمل).
(5) الفرق بين الظاهر والنص الخفي أن الظاهر يحتمل مع الراجح أن يكون المراد به المرجوح، بخلاف النص الخفي فإنه دال على معنى لا يحتمل غيره لكن لا بضرورة الوضع، بالنظر والاستدلال، ولهذا اختلف في مدلوله.
(6) أي: الظهور.

(1/166)


ويسمى النص والظاهر: محكماً ومبيناً(1).
(والمؤول) الظاهر المحمول على المعنى المرجوح؛ لدليل قطعي أو ظني يصيره راجحاً(2)، ولذلك(3) وجب رَدُّ كثير من التأويلات.
ويسمى المؤول والمجمل متشابهان(4).
والتأويل لغة: الرجوع. واصطلاحاً: صرف اللفظ عن ظاهره الراجح إلى المرجوح المحتمَل؛ لدليل.
وتعرف /121/ ظواهر الكتاب والسنة وتأويلهما بالسمع اتفاقاً، وبالعقل واللغة والعربية(5) خلافاً (للحشوية). وقالت (الإمامية، والباطنية): من الإمام أو من علَّمه فقط.
[أنواع التأويل]
(132) فصل وقد يكون ممكناً: قريباً، فيرجح بأدنى مرجح، وبعيداً فيحتاج إلى الأقوى، ومتوسطاً، وهي(6) مقبولة، ومتعذراً: فيرد.
فمن القريب تأويل قوله تعالى: ?وَاسْألِ القَرْيَةَ?[يوسف: 82] بأهل القرية، واليد بالنعمة، في قوله تعالى: ?بَلْ يَدَاه مَبْسُوطَتَانِ?[المائدة: 64].
ومنه: ?وَجَاءَ رَبُّكَ?[الفجر: 22] أي أمره، وليس من البعيد في الأظهر.
وتأويل قوله صلى الله عليه وآله وسلم: (( إنما الربا في النسيئة )) (7)، بمختلفي الجنس.
وتأويل آية الجلد على التنصيف في العبد بالقياس على الأمة.
__________
(1) لوضوح المعنى المراد بهما.
(2) لعل الأوضح أن يقال: هو المصروف إلى المرجوح لدليل.. الخ
(3) أي: لكون التأويل لا بد له من دليل قطعي أو ظني، فالدليل ضابط لما يصح من التأويلات وما لا يصح.
(4) لخفاء المقصود إلا بعد البحث والنظر.
(5) فمن تمكن في العربية والأصول، أمكنه فهم القرآن والسنة وتأويلهما، من دون حاجة إلى تقليد، لا كما يذهب إليه بعض الناس من قصر فهمها على أشخاص بأعيانهم.
(6) أي: التأويلات الثلاثة.
(7) أخرجه النسائي 7/281، وأحمد 5/202، ومسلم 3/1218، والشافعي في المسند 180، والطبراني في الكبير 1/173 عن أسامة بن زيد.

(1/167)


وتأويل قوله تعالى: ?إنَّمَا الصَّدَقَاتُ للفُقَرَاء..? الآية [التوبة: 60]، ببيان أن كل صنف مصرف على انفراده، فيجوز صرفها فيه، ولا يجب صرفها في كل الأصناف، إذ لم يقصد وجوب التشريك /122/.
فأما قصر المشترك على بعض ما وضع له لقرينة، كالقرء على الحيض أو الطهر، فمن البيان لا من التأويل على الأصح(1).
ومن البعيد تأويل الحنفية لقوله صلى الله عليه وآله وسلم: (( أيما امرأة أنكحت نفسها بغير إذن وليها فنكاحها باطل باطل باطل ))(2) بالصغيرة والأمة والمكاتبة والمجنونة، دون غيرهن ـ لأنه(3) مالك لبضعه، فكان كبيع سلعته ـ مع ظهور قصد التعميم بالتأكيد.
وتأويل (بعض الشافعية) لقوله صلى الله عليه وآله وسلم: (( من ملك ذا رحم محرم عتق عليه ))(4). بالأب فقط، مع ظهور عمومه في كل ذي رحم محرم والإيماء إلى وجه العلة(5).
وتأويل (بعض أئمتنا، والحنفية) لقوله تعالى: ?فَإطْعَامُ سِتِّيْنَ مِسْكِيْناً?[المجادلة: 4] بإطعام طعام ستين مسكيناً ـ فيصح لواحد في ستين يوماً ـ مع ظهور قصد الجماعة؛ لبركتهم، /123/ وتظافر قلوبهم على الدعاء للمكفر.
__________
(1) لاستواء دلالة القرء على كل من الحيض والطهر، بلا ظهور في أحدهما لولا القرينة، ولذا جعل القرء من المجمل كما تقدم.
(2) أخرجه أحمد 6/66، والدارمي 2/185، وأبو داود 2/229، وأبو يعلى 8/139 وغيرهم عن عائشة، بلفظ قريب.
(3) أي: غيرهن.
(4) أخرج نحوه النسائي في الكبرى 3/173، وأحمد 5/18، وآخرون بألفاظ مقاربة.
(5) وهو كونه ذا رحم محرم، فمن المناسب حفظ حق القرابة بصيانته عن الامتهان بالرق.

(1/168)


وتأويلهم لقوله صلى الله عليه وآله وسلم: (( في كل أربعين شاة شاة )) (1) بقيمة شاة، وهو مبطل لإيجابها(2).
ومن المتوسط تأويل قوله صلى الله عليه وآله وسلم: (( لا صيام لمن لم يبيت الصيام من الليل )) (3) بالقضاء والنذر المطلق والكفارة دون غيرها.
وقوله صلى الله عليه وآله وسلم لغيلان الثقفي حين أسلم عن عشر نسوة: (( أمسك أربعاً وفارق سائرهن )) (4) بابتداء النكاح(5).
وقوله لفيروز الديلمي وقد أسلم عن أختين: (( أمسك أيهما شئت )) (6) بابتداء النكاح، وعدها(7) قوم من البعيد، وهو الأظهر في الأخيرين.
ومن المتعذر، وهو المدافع للقواطع، تأويل المرجئة آيات الثواب بالترغيب والعقاب بالترهيب، وتأويلات (النواصب(8)، والخوارج(9)، والإمامية، والباطنية)(10).
__________
(1) أخرجه ابن خزيمة 4/20 عن علي، ونحوه أخرج ابن ماجة 1/578 عن ابن عمر.
(2) يعني أن هذا التأويل مبطل لإيجاب الشاة؛ لأنه إذا أو جب قيمة الشاة لم تجب الشاة، وكل معنى إذا استنبط من حكم أبطله فهو باطل؛ لأنه يوجب بطلان أصله.
(3) أخرجه النسائي 4/197، والبيهقي 4/202 عن حفصة.
(4) أخرج نحوه الشافعي في المسند 274.
(5) أي: أنكحهن من جديد.
(6) أخرجه الشافعي في المسند 275، والدار قطني 3/273.
(7) أي: هذه التأويلات الثلاث.
(8) النواصب: لقب يطلق على كل من يتخذ موقفاً عدائياً من الإمام علي بن أبي طالب عليه السلام خاصة.
(9) الخوارج: جماعة معروفة في التاريخ، تمردت على الإمام علي وخرجت عن طاعته ثم قاتلته، فواجههم وقضى عليهم في معركة النهروان.
(10) الباطنية: هم الذين يزعمون أن لخطاب الشرع باطناً غير الظاهر وأن إمامهم يعلم الباطن ويعلمه لأتباعه. ويقرب منها تأويل بعض المعاصرين لأعيان الثواب والعقاب على أنها رموز للمعنويات وتأويل بعضهم (شجرة آدم) بأنها الجنس (الجماع).

(1/169)


وليس من ذلك بعض أحاديث الصفات ونحوها؛ لإمكان تأويله وثبوته عن الثقات، خلافاً /124/ (لبعض المتكلمين) (1).
ويتميز صحيحه من فاسده بموافقة العقل أو الكتاب أو السنة أو الإجماع أو اللغة وبمخالفتها(2).
باب مفهومات الخطاب
(133) فصل مدلول اللفظ: منطوق ومفهوم.
فالمنطوق: ما دل عليه اللفظ في محل النطق، ويسمى أصل المعنى. وينقسم إلى:
[1] صريح، وهو: ما وضع اللفظ له بالمطابقة أو التضمن.
[2] وغير صريح: وهو ما لم يوضع اللفظ له بأحدهما، وإنما يدل عليه باللزوم. وهو ثلاثة أقسام:
(الأول): ما قصد فيه اللازم، وتوقف صدق اللفظ أو صحته عقلاً أو شرعاً عليه، وهو محذوف، نحو: (( رفع عن أمتي الخطأ والنسيان )) (3) أي: العقاب والمؤاخذة، إلا ما خصه دليل(4) و?اسْألِ القَرْيَةَ?[يوسف: 82]، أي: أهلها(5). وأعتق عبدك عني على ألف، أي: مُمَلِّكاً لي على ألف لاستدعاء العتق تقرير الملك، لتوقف صحة العتق عليه شرعاً. وتسمى /125/: دلالة الاقتضاء ولحن القول(6).
__________
(1) فإن صحة الحديث عن الثقات وإمكان تأويله ـ ولو لم يظهر للمطلع ـ رادع للعالم المتحرج عن التسرع في الرد للحديث والهجوم على الرواة، سيما فيما ليس فيه تكليف عملي، ويسعنا فيه السكوت، ولكن ليس معنى ذلك قبول كل غث وسمين سيما في مسائل الأصول بدون نظر إلى مقاييس ومعايير غير مجرد صحة السند أو حسنه.
(2) هذا معيار شامل لصحيح التأويل من فاسده في إطار الظنيات التي تخلتف الأنظار فيها.
(3) تقدم تخريجه.
(4) فإن صدق اللفظ يتوقف على تقدير المؤاخذة إلا ما خصه الدليل.
(5) فإنه يتوقف صحة اللفظ من جهة العقل على تقدير أهلها.
(6) سقط من (أ): ولحن القول.

(1/170)


(والثاني): ما قصد فيه اللازم، ولم يتوقف صدق اللفظ ولا صحته عقلاً أو شرعاً عليه، ولكن اقترن اللفظ بحكم لو لم يكن ذلك اللفظ علة لذلك الحكم، لكان ذكر ذلك الحكم بعيداً نحو: (( لا تُقرِّبوه طِيْباً، فإنه يحشر يوم القيامية ملبياً )) (1)، وسيأتي إن شاء الله تعالى. ويسمى: دلالة التنبيه والإيماء.
(والثالث): ما لم يقصد فيه اللازم، نحو: ?أُحِلَّ لَكُمْ لَيْلَةَ الصِّيامِ الرَّفَثُ إلَى نِسَائِكُمْ?[البقرة: 187]، فإنه يلزم من إباحة الرفث في كل الليل جواز الإصباح جنباً، وإن لم يكن مقصوداً من اللفظ، ويسمى: دلالة الإشارة. وجعل (بعض أئمتنا، وبعض الأصوليين) غير الصريح على أقسامه من باب المفهوم. (التفتازاني): والفرق بينهما محل نظر.
(134) فصل والمفهوم: ما دل عليه اللفظ لا في محل النطق. وينقسم إلى: مفهوم موافقة ومفهوم مخالفة.
(فالأول): ما وافق حكمه حكم المنطوق في /126/ الثبوت أو النفي، فإن كان أولى كتأدية ما دون القنطار، مِنْ: ?إنْ تِأمَنْهُ بِقِنْطَارٍ يُؤدِّهِ إليْكَ?[آل عمران: 75]، وعدم تأدية ما فوق الدينار، من ?إنْ تَأمِنْهُ بِدِيْنِارٍ لا يُؤدِّهِ إليْكَ?[آل عمران: 75]، وتحريم الضرب مِنْ: ?وَلاَ تَقُلْ لَهُمَا أُفٍّ?[الإسراء: 23]. فهو: فحوى الخطاب، ولحنه، ودلالة النص، ويعرف بكونه أشد مناسبة في المسكوت، وهو تنبيه بالأعلى على الأدنى وعكسه.
واختلف فيه، فقيل: دلالته قطعية لفظية كما ذكر، ثم اختلفوا فقيل: حقيقة لغوية. (أبو طالب، والمنصور، والقاضيان، والحاكم): بل حقيقة عرفية. وقيل معنوية. ثم اختلفوا. فالمختار - وفاقاً (للجمهور) -: أنها قياس جلي، ولذلك يذكرونه فيه. (الغزالي، والآمدي): بل مجاز من باب إطلاق الأخص على الأعم.
__________
(1) أخرجه مسلم 2/867 والبخاري 2/653 عن ابن عباس بلفظ قريب.

(1/171)


وإن كان مساوياً، كإلحاق الأمة بالعبد، فهو ما في معنى /127/ الأصل، وقد يسمى كذلك، وقيل: لا يكون مساوياً إذ ذلك قياس.
ويعمل بهما عند (أئمتنا، والجمهور)، خلافاً (لبعض الظاهرية) فيهما، ويسمى منكرهما سوفسطائي الشرع، وهما قطعيان إذا كان أصلهما قطعياً(1).
فأما الأدنى كإلحاق النبيذ بالخمر فقياس اتفاقاً.
(135) فصل (والثاني)(2) ما خالف حكمه حكم المنطوق، ويسمى: (دليل الخطاب)، و: (المفهوم) من غير تقييد(3). وهو أقسام:
مفهوم صفة، وشرط، وغاية، وعدد، وحصر باستثناء أو بإنَّما، أو بفصل بضمير الفصل، أو بتقديم معمول، أو مبتدأ في خبر، ومفهوم لقب.
وشرطه عند معتبره: ألاَّ يكون المسكوت عنه تُرِكَ لخوف، و: ألاَّ يكون المذكور خَرَجَ للغالب، أو لسؤال، أو حادثة، أو لجهل بحكمه(4) أو لغير ذلك مما يقتضي تخصيصه بالذكر.
__________
(1) كقوله تعالى: ?ولا تقل لهما أفٍ? فإنه قطعي المتن قطعي الدلالة.
(2) أي: مهفوم المخالفة.
(3) أي: لموافقة ومخالفة.
(4) السكوت عنه لخوف مثل: أن يقول: في سائمة الغنم زكاة، ولا يذكر المعلوفة خوفاً من صاحبها. ومثال الخارج للغالب قوله تعالى: ?وربائبكم اللاتي في حجوركم?، فإن التقييد بكونها في الحجور، لا يعني حل من ليست في الحجور؛ لأنه إنما ذكر ذلك لكون الغالب أن الربائب تكون في الحجور. ومثال السؤال، نحو أن يسأل أحد النبي (ص): هل في سائمة الغنم زكاة؟ فيقول: في سائمة الغنم زكاة، فلا يؤخذ منه إلاَّ أنه أتى بالجواب مطابقاً للسؤال. ومثال الحادثة: أن يقال في حضرته لفلان غنم سائمة، فيقول: فيها زكاة. ومثال الجهل بحكمه أن يعلم المكلف أن في المعلوفة زكاة، ولم يعلم ذلك في السائمة فيقول النبي (ص): في السائمة زكاة.

(1/172)


(136) فصل /128/ فمفهوم الصفة، نحو: في الغنم السائمة زكاة(1)، ويعمل به وفاقاً (لمالك، والشافعي، وأحمد، والأشعري، والجويني، وأبي عبيد)، خلافاً (لبعض علمائنا، والحنفية، وجمهور المعتزلة، والأشعرية، والأخفش). وقيل: يعمل منه بالاسم المشتق، نحو: (( الثيب أحق بنفسها ))(2). وقيل: بالمتجدد الذي يطرأ ويزول، نحو: أكرم داخل الدار. وقيل: بالمتدارك، نحو: اقتل الكلب المرسل العقور. وتوقف (الشيخ) فيهما. (الكرخي، وأبو عبد الله): يعمل منه بالوارد بياناً لمجمل، نحو: في سائمة الغنم زكاة، بعد: خذ من غنمهم زكاة، ولا وجه لعدها أقساماً مستقلة، إذ هي من أنواعه، ولا تكون قسيمة له. وكذا مفهوم الحال(3)، نحو: ?وَمَنْ يَقْتُلْ مُؤمِناً مُتَعَمِّداً?[النساء: 93] ، ?وَلاَ تُبَاشِرُوهُنَّ وَأنْتُمْ عَاكِفُونَ فِي المسَاجِدِ?[البقرة: 187].
ومفهوم الشرط، نحو: ?وَإنْ كُنَّ أولاَتُ /129/ حَمْلٍ فَأنْفِقُوا عَلَيْهِنَّ?[الطلاق:6]، ويعمل به وفاقاً (للكرخي، وأبي الحسين، وابن سريج، والرازي)، وكثير ممن لا يعتبر مفهوم الصفة. خلافاً (لبعض أئمتنا، والشيخين، والقاضي، والجويني، والغزالي، والباقلاني). وعن (أبي عبد الله) روايتان.
ومفهوم الغاية، نحو: ?ثُمَّ َأتِمُّوا الصِّيَامَ إلى اللَّيْلِ?[البقرة: 187] و?فَاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ وَأيْدِيَكُمْ إلى الْمَرَافِقِ?[المائدة:6 ]، ويعمل به وفاقاً (للجمهور). خلافاً (لأبي رشيد، وبعض الفقهاء)، وقيل: إن كانت الغاية من جنس ما قبلها عمل به، وإلا فلا.
__________
(1) فإنه يفهم من وصف الغنم بالسائمة ـ التي ترعى بنفسها ـ أن المعلوفة ـ التي يجلب لها العلف ـ لا زكاة فيها.
(2) أخرجه مسلم عن ابن عباس.
(3) لأن الحال النحوي وصف في اللغة.

(1/173)


ومفهوم العدد نحو: ?فِاجْلِدُوهُمْ ثَمَانِيْنَ جَلْدَةً?[النور: 4]، وإذا قيد حكم بعدد فإن دل على ثبوته فيما زاد عليه بالأولى، نحو: (( إذا بلغ الماء قلتين لم يحمل خبثاً )) (1) . فمفهومه في طرف النقصان، وإلا فهو من طرف الزيادة، نحو: ?فِاجْلِدُوهُمْ ثَمَانِيْنَ جَلْدَةً?[النور: 4]، ويعمل به خلافاً (لأبي حنيفة، وغيره)، فإما حيث يراد /130/ بالعدد المبالغة كسبعين مرة، فلا يعمل بمفهومه.
ومفهوم الحصر وأنواعه خمسة: مفهوم الاستثناء، نحو: لا إله إلا الله، و ?إلاَّ الذِيْنَ عَاهَدْتُم مِنْ المشْرِكِيْنَ?[التوبة: 4]، ويعمل به عند (أئمتنا، والجمهور). خلافاً (للحنفية)، وهو منطوق عند (أئمة المعاني، وابن الحاجب).
__________
(1) أخرجه ابن ماجة 1/172، والنسائي 1/175، والترمذي 1/97، وأبو داود 1/17 عن ابن عمر، فإن حكمه وهو عدم حمل الخبث مقيد بعدد، هو القلتان، ومعروف أن ما زاد عليهما أولى بألاَّ يحمله، فيكون المفهوم إذا نقص عن القلتين حمل خبثاً لا إذا زاد، بخلاف ?فاجلدوهم ثمانين?، فإن مفهومه لا تزيدوا عليها؛ لأن الأصل العقلي المنع من الجلد، فلا يزاد على ما قرره الشرع، أما النقص فيجوز لموافقته حكم العقل، مالم يدل دليل الشرع على عدم جواز ذلك.

(1/174)


ومفهوم إنما المكسورة المقتضية للحصر نحو: ?إنَّمَا إلهُكُمْ اللهُ?[طه: 98]، و?إنَّمَا الصَّدَقَاتُ للفُقَرَاءِ?[التوبة: 60]، ويعمل به عند (أئمتنا، والجمهور)، وجعله (أئمة المعاني، والغزالي، والباقلاني) منطوقاً، ونفاه (الحنفية، والآمدي، وأبو حيان)(1). وادعى (الزمخشري)(2) في (أنما) المفتوحة إفادة الحصر؛ لأنها فرع المكسورة.
ومفهوم الفصل بين المبتدأ والخبر، إذا كان معرفة، أو أفعل من كذا، أو فعلاً مضارعاً قبل دخول العوامل اللفظية وبعدها نحو: فالله هو الولي، ?وَإنَّ هُدَى اللهِ هُوَ الهُدَى?[البقرة: 120] /131/، وزيد هو أفضل من عمرو، و?إنَّ رَبَّكَ هُوَ يَفْصِلُ بَيْنَهُمْ?[السجدة: 25].
ومفهوم تقديم المعمول، نحو: ?إيَّاكَ نَعْبُدُ?[الفاتحة: 3]، و?فبِهُدَاهُمْ اقْتَدِهْ?[الأنعام:90]، ونفاه (ابن الحاجب، وأبو حيان).
ومفهوم حصر المبتدأ المعرَّف لغير معهود الظاهر في العموم في خبر أخص منه، نحو: العالم أو صديقي زيد، وقيل: هو منطوق، وأنكر قوم إفادته الحصر، فأما عكسه فلا يفيده على الأصح.
ومفهوم اللقب، وقد يعبر عنه بمفهوم الاسم وبمفهوم الاسم المطلق يكون: إما مفهوم عَلَم، نحو: محمد المصطفى، وعلي المرتضى، والحسن والحسين إمامان قاما أو قعدا. أو جنس، كالنص على الأجناس الستة بتحريم الربا.
__________
(1) أبو حيان، هو: محمد بن يوسف بن علي بن حيان العلامة الحافظ المفسر النحوي اللغوي، ولد بغرناطة، وذهب إلى القاهرة وتوفي بها في صفر سنة خمس وأربعين وسبعمائة. طبقات الشافعية3/67.
(2) الزمخشري، هو: العلامة الكبير والمفسر الشهير محمود بن عمر الزمخشري، إمام المفسرين ومن كبار الأدباء، له مصنفات في فنون شتى، توفي رحمه الله سنة ثمان وثلاثين وخمسمائة.

(1/175)


ومنه مفهوم الظرفين، نحو: ?الحَجُّ أشْهُرٌ مَعْلُومَاتٍ?[البقرة: 197]، و?فاذْكُرُوا اللهَ عِنْدَ المشْعَرِ الحَرَامِ?[البقرة: 198]، ولا وجه لعده قِسْماً مستقلاً. ولا يعمل به عند (أئمتنا، والجمهور) مطلقاً. خلافاً (للدقاق، والصيرفي، وابن فورك(1)، وبعض الحنابلة) /132/ مطلقاً، و(لابن زيد، وتلميذه) في الجنس، فأما في التعليم فيعمل به(2).
__________
(1) ابن فورك، هو: أبو بكر محمد بن الحسن بن فورك الأصبهاني، من علماء الأشعرية، درس بالعراق وصنف كثيراً من الكتب، وذهب إلى نيسابور ومات هنالك، قبل وفاة الحاكم بسنة، قال الذهبي: مشهده بالحيرة يزار ويستجاب الدعاء عنده!! . انظر: سير أعلام النبلاء 17/214.
(2) مثل قوله (ص): "إذا اختلف البيعان في القدر والصيغة فليتحالفا وليترادا"، فإنه علمنا كيف نعمل عند التخالف.

(1/176)


(137) فصل ودليل الخطاب المعمول به، إما أن ينقل حكماً عقلياً يجوز تغييره(1)، أو شرعياً عملياً، أو لا، إن لم ينقل؛ فهو مؤكِّد لحكم العقل، نحو: ?فِاجْلِدُوهُمْ ثَمَانِيْنَ جَلْدَةً?[النور:4](2) أو لحكم الشرع نحو: إن لم تجد ماء فتيمم. بعد إيجاب التطهر بالماء إلا لعذر(3)، وإن نقل حكماً فإن كان ذلك الحكم عقلياً نحو: لا زكاة في المعلوفة. قبل ورود دليل شرعي على وجوبها في السائمة، فهو تأسيس(4)، وإن كان شرعياً نحو قوله صلى الله عليه وآله وسلم: (( في الغنم السائمة زكاة )) (5) بعد قوله: في الغنم زكاة. فإن تراخى عن وقت الحاجة فناسخ، وإلا فمخصِّص.
وهو ظني إذا كان أصله ظنياً اتفاقاً، إذ لا يزيد عليه، واختلف فيه إذا كان أصله قطعياً، فعند (الحفيد) أنه في الاستثناء والغاية قطعي، وكذا الشرط عند قوم. وتردد بعض علمائنا في: (العدد /133/ وإنما)، وقيل: ظني مطلقاً.
__________
(1) بألاّ يكون مبتوتاً، بل مشروطاً كالضرر، فإن قبحه مشروط بألاّ يكون لعوض أواعتبار أو نحوهما.
(2) إذ مازاد ممنوع بحكم العقل، أي لا تزيدوا على ثمانين، وذلك موافق لحكم العقل، فهو حينئذٍ مؤكد.
(3) فإن مفهومه إن وجدت ماءاً فتطهر، وهو موافق لحكم الشرع، وهو إيجاب التطهر بالماء.
(4) وذلك لأن الأصل العقلي هو برءاة المكلف عن التكاليف، وبالتالي فالموافق لحكم العقل هو عدم وجوب الزكاة في المعلوفة، ومفهومه وجوب الزكاة في السائمة، وهو خلاف البراءة، فهو ناقل، وبالتالي هو تأسيس لحكم شرعي جديد لا تأكيد.
(5) قال في (الدراري): ومعناه ثابت في حديث البخاري وفي صدقة الغنم في سائمتها إذا كانت أربعين إلى عشرين ومائة شاة.. الخ.

(1/177)


(138) فصل والقائلون بدليل الخطاب والنافون له متفقون على أن للمنطوق به حكماً على حسب ما يقتضيه، وأنه غير ثابت للمسكوت عنه، وإنما يختلفون هل تجدد للمسكوت عنه حكم من مفهوم الخطاب أو هو باق على ما كان عليه من عقل أو شرع(1).
__________
(1) قال في (الدراري): فأهل القول بمفهوم الخطاب يجعلونه حكماً شرعياً، ومن منع من ذلك لا يجعله حكماً شرعياً، قال القاضي عبد الله: مثال ذلك: إذا قال النبي صلى الله عليه وآله - ابتداءاً قبل إيجاب الزكاة جملة - : (في الغنم السائمة زكاة)، فإن الجميع يقولون: لا يجب في المعلوفة زكاة؛ لأن المانع للمفهوم يقول: لا زكاة فيها؛ لأن العقل قاضٍ بذلك. ومن يقول بالمفهوم، يقول: لا زكاة فيها بالشرع مع العقل، وكأنه حين قال في السائمة زكاة تكلم بأن قال: وليس في المعلوفة زكاة، ثُمَّ الفائدة تظهر لو ورد خطاب بأن في المعلوفة زكاة بعد ذلك، فمن يقول بالمفهوم يقول إن إيجاب الزكاة في المعلوفة نسخ؛ لأنه أزال حكماً شرعياً وهو عدم الوجوب فيها، ويعتبر في ذلك شرائط النسخ. ومن يمنع المفهوم، يقول: هو شرع مبتدأ ليس بنسخ، ولم يعتبر شرائط النسخ. انتهى.

(1/178)


والأصح أن من اعتبره يعتبره في الإنشاء والخبر جميعاً، لا في الإنشاء فقط، خلافاً (للإمام، وابن الحاجب، وغيرهما)، كقوله صلى الله عليه وآله وسلم: (( مطل الغني ظلم )) (1)، وإلغاؤه في بعض صوره؛ لمانع، نحو: في الشام الغنم السائمة(2)، لا ينافي اعتباره كالإنشاء(3).
واختلف معتبروه بماذا كان حجة(4)، فقيل: باللغة، وهو المختار، وقيل: بالعرف العام، وقيل: بالشرع.

الناسخ والمنسوخ

[9] باب الناسخ والمنسوخ
(139) فصل النسخ لغة: حقيقة في الإزالة(5)، عند (أبي هاشم، وأبي الحسين، والقاضي جعفر، والجويني، والرازي)، مجاز في النَّقل(6). وعكَّس (البُسْتِي(7) - من أصحابنا - والقفَّال، /134/ والحنفية). وقال جمهور (أئمتنا، وبعض المعتزلة، والأشعرية): مشترك بينهما. وتوقف بعضهم.
__________
(1) أخرجه البخاري 2/845، ومسلم 3/1197، وابن حبان 11/435، والقضاعي في مسند الشهاب 1/61، والطبراني في الصغير 1/386 عن أبي هريرة. والمراد بالمثال: أن مفهوم قوله: "مطل الغني ظلم"، أن مطل غير الغني ليس بظلم، فلا يحبس ولا يعاقب.
(2) فهذا المفهوم ملغي؛ لأننا نعرف أن في الشام معلوفة.
(3) وكذلك في نحو قوله تعالى: ?ولا تأكلوا الربا أضعافاً مضاعفة? فالمفهوم هنا لا يعمل به، لمعارضته القاطع وهو قول الله تعالى: ?وأحل الله البيع وحرم الربا?.
(4) هذا الخلاف يبدو أنه فرع على الخلاف في دلالة اللفظ عليه، هل هي وضعية أو عرفية أو شرعية، وقد تقدم الكلام عليها.
(5) يقال: نسخ الأثر، أي: أزاله.
(6) يقال: نسخ الكتاب، أي: نقله.
(7) البستي، هو: إسماعيل بن علي بن أحمد بن محفوظ أبو القاسم البستي، من محققي علماء الزيدية، يلقب بالأستاذ، توفي قريباً من سنة عشرين وأربعمائة.

(1/179)


واختلف فيه بعد استعمال الشرع له، فقيل: باق على معناه اللغوي من غير أن يكون منقولاً عنه إلى معنى آخر، كنقل الصلاة. (المنصور، وأبو عبد الله، والقاضيان، والحاكم): بل منقول عنه بالشرع. (أبو هاشم، والشيخ): منقول إليه مع ملاحظة معناه اللغوي.
واصطلاحاً: بيان انتهاء الحكم الشرعي بطريق شرعي واجبة التراخي عن وقت إمكان العمل. فهو بيان لا رافع عند (أئمتنا، والمعتزلة، والجويني، والرازي، والاسفراييني)(1)، وعكّس (الغزالي، والباقلاني، وغيرهما).
واتفق المسلمون على جوازه عقلاً ووقوعه شرعاً؛ لأن الشرائع بحسب المصالح، وهي تختلف باختلاف الأحوال والأشخاص والأزمنة والأمكنة، خلافاً لشذوذ مطلقاً و(للأصفهاني)(2) في القرآن(3).
(140) فصل والفرق بينه /135/ وبين البَدا: أن البدا لغة: الظهور. واصطلاحاً: رفع عين الحكم المأمور به مع اتحاد الآمر والمأمور والمأمور به والوجه، والقوة، والفعل، والزمان، والمكان. والنسخ: بيان انتهاء الحكم.
ولا يجوز البَدَا على الله تعالى، خلافاً لبعض الإمامية.
__________
(1) ولذلك يجعلونه نوعاً من التخصيص، أي تخصيص في الأزمان، كما تقدم.
(2) قال في (الدراري): أبو مسلم الملقب بالجاحظ، كما قاله ابن التلمساني في شرح المعالم، واسم أبيه قيل عمرو، وقيل: بحر، وقيل: يحيى. أقول: المعروف المشهور أنه: أبو مسلم الأصفهاني، محمد بن بحر من أهل أصفهان، معتزلي من كبار الكتاب، توفي (322 هـ). أما الجاحظ فهو أبو عثمان عمرو بن بحر، ولعله سهو سببه اتفاق الاسم.
(3) لا خفاء أن متأخري الفقهاء توسعوا في مدلول النسخ حتى اعتبروا الاستثناء ونحوه نسخاً، كما أنهم غلوا في ادعائه في القرآن حتى لقد جعلوا آية واحدة (آية السيف) ناسخة لكل دعوة صفح وتسامح وحرية اعتقاد وعقلانية.

(1/180)


وأنكرت اليهود النسخ(1) لاعتقادهم توقفه على البدا، وهو عند أكثرهم ممتنع عقلاً وشرعاً، وعند بعضهم شرعاً فقط. وجوزه بعضهم عقلاً وشرعاً.
(141) فصل وأركانه أربعة: الناسخ، وهو: الشارع، وقد يطلق على الطريق(2)، وعلى حكمها وعلى مُعْتَقِد النسخ.
والمنسوخ، وهو: الحكم الشرعي المبين انتهاؤه، كما تقدم.
والمنسوخ به، وهو: الطريق الذي يثبت بها النسخ.
والمنسوخ عنه، وهو: المكلف.
وشروطه المعتبرة: ألاَّ يكون المبيَّن انتهاؤه ولا المبيِّن للإنتهاء عقليين، كبيان انتهاء البراءة الأصلية(3)، وبيان انتهاء التكاليف بالموت(4) /136/، ونحوه(5)، فأما بيان انتهاء موافق العقل فنسخ(6).
ومُضِيّ وقت يمكن فيه فعل المنسوخ أو تركه، في الموسع والمطلق، وسيأتي.
وكون المبيَّن انتهاؤه هو الحكم الشرعي لا الصورة المجردة مع بقائه(7).
وتغيير المصلحة من المنسوخ إلى ناسخه.
ولا يشترط عند (أئمتنا، والجمهور) الإشعار عند ورود المنسوخ بأنه سينسخ مطلقاً، خلافاً (لأبي الحسين، وابن الملاحمي، والشيخ).
__________
(1) أي: النسخ للشرائع.
(2) الذي هو لفظ الدليل.
(3) وهو أن الأصل عقلاً براءة المكلف عن قيد التكليف، مالم يثبت بدليل قطعي أو ظني تكليفي.
(4) لأن الأمور العقلية التي مستندها البراءة الأصلية لم تنسخ، وإنما ارتفعت بإيجاب العبادات.
(5) كالجنون والإغماء.
(6) كذبح الحيوان، ثم نسخه بعدم ذبحه، فإذا بين الشرع انتهاء الحكم الموافق للعقل والمؤكد له فهو نسخ ـ يعني حكم شرعي نسخ حكماً شرعياً وافق العقل ـ فلا يقال: إن حكم العقل قد دخله النسخ، بل هو النسخ للتأكيد الشرعي وغاية ما هناك أنه ناقل عن حكم العقل، وقد عرفت جوازه في العقليات المشروطة كما ذكروا.
(7) لأن الحكم هو الذي تتعلق به المصلحة والمفسدة، ومثال ذلك: لو كان استقبال بيت المقدس باقياً، وإنما نسخ منه المسامتة المعتادة، فإن ذلك لا يكون نسخاً. كذا في الحادي.

(1/181)


ولا البدل، فيجوز النسخ لا إلى بدل عقلاً وسمعاً، كوجوب صدقة النجوى خلافاً للأقل مطلقاً، ولقوم في الوقوع.
ولا التخفيف، فيجوز إلى أثقل كعكسه ومساويه، خلافاً (لداود، وبعض أصحابه، وللشافعي) في رواية، كنسخ عاشوراء برمضان.
ولا عدم التأبيد، فيجوز نسخ الأمر المقيد بالتأبيد خلافاً (لبعض الفقهاء)، كما يجوز نسخ المطلق.
ولا التقابل، فيجوز نسخ الأمر بالخبر كالنهي.
ولا الجنسية، فيجوز نسخ /137/ القرآن بالسنة المتواترة، والسنة به، وسيأتي إن شاء الله.
ولا القطع، فيجوز نسخ الآحاد بالآحاد.
ولا كونهما منطوقين، فيجوز نسخ المنطوق بالمفهوم، وسيأتي.
(142) فصل ولا يثبت الحكم مبتدأ أو ناسخاً على المكلفين قبل أن يبلغه جبريل عليه السلام إلى النبي صلى الله عليه وآله وسلم، وكذا بعد تبليغه إلى النبي صلى الله عليه وآله وسلم، وقبل تبليغ النبي المكلفين، عند (أئمتنا، والجمهور)، خلافاً (لبعض الشافعية) في الناسخ، وأما بعده(1) فإما أن يكون المنسوخ متكرراً أو لا(2)، فالأول: إما أن ينسخ بعد إمكان فعله أو قبله، إن كان بعد إمكانه جاز سواء كان قبل فعله أو بعده اتفاقاً، وإن كان قبل إمكانه امتنع عند (أئمتنا، والمعتزلة، وأكثر الفقهاء)، وجاز عند (جمهور الأشعرية، وبعض الفقهاء، وروي عن المنصور بالله).
والثاني: يمتنع نسخه قبل إمكان فعله على الخلاف المذكور، وأما بعده فالمجوزون وبعض /138/ المانعين على صحته كالمتكرر، وبعضهم على منعه، وادعى (الإمام، وغيره) الاتفاق على جواز نسخه.
(143) فصل فيما يجوز نسخه وما لا يجوز نسخه من الأحكام
__________
(1) أي بعد تبليغ جبريل للنبي (ص) وتبليغ النبي (ص) المكلفين.
(2) المتكرر، كالصلاة والصوم، وغير المتكرر، كذبح إبراهيم ولده.

(1/182)


وهي قسمان: (شرعي)، ليس للعقل فيه قضية سابقة، ويجوز نسخه باتفاق. و(عقلي)، وهو نوعان: ما قضى العقل فيه بقضية مبتوتة ضرورية، كشكر المنعم، وقبح الظلم. أو استدلالية كمعرفة الله تعالى، وهو(1) عقلي، وإن طابقه السمع، ولا يجوز نسخه، فإن خالفه قُطِعَ بوضعه(2) إلا أن يمكن تأويله.
وما قَضَى فيه بقضية مشروطة كالذبح(3).
ويطابقه(4) الشرع، وهو حينئذ شرعي تغليباً للطارئ، لا عقلي تغليباً للسابق، خلافاً لقوم، ولا يشترط في المطابقة أن يكون إلى وفاة النبي صلى الله عليه وآله وسلم، قيل: خلافاً (لأبي الحسين)، ولا سَنَة خلافاً (للشيخ)، وتظهر فائدة الخلاف في النسخ(5).
ويخالفه /139/ واجباً، كدم الفدية، ومندوباً، كالأضحية، ومباحاً، نحو كثير مما يؤكل لحمه، ومكروهاً، كالأرنب، وليس بنسخ(6) في الأصح.
فأما ما أمسك الشرع عن مطابقته ومخالفته فعقلي. ويمتنع على هذه القاعدة القول بتعارض العقل والسمع إلا ظاهراً(7).
(144) فصل ويجوز نسخ الإنشاء ولو مقيداً بتأبيد، كما تقدم.
__________
(1) أي: هذا النوع.
(2) أي: إن خالف السمعي العقلي، فإنه يقطع بوضعه. كتعذيب الأطفال ، وتكليف مالا يطاق.
(3) فإنه ليس بقبيح على القطع والبت، بل بشرط عدم العوض عند أصحابنا.
(4) يعني أن ما قضى فيه العقل بقضية مشروطة، منه ما يطابقه الشرع، ومنه ما يخالفه.
(5) فعلى قول من يقول إنه شرعي يجوز نسخه، ولا يجوز نسخه على قول من يقول إنه عقلي.
(6) أي: وليس رفع الحكم العقلي بالشرعي نسخاً.
(7) لأن الشرع إما مؤكد في المبتوتة، أو مؤكد وناقل في القضية المشروطة، فإذا ورد ظاهر سمعي بخلاف حكم العقل لم يعارضه، لوجوب تأويل السمعي إن أمكن أو رده والحكم بوضعه، لكن لا بد من تحقق المعارضة بحيث لايمكن الجمع فكثيراً ما تدعى المعارضة مع إمكان الجمع، وقد تكون معارضة للمذهب فقط.

(1/183)


وأما الخبر، فإن كان بمعناه(1) جاز عند (أئمتنا، والجمهور)، خلافاً (لبعض التابعين، والدقاق)(2). وإن لم يكن بمعناه فإن نُسِخ التكليف بالإخبار به فقط جاز، سواء كان مما يتغير مدلوله أو لا، ماضياً أو مستقبلاً، وإن نسخ ذلك بالإخبار بنقيضه جاز عند (أئمتنا، والمعتزلة)، فيما يتغير مدلوله دون ما لا يتغير(3)، وجوزه (الأشعرية) مطلقاً، وإن نسخ مدلوله؛ فإن كان مما لا يتغير، كصفاته تعالى؛ امتنع عند (أئمتنا، والمعتزلة، والأشعرية) وإن كان مما يتغير، كإيمان زيد وكفره، جاز نسخه عند (أئمتنا، وأبي عبد الله، والقاضي، وأبي الحسين /140/، وبعض الأشعرية)، وامتنع عند (الشافعي، والشيخين، والباقلاني، وغيره من الأشعرية). وعن (بعض التابعين، والخشبية)(4) جواز نسخه مطلقاً.
ويمتنع عند (أئمتنا، والمعتزلة): نسخ التكاليف العقلية كما تقدم، خلافاً (للأشعرية)؛ إذ التكاليف عندهم(5) كلها شرعية فتقبله(6)، وهي(7) فرع التحسين والتقبيح.
__________
(1) أي بمعنى الإنشاء، كالإخبار عن وجوب شئ ما.
(2) الدقاق، هو: أبو بكر محمد بن محمد بن جعفر البغدادي الدقاق، من علماء الشافعية، صنف كتاباً في أصول الفقه ومن اختياراته أن مفهوم اللقب حجة، توفي في رمضان سنة اثنتين وتسعين وثلاثمائة. طبقات الشافعية 2/167.
(3) ما يتغير مدلوله، كالإخبار بإيمان زيد، ثم نسخه بالإخبار بكفره، ومالا يتغير، كالإخبار بأن الله أهلك عاداً ثم الإخبار بأن الله لم يهلكهم، لأن ذلك كذب، وهو لا يجوز على الله.
(4) في (ب) : من الخشبية. قال في (الدراري): وهم: المختار بن أبي عبيد وأصحابه، سموا بذلك لتضاربهم في بعض الوقعات بالخشب. حكاه نشوان.
(5) سقط من (ب): عندهم.
(6) أي: النسخ.
(7) أي: مسألة نسخ التكاليف العقلية.

(1/184)


وكذا نسخ جميع التكاليف الشرعية لا إلى بدل؛ إذ هي شكر أو ألطاف، خلافاً (للأشعرية) إلا (الغزالي) فمنعه، والإجماع على أنه(1) غير واقع.
فأما انفراد التكليف العقلي عن الشرعي(2) فجائز عند مثبته خلافاً (للإمامية).
(145) فصل يجوز عند (أئمتنا، والجمهور) نسخ القرآن بالقرآن، خلافاً (للأصفهاني)، كما تقدم، حكماً وتلاوة، نحو: (( عشر رضعات محرمات )) (3). وحكماً دون تلاوة، خلافاً لقوم. كآية الاعتداد بالحول(4). وفائدته: كونه معجزاً، وقرآناً يتلى.
وتلاوة دون حكم، خلافاً (لبعض المعتزلة)، نحو: (( الشيخ والشيخة إذا زنيا /141/ فارجموهما ))(5). وفي جواز مس المحدث والجنب له خلاف.
والمختار: أن نسخ بعض أحكام الآية ليس بنسخ لجميعها، خلافاً (لبعض الأصوليين)، وأن نسخ الوجوب لا ينسخ الجواز، كالوصية للوارث، خلافاً (للمؤيد بالله، والشافعي).
__________
(1) أي: نسخ جميع التكاليف الشرعية.
(2) كما لو عقل الصبي قبل البلوغ، فإنه يكلف بالعقليات عند مجوزي ذلك، وهم المعتزلة ومن وافقهم.
(3) روي عن عائشة أنها قالت: كان فيما أنزل الله عز وجل من القرآن: "عشر رضعات يحرِّمن" ثم نسخن بـ"خمس معلومات يحرمن". أخرجه مالك 2/608، ومسلم 2/1075، وأبو داود 2/223، وغيره. وينظر في صحة كونه قرآناً مع شرط التواتر والإجماع على أن القرآن ما بين الدفتين، ومالم فليس بقرآن، ولعل الحديث مما يمكن تأويله، والعجب من جعل المصنف له قرآنا.!
(4) وهي قوله تعالى: ?والذين يتوفون منكم ويذرون أزواجاً وصية لأزواجهم? الخ، فإن هذه الآية منسوخة بآية الاعتداد بأربعة أشهر وعشراً.
(5) أورد المصنف هذا النص على أنه قرآن، وهو من السنة، حيث روي عن زيد بن ثابت قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يقول: "الشيخ والشيخة إذا زنيا فارجموهما البتة". أخرجه أحمد 5/183، والحاكم 4/401، والدارمي 2/234، عن زيد بن ثابت.

