F
الحمد
لله رب العالمين، والصلاة والسلام على أشرف الأنبياء والمرسلين سيدنا محمد الأمين
وعلى آله الطيبين الطاهرين.
وبعد..فإنه
لما طبع القسم الأول من فتاوى الوالد العلامة عبدالرحمن بن حسين شايم حفظه الله في
تاريخ 1423هـ 2002م، وفي التاريخ نفدت نسخ تلك الطبعة من المكاتب وكثر الطلب من
الراغبين في تلك الفتاوى لما تضمنت من المباحث النفيسة، ورغب الكثير في إعادة
طبعها، وقد خلص القسم الثاني من الفتاوى التي وردت عليه بعد نشر القسم الأول فتلبية
لرغبة الراغبين وحرصاً على إفادة الطالبين كان منا الطلب لوالدنا حفظه الله بالأذن
لنا بإعادة طبع القسم الأول الذي سبق طبعه مع ضم القسم الثاني وطبعهما معاً، فكان
منه حفظه الله الأذن لنا بذلك، ولما كان المؤلف حفظه الله قد أصلح ألفاظاً في القسم
الأول المطبوع سابقاً إما خطأً مطبعي أو خطأً لم يستدركه المصحح حال الطبع، أو
استدراك لخطأ في جواب مسئلة سبق القلم به والصحيح خلاف فكان منه حفظه الله أن سلم
لنا نسخته التي قد صححها فرجعنا لمراجعة الحاسوب وإخراج النسخة المطبوعة سابقاً ثم
من بعده أدخلنا تلك التصحيحات التي صححها المؤلف ولم نغير شيئاً من الترتيب السابق
والأخطاء التي استدركها المؤلف هي يسيرة بحيث أنها لم تمس بأصل الكتاب، ولا شك أن
نشر وطبع المؤلفات فيه أجر عظيم وثواب جزيل، فكتب الله أجر الساعين والمشاركين في
نشر هذه الكنوز، ونتقدم بالشكر للعاملين في مركز الإمام عزالدين في مقدمتهم الولد
الحبيب أحسن بن محمد بن عبد الرحمن شايم الذي قام بالصف والتصحيح والإخراج مع الشكر
لبقية العاملين.
ونسأل
الله أن يوفقنا لما فيه صلاحنا ولخدمة علوم أهل البيت الطاهرين ولخدمة علوم شيعتهم
الأكرمين.
وكتب المفتقر إلى الله تعالى
علي عبد الرحمن حسين
شايـم
P مقدمة
الطبعة الأولى الحمد
لله رب العالمين والصلاة والسلام على أشرف الأنبياء والمرسلين سيدنا محمد الأمين
وعلى آله الطيبين الطاهرين. وبعد.. فهذه مجموعات من الفتاوى المفيدة،
والأنظار السديدة التي يحتاجها الطالب والمستفتي، ولا يستغني عنها العالم والمفتي،
فك مشكلاتها وأزاح معضلاتها، واستكمل جواباتها فضيلة السيد العلامة عبدالرحمن بن
حسين شايم المؤيدي حفظه الله تعالى، وقد دفعها إليَّ لأقوم بإعدادها والتقديم لها،
فاستجبت لطلبه وتحقيق غرضه، مساهمة في نشر العلم وبث
المعارف. وقد
جعلت أسئلة كل مستفتٍ على حدة حسب رغبة المؤلف وإلا فإني كنت أرى أن تصنف حسب
موضوعاتها الأصولية والفقهية، ولكنه حفظه الله رأى أن تكون أسئلة كل سائلٍ على حدةٍ
كما أراد، وكانت حصيلة الأسئلة ما يلي: السؤال الأول:
هل
للعناصر تأثير في تكوين الأشياء أم لا؟ السؤال الثاني:
هل علم الله سابق؟ وإذا كان كذلك فهل هو سائق وموجب لحصول
معلومه؟ السؤال الثالث:هل
فعل الإنسان منه؟ أومنه ومن غيره؟ السؤال الرابع:
هل يُرى الله سبحانه وتعالى بالأبصار؟ السؤال الخامس:
الإستواء المذكور في القرآن ) الرحمنُ
على العرش استوى(
[طه/5] ما المراد
به؟ السؤال السادس:
ما ورد في القرآن الكريم من ذكر الوجه، والعين، واليد، هل هو على ظاهره؟ أم له
تأويل؟ السؤال السابع:
هل الأرض كروية أم مسطحة؟ السؤال الأول:
ما هي الفوارق بين المذهبين الزيدي والإثنى عشري؟ السؤال الثاني:
ما هو تعريف العصمة عند الزيدية؟ ومن هم المعصومون؟ السؤال الثالث:
متى نشأ مذهب الإثنى عشرية؟ وما السبب في إنشائه؟ السؤال الرابع:
مَنْ هم أهل البيت المعنيون بقوله صلى الله عليه وآله وسلم: ((إنّي تاركٌ
فيكم...)) الحديث؟ السؤال الخامس:
ما هو الدليل على أن الإمامة جائزة في غير الإثني عشر؟ وما الرد على من حصرها في
الإثني عشر، بما ورد في كتب أهل السنة ما معناه: أن الأئمة من قريش إثني
عشر؟..اهـ السؤال السادس:
لِمَن شفاعة الرسول صلى الله عليه وآله وسلم وما فائدتها، وهل يكفي في الإيمان حب
علي بن أبي طالب عليه السلام لقول النبي صلى الله عليه وآله وسلم: ((يا علي لا
يحبك إلا مؤمن... الحديث))؟ السؤال السابع:
ما حكم زيارة المرأة للقبور، وإذا كانت جائزة فهل يجوز مع مزاحمة
الرجال؟ السؤال الثامن:
هل يجوز عند زيارة قبور الصالحين تقبيلها والطواف عليها كما يطاف على الكعبة والسعي
إليها زحفاً؟ وإذا لم يكن جائزاً فما هو الجائز منه؟ السؤال التاسع:
من المعلوم أن الأوقات الإختيارية في المذهب الزيدي هي خمس فهل هي في المذهب الإثنى
عشري كذلك؟ أم ليست كذلك؟ السؤال العاشر:
ما حكم نكاح المتعة؟ وما هو الدليل؟ السؤال الأول:
نقل شيخنا السَّياغي في مقدمة الروض النضير للقاسم بن عبدالعزيز بن إسحاق بن جعفر
البغدادي وبدأ هكذا (الفصل الثاني في ذكر من روى عنه والآخذين عنه وما يتصل بذلك
قال الشيخ العالم الزاهد القاسم بن عبدالعزيز بن إسحاق بن جعفر البغدادي رحمه الله
تعالى: كان زيد بن علي شامة أهل زمانه، وزهرة أقرانه، وإمام أهل بيت النبوة في وقته
عليهم السلام يقول بعد ذكر المقدمة: السؤال الثاني:
إلى أيِّ عصر بقي عدد من الزيدية بمكة والمدينة؟ السؤال الثالث:
هل بقي شيء من مؤلفات زيدية العراق سوى كتب أبي عبدالله
العلوي؟ السؤال الرابع:
اشتغل الإمام القاسم الرسي عليه السلام بمسائل أصول الفقه في رسائل وللهادي عليه
السلام كتاب القياس وكتاب تفسير معاني السنة، وهي في أصول الفقه، لكن ليس للعترة
كتاب مشتمل على كل مسائل أصول الفقه قبل كتب الإمام الناطق بالحق أبي طالب يحيى بن
الحسين عليه السلام حسب ما عندي من معلومات هل هذا صحيح؟ السؤال الأول:
ما حكم تَجَنُّس المسلم في البلاد غير الإسلامية بجنسيتها مع العلم أنَّ الكثير
منهم يؤكد أنهم ما فعلوا ذلك إلا لأنهم قد أُوْذُوا واضطهدوا في بلادهم الأصلية
بالسجن أو التهديد ومصادرة الأموال
وغيرها. وفئةٌ
أخرى كانت إقامتها في هذه البلدان لتحسين المستوى الإقتصادي لها
ولأسرها؟ السؤال الثاني:
ما حكم اقتراض أفراد الجاليات الإسلامية من البنوك بفائدة ربويه لأجل شرا بيت
للسكنى ثم وفاء مبلغ القرض وفوائده مقسطاً لمدة طويلة كعشرين عاماً على أن يمتلك
البيت بعد وفاء القرض علما بأن البديل عن الشرا ء هو الإيجار بقسط شهري يزيد عن قسط
وفاء القرض وفائدته للبنك، ولا يمتلك البيت في النهاية،كما أن الاستئجار يترتب فيه
ضرائب عالية على المستأجر، أما حالة القرض من البنك فإنها توفر الضرائب على
المشتري؟ السؤال الثالث:
ما حكم عمل المسلم المقيم في البلاد غير الاسلامية في وظائف الحكومة غير الإسلامية
ووزاراتها وخاصة في مجالات هامة كالصناعات الذرية والدراسات
الإستراتيجية؟ وما
حكم العمل في بيع الخمور والخنزير إذا لم يجد المسلم عملاً
آخر؟ السؤال الرابع:
ما حكم تناول الأدوية التي تحوي كميات مختلفة من الكحول تتراوح بين 1% و 25%، ومعظم
هذه الأدوية من أدوية السعال والزكام وغيرها من الأمراض السائدة وتمثل ما يقارب 95%
من الأدوية مما يجعل الحصول على الأدوية الخالية من الكحول عملية صعبة
أومتعذرة؟ السؤال الخامس:
ما حكم تناول الأدوية التي تحوي كميات مختلفة من الكحول تتراوح بين 1% و 25%، ومعظم
هذه الأدوية من أدوية السعال والزكام وغيرها من الأمراض السائدة وتمثل ما يقارب 95%
من الأدوية مما يجعل الحصول على الأدوية الخالية من الكحول عملية صعبة
أومتعذرة؟ السؤال السادس:
ما حكم الإيداع في البنوك الربوية في البلاد غير الإسلامية؟ السؤال السابع:
ما حكم مشاركة الجاليات الإسلامية غير المسلمين من مناسباتهم الإجتماعية المختلفة
في مشاركتهم في مراسم الدفن والعزاء وحضور إكليل الزواج في الكنيسة، ومشاركتهم في
أعيادهم الدينية وتبادل الهدايا وبطاقات التهنئة معهم، وتهنئتهم على أعيادهم كعيد
ميلاد المسيح أو الكريسمس؟ السؤال الثامن:
ما حُكْمُ تأمين المسلم على منـزله وسيارته ضد الأخطار في البلاد غير الإسلامية
وقيامه بالتأمين الصحي مع العلم أن تكاليف العلاج وإصلاح السيارة مرتفعة جداً في
بعض البلدان غير الإسلامية، والإشتراك في التأمين يمكن فئات كبيرة من الجاليات
الإسلامية الحصول على العلاج المناسب والتعويض في حالة وقوع حوادث
مفاجئة؟ السؤال الأول:
كيف تُقَيِّمون كتاب اللالي المضيئة في أخبار أئمة الزيدية للعلامة/ أحمد بن محمد
بن صلاح الشرفي المتوفي سنة 1055هـ، بالنسبة لما كتبه مؤرخوا
الزيدية؟ السؤال الثاني:
كما يُعْلَم من كُتُبِ التاريخ أن الإمام المعتضد يحيى بن الْمُحسِّن المتوفي سنة
636هـ تعارض مع الأمير عزالدين محمد بن المنصور بالله، والسؤال هو: لماذا سَانَدَ
العلماء الكبار مثل الفقيه حميد المحلي وأبي الفتح الصنعاني وعمران بن الحسن
الشتوي، الأمير عزالدين محمد بن المنصور رغم أن المعتضد كان الأولى بالمساندة على
مقتضى شروط الإمامة في المذهب، وقد أخذت البيعة للناصر وهو غائب في كنن هل يجوز
ذلك؟ انتهى. السؤال الثالث:
قال السائل أرشده الله وسدَّدهُ:ـ اقتصرتِ
المصادر الزيدية عند التعرض لمسألة تعارض الأئمة على ذكر الأئمة التعارضين في كل
عصر ومصر بأسمائهم وألقابهم دون أي ذكر أو تفصيل لأسباب ودواعي التعارض أو ترجيح
إمامة أحدهما على الآخر أو أي حكم بالخطأ أو التفسيق أو التكفير، وجل ما فعله
العلماء الذين ناقشوا هذا الموضوع أن فريقاً منهم رجَّح حمل الطرفين على السلامة،
والقسم الثاني رجَّح بأنَّ أحد الطرفين هالك لا محالة، ولكن مع هذا لم يحدد مَنْ
مِن المتعارضين هو الهالك ما تعليقكم على ذلك ألا تعتقدون أن في ذلك نوع من الإرجاء
الذي انتقده أصحاب المذهب على غيرهم وإلاَّ تعتقدون أن ذلك يعطي الآخرين ثغرات
لمهاجمة وانتقاد نظرية الإمامة عند الزيدية حيث التناقض بين الواقع والنظرية
أهـ؟ السؤال الرابع:
إذا كانت أدلة الإمامة قطعية عند الزيدية، وإذا كان الزيدية يعتقدون أنها من أصول
الدين التي لا يجوز فيها التقليد فهل يسري ذلك على قضية كونها محصورة في البيت
الحسني والحسيني، أي هل أدلة حصرها في البطنين قطعية، أم ظنية خاضعة للإجتهاد،
وأيضاً إذا كان الزيدية يعتقدون بالنص الخفي على الإمام علي عليه السلام، فما هي
صفة النص على أن الإمامة في أهل البيت؟ وما الفرق بين النص الخفي والنص
الجلي؟ السؤال الخامس:
هل
نستطيع القول بأنَّ أكْبر عامل من عوامل تعارض الأئمة هو اختلاف مواقف العلماء وعدم
اتِّخَاذهم موقفاً موحداً في تأييد إمام بعينه؟ وبعبارةٍ
أُخْرى ما هو الدور الحقيقي الذي لعبه العلماء في مسألة تعارض الأئمة؟ السؤال
السادس: ما هو الدور الذي لعبه النظام القبلي في اليمن في مسألة تعارض
الأئمة؟ السؤال السابع:
في أخبار تعارض الإمامين المتوكل المطهر بن محمد بن سليمان (ت/879) والإمام الناصر
بن محمد (ت/867) جاء في كتاب أئمة اليمن للعلامة محمد زبارة (ص/324) وفي سنة
(866هـ) جمع الناصر بن محمد عسكره وسار بهم إلى ذمار فاستولى عليها وخرج عنها عامل
الملك الظافر الطاهري وكتب الظافر من عدن إلى الإمام المطهر بن محمد والشيخ علي بن
حسن كبير همدان يحرضهما على حرب الناصر بن محمد، فخرج الإمام المطهر من كوكبان إلى
القلاط والتقاه علي بن حسن الهمداني بجموع من همدان ووقعت بينهم وبين أصحاب الناصر
بن محمد مصاولة شديدة على صنعاء وذي مرمر، ولم يزل الحرب بينهم سجالاً ودخل الإمام
قلعة ظهر فأكرمه الهمداني غاية الإكرام، وقد كان قال من قبل في نفس الصفحة: فاجتمع
همدان والإمام المطهر بن محمد بن سليمان على حرب الناصر بن محمد واتصل الحرب الأول
بالآخر وقتل في هذه الحروب جماعة وكان آل طاهر يحرضون الناصر بن محمد على حرب
الإمام المطهر بن محمد والعكس. الملاحظ
مما سبق: أن الإمام يستعين بالباطنية لحرب إخوانه في المذهب رغم التاريخ
الطويل للزيدية في حرب الباطنية وتكفيرهم، فكيف تُفَسِّرُون ما حدث خاصَّة أن كلاً
من الإمامين معترف به عند علماء ومؤرخي الزيدية؟ السؤال الثامن:
قيل في التواريخ أن القاضي عبد الله الدواري كان الداعي إلى بيعة الإمام المنصور
علي بن صلاح بعد موت والده، وأنه لَفَّقَ كلاماً في صحة إمامة المقلد، هل من الممكن
الحصول على هذا الكلام؟ وهل أخذ هذا الكلام مأخذ الإجتهاد في الإمامة، وإن كان كذلك
فما هي شروط صحة إمامة المقلد؟ السؤال
التاسع: هل يوجد في المذهب الزيدي رأي يجوز إمامة غير الفاطمي إن اكتملت فيه شروط
الإمامة ولم يجد مثله في الفاطميين؟ السؤال الأول:
هل يصح عندكم تَتَبُّعُ الرُّخَص بين أصحاب السفينة؟ السؤال الثاني:
القول الشائع هل الأهل وطن، هل الحديث صحيح، وعليه فهل العبرة في القصر بالإستيطان
أم برفقة الأهل؟ السؤال الثالث:
هل الكلام في السُّوَر السبع المنجيات والسبع المهلكات قوي؟ السؤال الرابع:
ما يجب على مَنْ صبغ شعره؟ السؤال الخامس:
ما هو المشهور عند القدماء من أهل من البيت عليهم السلام في
الشيخين؟ السؤال السادس:
هل تُؤكل ذبيحة كافر التأويل العالم؟ السؤال السابع:
هل تصح الصلاة خلف...إلخ؟ السؤال الثامن:
هل الصلاة خلف كافر التأويل صحيحة؟ السؤال التاسع:
هل الضم مبطل للصلاة؟ السؤال العاشر:
هل تصح صلاة الجماعة بين مختلفي الفريضة نحو صلاة الظهر خلف من يصلي
العصر؟ السؤال الحادي عشر:
هل تصح النافلة جماعة؟ السؤال الثاني عشر:
هل تصح النِّيَّةُ المشروطة في صلاة الجماعة خلف من لا يؤمن على
إمامته؟ السؤال الثالث عشر:
هل يصح الإيداع في البنوك التي يتعامل فيها بالربا؟ وهل الإيداع للمنفعة إعانة…
إلخ؟ السؤال الرابع عشر:
ما هي الأدلة على إباحة المظالم الملتبسة لبعض المصارف؟ وما هي المظالم
الملتبسة؟ السؤال الخامس عشر:
هل يقضي تارك الصلاة عمداً؟ السؤال السادس عشر:
هل يجوز توزيع كفارات متعددة على نفس العشرة الفقراء؟ السؤال السابع عشر:
هل يصح أن يأخذَ الكفيل هنا مبلغاً شهرياً مقابل كفالته؟ السؤال الثامن عشر:
ما معنى القول المنسوب إلى الرسول صلى الله عليه وآله وسلم: ((جفتِ الأقلام)) على
ضوء عقائد أهل البيت عليهم السلام؟ السؤال التاسع عشر:
ما معنى: (لا أسألك رد القضاء، ولكن أسألك اللطف فيه)؟ السؤال العشرون:
هل جميع ما أُخِذَ من البحر حلال، وما هو الحلال من لحوم البحر ونحو الجمبري
والضفادع والأفاعي حرام؟ السؤال الحادي والعشرون:
لماذا القول بالإحتياط في بعض الأمور إذا كُنَّا نقول بأنَّ الله لا يعاقب إلاَّ
بعد بيان الحجة، وفيما يحتاط عنه المفترض أنَّ الحجة غير قائمة فهل يصح القول بأن
الإحتياط إنما يحسن فيما كان وسيلة للحرام؟. السؤال الثاني والعشرون:
هل يصح تلحين الجهر بالصلاة على النبي صلى الله عليه وآله
وسلم؟ السؤال الثالث والعشرون:
هل يصح للدولة تحديد إجارة الآدمي وتسعير المهمة للمصلحة
العامة؟ السؤال الرابع والعشرون:
هل يصح القول في الربا أنَّ الجنس والتقدير أمارة على وجود الربا وليسا علة للربا،
ولا يعقل في العدل التحريم إلاَّ بالظلم؟ السؤال
الخامس والعشرون: هل يصح أن يُباح الربا في حال استواء المنفعتين للقارض
والمقرض؟ السؤال السادس والعشرون:
هل يمكن اعتبار أحكام المعاملات التي رُوِيت عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم
من أوامر ونواهي في غير الربا وفي غير ما يرجع النهي عنه إلى أكل أموال الناس
بالباطل، هل يمكن اعتبارها إرشادات يجوز مخالفتها نحو بيع ما لا يملك والسلم بغير
تسليم قيمة المسلم فيه كاملة؟ السؤال السابع والعشرون:
هل تجب زكاة المستغلات؟ السؤال الثامن والعشرون:
لِمَنْ حِضانة الطفل بعد الطلاق أو بعد وفاة والدته؟ السؤال التاسع والعشرون:
هل يصح البيع والشراء بالأسهم؟ السؤال الثلاثون:
ما حكم اليا نصيب وإذا كانت شركة اليانصيب تصرف أموالها في
المصالح؟ السؤال الحادي والثلاثون:
إذا فعل شخص خيراً بغير نية نية التقرب إلى الله فهل له
العوض؟ السؤال الثاني والثلاثون:
هل رَمْي الجرائد التي فيها آيات قرآنية بغير نية استهانة بها هل هو حرام، وتلك
التي فيها اسم الله نحو: عبد الله وعبد الكريم؟ السؤال الثالث والثلاثون:
ما معنى: ((أنت ومالك لأبيك))؟ السؤال الرابع والثلاثون:
هل يصح استهلاك الوديعة بنية إرجاعها حال طلب المودع لها؟ السؤال الخامس والثلاثون:
هل يصح خلط الوديعة النقدية بغيرها من الأموال بحيث تستهلك عين الوديعة ويرد قيمتها
حال الطلب؟ السؤال السادس والثلاثون:
إذا كانت زوجة متضررة من زوجها يظلمها ويهمل حقوقها ويسيء معاملتها ويأكل مال
أولاده فهل تأثم إن طلبت الطلاق بعد فشل الإصلاح؟ السؤال السابع والثلاثون:
هل يجب التقيُّد بأحكام التجويد في مدٍ وإدغام وقلقه وغيرها، وهل لها أصلٌ عن النبي
أم هي هيئات للقراءة نقلت عن العرب؟ السؤال الثامن والثلاثون:
هل اللحن الذي لا يغير المعنى في القدر الواجب مبطلٌ للصلاة؟ السؤال التاسع والثلاثون:
مَنْ لحن ولم يعرف إلا بعد تمام الصلاة وتفرق الجماعة هل عليه
إعلامهم؟ السؤال الأربعون:
هل يجوز السفر للإستجمام؟ السؤال الحادي والأربعون:
هل البقاء في دار الكفر جائز؟ السؤال الثاني والأربعون:
هل بين الإمامة والولاية عمومٌ وخصوص، أي هل الولاية أعم من الإمامة..
إلخ؟ السؤال الثالث والأربعون:
ما قولكم في ملكة النظر؟ السؤال الرابع والأربعون:
عن الخلوة بالمرأة؟ السؤال الخامس والأربعون:
ما حكم تصفيف الشعر؟ وما حكم تقليد القصات الغربية من الناحية الجمالية ليس من
ناحية التقليد؟ السؤال السادس والأربعون:
رجلٌ لقي رجلاً في حادث شنيع فإذا أنقذه فمن الممكن أن يتعرض للضرر والتوقيف، فهل
يجب عليه إنقاذه أم لا يجب؟ السؤال السابع والأربعون:
ما حكم المصافحة للمرأة مع أمنِ الشَّهوة؟ السؤال
الثامن والأربعون: هل يجوز للمرأة أن تنظر إلى وجه الرجل، وهل يصح خبر ابن أم
مكتوم؟ السؤال التاسع والأربعون:
هل يجوز للمرأة أن تكشف شعرها إذا تضررت عن الغطاء، وذلك نحو أن تكون في دولة كفر
ولا يمكنها الهجرة، وكان الحجاب يلفت السفلة إليها؟ السؤال الخمسون:
هل الأعلم في صلاة الجماعة أولى أم صاحب البيت صاحب الراتب؟ السؤال الحادي والخمسون:
هل يجوز التبرع بالأعضاء والدم وشرائها، وهل يجوز الإيصاء
بذلك؟ السؤال الثاني والخمسون:
الإجهاض قبل بداية الشهر الرابع من الحمل هل يجوز؟ السؤال الثالث والخمسون:
ما حكم الغناء؟ السؤال الرابع والخمسون:
هل تحتاج العجوز إلى محرم في الحج؟ السؤال الخامس والخمسون:
هل التقطير في العين الذي يطعم أثره في الحلق مفطرٌ؟ السؤال السادس والخمسون:
ما حكم الدعاء داخل الصلاة؟ السؤال السابع والخمسون:
ما رأيكم فيما هو شائع بين الناس عن السحر، وهل صحيح أنه من الممكن للساحر أن يسحر
من يشاء، وما رأيكم في دخول الجن في الناس، وهل من الممكن لهم ذلك كيفما شاؤوا، وهل
يجوز الذهاب إلى الساحر للعلاج من بعض الأمراض، وهل صحيح ما يدعيه أهل السنة من سحر
النبي صلى الله عليه وآله وسلم؟ السؤال الثامن والخمسون:
اسم الله الأعظم الذي إذا دُعِيَ به أُجِيب هل هو مجموعة حروف أم متعلق بنية
وإخلاص؟ السؤال التاسع والخمسون:
قال الله تعالى: ]إنْ
تَجْتَنِبُوْا كبَائِرَ مَا تُنْهَوْنَ عَنْهُ نُكَفِّرْ عَنْكُمْ
سَيِّئَاتِكُمْ[ [النساء/31]، ومعلوم أن لمس المرأة الأجنبية صغيرة وليس كبيرة،
وكذا هناك معاصٍ معلومٌ أنها صغائر مثل سفور المرأة فهل اجتناب الكبائر مع إتيان
هذه المعاصي موجبٌ للمغفرة، ولو كان المرتكب لها لا يرى فيها معصية لاعتياده عليها
وتربيته عليها أي ليس إصرار؟ وهذه
الأسئلة كما ترى غاية في الأهمية يحتاجها الطالب والعالم، وقد أجاب عنها المؤلف
حفظه الله تعالى بجوابات مفيدة، أجاب عنها جواب العالم المتمكن، والعارف الفطن،
وستجد في طياتها ما يقر عينك ويسر قلبك، وما هذا التقديم إلا كمدخل إليها، ولا أريد
أن أطيل عليك به، فعلك مشتاق إلى البحث عن جواباتها. وقبل
ذلك لا بد من ترجمة مختصرة للمؤلف حفظه الله، وصلى الله وسلم على سيدنا محمد وعلى
آله الطيبين الطاهرين، آمين. ترجمة المؤلف هو
السيد العلامة المجتهد وجيه الدين، وزينة العلماء العاملين، خدين المكارم، عبد
الرحمن بن حسين بن محمد بن مهدي شايم حفظه الله تعالى، فارس العلوم ومحقق منطوقها
مولده ومشائخه ولد
جمادي الآخرة من سنة 1358هـ ومن أبرز مشايخه العلامة الكبير المجتهد مجدالدين بن
محمد بن منصور المؤيدي رحمه الله تعالى، والسيد العلامة درهم بن عبدالله حورية رحمه
الله تعالى، والسيد العلامة صلاح نورالدين رحمه الله تعالى، والقاضي العلامة يحيى
بن حسين سهيل رحمه الله تعالى، والقاضي العلامة محمد بن يحيى مرغم رحمه الله
تعالى.. وغيرهم.
طلابه وله
عدد من طلاب العلم الشريف الذين يفدون إليه من مختلف المناطق فيستقبلهم ببشاشة وسعة
صدر، ويقوم بما يحتاجون إليه، وإذا ذهبت إلى مقام جده الإمام عزالدين بن الحسن عليه
السلام بهجرة ففله وجدت ابنه هذا بجواره يحيي علومه ويسلك
نهجه. وهو
مع غيره من علماء الهجرة الأفاضل قد جعلوا هجرة فلله مركز إشعاع علمي هجرة دائمة،
وتدريس مستمر، توزعوا في مساجدها وأقاموا في روابيها صرحاً علمياً تشد إليه
الرحال.
الإصلاح بين الناس وإلى
جانب تدريسه المستمر يقوم بالإصلاح بين القبائل المتخاصمة ، وقد جعل من مجلسه
الواحد مدرسة لبث المعلومات، ومحكمة لفصل الخصومات، وقد أصدر عشرات الأحكام، وحل
عشرات المشاكل، وسكّن الدهماء بين كثير من القبائل.
رحلاته الإرشادية وله
رحلات مفيدة إلى بعض أنحاء اليمن، وقد ارتحلت أنا وإياه في العام المنصرم إلى
محافظة حضرموت في أقصى جنوب الوطن لزيارة قبر نبي الله هود عليه السلام بالأحقاف
وزيارة قبر الإمام المثابر أحمد بن عيسى المهاجر رحمه الله تعالى، والتقينا خلال
الزيارة بعدد من علماء الشافعية في موسم الزيارة لقبر نبي الله هود عليه السلام،
ألقى خطبة عظيمة سمعها العلماء وطلاب العلم، وجرت مناقشات بينه وبين عدد من العلماء
هنالك، فأعجبوا بغزارة علمه وقوة طرحه، وحسن تعامله، واستجازه البعض منهم فأجازه،
وأقاموا على شرفه ضيافات واجتماعات. وكذلك
رحلنا إلى صنعاء وحجة وتنقلنا في عزلها ومديرياتها المختلفة، فكان في صدر مجالسها
محل إعجاب وتقدير، يسألونه عن مسائل عديدة وإشكالات كثيرة فيجيب عنها بجوابات
شافية.
مؤلفاته: وله
حفظه الله تعالى عدد من المؤلفات السديدة والأبحاث المفيدة: 1ـ
(الفتاوى) يحتوي على عشرات الأسئلة في مختلف المواضيع المتعددة وهو الذي بين يديك
الكريمتين. 2ـ
(منهج السلامة في مذهب الإمام عزالدين بن الحسن في الإمامة) رد فيه على جميع
الإشكالات التي ترد حول مذهب الإمام عزالدين بن الحسن في الإمامة وأوضح أن مذهبه
مذهب آبائه. 3ـ
(أطواق الحمامة بتحقيق مسألة القسامة) وقد أدرجها في المجلد الثاني من
الفتاوى. 4ـ
(منار الإهتداء في بيان شروط الناقص والبدا) وقد أدرجها في المجلد الثاني من
الفتاوى. 5ـ
(الرد الواضح الجلي في أتباع زيد بن علي) جواب على مسائل أحد المدرسين السودانيين
باليمن، وقد أدرجها في المجلد الثاني من الفتاوى. 6ـ
(رفع الخصاصة عن قراء لباب المصاصة) طبع بإعدادنا ونشرته مؤسسة الإمام زيد بن علي
عليه السلام للعام 1423هـ 2002م. وله
غيرها من الأبحاث والمختصرات والتعليقات، وقد قام بتحقيق كتاب (الإصباح على
المصباح) ويقوم حالياً بتحقيق جميع كتب ورسائل الإمام عزالدين بن الحسن عليه السلام
وقد أوشك على الإنتهاء. ولو
رجعنا إلى الأدب والشعر لوجدناه مقدماً فهو من المجيدين له شعراً ونثراً ونقداً
وإنشاءً، ولو جمع شعره لأتى في مجلد، وبعض قصائده أثبتها السيد العلامة القاسم بن
أحمد المهدي في ديوان الشعر والحكمة. وفي
الأخير نسأل الله العلي العظيم أن يحفظه ويمتعنا بحياته، ويعيننا وإياه على ما يحبه
ويرضاه، إنه على كل شيء قدير وبالإجابة جدير. وصلى
الله وسلم على سيدنا محمد الأمين وعلى آله الطيبين الطاهرين.
وكتب
المفتقر إلى تعالى
عبدالله بن حمود بن درهم
العزي
P وبه ثقتي رب
زدني علماً m الحمدُ
للِّهِ، نحمد اللَّهَ ونستعينه، ونستهدي اللَّهَ الهدى، ونعوذ به من الضلالة
والردى، ونؤمن به ونتوكل عليه. وأشهد
أنَّ لاإلــه إلاَّهوَ تـنـزه عن مشابهة المخلوقين، وتقدَّس عما يقوله المبطلون،
وللِّهِ الأسماءُ الحسنى وله المثل الأعلى. وأشهد
أنَّ محمداً عبدُهُ ورسولُهُ، أرسَلهُ بالهُدَى ودين الحق ليهلك من هلك عن بيِّنَة
ويحيى من حي عن بينة، فبلّغ الرّسالة وأدَّى الأمانةَ ونصحَ الأمَّة وبشّر وحذَّر
وأنذَر وعبدَ ربَّه حتى أتاه اليقين صلى الله عليه وعلى آله هداة المهتدين، وأمان
هذه الأمة إلى يوم الدين. وبـعـد: فإنها
وردت أسئلة من طالب للنجاة يطلب كشف غياهبها ويستمد إيضاح مشكلها، على أنها بحمد
الله نيِّرة الدلائل مكشوفة للمسؤل والسائل، وما أحسب أن السائل ممن يستشكلها وإنما
ذلك من باب: كم عارفٍ بالشيء وهو يسأل، فتصديت للجواب راجياً للثواب، وإن لم أكن من
رجال هذا الشأن ولا من فرسان ذلك الميدان، ولكن من قُدِرَ عليه رزقه فلينفق مما
آتاه الله، وهذا حين الشروع في ذلك نسأل الله الإعانة على سلوك تلك المسالك، وقد
صدَّر السائل سؤالاته بأبيات ضمَّنها المسائل التي يُريد كشفها وبيانها، وقد رأيت
عدم زبر ذلك تخفيفاً. وهذا
جوابُ ذلك إجمالاً، والتفصيل بعد ذلك نثراً:- يا
طالباً للكشف والتبيين إنصت
وخذ ما حررته يميني خلاصـة
المسائـل وخلاصـة
المسائل هـي: الأولـى:
هل
للعناصر تأثير في تكوين الأشياء أم لا؟ الثانيـة:
هل علم الله سابق؟ وإذا كان كذلك فهل هوسائق، وموجب لحصول
معلومه؟ الثالثة:
هل فعل الإنسان منه؟ أو منه ومن غيره؟ الرابعة:
هل يُرى الله سبحانه وتعالى بالأبصار؟ الخامسة:
الإستواء المذكور في القرآن ]الرحمنُ
عَلى العَرشِ استوى[ [طه/5]
ما المراد به؟ السادسة:
ماورد
في القرآن الكريم من ذكر الوجه، والعين، واليد، هل هو على ظاهره؟ أم له
تأويل؟ السابعة:
أمَّا
الجواب عن المسألة الأولى، وهي مسألة العناصر:ـ فنقول:أنَّ
مفردها عنصر، قال في لسان العرب لإبن منظور العُنْصُر والعُنْصَرالأصل
قال:
تمهجــروا وَأيُّمَا تمهجـــرٍ
وهم بنو العبـد اللـئيم
العنـصر والعنصر
الدَّاهية، والعنصر الهمَّة، والحاجة قال: ألاَ
راح بالـرهن الـخليط فـهجروا ولـم
يُقْضَ مـن بين العشيات عُنْصُرُ ومنه
الحديث: ((يرجع كل ماءٍ إلى عنصره))، إنتهى بتلخيص. إذا
عرفت أنّ
العنصر هوأصل الشيء فاعلم أنه لم يقع
إختلاف بين خير القرون من الصحابة والتابعين وتابعيهم’ بل دانوا بأنّ العالم
وهوماسوى الله تعالى محدث، وأن الله اخترعه من العدم، ولاتأثير لعنصر ولاعلة،
ولامادة، ولاطبع، ولم يعرفوا شيئاً من هذه، لاالطبع ولا المادة ولاغيرها، بل لم
يحدث الخلاف إلابعد أنْ دخلت عليهم الفلسفة، وتُرجمت كتبها في العصر العباسي، فهي
دخيلة على الإسلام والمسلمين، وتفصيل المذاهب والأقوال يؤدي إلى الإسهاب والإطناب،
وقدحكى علماء الأصول تلك الأقوال واستوفوا الردود عليها بمالامزيد
عليه. وخلاصة
القول:
أنّه لاتأثير في إيجاد العالم إلاَّللصانع المختار، وهوالله Y، وهوالذي أوجده واخترعه من العدم، لإنَّ العنصر الذي هوأصل الشيء،
إنْ كان موجوداً قبل أن يُوجد الله الشيءَ الذي العنصرأصله فلامعنى للإيجاد، لإنه
موجودٌ قبل أن يوجده اللَّهَ، وتحصيل الحاصل محال، ويعود السؤال، فإمَّا أن يكون
ذلك العنصر قديماً لزم أن يكون مع الله قدماء، أويكون محدثاً، فلابد له من محدث،
وأيضاً فإنه قد صح أنَّ العالم متغير، ومتحرك، وساكن، بعد أن لم يكن، وكل ماهذا
شأنه فهو محدث، على أنَّ هذا المقال المسئول عنه لايعقل، وقد قالت المطرفية أنَّ
الأصولَ الأربعة التي هي: الهواء، والماء، والأرض، والنار،محدثة أوجدها الله تعالى،
لكنهم زعموا أنَّ التأثير في الفروع لهذه الأصول، وهذا مقال باطل للأدلة القاطعة
أنه لاتأثير إلاَّللفاعل المختار،والعنصر، وهذه الأصول غيرحيّة ولاقادرة ،ولاتأثير
إلاَّ للحي القادر. واعلم
أنَّ الأدلة التي استدل بها علمائنا على إبطال تأثير الطبع، وتأثير العلة أوالنجوم
عند القائل بها أو العقول العشرة عند القائل بها يصح أن يكون هنا دليلاً لإبطال
تأثير العنصر، أوالأصول على قول المطرفية، لأن المورد واحد، وإن اختلفت العبارات
وفي هذا القدر كفاية، ومن أحب التوسع رجع إلى كتب الأصول المبسوطة، والله الموفق
والهادي.
وأما
الجواب عن المسألة الثانية:(وهي مسألة عالم) فأقول:
إعلم
وفقنا
الله وإياك وسدّدنا أنَّ مسائل الصفات قد اختلف فيها الموحدون مع إجماعهم أن الله
تعالى يوصف بأنه عالم وقادر وحي وموجود، إلى آخر الصفات وإنَّما الخلاف هل هي
زائدةٌ على الذات؟ أمْ هي معاني؟ أم صفاته سبحانه ذاته؟ أووَاجبةٌ لِذاته؟ مع أنَّ
الصفات تنقسم إلى قسمين:صفة ذات، وصفة فعل ،وتنقسم أيضاً إلى صفات إثبات، وصفات
نفي، ومسألة عالم التي نحن بصددذكرها هي صفة ذات، وهي أيضاً، من صفات الإثبات،
والمختار أنَّ صفاته سبحانه ذاته، وهو رأي أئمتنا صلوات الله عليهم لأنَّ الصفة
والوصف هو المعنى القائم بالجسم كالعلم القائم بالإنسان، ولمَّا كان هذا مستحيلاً
في حقه تعالى لإستحالة كونه حالاًّأومحلولاً، لأنها تقتضي الجسمية وهوليس بجسم
ولاعرض، ولوكانت زائدة على الذات أومعنى غير الذات لكانت غير الله، ولزم قدمها
فيتعدد القدماء وذلك باطل، أوحدوثها ولزم التعطيل، وقد قال بعض علماء ألآل عليهم
السلام في الصفات: نفاها قومٌ فعطَّلوا،وأثبتها آخرون فجسموا، وخرجوا إلى ضربٍ من
التشبيه، والتكييف، والفصل سلوك الطريق الوسطى، فدين الله بين المقصر والغالي.
والكلام في الصفة فرع على الكلام في الذات، فإذا كان المعلوم أنَّ إثباته تعالى
إثبات وجود لاإثبات كيفية، فكذلك إثبات صفاته، إنماهو إثبات وجود لاتحديد ولاتكييف.
ا هــ. وهوكلام نفيس. وفي توحيد زين العابدين عليه السلام:
فأسماؤه تعبير وأفعاله تفهيم
.
اهــ. وقد
قال تعالى:]ليسَ
كَمِثْلِهِ شَيءٌ[ [الشورى/11]. ونقول:
أنَّ
عِلم الله تعالى سابق للمعلومات، غير سائق لها، ولاموجبٌ لحصولها، ولاموجب للتمكين
منها، ولوكان كذلك لبطلت الحكمة من إرسال الرسل، وإنزال الكتب، ولبطل الأمرُوالنهي،
ولمَاكان العبد مختاراً في أفعاله، ولوكان كذلك لبطلَ الثواب، والعقاب ،لأنه يكون
التأثير في أفعال العباد لغير الفاعل منهم. قال
في الأساس وشرحه:
قالوا أي المجبرة جميعاً سبق في علم الله أنَّ العاصي يفعل المعصية،
فكيف يتمكن من ترك المعصية مع ذلك؟. وقالوا:
قد رُويَ (أنّهُ يُكتبُ في جبينه مؤمنٌ، أوكافرٌ، وشقيٌ، أوسعيدٌ).
قلنا:
عِلمُ الله تعالى بعصيان العبد، وطاعته،لاتأثير له في فعل الطاعة أو المعصية، لأنّه
سابق لهما غيرسائق. فما
اختاره العبدُ، من فعل الطاعة، أو المعصية علمه الله تعالى منه قبل حصوله، بل قبل
حصول العبد وحدوثه، ولاتأثير لعلمه تعالى في حدوث الفعل البتة، فلم يناف علم الله
سبحانه وتعالى بمايفعله العبد، تَمَكُّنُ العاصي من الفعل والترك، فانْ فَعَلَ
العبد الطاعة علمها الله سبحانه منه قبل أن يفعلها، وكذلك المعصية، فعلمه تعالى
مشروطٌ بإختيار العبد للفعل أو إكراهه عليه، إلى أنْ قال قالوا: لوكانَ يقدرُ
الكافرُ على الإيمان لكشف عن الجهل في حق الله تعالى لوفعل الكافر الإيمان لأنه لم
يكن معلوماً لله تعالى، والله يتعالى عن ذلك، أي عن الجهل. قلنا:
الله
سبحانه عالم بالكفر من الكافر وشرطه، وهو إختياره، أي إختيار العبد للإيمان كذلك أي مع التمكن من فعله وتركه، فَاللهُ
سبحانه عالم بالأمرين معاً وشرطهما، وهوإختيار العبد وتمكنه من فعل مايفعله منهما
وتركه، فلم يكشف وقوع الإيمان من الكافر لوقدَّرنا وقوعه عن الجهل في حقه تعالى
لعلمه سبحانه بالأمرين وشرطهماكماذكرنا، كعدم أي كعلمه عدم اطلاع النبي صلى اللّه
عليه وآله وسلم على أهل الكهف الذين ذكرهم الله تعالى في القرآن، حيث
يقول: ] لَوِ اطَّلَعْتَ عَلَيْهِمْ لَوَلَّيْتَ مِنْهُمْ
فِرَاراً وَلَمُلِئْتَ مِنْهُمْ رُعْبَاً [ [الكهف/18] فإنّه أي علم الله سبحانه بعدم إطِّلاع النبي صلى اللّه عليه وآله
وسلم على أهل الكهف، لم يكشف عن الجهل في حقه تعالى، بالإطلاع المفروض لوحصل من
النبي صلى اللّه عليه وآله وسلم لأنه عالم بذلك بعد أن علم عدم إطلاع النبي صلى
اللّه عليه وآله وسلم فقد علم الأمرين معاً وهما عدم الإطلاع والإطلاع المفروض
المقدر لوحصل شرطه بدليل ماذكره تعالى، من أنَّه لو اطَّلع عليهم لولى منهم فراراً
ولَمُلئَ منهم رعباً كما اخبر الله تعالى، لأنه لولم يعلم لمَاصح أن يقول:
]لوليت
منهم فراراً وَلَمُلِئتَ منهم رُعباً[
فهو
تعالى عالم بالأمرين وشرطهما، وهذا نصٌّ صريح فيماقلنا به، وثبت أنَّ علمه تعالى
بكفر الكافر لم يكشف عن الجهل في حقه تعالى لو آمن، لأنه لايكشف عن الجهل في حقه
إلاَّحيث كان تعالى لايعلم إلا أحدهما، إمَّا الإيمان في حق المؤمن وإمَّا الكفر في
حق الكافر .اهــ. وقد
أوسع الإمام
المنصور بالله
u الكلام في هذه المسألة في شرح حديث ((فيؤمر بأربع كلمات، فيكتب
رزقه، وأجله، وعمله، وشقي أم سعيد))... إلخ الحديث . قال
عليه السلام:
فإن أراد ذلك فهو باطل لما قدمنا أنَّ العلم لايؤثر في المعلوم، وإنَّما يتعلق على
ماهو به، قلت: قوله فإن أراد ذلك هو u في معرض الردعلى بعض المخالفين. قال
u: والدليل
على ذلك وجوه:
منها
أن العلم كالرؤية في هذا الباب، فإن الرائي إذا رأى الشيءَ، يرى الشيء على ماهو به،
وكذلك العلم، فكما أنَّ الرؤية لاتوجب المرئي ولاتسوق الرائي إلى حصول الشيء لأجل
الرؤية، فكذلك العلم، إلى أن قال وأيضاً فلوكان العلم موجباً للمعلوم وقد يشترك
العالمون بالعلم فتكون علومهم موجبة لوجوده، ويكون مضافاً إلى جميعهم، لأن الموجبات
لاتختلف إيجابها بالفاعلين، وإلاَّجاز أنْ يتحرك الجسم بحركة وسكون من زيدٍ وعمر
إلخ. نقلته
من مفتاح السعادة لعلامة العصر مولانا : علي
بن محمد العجري
رحمه
الله وفي هذا القدر كفاية والله الموفق
والهادي.
فائدة لها تعلق بما سبق اعلم
أنّ
المراد بقول أئمتنا عليهم السلام أن صفات الله تعالى هي ذاته أنه قادر عالم بذاته
وحي بذاته لابأمر زائد على الذات، ذكره في الأساس وشرحه
أمَّا
المقدمة
(الأولى): فاعلم أنَّ العدل له معنيان: لغوي، واصطلاحي: أمَّا اللغوي:
فهو يطلق على المثل، يقال (هذا عدلُ هذا) أي مساوٍ له في القدر، قال الله تعالى:
]أوعدلُ
ذَلِكَ صِياماً[ [المائدة/95] ويطلق على الإنصاف، ويطلق على الجور، فهو
من اسماء الأضداد، ويوصف به الفاعل مبالغة إذا كثر منه فعل العدل، فيقال فلان عدل
. وأمَّا
في الإصطلاح:
فهو
عند الفقهاء: من أتى بالواجبات، واجـتنب المقبَّحات. أمَّا
المتكلمون:
فاختلفوا
في حده، فقالوا انَّه قد يُراد به الفعل، وقد يُراد به الفاعل، وقد يُراد به هذا
العلم الذي يبحث فيه عن تنزيه الله تعالى، فإذا أُريد به الفعل فقال قاضي القضاه هو
كل فعل حسن يفعله الفاعل لينتفع به الغير، أوليضره، واعترض بترك الظلم، فإنه
عدل،وليس بفعل، فليس الحد بجامع، ويمكن أنْ يُجَاب بأنَّ التروك أفعالٌ
عنده. وقال
السيد مانكديم([1])
u : هو توفير حق الغير، وإستيفاءُ الحق منه، قيل ليس بجامعٍ، لخروج
ترك الظلم منه. وقال
المهـدي
u :
هو كل فعل، أوترك حسن، وأُوردَ عليه إيرادات. وقال
الجمهور:
هو
إنصاف الغير، بفعل ما يجب له، أويستحق عليه، وبترك مالايستحق عليه مع القدرة، حكى
هذا القرشي في المنهاج، وأحترزبقوله: مع القدرة، عن الضعيف إذا ترك ظلم القوي، لعدم
قدرته على ذلك، فإنه لايسمى عدلاً،وأراد بالقدرة الإختيار، وهذا الحد مبني على وجوب
بعض الأفعال على الله تعالى، وليس بسديد،والأحسن أن يقال: هوتوفير حق الغير
وإستيفاء الحق منه وترك مالايستحق عليه وهذا الحد أفاده مولانا في مفتاح السعادة
وهوسالم عن الإيرادات، وأمَّا إذا أُريدَ به الفاعل، فقال
المهدي
u :
هو
من لايفعل القبيح، ولايخل بالواجب، وأفعاله كلها حسنة،
قال
u :والأولى
الإقتصار على القيدين الأولين ليعم الباري وغيره. اهـ. وحدَّه
في الأساس بقول
الوصي
u:
( العدل ألاَّ تتهمه). *** ([1])
مانكديم:
كلمة فارسية تعني وجه القمر، والمقصود باللقب الإمام أحمد بن هاشم صاحب
المقدمة الثانية: في بيان كونه تعالى عدلاً اعلم:
أنَّ أئمةَ العترة عليهِم السّلام، وسائر العدلية، يذهبون إلى أنَّ الله تعالى
عدل،ٌ حكيم. قال
القرشي
ولم يسمع عن أحدٍ من أهل الجبر هذا القول، ولاذكرت هذه المسألة في كتبهم
الكلامية،وإنْ كانوا لوسُئِلوا عن ذلك لمَا وسعهم إنكاره، إلاَّ أنهم قد وافقوا في
المنع من إطلاق القول بأنه ظالم فاعل للقبيح، وأثبتوا
المعنى فأضافوا إليه كل قبيح، والذي حكاه المهدي
والإمام يحيى عليهِما السّلام:
أنَّه
لاخلاف بين الأمة في أنه يوصف الباري سبحانه وتعالى بأنَّه عدل
حكيم. قال
الإمام المهدي
u : لكن اختلفوا في
معنى وصفه بذلك، فالعدلية يفسرونه بما تقدم، من أنه لايفعل القبيح...
الخ. أمَّا المجبرة فإنَّما يريدون أنَّ أفعاله
لاتوصف بالقبح، لأنَّ القبيح إنَّما يقبح للنهي، أوبكون فاعله مملوكاً،والباري ليس
كذلك، بل له أن يتصرف في ملكهِ كيف يشاء . قلت:
ومِنْ
هنا تعرف أهمية مسألة التحسين والتقبيح العقليين، وأنَّهما أصل مسائل العدل، فإنَّ
الجبرية لمَّا أبطلوه دخلوا في هذه المهالك . واعلم
أن
الجبرية كما قال
الإمام يحيى
u انهم
وإنْ وافقونا لفظاً في وصف الباري بالحكمة والعدل، فهم يخالفونا في المعنى، فيقولون
بأنَّ جميع القبائح من فعل الله تعالى الله عن ذلك . قال
الإمام عزالدين
u: لكنهم وإن أضافوها إلى الله تعالى، فهم لايطلقون القول بأنه يفعل
القبيح، لأنها غير قبيحة عندهم، بناءً على أصلهم في نفي القبح
العقلي. [تنبيـــه]:
القائل
بأنَّهُ تعالى يفعل القبائح ليس بعدلي، فمَنْ أضاف أفعال العباد إلى الله تعالى لم
يكن قائلاً بالعدل، ولاينفـعه القول به لفظاً، لأنَّا متعبدون باعتقاد العدل، ونفي
القبح. إذا
عرفت هذا فلنشر إلى بعض الأدلة العقلية والنقلية على أنَّ الله تعالى لايفعل
القبيح.
الدلالة
الأولى:
ماذكره
أبو الحسين البصري وهو أنَّ القادر لايفعل الفعل إلاَّلداع، والدّاعي الى فعل
القبيح ليس إلاَّجهل الفاعل بقبحه، أو جهله بغنائه عنه، أو حاجته اليه، أو شهوته له، وهذه الأمور كلها مستحيلة في
حق الله تعالى، فلاجرم استحال منه تعالى فعل القبيح. قال
الإمام يحيى بن حمزة
u: وحاصله
أنه تعالى قد فُقِدَ داعيه، وخلص صارفه عن الفعل، وكل من فقد داعيه وخلص صارفه فانه
لايفعله. قال:وإنَّما
قلنا أنَّه قد فُقِد داعيه الى القبيح، وخلص صارفه، لإنَّه إمَّا أنْ يكونَ داعي
حاجة أوداعي حكمة، ألأول باطل لإستحالة المضار والمنافع عليه، والثاني أيضا ًباطل
لإنَّ ذلك مترتب على كون الفعل حسن،وأمَّا خلوص صارفه فظاهر لإنه تعالى إذاكان
عالماً بقبحه وعالماً بأنه غني لا يحتاج الى شئ فقد خلص صارفه، وإنَّما قلنا أنَّ
من فقد داعيه وخلص صارفه عن الفعل فإنه لايفعله، فلأنه لو وقع والحال هذه، لبطل
وقوعه على حسب الداعي، وخرج عن كونه مقدوراً له، لأنَّ حقيقة الفعل ليس إلاَّوقوعه
على حسب الداعي.اهــ . وقد
استدل بهذا الدليل على التقرير الذي قرره الإمام
u مِنْ فقد الداعي، أبو الهذيل وأبو إسحاق بن عياش وأورده
الإمام
أحمد بن سليمان
u: بنحو ما ذكره أبو الحسين ولفظه: والعقل يحكم ويشهد على أنه لايفعل
القبيح إلاَّمن جهل قبحه، وأحتاج الى فعل القبيح لشهوة داعية، أوغضب مؤذ، أو طمع
فيما لايجوز، أوسفاهة أوسخف رأي،
أواستماع مشورة مضلٍ جاهل، فمن كان به بعض هذه الصفات لم يؤمن منه فعل القبيح، أو
الرضا به، أو الأمر به.اهـ . والمعلوم
أن فاعل القبيح لايفعله إلاَّ لأحد هذه الوجوه، وهي الداعي للفعل، والمعلوم
استحالتها على ذي الجلال سبحانه وتعالى، فثبت بهذا الدليل العقلي أنَّ الله تعالى
الدلالة
الثانية:
أنَّه تعالى قد تمدح بنفي الظلم عن نفسه، فلو فعله لم يكن للتمدح بنفيه عن نفسه
فائدة، ولاوجه، وهذه الحجة ردً على المجبرة، لإنَّه اذا كان وقوعه منه لايوجب القبح
الدلالة
الثالثة: أنَّ العقول مفطورة على تنزيه من اختص بصفة كمال على الجواز،
فكيف من اختص بصفات الكمال على الوجوب؟ الدلالة
الرابعة :أنَّ الله تعالى عالم بقبح القبيح وغنى عنه، وعالم بغناه عنه، وإذا كان
كذلك فإنَّه لايفعل القبيح قياساً على الشاهد، فإنَّ المعلوم ضرورة فى الشاهد أنْ
من كان عالماً بقبح القبيح وغنياً عن فعله، وعالماً باستغناه عنه فانه لايفعله،
ولاعلة لكونه لايفعله، إلاَّاجتماع هذه الأوصاف. قال
الإمام أحمد بن سليمان
u في تحقيق معنى هذه الدلالة: الدليل على أنه تعالى منزه عن هذه
الصفات التى توجب النقص من طريق العقل، أنه قد ثبت أنَّ الله عالم لنفسه، قادر حكيم
غنى، وثبت أن العالم القادر الحكيم الغنى لايفعل القبيح ولايرضاه ولايأمر به،
والعقل يشهد أنَّ فعل القبيح قبيح، وأنَّ من أمرَ به أو رضى بفعله يكون كمن فعل
القبيح، ثم
قال u :فاذا كان فعل القبيح يقبح بالعبد الجاهل المحتاج الضعيف، فكيف
لايقبح من العالم الحكيم القادر!!، فوجب أن يكون القديم تعالى مُنزَّهاً متعالياً
عن فعل القبيح، لإنَّه تعالى عالم بقبح القبيح، وغير محتاج إليه لالجر نفع اليه،
ولالدفع ضرر عنه تعالى، ولاَلِسخفِ رأى، ولاطمع فيما ليس له، ولالمشورةِ مُضل أو
جاهل، فلمَّا كان مُنَزهاً عن فعل القبيح، وكان الظلم والجور والكذب وخلف الوعد
والوعيد وفعل الفواحش وجميع المنكرات قبيحاً والرضا به، والأمر به، قبيح، عُلِمَ
أنَّ الله لايفعل شيئاً من ذلك، ولايرضى به ولايأمر به، ولو فعل ذلك لدخل عليه
النقص والذم أكثر مما يدخل على العبد،لإنَّه عالمٌ لِذاته، وقادر لذاته، والعبد
جاهل محتاج، فكان ذم العبد أقل لجهله وحاجته... الخ . وقد
صرَّح الإمام عزالدين u بهذا فقال:
(إعلم أنَّ هذا الدليل هو المعتمد فى كتب الأصحاب، والمتداول فى السنتهم، وهو
بطريقة القياس، لكن هذا يسمى قياس الأولى، لوجود العلة فى الغائب أقوى مما فى
الشاهد، فيكون قطعياً). ذكره u فى المعراج. ولمَّا
كانت هذه الحجة شَجَى فى حلوق المجبرة، وقذا فى عيونهم، شنّوا عليها الغارات،
وأوردوا ما أمكنهم من الإعتراضات، وقد أجاب رجال العدل وفحولهم على تلك الإعتراضات،
ونَقل ذلك يؤدى الى الإسهاب، فمن أحب الإطلاع على ذلك فليطلبه من مضانه، وقد جمع
الكثير من ذلك (كتاب مفتاح السعاده) لمولانا خاتمة المحققين علامة
العصر على بن محمد العجري
رحمه الله.اهـ
أمَّا المقدمة الثالثة وهى فى بيان كون أفعال العباد منهم فهى
تحتوى على مباحث: الأول:
فى ذكر الخلاف، والثانى: فى بيان أدلة اهل العدل، في بعض لوازم تلزم الخصم على ماذهب اليه،
المبحث الأول في ذكر الخلاف نقول:
اتفق
العقلاء أنَّ أفعالنا بِنَا تَعلق، والعلم بذلك ضروي، واتفق المسلمون أنَّ لها
بالباريY تعلقاً، ثم اختلفوا فى تفاصيل ذلك، فالذى عليه أهل
البيت عليهم السلام وسائر الزيديه والمعتزلة والقطعية من الإمامية
والخوارج
وأكثر الفرق أنَّا المُحدِثُونَ لأفعالنا، حسنها وقبيحها، وأنها غير مخلوقة فينا،
وهذا معنى تعلقها بنا، ومعنى تعلقها بالباري سبحانه أنَّه أقدرنا عليها، أي خلق
فينا قدرة يصح تأثيرها في إيجاد أفعالنا، أوجعلنا على صفة تؤثر في ذلك على حسب
الخلاف، وذلك أنَّ بعضهم يجعل القدرة معنى، وبعضهم يجعلها نفس الصحة، وبعضهم يجعلها
إعتدال المزاج، والأخيران هما المرادان بقوله أوجعلنا على صفة تؤثر في ذلك، وخالف
فى ذلك المجبرة جميعاً، فقالوا
هي من الله، ثم اختلفوا، فقال جهم بن صفوان وأصحابه لاتعلق لها بنا أصلاً، لاكسباً
ولا إحداثاً، وإنَّما نحن كالظروف لها، وليس المحدث لها فى العبد الا اللهَ تعالى،
كا لألوان وحركات الشجر، وجعلوا نسبتها للعبد مجازاً كنسبة الطول والقصر، وسوَّى فى
ذلك بين المباشر والمتعدى، وقال ضِرار بن عمرو بل لها بنا تعلق من جهة الكسب، وإنْ
كانت مخلوقة فينا من جهة الله تعالى، ولم يفرق بين المباشر والمتعدى، وبه قالت
الأشعريه فى المباشر، وأمَّا المتعدى فالله منفرد به عندهم، قول ضرار حكاه فى
القلائد والأساس عن النجارية، والكلابية، والأشعرية، وحفص الفرد، وأمَّا متأخروا
الأشاعرة كالجوينى والغزَّالى والرازى وأبي إسحاق، فقالوا بل لقادرية العبد تأثيرٌ
فى إيجاد المفعول، خلى أنهم جعلوا القدرة موجبة للمقدور، فلزمهم
المبحث الثاني في بيان البراهين والحجج والأدلة على
مقالتنا اعلم
أنَّ
العدلية اختلفوا هل العلم بأنَّا الموجدون لأفعالنا، ضروري أم
إستدلالي؟. فقال الأمير الحسين بن محمد
u وابو الحسين البصري وابن الملاحمي ومن تبعهم واختاره
المقبلي:
العلم
بذلك ضروري بديهي يعلمه حتي الصبيان، وعليه بنيت المعاملة والمدح والذم والتعجب،
وسائر الأمور المتفرعة التى لاتكون إلاَّمع صدور موجبها، عَمن مُدِح أوذُمَّ
أوتُعُجِّب منه، والعلم بهذه الفروع معلوم بالإضطرار، فكيف بأصلها؟
قال
الأمير الحسين u:
اعلم أنَّ كون العبد فاعلاً لتصرفاته معلوم بالإضطرار، لايقدح في ثبوته الإنكار،
فمنكره كمنكر كون دجلة في الأنهار، ونافيه كنافي ظلمة الليل وضياء النهار، ومَنْ
هذا حاله لايحتاج الى نصب دلالة .أهـ . وقال
المقبلى
بعد
أنْ قرر هذا، هذا أمرٌ ضروري، وهذا هو الحق الذى لامرية فيه، إلاَّ أنَّ لإدراكه
مقدمة، وهي أن تفرد نفسك لله. قال أبو الحسين:
العلم بأنّا المحدثون لأفعالنا ضروري لامجال للشك فبه، لإنَّ العقلاء يعلمون
بعقولهم حسن الأمر بها والنهى عنها، والترغيب والترهيب والمدح والذم، ويعللون ذلك
بكونه فعله، وكل ذلك فرع على أنَّهم المحدثون لها، ومحال أن يُعْلَم الفرع ضرورة،
والأصل استدلالاً. وأمَّا
القائلون
بأنَّ
العلم بهذه المسألة إستدلالي، فلهم حجج عقلية، وسمعية. فالعقلية:
كثيرة إلاَّ أنّا نذكر منها مايوضح المراد، فنقول: الحجة
الأولى
التفرقة الضروربة بين حركة الساقط، والصاعد، والمرتعش، والباطش، والحيوان، والجماد،
وهذه الحجة أعترف بها الخصوم، من الأشاعرة وتعلقوا بالكسب. الحجة
الثانية
تعلق
المدح والذم ونحوهما بالفاعل، من حيث
أنَّه
فاعل دون شكله ولونه وسوطه وسيفه. قال المقبلى:
وهذا
ضروري، ودان له كثيرٌ من الأشاعرة، وفرّوا إلى الكسب. الحجة
الثالثة
أنَّه يجب وقوع أفعالنا على مقتضى أحوالنا، فتوجد بحسب قصودنا ودواعينا ،وتنتفى
بحسب كراهتنا وصوارفنا، فلولا أنَّها من أفعالنا لمَا وجب فيها ذلك، كما لايجب فى
ألواننا وقصرنا وطولنا. قال
السيد مانكديم:
وهذه الطريقة هى المعتمدة .اهـ . وبعض أصحابنا يزيد بعد قوله وتنتفي بحسب
كراهتنا وصارفنا مع سلامة الحال، تحقيقاً أو تقديراً وأراد بسلامة الحال، زوال
المانع، وخلوص الداعي، من صارف يساويه، أو يزيد عليه، وخلوص الصارف من داعى يساويه،
أو يزيد عليه، وأراد بالتحقيق فعل العالم المميز، وبالتقدير فعل الساهي والنائم،
فإنَّهما لو كانا فى اليقظة والتنبه، لمَا وجد الفعل وانتفا، الاّ بحسب الداعي
المحقق عند الجمهور. واعلم
أنَّ هذه الحجة قد أشتملت على أصلين لابد من بيانهما، وإقامة الحجة على كل واحدٍ
منهما: الأصل
الأول
أنَّ
هذه التصرفات يجب حصولها وانتفائها بحسب دواعينا، وصوارفنا، ودليله أنَّ أحدنا إذا
دعاه الداعى إلى القيام حصل منه القيام على طريقة واحدة، ووتيرة مستمرة، بحيث لا
يختلف الحال فيه، وكذلك لو دعاه الداعى الى الأكل بأنْ يكون جائعاً، وبين يديه ما
يشتهيه، وهذا يدل دلالة واضحة على أنَّها موقوفة على دواعينا، وتقع بحسبها، وكما
تقف على دواعينا، تقف على قصودنا، وآلاتنا، والأسباب الواقعه من جهتنا،ألاَترى أنَّ
قولنا محمدٌ رسولُ اللَّهِ، لاينصرف إلى محمد بن عبدالله، دون غيره من المحمدين،
إلا بإرادتنا، والكتابة الحسنة تقف على كمال الآلة، فصح أنَّ حاجة هذه التصرفات
إلينا، وتعلقها بنا، على الحد الذى ادعيناه. وأمَّا
الأصل الثاني
وهو
أنَّها لو لم تكن من فعلنا لما وجبت فيها هذه القضية، فدليله أنَّها لوكانت من فعل
الله تعالى لجرت مجري الصور والألوان والأمراض، وحركة المرتعش، ونحو ذلك مما علمنا
أنَّ العلة فى تعذره أنّه لايقف على إختيارنا، بل
يوجدوإنْ
كرهناه ،ويُقْقَدوإنْ أردناه، وكذلك أفعال غيرنا، لم تقف على إختيارنا، فإنْ قيل
ماأنكرتم أنْ يوجد الله أفعالكم عند قصودكم ودواعيكم بمجرى
العادة؟. قلنا:
كل شيءٍ طريقه العادة يجوز إختلافه، فكنا نجوز وقوعها وانتفائها، ولاصارف بأن تختلف
العادة، كما فى الصحة والسقم وغيرها، ولو كانت كذلك لكنّانجد أنفسنا مدفوعة إليها،
وخلافه معلوم، فهذه حجج العقل التى أردنا تحريرها وهي قاطعة. أمَّا
حُجَج السمع:
فنأتي منها بما سنح إستظهاراً، وإنْ كان العلم بصحة السمع يتوقف على معرفة هذه
المسألة، لأنَّ ذلك متوقف على العلم بإنَّ الله عدل حكيم، لايظهر المعجز على
الكذَّابين. فمن
الحجج السمعية قول الله تعالى: ]مَاتَرَى
في خَلْقِ الرحمن مِنْ تَفَاوت[ [الملك/3]
ونحوها، مما يقتضي نفي الإضطراب والإختلاف من جهة الحكمة، لأنَّه إمَّا أنْ ينفي
التفاوت من جهة الخلقة، وهو باطل لحصوله، أومن جهة الحكمة، وهو
المطلوب. إذا ثبت هذا، لم يصح في أفعال العباد أنْ
تكون من جهة الله تعالى لإشتمالها على التفاوت وغيره، ومنها قوله تعالى:
]صُنْعَ
الله الذي أتقن كلّ شيءٍ[ [النمل/88]
بين الله أن أفعاله كلها متقنة والإتقان
يتضمن الإحكام والحسن جميعاً حتى لوكان محكماً ولايكون حسناً لكان لايوصف بالإتقان
، ومعلوم أن في أفعال العباد مايشتمل على القبائح من كفرٍٍ وخَناء، وفحشٍ، وليس
شيءٌ من ذلك متقناً فلا يجوز أن يكون الله تعالى خالقاً لها ومنها قوله تعالى:
]وما
مَنَعَ الناسَ أن يؤمنوا إذ جاءهم الهُدى[ [الإسراء/94]
فلو كان الإيمان من جهة الله بخلقه في العباد، لما كان لهذا الكلام معنى لأن للمكلف
أن يحتج ويقول: لَِمْ تخلق الإيمان فيَّ، وخلقت ضده؟. ومنها قوله
تعالى:
]كيف
تكفرون باللَّه وكُنتم أمواتاً فأحياكُمْ ...[ الآية [البقرة/28]
فلولا أنهم الذين عملوا الكفر وفعلوه، لما كان للتعجب بكيف معنى، ولما كان لنسبة
الكفر إليهم بقوله تعالى: ]تكفرون[ معنى أيضاً، ومنها مثل قوله تعالى: ]جزاءً
بما كانوا يعملون[ [السجدة/17]،
]يكسبون[،
ونحوهما. واعلم
أن جميع القرآن يشهد بما قلنا، لأنه يتضمن المدح والذم والوعد والوعيد والثواب
والعقاب وينسب الإحسان إلى فاعله، والإساءة إلى فاعلها، ومن تأمل عرف مكابرة الخصوم
وتماديهم وعدم نظرهم، أو أنهم عرفوا الحق وعاندوه إستكباراً، فالله
المبحث الثالث فيما يلزم على مذهب الخصم من اللوازم
الباطلة التي
تؤيد مذهب أهل العدل، وتبطل مذهب المخالف، وهي كثيرة جداً ولكنا نشير إلى زُبَدٍ
منها:ـ الإلزام
الأول:
أنه يلزمهم أن يكون الظلم والكذب والعبث كطول القامة وقصرها في عدم إستحقاق المدح
والذم عليها البتة، وفي ذلك قبح بعثة الأنبياء صلوات الله عليهم وبطلان الشرائع،
كما أنه لايجوز بعثة الأنبياء لدعاء الخلق إلى الخروج من صورهم وألوانهم، بل على
مذهبهم يلزم إبطال فائدة كل إمام ومرشد وواعظ وداعي إلى الله تعالى من أول الدنيا
إلى آخرها، ولاشك أن كل مذهب يؤدي إلى الباطل فهو باطل. الإلزام
الثاني:
أنه يلزمهم قبح مجاهدة الكفار، لأن لهم أن يقولوا تجاهدوننا لأن الله خلق فينا
الكفر أولأجل أنه لم يخلق فينا الإيمان، وكل ذلك بمنزلة مجاهدتنا على صورنا
وألواننا. الإلزام
الثالث:
قبح
الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر لنحو مامر. الإلزام
الرابع:
أن تكون الحجة للكفار على الأنبياء، لأنهم يقولون للمرسل إليهم: تدعونا إلى
الإسلام، ومن أرسلك إلينا أراد منا الكفر وجعلنا بحيث لايمكنا الإنفكاك عنه،
وللكفار قطع المرسل إليهم من وجه آخر،لأنهم يقولون: إن كنت تدعونا إلى ما خلق الله
فينا فإن ذلك ما لافائدة فيه، وإن كنت تدعونا إلى ما لم يخلقه الله، فذلك ما لا
نطيقه، وقد نَظَمَ هذا الإلزام ذمي فقال: أيا
علماء الدين ذَمِّيَ دينكم تحير
دلوه لأوضح حجة وقد
أجاب على هذا السؤال الإمام المطهر بن محمدبن المطهر u : فقال: سمعنا
نداء المستغيث إلى
علماء الدين في كل وجهة .إلخ، وهذا الإلزام من الذمي قد حكاه المقبلي في الأبحاث المسددة
وحكى جواب إبن تيمية عنه وبين عوار إبن تيمية في ذلك الجواب، وإنما أستوفيناه وسقنا
جواب الإمام لتمام الفائدة. الإلزام
الخامس:
أنه يلزمهم التسوية بين الرسول صلى اللّه عليه وآله وسلم وبين إبليس لعنه الله لأن الرسول يدعوهم إلى خلاف ما أراده الله
منهم كما أن إبليس يدعوهم إلى ما أراده الله منهم بل يكون الرسول أسوأ حالاً من
إبليس ـ لعنه الله ـ لأن إبليس يدعوهم إلى ما أراده الله منهم بزعمهم والرسول
يدعوهم إلى خلافه، وكل مذهب يؤدي إلى هذا فناهيك به فساداً. الإلزام
السادس:
أن مذهبهم يؤدي إلى الإغراء بالمعاصي وترك التوبة لأن أحد شرائط التوبة الإعتراف،
وقولك اذاتبت تبت،وإذا كانت المعاصي من فعل الله تعالى فلا يتصور من العبد
الإعتراف. *** مناظرة
الإمام الهادي
u والـنقوي ولمَّا
دخل الهادي إلى الحق يحيى بن الحسين صلوات الله عليه
صنعاء إجتمع علماء المجبرة وهم كثيرون وأختاروا لمناظرته عالمهم الكبير النقوي
وحضروا الإجتماع. فقال
النقوي:
ماتقول
يا سيدي في المعاصي؟ فأجاب
الهادي عليه السلام:
ومن العاصي؟ فانقطع النقوي ولم يحرْ جواباً. فلامه
أصحابه، فقال: إنْ قلت: الله كفرتُ، وإن قلتُ: العبد، خرجت عن
مذهبي. فــــوائــــد أما
الفوائد الموعود بها فأقول:ـ الفائدة
الأولى:
تكرر ذكر الدَّاعي، والمرجِّح، والصّارف، ونحن مبينوها: فالمرجح:
هو ما يرجح الفعل على الترك والعكس. والداعي:
هو الباعث على الفعل وهو قسمان: داعي حكمة، وداعي حاجة. فداعي الحكمة:
هو العلم أو الظن بأن في الفعل أو الترك منفعة أو ترك مضرة
عنه. وأمَّا
داعي الحاجة:
فهو
علم الفاعل أو ظنه أنَّ له في الفعل منفعة، أو دفع مضرة عنه، أو عن من يحب، وقد
يسمى داعي الحاجة إلجاء وذلك حيث لايقاومه صارف، والصارف هو العلم، أو الإعتقاد، أو
الظن بأن عليه في الفعل مضرة أو فوت منفعة عنه، أو عن من يحب وعلى هذا فالمرجّح
يشمل الباعث. الفائدة
الثانية:
سبق
ذكر العلم الضروري والإستدلالي في معرض الإستدلال على أفعال العباد وبيان ذلك يما
فصله الإمام يحيى بن حمزة عليه السلام قال: الفرق بين العلم النظري والضروري واضح
بَيِّنٌ، فإنّ العاقل يعلم الضرورية من غير إعتبار نظر ولا إعمال فكر، والنظري لابد
فيه من العناية بإستحضار مقدماته وترتيبها على وجه صحيح وحراستها من
الغلط.إهــ. وظاهر
كلام أصحابنا ـ كما هو مقرر في المنهاج وشرحه المعراج وغيرهما: أن العلم الضروري
يكون مفعولاً فينا بغير اختيارنا كالعلم بقبح الظلم ونحوه. الفائدة
الثالثة
في
القدرة، ذهب جهم بن صفوان ومتابعوه إلى نفي قدرة العبد، وقال: لا قادر إلا الله
تعالى، وقالت العدلية وأكثر المجبرة: بإثباتها للعبد، ثم اختلفوا، فقالت العدلية:
لها ثلاثة أحكام: الأول:
أنها
متقدمة على المقدور وجوباً وأقله بوقت. الثاني:
أنها
غير موجبة لمقدورها، بل إنما يوجد بها على جهة الإختيار. الثالث:
أنها صالحة للضدين ووجود أحدهما دون الآخر بإختيار القادر ليس
إلا. قالوا:
وهذه
الثلاثة الأحكام متلازمة، فيلزم من القول بأحدهم القول بالآخرين، وذهبت النجارية:
إلى العكس فيجعلونها مقارنة موجبة غير صالحة للضدين. أدلة
قولنا:
أما كونها متقدمة على مقدورها، فنقول: لو كانت مقارنة لما تعلق الفعل بالقادر، لعدم
وجود قدرته على الفعل وبعد وجود الفعل لا إختيار له فيه، فلا تعلق للفعل بفاعله، بل
إنما يكون تعلقه بفاعل القدرة. أمَّا دليل كونها غير
موجبة،
فنقول:
إنها لو أوجبت مقدورها لزم أمران: أحدهما:
أن لايتعلق الفعل بالقادر، ولاينسب إليه، بل إنما يتعلق بفاعل القدرة لأنها موجبة،
وفاعل السبب فاعل المسبب وكون القادر محلاً للسبب غير موجب كما في حركة الشجرة
فإنها تنسب إلى فاعل التحرك فيها لا إليها نفسها إلا على سبيل
المجاز. وثانيهما:
أنه يلزمهم ألا يكون الكافر قادراً على الإيمان لعدم وجوده منه وهو مكلف به قطعاً،
وقد تقدم في الإلزامات نحو هذا، ودليل أنها صالحة للضدين: أن نقول: أنها لو لم تصلح
للضدين لأمكن أحدنا أن يمشي يميناً أميالاً وفراسخ، ولايمكن أن يمشي يساراً شبراً
واحداً، لأن حركته يميناً ضد حركته يساراً. الفائدة
الرابعة:
في
إبطال الكسب
فنقول
قد
نفسر الكسب لغة أنه إيقاع الفعل لجلب نفع أو دفع ضرر ومنه سميت الحرف مكاسب والطيور
المخصوصة كواسب وعلى هذا يحمل ما في القرآن من قوله تعالى:
]جزاءً
بما كانوا يكسبون[ [التوبة/95]
أمَّا كسب المجبرة فهو من الإسماء التي لامسمى لها والخيالات التي ليس لها حقيقة
ولا وجود كطفر النظام وغيره’ وإنما لجأت المجبرة إلى القول به عند ضيق الخناق
وسبيلنا أن نبين أولا أنه غير معقول في نفسه فضلاً عن أن نشتغل بإبطاله ولم يزل
فرسان الكلام من علماء العدل والتوحيد يطالبون الخصوم بإظهار معنى الكسب فما حصلوا
منه على محصول ولو كان له حقيقة أو وجود لأظهروه ولكان واضحاً لهم ولغيرهم ونحن
نقدم طريقة قاطعة، فنقول أخبرونا عن الكسب أشيء هو أم لاشيء إن قلتم لاشيء فهو الذي
نريد لأنه غير معقول وإن قلتم هو شيء قلنا أقديم هو فما وجه نسبته إلى العبد ومدحه
وذمه وإثابته ومعاقبته عليه’ وإن قلتم محدث فهل تفرد الله بإحداثه فما وجه إضافته
إلى العبد أم تفرد به العبد فقد تركتم مذهبكم وأثبتم أن العبد محدثاً للفعل أم
أحدثه الله واكتسبه العبد فيعود السؤال’ وأما أن يقتصر على الفعل وينفي منه الكسب
من أول وهلة وهذا دليل عقلي قاطع لامناص لهم منه ولا مخرج إلا بإبطال الكسب والرجوع
إلى الحق وبتمام هذا تم الجواب عن مسألة أفعال العباد، وإن كنت أحب التوسع فيها
والإيضاح لما يتعلق بها ودفع بعض الشبه لأنها في هذا الزمان كثيرة الدوران والحاجة
لمعرفتها والعلم بها وبأدلتها من فروض الأعيان ولكنه ترجح الإكتفاء بما قد حررناه
خوفاً من التطويل الممل ونسأل الله الهداية.
