الكتاب : العناية التامة في تحقيق مسألة الإمامة
المؤلف : الإمام عز الدين بن الحسن

العناية التامة في تحقيق مسألة الإمامة
الإمام عز الدين بن الحسن
أعد هذا الكتاب إلكترونيا
قطب الدين بن محمَّد الشَرْوَني الجعفري
للتواصل
viva_intifada@hotmail.com

(1/1)


مقدمة
جرت عادة الأصحاب بذكر الإمامة في كتب علم الكلام، وفي أصول الدين، وعُدَّت في بعض كتبهم أحد الأصول الخمسة. وليس لذلك وجه يظهر فإنها مسألة فروعية، وباب من أبواب الفقه بين علمي وعملي، وليس ينبغي أن يعد من فن الكلام إلا ما كان علماً بالله عز وجل ذاته وصفاته، وأفعاله وأحكام أفعاله، والذي ينبغي أن نعتذر به لهم في ذلك وجهان:
أحدهما: أنها مسألة قطعية، لا يؤخذ فيها إلا بالعلم اليقين، والأدلة والبراهين، فألحقت بالفن الذي هذا حاله وهذه صفته.
وثانيهما: إظهار الاهتمام بهذه المسألة وتعظيم شأنها، وإنزالها من القلوب بمنزلة رفيعة، إذ هذا الفن أجل الفنون. فكما أدخل فيه وألحق به انسحب عليه حكمه، والعذر الأول لا تعويل عليه ولا إلتفات إليه ويستنكر من أن يلحق بعلم الكلام كل مسألة قطعية، من الفروع وأصولها وغيرها.
وأما العذر الثاني: فعذر حسن، وأحسن منه أن الإمامة لما كانت خالفة النبوة وقائمة مقامها، وبدلاً منها حتى قضت الحكمة برفعها، وكانت النبوة من فن الكلام، وباب من أبواب كتاب العدل منه ذكرت في الفن الذي تذكر النبوة فيه، لكنه لما لم يكن لها تعلق بباب العدل ولا غيره من أبواب فن الكلام.
أُخزّت وذُكِرَت بعد فراغ ذلك الكلام على أبواب ذلك الفن وحُذِي يذكرها فيه حذو ذكرها في فن الفقه حيث تذكر في آخره. والله سبحانه وتعالى أعلم.

(1/2)


بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله رب العالمين، وصلى الله على سيدنا محمد وآله وسلم. الحمد لله الذي جعل الإمامة ذروة للدين، وسناماً وصلاحاً لآراء العالم ونظاماً، وناط بها قواعد من الشرائع وأحكاماً، وجعلها للنبوة الهادية للخلق إلى الحق ختاماً، ولشرعة سيد الأنام الفاصلة بين الحلال والحرام تكملة وتماماً، والصلاة المتبعة إكراماً وسلاماً، على أشرف البرية ومن كان للرسل إماماً.
وعلى عترته الذين ما زالوا لشرعته حفَّاظاً وقياماً، وعلى أصحابه الذين وفوا بنصرته وشمروا الساق في طاعته أزماناً وأعواماً، وفزعوا إلى نصب من يخلفه في أمته ويتحمل أعباء شرعته قبل مواراته في حفرته إجلالاً لأمر الرئاسة الدينية وإعظاما، (وبنوا لها) بمسيس الحاجة إليها واهتماماً.

(1/3)


وبعد فإنه لم يزل بعض أهل الولع بالتحقيق في العلوم الدينية ومن همه في سلوك منهج التدقيق يسألنا إملاء نبذة في مسألة الإمامة شافية، وبما أراد من تنقيح معانيها وافية، وكلما اعتذرنا عن ذلك بما نحن عليه من الشواغل المستغرقة للأذهان على مرِّ الزمان في كل مكان لم يزدد إلا مبالغة في طلب الإسعاد، والتماس الإسعاف إلى ذلك المراد، فلم نَرَ إلا الإجابة وعدم الابتعاد، وإن كانت الأوقات مشغولة، والقلوب من كثرة المشاق معلولة، وأيدي الأنظار المحررة مغلولة، فإعانة الله سبحانه وتعالى مأمولة، وإياه نسأل أن يثبتنا في الورد والصدر، وما نأتي وما نذر، وأن يوفقنا لإصابة الصواب، ويعصمنا عن الزيغ والارتياب، ونحن نأتي من أصول مسائل الإمام وفروعها، بما اقترح السائل ذكره والتمس تحقيقه وصدره، ورام منا إيضاحه ونشره، ما سُبِقنا إليه وما لم نُسبْق، وما حقق في غير إملائنا هذا وما لم يحقق، حسب ما يدخل في حيز الإمكان، والله تعالى المستعان. مع التزام الإنصاف والاغتراف من المورد الصاف، ورفع التعصب بالكلية، فليس لنا بمذهب وليس وراء الله للمرء مطلب.

(1/4)


القول في حقيقة الإمامة وبيان ماهيتها
أما لغة فقيل: ض (عبد الله الدواري): الإمام المتقدم على غيره، في أمر من الأمور على حد يقتدي به فيه، ومنه إمام الصلاة سواء كان مستحقاً لذلك أو غير مستحق، في هدى أو ضلال، وعلى الأول قوله تعالى{وَاجْعَلْنَا لِلْمُتَّقِينَ إِمَاماً }[الفرقان: 74] وعلى الثاني{وَجَعَلْنَاهُمْ أَئِمَّةً يَدْعُونَ إِلَى النَّارِ }[القصص: 41] وقيل: المقتدي به في خير أو شر، ويجمع ذلك قوله تعالى{يَوْمَ نَدْعُو كُلَّ أُنَاسٍ بِإِمَامِهِمْ }[الإسراء: 71].
والتحقيق أن الإمام لغة مأخوذ من أمهم، وأم بهم إذا تقدمهم، وأنه أيضاً الذي يقتدى به، ذكر المعنى الأول في (القاموس)، والآخر في (الصحاح)، ولا يزاد على هذا.
وحيث حصل المعنى أطلق اللفظ، فلا يحتاج إلى ذلك التفصيل، والإمامة صفة الإمام ووظيفته وهو كونه يقتدى به وكونه متقدماً.
وأما اصطلاحاً فقيل الإمام ي: (يحيى بن حمزة) رئاسة عامة لشخص من الأشخاص بحكم الشرع، وقيل ض(عبد الله بن حسن الدواري): رئاسته على كافة الأمة في الأمور الدينية والسياسية، على حد لا يكون لأحد عليه طاعة في ذلك ولا لأحد معه.
وقيل: (الإمام المهدي): رئاسة عامة لشخص واحد، يختص به أيضاً أحكام مخصوصة على وجه لا يكون فوق يده يد.
قلت: والمعنى متقارب، والاحترازات فيما ذكر لا يعزب على ذي الذوق السليم، وفسر بأمراء السرايا، وهذان المعنيان ثابتان في حق الإمام.

(1/5)


ويقال فيهم خلفاء الله في أرضه، وكلام جار الله شعر بجوازه، لأن المراد أن الله استخلفهم على الملك كمن استخلفه سلطانُ على بلد من بلاده وهو المراد بقوله تعالى في آدم -عليه السلام-: {إِنِّي جَاعِلٌ فِي الأَرْضِ خَلِيفَةً }[البقرة: 30] وفي داود -عليه السلام-{يَادَاوُودُ إِنَّا جَعَلْنَاكَ خَلِيفَةً فِي الأَرْضِ }[ص: 26]هـ والنووي حكى الخلاف في ذلك، بأن قال جوَّزه بعضهم بقوله تعالى: {هُوَ الَّذِي جَعَلَكُمْ خَلاَئِفَ الأَرْضِ }[الأنعام: 165]ومنعه الجمهور حكاه عن الماوردي وروي: أن رجلاً قال لأبي بكر: يا خليفة الله، فقال: أنا خليفة محمد -صلى الله عليه وآله وسلم- ه‍ وأن عمر بن عبد العزيز أنكر على من قال له ذلك ولا يكون هذا إلا في آدم - عليه السلام -.
وداود لما ذكر فيهما. وذكر الهادي إلى الحق – عليه السلام - في (الأحكام)، أنه من كانت فيه شروط الإمامة فهو خليفة الله تعالى في أرضه.
قال: وبلغنا، عن النبي -صلى الله عليه وآله وسلم-، أنه قال: ((من أمر بالمعروف ونهى عن المنكر من ذريتي فهو خليفة الله في أرضه، وخليفة كتابه، وخليفة رسوله)).

(1/6)


القول في الإمامة
مذهب جمهور علماء الإسلام أنها واجبة، وحكى عن الأصم وهشام الفوطي وبعض الحشوية، وبعض المرجئة، وبعض النجدات من الخوارج، أنها لا تجب رأساً، بل إن أمكن الناس نصب إمام عدل من غير إراقة دم، ولا إثارة حرب، فحسن ولا بأس به.
وإن لم يتهيأ ذلك وقام كل واحد بأمر منزله، ومن لديه من ذي قرابة وجار، فأقام فيهم الحدود، وأجرى عليهم الأحكام، وكفى ذلك ولم يكن بهم حاجة إلى الإمام.
وأما إقامته بالسيف والحرب فلا يجوز، وحكي عن هشام الفوطي: إنه لا يجوز نصب الإمام في حال ظهور الظلمة، لما يخشى من نفورهم وتعرضهم له، وما لا يؤمن من إثارة الفتنة.
وأما مع عدم ذلك فينصب وجوباً، لإظهار شعائر الشريعة، وحكي عن الأصم، عكس هذا.
وأما النجدات من الخوارج فالحكاية عنهم متحدة بما سبق ذكره، والقائلون بالوجوب، اختلفوا فالبصرية ذهبوا إلى أنها تجب بطريق الشرع لا العقل.
وقالت الإمامية، والبلخي، والجاحظ، وأبو الحسين البصري، بل تجب عقلاً وسمعاً، وعن الإمامية عقلاً فقط، ثم اختلف هؤلاء في طريق وجوبها عقلاً.
فقالت الإمامية لكونها لطفاً، فإن المكلف إذا عرف أن هنا إماماً نُصِب لزجر من عصى، وعقوبته كان أقرب إلى فعل الطاعة، وتجنب المعصية، ممن لم يعرف ذلك.

(1/7)


وقال النظام، والبلخي، وأبو الحسين البصري، طريق ذلك في أنه داخل في دفع الضرر المعلوم ووجوبه بالعقل لأن الناس مع كثرتهم، وتوفر دواعيهم إلى التعدي والظلم، لا يتكلف ذلك منهم إلا مع رئيس لهم له سلطان وأعوان، فيمتنعون لخوفهم إياه عن العدوان، ومعلوم أن في وجود السلطان وقوة شوكته، واستقامته، دفعاً لهذه المضار في الغالب ‍.
والمختار أن وجوبها لا يعلم إلا من جهة الشرع، وأنه لا مجال للعقل هنا، وأن اللطفية واندفاع الضرر غير معلومين ولا مظنونين.
وأنه كثير مما ينعكس ذلك، فيلون كثير من المكلفين، أبعد معها من الطاعة، وينفتح كثير من المضار الدنيوية، بسبب الإمامة.
قلت: ولم يزل يختلج في الخاطر إشكالُ ما ذكره الأصحاب من أمر الوجوب، وحقيقة ظاهر كلامهم إن الوجوب على الأمة، فهل الواجب تحصيل الإمام، ووجود الإمام في الخارج فهذا غير مقدور لهم، لأنه إذا فرض أن في الأمة واحداً أو اثنين، أو ثلاثة يصلحون للإمامة، ويجمعون شروطها.
فمن الجائز أن يمتنعوا عن التأهل لها، والقيام بتكاليفها، وليس في مقدور سائر الأمة فعلهم لذلك، بل إذا امتنعوا عن ذلك ولم يسعدوا إليه، لم يكن داخلاً في إمكان سائر الأمة، ولا متصوراً من جهتهم.
وإن كان المراد أن الواجب على الأمة(ص3) في ذلك والمبالغة، والإهتمام بأمره، سواء حصل أو لم يحصل، فالعبارة مشكلة، وكان الأليق على هذا أن يقال: يجب على الأمة إبلاغ الجهد، واستفراغ الوسع في نصب الإمام.

(1/8)


وليس هذه العبارة بموجودة قط في شيء من كتب علم الكلام، ولا في الفقه، وإن كان المراد: أنه يجب على من صلح للإمامة التأهل لها، إن كان واحداً ففرض عين.
وإن كانوا جماعة ففرض كفاية، ويجب على الأمة أن يعقدوا له، ويبايعوه وينصبوه، فهذا تفسير يقضى باختلاف معنى الوجوب في حق الأمة، فكان يليق أن يقال: يجب على من صلح للإمامة إن (يتأهل) لها، ويجب على سائر الأمة أن يعقدوها له ولو قبل هذا، إن لم تسعه، فإنما العقد من جماعة قليلة، وأشخاص معدودين من أهل العقد والحل، فكيف يجعل هذا واجباً على الأمة كلها.
وإن قيل: معناه إنه يجب على الأمة كافة، إجابته، وطاعته، ومتابعته، فهذا واجب آخر غير ما كُنا بصدده، فالأمر كما ترى في تحقيق معنى الوجوب، والتحقيق المرجوع إليه أن الوجوب في هذه المسألة مختلف في حق الأمة، والصالح لها يجب عليه القيام والانتصاب، بعد حصول من يعقدها له، إذا قلنا طريقها العقد، ومع ظنُّ الإجابة إن قلنا طريقها الدعوة، فهذا واجب على الصالح للإمامة، والواجب على المعتبر من خير الأمة، وأهل الحل والعقد منهم أن ينصبوه ويختاروه، وهو واجب كفاية، حيث كان الصالحون لذلك أكثر مما يحتاج إليه فيه.
والواجب على سائر الأمة أن يسلكوا طريقهم، ويتبعوا آثارهم، ويتابعوهم في ذلك، هذا حيث جعلنا طريقها العقد والاختيار.
وإن جعلنا طريقها الدعوة، فالواجب على الأمة إجابة الداعي الكامل، وطاعته،ومتابعته لا غير. والله عز وجل أعلم ه‍.

(1/9)


وقد قيل: المهدي في مذهب الإمامة مرجعه، إلى أن الواجب في هذا هو على الله سبحانه، وهو أن يجعل لنا إماماً ينصُّ عليه، ويُعْلِمنا بوجوب طاعته، كما أنه يجب أن يكلِّفنا بالشرعيات، التي هي لطف.
فإذا عرفت ذلك: فأحسن ما يحمل عليه القول بوجوب الإمامة، أنه يجب على المسلمين عموماً الإهتمام بأمرها، والنظر في تحصيلها، على سبيل الجملة.
وأما التفصيل فعلى حسبما ذكرناه آنفاً، والقصد أن يجري الناس على أسلوب ما كان عليه الصحابة -رضى الله عنهم- بعد موت النبي -صلى الله عليه وآله وسلم- من الاهتمام الكلي، والفزع إلى نصب الإمام وإيثاره على تجهيزه -صلى الله عليه وآله وسلم- مع كونه من أهم الأمور، ومباشرة ذلك ينهى من الأعيان، والكبراء، وأهل الحل والعقد، وسائر الناس فرضهم العمل بما أبرموه واعتمدوه.
فهذا هو المعنى والمراد، ولا مشاجة في العبارة. والله سبحانه وتعالى أعلم.
ثم إنَّا نعود إلى تتميم الكلام، فيما كنا بصدده. فنقول: قد حققنا المذاهب في وجوب الإمام.
فأما المنكرون لوجوبها، فاحتجوا بأن الإمام بمنزلة الوكيل للأمة، وللموكَّل أن يتولى بنفسه ما وُكِلَّ فيه من دون الوكيل.
وهذا احتجاج ركيك وليس الإمام بوكيل للأمة، ولا خليفة عنهم، وإنما هو خلفية لرسول الله -صلى الله عليه وآله وسلم-. وكمأمور لله تعالى، وأمين له، ومؤتمن على الدماء والأموال والأديان، وبإقامة الأدلة على وجوب الإمامة عليه يسقط هذا القول ويبين بطلانه.
وأما ذكر ما يحتج به القائلون، بأن وجوبها إنما يعرف بالعقل وحده، فبطلانه يتبين بإقامة الحجج الشرعية السمعية.

(1/10)


وأما ما يحتجُّ به القائلون بأن العقل طريق إلى وجوبها مع الشرع، فليس مما يهمنا ذكره إن صح ما زعموه فزيادته خير، وتقوية للوجوب، ومعين على المطلوب.
وإن لم يصحّ ففي الأدلة، الأدلة السمعية الشرعية، غنية وكفاية، وحججهم جميعاً في الكتب المتداولة معروفة فمن رغب إلى الوقوف عليها، فليطالعها.
وأما الحجج التي يذكرها أهل المذهب المختار، فهي ثلاث:
الحجة الأولى: إجماع الصحابة على ذلك، فإنه لما توفي النبي -صلى الله عليه وآله وسلم- فزعوا إلى نصب إمام من غير تراخ منهم، آثروه على تجهيز رسول الله -صلى الله عليه وآله وسلم- ولم يسمع من أحد منهم على شك ينازعهم في تعيين الإمام القول بأن هذا أمر لا حاجة بنا إليه، ولا تكليف علينا فيه، ولا ملجئ لنا إلى هذا التنازع بل لم يختلفوا في النصب وإن اختلفوا في المنصوب.
الحجة الثانية: إن الصحابة أجمعوا على أن أمر الحدود إلى الإمام، وأن التكليف بها على سبيل الإستمرار إلى أن ينقطع التكليف، والخطاب بها ورد مطلقاً غير مشروط بقيام إمام، وقامت الأدلة السنية، على أن الإمام شرط في ذلك، ووجوب تحصيل ما لا يتم الواجب إلا به، لأنه يجب كوجوبه.
الحجة الثالثة: إن المعلوم ضرورة من دينه -صلى الله عليه آله وسلم- أن الجهاد فرض واجب على الأمة، وأن وجوبه لم يسقط بموته -صلى الله عليه وآله وسلم-، وأن الإمام شرط في آدائه والقيام به، مع كون إقامة الإمام أمراً ممكناً للأمة.

(1/11)


ويثبت بذلك وجوبه، فهذه الأدلة الثلاثة غاية ما يستدل به في هذه المسألة، ويعتمد عليه ولم يشر إلا إلى أصولها، ولها بسط وتفصيل وسياق، لمقدماتها واحتجاج عليها يطول شرحه، ونشره، فلم نَرَ موجباً لاستيفائه هنا، إذ هي أمور معروفة متداولة، والقصد الاختصار، والله تعالى الموفق للصواب.

(1/12)


القول في كون هذه المسألة قطعية
هذا هو مذهب الأكثر على ما حكاه الإمام المهدي أحمد بن يحيىعليه سلام الله ورضوانه، قال -عليه السلام: وزعمت الأشعرية، وبعض المعتزلة، أنها اجتهادية بناء منهم على أن أدلتها ظنية.
قلت: ولا يبعد أن أكثرهم القائلون إنها اجتهادية، فإنه لا ينقل عن أحد من طوائف الفقهاء وأتباع أئمتهم، القول بقطعيتها، وكلامهم فيها وقواعدهم تقضي بأنها عندهم من المسائل الظنية الاجتهادية.
واعلم: أن هذا الخلاف يذكر في وجوب الإمامة، والظاهر أن القائلين بقطعيتها يقولون بذلك في وجوبها، وغيره من مسائلها كشروطها، وأحكامها وطريقتها، والنص على بعض الأئمة وغير ذلك.
ويعدون الإمامة وتفاريعها من المسائل القطعية العلمية، وما كان فيها من عملي فمترب على علمي، وإدخالهم لها في فن الكلام، يدل على ذلك فأنه لا شيء منه ظني.
وأن القائلين بظنيتها دون ذلك، في جميع مسائلها، إذ لا يصح أن يكون فروعها قطعيه، وأصولها ظنية ولا ذلك، وهو كالعلم بالصفة، مع العلم بالذات، فلا يصح أن يكون العلم بالذات استدلالياً، والعلم بالصفة ضرورياً، ولا أن يكون اعتقاد الذات غير علم واعتقاد الصفة علماً، وهذا أمر ظاهر. والله أعلم.
ونحن نقول وبالله التوفيق: هذه مسألة تحار فيها الأفهام، وتكثر فيها الأوهام، ومن حقق النظر فيها ازداد تحيره، وطال تفكره، فإن حكمنا على أدلتها بأنها ظنية، وأن المسألة اجتهادية، أدّى ذلك إلى طرف من التهاون بأمرها، وتحقير ما عظمه الله تعالى من قدرها.

(1/13)


مع كون هذه المسألة من قواعد الإسلام، وعليها يدار الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، الذي هو من أعظم أبواب الدين، وله بعثت الرسل عليهم السلام، وأنزلت الكتب، وعليها يترتب إذهاب النفوس، وإتلاف الأموال، وتجهيز الجنود وإنفاق أموال الله تعالى، وغير ذلك مما يطول ذكره ونشره.
وإن قلنا بأنها قطعية، وأنها من المسائل العلمية اليقينية، فقاعدة ذلك قيام البراهين الموصلة إلى العلم اليقين، المؤدية إليه، الموقفة عليه، وما سكنت النفوس إلى أن أدلة هذه المسائل من هذا القبيل الصريح، ولا وجدناها على ما يراد من التنقيح والتصحيح، ولا سليمة من ورود الإشكال، ولا خالصة عن التشكك بحال، والأدلة السمعية القطعية في القرآن الصريح، الذي هو نص، والسنة المتواترة تواتراً حقيقياً، مع صراحة دلالتها، وخلوها عن اللبس، وكونها من قبيل النص والإجماع المتواتر المعلوم، والقياس القطعي الذي (لا) شكَ فيه.
فأما الدليل من الكتاب والسنة، على وجوب الإمامة فمنتف ولم يرد في آيات القرآن، ولا الأحاديث النبوية المتواترة صريحة الدلالة في هذه المسألة شيئ.
وأما القياس فلا مدخل له هنا وأدلته المذكورة من قبيل الإجماع، ومرجعها كلها إليه، ومدارها عليه، وقطعية دلالة الإجماع، تنبني على أصليين لا بد أن يكونا قطعيين:
أحدهما: أدلة حجية الإجماع.
والثاني: تهيئ الطريق إلى حصوله.

(1/14)


فأما أدلة حجيته: فهي مذكورة مشهورة، وفي إفادتها للقطع إشكال، لأن الذي استدل به في ذلك من الكتاب من قبيل الظواهر، التي دلالتها ظنية، والذي استدل به من السنة، أخبار أحادية والذي تكلّفه ابن الحاجب وغيره.
واعتسفوا فيه من الاستدلال على الإجماع بالإجماع، أو ما يعود إليه، هو من قبيل ظن السراب ماءً.
ولقد أتى ابن الحاجب مع كماله، وجلالة حاله، في هذا المعنى بما لا يروج ولا يلتفت إليه، وسلك فيه مسلكاً بعيداً عن المنهج السّوي، ولم يزل منذ طالعنا كتابه ودارسناه، نستهجن ذلك ونتعجب من عدم تنبيه شارحي كتابه، على عدم صوابه، وكوننا لم نقف على اعتراضه في ذلك، ولا تعرض أحد من المحققين لمنافسته، مع تداول الأيدي لكتابه.
واحتفال أهل المذاهب على اختلافها حتى وفق الله سبحانه للوقوف على كلام لبعض المحققين المعتبرين من المتأخرين، يتضمن تزييف ما ذكره، وتضعيف ما زبره وسطره، في هذا المعنى حتى كأنا أخذنا كلامنا عنه، أو أخذ كلامه عنا، فتأمل ما ذكرناه تأمل إنصاف، وأحط بما أشرنا إليه من جميع الأطراف، وما زلنا في هذه المسألة نقدم رجلاً ونؤخر أخرى، ونمعن النظر فيما هو أولى وأحرى.
فإن نظرنا إلى الأدلة المذكورة، وتأملنا مقدَّماتها، وأردنا نظمها في سلك الأدلة القطعية، والبراهين اليقينية، وجدناها كما أشرنا إليه ونبهنا عليه.

(1/15)


وإن حكمنا على تلك الأدلة بأنها ظنية، ورجعنا إلى أن هذه المسائل اجتهادية، فكيف هذا وعلى أي وجه يتقرر، مع كون هذه المسألة كما قدمنا ذكره من معظمات المسائل الدينية، وقواعد الأحكام الشرعية، وعليها يبنى أمر الجهاد الأعظم، الذي هو سنام الإسلام، وأفضل أنواع البر.
ومعظم ما بعث له النبي الأمين عليه وعلى آله أفضل الصلاة، وأزكى التحيات، واشتغل خاتم النبيين -عليه السلام-، وإليها مرجع الأمر بالمعروف، والنهي عن المنكر، وتجديد أمر الشريعة النبوية المطهرَّة، وصيانتها من كل خصلة رِذْلِة، وإنصاف المظلوم من الظالم، والذب عن المناهي والمحارم.
ثم أنه خطر بالبال في هذا المعنى شيء مما يظهر به حال الإمامة ومحلها وعظم قدرها، وفخامة أمرها، وحاصله لذلك سبحانه جبل القلوب، وغرس فيها استعظام أمر الإمامة، وشدة الاحتفال بذلك.

(1/16)


وذكر فيها أن هذا بَشَرٌ له حال مزيد على حال أهل الرئاسة، والمملكة والسلطنة، وبعث الدواعي إلى الإتصال به، والإقتراب والتمسك منه، بسبب من الأسباب، فكم إمام راجح، زح الحال قليل المال، ذي لباس خشن، وطعام غليظ، ومنزل غير واسع، وقلة من الحفل والأعوان، ومكابدة المشاق والرقاق، وفي زمنه وبالقرب منه سلطان أو سلاطين، كلُّ منهم ذو أبهة رائعة، ومملكة واسعة، وأموال زكية، وقصور عالية، وجنود وافية،ولباس ورواء يروق الناظرين، وأطعمه شهية لذيذة للوافدين، وقناطير مقنطرة، من الذهب والفضة، وغير ذلك من زهرة الحياة الدنيا ومحاسنها الغض، التي صارت القلوب إليها مقبلة، وبها مولعة، ولمثلها متمنية، ثم ترى الناس إلى ذلك الإمام الذي ذكرنا صفته وحاله أميل، وله أحب، ولأمره أشد تعظيماً، وأبلغ تجليلاً وتكريماً، ويجد له من الموقع ما لا يكاد الوصف يحيط به دون من ذكر ممن هو ذو سلطنة، وحاله في الدنيا مستحسنة، ونجد كثيراً من الناس له علق بالإمام، وشغف به وغرام، وداره عنه نائية، فلا يعرفه، ولا يدري ما صفته، ولا ينال شيئاً من معروفه، ولا يسمع شيئاً من كلامه، ولا يطلع له على سبب مما يقتضى المحبة ويغرسها، سواء كونه إماماً وكون انتصابه للإمامة نما إلى سمعه ومثل هذا لا يتفق لأحد من الملوك، ولو أنه حيزت له الدنيا بحذافيرها، وانتشرت مملكته في جميع أقطارها، وترى أعادي الإمام، وإن اشتدت عداوتهم له، ونكايتهم إياه، أو نكايته لهم، لا يخلون عن استعظام قدره، ولا يجحدون ما عظمه الله تعالى من أمره، ولا يخلون عن شجن ومخافة من عداوته، وترقب لسوء مغبتها، وترى

(1/17)


منهم من يواصله سراً وظاهراً، ويرغب أن يكون له عبد، وتجد من ينتصب لعداوة الإمام ومعاندته، لا يخلو عن أهل أو ولد، أو ذي علقة بهم، يخالف ما هو عليه، وله محبة في جانب الإمام، وتعظيم له ومواصلة باطنه، واتصال إليه بسبب، ولم يحمله على ذلك كراهة من هو في جانبه، وترى أعوان الظلمة وأعيان جندهم، ووجوه أركان دولتهم، لا يقطعون أيديهم عن الإمام، ولا يخلون عن مواصلة كماله.
وأعجب من هذا ما يتفق من بعض الملوك أهل النخوة والتكبر والترفع من الخضوع للإمام، وإعظامه غاية الإعظام، والتذلل له ولرسله إليهم، ولمن له به أدنى علقة سبابه يستحيل منهم، أن يفعلوه لأعظم ملوك زمانهم، ويجد في قلوب الأخيار، والعلماء الأحبار، والزهاد الأبرار، من المحبة للإمام، والولع والإشتغال بأمره أمراً عظيماً، لم يقدهم إليه هوى ولا غرض، ولا داع من دواعي الدنيا، ولا غرض مع تنوير قلوبهم وتصفيتها عن أدران الذنوب، وترى كثيراً من أهل المذاهب المخالفين لأهل هذا المذهب الشريف، المتحاملين عليه والمزورين عنه، ينسون أو يتناسون ذلك في حق الإمام غالباً، وأعيانهم وعلمائهم يعظمون الإمام غاية التعظيم، ويكرمونه غاية التكريم.

(1/18)


ولو شرحنا ما وقفنا عليه في هذه الأنواع في حقنا، وعلمنا حقاً متيقناً، لطال شرح ذلك، فهذه الأمور التي نبَّهنا عليها وأشرنا إليه، وغيرها مما تركنا ذكره، تدلُّ دلالة واضحة على أنَّ الإمامة لها سرُّ عظيم، وشأن خطير، وأنها عند الله تعالى بمكان مكين، ومحل رفيع، وأنها ليست بمنزلة المسائل الاجتهادية الظنية، التي كل مجتهد فيها مصيب، والمقدم فيها والمحجم آخذ من الإصابة بنصيب.
ووجه آخر وهو: أن المتأمل لأمورها، وحال المترشح لها، الناهض بأعبائها، مطلع على أنه يحصل بالإمام من المصالح الدينية، والمطالب المرضية، وحراسة الدين الحنيف، والعلم العظيم الشريف، ونفع المسلمين، وقمع الظالمين، وجنود الدين، وإيغار صدور المعتدين، ما لا يكاد تخطر سعته وكثرته ببال، ومن تأمل حال الأمة ومساعيهم، وما تشتمل عليه الأوقات والساعات، من أعمالهم وأقوالهم، وخطابهم وكتابهم، وجد من ذلك ما يشفي الصدور، ويدلُّ على الحظ الموفور، وإن ذلك لو لم يكن لكان سبباً في الاختلال، وتناقض الأحوال، والمصالح التي يشتغل بها الإمام، ويعتني بها الاعتناء التام، ويقطع فيها الليالي والأيام، والشهور والأعوام، لو أخذنا في ذكرها ونشرها وتفصيلها وتحصيلها استوعبت كثيراً من الأوراق، ولطال فيها المشاق، وخرجنا عما نحن بصدده من الإيجاز، والتحفظ عن إرخاء القلم والإحتراز، ولا ينبئك مثل خبير.
وبالجملة فأئمة الهدى حقاً مما قيل (خلفاء الله في أرضه، وأمناه على خلقه، وحراس دينه، وحفظة شريعته، وملجأ بريته).

(1/19)


ولو أن إماماً تناهي به ضعف الشوكة، وقلة الجهد، وعدم انبساط اليد إلى أن يقف بأعلى جبل عال، لا يمد ولا يقبض، ولا يبرم ولا ينقض، مع كماله في نفسه، وجمعه لشرائط الإمامة وكونه لم يؤتَ في ذلك من سوء تدبير، ولا زهد في الخير ولا تقصير في السعي لكان للمسلمين فيه خير كثير، ونفع كبير، يرجعون إليه في المهمات، ويصدرون عنه في كثير من التصرفات، ويكونون الأمور المركبة على الإمامة أهل استقرار وثبات.
قال بعض الفضلاء من السادة، لإمام زمانه وقد كثرت حركاته واقتحامه لأخطار الأسفار ما معناه: ترجيح السكون، وعدم تعريض النفس للذهاب، أن يقال للمسلمين ولو (و) قع السكون والوقوف رأس جبل عال ليس بقليل، وهو أرجح من فوائد الإحتراك مع تجويز الهلاك.
ووجه آخر: وهو أنك تجد لأئمة الهدى من التنويرات والكرامات، وإجابة الدعوات، والحالات الدالة على عظم المكانة عند الله تعالى ما يهدي إلى شرف هذه المنزلة، وعلو هذه الدرجة، وأنَّ هذا ليس بموكول إلى نظر الناظر، واجتهاد المجتهد، ولا بحال يستوي فيه المحتفل والمهمل، والناهض والرافض، والمحب والباغض، والنافي والمثبت، والملتزم والمتلعب، وأن هذه المسألة ليست كمسألة المضمضة والاستنشاق، وغسل الرجلين ومسحهما، ونحو ذلك من المسائل الظنية والإجتهادية، التي درجتها بالنظر إلى غيرها غير عليه.

(1/20)


وغير بعيد أن يستهجن كثير ممن يقف على كلامنا هذا، جعلنا هذه الوجوه طريقاً إلى عظم شأن هذه المسألة ومخرطة لها عن حيز المسائل القليلة الخطر، ومنهجاً إلى إلحاقها بالمسائل الجليلة القدر، العظيمة الشأن، التي يصير بها من لم يصب جادة الصواب فيها ويسلكها من الآثمين بل من الظالمين وسبب الاستهجان كون هذه المشاق مما لم يسبق إليه.
ولا يطرق الأسماع وكأنه قريب الميلاد، والنفوس تنفر عما لا تألفه وتعتاده، وإلا فمن أنصف وجانب التكبر بما تعجرف، وتأمل ما هداه الدليل إليه من سواء السبيل وتعرف.
وجده كلاماً حسن المعاني، قوي المباني، وهذا شيء دعانا إليه ما تيقناه من عظم أمر الإمامة وحالها ومحلها، وارتفاع منزلتها ودرجتها، مع كون أدلتها ليست بذلك.
فقد ورد عليها أسئلة مشكلة من أراد الإطلاع على تحقيقها، والوقوف على غاية ما قيل فيها، فليطالع المراسلة الدائرة فيها، بننا وبين حي الفقيه الأفضل جمال الدين علي بن محمد البكري رحمه الله تعالى، فإنا وإياه أشبعنا فيها الفصل، وأتينا بما له على ما ذكره غيرنا في ذلك فضل.
وكذلك شرح مقدمة الكلام من كتاب (البحر) لمصنفه قدس الله تعالى وجهه وروحه، فإنه بسط في ذلك ووسع المسالك، فجزاه الله تعالى خيرا.

(1/21)


تنبيه: تعرف مما ذكرناه ونشرناه أن الإمام من مصالح الدين العظيمة، وخيراته العميمة، وهو أمر لا ينبغي أن يعدل عنه ولا أن يستراب فيه، وعليه نص الشيخ أبو علي، وقاضي القضاة، وعزا إلى الشيخ أبي هاشمالقول: بأنه من مصالح الدنيا، والأمور المتعلقة به كلها دنيوية فحكمه في ذلك كحكمها، وكان مثل هذا الشيخ جدير بأن لا يصدر عنه مثل هذا القول ولا يحوم حوله، والله سبحانه أعلم.

(1/22)


القول في طريق ثبوت الإمام وما تنعقد به إمامته
قيل ي(الإمام يحيى بن حمزة): والإجماع منعقد على أن الرجل لا يكون إماماً بمجرد صلاحيته للإمامة، وإنما يكون إماماً بأمر آخر غير ذلك.
وقيل (الإمام المهدي): حكى الحاكم عن بعض الزيدية أنه بإجتماع الخصال يصير إماماً، قال: الصحيح من مذهبهم أنه لا يصير إماماً إلا بإنضمام أمر زائد. انتهى.
قال المهدي: ولا أحفظ هذا المذهب لأحد من الزيدية، وإن صح فهو ظاهر السقوط لخرقه الإجماع السابق.
وقد اختلف في ذلك الأمر، فمذهب الجمهور من الزيدية إلى أن الإمامة تنعقد في غير من وقع النص عليه بالدعوة، وذهبت المعتزلة والأشعرية، والخوارج، والمرجية، وأصحاب الحديث، والأكثر من أهل القبلة، والصالحية من الزيدية، إلى أنها تنعقد بالعقد والاختيار.
قال الإمام المهدي -عليه السلام- وبه قال بعض الزيدية، كالمؤيد بالله، ومن تابعه.
وقال الإمام يحيى -عليه السلام-: حكى عن الإمام المؤيد بالله -عليه السلام- أنه قال: لا يمتنع أن يكون عقد الخمسة لمن اجتمعت فيه الخصال طريقاً إلى ثبوت الإمامة.
روى كثير من المتأخرين أن القول بثبوت الإمامة بالعقد لم يقل به م بالله -عليه السلام- وإن قال به في غيرها منهم القاضي عبد الله الدواري في تعاليقه. قال: وإنما لم يجز أن يكون العقد والاختيار طريقاً إلى إمامة علي، والحسنين عليهما السلام، لأن إمامة هؤلاء ثبتت بالنص.
قال: ويبعد أن يكون أحد من أصحابنا قام بالإمامة، ولم يعقد له.

(1/23)


قال الإمام يحيى بن حمزة: وظاهر كلامه هذا فيه دلالة على أنه يذهب إلى أن العقد طريق إلى ثبوت الإمامة، لمن عقد له، خلا أنه يمكن تصوير الخلاف بيننا، وبين من خالف، بأن يقال: فلو قام من هو صالح للإمامة، ودعى ولم تعقد له فهل تصح إمامته، أو لا؟ فعلى قولنا تصح، وعلى قولهم لا تصح.
قال: وما قاله أصحابنا من اعتبار الدعوة في طريق الإمامة قوي من جهة الشرع لإجماع العترة عليه وضعف دعوى الإجماع على كون الاختيار طريقاً للإمامة، وما ذكره م بالله -عليه السلام- قوي من جهة النظر فإن عليه عمل الصحابة فيما فعله عمر ورضوه وسكتوا عليه، قال: ولا يقال: إن المؤيد بالله مخالف للإجماع بمخالفة القولين المتقدمين فقائل يعتبر بانعقاد الإمامة الدعوة لا غير، وقائل يعتبر في انعقادها العقد والإختيار من غير زيادة.
فإذا قال المؤيد: لا يمتنع فيمن عقد له الخمسة، وكان جامعاً للخصال المعتبرة في الإمامة، أن يكون العقد طريقاً إلى إقامته، كان هذا القول قولاً ثالثاً مخالفاً الإجماع، لأنا نقول: هذا فاسد لأمرين:
أما أولاً: فلان إحداث القول الثالث لا يكون خرقاً للإجماع، كما قررنا في الكتب الأصولية.
وأما ثانياً: فلأن جمعه بين العقد والاختيار والدعوة، يكون قوة لا محالة، وزيادة وثاقه، في طريق الإمامة، فما كان هذا حاله، لا يمنع منه، فلا وجه للتشنيع على المؤيد بالله -عليه السلام- فيما ذهب إليه.

(1/24)


قلت: ويؤخذ من مفهوم كلام الإمام يحيى -عليه السلام-، في حكاية مذهب المؤيد بالله -عليه السلام-، أنه يعتبر العقد والدعوة معاً، وإن لم يلخص عبارته، ويلوح من عبارته وكلامه هذا إن ذلك رأيه -عليه السلام-، والله أعلم.
قيل ض(القاضي عبد الله الدواري): وروي عن زيد بن علي، والناصر، والمؤيد الله، كقول المعتزلة، قال: ولم تصح لنا عنهم هذه الرواية في الإمامة، إلا أن للمؤيد بالله في (الزيادات) كلاماً يحتمل ذلك في الإمامة، وهو متأول، فأما الولايات غير الإمامة، فهو مصرَّح فيها بمثل قول المعتزلة.
واعلم: أن المذاهب في طريق انعقاد الإمامة كثيرة متفاوتة، ولكن هذين المذهبين هما المعول عليه، والمرجوع للمحققين إليه، وقد ذهب أكثر المعتزلة، منهم: الشيخ أبو هاشم، أن من طرقها عهد الإمام الأول على من يقوم بها بعده، إذا قَبِلَ ذلك المعهود إليه.
قيل (المهدي): وهو قول أكثر الأمة، وخالفهم أبو علي في ذلك. وحكى عنه المهدي -عليه السلام- أن الإمامة تنعقد بذلك مع رضا أهل الحل والعقد، وقال سليمان بن جرير: إذا أراد الإمام أن ينص على غيره فله ذلك، لا على جهة الإلزام، بل من قبيل المشورة عليهم، والتعريف لهم بصلاحيته، بأن يختاروه إن شاءوا.
وفي المسألة مذاهب أخر، كقول من قال: تنعقد بالغلبة، وقول من قال: بالإرث، وقول من قال بالنصر، هذه المذاهب جديرة بترك ذكرها، وعدم سطرها.

(1/25)


حجة أصحابنا على اعتبار الدعوة، إجماع العترة، قيل (المهدي) وإجماعهم على ذلك واضح، في مصنفاتهم وسيرهم، لا يمكن إنكاره ولا دفعه، واحتجوا بأن المعلوم أنه لا بد من طريق إلى انعقادها، والأمة مفترقة في ذلك، فقائل بالدعوة، وقائل بالعقد والإختيار، وقائل: بالنص من النبي -صلى الله عليه وآله وسلم- أو من الإمام.
وقائل بالغلبة، فإذا أبطلت الأقوال الثلاثة غير الدعوة، تعين الحق في القول بها وإلا خرج الحق على أيدي الأمة، وأن تكون كلها مخطئة فيما الحق فيه مع واحد وذلك يتضمن إجماعهم على الخطاء، واحتج أيضاً بقوله: -صلى الله عليه وآله وسلم-: ((من سمع واعيتنا أهل البيت ، فلم يجبها كبه الله على منخريه في النار)). والواعية الدعاء، والمراد به دعاء الإمام.
واحتج أهل العقد والاختيار بالإجماع الواقع من الصحابة يوم السقفية، على الفزع إلى العقد والاختيار والاعتبار له، وحكمهم بصحة الإمامة من وقع في ذلك في حقه دون من لم يقع له، فاقتضى ذلك أن الإمامة لا تنعقد إلا به، واحتج القائلون بالنص من الإمام، بعمل الصحابة رضي الله عنهم.
فإن أبا بكر عهد إلى عمر، فأجمعوا على وجوب العمل بذلك، وسمعوا وأطاعوا، فكان ذلك إجماعاً على أنه طريق تنعقد به الإمامة كالعقد، وزاد من لم يعتبر رضا أهل العقد والحل أن الناس كرهوا عهد أبي بكر إلى عمر حتى قالوا: وليت علينا فظاً غليظاً، ولم تمنع كراهتهم من تمام ذلك، ولا انتقض بها ما أبرم منه، فهذه زبدة ما احتج به أهل المذاهب الثلاثة، وتوصلوا به إلى تصحيح ما ذهبوا إليه، وقد اعترض دليل الأصحاب:

(1/26)


أما الأول: فبأن قيل: وأي إجماع من العترة وفيهم إمامية يخالفون في ذلك ثم أن العترة كيف يعلم إجماعهم، مع انتشار أعدادهم في أقطار الأرض، وأي سبيل إلى العلم بهم، فكيف بإجماعهم ذكره ض عبد الله الدواري في تعليقه، ومثل هذا المعنى في إجماع العترة، ذكره السيد محمد بن إبراهيم في كتابه (العواصم)، وبسط القول فيه، وذكر من علماء العترة وأعيانهم خلقاً كثيراً في المغرب، لا يطلع على مذاهبهم ولا أقوالهم.
وأما الثاني: فبأن قيل إنما تثبت بذلك صحة ما يقولونه، لو كانت المذاهب المذكورة حاضرة، لا يمكن القول بغيرها، فحينئذ إذا بطلت إلا واحداً منها تعين الحق فيه، وأما حيث غيرها من الأقوال ممكن ولا حصر فيها، لما يمكن أن يذهب إليه الذاهب فلا، بل يجوز بطلان غير ما ذهبتم إليه، وبطلان مذهبكم وكون الحق في غير ذلك كله.
وأما الاحتجاج بالخبر: فهو أحادي، ولا دلالة فيه على أن الدعوة هي طريق ثبوت الإمامة، إنما يدل على وجوب طاعة الداعي.
وأجيب عما احتج به أهل العقد والإختيار بأن قيل: إن أردتم أنهم أجمعوا على ذلك معتقدين أنه الطريق إلى انعقادها، فدوال على ذلك فلا سبيل لكم إلى تصحيحه.
وإن أردتم أنهم أجمعوا على ذلك، معتقدين بأنه الطريق إلى انعقادها على مجرد فعله، فلا فرع لكم في ذلك،ونحن لا نسلم حسن الإختيار، حينئذٍ ولا عدم التناكر فيه، لأن الإمامة في ذلك الحال ثابتة النص.

(1/27)


وأجيب عن حجة القائلين بنص الإمام: بأنه لا دليل على أن الإمام الأول إليه ذلك، فإنه حكم شرعي، لا يثبت إلا بدليل شرعي، و(لا)إجماع المدعي غير صحيح، فإن علياً -عليه السلام- أنكره، ولم يرضه هو وأتباعه، فكيف ينعقد الإجماع من دونهم.
قلت: ولا يخفى على المتأمل أن جميع أدلة أهل المذاهب الثلاثة، المذكورة عن القطع بمراحل، وأنها إذا مُحِّصت وتأملت حق التأمل، لم تنته بنا إلى يقين، ولا أفادت القطع الخالي عن التجويز والتخمين.
وأولى ما يقال: إنه لا بد من الجمع بين الأمرين، العقد والإختيار، والدعاء إلى الله تعالى، والإنتصاب لهذا الأمر، وإشهار النفس له، وأن أحدهما لا يكفي في ثبوت الإمامة على سبيل القطع.
وأما العقد فإذا فرضت حصوله وأن جماعة من أهل الحل والعقد اختاروا واحداً صالحاً للإمامة، فعقدوها له، ونصبوه واختاروه، ثم أغلق باب داره على نفسه، وخمل ولم ينهض، ولا شهر سيفه، ويدع إلى ربه، فليس من الإمامة في شيئ، وأي نفع لذلك في أمر الإمامة، وتكاليفها العامة، وما أحسن ما أثر عن موسى بن جعفر حيث قال: "ليس منا أهل البيت إماماً مفترض الطاعة وهو جالس في بيته، والناس (…….ص9).
وعن الإمام الحسين بن علي الفخي، أنه قال: (من كان منا أهل البيت داعياً إلى كتاب الله تعالى، وإلى جهاد أئمة الجور، فهو من حسنات زيد بن علي، فتح والله لنا زيد بن علي الجنة، وقال: {ادْخُلُوهَا بِسَلاَمٍ آمِنِينَ }[الحجر: 46].
وعن الإمام الجليل زيد بن علي، أنه قال: (أيكون إماماً الجالس في بيته، المسبل عليه ستره).

(1/28)


وأما الدعوة فإذ فرضت حصولها، لا عن مواطأة لأحد من أهل الحل والعقد، ولا رضي واحد منهم، فغير بعيد ثبوت الإمامة واستقرارها، ولا تخلو الأمة عن التعلق به، والمشاركة فيه، والإحتجاج إليهم فيه.
فإن أجابوا وبايعوا ورضوا به، استقرت إمامته، وصحت دعوته، ولو لم يقع ذلك منهم فلا صحة لدعوته ولا استقرار لها.
ويؤكد ذلك ما جرت عادة الأمة والأئمة، من التشاور في هذا الأمر، والتواطؤ عليه، وسبق الدعوة بالعقد والاختيار لا نجد إماماً قام غالباً إلا على هذه الكيفية المرضية، ولا يستحسن الإمام أن يبين للأمة أمرهم هذا، ويشتغل بالنظر فيه.
ويجانب ما أمر الله به من المشاورة وندب إليه بها على سبيل العموم، ولا يفعل هذا من له تثبت في الأمور،ومثل هذا التكليف العسير، لا ينبغي أن يتسارع إليه إلا عن مشاورة ومفاوضة لأهل الحل والعقد، ومن له في صلاح الأمة والأمور المهمة جد وجهد. ولا يخلو الأمر عن أحد وجهين:
إما أن يغلب على ظنه رغبتهم في ذلك إليه، وأشد حاجتهم إياه، ففي ذلك تقوية لأمره، وشدّ لأزره.
ومن سوء التدبير أن يحجب ذلك عنهم والحال هذه، فأن غلب على ظنِّه أنَّهم له كارهون وعنه نافرون، وأنهم لذلك لا يُحبون وفيه لا يرغبون، فليس مثله من يقدم على أن يؤم الناس مع كراهتهم له ولا صلاح في ذلك، وإذا كانت إمامة الصلاة تحرم على من عرف كراهة المؤمنين إياه، مع سهولة المؤنة في ذلك، فبالأولى والأحرى أمر الإمامة الكبرى، والله سبحانه أعلم.

(1/29)


فائدة: إذا جعل الطريق إلى ثبوت إجابة الإمام العقد والإختيار، فلا إشكال أن ثبوت إمامته يكون عقيب العقد لا قبله ولا بعده، منفصلاً عنه.
وإذا جعل الطريق إلى ذلك الدعوة، قيل (المهدي): فلا يصح، أن يقال: إن ثبوت الإمامة يتأخر عن الدعوة، لأنه يؤدي إلى أن يدعو إلى من لم تثبت وجوب طاعته ولا تتقدم إذا لم يكن قد انعقدت قبل الدعوة، فيجب أن يقارن بها الدعوة لا تتقدم ولا تتأخر.
قُلْتُ: وفي هذا نظر، وكيف يُقَارَن المتطرق إليه والطريق ويوصل إليه في حال سلوكها للتوصل إليه، والصحيح أن دعوته طريق إلى ثبوت الإمامة، وأن ثبوتها عقيب حصول الدعوة، وأن ذلك لا يمنع من تقديم الدعوة، بل يقال: من كملت فيه شروط الإمامة، واستجمع خصالها، فله أن يدعو ويثبت حقه عند إتيانه بها ولا إشكال في ذلك، ويلحق بما ذكر بيان معنى الدعوة وبيان ماهيتها، وبيان صفة العقد والإختيار وكيفيته.
أما الدعوة، فقيل (المهدي): هي أن يظهر الرجل من نفسه الانتصاب لمقاتلة الظالمين، وإقامة الحدود والنظر في المصالح العامة ويدعو إلى ذلك، وقيل: التهيؤ للقيام بأمور الأمة والإمامة، والعزم على تحمل مشاق ذلك، والمباينة للكفرة والفسقة، مع كونه في موضع لا يكون لهم فيه سلطان عليه ولا يد، بحيث يمكن استحضاره إليهم، لا أن المراد أن يكون لا يأمن أن يوجهوا إليه العساكر، ويجوز أن ينالوا منه منالاً مع ذلك، فهذا لا يمنع صحة الدعوة.
قال: ولا يشترط في صحة الدعوة بألفاظ الدعاء، كأن يقول: أدعوكم إلى كذا فأجيبوني، وأطيعوا أمري، بل يكفي أن يظهر أنه قد عزم على القيام بأمر الإمامة.

(1/30)


قُلْتُ: المناسب لمعنى الدعوة أن يدعو الإمام إلى طاعته وإعانته ومظاهرته، مخبراً بتأهله لتكاليف الإمامة، وانتصابه لها، وما عدا ما ذكر فزوائد ترجع إلى شروط صحتها، وما لا بد لصاحبها منه، والله أعلم.
وأما العقد والاختيار فصفته: أن يقول العاقدون للإمام: نصبناك لنا إماما، أو رضيناك أو اخترناك، وعقدنا لك الإمامة، قيل (القاضي عبد الله الدواري): ويقبل ما وجهوا إليه من ذلك.
قُلْتُ: أما الإتيان بلفظ القبول فلا يشترط، وإنما القصد أن يقبل ثقتهم إياه، بقول أو فعل، أو شروع مما يفهم به عدم الرد، ولا يعتبر منهم زيادة على ما ذكر.
قال الحاكم: وصفقة اليد ليست شرط في العقد، وإنما الشرط أن ينطق كل منهم بنصبه إماماً، أو ينصبه واحد منهم، ويرضاه الباقون، وإن لم يصدر منهم كلام، واختلف في عدد الناصبين.
فالذي ذهب إليه أبو علي، وأبو هاشم، وقاضي القضاة، والجمهور من معتبري العقد والإختيار، أنه لا بد أن يكونوا خمسة اعتباراً بالعقد لأبي بكر.
فإن العاقدين له عمر، وأبو عبيدة، وعبد الرحمن بن عوف، وأسيد بن حضير، وبشير بن سعد. وفي فائق ابن الملاحمي الخمسة: عمر، وأبو عبيدة، وبشير بن سعد، وأسيد بن حضير، وسالم مولى أبي حذيفة.
وقيل: لا بد أن يكونوا ستة، كعدِّ أهل الشورى، الذين جعل عمر الأمر شورى بينهم، وهو ضعيف، لأن قصد عمر أن يعقد خمسة منهم للسادس إذ لا يتهيأ غير ذلك.
ولذلك أحتج به لاعتبار الخمسة، وقيل: أربعة عدد شهود الزنا.

(1/31)


وقال أبو القاسم البلخي في آخرين ثلاثة: أن عمر قال في أهل الشورى: فإن افترقوا في الرأي نصفين، فالثلاثة الذين فيهم عبد الرحمن بن عوف.
وقال سليمان بن جرير وآخرون معه: يكفي اثنان قياساً على الشهادة، وعن بعضهم: يكفي واحد، وعزا هذا إلى الشيخ أبي الحسين، وابن الملاحمي، ورووا أنه عن الشيخ أبي علي.
وفي (شرح مقدمة البحر)، عن الشيخ أبي القاسم: أنه يكفي بيعة واحد للإمام، وإن لم يرض غيره، فأما مع رضا أربعة عند تعيين الخمسة فذلك كاف اتفاقاً بينهم، وذكر أن أبا القاسم احتج بأن بشيراً بايع أبا بكر قبل استقرار رضا الجماعة، فرأوا أن أمره قد ثبت ببيعته فبايعوه، وأن العباس قال لعلي كرم الله وجهه في الجنة: أمدد يدك أبايعك قبل أن يراضيَ غيره في ذلك.
ولم ينكر عليه، وأن عبد الرحمن بايع عثمان، قبل مراضاة بقية أهل الشورى، وقد رد ما ذكره بأن أبا عبيدة، وبشيراً، بايعا أبا بكر بعد مراضاة بقية الخمسة، وأن ابن عوف ما بايع عثمان إلا بعد مراضاة بقية أهل الشورى.
وقد سبق أنه يكفي قول العاقدين: نصبناك أو رضيناك، وإن لم تقع بيعة ولا صفقة يد.
وقال الإمام المهدي -عليه السلام-: ظاهر أخبار السقيفة، تقضي بأن النصب لا يكون إلا بالبيعة، والبيعة إعطاء العهد على أقرب الأمور، واستظهر عليه بقول أبي بكر: بايعوا أحد هذين الرجلين، ولم يقل انصبوا.

(1/32)


وبقول العباس رضى الله عنه لعلي كرم الله وجهه في الجنة: امدد يدك أبايعك، وبالآيات المذكور فيها البيعة كقوله تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ يُبَايِعُونَكَ }[الفتح: 10] {إِذَا جَاءَكَ الْمُؤْمِنَاتُ يُبَايِعْنَكَ }[الممتحنة: 12] وبمبايعة الرسول -صلى الله عليه وآله وسلم- (بشماله) إصفاقاً بها على يمينه، عن عثمان في بيعة الرضوان فأخذ من ذلك أن العقد بالبيعة بصفق اليد على اليد، ووضعها فيها.
قال: وهذا يقتضي أنها لا تنعقد بمجرد قول العاقد: نصبتك، ونحوه.
قُلْتُ: وهذه مآخذ ليست بالقوية، والذي فعل يوم السقيفة إنما هي صورة فعل لم يدل دليل على اعتبارها، وتوقف عقد الإمامة عليها، وذكر المبايعة في قصة بيعة النساء وبيعة الحديبية للدلالة فيها على أن مثل ذلك يعتبر في انعقاد الإمامة.
تنبيه: حكى الإمام يحيى –عليه السلام- في كيفية البيعة، أنها إنما كانت مجرد لمس الكف، بعد المواطأة على ما تعاقد عليه المتبايعان، من دون لفظ يقع عند وضع اليد على اليد. انتهى.
والظاهر أنه لا بد في البيعة من النطق، وأنها من قبيل القسم والعهد، وبذلك جرت العادة، وليس لوضع اليد حكم يلزم، ولا يقع به انعقاد المبايعة، وتأكيد أمرها.
وإنما ينضم إلى العهد تصويراً للترابط والتلازم. والله سبحانه وتعالى أعلم.
تنبيه: لا يعتبر في العاقدين للإمامة وغيرها كونهم من أهل الاجتهاد، وإنما يعتبر منهم العدالة، وكونهم غير مخلين بما يلزم علمه من أصول الدين وغيره، وعلمهم بالأوصاف المعتبرة في المنصوب وصلاحيته لذلك.

(1/33)


قال القاضي: ذكر معنى ذلك في (المحيط)، ودليله أمر العاقدين لأبي بكر، وأهل الشورى فإنهم لم يكونوا كلهم أهل اجتهاد، وكانوا على الصفة التي ذكرنا.
تنبيه آخر: وهل يشترط إجماع العاقدين عند العقد والرضى به أولى.
قال بعض القائلين به: لا بد من إجماعهم، لأن العقد الذي احتج به، ووقع في زمن الصحابة-رضي الله عنهم-، كان كذلك، وذكر ذلك القاضي أبو مضر. وقال بعضهم: لا يشترط ذلك، ويصح مع كون كل واحد منهم عقد له وحده أو رضي به، ولو كان غائباً بأن يأتي بذلك كتابه أو رسوله.
تنبيه آخر: لو وكل عدد العقد المعتبرون غيرهم أن يعقدوا له، وينصبه أو واحد منهم، هل يصح ذلك ويكفي أو لا؟
قيل: لا بد أن يتولوا العقد، ولا يصح أن يوكلوا غيرهم، وقال محمود الملاحمي: صفة عقد الخمسة أن يوكلوا واحداً منهم ليعقد أو يرضوا بعقده، لا أن يعقدوا جميعاً.
وقال في (المحيط): المعتبر في ذلك رضا الناصبين، كان بعقدهم جميعاً أو عقد أحدهم ورَضِيَ الباقون، قال: ولا يحتاج في ذلك إلى إيجاب وقبول ولا اعتبار بالضرب باليد وضرب الكف على الكف.
تنبيه آخر: هل لمن عقدت له الإمامة أن يعزل نفسه، ويعتزل عما ولي فيه في وجه الناصبين أو في وجه عدد غيرهم، كعددهم ممن يصلح للعقد، كما أن هذا الحكم ثابت لكل منصوب في غير الإمامة؟
قيل (القاضي عبد الله الدواري): يحتمل ذلك، ويحتمل خلافه مهما كان واجداً للأعوان على تنفيذ الأحكام الإمامية أو شيء منها، وهو الظاهر من كلام أئمتنا عليهم السلام.

(1/34)


وأما الناصبون فهل لهم أن يعزلوا من نصبوه أو لا؟ أما في غير الإمام فقيل: تصح، وقيل: لا.
وأما الإمام فلا يصح ذلك فيه، لأنه بالنصب قد صارت له الولاية عليهم، والحكم فيهم بما راءه، لا أن الحكم لهم عليه، وهذا كله مع استقامة حال المنصوب.
قيل: فأما مع اختلاف حال المنصوب إماماً أو قاضياً، بحيث لو اطُلِعَ عليه قبل العقد لم يعقدوا له فلهم أن يعزلوه بل لا يبعد انعزاله من غير عزل. والله أعلم.

(1/35)


القول في شروط الإمام والصفة التي يجب أن يكون عليها
أعلم أن الإمام لا بد أن يكون متميزاً على سائر الناس لأنه بعد انعقاد الإمامة يكون أفضل الناس، وإنما النظر فيمن نص عليه أمير المؤمنين والحسنين عليهم السلام، هل يعتبر الشروط فيهم أولا.
ذكر القاضي عبد الله الدواري: إن إمامتهم لما ثبتت بالنص لا تحتاج إلى شروط، قال: فلو قدَّرنا أنه لم يكن فيهم كل الشروط أو بعضها لم يقدح ذلك في إمامتهم، وإن كان معلوم أنها فيهم أكمل.
قلت: هذا وهم لأنه ما ثبت اشتراطه في حق الإمام، وكانت الإمامة تتوقف عليه فلا بد منه ولا سبيل إلى بطلان اشتراطه في حق إمام، ونقول لا يجوز أن ينص إلا على من هو كامل.
فإذا وقع النصَّ، دلَّ على كمال الشرائط، فلا تفتقر إلى البحث عنها، إذ لا يجوز أن ينص الحكيم (على) من هي مختلة فيه.
وليس النص على الإمامة بأبلغ من إظهار المعجز على النبي -صلى الله عليه وآله وسلم-.
ومن المعلوم أنه لا يجوز أن يقع الوحي، ويظهر المعجز، إلا على من جمع الشرائط التي لا بد أن يكون الإمام عليها، فإن فرض أن النص وقع على من هو خال من بعض ما ذكر اشتراطه، دل على أنه غير شرط، وأن شروط الإمامة لا تتوقف عليه.
واعلم أن شرائط الإمام تنقسم إلى: خلقية، واكتسابية.