(1/185)


(146) فصل ويجوز نسخ قوله صلى الله عليه وآله وسلم بقوله، فالمتواتر والآحاد بمثلهما، والآحادي بالمتواتر، وكذا نسخهما بالقرآن، خلافاً (لبعض أئمتنا، وأحد قولي الشافعي). لا المتواتر بالآحادي خلافاً (للظاهرية، وبعض الفقهاء)، [وهو مقتضى كلام المؤيد بالله](1). وقال (الإمام): يجوز في حياته صلى الله عليه وآله وسلم لا بعد وفاته، فأما تخصيصه به فجائز كما تقدم.
(147) فصل ويجوز نسخ القرآن بالمتواتر عند (أكثر أئمتنا، والجمهور)، خلافاً (للقاسم، وابنه محمد(2)، والناصر، وابن حنبل، وكذا الهادي(3)، والشافعي في رواية). واختلف مانعوه، فقيل: عقلاً، وقيل سمعاً، فأما بالآحادي فممتنع خلافاً (للظاهرية).
(148) فصل /142/ ويجوز نسخ القرآن بفعله، وفعله بالقرآن، وقوله بفعله، وفعله بقوله، وكذا فعله بفعله عند (أكثر أئمتنا، والجمهور)، بعد العلم بالوجوه التي يقع عليها، إذ لا دلالة للأفعال بمجردها حتى يقع بينها التعارض. (المنصور، وأبو رشيد)(4)، بل تتعارض فينسخ بعضها ببعض.
(149) فصل ويُنسخ تركه ويُنسخ به كفعله. ويعرف كونهما ناسخين بوقوعهما بعد عامٍّ يشمله وغيره، ويقتضي التكرار، ثم يفعل الضد أو يترك، مع التراخي.
وينسخ تقريره عند (أئمتنا، والجمهور)، وينسخ به خلافاً (لأبي عبد الله).
__________
(1) سقط ما بين المعكوفين في (ب) فقط.
(2) محمد بن القاسم، هو محمد بن القاسم بن إبراهيم الرسي، من كبار علماء الزيدية كان على نمط والده في سعة العلم والزهد والورع، وكان من مؤيدي ابن أخيه الإمام الهادي، توفي سنة أربع وثمانين ومائتين.
(3) الهادي، هو الإمام أبو الحسين يحيى بن الحسين بن القاسم الرسي، كبير أئمة الزيدية باليمن، وإليه ينسب المذهب الهادوي في الفقه، توفي سنة ثمان وتسعين ومائتين.
(4) أبو رشيد، هو: سعيد بن محمد بن سعيد النيسابوري، من شيوخ المعتزلة، له في الأصول كتاب بعنوان: (ديوان الأصول)، توفي حوالي منتصف القرن الخامس.

(1/186)


(150) فصل ولا يُنسخ الإجماع ولا ينسخ به عند (أئمتنا، والجمهور)، خلافاً (لأبي الحسين الطبري، وأبي عبد الله) فيهما، و(لأبي علي، والقاضي، وابن إبان) في النسخ به، كما إذا اختلفت الأمة على قولين في مسألة فهو إجماع على أنها اجتهادية، فإذا أجمع أهل العصر الثاني على أحدهما نسخ الأول بالثاني /143/.
(151) فصل ولا يُنسخ القياس مطلقاً عند (أئمتنا، والجمهور)، وهو بيان انتهاء حكم الفرع مع بقاء حكم أصله، وقيل: يجوز مطلقاً. (القاضي): يجوز إذا كان ظنياً. و(أبو الحسين، والرازي): يجوز في حياته صلى الله عليه وآله وسلم بنص أو إجماع أو قياس أقوى، لا بعد وفاته صلى الله عليه وآله وسلم.
(أئمتنا، والجمهور): ولا ينسخ به مطلقاً. (بعض الشافعية): يجوز مطلقاً، وبعضهم إن كان جلياً لا خفياً. (ابن الحاجب): يمتنعان إن كان ظنياً لا قطعياً، فينسخ بالقطعي في حياته صلى الله عليه وآله وسلم لا بعد وفاته، فيبين القطعي الثاني أن القطعي الأول منسوخ.
وأما التخصيص به فجائز كما تقدم، وكذا تخصيصه كما سيأتي إن شاء الله تعالى.
ونسخ حكم الأصل نسخ لحكم فرعه، لزوال اعتبار الجامع خلافاً (لبعض الحنفية).
(152) فصل ويجوز نسخ الأصل والفحوى معاً اتفاقاً، كالتأفيف والضرب. والأصل دونها، على المختار، خلافاً (للإمام، وأبي الحسين، /144/ وغيرهما)، واختلف في نسخها دونه، فمنعه (أبو الحسين، والرازي، وابن الحاجب، والقرشي)، وجوَّزه قوم. (ابن زيد)، وهو المذهب. وقال (الإمام، والحفيد): إن كان في معنى الأوْلى امتنع، نحو: ?وَلاَ تَقُلْ لَهُمَا أُفٍّ?[الإسراء: 23]، وإلا جاز، كوجوب ثبات الواحد للاثنين، المفهوم من وجوب ثبات المائة للمائتين. وعن (القاضي) الأقوال الثلاثة.
وينسخ بها كالنهي عن التأفيف بعد الأمر بالضرب.
ويجوز نسخ دليل الخطاب وأصله معاً على القول به، ونسخه دون أصله، (وأصله دونه) (1).
ويجوز نسخ العملي به في الأصح.
__________
(1) سقط من (أ).

(1/187)


(153) فصل والزيادة على النص إن لم يكن لها تعلق بالمزيد عليه كصلاة سادسة، فليست بنسخ خلافاً (لبعض الحنفية). وإن كان لها تعلق به، فإن كانت مقارنة له في خطاب واحد، كغسل الأيدي بعد الوجوه، أو واجبة بطريق التبعية كغسل جزء من الرأس بعد الأمر بغسل الوجه، أو مبينة لمجمل /145/، كإيجاب النية والترتيب بعد نزول آية الوضوء، ونحو هذه الصورة، فكذلك(1) اتفاقاً.
وإن كانت غير ذلك، كزيادة تُغَيِّر الإجزاء(2) أو قبح الإخلال(3) أو كون الأخير أخيراً(4)، أو نحو ذلك، فعند (الشيخين، والحنابلة، وأكثر الشافعية): أنها ليست بنسخ مطلقاً. (جمهور الحنفية): نسخ مطلقاً. (الكرخي، وأبو عبد الله): إن غيرت حكم المزيد عليه في المستقبل فنسخ، كزيادة عشرين في حد القاذف، وإلا فلا، كزيادة قطع رجل السارق بعد ذهاب يده. (أبو طالب، والقاضيان، والغزالي): إن غيرت إجزاء المزيد عليه كزيادة ركعة في الفجر فنسخ، وإلا فلا، كزيادة عشرين في حد القاذف. (القاضي): وكالتخيير في ثالث بعد(5) اثنين. (بعض الشافعية): إن بينت انتهاء مفهوم المخالفة فنسخ، وإلا فلا. (جمهور أئمتنا، وأبو الحسين، والرازي، وابن الحاجب): إن بينت انتهاء حكم شرعي فنسخ، وإن بينت أنتهاء حكم عقلي /146/ كالبراءة الأصلية، فليس بنسخ.
(الشيخ): وهذه حلقة مبهمة لا يخالف فيها من تقدم، لكن يتفرع على ذلك صور، منها:
زيادة عضو على أعضاء الطهارة، وليس بنسخ.
__________
(1) أي: ليست بنسخ.
(2) وذلك عند ما يكون الفعل مجزياً، وعندما وردت الزيادة لم يعد مجزياً.
(3) وذلك كزيادة كفارة على الكفارات الثلاث، فإنها قبل أن تزاد بشيء رابع، يقبح الإخلال بالثلاث.
(4) وذلك كلو زيد ركعة بعد ركعتين؛ لأنها إن كانت قبل التشهد، فهي نسخ لوجوبه بعدها، وإن كانت مزيدة بعده، فهي نسخ لوجوب التسليم بعد التشهد.
(5) في (ب): بين اثنين.

(1/188)


وزيادة التغريب في حد الزاني، وعشرين في حد القاذف، فليست بنسخ، وفاقاً (لأبي الحسين)، وخلافاً (للحنفية، ولابن الحاجب) في التغريب.
وتقييد المطلق بصفة، كالرقبة المعتقة بالإيمان في الظهار، وليس بنسخ، وفاقاً (لأبي الحسين)، وخلافاً (للكرخي، وأبي عبد الله).
ومنها: زيادة ركعة في الفجر، وهي نسخ، لتغييرها الإجزاء عند (القاضي)، أو وجوب التشهد والتسليم عند (الشيخ).
والنقل من تخيير إلى تخيير، وهو نسخ، خلافاً (للإمام، وأبي الحسين والشافعية) (1).
ومن تخيير إلى تعيين، وهو نسخ.
ومن تعيين إلى تخيير، وهو نسخ، خلافاً (للإمام).
وبيان انتهاء مفهوم: (إنما، والغاية، والشرط)، وهو نسخ /147/. وثمرة الخلاف أن الظني كخبر الواحد، إذا ورد بالزيادة على النص المعلوم لم يُقبل عند القائلين بأنها نسخ، وقبل عند القائلين بأنها ليست بنسخ.
(154) فصل والنقص إن لم يكن له تعلق بالمنقوص منه، كإحدى الخمس، فليس بنسخ لغيرها، وإن كان له تعلق به كالنقص من النص، فنسخ للمنقوص ركناً أو شرطاً اتفاقاً، واختلف في الباقي، فعند (جمهور أئمتنا، والأكثر): أنه ليس بمنسوخ مطلقاً. (بعض الشافعية): منسوخ مطلقاً. (أبو طالب، والقاضي): إن كان المنقوص ركناً كركعة أو شرطاً متصلاً كالقبلة، فالباقي منسوخ، وإن كان شرطاً منفصلاً كالوضوء، فليس بمنسوخ، والفرق بينهما أن الركن لا استصحابه في جميع العبادة(2)، كالركوع والسجود، والشرط يجب استصحابه في جميعها كالوضوء. (أبو الحسين): كما تقدم. وثمرة /148/ الخلاف مثل ما مر في الزيادة.
(155) فصل وإنما يصار إلى النسخ بعد تعذر الجمع.
__________
(1) سقط من (أ).
(2) يعني: لا يكفي استصحابه في جميع العبادات، كالركوع والسجود، فإن بعض الصلاة خال عنها.

(1/189)


ويتعين الناسخ: بعلم تأخره. أو بإجماع الأمة، أو العترة. أو بقول الشارع: هذا ناسخ، أو ما في معناه، مما يشعر به كنصه على نقيض حكم الأول، نحو: (( كنت نهيتكم ))(1) الخبر .. أو ضده، كتحويل القبلة. أو بتأخر إسلام راويه من غير واسطة. أو بتقدم صحبة راوي المنسوخ من غير واسطة، مع انقطاع صحبته بموت أو غيره، وكذا باسناده إلى غزوة متأخرة أو وقت أو مكان متأخر، فيقبل مطلقاً عند (القاضي). والمختار وفاقاً (لأبي الحسين) قبوله في المظنون فقط. وقوله: اعلم أن هذا منسوخ مقبول في المظنون دون المعلوم، لا نسخ كذا بكذا، فلا يقبل فيهما عند (الجمهور).
(الإمام، والحفيد): يقبل في المظنون.
فأما: نسخ كذا، أو هذا منسوخ من دون ذكر /149/ ناسخ، فمقبول عند (الكرخي، وأبي عبد الله) فيهما، وغير مقبول عند (المنصور، والقاضي، وأبي الحسين، والشيخ) فيهما. والمختار قبوله في المظنون دون المعلوم.
(156) فصل ولا يتعين الناسخ بنقل حكم العقل(2)، خلافاً (للقاضي). ولا بحسن الظن بالراوي، خلافاً (للطحاوي)(3). ولا بكون حكمه أخف. ولا بحداثة الصحابي. ولا المنسوخ بقبله في المصحف(4). ولا بموافقة شرع سالف.
وإذا لم يعلم ذلك، فالوقف عن العمل بأحدهما حتى يظهر مرجح عند من منع من التعارض على وجه لا يظهر معه ترجيح، واطراحهما أو التخيير بينهما عند مجوزه، كما سيأتي إن شاء الله تعالى.
والأحكام المنسوخة قليلة، فلتراجع بسائطها.

الاجماع

[10] باب الإجماع
__________
(1) أخرجه ابن الجارود في المنتقى 219 والترمذي 3/370 والنسائي 7/234 عن بريدة.
(2) يعني: فلا يكون الناقل هو الناسخ.
(3) الطحاوي، هو: أبو جعفر أحمد بن محمد بن سلامة الطحاوي، إليه انتهت رياسة أصحاب أبي حنيفة بمصر، ولد سنة ثمان وثلاثين ومائتين، ومات سنة إحدى وعشرين وثلاثمائة. طبقات الفقهاء 1/ 148.
(4) يعني بثبوت أحد الإثنين بعد الآخر في المصحف.

(1/190)


هو لغة: العزم، والاتفاق. واصطلاحاً: قسمان: عام، وخاص.
فالعام: إجماع الأمَّة، وهو: اتفاق المجتهدين من المؤمنين من الأمة في زمن مّا على أمر مّا.
ومن يرى انقراض العصر يزيد: إلى انقراض العصر /150/. ومن يرى أنه لا ينعقد مع سبق خلاف مستقر، وجواز اتفاق أهل العصر الثاني على أحد قولي أهل العصر الأول، يزيد: لم يسبقه خلاف مستقر.
والخاص: إجماع العترة، وهو: اتفاق المجتهدين من المؤمنين من العترة، كذلك.
والإجماع ممكن عقلاً من الصحابة وغيرهم اتفاقاً.
واختلف في وقوعه، فعند (أكثر أئمتنا، والجمهور): أنه قد وقع مطلقاً، وقيل: لم يقع مطلقاً. (المنصور، والإمام، والرازي، وأحد قولي أحمد): وقع من الصحابة دون غيرهم. (المؤيد، والإمامان(1)، والأمير الحسين)(2): ومن الأربعة فقط(3).
__________
(1) يعني: المنصور والإمام يحيى، وقد تقدمت ترجمتاهما.
(2) الأمير الحسين بن بدر الدين محمد الهادوي، من علماء الزيدية في اليمن، له مؤلفات في فنون عدة، توفي سنة اثنتين وستين وستمائة.
(3) يعني: أنه لم يقع إجماع من العترة إلا من علي وفاطمة والحسنين عليهم السلام، فما بالك بدعوى إجماع الأمة.. وبقول هؤلاء الأعلام يتبين لك قيمة الإجماعات التي كثيراً ما تُدَّعى، وأن غايتها إفادة الظن في حق من ادعاها، ولا تلزم غيره.

(1/191)


(157) فصل وإجماع الأمة حجةٌ - عند الجميع مطلقاً؛ للدليل القاطع(1) - شرعيةٌ فقط، خلافاً لشذوذ. ولا اعتداد(2) بمن قال: ليس بحجة مطلقاً، (كالإمامية، والنظام(3)، والخوارج)(4). أو من غير الصحابة، (كالظاهرية). أو إذا كان ظنياً.
(أئمتنا، والجمهور)، وهو /151/ قطعي(5) إذا كان معلوماً. (الآمدي، والرازي): ظني مطلقاً(6).
__________
(1) ينظر في قطعية دليل حجية الإجماع فللمحققين في ذلك كلام كثير، وخلاف طويل يمكن مراجعة طرف منه في (نظام الفصول).
(2) هذا الحكم لا يثبت إلاَّ بعد بيان من يعتبر قوله في الإجماع ومن لا يعتبر، وذلك يتوقف على الأدلة وهي قسمان: قطعي وظني، أما القطعي فلا مدخل له في تحديد من يعتبر في الإجماع ومن لا يعتبر، وأما الظني فهو خاضع لاختلاف الناس، والخلاف يحول دون أن يحكم أحد على نفسه بالضلال وأنه لا يعتبر في الإجماع. لذا قال العلامة الجلال: "وما المرجح لعدم اعتداده بخلافهم على عدم اعتدادهم بخلافه".
(3) النظام، هو: أبو إسحاق ابراهيم بن سيار النظام، علامة مناظر شهير، يعتبر من كبار شيوخ المعتزلة، توفي سنة إحدى وثلاثين وماتين. طبقات المعتزلة 25.
(4) هؤلاء يحكى عنهم الخلاف في إمكانه وفي وقوعه، ولاشك في أن حجيته تنبني على وقوعه.
(5) يعني قطعي المتن لا قطعي الدلالة.
(6) واختاره الإمام المهدي في (المنهاج)، والحسين بن القاسم في شرح الغاية؛ لأن كونه دليلاً وحجة إنما ثبت بأدلة ظنية لا ترقى إلى مقام القطع كما تقدم للمؤلف.

(1/192)


واختلف في إجماع العترة عليهم السلام، وهم: الأربعة المعصومون، ثم أولاد الحسنين من جهة الآباء في كل عصر(1)، فعند (العترة، وشيعتهم، والشيخين، وأبي عبد الله، والقاضي في رواية، وغيرهم): أنه حجة للدليل القاطع. وعند (الأكثر، ورواية عن القاسم) - مغمورة - ليس بحجة(2).
ومَعْلُومُهُ حجةٌ قطعية في العلميات، كالنص المعلوم، فيحرم مخالفته. وفي كونه كذلك في العمليات، خلاف بين (أئمتنا). والمختار أنه كذلك. فأما ظَنِّيُّهُ وظنيُّ إجماع الأمة، فكالآحادي، ولا يقدم(3) عليهما إلا لمرجح، كصحة سند.
وتعتبر نساؤهم المجتهدات المؤمنات(4)، فإن لم يبق منهم إلا مجتهد(5) فحجة في الأصح(6).
(158) فصل وينعقدان بالقول، أو الفعل، أو الترك، أو السكوت مع الرضا، أو بما أمكن تركيبه منها.
والطريق إليهما في حق الحاضر: سماع القول، أو مشاهدة الفعل، أو نحوهما. وفي حق /152/ غيره النَّقل.
وقد يفيد العلم الضروري كالمتواتر، أو العلم الاستدلالي كالمتلقى بالقبول على الأصح، أو الظن كالآحاد، وهو(7) حجة عند (أئمتنا، والجمهور)، خلافاً (لأبي عبد الله، وأبي رشيد، والغزالي)، وتوقف قوم.
__________
(1) ولا يعتبر في الاجماع منهم إلا المجتهدون، كما في إجماع الأمة.
(2) سيأتي أنه لا يكفر ولا يفسق منكر حجية الإجماع، سواء منه الخاص أو العام والقطعي أو الظني؛ إذ لا دليل.
(3) أي: الخبر الآحادي، على الإجماعين.
(4) أي نساء الأمة والعترة، وهذه نظرة عقلانية مستقيمة للمرأة ليس فيها هضم، فالاجتهاد باب مفتوح ليس في يد أحد سدّه على من عداه، ما دام أهلاً لذلك، فالعبرة بالكفاءة والأهلية.
(5) في (أ) إلا واحد.
(6) لأن غيره من المقلدين لا يعلم الحق، وإن عمل به مصادفة، واعترض على هذا بأن الحجة إنما هي في الاجتماع كما هو ظاهر الأدلة.
(7) أي: الإجماع المنقول بالآحاد.

(1/193)


(159) فصل وإذا قال بعض وسكت الباقون، فإن عُلم أن سكوتهم عن رضا، فإجماع، وإن لم يعلم؛ فإن كان مما لا تكليف فيه علينا، كالقول بأن عماراً أفضل من حذيفة، فلا إجماع ولا حجة، وإن كان مما فيه تكليف؛ فإن كان قطعياً، وكان لسكوتهم محمل غير الرضا، كإمامة الثلاثة(1) ، فكذلك(2)، وإن لم يكن له محمل فإجماع(3)، وإن كان اجتهادياً، قبل تقرر المذاهب(4)، فاختلف في ذلك على القول بالتصويب مع انتشاره(5)، فعند (أكثر الفقهاء): أنه إجماع. (أبو علي)، ومع انقراض العصر(6)، ويُسمى: استدلالياً. وعند (المتوكل(7)، والمهدي، وأبي هاشم، /153/ والكرخي، وعن الشافعي)(8): حجة لا إجماع. وهو الظاهر من كلام (الهادي). (جمهور أئمتنا، وأبو عبد الله، والظاهرية، والأشعرية، وعن الشافعي): لا إجماع ولا حجة(9). (ابن أبي هريرة): إن كان مفتياً(10)
__________
(1) قال في (النظام): بناء على أن الإمامة قطعية، وأنه لم ينكر أحد إمامتهم، وفي المقامين نزاع طويل.
(2) أي: لا حجة ولا إجماع لعدم تحقق الرضى.
(3) لأن السكوت على مخالفة القعطي لغير عذر لا يصدر عن عدول الأمة.
(4) أما بعد تقرر المذاهب فلا يعتبر السكوت سكوت موافقة؛ لأنه قد تعورف على عدم الإنكار في الاجتهاديات، فليس السكوت على شيء تقريراً.
(5) أي: انتشار ما وقع السكوت عليه، أما إذا لم ينتشر فلعل السكوت عنه للجهل به، فلا يكون تقريراً.
(6) عطف على: مع انتشاره.
(7) المتوكل، هو: الامام المتوكل على الله أحمد بن سليمان، أحد أئمة الزيدية في اليمن، له كتب، منها في أصول الفقه: (الزاهر) و(المدخل) وأخباره كثيرة، توفي سنة ست وستين وخمسمائة.
(8) في (ب): وعند الشافعي.
(9) فيكون دعوى الإجماع على مقتضى قول هؤلاء عاطلة وضائعة؛ لأن معظم الإجماعات من هذا القبيل، إلا على كلام بعض المحققين من أن كثيراً من دعاوى الإجماع عائدة إلى أن الحاكي لم يعلم مخالفاً، وعدم علمه ليس دليل العدم.
(10) في (ب) معيناً وفي (ط) معنياً، والصواب ما أثبته، والمعنى: إن كان الفاعل للمسكوت عنه مفتياً.

(1/194)


فإجماع، وإن كان حاكماً فلا إجماع ولا حجة(1). وعكَّس (المروزي).
وإن لم ينتشر ولم يعرف له مخالف فقيل: إجماع، وقيل: حجة. والمختار(2) وفاقاً (للجمهور): أنه غير إجماع ولا حجة. (الملاحمية، والرازي): إن عمت به البلوى فحجة، وإلا فلا.
والقول بما لم ينصوا على إثباته ولا نفيه؛ لا يخالف الإجماع، وقد وهم في ذلك (أبو جعفر)(3).
(160) فصل (أئمتنا، والجمهور): ولا يشترط في انعقاد الإجماع انقراض عصر المجمعين، خلافاً (لأحمد، وابن فورك) مطلقاً، و(لأبي علي) في السكوتي، و(الجويني) فيما مستنده قياس(4).
(161) فصل (أئمتنا، والجمهور): ويُعتبر من /154/ لم يشتهر بالفتيا من المجتهدين(5)، خلافاً (لابن جرير). والتابعي المجتهد مع الصحابة إذا بلغ رتبة الاجتهاد وقت إجماعهم، خلافاً (للظاهرية)، فإن نشأ بعد إجماعهم اعتبر عند من اشترط انقراض العصر.
__________
(1) وعلل ذلك بأن الاعتراض على الحاكم ليس من الأدب، فلعل السكوت لذلك، وأيضاً فالحكم في المختلف فيه ليس فيه إنكار. انظر: المنهاج للسبكي 2/380.
(2) في (ب): وهو المختار.
(3) وهو محمد بن يعقوب الهوسمي، حيث زعم أن كلما سكتوا عن القول به فقد قالوا بعدمه، ويذكر أنه ادعى على الإمام الهادي في بعض المسائل أنه خالف الإجماع، ومثل أبي جعفر - إن صحت الرواية عنه - في هذا العصر كثير ممن يحجرون على الاجتهاد والإبداع بدعوى مخالفة الإجماع، فكم ترك الأوَّل للآخر.
(4) لأنه يمكن أن يرجع بعض المجمعين، ويجتهد في إطار العصر من لم يكن بلغ رتبة الاجتهاد، فلا يستقر إجماع لعدم استقرار من يعتبر فيه.
(5) إذ مناط الاعتبار الاجتهاد لا الشهرة.

(1/195)


(162) فصل (أئمتنا، والجمهور): والمعتبر إجماع كل أهل العصر، فإن خالف واحد أو اثنان فليس بإجماع(1)، خلافاً (لابن جرير، وبعض البغدادية، والفقهاء)، ولا بحجة، خلافاً (للأشعرية). وقيل: إجماع ما لم يبلغوا عدد التواتر. (الإمام، وأبو عبد الله الجرجاني)(2) : إجماع ما لم يسوغوا له الخلاف(3).
ولا يعتبر وفاق من سيوجد خلافاً لمن يشترط انقراض العصر، ولمن زعم أنه إنما يكون حجة إذا كان قول جميع الأمة من وفاته صلى الله عليه وآله وسلم إلى انقطاع التكليف. ولا العوام، خلافاً (لأبي عبد الله، /155/ والباقلاني).
واختلف فيمن لم يبلغ رتبة الاجتهاد، كالمحدِّث، فقيل: يعتبر مطلقاً. وقيل: لا يعتبر مطلقاً. وقيل: يعتبر الأصولي. وقيل: الفروعي.
__________
(1) وهذا مما يزيد وقوع الإجماع بعداً، أو يجعل المستدل بالإجماع يجازف ويحكم بعدم اعتبار مخالفه في الإجماع، كما تقدم في الفصل الأول من باب الإجماع، حيث استدل المؤلف على حجية الإجماع بالإجماع، ولما كان هنالك من يقول بعدم حجية الإجماع كالإمامية والخوارج والنظام حسب حكاية المؤلف، قرر أن يجعلهم شذوذاً لا يعتبرون في الإجماع.
(2) في (ب): الإمام أبو عبد الله الجرجاني. الجرجاني، وهو: الإمام الموفق بالله الحسين بن إسماعيل بن زيد بن الحسن الشجري المعروف بالشريف الجرجاني، أحد أئمة الزيدية في الجيل والديلم، كان من العلماء المبرزين في شتى العلوم، وأخباره كثيرة، توفي سنة عشرين وأربع مائة.
(3) وذلك بألاَّ ينكروا عليهم، كما حدث لابن عباس رضي الله عنهما في مسألة العول، فلا إجماع، أمَّا إذا لم يسوغوا الخلاف، كما حدث لابن عباس أيضاً في مسألة المتعة، فلا يعتبر خلافه.

(1/196)


والمختار: أن الحكم المجمع عليه إن كان من فَنِّه أو يتمكن من النظر فيه اعتبر وإلا فلا(1).
(163) فصل ولا يعتبر كافر التصريح وفاسقه إجماعاً.
واختلف في كافر التأويل وفاسقه(2)، فعند (بعض أئمتنا، وأبي هاشم، وجمهور الأشعرية): يعتبران. وعند (جمهور أئمتنا، وأبي علي، والقاضي): لا يعتبران. (الغزالي): يعتبر الفاسق دون الكافر. وقيل: يعتبر الفاسق في حق نفسه(3).
وإذا اختلفت الأمة على قولين ثم كَفَرَت إحدى الطائفتين سقط خلافها، وكان إجماعاً، وكذا إن فسقت، خلافاً (للإمام، وأبي هاشم)، أو ماتت، خلافاً (للإمام، وغيره)(4)، فأما المبتدع بغيرهما(5) فمعتبر (6)/156/. (البصرية): ويوصف المتأول بكونه من الأمة(7).
__________
(1) هذا اختيار قوي جداً فيه توسيع دائرة الإجماع في شتى العلوم والصناعات، مما يعني بناء كيان اجتماعي قوي ومتكامل تستوعب فيه كل الطاقات والكفاءات وتتفاعل فيه كل الخبرات.
(2) تعتبر هذه المسألة من أهم الأبواب التي يمكن التلاعب بالإجماع من خلالها؛ لأن كافر التأويل وفاسقه غير منضبطين عند الجميع، لذلك تجد كثيراً من المختلفين يحكم على مخالفه بأنه فاسق تأويل أو كافره، وبذلك يُسقط اعتباره من الإجماع، وبالتالي يتحول الإجماع إلى مجرد اتفاق المتفقين، وهذا لا يصنع قناعة، بل لا يؤدي إلى مجرد ظن راجح.
(3) ذكر في (النظام) أن المراد بالفاسق هنا فاسق التصريح، وإن ذكره المؤلف في سياق فاسق التأويل، وذكر أن معنى: "في حق نفسه": أي فيما يكون عليه لا له، كما لو أجمعوا على إباحة شيء فخالفهم إلى حرمته فلا تكون الإباحة إجماعاً، لتبقى عِلِّيَة التحريم.
(4) بناء على أن القول لا يموت بموت قائله.
(5) أي: بغير كفر التأويل وفسقه.
(6) أي: بغير كفر التأويل وفسقه.
(7) وهكذا لم يكف بعضهم سلب الإيمان عن المخالف فحسب، بل سلبوا عنه الوصف بكونه من الأمَّة.

(1/197)


(164) فصل (أئمتنا، والجمهور)(1): وهو حجة في الأمور الدنيوية، كالآراء والحروب، خلافاً (للقاضي) في أحد قوليه. (الشيخ، وأبو رشيد): إن استقر فحجة وإلا فلا. (الحفيد): كله ديني، فلا يصح قسمته إلى ديني ودنيوي. وهو فاسد إذ المراد بالدنيوي غير العبادات وإن كان دينياً، فأما الدنيوية التي لا يتعلق بها تكليف كالزراعة ونحوها، ففي كونه حجة فيها خلاف.
(165) فصل وإذا ظهر الإجماع ثم روي الخلاف عن واحد من جهة الآحاد لم يقدح عند (بعض علمائنا، والجمهور)، خلافاً (للمنصور، وغيره)، كإجماعهم على أن ما وصل الجوف مفطر، ثم نقل خلاف أبي طلحة في البَرَدَة. وقيل: حجة. والمختار: أن الإجماع إن ظهر بالآحاد قَدَح فيه ذلك، وإن ظهر بالتواتر لم يقدح فيه. وأما إذا كان له قولان يوافق أحدهما الإجماع /157/ ويخالفه الآخر، فإن تقدم الموافق فإجماع ـ وإنما يجوز الثاني عند مشترط انقراض العصر ـ وإن تأخر فقال (المهدي): إجماع. وقال (الإمام): ليس بإجماع.
(166) فصل وإذا اختلف أهل العصر ولم يستقر خلافهم، ثم اتفقوا فإجماع.
__________
(1) يعتبر مضمون هذا الفصل هو نقطة الخلاف التي اشتهرت بين المعاصرين بـ (أسلمه كل شيء، أو عقلنته وأنسنته) وانقسم فيها مفكرو العصر إلى: يمين ويسار، ووسط، أو إلى إسلاميين، وعلمانيين، كما يسميهم البعض، وقد احتدم فيها الصراع.. ويلاحظ في هذا الفصل أن (القاضي) يمثل اليسار و(الحفيد) يمثل اليمين (وأئمتنا والجمهور) يملثون الوسط إن جاز التعبير، والحق أن هناك ما يسميه السيد محمد باقر الصدر رحمه الله: (منطقة الفراغ) في محل الاجتهاد مالم يصادم إصلاً قاطعاً، وأن لتشريعات الإنسان فيها دوراً في إطار المصلحة وما رآه المسلمون حسناً فهو عند الله حسن، وليس بصحيح احتكار البعض لصفة (الإسلامية) وتجريد من لم يوافقه منها، فإنها شنشنة عرفت عن المتعصبين أهل سطحية التفكير ونزعة التفكير.

(1/198)


واختلف إذا استقر هل يتفقون بعده.؟ (فالإمام، والطوسي(1)، والغزالي): يمتنع. (الجمهور): بل يجوز. ثم اختلفوا ، فعند (بعض الفقهاء): ليس بإجماع. (أئمتنا، والموسوي، وأبو علي، وأبو الحسين، وبعض الشافعية، ومن يشترط انقراض العصر): بل إجماع.
(167) فصل واختلف في اتفاق أهل العصر الثاني، كالتابعين على أحد قولي أهل العصر الأول بعد استقرار خلافهم. فعند (أحمد، والأشعري، والجويني، والغزالي، والصيرفي): يمتنع. (أئمتنا، والجمهور): بل يجوز. ثم اختلفوا في وقوعه، فأكثرهم على أنه واقع، سواء شذ المخالف أو كثر. ثم اختلفوا، فعند (جمهور أئمتنا، وأبي علي، /158/ وأبي الحسين، وبعض الفقهاء): أنه إجماع، فيحرم العمل بخلافه لانقراض قائله. وعند (بعض أئمتنا، وبعض الفقهاء، والمتكلمين): ليس بإجماع، فيجوز العمل بخلافه، إذ لا يموت بموت قائله. وقيل: إن كان المتفقون هم المختلفون فإجماع، ويحرم مخالفته، وإلا فلا. واستبعد (ابن الحاجب) وقوعه، إلا عند شذوذ المخالف من أهل العصر الأول.
فأما قبل استقرار خلافهم فجائز.
(168) فصل (أئمتنا، والجمهور): ويمتنع إجماع أهل العصر الثاني على خلاف إجماع أهل العصر الأول، خلافاً (لأبي الحسين الطبري، وأبي عبد الله)، فالثاني ناسخ عندهما(2)، بناءاً على أصلهما في جواز نسخ الإجماع، والنسخ به، واختاره (الرازي).
__________
(1) لعله الطوسي صاحب البلغة ينقل عنه صاحب (المصابيح الساطعة الأنوار) كثيراً، ولعله صاحب البيان في التفسير. ويحتمل أن يكون المراد به الطوسي: أبا جعفر الإمامي. والله أعلم.
(2) ولعل الصواب القول بجوازه بناء على ظنية الإجماع، ولا يكون ناسخاً، بل يرجح بينهما كالدليلين الظنيين، ويجمع إن أمكن من حيث النقل ونحوه، وإلا رجع إلى غيرهما، وقد تقدم الكلام في هذا الموضوع في باب النسخ.

(1/199)


(169) فصل (أئمتنا، والجمهور): والتمسك بأقل ما قيل ليس بإجماع، خلافاً (للشافعية)، فمثل قول (الشافعي)/159/: إن دية اليهودي ثلث دية المسلم إجماع عندهم لاشتمال الدية الكاملة والنصف عليه، وليس كذلك؛ لأنه مركب من إثبات القليل ونفي ما سواه.
وأما استدلال (أئمتنا) على قصر الإمامة في ولد السبطين فليس منه؛ لتركبه من الاتفاق على صحتها فيهم وعدم الدليل على صحتها في غيرهم(1).
(170) فصل ولا إجماع إلا عن مستند: إما دلالة - وهو اتفاق - أو أمارة(2).
(أئمتنا، والجمهور): ولو اجتهاداً أو قياساً كتحريم شحم الخنزير، خلافاً (لابن جرير، والظاهرية)، وقيل: لم يقع عنهما، وإن كان ممكناً في نفسه. (بعض الشافعية)، يجوز إن كان جلياً لا خفياً، فأما تمثيل ذلك بإمامة أبي بكر فمخالف للمعلوم ضرورة؛ للقطع بوقوع الخلاف فيها واستمراره سلفاً وخلفاً، وببطلان القياس.
ويحرم مخالفته حيث يكون عنهما(3) خلافاً /160/ (للحاكم) - صاحب (المختصر)- (4) .
__________
(1) في حواشي الفصول ما لفظه: قلت فيه ما فيه، إذ دعوى عدم الدليل في غيرهم، تخالف دعوى الخصوم فلا إجماع. تمت من خط السيد علي بن الإمام شرف الدين.
(2) لا يقال: إن المستند حينئذ هو الدليل للحكم لا الإجماع؛ لأنه لا يشترط وجود المستند، بل يكفي اعتقاد وجوده، وأيضاً فإن فائدة الإجماع أمران: الحكم، وصحة المستند وتلقيه بالقبول، فيفيد العلم، فإذا لم يحصل الأمران معاً حصل الثاني.
(3) أي: عن القياس والاجتهاد.
(4) سقط من (ب): صاحب المختصر. وهو: العلامة حسام الدين محمد بن محمد بن عمر الأخسيكتي، من علماء الحنفية، مات فى ذي القعدة سنة أربع وأربعين وستمائة، ودفن بمقبرة القضاة السبعة. طبقات الحنفية 1/120.

(1/200)


(أئمتنا، والجمهور): وليس لهم أن يجمعوا جزافاً، وقيل: يجوز إذ هم مفوضون، وللصواب معرضون، ومرجعه إلى قول (مويس بن عمران)(1).
(171) فصل وإذا أجمع على موجب خبر متواتر؛ فإن كان نصاً جلياً وتواتر في عصر المجمعين وبعدهم فهو مستند الإجماع اتفاقاً، وإن لم يتواتر بعدهم وعُلم بدليل أنه مستنده فكذلك، وإن لم يُعلم فعند (أئمتنا، والجمهور): أنه مستنده قطعاً، وعند (أبي عبد الله): لا يقطع به. وإن لم يكن نصاً جلياً جاز أن يكون مستنده أو غيره من دلالة أو أمارة.
وأما الآحادي فإن علم أنهم أجمعوا على ذلك بإن نصوا على ذلك أو تنازعوا أو توقفوا ثم انقطع التنازع أو التوقف عنده أو عرف بالنظر أنه المستند فهو المستند اتفاقاً، وهو حينئذ قطعي في الأظهر، وكذا /161/ إن انقطع التنازع أو التوقف بالقياس، وإن لم يعلم أنهم أجمعوا لأجله، فالمختار وفاقاً (لأبي عبد الله، وأبي الحسين): أنه لا يقطع بذلك، خلافاً (لأبي هاشم). وقال (الحفيد): إن كان في باب الاعتقاد أو ما يترتب عليه كالموالاة والمعاداة علم أنهم أجمعوا لأجله، وإن كان عملياً محضاً فلا قطع، وفيه نظر.
__________
(1) مويس بن عمران أبو عمران، ويقال له موسى، وهو من علماء المعتزلة، ويعد في الطبقة السابعة من طبقاتهم، لم أقف له على تاريخ وفاة.

(1/201)


(172) فصل (الإمامية، وجمهور أئمتنا): وقول الوصي وفعله حجة(1)؛ للعصمة وغيرها من الأدلة. (الجمهور): ليس بحجة. (بعض أئمتنا): أرجح من غيره(2). ثم اختلفوا فقيل: مع كونه غير حجة. وقيل: مع الوقف. فأما ما الحق(3) فيه واحد فاتفق (أئمتنا) على أن قوله حجة(4).
وعلى القول بأنه حجة، فقيل: مخالفه فاسق، وقيل: آثم، وقيل: مخطئ، وقيل: بالوقف.
ولا حجة في قول غيره من الصحابة، خلافاً (للشافعي، ومحمد، وأبي علي، وأبي عبد الله، وبعض المحدثين)، و(لأبي حنيفة) /162/ إن خالف القياس(5). ولا في إجماع الخلفاء الأربعة، خلافاً (لأحمد، وأبي خازم)(6). ولا العمرين(7) خلافاً لقوم. ولا أهل الحرمين خلافاً لقوم، ولبعضهم في أهل مكة، و(لمالك) في أهل المدينة. ولا المصرين(8) على الأصح. ولا في قول الإمام خلافاً (لأبي العباس، والإمامية). ولا في إجماع غير هذه الأمة على الأصح.
(أئمتنا، والجمهور): ولا يشترط عدد التواتر، خلافاً (للجويني، وغيره)، فلو لم يبق إلا دون أقل الجمع، فالمختار أنه حجة قاطعة، خلافاً (للدواري، والسبكي، وغيرهما).
__________
(1) معنى الحجة: حرمة المخالفة، ووجوب الموافقة، فإذا رأيت بعض أئمتنا يخالف الوصي، فإما لأنه لم يصح له عنه، أو لأنه لا يعتبر قوله حجة.
(2) وذلك لا يكون إلا للمقلد، أما المجتهد فقد نص العلماء على عدم حجية مجتهدي الصحابة عليه.
(3) في (أ): فيما الحق .
(4) إذ الحق مع واحد، فلو قلنا بأنه مع غيره لَنَافَى العصمة والحجية.
(5) لأنه يكون بذلك توقيف.
(6) أبو خازم بالخاء المعجمة، هو: عبد الحميد بن عبد العزيز القاضي، أصله من البصرة وولي القضاء بالشام والكوفة والكرخ، من كبار علماء الحنفية، توفي سنة اثنتين وتسعين ومائتين. طبقات الحنفية 1/296.
(7) يقصد بالعمرين أبو بكر وعمر.
(8) أي: الكوفة والبصرة.

(1/202)


(173) فصل وإذا اختلفت الأمة على قولين في مسألة أو مسألتين فصاعداً، ففي إحداث قول ثالث خلاف. فعند (أئمتنا، والجمهور): لا يجوز مطلقاً، وهو أحد قولي (المؤيد). وعند (الظاهرية) يجوز مطلقاً، وهو أحد قولي /163/ (المؤيد)، وظاهر كلام (أبي العباس). وقال (المنصور، وأبو الحسين، والشيخ، والمتأخرون): إن رفع ما اتفقا عليه لم يجز، كحرمان الجَدّ، وتعميم نفي النِّية في الطهارات، وإلا جاز(1) كالعزل عن الزوجة المملوكة، وكفسخ النكاح ببعض العيوب الخمسة(2).
(174) فصل وإذا استدلت الأمة بدليل أو عللت بعلة أو تأولت بتأويل، فإن نصت على منع خلاف ذلك لم يجز إحداثه، وإن نصت على جوازه معيناً أو مبهماً جاز، وإن لم تنص فعند (أكثر أئمتنا، والجمهور) أنه يجوز، وعند (بعض المعتزلة، والشافعية) لا يجوز، وتوقف (أبو الحسين) في إحداث دليل أو تعليل، وكذا (أبو عبد الله)، ومنع هو و(بعض أئمتنا، وجمهور المتكلمين) من إحداث تأويل. (المنصور): إن كان الدليل أو التأويل من جهة النقل امتنع، لا من جهة النظر فجائز.
(175) فصل ويمتنع عدم علم /164/ الأمة بخبر أو دليل ليس معه غيره مع العمل بمقتضاه أو عدمه، واختلف في جواز عدم علمهم بخبر أو دليل راجح مع العمل بمقتضاه، واستدلالهم بموافقة المرجوح، فقيل: يجوز. وقيل: لا يجوز. والمختار: امتناع ذلك فيما كان مشهوراً، وجوازه في غيره.
__________
(1) يعني: وإن لم يرفع القولين الأولين جاز إحداثه.
(2) التي هي: الجنون، والجذام، والبرص، والرق، والْجَبّ في الرجل. والقرن، والرتق في المرأة.

(1/203)


ويمتنع قبولهم لخبر ظاهره الصحة وباطنه البطلان(1)؛ للزوم استنادهم إلى باطل في نفس الأمر، بخلاف المجتهد(2).
(176) فصل (أئمتنا، والجمهور): وتمتنع ردة الأمة وفسقها سمعاً(3)، خلافاً لقوم، وكذا العترة عليهم السلام، لا اتفاقهم على الجهل بما لم يكلفوا به(4) على الأصح، لعدم الخطأ، فأما انقسامهم فرقتين كل مخط في مسألة ومصيب في الأخرى، فالأصح جوازه(5).
[أنواع الاجماع ومراتبه]
(177) فصل وينقسم إلى: (قطعي)، وهو المتواتر الصادر من جميع الأمة أو العترة المعتبرين المعلوم قصدهم فيه(6). وكذا المتلقى بالقبول على الأصح. (وظني)، وهو خلافهما /165/.
ويقدم القطعي على الكتاب والسنة والقياس، (بعض المتكلمين، والفقهاء): ومخالفته(7) كفر. (أئمتنا، والجمهور): بل فسق. (الآمدي، والرازي): لا أيهما. فأما مخالفة مقتضاه فمعصية لايقطع بكبرها إلا لدليل.
__________
(1) وهذا في الواقع هو ثمرة الإجماع أنه يرتقي بالخبر الظني إلى مرتبة الحجية ظاهراً وفي الواقع، بحيث لا يصح أن نجوز مثلاً عدم صحته، إذ ذلك مناف لكون الإجماع لا يكون على خطأ عند القائلين بحجيته.
(2) فقد يستند إلى حديث ظاهره الصحة عنده، وهو غير صحيح في الواقع، إذ ليس بمعصوم ولكنه معذور بعد البحث.
(3) أي: دل السمع على أنها لا تجمع على الردة أو الفسق، إذ ذلك خلاف الدليل.
(4) كالحروف المقطعة ومبهمات القرآن.
(5) هذه نظرة صائبة موفقة فحواها أن الخطأ والصواب ليس حكراً على فرقة بعينها في كل مسألة.
(6) ولا يكاد يوجد إلا في المعلوم بضرورة الدين فقط، وهو الجمل عقيدة وشريعة.
(7) أي: الإجماع القطعي.

(1/204)


واختلف (أئمتنا) في مخالفة إجماع العترة عليهم السلام القطعي، فقيل: فسق(1)، وقيل: إثم، وقيل: خطأ، وهو المقطوع به في قضاء أبي بكر في فدك(2).
ولا يكفر ولا يفسق منكر كونهما حجة؛ إذ لا دليل، وإن قطع بخطئه.
فأما ما علم من ضرورة الدين كالعبادات الخمس ونحوها فمنكره كافر اتفاقاً.
__________
(1) قال الإمام يحيى بن حمزة في مقدمة (الانتصار): وأما إجماع العترة فهو حق وصواب لظاهر الآية والخبر، ولا يفسق من خالفه لعدم الدلالة على فسقه. والفسق إنما يكون بدلالة قاطعة شرعية، وليس في ظاهر الآية والخبر ما يدل على فسق من خالفه. وهل يكون قاطعاً فيما تناوله أم لا؟ فيه نظر وتردد، والأقرب أن دلالته ظنية، كظواهر الآيات القرآنية ونصوص السنة المنقولة بالآحاد، وكالإجماعات من جهة الأمة التي نقلت على طريق الآحاد، لما في ظاهر الآية والخبر ـ الدالين على كونه حجة ـ من الإحتمال. وإذا كان مظنوناً جاز مخالفته بالإجتهاد، ولهذا فإنك ترى كثيراً من المسائل التي وقع فيها إجماع العترة، الخلاف من جهة الفقهاء فيها ظاهر، والإجتهاد فيها مضطرب من غير نكير منا في المخالفة ولا تأثيم للمخالف ولا تحريج عليه، ولو كان إجماعهم قاطعاً لحرم الإجتهاد ولكان الخطأ مقطوعاً به. وفي هذا دلالة على كونه ظنياً وأنه لا يحرم الإجتهاد.أهـ.
(2) بناء على أنه خلاف إجماع العترة في ذلك العصر، وهم الأربعة عليهم السلام، ولم يطلع على حجة إجماعهم، أو اطلع ولكن رآها ظنية أو رآها قطعية، ولكن خصصها بما روى من حديث: "نحن معاشر الأنبياء" وهو قطعي عنده، والكلام هنا في مخالفة القطعي من اجماع العترة لا الظني، فتنبه لذلك.