وأمَّا الجواب عن مسألة أفعال
العباد:
فأقول وبالله التوفيق: إعلم أن البحث في هذه المسألة يحتاج
إلي إيضاح وتبيين، وسيكون ذلك في ثلاث مقدمات وفوائد، بعد ذكر المقدمات لها تعلق
بالمسألة. أمَّا المقدمات :
(فالأولى):
في الكلام علي حقيقة العدل، (والثانية): في بيان وإيضاح كون الله تعالى
عدلاً، (والثالثة): في كون أفعال العباد
شبه الخصوم وإجاباتنا عليها وَلنُشِرْ
إلى بعض الشبه التى تعلق بها الخصوم واعلم أنَّهم تعلقوا بشبهٍ منها: قوله تعالى:
]وجوهٌ
يَوْمَئِذٍٍ نَاظِرةٌ[ [القيامة/22]
وقوله تعالى:
]كَلاَّ
إنّهم عن رَبِهم يومئذٍ لمحجوبون[ [المطففين/15]
وقوله
تعالى:
]لِلَّذِيْنَ
أحْسَنُوْا الْحُسْنَى وزِيَادَةٌ[ [يونس/26]
وبما رووه من الحديث: ((سترون ربكم .. الخ)). والجواب عن هذه الشبه:
أمَّا
الآية الأولى والثانية فنقول: إنَّ ذلك من مجاز الحذف، وهو كثيرٌ في القرآن الكريم،
وفى لغة العرب، فقوله تعالى:]إِلَى
رَبِّهَا نَاظِرَةٌ[ أي
الى ثواب ربها، وقوله تعالى: ]كَلاَّ
إنَّهم عَنْ رَبِّهِمْ[ أي
عن ثواب ربهم ومثل هذا: ]وَاسْأَلِِ
القَرْيَةَ[ [يوسف/82]
أى أهل القرية،
]وجَاءَ
رَبُّكَ
[ [الفجر/22]
أى أمر ربك. أمَّا
قوله تعالى:]لِلَّذِيْنَ
أحْسَنُوْا الْحُسْنَى وزِيَادَةٌ[ فقد فسر الخصوم الزيادة بالرؤية، وليس ذلك بصحيح، لأنَّ ألزيادة
لاتكون إلاَّ من جنس المزيد عليه، ولأنَّ علماء العدل والتوحيد قد فسروا الزيادة
بغير الرؤية، فليس تفسير الخصم أولى بالإتِّباع من تفسيرنا. فإن
قال الخصم:
إنَّ تفسيرهم مروي عن النبى صلى اللّه عليه وآله وسلم، عارضناهم بمثل ما قالوه،
بأنَّ تفسيرنا مرفوعٌ إليه صلى اللّه عليه وآله وسلم. أمَّا
الحديث:
فلا يصح الإستدلال به لإنَّه آحادي، والمسألة قطعية أصولية، وهذا على التنزل،
وإلاَّ فهو غير صحيح، لجرح راويه بما هو محرّرٌ فى مواضعه، لأنَّ قيساً الراوي ممن
أظهر العداء والبغض لعلي عليهِ السّلام،
وهو لايحبه إلاَّمؤمن، ولايبغضه إلاَّمنافق، وإنْ صحّ من طريق أُخرى، فهو
مؤول كما صرح بذلك بعض العدلية. أمَّا
ما قعقع به السيد
العلامه محمد إبن ابراهيم الوزير
فى
بعض مؤلفاته، من روايات أحاديث الرؤية والقول بها عن بعض أهل البيت نقلاً عن الجامع
الكافى وغيره، فقد كنتُ إستشكلت ذلك أيام الطلب فسألت فيه شيخى العلامة القاضى محمد
بن يحيى مرغم رحمه الله، فأجاب بجوابٍ طويل خلاصته:
أنَّ من رووا عنه، إمَّا مكذوب عليه كمن ذكره من أكابر آل محمد، وإمَّا غير مقبول فى نفسه
كقيس بن حازم وغيره من أمثاله، ولأنَّ كل دليل خالف العقل والقطعى من النقل فيُردُّ
وإن بلغ رواته مابلغوا. هذا معنى كلامه، ومن أحبَّ الزيادة فى هذا
المبحث ففى مطولات كتب الأصول مايكفي ويشفى. أمَّا قول ضرار بن عمرو:
أنَّ الله تعالى يُرى بحاسةٍ سادسة. فقوله
هذا مخالف لما عليه العقلاء، فإنَّ الله تعالى قد أجرى العادة أن لاتُرى المرئيات
إلاَّ بالبصر، ولاتُشَمّ المشمومات إلاَّ بحاسةِ الشم، والمطعومات كذلك... وإلى آخر
الحواس، فلا تعقل رؤية مرئيٍ بغير حاسة البصر، هذا من جهة إختلال كلامه، مع أنَّ
الأدلة السابقة تُبطل قوله: ضِـرار
بن عمرٍو إنَّمـا ضرّ نفسـهُ
فـلا كان قولاً من ضـرارٍٍ فـتى عمرو
أما الجواب عن مسألة الإستواء في
الآية الكريمة:]الرَّحْمَنُ
عَلَى العَرْشِ اسْتَوَى[ [طه/5]
فهذه المسألة، والمسألة التي بعدها ـ وهو ما ورد في القرآن الكريم من ذكر الوجه
والعين... إلخ ـ فقد جَمَعتُ هاتين المسألتين وأجبتُ عن الإشكالين وجمعت بينهما
لكونهما توأمتين. فأقول
وبالله التوفيق:
إعلم وفقني الله وإياك أنَّ القرآن الكريم مشتمل على الحقيقة والمجاز، ولانحتاج إلى
تقرير هذا إستغناءً بما قد قرّرَهُ علماء البيان وجهابذة الأصولين، أمَّا من أنكر
وقوع المجاز في القرآن فهو معاند وجاحد لما قد علم من مثل قوله تعالى:]وَاخْفِضْ
لَهُمَا جنَاحَ الذُّلِِّ مِنَ الرَّحْمَةِ[ [الإسراء/24]
وقوله:]وَاسْأَلِ
القَرْيَةَ[ [يوسف/82] وغير ذلك مما يطول. وأول
ما نبتدي به: قول الله جل جلاله:]الرَّحْمَنُ
عَلَى العَرْشِ اسْتَوَى[ فنقول:
إنَّ الإستواء في لغة العرب يطلق على معان كثيرة منها: الركوب قال تعالى:
]فإذا
أستويتَ أنتَ ومن معكَ على الفلك.... الآية[ [المؤمنون/28]
معناها: إذا ركبت، والإستقرار قال تعالى: ]وَاسْتَوَتْ
عَلَى الْجُوْدِيِّ[ [هود/44]
أي
إستقرّت والجودي جبل بالموصل، والقصد: قال تعالى:
]ثُمَّ
اسْتَوَى إِلَى السَّمَاءِ[ [فصلت/11]
أي قصد. قاله إبن عباس، وإتمام الشباب: قال
تعالى:
]وَلَمَّا
بَلَغَ أَشُدَّهُ وَاسْتَوَى[ [القصص/14] والإعتدال: يقال إستوى كذا وكذا أي
إعتدلا، وتساوي الأجزاء المؤلفة: يقال استوى الحائط والخشبة، وبمعنى الإنتصاب يقال
أستوى فلان قائماً أي إنتصب، وبمعنى الإستيلاء قال الشاعر: قـد استوى بـشرٌ علـى العـراقِ
مـن غـير سفكٍ لـدمٍٍ
مهراقٍِ إذا
عرفت هذا، فاعلم أن اللفظة المشتركة يجب حملها على جميع معانيها الغير الممتنعة،
عند تجردها عن القرينة وهنا أكثر المعاني ممتنعة عقلاً وسمعاً، لأن الركوب،
والإستقرار، وإتمام الشباب، والإعتدال، وإستواء الأجزاء وغيرها، من خواص الأجسام
والله تعالى ليس بجسم ولا عرض ولا يصلح هنا من معاني الإستواء إلا الإستيلاء، فيكون
معنى الآية الكريمة: الرحمن على العرش استولى. ونتبع
ذلك بمعاني العرش لغة لتتم بذلك الفائدة: فالعرش:
بمعنى السرير قال الله تعالى:
]وَلَهَا
عَرْشٌ عَظِيْمٌ[ [النمل/23]. والبناء:
قال تعالى: ]خَاوِيَةٌ
عَلَى عُرُوْشِهَا[ [البقرة/259] قال
بعض المفسرين خالية عن أهلِها على ما فيها من البناء، وكل ما يستظل به، يقال: خيم
القوم وعرشوا ومنه عرش الكَرْم، قال الله تعالى:]هُوَ
الَّذِي أَنْشَأَ جَنّاتٍ مَعْرُوْشَاتٍ[ [الأنعام/141] ويطلق
على السقف: قال الله تعالى: ]فكَأيِّنْ
مِنْ قَرْيَةٍ أَهْلَكْنَاهَا فَهِيَ خَاوِيَةٌ علَى عُرُوْشِهَا[ [الحج/45]([1])
أي على سقوفها، والسلطان والملك قال زهير:ـ تـداركتمـا
عبساً وقد ثُلَّ عـرشها
وذبيـان قد زلّـت بأقدامهـا
النعـل وقال
آخر:ـ
ولـوْ هلكت تركت الناس في وهل
بعد الجميع وصار العـرش
إكسـاراً إذا
عرفت معاني العرش،
فاعلم
أنه
لايصلح أن يفسر العرش في الآية الكريمة إلا بالمعنى الأخير، وهو السلطان والملك،
فيكون المعنى: الرحمن على الملك استولى، والمعنى: أنه سبحانه لما خلق السموات
والأرض استوى على ملكه، أي إستولى على ملكه بالقهر والقدرة والسلطان، فسبحانه من
حكيم مقدر عليم وتنزه عما يقوله المبطلون من الإستواء، كما يستوي أحدنا على سريره،
فما أشنعها من مقالة. ونتبع
ذلك بالكلام على الكرسي في قوله تعالى: ]وَسِعَ
كُرسِيّهُ السَّموَاتِِ والأرْضَ[ [البقرة/255] فاعلم
أن الكرسي في لغة العرب يطلق على العلم، قال
الهذلي: ولا
تكرّسَ علم الغيب مخلوق
..................... أي
ما تعلم، وقال غيره:ـ
َحِـفُّ بهم بيض الوجوه وعصبة
كـراسيّ بـالأحداث حـين تنوب أي
أهل علوم، ومنه قيل للصحيفة كراسة، قال
في شرح الأساس: قال في البلغة:
وروي عن جعفر بن محمد الصادق عن آبائه عليهم السلام في تأويل قوله
تعالى:
]وسعَ
كُرْسِيُّهُ السَّمواتِ والأرضَ[ وسعَ علمه السموات والأرض. اهــ. وللإمام
الهادي يحيى ابن الحسين عليه السلام
(كتاب
العرش والكرسي) في الإحتجاج على أنّ الكرسي هو العلم، فيه علم جم يطالعه من أحب
الرجوع إليه. وأما
قوله تعالى: ]كلُّ
شَيْءٍٍ هَالِكٌ إلاَّ وَجْهَهُ[ [القصص/88]
وقوله
تعالى: ]إنَّمَا
نُطْعِمُكُمْ لِوَجْهِ اللهِ[ [الإنسان/9]
وقوله
تعالى: ]إلاَّ
ابتغاءَ وَجْهِِ ربِّهِ الأعْلَى[ [الليل/2] ، فنقول: إنه قد علم بالأدلة القطعية
عقلاً وسمعاً أن الله تعالى ليس بجسم ولا عرض، وأنه ليس بذي جارِحَةٍ، فلا حجة لأهل
التجسيم بهذه الآيات، لأن الآية الأولى لو حملت على جارحة مخصوصة لفسد المعنى، لأنه
يصير أنه يهلك ما سوى الوجه وهذا مما لا يقولون به ولا يلتزمونه، لأنه
كفر. فلم
يبقَ إلا أن يكون الوجه بمعنى الذات، ويكون معنى الآية: كل شيء هالك إلا هو، لأنه
يعبر في لغة العرب بالوجه عن الذات كما يقال هذا وجه الرأي ووجه الصواب، أي الرأي
وهو الصواب، وقد بين الإمام
نجم آل الرسول القاسم بن إبراهيم عليه السلام معاني
الوجه في كتاب (المسترشد في مجموعِهِ)، ومعنى قوله تعالى: ]إلاَّ
إبتغاءَ وَجْهِ رَبِّهِ الأعْلَى[ ، وقوله تعالى: ]إنَّما
نطعمكُمْ لوجهِ اللَّه[ ، أيْ إلا إبتغاء ثواب الله ورضوانه، وأما قوله تعالى:
]يَا
حَسْرَتَى عَلَى مَا فَرَّطْتُ فِي جَنْبِ اللهِ[ [الزمر/56]
، فالجنب يعبّرُ به عن العضو المخصوص، ويعبّرُ به عن الأمر، فمعناها: ياحسرتى على
ما فرطت في أمر الله. قال الشاعر:ـ خليلي
كُفَّا واذكرا الله في جنبي فقد قلتما في غير إثم ولا
ذنب وقد
فسرها بعض العلماء بالطاعة، أي في طاعة الله كما يقال: ما نالني في جنب فلان فهو
راحة، أي في طاعته، وعن ابن عباس أن معناها: في ذات الله وحقه وأمره، قال ابن دريد
في مقصورته ـ وهو من علماء اللغة الناقلين لها الموثوق بهم
فيها: فـكلـما
لاقيتـه مغتفــرٌ
في
جنب ما أسـأره سخط النوى وعن
مجاهد: في أمر الله، وقيل: في قربه وجواره، ومنه الصاحب بالجنب أي بالقرب، وأما
قوله تعالى: ]بَلْ
يَدَاهُ مَبْسُوْطَتَانِ[ [المائدة64]
ونحوهما مما فيه ذكر اليد، فاعلم أن اليد
تُطلَقُ في اللغة على الجارحة المخصوصة وعلى القدرة والقوة، قال
الشاعر:ـ إذا
مـا رايـةٌ رُفِعَت لمجدٍ تلقّـاهَـا عُرابـة
بـاليمين وقال
عروة:ـ فقالوا
هداك الله والله ما بنا
بما حملت منه الضلوع يـدانِ وقال
الغنوي:ـ إذا
ما رأيت المرء يشـعب أمره شعب العصا
ويلجّ فـي العصيان فاعمد
لما تعلو فما لك بـالذي تستـطع مـن الأمـور
يـدان وبمعنى
النعمة:
يقال لفلان على فلان يد، أي نعمة، وقد بطل بالأدلة القاطعة أن يكون سبحانه جسماً أو
عرضاً، والجارحة المخصوصة لاتصح عليه، لأن ذلك تجسيم فلم يبق إلا أن تكون الآية
بمعنى النعمة والتثنية لنعم الدنيا ونعم الآخرة، ومعنى قوله تعالى: ]لِمَا
خَلَقْتُ بِيَدَيّ[ [ص/75] أي بقدرتي ومعنى قوله: ]وَالسَّمَوَاتُ
مَطْوِيَاتٌ بِيَمِيْنِهِ[ [الزمر/67] أي بقُوّته. وأما
قوله تعالى: ]تَجْرِي
بِأَعْيُنِنَا[ فقال
الإمام القاسم بن محمد عليهِ السّلام:
هي
من باب المشاكلة لكلمة العين المقدرة وهي الجارحة الخاطرة بذهن السامع لما كان لا
يتم حفظ مثلها لأحد في الشاهد إلا بمتابعة أبصارها بالعين الجارحة. اهـ معنى
كلامه. والمعنى
في الآية: ]تَجْرِي
بِأَعْيُنِنَا[ [القمر/14]
أي بعلمنا، وعن الحسن أنه قال: تجري
بأعيننا ، أي بأمرنا، وقيل بحفظنا وحراستنا، ومثلها قوله تعالى: ]وَلِتُصْنَعَ
عَلَى عَيْنِي[ [طه/39]
أي على علمي، ومثلها قوله تعالى:
]فَإِنَّكَ
بِأَعْيُنِنَا[ [الطور/48]
أي في كلايتنا
وحفظنا. واعـلم
أن
المشاكلة المذكورة عند أهل البيان هي: ذكر الشيء بلفظ غيره، لوقوعه في صحبته
تحقيقاً أو تقديراً، فالأول كقول الشاعر:
قـالوا اقترح شيئاً نجد لك طبـخه
قـلتُ اطبخـوا لي جبةً
وقميصاً أي
خيطوا لي، فعبّر عنه بلفظ الطبخ لوقوعه في صحبة طبخ الطعام، ومثال المقدر قوله
تعالى: ]صِبْغَةَ
اللهِ ومَنْ أحْسَنُ مِنَ اللهِ صِبْغَةً[ [البقرة/138] وهي
مصدر مؤكدٌ لآمنا بالله أي بتطهير الله لأن الإيمان يطهر النفوس لما كانت النصارى
تصبغ أولادها بماءٍ يسمونه المعمودية، ويقولون أنه طهرة لهم، فعبر عن الإيمان بالله
بصبغة الله، للمشاكلة. ومنها
قوله تعالى:]تَعْلَمُ
مَا فِي نَفْسِي ولا أعْلَمُ مَا فِي نَفْسِكَ [ [المائدة/116].
قال
جار الله
ـ رحمه الله ـ والمعنى: تعلم معلومي ولا أعلم معلومك ولكنه سلك بالكلام طريق
المشاكلة وهي من فصيح الكلام. اهـــ. وقد
أتينا على جملة من الآيات المتشابهة التي تردّ إلى المحكم والله
الموفق. *** ([1])259
الأدلة من السنة على عدم الرؤية ولنا
أدلة من السنة تشهد بما قلنا، منها: ما
أخرجه أبوالقاسم الكعبي بسنده عن جابر بن عبد الله عن رسول الله صلى اللّه عليه
وآله وسلم أنَّه قال: ((إنَّكم
لنْ تروا الله في دنيا ولا آخرة)) وقد أخرجه الفقيه حُميد الشهيد ـ رحمه الله ـ
بلفظ ((إعلموا)) وأخرج الرامهرمزي والحاكم أبو سعيد عن سمرة بن جندب أن
رجلاً سأل رسول الله صلى اللّه عليه وآله وسلم هل نَرىربَنا في الآخرة
؟ فانتفض، ثم سقط فالتصق بالأرض،
وقال:((لايراهُ أحدٌ ولاينبغي لأحدٍ أنْ يراه))،وأخرج البخاري والترمذي
والحاكم أبوسعيد عن عائشة أنَّها سُئلت هل رأى محمد ربه؟. قالت:
ياهذا
لقد قفَ شعري مما قلت ثلاثاً، من حدثكهن فقد أعظم الفرية على الله،من قال أنَّ
محمداً رأى ربه، والله لاتدركه الأبصار وهو يدرك الأبصار .. ألخ. إنتهى ما أردنا
الجواب عن مسألة الرؤية أمَّا
الجواب عن مسألة الرؤية،
فأقول:
أنَّ مسألة الرؤية فرع على مسألة كون الله جل جلاله لايشبه الأشياء من الأجسام
والأعراض وإنه تعالى غير متحيز ولا ذي مكان ولا تصح عليه الحاجة لأنه الحي الذي ليس
بمحتاج وقد تقرر بالدلالة القاطعة أن الرؤية لاتصح إلا على الأجسام والأعراض،
فمسألة الرؤية فرع على هذا أي مترتبة على ما ذكرنا. ونقول
أنَّ مسألة الرؤية قد كثر فيها الخلاف فأما المجسمة فهم يزعمون أن لله صورة تحل
الأماكن وأنه ذو جوارح والخلاف لايتحقق بيننا وبينهم فى الرؤية، إنَّما الخلاف يعود
بيننا فيما أثبتوه من التشبيه لله تعالى بالأجسام فنحن نفينا ذلك ونزهنا الله تعالى
عن مشابهة الاجسام، وهم أثبتوا ذلك مع إعترافهم لنا أنه تعالى لولم بكن جسماً لما
صحت رؤيته ومع اعترافنا لهم أنه لوكان جسماً لصحت رؤيته. وإنَّما يتحقق الخلاف
بيننا وبين الأشاعره الذين لايكيفون الرؤية، إذا عرفت هذا فنحن موردون للادله على
ماذهبنا اليه من نفى رؤيته تعالى فى الدنيا والآخرة فنقول لنا أدله عقليه وسمعيه
وهذه المسأله مما يستدل عليها بالسمع على أصولنا وأُصول المعتزلة لان صحة السمع
لايقف عليها، وكل مسألة لانقف عليها صحت السمع فالاستدلال عليها بالسمع ممكن،
وأصحابنا والمعتزلة يستدلون على هذه المسألة بدليلين عقليين: هما دليل المقابلة
،ودليل الموانع. أمَّا دليل المقابلة:
فهو أنَّ الأبصار لاترى إلاَّماكان مقابلاً كالجسم أو حالاًّ فى المقابل، كاللون أو
في حكم المقابل ،كالوجه فى المرآه فانه ليس مقابلاً ولاحالاًّ فى المقابل، ولكنه فى
حكم المقابل، لأنَّ الله تعالى لا يصح أن يكون مقابلاً ولا حالاً في مقابل، ولافي
حكم المقابل، لأنَّ ذلك جسم أوعرض، وقد تقرر أنَّه تعالى ليس بجسم ولا عرض فلا تصح
رؤيته تعالى بحال. أمَّا دليل الموانع:
فتحريره انَّه لوكان الباري سبحانه يُرى بحال من الاحوال لوجب أن نراه الآن، لإنَّ
الحواس سليمة والموانع مرتفعة،وهو دليل مبنى على أصلين: الأصل
الأول:
قوله لو كان الباري سبحانه يُرى فى حال من الأحوال لوجب أنْ نراه الآن، الخ ,
وتصحيحه يحصل بحصول ثلاثه شروط وكلها قد حصلت وهى أنَّ الحواس سليمة والموانع
مرتفعة والبارى تعالى موجود، أمَّا كون الحواس سليمة فمعلوم أنَّ أحدنا على الصفه
التى يرى المرئيات معها وهي سلامة حاسة البصر ،أمَّا كون الموانع مرتفعة فالموانع
ثمانية هي الحجاب الكثيف، والقرب المفرط،والبعد المفرط ،وكون المرئي لطيف الجسم
كالجوهر ورقيقه كالملائكة، وكونه غير مقابل للرائي، وكونه حالاًّ في غيره، والثامن
فُقد الضياء المناسب للعين كالظلمة، والذى يدل على إرتفاعها أنَّها لا تصح إلاَّ في
الأجسام والله ليس بجسم، وأمَّا أنَّ الباري موجود فمعلوم بالأدلة القاطعة وقد كملت
الثلاثة الشروط وصح الأصل الأول. وأمَّا
الأصل الثاني:
وهو
قولنا
أنا لانراه الآن فذلك معلوم ولامنازعه فيه فصح أن الله تعالى لايرى في الدنيا ولا
فى الاخره هذاهو دليل العقل وأما دليل السمع فقوله تعالى:
]لاَ
تُدْرِكُهُ الأبْصَارُ وهُوْ يُدْرِكُ الأبْصَارَ وهُوَ اللَّطِيْفُ
الْخَبِيْرُ[ [الأنعام/103]
ووجه الاستدلال با لآية الكريمة من وجهين: الأول:
أنَّه تعالى نفى أن تدركه الأبصار نفياً عاماً شاملاً لجميع الأبصار ولجميع أوقات
الدنيا والآخرة ، فاقتضى ذلك العموم والشمول لجميع الأفراد فى الطرفين الأشخاص
والأوقات، يبين ذلك أنَّ حرف النفي إذا دخل على الفعل المضارع نفاه على سبيل
الإطلاق من دون تقييد بوقت دون وقت وكذلك آلة التعريف إذا دخلت على إسم الجمع أفادت
العموم لجميع أفراده وهذا لاينكره الخصوم. الثاني:
أنَّ الله تعالى تمدح بنفي إدراك الأبصار له وذلك تمدح راجع إلى ذاته وكل تمدح راجع
إلى الذات فإثبات نقيضه نقص والله تعالى لايجوز عليه النقص وهذا الدليل مبني على
أربعة أصول. الأول:
أنَّه تعالى تمدح بنفي إدراك الأبصار له. الثاني:
أنه تمدح راجع إلى ذاته. الثالث:
أن كل تمدح راجع إلى الذات فإثبات نقيضه نقص. الرابع:
أن النقص على الله تعالى لايجوز. أما
الأصل الأول:
فلا خلاف أن الآية واردة مورد المدح له تعالى لأن أول الكلام مدح وهو قوله
تعالى:
]بَدِيْعُ
السَّمَوَاتِ والأرْضِ أَنَّى يَكُوْنُ لَهُ وَلَدٌ وَلَمْ تَكُنْ لَهُ
صَاحِبَةٌ[ [الأنعام/101]،
وآخره مدح أيضاً فيجب أن يكون المتوسط مدحاً وهو قوله تعالى: ]لا
تُدْرِكُهُ الأبْصَارُ وهُوَ يُدْرِكُ الأبْصَارَ..[ [الأنعام/103]
وإلاَّ
لزم أن يتوسط ما ليس بمدح بين أوصاف المدح وهو مستهجن في اللغة العربية ولا يصح ذلك
في كلام الحكيم والخصوم لاينكرون هذا ولكنهم زعموا أن وجه التمدح في ذلك من حيث
أنها لاتحيط به الأبصار إلاَّ من حيث أنَّها تدركه وتراه، وقد أجاب أصحابنا بإنَّ
الإحاطة ليست بمعنى الإدراك لافي حقيقة اللغة ولا في مجازها، فيقولون السور أحاط
بالمدينة ولا يقولون أدركها. توضيح
لما سبق:
وهو أن نقول أنَّ الله سبحانه قد تمدح بنفي الصاحبة والولد كما تمدح بأنه لاتدركه
الأبصار فلو صح واحد من الثلاثة لكان نقصاً ولا يكون نفيه مدحاً إلا إذا كان
الممدوح قادراً على فعله كالتمدح بنفي الظلم والعبث والكذب. الأصل
الثاني:
أن ذلك التمدح راجعٌ إلى ذاته ونعني بذلك أن هذا التمدح مرجعه نفي وصف يتعلق بذاته
من حيث أنه تعالى لايرى بالأبصار فصار كالوصف بانه لا يمثل ولايكيف ولايطعم ولا
تأخذه سنة ولا نوم وليس من باب التمدح بأمر راجع إلى فعله ككونه لا يظلم ولا يظهر
على غيبه أحداً، والفرق بينهما أن ما كان راجعاً إلى الذات فلا يصح نقيضه بأي حال
وما كان مرجع التمدح به إلى الفعل فإنه قد يصح نقيضه ولذلك صح الإستثناء في قوله
تعالى: ]إلاَّ
مَنِ ارْتَضَى مِنْ رِسُولٍ...[ [الجن/27]
بخلاف
التمدح الراجع إلى الذات فلا يصح الإستثناء منه ولا غيره سواء كان نفياً نحو لا
تدركه الأبصار أو إثباتاً كوصفه بأنه عالم وقادر ونحوهما. وأمَّا
الأصل الثالث:
وهو أنَّ كل تمدح راجع إلى الذات فإثبات نقيضه نقص فذلك معلوم عند
العقلاء. وأمَّا
الأصل الرابع:
وهو أن الله تعالى لا يجوز عليه النقص فذلك معلوم بالأدلة القاطعة وهو
إجماع. ومن الأدلة على عدم جواز الرؤية قوله تعالى
لموسى لمَّا سأله الرؤية بقوله: ]رَبِِّ
أرِنِي أنْظُرْ إليكَ قَالَ لَنْ تَرَانِي ولَكِنِ انْظُرْ إلى الْجَبَلِ فَإِنَِّ
اسْتَقَرَّ مَكانَهُ فَسَوفَ تَرَانِي[ [الأعراف/143]
ووجه الإستدلال بها أن لن في لغة العرب
موضوعة للنفي المؤبد مالم تقيد بما يرفع التأبيد كما حكاه الله تعالى عن مريم عليها
السلام: ]فَلَنْ
أُكَلِّمَ اليَوْمَ أنْسِيَّاً[ [مريم/26]
فلولا أنها قيدت نفي تكليمها بذكر اليوم لأقتضى النفي المؤبد كما في قوله تعالى:
]لَنْ
يَخْلُقُوا ذُبَابَاً[ [الحج/73]
و]لَنْ
يَنَالَ اللهَ لُحُومُهَا[[الحج/37]
و
]ولَنْ
تنَالُوا البِرَّ[ [آل
عمران/92]
و]لَنْ
تُغْنِيَ عَنْهُمْ أمْوَالُهُمْ ولا أوْلادُهُمْ...[ [آل
عمران/10]
وقد نفى الله تعالى الرؤية عن موسى عليه السلام بلفظة: (لن) ولم يقيده فاقتضى
التأبيد ثم أكد نفي الرؤية بأن علقها بشرط مستحيل حصوله وهو أن يكون الجبل مستقراً
حال جعله دكاً أي مدكوكاً مصدر بمعنى إسم المفعول والدك هو الدق فجعله سبحانه
مدكوكاً أي مسوى بالأرض وجعل الرؤية معلقة بأن يراه مستقراً جبلاً على حالته الأولى
في حالة جعله دكاً وقيل إن دكاً بمعنى متحركاً إذا دكت الأرض دكاً أي تحركت فيكون
أيضاً مما علق بالمحال وما علق بالمحال فهو محال لأن إستقرار الجبل حال تحركه محال
لأنه جمع بين النقيضين من حيث إن الإستقرار الذي هو السكون نقيض الحركة فإجتماعهما
في حالة واحدة محال وما تعلق بالمحال فهو محال كما في قوله تعالى في حق
الكفار:]ولا
يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ حَتَّى يَلِجَ الْجَمَلُ فِي سَمِّ الْخِيَاطِ[ [الأعراف/40]. إعتراض
قالوا:
لو كانت رؤيته سبحانه مستحيلة لما سألها موسى عليه السلام، لاسيما وهو أعلم الناس
بالله تعالى. وجـوابه:
أنَّه لمَّا اكثر قومه التعنت وقالوا :]أرِنَا
اللهَ جَهْرَةً[ [النساء/153]
ولم
يقتنعوا بالأدلة العقلية على إثبات الصانع وعدم تجسيمه وأنه لايشبه الأشياء ولا
تجوز عليه الرؤية ونحوها حتى علقوا إيمانهم بالصانع وما يترتب عليه من نبوة موسى
عليه السلام وسائر ما جاء به على رؤيته تعالى وقالوا:
]لَنْ
نُؤْمِنَ لَكَ حَتَّى نَرَى اللهَ جَهْرَةً[ [البقرة/55]
فأراد
موسى عليه السلام أن ينضم إلى أدلة العقل دليل سمعي ينقطع عنده حجاجهم ويذهب معه
لجاجهم، وسلك في طلب ذلك الدليل أبلغ مسلك ليكون أبلغ وأقطع لمحاجتهم بأن أَسند
الرؤية إلى نفسه ليعلموا أنه إذا منعها مع كونه كليم الله وحبيبه فهم بالمنع أولى
بخلاف مالوا أسندها إليهم لبقي الشغب معهم ومع غيرهم وإنما قلنا أن موسى عليه
السلام لم يسأل الرؤية لنفسه لدليلين. الأول:
ماحكاه الله تعالى في قصص قومه من قوله تعالى خطاباً لنبينا محمد صلى اللّه عليه
وآله وسلم:
]يَسْأَلُكَ أهْلُ الكِتَابِ أنْ تُنَزِّلَ عَلَيْهِمْ كِتَاباً
مِنَ السَّمَاءِ فَقَدْ سَأَلُوْا مُوْسَى أكْبَرَ مِنْ ذَلِكَ فقَالُوْا أرِنَا
اللهَ جَهْرَةً[ [النساء/153] فقضت هذه الآية أن سؤال أهل الكتاب الرؤية أمر فظيع وإعتقاده
قبيح شنيع وأنه أشنع في القبح من سؤالهم لنبينا محمد صلى اللّه عليه وآله وسلم أن
ينزل عليهم كتاباً غير القرآن لأنه كفر بلا ريب فكيف بما هو أكبر إثماً واغرق ظلماً
لذلك عقب هذه الجملة بقوله عز وجل:]فَأَخَذَتْهُمُ الصَّاعِقَةُ بِظُلْمِهِمْ[ [النساء/153] وقرنها بالفاء التي تفيد التعقيب و التسبيب لأخذ الصاعقة
إيَّاهم حتى هلكوا وماتوا من حينهم، وسمى ما طلبوه ظلماً وأي ظلم، أن الشرك لظلم
عظيم وإذا كان إعتقاد الرؤية وطلبها أكبر من سؤال كتاب غير القرآن وسبباً لهلاك من
طلبها أو أعتقدها وتسميته طالما وجب أن ننزِّه موسى عليه السلام عنها، لأنه لو
سألها لنفسه وشاركهم في إعتقاد جوازها لصعق معهم ولكان ظالماً مثلهم، وذلك مما يجب
أن ننزه عنه الأنبياء عليهم السلام، وإنِّما قلنا أنه لو سألها لنفسه لصعق معهم
ولكان ظالماً مثلهم لأنه يكون حينئذٍ قد شاركهم في السبب والعلة توجب الإشتراك في
الحكم وهذا واضح..... الدليل الثاني: على أنَّهُ عليه السلام إنَّما طلبها لقومه، أنَّ المخالف
مسلِّمٌ لنا أنَّ الرؤيةَ لا تجوز على الله تعالى في الدنيا، والسؤال وقع لطلبها في
الدنيا، فأمَّا أنْ يكون سألها وهو عالم أنَّها لا تجوز على الله تعالى وذلك طلب ما
لاَ يجوز، وموسى عليه السلام معصوم، ويجب تنزيهه عن مثل ذلك، وإمَّا أنْ يكون طلبها
وهو غير عالم أنَّها لا تجوز على الله تعالى في الدنيا، وذلك جهلٌ شديدٌ وحاشاه عن
كِلاَ الأمرين، وهو كليم الله وصفيه لقد برَّأه الله مما قالوا، وكان عند الله
وجيهاً. فصح أنَّ الله لا يُرَى في دنيا ولا آخرة.
أما الجواب عن مسألة (هل الأرض كروية أم مسطحة)؟ فالذي
عليه أكثر علماء الفلك كما نقله الصواف عنهم أن الأرض كروية، وللصواف هذا رسالة
مستقلة مطبوعة ردّ فيها على ابن باز في فتواه في هذه المسألة، وقد نقل فتواه حرفياً
وردّ عليه وتوسع في النقولات، وهذه المسألة لا يوجب الجهل بها نقصاً في دين المسلم،
إذْ لم نكلّف علمها وسواءً قلنا الأرض مسطحة، أم قلنا أنها كروية ففي ذلك دلالة على
الصانع المختار لدقة الصنعة وإحكامها التي لا تكون إلا من عالم
قدير: مَنْ
طوَّل الأيَّـام عندَ مصِيفِهَـا وأتـتْ قصـاراً في فصولِ
شتائـه وفي
طلوع القمرين وغروبهما، وتقدير سيرهما، وفي النجوم الثوابت والمعالم والرواجم من
الحكمة البالغة ما لا يحيط به وصف الواصف، قال تعالى:]إنَّ
فِي خَلْقِِ السَّموَاتِِ والأرْضَ واخْتِلاَفِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ لآيَاتٍٍ
لأُوْلِي الأَلْبَابِ[ [آل عمران/190] وهذا
أوان فراغنا مما أردناه من الجواب والحمد لله ربّ الأرباب ومسبب الأسباب، جعله الله
تعالى وسيلة لنا إلى نيل الثواب ونفع به كافة الإخوان والأصحاب، وصلى الله على محمد
وعلى آله الطاهرين والحمد لله رب العالمين. وكان
الإنتهاء من تحريره في الليلة المباركة ليلة إحدى وعشرين من شهر شوال عام
F m الحمد
لله رب العالمين وصلوات الله على سيدنا محمدٍ خاتم النبيين وعلى آله هداة المهتدين
وعصمة المسترشدين. وبعد: فإنها وردت إلينا سؤالات طلب موردها كشف
نقابها وإيضاح جوابها ويظهر من حال السائل أنَّه طالبٌ للرشاد وسالكٌ في مسالك
الرواد، وقد طلب الحق مُبَرْهَنَاً وسأل التحقيق مُبَيَّنَاً، وقد تصديت للجواب
بحصيلة ما عندي نزولاً عند رغبته لَمَّا منحني ثقته، وقد جمعت السؤالات المتفرقة
وضممت كل فنٍ إلى فنه، فجمعت ما يتعلق بالإمامات إلى السؤال الأول ليتصل البحث على
نسقٍ واحدٍ، وهذا أوان الشروع، ونسأل الله المعونة، قال السائل شرح الله صدره لقبول
السؤال الأول ماهي
الفوارق بين المذهبين الزيدي والإثنى عشري؟ الجواب
والله الموفق:
أنَّ الفوارق واضحةٌ وجلية ولِمَيلنا إلى الإختصار فلنبين مَنْ هو الزيدي وبمعرفته
يتميز عن غيره (وبضدها تتبين
الأشياء) فاعلم
وفقني
الله وإياك:
أنَّ
الزيدية هي الفرقة المحقة الناجية أتباع الإمام الأعظم الإمام الشهيد زيد بن علي بن
الحسين بن علي بن أبي طالب عليه وعلى آبائه أفضل الصلاة والتسليم، وإنما سُميت
الزيدية زيدية لموافقتهم لإمام الأئمة زيد بن علي u في
التوحيد والعدل والإمامات والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر والخروج على أئمة
الجور، كما قال الإمام المهدي لدين الله محمد بن عبدالله بن الحسن بن الحسن ـ النفس
الزكية ـ عليهم السلام: أما والله لقد أحيا زيد بن علي ما دُثِرَ من سنن المرسلين
وأقام عمود الدين إذ اعوج ولن ننحو إلا أثره، ولن نقتبس إلامن نوره، وزيد إمام
الأئمة، وأول من دعى إلى الله تعالى بعد الحسين بن علي ـ uـ
.أ.هـ. أورده
شيخنا المولى
الحجة مجدالدين بن محمد بن منصور المؤيدي
أسعده
الله ونفع بعلومه، وقد أخرجه أبو طالب في أماليه(186)، وإذا عرفت هذا فالزيدي من
قال بالعدل والتوحيد وأن علياً خليفة رسول الله والإمام من بعده ـ صلى اللّه عليه
وآله وسلم ـ بِلا فصل وأنَّ الحسنين هما الإمامان بعد أبيهما، الحسن بعد أبيه
والحسين بعد أخيه، ثم الإمامة في أولادهما محصورة وعلى غير البطنين محظورة من جمع
شروط الإمامة المعروفة وقام ودعى ونابذ الظلمة وباينهم وباينوه وأخافهم وأخافوه
وقال بوجوب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر المخوف، وقال بالخروج على أئمة الجور،
فهذا هو الزيدي، إذا عرفت هذا تميز لك الفرق بين المذهبين الزيدي والإثنى عشري،
فالإمامية الإثنا عشرية يعتقدون ويدينون بأنَّ الإمامة في إثنى عشر إماماً، ويزعمون
أنَّه منصوصٌ عليهم بأسمائهم، وهم علي والحسنان وعلي بن الحسين ـ زين العابدين ـ
ومحمد بن علي الباقر ـ وجعفر بن محمد ـ الصادق ـ وموسى بن جعفر ـ الكاظم ـ وعلي بن
موسى ـ الرضا ـ ومحمد بن علي، وعلي بن محمد، والحسن بن علي العسكري، والمنتظر
بزعمهم وهو محمد بن الحسن، هذا مذهبهم في الإمامة، وقد أفدناك أنهم يدعون أنهم
منصوص عليهم بأسمائهم. أما
الزيدية فيقولون:
بالنص
على أمير المؤمنين علي وبالنص على إمامة الحسن والحسين ـ صلوات الله عليهم ـ أما من
بعد الثلاثة المعصومين فقد قدمنا أنَّ مَنْ جَمَعَ الشروط وقام ودعى وجاهد الظلمة
وجرد السيف فهو الإمام المفترضة طاعته الواجبة متابعته، وأدلة هذا القول مبسوطة في
مؤلفاتهم الحافلة، وليس الغرض ذكر الأدلة، إنما الغرض الفرق بين المذهبين، وقد حصل،
والفوارق غير ما ذكرنا كثيرة لم نتعرضْ لها تجنباً للإكثار، ولكونها واضحة عند أولي
الأبصار، والحمد لله رب العالمين وصلى الله على خاتم النبيين وعلى آله
الطاهرين.
السؤال الثاني ما
هو تعريف العصمة عند الزيدية؟ و من هم المعصومون؟ الجواب والله الموفق:
أنّ
العصمة في أصل اللغة مأخوذة من العصم وهو المنع من الوقوع في الأمر المخوف، قال
الله تعالى:]لا عَاصِمَ
اليَوْمَ مِنْ أمْرِ اللهِِ إلاَّ مَنْ رَحِمَ[ [هود/43]
ومنه تسمية وِكَاءِ القربة عصاماً لمَّا كان يمنع الماء عن الخروج، ومنه سُمِيَ
الوعل عصم لمنعه نفسه بالسكون في روؤس الجبال، وهي في الإصطلاح:
اللطف
الذي يترك المكلف لأجله المعصية لا محالة مالم يبلغ حد الإلجاء، وقال قاضي القضاة
عبدالجبار بن أحمد ـ رحمه الله ـ في حدها هي عبارة: عن الأمر الذي عنده لا يفعل
المكلف القبيح على وجه لولاه لاختاره من حيث امتنع عنده ولأجله واستعمل ذلك في الشر
لا في الخير لا من حيث اللغة ولكن للإصطلاح، ثم قال: وكلا الوجهين يوصف بأنه
لطف.اهـ. وحيث قد
ذكرنا اللطف والإلجاء فلنتكلم على طرف من أحوالهما، فاللطف هو:
ما
عنده يختار المكلف ما كلفه، ولولاه لكان يخل به فما علم ذلك من حاله وصفناه بأنه
لطف، وقد يقال اللطف ما يكون المكلف عنده أقرب إلى فعل ما كُلِفَ به أو يكون فعل ما
كُلِفَ أسهل عليه وأقرب إلى وقوعه منه، وسواء في ذلك الفعل والترك لأنَّهَا تكاليف،
ولا غرض لنا في تقسيم اللطف ولا في بيان الإختلاف بين العلماء هل هو واجب على الله
تعالى كما هو رأي الإمامية والمعتزلة، أم لا كما هو رأي أئمتنا عليهم
السلام. واعلم:
أن المعونة من الله للمكلفين والتوفيق هي واللطف من وادٍٍ واحدٍ، وليست المعونة خلق
الله القدرة والآلة للمكلف فقط بل هي أمرٌ زائدٌ على ذلك، وهو أنْ يقصد الله تعالى
بخلقه لذلك أن يختار المكلف الطاعة ويترك المعصية فمتى فعله على هذا الوجه وصف ذلك
بأنَّه معونة، ألا ترى أن مَنْ أعطى غيره سيفاً قاطعاً وقصد أن يجاهد به في سبيل
الله وصف بأنَّه أعانه على الجهاد وإنْ كان السيف يصلح لقتل نفسه ولقتل المسلمين،
ولا يوصف بأنه أعانه على ذلك لعدم القصد والإرادة لذلك، وأما التوفيق فإذا صادف
إختيار المكلف للطاعة والإمتثال لأوامر الحكيم زاده الله هداً وتوفيقاً،
]وَالَّذِيْنَ
اهْتَدَوْا زَادَهُمْ هُدَىً[
[محمد/17]. وأما
الإلجاء فقال قاضي القضاة:
أنَّ الملجأ إلى الفعل لا بد أن يقع منه ما أُلجي إليه. والملجأ أن لا يفعل لا بد
من أن لا يفعله، وقال
أبوهاشم
الجبائي:
أن الإلجاء هو كل شيء إذا فعل بالقادر خرج من أن يكون يستحق المدح على فعل ما ألجيء
إليه أو على أن لا يفعل ما ألجي إليه إلى أن لا يفعله، وذكر أن الإلجاء والإضطرار
في اللغة بمعنى واحد. اهـ. واعلم:
أنَّ العلماء رحمهم الله قدِ اختلفوا في مَنْ تثبت منه العصمة هل يثبتها الله تعالى
في المعصوم أم يثبتها المعصوم لنفسه، فقيل ثبوتها منه تعالى، ثم اختلفوا في الكيفية
فعند أئمتنا عليهم السلام والمعتزلة أن كيفية ثبوت العصمة للأنبياء عليهم السلام
بالألطاف التي يجعلها لهم كما يجعلها لغيرهم فهي من قبيل الألطاف ونوع منها مخصوص
لكنه تعالى قد علم أنهم يلتطفون في ما هم معصومون عنه فلا يفعلونه، وإنَّما لم
يفعلوه إختياراً منهم للخير وتنكباً عن سبيل الهلكة، وقيل بِنْيَةٌ مخصوصة ركبهم
الله عليها فهم لمكانها ينفرون عن المعاصي ويرتاحون للطاعات، والصحيح القول الأول،
لأنه يرد على الأخير أن المعصوم لا يستحق بفعل الطاعات وترك المقبحات ثواباً ولا
مدحاً، إذ لا مشقة عليهم لكونهم على بنية تنفر من المعاصي وترتاح للطاعات فهم
ملجأون إلى ذلك لا إختيار لهم، وقيل بل تثبت العصمة باختيار المعصوم لها فهو المثبت
لها بالإتيان بالواجبات واجتناب المقبحات، وقيل بل تثبت له باختياره لكنه غير
مستغنٍ عن معونة الله، وقيل ثبوتها من الله ومن المعصوم وكيفيته بخلق الداعي إلى
فعل الطاعات واللطف الذي لأجله تركت المعصية منه تعالى وبفعل الواجبات واجتناب
الكبائر من النبي ومعناه كالأول. ولما تكلمنا على معنى العصمة وتكلمنا على
بعض ما يتعلق بمباحثها، فلنتكلم على جواب الطرف الثاني، وهو : من هم
المعصومون؟ فنقول
وبالله التوفيق:
لا خلاف في عصمة الأنبياء ـ صلوات الله عليهم ـ على الجملة وإنما الخلاف في تفاصيل،
في وقت العصمة. وهل هم معصومون من الكبائر والصغائر؟ أم من الكبائر فقط؟ ولا
خلاف بين أئمتنا ـ عليهم السلام ـ في عصمة الوصي والزهراء والحسنين صلوات الله
عليهم ـ ولا خلاف بين أئمتنا أن جماعة أهل البيت معصومة وأن إجماعهم حجة، وأما
أفراد أهل البيت غير الأربعة فليس أحد سواهم بمعصوم سواء كان إماماً أم غير إمام،
ولا أعلم قائلاً بعصمة الإمام من أئمتنا سوى أبي العباس الحسني ـ رحمه
الله. وقالت الإمامية:
إن شرط الإمام أن يكون معصوماً، قال العلامة شُبَّر في كتاب حق اليقين صفحة:(255)
(لأنه حافظ للشرع قائم به حاله كحال النبي صلى اللّه عليه وآله وسلم، ولأن الإمام
إنما هو للإنتصاف للمظلوم من الظالم ورفع الفساد وحسم مادة الفتن، وأن الإمام لطف)
اهـ. فهذه
أدلتهم وهي كما ترى واهية العرى. وأقول:
أنه إن أراد الإحتجاج على ذلك بالعقل فلا مجال للعقل في ذلك، وأما كون الإمام لطفاً
أو أن فائدة نصبه وقيامه لحسم مادة الفتن فالعقل يصحح ذلك ولا يحتاج إلى أن يكون
معصوماً، وأما أنَّ حال الإمام كحالة النبي صلى اللّه عليه وآله وسلم فلا يحكم
العقل بذلك بل يحكم بخلافه، لأن النبي صلى اللّه عليه وآله وسلم مبلغ عن الله تعالى
فوجب عصمته لأجل الوثوق بما يؤديه عن الله تعالى من الشرائع، والإمام ليس كذلك، وإن
أراد الإحتجاج بالقياس فلا يصح مع أنهم لا يرون القياس حجة فليس لهم حجة على دعواهم
هذه لا من عقل ولا نقل وكل ما لا حجة عليه وجب بطلانه، أما الطوسي صاحب التجريد هو
وصاحب شرح التجريد فقد استدلا على عصمة الإمام بأنه لولم يكن معصوماً لزم التسلسل،
والثاني باطل فالمقدم مثله وبيان الشرطية أن المقتضي لوجوب نصب الإمام هو تجويز
الخطأ على الرعية فلو كان هذا المقتضي ثابتاً في حق الإمام وجب أن يكون له إمام آخر
ويتسلسل أو ينتهي إلى إمام لا يجوز عليه الخطأ.ا.هـ وهذا
باطل لأنا لا نسلم أن المقتضي لوجوب نصب الإمام هو تجويز الخطأ على الأمة، لأن
المقتضي لوجوب نصب الإمام هو إما الدليل الشرعي لمصلحة علمها الله في وجوب نصب
إمام، أو الدليل العقلي والشرعي فليس المقتضي ما ذكره على أن تجويز الخطأ على
الرعية إن أراد كل الأمة فهذا خلاف ما اتفق عليه المسلمون، وقامت عليه الدلالة
القطعية من أن الأمة لا تجمع على الخطأ، وإن أراد وقوع الخطأ من بعضهم فقد وقع
الخطأ في عهد رسول الله صلى اللّه عليه وآله وسلم ولم يكن عاصماً لهم عن الخطأ
:]وِمِنْ أهْل
الْمَدِينَةِ مَرَدُوا عَلَى النِّفَاقِ لا تَعْلَمُهُمْ[ [التوبة/101]،
فليس
الإمام بأعظم
من رسول الله صلى اللّه عليه وآله وسلم ولا أجل قدراً منه، وبهذا يبطل دعواهم أن
إمامهم يعلم الغيب فكيف يقول الله تعالى لرسوله صلى اللّه عليه وآله وسلم
:]لا
تَعْلَمُهُمْ[ وهم يدعون أن إمامهم يعلم الغيب، هذا وليس المراد التعرض لنقض
مذهبهم، وإنما المراد بيان العصمة وتوابعها، وإنما الحديث يجر بعضه بعضاً، وقد
قدمنا أن الأربعة علياً والحسنين وفاطمة ـ عليهم السلام ـ معصومون، وقلنا: أن جماعة
العترة معصومة وأن إجماعهم حجة، وكذلك الأمة المحمدية لا تجمع على خطأ وإجماعهم
حجة، وكذلك أنبياء الله ورسله ـ صلوات الله عليهم ـ معصومون وكذلك الملائكة ـ صلوات
الله عليهم. واعلم أن العلامة نصيرالدين صاحب
التجريد اختار أن العصمة لا تنافي القدرة، قال
الشارح:
بل المعصوم قادر على فعل المعصيةـ وإلا لما استحق المدح على ترك المعصية ولبطل
الثواب والعقاب في حقه فكان خارجاً عن التكليف وذلك باطل بالإجماع، وبالنقل في قوله
تعالى: ]قُلْ إنّما
أنَا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ يُوحَى إليّ[ [الكهف/110]
هذا
نص شارح التجريد العلامة الحلي وهو كلام جيد يوافق كلام أئمتنا المذكور سابقاً، هذا
ونسأل الله الهداية والتوفيق والعصمة والتسديد وصلى الله وسلم على سيدنا محمد
وآله.