(1/36)


أ - شروط الإمام الخلقية
فأما الخلقية: فأن يكون ذكراً، حراً، بالغاً، عاقلاً، ذا منصب مخصوص فالأربعة الأول متفق عليها، ومجمع على اشتراطها، قال الإمام المهدي -عليه السلام-: لا يقدح في الإجماع على ذلك خلاف العباسية.
وقولهم: بأن طريقها الإرث، وأنه يستلزم استحقاق الطفل والمرأة لها، فإنه قول حادث لا إلتفات إليه، ولا تعويل عليه، ولأن المقصود بالإمام يتوقف على ذلك، لأنه (إن) لم يكن على هذه الأحوال، لم يتمكن من التصرفات المقصودة منه، ولا يكمل فيها، ولأن المرأة فرض عليها الاحتجاب، وعدم الخروج من الجلباب، وأن لا تسافر إلا بمحرم مرضي،ولا تتمكن من مباشرة الناس ومخالطتهم على الوجه السوي، وصوتها قد يحرم استماعه، ومناجاتها ومخالطتها قد يفضي إلى أمور محظورة.
ولقد بلغ أن امرأة كانت لها نهضة وفراسة وعلو همة، وكانت تقهر الأعادي، وتأسر الرجال، فأسرت مرة أسيراً وشدت وثاقه، وأحرزته في دارها، وكان يرقد معها في منزلها، فكان من بعد مدة أن ظهر حملها، وعلقت منه، فسئلت؟ فقالت: السبب قرب الوساد، وطول السواد، فهل مثل هذا الجنس يصلح للنظر في حال الأمة عموماً، وتجهيز الجهاد والغزوات، وتسهيل الحجاب، والنزول لأهل الحاجات، ونحو ذلك.
وأما الطفل والمملوك والمجنون، فليس إليهم تولي أمر نفوسهم فضلاً عن أمر غيرهم.
وأما المنصب فمذهب أكثر الأمة اعتباره، وذهبت الخوارج إلى صحة الإمامة في جميع الناس ما خلا المماليك، وروي مثل هذا عن النظام، ورواه الجاحظ، عن كثير من المعتزلة.

(1/37)


وقال به طائفة من الصحابة، منهم: سعد بن عبادة وغيره، من الأنصار، ولعمر بن الخطاب كلام يقضي بأن هذا رأيه، وهو قوله: لو كان سالم مولى حذيفة حيا ما خالجتني فيه الشكوك، وبه قال نشوان بن سعيد، وزعم أنه أعدل الأقوال، وبالغ ضرار وغلا.
فذهب إلى أن كون الإمام من الأعاجم أولى من أن يكون من غيرهم، لأن إزاحته عنها أيسر إذا دعت حاجة إلى ذلك.
والقائلون باعتباره اختلفوا، فقالت المعتزلة، والصالحية ن الزيدية، فيما رواه عن الصالحية ابن لملاحمي، والفقيه حميد وغيرهما. وهو قول طوائف أهل الجبر والأرجاء: يجب أن يكون قرشياً.
وقال الشيخ أبو علي وهو مذكور في (المحيط): إذا لم يكن في قريش من يصلح للإمامة صحت في غيرهم.
وقال جمهور الزيدية والإمامية: يجب أن يكون فاطمي الأب، أو الأم والأب، قيل (الإمام يحيى بن حمزة): عن قوم (من) زيدية خراسان: يجوز أن يكون الإمام عباسي الأب، فاطمي الأم.
قال: وهذا قول محدث، قد وقع الإجماع من أئمة العترة والزيدية على خلافه.
والذي استدل به على اعتبار المنصب على سبيل الجملة، إجماع الصحابة على اعتباره بعد منازعة الأنصار لقريش، وطلبهم أن يكون فيهم لما هم عليه من السالفة الحسنة، فلما احتج أبو بكر عليهم بالقرابة من رسول الله صلى الله عليه وآله قبلوا ذلك واستسلموا له وبايعوه وانقطع الخلاف، واستدل بثلاثة أحاديث عن رسول الله -صلى الله عليه وآله وسلم-:
الحديث الأول: قوله -صلى الله عليه وآله وسلم-: ((قدموا قريشاً ولا تقدموهم ، الأئمة من قريش)) فلو ثبت إمام من غيرهم لم يصح العموم.

(1/38)


الحديث الثاني: قوله -صلى الله عليه وآله وسلم-: ((الولاة من قريش ، ما أطاعوا الله واستقاموا لأمره)).
الحديث الثالث: قوله -صلى الله عليه وآله وسلم: ((قدموا قريشاً ولا تؤخروهم )) فلو أقيم إمام من غيرهم، لكان فيه ارتكاب ما نهى عنه من تأخيرهم، والإخلال بما أمر به من تقديمهم، واحتج غير المعتبرين له بأنه يعلم ضرورة (إمكان) قيام إمام (غير) قرشي، وجمعه للشرائط، وإمكان قيامه بما ينصب الإمام لأجله ولا دليل على اعتباره.
وأما الإجماع فغير مسلم فإن الأنصار لم تنقطع منازعتهم في ذلك، ولا أذعنوا فيه ولا اعترفوا بالخطأ، وبايع بعضهم سعد بن عباده، ولم يقتض بطلان أمره بعد أن بايعه كثير من الأنصار إلا حسد ابن عمه بشير له ومسارعته إلى بيعة أبي بكر، فكان أول من بايعه فاتبعته الأنصار، وازدحموا على بيعة أبي [بكر]ورفض المبايعون منهم سعد بيعته وكان سعد حينئذ مريضاً، فقيل: لا تطؤا سعداً ولا تقتلوا سعداً.
فقال عمر: اقتلوا سعداً قتله الله، فقام قيس بن سعد بن عباده، فلزم بلحية عمر وقال: لو نذرت منه شعرة لأخذت ما فيه عيناك.
وقال سعد لعمر: والله لولا المرض، لتسمعن لسعد زئيراً كزئير الأسد، يخرجك منها إلى أصحابك إلى حيث كنتم أذلة صاغرين، وما بايع سعد أبا بكر ولا عمر، وخرج إلى الشام مغاضباً لقومه حين خذلوه فمات فيه في خلافة عمر، وللأنصار أشعار تدل على عدم الرضا والتأسف لخذلان سعد، وتقضي بعدم انقطاع نزاعهم، قالوا:

(1/39)


وأما الأحاديث الثلاثة فهي أحادية غير متواترة ومعارضة بما يقضي بخلافها، كقوله -صلى الله عليه وآله وسلم-: ((أطيعوا السلطان ولو أمر عليكم عبد حبشي أجدع)).
وقول عمر في سالم وقد تقدم ذكره، قال المهدي -عليه السلام-: وهذه الاعتراضات فادحة بغير تردد سيما إذا لم يكن الخبر الأول متواتراً، قال: وإن حكمنا بتواتره فليس دلالته قطعية إذ لا تصريح فيه بتحريمها في غيرهم ويحتمل الأولوية.
قلت: وأما الخبران الأخران فدلالتهما أضعف، وهما دون الأول في الاشتهار، قيل (القاضي عبد الله الدواري): وقد ذكر بعض أئمة الحديث، أن الخبر الأول موضوع لا أصل له، وروى بعض من كان في السقيفة: إن هذا الخبر لم يذكره أبو بكر ولا احتج به، ولو كان صحيحاً ما قال عمر في سالم ما قال، واحتج أصحابنا بإلإجماعين:
أحدهما: إجماع العترة على ذلك وإجماعهم حجة.
والثاني: إجماع الأمة على أنها جائزة ولا إجماع في حق غيرهم، وهو حكم شرعي، لا يثبت إلا بدليل، ولا دليل على ثبوت أهلية الإمامة لكل الناس ولا لجملة قريش إذ لا قرآن في ذلك ولا سنة متواترة ولا صريحة المعنى بما تقرر ولا إجماع.
وأما الفاطميون فالإجماع (منعقد) في حقهم، فإن القائلين بأنها في جملة الناس أو في جملة قريش قائلون بذلك في حقهم. وهذا الاستدلال كما ترى.
أما أولاً: فلأن تحقق الإجماع في حق الأمة، وفي حق العترة مشكل، كما سبقت الإشارة إليه فلا إجماع.
وأما ثانياً: فلأن خلاف الإمامية كافة تستمر في ذلك ومنهم طائفة من العترة فلا إجماع.

(1/40)


ثالثاً: فلأن…… ذكر عن الأمة لا يعد إجماعاُ على هذا المذهب الشريف، لأن حاصله جوازها فيهم وعدم جوازها في غيرهم.
فلو صح الإجماع لم يكن إلا على الطرف الأول فقط، وقد لخصنا هذا المعنى في كتابنا (المعراج)، وأشرنا فيه إلى تقويم الإعوجاج، ولم نقف لأصحابنا في هذا المعنى على ما يشفي الأوام، ويذهب الأوهام، ويقطع اللجاج، ولقد عجبنا من كلام الإمام يحيى -عليه السلام- في هذه المسألة واحتجاجه بأنه لا خلاف بين أئمة العترة، والمعتزلة، والأشعرية على صلاحيتهم للإمامة.
قال: ولا يقال (أ)ليس الرسول -صلى الله عليه وآله وسلم- قال: ((الأئمة من قريش )) وفي ظاهر هذا الحديث دلالة على كون الإمامة جائزة في جميع بطون قريش، فلا يجوز العدول عنه، لأنا نقول: هذا فاسد، فإن في ظاهر الحديث ما يدفع هذه المقالة، فإنه قال الأئمة ومن هنا للتبعيض.
ولا شك أن الفاطمية بعض قريش، فلهذا قصرناها في حقهم، هذا جميع ما أورد -عليه السلام- في كتابه (الانتصار)، على سعة بسطه فيه، وما أجلَّ هذا الإمام عن تفصيل ما يرد على كلامه هذا (من) التضعيف والتزييف، ومن تأمل ذلك من أهل التمييز لم يعرف (ب) عنه، والله تعالى أعلم.

(1/41)


واحتج الإمام المهدي -عليه السلام- في (الغايات)، بطريقة عقلية تحريرها: إن الإمامة رئاسة عامة يكمل المقصود بها، لكمال انقياد الناس لصاحبها وينقص بنقصانه، ولا شك أن انقياد الناس للرئيس الذي من أشرف مناصبهم أقرب في العادة من انقيادهم لغير الأشرف، ولا نزاع في أن أولاد البطين أشرف مناصب العرب، وذلك يوجب على المكلفين اعتبار المنصب في الإمامة وتكلم على أصول هذه (المسألة)، الدلالة ومقدماتها، (وتسقط) في ذلك وادعا في بعضها (أنه) معلوم ضرورة، واحتج على البعض، قال: وهذه الطريقة حجة عقلية قطعية، ولم يسبقنا إليها غيرنا.
وأقول والله يحب الانصاف العجب مما أدعاه ولعمري أن هذه الدلالة جديرة بأن لا تفيد الظن فضلاً عن أن تفيد القطع ثم كيف يحتج بدليل عقلي على فرع من فروع مسألة شرعية غير عقلية لم يثبت أصلها إلا بالأدلة السمعية، وإذا كان الأصل غير عقلي فكيف يكون الفرع عقلياً. وإنما هذا من قبيل التعسف، وعنه مندوحة.
فائدتان: الفائدة الأولى إنما تصح نسب الداعي، ويصح به كونه فاطمياً وهو يثبت بالشهرة، واختلف في معناها، فقيل: تواتر المخبر بذلك حتى يحصل العلم الضروري، وقيل: أن يتكلم به أكثر أهل تلك المحلة، أو البلدة التي هو فيها ولو لم يحصل العلم به. وقيل: حيث يكون المخبرون بذلك خمسة فصاعدا، ومما يثبت به نسبه حكم حاكم معتبر، وهو أبلغ دليل على صحة النسب، وبأن يخبر عدلان أنه مشهور النسب في محله أو جهته، قيل: وبأن يخبر عدله أنه على فراش فاطمي وقيل: عدلتان، وقيل: (بياض في الأصل).

(1/42)


الفائدة الثانية: إذا تزَّوج فاطمي مملوكة فحصل (…..ص14) الجواز بأن يكون ولدها ذكراً ثم عتق هل تصح إمامته، وتثبت كفاءته لمن لم يمسَّه الرق أو لا، قيل: لا، وقيل: نعم.
وفصّل: فقيل: أما الكفاءة فلا، وأما صحة الإمامة فنعم، قيل (القاضي عبد الله الدواري): وهو الصحيح، ويلحق بهذه الفائدة ما إذا اشترك فاطمي وغيره في وطئ أمة مشتركة بينهما فجاءت بابن فادعياه، قال أبو مضر: لا تصح إمامته،وقيل: لأنه لكل واحد منهما ابن، وكل واحد منهما له أب، بل ويحرم عليه ما يحرم على بني هاشم، والله أعلم.

(1/43)


ب - الشروط الاكتسابية
وأما الشروط الإكتسابية فهي: العدالة، والورع، والسخى، والشجاعة، وحسن التدبير، والعلم، وألا يتقدمه داع مجاب، ونحن نتكلم فيها واحداً واحداً.
أما العدالة والورع: فهما في الحقيقة شرط واحد، فإن الورع يتضمن العدالة وينطوي عليها، وقد يعدَّان شرطان نظراً إلى أن العدالة يراد بها السلامة من الأمور المكفرة والمفسقة وما ينقض العدالة مما عدا ذلك، والورع يرجع إلى التحري في الحقوق والأموال والتصرفات، وقد عدهما الإمام يحيى بن حمزة -عليه السلام- شرطين، فجعل معنى العدالة: أن لا يكون الإمام كافراً صريح ولا تأويل، ولا فاسق تصريح يتلبس بالكبائر الفسقية وينهمك فيها، ويستعمل الفواحش، لأن المقصود المهم منه إزالة المعاصي الكبيرة، فمن فعلها فكيف يكون منصباً للإمامة وحاصلاً عليها، فكيف يقوم الظل والعود أعوج.
ولا فاسق تأويل كالخارجي والباغي ونحوهما، فمثل الإمام من يبعد عن هذه الأمور، وادَّعى الإجماع من جهة الصدر الأول من الصحابة والتابعين إلى يومنا هذا، على أن الإمام لا تجوز إمامته إلا أذا كان عدلاً مجنباً عن الخصال الكفرية والخصال الفسقية من جهة الخوارج ومن جهة التأويل على ما فصلناه، واحتج على ثبوت الإجماع بقيام الصدر الأول على عثمان لما نقموه منه، قال وإن لم يقطع بكونه فسقاً حتى أفضى الأمر إلى قتله.
وفيه دلالة على أنه لا بد من اعتبار العدالة، وحسن السيرة، فإن على الخليفة أن يقفوا أثر المستخلف، وهو الرسول -صلى الله عليه وآله وسلم-، ومن كان بعده من الأئمة السائرين بسيرته المقتفين لأثره.

(1/44)


قُلتُ: وقد حكى القاضي عبد الله الدواري عن بعضهم القول بصحة إمامة كافر التأويل وفاسقه، قال: وقال بصحة إمامة الفاسق أهل خراسان، ومن كان من البغدادية، قال: ويقرب أن الخلاف في فاسق التأويل يجري على صفة الخلاف في قبول شهادته.
قلت: وخلاف الحشوية في صحة إمامة الفاسق المتغلب على الأمر ظاهر، ولهذا قالوا: بإمامة يزيد الخمور متبع الفجور، الفاسق، المارق، شديد الجرأة على الله تعالى، الذي هتك ستور الإسلام بوقعة كربلاء، ووقعة الحرة، وغير ذلك.
وقيل: إنهم لا يخالفون في اعتبار العدالة عند عقد الإمامة، وإنما خلافهم في الفسق الحادث بعد انعقادها.
قال الإمام المهدي -عليه السلام-: وقد قال بمقالتهم بعض الفقهاء كالنووي، فإنه نص على ذلك في (المنهاج)، وصرَّح به في (الروضة).
قلت: وذلك ظاهر عنهم ولا يبعد أن يكون مذهباً لأهل مذهبه كافة، وقد يؤول بهم هذا المذهب الشنيع في ظاهره على أن القصد ثبوت أحكام الإمام له بثبوت وجوب طاعته في غير معصية الله تعالى، ونفوذ أحكامه المطابقة لشرع الله ونحو ذلك، لئلا يقع التنازع وانشقاق العصا وما يتفق من المفاسد لسبب ذلك، لا أنهم يقولون بأنه إمام في نفس الأمر ثابتة فيه أحكام الإمامة حقيقة.

(1/45)


قلت: ويؤخذ من مذهبهم أن الذي عليه أئمة الهدى من الخروج على الظلمة، ومنابذتهم خطأ، ولا يعتقدون إمامتهم، بل ليت أنهم سلموا ولم يتعاطوا ملامتهم، وما هو إلا مذهب شنيع ورأي فضيع، وتأوله بعيد وتيسبيره غير مفيد، فالله المستعان على زلات العلماء الأعلام الأعيان، ومن المعلوم أن الصحابة رضي الله عنهم لما خاضوا في أمر الإمامة وتنازعوا إلى عد الفضائل، وصدر منهم ما يقضي باعتبار الأفضل، وقال عمر لأبي بكر لما قال بايعوا أحد الرجلين يعني عمر وأبا عبيدة: أتقول هذا وأنت حاضر.
ولأن المقصود من الإمام إقامة الأمر بالمعروف، والنهي عن المنكر، وحراسة الإسلام، وصيانة الدين، فكيف يتهيأ مع جهل الإمام وفسقه، إنما كلامهم هذا رد للإمامة إلى حكم السلطنة، والله أعلم.
واعلم: أنه لا بد من اعتبار ما يعتبر في العدالة من غير ما ذكر، وذلك تنزيه نفسه عن بعض المباحات كإفراط الضحك، وكثرت المداعبة والمزاح،والبول في السكك والشوارع، واللعب بالحمام؛ لأنه لا ينبغي أن يشتغل إلا بأمور الدين والنظر في أحوال الناس وقضى حوائج المسلمين، ويجب أن يتنزه عن الصغائر المستخفة كما ورد في التطفيف بحبه وسرقة بصلة وإذا كان مثل هذا يعتبر في حق الشاهد فاعتباره في حق الإمام أولى وأحرى.

(1/46)


قال الإمام يحيى: لأنه إذا كان باحراز منصب الإمامة أفضل الخلق، فينبغي أن يكون أقوم الخلق في حق الله تعالى وأطوعهم له وأعظمهم منزلة عنده، ولا يتعاطى مثل تلك المباحات والصغائر المستخفة، مما تقل المهابة، وتسقط المرتبة، وتطرد التهمة في الدين، ومن كان يؤمن بالله واليوم الآخر فلا يقفن مواقف التهم.
قال الإمام يحيى بن حمزة -عليه السلام-: وأما الورع فهو ملاك الصفات وعليه التعويل في أكثر تصرفات الإمام فإنه مهما كان ورعاً عن الوقوع في المحرمات كانت أموره وتصرفاته جارية على قانون الشريعة المطهرة من غير مخالفة فيأخذ الأموال من حلها ومن حيث أمر الشرع بأخذها منه ويضعها في مواضعها.
قلت: والأصحاب يحتجون بقوله تعالى: { قَالَ لاَ يَنَالُ عَهْدِي الظَّالِمِينَ }[البقرة: 124] في جواب إبراهيم -عليه السلام-، ووجه الاحتجاج بها مذكور في (الكشاف) وغيره من كتب الكلام وفيه كفاية.
وأما السخاء فالمعتبر منه، أن يضع الأموال في وجوهها، ولا يبخل بها عن ذلك، ولا يستأخر بها بخلاً وضنة.
قال الإمام يحيى بن حمزة: ولا يقدح في ذلك أن يدخر شيئاً من الأموال لنائبة من النوائب، وحادثة من الحوادث، تنجم عليه من الظلمة والبغاة فينفقها فيها.

(1/47)


قال: ولا يشترط تجاوز الحد في الكرم. قيل: (المهدي) ولا أن يسخى ببذل ماله الخالص، ووجه اشتراط هذا الشرط أنه لو لم يكن سخياً بالغنى المذكور كان مخلاً بالواجب وهذا ينافي الورع، ولهذا قيل: بأن هذا الشرط يدخل في اشتراط الورع، ولأن من المقصود من نصب الإمام أخذ الحقوق من أهلها ووضعها في مواضعها، فمخالفة ذلك خلاف المقصود.
وأما الشجاعة فمعناها أن يكون مجتمع القلب عند الحرب وملاوثة العدو، وبحيث لا يكون فرقاً جباناً، طائش الفؤاد، منزعج الصدر، على حال لأجله يمتنع منه الثبات في القتال، ويقتضي عدم اتساع الصدر لعظم القلق والإشفاق.

(1/48)


هكذا فسر الإمام يحيى -عليه السلام- هذا الشرط، وهو تفسير حسن، وهو بمعنى ما ذكره غيره، ونص عليه الناصر للحق -عليه السلام- وكثير من المتكلمين، وأما ما روي عن الهادي إلى الحق -عليه السلام-: إن معنى الشجاعة، أن يحمل على الألوف، ويخلط الصفوف بالصفوف، لا يهاب الجمع والإقدام، عليه قلوا أو كثروا، فلعله -عليه السلام- أراد التعريف بأبلغ أنواع الشجاعة وغاية الأمر فيها، ويبعد أن يجعل مثل هذا شرط ولو حكم باشتراطه لقدح ذلك في إمامة كثير من الأئمة المعتبرين، وقل ما يكون الإنسان على هذه الحالة، ووجه اشتراط الشجاعة إن لو لم يكن الإمام كذلك لم يؤمن أن ينهزم حال ملاقات العدو لجبنه ودهشه، وفي ذلك وهن في الدين وتقوية لأمر المعاندين، وقد قال تعالى: {وَمَنْ يُوَلِّهِمْ يَوْمَئِذٍ دُبُرَهُ }[الأنفال: 16] الآية، فكيف يكون حال الإمام إذ آل إلى هذا المآل، ولأن الجبن يصد عن أمر الحرب وتدبيره على وجه يقع به نكاية العدو، وعن إقامة الحدود، وتنفيذ الأحكام على كبراء الناس وعظمائهم، وهذا يخالف الغرض بالإمامة.
وأما التدبير وحسن السياسة، قيل (المهدي)لا: وحقيقة التدبير معرفة الطرق، التي يتوصل بها إلى الأنواص على وجه لا ينكره من عرف وجه سلوكها توصل، لو بها أقرب ما يتوصل به ذلك الطالب إلى ذلك المطلوب بحسب حاله وسواء وصل إليه أو لا؟

(1/49)


قلت: والقصد أن يكون له رأي قويم، وتدبير سديد، فإن تعد الرأي الصائب يجلب أنواع المصائب، ولابد أن يكون معروفاً بحسن السياسة التي معها يتمكن معها من تمهيد الرئاسة وتدبير أمر الحرب والسلم، وإقامة قانون الحرب مهما كان أرجح وأصلح، ويكون مع صواب السلم إليها أجنح، كما فعل -صلى الله عليه وآله وسلم- في إقامة الحرب، وشن الغارات، على من خالفه، وكما سالم يوم الحديبية، في إقامة الحرب عشر سنين، لما رأى في الصلح للمسلمين حيث كان الضعف حاصلاً فيهم، فانكشف في ذلك الصلح الخير والبركة، فهكذا يكون حال الإمام، والمشترط أن يكون أكثر رأيه الإصابة في الحرب والسلم والسياسة.
قيل (القاضي عبد الله الدواري): ويدل على أن الإجماع ينعقد من الأئمة على اشتراط ذلك، ولأن كونه على غير هذه الصفة ينقض الغرض بإمامته، ولا يتمكن حينئذٍ من ضبط الجنود، وتقويم أود العساكر، ولا يهتدي إلى ما فيه صلاحهم، وتنتظم به أمورهم، وتكون به نكاية العدو أو جلبة إلى الطاعة.
وأما الاجتهاد وبلوغه في العلم إلى درجته فقد اختلف فيه، والمشهور عن أكثر الأمة أنه لا بد من أن يكون عالماً مجتهداً، والمعتبر ما يحرز به نصاب الاجتهاد، ولو احتاج في بعض الأحوال إلى أن يراجع غيره في بعض المسائل ويستمد منه إذ لا يقدح ذلك في اجتهاد المجتهد، والخلاف فيه من وجوه:
أحدها: ما ذهب إليه الإمامية، من اعتبار أن يبلغ في العلم والاجتهاد إلى حد لا يحتاج معه إلى غيره من العلماء في شيء من المسائل، بل شرطوا أن لا يأخذوا شيئاً من العلوم إلا عنه وربما اشترطوا أن يكن أعلم الناس.

(1/50)


وثانيها: ما ذهب إليه الغزالي، وصرح به الإمام يحيى بن حمزة، في (الانتصار)، وحكاه في (الغايات) عن المؤيد بالله -عليه السلام-، أنه إذا أعوز المجتهد فلم يؤجد صحت إمامة المقلد لئلا تعطل الأحكام المتعلقة بالإمام.
وثالثها: ما ذكره في بعض تعاليق الشروح، من أنه روي عن المنصور بالله عبد الله بن حمزة -عليه السلام-، فإنه روى رواية غير مشهورة، وأن الفقيه حميد بن أحمد رواه عن بعضهم رواية مبهمة، وهو أنه إذا كان للإمام تمييز وترجيح للأقاويل وعرفان لوجه القول، وإن لم يبلغ في العلم درجة الإجتهاد، كالحال التي عليها أكثر أهل البصائر فهو المقصود والمعتبر.
فأما المقلد الصرف الذي لا عرفان له بوجه القول ولا هداية إلى ترجيح قول على قول، ويقرب أن إمامته لا تصح.
حكاه القاضي عبد الله الدوَّاري، قال: وهو القوي لأن كثيراً من الأئمة الماضين من الصحابة، وأهل البيت دعوا إلى الإمامة مع قصور علمهم ولم ينقم عليهم ذلك.
قال: وإنما الذي يشترط بلوغه فيه درجة الاجتهاد والاستقلال بحيث يرجع إليه هو التدبير.

(1/51)


قلت: وقد وقفت للقاضي المذكور في كتاب (الشريدة)، وكتاب (تعليق الأصول)، في النسختين المستنسختين من المسودتين، على التصريح باشتراط الاجتهاد فلما استرجح هو ومن حضره، نصب المنصور بعد موت والده الإمام الناصر لدين الله -عليه السلام-، وكان القاضي في هذا الرأي هو العلم المشهور المرجوع إليه فيه خدش بيده ما ذكره في كتابيه المذكورين من التصريح باشتراط الاجتهاد، ورقم في الهامش بخطه إجازة إمامة المقلد فلم يحترز عن النقادة في ذلك، فنعوذ بالله من اتباع الهوى ومحبة الدينا.

(1/52)


وهذا القاضي على كماله، ومحاسن خلاله، وسعة علمه، ووفور حلمه، كانت منه هذه الهفوة، التي خالف فيها قواعد أهل مذهبه، من أئمة العترة وعلماء شيعتهم، فقد كانت عادتهم ألا يقدموا على نصب الإمام إلا عن مشورة واتحاد رأي وإن جرت معارضة ممن يتعاطى العلم من أهل المعرفة، كما كان في مدة الإمام يحيى بن حمزة، والإمام علي بن محمد من المعارضات وقبلهما، فلما جرت هذه القضية فتحت باب التنازع والتساهل، ونشأت بها مفاسد، وانهدمت قواعد، ولو كان هذا مذهباً للقاضي المذكور من ابتدأ أمره وقوله واحتوت عليه مصنفاته السابقة لهذه القضية الخارقة لكان الأمر أهون، وإن كان يقتضي ما ذكره الأصحاب أن ذلك خرق للإجماع، على أن المنصور المذكور لم يكن يوم نصبه على ما ذكره من إحراز نصاب الترجيح، وقد أشار إلى ذلك الإمام المهدي أحمد بن يحيى المرتضى -عليه السلام- في (الغايات)، فإنه حكى قول المؤيد بالله، والإمام يحيى بن حمزة، والغزالي. قال ما لفظه: ولقد تطرق أهل محبة الدنيا بهذه المقالة إلى أن سهلوا طريق الإمامة، حتى ولوها من لم يعرف فروض صلاته وصيامه، ولا عرف من أصول دينه أصلاً، ولا يدرك من سياسة الأمور فصلاً، بل اتخذوه أميراً وهو في التحقيق مأمور.

(1/53)


قلت: ليس في مذهب الإمامين المؤيدين والغزالي ما يسوغ لهم مثل هذا، وأما ما ذكره في سياسة الأمور وأنه غير أمير بل هو مأمور (فلعله) عرف ذلك من حاله يوم نصبه، والذي يظهر لنا والله يحب الإنصاف أن فراستهم فيه صدقت في هذا المعنى، وأنه بلغ في أحكام السياسة وأحكام الرئاسة والاستقلال في الأمور وحسن المباشرة مبلغاً عظيماً لا يطمح وراءه، وقد كان له من العنايات الجليلة، والمقامات الجميلة، في حرب سلاطين اليمن ونكاية الإسماعيلة، وإخلائهم عن المعاقل العظيمة وغيرهم من الظلمة ما لم يكن لأحد غيره، وكان له من محاسن الصفات ومحامد السمات ما لا خفى به.
فليت إنه نجى من قضية معبر، وما كان في يومها ألأَغْبَر ولنعد إلى أصل الكلام، ونقتصر على هذا القدر فيما عنَّ من طغيان الأقلام.
فنقول: أما مذهب الإمامية، فهو من جملة مذاهبهم التي غلوا فيها، وبالغوا مبالغة لا تروج ألفاظها ولا معانيها، وأي دليل على اشتراط أن يكون أعلم الناس؟ وأي طريق يستطرق إلى العلم بذلك من غير التباس؟ وأي حاجة للإمام أو فيه يقتضي ما ذكروه ويستدعيه؟
وقد كان النبي -صلى الله عليه وآله وسلم- وهو أعلى درجة من الإمام وأملى بما ذكروه يرجع إلى غيره في بعض الأنظار والصلح، أراد يعقده في أمر المدينة على بعض ثمارها، وكموضع النزول في حرب بدر، وكان أبو بكر وعمر أيضاً يرجعان إلى غيرهما من الصحابة ولم يعد ذلك قدحاً فيهما.

(1/54)


وأما مذهب الجمهور فاستدلوا عليه بالإجماع، قال الإمام يحيى بن حمزة: الإجماع ينعقد على وجوب كون الإمام مجتهد في علوم الشريعة، ليكون متمكناً من الفتاوى فيما تعرض من الحوادث والوقائع التي ترد عليه، فيعمل فيها برأيه ويفتي بما صح عنده. انتهى.
وقال بعضهم: الأحكام المنوطة بالإمام، فيها استباحة الفروج والدماء والأموال والفيئ والغنائم، وفيها من لطيف الأحكام وغامض المسائل ما لا يدرك إلا بالاجتهاد، ولا يزال يتجدد على مر الأوقات، حادثة بعد حادثة، فلو كان غير مجتهد، ولا يشتغل في العلم بها بنفسه وقع في حيرة ولبس ولم يدرِ ما يأتي ويذر، وإذا فرض مقلد فرجوعه إلى من قلده قد يتعذر في بعض الأحوال، فإن أقدم حينئذٍ أو أحجم بغير بصيرة ففيه إثم كبير وفساد كثير، وإن ترك تلك الأحكام متعطلة من حكم الله تعالى انتقض الغرض المقصود منه، واحتج في (الغايات) بالإجماع، وذكر أن علماء الزيدية والمعتزلة وجل المجبرة نقلوا في مصنفاتهم وصرحوا بأنه وقع (الاتفاق) على اعتبار الاجتهاد، وعدم صحة الإمامة مع غيره كالبلوغ والعقل، وذكر ما نص عليه السيد صاحب (شرح الأصول)، من كونه لا خلاف فيه وإنما حكى الخلاف في اشتراط الاجتهاد القاضي واستبعده أيضاً وتأوله.

(1/55)


قال -عليه السلام-: ما وقفنا على باب الإمام في أي المصنفات الأصولية والفروعية على تباين أراضي مصنفيها وأراءهم إلا وحكوا الإجماع منعقد على ذلك من دون اختلاف، حتى لو ادعي أن التواتر حاصل بخبرهم لكثرة عددهم لم يبعد، لأن كل واحد منهم -في الأغلب- لم ينقل الإجماع عن الكتاب الذي نقل عنه المصنف الآخر.قال ض عبد الله الدواري: في دعوى الإجماع نظر.
قلت: لا شك أنه يتطرق النظر إلى دعوى الإجماع في هذا الموضع وغيره، لكن يقال له: إن كنت ممن يلمح إلى هذا المعنى وهو أن اعتقاد الإجماع لا يتهيأ في أصله أوفي نقله، مالك تحتج به في غير هذه المسألة، وإن كان التنظير يختص بالإجماع في هذه المسألة، فلعمري أنه أظهر منه في غيرها وأقوى، واحتج -عليه السلام- بشيئ من الآيات والأخبار والآثار،كقوله تعالى:{أَفَمَنْ يَهْدِي إِلَى الْحَقِّ أَحَقُّ أَنْ يُتَّبَعَ أَمَّنْ لاَ يَهِدِّي إِلاَّ أَنْ يُهْدَى}[يونس: 35] وقوله تعالى: {إِنَّ اللَّهَ اصْطَفَاهُ عَلَيْكُمْ وَزَادَهُ بَسْطَةً فِي الْعِلْمِ وَالْجِسْمِ}[البقرة: 247] قول النبي-صلى الله عليه وآله وسلم: ((من استعمل على قوم عاملاً وفي تلك العصابة أرضى لله تعالى منه وأعلم بكتاب الله وسنة نبيه -صلى الله عليه وآله وسلم- فقد خان الله ورسوله)).
وقول علي بن أبي طالب -كرم الله وجهه في الجنة-، في أمر السقيفة: (والله يا معشر المهاجرين لنحن أهل البيت أحق بهذا الأمر منكم، ما كان فينا القارئ لكتاب الله تعالى، الفقيه في الدين، العالم بالسنة).

(1/56)


وقرر المهدي -عليه السلام- هذا الاستدلال ما أمكنه، وبسط فيه القول حينما استحسنه، فأما لو فرض أن المسألة ظنية اجتهادية فلا بأس بمثل هذا التكليف والتشبث بالمآخذ البعيدة، فمثل هذا في مسائل الظن غير قليل.
وأما مع ما هو بانٍ عليه هو وغيره من كون المسألة قطعية، فترك التعلقات بهذه المتعلقات هو اللائق ممن كان ذلك مذهبه، فإنها مما ينبغي أن يكون عنده مآخذ بعيدة إذ الأمر المذكور لا مدخل له هنا ولا أثر، والخبر المذكور أحادي ودلالته غير صريحة ومرجع التمسك به في القياس الذي ليس بمعلوم، والآيتان الكريمتان الأولى منهما غير صريحة ولا واردة في هذا المعنى ولا لمح فيها إليه.
والأخرى وإن كانت أقرب منها إلى ما نحن بصدده، فهي عن إفادة العلم بلزوم اشتراط الاجتهاد في الإمام بل عن إفادة الظن بمراحل، وليس فيها أن نبي بني إسرائيل أخبر بلزوم اشتراط ذلك في الملك الذي بعثه لهم بل اعتذر به في اختياره لطالوت، فمدلول ذلك أنه أمر مرجح ولو لزم منه اشتراطه للزم اشتراط البسطة في الجسم ولا قائل به.
ثم عاد المهدي -عليه السلام- إلى طريقة عقلية، وقال: يصلح ذلك بعد معرفة المقصود بقيام الإمام وهو إقامة الحق أو الدلالة عليه، ورد الشارد منه إليه، ونحن نعلم ضرورة أن القائم لا يمكنه ذلك إلا إذا كان عارفاً بالحق، ولا يمكنه المعرفة إلا بالاجتهاد في العلوم الدينية.
قال: وهذا واضح كما ترى. قلت: بل هو غامض لا يرى، وغير لائق من مثله -عليه السلام- أن يستدل بالعقل في المسائل الشرعية الفرعية، كما قدمنا في اشتراط المنصب.

(1/57)


وأما مذهب الإمامين المؤيدين بالله تعالى، والغزالي، فاحتج عليه الإمام يحيى بن حمزة، بأن الضرورة تجَّوز ذلك، وإلا أدَّى إلى خلو الزمان عن الأئمة وفي ذلك ضرر وفساد كبير، لأنه يؤدي إلى تعفية أثار الديانة، وإمحاء رسوم الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وطي بساط الجهاد وتعفية أعماله وبطلان أحكامه، إلى غير ذلك من الفساد.
قلت: وهو مذهب قوي حسن، لكن يزاد فيه أنه إذا تعذر الاجتهاد لم يكف أن يكون مقلداً صرفاً، بل لا بد أن يكون مميزاً تميزاً حسناً، عارفاً بالله تعالى وصفاته، وما يجوز عليه، وما لا يجوز، له مشاركة في العلوم المحتاجة، مرتقي إلى درجة الترجيح، وهذا المذهب لا يعد مصادماً للإجماع، بل قد صرح الإمام المهدي -عليه السلام- بان الإجماع إنما انعقد على اشتراط الاجتهاد عند إمكانه، وأن الخلاف ثابت عند تعذر الاجتهاد.
قال: ونحن نرفع القاعدة هذه، ونقول: إنه لا يتعذر مع بقاء التكليف، وهم يقولون: يجوز تعذره مع بقاء التكليف.
قال: ونحن لا نخالف مع فرض تعذر الاجتهاد، مع بقاء التكليف بنصب الإمام في أن إمامة المقلد حينئذٍ جائزة وإلا كنا مكلفين بما لا يطاق، ومع تجويز ذلك يرجع الخلاف (إلى) الوفاق من غير شك ولا خلاف بيننا وبينهم إلا في تجويز خلو الزمان عن المجتهد.
قلت: ينبغي أن يقال في تجويز خلو الزمان من مجتهد صالح للإمامة، وأما وجود مجتهد لا يصلح لها ففرض وجوده من مسألتنا هذه كفرض عدمه.

(1/58)


تنبيه: قد عرفت أنه يؤخذ من كلام الإمام المهدي -عليه السلام-، أن المسألة اتفاقية مع تقدير خلو الزمان عن مجتهد صالح للإمامة، ويؤخذ من هذا أنه لو خلا الزمان عن فاطمي مثلاً أو عن شجاع صالح للإمامة أن الإمامة لا تتوقف على ذلك لتعذره وحصول الضرورة إليها.
ويتفرع على هذا لو أن الزمان خلا عن كامل الشروط، ولم يوجد إلا من فيه نقص، ولكن الناقصين متعددون، وبعضهم مختلف، فأحدهم ناقص عن شرط المنصب، وآخر ناقص عن الاجتهاد، وآخر ناقص عن التدبير، وآخر ناقص عن الشجاعة، ألجأت الضرورة إلى قيام ناقص ما الأرجح اعتقاده من تلك النواقص هل يعدل إلى المجتهد أن أمر العلم أهم أو إلى ذي المنصب أو إلى ذي التدبير بنظر في ذلك.
وتحقيق الكلام في هذا المعنى، الذي لم نقف لأحد ممن سبقنا على كلام فيه، أن المعتبر الترجيح والنظر فيما هو من ذلك النقصان، أقل إخلالاً بمقصود الإمامة وتكاليفها العامة، فمن كان نقصانه أكثر خللاً أطرح وعدل إلى غيره، وإن قُدِّر أن الشرطين المفروض خلوا أحد الملحوظين بالإمامة، عن أحدهما وخلوا الآخر عن الآخر مستويان في الحكم، وبكل واحد فيهما رجحان من جهة دون أخرى، بحيث أنه لا تفاوت يثبت التحيز ممن سبق بالدعوة، إن جعلناها الطريق أو بالاختيار على القول به، كان حكم الإمامة ثابتاً لمن دون الآخر، ويمكن من التفريع على هذه القاعدة ما هو أشنع مما ذكر، ولكنه أمرٌ ربما لا تدعو الحاجة إليه، ولا يخلوا جهابذة النظر على البينة عليه، ولنقتصر على هذا القدر في هذا المعنى، والله تعالى أعلم.

(1/59)


تنبيه آخر: ذكر اشتراط الاجتهاد في الإمام مستدعي تحقيق معنى الاجتهاد وقدر نصابه وتعداد علومه، ومن عادات المصنفين ذكر ذلك إلى استيفائه، ونحن استرجحنا طي هذا المعنى، لأنه أمر موجود غير مفقود، وكتب علم الكلام، وفن الأصول، وبعض كتب الفقه مشتملة عليه، فلا نشتغل بذلك في إملائنا هذا إيثاراً إلى للإختصار واكتفاء بما في المتداول من الأسفار والله تعالى ولي التوفيق والهادي إلى أيمن طريق.
تنبيه آخر: الذي قد ذكرناه من شروط الإمام وشرحناه، هي الشروط المعتبرة المحتاج إليها في الإمام المحتاج إلى ذكرها واقتصر بعض المحققين، وقد يذكر غيرها من الشروط والصفات المعتبرة حسبما يشير إليه.
فمنها: أن يكون سليم الحواس والأطراف فلا يكون أعمى، ولا أصم ولا أبكم، ولا أكسح، ولا أقطع، ويتصل بهذا أن يكون سليماً من الخصال المنفرة، فلا يكون أبرص ولا أجذم، ولا ممن يعتريه الجنون في بعض الأحوال ولا غير ذلك من المنفرات.
أما النوع الأول: فلإخلاله بما يقصد من الإمام وينصب أجله وهو ظاهر.
وأما النوع الثاني: فلما فيه من التنفير المخل بما يراد فإنه لا قوام لأمر الإمام وما يقصد من القيام إلا أن يكون الإمام ممن يرغب إلى مثله، ولا ينفر عنه، ولا يستكره القرب منه ولا الاتصال به، وقد ثبت اشتراط مثل ذلك في حق النبي مع تأييده بالمعجزات ونزول الوحي عليه، ففي حق الإمام أولى.

(1/60)


ومنها: الفضل فكثير من العلماء يعده من الشروط، ويسرده في سياق الإتيان بها، ومن هؤلاء من لا يفسره وترك تفسيره خلل إذا المقصود به غير مكشوف، ولا واضح وضوح غيره من الشروط، ومنهم من يفسره تفسيراً يقضي بأنه لا حاجة إلى ذكره، ولا موجب لعده لرجوع معناه إلى معنى بعض الشروط المذكورة المشهورة، وقد أخل الإمام المهدي أحمد بن يحيى -عليه السلام-، في مقدمة البحر وشرحها، بعدم تفسيره حيث قال: ويجب كونه أفضل الأمة، أو كالأفضل منهم، وحكى الخلاف وأقام الدليل، ولم يأتي من تفسيره بكثير ولا قليل.
وأما القاضي عبد الله بن حسن الدواري ففسره وما قصر، فقال: اختلف في معنى الفضل في الإمام، فقال قوم المرجع به إلى اختصاص الشخص بالأمور التي لأجلها يحتاج إلى الإمام منهم الإمام المنصور بالله، والفقيه حميد، وقال فعلى هذا ينبغي أن لا يعد الفضل شرطاً زائداً والا فضل على هذا هو الأكمل في ثبوت الشرائط له.
ومنهم من قال الفضل العفة والصلاح في الدين، والأفضل الأكمل في ذلك قال: وهذا المعنى يرجع إلى الورع فلا يعد شرطاً زائداً عليه.قال: والأصح أن يقال: إن المراد بالفضل أن يكون(له) من المحافظة على الطاعات، والتجنب للمكروهات، ما يعتاده كثير من الصالحين، ويكون بينه وبين القبح حاجز، وبينه وبين الإخلال بالواجبات ليحترز في ذلك عن الإقدام والترك. قال وهذه سنة لكثير من الصالحين، وفي الحديث النبوي ((لكل ملك حمى وإن حمى الله تعالى محارمه، وإنه من دار حول الحمى يوشك أن يقع فيه)).

(1/61)


قال: ويعبر عن الفضل باستحقاق الثواب والأفضل الأبلغ في ذلك وليس بمراد هنا إذ لا طريق إليه إلا الوحي. والله أعلم.
قلت: والذي يلوح لي ويقوى عند التأمل، أن المقصود بالفضل الزيادة في خصال الخير، وإحراز الفضائل، وأن الأفضل من كان أدخل في تحصيل الشروط، وهي فيه أوفر وأظهر، ففي العلم بأن يكون أعلم من غيره محرزاً من العلم فوق ما يشترط في الاجتهاد، وفي الورع أن يكون شديداً في المبالغة فيه، بحيث يكون يترك بينه وبين المحرمات أشياء ليست بمحرمة بعداً منها وآخذاً في التحرز عنها.
وفي الشجاعة أن يكون له من الإقدام وحسن التلاقي في الحروب، ما يزيد على ذلك القدر المعتبر.
وفي السخاء كذلك، وفي التدبير كذلك، بحيث يكون له من الألمعية والفراسة وحسن السياسة فوق ما سبق اشتراطه واعتباره.ه‍.
وفي سلامة الحواس والأطراف، وصحتها وحدتها، وقوتها وبسطة الجسم ما يزيد على ما لا بد منه، وكالتدبير في البلاغة والبيان، والنظم والنثر، والخطابة والكتابة، وحلاوة اللسان، ومكارم الأخلاق، كالبشر، وترك الكبر، وشدة التواضع، وإنصاف الأتقياء، وشدة الشكيمة على الأشقياء ونحو ذلك.
هذا هو معنى الفضل والأفضل، فهذا المعنى من هو أدخل فيما ذكر وأكثر أخذاً منه وتخلقاً به.
فإذا عرفت ذلك فلا ينبغي أن يعد الفضل شرطاً مستقلاً، إذ المشترط والمعتبر من الشروط تحصيل معنى الاجتهاد، والورع، والشجاعة، والسخاء، ونحو ذلك.
ولا يشترط زيادة على القدر المعتبر، وإنما ينبغي على هذا أن يكون محط الفائدة، ومحل النزاع أنه هل يشترط أن يكون أفضل أولا؟

(1/62)


معنى أنه إذا كان الصالح للإمامة أكثر من واحد، لكن البعض أحرز نصاب الشروط المعتبرة من غير زيادة ولا نقص، وغيره زاد عليه فيها كلها أو في بعضها أن للكل منهم له زيادة على القدر المعتبر، ولكن حالهم في الزيادة مختلف، فمنهم من هو أدخل فيها وهي فيه أكثر، ومنهم من هو دونه في ذلك، فهل يصح أن ينصب المفضول بهذا المعنى مع وجود الأفضل، أو لا يليق أن يكون هذا محل الخلاف، فالذي عليه الزيدية وبعض المعتزلة، كعباد أن إمامة المفضول لا تصح.
ذكره القاضي عبد الله بن حسن الدواري قال: وممن نص على ذلك الهادي إلى الحق، والناصر -عليهما السلام-، ويفسق المفضول إذا سبق الأفضل بالدعاء إلى الإمامة.
وقال بعضهم: إمامة المفضول تصح بكل حال، وهو مذهب البغدادية، وبه قالت الزيدية الصالحية، ويروى عن غير من ذكرناه كسليمان بن جرير، وذهب أبو علي، وأبو هاشم، إلى جواز إمامة المفضول لعذر لا لغير عذر، كما في شأن علي بن أبي طالب -كرم الله وجهه في واسع جناته-، فإن العدول إلى غيره لعذر وهو الوحشة التي كانت في القلوب من أجله، لما كان منه -عليه السلام ورحمة لله وبركاته- من قتل كثير من الصناديد الداخل أقاربهم في الإسلام، ولحسده -عليه السلام- على ما يختص به من صفات الكمال.
هذا معنى ما حكاه وذكره القاضي عبد الله بن حسن الدواري، وقال الإمام المهدي أحمد بن يحيى -رضوان الله عليه-، القول باشتراط الأفضل أو المساوي له إلا لعذر كأن يكون أعمى هو قول المعتزلة،والأشعرية، وأكثر الزيدية.
ونسب الخلاف فيه إلى الحشوية، فإنهم يجيزون إمامة المفضول وغير عذر.ه‍.

(1/63)


واحتج من لا يجيز إمامة المفضول بتحري الصحابة –رضى الله عنهم- للأفضل، وفزعهم إلى عد الفضائل، وقول عمر بن الخطاب لأبي بكر حين قال: بايعوا أحد الرجلين، يعني عمر وأبا عبيدة: أتقول هذا وأنت حاضر، ولأن الإمام قدوة في الدين لجميع المسلمين فمن حق القدوة أن يكون أكمل ممن يقتدي به فيما هو قدوة فيه، إذ لا يحسن أن يقتدي الأكمل بمن هو دونه، وجوب الاقتداء أنها تلزمهم طاعته، ويلتزمون اجتهاده إذا وقع منه إلزام.
قال الإمام المهدي -عليه السلام-: وكافيك أن الإمام قائم مقام الرسول -صلى الله عليه وآله وسلم- في موارده ومصادره، ومن حق من يخلف رجلاً في أعماله أن يكون أقرب الناس شبهاً به في تأدية تلك الأعمال، وإلا عاد الغرض في استخلافه مكانه ليقوم مقامه بالنقص والإبطال، وكلما كَمُلَ فضل رجلٍ قَرُبَ شبهه بالرسول -صلى الله عليه وآله وسلم- ويبعد عن الشبه بنقصان الفضل، وقد بالغت الإمامية، وكذلك الجارودية من الزيدية فزعموا أن إمامة المفضول لا تصح.
ولو لعذر مانع عن قيام الأفضل وهو غير صحيح فإن المفضول إذا كان أصلح وأرجح في قيامه بالمصالح المقصودة من الإمامة، فهو أولى رعاية للأصلح، يوضح ذلك أن الأفضل لو كان أعمى لم يصلح أن يقام لهذا الأمر، وكذا لو اختل فيه شرط كالشجاعة والتدبير وعلى ما قاعدتهم يستد حينئذٍ باب الإمامة إذ الأفضل غير صالح ووجوده مانع عن قيام المفضول الصالح.

(1/64)


قلت: وهذا الاحتجاج، وممن ذكره الإمام المهدي لدين الله -عليه السلام- لا يتهيأ على ما رجحناه من تفسير الأفضل، بأنه جامع الشروط مع زيادة على القدر المعتبر منها، وإنما تهيأ على غيره من التفاسير. والله سبحانه أعلم.
واحتج مجوزوا إمامة المفضول، بجعل عمر الأمر شورى بين ستة متفاوتين في الفضل، وقال أبو بكر: وليتكم ولست بخيركم، ويمكن أن يجاب بأن عمر بن الخطاب ربما اعتقد تساويهم، وبأن كلام أبي بكر على جهة التواضع، وهضم النفس، كقوله صلى الله عليه وآله وسلم: ((لا تفضلوني على يونس بن متى )).
وقد ادعى بعض أصحابنا الإجماع على اعتبار الأفضل، وقال صاحب (أنوار اليقين)، لا خلاف في ذلك، واختلاف الصحابة في الأئمة الأربعة إنما كان لاختلافهم في الأفضل.
قلت: دعوى الإجماع فيه مجازفة، والخلاف مشهور مأثور، منذ زمن الصدر الأول، يدل عليه قول عمر: لو كان سالم مولى أبي حذيفة حياً ما خالجتني فيه الشكوك، وعلي -عليه السلام- ووجوه العشرة وغيرهم من فضلاء الصحابة موجودون.
ويتصل بهذا الكلام ذكر فوائد:
الفائدة الأولى: تترتب على ما فسرنا به الأفضل، يقال: لو وجد اثنان أو ثلاثة أو أكثر مختلفين في الأفضلية، فأفضلية هذا بزيادة في التدبير وهذا بفصاحة وبلاغة وغير ذلك، فكل منهم أفضل باعتبار معنى من تلك المعاني برز فيه وبذَّ الأقران في تعاطيه ما المعمول عليه حينئذٍ والأقرب والله اعلم أنه يرجع إلى ترجيح أهل الحل والعقد، في هذه الأمور المتعارضة، ويتوخون ما هو الأرجح والأصلح في الأمور المقصودة بالإمامة، وما أدَّاهم نظرهم إليه عملوا عليه.

(1/65)


وقد ذكر القاضي عبد لله بن حسن الدواري في موضعين، من تعليقه علي الشرح، أنه إذا اتفق رجلان في شرائط الإمامة، ولم يكن أحدهما أكمل من الآخر في شئ منها، ولا سبق بدعوة ولا عقد، فأولاهما بالإمامة أكثرهما فهماً، ثم أحلمهما، ثم أحسنهما خلقاً، ثم أفصحهما لساناً وأحسنهما عبارة، قال ذكر ذلك صاحب (الكافي)، ويعرف أنه أولى، إذا كان فيه خلة حميدة، سيما إذا كان الناس معهما أقرب إلى اتباعه، وإن كانت تلك الخلة من غير صفات الإمام وشرائط الإمامة، كأن يكون أحدهما أتم في خلقه وهيبته، وأحسن ثباتاً، وأسمى همة، وأوسط نسباً، وأكثر أباءً في العلم والفضل، وأكثر رحامة وبني عمومه لنصرته ونحو ذلك من الخلال التي معها اتساق الأمور له أبلغ من غيره، فمن كانت فيه فهو أولى بالإمامة، لكنه لو دعا غيره قبله أو عقد له كان هو الإمام ولم يقدح في صحة إمامته كون غيره أتم.
وقال في موضع: إذا كان أحد الصالحين للإمامة أكثر نسكاً، والآخر أكثر سياسة وأحسن تدبيراً، فإن الآبر في السياسة والتدبير أولى بالإمامة، إذ حاجة الأمة إلى حسن السياسة وزيادتها أمس من حاجتها إلى زيادة النسك.
قال: وعلى الجملة فالغرض بالإمامة صلاح المسلمين، وحسن الرعاية لهم، ومن كان ظُنَّ هذا فيه أغلب على العاقدين أن يعقدوا له، وعند القائلين بالدعوة لا يجوز لمن يعلم أن غيره أتم منه سياسة وصلاحاً للمسلمين أن يقوم بأمر الأمة فالعقد له باطل والدعوة تحتمل ذلك.

(1/66)


الفائدة الثانية: إذا دعى داع كامل الشروط، وقام بأعباء الإمامة، ثم ظهر بعد ذلك أن غيره أفضل منه، وأكمل في خصالها، وأدخل في شرائطها، ما يكون الحكم في ذلك؟
اختلف فيه، فقيل: إنه يجب على الداعي تسليم الأمر للأفضل، وقال السيد أبو طالب: لا يجب ذلك، بل يستمر على حاله، وقد صار أفضل لتحمل أعباء الأمامة.
الفائدة الثالثة: قيل(القاضي عبد الله الدواري): كون الإمام أفضل بالنظر إلى جميع أهل البيت، فذلك مما لا سبيل إلى العلم به لانتشارهم في أقطار الأرض.
قال بعض المتكلمين: إنما يعتبر الأفضل منهم في القطر الذي فيه المكلف، قيل في البريد، وقيل: في مسافة ثلاثة أيام.
وقيل: في مبلغ علم المكلف، وليس عليه البحث عن الأفضل مع وجود الفاضل.
ومنها أن لا تسبق دعوته دعوة مجاب، وليس هذا من الشروط التي هي من صفات الإمام ونعوته الراجعة إليه، وإنما هو في الحقيقة يرجع إلى المنع، فلا ينبغي أن تعد من صفات الإمام التي يتوقف عليها صحة القيام، وإن كان من أصحابنا من يعده شرطاً، وينظمه في سلك تعداد الشروط، لفظاً وخطاً، وأبلغ من بسطه غاية البسط، في استيفاء ذكر هذا الشرط، وأوضح فيه المعنى والقصد المهدي -عليه السلام- فإنه قال:
من شروط الإمام أن يدعو في حال لم يكن قد تقدمه داع مجاب أجابه بعض الأمة فأما حيث قد تقدمه داع مجاب ودعا بعد ذلك فهو باغ.
إذا كان الأول كامل الشروط وقد أجيب، لا إذا لم يكن كاملاً أو كان كاملاً ولم يجبه من الأمة من ينتفع بإجابته بل لم يجبه أحدٌ أو أجابه من لا نفع في إجابته لقلته أو خموله، فلا حكم حينئذٍ بتقدم دعوته.

(1/67)


قال: ومن عرف أنه إذا دعا أجابه من الناس من ينفع الله بإجابته، في إمضاء الأحكام الشرعية على الوجه المشروع وجبت عليه الدعوة حينئذٍ، وصارت دعوة الأول كأنها لم تكن إذا بطل نفعها في المقصود كما يبطل الوقف والتحبيس.
ببطلان نفع العين (في) المقصود، قال -رحمه الله تعالى-: لكن لا يجوز له الدعاء إلا بعد اليأس من إجابة الأول ونهوضه لا مع كون الإجابة مرجوة، وذكر أنه أخذ هذه المسألة من نصهم على جواز تنحي الإمام مع كون غيره أنهض، ولا وجه له إلا كون الغرض بالأنهض يكون أكمل، ولا شك أن المجاب يكون أنهض ممن لم يجب، ثم أورد على نفسه سؤالاً، وهو أنهم نصوا على جواز التنحي حينئذٍ لا وجوبه، فمن أين لك وجوبه؟
وأجاب: بأن هذا الحكم مما إذا حسن وجب، لأن الإمامة وجبت لمصلحة عامة، فإذا جاز له التنحي لتلك المصلحة وجب عليه لأن رعايةالمصلحة وهو وجوب الإمامة من الأصل.
قال: ولا يقال: إن التنحي المنصوص على جوازه يقع برضى المتنحي، فكيف يقاس عليه ما لم يقع برضاه، وهو دعوة غيره بعد دعوته.
قال: لأنه لا عبرة برضى المتنحي، إذا كان المتنحي قد وجب عليه لأن القصد رعاية مصلحة الأمة لا مصلحته وحده، والحق في ذلك لله تعالى لا له فلا عبرة برضاه، هذا حاصل ما ذكره في (الغيث)، وقد استوفى الكلام في هذا المعنى وأجاد فيه، وإن كان عند تدقيق النظر والمبالغة في النقادة بالرؤية الوقادة لا يخلو عن نظر. والله سبحانه أعلم. ثم لنعد إلى الكلام على أصل هذا الشرط:

(1/68)


فنقول: الظاهر من مذهب الزيدية، وجمهور المعتزلة، وكثير من الأمة، أنه لا يصحُّ قيام إمامين معاً في وقت واحد، ولا يصحُّ قيام المتأخر منهما إن سبق أحدهما بالدعاء هكذا حكى القاضي عبد الله.
وفي (الغايات) نسبة هذا القول إلى المعتزلة جملة، وبعض الزيدية، قال القاضي: الخلاف في ذلك مع عباد بن سليمان، ومحمد بن سلاًّم الكوفي، وحكاه في (زوائد الإبانة)، عن كثير من السادة والعلماء.
وروى عن م بالله -عليه السلام- رواية مغمورة، وبه قال بعض الخوارج، وبه يقضى رأي سعد بن عبادة وأتباعه، حيث قالوا منا أمير ومنكم أمير.
وقال الناصر -عليه السلام- بصحته، إذا تباعدت الديار، ونسب في (الغايات) تجويز إمامين إلى الكرامية، ونسبه إلى القاسم بن علي العياني، -عليه السلام-، فإنه قال: إذا كان في قرية واحدة إمامان يدعوان إلى الله تعالى لكل منهما رعية، اختلفت رعيتهما، ولم يؤمن أن يوقعوا الوحشة بينهما فالواجب على من أحله ذلك المحل أن يكون بمن معه من الرعية في معزل يملك فيه تصرفهم، ولا يكون حيث يبلغ صاحبه وأصحابه اختلافهم ومضارهم. وما لا يؤمن من كونه بين مثلهم فإذا فعل ذلك ملك كل رعيته ودانت له مودته وصار كل بما يرضي الله تعالى.
قال المهدي -عليه السلام-: فصرَّح -عليه السلام- بجواز إمامين في وقت واحد، على الصورة المذكورة.
وقال الإمام يحيى في (الإنتصار): أما مع تقارب الأوطان والأماكن، فالإجماع منعقد من جهة الصدر الأول من الصحابة والعترة والفقهاء على المنع من ذلك.

(1/69)


وأما مع تباعد الأوطان في الأقاليم البعيدة، والأمصار المتفاوتة في البعد، ففيه مذهبان: المنع وهو رأي العترة والمعتزلة، والأشعرية والخوارج، والفقهاء، ويحكى عن المؤيد أخراً لأن المقصود إقامة قانون الدين والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر وهذا يحصل بواحد، وأمره في الأقاليم البعيدة ينفذ بإنفاذ الولاة والقضاة والكتب والرسل، كما كان في أزمنة الخلفاء، وتجويز الإمامين في وقت واحد، هو رأي المؤيد بالله -عليه السلام-.
أولاً: ومحكى عن الجاحظ، وعباد الصيمري، وحكاه الشيخ أبو القاسم في كتاب (المقالات) عن قوم من التابعين، وهو محكي عن الناصر، وهذا هو المختار.
قال -عليه السلام-: وعليه يحمل ما كان من الإمامين، الهادي إلى الحق يحيى بن الحسين، والناصر عليهما السلام، لما كانا في الأماكن المتباعدة، والأقاليم المتباينة، فإن اتفق اجتماعهما وجب على المفضول تسليم الإمامة للأفضل منهما.
وحكي عن الناصر -عليه السلام- أنه إن لم يفعل فسق لأن غرضه الدنيا وإحراز الملك على الإنفراد، وهو خلاف الدين احتج المانعون بإجماع الصحابة، وبرد ما قالته الأنصار،حيث قال عمر بن الخطاب: سيفان في غمدٍ إذاً لا يصلحا[ن] وكان ذلك بمحضر جمع كثير من الصحابة، وبلغ الباقين ولم ينكره أحد فكان إجماعاً لأن المسألة قطعية، فقول البعض فيها بقول وسكوت الآخرين مع علمهم به يكون إجماعاً وصواباً، إذ لو لم يكن كذلك كانت الأمة قد أجمعت على الخطأ. هكذا قرره القاضي عبد الله بن حسن الدواري.