(1/205)


ومنكر النص الجلي فاسق لا كافر، خلافاً (لأكثر الإمامية). ومنكر النص الخفي متأولاً مخطئ قطعاً، عند (جميع العترة، وشيعتهم)، واختلفوا، فجزم (أقلهم) بفسقه(1)، و(متأخروهم، وبعض قدمائهم) بتوليه(2)، وتوقف (جمهورهم)(3).
(178) فصل ومعارضه من الأدلة إن كان عقلياً لا يجوز تغييره، وجب /166/ تأويل الإجماع إن أمكن، وإلا قطع بكذبه على الأمة، وإنما يتقدر ذلك في ظنيِّه. وإن جاز تغييره، فالمعتبر الإجماع قطعياً كان أو ظنياً. وإن كان شرعياً، فإن كانا قطعيين؛ فقال (الحفيد، وغيره): يمتنع ذلك، إذ لا تعارض بين القواطع، والنسخ متعذر؛ لأن الإجماع لا يُنْسَخ ولا يُنْسَخ به، والمختار: اعتبار الإجماع دونه؛ لأنهم لا يجمعون إلا وقد علموا نسخه، وإن كانا ظنيين فإن أمكن تخصيص المعارض بالإجماع خصص به، لا عكسه، وكذا المعارض القطعي؛ لأن الإجماع لا يقبل تخصيصاً، وإن لم يمكن فالوقف حتى يظهر مرجح، أو الإطراح أو التخيير كما تقدم في النسخ. وإن كان أحدهما قطعياً والآخر ظنياً فالمعتبر القطعي.
وإذا تعارضت رواية الإجماع والخلاف في شيء حُمِلَتَا على الصدق إن أمكن، وإلا فرواية /167/ الخلاف أولى.
(179) فصل ومراتبه سبع:
__________
(1) ذكر في الحواشي منهم: الإمام أحمد بن سليمان، وقال الجلال: الظاهر أن حكمهم بالفسق إنما هو لتوهم الجلاء، وإلا فالحكم بفسق مخالف الخفي جزاف بيِّن.
(2) ذكر في الحواشي منهم: الإمام علي، والإمام زيد في رواية المؤيد بالله.
(3) ذكر في الحواشي منهم: الحسين، وعبد الله بن الحسن ،وأولاده الأربعة، وقال: وهو الأشهر عن زيد بن علي، وابنيه يحيى وعيسى، وأحمد بن عيسى، والصادق والباقر.. ثم قال: والأشهر أنه رأي أئمة أهل البيت وشيعتهم. وفي (تعليق الشرح): قال المؤيد بالله: ما أعلم أن أحداً من العترة يسب الصحابة، ومن قال ذلك فقد كذب.

(1/206)


[1] ما جرى عليه السلف والخلف، ولم يعلم فيه خلاف، وهو عزيز لا يكاد(1) يوجد إلا فيما علم من ضرورة الدين، كأصول الشرائع، وإنما لم يحتج إليه فيها لحصول ما هو أقوى منه.
[2] ثم ما انفرد به السلف.
[3] ثم ما لم ينقرض عصره.
[4] ثم ما افترقوا فيه على قولين، ثم اتفقوا على أحدهما.
[5] ثم ما افترقوا فيه على قولين ومضوا عليهما، ثم أتى التابعون بعدهم فأجمعوا على أحدهما.
[6] ثم ما أفتى به بعض وعلم البعض الآخر وسكتوا.
[7] ثم ما انعقد من أهل العصر معاً إلا واحداً أو اثنين.
ومسائله قليلة، فلتراجع بسائطها، وأكثرها ظني.

الأفعال

[11] باب الأفعال وما يجري مجراها
[بحث في عصمة الأنبياء]
(180) فصل اختلف في عصمة الأنبياء عليهم السلام، فعند (الإمامية، وبعض الفقهاء، والأشعرية): أنهم معصومون من الكبائر والصغائر عمداً وسهواً. (الإمامية) /168/: إلا على وجه التَّقِيَّة. (الحشوية، والكرامية، والخوارج، وبعض الأشعرية): غير معصومين عنها، وتقع منهم عمداً وسهواً. (أئمتنا، وجمهور المعتزلة، والغزالي): معصومون عن الكبائر، ويجوز عليهم الصغائر إلا ما فيه خسَّة(2)، فيمتنع اتفاقاً. وكذا ما يتعلق بالتبليغ كالكتمان.
واختلفوا في كيفية إقدامهم عليها، فعند (الهادي، وأبي علي، وأبي عبد الله، والقاضي): على جهة التأويل. (النظام، وابن مبشر)(3): على جهة السهو، وليس بمعفو عنه. (جمهور أئمتنا، وأبو هاشم): بل يقدمون عليها عمداً وسهواً، ولا يقرون عليها.
__________
(1) سقط من (أ): يكاد.
(2) في (ب): كسرقة بصلة. ويظهر أنها حاشية.
(3) ابن مبشر، هو: جعفر بن مبشر بن أحمد الثقفي، من كبار شيوخ المعتزلة، توفي سنة أربع وعشرين ومأتين. تاريخ بغداد 7/162.

(1/207)


(الجمهور): ويجب خفاؤها، ولا يعلمون صغرها إلا بعد فعلها، كالمكروه منهم على الأصح(1).
وانعقد الإجماع على عصمتهم من تعمد الكذب في الأحكام. وجوزه (الباقلاني) غلطاً(2).
واختلف في وقت العصمة، فعند (الإمامية، وبعض الفقهاء، والأشعرية) /169/ إنه وقت الولادة. (أبو الهذيل، وأبو علي، وجمهور الأشعرية): وقت النبوءة. والمختار وفاقاً (لجمهور المعتزلة): أنه وقت التكليف.
__________
(1) يعني أنه يجب خفاء الصغيرة منهم؛ لأنهم في موقع القدوة ولا يعلمون صغرها؛ لأن ذلك يعني إقدامهم عليها عمداً، وذلك كوقوع المكروه منهم فإنه يقع لكن يجب خفاؤه، وقيل: أقل أفعالهم الإباحة، وسيأتي.
(2) زعم الباقلاني أن المعجزة إنما تدل على صدق النبي فيما هو متذكر له عامد إليه، وأما ما كان من النسيان وفلتات اللسان، فلا يدخل تحت التصديق المقصود بالمعجزة، أنظر: أحكام الآمدي 1/224.

(1/208)


واختلف فيمن ثبتت منه، وفي كيفية ثبوتها، فقيل: ثبوتها من الله تعالى. ثم اختلفوا في الكيفية، فعند (أئمتنا، والمعتزلة) بالألطاف. وقيل: ببنية مخصوصة(1). وقيل: بمنعهم عن المعصية. وقيل: بل ثبوتها من النبي صلى الله عليه وآله وسلم. ثم اختلفوا في الكيفية، فقيل: باختيار نفسه، وقيل: مع اللطف منه تعالى. وقيل: بل ثبوتها من الله تعالى والنبي وكيفيته بخلق الداعي، واللطف منه تعالى، وبفعل الطاعات، واجتناب الكبائر، ومعناه معنى ما قبله، وليس بمستقل في الأظهر(2).
(181) فصل في حقيقة التأسي والإتباع والموافقة والمخالفة والائتمام.
فالتأسي: إِيْقَاعُ فعل بصورة فعل الغير، على الوجه الذي فَعَلَ، مع قصد اتباعه، أو تَرْكُه كذلك، ويكون فيهما دون القول(3)/170/.
__________
(1) يعني أن الله يركبهم على بنية لا يعصون معها.
(2) لعل الأقرب في معنى العصمة أنها فضل معرفة بالله، يتبعها سلوك مستقيم، على وفق إرادة الله تعالى، يدعمها في حق الأنبياء عليهم السلام الاتصال بالوحي، بما فيه من شدة تثبيت، بالإضافة إلى أنها رعاية منهم لمقام النبوة الذي اختصهم الله وأكرمهم به، فدواعيهم كبيرة لكي يكونوا على مستوى التكريم والمسئولية، هذا مع ما ينالونه من زيادة الهدى نتيجة لجهادهم وتحملهم المشاق العظيمة، وهكذا اجتمعت مجموعة دواعي وصوارف أنتجت العصمة.
(3) يعني أن التأسي الإتيان بمثل فعل الغير في شكله وعلى وجهه من وجوب أو ندب.. الخ، مع قصد التأسي لا مجرد الموافقة والصدفة، وكذلك التأسي في الترك، ولا يكون التأسي في القول.

(1/209)


(ابن خلاد): لا يشترط قصد الاتباع. (أبو طالب، والحفيد): ويشترط فيه العلم بصورة المتأسى فيه، ووجهه من المتأسى به(1)، فلا تأسٍ بالمصطفى صلى الله عليه وآله وسلم في نحو رد الوديعة(2). والمختار وفاقاً (لأبي الحسين): أنهما لا يشترطان، فنحن متأسون به في ذلك.
وأما اعتبار الزمان والمكان وطول الفعل وقصره في التأسي، فإن علم دخولها في قصد المتأسى به اعتبرت، كرمضان في الصوم، وعرفة في الوقوف، والطمأنينة في أركان الصلاة، واقتصاد الإمام في قراءتها، وإن علم عدم ذلك لم يعتبر، وإن التبس فمقتضى كلام (أبي طالب، والحفيد، وأبي عبد الله) اعتبارها، ومقتضى كلام (القاضي، وأبي الحسين، والشيخ) عدم اعتبارها(3).
والاتباع: المصير إلى ما تُعُبدنا به على الوجه الذي تُعُبِّدنا به، لأنا تعبدنا به، وهو أعم من التأسي /171/؛ لأنه يكون في القول، بمعنى: إنا نقول كقوله صلى الله عليه وآله وسلم، أو نعمل بمقتضاه من وجوب أو ندب أو غيرهما، وفي الفعل والترك كالتأسي من غير فرق.
والأظهر أن التأسي قد يكون في القول، وعلى هذا فلا فرق بينه وبين الاتباع.
والموافقة في القول: أن نقول كقوله، وإن لم يكن لأنه قال. وفي الفعل أن نفعل كفعله، وإن لم يكن لأنه فعل. وفي الترك أن نترك كتركه، وإن لم يكن لأنه ترك. وفي الاعتقاد كذلك(4).
والمخالفة: نقيض الموافقة.
__________
(1) يعني أنه يشترط ألاّ تعلم الصورة والوجه إلا من جهة المتأسى به.
(2) وذلك لعدم تعدد وجوهها؛ إذ ليس فيها غير وجه واحد.
(3) يعني أن المقصود في التأسي والإستنان هو الإتيان بصورة الفعل ووجهه بقصد الاتباع، وأما ظروف الفعل وأحواله الزائدة على صورته ووجهه فتدور مع القرينة ثبوتاً وعدماً، فإن التبست فقولان: تعتبر أو لا.
(4) يعني: فالفرق بينها وبين التأسي والاتباع أنهما بشرط؛ لأنه قال: أو فعل أو ترك، بينما الموافقة أعم، فكل اتباع وتأس موافقة ولا عكس.

(1/210)


والائتمام: الاتباع في صورة الفعل ووجهه(1) أو في صورته فقط عند قوم(2).
[السنة وأقساهما وأحكامها]
(182) فصل (أئمتنا، والجمهور): ويجب التأسي به صلى الله عليه وآله وسلم في غير ما وَضَحَ فيه أمر الجِبِلَّة، من أقواله وأفعاله وتروكه المتعلقة به(3) المعلوم وجهها مطلقاً، إلا فيما خصه دليل /172/. (الكرخي) وغيره: لا يجب ذلك مطلقاً، إلا فيما خصه دليل. (ابن خلاد): يجب في العبادات دون غيرها(4).
واختلف في طريق وجوبه، فعند (أكثر أئمتنا، والجمهور) سمعاً لا عقلاً. (الإمام، وغيره): بل عقلاً وسمعاً.
__________
(1) ولهذا لا يصح الاختلاف على الإمام فرضاً ونفلاً ولا فرضاً وفرضاً.
(2) وهم: الشافعية فيصح الائتمام عندهم مع الاختلاف في الوجه.
(3) لا المتعلقة بغيره، فسيأتي حكمها، وذلك كالتقرير ونحوه.
(4) هذا الفصل مهم جداً، وفيه تحديد السنة التي هي الطريقة، وفيها كما ترى ثلاثة أقوال: طرفان، ووسط. فالأوَّل أنها ما عدا الأفعال والتروك والأقوال التي تقتضيها طبيعة الإنسان كإنسان، فيجب التأسي سواء في العبادات أو غيرها (الدين والدنيا)، لدليل التأسي العام ?وما أتاكم الرسول..? الآية ?قل إن كنتم تحبون الله فاتبعوني..? الآية ?أطيعوا الله وأطيعوا الرسوله?، فالأصل وجوب التأسي إلا ما استثناه الدليل. الثاني: أنها ما قام الدليل الخاص على وجوب الاتباع فيه والتأسي بعينه؛ لأن العمومات السابقة مخصوصة اتفاقاً، ودلالة العموم المخصوص ظنية في الباقي مجازية كما تقدم، فالأصل عدم وجوب التأسي إلا ما خصه الدليل. الثالث: (الوسط) أن السنة هي العبادات وتفصيلاتها، فيجب التأسي فيها دون غيرها.

(1/211)


(183) فصل وما وقع منه(1) فواجب أو مندوب أو مباح، لا محرم كبير للعصمة، ولا صغير لخفائه، ولا مكروه لخفائه أيضاً(2)، وقيل: لندرته(3)، إلا أن يبينهما.
وهو على خمسة أقسام:
(الأول): ما وضح فيه أمر الجبِلَّة مما لا يخلو عنه ذو روح، كالأكل والشرب لا هيئتهما(4). وسبيله وسبيل أمته فيه الإباحة.
(والثاني): ما وضح تخصيصه به واجباً، كالوتر، والتهجد، والمشاورة، والسواك، والأضحية، وتخيير نسائه فيه. أو مباحاً، كالوِصَال(5)، والنكاح بلا مهر وشهود، وإلى تسع. أو محرماً، كخائنة الأعين، ونزع لامته حتى يقاتل(6).
(والثالث): ما وضح أنه بيان لمجمل، إما بقول، مثل /173/: (( صلوا كما رأيتموني أصلي )) (7) أو بقرينة كالقطع من الكوع(8). والأمة مثله فيه(9). وأما ما تردد بين الجِبِلِّي والشرعي كالركوب في الحج، فلا تأسٍ فيه.
(والرابع): ما علم وجهه من وجوب أو ندب أو إباحة، وليس مختصاً به، وهو محل الخلاف المتقدم(10).
__________
(1) يعني: وما وقع من النبي (ص).
(2) أي: لأنه يجب خفاؤهما كما تقدم.
(3) أي أنه لا مكروه في فعله؛ لأنه نادر والحكم للأغلب لا للنادر.
(4) كالأكل باليمين ومما يليه ونحو ذلك.
(5) في الصوم، وهو: صوم يومين أو أكثر بدون فطر.
(6) لامة الحرب: شكله ولبسته الخاصة كالدرع والمغفر ونحوهما.
(7) أخرجه الشافعي في المسند 55، والبيهقي في السنن الكبرى 2/345 عن مالك بن الحويرث.
(8) أي: قطع يد السارق، امتثالاً لقوله تعالى: ?والسارق والسارقة فاقطعوا أيديهما?.
(9) أي: فيما وضح أنه بيان لمجمل.
(10) الذي فيه الثلاثة الأقوال، وهو وما قبله حقيقة السنة.

(1/212)


(والخامس): ما لم يعلم وجهه عبادة كان أو غيرها، واختلف فيه، فعند (المنصور، وبعض المعتزلة، والشافعية، والحنابلة): أنه واجب في حقنا. (الشافعي، والجويني): مندوب. (بعض علمائنا، وعن مالك): مباح. وقيل: محظور. ومختار (أكثر أئمتنا، والجمهور): الوقف، ومن ثمة قال (أئمتنا): لا حجة في حكاية فعله أو تركه إذا لم يعرف وجههما. (ابن الحاجب): إن ظهر قصد القربة فندب، وإلا فمباح.
(184) فصل ويعلم وجه فعله صلى الله عليه وآله وسلم: بالضرورة من قصده، أو بنصه عليه، أو بوقوعه امتثالاً لدال على وجوب أو ندب أو إباحة /174/، أو بتسويته بينه وبين ما علم وجهه. وتعم هذه المعَرِّفات أنواع فعله الثلاثة(1).
ويخص الوجوب أماراته(2)، نحو: كونِهِ محظوراً عقلاً وشرعاً، لو لم يجب، كالحد(3). أو شرعاً كزيادة ركعة عمداً في مكتوبة. أو اسْتِحقَاقِ الذم على تركه.
والندبَ، (4) كونه مما له صفة زائدة على حسنه، ولا دليل على وجوبه. وإخلاله به بعد المداومة على فعله من غير نسخ. واستحقاق المدح على فعله دون الذم على تركه.
والإباحةَ، مجرد الحسن، كالفعل اليسير في الصلاة بعد تحريم الكثير.
__________
(1) أي: الوجوب والندب والإباحة.
(2) أي: العلامات التي تدل على الوجوب فقط.
(3) يعني: ما ليس فيه إلا وجهان: الوجوب، والخطر.. وليس مباحاً ولا مندوباً، فإن فعله حمل على الوجوب؛ لأنه لو لم يجب لحرم.
(4) أي: ويخص الندب.

(1/213)


(185) فصل وإذا عَلِمَ صلى الله عليه وآله وسلم بأمر من مكلف ( فعل أو قول)، ثم سكت عن إنكاره قادراً، فإن كان كمضي كافر إلى كنيسة، فلا أثر لسكوته اتفاقاً(1)، وإلا دَلَّ على الجواز إن لم يسبق تحريمه، وإن سبق تحريمه فنسخ إن لم يمكن التخصيص. فإن استبشر به فأوضح من السكوت في الجواز اتفاقاً، ولذلك /175/ تمسك (الشافعي) ـ في ثبوت النَّسب بالقِيَاَفة ـ بسكوته صلى الله عليه واستبشاره بقول المدلجي في قصة أسامة وزيد. ولا حجة له في ذلك عند (أئمتنا، وجمهور(2) الحنفية)، لأنهما(3) إنما يكونان حجة حيث يعلم الحكم منهما، لا من غيرهما، وهو هنا معلوم منه(4)، وإنما فعلهما لغرض جملي وهو حسم القالة بما يَلْزَم الخصم على أصله(5)، وتَرَكَ تبيين أنها ليست بطريق شرعي لظهور ذلك.
فأما سكوته مع عدم العلم، فليس بحجة، خلافاً (لبعض الظاهرية).
(186) فصل ويقع التعارض بين قوله وفعله، بحيث يمنع كل منهما مقتضى الآخر، فيكون أحدهما مخصصاً أو ناسخاً.
والقسمة العقلية تقتضي أن يكون وقوعه بين فعلين، أو قولين، أو فعل وقول، أو عكسه(6).
فأما الفعلان فإن كانا متماثلين كصلاتين في وقتين، أو مختلفين كصلاة وصوم، فلا تعارض بينهما اتفاقاً.
__________
(1) يعني: أن سكوته ليس تقريراً؛ لأنه منكر له من أصله.
(2) سقط من (أ): جمهور.
(3) أي: سكوته واستبشاره.
(4) أي: من غيرهما.
(5) لأنهم كانوا يقولون: زيد بن محمد، فجاءت القيافة وهم مؤمنون بها ـ على خلاف قولهم.
(6) يعني: أن القسمة العقلية تقتضي ثمانية أقسام، وإن لم تقع بالفعل جميعها.

(1/214)


واختلف في المتضادين كصوم وأكل /176/. (فأكثر أئمتنا، والجمهور) على أنه لا تعارض بينهما، لجواز الأمر بأحدهما في وقت، والإباحة في آخر، إلا أن يدل دليل على وجوب تكرار الأول عليه أو على أمته، أو عليه وعليهم. فالثاني ناسخ لحكم الدليل الدال على التكرار لا لحكم الفعل؛ لعدم اقتضائه التكرار(1). (المنصور، وأبو رشيد): بل يتعارضان. وهو(2) لفظي، إذ مراد منكري التعارض أنه لا يمكن فيهما بمجردهما، وهو اتفاق، ومراد مثبتيه أنه يكون فيهما باعتبار ما ينضم إليهما من القرائن اللفظية، وهو اتفاق.
وأما القولان فيتعارضان كما تقدم، فيكون أحدهما مخصِّصاً أو ناسخاً، وهو ظاهر.
وأما الفعل والقول ففيهما أربعة أقسام.
__________
(1) يعني: لأن الفعل لا يقتضي التكرار بنفسه، بل بدليل خارجي، فالنسخ له لا للفعل.
(2) أي: الخلاف بين القائلين بالتعارض ومنكريه.

(1/215)


(القسم الأول): ألاَّ يدل دليل على تكرار الفعل في حقه، ولا على تأسي الأمة به صلى الله عليه وآله وسلم، والقول إن خصه وتأخر فلا تعارض، وإن تقدم امتنع خلافاً (للأشعرية)(1)، وإن جُهِلَ /177/ فالمختار القول. وقيل: الفعل، وقيل: الوقف(2). وإن خص الأمة فلا تعارض مطلقاً(3) وإن عمه وعمهم، فإن كان بطريق التنصيص(4) وتأخر فلا تعارض لا في حقه ولا في حقهم، وإن تقدم فلا تعارض في حقهم، ويمتنع في حقه، خلافاً (للأشعرية)، وإن جُهل فكما تقدم. وإن كان بطريق الظهور(5) وتأخر فلا تعارض لا في حقه ولا في حقهم، وإن تقدم فالفعل تخصيص في حقه، ولا تعارض في حقهم، وإن جهل فالوقف.
__________
(1) لأنه يلزم أنه صلى الله عليه وآله عصى، فخالف مقتضي القول المتقدم.
(2) وذلك كأن يصلي ركعتين عقيب الظهر ـ والفرض ألاّ تكرار ولا تأسٍ ـ ثم يقول: لا تجب علي صلاة ركعتين عقيب الظهر، فواضح أنه لا تعارض لعدم تكرر الفعل في حقه وعدم تأسينا. أما لو قال: يجب علي صلاة ركعتين عقيب الظهر، ثم ترك، امتنع ذلك؛ لأنه عصيان لا يجوز عليه صلى الله عيله وآله، وعلى ذلك فقس الباقي.
(3) أي: سواء تقدم أو تأخر أو جهل.
(4) كأن يقول: يجب علي وعليكم فعل كذا.
(5) كأن يقول: يجب على كل مسلم، أو كل مكلف فعل كذا.

(1/216)


(القسم الثاني): أن يدل دليل على تكرر الفعل في حقه، وعلى تأسي الأمة به صلى الله عليه وآله وسلم، والقول إن خصه فلا تعارض في حق الأمة مطلقاً وفي حقه إن تأخر، فنسخ، وإن تقدم /178/ امتنع خلافاً (للأشعرية)، وإن جهل فالثلاثة كما تقدم(1)، وإن خص الأمة فلا تعارض في حقهم مطلقاً وفي حقه إن تأخر فنسخ، وإن تقدم امتنع خلافاً (للأشعرية)، وإن جهل فالمختار وفاقاً (للجمهور) العمل بالقول لاستقلاله، وقيل: بالفعل؛ لأنه يبين القول. (الإمام، والقاضي، وابن زيد، وغيرهم): بل يتعارضان فيرجح أحدهما على الآخر إن أمكن، وإلا رجع إلى غيرهما من الأدلة. وإن عمه وعمهم، فإن تأخر فنسخ، وإن تقدم امتنع خلافاً (للأشعرية)، وإن جهل فالثلاثة.
(القسم الثالث): أن يدل دليل على تكرر الفعل في حقه دون تأسي الأمة به، والقول إن خصه فلا تعارض في حق الأمة مطلقاً، وفي حقه إن تأخر فنسخ، وإن تقدم امتنع خلافاً (للأشعرية)، وإن جهل فالثلاثة على الخلاف المتقدم، وإن خص الأمة فلا تعارض مطلقاً، وإن عمه وعمهم فكذلك في حق الأمة مطلقاً، وفي حقه كما ذكر في الخاص به في القسم هذا(2)/179/.
(القسم الرابع): أن يدل دليل على تأسي الأمة به دون تكرار الفعل في حقه، والقول إن خصه وتأخر فلا تعارض، وإن تقدم امتنع خلافاً (للأشعرية)، وإن جهل فالثلاثة على الخلاف المتقدم، وإن خص الأمة فلا تعارض في حقه مطلقاً وفي حقهم إن تأخر، فكذلك على المختار. (ابن الحاجب): بل نسخ. وفيه نظر، وإن تقدم امتنع خلافاً (للأشعرية)، فإن جهل فالثلاثة على الخلاف المتقدم. وإن عمه وعمهم، فإن كان بطريق التنصيص وتأخر فلا تعارض لا في حقه ولا في حقهم، وإن تقدم امتنع خلافاً (للأشعرية)، وإن جهل فالمختار القول، وإن كان بطريق الظهور، فكذلك.
__________
(1) يعني: والمختار القول، وقيل: الفعل، وقيل: الوقف.
(2) يعني: لا تعارض في حق الأمة مطلقاً، وفي حقه إن تأخر فنسخ، وإن تقدم امتنع وإن جهل فالثلاثة.

(1/217)


(187) فصل في بيان ما تدل عليه أفعاله وتروكه المتعلقة بغيره
وفي الفعل أربع صور:
(الأولى): إقامته الحد على شخص، لا يدل على أنه فعل كبيرة قطعاً(1)، خلافاً (لأبي الحسين).
(الثانية): تناوله من طعام، هل يدل على حل مكسبه قطعاً؟ المختار أنه لا يدل على ذلك.
(الثالثة): إذا فعل/180/ في الصلاة فعلاً، فإن كان مما يفسد لو لم يكن مشروعاً كزيادة ركعة عمداً في مكتوبة دل على أنه مشروع فيها لغيره أيضاً، وإلا دل على أنه فعل قليل لا يفسدها، كوضعه الحسنين في الصلاة، وحمله أُمَامَةَ فيها.
(الرابعة): إذا أوقع بالغير نوعاً من العقوبات، كأخذ ماله، فإن كان ذلك لأمر معين فهو سببه(2)، وإلا فهو لسبب غير معين.
وفي الترك خمس صور:
(الأولى): تركه للإنكار على فاعل ما عُلِمَ حَظْرُه، يدل على إباحته له(3)، وأما لغيره فإن كانت الإباحة لسبب وشاركه الغير فيه، فهو مثله وإلا فلا، إلا لدليل.
(الثانية): تركه للفعل يدل على عدم وجوبه عليه وعلى أمته، إلا لدليل يدل على اختصاصه به دون أمته.
(الثالثة): تركه للقنوت والتشهد الأوسط مرة، لا يدل على عدم كونهما مشروعين لاحتمال السهو لا مع التكرار /181/ فيدل على ذلك فيهما.
(الرابعة): تركه لشيء من الفروض يدل على نسخه في حقه لا في حق غيره، إلا أن يتركه الغير مع علمه وتقريره.
(الخامسة): تركه قطع من سرق دون قدر نصاب السرقة، يدل على أنه لا قطع فيما دونه، فأما تركه قطع من سرق درعاً، فلا يدل على الترك فيها، لجواز سقوطه لشبهة دَارِئَةٍ.
وأقواله المتعلقة بغيره تأتي في الأخبار.
__________
(1) متعلق بِفَعَل، أي ليس من أقام عليه الحد مقطوعاً بأنه فعل كبيرة في الواقع؛ لأن أحكام الشريعة على الظاهر.
(2) يعني: فيقاس عليه مثله في ذلك السبب.
(3) أي: لذلك التارك فقط.

(1/218)


(188) فصل والفعل وإن لم يتطرق إليه كثير من أحكام اللفظ، كالعموم والخصوص، ففيه ما يشبه العموم ويحمل عليه، نحو أن يفعل فعلاً في وقت ولا يُعلم ولا يُظن ـ لشخص ولا حال ولا زمان ولا مكان ـ فيه خصوصيَّة، فيكون نسبته إليها(1) على سواء، وفيه ما يشبه الخصوص ويقر في موضعه كاستقباله بيت المقدس لقضاء الحاجة في العمران(2).
(189) فصل واختلف في تعبده صلى الله عليه وآله وسلم قبل البعثة. فعند (أئمتنا، وجمهور المعتزلة، وبعض الفقهاء): أنه لم يُتَعَبَّد قبلها /182/ بشرع. وقيل: بل متعبد. ثم اختلفوا فقيل: بشرع آدم، وقيل: نوح، وقيل: إبراهيم، وقيل: موسى، وقيل: عيسى، وقيل: بما ثبت أنه شرع. وتوقف (الإمام، والشيخ، والباقلاني، وبعض الشافعية). فأما بعد البعثة فعند (أكثر أئمتنا، والجمهور): أنه لم يكن متعبداً بشرع من قبله. (المؤيد، وأبو طالب، والمنصور، والفقهاء): بل متعبد بكل شرائع من قبله، إلا ما نسخ أو مَنَعَ منه مانع. وتوقف (أبو طالب، والشيخ، وابن زيد، وجمهور المتكلمين، والفقهاء) في كونه طاف وسعى وذكى قبل البعثة. وقطع (أبو رشيد) أنه لم يفعله. (والمنصور، وأئمة الأثر، وأبو علي في رواية) أنه فعل.

الأخبار

[12] باب الأخبار
(190) فصل لفظ (الخبر) حقيقةٌ في القول المخصوص، مجازٌ في غيره(3) على الأصح.
__________
(1) أي: إلى الأشخاص والأحوال والأزمنة والأمكنة، يعني فيعمها جميعاً.
(2) فالشخص: الاستقبال لبيت المقدس منه عليه السلام. والحال: كونه لقضاء الحاجة. والمكان: في العمران. فلا يتعدى إلى استقبال الكعبة من غيره في الخلاء، أو في أحدهما ونحو ذلك.
(3) كالإشارة والرموز، وكالخبر المسند إلى من ليس بمتكلم كقول الشاعر:
تخبرني العينان ما القلب كاتم ... من الغل والبغضاء بالنظر الشزر

(1/219)


(أئمتنا، والجمهور): ولا يمتنع حد الخبر. وهو: الكلام /183/ المحكوم فيه بنسبة خارجيةٍ(1) في أحد الأزمنة الثلاثة، مطابقة أو غير مطابقة. والإنشاء نقيضه. وقيل: يمتنع. ثم اختلفوا، فقيل: لعسره. وقيل: لجلائه.
وقد يَرِد بصورة الإنشاء(2)، والإنشاء بصورته(3). والمختار في نحو: بعت، وطلقت، إذا قصد بهما إيقاع الحكم حال النطق بها؛ أنها إنشاء(4)، خلافاً (لأبي حنيفة).
[أقسام الخبر عموماً وأسباب وقوع الكذب]
(191) فصل وينقسم الخبر إلى: صدق، وكذب. (أئمتنا، والجمهور): وينحصر فيهما. ثم اختلفوا في تفسيرهما.
والأكثر على أن الصدق هو المطابق للواقع إثباتاً أو نفياً(5)، سواء اعتقد المخبر مطابقته أو لا. والكذب غير المطابق فيهما(6)، سواء اعتقد كونه غير مطابق أو لا.
(النظام وموافقوه): بل الصدق المطابق لاعتقاد المخبِر ولو خطأ، والكذب مخالفه ولو صواباً، ولا عبرة فيهما(7) بمطابقة الواقع وعدمها(8).
__________
(1) يعني مُتَعَلَّق واقعي، خارج عن مجرد الكلام.
(2) كقوله تعالى: ?والوالدات يرضعن أولادهنّ?.
(3) كقوله تعالى: ?هل أدلكم على تجارة تنجيكم من عذاب أليم تؤمنون بالله ورسوله وتجاهدون في سبيله? أي: آمنوا وجاهدوا.
(4) لأنه لم يحكم فيها بنسبة خارجية، متقدمة على اللفظ مشاراً به إليها.
(5) فإذا قلت: زيد قائم، وكان قائماً بالفعل فأنت صادق، وكذلك إذا قلت: زيد ليس بقائم وليس بقائم بالفعل، فانت صادق أيضاً، وسواء اعتقدت أم لا، والكذب عكس ذلك.
(6) أي: في النفي والإثبات.
(7) أي: الصدق والكذب بالمطابقة وعدمها، بل هما باعتبار اعتقاد المخبر وعدمه، فإذا قال أحد: زيد قائم.. معتقداً ذلك فهو صادق، ولو لم يكن قائماً فعلاً والعكس.
(8) بسبب الاختلاف في هذه المسألة أن الجمهوري اعتبروا أن الألفاظ وضعت للتعبير عما في الواقع، واعتبرها النظام وموافقوه تعبيراً عما في الضمير، أما الجاحظ فيعتبر الألفاظ وضعت لما في الذهن ولما في الواقع.

(1/220)


(الجاحظ): لا ينحصر فيهما، بل بينهما واسطة، فالمطابق للواقع مع /184/ اعتقاد المطابقة صدق، وغير المطابق مع اعتقاد عدمها كذب، وما ليس كذلك - وهو أربعة أقسام(1) - فليس بصدق ولا كذب. وظاهر قول (الهادي عليه السلام) في الكذب كقوله. وهما(2) بتفسير الجاحظ أخص من التفسيرين الأولين(3). والخلاف معنوي، وقيل: لفظي، وتُؤوِّل(4) بأن المراد أنه مبحث لغوي. وقولهم: محمد صلى الله عليه وآله وسلم ومسيلمة صَدَقا أو كَذَبا كذبٌ على الأصح(5).
(192) فصل وينقسم: إلى ما يعلم صدقه، وإلى ما يعلم كذبه، وإلى ما يحتملهما.
(فالأول): ضروري: بنفس الخبر؛ كالمتواتر لفظاً أو معنى، وبغيره كالموافق للضروري(6)، واستدلالي: عقلي، كخبره تعالى(7) وخبر رسوله صلى الله عليه وآله وسلم(8)، وشرعي كخبر الأمة والعترة(9)، وكذا موافقهما(10).
(والثاني): نقيض ما علم صدقه(11).
__________
(1) وهي: مطابقة الواقع مع اعتقاد عدم مطابقته، ومطابقة الواقع بدون اعتقاد رأساً، وعدم المطابقة مع اعتقاد المطابقة، وعدم المطابقة بدون اعتقاد المطابقة.
(2) أي: الصدق والكذب.
(3) فكل صدق وكذب عند الجاحظ كذلك عند الأولين وكل ما هو صدق وكذب عند الأولين ليس كذلك عند الجاحظ الموجود الواسطة.
(4) أي: القول بأن الخلاف لفظي.
(5) لتضمنه إضافة الصدق والكذب إليهما جميعاً، وهو خلاف الواقع.
(6) وهو الموافق للبديهيات، كمن أخبر أن النار حارة، وأن الواحد نصف الإثنين.
(7) فإنه معلوم الصدق؛ لكونه تعالى حكيماً بالدليل القاطع العقلي.
(8) لكونه معصوماً لقيام دليل صدقه عقلاً، وهو المعجزة.
(9) فإنه لا يعلم عقلاً صدقه، بل بالدليل الشرعي القاطع.
(10) أي: موافق الاستدلال العقلي والشرعي، كذا في النظام. وفي الدراري: أي موافق الإجماعين المذكورين من الأخبار.
(11) أي: ما جاء مخالفاً للقاطع، من خبره تعالى أو خبر رسوله صلى الله عليه وآله سلم.

(1/221)


(والثالث): خبر الواحد وهو مما لم يُعلم(1) صدقه ولا كذبه /185/، وقد يظن صدقه كخبر العدل، أو كذبه كخبر الكذاب، أو يُشك كالمجهول، وقطع بعض الظاهرية بكذب كل خبر لا يعلم صدقه.
وقد كُذِبَ على نبينا صلى الله عليه وآله وسلم قطعاً. وسببه: الإلحاد في الدين، أو الرواية بما يتوهم أنه المعنى، أو رواية ما هو خاص على العموم، أو رواية ما حكي عن قوم على خلاف ذلك لعدم سماع أوله، أو الترغيب، أو الترهيب، أو تقرب إلى سلطان، أو انتصار لمذهب، أو نحوها(2).
__________
(1) في (ب): بما لا يُعلم.
(2) الإلحاد في الدين، كوضع الزنادقة أحاديث ليضلوا الناس، فقد ادعى بعضهم عند قتله أنه وضع أربعة آلاف حديث.
والرواية بما يتوهم أنه المعنى، مثل ما روي ابن عمر روى عن النبي (ص) أنه وقف على قليب بدر، فقال: "هل وجتم ماء وعدتكم حقاً". ثم قال: "أنهم الآن يسمعون ما أقول لهم". فذكر ذلك لعائشة فقالت: لا، بل قال: "إنهم الآن ليعلمون أن الذي كنت أقول لهم هو الحق".
ورواية ما هو خاص على العموم، كقوله صلى الله عليه وآله وسلم: "ولد الزنا شر الثلاثة". فبينت عائشة أنما قاله في ولد زنا وكان مع ذلك فاجراً.
ورواية خلاف المطلوب لعدم سماع أوله، نحو ما روي عن عائشة أن قوله صلى الله عليه وآله وسلم: "الشؤم في ثلاثة: المرأة والدار والفرس، كأن حكاية عن قول اليهود؛ لا أنه قال ذلك إنشاءاً.
والترغيب والترهيب، مثل ما يروى عن بعض الوعاض من المبالغة في الثواب والعقاب ونسبة ذلك إلى النبي صلى الله عليه وآله وسلم.
والتقرب إلى السلطان، كما يروى عن غياث بن إبراهيم، أنه وضع للمهدي في حديث لا: "سبق إلاَّ في نصل أو خف أو حافر". فزاد فيه: أو جناح.
والانتصار للمذهب، كما يرويه بعض المتعصبين: عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم أنه قال: "سيحيى أقوام من أمتي يقولون القرآن مخلوق، فمن قال ذلك فقد كفر بالله العظيم، وطلقت امرأته من ساعته".

(1/222)


ويحرم التساهل في أحاديث الفضائل ونحوها من غير بيان ضعفها أو بطلانها(1)، وكذا نسبة موافق القياس الجلي إليه صلى الله عليه وآله وسلم، خلافاً (لبعض أهل الرأي)، وفتيا الإمام ونحوها خلافاً (لبعض الإمامية).
وتعمُّد الكذب عليه صلى الله عليه وآله وسلم فسق لا كفر، خلافاً (للأمير الحسين، والجويني) وغيرهما.
[أقسام خبره صلى الله عليه وآله وسلم]
(193) فصل وينقسم خبره صلى الله عليه وآله وسلم إلى: قطعي، وهو: ما كان نصاً في دلالته متواتراً في نقله /186/، أو متلقى بالقبول على الأصح. وظني، وهو خلافه، كالآحادي.
والتواتر لغة: تتابع الأشياء مع تراخ بينها. واصطلاحاً: خبر جماعة يحصل العلم بخبرهم. ومنعت (السُّمَنيَّة)(2) من حصول العلم به لا الظن، ثم اختلفوا، فمنعه أكثرهم في الماضيات والحاضرات، وأقلهم في الماضيات فقط.
__________
(1) وهذا ما يفعله كثير من مصنفي المتأخرين، فيهتمون بجمع أحاديث الفضائل، سواء العامة أو الخاصة، دون بيان أحكامها، ولا حتى أسانيدها، وهذا تقصير لا ينبغي.
(2) قال في التعريفات/ 415: السمنية: فرقة تعبد الأصنام، وتقول بالتناسخ، وتنكر حصول العلم بالأخبار، نسبة إلى سومنات قرية بالهند على غير قياس.

(1/223)


واتفق العقلاء على حصول العلم به، ثم اختلفوا فعند (ائمتنا، وجمهور المعتزلة، والأشعرية، والفقهاء، والمحدثين): أنه ضروري(1)، وعند (البغدادية، والمطرفية، والملاحمية، وبعض الأشعرية، والفقهاء): أنه استدلالي(2)، وتوقف (الموسوي، والآمدي).
(194) فصل وشروطه المعتبرة:
ـ تعدد المخبرين تعدداً يمنع اتفاقهم على الكذب وتواطئهم عليه.
ـ واستنادهم إلى ضروري محسوس.
ـ وعدم سبق العلم بالْمُخْبَر عنه للمخبر ضرورة(3).
ـ واستواء عددهم في الطرفين والوسط في عدم النقص /187/ عن أقل عدد يحصل العلم بخبرهم.
__________
(1) أشار في الحواشي إلى أن هنالك روايتين عن الأئمة خصوصاً عن الهادي، إحداهما تفيد أنه ضروري، وأخرى تفيد أنه استدلالي، وذكر أن سبب الخلاف في ذلك ما في كلامه في البالغ المدرك، ولفظه كما في (شرح البالغ المدرك ص75): "ومن تراخت به الأيام عن لقائهم، وكان في غير أعصارهم، فالحجة عليه بتوالي الأخبار التي في مثلها يمتنع الكذب ولايتهيأ، وما نقل من الأخبار تستنكره العقول وتحيل أن يجيء به رسول، فسبيله الشذوذ والغلط في التأويل، ومعرفة مخرج الخاص من العام والمحكم من المتشابه" أهـ.
(2) قالوا: لأن ضرورته إن كانت بديهية وجب أن لا يُختلف فيها، وإن كانت استدلالية فإن كانت مقدماتها بديهية فكذلك، وإن كانت استدلالية فلا تتيح الضرورة، وإنما تتيح الجزم، والجزم لا يستلزم المطابقة.
(3) كأن تشاهد زيداً قائماً ثم تخبر تؤثراً بذلك.

(1/224)


ومعنى كونها شروطاً عند من جعله ضرورياً(1)؛ أنه تعالى لا يخلقه إلا عندها بمجرى العادة(2)، وضابط العلم بحصولها حصول العلم(3). وعند من جعله استدلالياً أنها شروط في نفس حصوله، فيجب تقدم معرفتها، وهو ضابط حصول العلم.
ثم العدد قد يكون ناقصاً لا يحصل العلم عنده، وزائداً يحصل بدونه، وكاملاً بحيث لو نقص لم يحصل العلم، ولو زاد لكان فَضْلَة. والمختار وفاقاً للمحققين: أنه غير معلوم لنا(4). وضابطه ما حصل العلم عنده. ويختلف باختلاف أحوال المخبرين والمستمعين والوقائع(5). وقيل: بل هو معلوم لنا.
__________
(1) أي: من الجبرية، ومن البصرية الذين يجعلون الله تعالى فاعلاً للمسبب بفعله السبب، فإذا حصلت شروط العلم خلقه الله إذ لا يقع شيء إلا بخلقه، وعند البغدادية - ومنهم المطرفية - أن العلم حاصل بطبع المحل ضرورة، فهناك تلازم طبيعي بين السبب والمسبب دون تدخل إلهي مباشر.
(2) إنما ذكر هذه الجملة لأن من يقول إنه استدلالي، احتج بأن حصوله يتوقف على علم المخبرين بالمشاهدة، وعلى أنهم عدد لايمكن لمثلهم التواطؤ على الكذب إلى آخر ما هنالك من الشروط، وما كان كذلك فهو كسبي لا ضروري؛ لأن الضروري لا يتوقف على شيء. وبهذا اضطر من قال بأنه ضروري إلى القول بأنه يحصل العلم من غير هذه الشروط، إذ أن الله لا يخلقه إلاَّ عندها كما ذكر المؤلف.
(3) يعني: فحصول العلم بالخبر المتواتر متوقف على حصول الشرائط، فإذا حصل العلم كشف عن وجودها، لا أن حصوله متوقف على العلم بها.
(4) أي: أنه غير معلوم لنا حصول العلم بعدد معين.
(5) وهذا ما أكده غير واحد من علماء الزيدية كالإمام عبد الله بن حمزة والحفيد.