السؤال
الثالث متى
نشأ مذهب الإثنى عشرية؟ وما السبب في إنشائه؟ الجواب:
أن
فِرَقَ الشيعة كثيرةٌ، وقد عدَّها علماء المقالات ولسنا نعتمد نقل خصوم الشيعة
كالشهرستاني وابن حزم وغيرهما لمكان العداوة والمجازفة وعدم التحري، ولكنا نعتمد
رواية أئمتنا وشيعتهم، ونقدم ما حكاه الفقيه العالم شيعي آل محمد، محمد بن الحسن
الديلمي ـ رحمه الله ـ في كتابه المشهور:( قواعد عقائد آل محمد ـ صلوات الله عليهم
ـ) بعد أن ذكر الإمامية فقال:
إنما
سموا إمامية لإلتزامهم بالإمام وقولهم أن الأمور الدينية كلها إلى الإمام، وأن
الإمام بمنزلة النبي ولا بد في كل وقت من إمام، وأنه يُحْتَاجُ إليه في جميع أمور
الدنيا والدين، وسموا رافضة لرفضهم زيد بن علي ـ uـ
وهم فرق كثيرة إلى ثمانية عشر فرقة، إلى أن
قال:
والقطعية فهم الذين قالوا الأئمة إثنا عشر وبالنص الجلي عليهم، إلى أن
قال:
قيل:
أن ابتداء مذهبهم وضعه المأمون وقرر في نفوس الناس أن الإمام واحد معصوم يُنَفِّر
الناس بذلك عن من خرج من أهل البيت ـ عليهم السلام ـ وكان يقول رأيي في صرف الناس
عن طريق المحبة خير من رأي آبائي في قتلهم. وقال السيد
العلامة عبدالصمد الدامغاني
في رسالته ( الجوهرة الخالصة عن الشوائب) وهو يتكلم على تعداد ما نقم على الإمامية
الإثنى عشرية، فقال: فمنها أن أهل كتب المقالات إتفقوا على أنهم لم يأخذوا مذهبهم
عن أئمتهم ولا عن الثقات، وإنما هو موضوع مصنوع من المنصور أبي الدوانيق من بعد أن
قتل جماعة من فضلاء العلوية منهم: محمد بن عبدالله النفس الزكية وأخاه إبراهيم بن
عبدالله في عدة من الذرية الطاهرة فظن أبو الدوانيق أنه لا يزال يخرج عليه من
العلوية قائم بالخلافة إلى أن
قال:
ورأى جماعة ينكرون قيام القائم بالإمامة ويعتقدون أن إمامها منصوص عليه، وأنه غائب
عنها، وهم الكيسانية فلاحت له الحيلة فأعملها في جماعة من أصحابه، وبعث إلى الأقطار
التي يظن أن فيها من جهال الشيعة من تطرأ عليه الشبهة وأمر ببث هذا المذهب فيهم ولا
يشعرون أنه حيلة وصنع لهم نسخة وجعلها مع بعض أتباعه وأمرهم بإظهار التشيع وإلقائها
إلى جهال الشيعة ومضمون ما في النسخة: أن بني إسرائيل كان لهم إثنى عشر نقيباً وأن
جبريل نزل بلوح فيه أسماء الخلفاء على الأمة، وأنهم إثنا عشر بعد محمد صلى اللّه
عليه وآله وسلم فقد مضى منهم خمسة إلى جعفر بن محمد الصادق، وهذا جعفر سادسهم
لَمَّا علم أن جعفراً متزهد لا يقوم بالخلافة فالستة الباقون من ولده فاعتقد الجهال
منهم ذلك المذهب، ولما سمع به جعفر الصادق أنكر على الشيعة فأبوا وقالوا:
إن
جعفراً ينكر علينا تقية على نفسه فاستمروا على ذلك وكل من يزعم الخلافة من العلوية
بعد هذا يكونون أعداء الأعداء له وأحرص الناس على إتلافه وأخذل الناس له لإعتقادهم
أن النص على غيره ...إنتهى. قلت:
ولا مانع من حمل الراويتين على الصحة وعدم التدافع إذ يمكن أن أبا جعفر هو الفاتح
لهذه الفكرة، وأن المأمون قواها لما ضعفت وطال عليها الأمد فهو مجدد لفكرة جده مع
أن أبا جعفر يمكن أنه إنما قوى هذه الفكرة وهي متقدمة، لأن الكيسانية كانت من مدة
محمد بن الحنفية، وفي رواية الهادي ـ uـ
ورواية المقريزي أن حدوث مذهب الإمامية بدأ عندما رفضوا بيعة زيد بن علي بحجة أن
جعفراً هو الإمام كما سيأتي قريباً إنشاء الله.. ويكفي أن
نقول:
أنه مذهب محدث لم يقل به أحد من أئمتهم المنتسبين إليهم وهذا الوجه كافٍ في حدوثه
وفي مجموع الإمام الأعظم الهادي إلى الحق يحيى بن الحسين بن القاسم ـ صلوات الله
عليه ـ من الكتاب برسم مكتبة اليمن الكبرى صفحة(220) (ص/90/ط/دار الحكمة) قال:(
وفيه عن محمد بن علي بن الحسين باقر العلم أن قوماً وفدوا إليه،
فقالوا:
ياابن رسول الله إن أخاك زيداً فينا وهو يسألنا البيعة أفنبايعه؟ فقال لهم
محمد:
بايعوه فإنه اليوم أفضلنا. وعنه أيضاً أنه اجتمع زيد ومحمد في مجلس فتحدثوا ثم قام
زيد فمضى فأتبعه محمد بصره، فقال له: لقد أنجبت أمك يا زيد، وفيه ما قال جعفر بن
محمد الصادق ـ رحمة الله عليه ـ لما أراد زيد الخروج إلى الكوفة من المدينة قال له
جعفر: أنا معك يا عم، فقال له زيد: أوما علمت ياابن أخي أن قائمنا لقاعدنا وقاعدنا
لقائمنا، فإذا خرجت أنا وأنت فمن يخلفنا في حرمنا، فتخلف جعفر بأمر عمه زيد، وعن
جعفر أيضاً لما أراد يحيى بن زيد اللحوق قال له ابن عمه جعفر: إقرئه عني السلام،
وقل له إني أسأل الله أن ينصرك ويبقيك ولا يرينا فيك مكروهاً، وإن كنت أزعم أني
عليك إمام فأنا مشرك، وعنه أيضاً لما جاءه خبر قتل أبي قرة الصقيل بين يدي زيد بن
علي تلى الآية: ]ومَنْ
يَخْرُجْ مِنْ بَيْتِهِ مُهَاجِراً إِلَى اللهِ ورَسُولِهِ ثُمَّ يُدْرِكُهُ
الْمَوتُ فقَدْ وَقَعَ أجْرُهُ عَلَى اللهِ[ [النساء/100]
فرحم
الله أبا قرة، وعنه أيضاً لما جاءه خبر قتل حمزة بين يدي زيد بن علي تلى هذه الآية
]رِجَالٌ
صَدَقُوا مَا عَاهَدُوْا اللهَ علَيْهِ فَمِنْهُمْ مَنْ قَضَى نَحْبَهُ ومِنْهُمْ
مَنْ يَنْتَظِرُ ومَا بَدَّلُوا تَبْدِيْلاً[ [الأحزاب/23]
وعنه لما جاءه خبر قتل عمه زيد وأصحابه قال:
ذهب والله زيد بن علي كما ذهب علي بن أبي طالب والحسن والحسين وأصحابهم شهداء إلى
الجنة التابع لهم مؤمن والشاك فيهم ضال والراد عليهم كافر، وإنما فرق بين زيد وجعفر
قوم كانوا بايعوا زيد بن علي، فلما بلغهم أن سلطان الكوفة يطلب مَنْ بايع زيداً
ويعاقبهم خافوا على أنفسهم فخرجوا من بيعة زيد ورفضوه مخافة من هذا السلطان ثم لم
يدروا بما يحتجون على مَنْ لامهم وعاب عليهم فعلهم، فقالوا بالوصية، فقالوا: كانت
الوصية في علي بن الحسين إلى ابنه محمد ومن محمد إلى جعفر ليموهوا به على الناس
فضلوا وأضلوا كثيراً وضلوا عن سواء السبيل اتبعوا أهواء أنفسهم وآثروا الدنيا على
الآخرة وتبعهم على قولهم من احب البقاء وكره الجهاد في سبيل الله، ثم جاء قوم من
بعد أولئك فوجدوا كلاماً مرسوماً في كتب ودفاتر فأخذوا بذلك على غير تمييز ولا
برهان بل كابروا عقولهم ونسبوا فعلهم هذا إلى الأخيار منهم من ولد الرسول صلى اللّه
عليه وآله وسلم إلخ.. (ص/91/ط/دار الحكمة). هذه رواية
الهادي إلى الحق ـ
uـ
وهو الصادق في روايته والأمين في نقله، قد روى عن الباقر والصادق ـ عليهما السلام ـ
خلاف ما تدعيه الإمامية لهما وهما مصرحان بإمامة زيد بن علي ـ uـ
وأوضح بدء مذهب الإمامية وأنه لا سلف لهم، وأنهم لم يستندوا في مذهبهم هذا إلى أحد
من أئمتهم، وإنما أحدثوه على جهة التحيل والفرار من ملامة من لامهم، وقد أتينا على
ما أردناه من جواب هذا السؤال وفيه كفاية ومقنع، ]ومَنْ لمْ
يَجْعَلِِ اللَّهُ لَهُ نُوْرَاً فمَالَهُ مِنْ نُوْرٍ[ [النور/40]
وصلى الله وسلم على سيدنا محمد وآله.
السؤال
الرابع مَنْ هم أهل البيت المعنيون بقوله صلى
اللّه عليه وآله وسلم: ((إنِّي تارك فيكم ....)) الحديث؟ الجواب والله الهادي:
إنا نتكلم في مطالب بها يتضح الجواب وباتضاحها يتبين الحق
المطلب
الأول في معنى العترة لغة وشرعاً وعرفاً فنقول: إن العترة
لغة: هم
أولاد الرجل، قال في صحاح الجوهري: عترة الرجل نسله ورهطه الأدنون، قال شيخنا
حجة الله على عباده مولانا مجدالدين بن محمد بن منصور المؤيدي
-نفع
الله بعلومه وأسعده الله-: والعترة نسل الرجل لغة وعرفاً وشرعاً إلاَّ أنَّ الشرع
حكم بدخول أمير المؤمنين - u- في معنى عترة الرسول صلى اللّه عليه وآله وسلم قطعاً كما في أخبار
الكساء من الإشارة إليهم: بهـؤلاء أهل بيتي وعترتي وغيرهما ممالا يحصى بل هو إمامهم
وسيدهم المقدم والمقصود الأعظم بما ورد فيهم صلوات الله عليهم على العموم وقد قال
أبو بكر: علي بن أبي طالب عترة رسول الله صلى اللّه عليه وآله وسلم، لمَّا علم أنه
أعظم مقصود وأجل معهود، قال في جواهر العقدين: أخرجه الدار قطني عن معقل بن يسار
قال سمعت أبابكر يقول :علي بن أبي طالب ...إلخ. إلى
أنْ قال نعم قال المنصور بالله عبدالله بن حمزة في الشافي: ولهذا أكد حديث الثقلين
بالعترة، وهم الذرية لغة وعرفاً، أما اللغة فإنه أخذ من العتيرة وهي نبت في البادية
سمي به أولاد الرجل وأولاد أولاده، ذكره ابن فارس في المجمل. وأما العرف فمتى أطلق
لفظ العترة لم يسبق إلى الفهم إلا الأولاد دون الأقارب على أن العترة لو كانت في
الأصل هم القرابة لكان الحكم للعرف كما يعرفه أهل
المعرفة.أ.هـ. ومِمَّنْ
نَصَّ على ذلك من أئمة اللغة صاحب كتاب العين، فقال
حاكياً عن العرب:
عترة الرجل هم ولده وولد ولده، وقال ابن الأعرابي: عترة الرجل ولده وذريته وعقبه من
صلبه. قال: فعترة رسول الله صلى اللّه عليه وآله وسلم ولد فاطمة البتول.أ.هـ. فثبت
بما حكيناه أن عترة الرجل هم نسله ورهطه الأدنون لغة وعرفاً وتقرر بأحاديث الكساء
بقوله صلى اللّه عليه وآله وسلم :(( اللهم هؤلاء آلي وعترتي)) ثبوت ذلك
شرعاً. ***
المطلب
الثالث في ذكر الخبر الذي أشار إليه السائل: ((إنِّي تارك فيكم)). فأقول:
أخرج
مُسْلم عن زيد بن أرقم، قال: قام فينا رسول الله صلى اللّه عليه وآله وسلم خطيباً
فحمد الله وأثنى عليه ثم قال: ((أمَّا بعد: أيها الناس إنَّما أنا بشرٌ مثلكم يوشك
أن يأتيني رسول ربي ـ عزوجل ـ فأجيبه وإني تارك فيكم الثقلين أولهما كتاب الله ـ
Uـ
فيه الهدى والنور فتمسكوا بكتاب الله ـ عزوجل ـ وخذوا به، وحث فيه ورغب، ثم قال:
وأهل بيتي أذكركم الله في أهل بيتي... الحديث)). وأخرج الترمذي، وقال حسن
غريب:
أنَّه صلى اللّه عليه وآله وسلم قال: ((إنِّي تارك فيكم ما إن تمسكتم به لن تضلوا
من بعدي، أحدهما أعظم من الآخر كتاب الله حبل ممدود من السماء إلى الأرض وعترتي أهل
بيتي، إن اللطيف الخبير نبأني أنهما لن يفترقا حتى يردا علي الحوض فانظروا كيف
تخلفوني فيهما)) وأخرجه أحمد بمعناه ولفظه: ((إني أوشك أن أدعا فأجيب وإني تارك
فيكم الثقلين كتاب الله حبل ممدود من السماء إلى الأرض، وعترتي أهل بيتي إن اللطيف
الخبير أخبرني أنهما لن يفترقا حتى يردا علي الحوض فانظروا كيف تخلفوني فيهما))،
وأخرجه الطبراني وزاد: ((إني سألت ذلك لهما فلا تقدموهما فتهلكوا ولا تقصروا عنهما
فتهلكوا ولا تعلموهم فإنهم أعلم منكم))، وفي رواية: ((وسنتي)) وهي المراد من
الرواية المقتصرة على الكتاب لأن السنة مبيِّنة لكتاب الله فأغنى ذكره عن ذكرها،
والحاصل أن الحث وقع على التمسك بكتاب الله وبالسنة وبالعلماء من أهل البيت،
ويستفاد من مجموع ذلك بقاء الأمور الثلاثة إلى يوم القيامة، على أنه قد ورد في
أمالي أبي طالب ـ uـ
بلفظ: ((كتاب الله وسنتي وعترتي))، فجمع الثلاثة، ولفظه بسنده قال: حدثنا
أبوعبدالله أحمد بن محمد الآبنوسي البغدادي، قال: حدثنا أبو القاسم عبدالعزيز بن
إسحاق بن جعفر قال: حدثني علي بن محمد النخعي الكوفي، قال: حدثنا سليمان بن إبراهيم
بن عبيد الحارثي، قال: حدثنا نصر بن مزاحم المنقري، قال: حدثنا إبراهيم بن الزبرقان
التيمي، قال: حدثني أبو خالد الواسطي، قال: حدثني زيد بن علي عن أبيه عن جده عن علي
ـ عليهم السلام ـ قال لما ثقل رسول الله صلى اللّه عليه وآله وسلم في مرضه والبيت
غاصٌ بمن فيه قال: ((أدعوا الحسن والحسين
قال: فجعل يلثمهما حتى أغمي عليه، قال: فجعل علي uيرفعهما
عن وجه رسول الله صلى اللّه عليه وآله وسلم، قال: ففتح عينيه فقال: دعهما يتمتعان
مني وأتمتع منهما فإنهما سيصيبهما بعدي أثرة. ثم قال: يا أيها الناس إني قد خلفت
فيكم كتاب الله وسنتي وعترتي فالمضيع لكتاب الله كالمضيع لسنتي، والمضيع لسنتي
كالمضيع لعترتي، أما إن ذلك لن يفترقا حتى اللقاء على الحوض))
اهـ. فهذه
الراوية من
طريق الإمام الأعظم زيد بن علي
ـ
صلوات الله عليه ـ وهي مصرحة بالثلاثة كما ترى، وما ورد بلفظ كتاب الله وعترتي
فالكتاب والسنة واحد وما ينطق عن الهوى، والكتاب هو الأصل الذي وردت السنة مبينة له
والإحتجاج بالحديث هو أن العترة عدل الكتاب كما صرح بذلك الحديث، ولا معنى لإنكار
النواصب لفظ كتاب الله وعترتي، لتواتر هذا اللفظ وكثرة رواته ومخارجه، ومن روى
بلفظ: كتاب الله وسنتي، فهي راوية نادرة، وقد قيل إنها بلاغ ويحمل على نسيان الراوي
أو حامل نصب وبغض للعترة الشريفة أو خوف سيوف بني أمية أو غير
ذلك. والروايات
الكثيرة المتظافرة البالغة إلى حد التواتر بلفظ: ((كتاب الله
وعترتي)). واعلم:
أن
حديث التمسك متواتر معلوم الصحة، وقد تتبع بعض العلماء ـ رحمهم الله ـ عدد من رواه
من الصحابة فبلغوا إلى نيف وعشرين صحابياً، وقد أخرجه ورواه أعلام الأئمة وحفاظ
الأمة. قال شيخنا ـ نفع الله بعلومه وجزاه عن الإسلام أفضل الجزاء ـ فمن أئمة آل
محمد ـ صلوات الله عليهم ـ الإمام الأعظم زيد بن علي، والإمام نجم آل الرسول القاسم
بن إبراهيم وحفيده إمام اليمن الهادي إلى الحق يحيى بن الحسين والإمام الرضا على بن
موسى الكاظم والإمام الناصر الأطروش الحسن بن علي، والإمام المؤيد بالله، والإمام
أبو طالب، والسيد الإمام أبو العباس، والإمام الموفق بالله وولده الإمام المرشد
بالله، والإمام المتوكل على الله أحمد بن سليمان، والإمام المنصور بالله عبدالله بن
حمزة، والسيد الإمام أبوعبدالله العلوي صاحب الجامع الكافي والإمام المنصور بالله
الحسن بن بدرالدين وأخوه الناصر للحق حافظ العترة الحسين بن محمد، والإمام المهدي
لدين الله أحمد بن يحيى والإمام الهادي لدين الله عزالدين بن الحسن، والإمام
المنصور بالله القاسم بن محمد، وغيرهم من سلفهم وخلفهم، ومن أوليائهم إمام الشيعة
الأعلام قاضي إمام اليمن الهادي إلى الحق محمد بن سليمان الكوفي ـ t ـ
رواه بإسناده عن أبي سعيد من ست طرق، وعن زيد بن أرقم من ثلاث، وعن حذيفة، وصاحب
المحيط بالإمامة الشيخ العالم الحافظ أبوالحسن على بن الحسين، والحاكم الجشمي،
والحاكم الحسكاني، والحافظ أبوالعباس ابن عقدة، وأبو علي الصفار، وصاحب شمس
الأخبار، وعلى الجملة كلّ من ألف من آل محمد ـ عليهم السلام ـ وأتباعهم ـ رضي الله
عنهم ـ في هذا الشأن يرويه ويحتج به على مرور الزمان، اهـ. وقد
تركنا التعرض لذكر من أخرجه من العامة لتواتره، والثقل:
هو
كل نفيس خطير مصون، والكتاب والعترة كذلك نفيسان خطيران، إذ كل منهما معدن للعلوم
الدينية والأسرار والحكم العلية والأحكام الشرعية، ولهذا حثّ الشارع على الإقتداء
والتمسك بهما، وقيل: سميا الثقلين، لثقل وجوب رعاية حقهما، ومنه قوله تعالى:
]سَنُلْقِي
عَلَيْكَ قَوْلاً ثَقِيْلاً[ [المزمل/5]
أي له وزن وقدر، لأنه لا يؤدَّى إلا بتكليف ما يُثقل، ويسمى الإنس والجن الثقلين
لكونهما فُضِّلا على سائر الحيوان، وفي أحاديث التمسك بأهل البيت إشارة إلى عدم
انقطاع متأهل منهم للتمسك به إلى يوم القيامة، كما أن الكتاب العزيز كذلك، ولهذا
كانوا أماناً لأهل الأرض، وفي قوله صلى اللّه عليه وآله وسلم : ((انظروا كيف
تخلفوني فيهما...وأوصيكم بعترتي خيراً.... وأذكركم الله في أهل بيتي)) فإن فيها من
الحث الأكيد على مودتهم ووجوب إتباعهم ومزيد الإحسان إليهم واحترامهم وإكرامهم،
وتأدية حقوقهم الواجبة والمندوبة، كيف لا يكونون كذلك وقد قرنهم بالكتاب العزيز؟!
وأخبر أنهما لا يفترقان حتى يردا عليه الحوض، وهل هذا إلا دليل على عصمتهم ونجاتهم.
فالتابع لهم ناجٍ، وقد أكدّ ذلك بقوله: ((ولا تقدموهما فتهلكوا، ولا تقصروا عنهما
فتهلكوا، ولا تعلموهم فإنهم أعلم منكم)) فما هو عذر المخالف لهم، الزاري عليهم
والمنتقص لعلومهم؟ ومن تأهل منهم لنيل المراتب الدينية كان مقدماً على غيره،
ومفضلاً على من سواه. واعلم:
أنَّ
حديث الثقلين جامع لأشتات الفضائل لأهل البيت، وقد أشار إلى تلك المزايا والأحكام
والفضائل جمعٌ من علماء آل محمد وشيعتهم وفَصَّلوا ما اشتمل عليه من التنويه
بفضائلهم فهو يدل من حيث أوصى بهم أنهم أئمة هدى يُهتدى بهم في أقوالهم وأفعالهم
وتروكهم، ولهذا قرنهم بالكتاب وأوصى بالتمسك بهما، فهو يدل على أن الحق معهم، إذ هو
صلى اللّه عليه وآله وسلم لا يوصي ويحث الأمة على التمسك بهم إلا لأنهم على الحق،
فلو كانوا على خلاف ذلك لحَذَّر منهم كما يدل ذلك الحث على التمسك بهم أنه تعليم
ونصح للأمة على الطريق التي تنجيهم من المهالك، ولهذا قال: ((ما إن تمسكتم به لن
تضلوا)) وهو صلى اللّه عليه وآله وسلم لا ينطق عن الهوى، فعلى هذا كل من سلك غير
طريقهم فهو ضالٌّ، كما أنَّه صلى اللّه عليه وآله وسلم قرنهم بالكتاب حيث قال صلى
اللّه عليه وآله وسلم: ((لن يفترقا)) فكما أن الكتاب حق فالعترة حق، كما أن قوله
صلى اللّه عليه وآله وسلم: ((إني تارك فيكم الثقلين)) يدل على تعظيم الكتاب
والعترة، لأنه سماهم الثقلين، والثقل الشيء النفيس كما قدمنا، وفيه التنويه بذكرهم
ورفع منازلهم من حيث أن باغي الهدى وطالبه لا يجد الهدى والنور والطريق الموصلة إلى
الله إلا من كتاب الله تعالى، فكذلك العترة. واعلم:
أنَّ تلك النصوص الإلهية والإرشادات النبوية قوبلت من أكثر الأمة بالرد وجزوا نبيهم
صلى اللّه عليه وآله وسلم في عترته بخلاف ما تقتضيه النصوص، قال الهادي بن إبراهيم
ـ عليه السلام: إن علماء الإسلام ( يعني من العامة) وإن كثرت تصانيفهم ورواة علومهم
وسارت سفراء أسفارهم في الآفاق وركبت أمواج البحر، وحَدَّث بها في البر زُمرُ
الرفاق لا تجد في طائفة من الطوائف، وإمام من الأئمة حديثاً واحداً من نص رسول الله
صلى اللّه عليه وآله وسلم كما ورد في فضل أهل البيت وأتباعهم، وكما جاء في نجاة
شيعتهم وأتباعهم، وإنما أُتيَ الناس في عدم إتباع العترة النبوية من ولاة السوء
وسلاطين الجور وأئمة الضلال، فإن العترة النبوية لم تزل مظلومة مدحورة وخائفة
مترقبة بين قتيل وطريد، وأسير وفقيد، وكان الواحد من علماء العترة النبوية إذا
اشتهر بعلم وفضل يُصاح بالبراءة منه وممن آواه، كما فعل بالقاسم بن إبراهيم ـ
uـ
وأشباهه من الأئمة الأعلام، ولم تزل الأرض بدمائهم منذ قتل أميرالمؤمنين وسيد
الوصيين علي بن أبي طالب ـ uـ
بُدىءَ به وثُنيَّ بالحسن ـ uـ
فإنه في حكم المقتول، وإن مات مسموماً، وثُلِّث بالحسين ـ uـ
وقُطعَ رأسه وعُرِّي عن جسده لباسه، ونكتت ثناياه بالقضيب وخَضَبَ سيفُ الظلم من
دمه فهو خضيب، وصلب زيد بن علي كما يصلب الملحد، وسميت خلافته وقيامه لله تعالى
فساداً في الدين إلى آخر كلامه في هداية الراغبين. وقال
القاضي شمس الدين جعفر بن أحمد ابن أبي يحيى رضوان الله عليه: ونحن نعلم أن النبي صلى
اللّه عليه وآله وسلم لم يكن ليترك الناس في جهالة من أمرهم وحيرة من سُبلِهم مع
أنه بُعِثَ مُبيناً لسبيل النجاة فاصلاً بين الحق والباطل، مميزاً بين الصحيح
والسقيم :]لِيَهْلِكَ
مَنْ هَلَكَ عَنْ بَيِّنَةٍ وَيَحْيَى مَنْ حَيَّ عَنْ بَيِّنَةٍ وإنَّ اللهَ
لَسَمِيْعٌ عَلِيْمٌ[ [الأنفال/42]
فقضينا
لذلك أنه صلى اللّه عليه وآله وسلم لا بد أن يكون قد أقام على سبيل النجاة برهاناً
صحيحاً وعلماً بيناً ليتمكن من الوصول إلى النجاة من أرادها، ويجد السبيل إلى
السلامة من قصدها، ووجدنا أهل المذاهب المختلفة من أمته والمقالات المتباينة من أهل
ملته يروون عنه صلى اللّه عليه وآله وسلم أنه قال:(( مثل أهل بيتي كسفينة نوح من
ركبها نجى، ومَنْ تخلَّف عنها غَرِقَ))، فعلمنا أنه صلى اللّه عليه وآله وسلم قد
بيَّن لأُمته بذلك أنَّ اتِّباع أهل بيته هو طريقة النجاة، وأن مخالفتهم هي سبب
الهلاك، لأنه لمَّا مثلهم بسفينة نوح، وقد علمنا أن أمة نوح هلكت كلها إلا مَنْ ركب
السفينة، علمنا أن أمته يهلكون إلا مَنِ اتِّبع أهل بيته، وأن الملتزم بطريقة غيرهم
من الفقهاء الذين خالفوا طرائقهم لا ينجو مع الناجين، كما أن أمة نوح ـ
uـ
لم ينج منهم مَنِ التجى إلى غير السفينة، وفي هذا دلالة مقنعة على أن إتباع أهل
البيت هو الواجب الذي لا رخصة فيه، واللازم الذي لامحيص عنه، والسبب الذي لا نجاة
إلا به، ..إلخ. كلامه ـ tـ
. رواه عنه الهادي بن إبراهيم ـ رحمه الله ـ في كتاب هداية الراغبين وبهذا الكلام
يتم الجواب عن هذا السؤال. وصلى الله على سيدنا محمدٍ وآله.
المطلب
الثاني في بيان معنى الآل لغة وشرعاً: قال في
لسان العرب لابن منظور:
وآل الرجل أهله..أهـ. وقال في
مختار الصحاح:
آل الرجل أهله وعياله، وآله أيضاً أتباعه..اهـ. وآل رسول الله صلى اللّه عليه وآله
وسلم هم عدول أهل بيته. وأهل بيته عندنا هم علي وفاطمة والحسن والحسين وذرية
الحسنين لحديث الكساء، وهو يقتضي الحصر والقصر وسنوضح ذلك. وذهب إلى هذا من
المعتزلة أبوعبدالله البصري والقاضي عبدالجبار بن أحمد وذهب قوم إلى أنهم بنو هاشم
وبنوا المطلب لحديث حل الخمس لهم، وذهب قوم إلى أنهم بنو هاشم لحديث: ((لا تحل
الصدقة لمحمد ولا لآل محمد))، وذهب قوم إلى أنهم زوجات النبي صلى اللّه عليه وآله
وسلم لآية التطهير، وهي متوسطة بين ما نزل فيهن، والحجة لما ذهب إليه أهل البيت من
أن الآل هم علي وفاطمة والحسنان ومن انتسب بأبيه إلى الحسنين إلى انقطاع التكليف
حديث الكساء، وهو مخرج من طرق كثيرة وبألفاظ متقاربة منها برواية واثلة بن الأسقع،
قال:
طلبت علياً ـ uـ
في منزله، فقالت فاطمة ـ عليها السلام ـ ذهب يأتي برسول الله صلى اللّه عليه وآله
وسلم
قال:
فجاءا جميعاً فدخلا فدخلت معهما، فأجلس علياً ـ uـ
عن يساره وفاطمة عن يمينه والحسن والحسين ـ عليهم السلام ـ بين يديه، ثم التفع
عليهما بثوبه، ثم قال: ]إنَّما يُرِيدُ اللهُ لِيُذْهِبَ عَنْكُمُ الرِّجْسَ أهْلَ
البَيْتِ ويُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيْرَاً[ [الأحزاب/33]
اللهم هؤلاء أهلي اللهم أهلي أحق فقلت من ناحية البيت: وأنا من أهلك يا رسول الله.
قال: وأنت من أهلي. قال واثلة: فذلك أرجى ما أرجو من عملي)) أخرجه الإمام المرشد
بالله ـ uـ
بسنده، وأورده الإمام المنصور بالله. القاسم ابن محمد ـ uـ
في الإعتصام نقلاً عن الأمالي، وفي الأمالي عن ابن عباس وفيها عن عمر بن أبي سلمة،
قال: نزلت هذه الآية على رسول الله صلى اللّه عليه وآله وسلم: ]إنَّما
يُرِيْدُ اللهُ لِيُذْهِبَ عَنْكُمُ الرِّجْسَ أهْلَ البَيْتِ ويُطَهِّرَكُمْ
تَطْهِيْراً[ قال: فدعا رسول الله صلى اللّه عليه وآله وسلم بفاطمة والحسن
والحسين فأجلسهم بين يديه، ودعا بعلي فأجلسه خلف ظهره ثم جللهم بالكساء، فقال:
((اللهم هؤلاء أهل بيتي فاذهب عنهم الرجس وطهرهم تطهيراً، قالت أم سلمة يا رسول
الله اجعلني منهم. قال: أنتِ مكانك وأنت على خير)) ولكثرة طرق الحديث وكثرة مخرجيه
من علماء الأمة وحفاظها فلا نطيل البحث بكثرة النقل، ونقول ما
قاله شيخنا وشيخ مشائخنا المولى: مجدالدين بن محمد بن منصور ـ
أسعده الله ونفع بعلومه ـ هذا واعلم
أنَّ الأربعة علياً وفاطمة والحسنين وذريتهم ـ صلوات الله عليهم ـ مرادون بجميع ما
ورد في آل محمد وأهل البيت والعترة قطعاً لغةً وعرفاً وشرعاً، وأخبار الكساء
المتواترة المعلومة المتكررة مصرحة بالحصر والقصر عليهم وإخراج من عداهم ممن يتوهم
دخوله معهم، ثم
قال
حفظه الله ونفع بعلومه: وقد لخص البحث
في أخبار الكساء من هذا الوجه الإمام الناصر الأخير عبدالله بن الحسن ـ
uـ
في الأنموذج الخطير ولفظه: وقد دل الحديث على تخصيص علي وفاطمة والحسن والحسين
وإخراج غيرهم من الموجودين في ذلك الوقت من وجوه، الأول: أنه دعاهم دون غيرهم ولو
شاركهم غيرهم في كونه من أهل البيت ـ عليهم السلام ـ لدعاه. الثاني:
اشتماله عليهم بالكساء دون غيرهم ليكون بياناً بالفعل مع القول.
الثالث:
أنه قال:((اللهم إن هؤلاء أهل بيتي)) مؤكداً الحكم بإنَّ. الرابع:
تعريف المسند إليه بالإشارة الذي تفيد تمييزه أكمل تمييز كما يعرفه علماء
المعاني. والخامس:
أنه أتى بالجملة مكررة للتأكيد ليرفع توهم دخول الغير كما هو شأن التأكيد اللفظي
عند أهل اللغة. السادس:
دفعه لأم سلمة ـ رضي الله عنها ـ بأن قال لها:((مكانك أنت على خير)) وفي بعض
الأخبار : لست من أهل البيت أنت من أزوج النبي...إلخ.أهـ. قلت:
فصح بما ذكرنا من الأدلة القاطعة أن أهل البيت هم الأربعة وذريتهم، وفي أحاديث
الكساء رد على من زعم أن أهل بيته هم الزوجات رداً صريحاً بقوله صلى اللّه عليه
وآله وسلم: ((لست منهم)) وبالحصر والقصر فيمن ضمه الكساء وفيه رد على من زعم أنهم
الأتباع أو أنهم بنوهاشم أو بنوهاشم وبنو عبد المطلب، وإذا كان صلى اللّه عليه وآله
وسلم قد أخرج من عدا الأربعة من الموجودين في زمنه صلى اللّه عليه وآله وسلم من
زوجات وأقارب وأباعد فيدخل في مسمى أهل البيت ذرية الأربعة لأدلة كثيرة منها حديث
الثقلين الذي أورده السائل بلفظ:((لن يفترقا حتى يردا علي الحوض))، ومنها حديث
النجوم ولو لم يكن أهل البيت إلا الأربعة لكان قد أتى أهل الأرض ما يوعدون، وحديث
((النجوم أمانٌ لأهل السماء وأهل بيتي أمانٌ لأهل الأرض)) من الإختلاف فإذا خالفتها
قبيلة من العرب اختلفوا فصاروا حزب الشيطان. قال شيخنا ـ
أسعده الله ـ هو في ذخائر العقبى، وقال: أخرجه الحاكم، وقال الحاكم في المستدرك:
صحيح الإسناد، وحديث: ((مثل أهل بيتي في أمتي كالنجوم كلما أفل نجم طلع نجم)) ومثل
أحاديث المهدي بلفظ: من ولدي، وفي بعضها بلفظ: من أهل بيتي، ولفظ الترمذي وصححه عن
أبي هريرة، قال: قال رسول الله صلى اللّه عليه وآله وسلم : ((لولم يبق من الدنيا
إلا يوم لطول الله ذلك اليوم حتى يلي رجل من أهل بيتي يواطيء إسمه
اسمي))...أهـ. وفي
مسند الفردوس للديلمي بلفظ: ((المهدي من ولدي....الحديث)). وهو مروي عن حذيفة
مرفوعاً، ومن أخبار الثقلين ما أخرجه أحمد ومسلم: ((فخذوا بكتاب الله واستمسكوا به
وأهل بيتي أذكركم الله في أهل بيتي))..اهـ. قال شيخنا
نفع الله بعلومه وأسعده في الدارين:
وإجماع الأمة على كونهم أعني ذرية الخمسة آل الرسول وأهل البيت، وإنما الإختلاف في
إدخال غيرهم معهم والأدلة القاطعة كما تقدم تقضي بعدم المشاركة لهم كما
سبق..اهـ. وقد رد
أئمتنا ـ
عليهم السلام ـ على تفسير زيد بن أرقم لأهل البيت بآل علي وآل عباس وآل جعفر وآل
عقيل بما فيه مقنع كما في الشافي للإمام المنصور بالله عبدالله بن حمزة ـ رضوان
الله عليه ـ وغيره من كتب الآل، وردوا على من قال بأنهم الأتباع بآية المودة وأخبار
الكساء وأخبار الثقلين، فلو كان الآل هم الأتباع لكان الأمر من الله تعالى ورسوله
صلى اللّه عليه وآله وسلم ضايعاً لا معنى له فمن المتروك ومن المتروك فيهم ومن
المتمسك ومن المتمسك بهم، وأخبار السفينة فمن المشبه ومن المشبه براكبها، وبأحاديث
تحريم الزكاة على محمد وآله فلو كان يعم الأتباع لحرمت الزكاة على كل
المسلمين.
السؤال
الخامس ما هو الدليل على أن الإمامة جائزة في غير
الإثني عشر؟ وما الرد على من حصرها في الإثني عشر، بما ورد في كتب أهل
السنة ما معناه: أن الأئمة من قريش إثني عشر؟..أهـ. أقول
إنا نتكلم في جواب هذا السؤال في مطلبين: الأول:
في إبطال بعض ما احتج به الإمامية من الحجج. الثاني:
في ثبوت الإمامة وصحتها فيمن قام ودعا من أولاد الحسنين، وأنها محصورة فيهم وعلى
المطلب الأول اعلم:
إن الإمامية أدّعت أن الإمامة في اثني عشر إماماً نصوا عليهم بإسمائهم وأعيانهم،
وقد تقدم تعدادهم. أما
علي وولده الحسن وولده الحسين عليهم السلام فنحن نقول: بالنص عليهم، وأما من عداهم
مِمَّنِ ادَّعتِ الإمامية النص عليه، فسنتكلم إنشاء الله على بعض ما ادعوه، فإذا
بطل قولهم تعين الحق مع غيرهم، ثم نوضح الدلالة على قولنا. إذا عرفت هذا فاعلم:
أنَّ الإمامية الإثني عشرية لهم شبهٌ قد لفقوها وادعوا أنها حجج قاطعة على دعواهم
حصر الإمامة في التسعة بعد أميرالمؤمنين وولديه السبطين، وادعوا عصمة كل واحدمن
التسعة، وادعوا شروطاً في الإمام ليس عليها دليل من كتاب ولا سنة، وقد استعرضت مؤلف
العلامة عبدالله شبر المسمى (حق اليقين) وقد سلك مسالك إرتضاها في نظم الأدلة،
وقدَّم الأدلة العقيلة على وجوب نصب الإمام، وثنَّي على العموم بالأدلة النقلية
وبعدها تكلم على شرائط الإمام وبين طريق معرفته وصرَّح أن نصب الإمام واجبٌ على
الله تعالى، وفي إطلاق الوجوب على الله تعالى نظر، لأن المختار أن ذلك لا يجوز على
الله تعالى، لما فيه من الإيهام، وقد أطلقه بعض المعتزلة في قولهم:
أنه يجب على الله ستة أشياء اللطف والعوض والإنتصاف للمظلومين من الظالمين وقبول
توبة التائبين والإثابة للمطيعين والتمكين للمتمكنين، ولا شكَّ أن إطلاق الوجوب على
الله يوهم أنه تعالى مكلَّف، ولا شك أن ذلك لفظ حادث مبتدع لم يكن في العصر النبوي،
ولا أطلقه النبي صلى اللّه عليه وآله وسلم ولا صحابته ولا التابعون ولا الأئمة من
آل محمد ـ صلوات الله عليه وآله ـ فتجنب مثل هذه العبارة الموهمة أولى، ومن الخطأ
استدلالهم على تعيين أئمتهم بالعقل، فإن العقل لا هداية له إلى وجوب الإمامة على
التفصيل فكيف يدل العقل على إمامة أشخاص. قال الإمام
المنصور بالله عبدالله بن حمزة في كتاب العقد الثمين:
وأصول مذهبهم أن الإمامة تجب عقلاً، وأن الحاجة إلى الإمام ماسة في الدين والدنيا،
وأنه بمنزلة اللطف، ومنهم من قال بمنزلة التمكين، ومنهم من قال بمنزلة المسهل،
ومنهم من قال مُنّبِّه، ومنهم من قال مبين، ولا يجوز تعري العقلاء منهم عن التكليف
في دار الدنيا والتكليف مداره على الإمام كما قدمنا، وهم لا ينازعوننا أنه لا إمام
موجود يشافهه المكلفون ويراسلونه من ثلاث مائة وأربعين سنة( يعني من تاريخ موت
الحسن بن علي العسكري إلى زمن المنصور بالله المؤلف) فلا يخلو إما أن التكليف ساقط
عن المكلفين من ذلك اليوم إلى يومنا ولا قايل به، وإما أن التكليف يحسن مع فقد
اللطف والتمكين والتسهيل والتبيين على قيد إختلاف قولهم فيه، وهم لا يقولون بذلك،
والدليل يمنع منه ولأنهم لم يجعلوه بمثابة اللطف والبيان إلى سائر ما قالوهُ إلا
ليبينوا إمامته للزوم الحاجة إليه، ولأن الله تعالى يجب عليه إزاحة علة المكلف
ليلزمه أحكام التكليف ويحسن وهو قادر على ذلك كما في عصمة الأنبياء قبل التبليغ حتى
يلزمهم به الحجة ولله الحجة البالغة، فلو عاقها عايق لكانت قاصرة، ولم تكن بالغة
اهـ. ثم إنا
نقول لهم:
وما هو دليكم على قولكم أنه محتاج إلى الإمام في العقليات؟ وما هي حجتكم على ذلك،
فهم لا يجدون إلى ذلك سبيلاً، وكل ما لا دليل عليه وجب القضاء بنفيه، ولأن المعلوم
بين العقلاء لا يختلفون فيه أن العقل حجة مستقلة لا تفتقر إلى الإمام وهو مستقل في
تحصيل العلوم العقلية، وللإجماع منا ومنهم أن التكليف لازم لكل مكلف في غيبة الإمام
ولا قايل بسقوطه عن العقلاء إذا غاب الإمام. وأمَّا
قولهم:
أنَّ الإمام لطف، لأن المكلفين يكونون مع وجوده أقرب إلى القيام بما كلفوه كما يعرف
من حال الرئيس في الدنيا، فيقال لهم: وما هو الدليل على ذلك، لأن اللطف غيب والغيب
لا يعلمه إلا الله، ولأنه لو كان لطفاً لكان الطريق إلى العلم به معلوماً ليتمكن كل
مكلف من العلم به كما قالوا في الألطاف التي أثبتوها وقالوا أنها تجب على الله
تعالى. وقولهم:
أن الأمة أقرب إلى القيام بما كلفوه مع وجوده،
فنقول:
المعلوم أن إمامهم في غيبته المعلومة عندهم، فهل يحصل اللطف مع غيبته، ثم
نقول:
هل هو لطف في نفي المعاصي الظاهرة التي يتمكن من إزالتها، أم هو لطف في نفي المعاصي
الظاهرة والباطنة، فإن قالوا: هو لطف في نفي جميع المعاصي، فالمعلوم خلافه، فإن
المعاصي وقعت في حياة النبي صلى الله عليه وآله وسلم من تكذيبه صلوات الله عليه
وعبادة الأصنام وغير ذلك، وإن
قالوا:
بل هو لطف في نفي المعاصي الظاهرة، قلنا لهم: فهل كان منه الدعا والخروج لمباينة
الظالمين ومجاهدة الباغين، والحال أنه لم يقع شيءٌ من ذلك، بل الأمر ظاهر في أئمة
الزيدية فهم الذين أخافوا الظالمين وباينوهم وجاهدوهم وأقلقوا
مضاجعهم. أما قولهم:
كم رأينا من أهل العقل والتدبير ينصبون والٍ في قرية ثم يتبين لهم خطأهم في ذلك
فيغيرونه فكيف تفي العقول الناقصة بتعيين رئيس عام على جميع الخلائق في جميع أمور
الدين والدنيا، فالعصمة شرط إلخ. فنقول:
وما هو الدليل الشرعي على عصمته فإنكم لن تجدوا إليه سبيلاً في غير الوصي وولديه
صلوات الله عليهم، وإنما هذه دعوى منكم فقط، وأما العقل فلا يحكم بذلك، وهم يزعمون
عصمته لأنه مبلغ لأحكام الشريعة فما لم يكن معصوماً لم يقطع بصحتها، ومن المعلوم أن
هذا فاسد، لأن الشريعة قد بلغها رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فلا نحتاج إلى
عصمة غير عصمة رسول الله المبلغ المأمون على الوحي، والأحكام ضربان ضروري يجب العلم
به يحصل بالتواتر، وظني يكفي فيه خبر الآحاد والعمل فيه بغالب
الظن. وأما قولهم:
أن الإمام حافظ للشريعة، فنقول:
إن الله تعالى تولى حفظها، فأصولها معلومة ضرورة، وفروعها مبنية على أصولها، ولو
كان الإمام حافظاً للشرع كما ذكروا ولا يحفظ إلا به، لما جاز أن يغيب عنا طرفة عين،
لأن من حق الحافظ أن يكون حاضراً غير غائب، وإن قالوا: أنه حافظ للشريعة من الغلط
فإن أرادوا أنه حافظ للأصول. فنقول:
أن الأصول محفوظة وقد حاطها الله وحفظها بمن قرنهم بكتابه، عترة رسوله صلى الله عليه وآله وسلم من
الأئمة عليهم السلام وغيرهم من علماء الإسلام، وإن قالوا: إنه حافظ للفروع
فالإمامية أكثر الناس اختلافاً في الفروع. وأما قولهم:
أن الإمام يجري مجرى البيان، فنقول:
إن البيان لا يجوز تأخيره عن وقت الحاجة، وإمامكم قد مرت العصور وتوالت الدهور وهو
في الغيبة مستور، فكيف ينزل منزلة البيان، فلما لم يوجد علمنا أنهليس بمنزلة
البيان، ونقول لهم: هل هو بيان في الأحكام الشرعية التي بلغها رسول الله صلى الله
عليه وآله وسلم أو في غيرها، إن كان فيها فقد تولى الله تعالى بيانها على أبلغ
الوجوه بأدلة العقل والسمع، وإن كان بياناً لغير ما علمنا فتكليف لم يصلنا ففرضه
ساقط عنا، وأعجب من هذا اشتراطهم ظهور المعجز على الإمام كما صرح به الطوسي في
التجريد، وصرح به شبر في حق اليقين، فهذا مما لا دليل عليه، وإثبات مالا دليل عليه
يفتح باب الجهالات ويؤدي إلى اعتقاد الأمور المنافية وكون الحق باطلاً والباطل
حقاً، ثم
نقول:
هل ظهرت معجزات هؤلاء الأئمة كظهور معجزات النبي صلى الله عليه وآله وسلم أم
اختصصتم بعلمها أنتم فقط، فإن
قالوا:
بالأول أحالوا، وإن قالوا بالثاني، قلنا: إذا لم يظهر للمكلفين لم يجب العلم بها،
وما هي فائدة ظهور المعجز على يد الإمام، هل لأجل التصديق، أم لأجل علو شأن الإمام،
فإن كان الأول لزم في كل صادق أن يظهر له معجزة لتصديقه، والمعلوم خلافه، وإن كان
الثاني وجب مثل ذلك في المؤمنين لعلو شأنهم عند الله، أو أنها تظهر لأجل الأحكام
فكان يجب ظهوره للقضاة والأمراء، أو أنها تظهر للإمام لأنه مبتدٍ لشريعة جديدة فذلك
باطل، لأن شريعته صلوات الله غليه وآله غير منسوخة بالإجماع، وأما دعواهم أن إمامهم
يعلم الغيوب فدعوى ظاهرة البطلان، فالأدلة العقلية لا تدل على شيءٍ من ذلك، والأدلة
السمعية تبطل دعواهم، قال الله تعالى: ]قُلْ لا
يَعْلَمُ مَنْ فِي السَّمَوَاتِ الأرضِ
الغَيْبَ
إلاَّ اللهُ[ [النمل/65]،
وقال تعالى معلِّماً لنبيه صلى الله عليه وآله وسلم: ] وَلَو كُنْتُ
أعْلَمُ الغَيْبَ لاسْتَكْثَرْتُ مِنَ الْخَيْرِ ومَا مَسَّنِيَ
السُّوْءُ[ [الأعراف/188]
لأن
رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أعظم حالاً وأرفع شأنا من غيره لم يدع ذلك لنفسه
وولا من الولاة من ظهرت خيانته فإن كان ولاهم وهو يعلم أنهم كذلك فقد خان الله
وحاشاه صلى الله عليه وآله وسلم، وإن كان لا يعلم ذلك إلا بعد انكشاف الخيانة فهو
المطلوب ألم يول خالد بن الوليد يوم الغميصاء فقتل بني جذيمة فقال صلى الله عليه
وآله وسلم: ((اللهم إني أبراء إليك مما فعل خالد)) وبعث علياً uليدي
القتلى ويبريء ذمته صلى الله عليه وآله وسلم، وولى الوليد بن عقبة فرجع وكذب على
القوم إلى غير ذلك مما يطول شرحه فلو كان يعلم الغيب لما
ولاهم. وأما
إستدلالهم بالأدلة النقلية فاعلم
أن
العلامة شبر سرد الأدلة العامة من الكتاب العزيز، ونحن نتعرض للرد علي بعض
المواضع. قال: الدليل
الثالث:
الآيات المتظافرة، والأخبار المتواترة الدالة على أن الله تعالى بيَّن كلّ شيءٍ في
كتابه، كقوله تعالى: ]مَا فرَّطْنا
فِي الكِتَابِ مِنْ شَيْءٍ[، [الأنعام/38]
]ونزَّلْنَا
عَلَيْكَ الكِتَابَ تِِبْيَاناً لِكُلِّ شَيْءٍٍ[ [النحل/89]
وآية الإسراء وآية الأنعام. قال:
ومن المعلوم بالوجدان فضلاً عن البرهان أن عقول الخلق لا تفي بذلك، فلا بد أن يكون
الله تعالى قد جعل أحداً يعلم جميع ذلك ويرجع إليه الخلق
...إلخ. فنقول:
هل ذلك العلم الذي حصل لإمامكم بتعليمٍ أم حصل له بأن جعله الله مطبوعاً على العلم،
فإن كان حصل له بتعلم فهل حصل له من علماء زمانه من أهل بيته وغيرهم، ومن تعلم منه
يتصل علمه بالنبي صلى اللّه عليه وآله وسلم فعلمه كعلمهم. فإنْ
قلتم:
حصل له العلم بالطبع. فنقول:
هل هو عالمٌ لذاته، فتلك من صفات الباري ـ جل وعلا ـ التي لا يشاركه فيها مشارك،
وكيف يجوز ذلك في أحدٍ سواه، وقد أمر نبيه صلى اللّه عليه وآله وسلم أن يقول:
]قُلْ لا
يَعْلَمُ مَنْ فِي السَّمَوَاتِ والأرْضِ الغَيْبَ إلاَّ اللهُ[ [النمل/65]
فنفى بذلك علم الغيب عن غيره، وأمر نبيه بالإعتراف بالقصور عن نيل ذلك، وهو صلى
اللّه عليه وآله وسلم أعظم حالاً وأرفع شأناً، فقال عز قائلاً: ]ولَوْ كُنْتُ
أعْلَمُ الغَيْبَ لاسْتَكْثَرْتُ مِنَ الْخَيْرِ[ [الأعراف/188]
وإن أرادوا أنه خلقه عالماً بجميع المعلومات فذلك مستحيل لأنه إذا استحال علمه
لذاته كان لا بد من أمر لأجله علم. وإذا
قالوا:
نعم ذلك الأمر من الله. قلنا:
هل بوحي بواسطة جبريل؟ فإن قالوا: نعم. أتوا بما لا يستطيعون إثباته بحجة تدل عليه،
وخالفوا المعلوم بين الأمة من انقطاع الوحي بموته صلى اللّه عليه وآله وسلم. وإن
قالوا بإلهام. قلنا: هذا بعيد، ولا يصح ولم يدع هذا أحد من أئمتكم، وإنما ادعيتموه
أنتم وغررتم أنفسكم بمثل هذا، وأيضاً فإن الذي كلفنا الله بمعرفته نوعان: قطعي
وظني، فأما القطعي فهو إما عن نص صريح متواتر أو إجماع كذلك أو قياس قطعي، وهذا لا
يحتاج فيه إلى إمام ولا إلى معصوم بل تدركه العقول مع حصول العلم اليقين بأحد هذه
الطرق، وأما الظني فلا وجه لإعتبار الإمام والمعصوم فيه، ثم يقال لهم: أين هذا
الإمام المعلم الذي نأخذ معالم ديننا ودنيانا عنه، وقلتم أنه لطف في أداء الواجبات
واجتناب المقبحات أحد عشر قد ماتوا وانقطعت مواصلتهم ولقاؤهم، والثاني عشر ليس له
وجود ولا يعرف له في الدنيا خبر ولا أثر. ومنها
ما ساقه من الكلام في الدليل الرابع حيث قال: الدليل
الرابع: قوله:
]أطِيْعُوْا
اللهَ وأطِيْعُوْا الرَّسُوْلَ وأُوْلِي الأمْرِ مِنْكُمْ[ [النساء/59]
قال حيث دلت على وجوب طاعة أولي الأمر كطاعة الرسول، إلى أن قال: فيجب أن يكون أولو
الأمر الذين أمر الله بطاعتهم مثل النبي صلى اللّه عليه وآله وسلم في عدم صدور
الخطا والنسيان والكذب والمعاصي ومثل هذا لا يكون إلا منصوصاً من قبل الله تعالى
العالم بالسرائر كما في النبي صلى اللّه عليه وآله وسلم اهـ. وأقول:
لا شكّ في وجوب طاعة الله تعالى وطاعة الرسول صلى اللّه عليه وآله وسلم ووجوب طاعة
أئمة الهدى الداعين إلى الله تعالى، لكن طاعة الأئمة ليست لأجل العصمة لأن العصمة
غير شرط في الإمامة لأن إشتراط ذلك مما لم يقم عليه دليل، وكلما لم يقم عليه دليل
يجب إطراحه، والعصمة قد قدمنا حقيقتها، ومن المعصوم فأين الدليل لهم على عصمة
أئمتهم التسعة، فهم لا يجدون دليلاً. قال الإمام
المنصور بالله عبدالله بن حمزة ـ uـ في كتابه
ـ العقد الثمين
ـ: وأما أنه لا بد من كونه معصوماً فالدليل على بطلان ما ذهبوا إليه فيه أنه لا
دليل عليه، وما لا دليل عليه من الأمور الدينية قضي ببطلانه، أما أنه لا دليل عليه
فلأن من خالفهم في ذلك يطالبهم بالدليل إلى يوم الناس هذا فلم يتمكنوا من ذلك من
كتاب ولا سنة ولا دلالة عقل ولا إجماع، أما الكتاب والسنة فلا يطمعون بذلك منهما
ودلالة الإجماع هم ينفونها إلا أن يكون الإمام في المجمعين فكيف يكون الإمام دليلاً
على الإمام أو أحواله، وإن راموا الدليل فنحن في طلبه، ومن حقه أن يكون معلوماً
وإنما تعلقوا بشُبهٍ نحن نذكرها وندل على بطلانها. قالوا:
إنما نقول بعصمته لأنه مبلغ إلينا الأحكام فما لم يكن معصوماً لم نقطع
بصحتها. قلنا:
الأحكام قد علمناها من قبل النبي صلى اللّه عليه وآله وسلم فلا نحتاج بعد عصمته إلى
عصمة غيره، والأحكام على وجهين ما يجب علمه فقد علمناه بالتواتر، وما لم يجب علمه
فتُعِبِّدنا فيه بغالب الظن. وقولهم:
يجب المصير في جميع الأحكام إلى العلم. قلنا:
باطل لأن كتبهم مشحونة بالإختلاف، وذلك معلوم لهم وللناس. إلى أن قال ـ عليه
السلام: وأما لأنه حافظ للشريعة هذا قول بعضهم. قلنا:
أن الله حفظها ليلزم المتعبدين فرضها، وإلا فما يوجب ذلك عليهم، وهو سبحانه لعدله
وحكمته لا يكلف ما لا يطاق، ولا يكلف إلا ما يعلم . إلى أن قال ـ عليه السلام: وأما
أنه تنبيه للغافلين فإنما التنبيه تحذير، والتحذير يحصل من كل محذر، لأن دفع الضرر
المعلوم يستوي العقلاء في علم وجوبه، ودفع الضرر المظنون يجب فيما يغلب في الظن
صدقه. فإن قيل:
لكلام الإمام مزية. قلنا:
لكلام النبي صلى اللّه عليه وآله وسلم مزية عليه فهلا ابقى الله نبيه، ولأنه ينتقض
بزمان الغيبة. إلى أن قال ـ uقالوا:
إنما وجبت العصمة لكي يُقَوِّمُ من مال. قلنا:
قد يعجز عن ذلك فلا تسقط الأحكام، ألا ترى أن علياً uكان
يشكوا أصحابه على المنبر شكوى من قد أعجزه الأمر في إصلاحهم . إلخ كلامه ـ عليه
السلام. ومنها
ما قال العلامة شبر: في الدليل الثامن وهو: قوله تعالى: ]وكُلَّ شَيْءٍ
أحْصَيْنَاهُ فِي إمَامٍٍ مُبِيْنٍٍ[ [يس/15]
قال: ففيها دلالة صريحة على وجود الإمام العالم بجميع
الأشياء. قلنا:
ليس
المراد بلفظ (إمام) في الآية الكريمة الإمام القائم مقام النبي صلى الله عليه وآله
وسلم، بل المراد ما ذكره أئمة التفسير، ونكتفي بكلام أكابر مفسري الإمامية، قال
الطوسي في التبيان الجزء الثامن (من صفحة/447) ثم قال: وكل شيء أحصيناه في إمام
مبين، ومعناه أحصيناه في كتاب ظاهر، وهو اللوح المحفوظ، والوجه في أحصا ذلك في إمام
مبين اعتبار الملائكة إذا قابلوا به ما يحدث من الأمور وكان فيه دليل على معلومات
الله على التفصيل أهـ. وقال
الطبرسي في تفسيره مجمع البيان:
]وكُلَّ
شَيْءٍٍ أحْصَيْنَاهُ فِي إمَامٍ مُبِيْنٍٍ[ أي وأحصيناه وعددنا كل شيء من الحوادث في كتاب ظاهر، وهو اللوح
المحفوظ، والوجه في أحصا ذلك اعتبار الملائكة به إذا قابلوا به ما يحدث …إلخ، على
أن ظاهر الآية لا يساعد شبر على ما ادعاه لأنه كان يلزم أن يكون الإمام ظرفاً لكل
شيء وهذا لا يريده شبر ولا قائل به. فإن
قلت:
قد أبطلت أن يكون الإمام معيناً بإسمه وعينه من الشارع سِوَى علي وولديه، فبماذا
تثبت الإمامة في الإمام عندكم؟ قلت:
إليك كلام إمام الأمة أميرالمؤمنين يحيى بن الحسين، الهادي إلى دين الله القويم ـ
uـ
ونصه في الأحكام الجزء الثاني (ص/460) قال يحيى بن الحسين ـ صلوات الله عليه: تثبت
الإمامة للإمام ويجب على جميع الأنام بتثبيت الله لها فيه وجعله إياها له وذلك
فإنما يكون من الله إليه إذا كانت الشروط المتقدمة التي ذكرناها فيه، فمن كان من
أولئك كذلك فقد حكم الله له بذلك، رضي بذلك الخلق أم سخطوا. قال:
وليس
تثبيت الإمامة بالناس للإمام كما يقول أهل الجهل من الأنام أن الإمامة بزعمهم إنما
تثبت للإمام برضى بعضهم فهذا أحول المحال وأسمج ما يقال به من المقال، بل الإمامة
تثبت بتثبيت الرحمن لمن ثبتها فيه وحكم بها له من الإنسان رضي المخلوقون أم سخطوا
شاءوا ذلك وأرادوه أم كرهوا، فمن ثبت الله له الإمامة وجبت له على الأمة الطاعة،
ومن لم يثبت الله له ولاية على المسلمين كان مأثوماً معاقباً، ومن اتبعه على ذلك من
العالمين لأنه اتبع من لم يجعل الله له حقاً، وعقد لمن يعقد الله له عقداً، والأمر
والإختيار فمردود في ذلك إلى الرحمن، وليس من الإختيار في ذلك شيء إلى الإنسان كما
قال الله تعالى: ]ورَبُّكَ
يَخْلُقُ مَا يشَاءُ ويَخْتَارُ مَا كَانَ لَهُمُ الْخِيِرَةُ سُبْحَانَ اللهِ
وتعَالَى عَمَّا يُشْرِكُوْنَ[ [القصص/68].
ويقول سبحانه: ]ومَا كَانَ لِمُؤْمِنٍٍ ولا مُؤْمِنَةٍ إذَا قضَى اللهُ
ورَسُولُهُ أمْرَاً أنْ يَكُوْنَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ مِنْ
أمْرِهِمْ
ومَنْ يَعْصِ اللهَ ورَسُوْلَهُ فقَدْ ضَلَّ ضَلالاً مُبِيْنَاً[ [الأحزاب/36].