(1/70)


قلت: والعجب منه حيث قضى بأن الإجماع السكوتي في المسائل القطعية يكون قطعياً، مع احتمال كون السكوت المشار إليه لغير ما ذكره، والحوامل الممكنة كثيرة، وهذا من المجازفة والغلو في أمر الإجماع والإعتساف، واحتجوا بما روي عنه -صلى الله عليه وآله وسلم-: ((إذا بويع لخليفتين فاقتلوا الآخر منهما )).
وبما روي عنه -صلى الله عليه وآله وسلم: ((من دعى إلى نفسه أو إلى غيره وهناك إمام فعليه لعنة الله والملائكة والناس أجمعين)) وهذان الخبران دلالتهما صريحة إلا أنهما آحاديان والمسألة قطعية، واحتجوا بأن الأمة بعد الصدر الأول حالاً بعد حال لم يقيموا إلا واحداً لم يعلم منهم نصب اثنين في عصر واحد وهذا إجماع منهم وتأكيد للإجماع الأول.
ويرد عليه أن عدم فعلهم إياه لا يدل على امتناعه إنما يدل على عدم وجوبه، واحتج المحيزون له بالقياس على الأنبياء عليهم السلام، والقضاة والأوصياء، ونحو ذلك من الولايات، التي مرجعها إلى التصرف على الناس.
وعن الناصر -عليه السلام- أنه قال: لا خلاف أن الله تعالى قد بعث أنبياء في عصر واحد، وكذلك حكم الأئمة، كان إبراهيم ولوط في عصر واحد، وإسماعيل وإسحاق -عليهما السلام- في عصر واحد، وموسى وهارون -عليهما السلام- في عصر واحد، وداود وطالوت وأشمويل في عصر واحد، ويحيى وعيسى في عصر.
قلت: ولعل للمانعين أن يجيبوا بأن القياس غير صحيح، أما الأنبياء عليهم[ ] فلعصمتهم والأمن من منازعتهم ولأن ذلك بوحي من السماء، فنقطع بأنه الأصلح وأنه لا مفسدة فيه.

(1/71)


وأما الأوصياء والحكام، فليس أمرهم يقضي في العادة إلى تنازع ولا تشاجر، فالقاضيان لا يزيد كل واحد منهما على أن يقضي بين المترافعين إليه بما يصح لديه، والوصيان لا يزيد حالهما في التصرف في مال الصغير، على تصرف المشتركين في مال لهما، والشركة مشروعة ولا خلل فيها.
وأما أمر الإمامين فإنه مظنة للتشاجر والتفاخر ولا عصمة مانعة، وليست التصرفات المقصودة منها بيسيره، ولا مقصورة على أشياء معينة.
وأقول وبالله التوفيق: إني لم أزل أنظر في هذه المسألة، وأتأمل الأمر فيها، برهة من الزمان، فإذا نظرت إلى الأمر المقصود بنصب الإمام من مصالح الإسلام، فمن البعيد المتعسر أن يتمكن إمام واحد من النظر في أمور المسلمين، ومصالح الدين في جميع النواحي والأقطار والبوادي والأمصار، ومن منابذة الظالمين في جميع الأوقات، وهذا أمر يعلم بالاضطرار، ولا يتهيأ فيه إنكار، وهل من قام بالديار اليمنية مثلاً يتمكن من تدبير أمور الشام، والعراق، ومصر، والهند، والصين، ونحوها؟ فإذا حكمنا بأنه لا يجوز أن يقوم في جميع الأرض غير إمام وحده، فما يكون علمه؟ وليس مبلغ قطره ولقد خبرنا هذا الأمر فوجدنا الإمام لا يكاد يحكم التصرف فيما غاب عنه، ولو مسافة يوم أو يومين مع وجود الأعوان والكفاة، فكيف بقطر تكون مسافته شهور كثيرة، ودونه البحار والمهامة والقفار، ويقوي عندي أنه لا أقل من تعدد الأئمة بالنظر إلى الأقطار المتباعدة، وأنه لا بأس بأن يقوم إمام في الديار اليمنية، وإمام آخر بالعراق، وإمام آخر بالجيل والديلم.

(1/72)


وعلى هذا في غيرها فإن الذي يخاف منه التشاجر، واختلاف الآراء مأمون مع هذا التباعد القاطع للأخبار، والإطلاع للأغلب، مع كون المفروض أن كل داع إلى الله تعالى ومنخرط في سلك الأئمة الهداة، قاصداً لوجه الله تعالى، لا للملكة والرئاسة، وأن الغرض المقصود المطلوب إحياء دين الله تعالى، والنظر في مصالح المسلمين، ومنابذة الظالمين، ولقد كنت شديد العجب من غفلة الأصحاب عن هذا المعنى وللنظر فيه وتطابق آرائهم ونصوصهم في مصنفاتهم على خلافه، وردهم مذهب الناصر وما نقل عنه مع وضوح صوابه، وانكشاف وجه القوة فيه، وتمسكهم في ذلك بتلك الحجج الضئيلة والأدلة الضعيفة والدعاوي التي لا حاصل لها ولا تعويل عليها.
فلما وفق الله تعالى لتحصيل كتاب (الغايات)، والمطالعة له، وقفنا على كلام فيه، يشفي الأوام، ويشهد لمصنفه بالإصابة والإحكام، ويقضي بأن الذي وقع في أنفسنا وقع مثله في نفسه الكريمة الزكية وقضت أنظاره الوافية.

(1/73)


قال -عليه السلام- ما لفظه: وأنا أقول: إنا لما علمنا العلة التي لأجلها منعوا من إمامين، وهو التشاجر عند اختلاف الرأي ونحو ذلك، وعلمنا تقاطع الديار المتباينة كالصين واليمن ونحو ذلك، بحيث يتعذر لأجل ذلك التقاطع بين الديار، وتوسط سلاطين الجور في البلدان، وضعف يد الإمام عن الإنبساط على الأقطار وتواصل شوكته فيها، فلا يبعد أن يجب نصب الإمامين والثلاثة والأربعة بحسب تباين الديار، ليحصل بذلك إقامة الأمور التي يجب نصب الإمام من أجلها في أقطار كثيرة، لتعذر إقامتها بقائم واحد في قطر واحد، وتعذر نصب إمام اليمن والياً له في الصين مع ارتفاع شوكته فيما بينهما، وتعذر المواصلة عند الاحتياج، إلى أخذ أمره ورأيه في إصدار وإيراد لعدم اتصال شوكته وتنائي الديار ومخافتها، ويتعذر ذلك في مثل أحوال زماننا هذا ومعلوم ضرورة، وإذا علم ذلك وجب علينا أن لا نعطل قطراً من أقطار المسلمين من إقامة قائم فيه تقوم فيه الأحكام التي نحتاج الإمام فيها.
قال -عليه السلام-: وإجماع الصحابة إنما كان حيث حال الإسلام على خلاف ما هو عليه الآن من الإنتشار، وإتصال شوكته، حتى صارت الجهات المتباينة لأجل إتصال شوكته ومواصلة الخليفة كالقطر الواحد، فأمكن إتصال أخبار الولاة حينئذ إلى الخليفة وإنفاذ الأوامر من جهته ومن ثم منعوا ذلك فأما في هذه الأحوال فالحق ما ذكرناه، وإلا تعطل أكثر الأقطار عن إقامة الأمور التي نحتاج الإمام فيها، وهي جلَّ أحكام الإسلام وقواعد هذا هو الحق الذي يترجح لنا في هذه المسألة.

(1/74)


قلت: لله در هذا الإمام، فقد أجاد الكلام، ووفى بالمرام فيما ذكره ظاهر ظهور الشمس وعار عن الاشتباه واللبس، وقال الحاكم صاحب التفسير: وما يحكي عن بعض الزيدية، فإنما أرادوا إذا تباعدت الديار، ولم يقف أحدهما على الآخر مثلما كان من حال الهادي، والناصر عليهما السلام، وكل واحد منهما يأمر وينهي ويقيم الأحكام، حتى إذا التقيا سلم أحدهما للآخر، ويلوح من كلامه هذا استحسان هذا القول.
وقد تقدم تصريح الإمام عماد الدين والإسلام يحيى بن حمزة -عليه السلام- باختياره.
قال: والحجة عليه أن البعد يقضي بجواز ذلك لمصلحة، فإن حادثة لو وقعت في أقصى المغرب والإمام في أقصى المشرق، فتستحيل مراجعته فيها مع قصور وقتها وأنه لا يمكن التأخير فيها، وعلى هذا تقضي المصلحة الشرعية بجواز ما قلناه من صحة قيام الإمامين بالأمر مع تباعدهما، ويحتمل ما وقع من الإجماع على المنع من ذلك على تقارب الأقطار.
قال المهدي -عليه السلام-: وقد حكي عن بعض أصحابنا، أنه حكي في حواشي تذكرة أبي طالب أنه يجوز إمامان وثلاثة وأربعة في وقت واحد في بلد واحد بإجماع أهل البيت -عليهم السلام-.
قال -عليه السلام-: الرواية فيها ضعف بل لا يبعد القطع بكذبها فإن كتب أهل البيت مشحونة بخلاف ذلك، ويتصل بما ذكرناه فوائد:
الفائدة الأولى: هل يجوز خلو الزمان عن إمام موجود وعن من يصلح للإمامة أولا؟

(1/75)


أما الطرف الأول: فلا كلام أنه يجوز خلو الزمان، عن حصول الإمام وانتصابه للإمامة، وذلك أمر متحقق ويرد على قاعدة أصحابنا، وظاهر إطلاقهم في وجوب الإمامة على الأمة، أن يقال يلزم من عدم تحصيل الإمامة وثبوتها إطباق الأمة على الإخلال بالواجب وهم معصومون عن ذلك، وهو سؤال متوجه، لكنّا قد قدمنا في ذلك هذا المعنى ما يرفع الإشكال ويمنع من قدح السؤال.
وقال في (الإنتصار): المحكي عن الأئمة العترة والزيدية والمعتزلة والفقهاء، أنه يجوز خلو الزمان عن الأئمة عقلاً، لكن الشرع يمنع من ذلك فلا يجوز على هذا خلو الزمان عن الأئمة من جهة الشرع، وحكي عن الإمامية والبلخية أنه لا يجوز خلو الزمان عن الأئمة عقلاً ولا شرعاً، وذهب ضرار والأصم إلى جواز خلو الزمان عن الأئمة مع سلامة الأحوال، وإلى هذا ذهبت فرقة من الخوارج.
قال: والمختار جواز خلو الزمان عن الإمام بدليل جواز خلوه عن الأنبياء، فالفترة بين موسى وعيسى، على ما حكي ألف سنة، والرسول
-صلى الله عليه وآله وسلم- بينه وبين عيسى -عليه السلام- ألف سنة، وهذا في الأئمة أولى وأحق.

(1/76)


وأما الطرف الثاني: وهو الخلو عمن يصلح للإمامة، فالذي عليه أهل العدل، وجمهور المتكلمين المنع من ذلك، قال القاضي عبد الله بن حسن الدواري: والخلاف في ذلك مع من لا يوجب الإمامة، احتج المانعون من خلو الزمان عن صالح للإمامة بجميع الشروط بأن علينا تكاليف لا تصلح تأديتها إلا مع وجود الإمام كإقامة الجمعات والحدود ونحو ذلك،فيجب على الله تعالى أن لا يخلي الزمان عن صالح للإمامة، إذ لا يتم لنا تأدية ما كلفناه إلا مع وجود الإمام.
قال الدواري: فما كان من الشروط من فعل الله كالمنصب والعقل ونحوهما وجب على الله تعالى فعله، وما كان منها اكتسابياً فالواجب عليه تعالى توفير الدواعي لا تحصيله.
قلت: في هذا الاستدلال من الركة والضعف والخطل ما لا يخفى على ذي ألمعية وحسن روية، وهل الشروط التي تتوقف عليها الواجبات وهي من فعل الله تعالى يجب على الله أن يفعلها ويحصلها!!؟ هذا مما لا قائل به، فإن الله سبحانه وتعالى أوجب الواجبات، وهي تتوقف على العقل والبلوغ، وما كان منها مختصاً بالذكور كالجهاد ونحوه.
فيتوقف على الذكورة، ولا يقال: إنه يجب على الله تعالى فعل هذه الشروط ليتم التكليف، والمكلف فيما كان مشروطاً من جهة الله ومن فعله في فسحة أن خلقها الله تعالى له بعد ما كلفه وإلا سقط عنه التكليف، والله سبحانه لا يجب عليه أن يفعل ما يتم به التكليف ولا قائل بذلك.
ثم أنه أورد على نفسه سؤالاً فقال: إن قيل إذا كان الوجه ما ذكرتم، فقولوا: لا يجوز خلو الزمان عن إمام، لأن القيام بما ذكرتم لا يتم إلا بوجود إمام لا بوجود من يصلح فقط.

(1/77)


قلنا: لا يجب ذلك بل يجب على الله تعالى أن يجعله على أوصاف الإمامة، التي لا يقدر عليها إلا هو ويوفر دواعيه إلى اكتساب الأوصاف التي لا بد منها في ثبوت الإمامة الصحيحة.
ثم من يجعل طريق الإمامة الدعوة والخروج فالواجب عليه الدعاء، وعلى القول بالعقد يجب العقد على العاقدين وعلى غيرهم الرضا.
ويتفرع على هذه الفائدة خلاف وقع بين الشيخين، قال أبو هاشم: لا يجوز أن يخلو الزمان عن قرشي جامع الشرائط، فهذا الشرط وهو شرط المنصب لا بد من حصوله كسابق الشروط، وبه قال قاضي القضاة.
وقال الشيخ أبو علي: لا، بل يجوز خلو الزمان عن حصول المنصب، وبه قال الغزالي وغيره، وحينئذ تجوز الإمامة في غير قرشي كما يجوز التيمم عند عدم الماء، وتوقف أبو عبد الله البصري، وقد احتج في (الغايات) لتصحيح قول أبي هاشم احتجاجاً بسيطاً.
ولا شك أنه الأرجح على قاعدتهم، لأنهم أوجبوا أن لا يخلو الزمان عن صالح للإمامة كامل الشرائط فالمنصب أحد الشرائط، ويتوقف عليه الصلاح المذكور، ولو قيل بما قاله أبو علي للزم مثل ذلك في سائر الشروط، فيجوز الخلو عن شرط الاجتهاد وعن شرط الشجاعة أو غيرهما.
ويجوز حينئذ إمامة المقلد، وإمامة من ليس بشجاع كالتيمم مع الوضوء، إلا أن أبا علي فرق فقال: المقصود بقيام الإمام لا يفوت بوفات المنصب، فتصح الإمامة من دونه فجاز اختلاله بخلاف غيره من الشروط كالعقل والعدالة.
تنبيه: ويأتي على مذهب أصحابنا وقاعدتهم أنه لا يجوز خلو الزمان عن فاطمي، وقد صرح به في بعض تعاليق الشرح.

(1/78)


الفائدة الثانية: إذا ثبت أنه لا يجوز خلو الزمان عن صالح للإمامة، فهل يجوز أن يوجد في وقت واحد جماعة يصلحون للإمامة؟ قيل: هذا لا ينبغي أن يقع فيه منازعة، ولا يفتقر إلى مواقعة، وأي مانع يمنع من ذلك من جهة القدرة والحكمة، وقال عباد بن سليمان والإمامية: لا يجوز ذلك.
أما الإمامية فبنوا على أصلهم أن طريقها النص، وأنه لا نص إلا على واحد فواحد، وفي الحقيقة أنه لا خلاف بيننا وبينهم إلا في قاعدتهم التي بنو عليها، ولا يخالفون في جواز وجود جماعة فاطميين مجتهدين عدول، أهل تدبير وشجاعة، وسخى وفضل، ولا يعدون مخالفين هنا.
وأما عباد بن سليمان فالذي دعاه إلى هذا المذهب الضعيف، أنه لو وجد جماعة صالحون لأدى ذلك إلى أن يختار واحد منهم لغير مرجح في اختياره ولا يصح ترجيح من غير مرجح.
ولا معنى لما ذكره: وقد جعل عمر الشورى بين ستة فقضى بصلاحيتهم كلهم، ولم ينكر عليه والمرجح للإمامة أحد الجماعة الصالحين، اختيار العاقدين له، وعند معتبري الدعوة سبقه بها، واختبار العاقدين لواحد من جملة جماعة غير صالحين غير مستبدع ولا مستنكر، فإن العادل المختار إذا أعنت له أمور مستوية، في تعلق الداعي وانتفاء الصارف اختار أحدها من غير مرجح، كمن يأكل أحد رغفان مستوية، وواحدة من رمانات (لا تفاضل بينها)، وكسالك إحدى طريقين مستويين في الإتصال إلى الجهة المقصودة في القرب والسهولة وانتقاء الشوائب.

(1/79)


فرع: إذا فرض وجود جماعة صالحين كما ذكر ما يكون فرض الأمة في حقهم، ومن يتعين للقيام بأعباء الأمة منهم، أما معتبروا الدعوة فالعبرة عندهم لمن دعا منهم وترشح لذلك.
فأما معتبروا العقد فمن أرسل الله تعالى العاقدين إليه، ونصبوه كان المعول عليه كما ذكر آنفاً، لكن قال الشيخان أبو علي، وأبو هاشم: لا يعمدوا إلى واحد فيختاروه بل يقرع بينهم حيث كانوا مستوين في الخصال المعتبرة، وقال بعض المعتزلة: بل يكون الهاشمي أولى من سائر بطون قريش حيث كان الصالحون لهذا الأمر هاشمياً وغيره.
وقال ضرار بن عمر: بل العجمي أولى من العربي، والذليل من العزيز ليكون عزله إذا أحدث ما لا يرضاه المسلمون أيسر وأسهل، ولا تعويل على ما ذكره، لأنه بنى على قاعدة منهارة وهو صلاحية الإمامة في الناس عموماً، ولأن الذي يحدثه الإمام إذا كان فسقاً انعزل بذلك وبطلت ولايته من دون عزل عازل فتخلفهم عنه كافٍ وليس يعتبر العزل عن التولية في الإمام كالحاكم.
هكذا في (الغايات) وعندي أن الاحتجاج على ضرار بما ذكره لا يطابق مراد(ه‍) بما ذكره، لأن قصده إمكان عزله، وسهولة خلعه عن مرتبته، وتقطيع علائقه، لا نفس بطلان إمامته.
لكن قوله غني عن الإبطال، ولا ينبغي فيه توسيع المقال، ولو كان علته العليلة كما ذكره لاقتضت أن يجعل الإمام من أطراف الناس وأدنيائهم، لأن إبطال أمره وقت الحاجة إليه أيسر هذا ما لا ينبغي أن يقول به مميز. والله أعلم.

(1/80)


وأما كلام الشيخين، فقد رده المهدي -عليه السلام- بأنه لا وجه للقرعة هنا، إذا الحق للعاقدين فالخيار إليهم في المنصب وليس للمنصوب حق فلا يقاس على الأحكام التي اعتبرت القرعة فيها في مسائل النكاح والعتاق والقسمة، فإن وجهها فيها المساواة بين أهل الحق والحق هاهنا لأهل النصب عند معتبره.
وأما من رجح الهاشمي على غيره من المعتزلة فكلامه قوي لوجهين: أحدهما قربه من رسول الله -صلى الله عليه وآله وسلم- وهو مرجح ظاهر للإمامة أعرض عنه، فعلى كل واحد من الأمرين ويجب معرفته إذا كان ظاهراً، إما بالموافقة أو بالتبرء منه والإعراض عن أمره.
وقال القاضي عبد الله بن حسن الدواري: إن معرفة شرائط الإمامة، ومعرفة إمام الزمان واجب على كل مكلف من الآدميين، إذ على كل مكلف تكليف يتعلق بالإمامة والإمام وهذا في حق الذكور، فأما المرأة فإن كانت عليها زكاة واجبة أو التزمت أمراً للإمام أن يلزمها إياه وجبت عليها معرفة إمامته وشرائط الإمامة وإلا لم يجب عليها، إذ لا تكليف عليها يتعلق بذلك، وما لا يتم الواجب إلا به يكون واجباً كوجوبه، ويدل على ذلك الإجماع أيضاً، وقوله -صلى الله عليه وآله وسلم-: ((تمسكوا بطاعة أئمتكم ولا تخالفوهم ، فإن طاعتهم طاعة الله، ومعصيتهم معصية الله)) والتمسك بالطاعة فرع على معرفة الإمام.
تنبيه: مضمونه أنه هل يجب على كل مكلف العلم اليقين في ذلك أو يجب عليه العلم بما وجد السبيل إلى علمه، عند بلوغ دعوة الإمام إليه ويقلد فيما لا سبيل إليه إلى العلم به في تلك الحال من الشرائط وإن انكتم العلم بذلك من بعد؟.

(1/81)


قال القاضي عبد الله بن حسن الدواري: الظاهر من كلام العدلية أنه لا بد له من العلم بجميع ذلك، ولا يسوغ له التقليد بشيئ منه فما علمه بالخبرة فهي كافية في ذلك وما لم يعلمه بالخبرة يطلب العلم به بالتواتر، وعليه شدة البحث وهو معذور في التزام حكم الإمامة، قبل العلم بما ذكرناه.
وقال الفقيه حميد وغيره: لا بد من العلم بالشرائط الا كونه مجتهداً فيكفي التقليد فيه.
وعن بعضهم: وكذلك التدبير، وجودة الرأي يسوغ التقليد فيه إذ ليس كل مكلف يتمكن من عرفان الأراء ومصادرها ومواردها، وعن بعضهم جواز التقليد في شرائط الإمامة فيه وإن أمكن بعد ذلك العلم بالبحث وغيره.
قال القاضي عبد الله الدواري: والأصح أنه لا بد من العلم اليقين بإجتماع الشرائط، وأن على كل مكلف تحصيل العلم بذلك، بالخبرة أو البحث وعليه الرحلة إلى الإمام، حيث كان يختبر حاله وإن كان ممن يمكنه الاختبار أو الرحلة إلى عدد يخبرونه عن حاله خبراً متواتراً، وإن لم يمكن من الإختبار ولا أخبره عدد التواتر باجتماع الشرائط ففرض الإمامة ساقط عنه، هذا حاصل ما وقفنا عليه من كلام الأصحاب في هذا الباب.

(1/82)


وأقول وبالله التوفيق: إن القول بأنه يلزم المكلف من قارئ وأمي وحاذق وذي بله ومميز ومن (لا)تمييز له، وأن يعلم علماً يقيناً أن الداعي قد جمع الشرائط المعتبرة في الإمامة شرطاً شرطاً، وأنه يلزمه ما يتوقف هذا عليه من العلم بلزوم شرائطها، وأنه لا بد منها، وأنه يلزمه بالتوقف كلما ذكر عليه من وجوب الإمامة، وأنه لا بد منها وعموم التكليف بما هو من الغلو ومجاوزة الحد وارتكاب الشطط واقتحام المسلك الوعر والإعتساف، الذي لا يخفى على أولي الإنصاف، ولعمري إن تكليف العوام بذلك من قبيل تكليف ما لا يطاق، وأنه خارج عن وسعهم وقدرتهم، وأنه لا يبلغ إلى ذلك ولا إلى ما هو دونه طوقهم وقواهم، وأنه لا يبعد عن أن يكون كتكليف (الأعمى) بإعجام مصحف أو رقم كتاب، وأنه لو أخذ عالم من العلماء المختارين يلقن قاصياً أدلة هذه المسائل، ويلقيها في سمعه ويشرحها له أعواماً طويلاً أمدها، عظيماً مددها، ما بلغ إليها مزيد من ذلك ولا أدركه وكان كسوم بعض الأنعام من أن يتعلم فيصير من الأعلام، ولو كان هذا واجباً متحتماً لكان العوام محكوم عليهم بالإخلال بواجب الإمامة، فإنهم ليسوا في طرف منها ولا وسط وأنهم آثمون معاقبون مفرطون، وإنهم في طاعتهم للأئمة واتباعهم ومشايعتهم والمجاهدة بين أيديهم، والإئتمار بأوامرهم مخطئون، وللمنكر مرتكبون، ولكان فرض الإمام نفسه وفرض العلماء والفضلاء أن ينكروا عليهم إجابتهم للإمام وطاعتهم له، وتسليم الحقوق إليه والمجاهدة بين يديه، فليس للإمام أن يقهرهم على المنكر، ولا لأحد من علماء الإسلام أن يكتم ما علمه الله من ذلك.

(1/83)


فمن كتم علماً علمه الله تعالى إياه ألجم بلجام من نار، وأقل ما يلزم من ذلك أن يتبينوا ما يجب عليهم مما ذكر ولم يؤثر عن أحد من الأئمة ولا من علماء الأمة، أنه انتصب في سوق أو جامع أو مجمع ليشعر الإمامة، وإحرازه إياها، وجمعه لنصابها، وأنه لا يجوز لهم اتباعه واستماعه، وطاعته ومحبته، وامتثال أوامره ونواهيه، حتى يحصل العلم بما ذكرناه، وكان يلزم في العوام أن عجزوا عن ذلك (ولم) يتمكنوا منه، أن يسقط عنهم تكليف الإمامة، وأن لا يجوز للإمام أن يدعوهم، ولا أن يقهرهم على ما يجب له، من تسليم الحقوق وامتثال الأوامر، وأن لهم أن يعتذروا بأنه لم يحصل لهم العلم اليقين بإمامته، وعليه أن يقبل ويعذرهم فلا يدعوهم ولا يقهرهم، وهذه إلزامات لازمة فإن التزمها أصحابنا فقد اقتحموا من المحذورات جانباً، وكانوا ممن لم يجد إلا الأسنة مركباً، وإن قهقروا عنها وحادوا منها لم يكن لهم بد من الإعتراف بأن تحصيل العلم اليقين ليس من فروض العوام إن سلم أنه من فرض المميزين.

(1/84)


والذي يتوجه ويكون سليماً من الشطط والأود أنَّ معرفة الشرائط، ووجه اشتراطها أن يعتمدوا معرفة إحراز الإمام كيفياتها واحتوائه عليها، إنما هو فرض جهابذة النقد وأرباب الحل والعقد، ومن هم في رتبة النصب والاختيار، ويعزل عن مهاوي الشك (…..ص30) وإن فرض العوام أن يقتدوا بالعلماء الأعلام، فمن بلغهم دعوته، وعرفوا من علماء زمانهم ومكانهم إجابته والتزام طاعته لزمهم أن يجيبوه ويستمعوه ويطيعوه ويتبعوه، ويعتمدوا في أمر دينهم عليه، ويسلموا ما عليهم من الحقوق إليه، وينهضوا للجهاد بين يديه ويأخذوا دينهم وما يحل لهم وما يحرم عليهم من لدنه، وإن اختلف علماء زمانهم في أمره كانوا مع من يعرفون أن علمه أرجح ودينه أصلح، وإن كانوا في درجه واحدة من العلم والدين اعتمدوا الأكثر وإن استووا من كل وجه، كان فرضهم التوقف، وهذا هو المذهب العدل والقول الفصل، وليس الإمامة وإن عظم شأنها، وارتفع مكانها، تساوي ولا تداني النبوة، ولا هي في اشتراط العلم اليقين كمثلها ولا في محلها.

(1/85)


ومن المعلوم أن الأنبياء لم ترشد أممهم إلى أنه يجب عليهم أن يعلموا نبؤتهم يقينا، وأن ينظروا في ثبوتها، ويستدلوا على إنصافهم بها، وأن يتطرقوا إلى ذلك بمعرفة عدل الله وحكمته، وأنه لا يجوز من الحكيم أن يظهر المعجزة على الكاذب، وأن هذه المعجزة التي ظهرت على النبي خارقة للعوائد، خارجة عن نوع الحيل والشعابذ، ولا قالوا لمن جاءهم مسلماً من نحو الأعراب ومن لم يستطيع قرع هذا الباب لا يجوز لك أن تعتقد نبوئتنا ولا أن تجيب دعوتنا، إلا بعد أن تنظر في أمرنا، وتيقن صحة ما ذكرنا، فإنه إذا كان فرضه العلم اليقين، ومعرفة صحة النبوة بالأدلة والبراهين لم يجز له أن يعتقد ذلك ولو ثبتت النبوءة في نفس الأمر اعتقاداً غير يقين، لأنه يكون مقدماً على ما لا يؤمن قبحه، والإقدام على ما هذه صفته كالإقدام على القبيح، والمقدم على القبيح يجب الإنكار عليه، وليس يصح على الأنبياء أن يقروا من يرتكب محظوراً عليه ولا يساعدوه إليه.
ومن المعلوم يقيناً أن عادة الأنبياء -عليهم السلام- وهجيراهم وديدنهم ما كان إلا قبول قول من جاءهم مسلماً، والسرور بمن وفد عليهم مؤمناً، مع علمهم من حاله أن النظر المؤدي إلى العلم لا يخطر بباله، ومما يشهد بذلك الخبر الذي أخرجه البخاري، ومسلم، وأبو داود، والترمذي، والنسائي، في كتبهم المشهورة.

(1/86)


ورواية أنس بن مالك -رضي الله عنه- قال: بينا نحن جلوس مع النبي -صلى الله عليه وآله وسلم- في المسجد إذ دخل رجل على جمل ثم أناخه في المسجد ثم قال: أيكم محمد؟، ورسول الله –صلى الله عليه وآله وسلم- متكئ بين ظهرانيهم، فقلنا هذا الرجل الأبيض المتكئ.
فقال لي ابن عبد المطلب؟ فقال له النبي –صلى الله عليه وآله وسلم-: ((قد أجبتك )) فقال له الرجل: إني سائلك فمشدد عليك فلا تجد علي في نفسك. فقال: ((سل عما بدا لك)) فقال: أسألك بربك ورب من قبلك، الله أرسلك إلى الناس كلهم، فقال: ((اللهم، نعم)) فقال: أنشدك بالله، الله أمرك أن تصلي الصلوات الخمس، في اليوم والليلة.
قال: ((اللهم، نعم)) قال: أنشدك بالله، الله أمرك أن تصوم هذا الشهر من السنة: قال: ((اللهم، نعم)) قال: أنشدك بالله، الله أمرك أن تأخذ هذه الصدقة من أغنيائنا فتقسمها على فقرائنا.

(1/87)


قال: ((اللهم، نعم)) قال الرجل: آمنت بما جئت به، وأنا رسول من ورأي من قومي، وأنا ضمام بن ثعلبة أخو بني سعد بن بكر، هذا لفظ البخاري فانظر كيف أخذ ثبوت النبوة عن النبي -صلى الله عليه وآله وسلم- وقبل كلامه في ذلك بعدما أكده بما أمكن من التأكيد واشتد في اعتقاده وتصديقه له عليه، ولم يلتفت إلى غير ذلك ولا بحث عن المعجز ولا سأل عن دليل الصدق، وأقره النبي -صلى الله عليه وآله وسلم- على ذلك ولم ينكره عليه، ولا يثبت التصديق ولا نبهه على النظر والاستدلال، ولا أرشده إلى ذلك المعجز، بحال ولا سياق القصة تقضي بأنه خطر له ذلك ببال، وكونه ذكر أنه رسول من وراءه من قومه ليعلموا على ما يأتيهم به من أمر النبي -صلى الله عليه وآله وسلم-، والبلوغ إليه والدرية لما هو عليه.
وحكى ذلك رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فلم ينكره عليه ولا على من وراءه من قومه وأقرهم على ذلك، فتأمل ما ذكرناه تأمل إنصاف، واغترف من هذا النمير الصاف.

(1/88)


القول فيما تبطل به إمامة الإمام بعد ثبوتها
هو ضربان:
الضرب الأول: ما هو من فعل الله سبحانه وتعالى ويخرج به عن التمكن من مباشرة ما قام لأجله كالجنون المطبق،والعمى، والصمم، والمرض المذهب للقوى.
أو ما كان مبطلاً لأحد الشروط المعتبرة، فمتى صار كذلك ووقع اليأس من عوده على ما كان عليه من أوصاف الكمال، خرج بمجرد ذلك عن الإمامة، ولا يفتقر إلى عزل ولا إخراج.
قال الإمام يحيى: أما الجنون المطبق فلا خلاف بين أئمة العترة والفقهاء، أنه موجب لبطلان الإمامة لأنه من استمر عليه الجنون يكون حينئذ كالصبي ومن كان كالصبي كيف يكون والياً على أمور المسلمين، قال: وأما العمى فلا خلاف بين أئمة العترة أيضاً والفقهاء أنه موجب لبطلان الإمامة، وحكى عن الشيخ (أبي) علي الجبائي أنه لا يكون مبطلاً لهما، واحتج على بطلان ما قاله بأن أمور الإمامة لا تستقيم إلا مع البصر.
قال: وأما الزمانة المفرطة والمرض المقعد فهما مبطلان للإمامة بلا خلاف بين أئمة العترة والفقهاء لما ذكرناه.
قلت: ولقائل أن يقول أما ما كان من هذه الآفات والعوارض مقارناً للدعوة أو واقعاً عقيبها فلا كلام إن ذلك مانع عن المقصود، وصاد عن المراد ولا معنى لانتصابه حينئذ، ولا غرض يعود منه.

(1/89)


وأما إذا فرض أن هذا أمر عرض له بعد أن استثبت أمره، وظهر قهره، وانتشر ذكره، ومهد الأمور وساسها، وبعث العمال ونصب الكفاة، وصار يسوس الأمر ويدبره من مقره، وأوامره نافذة في النواحي ويتلقاه بالقبول، وفي كل جهة والي يدبر أمرها، وينظر في حوادثها، ويقيم ما شرعه الله وقام الإمام لأجله فيها من الجمعة، والحدود، وقبض الحقوق، وكف يد الظالم عن المظالم، ونصب راية الجهاد، والقيام بواجبه، فما المانع من بقاء إمامته، مع بقاء عقله وتدبيره وحسن رأيه، وكون الذي عرض له إما عمى أو صمم أو نحوهما، مما لا يمنعه عن فهم الوقائع والإطلاع على الحوادث والنظر فيها.
وكون العارض لا يبطل معه تصرفه وآرائه وسياسته ولا يختل به خلل في أمره وما قام له، لا فيما حضره ولا فيما غاب عنه، وقد لاح لي من سيرة الإمام الأجل المتوكل على الله عز وجل، أحمد بن سليمان، أنه بعد عمى بصره صدر عنه من التصرفات ما لا يسوغ إلا مع بقاء الولاية، وليس المرض المزمن والعمى بأشد في ضعف أمره وإخلال تصرفه، مما جرى لعمر بن الخطاب، من تلك النازلة التي ألمت به وقطع لأجلها بذهابه، وصار مأيوساً من حياته، ومن المعلوم أنه لم يرفع يده عن التصرف حينئذ في بقية حياته ولا فيما يكون بعد وفاته، وكان منه ما كان من الأمر بالشورى، وإلزام العمل بمقتضاها إلى حد إلزام القتل عند الشارع.

(1/90)


وكان منهم التزام ذلك العمل به ولا معنى للزوم امتثال أمره فيما أمر به إلا حيث هو في تلك (الحالة قائم) بأمر الإمامة، ولو كانت إمامته قد بطلت لذلك العارض لبطل أمره فلا يعمل بقوله ولا يعتمد عليه. والله سبحانه أعلم.
ومن هذه العوارض وقبيلها وإن لم يكن من فعل الله تعالى الأسر المأيوس فكاكه.
قال الإمام المهدي -عليه السلام-: واليأس هو غلبة الظن أنه ينقطع عمره تحت الأسر لإمارات تقتضي ذلك، قال الإمام يحيى بن حمزة -عليه السلام-: وهذا مذهب العترة، واختاره السيدان الأخوان، لأن ما ذكر بمنزله العلة التي لا يرجى زوالها فإن لم يكن مأيوساً عنه لم ينعزل ويصير بمنزلة مرجو الزوال. وهل العبرة باليأس به أو بالناس؟، الأظهر أن العبرة بهم في ذلك لا به، فإن التكليف في نصب غيره يتعلق بهم لا به، والنظر في ذلك إليهم لا إليه، فربما يتعذر عليهم فهم ما لديه، فإذا قام غيره بعد الإياس منه ثم اتفق تخلصه من الأسر.
قال الإمام يحيى بن حمزة -عليه السلام-: فالمحكي عن الإمامين القاسم، والناصر، إن على من قام تسليم الأمر إلى الأفضل فيهما، فإن أبى كان مخطئاً فاسقاً هكذا لفظه، حكاه الإمام يحيى عنهما، وفيه انضراب واختلال، لا يخفى على المتأمل، والذي حكاه القاضي عبد الله الدواري عنهما -عليهما السلام: إن المفضول يسلم الأمر للأفضل وإن لم يُسَلِّم فسق، وهذه عبارة قويمة وحكاية مستقيمة.
قال: وحكي عن بعض الزيدية: إن الثاني أحق لتحمله الأعباء، وصبره على المشاق في مجاهدة أعداء الله تعالى.

(1/91)


قال: وهو محكى عن زين العابدين، والنفس الزكية، وهو رأي السيدين الأخوين.
قال: وهو المختار، لأن الثاني قد صار أفضل من الأول المأسور الذي قد تقادم عهده وعقدت الأمة لمن قام بالأمر بعده.
فلا يجوز نقض ذلك لأنه وقع في حال يجوز منه وينعقد كما لا يبطل نكاح الأمة بوجدان الطول على نكاح الحرة، وكذا من أخذ الزكاة وهو فقير ثم حصل له الغنى من بعد فإنه لا يلزمه دفع ما كان أخذ منها.
قلت: ولا شك في قوة هذا القول، لأن قيام الثاني كان بعد بطلان إمامة الأول وزوالها، وهو كما لو كان ذلك المأسور لم يدع مع كماله.
فائدة: اتفق هذا العارض وهو الأسر للإمام العظيم المهدي لدين الله إبراهيم بن تاج الدين وكان من أقمار الأئمة الأطهار وأسره سلطان اليمن بأفق حول ذمار، وكان -رحمه الله- من أهل الجد والاجتهاد، في إقامة راية الجهاد، وحط على صنعاء مرة بعد أخرى، واشتهر أن سبب أسره وغلبة السلطان عليه خذلان الأمير داود بن الإمام المنصور بالله له، وأنه خدعه وطمع فيما بذل له من السلطان، وإلى ذلك عرَّض الإمام في قصيدة له ذكر فيها قصة أسره وما كان من أمره، حتى قال:
حتى إذا خان بعض الأهل موثقه .... وغره فضة السلطان والذهب
ولم يقم أحد بالأمر في حياته بل انتظروا أمره، وكان من أنصاره وأعوانه ونبلاء زمنه وأعيانه، الأمير الشهير، الجليل الخطير، المؤيد بن أحمد، والإمام المتوكل على الله المطهر بن يحيى.

(1/92)


ولما دنت منه الوفاة أوصى إليهما، ورقم وصيته بخط يده، في كتاب كان معه بلغ به إليهما واستغاث بهما في تنفيذ وصاياه، حتى كان آخر ما رقمه في وصيته: يا مؤيداه، يا مؤيداه، يا مؤيداه، يا مطهراه، يا مطهراه، يا مطهراه.
وقام بعده بالأمر الإمام المتوكل المذكور فبورك للدين والمسلمين فيه، وأمر أهل الجهات الخولانية بتسليم الزكوات، إلى الأمير المؤيد، لقضى ديون الإمام إبراهيم، واتفق هذا العارض للإمام المهدي لدين الله أحمد بن يحيى المرتضى، فأسر في قصة يوم معبر، وقد جرى له قريب من الأسر في بيت بوس، وخلص منه فوراً، فأسر من خروجه في أسره الثاني، وظن أنه يشدون فيه وحينئذ فزع طائفة من أهل الحل والعقد، إلى والدنا الإمام الهادي لدين الله -عليه السلام.
منهم: القاضي العلامة محمد بن حمزة بن مظفر، ذي المصنفات المتعددة، في علم التفسير، فإنه جد في ذلك واجتهد، وكانت له فيه مساع مشكورة، وعنايات مأثورة، وكتب ورسائل في الأفاق منشورة، وتابعه وتبايعه أعيان عصره وعلماء دهره، كالسيد فقيه أهل البيت أحمد بن داود وهو ووالده ممن حضر قيام المنصور علي بن صلاح مع القاضي عبد الله بن حسن الدواري ثم ندما فيما بلغنا، وأظهرا التوبة، وكالسيد محمد بن الداعي أحمد بن علي بن أبي الفتح، وكان آية في زمانه، بلغ أنه كان يحي الليل كله بركعتين اثنتين يتلو فيهما القرآن كله.

(1/93)


والسيد محمد بن جبريل من أولاد الإمام الداعي، وله تصنيف في آيات الأحكام وغير (ها)ؤلاء من السادة آل يحيى وغيرهم، وكالفقيه العلامة جبل العلم، يوسف بن أحمد بن عثمان، والقاضي الأفضل أحمد بن سليمان النجري، وكان من أعيان الزمان، والفقيه الفاضل ذي الكرامات الباهرات، محمد بن صالح الآنسي، والفقيه الأعلم الأوحد، الأعبد، محمد بن ناجي الحملاني وإخوته، وكثير من غيرهم، وممن بايعه في مبتدأ الأمر السيدان الأوحدان، الأخوان الهادي، ومحمد، ابنا إبراهيم بن علي المرتضى، ومن شواهد ذلك رسالة أنشئها السيد الهادي في تفضيله وذكر كماله، أولها: الحمد لله.
عليك من إمام أمة، وكاشف غمة، رفع فيها من شأنه، وقضى بعلو مكانه، وكتاب كتبه السيد محمد بخط يده، وجهه إلى الإمام جواباً عن كتاب الإمام إليه وقفنا عليه.
وفيه من التعظيم والتبجيل، والثناء الجميل ما لا يقدر قدره، وهو مفتتح بأبيات قد ذهب أولها، والباقي منها يصف فيه الكتاب الوارد إليه:
فضضت ختامه فأفاض دمعي .... وفض الفهم من قلب جريح
فلو قد كنت ميتاً ثم نودي .... به لأجبت من تحت الضريح
فيا عجباه من طرس بديع .... حباه الله معجزة المسيح
وآخر تلك الأبيات الرائقة:
أمير المؤمنين بقيت فينا .... على رغم العداة بقاء نوح
ولا زالت تقاد إليك طوعاً .... رقاب العاصيات من الفتوح

(1/94)


ثم اتفق بعد ذلك خروج الإمام المهدي وفكاكه من الأسر، وكانت للهادي علي بن المؤيد في ذلك عناية، وبعد خروجه جاء قاصداً إلى الإمام الهادي إلى حتى وافاه بوادي فللة، حال نهوضه إلى صعدة لافتتاحها، بعناية من الأمراء آل زيد فاتفقا وخطب كل منهما، وكانت خطبة الهادي منطوية على التهنئة له بخلوصه من السجن، وخروجه منه، وختمها بأبيات رائية الروي بلغية مضمنة للبيت المشهور، وهو:
وما جئت حتى أيس الناس أن تجي .... وسميت منظوراً وجئت على قدر

(1/95)


يشير على أنه جاء حال الإنتهاض لافتتاح تلك المدينة، ويزعم كثيرون أنه إنما ضمن أبياته البيت المذكور، لتشير إلى حصول الأيس منه بخروجه وما يقتضي من بطلان إمامته، وصحة إمامة نفسه، ثم كان لهما موقف شهده الفضلاء والعلماء بصعدة، في دار القاضي يحي بن عبد الله بن حسن الدواري، في أول يوم الجمعة، وجرى فيه التسليم من المهدي للهادي،وأشهد على نفسه بذلك جماعة من الفضلاء، منهم السيد أحمد بن داود بن يحيى بن الحسين، والفقيه محمد بن صالح الآنسي، وبنوا على أنه يتولى خطبة الجمعة، ويذكر ذلك ويصرح به وخرجوا من تلك الدار وتفرقوا منها على ما ذكر، فلما فشى الخبر وساء كثير من الناس ممن له نفار عن الإمام الهادي وكراهته لقوة شوكته كالقضاة آل الدواري، احتالوا في بعض ما أبرمه من ذلك، على يد رجل يقال له: ابن مكابر، يسعى في ذلك وكان من أهل حلاوة اللسان، والإمعان في الخداع، والمهارة في المكر، حتى شوش قلب المهدي، وثبطه عن ذلك، فانتظر لموعده وتولى الصلاة فلم يحضر بل أقام في المطهر حتى كاد الوقت يفوت، فصعد الهادي المنبر، وتولى الخطبة والصلاة، وحين فهم ذلك المهدي، خرج من مطهره، ودخل صلى مع الناس.

(1/96)


روينا ذلك كله بأسانيد صحيحه، وروايات صريحة، عن العدول الثقات، منهم والدي قدس الله روحه، ومنهم رجل موثوق به من الفقهاء، آل أبي الرجال، يرفعه إلى الفقيه محمد بن صالح، ومنهم حي الإمام المتوكل الكل منهم ساق في روايته وفيها اختلاف، ويتحصل مما اتفقوا عليه ما ذكر إلا المتوكل فإنه لم يروِ التسليم، بل التواطؤ عليه من طريقة (أخذنا نسبة) التعبير إلى ابن مكابر، والله سبحانه وتعالى أعلم.
ولم يزل الهادي والمهدي مصطحبين متواصلين متجاملين متراحمين، تدور بينهما مكاتبة ومراسلة، والمهدي بعد ذلك الموقف كالمنتحي، وإن لم يظهر ذلك ولا يقطع يده عن التصرفات بالكلية بل ترك التلقب بأمير المؤمنين، وطوى ذلك من علامته، وإذا عرض عليه أحد ممن قد أجاب الهادي وبايعه، أن ينحرف إليه أبى ذلك، وإذا خاض في صلح بين القبائل المتعادين وصعب الأمر عليه صرفهم إلى الهادي، وإذا طعن أحد على الهادي ذب عنه وأجاب على الطاعن، كما كان فيه في شأن أحمد بن قاسم الشامي، وكان من شيعة الهادي، ثم نفر (ولفق اعتراضات) مناقشاً في السيرة، قضا بذلك منه عدم صلاح السريرة ومر على المهدي كالمتحف له بذلك، فأجاب عن اعتراضه ولم يطلعها واحداً واحداً وانقلب الشامي من عنده خائباً.
ولما توفي الهادي عزا أولاده فيه، وتألم لذهابه ورقم في أول تعزيته الآية الكريمة: {إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ سَيَجْعَلُ لَهُمُ الرَّحْمَانُ وُدًّا}[مريم: 96].

(1/97)


وكان إذا عنَّ ذكره له في كتبه يقول: قدسَّ الله روحه ونورَّ ضريحه، وقدم إليه والدي أكرم الله نزله وهو بناحية لاعة بعد موت والده الهادي، فسلم له ما تركه من الحصون بناحية اليمن، واستشاره في الديون التي مات وهي عليه، استدانها لبيت المال، فأمر قبائل خولان بتسليم واجبهم لقضائها رحمهم الله تعالى أجمعين ورفع درجتهم في عليين وجمع بيننا وبينهم في دار النعيم وجواره الكريم.
الضرب الثاني: مما يبطل إمامة الإمام هو ما يتوقف على اختياره، ولا يزول معه التمكن من التصرف كالكفر والفسق.
قال الإمام يحيى: فإذا وقع من الإمام على جهة التعمد للعصيان، بطلت إمامته لانعقاد الإجماع من أئمة العترة والفقهاء، على أن الإمام لا يجوز أن يكون كافراً ولا فاسقاً، واستظهر عليه بتبرأ النبي -صلى الله عليه وآله وسلم- من خالد بن الوليد بقتله بني جذيمة، وما كان من علي -عليه السلام- في أمر ابن عباس، لما ولاه الحجاز فاخذ ما له، وأنكر عليه غاية الإنكار، ووبخه غاية التوبيخ، لما خان في عمالته.
قلت: المشهور أن ذلك كان في توليه على بعض الأمصار في العراق.
قال -عليه السلام-: وما كان من علي -عليه السلام- في حق القعقاع برسوله، والمغيرة بن شعبة، من الإنكار عليهما، لما خانا في عمالتهما، وأخذاها ولحقا بمعاوية، قال: فإذا كانت ولاية العمال تبطل بالفسق فهكذا حال الإمام تبطل ولايته مع الكفر والفسق أولى وأحق.

(1/98)


وأعلم أن الفسق (ينقسم) إلى باطن وظاهر، قال المهدي: فإن كان باطناً لم ينحل به عقد الإمامة، قال: لأنه قد جاز العقد لمن يجوز أن يكون باطنه الفسق وكذلك إذا حدث ولم يعلموه.
قلت: هذا الكلام قلق فإن أراد أنَّ الذي فسق باطناً، إمامته صحيحة غير باطلة ولا ذاهبة حقيقة، وفي نفس الأمر نجيب إلى أنه بنفسه يجوز له أن يورد ويصدر ويتصرف، كما لو لم يكن كذلك فهذا بعيد، وما (هو) حينئذٍ إلا ظالم مريد جمع إلى فسقه المبطل لحقه التصرفات العظيمة الذي هو الآن ليس من أهلها ولا بمحل لها.
وإن أراد أنه بعد ذلك باق على الإمامة في ظاهر الأمر وفي حق الأمة بحيث أنه لا جناح عليهم في طاعته ومتابعته والتزام أوامره ونواهيه، إذ ليسوا متعبدين بما غاب عنهم، فهذا صحيح لا نزاع فيه، إلا أنه لا يعد مثبتاً لإمامته ومانعاً من بطلانها في نفس الأمر كما في من عقد له والظاهر العدالة وهو في الباطن فاسق.
قال الراوي: إذا كانت معصيته سراً لم يطلع عليها، فلا تعود إمامته إلا بتجديد العقد عند القائلين به، لكن ليس عليه أن يطلعهم على فسقه وبطلان إمامته بل القصد تجديد العقد، ولو أوهم أنه أراد بتجديده الاحتياط والتأكيد، بل لا يجوز أن يخبرهم بأنه عصا، وعلى القول بأن المعتبر هو الدعوة فإنه إذا تاب من تلك المعصية الباطنة تعود إمامته حيث كان باقياً على التجرد للقيام بأمر الأمة.

(1/99)


قال المهدي: وإن كان فسقه ظاهراً فاختلف الناس في ذلك، فالجمهور من المعتزلة والزيدية وهو مذهب الشافعي-رضى الله عنه-، أنه يخرج بذلك عن كونه إماماً، كما لا يجوز ابتداء العقد له، وهو الذي رواه العراقيون عن أبي حنيفة، وأنكروا أن يكون مذهبه جواز إمامة الفاسق.
وحكى عن ابن الملاحمي من معتزلة خراسان، وأهل ما وراء النهر: إنه لا يعزل بالفسق الظاهر وأنه يجوز العقد للفاسق.
ولمحمد بن الحسن قولان في بطلان ولايته بالفسق، واحتج -عليه السلام- على بطلانها بقوله تعالى: {لاَ يَنَالُ عَهْدِي الظَّالِمِينَ }[البقرة: 124]وقرر الاحتجاج بها بما أمكن.
وعندي أن الاحتجاج بها ضعيف على القول بأن المسألة قطعية، واحتج بأن الإمامة إن ثبتت بالنص فلا يجوز أن ينص الله على فاسق ويأمر بالاقتداء به، وإن ثبتت بالاختيار فلا يجوز للمختارين اختيار من لا يثقون بدينه، لأنهم باختياره حكموه في دماء الناس وأموالهم.
قلت: وأهمل -رحمه الله تعالى- ما إذا ثبتت بالدعوة، فيراد وأن تثبت بالدعوة لم يجز لأحد أن يجيب دعوته ولا يعتبرها ولا يلبي نداه:
وكيف يقوم الظل والعود أعوج
تنبيه: إذا تاب من كفره أو فسقه هل تعود إمامته وولايته أو لا؟.
قال الإمام يحيى: الذي عليه أئمة العترة والفقهاء أن إمامته تعود عليه، وحكى عن أبي العباس والإمامية، إنها لا تعود إليه أبداً ولا يصلح لها بحال، قال: والمختار أنها تعود بالتوبة، كما هو رأي الأئمة والمعتزلة والفقهاء كما يزول بالتوبة الشرك وهو أعظم المعاصي.

(1/100)


قلت: والتحقيق أنه إذا كفر أو فسق بطلت إمامته وصار الكفر أو الفسق مانعاً منها، فإذا تاب زال الكفر والفسق ولم يصر إماماً إلا بثبوت طريق الإمامة وحصولها، وتجددها بأن يجدد الدعاء إلى الله تعالى عند معتبري الدعوة، أو بأن يجدد نصبه واختياره والعقد له عند معتبري العقد، وهذا هو مذهب المتقدمين من أئمة العترة أنه يجب تجديد الدعوة بعد التوبة كما يجب ابتداء، وحكى في (الانتصار) عن القاسمية: إنه يعود إلى الإمامة بمجرد التوبة من غير تجديد الدعوة وهو كمذهب المعتزلة والفقهاء في عود إمامته من غير تجديد العقد والاختيار.
ووجه ذلك بأنه إنما كان إماماً لحصوله على الصفات المعتبرة في حقه، فإذا فسق زالت الولاية وما يجب له، فإذا تاب عاد على ما كان عليه من الصفات المعتبرة الموجبة لإمامته وهذا الوجه ضعيف، وهو احتجاج بنفس ما ذهبوا إليه من غير زيادة، وما مثله إلا مثل رجل كان يملك شيئاً فأزال ملكه ثم ندم على السبب المزيل للملك، فكما لا يعود إلى ملكه إلا بتمليك جديد كذلك حكم مسئلتنا هذه، وقد أسند مذهبهم بأن في تجديد العقد مشقة وإظهاراً للوحشة وخطأً من الدرجة والمثولة ومتبعاً للأمر، وذلك خلاف للمشروع وهو إسناد لا تعويل عليه، وليس مثل ذلك يمنع من الرجوع إلى القواعد المعتبرة ولا تجديد العقد له أو تجديد الدعوة بأشنع من ارتكابه ظهر الفسوق بظهور ذلك في حقه، وانتصر الإمام يحيى بن حمزة -عليه الصلاة والسلام- بعدم الافتقار إلى تجديد الدعوة عند معتبريها، بأنه إنما صار إماماً لكماله وإحرازه شرائطها.

(1/101)


وتلك الصفات حاصلة كاملة، وقد زال المانع، قال -عليه السلام- وأما على قول معتبري العقد والإختيار فلا بد من التجديد.
قلت: إنما يصح ما ذكره لو كان مذهب معتبري الدعوة معناه أنه يصح أن يصير إماماً بنفس كماله وجمعه للشرائط، وهم لا يقولون بذلك وإنما نسب الحاكم هذا القول إلى قائل مجهول، ومذهبه غير مشهور، ولأنه(غير) معمول به وإنما المشهور أنه إنما يصير إماماً لأجل الدعوة بعد حصول الشروط وكمالها، فالدعوة هي السبب في ثبوت الإمامة والعلة الموجبة لها، فإذا كانت قد بطلت لأجل ما عرض من كفر أو فسق، فلن تعود إمامته إلا بدعوة أخرى وعله توجب مثل ذلك الحكم الذي قد زال، وقد يقال: إنا لا نجعل الفسق مبطلاً للدعوة بل مانعاً من ثبوت أحكامها فإذا زال المانع استمر إيجاب العلة وهو تكليف الله سبحانه وتعالى.
تنبيه: هل يعتبر الاختبار بعد التوبة من الفسق الظاهر أو لا؟ لم يتعرض الإمام يحيى بن حمزة والإمام المهدي لدين الله أحمد بن يحيى المرتضى -عليهما السلام- لذلك بإشارة ولا تصريح، لكن تعرض لذلك القاضي عبد الله بن حسن الدواري، وقال: إذا كان فسقه جهراً، فإن إمامته لا تعود إلا بعد التوبة ومدة الخبرة، والاستمرار على التوبة سنة فما زاد، ويختبر حاله في تلك المدة ثم بعد ذلك تعود له الإمامة بتجديد الدعوة عند أهل الدعوة، وتجديد العقد عند أهل العقد.
قلت: وهذا كلام حسن، وإذا اعتبر ذلك في الشهادة مع خفة المؤنة فيها فالإمامة في ذلك أولى وأحرى.

(1/102)


تنبيه آخر: في حكم فاسق التأويل وقد اختلف فقيل: هو كفسق الخوارج بجامع خروجه من ولاية الله وتأويله ضم جهالة إلى ضلالة.
وقيل لا، لأنه بفسق الخارجة متجر على الله سبحانه وتعالى متعمداً لفعل القبيح، فمثله لا يؤتمن ولا يؤمن منه الإقدام على غير ذلك من المحظورات والمنكرات، في أمور الأمة والإمامة تعمداً، وليس كذلك فسق التأويل فإنه إنما ارتكبه بحسنه ظاناً للإصابة فيه مع تحرجه فما يعلمه معصية.

(1/103)


القول في أنه هل للإمام أن يعزل نفسه ويتنحى عن الأمر أولا، وهل للعاقدين له أن يعزلوه أو لا؟
أما عزل العاقدين له إياه فالأظهر أنه ليس لهم ذلك وأنه لا يعتزل إن عزلوه، لأنه قد صار بعد العقد والاختيار إماماً، يلي التصرف عليهم، وعلى غيرهم ويده فوق أيديهم، ولو جعلنا لهم أن يعزلوه وحكمنا بصحة ذلك، لكانت أيديهم فوق يده، ولكانوا هم المتولين عليه هذا مع استقامة حالهم وعدم انتشار أمره واختلاله.
قال القاضي عبد الله بن حسن الدواري: فأما إن وقع في أمره اختلال بحيث لو عرف ذلك قبل العقد لم يعقد له، فلهم عزله بل ربما أنه قد انعزل بذلك من غير عزل.
قلت: وفي هذا الكلام نظر، والقصد أنه لا سبيل لهم إلى عزله، بل إن حدث منه ما يبطل إمامته انعزل وبطلت من غير عزل وإن لم ينته به الحال إلى ذلك، فلا يد لهم عليه ولا سبيل لهم إليه.وإن تنحى إلى غيره:
فقال الإمام المهدي لدين الله أحمد بن يحيى بن المرتضى: لا يجوز إذ قد تعلق به التكليف بانتصابه وتجرده وليس إليه إسقاط ذلك التكليف عن نفسه بعد لزومه إلا أن يسقطه الله تعالى عنه، ولا طريق إلى معرفة ذلك إلا عن وحي، ولا وحي بعد موت رسول الله -صلى الله عليه وآله وسلم-.
قال: فأما مع تنحيه لقيام من هو أنهض منه بأمر الجهاد، ومن هو أصلح لالإمامة فجائز فإن وجد الناصر إلى المقصود بالإمامة صلاح أمر الأمة فإذا كان بقيام الآخر أتم وأكمل وغلب في الظن ذلك وجب على القائم الأول التنحي له رعاية للمصلحة.

(1/104)


قلت: الذي يظهر لي جواز التنحي إلى غيره إذا كان ذلك الغير يقوم مقامه ويسد مسده ويحصل به من إقامة أمر الإمامة وتكاليفها ما حصل به إذ المقصود هو ذلك، وليس ثم ما يوجبه بعينه دون غيره، ولا دخوله في الأمر يلزمه الاستمرار إلا حيث يقع الخلل بالترك، وإلا فما الدليل على لزوم ذلك مطلقاً.
وأما تنحيه إلى من هو أنهض منه (فإن) لم نجعله واجباً ونحكم بلزومه، وإلا فلا أقل من أن يكون أولى وأعلى، فإن الغرض يكون بذلك أولى وأ(و)فر، والصلاح فيه أوضح وأظهر، والقصد بالإمامة حصول ما يستدعيه مما يتوقف عليها من إحياء الدين وجهاد المعتدين ونفع المسلمين وقمع الظالمين، وما كان أدخل في المقصود كان أرجح وأصلح وأوجب، وألزب وليس القصد بما يجب على الإمام أمراً راجعاً إلى نفسه مختصاً به، إنما يرجع إلى عامة المسلمين وتكليف الدين، والمتوجه صرف النظر إلى ما هو أصلح، والأقوم بحوائجها ومعانيها، والله تعالى أعلم.

(1/105)


وأما تنحيه عن الأمر لا إلى غيره، واعتزاله عن التكاليف الإمامية وإطراحه لها، فقد قال الإمام عماد الإسلام: لا خلاف بين أئمة العترة والزيدية، والمعتزلة والفقهاء، أنه لا يجوز لمن كملت فيه أوصاف الإمامة أن يعتزل عن النظر في أمر الرعية، ويتنحى عن التصرف فيما يتصرف فيه الأئمة، من الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، إذا كان يجد من يعينه على ذلك من أهل الفضل والدين، فإن لم يجد من أهل الفضل وأهل العلم من يعينه على أمره جاز له الإعتزال والتنحي ويكون ذلك عذراً في الإعتزال، كما فعل أمير المؤمنين في أول الأمر، فإنه اعتزل عن التصرف لما لم يجد أعواناً على مأربه مع أن الحق كان له إلى أن وجد الأعوان على ذلك، وكما فعل الحسن بن على لما فسد عليه أصحابه وخذلوه فإنه اعتزل الأمر وخلاه لمعاوية.
وكما فعل القاسم لما بويع له واجتمع إليه الناس لما رأى فشلهم ونكوصهم عن نصره وفساد قصودهم وميلهم إلى الدنيا، وإعراضهم عن الآخرة، وغلب على ظنه أنه لا يمكنه القيام بالأمر فاعتزل، وهكذا غير هؤلاء من سادات أهل البيت وأئمة العترة، يعتزلون عن التصرف إذا لم يجدوا ناصراً، لأن المقصود وجه الله تعالى والإعراض عن الدنيا، فإذا لم يكن الأمر صافياً عن الأغراض الدنيوية كان ذلك موجباً للإعتزال، وهذا هو اللائق بمن كان مقصوده الأمور الأخروية.
وقال الإمام المهدي -عليه السلام- ألأصح في فعل علي بن أبي طالب رضى الله عنه، والقاسم -عليه السلام-، أنها لم تبطل ولا يتهم، بل (با)اعتزالهم المذكور، ولكن يسقط فرض الجهاد فقط.

(1/106)


وأقول والله الموفق: ينبغي تلخيص هذه المسألة وتحقيق النظر فيها، وإني لم أزل أتأمل في أمرها والنظر في أطرافها، وأعدل ما يقال فيها، والأقرب أن حال الداعي الداخل في هذا الأمر المتحمل لإعباءه، لا يختلف في أول الأمر وأخره، فلا يكون لدخوله في هذا الأمر تأثير في اختلاف التكليف بل تكليفه بعد دخوله كتكليفه قبله، ولا يختلف الحال إلا باختلاف الإعتبارات، وتعاكس الحالات، فمتى فرض أنه قبل قيامه قد تعين عليه الأمر، وتحتم عليه هذا التكليف، وصار لازماً له، لا مخلص له عنه بأن لا يقوم أحد مقامه، ولا يسد مسده، وحيث يؤدي تأخره إلى اختلال أمور الدين وانتشار نظام الإسلام، قد دخل في ذلك الأمر قاصداً لوجه الله تعالى.