(1/225)


واختلف في أقله، فقيل: أربعة. وقطع (أئمتنا، والشافعية، والباقلاني) بنقصها. (الجمهور): خمسة، وهو المختار. وقطع (القاضي، وأبو رشيد) بنقصها، وتوقف (الباقلاني). وقيل: سبعة. (الأصطخري)(1): عشرة، وقيل: اثنا عشر. (أبو الهذيل): عشرون /188/. وقيل: خمسة وعشرون، وقيل: أربعون. وقيل: سبعون، وقيل: مائة. وقيل: ثلاثمائة وبضعة عشر.
(أبو الحسين، والباقلاني، وغيرهما): وكل عدد أخبر شخصاً بواقعة فحصل له العلم عند خبره، ثم أخبر(2) بها غيره فإنه يجب حصوله للغير، وكذا عند إخبار ذلك العدد أو مثله بواقعة أخرى ذلك الشخص أو غيره(3). وقيل: لا يجب ذلك(4). (المؤيد بالله، والمنصور، والصاحب(5)، وأبو رشيد، والحفيد): يجب ذلك في العدد الكثير لا القليل(6).
__________
(1) الاصطخري، هو: الحسن بن أحمد بن يزيد أبو سعيد الاصطخري، ذكره السبكي في طبقات الشافعية 3/230، توفي سنة ثمان وعشرين وثلاثمائة. طبقات الفقهاء 1/119.
(2) ثم أخبر، أي: ذلك العدد بالواقعة غير ذلك الشخص.
(3) يعني: أنه يطَّرد، فما أفاد العلم في واقعة ما لشخص ما، أفاد العلم لغيره في غيرها، بمعنى أنه لا يختلف باختلاف الوقائع والأشخاص.
(4) قال في الحواشي: وهو الأصح على ما قرره سابقاً من أنه يختلف باختلاف المخبر والمستمع والحال.
(5) الصاحب، هو: إسماعيل بن عباد بن العباس الطالقاني المعروف بالصاحب كافي الكفاة أبو القاسم، من مشاهير العلماء والأدباء، تولى الوزارة للملك مؤيد الدولة بن بويه، وكانت علاقته بأئمة الزيدية والمعتزلة متينة، وله كتب وأخباره كثيرة، توفي سنة خمس وثمانين وثلاثمائة.
(6) هذا كلام قوي في المتواتر، لا فيما يفيد العلم، إلا أنه يشكل عليه حد الكثير، فهو غير منضبط.

(1/226)


(195) فصل (أئمتنا، والجمهور): ولا يشترط ألاَّ يحويهم بلد، وألاَّ يجبروا على الصدق، وألاَّ يسبق إلى المخبر اعتقاد خلاف خبرهم لشبهة أو تقليد، ولا إسلام، ولا عدالة، ولا اختلاف دين ونسب ووطن، ولا كونهم معصومين، ولا وجود معصوم، أو أهل ذلة فيهم(1).
(196) فصل وينقسم إلى: متواتر لفظاً ومعنىً، ومتواتر /189/ لفظاً ومعناه مختلف فيه، كخبري (الغدير) (2) و(المنزلة) (3). ومتواتر معنى وفي لفظه اختلاف، وهو ما اتفق عليه بتضمن أو التزام عند اختلاف الوقائع، كشجاعة علي عليه السلام، وجود حاتم، ويسمى: التواتر المعنوي(4)
__________
(1) الذي يفهم من كلام الإمام الهادي في (البالغ المدرك) أنه لا بد أن يكونوا غير متفقين، فليراجع في (البالغ المدرك).
(2) حديث الغدير معروف مشهور رواه الإمام الهادي في كتاب العدل والتوحيد 69، وأبو طالب في الأمالي 33، وقال المقبلي في (الأبحاث المسددة 244): عزاه السيوطي في الجامع الكبير إلى: أحمد، والحاكم، وابن أبي شيبة، والطبراني، وابن ماجة، وابن قانع، والترمذي، والنسائي، وابن أبي عاصم، والشيرازي، وأبي نعيم، وابن عقدة، وابن حبان، والخطيب. ثم قال المقبلي: نعم فإن كان مثل هذا معلوماً وإلا فما في الدنيا معلوم. وانظر (لقط اللآلي المتناثرة في الأحاديث المتواترة) للزبيدي 205.
(3) أخرج البخاري 5/99 و 6/18، ومسلم 4/1870 (2404)، والترمذي 5 رقم (3731)، ومحمد بن سليمان الكوفي في المناقب رقم (419)، وأبو طالب 35 عن سعد بن أبي وقاص قال: قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم لعلي: " أنت مني بمنزلة هارون من موسى إلا أنه لانبي بعدي" . ورواه الهادي في كتاب (العدل والتوحيد 19) مرسلاً.
(4) قال الإمام أبو طالب في (شرح البالغ المدرك 78 ـ 79) الأخبار المروية عن النبي (ص) أربعة أقسام: خبر متواتر من جهة اللفظ والمعنى، معلوم منهما جميعاً، وذلك كالخبر المروي في ركعتي الفجر في صلاة الفجر، وفي وجوب خمسة دراهم عند تمام النصاب. والقسم الثاني: متواتر من جهة اللفظ، والمعنى مختلف فيه، كقوله عليه السلام: "من كنت مولاه فعلي مولاه"، وقوله صلى الله عليه وآله وسلم: " أنت مني بمنزلة هارون من موسى إلا أنه لانبي بعدي"، فلفظ هذا الخبر منقول متواتر، ومعناه مختلف فيه، فهذان القسمان يقبلان في أصول الدين وفروعه، وهما كآية من القرآن في كونهما حجة. اهـ.

(1/227)


.
والثلاثة مقبولة في أصول الدين وفروعه (1).
(197) فصل والمتلقى بالقبول ما حكم بصحته المعصوم، كالأمة(2)، فعلم صدقه بالنظر. (أكثر أئمتنا، وأبو هاشم، والقاضي، والغزالي، وبعض المحدثين): وهو قطعي كالمتواتر. الجمهور: بل هو ظني(3). (أبو طالب): قطعي في ابتداء الحكم لا في نسخه للمعلوم.
(198) فصل والآحادي ما ليس بمتواتر ولا تُلُقي بالقبول. فإن رواه فوق عدلين ولم يتواتر ولا تلقي بالقبول فمشهور مستفيض. أكثر (أئمتنا، والجمهور): ولا يحصل به العلم بدون قرينة ولا معها، وقيل: قد يحصل. ثم اختلفوا، فعند (أحمد، والظاهرية): يحصل ولو بدون قرينة. (أحمد): ويطّرد. (المؤيد بالله، والمنصور في رواية، والإمام، وغيرهم من علمائنا، والنظام، وبعض الأشعرية) /190/: يحصل لكن مع قرينة، كما إذا أُخبر ملك بموت ولد له مدنف مع صراخ وانتهاك حريم ونحو ذلك.
(199) فصل وما أخبر به واحد بحضرة خلق كثير، ولم يكذبوه، وعلم أنه لو كان كذباً لعلموه، ولا حامل لهم على السكوت، فهو صدق قطعاً للعادة(4). وكذا ما أخبر به بحضرة النبي صلى الله عليه وآله وسلم مما يتعلق بشريعته أو معجزاته أو نحو ذلك ولم ينكره، خلافاً (لابن الحاجب، وغيره).
__________
(1) أما ما تواتر لفظاً ومعنى أو معنى دون اللفظ فهو قريب، وأما ما اختلف في معناه ففيه نظر؛ لأن معناه يكون حينئذٍ ظنياً؛ لأن قطعية المتن لا تستلزم قطعية الدلالة، والأصول لا يقبل فيها الظن.
(2) وذلك بأن تكون الأمة بين مصحح له وعامل بموجبه.
(3) قالوا: لأن المعصوم إنما يعصم عن مخالفة ما وجب لا عن مخالفة ما طلب.
(4) أي لأن العادة تقضي بأنه لو كان كذباً لكذبوه، وبأن سكوتهم ولا حامل لهم تصديق.

(1/228)


وما صرح بتكذيبه جَمْعٌ يستحيل تواطؤهم عليه عادة، أو صادم قاطعاً، أو بُحِثَ عنه فلم يوجد عند أهله، غير مستندين في فقده أو رده إلى أصل مرفوض (1) فكذب.
وكذا خبر المنفرد بما تتوفر الدواعي إلى نقله، وقد شاركه فيه خلق كثير، خلافاً (للإمامية، والبكرية). والتوفر إما لتعلقه بالدين، كأصول الشريعة، أو لغرابته، كقتل الخطيب على المنبر، أو لمجموعهما، كمعارضة القرآن وظهور المعجز على مسيلمة.
وليس من ذلك خبر /191/ (الغدير) و(المنزلة)، لتواترهما لمن بحث، ولا يلزم استمراره إلا مدة استغرابه، كنتق الجبل، وانشقاق القمر، وتسبيح الحصا ونحوها.
(200) فصل (أئمتنا، والجمهور): والتعبد بخبر الواحد العدل جائز. ثم اختلفوا في وقوعه، فعند (أحمد، وابن سريج، وأبي الحسين، والقفال): يجب عقلاً وسمعاً. وعند (أئمتنا، والمعتزلة، والطوسي، والأشعرية): يجب سمعاً فقط، والعقل مجوز. (البغدادية، والإمامية، والظاهرية، والخوارج): ممتنع سمعاً، وإن جاز عقلاً. وقيل: ممتنع عقلاً، ونسبته إلى (أبي علي) غلط، وقيل: عقلاً وسمعاً.
ودليل التعبد به قطعي(2)، ولا يفسق منكره؛ إذ لا دليل، وإن قطع بخطئه(3). واتُّفق على وجوب العمل به في الفتيا والشهادة، وما قدح به (الرازي) في العمل به فلا يُسْمَع.
(201) فصل وشروطه المعتبرة الراجعة إلى المخبر أربعة:
__________
(1) مثال الاستناد في فقده أو رده إلى أصل مرفوض: أن يردّ الحديث أو يقال بعدم وجوده؛ لأنه ليس في الكتب الستة المعروفة.
(2) هذه إشارة إلى أن دليل التعبد بالآحاد هو إجماع الصحابة.
(3) هذه مسألة مهمة جداً تحتاج إلى البحث والنظر، وذلك لأن أغلب السنة ثبتت بطريق الآحاد، والمقصود بالخلاف المذكور خبر الواحد لا الإثنين فصاعداً، والمهم هنا ما ذكره المصنف من عدم جواز التفسيق به، وكذلك ما يهول به بعض القاصرين من دعوى مخالفة السنة على من لم يوافق منهجهم في السنة ثبوتاً أو دلالة.

(1/229)


(الأول): التكليف، وإن سَمِعَ قبله، وفاقاً (للجمهور) كالشهادة. واختلف في المراهق /192/ المميز، فعند (المؤيد بالله) يقبل، وهو مقتضى مذهب من أوجب العمل به عقلاً. (أبو عبد الله، والغزالي، والرازي): لا يقبل. وقبول شهادة بعضهم على بعض في الجنايات مستثنى عند قابلها؛ لكثرتها بينهم منفردين.
(والثاني): الإسلام؛ وإن سمع قبله، فلا يقبل كافر التصريح إجماعاً، ومن قبل شهادة بعضهم على بعض مطلقاً أو مع اتحاد الملة لا يقبل روايتهم.
واختلف في كافر التأويل /193/، وهو: من أتى من أهل القبلة ما يوجب كفره غير متعمد كالمشبِّه، فعند (بعض أئمتنا، وأبي الحسين، والرازي، وجمهور الفقهاء): أنه يقبل. وعند (جمهور أئمتنا، والمعتزلة، والمحدثين، والغزالي، والباقلاني): لا يقبل، وعن (القاسم، والهادي) روايتان. و(للمؤيد) قولان أظهرهما القبول.
(والثالث): العدالة، فلا يقبل فاسق التصريح إجماعاً. واختلف في فاسق التأويل، وهو: من أتى من أهل القبلة ما يوجب فسقه غير متعمّد كالخوارج، فعند (بعض أئمتنا، وأبي الحسين، والقاضي، والغزالي، وأكثر الفقهاء): أنه يقبل. وعند (بعض أئمتنا، ومالك، والشيخين، والباقلاني): لا يقبل. وتوقف (أبو طالب). وقيل: يقبل دون الكافر.

(1/230)


ويستثنى من كفار التأويل وفساقه ـ عند قابلهم ـ من يجوز الكذب، إن لم نقل بكفره أو فسقه تصريحاً كالسالمية(1) والكرامية(2) والخطابية(3) ونحوهم.
ولا يقبل من أظهر التأويل وأقواله وأفعاله تدل على تعمد مخالفته الحق كمعاوية.
(الباقلاني): وهما(4) سلب أهلية. (أبو حنيفة): بل مظنة تهمة. (الشافعي): الكفر سلب أهلية، والفسق مظنة تهمة.
وأما من لم يكفر ولم يفسق ببدعته كالمختلفين في بعض مسائل الأصولين(5)، وإن ادعى كل منهم القطع بمذهبه /194/، فمقبولون إجماعاً، وكذا من أتى مظنوناً من الفروع المختلف فيها مجتهداً أو مقلداً كشرب ما لا يسكر من النبيذ، وتقبل شهادته أيضاً إجماعاً، ولا وجه لتفسيقه، ولا لتسميه ذلك فسقاً مظنوناً للقطع بأنه ليس بفاسق؛ إذ لا قاطع. وقول (الشافعي): أقْبَلُ شهادة الحنفي وأحُدُّه إذا شرب النبيذ. فيه نظر، إذ لا يُحَدّ بمباح عنده.
(والرابع): رجحان ضبطه الظاهر على سهوه، فإن استويا قُبِلَ عند (القاضي، وابن زيد، والشافعية)؛ إلا أن يعلم سهوه فيه، ورُدّ عند (أكثر أئمتنا، والجمهور). وقال (المنصور، والإمام، وابن أبان): محل اجتهاد.
__________
(1) السالمية: جماعة من متكلمي البصرية، ينسبون إلى أبي الحسن بن سالم، صاحب سهل بن عبد الله التستري، أثنى عليهم ابن تيمية. وقال غيره :إنهم من جملة الحشوية.
(2) الكرامية: نسبة إلى محمد بن كرام السجستاني، المتوفى (255 هـ)، لهم مقالات في التجسيم شنيعة. وذكر السمعاني أنهم يقولون بجواز وضع الحديث على رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم.
(3) الخطابية: أتباع أبي خطاب الأسدي، قالوا الأئمة أنبياء، وأبو الخطاب نبي، وهؤلاء يستحلون شهادة الزور لموافقيهم على مخالفيهم، وقالوا الجنة نعيم الدنيا. كذا في (التعريفات 316).
(4) أي: الكفر والفسق.
(5) يعني أصول الدين وأصول الفقه، ومثل لذلك بالقول بأن العوض لا يقطع الثواب، وكالإختلاف في مسألة الإمامة.

(1/231)


وتشارك الشهادة الرواية في اعتبار هذه الشروط الأربعة. وتختص الشهادة باعتبار عدم العداوة للمشهود عليه، واعتبار العدد والتحليف عند معتبره. وتختص الرواية /195/ بقبول الفرع مع إنكار أصله(1)، والترجيح بالكثرة.
(202) فصل والعدالة الإتيان بالواجبات وترك كبائر المقبحات، وما فيه خِسَّة.
واختلف في الكبيرة، فعند (أئمتنا، والطوسي، وبعض البغدادية) أنها ما توعد عليه بعينه(2). (البصرية): ما وجب فيه حد أو نُصَّ على كِبَرِه. (الإسفرائيني، ومن وافقه على نفي الصغائر كالخوارج): بل هي كل ذنب. (الناصر، وبعض البغدادية): كل عمد.
__________
(1) يعني: قبول رواية التلميذ عن الشيخ، حتى وإن أنكرها الشيخ، هذا إذا كان التلميذ معروف العدالة على تفصيل في ذلك سيأتي.
(2) كالزنا ونحوه، لا ما ورد في وعيد عام، كقوله تعالى: ?ومن يعص الله ورسوله ويتعد حدوده ندخله ناراً..?، فلا تصلح دليلاً لمن قال إن كل معصية متعمدة كبيرة عند هؤلاء.

(1/232)


وعَدَّ منها (الهادي، وولده أحمد(1)، وغيرهما): الشرك وقتل النفس عمداً، وقذف المحصنة، والزنا، والفرار من الزحف، وأكل مال اليتيم، وأخذ الربا، واللواط، وشرب الخمر، والسرقة، وزاد (الهادي) تشبيه الله بخلقه، وتجويره(2)، والكذب على الله ورسوله والإمام العادل عمداً، والبغي عليه، ثم قال: ونحوها مما توعد فاعله بالنار. وزاد (ابنه أحمد): التَّعرُّب بعد الهجرة، وعقوق الوالدين /196/ المسلمين، وكتم الشهادة لغير عذر، والفساد في الأرض، وأذى المسلم، وأكل الميتة، والرياء، واليمين الغموس، والرشوة على واجب أو محظور، وغل الزكاة، وأخذ مال الغير إذا كان قدر نصاب السرقة. وقال (الهادي، والناصر): مطلقاً. (المؤيد): وتكفير المؤمن أو تفسيقه. (أئمتنا): وترك الصلاة، والفطر في رمضان لغير عذر. (القاضي زيد(3)، وأبو مضر): وفطر النذر المعيَّن. (أبو مضر): وغير المعين. (بعض أئمتنا): ونقض العهد. (الإمام): وقتل المحرِم الصيد عامداً. (الشافعية): والنميمة، وقطع الرحم، والخيانة في الكيل والوزن، وتقديم الصلاة وتأخيرها، وسب الصحابة، والدياثة، والقيادة، والسعاية، ويأس الرحمة، وأمن المكر، والظهار، وأكل لحم الخنزير، والغلول.
(الناصر، والمنصور، والبستي، وغيرهم): والأصل في المعصية الكبِرَ. (الشافعية): بل الصغر، والمختار /197/ تجويزهما حتى يقوم دليل.
__________
(1) أحمد بن الامام الهادي، هو: الإمام الناصر لدين الله أحمد بن يحيى بن الحسين، أحد أئمة الزيدية في اليمن، تسلم الأمر بعد أن تخلى عنه أخوه المرتضى، وله مؤلفات في الفقه والعقيدة، توفي سنة خمس وعشرين وثلاثمائة.
(2) أي: نسبة الجور إليه.
(3) القاضي زيد، هو: القاضي العلامة الكبير زيد بن محمد بن الحسن الكلاري، نسبة إلى كلار من بلاد الجيل، أحد علماء الزيدية المبرزين في القرن الخامس، أخذ عن المؤيد بالله وأبي طالب، وله كتب في مختلف الفنون، لم أقف له على تاريخ وفاة.

(1/233)


(203) فصل واختلف في رواية المجهول، ويطلق على: مجهول العدالة، أو الضبط، أو النسب، أو الاسم. فعند (محمد بن منصور(1)، وابن زيد، والقاضي في العُمَد، والحنفية، وابن فورك): يقبل مجهول العدالة، وهو أحد احتمالي (أبي طالب، وأحد قولي المنصور). وعند (أئمتنا، والجمهور): لا يقبل إلا مجهول الصحابة. (المنصور): أو مجهول التابعين. فأما مجهول النسب، أو الاسم فمقبول على الأصح. ومجهول الضبط لا يقبل.
(204) فصل (أئمتنا، والجمهور): ولا يشترط الذكورة، ولا البَصَر، ولا عدم القرابة، والعداوة، ولا عرضه على الكتاب، ولا الإكثار من الحديث، ولا معرفة النسب، ولا العلم بفقه أو عربية أو معنى الحديث، ولا موافقة القياس إذا لم يكن الراوي فقيهاً، ولا كونه الإمام المنصوص عليه، ولا كونه من أهل البيت /198/، ولا العدد.
(أبو علي): لا يقبل إلا عدلان فصاعداً، ثم كذلك حتى ينتهي إلى النبي صلى الله عليه وآله وسلم، لا عدل واحد، إلا أن يعضده ظاهر الكتاب أو السنة أو عمل بعض الصحابة أو قياس أو اجتهاد منتشر. وقيل: أشترط في الزنا أربعة، وفي الأموال ونحوها عدلين، كالشهادة فيهما، وللوصي عليه السلام في أحوال الرواة تفصيل يتوجه معرفته(2)
__________
(1) محمد بن منصور، هو: الإمام الحافظ محدث الزيدية وحافظ علوم الآل، محمد بن منصور بن يزيد المقري المرادي الكوفي، شيخ الأئمة وتلميذ الأئمة، له كتب كثيرة، ذكرها ابن النديم وغيره، توفي رحمه الله قرب سنة تسعين وثلاثمائة، وما يروى عنه من قبول المجاهيل ليس دقيقاً، أنظر تفصيل ذلك في مقدمة كتاب الذكر بتحقيقنا.
(2) وذلك ما روي عنه في نهج البلاغة أنه قال: إن في أيدي الناس حقاً وباطلاً، وصدقاً وكذباً، وناسخاً ومنسوخاً، وعاماً وخاصاً، ومحكماً ومتشابهاً، وحفظاً ووهماً، ولقد كُذب على رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم على عهده، حتى قام خطيباً فقال: "من كذب علي متعمداً فليتبوأ مقعده من النار".

وإنما أتاك بالحديث أربعة رجال ليس لهم خامس:
رجل منافق: مظهر للإيمان، متصنع بالإسلام، لا يتأثم ولا يتحرج، يكذب على رسول اللّه صلى اللّه عليه وعلى آله وسلم متعمداً، فلو علم الناس أنَّه منافق كاذب لم يقبلوا منه، ولم يصدقوا قوله، ولكنهم قالوا: صاحب رسول اللّه صلى اللّه عليه وعلى آله وسلم رآه وسمع منه ولقف عنه، فيأخذون بقوله، وقد أخبرك اللّه عن المنافقين بما أخبرك، ووصفهم بما وصفهم به لك، ثُمَّ بقوا بعده عليه السلام فتقربوا إلى أئمة الضلال، والدعاة إلى النار بالزور والبهتان، فولوهم الأعمال، وجعلوهم حكاماً على رقاب الناس، وأكلوا بهم الدنيا، وإنما الناس مع الملوك والدنيا، إلاَّ من عصم اللّه، فهذا أحد الأربعة.
ورجل: سمع من رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم شيئاً لم يحفظه على وجهه، فوهم فيه، ولم يتعمد كذباً، فهو في يديه يرويه ويعمل به، ويقول: أنا سمعته من رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، فلو علم المسلمون أنه وهم فيه لم يقبلوه منه، ولو علم هو أنه كذلك لرفضه.
ورجل ثالث: سمع من رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم شيئاً يأمر به، ثم نهى عنه وهو لا يعلم، أو سمعه ينهى عن شيء ثم أمر به وهو لا يعلم، فحفظ المنسوخ ولم يحفظ الناسخ، فلو يعلم أنه منسوخ لرفضه، ولو علم المسلمون إذ سمعوه منه أنه منسوخ لرفضوه.
وآخر رابع: لم يكذب على الله ولا على رسوله، مبغض للكذب خوفاً من الله، وتعظيماً لرسول الله، ولم يَهِم، بل حفظ ما سمع على وجهه، فجاء به على ما سمعه، لم يزد فيه ولم ينقص منه، وحفظ الناسخ فعمل به، وحفظ المنسوخ، فجنب عنه، وعرف الخاص والعام فوضع كل شيء موضعه، وعرف المتشابه والمحكم.
وقد كان يكون من رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم الكلام له وجهان: فكلام خاص، وكلام عام، فيسمعه من لا يعرف ما عنى الله به، ولا ما عنى به رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، فيحمله السامع ويوجهه على غير معرفة، وما قصد به وما خرج من أجله".أهـ.

(1/234)


.
[طرق للجرح والتعديل]
(205) فصل وللتعديل طرق، أعلاها: حكم الحاكم - المشترط للعدالة - بشهادة الراوي. ثم قول المزكي: هو عدل لكذا(1). ثم عمل العالم الذي لا يقبل المجهول بروايته على الأصح. ثم رواية العدل عنه، واختلف فيها، فقيل: تعديل مطلقاً، وقيل: ليست بتعديل مطلقاً. والمختار أنه إن كان لا يروي إلا عن عدل فتعديل /199/، وإلا فلا.
(206) فصل والجرح ارتفاع أحد أركان العدالة، وله طرق، أعلاها: التصريح به مع ذكر السبب، ثم التصريح من دونه، وليس منه ترك الحاكم العمل بشهادته. ولا العالم العمل بروايته؛ لجواز معارض. ولا العمل بقول في مسائل الاجتهاد ونحوها(2). ولا التدليس على الأصح(3)، فأما الحد في شهادة الزنا لانخرام النصاب فجارج على المختار.
(207) فصل واختلف في اشتراط العدد في التعديل والجرح في الرواية والشهادة، فعند (المؤيد، والباقلاني): يثبتان بواحد فيهما(4)، وعند (بعض المحدثين) لا يثبتان به فيهما. والمختار ـ وفاقاً (للجمهور) ـ ثُبوتهما بواحد في الرواية لا في الشهادة، فيعتبر فيها اثنان فيهما(5).
__________
(1) أي: مع بيان سبب العدالة.
(2) أي لا يجرح بسبب عمله بقول ما في مسائل الاجتهاد، كشرب الحنفي للنبيذ، وصلاة الشافعي متلبساً بالمني، وخروج الزيدي على أئمة الجور، ونحو ذلك.
(3) أي: ليس التديس جرحاً.
(4) أي: الرواية والشهادة.
(5) أي: من الجرح والتعديل.

(1/235)


(الباقلاني): ويكفي في الرواية الإطلاق فيهما(1). وقيل: لا بد من تعيين سببهما. (الشافعي): يكفي في التعديل دون الجرح. وقيل عكسه /200/. (بعض أئمتنا، والجويني، والغزالي، والرازي): إن كان عالماً بأسبابها كفى الإطلاق، وإلا فلا، وهو المختار، لكن يشترط اتفاق الجارح والمجروح مُعْتَقَداً في الجرح(2).
(208) فصل وإنما يقبلان(3) من عدل لا يحمله عليهما هوىً فيمن يحتملهما(4)، وإذا تعارضا قُدِّم الجارح إن كان عدده أكثر إجماعاً(5)، وكذا إن تساويا أو كان الجارح أقل، وقيل: يطلب الترجيح، فأما عند إثبات سبب معين ونفيه فالترجيح لا غير، ويبطلان بجرح المعَدِّل والجارح.
(209) فصل وشروطه الراجعة إلى الخبر ثلاثة:
(الأول): ألاَّ يصادم: قاطعاً عقلياً، فَيُقْطَع بوضع كل خبر قضى بِتَشْبِيه أو جَبْرٍ أو تَجْوِيْر، ولم يمكن تأويله، أو تَوَهُّمِ راويه(6)، كبعض أحاديث الصفات ونحوها. أو شرعياً /201/ عملياً أو علمياً، فإن خصه قُبِل كما تقدم(7).
(الثاني): الإسناد، وهو اتصال الرواة من راويه إلى النبي صلى الله عليه وآله وسلم، عند (أكثر المحدثين، والظاهرية، وبعض الأصوليين)، ولذلك منعوا قبول المرسل مطلقاً إلا من الصحابي(8)، (الأسفرائيني): ولا يقبل منه أيضاً.
__________
(1) أي: يكفي أن يقول: هو عدل وهو مجروح.
(2) وذلك بأن يتفقا في أسباب الجرح والتعديل، فلا يكون هذا جرحاً عند أحدهما تعديلاً عند الآخر، كتفضيل وتقديم الإمام علي على سواه، فإنه تعديل عند الشيعة، جرح عند مخالفيهم .
(3) أي: الجرح والتعديل.
(4) لا فيمن لا يحتملهما كعلي عليه السلام جرحاً، وكالحجاج تعديلاً.
(5) وذلك في مبين السبب المجمع على الجرح به.
(6) أي: أو يقطع بتوهم راويه.
(7) أي: يقبل الخبر المخصص للقاطع لا المصادم له.
(8) بناءاً على أنه لا يرسل إلا عن صحابي، والصحابة عدول عنده.

(1/236)


وهو(1) عند (أئمتنا والجمهور): ما سقط من إسناده راو فصاعداً، من أي موضع، فدخل فيه المعلق والمنقطع والمعضل(2). (جمهور المحدثين): بل قول التابعي قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم.
وقبِله (أئمتنا، والمعتزلة، والحنفية، والمالكية) مطلقاً، ولذلك اختصر كثير من أئمتنا الأسانيد، (كزيد، والقاسم، والهادي) وغيرهم، ولم يصنفوا في الجرح والتعديل. (الشافعي): يقبل إن كان لا يرسل إلا عن عدل أو عضده غيره، كقول صحابي أو فعله أو فعل الأكثر، أو إسناد أو إرسال(3) مع اختلاف شيوخهما /202/، أو قياس، والمجموع هو الحجة لا مجرده(4). (ابن إبان): يقبل مرسل الصحابة والتابعين، فأما من بعدهم فإن كان من أئمة النقل قُبِلَ وإلا فلا.
فإن أسند الرواي تارة وأرسل أخرى، أو رفع تارة ووقف أخرى، أو وصل تارة وقطع أخرى، فالحكم للإسناد، والرفع والوصل على الأصح، وقيل: للأكثر من أحواله.
وإن أسند ما أرسل غيره أو رفع ما وقف أو وصل ما قطع، فالحكم كذلك عند (أئمتنا والجمهور). وعند (أكثر المحدثين) أنه للمرسل والواقف والقاطع، وقيل: للأكثر، وقيل: للأحْفَظ.
والظاهر في العنعنة الإسناد(5). وجمهور من قبل المرسل يقبل التدليس /203/؛ لأنه نوع منه إلا القسم الثاني والرابع منه الآتيين، ورده أقلهم إذا روي بالعنعنة.
وهو أربعة أقسام: تدليس الإسناد، وهو أن يروي عن شيخ شيخه مع إسقاطه,
أو يعطف على من يسمع عنه من لم يسمع عنه ويوهم السماع منه، نحو حدثنا فلان وفلان.
وتدليس الشيوخ، وهو أن يسمي من روى عنه بغير اسمه المشهور كأبي عبد الله الحافظ، يعني الذهبي تشبيهاً بالحاكم.
__________
(1) يعني: المرسل.
(2) المعلق ما سقط راوٍ أو أكثر من أول سنده. والمنقطع: ما سقط راوٍ من سنده من أي مكان. والمعضل ما سقط منه راويان متتاليان.
(3) من غير المُرْسِل.
(4) أي المرسل وما عضده لا وحده.
(5) هي تسلسل الرواة بعن.

(1/237)


وتدليس التسوية، وهو أن يروي الحديث عن ثقة والثقة عن ضعيف عن ثقة، فيُسقط الضعيف فيستوي الإسناد كله ثقات.
(الثالث): الرواية بلفظه صلى الله عليه وآله وسلم عند (ابن عمر، وابن سيرين(1)، وثعلب، وبعض المحدثين، والظاهرية)، وعند (أئمتنا والجمهور): يجوز بالمعنى مطلقاً. (الخطيب)(2): يجوز بلفظ مرادف. (الماوردي)(3): يجوز إن نسي اللفظ. (بعض الحنفية): يجوز إن كان له معنى واحد، وإلا فلا. (صاحب الكافي)(4): إن تعبدنا بلفظه لم تجز روايته بالمعنى، وإن لم نُتَعَبَّد، فإن لم يكن راويه /204/ عارفاً فكذلك، وإن كان عارفاً فإما أن يكون اللفظ محتملاً لأكثر من معنى أو لا، فالأول يجب بلفظه. والثاني إن رواه بلفظ أعم أو أخص أو أوضح أو أخفى لم يجز، ووجب بلفظه، وإلا جاز بالمعنى.
__________
(1) ابن سيرين، هو: الإمام الشهير: محمد بن سيرين، أحد سادات التابعين، روى عن كثير من الصحابة، قال الذهبي: كبير العلم ورع بعيد الصيت، (توفي110هـ).
(2) الخطيب، هو: أحمد بن علي بن ثابت أبو بكر البغدادي المعروف بالخطيب أحد العلماء المميزين في الحديث وعلومه، توفي سنة ثلاث وستين وأربعمائة. انظر معجم الأعلام 54.
(3) الماوردي، هو: القاضي أبو الحسن علي بن محمد بن حبيب الماوردي البصري، قال الخطيب: كان ثقة من وجوه الفقهاء الشافعيين وله تصانيف عدة في أصول الفقه وفروعه، وكان يوافق المعتزلة، توفي في ربيع الأول سنة خمسين وأربعمائة. طبقات الشافعية 2/230.
(4) صاحب الكافي هو أبو جعفر الهوسمي. تقدمت ترجمته.

(1/238)


(210) فصل والمختار ـ وفاقاً (للجمهور) ـ: أن إنكار الأصل لرواية الفرع(1) لا يقدح في قبولها مطلقاً، كموته وجنونه. (بعض المحدثين، والحنفية): يقدح مطلقا. (الشيخ): إن أنكرها ولم يدّع العلم بعدمها قُبِلَت، وإن ادعى العلم بعدمها تعارضتا. (الإمام، والحفيد): محل اجتهاد. وإذا اجتمعا(2) في شهادة لم تُرَدّ اتفاقاً(3).
(211) فصل وإذا تعدد الرواة ثم انفرد أحدهم بزيادة، فإن تعدد المجلس قُبِلَت اتفاقاً، وقد تكون مُخَصِّصَة للمزيد عليه إن عارضته وأمكن الجمع، وناسخة مع تراخيها إن لم يمكن. وإن اتحد المجلس قُبِلت عند /205/ (أبي طالب، والمنصور، والإمام، وأبي عبد الله، والحاكم، والغزالي) مطلقاً، وردّت عند (بعض المحدثين) مطلقاً. (القاضي): تقبل ما لم تغير الإعراب. (أبو الحسين): تقبل إلا أن يكثر عدد من لم يروها، أو تغير إعراب المزيد عليه، وليس راويها أضبط. (الحفيد): محل اجتهاد. وإن جهل تعدد المجلس أو اتحاده، فأولى بالقبول مما علم اتحاده اتفاقاً.
وإذا اتحد راويهما ذاكراً للزيادة في حال دون حال، فإن أسندهما إلى مجلسين قبلت للتعدد غيَّرت إعراب المزيد عليه أو لا، وكذا إن جهل تعدد المجلس واتحاده، وإن أسندهما إلى مجلس فالمختار قبولها. (أبو الحسين، والرازي): إن غيرت الإعراب تعارضتا ووجب الترجيح، وإن لم تغيره فإن كانت مَرَّاتُ روايته لها أقل /206/ ومرات تركه لها أكثر لم تقبل؛ إلا أن يصرح بتذكره لها وسهوه في تركها، وإن كان عَكْسَه أو تساويا قُبِلَت.
__________
(1) أي: الشيخ لرواية التلميذ.
(2) أي: الأصل والفرع.
(3) وذلك لبقاء عدالتهما، وإنما وجب الترجيح للتعارض في تلك الرواية بعينها.

(1/239)


(212) فصل وذكر الخبر كاملاً أولى، وحذف بعضه لغير استهانة جائز، وفاقاً لمن أجاز الرواية بالمعنى، وقيل: ممتنع إلا أن يرويه مرة أخرى بتمامه. فإن تطرق إليه تهمة في اضطراب نقله، أو تعلق المحذوف بالمذكور تعلقاً يغير معناه متصلاً، كالاستثناء والشرط والغاية ونحوها، أو منفصلاً، امتنع الحذف.
(213) فصل في الشروط الراجعة إلى المخبَر عنه
اختلف فيما يؤخذ فيه بالآحادي وما لا يؤخذ، فعند (أئمتنا، والجمهور): أنه إن ورد في العلميات ابتداءاً(1) كما تعم به البلوى علماً نحو المسائل الإلهية، أو علماً وعملاً كأصول الشرائع، لم يقبل، خلافاً (للإمامية، والبكرية، /207/ وبعض المحدثين)، وإن ورد غير ابتداء فإن وافق أدلتها(2) قُبِلَ مُوكِّداً لا حجة على انفراده، خلافاً لهم، وإن خالفها رُدَّ إلاَّ أن يمكن تأويله. وإن ورد في العمليات فإن لم تعم به البلوى قُبِلَ كالإجارة. وإن عمت كمس الذكر والجهر بالبسملة، فكذلك عند (أئمتنا والجمهور)، خلافاً (لبعض الحنفية).
(214) فصل وإذا ورد بخلاف الأصول المقررة؛ (الحفيد): وهي: الكتاب، والسنة، والإجماع المعلومة، فإن أمكن حمله على تخصيصها قُبِلَ إن كان عملياً اتفاقاً، لا إذا كان علمياً على المختار. وإن لم يمكن ذلك.. فإما أن يخالف الأصول نفسها بأن يقضي في عين ما حكمت فيه بخلاف(3) ذلك الحكم. أو يخالف مقتضاها بأن يقضي فيما لم يوجد فيها حكمه بعينه، بخلاف حكم نظيره فإن خالفها ردّ؛ إذ لا يُنْسَخ قاطع بمظنون، خلافاً (للظاهرية).. وإن خالف مقتضاها قُبِلَ.
__________
(1) أي: لم يتقدمه دليل قطعي يوافقه فيما دل عليه، وعلى هذا لا يقبل أصحابنا الأحاديث الآحادية التي يحتج بها البعض في مسائل العقيدة.
(2) أي: أدلة المسائل الإلهية وأصول الشرائع، وهي: العقل، ومحكم الكتاب، والسنة المتواترة.
(3) في (ب): حكم بخلاف.

(1/240)


واختلف في أخبار/208/ وردت، من أي القسمين هي فذهب (الكرخي، وأبو عبد الله) إلى أن خبر (القرعة) (1) (والمصراة) (2) مما خالف الأصول نفسها، فيردان لنقل الأول الحرية(3)، والإجماع منعقد أنه لا يطرأ عليها الرق، ولمخالفة الثاني ما أجمع عليه من ضمان التالف بمثله، إن كان مثلِياً، وقيمته إن كان قيميّاً.
__________
(1) وهو ما روي من طرق عن عمران بن الحصين أن رجلاً أعتق ستة مماليك له وهو مريض، ولم يكن له مال غيرهم، فجزأهم صلى الله عليه ثلاثة أجزاء، ثُمَّ قرع بينهم فأعتق صلى الله عليه وآله وسلم اثنين، وأَرَقَّ أربعة.. أخرجه مسلم. والتصرية ترك البقرة يومين أو ثلاثاً ليجتمع لبنها فيظن أنها حلوب.
(2) وهو ما روي عنه صلى الله عليه وآله أنه قال: "لا تصروا الإبل والغنم، فمن ابتاعهما فهو بخير النظرين بعد أن يحلبها إن شاء أمسك وإن شاء ردها وصاعاً من تمر"، أخرجه البخاري ومسلم.
(3) وهي أصل مقرر.

(1/241)


وأن خبر (نبيذ التمر) (1) وخبر (القهقهة) (2) مما خالف مقتضى الأصول، فيقبلان لمخالفتهما حكم نظيرهما المجمع عليه، وهو نبيذ الزبيب، وأن ما لا ينقض خارج الصلاة لا ينقض داخلها، وعن الشافعي أنهما(3) معاً مما خالف مقتضى الأصول، فتقبل. والتحقيق أنها من قسم التخصيص إن ثبتت وهو اتفاق(4).
(215) فصل وإذا خالف(5) القياس فهو الأولى عند (جمهور /209/ أئمتنا، والشافعي، والكرخي، والرازي)(6). وقالت (المالكية): بل القياس. (بعض علمائنا، والأصوليين): محل اجتهاد. (أبو الحسين): إن كان أصل القياس وعلته ووجودها في الفرع معلومة، فهو الأولى، وإن كانت الثلاثة مظنونة فالخبر أولى، وإن كان بعضها معلوماً وبعضها مظنوناً فمحل اجتهاد. (ابن الحاجب): إن عُرِفَت العلة بنص راجح على الخبر ووجدت قطعاً في الفرع فالقياس أولى، لا ظناً فالوقف وإلا فالخبر، وتوقف (الباقلاني).
__________
(1) وهو ما روي أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم ليلة الجنّ سأل ابن مسعود وقال له: "ما في إداوتك أو ركوتك"؟ قال: نبيذ ماء. فقال صلى الله عليه: "تمرة طيبة وماء طهور" وتوضأ منه. قال في (الدراري): أخرجه الأمير الحسين مرسلاً، وضعفه، والإمام أحمد بن سليمان كذلك وضعفه، وأخرجه الترمذي وأنكره، وقال: فيه خلاف بين العلماء، وأخرجه أبو داود ولم يذكر فتوضأ منه.
(2) وهو: ما روي أنه صلى الله عليه وآله كان يصلي بطائفة من أصحابه، وكان هناك بئر مغطاة بحصير، فأتى رجل أعمى فوقع في البئر؛ فقهقه بعض من كان يصلي، فلمَّا تمت الصلاة أمرهم صلى الله عليه بإعادَة الوضوء.. قال في (الدراري): أخرجه البيهقي في الخلافيات واستوفى الكلام عليه، وجمع أبو يعلى الخليلي طرقه في جزء، ومدار حديثه على أبي العالية، وقد اضطرب عليه فيه.
(3) أي: خبر القُرْعَة ونبيذ التمر.
(4) يعني: فتستثنى وحدها فقط من أصولها، ولا يقاس عليها.
(5) أي الخبر الآحادي.
(6) سقط من (أ): الرازي.

(1/242)


(216) فصل (أئمتنا، والجمهور): وتقبل في الحدود كغيرها، خلافاً (للكرخي، وقديم قولي أبي عبد الله). وفي المقادير كابتداء النُّصُب، والكفارات، وتقدير الديات خلافاً لهما.
(217) فصل وإذا عُمِلَ بخلافه، فإن كان العامل هو النبي صلى الله عليه وآله وسلم أو الأمَّة فكما تقَدَّم(1) /210/. وإن كان صحابياً فكما يأتي. وإن كان أكثر الأمة، فالعمل به لا بقولهم، ولو صحابة، خلافاً (لمالك).
فأما المخالف إجماع العترة الظني عند (أئمتنا)، أو إجماع أهل المدينة عند (المالكية)؛ فالترجيح.
(218) فصل في أقواله المتعلقة بغيره.
قضاؤه صلى الله عليه وآله وسلم في الحقوق والأموال يدل على لزومها للمقضي عليه ظاهراً فقط، لا ظاهراً وباطناً. قيل: خلافاً (لأبي الحسين).
وتمليكه لغيره مؤمناً أو كافراً يفيد الملك ظاهراً وباطناً، عند (الحفيد، وغيره). (الدَّواري)(2): بل ظاهراً فقط، فيما مَلِكه صلى الله عليه وآله وسلم من غيره، ثم مَلَّكه الغير؛ لجواز كونه غصباً في نفس الأمر، لا فيما ملَّكه الغير من الغنائم ونحوها، فظاهراً وباطناً.
وقوله صلى الله عليه وآله وسلم: فلان أفضل من /211/ فلان، يحتمل الأمرين. (الحفيد): وأظهرهما أنه ظاهراً وباطناً.
ودعاؤه صلى الله عليه وآله وسلم يقتضي إيمان المدعو له ظاهراً وباطناً، عند (الحفيد، وغيره). وقال (ابن أبي الخير): إن انضم إلى دعائه قرينة تدل على الباطن قطعاً، فإرادته معلومة، أو ظناً فإرادته مظنونة، وإلا فالوقف.
[الصحابي ومراتب الرواية عنه]
__________
(1) في باب التعارض إذا كان هو العامل بخلافه، وفي باب الإجماع إذا كانت الأمة هي العاملة بخلافه.
(2) الدواري، هو: العلامة الكبير عبدالله بن الحسن بن عطية الدواري الصعدي، من كبار علماء الزيدية في وقته، كان يعرف بسلطان العلماء، وكان له تأثير على الأحداث في عصره، له مؤلفات شهيرة، توفي في شهر صفر سنة ثمانمائة.

(1/243)


(219) فصل في كيفية الرواية وإظهار مستندها
أما كيفية نقل الصحابي فسبع مراتب تأتي.
وهو(1) عند (أئمتنا، والمعتزلة): من طالت مجالسته للنبي صلى الله عليه وآله وسلم متبعاً له. (ابن زيد): مع الرواية. وقيل: ولم يخالفه بعد موته. (المحدثون، وبعض الفقهاء): من اجتمع به مؤمناً وإن لم تطل مجالسته ولم يروِ. (ابن المسيب): من أقام معه سنة أو سنتين، وغزا معه غزوة أو غزوتين.
والخلاف معنوي في الأصح، وثمرته /212/: معرفة فضل الصحابي، وغلبة الظن بصدقه، وانقراض العصر، ومعرفة التاريخ، وقبول مرسله، وما يأتي من الاختلاف في أقواله وأفعاله وعدالته وجواز تقليده وغير ذلك.
(أئمتنا، والمعتزلة): وهم عدول إلا من ظهر فسقه، كمن قاتل الوصي عليه السلام ولم يتب(2). (جمهور الفقهاء، والمحدثين): عدول مطلقاً، وما شجر بينهم فمبناه على الاجتهاد، وقيل: إلى وقت الفتنة ـ وهو آخر أيام عثمان، وقيل: ما بين علي ومعاوية ـ فلا يُقبل الداخلون فيها؛ لأن الفاسق غير معين. (الباقلاني): كغيرهم.
وقد تاب الناكثون(3) على الأصح لا القاسطون(4)، وبعض المارقين(5). فأما المتوقفون فلا يفسقون على الأصح، وإن قُطع بخطئهم.
وفي فسق قتلة عثمان وخذلته خلاف.
[طرق معرفة الصحابي]
والطريق إلى كون الصحابي صحابياً: علمي، وهو: التواتر، كما في كثير من أكابر الصحابة وأصاغرهم. وظني، وهو: الآحاد؛ إما من غيره أو منه على الأصح(6).
__________
(1) أي: الصحابي.
(2) وذلك لاعتبارهم خارجين على الإمام بدون حق.
(3) الناكثون: الذين نكثوا بيعة الإمام علي رضي الله عنه.
(4) القاسطون: الذين خرجوا على الإمام علي وحاربوه، وعلى رأسهم معاوية بن أبي سفيان وعمرو بن العاص.
(5) المارقون: اسم يطلق على الخوارج الذين تمردوا على الإمام علي وكفروه ثم قاتلوه.
(6) أي: بأن يقول غيره أو هو: هو صحابي.