صدق الله، لقد ضل من اختار سوى خيرته، وقضى بخلاف قضائه، وحكم بضد حكمه فالحكم لله
سبحانه فمن رضي رضيناه، ومن ولَّى علينا سبحانه أطعناه، ومن نحَّاه عنا ـ جل وعلا ـ
نحيناه، وقد بين لنا سبحانه من حكم له بالتولية على الأمة ومن صرفه عن الأمر والنهي
عن الرعية فجعل خلفاءه الراشدين وأمناءه المؤمنين من كان من أهل صفوته وخيرته
المؤتمنين على ما ذكرنا ووصفنا من الصفة التبي بينا ووصفنا بها الإمام وشرحنا
فأخبرنا أن من كان على خلاف ذلك منهم فإنه لا يكون بحكم الله إماماً عليهم، وفي ذلك
ما يقول الله سبحانه: ]أفَمَنْ
يَهْدِي إِلَى الْحَقِّ أحَقُّ أنْ يُتَّبَعَ أمَّنْ لا يَهِدِّي إلاَّ أنْ يُهْدَى
فمَا لَكُمْ كَيْفَ تَحْكُمُوْنَ[ [يونس/35]
فنهاهم عن الحكم بها سبحانه لمن قصر عن الهداية إلى الحق بالولاية العظمي، وحكم بها
سبحانه لمن كان من عباده هادياً إلى الحق والتقى وصفوته وموضع خيرته الذين اختارهم
بعلمه وفضلهم على جميع خلقه، وجعلهم الورثة للكتاب المبين، الحكام فيه بحكم رب
العالمين، ختم بهم الرسل وجعل ملتهم خير الملل فهم آل الرسول صلى اللّه عليه وآله
وسلم وأبناؤه وثمرة قلبه وأحباؤه وخلفاء الله وأولياءه، وفي ذلك ما يقول
Y : ]ثُمَّ
أوْرَثْنَا الكِتَابَ الَّذِيْنَ اصْطَفَيْنا مِنْ عِبَادِنَا فَمِنْهُمْ ظَالِمٌ
لِنَفْسِهِ ومِنْهُمْ مُقْتَصِدٌ ومِنْهُمْ سَابِقٌ بِالْخَيْرَاتِ بِإذْنِ اللهِ،
ذَلِكَ هُوَ الفَضْلُ الكَبِيْرُ[ [فاطر/32]
فجعل سابقهم هو الآمر فيهم والحاكم عليهم وعلى غيرهم من جميع المسلمين وغيرهم من
جميع عباد رب العالمين. حدثني
أبي عن أبيه أنه سئل: هل تثبت
الإمامة للإمام بغير رضا من المسلمين وبغير عقد متقدم باثنين ولا
أكثر؟ فقال:
اعلم هداك الله أن الإمامة إنما تثبت لمن تثبت له بأمر الله وحده بما جعلها تجب به
من كمال الكامل المطيق لها بالعلم غير الجاهل، فمن كان في العلم كاملاً ولم يكن لما
يحتاج إليه من الدين جاهلاً فإن على المسلمين العقد له، والرضا به لا يجوز لهم غير
ذلك ولا يسعهم إلا أن يكونوا كذلك أ هـ. فإن
قلت:
احتجاج شبر بالآيات أن الإمامة هي باختيار الله تعالى وتثبيت منه تعالى في الإمام،
وهو عين ما قلتم فلماذا أنكرته؟ قلت وبالله
الثقة:
الإمامية
يحتجون أن الإمامة هي بإختيار من الله تعالى، واستدلوا بالآيات على ثبوت الإختيار
على الجملة وبينته الأحاديث التي رووها في الإثني عشر زاعمين أنها نص في الإثني عشر
ولا إختيار ولا اصطفاء لغيرهم وكل من ادعاها غيرهم فهو ضال لأنه قد خالف الإختيار
وغالب إرادة الجبار، ونحن قلنا أن الإصطفاء والإختيار لأهل البيت جميعاً، أما على
والحسنان فبالنص عليهم بأعيانهم، وأما بقية العترة فالإصطفاء والإختيار لجميعهم،
والإمام منهم من تحلى بالشروط المذكورة ودعا إلى الله ونابذ الظلمة فهو خيرة الله
الذي يجب نصرته ومعونته إلى آخر التكليف، وإذ قد وصلنا إلى هنا فلنرجع إلى إبطال ما
احتجوا به من الأحاديث التي رووها، وهي نوعان نوع تفردت به الإمامية، ونوع روته
العامة في كتبها ونقلته الإمامية محتجين به. ونقول:
أن ما تفردت به الإمامية فهو غير حجة على خصومهم، لأنه مؤيد لدعواهم، ومن قواعد
المحدثين أن الراوي إذا كان داعٍ إلى بدعته غير مقبول في روايته وذلك واضح، وما
روته العامة فعلى أصول الإمامية لا تقبل لعدم ثقتهم برواية العامة إلا أنه عندهم من
شهادة الخصم لخصمه، على أنا نقول في القسمين رواية الإمامية ورواية العامة أنها إن
كانت تلك الأحاديث آحادية لم يؤخذ بها في مسألتنا لأن مسائل الإمامة قطعية عندنا
وعند الإمامية، ولكونها أحاديث آحادية فلا تقوى على معارضة أدلتنا القطعية لما علم
أن الظني لا يقاوم القطعي، ولا تصح دعوى أنها متواترة لأنها لو كانت معلومة لنقلتها
الأمة لعموم البلوى، لأن مسألة الإمامة مما تعم به البلوى جميع المكلفين ليتمكن
الكل من النظر فيها، وإلا لسقط التكليف عمّن لا يعلم الدليل لأن التكليف بمالم يعلم
قبيح، لأنها لو كانت تلك الأحاديث واقعة لأظهرها النبي صلى اللّه عليه وآله وسلم
وإلا كان كتمانه لها تغريراً وتلبيساً وذلك لا يجوز عليه، ألا ترى أن الأدلة على
إمامة أميرالمؤمنين والحسنين ـ صلوات الله عليهم ـ واضحة وتناقلتها رواة الأمة
وعلماؤها وبهذه الطريقة علمنا عدم معارضة القرآن لأنه لو عورض لنقل إلينا معارضته،
لأنها مما تتوفر الدواعي إلى نقله، ولو جوزنا تواطيء الأمة على كتم ذلك النص
الضروري لجوزنا كتمهم لكثير من الشرائع، فلا تقع الثقة بشيء من التكاليف الشرعية،
وهو ظاهر الفساد فبطل بهذا دعوى الإمامية على أنا نقول أن ما روته العامة من
الأحاديث كمثل ما نقلوه عن البخاري ومسلم وعن الجمع بين الصحيحين والجمع بين الصحاح
الستة وسنن أبي داود ومسند أحمد بن حنبل من أن خلفاء النبي صلى اللّه عليه وآله
وسلم إثنا عشر فهو مع كونه آحادياً مجمل فهو وإن بين العدد يحتمل أن يكون الخلفاء
هم دعاة أئمة الزيدية الذين نابذوا الظلمة وكسروا شوكة طغيان بني أمية والعباسية،
واستشهدوا في سبيل الحق، فأما من لم يخف الظالمين ولم يقم بجهاد أعداء الله بل أغلق
عليه بابه وأرخى عليه ستره ولم يبل عذراً في الجهاد فلا يصدق عليه وصفه بأنه خليفة،
بل نصف الباقر والصادق وزين العابدين وأمثالهم بأنهم أئمة علم وزهد وورع وهداية
للخلق، فهم أئمة مقتصدون، فأما احتجاجهم بالحديث فهو مع كونه آحادياً لا يقاوم
القاطع، وما رووه عن أخطب خوارزم فهو في كتاب حق اليقين غير مسند ولا نسبه إلى كتاب
مشهور، والمسألة قطعية لا يؤخذ فيها بمثل ذلك، وحديث اللوح قد رواه الشيخ الطوسي
والكليني في أصول الكافي وإكمال الدين للصدوق والنعماني في غيبته والطبرسي في
الإحتجاج والإختصاص المنسوب للشيخ المفيد والمجلسي في البحار، وهذا الخبر غير صحيح
لأنه لو كان صحيحا لروته الأمة ونقله رواتها وأهل العلم منها لتَوَفر الدواعي الى
نقل مثله ولعموم البلوى به، ولما انفردت به هذه الفرقة، هذا ولسنا ننازع في فضل
أئمتهم وعلمهم وكونهم من العترة النبوية والسلالة العلوية، فإنهم من أفاضل العتره
ولا سيما زين العابدين والباقر والصادق والكاضم والرضا، وإنما ننازع في غلو المدعين
لهذه الدعوى من أتباعهم المفرقين بين أئمة العترة، ومع هذا فإن هؤلاء الأئمه صلوات
الله عليهم لم يعتقدوا هذا الأعتقاد بل هم مُسَلِّمون للقائم من العتره وراضون
ومبايعون ومتابعون، وسنورد طرفا من الأخبار ولمعاً من الأثار تبين للناظر أن قائمهم
لقاعدهم، وقاعدهم لقائمهم، وأن عقيدتهم واحدة ومذهبهم واحد حسنيهم وحسينيهم، فنقول:
روى الهادي الى الحق يحيى بن الحسين صلوات الله عليهم في مجموعه عن محمد بن علي
الباقر باقر علم الأنبياء صلوات الله عليهم أن قوما وثبوا عليه فقالوا يابن رسول
الله: إن أخاك زيداً فينا وهو يسألنا البيعة؟ فقال محمد: بايعوه فإنه أفضلنا، وروى
الهادي u أن
جعفر بن محمد الصادق uلما
أراد زيد الخروج إلى الكوفة قال له جعفر: أنا معك يا عم، فقال له زيد: أوما علمت
يابن أخي أنَّ قائمنا لقاعدنا، وأن قاعدنا لقائمنا، فإذا خرجت أنا وأنت فمن يخلفنا
في حُرَمِنا وتخلف جعفر بأمر عمه زيد، وروى الهادي صلوات الله عليه لما أراد يحيى
بن زيد اللحوق إلى أبيه قال ابن عمه: جعفر إقرء عمي مني السلام وقل له فإني أسأل
الله أن ينصرك ويبقيك ولا يرينا فيك مكروهاً، وإن كنت أزعم أني إمام عليك فأنا مشرك
أهـ. وروى أبو الفرج في مقاتل الطالبيين صفحة (129) بسنده الى عبد الله بن جرير
قال: رأيت جعفر بن محمد يمسك لزيد بن علي بالركاب ويسوي ثيابه على السرج، وروى أبو
الفرج في كتابه المذكور بسنده عن جابر (أي الجعفي ) عن أبي جعفر قال قال رسول الله
صلى اللّه عليه وآله وسلم للحسين: ((يخرج رجل من صلبك يقال له زيد يتخطى هو وأصحابه
يوم القيامة رقاب الناس غراً محجلين
يدخلون الجنه بغير حساب))، وروى في كتابه المذكور بسنده إلى يونس بن حباب قال: جئت
مع أبي جعفر إلى الكتاب فدعا زيداً فاعتنقه وألزق بطنه ببطنه وقال: أعيذك
بالله أن تكون صليب الكناسه أهـ. وقد روى عن أبي جعفر محمد بن علي باقر علم
الأنبياء عليهم السلام أنه أشار الى زيد بن علي عليه السلام، وقال:(( هذا سيد بني
هاشم إذا دعاكم فأجيبوه وإذا استنصركم فانصروه))، وروى أبو الجارود زياد بن المنذر
أني كنت جالساً عند أبي جعفر محمد بن علي uإذ
أقبل أخوه زيد بن علي u فلما
نظر إليه أبو جعفر وهو مقبل قال: هذا سيد أهل بيته والطالب أوتارهم لقد أنجبت أمٌّ
ولدتك يا زيد، وعن الصادق u عن
النبي صلى اللّه عليه وآله وسلم: ((إن في السماء لحُرَاساً وهم الملائكه، وفي الأرض
حُرَّاساً وهم شيعتك يا علي لن يبدلوا ولن يغيروا)) قال جعفر: ما أعلمه في شيعتنا
إلا في أصحاب عمي زيد مضى من مضى منهم على منهاجه، وبقي من بقي منهم ينتظر فرجنا
أهل البيت، وقد ترجم أحمد بن علي المقريزي المصري في الخطط لزيد u وفي
أثناء ترجمته قوله: وسُئِلَ جعفر بن محمد الصادق عن خروجه (أي خروج زيد) فقال: خرج
على ما خرج عليه آباؤه أهـ. وفي أمالي أبي طالب صفحة (108) بسنده إلى
جابر الجعفي قال: قال
لي محمد بن علي عليه السلام: ((إن أخي زيد بن علي خارج ومقتول وهو على الحق، فالويل
لمن خذله، والويل لمن حاربه، والويل لمن يقتله)) الحديث. وفيه بسنده إلى أبي مخنف
قال: قيل لجعفر بن محمد عليه السلام: ما الذي تقول في زيد بن علي وخروجه على هشام؟
فقال: جعفر عليه السلام: قام زيد بن علي مقام صاحب الطف (يعني الحسين بن علي عليه
السلام). وفيه (صفحة/114) بسنده إلى عبدالله بن مروان بن معاوية قال: سمعت محمد بن
جعفر بن محمد u في
دار الإمارة يقول: رحم الله أبا حنيفة لقد تحققت مودته لنا في نصرته زيد بن علي
عليه السلام، وفعل الله بإبن المبارك في كتمانه فضائلنا ودعا عليه وفيه أيضاً صفحة
(131) وقال الناصر للحق الحسن بن علي عيه السلام في كتاب الدلائل الواضحه: ولقد كان
أول قتيل قُتِلَ من المسودة الفجرة بين يدي محمد بن عبد الله بن الحسن النفس الزكيه
uاشترك
في قتله موسى وعبد الله ابنا جعفر بن محمد عليه السسلام وكانا حاضرين معه جميع
جهاده حتى قتل وأعطياه بيعتهما مختارين متقربين إلى الله تبارك وتعالى بذلك
واستأذنه أبو عبد الله جعفر بن محمد u لسنه
وضعفه في الرجوع إلى منزله بعد أن خرج معه فأذن له وفيه بصفحة (132) بسنده إلى أبي
الحسين يحيى بن الحسن بن جعفر العقيقي يعني صاحب كتاب الأنساب قال: كان محمد بن
جعفر بن محمد u سخياً
شجاعاً، وكان يصوم يوما ويفطر يوما، قال: وسمعت موسى يقول: كان رجل قد كتب كتاباً
في أيام أبي السرايا يشتم آل النبي صلى اللّه عليه وآله وسلم حتى ذكر فاطمة عليها
السلام فجاء الطالبيون فقرأوه عليه فلم يرد عليهم جوابا حتى دخل بيته فخرج عليهم
وقد لبس الدرع وتقلد السيف ودعا إلى نفسه وتسمى بالخلافة، قال وسمعت إبراهيم بن
يوسف يقول: كان محمد بن جعفر يقول: أصاب عيني شيء فاستبشرت به ، وقلت أني لأرجوا أن
أكون القائم، فلقد بلغني أن في إحدى عينيه يكون شيء ، وأنه يدخل في هذا الأمر وهو
كاره، وروى الحاكم الجشمي في كتابه جلاء الأبصار قال: وبإسناده عن الباقر وأشار الى
زيد هو سيد بني هاشم إذا دعاكم فأجيبوه، وإذا استنصركم فانصروه
أهـ. وقال الحاكم في كتابه المذكور وعن الصادق
:
رحم الله عمي زيداً خرج على ما خرج
عليه آباؤه وودت أني استطعت أن أصنع كما صنع عمي فأكون مثل عمي، مَنْ قُتِلَ مع زيد
كمَنْ قُتِلَ مع الحسين بن علي، وفي الكتاب المذكور وعن جابر سألت محمد بن علي عن
زيد فقال: سألتني عن رجل مليء قلبه إيماناً وعلماً من أطراف شعره إلى قدمه وهو سيد
أهل بيته. ومن أمالي المرشد بالله u الأثنينيه الجزء العاشر بسنده عن ابان بن تغلب عن
محمد بن عبد الله بن الحسن uقال
:
أراد
الله تعالى إكرام قوم بكرامته وأحب أن يستنقذهم فساق إليهم زيد بن علي uحتى
نزل بين أظهرهم فدعاهم إلى الحق، ووصفه لهم خلافاً لما كانوا عليه فقالوا: إن أباك
كان إماماً ، وأخاك كذلك ليزيلوه عن دينه ويحيلوه عنه، فقال: فجرت إذاً وعققت
والدي، وظلمت أخي وافتريت عليهما أنا أعلم بوالدي وأخي منكم، وأن هذه لَلْفريه على
الله وعلينا، ولو غير زيد تكلم بهذا لقالوا ظنين متهم جاهل لا يعلم والحمد لله الذي
جعل على هذا أمر أولنا وآخرنا لم يقر لهم بفرية، ولم يلبهم عليها فمن كان أفضل من
زيد وأصدق وأعلم بأبيه وأخيه منه، ولا أرضى في المسلمين. وفي الأمالي
المذكورة من الجزء المذكور بسنده إلى إبراهيم بن عبد الله بن الحسن بن الحسن
uفقال:
لو نزلت رأية من السماء لَما كانت إلا في الزيديه، وبسنده إلى عيسى بن زيد بن علي
uقال:
كنت قائماً أُصلي في مسجد رسول الله صلى اللّه عليه وآله وسلم قال عبد الله أحسبه
قال: بالليل . قال فجاء علي بن الحسن العابد فاطلع في وجهي فلما عرفني قال لي: صلى
الله عليك وعلى أبيك، وبسنده أيضاً إلى كليب بن عبد الملك قال: سألت الحسين بن علي
بن الحسين u فقلت: أحب أن تعطيني موثقاً من الله أن لاتجعل بيني وبينك تقيه،
فقال لي: يا كليب لا تثق بقولي حتى تأخذ مني يميناً سل عما بدا لك ، قال: قلت
أخبرني عن هذا الأمر أول الناس إسلاماً أبوك علي، وأشد الناس نكاية في عدو الله
وعدو رسوله أبوك علي، وخير الناس بعد رسول الله صلى اللّه عليه وآله وسلم أبوك علي،
فكيف صار هذا الأمر حتى صار يعطى المال على بغضه ويُقْتل الرجال على حبه؟ قال: لأن
العرب كانت في شر دار وذكر قصه قال في آخرها : ثم ولوا عثمان ثم نقموا عليه فقتلوه،
ثم بايعوا علياً طائعين غير مكرهين ثم نكثوا بيعته من غير حدث، ثم قام علي بالكتاب
فقتل علي وبقي الكتاب، ثم قام به الحسن بن علي فصُنِع بالحسن الذي بلغكم، ثم قام
الحسين فقتل وبقي الكتاب، ثم قام به زيد بن علي على جميعهم السلام فقتل زيد وبقي
الكتاب، ثم قام به يحيى ين زيد فقتل يحيى وبقي الكتاب، ثم قام به محمد بن عبد الله
فقتل محمد وبقي الكتاب، ثم قام به إبراهيم فقتل إبراهيم وبقي الكتاب فنحن مع الكتاب
والكتاب معنا لا نفارقه حتى نرد على رسول الله صلى اللّه عليه وآله وسلم حجة من
الله على هذا الخلق كما كان النبيئون حجة على من بعثوا إليه، وبسنده أيضاً إلى
الحسين بن علي بن الحسين قال: كان أخي زيد يعظم ما يأتيه أهل الجور وذكر كلاماً إلى
أن قال: وأحلف بالله لقد مضى زيد شهيداً ومضى أصحابه شهداء
أهـ. وقال العلامة الفقيه حميد الشهيد في
الحدائق الوردية قال:
وروى أبو الفرج في مقاتل الطالبيين بأسانيده عن عيسى بن زيد u قال:
لو أنز ل الله سبحانه على محمد صلى اللّه عليه وآله وسلم: إني باعث نبياً بعده لكان
ذلك النبي محمد بن عبد الله بن الحسن، فهذا كلام عيسى بن زيد uوهو
من أقمار الهدى، وممن لا يتمارى في فضله ولا يشك في شدة ورعه ونبله، وقد شهد الحرب
مع محمد بن عبد الله في المدينه وتابعه وبايعه فلما قتل محمد uلحق
بابراهيم وشهد الحرب معه بباخمرى حتى قتل إبراهيم عليهِ السّلام، وقال أبو الفرج في
المقاتل بصفحة (408): ولما ظهر محمد
بن عبد الله بن الحسن وزحف إليه عيسى بن موسى جمع إليه وجوه الزيدية وكل من حضر معه
من أهل العلم وعهد إليه أنه أن أصيب في وجهه ذلك فالأمر إلى أخيه إبراهيم، فإن أصيب
إبراهيم فالأمر إلى عيسى بن زيد، وروى بسنده إلى يحيى بن الحسن قال: إن عبد الله بن
محمد بن عمر ذكر ذلك من وصية محمد إلى أخيه إبراهيم ثم إلى عيسى بن زيد فلما أصيبا
توارى . ولنقتصر على ما سردناه من نقل ما أردنا نقله من أخبارهم رضي الله عنهم في
هذا الصدد، والفائدة منها لا تخفى على أُولي البصائر من أن الإمامة فيمن صلح وجمع
الشروط المعتبرة من أي البطنين كان لا يدَعَّون النص على إمام بعينه، وفيما حكيناه
من الأخبار استظهار وبيان أن قول الإماميه بالنص مذهب حادث، وفيه بيان سبب تلك
الدعوى . والسبب إما خوف ملام من لامهم كما رواه الهادي uأو
خوف السلطان كما في رواية المقريزي وغيره، فليتأمل والله الموفق
. ***
المطلب
الثاني في الدليل على
حصر الأمامة في أولاد السبطين من ينتسب بأبيه إليهما، وأنها مقصورة على البطنين
محظورة على مَنْ سواهم. فنقول:
الذي يدل على ذلك من جهة النظر: أنه لابدَّ للإمامة من منصب مخصوص إذ لو كانت جائزة
في جميع الناس لأدى ذلك إلى الفساد لحصول التعارض والتشاجر والتناحر عليها وكان
سبباً للمفاسد ولتعطيل الأحكام، ولأدى ذلك إلى ضعف الإسلام، وأيضاً فقد جرت سنة
الله تعالى في الأولين بتقديم أولاد النبيين صلوات الله عليهم أجمعين، ومن جهة
السمع أدلة سنختصر منها ما يليق بهذا الجواب منها آية الموده وهي ]قُلْ لا
أسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ أجْراً إلاَّ الْمَوَدَّةَ فِي القُرْبَى[ [الشورى/23]
وإقصاؤهم
والإستبداد بالأمر والنهي دونهم يضاد المودة، ومنها قوله تعالى: ]يا أيُّهَا
الَّذِيْنَ آمَنُوْا أطِيْعُوْا اللهَ وأطِيْعُوْا الرَّسُوْلَ وأُوْلِي الأمْرِ
مِنْكُمْ[ [النساء/59]
وأولي
الأمر هم العلماء من آل الرسول صلى اللّه عليه وآله وسلم بدليل قوله تعالى:
]ثُمَّ
أوْرَثْنا الكِتَابَ الَّذِيْنَ اصْطَفَيْنَا مِنْ عِبَادِنَا فَمِنْهُمْ ظالمٌ
لِنَفْسِهِ ومِنْهُمْ مُقْتَصِدٌ ومِنْهُمْ سَابقٌ بِالْخَيْرَاتِ[ [فاطر/32]
فصح أن أهل الصفوه الذين أورثهم كتابه هم الذين أمر بمودتهم ، ومنها قوله
تعالى: ]إنِّي
جَاعِلُكَ لِلنَّاسِ إمَامَاً قَالَ ومِنْ ذُرِّيَّتِي قَالَ لا ينَالُ عَهْدِي
الظَّالِمِيْنَ[ [البقرة/124]
وقد استجاب الله دعوة إبراهيم صلوات الله عليه، وفيها دلالة أن الظالم لا ولاية له،
ومنها قوله تعالى: ]وأُوْلُوْ
الأَرْحَامِ بَعْضُهُمْ أَوْلَى بِبَعْضٍٍ فِي كِتَابِ اللهِ[ [الأحزاب/6]
وقد ثبت أنَّ علياً أقرب رحم إلى النبي صلى اللّه عليه وآله وسلم، وأن الحسنين
وأولادهما هم أولاده صلى اللّه عليه وآله وسلم لقوله صلى اللّه عليه وآله وسلم:
((كل بني أُنثى ينتمون إلى أبيهم إلا ابني فاطمة فأنا أبوهما وعصبتهما)) قال شارح
الأساس: وهومتواتر فهم أولى بمقامه لدلالة العقل ولهذه الآية، ألا ترى كيف رتب الله
تعالى ذلك على ذكر الولاية بقوله تعالى: ]النَّبِيُّ
أَوْلَى بِالْمُؤمِنِيْنَ مِنْ أنْفُسِهِمْ[ [الأحزاب/6]
ثم عقب ذلك بقوله: ]وأُوْلُوْ الأرْحَامِ
.... الآيه[ فدل ذلك على أن أولاده أولى بمقامه في الولايه من غيرهم، ذكره
الحاكم أبو سعيد الجشمي رحمه الله في تنبيه الغافلين: ولنا من السنة أخبار كثيرة
أخبار التمسك وأخبار الكساء مع آية التطهير وأخبار السفينة والنجوم وغيرها، فإذا
كانوا مطهرين عن الأدناس والأرجاس في الأفعال والأقوال، وكان لا ينجو إلا المتبع
لهم كما أنه لم ينج من قوم نوح إلا من ركب في السفينه كانوا أولى بمقام النبي صلى
اللّه عليه وآله وسلم، وفي حديث التمسك من قوله: ((ولا تقدموهم فتهلكوا)) دلالة على
حصر الإمامة فيهم وعدم جوازها في غيرهم، ولنا إجماعهم قبل حدوث مذهب الإمامية،
وإجماعهم حجة واجبة الإتباع، وإنما قلنا بإجماعهم قبل حدوث مذهب الإمامية لأن من
المعلوم انعقاد الإجماع من الصدر الأول على جواز الإمامة في البطنين فلا يعتد بخلاف
من خالف منهم وذلك الإجماع ظاهر من حالهم فإنهم كانوا يطبقون على إمامة القائم منهم
حسنياً كان أو حسينياً، ولذلك لم
يخالف أحدٌ منهم في إمامة زيد بن علي ولا في إمامة النفس الزكية، ولا في إمامة
ابراهيم بن عبد الله، ولا في إمامة الفخي رضوان الله عليهم، قال الإمام إبراهيم بن
محمد المؤيدي رضوان الله عليه قال في العمدة([1]):
وذلك معلوم ضرورة من حالهم لمن عرف الآثار وسمع الأخبار، فلا معنى لمباهتة الإمامية
في شيء منه، وأيضاً فإن خلاف الإمامية ليس في محل النزاع وهو عدم جواز الإمامة في
غير أولاد الحسنين بل هم موافقون في ذلك، وإنما بالغوا فقصروها على بعضهم، فإذاً
لاخلل في دعوى الإجماع على محل النزاع اهـ.
قال الإمام
إبراهيم بن محمد - رحمه الله - الدليل الثاني:
أنَّ الأمة قد اجمعت على جواز الأمامة في ولد البطنين بعد قيام الدليل القاطع على
بطلان قول أصحاب النص من الأمامية وذلك بما قدمناه من الإجماع من الصدر الأول على
خلافه، وذلك لأنهم إنما عولوا على النص بأن الأمامة لا تجوز إلا في عدد مخصوص من
أولاد الحسين، وإذا ثبت بطلانه باجماع العترة السابق سقط ما بنوه عليه، لأن العترة
وكذا الأمة إذا افترقت على قولين ثم ثبت بطلان أحدهما تعين الحق في القول الآخر،
لأنه لو بطل مع بطلان الأول لأدى إلى خروج الحق من أيدي الأمة بموجب أنهم قد صاروا
كلهم قائلين بقولين باطلين في مسألة واحدة، وخروج الحق عن أيديهم يبطل كون إجماعهم
حجة واجبة الإتباع، وهذا التقرير كافٍ في بطلان قولهم، وإنما قلنا: أنَّ الأمة قد
اجمعت على ذلك لأن من أجازها في جميع الناس فقد أجازها فيهم لأنهم خير الناس، ومن
أجازها في قريش فقد أجازها فيهم لأنهم خير قريش، ولا شك أنه قد اختلف فيمن عداهم
ولم يدل دليل على جوازها فيه، فإن الخلاف لمن قال بجوازها في سائر الناس ظاهر بل لا
يبعد أن يقال أنه مخالف لإجماع الصحابة، وأما الخلاف لمن قال بجوازها في قريش دون
من عداهم فأنه للعترة عليهم السلام، فأنهم يقولون بجوازها فيهم وعدم جوازها في
غيرهم، وإذا كانت الأمة قد أجمعت على ذلك فإن اجماعهم حجة واجبة الإتباع
انتهى. وبتمام هذا يتم الكلام في
جواب هذا السؤال ولأئمتنا أعلام العترة النبوية وشيعتهم علماء الأمة المحمدية
موضوعات في الإمامة استوفوا فيها الحجج وأبانوا فيها الحق فمن أحب الإستثكار فعليه
بمراجعة تلك الأسفار ففيها ما يشفي ويكفي وصلى الله على سيدنا محمد وآله
وسلم. ***
([1])
عمدة
المسترشدين للفقيه حميد الشهيد مصنف عظيم في أصول الدين لا يزال مخطوطاً.
السؤال السادس لِمَنْ شفاعة الرسول صلى اللّه عليه وآله
وسلم وما فائدتها؟ وهل يكفي في الإيمان حب علي بن أبي طالب
u لقول النبي صلى اللّه عليه وآله وسلم: ((يا علي
لا يحبك إلا مؤمن ... الحديث))؟ أقول :
أنَّ
الجواب عن هذا السؤال يشتمل على مطالب. المطلب الأول في حقيقة الشفاعه لغة
واصطلاحا ، المطلب الثاني : في بيان موضوعها وبيان المشفوع له ، المطلب الثالث : في
أدلة القول المختار وبيان الشبه الواردة على أدلته ورد تلك الشبه، المطلب الرابع :
في بيان بعض شبه المخالف وردها ، المطلب الخامس : في الجواب عن آخر السؤال ، هل
يكفي في الأيمان حب أمير المؤمنين أم لا ؟ فلنشرع
في المقصود بعون الملك المعبود ، واعلم:
أن
جميع ما نقلناه هنا مأخوذ من كتاب المنهاج ومن شرحه المعراج للإمام عز الدين
uومن
الغياصة شرح الخلاصة ومن شرح الأصول الخمسة، ومن شرح الإمام إبراهيم بن محمد
المؤيدي على الثلاثين المسألة، ومن الفرائد للإمام المهدي عليهِ السّلام، ومن مفتاح
السعادة لسيدي العلامة الحجة علي بن محمد العجري - رحمه الله - وكل ماتحرر على
الحجج من أخذ ورد ونقل الأحاديث التي احتج بها أصحابنا وما احتج به الخصم وما قيل
في ذلك منقول منه فليكن المطلع على ثقة إن أراد مراجعة الأصول المذكورة، مع زيادة
ونقص وتقديم وتأخير وابدال لفظ بلفظ بحسب ما يقتضيه المقام، وما كان من غير هذه
الأصول فقد صرحت بذكره ونسبت القول الى قائله والله الموفق والهادي
.
المطلب الأول: اعلم أنَّ الشفاعة في أصل اللغة
مأخوذة من الشفع وهو نقيض الوتر، والشفع الزوج، والوتر الفرد ،
ولذلك يقال شاة شافع إذا كان معها ولدها، ولهذا سُمِي الشفيع شفيعاً لإنضمامه إلى
المشفوع له، ومنه سميت الشفعة شفعة لما كان غرض الشافع ضم المال المشفوع إلى ماله
الأصلي. وحقيقتها في
الإصطلاح قال في الغياصة شرح الخلاصة:
هي
السؤال لجلب نفع إلى الغير أو دفع ضرر عنه، وقلنا: لجلب نفع إلى الغير أو دفع ضرر
عنه على وجه يكون غرض السائل حصول ما سأل لأجل سؤاله، فقولنا: سؤال ليخرج من ذلك ما
ليس بسؤال كالأمر بإيصال نفع إلى الغير أو دفع ضرر عنه، وقلنا: لجلب نفع إلى الغير
أو دفع ضرر لنحترز بذلك عن السؤال لجلب الضرر أو فوت النفع، وقلنا: إلى الغير
ليحترز عن سؤال ذلك للنفس فأنه لا يكون شفاعة، وقلنا : على وجهٍ يكون غرض السائل
حصول ما سأل لأجل سؤاله ليحترز بذلك مما إذا لم نقصد ذلك بل قصدنا نفع أنفسنا أو
نحو ذلك، ولهذا فإنا نسأل للنبي صلى اللّه عليه وآله وسلم الوسيلة والدرجة الرفيعة
ولا نكون شافعين له، لأنا لم نقصد بسؤالنا ذلك حصوله له، لأن الله تعالى أخبر أنه
يفعل ذلك من غير سؤالنا، وإنما قصدنا بسؤالنا تحصيل الثواب لأنفسنا مع أنا متعبدون
بذلك اهـ. وقال القرشي
في المنهاج:
هي السؤال المتضمن جلب نفع إلى الغير أو دفع ضرر عنه على وجهٍ يكون غرض السائل حصول
ما سأل لأجل سؤاله وهو قريب من المعنى العرفي إلا أن ظاهره يشمل طلب النفع أو دفع
الضرر للمطلوب نفسه وهو لا يسمى شفاعة، قال المهدي uلا
لغة ولا عرفاً ولا شرعاً، ولا يجب في الشافع أن يكون أعلا رتبه من المشفوع إليه،
ولا أن يكون أعلا من المشفوع له، ولا يعتبر أن يكون أبلغ حظاً من المشفوع له عند
المشفوع إليه إلا في ذلك المطلوب إذ قد يشفع الأجنبي للولد عند أبيه في أمرٍ، ولا
شك أن حظ الولد في غير ذلك الأمر أبلغ عند الوالد من الشفيع، أما لو كان المشفوع له
أبلغ حظاً في المطلوب بعينه نظر فإن كان لا يحصل من دون الشفاعة فالطلب شفاعة، وإن
كان يحصل من دونها ولم يحصل بها زيادة من حث وتعجيل فليس الطلب شفاعة، وذلك كصلاتنا
على الرسول صلى اللّه عليه وآله وسلم والملائكة إذ المطلوب حاصل لهم من دون
شفاعتنا، وإنما تحصل المنفعة لنا بذلك، ذكر معنى هذا الإمام المهدي uومولانا
العلامة الحجة علي بن محمد العجري - رحمه الله - في مفتاح السعادة وهو الذي احترز
عنه القرشي بقوله لأجل سؤاله، واحترز به صاحب الغياصة بقوله: غرض السائل حصول ما
سأل لأجل سؤاله، وأركان الشفاعة أربعة: شافع، ومشفوع فيه، ومشفوع إليه، ومشفوع له
المطلب
الثاني: في بيان موضوعها وبيان المشفوع له اعلم:
أن الجمهور ذهبوا إلى أن موضوع الشفاعة جلب النفع ودفع الضرر، وقالت المجبرة: بل
موضوعها دفع الضرر فقط هكذا أطلق الرواية عنهم الإمام المهدي عليهِ السّلام، ونسبه
القرشي إلى أهل الإرجاء، قال مولانا
الحجة علي بن محمد العجري - رحمه الله: وفي إطلاقها نظر فإن بعضهم ومنهم
الرازي يقول إنها للأمرين يعني جلب النفع ودفع الضرر، احتج الجمهور : بأنه يجوز أن
يقال: شفعت إلى الأمير في قضاء حاجة، فلأن أو للزيادة في عطائه كما يقال شفع إليه
ليصفح عنه، وكذلك يقال شفع فلان إلى فلان ليقضي دينه أو ليغني فقره أو نحو ذلك،
ومنه قوله تعالى في وصف الملائكة ]ويَسْتَغْفِرُوْنَ لِلَّذِيْنَ آمَنُوْا
...الآية[ [غافر/7]
فإنهم
قد سألوا للمؤمنين دفع المضرة بالإستغفار لهم، وبقوله: ]وقِهِمْ
عَذَابَ الْجَحِيْمِ[ [غافر/7]،
وجلب المنفعة بقوله: ]وأدْخِلْهُمْ جَنَّاتِ عَدْنٍ
...الآية[ [غافر/8]
ويدل على ذلك قول الشاعر: آتينا
سليـمان الأمـير نـزوره
وكـان امرءً يحيى ويكرم زائره كلى
شافعي زواره من ضـميره
عن البـخل ناهيه وبالجود آمره وقال آخر : فذاك
فتى إن جئته لصـنيعة إلـى
مـاله لم تأته بشفيع. ففي
البيت الأول أخبر أن الشفعاء ينهونه عن البخل ويأمرونه بالجود وهو نفع، وفي الثاني
أنه يعطي من غير شفاعة مدحاً فاقتضى أن الشفاعة قد تكون لأجل العطاء وقال
آخر: فيا
جود معنٍ نـادِ معناً بحاجـتي فـمالي إلى مـعنٍ
سواك شفيع قال الإمام
المهدي عليهِ السّلام:
وعلى الجملة فهو معلوم ضرورة عن أهل اللغة، وقال إنها لجلب النافع أشهر، وأما بيان
المشفوع له فاعلم:
أن الكافر لا شفاعة له إجماعاً، وأجمعت الأمة أن المقام المحمود الذي وعد الله نبيه
صلى اللّه عليه وآله وسلم يوم القيامة كما في قوله تعالى: ]عَسَى أنْ
يَبْعَثَكَ رَبُّكَ مقَامَاً مَحْمُوْدَاً[ [الإسراء/79]
هو الشفاعة المقبولة، ثم اختلفوا في محلها فذهب الأكثر من علماء الزيدية والمعتزله
أنما تكون للمؤمنين سواء كانوا قد ارتكبوا كبائر ثم تابوا عنها أم لم يواقعوا كبيرة
رأساً ليزيدهم الله بها نعيماً إلى نعيمهم، وسروراً إلى سرورهم تفضلاً منه جل وعلا،
وذهب أبو الهذيل: أن الشفاعة إنما تكون لأهل الصغائر من المؤمنين ليرد الله ما
انحبط من ثوابهم، وذهب أبو القاسم البلخي: أن الشفاعة لمن استوى ثوابه وعقابه فيدخل
بالشفاعة الجنة ويرقى إلى درجة زائدة على درجة من لم يشفع له، وذهب المجبرة على
رواية الإمام المهدي، وأهل الإرجاء على رواية القرشي إلى أنها لا تكون إلا للمصرين
على الكبائر الذين لم يتوبوا ليعفى عنهم ويدخلوا الجنة تفضلاً، قال الأمام عز الدين
في المعراج: وكثيراً ما ينسب أصحابنا هذا القول إلى المجبرة وكلهم مرجئة ونسبته إلى
أهل الإرجاء أشمل ومناسبته للإرجاء أوضح وأكمل . نعم ظاهر الحكاية لمذهب المجبرة
أنهم يقصرون الشفاعة لأهل الكبائر. وممن صرح بذلك الأمام المهدي uلأنه
قال في حكايته لمذهبهم أنها لا تكون إلا لأهل الكبائر وليس الأمر كذلك فإن منهم من
يجوزها للأمرين التي هي جلب المنافع الزائدة على قدر الإستحقاق ودفع المضار
المستحقة على المعاصي، وممن صرح بذلك الرازي كما قدمنا عنه، وقال القاضي عِياض:
وظاهر مذهب المرجئة أنها لأهل الكبائر، أما لإسقاط العقاب عنهم بأن لا يدخلهم النار
أو يخرجهم منها بالشفاعة بعد دخولها، قال ابن لقمان -رحمه الله - وهذا قول بعضهم
أعني أنها لا تكون بعد أن دخلوا النار، وبعضهم قال: بل يشفع لهم قبل دخولها فلا
يدخلونها، قال: وهذا قول المجبرة، وقال الرازي حاكياً عن أصحابه: تأثيرها يعني
الشفاعة في إسقاط العذاب عن المستحقين له إما بأن يشفع لهم في عرصة القيامة حتى لا
يدخلوا النار وإن دخلوا فيشفع لهم حتى يخرجوا منها ويدخلوا الجنة
اهـ. ومذهب
الإمامية كما حكاه الطبرسي في تفسيره بقوله:
وعندنا هي مختصة بدفع المضار وإسقاط العقاب عن مستحقيه من المؤمنين
أهـ. ويجوز
أن يشفع صلى اللّه عليه وآله وسلم لأمته ولغير أمته إذ لا مانع عقلي ولا شرعي،
والظاهر أن غيره صلى اللّه عليه وآله وسلم من الأنبياء يشفع إذا شفع، وكذلك بعض
الأولياء والصالحين إذ قد ورد من السنة ما يقضي بذلك كما في حديث سيد التابعين أويس
القرني أنه يشفع بعدد ربيعة ومضر، وأن الطفل يشفع في والديه ونحو ذلك كثير، وورد أن
الشهيد يشفع في سبعين من أهل بيته فإن لم يكونوا فمن جيرانه، وورد إذا كان يوم
القيامة نصبت منابر من ذهب مرصعة بالدر جلالها السندس على أبواب الجنة ثم يقال
للعلماء: اجلسوا على هذه المنابر واشفعوا تشفعوا ثم ادخلوا
الجنة. قال الإمام
عز الدين uبعد سرده
لأكثر مما نقلناه:
قال الفقيه
حميد:
وهذا من المجوزات يعني شفاعة الأنبياء، قال: فإن كانت الأخبار مقطوعة وجب أن يقطع
عليه، وإن لم يكن مقطوعاً عليها بقينا على التجويز، لأن القطع من غير دلالة لا تجوز
المطلب
الثالث: في ذكر الدلالات والحجج على قول الزيديه من أن الشفاعة لا تكون إلا
للمؤمنين ونحن نحتج بالعقل والسمع، ونقدم قبل ذلك
مقدمة وهي: هل يصح
الإستدلال على مسألة الشفاعة بالعقل أم لا يصح بل لا يستدل عليها إلا بالسمع ؟
فحكى
الإمام المهدي والإمام عز الدين عليهِما السّلام وغيرهما عن قاضي القضاة: أن العقل
يقضي بقبح الشفاعة للفاسق، قال الإمام عز الدين عليهِ السّلام: واختاره السيد في
الشرح. قلت:
هو في شرح الأصول الخمسة بلفظ هو أن الشفاعة للفساق الذين ماتوا على الفسوق ولم
يتوبوا تتنزل منزلة الشفاعة لمن قتل ولد الغير وترصد للآخر حتى يقتله فكما أن ذلك
يقبح فكذلك هاهنا. هذا الذي ذكره قاضي القضاة، ثم حكى خلاف أبي هاشم
وقال :
ولعل الصحيح في هذا الباب ما اختاره قاضي القضاة اهـ. وقال أبو
هاشم:
أنها تحسن عقلاً واتفقوا أنها لا تكون سمعاً أي لا تكون الشفاعة للفاسقين بعد ورود
السمع، لأن السمع منع منها لأن الشافع في حكم المنهي، احتج أبو هاشم بوجهين،
أحدهما: أنه قد ثبت حسن العفو عقلاً عمَّن مات مستحقاً للعقاب فلتحسن الشفاعة،
الثاني: أنه قد ثبت حسن دعاء الواحد منا لنفسه بالمغفرة فليحسن من غيره أن يسأل،
هذا ما أردنا بيانه من المقدمة قبل الإستدلال، وعلى ذلك فقد نقلنا من حجج العقل
أربع حجج تتمشى على رأي القاضي، وقد اعترضها المانعون باعْتراضات سنذكرها بعدها
والله الهادي. الدليل
الأول قالت العدليه:
لو كانت الشفاعه للمصرين لَكانت إغراء بالقبيح لأن العبد إذا علم أنه لا يدخل النار
لأجل الشفاعة، وإن دخل النار خرج بالشفاعة حمله ذلك على فعل القبيح وليس الإغراء
إلا تقوية الدواعي إلى ارتكاب القبائح على وجه يأمن العقاب، والمعلوم أن الإغراء
بالقبيح قبيح فما أدى إلى القبيح وجب أن يكون قبيحاً، والشفاعة بالمعنى الذي ذكره الخصم تؤدي إليه قطعاً فوجب
قبحها، إن قال الخصم: تجويز العقاب كافٍ في نفي القبح؟ قلنا : قطعتم بوقوعها فلا
تجويز مع القطع، فإن قيل، نحن نقول بجواز دخوله النار ثم يخرج منها، وذلك كافٍ في
الزجر إذ من حق العاقل أن لا يؤثر لذة يسيرة على عذاب يومٍ واحد في النار بل ولا
عذاب ساعة واحدة أو أقل منها، فلا يكون الباري مغرياً بالقبيح، قلنا:لا نسلم أن ذلك
كاف في الزجر، لأن الإنسان إلى تأثير العاجل أميل ولا يبعد أن يهون عنده ما يلقاه
من العذاب الآجل المنقطع في جنب فوزه بلذة القبيح العاجل، وهذا هو شأن أكثر الخلق
فإنهم يؤثرون لذة القبائح على ما يعلمونه من شدة العقاب الدائم فكيف إذا علموا
انقطاعه ولم يجزموا بوقوعه كالخصوم. الدليل الثاني:
أن القول بشفاعة النبي صلى اللّه عليه وآله وسلم لمن مات مصراً على الكبائر يؤدي
إلى نقيصة في النبي صلى اللّه عليه وآله وسلم، وما أدى إلى ذلك كان باطلاً، بيان ذلك أن
شفاعة النبي صلى اللّه عليه وآله وسلم للفساق في قوة ما لو قال: يا رب إنك أرسلتني
إلى هؤلاء وأمرتني أن أبلغهم أنه يجب عليهم طاعتك، وأنك تثيبهم عليها وتحرم عليهم
معصيتك، وأنك تعاقبهم على فعلها وقد بلغتهم ذلك ووعدت المحسن بثوابك والمسيء
بعقابك، وأنا اليوم أسألك أن تبطل ذلك وتجعل المسيء مع المحسن والفاسق مع المؤمن،
وهذا لا يقع من عاقل فضلاً عن النبي الكامل فإن التفرقة بين المسيء والمحسن أمر
مركوز في العقول كما في قوله تعالى: ]أَفَنَجْعَلُ
الْمُسْلِمِيْنَ كَالْمُجْرِمِيْنَ مَالَكُمْ كَيْفَ تَحْكُمُوْنَ[ [القلم/35،
36]،
ولو فرض وقوع هذا كان فيه تزهيد للمحسن في الإحسان وتشجيع للمسيء على
العصيان. الدليل
الثالث:
أن ذلك يؤدي إلى أحد باطلين لأنها إما أن تقبل شفاعته للمصرين أم لا، باطل أن تقبل
لما في القرآن من الإخبار بخلود الفساق في النار أبداً أولا تقبل وذلك باطل لما فيه
من حط مرتبته صلى اللّه عليه وآله وسلم ومن إخلاف وعده بقوله: ]عَسَى أنْ
يَبْعَثَكَ رَبُّكَ مَقَامَاً مَحْمُوْدَاً[ فلم يبق إلا القطع بعدم الشفاعة للمصرين على الكبائر وهو
المطلوب. الدليل
الرابع:
أن الشافع للمصر كالشافع بالعفو عمَّن قتل ولد رجل وهو مصر على قتل ولد له آخر،
فكما أن هذه الشفاعة تقبح عقلاً فكذلك الشفاعة للمصرين هكذا حرره قاضي القضاة قال:
ولم يحصل سمع ناقل لقضية العقل فوجب البقاء عليها. هذه الحجج العقلية كما ترى وقد
اعترض بعض النقاد الإحتجاج بها أما الأولى فقال: إن تجويز دخول النار لا يؤثر في
الزجر فمن المعلوم أن لذة شهوة القبيح وإن بلغت ما بلغت لا تغلب هذا الصارف فلم يكن
القطع بالشفاعة مؤدياً إلى الإغراء بالقبيح لوجود الصارف . قلنا:
بل هو إغراء بالقبيح معلوم قطعاً،
وما مثال ذلك إلا قول من قال لشخص اقتل فلاناً وأنا سوف أمنع عنك القصاص وإن نالك
بعض الحبس والإهانة فهو يقدم على القتل وهو يعلم بقبحه وأنه يستحق القصاص، فقول
القائل سأدفع عنك القصاص إغراء لامحالة لأنه أغراه بمقالته فلو صح القطع بالشفاعة
لكانت عين الإغراء فاندفع الإعتراض. ونَظَّر
الحجة الثانية بأن قال:
ليست الشفاعة لإبطال الوعد والوعيد ولا هي للمساواة بين العاصي والمطيع، وإنما هي
للتجاوز عن المسيء والعفو عنه بإسقاط العقاب عنه ولا قبح في
ذلك. قلنا:
بل ذلك قبيح شرعاً وعقلاً، أما شرعاً فلقوله تعالى: ]أَفَنَجْعَلُ
الْمُسْلِمِيْنَ كَالمْجُرِمِيْنَ مَالَكُمْ كَيْفَ تَحْكُمُوْنَ[ وغيرها،
وأما عقلاً فلأن ذلك إغراء بالقبيح وتسوية بين المسيء والمحسن وإن أنكرها الخصم فلا
ينفعه إنكاره وإخلافه للوعيد وهو عين الكذب. ونَظَّر
الحجة الثالثة فقال:
لم تزيدوا في هذه الحجة على دعواكم الخلود ونحن لا نسلم ذلك. قلنا:
ليست حجتنا عين الدعوى بل حجتنا أن الشفاعة من النبي صلى اللّه عليه وآله وسلم تؤدي
إلى أحد باطلين، وما أدى إلى الباطل فهو باطل، وإنكاركم للخلود إنكار لصريح القرآن
والسنة، ومع قيام الحجج عليكم فلا يضرنا إنكاركم والمعاند أُتي من قبل
نفسه. ونظر الحجة
الرابعة بأن قال:
هذا قياس ضعيف لأن أهل الآخرة صاروا ملجأين فليست الشفاعة لهم نظيراً لهذه
الصورة. قلنا:
لقد
أبعدت في مقالك لأن المراد أن العقول السليمة تحكم بقبح الشفاعة للعاصين كما تحكم
العقول السليمه بقبح الشفاعة لمن قتل ولد رجل وهو مصر على قتل ولده الآخر ألا ترى
أن العاصي مات مصراً على عصيانه وقد قال الله تعالى: ]ولو رُدُّوا
لعَادُوْا[ [الأنعام/28]
فليس بقياس شرعي بل هو تمثيل وتنظير على أن الخلاف قائم هل نستدل بالعقل في هذه
المسألة أم لا؟ كما قدمنا وهل يقبح العفو عن العاصي عقلاً أم لا؟ وكل على
أصله. وأما الحجج السمعية:
فالأول
منها قول الله تعالى: ]واتَّقُوا
يَوْمَاً لا تَجْزِي نَفْسٌ عَنْ نَفْسٍ شَيْئاً ولا يُقْبَلُ مِنْهَا شفَاعَةٌ ولا
يُؤْخَذُ مِنْهَا عَدْلٌ ولا هُمْ يُنْصَرُوْنَ[ [البقرة/48]
وقد
ذكرها الله تعالى في هذه السورة مرتين ووجه الإحتجاج بها من
وجوه. الأول:
أنه قال: لا تجزي نفس عن نفس شيئاً، فنكَّر لفظ نفس وجعله في سياق النفي فاقتضى
العموم، قال الطبرسي في تفسيره: وإنما نكَّر النفس ليبين أن كل نفس فهذا حكمها فلو
أسقطت الشفاعة شيئاً من العقاب لكانت قد أجزت نفس عن نفس شيئاً، وهذا ينافي العموم
ويلزم منه تكذيب الصادق. الثاني:
أن لفظة شفاعة نكرة في سياق النفي فتعم شفاعة النبي صلى اللّه عليه وآله وسلم في
نفي قبولها ونفي القبول المقصود منه نفي الشفاعة أي لاشفاعة فتقبل، ويجوز أن يكون
المراد نفي القبول وإن وجدت الشفاعة، والأول أظهر لأن شفاعة النبي صلى اللّه عليه
وآله وسلم لا ترد فإن قيل هذا اللفظ وإن كان عاماً فالمراد به معنى خاص، إذ المراد
الذين قالوا لموسى من بني إسرائيل: نحن أبناء الله وأبناء أنبيائه فيشفعون لنا عند
الله، وعلى هذا فتكون النفس الأولى مؤمنه والثانية كافرة، والكافر لا تنفعه
الشفاعة. قال الطبرسي في تفسيره (صفحة(230)الجزء
الأول:قال المفسرون: حكم هذه الآية مختص باليهود لأنهم قالوا: نحن أولاد الأنبياء
وآباؤنا يشفعون لنا فأياسهم الله عن ذلك فخرج الكلام مخرج العموم المراد به الخصوص
.. قلنا:
العبرة بعموم اللفظ لا بخصوص السبب، وأيضاً فإن الله تعالى لم يقص علينا أخبار
الأمم الماضية وما فعلوه من المعاصي وما توعدهم به من العقاب إلا لنعتبر ونحذر أن
نواقع مثل ما واقعوه فيقع بنا مثل ما وقع بهم وإلا كانت القصص والأخبار عبثاً على
أنه قد جاء معنى الآية خطاباً للأمة المحمدية قال تعالى: ]وذَرِِِ الَّذِيْنَ اتَّخَذُوا دِيْنَهُمْ لَعِبَاً
ولَهُوَاً وغَرَّتْهُمُ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا وذَكِّرْ بِهِ أنْ تُبْسَلَ نَفْسٌ
بِما كَسَبَتْ لَيْسَ لَها مِنْ دُوْنِ اللهِ وَلِيٌ ولا شَفِيْعٌ وإنْ تَعْدِلْ
كُلَّ عَدْلٍٍ لا يُؤخَذْ مِنْهَا...[ الآية [الأنعام/70]. ففيها
ما يكفي ولا يقال هي في الكفار لأنا نقول: الذين اتخذوا دينهم لعباً ولهواً وغرتهم
الحياة الدنيا أعم من الكفر، ولذا قال تعالى: ]وذَكِّرْ بِهِ أنْ تُبْسَلَ نَفْسٌ[، وأصل الإبسال
المنع. الوجه الثالث: أن الآية خرجت مخرج الزجر
والتحذير من المعاصي، والتحذير إنما يكون من ضرر أو ذهاب نفع قد حصل ولم يحذر في
الآية من فوت نفع قد حصل لأنه لم يحصل فلم يبق إلا أنه حذَّر من ضرر نازل، لا يقال:
بل هو تحذير من أن لا يحصل له زيادة نفع لأنا نقول: عدم حصول زيادة النفع ليس فيه
خطر ولا ضرر بدليل أنه لو قال: اتقوا يوماً لا أزيد فيه منافع المستحقين بشفاعة
أحد، لم يحصل زجر عن المعاصي بخلاف ما لو قال: اتقوا يوماً لا أسقط فيه عقاب
المستحق للعقاب بشفاعة شافع، فثبت أن المقصود من الآية نفي تأثير الشفاعة في إسقاط
العقاب فقط. الآية
الثانية من حجج الزيدية والمعتزلة: قول الله Y : ]يَوْمَ تُبْلَى السَّرَائِرُ فمَا لَهُ مِنْ قُوَّةٍ ولا
نَاصِرٍ[ [الطارق/9، 10]، قال البيضاوي: يوم تبلى السرائر تتعرف وتتميز بين ما طاب من
الضمائر وما خفي من الأعمال وما خبث منها وهو ظرف لرجعه (فماله) فما للإنسان (من قوة)
من منعة في نفسه يمتنع بها (ولا ناصر) يمنعه
...اهـ. وقال الطبرسي (من قوة) يمتنع بها
من عذاب الله (ولا ناصر) ينصره من الله ..اهـ. ونقول: أن الإبتلاء هو الإختبار والسرائر ما أسر في القلوب من
العقائد وما خفي من الأعمال والمعنى: أنها تختبر يوم القيامة حتى يظهر خيرها من
شرها ومؤديها من مضيعها، وعن ابن عمر: يبدي الله يوم القيامة كل سر منها فيكون
زيناً في الوجوه وشيناً في الوجوه، أي من أداها كان وجهه مشرقاً ومن ضيعها كان
عكسه. والآية صريحة في نفي الشفاعة لمن اختبرت عقائده فلم تكن
مطابقة لمراد الله تعالى بأن تكون على خلاف ما أمر به أو تقع على وجه يصيرها قبيحة
وإن كانت في الظاهر مطابقة إذ لو نفعته الشفاعة لكان قد وجد له ناصراً، والآية قد
نفته نفياً مؤكداً بمن إذ المعنى النفي لقليل ذلك وكثيره كأنه قيل: ماله شيء من
القوه ولا أحد من الأنصار، فإذاً
معنى الآية: ماله من قوة يدفع بها عن نفسه ما حل به من العذاب وليس له
ناصر ينصره في دفعه، هذا وقد قال الخصوم: بأن هذه الآية في الكفار وإليه لحظ صاحب
التجريد نصير الدين الطوسي، وليس كذلك، لأنا نقول: إن الضمير عائد على الإنسان
السابق ذكره في قوله: ]فَلْيَنْظُرِ الإنْسَانُ مِمَّ خُلِقَ[ [الطارق/5]، والمراد كل إنسان بدليل: ]خُلِقَ مِنْ مَاءٍٍ دَافِقٍ[ [الطارق/6] وكل فرد كذلك ثم حذَّرهم من مواقعة الكبائر بأن عند ابتلائهم
والوقوف على ما ارتكبوه وضيعوه مما أوجبه الله عليهم لا يقدرون على الدفع عن
أنفسهم، ولا يقدر أحد على الدفع عنهم ولا النصرة لهم، وهذا نفي للشفاعة لهم على
أبلغ الوجوه، لأنه حذر تحذيراً مطلقاً متناولاً للعقائد والأعمال والكفر وما دونه
من القبائح، ويؤيده ما أخرجه البيهقي في الشعب قال: قال رسول الله صلى اللّه عليه
وآله وسلم : ((ضمن الله خلقه أربعة: الصلاة والزكاة وصوم رمضان والغسل من الجنابة))
وهن السرائر التي قال الله تعالى: ]يومَ تُبْلى السَّرَائِرُ[ وعن عطاء السرائر: الصوم والصلاة وغسل الجنابة، وعن يحيى بن
كثير مثله، رواها ابن المنذر، وعن قتادة أن هذه السرائر مختبرة فأسروا خيراً
وأعلنوه، فما له من قوة يمتنع بها ولا ناصر ينصره من الله، فإن قيل: إن الجمع بين
الأدلة خير من إهمالها، ويمكن الجمع بأن يقال إنما نفى الناصر في يوم تبلى السرائر،
فأما بعد مضي أهوال القيامة وصدور الخلائق ذات اليمين وذات الشمال يأذن الله
بالشفاعة لأهل الكبائر، قلنا: إنما تحمل الآية على ذلك ويجمع بين الأدلة بما ذكرتم لو كان
دليكم في ثبوت الشفاعة للمصرين قطعياً فأما مع ضعف دليكم أو بطلانه فلا وجه لإخراج
الآية عن ظاهرها. الآية الثالثة: قوله تعالى: ]يَوْمَ لا تَمْلِكُ نَفْسٌ لِنَفْسٍٍٍ شَيْئَاً[ [الإنفطار/19]، وهي كقوله تعالى: ]واتَّقُوا يَوْمَاً لا تَجْزِي نَفْسٌ عَنْ نَفْسٍٍ
شَيْئَاً[ فما قيل في تلك قيل في هذه. الآية الرابعة: قوله تعالى: ]وإنَّ الفُجَّارَ لَفِي جَحِيْمٍ يَصْلَوْنَها يَوْمَ
الدِّيْنِ ومَا هُمْ عَنْهَا بِغَائِبِيْنَ[ [الإنفطار /14_16] وجه الإحتجاج بها من وجوه أحدها: أن لفظ فجار جمع مُعَرَّف
بالألف واللام، والجمع المعرف للإستغراق فيعم كل فاجر والفاسق فاجر إجماعاً، ذكره
الإمام المهدي عليهِ السّلام، فيجب أن يكون في الجحيم لعموم الآية. قالوا: يحتمل العهد وهو استعمال شائع في اللغة حتى لقد قيل أنه
حقيقة فيه. قلنا: هي موضوعة للإستغراق فلا تستعمل في غيره إلا لقرينة ولا
قرينة هنا. قالوا: القرينة موجودة وهي قوله تعالى قبلها: ]كَلاَّ بَلْ تُكَذِّبُوْنَ بِالدِّيْنِ[ [الإنفطار/9] والتكذيب به كفر فيحمل اللفظ على الكافر المتقدم. قلنا: أقرب لفظٍ إليها قوله تعالى: ]وإنَّ عَلَيْكُمْ لَحَافِظِيْنَ[ [الإنفطار/10] وهذا الحكم عام لكل مكلف، وقوله تعالى: ]إنَّ
الأبْرارَ...[ إلخ [الإنفطار/13] مسوق لبيان نتيجة الحفظ والكتابة من الثواب والعقاب، فهي
كالتفسير لما قبلها وتقسيمهم إلى مثاب ومعاقب. الوجه الثاني: من وجوه الإحتجاج إخباره بأنهم يصلونها يوم الدين، ويوم
الدين هو يوم الجزاء، ولا وقت إلا ويدخل فيه كما يقال يوم الدنيا ويوم الآخرة. الوجه الثالث: قوله تعالى: ]وَمَا هُمْ عَنْهَا بِغَائِبِيْنَ[ فنفى غيبتهم عنها
نفياً مؤكداً كقوله: ]ومَا هُمْ بِخَارِجِيْنَ مِنْهَا[ [المائدة/37] وإذا لم يكن هناك موت ولا غيبة فليس بعدهما إلا الخلود
الدائم، ولما كان اسم الفاجر يتناول صاحب الكبيرة ثبت بقاء أصحاب الكبائر في النار
دائماً وذلك ينافي ثبوت الشفاعة لهم، فتعين ثبوتها للمطيعين دونهم وهو المطلوب. الآية الخامسة: قوله تعالى: ]مَا لِلظَّالِمِيْنَ مِنْ حَمِيْمٍٍ ولا شَفِيْعٍٍ
يُطَاعُ[ [غافر/18] وجه الإحتجاج بها: أن اللام في الظالمين للإستغراق فتعم كل
ظالم، والفاسق ظالمٌ إجماعاً، وقد أخبر الله على سبيل القطع بأنه لا شفيع للظالمين
يوم القيامة تقبل شفاعته، وهو عام لأنه نكرة في سياق النفي، وقد أكد العموم بمن،
ولا نزاع أن شفاعة النبي صلى اللّه عليه وآله وسلم مقبولة، فلو كانت للفساق لكانت
مقبولة، وفي ذلك تكذيب الآية، ولو شفع النبي صلى اللّه عليه وآله وسلم للظالمين
فإما أن يطاع أولا، إن قلت: لا يطاع وقع الخطأ، لأن الأدلة قاضية بثبوت شفاعته
ولإجماع المسلمين أن شفاعته صلى اللّه عليه وآله وسلم مقبولة غير مردودة وطاعة غير
معصية، وإن قلت: يطاع أكذبت الله تعالى في خبره لأنه أخبر: أن ما للظالمين من حميمٍ
ولا شفيعٍ يطاع. فلم يبقَ إلا أن رسول الله صلى اللّه عليه وآله وسلم لا يشفع
للظالمين، ويجب القطع بأن شفاعة النبي صلى الله عليه وآله وسلم المجمع على وقوعها
للمتقين دون غيرهم لئلا تتناقض حجج الله تعالى، وقد اعترض الخصوم الإستدلال بهذه
الآية، ومنهم نصير الدين الطوسي وشارح التجريد وغيرهما، قالوا: إن الله نفى أن يكون
لهم شفيع يطاع، وحقيقة الطاعة نحو حقيقة الأمر في أنها لا تكون إلا لمن فوقك في
الرتبة فالمنفي إنما هو شفيع يطيعه الله تعالى، لأنه ليس في الوجود أحد أعلا رتبة
من الله حتى يقال: إن الله يطيعه ونحن لم نثبت هذا، وإنما أثبتنا شفيعاً يجاب،
والآية لم تدل على نفيه، والجواب من وجوه، أحدها: منع كون الطاعة كالأمر في اقتضاء
كون المطاع أعلا رتبة من المطيع، وإنما هي فعل ما يريده الطالب والمطيع مَنْ فعل
ذلك، ويدل عليه قول الشاعر:
رب مـن أنضجت غيضاً قـلبه
قـد
تـمنى لي مـوتاً لم يطع أي لم يفعل ما أراده ولم يجب إلى ذلك فهي إذاً بمعنى الإجابة
وأصرح منه قوله صلى اللّه عليه وآله وسلم لما قال له عمه حين نبع الماء من بين
أصابعه: إن ربك ليطيعك يا محمد؟! ((وأنت يا عم لو أطعته لأطاعك)). الثاني: أنه لو ثبت أن الطاعة كالأمر فنقول هي هنا مجاز في المشفع
بجامع فعل المراد في كل من المطاع والمشفع، فإن المطيع يفعل ما أراده المطاع، ويجيب
إليه والمشفوع إليه يفعل ما أراده الشفيع ويجيب إليه فكأنه قال: ولا شفيع يشفع أي
يجاب إلى شفاعته، ولا يجوز حملها على المعنى الحقيقي لأنه يؤدي إلى ذهاب فائدة
الآية بالمرة، إذ كل أحد يعلم أنه ليس فوقه تعالى أحد فيصير الإخبار بذلك كالإخبار
بأن السماء فوقنا والأرض تحتنا، ولا يجوز حمل كلام الحكيم على ما يذهب فائدته. وأيضاً قوله: (شفيع) يمنع من حمل الطاعة على ذلك، لأن من كان أعلا رتبة لا
يسمى شفيعاً بل يسمى آمراً وحاكماً، فقوله: (شفيع) يفيد أن المطاع هنا ليس بذي رتبة
فتعين أن يكون بمعنى المجاب. فإن قيل: لا نسلم أن حمل المطاع على المعنى الحقيقي يذهب فائدة الآية،
لأنا نقول: الفائدة في ذكره أن المشركين كانوا يعتقدون أن الأصنام تشفع لهم عند
الله، وأنه يقبل شفاعتها. قلنا: هذا مبني على ما يزعمونه من أن الآية في الكفار وهو باطل،
فإنها عامة في الكفار وغيرهم لما قدمنا من أن اللام للإستغراق. الوجه الثالث: أن الآية خرجت مخرج الزجر عن المعاصي ولا زجر إلا إذا أريد
بها نفي الشفاعة في إسقاط العقاب، ولا يمكن حملها إلا على قولنا. الآية السادسة: قول الله تعالى في الملائكة: ]ولا يَشْفَعُوْنَ إلاَّ لِمَنِ ارْتَضَى[ [الأنبياء/28] ومثلها قوله تعالى: ]وكَمْ مِنْ مَلَكٍ فِي السَّمَوَاتِ لا تُغْنِي شَفَاعَتُهُمْ
شَيْئَاً إلاَّ مِنْ بَعْدِ أنْ يَأذَنَ اللهُ لِمَنْ يشَاءُ ويَرْضَى[ [النجم/26] والفاسق ليس بمرضي فلا تجوز شفاعتهم له، وإذا لم يجز من
الملائكة فلا يجوز من الأنبياء إذ لا قائل بالفرق، وقد اعترض الخصوم الإستدلال بهذه
الآية من وجوه بأن قالوا: الفاسق مرضي عند الله لإيمانه فهو داخل فيها، لأن من صدق
عليه أنه مرتضى عند الله لأجل هذا الوصف صدق عليه أنه مرتضى عند الله، لأن قولنا
مرتضى عند الله جزء من مفهوم قولنا مرتضى عند الله بحسب إيمانه، وإذا صدق المقيد
صدق المطلق، ولأجل هذا جعلها الرازي حجة لهم. والجواب: أن ما حروره هو بناءٌ منهم على مذهبهم في أن الفاسق يسمى
مؤمناً وهو باطل لما بين الإسمين من التنافي وللأدلة المقررة لعلماء العدل المعتمدة
المذكورة في باب الأسماء والأحكام من الكتب الأصولية المبسوطة فلا نطيل الكلام
بذكرها، وإذا لم يكن الفاسق مؤمناً فليس بمرتضى لا يقال نطقه بالشهادتين واعتقاده
كون الشرائع حقاً مرضياً عند الله، ومن رضي الله فعله فهو مرتضى عنده، لأنا نقول:
الرضى بالفعل غير الرضى عن الفاعل فلا يصح إطلاق الرضى عن الفاعل إلاَّ إذا أكمل ما
يجب عليه واجتنب الكبائر، ولو سلم أنَّ الفاسق مرتضى بحسب نطقه واعتقاده فليس
بمرتضى على الإطلاق، وإنَّما المرتضى على الإطلاق المؤمن الذي ليس بفاسق، وحينئذٍ
يبطل قول الرازي إذا صدق المقيد صدق المطلق، وقد قيل: أنَّ الخصم يوافق على أنَّ