(1/107)


قائماً بما فرض الله تعالى فما عدا مما بدا، وحاله في الإنتهاء كحاله في الإبتداء، وحيث لم يتحتم الأمر عليه ولا يتوجه إليه، وكان واجباً مخيراً أو فرضاً موسعاً وغيره يقوم مقامه، ويسد مسده، واستمرت الحالة هكذا من قبل قيامه إليها بعده، فليس دخوله في الأمر بعد عقد الإمامة لازماً وأمراً موجباً، كنذر الناذر وهبة الواهب، وبيع البائع، ولا ثمَّ دليل ولا شرع يقضي بأن نفس الدخول في هذا الأمر يعد من العقود اللازمة والموجبات القائمة، هذا على سبيل الجملة، ثم إذا فرض انه دخل في الأمر لتعيينه عليه وتضيقه في حقه، ثم اتفق بعد ذلك أن نشأ (وحصل) من الصالحين لهذا الأمر والذين يقومون مقامه طائفة بحيث أن تنحيه لا يؤدي إلى ضياع الأمر وانتشار النظام، وتنفس أهل الظلم والإجرام، صارت الحال غير الحال، واتسع حينئذ المجال، وكذلك لو فرض أنه دخل في الأمر لا لتعيينه عليه بل ليقوم بفرض الكفاية، لوجْدَ أن الصالح غيره، ثم تعقب ذلك عدم من يقوم مقامه ويسد مسده، فإنه يصير الأمر مضيقاً عليه ومتعيناً بعد أن لم يكن كذلك.
وكذلك فرض أنه دخل في الأمر لتعينه عليه وتحتمه ولزومه، غالباً على ظنه وجود الأعوان وصلاح الشأن، فاتفق بعد الخذلان، وخان العهود وخان، حتى آل الأمر إلى البطلان، فإنه مع ذلك يصير في فسحة من الأمر ويكون في تخلصه من الدرك، وخروجه عن هذا التكليف أمير نفسه، بل الخروج والتخلص عن الدرك أولى به وأليق بحاله.

(1/108)


فكذلك لو فرض أنه لم يتهيأ له استقامة حاله، وانتظام أمره، إلا بخروجه عن القانون الشرعي، وبسلوكه السبيل غير المرضي، واعتلاقه بما يؤثمه من التصرفات، وإن كان في خلال قائماً بالأمور المهمات، ومحصلاً للمصالح الدينيات، فإنه لا يلزمه أن يتعرض للإثم، ويضر نفسه لينفع غيره، فإن نظره لنفسه أولى به وأوجب عليه، ولا ينبغي أن يكون كذبالة يضيئ للناس وهو يحترق.

(1/109)


القول فيما يلزم الرعية للإمام
قال الإمام يحيى -عليه السلام-: يجب عليهم نصرته ومؤازرته وإعانته، ومعاضدته وإعانته على ما في وجهه من المكالف، وأن يطيعوه فيه، وينقادوا لأمره، وينهضوا إذا استنهضهم لقتال عدوه، ولا يكتمون عليه شيئاً من النصائح، ويجذبوا له النصيحة من أنفسهم سراً وجهراً، ويحرم عليهم خذلانه، قال -عليه السلام-: والأصل في ذلك كله، قوله تعالى: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُوْلِي الأَمْرِ مِنْكُمْ}[النساء: 59].
قال: وأولو الأمر هم الأئمة بإجماع الأمة، وروى زيد بن علي، عن آبائه، عن علي -عليهم السلام- أنه قال: ((ثلاثة لا ينظر الله تعالى إليهم يوم القيامة ولا يزكيهم، ولهم عذاب أليم: رجل بايع إماماً عادلاً فإن أعطاه شيئاً من الدنيا وفا له وإن لم يعطه لم يف له، ورجل قاعد على ظهر الطريق يمنع سابلة الطريق، ورجل حلف بعد العصر لقد أعطي بسلعته كذا وكذا وأخذها الآخر مصدقاً له بيمينه وهو كاذب)).
قلت: ظاهره وقف هذا الحديث على علي -عليه السلام-، وهو مما رفع إلى النبي -صلى الله عليه وآله وسلم-، وأخرجه البخاري، ومسلم، وأبو داود والنسائي، من حديث أبي هريرة، ولفظه: ((ثلاثة لا يكلمهم الله تعالى يوم القيامة ولا يزكيهم، ولهم عذاب أليم: رجل على فضل ماء بطريق يمنعه ابن السبيل، ورجل بايع رجلاً في سلعة بعد العصر فحلف له بالله تعالى لأخذها بكذا وكذا فصدقه وأخذها وهو على غير ذلك، ورجل بايع إماماً لا يبايعه إلا للدنيا، فإن أعطاه منها ما يريد وفا له وإن لم يعطه لم يف له)).

(1/110)


ويتفرع على هذه الجملة سبعة أحكام
[1] حكم: هل قول الإمام يكون حجة يجب العمل به؟
حكي عن السيد أبي العباس والإمامية: إن قوله حجة فلا يجوز لأحد مخالفته فيما قاله.
والذي عليه الجماهير من الأئمة وسائر الأمة أنه ليس بحجة، وفصل الإمام يحيى -عليه السلام- فاختار أنه حجة فيما يتعلق بالفتاوى دون غيرها لقوله تعالى: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُوْلِي الأَمْرِ مِنْكُمْ}[النساء: 59]وهو عام في وجوب الطاعة إلا ما خرج بدليل، ولقوله تعالى: {مَنْ يُطِعِ الرَّسُولَ فَقَدْ أَطَاعَ اللَّهَ }[النساء: 80] فإذا كان الإمام مطيعاً للرسول فيما أفتى به من الأحكام الشرعية وجبت طاعته.
قال: وهذا هو المراد بقولنا إن قوله حجة لا يجوز مخالفتها فيما أفتى به من الأحكام الشرعية المطابقة للكتاب والسنة.
فأما غير الفتاوى فلم تدل عليها دلالة فلهذا لم تكن لازمة، واحتج القائلون بأنه حجة مطلقاً بإنه كما لا يجوز مخالفته فيما حكم به كذلك فيما قاله، واحتج النافون مطلقاً بأن إثباته حجة لا تصح إلا بدلالة عقلية أو شرعية ولا دلالة على ذلك من أي الجهتين.
قلت: وحجة (..........)بحجة قوله مطلقاً باطلة، لأن قياس ذلك على حكم قياس فاسد، إذ لا جامع بين الحكم وغيره، ولو لزم ذلك في الإمام للزم في الحاكم المنصوب للقضاء إذ لا يجوز مخالفة حكمه.

(1/111)


وأما ما احتج به الإمام يحيى -عليه السلام-، على ما اختاره من التفصيل، فاحتجاج عليل، لا يخفى على متأمل، خفى وجهه ودلالته، وأن الذي احتج به إن دل على أن قوله في الفتاوى حجة فليدل على ذلك في غيرها فليس ما أدلى به يختص بالفتاوى دون غيرها.
وقوله: فإذا كان الإمام مطيعاً للرسول -صلى الله عليه وآله وسلم- إلى آخر كلامه فيه ركة، وما كان مثل ذلك ينبغي أن يصدر عن مثله.
قلت: بل حكم من بلغه دعوة الإمام، وتحقيق ذلك: أنه إن علم جمعه للشرائط بالتواتر، فإن كان له عذر عن الوصول إلى الإمام لم يغفل عن الدعاء إليه وعن الدعاء له، والعذر كمرض مانع أو كَفْل والدين عاجزين لا يجدان من يكفلهما غيره أو ملازمة غريم لا يجد قضائه، أو خوف على نفسه أو ماله، وإذا لم يكن له عذر توجه عليه النهوض إلى الإمام والبلوغ إليه لتحقيق حاله فليس الخبر كالعيان، وليتعرف الإمام ويعرض عليه نفعه فيما يصلح له كتولي عمل أو قضاء أو نحو ذلك كالوزارة، حيث كان من أهل الرأي والمشورة، ولا يجوز له التأخر والتراخي، إلا حيث علم أن لا حاجة للإمام إليه.
قال الإمام يحيى -عليه السلام-: وإذا كان له مال وفيه سعة وجبت عليه المواساة له، بما قدر عليه مما يكون فاضلاً عن كفايته وكفاية من يمونه لقوله تعالى: {هَلْ أَدُلُّكُمْ عَلَى تِجَارَةٍ }[الصف: 10] إلى آخر الآيات فنفهم منه وجوب الجهاد بالمال كوجوبه في النفس، وإن علم بالتواتر أو الخبرة عدم جمع الداعي للشروط، فلا يجب عليه النهوض إليه ولا إلى غيره إذ الإمامة باطلة.

(1/112)


وإن كان لا علم له بكمال الداعي ولا عدم كماله، فإن كان لا عذر له نهض إليه ليختبره ويعرف حاله فيما مثله يعرفه، ويسأل غيره عما لا يعرفه كما لو كان غيره عالماً أو كان عالماً ببعض الفنون دون بعض، فإنه يرجع إلى من يعلم ذلك كله ممن يثق به، وإن كان له عذر بحث وسأل واستخبر من مشافهة ومكاتبة، وكان فرضة الرجوع إلى أهل المعرفة والفضل، وقد تقدمت في ذلك إشارة.
تنبيه: إذا خشى المكلف من ظالم في بلدة على نفسه إذا نهض للبحث عن حال الإمام أو إذا قام بما يجب له عليه، فإن الهجرة تلزمه عن دار شوكته، لأنه محمول حينئذ فيها على الإخلال بواجب كما لو حمل على ترك الصلاة ونحوها.
تنبيه آخر: ما ذكر من وجوب البحث ثابت على الرجال فقط دون النساء، فالأقرب أنه لا يلزمهن البحث لأن فرض الجهاد ساقط عنهن ووجوب متابعة الإمام فرع على وجوب الجهاد.
وأما الزكاة فللإمام مطالبتهن بها وأخذها منهن، إذ له أخذها ممن لا يعتقد إمامته ولهن أن يقلدن في صحة إمامته، ذكره المهدي -عليه السلام-. قال: وهو الذي يترجح عنده، وفي (تعليق اللمع) للدواري، ما لفظه: لا يلزم المرأة معرفة إمام زمانها بالإجماع، إلا إذا كان عليها زكاة فعليها أن تعرف إمامته لتدفع الزكاة إليه أو بإذنه.

(1/113)


2- حكم من توقف في الإمام
اعلم أن التوقف يختلف باعتبار القصد فيه وباعتبار مدله.
أما القصد فإن عرف من المتوقف أن توقفه لسوء قصد، كأن يتوقف عن اتباع الإمام وطاعته، أو يشق عليه أمر المتابعة والقيام بحق الإمام، وتكاليف الإمامة مع معرفته لصحة الإمامة، أوْ وِجْدَ أنه السبيل إلى معرفتها، أو كان توقفه لغرض يعود عليه، وعرض من أعراض الدنيا يتوصل إليه،أو لئلا يفوت عليه بالإثبات أو النفي مأرب له ومكاسب أو نحو ذلك، فمن هذا حاله لا ينبغي أن يعد متوقفاً بل جائراً على الحق متعسفاً وأنه من المتهاونين بأمر الدين مخطئ آثم منخرط في سلك أهل الجرائم.
وإن كان توقفه للتحري في أمر دينه، والتثبت في إقدامه وإحجامه، والمخافة من زلل أقدامه، فلينظر في وقت توقفه إن كان في زمان يسير، لا بد للتثبت من التوقف في مثله، وهو ما يسع للخبرة التامة، والمباحثة الشديدة الأكيدة، والمتوقف على هذه الكيفية ممدوح غير مذموم، وبرئ من النقادة غير ملزوم.

(1/114)


وأما إذا أفرط وغلى في التوقف، وطالت فيه مدته وجاوز القدر المحتاج فيه، فمخطئ آثم لتفريطه فيما أوجب الله تعالى عليه من القيام بحق الإمام، حيث كان المتوقف فيه كامل الشرائط ثابت الإمامة، ومن المباينة له وعدم التلبيس في أمره حيث كان غير ثابت الإمامة فإنه من دعا وليس بكامل ولا محتوٍ للصفات المعتبرة والشروط المحررة فمباينته واجبة، لا ينبغي في حقه الإدهان، بل يجب كشف القناع والتحذير في حقه عن الإتباع، لأنه ترشح لما ليس أهلاً له، ودخل في أمور محرمة عليه، وتصرف تصرفات لا تسوغ له في النفوس والأموال، ولكن التوقف مع صحة إمامة الداعي أشد خطراً وأعظم تفريطاً، لأن الواجب عليه مع ذلك أوسع وأشد وألزم مما إذا كان الداعي غير إمام، ومع ذلك فهو أقل جريمة من النافي إلى سهولة التدارك والتلافي، وقد كان قال في (الغيث): البحث عن الإمام بعد بلوغ دعوته واجب مضيق، لا يجوز التراخي عن البحث لغير عذر فسق، ولا يسعه الإخلال باعتقاد إمامة الإمام، والقطع بها إلا مهلة النظر فقط، لأن العزم على طاعته بعد بلوغ دعوته واجب مضيق للآية: {أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُوْلِي الأَمْرِ}[النساء: 59] فقرن طاعته بطاعة الرسول، ولا شك أن طاعة الرسول واجبه مضيق، والنظر في صحة (نبوته) مضيق لأجل ذلك، فكذلك الإمام، قال: ولا منازع في ذلك ولا أحفظ فيه خلافاً، ولا أسمع أن أحداً من الأمة يسوغ التراخي عن التزام أمر الإمام بعد قيامه، والإلتزام يتوقف على النظر في كماله، فحينئذ يكون النظر في أمره واجباً مضيقاً من دون تردد.

(1/115)


فائدة: سلك بعض أهل الزمان في أمر الإمام مسالك غير معهودة، ولا ينبغي أن تكون لأهل المعرفة والديانة بمقصودة وما هي إلا بدع محدثة منكرة، ومجانبة للمناهج الواضحة النيرة.
وخير أمور الناس ما كان سنة .... وشر الأمور المحدثات البدائع
فمن ذلك ما اعتمده بعض الأعيان من معاملة الإمام معاملة لا تقضي بنفي ولا إثبات ولا توقف، وأظهر مدح الإمام والثناء عليه والتعظيم له، والتمس منه الولاية في التصرفات المبتنية عليها، واستعطى منه، وقبل عطيته مما أمره طوعاً وكرها، ومما عاقب به العصاة، ومما ضمنه من عليه حقوق لله تعالى، وحصره فحث العوام على طاعته وبيعته ومصارفته، فهذا نوع يقضي بالإثبات، ويخالف حال المتوقف والنافي وينافيه.
ومن طريق آخر: يتحرى في مكاتبة الإمام عن وصفه بالإمامة، وعن تلقيبه بأمير المؤمنين، وعن الإجابة على من سأله عنه بأنه إمام، وهذا مقتضى حال النافي أو المتوقف واستحسن هذه الطريقة وسلكها إلى أن فارق الدنيا، وتابعه غيره عليها، وربما كان يقول هذا رجل كان له كمال ومحاسن خلال، وقد أجابه وبايعه العلماء والفضلاء، وأهل الحل والعقد، وهو أصلح وأنهض من غيره، وتأهله لهذا الأمر وقيامه بتكاليفه أصلح من طرحه له وإهماله إياه، وليس غيره يقوم مقامه، ومن مثل هذا يقضي العجب، فإن القواعد المعروفة قاضية بأن الداعي ليس إلا أحد رجلين.
إما كامل الشروط جامع الصفات المعتبرة، حسن السيرة والسريرة، فهو إمام قطعاً، ومتابعته ومشايعته والتصريح بإمامته كل ذلك واجب شرعاً.

(1/116)


وإما خال عن كمال الشرائط منتقص الصفات، فالواجب نفي إمامته، وعدم إظهار متابعته، والحكم عليه بما يقتضيه حاله، واجتناب مذاهبه، وأما هذا المذهب الغريب، والدين المستحدث المريب، فهو من البدع المصادمة لما أوجب الله تعالى وشرع، ولولا محبة الإجمال والستر لأوضحنا الأمر، وصرَّحنا بما حمل على ذلك من الأغراض الدنيوية والمقاصد التي ليست بمرضية.
ومن ذلك ما اعتمده كثير من المميزين وأهل الدين، من التهاون بأمر الإمام، وعدم الاحتفال به والاهتمام، وعدم مواصلته بلسان ولا قلم، وتنزيل وجوده منزلة العدم، وعدم الإنتهاض إليه، ورفض التعلق والتعويل عليه، حتى كأن هذا تكليف قد نسخ أو أمر قد فسخ، ولا يظهر منهم أن ذلك لتحققهم لعدم كماله وانتقاص شرائطه وخصاله، ولو ادعوا ذلك لن يساعدوا إليه، ولا يقرروا عليه وإلا فمن أين لهم الطريق إليه، فإنهم ما رأوا الإمام ولا أبصروه، ولا نهضوا إليه ولا اختبروه، وإن ادعوا أن ذلك تواتر لهم، وانتهى إليهم فغير صحيح لأن المعلوم من حال من واصل الإمام من ناحيتهم ونهض إليه من جهتهم أنهم لا يعودون منه إلا قائلين به معتقدين لإمامته، محسنين للثناء عليه، وإنما الحوامل لهم على ذلك متنوعة.

(1/117)


فلعل منهم من حمله على ذلك محبة السكون والدعة، وعدم الإضطراب والزعزعة، والسلامة عن شوائب دنيوية تعرض لملتزم العروة الإمامية، كان حي والدنا الإمام علي بن المؤيد-عليه السلام-، إذا سئل عن أعيان بايعوه وتابعوه أول الزمان، ثم رفضوا ذلك الشأن، يقول -عليه السلام-: ((غلب عليهم حب المدن، ولعل منهم من دعاه إلى ذلك الآنفة عن الإنخراط في سلك الأتباع، والتعاظم أن يعد من زمرة الأشياع، وما كان ذلك يليق بذي ديانة وتحقيق، فإن الكبر على كل تقدير مذموم، وصاحبه في الدنيا منتقص ملوم، وفي الآخرة للجنة التي وعد المتقون محروم، فكيف إذا صد عن القيام بما أوجب الله تعالى من حقوق الإمام، ولعل منهم من يعتقد أن الإمامة درجة مرتفعة، لا ينالها أحد من أهل الأزمان المتأخرة، ورتبة منيعة عليهم متنكرة متوعرة، وأنها أمر قد طوى وتعذر بكل حال وما كانت إلا منذ مدة الإمام فلان فما قبلها من الأزمان، وهذه جهالة ونوع ضلالة، فلم يكن مثل ذلك حجراً محجوراً، وما كان عطاء ربك محظوراً.
وغير مستبعد (و) لا مستبدع، أن يدخر لكثير من المتأخرين، ما عزب عن كثير من المتقدمين، والفضل بيد الله يؤتيه من يشاء، وليس في العقل ولا في الشرع ما يقضي بأن شرائط الإمامة قد تعذرت، وأن مسالك الساعين إليها قد توعرت)).

(1/118)


3- حكم من امتنع من بيعة الإمام
الذي ذكره الإمام الهادي إلى الحق -عليه السلام-، في كتاب (الأحكام): أنها تطرح شهادته، وتسقط عدالته، ويحرم نصيبه من الفيء.
قال الإمام يحيى بن حمزة -عليه السلام-: سقطت عدالته، لأن الإجماع منعقد على فسقه بمخالفته الإمام، فيما تعود مصلحته على عامة المسلمين، قال -عليه السلام-: وإنما طرحت شهادته فلأنا إذا حكمنا عليه بالفسق، لم يكن مقبول الشهادة، وأما تحريم الفيء فإنما يستحق بالنصرة للإمام والكون تحت طاعته.انتهى.
والحاصل أنها من ما يجب للإمام على المأموم وإن امتنع منها فقد أخل بواجب، ودليل وجوبها الآية الكريمة: {أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُوْلِي الأَمْرِ}[النساء: 59]ولا طاعة لمن امتنع من بيعة الإمام، ولأن فيها قوة لأمر الإمام، وقد يقع بها تهوين أمر من يعاديه، وينتظم بها الحال، ويجتمع به الشمل، وتقع بها السكينة والطمأنينة في قلب الإمام، وظنه بنفسه على المأموم، وتحصل بها مراعات المأموم، لما شملته وتأكد طاعته، ويحاذر من مخالفتها أن يصير منسوباً إلى حزب الناكثين، والدخول في زمرتهم.
وكما أنها تجب حيث طلبها الإمام أولاً، فإنها تجب حيث طلبها ثانياً وثالثاً لما ذكرناه، والنظر في ذلك إلى الإمام حسبما يراه مصلحة، فإن النبي -صلى الله عليه وآله وسلم- بايع الأنصار قبل خروجه من مكة بيعتين، بيعة النساء سميت بذلك، لاشتمالها على ما اشتمل عليه بيعة النساء المذكورة في سورة المودة.
ثم بيعة العقبة على الموت: وبايع بعد مصيره إلى المدينة بيعتين:

(1/119)


فالبيعة الأولى: بيعة الرضوان، لما أمر عثمان أن يتحسس له أخبار مكة، فبلغه أنهم قتلوه، وهي بيعة الرضوان وبيعة الشجرة.
والبيعة الثانية: يوم الحديبية، وإرسال عثمان إلى مكة كان من الحديبية، والإرجاف بقتله بلغ إلى الحديبية فبايع النبي -صلى الله عليه وآله وسلم- أصحابه على مناجزة القوم، وصفق شماله على يمينه فبايع بها لعثمان، وكلام جابر في هذه البيعة التي هي بيعة الرضوان، وبيعة الشجرة، وبيعة الحديبية.
قال في سيرة ابن هشام في غزوة الحدبيبة، وقصتها: لما بلغ رسول الله
-صلى الله عليه وآله وسلم- أن عثمان قد قتل لا يبرح حتى يناجز القوم، ودعا رسول الله -صلى الله عليه وآله وسلم- الناس إلى البيعة، وكانت بيعة الرضوان تحت الشجرة فكان الناس يقولون: بايعهم رسول الله -صلى الله عليه وآله وسلم- على الموت.
وكان جابر بن عبد الله -رضي الله عنه- يقول: إن رسول الله -صلى الله عليه وآله وسلم- لم يبايعنا على الموت، ولكن بايعنا على أن لا نفر، والله سبحانه وتعالى أعلم.

(1/120)


4- حكم ناكث بيعة الإمام
قال الإمام يحيى -عليه السلام-: من نكث بيعة الإمام العادل المحق، وامتنع من طاعته مع العلم بإمامته، فهو فاسق بالإجماع، لكن لا يقاتله الإمام ما لم يظهر العداوة ولم يقاتل، فإن أمير المؤمنين علياً -عليه السلام- لم يقاتل ابن عمر، وأسامة، ومحمد بن مسلمة مع ما ظهر منهم من نكث بيعته لما لم يحاربوه.
قلت: يتحقق حقيقة النكث منهم، فالمشهور عن ابن عمر أنه لم يبايع حتى شنع كثيرون عليه لامتناعه من بيعة أمير المؤمنين -عليه السلام-، وكونه بايع الحجاج لعبد الملك بن مروان، والمشهور عنهم التوقف والخذلان، وعدم القيام معه في حروبه، وتركهم الجهاد، والله سبحانه وتعالى أعلم.

(1/121)


5- حكم من ضم إلى نكث البيعة قتاله
وهذا كما كان من طلحة والزبير، في حق أمير المؤمنين -عليه السلام-، فلم يقتصرا على مجرد النكث بل كان منهما ما كان من قتاله والبغي عليه والمناصبة له.
قال الإمام يحيى-عليه السلام-: فلأجل هذا فسقوا بخروجهم عليه مع كونه داعياً إلى الحق وأمر بقتالهم.
قال -عليه السلام-: أمرت أن أقاتل الناكثين والقاسطين والمارقين، وقال: ما وجدت إلا قتالهم أو الكفر بما أنزل على محمد -صلى الله عليه وآله وسلم.

(1/122)


6- حكم من عرف بالتثبيط عن الإمام
إما عن بيعته أو عن إمامته، أو عن الخروج إليه، ومناصرته أو نحو ذلك.
قال الإمام يحيى بن حمزة -عليه السلام-: فالواجب تعزيره بالضرب والحبس والإهانة، وإن رأى الإمام طرده طرده لأنه ساع في توهين أمر الإمام، وفساد أحواله، وينشأ من ذلك ضعف أحوال المسلمين وتقوية أمر الفسقة، والظلمة، فمن كانت هذه حاله استحق الزجر والتأديب لإقدامه على ما هو فساد في الدين، ومحظور في حكم رب العالمين ولأن في إهانته بشئ مما ذكر زجراً وتحذيراً ومنعاً لغيره عن مثل حاله، ولئن مثل ذلك نوع من الإرجاف وقد قال تعالى: {لَئِنْ لَمْ يَنْتَهِ الْمُنَافِقُونَ وَالَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ وَالْمُرْجِفُونَ فِي الْمَدِينَةِ}[الأحزاب: 60]الآيات.
قال الإمام يحيى بن حمزة -عليه السلام-: وقد تضمنت إبعاد مريض القلب عن قبول دعوة رسول الله -صلى الله عليه وآله وسلم- وحجته، وذكر استحقاقه اللعنة والطرد والإغراء به والقتل، فهكذا يكون حال الإمام لقيامه مقام الرسول -صلى الله عليه وآله وسلم- إلا فيما خصه الدليل.
تنبيه: من كان من أهل التثبيط أو من كان يظهر منه الفساد على الإمام، فلا ينبغي أن يأذن له الإمام بالخروج معه أو مع بعض أمرائه، ولا يجوز للمؤمنين أن يصطحبوه، وحال من يظهر منه الفساد على أحد وجوه، منها:
تخذيل المسلمين عن الجهاد: كأن يصف كثرة أهل الحرب، أو كثرة خيولهم أو جودة سلاحهم، وأنه لا طاقة للمسلمين بهم فمثل هذا يهنهم ويكسر من همهم في الإقدام على القتال.

(1/123)


ومنها: أن يصدر منه ما يكون فيه عون لأعداء الحق كأن يزعم أن ورائهم مدداً عظيماً أو أن من ورائهم كميناً أو جيشاً كثيرًا.
ومنها: أن يأتي بغير هذا المعنى من الإرجاف، وما ييئس المسلمون عن النيل من خصومهم لقوة شوكتهم ونحو ذلك.
ومنها: أن يكون جاسوساً، وهو الذي ينقل أخبار أهل الحق إلى أعاديهم، ويدلهم على عوراتهم، ويفضي إليهم بأسرارهم، وهؤلاء لا ينبغي أن يصحبوا الإمام في سفر ولا حضر ولا جيوشه، وهم المقصودون في قوله تعالى: {اقْعُدُوا مَعَ الْقَاعِدِينَ ، لَوْ خَرَجُوا فِيكُمْ مَا زَادُوكُمْ إِلاَّ خَبَالاً وَلاََوْضَعُوا خِلاَلَكُمْ}[التوبة: 46،47]أي: ما زادوكم إلا ضرراً وفساداً، ولأوقعوا الخلاف بينكم.
وقيل: لا تسرعوا إلى تفريق جموعكم، لا يقال: فقد كان النبي -صلى الله عليه وآله وسلم- يأذن لعبد الله بن أبي في الخروج معه، وكان جامعاً لهذه الخصال الرذائل، وكان من أعظم المثبطين والمخذلين، لا بالقول أصحاب رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم كانوا لا يلتفتون إلى مثله، لأنهم أهل البر والتقوى، وأين جنود الأئمة عليهم السلام ومن يصحبهم منهم!؟ ولأن رسول الله -صلى الله عليه وآله وسلم- كان ينزل عليه الوحي بأخبارهم، وما يصدر منهم فيطلع على مكرهم بخلاف الأئمة عليهم السلام.

(1/124)


7- حكم الجاسوس
وقد تقدم ذكر صفته، قال الإمام يحيى -عليه السلام-: إن كان جاسوساً لأهل الحرب جاز قتله إن كان في دار الحرب، وإن دخل دار الإسلام بغير أمان جاز ذلك وجاز استرقاقه، ويكون فيئاً لمن أخذه. وإن دخل بأمان طرد وأخرج لفساده، فإن امتنع نبذ إليه العهد وجاز قتله، وإن كان جاسوساً لأهل البغي قتل إن قتل قصاصاً.
وكذا إن قُتِلَ أحد من المسلمين بسببه، ما دامت الحرب قائمة بين الإمام والبغاة، وإن أتفقت الهدنة طرد ولم يقتل. ويلحق بهذا الباب ذكر مسألة جليلة القدر، عظيمة الخطر، وهي أن من حقوق الإمام المفروضة على المسلمين، تسليم الزكوات إليه، وتبليغها حتى تصير بيده قليلها وكثيرها وصغيرها وكبيرها، وظاهرها وباطنها، ومن صرفها إلى غيره بغير أمره أعاد، ومن اتهمه بالغل استحلفه بالمواثيق الشداد، والقول بأن الولاية في ذلك إليه، هو مذهب الأئمة الأعلام والمحققين من علماء الإسلام، والحجة على ذلك قوله تعالى: { خُذْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ صَدَقَةً }[التوبة: 103]الآية، وما رواه ابن عمر، عن النبي -صلى الله عليه وآله وسلم-: ((ادفعوا صدقاتكم إلى من أولاه الله تعالى أمركم )).
وقوله -صلى الله عليه وآله وسلم-: ((أمرت أن أخذها من أغنيائكم ، وأردها في فقرائكم)).

(1/125)


وقوله -صلى الله عليه وآله وسلم- لمعاذ حين أرسله إلى اليمن: ((إعلم أن في أموالهم صدقة تؤخذ من أغنيائهم، وترد في فقرائهم)) والإمام خليفة الرسول، والقائم مقامه فيما يتعلق بأحكام الشرع إلا ما خصه الدليل، وقد قال أبو بكر في أمر بني حنيفة: لو منعوني عقالاً، أو قال: عناقاً مما أعطوه رسول الله -صلى الله عليه وآله وسلم- لحاربتهم، ولم ينكره أحد من الصحابة -رضي الله عنهم- بل استقر رأيهم كلهم على ذلك، وعلى ذلك جرى عمل الخلفاء الأرشدين، والأئمة الهادين، خلفاً عن سلف، ما تباين رأيهم في ذلك ولا اختلف، والمعلوم من أمر رسول الله -صلى الله عليه وآله وسلم- وخلفائه وأئمة الأمة، استعمال العمال على الزكوات، وبعث السعاة في جميع الجهات، لقبض ظاهرها وباطنها، وخافيها في أداني الأرض وقاصيها، وجهاد من عصاهم في تسلميها، والتصريح بتشنيع جريمته وتعظيمها، وقد خالف الفريقان الشافعي وأصحابه، وأبو حنيفة وأصحابه، في الزكوات الباطنة، زكاة النقدين وما في حكمهما، وأموال التجارة، والمعنى ما كانت زكاته ربع العشر فقالوا: إن ولاية ما هذه حاله إلى أربابها، وليس لولاية الإمام تعلق به، ونسب هذا إلى جماعة من متقدمي أهل البيت -عليهم السلام-، وحجة أهل هذا المذهب قوله تعالى: {إِنْ تُبْدُوا الصَّدَقَاتِ فَنِعِمَّا هِيَ وَإِنْ تُخْفُوهَا وَتُؤْتُوهَا الْفُقَرَاءَ فَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ}[البقرة: 271].
قال الفقيه ف ابن عثمان -رحمه الله تعالى-، وأعاد من بركاته في (الثمرات): ويحتمل أن المراد صدقة النقد أو مع عدم الإمام انتهى.

(1/126)


ولا كلام إن دلالة هذه الآية غير صريحة ولا واضحة، فإنها مرجوحة غير راجحة،لما تقدم من أدلة المذهب المختار، وقال الشافعي في أحد قوليه وهو الجديد وكذلك زكاة الأموال الظاهرة كالمواشي، وما أخرجت الأرض، ولا حجة له في هذا إلا القياس على الباطنة، وإذا اختل الأصل لم يصح ما يبنى عليه فهذا ما سنح ذكره في هذا الفصل، واقتضى المقام ذكره، والمسألة مبسوطة في مواضعها من الكتب الفروعية.
تنبيه: وفي حكم الزكوات في ثبوت ولاية الإمام عليها، واستنادها إليه الفطرة، والخمس، والجزية، والخراج كالصلح، وما جرى هذا المجرى، وبالجملة فجميع الحقوق إلا ما كان وجوبه سبب من المكلف كالكفارات، والمظالم المجهولة، وما هو بسبب منه، فالجمهور أن ولايته إلى من وجب عليه ولا يخلو عن خلاف تحقيقة في موضعه، والله تعالى أعلم.
فائدة عظيمة النفع، ينبغي أن يصغى إليها ويعول عليها:

(1/127)


إعلم أن مدار أمر الإمام فيما يراد منه، وما يقوم لأجله عن حقوق الله ومصيرها إليه أداء الجهاد الذي هو سنام الإسلام وأجل فرائضه، لا يقوم ويتهيأ إلا ببذل الأموال، وتجنيد الأجناد، وإعطاء الرغائب، وكذلك غيره من مصالح الدين ومواساة المحتاجين، وتعهد المساجد والمناهل، وإحياء العلم والتدريس، وإطعام الطعام، وارتباط الخيل وغيرها، مما يدور أمره عليه، والإنفاق على العالم والعهد وغير ذلك بحيث أنه لولا ثبوت الأموال وحقوق الله لما أمكنه النظر في شيء من تلك الأمور، ولكان كآحاد الناس لم تستقم له راية، ولا كان على إمامته آية، فسبيل من وفقه الله تعالى للقيام بحق الإمام تعظيم هذا الحق الذي للإمام في قلوب أهل الإسلام، والحث عليه والدعاء إليه، ومن التفريط في جنب الله والإساءة إلى الإمام الداعي إلى الله تعالى ما اعتاده كثير من المتسمين بالفقه، المتسمين بالتشنيع، المدعين للتمييز من التثبيط للناس عن تسليم الحقوق إلى الإمام، والترخيص لهم في ذلك وإفتائهم بأن ولاية زكواتهم إليهم، ومدار النظر فيها عليهم، وأنه هو المختار للمذهب، وليس وراء ذلك للمرء مطلب، والذي دعاهم إلى ذلك التحامل على الإمام، وكراهية الصلاح لأمره، والإنتظام والتهافت على اختطاف الزكوات، والولع بالأخذ وقول هات، بحيث أنهم لو رضوا عن الإمام، وحظوا منه بالمرام، ما أفتوا بهذه الفتوى، ولا صرحوا بهذه الدعوى، وما أفتوا بما أفتوا به إلا اتباعاً للأهواء، وخبطاً كخبط عشواء، ولا تحل الفتوى إلا لذي الاجتهاد، والنظر الوقَّاد، أو لذي الترجيح الفارق بين السقيم والصحيح، ما قرر كلاماً

(1/128)


في كتاب، أو قراءة قرآة بتلقن مرتاب، فحقه الإعراض والسكوت، ليس (بعثك فاردجي) ولكن التجاسر على الفتوى ممن ليس بأهلها من بدع الزمان.
وخير أمور الناس ما كان سنة .... وشر الأمور المحدثات البدائع
وهذا المذهب مشهورة نسبته إلى أبي طالب، وروي عن الهادي، والناصر، وأبي العباس، وظاهر كلام (الإنتصار) أنه إنما عزي إلى الهادي -عليه السلام- لما في سيرته من كونه نهى عن أخذ الزكاة ممن نأئي من البلاد التي لا يليها، لأنه لا يحميهم فإن سلموها طوعا جاز وهذه رواية، الله أعلم بصحتها.
والتعليل بعدم الحماية عليل، وليس الزكاة كالجزية ولا العلة في وجوبها حماية أهلها وأمانهم، إنما هي عبادة مالية بحت، حمي صاحبها أو لم يحم أمن أو لم يأمن، ويمكن الاستدلال بهذا على ضعف الرواية، فمثل هذا التعليل ما ينبغي أن يصدر عن ذلك الإمام الجليل، وقد قال -عليه السلام- في (الأحكام): وإذا كان في الزمان إمام حق فإليه استيفاء الزكوات كلها من أصناف الأموال الظاهرة والباطنة، وإلى من يليه من قبله، وله أن يجر أرباب الأموال على حملها إليه، ويستحلف من يتهم بإخفائها، قال في (الإنتصار): وحكي عن الناصر أنه قال: وللإمام المطالبة بزكاة الأموال الظاهرة والباطنة، وليس لأربابها أن يدفعوها إلى أحد (ممن) يحبون من قرابتهم، ويلزمهم دفعها إلى الإمام ومن يلي من قبله بأمره ليدفعها إليه، وللإمام أن يعزز من فعلها.
قال الإمام يحي -عليه السلام-: فهذان الإمامان قد تطابق كلامهما وتوافقا على أن نظر الزكوات إلى الإمام الذي على الحق والعدل.

(1/129)


قلت: وليس في كلامهما -عليهما السلام- هذا تصريح ولا تعريض، بأن ذلك مقصو(ر) على جهة دون جهة، ولا على ناس دون ناس، ولا أنه يتوقف على نفوذ الأوامر، ثم نقول لأهل الفتوى: تلك الفتوى المتبعة للأهواء، قد نص في (الياقوتة) وغيرها على أن الأفضل عند أهل هذا المذهب الصرف إلى الإمام، فإذا أفتيتم به فلِمَ لم تعرفوا العوام بأن الأفضل خلاف ذلك، ثم نقول لهم: قد ذكر الفقيه العلامة يوسف بن أحمد بن عثمان، في (الزهور)، وغيره، وحكوا عمن حكوا عنه أن هذا مع عدم مطالبة الإمام بالحقوق، فأما مع المطالبة منه فيكون أمرها إليه إجماعاً، ثم نقول: قد نص أهل المذهب على أن للإمام أن يلزم الناس مذهبه فيما يقوي به أمره، فأين أنتم عن الإلزام وعن وجوب الإلتزام!؟، ثم نقول لهم: هلا قصدتم الله عز وجل في العوام بأن تفتوهم بما هو الأحوط لهم في دينهم، فإن القائلين بأن ولايتها إليهم يقولون بأن صرفها إلى الإمام أفضل، والقائلين بأن ولايتها إلى الإمام يقولون صرفهم لها بأنفسهم لا يجزيهم، ويصيرون آثمين مطالبين بها في الدنيا والآخرة، فأي شيء هو الأولى لهم تسليمها إلى الإمام فيقع الخلاص لهم إجماعا، أو تفريقها بأيديهم فيكونوا في ذلك عند البعض آثمين مجرمين مفرطين متبوعين، بل أعظم من هذا، أن الإمام المنصور بالله –عليه السلام- نص في (المهذب) أنه من أخذ الزكاة في عصر الإمام معتقداً لجواز الأخذ كان ردة، لرده ما علم ضرورة وإن أخذ ما علم بالتحريم كان فسقا، وهكذا يكون عنده حكم الصارف إذ لا فرق، فهلا إذاً كنتم لستم في منصب الإفتاء، وإنما قصدتم الحكاية حكيتم هذا

(1/130)


المذهب الفاجع الزائغ، المقتضي للهرب مما نص هذا الإمام الجليل على أنه ردة، وكقور نعوذ بالله منه ومن السلوك في مسالك الغرور، فيتبين أن المفتي بذلك المذهب من أهل الأهواء والأغراض والقلوب المراض.
واعلم أن مذهب أبي طالب في هذه المسألة ضعيف جدا، وقد وقفنا لبعض العلماء على نسبته فيه إلى الغلط، ثم إنَّا نوضح ضعف هذا المذهب، بوجوه غير ما تقدم ذكره:
أحدها: أن نقول: تسليم الحقوق إلى الإمام حق من حقوقه الواجبة على الإمام، وقد صرحتم بسقوطه عمن لم تنفذ أوامره عليه، ولم يكن من أهل الناحية الذين تظهر عليهم طاعته، وينفذ عليهم وطأته، فهل تقولون أن سائر حقوقه التي يجب لهم من طاعة أو محبة (والالتزام بعروته) والجهاد بين يديه وإجابة داعية وغير ذلك ساقطة عمن تلك صفته، بسقوط وجوب تسليم الحقوق إليه أولا؟
إن قلتم: نعم، هي كلها ساقطة عنه كسقوطه، كان حاصل كلامكم أنه من لم ينفذ أوامر الإمام عليه لم يتوجه الخطاب بوجوب طاعته إليه، فيكون وجوب القيام في حقه كعدمه، ولا يثبت إلى الإمام حكم من الأحكام إلا في حق من جرت أحكام ولايته عليه، حتى لو لم ينفذ أوامره إلا على أهل محله لم يكن إماما إلا لهم فقط، ولو لم ينفذ أوامره على أحد لم يكن إماما لأحد وكان كواحد من سائر الناس، وهذا إبطال لأحكام الإمامة، وتنكيس لها على الهامة، ورمي بها في جب ثمانين قامة، هذا مالا ينبغي أن يقول به مميز من الناس، ولا يلتبس عليه شيء من الإلتباس.

(1/131)


وإن قلتم: إنه لا يسقط عمن لا ينفذ أوامره عليه من حقوقه إلا ذلك الحق فقط وبقية حقوقه باقية واجبة، ومن ينفذ أوامره عليه لازمة، قلنا: هاتوا لنا المخصص وأبرزوه، الذي قضى بأن الإمام إمام في جميع الأحكام إلا هذا الحكم المخصوص، فخروجه عنه منقوص، وهو تخصيص من غير مخصص، وفرق من غير فارق مخلص، وثانيها أن نقول: أخبرونا عن مقاتلة الخلفاء الراشدين، والأئمة الهادين، الذين كانوا عن تسليم الحقوق إليهم متمردين، هل قاتلوهم على أمر يستحقونه عليهم وولايته إليهم، أو لا؟
إن قلتم بالثاني فقد جعلتموهم باغين، وعلى من قاتلوهم متعدين، وإن (قلتم) بالأول فقد أبطلتم ما ذهبتم إليه، وعرفتم أن لا تعويل عليه،ولولا عموم ولاية الإمام لما ساغ له أن يقاتل مانع الزكاة عنه، ولا يقاتل إلا من لا نفوذ لأوامره عليه، وقد قلتم: لا يجب عليه أن يسلم الزكاة إليه.

(1/132)


وثالثها: أن نقول: أليس الإمام إذا دعا فهو في حال دعوته ومبتدئ أمره لا تنفذ أوامره على أحد من الناس، بلا إشكال في ذلك ولا إلباس، فلو أن الناس كلهم مع معرفتهم لصحة إمامته، وجمعه لشرائطها، واعترافهم بذلك منعوه الزكوات والحقوق الواجبات، وقالوا: لا ولاية لك على ما لدينا من الحقوق، لأن أوامرك الآن لا نفوذ لها علينا، فنفرقها على المستحقين بأيدينا، أليس كلامهم صوابا على رأيكم!؟، فأخبرونا كيف يستقيم أمره بعد ذلك، ويتهيأ له الجهاد، ومنابذة الظالمين، والنظر في مصالح الدين، إنه لا يستقيم له حال إلا بما يقع في يده من بيت المال، وهذا أمر ظاهر لا يدفع، ومكشوف لا يتقنع، فتبين لك بما ذكرناه وأوضحناه، أن هذا المذهب لا يعول عليه، ولا يلتفت إليه، ولا يفتي به من يريد وجه الله تعالى والدار الآخرة، وإنما يفتي به أهل الأهواء الباطنة والظاهرة، وكافيك عن ذلك كله أن الأدلة الدالة على ثبوت ولاية الإمام في ذلك لم تفرق بين من ينفذ أوامره عليه، ومن لا نفوذ لها في حقه، وأنه لا يعلم للقول بالفرق في هذه المسألة حجة عليه، ولا دليل يتوجه إليه، والله أعلم بالصواب، وهو المرجو لإزاحة الشك والارتياب.

(1/133)


القول فيما يلزم الإمام للرعية ويتعلق بذلك من الأحكام الشرعية
يلزمه أن يسير فيهم السيرة المرضية، المطابقة للسنة النبوية، الخالصة عن شوب الهوى، ومحبة الدنيا الدنية، فيأمرهم بالمعروف، وينهاهم عن المنكر، ويقيم الحدود على مرتكبها، ويغيث المظلومين، وينابذ الظالمين، ويجد في تنفيذ الشريعة المطهرة وأحكامها، ونصب قضاتها وحكامها، ويعامل المتقين بالرفق وحسن الخلق وإلانة الجانب، ويعامل الفجار بخلاف ذلك، ولا تأخذه في الله تعالى لومة لائم، ولا يحجم عن شيء مما ذكر إلا لعذر مانع، وعائق حائل أو خيفة مفسدة في الدين لا تقوم بها تلك المصلحة.
ومن تكاليفه ما هو مقصور عليه لا يقوم به غيره، كإقامة الجمعات، وتجنيد الجنود، وحفظ بيضة الإسلام، وغزو الكفار والبغاة، ونحو ذلك، ومن تكاليفه ما يعمه وغيره كالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وإصلاح الطرق، وعمارة المساجد ونحو ذلك.

(1/134)


وهذا النوع يكون أكد في حقه وألزم له، وعليه تسهيل الحجاب، بحيث يتصل به الضعفاء والمساكين والمظلومون لقضاء حوائجهم التي يجب عليه قضائها، ولا يجب ذلك مستمراً بل في بعض الأوقات، بحيث لا يتعذر على من ذكر ما ذكر، وإلا فإن له أن يحتجب في بعض الأوقات للخلو بأهله وخاصته، وقضاء مالا بد له من قضائه، من أكل وشرب، ونوم وقضاء حاجته، وفعل عبادة، وعليه تقريب أهل الفضل يعني أنهم يكونون أقرب اتصالا به من غيرهم لأنه ينبغي تعظيمهم وهذا نوع منه، وقد أرشد الله إلى ذلك بقوله تعالى: {وَاصْبِرْ نَفْسَكَ مَعَ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ بِالْغَدَاةِ وَالْعَشِيِّ يُرِيدُونَ وَجْهَهُ}[الكهف: 28] الآية. ومجالستهم حتى يكتسب من علم، أو عمل، أو تذكر بأمر الآخرة، وعليه الاستشارة للأعيان فيما لنظرهم فيه مجال ومكان من أمور الأمة، قال تعالى: {وَشَاوِرْهُمْ فِي الأَمْرِ }[آل عمران: 159] وعليه أن يتعهد الضعفاء فيما يحتاجون إليه، حسب ما يتوجه عليه من عطاء أو إنصاف من ظالم مما يحتاجون، والمراد بهم من لا يتصل به من النساء والصبيان ومرضى المساكين، وعليه في أمور الجهاد وآدابه ما يذكر في بابه، وتكاليف الإمام كثيرة، وإنما هذه نبذة يسيرة إلى المقصود مشيرة.

(1/135)


تنبيه وإرشاد: وينبغي أن يتوجه النظر المستجاد، ومسائلة (إلى) جهابذة النقاد. اعلم أنه كثير ما يغلط على الإمام في أمر الفقراء والمساكين، ويشيع ذلك بين الناس اعتقاد جهل، وهو أنه يلزمه النظر في أرزاقهم وكفايتهم، وإجابة سائليهم من غير التفات إلى حال الإمام ولا إلى حال المأموم ولا ذكر شرط في ذلك ولا قيد من القيود، ولقد رأينا ذلك وسمعنا ما يقضي منه العجب بحيث أنه قد يتظلم كثير من الفقراء تظلماً كثيراً من الإمام كتظلم المنهوب من الناهب، والمغصوب حقه من الغاصب، وقد يتصور بعضهم بصورة الغريم المطالب، ولهم في ذلك فنون ومذاهب، وقد ينتصب بعضهم لوعظ الإمام ويخوفه الوقوف بين يدي الله تعالى يوم الحشر والقيام.
وقد يزعم بعضهم أن الذي تهلكه المجاعة في السنة الشهباء، ولم يتداركه الإمام يصيره بمنزلة قاتل العمد وغير هذا، وغيره من فنون الجهالة من أنواع الضلالة، والذي جرءاهم على ذلك ما يقفون عليه في الكتب المتدارسة المتداولة، من ذكر ما يوهم ما فأهوابه(كاللمع) و(التذكرة) وغيرهما، فقد ذكر في (اللمع): إن الإمام يغنيهم عما يحتاجونه أو بعضه بحسب رأيه، قال بعض شارحي اللمع فيه روايتان بالغين المعجمة من الغناء وبالعين المهملة من الإعانة.
وقال في (التذكرة): ويفضل الضعفاء والأرامل والمساكين، ويغنيهم عن مسألة غيره من ذوي السعة، حيث وفي كلام (التذكرة) إشارة إلى تفسير ذلك اللفظ الذي في (اللمع).

(1/136)


وقال في (الأزهار) وشرحه (الغيث): وتعهد الضعفاء فيما يحتاجون إليه من إعطاء أو إنصاف من ظالم، والمراد بهم من لا يتصل به من النساء والصبيان والمرضى والمساكين.
قال المهدي -عليه السلام-: ويكفيه من تعهدهم أن يوصي نائب كل جهة في تعهد مساكينها ومواساتهم كلُ بقدر حاله، فلما وقف من ليس له تحقيق على ما ذكر أخذ بظاهره، وحملهم الشغف بالإعطاء والتحامل على الأئمة بما يصير إليهم من بيوت الأموال على عدم التأمل للأمر، والتفهم بشروطه والنظور لأحوال يكون عليها الإمام ويختلف في حقه، وما عدم أهل تلك الكتب ومن حذا حذوهم أنهم رموا بمثل ذلك الكلام رمياً خالياً عن الأحكام، والاهتمام بعدم الإيهام لا جهلاً منهم للأمر، ولا قصداً للإلباس على الناس، وكلام (الأزهار) وشرحه أعدلها وأقربها إلى عدم الإشكال والإبهام، وهو صريح في تحقيق حال من يتعهد ويتوجه النظر في حاله، وأكثر الفقراء عن ذلك المعزل والغلط المشار إليه في هذا المعنى عن الأهم من وجوه أربعة:
الأول: إن المنقدح في نفوس المنافسين للإمام المشار إليهم أن هذا الواجب يجب على كل إمام، وأن ثبوت الإمامة يستدعيه ويقتضيه، ويصرحون بأنه ما شرعت الإمامة ووجب انتصاب الإمام إلا لهذا المعنى، والغرض من هذا الوجه ظاهره، فإنه ليس كل إمام يتمكن من ذلك، وكم من إمام لا يحتوي على شيئ، ولا يتمكن من مواساة فقير واحد فضلاً عن أن يواسي كل فقير فضلاً عن أن يغنيه، وحال الإمام الواحد يختلف، وقد يتمكن في وقت دون وقت، وقد يكون في بعض الأحوال ذا حال واسع وفي بعضها على أمر ضيق.

(1/137)


فنيبغي أن لا يوجه للتشنيع إليه إلا بعد التحقيق لما هو عليه.
الوجه الثاني: إن المواساة وتعهد المحتاجين، إنما تجب على الإمام حيث وصلت في يده فضله بعد القيام مما لا يستقيم حاله إلا به، وبعد إعداد شيء نافع لما يعرض وينوب، ومع الخلو عن استيعاب الأمورالجهادية لما في يده من الحقوق الواجبة.
وقد صرح المنصور بالله -عليه السلام- بذلك، وقال ما معناه: إن مواساة الإمام للفقراء، إنما تتوجه مع عدم الاحتياج إلى سد الثغور واستقامة أمر الجهاد، وأما مع الحاجة إلى ذلك فهو أقدم ولو أدى إلى موت الفقراء للحاجة والمجاعة، لأن موت الفقراء لا يتعدى أضراره، ولا يؤدي إلى فساد في الدين بخلاف الإخلال بشيئ من أمر الجهاد وما يحتاج فيه.
وصرح الإمام إبراهيم بن تاج الدين في بعض رسائله بأن عماله لا يواسون الفقراء والمساكين إلا بربع الواجب، وأما ثلاثة أرباع فيتركه لما عدا ذلك. قال: إلا أن يتضيق أمر الجهاد فلا يعطوا الفقراء شيئاً.

(1/138)


الثالث: أن أكثر من يدعى هذه الدعوى على الإمام، ويناقشونه في أمر أنفسهم، وهو من لا اهتمام له بشيئ من أمر الإمام والإمامة، ومن هو غافل عن ذلك معرض عنه غير مشتغل به، فلا يخطر بباله من تكاليف الإمامة وفوائدها وثمراتها إلا وجوب مواساة الفقراء من الإمام، وإنما يتعهد الإمام ويزوره لقضاء حاجة فقط، بحيث أنه لولا هي لما وفد عليه ولا التفت إليه، فلا يأتيه إلا مطالباً له بها، وهذه غلطة ظاهرة، فإنه لا يجب على الإمام أن يتعهد من لم يقم بشيئ من حقه وما يجب له، وما كلف الناس به من أمره، ومن فرط في أمر الإمام أو ما يجب له فحقه على الإمام ساقط.
وقد صرح المنصور بالله -عليه السلام- بذلك، ونص على أنه لا يجب على الإمام مواساة من لم يقم بحقه، ويؤدي ما كلف من أجله، قال -عليه السلام- ما لفظه: يجب الجهاد بالسنان والحسام، واليد والكلام، وكل أحد يقدر على الجهاد فمن لم يجاهد فلا حق له في الواجب، ولا على الإمام له عهده كيف وقد ارتكب عظيماً، وترك فرضاً جسيما.
قال: كل من كان قعيد بيته، وجليس أهله وعشيرته، فلا يلزم الإمام عهدته، ولا القيام بمؤنته، وله أن يعطي بعض الأشياع أو بعض الأجناد دون بعض وأكثر من بعض، كما كان رسول الله -صلى الله عليه وآله وسلم-يعطي الحلفاء من الأعراب من بيوت الأموال نحو مائة بعير، وفقراء المهاجرين والأنصار، على الصفة يود الواحد مضغه من الطعام.

(1/139)


وقال المهدي أحمد بن الحسين -عليه السلام-: يقتضي العامل الواجبات فيوفر منها ثلاث أرباعها للجهاد ويصرف في الفقراء والمساكين ممن قام بفرض الجهاد فإن لم فلا حظ له في شيء من ذلك.
الوجه الرابع: إن عدَّ مواساة الفقراء والمساكين من الحقوق اللازمة للإمام، هو بناء على قيام الناس بحقه في تأدية جميع الحقوق إليه، واستيفائه لها ومصيرها بيده، فحينئذ يجب عليه صرفها بمصارفها، ومن مصارفها الفقراء والمساكين ويتعلق به في ذلك ويتوجه الطلب إليه، وأما حث الإمام ما عليه بصفة ما عليه أكثر الأئمة -عليهم السلام- من عدم قوة اليد، وشدة القهر، وعجزهم عن استيفاء الحقوق كلها، وامتناع أربابها عن تسليمها كلها.
وكون الأكثر منهم متمردين فلا يصير إلى الإمام شيءمنهم وكون البعض لا يسلمون إلا البعض منها، فمن أين يجب مثل ذلك على الإمام؟.

(1/140)


واعلم أن توجه مواساة فقراء كل جهة ليس إلا مع قبض واجباتها كلها، والحقوق التي فيها بأجمعها، وإذا لم يقبض الإمام من قطر شيئاً ولا أذعن له أهله ولا تمكن من قهرهم على تسليم ما عليهم من ذلك فلا حق لفقرائه عليه ولا شيء لهم يتوجه إليه، ومن المعلوم قطعاً أنه لا يجب على القائم في اليمن مثلاً أن يتعهد فقراء مصر والعراق والشام ولا يعد ذلك من تكليفه، وكذلك ما كان بذلك الحكم وعدم مصير واحد إليه، وإذا كان من الجهات ما لا يصير إلى الإمام من واجباته والحقوق التي على أهله إلا البعض كالنصف، أو الثلث، أو الربع، على ما هو الغالب من حال الجهات الإمامية بالديار اليمنية فإن عادة أهلها غالباً يسلم البعض من واجباتهم إلى الإمام وترك البعض بأيديهم، ويقولون فيما يزوونه على الإمام هو نصيب الفقراء، ويسمونها الإمام نصيب الجهاد فلا حق لفقراء هذه الجهات المشار إليها عند الإمام، ولا لهم علة يعتلون بها عليه، إذا لم يقبض لهم شيئاً وحصتهم من الواجبات عند أربابها وبأيديهم والطلب فيها يتوجه إليهم وسواء كان ترك حصة الفقراء بإذن الإمام ورضى منه أو لا يرضاه وبغير إذن منه.
أما حيث لم يحصل له منهم تسليم الواجب كله ولا تمكن من قهرهم فظاهر، وأما حيث كان ذلك بإذن منه ورضا ولو شاء لقبض الكل فلأن قبض نصيب الفقراء من أرباب الواجبات ليس بواجب عليه، لا أنه حق عليه والواجب لازم له، فإنه لو لم يطالب الناس بتسليم الحقوق، ولا يلزمهم ذلك لم يعد مخلاً بواجب، ولهذا حكم الفقهاء بأن التخلية إلى المصدق كافية لا إلى الإمام ما ذاك إلا لأن الإمام لا يجب عليه القبض.

(1/141)


وأما المصدق فيجب عليه وذلك لإلزام الإمام إياه، واستعماله عليه يكون بصفة الأمين، لا يقال: ومن أين أن حصة الفقراء والمساكين يتعين فيما بقي بيد رب الزكاة والحقوق، فإن حصتهم في الزكاة مشاعة، فإذا قبض الإمام بعضاً من الزكوات ونحوها، كان لهم حصتهم منه حيث قبض الزكاة كلها وإلى أربابها حيث تولوا صرفها وتفريقها، فإذا قال رب الزكاة للإمام: هذا إليك، وهو حصة الجهاد ونحوه من المصارف، وهذا إلى حصة الفقراء والمساكين حيث كان ربعاً أو حصتهما، وحصة الغارم وابن السبيل مثلاً حيث كان نصفاً، وقبل ذلك الإمام منه، وأقره عليه فلا شيء في يد الإمام للفقير حينئذ، ولا حق يتعلق به له، ولا يلزم أن يكون قسمة الزكاة (بين مصارفها) كقسمة الأشياء المملوكة بين مالكيها، فيشترط الحضور والتراضي، أو مصير كل نصيب إلى مستحقه، فيما قسمته إفراز ألا(ترى) أن بعض أرباب الزكاة لو صرفوا (في) ابن السبيل حصته من واجبهم أو إلى الغارم مثلاً حصته، ولم يسلموا للفقير والمسكين شيئاً لم يكن مطالبة أولئك المصروف إليهم وأن يقولوا حصتنا مشاع فسلموا لنا حصتنا مما صار إليكم، فلم يرض بما ذكروه من بقاء حصتنا بأيديهم، هذا مالا يقول به أحد، ولا يتصور ولا يتقرر، ولو كان المصارف كالمالكين لما جاز أن يختص بعض أهل المصارف دون بعض، وفقير دون سائر الفقراء، والأمر فيما ذكرناه ظاهر.

(1/142)


وأما فرض أن يد الإمام انبسطت وتمكن من قهر أهل جهة، فاستوفى منها الحقوق كلها واستقصى عليها، فلا كلام أنه يجب عليه تعهد من فيها من الضعفاء الذين حققتهم، كما ذكره المهدي -عليه السلام- أحمد بن الحسين، وهم الذين لا يستطيعون حيلة ولا يهتدون سبيلا.
وأنه يتوجه عليه أن يواسيهم كل منهم على حسب حاله وحسب ما يراه، وأما فقراءها المتمكنون من التكسب والضرب في الأرض وحق الإمام واجب عليهم، ولازم إياهم لتمكنهم من القيام به، فهؤلاء شأنهم أنهم إن قاموا بحق الإمام وما كلفوا به من أجله، فمواساته إياهم لازمة له، وقيامه بحقهم واجب عليه، ويحسن أن يصرف إلى الفقراء والمساكين من أهل تلك الجهة قدر الربع من واجباتهم، لأنه أحوط، وإن لم يلزم مراعاة هذا التقدير بل له الزيادة عليه، والنقص منه، وهذا حيث كان في الأمر سعة وأحواله مستقيمة، ولا يلحق بما ذكره خلل، وباب الجهاد غير موسع، ولا يستوعب بحيث لا خلل كان ولا ضرر ولا إجحاف.

(1/143)


دقيقة: اعلم أن الأصحاب -رحمهم الله تعالى- تركوا تقييد ما يجب على الإمام من تلك الأمور بما أشرنا إليه ويتهيأ عليه، إلا أنهم في الأغلب يذكرون ما هو عليه بعد ذكر ما هو له، فبيَّنوا وجوب ما يجب عليه على تقدير حصول ما قدموه مما يجب له، ولا شك أنه إذا فرض قيام الأمة بما يجب عليهم له، ومن ذلك تسليم حقوق الله تعالى مع طاعتهم له، والجهاد بين يديه فإن تعهد الضعفاء والفقراء ومواساتهم لفقرهم ولقيامهم بحقه، أمر لازم له مع كونه موكولاً إليه النظر في الإكثار والإقلال، والتسوية والتفضيل، حسب ما يوفيه نظر الإمام إلى الصلاح، ومستحضر النية الصالحة، والقصد الحسن، مجانباً في ذلك الهوى والغرض، ولو سئل من ذكر تلك الظواهر فيما يجب على الإمام، هل ذلك يجب عليه مع خلو يده عن بيوت الأموال واستيفاء الحقوق؟ لقالوا: لا.
وهل يجب عليه مع استيعاب الجهاد وأمور الإمامة التي لا بد منها، ولا يستقيم الأمر إلا معها لما في يده؟ لقالوا: لا.
وهل يجب عليه ذلك لفقراء قطر لا يصير إليه (شيئ) من واجباته؟: لقالوا: لا. وهل يجب عليه للمعرضين عنه الرافضين لما يجب له، التاركين للجهاد معه، المشتغلين بخاصة أمرهم دونه؟. لقالوا: لا. ولكنه قد (قل) الناقل لهذه المعاني، وعدم البناء على قوىِّ المباني، فأما أهل الجهل والبله، وعدم التمييز وهم الجم الغفير، فلا يستغرب ذلك منهم، فإن الجهل داء، والجاهلون لأهل العلم أعداء.
وأما أهل التمييز والمعرفة فهم لا يجهلون ما ذكرناه، ولا ينكرون ما عرفناه، ولكن غفلوا عن ذلك، وصمم آذانها، والله ولي التوفيق.