(1/244)


(220) فصل المرتبة الأولى: إذا قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، أو أخبرني، أو حدثني، أو نحو ذلك، مما لا يتطرق إليه احتمال واسطة، وهو واجب القبول اتفاقاً.
الثانية: إذا قال: قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، أو نحوه، والظاهر عند (أئمتنا، والمعتزلة، وبعض الأشعرية) سماعه منه بلا واسطة ويحتملها، خلافاً (للأشعرية، والفقهاء).
الثالثة: إذا قال: أمر رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم بكذا، أو نهى عنه، فعند (أئمتنا، والجمهور) أنه حجة لظهوره في أنه الآمر والناهي، والظاهر سماعه منه بلا واسطة، ويحتملها خلافاً (للقاضي)، وعند (داود، وغيره): أنه ليس بحجة إلا أن يروي لفظه صلى الله عليه وآله وسلم لاحتمال /213/ الواسطة والعموم والخصوص، وأن يعتقد ما ليس بأمر أمراً، وما ليس بنهي نهياً، وأجيب بأنه خلاف الظاهر. (الشيخ): يحمل على ثبوته عنده بدليل قاطع من سماع أو تواتر.
فأما قول التابعي: أمرنا رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، فمرسل.
الرابعة: إذا قال: أُمِرْنَا بكذا أو نُهِينا عنه، فعند (أئمتنا، والجمهور) أنه حجة من نوع المرفوع المسند لظهوره في أنه صلى الله عليه وآله وسلم هو الآمر والناهي. وعند (بعض الحنفية، والمحدثين): أنه ليس بحجة لاحتماله ما تقدم، وأن يكون غير النبي صلى الله عليه وآله وسلم من أكابر الصحابة. (الحفيد، وغيره): إن كان الصحابي من الأكابر كالعشرة، فهو الآمر صلى الله عليه وآله وسلم، وإن كان من غيرهم، فمحتمل. (الإمام): إن كان بعد وفاته صلى الله عليه وآله وسلم /214/ فكذلك، وإن كان في حياته صلى الله عليه وآله وسلم فهو الآمر.
وفي التابعي وجهان(1).
وكذا أُوجِبَ أو حُرّم، أو نحوهما من صيغ ما لم يسمَّ فاعله. (المنصور): بشرط ألاَّ يكون للاجتهاد في ذلك مسرح.
__________
(1) أي: إذا قال التابعي: أمرنا أو نهينا.

(1/245)


الخامسة: إذا قال: من السُّنة كذا، أو السنة جارية بكذا، فعند (أئمتنا، والجمهور): أنه حجة كذلك(1). وعند (الكرخي، والصيرفي): أنه ليس بحجة. ولا فرق بين أن يقول ذلك في حياته صلى الله عليه وآله وسلم أو بعد وفاته. (الحفيد): يُعتبر فيه ما تقدم(2)، وكذا التابعي إذا أطلق. وقيل: موقوف، وهو أخير قولي (الشافعي).
السادسة: إذا قال: كنا نفعل، أو كانوا يفعلون، والختار ـ وفاقاً (للجمهور) ـ: أنه حجة ـ خلافاً (لبعض الحنفية، والمحدثين) ـ لظهور(3) قوله كنا، في أنهم فعلوه في زمانه صلى الله عليه وآله وسلم، واطلع /215/ عليه ولم ينكره، فهو من نوع المرفوع، ولاحتمال قوله: كانوا، لذلك، وللإجماع بعده صلى الله عليه وآله وسلم. (المنصور، والحفيد): لا فرق بين كنا وكانوا في احتمالهما لذلك وللإجماع. (بعض الأصوليين): بل حجة؛ لظهوره في عمل الجماعة، فهو من الإجماع المنقول بالآحاد.
وقول التابعي: كانوا يفعلون، يدل على فعل بعض الأمة، لا كلهم، إلا أن يصرح بذلك.
السابعة: إذا قال عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم وهو من الإسناد المتصل عند (الجمهور)؛ لأن الظاهر سماعه منه بلا واسطة. (أئمتنا): ويحتملها فيكون من المرسل(4). (الإمام، وغيره): بل مرسل، إذ العنعنة تقتضي الواسطة.
(المحدثون): فأما غير الصحابي فعنعنته من المتصل بشرط: سلامتِهِ من التدليس، وملاقاتِهِ لمن روى عنه(5).
__________
(1) أي: من نوع المرفوع المسند لظهوره في أنها سنة الرسول صلى الله عليه وآله وسلم.
(2) من كونه من الأكابر لا من غيرهم فمحتمل.
(3) احتجاج لكونه حجة؛ لإقرار النبي في: "كنا" ، وللإجماع في: "كانوا" أو الإقرار.
(4) بناءاً على تعريفهم للمرسل بأنه: ما سقط منه راو صحابي أو غيره، كما تقدم أو أكثر.
(5) وهو شرط البخاري، وقيل: معاصرته تكفي لاحتمال اللقاء، وهو شرط مسلم وهو الأقرب.

(1/246)


(221) فصل وإذا ذَكَر /216/ الصحابي حكماً طريقه التوقيف كالمقَدَّرات والأبْدَال(1) والحدود. فعند (بعض الحنفية): أنه يحمل على التوقيف(2). (ابن حزم)(3): لا يحمل عليه. (أئمتنا، والقاضي، وأبو الحسين): إن كان للإجتهاد فيه مسرح حمل عليه، وإلا فالتوقيف.
ومطلق تفسيره(4) موقوف عند بعض المحدثين، وقال بعضهم: إن كان متعلقاً بسبب النزول فهو في حكم المرفوع، وإلا فموقوف.
(222) فصل وإذا روى خبراً فإما أن يكون نصاً أو ظاهراً أو مجملاً.
إن كان نصاً وخالفه تعين نسخه عنده(5). والمختار: العمل بالنص غالباً.
وإن كان ظاهراً وحمله على غيره، فالمختار: - وفاقاً (للجمهور) -: حمله على الظاهر غالباً، وفيه قال (الشافعي): (( كيف أترك الحديث لقول من لو عاصرته لحججته )) . (بعض الحنفية): بل يحمل على تأويله مطلقاً. (القاضي، وأبو الحسين، وابن الحاجب)(6): إن صار إليه لعلمه بقصد النبي صلى الله عليه وآله وسلم /217/ وجب المصير إليه، وإن صار إليه لدليل، نظر فيه، فإن اقتضاه فكذلك، وإلا فلا. (الإمام): محل اجتهاد.
وإن كان مجملاً، وحمَلَه على أحد محتمليه فالظاهر حمله عليه بقرينة، وتوقف (الشيرازي).
[مراتب رواية غير الصحابي وطرقها]
(223) فصل وأما كيفية نقل غير الصحابي فثماني مراتب:
__________
(1) أي: ولم يرفعه إلى النبي صلى الله عليه وآله.
(2) أي: التعريف من الشرع، بحيث لا يعرف بالنظر والاجتهاد.
(3) ابن حزم، هو: العلامة الشهير: أبو محمد علي بن أحمد بن سعيد بن حزم الفارسي الأصل ثم الأندلسي القرطبي، إمام مجدد في مذهب الظاهرية، توفي عشية يوم الأحد لليلتين بقيتا من شعبان سنة ست وخمسين وأربعمائة. سير أعلام النبلاء 18/184.
(4) أي تفسير الصحابي الغير مسند إلى النبي صلى الله عليه وآله.
(5) حملاً له على السلامة، لا في حقنا فالعبرة بالنظر.
(6) سقط من (ب): ابن الحاجب.

(1/247)


(الأولى): قراءة الشيخ، وهي أقواها على المختار، فإن قصد إسماعه وحده أو مع غيره، فله أن يقول: حدثني، وأخبرني، وحدثنا، وأخبرنا، وقال لي، وسمعته، وإن لم يقصد لم يجز، بل يقول: حدث، وأخبر، وسمعته.
(الثانية): قراءة الراوي عليه من غير نكير ولا ما يوجب سكوتاً من إكراه أو نحوه من المقدرات المانعة من الإنكار، وتسمى عرْضاً، ورجحها (أبو حنيفة(1)، ومالك بن أنس) على الأُولى، وقيل: سواء، وتصح الرواية بها(2) /218/ خلافاً (لبعض الظاهرية)؛ لاقتضاء العرف أن سكوته عند ذلك تقرير، فيقول: حدثنا أو أخبرنا، مقيِّداً بقراءتي عليه، ومطلقاً أيضاً وفاقاً (للفقهاء الأربعة). وقيل: يمتنع، واختاره (الإمام) إلا لقرينة تدل على إرادة التقييد.
(الثالثة): قراءة غيره(3) عليه، وهي كقراءته مع اعتبار ما تقدم.
(الرابعة): قوله بعد فراغ القراءة عليه: الأمر كما قرأت، وله أن يقول: حدثني، وأخبرني مقيداً ومطلقاً، وفاقاً (للجمهور).
(الخامسة): إذا قال القارئ بعد فراغه: سَمِعْتَ هذا؟ فأشار برأسه، فهي قائمة مقام التصريح في جواز العمل، وللراوي أن يقول: حدثني، وأخبرني مقيداً بقراءتي عليه، وفي الإطلاق قولان. (الإمام): وأظهرهما المنع.
(السادسة): إذا قال بعد فراغه: هل أروي هذا عنك؟ فقال: نعم، فعند (المتكلمين) لا تجوز /219/ له الرواية إذ لم يُسَلَّط عليها ولا سمع منه شيئاً، فيكون كاذباً. (الإمام): يجوز مع التقييد، لا الإطلاق، ويلزمه العمل بها اتفاقاً.
__________
(1) الإمام أبو حنيفة النعمان من أبرز أئمة النظر والاجتهاد، إليه ينسب المذهب الحنفي، توفي رحمه الله سنة خمسين ومائة.
(2) أي: من دون أن يقول الشيخ: ارو عني.
(3) أي: غير الراوي مع حضوره.

(1/248)


(السابعة): الرواية عن الخط، وتسمى: (الوجادة والكتابة)، نحو: أن يرى مكتوباً ـ بخطه أو بخط من يثق به ـ : سمعت كذا عن فلان، ويجوز العمل به عند (أئمتنا، والشافعي، وأكثر الأصوليين) إن غلب على ظنه صحته، لا الرواية عند بعضهم، والمختار جوازها بغير ما يوهم السماع. ونحو: أن يقول: هذا خطي، فيجوز العمل به لا الرواية، إلا إذا سلطه عليها صريحاً أو بقرينة. ونحو: أن يكتب إلى غيره: إني سمعت الكتاب الفلاني من فلان؛ فللمكتوب إليه العمل به، إذا علم أو غلب على ظنه أنه خطه، لا الرواية؛ فلا يقول: سمعته، أو: حدثني، أو نحوهما مما يوهم السماع. (الرازي)/220/: بل يقول: أخبرني، والأحوط أن يقول: رأيت مكتوباً بخط ظننت أنه خط فلان؛ ليخرج عن العهدة.
(الثامنة): الإجازة، وهي قوله للموجود المعين: أجزت لك رواية الكتاب الفلاني، أو: ما صح عندك أنه من مسموعاتي ومستجازاتي.
ومختار (أئمتنا، والجمهور): جوازها، خلافاً (لأبي حنيفة، وغيره)، وجواز حدثني، وأخبرني إجازة مقيداً لا مطلقاً، ومنعهما(1) قوم، فأما أنبأني فجائز باتفاق للعرف.
وتجوز لجميع الأمة الموجودين، وفي: أجزت لنسل فلان، أو لمن يوجد من بني فلان خلاف، والإجماع على منع من يوجد مطلقاً. فأما إذا قال: هذا مسموعي(2)، فلا تجوز له الرواية إذ لم يُسَلَّط عليها، ويجوز العمل.
ومنها(3): المناولة في الأصح، وقد تسمى عرضاً، وهي: أن يقول الشيخ ـ مشيراً إلى كتاب معين قد سمعه ـ: خذه /221/ وحدث به عني فإني قد سمعته على فلان، وله أن يقول: حدثني وأخبرني مناولة مقيداً لا مطلقاً.
فأما المناولة باليد فلا اعتبار بها مع التعيين والتسليط(4).
(224) فصل وطرق الرواية المقبولة والمردودة والمختلف فيها أربع:
__________
(1) أي: حدثني وأخبرني.
(2) دون أن يسلطه على الرواية صريحاً أو بقرينة.
(3) أي: من الإجازة.
(4) أي: مع التعيين بالإشارة والتسليط للراوي على الرواية.

(1/249)


فالمقبولة اثنتان: (الأولى): أن يعلم قراءة شيخه له أو قراءته عليه، ويذكر ألفاظها ووقتها، فيجوز له العمل والرواية، وهي أقواهما.
(والثانية): أن يعلمها جملة من غير تذكر ألفاظها وتحقق وقتها، فيجوزان(1) له.
والمردودة أن يعلم أنه ما سمع، أو يظن ذلك أو يشك فيه، فلا يجوزان له.
والمختلف فيها: أن يظن السماع ولا يعلمه، فلا يجوزان له عند (أبي طالب، وأبي حنيفة). وعن (الشافعي، وأبي يوسف، ومحمد): يجوزان. (الإمام، والحفيد): يجوز العمل دونها /222/.

القياس

[13] باب القياس
هو في اللغة: التقدير والمساواة. وأما في الاصطلاح:
فقياس الطرد: إلحاق فرع بأصل في حكمه؛ لاشتراكهما في العلة في نظر المجتهد، ولا يلزم المخطّئة(2) زيادة القيد الأخير، بخلاف المصوبة(3)؛ لأن قياسه صحيح عندهم وإن تبين الغلط والرجوع.
__________
(1) أي: العمل والرواية.
(2) المخطئة، هم: القائلون إن في الواقعة حكماً لله تعالى معيناً، فمن وافقه أصاب ومن خالفه أخطأ، ثم اختلفوا بعد ذلك، فمنهم من قال: إنه لا دلالة عليه قطعاً ولا ظناً، وإنما هو كدفين يعثر عليه. ومنهم من قال: عليه دلالة ظنية. ومنهم من غلا، وقال: إن عليه دلالة قاطعة. أنظر: مقدمة الانتصار.
(3) المصوبة، هم القائلون بأن الواقعة ليس فيها حكم معين؛ بل المطلوب من كل مجتهد ما أداه إليه نظره، وأن الآراء كلها حق وصواب، وهم: أئمة الزيدية والجماهير من المعتزلة والمحققون من الأشعرية، وعليه جمهور الفقهاء أبوحنيفة والشافعي ومالك وأتباعهم. كذا في مقدمة (الانتصار). وسيأتي كلام للمؤلف في هذه المسألة في باب الاجتهاد والتقليد.

(1/250)


وقياس العكس: تحصيل نقيض حكم الأصل في الفرع؛ لافتراقهما في علة الحكم، كقول (أصحابنا، والحنفية): لَمَّا وجب الصوم في الاعتكاف بالنذر، وجب بغير نذر قياساً على الصلاة، فإنها لَمَّا لم تجب فيه بالنذر لم تجب بغير نذر. وقبله (الجمهور)، وهو المختار، ورده (ابن زيد، وبعض الأصوليين).
فإن أريد جمعهما بحد واحد قيل: تحصيل مثل حكم الأصل أو نقيضه في الفرع، لاشتراكهما في علة الأصل أو لافتراقهما فيها.
[أقسام القياس وأحكامه]
(225) فصل وينقسم القياس [1] باعتبار /223/ موقعه إلى: (عقلي)، ومورده المسائل العقلية. و(شرعي)، وهو المراد.
[2] وباعتبار استعماله إلى: (صحيح)، وهو ما جمع الشروط المعتبرة الآتية. و(فاسد)، وهو بخلافه.
[3] وباعتبار فائدته إلى: (قطعي)، وهو: ما عُلِمَ أصله وعلته ووجودها في الفرع، سواء كان الفرع أولى بالحكم من الأصل أو مساوياً له. و(ظني)، وهو بخلافه.
[4] وباعتبار جامعه إلى: (قياس علة)، وهو ما تذكر فيه العلة الجامعة بين الأصل والفرع، كقياس النبيذ على الخمر بجامع الإسكار. (وقياس دلالة)، وهو ما لم تذكر فيه، وإنما يجمع بينهما بما يلازمها من: خَاصيَّةٍ، كقياس النبيذ على الخمر بجامع الرائحة، أو حكم، كقياس قطع الجماعة بواحد، على قتلها به، بجامع الاشتراك في أحد موجبيها في الأصل، وهو وجوب الدية عليهم. وإلى (قياس معنى)، وهو ما كان جامعه مخيلاً(1). و(قياس شبهٍ)، وهو بخلافه.
[5] وباعتبار ظهوره وخفائه إلى: (جلي)، وهو ما كان الحكم فيه أولى أو مساوياً /224/، مع القطع بنفي تأثير الفارق، كالضرب والتأفيف، والعبد والأمة، وقيل: لا يسمى المساوي قياساً. و(خفي) وهو بخلافه.
(226) فصل والعقلي حجة في العقليات، عند (جمهور أئمتنا، والمعتزلة، وقدماء الأشعرية).
__________
(1) من الإخالة، وهي: الظن، أي: الظن أنه العلة.

(1/251)


واختلف في التعبد بالشرعي(1)، فعند (المنصور، وأبي الحسين، والشيخ، وحفيده، والقفال): يجب عقلاً وسمعاً. وعند (جمهور أئمتنا، والمتكلمين): يجب سمعاً، والعقل مجوز فقط. (الظاهرية، والخوارج، والجاحظ، والنظام، والإمامية، والجعفران(2)، والإسكافي)(3): يَمتنع سمعاً. ثم اختلفوا(4)، فقيل: لأنه لا يوجد في السمع ما يدل عليه، وقيل: بل لوروده بإبطاله، وهو رأي (الإمامية)، وادعوا إجماع العترة عليهم السلام على ذلك، وهو غير صحيح. واختلفوا فيه عقلاً، فقيل /225/: جائز، وهو رأي (الظاهرية، والخوارج)، وقيل: ممتنع، وهو رأي الباقين. ثم اختلفوا، فقيل: في شرعنا، وهو رأي (النظام)؛ لأن مبنى القياس على الجمع بين المتماثلات، والفرق بين المختلفات، وشرعنا وارد بخلافه(5). وقيل: في كل شرع، وهو رأي (الإمامية)؛ لأن الأحكام الشرعية لا تُعْرَف
__________
(1) أي القياس الشرعي والخلاف فيه كالخلاف في خبر الواحد، وحكمه حكمه في أنه لا يكفر ولا يفسق منكر حجيَّته، وأن عليه مدار كثير من الأحكام، فيجب النظر وإيفاء الموضوع حقَّه من البحث والتحري؛ لأهمية القول بحجيتهما، أو بعدمها، ولا ينبغي الركون في مثل هذين الأصلين المهمين إلى التقليد.
(2) الجعفران هما: جعفر بن حرب الهمداني المعتزلي من معتزلة بغداد، كان يميل إلى التشيع، له مصنفات كثيرة منها: كتاب (الإيضاح) و(نصيحة العامة). توفي سنة سبع وثلاثين ومائتين. وجعفر بن مبشر، وقد تقدمت ترجمته.
(3) الإسكافي، هو: العلامة أبو جعفر محمد بن عبد الله السمرقندي الإسكافي المتكلم على مذهب المعتزلة، قيل: كان أعجوبة في الذكاء وسعة المعرفة وكان يتشيع، مات سنة أربعين ومائتين. سير أعلام النبلاء 10/550.
(4) أي: القائلين بمنعه سمعاً.
(5) يعني: وشرعنا وارد بالفرق بين المتماثلات، كالغسل من إنزال المني مع أن البول والغائط أقبح منه. والجمع بين المختلفات، كالتسوية بين قتل صيد الحرم عمداً أو سهواً في الفداء.

(1/252)


بالعقل، ولأن طريقه الظن، وهو يحتمل الخطأ، ولخفائه وإغناء النصوص عنه(1).
(227) فصل (أئمتنا، والجمهور): وأدلة التعبد به من السمع قطعية، إذ لا يثبت مثله إلا بقاطع. (أبو الحسين، والشيخ، وحفيده، وغيرهم): بل ظنية، وإثبات القطعي العملي بالظني جائز. ويلزمهم مثله في كل قطعي عملي. والتحقيق: أن الخلاف في اعتقاد كونه حجة، وهو أي اعتقاد كونه حجَّة علمي، فلا يثبت إلا بقاطع /226/.
ولا يفسق منكره، خلافاً (للباقلاني)، إذ لا دليل؛ وإن قطع بخطئه.
والمختار وفاقاً (للقاضي، وابن علية، وابن سريج): أنه مأمور به. (الشيخ): إن أريد أن الله تعالى بعثنا على فعله فهو كذلك، وإن أريد أنه أمرنا بصيغة الأمر فمحتمل(2). وأنه(3) من أصول الفقه، خلافاً (للجويني).. ومن الدين مطلقاً خلافاً (لأبي الهذيل). (أبو علي): واجِبُه منه لا مندوبه.
وقد يكون واجباً على الأعيان(4) وعلى الكفاية، ومندوباً فيما يجوَّز حدوثه.
(228) فصل ويمتنع ثبوت كل الأحكام الشرعية به، لأدائه إلى الدور، أو التسلسل بخلاف النص؛ ولأن فيها ما لا يعقل معناه(5).
__________
(1) هذه علل واردة على القياس لو لا العمل بالظن، ولعل التعليل عند الإمامية أنهم لا يقبلون إلا من الإمام لعصمته، فهو المرجع عندهم.
(2) وإنما قال بالاحتمال لمحل قوله تعالى: ?فاعتبروا يا أولي الأبصار?، وهو حجة القائلين بأنه مأمور به.
(3) العطف على: أنه مامور به.
(4) حيث لا يوجد إلا مجتهد، أو تتضيق الحادثة في مسألة واقعية لا فرضية يجوز حدوثها.
(5) أي: لأن في الأحكام ما لا تعرف علته.

(1/253)


ويجري عند (أئمتنا، والشافعية) في كل مسائل الفروع القابلة للتعليل(1). وليس في الشرع جمل من الأحكام لا يجوز قيام دليل على عللها - فيمتنع القياس عليها - غير المستثنى(2) خلافاً (للحنفية)؛ فيجوز وإن لم يُضْطَر إليه على الأصح.
ويجوز في غير الجلي، خلافاً /227/ (لداود)، وفي الحدود كإيجاب الحد على اللائط قياساً على الزاني. وفي الكفارات، كإيجاب الكفارة على المفطر بالأكل في رمضان، قياساً على المفطر بالجماع. وفي الرخص كالفطر في سفر المعصية، قياساً على سفر الطاعة. وفي المقادير كتقدير نصاب الخضراوات ونحوها بمائتي درهم، قياساً على أموال التجارة. وثبوت حكم الفرع في هذه الأربعة(3) بالقياس، لا بالاستدلال على موضع الحكم بحذف الفوارق الملغاة، خلافاً (للحنفية)(4).
وفيما ليس الفرع فيه أولى بالحكم، خلافاً (للقاساني(5)، والنهرواني)(6).
وفي الأسباب، وفاقاً (لأكثر الشافعية)، وخلافاً (للحنفية)، وهي العلل، كقياس اللواط على الزنى في كونه سبباً لوجوب الحد بجامع الإيلاج المحرم، والأظهر أن الخلاف في الشروط والموانع كذلك(7).
__________
(1) لتخرج التعبديات.
(2) وهي: الأحكام المعدول بها عن سَنَنِ القياس، أي: عن مقتضى الأصول العقلية، وستأتي.
(3) التي هي: الحدود، والرخص، والكفارات، والمقادير.
(4) يعني فقالوا: إن دليل الفرع دليل الأصل بإلغاء الفوارق.
(5) قال في (الدراري): هو بالقاف والسين المهملة، منسوب إلى قرية من قرى الترك.
(6) النهرواني، هو: أبو الفرج المعافى بن زكريا بن يحيى بن حميد بن داود النهرواني، علامة أصولي أديب، له كتاب بعنوان الجليس الصالح، توفى سنة تسعين وثلاثمائة. كشف الظنون1/ 593.
(7) قالوا: لأن العلة والسبب والشرط والمانع كالشرعيات لا يهتدى إلى معانيها بالعقل،وهو كلام جيد.

(1/254)


ويمتنع في العادي الخَلقي، كأقل /228/ الحيض والنفاس والحمل وأكثرها. وفي النفي الأصلي خلاف يأتي إن شاء الله تعالى(1).
(229) فصل (أئمتنا، والجمهور): والنص على علة الحكم فعلاً أو تركاً لا يكفي في تعدية الحكم بها إلى غير المحل المنصوص عليه، من دون ورود التعبد بالقياس. (أبو الحسين، وبعض الفقهاء، والظاهرية): يكفي النص عليها فيهما(2)وإن لم يرد التعبد به. (المنصور، وأبو عبد الله، وغيرهما): إن كان النص عليها في الفعل أُشترط ورود التعبد به، وإن كان في الترك لم يشترط ذلك. وفرع (أبو عبد الله، وغيره) على ذلك منع التوبة من بعض المعاصي دون بعض. (المؤيد بالله، والنظام، وأبو هاشم، والكرخي): إلحاق ما وجدت فيه العلة بمحل النص ليس قياساً، بل بطريق عموم اللفظ؛ لأنه كالمنصوص عليه.
[أركان القياس وشروطها]
(230) فصل وأركانه أربعة /229/: الأصل، وحكمه، والفرع، والعلة. فأما حكم الفرع، فهو ثمرة القياس، فلو جعل ركناً فيه لتوقف على نفسه.
فالأصل، لغة: ما تفرّع عليه غيره. واختلف فيه اصطلاحاً، فعند الأصوليين والفقهاء: أنه محل الحكم المشبّه به(3). (أبو طالب، والمنصور، والشيخ، والمتكلمون): بل دليله. وقيل: حكمه(4)، وقيل: العلة الثابتة في محل الوفاق(5). (أبو الحسين): وإذا كان الأصل ما يبنى عليه غيره فلا بُعْدَ في الجميع.
والحكم، لغة: المنع. واصطلاحاً: ما أثرت فيه العلة. ويسمى في الأصل معللاً، وأما قولهم: ويسمى في الفرع معلولاً. فوهم، وقد يسمى محل حكم الأصل: معللاً بواسطة حكمه.
(131) فصل وشروط حكم الأصل الصحيحة خمسة:
الأول: ثبوته، فلا يقاس على أصل منسوخ لزوال اعتبار الجامع، خلافاً لشذوذ.
__________
(1) في باب الحضر والإباحة.
(2) أي: في الفعل والترك.
(3) وهو الخمر في قياس النبيذ عليه، فإنه محل التحريم.
(4) وهو التحريم في المثال السابق.
(5) وهي الإسكار في المثال السابق.

(1/255)


الثاني: كونه (شرعياً)، ومن ثم /230/ امتنع إثبات الأحكام العقلية والأسماء اللغوية به اتفاقاً. (فرعياً) ومن ثم امتنع إثبات أصول الشرائع به اتفاقاً، كصلاة سادسة ولو تابعة لغيرها، خلافاً (للناصر والحنفية)؛ (عَمَلياً) قطعياً أو ظنياً اتفاقاً، أو علمياً مع القطع به وبعلته وبوجودها في الفرع عند (القاسم، والهادي، والناصر، وقدماء المعتزلة، والأشعرية) بناء على أنه حينئذ قطعي، ولذلك أثبتوا التكفير والتفسيق به(1)، خلافاً (للمؤيد، وأبي هاشم، والملاحمية، والمتأخرين)، بناء على أنه ظني، ولذلك منعوا إثباتهما به(2). وفي إثبات الأحكام العقلية بقياس عقلي، والأسماء اللغوية بقياس لغوي، خلاف تقدم.
الثالث: ثبوته بطريق غير القياس، خلافاً (لأبي عبد الله، والحنابلة)، لعدم فائدة ذكر الوسط مع اتحاد /231/ العلة، وفساد القياس مع تعددها.
الرابع: كون دليل حكمه غير شامل لحكم الفرع.
__________
(1) كفر المشبهة القائلين بقدماء مع الله قياساً على النصارى في قوله تعالى: ?لقد كفر الذين قالوا إن الله ثالث ثلاثة?، ونحو ذلك.
(2) أي: التكفير والتفسيق به.

(1/256)


الخامس: كونه قابلاً للتعليل، فلا يقاس على ما عُدل به عن سننه، وهو ثلاثة أنواع: (الأول): ما لا تُعْرَف علته، ويُعَبَّر عنه بالتعبد، نحو كون الصلوات خمساً، وتعيين عدد ركعاتها وسجداتها وأوقاتها، ووقت الصوم، وصفات مناسك الحج ووقته وموضعه، وتفصيل نُصُب الزكاة، وانحصار حِلُّ النكاح في أربع، والطلاق في ثلاث، ويسمى: الخارج عن القياس، والسؤال عن علته محظور، وفيه قال (القاسم عليه السلام): السؤال باللميات في الشرعيات زندقة(1). (الثاني): ما لم يوجد له نظير، وقد تعرف علته كالقصر للمسافر، وقد لا تعرف كالقسامة، ويسمى مفقود النظير. (الثالث): ما قصر حكمه على الأصل، كما وضَح /232/ تخصيصه للنبي صلى الله عليه وآله وسلم فقط، كنكاح تسع. (الهادي): ومنْع من تخلف عنه - بلا إذن - عن أهله، والنهي عن معاشرته، أو مع غيره كالأربعة(2) بدخول المسجد جنباً، وبنو هاشم ومواليهم بتحريم الزكاة، أو بغيره فقط كخزيمة بالشهادة منفرداً، وأبي بردة بالتضحية بعناق، ويسمى المخصوص عن القياس.
(232) فصل ولا يشترط عند (أئمتنا، والجمهور) بعد ثبوت حكم الأصل وثبوت علته بإحدى طرقها الآتية دليل خاص على جواز القياس عليه، خلافاً (للبتي)(3)، ولا الإجماع على تعليله أو النص على عين علته، خلافاً (للمريسي)، ولا كونه ثابتاً بالقول دون الفعل، خلافاً (لبعض الشافعية)، ولا عدم حصره بعدد مقدر، كـ (( خمس يقتلن في الحل والحرم )) (4)، ولا القطع به على الأصح.
__________
(1) يعني: قول القائل: لم شرع الله هذا؟
(2) أي: وضح تخصيصه للنبي مع الأربعة أهل بيته عليهم السلام.
(3) البتي، هو: عثمان أبو عمرو اسم أبيه مسلم وقيل أسلم، فقيه البصرة، كان من عباد الله الصالحين قال الدارمي زعموا أنه كان من الأبدال. سير أعلام النبلاء 6/148.
(4) اخرجه البيهقي في السنن الكبرى 5/209، وبلفظ قريب أخرجه الستة عن عائشة.

(1/257)


(233) فصل /233/ واختلف في الأصل المخالف لقياس الأصول(1)، فعند (أبي طالب، والحقيني(2)، والمنصور، وأبي جعفر، والشيخ، وحفيده، والشيخين، وبعض الفقهاء): يقاس عليه مطلقاً. (المؤيد، وغيره): لا يقاس عليه مطلقاً (إذ المقيس كالمنصوص عليه، وعمومه باللفظ لا بالقياس)(3).
__________
(1) يعني بالأصول: القواعد الواردة من جهة الشرع، نحو: التطهير لا يكون إلاَّ بالماء، والمخالف للقياس: ما روي من تطهير فم الهرة باللعاب.
(2) الحقيني، هو: الإمام الهادي علي بن جعفر بن الحسن أبو الحسن الحقيني، أحد أئمة الزيدية في بلاد الديلم، اغتالته الباطنية، فاستشهد يوم الإثنين في شهر رجب سنة تسعين وأربعمائة.
(3) ما بين القوسين ساقط من (ب).

(1/258)


وقيل: يقاس عليه في حال دون حال. ثم اختلفوا، فقال (ابن شجاع): إن كان ظنياً قيس على الأصول لا عليه، وإن كان قطعياً قيس عليه؛ لأنه حينئذ أصل بنفسه. (القاضي، والرازي): إن كان قطعياً قيس عليه، وإن كان ظنياً فإن ثبتت علته بنص أو تنبيه أو بإجماع استوى القياسان، وإلا قيس على الأصول. (الإمام، وأبو الحسين): كذلك إلا في الظني الذي ثبتت علِّيَته بنص أو تنبيه أو بإجماع فهو /234/ عندهما محل اجتهاد. (جمهور الحنفية): يقاس على الأصول لا عليه، إلا أن يَرد معللاً كخبر الهرة(1)، أو يقوم قاطع من إجماع أو غيره على كونه معللاً؛ وإن اختلف في تعيين علته(2)، أو يكون حكماً موافقاً لبعض الأصول مخالفاً لبعضها(3)، ويسمون القياس عليه مع فقدها(4): القياس على مواضع الاستحسان.
(234) فصل والفرع لغة: أعلى الشيء. واختلف فيه اصطلاحاً، فعند (الأصوليين): أنه المحل المشبَّه. (المتكلمون، والفقهاء): بل حكمه، ولا قائل بأنه الدليل، إذ هو القياس.
وشروطه الصحيحة أربعة:
(الأول): مشاركته لأصله في عين العلة، كالشِّدة في النبيذ والخمر، أو في جنسها كالجناية في قصاص الأطراف والنَّفْس.
__________
(1) وهو ما روى أبو قتادة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال عن الهرة : "إنها ليست بنَجَسٍ إنها من الطوافين عليكم والطوّافات" أخرجه مالك في الموطأ، باب الوضوء بسؤر الهرة رقم (90) والترمذي رقم (92)، وأبو داود (75)، والمؤيد بالله في شرح التجريد - خ - وغيرهم.
(2) مثاله الأشياء الستة الربوية، فإنه قد أجمع على تعليل تحريم التفاضل فيها، وإن اختلف في تعيين العلة.
(3) ومثل له بخبر التراد في اليمين، فقد وافق قياساً آخر وهو أن القول قول المالك.
(4) أي مع فقد الشروط الثلاثة، وهي كونه معللاً أو قام قاطع على كونه معللاً أو كان حكماً موافقاً لبعض الأصول مخالفاً لبعضها.

(1/259)


(الثاني): مماثلة حكمه لحكم أصله في عينه، كقياس المثقَّل على المحدد في القصاص /235/ في النفس، أو في جنسه كقياس ولاية نكاح الصغيرة على ولاية مالها.
(الثالث): ألاَّ ينص على حكمه بموافق عام لهما(1)، لا خاص لجواز دليلين(2)، ولا بمخالف إلا لتحرير النظر(3).
(الرابع): ألاَّ يتقدم حكمه على حكم أصله، كقياس الوضوء على التيمم في وجوب النية، فأما على جهة إلزام الخصم فيقبل.
(235) فصل (أئمتنا، والجمهور): ولا يشترط: مشاركتُه للأصل في تخفيف أو تغليظ مطلقاً. وقيل: يشترط مطلقاً. (ابن زيد، والحفيد، والغزالي): إن كانت العلة الجامعة مؤثرة أو مناسبة لم يشترط ذلك، وإن كانت شبهية؛ فقال (ابن زيد، والغزالي): يشترط. وقال (الحفيد): موضع اجتهاد. ولا ثبوتُ حكمه بالنص جملة، خلافاً (لأبي هاشم). ولا كون العلة فيه معلومة. ولا عرضه على الكتاب والسنة /236/. ولا انتفاء مخالفة مذهب صحابي، خلافاً لقوم.
__________
(1) لأنه إذا عم النص الأصل والفرع، فلا حاجة عند ذلك للقياس. ومثال ذلك قياس الذرة على البر، فإن النص على حكم الأصل وهو قول النبي صلى الله عليه وآله وسلم: "لا تبيعوا الطعام إلا يداً بيد سواء سواء" فقد تناول الأصل والفرع.
(2) أي إذا نص على حكم الفرع نص خاص غير ما نص على حكم الأصل، فإنه يجوز قياس الفرع على الأصل استظهاراً.
(3) أي: ولا ينص على حكمه بمخالف للقياس؛ لأن النص مقدم على القياس، ولكن ذلك يجوز إذا كان المراد العلم لكيفية إثبات الأقيسة، فإن القياس المخالف للنص صحيح في نفسه، وإن كان لا يعمل به.

(1/260)


(236) فصل وكيفية إلحاقه بالأصل، بأن يكون حكمه فيه أولى منه، أو مساوياً كما مر، أو بإلغاء الفارق كما سيأتي إن شاء الله تعالى. واعتبر (ابن علية) شبه الصورة، و(الشافعي) شبه الحكم، ويسمى قياس علِّيَّة الأشباه، وإنما يكون في فرع واقع بين أصلين مختلفين يشبه كل منهما بوصف فيه فيلحق بأغلبهما شبهاً(1)، والمختار اعتبار الجامع المعتبر من حيث هو هو بصرف النظر عن الشبه فيهما.
[العلة والسبب والشرط والمانع وشروطها]
(237) فصل والعلة في أصل اللغة: الحالة والعذر، وما يتغير به محل الحياة مع ألم.
وفي عرفها: الباعث على الفعل أو الترك، واستعمالها في الباعث عليهما سواء في الأصح.
وفي الاصطلاح: الوصف المنوط به الحكم الشرعي، وقد يعرف وجه حكمة تعليقه بها(2)، وقد لا تعرف(3)، ويسمى: باعثاً، وحاملاً، وداعياً، ومستدعياً، ومناطاً، ودليلاً، ومقتضياً، وموجباً /237/، ومؤثراً، وذاتاً، وسبباً، وأمارةً، وجامعاً، ومحلاً، ومُوْذِناً، ومشعراً، ومصلحةً، وحكمةً، ووصفاً، ومضافاً إليه، وغير ذلك.
والمختار وفاقاً (لجمهور المعتزلة): أنها باعثة على الحكم لا موجبة له بذاتها(4)، كالعقلية خلافاً (لبعض المعتزلة، والفقهاء)، ولا بجعل الشرع لها موجبة، خلافاً (لابن زيد، وبعض الفقهاء)، ولا معرفة فقط، كالزوال خلافاً (لجمهور الأشعرية)(5)، ويمتنع تقدم الحكم عليها.
__________
(1) كما يقال في التيمم: عبادة، فيشترط فيه النية كالوضوء، فيقال: بل طهارة تراد للصلاة، فلا تشترط كغسل النجاسة.
(2) مثل الباعثة، كالإسكار في الخمر.
(3) كالمعرفة أو العلامة كالزوال لصلاة الظهر .
(4) بحيث يتلازمان وجوداً وعدماً، وإنما حكمة الشارع أناطت الحكم بها للمصلحة، وهذا قول مثبتي الحكمة.
(5) لقولهم بنفي الحكمة.

(1/261)


والفرق بينها وبين العقلية بما ذكر(1)، وأنها قد تعلم قبل حكمها بخلاف العقلية، وأنه يجوز وقوفها على شرط مقارن(2) أو متقدم عليها، بخلاف العقلية(3)، وأن العقلية لا تتعدى، وفي كون الشرعية لا تتعدى خلاف يأتي إن شاء الله تعالى.
(238) فصل والسبب لغة: ما يتوصل به إلى غيره.
واصطلاحاً: العلامة /238/ الْمُعَرِّفة، كالزوال(4) و:المعنى المقابل للمباشرة كحفر البئر، فهو سبب من الحافر مقابل للإرداء(5) والمردي مباشر. و: العلة الباعثة كالزنا(6). ومستند العلة، كاليمين عند قوم، فهي سبب الكفارة، وعلتها الحنث(7)، ولكنه لا يُعقل إلا بها. وعلة العلة، كالرمي، فهو سبب الموت، وعلته الجرح.
وقد يكون الوصف الواحد سبباً لأحكام، وعلة لأخر كالحيض (8) .
(239) فصل والشرط لغة: العلامة.
واصطلاحاً: ما يقف عليه وُجُودُ عِلَّة الحكم، كالعقل في البيع، أو تَأِثِيْرُهَا فيه، كالإحصان في الرجم.
وينقسم باعتبار نفسه إلى: شرط في وجود العلة، كالأول، و: شرط في تَأْثِيرُها في الحكم، كالثاني.
وباعتبار فاعله إلى: ما يكون من جهته تعالى، كالقدرة في التكليف، و: من جهتنا كالطهارة في الصلاة.
__________
(1) أي: أنها باعثة موجبة.
(2) كالزنا في الرجم بشرط الإحصان.
(3) لأن ذلك ينافي الإيجاب.
(4) فإنه معرف لوجوب الصلاة.
(5) أي: الإلقاء في البئر.
(6) في وجوب الحد.
(7) فإذا قال: والله لا أكلت الطعام، فهذه معصية؛ إذ حرم الحلال، وهي سبب الكفارة، فالحنث وهو مخالفة مقتضى اليمين كالأكل في هذا المثال هو العلة وقبل هو السبب.
(8) سقط من (أ): كالحيض، ولعل الصواب ما أثبته. فإن الحيض علة لمنع الصلاة، ومس المصحف ودخول المسجد، سبب في العدة وخلو الرحم من الولد ونحو ذلك.

(1/262)


وباعتبار طريقه إلى: عقلي، كالحياة في العلم(1) /239/، و: عادي كالغذاء في الحياة، و: شرعي شرطاً في الوجوب، كالحول، أو في: الصحة، كاستقبال القبلة، أو: في الأداء كالمَحْرَم للشابّة(2).
وقد يكون الشرط وحكمه عقليين، كالقدرة على التكاليف العقلية، نحو رد الوديعة(3) أو شرعيين، كالطهارة في صحة الصلاة. أوالشرط عقلياً، والحكم شرعياً كالقدرة على التكاليف الشرعية. ولا يكون شرعياً والحكم عقلياً؛ خلافاً (لأبي الحسين والشيخ، ومثّلاه بشروط البيع في وقوع الملك، وفيه نظر؛ لأنهما شرعيان(4). وقد يكون الشرط الواحد شرطاً في حكم واحد اتفاقاً، كالإحصان، وفي أحكام على الأصح كالعقل.
(240) فصل والمانع لغة: الدافع. واصطلاحاً: الوصف الوجودي الظاهر المنضبط الدافع للحكم أو السبب(5). وهو: قسمان:
مانع الحكم، وهو ما منع الحكم لحكمة /240/ تقتضي نقضه كأبوة النسب في منع القصاص لحكمة، وهي أن الأب سبب في وجود الولد، فلا يكون الولد سبباً في عدمه، مع وجود سبب القصاص، وهو القتل العمد العدوان.
__________
(1) فإنها شرط فيه؛ إذ لا يتصف الجماد والموات بالعلم.
(2) في أداء فريضة الحج.
(3) فإن الحكم، وهو: رد الوديعة، والشرط، وهو: القدرة عقليان.
(4) أي الشرط والحكم، والظاهر مع أبي الحسين والشيخ، من أن الملك بالتسليط على المملك حكم عقلي، وأن الشروط والتي منها اللفظ المخصوص عند معتبره وغيره شرعية.
(5) فقوله: الوجودي، لئلا يلتبس الشرط بالمانع، فإن الشرط ما يلزم من عدمه العدم لا العكس، والمانع ما يلزم من وجوده العدم لا العكس، وقوله: الظاهر، ليخرج الخفي فلا يصلح مانعاً، وقوله: المنضبط، ليخرج الوصف المفتوح الذي لا حد له، كالمشقة، وقوله: الدافع.. الخ إشارة إلى قسميه المذكورين.

(1/263)


ومانع السبب، وهو ما منع السبب لحكمة تخل بحكمته كدين الآدمي عند من جعله مانعاً للنصاب الذي هو سبب وجوب الزكاة، فحكمة الدين وهي براءة الذمة وستر العرض مخلة بحكمة النصاب، وهي سد خُلة الفقير.
(241) فصل وقد أضيف إلى العلة ألفاظ وقع بسببها لبس، وفي بعضها خلاف.
منها: محل العلة، وهو الشرط بعينه(1)، وقد يطلق على محل الحكم أصلاً كان أو فرعاً.
ومنها: ركن العلة، وهو مختلف فيه، فمن جَعَلَ كلَّ وصف يتوقف الحكم عليه ـ من علة وسبب وشرط ـ علَّةً ولم يفرق بينها أثبته(2).
وهو /241/ أقواها، ومن جعل أقواها علة وباقيها غير علة لم يثبته، ومبنى الخلاف على إثبات الفرق بين الثلاثة وعدمه، وسيأتي إن شاء الله تعالى.
وفائدته(3): أن يضاف الحكم إلى العلة دونهما(4) اتفاقاً؛ لأنها باعثة عليه بخلافهما. وتظهر ثمرته في كثير من صور الفروع.
ومنها: وصف العلة، وهو وصف يتبعها لا تكون العلة علة مؤثرة في حكمها إلا به، كاليمين عند قوم، فهي علة لوجوب الكفارة، لكنها موقوفة على وجود الحنث، فكان الحنث كالصفة لها(5). وقد يطلق على الشرط(6).
ومنها: ذات العلة، ويطلق في مقابلة: شرطها(7).
(242) فصل والسر عند (الجمهور) في التمييز بين كل من العلة والسبب والشرط؛ لوقوعها(8) معاً علامات للأحكام، وتوقفها عليها؛ فيصعب الفرق بينها، سيما /242/ بين العلة والشرط، وخصوصاً إذا تعلقا بحكم واحد.
وقد فرق بينهما بفروق في بعضها نظر.
(243) فصل والفرق بين العلة والسبب من وجوه:
__________
(1) يعني شرط ثبوتها وشرط تأثيرها.
(2) أي: ركن العلة.
(3) أي: الخلاف.
(4) دون السبب والشرط.
(5) يعني: فلا تجب الكفارة إلا مع الحنث الذي هو وصف العلة وهي اليمين.
(6) كالإحصان في الرجم، فيقال له: وصف العلة.
(7) كالزنا، فإنه أصل العلة للرجم في مقابلة شرطها وهو الإحصان.
(8) كذا في النسخ، ولعل الصواب (وقوعها) خبر والسر.