الفاسق ليس بمرتضى على الإطلاق وإذا لم يكن مرتضى على الإطلاق لم تشمله الآية. الوجه الثاني من إعتراضات الخصم: أنه يجوز حمل الآية على أن المراد من ارتضى الشفاعة له أي من
ارتضاه أن يشفع بدليل قوله تعالى: ]مَنْ ذَا الَّذِي يَشْفَعُ عِنْدَهُ إلاَّ
بِإذْنِهِ[ [البقرة/255]. والجواب عن
هذا: أن الآية خارجة مخرج الترغيب في الطاعة والزجر عن المعصية،
وهذا لا يتم إلا على قولنا، ويجب أن يحمل كتاب الله على ما فيه فائدة، وإن حصلت
فعلى ما يكون الفوائد معه أكثر على أن ذلك الإحتمال خلاف الظاهر ولا موجب
للتأويل. الوجه الثالث من إعتراضات الخصم: أنه قد ثبت في علم المنطق أن المهملتين لا تتناقضان فإنا إذا
قلنا: زيدٌ عالمٌ، زيد ليس بعالم فلا تناقض لاحتمال صدقهما معاً بأن يقال هو عالم
بالفقه غير عالم بالنحو، وكذا يقال فيما نحن فيه صاحب الكبيرة مرتضى صاحب الكبيرة
غير مرتضى، لاحتمال أنه مرتضى بحسب اعتقاده ليس بمرتضى بحسب فسقه. والجواب: أنه لا يجوز حمل كتاب الله تعالى على القواعد المنطقية،
سلمنا فلا نسلم منعهم التناقض مع الإتحاد في الموضوع والمحمول، وهاهنا قد اتحدا
فيهما، نعم يمنعون ذلك إذا لم يتحدا في الإضافة نحو: زيد أب أي لعمر، زيد ليس بأب
أي لبكر، ولعل المعترض أراد هذا وهو أنهما مختلفان في الإضافة فهو مرتضى بحسب دينه
ليس بمرتضى بحسب فسقه، وهذا وهم لأنه لا دين للفاسق لأن الدين والإيمان بمعنى واحد
فثبت أن لا دين للفاسق وبه يرتفع الإشكال، وإذ قد أتينا على ما أمكن إيراده من
الحجج من القرآن الكريم، وأوردنا بعض ما يتعلق بالآيات وبعض ما اعترض به الخصوم
وبعض الردود فسنورد ما ورد من السنة الشريفة من الأخبار التي تدل على أن النبي صلى
اللّه عليه وآله وسلم جعل شفاعته مترتبة على فعل الطاعات، قال مولانا الإمام الحجة
العلامة علي بن محمد العجري ـ رحمه الله ـ قال في العلوم: حدثنا محمد قال حدثني
أحمد ابن عيسى عن حسين عن أبي خالد عن زيد عن آبائه عن علي عليهم السلام، قال: قال
رسول الله صلى اللّه عليه وآله وسلم : ((ما من امرءٍ مسلم قام في جوف الليل إلى
سواكه فاستن به ثم تطهر فأسبغ الوضوء، ثم قام إلى بيت من بيوت الله عزو جل إلا أتاه
ملك فوضع فاه على فيه فلا يخرج من جوفه شيء إلا دخل في جوف الملك حتى يجيء يوم
القيامة شهيداً شفيعاً)) ورواه في المجموع، وفي أمالي المرشد بالله أخبرنا محمد بن
محمد بن إبراهيم الجزار قال أخبرنا أبو بكر محمد بن عبدالله بن إبراهيم البزار
حدثنا أبو بكر بن عبدالله بن محمد بن أبي الدنيا، حدثنا الفضل بن غانم، حدثنا
عبدالملك بن هارون بن عنترة عن أبيه عن جده عن أبي الدرداء، قال: قال رسول الله صلى
اللّه عليه وآله وسلم : ((من حفظ من أمتي أربعين حديثاً من أمر دينها بعثه الله يوم
القيامة فقيهاً وكنت له يوم القيامة شافعاً وشاهداً))، وفي أمالي أبي طالب، أخبرنا
ابن عدي، قال: حدثنا عبد الله بن يحيى بن موسى أبو محمد السرخسي حدثنا على بن حجر
حدثنا إسحاق بن نجيح عن ابن جريج عن عطاء عن ابن عباس قال: قال رسول الله صلى اللّه
عليه وآله وسلم : ((من حفظ على أمتي أربعين حديثاً من السنة كنت له شفيعاً يوم
القيامة)) أخرجه ابن عدي، وعن أبي سعيد عن النبي صلى اللّه عليه وآله وسلم : ((من
حفظ على أمتي أربعين حديثاً من سنتي أدخلته يوم القيامة في شفاعتي)) أخرجه ابن
النجار. وهذا الحديث له طرق إلا أن بعضها ليس فيه ذكر الشفاعة بل
معناه أنه من حفظ على الأمة أربعين حديثاً بعث يوم القيامة فقيهاً، قال النووي: قد
روينا هذا الحديث عن علي وابن مسعود ومعاذ ابن جبل وأبي الدرداء وابن عمر وابن عباس
وأنس وأبي هريرة وأبي سعيد الخدري من طرق كثيرة وروايات متبوعات، واتفق الحفاظ على
أنه حديث ضعيف وإن كثرت طرقه، وفي مختصر المقاصد الحسنة أنه ليس فيها طريق تسلم من
العلة، وقال البيهقي عقيب حديث أبي الدرداء: هذا متن مشهور فيما بين الناس، وليس
إسناده صحيح، قلت: اتفاق الحفاظ على ضعفه لا يمنع من الإحتجاج به لأن ضعفه إنما هو
باعتبار عدم تكامل شروط الصحيح على قواعد أهل الأثر، لكن ذلك الضعف منجبر بكثرة
الطرق، وقد دل على هذا كلام البيهقي فإنه لم ينق إلا صحة السند لا صحة المتن
وصلاحيته للإحتجاج به، ولهذا حكم بشهرته، وفي أمالي المرشد بالله ـ uـ أخبرنا أبو الطيب طاهر بن عبدالله إمام الشافعية بقراءتي
عليه، حدثنا أبو العباس أحمد بن محمد الأنماطي إملاءً أخبرنا أبو نعيم عبدالملك بن
محمد الإستراباذي، حدثنا أبو ثوبة أحمد بن سالم العسقلاني، حدثنا الحسين بن علي
الجعفي عن زائدة عن عاصم عن أبي هريرة عن النبي صلى اللّه عليه وآله وسلم قال:
((نعم الشفيع القرآن يوم القيامة يقول: يا رب إنك جعلتني في جوفه فكنت أمنعه شهوته،
يا رب فأكرمه، قال: فيكسى حلة الكرامة، قال: فيقول: يا رب زده، قال: فيحلى حلية
الكرامة، قال: يا رب زده؟ فيكسى تاج الكرامة، قال: فيقول يا رب: زده فيرضى عنه،
فليس بعد رضاء الله شيء)) وفيه أخبرنا أبو بكر بن ريدة قراءة عليه أخبرنا الطبراني،
حدثنا الدبري، حدثنا عبد الرزاق حدثنا معمر عن يحيى بن أبي كثير عن أبي سلمة بن
عبدالرحمن عن أبي أمامة قال: قال رسول الله صلى اللّه عليه وآله وسلم : ((تعلموا
القرآن فإنه شافع لأصحابه يوم القيامة، تعلموا البقرة وآل عمران، تعلموا الزهراوين
فإنهما يأتيان يوم القيامة كأنهما غمامتان أو غيابتان، أو كأنهما فرقان من طير صواف
يجادلان عن صاحبهما، وتعلموا البقرة فإن تعلمها بركة وإن تركها حسرة ولا يطيقها
البطلة (يعني السحرة)) وله عنه طريق أخرى عن أبي إسحاق إبراهيم بن طلحة بن غسان عن
أبي بكر أحمد بن محمد الأسفاطي عن أبي خليفة بن الحباب الجمحي عن مسلم عن علي بن
المبارك عن يحيى بن أبي كثير عن زيد بن سلام عن جده عن أبي أمامة فذكره وأخرجه مسلم
عن الحسن بن علي الحلواني عن أبي توبة الربيع بن نافع عن معاوية بن سلام عن زيد عن
أبي سلام عن أبي أمامة الباهلي، والغمامة والغيابة بإثنتين من أسفل والفِرْقان بكسر
الفاء وسكون الراء القطعتان والجماعتان. وقال الهادي uفي الأحكام: بلغنا عن زيد بن علي عن آبائه عن علي uأنه قال: قال رسول الله صلى اللّه عليه وآله وسلم : ((يأتي
القرآن يوم القيامة وله لسان طلق ذلق قائلاً مصدقاً وشفيعاً مشفعاً فيقول: يا رب
جمعني فلان عبدك في جوفه فكان لا يعمل فيَّ بطاعتك ولا يتجنب فيَّ معصيتك ولا يقيم
فيَّ حدودك، قال: فيقول: صدقت فيكون ظلمة بين عينيه وأخرى عن يمينه وأخرى عن شماله
وأخرى من خلفه تنتره هذه وتدفعه هذه حتى يذهب به إلى أسفل درك من النار، قال: ويأتي
فيقول يا رب جمعني فلان عبدك في جوفه فكان يعمل فيَّ بطاعتك ويجتنب فيَّ معصيتك
ويقيم فيَّ حدودك، فيقول: صدقت فيكون له نورٌ يسطع ما بين السماء والأرض حتى يدخل
الجنة، ثم يقال: إقرأ وارقَ فلك بكل حرف درجة في الجنة حتى تساوي النبيين والشهداء
هكذا، وجمع بين المسبحة والوسطى)) وفي أمالي المرشد بالله: أخبرنا أبو طاهر بن
عبدالرحيم بقراءتي عليه حدثنا الربيع بن بدر حدثنا الأعمش عن شفيق عن عبدالله، قال:
قال رسول الله صلى اللّه عليه وآله وسلم : ((القرآن شافع مشفع وماحل مصدق، من جعله
أمامه قاده إلى الجنة، ومن جعله خلفه ساقه إلى النار)) ورواه في الجامع الصغير،
وقال: أخرجه ابن حبان والبيهقي في الشعب عن جابر والبيهقي فيها والطبراني في الكبير
عن ابن مسعود، قال الشيخ العزيزي: حديث صحيح، قوله: وماحل أي خصم مجادل، وقيل ساع
من قولهم محل بفلان إذا سعى به إلى السلطان، والمراد به أنه مجادل عنه أوساع في رفع
مرتبته إن كان مؤمناً أو أنه يجادله بأن يخبر بتركه العمل كما مر، ويسعى به إلى من
يجازيه بقبيح فعله إن كان مجرماً، والله أعلم. وفي أمالي المرشد بالله عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى اللّه عليه وآله وسلم : ((سورة في القرآن
شفعت لأصحابها أو لصاحبها حتى غفر الله له، تبارك الذي بيده الملك)) وأخرجه أحمد
وأبو داود والنسائي وابن ماجة، وابن الضريس والحاكم وصححه ابن مردويه والبيهقي في
الشعب. وفي أمالي المرشد بالله عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى اللّه عليه وآله وسلم: ((من قال: اللهم
صلي على محمد وعلى آل محمد كما ترحمت على إبراهيم وآل إبراهيم شهدت له يوم القيامة
بشهادة وشفعت له بشفاعة)) وفيه أخبرنا ابن ريدة أخبرنا الطبراني، حدثنا الحسين بن
إسحاق التستري وعبدان بن أحمد قالا: حدثنا محمد بن مصفى، حدثنا عقبة بن الوليد،
حدثنا إسماعيل بن عبدالله الكندي عن الأعمش عن أبي وائل عن عبدالله قال: قال رسول
الله صلى اللّه عليه وآله وسلم في قوله تعالى: ]فَيُوَفِّيْهِمْ أُجُورَهُمْ ويَزِيْدُهُمْ مِنْ
فَضْلِهِ[ [النساء/173] قال: ((أجورهم يدخلهم الجنة ويزيدهم من فضله الشفاعة لمن
وجبت له الشفاعة لمن صنع إليهم المعروف في الدنيا)) وأخرجه ابن المنذر وابن أبي
حاتم والطبراني وابن مردويه وأبو نعيم في الحلية والإسماعيلي في معجمه، قال
السيوطي: بسند ضعيف، وفي أمالي أبي طالب: أخبرنا أبي حدثنا حمزة بن القاسم أنا سعيد
بن عبدالله عن هارون ابن مسلم عن مسعدة عن الصادق عن أبيه عن آبائه قال: قال رسول
الله صلى اللّه عليه وآله وسلم : ((إن الله سبحانه يجمع فقراء هذه الأمة ومياسيرها
في رحبة باب الجنة ثم يبعث منادياً فينادي من بطنان العرش أيما رجل منكم وصله أخوه
المؤمن في الله ولو بلقمة من خبز فليأخذ بيده على مهل حتى يدخله الجنة، قال: وهم
أعرف بهم يومئذٍ من آبائهم وأمهاتهم فيجيء الرجل منهم حتى يضع يده على ذراع أخيه
المكرم له الواصل له فيقول: يا أخي أما تعرفني ألست الصانع بي كذا وكذا فيعرفه كل
شيء صنعه من البر والتحفة فقم معي، فيقول: إلى أين؟ فيقول: لأدخلك الجنة فإن الله
قد أذن في ذلك فينطلق به آخذاً بيده ولا يفارقه حتى يدخله الجنة بفضل الله
U لهما ومنّه عليهما)) وهذا الحديث نص في أن شفاعة هؤلاء إنما
تكون لمن وصلهم مؤمناً دون غيره وإلا لما كان للتقييد بالأخ المؤمن فائدة، ويؤكده
كون تلك الصلة خالصة لوجه الله كما يدل عليه قوله في الله.. وفي أمالي المرشد بالله
عليهِ السّلام: أخبرنا أبو غسان حدثنا أبو الصلت، حدثنا ابن مكرم حدثنا نصر بن علي
أخبرني أبي حدثنا الحسن بن أبي الحسن، قال: سمعت أبا العالية البراء لما قتل الحسين
بن علي أتي عبيد الله برأسه فأرسل إلى أبي برزة الحديث، وفيه قال عبيد الله كيف ترى
شأني وشأن الحسين بن علي يوم القيامة؟ قال: الله أعلم، وما علمي بذلك، قال: إنما
أسألك عن رأيك؟ قال: إن سألتني عن رأيي فإن حسيناً يشفع له أبوه محمد ويشفع لك
زياد... الخبر) وفيه دليل أن المعروف عند الصحابة والمشهور فيما بينهم أن شفاعة
النبي صلى اللّه عليه وآله وسلم لا تكون إلا للمطيعين دون العاصين، إذ الخلاف في من
تكون له الشفاعة لم يقع يومئذٍ، وإنما كانوا في مسائل الأصول على دين واحد وعقيدة
واحدة، وإنما ظهر الخلاف في زمن التابعين، وفي الجامع الصغير عن علي uمرفوعاً: ((شفاعتي لأمتي من أحب أهل بيتي)) أخرجه الخطيب، وفي
أمالي المرشد بالله عليهِ السّلام: أخبرنا ابن ريدة، أخبرنا الطبراني حدثنا محمد بن
عبدالله الحضرمي، حدثنا أبو كريب حدثنا عثمان بن سعيد، حدثنا عمرو بن حفص عن قيس بن
مسلم عن طارق بن شهاب عن عبدالله أن النبي صلى اللّه عليه وآله وسلم قال: ((ما من
مسلم يقول حين يسمع النداء بالصلاة فيكبر ويشهد أن لا إله إلا الله ويشهد أن محمداً
رسول الله صلى اللّه عليه وآله وسلم ثم يقول: اللهم اعط محمداً الوسيلة واجعل في
الأعلين درجته ومن المصطفين محبته وفي المقربين ذكره إلا وجبت له الشفاعة يوم
القيامة)) وفي أمالي المرشد بالله عليهِ السّلام: أخبرنا ابن غيلان أخبرنا أبو بكر
الشافعي، حدثنا إبراهيم بن الهيثم البلدي، حدثنا علي بن عياش الحمصي، حدثنا شعيب بن
أبي حمزة عن محمد بن المنكدر عن جابر قال: قال رسول الله صلى اللّه عليه وآله وسلم
: ((من قال حين يسمع النداء: اللهم رب هذه الدعوة التامة والصلاة القائمة آتِ
محمداً الوسيلة والفضيلة وابعثه مقاماً محموداً الذي وعدته إلا حلت له الشفاعة يوم
القيامة)) وأخرجه البخاري عن علي بن عياش بالسند المذكور، وأخرجه أبو داود، وعن
أحمد ابن حنبل والترمذي عن محمد بن سهل وإبراهيم بن يعقوب وأخرجه أيضاً النسائي عن
عمرو بن منصور وابن ماجة عن محمد بن يحيى والعباس بن الوليد ومحمد بن أبي الحسين
سبعتهم عن علي بن عياش، وعَياش بفتح العين المهملة وتشديد الياء آخر الحروف بعدها
ألف ثم ثنتين معجمة والحديث أخرجه أحمد والإسماعيلي، وقد توبع ابن المنكدر عليه عن
جابر، فأخرجه الطبراني في الأوسط عن أبي الزبير عن جابر نحوه، وفي صحيح مسلم عن
عبدالله بن عمرو بن العاص أنه سمع النبي صلى اللّه عليه وآله وسلم يقول: ((إذا
سمعتم المؤذن فقولوا مثل ما يقول، ثم صلوا عليَّ، فإنه من صلى عليَّ صلاة صلى الله
عليه بها عشراً، ثم سلوا لي الوسيلة فإنها منزلة في الجنة لا تنبغي إلا لعبد من
عباد الله وأرجو أن أكون أنا هو، فمن سأل لي الوسيلة حلت له الشفاعة)) وأخرجه أبو
داود، وفي أمالي أبي طالب: أخبرنا أبو الحسين البحري حدثنا الحسين بن علي المصري،
حدثنا أحمد الأودي، حدثنا زيد بن الحباب، حدثنا موسى بن عبيدة عن محمد بن عمر عن
ابن عباس، قال: قال رسول الله صلى اللّه عليه وآله وسلم: ((ما من عبد يسأل الله لي
الوسييلة في الدنيا إلا كنت له شهيداً أو شفيعاً يوم القيامة)) وفيه أخبرنا أبو
الحسين الحسني حدثنا ابن مهرويه، حدثنا داود الغازي، حدثنا علي بن موسى الرضا عن
أبيه الكاظم عن أبيه الصادق عن أبيه الباقر عن أبيه زين العابدين عن أبيه الحسين عن
أبيه علي عليهم السلام قال: قال رسول الله صلى اللّه عليه وآله وسلم: ((ثلاثة أنا
شفيع لهم يوم القيامة: الضارب بسيفه أمام ذريتي، والقاضي لهم حوائجهم عندما اضطروا
إليه، والمحب لهم بقلبه ولسانه)).. وعن النبي صلى اللّه عليه وآله وسلم من حديث
طويل يخاطب علياً عليهِ السّلام: ((وإنك غداً على الحوض خليفتي، وأنك أول من يرد
عليَّ الحوض، وأنك أول من يكسى معي، وأنك أول داخل الجنة من أمتي، وأن شيعتك علي
منابر من نور مبيضة وجوههم حولي أشفع لهم ... الحديث))، وعن النبي صلى اللّه عليه
وآله وسلم أنه قال: ((من زار قبري وجبت له شفاعتي)) رواه الهادي في الأحكام وأخرجه
ابن عدي والبيهقي في الشعب عن ابن عمر، قال العزيزي: بإسناد ضعيف، قال المولى
العلامة علي بن محمد العجري ـ رحمه الله ـ قلت رواية الهادي uتدفع ضعف إسنادها، وأخرج البيهقي في الشعب عن أنس عن النبي
صلى اللّه عليه وآله وسلم : ((من زارني بالمدينة محتسباً كنت له شهيداً يوم
القيامة)) قال العلقمي: بجانبه علامة الحسن اهــ. وفي أمالي أبي طالب عليهِ السّلام: أخبرنا أبو العباس أنا الحسن القصري، حدثنا فضالة بن محمد،
حدثنا سليمان بن الربيع عن كادح عن موسى بن وجيه، عن زيد بن علي عن أبيه عن جده عن
علي uقال: قال رسول الله صلى اللّه عليه وآله وسلم: ((إن أقربكم
مني غداً وأوجبكم عليَّ شفاعة أصدقكم لساناً وأدَّاكم لأمانته وأحسنكم خلقاً
وأقربكم من الناس)) وعن رسول الله صلى اللّه عليه وآله وسلم أنه كان يقول: ((أنا
شفيع لكل أخوين تآخيا في الله من مبعثي إلى يوم القيامة)) رواه الهادي عليهِ
السّلام، وهذا القدر كافٍ، إذ الإستقصاء متعذر، والتطويل يخرجنا عن المقصود،
والمراد التنبيه على كثرة الأحاديث في هذا المعنى، أعني كون الشفاعة مترتبة على
حصول الطاعة. انتهى كلام مولانا العلامة علي بن محمد العجري، وقد نقلت الأحاديث من كتابه/ مفتاح السعادة، ورجعت إلى
الأماليات في مقابلة ما نقله منها على أصولها، ثم قال ـ رحمه الله ـ فائدة: وليس للخصم أن يقول تلك الخصال من أسباب الشفاعة ولو كان
فاعلها، أي فاعل تلك الخصال، من أهل الكبائر كما يفيده الظاهر، لأنا نقول: الكبائر محبطة للأعمال، وإذا كانت هذه الخصال قد بطلت وحبطت
فكيف تؤثر في استحقاق الشفاعة إذ لا معنى لإحباطها إلا بطلان ما ترتب عليها والثواب
والسلامة من العقاب. واعلم: أنَّا لما ذكرنا من الأحاديث جملة صالحة دالة على كون الشفاعة
مترتبة على حصول الطاعة فلنذكر جملة صالحة من الأخبار المروية عنه صلى اللّه عليه
وآله وسلم الدالة والمبينة أن في المعاصي ما يحرم مرتكبها شفاعة النبي صلى اللّه
عليه وآله وسلم، وسنأتي منها بشيء يسير، والغرض التنبيه لا الإحاطة وقد اعتمدنا هنا
بعضاً مما جمعه مولانا العلامة علي بن محمد العجري ـ رحمه الله ـ في كتابه مفتاح السعادة، وقابلنا ما كان من
الأماليات وغيرها على أصولها، ولكني تعمدت النقل من كتابه لأنه أثلج للصدر وأقرب
إلى القبول، والله أسأله أن ينوِّر أبصارنا وبصائر قلوبنا لإصابة الحق إنه على ما
يشاء قدير، قال رحمه الله: فمن ذلك ما رواه المرشد بالله uفي الأمالي: أخبرنا أبو القاسم عبدالعزيز بن علي الأرجى،
أخبرنا أبو القاسم عمر بن محمد بن سنبك، أخبرنا أبو الحسين عمر بن الحسين الأشناني،
حدثنا أبو بكر محمد بن زكريا المروروذي، حدثنا موسى بن إبراهيم المروزي حدثني موسى
بن جعفر عن أبيه جعفر عن أبيه محمد عن أبيه علي بن الحسين عن أبيه عن علي
uقال: قال رسول الله صلى اللّه عليه وآله وسلم: ((لا نالت
شفاعتي من لم يخلفني في عترتي أهل بيتي)) وبإسناده عن علي uقال: قال رسول الله صلى اللّه عليه وآله وسلم: ((ويل لأعداء
أهل بيتي المستأثرين عليهم لا نالتهم شفاعتي ولا رأوا جنة ربي)) وفيه أخبرنا محمد
بن علي المكفوف أخبرنا ابن حبان حدثنا الحسن بن محمد بن أبي هريرة حدثنا عبدالله بن
عبدالوهاب حدثنا محمد بن الحارث القرشي، حدثنا محمد بن جابر، حدثنا حبيب ابن الشهيد
عن عطاء بن أبي رباح عن ابن عباس ـ tـ قال: قال رسول الله صلى اللّه عليه وآله وسلم: ((مَنْ سره
أن يحيى حياتي ويموت ميتتي ويدخل جنة عدن التي غرسها ربي U بيده فليتول علي ابن أبي طالب وأوصياءه فهم الأولياء والأئمة
من بعدي أعطاهم الله علمي وفهمي وهم عترتي من لحمي ودمي إلى الله ـ Uـ أشكو من ظالمهم من أمتي، والله لتقتلنهم أمتي لا أنالهم
الله شفاعتي)) وعن أنس عن النبي صلى اللّه عليه وآله وسلم: ((أحبوا أهل بيتي وأحبوا
علياً من أبغض أحداً من أهل بيتي فقد حرم شفاعتي)) أخرجه ابن عدي في الكامل، وعن
عثمان عن النبي صلى اللّه عليه وآله وسلم: ((مَنْ غش العرب لم يدخل في شفاعتي ولم
تنله مودتي)) أخرجه أحمد والترمذي، وعن ابن عباس عن النبي صلى اللّه عليه وآله
وسلم: ((من سره أن يحيى حياتي ويموت مماتي ويسكن جنة عدن التي غرسها ربي فليتولَ
علياً من بعدي وليوال وليه وليقتد بأهل بيتي من بعدي فإنهم عترتي خلقوا من طينتي
ورزقوا فهمي وعلمي فويل للمكذبين بفضلهم من أمتي القاطعين فيهم صلتي لا أنالهم الله
شفاعتي)) أخرجه أبو نعيم في الحلية والرافعي، وعن علي uعن النبي صلى اللّه عليه وآله وسلم: ((من آذاني في أهل بيتي
فقد آذى الله، ومن أعان على أذاهم فقد أذن بحرب من الله ولا نصيب له في شفاعتي))
رواه إسحاق بن يوسف من طريق الأصبغ، وفي صحيفة علي بن موسى الرضا أن النبي صلى
اللّه عليه وآله وسلم قال في الحسين: ((تقتلك الفئة الباغية لا أنالها الله
شفاعتي)) وأخرج الطبراني في الكبير عن أبي أمامة عن النبي صلى اللّه عليه وآله
وسلم: ((صنفان من أمتي لا تنالهما شفاعتي: إمام ظلوم غشوم وكل غال مارق)). وفي
العلوم: أنا محمد حدثني أحمد بن صبح عن حسين عن أبي خالد عن زيد عن
آبائه عن علي u قال: سمعت رسول الله صلى اللّه عليه وآله وسلم يقول: ((ثلاثة
لا تنالهم شفاعتي: ناكح البهيمة، ولاوي الصدقة، والمنكح من الذكور مثل ما تنكح
النساء)) هذا ما أردنا نقله من الأحاديث الدالة عن أن من الذنوب ما يمنع شفاعة
النبي صلى اللّه عليه وآله وسلم. و لما نجز تحرير أدلة الزيدية وسائر العدلية في مسألة الشفاعة
وكان قول المرجية بعدم خلود فساق أهل الصلاة في النار أو أنهم موقوفون تحت المشيئة
شبهة من شبه المخالفين أردنا أن نقيم الدلالة على خلود الفساق في النار، واعلم: أن
المرجية على طبقاتهم متفقون أن الله تعالى لا يخلد أحداً من عصاة أهل الصلاة وإن
عقوبتهم منقطعة هذه رواية الإمام يحيى بن حمزة uفي الشامل ورواية القرشي في المنهاج أن منهم من جوز أن يخلدوا
وأن لا يخلدوا، وقطع الباقون على أنهم يخرجون من النار، وقبل الخوض في أدلة الخلود
نتكلم على معناه لغةً، فنقول: أن الخلود هو الدوام هذا هو الظاهر من معنى الخلود،
وهو السابق إلى الأفهام، وهو الذي نقله أئمة اللغة، قال الجوهري في الصحاح: الخلود
هو البقاء الدائم، وقال في اللسان في مادة خلد الخلد دوام البقاء في دار لا يخرج
منها، خلد يخلد خلداً وخلوداً، بقي وأقام ودار الخلد الآخرة لبقاء أهلها فيها،
وخلده الله وأخلده تخليداً وقد أخلد الله أهل دار الخلد فيها وخلدهم، وأهل الجنة
مخلدون آخر الأبد اهـ. وقد اعترض الرازي وغيره فقالوا: الخلود طول المكث من غير دوام اهـ. وقد احتجَّ أصحابنا بقوله تعالى: ]وَمَا جَعَلْنَا لِبَشَرٍ مِنْ قَبْلِكَ
الْخُلْدَ[ [الأنبياء/34] والمراد البقاء الذي لا ينقطع، فأما البقاء المنقطع فقد جعله
لكل البشر، إذ لا شك أن من كان قبله صلى الله عليه وآله وسلم وبعد موته قد لبث في
الدنيا لبثاً منقطعاً، فلو كان الخلود موضوعاً للبث المنقطع لم يكن للآية معنى، فلا
بد من القول بأنه تعالى أراد وما جعلنا الخلود الذي هو الدوام لبشر من قبلك أفإن مت
فهؤلاء أعداءك يبقون بعدك دائمين، ويدل أيضاً على أن الخلود هو البقاء الدائم
المؤبد أنه صح تأكيده بلفظ التأبيد كما قال تعالى: ]خَالِدِيْنَ فِيْهَا أبَدَاً[ [المائدة/119] فإن أهل اللغة نصوا على أن قوله: {أبداً} تأكيد لمعنى الخلود، فلولا أن الخلود يفيد دوام
البقاء لما صح تأكيده بما يفيده، ومنها أنه يصح الإستثناء من الخلود مقداراً من
الوقت، فيقال: خالدين فيها إلا سنة أو سنتين، فلولا أن لفظة الخلود مستغرقة لم يصح
الإستثناء. قال الإمام يحيى بن حمزة عليه السّلام: ويوضح ذلك أن تلك الآيات دالة على خلود الكفار فيجب أن تكون
دالة على خلود الفساق، احتج الرازي على ما ادعاه في معنى الخلود فقال: قد بنيتم أن
لفظ الخلود مستعمل في لفظ المكث مع الدوام، ونحن بنينا أنها مستعملة في طول المكث
من غير دوام، فأما أن يجعل اللفظ مجازاً في أحدهما وهو على خلاف الأصل أو مشتركاً
بينهما، وهو أيضاً على خلاف الأصل أو نجعله مقيداً بطول المكث فقط حتى يكون اسم
الخلود بالنسبة إلى الدائم وغير الدائم كالحيوان بالنسبة إلى الإنسان والفرس بمعنى
أنه يقع عليهما على سبيل التواطؤ وذلك أقرب إلى الدليل فتكون لفظة الخلود مفيدة
لطول المكث فقط، فأما أن ذلك المكث الطويل هل يتعقبه انقطاع أم لا فذلك إنما يعرف
بطريق آخر، كما أن لفظة اللون لا يفيد إلا هذه الحقيقة المشتركة بين السواد
والبياض، فأما خصوصية كل واحد منهما فإنما يستفاد من دليل آخر، وإذا كان كذلك لم
يكن لفظة الخلود دليلاً على المكث بغير انقطاع، والجواب أن اللغة لا تثبت بمثل ما
ذكره من حسن الصناعة، ولا تثبت بالعقل وترجيحه، وإنما تثبت بالنقل عن أئمتها، ومن
المعلوم عند أئمة اللغة هو ما نقلناه عنهم أن الخلود هو البقاء الذي لا ينقطع، وهو
المتبادر إلى الفهم عند اطلاقه، وذلك دليل الحقيقة، وإن استعملت في غير ذلك فمن
قبيل المجاز. إذا عرفت هذا فأئمتنا والمعتزلة وغيرهم يحتجون على خلود
الفساق من أهل الصلاة في النار بأدلة كثيرة قرآناً وسنة، فمن الأدلة القرآنية قوله
تعالى: ]ومَنْ يَعْصِِ اللهَ ورَسُوْلَهُ وَيَتَعَدَّ حُدُوْدَهُ
يُدْخِلْهُ نَارَاً خَالِدَاً فِيْهَا ولَهُ عَذَابٌ مُهِيْنٌ[ [النساء/14]، ]فإنَّ لَهُ نَارُ جَهَنَّمَ خَالِدِيْنَ فِيْهَا
أبَدَاً[ والفاسق عاص بلا
خلاف، وقوله تعالى: ]ومَنْ يَقْتُلْ مُؤْمِنَاً مُتَعَمِّدَاً … إلى قوله:
خَالِدِاً فِيْهَا[ [النساء/93] ، وقوله تعالى: ]ولا يَقْتُلُوْنَ النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللهُ إلاَّ
بِالْحَقِّ ولا يَزْنُوْنَ ومَنْ يَفْعَلُ ذَلِكَ يَلْقَ أثَامَاً يُضَاعَفْ لَهُ
العَذَابُ يَوْمَ القِيَامَةِ ويَخْلُدُ فِيْهِ مُهَانَاً[ [الفرقان/68، 69]، وقوله تعالى: ]لَنْ تَمَسَّنَا النَّارُ إلاَّ أيَامَاً
مَعْدُوْدَةً… إلى قوله: بَلَى مَنْ كَسَبَ سَيِّئَةً وأحَاطَتْ بِهِ خَطِيْئَتُهُ
فَأُولَئِكَ أصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيْهَا خَالِدُوْنَ[ [البقرة/80، 81]، وقوله تعالى: ]وإنَّ الفُجَّارَ لَفِي جَحِيْمٍ يَصْلَونَهَا يَوْمَ
الدِّيْنِ ومَا هُمْ عَنْهَا بِغَائِبِيْنَ[ اعترض الرازي
الإحتجاج بقوله تعالى: ]ومَا هُمْ عَنْهَا بِغَائِبِيْنَ[ بناءً على أن
بقية الآيات قد نقض حجتها بما ذكره من الخلود بأن قوله: ]ومَا هُمْ عَنْهَا بِغَائِبِيْنَ[ لا يقتضي الدوام، فإنَّه يصح أن يقال: فلان ما غاب عني إلى
وقت الظهر، فلو كان ذلك مقتضياً للدوام لكان تحديده بحد معين مناقضاً له، ولأنه إذا
قيل فلأن لا يغيب عني فإنه لا يصح أن تستفهم، ويقال: لا يغيب عنك أبداً أو في أكثر
الأوقات، ولو كان ذلك نصاً في الدوام لما صح الإستفهام، ثم إن سلمنا كونه نصاً في
الدوام لكنا نقول المرجئة تحمله على الكفار لا سيما إذا ثبت أن الألف واللام لا
يقتضيان العموم. والجواب: أما قوله: لكان تحديده بحد معين مناقضاً له؟
فنقول: لا نسلم المناقضة في ذلك فإنه يصح أن يقال: فلان لا يعصي
الله في كل وقت وزمان مستقبل إلى أن يموت، فليس يلزم من استغراق المطلق للأوقات عدم
صحة التقييد فكلامه في ذلك غير سديد، وأما عدم صحة الإستفهام بأن يقال: أتريد أن لا
يغيب عنك أبداً فللقرينة العقلية التي نقطع معها بأن ذلك غير مراد له، وأنه لا يصح
أن يقصده لا ستحالته، وأما حمل الفجار على الكفار فقط فغير مسلم، لأن لفظ الفجار
يدخل فيه الفساق، فتخصيصه بالكفار تخصيص لا دليل عليه، وأما اقتضاء الألف واللام
للعموم فدليله صحة الإستثناء نحو: ]إنَّ الإنْسَانَ لَفِي خُسْرٍ إلاَّ الَّذِيْنَ
آمَنُوْا[ [العصر/2’3] وإنكار ذلك مكابرة، ونعود إلى ذكر بعض الأدلة على خلود الفساق
في النار قال تعالى في آخر آية الربا: ]ومَنْ عَادَ فَأُولَئِكَ أصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيْهَا
خَالِدُوْنَ[ [البقرة/275]، وقال تعالى: ]والَّذِيْنَ كَسَبُوا السَّيِّئَاتِ جَزَاءُ سَيِّئَةٍ
بِمِثْلِهَا وتَرْهَقُهُمْ ذِلَّةٌ مَا لَهُمْ مِنَ اللهِ مِنْ عَاصِمٍ… إلى قوله: أُوْلَئِكَ أصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيْهَا
خَالِدُوْنَ[ [يونس/27] وفي هذا القدر من آيات القرآن الكريم مقنع وكفاية، ويدل على
ما قلناه من السنة أخبار كثيرة فمنها عن سلمان t قال قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: ((الحسن والحسين
من أحبهما أحببته، ومن أبغضهما أبغضته، ومن أحببته أحبه الله، ومن أحبه الله أدخله
الجنة جنة النعيم، ومن أبغضهما وبغا عليهما أبغضته، ومن أبغضته أبغضه الله، ومن
أبغضه الله أدخله نار جهنم خالداً فيها وله عذاب مقيم)) رواه أبو طالب، وعن أبي
هريرة قال قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: ((من قتل نفسه بحديدة فحديدته في
يده يوجأ بها في بطنه في نار جهنم خالداً مخلداً فيها أبداً، ومن قتل نفسه بسم فسمه
في يده يتحساه في نار جهنم خالداً مخلداً فيها أبداً، ومن تردى من جبل فقتل نفسه
فهو مترد في نار جهنم خالداً فيها مخلداً أبداً)) أخرجه المرشد بالله، والشيخان،
وعن عبادة بن الصامت أنه روى عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم أنه قال: ((مَنْ قتل
مؤمناً فاعتبط بقتله لم يقبل الله منه صرفاً ولا عدلاً)) أخرجه أبو داود، وعن أبي
هريرة قال قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: ((مَنْ أعان على قتل مسلم بشطر
كلمة لقي الله U مكتوب بين عينيه آيس من رحمة الله)) أخرجه أحمد وابن ماجة
والبيهقي وابن المنذر، وعن حذيفة عنه صلى الله عليه وآله وسلم: ((في أصحابي اثنى
عشر منافقاً منهم ثمانية لا يدخلون الجنة حتى يلج الجمل في سم الخياط)) أخرجه أحمد
ومسلم. ولما أتينا ببعض الأدلة على خلود فساق أهل الصلاة في النار
حسن أن نتبع ذلك بفصل نذكر فيه أنَّ ما ورد من الوعيد للفساق مقطوع به بمعنى أنه
يفعل بهم ما يستحقونه من العقاب، ونورد قبل ذلك حكاية الخلاف في المسألة، ونتبع ذلك
بالأدلة ونعقب بعد ذلك بالشبه التي أوردها الخصوم علينا في المطالب الثلاثة الشفاعة
والخلود، وأن ما ورد من الوعيد للفساق مقطوع به ونورد الجواب عن تلك الشبة بعون
الله تعالى فنقول: قالت الزيدية والمعتزلة وبعض الإمامية والخوارج وغيرهم: أن كل
واحد من فساق هذه الأمة وأهل الكبائر يستحق العذاب في النار في الآخرة إن مات غير
تائب، فلا بد أن يدخلها ويعذب فيها أبد الأبدين، وما هم عنها بغائبين، وخالفنا في
ذلك المرجئة على طبقاتهم. واعلم: أن القول بالإرجاء فاش في جميع فرق الإسلام من العدلية
والمجبرة والإمامية، والنفوس مايلة إليه طمعاً في الخير وأماناً من الشر، قال
بعضهم: مثال القائل بالإرجاء كرجل يمشي إلى الغرب وهو مع ذلك يرجو أن يبلغ مشيه إلى
المشرق، والمرجية هم المجبرة بأسرهم والمجسمة كلهم، ومن المعتزلة محمد بن شبيب
وغيلان الدمشقي ومويس بن عمران وأبو شمر، وصالح قبة والرقاشي والصالحي والخالدي
وغيرهم، ومن الزيدية أبو القاسم البستي من فقهاء المؤيد بالله، ومن التابعين سعيد
بن جبير، ومن الفقهاء حماد بن سليمان وأبو حنيفة وأصحابه، وتفصيل مذاهب هؤلاء
وأقوالهم في بسائط الأصول كالمعراج والغايات، والأدلة على ما ذهب إليه الزيدية
والمعتزلة ومن وافقهم من الإمامية والخوارج على أن ما ورد من الوعيد لفساق أهل
الصلاة مقطوع به من الكتاب العزيز الذي لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه
آيات كثيرة منها ما هو عام في أهل الصلاة وغيرهم، ومنها ما هو خاص بأهل الصلاة، نحو
قوله تعالى: ]وإنَّ الفجَّارَ لَفِي جَحِيْمٍ يَصْلَونَها يَوْمَ الدِّيْنِ
ومَا هُمْ عَنْهَا بِغَائِبِيْنَ[، وقوله تعالى:
]ولَوْ يَرَى الَّذِيْنَ ظَلَمُوا إذْ يَرَوْنَ العَذابَ أنَّ
القُوَّةَ لِلهِ جَمِيْعَاً… إلى قوله: كَذِلْكَ يُرِيْهُمُ اللهُ أعْمَالَهُمْ حَسَراتٍ عَلَيْهِمْ
ومَا هُمْ بِخَارِجِيْنَ مِنَ النَّارِ[ [البقرة/165ـ 167]، والظالم يعم الكافر والفاسق إجماعاً وكذلك المجرم في الآية
الأولى، أما صاحب الصغيرة فهو مُخصَّص بالإجماع فبقي الكافر والفاسق في حكم هذه
الآية، وقوله تعالى: ]فأمَّا مَنْ طَغَى وآثَرَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا فَإنَّ
الْجَحِيْمَ هِيَ الْمَأْوَى[ [النازعات/37ـ39] والطاغي يعم الكافر والفاسق، وقد حكم الله Y أن الجحيم مأواهما، وقوله تعالى: ]إنَّ جَهَنَّمَ كَانَتْ مِرْصَاداً لِلطَّاغِيْنَ مَآبَاً
لابِثِيْنَ فِيْهَا أحْقَابَاً[ [النبأ/21ـ23] والطاغي عام في كل كافر وفاسق، وقد حكم الله تعالى وحكمه
الحق أن جهنم مآب الطاغي، ولو دخل الجنة على قول المخالف لزم خلف قوله وتبديله،
والله يقول: ]ما يُبَدَّلُ القولُ لديَّ[ [ق/29]، ولزم الكذب والله يتعالى عنه، قال المخالف: الحقب ثمانون
سنة، وأقل الجمع ثلاثة فيحمل عليه، قلنا: غير مسلم أن الحقب ثمانون سنة بل هو اسم
لقطع من الزمن غير محدود، وإن سلم فلم نقل أحقاباً متناهية المقدار مع أنه لو حمل
على قولهم وقع التناقض بين هذه الآية والآيات المصرحة بالخلود، والقرآن لا يتناقض
فوجب حمل الآية هذه على أنها أحقاب غير متناهية، وقوله تعالى: ]إنَّ الَّذِيْنَ يَشْتَرُوْنَ بِعَهْدِ اللهِ وأيْمَانِهِمْ
ثَمَناً قَلِيْلاً أُوْلَئِكَ لا خَلاقَ لَهُمْ فِي الآخِرَةِ وَلا يُكَلِّمُهُمُ
اللهُ ولا يَنْظُرُ إلَيْهِمْ يَوْمَ القِيَامَةِ ولَهُمْ عَذَابٌ
ألِيْمٌ[ [آل عمران/77]، وقوله تعالى: ]والَّذِيْنَ يَنْقُضُوْنَ عَهْدَ اللهِ مِنْ بَعْدِ
مِيْثَاقِهِ ويَقْطَعُوْنَ مَا أَمَرَ اللهُ بِهِ أنْ يُوْصَلَ ويُفْسِدُوْنَ فِي
الأرْضِ أُولَئِكَ لَهُمُ اللَّعْنَةُ ولَهُمْ سُوْءُ الدَّارِ[ [الرعد/25]، وقوله تعالى: ]إنَّ الَّذِيْنَ يَكْتُمُوْنَ مَا أنْزَلَ اللهُ مِنَ
الكِتَابِ ويَشْتَرُوْنَ بِهِ ثَمَناً قَلِيْلاً أُولَئِكَ مَا يَأْكُلُوْنَ فِي
بُطُوْنِهِمْ إلاَّ النَّارَ وَلا يُكَلِّمُهُمُ اللهُ يَوْمَ القِيَامَةِ ولا
يُزَكِّيْهِمْ ولَهُمْ عَذَابٌ ألِيْمٌ[ [البقرة/174]، وقوله تعالى: ]إنَّ الَّذِيْنَ يَكْتُمُوْنَ ما أنْزَلْنَا مِنَ
البَيِّنَاتِ والْهُدَى مِنْ بَعْدِ مَا بَيَّنَّاهُ لِلنَّاسِ فِي الكِتَابِ
أُوْلَئِكَ يَلْعَنُهُمُ اللهُ ويَلْعَنُهُمُ اللاَّعِنُوْنَ[ [البقرة/159]، وقوله تعالى: ]مَنْ كَانَ يُرِيْدُ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا وزِيْنَتَهَا
نُوَفِّ إلَيْهِمْ أعْمَالَهُمْ فِيْهَا وهُمْ فِيْهَا لا يُبْخَسُوْنَ أُوْلَئِكَ
الَّذِيْنَ لَيْسَ لَهُمْ فِي الآخِرَةِ إلاَّ النَّارُ وحَبِطَ مَا صَنَعُوْا
فِيْهَا وبَاطِلٌ ما كَانُوْا يَعْمَلُوْنَ[ [هود/15، 16] وقوله تعالى: ]مَنْ جَاءَ بِالْحَسَنَةِ فَلَهُ خَيْرٌ مِنْهَا وهُمْ مِنْ
فَزَعٍ يَوْمَئِذٍٍ آمِنُوْنَ ومَنْ جَاءَ بِالسَّيِّئَةِ فَكُبَّتْ وُجُوهُهُمْ
فِي النَّارِ هَلْ تُجْزَوْنَ إلاَّ مَا كُنْتُمْ تَعْمَلُوْنَ[ [النمل/ 89، 90] والفاسق أتى بالسيئة كالكافر لا يقال قد أتى بالحسنة التي هي
الإسلام، فدخوله في عموم الجملة الأخيرة ليس بأولى من دخوله في عموم الجملة الأولى،
لأنا نقول قد شرط الله Yعلى المسلمين الإستقامة ]إنَّ الَّذِيْنَ قَالُوْا رَبُّنَا اللهُ ثُمَّ
اسْتَقَامُوْا[ [فصلت/30] والفاسق لم يستقم، وقال تعالى: ]إنَّمَا يَتَقَبَّلُ اللهُ مِنَ الْمُتَّقِيْنَ[ [المائدة/27]، والفاسق غير متقي، وقوله تعالى: ]بلَى مَنْ كَسَبَ سَيِّئَةً وأحَاطَتْ بِهِ خَطِيْئَتُهُ
فَأُوْلَئِكَ أصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيْهَا خَالِدُوْنَ[ [البقرة/81]. قال مولانا جمال الإسلام علي بن محمد العجري رحمه الله في
مفتاح السعادة: ووجه الإستدلال بها أن لفظ بلى إثبات لما بعد حرف النفي، وهو
قوله تعالى: ]لَنْ تمسَّنا النَّارُ إلاَّ أيَامَاً
مَعْدُوْدَةً[ [البقرة/80] أي بلى تمسكم أبداً، ولما كانت السيئة متناولة للصغاير
والكبائر بيَّن الله سبحانه وتعالى أن المستحق لهذا الوعيد إنما هو من كانت سيئاته
محيطة به، والإحاطة حقيقة إنما تكون في الأجسام كما في إحاطة السور بالبلد والثوب
بالجسد، وذلك ممتنع هنا فتعين حملها على المجاز، فنقول: شبَّه إحباط المعاصي لثواب
الطاعة بالشيء الساتر لغيره المحيط به من جميع جوانبه، فأطلق عليه لفظ الإحاطة،
وهذا التشبيه إنما يتأتا في الكبائر لأنها الذي يحصل بها الإحباط، ووجه آخر وهو أنه
شبَّه الكبيرة إذا أحبطت بثواب الطاعات بإحاطة عسكر العدو بالإنسان بحيث لا يمكنه
التخلص فكأنه قال: بلى من أحاطت كبيرته بطاعاته فأولئك أصحاب النار. فإن قيل: الآية نزلت في اليهود إذ هي رد لقولهم: ]لَنْ تَمَسَّنَا النَّارُ إلاَّ أَيَامَاً
مَعْدُوْدَةً[؟ قيل: الخطاب عام، والعام لا يقصر على سببه، ومن ادعى التخصيص
فعليه الدليل انتهى. وقوله تعالى: ]ومَنْ يَعْصِِ اللهَ ورَسُوْلَهُ فَإِنَّ لَهُ نَارُ
جَهَنَّمَ خَالِدِيْنَ فِيْهَا أبَدَاً[ [الجن/23]، والعاصي اسم يتناول الفاسق والكافر فيجب حمله عليه، إذ لو
أراد أحدهما لَبَيَّنَهُ. قال مولانا جمال الإسلام علامة العصر علي بن محمد
العجري رحمه الله: فإن قيل: الآية واردة في الكفار بدليل قوله تعالى
بعدها: ]حَتَّى إذَا رَأَوْا مَا يُوْعَدُوْنَ فَسَيَعْلَمُوْنَ مَنْ
أضْعَفُ نَاصِراً وأقَلُّ عَدَدَاً[ [الجن/24] إذ لا يكون هذا إلا مع الكفار؟ قيل له: بل يكون معه ومع غيره بدليل قوله تعالى: ]فَلْيَنْظُرِ الإنْسَانُ مِمَّ خُلِقَ … إِلَى قوله: فمَا
لَهُ مِنْ قُوَّةٍ وَلاَ نَاصِرٍ[ [الطارق/5ـ 10] والضمير للإنسان وهو عام، إذ كل فرد من أفراده مخلوق من ماء
دافق خارج من بين الصلب والترائب داخل تحت قدرة القوي القادر، سلمنا فالآية كلام
مستقل بنفسه لا يحتاج إلى ما بعده، فخصوص ما بعده لا يمنع من عمومه، وقد تقرر في
الأصول أن خصوص آخر الآية أو الخبر لا يمنع من عموم أوله حيث كان مستقلاً بنفسه،
ونظيره قوله تعالى: ]والْمُطَلَّقَاتُ يَتَرَبَّصْنَ بِأنْفُسِهِنَّ ثَلاثَةَ
قُرُوءٍٍ[ [البقرة/228] فإنه عام للبائنة والرجعية، ثم ذكر في آخر الآية حكماً خاصاً
بالرجعيات ]وبُعُولَتُهُنَّ أحَقُّ بِرَدِّهِنَّ فِي ذَلِكَ[ [البقرة/228] ولم يكن قادحاً في عموم أولها، فكذلك هنا اهـ. وقوله تعالى: ]ومَنْ يقتلْ مُؤْمِنَاً مُتَعَمِّدَاً فَجَزَاؤُهُ جَهَنَّمُ
خَالِدَاً فِيْهَا…
الآية[[النساء/93] ودلالتها واضحة إذ أخبر أن ذلك جزاؤه. قال مولانا العلامة علي بن محمد العجري رحمه الله، قالوا: الآية إنما تدل على استحقاقه للجزاء، والإستحقاق لا يوجب
وقوع المستحق، قلنا: خلاف ما يقتضيه ظاهرها سلمنا فلا نسلم أن الإستحقاق لا يوجب
الوقوع إذ تجويز عدم الوقوع فضلاً عن القطع به يستلزم الإغراء بالمعاصي وهو قبيح،
فيجب القطع بوقوعه بذلك، وقد قال تعالى: ]مَنْ يَعْمَلْ سُوْءً يُجْزَ بِهِ[ [النساء/123] قالوا: تقدير الآية: فجزاءه جهنم إن جازاه، قلنا: هذا التقدير لا دليل عليه ولا
ملجيء إليه، فوجب القطع بعدمه، قالوا: الآية ليست على ظاهرها، وإلا لوقعت المجازاة
عقيب القتل والفاء للتعقيب، وإذا كان لا بد من التأويل والتجوز فلستم بأولى منا
بذلك فقولكم: إنه محمول على أنه سيجازى به في الآخرة ليس بأولى من قولنا: إنه محمول
على الإستحقاق أو على شرط مقدر كما مر، قلنا: قد تقرر أن الكلام إذا لم يمكن حمله
على الحقيقة وجب حمله على أقرب المجازين منهما، لأن الأبعد منهما مع الأقرب كالمجاز
مع الحقيقة، فكما لا يجوز حمله على المجاز مع إمكان الحقيقة فلا يجوز حمله على أبعد
المجازين مع إمكان الأقرب إلى أن قال: وحمل الجزاء في الآية على أنه سيجازي في
الآخرة أقرب من حمله على الإستحقاق أو على شرط مقدر لأن في تأويلنا موافقة للظاهر
في أنه واقع لا محالة، وفي أن وقوعه مستقبل بالنظر إلى وقوع المعصية والفاء تقتضي
وقوعه في المستقبل إلا أنه بلا مهلة، والتأويل فيه بمهلة، ولا شك أنه أقرب إلى
الحقيقة لاشتراكها في الإستقبال انتهى. وقوله تعالى: ]إنَّ الْمُجْرِمِيْنَ فِي عَذَابِ جَهَنَّمَ
خَالِدُوْنَ[ [الزخرف/74] والمجرم يتناول الفاسق والكافر لغة لأنهم لا يفرقون بين
قولهم مذنب ومجرم، والمذنب يشملهما جميعاً فكذلك المجرم، وشرعاً كذلك، إذ لا فرق
عند أهل الشرع بين قولنا مجرم بالزنا ومذنب بالربا. قال مولانا جمال الإسلام مجتهد العصر علي بن محمد العجري رحمه
الله: قالوا: الآية في الكفار لقوله في آخرها: ]لا يُفَتَّرُ عَنْهُمْ وهُمْ فِيْهِ مُبْلِسُوْنَ[ [الزخرف/75] ، وقوله بعدها: ]أمْ يَحْسَبُوْنَ أنَّا لا نَسْمَعُ سِرَّهُمْ
ونَجْوَاهُمْ[ [الزخرف/80] ، وهذا لا يتأتى إلا في الكافر، قلنا: بل يتأتى فيهما سلمنا
قوله: {إنَّ الْمُجْرِمِيْنَ… الآية} كلام تام مستقل بنفسه، فدخول التخصيص في آخره لا يمنع
عمومه كما مر، قالوا: الآية ليست على ظاهرها وإلا لزم وقوع العقاب في الحال لأن
كلمة {إن} لتحقيق الخبر في الحال وحينئذٍ فلا بدَّ من التأويل، ولستم أولى به منا
فنحمله على الإستحقاق، قلنا:(إنَّ) كما ترد لتحقيق الحال فقد ترد لتحقيق الخبر في
المستقبل بل تحقيقه في المستقبل أحوج إلى التحقيق في الحال، لأن العلم بوقوعه يغني
عن التأكيد بها، ويدل على ورودها للتحقيق في المستقبل قوله تعالى: ]وإنَّ رَبَّكَ لَيَحْكُمُ بَيْنَهُمْ يَوْمَ
القِيَامَةِ[ [النحل/124] ثم إن في الآية لفظ الخلود وهو ينافي ظهورها في تحقيق الخير
في الحال ويصرف عنه، قوله: فيحمله على الإستحقاق، قلنا: ممنوع لما مر من أنه إذا
تعذر الحمل على الحقيقة عدل إلى أقرب المجازين منهما، والحمل على وقوع العذاب في
المستقبل أقرب إلى الحال من الإستحقاق لاشتراكهما في الوقوع ولا سيما مع نصب
القرينة المعينة للمجاز الأقرب وهو ذكر الخلود هذا على فرض كون كلمة إن ليست حقيقة
في المستقبل، كيف وقد بينا استعمالها فيه كالحال، انتهى. أما الأدلة الواردة في الطرف الثاني وهو ما ورد من الأدلة
القاضية بوعيد الفساق من أهل الصلاة، وأن وعيدهم مقطوع به، فمنها قوله تعالى:
]لَيْسَ بِأَمَانِيِّكُمْ ولاَ أَمَانِيِّ أهْلِ الكِتَابِ
مَنْ يَعْمَلْ سُوْءً يُجْزَ بِهِ[ [النساء/123]. قال سيدي العلامة الحجة علي بن محمد العجري رحمه
الله في مفتاح السعادة: ودلالة هذه الآية على نفي الإرجاء قطعية، لأنها نزلت رداً
على من أرجا من المسلمين واليهود، قال الإمام المهدي عليه السّلام: سبب نزولها إن
جماعة من المسلمين واليهود تذاكروا في أمر العقاب فادعى كل فريق منهم أن الله تعالى
يهب مسيئهم لمحسنهم ويعفو عنه فنزلت رداً عليهم، وأخبرهم أن رجاهم العفو عن معاصيهم
إنما هو أماني باطلة لا برهان عليها، ثم أكدَّ ذلك بقوله: ]مَنْ يَعْمَلْ سُوْءً يُجْزَ بِهِ[ أي لا بد من
الجزاء للعاصي منكم أيها المسلمون ومن أهل الكتاب، وهذه الآية كما قال الإمام
uصريحة في نفي الإرجاء لا تقبل التأويل ولا تحتمل التخصيص
بآيات الوعد كما تحتمله غيرها، لأن في تخصيصها نقض لما سيقت له من الرد على من أرجا
من المسلمين واليهود. قال النجري: وكذا كل عام لا يصح أن يخص بخروج سببه، إذ يلزم منه التناقض،
لأن تناوله لسببه قطعي فلا يصح إخراجه منه، وقوله تعالى: ]ومَنْ يَعْصِ اللهَ وَرَسُوْلَهُ ويَتَعَدَّ حُدُوْدَهُ
يُدْخِلْهُ نَارَاً خَالِدَاً فِيْهَا…
الآية[ [النساء/14] وهذه الآية واردة في فساق أهل الصلاة باتفاق لأنها نزلت في
المواريث وبيان حدودها ثم توعد من يعصيه في تلك الحدود بإدخاله النار، ويدل على أن
الوعيد ورد على المعصية فيها قوله: ]تِلْكَ حُدُوْدُ اللهِ[ [النساء/13] ولا شبهة في أن المراد الحدود المذكورة، قال القرشي: قوله:
]وَتِلْكَ حُدُوْدُ اللهِ[ إشارة إلى حدود
محصورة، فقوله عقيب ذلك: ]ومَنْ يَتَعَدَّ حُدُوْدَ اللهِ[ [الطلاق/1] يجب أن يصرف إليها. قال مولانا الحجة علي بن محمد العجري رحمه الله:
قلت: ولو سلم العموم فدخول صورة السبب مقطوع به كما مر، وقوله
تعالى: ]يَا أَيُّهَا الَّذِيْنَ آمَنُوْا إذَا لَقِيْتُمُ الَّذِيْنَ
كَفَرُوْا زَحْفَاً فَلاَ تُوَلُّوْهُمُ الأدْبَارَ ومَنْ يُوَلِّهِمْ يَوْمَئِذٍٍ
دُبُرَهُ إلاَّ مُتَحَرِّفَاً لِقِتَالٍٍ أو مُتَحَيِّزَاً إِلَى فِئَةٍٍ
يَنْصُرُوْنَهُ فَقَدْ بَاءَ بِغَضَبٍ مِنَ اللهِ ومَأْوَاهُ جَهَنَّمُ وبِئْسَ
الْمَصِيْرُ[ [الأنفال/15، 16]، وقوله: ]يا أيُّهَا الَّذِيْنَ آمَنُوْا لا تَأْكُلُوا أمْوَالَكُمْ
بَيْنَكُمْ بِالبَاطِلِ إلى قوله: وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ عُدْوَانَاً وظُلْمَاً
فَسَوْفَ نُصْلِيْهِ نارَاً[ [النساء/29، 30] ومن ذلك الآيات الواردة في أهل الإفك وهي خاصة بأهل الصلاة،
قال تعالى: ]إنَّ الَّذِيْنَ جَاءُوْا بِالإفْكِ عُصْبَةٌ مِنْكُمْ لا
تَحْسَبُوْهُ شَرَّاً لَكُمْ بَلْ هُوَ خَيْرٌ لَكُمْ لِكُلِّ امْريءٍٍ مِنْهُمْ
مَا اكْتَسَبَ مِنَ الإثْمِ والَّذِي تَوَلَّى كِبْرَهُ مِنْهُمْ لَهُ عَذَابٌ
عَظِيْمٌ[ [النور/11]، ثم قال: ]ولَوْلا فَضْلُ اللهِ عَلَيْكُمْ ورَحْمَتُهُ في الدنيا
والآخرة لَمَسَّكُمْ فِيْمَا أفَضْتُمْ فِيْهِ عَذَابٌ
عَظِيْمٌ[ [النور/14]، ثم قال: ]إنَّ الَّذِيْنَ يُحِبُّوْنَ أنْ تَشِيْعَ الفَاحِشَةُ فِي
الَّذِيْنَ آمَنُوْا لَهُمْ عَذَابٌ ألِيْمٌ فِي الدُّنْيَا والآخِرَةِ[ [النور/19]، ثم قال: ]إنَّ الَّذِيْنَ يَرْمُوْنَ الْمُحْصَنَاتِ الغَافِلاتِ
الْمُؤْمِنَاتِ لُعِنُوا فِي الدُّنْيَا والآخِرَةِ وَلَهُمْ عَذَابٌ
عَظِيْمٌ[ [النور/23]، ولنقتصر في هذا الموضع على هذا القدر من الآيات فبدونها
يثبت المطلوب، وقد أورد الخصوم على هذه الأدلة والبراهين القاطعة اعتراضات. الإعتراض الأول: قالوا: نحن نمنع أن هذه الألفاظ للعموم وتمسكوا بشبه ونحن نقيم
الدليل على أن للعموم صيغة موضوعة للعموم حقيقة وإذا قام الدليل بطلت شبهة
الخصم؟ فنقول: قوله تعالى: ]واللهُ عَلَى كُلِّ شَيءٍٍ قَدِيْرٌ[ [الحشر/6] من جملة الأدلة على أن للعموم صيغة ولهذا أوردها الله في
مقام إخباره بشمول قدرته وتمدحه بذلك، ومن الأدلة على ذلك تبادر العموم عند إطلاق
ألفاظ مخصوصة، والتبادر دليل الحقيقة إذ لو لم تكن موضوعة للعموم لما حصل التبادر،
ومن الأدلة أن المعلوم من حال أهل اللغة أنهم متى أرادوا أن يأتوا في عباراتهم بلفظ
عام قصدوا إلى ألفاظ مخصوصة فلولا أنها للعموم لما استمر الحال في ذلك، ومن الأدلة
على ذلك صحة الإستثناء من مدخول صيغ العموم، ومن حق الإستثناء أن يخرج من الكلام
مالولاه لوجب دخوله تحته. الإعتراض الثاني: قالوا: إن من أصول كثير من أصحابكم أن دلالة العموم على ما تناولته
ظنية والآبات المذكورة إنما هي عمومات فكيف قطعتم بوصول العقاب إلى الفاسق ولم
تخصصوها بالأخبار المروية في سلامته؟ والجواب: أنا لا نسلم أن دلالة العموم ظنية بل دلالة العموم على
مدلولاته قطعية يقطع بمدلولاتها بعد البحث عن المخصص فلم يوجد وينتفي التجويز
للإستنثاء ونحوه. الإعتراض الثالث:قالوا: قد أُخرج منها التائب والفاعل للصغيرة إذ الصغاير مكفرة ما
اجتنبت الكبائر فصارت بعد إخراج من ذكر مجازاً في الباقي والمجاز دلالته ظنية؟ والجواب: أن العام إذا كان مثل هذه الآيات نصاً فهو قطعي الدلالة قبل
التخصيص فكذا حكمه بعد التخصيص، واعلم أن كثيراً من مؤلفي أصحابنا قد ذكروا أن هذه
الدلالة لا تتمهد إلا بعد تقرير مقدمات أربع. الأولى: أن في اللغة ألفاظاً موضوعة للعموم وهذا ثابت لا شك فيه
بدليل أسماء الشرط، وهي: مَنْ ونحوها، لسبق العموم منها إلى الأفهام عند اطلاقها
ولصحة الإستثناء، وقد لحظنا إلى هذا فيما سبق. الثانية: أن كون تلك الألفاظ موضوعة للعموم مقطوع به بدليل استقراء
اللغة وتتبعها فإن من استقراء اللغة وجد ذلك معلوماً قطعاً لا يعتريه شك، لا يقال
معاني الألفاظ إنما يعرف بالنقل فإن كان متواتراً فكيف خالف في ذلك من خالف وهو
ضروري، وإن كان غير متواتر فلا يفيد القطع لأنا نقول نفس الألفاظ نقلت إلينا
بالتواتر، وأما معانيها فبالبحث والإختيار، فكانت نظرياً بنفس النقل التواتري لنفس
الألفاظ. الثالثة: إن دلالة تلك العمومات على مدلولاتها قطعية إذ نقطع
بمدلولاتها بعد البحث عن المخصص، فلم يوجد وينتفي التجويز للإستثناء ونحوه، وقال
أبو شمر: يجوز أن يكون في عمومات الوعيد إستثناء أو شرط مخصص له بالكافر تقديره:
إلا أن أعفو أو إن لم أعف، أو أن لم يكن مقراً بلسانه ونحوه، والدليل على بطلان ما
ادعاه أنه إذا ثبت أن العموم هو مدلول تلك الألفاظ وأن الله تعالى لا يجوز أن يخاطب
بخطاب ويريد به خلاف ظاهره وإلا كان معمياً وملبساً، فثبت أن دلالتها على المعاني
قطعية غير مشكوك فيها البتة لا سيما العمومات التي لا يتعلق بها عمل، بل إنما يطلب
بها الإعتقاد فقط كما ذهب إليه المحققون من أهل الأصول. الرابعة: أن العموم بعد تخصيصه باق على حجته القطعية فيما بقي بعد
التخصيص وخالف في ذلك الأصم وغيره من المجبرة وبعض المعتزلة. وقالوا: العموم إذا خصص بطلت حجته، وصار مجملاً فيفتقر إلى
البيان؟ والجواب: أنه إذا ثبت أن دلالة العام على مدلوله قطعية ثم خصصنا منه
بعض مفرداته بدليل خاص فإنه يجب أن تكون دلالته على الباقي بعد التخصيص قطعية كما
كانت من قبله مالم يحصل ما يغيرها، وإنما كان التغيير في المخرج لا في الباقي، وإذا
تقررت هذه المقدمات بالدلائل القطعية ثبت ذلك الدليل ووجب القطع بما دل عليه. قال الإمام عزالدين u في المعراج: تنبيه: اعتمد أصحابنا رحمهم الله في الإستدلال بهذه الآيات الكريمة
الدالة على إيصال العقاب إلى الفساق على طريقة واحدة، وهي من حيث عمومها وشمولها
لكل عاص فاسق بدليل ما سبق من أن للعموم ألفاظاً تفيده وتقتضيه، وذكر الرازي في
النهاية والإمام يحيى في التمهيد والإمام المهدي في الغايات أنها تدل بطريقة أخرى
وتوجيه آخر، وهو من حيث الإيماء ودلالالته، وذلك على وجهين أحدهما: أن ترتيب الحكم
على الوصف المشتق يشعر بكون ذلك الوصف علة لذلك الحكم فقوله تعالى : ]ومَنْ يَقْتُلْ مُؤْمِناً مُتَعَمِّدَاً فَجَزَاؤُهُ
جَهَنَّمُ خَالِدَاً فِيْهَا[ يفيد أن كونه
قاتلاً على سبيل العمد به علة للأحكام المذكورة، وثانيها: أن الوصف إنما يكون علة
للحكم إذا كان مناسباً له والمناسبة حاصلة هاهنا، لأن هذه الآيات خرجت مخرج الزجر
عن مواقعة المعاصي فوجب ترتيب هذه الأحكام كلها على هذه المعاصي أينما وجدت، وأيضاً
ذكر الرازي والإمام يحيى uأنَّ في الإستدلال بهذه الآيات مقاماً آخر يؤذن ببطلان كلام
المرجئة وهو الإستدلال بالآيات الكريمة مصحوبة بقرينة الإجماع وتوجهيه بأن يقال:
أجمعت الأمة على أن العصاة مزجورون بهذه الآيات المصرحة بالوعيد فسواء قلنا بأن
صيغة مَنْ ونحوه موضوعة للعموم أو مشتركة أو موضوعة للخصوص فأنه يجب حملها في هذه
الآيات على العموم وإلا لزم بأن العصاة غير مزجورين بهذه الآيات وذلك خلاف الإجماع
اهـ. وإذ قد أتينا ببعض الأدلة القرآنية فلنتبع ذلك بشيءٍ يسير من
السنة الدالة على قولنا، قال الإمام عزالدين uفي المعراج في شرح قول صاحب المنهاج على من شرب وزنا واغتاب
وقتل النفس أشار إلى نحو قوله صلى الله عليه وآله وسلم: ((مدمن الخمر إن مات لقي
الله كعابد وثن)) وقوله صلى الله عليه وآله وسلم: ((لعن الله الخمر وشاربها وساقيها
وعاصرها ومعتصرها وبايعها ومبتاعها، وحاملها والمحمولة إليه))، وقوله صلى الله عليه
وآله وسلم: ((إذا فعلت أمتي خمس عشرة خصلة فقد حل بها البلاء ثم ذكر منها شرب
الخمور))، وقال صلى الله عليه وآله وسلم: ((من شرب الخمر فسكر لم تقبل له صلاة أربعين صباحاً
فإن مات دخل النار… إلى أن قال في
الرابعة: فإن عاد في الرابعة كان حقاً على الله أن يسقيه من طينة الخبال يوم
القيامة، وهي عصارة أهل النار)) ونحو ذلك مما يطول شرحه، وقوله صلى الله عليه وآله
وسلم في الزنا وغيره: ((ولا يزني الزاني حين يزني وهو مؤمن، ولا يسرق السارق حين