(1/144)


وقد جرت مراجعة ومناظره في هذه المعاني في سنة ثلاث وثمانين وثمان مائة سنة، بيننا وبين بعض علمائنا، ونحن حينئذ بطويلة بني تاج الدين، ووجدناه لا يخطر بباله شيء مما قدرناه مع جودة علمه، ووفور فهمه، لكن لم نزل نقرر ذلك لديه، حتى عرفه واعترف به ورجع إليه، وحضر حينئذ تلك المراجعة عين علماء الزمن، ودرة تاج الأخيار بديار اليمن، فوجدناه محيطاً بما ذكرناه فتولى بعض المناظرة، وكانت له على ما قصدنا تقريره ظاهرة.
تنبيه: قد (مر) ما أوضحناه ورجحناه، وكشفنا الغطاء عنه، في شأن ما يتوجه على الإمام لفقراء الأنام، والهاشميون في ذلك أقل حقاً من غيرهم، وليس يسوغ لفقرائهم ما يسوغ للفقراء من غيرهم، فأكثر حقوق الله تعالى لا علقة لهم بها، و لا مدخل لهم فيها، والحقوق التي تسوغ لهم قليلة، ونظر الناس إلى المخلص منها أقل، ومع ذلك فلجاج كثير من الهاشميين في هذا المعنى على الإمام أشد وإلحافهم فيه أكثر وأجد، ومن البدع الشنيعة ما صار عليه كثير منهم من التكالب على الزكاة، والتناول منها على الوجه الذي لا يرضى به الله، وتجاريهم على الاستقطاع منها وأكلها، والانتفاع بها من غير حلها، وتنزيل أنفسهم منزله فقراء سائر الناس، والتوصل إلى أخذها بكل وجه ممكن سراً و جهراً و طوعاً وكرها وقسرا.

(1/145)


ومن طريق الأئمة ومن غيرها مع أن قرائهم والممييزين منهم يقرءون في كتب الهداية أنها أشد حرمة من الميتة، وأنهم يدرسون ذلك ويدارسون فيه، ويسومون الإمام أن يعطيهم منها، ويوفر حضهم فيها، ولا يكاد يخطر ببالهم أن تحريم ذلك عليهم من مسائل الإجماع، وأنه مما لا يتهيأ فيه وجه مُساغ، ولا أن ذلك يصادم شرع جدهم الذين نالوا اسم الشرف ومعناه لأجله، وحازوا رتبة من الرئاسة والجلالة لشرفه وفضله.
فائدة: ومما يغلط فيه على الإمام استنكار كثير من المميزين، لما يصرفه الإمام إلى المؤلفين، واستنكاره واستهجانه لأجله، واعتقاد التفريط فيه، وقد يقول قائلهم: كانت عطية فلان الظالم أو الفاجر، يعني جماعة من الفقراء الفضلاء الأخيار، الذي لا يساوي شسع نعل أحدهم، وهذا من الجهل بعظم موقع المصلحة الحاصلة من التأليف في الدين، وكونها أعظم موقعاً من المصلحة الحاصلة لمواساة الفقراء والمساكين، فإن مواساتهم والمصلحة فيهم مقصورة عليهم لا تتعداهم، وأما المؤلف ففي إعطاءه مصالح يتم نفعها ويعظم موقعها، فقد تكون المصلحة فيه قوة شوكة الحق، أو حفظ بيضة الإسلام، أو سد ثغر، أو دفع شر كان على المسلمين وجانب الدين، أو توصل إلى إقامة معروف ونهي منكر، وغير ذلك من أنواع المصالح الدينية، والمقاصد المرضية، وإنما يتوجه ما ذكروه لو أنه أعطاه لما يرجع إليه، ولكونه على الذي هو عليه، ولو رام الإمام أن يجري أمره على قاعدة وأن تتم منه قيام الفائدة، ويده مقبوضة عن المؤلفين، ومواساته مقصورة على الفقراء والمساكين، لرام شططاً، ولتقاصرت عنه فسيحات الخطأ، فإن أمر الإمام لا

(1/146)


يستقيم إلا بالتأليف على أنواعه، ولا يتم ولا ينتظم أبداً إلا مع كثرته واتساعه، هذا والإمام خليفة رسول الله –صلى الله عليه وآله وسلم-وليس له إلا الاقتفاء لآثاره، والاهتداء بنوره وقد ظهر واشتهر ما اتفق وصدر من سيد البشر من إعطاء المؤلفين العطايا الواسعة، وإيثارهم على أهل المناصرة والمشايعة، كما فعل يوم حنين فإنه أعطى جماعة من المؤلفين كل واحد منهم مائة من الإبل، وخصهم بذلك دون الأخيار من المهاجرين والأنصار، ولم يؤثر أنه أعطى فقيراً ذلك اليوم للافتقار من ذلك عشر المعشار، ولعل المعطين أولئك لا يساوون كلهم ولا يزنون عند الله تعالى أثار أخمص واحد من السابقين الأولين، وسادة الأنصار والمهاجرين، وكفى بذلك دليلاً واضحاً وضوح النهار، ولكن من جهل الأمور خاض فيها بغير اعتبار.
ومن اعتلق به هوى النفس جانب مقتضى البصر والاستبصار، ومما يقضي منه العجب أن هذا المعنى المشار إليه قد يرتكز في ذهن كثير من أرباب الزكاة، الذين لهم مسكة من التمييز فترى منهم من يسوم الإمام إلى صرف ما أعطاه من واجبه إلا إلى الفقراء، ومنهم من لا يثق به في ذلك فيشترط في واجبه أن يوجه للفقراء من عنده، ويكون هو المسلم إليه ذلك من يده، وغفلوا عن كون الإمام أتقى الناس في الناس وأعرفهم بطرق الخلاص.

(1/147)


وأنه لو لم يكن الفضيلة إلا في الصرف إلى الفقراء لكان ذلك ممكناً بغير واسطة الإمام، فكان مقتضاه أن لا يشرع التسليم إليه ولا يجعل مدار الخلاص عليه، ولو كان المقصود هو الصرف إلى الفقراء وهو الغرض المهم، لما كان تسليم الحقوق الواجبة إلا إلى الإمام هو الأفضل والأكثر ثواباً والأوفر التسليم إلى الفقير ممكن بغير ذلك مما يقتضي الأفضلية.
ولو تأمل من أشير إليه لفرق وتيقن أن صرف الزكاة في جهاد ظالم، أو كافر، أو إزالة منكر، أو تأليف رجل يقع بتأليفه قوة لشوكة الحق، وتوصل إلى نعش الإسلام من أعظم القرب وأجلها، وأنه لا يحل نفع الفقير أو فقيرين في محلها، وأن حصول ذلك يثبت تلك الزكاة، وما سلم منها وأعطاه مما ينبغي أن تقر به عينه وتطيب به نفسه، وأنه بذلك يكون مشاركاً في الجهاد ونائلاً به نصيبا يستجاد.

(1/148)


وهذا (حين الفراغ) من إملاء ما أردنا ذكره في هذا المختصر من مسائل الإمامة الخاصة منها والعامة، حسب ما أشار إليه السائل وعول عليه، وتركنا منها ما لم تشر أسئلته إلى ذكره، وما لا خفي منها في أمره، ولنختم الكلام بذكر أطراف من ذلك السؤال، وألفاظ مما أورد من المباحثة الحسنة، والمذاكرة المستحسنة، وأجاد فيها المقال قال: هل مسألة الإمام قطعية أو ظنية؟ ثم ما القطعي من شروطها وتفاريعها ومستتبعاتها؟ أقول: قد ذكرنا في هذا الإملاء المبارك أدلة مسألة الإمامة أصولها وفروعها، واستقصينا ما يعول عليه من مآخذها، ولم نجد ما هو فوق ذلك في شيء من مظانه بعد البحث المستوفي عن ذلك، وأشرنا إلى ما سبق منا في المراسلة الدائرة بيننا وبين حي الفقيه الأفضل جمال الدين علي بن محمد البكري قدس الله روحه ونور ضريحه، فليتأمل السائل ما ذكرناه من الأدلة، وما رد عليها، فهو بحمد الله تعالى لا يعزب عنه ما هو قطعي منها، ينتهي إلى العلم اليقين، وما ليس كذلك فالاتفاق على الأدلة تغني عن ذكر حكمها في إفادة القطع وعدمه، إذ قد صارت غير مجهولة، بل معروفة وموضحة للواقف عليها مكشوفة، وغير بعيد أن يختلف حال الناظرين في الأدلة، فمنهم من توصله إلى العلم، ومنهم من لا تبلغ به إليه، بل إلى درجة الظن كما أن أنظارهم تختلف.

(1/149)


فمنهم من ينظر في ذلك فتوصله للمطلوب، ومنهم من ينظر فيه فلا توصله إلا إلى عكسه، كاختلاف أنظار العقلاء في العالم فمنهم من أوصله نظره فيه إلى إثبات الصانع الجليل، ومنهم من أفضى نظره إلى النفي و التعطيل، فمن ادعى من علمائنا رحمهم الله تعالى أن نظره في مسائل الإمامة وشروطها ولواحقها، أفضى به إلى برد اليقين، وطمأنينة النفس صدقناه، وعلى أحسن المحامل حملناه.
ومن لم يدع ذلك ولا يعترف به، فهو أخص بأحوال نفسه، وحكمه في تكاليف الإمامة حكم الأول، فيما يعتمد من أمورها وعليه يعول.
وقد شاع في كثير من النواحي والبقاع أنا نقول: بأنها اجتهادية، ويكاد يشنع علينا بذلك من في قلبه مرض، أو له في التشنيع غرض، وتشنيعهم من وجهين:
أحدهما: اعتقاده أن هذا خلف من العدل فيما نحن عليه من الدعاء إلى الله تعالى، وخطل من الرأي، وزلل في الاعتقاد.
الثاني: اعتقادهم أن هذا ينافي ما نحن فيه وعليه من الدعاء إلى الله تعالى وإلزام الناس الطاعة، وما نحن عليه من الإيراد والإصدار، والقيام بهذه التكاليف الكبار.
ومن هذا أو نحوه يقضي العجب، ويَعْرفُ منافاته كثير من الناس لقانون الأدب.
أما أولاً: فما نعلم أنا صرحنا بهذه العقيدة، ولا أتينا فيها بعبارة لها مفيدة، ولا زدنا على أن ناقشنا في قطعية الأدلة، ولو زدنا عليها أسئلة مشكلة قد سبقنا الأصحاب إلى إيرادها، ونشر إيرادها، وإن كنا زدنا في تدقيق النظر فيها، ونَقَّرنا عن غوامض معانيها، ومن مثل هذا لا تؤخذ المذاهب.

(1/150)


وأما ثانياً: فعلى فرض الذهاب إلى هذا المذهب، أي أمر اقتضى التشنيع فيه، وأوجب بأن الخلاف بين العقلاء قد يعرض في العلوم الضرورية الموجودة من النفس التي تدفع العالم إليها؟، كخلافهم في مخبر الأخبار المتواترة، فمن ذاهب إلى أنه معلوم ضرورة، وأن العلم به يعد من علوم العقل، فمن لم يحصل له فعقله مختل، ومن ذاهب إلى أنه معلوم بطريق النظر والاستدلال معرض لما يرد عليه من التنظير والإشكال.
ومن ذاهب إلى أنه ليس بمعلوم بحال وأنه إنما يظن ظناً، فتجويز خلافه ممكن لا محال، والخلاف في كثير من المسائل الأصولية الفروعية، قطعية هي أم ظنية، فإنه واسع فلم نسمع عن أحد من أئمتنا، وعلماء مذهبنا -رحمهم الله تعالى-، أنه شنع القول بكون مسألة الإمامة اجتهادية على كثرة حكايتهم لذلك في مصنفاتهم، ومع كثرة المخالفين في ذلك من الأئمة وعلمائها، ولا يصدر التشنيع في ذلك إلا من جاهل أو متجاهل أو ذي عداوة متحامل.
وأما ثالثاً: فأي منافاة بين القول بكونها اجتهادية، وبين إقدام الإمام على التصرفات المرضية، ليس ذلك مما ينافيه في حكم من الأحكام أحكامها، ولا يخالف نهج علم من أعلامها، ولا يتغير به شيء من أحوالها، ولا يتوقف على خلافه عمل من أعمالها.
فإن الأعمال في المسائل الإجتهادية كما هي في المسائل القطعية، إذ ما أدى المجتهد إليه اجتهاده، صار العمل به معلوما وجوبه مقطوعاً به، وكثير من المسائل الاجتهادية يتوقف عليها قتل النفوس وقطع شيء من الأعضاء وأخذ الأموال ونحو ذلك.

(1/151)


فليكشف أهل التشنيع عن موجبه، وما الذي ينهدم بكونها اجتهادية من الأعمال من الإمام ويختل به.
قال وما حكم العوام الذين لا يهتدون إلى معرفة الشرائط؟، وهل هم ناجون بالتقليد مع الخطر الذي ما عليه مزيد في الإقدام على الأرواح والأموال مع الإمام من غير تحقيق منهم للحال؟، وما حكمهم في قتالهم معهم من يذهب إلى الزكاة من أهل القبلة المعدودين من فرق الملة؟
أقول: قد تقدم في أثناء هذا الإملاء ما هو فرض العوام في أمر الإمام، وأنهم لا يكلفون في شأنه بما يكلف أهل المعرفة، وأن فرضهم الرجوع في ذلك إلى العلماء، والأخذ عنهم والاتباع لهم، وأتينا في ذلك بما يشفي ويكفي، وهو الحق الذي لا محيد عنه، وإقدام العوام مع الإمام على الأرواح والأموال هو فرضهم، والواجب عليهم واللازم لهم،وما لا يجوز لهم النكوص عنه، فإن طاعة الإمام ومتابعته والجهاد معه حيث توجه هو الواجب على كل مؤتم، وكيف يقال بأن العامي يجب عليه اتباع الإمام وطاعته، ولا يجوز له أن يقاتل معه، ولا يجاهد على راية، فيكون حينئذ إماماً غير إمام ومطاعاً غير مطاع.
ووجوب متابعة الإمام وطاعته فيما رام أمر متفق عليه غير متنازع (فيه) لوجوب(طاعة) الإمام فأقل أحواله الفسق.
قال المهدي -عليه السلام-: وهو قريب عندي إذ هو رد ما علم ضرورة من دين النبي -صلى الله عليه وآله وسلم-، ومن رد ما علم ضرورة من دين الإمام فقد اتبع غير سبيل المؤمنين قطعاً، فتناوله الوعيد. انتهى.

(1/152)


ومن ذلك قتالهم معه من يذهب إلى كفر فإن ذلك واجب عليهم من جملة طاعته، ولا (يكلفون) تقدم علمهم بكفره، ولا وقوفهم على أدلة جواز قتاله، بل الواجب متابعة الإمام في ذلك وغيره، فإنما جعل إماماً ليؤتم به، والدرك في ذلك عليه حتى أنه لو فرض خطأه في ذلك كان خطأه هو المخطئ وحده، وهم مصيبون في متابعته لأنها فرضهم.
ولا تكليف على اتباع الإمام في أن يعلموا قبل أن يبايعوه على أمر أراده ودعاهم إليه أنه مصيب فيه، ولا أن يقدم النظر في ذلك والاستدلال عليه، ولا يسمع بذلك في عصر من الأعصار ولا نبه عليه أحد من الأئمة الأطهار.
فلم يقل علي -عليه السلام- لأتباعه وجنوده الألوف المؤلفة، وعساكره المتكاثفة، قدموا النظر في صواب ما أنا عليه وخطأ البغاة، ولا تقاتلوهم حتى تعلموا ذلك.
وتطلعوا على أدلة وجوبه أو جوازه، ولا عرضهم واحدا واحداً وتبين حالهم في معرفة ذلك وعدمها، ولو وجب ذلك لكان العوام المقدمون على القتال مع الأئمة آثمين مخطئين مرتكبين لقبيح، ويلزم الأئمة نهيهم وزجرهم عن ذلك لأنه نهي عن المنكر، وهذا ما لم يقل به واحد، ولا التفت إليه واعتمد.

(1/153)


وهذا ونحوه يدخل تحت قوله تعالى: {أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُوْلِي الأَمْرِ مِنْكُمْ}[النساء: 59] وتحت قوله -صلى الله عليه وآله وسلم-: ((من سمع واعيتنا أهل البيت فلم يجبها كبه الله تعالى على منخريه في نار جهنم)). والواعية الإمام الداعي، وما روي عنه -صلى الله عليه وآله وسلم-: ((لخليفتي على الناس السمع والطاعة ، ما استرحموا فرحموا، وحكموا فعدلوا، وعاهدوا فوفوا، ومن لم يفعل ذلك فعليه لعنة الله تعالى والملائكة والناس أجمعين)).
وعن زيد بن علي -عليه السلام- على الإمام أن يحكم بما أنزل الله عز وجل، ويعدل في الرعية فإذا فعل ذلك حق عليهم أن يسمعوا ويطيعوا، ويجيبوا إذا دعوا.
قال: وكيف مدافعة الإمام لمن لم تصح إمامته؟ وهل يأخذ الزكاة منه قهراً، ويقاتله عليها؟ وهل لرب المال المدافعة عن نفسه، ولو بالقتل لأنه غير سالك سبيل المؤمنين إذا كان يدين بعدم إمامة ذلك الإمام، وعدم كماله؟ إن قلنا له: المدافعة فكيف يكون الفئتان جميعاً محققين، وما نظر ذلك؟ وإن قلنا: ليس للإمام قتاله، وليس له الإمتناع عن التسليم إن لم يعرف إمامته، فما وجهه؟

(1/154)


أقول: معاملة الإمام لمن لم تصح له إمامته، إذا عرف به أن تأخره عنه يجرح في دينه، ويثبت في أمره، أن يراجعه ويوضح له السبيل، وينصب له الدليل، ويحسن التوجيه والتعليل، فإن رجع إلى الصواب فهو المقصود، وإن أبى فأمره غير محمود، وحينئذ ينزله الإمام في تكاليف الإمامة منزلة غيره من يثبت، وغيره فيلزمه القيام بها من تسليم الحقوق والجهاد، وبشكه في الإمامة وهو ثابت الإمامة لا يقتضي سقوط الواجب عنه ولا مسامحة فيه، فيكرهه (على) تسليم الزكاة وغيرها مما أمره إليه، ويقاتله على ذلك إن أبى وعصى، ولا يخلصه من ذلك سوء عقيدته في الإمام، ولا انتفى صحة الإمامة عنه، قوله:
وهل لرب المال المدافعة عن نفسه حيث لم تصح له الإمامة؟، جوابه أنه ليس له ذلك مع فرض ثبوت الإمامة، وإذا ركب ذلك على أصله في نفيها لم (يصح) لأنه ركب على أصل فاسد إذ المفروض صحتها، وما ركب على الفاسد فهو فاسد، فالمدافعة منه خطأ وعدوان، ولا يصح أن يجتمع حقية مدافعة الإمام، وحقية مدافعته عن ذلك، لأن مع ما ذكر من فرض صحة الإمامة، الإمام محق في مطالبته وهو مخطئ في مدافعته، وإذا فرض عدم صحتها فالإمام مخطئ في مطالبته وهو محق في مدافعته، ولا نعلم قائلاً يقول: ليس للإمام أن يطالب من ينفي إمامته، أو يتوقف فيها بالحقوق التي عليه، فلو فرض منحرفاً لا متحرياً.

(1/155)


والمسألة منصوصة، ولو قيل بذلك لكان فيه وهن على الإمام، وتضعيف أمره، والجهاد لم يشرع إلا لمن عصى الإمام، ولم يطعه فيما أمر به، ولو قصرنا الإمام عن إكراه النافي لإمامته على ما يجب عليه الأداء إلى (بطلان) أمره، فلن يمتنع عليه الأمن لا يُثبت إمامته باطناً وظاهرا، فعرفت أن القول بذلك يؤدي إلى ارتفاع ما لا بد للإمام منه، من مجاهدة العاصين له المهملين لحقه الزواين لحقوق الله تعالى عنه.
وهذا ما لا قائل به، وحال المنكر لإمامة الإمام في عدم صحة الاعتذار بذلك فيما عليه من حقوقه حكم منكر الصانع فيما هو مفروض من صلاة وصيام.
فكما أنه لا (يعذر) فيها وإن كان اعتقاده منافيها، فكذلك هاهنا. قال: وما حكم المتوقف إذا تمادى به الزمان، وطال توقفه، وعرف الإمام صدقه، ورصانة دينه، إن قلنا: يعذره فكيف إذا كانت صفة الكل، أو الأكثر، فإنه يؤدي إلى بطلان أمر الإمام، وإن لا يعذره فكيف وهو لم يألُ جهداً في الاستبراء لدينه، وتحصيل يقينه؟، أقول: قد تقدم ذكر التوقف وحكمه، وأتينا فيه بما لا مزيد عليه، والتحقيق أنه لا وجه لإطالة التوقف ولا مقتضي له، فإن مسألة الإمامة وشروطها واضحة، جلية غير غامضة، ولا حفية فما في إطالة الخبرة ويعتبر(تعسير) الأمر وهو هون على الإمام، ولا معنى للتوقف إلا في حق رجلين، رجل منتزح عن الإمام فاضطربت عنده الروايات في كماله وعدمه، وإجابة الناس له وعدمها، وكمال الشرائط فيه وانتقاصها، فشأنه التوقف حتى يهيئ الله تعالى له البلوغ إلى عند الإمام، وفهم الصحيح مما بلغه وخلافه، أو حتى يتواتر له الصحيح من ذلك ويضمحل الفاسد.

(1/156)


ورجل بلغ إلى الإمام ليختبره، ولم يمضِ من المدة ما يحصل فيه الاختبار الحقيقي، والاطلاع على إحراز النصاب المعتبر من كل شرط، وأما ما عدا ذلك مما هو إلا من قبيل السخافة والجهالة، أو من قبيل اتباع الهوى والغرض، وعروض السقم للبصيرة والمرضى، فكم من متوقف يطول توقفه، ويستمر تعسفه، ولا حائل (هل)له على ذلك إلا ما يعرض له في كل واحد من طرفي الإثبات والنفي من الشوائب الدنيوية، والأحوال التي لا تكون عنده مرضية، وما هذا دين الله تعالى، ولا بين به الحق والباطل من واسطة، ولا بأس بأن يباحث الإمام المتوقِّفَ، ويسأله عن سبب توقفه، إن كان شك في شيء من الشروط قرر عليه حصوله وثبوته.
وإن كان لشيئٍ رآه في أمر السيرة قرر عنده وجهه، والحامل عليه وعدم الخطأ فيه، وإن كان لسبق داع قيل له: هل الأول عندك ثابت الإمامة فلا معنى لتوقفك؟، ولا (…………………..ص55) فتقدم دعوته كلا يقدم بل قيام من ليس بصالح للإمامة، مما ينبغي أن يكون داعياً إلى قيام الكامل، ومؤكداً للوجوب في حقه، وإن كنت متوقفاً في الأول فكذلك توقفت في الثاني، فهذه حيرة مركبة على حيرة وجهالة منْظَمَّةٌ إلى جهالة، والحاصل أن التوقف إذا جاوز القيد المعتاد والمحتاج فصاحبه ضال، ولكن ضلالته دون ضلالة الثاني، مع فرض صحة الإمامة ودون ضلالة المثبت مع فرض بطلانها.

(1/157)


قوله: فكيف يعذره وهو لا يألو جهداً إلى أخره؟، قلنا: فيلزمك أن تعذر النافي إذا كان نفيه له إمامته تحرياً في أمر دينه إذ لا فرق، وأن تعذر المتوقف في نبوة النبي –صلى الله عليه وآله وسلم-بل المتوقف في إثبات الصانع، إذا جهدا في تحصيل المعرفة، ولكن ما حصلت ويلزم تصحيح مذهب أهل الحيرة والتكافؤ، والله ولي التوفيق.
قال: وما تكليف أهل الزمان في حق الأئمة المتقدمين، وهل يجب معرفة إمامتهم جميعاً، بمعرفة جمعهم الشرائط، كما يجب في حق إمام الزمان بذلك فيما يأمر به، أم لا يجب شيء من ذلك؟، وهل يجب اعتقاد إمامتهم وحملهم على السلامة من دون معرفة جمعهم للشرائط؟ أقول الأئمة السابقين، أولهم أمير المؤمنين، وسيد الوصيين علي بن أبي طالب -عليه السلام-، ويلحق به ولداه الحسنان -عليهما السلام-، وهؤلاء هم الدرجة العلياء.
والطبقة الأولى: وهم المعصومون والمنصوص عليهم.
والطبقة الثانية: مَنْ بعدهم إلى الهادي إلى الحق يحيى بن الحسين
-عليه السلام-.
الطبقة الثالثة: من بعده إلى المنصور بالله عبد الله بن حمزة
-عليه السلام-.

(1/158)


والطبقة الرابعة: من بعده إلى زماننا هذا، هكذا ذكره والدنا الإمام الهادي إلى دين الله تعالى علي بن المؤيد بالله -عليه السلام- في رسالة له غراء، ومقالة رائعة عذراء، ذكر فيها طبقات الأئمة ودرجاتهم، ونزلها على هذا التنزيل، قال في الطبقة الرابعة: هي من الإمام أحمد بن الحسين المهدي إلى أن ألجأت الحال فصار الأمر عندي، واستثنى من هذه الطبقة الرابعة الإمام يحيى بن حمزة، وقال: هو جدير بأن يعد أمة وحده، وله في هذه الرسالة ألفاظ رشيقة، ومعان دقيقة، وكان الباعث له عليها أن السيد العلامة الهادي بن إبراهيم بن علي المرتضى، وجه إليه رسالة بالغ في الثناء عليه فيها، وتفضيله على كثير ممن قبله أولها:
الحمد لله عليك من إمام أمة، عده عليه السلام،على المسلمين نعمة، فأنشأ الإمام -عليه السلام-.
هذه الرسالة وأظهر التواضع فيها، والحط من أمره حتى استشهد بقول بعضهم:
وابن اللبون إذا ما لز في قرن .... لم يستطع صولة البزل القناعيس
وأجاد معاني عالية وأطاب وأتى بالألفاظ البليغة، والمعاني العذاب، بما يروق الألباب، ثم نعود إلى ما هو المقصود فنقول: أما من بعد علي -عليه السلام- من الأئمة غير إمام الزمان، فلا قائل بأنه يجب معرفة إمامتهم، ولا البحث عنها، ولا أنه يتعلق بنا في شأنهم تكليف لا اعتقاد إمامه، ولا عمل يتبع ذلك.
قال بعض أصحابنا: لأنه لا تكليف علينا علمي ولا عملي، في معرفة ذلك، وإن كان العلم بذلك ممكناً بأن يتواتر الخبر إلينا بمثل ذلك لكنه ولو تواتر فإنه حينئذ غير واجب لأنه علم ضروري.

(1/159)


وذكر الدواري في تعليقه على شرح الأصول: أن الأظهر من كلام الزيدية، وغيرهم أنها تجب معرفة إمامة زيد بن علي-عليهما السلام-، وعلل ذلك بأنه مجمع على إمامته، وجمعه للشرائط يحتاج إلى معرفتها، والعلم بذلك ليكون طريقاً إلى معرفة إمام الزمان وأوصافه، أو الاعتبار في الشرائط التي تشترط في الإمام، أو في أكثرها بإجماع الأمة أو أهل البيت، ولا إجماع معلوم إلا فيه، فإن الأمة والعترة فيما بعد زمنه كثر انتشارهما فقلما يعلم لهما إجماع.
قلت: وهذا الكلام فيه نظر(وما هو) إلا كلام لا صحة له لأن إمامة زيد بن علي كإمامة غيره، بل غيره من الأئمة السابقين (من) كانت مدة قيامه أطول، وأثاره في باب الدين أكمل، ولا عمل يتعلق بمعرفة إمامته، ولا تكليف إليها، وإن كان -عليه السلام- من شموس الأئمة وأقمارهم، وهو مؤسس قواعدهم المرضية، وموضح أثارهم، والتعليل المذكور عليل، فإن الأدلة على وجه اشتراط شروط الإمامة قائمة، وهي المرجوع إليه في اشتراطها، وليس ذلك مستند إلى معرفة إمامة زيد بن علي -عليه السلام-، فإن إمامته إنما عرفت لمعرفة إحرازه للشرائط وجمعه لها، لا أنَّ معرفة شروط الإمامة تؤخذ من معرفة إمامته، ولا يجب أن يكون كل إمام أوصافه كأوصافه، وكماله فيها ككماله، فإن زيداً -عليه السلام- زاد على قدر ما يشترط فيها زيادة واسعة، ولو اشترط أن يكون كل إمام على صفته لأدى إلى إبطال إمامة كثير من الأئمة فهذا الكلام لا وجه له.

(1/160)


وأما إمامة أمير المؤمنين فأهل المذهب يتفقون على وجوب معرفتها، وأنها فرض محتوم، واختلفوا هل هي فرض عين، أو فرض كفاية، فالأكثر على الأول، ممن نص على ذلك الهادي والقاسم -عليهما السلام-، وفي كلام الهادي -عليه السلام-، ما يقضي بأن الجهل بذلك فسق.
والحجة لأهل هذا القول إجماع العترة، والأقل على الثاني وهو الأرجح عندي والأولى، وللأصحاب مبالغة في هذه المسألة حتى أنهم عموا بوجوب ما ذكره العلماء والعوام، واختاروا رقم ذلك في الوصايا، وضم الشهادة به إلى الشهادتين، ومن المعلوم أن مثل ذلك لا يدخل في إمكان العوام، ولا يجدون إلى العلم به سبيلاً، وأنه في حقهم كتكليف ما لا يطاق، وليس معهم فيه إلا التقليد المحض، وقد ذهب الفضل بن شروين أنها إنما تجب على العلماء دون العوام، وهو أعدل الأقوال، واحتج بأن معرفة إمامة أمير المؤمنين علي -عليه السلام- متلقاة من جهة معرفة اللغة فلا يعرف وجوبها إلا من له غوص في اللغة.
وأما رقم ذلك وفعله في الوصايا فمن قبيل الغلو فليس كل مسألة يجب العمل بها مما يحق لها مثل ذلك، وليس له من الفوائد إلا معرفة كون الموصي زيدي المذهب، وليس كل موص يفتقر إلى التعريف بمذهبه، ولا يحتاج إلى ذلك منه وكل من يعرفه يعرف مذهبه إن كان ذلك إلى حجة.
وأما الحسنان -عليهما السلام- فالأكثر على أن حكمهما حكم أبيهما، ومن أهل المذهب من لا يوجب معرفة إمامتهما.
قال القاضي الدواري: لم يذكر وجوب معرفة إمامة الحسنين -عليهما السلام- جماعة من أئمتنا، منهم السيد المؤيد بالله، وصاحب الكافي، والأمير الحسين.

(1/161)


أما صاحب (الكافي) فصرَّح بأن العلم بإمامتهما غير داخل في أصول الدين، قال ومن لم يعرف إمامتهما لم يفسق عند جميع العلماء.
وأما المؤيد بالله، والأمير الحسين فلم يذكرا الوجوب، ولا نفياه. وللهادي -عليه السلام- وولديه ما يقضي بأن معرفة إمامتهما واجبة، وسوى المهدي بين إمامة الثلاثة في وجوب المعرفة لها، وقال: لا خلاف في كون معرفة إمامتهم كلهم فرض، لأنها منصوصة، ومعرفة معاني نصوص الكتاب والسنة واجبة، ولم يتعرض الإمام يحيى في (الإنتصار) لوجوب معرفة إمامتهما، وإنما قصر الكلام على إمامته -عليه السلام-.
وحكى إجماع العترة والشيعة على وجوب معرفة إمامته، وخطأ من لم يعرفها، لأن العلم بها من أصول الدين لأن كل من لا يعرفها على التفصيل لا يمكنه معرفة إمام زمانه، لأن إمامة غيره -عليه السلام- متفرعة على معرفة إمامته، وإن اختلفت الطريق فلا يكون من بعده إماماً إلا إذا حصل على مثل أوصافه.
قال الإمام يحيى بن حمزة: ورأي الأكثر من أئمة العترة، والأكثر من المعتزلة، أن الإخلال بمعرفة إمامته يكون فسقاً إلا ما يحكى عن المؤيد بالله فإنه لم يقطع بفسقه، ثم رجع إلى كونه مخطئاً، قال الإمام يحيى: والمختار الذي يجب عليه التعويل ما قاله المؤيد: وهو الحكم عليه بالخطأ دون الفسق لأنك إنما تهدم عمله بالأدلة القاطعة الشرعية وهي منفية هنا.

(1/162)


وقال المهدي -عليه السلام-: إن الجاهل لها لا يفسق، ولا يخطأ مع قيام غيره بذلك، وأما المجوز للإخلال بمعرفتها على كل وجه فإنه مخطئ ولا قطع بفسقه. قوله في السؤال: وهل يجب اعتقاد إمامتهم، وحملهم على السلامة من دون معرفة جمعهم للشرائط؟.
جوابه أنه لا يجب الاعتقاد المذكور بل لا يجوز إلا عن نظر واستدلال وتحقيق، فإن الاعتقاد الذي ليس على هذه الصفة يجوز كونه اعتقاد جهل، والجهل قبح، والإقدام على ما لم يؤمن قبحه كالإقدام على القبيح، فلا يتوجه ذلك الاعتقاد إلا مع تواتر الكمال وحصول شرائط الإمامة، والسيرة المرضية، ومهما لم يحصل ذلك، فلا ينبغي أن يعتقد ذلك، وكذلك فلا ينبغي أن يعتقد فيهم الخطأ ولا النقصان، ولا عدم الكمال، إذ لا طريق له إليه، ولا بأس بالحمل على السلامة وهو ألا يظن فيهم أنهم ترشحوا لهذا الأمر مع عدم كمالهم فيه بل يتوجه أن يظن فيهم الخير، وللعوام في ذلك تقليد العلماء.
هذا وأن من الأئمة من هو مذكور، وحاله في الفضل والكمال وجمع محاسن الخلال مشهور، فلا يخفى على أحد صحة إمامته وكماله وفضله، وإحرازه للشرائط، وإحاطته بالأوصاف الحسنة لكون سيرته مرضية.

(1/163)


ومنهم -عليهم السلام- من أمره خاف عن بعض المميزين بل كثير من دعاة أهل البيت يخفي أمره على بعض المبرزين فقد كان منهم في جهة الأندلس وغيرها، من لم تبلغ دعوته ولا تَسَيِّر سيرته، قال: وما يكلف به في حق المتعارضين السابقين، مع تواليهم وتعاديهم؟ أقول: أول ما نشأت المعارضة فيما نعلم زمن الهادي، والناصر –عليهما السلام-، وكانا متباعدي الأقطار، ومتبايني الديار والمزار، وحالهما في الفضل والكمال لا ينكر بحال، وحبذا ما كان بصفة تعارضهما، فلا شك أنهما معاً مرضيان وإمامتهما معاً في القوة والصحة ظاهرة الثبات، وما جرى من المتعارضين على هذه الكيفية فلا إشكال فيه، ولا يفتقر فيه إلى تنبيه.
وأما حيث تقارب المتعارضان، وتنازعا وتحاربا، فلا يتصور أن يكونا محقين معاً بل أكثر ما يتهيأ أن يكون أحدهما فقط محقاً، ويكون الآخر باغياً عليه، وخارجاً عن ولاية الله تعالى إلى عداوته فلا إمامة مع البغي.
وإما (حيث) تقاربت دارهما، ولم يتشاجرا ولا تحاربا، وكان كل واحد منهما حسن المجاملة والمعاملة للأخر وهما متواليان غير متعادين، فالذي تقتضيه القواعد أن الإمامة (ليست) إلا لأحدهما، والأخر ليس بإمام، وإنما نتولاه كما تولاه الإمام المعارض له، ومن الحق في عدم المعارضة ثابت له، هذا على سبيل الإجمال.
وأما التفصيل فهو أنه إن ثبت لنا طريق إلى كون أحد المتعاديين بعينه هو الإمام، وكون الأخر بصفة الباغي عليه، وثبتت لنا طريق إلى أن أحد المتواليين بعينه هو كامل الشرائط، صحيح الدعوة، ثابت الإمامة.

(1/164)


وأنه الفائز بذلك والحائز له دون صاحبه دنَّا بذلك واعتقدناه في الصورتين معاً، فإن لم تستقم تلك القاعدة ففرضنا في المتواليين المعروفين بحسن الصفات والأحوال توليهم معاً، والترحم عليهم، وحسن الظن بهم، وأن نقول في المتعاديين: { تِلْكَ أُمَّةٌ قَدْ خَلَتْ لَهَا مَا كَسَبَتْ وَلَكُمْ مَا كَسَبْتُمْ وَلاَ تُسْأَلُونَ عَمَّا كَانُوا يَعْمَلُونَ}[البقرة: 141].
قال: ومن ليس بإمام عند أهل البيت كعمر بن عبد العزيز، ما حكمه؟ أقول: حكم عمر بن عبد العزيز، ومن على صفته ممن حسنت سيرته وسريرته، ولم يختل فيه إلا شرط المنصب الفاطمي عند أصحابنا أنه ليس بإمام، وإنما هو سلطان عادل، وأنه مخطئ بترشحه لهذا الأمر، ويؤل أمره إلى ما عليه الخلفاء المتقدمون لأمير المؤمنين، وكلام أهل البيت عليهم السلام فيهم معروف متناقل فمنهم المبالغ في التأثم والتخطية، ومنهم السالك سبيل التولي والترضية، فما عومل به عمر الأكبر ينبغي أن يعامل به عمر الأصغر فليس بناقص عنهم في حسن السيرة والسريرة، في العدل وإن تأخر بل قد قضي له لمزية جلية غير خفية، وهو أنه سلك لهذا السبيل في العدل بعد انطماسه واندراسه، وخراب أساسه، وتقادم العهد بمثله، وكون أهل زمانه لا يعترضونه في شأنه.

(1/165)


وأما عمر بن الخطاب فإنه سلك سبيل العدل، وهو واضح غير منطمس، وشهير غير مندرس، ومع قرب العهد بسيرة رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، وخليفته المرتضاة، وكونه بين ظهراني الصحابة الأخيار، وفضلاء المهاجرين والأنصار، الذي لو رام الميل بينهم عن السيرة المرضية لقوموه بالسيوف الهندية، والرماح الخطية،ولم يقروه على خلاف السيرة النبوية، فانظر في عظم شأن تلك المزية (ص59) ويلحق بعمر بن عبد العزيز في العدل، وإن لم يكن مساوياً ولا مدانياً في الفضل يزيد بن الوليد.
قال الحاكم: أجمع المعتزلة على صحة إمامتهما، وعندي أنه يمكن أن يتمحل لعمر بن عبد العزيز من الأعذار في توليه لما تولاه، ما لا يمكن أن يتمحل لعمر بن الخطاب في مثل ذلك، وهو أن من المعلوم قطعاً أنه لم يفعل أو فعل، ثم رام التنحي لبعض أعلام البيت، وإيثاره بهذا الأمر لما تم له ذلك، ولا وجد إليه سبيلا وإن ترك تولا الأمر يزيد بن عبد الملك،وأخوه هشام بن عبد الملك،أو من يضاهيهما من الساعين لدين الله تعالى في الانهدام، وقد جعل سليمان بن عبد الملك الأمر إليه ثم إلى يزيد ثم إلى هشام، فلو لم يسعد إلى تولي الأمر، أو رام التنحي بعد التولي، لما تولاه إلا من ذكر أمراً محتوماً، لا محيص عنه ولا مناص، كما يتيقن ذلك من عرف أحوالهم وسيرتهم وأساليبهم.

(1/166)


وأما عمر بن الخطاب فمن المعلوم أنه لو ترك التولي للخلافة، أو تنحى عنها لمن هو أحق بها منه، لما قام مقامه إلا من هو أفضل منه وأكمل، وأعلم بالعلوم الدينية وأعمل، وإذا عرف ذلك فغير بعيد أن يتحتم على عمر بن عبد العزيز ما كان منه من تولي الأمر لما فيه من إزالة المنكرات، وتغيير الظلامات، وإقامة قواعد الدين، وصيانة الإسلام عن أقاربه المعتدين، جزاه الله خيراً عن الإسلام والمسلمين، والحمد لله رب العالمين، وصلاته وسلامه على سيدنا محمد خاتم النبيين، وعلى آله الطيبين الطاهرين من يومنا هذا إلى يوم الدين.
قال المؤلف مولانا أمير المؤمنين: هذا الإملاء المبارك، وفرغ منه أوان صلاة الجمعة لسبع ليال خلون من شهر ذي الحجة الحرام سلخ سنة ثماني وتسعين وثمانمائة سنة، وفرغت أنا من رقمه بعد شروق الشمس في يوم الخميس سادس شهر جمادى الآخرة، الذي هو من شهور عام ثمان وثمانين وألف، بخط الفقير إلى الله تعالى المستمد ممن نسخ له واطلع عليه، ونظر إليه الدعاء بحسن الختام، وبلوغ المرام، صلاح بن أحمد بن صالح بن دغيش الحيمي اليوسفي، غفر الله له ولأبويه وإخوانه، السابقين له، واللاحقين، ولجميع المسلمين المؤمنين، السالكين طريق المؤمنين، مما استنسخت فرقمت للولد القاضي العلامة، القدوة الفهامة، محمد بن الحسن بن أحمد بن صالح بن دغيش الحيمي، حفظه الله تعالى، وأمد بطول حياته، ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم، وصلى الله على سيدنا محمد خاتم النبيين وسيد الأولين والأخرين، والحمد لله رب العالمين حمداً كثيراً طيباً مباركاً فيه.

(1/167)


وهذه جوابات تسمى الجواب المعقول في بيان القطع بإمامة أئمة آل الرسول، إنشاء سيدنا الفقيه العلامة، الحبر الفهامة، المدرة الصمصامة، لسانالمتكلمين، وزين الموحدين، جمال الدنيا والدين، علي بن محمد البكري رحمه الله تعالى:
قال: بسم الله الرحمن الرحيم: وصلى الله على سيدنا محمد وآله وسلم، الحمد لله حمداً يستدعي مزيد فضله، ويستوجب مواد طوله، في الإنباء عن البراهين القاطعة، والحجج البالغة، والصلاة والسلام على من محى رسم الضلال، وارتقى من الشرف أعلى ذروة الكمال، محمد وآله خير آل. وبعد.
فقد ورد من تلقاء مولانا السيد الأفضل، العلامة الأمثل، عز الدين بن الحسن بن أمير المؤمنين دام دوام الفاعل، واحتجب عن النوائب احتجاب ضمير اسم الفاعل، طرس كريم، يتضمن البحث عما أهمل تحقيقه كثير من الناس، مع كونه للدين كالرأس، ولكثير من الأحكام الشرعية كالأساس.
وذلك مسألة الإمامة المقتضية لمن اختص بها الرئاسة والزعامة، وبحثه أيده الله تعالى عن ذلك من ثلاث جهات:

(1/168)


الجهة الأولى:
المطالبة بدليل على صحة ما ادعاه أصحابنا، من كون مسالة الإمامة من المسائل القطعية، لا من المسائل الاجتهادية، والقدح في ما أورده من الأدلة على ذلك.

(1/169)


الجهة الثانية:
بيان ما يلزم على القول بكونها قطعية من الأمور المستبعدة.

(1/170)


الجهة الثالثة:
الرد على المفسقين في إمامة الإمام المتوقف فيها. أما الجهة الأولى: فقال أبقاه الله تعالى: قد وقع الخلاف بين الأمة هل مسائل الإمامة من المسائل القطعية، التي لا يأخذ فيها إلا بالأدلة القاطعة، أم هي من المسائل الاجتهادية، التي هي لإنظار المجتهد تابعة، فالظاهر من مذهب أئمتنا ومشايعيهم والمعتزلة ومشايعيهم، أنها قطعية يتعلق التكليف فيها بالعلم اليقين، وأن الوصول فيها إلى العلم لازم لجميع المكلفين، ولذلك ألحقوها بفن أصول الدين، وليست علما بالله تعالى ولا بصفاته، ولا بأفعاله ولا بأحكام أفعاله، وأشار بعض متكلمي أصحابنا إلى تجويز كون السبب في ذلك من حيث أنه مطلب منافع العمل فيها الاعتقاد الذي هو العلم دون الظن، ثم نظر وأشار إلى تعليل أخر رمز إليه الفقيه حميد رحمه الله تعالى في وسيطه لا حاجة إلى ذكره هنا، مع أن الأليق بها فن الفقه، وإن كانت قطعية إذ هي من المسائل الفرعية والأحكام الشرعية.
أقول وبالله التوفيق: اختلف القائلون بأن الإمامة غير واجبة عقلاً هل هي واجبة شرعاً أم لا؟! فقال أكثر الأمة من العدلية والجبرية: إنها تجب شرعاً.

(1/171)


وقال أبو بكر الأصم من المعتزلة، وهشام الفوطي، وبعض الحشوية، والنجدات من الخوارج، وبعض المرجئة: إنها لا تجب لا عقلاً و لا شرعاً، لكن إن تمكن الناس أن ينصبوا إماماً عدلاً من غير إراقة دم ولا جور فحسن، وإن لم يفعلوا ذلك وقام كل امرئ منهم بأمر منزله، ومن يشتمل عليه من ذي قرابة ورحم وجار، وأقام فيهم الحدود والأحكام، على كتاب الله تعالى وسنة نبيه –صلى الله عليه وآله وسلم- جاز ذلك، وإن لم يكن لهم إلا إمام ولا يجوز إقامته بالسيف والحرب، هكذا حكى نشوان بن سعيد في (شرح رسالة الحور العين)، وحكى الفخر الرازي عن هشام الفوطي من أصحابنا هذا المعنى، فقال: إنه لا يوجب نصب الإمام في حال ظهور الظلمة لأنهم ربما أنفوا عن طاعته فخشى أن يقتلوه فقيامه يؤدي إلى إثارة فتنة، وأما مع ظهور التناصف فيجوز نصبه لإظهار شعار الشريعة.
وحكي عن الأصم عكسه، وهو لا يوجب إمامة الإمام إلا عند ظهور التظالم بين الناس فإن لم يظهر لم يجب.
وأما النجدات فلا يوجبون نصبه في حال من الأحوال. ثم اختلف القائلون بوجوب الإمامة شرعاً، هل هي من المسائل القطعية أم من الاجتهادية؟. فذهب الأكثر وهو الحق إلى أنها قطعية إذ دليلها قطعي، وذهب الأشعرية وبعض المعتزلة إلى أنها اجتهادية بناءً منهم على أن أدلتها ظنية، هذا تحقيق الخلاف في ذلك، ولعل مولانا أبقاه الله تعالى أراد بالأمة بعضهم، وبالمعتزلة أكثرهم، لأن بعضهم لا يقول: إنها قطعية بل يقضي بأنها من المسائل الاجتهادية كما عرفت.

(1/172)


وأما استشهاده أبقاه الله تعالى على كون مسائل الإمامة عند الأكثر من القطعيات، بكونهم ألحقوها بفن أصول الدين فهو صحيح لا عوج فيه، وقد ذكره الفقيه قاسم بن أحمد بن حميد المحلي رحمه الله تعالى، في تعليقه على الشرح، حيث قال:
أما اتصالها يعني الإمامة بباب أصول الدين جملة، فاعلم أولاً: أن بعضهم قد عدها من مسائل الاجتهاد، وأخرجها عن باب أصول الدين، وجعل كل مجتهد فيها مصيباً، والجمهور على خلاف ذلك، وأنها معدودة من مسائل أصول الدين، والأدلة عليها قطعية لا يدخلها الاجتهاد ولا الظن أصلاً.
قلت: ولعل ما حكاه مولانا عن بعض المتكلمين يعود إلى ذلك. قوله: مع أن الأليق بها فن الفقه إلى آخره.
قلنا: إنه وإن كان الأمر كذلك فلا حرج في ذكرها في فن الأصول، لذلك الغرض كما ذكرت فيه مسألة الشفاعة، ومسالة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر بمثل ذلك، والمشاحة في أمثال هذا ليس من همنا.
قال أبقاه الله تعالى: ولم أظفر من أدلة الأصحاب مع هذه الدعوى بما مقدماته يقينية، وقواعده التي تبتني عليها قوية، مع كثرة بحثي عن ذلك في كتب الأصول والفروع، وتطلبه من مصنفات المعقول والمسموع، فإن مسائل الإمامة متفرعة إلى فروع كثيرة كوجوب نصب الإمام، ووجوب اتباعه، ومعرفة شرائط الإمامة، ووجه اشتراط كل واحد منها، ووجه الاقتصار عليها، ومعرفة ما يحتاج إلى الإمام فيه، ووجه قصره عليه، وغير ذلك.
والأدلة القاطعة الشرعية ليست إلا الكتاب الصريح، والسنة المتواترة، والإجماع، والقياس القطعيين.

(1/173)


وأما العقل فلا مجال له هنا على الصحيح، ولم يتضح لي ثبوت شيء من هذه الأدلة القاطعة في هذه المسائل ولا شيء منها.
أقول: لا وجه يتمسك به من أنكر كون مسائل الإمامة قطعية، إلا ما يدعيه من أنه لا دليل يقتضي ذلك، ونحن الآن نقيم البرهان بعون الله على صحة القطع بها حتى تظهر صحة ما ادعاه أصحابنا -رضي الله عنهم-.

(1/174)


القول في أن أدلة مسألة الإمامة قطعية
فنقول: أما وجوب نصب الإمام، فالدليل عليه وجوه ثلاثة:
أحدها: إجماع الصحابة حيث فزعوا عقيب موت النبي -صلى الله عليه وآله وسلم-إلى نصب من يخلفه وبادروا إلى ذلك واختصموا فيه، وظهر التشاجر، وقال أبو بكر -رضي الله عنه-: لا بد لهذا الأمر ممن ينظمه ويقوم به، ولم ينازعه أحد في ذلك ولا علم أن أحداً منهم [قال] لا حاجة إلى الإمام، بل أمر كل منهم إلى نفسه، بل أجمعوا على مثل ما ذكر أبو بكر أنه لا بد من قائم تلجأ الأمة إليه، ولم ينازع في شدة الحاجة إليه منازع، علم ذلك ضرورة من حالهم حينئذ، ومن ثم اشتغلوا بطلب ذلك قبل مواراة النبي -صلى الله عليه وآله وسلم-في حفرته، ولم ينكر أحدُ منهم تقديم الاشتغال بذلك والاهتمام به، على الاشتغال بتجهيز رسول الله -صلى الله عليه وآله وسلم-ومواراته، بل فزع كل واحد منهم إلى النظر فيمن يخلف رسول الله -صلى الله عليه وآله وسلم-في تعليق الأمور به على حد تعليقها برسول الله -صلى الله عليه وآله وسلم-في حياته.
وأما اشتغال علي -عليه الصلاة والسلام- عن الحضرة معهم بتجهيز رسول الله -صلى الله عليه وآله وسلم-فإنما هو لأحد أمرين:
1- إما لكونه الوصي له دون غيره فرأى أن ذلك متعين عليه دونهم.

(1/175)


2- أو ثقة بإجماع الصحابة للنظر في ذلك، وأنهم يرجعون إلى مشاورته بعد خوضهم في ذلك، وإتقان النظر فيه، فيهديهم إلى الحق، وعلى الجملة فما سمع عن أحد منهم أنه قال: لا حاجة بنا إلى الخليفة نسمع له ونطيع، بل يبقى كل أمر إلى نفسه، بل قرائن الأحوال المفيدة للعلم تشهد بأنه لو صدر هذا الكلام من أحد منهم لنهروه، وكرهوه وسفهوه، لعلمهم ضرورة مخالفة رأيه، لما يصلح به أمر الأمة، وقد يستفاد العلم عند قوة القرائن، ألا ترى أنا نعلم كثيراً من أحوال غيرنا ضرورة بقرائن تشهد بذلك، وهذا الدليل اعتمده أبو هاشم في بعض المواضع، وذكره جماعة من أصحابنا، واستدل الفخر الرازي مع الدليل الثاني الذي سنذكره.

(1/176)


قال الإمام المهدي أحمد بن يحيى -عليه السلام-: وهو قوي جداً على قول من جعل الإجماع حجة قاطعة، وأما مولانا أبقاه الله تعالى فإنه بعد أن حكاه عن أصحابنا، وقضى بكونه أشف أدلتهم هنا، اعترضه بأن قال وهذا الدليل عن القطع بمراحل، وكيف وهو إجماع فعل فقط، وعدم حصول التواتر في النقل عن كل واحد من الصحابة معلوم، وكل مسألة يكون دليلها الإجماع، فالأقرب عدم تأتي القطع فيها، وهي بأن تكون ظنية أو لا وهيهات!! أن تجتمع شرائط الإجماع القطعي في حق أئمة النقل والتنقير، فكيف بأهل الإجمال والعقول الكبير، ولو قدرنا حصول شرائط الإجماع وتواتره عن كل واحد من الأمة، فقد ورد على ما يجعله دليلاً على كون الإجماع، وهو الآية الكريمة: {وَيَتَّبِعْ غَيْرَ سَبِيلِ الْمُؤْمِنِينَ }[النساء: 115] ما ورد وحكم عليها الفحول بأنها من الظواهر، وليست من الصرائح في الدلالة، هذا أخر ما ذكره مولانا من القدح في هذا الدليل.
وأقول: لقد بالغ -أبقاه الله تعالى- في تضعيف أدلة أصحابنا، على هذه المسألة حيث حكم أولاً على هذا الدليل بأنه أشف أدلتهم في ذلك، ثم قضى ثانياً بأنه عن القطع بمراحل، ونحن لا نساعده إلى واحد من الطرفين.

(1/177)


أما الأول:
فلأن هذا الدليل وإن كان عندنا قوي فمستذكر ما هو أقوى منه إن شاء الله تعالى.

(1/178)


وأما الثاني:
فلأنه عندنا قوي صحيح، غير بعيد من الحق الصريح، لا طعن فيه لطاعن، وما أورده من الاعترضات فيجاب عنه.
أما قوله: إنه إجماع فعلي، فهذا قد أورده الفقيه يحيى بن حسن القرشي _رحمه الله تعالى- في (المنهاج)،وتحريره: إن هذا إجماع فعلي واجتماع الأمة على فعل لا يكون حجة على وجوب ذلك الفعل إلا إذا علمنا أنهم إنما فعلوه لوجوبه عندهم وظهر لنا ذلك.
فأما مع جهلنا الوجه الذي أوقعوا عليه ذلك الفعل فلا وجه للاحتجاج به، ونحن لا نعلم أنهم فزعوا إلى نصب الإمام لوجوب ذلك، ولا طريق لنا إلى القطع به، ومن الجائز أنهم إنما فزعوا إلى ذلك لكونه أصلح لهم في دنياهم لا دينهم، أو لكونه أولى في صلاح الدين أيضاً، لا لوجوبه عليهم وجوباً حتماً، كما في صلاة الوتر فإن إجماعهم على فعلها لم يدل على خفي بها ومع هذا الاحتمال لا يستقيم الاحتجاج بذلك على أن الإمامة واجبة على الأمة.

(1/179)


والجواب: إنا لا نسلمبما ذكره من الاحتمال؛ لأن المعلوم ضرورة أنه يجب على كل مسلم نصرة الإسلام، وتوهين أركان الكفر؛ ما أمكنه حسبما يستطيع من ذلك، وكل عاقل يعلم ضرورة أن بقاء الأمة بعد موت الرسول -صلى الله عليه وآله وسلم-فوضى؛ لا أمير لهم ينظم أمرهم، ويجمع كلمتهم، ويتفرغ لسد الثغور، وإصلاح ما أفسده الجهال والضلال هدم لما كان -صلى الله عليه وآله وسلم-شيده، وخرقاً لما كان قد سدَّده؛ فإن الأمة حينئذ أشبه بغنم لا يحفظها راع عن موانع الطلب، ولا يحرسها عن أن يعبث فيها الذئاب فتذهب وفرتها كل الذهاب، والمنكر لذلك معاند دافع للعلم الضروري من جهة العادة لا إشكال في ذلك، فعلم أنهم إنما فزعوا إلى نصب الإمام لتقوية أمر الإسلام، ولا شك أن تقويته عليهم فرض واجب وحتم لازب؛ فيجب أن يكون فعلهم ذلك إنما كان لأجل وجوبه وهو المطلوب، وهذا الجواب ذكره الإمام المهدي، وبالغ في تضعيف الاعتراض حتى قال:
إنه غير واقع ولا يصدره عن فطانة. وأما قوله: إن عدم حصول التواتر في النقل عن كل واحد من الصحابة معلوم؛ فهو دعوى مجردة قد دخل فسادها في أثناء الدليل المذكور، وكيف يدعي العلم بعدم حصول التواتر في النقل مع حصول إمارة التواتر فيه، وهو العلم الضروري يوضحه، لا نجد فرقاً بين هذا العلم وبين كثير من العلوم التواترية؛ فما ورد هنا ورد هناك ودعوى الفرق غير واضح.

(1/180)


وأما قوله: إن كل مسألة يكون دليلها الإجماع؛ فالأقرب عدم تأتي القطع فيها إلى آخره فيقال له: ولمَ قلت ذلك؟ هل لاستبعاد تحقق وقوع الإجماع؛ كما ذهب إليه بعضهم؟ فمجرد الاستبعاد ليس بحجة مع أن الاستبعاد إنما يثبت في غير إجماع الصحابة –رضي الله عنهم-، والمدعي في الدليل إنما هو إجماعهم أو قلت ذلك لفقد التواتر في النقل كما ادعيت، فقد مرَّ الكلام على ذلك؛ أو من حيث أن دليل صحة الإجماع غير قوي، فهذا قد أوردته أخراً حيث قلت ولو قدرنا حصول شرائط الإجماع وتواتر..إلخ. وهو غير قادح لأن الآية الكريمة التي ذكرتها؛ وإن لم تفد القطع بكون الإجماع دليلاً فنحن نستدل على ذلك بغيرها، وهو قوله -صلى الله عليه وآله وسلم-: ((لا تجتمع أمتي على ضلالة )).
ووجه الاستدلال به هو أن نقول: إن معنى هذا الخبر قد ورد وروداً متواتراً بألفاظ نقلت أحاداً، كما في شجاعة علي -عليه السلام- وسخى حاتم؛ فإنه وإن كانت الوقائع الدالة على الشجاعة والسخى نقلت آحادا إلا أن المعنى الحاصل من تلك الوقائع نقل نقلاً متواتراً، وهذا الوجه قد استحسنه ابن الحاجب على أن ما ذكرته من القدح في صحة الإجماع ينقض ما اعترفت به أولاً من أن الإجماع أحد الأدلة القاطعة فخلص هذا دليل سليماً عن المطاعن.

(1/181)


الدليل الثاني
إن الله تعالى فرض الحدود وأمر بإقامتها في نحو قوله تعالى:
{فَاْقْطَعُواْ أَيْدِيَهُمَا }[المائدة: 38] وأجمعت الأمة على أنه لا يقوم بها إلا الإمام، أو من يلي من قبله، قال -صلى الله عليه وآله وسلم-: ((أربعة إلى الولاة )). الخبر فيجب نصب الإمام لأنه لا يتم الواجب إلا به وهذا الدليل هو الذي اعتمده الإمام القاسم بن إبراهيم -عليه السلام- في كتاب (الدعامة)، واعتمده أبو علي الجبائي، في كتاب المبتداء، واعتمده أبو هاشم في (الأنوار)، واعتمده الفخر الرازي في (نهاية العقول).
قال مولانا -أبقاه الله تعالى- معترضاً على هذا الدليل، بعد أن حكاه عن الأصحاب: وهذا يترتب على ثبوت هذا الإجماع المدعى، ويقيم تواتراً، وفي ذلك من البعد ما لا يخفى بل هو في حكم المتعذر المستحيل. أقول: قد اعترض هذا الدليل باعتراضين:

(1/182)


أحدهما: هو الذي أورده مولانا -حفظه الله تعالى- وهو لعمري اعتراف قوي؛ وكيف تصح دعوى إجماع الأمة في إقامة الحدود، أو في غيرها من سائر الأحكام المذكورة، مع أن أبا حنيفة -رضي الله عنه- تحيز للأمر إقامة الحدود، وإن لم يكن ثم إمام فجعل أمرها إلى أهل الشوكة.هـ. والحشوية وكل من خالف في وجوب الإمام لا يجعلون الإمام شرطاً في إقامة هذه الأمور، والجمعة فيها الخلاف الظاهر أعني في كون الإمام شرطاً، وكذلك الفيء والصدقات فكيف يمكن دعوى إجماع الأمة مع هذا الخلاف!؟ فإن ادعى إجماع الصحابة فهو بعيد أيضاً؛ لأن أبا حنيفة والشافعي -رضي الله عنهما- أقرب عهداً، وأعرف لمواقع إجماعهم، فلو عزموا إجماعهم على أنها تختص الإمام ولا تجوز من غيره لما يصححوها من دونه.

(1/183)


الاعتراض الثاني
ما حكاه مولانا معناه، عن الفقيه يحيى بن حسن القرشي -رحمه الله تعالى- حيث، قال: ما آمنكم أن يكون الأمر بإقامة الحدود مشروطاً بحصول الإمام ووجدانه، وهذا الاعتراض أورده الشيخ أبو عبد الله البصري، وجعله قادحاً على هذه الدلالة وضعفها لأجله، وجوابه ما أشار إليه مولانا أبقاه الله تعالى: إن الأمر بإقامة الحدود وما ورد مطلقاً لزم تحصيل شرطه، ولم يتوقف وجوبه على حصول شرطه، وذلك واضح، قال مولانا حاكياً عن القرشي: وأورد اعتراضاً أخر، وهو أنه لو كان نصب الإمام واجباً على الأمة لما أجمعوا على ترك هذا الواجب، ولا كلام في خلو بعض الأزمنة عن الإمام، وإن وقع الشك في جواز الخلو عمن يصلح للإمامية.
قال: وهذا أقوى كما ترى. أقول: هذا الاعتراض غير وارد على شيء من الأدلة إنما هو وارد على نفس المذهب، وهو القول بوجوب نصب الإمام فلا يقدح، وقد حكم مولانا له بالقوة ونص عليه بالصحة، ويمكن الجواب بما ذكره الإمام المهدي -عليه السلام- من أن الإمامة وإن كانت واجبة على الأمة فوجوبها على أهل كل عصر موسع غير مضيق في سائر الأقطار، واختلاف الأنظار في طلب الصالح لها وتعيينه.

(1/184)


وإذا كان وجوبها موسعاً لم يظهر لنا إخلال الأمة بها؛ إلا حيث قدرنا أن أهل عصر انقرضوا كافة، ولم يقم فيهم قائم حق، وهذا لا سبيل إليه، فإنا نعلم أن الأمة لم تخلُ من قائم حق مدة مديدة يقطع فيها بانقراض كل أهل عصر إذ لا يغلب في الظن ذلك إلا في قدر مائة وخمسين سنة مثلاً، والمعلوم ضرورة من بعد الرسول –صلى الله عليه وآله وسلم-أن الأمة لم تخل هذا المدة المديدة من قائم حق بل لا يزال أئمة الحق داعين قائمين، وإن وقعت فترة بين القائمين فإنما هي مدة يسيرة لا ينقضي فيها من أهل العصر إلا القليل، فلم يجمع أهل حينئذ على إخلال بواجب.
قال -قدس الله روحه-: وإنما قلنا: إن وجوبها موسع غير مضيق لما علمنا أنه يجب تحري الأفضل والأقطار متباينة لا يمكن الإحاطة بفضلائها وأحوالهم عقيب موت الإمام الأول بل يحتاج إلى بحث ونظر في مهلة يتمكن فيها من معرفة الأصلح للإمامة في أي الأقطار هو أو نحو ذلك.
قلت: ولأنه قد قام الدليل القاطع على وجوب النصب على الأمة، وهذا الاعتراض غير وارد على شيء من أركان ذلك الدليل فلو لم يحكم بكون وجوبه موسعاً لكانت الأمة قد أجمعت على الإخلال بالواجب، وذلك باطل فصح كونه النصب واجباً موسعاً بما لا يخفى صحته، و بذلك ظهر لك ضعف هذا الإيراد وأنه عار عن الصحة والسداد.

(1/185)


الدليل الثالث
وهو أشف الأدلة وأقواها أن يقال: إن المعلوم ضرورة من دينه -صلى الله عليه وآله وسلم-أن الجهاد فرض واجب على الأمة، وأن وجوبه لم يسقط بموت النبي -صلى الله عليه وآله وسلم-، والمعلوم أن الإمام شرط في أدائه والقيام به، وذلك أمر ممكن للأمة، أعني إقامة إمام فثبت بذلك وجوبه، والدلالة مبنية على خمسة أصول، وهي واضحة:

(1/186)


أما الأصلان الأولان
فمعلومان من ضرورة الدين.

(1/187)


وأما الأصل الثالث
وهو أن الإمام شرط في القيام بالجهاد وفي حصول المقصود به وهو نكاية العدو، فالذي يدل على ذلك أنا نعلم ضرورة من جهة القادة أنه لو خرج معسكر عظيم لقتال عدو، وليس عليهم أمير يرجعون إلى أمره في تهيئة القتال وكيفيته، وترتيب مواضعه بل كل واحد منهم يعمل برأيه في ذلك يقاتل حيث يشاء، ويتأخر ويتقدم حيث يرى رأيه، ولا ناظم لأمرهم في ذلك، فإن العقلاء يحكمون عليه بالإخلال بالشرط الذي يتم به مطلوبهم من نكاية العدو ودفع مضرته، وأنهم عرضوا أنفسهم للكسيرة، وعدوهم للظفر بهم على ما نعلم في العادة من حال المعسكر الذي هذا حاله، ولا يدفع ذلك إلا معاند، وإذا ثبت ذلك في الخروج على العدو وجب مثله في التحرز من سطوته وهجومه؛ فإن قوماً لو كان لهم عدو طالب لنكايتهم في إقامة رجل منهم كامل العقل والرأي في كل وقت لا يأمنون هجومه عليهم واستئصالهم شأفتهم، ولم ينظروا في إقامة رجل منهم كامل العقل والرأي ليتجرد للنظر فيما يدفع به ضرر خصمهم، ويحصل به التحرز من نكايته لا تشغله خويصة نفسه عن تدبير ذلك النظر فيه بل تركوا أمرهم شتى ينظر كل واحد منهم فيما يخص نفسه ويعود عليه وعلى عائلته منفعته ودفع مضرة ذلك العدو عن نفسه فقط، فإن العقلاء يحكمون عليهم بالإخلال بما يجب عليهم من دفع مضرة عدوهم عنهم، وأنهم بإخلالهم بذلك في حكم من لم يدفع الضرر عن نفسه، ووجوب دفع الضرر عن النفس معلوم به ضرورة، فعلم بذلك أن نصب الرئيس شرط في مجاهدة العدو مطلوباً كان أو طالباً؛ ولا شك أن الكفار والفساق منبسطون في الأرض على مرور الليالي والأيام، وأن

(1/188)


التكليف لمجاهدتهم مستمر وهو لا يستقيم ويتم المقصود به إلا بما ذكرناه من نصب الرئيس الكامل بشروط الإمامة بما علمناه ضرورة من جهة العادة، فلزم القضاء بوجوب نصبه إذ ما لا يتم الواجب إلا به يجب كوجوبه.

(1/189)


وأما الأصل الرابع
وهو أنه ممكن للأمة، فذلك معلوم ضرورة.

(1/190)


وأما الأصل الخامس
وهو أنه يثبت بذلك وجوب الإمامة فلا ما لا يتم الواجب إلا به يجب كوجوبه فلا شك فصح، وثبت ما رمناه من وجوب الإمامة على الأمة قطعاً وبطل قول المخالف.
وهذا البرهان قطعي واضح الأركان، إذ بعض أركانه معلوم ضرورة، وبعضها بدلالة قطعية لا مدخل للتشكيك فيها، فهذا جملة ما يدل على وجوب نصب الإمام قطعاً.
وأما ما يدل على سائر الفروع فسيساق إليك إن شاء الله تعالى، ثم قال مولانا -أبقاه الله تعالى- مشنعاً مستدركاً: فانظر إلى هذه الأدلة التي رسمت بكونها يقينية وانظر إلى تركهم إيراد أدلة على سائر أطراف مسائل الإمامة وتفاصيلها. أقول: صحة تسميتهم لها يقينية تبتنى على اندفاع ما ورد عليها من المطاعن، وقد أردنا في دفعها ما يشفي ويكفي بحمد الله تعالى، إلا الدليل الثاني فإنا لا ننازع في ضعفه وقوة ما ورد عليه كما قدمنا، وأما استدراك مولانا عليهم بقوله: إنهم تركوا إيراد أدلة أدلة على سائر أطراف مسائل الإمامة، فهو غير مسلم إذ لم يهملوا ذلك بل قد أوردوا من الأدلة على ذلك ما لا يخفى.
أما وجوب اتباع الإمام فقد استدلوا عليه بقوله تعالى: {يَاقَوْمَنَا أَجِيبُوا دَاعِي اللَّهِ }[الأحقاف: 31] الآية، وقوله -صلى الله عليه وآله وسلم-: ((من سمع واعيتنا أهل البيت )) الخبر ونحو ذلك من الأخبار المتفقة على معنى واحد، واستدلوا أيضاً على ذلك بأنه قد قام الدليل على وجوب الإمامة والانتصاب لها، فمن انتصب لها مع كمال الشروط فيه بأنه قد امتثل ما أمره الله تعالى به من الإمامة توجب علينا طاعته واتباعه.

(1/191)


وأما معرفة شرائط الإمام فقد استدلوا على وجوبها بالإجماع، قال السيد في (شرح الأصول) ما معناه فإنه لا خلاف بين الأمة في وجوب معرفة إمام الزمان يعني معرفة ما اختص به من الصفات المعتبرة، واستدلوا أيضاً على ذلك بأن الإمامة هي الدرجة الثانية من النبوة.
وقد ثبت وجوب معرفة النبوة على كل مكلف عامي وغيره فكذلك يجب مثله في الإمامة فإن الإمامة لم تنقص عنها إلا في درجة واحدة، وهو الوحي لا غير، وإلا فما اختص به النبي -صلى الله عليه وآله وسلم-من الأحكام قد اختص به الإمام غالباً، واستدل بعضهم على ذلك أيضاً بأنه يجب على المكلفين إجابة دعوة الإمام والانقياد لأمره، ومن القبيح أن ينقادوا لأمره، ولما يعرفوا هل هو إمام أم لا؟!.
وأما وجه اشتراط كل واحد من الشرائط، وسائر ما أشار إليه مولانا من الفروع؛ فكلامهم فيه ظاهر في غير موضع، فلا حاجة إلى تطويل الكلام ببيانه، فهذا جملة ما يتعلق بالجهة الأولى من الكلام.

(1/192)


بيان ما يلزم على القول بكون الإمامية قطعية
وأما الجهة الثانية: فقال -أبقاه الله تعالى-: ثم نقول: إذا صح هذا المذهب، وهو أن الإمامة قطعية لا يجوز الأخذ فيها إلا بالدليل القاطع، وأن الحق فيها مع واحد لزم على هذه القاعدة كل واحد من المكلفين، مع وجدان من يدعي الإمامة أن ينظر في المسألة أصولها وفروعها، ولا يجوز له الإقدام ولا الإحجام، ولا الإثبات ولا النفي، إلا بعد أن يطلع على أدلتها ويعلم حصول العلم اليقين له عنها حتى ينتهي إلى العلم بوجوب متابعة هذا الداعي وصحة دعواه أو خلاف ذلك وإلا كان مخطأ.
إنما سواء وافق الحق في نفس الأمر أم لا لأنه لا فرق بين الإقدام على الخطأ وبين الإقدام على ما لا يؤمن كونه خطأ في القبيح، ولزم أن لا يصح التقليد في شيء من مسائل الإمامة، ولا الرجوع فيها إلى أقوال العلماء كغيرها من المسائل القطعية التي لا يصح التقليد فيها.
وقد ذكر بعض مذاكري المذهب، وهو الفقيه ل ما يقضي بهذا في حق من بلغته دعوة للإمام ولم يتمكن من النهوض إليه، قال -رحمه الله تعالى-: والظاهر أنه لا يعتقد إمامته حتى يحصل إجماع من العلماء عليه، أو تواتر الخبر بجمعه للشروط لأن المسألة قطعية، ولا يجوز الدخول بالتقليد إلا عند من جوزه في مسائل الأصول، ونظره الفقيه ل -رحمه الله تعالى- بأنه ما يكاد يتفق ذلك، ولا وجه للتنظير لأنه لا عبرة بالاتفاق وعدمه، والذي يقتضيه أصول أهل المذهب ما ذكره الفقيه ل.

(1/193)


أقول: هذا الإلزام الذي ذكره مولانا ملتزم وليس محذور يخاف، ولا مجال يلزم، وكلام الفقيه ل في ذلك خير لا عوج فيه، وهو ظاهر كلام أصحابنا في مواردهم ومصادرهم، وقد صرح به الفقيه قاسم بن أحمد إلا في تفصيل العلم فإنه سوغ للعوام تقليد العلماء، قال: لأنه لا طريق لهم سوى ذلك، ولهذا قال الإمام المهدي أيضاً، فإنه ذكر: أنه يجب على العامي معرفة ما عدا العلم من الشرائط إما بالخبرة أو بالتواتر.
قال: وأما الاجتهاد فلا طريق له إلى اختصاص الإمامة به إلا نقل الناقلين من العلماء المجتهدين، إذ كل عالم بفن يخبر أنه وحده عارفاً للقدر المحتاج إليه من فنه.
قال -رضي الله عنه-: فإذا نقلوا ذلك فللعامي الأخذ بنقلهم، وإن لم يبلغ حد التواتر، لأن شرط التواتر المقيد بالعلم هنا مفقود، وهو الاستناد إلى المشاهدة، والعلم لا يشاهد، لكن تدل عليه الأقوال فقط فالتواتر حينئذ هنا لا يفيد علماً فيتحرى بالظن.
قال رحمه الله تعالى: فإن اختلف الناقلون في كمال علمه، رجع إلى الترجيح صحة نقلهم فإن حصل ترجيح عمل به وإلا فالواجب الوقف حينئذ قال الفقيه قاسم: وقد اختار بعضهم جواز التقليد للعوام في معرفة الإمام، واجتماع الشروط فيه وهو ضعيف. انتهى.
ثم قال مولانا -أبقاه الله تعالى-: ومن توابع القول بكونها قطعية أنه يلزم الأئمة وغيرهم الإنكار على من اعتقد صحة إمامتهم من غير فهم القواعد والوصول في ذلك إلى العلم اليقين، لأن من كانت هذه صفته مقدم على قبيح ومرتكب له، والإنكار على مرتكب القبيح واجب، إلى آخر ما ذكره في هذا المعنى.

(1/194)


أقول: الواجب على الأئمة حمل أتباعهم على السلامة، وأن ما أقدموا عليه من الاعتقاد وتوابعه من تسليم الحقوق ونحوها، كان عن دليل وليس عليهم أن ينكروا على الاتباع قبل أن يعلموا حقيقة أمرهم، وأما بعد علمهم بأن اعتقادهم صدر لا عن دليل فلا شك في لزوم الإنكار حينئذ.
فقد ساعدنا مولانا إلى ما رام من لزوم الإنكار على من كانت تلك صفته، فإن قال: إنا قد علمنا الأئمة أنهم لم ينكروا، فإما حكمنا بخطأ الأئمة أو بكون المسألة ظنية؛ قلنا: قد دللنا على أنها قطعية فإن صح عن الأئمة أنهم تركوا الإنكار كان ذلك دليلاً على عدم علمهم بحال الأتباع لا على خطأهم بتركهم الإنكار عليهم، ولا على كون المسألة ظنية، ومع عدِّ علمهم لأنكرتهم الإنكار كما قدمنا، ويصير حال الأئمة في ذلك كحال النبي –صلى الله عليه وآله وسلم-فإذا حسن من النبي –صلى الله عليه وآله وسلم-أمر العربي الجلف باعتقاد نبوته، وتسليم الحقوق إليه، من غير أن يأمره بتقديم النظر في ذلك، حملاً لمن اتبعه على السلامة فبالأولى أن يحسن ممن هو دونه، وهو الإمام، أمر العوام باعتقاد إمامته وتسليم الحقوق إليه، مع حملهم بعد الاتباع والتسليم على أن ذلك كان عن دليل، فإن قال: إن بين المسألتين فرقاً فإن مسائل الإمامة أخفى من مسائل النبوة، لا نسلمه فإن في مسائل النبوة ما يحتاج إلى دقيق النظر، بل لو ادَّعى العكس في ذلك لأمكن، ثم سلمنا ما ذكره من زيادة خفاء مسائل الإمامة على مسائل النبوة، فلا شك أن في سائر مسائل الأصول ما هو أدق وأخفى من مسائل الإمامة، وكان يلزم النبي –صلى الله عليه وآله وسلم-وسائر

(1/195)


العلماء الإنكار على العوام جميع[ما] اعتقدوه من ذلك، وخلافه معلوم لا ذلك إلا بما ذكرناه من الحمل على السلامة.
وأما ذكره مولانا -أبقاه الله تعالى- من أن أكثر المعتزين إلى الأئمة القائلين بإمامتهم، الممتثلين لأوامرهم ونواهيهم، المترتبة على صحة الإمامة وثبوتها، لم يقدموا على ذلك لنظر اقتضاه، ولا دليل أوصلهم إليه، فذلك حمل منه لهم على غير ما ينبغي سواء جعلنا الإمامة ظنية أو قطعية، ثم لو سلمنا أن ذلك معلوم لمولانا من حالهم، فمن أين أن الأئمة قد علموه أيضاً حتى يلزمهم الإنكار!؟ فإنه لا يلزم فيما علمه شخص أن يعلمه أخر.
قوله: وليس لقائل أن يقول: كثير من المسائل القطعية يصح التقليد فيها، فإنا نقول: ذلك لا يصح إلا فيما كان منها عملياً لا يترتب على علمي، قلنا: هذا صحيح، لكن لسنا نسلم أن تسليم العامة للحقوق إلى الأئمة، صدر عن تقليد بل هو كتسليمهم لها إلى النبي –صلى الله عليه وآله وسلم-سواء سواء، وهذا إتمام جملة ما يتعلق بالجهة الثانية من الكلام.

(1/196)


الرد على المفسقين في إمامة الإمام المتوقف فيها
وأما الجهة الثالثة فقال -أبقاه الله تعالى-: والعجب مما ظهر في زماننا من تجاسر غير العارفين من المثبتين للإمامة على تفسيق النافي لها والمتوقف ولعنه، واعتزال الصلاة خلفه، مع أن التفسيق لا يصح الأخذ فيه والإثبات له إلا بالبرهان القاطع الذي لا مانع له ولا مدافع من كتاب صريح، وخبر متواتر صحيح، أو إجماع قطعي، واستبعدوا أن يكون القياس من طرقه لتعسر القطع بعلة الحكم، وانحصارها وعدم تعددها، والمعلوم أنك لو سألت كل واحد من هؤلاء المذكورين عن معنى الفسق وأسبابه وطرقه وأحكامه؟ لما درى كيف يجيبك دع عنك العلم بكون نفي الإمامة، أو التوقف فيها يقتضيه، وفي الحقيقة أن التعجب من علماء زماننا الراسخين في العلم كثرهم الله تعالى ونفع بعلومهم، كيف سكتوا عن من هذه صفته مع وجوب التنبيه، والتعريف بما يتحتم في الدين الحنيف!!؟، فإنه إن سلم ثبوت الفسق في هذه المسألة لم يحسن تقرير أرباب التفسيق من غير استدلال وتحقيق، بل يجب الإنكار عليهم والإعذار في ذلك إليهم.
فما ظنك بمن يلقن الجهلة ذلك ويفتيهم به ويأمرهم باعتقاده، أقول: لا شك في خطأ من فسق بغير برهان، وقد ورد من الوعيد عليه ما لا يخفى على إنسان، لكن الواجب حمل المفسقين على السلامة، وأن التفسيق صدر منهم عن دلالة.
قوله: والمعلوم أنك لو سألت كل واحد من هؤلاء إلى أخره، قلنا: بل ذلك مظنون لقرنية خفى دليل الفسق على من هو مثلهم، والواجب إطراح الظن وإيثار الحمل على السلامة، فقد يظهر لبعض الناس من أدلة الشرع ما يخفى على أخر.

(1/197)


قوله: وفي الحقيقة أن التعجب من علماء زماننا!!. قلنا: إنما سكتوا لأنه غلب في ظنهم أن التفسيق وقع من المفسقين عن برهان، والإنكار لا يجب بل لا يحسن إلا بعد العلم بأن الواقع منكر، وأما تلقين الجهلة ذلك وأمرهم باعتقاده فهو إن سلمنا وقوعه محمول على أنه اقترن به تلقين الدليل أيضاً والأمر باستعماله.
ثم إنا نقول: وأي محذور باعتقاد ذلك؟ إذا كان الآمر يعتقد التفسيق لدليل قاطع عنده فإنه يحسن منه أمر غيره بالاعتقاد، ثم نحمل المأمور على أنه لا يعتقده إلا لدليل، كما يأمره باعتقاده الصانع مثلاً أو صفاته، فإن قال: إن المراد باعتقاد الصانع هو العلم به، فهو إنما أمره بالاعتقاد الواقع على وجهه والعلم إنما يصدر عن دليل.
قلنا: وكذلك هذا نقول: فما وجه التشنيع؟ قال مولانا –أبقاه الله-: ثم إنا نقول: أي الأدلة المعتبرة دل على فسق من ينفي إمامة الإمام؟ أو يتوقف فيها؟ وأي طرق والعقل اقتضى ذلك؟.
أما العقل فلا مجال له هنا، فما حجة القائلين بذلك؟، والذاهبين إليه من أدلة الشرع؟ أما أكثر أئمتنا، وعلمائنا، فالظاهر عنهم القول بعدم التفسيق، ولهذا نقل عنهم حسن الثناء على المشائخ المتقدمين على أمير المؤمنين علي بن أبي طالب -كرم الله وجهه في الجنة-، والترضية عليهم، والتعظيم العظيم لهم، مع أن أولئك المشائخ المذكورين نفوا إمامة علي -عليه السلام- وزادوا على النفي بما ظاهره البغي فإنهم تصدروا وأهلوا نفوسهم للإمامة، ورأوا أنهم أولى بها منه.

(1/198)


هذا وإمامته -عليه السلام- أظهر من إمامة غيره، لقيام النصوص عليه، ووضوح الأدلة على عصمته، وكثرة فضائله، وعلو شأنه، وارتفاع مكانه.
ويقول: سلمنا أن الإمامة قطعية، فليس من لازم كل قطعيته أن المخطئ فيها فاسق إذ ليس كل خطأ كبيرة فإنه لا يثبت كون المعصية كبيرة إلا بدليل كما ذكروه من ثبوت الحد عليها، أو التصريح بعظمها أو فحشها أو كبرها، أو نحو ذلك، أو الوعيد عليها بعينها على خلاف في ذلك.
ولا أعلم حصول شيء من ذلك الطرق في مسألتنا. أقول: اعلم أن التفسيق في هذه المسألة مما عظم فيه الإشكال، وكثر فيه القيل والقال، والناس بذلك فريقان، فريق قطع بالفسق، وفريق لم يقطع به، لعدم قيام الدليل عنده، وقد قال -صلى الله عليه وآله وسلم-: ((المؤمن وقاف عند الشبهات )) وقال علي -عليه السلام-: لأن أخطئ في العفو أحب علي من أن أخطئ في العقوبة، وإلى هذا قال جماعة من حذاق العلماء رحمهم الله تعالى:
قلت: وبقولهم أقول، قال الإمام المهدي -عليه السلام- في (الغايات) ما لفظه: وأما الخلاف الواقع بين الزيدية والمعتزلة في الإمامة هل يؤدي التفسيق أم لا؟! فقد ذكر كثير من شيوخنا أن من دفع إمامة إمام ثابت الإمامة وأنكر أو جهل، فهو كمن حاربه ونابذه في أنه فسق.
قال الشيخ أبو القاسم البستي: وإلى هذا ذهب كثير من الزيدية، قال: والذي يختاره أنه لا دلالة على تفسيق من جهل إمامة الإمام إذا لم يقترن به خروج عليه ومحاربته.

(1/199)


قال الإمام المهدي -عليه السلام-: وهذا هو الحق عندي، قال -عليه السلام-: ولا بد في إيراد كلام في تبيين الحق من ذلك، فنقول: إعلم أن شيوخنا المتكلمين من المعتزلة -رحمهم الله تعالى- إنما قالوا: إن الخروج على الإمام على جهة البغي، ونفي إمامته، والطعن فيه والقعود عن نصرته، مع الإمكان من غير عذر سواء في الحكم وأن كلاً من الأمرين فسق لا فرق بينهما.
وزعمت الإمامية أن مخالفة الإمام المفترض الطاعة، والجهل بأمره، وموالاة عدوه كفر، وفيهم من يقول: إنه فسق، وإن لم يكن كفراً، وربما يسمى من هذا سبيله مسلماً، ولا نسميه مؤمناً.
وفي الزيدية من يقول بتفسيق من لم يعرف إمامة الإمام، ويجري جهله بإمامته مجرى الخروج عليه، والعداوة له، والذي عليه التحصيل من الزيدية أن الخروج على إمام الحق فسق، فأما الجهل بإمامته إذ ادَّعى الإمامة لغيره، أو الجلوس مجلس الإمام في غير وقت إمام يحرم مخالفته، أو في وقت إمام منصوص عليه لكنه لم يقم بالأمر كعلي بن أبي طالب -عليه السلام- أيام الشيخين فلا دلالة على كون ذلك فسقاً. هذه ألفاظه -عليه السلام- في (الغايات)، ومثله ذكر الشيخ المحقق أبو القاسم البستي في كتاب (البحث والتحقيق عن أدلة التكفير والتفسيق).
ثم قال -رحمه الله تعالى-: بعد أن ذكر ما جرى في الصدر الأول: وقد استدل على أن العدول عن إمامة الإمام فسق، والجهل به واعتقاد إمامة غيره بضروب من القياس، إذ النص غير ممكن، فمن ذلك أن الخروج عليه فسق.

(1/200)


وقد علمنا أن من حاربه من جنس البغاة كمن لم يحاربه، ومن كان في جملتهم كمن حارب الإمام، فلم يكن البغي والخروج عليه فسقا للمحاربة، وإنما كان فسقاً للعدول عن طاعته إلى طاعة غيره، وهذا موجود فيمن عدل عن أمير المؤمنين -عليه السلام- إلى أبي بكر فيجب أن يكون فسقاً قال رحمه الله تعالى وهذا لا يصح التعليق به، وذلك أن الأمة أجمعت على أن البغي على الإمام فسق فمن أظهر نفسه في البغي عليه، وكان من جنس البغاة، فالظاهر من حاله أنه منابذ له ومحارب، إذا لم يكن هناك إكراه.
ومن هذا سبيله فالإجماع قد كشف عن كونه فسقاً، ولا يجب في غيره أن يكون فاسقاً، والدلالة مفقودة، وقد بينا أن القياس في التفسيق والتكفير متعذر من حيث لا يمتنع أن نعرف عظم الفعل، ولا نعرف علة العظم على التفصيل، وإن كنا نعلم إنما عظم لعلة، وبعد فإنه يمكن أن يقال: إن البغي عظم لمفسدة فيه خاصة لا توجد في غيره، ويمكن أن يقال: العلة في عظيمة كونه بغياً على الإمام.
قال -رحمه الله تعالى-: فإن قيل: الباغي كما تعظم بغيه، فقد تعظم اعتقاده في الإمام أنه غير إمام، واعتقاده في الباغي أنه إمام، وهذا يوجب أن يكون غير الباغي بمثابته. قيل له: إذا أفردت اعتقاد الباغي عن بغيه، وخروجه على الإمام حتى لا يبقى إلا الجهل بإمامته، واعتقاده إمامة غيره، فلا دلاله عندنا على كونه فسقا بمجرده، وإنما نعلم أن الباغي فاسق، ويجوز أن يكون وجه العظم إجتماع ذنوب لو انفرد كل واحد منها لم يكن فسقا هذا كله كلام أبو القاسم البستي -رحمه الله تعالى-.
وهو من أهل التحقيق، والنظر في أكثر موارده ومصادره.

(1/201)


قلت: وليس لأحد أن يستدل على فسق من نفى أو توقف في غير مهلة النظر بأن يقول: إن للإمام حرب من هذا حاله ومقاتلته على عدم تسليم الحقوق، وجواز الحرب والمقاتلة متفرع على ثبوت الفسق، لأنا نقول: ليس له محاربتهم حتى يدعوهم إلى طاعته، فيتغلبوا وينتصبوا لحربه وحين انتصابهم لحربه ينضم إلى ذلك الاعتقاد ما أوجب الفسق، فيحكم به حينئذ، ومثل هذا يقال في حق الصحابة -رضي الله عنهم-، مع علي بن أبي طالب -كرم الله وجهه في الجنة- فإنا إذا حكمنا بصحة إيمانهم لم يكن له -عليه السلام- حربهم حتى يدعوهم إلى الطاعة فينتصبوا لحربه، وحينئذ يجوز له مقاتلتهم، والله أعلم.
نعم، وليس لمن يقطع بالفسق أن يعتقد في المفسق أنه صدر عنه التفسيق لا عن دليل لأنه يجوز أن يظهر لبعض الناس من أدلة الشرع ما لا يظهر للبعض الآخر؛ فنسأل الله سبحانه المادة بالهداية إلى القول الفصل المرضي عنده.

(1/202)


وأما ما ذكره مولانا من أن التفسيق في ذلك يقضي به معاملة السلف بدليل ما كان بين القاسم بن علي العياني، ويوسف الداعي، وما كان بين بعض أتباع حي الإمام الناصر محمد بن علي بن محمد ومن عارضه، وما كان بين الإمامين الهادي بن علي بن المؤيد، والمهدي أحمد بن يحيى سلام الله عليهما، فقد أطال فيه الكلام مع كونه لا ينهض حجة في مثل هذا المقام، لأن غاية ما تدل سيرهم المباركة هو كونهم لا يقولون بفسق نافي الإمامة، وذلك ليس بحجة على المفسقين؛ لأن المسألة قطعية، والحق فيها مع واحد، وأعجب من هذا استشهاده –أبقاه الله تعالى- بما حكاه بعد ذلك عن المؤيد بالله –قدس الله سره- لأنه –عليه السلام- كان بعيداً عن التكفير والتفسيق حتى أنه لم يفسق المجبرة مع أقاويلهم المنكرة.
وقال مولانا -أبقاه الله تعالى-: وأما منع الصلاة خلف من خالف المؤتم في العقيدة في الإمام من نفي أو إثبات، أو توقف بحيث أن المثبت لا تجزيه صلاته خلف النافي والعكس، وكذلك المتوقف على ما ظهر واشتهر في هذا الزمان، وانتشرت به الفتوى في جميع البلدان، فقد خفى على وجهة فإن الذي تمنع الصلاة خلفه على المذهب فإنه هو الفاسق، ومن في حكمه، وهو المصر على معصية لا يفعلها في الأغلب إلا الفسقة، وأن يعلم كونها فسقاً نحو كشف العورة بين الناس، والتطفيف، والشتم الفاحش غير القذف، واحترزوا بقولهم في الأغلب عما يرتكبه الفسقة، وبعض المؤمنين في العادة كالغيبة، والكذب ونحوهما، إلى آخر ما ذكره هذا المعنى.

(1/203)


أقول: أما مع القول بفسق النافي والمتوقف فعدم صلاة المثبت خلفهما على المذهب ظاهرة، وأما مع عدم القول بالفسق فلعل الوجه في منع الصلاة خلف من خالف المؤتم في العقيدة في الإمام هو ما يلحق المؤتم منهما من التهمة بالموافقة في المذهب في الإمامة إذ قد صار الغالب من حال المختلفين في الإمامة هو المجانبة، فإذا صلى أحد المختلفين في الإمامة خلف الأخر اتهم المؤتم منهما بأنه لا يخالف الإمام في العقيدة في الإمامة، وقد ثبت أن الإمامة قطعية الحق فيها مع واحد، فيكون المؤتم منهما قد وقف في موقف من مواقف التهم، وقد قال -صلى الله عليه وآله وسلم-: ((من كان يؤمن بالله واليوم الأخر فلا يقفن مواقف التهم )).
وإذا صح أن ذلك موقف تهمة كان عاصياً فيكون حينئذ قد أطاع بنفس ما به يمضي فلهذا لم تصح صلاته، والله أعلم.
فإن قيل: فلو فرضنا زوال هذا هو الاتهام. قلنا: إذا فرضنا ذلك وجب القضاء بصحة صلاة المؤتم منهما حينئذ، ثم قال مولانا بعد ذلك: هب أنا سلمنا فسق النافي ونحوه فمنع الصلاة خلفه مما لا يصح فيه التقليد والتلقين، إذ هذا من العمل المترتب على علمي، فكيف يحسن تقرير من لا يعرف القواعد على هذه القضية بل الأمر بها، والحث عليها، أقول: قد بينا فيها من هذا ليس من التقليد في شيئ، وأن الأمر إنما أمر العامي بالعمل وبتقديم العلم عليه على أنه قد ذكر في (التقرير) أنه يجوز التقليد في كون الكبيرة تنقض الوضوء إلا في كونها توجب الفسق. قوله: حتى أن كثيراً من المتدينين رفضوا لذلك صلاة الجماعة وأهملوها بالكلية إلى آخره.

(1/204)


أقول: أما حيث يختل أحد شروطها فرفضهم لها غير مستنكر بل هو الأولى حينئذ والأظهر، وأما مع تكامل الشروط فلعمري أن رفضها حينئذ خلاف المشروع، وصد الموضوع، كيف وهي شعار الدين، وعلامة إيمان المؤمنين.
وقد ورد على الحث عليها والزجر على تركها ما هو معلوم مشهور، وظاهر غير مستور، فلا حاجة إلى تطويل الكلام بذكره.
وأما صلاة علي -عليه السلام- خلف المشايخ -رضي الله عنهم- فلأنه لم يكن يفسقهم ولا كانت هناك تهمة تلحقه، وكذلك صلاة المهدي خلف الهادي -عليهما السلام- بصعدة؛ وأما تشنيع عبد الصمد الدامغاني فلا ينبغي أن يلتفت إليه، ولا الاعتماد عليه، كيف وقد قال -صلى الله عليه وآله وسلم-((لا يؤمنكم ذو جرأة في دينه )) على أنه قد نقم عليهم في رسالته أموراً صحيحة قضت بها النصوص الصريحة بعدها مثالب، وهي في التحقيق مناقب.
وأما إجازة الإمام يحيى -عليه السلام- بالصلاة خلف المجبرة فمبني على أصله في عدم تكفيرهم وتفسيقهم.
وأما قوله -صلى الله عليه وآله وسلم-: ((إنكم تصلون بهم فما صلح فلكم ولهم ، وما فسد فعليكم دونهم)) فالمراد ما فسد لأمر فيكم لم يعلمه المؤتمون من حالكم، والله سبحانه وتعالى اعلم.
هذا أخر ما سمح به الفكر الفاتر، وسنح للنظر القاصر، فإن جاء مرضياً فبتوفيق الله تعالى وإلهامه وتمكينه، وإلا فمن تصور منشئه فيما ينتجيه فليتلقاه الواقف عليه بالاحتمال، والإغضاء عما حواه من الاختلال، والله سبحانه وتعالى المسؤول أن يهدينا هدى الصالحين، ويذودنا عن موارد الخاطئين، بمحمد الأمين، وآله الأكرمين، وصلى الله على سيدنا محمد عبده ورسوله.

(1/205)


تم هذا الجواب الموقور رحم الله منشئه وكاتبه، ومن كتب له برحمته الواسعة ومغفرته الجامعة، ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم، وصلى الله على سيدنا محمد وآله آمين.
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله رب العالمين، وصلى الله على سيدنا محمد وآله وسلم، ونسأله العصمة عن الخطل والزلل، في القول والعمل، آمين.
نحمد الله تعالى على ما أمدنا به من نور الهداية، وكشف عنا من ظلم الجهالة والغواية، ونسأله المزيد من توفيقه والتيسير في الدين، للزوم أوضح طريقة، ونصلي على سيدنا محمد نبيه الناصح للأمة، الكاشف للغمة، الآمر بتنكيب مسالك المهالك، الزاجر عن الإنخراط في سلك الجهل البهيم الحالك، وعلى آله مفاتيح البهم، ومصابيح الظلم، وسلم كثيراً. وبعد.

(1/206)


فإنه لما ورد جواب الأخ الفقيه العلامة، الشامة في أرباب المعارف والعلامة، جمال الدين عمدة العلماء الراشدين، أمتع الله تعالى بطول حياته، ودفع الأسواء والمكروهات عن كريم ذاته، تأملته فوجدته شاهداً بكمال معرفته، وزيادة بسطته، وجودة بصيرته، وتوقد قريحته، وصحة عبارته، وقوة بلاغته، وتيقنت أنه قد بلغ في إجابة تلك المذاكرة غاية ما يمكن المجيب، بل لا يبلغ شأوه في ذلك التصرف والترتيب، وأنه قد رزق بلاغة الإنشاء، والفضل بيد الله يؤتيه من يشاء، ولكنه -أيده الله تعالى- سلك مسلك الجدال، ورام بجودة فراسته وحسن عبارته، تقويم ما خرج عن حد الاعتدال، نصرة منه للسلف الأمجاد، ورغبة في صيانة ما أورده عن الإفساد، لا ميلاً إلى سلوك سبيل العناد، فإنه والحمد لله من أهل الهدى والرشاد، وقد انضوى جوابه في بعض المسائل على الاعتراف وتصديق المقال، وفي بعضها على الرد والإبطال.
وهأنذا أنبه على ما عدل فيه الأخ -أيده الله تعالى- عن التسليم، وأوضح أن جميع ما أوردته عن الإبطال سليم، حسبما اقتضاه النظرة، وسمحت به الفكرة، غير قاصد لمجرد الهراء ولا جانح إلى جانب المراء، والله سبحانه المطلع على ضمائر القلوب، والمحيط بسرها المحجوب، معترفاً بالتقصير، عالماً بأن الباع قصير، عارفاً بأني إلى تعمد الهفوات وستر العورات فقير، ومن الله تعالى الهداية في البداية والنهاية. قوله: فلعل مولانا -أبقاه الله تعالى- أراد بالأمة بعضهم وبالمعتزلة أكثرهم.

(1/207)


إعلم أن خلاف الأصم ومن معه إن صحت الرواية عنهم لا يعتد به، ولا يلتفت إليه، لندرتهم وانقطاع خلافهم، والخلاف واقع بين الأمة وإن خرج عنه بعضهم.
ثم أنه لا وجه لقصر الخلاف، في كون الإمامة قطعية أو اجتهادية، على القائلين بوجوبها شرعاً، فإن القائل يعد وجوبها، أو وجوبها عقلاً لا بد له من الحكم عليها بكونها قطعية أو ظنية، وإنما قلنا: الظاهر من مذهب المعتزلة؛ لأنه لا كلام في أن الظاهر عنهم ما رويناه عنهم فلا حاجة إلى تأويل قولنا المعتزلة بأكثرهم، على أنا لو أضفنا القول هذا إليهم لا على جهة الظهور بل بأن نقول: قالت المعتزلة أو نحوه لكان له مساغ، فقد جرت بذلك عادت العلماء والمصنفين في عباراتهم، بل قد يضاف إلى المعتزلة ما هو قول الأقل منهم، ولما طالعت الأم التي نقلت عنها النسخة الصادرة إلى الأخ أيده الله وجدت لفظ: بين الأمة ساقطاً، والذي فيها: قد وقع الخلاف هل مسائل الإمامة إلى أخره، فذلك مما سارع إليه القلم لا عن تأمل، قوله: ومسألة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر لمثل ذلك.

(1/208)


أما مسألة الشفاعة فلها تعلق ظاهر بباب الوعيد، الذي هو من فن الكلام، وأما الأمر بالمعروف فالكلام فيه كالكلام في الإمامة، والذي نقلناه عن بعض متكلمي أصحابنا، وأردنا به غير الفقيه قاسم شامل للناس، قوله: ولا أعلم أن أحداً منهم قال: لا حاجة إلى إمام، يقال: ليس عدم علمنا إلى ذلك يدل على انتفاءه على أنا وإن علمنا انتفاء ذلك عنهم جميعاً، فأكثر ما فيه أن يكون ذلك إجماعاً سكوتياً فعلياً، فأين يكون من إفادة القطع؟، على أنا إذا رجعنا إلى أنفسنا وجدنا هذا الدليل لم يكسبها يقيناً، ولم يفدها سكوناً، قوله: علم ذلك ضرورة من حالهم، يقال: وكيف يعلم ذلك من حالهم ضرورة من لا يعرفهم ولا يعلم أعدادهم، ولا سمائهم، ولا أعيانهم؟.
والمعلوم أنك لو سألت أكثر الناس بل كلاً منهم عن الصحابة منهم لما أخبرك إلا بالأقل منهم، فكيف يعلم ما صدر منهم ضرورة من لا يعرفهم؟ وكيف تقيد قرائن الأحوال العلم بالعقائد؟ إنما الذي يفيده قرائن الأحوال العلم بالمرادات.

(1/209)


وأما العقائد فلا يعرف بها إلا التعبير عنها. قوله: فسنذكر ما هو أقوى منه، يقال: هذا كالتسليم لعدم إفادته العلم لأن قوة الدليل بحسب إفادته للعلم وإيصاله إلى مدلوله، فإذا كان موصلاً إلى العلم، فلا معنى لكون غيره أقوى منه، إنما يقال مثل هذا في الدلائل الظنية إذ تفاوت في إفادتها للظن، فمنها ما يحصل عنه المقارب، ومنها ما يحصل عنه الغالب، وللظن درجات تتفاوت بتفاوت قوة الأمارات لا العلم، ولا يقال: المراد بالأقوى هو الأوضح، أو الأسلم من الشغب، فمع إفادته للعلم لا يكون لغيره مزية عليه في القوة، على أنه سيتضح كون هذا الدليل أقوى أدلة هذه المسألة، وأن المدعي كونه أقوى أضعف منه.
نكتة: الأقرب عندي أن الإجماعات المروية المدعى فيها كونها يقينية قطعية على وجوه منها:
ما مضمونه القول بما يعلم من الدين ضرورة كجهل الإسلام، ويكفر من خالف فيه ويفسق، فيصح دعوى القطع بالإجماع فيه، وكيف لا وجد من خالف فيه لا يصلي جماعة وموافقته فيعلم إجماع المسلمين عليه، من حيث أنه من خالف فيه لم يعتبر، ومنها ما لا يكفر المخالف فيه ولا يفسق، ولكنه أمر واضح، لا يتصور فيه مخالفة كتقديم القطعي من الأدلة على الظني فيقرب دعوى الإجماع فيه المقطوع به من الصحة من حيث أنه منقول من مشاهير العلماء متواتر عنهم وغيرهم ممن لا يعرفه أولا نقل عنه، لا يتصور مخالفته لأمي حيث النقل التواتري عن واحد واحد من الأمة المعتبرين في الإجماع فذلك متعذر.

(1/210)


ومنها ما خرج عما ذكر، فالصحيح أنه ظني لا قطعي، لأن المستند فيه النقل عن الجمهور مع عدم الاطلاع على الخلاف فيه، ومثل ذلك لا يعد قطعياً مع كون المخالفة فيه ممكنة متصورة، ومصداق ذلك قول أحمد وهو من أئمة النقل، وأهل العلو في الطبقة: من ادعى الإجماع فهو كاذب. قوله: فيجب أن يكون فعلهم ذلك إنما كان لأجل وجوبه.
يقال: هذا الجواب غير مقنع، وأكثر ما فيه أن هذه قرينة تفيد الظن كون فعلهم لأجل الوجوب، ومثل هذه القرينة لا بد منها في كل إجماع فعلي يستدل به على الوجوب ولا يقتضي مثل ذلك كون الإجماعات الفعلية قطعية، ولو صح مثل هذا التكليف لأمكن دعوى القطع في كل إجماع فعلي، ولا يلتفت إلى ما ذكره مولانا المهدي -قدس الله روحه- من تضعيف الاعتراض، والحكم بعدم وقوعه، وعدم فطانة مورده، فإن السؤلات في القادحة القادحة لا يكفي في دفعها تضعيفها، وانتقاص موردها. قوله: فهي دعوى مجردة. يقال: بل الدعوى المجردة ما أشار إليه الفقيه -أيده الله تعالى- من حصول العلم الضروري بأن كل واحد من الصحابة يقول بوجوب الإمامة، ونصب الإمام، وأنه لا فرق بين هذا أو بين غيره من التواتريات، كالعلم بأن في الدنيا مكة كما يقضي به مفهوم كلامه -حاطه الله تعالى- وإن لم يصرح بجميعه.
والمعلوم أنك لو سألت مدعي ذلك من العلماء -عادت بركاتهم- عن أعيان الصحابة، المدعى معرفة حالهم في ذلك، أو أعدادهم لما وجدتهم على تحقيق في ذلك ولا إحاطة به، دع عنك من ليس من أهل المعارف، فكيف يعرف مقالة أشخاص أو فعلهم أو عقيدتهم ضرورة من لا يعرف أعيانهم ولا أعدادهم، ولا سمائهم!؟.

(1/211)


فإن قيل: ليس معرفة ذلك شرطاً بل المقصود أنه قد تواتر عن أصحاب رسول الله –صلى الله عليه وآله وسلم-أنه فعلوا أو قالوا كذا، قلنا: التواتر المفيد للعلم الضروري لا بد أن يستند إلى إدراك، وأن يبلغ نقلته عدداً لا يجوز على مثله التواطؤ على الكذب، وأن يتساوى الطرفان والوسائط في العدد المعتبر، فنقول: ما الذي نقل عن جميع الصحابة -رضي الله عنهم- جملة مما هو مدرك ليتعقل حصول العلم الضروري عنه، ثم نقول: أليس الذين فزعوا عقيب موت النبي -صلى الله عليه وآله وسلم-إلى نصب من يخلفه واهتموا بذلك غاية الاهتمام.
هم المجتمعون في السقيفة، والمعلوم أنهم ليسوا كل المعتبرين في الإجماع؟، فإن صح التواتر عنهم، فما الذي نقل عن غيرهم ممن غاب عنهم؟ هل سكوتهم؟ فالمرجع به إلى عدم الإنكار، وهو غير مدرك، فكيف يعلم ضرورة سلمنا، فلا يعلم من سكوتهم أنهم على صفة أولئك المجتمعين علماً ضرورياً، أو غير ذلك فما هو؟، فإن قيل: كلامك هذا ينطوي على القول بتعذر حصول الإجماعات التواترية القطعية، إذ لا يمكن معرفة أعيان الأمة جميعاً، ولا أسمائهم ولا أعدادهم، لمن يدعي العلم بإجماعهم، وإن نقل عنهم أنهم أجمعوا جملة، وأنه تواتر ذلك عنهم، فقد شغبت فيه وشككت على من ندبه.

(1/212)


قلت: إن لم يكن ذلك متعذراً فلا كلام في تعسره، وما ادعى فيه قطعية الإجماع فإجماعهم على أن القاطع يقدم على المظنون، ونحوه من المسائل الواضحة، مما أظن التواتر فيه حصل عن ذلك واحد من الأمة، بل لما كان خلافه لا يتصور أن يذهب إليه مميز فضلاً عن عارف عدل ادعى القطع به عن المعتبرين من الأمة. والله سبحانه أعلم.
قوله: بمجرد الاستبعاد ليس بحجة. يقال: لم نجعله حجة ولا إلى أي المطالب بحجة قوله: مع أن الاستبعاد إنما ثبت في غير إجماع الصحابة.
يقال: عدم حاصل منهم، وهو موجب الاستبعاد. قوله: فنحن لا نستدل على ذلك بغيرها.
يقال: هذا اعترافبعدم قطعية دلالة الآية الكريمة على حجية الإجماع، وهو يتضمن الاعتراف بما أشرنا إليه من بيان أن الأصحاب مع دعوى القطع في دلائل مسائل الإمامة لم يثبتوها على قاطع لاستنادهم إلى الإجماع مع استنادهم في حجية الإجماع إلى ما ليس بقاطع فقد أسندوا في الاستدلال على القطعي إلى ما ليس بدليل قاطع، والاستدلال بغير الآية الكريمة لا ينقض ما أراد به.
فإن أصحابنا لم يستدلوا بغيرها مما أوردته معتمدين عليه بل اعتمادهم في ذلك عليها، وإنما المستند إليه الغزالي، ومن تابعه. قوله: على إنما ذكرته من القدح في صحة الإجماع ينقض ما اعترفت به أولاً من أن الإجماع أحد الأدلة القاطعة يقال: ما ذكرته من كون ما أوردته من القدح في صحة الإجماع ينقض ما اعترفت به أولاً من كونه أحد الأدلة القطعية.

(1/213)


غير مسلم بل ما ذكرته جلي عن التناقض لا تدافع فيه ولا تعارض، لأني لم أقدح في صحة الإجماع، وإنما قدحت في قطعية دليل من أدلته، والقدح في حجية دليل من أدلته لا يقضي بعدم صحة سائر أدلته ولا يأبى.
أقول: بعدم حجيته ولو قضى بذلك ما قلته من كون محققي العلماء قضوا بظنية دلالة تلك الآية الكريمة على كون الإجماع حجة، وهو صدق لا محالة يقضي بذلك عنك ما صرحت به من تسليم ذلك على الخلو ذهبت مثلاً إلى ظنية جميع أدلة الإجماع لم يكن ذلك ناقضاً لما قدمته من عدة أحد الأدلة لاحتمال كوني عددته منها على قاعدة أكثر العلماء.
وهي أيضاً قاعدة أصحابنا، ونحن فرضنا الكلام فيما نافسناهم فيه على قواعدهم، وحاربناهم على أصولهم.
قوله: بل يحتاج إلى بحث ونظر في مهلة يتمكن فيها من معرفة الأصلح للأمة في أي الأقطار هو، ونحو ذلك. يقال: لا يخفى ما في هذا الجواب من التكلف والتعسف والقول بأن ذلك من الواجبات الموسعة لم يوجب المصير إليه والتعويل عليه إلا ضيق الخناق، وعظم موقع السؤال الوارد ووضوح قدحه، وكذلك جعل وقته الموسع جميع وقت أهل كل عصر حتى ينقرض آخرهم.

(1/214)


وأما الاستدلال على ذلك بتباين الأقطار وعدم إمكان الإحاطة بفضلائها عقيب موت الإمام الأول، ففيه تصريح بوجوب الإحاطة بفضلاء جميع الأقطار، ومعرفة الأفضل منهم، وهذا مما لا يعمل به أحد والصحيح خلافه، وهو يقرب من تكليف المحال، ولو كان شرطاً لتطلب إمامة أكثر الأئمة فإنه لم يعلم في أحد منهم أنه لا أفضل منه في وقته في شيء من الأقطار، ويظهر ذلك ظهوراً بيناً في حق الأئمة الداعين باليمن فإنا نعلم أنه لم يتقدم دعوة أحدهم البحث في الشام، والعراق، والغرب، وسائر البلدان حتى حصل العلم بعدم الأفضل على أن أدلة وجوب نصب الإمام من فزع الصحابة عقيب موت النبي صلى الله عليه وآله وسلم، وقبل مواراته، وما يتوقف من الأحكام الواجبة على الإمام كاشتراطه في الجهاد يقضي بالتضيق، ويدل عليه كما يدل على أصل الوجوب، وعلى عدم الوسع مدة مديدة قدر مائة وخمسين سنة، تتعطل الحدود وينتكس فيها أعلام الجهاد، ويشتد عضد الكفر والعناد، فافهم قوله.
قلنا: ولأنه قد قام الدليل القاطع على وجوب النص على الأمة. يقال: هذا نفس المتنازع فيه الذي لا يقع المساعدة إليه، ولا التقرير عليه، ومثل هذا تعد مصادرة على المطلوب، ولا يقع التسليم لديه. قوله: وهو أشف الأدلة وأقواها، يقال: مع إيضاح عدم قطعيته وإتيانه على ما هو ظني محض وسنبينه فظهر ظنية ما عداه من الأدلة لأن ظنية الأقوى مستلزمة بظنية المفضول، في القوة استلزاماً بيناً على أنه سيتضح لك ما قدمناه من كون الدليل الأول أشف الأدلة وأقواها، بما نحققه من كون هذا الدليل أضعفها وأوهاها.

(1/215)


قوله: وأما الأصل الثالث: وهو أن الإمام شرط في القيام بالجهاد، يقال: إن أردت أن الشارع جعله شرطاً ففي ذلك اعتراف بعد وجوب نصبه لأن تحصيل شرط الواجب ليجب لا يجب إن أردت أن الأمر ورد مطلقاً، وأنا نقطع بتوقفه على نصب الإمام فدعوى القطع في هذا الأصل غير مسلم؛ فإن وجوب الجهاد الذي أوجبت نصب الإمام لأجله من الواجبات الشرعية التي لا مجال للعقل فيها، بل ربما أن العقل كان يقضي بفتحه لو لم يرد الشرع به فأي الأدلة الشرعية القطعية من كتاب صريح، أو سنة، أو إجماع متواترين، أو قياس قطعي، يعلم حكم أصله ووجود العلة فيه وعلتها ووجودها، في الفرع علماً دالاً ذلك؟ ومن أي هذه الأنواع دلتك؟ هذا الذي أورده على أن الإمام شرط في غزو الكفار والبغاة ومدافعتهم، مع أن هذه مسألة ظنية، اختلفت فيها أنظار الأئمة والفقهاء، وإنما اختلفت المقالات لاختلاف الأمارات.
أما المدافعة فلا أعلم قائلاً باشتراط الإمام فيها، وأما اشتراطه في الغزو، فأكثر الأمة وبعض العترة على عدم اشتراطه، ونسب عدم اشتراطه في (البحر) إلى المؤيد بالله، والإمام يحيى والفريقين، وقواه واحتج عليه، بما لا مدفع له، وصرح بجواز الغزو مع الظلمة، وكذلك حكى ذلك غيره، قال في (شرح الإبانة): لا خلاف في جواز ذلك إلا عن الهادي -عليه السلام-، وإنما الخلاف في الوجوب، فظهر لك من هذا أن من جعل الإمام شرطاً، إنما اشترطه في أصل الوجوب لا في تأدية أمر قد وجب وتحصيل شرط الوجوب لا يجب.

(1/216)


فأما قوله: الذي يدل على ذلك أنا نعلم ضرورة من جهة العادة إلى آخره. فهو لا يدل على وجوب نصب إمام جامع للشرائط، وعدم دلالته على ذلك ظاهر وإنما هو من قبيل الصناعة في الكلام، وإبرازه في قالب الانتظام، حتى يخيل إلى سامعه أنه في قوة المعنى متناهي، وهو في الحقيقة ضعيف واهي. قوله: وقد أوردنا في دفعها ما يشفي ويكفي.
يقال: ليست الدعاوي في إثبات المقاصد كافية، ولا للسؤالات القادحة نافية. قوله: فهو غير مسلم إذ لم يهملوا ذلك. يقال: بل إهمالهم أو أكثرهم له، وعدم اهتمامهم به ظاهر، ومن أورده منهم وتعرض له فيما لا يشفي على سبيل العروض لا القصد هذا فيما اطلعنا عليه من الكتب المعتمدة والأسفار المتداولة، وأهلها هم الذين أردنا نسبة الإهمال لا غيرهم، ممن لم نطلع على مصنفاته، ولا وقفنا على حججه.
وأما رأيه وما لم يعلمه ويطلع عليه أكثر مما علمناه وطالعناه والعلم علم الله جل جلاله. قوله: بل أوردوا من الأدلة على ذلك ما لا يخفى يقال: هذا الذي نقله الأخ -أيده الله تعالى- من استدلالهم على هذه الفروع. إلى أن قال: فلا حاجة إلى تطويل الكلام ببيانه مما لا يخفى على من له أدنى ذوق، أنه من الأمارات الظنية، لا الدلائل اليقينية، وإنما تلك ظواهر وأخبار أحادية، ودعاوي مجردة عن إيراد البينة القوية، كدعوى الإجماع على وجوب معرفة شرائط الإمام، سبحان الله تعالى ما أسهل الاستدلال بالإجماعات إذا كان الأمر هكذا. قوله:

(1/217)


ثم حكمتم بعد الاتباع والتسليم، على أن ذلك إنما كان عن دليل. يقال: الحمل على ذلك إنما يكون مع الاحتمال، وعدم الجزم بأحد الطرفين، فأما مع القطع الذي لا شك فيه فلا ونحن نعلم ضرورة من حال العوام عدم معرفة ماهية الإمامة ومعناها، فضلاً عن أحكامها وتحقيقها، وفهم دقائق مسائلها، بل قد علمنا من حال كثير من المميزين الحذاق المهرة في بعض العلوم عدم معرفة ذلك، والإحاطة بشيئ منه، فكيف بالعوام أشباه الأنعام، الذين لا يميزون بين الخاص والعام، ولا يعرفون الفرق بين المأموم والإمام!؟.
لقد حكى لي ثقة: إن بعض ولاة بعض الدعاة في زماننا كثر ترداده إلى بعض الجهات لقبض الواجبات، وهو كثير الدعاء إلى إمامه، والحث على محبته، واعتقاد إمامته وفضله، وتزكيته وتسليم الحقوق إليه، وكثير الترغيب في ذلك حثاً أنه بذلك يشوق إلى نصر إمامه، والتماس البركة منه، فما شعر أهل تلك الجهة حتى وصلهم ذلك الوالي، ومعه عبد من الحاكة، عليه ثوب شديد البياض، فظن من ظن من أهل تلك الجهة أن العبد المذكور هو الإمام، الذي يذكره ويدعوا إليه، ولو احتجت إلى شرح ما يصدر عن العامة في هذا الشأن وغيره مما يعلم به بلههم وحمقهم، ومما يلتحق بحكانا المغفلين لطال الكلام، والأمر في ذلك واضح غني عن الاستشهاد، فكيف يمكن حمل من هذه صفته على ما ذكره الأخ –أيده الله تعالى-. قوله: فذلك حمل منه لهم على غير ما ينبغي.

(1/218)


يقال: إن كان المراد على غير ما ينبغي أن يكونوا عليه، فنعم هو كذلك على قاعدة الأصحاب، واللأئمة، في ذلك على المقدمين لا عن نظر ودليل، وإن كان المراد على غير ما ينبغي منه حملهم عليه، فذلك إنما يتوجه لو كان ذلك الحمل من قبيل الظن المنهي عنه.
وأما اليقين المستبين اللأئمة على من أظهره وصرح به. قوله: فإنه لا يلزم فيما علمه شخص أن يعلمه أخر. يقال: الأئمة -عليهم السلام- أهل التنوير والتجريب، وهم أجل من أن يجهلوا حال أهل زمانهم المخالطين لهم، مع ظهوره وعدم خفائه، وليس دونهم في الفراسة وقوة الحدس يجهل أن العوام يجهلون دقائق المسائل، التي تدق عن نظر التحاريم حتى وقع فيها الاختلاف والخبط الكثير. قوله: لكن لسنا نسلم أن تسليم العامة للحقوق إلى الأئمة صدر عن تقليد، يقال: نحن مع معرفة ذلك، والقطع به لا يحتاج إلى تسليم، وهو مما لا يعزب عن ذهن ذي الفكر والنظر السليم.
والأخ -أيده الله تعالى- لا يجهل ذلك، ولكنه بنى هذا وأمثاله عل أساس علم الجدل، وقاعدته ونسجه على منواله، وأبرزه في حليته. قوله: حمل المفسقين على السلامة قد تقدم ما هو كالجواب عنه من عدم إنكار الحمل بالقطع على خلافه. قوله: قلنا: بل ذلك مظنون. يقال: الفرق بين العلم والظن ظاهر، لا يخفى على من له درية، وقد وجدنا من أنفسنا العلم الذي لا لبس فيه، بما ذكرناه ولا معنى للرد علينا فيما ادعينا فكل أعلم بحال نفسه. قوله: محمول على أنه اقترن به تلقين الدليل أيضاً. يقال: قد باحثنا كثيراً من المتلقنين والملقنين، فوجدناهم جميعاً عادمين لتلقن الدليل وللتلقين.

(1/219)


قوله: ثم المأمور على أنه لا يعتقده إلا لدليل. يقال: كيف يحسن منه أمر غيره بالإقدام على ما لا يأمن كونه خطأ وهو قبيح، والأمر بالقبيح قبيح، ولا معنى لهذا الحمل لأنه لا يصَّور إلا مع كون المأمور مظنة لذلك، بأن يكون عارفاً بأن مثل ذلك يتوقف على معرفة الدليل القاطع مع كونه ممن له أهلية النظر، فأما مع كون ذلك في حكم المستحيل منه، فلا معنى لذلك الحمل، ثم نقول: هلا لقنه مع تلقين التسبق، إن ذلك لا يسوغ له إلا بعد معرفة الدليل، إن كان القصد إرشاده سواء السبيل، ومثل ذلك لم يسمع به عن أحد من الملقنين، ولا أظنه خطر لهم ببال.
قوله: إن صدر عنه التفسيق لا عن دليل. يقال: ولم لا يكون ذلك بعد النظر في أدلة الفسق التي أوردها، واشتد اعتقاده إليها، فإن قطعية الدليل وعدمها، مما يمكن معرفته، لا يبعد الجزم به بل لمن نظر وأمعن الفكرة في أنواع الأدلة، وأقسامها، وما يمكن الاستدلال به دلالة قاطعة منها، فلم يجد دليلاً أن يقطع بعدم حصول القاطع، فإن القرآن ما يدل من آياته دلالة قاطعة متلوة معروفة، والأخبار المتواترة، والإجماع المتواتر إن صح، مما لا اختصاص به لأحد دون غيره من أهل البحث والمعرفة، والقياس متعذر في مسألتنا أو متعسة، ولو أمكن إطلاع بعض دون بعض على الحجة في الأدلة الظنية التي لا حكم لها في مسألتنا. قوله: كونه ينهض حجة في مثل هذا المقام.
يقال: أردنا بذلك الاستظهار بأحوال السلف، وردع المفسقين المستبدين، في تفسيقهم إلى فتوى من ليس كمثلهم في الرتبة، وبيان أن هذه العقيدة المستفيضة من الأمور المستبدعة المستحدثة.

(1/220)


وخير أمور الناس ما كان سنة .... وشر الأمور المحدثات البدائع
قوله: وأعجب من هذا إلى آخره، مثل المؤيد بالله -عليه السلام- يستشهد بأقواله، ويستظهر بأحواله، وليس ذلك بمستغرب، وإن كان قدس الله روحه على ما حكاه الأخ -أبقاه الله تعالى- من العقيدة.
قوله: هو ما يلحق المؤتم منها من التهمة. يقال: الخوف التهمة، إنما يكون مع عدم صحة الصلاة خلف المخالف في العقيدة، فإذا صلى المؤتم خلفه اتهم بموافقته، ويكون سبب التهمة أنه لو كان مخالفاً له في العقيدة لما صلى خلفه لعدم صحة الصلاة خلف المخالف، فتحصيل الظن بأنه لو كان مخالفاً له لم يصلِّ خلفه، فإذا جعلت التهمة سبباً في منع الصلاة، وقع الدور لتوقف كل من لحوق التهمة وامتناع الصلاة على صاحبه.

(1/221)


فإن قيل: إن سبب لحوق التهمة ما ذكرناه من كون الغالب من أحوال المختلفين في مسألة الإمامة، ما ذكر من المباينة والمجانبة لا ما ذكرته من امتناع الصلاة خلفه، فهي في الأصل صحيحة لولا لحوق التهمة. قلنا: المجانبة لا يقتضى اعتزال الصلاة مع اعتقاد صحتها، أو إحراز فضيلتها ولا يفعل ذلك وهو جعل صلاته تابعة لهواه، معتبراً فيها غير مطابقة رضى الإله عز وجل، إلا من هو عن الخير بمعزل، وكيف يليق بمميز فضلاً عن فاضل، أن يجعل صلاته وصلة إلى وليه بفعلها، وإيغار صدر عدوه بتركها؛ سبحان الله ما أبعد هذا عن مقصود المحققين!!، فكيف يظن في المسلم المميز أنه لو كان مخالفاً للإمام المخطئ في عقيدته لما صلى خلفه ولترك صلاة الجماعة لا لمانع بل لما اعتاده الجهلة من ذلك هذه تهمة تتفرع على ظن السوء، وقد بلغني عن بعض علماء زماننا المشددين في منع الصلاة خلف نافي الإمامة ما يقضي بأن الغرض من ذلك تشنيع حال النافي وتقبيحه، وإيغار صدره، وتعظيم جرمه، وتفظيع شأن النفي في قلوب العامة، ليكون ذلك مرعباً في جانب الإثبات، منفراً عن جنبه النفي، ولعمري إن ذلك من الغرور العظيم، المصادم لنظر الشارع الحكيم، ولو كان مثل هذا الغرض مقصوداً لنبَّه الشرع الشريف عليه ولأوصى العليم الخبير أو رسوله السراج المنير إليه، وما أبعد هذا عما ذكره المؤيد بالله قدس الله روحه، وهو مذكور عنه في (الإفادة):

(1/222)


لما كتب إليه بعض أصحابنا يلومه على تسويغ صرف الزكاة إلى نافي إمامته ويشير إلى أن في ذلك توهيناً لأمره، وتسهيلاً لاطراحه وهجره، فأجاب -أعاد الله من بركاته-. آمين بالتشنيع الكبير على صاحبه، وعرفه بأنه لا يترك مذهبه لما يعود عليه من النفع، واستهجن مثل ذلك النظر، وولج صاحبه عليه ومن أراد مطالعته، وهو مثبت في حواشي هذه النسخة مع أن بين المسألتين فرقاً.
قوله: قد بينا فيما مر أن هذا ليس من التقليد في شيء قد تقدم ما يرشد إلى الجواب عنه. قوله: فرفضهم لها غير مستنكر.
هذا مسلم لا إشكال فيه، لكن لا معنى لهذا التقسيم، لأنه قد وضح وتقرر كون اختلاف العقيدة في الإمام لا يختل به شرط عند الرافضين، فقد رفضوها مع عدم الاختلال فآثروا شفاء غيض صدورهم، وإيغار صدور من ليس على عقيدتهم، على درجات الفضل الكبير، ودرك الأجر الكثير، إساءة للنظر، واستهانة لعظيم الخطر.
قوله: ((لا يؤمنكم ذو جرأة في دينه )) يقال: وجه الاحتجاج بهذا الحديث صحيح في حق ذي الجرأة على فعل القبيح، ولكنه يدل بمفهومه دلالة بينة على أن نافي إمامة الإمام متثبتاً في أمر دينه، لا يمنع الصلاة خلفه لعدم جرأته بل لكونه على صدها.
وإن فرضنا كون ذلك فسق تأويل لعدم حصول علة النهي، وأما قياسه على فاسق الخوارج، فلا يصح لعدم العلة المنبه عليها، وهي الجرأة والله أعلم.

(1/223)


قوله: فمبني على أصله في عدم تكفيرهم وتفسيقهم. في هذا نظر لأن الإمام يحيى -عليه السلام- ذكر ذلك على أصل أهل المذهب في تكفيرهم، ونص على أن الصلاة تصح خلفهم عند المكفرين، وأفتى بذلك على قاعدتهم، والمسألة منصوصة له في البحث.
وأما على أصله فهو مستغن عن ذكر ذلك، والله أعلم بالصواب، وهو حسبنا وكفى، وسلام على عباده الذين اصطفى، ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم، وصلى الله على سيدنا محمد الأمين، وآله الطيبين الطاهرين وسلم.
بسم الله الرحمن الرحيم
بحمدك اللهم استفتح مقالي، وبإستعانتك استنجز أفعالي، وبتوفيقك ألتمس الإصابة في المقال، وبعصمتك أعوذ من ركوب الضلال، وأتقرب إليك بالصلاة على سيدنا محمد الرضي، وآله وأتباعه في السبيل المرتضي.
وبعد:

(1/224)


فإنه لما وردت رسالة مولانا العلامة، الشاهدة له بكونه في العلماء الشامة، وفي السيوف الصمصامة، عز الملة والدين، وترجمان الأدلة واليقين، نفع الله تعالى ببركته، كما نفع بعلومه، وحرس ذاته الكريمة حراسة سمائه بنجومه،أجبتها بما حضرني من الجواب، من غير إخلال ولا إسهاب، بعد أن طالعتها، واستقرأت مسائلها رغبة في طلب الحق الواضح، ومسارعة إلى الطعن بالدليل الراجح، مع عزيمة صارمة باتباعها، إن وجدت عندها الصواب، وإطراح التعصب لمذهب الأصحاب، وسلوك مسلك المسترشدين المنقادين لما وضح انتهاجه، الخارجين عن المسلك البين إعوجاجه، لا كما حملني مولانا
-أيده الله تعالى- عليه من أني سلكت في بعض مواضع الجواب مسلك الجدال، ورمت بجودة الفراسة وحسن العبارة تقويم ما خرج عن حد الاعتدال، فإن الله تعالى هو المطلع على سرائر الصدور، وبيده سبحانه وتعالى أزمة الأمور.
ثم أنه بعد ذلك ورد من تلقاء مولانا-أيده الله تعالى- من التشكيكات على تلك الجوابات، ما يشهد له بأنه كسعي المناضلة، عنتري المنازلة، سابق في ميدان الجولان، أخذ لقصب السبق عند الرهان، ولم أكن أحسب أن أحداً يبلغ ذلك الأمد من التحقيق، أو يسلك ذلك النمط في التدقيق، أو يتمكن ذلك التمكن في صناعة الإنشاء، ولكن الله تعالى يختص برحمته من يشاء، فما أحقه بقول من قال:
فاق الرجال بإخلاق مهذبة .... وفات من كان جاراه وباراه

(1/225)


ولعمري أن كلامه ليشفي السقيم، وأن الزمان بمثله لعقيم، خلا أنه -أيده الله تعالى- سلك في تلك التشكيكات المسلك الذي عزا إلينا انتهاجه، وجرى في ذلك المجرى مع ظهور إعوجاجه، وهأنذا كاشف عن وجه ما ذكرته القناع، معترفاً بأني في ذلك قصير الباع، مستمداً من الله سبحانه وتعالى التوفيق والهداية إلى أوضح طريق بمنه ورحمته، فأقول متتبعاً لما أورده أيده الله تعالى.
قوله: إعلم أن خلاف الأصم، ومن معه إن صحت الرواية عنهم، لا يعتد به ولا يلتفت إليه لندرتهم وانقطاع خلافهم، قلنا: لا وجه للتقييد بقوله إن صحت الرواية لأنها ظاهرة الشهرة عنهم.
وقد رواها الإمام المهدي -عليه السلام-، في (غايات الأفكار) والفخر الرازي في (نهاية العقول)، والفقيه قاسم في (الغرر والحجول)، والفقيه يوسف في (الزهور)، ورواها غير هؤلاء أيضاً، وليست في الشهرة بأضعف من كثير من الروايات التي لا ينبغي إهمالها.
وكذلك ما ذكره من ندرتهم غير مسلم، فإن المخالف في ذلك أبو بكر الأصم من المعتزلة، وهشام الفوطي، وبعض الحشوية، والنجدات من الخوارج، وبعض المرجية، ولا شك في عدم ندور مثل هؤلاء.
وأما انقطاع خلافهم فهو رجم بالغيب لعدم الطريق إلى ذلك، إذ يجوز وجود متابع لهم في بعض النواحي ولم يطلع عليه. قوله: والخلاف واقع بين الأمة وإن خرج عنه بعضهم، قلنا: نعم؛ ولكن عبارته مشعرة بعدم الخروج. قوله: ثم أنه لا وجه لقصر الخلاف في كون الإمامة قطعية أو اجتهادية، على القائلين بوجوبها شرعاً؛ فإن القائل بعدم وجوبها أو وجوبها عقلاً، لا بد له من الحكم عليها بكونها قطعية أو ظنية.

(1/226)


قلنا: أما من قال بوجوبها عقلاً فنعم، لا بد له من أخذ الأمرين، وقصر الخلاف في ذلك على القائلين بوجوب الإمامة شرعاً صحيح لا خلل فيه ولا مجاز.
وإنما قصرنا الخلاف عليهم بتمام المقصود الذي سيق له الكلام بذلك؛ وأما من لم يقل بوجوبها رأساً فلا يسلم أنه يقول بأحد الأمرين؛ لأنه يتفرع على القول بالوجوب. قوله: لأنه لا كلام في أن الظاهر عنهم ما رويناه عنهم، فلا حاجة إلى تأويل قولنا: المعتزلة بأكثرهم.
قلنا: لا نسلم ظهور ذلك عن جميعهم، فإن الإمام المهدي -عليه السلام- وغيره حكوا خلافه عن بعض المعتزلة، وذلك يدفع ظهوره عن جميعهم. قوله: على أنا لو أضفنا القول هذا إليهم على حجة الظهور، بل بأن نقول: قالت المعتزلة أو نحوه لكان له مساغ.
قلنا: نعم، له مساغ على جهة المجاز، ولم يمنع من ذلك فإن دأب العلماء والمصنفين وعادتهم في عباراتهم، بل إنما منعنا أن يراد به ظاهره، وحملنا مولانا في الجواب على أنه أراد به المعنى الصحيح، فما وجه هذا الكلام؟.
قوله: ولما طالعت الأم، إلى قوله: فذلك مما سارع إليه القلم لا عن تأمل. قلنا: ما وقع في الأم هو اللائق بفطنة مولانا وذكائه، وكثيراً ما تسارع أقلام العلماء الراسخين إلى غير المراد، وتبادر إلى غير المقصد والسداد، ولعمري أن المبالغة في المناقشة عن أمثال هذا ليست من آداب المخلصين لكن تعرض له مولانا –أيده الله- فتبعناه. قوله: أما مسألة الشفاعة فلها تعلق ظاهر بباب الوعيد.

(1/227)


قلنا: إذا حسن ذكر الشفاعة في فن الكلام لذلك التعلق مع كون الطريق إلى ثبوتها شرعية، فلا بأس بذكر مسألة الإمامة، ومسألة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر فيه أيضاً آخر وهو أنهما مما يجب العلم بهما على المكلفين، وإن تفاوت التعلقات. قوله: ليس عدم علمنا بذلك يدل على انتفائه.
قلنا: بل يدل إذا كان المعلوم من الأمور التي لو وقعت لنقلت لتوفر الدواعي إلى نقلها، ومسألتنا من هذا القبيل على أنا لم نكتف في بيان انتفاء ذلك بمجرد انتفاء العلم به، بل ضممنا إليه قولنا: بل أجمعوا على مثل ما ذكر أبو بكر أنه لا بد من قائم تلجأ الأمة إليه إلى آخره، ومما اشتهر في صفة ذلك ما روي أنه لما توفي -صلى الله عليه وآله وسلم-كان أول من خطب أبو بكر -رضي الله عنه- فقال: "أيها الناس، من كان يعبد محمداً فإن محمداً قد مات، ومن كان يعبد إله محمد فإنه حي لا يموت، لا بد لهذا الأمر ممن يقوم به، فانظروا أو هاتوا آرائكم رحمكم الله تعالى" فتبادروا من كل جانب: صدقت، ولكنا ننظر في هذا الأمر ولم يقل أحدُ منهم: إنه لا حاجة إلى الإمامة ثم أبكروا إلى سقيفة بني ساعدة وتركوا أهم الأشياء، وهو دفن رسول الله-صلى الله عليه وآله وسلم-، ورأوا نصب الإمام أهم من ذلك. نعم، ولهذا يدفع قوله: فأكثر ما فيه أن يكون إجماعاً سكوتياً. قوله: على أنا إذا رجعنا إلى أنفسنا وجدنا هذا الدليل لم يكسبها يقيناً، ولم يفدها سكوتاً.

(1/228)


قلنا: لعل المانع من إفادة هذا الدليل اليقين لتلك إلا نفس هو ما سبق إليها من اعتقاد خلاف مقتضاه. قوله: يعلم ذلك من حالهم ضرورة من لا يعرفهم، ولا يعلم أعدادهم، ولا أسمائهم، ولا أعيانهم.
قلنا: أما العلم بأعدادهم وأسمائهم، فلا شك أنه غير معتبر في العلم بأحوالهم مطلقاً، وأما العلم بأعيانهم فإنما يعتبر في حق الناقلين عنهم، المشاهدين لهم فقط، فإذا علموا أعيانهم، وسمعوا أقوالهم، وشاهدوا القرائن الظاهرة المحتفة بها وكان فيهم كثرة ثم نقلوا ذلك إلى غيرهم، بأن قالوا للذين بعدهم مثلاً: إنا سمعنا كل واحد من الصحابة يقول كذا، وشاهدناه حينئذ من القرائن كيت وكيت، فإنه حينئذ يحصل العلم الضروري للمنقول إليهم بأحوال المنقول عنهم بلا ريب.
وإن لم يعلموا ما ذكره مولانا -أيده الله تعالى- على تعارض مولانا حفظه الله تعالى. فنقول: ألسنا نعلم ضرورة من حال الصحابة القول بأنه لا إله إلا الله، واعتقاد ذلك، فلا بد من بلى فيقال: كيف يعلم ذلك من حالهم ضرورة من لا يعرفهم، ولا يعرف أعدادهم، ولا أسمائهم، ولا أعيانهم؟ وجوابه: جوابنا، والله أعلم.
قوله: وكيف يفيد قرائن الأحوال العلم بالعقائد إلى آخره. قلنا: وأي مانع من ذلك، فإنه معلوم الصحة من غير تردد، ألا ترى إن أحدنا إذا جادل على تصحيح أمر، وعلمنا من شاهد حاله أنه غير موري في ذلك فأنا نعلم أنه معتقد لذلك الأمر بلا شك.

(1/229)


وأما الفرق بين المرادات والعقائد في ذلك فهو غير واضح، ولا وجه له. قوله: لأن قوة الدليل بحسب إفادته للعلم وإيصاله إلى مدلوله، فإذا كان موصلاً إلى العلم فلا معنى لكون غيره أقوى منه. قلنا: بل له معنى وهو سرعة إيصال الأقوى إلى العلم، لقرب مقدماته، وسلامته من التشغيب، وبذلك تظهر المزية لأحد الدليلين على الأخر، وإن اشتركا في كونهما موصلين إلى العلم، وقد جرت بمثل ما ذكرناه عادة العلماء والمصنفين في كتبهم، فلا وجه لإنكاره. قوله: على أنه سيتضح كون هذا الدليل أقوى أدلة هذه المسألة، وأن المدعي كونه أقوى منه أضعف منه.
قلنا: وسيتضح أن الأمر كما ادعينا وأن الحق ما قلنا.
قوله: نكتة: الأقرب عندي، أن الإجماعات المروية المدعى فيها كونها يقينية قطعية على وجوه إلى أخره. قلنا: هذا التفصيل مبني على استبعاد وقوع الإجماع وعلى منعه، كما ذكره الإمام أحمد بن حنبل -رضي الله عنه.
ونحن وإن سلمنا بعده فإنما يكون في غير إجماع الصحابة بعد انتشار أمة الرسول -صلى الله عليه وآله وسلم-، والمدعي في مسألتنا إنما إجماع الصحابة -رضي الله عنهم- فلا يقدح ذلك الاستبعاد فيما قلنا. ولا يمنعنا مما رمناه، وما ذكره مولانا أيده الله تعالى من عدم انحصار الصحابة -رضي الله عنهم- أيضاً غير مسلم. قوله: وأكثر ما فيه أن هذه قرينة تقيد كون ظن فعلهم لأجل الوجوب.

(1/230)


قلنا: ليست بقرينة بل برهان قطعي، وتقريره أن كل عاقل يعلم ضرورة أن نصب الإمام بعد موت الرسول -صلى الله عليه وآله وسلم-يرفع شأن الإسلام، ويعلي منارة، والإخلال به يقتضي هدمه وزوال قراره، والمعلوم الذي لا يلتبس من حال الصحابة، أن كل ما كان كذلك فإنهم يهتمون بشأنه ويفعلونه لأجل أنه كذلك، إذ هم أشد الناس عناية بأمر الإسلام وتقوية أركانه، وهاتان المقدمتان ينتجان أن الصحابة نصبوا الإمام لأجل أنه يرفع أمر الإسلام، ويعلي مناره، وأن الإخلال به يقتضي عكس ذلك.
ثم نركِّب قياساً أخر، فنقول: قد ثبت أن الصحابة نصبوا الإمام لأجل أنه يرفع أمر الإسلام ويعلي مناره، وأن الإخلال به على العكس من ذلك، وكل ما فعل لتلك الصفة فقد فعل لأجل الوجوب، ينتج أن الصحابة نصبوا الإمام لأجل الوجوب وهو المطلوب.
أما المقدمة الأولى فظاهرة مما تقدم، لأنها نتيجة القياس الأول.
أما الثانية: فإن الوجوب لازم لتلك الصفة. فإن قلت: غاية ما يقتضي هذا الاستدلال وجوب نصب الإمام على الصحابة فقط بعد موت النبي -صلى الله عليه وآله وسلم-لوجود العلة التي ذكرتم في ذلك الزمان، لقرب عهدٍ بالكفر، فمن أين أنه يجب نصبه بعد ذلك الزمان، وهو وقت استقرار الإسلام وانتشاره في الأقطار؟.

(1/231)


قلت: هذا سؤال حسن ويمكن الجواب عنه، بأن يقال: لا شك أن بقاء الأمة فوضى لا أمير لهم ينظم أمرهم، ويجمع كلمتهم، ويتفرغ لسد الثغور، وإصلاح ما أفسده الجهال، وارتكبه أهل الضلال، يقتضي الوهن في الإسلام في أي وقت كان، وإن كان في صدر الإسلام أظهر. قوله: ومثل هذه القرينة لا بد منها في كل إجماع فعلي إلى آخره.
قلنا: لا نسلم ذلك، فليس كل حكم واجب أجمعت الأمة على فعله يقتضي الإخلال به حفظ منار الإسلام، كما قلنا في نصب الإمام.
قوله: ولا يلتفت إلى ما ذكره مولانا المهدي -قدس الله روحه- من تضعيف الاعتراض إلى أخره. قلنا: بل يتوجه الالتفات إليه انقياداً لما قام به البرهان، واتباعاً لما أوضحه -عليه السلام- من التبيان. قوله: فإن السؤلات القادحة لا يكفي في دفعها تضعيفها وانتقاض موردها.
قلنا: لم يعتمد -عليه السلام- على ذلك بل اعتمد في ذلك على ما حكيناه عنه، وقررناه بما لا مزيد عليه. قوله: بل الدعوى المجردة مما أشار إليه الفقيه أيده الله تعالى من حصول العلم الضروري بأن كل واحد من الصحابة يقول بوجوب الإمامة، ونصب الإمام، وأنه لا فرق بين هذا أو بين غيره من المتواترات، كالعلم بأن في الدنيا مكة كما يقضي به مفهوم كلامه حاطه الله تعالى وإن لم يصرح بجميعه.
قلنا: أما العلم الضروري بأن كل واحد من الصحابة يقول بوجوب الإمامة فقد صرحنا به وادعيناه وقررناه بالتصحيح، وأوضحنا أنه الحق الصريح، فلا يصح القول بأن ذلك منا دعوى مجردة، كما قاله مولانا لكنه حاطه الله تعالى قابلنا بمثل قولنا وكال لنا بمثل كيلنا.

(1/232)


وأما أنه لا فرق بين هذا وبين غيره من المتواترات، فإن أراد أنا قلنا: بعدم التفرقة بينهما في مجرد حصول العلم فصحيح، فما يمنع منه؟. وإن أراد أنَّا سوينا بينهما في الجلي والظهور، فحاشا!! وكلا!! وليس في كلامنا ما يشعر به قط، بل عندنا أن العلوم التواترية تتفاوت فبعضها أجلى من بعض، بحسب قوة طرقها وضعفها، قوله والمعلوم أنك لو سألت مدعي ذلك عن العلماء عن أعيان الصحابة المدعي معرفة حالهم في ذلك وأعدادهم، لما وجدتهم على تحقيق في ذلك.
قلنا: ما هو جواب عن هذا مفصلاً. قوله: التواتر المفيد للعلم الضروري، لا بد أن يستند إلى إدراك إلى أخره.
قلنا: شرط التواتر وإن تعددت فإن حصول العلم بمخبر الخبر غير واقف على العلم بتكاملها، بل حصول العلم عند الخبر يكشف عن تكاملها، إنما يلزم ذلك عند الشيخ أبي الحسين، ومن تابعه لقولهم: إن العلم التواتري كسبي لا ضروري؛ لأن الكسبي لا يحصل إلا بعد تيقن مقدماته. قوله: ما الذي نقل عن جميع الصحابة جملة لما هو مدرك ليتعقل حصول العلم. قلنا: نقل عنهم أقوال وأفعال شاهدة بأنهم يعتقدون وجوب النصب. قوله: أو غير ذلك فما هو؟.
قلنا: أقوال شاهدة باعتقادهم لوجوب الفزع، وإنكارهم لصلاحية المفزوع إليه. قوله: فإن أصحابنا لم يستدلوا بغيرها مما أوردته معتمدين عليه. قلنا: بل اعتمدوا على ذلك في أكثر مورادهم ومصادرهم، وإسناده إلى الغزالي لا يقتضي استبداده به، وعدم اعتمادهم عليه أيضاً. قوله: لأني لم أقدح في صحة الإجماع، وإنما قدحت في قطعية دليل من أدلته.

(1/233)


قلنا: سياق كلامك يقضي بما ذكرناه فإذا أنكرته، واعترفت بصحة الإجماع، فرحباً بالوفاق. قوله: لاحتمال كوني عددته منها على قاعدة أكثر العلماء.
قلنا: القدح بالسؤلات إنما يتوجه على ظاهر العبارات، والتفوض لا يندفع بالاحتمالات. قوله: والقول بأن ذلك من الواجبات الموسعة لم يوجب المصير إليه، والتعويل عليه إلا ضيق الخناق وعظم موقع السؤال الوارد ووضوح قدحه.
قلنا: لا ريب في أن ذلك السؤال وارد على المذهب، وهو القول بوجوب نصب الإمام، لا على شيء من أركان الأدلة الدالة على وجوب النصب، وقد أجمع المحققون على أن ما هنا حاله من الأسئلة، فإنه غير قادح ولا يلزم الجواب عنه أصلاً، لا سيما إذا يرد على جهة المعارضة للدليل، فكيف يصح الحكم عليه بعظم الموقع ووضوح القدح؟ وكيف يقتضي وروده ضيق الخناق؟، والحال ما ذكرناه، لكن مولانا -أيده الله تعالى- عول في بعض كلامه على تهويل العبارات، وتفخيم المقالات، ونحن ممن لا يقعقع خلقه بالشنان، ولا يفزعه التهويل باللسان، وهذا كله مع فرض عدم التمكن من الجواب عن السؤال.
وأما مع التمكن كما سنوضحه فالحال في ضعف السؤال، وعدم وروده أظهر. قوله: ففيه تصريح بوجوب الإحاطة بفضلاء جميع الأقطار، ومعرفة الأفضل منهم.
قلت: هذا الاستدلال الذي ذكره الإمام المهدي عليه مبتني على أنه يجب في الإمام أن يكون أفضل الأمة، أو مساوياً لأفضلها إلا لعذر.

(1/234)


وهذا مروي عن جل المعتزلة والأشعرية، وأكثر الزيدية، ولعلهم لا يعتبرون، ولا يوجبون البحث في جميع الأقطار، بل يقولون: يجب أن يكون أفضل أهل زمانه، إما في علمنا أو في ظننا، بحسب الإمكان، كما يقوله بعض المعتزلة، فلا يرد ما ذكره مولانا من أن ذلك يقرب من تكليف المحال.
قوله: ولو كان ذلك شرطاً لبطلت إمامة أكثر الأئمة. قلنا: لعلهم لا يوجبون البحث في جميع الأقطار لتعسره، أو تعذره عندهم بل إنما يوجبون البحث في بعض الأقطار، وقد فعلوه، أو لعلهم يقتفون في الإمام أن يكون من جملة فضلاء زمانه، كما نفهم من كلام بعض الزيدية. قالوا: لأن معرفة الأفضل متعذرة بعد وقت الصحابة لكثرة الناس، وخفى كثير من أهل الفضل.
قوله: على أن أدلة وجوب نصب الإمام من فزع الصحابة عقيب موت النبي -صلى الله عليه وآله وسلم-، وقبل مواراته، وما يتوقف من الأحكام الواجبة على الإمام كاشتراطه في الجهاد يقضي بالتضيق، فيدل عليه كما يدل على أصل الوجوب، وعلى عدم التوسيع مدة مديدة، قدر مائة وخمسين سنة يتعطل فيها الجهاد، وتنتكس فيها أعلام الرشاد، ويشتد عضد الكفر والعناد.
قلنا: أما مع فزع الصحابة ومسارعتهم إليه قبل مواراة رسول الله
-صلى الله عليه وآله وسلم-، فلا ينبغي الاحتجاج به على عدم التوسيع؛ لأن المسارعة إلى الوجوب في أول وقته، لا يدل على تضيقه بل الأفضل في الوجوب الموسع أن يفعل في أول وقته.

(1/235)


وكان الواجب عليهم تحري الأفضل وإعطاء كل ذي حق حقه، لكنهم أخلوا بالنظر الواجب عليهم، وبادروا إلى العقد لأبي بكر خوفاً من الشقاق العصي ويفرق الجماعة، لو انتظروا علياً -عليه السلام- حتى يفرغ من دفن رسول الله -صلى الله عليه وآله وسلم-.
وأما توقف الأحكام الواجبة على الإمام كالجهاد ونحوه، فهو إنما يقتضي وجوب نصب الإمام عند الإمكان، وقبل البحث عن الصالح للأمة لا يمكن النصب.
وصار الحال في ذلك، كالحال في وجوب نصب القاضي على الإمام حيث لا يتسع هو للحكم بين الناس، وعرف من نفسه ذلك، فإنه يجب عليه نصب الحاكم وجوباً موسعاً غير مضيق، وإن كان ثم خصومات يجب فصلها وتعذر عليه ألا يساغ لها لأمور أهم، فكما أن نصب القاضي وإن وجب، ومست الحاجة إليه، فإنه لا يتضيق على الإمام، بل له مهلة البحث عن الصالح للقضاء والدرية، ولو في مدة لها امتداد كذلك الحال في وجوب نصب الإمام على الأمة لا يتضيق عليهم بل يكون موسعاً القدر الذي حققناه، وهذا أوضح كما ترى. قوله: ومثل هذا بعد مصادرة على المطا.
قلنا: ليس ما ذكرناه من المصادرة في شئ لأن المصادرة أن تكون المطا وبعض مقدمات الدليل شيئا واحداً، وليس مطلوبنا من هذا الجواب بيان وجوب نصب الإمام على الأمة؛ لأنا قد قررناه بدلائل أخر بل المطا إبطال السؤال الوارد على القول بوجوب النصب على شيء من أركان تلك الدلائل الدالة على وجوب النصب.

(1/236)


وهذا واضح لا التباس فيه، فجعل ذلك من المصادرة من باب وضع الاسم على غير مسماه فافهم. قوله: يقال: مع إيضاح عدم قطعيته، وإتيانه على ما هو ظني محض، وسنبينه فظهر ظنية ما عداه.
قلنا: إذا أمكنك بيانه استقام لك هذا الإيراد، لكن دون بيانه حوط الفناد. قوله: على أنه سيتضح لك ما قدمناه من كون الدليل الأول أشف الأدلة وأقواها، بما تحققه من كون هذا الدليل أضعفها وأوهاها.
قلنا: وسيتضح الأمر على خلاف ما تضمنته هذه الدعوى، وأن هذا الدليل قد بلغ في القوة الغاية القصوى. قوله: في القدح على الدليل الثالث إن أردت أن الشارع جعله شرطاً ففي ذلك اعتراف بعدم وجوب نصبه؛ لأن تحصيل شرط الواجب ليجب لا يجب وإن إردت أن الأمر ورد مطلقاً.
وإما يقطع بتوقفه على نصب الإمام فدعوى القطع في هذا الأصل غير مسلمة. قلنا: هذا القسم الثاني هو الذي أردناه دون القسم الأول، ولا يضرنا عدم تسليمه لذلك لأن صحة الدعاوي لا تقف على تسليم الخصوم. قوله: فأي الأدلة الشرعية القطعية دل على أن الإمام شرط في غزو الكفار والبغاة أو مدافعتهم؟.
قلنا: ظاهر كلامه أنه لا يصح لنا أن نستدل بالعقل على ذلك، وليس الأمر كذلك، بل كما يدل السمع على ذلك يدل عليه العقل أيضاً، ولنا عليه دليلان: عقلي وسمعي:

(1/237)


أما الدليل العقلي: فهو ما ذكرناه في الجواب من أنا نعلم ضرورة من جهة العادة إلى آخره، وما أورده مولانا عليه من أن ذلك لا يدل على وجوب نصب إمام جامع للشروط غير وارد، لأن الرئيس الذي يرجع إليه في جهاد الكفار والفساق، الجهاد الموافق للشرع الشريف ويقوم به، لا بد من أن يكون عارفاً حتى يتمكن من الإقدام والإحجام في الجهاد ومدافعة الأعداء على الوجه الشرعي، وأن يكون ذا رأي ومتانة حتى يدير الحرب والسلم، ويشتد في مواضع الشدة، ويلين في مواضع اللين، وأن يكون شجاعاً مجتمع القلب فلا يضعف عن لقاء العدو، ولا يجبن عن القيام بالحرب، وأن يكون سليم الحواس والأطراف؛ لأن عدم التمكن من الجهاد مع فقد السلامة ظاهر، وأن يكون في الظاهر لأن الفاسق ربما أوقع جهاده للأعداء على غير الوجه المطابق للشرع، وربما أخذ الفيء كله لنفسه، أو وضعه في غير مستحقه، ويندرج في ذلك كونه مسلما بطريق الأولى.
فإن قلت: إنه لا يعتبر أن في أمير الجيش أن يكون عدلاً، ولا عارفاًِ أيضاً، ألا ترى إلى إمارة خالد بن الوليد، وعمرو بن العاص، عهده رسول الله -صلى الله عليه وآله وسلم-على الجيوش، قلت: هما كانا من تحت أمر النبي -صلى الله عليه وآله وسلم-.
ونحن إنما اشترطنا ما ذكرناه في من ليس تحت أمر إمام كامل الشرائط؛ وأما من هو تحت أمره فلا يعتبر ذلك فيه لأنه كالآلة للإمام، ولا بد أيضاً من كونه حراً بالغاً عاقلاً ذكراً.

(1/238)


أما العقل فلأن الصفات التي قدمنا ذكرها لا تحصل إلا معه؛ وأما الذكورة فلأن الغالب من حال النساء أن لا تحصل لهن الصفات التي ذكرناها ولأنه لا يحصل لهن من الهيبة ما يحصل للرجال، وإن حصلت لهن هيبة فإنما هو لهيبة السادات، وهكذا القول في البلوغ.
وأما الحرية فلاستحقار الناس بالعبيد، ولأن أزمنتهم مشغولة بخدمة السادات، ولا بد أيضاً أن يكون سخياً، ومن منصب مخصوص؛ لأن الناس لمن هو كذلك أطوع، وإليه أميل، فيحصل المقصود من نكاية العدو، وتوهين جانب الكفر، والمعاصي على أتم الوجوه وأكملها، كما هو الواجب على كل مسلم، وهذه في صفات الإمام المعتبرة فصح أنه لا يتم تأدية المجاهدة الشرعية لأعداء الدين، وتوهين أمر الفسقة والملحدين على أتم الوجوه، إلا برئيس جامع لشرائط الإمامة، وهو المطلوب.
وظهر لك ظهوراً بيناً أن ما ذكرناه هو الحق الواضح، والصواب اللايح، وأنه ليس من قبيل مجرد الصناعة في الكلام، وإبرازه في قالب الانتظام، كما ادعاه مولانا -أيده الله تعالى-، فنسأل الله أن يزيدنا هداية إلى الصواب، وأن يصلح لنا أمر العاقبة والمآب، بمحمد الأمين، وآله الأكرمين، فهذا هو الدليل العقلي على أن الإمام شرط في القيام بالجهاد الشرعي، وحصول الفرض به وهو العمدة.

(1/239)


وأما الدليل السمعي: فهو ما حكاه الله تعالى في محكم كتابه عن بني إسرائيل حين قهرهم عدوهم وأزعجهم من ديارهم، فطلبوا القيام بمجاهدته، فإنهم أول ما طلبوا مالا يستقيم إلا به، فقالوا: لنبيهم أشمويل -عليه السلام-{ابْعَثْ لَنَا مَلِكاً نُقَاتِلْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ }[البقرة: 246]، ولم يقولوا: إئذن لنا نقاتل عدونا، ما ذاك إلا لما علموا أن القتال من دون ملك ينظمه، ويدبر أمره لا يستقيم، فطلبوا ما يحصل به قوامه، وهو بعث الملك لهم فقرر الله تعالى ورسوله نظرهم في ذلك، ولم ينكر نبيهم -عليه السلام- ما اعتقدوه من كون القتال لا يستقيم إلا بملك، وإلا لم يحصل الغرض المقصود به، فأجاب سؤالهم بأن أخذ عليهم العهد بأنهم يقاتلون متى أمرهم الملك الذي التمسوا إقامته، وأنهم لا يتركون القتال معه حيث قال: {هَلْ عَسَيْتُمْ إِنْ كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِتَالُ أَلاَّ تُقَاتِلُوا}[البقرة: 246] فقرروا على أنفسهم الوفاء بما عهد به إليهم، بأن قالوا: {وَمَا لَنَا أَلاَّ نُقَاتِلَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ}[البقرة: 246] الآية فلما أنس منهم الوفاء، وعلم أن الجهاد لا قوام له إلا بملك ينظم أمره ويعلم أحكامه.

(1/240)


قال: إن [الله]قد بعث طالوت ملكاً، واختاره من غير بيت الملك، وكان ديناً عالماً، علم الله تعالى من حاله من البسالة في القتال، وسعة العلم بالأحكام، التي تتعلق بالجهاد، ومن ثم لما استنكروا إقامته عليهم، وليس من بيت مملكتهم بين الله تعالى على لسان نبيه العلة التي لأجلها اختاره عليهم. فقال: {إِنَّ اللَّهَ اصْطَفَاهُ عَلَيْكُمْ وَزَادَهُ بَسْطَةً فِي الْعِلْمِ وَالْجِسْمِ}[البقرة: 247] وبين سبحانه وتعالى أن من حق الملك الذي به قوام الجهاد على قانونه المرضي عنده؛ أن يجمع ثلاث خصال، وهي الدين الوازع، والعلم الواسع، والإقدام الرائع، فبين اشتراط الخصلة الأولى بقوله: {اصْطَفَاهُ عَلَيْكُمْ}، وهو سبحانه لا يصطفي إلا من رضى دينه وتقواه، لقوله: {إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ }[الحجرات: 13] وبين اشتراط الخصلة الثالثة بقوله (والجسم) إذ لا فائدة في الجسم إلا ليكون إقدامه الذي في قلبه نافعاً في نكاية عدوه، ولو أقدم وهو ضعيف الجسم، لم يحصل الغرض المقصود بإقدامه، وهذه في جل شروط الإمامة وما عداها فهو مضاف إليها، وهي أصل لما عداها من الشروط.

(1/241)


فلما قرر نبيهم ما اعتقدوه من أن الجهاد لا يستقيم إلا بملك ينظم أمره، بأن أجابهم إلى ما التمسوه من بعث الملك علمنا بذلك صحة ما اعتقدوه من أن الجهاد لا يستقيم إلا بملك ينظمه فثبت كونه شرطاً في القيام بالجهاد، وهو المطا، لا يقال: إن شرع من قبلنا لا يلزمنا إلا بدليل من شريعتنا يقوم على لزومه لنا؛ لأنا نقول: بل يلزمنا حيث حكاه في كتابنا، ولم تقم دلالة على أنه قد نسخ، واعلم أن هذا الدليل السمعي ظاهره القوة لكن المعتمد هو الدليل العقلي فاعرف ذلك.
وأما ما ذكره مولانا -أيده الله تعالى- من الإجماع على عدم اشتراط الإمام في المدافعة، ومن قول كثير من العلماء بعدم اشتراطه في الغزو أيضاً، فهو لا ينقض ما ذكرناه؛ لأنا لا نمنع من إمكان حصول نكاية العدو مع رئيس غير جامع لشرائط الإمام، لكنها لا تحصل معه على الحد الذي يحصل مع من اجتمعت فيه الشرائط المعتبرة، كما قلناه أولاً، ولا شك أنه يجب تقوية شوكة الإسلام، وشد عضده على أبلغ ما يمكن ويكون، والله تعالى أعلم بالصواب.
قوله: ليست الدعاوي في إثبات المقاصد كافية، ولا للسؤالات القادحة (الفادحة) نافية. قلنا: الأمر كما ذكره مولانا أيده الله تعالى، لكن الواجب أن يعرض كل من الكلامين على معيار النظر والاعتبار، وميزان التأمل والافتكار، لكي يتضح الخطأ من الصواب، ويتميز الشراب من لامع السراب.
قوله: وإنما تلك ظواهر وأخبار أحادية، ودعاوي مجردة عن إيراد البينة القوية، كدعوى الإجماع على وجوب معرفة شرائط الإمام.

(1/242)


قلنا: إنه يجب اعتقاد ظاهر العموم إذا علم عدم ما يخصصه، والأخبار وإن كانت أحادية، فهي متواترة المعنى، ودعوى الإجماع لا يفتقر إلى بينة، بل يتوقف العلم به على قوة البحث، فلعل من علمه أكثر بحثاً ممن لم يعلمه، فلا وجه لتعجب مولانا أيده الله تعالى، من ادعاء السيد مانكديم -رحمه الله- للإجماع في ذلك على أنا إنما أوردنا ذلك رداً لما ادَّعاه مولانا -أبقاه الله تعالى- من تركهم إيراد أدلة على سائر أطراف مسائل الإمامة، فأريناه أن ذلك غير متروك، ولا مغفول عنه، وأنهم قد أوردوه في مواضع كثيرة، كما لا يخفى على من طالعها.
قوله: ونحن نعلم ضرورة من حال الإمام عدم معرفة ماهية الإمامة ومعناها، فضلاً عن أحكامها وتحقيقها.
قلنا: الكلام في الإمامة كالكلام في النبوة؛ حذ النعل بالنعل فما قيل في إحداهما قيل مثله في الأخرى من غير فصل، ومن حصل له العلم بحال العوام في ذلك، كما حصل لمولانا –أيده الله تعالى- فالواجب عليه أن يعمل بحسب علمه من الزجر والإنكار، وعدم التقرير على ما هم عليه من الخطأ، وقد تكرر من مولانا –أبقاه الله تعالى- ادعاء العلم بحال العوام في مواضع متعددة ولا ينبغي منا متابعته في التكرير، لكنا نأتي بأمر كلي.

(1/243)


فنقول: يجب على كل من علم ذلك في بعض العوام أن ينكر عليه وينهاه، ويعمل بحسب علمه في ذلك، ويحمل من لم يعلم منه ذلك على السلامة، وما أورده مولانا -أيده الله- من حكاية بعض الثقات لا يفرع عليه؛ لأنه قد يصدر من المغفلين في حق الصانع سبحانه وتعالى، ورسله من الأمور الشنيعة ما لا ينبغي رقمه في الأوراق فضلاً عن الأئمة، والواجب الإنكار على من هذا حاله في الموضعين.
قوله: وإن كان المراد على غير ما ينبغي منه حملهم عليه، قلنا: نعم هذا هو المراد، وما ذكره من حصول اليقين قد مر الكلام عليه، قول الأئمة عليهم السلام أهل التنوير.
قلنا: نعم، هم كذلك، لكن لا يشترط فيهم عندنا أن يكونوا ممن يعلم الغيوب، وينكشف لهم السر المحجوب، بل هم كغيرهم من الآحاد في ذلك على أن الأنبياء -عليهم السلام- أعلى حالاً منهم، وقد حسن منهم أمر العوام باعتقاد النبوة، وتسليم الحقوق إليهم، من غير أن يأمروهم بتقديم النظر في نبؤتهم، حملاً لهم على السلامة، ولم يظهر لهم من حالهم شيئ، فما ظنك بالأئمة الذين هم دونهم في التنوير؟! وهذا واضح لا لبس فيه فالأولى لمولانا –أيده الله- سلوك طريقة الإنصاف، والعدول عن طريق الاعتساف، كما هو عادته المألوفة، وطريقته المعروفة. قوله: كيف يحسن منه أمر غيره بالإقدام على ما لا يأمن كونه خطأ.
قلنا: بل الخطأ في ذلك مأمون ؛لأنه إذا أمره باعتقاد الإمامة فالمراد العلم بها، واعتقاد العلم مأمون الخطأ فيه عند الآمر والمأمور.

(1/244)


أما الآمر فظاهر؛ وأما المأمور فلأنه لا يوقعه إلا بدليله، ويصير الحال في ذلك كالحال فيمن أمر غيره بأن يعتقد وجود الصانع سبحانه وتعالى، أو شيئاً من صفاته سوى سوى.قوله: ومثل ذلك لم يسمع عن أحد من الملقنين.
قلنا: ليس عدم سماع ذلك يقتضي نفيه. قوله: ، ولا أظنه خطر لهم ببال. قلنا: إن بعض الظن إثم.
قوله: ولِمَ لا يكون ذلك بعد النظر في أدلة المفسق التي أوردها، وأسند اعتقاده إليها.
قلنا: أما بعد النظر فيما ذكر فله ذلك ولم يمنع منه. قوله: بل لمن نظر وأمعن الفكرة في أنواع الأدلة وأقسامها، وما يمكن الاستدلال به دلالة قاطعة منها فلم يجد دليلاً أن يقطع بعدم حصول القاطع.
قلنا: ذلك متعذر أو متعسر على القوة البشرية؛ فإن الإحاطة بطرق البحث كلها على وجه يعلم معه أنه لا شيء غيرها مما يتعذر أو يتعسر، لا سيما في حق أهل زماننا هذا، على أنا إذا فرضنا وقوع ذلك وجب العمل بمقتضى العلم، ونحن إنما منعنا حيث لم يظهر له شيء من ذلك.
قوله: أردنا بذلك الاستظهار بأحوال السلف، وردع المفسقين المستندين في تفسيقهم إلى فتوى من ليس كمثلهم في الرتبة.
قلنا: هذا مبني على ما اعتقده مولانا في حق المفسقين من الخطأ، وقد مر الكلام عليه، وأما البيت الذي أنشده فليس بشاهد مرضي.
أما أولاً: فليس بحجة.

(1/245)


وأما ثانياً: فلعدم دلالته على المقصود، لأن البدعة: هو كل ما دل القرآن بمحكمه والعقل برؤيته على أنه ضلالة، وعند المفسق أنه إنما فسق لبرهان فليس ببدعة عنده. وإن كان الحق عندي خلافه، وهو عدم الحكم بالفسق، والتوقف في ذلك، عملاً بقوله -صلى الله عليه وآله وسلم: ((المؤمن وقاف عند الشبهات )) قوله: مثل المؤيد بالله -عليه السلام- يستشهد بأقواله، ويستظهر بأحواله.
قلنا: نعم، مثله -عليه السلام- من يقتدى به في الأقوال والأفعال؛ لأنه –عليه السلام- من جملة الأئمة، وكبار الأمة، لكن في المسائل الاجتهادية لا القطعية؛ لأن الحق فيها مع واحد، فلا ينبغي أن يرجع فيها إلى فعل فلان وفلان، وإن كان من عيوب أهل الزمان. قوله: لتوقف كل من لحوق التهمة وامتناع الصلاة على صاحبه.
قلنا: لسنا نجعل لحوق التهمة ما ذكرته، بل سببها ما ذكرناه من كون الغالب من أحوال المختلفين في مسألة الإمامة هو المجانبة والمباينة، قوله: المجانبة لا تقتضي اعتزال الصلاة مع اعتقاد صحتها.
قلنا: إن المقتضي للاعتزال إنما هو لحوق التهمة، وسبب لحوق التهمة هو غلبه المجانبة، ومع لحوق التهمة يزول اعتقاد الصحة؛ لأنه حينئذ قد أطاع بنفس ما به عصى. قوله: ولا بعد ذلك، وهو جعل صلاته تابعه لهواه، معتبراً فيها غير مطابقة رضاء الإله، إلا من هو عن الخير بمعزل إلى أخره.

(1/246)


قلنا: نعم، لا يفعل أحد صلاته لذلك الغرض إلا من هو عن الخير بمعزل لكن هذا بمعزل عما قلناه، ومجانب لما ذكرناه؛ لأنا لم نسوغ تركها لهذا الغرض، بل لما يلحقه من التهمة المنهي عنها، بقوله –صلى الله عليه وآله وسلم: ((من كان يؤمن بالله واليوم الأخر فلا يقفن مواقف التهم )) وتفرغ التهمة على المباينة التي ليست بحسنة لا تدفع حسن ترك الصلاة لأجل تلك التهمة، كما لا يخفى لكن مولانا –أبقاه الله تعالى- عول هاهنا على التشنيع الذي لا يجدي صاحبه، ولا يقل راكبه.
وأما ما حكاه عن المؤيد بالله -قدس الله تعالى- سره، فلعل التهمة في ذلك مرتفعة والله أعلم.
قوله: لأنه قد وضح وتقرر كون اختلاف العقيدة في الإمام لا يختل به شرط عند الرافضين للصلاة.
قلنا: لا نسلم لا ما قد بينا أن مع التهمة يصير مطيعاً بنفس ما به عصى. قوله: ولكنه يدل بمفهومه دلالة بينة على أن نافي إمامة الإمام متثبتاً في أمر دينه لا يمنع الصلاة خلفه لعدم جرأته.
قلنا: ما ذكرنا من التهمة يدفع دلالة هذا المفهوم إن سلمناه. قوله: في هذا نظر!! لأن الإمام يحيى -عليه السلام- ذكر ذلك على أصل أهل المذهب في تكفيرهم.
قلنا: جوابنا متوجه على ما يقتضيه ظاهر العبارة في الرسالة، فلا موقع للتنظير [إذاً] قوله: وأما على أصله فهو مستغن عنه.

(1/247)


قلنا: لا نسلم استغناءه عنه على أصله؛ لأنه –عليه السلام- يقطع بخطاب أهل الجبر في العقيدة فربما يتوهم أنه مع عدم الحكم بفسقهم فجعلهم كالفساق في عدم صحة الصلاة خلفهم، لشناعة عقيدتهم، كما في من كشف عورته بين الناس ونحوه، والله سبحانه وتعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وصلى الله على سيدنا محمد الأمين، وعلى آله الطيبين الطاهرين، وعلى التابعين لهم بإحسان إلى يوم الدين، ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم، وصلى الله على سيدنا محمد وآله.
نعم، وأما التقسيمات التي أوردها مولانا أيده الله تعالى:
فلعمري إنها لأبحاث شريفة،ونكت لطيفة،لم يسبق إليها أحد من حذاق العلماء، ولا تنبه لها أحد من عيون الفضلاء، بل جرى مولانا أيده الله تعالى في ذلك السبيل بغير دليل، وأبدع فيما أفاده من التقسيم الجليل، فالله المسؤول أن يؤيد ببقاء مولانا الملة، ويبرز بعنايته ما استتر من صحيحات الأدلة، فلن ينسج على منواله، ولا تسمح بصيرة بمثاله، واعلم أرشدنا الله وإياك إلى الصواب، وجعلنا ممن رجع إليه وأناب، أنه لا نزاع في القسم الثالث:
وهو إصابة أحد الفريقين وخطأ الأخر، وكذلك لا نزاع في القسم الثاني. وهو أن يكونا مخطئين معاً، وإنما النزاع كل النزاع في القسم الأول وهو أن يكونا مصيبين معاً، ويكفينا في دفع ما أورده فيه وجهان.
أحدهما: معارضة.
والثاني: تحقيق.

(1/248)


أما المعارضة فيمن خرج على إمام الحق منتصباً سيفه، شارعاً رمحه، محاولاً لانتزاع روحه، واستئصال شأفته، لأنه ينافي فيه مثل ما ذكر مولانا فيمن صدر منه مجرد النفي فيلزم حمله على السلامة، والحكم بعدم خطأه في خروجه واعتقاده، وقبح مقاتلته مع الإمام، وبيان ذلك أن يقال: لا يمتنع أن يكون الخارج على الإمام قد أمعن النظر في طريقته، وينظر أحوال سيرته، فظهر له من الأمور المبطلة لدعواه، المجانبة لرضى مولاه، المبيحة لسفك دمه، وهتق حرمه، ما خفي على المثبت لإمامته، المعتقد لصحة ولايته، فليس للمثبت إذاً أن يحكم بخطأ ذلك الباغي في بغيه، بل يحمله على السلامة وهذا ظاهر الفساد؛ لأن فيه تصويب القاتلين لأئمة الهدى، ومصابيح الدجى، -سلام الله عليهم-.
وأما التحقيق: فهو أن يقال: إنه ليس لكل من المثبت والنافي، أن يخطئ الأخر حتى يظهر له حقيقة حاله، أو يطالبه بوجه اعتقاده، فلا يبرزه فيكون حينئذ قد أحل نفسه محل التهمة، والمخطؤن محمولون على أنهم إنما حكموا على مخالفهم بالضلال، بعد أن ظهرت لهم حقيقة الحال، وتيقنوا أنه راكب لمعين العناد، متبع لهواه في ذلك الاعتقاد اللهم، إلا أن يظهر لنا خلاف ذلك، عملنا بمقتضى ما ظهر.

(1/249)


وأما قول مولانا -أيده الله تعالى- في أخر كلامه: وعلى هذا يتنزل ما كان من معاملة بعض السلف بعضاً، مع اختلافهم في أئمة زمانهم، من عدم تعاديهم ونساخهم مع اعتقادهم أن المسألة قطعية، فليس بواضح لجواز أنهم كانوا يصرمون بالخطأ في ذلك الاختلال، لكنهم كانوا لا يحكمون ببلوغه درجة الفسق، فلهذا حسنت معاملتهم فيما بينهم، والله سبحانه وتعالى أعلم، ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم، وصلى الله على سيدنا محمد وعلى آله وسلم.
وكان تمام ذلك، والرقم لما هنالك، بعد الظهر بقليل، يوم الثلوث تاسع عشر شهر صفر المظفر، الذي هو من شهور سنة تسعة وثمانين وألف 1089هـ، بخط أفقر عباد الله، المحتاج إلى عفو الله، السائل لربه العظيم، ومولاه الكريم، الرضى عنه، وحسن التوفيق، والهداية إلى أوضح سبيل وطريق، صلاح بن أحمد بن صالح بن دغيش الحيمي اليوسفي، لطف الله به وبوالديه، وبقرائبه، وجميع المسلمين، وذلك مما رقم لسيدي الولد القاضي العلامة عز الإسلام، وسليل آبائه الكرام، محمد بن الحسن بن أحمد بن صالح بن دغيش –حفظه الله تعالى-.

(1/250)


وسيلة العمال إلى صالح الأعمال
للإمام عز الدين بن الحسن عادت بركاته
بسم الله الرحمن الرحيم وبه نستعين والحمد لله رب العالمين.أما بعد.
حمدا لله على ما أهلنا للإرشاد والهداية، وللرغبة، إليه في أن يقينا أخطار الزعامة والولاية، والاستعاذة به من الندامة والملامة لأجلها وسوء الغاية، واستمداد التوفيق منه لنا ولإخواننا وأعواننا وأرباب العمل منهم والسعاية، والتوكل عليه والإركان إليه في البداية والنهاية.
والصلاة والسلام على رسوله سيد الأنبياء، وعترته الأصفياء ما خفقت راية وتليت أية، فإنه غير عازب عن الأفهام ما يلزم الإمام من الإهتمام، بالخاص من المصالح والعام، وإن التكاليف المتعلقة بالإمامة لن تقوى عليها الجبال، مدارها على تحصيل بيوت الأموال، بأيدي السعاة والعمال، خاصة في هذا الزمان الذي لم يبق لأهله تعويل على غير الدرهم والدينار، وليس لهم إلتفات إلى ما أوجبه الله تعالى من حقوق الإمام ولا نظر في ذلك ولا اعتبار، ولم نزل نتأمل حال أولي العمل ونؤمل منهم الاستقامة، فيخيب الأمل حتى يكاد يظفر منهم بما يرضى سجاياه إلا الأقل.

(1/251)


فرأينا بعد استخارة الله عز وجل تحرير هذه الرسالة، وتصدير هذه المقالة إلى عمالنا كافة ليكون لهم عن التفريط فيما يلزمهم من (تكاليف) الولاية كافة، وسميناها (وسيلة العمال إلى صالح الأعمال)، ونرجو أن يتقوم بها الأود، ويصلح لأجلها ما فسد، وتوقظ من غفل، ويتضح مسلك السلامة في العمل، وموضوعها تعداد الآداب، التي ينجو باعتمادها العاقل من العذاب ويفوز بها يوم المآب وضمنه ما لا تحتوي ما سلف من مؤلفات السلف فهي درة (ثمينة)، وجديرة بأن (يتخذها) الولاة والسعاة غنيمة، والله تعالى ولي التوفيق في القول والعمل، وبه الاعتصام من الخطأ والزلل.

(1/252)


الأدب الأول
أنه لا ينبغي للإنسان أن يتعرض لطلب الولاية ويتصدى لها ما لم تتوجه عليه لأحد الوجوه التي نذكر في الأدب الثاني -إن شاء الله تعالى-، وذلك لأن الولاية يتعلق بها تكاليف وأخطار، وجدير بالعاقل أن يهتم ويغتم بما عليه من التكاليف التي لا مندوحة له عنها، ولا مخلص له منها، وهي المتوجهة إليه عند إكمال أبنية عقله فعل من يقوم فيها بما يجب عليه ويلزمه، فكيف يتصدى لتكاليف أخر لا يجب عليه إدخاله نفسه فيها ويحمله باختياره لها!!؟
وأما من لا يثق بنفسه ولا (يغلب) على ظنه قيامه بتكليف العمل والتولي فلتشتد الكراهة في حقه بل لا يبعد خطر ذلك عليه، لما ورد فيه من الوعيد والتهديد والترهيب والتشديد، فقد روت عائشة أم المؤمنين عن رسول الله –صلى الله عليه وآله وسلم- أنه قال: ((ويل للعرفاء !! ويل للأمناء!! ليتمنين أقوام يوم القيمة أن ذوائبهم معلقة بالثريا يتذبذبون بين السماء والأرض، ولم يكونوا عملوا على شيئ))، وورد هذا الحديث من طريق أبي هريرة بلفظه.قال –صلى الله عليه وآله وسلم-: ((ويل للأمراء !! ويل للعرفاء!! ويل للأمناء!!، ليتمنين أقوام يوم القيامة أن ذوائبهم معلقة بالثريا يدلون بين السماء والأرض وأنهم لم يلوا عملاً))، وعن سعد بن أبي وقاص قال: قال رسول الله –صلى الله عليه وآله وسلم-: ((إن في النار حجراً، يقال لها: ويل يصعد عليها العرفاء وينزلون))، وعنه –صلى الله عليه وآله وسلم- أنه قال: ((إنه سيفتح عليكم مشارق الأرض ومغاربها ، وأن عمالنا في النار إلا من اتقى الله عز وجل وأدى الأمانة)).

(1/253)


الأدب الثاني
أنه ينبغي للإنسان التأهل للولاية حيث يتعين عليه إما لعدم سد غيره مسده فيها أو لتعيين الإمام وإلزامه إياها، أو حيث يكون في تولية إدخال سرور على الإمام أو دفع اغتمام عنه، وكفاية ما أهمه منه، أو حيث يكون قوياً عليها أميناً فيها مع الثقة من نفسه أنه يعمل بمقتضى التقوى ويراقب عالم السر والنجوى.
أما حيث يتعين عليه فلأنه أمر قد وجب عليه لا سبب منه ولا يتعرض للوجوب، والتفريط حينئذ تفريط في حب الله تعالى والإخلال بما فرض الله تعالى والقيام به حق لازم كالقيام بالصلاة والزكاة.
وأما حيث يكون في ذلك إدخال سرور على الإمام وكفاية ما أهمه منه فلأن مثل هذا في حق الطارف من المسلمين قربة جليلة وطاعة وفضيلة، فكيف بذلك في حق الإمام الأعظم مع انتفاء الأسباب المكروهة والخطر المتقدم ذكرها!!؟، وشواهد ذلك من الأخبار لا غاية لها ولا انحصار كقوله
-صلى الله عليه وآله وسلم-: ((من كان في حاجة أخيه كان الله تعالى في حاجته ، ومن فرج عن مسلم كربة فرج الله بها عنه كربة من كرب يوم القيامة)) رواه ابن عمر.
وقوله -صلى الله عليه وآله وسلم-: ((إن لله خلقاً خلقهم لحوائج الناس ، يفزع الناس إليهم في حوائجهم، أولئك الآمنون من عذاب الله)) رواه ابن عمر أيضاً.
وروي عنه، وعن أبي هريرة، عن النبي -صلى الله عليه وآله وسلم-: ((من مشى في حاجة أخيه حتى يثبتها له أظله الله عز وجل بخمسة وسبعين ألف ملك يصلون عليه ويدعون له إن كان صباحاً حتى يمسي وإن كان مساء حتى يصبح، ولا يرفع قدماً إلا حط الله عنه خطيئة ورفع بها درجة)).

(1/254)


وعن زيد بن ثابت -رضي الله عنه-: ((لا يزال الله عز وجل في حاجة العبد ما دام في حاجة أخيه )).
وعن أنس قال: قال رسول الله -صلى الله عليه وآله وسلم-: ((من لقي أخاه المسلم بما يحب فبشَّره بذلك بشَّره الله عزَّ وجلَّ يوم القيامة)).
وروي عن الحسن بن علي -عليهما السلام- قال: قال رسول الله
-صلى الله عليه وآله وسلم-: ((إن من موجبات المغفرة إدخالك السرور على أخيك المسلم )).
وروي عن ابن عباس -رضي الله عنهما- أن رسول الله -صلى الله عليه وآله وسلم- قال: ((إن أحب الأعمال إلى الله تعالى بعد الفرائض إدخال السرور على المسلم)) فهذه الأخبار وغيرها دلت على عظم موقع قضى حاجة أي مسلم كان وإدخال السرور عليه، ولا شك أن تولى العمل للإمام وكفايته فيه قضاء حاجة مهمة له ومما يدخل السرور عليه والانشراح ولا ينبغي لمسلم أن يزهد في الفضائل، وترغيب نفسه في الطاعات والقربات.

(1/255)


وأما حيث كان يعلم من نفسه كونه قوياً أميناً، ولا يتوه في ذلك، والقدوة ما صدر عن يوسف الصديق -عليه السلام- من التعرض للولاية والإدلاء لذلك وهو دليل واضح، ثم إن تولي العمل لأئمة الهدى خصلة شريفة ووظيفة رفيعة وأي وظيفة وأخذ بنصيب من الجهاد، وإعانة الإمام في تكاليفه الشداد، ويوصل إلى كسب المعاش من وجه مستطاب لا تعاب وتسبب إلى السلامة من شوائب الاكتساب، واستغنى عن المسألة المحرمة والحرف المذممة، وقد ورد من الأخبار والترغيب في العمل على الصدقة بالتقوى كافية كفاية، كقوله -صلى الله عليه وآله وسلم-: ((العامل على الصدقة بالحق لوجه الله عز وجل كالغازي في سبيل الله حتى يرجع إلى أهله)) رواه رافع بن خديج، وورد من طريق عبد الرحمن بن عوف ولفظه: ((العامل إذا استعمل فأخذ الحق وأعطى الحق لم يزل كالمجاهد في سبيل الله حتى يرجع إلى بيته)).
وعن أبي هريرة، عنه -صلى الله عليه وآله وسلم-: ((خير الكسب كسب العامل إذا نصح )).

(1/256)


الأدب الثالث
ينبغي له إذا رجح في حقه الإجابة إليها والعمل عليها أن يجيب بسهولة وانطلاق وبشر ولا يتلكى ويتعنت، ويظهر شدة الامتناع ويرغب في تكرر المراجعة فإن ذلك ما يشوب نفعه ويكدره، وقد يكون سبباً في انتقاض أجره وعدم توفر صنيعه ومخالفة بشبهة، وما أمر به من المسارعة إلى طاعة الله وأولى الأمر، واللائق بمن شأنه الإسعاد ومآله إليه أن يبدأ به ويجيب إجابة الكرام بانطلاق واهتمام، وكل صنيعة يبديها صاحبها بعد تنكد ومماطلة وتعبيس فهي غير هنيئة، وما أحسن ما قيل فيما يناسب هذا أو يشابهه:
وخير العطا ما وافق الضر نفعه .... ولم يقفه ابن ولا أمة مطل
وما كان صبراً واحتساباً ولم يكن .... رجاء لما بعد جزاء لما قبل

(1/257)


الأدب الرابع
ينبغي له عند النبأ على الإسعاد والإجابة والانقياد أن يستحضر النية الحسنة والقصد الصالح، ويصفي القلب عن خواطر السوء والمقاصد الدنيوية؛ فإن الأعمال بالنيات حتى (أن) النية الحسنة قد تُصير المباح من جنس القرب المقربة إلى الله تعالى الموجبة للثواب، و(تغير) صورة الواجب إلى المحظور الذي يستدعي العقاب كمن قصد بالسجود لغير الملك المعبود، وقصد بصلاته أن يقال: صلاة هذا حسنة، أو أن ينال بها إرباً من مأرب الدنيا فيستحضر في قلبه أنه أجاب تقرباً إلى الله تعالى وسبباً إلى الثواب بنفع الإمام وإعانته ومظاهرته وأخذ نصيب من الجهاد معه ونفع المسلمين الذين يصير إليهم ما جمعه وقبضه والمشاركة في تحصيل ما صرف منه، من المصالح الدينية ونفع أرباب الزكاة بتخليص ذممهم وتسهيل التخلص عنها عليهم، وإذا عرض له قصد الانتفاع لعماله وما يصير إليه من حصته نوى أن ذلك ليستعين به على طاعة الله عز وجل ويستغني به عن ما حرمه الله تعالى، وينفع عائلته ومن يلزمه نفعه، ويؤدي ما أوجبه الله من حقهم ونحو ذلك، وليحذر أشد الحذر أن يجعل قصده عرض الدنيا وما يعود إليها فيحرم نفسه الخير مع تمكنه منه، ويسهل له ووضوح طريقه:
فلم أرَ في عيوب الناس شيئاً .... كنقص القادرين على التمام
واعلم أن النية هي كقطب الرحى للعمل، فعليها من الأعمال مدار الأعمال الأخروية ولا قول ولا عمل إلا بنية، وهي بالقلب لا باللسان.

(1/258)


وقد ورد في هذا المعنى من السنة والقرآن ما يستغني عن الفعل والبيان كقوله -صلى الله عليه وآله وسلم-: ((إنما الأعمال بالنيات ، وإنما لكل امرئ ما نوى)) وهو من الأحاديث المشهورة المباركة المبرورة، حتى قال بعض العلماء هذا الحديث يبنى عليه ربع الإيمان، وهو مما رواه عمر بن الخطاب وادعى بعض علماء الحديث فيه التواتر.
وعنه -صلى الله عليه وآله وسلم: ((الناس على نياتهم )) رواه أبو هريرة.

(1/259)


الأدب الخامس
حسن المعاملة لمن ولي عليه، وأن يجد في الرفق وحسن الاستدعاء لهم إلى الطاعة والتسليم والانقياد، ولا يدلهم في أول الأمر أن يعرض لهم وحشة عنه ويتوه وإزورار لا سيما حيث لم يكن قد سبقت بينهم وبينه معرفة واختلاط، وحيث كان عليهم قبله متول غيره فليلطف ويتدخل إلى ما يريده منهم، ويحسن المراجعة لهم كل ما يليق به، ويصبر على ما قوبل، من أذى أو نفرة أو وقع فيه من مشقة أو عسرة؛ ثم ليبسط لهم عذره في التولي عليهم ويعرفهم بأن هذا أمر قد وجب عليه إما بإلزام الإمام أو لأنه أمر ديني، ونفع الإمام واجب على من يحسنه ويمكنه ثم ليعرفهم (بحق) الإمام ووجوب طاعته، وما في ذلك من الخير وما في خلافه من الشر والضير، ولا ييأس لما يراه من جماحهم وإياهم، ولا يعتقد استمرآهم على ذلك فهم عما قليل راجعون وإذا اشتد جماحهم وتعليهم فليجتهد في إصلاح واحد منهم، واستدخاله في الطاعة فما أسرع تلاحقهم، وللرعية الذين تنفذ عليهم الأوامر مزاج وعلاج، وكذلك لم يقاربهم في الرهبة والخوف من عواقب المعصية، وللأخيار وأهل العزة علاج آخر على الجملة، ولكل مقام مقال، وقد كان لبعض أعوان الأئمة فيما مضى بشر عظيم في هذا المعنى للصبر الذي كان عليه مع حسن القصد ولطف المعاملة والإحكام فيها، والله مع الصابرين، ومما ينبغي أن يعرفهم به ما في التسليم إلى الإمام من الفضل وعظيم الأجر ومشاركته فيما هو فيه، وكون ذلك حضهم من الجهاد معه، فإنه لا ينبغي ممن قعد عن الجهاد بنفسه أن لا يحترم الإعانة بحق الله الذي لا نقص عليه في تسليمه ولا خلل، وأنه إذا كان لا بد أن يخرج

(1/260)


زكاة فصرفها وتسليمها إلى من يجزيه التسليم إليه بل يثاب أسنى الثواب عليه أولى له وأخلق به من أن يصرفها على وجه لا يخلصه (فيصير) غير متخلص بها في أخراه، ولا مشفع بها في دنياه، ونحو هذه المعاني المحكمة المباني، وملاك هذا الأدب هو الصبر على معاناتهم وأذاهم وعدم التأنف والمنافرة والمقابلة لما صدر منهم من مساوي الأخلاق بمحاسنها، وأن يدفع بالتي هي أحسن، فإن الخلق الحسن هو مرهم هذه الأمور والمقاصد ونيل المأرب والفوائد والمرقاة إلى درك الأمر العسير والذريعة إلى التوسعة والتيسير، ومع ذلك فهو أمر سهل يسير لا يفتقر إلى تعب ولا يفضي بالمتخلق به إلى نصب، والله تعالى هو الموفق.

(1/261)


الأدب السادس
أداء الأمانة واجتناب الخيانة، وهذا الأدب هو واسطة عقد الآداب والخلاصة منها واللباب، ومحك الأديان، وقاعدة الصلاح في هذا الشأن، قل في زماننا هذا المتأدب به والمعتمد عليه، والناظر بعين التوفيق إليه، لأن الزمان المشار إليه بارتفاع الأمانة وكثرة الخيانة، وقد صار الناس على ما قال رسول الله -صلى الله عليه وآله وسلم-: ((إذا فعلت أمتي خمس عشر خصلة فقد حل بها البلاء ، ثم عد منها أن يكون المغنم دولاً والأمة مغنماً والزكاة مغرماً)) ولزوم ويحميها وارتفاعها في الخصال الشريفة وتقدمها وفضاعة شأن الخيانة وما فيها من الخساسة والوضاعة مما لا يخفى على الخواص ولا العوام ولا يحمله أحد من أولي الأحلام والأفهام، ولا يفتقر إلى الإيضاح بعد الإبهام، فطابق في ذلك العقل والنقل، وصرح به في غير موضع كتاب الله عز وجل وهو القول الفصل، قال الله تعالى: { فَلْيُؤَدِّ الَّذِي اؤْتُمِنَ أَمَانَتَهُ }[البقرة: 283] {إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تُؤَدُّوا الأَمَانَاتِ إِلَى أَهْلِهَا }[النساء: 58] {إِنَّا عَرَضْنَا الأَمَانَةَ عَلَى السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَالْجِبَالِ}[الأحزاب: 72] الآية، {إِنَّ اللَّهَ لاَ يُحِبُّ مَنْ كَانَ خَوَّاناً أَثِيماً }[النساء: 107] {إِنَّ اللَّهَ لاَ يُحِبُّ الْخَائِنِينَ }[الأنفال: 58].

(1/262)


وأما ما ورد في السنة والأخبار المروية فمما لا يحصره حساب ولا يشتمل عليه كتاب، قال -صلى الله عليه وآله وسلم-: (فيما) نحن بصدده من أنواع الأمانة ما لفظه: ((إن الخازن المسلم الأمين الذي يفعل ما أمر به فيقطعه كاملاً موفراً طيبة به نفسه فيدفعه إلى الذي أمر به أحد المتصدقين)) أخرجه البخاري ومسلم في صحيحيهما من طريق أبي موسى، وقد سبق من الأحاديث في ترغيب العامل بالحق وعلى التقوى في الأدب الثاني ما هو من شواهد هذا المعنى فإن المراد به العامل الأمين، وسبق فيه أيضاً من الترهيب للعمال ما يعرف به عظيم موقع الخيانة والمغلول من الذنوب الموبقة، والجرائر المهلكة، فنعوذ بالله من ذلك ونسأله السلامة من المهالك، فليحتزر العاقل غاية الاحتراز عن أن يأخذ شيئاً غير ما فرض له ولو مثقال ذرة، فإن الله تعالى يحاسب به فإن الكتاب لا يغادر صغيرة ولا كبيرة إلا أحصاها، قال -صلى الله عليه وآله وسلم-: ((من استعملناه على عمل فرزقناه رزقاً فما أخذ بعد ذلك فهو غلول)) رواه عبد الله بن بريدة، وعن عبادة بن الصامت، أن رسول الله -صلى الله عليه وآله وسلم- بعثه على الصدقة، فقال: ((يا أبا…. اتق الله لا تأتي يوم القيمة ببعير تحمله له رغاء أو بقرة لها خوار أو شاة لها ثغاء، قال: يا رسول الله إن ذلك لكذلك. قال: أي، والذي نفسي بيده))، قال: والذي بعثك بالحق لا أعمل لك على شيء أبداً.

(1/263)


وعن عدي وغيره قال: سمعت رسول الله -صلى الله عليه وآله وسلم- يقول: ((من استعملناه منكم على عمل فكتمنا مخطياً فما فوقه كان غلولاً يأتي به يوم القيامة))، وفي أخر هذا الحديث أنه -صلى الله عليه وآله وسلم- قال لمن استعظم، فقال: سمعتك تقول: كذا وكذا، قال: ((وأنا أقوله: إن من استعملناه منكم على عمل فليجئ بقليله وكثيره فما أولى منه أخذه وما نهي عنه انتهى)).
وروى أبو رافع، عنه -صلى الله عليه وآله وسلم- أنه مر بالبقيع فقال: ((أفا لك ، فكبر ذلك في ذرعي، فاستأخرت وظننت أنه يريدني، فقال: (مالك أمس) فقلت: أحدثت حدثاً قال: (لا، ومالك) فقلت: أففت لي، قال: ((لا، ولكن هذا فلان بعثته ساعياً على شيء فلان فغل غيره فدرع عليه مثلها من النار)).
وعن عبد الله بن عمر، أنه كان على ثقل رسول الله -صلى الله عليه وآله وسلم- رجل يقال: له كركرة فمات، فقال رسول الله -صلى الله عليه وآله وسلم-: ((هو في النار )) فذهبوا ينظرون إليه فوجدوا عباءة قد غلها وعن زيد بن خالد أن رجلاً من أصحاب رسول الله -صلى الله عليه وآله وسلم- توفي يوم حنين، فذكروا لرسول الله -صلى الله عليه وآله وسلم- فقال: ((صلوا على صاحبكم ، فتغيرت وجوه الناس لذلك، فقال: إن صاحبكم غل في سبيل الله)) ففتشنا متاعه فوجدنا حرزاً من حرز يهود لا يساوي درهمين))، فانظر إلى ما شملته هذه الأحاديث من الوعيد الشديد والزجر والتهديد وغيرها مما تركنا رقمه إيجازاً واختصاراً وفيما ذكرناه كفاية وزيادة.

(1/264)


تنبيه: ينبغي لمن اطلع على خيانة العامل أن لا يكتم ذلك عليه، ولا يستره فإن ذلك نوع من الإدهان ومناف لما أوجب الله سبحانه وتعالى من نصيحة أولي الأمر ويعني ذلك أن لا يتحرج صدر العامل أو لئلا يكون نميمة أو لاعتقاد بوجه الستر عليه، أو لغير ذلك من الحوامل فهو مغرور ممن قال الله فيه: {وَهُمْ يَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ يُحْسِنُونَ صُنْعاُ }[الكهف: 104]، فإنه بذلك شاركه في الخيانة وتصور بصورة الراضي بها، وخالف ما أوجب الله تعالى من النصيحة التي جعلها النبي –صلى الله عليه وآله وسلم- من الدين، ولا شك أن الخيانة منكر، وأن تاركها والتعريف بها يؤدي إلى إزالتها، إما بأن يصلح العامل ما فسد أو بأن يرفع يده عن العمل ويبعد، وبالكتم يسبب المعصية واستمرارها والبقاء عليها فالكاتم كتارك إنكار المنكر، وهو تفريط في جنب الله عز وجل.
وعن سمرة بن جندب، أنه قال: أما بعد فكان رسول الله -صلى الله عليه وآله وسلم- يقول: ((من يكتم غالاً فهو مثله )).

(1/265)


الأدب السابع
اجتناب التفريط فإنه يشارك الخيانة في وجوب الضمان غالباً وإيجاب مطلق الإثم، وأما المساواة فيه فهي متحققة، والتفريط أنواع منها غفلته وتراخيه في وقت العمل والقبض المعتاد؛ فإن لذلك أوقاتاً إذا أخر عنها وقع التناقض والتفويت، فينبغي منه التوفر وإحضار الذهن وهو إن كان في جهة العمل فذلك منه بمرأى ومسمع، وإن كان نازحاً عنها فلا أقل من أن يبحث ويترقب ولا بأس أن يكون له في الجهة من يشعره بذلك في وقته، وإذا كانت [جهته متسعة] لمارها يأتي شيئاً فشيئاً قدم ما تقدم، وإن كانت تأتي في وقت واحد قدم ما هو مظنه الفوات وإن استوى الحال منها اتخذ أعواناً ممن ينوبه، ونظر في الأمر نظراً مخلصاً عن درك التفريط، وإن عجز عن كل ذلك أذن الإمام به وعرفه أنه لا يتمكن إلا من العمل في بعض تلك الجهات لينظر الإمام فيمن يعينه أو يستقل بجمع البعض عليها.

(1/266)


ومنها: أن يتراخى في تبليغ ما جمعه فذلك(لا) شك تفريط، ومن حقه أن يتبادر بتبليغه بنفسه أو بواسطة إلى يد الإمام أو من أهله لالتقائه حسب العادة، وأن لا يغفل عن ذلك ليخلص ذمته عن عهدة الأمانة وليحذر عن الآفات التي يقع بها الفوات من سرقة المتاع أو خيانة الوديع، أو ظن أمر يقتضي نقضه أو ذهابه أو مرض العامل نفسه أو موته أو غير ذلك؛ ثم إن التبليغ فرضه وهو في الحقيقة مستأجر عليه والجمع من دونه لا ثمرة له ولا فائدة؛ فإنه لا انتفاع للإمام بما جمع ولم يبلغ إليه كما لا ينتفع بما لا يجمع، اللهم إلا أن يأمره الإمام ببقائه عنده، أو حيطة في جهة يعينها له فعليه الامتثال ويخرج بذلك عن الإخلال، وحيث أمر بتركه وعدم تبليغه في تلك الحال أو منعه من التبليغ مانع من خوف أو غيره، أو لم يتمكن منه للاشتغال بتبعة العمل فليحذر من التفريط فيما جمعه وصار في يده بوجه من الوجوه لا يأمن منها من يناقصه، فإن كان حيطة له في بيته احترز عليه من أهله وولده ولم يأمنهم عليه فيجعله في منزل لا سبيل لهم إليه ويحجبه عنهم ويكتم ما استطاع الكتم، وإن كان تحت يد وديع لم يرض به إلا مع أو يعينه وظهور أمانته وعدالته فحيث أنه لا يخاف عليه في حياته ولا بعد مماته، وإن كان تاركاً له في منزل لغيره أو في دار سكنها غيره احترز في ذلك بالمغالق الوثيقة والأقفال الحريزة ونحو ذلك، ولا يفتر حيث كانت الغلقة ونحوها متقدمة على تصييره لما في المنزل وبيد أهله من قبل ذلك فإنه لا يأمن أن يكون لها مفتاحان، وإنما اللائق أن يتخذ من ذلك ما يقع به الأمن مما ذكر وإن كان حباً في

(1/267)


مدفن لم يرض من المدافن إلا ما يؤمن عليه من السرقة والانتهاب وما يعزب أنه لا يغير ما دفن فيه، ومع ذلك كله فيحترز بالتنزيل القليل والكثير في مسطور يذكره أن يسمي ويعرف به بعد موته على هذا المنوال في أنواع التحرزات فإنما قصد التنبيه والتمثيل لا الحصر.
ومنها: أن لا يكتري للحمل من لا يؤمن فذلك تفريط، وينبغي له التحفظ في هذا المعنى وكثير ما يعرض الخيانة ويقع بسببه الفوات الذي لا يمكن تلافيه، ولا يكري محملة لا ممن يوثق به أو مع مسايرته له، إذا سيرها به فيما نقص وطلب ضمين عليه من نصبه أوجبت بقطع أنه إن خان لم يعنه، وأنه ممن يحكم عليه ويحترز في أن يجعل له مجالاً في الاعتذار إن خان فإذا كان المحمول مكيلاً مثلاً والمكاييل تختلف جعل له مكيالاً إما تحمل مع الحمال أو يكون مساوياً لمكيال المخزان الذي يحمل إليه الحب، وإن كان المحمول مما يوزن حقق وزنه وأخبر الإمام أو من يقع التبليغ إليه بقدره، وشرط على الحامل أن يأتيه بجواب ينطوي على تحقيق بلوغ ما صيره إليه، ونحو هذا من التحرزات والتنقضات التي لا تعزب عن ذي الفهم والألمعية.
ومنها: أن يسلك بما معه طريقاً مخوفاً أو تأمن الحامل فسلوكه أو يأذن له، فإن هذا أمر بضمان التفويت، وينبغي له التحرز والاحتياط منه جداً ولو سلوك طريق متعد أو توقف حتى تسلك القافلة والنظر فيمن سايره ولو بأجرة كاملة، وإن أعوزه ذلك كله لم يقع له ما تضمن به ويأمن به على ما معه راسل الإمام وخبرة بذلك ليمده بالنظر فيه، أو يأذن له فيما خشي منه فيخرج عن الملام والضمان وفي حكم الإمام من أمر بالتبليغ إليه.

(1/268)


ومنها: أنه (لا يبيع) بنفسه فإن ذلك من مضان الإضاعة لأنه قل ما يقضي ما كان من هذا القبيل بل يداخل المستدين الطمع ويستعسر القضاء ويستنكر الطلب من العامل ومن الإمام، وقد يكون ذلك سبباً في التنفير والتنكير فينبغي أن يحترز عن ذلك وأن لا يبيع إلا بنقد فإن أضطر إلى أن بيني فبوثيقة ممن لا يخاف تغيره إن ألح عليه، ولا يبالي بالتشديد عليه في الطلب، وهذا ما لم يأمره الإمام أن يبتني فإن أمره بذلك لغرض فيه، أو لتعذر حضور الثمن فعليه الامتثال ولا ضمان عليه فيما تعذر عليه فيه الاستقضاء وفات من ذلك.
ومنها: سلوك سبيل المحاباه فعليه إن لا يحابي أحداً قط فيما يرجع إلى ولايته والمحاباه على وجوه:
أحدها: أن يحابي أرباب الزكوات فيما وقع منهم من الغلول وعدم الموافاة أو الامتناع من توفير الحصة التي أمروا بتوفيرها من الزكاة.

(1/269)


وثانيها: أن يحابي من اختطف شيئاً منها لا عن إذن من الإمام ولا برضى، كما عليه كثير من الناس في زماننا هذا أنهم يختطفون ما أمكنهم من الزكوات ولا يبالون بأمر الإمام ولا نهيه عن ذلك ولا بما فيه الخطر، والعوام اتباع كل ناعق واختداعهم من أيسر الأشياء وأسهلها وقد يتفق ذلك لرغبتهم إلى نفع من يصيرون إليه الواجب، ومكانه عندهم وسعة جاهه لديهم وقد يفعلونه لنوع من المخادعة كأن يوهمهم أن الإمام قد أذن له بذلك أو كتب إليه كتاباً ويحسنون الظن فيه، فيقبلون كلامه أو يريهم كتاباً ويقرأه عليهم، وإن كان ليس فيه شيء من ذلك أو يكتبه بخطه يوقفهم عليه، ويستشهد بعض المغفلين الذين يعرفون مجرد الكتابة من غير تيقظ ولا معرفة للخط، أو يذكر لهم أن الإمام مستغن عن هذا أو غير ناظر إليه، وهو لا يبلغ إليه ولا ينتهي إلى يديه أو الإمام إنما ينفقه على الأجناد في علف البهائم والجمال، وعلى سفلة الناس كالمهاتير والغلمان، وغير ذلك من أنواع التغرير والتلبيس والتمحلات لأخذ الزكوات ووضعها في الكيس.
وهذا من أعظم الأسباب المفوتة لبيوت الأموال والزكوات، والمعصية لعدم توفيرها وهي مصيبة قد شاعت في جميع الجهات وجرى عليها كثير من أهل التمييز إلا من عصم الله تعالى من عباده وقليل ما هم.

(1/270)


وثالثها: أن يحابي من خانه فيها من وديع أو حامل أو نحوهما، والحوامل على المحاباه كثيرة كالاستحياء فقد يحمله الحياء على الإغضاء وعدم المناقشة وكالصداقة والرحامة، فتحمله محبة من صدر منه شيء من ما ذكر أو رحامته على الإبقاء عليه، وعدم جرحه والقدح فيه وترك الإطلاع على فعله، وكاستعظام حال الفاعل، واعتقاد أن حاله يعظم على أن ينكر عليه ما فعله أو ينهيه إلى الإمام وكاعتقادات السكوت أصلح وأرجح، وما قد فات فقد مات، وأن المناقشة تؤدي إلى فساد أو ازدياد في خلاف ما يراد، وكظن أن اللائق بحاله الستر على من تعنا وعدم الكشف عن حاله وأن في ذلك انتهاك بحرمته ومخالفة اللائق بالحال، وأن الأولى له التحمل فلا يدري القيم على ولايته أو يرفع أو يشك عنها فما باله يكسب عداوة الناس لأمر لا يدري ما حكمه فيه وكأن ينظر إلى ما يفوت عليه من حصته فيجدها لا توازي ما يلحقه من المشقة في الشجار والخصام.

(1/271)


وكل هذه الحوامل فاسدة ولا ثمرة لها ولا فائدة، والمحاباة فيما ذكر وفي غيره خيانة وتفريط، ولا ينبغي لأهل الاحتياط في دينهم والتحرز عما يشينهم، والواجب عليه أن يجتهد في إصلاح ما عز من ذلك ودفعه والإنكار على فاعله، وتقبيح فعله وأن لا يألو جهداً في ذلك وما أعجزه إصلاحه منه ودواه رفعه إلى الإمام في وقته واستمد رأيه فيه ونظره واستورد أمره فما أمره الإمام به فعله، وإذا خُيل إليه أن السكوت عما وقع أولى فلا يستقل برأيه في ذلك، بل يرفع القضية إلى الإمام ويعرفه بما خطر بباله من استرجاح للإغضاء وما في المناقشة من الشوائب، ثم يعمل بما رآه الإمام من تقرير ما رآه أو عدمه وما كان في الحوامل من حقه إلى ترك الإنكار أصلح له في دنياه فمغلطه، فإنه وإن كان كذلك فلا نقص عليه في دنياه فكذلك ينقصه في دينه، ويخل فيما يلزمه في أمانته وتكاليف ولايته، والله الموفق.
وللتفريط أنواع وأسباب غير ما ذكر، والقصد التحرز عنها كلها والاحتياط والتحفظ حسب الإمكان، والله المستعان.

(1/272)


تنبيه: اعلم أن الزكوات وبيوت الأموال وما يجمع الإمام كثير ما يعرض له الفوات والانتقاص، وينظر إليها أهل التلصص والاختلاس، ويشق التورع عنها على أكثر الناس، وما هي إلا عرضة للانتهاب وعرض للفوات والذهاب، ولا نجد من يتورع عنها على حد تورعه عن غيرها ولا من يستحي من أخذها كاستحيائه عن أخذ غيرها، فلهذا يتوجه الاحتراز الكلي عليها واستقرار التجويزات البعيدة في ذلك، وعدم الأمن والثقة إلا بمن قد وقعت له خيرة كبيرة منها، وفي التعفف عنها، بلغني أن بعض الأئمة السابقين عليهم السلام كان كثيراً ما يذكر هذا ويصوره في زكاة الحب، فيقول ما معناه: إن رب الزكاة يعمل النظر في نقصها والتحيل في البخس ولا يسلمها حتى نال منها ما نال ثم يدفعها إلى العامل، فلا يزال يكرر النظر فيما يستبد به منها، ويصير إليه حتى نال منها ويقع فيها ثم يدفعها إلى الحامل فيكون منه ذلك، ثم كذا في الخازن ثم فيمن يدفع إليه شيئاً منها لينظر فيمن يطحنه، ثم هكذا في الطاحن ثم في المبلغ عنه، ثم في من دفع إليه ليخبره، ثم فيمن يناوله منه لتبليغه إلى الأكلة، وصدق -رحمه الله تعالى- في ذلك.
وقد وقفنا على حديث مرفوع مضمون يتكل خروج الصدقة وخلوصها إلى الغاية المطلوبة منها، ومعناه أن الصدقة لا تخرج إلا من حيث يجيء ثلاثة وسبعين سلطاناً أو كما قال.

(1/273)


الأدب الثامن
أنه لا ينبغي أن يصرف مالم يؤمر بصرفه في تأليف أو مواساة ضعيف ولا يمتنع عن صرف ما أمر بصرفه فيما ذكر وفي غيره فهذان طرفان، والوجه فيهما كليهما ظاهر فإن يد الإمام فوق يده، ولا يحل له من التصرفات إلا ما أمره به جملة أو تفصيلاً، ولا يحل له أن يخالف ما أمره به، والذي في يده حكمه حكم الأمانة لا يجوز التصرف فيها إلا بإذن صاحبها ورأيه.

(1/274)


الطرف الأول
يقدر بما يخطر بباله (أن) مثل ذلك يليق ويحسن، وأن فيه صلاحاً وأنه لو لم يعط (…..) ويوضح لهم لما أمن أن ينشأ من ذلك مفسدة، وأن مواساة الضعفاء أمر لازم لا يليق حرمانهم عن شيء لهم فيه مدخل، ونحو هذا (من) البواعث على ما ذكر من الاتفاق وهي مغلطة، فإنه ليس لأحد أن ينفق ما ليس له في وجوه البر، ولو قصد بذلك التقرب لم يكن قربة بل معصية، ولم يستحق به الثواب بل العقاب، وفرضه أن لا يتعدى ما أمر به ولا يزيد ولا ينقص والعمل بالحسنة هنا لا معنى له، والذي يتوجه في مثل ذلك أن يستأذن الإمام فيما عنَّ له جملة أو تفصيلاً فالجملة أن يطلب من الإمام الإذن والتفويض فيما رآه صلاحاً؛ فإن امتنع لم يتعد الحد ولم يفعل ما منعه منه وإن سعد كان ما فعله صادر على الوجه المرضي، لكن لا يغير بالتفويض ولا يفعل به إلا ما علم أو غلب على ظنه حصول المصلحة فيه وأن الإمام لو اطلع عليه لرضيه، والتفصيل أن يستأذن في مواساة فقير بعينه أو تأليف شخص منصوص عليه فإن أذن له فعل، وإن غفل عنه اغتفل، والحذر كل الحذر أن ينفق شيئاً لغرض يعود عليه أو هوى يتعلق به.

(1/275)


تنبيه: أما إذا اتفق أمر لا يستغني فيه عن التأليف، ويقع بسبب تركه مفسدة أو فوت مصلحة ويتضيق وقته بحيث أنه لم يتمكن من الاستئذان فيه فالواجب عليه أن يفعل وأن لا يترك ذلك تحريجاً واللائق بالإمام أن يصوبه فيما فعل ويشكره عليه، وإن لم يستحسنه لوجه خفي عن العالم أو اجتهاد خالف اجتهاده فالأقرب أن يضمن وصول ذلك لا يخفي ولا يفتقر إلى ضرب مثل، وشرط ما ذكر حصول القطع فيه فلا بد أن يقطع أنه إن لم يتألف في ذلك الغرض فات أو أنه لم يتألف وقع فساد من انتهاب لما في يده أو ظهور معصية الإمام وخلاف، ولا بد أن يقطع أو يظن ظناً مقارباً بأنه إذا فعل حصل الغرض المقصود من حصول النفع أو اندفاع الضرر ولا يكفي توهم ذلك أو ظنه ظناً ضعيفا بحيث أنه لا يأمن أن ينفق ما ينفق ثم لا يحصل الغرض.

(1/276)


وأما الطرف الثاني
وهو ما يلزمه من العمل مما أمر به من إنفاق أو غيره فلا لبس في وجوبه إذ هو مأمور فيجب عليه امتثال الأمر، لأنه فائت فيلزمه قبول ما ورد عليه من المستنيب له ومأمور يتحتم عليه طاعة الإمام، ولو أن الإمام أمره بأن يطرح ما جمعه البحر أو يرمي به من شاهق في البر للزمه ذلك، إذ لا يمكن القطع به، ولا صلاح فيه فلعل فيه صلاحاً قد علمه الإمام ولا يحتج بعدم علمه إياه، فإن ما لم يعلم أكثر مما علم، وأوضح من هذه أن يأمره بالتسليم إلى رجل يعتقد أنه لا يستحق أولا مصلحة في إعطائه، فإن نظر الإمام فوق نظره وعليه الإمتثال لما علم وجهه وما لم يعلم. اللهم، إلا أن يعرف أن الإمام إنما أمر بالإعطاء لسبب، وذلك السبب لا وجود له كفقر أو عمل أو قضاء إرب وإنما أتفق غرر الإمام فيه فحينئذ يحسن فيه يلقي ذي الحاجة الواردة عليه بأمر الإمام تلقياً حسناً ينطوي على تفخيم شأن أوامر الإمام، كأن يقول أمر الإمام مطاع وأنت على خير، ثم يراجع الإمام مشافهة أو مكاتبه وينبهه على ما علمه من عدم ثبوت السبب الموجب، فإن أمره بالفعل أما استحيا عن الرجوع فيما قد أسعد به أو لمصلحة أخرى فعل، وإن إذن له في الترك ترك على وجه جميل، وأوضح للطالب العذر على ما يراه من إجمال أو تفصيل، وخالقه بخلق حسن، وحاصل الأمر أن طاعة الإمام في الإقدام والإحجام لازمة له وواجب عليه، وأن اللائق بحاله المسارعة إليه، وأن الإمام إذا سمح بسائل أو أمر بإعطاء سائل والانقياد إلى ذلك والمسارعة إليه من فرض العامل طاعة الله تعالى ولإمامه، واغتناماً للأجر في ذلك كما ورد في الخبر

(1/277)


المتقدم نقله((الخازن الأمين الذي يفعل ما أمر به بتعطيه كاملاً موفراً ويدفعه إلى الذي أمر به أحد المتصدقين))، ولأن في ذلك كسب صنيعة واستدعا ثناء ودعاء وشكر بغير غرامه ولا مشقة، فهل العدول من ذلك إلى المنع الذي هو معصية ومأثمة ومبتدع لأسواء الثناء، وموجب الذم والملامة إلا من قبيل الخذلان والحرمان فأقل قيل ما يفعل العامل أن يتلقى ذا الحاجة ومن بيده فضل الإمام بالبشر والرحب والخلق الحسن، ويجانب التعبيس والتقطيب، وما يشين ويريب فإن كان المطلوب منه لم يتعلثم ولم يمطل ساعة واحدة، وإن كان يده خالية وهو واثق بحصول شئ يعطيه عرفه بذلك ووعده لحصوله، وإن يكن الشيئ حاصلاً في جهة نازحة عرفه بذلك وسار معه أو أرسل من يعطيه أيا أو كتب له، وليجانب المطل الذي لا موجب له فإنه شين وتنغيص وتكدير لمروة الإمام وجالب للملام، وإن لم يبق في يده شيء أو لم يحصل له شيئ، ولا يرجو شيئاً قريباً عرفه بذلك وتأسف لعدم حصول غرضه وإحقاق مسعاه، وكتب معه إلى الإمام بذلك وإن صدر من ذي الوصل أذى احتمله وصبر عليه ودفع بالتي هي أحسن، ومع التمكن من التسليم يسلم إليه ما ذكر من غير زيادة ولا نقصان، وإن خطر بباله أن هذا يستحق الزيادة على وجه له راجع نفسه بأي أمين ليس لي أن أعطي مالم أومر به، والإمام أعرف مني بالأرجح في التقدير والأولى من القليل والكثير، وإذا خطر بباله أن هذا العطاء أكثر مما يتوجه لمثل هذا المعطي، وإن قيل هذا يجحف بالإمام فينبغي النقص فليتأمل ليعرف أن فرضه الامتثال فقط، وأن الإمام أخص منه بذلك وما رضي به فعليه أن يرضى به ولا يخالفه

(1/278)


فيه، اللهم إلا أن يستقل ما عين فترجح له أن يزيد زيادة مما هو له أو يستأذن الإمام فيها إن أمكنه الاستئذان أو يفعل ما يعقل، وله نظر الإمام في حسبانها له أو عليه وعدم مساغها له.
تنبيه: أما إذا استنكر ما ورد به وصل الإمام وجوز الغلط في الكتابة كأن يوصل لرجل خفيف القدر بمائة أوقية بحيث أن مثل ذلك يعد خارقاً للعادة، ولا يمكن تقدير وجه يقتضيه ويقدر أن القصد إلى مائة درهم مثلاً، وإنما وقع لفظة أوقية في مكانه من سهو القلم أو مثل ذلك فقد يتفق، فينبغي في مثل هذا المقام التثبت والاستمهال حتى يتحقق الأمر، ولا عتب في مثل ذلك، وإنما الذي منعنا عنه أن يتحقق قصد الإمام إلى العطاء الكبير ويمتنع لعدم استرجاحه.
تنبيه آخر: إذا وجه الإمام لشخص شيئاً إلى عامل ليعطيه إياه من ثمرة معنية أو مصلحة مبينة فلم يدرك منها شيئاً فلا ينبغي أن يجبره العامل في ذلك من ثمرة أو مصلحة أخرى؛ لأنه لم يؤمر بذلك ولا يأمن أن يكون قد بدأ الإمام بطول المدة واختلاف النظر واختلاف حال المعطي في غنى وفقر وموالاة وغيرها، وأيضاً فلا يأمن أن يكون الإمام قد عوضه في ذلك، فمثل هذا لا ينبغي الإقدام عليه إلا بأمر جديد.

(1/279)


تنبيه آخر: ما ورد من الأوصال مبيناً ملخصاً منطوياً على ذكر القدر والجنس والنوع والصفة ففرضه أن يعمل به، وقد ارتفع اللبس وقطعت مادة التردد، وإن ورد وصل الإمام مطلقاً في ذلك كله أو في شيء منه ففرضه أن يجري مجرى الأقدار ويحمله على أدون لما يمكن ويعتاد من ذلك، فإذا أمره بتسليم ثوب مثلاً نظر في الثياب المعتادة ويسلم من أقلها قدراً وقيمة في جهته وإن قال كذا وكذا درهماً وفي الجهة نقد أن قال أوقية وفي الجهة صرفان سلم من أدونهما، وإن قال كذا وكذا حبا فسلم من أدون أجناس الحبوب التي يعتاد الهبة منها وأخفها، وإذا قال كذا وكذا مداً أو زبدياً أو صغيرة أو مشرفة أو غير ذلك حمله على الأقل إذا كان في تلك الجهة مكيالان متفاوتان أو أكثر.
والوجه في جميع ذلك واضح وهو أن هذا الذي في يده ليس له، والأصل عدم الإذن فلا يسلم إلا ما ينبغي الإذن من أمر به فيه، ولأن الإمام لو قصد إلا على أكثر لصرح به ولذكره تنشيطاً للطالب وتتطيباً لنفسه وتصريحاً بفيض مرؤته، وتحرزاً عن مخالفة المأمور فلا يحمله على الإطلاق في الأغلب إلا لإستحياء من التصريح بالأنقص أو خشية إلحاح السائل في أن يجعله غيره وما يحمله فعدم ذكره الأعلى والأكثر يقضي بعدم الاهتمام بذلك، إذ الاهتمام يقضي الذكر ولا شك أنه غير مأمور وما لم يؤمر به فليس له أن يفعله وعروض شك له في كونه أراده لا يسوغ الإقدام استصحابا للأصل؛ ولأنه لو تبين زيادة فالزيادة ممكنة والتكميل، بخلاف ما إذا صح له تحقق كراهية فقد صار الاسترجاع غير ممكن في الأغلب، فإن أمكن فمستهجن.

(1/280)


تنبيه آخر: ينبغي أن يقع الاحتراز الكلي عن العمل بالأوصال المزورة فقد فشا هذا في زماننا واتفق الكثير من الولاة الاغترار به، وفاتت بسببه أموال وصارت في غير موضعها على غير رأي الإمام، فإن كان العامل من أهل الألمعية ومعرفة الخطوط لم يخل نفسه عن التأمل لما يرد عليه والستر له ولا يقدم إلا مع التحقق، وإن كان أمياً أو قليل الخبرة لذلك لم يكن بد من أن يعرض ما ورد عليه على أهل المعرفة التامة في هذا المعنى، ولا يكتفي على النفرين معاً كحال حامل الوصل واعتقاد صلاحه ودينه فيترك التثبت فقد فعل هذا كثير ممن فطن دينه وورعه، والله المستعان.
وما أحسن ما قاله الزمخشري رحمه الله تعالى.
إني على ما أراه لا أحذركم .... معرة اللص والأكراد والفسقة
لكن أحذركم من يبتدي لكم .... في صورة الزهد لكن همه السرقة
صلاته السيف والتسبيح أسهمه .... وصومه رمحه والمصحف الدرقة

(1/281)


الأدب التاسع
وكان خليقاً بالتقدم، لأن موضع نفعه للمتولى والمتولي عليه عظيم، أنه يليق بعامل الإمام أن يهتم بصلاح أهل جهته وولاته، ويبالغ في إرشاد كل منهم وهدايته، ولا يقصر همه وسعيه على قبض الزكاة وسائر الحقوق واستحصالها فقط، بل يتوجه عليه الوعظ والتذكير والحث على أداء الواجبات كلها وترك المقبحات كلها، وحسن التلطف والاستدعاء إلى الخير وتعليم مقالة الدين إن كان ممن يصلح لذلك، فإن هذه خصلة شريفة ودرجة منيفة،{ وَمَنْ أَحْسَنُ قَوْلاً مِمَّنْ دَعَا إِلَى اللَّهِ وَعَمِلَ صَالِحاً}[فصلت: 33] ((ولأن يهدي الله تعالى على يديك رجلاً خير لك مما طلعت عليه الشمس ))، وللمتولي من قبل الإمام والواصل من عنده محل في النفوس وموضع في القلوب، فيكون في هذه الفضيلة في حقه ألزم كما أنه لا ينبغي أن يخلي الإمام كتبه ورسائله التي يبعث بها مع رسله وعماله عن ذلك فينبغي له إذا دخل إلى بلد أن يدخل بسكينة ووقار مع ذكر الله تعالى وحسن السمت ولزوم الصمت إلا عما دعت إليه الحاجة، ثم إذا جمعهم لتبليغ رسالته أو طلب ما عندهم واجتمعوا عنده بأنفسهم بدأ بوعظهم وتذكيرهم وحثهم على النظر في أمر معادهم وتعظيم (أمر الآخرة) في قلوبهم وتهوين أمر الدنيا والتعريف بما في طاعة الله تعالى من الثواب والخير دنيا وآخرة، وما في خلاف ذلك وعكسه بعبارة حسنة سلسة، ومعان واضحة غير متعقدة، وتوسط بين الإيجاز والإطناب بما يستهجن عند العامة ويعاب، وإذا فهم منهم الإخلال بشيئ من الواجبات كالصلاة أو نوع شيء من المعاصي أشبع الفصل في ذلك وشنع عليهم ما ارتكبوه منه وأورد

(1/282)


الشواهد القرآنية والنبوية بما يقضي بفحشه وعظمه، ثم يخرج إلى ما هو بصدده من طلب الواجب والتماس تسليمه بعد التعريف بقدره، وما يلزم منه، وما ورد من الحث على التوفير ومحاسبة النفس على القليل، وما في الغلول من الحساب والعقاب وتناقص الثمرات وعروض الأفات، والله تعالى الموفق لإصلاح الأعمال والنيات.

(1/283)


الأدب العاشر
ينبغي له إذا استرجح الإمام عزله ورفع ولايته وعذره عما قلد من العمل يلقي ذلك بانطلاق واستبشار، وأن لا يظهر منه قط كراهية له، وهو إما كاره للعمل من قبل راغب في الترك لمشقة دنيوية أو خشية تبعة أخروية، فحقه أن يحمد الله تعالى على تسهيل إربه وحصول مطلبه على وجه لا خلل فيه ولا إخلال، ولا غضبا لإمامه ولا لربه ذي الجلال.
وإما راغب في بقاء الولاية وكاره لرفع يده عنها، فأول ما يعتمده أن يرى من نفسه جلداً وأن لا يشعر بما أبطنه أحداً، ولا يطلع عليه والداً ولا ولداً، فإن تلك خصلة ذميمة ينبغي أن يسترها بستر الله تعالى وأن لا يشيعها ويظهرها، ثم إذا ظهر اغتمامه ساء بذلك الواثق وأشمت العدو والكاشح والمماذق، ولم يعدم على ذلك طرفاً من الملام وتطرقاً للظنون السيئة إليه والأوهام.

(1/284)


اتفق عزل وال مرة فاشتد وجده وأخذ يتشفع بأهل الوجاهة ليقع رده، فسمع بعض الظرفاء يقول: ليس هذا على فوات الثمر إنما هو على فوات النصف، وبعد أن تحكم أمره في التستر والتجلد يعالج نفسه ويفتقدها وينظر في أسباب أسفها ووجدها، فإن تبين ذلك أو حصول مال واكتسابه أو غير ذلك مما يرفع إلى عرض الحياة الدنيا لأنها على ذلك وشنعه عليها ووبخها عليه، وعرف أنها له عدو مبين، وأنها إنما تسعى في هلاكه حيث شاها بخصلة من ورطة كان فيها مهلكة واشتغل بتقويم أودها، وصلاح فسادها ما هون على نفسه، بتأمل حال الدنيا والتفكر فيها، وما لا بد منه من انقضاء شهواتها وبقاء تبعاتها وسرعة فراقها وانقطاع حلاوة مذاقها، وأنها كالطل القالص ونعميها غير خالص، وإن وجد الباعث على ذلك الذي وقع معه فوات الأغراض الدينية المتعلقة بذلك العمل وهذا مستبعد فليسأل عليها بأن السعيد من كفى، وإن تحقيق التكليف من اللطف الخفي، وأن السلامة من الأخطار هو أبلغ المآرب والأوطار، ويستحضر قول بعض الشعراء:
على أنني راضٍ بأن أحمل الهوى .... وأخلص منه لا علي ولا ليا

(1/285)


قال بعض الأئمة -عليهم السلام-: ينبغي أن يكون العامل فيما وليه من الأعمال كالماشي على النار أحب شئ إليه الخروج منها، ثم إن مما يلزمه ويليق به ويجمل بحاله أن لا يتغير أمره وصفته فيما كان عليه من ود الإمام ونفعه والاعتلاق به، والجد في إعانته، فحيث أنه لم يرد على ما كان عليه من قبل الولاية لم ينقض منه، وينبغي له أن يعين من يخلفه في الولاية، ويحث على التسليم، ويزجر من امتنع من ذلك أو علق الأمر به، وأراد أن يقبض ما عنده على جاري العادة، فكثير ما يتفق مثل ذلك بجهل العوام وعدم تمييزهم وميلهم إلى ما ألفوه واعتادوه ويعوزهم عن غير ذلك، والدين النصيحة لله تعالى ولرسوله ولأئمة المسلمين، وكل مكلف مما يمكنه، وقيمة كل امرئ ما يحسنه، وحسبنا الله وكفى، وسلام على عباده الذين اصطفى.
والحمد لله رب العالمين، وصلى الله على سيدنا محمد وآله الطيبين الطاهرين، وكان فراغي من هذه الوسيلة، وترقيم تلك الفضيلة بعد شروق شمس يوم الأحد المبارك رابع من شهر ذي الحجة الحرام الذي هو من شهور عام سنة تسع وثمانين وألف سنة.
بخط قلم العبد الضعيف الراجي عفو ربه الخبير اللطيف، صلاح بن أحمد بن صالح الحيمي غفر الله له ولوالديه وللمؤمنين آمين، وذلك مما رسم بعناية الولد القاضي عز الإسلام محمد بن الحسن بن أحمد بن صالح الحيمي حفظه الله تعالى، ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم، وصلى الله على سيدنا محمد وعلى آله وسلم تسليماً طيباً.
وهذه مسألة ونبذة ذكرها الإمام الهادي إلى الحق عز الدين بن الحسن -عليه السلام-.

(1/286)


في النهي عن الغلو في التشكيك في الطهارة ونحوها وجزاه الله عنَّا خيراً.
أما بعد حمداً لله الملك الديان التي قضت حكمته بإنظار الشيطان، وتسليطه على الإنسان، لوجوه من الحكمة أحاط بها علماً، وضعت على العباد معرفة وفهماً، والصلاة والسلام على من بعثه الله تعالى رحمة للأمة، وكاشفاً للغمة، ومبلغاً لشريعته، وهادياً إلى سنته -صلى الله عليه وآله وسلم- وعلى الطيبين من أهله وسلم تسليماً كثيراً يفضي بهم إلى جنته.
فإن بعض الإخوان الصالحين سألني إملاء كلام ينطوي على إنكار ما يعرض لكثير من المتعصبين من الخلق في أمر الوضوء قاصداً الاستعانة بما عليه على زجر أرباب الشك وأهليه.
فتحتمت إجابته ولزمت على البر والتقوى إعانته، على حال اشتغال منا وعينه الكتب التي ينطوي على الأخبار الواردة في هذا المعنى عنَّا.
فنقول وبالله التوفيق: الشيطان لما كان من شأنه المبالغة في إغواء الإنسان، والسلوك في ذلك إلى كل مسلك ودته الاختبار، في أن يضل ويهلك، وقد طالت في ذلك ممارسته وعظمت بطرق التوصل إليه بخبرته، تيقن أنه من رسخ الإيمان في صدره، ورسم الله تعالى في قلبه، وأدركته العصمة عن ارتكاب الكبائر واقتراف الجرائر، فصار بينه وبين المعاصي الظاهرة حائل، وأيس عن اقتناصه في ذلك بالحبائل.

(1/287)


لم يجد له سبيلاً إلى أن يستنزله إلى مباشرة المعاصي عمداً أو تحرياً ولا أن يجذبه إلى فعل ما يعتقده طغياناً على الله وتعدياً، فأتى له من هذه الطريق الأخرى، وجازاه مجازاة من يد له إلى ما هو أولى في دينه وأحرى، ووسوس إليه بأنه لا كمال لدينك الذي صرت حريصاً عليه، وملتقناً بكليتك إليه إلا أن يبالغ في أمر الطهارة، ويحتاط في شأنها ولا تقتصر على ما يعتاده غيرك في فعلها وإتيانها، وأنهم أهل تساهل في أمرها وتقصير في أدائها فأدخل الشك على يقينه وأوقعه في لبس من دينه، ونال منه ما أراد وسلبه ما كان عليه ينطوي من الهدى والرشاد.
فقد يقضي ذلك بالمرء إلى أن يترك الصلاة في وقتها ويخل بالإتيان بها على وجهها، ويتعدى حدود ما فرض الله وشرع ويكون لدرك الشقاق من أهل البدع، فانظر في دقة مسلك الشيطان وعظيم تصرفه في إضلال الإنسان، ولو أنه جاء إلى هذا المتدين فبالغ معه إلى أن يترك الطهارة عن أصلها، أو يقطع الصلاة جهلاً بفضلها، لما نال المريد ما يريده ولقوبل بالصد والرد السديد فنعوذ بالله من مكره.

(1/288)


وندرء بألطاف الله تعالى في نحره، هذا وأحوال من عرض له هذا العارض يختلف ويتفاوت فمنهم من ينتهي به الشك والغلو إلى إنكار الضروريات، يعتقد ويقطع مع غسله للعضو مراراً كثيرة أنه لم يغسله، حتى ترى منهم من يسأل الذي عندهم هل غسله أو لا؟ ولا يقتصر من غسله على عشر مرات وعلى عشرين مرة بل قد ينتهي إلى مائة أو أكثر، وقد يبلغ به الحال إلى أن يقسم بالله وبالأيمان الكفرية أنه لا يزيد على ما قد فعله، لعل نفسه الشيطانية تتدفع عن ذلك ثم لا يعد، شاهدنا ذلك مع بعض أهل هذا الامتحان ومن هو في ما عدا الأمر من كملة الرجال أهل الإحكام والإتقان.
ومنهم من يفضي به ذلك إلى قطع الصلوات والوقوع في أعظم المنكرات، ثم يأتي بها قضاء وقد تركها أداء فوقع في الفسوق والعصيان، وأدرك منه ما تمناه الشيطان، حكى لنا بعض الكبراء أن رجلاً ممن ابتلي بالشك في الطهارة وهو من أهل الدين والحلم والتدريس في كتب العلم كان يشتغل بالوضوء للفجر حتى تشرق الشمس، وترتفع ولا يصلي الفجر إلا بعد ارتفاعها ويشتغل بالوضوء للظهر والعصر حتى يدخل وقت المغرب على سبيل الاستمرار والدوام. ومنهم من لا ينتهي به الحال إلى ما ذكر، ولكن يبالغ في أمر الوضوء ويتعدى القدر المشروع فيه ويطيل الاشتغال به حتى قد يفوته وقت الشارع ويحرم الفضيلة في أداء وقت الصلاة في أول أوقاتها، ويتعذر عليه الاشتغال بشيئ مما يهم أمره من الخصال الدينية أو المنافع الدنيوية التي لا غنى له عنها ولا بد له منها كالابتغاء من فضل الله أو الانقياد لأمر الغاية أو نحو ذلك، وكلامنا هو في شأن من هذه حاله.

(1/289)


فأما من بلغ به الحد إلى ترك الصلاة في وقتها وإنكار الضرورة وإبطال حكمها واستعمال الأيمان المغلظة مع ملازمة الحنث فيها، فتلك أمور ظاهرة الفحش، معلومة العصيان، مقتضية لغضب الرحمن، وقبحها لا يفتقر إلى بيان والذي يوجه إلى من ذكرناه أن نقول له: المعلوم من حالك قطعاً أنك ما تريد بوضوئك إلا أداء ما كلفته وطاعة ربك فيما فرضه عليك، والإتيان بشروط صحة صلواتك، وأن الله تعالى لو لم يشرع الوضوء وتكلفك الإتيان به لما اشتغلت بشيئ منه قط، فإذا كان هذا هو مرادك وقصدك فما الملجي إلى أنك تأتي بغير ما شرع وبخلاف ما كلفت به، وبما لم يشترط في صحة صلاتك وتعدى من المشروع إلى غيره، ومن الواجب إلى سواه، فتأمل بعقلك هل يليق منك أن تتعب نفسك وتذهب في أمر لم يشرعه الله تعالى لك ولا أوجبه عليك ولا يدلك إليه، ولا يعود عليك نفع منه قط في دينك، ولا دنياك!!؟ وإنما فائدتك منه أن يمقتك الله تعالى عليه، وأن تكون به مخالفاً لما شرع ومرتكباً للبدع، ومفوتاً لثوابك الذي يجب لك لو اقتصرت على المشروع وتركت ما نهيت عنه إما نهي حظر أو نهي تنزيه، هذه شقاوة لا شك فيها، وإضاعة للعمل والوقت وبطالة يستعاذ بالله من مثلها، وإذا خطر ببال ذي الشك أن العبرة في حكم النجاسة بغلبة الظن ولم يحصل له عليه إلا ما يجري عليه ما قد اعتاده حتى يغلب على ظنه زوالها ولم يحصل فصار واجباً عليه ولا يعد تعبداً إلا في حق من يحصل عليه الطولة.

(1/290)


قلنا: هذا مما خيله الشيطان إليه وأدخله من اللبس عليه، والصحيح على أصل معتبر الظن، ما ذكره بعضهم من أنه يعتبر الظن ما لم ينص إلى زيادة على الثلث ثم إن اعتبار الظن عند القائلين به إنما هو بالنظر إلى من لا يعرض له هذا العارض المخالف لمقتضى العقل والنقل، وكيف يعتبر الظن فيمن أمضى به الشك إلى مخالفة يقتضي العلوم الضرورية والطرق اليقينية، ولو خطر ببال إلى طالب حال من هذا حاله لصرح وقطع بأنه متعد، وأنه لا مراعاة لظن مثله، ولا اعتبار به ولا قائل بأن الظن يعتبر فيما يخالف حدود الشرع وينافيها فمن المعلوم قطعاً أن الذي يغسل عضوه عشر غسلات أو عشرين غير واقف على مقتضى الشرع ولا متأس بالشارع -صلى الله عليه وآله وسلم-، وأن ظنه فاسد فإن هذا العارض الذي عرض له من قبيل الوسواس قد صير ظنه غير مورس وقد أخل في حقه بصحيح النظر، ثم إن السيد أبي طالب -عليه السلام- هذا إنما يرد ذكره والتعليل به في إزالة النجاسة في العذر في نحو غسل الوجه مراراً كثيرة واسعة، أوفي مسح الرأس الذي يتعدى فيه الثلاث أو غسل اليدين كذلك ولقد شاهدنا وبلغنا من أولي الشك عجائب وغرائب.

(1/291)


فمنهم من يعظم الرزية في غسل الوجه، ومنهم من يتعدى الحدود في مسح الرأس وشاهدنا من تعلق به الشك في مسح الأذنين فيقف على ذلك ساعة طويلة، وهو يكرر المسح ويتردد فيه ويدخل على نفسه اللبس في أمره، فلا ينبغي أن يعتل الشاك في شكه بقول نبي أو قول إمام، وإنما الواجب عليه أن يعتقد إنما إلي من قبيل الشيطان نعوذ بالله منه، فيجتهد في مدافعته، ويحترز عن طاعته، وليرجع إلى مقتضى الشرع الشريف وأسلوب الدين الحنيف، فإنه -صلى الله عليه وآله وسلم- بعث بالحنيفية السمحة وبالتيسير وعدم التعسير، وكان -صلى الله عليه وآله وسلم- ينهى عن التشديد وأسلوبه في التوضؤ عن مثل هذا الأسلوب بعيد، وإذا ألهمه الشيطان أن يقول قصدي في ذلك صالح وما أردت به إلا رضى الله عز وجل ويتفق الإتيان لما شرعه لأنه لم يتحصل لي تيقن إذا ما كلفت به إلا لهذا، ولو أني تركت شيئاً منه لما حصل فيَّ تيقن الإتيان بما كلفته فلم أكن متخلصاً عنه.

(1/292)


قلنا: لك ما أحسن النية، فهو لا يفيدك في ارتكاب البدعة، فإن النية الحسنة لا تنفع صاحبها وتفيده إلا إذا تعلقت بالفعل على الوجه الذي شرع ولو كان حسن النية بعيد مع خلاف ذلك للزم أن يحسن بها الفعلالقبيح كمن سرق مال الغير ليسد به فاقة الفقر ويواسي به المحتاجين، ومعلوم أن ذلك لا يفيد، وأما بأنه لم يقع تيقن إذا ما كلف به إلا بذلك، فهذا اعتذار بالجهل وسبيله أن يشتغل بمداواة جهله وأن لا يعتمده في أمر دينه، ويعمل بمقتضاه وتخلصه من هذا الجهل يحصل بأيسر تأمل، وهو أنك تقرأ ما ذكره علماء الشرع وحفظة العلم وتطلع عليه إن لم يكن قد نظرت إليه، وإن كان قد قرأه فبأن تتذكره وتتأمله فإنك تجد الأمر هوناً يسيراً لا معيباً عسيراً، وليس ثم إلا إزالة نجاسة أو يجر غسل عضو شرع غسله.
أما إزالة النجاسة فالأمر فيه قريب وإن كانت نجاسة خفية لا جرم لها كأثر البول، وأكثر ما قيل فيه: أن يغسل مكانها ثلاث مرات، والغسلة تحصل بصب الماء والدلك مرة، وهذا شئ يسير غاية، وأيضاً فلا حاجة إلى ما يعتاده الناس من غسل موضع النجاسة وغيره معه؛ إنما الواجب مكانها فقط كثقب الذكر ونحوه وكما أصابه البول من الفرج، وإن كانت النجاسة ظاهرة لها جرم فالقصد إزالتها حتى تذهب عينها ثم غسلتان يسيرتان بعد ذلك، وهذا كله يتفق بأيسر عمل وقليل من الماء، ولا فائدة ولا ثمرة ولا مثوبة فيما زاد على ذلك، إنما هو علق وتجاوز بحد المشروع وتشاغل بما لا فائدة فيه.

(1/293)


وأما غسل أعضاء الوضوء فأكثر ما قيل في الغسل: إنه إمساس العضو الماء حتى يسيل مع الدلك، والقصد أن يسيل الماء من الجزء الذي وقع عليه إلى ما لديه لا يشترط أن ينتهي إلى الأرض ولا أن يصب الماء صباً، وهذا أمر يسير إذا تأمله متأمل وحد الفرض ينقضي بأقل شئ من الماء وأقل عمل باليد فإنما القصد بالدلك إجراء اليد على الجسد مع قليل اعتماد لا مشقة فيه ولا إيلام ولا كثير حركة.
ثم قد ندبت التثنية والتثليث مما قال الزيادة على ذلك، هذا في أمر الوضوء، وكذلك في أمر الغسل القصد إزالة النجاسة على ما ذكر، ثم إجراء الماء على البدن مع ما تيسر من الدلك على وجه يقتضي أن يسيل الماء من جانب إلى جانب، ولوقف أنه لم ينته إلى الأرض منه قطرة فيا عجباً من هذا الابتداع الذي لا غرض فيه ولا وجه يقتضيه، ما الموجب لصب الماء الكثير والدلك المتكرر وإتعاب النفس في ذلك وتضييع الوقت!!، وليتأمل من له أدنى عقل هل يليق به امتحان نفسه وإضاعة وقته وإهماله ما يعود عليه نفعه على هذا الوجه ما هذه إلا بطالة وضلالة، وسلوك في سبيل البلسة، واستعمال لما يستعمله إلا من لا عقل له إذ العاقل لا يحمل المشقة إلا لأحد أمرين أو لكلتيهما إما غرض ديني أو غرض دنيوي وهذا خال عنهما، أما الديني فالغرض يحصل باتساع السنة والإتيان بما كلف به على الوجه المشروع وفي ذلك مخالفة لهذا.
وأما الدنيوي فلا نفع في ذلك ولا دفع ضرر، وإنما هو مشقة تذهب هدراً ويرجع فيه صاحبه إلى الوراء.

(1/294)


وهاهنا وجه أخر: ينبغي أن يعالج به الشاك نفسه، وهو أن يبحث عما كان عليه معلم الشرع ومبلغه -صلى الله عليه وآله وسلم- ففرضنا الاقتداء به والجري على ما كان عليه ويتبع كتب الآثار وما نقل عنه العلماء الأخيار، ويسأل عن ذلك إذا كان أمياً، فإن ذكر ما كان عليه -صلى الله عليه وآله وسلم- من تيسير الأمر في ذلك فاغتساله بالصاع وبوضوءه بالمد ونحو ذلك مما يعزب به معاكسة هذه الطريقة المشؤمة، وكذلك فليبحث عن حال الصحابة وأئمة العترة فإنه لا يبلغه عن أحد منهم الاعتداء في الوضوء، ولا المبالغة فيه، حتى قال بعض الأئمة عليهم السلام فيمن زاد على الغسلات الثلاث: أنه قد أساء وتعدى وظلم، وقد ذكر بعض العلماء أنه ينبغي لذي الشك أنه يتجنبه بكل ممكن ويطرحه، ولو خيل إليه أن صلاته باطلة واعتقد ذلك فلا يصرفه هذه الاعتقاد عن تحقيق الوضوء، فإنه بعد كسع النفس ومخالفتها وعدم التعويل على اعتقادها هذا الفاسد تعود إلى صحة الاعتقاد وطريق الرشاد وحصول المراد، والله سبحانه أعلم، وهو تعالى ولي التوفيق، والفاتح بنيل التحقيق والهداية إلى آمن طريق، وهو حسبنا وكفى، والصلاة والسلام على سيدنا محمد المصطفى، والسلام على عباده الذين اصطفى.

(1/295)


قال في الأم المنقول منها: تم بحمد الله ومنه في تأريخ شهر ذي القعدة الحرام، الذي هو من شهور عام سنة أربع وتسعين وثمان مائة، وفرغت من تحرير ذلك ونقله من الأم إلى ذلك، وأنا الفقير إلى الله تعالى صلاح بن أحمد بن صالح الحيمي لطف الله به وغفر له ولوالديه وللمؤمنين، بعد شروق شمس اليوم المسمى يوم الإثنين، ثامن عشر من شهر الحجة الحرام، عام تسع وثمانين وألف سنة.
وذلك برسم الولد القاضي العلامة الصدر القدوة الفهامة، محمد بن الحسن بن أحمد بن صالح الحيمي حفظه الله وأمتع بطول حياته آمين، ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم، وصلى الله على سيدنا محمد وعلى آله وسلم.

(1/296)