(1/264)


الأول: أن العلة لا يجب تكررها في الحكم الواحد، كالزنا(1)، والسبب قد يجب تكرره فيه، كالإقرار بالزنا(2)، وقد لا يجب، كالزوال.
الثاني: أنها تختص بمحل الحكم دون غيره، كالسرقة(3)، والسبب قد يختص به، كالإقرار، وقد لا يختص به، كالزوال.
الثالث: أنها مناسبة له، كالإسكار(4)، والسبب قد يكون مناسباً، كحفر البئر للضمان(5)، وغير مناسب، كالأوقات للصلاة(6).
الرابع: أنه لا يشترك فيها إلا واشترك في حكمها عند من منع تخصيصها، بخلاف السبب، فقد يشترك فيه ولا يشترك في حكمه، كالزوال(7).
(244) فصل والفرق بين العلة والشرط /243/ من وجوه:
الأول: أنها مناسبة لحكمها بخلاف الشرط، كالحرز، فليس كذلك(8).
الثاني: أنها مؤثرة في الحكم دونه، لكنه يظهر تأثيرها عنده كالإحصان.
الثالث: أن كلما ترتب على الشرط ترتب على العلة، كالرجم، وليس كلما ترتب على العلة ترتب على الشرط، كالجلد.
(245) فصل والفرق بين الشرط والسبب من وجوه ثلاثة:
الأول: أن الشرط يلزم من عدمه عدم الحكم، ولا يلزم من وجوده وجوده، والسبب عكسه(9).
الثاني: أنه مختص بمحل الحكم، كالإحصان، أو في حكم المختص، كالحرز. بخلاف السبب، كالزوال.
الثالث: أن الشرط غير مناسب للحكم في الأغلب، والسبب بخلافه.
__________
(1) فإنه موجب للحد بمرة واحدة.
(2) فإنه لا بد من أربع مرات.
(3) فمن سرق حُد دون غيره.
(4) فإنه مناسب للتحريم حفظاً للعقل.
(5) فإنه سبب للتردي في البئر، فهو مناسب لضمان ما تردى.
(6) فإنه لا مناسبة ظاهرة معلومة لنا بين الوقت وبين الصلاة.
(7) بالنسبة للحائض وغيرها، فإنه مشترك فيه بينهما ولا يشتركان في حكمه، وهو وجوب الصلاة.
(8) فإنه شرط في القطع، ولا مناسبة بين الحرز والقطع، وفيه نظر؛ لأن هناك مناسبة، ولو لم نعرفها فإنه ليس بمؤثر في الرجم، وفيه نظر.
(9) هذا فرق غير دقيق، فإنه فرق بالذات، فإن ما ذكر في الشرط والسبب هو حقيقتهما.

(1/265)


ولا فرق بين الثلاثة عند الأقل(1).
[شروط العلة والخلاف فيها]
(246) فصل والشروط الصحيحة في العلة ستة:
(الأول): كون /244/ دليلها شرعياً.
(الثاني): كونها باعثة على الحكم ـ منصوصة كانت أو مستنبطة، متعدية أو قاصرة(2)، معلومة أو مظنونة ـ فلا تكون اسماً لغوياً، خلافاً (للشافعية)؛ لتوقفه على المواضعة، والمصلحة والمفسدة لا تتبعها؛ فهي طردية(3)، ولا يكون(4) في أجزائها ما لا تأثير له.
(الثالث): كونها بعض أوصاف الأصل لا كلها(5)، منصوصة كانت أو مستنبطة. وقيل: يجوز أن تكون العلة كلها فيهما(6). (الكرخي، وأبو عبد الله): وعلة منع ذلك أنه يؤدي إلى منع تعديتها؛ إذ لا يوجد في الفرع كل أوصاف الأصل. (الحاكم، والقاضي، وأبو الحسين، والشيخ): بل لأن بعض أوصاف الأصل لا تأثير له في الحكم(7). (الإمام): لمجموعهما. (ابن زيد): يجوز في المنصوصة لا المستنبطة؛ لأن الشرع هنا مُحَكَّم على قضية العقل، فيجوز أن يكون ذلك هو المصلحة أو أماراتها.
(الرابع): ألاَّ يكون ثبوتها متأخراً عن حكم الأصل، كتعليل ولاية الأب على ولده الصغير الذي جُنَّ /245/ بالجنون، لثبوتها قبله.
(الخامس): ألاّ تخالف نصاً ولا إجماعاً.
__________
(1) أي: أن الأقل من العلماء لم يفرقوا بين الثلاثة.
(2) أي: متعدية عن محل الحكم إلى غيره أو مقصورة عليه.
(3) أي مطرودة عن الاعتبار في الأحكام فلا تؤثر فيها.
(4) عطف على: فلا تكون أسماً، والمعنى أن العلة إذا كانت مركبة من أوصاف لا بد من تأثير كل وصف في الحكم كالقتل العمد العدوان في القصاص، لا كونه بسيف مثلاً، فلا تأثير له.
(5) إذ منها ذاتي لا يتعدى محله، وهو الأصل، فلا يعلل به، ومنها ما لا تأثير له.
(6) أي المنصوصة والمستنبطة.
(7) كالأنوثة في تنصيف الحد على الأمة، ولهذا قيس عليها العبد.

(1/266)


(السادس): تعدي المقيس عليها، فلا تكون المحل ولا جزءاً منه اتفاقاً؛ لتعذر الإلحاق، بخلاف القاصرة، وتسمى: الواقفة والزَّمِنَة، واختلف فيها، فعند (الإمام، والشيخ، والجمهور): أنها صحيحة مطلقاً، كتعليل تحريم الربا في النقدين بجوهريتهما(1). (جمهور الحنفية): بل فاسدة مطلقاً. (أبو طالب، والمنصور، والكرخي وأبو عبد الله): إن كانت مستنبطة ففاسدة، وإن كانت منصوصة أو مجمعاً عليها فصحيحة، إذ الشرع هنا محَكَّم على قضية العقل كما تقدم.
وفائدتها: معرفة الباعث ومنع الإلحاق.
وعلى القول بالقاصرة المستنبَطة.. فالمختار وفاقاً (للشافعية): أن الحكم مضاف إليها بمعنى أنها باعثة عليه. (الحنفية): بل مضاف إلى النص بمعنى أنه المعرف له فيُضَاف إلى المنصوص دون المستنبَط /246/، وهو لفظي.
__________
(1) أي: بكونهما ذهباً وفضة.

(1/267)


(247) فصل (أئمتنا، والجمهور) ولا يشترط القطع بانتفاء معارِضها، ولا وجوب اطّرادها مطلقاً، وهو: ثبوت الحكم بثبوتها(1)، بل يجوز تخصيصها، وهو وجودها في محل مع تخلف حكمها؛ لأنها أمارة، ويُعَبِّر عنه(2) مانعوه بنقض العلة وفسادها. (القاضي، وأبو الحسين، وبعض الشافعية، والحنفية): يشترط مطلقاً، كالعقلية(3). وتأولت (الحنفية) مسائل الاستحسان بأنها أخرجت من عموم الخطاب لا من عموم القياس، أو من عموم القياس لكن مع جعلها جزءاً من العلة(4). (بعض الشافعية): يشترط(5) في المنصوصة لا المستنبطة؛ لمانعٍ أو عدم شرط، وقيل: عكسه كذلك(6)، وقيل: مطلقاً. (الحفيد): يشترط في الشبهيَّة.
ثم تَخَلُّفُ الحكم قد يكون لعلة أخرى دافعة لتأثيرها فيه، كظن الزوج للحرية الدافع للرقِّيَّة في ولد المملوكة المدلسة(7)، وقد يكون لفقد الأهلية، كقطع الصبي(8)، أو فقد محل العلة، كبيع الميتة(9)، أو فقد شرطها، كسرقة نصاب من غير حرز.
__________
(1) بحيث لا يتخلف عنها في فرع من الفروع.
(2) أي: عن تخصص العلة.
(3) أي: سواء كانت العلة منصوصة أو مستنبطة، إذ التخلف يفسد العلة الشرعة كالعقلية.
(4) هذا جواب على اعتراض ورد على الحنفية، وهو: أنكم تشترطون وجوب اطراد العلة فما بالكم تقولون بالاستحسان، مع أنه إخراج بعض من أفراد الحكم، مع بقاء علته استحساناً؟ فأجابوا بما ذكر، وهو جواب مخلص.
(5) أي: اطراد العلة.
(6) أي: يشترط الاطراد في المستنبطة لا المنصوصة.
(7) وهي التي دلست بأنها حرة.
(8) إذا قطع يد مكلف فلا يُقطع؛ لأنه غير أهل لعدم التكليف.
(9) فإنه لا يصح، لأنها مدفونة فهي مفقودة.

(1/268)


ولا يجب الاحتراز من النقض(1) /247/ مطلقاً، وقيل: يجب مطلقا، وقيل: إلا في المستثنيات كالعرايا(2)، ودفعه(3): يمنع وجود العلة في صورة النقض، أو فقد قيدٍ من قيودها المعتبرة، أو ادعاء ثبوت الحكم، أو إظهار مانع من ثبوته(4).
والفرق بين العلة المخصَّصَة والقاصرة واضح(5).
والمختار وفاقاً (للجمهور): أن تعليل تخلف الحكم بالمانع عنه لا يتوقف على وجود المقتضي له.
(248) فصل (أئمتنا، والجمهور): ولا يشترط انعكاسها، وهو انتفاء الحكم لانتفائها، بل يجوز ثبوته مع أخرى تخلُفها(6)، وقيل: يشترط فيها ذلك، ومبنَى الخلاف على جواز تعليل الحكم الواحد بعلتين فصاعداً على البدل، و:على منع ذلك.
وفي اشتراط ذلك في العقلية، خلاف.
واختلف في تعليله بعلتين فصاعداً مجتمعتين، فقيل: يجوز مطلقاً. (الإمام، والجويني، والغزالي): يمتنع مطلقاً، والمختار وفاقاً (لبعض الأشعرية): جوازه في المنصوصتين لا المستنبطتين، وقيل عكسه. (الحفيد): يجوز مطلقاً /248/ إلا إذا كانت إحداهما مؤثرة أو مناسبة والأخرى شبهية.
وقد توجد(7) مترتبة ودفعة(8).
واتفق القائلون بالجواز على أنها إذا ترتبت ثبت الحكم بأوَّلها، واختلفوا إذا ثبتت دفعة، فالمختار: كل واحدة علة، كما لو انفردت، وقيل جزء، وقيل: واحدة لا بعينها. فأما العلل العقلية فيمتنع اشتراكها في إيجاب حكم واحد.
[خواص العلة]
__________
(1) وهو كسر العلة وعدم اعتبارها.
(2) وذلك لعلم المستدل والمعترض بخروجها من حكم القياس.
(3) أي: دفع النقض بألاّ يكون نقضاً وارداً.
(4) سيأتي تفصيل ذلك في الاعتراضات.
(5) فإن القاصرة لا يجوز تعديتها، والمخصَّصة تُعدى إلا فيما خصه دليل.
(6) أي: يجوز ثبوت الحكم مع وجود علة أخرى تخلفها.
(7) أي: العلتين.
(8) مثل الحيض بعد الجنابة، فإنهما علتان في عدم دخول المسجد وهما مترتبتان، ومثال ما يوجد دفعة: من ارتد وقتل في آن واحد.

(1/269)


(249) فصل وخواص(1) العلة كثيرة، والفرق بينها وبين شروطها: أن الشروط معتبرة في تأثيرها في حكمها بخلاف الخاصة، فليست معتبرة فيه، وإنما هي أمر يخصها في نفسها(2).
والفرق بينها وبين الماهية أن الماهية شاملة لكل المفردات المندرجة تحتها، بخلاف الخاصة، فهي في بعضها دون بعض. فمنها: كونها عقلية، وحكماً شرعياً على الأصح، وثبوتية، ونفيية، علة مستقلة، أو جزءاً، ولو في حكم ثبوتي، خلافاً لبعض الفقهاء، وإضافية، والخلاف فيها كالنفييّة، وحقيقية /249/، ومركبة من الحقيقية والإضافيَّة والنفيّية، ومفردة، ومركبة، على المختار، وإن زادت على خمسة في الأصح، وطاعة، ومعصية، وفعلاً للمكلف، ولغيره، ودافعةً، ورافعة، وصالحةً للأمرين.
ومنها: صدور الحكم عنها، والقسمة العقلية تقتضي: صدور حكم واحد عن علة واحدة. وصدوره عن علتين فصاعداً. وصدور حكمين فصاعداً عن علة واحدة، وصدور أحكام عن علل.
ولا خلاف في القسم الأول، ومنه أكثر الأحكام، وقد يكون بغير شرط، وبشرط، وبشرطين، وبشروط.
والثاني: مختلف فيه على أقوال تقدمت.
والثالث: قيل: ممتنع. والمختار: جوازه، إثباتاً كالسرقة للقطع والفسق، ونفياً كالحيض للصلاة والصوم، وغيرهما. فأما السبب كالغروب(3) فيجوز اتفاقاً، وقد يكون ذلك بغير شرط، وبشرط، وبشرطين، وبشروط، وبشرط /250/ في بعض أحكامها دون بعض.
والرابع: ظاهر. وقد يكون كل أحكامها في محل واحد، وقد يكون بعضها في محل وبعضها في محل آخر، وقد يوجب بعضها الحكم في محله، وفي المحل المتصل بمحله، وفي المحل المنفصل عن محله، كالحيض.
[أقسام العلة وطرقها]
(250) فصل في أقسام العلة وفي الطرق الصحيحة إلى إثباتها
__________
(1) معنى كون الشيء خاصة لشيء: أنه لا يوجد إلا فيه، لا أنه يلزم أن يوجد في كل أفراد ما اختص به كذا في (النظام).
(2) أي: لا تؤخذ إلا معها.
(3) فإنه سبب لحكمين، هما: الإفطار، وصلاة المغرب.

(1/270)


وهي تنقسم إلى: مؤثرة، ومناسبة، وشبهية، وطردية.
[المؤثرة وأقسامها]
فالمؤثرة: ما دل عليها السمع على مراتبه، وإن لم يظهر فيها مناسبة. وطرقها ثلاث:
(الأولى): النص، وهو اللفظ الدال على العليَّة صريحاً، فإن لم يحتمل غيرها فقاطع في العليَّة، نحو: لعلة كذا، أو لسبب، أو لمؤثر، أو لموجب، أو لأجل، أو من أجل، أو ما أشبهها، وإن احتمل غيرها فظاهر فيها، نحو: لكذا، أو إن كان أو بكذا، أو إذن، أو ما أشبهها.
(الثانية): تنبيه النص، ويسمى: الإيماء، وليس من النص في الأصح، وهو اللفظ الدال على العليّة على وجه الإيماء، مع ذكر العلة وحكمها، وهو أربعة أقسام/251/:
الأول: ما يدخل فيه فاء التعقيب والتسبيب في كلام الشارع على العلة، وهو الأقل، والحكم متقدم عليها، نحو: (( فإنه يحشر يوم القيامة ملبياً ))(1) أو على الحكم(2) وهو الأكثر، والعلة متقدمة، والحكم حينئذٍ إمَّا: جواب شرط، نحو: ?وإذَا حَلَلْتُم فَاصْطَادُوا?[المائدة:3]، أو ما في معناه، نحو: ?وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ فَاقْطَعُوْا?[المائدة:4]. أو غير ذلك، كقوله صلى الله عليه وآله وسلم لبريرة: (( ملكت نفسك فاختاري ))(3)، أو في كلام الراوي(4)، نحو: سهى فسجد، فقيهاً كان أو غير فقيه، خلافاً (لأبي حنيفة).
__________
(1) قال في (الدراري): الراوي له البخاري ومسلم، في المحرم الذي وقصته ناقته: "لا تمسوه طيباً ولا تخمروا رأسه".
(2) أي: تدخل فاء التعقيب والتسبيب على الحكم.
(3) روى الدار قطني 3/290 عن عائشة أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قال لبريرة: "اذهبي فقد عتق معك بضعك".
(4) عطف على قوله: في كلام الشارع.

(1/271)


الثاني: ما اقترنت فيه العلة بحكم، لولم تكن هي أو نظيرها علةً له لكان ذكر الشارع لذلك الحكم بعيداً، فاقترانها: كقوله صلى الله عليه وآله وسلم للأعرابي القائل: واقعت أهلي في نهار رمضان: (( إعتق رقبة ))(1)، فكأنه قيل: إذا واقعت فكفِّر.
فإن تعددت أوصافها واحتمل أن يكون علة الحكم مجموعها أو بعضها ثم اعتبر بعضٌ وألغي بعضٌ /252/ بدليلي الاعتبار والإلغاء؛ فتنقيح المناط، وتهذيبه، وتجريده، كقوله صلى الله عليه وآله وسلم - جواباً لمن قال: أيجوز بيع الرطب بالتمر؟ -: (( أينقص إذا جف )) ؟ قالوا: نعم، قال: (( فلا إذاً ))(2). فوقف الحكم على العلة التي قرّرها. واقتران نظيرها: كقوله صلى الله عليه وآله وسلم: (( أرأيت لو كان على أبيك دين فقضيته أكان ينفعه؟ ))(3). جواباً للقائلة: إن أبي أدركته الوفاة وعليه فريضة الحج، أينفعه إن حججت عنه؟ وفيه تنبيه على الأصل والفرع والعلة. ومنه - وفاقاً (للجمهور) -: قوله صلى الله عليه وعلى آله وسلم لعمر لما سأله عن قبلة الصائم: (( أرأيت لو تمضمضت بماء أكان ذلك مفسداً )) (4) ؟ فقال: لا، ليس ينقض. لما توهم عمر من إفساد مقدمة الإفساد، خلافاً (للآمدي).
__________
(1) أخرجه أحمد 2/281، والدارمي 2/19 عن أبي هريرة.
(2) أخرجه أبو يعلى 2/141، والطحاوي في شرح معاني الآثار 4/6، والبيهقي 5/295، والنسائي 7/268 عن سعد بن مالك.
(3) أخرجه عبد بن حميد كما في المنتخب 213، والدار قطني 2/260 عن ابن عباس.
(4) روى البيهقي في السنن الكبرى 4/218 عن عمر بن الخطاب أنه قال: هششت يوما فقَبَّلت وأنا صائم، فأتيت رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فقلت: صنعت اليوم أمراً عظيماً، قبَّلت وأنا صائم، فقال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: "أرأيت لو تمضمضت بماء وأنت صائم"؟ قال: فقلت: لا بأس بذلك، قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: "ففيم".

(1/272)


الثالث: ما نهي فيه عما يمنع من وجود الواجب، كقوله تعالى: ?وَذَرُوا البَيْعَ?[الجمعة:9] بعد الأمر بالسعي.
الرابع: ما فرق فيه بين حكمين بصفة مع ذكرهما /253/، نحو: (( للراجل سهم وللفارس سهمان ))(1)، أو ذكر أحدهما فقط منقطعاً من عموم سابق، كقوله صلى الله عليه وآله وسلم: (( القاتل عمداً لا يرث))(2) بعد نزول آية المواريث العامَّة، وكقوله صلى الله عليه وآله وسلم: (( لا يقضِ القاضي وهو غضبان ))(3) بعد تقدم الأمر بالقضاء مطلقاً. أو(4) بشرط، أو غاية، أو استثناء، أو استدراك، كقوله صلى الله عليه وآله وسلم: (( إذا اختلف الجنسان فبيعوا كيف شئتم ))(5) ?وَلاَ تَقْرَبُوهُنَّ حَتَّى يَطْهُرْنَ?[البقرة:220] و?إلاَّ أنْ يَعْفُونَ?[البقر:235] ?وَلَكِنْ يُؤآخِذُكُمْ بِمَا عَقَّدْتُمُ الأيْمَانِ?[المائدة:91].
فرع
__________
(1) أخرجه ابن حبان 11/139 عن ابن عمر، وله شواهد كثيرة.
(2) أخرج نحوه الدارمي 2/478، والبيهقي 6/220 عن ابن عباس.
(3) أخرجه احمد 5/36، وابو داود 3/302، وابن الجارود 250 وغيرهم عن أبي بكرة.
(4) عطف على قوله: بصفة.
(5) حكاه القرطبي في تفسير سورة النحل آية (14).

(1/273)


فإن ذكرت العلة فقط والحكم مستنبط، نحو: ?وَأَحَلَّ اللَّهُ البَيْعَ(1)?(2)[البقرة:286]، وعكسه كالخمر حرام، فقيل: كل منهما إيماء، بناءً على أنه اقتران العلة بالحكم، وإن قُدر أحدهما. وقيل: ليسا بإيماء، بناءً على أنه لا بد من ذكرهما معاً. والمختار وفاقاً (لأكثر المحققين): أن الأول إيماء لا الثاني /254/؛ لأن ذكر علة الحكم كذكره لاستلزامها إياه، كالحل لصحة البيع؛ والعلة الثابتة بالإيماء المناسبَة لحكمها معتبرة اتفاقاً، ولا يشترط - وفاقاً (للجمهور)-: ظهور مناسبتها. ومطلق اعتبارها لا يجوز تغييره، كالغضب(3)، فأما تعيينه من كونه لعينها أو لمعنى تضمنته فيجوز تغييره بأنواع الأدلة.
(الثالثة): الإجماع، خلافاً (للرازي)، كإجماعهم على أن الصغر علة ولاية المال، فإن كان ظنياً فهي ظنية، أو قطعياً فهي قطعية وإن كان مستنده أمارة. وأمَّا حجة الإجماع(4) فستأتي.
[المناسبة وأقسامها]
(251) فصل والمناسبة عند (أئمتنا، والمعتزلة) هي: الظاهرة المنضبطة الثابتة بمجرد مناسبتها لحكمها عقلاً، لحصول مصلحة أو دفع مفسدة كالإسكار للتحريم.
وعند (الأشعرية): الملائمة لأفعال العقلاء عادة.
وتسمى: تخريج المناط. فإن كانت خفيَّة أو غير منضبطة، اعتبر في العِلِّية ملازمها الذي هو /255/ مظنتها؛ لأن الخفيَّة وغير المنضبطة لا يعرِّفان الحكم؛ إذ هما غيب، فلا يعرفان الغيب. والخفيَّة كالعمدية المناسبة للقصاص؛ إذ هي قصد القلب، وهو أمر نفسي لا يدرك، فاعتبر ملازمها وهو الفعل المخصوص المقضي عليه عرفاً بأنه عمد؛ كاستعمال الجارح في المقتل؛ لأنه مظنتها. وغير المنضبطة كالمشقة المناسبة للقصر. فاعتبر ملازمها وهو السفر؛ لأنه مظنتها.
__________
(1) فإن الحل علة لصحة البيع.
(2) فإن الحل علة لصحة البيع.
(3) في قوله (ص): "لا يقضٍ القاضي وهو غضبان".
(4) وهي: السبر والتقسيم.

(1/274)


والمناسبة معتبرة عند (أئمتنا، والجمهور)، خلافاً (للمريسي، وأبي زيد، وأصحابه، والمراوزة).
(252) فصل والمقصود من شرع الحكم جلب مصلحة، أو دفع مفسدة، أو مجموعهما، وقد يحصل ذلك يقيناً كالبيع، أو ظناً كالقصاص، وقد يكون الحصول ونفيه متساويين، كحد الخمر، وقد يكون نفي الحصول أرجح، كنكاح الآيسة لمصلحة التوالد(1).
والتعليل بالأولين إتفاق؛ إذ الأول متيقن، والثاني مظنون. ومنع بعضهم التعليل /256/ بالثالث؛ لاستواء الحصول وعدمه، وبالرابع؛ لمرجوحيته، وأثبته (الجمهور) اعتباراً للمظنة، وإن انتفى الظن في بعض الجزئيات؛ كاعتبار السفر للقصر؛ لأنه مظنة المشقة، وإن انتفى ظنها في حق الملِك المترفِّه. فأمَّا لو كان حصول المقصود فائتاً قطعاً كلحوق النَّسب في تزويج مشرقيٍ بمغربية علم عدم تلاقيهما(2)، وكمعرفة فراغ الرحم في استبراء جارية اشتراها بائعها ممن باعها إليه في المجلس(3). فالمختار وفاقاً (للجمهور): منع التعليل به؛ لامتناع شرع الحكم مع القطع بانتفاء حكمته، خلافاً (للحنفية)، وإيجاب الاستبراء في الصورة الثانية تعبّد.
(253) فصل وينقسم المناسب باعتبار نفسه إلى: حقيقيٍّ عقليّ، وخياليّ إقناعي.
(فالحقيقي): ما روعي فيه المصالح الدينية أو الدنيوية مع قوة مناسبته، وكونها لا تزداد على كثرة /257/ البحث والتأمل إلا وضوحاً. وأقسامه ثلاثة:
الأول: ما يقع في محل الضرورة، ويلقب بالضروري، وهو: ما روعي فيه المقاصد التي لا يقوم الدين إلا بحفظها. ومناسبتها في غاية الوضوح وأعلى المراتب، وهي قسمان:
__________
(1) لأن عدد من لا ينجب منهن أكثر من عدد من ينجب.
(2) فإن المقصود - وهو لحوق النسب - غير حاصل قطعاً، فيمتنع التعليل به لامتناع الحكم، وهو التزويج من دون حكمته وهي لحوق النسب.
(3) فإنه يعلم قطعاً فراغ رحمها، ولهذا جعلوا الاستبراء فيها تعبدا.

(1/275)


ضروري في أصله؛ كالكليَّات الخمس المراعاة في كل شرع، وهي: حفظ الدين بقتل الكفار، والنفس بالقصاص، والعقل بحد المسكر، والنسب بحد الزنا، والمال بحد السارق والمحارب.
ومكمِّل له، كحد قليل المسكر، ومماثلة القصاص. ويجوز اختلاف الشرائع في المكمّل وما بعده.
والثاني: ما يقع في محل الحاجة، ويلقب بالحاجي، وهو: ما تدعو إليه الحاجة لا الضرورة، ورتبته دون الأول، وهو قسمان:
أصلي، كالبيع والإجارة، والقرض، وتسليط الولي على تزويج الصغيرة، ونحوها، وبعضها آكَد /258/ من بعض، فأما الإجارة على تربية الطفل وشراء المطعوم والملبوس له ولغيره، فقيل ضرورته أصلية، وقيل: ضرورته حاجية؛ لأنَّها قد تكون ضرورية، ومكمل له، كوجوب رعاية الكفارة ومهر المثل في الصغيرة، فإنه أشد إفضاء إلى دوام النكاح، وإن كان المقصود حاصلاً بدونهما.
والثالث: ما يقع في محل التحسين، ويُلَقب بالعادي، وهو ما تدعو إليه رعاية محاسن العادات لا الضرورة ولا الحاجة، ورتبته دونهما، وهو قسمان:
ما لا يعارض القواعد المعتبرة، كتقييد النكاح بالشهادة، وسلب الرق أهليتها(1)، وترك القسم له من الغنائم.
وما يعارضها كشرع الكتابة، فهو مع استحسانه عادة معارض للقواعد؛ لأنه بيع المال بالمال، ولا مكمل له(2).
وقد تجتمع الثلاثة في وصف على رأي كالنفقة، وهي ضرورية للنفس، حاجيَّة للزوجات، تحسينيَّة/259/ للأقارب.
__________
(1) أي: كون الرق سالباً أهلية الشهادة.
(2) أي: للعادي.

(1/276)


(والخيالي الإقناعي): ما تُتَخَيَّ‍ل فيه مناسبة تُميّزه عن الطرد في أول وهلة، ثم إذا حقق النظر فيه ظهر عدمها حتى لا يزداد على كثرة البحث والتأمل إلا تلاشياً، كتعليل تحريم بيع الميتة بالنجاسة، وقياس الكلب عليها بجامعها، فمناسبتها للتحريم فيها خيالية إقناعية، من جهة أن نجاسة الشيء تناسب إذلاله، ومقابلته بمالٍ يناسب إعزازه، وبينهما منافاة، فمناسبة النجاسة للتحريم متخيلة، لكنها تضمحل مع التأمل؛ لأن معناها كون الصلاة معها غير مجزية، ولا مناسبة بينه وبين التحريم.
(254) فصل وينقسم باعتبار نظر الشارع، إلى: ما عُلِمَ اعتباره، وما علم إلغاؤه، وما لم يعلم فيه واحد منهما.
فالأول أربعة أقسام:
[1] ما تُؤثِّر عينُه في عين الحكم، كتأثير عين المسكر في تحريم الخمر والنبيذ /260/.
[2] وما تُؤثِّر عينه في جنس الحكم، كالتعليل بالصغر في قياس ولاية نكاح الصغيرة على ولاية ما لها، فعين الصغر مؤثر في جنس حكم الولاية.
[3] وما يُؤثِّر جنسه في عين الحكم، كالتعليل بالحرج في قياس الْحَضَر حال المطر على السفر في الجمع، فجنس الحرج مؤثر في عين رخصة الجمع.
[4] وما يُؤثِّر جنسه في جنس الحكم، كالتعليل بجناية العمد العدوان في قياس الأطراف على النفس في القصاص، فجنس الجناية مؤثر في جنس القصاص.

(1/277)


(255) فصل والثاني: كجعل ثلاث تطليقات لم يتخللهن رجعة ثلاثاً، دفعاً للتتابع في الطلاق(1)، بعد تقرير كونها واحدة. وتوريث المبتوتة في مرض الموت لئلا ترث(2)، وإيجاب صوم شهرين متتابعين ابتداءً(3) على المجامع في نهار رمضان، الذي يكون الصوم أشق عليه من العتق. وترك حيّ على خير العمل في الأذان ترغيباً في الجهاد(4) /161/. ووضع الحديث للترغيب والترهيب. والكفر لإسقاط المظالم، أو لنحو ذلك، وقطع أذن المؤذي أو شفتيه أو أنفه. أو الضرب بالتهمة لإخراج السرقة. فَجِنْسُ الزجر، والترغيب والترهيب، والسعي في براءة الذمة، وحفظ العرض والمال معتبرٌ، لكن مصادمة الدليل القاطع ـ وهو الإجماع(5) - تمنع من اعتباره هاهنا.
(256) فصل والثالث: المناسب المرسل، ويسمى: القياس المرسل، والاستدلال المرسل، والمصلحة المرسلة، وهو ضرب من الاجتهاد. وقبله: (المالكية) مطلقاً، فأفرطوا ووقعوا في مخالفة النصوص، وخرجوا منه إلى القسم الثاني المردود، كقتل الثلث لإصلاح الثلثين. ورده: (الباقلاني، وطائفة) مطلقاً، ففرطوا، ولزمهم خلو كثير من الوقائع عن الأحكام. والمختار عند (أئمتنا، والجمهور) /262/: قبوله؛ إذا كانت المصلحة غير مصادمَة لنصوص الشارع(6)، ملائمة لقواعد أصوله(7)، خالصة عن معارض(8) لا أصل لها معيّن(9).
__________
(1) على سبيل العقوبة.
(2) أي: التي طلقها زوجها ثلاثاً متخلل الرجعة في مرض الموت لئلا ترث، فتورث معارضة له بنقيض قصده.
(3) أي قبل العتق والإطعام.
(4) لئلا يتكل الناس على الصلاة باعتبارها خير العمل، فيتركوا الجهاد.
(5) سقط من (أ): القاطع وهو الإجماع.
(6) كإفتاء الملك بالصوم بدلاً عن الإطعام.
(7) أي: وتكون المصلحة ملائمة لمقتضى أصول الشرع.
(8) كالضرب للتهمة في السَّرقة، فإنها مصلحة لاستخراج السرقة، ولكنها معارضة بعصمة النفوس من الأذى.
(9) لأنها إذا كان لها أصل معين لم تكن مصلحة مرسلة، وإنما قياس من جملة الأقيسة.

(1/278)


واشترط الغزالي في قبوله كون المصلحة ضروريّة، كلية، قطعية.
وأمثلته كثيرة، منها: قتل المسلم المترَّس به، وعدم قبول توبة الملاحدة، (كالباطنية)، وتكبير (بعض أئمتنا) أربعاً في صلاة الجنازة اجتهاداً للتأليف، واجتهاده الأصلي أنها خمس، وتقديم المصلحة العامَّة كالجهاد على الخاصة كالقود، وتناول سد الرمق عند تطبيق الجذام للأرض(1) أو لناحية يتعذر الانتقال منها، وتحريم نكاح العاجز عن الوطء من تعصي لتركه، وهذه في محل الضروريات.
ومنها: فسخ امرأة المفقود، وفسخ من عقد لها وليَّان عَقْدُ أحدهما سابق، لكنه لم يعلم، واعتداد من انقطع حيضها لا لعارض معلوم بالأشهر(2)، لما في /263/ التربص من الضرر بها، وأخذ نصف مال المسلم لدفع من يأخذ كله، وهذه في محل الحاجيات.
(257) فصل وتبطل المناسبة بمفسدة تلزم الحكم، راجحة على المصلحة، أو مساوية لها على المختار فيهما، خلافاً لقوم، كالصلاة في الدار المغصوبة؛ إذ لا مصلحة مع مفسدة زائدة عليها أو مثلها.
والترجيح تفصيلاً يختلف باختلاف المسائل، وقد يرجح بطريق إجمالية، وهو أنه لو لم يقدر رُجحان المصلحة على المفسدة المعارضة لزم التَّعبّد بالحكم لا لمصلحة.
[العلة الشبهية]
__________
(1) أي انتشاره بشكل واسع حتى يعم.
(2) متعلق باعتداد.

(1/279)


(258) فصل والشَّبَهِيَّة: وصف يوهم المناسبة، ليس بمؤثرٍ ولا مناسب عقلي كالكيل والطهارة، فتتميّز بالقيد الأول عن الطردية؛ لفقد إيهام المناسبة فيها(1)؛ إذ وجودها كالعدم. وبالثاني عن المؤثرة. وبالثالث عن المناسبة؛ لأن مناسبتها عقلية /264/، وهي منزلة بينها وبين الطردية(2)، تشبه كل منهما من وجه، وتخالفه من آخر، ولذلك صَعُبَ حدُّها، ودَقَّ الفرق بينها وبينهما سيما بينها وبين الطردية، وإحالته إلى الذوق أولى. وهي(3) فوقها ودون المناسبة. ولا يصار إليها مع إمكان المؤثرة والمناسبة إجماعاً، فإن تعذرتا صح التعليل بها عند: (أئمتنا، والجمهور)، خلافاً: (لأبي زيد، وأصحابه، والباقلاني، وبعض الشافعية). وسميت: شبهية؛ لأن ما فيها من إيهام المناسبة لحكمها يقتضي ظن اعتبارها كالمناسبة، وعَدَمَ مناسبتها له عقلاً يقتضي عدم ظن اعتبارها كالطردية، فاشتبه أمرها.
ولاعتبار (الجمهور) لها توهّم بعضهم أن بينها وبين الطردية فرقاً ذاتياً كالمناسبة، وهو فاسد؛ لأنهما من جنس واحد وإنما افترقا لما في الشبهيّة من إيهام المناسبَة.
(259) فصل وطريق المناسبة والشبهيَّة الاستنباط، وهو ثلاثة /265/ أقسام:
(الأول): المناسبة العقلية ويخص الأولى. وإيهامها ويخص الثانية، وهي طريق معتبرة عند مثبتي العلل بالاستنباط سيما الأولى.
(الثاني): التقسيم والسبر، ويسمى: حجة الإجماع، وذلك حيث يُجمع على أن حكم الأصل معلَّلٌ من دون تعيين علته، ثم تُحْصَر الأوصاف التي يمكن أنها العلة ويبطل ما لا يصلح بإحدى طرق الإبطال الثلاثة وستأتي؛ فيتعين الباقي لكونه علة. ويكفي(4): بحثت فلم أجد. والأصل عدم ما سواه. فإن بين المعترض وصفاً آخر لزم إبطاله لا انقطاع المستدل. والمجتهد يرجع إلى ظنه.
__________
(1) أي الطردية.
(2) يعني: أن الشبهية منزلة بين المناسبة والطردية.
(3) أي: الشبهية فوق الطردية.
(4) في حصر الأوصاف.

(1/280)


فإن كان الإجماع قطعياً وعلم انحصارها في أقسام معيّنة، وأن كلها باطلة إلا واحد منها فهي قطعية، وإن كانت الثلاثة(1) ظنية أو بعضها فهي ظنية.
وحيث يكون /266/ السبر بالنفي والإثبات، فهو: الحاصر، وإلا فهو غير الحاصر(2)، ولا يفيد العلم.
فإن لم يكن إجماع على أن حكم الأصل معلل، وكان السبر غير حاصر؛ فعند (الجويني) أنه ليس بطريق إلى كونها علة؛ لأنه غير مثمر للظن. (الباقلاني): بل طريق لإثماره الظن. (الإمام): محل اجتهاد. ولا يسمى حينئذ حجة إجماع.
وطرق إبطال ما عدا الباقي ثلاث: الإلغاء، وهو: أن يبيّن المستدل ثبوت الحكم بالباقي دون المبطل. وكون المبطل طردياً، إما مطلقاً، كالطول والقصر(3)، أو بالنسبة إلى ذلك الحكم كالذكورة والأنوثة في العتق(4). وعدم ظهور مناسبة المبطل. ويكفي المستدل قوله للمعترض: بحثت فلم أجد مناسبة ولا ما يوهمها فيما أبطلته، فإن ادعى المعترض أن الباقي كذلك(5) فليس للمستدل بيان مناسبته؛ لأنه انتقال(6)، لكن يُرجح سبره بموافقته للتعديَة.
(الثالث): الطرد والعكس، فالطرد: ثبوت الحكم /267/ عند ثبوت الوصف، والعكس: انتفاؤه عند انتفائه، كالحلاوة في العصير. وتسمى: الدوران، والعلة: مداراً، والحكم: دائراً.
__________
(1) أي: الإجماع والحصر والإبطال.
(2) الحاصر مثل قولنا: إما أن تكون العلة كذا أو لا.. فقد حصلت حقيقة الحصر فيه؛ لأن العلم لا يخلو من النفي والإثبات. ومثال غير الحاصر، قولنا: العلة إما الإسكار أو الاتخاذ من العنب، واعتبر غير حاصر؛ لأن العلة قد تخلو عن أحدهما وتكون غيرهما.
(3) فإنهما لا اعتبار لهما في الشرع أصلاً.
(4) فإنهما طرديان فيه، وإن اعتبرا في غيره.
(5) أي: لم يجد فيه مناسبة ولا ما يوهمها بعد ما بحث.
(6) يعني: انتقال عن السبر إلى الإخالة، وحينئذٍ لا تجد إلا التحكم باعتبار وصف دون وصف. من (النظام).

(1/281)


واختلف في دلالته على العليَّة بنفسه، فعند (أبي طالب، والمنصور، وجمهور المعتزلة، وبعض الشافعية): أنه يدل عليها فيؤخذ به في العقليات والشرعيات. (الصيرفي، والشيرازي، والباقلاني): لا يدل عليها، فلا يؤخذ به فيهما. (الإمام، وجمهور الأشعرية): يدل عليها ظناً فيؤخذ به في الشرعيات فقط. والمختار: قبوله فيهما، لكن مع زيادة قيدٍ، وهو: ألا يكون هناك ما تعليق الحكم به أولى.
(260) فصل وتحقيق المناط، إثبات علة الأصل مطلقاً(1) في الفرع، كالنبيذ؛ فمبناه على مقدمتين: أولاهما: ثابتة بالسمع فقط، أو به وبالاستنباط، وذلك في الأصل. والثانية: مدركة بنوع من النظر، وذلك في الفرع /268/.
وتعيين المناط: تعلق الحكم بوصفين فصاعداً على البدل، ثم يعين أحدهما الاجتهاد، كعلة الربا(2).
[العلة الطردية]
(261) فصل والطرديّة: وصف ليس بمؤثر ولا مناسب ولا موهم للمناسبة، كقولهم في منع إزالة النجاسة بالخل: مائع لا تبنى القنطرَة على جنسه؛ فلم يرفع النجاسة كالزيت، وفي كون مس الذكر لا ينقض الوضوء: طويل مجوف؛ فلا ينتقض الوضوء بلمسه كقصبة اليراع، ونحو ذلك. ويسمى: إلغاء المناط، وتعطيل المناط، والطرد المهجور.
ويحمل ما ذكره (الهادي عليه السلام) في كتاب (القياس) وغيره من قدماء الأئمة من ذم القياس وأهله على الطرد ونحوه.
وردها(3) (أئمتنا، والجمهور) مطلقاً؛ لأن التحليل بها مجازفة، وقبلها (بعض(4) الحنفية) مطلقاً مع اطرادها، و(الكرخي) في الجدل لا العمل، وقيل: لا تقبل علة مستقلَّة، بل جزء علة لدفع النقض
__________
(1) أي: مؤثرة أو مناسبة.
(2) حيث اتفق على التعليل بوصفين، وعلى حد الوصفين وهو اختلاف الجنس، واختلف في تعيين الآخر، فقيل: التقدير بالكيل والوزن كما عندنا، وقيل: الطعم، وقيل: القوت.
(3) أي العلة الطردية.
(4) سقط من (أ): بعض.

(1/282)


(262) فصل ودليل /269/ اعتبار المستنبطة مناسبة كانت أو شبهيَّة، بعد ثبوتها بإحدى طرقها المتقدمة؛ أنَّه لا بد لكل حكم تعبدي من علة وجوباً عند (أئمتنا، والمعتزلة)(1)، وعادة عند (الأشعرية)، والنصوص غير وافية، فوجب العمل بها(2).
وإذا كان طريقها المناسبة العقلية، سمي: قياس الإخالة، أو إيهامها سمي: قياس الشَبَه، أو التقسيم والسبر سمي: قياس السبر، أو الطرد والعكس سمي: قياس الاطراد.
[الطرق الفاسدة لإثبات العلة]
(263) فصل والطرق الفاسدة في إثبات العلة ست، وهي: قولهم: الدليل على هذه العلة اطرادها في معَلَّلاتها. أو عَجِزَ الخصم عن إبطالها(3). أو ما ذكرته تعدية، واعتبار لحكم الفرع بالأصل، فيجب قبوله؛ لاندراجه تحت قوله تعالى: ?فَاعْتَبِرُوا يَا أولِي الأبْصَارِ?[الحشر:2]. أو يدل على صحتها سلامتها عن علة تعارضها. أو مجاورتها للحكم دون غيرها /270/، أو كونها مسلمة بين الخصمين.
(264) فصل ومفسدات العلة: قطعيَّة وظنية.
فالقطعية: قد تكون من جهة الأصل؛ بأن تنتزع من أصل غير قابل للتعليل، أو منسوخ، أو ثابتٍ بقياس.
ومن جهة الفرع؛ بأن تكون علة الأصل غير ثابتة فيه، أو يكون حكمه في قياس الطرد مخالفاً لحكم أصله مطلقاً، أو بزيادة أو نقصان فيه.
أو من جهة طريقها؛ بأن يكون إثباتها لا بدليل شرعي، بل بمجرد التحكم، أو بدليل عقلي، أو يكون الأصل الذي استنبطت منه معارَضاً بقاطع.
__________
(1) لكون الشرائع مصالح.
(2) أي: بالعلة المستنبطة التي لم ينص عليها الشارع بأحد أقسام النص الثلاثة، والمسألة مهمة ومحتاجة إلى النظر، وغلقُ الباب أمام العقل والتعليل كما يراه نفاة القياس مطلقاً تفريط بالغ، وفتح الباب على مصراعيه، بلا حدود، ولا ضوابط كما يروج له البعض إفراط، والحق بينهما مع مراعاة الأهلية لذلك والاختصاص.
(3) يعني: أو قول المستدل: عجز الخصم.. الخ

(1/283)


ومن جهة مخالفة وضع القياس، وهي إثبات الأصول به(1)، كقياس العمل بالقياس وخبر الواحد على الشهادة، ويسمَّى: فساد الاعتبار.
والظنية: كتخصيصها، أو تخصيص العام بها عند مانعهما، أو معارضتها بأخرى تدل على نقيض حكمها عند المصوّبة، أو إثباتها بالطرد والعكس /271/ عند من لا يراه طريقاً إلى إثباتها، أو بخبر الواحد عند مشترط القطع بأصلها، أو مخالفتها مذهب الصحابي عند مانعه، أو كون محل القياس فيها الكفارات والحدود عند مانعه فيهما، أو كون وجودها في الفرع مظنوناً عند مشترط القطع بوجودها فيه، أو كونها شبهيَّة عند مانعها، ونحو ذلك من الاختلافات الجارية في أقيسة مسائل الاجتهاد.
واختلف في فحوى الخطاب، وما في معنى الأصل، والاستحسان، هل هي قياس أم لا؟ وقد سبق ذلك الخلاف في الأولين(2).
[الاستحسان]
(265) فصل والاستحسان في أصل اللغة: اعتقاد حسن الشيء. وفي عرفها: الاستحلاء. واختلف فيه اصطلاحاً، فأثبته: (أئمتنا، والحنفية، والبصرية، والحنابلة) /272/، ونفاه: (الشافعية، والأشعرية، والمريسي)، وبالغوا في إنكاره، وشنعوا على (الحنفية)، حتى قال (الشافعي): (( من استحسن فقد شرّع )).
وليس الخلاف في الاستحسان بمعنى: فعل الواجب أو الأولى، ولا في: إطلاق لفظه إتفاقاً، ولا بمعنى: ما تميل إليه النفس، ولا: اتباع الأضعف مع وجود الأقوى على الأصح، وإنما هو في أمر وراء ذلك.
__________
(1) أي: المسائل الأصولية المهمة كإثبات التعبد بخبر الواحد، والقياس بالقياس على الشهادة.
(2) في باب المنطوق والمفهوم.

(1/284)


واختلف في حده، فعند: (أبي طالب، والمنصور، والكرخي، وأبي عبد الله): أنه العدول بحكم المسألة عن حكم نظائرها، إلى خلافه لوجه أقوى من الأول. (المؤيَّد، وبعض الحنفية): العدول عن موجب قياسٍ إلى قياسٍ أقوى. (الإمام، وأبو الحسين، والحفيد، وغيرهم): ترك وجه من وجوه الاجتهاد غير شامل شمول الألفاظ، لوجهٍ أقوى من المتروك يكون في حكم الطاري عليه. وقيل: تخصيص قياس بدليل أقوى منه، وقيل: هو ترك طريقة إلى أقوى /273/ منها، ولا نزاع في الجميع. وقيل: هو: العدول عن حكم الدليل إلى العادة، لمصلحة الناس، كدخول الحمام(1)، ورُدّ بأنها إن كانت حقاً فقد قام دليلها وإلا ردت. وقيل: دليل ينقدح في نفس المجتهد تقصر عبارته عنه، ورُد بأنه إن تحقق فمعتبرٌ، وإلا فليس بمعتبر.
والمختار وفاقاً (للجمهور): أنه لا يتحقق استحسان بمختلف فيه؛ لأن الخلاف إن عاد إلى اللفظ فلا مشاحة في العبارة بعد صحة المعنى من غير إيهام، وإن عاد إلى المعنى فرجوعه إلى الترجيح بين الأدلة الشرعية، وهو متفق عليه، لكن لا بد من دليلين: معدولٍ عنه مرجوح، ومرجوع إليه راجح(2).
[الاعتراضات]
(266) فصل والاعتراضات الواردة على قياس العلة ترجع إلى: منع، أو معارضة، وإلا لم تقبل، ولا يجب معرفتها على المجتهد، ولذلك لم يتعرض لذكرها بعض الأصوليين وهي عشرة:
__________
(1) ولعله ما يدعو إليه بعض المعاصرين سيما إذا كان الدليل ظني الثبوت والدلالة أو الثبوت، والفرق بينه وبين ما قبله أن ما قبله لم يخرج عن مقتضى الدليل بخلاف هذا فقد خرج إلى العادة للمصلحة.
(2) هذا كلام هام ويزاد عليه أنه يكفي في المرجوع إليه أن يكون أصلاً عاماً أو مصلحة عامة قام دليل اعتبارها ثبتت في محل الاستحسان ولا يشترط أن يكون نصاً خاصاً، وفي المعدول عنه أنه لا يكون ثابتاً بنص قطعي من الكتاب أو السنة لا من الإجماع والقياس ففي قطعيتهما نظر.

(1/285)


الأول: المنع، وقد /274/ يكون في الأصل، إمَّا بمنع كونه معللاً، نحو: النبيذ مشتد فهو حرام كالخمر، فيمنع المعترض كون الخمر معللاً. أو بمنع حكمه، ولا ينقطع المستدل بمجرده على الأصح، نحو: السرجين(1) نجس فلا يباع، كالكلب، فيمنع كون الكلب لا يباع. أو بمنع وجود علته، نحو: الماء مطعوم، فيجري فيه الربا كالبُر، فيمنع كون البر مطعوماً مثلاً. أو بمنع كونها علة وإن وجدت فيه كالسفرجل، وإن سلم أنه مطعوم كالبر، فلا يُسَلَّم أن الطعم علة الربا.
وقد يكون في الفرع بمنع وجود علة الأصل فيه، نحو أُسَلِّم أن الطعم علة الربا في البر وأمنع وجودها في الماء، وعلى المستدل إثباتها بإحدى طرقها المتقدمة.
وقد يكون في الأصل والفرع معاً، بمنع وجودها فيهما، كقولهم في الكلب: يغسل الإناء من ولوغه سبعاً، فلا يطهر جلده بالدباغ كالخنزير، فيمنع العلة /275/ فيهما.
الثاني: المطالبة بتصحيح العلة، وهو من أقوى الاعتراضات، وجوابه بإثباتها بإحدى طرقها، ولم يعده (الباقلاني) منها؛ لأن الواجب على المستدل في الاجتهاد والمناظرة تصحيح علته قبل أن يطالب بذلك؛ إذ لا يكون آتياً بصورة القياس إلاَّ بعد تصحيحها، فإن سكت عنه فهو مقصر. والمختار وفاقاً (للغزالي): أنه كذلك في الاجتهاد لا الجدل.
الثالث: فساد الوضع والاعتبار، فالأول: ما خالف النصوص والأصول من الأوصاف المعلق عليها ضد الحكم، كتعليل نجاسة سور السبع بأنه: سبع ذو ناب، فكان سوره نجساً كالكلب، فيقال: السبعية علةٌ للطهارة بالنص، فلا يعلق عليها ضد حكمها، وكتعليل سقوط الكفارة في قتل العمد عن العامد بأنه: معنى يوجب القتل ولا يوجبها كالردة، فيقال: الأصول توجب تغليظ الحكم للعمدية فلا يتعلق بها التخفيف /276/؛ لأنه ضد مقتضاها.
__________
(1) السرجين: مخلفات الحيوانات.

(1/286)


والثاني: ما حمل فيه الحكم على حكم يخالفه، وقد يكون بمخالفة النص، كتعليل تعليق الطلاق بالنساء(1) بأنه عدد تتعلق به البينونة، فاعتبر بهنَّ(2) كالعدة، فيقال: اعتبار فاسد لمخالفة النص، وهو الطلاق بالرجال.
وقد يكون بمخالفة الأصول، كاعتبار القليل بالكبير، كقياس قليل النجاسة على كثيرها، والصغير بالكثير، كإيجاب الزكاة في مال الصغير، قياساً على الكبير، والحي بالميت، كرفع وجوب المضمضة على الحي قياساً على الميت في غسله، والمبدل عنه بالبدل، كقياس الوضوء على التيمم في وجوب النية، والكافر بالمسلم، كقياس الرقبة الكافرة على المسلمة في صحة الكفارة بها، والغني بالفقير، كإيجاب الجزيَة على الذمي الفقير قياساً على الغني، والمرأة بالرجل، كقتلها بالردة قياساً عليه.
فهذه الوجوه السبعة عدها كثير من /277/ الفقهاء من فسَاد الاعتبار لمخالفتها الأصول.
والمختار: اعتبار الجامع المعتبر، فمتى وجد لزمه الحكم والإ فلا، من غير التفات إلى هذه الوجوه، وجوابُهما(3): بالطعن في النص أو تأويله، ومنع مخالفة الأصول.
الرابع: القول بالموجب، وهو: تسليم ما جعله المستدل علة مع بقاء النزاع في الحكم، كما إذا استدل على وجوب الزكاة في الخيل بأنها حيوان يسابق عليه، فيجب فيه الزكاة كالإبل، فيقال بموجب العلة مع منع وجوب الزكاة فيها.
والمختار وفاقاً للمحققين: أنه اعتراض صحيح مبطل للعلة؛ لانقطاع المتمسَك بها في محل النزاع، بأن موجبها محل النزاع.
الخامس: النقض، وهو: وجود العلة في محل، مع تخلف حكمها منصوصة كانت أو مستنبطة، وقد تقدم مفصلاً.
__________
(1) أي: جعله إليهن، وهذا على سبيل التمثيل.
(2) أي: النساء.
(3) أي: مخالفة النص ومخالفة الأصول.

(1/287)


السادس: الكسر، وهو: تأخر حكم العلة عنها في فرع يقوم فيه /278/ معنى لا لفظاً عند المعترض، بأن يرفع وصفاً من أوصافها؛ لظنه أنه لا تأثير له في حكمها، وأن المؤثر ما عداه، أو يبدِله بوصف في معناه، ثم يكسر العلة بعدهما. فالأول: نحو: أن يستدل على وجوب تعيين النية في صوم رمضان بأنه: صَوْمٌ مفروض فيفتقر إلى تعيينها، كالقضاء، فيظن المعترض أنه لا تأثير لصَوْمٌ في ثبوت الحكم، وأن المؤثر ما عداه، فلا يعتبره، ثم يكسرها بالحجج، فإنه لا يجب فيه التعيين.
والثاني: نحو: أن يستدل على منع بيع ما لم يره المشتري بأنه: مَبِيْعٌ مجهول الصفة عند العاقد حالة العقد فلا يصح، فيظن المعترض أنه لا تأثير لِمَبِيْع في الحكم؛ فيبدله بمعقودٍ عليه، ثم يكسرها بنكاح من لم يرها الناكح، فهو صحيح مع أنها مجهولة الصفة.
وجوابه ببيان تأثير ما رفع أو أبدل. ولم يعده بعض الخراسانيين في الاعتراضات.
والفرق بين النقض والكسر /279/: أن النقض يَرد على جميع العلة، والكسر يرد على بعضها بعد إسقاط بعض؛ برفعه أو تبديله.
السابع: القلب، وهو أربعة أقسام:
الأول: قلب التصريح، وهو: أن يذكر المستدل علةً للحكم، فَيُعَلِّق عليها المعترض نقيضَه، فلا يكون أحدهما أولى من الآخر، نحو أن /280/ يستدل على اشتراط الصوم في آن الاعتكاف؛ بأنه لبث في مكانٍ مخصوص، فشرطه اقتران معنى به كالوقوف بعرفة، فيقال: لبث في مكان مخصوص، فلم يكن الصوم شرطاً فيه كالوقوف بعرفة.

(1/288)


الثاني: قلب الإيهام، وقد يكون من غير تسوية، نحو: أن يستدل على أنه لا يثنى الركوع في صلاة الخسوف بأنها: صلاة شُرع فيها الجماعة، فلا يثنى فيها الركوع في ركعة واحدة، كصلاة العيدين؛ فيقال: صلاة شرع فيها الجماعة، فجاز أن تختص بزيادة، كصلاة العيدين. ومع التسوية(1) نحو أن يستدل عل نفوذ طلاق المكره، بأنه: مكلف قاصد إلى الطلاق، فأشبه المختار، فيقال: مكلف قاصد إلى الطلاق، فيستوي إقراره وإنشاؤه كالمختار.
الثالث: جعل المعلل علةً، والعلة معللاً، نحو: أن يستدل على صحة ظهار الذمي بأنه إنما صح ظهاره لأنه صح طلاقه، كالمسلم فيقال: المسلم إنما صح طلاقه لأنه صح ظهاره.
الرابع: قلب التقديم والتأخير، نحو: أن يستدل على أن المتيمم إذا رأى الماء وهو في أثناء صلاته لا يلزمه استعماله؛ بأنه: مُتَيممٌ رأى الماء بعد تلبسه بالصلاة، فلا يلزمه استعماله، كما لو رآه بعد فراغها؛ فيقال: متيمم رأى الماء قبل سقوطها عن ذمته، فأشبه من رآه قبل الدخول فيها.
وإنما يرد القلب على العلة الشبهيَّة لا المؤثرة ولا المناسبة، والمختار أنه مفسد للعلة.
__________
(1) عطف على: وقد يكون من غير تسوية.

(1/289)


الثامن: عدم التأثير /281/، وهو أن يذكر في أوصاف العلة ما لا يقدح فقده في ثبوت الحكم، وقد يكون حشواً، نحو: أن يستدل على تحريم الأمة الكتابية بأنها: مملوكة كافرة، فلا يحل للمسلم نكاحها؛ كالمملوكة المجوسيَّة، فذكر المملوكة في الأصل حشو؛ لأن الحرة المجوسية كذلك، فالتمجس مستقل في التأثير في التحريم. وقد يكون مانعاً من نقض العلة ببعض الفروع، وإن لم يقدح فقده في إثبات حكم الأصل، ويسميه المتكلمون: الاحتراز بمجرد دفع الإلزام، نحو أن يستدل على اعتبار العدد في الاستجمار بالأحجار؛ بأنه طاعة تتعلق بالأحجار لم تتقدمها معصية، فاعتُبر فيها العدد كرمي الجمار. فيقال: لم تتقدمها معصية لا تأثير له في حكم الأصل؛ لأن رمي الجمار يعتبر فيه العدد إجماعاً، سواء تقدمته طاعة أو معصية، لكنه لو أسقط /282/ لانتقضت العلة في الفرع برجم الزاني، فإنه طاعة تتعلق بالأحجار، ولا يعتبر فيه العدد.
والفرق بين الكسر وعدم التأثير - وإن اشتركا في كون سقوط بعض الوصف لا يؤثر في عدم ثبوت قلب الحكم ـ : أن المسقط في الكسر جزء من علة حكم الأصل له تأثير فيه، بخلاف المسقط في عدم التأثير، فليس بجزء منها مؤثر فيه، وإنما يذكر حشواً لئلا تنتقض العلة بفرع توجد فيه دون الحكم. وهو مفسد وفاقاً (للجمهور)، خلافاً (لبعض الشافعية).
التاسع: الفرق، وهو: إبداء معنىً في الأصل فارقٌ بينه وبين الفرع، نحو: أن يستدل على أن التكرار في مسح الرأس غير مسنون، بأنه: مسح في طهارة، فلا يسن فيه التكرار كالمسح على الخف، فيفرق بأنه في الأصل بدل عن حكم مغلظ، وهو: غسل /283/ القدم؛ إلى مخفف، فلذلك لم يسن فيه التكرار، بخلاف الفرع، فإنه فيه ليس ببدل. واختلف في الفرق، فعند (الجمهور) أنه مقبول مطلقاً، وقيل: ليس بمقبول مطلقاً، والمختار: قبوله، إن أخرجه عن المناسبة أو الشبه، وألحقه بالطرد وإلا فلا.

(1/290)


العاشر: المعارضة، وقد تكون بعلة أخرى في الأصل مخالفةٍ، كمعارضة الكيل بالطعم أو القوت، وقد تكون بقياس كامل نحو أن يستدل على منع إزالة النجاسة بغير الماء بأنها: طهارة تراد للصلاة، فلا يصح بالخل، كالوضوء. فيعارض بأنها: عين تصح إزالتها بالماء، فتصح بالخل، كالطيب. والمختار وفاقاً (للجمهور): قبولها. وجوابها بإفساد ما عورض به بأحد الاعتراضات المتقدمة، أو بترجيح العلة عليه بما سيأتي.
فأما المعارضة بعلة أخرى موافقة فليست معارضةً، بل مناصرة؛ لجواز تعليل حكم واحد /284/ بعلتين فصاعداً.

الاجتهاد

[14] باب الاجتهاد والتقليد وصفة المفتي والمستفتي
الإجتهاد لغة: بذل الوسع في تحصيل ما فيه مَشَقَّة.
واختلف فيه اصطلاحاً، فعند (الأكثر) أنه: بذل الوسع في تحصيل ظن بحكم شرعي فرعي. (المنصور، وبعض المعتزلة): بذل الوسع في تحصيل حكم شرعي فرعي لا من قبيل النصوص والظواهر. فيشمل ما له أصل معين، وهو القياس، وما لا أصل له معين، كقِيَم المتلفات، وهو بالحد الأول أعم منه بالثاني. (الكرخي): ما لا أصل له معين، وهو أخص من الثاني.
(الشافعي): والاجتهاد والقياس بمعنى واحد. (أئمتنا، والجمهور): بل الاجتهاد جنس والقياس نوعه. والخلاف في تسميته(1) ديناً كالخلاف المتقدم في القياس.
والرأي لغة: ما يُرَى في أمرٍ ما. واصطلاحاً: ما يتوصل به إلى حكم شرعي فرعي ظني/285/، فيشمل القياس والاجتهاد، وقد يستعمل في الحكم.
[المجتهد وشروط الاجتهاد وكيفيته]
(267) فصل والمجتهد: المتمكن من استنباط الأحكام الشرعية الفرعية عن أدلتها التفصيلية، ولو غير إمام، خلافاً (للإمامية)، أو من غير العترة خلافاً (لظاهر قول الهادي، والناصر).
__________
(1) أي: الاجهاد.

(1/291)


والمُجْتَهَد فيه: الحكم الشرعي العملي الظني. (أبو الحسين): بل ما اختلف فيه المجتهدون من مسائل الشرع، ويتميز(1) عن غيره بأن كلاً فيه مصيب على الأصح، وأنه يسوغ فيه التقليد، وأنه لا ينقض الاجتهاد فيه بالاجتهاد.
وعلوم الاجتهاد المطلق(2):
(أصول الدين) - خلافاً (للأكثر) - لتوقف صحة الاستدلال بالسمع عليه.
(وأصول الفقه)، ومنه: القياس، والمراد أركانه، وما يختص بكل منها من الشروط، وخواص العلة. ومُنْكِره(3) الجامع لما عداه من علوم الاجتهاد /286/، قيل: مجتهد، وقيل: ليس بمجتهد. وقيل: إلا منكر الجلي.
(والكتاب)، والمراد: آيات الأحكام، وهي خمسمائة.
(والسنة)، والمراد: ما يتعلق بالأحكام، ولا يجب نقلهما.
(وإجماع الأمة، والعترة عليهم السلام)، والمراد القطعي؛ لئلا يخالفه، وكذا كل قاطع شرعي، ولا يجب نقلها.
(وقضية العقل)، والمراد بها البراءة الأصلية، ونحوها(4) عند انتفاء المدارك الشرعية، ومتمماتها، وهي معرفة الناسخ والمنسوخ.
(والعربية) لغة، وتصريفاً، وإعراباً، وبياناً، ولا بد مع ذلك من ذكاء يتمكن به من استنباط الأحكام.
__________
(1) أي: ما يجتهد فيه.
(2) يعني: بالمطلق مالم يتقيد بمذهب معين، أو فن أو باب أومسألة من مسائل الشرع.
(3) أي: منكر القياس.
(4) وهي ما يسميها السيد محمد باقر الصدر رحمه الله (الأصول العملية)

(1/292)


ولا يشترط: العدالة، والذكورة، والحُريَّة، ومعرفة فروع الفقه، وأسباب النزول، وسير الصحابة، وأحوال الرواة جرحاً وتعديلاً، والحد والبرهان من المنطق، خلافاً لزاعمي ذلك. وبالغ (بعض متأخري ساداتنا(1)، والفقهاء، والأصوليين) /287/ في تبعيد الاجتهاد حتى كادوا يحيلونه(2)، وهو خلاف قول (الجمهور).
(268) فصل وكيفية الاجتهاد في الحادثة: أن يُقَدِّم المجتهد عند استدلاله: قضية العقل المبتوتة، ثم الإجماع المعلوم، ثم نصوص الكتاب والسنة المعلومة، ثم ظواهرهما كعمومهما، ثم نصوص أخبار الآحاد، ثم ظواهرها كعمومها، ثم مفهومات الكتاب والسنة المعلومة على مراتبها، ثم مفهومات أخبار الآحاد، ثم الأفعال والتقريرات كذلك، ثم القياس على مراتبه، ثم ضروب الاجتهاد، ثم البراءة الأصلية ونحوها.
ويجب عليه البحث عن الناسخ والمخصص، خلافاً (للصيرفي)، ولا يجب عليه طلب النص في غير بلده، ولا الإحاطة بجميع النصوص.
[المجتهد المقيد]
(269) فصل ودون /288/ المجتهد المطلق المجتهد في فنّ أو باب أو مسألة من الشرع، وينبني ذلك على القول بتجزئ الاجتهاد، وهو اختيار (المؤيّد، والمنصور، والداعي، والأمير علي بن الحسين(3)، والإمام، والشيخ، والغزالي، والرازي، وغيرهم).
__________
(1) كالسيد جمال الدين علي بن محمد بن أبي القاسم، وقد أوفى الرد عليه السيد العلامة الحافظ محمد بن إبراهيم الوزير رحمهما الله في أول العواصم.
(2) بل لقد صار عند بعض قاصري عصرنا يقرب من دعوى النبوة في إحالته وتجهيل من ادعاه، وما أظن تبعيده إلا دخيل على مذهب الزيدية من أتباع المذاهب الأخرى.
(3) الأمير علي بن الحسين بن يحيى بن يحيى بن الناصر الهادوي المعروف بصاحب (اللمع) كتاب في الفقه مشهور عند الزيدية، من أشهر فقهاء الزيدية في اليمن، أقام بصنعاء، وعاصر الإمام أحمد بن الحسين، وتوفي بقطابر سنة سبعين وستمائة.

(1/293)


وإنما يَجْتَهِدُ في مختلف فيه، وليس له أن يستقل بقول في مسألة، بخلاف المجتهد المطلق(1).
فأمّا المتمكن من التخريج على نصوص إمامه المتبحر فيها، كبعض المذاكرين(2)، فليس بمجتهد، ويسميه بعضهم: مجتهد المذهب.
والتكليف شرط في الجميع، والعدالة تصريحاً وتأويلاً شرط في الأخذ عنهم(3)، ولا يؤخذ عن كافر التصريح وفاسقه إجماعاً.
[اجتهاد النبي صلى الله على وآله وسلم والاجتهاد في حياته]
(270) فصل ورجوع النبي صلى الله عليه وآله وسلم في معرفة الحكم الشرعي إلى الوحي متفق عليه، واجتهاده في الآراء والحروب كذلك، وقيل: خلافاً (للشيخين) /289/.
__________
(1) وفي متأخري أئمة الزيدية وعلمائهم من جمع الرتبتين والاجتهادين وهم كثير.
(2) يطلق الزيدية هذا اللقب على جماعة من المهتمين بدراسة نصوص الإمام الهادي وجده وولديه وما تحتمله من التخريجات.
(3) أي في التقليد لا في الاجتهاد، كما تقدم.

(1/294)


واختلف في جواز تعبده بالاجتهاد في غيرها، فعند (بعض أئمتنا، والشيخين، وأبي عبد الله): يمتنع عقلاً(1). وعند (أبي طالب، والمنصور، والشيخ، والجمهور): يجوز عقلاً، وتوقف قوم. واختلف المجوزون في وقوعه شرعاً، فقيل: وقع قطعاً، وقيل: لم يقع قطعاً(2)، وهو إطلاق الهادي(3)، وتوقف (الإمام، وأبو الحسين، والشيخ، وحفيده). والمختار: تفريعاً على الوقوع، وأن الحق في واحدٍ ـ أنه لا يجوز عليه صلى الله عليه وآله وسلم الخطأ في اجتهاده. وقيل: يجوز ولكن لا يُقَرَّ عليه، بخلاف غيره فيقر، وقيل: بل ويُقَر. فأما مخالفته صلى الله عليه وآله وسلم فتحرم إجماعاً.
(271) فصل واختلف في التعبد به في حياته صلى الله عليه وآله وسلم، فالمختار ـ وفاقاً (للجمهور) ـ: أن تعبد المعاصر الغائب به جائز عقلاً واقع شرعاً مطلقاً، ومنعه /290/ الأقلون عقلاً وشرعاً مطلقاً، وقيل: إن تضيق وقت الحادثة، وقيل: للولاة بإذن خاص. وتوقف قوم. واختلف في الحاضر، فعند (الجمهور): أنه جائز عقلاً واقع شرعاً، وعند (الشيخين): ممتنع عقلاً وسمعاً. وتوقف قوم. والمختار: جوازه إن أذن له وإلا فلا(4).
__________
(1) لأن الاجتهاد مجرد ظن عند عدم العلم، والنبي صلى الله عليه وآله وسلم يمكنه أن يعلم، وعلى هذا فالعقل يقضي بمنع الظن مع إمكان العلم.
(2) في (أ): فقيل: وقع مطلقاً، وقيل: لم يقع مطلقاً. وفي (ج): وقع قطعاً، وقيل لم يقع مطلقاً.
(3) بل هو مقيد عنده بما كان بياناً لمجملات الكتاب ونحوه كالحلال والحرام، وأما غيره فظاهر كلامه في كتاب (تفسير معاني السنة) جواز اجتهاده كحاكم للمسلمين ولي لأمرهم، كما يجوز ذلك في الإمام، بل يجب عليه عنده.
(4) ولعل الأقرب التفصيل وهو أن يقال: إن كان اجتهاداً في فهم النص ولدلاته فجائز، وإن كان في حادثة تضيق وقتها جاز، وإلاَّ رجع إليه صلى الله عليه وآله وسلم.

(1/295)


(الشيخ): (والحاضر): من في مجلسه، أو يمكنه مراجعته في الحادثة قبل فوت وقتها، (والغائب) خلافه. (المنصور): الغائب من في البريد، والحاضر من دونه.
(272) فصل والمصيب في القطعيات ـ عقلية أو سمعية ـ واحد.
والقطعي العقلي: ما دل عليه قاطع من جهة العقل، وهو الضرورة، أو ما انتهى إليها بواسطة(1)، وفاقاً (لأبي الحسين، وأبي علي، والمنطقيين)، أو ما تسكن به النفس عند (البهاشمة). ومخالفه مخطئ، ثم كافر إن عُلِمَ من ضرورة الدين، كنفي الصانع، وإلا فمخطئ. الجاحظ: لا إثم على المخالف المجتهد، بخلاف /291/ المعاند. ومراده: إن كان من أهل القبلة لا مطلقاً، على الأصح، ووافقه (أبو مضر، والرازي)، وقال (العنبري(2)، وداود): كل مصيب(3). والظني العقلي خلافه.
__________
(1) أي: وما انتهى إلى الضرورة بواسطة، وهو الاستدلال الذي ينتهي إلى الضرورة.
(2) العنبري، هو: عبد الله بن الحسن بن الحسن العنبري، من الفقهاء المبرزين، توفي سنة ثمان وستين ومائة، طبقات الفقهاء: 1/96.
(3) قال الرازي في المحصول 6/41: مسألة ذهب الجاحظ وعبد الله بن الحسن العنبرى إلى أن كل مجتهد في الأصول مصيب، وليس مرادهم من ذلك مطابقة الاعتقاد، فإن فساد ذلك معلوم بالضرورة، وإنما المراد نفي الإثم والخروج عن عهدة التكليف.أهـ.

(1/296)


والقطعي السمعي تقدم تحقيقه. ومخالفه مخطئ آثم قطعاً؛ ثم (1) كافر إن عُلِمَ من ضرورة الدين، كأصول الشرائع، وإلا فمخطئ. والظني السمعي خلافه، ويعمل به في الأحكام(2) التي لا تثبت إلاَّ بقاطع كالكفر والفسق، فيقتل من شهد عليه عدلان بردة،(3) ويقطع من شهدا عليه بسرقة.
[الاجتهاديات هل لله فيها حكم؟]
(273) فصل واختلف في المسائل الشرعية الظنية، فقيل:
لله تعالى فيها حكم معين قبل الاجتهاد، فالحق فيها واحد، وهو قول: (الناصر في رواية، وأبي العباس، وقديم قولي المؤيّد بالله).
__________
(1) سقط من (أ): قطعاً ثم.
(2) يعمل بالظني للحصول على حكم شرعي، لا على تحصيل اعتقاد، فالشهادة على أن فلاناً كفر أو سرق تقبل من اثنين فما فوق ، لكنه لا يجوز اعتقاد أنه فعل ذلك بالفعل.
(3) يقال: ليست مجرد شهادة العدلين قاضية بوجوب إقامة حد الردة، ولكنه انظم إليها إقرار المرتد إما تصريحاً أو تلميحاً، وذلك إذا لم ينكر ويدافع عن نفسه.

(1/297)


ثم اختلفوا، فعند (الأصم(1)، والمريسي(2)، وابن عليَّة(3)، ونفاة القياس): أن عليه(4) دليلاً قاطعاً(5). واختلفوا في مخالفه، فقيل: معذور، وقيل: مأزور. (الأصم): وينقض حكمه بمخالفته(6). (بعض الفقهاء، والأصوليين): بل ظني(7)، ومخالفه معذور مأجور، مخطئ بالإضافة إلى ما طلب لا بالإضافة /292/ إلى ما وجب(8). (بعض الفقهاء، والمتكلمين): لا دليل عليه قطعي ولا ظني، وإنما هو كدفين يصاب، فلمصيبه أجران ولمخطئه أجر.
__________
(1) الأصم هو: عبد الرحمن بن كيسان، من علماء المعتزلة، توفي سنة خمس وعشرين ومأتين، له ترجمة في طبقات المعتزلة للإمام المهدي. ولسان الميزان 3/427.
(2) المريسي، هو: أبو عبد الرحمن بشر بن غياث بن أبي كريمة العدوي، المتكلم المناظر البارع، كان من كبار الفقهاء أخذ عن القاضي أبي يوسف، ثم غلب عليه الكلام على مذهب المعتزلة، مات في آخر سنة ثماني عشرة ومائتين. سير أعلام النبلاء 10/199.
(3) ابن علية، هو: إسماعيل بن إبراهيم بن علية الأسدي، أبو إسحاق المحدث، توفي سنة ثمان عشرة ومائتين. له ترجمة في لسان الميزان 1/24.
(4) أي: على ذلك الحكم.
(5) وعلى ذلك يكون دور المجتهد: البحث عن الدليل فقط.
(6) أي: بنقض حكم المجتهد بمخالفة القطعي.
(7) أي: ينصب على الحكم دليلاً ظنياً.
(8) يعني أنه مخطئ في المطلوب مصيب في الطلب؛ لأنه الواجب.

(1/298)


وقيل: لا حكم فيها لله تعالى معين قبل الاجتهاد، بل كلها حق. ثم اختلفوا فعند (متأخري أئمتنا، والجمهور): أنه لا أشبه(1) فيها عند الله تعالى، وإنما مراده تابع لظن كل مجتهد، وكل منها أشبه بالنظر إلى قائله. (بعض الحنفية، والشافعية): بل الأشبه منها عند الله هو مراده منها، ولقبوه: الأصوب، والصواب، والأشبه عند الله تعالى، وقد يصيبه المجتهد وقد يخطئه، ولذلك قالوا: أصاب اجتهاداً لا حكماً. واختلفوا في تفسيره، فقيل: ما قويت أماراته، وقيل: الحكم الذي لو نص الشارع لم ينص إلا عليه، وقيل: الأكثر ثواباً، وقيل: لا يفسر إلاَّ بأنه أشبه فقط.
ونقل عن (الفقهاء الأربعة) التصويب والتخطئة. وقول (قدماء أئمتنا) وفعلهم يقتضي التصويب، كمتأخريهم /293/، وقد يقع في كلام بعضهم ما يقتضي التخطئة، وهو رأي (بعض شيعتهم)، ولذلك كانت (القاسمية) من الديلم و(الناصرية) من الجيل يخطئ بعضهم بعضاً إلى زمن (المهدي أبي عبد الله بن الداعي)(2)، فأوضح لهم أن كل مجتهد مصيب، وكذلك كان (جمهور اليحيوية) باليمن يخطئون مخالف (يحيى) إلى زمن المتوكل أحمد بن سليمان.
وما ورد عن الوصي وغيره من الصحابة وغيرهم مما يقتضي خلاف التصويب، فمتأول.
وقال (الشهرستاني)(3): وهذه المسألة مشكلة وقضيَّة معضلة(4).
[أسباب الاختلاف]
__________
(1) المراد بالأشبه: أن الله لو نص على حكم في المسألة لما نص إلا عليه.
(2) هو: أبو عبد اللّه محمد بن الحسن بن القاسم بن الحسن بن علي بن عبد الرحمن بن القاسم بن الحسن بن زيد بن الحسن بن علي بن أبي طالب، أحد أئمة الزيدية في الجيل والديلم، توفي سنة ستين وثلاثمائة. أنظر سيرته في (الإفادة).
(3) الشهرستاني هو: محمد بن عبد الكريم بن أحمد أبو الفتح الشهرستاني، صاحب كتاب (الملل والنحل)، توفي سنة ثمان وأربعين وخمسمائة.
(4) أشار في النسخة (أ) إلى أن هذه الجملة غير ثابتة في بعض النسخ.

(1/299)


(274) فصل ومنشأ الاختلاف من قبيل: اشتراك لفظ(1)، أو حقيقة ومجاز(2)، أو عموم وخصوص(3)، أو إطلاق وتقييد(4)، أو رواية، أو نسخ(5)، أو قياس، أو إباحة وحظر، أو نحو ذلك.
ولا يمتنع في الأصح التعبد بخطاب عملي يختلف مفهومه، ويراد مِنْ كُلٍ ما فهمه.
وعلى المجتهد العمل /294/ بأقوى الأمارت، فإن قصَّر أثم إتفاقاً. ولا يلزمه اجتهاد غيره الذي يستجيزه(6)؛ لتعذر اجتهاده، خلافاً (للمنصور، وأبي مضر)، ولا العمل بالأحوط المخالف لاجتهاده.
ولا يُنْقَض حكم حاكم مجتهد إلاَّ بمخالفة قاطع، وقيل: ينقض ما خالف قياساً جلياً، أو كان عن قياس يخالف نصاً صريحاً آحادياً. (الأصم): ينقض بتغير الاجتهاد أو بحكم حاكم آخر، والأظهر أن حكم الحاكم المقلد كذلك.
(275) فصل واختلف في التفويض، وهو: أن يقال للنبي (ص) أو المجتهد: أحكم بما تريد تشهياً لا تروياً(7)، فهو صواب، ويكون مدركاً شرعياً، فعند (أئمتنا، والجمهور) أنه يمتنع عقلاً وشرعاً. (مويس، وبعض البصرية): جائز عقلاً واقع شرعاً. (الإمام): جائز عقلاً في حقهما، وتوقف شرعاً. (السمعاني، وأبو علي) - وحكي عنه الرجوع - : يجوز للنبي (ص) دون المجتهد، وتوقف (الشافعي)، قيل: في الجواز، وقيل: /295/ في الوقوع.
[أحكام الفتيا و الاجتهاد]
__________
(1) كثلاثة قروء.
(2) كالنكاح يحمله البعض على الوطء، والبعض على العقد.
(3) كالخلاف في آيات الوعيد هل هي عامة أو خاصة بالكفارات.
(4) كما اختلفوا في نكاح أمهات النساء، هل هو مقيد بالدخول كالربائب أم تحريمهن مطلق.
(5) كما اختلفوا في أن الوصية للأقربين أم لا.
(6) أما إذا لم يكن يستجيزه فلا يعدل إليه، ومثل له بما إذا كان مذهب المجتهد أن القليل من الماء ينجس، فإنه يعدل إلى التيمم ولا يأخذ بقول مالك: إنه يجوز التطهر بالقليل إذا وقعت فيه النجاسة ولم تغيره.
(7) أي بما يعجبه ويشتهيه، لا بما أداه إليه نظره.

(1/300)


(276) فصل والفتيا فرض كفاية، وأداؤها كالقضاء، وتتعين على من لم يوجد غيره، ويكره المسارعة إليها، سيما في الخلافيات التي وقع فيها التعارض المستوي أو المتقارب، ولم يتضح فيها الأمر.
وإنما يُسْتَفتى: مجتهد عدل تصريحاً وتأويلاً(1)، ويكفى المغرب(2) انتصابه لها من غير قدح ممن يُعْتَدَّ به(3). (المهدي): في بلد شوكته لإمام حق، لا يرى جواز استفتاء المتأول. (الشيرازي): أو خبر عدل(4). (الحاكم): لا بد مع انتصابه من خبر عدلين فصاعداً. وتردد (الباقلاني) في الاكتفاء بهما. (الجويني): يجب أن يعلم كونه مجتهداً. (ابن أبي الخير(5)): يجب العلم بكونه من أهل العلم جملة، ويكفى الظن بكونه مجتهداً.
ويحرم استفتاء من ليس كذلك، وكذا مجهول الحال في الأصح(6).
واختلف في فتوى الفاسق المتأول، فعند (الشيخين): لا تقبل فتواه ولا خَبَره /296/. (المؤيد، والإمام، والكعبي(7)، وجمهور الأشعرية): تقبلان. والمختار - وفاقاً (للقاضي) -: قبول خبره لا فتواه، ويلزمه أن يعمل لنفسه باجتهاده.
والخلاف في قبول فتوى الكافر المتأول وخبره كذلك.
__________
(1) أي سالم عن أسباب الكفر والفسق تصريحاً وتأويلاً.
(2) وهو الذي لم تعرف عدالته واجتهاده.
(3) ينبغي أن يقيد بألاّ يحمله على القدح حامل، من: عداوة، أو قرينة، أو اختلاف مذهب، أو نحو ذلك.
(4) عطف على انتصابه.
(5) في (ب): ابن الحاجب.
(6) أي الذي لم تعرف عدالته ولا ضدها.
(7) الكعبي، هو: أبو القاسم عبدالله بن أحمد بن محمود البلخي، من كبار مشائخ المعتزلة وأذكيائها، له كتب كثيرة، قال ابن النديم توفي في أول شعبان سنة تسع وثلاثمائة، وقيل: سنة تسع وعشرين وثلاثمائة.

(1/301)


(277) فصل ولا يفتي المجتهد إلا باجتهاده دون اجتهاد غيره؛ من حي أو ميت(1)، إلا أن يُسأل الحكاية عنه، وإذا لم يتقدم له الاجتهاد في الحادثة وجب عليه الاجتهاد فيها قبل الفتيا اتفاقاً، وإن تقدم ولم يذكره فكذلك، وإن ذكره لم يجب عليه تجديده، خلافاً (للشهرستاني)، إلا أن يتجدد ما يقتضي الرجوع.
وإذا تكررت للمستفتي لم يلزمه سؤال المفتي ثانياً(2)، ولو استندت إلى قياس على الأصح. ولا يفتي فيما يَحْكُم فيه(3). ولا يلزمه تعريف مستند الفتيا عند (أئمتنا، والجمهور)، خلافاً (للجعفرين). وقيل: إن كان خفياً(4)لم يجب، وللمستفتى سؤاله عنه استرشاداً. وإذا /297/ أفتاه بمجمع عليه لم يخيره ـ في القبول إتفاقاً، ولا يخيره في المختلف فيه ـ بين قوله وبين قول غيره، خلافاً (لأبي الحسين)، فأما إخباره(5) بأن هذا مختلف فيه فجائز اتفاقاً.
وعلى المستفتي في الأصح سؤال غير المفتي؛ إذا لم تسكن نفسه بفتواه.
(278) فصل ويحرم على غير المجتهد أن يفتي باجتهاد غيره إن كان(6) عامياً لا رَشَدَ له، وإن كان له رشد؛ فعند (المؤيد، وبعض الأصوليين): يجوز مطلقاً. وعند (القاضي، والحفيد): لا يجوز مطلقاً، وقيل: يجوز إذا عدم المجتهد، وقيل: يجوز إن كان مطلعاً على المآخذ، واختاره (ابن الحاجب). فأما الحكاية فتجوز إجماعاً(7).
__________
(1) وقيل: يفتى بمذاهب أهل جهته، ولا يخفى أن هذه الأحكام للمفتي تعني الذي يفتي باجتهاده، ونظره أما الذي يفتي برأي غيره فهو الحاكي وليس بمجتهد.
(2) لجواز أن يكون قد تغير اجتهاده بل تكفيه فتواه الأولى.
(3) لأنه يورث التهمة.
(4) أي: مستند الإجماع، وسقط من (ب): وقيل.
(5) أي: المستفتي وخصوصاً إذا كان من ذوي الرَّشد.
(6) أي: المفتي غير المجتهد.
(7) والفرق بين المفتي غير المجتهد والحاكي أن الحاكي يذكر الخلاف أو يسأل عن مذهب معين والمفتي غير المجتهد بخلافه، ولذلك حرمت عليه الفتوى؛ لأنه ليس بأهل ولا هو حاك.

(1/302)


(279) فصل والمستفتي إما أن يجد مفتياً في بلده أولا؛ إن لم يجد وجب عليه الخروج في طلبه حتى يجده، وإن وجد فإما أن يجد واحداً أو أكثر، إن وجد واحداً تعين عليه العمل بقوله وسقط عنه الخروج عند (المؤيد بالله، والحاكم، /298/ والجويني)، والأظهر من كلام غيرهم رجوعه إلى الأكمل حيث كان.
وإن وجد أكثر، فإما أن يتفقوا في الفتيا أو يختلفوا، إن اتفقوا وجب اتباعهم. (أئمتنا، والجمهور): وإن اختلفوا، فإما أن يتفاوتوا عنده في الفضل وهو زيادة العلم والورع، أو يستووا، إن تفاوتوا وكان التفاوت في مجموعهما اتبع الأعلم الأورع، وإن كان في الورع مع التساوي في العلم اتبع الأورع، وإن كان في العلم مع التساوي في الورع اتبع الأعلم، وإن كان بعضهم أعلم وبعضهم أورع اتبع الأعلم. (المؤيد): بل الأورع. (أبو طالب، والبلخي، وأبو الحسين، والقاضي، والباقلاني، وبعض المتأخرين): لا تعتبر الأفضيلة، فالجميع سواء. وينصر القول الأول النظر، والثاني: الأثر(1)، وإن استووا - على بُعْدِ ذلك لامتناعه في الأصح - فالمختار - وفاقاً (للجمهور) -: أنه مخير، وقيل: بالأول، وقيل: بالأخف، وقيل: بالأثقل، وقيل: بالأخف في حقوق الله تعالى، وبالأثقل في /299/ حق العباد، وقيل: مخير في حقوق الله تعالى، ويرجع في حقوق العباد إلى الحاكم.
__________
(1) المقصود بالأول: الأعلم والثاني الأورع، والنظر هو: أن الفتيا بحاجة إلى فضل علم لا إلى فضل ورع، والأثر هو: أن الأخبار في الورع كثيرة وأن المعلوم من حال المستفتين في زمن الصحابة أن كل واحد منهم رجع إلى من شاء.

(1/303)


(280) فصل والأحوط الأخذ بما أُجْمِع عليه، ويحرم الأخذ بالأخف اتباعاً للهوى إجماعاً. (أئمتنا، والجمهور): وكذا للمفتين، فيحرم تتبع الرخص، خلافاً (للمروزي، وابن عبد السلام(1)، ونصره القاسم المحلي)(2). وقال (الإمام محمد بن المطهر)(3): يجوز تتبع رخص العترة عليهم السلام فقط، لغير المقلد.
ومرجع الفرق ـ بين تتبع الرخص للهوى، أو لاتباع المفتين ـ إلى القصد، وهو خفي، وفاعل ذلك مخطئ لا فاسق في الأصح، وقول (المنصور): تتبع الرخص زندقة. متأول.
(281) فصل (أئمتنا، والجمهور والمعتزلة، والحنابلة): ولا يجوز خلو الزمان عن مجتهد. (الإمام، والأشعرية، وأكثر الفقهاء): يجوز. (ابن دقيق العيد)(4): لا يجوز مالم يتداعى الزمان بتزلزل القواعد.
[التقليد أقسامه وأحكامه]
__________
(1) لعل المراد به العز بن بن عبد السلام، وهو: العلامة الفقيه الشافعي الشهير: عبد العزيز بن عبد السلام بن أبي القاسم الدمشقي، الملقب بسلطان العلماء، توفي سنة ستين وستمائة. معجم الأعلام 419.
(2) القاسم المحلي، هو: القاسم بن أحمد بن حميد بن أحمد بن محمد المحلي الصنعاني الهمداني، من كبار علماء الزيدية في القرن الثامن، قال ابن أبي الرجال: وسماه بعض العلماء (رازي الزيدية) لتبحره في العلوم، كانت وفاته بصنعاء، لم أقف له على تاريخ وفاة.
(3) محمد بن المطهر، هو: الإمام المهدي لدين اللّه محمد بن الإمام المطهَّر بن يحيى، أحد أئمَّة الزيدية باليمن، له مؤلفات وأخبار كثيرة، توفي بحصن ذمرمر سنة ثمان وعشرين وسبعمائة.
(4) ابن دقيق العيد، هو: العلامة محمد بن علي بن وهب بن مطيع تقي الدين ابن دقيق العيد المصري، من كبار علماء الشافعية، توفي في صفر سنة اثنتين وسبعمائة ودفن بالقرافة الصغرى، ودقيق العيد لقب لجده وهب. طبقات الشافعية 2/229.

(1/304)


(282) فصل والتقليد: قبول قول الغير بلا مطالبة بحجة /300/، فإن كان في كل مسائله فهو الالتزام، وإلا فلا، فكل ملتزم مقلد ولا عكس(1).
وأصله القبح عقلاً وشرعاً، إلا فيما خصه الدليل(2).
والاستفتاء: السؤال عن حكم الحادثة، فكل مقلد مستفت ولا عكس.
والتنقل: الرجوع إلى قول مجتهد بعد تقليد غيره، وفيه خلاف يأتي.
واختلف فيما يجوز فيه التقليد، فعند (المؤيّد، وابن عياش، والحشوية، وبعض الفقهاء، والتعليمية)(3): يجوز مطلقاً. (البغدادية): لا يجوز مطلقاً. (القاسم): مقلد المحق ناج. (أبو علي، والشيرازي): لا يجوز في أصول الدين وأصول الشرائع، وما عليه قاطع من الفروع. (العنبري ومتابعوه): لا يجوز في أصول الشرائع. (أبو القاسم): يجوز لمن لم يبلغ رتبة النظر، كالنساء والعبيد. وتوقف (البيضاوي) في التقليد في الأصول، وقيل: النظر فيه حرام.
__________
(1) يعني أن التقليد أعم؛ إذ يكون في كل المسائل أو في بعضها، بينما الالتزام أخص؛ لأنه في كلها.
(2) لأنه رتبة دنيئة يأباها العاقل الحر، ودعاء الشرع إلى النظر والبرهان، وتحذيره عن التقليد شمس لائحة الجبين.
(3) التعليمية، قال في (الدراري): وهم الباطنية على ما قاله القاضي عبد الله، سموا بذلك لأنهم لا يقولون بالنظر ولكن العلم عندهم ما يحصل من إمامهم ليعلمه لهم ولا يعمل أحد بخلافه، وقال الديلمي: التعليمية من الباطنية، وإنما لقبوا بذلك؛ لأن مذهبهم إبطال النظر والاستدلال والدعوة إلى الإمام المعصوم، ويقولون: الحق إمَّا أن يعرف بالرأي أو بالتعليم، وباطل أن يعرف بالرأي لتعارض الآراء واختلاف العقلاء، فلم يبق إلا أن يعرف بالتعليم.

(1/305)


ومختار (أئمتنا، والجمهور): جوازه في كل حكم شرعي فرعي عملي، قطعي أو ظني. (جمهور أئمتنا): إلا عملياً يترتب على علمي كالموالاة والمعاداة، وجوز (بعض علمائنا) التقليد فيه، في العمل لا في الاعتقاد(1).
(283) فصل والتقليد جائز لغير المجتهد /301/. (المنصور، والشيخ، وحفيده، والجمهور): بل واجب. ويحرم على المجتهد بعد اجتهاده في الحكم اتفاقاً. واختلف فيه قبله، فعند (أئمتنا، والجمهور): يمتنع مطلقاً. (أبو حنيفة، وسفيان(2)، وأحمد، وإسحاق(3)، وأحد قولي المؤيد بالله): يجوز مطلقاً. وقيل: يمتنع فيما لا يخصه. وقيل: فيما لا يفوت وقته. وقيل: إلا أن يكون الْمُقَلِّد أعلم. وقيل: إلا أن يكون صحابياً، ولو مرجوحاً. وقيل: صحابياً أرجح، فإن استووا يخير. وقيل: أو تابعياً. وقيل: إن كان حاكماً(4). (الناصر): مع كون من قلده أعلم.
(284) فصل واختلف في تقليد الميت، فمنعه: (بعض علمائنا، وبعض الأصوليين)، وجوزه: (الجمهور)، وادعى كل من (الفريقين) الإجماع على قبوله، (أبو طالب، وبعض المتقدمين): يجوز إن قلده في حياته، ثم استمر بعد وفاته. وقيل: إن فقد الحي. وقيل: بل هو الأولى، والمختار: عكسه.
__________
(1) وعلى هذا يجوز للعوام الذين لا يعرفون الأدلة أن يحاربوا من حارب الإمام تقليداً للإمام في الحرب، ولكن لا يجوز لهم أن يعتقدوا فسق المحارب للإمام؛ لأنه يفتقر إلى دليل علمي. تمت من نظام.
(2) سفيان، هو: أبو عبدالله سفيان بن سعيد بن مسروق الثوري أحد الأعلام كان يرى الثورة على أئمة الجور. توفي بالبصرة سنة 161هـ. عده المؤلف في (الفلك الدوار) من ثقات محدثي الشيعة.
(3) إسحاق، هو: أبو يعقوب إسحاق بن محمد الحنظلي المروزي المعروف بابن راهويه، جمع بين الحديث والفقه والورع، سكن نيسابور ومات بها سنة ثمان وثلاثين ومائتين.
(4) أي المقلد (بكسر اللام)، لأنه بحاجة إلى فصل الخصومة.

(1/306)


(الماوردي): ولا يُقَلَّد من لا يقول بالإجماع، أو بخبر الواحد، أو بالقياس(1).
(285) فصل /302/ والمجتهدون المشهورون السابقون والمقتصدون من أهل البيت عليهم السلام أولى من غيرهم، لآيات المودَّة(2)، والتطهير(3)، والمباهلة (4)، والإطعام (5)
__________
(1) هذه مجازفة لا دليل عليها.
(2) آية المودة هي قوله تعالى: ?قل لا أسألكم عليه أجرا إلا المودة في القربى? ، أخرج الطبراني كما في المجمع 9/ 168، وأحمد في المناقب كما في ذخائر العقبى 28 عن ابن عباس قال: لما نزلت: ?قل لا أسألكم عليه أجرا إلا المودة في القربى?. قالوا: يا رسول الله من هؤلاء الذين أمر الله بمودتهم؟ قال: علي وفاطمة وولدهما.
(3) آية التطهير هي قول الله تعالى: ?إنما يريد الله ليذهب عنكم الرجس أهل البيت ويطهركم تطهيرا?. أخرج الحاكم في المستدرك 3/147، وابن المغازلي في المناقب 305، عن واثلة بن الأسقع قال: أتيت علياً فلم أجده، فقالت لي فاطمة: انطلق إلى رسول الله (ص) يدعوه، فجاء مع رسول الله (ص) فدخل ودخلت معهما فدعا رسول الله (ص) الحسن والحسين؛ فقعد كل واحد منهما على فخذيه، وأدنى فاطمة من حجره وزوجها ثم لف عليهم ثوبا وقال: ?إنما يريد الله ليذهب عنكم الرجس أهل البيت ويطهركم تطهيرا?. ثم قال: هؤلاء أهل بيتي اللهم أهل بيتي أحق.
(4) آية المباهلة هي قوله تعالى: ?فقل تعالوا ندع أبناءنا وأبناءكم .. الخ ? [آل عمران: 61]، أخرج مسلم 4/1871، وأحمد 1/185، والترمذي 5 رقم (3724) عن سعد بن أبي وقاص قال: لما نزلت هذه الأية: دعا رسول الله (ص) علياً وفاطمة وحسناً وحسيناً وقال: اللهم هؤلاء أهلي.
(5) آية الاطعام هي قوله تعالى: ?وَيُطْعِمُوْنَ الطَّعَامَ عَلَى حُبِّهِ مِسْكِيْناً وَيَتِيْماً وَأَسِيْراً?[الإنسان:8]. قال الواحدي في أسباب النزول 448: عن ابن عباس: إن علي بن أبي طالب أجر نفسه يسقي نخلا بشيء من شعير، ثم طحن ثلثه فجعلوا منه شيئاً ليأكلوه، فلما تم إنضاجه، أتى مسكين فأخرجوا إليه الطعام، ثم أخرجوا الثلث الثاني، فلما تم إنضاجه أتى يتيم فأخرجوا إليه الطعام، ثم عمل الثلث الباقي، فلما تم إنضاجه أتى أسير من المشركين فأطعموه وطووا يومهم ذلك فنزلت فيه هذه الآية. وانظر شواهد التنزيل للحاكم الحسكاني 2/ 298 ـ 315.

(1/307)


، والأخبار الصحيحة المفيدة للتواتر المعنوي، ولعصمة إجماعهم وزيادتهم علماً وعملاً وورعاً، وتنزههم عما روي عن غيرهم (كالفقهاء الأربعة)، من نحو إيجاب القدرة(1)، وقتل ثلث الأمة لإصلاح ثلثيها، والرؤية، والتجسيم، وإن لم يصح بعضها. والحق أنه لا يصح عنهم قادح يمنع من تقليدهم، وتوليهم للعترة ظاهر، بخلاف كثير من اتباعهم.
(الإمام، والجويني): ولا يصح تقليد الصحابة، وادعيا الإجماع على ذلك(2)، وقيل: المجمع على منعه التزام مذهب واحد معين لارتفاع الثقة بمذهبه(3). وقيل: غيرهم أولى إلا (علياً عليه السلام). (بعض سادتنا): هم الأولى بعد أهل البيت عليهم السلام، والأولى منهم من أثنى عليه النبي صلى الله عليه وآله وسلم بالفقه والدين، أو شهد له أحد من أهل بيته بذلك، ثم من أثنى عليه القرابة والصحابة ممن بعدهم من التابعين، ثم كذلك /303/ من نص على جواز تقليد الميت، ثم من لم ينص. وفي جواز تقليد من نص على تحريمه تردد. وإنكار (أتباع الفقهاء الأربعة) على من قلد غيرهم بدعة.
__________
(1) يعني إيجاب القدرة لمقدورها؛ لأن ذلك يستلزم الجبر.
(2) قال الجويني في (البرهان 2/744) : أجمع المحققون على أن العوام ليس لهم أن يتعلقوا بمذاهب أعيان الصحابة رضي الله تعالى عنهم، بل عليهم أن يتبعوا مذاهب الأئمة الذين سبروا ونظروا وبوبوا الأبواب وذكروا أوضاع المسائل وتعرضوا للكلام على مذاهب الأولين، والسبب فيه أن الذين درجوا وإن كانوا قدوة في الدين وأسوة للمسلمين فإنهم لم يفتنوا بتهذيب مسالك الاجتهاد وإيضاح طرق النظر والجدال وضبط المقال، ومن خلفهم من أئمة الفقه كفوا من بعدهم النظر في مذاهب الصحابة، فكان العامي مأمورا باتباع مذاهب السابرين. أهـ. ومثله حكى في الدراري عن الإمام يحيي.
(3) أي: لعدم الثقة في معرفة أقواله؛ إذ هو قبل عصر التدوين.

(1/308)


(286) فصل وإنما يُقَلِّد من يجوز استفتاؤه، وفي جواز تقليد مجتهدين فصاعداً خلاف، وعلى جوازه يصير مخيراً؛ حيث يختلفان.
(أبو جعفر): أئمة العترة بمنزلة واحدة، فالمقلد لهم جملة مقلد لمجموعهم حيث يتفقون، مخير بين أقوالهم حيث يختلفون، والأظهر أنهم كغيرهم.
ولا يجمع بين قولين في حكم واحد على وجه لا يقول به إمام منفرد، كنكاح خلى عن ولي وشهود، لخروجه عن تقليد كل منهما.
(287) فصل والمختار - وفاقاً (للجمهور) -: وقوع التقليد بالنية فقط، وقيل: بها وبالشُّرُوع في العمل. (الحاكم): بأيهما، وقيل: باللفظ، وقيل: بمجرد الإفتاء، وقيل: بصحة قول المفتي في النفس(1).
ويحرم انتقاله مطلقاً، إلا لترجيح من قلده، أو ترجيح نفسه بعد استيفاء طرق الحكم، أو عند انكشاف نقصان الأول.
فأما إلى أعلم أو أفضل /304/ ففيه تردد. (بعض أئمتنا، والفقهاء، والأصوليين): يجوز مطلقاً، وقيل: يجوز فيما اتصل به عمل دون غيره. (بعض أئمتنا): يجوز في علماء العترة فقط.
فإن فسق رفضه فيما تعقب الفسق فقط(2)، فإذا رجع عن اجتهاده فلا حكم لرجوعه فيما قد نفذ ولا ثمرة له مستدامة، كالحج، خلافاً لشذوذ.
وعليه تَعْرِيْف المقلد برجوعه إن أمكن قبل العمل، و(للإمام) في ذلك احتمالات ثلاثة(3)، ومالم ينفذ(4) ووقته باق أو نفذت مقدماته ولما ينفذ عمل بالاجتهاد الثاني.
__________
(1) أي: إذا وقع في نفسك صحة قوله وقع التقليد.
(2) أي: في المسائل التي عقيب فسقه لا فيما قبله.
(3) أحدها: أنه يلزمه تعريفه. ثانيها: أنه لا يلزمه. ثالثها: أنه يلزمه إن لم يكن قد عمل وإن كان قد عمل لم يلزم، قال: والمسألة اجتهادية.
(4) كالوضوء فإنه مقدمة للصلاة، فإذا تغير اجتهاده ولما يصل عمل بالثاني.

(1/309)


واختلف فيما لم يفعله وعليه قضاؤه أو فعله وله ثمرة مستدامة كالنكاح، فعند (بعض أئمتنا، ومحمد، والقاضي): يعمل بالأول إذ هو بمنزلة الحكم فلا ينقضه الثاني. (بعض أئمتنا، وأبو يوسف)(1): بل بالثاني إذ الأول ليس بمنزلة الحكم فينتقض به.
والعامي الذي لا يستند في الأحكام الشرعية إلى قول مجتهد معين لا استفتاءاً ولا تقليداً بل إلى جملة الإسلام، حكمه حكم المجتهد /305/على الأصح في العبادات والمعاملات(2).
(الهادي، والناصر): والناسي كالجاهل لا كالعامد، خلافاً لأحد قولي (المؤيد بالله، والشافعي).
(288) فصل وتقبل الرواية عن الغائب والميت إن كملت شروطها.
ولا فرق بين المذهب والقول ولو في التوقف(3) على الأصح، وهو: الاعتقاد أو الظن الصادر عن طريق(4) أو شبهة أو تقليد.
وإنما يضاف إلى قائله للعلم بذلك ضرورة أو استدلالاً، أو لنص صريح، أو عموم شامل، أو خبر عدل، أو لتخريج(5) صحيح بأن يعرف ـ من جهته أو من جهة الإجماع ـ أنه لا فرق بين مسألتين، فينص على حكم أحدهما، فيعرف أن حكم الأخرى كذلك عنده، أو بوجود علة الحكم المنصوص عليها في محل آخر. (بعض أئمتنا): وسواء كان مذهبه جواز تخصيصها أو منعه. (أبو طالب، وابن زيد): تجويزه لتخصيصها يمنع إضافة الحكم إليه، إلا أن يعلم أنه لم يقل بتخصيصها في ذلك المحل أحد.
__________
(1) أبو يوسف، هو: يعقوب بن إبراهيم بن حبيب الإمام، كان من أصحاب الحديث ثم تفقه على محمد بن عبد الرحمن أبي ليلى، ثم على أبي حنيفة، فصار من كبار الفقهاء المشهود لهم، توفي ببغداد سنة اثنتين وثمانين ومائة. طبقات الفقهاء 1/141.
(2) وعلى هذا فلا ينكر عليه إلاَّ إذا خالف الإجماع أو المعلوم من ضرورة الدين.
(3) أي: ولو كانت الرواية عنهما في أنهما توقفا في المسألة.
(4) قال في هامش: دلالة أو أمارة، والمراد به الطريق الشرعي.
(5) عطف على للعلم بذلك.

(1/310)


واختلف /306/ في التخريج من مفهوماته، وعلى قياس(1) قوله، فعند بعضهم: لا يضاف إليه. (بعض أئمتنا، والفقهاء): بل يضاف إليه وهو المختار، لكن مع التقييد بأنه تخريج؛ لئلا يوهم الكذب، وليتميز عن نصوصه، ولذلك فرعوا الفروع، ويعبر عنها بالتخاريج والوجوه، وجواز التقليد فيها وعدمه يبني على ذلك(2).
فأما نصه في حادثة على حكم مع نصه في مثلها على نقيضه؛ فلا ينقل حكم أحدهما إلى الأخرى؛ خلافاً (لبعض الشافعيَّة). وكذا قوله بعد النص على حكمها ـ : ولو قال قائل: كذا وكذا؛ لكان مذهباً ـ لا يضاف إليه، خلافاً لهم. وكذا حيث ينص على حكم دون علته، ثم يستنبطها الْمَخَرِّج فيجدها في محل آخر، خلافاً (لبعض علمائنا).
(289) فصل ولا يلزم المقلد بعد وجود نصه وعمومه طلب الناسخ والمخصص، ولو جُوزا، بخلاف المجتهد، فإذا صح له خلاف نصه اتبع الظن الأقوى، وطَلَبَ الرّجْحَانَ عند التعادل. ويعمل بآخر القولين، وأقوى الاحتمالين، فإن التبس؛ فالمختار: رفضهما والرجوع /307/ إلى غيره، كما لو لم يجد له نصاً ولا احتمالاً ظاهراً.
(290) فصل ولا يقبل التخريج إلا من عارف بأدلة الخطاب، والساقط منها والمعمول به، ومذهب المخرَّج له فيها، ولو غير مجتهد(3) في الأصح، وكيفية رد الفرع إلى الأصل عند قياس مسألة على أخرى، وطرق العلة، وكيفيَّة العمل عند تعارضها، ووجوه ترجيحها، لا شروطها وخواصها، ولا كون المخرَّج له ممن يرى تخصيصها أو يمنعه على الخلاف المتقدم.
__________
(1) أي: وفي التخريج على مقتضى قوله نصاً أو أصلاً عاماً.
(2) أي: على أنها قول له أم لا.
(3) أي: لو كان المخرج غير مجتهد.

(1/311)


ولا يستقيم لمجتهد قولان متناقضان في وقت واحد، فإن عرف ترتيبهما(1)، فالثاني رجوع عن الأول، وعلى ذلك يحمل ما ينسب إلى (بعض أئمتنا، وغيرهم) من القولين أو الأقوال، وكذا المسألتان المتناظرتان ولم يظهر فرق. وإن جهل(2) حُكيا عنه، ولم يحكم عليه بالرجوع إلى أحدهما بعينه.
وقول (الشافعي) ـ في سبع عشرة مسألة ـ: فيها قولان، أراد: لي فيها قولان، بناء على التخيير عند التعادل، أو: تقدم لي فيها قولان في وقتين، أو: فيها للعلماء قولان /308/، أو: كل مسالة منها عليها أمارتان مختلفتان، يصح أن يتمسك بكل منهما مجتهد.

الحظر والإباحة

[15] باب الحظر والإباحة
ويوصف بهما ما يقع من المكلف المختار غالباً(3)، وهو قسمان: مالا صفة له زائدة على حدوثه، وهو: ما ليس بحسن ولا قبيح، كالفعل اليسير.
وماله صفة زائدة، وهو: قسمان:
ما يذم فاعله، وهو: القبيح المحظور، ويكون ضرورياً، كقبح الظلم والكذب الضار، واستدلالياً كقبح الكذب النافع.
ومالا يذم فاعله، وهو: الحسن، ويكون كذلك(4). ثم هو أربعة أقسام:
واجب، وهو: ما يستحق المدح على فعله، والذم على تركه، كقضاء الدين، وشكر المنعم، ورد الوديعة.
ومندوب، وهو: ما يستحق المدح على فعله، ولا يستحق الذم على تركه، كالإحسان، ومكارم الأخلاق.
ومكروه، وهو: ما يستحق المدح على تركه، كسوء الأخلاق، وقيل: لا يثبت عقلاً، وهو من الحسن على الأصح، وتسميته مكروهاً مجاز.
ومباح، وهو: ما لا يُستحق عليه واحد منهما، كالتمشي في البراري، والتظلل تحت الأشجار /309/، والشرب من الأنهار، وتناول ما ينتفع به الحي ولا مضرة فيه على أحد، كالنابت في غير ملك.
__________
(1) أي: المتقدم والمتأخر.
(2) أي: ترتيبهما.
(3) احترازاَ مما تقدم فيمن توسط أرضاً مغصوبة ثم تاب وأراد الخروج، فهل يوصف خروجه بالتحريم أو الإباحة.
(4) أي: ضرورياً واستدلالياً، ويشمل ما عدا القبح المحظور.

(1/312)


واختلف فيه، فعند (أئمتنا، والجمهور) أنه مباح عقلاً، كما ذكر، حتى يرد حظر شرعي. بعض (الإمامية، والبغدادية، والفقهاء): بل محظور عقلاً، حتى ترد إباحة شرعية، وتوقَّف (الأشعري، وبعض الشافعية)، بمعنى: لا يُدرى هل هناك حكم أو لا.؟ ثم إن كان هناك حكم فلا يُدرى: هل هو حظر أو إباحة.؟
[التحسين والتقبيح العقليان]
(291) فصل واتفقوا على ثبوت حسن الشيء وقبحه عقلاً باعتبارين:
الأول: بمعنى ملائمته للطبع كالملاذّ، ومنافرته له كالآلام.
والثاني: بمعنى كونه صفة كمال كالعلم، وصفة نقص كالجهل.
واختلف في حسن الشيء وقبحه باعتبار ثالث، وهو كونه متعلقاً للمدح عاجلاً والثواب آجلاً، والذم عاجلاً والعقاب آجلاً. فعند (أئمتنا، والمعتزلة، وغيرهم): أنهما عقليان بذلك أيضاً(1)؛ إذ لا وجه /310/ لحسن الشيء وقبحه إلا وقوعه على وجه، في الأصح.
وقد يستقل العقل بإدراكه، إمَّا بالضرورة كحسن شكر المنعم، وقبح الظلم، أو بالاستدلال كحسن الصدق الضار وقبح الكذب النافع، وقد لا يستقل بإدراكه كالمحسنات والمقبحات الشرعية، كحسن الصلاة ونحوها وقبح الربا ونحوه.
(جمهور الأشعرية): بل شرعيان بذلك(2) قالوا: ولو سلم على التنزل أنهما عقليَّان لم يسلم في مسألتين:
الأولى: وجوب شكر المنعم. وهو جحد للضرورة(3).
والثانية: مسألة حكم الأشياء قبل ورود الشرع، فلا يُدْرِك العقل فيها بخصوصها جهة حسن أو قبح، وإنما حكمها الوقف كما تقدم.
__________
(1) باعتبار أنهما متعلقان للمدح عاجلاً والثواب آجلاً، والذم عاجلاً والعقاب آجلاً.
(2) أي: بالاعتبار الثالث.
(3) تقدم للمصنف آنفاً أن الضروري هو: حسن شكر المنعم، لا وجوبه، فتأمل.

(1/313)


وفصَّل (بعض الأشعرية، والحنفيَّة، والحنابلة)، فقالوا: أما حسن الشيء بمعنى كونه متعلقاً للمدح عاجلاً، وقبحه بمعنى كونه متعلقاً للذم عاجلاً فعقليان. وأمَّا حسنه بمعنى كونه متعلقاً للثواب آجلاً، وقبحه بمعنى كونه متعلقاً للعقاب آجلاً فشرعيَّان.
(292) فصل (أئمتنا، والجمهور): ويجب الدليل /311/ على النافي لحكم عقلي أو شرعي غير ضروري(1). (بعض الأصوليين): لا يجب فيهما، وقيل: يجب على نافي العقلي دون الشرعي. وإنما يستدل عليه باستصحاب الحال مع انتفاء الأدلة الشرعيَّة المغيرة للنفي الأصلي(2)، أو بقياس الدلالة، واختلف في الإستدلال عليه بقياس العلة، فجوزه (ابن الحاجب وغيره)، ومنعه (الإمام، وغيره).
باب استصحاب الحال
وهو: دوام التمسك بدليل عقلي أو شرعي حتى يَرِدَ ما يغيره.
(أئمتنا والجمهور): وهو دليل مستقل بنفسه، وقيل: ليس بمستقل، ولكنه مرجح لا غير، وقال (كثير من الحنفيَّة، والمتكلمين): ليس بدليل(3).
__________
(1) كما يجب على المثبت سواء؛ لأن النفي والإثبات في غير ضروري الثبوت أو العدم ممكنان، فيفتقران إلى الدليل، وقولهم: الأصل العدم، إن أرادوا العدم المطلق فمسلم، وإن أرادوا عدم محل النزاع فغير مسلم؛ إذ هو مصادرة على المطلوب.
(2) أي: يستدل على النفي باستصحاب الأصل، وهو النفي، لكن مع انتفاء الأدلة الشرعية، أي ظن عدمها.
(3) هذا ما يوحي به تعريف المصنف المتقدم؛ لأن مجرد البقاء على الدليل ليس دليلاً، وإنما يكون دليلاً على تعريف من عرف الاستصحاب بأنه النفي الأصلي، ولكن عند عدم الدليل الشرعي.

(1/314)


وينقسم إلى: (معمول به)، وهو: استصحاب حكم العقل والشرع الثابت في الحالة الأولى في الحالة الثانية،الموافقة، حتى يرد ناقل عن ذلك، فحكم العقل: كاستصحاب البراءة الأصلية حتى يرد مغير، ولذلك حكمنا بانتفاء صلاة سادسة، وصوم غير رمضان /312/. وحكم الشرع: كاستصحاب الملك والنكاح والطلاق، حتى يرد ما يغير حكمها كالبيع والطلاق والاسترجاع. ومنه استصحاب النص والعموم، فيمسك بهما المجتهد إن كان ناظراً(1) حتى يرد ناسخ أو مخصص، وعليه البحث عنهما، وكذا إن كان مناظراً(2)، لكن على خصمه طلبهما، فإن بينهما قُبِل منه وإلا انقطع.
(وغير معمول به) على المختار، وهو: استصحاب حكم الحالة الأولى في الحالة الثانية المخالفة؛ لأجل ثبوته قبلها فقط، كاستصحاب المتيمم لحال الإجماع إذا دخل في صلاته، ثم رأى الماء؛ فيمضي فيه عند (بعض الشافعية) للإجماع على صحتها قبل ذلك، وكاستصحاب النص بعد نسخه، نحو الوصية للأقارب.
فإن تعارض أمران أحدهما يقتضي بقاء الحالة الأولى، والآخر يقتضي خلافه، رجع إلى الأصل(3) إلا أن يترجح معارضه، فإن التبس بقاؤه أو تغيره فالأصل بقاؤه حتى يعلم مغيره إن كان علمياً، أو يظن /313/ إن كان ظنياً.
[حجية الشرائع السابقة]
(293) فصل واختلف في شرع من قبلنا: فعند (المتكلمين، وبعض أئمتنا، والفقهاء): ليس بحجة، وعن (الشافعي): يحتج به، وعنه لا يحتج به، وعنه بشرع إبراهيم عليه السلام دون غيره.
والمختار: أن ما حكاه الله تعالى أو رسوله صلى الله عليه وآله وسلم من غير إنكار ولا نسخ ولا خصوص فهو حجة. (الأمير الحسين، والحفيد): يحتج بما عُلِمَ منه.
وعلى القول بأنه حجة إذا اختلف اعتبر حكم الأقرب منه إلى الإسلام، وهو النصرانية.
(294) فصل فيما لا يعلم إلا بالعقل، وما لا يعلم إلا بالشرع، وما يعلم بهما.
__________
(1) أي: يريد النظر للعمل.
(2) أي: يريد النظر للجدل.
(3) وهو الحالة الأولى لا الطارئة.

(1/315)


الأول: ما كان في العقل دليل عليه، وتوقف العلم بصحة الشرع على العلم به(1)، كمعرفة الله تعالى وبعض صفاته، نحو كونه قادراً عالماً غنياً عدلاً حكيماً.
والثاني: ما دل عليه الشرع دون العقل، كوجوب الصلاة ونحوها من أعيان المصالح الشرعية، وكتحريم شرب دون المسكر ونحوه من أعيان المفاسد /314/؛ إذ لا يهتدي العقل إلى معرفتهما.
والثالث: كل ما كان في العقل دليل عليه، ولا يتوقف العلم بصحة الشرع على العلم به.
واختلف في مسائل(2): (المنصور، والقاضي، وأبو الحسين): لا يصح الاستدلال بالشرع على مسألة: (موجود)، و: (نفي التشبيه)، ومسألة: (حي). (أبو رشيد، وأحد قولي الشيخ): بل يصح. (أحد قولي الشيخ): يصح في الأولين دون الثالثة. (الحفيد): يمتنع في (موجود) و: (حي)، ويصح في: (نفي التشبيه)، نظراً لا إلزاماً(3). (بعض المتأخرين): يصح على: (نفي التشبيه) مطلقاً، وأما: (موجود) و: (حي) فإن جعلا وصفاً زائداً على الذات كما يقوله (بعض أئمتنا، والبهاشمة)، جاز، وإن جعلا نفس الذات؛ كما يقوله (أكثر أئمتنا، والملاحمية) لم يجز، وأما: (نفي الرؤية والثاني) فيجوز، خلافاً لبعضهم.
وصحة الاستدلال على الجميع بالعقل ظاهرة.

التعادل والترجيح

[16] باب التعادل والترجيح
(295) فصل الظَّنِّيان المتعارضان؛ إن لم يكن لأحدهما مَزِيَّة على الآخر؛ فهو: (التَّعادل).
واختلف فيه، فمنعه: (الإمام، وأحمد، والكرخي، وأبو الحسين، والحفيد)(4) /315/، وجوزه: (الجمهور).
(أبو طالب، والمنصور، والشيخ، وأكثر الفقهاء): وَيطَّرحان، ويوخذ في الحادثة بغيرهما إن وُجِدَ، وإلا رُجِعَ إلى قضية العقل. (الشافعي، والشيخان(5)، والقاضي، والعنبري، والباقلاني): بل يُخَيَّر بين حكمهما.
__________
(1) أي: بحيث لا تثبت صحة الشرع إلا بعد ثبوته.
(2) هل يصح الاستدلال عليها بالشرع؟
(3) أي: مجرد إلزام للخصم فلا.
(4) لبعد استواء الدليلين من كل وجه.
(5) سقط من (ب): الشيخان.

(1/316)


ومنشأ الخلاف(1): هل يجوز خلو واقعة عن حكم شرعي أولا؟ فَمَنْ منعه منع التعادل، ومن جَوَّزَهُ جوز التعادل. (الرازي): ويختلف حال المجتهد على القول بالتخيير، فإن كان اجتهاده لنفسه؛ فله أن يفعل ثانياً غير ما فعله أولاً؛ إذ لا تهمة تطرق إليه في حق نفسه، وإن كان حاكماً فليس له ذلك؛ لما يَعْرِض من التهمة، وإن كان مفتياً خَيَّر المستفتي في العمل بأيهما شاء.
وإن كان لأحد المتعارضين مزية على الآخر؛ فهو: (الترجيح).
وحده: تقوية أحد المتعارضين الظنيين على الآخر.
وفائدته: العمل على أرجحهما.
وهو جائز /316/ واقع إجماعاً، ورواية منعه عن (أبي عبد الله) باطلة(2).
وإنما يصار إليه عند تعذر الجمع بوجه ما، من نسخ، أو تخصيص، أو غيرهما. ويمتنعان(3) في القطعيين عقليين أو شرعيين، فالتعادل؛ لاستحالته بين القواطع، والترجيح؛ لأنه فرع التعارض. وفي القطعي والظني؛ لانتفاء الظن معه(4). ووجوه الترجيح ليست بقاطعة، بل هي محل اجتهاد تختلف بحسب اختلاف المجتهدين.
ويكون الترجيح بين منقولين، كنصين، أو معقولين كقياسين، أو معقول ومنقول كنص وقياس، ثم المنقول إن أوصل إلى تعريف أمر مفرد كماهية الصلاة ونحوها، فهو الحد الشرعي، وإن أوصل إلى تعريف أمر مركب فهو الدليل الشرعي، وتَقَدُّم الأول على الثاني طبعاً(5)، يقتضي تقديمه عليه وضعاً، لكن لما كان معظم الترجيح في الثاني قُدِّم.
[أقسام المرجحات]
__________
(1) في تجويز التعادل وعدمه.
(2) إذ لم يروه عنه أحد من المعتزلة، وهم أعرف بمذهبه، وذكر الجويني أنه بحث عنها في مصنفاته فلم يجدها. انظر (الدراري).
(3) أي: التعادل والترجيح.
(4) أي: مع وجود قاطع فلا حكم للظن.
(5) لأن الأول يوصل إلى التصور، والثاني يوصل إلى التصديق، والتصور مقدم على التصديق بالطبع؛ إذ التصديق مركب، والمركب لا يكون إلاَّ من أفراد وهي التصورات.

(1/317)


(296) فصل فالمنقولان يكون الترجيح بينهما في: السند، والمتن، والحكم، وفي أمر خارج.
فالسند: بكثرة الرواة؛ لقوة الظن، خلافاً (للكرخي)، بخلاف الشهادة. وبقلة /317/ الوسائط. وبزيادة الفطنة، أو الثقة، أو الورع، كأهل البيت سيما الأربعة المعصومين(1). والفقيه، على غير الفقيه، وإن لم تكن الرواية بالمعنى(2). والأفقه، على الفقيه. والعالم بالعربية على غير العالم بها. والأعلم بها، على العالم بها. وأئمة الأثر، على غيرهم. وصاحب القصة والمباشر والأقرب عند السماع، على غيرهم. ومن ظهرت عدالته بالتزكية، على المستور ـ عند قابليه ـ . ومعروف العدالة بالإختبار، على معروفها بالتزكية. ومعروفها بتزكية من هو أكثر بحثاً أو ورعاً، على معروفها بتزكيه من ليس كذلك. ومعروفها بتزكية العدل مع ذكر سبب العدالة، على المزكى من غير ذكر سببها. والمزكِّى بالتصريح بعدالته، على المزكى بالحكم بشهادته. والمزكى بالحكم بشهادته، على المزكى بالعمل بروايته. ومن عمل بخبره هو أو مزكية، على من ليس كذلك. ومن ليس بمبتدع، على المبتدع. والوعيدي على المرجئي. والأكثر ضبطاً الأقل نسياناً، على من ليس كذلك. والجازم، على الظان /318/. ومن لم يختلط، على من اختلط(3). ولم يعلم هل الرواية عنه في حال سلامته أو اختلاطه. وذو الحفظ، على ذي الكتابة. والمعتمد على الخط مع الذكر، على المعتمد على الخط وحده. والكبير، على الصغير. ومتأخر الإسلام، على متقدمه، وقيل: عكسه. والأكثر ملازمة، على غير الأكثر. والذَّكر، على الأنثى.
__________
(1) وهم: علي وفاطمة والحسن والحسين.
(2) خلافاً لمن زعم أنه لا يرجح إلا في خبرين مرويين بالمعنى، وذلك لأن الفقيه يفهم الرواية وملابساتها أكثر من غير الفقيه حتى وإن كانت الرواية بلفظها.
(3) المختلط، هو: الذي يصيبه شيء من الخرف والذهول المفرط.

(1/318)


وقيل: وأهل المدينة، على غيرهم. وأهل مكة على غير أهل المدينة. والحجازي، على العراقي والشامي. والْحُرّ، على العبد. والمختار: أنهم سواء.
ورواية القول، على الفعل. والرواية باللفظ، على المعنى. وما ذكر سببه، على مالم يذكر. والْمُتَّفَق على رفعه، على المختلف في رفعه ووقفه. ومالم ينكره الأصل، على ما أنكره. وسكوته مع الحضور، على سكوته مع الغيبة. والمسند، على المرسل عند الأكثر، وعكَّس (ابن أبان)، وقال (الشيخ، وغيره): سواء. (الحفيد): المسند أرجح إن ادعى الْمُسْنِد عدالة راويه. ومُرْسَل من لا يرسل إلا عن عدل، على مُرسَل من ليس كذلك. ومرسل التابعي، على غيره/319/. ومتواتر المتن ظني الدلالة على ظنيهما. ومالا تعم به البلوى على ما تعم به ـ في الآحاد ـ ومالم يلتبس اسم راويه بضعيف، على الملتبس.

(1/319)


(297) فصل والمتن، كالنهي، على الأمر. والأمر، على الإباحة في الأصح. والنهي، على الإباحة. والأقل احتمالاً، على الأكثر. والحقيقة ـ شرعية أو عرفية أو لغويّة ـ، على المجاز. والشرعية، على العرفية واللغوية، والعرفية على اللغوية. والمجاز على المجاز(1)، لقرب جهته، أو رجحان دليله، أو شهرة استعماله، أو مصححه. والمجاز، على المشترك في الأصح كما تقدم. ومُؤَكَّد الدلالة، على ما ليس كذلك. والدَّال بمنطوقه، على الدال بمفهومه. ومفهوم الموافقة، على مفهوم المخالفة، على الأصح. وتخصيص العام المتأخر، على نسخ الخاص المتقدم. والعام الذي لم يخصص، على ما خص. والمقيد، على المطلق. والإجماع، على النص ـ الظنيين ـ. والإجماع المتقدم، على الإجماع الظني المتأخر. ويرجح في /320/ دلالة الإقتضاء بضرورة الصدق، على ضرورة الوقوع شرعاً. وفي الإيماء بانتفاء البعث على غيره. ودلالة الاقتضاء، على الإشارة. ويرجح العام الشرطي، على النكرة المنفية ـ غالباً ـ وغيرها من صيغ العُمُومِ والْجُمُوعِ. و(من) و(ما)، على الجنس باللام.
__________
(1) أي: ويرجح المجاز على المجاز بأحد الأشياء المذكورة.

(1/320)


(298) فصل والحكم، كالناقل عن حكم العقل، على موافقه، عند (أئمتنا، والجمهور)، والعمل به لرجحانه على الموافق، لا لنسخه خلافاً (للقاضي)، وقيل: بل الموافق أرجح. والوجوب، على الندب. والحظر، على الإباحة، وقيل: عكسه(1). وموجب الحد، على دارئه، وفاقاً (للقاضي) لا عكسه، خلافاً (لابن أبان، والشيخ، وبعض الفقهاء)، ولا سواء خلافاً (للإمام، والغزالي)(2)، وقال (أبو طالب): إن كان الدارئ مبقياً على حكم العقل فقط فالموجب أرجح، وإن أفاد مع البقية حكماً شرعياً فهما سواء. وموجب العتق، على نافيه عند (الكرخي، وأبي الحسين)، وقيل: عكسه. (الإمام، والقاضي، والحاكم، /321/ والشيخ): سواء، والمثبت، على النافي، وقيل: عكسه.
بعض الأصوليين والفقهاء: ويجوز مخالفة الحاظر والمبيح ـ المتعارضين ـ لحكم العقل(3)، فيكونان شرعيين معاً. (أبو هاشم، والقاضي، وابن أبان): ويتساقطان حينئذٍ ويرجع إلى غيرهما من أدلة الشرع إن وجد، وإلا فإلى حكم العقل المخالف لهما. (الشافعي، والكرخي): بل الحاظر أرجح. (أئمتنا، وأبو الحسين): بل يجب مطابقة أحدهما لحكم العقل، والناقل أرجح كما تقدم.
والتحقيق أن جواز ذلك إنما يستقيم على مذهب نفاة الأحكام العقليَّة (كالأشعرية، وغيرهم)، لا على مذهب من يثبتها (كأئمتنا، والمعتزلة). ولا بد من مطابقة أحدهما لحكم العقل في عينه أو جنسه.
__________
(1) في (ب): وعلى الندب والكراهة، والتكليفي على الوضعي، وقيل عكسه.
(2) فقد ذهبا إلى أنه يستوي الدارئ والموجب؛ لأنهما خبران مأثوران عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم.
(3) كما إذا اقتضيا الحظر والإباحة والعقل يقضي بالوجوب.

(1/321)


(299) فصل والأمر الخارج، كموافقة دليل آخر من كتاب أو سنة أو إجماع أو قياس، كالعام الوارد على سبب خاص، على العام المطلق في حق السبب لا في غيره، فالمطلق /322/ أرجح. والخطاب شفاها مع العام كذلك. والعام الأمسَّ بالمقصود، على غير الأمس. وما فسره الراوي بقوله أو فعله، على مالم يفسره راويه. وما ذكرت علته على مالم تذكر. وموافق قول الوصي أو أكثر الصحابة أو الأعلم، على مخالفه، وما شهدت بتأخره قرينة، كتاريخ مصنف، أو تشديد؛ لتأخر التشديدات.
(300) فصل والمعقولان كالقياسين. ويكون الترجيح بينهما باعتبار: صفة العلة، وطريقها، وحكمها، وأمر خارج.
أما صفة العلة؛ فترجح الحقيقية؛ على: الإضافية، والعدميَّة والشرعيَّة. وهي(1)، على العدميَّة في الأصح، والمفردة، على المركبة. وما قل تركيبها، على ما كثر. والتي هي وحكمها ثبوتان، على التي هي وحكمها نفيان. والظاهرة والمنضبطة، على خلافهما.
قيل: والضرورية، على الاستدلالية. والمختار: منعه، إذ لا ترجيح بين القطعيات، وإن اختلفت جلاءاً وخفاءاً /323/. والمتعدية، على القاصرة. والأكثر تعدياً، على الأقل، خلافاً (لأبي طالب والحنفية) فيهما. والمطردة، على المنقوصة. والمطردة المنعكسة، على خلافها. والمطردة فقط، على المنعكسة فقط. والضروريات الخمس ومكملاتها، على الحاجية والتحسينية. والحاجية على التحسينية. والدينية(2) على الأربع، وقيل: عكسه. ثم مصلحة النفس على الثلاث. ثم مصلحة النسب على الأخيرين. ثم العقل ثم المال. (المؤيد بالله، وغيره): والعامة للمكلفين على الخاصة، وعكَّسَ (أبو طالب).
__________
(1) أي: الإضافية.
(2) أي: وترجح العلة الدينية على الأربع الباقية من الضروريات الخمس.

(1/322)


(301) فصل وأما باعتبار طريقها، فترجح الثابتة بالنص ـ الذي لا يحتمل غير العِلِّية، نحو: لعلة كذا ـ على الثابتة بالظاهر الذي يحتمل غيرها، كاللام. وهما، على الثابتة بالإيماء. والثابتة بالإيماء، على المستنبطة؛ مناسبة كانت أو شبهية. وبالإيماء مع المناسبة، على الثابتة /324/ به من دونها. وإيماء الدلالة القطعيَّة كالكتاب، على إيماء الدلالة الظنية كالسنة المظنونة. والثابتة بالإجماع الظنيَّ على مثلها، على حسب ما تقدم في مراتب الإجماع. والمناسبة المؤيدة بالسبر والتقسيم أو الدوران، على المناسبة الخالية عن ذلك، وهي، على الشبهية، والشبه الخلقي، على الحكمي عند قوم(1)، وقيل: عكسه، والمختار: أنه محل اجتهاد.
(302) فصل وأما باعتبار حكمها، فقد يكون في الأصل أو الفرع، فالأول: بقوة دليله، أو بكونه لم ينسخ باتفاق، أو بكونه على سنن القياس كذلك(2) ونحوهما مما تقدم.
والثاني: كترجيح المشارك في عين الحكم وعين العلة، على الثلاثة(3)، وعين أحدهما على الجنسين، وعين العلة في جنس الحكم على عكسه.
(303) فصل وأما باعتبار أمر خارج، فكالترجيح بكثرة الأصول، وموافقة أكثر القرابة والصحابة، ونحو ذلك.
(304) فصل والمعقول والمنقول يرجح المنقول الخاص الدال بمنطوقه، على المعقول، فأما الخاص الدال بمفهومه فهو درجات متفاوتة قوة وضعفاً /325/ وتوسطاً، والترجيح بينها على حسب ما يقع للناظر. والمنقول مع القياس تقدم بيانه.
__________
(1) لأنه أشبه بالعلل العقلية، مثل تحريم البر بالبر للطعم، فيحرم التفاضل في المطعوم.
(2) أي: باتفاق.
(3) وذلك أن مسألة الفرع والأصل إما أن تكون في عين الحكم وعين العلة، أو في عين الحكم وجنس العلة أو في جنس الحكم وعين العلة، أو في جنس الحكم وجنس العلة.

(1/323)


(305) فصل والحدود السمعية الظنية المتعارضة الموصِلَة إلى التصورات الشرعيَّة، كحدود الصوم والصلاة والزكاة والبيع ونحوها من الماهيات الشرعيَّة، يكون الترجيح بينها باعتبار الحد نفسه، وباعتبار أمر خارج.
فالأول: كترجيح الذاتي، على العرضي(1). وما لفظه نص صريح، على غيره. والأعم، على الأخص، وقيل: عكسه، وأمثال هذه مما يقع به الترجيح بين الحدود العقليّة.
والثاني: كترجيح الموافق لنقل الشرع، على مخالفه. والراجح طريق اكتسابه(2). والموافق لإجماع العترة الظني. ولقول الوصي. أو لعمل العلماء. أو مقرر حكم الحظر.
ووجوه الترجيحات الواقعة في الأدلة والحدود الشرعية كثيرة، وقد توسع بعض علمائنا وغيرهم في عدها، وحصرها متعسر، فلتراجع بسائطها، وفيما ذكرنا /326/ منها إرشاد إلى مالم نذكره. والله أعلم.

قال المصنف رضي الله عنه: فرغ من رقمه وتحصيله بعد عرضه على مسوداته وأصوله بعون الله وتأييده وتوفيقه وتسديده يوم الإثنين تاسع عشر شهر صفر من سنة تسع وتسعين وثمانمائة من الهجرة النبوية جعله الله خالصاً لوجهه الكريم إنه هو السميع العلم.
__________
(1) الذاتي، هو: ما لا يتصور فهم الذات قبل فهمه، كاللونية للسواد، والجسمية للإنسان، والعرضي: ما يتصور فهم الذات قبل فهمه، كالفردية للثلاثة والحدوث للجسم.
(2) أي: فإنه يرجح على غير الراجح طريق اكتسابه؛ لأنه الأغلب على الظن. دراري.

(1/324)