يسرق وهو مؤمن، ولا يشرب الخمر حين يشربها وهو مؤمن))، وقوله صلى الله عليه وآله
وسلم: ((إن الزناة تشتعل وجوههم ناراً))، وقوله صلى الله عليه وآله وسلم: ((الزاني
لا ينظر الله إليه يوم القيامة ولا يزكيه ويقول: ادخل النار مع الداخلين))، وقوله
صلى الله عليه وآله وسلم: ((إياكم والزنا فإن فيه سوء الحساب وسخط الرحمن والخلود
في النار))، وعنه صلى الله عليه وآله وسلم: ((إذا ظهر الزنا والربا في قرية فقد
أحلوا بأنفسهم عذاب الله)) وغير ذلك، وقوله صلى الله عليه وآله وسلم في المغتاب:
((من قال في مسلم ما ليس فيه أسكنه ردعة الخبال حتى يخرج مما قال)) رواه ابن عمر،
وقال صلى الله عليه وآله وسلم: ((من ذكر امرءً بشيء ليس فيه لعيبه به حبسه الله
تعالى في نار جهنم حتى يأتي بنفاذه)). قلت: وتعليق حبسه في النار بما علق به مشعر بأنه لا أمد له، لأن
إتيانه بنفاذه مستحيل، وكذلك ما سبق في الحديث الأول وغير هذا وغيره مما ورد في
الغيبة بحيث لو استقصى لملأ أوراقاً كثيرة، وقوله صلى الله عليه وآله وسلم في قاتل
النفس: ((لو أنَّ أهل السماء وأهل الأرض اشتركوا في دم مؤمنٍ لأكبهم الله في
النار)) وقوله صلى الله عليه وآله وسلم: ((من قتل مؤمناً فاعتبط بقتله لم يقبل الله
منه صرفاً ولا عدلاً)) وغير ذلك مما يطول ذكره. وإذ قد أتينا بما أمكن من سرد الأدلة على مذهبنا فلنعد إلى
ذكر شبه الخصم في المطالب الثلاثة: الشفاعة والخلود وأن الوعيد لعصاة المصلين مقطوع
به فنقول:ـ ***
المطلب
الرابع في ذكر شبه الخصم واعلم:
أن للخصوم شُبهاً يستدلون بها أن الشفاعة للعاصين، فمنها حديث: ((شفاعتي لأهل
الكبائر من أمتي)) وهو في سنن الترمذي وابن ماجة وبمعناه عندهم أحاديث كثيرة، زعم
بعضهم بلوغها حد التواتر. والجواب عن تلك الأحاديث:
أنها
آحادية والظني لا يعارض القاطع، وأدلتنا قطعية وقد قدمناها. قال مولانا
علامة الآل عبدالله بن الإمام الهادي القاسمي رحمه الله في الجواب
الأسد:
والأحاديث المدعاة على رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قد بينا لك أنه لم يروها
غيرهم، ودعوى الخصم على الخصم لا يقطعها إلا البينة أو تسليم الخصم وكلاهما
معدومان، ولا زال أهل العدل ينازعونهم في صحتها إلى الآن، ومن أنصف من نفسه وطرح
الهوى عرف أن في سياق تلك الأحاديث ومتونها من التفاوت والتخالف والنبو عن بعضها
بعضاً ما يحكم العقل السليم والقرآن الكريم باستحالة كونها من رسول الله صلى الله
عليه وآله وسلم وأن فيها الموهوم والمكذوب إلـخ… ثم
أجاب عن حديث ((شفاعتي لأهل الكبائر من أمتي)) بوجوه. أحدهما:
أنه آحادي. ثانيها:
أنه لم يروه إلا المبتدعة. ثالثها:
أن اختصاصها بأهل الكبائر يقضي بحرمانها أهل الثواب، والدليل الصحيح يأبى ذلك،
وشفاعته صلى الله عليه وآله وسلم منصب عظيم، فلا أقل من التسوية، رابعها: أنه لا
يعتد في هذه المسألة إلا بالقاطع اتفاقاً قال الله تعالى: ]وأنْ
تَقُوْلُوْا عَلَى اللهِ مَالا تَعْلَمُوْنَ[ [البقرة/169]،
وغير ذلك وهو مع صحة سنده لا يفيد إلا الظن ومع فرضها فالمراد منه الإستفهام
الإنكاري كما أن المراد من قوله: هذا ربي، إلخ كلامه. وكتابه رحمه الله الجواب
الأسد قد أورد فيه قدر خمسمائة حديث تفيد التواتر المعنوي في خلود العصاة الذين
ماتوا من غير توبة في النار فقد قامت الحجة بحمد الله واتضحت المحجة، وظهر الحق
لطالبه، وأما من عند عن السبيل وخالف الدليل فإنما ضرره على نفسه، والله
[الشبه
الواردة في مسألة الشفاعة والجواب عنها] وقد
تعلقوا بشبه غير ذلك، فأولها قوله تعالى:
]إنَّ اللهَ لا
يَغْفِرُ أنْ يُشْرَكَ بِهِ ويَغْفِرُ مَا دُوْنَ ذَلِكَ لِمَنْ يشَاءُ[ [النساء/116]
ففي ظاهرها تصريح بمغفرة ما دون الشرك لولا قوله: ]لِمَنْ
يشَاءُ[ وهي
أعظم مستند لهم وأبلغ ما يتمسكون به، حكى الإمام عزالدين uفي
المعراج قال صاحب (زهر الكمائم): هذه الآية سيوف وخناجر على حناجر المعتزلة
أهـ. وقال الإمام
المهدي عليه السّلام:
ولعمري أن هذه الآية الكريمة كالمصرحة بأنه سبحانه يغفر ما دون الشرك من دون توبة،
ولكنه لما قال: ]لِمَنْ
يشَاءُ[ صارت مجملة، ووجه
استدلالهم بها أن الله لا يغفر أن يشرك به تفضلاً لأنه قد ثبت أنه يغفره بالتوبة،
قالوا: فيحب أن يكون التقدير: ويغفر ما دون ذلك تفضلاً، وذلك عام في الصغائر
والكبائر، وقد أجاب علماء العدل بجوابات كثيرة ومقنعة ونحن نعمد إلى الإختصار
فنقول: أن هذا الذي قدَّروه لا دليل عليه، وإنما هو مفهوم ضعيف
والمسألة قطعية لا يؤخذ فيها بالمفاهيم ولا بدَّ فيها من دليل قاطع مع ما تضمنه هذا
التقدير من الإغراء بالمعاصي، لأنه إذا كان التقدير كما قالوا أنه يغفر ما دون
الشرك بغير توبة فهذا إغراء صريح بفعل المعاصي ما عدا الشرك، قالوا: إذا منعتم
التقدير في مذهبنا فما لكم رجعتم إليه في مذهبكم لأنه لا بد فيه من التقدير في
الجملة الأولى مطلقاً وفي الثانية مفصلاً بين الكبيرة والصغيرة، لأنه يصير التقدير
عندكم أن الله لا يغفر أن يشرك به من دون توبة ويغفر ما دون الكبائر من دون توبة
وهي الصغائر، فكيف قلتم لا يصح تقدير التسوية في هذه الآية بحال مع أنه لا بد منه
وفيه الإغراء بفعل الصغائر، أجاب أصحابنا: أن التقدير هذا وإن كان صحيحاً إلا أنا نقول أن الآية واردة
في تفظيع وتشنيع الشرك والمبالغة في تقبيحه، وأنه لا يبلغ درجته في القبح والفضاعة
شيء من المعاصي لذلك وردت الآية على أبلغ الوجوه من عدم ذكر التوبة مبالغة في
تقبيحه وإحالة إلى العلم بأنه مغفور معها ومن إيراد المفعول بصيغة المضارع مع إن
المصدرية لتفيد أن أدنى الشرك غير مغفور إلى غير ذلك من الوجوه، فتبقى الآية مجملة
ليبينها الآيات المقيدة بالتوبة ]وإنِّي لَغَفارٌ لِمَنْ تَابَ[ [طه/82]، وقوله تعالى: ]إنْ تَجْتَنِبُوْا كبَآئِرَ مَا تُنْهَوْنَ عَنْهُ نُكَفِّرْ
عَنْكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ…
الآية[ [النساء/31]، وغيرها، وبيان إجمالها من جهة المغفور ومن الجهة المغفور له
والمجمل لا دلالة فيه، فإن قلت: إنها مبينة بقوله: ]ويَغْفِرُ مَا دُوْنَ ذَلِكَ[. قلت: قوله تعالى: ]لِمَنْ يشَاءُ[، فهل يشاء أن يغفر للزاني أو القاتل العمد أو لأكل أموال
اليتامى؟ أم للتائب؟ فلهذا قلنا أنها مجملة. أمَّا جار الله العلامة رحمه الله في (كشافه) ([1]) فقال: الفعل المنفي وهو غفران الشرك، والمثبت وهو غفران ما دونه
موجهان إلى قوله: ]لِمَنْ يشَاءُ[ فكأنه قيل: إن
الله لا يغفر لمن يشاء الشرك، ويغفر لمن يشاء ما دون الشرك، على أن المراد بالأول
من لم يتب، وبالثاني من تاب، ونظيره أن الأمير لا يبذل الدينار، ويبذل القنطار لمن
يشاء ويريد، ولا يبذل الدينار لمن لا يستحقه، ويبذل القنطار لمن يستحقه، وحكى سبب
نزولها انتهى. وقد قال بعض علمائنا رحمهم الله: وأقول: أن الآية تحتمل وجهاً
يبين ما ذكر وهو أنه تعالى توعد أهل الكتاب في الآية التي قبلها بتحمل العقوبة إن
لم يؤمنوا فقال سبحانه: ]يا أيُّهَا الَّذِيْنَ أُوْتُوْا الكِتَابَ آمِنُوْا بِما
نَزَّلْنَا مُصَدِّقَاً لِمَا معَكُمْ مِنْ قَبْلِ إنْ نَطْمِسَ وُجُوْهاً
فَنَرُدَّهَا علَى أدْبَارِهَا أوْ نَلْعَنَهُمْ كمَا لَعَنَّا أصْحَابَ
السَّبْتِ[ [النساء/47]، أي نمسخهم قردة وخنازير ]وكَانَ أمْرُ اللهِ مَفْعُوْلاً[ ثم حذرهم سبحانه
وتعالى بأنه لا يقع منه غفران للشرك في حالة من الحالات بل يستحق من أشرك تعجيل
العقوبة أيضاً كما استحقها من تقدم ذكره، فأتى بالنفي الداخل على المضارع الذي هو
في معنى النكرة فلو لم يعمل عقوبة الشرك لكان غفراناً كما قال تعالى حاكياً:
]وأنِِ اسْتَغْفِرُوْا رَبَّكُمْ ثُمَّ تُوْبُوْا إلَيْهِ
يُمَتِّعْكُمْ مَتَاعَاً حَسَنَاً إِلَى أجَلٍٍ مُسَمَّى[ [هود/3] فجعل المتاع الحسن إلى الموت من موجبات المغفرة، ثم قال:
]ويَغْفِرُ مَا دُوْنَ ذَلِكَ لِمَنْ يشَاءُ[ فلا يعاجل بعض
المرتكبين للكبائر بالعقوبة بل يغفرها بتأخير العقوبة في الدنيا كما قال تعالى:
]وإنَّ رَبَّكَ لَذُوْ مَغْفِرَةٍ لِلنَّاسِ عَلَى
ظُلْمِهِمْ[ [الرعد/6] وبهذا يندفع الإشكال والحمد لله انتهى. قالت المرجئة: قال تعالى: ]إنَّ اللهَ يَغْفِرُ الذُّنُوْبَ جَمِيْعَاً[ [الزمر/53] ولم يشترط توبة فدخل الفاسق وهو المطلوب؟ قالت العدلية: ظاهر الآية مهجور بالإجماع منا ومنكم للزوم أنه تعالى يغفر
الشرك وسائر أنواع الكفر بلا توبة فلا متمسك لكم بظاهرها بل يجب حملها على المقيد
كقوله تعالى: ]وأنِيْبُوْا إِلَى رَبِّكُمْ وأسْلِمُوْا لَهُ مِنْ قَبْلِ
أنْ يَأْتِيَكُمُ العَذَابُ ثُمَّ لا تُنْصَرُوْنَ[ [الزمر/54]، ]يا حَسْرَتَا عَلَى مَا فَرَّطْتُ فِي جَنْبِ
اللهِ[ [الزمر/56] الآيات… فدل ذلك أن
المراد يغفر الذنوب جميعاً مع التوبة. قالت المرجئة: قال الله تعالى: ]وإنَّ رَبَّكَ لَذُوْ مَغْفِرَةٍ لِلنَّاسِ عَلَى
ظُلْمِهِمْ[؟ قلنا: ظاهرها متروك بالإجماع للزوم أن يغفر الشرك وغيره من أنواع
الكفر فلا بد من التقييد بالتوبة. قالوا: قال تعالى: ]ويَعْفُوْ عَنْ كَثِيْرٍ[ [الشورى/34]. قلنا: يعفو عن الصغائر وعن الكبائر مع التوبة، فصدقت الآية وبطل
مدعى الخصم. قالوا: قال تعالى: ]فَأَنْذَرْتُكُمْ نَارَاً تَلَظَّى لا يَصْلاَهَا إلاَّ
الأَشْقَى الَّذِي كَذَّبَ وتَوَلَّى[ [الليل/14ـ 16] فحصر وقصر أنه لا يدخلها إلا المكذب والفاسق غير مكذب. قلنا: لفظ نار نكرة وصفت بأنها تلظى ولا عموم فيها، فمسلم أن هذه
النار الموصوفة بالتلظي لا يدخلها إلا الموصوف بالكذب والتولي، والفاسق يدخل ناراً
غيرها، لأن النار دركات ودلالتها على عدم دخول الفاسق النار إن كان من قبيل المنطوق
فهو عموم ودلالة العموم ظنية، وإن كان مفهوماً كما هو الصحيح فقد قال بعدها:
]وسَيُجَنَّبُها الأَتْقَى الَّذِيْ يُؤْتِي مَالَهُ
يَتَزَكَّى[ [الليل/17ـ 18] فمفهومه أن الفاسق لا يجنبها، لأن الفاسق ليس بتقي، فتناقض
المفهومان، فلم يبق إلا أن الفاسق يدخل ناراً غيرها. قالوا: قال تعالى: ]يَوْمَ تَبْيَضُّ وُجُوْهٌ وتَسْوَدُّ وُجُوْهٌ فَأمَّا
الَّذِيْنَ اسْوَدَّتْ وُجُوْهُهُمْ أكْفَرْتُمْ بَعْدَ إيْمَانِكُمْ فَذُوْقُوْا
العَذَابَ بِما كُنْتُمْ تَكْفُرُوْنَ، وأمَّا الَّذِيْنَ ابْيَضَّتْ وُجُوْهُهُمْ
فَفِي رَحْمَةِ اللهِ هُمْ فِيْهَا خَالِدُوْنَ[ [آل عمران/106، 107]. قالوا: نص على أن الخلائق يوم القيامة قسمين، قسم اسودت وجوههم وهم
الكافرون، وليس الفاسق بكافر إجماعاً فلا يسود وجهه ولا يذوق العذاب، فلا بد أن
يبيض وجهه فيدخل في القسم الأخير وهم المبيضة وجوههم. قلنا: لا دلالة في الآية على الحصر في أبيض وأسود، ولا يلزم من ذكر
التقسيم المذكور الإنحصار فيهما إلا إذا كانا نقيضين كالليل والنهار والوجود
والعدم، أما إذا كانا ضدين كالألوان والطعوم والروائح فلا يلزم من ذكر اثنين ولا
إدخاله ولا إرجاعه إلى أحدهما بل هو في حكم المسكوت عنه، فلا دلالة في الآية على
حكم الفاسق، وإن سلمنا دخوله بمفهوم الصفة فهو ضعيف لا يؤخذ به في الفرعيات
المظنونة، فكيف بالأصليات القطعية. قالوا: قال تعالى حكاية عن موسى وهارون: ]إنَّا قَدْ أُوحِيَ إلَيْنَا أنَّ العَذَابَ عَلَى مَنْ
كذَبَّ وتولَّى[ [طه/48]، وقال تعالى: ]وهَلْ نُجَازِي إلاَّ الكَفُورَ[ [سبأ/17]، وقال تعالى: ]كُلَّما أُلْقِيَ فِيْهَا فَوْجٌ سَألَهُمْ خَزَنَتُهَا
أَلَمْ يَأتِكُمْ نَذِيْرٌ قَالُوْا بَلَى قَدْ جَاءَنَا نَذِيْرٌ فَكَذَّبْنا
وقُلْنَا مَا نزَّل اللهُ مِنْ شَيءٍ…
الآية[ [الملك/8، 9]. قلنا: نفي العذاب في هذه الآيات عن الفساق بالمفهوم ولا اعتماد
عليه فيما المطلوب به العلم، فكيف وقد عارض هذا المفهوم منطوق الآيات المتقدمة في
حجج العدلية. قال: مَنْ أقر بورود الوعيد على أهل الكبائر وقطع بتخلفه لشرط أو
استثناء مقدر قال تعالى: ]وَرَبُّكَ الغَفُوْرُ ذُوْ الرَّحْمَةِ لَوْ يَؤَاخِذُهُمْ
بِمَا كَسَبُوْا لَعَجَّل لَهُمُ العَذَابَ[ [الكهف/58]. قلنا: لو يؤاخذهم في الدنيا، وسيؤاخذهم في الآخرة، وأما المبالغة
بالغفور وذو الرحمة فمقيد بقوله تعالى: ]وإنِّي لغفَّارٌ لِمَنْ تَابَ[ [طه/82] وبقوله: ]ورَحْمَتِي وَسِعَتْ كُلَّ شَيْءٍٍ فَسَأَكْتُبُهَا
لِلَّذِيْنَ يَتَّقُوْنَ ويُؤْتُوْنَ الزَّكَاةَ[ [الأعراف/156]. قالوا: قال تعالى: ]فَيَغْفِرُ لِمَنْ يشَاءُ ويُعَذِّبُ مَنْ يشَاءُ[ [البقرة/284]. قلنا: مجمل لم يبين فيه من الذي يشاء أن يغفر له، ولا من الذي يشاء
أن يعذبه، وهو مبين بقوله: ]وإنِّي لَغَفَّارٌ…
الآية[، وبقوله:
]مَنْ يَعْمَلْ سُوْءً يُجْزَ بِهِ[ وغير ذلك. قالوا: قال تعالى: ]وَعَدَ اللهُ الْمُؤْمِنِيْنَ والْمُؤْمِنَاتِ جَنَّاتٍ
تَجْرِي مِنْ تَحْتَهِا الأنْهَارُ[ [التوبة/72] والإيمان التصديق، والفاسق مصدق. قلنا: الإيمان التصديق لغة، وشرعاً من أتى بالواجبات واجتنب
المقبحات، فصار حقيقة شرعية لقوله تعالى: ]إِنَّمَا الْمُؤْمِنُوْنَ الَّذِيْنَ إذَا ذُكِرَ اللهُ
وَجِلَتْ قُلُوْبُهُم وَإِذَا تُلِيَتْ عَلَيْهِمْ آيَاتُهُ زَادَتْهُمْ إيْمَانَاً
وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُوْنَ[ الآية [الأنفال/2] وقوله تعالى: ]والْمُؤْمِنُوْنَ والْمُؤْمِنَاتُ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ
بَعْضٍٍ يَأْمُرُوْنَ بِالْمَعْرُوْفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ
وَيُقِيْمُوْنَ الصَّلاَةَ ويُؤْتُوْنَ الزَّكَاةَ ويُطِيْعُوْنَ اللهَ
وَرَسُوْلَهُ أُوْلَئِكَ سَيَرْحَمُهُمُ اللهُ إنَّ اللهَ عَزِيْزٌ
حَكِيْمُ[ [التوبة/71] وعد الله المؤمنين والمؤمنات أي الموصوفين بهذه الصفات فبطل
ما زعموا. قالوا: قال تعالى: ]ثُمَّ عَفَوْنَا عَنْكُمْ مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ لَعَلَّكُمْ
تَشْكُرُوْنَ[ [البقرة/52]. قلنا: قوله تعالى: ]لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُوْنَ[ دليل على أنه
إنما عفى عنهم في الدنيا بأن لم يعجل عقابهم على ما فعلوه، وأما ما يتمسك به
القائلون بأن الوعيد واصل بأهل الكبائر وأنهم يدخلون النار ولكن يخرجون عنها،
فقالوا: قال تعالى: ]فَأَمَّا الَّذِيْنَ شَقُوا فَفِي النَّارِ لَهُمْ فِيْهَا
زَفِيْرٌ وشَهِيْقٌ خَالِدِيْنَ فِيْهَا مَا دَامَتِ السَّمَوَاتُ والأرْضُ إلاَّ
مَا شَاءَ رَبُّكَ إنَّ رَبَّكَ فَعَّالٌ لِمَا يُرِيْدُ[ [هود/106، 107]. قالوا: قد علق بقائهم في النار بدوام السموات والأرض وهي زائلة، وما
علق بالزائل فهو زائل، وقالوا: الإستثناء بقوله: ]إلاَّ مَا شَاءَ رَبُّكَ[ المراد به إخراج
الفساق دون الكفار، وقالوا: قوله: ]إنَّ رَبَّكَ فعَّالٌ لِِمَا يُرِيْدُ[يعني إخراج البعض وهم الفساق، وأيضاً البعض وهم الكفار. قلنا في الجواب: أن تعلقهم بأن ما علق على الزائل فهو زائل صحيح لو كان المراد
سموات الدنيا وأرضها، لكن المراد سموات الآخرة وأرضها، إذ تعليقه بسموات الدنيا
وأرضها مستحيل لأنه في ذلك اليوم قد انقضى وجودهما، والتعليق بما قد انقضى مستحيل،
أو أن المراد التبعيد دون التوقيت، وهذه طريقة العرب كما قال تعالى: ]حَتَّى يَلِجَ الْجَمَلُ فِي سَمِّ الْخِيَاطِ[ [الأعراف/40]. أما الحواب عن
الإستثناء في قوله تعالى: ]إلاَّ مَا شَاءَ رَبُّكَ[ فالمراد به إلا ما شاء من لبثهم في عرصة المحشر للحساب ووقت
المرور على الصراط عند من يجعله حقيقة، لأنه قال في أول الكلام: ]يَوْمَ يَأْتِ[ يعني يوم القيامة
]لا تَكَلَّمُ نَفْسٌ إلاَّ بِإذْنِهِ فَمِنْهُمْ شَقِيٌ
وسَعِيْدٌ، فَأَمَّا الَّذِيْنَ شَقُوْا فَفِي النَّارِ[ [هود/ 105، 106] فلولا الإستثناء للزم أنهم في النار من حين خروجهم من القبور
ولبثهم في عرصة المحشر ومرورهم على الصراط، والمعلوم أنهم لا يدخلون النار إلا بعد
هذه المواقف، ولو أراد إستثناء أناس وإخراجهم من النار لقال: إلا من شاء ربك، لأن
مَنْ لِمَنْ يعقل، ومَا لِمَا لا يعقل، فعلمنا أن الإستثناء لا تعود إلى أناس ولا
إلى زمن متأخر عن الدخول بل متقدم عليه. وأما
الجواب عما تعلقوا به من قوله تعالى: ]إنَّ رَبَّكَ فعَّالٌ لِمَا يُرِيْدُ[ [هود/107]. فنقول: أنه مجمل لا دلالة فيه أن المراد ما ذكروه، بل يمكن أن
المراد فعال لما يريد من خلود أهل النار في النار وأهل الجنة في الجنة، ويلزمهم في
أهل الجنة مثل ما قالوا في أهل النار، لأن الله تعالى يقول: ]فَفِي الْجَنَّةِ خَالِدِيْنَ فِيْهَا مَا دَامَتِ
السَّمَوَاتُ والأرْضُ إلاَّ مَا شَاءَ رَبُّكَ[ [هود/108] فما أجابوا به فهو جوابنا. قالوا: قال تعالى: ]وإنْ مِنْكُمْ إلاَّ وَارِدُهَا كَانَ عَلَى رَبِّكَ حَتْمَاً
مَقْضِيَّاً ثُمَّ نُنَجِّي الَّذِيْنَ اتَّقَوْا ونَذَرُ الظَّالِمِيْنَ فِيْهَا
جِثِيَّاً[ [مريم/71، 72]. قلنا: الخطاب عام فيلزم دخول المؤمنين النار وهو باطل، فلم يبق إلا
أن الورود الحضور كقوله تعالى: ]ولمَّا ورَدَ مَاءَ مَدْيَنَ[ [القصص/23] أي حضر، ثم ننجي الذين اتقوا بعدم دخولهم فيها، ونذر
الظالمين فيها جثياً بإدخالهم فيها، والظالم عام للكافر والفاسق. قالوا: قال تعالى: ]فمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْرَاً يَرَه، ومَنْ
يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرَّاً يَرَه[ [الزلزلة/7، 8]، قالوا: والفاسق قد عمل الخير والشر فلا بد أن يصل إليه ما
في مقابلهما معاً من الثواب والعقاب، ولا بد أن يكون وصولهما على وفق رحمته وكرمه
فيصل إليه العقاب أولا، ثم يخرج منه ويصله الثواب ويخلد فيه. والجواب: أن ظاهر الآية متروك وإلا لزم أن يصل إلى الكافر ثواب طاعاته
من بر والديه وصلة الرحم وصدق اللهجة وأداء الأمانة ونحو ذلك، فلا بد من تأويله
ويكون المعنى: من يعمل مثقال ذرة خيراً وهو من فريق السعداء، ومن يعمل مثقال ذرة
شراً وهو من فريق الأشقياء، لأنه جاء بعد قوله: ]يَصْدُرُ النَّاسُ أشْتَاتاً[ [الزلزلة/6] ذكر نحو هذا التأويل جار الله في كشافه، ويؤيده قوله
تعالى: ]إنَّما يَتَقَبَّلُ اللهُ مِنَ الْمُتَّقِيْنَ[ [المائدة/27] ، وقوله تعالى: ]يَاوَيْلَتَنَا مَالِ هَذَا الكِتَابِ لا يُغَادِرُ
صَغِيْرَةً وَلا كَبِيْرَةً إلاَّ أحْصَاهَا[ [الكهف/49]، قالوا: قال تعالى: ]إنَّا لا نُضِيْعُ أجْرَ مَنْ أحْسَنَ عَمَلاً[ [الكهف/30]، وقوله تعالى: ]أنِّي لا أُضِيْعُ عَمَلَ عَامِلٍ مِنْكُمْ[ [آل عمران/195]. قالوا: والفاسق قد عمل عملاً حسناً وهو الإيمان وما يفعله من سائر
الطاعات كالصلاة والصوم ونحوهما، فلا بد أن يصل إليه ثوابه، وإلا كان قد أضيع
عمله؟ والجواب: أن الخطاب في الآيتين خاص بالمؤمنين فلا يدخل فيه الفاسق
بدليل أن الآية الأخيرة ذكر قبلها ]الَّذِيْنَ يَذْكُرُوْنَ اللهَ قِيَامَاً وَقُعُوْداً وَعَلَى
جُنُوْبِهِمْ ويَتَفَكَّرُوْنَ فِي خَلْقِ السَّمَوَاتِ والأرْضِ[ إلى قوله:
]فَاسْتَجَابَ لَهُمْ رَبُّهُمْ أنِّي لا أُضِيْعُ عَمَلَ
عَامِلٍ مِنْكُمْ[، فلا دخل للفاسق
فيها إذ لا عموم، وأما الآية الثانية فإنها وإن كان فيها صيغة عموم في مَنْ أحسن
عملاً، إلا أن أولها وهو قوله تعالى: ]إنَّ الَّذِيْنَ آمَنُوْا وعَمِلُوْا
الصَّالِحَاتِ[ [الكهف/107] صرف العموم عن ظاهره وعلم أن المراد به من أحسن منهم أي من
الذين آمنوا وعملوا الصالحات، فلا يدخل الفاسق في هذا العموم، وإذ قد آتينا على
جملة ما توهمته المرجئة حججاً لهم وبينا عدم دلالة تلك الآيات على مدعاهم فلم يبق
لهم شبهة إلا ما زعموه من الأحاديث حجة لهم، واعلم أنهم قد احتجوا بأحاديث زعموها
حجة وادعوا تواترها تواتراً معنوياً منها أحاديث الشفاعة وعمومها مثل: ((شفاعتي
لأهل الكبائر من أمتي)) وغيره مما يؤدي معناه، ومنها أحاديث الخروج من النار كحديث:
((يخرج من النار من قال لا إله إلا الله، ومن في قلبه مثقال برة من الإيمان)) وهذه
الأحاديث ونحوها لا حجة لهم فيها، لأنها آحادية وقد صادمها القواطع من الآيات
المتقدمة، والظني لا يقاوم القاطع، ولأنها قد عورضت بأحاديث تدل على خلود العصاة من
أهل القبلة الذين ماتوا من غير توبة في النار، ولأنها من رواية الخصوم وأهل البدع
والشنع وأتباع بني أمية، وعلى كل حال فالمسئلة معترك الأنظار وقد أتينا بما هو الحق
وأقمنا الدليل ومن أحب الإستكثار فعليه بمطالعة أسفار العترة الأبرار وشيعتهم
الأخيار، وقد أحسن في المقال من قال: ومن مشى فـي مهيع الأرجـاء فـقد مشى بالقـدم
العـرجاء وانساب في مدرجـة عوجـاء حـائرة مـوحشــة
الأرجـاء وبهذا ينتهي الكلام في المطلب الرابع وصلى الله على محمد
وآله. *** ([1])
جار الله الزمخشري المفسر المعروف صاحب كتاب
(الكشاف).
المطلب
الخامس أما الجواب عن المطلب الخامس من مطالب
السؤال،
وهو: هل يكفي في
الإيمان حب أمير المؤمنين عليه السلام؟
فاعلم:
أنا نسوق نزراً يسيراً من الكلام على أحاديث المحبه فقد أخرج الإمام أحمد بن حنبل
بسنده قال: حدثنا ابن نمير حدثنا الأعمش عن عدي بن ثابت عن زر بن حبيش قال: قال علي
عليه السلام: (مما عهد إلي رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: أنه لا يبغضني إلا
منافق ولا يحبني إلا مؤمن)أهـ. قال السيد العلامة فخر الآل عبد الله بن الإمام
الهادي القاسمي رضي الله عنه: والحديث رواه أحمد عن وكيع أيضاً عن الأعمش، وأخرجه
عن زر البخاري ومسلم، والحسن بن علي الصفار في أربعينيته، وأخرجه أبو طالب في
أماليه من حديث أم سلمة: ((لا يحب علي إلا مؤمن ولا يبغضه إلا منافق)) وفيه عن أبي
سعيد: إنما كنا نعرف منافقي الأنصار ببغضهم علياً، وأخرجه عن أبي سعيد أحمد، ولفظ
أبي داود: كنا نعرف المنافقين ببغضهم علي بن أبي طالب) وحديث أم سلمة أخرجه ابن أبي
شيبة والطبراني في الكبير والترمذي وأخرجه مسلم والترمذي وابن ماجة من حديث علي
عليه السلام، وكذا الحميدي وابن أبي شيبة والنسائي وابن حبان، وأبو نعيم في الحلية،
وابن أبي عاصم بلفظ: ((والذي فلق الحبة وبرأ النسمة أنه لعهد النبي صلى الله عليه
وآله وسلم ألاَّ يحبني إلا مسلم ولا يبغضني إلا منافق)) ورواه في المجموع قال لي
رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: ((أنت وزيري وخير من أخلفه بعدي، يا علي بحبك
يعرف المؤمنون وببغضك يعرف المنافقون من أحبك من أمتي فقد بري من النفاق، ومن أبغضك
لقي الله منافقاً))، وحديث المحبة رواه عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم أمير
المؤمنين uوابن
عباس وعمر وابن عمر وأبو ذر وسعد وأبو أيوب وأبو بردة وأبو سعيد وأبو هريرة وزيد بن
أرقم وسلمان وأبو رافع وأم سلمة وعائشة وعمار وجابر وأنس وعمران بن حصين وأبو ليلى
وجرير البحلي وعبدا لرحمن بن أبي ليلى والبراء وبريده بن الخصيب وسلمة بن الأكوع
وسهيل بن سعد الساعدي وعبيد الله بن أصحم الخزاعي وعامر بن سعد وغيرهم أهـ. من
كتابه كرامة الأولياء. واعلم وفقني الله وإياك:
أنَّ محبة أمير المؤمنين uهي
أصل عظيم وركن جسيم لا يتم إيمان عبد إلا بها، وليست محبته uكافية
للعبد ومجزية له عن غيرها، بل لا بد للعبد من القيام بأداء الواجبات واجتناب
المقبحات، وعلى الجملة فإن الإيمان قول باللسان واعتقاد بالجنان وعمل بالأركان،
ومحبة أمير المؤمنين uمن
جملة ما يجب على العبد، ومحبته uهو
اعتقاد منزلته uمن
رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم من أخوته ووصايته وخلافته، وكونه أحق الناس
وأولاهم برسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، والتصديق بما ورد فيه عن رسول الله
صلى الله عليه و آله وسلم من الخصائص التي صحت روايتها ولا ينفع العبد ذلك حتى يكون
متبعاً له في أقواله وأفعاله موالياً لأوليائه متبرياً من أعدائه، قال الله تعالى:
]قُلْ إنْ
كُنْتُمْ تُحِبُّوْنَ اللهَ فَاتَّبِعُوْنِي يُحْبِبْكُمُ اللهُ[ ويحرم
على العبد بغضه وتنقيصه ومن تنقيصه محبة أعدائه. تحب
عدوي ثـم تزعـم أنـني
صديقـك ليس النوك عنك
بعازب وقد أخرج
الإمام أحمد بن حنبل مرفوعاً عن علي uقال:
دعاني رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فقال: ((إن فيك من عيسى بن مريرم مثلاً
أبغضته اليهود حتى بهتوا أمه، وأحبه النصارى حتى أنزلوه بالمنزل الذي ليس له، وإنه
يهلك فيَّ اثنان محب يقرضني بما ليس فيَّ ومبغض يحمله شأني على أن يبهتني..إلخ))
وللحديث طرق كثيرة ساق من أخرجه السيد العلامة عبدالله بن الإمام في كرامة
الأولياء، والعلامة محمد بن إسماعيل الأمير في الروضة الندية، والحديث من أعلام
النبوة، فالذين قرضوه بما ليس فيه من يدعي إلهيته وربوبيته ومن ادعى له النبوة، ومن
ادعى له الرجعة ومن غلا فيه وتجاوز الحد، وهلك فيه من أبغضه وقاتله وشتمه على رؤوس
المنابر، ومن أنزله عن حقه الذي ثبت له بالأدلة والعجب ممن قال إن العبادة قد نهكته
رياءً وترشحاً للخلافة، ومن قال به دعابة وتيه على المؤمنين، وقد قال صلى الله عليه
وآله وسلم: ((يهلك فيه رجلان محب مفرط ومبغض مفتر)) أخرجه ابن عبد البر مرفوعاً،
وأحمد موقوفاً على الوصي، نسئل الله الكريم أن يرزقنا محبة النبي الكريم ومحبة أمير
المؤمنين، وأهل البيت الطاهرين ـ صلوات الله عليهم ـ على الوجه الذي يطابق مراد
الله ونبرأ إلى الله من أعداء رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، ومن أعداء أمير
المؤمنين، وأهل البيت الطاهرين، ونسأل الله العصمة والتوفيق والتسديد، وبهذا الكلام
يتم الجواب على السؤال السادس، والحمد لله رب العالمين، وصلى الله علي سيدنا محمد
وآله.
السؤال
السابع
ما
حكم زيارة المرأة للقبور، وإذا كانت جائزة فهل يجوز مع مزاحمة
الرجال؟ الجواب:
أقول وأسأل
الله الهداية والتوفيق:
إني
أختار ما ذكره الإمام أمير المؤمنين الهادي إلى الحق المبين يحيى بن الحسين بن
القاسم بن إبراهيم uفي
الأحكام (صفحة/156/ الجزء الأول)، ولفظه: قال يحيى بن الحسين رضي الله عنه: أكره
للنساء إتباع الجنازة، فإن كان لا بد فليتنحين وليكنَّ بمعزل عن الرجال ولا يرفعن
بالبكاء صوتاً ولا يبدينَ لهنَّ وجهاً فإذا دفن انصرفن إلى منازلهن، ولا أحب لهنَّ
زيارة القبور، حدثني أبي عن أبيه في خروج النساء مع الجنازة، وهل تزور المرأة
القبور؟ فقال: قد جاء عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم الكراهة لذلك، وأرجو أن
لا يكون باتباع المرأة للجنازة بأس إذا تنحت عن الرجال ومخالطتهم واستترت بما
يسترها من الثياب، وأكره للمرأة أن تزور القبور .اهـ وقد
صح أن فاطمة البتول كانت تزور قبر أبيها صلوات الله عليه وعلى آله، وقبر الحمزة رضي
الله عنه، وصح تعليم النبي صلى الله عليه وآله وسلم عائشة الزيارة، وقد صح نهي
النساء عن مزاحمة الرجال والتعرض لداعي الفتنة والممنوع هو ذلك، فما أدى إلى ذلك
ففاعله مأزور غير مأجور، فإن قيل: قد صح عنه صلى الله عليه وآله وسلم بلفظ: ((لعن
الله زوارات القبور)) فكان الحمل على التحريم أولى، قلت: سيأتي عن عائشة مرفوعاً ما
يدل على تعليمه لها الزيارة، وصح أن فاطمة صلوات الله عليها كانت تزور قبر أبيها
صلوات الله عليه وآله، فلذلك قلنا أنه غير محرم، هذا والله يصلح شأن الأمة
الإسلامية ويوفقها إلى اتباع السنن المشهورة ونبذ البدع المهجورة، وصلى الله وسلم
على سيدنا محمد وآله.
السؤال الثامن هل
يجوز عند زيارة قبور الصالحين تقبيلها والطواف عليها كما يطاف على الكعبة والسعي
إليها زحفاً؟ وإذا لم يكن جائزاً فما هو الجائز منه؟ الجواب:
والله
الهادي:
إن زيارة القبور سنة متبعة سنها رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وعمل بها
المسلمون من بعده وإلى الآن، واعلم أن اتباع ما صح عن رسول الله صلى الله عليه وآله
وسلم في جميع الموارد والمصادر هو الذي يليق بالمؤمن التقي وكل عمل يخالف ما صح عنه
صلى الله عليه وآله وسلم فهو رد كما جاء في الحديث، وقد صح أنه صلى الله عليه وآله
وسلم كان يزور أهل البقيع، فقد أخرج مسلم في صحيحه عن عائشة قالت: كان النبي صلى
الله عليه وآله وسلم يخرج من آخر الليل إلى البقيع فيقول: ((السلام عليكم دار قوم
مؤمنين وأتاكم ما توعدون غداً مؤجلون وإنا إنشاء الله بكم لاحقون، اللهم اغفر لأهل
بقيع الغرقد..) وهو في مسلم والنسائي مطول وفي آخره، .. قال: فإن جبريل
u أتاني
حين رأيت فناداني فأجبته فأخفيته منك ولم يكن يدخل عليك وقد وضعت ثيابك وظننت أن قد
رقدت فكرهت أن أوقظك وخشيت أن تستوحشي، فقال: إن ربك يأمرك أن تأتي أهل البقيع
فتستغفر لهم، قال: قلت كيف أقول لهم يا رسول الله؟ قال: ((قولي السلام عليكم أهل
الديار من المؤمنين والمسلمين ويرحم الله المستقدمين والمستأخرين، وإنا إنشاء الله
بكم لاحقون))، وأخرجه الموطأ بلفظ: قالت عائشة: قام رسول الله ذات ليلة فلبس ثيابه
ثم خرج، فأمرت جاريتي بريرة تتبعه فتبعته حتى جاء البقيع فوقف في أدناه ما شاء الله
أن يقف، ثم انصرف فسبقته فأخبرتني فلم أذكر له شيئاً حتى أصبح ثم ذكرت له، فقال:
((إني بعثت إلى أهل البقيع لأصلي لهم))، وفي صحيفة علي بن موسى الرضا عن آبائه
عليهم السلام عن علي u قال:
قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: ((من مر على المقابر وقرأ قل هو الله أحد
أحدى عشر مرة ووهب أجره للأموات أعطي من الأجر بعدد الأموات)) وفي مجموع إمام الأمة
أمير المؤمنين زيد بن علي بن الحسين بن علي صلوات الله عليه عن أبيه عن جده عن علي
صلوات الله عليهم أنه كان يقول إذا دخل المقبرة: السلام على أهل الديار من المسلمين
والمؤمنين أنتم لنا فرط وإنا بكم لاحقون، وإنا إلى الله راغبون، وإنا إلى ربنا
منقلبون اهـ وفي الجامع
الكافي عن علي صلوات الله عليه أنه كان يقول إذا دخل المقابر:
(السلام على من في هذه الديار من المؤمنين والمسلمين، أنتم لنا فرطٌ ونحن لكم تبع،
وإنا بكم لاحقون، اللهم لا تحرمنا أجرهم ولا تفننا بعدهم.. أهـ. وليس من غرضنا
التطويل بل التنبيه على فعل النبي صلى الله عليه وآله وسلم، وفعل الوصي صلوات الله
عليه، فالإقتداء بالهدي النبوي وبأمير المؤمنين صلوات الله عليهما وآلهما فيه خير
كثير. ولا
شكَّ أنَّ زيارة الأنبياء والأوصياء والهداة الأئمة الدعاة إلى الحق، وزيارة
الأولياء والصالحين والشهداء فيها فضل كبير وخير كثير، وجرى عليه عمل الأمة
الإسلامية خلفهم وسلفهم، أما التمسح والطواف بالقبر والتقبيل فهو لم يؤثر فعله ولم
يؤثر النهي عنه، فإن كان التمسح للتبرك فالأدلة تقضي بجوازه، فإن التبرك بآثار
الصالحين جائز وأدلته واضحة، وكذلك التقبيل لم يرد تحريم تقبيل الجماد فقد صح تقبيل
الحجر الأسود، وهي من تعظيم شعائر الله تعالى، وقد قال الله تعالى: ]ومَنْ
يُعَظِّمْ شَعَائِرَ اللهِ فَإنَّها مِنْ تَقْوَى القُلُوْبِ[ [الحج/32]
أما الطواف فإن كان من قصد الزائر القياس على الكعبة فهو قياس باطل ولا استحباب فيه
ولا حرج في فعله، وإن كان قصده الإعتبار والنظر مع الدعاء والتلاوة فلا ضير في ذلك
غايته الإباحة كالمشي في المواطن الشريفة، وقد يقال إذا زاحم المسلمين أو منع
المصلين وحصل أذية بفعله لذلك فبسبب ذلك يحصل المنع الشرعي له لكنه لا لعين الفعل
بل لسببه، أما الدخول إلى القبور زحفاً فلا يخلو إما أن يكون قصد الفاعل الخضوع
لصاحب القبر كخضوع المخلوق للخالق، فذلك مما يحرمه الشرع الشريف ويمنع فاعله وينكر
عليه، وإن كان لجهل فاعله ولم يقارنه اعتقاد تنزيل صاحب القبر منزلة الخالق فبدعة
مستنكرة، وأما ما يجوز فعله فهو ما وافق فعل النبي صلى الله عليه وآله وسلم وفعل
أمير المؤمنين uمع
ملازمة الآداب والسكينة والوقار وإخلاص النية والدعاء لله جل جلاله، وأن يستقبل وجه
الميت ثم يسلم عليه ويدعو له وللمؤمنين ويكره رفع الصوت بحيث يتأذى منه الحاضرون،
ويشترط أن لا يزاحم المسلمين، أما إذا حصلت أذية المسلمين كالزيارات الجماعية التي
يحصل بها المزاحمة والأذية للمؤمنين ورفع الأصوات المؤذية فقد عاد عليه فعله بنقيض
مقصده، ولا يبعد تحريم ما هذا حاله، ونسأل الله الإعانة والتوفيق والتسديد،. وصلى
الله على سيدنا محمد وآله.
السؤال
التاسع من
المعلوم أن الأوقات الإختيارية في المذهب الزيدي هي خمس فهل هي في المذهب الإثنى
عشري كذلك؟ أم ليست كذلك؟ الجواب:
أقول:
إن
حديث جبريل قد أخرجه الكثير من أئمتنا صلوات الله عليهم ولفظ أمير المؤمنين الهادي
إلى الحق المبين صلوات الله عليه في المنتخب: أجمعوا جميعاً عن رسول الله صلى الله
عليه وآله وسلم أنه قال: ((أمني جبريل عند البيت فصلى بي الظهر حين زالت الشمس
فكانت مقدار الشراك، ثم صلى بي العصر حين كان ظل كل شيء مثله، ثم صلى بي المغرب حين
أفطر الصائم، ثم صلى بي العشاء حين غاب الشفق، ثم صلى بي الفجر حين حرم الطعام
والشراب على الصائم، قال: ثم صلى بي الغد الظهر حين صار ظل كل شيء مثله، ثم صلى بي
العصر حين صار ظل كل شيء مثليه، ثم صلى بي المغرب حين أفطر الصائم، ثم صلى بي
العشاء في ثلث الليل، ثم صلى بي الفجر فأسفر ثم التفت إليَّ فقال لي: يا محمد: هذا
وقت الأنبياء من قبلك الوقت فيما بين هذين الوقتين)).اهـ. والحديث
في مجموع إمام الأئمة الإمام زيد بن علي عليه السلام، وفي الجامع الكافي قال الحسن
فيما روى ابن صباح عنه، وهو قول محمد في المسائلة وسئلا عمن يقول: إن للصلوات الخمس
ثلاثة مواقيت، فالذي اتصل بنا عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم أنه صلى خمس صلوات
في خمسة مواقيت إلا ما جمع بعرفة ومزدلفة وكذلك بلغنا عن علماء آل رسول الله صلى
عليه وآله وسلم، وبإجماع علماء أمة محمد صلى الله عليه وآله وسلم أن للصلوات خمسة
مواقيت إلا من علة أو عذر.اهـ. والجمع
جائز، وقد قال
الهادي إلى الحق أميرالمؤمنين يحيى بن الحسين صلوات الله عليه في المنتخب:
والدليل
على صحة هذا القول وثباته أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم جمع بين الظهر
والعصر والمغرب والعشاء في المدينة من غير سفر ولا خوف ولا مطر من ذلك ما روى ابن
أبي شيبة الكوفي قال: حدثنا أبو معاوية عن الأعمش عن حبيب بن أبي ثابت عن سعيد بن
جبير عن ابن عباس، قال: جمع رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم بين الظهر والعصر
والمغرب والعشاء بالمدينة في غير خوف ولا مطر)) قيل لابن عباس: وما أراد بذلك؟ قال:
أن لا يحرج أمته..أهـ. أما في السفر والمرض والمطر فقد تظاهرت الأدلة على صحة
الجمع، وأما مع العذر فذلك مسوغ للجمع، فإن أراد السائل هذا فهذه أدلة واضحة، وإن
أراد غير ذلك فلا وجه له ولا دلالة عليه، والله يقود بنواصينا إلى ما فيه رشدنا
ورشد أمتنا الإسلامية، ونسأل الله السداد والثبات والعصمة، وصلى الله وسلم على
سيدنا محمد وآله. ***
السؤال
العاشر ما حكم نكاح المتعة؟ وما هو
الدليل؟ أقول:
إن مذهب أئمة الزيدية والفقهاء وأكثر الأمة الإسلامية هو تحريم نكاح
المتعة. قال في شرح القاضي زيد رحمه الله:
مسئلة:
ونكاح المتعة باطل، وهو: أن تتزوج المرأة إلى أجل معلوم فيرتفع النكاح بمضيه نص في
الأحكام وروى فيه عن القاسم uوهو
قول الناصر u والزيدية
كلهم وسائر الفقهاء، إلا ما يحكى عن زفر أنه أبطل الشرط وأجاز العقد، ثم قال رحمه
الله: لنا خبر عبدالله والحسن ابني محمد بن الحنفية عن أبيهما قالا: تكلم علي
uوابن
عباس في متعة النساء فقال علي عليه السلام: إنك امرء تائه، إن رسول الله صلى الله
عليه وآله وسلم نهى عن متعة النساء يوم خيبر وعن أكل لحوم الحمر الأهلية)) وعن إياس
المدني عن علي u عن
النبي صلى الله عليه وآله وسلم أنه نهى عن نكاح المتعة، وقال: ((إنما كانت لمن لم
يجد فلما أنزل الله النكاح والطلاق والميراث بين الزوج والمرأة نسخت)) وروى عبدالله
بن الحسن عن أبيه عن جده عن علي عليه السلام: (حرم رسول الله صلى الله عليه وآله
وسلم متعة النساء يوم خيبر لا أجد أحداً عمل بها إلا جلدته) وعن الربيع بن سبرة
الجهني عن أبيه قال: وردنا مكة مع رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم في حجة
الوداع، فقال: ((استمتعوا من هذه النساء) والإستمتاع عندنا النكاح، فكلم النساء من
كلمهن فقلن: اننكح إن نكحنا وبيننا وبينكم أجل فذكرنا ذلك لرسول الله صلى الله عليه
وآله وسلم فقال: ((اضربوا بينكم وبينهن أجلاً)) قال: فخرجت أنا وابن عم لي ومعي برد
ومعه برد فأعجبها برده وأعجبها شبابي فقال: برد كبرد وكان الأجل بيني وبينها عشراً
فبت عندها تلك الليلة فغدوت فإذا النبي صلى الله عليه وآله وسلم قائم بين الركن
والمقام يخطب الناس فقال: ((أيها الناس: إني كنت أذنت لكم في الإستمتاع من هذه
النساء ألا وإن الله قد حرم ذلك إلى يوم القيامة، فمن كان عنده شيء فليخل سبيلها،
ولا تأخذوا مما آتيتموهن شيئاً))، ولأنه عقد معاوضة يقتضي إطلاقه التأبيد، فوجب أن
يفسد بالتأقيت كالبيع، إلخ كلامه. وعن محمد بن كعب عن ابن عباس قال: إنما كانت
المتعة في أول الإسلام كان الرجل يقدم البلد ليس له بها معرفة فيتزوج إمرأة بقدر ما
يرى أنه يقيم فتحفظ له متاعه، وتصلح له شيئه، حتى نزلت هذه الآية: ]إلاَّ عَلَى
أزْوَاجِهِمْ أوْ مَا مَلَكَتْ أيْمَانُهُمْ[ [المؤمنون/6]
قال
ابن عباس: فكل فرج سواهما حرام، رواه الترمذي بإسناد ضعيف، وقد روى البيهقي وأبو
عوانة رجوع ابن عباس، وعن علي uأن
رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم نهى عن نكاح المتعة وعن لحوم الحمر الأهلية زمن
خيبر، وفي رواية: نهى عن متعة النساء يوم خيبر، وعن لحوم الحمر الأهلية، أخرجه
البخاري ومسلم وأحمد، وعن سلمة بن الأكوع قال: رخَّص لنا رسول الله صلى الله عليه
وآله وسلم في متعة النساء عام أوطاس
ثلاثة أيام ثم نهى عنها، رواه أحمد ومسلم، وحديث سبرة الجهني المتقدم في رواية
القاضي زيد، أخرجه أحمد ومسلم بلفظ قريب مما تقدم، وفي لفظ لمسلم من حديث سبرة قال:
أمرنا رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم عام الفتح حين دخلنا مكة ثم لم يخرج منها
حتى نهانا عنها، ولأحمد وأبي داود أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم في حجة
الوداع نهى عن نكاح المتعة، وفي مجموع الإمام الأعظم زيد بن علي بن الحسين بن علي
عليهم السلام عن آبائه عن علي uقال:
نهى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم عن نكاح المتعة عام خيبر،
اهـ. وفي أمالي
الإمام أحمد بن عيسى بن زيد uأن محمداً
قال:
حدثنا أحمد بن عيسى بن زيد قال: حدثني حسين بن علوان عن أبي خالد الواسطي عن زيد بن
علي عن آبائه عن علي uقال:
نهى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم عن نكاح المتعة يوم
خيبر.اهـ. وفي
الأحكام للإمام أمير المؤمنين الهادي إلى الحق المبين عليه السلام: حدثني أبي عن
أبيه أنه سئل عن نكاح المتعة فقال: لا يحل نكاح المتعة لأن المتعة إنما كانت في
سفرٍ سافره رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ثم حرم ذلك على لسان رسوله صلى الله
عليه وآله وسلم، وقد روي عن علي بن أبي طالب uبما
قد صح أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم نهى عنه.اهـ. وبتمام
هذا تم ما أردناه من تحصيل الجوابات على سؤالات السائل وقد بذلنا الوسع في التهذيب
والتنقيح وتحرينا في النقل عن أصول أئمتنا المعتمدة ومن موضاعاتهم وموضوعات شيعتهم
المشهورة، فمن وجد خللاً من الإخوان فليصلحه إن لم يجد له محملاً، وأسأل الله
الكريم أن يجعل ذلك وسيلة إلى رضاه عني وأن ينفع به كما نفع
بأصوله. وآخر
دعوانا أن الحمد لله رب العالمين وصلى الله وسلم على سيدنا محمد وآله
الطاهرين. قال
مؤلفه حفظه الله:
تم في خامس عشر ربيع الأول 1416هـ.
F هذه
الأسئلة أرسلت إلى سيدي ومولاي الحجة الوالد/ عبد
الرحمن حسين شايم المؤيدي
أيده الله وحفظه عن طريق طالب العلم الشريف الأخ/ علي أحمد
شرف الدين قال
السائل:ـ I والصلاة
والسلام على سيدنا محمد وعلى آله الأئمة الأطهار العترة الأخيار وصحبه. إلى
علماء الزيدية الكرام حفظهم الله ونفع بعلومهم المسلمين السلام عليكم ورحمة الله
وبركاته: وبعد:
أود في البداية أنْ أُعَرفكم بنفسي اسمي الدكتور/
محمد كالش،
أنا مسلم ألماني زيدي المذهب وقرأتُ الفقه وأُصُول الفقه وعلم الكلام على السيد
مهدي الرضوي الذي هو عالم زيدي في باكستان، وهو جاء إلى ألمانيا قبل سنوات كثيرة،
وله تلاميذ، وأسَّسْنا معهد الإمام زيد بن علي، ولهذا المعهد نفس الأهداف التي
لمؤسسة الإمام زيد بن علي الثقافية، نحن نريد نشر علوم أهل البيت عليهم السلام الذي
قال الله تعالى في كتابه: ]إنَّمَا
يُرِيْدُ اللهُ لِيُذْهِبَ عَنْكُمُ الرِّجْسَ أهْلَ البَيْتِ ويُطَهِّرَكُمْ
تَطْهِيْراً [ [الأحزاب/33] أنَّهُ تعالى يريد تطهيرهم ووصفهم
الرسول صلى الله عليه وآله وسلم بأنهم قرناء الكتاب وسفن النجاة، وأنتم [يعني علماء
الزيدية] حُفَّاظ علومهم ورواتها، وعندكم الطُّرُق الصحيحة المتصلة بأئمة أهل البيت
وعلمائهم عليهم السلام، أسأل الله أنُ يُوَفِّقَنا لنشر هذه العلوم وتعريف الناس
العدل والتوحيد. نحن
هنا مع الأسف الشديد بعيدين عن كُتُب الزيدية، وليس لدينا إلاَّ عدد من الكتب
المطبوعة، وأنا أريد أنْ أسألكم عن مسائل لم أجد جوابها فيما لديَّ من كُتُب،
وأُرِيد أنْ أقول بتبادل الآراء في مسائل فقهية وكلامية، وأتمنى أن ترضوا ذلك، وهذه
رسالتي الأولى وأريد أن أسأل فيها عن مسائل
السؤال
الأول:ـ نقل
شيخنا السَّيَاغي في مقدمة الروض النَّضير للقاسم بن عبد العزيز بن إسحاق بن جعفر
البغدادي، وبدأ هكذا (الفصل الثاني في ذكر من روى عنه والآخذين عنه وما يتصل بذلك
قال الشيخ العالم الزاهد القاسم بن عبد العزيز بن إسحاق بن جعفر البغدادي رحمه الله
تعالى: كان زيد بن علي شامة أهل زمانه، وزهرة أقرانه، وإمام أهل بيت النبوة في وقته
عليهم السلام، يقول بعد ذكر المقدمة:ـ لا
مذهب أقدم من مذهب زيد بن علي عليهما السلام، ولا أفضل، كيف لا يكون كذلك وهو يرويه
عن أبيه عن جده عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم ليس بينه وبينه إلاَّ رجلان،
انتهى ما ذكره العلامة القاسم بن عبد العزيز رحمه
الله. فُهِمَ
من كلام السياغي أن ما ذكره بأنَّ هذا كله كلام الشيخ القاسم بن عبد العزيز
البغدادي، لكن مِمَّا ذكره السياغي هذه الكلمات
أيضاً. فمن
هؤلاء مَنْ روى عنه محمد بن منصور المرادي جامع علوم آل محمد الرسول، وأعظم من روى
عنه منهم القاسم بن إبراهيم وأحمد بن عيسى والحسن بن يحيى بن الحسين بن زيد، فهؤلاء
الذي صار الكوفيون على مذهبهم حتى انتشر إليهم مذهب الهادي والمؤيد بالله في آخر
الزمان بعد خمسمائة وشيء. سؤالي قسمان: القسم الأول: مَنْ
كان هذا الشيخ الذي نقل عنه السياغي في الروض النضير؟ فأما الشيخ أبو القاسم بن عبد
العزيز بن إسحاق بن جعفر البغدادي البَقَّال فإنه مات مدة طويلة قبل خمسمائة، فلا
يمكن أن يكون الكلام المذكور كلام ابنه؟ القسم
الثاني: ما هو سبب تأخير انتشار مذهب الهادي والمؤيد بالله عليهما السلام إلى
الكوفة؟ فنقول: الحمد لله الذي هداه إلى اتِّباع الحق، فهذه نعمةٌ كُبْرَى،
وغبطة في الدنيا والأُخرى، حين تُدْعَا كلُّ الأمم بأئمتها، وتجاثي كل نفس عن
عقيدتها، فأئمة الآل سفينة النجاة، واتِّبَاعهم أمان من المهواة: أنتـم
سفيـنة نـوح والمراد بـها
ولاءكم لا مسـاميـراً ولا
خشبـا فمـن
تَمَسَّـك منـها بالولاء نجى
ومـن تعـسف في بـحر الهوى عطبا ]يَا أَيُّهَا
الَّذِيْنَ آمَنُوْا اتَّقُوْا اللهَ وكُوْنُوا مَعَ الصَّادِقِيْنَ[ [التوبة/119]،
فبخٍ بخ لِمَن تمسَّك بِعُرْوة الهداة، وركب في سفينة النجاة، ثم حكى الدكتور
بُعْدَهم عن كُتُبِ الزيدية، وأن ليس لهم إلاَّ النـزر اليسير من الكتب
المطبوعات. نقول:
إنَّ الله تعالى وله الحمد قد يسر وسهل سُبُل المواصلات، فلم يبقَ عُذرٌ للباحث
النقاب مع الهمة العلية والتشمير والبحث والتنقير، فمرة بالسؤال عن المعضلات، وفينة
بالبحث والتنقيب عن المؤلفات مع تسهيل الطبع والتصوير، مع أن الأئمة السابقين كانوا
يرحلون لطلب العلوم الدينية إلى البلدان البعيدة امتثالاً لأمر الرب الرحيم
]فَلَوْلا
نَفَرَ مِنْ كلِّ فِرْقةٍ مِنْهُمْ طَائِفَةٌ لِيَتَفَقَّهُوْا فِي
الدِّيْنِ[ [التوبة/122]، وعملاً منهم بحديث:
((اطلبوا العلم ولو بالصين))،
ثم ذكر الدكتور قوله: وأنا أريد أن أسألكم عن مسائل لم أجد جوابها فيما لديَّ من
كتب، وأُرِيد أن أقومَ بتبادل الآراء في مسائل فقهية وكلامية، وأتمنى أن ترضوا بذلك
إلخ. أقول:
إنَّ السائل لم يأت إلا من الباب الذي دلّ عليه السنة والكتاب ]فَاسْأَلُوْا
أهْلَ الذِّكْرِ[، وفي
حديث: ((إنَّ هذا العلم خزائن ومفاتحه السؤال
فاسألوا يرحمكم الله))، وعلماء
الزيدية في اليمن كثيرون، وهم يُرَحِبُّون بِكل مُسْترشد يطلب البيان والدلالة على
الحق القويم، والهداية إلى الصراط المستقيم. قال
السائل:
وهذه
رسالتي وأريد أن أسأل عن مسائل تاريخية
...إلخ.. أقول:
إنْ شاء الله تكون هذه المسائل فاتحة خير وصلة وثيقة لما يأتي بعدها، وحيث أن
السائل ذكر السؤال الأول، ومهَّد له تمهيداً، وعقب التمهيد بخلاصة السؤال، وقسم
السؤال الأول سؤالين، وقسمه قسمين. فأقول:
أمَّا التَّمهيد فلا يحتاج إلى جواب، وإنما بين فيه منشأ الإشكال ونهتم بالجواب عن
المطلوب ونشرع بعون الله الملك المعبود، ونسأله الهداية والتوفيق وصلى الله على
محمد وآله.
القسم الأول: مَنْ كان هذا الشيخ الذي نقل عنه السياغي في
الروض النضير؟ فأما الشيخ أبو القاسم بن عبد العزيز بن إسحاق بن جعفر البغدادي
البَقَّال فإنه مات مدة طويلة قبل خمسمائة، فلا يمكن أن يكون الكلام المذكور كلام
ابنه؟ قال
السائل:
القسم الأول:
من
كان هذا الشيخ ....إلـخ؟ أقول:
وإنْ أشكل هذا على السائل فهو إشكال واقع، ولكن نقول: أن منشئه هو قول السياغي في
الروض قال الشيخ العالم الزاهد القاسم بن عبد العزيز، فأوهم هذا أن لِعَبد العزيز
ولداً هو القاسم بن عبد العزيز، وأنه هو القائل، والصحيح أن القائل هو عبد العزيز،
وكنيته أبو القاسم، فوقع الغلط في الكتابة، ويشهد لما قلناه أن المترجم له في كتب
الرجال في طبقات الزيدية الكبرى وفي مطلع البدور وغير هذين هو أبو القسم عبد العزيز
بن إسحاق البغدادي، وحكى مترجموه له المؤلف الجامع لإسناد الزيدية وتعداد تلامذة
الإمام زيد uوأصحابه
الذين أخذوا العلم عنه، والنقل من هذا الكتاب مستفيض، وهو موجودٌ في بعض المكاتب
الخاصة في اليمن، ولم يترجم علماء الرجال للقاسم بن عبد العزيز فيحمل ما في الروض
على الغلط من الكاتب أو السهو من المؤلف، ولا يخلو كلام البشر من الغلط، ولو كان من
عند غير الله لوجدوا فيه اختلافاً كثيراً. هذا ما سنح من الجواب على القسم
الأول. القسم
الثاني: ما هو سبب تأخير انتشار مذهب الهادي والمؤيد بالله عليهما السلام إلى
الكوفة؟ أما الجواب عن القسم الثاني من أقسام السؤال
الأول: وهو ما سبب تأخير انتشار مذهب الهادي
والمؤيد بالله عليهما السلام إلى الكوفة
اهـ. اعلم: أنَّ العِتْرة النبوية عليهم السلام
مُحَسَّدة مجفوة من هذه الأمة، بليت من أول الأمر بالدولة الأموية، ونسج على ذلك
الْمِنْوال الدولة العباسية، فقدماء الآل مشردون مطرودون وبدمائهم مظرجون، وآخرون
منهم خائفون وجلون، فأنَّى يُنْشر لهم مذهب أو يلمع لهم كوكب، وبعد الدار عامل آخر،
ومن كان بالكوفة من الزيدية فهم في العدل والتوحيد لا يتخالفون مع الهادي والقاسم
وغيرهم، وفي الفروع كانوا على مذهب الإمام أحمد بن عيسى بن زيد والقاسم بن إبراهيم
والحسن بن يحيى بن الحسين بن زيد، فهم في نهج قويم ومهيع مستقيم، ومن الممكن أنه
نقل إليهم ووصل إلى بلدهم متقدماً وليس لدينا في ذلك نص تاريخي يُبين الواقع، والله
أعلم بحقائق الأمور.
السؤال الثاني: إلى أيِّ عصْرٍ بقي عدد من
الزيدية بمكة والمدينة؟ وأما الجواب عن السؤال الثاني: وهو إلى أيِّ عَصْرٍ بقي عدد من الزيدية
بمكة المكرمة والمدينة أهـ؟ أقول
في الجواب: أنَّ
الأشراف آل أبي نُمي ولاة مكة كان لأفاضلهم دور عظيم في توطيد قواعد العدل والتوحيد
بمكة وما جاورها، فحكى ابن فهد الهاشمي في تاريخ مكة، شرَّفَها الله في ترجمة عطيفة
بن أبي نمي، وفي سنة 726هـ وصل مرسوم كريم من السلطان إلى السيد عطيفة بتبطيل مقام
الزيدية والإنكار عليه في ذلك، فدخل السيد عطيفة، وأخرج إمام الزيدية إخراجاً
عنيفاً ونادى بالعدل في البلاد. قال:
وإمام الزيدية المشار إليه فيما أظن رجل شريف كان يصلي بالزيدية بين الركنين
اليماني والحجر الأسود، فإذا صلى صلاة الصبح وفرغ منها دعا بدعاء مبتدع وجهر به
صوته وهو: (اللهم صل على محمد وعلى أهل بيته الطاهرين المصطفين الأطهار المنتجبين
الأخيار الذين أذهب الله عنهم الرجس وطهَّرَهُم تَطْهِيْراً، اللهم انْصُرِ الحقَّ
والمحقين، واخذُلِ الباطل والمبطلين بِبَقَاءِ ظِل أمير المؤمنين ترجمان البيان
وكاشف علوم القرآن الإمام بن الإمام محمد بن المطهر بن يحيى بن رسول الله صلى الله
عليه وآله وسلم، الذي للدين أحياء إمام المتقين وحجاب الضالين، اللهم انصره وشعشع
أنواره، واقتل حساده، واكبت أضداده، مع زيادة على هذا، وكان إذا صلى المغرب أيضاً
دعا بهذا الدعاء وجهر به صوته في هاتين الصلاتين، فما زال على هذا إلى أن وصل إلى
مكة العسكر المصري الْمُجرَّد لليمن نصرة للملك المجاهد صاحب اليمن سنة خمس وعشرين
وسبعمائة، فعند ذلك خرج هذا الإمام من مكة، وأقام بِوَادي مر وما رجع إليها إلاَّ
وقت الحج، وكأنَّه عاد بعد الموسم إلى ما كان يفعله اهـ. هكذا
ساقه السيد أحمد بن محمد الشرفي رحمه الله في اللآلي المضيئة شرح البسامة في ترجمة
الإمام محمد بن المطهر عليه السلام، وقال بعد ذلك قلت: وعطيفة المذكور ابن أبي نُمي
محمد بن أبي سعيد بن حسن بن علي بن قتادة الحسني المكي، وهو أمير مكة، ولي أمرتها
نحو خمسة عشرة سنة، مستقلاً بها في بعضها وشريكاً لأخيه رميثة في بعضها، وأول من
ولي أمر مكة من هذا البطن بعد انقراض إمرة الهواشم جدهم قتادة بن إدريس بن مطاعن،
وقد تقدمت الإشارة إليه، وما زالت الآمارة فيهم على مكة إلى وقتنا، وهو سنة ست
وعشرين بعد الألف أهـ. وقد
استطرد السيد العلامة أحمد بن محمد الشرفي رحمه الله ذكر ولاة مكة من آل أبي نُمي
ومن الهواشم في ترجمة الإمام المنصور بالله عبد الله بن حمزة u لا معنى لذكر ذلك، وقد حصلت الإفادة بجواب السؤال
بما نقلناه سابقاً والله الموفق.
السؤال الثالث: هل بقي شيء من مؤلفات زيدية
العراق سوى كتب أبي عبد الله العلوي؟ أما الجواب عن السؤال الثالث: فأقول:
إنِّي لا أعلم إلا بمؤلفات محمد بن منصور المرادي رحمه الله التي منها أمالي أحمد
بن عيسى وهي مطبوعة وكتاب الذِّكْر مطبوع، أو مؤلفات أبي عبد الله العلوي التي منها
الجامع الكافي وكتاب الأذان بحي على خير العمل مطبوع، وهذه التي ذكرتها مشهورة
متداولة في اليمن اهـ.
السؤال الرابع: اشتغل
الإمام القاسم الرسي u بمسائل أصول الفقه في رسائله، وللهادي
u كتاب القياس وكتاب تفسير معاني السنة، وهي في
أصول الفقه، لكن ليس للعترة كتاب مشتمل على كل مسائل أصول الفقه قبل كتب الإمام
الناطق بالحق أبو طالب يحيى بن الحسين uحسب ما
عندي من معلومات هل هذا صحيح؟ هذه
هي أسئلتي الأولى ولي أسئلةٌ أخرى وكثير منها في التاريخ والطُّرُق، وذلك لِقِلَّةِ
كتب الزيدية المطبوعة عامة وفي الموضوعين المذكورين خاصة، وأتمنى أن ترضوا
بالمراسلة وعندي رغبة في الإتصال للسؤال ولتبادل
الآراء. جزاكم
الله خيراً كثيراً فإني أسأل الله أن يوفق كل من يشتغل بحفظ علوم آل
محمد. أخوكم/ محمد
كالش. أمَّا الجواب عن السؤال الرابع:ـ فاعلم:
أنَّ الصحابة والتابعين كانوا ينطقون بالعربية سليقة لا يحتاجون إلى الدراسة في
العربية بأقسامها، ولسليقتهم فهم يعرفون العام والخاص والمجمل والمبين ودلالة
الخطاب وغيرها من مباحث أصول الفقه حتى دخلت العجمة واحتاج العلماء إلى هذه العلوم
فابتدئت شيئاً فشيئاً دونت في غضون كتاباتهم دون تدوين مفرد يختص ببعض الفنون،
فللإمام القاسم بن إبراهيــم u و الإمام الهادي uكما
ذكرتم موضوعات لكن الجمع للأبواب وتفصيل المسائل والتعليلات وحسن التقسيم والتبويب
لم يظهر إلاَّ لمن بعدهم، وهكذا كان الصُّنْعُ والعمل في بقية الفرق، فلا أعلم
بتأليف لأئمتنا عليهم السلام في الفن المذكور مشتمل على كل مسائل أصول الفقه قبل
مؤلفات الأخوين الإمامين المؤيد بالله وأبي طالب عليهما السلام، وفوق كل ذي علمٍ
عليم، وبهذا ينتهي ما أردناه من الجوابات والله الهادي إلى
الصواب. أمَّا
ما ختم به أسئلته من تمنياته بالرضا بالمواصلة والمراسلة، وبرغبته في الإتصال
للسؤال ولتبادل الآراء فنقول: قد ختم كلامه بما ابتدأ به من الرغبة، وقد ورد في
الحديث: ((منهومان لا يشبعان طالب علم وطالب دنيا))،
هكذا
رُوِيَ، زاده الله رغبةً في العلم النافع وتنويراً وبصيرة، والله يسلك بنا مسالك
الصالحين، ونسأله الهداية إنه على ما يشاء قدير، وبالإجابة
جدير. وصلى
الله وسلم على سيدنا محمد وآله الطاهرين. المفتقر
إلى رحمة الله/ عبد الرحمن بن حسـين شايـم وفقه
الله. ***
P ملاحــظـة استدراك
على جوابنا على الدكتور محمد كالش جواب السؤال الأول من كان هذا الشيخ،
قطعنا أن هذا الشيخ هو أبو القاسم عبد العزيز بن إسحاق، وأن الكتاب الذي نقل عنه
السياغي هو كتابه ومؤلفه، واحتججنا على هذا بأن رجال التراجم لم يترجموا لولده
القاسم، وقلنا: أنما حكاه السياغي غلط من الكاتب أو سهو من المؤلف، ولم أحرر الجواب
إلا بعد رجوعي إلى الطبقات الكبرى ترجمة عبد العزيز بن إسحاق، وهي كما
يلي: عبد
العزيز بن إسحاق بن جعفر أبو القاسم البغدادي الزيدي شيخ الزيدية ببغداد روى مجموع
الإمام زبد بن علي عليهما السلام الفقهي الكبير المرتب المبوب عن علي بن محمد
النخعي، وروى عن أبي الأزهر سعيد بن محمد الكاتب، وجعفر بن الحسين بن الحسن ومحمد
بن القاسم ومحمد بن نصر ومحمد بن أحمد الكاتب، ومحمد بن عيسى النحوي، ومنصور بن
نصير وأحمد بن حمدان الواسطي ومحمد بن الحسين وعمر بن خالد المقري وأحمد بن محمد بن
يحيى بن عطية البقال، وأبي عبد الله جعفر بن محمد ابن الحسين وعلى بن أحمد أبو
العباس، ومحمد بن سليمان بن خالد وأحمد بن يحيى وأحمد بن زيد وغيرهم، وروى عنه أبو
العباس الحسني وأحمد بن محمد البغدادي وعلي بن العباس العلوي وأحمد بن علي بن محمد،
وزيد بن حاجب بن جعفر وحمزة بن سليمان العلوي والحسين بن
محمد. قال القاضي
أحمد بن صالح شيخ الزيدية ببغداد والعراق:
كان
عالماً مُحَدِّثاً حافظاً، قلت: وكان السماع عليه لعلي بن العباس سنة ثلاث وخمسين
وثلاث مائة، وقال
آخر:
كان
علامة كبيراً وفاضلاً شهيراً شيخاً عالماً زاهداً سعيداً ولياً لآل محمد، كان رأساً
في العلوم مهيمناً على المظنون والمعلوم له كتاب في إسناد مذهب الزيدية وتعدادهم
وذكر تلامذة زيد بن علي وأصحابه، الذين أخذوا العلم عنه، ومن كان فيهم وشاركوه في
العلم روى عنه السيد أبو طالب، فأكثر بواسطة أحمد بن محمد البغدادي، وروى عنه السيد
أبو العباس بواسطة وبغير واسطة، وروى عنه صاحب المحيط … إلخ الترجمة بالطبقات، ولما
اطلع بعض الأخوان على جوابي المذكور ذاكرني بأن
مولانا
وشيخنا أبا الحسين مجد الدين بن محمد حفظه الله،
ذكر القاسم بن عبد العزيز بن إسحاق في اللوامع، وترجم له وذكر له المؤلف العظيم،
فأجبت أني غير غافل ولا ساه عن كلام مولانا، وهو الثبت في رواياته وغاية ما في
الأمر أنه سبق قلمي بأنه لم يترجم المترجمون للقاسم، وهذا لا شك سبق قلم، فأما شهرة
الكتاب فهي لأبيه ومستندي كلام صاحب الطبقات. نعم
إتماماً للفائدة ولطلب السائل بيان من هو هذا الشيخ، فهو كما ترجم له صاحب مطلع
البدور بقوله: العلامة الكبير الفاضل الشهير الشيخ العالم الزاهد السعيد ولي آل
محمد، القاسم بن عبد العزيز بن إسحاق بن جعفر البغدادي قدَّسَ اللهُ رُوْحه، كان
رأساً في العلوم، مُهَيمناً على المظنون منها والمعلوم، له كتاب في إسناد مذهب
الزيدية وتعدادهم إلخ… الترجمة. وقد
نقل القاضي العلامة أحمد بن سعد الدين المسوري في كتاب الإجازات عن الإمام المنصور
بالله القاسم بن محمد u ما
لفظه: باب
في إسناد مذهب الزيدية رضي الله عنهم إلى زيد بن علي بن الحسين بن علي بن أبي طالب
صلوات الله عليهم، منقول من كتاب الشيخ العالم الزاهد السعيد ولي آل محمد القاسم بن
عبد العزيز بن إسحاق بن جعفر البغدادي قدس الله روحه في الجنة آمين
آمين. قال:
كان زيد بن علي t شامة
أهل زمانه … إلخ. فقد
نسب الكتاب للقاسم بن عبد العزيز وهو الإمام المرجوع إليه، فقد تعارضت روايته
ورواية صاحب الطبقات، فيجب الترجيح وإعمال النظر والتأكد، والله يتولى الجميع بعونه
ويمدنا بألطافه الخفية. وصلى
الله على سيدنا محمد وآله
P الحمد
لله على كل حال ونعوذ بالله من حال أهل النار والصلاة والسلام على سيدنا محمد وعلى
آله خير آل وبعد: فإن
سائلاً أرسل بأسئلة ثمانية من المملكة الأردنية الهاشمية طالبًا لجوابها. فتعرضت
لذلك وإن لم أكن أهلاً لفصل الخطاب، ولا لحل المشكلات التي تحار فيها الألباب ولكن
]مَنْ
قُدِرَ عليه رزقه فلْيُنفق مما أتاه الله[ [الطلاق/7]،
فإن أصبت فبتوفيق الله وإن أخطأت فلقصوري والإنسان محل الخطأ والنسيان، وقد نسخنا
السؤال بلفظه وأتبعناه بالجواب.
المسألة الأولى : ما حكم
تَجَنُّس المسلم في البلاد غير الإسلامية بجنسيتها مع العلم أنَّ الكثير منهم يؤكد
أنهم ما فعلوا ذلك إلا لأنهم قد أُوْذُوا واضطهدوا في بلادهم الأصلية بالسجن أو التهديد ومصادرة الأموال
وغيرها؟ وفئةٌ
أخرى كانت إقامتها في هذه البلدان لتحسين المستوى الإقتصادي لها
ولأسرها؟ الحمد لله على
كل حال والصلاة والسلام على محمد وعلى آله خير آل. الجواب: عن ذلك
ينبني على تقديم مقدمة هي في ذكر وجوب الهجرة وسرد بعض الأدلة على وجوبها وبيان
أنها غير منسوخة، ثم نأتي بالجواب بعد ذلك فنقول: إن أدلة وجوب الهجرة من دار الكفر
أو دار الفسق عند القائل بها معلومة جليَة، وظاهرة غير خفية، وقطعية غير ظنية لا
يجهلها إلا جهول وهي الآية الكريمة: ]إنَّ الَّذين تَوَفَّاهُمُ
الْمَلاَئِكَةُ ظَالِِمي أنْفُسِِهم قَالُوا فِيْما كُنْتُمْ قَالُوا كُنَّا
مُسْتضعفين في الأرْضِ قَالُوا ألَمْ تَكُنْ أرضُ الله واسعةً فَتُهاجِِرُوا فِيْها
فَأُولَئِكَ مأواهُمْ جهنَّمُ وسآءتْ مَصِيراً إلاَّ الْمُسْتَضْعَفِينَ من
الرِّجال والنِّساءِ والوِلْدان لا يَسْتَطِيعون حِيلةً ولا يهتَدُونَ سَبيلاً فأُولئكَ
عسى
اللهُ أنْ
يَعْفوَ عنهمْ وكانَ اللـه عفواً غفوراً[ [النساء/ 97ـ 99]
فهذه الآية تدل
على وجوب الهجرة ولم تفصل بين دار الكفر ودار الفسق، وقوله: ]فِيْمَا
كُنْتُمْ[ توبيخ لهم عظيم بأنهم لم يكونوا في شيء من الدين
واستثنى سبحانه وتعالى بقوله: ]إلاَّ الْمُسْتَضْعَفِيْنَ
مِنَ الرِّجَالِ والنِّسَاء ...[ إلـخ، فهؤلاء معذورون لعدم تمكُّنِهِم من الهجرة فلا رخصة في
البقاء في دار الكفر أو الفسق إلا لِمَنْ في الآية أو لمصلحة عامة بإذن
الإمام. قال القاضي عبد
الله النجري رحمه الله في شرح مقدمة البحر الزخَّار للمهدي عليه السلام: (مسألة):
قال القاسم بن إبراهيم عليه السلام، وهو مذهب الهادي uوغيره من أهل البيت عليهم
السلام، وتجب الهجرة عن دار الفسق إلى خلي عما هاجر لأجله، وعن الأكثر فسقاً إلى
الأقل، لأن الفسق كالكفر، وقد ثبت أنها تجب الهجرة عن دار الكفر إلى أن قال: وحاصل
الكلام في ذلك أن المقيم في دار الكفر لا يخلو إما أن يمكنه الهجرة إلى خلي عما
فيها وإلى ما فيه دونه أو لا يمكن إن لم يمكن لم تجب الهجرة اتفاقاً، كأن يكون
معذوراً لكبر أو عاهة أو بالتكسب لأولاد يخشى ضياعهم أو تستوي الدور في ذلك، كلها
ولا يمكنه الإنفراد عن الناس وسكون رؤوس الجبال وإن أمكنه الهجرة فإن حمل على معصية
أو ألزمه الإمام الهجرة عنها وجب عليه الهجرة اتفاقاً، وإن لا فإن كان في إقامته
بها مصلحة عامة من تعلم أو تعليم أونحو ذلك جازت له الإقامة بها، بشرط أن يميز نفسه بعلامة لئلا تجري عليه أحكام الدار،
وإن لم يكن فيه مصلحه ولم يحمل على معصية ولا ألزمه الإمام، وكان متميزاً عن أهلها،
فمسألة الخلاف فالهادي والقاسم وغيرهما من أهل البيت عليهم السلام يوجبون عليه
الهجرة، والسيد المؤيد بالله وجمهور المعتزلة لا يوجبونها. وقال المهدي uفي البحر
(مسألة): وتجب الهجرة عنها إجماعاً
حيث حمل على معصية فعل أو ترك أو طلبها الإمام تقوية لسلطانه . الإمام يحيى والقاسم: فإن لم
يكن إمام أو كان ولم يطلبها، وليس بمتميز عنهم تمييزاً ظاهراً لزمته أيضاً .ثم حكى
الخلاف إلى أن قال: بل الأقرب للمذهب أنها تجب الهجرة عنها وعن دار الفسق إلى خلىّ
عما هاجر لأجله أوما فيه دونه بنفسه و أهله
إلا لمصلحة أوعذر. المؤيد بالله:
لا تجب لقوله صلى الله عليه واله وسلم: ((لا هجرة بعد الفتح))، قلنا: معارض بقوله
صلى الله عليه وآله وسلم: ((أنا بريءٌ ممن أقام بدار الشرك سنة))، وقوله صلى الله
عليه وآله وسلم: ((لا يحل لعين ترى الله يُعْصى حتى تُغَيِّر أو تنتقل، المؤمن
والكافر لا تترأى نيرانهما)). وقوله صلى الله
عليه وآله وسلم: ((لا هجرة بعد الفتح)) لعله أراد من مكة لأنها قد صارت دار إسلام ،
اهـ. والهجرة لم تنسخ عندنا،
وقيل: نسخت بقوله صلى الله عليه وآله وسلم: ((لا هجرة بعد الفتح))، وأجاب أصحابنا
عن ذلك بأن المعنى لا هجرة من مكة بعد الفتح لأنها صارت دار إسلام، ويعضد هذا
التأويل قوله صلى الله عليه وآله وسلم: ((لا تنقطع الهجرة ما قوتل العدو)) أخرجه
النسائي وصححه ابن حبان، وقوله صلى الله عليه وآله وسلم: ((لا تنقطع الهجرة حتى
تطلع الشمس من مغربها)) أخرجه أبو داود، وفي الجامع الكبير للأسيوطي ((لا تنقطع
الهجرة ما قُوتِلَ الكفَّار)). قال: أخرجه أحمد والطبراني
وابن مندة والبيهقي عن عبدالله بن السعدي وروى أيضاً ((لا تنقطع الهجرة مادام العدو
يقاتل)). قال: أخرجه البغوي وابن
عساكر فلا يجوز البقاء في دار الكفر لعموم هذه الأدلة، ولأدلة كثيرة تركناها
اختصاراً
. فالتجنس المسئول عنه فرع على
البقاء، فإذا لم يجز البقاء في دار الكفر أوالفسق إلا لمعذور كما في الآية فبالأولى
عدم جواز التجنس هذا الظاهر، والذي سنح في الجواب والله الموفق . المسألة
الثانية: ما
حكم اقتراض أفراد الجاليات الإسلامية من البنوك بفائدة ربويه لأجل شرا بيت للسكنى
ثم وفاء مبلغ القرض وفوائده مقسطاً لمدة طويلة كعشرين عاماً على أن يمتلك البيت بعد
وفاء القرض علما بأن البديل عن الشرا ء هو الإيجار بقسط شهري يزيد عن قسط وفاء
القرض وفائدته للبنك، ولا يمتلك البيت في النهاية،كما أن الاستئجار يترتب فيه ضرائب
عالية على المستأجر، أما حالة القرض من البنك فإنها توفر الضرائب على
المشتري؟ وأما
الجواب عن المسألة الثانية فنقول: إنَّ الربا من الكبائر المحبطات والعظائم
الموبقات وأدله تحريمه معلومة منها قوله تعالى: ]الَّذِيْنَ
يَأْكُلُوْنَ الرِّبَى لا يَقُوْمُوْنَ إلاَّ كَمَا يَقُوْمُ الَّذِي يَتَخَبَّطُهُ
الشَّيْطَانُ مِنَ الْمَسِّ ذَلِكَ بِأنَّهُمْ قَالُوْا إنَّما البَيْعُ مِثْلُ
الرِّبَى وأحَلَّ اللهُ البَيْعَ وحَرَّمَ الرِّبَى فَمَنْ جَاءَهُ مَوْعِظَهٌ مِنْ
رَبِّهِ فَانْتَهَى فَلَهُ مَا سَلَفَ وأمْرُهُ إِلَى اللهِ ومَنْ عَادَ
فَأُوْلَئِكَ أصْحَابُ النَّارِ
هُمْ فِيْهَا خَالِدُوْنَ[ [البقرة/275]، دلت الآية على تحريم الربى وأنه من
الكبائر، وذلك معلوم من ضرورة الدين، فمن استحله كفر ومن فعله غير مستحل فسق لكن
هذا في الربى المجمع عليه كالزيادة في الدين لأجل النظرة، وكبيع درهم بدرهمين، وقد
ذكر العلماء زواجر هذه الآية عن الربا، وأنها ثمانية عشر زاجراً وأعظم زاجر عنه
قوله تعالى: ]فَإنْ
لَمْ تَفْعَلُوْا[ أي تتركوا الربا فأذنوا بحرب من الله ورسوله، قيل حرب الله النار
وحرب رسوله السيف، والأحاديث كثيرة طافحة دالة على تحريمه وشدة الوعيد عليه كقوله
صلى الله عليه واله وسلم: ((لدرهم من ربا اشد على الله من ثلاثة وثلاثين زنية
أهونها إتيان الرجل أمه))، إذا عرفت ذلك فالدخول في الربى والمعاملة به لا تجوز
لعموم الأدلة، وما ذكره السائل غير مبيح ولا مرخص لأن الأدلة
لم تفصل بين حال وحال فالوقوف على ما دلت عليه النصوص من الأدلة هو واجب المرء
المسلم: ]ومَنْ
يتَّقِ اللهَ يَجْعَلُ لَهُ مَخْرَجَاً ويَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لا
يَحْتَسِبُ[ [الطلاق/2، 3]، وقد علمنا أن الله تعالى حكيم لم
ينه عن شيء ويحرمه إلا لأنه مفسدة، وأي شيء أعظم من فساد الربى في الأديان
والأموال، وكيف وقد روي عنه صلى الله عليه وآله وسلم: ((الربى وإن كثر فعاقبته
إلى قل))،
و عن
ابن عباس رحمه الله ]يَمْحَقُ
اللهُ الرِّبَى[ [البقرة/276]، يعني لا يقبل الله منه صدقة ولا جهاداً
ولا حجاً وروى الأمير الحسين بن محمد uفي
الشفاء عنه صلى الله عليه وآله وسلم: ((كل ربى وإن كثر فعاقبته إلى قل)) عصمنا الله
عن محارمه وذادنا عن معاصيه بحوله وقوته . المسألة الثالثة: ما
حكم عمل المسلم المقيم في البلاد غير الاسلامية في وظائف الحكومة غير الإسلامية
ووزاراتها وخاصة في مجالات هامة كالصناعات الذرية والدراسات
الإستراتيجية؟ وما
حكم العمل في بيع الخمور والخنزير إذا لم يجد المسلم عملاً
آخر؟ أما الجواب عن المسألة الثالثة فنقول: قد قَدَّمْنا القول في
وُجُوب الهجرة عن دار الكفر وأنه لا يباح سكناها إلا للمعذورين الذين استثناهم الله
تعالى في الآية. فإذا كان المقيم فيها من المعذورين، فاعلم أن كل عمل مع الدولة
الكفرية مُحرَّمٌ، لأنُّه يشد بذلك أزرَهُم ويقوي شأنهم ويكثر سوادهم، ولا سيما
فيما ذكره السائل في الصناعات الذرية والدراسات الإستراتيجية، فهذه من أعظم
الإعانه. فهذه كلها لا يجوز للمسلم الدخول فيها ولا ممارستها بحال، ولكنه يجوز له
أن يؤجر نفسه في الأعمال للأفراد والتي لا ضرر فيها، وليست بمحظورة، كما أجَرَّ
أمير المؤمنين uنفسه
في نزع الماء لليهودي كل دلو بتمرة، لأن مثل هذا العمل لا يقوي شوكة الكافرين
ولايضر بالمسلمين ولا يكثر سواد أعداء الله. واعلم: أن أعظم دعائم الإيمان الموالاة
لأولياء الله والمعاداة لأعداء الله لقوله تعالى: ]لاتَجِدُ
قَوْمَاً يُؤْمِنُوْنَ
بِاللهِ واليَوْمِ
الآخِرِ يُوَادُّوْن مَنْ حَادَّ اللهَ ورَسُوْلَهُ[ [المجادلة/22]، وقال تعالى: ]ومَنْ
يتَوَلَّهُمْ مِنْكُمْ[ [المائدة/51]، فمن مارس أعمالهم الدولية أو
أعانهم على صنع آلآتهم الحربية، أو أعانهم على دراساتهم الإستراتيجية فهو متول لهم
وزيادة، لأنه ساع في نصرتهم ومحب لهم فهو محاربٌ لله وللمسلمين وأي جرم هذا، وأي
بلية ومصيبة عليه. وأما
ما ذكره السائل هل يجوز أن يعمل المسلم في بيع الخمور والخنزير..إلـخ . فنقول :لا
يجوز له ذلك لحديث:
((لعن الله الخمر وشاربها وبائعها ومبتاعها وعاصرها ومعتصرها وحاملها والمحمولة
له)) ، أخرجه أبو داود،
وعن أنس قال: ((لعن رسول الله صلى الله عليه واله وسلم في الخمر عشرة:
عاصرها ومعتصرها وشاربها وساقيها وحاملها والمحمولة
إليه وبائعها ومبتاعها وواهبها وآكل ثمنها))،
أخرجه الترمذي . وفي البخاري عن عائشة
أن رسول الله صلى الله عليه واله وسلم حرَّم التجارة
في الخمر وكذلك الخنزير، المقرر
لمذهب الهادوية
تحريم بيعه لحديث جابر قال سمعت رسول الله صلى الله عليه واله وسلم يقول
عام فتح مكة: ((إن الله حرم بيع الخمر والميتة والخنزير والأصنام))، الحديث بتمامه
أخرجه الستة إلا الموطأ. وبتمام
هذا تم الجواب عن هذه المسألة والله الهادي
المسألة الرابعة: ما
حكم تناول الأدوية التي تحوي كميات مختلفة من الكحول تتراوح بين 1% و 25%، ومعظم
هذه الأدوية من أدوية السعال والزكام وغيرها من الأمراض السائدة وتمثل ما يقارب 95%
من الأدوية مما يجعل الحصول على الأدوية الخالية من الكحول عملية صعبة
أومتعذرة؟ أما
الجواب عن المسألة الرابعة فنقول: الجواب ينبني على معرفة الكحول ما هو، وقد قال
بعض العلماء أنه روح الخمر، وقد اعتمد ذلك السيد حسن السقاف في رسالته في نجاسة
الكحول وممن نص على أن الكحول روح الخمر صاحب المنجد ويوسف خياط في ما ألحقه بلسان
العرب المحيط، وإذا صح أنه روح الخمر فيحتاج إلى معرفة هل هو مصنوع أم هو على أصل
الخلقة الإلهية من الأشجار لينبني على ذلك ما يقرره علماء الفقه من نجاسة المسكر
المصنوع وطهارة نحو الحشيش والبنج لأنه مسكر بأصل الخلقة، أما تحريم أكل ما أسكر
فذلك واضح ولا نزاع فيه، وقد روي ((كل مسكر خمر))، وروي: ((ما أسكر كثيره فقليله
حرام))، ولعن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم في الخمر عشرة: بائعها ومشتريها
وحاملها والمحمولة إليه، إلخ، وكم ورد في الخمر من الأدلة القاضية بتحريمه، وكفى
بما نصَّ الله في القرآن الكريم بقوله: ]إنَّمَا
الْخَمْرُ والْمَيْسِرُ والأنْصَابُ والأزْلامُ رِجْسٌ مِنْ عَمَلِ الشَّيْطَانِ
فَاجْتَنِبُوْهُ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُوْنَ[ [المائدة/90]. إذا
عرفت ذلك فاعلم أن الأدلة قاضيةٌ بتحريم تناول المسكر على كل حال، إلاَّ ما خصَّه
الدليل كالْمُكره على شربها، وخصَّصنا من غصَّ بلقمة ولم يجد ما يسيغها به إلا
الخمر بالقياس على أكل الميتة للمضطر لحفظ النفس وبالإجماع، والذي تحصل من مذهب
الهادي u عدم جواز التداوي بها أخذه القاضي زيد بن محمد
رحمه الله صاحب الشرح من قول الإمام: لا يجوز الإنتفاع بها بوجه من الوجوه، وهو قول
المؤيد بالله والشافعي، وجوَّز ذلك أبو حنيفة. دليل
القول الأول عموم الآية وهي قوله تعالى: ]يَسْأَلُوْنَكَ
عَنِ الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ قُلْ فِيْهِمَا إثْمٌ كَبِيْرٌ ومَنَافِعُ
لِلنَّاسِ[ [البقرة/219]، قالوا: والعموم مستفاد من تقدير
السؤال فكأنه تعالى قال: يسألونك عن شرب الخمر، وكذلك عموم الإجتناب في
قوله:{فَاجْتَنِبُوْهُ}، واستدلوا بالحديث ((لم يجعل الله شفاءكم فيما حرم عليكم))،
وروى في شرح الإبانة أن رجلاً قال للنبي صلى الله عليه وآله وسلم: إنما يستشفي بها
المريض، فقال صلى الله عليه وآله وسلم: ((ذلك داء وليس بدواء ولم يجعل الله شفاءكم
فيما حرم عليكم))، وجوَّز المروزي التداوي بها إذا قال أهل الطب أنه يتدواى بها في
علةٍ من العلل. قال
في الثمرات (قال في الشرح: ولا يجوز أن يحتقن بالخمر ولا يعجن بها الدواء، ولا يقطر
بها في الأذن والإحليل، هذا ما أخذناه من أقوال الأئمة عليهم السلام، وقد عرفت قوة
استدلالهم). ثم
نقول: إن بعض العلماء قد جوَّز التداوي بالنجس ولسنا نختاره ولكنا نقول: إن
للضرورات أحكاماً فمراعاتها ممكن والله أعلم، وبهذا ينتهي الجواب والله
المسألة الخامسة: ما
حكم التعامل باليانصيب، ومنها ((اللوتري))، بيعاً وشراءً، وهل يختلف الحكم إذا كان
غرض المسلم من شراء أوراق اليانصيب بقصد الإشتراك في مشروع خيري إسلامي كبناء
المستشفيات ودور رعاية الأيتام وغير ذلك لا بقصد الحصول على الجائزة
لنفسه؟ أما
الجواب عن المسألة الخامسة فنقول: إن البيع غير صحيح للغرر، ولأنه من أكل أموال
الناس بالباطل، وأما ربحه فلا يحل لصاحبه، لأنه ملكه من وجه محظور، ويجب عليه
التصدق به. واعلم:
أن العلة في عدم جواز التعامل باليانصيب هي أنه من أكل أموال الناس بالباطل، لأنه
على سبيل المخاطرة بالمال، ولأنه باطل لأن المبيع إما معدوم أو مجهول، لأن شرط صحة
البيع أن يكون المبيع معلوماً، وقد قال الله تعالى: ]وَلاَ
تَأْكُلُوْا أمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالبَاطِلِ[ [البقرة/188]. وأما
قول السائل: وهل يختلف الحكم.. إلخ. نقول:
إن الحكم لا يختلف بل حكم الله واحدٌ، ولو قلنا: إن الحكم يختلف لقلنا بجواز الدخول
في الربا، إذا كان يصرفه في المصالح، ولأنَّ الصرف في المصالح قربةٌ، لأنها صدقة،
ولا يتقبل الله صدقة من غلول كما جاء في الأحاديث ولقوله تعالى: ]إنما
يتقَبَّلُ اللهُ مِنَ الْمُتَّقِيْنَ[ [المائدة/27]. هذا
المسألة السادسة: ما حكم الإيداع في البنوك الربوية في
البلاد غير الإسلامية؟ الجواب:
أنا قد قدمنا البحث عن الربا وتحريمه، والأدلة على تحريمه عامة لم تفصل، ألا ترى
إلى قوله: ]يَا
أَيُّهَا الَّذِيْنَ آمَنُوْا اتَّقُوْا اللهَ وَذَرُوْا مَا بَقِيَ مِنَ الرِّبَا
إنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِيْنَ فَإِنْ لَمْ تَفْعَلُوْا وَلَنْ تَفْعَلُوْا فَأَذَنُوْا
بِحَرْبٍ مِنَ اللهِ وَرَسُوْلِهِ وإنْ تُبْتُمْ فَلَكُمْ رُؤُسُ أمْوَالِكُمْ لاَ
تَظْلِمُوْنَ ولا تُظْلَمُوْنَ[ [البقرة/278، 279]، فهذا نصٌّ صريح لم يفصل في
الربا بين العبد وربه، ولا بين المسلم والحربي، فيحرم الإيداع في البنوك الربوية في
البلاد غير الإسلامية، لعموم الدليل كما قلنا، وتحريم الربا بين المسلم والحربي في
دار الحرب، هو تحصيل أبي طالب للهادي uلعموم
الدليل، وهو قول مالك والشافعي وأبي يوسف، وقال الناصر وأبي حنيفة ومحمد: أنه جائز
لقول النبي صلى الله عليه وآله وسلم: ((لا ربا بين المسلمين وأهل الحرب في دار
الحرب))، وأصحابنا تأولوا هذا الخبر إن صح. قال
في الإنتصار: لم يبح الربا في شريعةٍ من الشرائع، وهذا ما تيسر من الجواب على هذا
المسألة السابعة: ما
حكم مشاركة الجاليات الإسلامية غير المسلمين من مناسباتهم الإجتماعية المختلفة في
مشاركتهم في مراسم الدفن والعزاء وحضور إكليل الزواج في الكنيسة، ومشاركتهم في
أعيادهم الدينية وتبادل الهدايا وبطاقات التهنئة معهم، وتهنئتهم على أعيادهم كعيد
ميلاد المسيح أو الكريسمس؟ أما
الجواب عن المسألة السابعة فنقول: إنَّ
موالاة الكافر الدينية محرمة اتفاقاً، وأما الدنيوية فنص في البحر على جوازها إلاَّ
ما حرَّمَهُ الشرع، وفي قوله تعالى: ]ولْيَجِدُوْا
فِيْكُمْ غِلْظةً[ [التوبة/123]، وقوله تعالى: ]وَلِلهِ
العِزَّةُ وَلِرَسُوْلِهِ وَلِلمُؤْمِنِيْنَ[ [المنافقون/8]، وفي تعظيمه إشراكه في العزة وقوله
صلى الله عليه وآله وسلم: ((من مشى إلى ظالم وهو يعلم أنه ظالم فقد بري من
الإسلام))، رواه الطبراني بلفظ خرج من الإسلام، وفي معناه أحاديث كل هذه تدل على
تحريم المشي إليهم تعظيماً، وسواء كان المشي لزيارة أوتسليم أوتهنئة أو وداع،
فأمَّا إذا كان ممشاه لحاجة عارضة، فجائز كما مشى صلى الله عليه وآله وسلم إلى أبي
جهل ليأمره بإيفاء خصمه، وكذلك إذا كان ممشاه لمصلحة دينية، ولا شك أن في حضور
مسراتهم وأفراحهم وأعيادهم غاية التعظيم وفي قوله تعالى: ]لاَ
يَتَّخِذِ الْمُؤْمِنُوْنَ الكَافِرِيْنَ أوْلِيَاءَ[ [آل عمران/28]، الآية، زجر شديد يدل على تحريم
الموالاة لهم، ومن الموالاة المصادقة لهم والإيناس بالحديث وحسن المخاللة لهم، إلا
أنَّ من الموالاة ما يقتضي الكفر كالمحالفة والمناصرة ونحوهما، ومنها مالا يقتضي
إلا الإثم، كمحبة سلامة الكافرين لا لكفرهم، ولكن ليد عليه لهم أو لقرابة، فهذه
معصية بلا إشكال، وفي قوله تعالى: ]إلاَّ
أنْ تَتَّقُوْا مِنْهُمْ تُقَاةً[. قال
الزمخشري رحمه الله: يعني فيجوز معاشرة ومحالفة ظاهرة، والقلب مطمئن بالعداوة
للكفار والبغضاء وانتظار قشر العصى، وقول الله تعالى: ]وَلاَ
تَرْكَنُوْا إِلَى الَّذِيْنَ ظَلَمُوْا فَتَمَسَّكُمُ النَّارُ[ [هود/113]، والكافر ظالم، رُويَ عن ابن عباس
والأصم أن المعنى: لا تميلوا إلى الظلمة في شيء من دينكم، وقيل ترضون بأعمالهم عن
أبي العالية، وقيل: تلحقوا بالمشركين عن قتادة، وقيل: لا تداهنوا الظلمة عن السدي
وابن زيد، وقيل الدخول معهم في ظلمهم وإظهار الرضا بفعلهم وإظهار موالاتهم، فأما
إذا دخل عليهم لدفع شرهم فيجوز عن القاضي ورجحه الحاكم، وقال: وقد أمر الله بالرفق
في مخالطة الكفار، فالظلمة أولى، وقال جار الله الزمخشري رحمه الله: النهي يتناول
الإنحطاط في هواهم والإنقطاع إليهم ومصاحبتهم ومجالستهم وزيارتهم ومداهنتهم والرضى
بأعمالهم، والتشبه بهم والتزيي بزيهم ومد العين إلى زهراتهم.
اهـ. وينبغي
التحقيق فنقول: إن كانت مخالطة الكفار والظلمة لطلب الإستدعاء لهم إلى الخروج مما
هم فيه والدخول في زمرة المؤمنين المحقين، فهذا لا حرج فيه، وقد أمر الله موسى
وهارون عليهما السلام بِلِيْنِ القولِ لِعَدو الله فرعون، وإن كانت لا لذلك لكن
فيها دفع منكر أو استعانة على دفعه فلا حرج في ذلك، وربما وجب ولكن هذا بشرط أن لا
يكون في الخلطة تقوية لهم، وإن كان الدخول لاستكفاء شرهم ودفع ضررهم فلا بأس بذلك،
ولكن لا يتجاوز إلى ما يستغنى عنه، وإن كان لمجرد إيناسهم وتعظيمهم حرم ذلك، أما
حضور مراسم الدفن ففي قول الله تعالى: ]ولا
تَقُمْ عَلى قَبْرِهِ[ [التوبة/84]، ما يشير إلى تحريم
ذلك. قيل:
أراد لا تولى دفنه، وقيل: لا يجوز القيام على قبره إكراماً له، وفي هذا كفاية لمن
المسألة الثامنة: ما
حُكْمُ تأمين المسلم على منـزله وسيارته ضد الأخطار في البلاد غير الإسلامية وقيامه
بالتأمين الصحي مع العلم أن تكاليف العلاج وإصلاح السيارة مرتفعة جداً في بعض
البلدان غير الإسلامية، والإشتراك في التأمين يمكن فئات كبيرة من الجاليات
الإسلامية الحصول على العلاج المناسب والتعويض في حالة وقوع حوادث
مفاجئة؟ أمَّا
الجـواب عن المسألة الثامنة فنقول: إنَّ
التأمين المسئول عنه لم يتضح لنا لعدم معرفتنا بكيفيته وشروطه، ولكنا نقول على صفة
الإجمال إن يتضمن الربا أو قرض جر منفعة، فلا يجوز، وإن كان المدفوع على صفة الأجرة
إلى مقابل عمل فإن وافق شروط الإجارة الصحيحة صح، أو الإجارة الفاسدة كان له
حكمها. فهذا
ما تيسر من الجوابات على هذه الأسئلة والله المسئول أن يوفقنا لما يحب
ويرضى. وصلى
الله على وسلم على سيدنا محمد وآله عبد
الرحمن حسين محمد شايـم المؤيدي وفقه
الله
المسألة الأولى: قال السائل:كيف تُقَيِّمون كتاب اللالي
المضيئة في أخبار أئمة الزيدية للعلامة/ أحمد بن محمد بن صلاح الشرفي المتوفي سنة
1055هـ، بالنسبة لما كتبه مؤرخوا الزيدية؟ الجواب والله الهادي:
أن
المصنف رحمه الله قد جَوَّد مؤلفه بقدر استطاعته، ولم يُكلِّفِ الله نفساً إلاَّ
وسعها، على أن كل مؤلف يؤلف على ما يهواه ليس على ما يهوى غيره غالباً، وكل مَنْ
ألف فقد استهدف، ومناهج التأليف تختلف باختلاف العصور والبيئات
والقدرة،
فمُؤَلَّف
السيد/ أحمد الشرفي رحمه الله
كغيره
من المؤلفات فيه ما يُمَيِّزُه عن غيره، وفيه ما هو مماثل لغيره، وفيه ما ينقد
عليه، وكل كلام يؤخذ منه ويترك إلاَّ كلام المعصوم، والْمُؤلِّفُون إنَّما
يؤلِّفُون لاختراعٍ معدوم أوجمع مفترق، أو تكميل ناقص أوتفصيل مُجْمل، أوتهذيب مطول
أو ترتيب مخلط أو تعيين مُبْهم، أو نص على خطأ ورده إلى صواب، فهو رحمه الله قد جمع
بعض المفترقات، وكمَّلَ بعض الناقصات، وفصَّل بعض المجملات، ورتَّبَ بعض المخلطات،
وعيَّن كثيراً من الْمُبْهمات إلى غير ذلك من المحسنات، وإن وقع بعض تقصير في تراجم
بعض الأئمة أووقع في خطأ فهو من البشر الذين يجوز عليهم الخطأ، والكمال لمن له
الكمال، وكلها تغتفر في جنب محاسنه، فجزاه الله خير الجزاء ورحمة الله عليه
المسألة الثانية قال
السائل: كما يُعْلَم من كُتُبِ التاريخ أن الإمام المعتضد يحيى بن الْمُحسِّن
المتوفي سنة 636هـ تعارض مع الأمير عزالدين محمد بن المنصور بالله، والسؤال هو:
لماذا سَانَدَ العلماء الكبار مثل الفقيه حميد المحلي وأبي الفتح الصنعاني وعمران
بن الحسن الشتوي، الأمير عزالدين محمد بن
المنصور
رغم أن المعتضد كان الأولى بالمساندة على مقتضى شروط الإمامة في المذهب، وقد أخذت
البيعة للناصر وهو غائب في كنن هل يـجوز ذلك؟ انتهى. الجواب والله الموفق:
أنَّ
الأمر كما ذكرتم من أنَّ الجامع للشروط هو الأولى بالمتابعة وبالنصرة، ومُقْتضى
المذهب أنَّ الْمُحتسب لا يجوز قيامهُ مع وجود الإمام الجامع لشروط الإمامة، ومن
المعلوم أن أولئك العلماء الذين ذكرتموهم من عيون الزيدية في زمنهم، وأنهم من العلم
والعمل والدين المرضي في أرفع محل، ولا شكّ في بُلُوغ الإمام الداعي يحيى بن المحسن
u درجة الإمامة واستحقاقه للزعامة، كيف وقد شهد له
المنصور بالله عبد الله بن حمزة uبذلك،
وردد المعتضد تلك الشهادة في أشعاره وأقواله، فلا بُدَّ من محمل وتأويل لأولئك
الجهابذة ومن اتَّبعهم من أهل زمانهم الذين شهدوا تلك الأحداث وناصروا وعاضدوا
الأمير محمد، وكذلك لا بُدّ من تأويل واحتمال للأمير محمد، فإنَّ سِيرته مرضية لولا
الدخول في المعارضة
فنقول:
إنَّ
أولئك العلماء عرفوا من ثبات الأمير ورباطة جأشه وحُسْنِ طَوِيته وعدالته وحُسْن
تدبيره وبصيرته ما ظنوا به نصرة الإسلام وكَبْت أعدائه، ولا سيما والقبائل والجيوش
والجحافل كانت منقادة لأبيه والدولة ورسومها ومعالمها مستقيمة بعد الإمام المنصور
بالله، فإذا خلفه ولده استقام الأمر على الوجه المطلوب الذي هو مراد الشارع، وفي
نصب إمام آخر تفلَّت الأمور المنتظمة ويتطلب ذلك إلى بناء الدولة من جديد، فهذا من
أحسن المحامل، ألا ترى إلى ما صنعه القاضي العلامة سلطان العلماء عبد الله بن حسن
الدَّوَاري بعد موت الإمام صلاح الدين وصل إلى صنعاء ومعه جمهور من العلماء
فاجتهدوا أن ينصبوا علي بن صلاح وبقية العلماء أمثال المهدي أحمد بن يحيى وابن أبي
الفضائل وغيرهما من العلماء رأوا خلاف ذلك، وكان في رأي الدواري ومن معه من السداد
ما قاله الإمام عزالدين uبقوله:
قلت والذي يظهر لنا والله يحب الإنصاف أنَّ فراستهم فيه صدقت، وأنَّه بلغ في أحكام
السياسة وأحكام الرياسة والإستقلال بالنظر في الأمور وحسن المباشرة لها مبلغاً
عظيماً لا مطمح وراءه. قال:
ولقد
كان له من العناية الجليلة في المقامات الجميلة في حرب سلاطين اليمن ونكاية
الإسماعيلية وإجلائهم من المعاقل العظيمة وغيرهم من الظلمة ما لم يكن لأحدٍ غيره،
انتهى. ولما
احتضر القاضي عبد الله الدواري ذكَّره بعض الحاضرين هذه القضية ليتوب منها فقال:
والله إنها لأرجى عملي، وما قصدت بها إلا نصر الإسلام هذا لفظه أو معناه، وقد يكون
لهم محمل آخر، وهو أنه لم يصح لهم تكامل الشروط في الداعي، أو صح لهم اختلال شرط
غير العلم كالتدبير ونحوه أو عدم الأنهضية، وصح لهم أنَّ الأمير أنهض وأقوى، ولا
يصح احتمال أنهم لا يرون الإجتهاد من شروط الإمامة، لأن مؤلفات الفقيه حميد كالعمدة
والوسيط موجودة لدينا ولدى غيرنا، وهو يشترط ذلك. وأما
قول السائل:
هل يجوز؟ فنقول:
أنَّ
اعتقاد أولئك العلماء لِصحة احتساب الأمير قد أدَّاهم إلى ذلك اجتهادهم وهم أهل
النظر والإجتهاد، ولا يكون منهم ذلك إلاَّ وقد صح لهم عدم صحة إمامة الداعي وليسوا
مكلفين باجتهاد غيرهم، ففرضهم هو العمل بما صح لهم وليس هذا الإجتهاد في المسئلة
القطعية التي هي وجوب نصب الإمام، أو في صحة إمامة المقلد، وإنما هو في هل توفرت
الشروط في الداعي أم لا؟ ومع اجتهادهم في عدمها جاز لهم نصب المحتسب،
فإن
قلت:
ظاهر
كلامك أنك تحملهم على السلامة؟
قلت:
نعم،
لأنهم لم يتجرأوا على الله، ولا عارضوا ذلك الإمام عناداً ولا بغياً، وإنما قصدوا
رفْعَ منَار الإسلام والفَتْك بأعداء الله الطغام، ولما دعى الإمام المهدي أحمد بن
الحسين uوصحت
إمامته لِعُلَماء زمانه ومنهم الفقيه حميد تابع وبايع وناصر وعاضد وجاهد حتى استشهد
في نصر إمام زمانه، وقام بما أوجبه الله عليه. وإذ
قد تكلمنا بما سبق فلا بُدّ من التحقيق، فالمسئلة تحتاج إلى الإيضاح والبيان وإبراز
خفاياها بالتعليل والبرهان، لأنها مِمَّا حارتْ فيها ألباب النَّظار ولم يتعرض
للبحث فيها إلاَّ النحارير الكبار، وقد رأيت أن أُلَخِّصَ مَبْحثاً يليق بالموضوع
يتحقق به جواب السؤال السابق، ويتقيد به مطلقات الجواب اللاحق ولا يتم ذلك إلاَّ
بإيراد بعض كلام السيد الإمام علامة الآل إبراهيم بن محمد الوزير ومن كلام الإمام
الهادي إلى الحق عزالدين بن الحسن ومن كلام القاضي العلامة: أحمد بن يحيى حابس
رضوان الله عليهم، فكلامهم في هذا يشفي الآوام ويزيل أدواء السقام، والمراد به جواب
السؤال عما نقطع به من الأحكام في المتعارضين من الأئمة عليهم السلام فنقول:
ذكر
العلامة صارم الدين أن المتعارضين إنْ كانوا أو بعضهم من غير أهل البيت عليهم
السلام كخلفاء الدولتين فلا شكَ في ضلالهم، لما ارتكبوه من سَفْكِ الدِّماء وأخْذِ
الأموال بغير حقها وصرفِها في غير مواضعها، وهؤلاء فُسَّاق، وإنْ لم يعارِضْهم أحدٌ
من العترة، ولا يُسْتَثنى من هذه القضية إلاَّ المشائخ الثلاثة، ثم عمر بن عبد
العزيز لما علم من تشميرهم لما يرضي الله، ودفعهم المضار عن حوزة الإسلام، وبعدهم
من الأثرة وإيصالهم الحقوق إلى أهلها. قال
الإمام عزالدين عليه السّلام:
ومَنْ
كان مثلهم ليس بإمام، وإنما هو سلطان عادل مخطيء بترشيحه لهذا الأمر، وكلام أهل
البيت فيهم معروف، فمنهم المبالغ في التأثيم والتخطية، ومنهم السالك سبيل التولي
والترضية، وأما إذا كان المتعارضون من أهل البيت فإن كانوا كما ذكرنا من خلفاء
الدولتين فحكمهم حكمهم ولا إشكال في ذلك، وإن كان المتعارضون من العترة من ذوي
الفضل والصلاح المعلوم من حالهم قبل التعارض وبعده مع مراعاتهم عند المعارضة ما
تقتضيه القواعد الشرعية، والقيام بفريضة الجهاد وقمع ذوي العناد والأخذ على أيدي ذي
الفساد، والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر بحسب قدرتهم واستطاعتهم، بحيث يعلم من
قصدهم أنه لا حامل لهم على التورط في حبائل الأمر والنهي إلاَّ وجوب ذلك عنده وقيام
الحجة بوجود الناصر وكماله عند نفسه، وبحيث يعلم من حاله أنه لو علم أنَّ مُعارضه
أكمل منه وأنهض بتحمل أعباء الإمامة لَتَرَكَ معارضته واعتقد إمامته، وكان له أطوع
من النعل وأتبع من الظل، فهذا مقام رجع فيه طرف النظر حسيراً، وآض جناح الفكر
كسيراً، تعارضت فيه أقوال الراسخين. إلى
قوله:
والذي
نَدِين الله به ونعتقده سواء قلنا مسئلة الإمامة قطعية جملة وتفصيلاً أو جملة من
دون تفصيل هو استصحاب حالهم الأول التي كانوا عليها قبل المعارضة، ونقطع بفضلهم
وصلاحهم وندعوا لهم بالمغفرة والرحمة والمسامحة مع براءتنا من كل أمر معلوم متأولين
فيه مخالفة الشريعة المطهرة، وقد ذكر علمائنا في الأصول في باب (الإستصحاب) أن
الأصل البقاء على الحال الأول حتى يعلم مغيره إن كان عِلْمياً أو نظن إن كان ظنياً،
فاستصحاب حالهم الأول حتى يعلم مغيره والمسارعة إلى تفسيق من هذه صفته زيغ شديد،
وظلال بعيد، والخطأ في الكف عن التكفير والتفسيق خير من الخطأ فيهما كما يعلم ذلك
أهل العمل والتحري والأخذ في الدين بالأحوط، وقد أوصى رسول الله صلى الله عليه وآله
وسلم في الأنصار أن يُحْسن إلى محسنهم، ويُكف ويتجاوز عن مسيئهم، وإجراء هذه القضية
في عترته أولى وأحرى، وفقنا الله لطاعته، هذا ما نراه والله أعلم. قال
القاضي العلامة أحمد بن يحيى حابس رحمه الله قلت: ولقد أحسن السيد رحمه الله في
الجواب وأتى فيه بالغاية القصوى من الصواب، وتحقيقه أنَّ الإمامة وإن كانت قطعية
مقتضية لكون المخالف مخطأً خطأً محكوماً عليه في كونه
فسقاً
وبغياً، فإن الواجب علينا أن نعمل النظر في شأن المتخالفين، فإنْ عرفنا أصالة دين
كل واحد منهما قبل المعارضة، ووجدنا كل واحد منهما بعد المعارضة لا يقصد بعمله
إلاَّ رضاء الله دون الأثرة ومحبة الإنفراد بالأمر وشهود ذلك لا تخفى مع كمال كل
منهما في شروط الإمامة عند نفسه والتبس علينا الحال بعد ذلك من كل وجه، كان الملائم
لمقاصد الشرع حسن الظن بالجميع بعد المعارضة استصحاباً لحالتهم الأولى قبلها لعدم
المخصص والمخرج لهما من دائرة التولي، إذ لا نجد أمراً نقطع بكونه معصية في حق كل
واحد منهما يخرجهما معاً إلى دائرة المعاداة، إذ أحدهما مصيب في نفس الأمر قطعاً،
ولا نخرج أحدهما معيناً إلى المعاداة لجهل ذلك، ونحن من إيمانه على يقين، فلم يبقَ
إلاَّ أن الواجب البقاء على توليهما معاً، وإن كان أحدهما في نفس الأمر مخطياً
خطاءً قطعياً، فعِلْمه عند الله، ولا يبعد أن يكون معذوراً، لأنه خارج عن التعمد
والجرأة، ولو أفضت المخالفة إلى الحرب وحصل لشخص مرجح الدخول مع أحدهما وحارب
الداخل معه الإمام الآخر وقاتل وقتل لم يتغير ذلك الحكم بالعقيدة حتى في عقيدة هذا
الداخل مع أحد الإمامين للمرجح الذي ذكرنا. قلت:
وقريبٌ
من هذا قرَّرَ الإمام المهدي محمد بن القاسم الحوثي u كما يأتي نقل كلامه عدنا إلى بقية كلام القاضي
رحمه الله. قال:
وهذا
كله لا مرية فيه مع موافقة الجميع في العقائد في الإمامة وأركانها وشروطها وما
يتعلق بها، وأما مع مخالفة المذهب والعقيدة كأنْ يقوم إمام غير فاطمي اعتقاداً منه
بصحة الإمامة في غير الفاطميين مع إمام فاطمي، فحيث كان شأنهما كما ذكرنا والتبس
الحال من كل وجه، ثم التبس علينا هل أقدم غير الفاطمي عمداً وقد أقيمت عليه الحجة
وعرف
البرهان،
فهو مجتر فاسق منتظم في سلك أهل العصيان، أو أقدم قبل إقامة الحجة عليه، فإنه يكون
مخطئاً خطأً قطعياً لا يفسق به، فإن عرفنا من أحدهما شواهد البغي حسب ما قرر الشرع
كالدعاء مع كمال الشروط أو مع كمالها في نفسه مع سبق الكامل وإجابته وعدم خموله
وانزوائه سيما مع تقارب الأقطار خاصة في بلد الإمام الأول فلا مرية أن ذلك بغي
وفساد وظلمٌ وعنادٌ وخروجٌ عن الدين ودخولٌ في زمرة المعتدين وانخراطٌ في أسلوب
الفسقة المفسدين، وقد ذكر الإمام عزالدين uفي
جواب ذلك السؤال كلاماً جيداً ولله دره. قال
عليه السلام:
لا
يجوز اعتقاد إمامة المتعارضين وحملهم على السلامة من دون معرفة جمعهم للشروط بل عن
نظر واستدلال وتحقيق، فإن الإعتقاد الذي هو على هذه
الصفة يجوز كونه اعتقاد جهل والجهل قبيح، والإقدام على مالا يؤمن قبحه كالإقدام على
القبيح، ولا يتوجه ذلك الإعتقاد إلا مع تواتر الكمال وحصول شرائط الإمامة والسيرة
المرضية، ومهما لم يحصل ذلك فلا ينبغي أن يعتقد فيهما الخطأ ولا النقصان ولا عدم
الكمال، إذ لا طريق إليه، ولأنَّ الْحَمْل على السلامة وهو أن لا يظن أنهم ترشَّحوا
لهذا الأمر مع عدم كمالهم، بل يتوجه أن يظن فيهم الخير وللعوام في ذلك تقليد
العلماء، ومعلوم أنَّ من الأئمة عليهم السلام مَنْ هو مذكور وحاله في الفضل والكمال
ومحاسن الخلال مشهور، فلا يخفى على أحدٍ صِحَّة إمامته وكماله وفضله وإحرازه
للشرائط وإحاطته بالأوصاف الحسنة، وكون سريرته مرضية، ومنهم عليهم السلام مَنْ أمره
خافٍ عن بعض المميزين بل كثير من دعاة أهل البيت يخفى أمره على بعض المبرزين، فقد
كان منهم في جهات الأندلس وغيرها من لم تبلغ أحداً دعوته. وأمَّا
ما يكلف به في حق الأئمة المتعارضين السابقين مع تواليهم أو تعاديهم فنقول:
أول
ما نشأت المعارضة في زمن الهادي والناصر عليهما السلام وكانا متباعدي الأقطار
متناءي الديار والمزار وحالتهما في الفضل والكمال لا تنكر بحال، وحبذا ما كان بصفة
تعارضهما، فلا شك أنهما مصيبان، وإمامتهما معاً
في الصحة على هذه الكيفية مما لا إشكال فيه ولا تفتقر إلى بيِّنَةٍ، وأما إذا تقَارَبَ المتعارضان وتنازعا وتحاربا فلا
يتصور أن يكونا مُحِقَّين معاً، بل أكثر ما يتهيأ أن يكون أحدهما فقط محقاً، ويكون
الآخر باغياً عليه وخارجاً عن ولاية الله تعالى إلى عداوته، فلا إمامة مع البغي،
وأما حيث تقاربتْ دارهما ولم يتشاجرا ولا تحاربا، وكان كل واحد منهما حسن المجاملة
والمعاملة للآخر وهما متواليين غير متعاديين، فالذي تقتضيه القواعد أن الإمام ليس
إلا أحدهما والآخر ليس بإمام إلى أن قال: وهذا على سبيل الإجمال، وأما التفصيل فهو
أنْ يثبت لنا طريق إلى كون أحد المتعارضين بعينه هو الإمام، ويكون الآخر بصفة
الباغي عليه، وثبت لنا طريق إلى أنَّ أحد المتواليين بعينه كامل الشروط صحيح الدعوة
ثابت الإمامة، وأنه الفائز بذلك والحائز له دون صاحبه، دِنَّا بذلك واعتقدناه في
الصورتين معاً، وإن لم تستقم تلك القاعدة ففرضنا في المتواليين المعروفين بِحُسْن
الصفات والأحوال توليهم معاً والترحم عليهم وحسن الظن بهم،
وأن
نقول في المتعاديين: ]تِلْكَ
أُمَّةٌ قَدْ خلَتْ لَها مَا كَسَبَتْ وَلَكُمْ مَا كَسَبْتُمْ وَلا تُسْألونَ
عمَّا كانُوا يَعْمَلُوْنَ[ [البقرة/134]. وتعقبه
القاضي العلامة أحمد بن بحيى حابس رحمه الله بقوله قلت: وقد قدمنا من كلام السيد
صارم الدين رحمه الله والتفريع عليه ما يشعر في المتعاديين المتحاربين بأنَّهُ إذا
حصل مُرجِّحٌ للدخول مع أحدهما، والآخر معروفٌ بحسن الصفات قديماً وحديثاً لم
تَجُزْ مُعاداته بالقلب بل يتولاه استصحاباً للحالة الأولى كما قررنا، وإنْ حاربناه
مع المعارض له بذلك المرجح فهو أمر خارجي تعبدنا به كما يتعبد العوام بحرب الباطنية
مع عدم الطريق لهم إلى اعتقاد كفرهم، كما نتعبد بإقامة الحد على فاسق الزنا ونحوه
عند إلزام الحاكم مع عدم صحة اعتقاد فسقه، لعدم تيقن ذلك، وغاية ما يعتقد الداخل مع
أحد الإمامين لمرجح والحال كما ذكرنا اعتقاد وخطأ الآخر خطأً قطعياً معذوراً فيه،
وإن حارب وقاتل وقتل، إلى أن قال: وأما إذا التبس الحال من كل وجه بعد إبلاغ الجهد
في البحث والنظر فيمن هو أرجح فلم يوجد مرجح توليناهما، ووجب علينا الكف عن
المحاربة مع كل واحد منهما، ونعتقد أنَّ واحداً منهما مخطىءٌ خَطأً قطعياً معذرواً
فيه ولا يفسق لكن لا يبعد وجوب معاودة البحث والنظر في الأرجح عند حصول التجويز
لوجود المرجح لأحدهما، وظاهر كلام الإمام عزالدين uأنَّا
في هذه الحالة نكف عن الموالاة كما نكف عن المحاربة، وأنَّهُ إذا حصل الْمُرجِّح
للدخول مع أحد الإمامينِ وجبَ
اعتقاد إمامته، وأن المعارض باغٍ عليه فاسق غير معذور ولا يستصحب فيه الحالة
الأولى، ويجب علينا مُعاداته والتبريء منه وإن كان حسن الصفات قديماً وحديثاً والله
أعلم. انتهى
المسألة الثالثة قال
السائل أرشده الله وسدَّدهُ: اقتصرتِ
المصادر الزيدية عند التعرض لمسألة تعارض الأئمة على ذكر الأئمة المتعارضين في كل
عصر ومصر بأسمائهم وألقابهم دون أي ذكر أو تفصيل لأسباب ودواعي التعارض أو ترجيح
إمامة أحدهما على الآخر أو أي حكم بالخطأ أو التفسيق أو التكفير، وجل ما فعله
العلماء الذين ناقشوا هذا الموضوع أن فريقاً منهم رجَّح حمل الطرفين على السلامة،
والقسم الثاني رجَّح بأنَّ أحد الطرفين هالك لا محالة، ولكن مع هذا لم يحدد مَنْ
مِن المتعارضين هو الهالك ما تعليقكم على ذلك ألا تعتقدون أن في ذلك نوع من الإرجاء
الذي انتقده أصحاب المذهب على غيرهم وإلاَّ تعتقدون أن ذلك يعطي الآخرين ثغرات
لمهاجمة وانتقاد نظرية الإمامة عند الزيدية حيث التناقض بين الواقع والنظرية
اهـ؟ الجواب والله الهادي:
أنَّ
قول السائل اقتصرت المصادر... إلـخ ما كان يحسن الإطلاق لأن كثيراً من السير العامة
والخاصة قد صرَّحت ببعض الأسباب، وليس الإشكال في بيان السبب ونقله وإنما الإشكال
كما أشار السائل في الحكم بتصحيح إمامة أحد المتعارضين على التعيين وإبطال إمامة
الآخر، والمسئلة قطعية، فينتج أن الآخر باغٍ ومخطٍ وللإلتباس كان الحكم ما تقدم من
الحمل على السلامة، وأنَّ الإمام في علم الله أحد المتعارضين، إنْ كانا قد جمعا
شروط الإمامة فأحدهما هو الإمام، والآخر ليس بإمام، والذي يظهر أن هذا إنَّما هو
قول من لم يعاصر تلك الأحداث، أما العلماء المعاصرون فإنهم يُناصرون ويتابعون أحد
المتعارضين، ويجزم فريق بإمامة أحدهم والآخرون بإمامة الآخر، وكل فريق يجزم بإمامة
مَنْ تابَعَهُ، ويحكم
على المعارض بالبغي، وهذا هو الإشكال الذي حارت فيه الألباب، وقد قدَّمْنا ما فيه
مَقْنع، فمن كان من أولئك الأئمة وهو موصوف بالخير مشهودٌ له بالصلاح، جامعٌ
للشروط، داعٍ إلى إحياء الشريعة الإسلامية، رافعٌ لمنار الإسلام، آمرٌ بالمعروف
ناهٍ عن المنكر غير مائل إلى الدنيا، ولا ناظر إلى حطامها، ولم يخرج بطراً، ولم
يقصد الترفع بالأمر والنهي إرضاء لنفسه، بل مخرجه إرضاء لربه، وغضباً لخالقه، ولم
يتجرأ على الله بالمعارضة، وبحيث لو عَلَم أن معارضه أولى لنـزل عند حكم الله وسلم
الأمر طلباً لوجه الله، فأَخلِق بِمَنْ كانت هذه صفته أن يكون معذوراً عند الله،
وهذه الأوصاف موجودة في أكثر المتعارضين فهم بحمد الله كما وصفنا وفوق ذلك، ألا ترى
إلى ما حُكِيَ أنَّ الإمام شرف الدين بن شمس الدين u لما بلغته وصية الإمام مجدالدين بن الحسن
u قال ما معناه: لو علمت أن مجدالدين بهذه الصفة
لما عارضته، ويدل على ما قلناه قوله تعالى:
]ولَيْسَ
عَلَيْكُمْ جُناحٌ فِيْمَا اخْطَأْتُمْ بِهِ[ الآية
[الأحزاب/5]،
لأنَّهُم
لم يتجرأوا على الله، وشروط البغي معروفة، ولم يتحقق في المتعارضين من الأئمة، فكيف
يحكم ببغي من لم تنطبق عليه شروط البغي. أمَّا
ما أشار إليه السائل من أنَّ الحمل على السلامة نوع من الإرجاء، إلخ فنقول:
ليس
ذلك بإرجاء، لأن الإرجاء الحقيقي هو التأخير قال الله تعالى: ]أَرْجِهِ
وأخَاهُ[ [الأعراف/111]، والمرجئة الحقيقيون هم من قال: إن العاصي موقوف تحت
مشيئة الله إنْ شاء عذَّبَه وإنْ شاء غفر له، وليس كذلك حكم المتعارضين، بل قد
قطعنا بسلامة المحق وخطأ المخطي خطا معذوراً فيه، إلاَّ أنَّ المخطي غير متعين
لالتباس الأمر علينا، فحكمنا لهم بالحمل على السلامة لِعَدم التجري والإقدام على
المعصية عمداً، وليس قولنا كقول الحشوية أنَّ معاوية اجتهد فأخطأ، لأن معاوية علم
الحق وخالفه عمداً وعصى ربه جهراً، وخالف الدليل القاطع فلا يصح الإجتهاد مع مخالفة
الدليل تعمداً وجرأة فافترقتِ الحال. أمَّا
ما أشار إليه السائل أنَّ هذا الموقف من العلماء يفتح ثغرات لمهاجمة وانتقاد نظرية
الإمامة عند الزيدية حيث التناقض بين الواقع والنظرية، اهـ. أقول:
أنَّ
الْمُعْتبر هو الدليل، وقد قام على وجوب نصب الإمام وعلى اعتبار الشروط التي
اشترطها الزيدية، وهي معتبرة عند أكثر الفقهاء إلا المنصب فاشترطت الزيدية فقط أن
يكون الإمام من أولاد السبطين كما لا يخفى، وليس التعارض بين الأئمة واقعاً من جهة
اختلال النظرية ولا لضعف قاعدتها، فهي ثابتة الأركان لِقُوة دليلها الذي هو الأصل
لرسوخ القاعدة واختلاف الأنظار في التطبيق لا يضر القاعدة، لأن كل طرف من العلماء
والقائمين مع أحد المتعارضين إنَّما غَرَضه مطابقة الأوامر الإلهية، فنظر في أحوال
الداعي ونظر في أحوال معارضه، فإذا أدَّاه اجتهاده إلى كمال أحد الداعيين
لِمُرجِّحات نظرية واعتبارات شرعية، فهذا فرضه، ولم يمس ذلك بأصل القاعدة، وكذلك كل
واحد من المتعارضين يعتقد كمال نفسه وقصور معارضه فهو مجتهد في تطبيق
القاعدة. والخلاصة أنَّ التعارُّض إنما هو في أن أحد
المتعارضين جامع للشروط حائز لها بكمالها، وأنَّ مُعارضه قاصر عن إدراكها، والمعنى
هل انطبقت الشروط وكملت أو أن هناك نقصاً، ألا ترى أنَّ الإمام القاسم بن محمد
u لما وصل في الواديين بعد دعوة المتوكل على الله
عبد الله بن علي أبو علامة uأنَّه
اعترف له بالسبق والكمال لولا هفوة عدَّها عليه وطلبه الخروج منها، فاعتقد الإمام
القاسم uأن
تلك الهناة مبطلة لإمامة المتوكل على الله، وهو لم يقر له بها، ولم يُقِرْ بِبُطلان
إمامته فبقي على دعوته وعارضه الإمام القاسم عليه السلام. فالقاعدة
التي هي شروط الإمامة مستقيمة، والتطبيق مستقيم وليس التطبيق معارضاً للنظرية ولا
تخالف بينهما، بل الواقع يصحح النظرية. وأما
قولكم:
يفتح
ثغرات للآخرين... إلـخ، فلا عِبْرة باعتراض معترض ولا تشنيع مباهت، بل العبرة
موافقة الحق وربط المسائل بالدليل، وإن شنَّع من شنَّع، ]ومَا
أكْثَرُ النَّاسِ وَلَوْ حَرَصْتَ بِمُؤْمِنِيْنَ[ [يوسف/103]،
فتلك
شكاة ظاهر عنك عارها، ولن يضر الباهت إلاَّ نفسه، ومع التحقيق والتأمل فالمعارضة
بين الأئمة إنما هي في طلب الحق والإجتهاد في رضاء الله ومطابقة مُرَاده وفي تحصيل
الأصلح للأمة فهي منقبةٌ لهم، وإنَّما المذموم والممقوت هو المعارضة والمكالبة على
الْمُلك والترأس على الأمة بغير حق كتناحر خلفاء بني العباس بين مقتول ومسموم، وبين
مخلوع ومعزول لطلب الملك الزائل الحقير، ولجمع حطام الدنيا اليسير نسأل الله
السلامة والإستقامة. واعلم:
أنَّ
مِنْ تمام الفائدة إلحاق مبحث يتعلق بمسألة الحكم فيمن أثبت إمامة إمام ونفاها شخص
غيره، فإنَّ الأمر في ذلك مشكلٌ محتاجٌ إلى النظر فرأينا تكميل المباحث بهذه
الفائدة، وقد نقل القاضي العلامة أحمد بن يحيى حابس هذه المسألة بِرِمتها وحكاها عن
الإمام عزالدين uفنقول:
قال القاضي أحمد رحمه الله قال الإمام عزالدين عليه السلام: وهذه نكتة عظيمة الموقع
في الدين واسعة النفع للمسترشدين، إن قيل على القول بأنَّ الإمامة قطعية كما هو
مذهب المعتزلة والزيدية، وفرضنا حصول داعي يدعي كمال شروط الإمامة ويدعو الناس إلى
طاعته ويَحُثُّهُم على إجابته فأثبته مثبتٍ ونفاه نافٍ، والأقسام المتعلقة بذلك أن
يكون المثبت والنافي مصيبين معاً أو يكونا مخطئين معاً، وأنْ يكون أحدهما مصيباً
والآخر مخطئاً، فهل كل واحد من هذه الأقسام الثلاثة ممكنٌ جائز الحصول أو لا يمكن
إلاَّ بعضها. فالجواب وبالله التوفيق:
أنَّ
هذه الأقسام على سواء في تجويز الحصول لا يمنع من تقدير كل واحد منها مانع ولا
يحول، أما القسم الأخير وهو أن يكون المصيب أحدهما دون الآخر فلا
كلام في صحته وإمكانه، بل رُبما يتبادر الوهم إلى أنَّه ممكن دون غيره وله
صورتان. الصورة
الأولى:
أن
يكونَ الْمُثبت هو المصيب، وذلك بأن يكون الداعي هو مستكمل للشرائط جامعاً لها وقد
اختبره حق الخبرة، فعرف كماله بطرقه المعروفة والثاني هو المخطيء، لأنَّ نَفْيه
للإمامة إما بعد معرفته للكمال لكن كابر وعاند، وأما خبطاً وجزافاً من غير معرفة
للخلل ولا اطِّلاع على ذلك، وأما بأنْ يكونَ قد نظر واجتهد، ولكن عرض له ما لبَّسَ
عليه ورجَّح جانب النفي فمال إليه غير معتمد للخطأ ولا تارك في مقام النظر لنقل
الخطأ. الصورة
الثانية:
أن
يكون النافي هو
المصيب بأنْ ينفي إمامته بعد معرفته لاختلال الشرائط أو بعضها فيه، فالمثبت هو
المخطي إما لأنَّه أثبت إمامته بعد اختلالها لكن كابر وعاند، وإما لأنه أقدم على
الإثبات خبطاً وجِزافاً من غير نظر واعتبار ولا نظر لأحواله ولا اختبار، وإما لشبهة
عرضت له خيلت إليه صحة إمامته وقضت له باحترازه عن العيوب وسلامته بعد أن أمعن
النظر ولازم مدة من الزمان واختبر. وأمَّا القسم الأوسط وهو أن يكونا مخطئين
معاً فله صورتان: الصورة
الأولى:
أن
يكونَ الداعي المفروض دعاؤه إماماً في نفس الأمر كاملاً جامعاً للشرائط، لكن أقدم
المثبت على إثبات إمامته من غير معرفة لكماله ولا اطِّلاع على استجماعه للشرائط
المعتبرة أو من غير معرفة لأصول مسائل الإمامة وقواعدها، فإنَّه والحال هذه يقدم
على مالا يؤمن خطئه وهو كالمقدم على الخطأ من غير فرق، وأقدم النافي على النفي إما
خبطاً وجزافاً وإما استكباراً وعناداً، وإما لِشُبهةٍ عرضتْ له أرته الكمال
نقصاناً، والصدق بهتاناً. الصورة
الثانية:
أنْ
لا يكون ذلك الداعي إماماً في نفس الأمر، ولكن أقدم النافي على نفي إمامته بلا
تحقيق ومن غير اطِّلاع على نظر في الخلل وانتقاص الشرائط، بل قيامه على إجابة ندائه
واستماع دعائه غير مستحضر للقواعد ولا مستجمع للفوائد، فهو حينئذ في منهل الخطأ
وارد، لأنَّه كالمقدم على الخطأ وهو عامد، ولو كان ما أقدم عليه هو الحق في نفس
الأمر، لأنَّ الإنتهاء في المعرفة حال المدعي لازم والمتغافل عن ذلك مخطيء آثم،
فأما المثبت فأقدم على الإثبات خبطاً وجزافاً في غير اختبار ولا اعتبار أو مكابرة
وعناداً مع معرفته لعدم الكمال، وذلك أشنع الضلال، وأما للبس عرض له أورث بصره
غشاوة منعته عن رؤية الإختلال، وسمعه وقراً عن تدبر ما سمعه من عدم
الكمال. نعم:
قد
عرفت أن خطأ المثبت والنافي يرجع إلى أحد ثلاثة أنواع. النوع
الأول:
أنْ
يكونَ ما أقدمَ عليه من ذلك خبطاً وجِزَافاً. الثاني:
أن
يكون مكابرة وعناداً. الثالث:
أن
يكونَ لِشُبْهةٍ عرضت له بعد أنِ اجتهد في النظر، وأمعن في معرفة الحق، ولكنه ذهل
عن النظر على الوجه الصحيح، فسلك مع طلبه لمسلك الحسن في منهج القبيح، فأما النوعان
الأولان فلا شكّ في خطأ مَنْ كان على أيهما، سواءً فرضنا المسألة قطعية كما قدمناه
أم لا، لا سيما مَنْ كابر وعاند وأظهر ما يعلم خلافه في نفس الأمر، فلا يبعد أن
يكون من المتخذين لدين الله هزواً، ويكاد صاحب هذا النوع الثاني يلحق به وهو المقدم
على ذلك مجازفة من غير روِّية ولا فكرة سويه بما يدل عليه حاله من عدم الإهتمام
بالدين والتعويل على ملازمة الحق اليقين، وأما صاحب النوع الثالث فلا يتصور تخطئته
إلاَّ على قاعدة أهل المذهب من كَوْنِ المسألة قطعية لا مجال للإجتهاد فيها، ونحن
فرضنا هذه المذاكرة واردة على تلك القاعدة ولكنه على هذا التقرير خطاءه دون خطأ
الأولين بمراحل ولعل له من الله عاذراً لأنه لم يألُ جهداً في معرفة الحق، ولكن
قلَّ حظه وقعد به جده، وقد نص م بالله u على أن من كانت هذه صفته من نفي إمامة الإمام فلا
ترد شهادته ولا تبطل عدالته. فإن
قلت:
ما
ذكرته من أن خطأ المثبت أن يكون إثباته مع علمه بعدم الكمال ومن خطأ النافي أن يكون
نفيه للإمامة مع علمه بثبوتها كلام في حكم المتدافع، لأن مرجع الإثبات إلى اعتقاد
كمال الداعي ومرجع النفي اعتقاد عدمه، فيكون مثبتاً عالماً بعدم الكمال ونافياً
عالماً بالكمال، وفي ذلك اجتماع اعتقاد الشيء ونفيه وهو محال. قلت:
المراد
بإثبات المثبت إظهار صحة الإمامة وموالاة الإمام ومتابعته ومناصرته، وذلك لا ينافي
عدم الكمال، ولا يلزم اعتقاد صحة الإمامة وكذلك فالمراد بالنافي هو الذي يظهر عدم
صحة الإمامة ويفتى به ويتسم بسمته من المباينة للداعي والمجانبة وعدم الملائمة
والمصاحبة، وذلك لا يستلزم اعتقاد نقصان الداعي وعدم كمال الشرائط فيه، ولا ينافي
معرفة كماله وجمعه لوظائف الصلاح وحاله، فارتفع الإشكال. وأما
القسم الأول:
وهو
أنْ يَكونَ المثبت والنافي مصيبين معاً بعد فرض المسألة قطعية والبناء على أن
أدلتها معلومة يقينية، فهو ما يتبادر الأوهام إلى تعذره وامتناعه وعدم صحته
وإمكانه، ولذلك بنا مثبتوا الإمامة في زماننا هذا على تخطئة النافي بل فسقه ولعنه
واعتزال الصلاة خلفه، ولا يخطر ببال أحد منهم حمل النافي على السلامة فيما أقدم
عليه بناء منهم على أنَّ سلامته من الخطأ مالا سبيل إليه، وإنْ عَلِموا من حال
النافي تحفظه في الديانة وتمسكه فيما كُلّفه بأمانة، وكذلك فنفاة الإمامة لا يكادون
يحملون المثبتين لها على السلامة، وإنْ كان تحاملهم أهون وعريكتهم ألين، وإذا
أثبتنا إمكان إصابة المثبت والنافي معاً انهدمت القاعدة واتضح لك عظيم هذه الفائدة
وتبين لك أن أكثر الناس عار عن التحقيق غير سالك ثنيات الطريق قد استعبدته العصبية
واستهوته الحمية، وعند أن يتلقى ما ألقيته بالقبول ويعرض على ما تسترجحه العقول،
ويُؤكده المنقول تزول بحمد الله الشحناء بين الفريقين وتكون هذه النكتة لمتوخي
الإصابة في هذه المسألة فرض عين، ويرجعون إنْ شاء الله إخواناً، ويكونون على الحق
أعواناً وبيان إصابة النافي والمثبت معاً بأن نقول: لا مانع من أن يكون مدعي
الإمامة كامل الشرائط في الظاهر، جامعاً لها محيطاً بأنواعها وأقسامها، ويكون مع
ذلك منطوياً في باطن الأمر على أمر تختل به الإمامة وتبطل معه أحكام الزعامة من قلة
ورع أو كثرة طمع أو كذب في الأخبار أو نقض للعهود الكبار أو ارتشاء في الأحكام أو
هدم شيء من قواعد شرع الإسلام أو ارتكاب لمحظور أو تهور في نوع من المحذور أو عدم
إصابة في كثير من الآراء، أو اعتماد في تصرفاته للأهواء أو غير ذلك من أنواع
الإختلال التي فرضها ليس من قبيل
المحال، ولكنه مع ذلك كثير التصنع والتستر مبالغ في عدم التضمخ بذلك رأي العين
والتظهر، فلما اختبره المثبت لم يبن له إلا محاسنه الظاهرة وأوصافه الحسنة
المتكاثرة، فحينئذ امتثل ما يلزمه من مبايعته ومتابعته وطاعته ومناصرته، ولو عدل عن
ذلك لكان آثماً ولقاعدة الدين هادماً، فلا شك أن الصواب في حقه الإثبات والإتباع
والطاعة والإستماع، ولكن ليس بعصمة ذلك الإمام ومطابقة ظاهره لباطنه لأن العصمة
مرتفعة وطرق التجويز كثيرة متسعة، إلا أن فرضه الحكم بالظاهر والله تعالى يتولى
السرائر، وأما النافي لإمامته فإنه لما اختبره حق
الخبرة، وأمعن النظر في تبطن أحواله وتبطن وظائفه وخلاله اطلع منه على بعض هفواته
ونوع من عثراته القاضية بعدم صحة دعواه وقلة نفعه فيما ترشح له وجدواه: ومهما تكن عند
امريء من خليقة
وإن خالها تخفى على الناس
تعلم مع
أن هذا النافي قد علم كماله الظاهر وبصر باشتماله بادي الرأي على المحامد والمفاخر
لكن اطلع في خلال ذلك على العيوب، وانكشف له سرها
المحجوب،
فحينئذٍ صار فرضه رفضه ومجانبته واطراحه ومباينته ويكون لربه بذلك مرضياً ولما
أوجبه عليه مؤدياً ولو عدل عن ذلك لكان مقتحماً للمهالك وسالكاً في أمر دينه أوعر
المسالك، فإذا
توضحت لك هذه القاعدة وقدرَّت قدر هذه الفائدة علمت إمكان حمل المثبت والنافي على
السلامة ما لم يعلم من حاله أنه لم ينفِ الإمامة لأمر اطَّلع عليه، وإنَّما دعاه
الهوى وتمحض إليه، أو يكون المثبت قد اطلع على الأمر الذي لأجله نفى النافي للإمامة
فعلم أنه مما لا يبطل أحكامها العامة، ولم يكن اطلاع المثبت على ذلك إلا باعتراف
النافي أو تعيينه لما نفى الإمامة لأجله، وأيضاً فعُلِمَ مما تقدم إمكان حمل النافي
للمثبت على السلامة ما لم يعلم اطلاع المثبت على موجب النفي أو يشتهر ذلك الموجب
بحيث يعلم أنه لا يخفى على مثل ذلك المثبت، هذا ولا شكّ أنَّ حَمْل المسلمين على
السلامة ما أمكن في الدين حتم وفي الرأي حزم، وأنَّ المسارعة إلى التخطئة والتضليل
والتفسيق والتجهيل ليس من شأن المحققين خاصة فيمن جمع بين المعرفة والديانة
والصيانة والأمانة وعلى هذا ينزل ما كان من معاملة بعض السلف بعضاً المعاملة الحسنة
بالمودة والتصافي مع اختلافهم في أئمة زمانهم، ومع بناءهم على أن المسألة
قطعية. فإن
قلت:
إنَّ
حَمْل المثبت للنافي على السلامة يتجويز أن يكون قد اطلع من الإمام على ما يبطل
إمامته يتضمن حمل الإمام على خلاف السلامة وهو بالحمل عليها أولى من النافي لفخامة
شأنه عند المثبت وارتفاع مكانه وإذا لم يكن به من حمل على عدم السلامة، فالنافي له
أولى من الإمام الذي لم يظهر منه للمثبت إلاَّ ما هو حسنٌ جميل. قلت:
لا
نُسلِّم ما ذكرته من تردُّدِ الأمر بين حمل الإمام وحمل النافي على عدم السلامة،
فيكون النافي له أولى، بل حملهما جميعاً عليها ممكن، واستصحاب الأصل في حقهما غير
متعذر، لكون المخطيء منهما غير متعين، أما الإمام يجوِّز المثبت أن النافي نفى
إمامته لا عن تحقيق لموجب النفي، بل لخيال فاسد أو لعدم تثبت في استعمال القواعد،
فكم من نافٍ يقدح في الإمامة بما هو غير قادح، ويُبْطلها بما ليس بمبطل ولا جارح،
وأمَّا النافي فيجوز في حقه أيضاً ما ذكرناه أولاً من كون نفيه عن تحقيق ووضوح مسلك
له وطريق، فإنَّ اجتماع هذين التجويزين من الأمور الممكنة والقواعد المستحسنة،
وحينئذ يرجع المثبت في كل من الإمام والنافي إلى ما هو الأصل من صحة الإسلام وصدق
العدالة، ويستصحب الحال فيما يلزم لكل واحدٍ منهما من حق التعظيم والجلالة، وإن كان
أحدهما مخطئاً في نفس الأمر لا محالة، إلاَّ أن بعدم تعيينه يبقى حكم كل منهما في
حقهما على ما كان من قبل انتهى. المراد
من كلامه ولله دره فقد وفَّى بالمراد، وحقَّق المسألة وأوضحها غاية الإيضاح فصارت
بهذا التحقيق أجلى من براح، وبهذا يقف شوط القلم في جواب هذا السؤال وصلى الله على
سيدنا محمد وآله خير آل.
قال
السائل: إذا كانت أدلة الإمامة قطعية عند الزيدية، وإذا كان الزيدية يعتقدون أنها
من أصول الدين التي لا يـجوز فيها التقليد فهل يسري ذلك على قضية كونها محصورة في
البيت الحسني والحسيني، أي هل أدلة حصرها في البطنين قطعية، أم ظنية خاضعة
للإجتهاد، وأيضاً إذا كان الزيدية يعتقدون بالنص الخفي على الإمام علي عليه السلام،
فما هي صفة النص على أن الإمامة في أهل البيت؟ وما الفرق بين النص الخفي والنص
الجلي؟ الجواب والله
الموفق أن نقول: إنَّ
مذهب الزيدية أنَّ أدلَّة الإمامة قطعية غير ظنية، وهل وجوب نصب الإمام عقلي وشرعي
أم شرعي فقط، قال
بالأول
فريقٌ، وقال بالآخر فريق من الزيدية، وأدلتهم مذكورة في المبسوطات، واستدلوا على
أنَّ الإمامة قطعية بحجج، الأولـى:
إجماع
الصحابة حيث فزعوا بعد موت رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم إلى نصب من يخلفه،
وإن اختلفوا في المنصب فقد أجمعوا على وجوب نصب إمام يلم شعث المسلمين ويدفع عن
حوزة الإسلام. الدليل
الثاني:
ما
شرعه الله من إقامة الحدود بقوله تعالى في حد السرقة:
]فَاقْطَعُوْا
أيْدِيَهُمَا[ [المائدة/38]،
وقد أجمعتِ الأمة أنه لا يقوم بالحدود إلاَّ الولاة. الدليل
الثالث:
أنَّ
المعلوم ضرورة من دين النبي صلى الله عليه وآله وسلم أن الجهاد واجب على الأمة،
وأنَّ وُجُوبه لم يسقط بموت النبي، والمعلوم أنَّه لو خرج معسكر عظيم لقتال عدو بلا
زعيم يرجعون إليه، بل كان كل واحد من الجيش يرجع إلى رأي نفسه لاختل النظام، ولما
استقام لهم أمر ولا أنكوا عدواً، فوجب من هذه الحيثية نصب الإمام ليكون جامعاً
لنظام الأمة، وليأخذ على يد الظالم ويحمي حوزة الدين.
لا يصلح القـوم فوضى لا سراة لهـم
ولا ســراة إذا جُهَّـالهم سـادوا وأما قول
السائل: فهل يسري ...إلـخ،
فإن
أراد الملازمة بين الدليلين فلا، وإن أراد أن أدلة حصر الإمامة في البطنين بدليل
قطعي فهو كذلك، إذ أدلة الحصر في البطنين قطعية غير ظنية، والدليل على حصرها في
البطنين مستقل وهو الآيات الواردة فيهم والدالة على فضلهم، والأحاديث الكثيرة التي
رواها الموالف والمخالف، وإجماع أهل البيت على الحصر والقصر فيهم قبل حدوث مذهب
الإمامية كما ذلك مقرر في الكتب الكلامية. أما قول
السائل: إذا كان الزيدية يعتقدون بالنص الخفي على إمامة علي u...إلـخ؟ فنقول:
إنَّ
بعض أهل البيت عليهم السلام يقولون: إن النص على إمامة أمير المؤمنين uجلي،
وبعضهم يقول: إنه خفي، ومعنى النص الخفي عند القائل به: أنه لا يعلم القصد منه إلا
بالنظر والإستدلال، ومعنى النص
الجلي:
أنه
يعلم القصد من النص ضرورةً. واعلم:
أنَّ
كلام أهل أصول الفقه صريح في أنه لا يطلق النص عندهم إلاّ على
الجلي. قال في
الفصول:
(النص في اللغة: الظهور، واصطلاحاً:
اللفظ
الدال على معنى لا يحتمل غيره بضرورة الوضع). قال في
الغايات:
(معنى
كون النص خفياً أنه لا يفهم من ظاهره إثبات الإمامة لعلي u وإنما يؤخذ منه بنظر واستدلال وهؤلاء هم الزيدية جميعاً إلا
الصالحية). قلت:
وفي
إسناده إلى الزيدية نظر فإنه حكى أبو مضر عن الناصر وأبي العباس أنه جلي، وقال
الإمام المنصور بالله في الرسالة الناصحة: ثـم
الإمام مـذ مضى النبي صلى
عليه الواحد العلي بغير
فصل فاعلمـن عـلي
والنـص فيه ظاهر جلي يوم
الغدير ساعة الإحفال قال شارح
الإبانة:
ومذهب
الزيدية أنه نص خفي لا يعلم إلا بالنظر والإستدلال، ولو كان نصاً جلياً كالنص على
القبلة لكان مخالفة مرتداً كافراً لما علم من الدين ضرورة. قال في شرح
الزيادات:
مثال
النص لو قال صلى الله عليه وآله وسلم (علي هو الخليفة بعدي على الأمة والإمام
بعدي)، ومثال الخفي قوله صلى الله عليه وآله وسلم:
((من
كنت مولاه فعلي مولاه))، و((أنت
مني بمنزلة هارون من موسى))،
فإن الإمامة تعلم من ذلك ببحث ونظر. وقال الإمام
يحيى u في كتاب التحقيق:
معنى
كون النص جلياً أن مراد رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فيه معلوم بالضرورة، ولا
يخفى إلا على منكر مجاحد، ومعنى كونه خفياً أن مراده صلى الله عليه وآله وسلم يعلم
بنوع من النظر والفكر وربما وقع فيه اللبس ولا خلاف بين أئمة الزيدية ومن تابعهم أن
إمامة أمير المؤمنين u ثابتة بالنص وإنما وقع الخلاف في كونه جلياً أو خفياً فزعمت
الإمامة أنه جلي يعلم المقصود منه بالضرورة، ولهذا قالوا بأن إنكاره يكون كبيرة،
وإلى هذا ذهب بعض فرق الزيدية، والذي عليه الأكثر من أئمة الزيدية أن النصوص
الواردة في إمامة أمير المؤمنين u خفية يعلم المراد منها بنوع من النظر والفكر، ولغموض المقصد منها
ربما خفي والتبس. قال في المحجة
البيضاء في جواب شبه الإمامية وقولهم أن النص جلي ما لفظه:
في
قولكم نصَّ على علي نصاً خفياً مناقضة، لأنه إن نص فما أخفا، وإن أخفا فما نص،
وربما قالوا: فإذا أخفا فقد لبس وقد خان حيث أمر بإبلاغ الشريعة وهذا منها فما
بلغ. والجواب:
أن
النص الإبانة والظهور عند أهل اللغة، ومنه المنصَّة قال امريء
القيس: وجيد
كجيد الرئم ليس بفـاحش
إذا هـي نصتـه ولا
بمعطل أي
أبانته وأظهرته، ولا شك في أنه قد ظهر في أمير المؤمنين خبر المنزلة والغدير، وما
ذكرناه من الأدلة نص من رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم حيث أبان هذه الأخبار
والآيات وقرأها لأصحابه ومن ينقله إلى أمثاله كما بيناه حتى صار ذلك ظاهراً بيناً
عندنا وإن كان معرفة أن معناه الإمامة لا يحصل إلا بنظر واستدلال، وليس معرفة
الإمامة حصل بنفس اللفظ من غير حاجة إلى نظر واستدلال كما قدمنا فبطل ما ذكروه
اهـ. وبهذا
يتبين معنى النص الجلي ومعنى النص الخفي والفرق بينهما. وأما قوله:
وما هي صفة النص على أن الإمامة في أهل البيت ...إلخ؟ فنقول:
قد
أوضحنا ذلك في الجواب بأنه قطعي، وبهذا يتم الجواب عن هذه المسألة والله الموفق
المسألة الخامسة قال
السائل:.هل
نستطيع القول بأنَّ أكْبر عامل من عوامل تعارض الأئمة هو اختلاف مواقف العلماء وعدم
اتِّخَاذهم موقفاً موحداً في تأييد إمام بعينه؟ وبعبارةٍ
أُخْرى ما هو الدور الحقيقي الذي لعبه العلماء في مسألة تعارض الأئمة؟ الجواب والله
الموفق للصواب :أنْ
نقولَ قد قدَّمنا شطراً من الكلام يفيد المطَّلع هنا،
ونزيده بأن
نقول:
العلماء
هم القادة الذين يُقْتدى بهم في كل الأمور، ومتى دعا الإمام فالعلماء فرضهم والواجب
عليهم هو البحث والنظر في تكامل شروط الداعي، أما شرط العلم فمما لا شكّ أنه لا
يعرف ذلك إلا
العلماء، لأن الجاهل لا يعرف قبيل من دبير فمهما صدر من علماء جهة الإمام الداعي
المتابعة والمبايعة والمناصرة فالعوَّام تبعٌ لهم، فإذا صدر من علماء جهة المعارض
للداعي ما ذكرناه، فلا شكّ أنَّ ذلك عامل من عوامل التعارض ويزيد المعارضة قوةً،
ولوِ اتَّخذ العلماء موقفاً موحداً لكان أسلم، وقد نصَّ أئمتنا عليهم السلام أنَّ
الرجوع إلى المحاكمة بين المتعارضين وأتباعهم أو المناظرة بين الداعيين هو الواجب،
ونَصُّوا أيضاً أنَّهُ يجب التسليم للأكمل هذا إذا عرف الأكمل أما مع اللبس أو مع
اعتقاد كل منهم أنه الأكمل، وأن في قيامه إحياء للشريعة وإماتة الباطل، فكما قدمنا
يجب الحمل على السلامة مع مراعاة القيود المتقدمة. وأما قول
السائل: ما هو دور العلماء... إلـخ؟ فنقول:
إنَّ
العلماء فرضهم هو الإجتهاد في النظر للصالح العام، فمن أدَّاه نظره واجتهاده إلى
كمال أحد المتعارضين، وبحث عن المعارض الآخر ولم يصح له كماله وجب عليه العمل بما
أدَّى إليه اجتهاده ولم يلزمه اجتهاد الآخرين، مع أنَّ الأظهر هنا أنه لو دعا اثنان
أو ثلاثة ممن يصلح للإمامة فإنْ كانت دعوتهم في وقت واحد وجب على العلماء النظر في
الأصلح، فإنْ وُجِد الفاضل فهو الأحق، وإنْ تساوتْ أحوالهم فعلى رأي أئمتنا فرضهم
التسليم لواحد. قال العلامة
ابن حابس قال الإمام يحيى عليه السلام:
الواجب
عليهم ترك المنازعة والإتفاق على من يصلح يقوم بالأمر فيهم، فمن أقاموه قام بالأمر
والجهاد وإصلاح حال الأمة، ومَنْ تأخَّر فهو إمام علم وفضل ودعاء إلى الله
بالحجة. قال بعض
العلماء:
إذا
تشاجر المعقود لهما، وعُلِمَ أنهما لا يُرِيدان الصلاح وجب نزعهما هكذا حكاه ابن
حابس عن الإمام عزالدين عليه السلام. قال:
وحكى
ابن مظفر أنَّهما إذا دعيا في وقت واحد لم يصح أيهما، فإنْ دعيا في وقتين والتبس
المتقدم ففيه تردد. هذا
ما سنح من الجواب عن هذا السؤال وصلى
الله على محمد وآله.
المسألة السادسة قال
السائل أرشده الله وسدده: ما هو الدور الذي لعبه النظام القبلي في اليمن في مسألة
تعارض الأئمة؟ الجواب والله
الموفق:
أنَّ
العوَّام الذين تابعوا الأئمة المتعارضين أمرهم مشكل من جهة أنَّ مسألة الإمامة عند
الزيدية قطعية غير ظنية، والعامي لا طريق له إلى معرفة القطعي إذ هو مقلد بحت، فمن
أين للعامي معرفة توفر شروط الإمامة في أحد المتعارضين، وغاية ما يتوصل إليه هو
الظن فقط، ولا شكّ أنَّهُ يقدم على أمر قطعي من القتل ونحوه، ومن المعلوم أن
العوَّام يقومون بنصر الأئمة والمقاتلة بين أيديهم، وتسليم الحقوق وامتثال أوامرهم،
وعلى هذا جرتِ المعاملة منذ العصور الأُوَل لم يعترضهم معترض، ولا أنكر عليهم منكر،
بل صوَّبَهم العلماء والأئمة مع علم العلماء أن المسألة قطعية، ولا طريق للعامة سوى
التقليد، وقد أجاد الإمام المهدي محمد بن القاسم الحوثي uفي
جواب السؤالات الضحيانية فقال عليه السلام: وفرض الجاهل سؤال المحققين والإقتداء
بهم وإن كان لا يفيد إلا الظن، لأنهم قد نزلوا العالم في حق الجاهل بمنـزلة الدليل
في حق العالم، فيجب على الجاهل في هذه المسألة الترجيح بين أدلته التي هي العلماء
إذا تعارضت كما يرجح العالم بين الأدلة الشرعية، فيتحرى اتِّباع أهل العلم الراسخ
والورع الكامل والخبرة التامَّة البعيدين عن الأغراض والأهواء والميل إلى الدنيا
التي حبها رأس كل خطيئة، فمهما فعل ذلك فذمته بريئة، وقد فعل ما وجب عليه ولو
تابع أوجاهد أو قتل أو قتل، وهذا
الذي قضت به الأدلة القطعية، بل يمكن دعوى الإجماع عليه، لأنه لم يرو عن أحد من
الأئمة أنه أنكر على من تابعه وجاهد معه من العوام مع أنهم لم يبلغوا درجة النظر
والإجتهاد، بل لا زال دعاؤهم إياه متواتراً وقد يلزمون البيعة والجهاد كرهاً،
ولأنَّهُ لو كلف الجاهل العلم مع كون الأمور فورية لكان من تكليف مالا يطاق، ولما
جاز للإمام أن يجبر على الواجبات التي أمرها إليه بل لا يقبلها، لجواز كون فاعلها
غير عاثر على اليقين في حقه، فكيف وقد قال أبو بكر بمحضر من الصحابة: والله لو
منعوني عقالاً أوقال عناقاً مما كانوا يؤدونه إلى رسول الله صلى الله عليه وآله
وسلم لقاتلهم عليه، وجرى مجرى الإجماع في الحكم لا في إمامته بل العبرة بمذهب
الإمام عند نفسه، فإذا علم صحة ولايته جاز الإجبار كالرسول صلى الله عليه وآله وسلم
فإنه قال: ((أمرت
أن أقاتل الناس حتى يقولوا لا إله إلا الله فإذا قالوها عصموا مني دماءهم وأموالهم
إلا بحقها وحسابهم على الله)) فلو
كان لا يجوز قتالهم حتى يعلموا نبوته لما قال هذا ولقال حتى يعلموا أني مرسل إليهم،
ولما ورد في الكتاب والسنة من الأدلة المفيدة للعلم على وجوب اتباع أهل البيت عليهم
السلام والكون معهم عموماً وخصوصاً مع الأئمة المحقين منهم مثل خبري السفينة
((وإني
تارك فيكم))،
وتمسكوا بطاعة أئمتكم، وأطيعوا الله وأطيعوا الرسول وأولي الأمر منكم، والرجوع إلى
العلماء من قوله: ]فَاسْأَلُوا
أهْلَ الذِّكْرِ إنْ كُنْتُمْ لاَ تَعْلَمُوْنَ[ [النحل/43]،
وقوله
تعالى: ]فَلَوْلاَ
نَفَرَ مِنْ كُلِّ فِرْقَةٍ مِنْهُمْ طَائِفَةٌ[ [التوبة/122]،
وقوله
تعالى: ]وَلَوْ
رَدُّوْهُ إِلَى الرَّسُوْلِ وإِلَى أُولِي الأَمْرِ مِنْهُمْ لَعَلِمَهُ
الَّذِيْنَ يَسْتَنْبِطُوْنَهُ مِنْهُمْ[ [النساء/83]،
وغير ذلك كثير، فتقرر بذلك أن ليس للجاهل طريق إلى هذه المسألة إلا العلماء وهذا
كله فيما يرجع إلى مبايعة الجاهل ومتابعته وجهاده وتسليم حقوقه ونصيحته لإمامه وغير
ذلك من العمليات. وأما
مسائل الإعتقاد كالتفسيق وما ترتَّبَ عليه فلا يبعد وجوب التوقُّف عليه عند التعارض
بين صالحين، لأن العالم يعلم بعلم قطعي، والجاهل يعلم بعلم ظني، والمسألة قطعية
بخلاف القتل والجهاد ونحوه فيجوز، لأنَّه وإن كان تحريم الدماء قطعياً فقد أبُيِح
بالدليل الظني مثل حكم الحاكم بالقود بقيام الشهادة، ولا يفيده إلا الظن، حتى
نَصُّوا على إقامة حد الشرب بالشم، ونصُّوا على جواز قتل مالا يؤمن ضرره على
المسلمين وتلك الخشية لا تفيد إلا ظنَّا، لتعذر العلم في الأمور المستقبلة، لما ثبت
من أنها كانت تترتب الحروب في عهده صلى الله عليه وآله وسلم ومن بعده من الأئمة
عليهم السلام برجوع جواباتهم أو رسلهم بالمخالفة، وذلك لا يفيد إلا ظناً، فصارت
أدلة جواز القتل بالطريق الشرعية الظنية في تلك الجزئيات كالمخصصة لأدلة عموم تحريم
الدماء والأموال، وقد ثبت في الأصول أنه يصح تخصيص القطعي العملي بالظني، ومنه
تخصيص الكتاب بالسنة، لأنه نوع من الجمع بين الأدلة المقدم على الترجيح، وطرح أحد
الدليلين، ومن هنا نصوا أنه يجوز امتثال أمر الحاكم بالحدود والقصاص، ويجب بأمر
الإمام من غير أن يبحث الممتثل عن المستند ما لم يكن المأمور به ظاهراً يخالف ما
يعلم الممتثل في الباطن اهـ كلام الإمام. وقد استوفيناه لما فيه من الفوائد العظيمة
التي من أعظمها إقامة الدلالة على جواز متابعة العوام ومبايعتهم وجهادهم مع الأئمة،
هذا وإن كان وافياً بالمراد، ولكنا سنـزيد المسألة أيضاحاً بإيراد كلام الإمام
عزالدين uوإيراد
كلام العلامة البكري قال الإمام عزالدين uبعد
إيراده لكلام قبل هذا: إذا تقرر هذا فمعلوم أن أكثر المعتزين إلى الأئمة القائلين
بإمامتهم الممتثلين لأوامرهم ونواهيهم المترتبة على صحة الإمامة وثبوتها لم يقدموا
على ذلك بنظر اقتضاه ولا بدليل أوصلهم إليه، بل ربما أن الجم الغفير منهم لا يعرفون
معنى الإمامة وحقيقتها، فكيف بدقائق مسائلها وغوامضها الحائرة أفهام أرباب العقول،
فكيف يحسن إقرار هؤلاء الجهلة على ذلك وعدم تنبيههم على ما هو اللائق من النظر
الصحيح المطابق، ونظير ذلك ما عليه الأئمة عليهم السلام المتقدم منهم والمتأخر من
أمر العامة بتسليم الحقوق إليهم دون أن يأمروهم بتقديم النظر في صحة إمامتهم، وأنْ
ينهوهم على أنَّهم مأخوذون فيها بتحرير الأدلة وفهم السبب في ذلك والعلة، وليس
لقائل أن يقول كثير من المسائل القطعية يصح فيها التقليد، لأنَّا نقول ذلك لا يصح
إلاَّ فيما كان منها عملياً لا يترتب على علمي ومسائل الإمامة ولواحقها من اعتقاد
إمامة إمام معين ووجوب طاعته وتسليم الحقوق إليه ما بين علمية وعملية تتوقف على
العلم. قال الفقيه
العلامة علي بن محمد البكري رحمه الله:
الواجب
على الأئمة حمل أتْبَاعهم على السلامة، وأنَّ ما أقدموا عليه من الإعتقاد وتوابعه من تسليم الحقوق ونحوه كان عن
دليل، وليس عليهم أن ينكروا على الأتباع قبل أن يعلموا حقيقة أمرهم، وأما بعد علمهم
بأنَّ اعتقادهم صدر لا عن دليل فلا شكَّ في لُزُوم الإنكار، وحينئذٍ فقد ساعدنا
مولانا إلى ما رأى من لزوم الإنكار على من تلك صفته. فإن
قال:
إنَّا
قد علمنا من حال الأئمة أنَّهُم لم يُنْكِروا فإما حكمنا بخطأ الأئمة أو بكون
المسألة ظنية؟ قلنا:
قد
دللنا على أنها قطعية فإن صح عن الأئمة أنهم تركوا اللائمة كان ذلك دليلاً على عدم
علمهم بحال الأتباع لا على خطأهم بتركهم للإنكار عليهم ولا على كون المسألة ظنية،
ومع عدم علمهم لا يلزمهم الإنكار كما قدمنا، ونظير حال الأئمة في ذلك كحال النبي
صلى الله عليه وآله وسلم، فإذا حسن من النبي صلى الله عليه وآله وسلم أمر العربي
الجلف باعتقاد نبوته وتسليم الحقوق إليه من غير أن يأمرهم بتقديم النظر في ذلك
حملاً لمن اتبعه على السلامة، فبالأولى أن يحسن ممن هو دونه وهو الإمام حيث أمر
العوام باعتقاد إمامته وتسليم الحقوق إليه ثم حملهم بعد الإتباع والتسليم على أن
ذلك كان عن دليل. فإن قال:
إن
بين المسألتين فرقاً، فإن مسائل الإمامة أخفى من مسائل
النبوة؟ قلنا:
لا
نُسَلِّم فإنَّ مسائل النبوة تحتاج إلى دقيق النظر، بل لو ادعى العكس في ذلك لأمكن،
ثم لو سلمنا زيادة خفا مسائل الإمامة على مسائل النبوة، فلا شكَّ أنَّ في سائر
مسائل الأصول ما هو أدق وأخفى من مسائل الإمامة، وكان يلزم النبي صلى الله عليه
وآله وسلم وسائر العلماء الإنكار على العوام جميع ما اعتقدوه من ذلك، وخلافهم معلوم
ولا يكون ذلك إلا لما ذكرناه من الحمل على السلامة. قال الفقيه
البكري رحمه الله:
وأما
ما ذكره مولانا من أنَّ أكثر المعتزين إلى الأئمة القائلين بإمامتهم الممتثلين
لأوامرهم ونواهيهم المترتبة على صحة الإمامة وثبوتها لم يقدموا على ذلك لنظر اقتضاه
ولا لدليل أوصلهم إليه، فذلك حمل منه لهم على غير ما ينبغي سواء جعلنا الإمامة
قطعية أو ظنية، ثم لو سلمنا أن ذلك معلوم لمولانا من حالهم، فمن أين أن الأئمة قد
علموه حتى يلزمهم الإنكار، فإنه لا يلزم فيما علمه شخص أن يعلمه آخر
انتهى. هذا
كلام الأئمة الأعلام، وقد عرفت أنَّ الواجب هو الحمل على
السلامة. فإنْ قلت: أن في العوام
من ليس له نية صالحة في نصر الإسلام وبجهاده ومتابعته للأئمة، وإنما غرضه الأمور
الدنيوية والشهوات النفسية، فكيف يجوز الإستعانة به؟ قلت:
الغرض
من قيام الإمام رفع منار الإسلام وتنفيذ الأحكام وجهاد أعداء الله الطغام، ومن كانت
هذه صفته جاز للإمام الإستعانة به، فقد استعان النبي صلى الله عليه وآله وسلم في
عام الفتح بمن هو باقٍ على شِرْكه، واستعان بالمنافقين وبالمؤلفة قلوبهم، وغاية ما
في الأمر أنه لا ثواب لمن كانت هذه صفته والله الموفق
المسألة السابعة: في
أخبار تعارض الإمامين المتوكل المطهر بن محمد بن سليمان (ت/879) والإمام الناصر بن
محمد (ت/867) جاء في كتاب أئمة اليمن للعلامة محمد زبارة (ص/324) وفي سنة (866هـ)
جمع الناصر بن محمد عسكره وسار بهم إلى ذمار فاستولى عليها وخرج عنها عامل الملك
الظافر الطاهري وكتب الظافر من عدن إلى الإمام المطهر بن محمد والشيخ علي بن حسن
كبير همدان يحرضهما على حرب الناصر بن محمد، فخرج الإمام المطهر من كوكبان إلى
القلاط والتقاه علي بن حسن الهمداني بجموع من همدان ووقعت بينهم وبين أصحاب الناصر
بن محمد مصاولة شديدة على صنعاء وذي مرمر، ولم يزل الحرب بينهم سجالاً ودخل الإمام
قلعة ظهر فأكرمه الهمداني غاية الإكرام، وقد كان قال من قبل في نفس الصفحة: فاجتمع
همدان والإمام المطهر بن محمد بن سليمان على حرب الناصر بن محمد واتصل الحرب الأول
بالآخر وقتل في هذه الحروب جماعة وكان آل طاهر يحرضون الناصر بن محمد على حرب
الإمام المطهر بن محمد والعكس. الملاحظ
مما سبق: أن الإمام يستعين بالباطنية لحرب إخوانه في المذهب رغم التاريخ الطويل
للزيدية في حرب الباطنية وتكفيرهم، فكيف تُفَسِّرُون ما حدث خاصَّة أن كلاً من
الإمامين معترف به عند علماء ومؤرخي الزيدية؟ الجواب:
أن
الأئمة الثلاثة الذين هم المطهر بن محمد بن سليمان والناصر بن محمد الملقب المنصور
والإمام صلاح بن علي بن محمد بن أبي القاسم عليهم السلام تعارضوا، وكان الناصر بن
محمد أصغرهم سناً وأقلهم علماً، ولكنه ساعده الحظ فاستقامت له الأمور بعض استقامة
وأسر المطهر وبقي بسجنه مدة وكذا أسر صلاح بن علي، وتاريخهم مدوَّن ولم يستشكل
السائل إلا ما فعله الملك الطاهري من تحريض المطهر على حرب الناصر والعكس، ولا شكَّ
أن الطاهرية لم تألوا جُهداً في حرب أئمة الزيدية أو بالإفساد فيما بينهم وليس هذا
بنكر من عدو لدود غير متوقف على أوامر الشرع، إنما الإشكال فيما فعله الإمام المطهر
بن محمد سليمان إنْ صحت رواية صاحب كتاب أئمة اليمن، فإن الإمام المطهر كان من
أوعية العلم الغزير وأهل الصيانة والستر قبل الدعوة وبعدها فلعله رأى أن في ذلك
مصلحة دينية من الإستعانة بكبير همدان ضد الناصر، وقد صرَّح الأئمة والعلماء أنَّه
يجوز للإمام الإستعانة بالكفار وبالفساق محتجين بما كان من استعانة النبي صلى الله
عليه وآله وسلم بالطلقاء من أهل مكة وأكثرهم باقون على كفرهم، وبخروج المنافقين
كعبد الله بن أبي وغيره معه صلى الله عليه وآله وسلم في غزوة تبوك وهذا مسلك شرعي،
ولكن بعض العلماء اشترط أن يكون مع الإمام عصابة كافية بحيث لوفسد المستعان بهم ثبت
أمر الإمام، وحمل الإمام المطهر على السلامة أسلم وأحوط، لما اشتهر به من العلم
والعدالة والسيرة المرضية، وإن كنا نحمل الثلاثة الأئمة على السلامة ونبني على
الظاهر والله المتولي للسرائر فـكلهم
سادة غر غطـارفـة بـيض
بهاليل فراجون للعكر والله
يصفح عمن قد أتـى زللا فلن تـرى في
قيل في التواريخ أن القاضي عبد الله
الدواري كان الداعي إلى بيعة الإمام المنصور علي بن صلاح بعد موت والده، وأنه
لَفَّقَ كلاماً في صحة إمامة المقلد، هل من الممكن الحصول على هذا الكلام؟ وهل أخذ
هذا الكلام مأخذ الإجتهاد في الإمامة، وإن كان كذلك فما هي شروط صحة إمامة
المقلد؟ الجواب والله الموفق:
أنَّ
القاضي عبد الله الدواري كان كثير العلم له الأنظار السديدة والجد والإجتهاد، وقد
حُكِي عنه كما ذكرتم أنه لفَّقَ كلاماً في صحة إمامة المقلد وبسببه كانت البيعة
لعلي بن صلاح ولم نطلع على كلام القاضي عبد الله بذاته، ولكن حكى الفقيه العلامة
يحيى بن محمد بن حميد المقرائي في شرح فتح الغفار المطعم لأثمار الأزهار شرح قوله
في المتن وأجازها (أي الإمامة) الإمام يحيى وكثير من العلماء من مقلد لتعذر عدم
العلم بالمجتهد أو نحو ذلك، وقد ذكر هذا جماعة من شيعة أهل البيت المتأخرين وحجتهم
تعذر الإجتهاد في آخر الزمان، وكان الإمام المطهر بن يحيى ومن قال بإمامته على هذا
الإعتقاد، لأنه كان قاصراً عن درجة الإجتهاد، وهذا مذهب الأمير الحسين والحسن بن
وهاس والقاضي مغيث من علماء الزيدية ذكره السيد صارم الدين في هامش
هدايته. قال
القاضي عبد الله الدواري حاكياً للمذهب في شأن الإمامة: ولا يجوز أن يكون مقلداً
عند أصحابنا ثم قال: والأحق لدي جواز كونه مقلداً ويحكى عن الغزالي وحكاه عن غيره،
أنه يجوز أن يكون مقلداً، وروي عن المنصور بالله واشتراط الإجتهاد مما لا يدل عليه
كتاب ولا سنة ولا إجماع، بل الأشهر عن الصحابة عدم الإشتراط، وأهم الشرائط الورع
والقوة على القيام بأمر الأمة، وممن روي عنه جواز إمامة المقلد الإمام المطهر بن
يحيى وولده محمد، وكانا ممن قام بالإمامة وهما غير مجتهدين، ويروى ذلك عن الأمير
الحسين والحسن بن وهاس والقاضي جعفر والشيخ الحسن الرصاص، وشرعوا إمامة المقلد
للضرورة لتعذر الإجتهاد في آخر الزمان، قالوا بذلك حراسة لقواعد الإسلام كيلا
ينهدم، وفي عصرنا الإمامان المهدي وولده الناصر كانا إمامين مع قصورهما عن الإجتهاد
ولا سيما الناصر ونفع الله بهما نفعاً لم يتفق مثله مقام غيرهما من المتأخرين،هذا
منقول من جواب السيد علي بن صلاح بن الحسن بن علي بن المؤيد على القاضي محمد بن
أحمد بن يحيى أهـ من الفتح من كتاب السير. فهذا
الكلام الذي نقلناه وسقناه يظهر أنه كلام القاضي عبد الله الدواري، والمختار أنَّهُ
لا يصح ولا يجوز إمامة المقلد، والمختار أيضاً أنه لا يخلو العصر من حجة لله قائمة
كما هو رأي أكثر الأئمة من أهل البيت عليهم السلام، لأن الأحكام وإجرائها على مقتضى
مراد الشارع لا تتم إلا من مجتهد، ولأن الله تعالى يقول:
]أَفَمَنْ
يَهْدِي إِلَى الْحَقِّ أَحَقُّ أنْ يُتَّبَعَ أَمَّنْ لاَ يَهِدِّي إلاَّ أنْ
يُهْدَى فَمَا لَكُمْ كَيْفَ تَحْكُمُوْنَ[ [يونس/35]،
والمقلد إنما يظن ظناً فليس بهاد إلى الحق ولم
نتعرض بهذا للرد على من جوز إمامة المقلد مع عدم وجود المجتهد، وإنما قصدنا بيان
الحق والمختار في هذه المسألة ونقلنا قول المخالف ليطلع السائل على تلك الأقوال
لطلبه لذلك. والله
هل يوجد في المذهب الزيدي رأي يـجوز إمامة
غير الفاطمي إن اكتملت فيه شروط الإمامة ولم يجد مثله في
الفاطميين؟ الجواب والله الهادي:
أن
شروط الإمامة عند الزيدية معلومة بأدلتها، ومنها كون الإمام فاطمياً، ولم يُجَوِّز
أحدٌ منهم فيما اطَّلعت عليه من كتبهم إمامة غير الفاطمي، فأما المحتسب فجوزوا
احتساب غير الفاطمي، لأنَّ الغرض من الإحتساب هو الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر،
وليس له ما للإمام وبيان شروط الإحتساب، وما له أن يقوم به من الأعمال قد بسطها
الإمام المنصور بالله عبد الله بن حمزة u في مؤلف خاص، وهي أيضاً مذكورة في كتب أئمتنا
الأصولية الكلامية فلا نطيل الكلام بذكرها والغرض إفادة
السائل. وبتمـام
هـذا الـجواب تـم جواب المسائل ختم الله لنا بالحسنى ووفقنا لما يـحبه
ويرضى وصلى الله على محمد المصطفى وعلى آله الأصفياء وحرر
بتاريخه/ 23/شعبان/1421هـ. عبد
الرحمن حسيـن شايـم غفر
F الحمد
لله على نعمه التي لا تحصى والصلاة والسلام على سيدنا محمد المصطفى وعلى آله
النجباء. وبعـد:
فإنَّها
وردت إلينا أسئلة من صنعاء اليمن سلك فيها موردها مسلك الإبداع، وطلب البحث فيها
على تشعب في أحكامها واتساع، وأراد من السِّكيت أن يلحق بالسابق، وأنَّى بالضليع أن
يدرك شأو الظالع، فتأملتها
وقلت:
إنَّ
رجال هذا الشأن قد ضمتهم الأجداث، وأحياؤهم قد أخرستهم الأحداث فلم يبقَ إلاَّ بضيض
ثمد لا يروي من غلة، ونزر علاج لا يشفي من علة، فعند ما وجه السائل أسئلته إليَّ
وحسَّن ظنه بي واعتمد عليَّ طفقت أرتائي بين الإقدام والإحجام علماً مِنِّي أنَّ
هذا الفَج لا يسلكه إلا خِريِّت ماهر، وأن هذا العباب لا يخوضه إلاَّ مَلاَّح شاطر،
فاستخرت الله تعالى فأجريت قلم التحرير، فإنْ جاء موافقاً فبِلُطْف اللطيف الخبير
وهداية السميع البصير، وإنْ أخطأت فلِقُصُور باعي وقِلَّة اطِّلاعي، ولأنِّي من
البشر أخطيء وأصيب، والله أسال وبجلاله أتوسل أن يعصمني عن الزيغ والزلل، وأن
يثبتني في القول والعمل، وصلى الله على سيدنا محمد وآله.
F وصلى
الله على سيدنا محمد وآله وسلم الحمد
لله الملهم للسداد والهادي إلى سبيل الرشاد، وصلاة وسلاماً على رسوله الأمين وعلى
آله الطاهرين. وبعد:
فإنَّه
وصل إليَّ سُؤالات عديدة من فنون مختلفة لم يبين السائل فيها اسمه، ولا وضع عليها
ختمه، وما كان يحسن إصدارها إليَّ لِعِلمي بقصوري، ثم ما كان يحسن إيراد تلك الكثرة
إذ الأدب يقتضي التخفيف، وإذا كان ولا بد فكان الأليق تقسيمها على فترات، ولما ورد
من النهي عن كتم العلم، وما في ذلك من الوعيد الشديد فقد أجبت عن بعض منها وأغضيت
عن بعض، أما للتكرار من السائل أو لوضوحه، أو لأمر مرجح بترك ذلك، ومن قدر عليه
رزقه فلينفق مما آتاه الله، وتَوَكُّلِي على الله، وهو حسبي ونعم الوكيل، وصلى الله
السؤال الأول: هل يصح عندكم تَتَبُّعُ الرُّخَص بين أصحاب
السفينة؟ الجواب:
من
المعلوم عِصْمة جماعة أهل البيت عليهم السلام، فما أجمعوا عليه فلا كلام في صحة
الأخذ به، وما اختلفوا فيه فلا يخلو المكلف أن يكون قد التزم تقليد أحدهم أم لا، إن
كان الأول فيلزمه اتباع مَنْ قلَّده في رُخصه وعزائمه، وإن كان الثاني فمن المعلوم
أنَّ أفرادهم غير معصومين، وتتبع الرخص مزلة ويؤدي إلى التهور، أما تقليد جملة أهل
البيت فقد قال به بعض أئمتنا عليهم السلام، لكنه لم يُجَوِّزْ تتبع الرخص، ويكون
مقلداً لكل واحد من أهل البيت حيث يتفقون مخيراً بين أقوالهم حيث
السؤال الثاني: القول
الشائع هل الأهل وطن، هل الحديث صحيح، وعليه فهل العبرة في القصر بالإستيطان أم
برفقة الأهل؟ الجواب:
مذهب
عثمان بن عفان أن الأهل وطن، ولما أتمَّ الصلاة في منى أنكر عليه الصحابة ذلك،
ومنهم أمير المؤمنين علي عليه السّلام، ويكفي رده لذلك، لأنَّ قوله حجة وفيه إبطال
الحديث إذ لو كان صحيحاً لما رده، أما الوطن فهو ما نوى استيطانه كما في الأزهار
وشروحه، وإذا بطل مذهب عثمان وبطل ما احتج به فلا عبرة بالأهل، بل العبرة بالوطن
السؤال الثالث: هل
الكلام في السُّوَر السبع المنجيات والسبع المهلكات قوي؟ الجواب:
أقول:
إنَّ
أسرار القرآن الكريم وفضائله كثيرة، وأنواره مُشرقة منيرة، وليس المسئول عنه مما
ينبني عليه حكم شرعي تكليفي، ويكفي في الفضائل أدنى قوة لإغماضهم في أحاديث الفضائل
السؤال الرابع: ما
يجب على مَنْ صبغ شعرَه؟ الجواب:
أنَّ
السائل لم يراجع الأسئلة ولم يصغها الصياغة اللائقة، فكان الأنسب أن يسأل عن جواز
صبغ الشعر إلاَّ إذا كان يرى أن صبغ الشعر محرم، فيتوجه على فاعله المعتقد لتحريمه
التوبة وعدم العود، وإن كان مراد السائل هل يجوز الصبغ أم لا؟ فيتوجه الجواب أن
الأظهر الجواز لفعل بعض الصحابة وعدم النكير من الآخرين، وقد فعله كثير من علمائنا
وأئمتنا رضوان الله عليهم أقربهم عهداً مولانا حجة المسلمين مجد الدين بن محمد
المؤيدي أسعده الله، وفي ذلك حصول الهيبة على أعداء الله لا سيما للإمام والمفتي
والمجاهد، ولا يحسن في حال حصول الغرر كالخاطب والله الهادي.
السؤال الخامس: ما
هو المشهور عن القُدماء من أهل البيت عليهم السلام في
الشيخين؟ الجواب:
أنَّ
المسألة كثيرة الكلام بعيدة المرام، فإنْ قصد السائل معرفة ذلك ليقلدهم، فالمسألة
لا يجوز التقليد فيها، لأنها لا يؤخذ فيها إلا بالدليل القاطع، وإن كان يريد معرفة
مقالاتهم لا ليقلدهم فعليه بموضوعاتهم فهي كثيرة شهيرة موجودة وبعضها قد
طُبِعَ.
السؤال السادس: هل تُؤْكَل ذبيحة كافر التأويل
العالم؟ الجواب:
أنَّ
المسألة تحتاج إلى تقرير وتوضيح الخلاف بين أهل الأصول في ذلك،
فأقول:
قال
جمهور أئمتنا عليهم السلام وأكثر شيعتهم وجمهور المعتزلة وغيرهم: مَنْ شبَّهَ الله
بخلقه أو نسب عصيان العباد إليه كالمجبر فهو كافرٌ لعدم معرفته بالله ولسبه
تعالى. وقال
المؤيد بالله uفي
أحد قوليه والإمام يحيى بن حمزة عليهم السلام وابن شبيب من المعتزلة والملاحمية من
المعتزلة: المجبرة عصاة، وليسوا بكفار، ثم اختلف المكفرون فقال بعض أئمتنا عليهم
السلام: حكم المجبر حكم المشرك في جميع أحكامه، وقال المهدي u وأبو علي والقاضي عبد الجبار وجعفر بن مبشر
وغيرهم: حكمه حكم المرتد، وقال بعض المعتزلة: بل له حكم الذمي، البلخي بل له حكم
الفاسق. هذا
واعلم:
أن
هذه المسألة فيها تفاصيل يطول ذِكْرُها في تعليل الأقاويل وإقامة الأدلة، من كل على
ما اختاره ورد تعليل الآخرين ورد أدلتهم، أما حكم ذبيحته فيؤخذ الحكم من الأقوال
هذه، وكل على أصله، وللأمير الحسين بن محمد عليهم السلام كلام في الشفاء بحث في
أوائل المجلد الأول أطال فيه الكلام وأوضح فيه المرام يرجع إليه من أراد والله
السؤال السابع: هل
تصح الصلاة خلف … إلـخ؟ الجواب:
مهما
سلم اعتقاده في الإلهيات وفي المسائل العلميات عن الخطأ الموجب للإكفار والتفسيق
تصريحاً أو باللازم، وسلم دينه عن الجرأة فلا مانع من الصلاة خلفه، أما مخالفته في
السؤال الثامن: هل
الصلاة خلف كافر التأويل صحيحة؟ الجواب:
قد قدمنا الخلاف في حكمه، وقد عرفت أن أخفَّ أحكامه الفسق فلا يُصَلى خلفه، وقد
نصَّ الإمام يحيى بن حمزة u أنه لا يصح الإئتمام بفاسق التأويل ذكره ابن مظفر
السؤال العاشر: هل تصح صلاة الجماعة بين مختلفي الفريضة
نحو صلاة الظهر خلف من يصلي العصر؟ الجواب:
لا
يصح ذلك لحديث: ((لا تختلفوا على إمامكم))، وهو المذهب.
السؤال الحادي عشر: هل تصح النافلة
جماعة؟ الجواب:
ما
شُرِعَ فيه الجماعة كصلاة الكسوف ونحوها فذلك جائز، وقد كره أهل المذهب الجماعة في
النوافل التي لم تشرع فيها الجماعة، قال في البيان: والجماعة فيها بدعة إلا متنفل
خلف مفترض وصلاة التراويح جماعة في رمضان بدعة، وقيَّده في الأزهار بنيتها، وقد
رخَّصَ الهادي uفي
الأحكام في صلاة النافلة، وقال: ولا بأس بأن يصلي الرجل بأهله وحرمه في منـزله صلاة
السؤال التاسع: هل الضم مبطل
للصلاة؟ الجواب:
الهادي
uومتابعوه
عدَّوه مبطلاً محتجين بحديث:
((اسكنوا
في الصلاة))،
وبحديث النهي المروي في كتاب المناهي وغير ذلك، وغيرهم
لم يعدَّوه
مبطلاً محتجين بأحاديث كثيرة، ولشيخنا الحجة مجد الدين حفظه الله مبحث قويم في
المنهج الأقوم يرجع إليه مَنْ أراد.
السؤال الثاني عشر: هل تصح النِّيَّةُ المشروطة في صلاة
الجماعة خلف من لا يؤمن على إمامته؟ الجواب:
النية المشروطة أهل المذهب يُصَحِّحُونها والمؤيد بالله لا يصححها، أما المسئول عنه
فإنَّ كان الإمام ذا جرأة وفسق ظاهر لم تصح الصلاة خلفه لا بنية مشروطة ولا بغيرها،
لأنَّ المؤتم عصى بعين ما به أطاع، وإن كان عدلاً ظاهراً فلا معنى للنية، وإن كان
مستوراً فالظاهر صحة إمامته، لأن الأصل العدالة، وهذا الإشتراط من التكلف والدين
السؤال الثالث عشر: هل يصح الإيداع في البنوك التي يتعامل فيها
بالربا؟ وهل الإيداع للمنفعة إعانة… إلخ؟ الجواب:
الظاهر عدم الجواز، لكونه إعانة وكونه غير قاصد مع علمه بأنه إعانة غير مخرج له عن
التحريم، ولا يشترط نية الإعانة على رأي الإمام القاسم بن محمد u في هذه المسألة كمن له سكين فضرب به غيره ليتعرف
حد سكينه غير قاصد لإيلامه، وهذا لا يناقض ما صرحت به في بعض مباحثي جواباً على
سائل بأن نية الإعانة معتبرة، ومثلتها هناك بمن أعطى غيره سيفاً قاطعاً ليجاهد به
الكفار فعمد إلى قتل مسلم أونفسه، فلا إثم على المعطي، وكما قال أهل المذهب في
مسألة بيع الزبيب لمن يصنعه خمراً، والفرق أنه في المسئول عنه قد تحقق وعلم أنها
تحصل المفسدة التي هي الإعانة على الربا، وللشارع تشديد في سد ذرائع الفساد والله
السؤال الرابع عشر: ما هي الأدلة على إباحة المظالم الملتبسة
لبعض المصارف؟ وما هي المظالم الملتبسة؟ الجواب:
حديث
شاة الأسارى، وهو معروف، ويعضده أحاديث كثيرة، وأما ما هي المظالم فهو كل مال أخذ
السؤال الخامس عشر:
وخذ الأدلة عن خبيرٍ عالمٍ
خذ من نفائس علم آلِ
محمدٍ
دعْ مَنْ يقول بعنصر وبعلة
والعلم عندي سابق لا سائق
أقضي
بأفعال العباد بأنَّها
وكذاك رؤيته محالٌ فاستمع
والإستوى التأويل فيه
واقع
وكذلك الأيدي مجاز يا
أخي
ومسائل الأرض التي قلتم بها
إذ لم نكلف علمها في سنة الــ
وتقحم
الأخطار أمر هائل
وخذ الجواب مفصلاً نثراً على
يغنيك عن وهم وعن تظنين
قولاً يزيل غثاء كل
مهين
من فلسفي ملحدٍ ملعون
بأدلة تغني عن التخمين
منهم وليس الجبر
يوماً ديني
منّي أدلتها على ترصين
بأدلة تأتيك بالتفنين
فخذ الحقيقة
من مجاز يقني
هي سهلة في بال كل فطين
مختار أو في المحكم
المكنون
والحق أبلج ليس بالمظنون
هذي المسائل صيغ بالتحسين
إذا ما قضى ربي بكفري بزعمكم
قضى بضلالي ثم
قال ارضَ بالقضاء
دعاني وسدَّ البابَ عنّي فهل إلى
إذا شاء ربي الكفر
منيَ شئته
فإن كنت بالمقضيّ يا قوم راضياً
فيا علماء الدين بالله
أوضحوا
ولم يرضه مني فما وجه حيلتي
فها أنا راضٍ بالذي فيه
شُقوتي
دخولي سبيل بيِّنوا لي قصَّتي
فهل أنا عاصٍ باتباع
المشيئةِ
فربيَ لا يرضى بسوءِ بليّتي
جوابي وأشفوا بالبراهين علتي
بصوتٍ فصيح مسمعٍ كل عاقلٍ
إذا ما قضى ربي بكفري
بزعمكم
سؤالُ امرءٍ ذي همة وشهامة
على غرة في القوم منه بزعمهٍ
أضاف
إلينا ما ندين بنفيه
وأطلق إطلاقاً أعمَّ بلفظه
وما ذاك إلا مذهبٌ
لعصابةٍ
أضافوا إلى الرحمن قبح فعالهم
وقالوا قضاه الله فينا
وشأه
وحسبهمُ عاراً مقالك ملزماً
إذا شاء ربي الكفر منيَ شئته
وإن
يتحاشى عن شناعة قولهم
على أننا لا ننكر القول بالقضاء
وهاك جواباً
قامعاً كل شبهةٍ
إذا ما قضى ربّ العباد عليهم
فلِم بعث الرسل الكرام
إليهم
وكيف جواب الله للخلق إن أتَتْ
تقول إله الناس أنت
وعدتنا
فإنك لا ترضى حكومة جائر
وجاءت براهين العقول شواهداً
ففيمَ
تعذبنا وأنت إلهنا
ألا أشفوا جميعاً لي هيامي وعلتي
ولمْ يرضَهُ
فما وجه حيلتي
وبعض ذكاءٍ وانتباهٍ وفطنةِ
وزلة جهلٍ لا تقاس
بزلةٍ
عن الله في سرِ وجهرٍ وخفية
أكابر أهل الدين من كل
فرقةِ
تعامت عن الحق المبين وضلتِ
وليس الذي ينفي القبيح
كمثبت
فجاءوا على الباري بأعظم فرية
لهم في خلال النظم أعظم
شنعة
فهل أنا عاصٍ باتباع المشيتِّي
طوائف أهل الكفر من كل ملة
من
الله علماً سابقاً في البرية
بأوضح برهان وأظهر حجة
بأفعالهم خلقاً
وإيجاب قدرة
وبوعد وإيعاد بنار وجنة
تجادلها عن نفسها كل أمة
مواعدَ
صدقٍ في كتاب وسنةِ
ولا تظلمَنَّ الخلق مثقال ذرّةِ
بأنك ذو جود وعدلٍ
وحكمةِ
قضيت علينا كل كفرٍ وفتنةِ
المسألة الرابعة
المسألة الثـامـنة:
المسألة التاسـعة: