الكتاب : العلم الواصم في الرد على هفوات الروض الباسم |
العلم الواصم في الرد على هفوات الروض الباسم (1/1)
مقدمة التحقيق
الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على أشرف الأنبياء والمرسلين، سيدنا وحبيبنا محمد الأمين، وعلى آله الطيبين الطاهرين.
وبعد ..
فهذا كتاب (العلم الواصم في الرد على هفوات الروض الباسم) للسيد العلامة أحمد بن الحسن بن يحيى القاسمي المتوفى سنة 1375هـ ـ رحمه الله تعالى رحمة الأبرار ـ وهو رد على بعض هفوات كتاب (الروض الباسم في الذب عن سنة أبي القاسم) مختصر (العواصم والقواصم) للسيد العلامة الكبير محمد بن إبراهيم الوزير المتوفى سنة 840ه رحمه الله تعالى.
والباعث الحقيقي لتأليف كتاب (العواصم والقواصم) هو أن الإمام علي بن محمد بن أبي القاسم المتوفى سنة 837ه ـ رحمه الله تعالى ـ كتب رسالة إلى تلميذه السيد العلامة محمد بن إبراهيم الوزير بين له فيها قواعد الحديث عند الزيدية، ولاحظ على بعض قواعد المحدثين، فزعم تلميذه العلامة النحرير محمد بن إبراهيم الوزير أن في ذلك تنقيصاً للمحدثين.
وفي معرض رده على شيخه تناول كثيراً من المواضيع التي لم يتطرق إليها شيخه، الأمر الذي أوقعه في جمع الغث والسمين، والتنكر لكثير من أسس ومناهج سلفه الصالحين من أهل البيت الطاهرين كما صرح بذلك في مقدمته لكتابه (العواصم) قال: (وقد سلكت في هذا الجواب مسالك الجدليين فيما يلزم الخصم على أصوله، ولم أتعرض في بعضه لبيان المختار عندي، وذلك لأجل التقية من ذوي الجهل والعصبية، فلينتبه الواقف عليه على ذلك فلا يجعل ما أجبت به الخصم مذهباً لي، ثم إني قد اختصرت هذا الكتاب في كتاب لطيف سميته: (الروض الباسم) وهو أقل تقية من هذا ولن يخلو).
ومن خلال هذا ندرك أن الغرض من الرد هو تكثير الاستدلالات وجمع الشبهات، وقد لاحظ ذلك ابن الوزير نفسه، إذ قال: (فلا يخلو كلامي من الخطأ عند الانتقاد، ولا يصفو جوابي من الغلط عند النقاد).
وقد وجد فيه ــ أي في (الروض الباسم) ـ مؤلف هذا الكتاب الذي بين يديك ما تطلع عليه في ثنايا هذه الصفحات، فكيف به لو اطلع على (العواصم والقواصم) التي أكثر فيها مؤلفها من القعقعة، وشحنها بالجعجعة، وجعلها سلماً للمتمسلفين ومرتكزاً للمبتدعة. (1/2)
والحقيقة أن السيد العلامة محمد بن إبراهيم الوزير ـ رحمه الله تعالى ـ يعتبر من جبال العلم وأساطين الحكم والفهم، ولكنه في كتابه (العواصم والقواصم) ومختصره (الروض الباسم) قد تنكر لمذهب أسلافه الأخيار، الذين وصفهم هو بنفسه فقال: (وعلى آله الذين أمر بمحبتهم، واختصهم للمباهلة بهم، وتلا آية التطهير بسببهم، وبشر محبيهم أن يكونوا معه في درجته يوم القيامة، وأنذر محاربيهم بالحرب، وبشر مسالميهم بالسلامة، وشرع الصلاة معه عليهم في كل صلاة، وقرنهم في حديث الثقلين بكتاب الله، ووصى فيهم وأكد الوصاة بقوله: ((الله، الله)) خرجه مسلم فيما رواه، وزاد الترمذي وسواه: بشراه لذوي قرباه، إنهما لن يفترقا حتى يلقاه).
لا أدري ماذا أقول بعد كلام ابن الوزير هذا في أهل البيت الطاهرين"، والعجيب أنه سلك غير مسلكهم فيما حكاه ورواه، ونهج غير منهجهم فيما أورده وارتضاه، ولم يلتزم في كتابيه (العواصم) و(الروض الباسم) الوصية والوصاة، بل تعدى ذلك وتخطاه. وكأنه نسي ما زاده الترمذي وسواه: بشرى رسول الله لمن حب قرباه، وتناسى أن الكتاب والعترة قرينان لن يفترقا حتى يلقاه.
وقد أزال عجبي وأزاح استغرابي جواب شقيقه العلامة الأواه الهادي بن إبراهيم الوزير في قصيدته الرائعة التي أجاب بها على شقيقه العلامة الكبير محمد بن إبراهيم الوزير ـ رحمه الله تعالى ـ وهي طويلة نقتطف منها هذه الأبيات قال:
يا عاذلي في حب آل محمد .... دع ما تقول فأنت غيرُ مُحمَّدِ
لو كنت تعذل في محبة غيرهم .... لعلمتُ أنّك بالنصيحة مرشدي
أأحبهم وأُحبُّ غير طريقهم .... هذا المحال من المقال الأبعدِ
من مال عنهم لم يكن منهم، وسَلْ .... أهلَ المعارف والطريق الأرشدِ (1/3)
أنا منهم في فعلهم ومقالهم .... يا شاهد الله المهيمن فاشهدِ
ومنها:
مالي أراك وأنت صفوة سادةٍ .... طابت شمائلهم لطيب المَحْتدِ
تمتاز عنهم في مآخذ علمهم .... وهُمُ الذين علومهم تُروي الصدي
أخذوا مباني علمهم وأصولهم .... عن أهلهم من سيد عن سيد
سند عن الهادي وعن آبائه .... لا عن كلام مُسدَّد بن مُسرهدِ
سند عن الآباء والأجداد في .... أحكامهم وفنونهم والمفرد
وكذاك في (التجريد) و(التحرير و(الت .... عليق) و(المجموع) ثم (المرشدِ)
لهم من التصنيف ألف مصنف .... ما بين علم سابق ومجدد
قد قلت في الأبيات قولاً صادقاً .... ولقد صدقت وكنت غير مفنّدِ
هم باب حطة والسفينة والهدى .... فيهم وهم للظالمين بمرصد
وهم الأمان لكل من تحت السماء .... وجزاء أحمد وِدَّهم فتودَّدِ
والقوم والقرآن فاعرف قدرهم .... ثقلان للثقلين نص محمد
وكفى لهم شرفاً ومجداً باذخاً .... فرض الصلاة لهم بكلِّ تشهدِ
هذا مقالك في القصيد وإنه .... محض الصواب وعصمة المسترشدِ
فأتمَّ قولك بالمصير إليهم .... في كل قول يا محمد تهتدي
فهم الأمان كما ذكرت ونهجهم .... نهج البلوغ إلى تمام المقصد
ما لي أراك تقول فيهم هكذا .... وبغير مذهبهم تدينُ وتقتدي
أوليس هم حجج الإله على الورى .... والفلك في بحر الضَّلال المزبد
ما كان أحسن حسن فهمك ترتقي .... درجات علمهم إلى المتصعد
حتى إذا استوريت زند علومهم .... وأردت تزند ما بدا لك فازند
بعد النهاية في العلوم ودرسها .... وإحاطة المتوغل المتجرد
ولأنت فرعٌ باسق من دوحة .... شرُفَت بحيدرة الوصيِّ وأحمد
متردد بين النبوة والهدى .... من أهله ناهيك من متردد
فأعد هداك الله نظرة وامقٍ .... في علمهم تلق الرشاد لمرشد (1/4)
وتوسَّمِ العلمَ الذي في كتبهم .... تجد الدراية والهداية عن يد
وذكرت سنة أحمد وحديثه .... يا حبَّذا سننُ النبي محمد
أورد مسائلها ورد في مائها .... يا حبَّذاك لوارد ولمُورد
لسنا نقول: بأن سنة أحمدٍ .... متروكةٌ وحديثه لم يوجد
بل سنة المختار معمولٌ بها .... وحديثه شف النضار العسجد
ومقالهم في سنة وجماعة .... قول رديء ليس بالمتمخد
سبوا الوصي وأظهروها سنة .... لبني الدنا من مغورين ومنجد
وكذاك سموا حين صالح شبّرٌ .... ابن التي عُرفت بأكل الأكبد
عام الجماعة واستمروا هكذا .... حتى تملك عصره المستنجد
أعني به عمراً فأنكر بدعةً .... ونظيره في عدله لم يُوجد
ونقول في كتب الحديث محاسن .... من سنة المختار لما نقصد
لكن نُرجّح ما رواه أهلنا .... سفن النجاة وأهل ذاك المسجد
ونقول: مذهبهم أصح رواية .... وأمتّ في متن الحديث المسند
فبهم على كل الأكابر نبتدي .... وإليهم أبداً نروح ونغتدي
وبهديدهم في كل سمت نهتدي .... وبقولهم في كل أمر نقتدي
وبفعلهم في كل مجدٍ نحتذي .... وبعلمهم في كل وقتٍ نجتدي
وإذا تعارض عندنا قولٌ لهم .... ولغيرهم قولٌ وإن هو واحدي
ملنا إلى القول الذي قالوا به .... لتوثق في حفظهم وتشدد
وتصلب في دينهم وتنزه .... وتورع في كسبهم وتزهد
ولما روينا فيهم عن أحمد .... حسبي به للمقتدي والمهتدي
فاليوم عصمتنا بهم وبحبهم .... وهم الأئمة والأدلة في غد
نشروا العلوم وأيدوا دين الهدى .... علماً بهادٍ فيهم ومؤيد
ومضوا على سنن الجهاد ورسمه .... ما بين مقتول وبين مشردِ
ومخلد في حبسه ومطرد .... عن أهله ومصلّب ومقيّدِ
من في البرية يا محمد مثلهم .... في فضلهم وجهادهم والسؤدُدِ (1/5)
وذكرت تصحيح الخلاف وأنهم .... قد خالفوا آبائهم بتعمد
فصدقت فيما قلته وحكيته .... وقع الخلاف وليس ذاك بمفسد
إن الصحابة ماج فيما بينهم .... شرع الخلاف وهم صحابة أحمدِ
وكذا الأئمة بعدهم لما تزل .... آراءهم في العلم ذات تبدُّدِ
والحق تصويبُ الخلاف وما تر ال .... إجماع إلا في نوادر شرد
وذكرت أن الموت يقطع في الهدى .... تقليد صاحبه لكل مقلد
وحكيتَ ذلك مذهب الجمهور عن .... علمائهم بينت كالمستشهد
فخلاف ذلك ظاهرٌ متعارف .... في كتبنا وبكتبهم فاستورد
قد نصّ بيضاويهم في (شرحه) .... تجويز تقليد الإمام الملحد
وكذاك في (المعيار) جوزه وقد .... أفتى به حسنٌ سليل محمد
قالوا جميعاً للضرورة: إنه .... لم يبق مجتهد فَطُفْ وتفقد
قالوا: وإلا أي فائدة لنا .... في درس علم الشافعي وأحمد
وكذاك درس علوم آل محمد .... كم دارس لعلومهم متفرد؟
فإذا تبين أن تقليد الورى .... حق لمهدي وهادٍ قد هُدي
وأصبت فيما قلت مت تصويب أه .... ل العلم في فنِّ الخلاف الأمجد
فن الفروع فإنه لا بأس في .... سَعَةِ الخلاف به لك مجرد
وذكرت قولك في الكلام وما لهم .... فيه من القول الغريب الموجد
فلقد ذكرت من العلوم أجلّها .... قدراً وأعظمها لكل موحد
فن به شهد الكتاب وصحة ال .... ألباب ليس لفضله من مَجْحَدِ
راضته أفكار الأفاضل واغتدى .... كالدرّ بين زبرجد وزُمرد
ما فيه من عيب سوى أن دققوا .... لدفاع قول الفيلسوف الملحد
لولا صناعتهم وحسنُ كلامهم .... نزعت يد الحربا لسان الأسود
وصدقت أن محمداً في صَحبه .... لم يعرفوا تلك العبادة عن يد
ماذا أراد محمد منها وجب .... ريلٌ لديه كل حين في الندي؟ (1/6)
حمّاد عَجْردَ لم يكن في وقته .... أبداً، ولا سمعوا هناك بعجرد
وابن الروندي وابن سينا أحدثا .... بعد النبوة في الزمان الأقرد
ما كان في وقت النبي مدقق .... منهم فيحتاج البيان لملحد
لكن علي قد أبان بنهجه .... هذي الدقائق فاستبنها واقصد
هو أوّل المتكلمين وقوله .... قبس كنار القابس المستوقد
فاتبع مقالته فإن شيوخنا .... أتباعه فيها أصبها تُرشد
ماذا أردت بانتقاص مشايخ .... هم أصلتوا في العلم كل مهند
لولا سيوف كلامهم وعلومهم .... لم ينتقض تاج الغواة الجحد
نقضوا به شبه الفلاسفة الأولى .... دانوا بأفلاك وقول أنكد
فنريهم القمر المنير من الهدى .... ويروننا وجه السها والفرقد
فهناك أمسينا بأحسن ليلةٍ .... وهناك قد باتوا بليلة أنقد
وأدلة التوحيد ليس شعاعها .... يخفى على من لم يكن بالأرمد
ولهم مسالك في العبارة بعضها .... يُشفى به قلب العليل المعمد
والبعض منها ليس بالمرضي في .... قول الهداة من النصاب الأحمد
ولنا من الماء السلاسل صفوه .... والآجن المنبوذ للمستورد
فاشرب من الماء الزلال ألذه .... ودع المدورة في شواطي المورد
وشكوتَ من ألم البغاة ولم تَجدْ .... ذا سؤدُد إلا أصيب بحسد
لا زلت يا سبط الكرام محسَّدا .... فالناقص المسكين غير محسد
وقد أوردتها إلى آخرها؛ لما تضمنته من النصح الصادق والمقال الرائق والإيضاح الجميل الفائق.
ومن الجدير الإشارة إلى أن شيخنا السيد العلامة الولي مجد الدين بن محمد المؤيدي ـ أيده الله تعالى ـ قد ذكر أن السيد العلامة محمد بن إبراهيم الوزير قد تراجع في آخر عمره عما اعتقده من العقائد المخالفة لما عليه أهل بيت النبوة ومعدن الرسالة، ولما احتواه كتابه (العواصم والقواصم) ومختصره (الروض الباسم) من المقالات الجدلية، وقد ترجم له في كتابه (التحف شرح الزلف) وال: (ومحمد بن إبراهيم الوزير، ومن مؤلفاته: (إيثار الحق على الخلق) وهو من أجل المؤلفات في التوحيد والعدل، والر على نفاة الحكمة، و(البرهان القاطع في معرفة الصانع) و(ترجيح أساليب القرآن على أساليب اليونان) و(حصر آيات الأحكام) و(العواصم والقواصم) ومختصره (الروض الباسم) وأكثر ما اشتمل عليه من الأقوال مما أثاره الجدال، وقد صح رجوعه من رواية الإمام الشهير محمد بن عبد الله الوزير، وصاحب (مطلع البدور) ـ يعني ابن أبي الرجال ـ والحمد لله، وما أحسن ما قال في آخر العواصم: (1/7)
ولكن عذري واضح وهو أنني .... من الخلق أخطي تارة وأصيب
وله (التفسير من الكلام النبوي) و(التحفة الصفية) شرح قصيدة أخيه الهادي التي مطلعها:
تقدم وعدكم فمتى الوفاء .... وطال بقاءكم فمتى اللقاء
وغير ذلك، توفي سنة 840ه).
وقد توسع ـ حفظه الله تعالى ـ في الكلام عنه ـ أيضاً ـ في كتابه (لوامع الأنوار).
هذا الكتاب
وقد يقول القائل طالما وقد صح رجوعه فما الفائدة من نشر هذا الكتاب، فأقول: إن الشبهات لا زالت قائمة، فلا بد من الجواب عنها، وقد كنت أرى أن يدمج هذا الكتاب مع رسالة الإمام علي بن محمد، ومع كتاب (الروض الباسم) لتكتمل حلقة النقاش، وتكون الصورة واضحة أمام القراء من جميع جوانبها، أرجو أن يكون ذلك مستقبلاً إن شاء الله تعالى.
عملي في الكتاب
1- دفعته إلى الكمبيوتر للصف.
2- تمت مقابلة المصفوف في جهاز الكمبيوتر على المخطوطة.
3- سلمت نسخة لنجل المؤلف العلامة محمد بن أحمد الهادي للمقابلة مرة أخرى، فقابله مشكوراً. (1/8)
4- قابلته مرة أخرى بعد مقابلة نجل المؤلف، وأدخلت عليه علامات الترقيم المتعارف عليها، كالقوس والفاصلة ...إلخ.
5- قمت بوضع عناوين مناسبة لكل قسم من أقسام الكتاب.
6- جعلت كل موضوع مستقل عن الآخر بوضع عنوان بارز يناسبه.
7- جعلت أمام كل كلام اسم صاحبه بين معكوفين، فإن كان الكلام للمؤلف وضعت هكذا [المؤلف] وإن كان الكلام لابن الوزير وضعت هكذا [ابن الوزير] وإن كان الكلام للإمام علي بن محمد بن أبي القاسم وضعت هكذا [الإمام] وذلك لغرض تمييز كلام كل واحد منهم، ولسهولة الرجوع إليه.
8- أشرت إلى أرقام بعض الصفحات في (الروض الباسم) التي نقل المؤلف بعض فقراتها للتعليق عليها.
9- قمت بتخريج الآيات القرآنية وذكرت رقم الآية واسم السورة.
10- قمت بتخريج الأحاديث تخريجاً يتناسب مع حجم الكتاب.
11- ترجمت لأهم الأعلام.
12- أدخلت في الهامش بعض التعليقات الضرورية.
13- وضعت هذه المقدمة التي بين يديك، واكتفيت بترجمة نجل المؤلف لوالده.
14- وضعت الفهارس المناسبة للآيات والأحاديث والموضوعات.
تنبيهات لا بد منها
1- بحثت كثيراً عن رسالة الإمام علي بن محمد بن أبي القاسم التي أجاب عنها ابن الوزير بـ)العواصم والقواصم) ومختصره (الروض الباسم) ولم أعثر عليها، وإنما اعتمدنا على ما نقله ابن الوزير في معرض رده عليه، وسيستمر البحث عنها ـ إن شاء الله تعالى ـ وفور الحصول عليها سنعمد إلى نشرها مع (الروض الباسم) و(العلم الواصم) وأرجو ممن وقف على رسالة الإمام علي بن محمد أن يزودنا بنسخة لهذا الغرض.
2- ذكر المؤلف كثيراً لفظة (المترسل) والمراد به الإمام علي بن محمد بن أبي القاسم محمد بن جعفر بن محمد بن الحسين بن جعفر بن الحسين بن أحمد بن يحيى بن عبد الله بن يحيى بن الإمام الناصر أحمد بن الإمام الهادي إلى الحق يحيى بن الحسين ـ رضوان الله عليهم ـ ويقصد بها صاحب الرسالة التي وجهها لابن الوزير فأجاب عنها بـ(العواصم والقواصم) المختصر في (الروض الباسم). (1/9)
ويعد الإمام علي بن محمد من أئمة العلم، له العديد من المؤلفات، منها (تجريد الكشاف) وصفه ابن أبي الرجال: (بالسيد العلامة المجتهد في العلوم، المجلي في حلبتها، المعروف بالفضائل، كان من المتكلمين بالعدل والتوحيد، وكان ملأ الصدور في زمانه، يفرغ إليه الناس ويعظمونه تعظيم الأئمة السابقين، وفتواه تدل على تبحر كثير).
وقال الإمام عز الدين بن الحسن عليه السلام: (إن أحسن التفاسير وأصحها تفسير السيد جمال الدين علي بن محمد بن أبي القاسم).
وقال السيد العلامة الشهير، الهادي بن إبراهيم الوزير واصفاً تفسيره: (لم يؤلف مثله قبله ولا بعده، جمع كل غريبة ومشكلة، وله في النحو (شرح على كافية ابن الحاجب) موسوم ب(البرود الصافية) اختصره ولده صلاح الدين في كتاب سماه (النجم الثاقب) كلاهما يحمل عظيم من النفع، اعتمدهما أهل الإقليم اليماني).
وقال السيد العلامة الولي مجد الدين المؤيدي ـ حفظه الله تعالى: (وكان السيد علي بن محمد بن أبي القاسم حريصاً على صيانة مذهب آل محمد، فمنع عن المخالطة لكتب غيرهم، وأمره بالكون في السفينة).
3- أكثر الشبهات التي رددها ابن الوزير، وتبعه المقبلي والجلال وابن الأمير وغيرهم، قد أجاب عنها العلامة الشهير محمد بن عبد الله الوزير في كتابه (فرائد اللآلئ) وكذلك شيخنا السيد العلامة الولي مجد الدين المؤيدي ـ حفظه الله تعالى ـ في كتابه (لوامع الأنوار) و(مجمع الفوائد) وغيرهما من كتبه ورسائله، وكذلك شيخنا السيد العلامة الولي بدر الدين بن أمير الدين الحوثي ـ حفظه الله تعالى ـ في كتابيه (تحرير الأفكار) و(الغارة السريعة) وأوردت ما يتعلق بالحديث وعلومه في كتابي (علوم الحديث عن الزيدية والمحدثين) فمن أراد التوسع رجع إلى ما ذكرت. (1/10)
وفي الأخير.. أتقدم بالشكر الجزيل للأستاذ العلامة عبد السلام عباس الوجيه، والأستاذ العلامة صبور عبد الرحمن الشامي، على ما بذلاه من جهد كبير معي في تصحيح الكتاب أثناء الطبع.
أسأل الله العلي القدير أن ينفع به وأن يثبتنا ويسدد خطانا، ويجعلنا من التابيعين لأهل البيت المطهرين عليهم السلام، المقتفين لآثارهم، وأن يوحد المسلمين تحت رايتهم، إنه على كل شيء قدير، وبالإجابة جدير.
وصلى الله وسلم على أفضل وأشرف الأنبياء والمرسلين، سيدنا محمد الأمين وعلى آله الطاهرين.
عبد الله بن حمود بن درهم العزي
اليمن - صعدة
[تقديم بقلم نجل المؤلف] (1/11)
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله الذي علم الإنسان ما لم يعلم، والصلاة والسلام على القائل: ((اللهم اجعل العلم في عقبي وعقب عقبي)) وعلى آله الذين أمرنا بالتمسك بهم من الضلال.
وبعد .. فإن السيد العلامة الفاضل الأستاذ عبد الله بن حمود بن درهم العزي حفظه الله وبارك فيه أرسل إلينا ملزمة من كتاب (العلم الواصم في الرد على هفوات الروض الباسم) لمؤلفه والدي المرحوم حجة الإسلام المفتي أحمد بن أمير المؤمنين الإمام الهادي الحسن بن يحيى بن علي القاسمي المؤيدي الضحياني وطلب أن أقابلها على الأصل وأصحح الخطأ وأن أضع ترجمة للمؤلف ـ رحمه الله ـ ومقدمة للكتاب، فأما الترجمة فقد كتبت سطوراً أشرت فيها إلى نسبه ومقروءاته وطلبته ومؤلفاته مع اعترافي بالتقصير.
أما المقدمة للكتاب فقد رأيت كثيراً من المقدمين للكتب يفعلون مقدمات يسهبون فيها كثيراً حتى مل القراء من قراءة المقدمات إلا أني أقول لأخي القارئ: إنك ستطلع على حوار ونقاش وجدال بين ثلاثة من جبال العلم، وأساطين الحِكم، ورؤساء الفكر، وأئمة النقاش والجدال من أهل بيت النبي المختار {ذُرِّيَّةً بَعْضُهَا مِنْ بَعْضٍ}[آل عمران:34] فما عليك إلا أن تجول بصحيح النظر بين رياض الأفكار، وعقول الأحرار، ونقاش الأعلام، وعبارات الأدباء، وإشارات الحلماء، وإلزامات الفصحاء.
فأولهم العلامة شيخ الإسلام علي بن محمد بن أبي القاسم محمد بن جعفر بن محمد بن الحسين بن جعفر بن الحسين بن أحمد بن يحيى بن عبد الله بن يحيى بن الإمام الناصر أحمد بن الإمام الهادي إلى الحق يحيى بن الحسين العالم الكبير، والمجتهد النحرير، قرأ على مشائخ العلم الكبار، وله مؤلفات وفتاوى كثيرة وتفسير عظيم وجمع غفير من التلاميذ، ولما استنكر من أحد تلاميذه شطحات غير لائقة من مثله علما وحلماً وأدباً أرسل إليه رسالة بيّن فيها غلطاته من باب النصيحة والشفقة.
أما من هو هذا التلميذ فهو السيد العلامة والحبر الفهامة إمام المعقول والمنقول محمد بن إبراهيم الوزير.
والذي هو الرجل الثاني قام بالرد على شيخه شيخ الإسلام علي بن محمد بن القاسم بتأليف (الروض الباسم في الذب عن سنة أبي القاسم) وكأنه تطاول فيه على شيخه مما أثار الرجل الثالث وهو العلامة النحرير والمفتي الكبير حجة الإسلام أحمد بن أمير المؤمنين الهادي لدين الله رب العالمين الحسن بن يحيى بن علي القاسمي المؤيدي اليحيوي الضحياني مؤلف هذا الكتاب الذي بين يديك الموسوم ب(العلم الواصم في الرد على هفوات الروض الباسم) قصد بذلك انتصاراً لشيخ ابن الوزير هذا. (1/12)
وأما رسالة هذا الشيخ إلى تلميذه ابن الوزير فلم نعثر على صورة منها ولا على اسمها ولا تاريخ إنشائها إلا ما أثبته الإمام محمد بن إبراهيم الوزير في مؤلفه (الروض الباسم) منها، وكنا نود العثور عليها، أما (الروض الباسم) فهو بين أيدينا.
والخلاصة أن الذي أثار الخلاف بين الشيخ وتلميذه ابن الوزير هي الآثار التي رويت في كتابي (البخاري) و (مسلم) هل رواتها ثقات فيعمل بها ويستدل بها أم غير ذلك؟
فالشيخ يقول: هذه الآثار رواتها غير موثوقين لأنهم وأكثرهم من المجسمة والمشبهة والجبرية والمرجئة وهؤلاء عندنا كفار تأويل وفساق تأويل، ومن هذه حاله فأقل أحواله أنه متهم في دينه، والمتهم لا تقبل روايته.
وأما العلامة ابن الوزير فأجاب على شيخه بأن أصل الأدلة الكتاب والسنة وأن هذه التهمة لأهل الحديث تعطل أحد الدليلين وهي السنة وأن لولا محافظة أهل الحديث على السنة وتنقيتها من الشوائب وما قاموا به من الجرح والتعديل وتبيين الحسن من المعتل وغير ذلك لضاعت السنة وانتشرت البدعة، ولقال كل بما يريد، ولكن فرسان هذا الشأن وأبطال هذا الميدان من أهل الحديث أوقفوا كلاً عند حده، وقال: إن أهل الكلام من المعتزلة والزيدية عالة على أهل السنة لا يعرفون طريقة أهل الحديث وليس لهم كتب في الجرح والتعديل والعلل ونحو ذلك وما أراد إلا الذب على السنة وأهلها فقط.
فأجاب مؤلف هذا الكتاب (العلم الواصم) على ابن الوزير بأنما ادعى لأهل الحديث في الفضل بحفظ السنة وأن لولاهم لضاعت السنة فغير مسلم، اللهم إلا سنة معاوية وشيعته قديماً وحديثاً، فصحيح وأما سنة رسول الله÷ فهي موجودة محفوظة من طريق أهل بيت رسول الله÷ الذي أمرنا الله ورسوله باتباعهم والاقتداء بهم، وأنهم الثقل الأصغر وأنهم الأمان للأمة من الضلال والهوان، وهذه كتبهم والحمد لله تنادي بذلك على ظهر البسيطة، وهم الذين كافحوا وناضلوا عن السنة باللسان وبالسيف والسنان والقلم حتى قتلوا في كل سهل وجبل، وشردوا في الآفاق؛ لأنهم لم يكونوا من أعوان الظلمة وأنصارهم، ولا من شيعة الطلقاء وأنصارهم؟! (1/13)
وعلى ما ذكرنا جرى بينهم السجال وكثر بينهم التفاني والجدال، وإنما أردت الإشارة إلى الموضوع وإلا فالحكم للقاري إن تأمل وأمعن النظر ولم يختلط عليه كلام المترسل بجواب ابن الوزير برد المؤلف فالفرق في بعض المباحث لا يدرك إلا بتأمل ودقة، ولعمري إن من تمسك بعترة رسول الله وحمى حماهم وجادل وناضل عنهم فقد استبرأ لدينه فنجا من الضلال وأمن من الهلاك وسلك سبيل الرشد والأمان، وإن المحاجج والمجادل عن الذين يختانون أنفسهم الذين لم يسلموا ولكن استسلموا، أعداء أهل بيت الرسالة، والخائنين في العهود والأمانة، الناكثين والمارقين والقاسطين قصير باعه وإن تطاول، هين دليله وإن تظاهر، مدحوضة حجته، مخذولة نصرته، ولا يغرنك الكثرة، فقد مدح الله القلة، {وَمَا آمَنَ مَعَهُ إِلاَّ قَلِيلٌ}[هود:40]، وذم الكثير: {وَمَا أَكْثَرُ النَّاسِ وَلَوْ حَرَصْتَ بِمُؤْمِنِينَ}[يوسف:103] .
وإننا نرى أهل بيت رسول الله على قلتهم وشيعتهم اجتمع عليهم أكثر المسلمين من عند الطلقاء وأبناء الطلقاء الناكثين والمارقين والقاسطين إلى هذا اليوم بكل قواهم من عدة وعديد وأموال وحصون وسلاح وخيل ورجل وغير ذلك، ولم يستطيعوا أن يطفئوا نور الله، ولا يغيروا شريعة الله، ولا يكتموا سنة رسول الله÷، رغم أن الناس مع الدنيا والملوك إلا من عصم الله. (1/14)
هذا والموضوع حري بالتأمل وجدير بالبحث والنقاش {لِيَهْلِكَ مَنْ هَلَكَ عَنْ بَيِّنَةٍ وَيَحْيَا مَنْ حَيَّ عَنْ بَيِّنَةٍ وَإِنَّ اللَّهَ لَسَمِيعٌ عَلِيمٌ}[الأنفال:42] وقبل الانتهاء أنبه على أشياء:
أولاً: أن العلامة محمد بن إبراهيم الوزير سني المذهب وشيخه المترسل عليه والمؤلف زيديي المذهب، والقاعدة الأصولية الحقة أن الخصم لا يستدل على خصمه بما يرويه أهل نحلته؛ لأنه من باب استدلال الخصم على بدعته بمذهبه وبشهادته وهذا هو الحيف نفسه، لكن الحق أن أهل السنة يستدلون على الزيدية من كتبهم، والعكس كما فعله المترسل والمؤلف واستدلا به على ابن الوزير، فتنبه لهذه فإنها مهمة!
ثانياً: أن الخمسة أهل الكساء حجة فيما قالوا بحسب الكتاب والسنة المتواترة، وكذلك كبار أهل البيت عدول بتعديل رسول الله لهم؛ لأنه أمرنا باتباعهم، وكذلك إجماع أهل البيت حجة، فافهم هذه القواعد لتكون على بصيرة.
ثالثاً: أن الزيدية ليسوا بمقلدين إن اتبعوا أهل بيت النبوة، بل مأمورون بذلك، قال تعالى: {قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ}[آل عمران:31] والرسول÷ يقول: ((إني تارك فيكم ما إن تمسكتم به لن تضلوا من بعدي أبداً كتاب الله، وعترتي أهل بيتي...)) الحديث، رواه أهل دواوين الإسلام، فنحن مأمورون بالتمسك بهم كالتمسك بالكتاب فافهم هذا.
وقد أبلغنا الجهد في المقابلة والإصلاح، نرجو الله أن يوفق الجميع، ويجعل الأعمال خالصة لوجهه الكريم إنه على كل شيء قدير، وصلى الله على سيدنا محمد وعلى آله وسلم تسليماً كثيراً.
حرر بجامع الرضوان بضحيان، 8/ ربيع آخر/ 1422ه.
كتبه الفقير إلى الله
محمد بن أحمد حسن الهادي
وفقه الله
ترجمة للوالد شيخ الإسلام أحمد بن الإمام الهادي ـ رحمه الله (1/15)
نسبه عليه السلام
هو السيد العلامة شيخ الإسلام ونبراس العلماء الأعلام، إمام كل فضيلة، والمرجع لحل كل مشكلة، المجتهد المطلق، والمفتي الأكبر، ذو التصانيف الفائقة، والعلوم الزاخرة، والأنظار الدقيقة، والأقوال السديدة الواسعة، إمام معقولها والمنقول، صفي الإسلام، أحمد بن أمير المؤمنين الهادي لدين الله رب العالمين الحسن بن يحيى بن علي القاسمي المؤيدي الضحياني بن أحمد بن علي بن قاسم بن حسن بن علي بن محمد بن أحمد بن الحسن بن زيد بن محمد بن القاسم بن الإمام علي بن المؤيد بن جبريل بن المؤيد بن أحمد بن يحيى بن أحمد بن يحيى بن يحيى الناصر بن الحسن بن عبد الله بن المنتصر محمد بن المختار القاسم بن الناصر أحمد بن الهادي إلى الحق يحيى بن الحسين بن القاسم بن إبراهيم".
مولده (1/16)
ولد بهجرة ضحيان في شهر ربيع أول سنة 1310 عشر وثلاثمائة وألف للهجرة وتربى في حجر والده الإمام التربية الشريفة الطاهرة فقرأ عليه وارتوى من معينه الفياض، ورشف من بحر علمه الزاخر، وشارك في القراءة عليه أخوه العالم الرباني حجة الإسلام والمسلمين عبد الله بن الإمام حيث قال وهو يترجم لأخيه أحمد: أحمد بن أمير المؤمنين الحسن بن يحيى القاسمي، ولد في ربيع أول سنة 1310 عشر وثلاثمائة وألف بهجرة ضحيان، نشأ في حجر أبيه وقرأ القرآن، ثم في فنون العلم وبرع في ذلك، سمع من أمير المؤمنين والدنا ـ رضوان الله عليه ـ : (المسائل النافعة) و (الكافي) و العروض، وشاركني في الفروع والأصولين، والنحو، والصرف، والمعاني والبيان، والتفسير، والحديث، وغير ذلك.
وبرع في العلوم حتى صار متفنناً مرجعاً ماهراً مجتهداً له شرح على (التحفة العلوية) لمحمد بن إسماعيل الأمير، وله موضوع في علم الكلام وشرحه، وله تأليف فيما اختاره من مسائل الفروع سماه (مشارق الأنوار) نقد فيه الأدلة، وله (الجوابات المفيدة) وديوان في الشعر وغير ذلك، أجازه القاضي أحمد بن عبد الله الجنداري إجازة عامة، وقد أجازني بتلك الإجازة ـ كافأه الله عني ـ وهو الآن مكب على مطالعة العلوم، وقائم بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، ومجيب للشريعة المحمدية ـ أيده الله ـ ومنتفع به، انتهى كلامه ـ رحمه الله.
قوله: (أجازه الجنداري)، نعم كان ذلك عندما سافر المترجم له إلى المتوكل إلى السودة وصالح بينه وبين والده وستطلع على بعض من تلك القصة في هذه الترجمة.
مؤلفاته (1/17)
في الفقه: له (مشارق الأنوار المنتزعة من البحر الزخار) من أول (باب الطهارة) إلى آخر (السير) اختارها لنفسه ولمن عمل بها، أتى فيها بالعجب العجاب، وبيّن فيها الحجة من السنة والكتاب، وإن خالف بعض الآباء والأجداد.
أصول الدين: وله في أصول الدين (تذكرة الأفهام) جمع فيها أغلب الأقوال، وشرحهاً شرحاً مفيداً، فنّد فيه أقوال الخارجين عن الطريقة، والمتنكبين عن المحجة المنيرة أقوال أهل بيت الرسالة ومعدن الوحي والأمانة، وله أيضاً قصيدة في أصول الدين وشرحها، إلا أنها لم تكمل، وله مباحث كثيرة في الاستواء والرؤية والصفات، وغير ذلك.
علم الرجال: وله في علم الرجال مؤلف ترجم فيه لمجموعة كبيرة من محدثي رجال الزيدية جمع فيه الكثير الطيب، وله ـ رحمه الله ـ جواب على (منهاج السنة) لابن تيمية الحراني، أبان فيه خطأ ابن تيمية في الدين، والبغض لأمير المؤمنين علي بن أبي طالب ـ كرم الله ـ وفنّد شبهه وأنهاها، وهجن مزاعمه وأفناها، ثم أورد عليه الآيات والأحاديث النيرات والواضحات حتى رد كيده في نحره من باب ((وأنصر من نصره، واخذل من خذله)).
وله ـ رحمه الله ـ مؤلف سماه (المنهل السمعي فيما ورد من الأدلة على الطلاق البدعي) بحث مهم وخطير، دار النقاش في هذا الموضوع بينه وبين أخيه شيخ الإسلام وقطب السادة الأعلام عبد الله بن الإمام ـ رحمه الله ـ تعالى، كل منهما أبدى رأيه وأدلته وأجاب عن أدلة الآخر {ذُرِّيَّةً بَعْضُهَا مِنْ بَعْضٍ وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ}[آل عمران:34] وقد حوى هذا البحث الكثير من الفوائد والدقائق، والدرر والفرائد، ومن العمومات والتخصصات، والمطلقات والمقيدات، والمنطوقات والمفهومات، وغير ذلك من الفوائد الكثير الطيب. (1/18)
وله ـ رحمه الله ـ مختارات في أصول الفقه رأيتها بخطه، ولم تعز لأحد أحسب أنها مختاراته؛ لأني وجدته كثيراً ما يبني اختياراته بالفروع عليها ـ رحمه الله ـ .وله ـ رحمه الله ـ هذا الذي نقدم له وهو (العلم الواصم في الرد على هفوات الروض الباسم) وهو الكتاب الوحيد في مغزاه، يحمل في طياته مناقشة لثلاثة من جبال العلم والحلم والفكر، فما على المطلع إلا أن يسرح النظر فيما قيل ويقال، ويوزن ذلك بميزان القسط والاعتدال.
وله رسائل وجوابات كثيرة منها: رسالة (جواب على العلامة سالم بن سالم عمر ـ رحمه الله) استدل فيها على عدم وجوب صلاة الجماعة، وفيها فوائد كثيرة، وأخرى استدل فيها على عدم وجوب الفاتحة في الصلاة، وقال: ((إنما الواجب قراءة شيء من القرآن)).
وله ـ رحمه الله ـ (رسالة في جواز الجمع بين الصلاتين).
وله ـ رحمه الله ـ ديوان في الشعر، إلا أن الأيدي الحاسدة قضت عليه أيام العزاء.
وله ـ رحمه الله ـ أكثر من ثلاثمائة جواب سؤال في شتى أنواع العلم، كيف وهو الشامة في بني الحسن علماً وحلماً وذكاءً وفهماً، ولولا ما بلي به من الحروب والصراع بين والده الإمام الهادي وبين المتوكل يحيى حميد الدين، والذي استمر سبع سنوات، ثم لجأ مع والده إلى بلاد عسير، واستوطن وأقام بالحرجة نحواً من ثلاث سنوات، ثم عاد مع والده إلى باقم، وعادت المشكلة بين والده والمتوكل، إلا أنه لما عرف هو وأخوه الأكبر عبد الله بن الإمام أن والدهم لا يتنازل عن الإمامة حسب مذهبه، وأنه لا يخرج من اليمن مرة ثانية لكبر سنه، ولما معه من العول الكبير، وخوفاً على أولاده وأقاربه من الضياع، وأن أنصاره قد تعبوا وضللتهم الدنيا، عزم على القيام بالإصلاح بين والده وبين المتوكل يحيى حميد الدين وإن كان فيه حتفه مع سلامة والده وإخوانه وعائلتهم الكبيرة فهو راض به في سبيل الله، ثم توكل على الله وعزم إلى عند المتوكل إلى السودة وبقي عنده شهرين، ونجح في الإصلاح بينهما، على أن والده يستمر في باقم وينشر العلم ولا يتنازل من إمامته ولا يعارض الأوامر وهو آمن وذريته وأصحابه وطلبته ومن وصل إليه أو زاره، ثم عاد من السودة بالأمان المذكور فوصل إلى ضحيان وتلقاه أخوه واستر سروراً عظيماً بما حصل، إلا أن الوشاة وأهل المصالح كانوا قد أوشوا به عند والده أنه قد باعه من المتوكل وقد نازله من الإمامة، فلما وصل إلى والده وأخبره بما حصل وأنه باقٍ على إمامته وله نشر العلم الشريف وإقامة الجمعة والجماعة في مسجده، وأنه آمن وأولاده وطلبته وكل من وصل إليه، وأنه لم يفعل هذا الصلح إلا بعد أن تحقق أنه لم يبق معه أنصار فقد أخذوهم بالمال وغيره، كما قال الفرزدق للحسين%: ((قلوبهم معك وسيوفهم عليك)) فرضي والده، فكانت هذه منقبة كبيرة ومكرمة عظيمة أمن فيها والده وإخوته وطلبتهم ومن هو عائد إليهم وسكن الدهماء ونشر بسببها العلم الشريف، فقد بلغت حلقات والده (1/19)
العلمية كل حلقة خمسة وثلاثين طالباً في جميع فنون العلم حتى نعش العلم في باقم، ووصل إليه من جميع أنحاء اليمن، واستمر الإمام على ذلك نحو من عشر سنوات كان الخير في ذلك كله. (1/20)
ومن ذلك أن الإمام تفرغ من المشاكل، ونشر العلم، وأشرف على تربية أولاده تربية حسنة وعلى تدريسهم الدروس النافعة الخالصة، حتى أصبح التسعة الأولاد من العلماء الأعلام الأكابر المجتهدين، وإن تفاوتوا في درجات الاجتهاد كل ذلك مع دين وزهد وورع وعفة وأمر بمعروف ونهي عن المنكر.
وكم وكم من خير وقع بسبب هذا الصلح المبارك، ولا زال آل الهادي ذرية الإمام من حينذاك في لواء صعدة إلى اليوم في أمن وأمان، ورغد عيش واطمئنان، ونشر للعلم، والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وقد أفاد المترجم له في سبيل ذلك الصلح حتى تم له ويلات المشاق، وأشرف على الهلاك مرات ومرات، ولولا لطف الله به وحلمه وصبره وحسن أخلاقه لفشل، وكان يكفيه ما لاقى من التعنت والجدال والنقاش مع علماء ووزراء المتوكل في السودة، وعلى رأسهم العلامة الكبير أحمد بن عبد الله الجنداري في اليوم الواحد مجلس أو مجلسان للنقاش، ولولا عون الله ونصره لما تغلب عليهم ولم يغلب لمدة شهرين غير مرة واحدة؛ لأنه ـ رحمه الله ـ كان عالم اللسان والقلم شغله في المذاكرة، لا يكاد ينسى شيئاً دَرَسَه أو دَرَّسَه، آية من آيات الله {اللَّهُ أَعْلَمُ حَيْثُ يَجْعَلُ رِسَالَتَهُ}[الأنعام:124] جزاه الله عنا وعن والده وأقاربه خير الجزاء، ورفع له درجاته العلي.
وقد حصل أيضاً على تفويض من المتوكل يحيى في الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر في لواء صعدة، فكان ـ رحمه الله ـ كهفاً للمساكين، وملجأ للمظلومين، ومرجعاً للأحكام والفتيا.
هذا وكان ممن يشجع طلبة العلم ويفدون إليه، وله جم غفير من التلاميذ نذكر منهم نبذة ممن تخرج على يديه وهم:
العلامة العابد صلاح بن الإمام الهادي ـ رحمه الله، والعلامة العابد يحيى بن محمد بن الإمام الهادي ـ رحمه الله، والعلامة العابد علي بن أحمد بن الإمام الهادي نجل المترجم له، والعلامة العابد عز الدين بن محمد القاسمي، والعلامة العابد محمد بن قاسم الهادي، وعبد اللطيف بن محمد الهادي، ومحسن بن علي الأعجم، وإبراهيم بن محمد الهادي، وعبد الكريم بن أحمد الهادي نجل المترجم له، ومضر بن يحيى حبيش، وأحمد بن حسن الحوثي، ومحمد بن أحمد الأمير، وحسين بن عبد العظيم الهادي، وحسن بن عز الدين عدلان، ومحمد بن محمد الهادي، وسراج الدين عدلان، وحسين بن محمد الأعجم، وأحمد بن محمد الأعجم، وعبد الله بن أحمد بن محمد القاسمي، ويحيى حسين صلاح، ومعوض بن معوض المجمعي، وأحمد نور الدين. (1/21)
هؤلاء بعض تلامذته وكان له ـ رحمه الله ـ أوراد ليلية سحرية، ويحيطها بسرية بالغة، وله كرامات كثيرة في حياته وبعد مماته، أخبرني بها من أثق به من العلماء الأفاضل تركتها اختصاراً، وإن كان معرفتها مما يزيد المؤمن رغبة في مواصلة العمل {يُثَبِّتُ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا بِالْقَوْلِ الثَّابِتِ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الآخِرَةِ}[إبراهيم:27].
هذا وأما ولده الثالث العلامة قاسم بن أحمد والفقير إلى الله فلم نقرأ عليه إلا بعضاً من القرآن، ثم انتقل إلى جوار ربه في الثامن والعشرين من شهر رمضان المبارك سنة 1375هـ، وقبر في شامي مقبرة ضحيان عند إخوانه، وقبره مشهور مزور، وعليه لوح كتب فيه نسبه، وكتب فيه ما يلي:
سألت رسوم القبر عمن ثوى به .... ليعلم ما لاقى وقالت جوانبه
أتسأل عمن عاش بعد وفاته .... بإحسانه إخوانه وأقاربه
رحمه الله رحمة الأبرار، وأسكنه جنات تجري من تحتها الأنهار، وألحقه بآبائه وأجداده في خير مقام، وصلى الله على سيدنا محمد وآله وسلم تسليماً كثيراً، والحمد لله رب العالمين.
حرر 10 ربيع الآخر 1422ه.
ولد المترجم له الفقير إلى الله
محمد بن أحمد بن حسن الهادي
غفر الله له ولوالديه آمين
[مقدمة المؤلف] (1/22)
بسم الله الرحمن الرحيم
وبه نستعين ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم
الحمد لله الذي خلق الخلق مبتدعاً على غير مثال، وأحكم صنعته ونفذ مراده، وقدر الأقوات والآجال، أحمده سبحانه على ما أسدى إلينا من النعم الجسام، وفضلنا بالعقل لننظر به نجاتنا عن ما عجزت عنه الأنعام، وأصلي وأسلم على المبعوث رحمة للأنام، سيدنا محمد وعلى آله المطهرين من الرجس والآثام، القائل فيهم ذو الجلال والإكرام: {إِنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيُذْهِبَ عَنْكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيرًا}[الأحزاب:33] ولما سبق في علم الله تهاتر أولي الأهواء آي القرآن إلى أهوائهم، قال تعالى: {لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إِلَيْهِمْ}[النحل:44]، فبين لنا المصطفى صلى الله عليه وآله بما ينفي الريب عن كل ممتحن للإيمان، وأبرز المعاني لكل ملهوف وإلى الحق ولهان، فجمع الأربعة معه تحت الكساء، ثم تلا الآية: {إِنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيُذْهِبَ عَنْكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيرًا}[الأحزاب:33] أخرجه أبو طالب عن أم سلمة.
وأخرج في (المحيط) عن أبي سعيد قال: نزلت هذه{ إِنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ...} في نبي الله صلى الله عليه وآله وعلي وفاطمة والحسن والحسين" فجللهم بكساء وقال: ((اللهم هؤلاء أهل بيتي فأذهب عنهم الرجس وطهرهم تطهيراً)) وأخرجه أيضاً عن أم سلمة، وأخرجه مسلم عن عائشة، والترمذي عن أم سلمة، وأخرج عن أنس أيضاً قال: كان رسول الله صلى الله عليه وآله حين نزلت هذه يمر بباب فاطمة إذا خرج إلى الصلاة يقول: ((الصلاة أهل البيت { إِنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ...})) الآية، وأخرج خبر أنس الحاكم الحسكاني، وأخرجه عن أبي سعيد وعن أبي الحمراء خادم رسول الله صلى الله عليه وآله من طرق عديدة بالمعنى وأكثر اللفظ، وأخرج بإسناده من طريقين إلى البراء بن عازب قال: جاء علي وفاطمة والحسن والحسين إلى باب النبي صلى الله عليه وآله فخرج النبي صلى الله عليه وآله فمال بردائه وطرحه عليهم وقال: ((اللهم هؤلاء عترتي))، وأخرج معناه عن جابر، وأخرج خبر الكساء أيضاً عن جابر وذكر الآية، وأخرج خبر الكساء بسنده عن الحسن السبط عليه السلام وأخرج خطبة الحسن التي ذكر فيها خبر الكساء من ثلاث طرق، وأخرجه عن سعد بن أبي وقاص من ثلاث طرق أحدها خبر طويل فيه فضائل أخرى لعلي عليه السلام ورواه أيضاً مسلم في صحيحه والترمذي، وروى الحاكم في شواهد التنزيل أيضاً من طرق كثيرة عن أبي سعيد خبر الكساء وقد روي عن ابن عباس من طرق، وعن عبد الله بن جعفر الطيار، وقد روي عن عائشة من طرق، وعن واثلة بن الأسقع من طرق أخرج أحمد بن حنبل أحدها، وأخرجه أبو بكر بن أبي شيبة عن الأوزاعي، وفي شواهد التنزيل من طريقين عن فاطمة الزهراء+، وعن أم سلمة من فوق خمسين طريقاً، ورواه الحاكم بن كرامة في (تنبيه الغافلين) من طرق عن أبي سعيد وأم سلمة وعائشة، وروى الزرندي الشافعي عن أبي سعيد وأم سلمة وأبي الحمراء بطرق متعددة أن هذه الآية نزلت في الخمسة، ومثله في كتاب (أسباب نزول (1/23)
القرآن) للواحدي عن أبي سعيد وأم سلمة، وفي (مجمع الزوائد) للهيثمي مثله وقال: رواه الطبراني، وروي في شفاء القاضي عياض نحوه، وفي (ذخائر العقبى) مثله بطرق متعددة، وأخرجه الترمذي من طريق عمر بن أبي سلمة وقال في حديث أم سلمة: حسن صحيح، وأخرجه الدولابي، وأخرج حديث واثلة أحمد وأبو حاتم، وحديث عائشة مسلم، وحديث أبي سعيد أحمد والطبراني، وفي كتاب (المصابيح) للبغوي عن سعد وعائشة، وأخرجه المرشد بالله عن واثلة وعمر بن أبي سلمة، ورواه المنصور بالله عليه السلام بطرقه، ورواه شهر بن حوشب من ثلاث طرق عن أم سلمة، ورواه البخاري والحميدي عن عائشة، وروى أبو داود ومالك خبر مرور النبي صلى الله عليه وآله بباب فاطمة إذا خرج إلى صلاة الفجر حين نزلت هذه الآية، ورواه ابن البطريق في (العمدة) من كتب العامة بطرق واسعة، ورواه الكنجي الشافعي من طرق عن زينب وأم سلمة وعائشة وأبي سعيد وأبي الحمراء بألفاظ مختلفة والمعنى واحد. (1/24)
إذا تحقق عندك تواتر المعنى من تعدد الطرق فأنت الحكم، أيحكم فيهم وفي دين الله من لا يساويهم في الرتب ولا يدانيهم في الورع والزهد وخصوص الحب بالله؟!!
أما صفى عندك مشربهم؟ ولا استنار لك هديهم؟ حتى ملت عنه ورجحت كلام غيرهم!!
لقد رابني منك التعنت والهوى .... وتقريض أعداء الوصي وابنه الحسن
وتعديل من أردى الحسين بكربلاء .... وصدك عما في هداهم من السنن
فلا تحسبني واثقاً بقريضكم .... ولا جاهلا أن القريض من المحن
هلم دليل الحق إن كنت واجداً .... وإلا فدن أن القريض من الفتن
هجيرك جرح المؤمنين وذمهم .... وعروتكم أضحت من العهن والقطن
وذميتم أهل الكلام لعجزكم .... عن الغاية القصوى مضاعفة المؤن
وهل بسهام العجز ترموا خصومكم .... وما نيرات الحق يذهبن بالعشن؟
إذا قلت: قال المصطفى وابن عمه .... وعترته الأطهار بالنص فاسمعن
تعارضني بابن المديني وشعبةٍ .... وبابن معينٍ وابن خضراوة الدمن (1/25)
نواصب من أهل الشأم وغيرهم .... من الأشعرين البله من حمير اليمن
وقلتم: بأن الله ليس بقادر .... بأن يخلق القرآن هذا من الوسن
ولفظى به قلتم قديم وقدرتى .... مخلوقة هذا هو الخلف فاعلمن
ومن قال: مخلوق فقد صار كافراً .... لديكم ومجروحاً وليس بمؤتمن
وقلتم: أحاط اللَّهَ عرشُه فاستوى .... عليه وخلى الكون من غابر الزمن
أحطتمُ علما بالإله كذبتمُ .... وقلتم: بلا كيف فكيف بكيف من؟!
وقلتم: تروه بالعيون وإنما .... يرى الجسم أو فرعه حين يستكن
وأثبتمُ وجهاً وأيد كثيرة .... بجنب وإبصار أما ذاكمُ اللكن
وقلنا لكم: آي الكتاب بليغة .... على سنن العربا ذوي القول والفطن
فدونكم باب المجاز فإنه .... هو الغاية القصوى لدى الخاطب اللسن
قصاراكم إن تنتهوا عند سمعه .... إلى العرب الفصحا إلى واصف الدمن
إلى قرنا القرآن آل محمد .... سفينة نوح والبراء من الوهن
هم [العروة] الوثقى لمعتصم بها .... فهديهمُ يجلى به الهم والحزن
وسيأتي الكلام المشار إليه مفصلاً.
فأما قوله في أهل البيت": ((أنهم قرناء القرآن وسفينة نوح)) فذلك إشارة إلى ما رواه المؤيد بالله عليه السلام بسنده عن النبي ـ صلى الله عليه وآله ـ قال: ((إني تارك فيكم الثقلين، ما إن تمسكتم بهما لن تضلوا من بعدي أبداً، كتاب الله وعترتي، ألا وإنهما لن يفترقا حتى يردا عليّ الحوض)).
وفي رواية أبي عبد الله الجرجاني: ((إني تارك فيكم الثقلين، كتاب الله، وعترتي أهل بيتي...)) إلى آخره.
وفي (الجامع الكافي): ((إني تارك فيكم الثقلين، كتاب الله، وعترتي أهل بيتي، ولن يفترقا حتى يردا عليّ الحوض)). قال: وهذا خبر مشهور.
ورواه في صحيفة علي بن موسى الرضا، ورواه في أمالي المرشد بالله عن زيد بن أرقم مرفوعاً من طريقين، ورواه الناصر الأطروش عن أبي سعيد مرفوعاً وعن زيد بن ثابت، وأخرجه مسلم، وفي (الجامع الصغير) عن زيد بن أرقم، وأخرجه عبد بن حميد وابن حنبل في مسنده، وأخرجه الحاكم من ثلاث طرق، ورواه السمهودي عن جابر وعن حذيفة وقال: أخرجه الطبراني وابن عقدة والضياء في (المختارة) وأبو نعيم في (الحلية) وأخرجه البزار وأشار إليه الترمذي، ورواه ابن المغازلي، وقد روي من طرق عديدة لدى الفريقين فلم يبق للمعاند إلا مجرد التعسف والمين، والمعنى ظاهر البرهان، قوي الأركان، مُعَرّف البيان، لا تخفى دلالته على إنسان، تنشرح له الأذهان، وتداوى بريه من كدر الأحزان، وتدحض به قوام مهاوي الشيطان. (1/26)
وقال صلى الله عليه وآله : ((مثل أهل بيتي فيكم كمثل سفينة نوح من ركبها نجا ومن تخلف عنها هلك)) أخرجه الحاكم في المستدرك، وفي رواية أبي عبد الله الجرجاني: ((ومن تخلف عنها غرق)).
قال الإمام القاسم: ((وهذا الخبر مجمع على صحته عند علماء الآل وشيعتهم)) وفي (منهاج القرشي): أنه متلقى بالقبول، ورواه الهادي في (الأحكام)، ورواه علي بن موسى، وفي روايته: ((ومن تخلف عنها زج في النار)). وفي نهاية ابن الأثير كذلك لكن لم يذكر: ((من ركبها نجا))، ورواه الإمام أبو طالب والمرشد بالله بسندهما، ورواه في مناقب ابن المغازلي بسنده إلى ابن عباس، وأخرجه عن أبي سلمة بن الأكوع وعن أبي ذر وعن ابن عباس وعن أبي ذر من طريقين أخريين، ورواه في (ذخائر العقبى) عن أبي ذر قال: وأخرجه الحاكم من طريقين عن أبي إسحاق، قال: وكذا هو عند أبي يعلى في مسنده، وأخرجه الطبراني في (الصغير) و (الأوسط) من طريق الأعمش، ورواه في (الأوسط) أيضاً من طريق الحسن بن عمر، وأخرجه أبو نعيم عن أبي إسحاق ومن طريق سماك، وأخرج البزار نحوه، وأخرجه ابن المغازلي ـ أيضاً ـ عن عبد الله بن الزبير عن النبي صلى الله عليه وآله ، ورواه في (الجامع الصغير)، ورواه في كتاب (الجواهر) للشفيقي عن ابن عباس قال: أخرجه الملا في سيرته، ورواه أيضاً عن علي عليه السلام بلفظ: ((ومن تخلف عنها زج في النار، ومن تعلق بها فاز)) قال: أخرجه ابن السري، ورواه الحاكم الجشمي في (تنبيه الغافلين). (1/27)
ورواه أيضاً المحب الطبري مما يطول شرحه ويمل سامعه، وله شاهد من كتاب الله سبحانه: {قُلْ لاَ أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْرًا إِلاَّ الْمَوَدَّةَ فِي الْقُرْبَى}[الشورى:23] والمودة هي المحبة، والمحبة هي الاتباع قال تعالى: {قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ}[آل عمران:31] والمأمور بمودتهم هم أهل الكساء.
روى المرشد بالله بسنده إلى ابن عباس من طريقين قال: لما نزلت قالوا: يا رسول الله، ومن قرابتك الذين وجبت علينا مودتهم؟ قال: ((علي وفاطمة وابناهما)).
وذكره في (الكشاف) في تفسير هذه الآية، وفي كتاب (شواهد التنزيل) مسنداً من نحو ثمان طرق إلى ابن عباس، وأخرجه أحمد بن حنبل والثعلبي في تفسيره وابن المغازلي في مناقبه، وأخرجه في (شواهد التنزيل) عن أمير المؤمنين عليه السلام وأنس وأبي أمامة، ورواه في الصحيحين البخاري ومسلم، ومثله روى رزين من (الجمع بين الصحاح)، ورواه في (درر السمطين) عن علي عليه السلام وفي كتاب (تنبيه الغافلين) عن ابن عباس، وأخرجه الطبراني في الكبير. (1/28)
وله شواهد كثيرة في محبتهم ليس هذا محل جمعها فمن تأملها خالياً خلده من سقم الهوى والعصبية متحرياً طلب النجاة من مهاوي الأهواء الردية، متمسكاً لدينه بالحجج القوية، والطرق المتعددة من مرويات أهل الإسلام ومدوناتهم الأزهرية، علم أنهم العروة الوثقى، والسفينة من الغرق والنجا، وفهم أن إجماعهم هو الحجة العظمى، وأن هديهم هو المحجة البيضاء، وأن الإمامة فيهم إلى آخر الزمان، وأنهم أمان أهل الأرض في كل عصر وأوان بشهادة الكتاب العزيز، وسنة برزت بروز الإبريز، فعليك أيها الطالب باقتفاء آثارهم، والاهتداء بهديهم، ودع أقوال الناس العاطلة عن الهدى، والركيكة الأساس، فلا تسوي أقوال الرجال مع المرسل من ذي الجلال ولله القائل:
دعوا كل قول غير قول محمد .... فعند بزوغ الشمس ينطمس النجم
أما بعد ..
فطالما تحريت الرشاد، وتتبعت معالم العلماء النقاد من أيام ابتداء الطلب، متوخياً النجاة، خائفاً من مزالق العطب، إلى أن قاربت الأربعين، وشابت القذال، وضعف الفهم، فلا أتذكر إلا بعد حين، أشرت في أثناء المحاروة بيني وبين أحد العلماء العاملين إلى مواضع عثرت عليها مراراً، وكنت بها قمين لطول ممارستي هذا الشأن منذ سنين، خرج فيها الإمام الكبير ذو القدر الخطير، علامة الزمن، والشامة في بني الحسن، واحد زمانه، وفيلسوف أوانه: محمد بن إبراهيم بن المفضل الوزير ـ رحمه الله رحمة الأبرار وأسكنه بجوار جده المختار ـ من مواطن الإنصاف إلى مهاوي التمويه والاعتساف، من نقل غير صحيح، وتعديل معاوية وأحزابه من صار الإسلام منكلم بسيفه إلى الآن جريح في كتابه (الروض الباسم في الذب عن سنة أبي القاسم) فوجدته فرش مسامعه لتلك الإشارات، واستطعم الزيادة منصفاً لتلك التنبيهات، فأخجلت من إسماعي مسامعه ما تلقفته عنه وعن أمثاله، وثاب إلى لبي بعد إساءة الأدب بين يديه، فكرر عليّ الطلب، وأدناني حتى محق عين حجاب الهيبة من جنابه، وأفحمني بكثرة السؤال على زبر تلك الخواطر ورفعها إلى بابه، فاستخرت الله تعالى وأجبته إلى ما طلب؛ إذ مثلي يعلم أن حقه عليّ من أول وهله قد وجب، معترفاً والله بقصر الباع وقلة الاطلاع مع تكدر البال، ودنو الترحال، وعدم الإخوان والأعوان، ومن بهم على الحوادث يستعان. (1/29)
ذهب الذين يعاش في أكنافهم .... وبقيت في زمن كجلد الأجرب
فجمعت المتفرق من تلك الفرائد، وأعربت الزلل في بعض تلك المواضع، وأبهمت البيان في أماكن، بل أشرت ليكون ذلك أسهل تناولاً على اللبيب؛ إذ الإسهاب قبيح عند ذوي الألباب، وإن كان الإمام ـ رحمه الله ـ حذا حذو المسهبين، وأطال في بعض المباحث بلا برهان مبين، وبالغ في ذم من ترسل عليه، ونسي أن الحبر من رَدَّ ورُدّ عليه، ولعلّ الراد عليه قصد وجه الله في نصحه، وأدى ما يلزمه في ذلك فقابله ـ رحمه الله ـ بذمه وجرحه، ثم تمادى إلى هتك أستار المتكلمين، ومدح أعداء الدين، واستطال حتى زيف أقوال الأئمة الميامين، وأتى بما لم يأت به منصف من تقريض البغاة على أمير المؤمنين عليه السلام فيا لها من مصيبة عظمى، وداهية دهماء، أبرزها اللجاج، وأثارها كثرة الحجاج بين أرباب التحقيق وأهل المعارف ومن هو بكل مكرمة حقيق، ولله القائل: (1/30)
فؤاد من بلابله شجيّ .... وأعيان أماقيها بكي
لشق عصا القبيلة من روي .... أتيح لنا فلا كان الروي
كأنه لم يسمع قول النبي صلى الله عليه وآله في علي عليه السلام من الأخبار حتى فرط منه ما فرط من التنقيص حيث فضل غيره عليه وساواه بأعدائه لو لم يبايع بعد عثمان لظننت أن يصرح ببغيه على البغاة عليه، فمما ورد في حقه صلوات الله عليه قوله صلى الله عليه وآله من خبر الحديقة: وأجهش صلى الله عليه وآله باكياً، قال علي عليه السلام : ما يبكيك؟ قال: ((ضغائن في صدور أقوام لا يبدونها لك إلا من بعدي، قلت: يا رسول الله، أفي سلامة من ديني؟ قال: في سلامة من دينك)). أخرجه البزار وأبو يعلى والحاكم وأبو الشيخ والخطيب وابن الجوزي وابن النجار.
وروى الفقيه إبراهيم بن محمد الصنعاني عن الباقر عن آبائه" عنه صلى الله عليه وآله أنه قال: ((خذوا بحجزة هذا الأنزع فإنه الصديق الأكبر، والهادي لمن اتبعه، من اعتصم به أخذ بحبل الله، ومن تركه مرق من دين الله، ومن تخلف عنه محقه الله، ومن ترك ولايته أضله الله، ومن أخذ بولايته هداه الله)). (1/31)
وأخرج أحمد والحاكم: ((من فارقني فارق الله، ومن فارقك فقد فارقني)).
وأخرج الحاكم قوله صلى الله عليه وآله فيه: ((اللهم ثبت لسانه، واهد قلبه)). ومثله النسائي وأبو داود وأبو نعيم.
وأخرج أبو نعيم من حديث طويل أن رسول الله صلى الله عليه وآله قال: ((إن علياً راية الهدى، وإمام الأولياء، ونور من أطاعني، وهو الكلمة التي ألزمتها المتقين، من أحبه أحبني، ومن أبغضه أبغضني)).
وقال صلى الله عليه وآله : ((سيكون بعدي فتنة فإذا كان ذلك فالزموا علي بن أبي طالب فإنه أول من يراني، وأول من يصافحني يوم القيامة، وهو الفاروق بين الحق والباطل)). أخرجه الكنجي الشافعي، وأخرج قوله صلى الله عليه وآله لعلي: ((وأنت تؤدي عني، وتسمعهم صوتي، وتبين لهم ما اختلفوا فيه من بعدي)).
وأخرج قوله صلى الله عليه وآله : ((إن رب العالمين عهد إليّ عهداً في علي بن أبي طالب أنه راية الهدى، ومنار الإيمان، وإمام أوليائي، ونور جميع من أطاعني)) وقال: أخرجه صاحب (حلية الأولياء).
وأخرج زيد بن علي عليه السلام قوله صلى الله عليه وآله لعلي: ((أنت تؤدي ديني، وتقاتل على سنتي، وأنت باب علمي، وإن الحق معك، والحق على لسانك)).
وأخرج أبو طالب قوله صلى الله عليه وآله لعمار: ((عليك بهذا الأصلع عن يميني وإن سلك الناس وادياً وسلك علي وادياً فاسلك وادي علي وخل عن الناس، يا عمار إن علياً لا يردك عن هدى، ولا يدلك على ردى، يا عمار طاعة علي طاعتي، وطاعتي طاعة الله)).
وقال صلى الله عليه وآله لعلي: ((تخصم الناس بسبع ولا يحاجك أحد من قريش: أنت أولهم إيماناً بالله، وأوفاهم بعهد الله، وأقومهم بأمر الله، وأقسمهم بالسوية، وأعدلهم بالرعية، وأبصرهم في القضية، وأعظمهم عند الله مزية)). أخرجه الحاكم. (1/32)
وأخرج ابن عساكر عن جابر قال: كنا عند النبي صلى الله عليه وآله فأقبل علي فقال النبي صلى الله عليه وآله : ((والذي نفسي بيده إن هذا وشيعته لهم الفائزون يوم القيامة)) ونزلت: {إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ أُوْلَئِكَ هُمْ خَيْرُ الْبَرِيَّةِ}[البينة:7] فكان أصحاب النبي صلى الله عليه وآله إذا أقبل علي قالوا: جاء خير البرية.
وأخرج ابن عدي وابن عساكر عن أبي سعيد مرفوعاً: ((علي خير البرية)).
وأخرج ابن عدي عن ابن عباس قال: لما نزلت: {إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ أُوْلَئِكَ هُمْ خَيْرُ الْبَرِيَّةِ}[البينة:7] قال رسول الله صلى الله عليه وآله : ((هو أنت وشيعتك يا علي راضين مرضيين)).
وأخرج ابن مردويه عن علي عليه السلام قال: قال لي رسول الله صلى الله عليه وآله : ((ألم تسمع قول الله: {إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ أُوْلَئِكَ هُمْ خَيْرُ الْبَرِيَّةِ}[البينة:7] أنت وشيعتك، وموعدي وموعدكم الحوض إذا جثت الأمة للحساب)).
فهذا يقتضي أنه أفضل الصحابة من قريش وغيرهم وأنه أقضاهم، وأنه على الحق لا ينطق إلا به، فأما أحاديث حبه فقد بلغت حد التواتر المعنوي أخرجها أئمتنا" والمحدثون عن علي، وابن عباس، وعمر وابنه، وأبي ذر، وسعد بن أبي وقاص، وأبي أيوب الأنصاري، وأبي بردة، وأبي سعيد الخدري، وأبي هريرة، وزيد بن أرقم، وسلمان، وأبي رافع، وأم سلمة، وعائشة، وعمار، وجابر، وأنس، وعمران بن الحصين، وأبي ليلى الأنصاري، وجرير البجلي، وعبد الرحمن بن أبي ليلى، والبراء بن عازب، وبريدة بن الخصيب، وسلمة بن الأكوع، وسهل بن سعد الساعدي، وعبد الله بن أحجم، وعامر بن سعد وغيرهم. (1/33)
قال أحمد بن حنبل والقاضي إسماعيل بن إسحاق: لم يرو في أحد من الصحابة بالأسانيد الحسان ما روي في علي عليه السلام .
وأخرج الدارقطني والحاكم في مستدركه قوله صلى الله عليه وآله لعلي: ((إن الأمة ستغدر بك من بعدي وأنت تعيش على ملتي وتقتل على سنتي، من أحبك أحبني، ومن أبغضك أبغضني)).
وأخرج الطبراني قوله صلى الله عليه وآله : ((يا معشر الأنصار، ألا أدلكم على ما إن تمسكتم به لن تضلوا بعدي أبداً، هذا علي فأحبوه لحبي، وأكرموه بكرامتي فإن جبريل أمرني بالذي قلت لكم)).
وقوله صلى الله عليه وآله : ((علي مع القرآن والقرآن مع علي ولن يفترقا حتى يردا عليَّ الحوض)). أخرجه الحاكم والطبراني.
فأما حديث المنزلة والولاية والإخاء بينه وبين النبي صلى الله عليه وآله وما شاكلها فقد صرح الحفاظ بتواترها وهي مما لا تخفى على أدنى الفقهاء، فلذا تركنا نقلها، ومن أراد استقصاء ما في الباب فعليه بأخذ ذلك من مظانه.
[ذكر تعنت ابن الوزير، والإشارة إلى ترجمة شيخه] (1/34)
ولكن جعلنا ذلك طليعة لما سيأتي على المطلع ليعرف تعنت الإمام محمد بن إبراهيم في كتابه (الروض الباسم -الذي زعم أنه- في الذب عن سنة أبي القاسم) ولم يذب فيه إلا عن الظاهرية وعن أعداء العترة الزكية من الصحابة وغيرهم من الفرق الإسلامية، وكيف قابل نصيحة صاحب الرسالة السيد العلامة الإمام جمال الدين علي بن محمد بن أبي القاسم محمد بن جعفر بن محمد بن الحسين بن جعفر بن الحسين بن أحمد بن يحيى بن عبد الله بن يحيى بن الناصر أحمد بن الهادي إلى الحق" العالم الكبير، والمجتهد النحرير، قرأ على إسماعيل بن إبراهيم النجراني في التفسير وغيره، وعلى ناجي بن مسعود في الحديث، وأحمد بن سليمان الأوزي، وكان ـ رحمه الله ـ سابقاً في جميع العلوم، معروفاً بالفضائل، له مشائخ غير من ذكرنا عدة، وتلامذته جم غفير منهم الإمام محمد بن إبراهيم، وعبد الله بن يحيى بن المهدي، وإسماعيل بن أحمد النجراني، وعلي بن موسى الدواري، وأحمد بن محمد الرصاص، والإمام صلاح الدين وغيرهم، وفتاويه تحتوي على مجلد، وله التفسير المشهور بالتجريد، أثنى عليه الإمام عز الدين بن الحسن عليه السلام، وله (شرح على الكافية) اختصره ولده سماه بـ(النجم الثاقب) وكان حريصاً على صيانة مذهب أهل البيت" فلذلك جرت الوحشة بينه وبين تلميذه محمد بن إبراهيم الوزير.
توفي ـ رحمه الله ـ سنة سبع وثلاثين وثمانمائة. ا هـ جواهر بتغيير في اللفظ يسير.
[وستقف] على ما أشرنا إليه تجد فوق ما وجهنا عليه، وكيف مسخ اسم كتابه بتأييد مذاهب الظاهرية وجرح الشيعة وثقات العدلية، فهذا هو الذب عن السنة أو ذهابها بجرح الثقات من جملتها وتوثيق النواصب والمرجئة غير المأمونين على روايتها، إن من هذا أطول منتهى حسرات العاملين، ومنه دوام سكب عبرات المؤمنين، فإنا لله وإنا إليه راجعون.
[معرفة الأخبار ووسائطها] (1/35)
حكى عن صاحب الرسالة ما لفظه: (معرفة الأخبار مبنية على عدالة الرواة ومعرفة عدالتهم في هذا الزمان مع كثرة الوسائط كالمتعذرة، ذكر هذا كثير من العلماء، ومنهم الغزالي، والرازي، وإذا كان ذلك في زمانهم فهو في زماننا أصعب، وعلى طالبه أتعب؛ لازدياد الوسائط كثرة، والعلوم دروساً وفترة.
فإن قيل: نحن نقول بما قال الغزالي: إنا نكتفي بتعديل أئمة الحديث كأحمد بن محمد بن حنبل، ويحيى بن سعيد الأنصاري، وعلي بن المديني، ويحيى بن معين، ومحمد بن إسماعيل البخاري، فإن هؤلاء قد تكلموا في الرواة وبينوا العدل ممن سواه.
قلنا: هذا لا يصح لوجوه:
أحدها: أنا إذا قلنا بتعديلهم فيمن كان متقدماً فما يكون فيمن بعدهم من الرواة، فإن اتصال رواية الحديث من وقتنا إلى مصنفي الكتب الصحاح كالبخاري ومسلم على وجه الصحة متعسر ومتعذر لأجل العدالة). ا ه. ما حكى عنه.
[ابن الوزير] وجوابه تضمن وجوهاً: أحدها: قوله: طلب الحديث ومعرفته شرط في الاجتهاد، والاجتهاد فرض واجب على الأمة بلا خلاف ..إلى قوله: فإذا ثبت أنه فرض لزم أنه من الدين، وإذا لزم أنه من الدين لزم أنه غير متعسر ولا متعذر.. إلى آخر كلامه.
[المؤلف] أقول: إلزامه بما ذكر غير لازم؛ لكون المترسل لم يسد باب الاجتهاد لوجوه:
أحدها: إذا كان مذهبه عدم قبول الآحاد فكم في السنة من طريقة متواترة أو مشهورة أو متلقاة بالقبول أو عضد متنها موافقة آية قرآنية أو قياس منصوص على علته أو غير ذلك مما يوجب الاحتجاج بالمتن من المرجحات.
ثانياً: إن كلامه هنا متوجه إلى ما يحتاج فيه إلى تعديل الرواة كأخبار الآحاد وقليل ما يحتاج إليه الناظر لوجود ما يستدل به من القرآن الكريم، قال سبحانه وتعالى: {مَا فَرَّطْنَا فِي الْكِتَابِ مِنْ شَيْءٍ}[الأنعام:38]، {الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ}[المائدة:3] أو من السنة المتلقاه بالقبول، أو المتواتر، أو من طريق الأئمة الغنيين عن تعديل المحدثين وإنكار ذلك مكابرة، بل إنكار للضرورة البديهية. (1/36)
ثالثاً: إن في طرق هذه الكتب من هو غير مقبول إما لكونه متلبساً بأحد البدع إما جبر أو تشبيه أو بغي أو إرجاء أو يتفرد برواية الكتاب كالفربري سلمنا أن هؤلاء مقبولون فغالبهم داعياً إلى بدعته ولا يخفى ما فيه عند أهل الحديث، وإنكار وقوع هذا الوجه مكابرة.
[ابن الوزير] قال ـ رحمه الله ـ : الثاني: إفراط المعترض على أهل السنة وطلبة الحديث في تفسير معرفته .. حتى قال: إن ذلك متعسر أو متعذر وذلك يقتضي أنه شاك في تعذره غير قاطع بدخوله في حيّز الممكنات، وقد ثبت أن الاجتهاد من الفروض الدينية والشعائر الإسلامية وأنه رأس معارفه الغزيرة...إلى قوله: وطلب الحديث مشروع واجب، فلو أوجبه الله وهو متعذر لكان الله سبحانه قد كلفنا ما لا نطيقه وهذا القول بتكليف ما لا يطاق مردود عند جماهير أهل المذاهب كلهم، وأما المعتزلة والزيدية فعندهم أن تجويزه كفر وخروج من الملة...إلى قوله: ومذهب الزيدية أنه لا يجوز خلو الزمان عن عالم مجتهد جامع لشروط الإمامة فعلى أي المذاهب بنيت هذه الرسالة؟ ولأي الأسباب ركبت هذه الجهالة؟.
[المؤلف] قلت: المتأمل لما قد قدمناه يعلم براءة المترسل من لزوم تعذر كونه من الممكنات؛ لكون المبالغة لغة عرفية، ولوجود السنة المشروطة في الاجتهاد ممكن طلبها مما قدمنا.
وأما قوله: (فعلى أي المذاهب...)إلخ فلقائل أن يقول: على المذهب الأقوى من كون الفسق سلب أهلية لما ورد من الأدلة على رد أخبار الفسقة أو كونه داعي إلى بدعته، ولا يبعد دعوى الإجماع على رد خبر الداعية وهو موجود في رجال الصحيح، ثم من أين لك حصر السنة على ما عند أهل الصحاح بريئاً من المرجحات السابقة والشواهد الموافقة؟ (1/37)
[ابن الوزير] قال ـ رحمه الله ـ: الوجه الثالث: أن كلام هذا المعترض مستلزم لخلو الزمان من أهل المعرفة بالحديث ومن أهل الاجتهاد في العلم.
[المؤلف] أقول: أما مما حكى فلا يستلزم ذلك.
[ابن الوزير] قال ـ رحمه الله ـ : الوجه الرابع: إنه لا فرق فيما ذكره بين علم الحديث وبين سائر علوم الإسلام...إلخ.
[المؤلف] أقول: قد سوى ـ رحمه الله ـ بين علم الحديث وغيره ولا سواء؛ لوجوب تعلق علم الحديث على كل ناظر، ومعرفة الصحيح من غيره لا يخفى على الخابر، ولا تختص به فرقة دون آخرين؛ لوقوعه في جماهير العاملين من فرق المسلمين، ودعوى اختصاص الظاهرية بذلك من افتراء المفترين، بيانه أن أعظم الفرق تحرياً للاجتهاد والجهاد هم الزيدية وغيرهم قعد عن هذين الركنين، وإن تكلموا في رجال الإسناد وفحصوا عن أدلة الاجتهاد فأعمالهم مخالفة لأقوالهم، ومن تصفح المصنفات والأحوال برز له برهان ما قلنا بروز الهلال.
[ابن الوزير] قال ـ رحمه الله ـ: الوجه الخامس: أجمعت الأمة على جواز إسنادها في الكتب الصحيحة إلى أهلها بعد سماعها على من يوثق به...إلخ.
[المؤلف] قلت: ومثل هذا لا يضر المترسل ولا ينفع المجيب، وأما الإجماع فإنما استفاده من قولهم: أخرجه البخاري أخرجه مسلم، وقد يتفق مثل ذلك بالنسبة لا بالمعنى صحت تلك النسبة لديهم، على أنا لو فرضنا فليس كل مجتهد في كل عصر نقل عن الصحيحين، وصح له ذلك على أن من أهل البيت القدماء من منع من القراءة في كتب العامة، كما ذلك مشهور عن الحسن بن يحيى بن زيد وغيره إلا من عارف، وعدم علمك ليس بحجة مع علم غيرك. (1/38)
[ابن الوزير] وقوله: حتى إن المعترض زعم أن البخاري مبتدع بل كافر صانه الله عن ذلك، واحتج عليه بشيء نقله من صحيحه يدل على أن البخاري يؤمن بالقدر، مع أن التكفير عند الزيدية والمعتزلة لا يجوز إلا بنقل متواتر، فكيف يحتج على البخاري بما في صحيحه وهو عنده لا يصلح بطريق ظنية؟!
[المؤلف] فالجواب: أما كونه مبتدعاً فظاهر على مذهب العدلية وله مصنف في خلق الأفعال وهو ممن اشتهر عنه القول بقدم القرآن إلا أنه خالفهم في اللفظ به هل قديم أو مخلوق؟
وأما كفره فليس بصحيح لما ذكره ـ رحمه الله ـ لا سيما بطريق الآحاد على أن البخاري لم ينقل إلا ما قد حكينا في كتبنا عند الرد فلا يلزمه الكفر، كيف وقد نقلنا ما هو أعظم كمذاهب المشركين وأهل الكتاب، فالله المستعان الحق أحق أن يتبع!
[ابن الوزير] قال ـ رحمه الله ـ: الوجه السادس: إن كلام هذا المعترض مبني على تحريم قبول المراسيل كلها، وما أدري لم بنى كلامه على هذا وهو لا يدري باختيار خصمه؟ ...إلى قوله: فجواز قبول المراسيل مذهب المالكية والمعتزلة والزيدية ونص عليه منهم أبو طالب في المجزي والمنصور في كتاب(صفوة الاختيار)...إلخ.
[المؤلف] قلت: إن كان للمترسل غير هذه العبارة المحكية فيمكن، وما حكاه من المذاهب فصحيح مع كون المرسل لا يرسل إلا عن عدل، وأما هذه العبارة فلم يظهر لي من السياق لزوم عدم قبول المراسيل، فتأمل!!
[ابن الوزير] قال ـ رحمه الله ـ: إذا عرفت هذا فاعلم أن أقوى المراسيل ما أرسله العلماء من أحاديث هذه الكتب لوجوه: (1/39)
أولها: أن نسبة الكتاب إلى مصنفه معلومة في الجملة بالضرورة، فإنا نعلم بالضرورة أن محمد بن إسماعيل البخاري ألّف كتاباً في الحديث، وأنه هذا الموجود في أيدي المحدثين، وإنما يقع الظن في تفاصيله وما عُلمت جملته وظُنّت تفاصيله أقوى مما ظُنت جملته وتفاصيله. ا ه.
[المؤلف] أقول: دعوى الضرورة دعوى لا بيان عليها، وقد عرفناك المؤاخذة آنفاً، وما أدري كيف الضرورة عنده، على أنا لو سلمنا ما ذكر فكيف بالتفاصيل؟ فكيف بالطريق منها إلى النبي صلى الله عليه وآله ؟ على أنا لا ننكر شهرة هذه الكتب بين علماء الإسلام والشهرة لا تفيد العلم مع استنادها إلى انفراد الآحاد إلى الفرد مع أن كلامه هذا حجة عليه في كتب الزيدية التي قام وقعد في تضعيفها كالشفاء وغيره لوجهين:
أحدهما أن الطريق إلى مؤلفيها أقوى من الطريق إلى البخاري.
ثانياً: إما أن يكونوا لا يرسلون إلا عن عدل عندهم فأقوى ممن يرسل أو يسند عن فاسق التأويل ويرسلون عنه، مع اشتراط تحريم الكذب ورجحان الضبط، فإذاً هم والصحاح سواء، ولا محيص من أحدهما إلا بدعوى الجهل، وفقدانه فيهم ظاهر لمن أنصف، كيف وأكثر الجروح من المطلق المدفوع المنوه بعدم جريه في مصنفاتك ـ رحمك الله!
[ابن الوزير] قال ـ رحمه الله ـ: الوجه السابع: إن أقصى ما في الباب أن يروي المحدث عن المجاهيل من المسلمين والمجاهيل من العلماء فقد قال بكل من ذلك من أهل العلم المجمع على فضلهم وثباتهم من لا يحصى، فقد ذهبت أئمة الحنفية إلى قبول المجهول من أهل الإسلام، وذهب إلى ذلك كثير من المعتزلة والزيدية وهو أحد قولي المنصور بالله ذكر ما يقتضي ذلك في كتابه (هداية المسترشدين) وهو الذي ذكره عالم الزيدية ومصنفهم وعابدهم وفقيههم عبد الله بن زيد العنسي ذكره في (الدرر المنظومة) بعبارة محتملة للرواية عن مذهب الزيدية كلهم وهو الذي أشار إلى ترجيحه أبو طالب في كتاب (جوامع الأدلة) وتوقف فيه في كتاب (المجزي)...إلخ. (1/40)
[المؤلف] أقول: شروط الزيدية معروفة صريحاً، وأما الفلتات والمحتملات فلا ندعي لهم العصمة، وهذه مصنفاتهم منادية على عدم قبول رواية المجهول بل الغالب عليهم جزم [عدم] قبول رواية فاسق التأويل فكيف بالمجهول، ومدعي الغرائب مطالب بالبرهان، وكلام المنصور مصرح به في (شرح السيلقية) عند ذكر معاوية بن أبي سفيان على أن اختيار المتأخر لا يضر مذهب المتقدم من أئمتنا قرناء الكتاب ورؤساء أولي الألباب.
وأما الحنفية فينظر في النقل عنهم من جواز قبول رواية المجهول مطلقاً، قال في (مرآة الأصول) وشرحها (مرقاة الأصول) من أصول الحنفية في بحث حال الرواة ما لفظه: وهو إن عرف بالرواية فإن كان فقيهاً تقبل منه الرواية مطلقاً سواء وافق بالقياس أو حالته وإن لم يكن فقيهاً كأبي هريرة وأنس فترد روايته إن لم يوافق الحديث الذي رواه قياساً.
[ابن الوزير] قال: فأقول: يمكن أن يحتج لهما بحجج قرآنية وأثرية ونظرية، أما القرآنية فقوله تعالى: {فَاسْأَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لاَ تَعْلَمُونَ}[النحل:43] فإطلاق هذا الأمر القرآني يدل على وجوب سؤال جميع العلماء إلا ما خصه الإجماع وهو الفاسق المتعمد.
[المؤلف] الجواب عليه: إن الأمر وارد بسؤال أهل الذكر، والمراد بالذكر الصحيح المعهود ولا يعرف أنه من أهل الذكر إلا بعد معرفة صحة ذكره وهذا هو الدور وما استلزم الدور فهو عن الحجة بمعزل. (1/41)
[ابن الوزير] قال: الأثر الأول: قول النبي صلى الله عليه وآله : ((يحمل هذا العلم من كل خلف عدوله...))إلخ.
[المؤلف] قلت: مع القول بصحة الخبر وسلامة الطريق عن العلل فالجواب أنه يستلزم الدور لتوقف العدالة على حمل العلم المشار إليه وحمله متوقف على العدالة، بيان الملازمة من الطرفين أن العدالة مشترطة بأدلة واضحة مع كثرة الكذب على النبي صلى الله عليه وآله مقطوع بوقوعه، وكون العدالة الموجبة لحمل العلم المشار إليه وهو علمه صلى الله عليه وآله وإلا لزم تصديق كل راوي وتعديله سواء كان مسلماً أو مشركاً أو كتابياً؛ لأنها لا تخلو كتبهم عن فائدة دينية، وهذا الجواب كافي وإلا فالمسألة حرية بالتطويل لكن قصدنا الإشارة.
[ابن الوزير] قال: الأثر الثاني: قوله صلى الله عليه وآله : ((من يرد الله به خيراً يفقهه في الدين)) رواه جماعة من الصحابة عن النبي صلى الله عليه وآله وهو صحيح، صححه محمد بن إسماعيل البخاري وأبو عيسى الترمذي وغيرهما.
[المؤلف] قلت: الاستدلال بهذا مريض؛ لاستلزامه الدور كالأول، وإنما يعجب الواقف من تشنيعه على المترسل بنقل أخبار صحيح البخاري عليه وهو لا يستلزمه، والآن صار الاستدلال على خصمه بما لا يلتزم، فما أسرع ما نسي، ثم ذكر أثرين اعترف بضعف الاستدلال بهما، ثم عدل إلى الأنظار الموعود بها وهي أضعف مما ذكر لكن مقصده ـ رحمه الله ـ أن لا ينكر على أهل هذا القول، وذكر في العدالة أبحاثاً مفيدة جيدة ينبغي الوقوف عليها.
[عدالة الصحابة] (1/42)
[الإمام] قال صاحب الرسالة: الخامس: أن هؤلاء الأئمة في الحديث يرون عدالة الصحابة جميعاً ويرى أكثرهم أن الصحابة من رأى النبي صلى الله عليه وآله مؤمناً به وإن لم يطل ولم يلازم، وهذان المذهبان باطلان وببطلانهما تبطل كثير من الأخبار المخرجة في الصحاح.
أما المذهب الأول فلأن من حارب علياً عليه السلام مجروح، ومن قعد عن نصرته كذلك؛ لأن النبي صلى الله عليه وآله قال: ((اللهم وال من والاه وعاد من عاداه، وانصر من نصره، واخذل من خذله))، وقال: ((لا يبغضك يا علي إلا منافق شقي)) وأقل أحوال هذا أن لا تقبل روايته.
وأما الثاني فيلزمهم أن يكون الأعرابي الذي بال في مسجد رسول الله صلى الله عليه وآله عدل بتعديل الله ولا يحتاج إلى تعديل أحد وكذلك كثير من رواتهم الذين هم أعراب أو يفدون عليه مرة واحدة كما جاء في حديث وفد تميم وأنزل فيه: {إِنَّ الَّذِينَ يُنَادُونَكَ مِنْ وَرَاءِ الْحُجُرَاتِ أَكْثَرُهُمْ لاَ يَعْقِلُونَ}[الحجرات:4] وحديث وفد عبد القيس.
[ابن الوزير] أجاب ـ رحمه اللهـ بقوله: أقول: اشتمل كلامه في هذا الوجه على مسائل:
المسألة الأولى: القدح على المحدثين لقبول المجهول من الصحابة
وقولهم: إن الجميع عدول بتعديل الله تعالى
والجواب عليه من وجوه:
ثم ساق ذلك، منها ما نقل عن بعض الزيدية أنهم صرحوا بقبول رواية الصحابة وتعديلهم وذلك مسلم، ولكن لهم في تعريف الصحابة مذهب غير مذهب المحدثين، فيرد مجمل قولهم إلى مبينه فيؤخذ التعريف من مظانه.
ثم استدل على عدالتهم فقال: أما الكتاب فمثل قوله تعالى: {كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ ...}إلخ[آل عمران:110].
[المؤلف] قلت: الآية تحتمل الإشارة إلى معهودين وصفهم بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر مع الإجمال، والقرآن يفسر بعضه بعضاً فقد قال في آية أخرى: {مِنْكُمْ مَنْ يُرِيدُ الدُّنْيَا وَمِنْكُمْ مَنْ يُرِيدُ الآخِرَةَ}[آل عمران:152] وقال سبحانه في الأخصين به: {وَمِنْ أَهْلِ الْمَدِينَةِ مَرَدُوا عَلَى النِّفَاقِ}[التوبة:101] وفي الأعراب: {الأَعْرَابُ أَشَدُّ كُفْرًا وَنِفَاقًا وَأَجْدَرُ أَلاَّ يَعْلَمُوا حُدُودَ مَا أَنزَلَ اللَّهُ}[الأنفال:97] وذكر أن منهم من يتربص بالمسلمين الدوائر إلى غير ذلك، على أنا لو سلمنا فالدليل أخص من الدعوى كما قدمنا. (1/43)
ثم قال [ابن الوزير]: الأثر الأول ما روى ابن عمر عن أبيه أن رسول الله÷ قام فيهم فقال: ((أوصيكم بأصحابي، ثم الذين يلونهم، ثم الذين يلونهم، ثم يفشو الكذب حتى يحلف الرجل ولا يستحلف ويشهد الشاهد ولا يستشهد)) الحديث، رواه أحمد والترمذي...إلخ.
[إلى أن قال]: قد نقل أنه حديث مشهور جيد قال ذلك الحافظ ابن كثير في إرشاده.
قلت: وفيه ما يدل على أنه أراد بأصحابه أهل زمانه وفهم من قوله: ((ثم الذين يلونهم)) فإنه جعل أهل زمانه طبقة ((ثم الذين يلونهم)) فلم يكن ليخرج ممن لم يره ممن أدرك زمانه مع دخول من لم يره في التابعين الذين لم يدركوا زمانه.
[جواب المؤلف في تضعيف حديث: ((أوصيكم بأصحابي))] (1/44)
[المؤلف] الجواب: إن في بعض طرقه عبد الملك بن عمير أحد النواصب عن جابر بن سمرة وأظنه أحد جلساء معاوية وأمرائه، ومثل هذه الطريقة هي عين النزاع فلا يلزم الخصم، ومع تسليم المدعى فالزمن كالقرن وقد فسر القرن بمائة سنة وقيل: خمسين، فيكون الخبر قد اشتمل على تعديل الثلاثة القرون جمعهم ومنه يلزم تعديل يزيد ومسلم بن عقبة ومن ارتد من الصحابة وغيرهم وهذا خلاف ما ورد به النقل عن الصحابة كما رد عمر خبر فاطمة بنت قيس، وعائشة خبر أبي هريرة، وأمير المؤمنين خبر العشرة وخبر: ((مروا أبا بكر يصل بالناس)) وردت الأنصار خبر: ((الأئمة من قريش)) سلمنا فعدّ لي من تقدم ومن أحرق الكعبة وقتل طلحة والزبير وغيرهم، بل لو سلم هذا فأكثر علم الجرح والتعديل جرى في التابعين وتابعيهم، فمالك هدمت مندوحة أهل نحلتك؟ وما يضرنا لو سلمنا ذلك، إذاً سلم لنا رجال الشيعة المجروحين لديكم ولزمتكم أخبارنا التي تقضي بكفر من خالفها منكم وذلك الكثير، فأنت بالخيار بين الأمرين خذ أحبهما إليك فالمسألة عنية [شيدوها بالآجر] وكفى بالقرآن في هذا المقام عروة لمن له من قلبه زاجر.
[ابن الوزير] قال: الأثر الثاني: عن ابن عباس قال: جاء أعرابي إلى النبي صلى الله عليه وآله فقال: إني رأيت الهلال -يعني رمضان- فقال: ((أتشهد أن لا إله إلا الله وأن محمدا رسول الله؟ قال: نعم، فقال: يا بلال أذّن في الناس أن يصوموا غداً)). رواه أهل السنن وابن حبان...إلخ.
[المؤلف] أقول: هذا لا يلزم أيضاً؛ لأن المترسل لا يلتزم هذه الطريقة، وجوابه: إن الخبر لا يدل على المطلوب؛ إذ هي حكاية فعل لا ندري على أي صفة وقعت هل عضدها وحي أو قرينة بوفاء شعبان أو مجرد احتياط كما قال أمير المؤمنين صلى الله عليه وآله: ((لئن أصوم يوماً من شعبان أحب إليّ من أن أفطر يوماً من رمضان ...)) الخبر أو معناه، ثم إن الظاهر طهارته بالشهادة في تلك الساعة ولم يقارف شيئاً من المعاصي فيرد، فالتعديل قوله صلى الله عليه وآله: ((الإسلام يجب ما قبله)). على أن النبي صلى الله عليه وآله لا يقر على خطأ وكلامنا فيمن تلبس بالردة أو الفتن مع جواز الإقرار على الخطأ. (1/45)
[ابن الوزير] قال: الأثر الثالث: حديث أبي محذورة فإن رسول الله صلى الله عليه وآله علمه الأذان عقيب إسلامه، واتخذه مؤذناً من ذلك الوقت معتمداً عليه في تأدية الفرائض وأجزائها.
[المؤلف] والجواب على هذا الخبر كالجواب على الأول مع زيادة بقائه معه ومصاحبته وتأدية الفرائض التي هي معظم شرائط العدالة.
وأما قبول علي ومعاذ -رضي الله عنهما- لشهادة أهل اليمن على بعضهم الآخر مع عدم معرفتهم فلا يدل لوجوب قبول شهادة المثل على مثله لقضا الدليل بذلك سلمنا، فأين الأمر النبوي لهما بقبول المجهول؟ وأين النقل عنهما لقبوله؟
وأما ما رواه الذهبي في (تذكرة الحفاظ) وحكم بحسنه عن علي صلى الله عليه وآله أنه كان يستحلف من اتهمه من الرواة فجوابه من وجهين:
أحدهما: إن فعل علي صلى الله عليه وآله ليس بحجة عندكم أنت والذهبي فغريب منك، سلمنا حجة فعله، وأنه يلزمنا فهم الطريق على شرطنا وعلى قبول رواية المجهول.
الثاني: إن الخبر ورد في معنى تصديقه صلى الله عليه وآله لرواية أبي بكر من دون تحليفه وهو معارض برده لروايته في أمر فدك وغير ذلك، وليت شعري ما منعه من ذكر تمام الخبر وما أظنه جهل ذلك إلا لئلا يقال: إنه من موضوعات العثمانية.
وأما خبر راعية الغنم وأن النبي صلى الله عليه وآله قال: ((هي مؤمنة)) بعد أن عرفته إيمانها، فهو بمعزل عن المدعى لشهادته لها بالإيمان وذلك غير موجود فيمن ادعيتم، فالدليل أخصّ من الدعوى. (1/46)
وأما خبر عقبة بن الحارث أنه تزوج أم يحيى بنت أبي إهاب فجاءت أمة سوداء فقالت: قد أرضعتكم..الخبر، فالحديث مضطرب المتن مع أنها واقعة خاصة والمثل مقبول على مثله حتى يأتي بجارح.
وأما أن النبي صلى الله عليه وآله كان يبعث المسلم عقيب إسلامه داعياً لقومه ومعلماً لهم ما علمه النبي صلى الله عليه وآله من شرائع الإسلام فجوابه: إما أن يكون قد عرف صحة إيمانه وعدالته أم لا، الأول فلا يلزمهم اختباره مع أن أمور الشريعة قد اشتهرت عند العرب من قبل إسلامهم فأتاهم بما قد اشتهر عندهم تعريفه، والثاني باطل؛ لأنه قبيح ومثله لا يفعله صلى الله عليه وآله.
فإن قيل: قد أرسل الوليد.
قلنا: مصدقاً لا معلماً.
[المؤلف] وأما قوله: الحديث الصحيح الشهير أنه لا يدخل النار أحد شهد بدراً والحديبية، وحديث: ((لا يدخل النار أحد بايع تحت الشجرة))، وحديث الذي فيه: ((إن الله نظر في قلوب العباد فوجد قلوب أصحاب محمد صلى الله عليه وآله خير قلوب العباد)). فلا يقضي بعدم اقتراف المعاصي ممن لم يدخل النار، كما أن منهم من قد حد في الإسلام والتوبة مفتوحة إلى أن يغرغر بالموت مع قبول الأخبار للتقييد والتخصيص عند صحة طرقها، ومن هاهنا يظهر أن مجرد الرواية والمجالسة القليلة لا تقتضي العدالة، ووجوب قبول الرواية والمساواة بينه وبين كبار الصحابة وسابقيهم ومن رغب عن الإسلام حتى غلبه فأكره عليه كما صرح بذلك الكتاب الكريم والسنة النبوية وكما قال ـ رحمه الله ـ : فلأن العدل من ظهر عليه من القرائن ما يدل على الديانة والأمانة دلالة ظنية؛ إذ لا طريق إلى العلم بالبواطن، وذلك ظاهر في الصحابة. ا ه.
فذلك المطلوب لكن أين ظهورها فيمن مرق عن الإسلام، واستخلف الأدعياء، وابتز الخلافة، وقتل على الظنة، وأهرق دماء الصحابة، وحكم بغير ما أنزل الله سبحانه، واستأثر بالفيء. (1/47)
[رواية المجاهيل والكلام على الصحاح]
[ابن الوزير] قال ـ رحمه الله ـ: البحث الأول: أن المعترض روى عن ابن الصلاح وعن قوم مجاهيل القول بأن جميع ما في هذه الكتب صحيح، والظاهر أنه أراد بهذه الكتب الكتب الستة؛ لأنها المعهودة المتقدم ذكرها، فأما ابن الصلاح فهذا بهتان عليه عظيم؛ لأن الرجل نص في كتابه (علوم الحديث) أن كتب السنن الأربعة يدخلها ما هو ضعيف، وإنما تكلم الرجل في صحة المستند من البخاري ومسلم...إلى آخر كلامه.
[المؤلف] والجواب: إن المعترض أحد العلماء الأثبات، فإذا بلغه تلك الرواية التي نقلها عن ابن الصلاح فلا يشترط اطلاعه عليها وعدم الوجدان لا يكون حجة بل الواجد حجة على من لم يجد والمعترض لا يستحق العشر مما عنفتموه إلا لو حصر نقله عن كتاب (علوم الحديث) وبحثتم فلم تجدوا.
[ابن الوزير] قال ـ رحمه الله ـ: البحث التاسع: من أين عرفت أن أهل عصر من علماء أهل البيت والشيعة أنهم لم يجمعوا على صحة حديث البخاري؟ وما أمنك أنهم قد أجمعوا على ذلك وأنك جهلت إجماعهم عليه، ألا ترى أن كثيراً من علماء أهل البيت" والشيعة ادّعوا الإجماع على قبول أهل التأويل كما سيأتي ذكره وأنت جهلت ذلك...إلخ.
[المؤلف] قلت: تقدم الجواب على دعوى الإجماع وسيأتي مزيد بيان.
[ابن الوزير] قال: البحث العاشر: إنك إما أن تقبح التمسك بالإجماع السكوتي، وتحرم الاحتجاج به أولا، إن حرمته وقبحته فيلزمك تأثيم أكثر الأئمة والأمة، فإنهم يقولون بصحة الاحتجاج به...إلى قوله: وإن كنت لا تنكر التمسك بالإجماع السكوتي ولا تحرمه فالظاهر من أقوال الأئمة الزيدية من أهل البيت" وشيعتهم موافقة سائر العلماء من المحدثين والفقهاء وأهل السنة على ما ادعوا من صحة الصحيح من حديث هذه الكتب، وإنما قلنا: إن الظاهر إجماعهم على ذلك؛ لأن الاحتجاج بما صححه أهل هذه الكتب ظاهر في كتبهم شائع بين علمائهم من غير نكير، فقد روى عنهم الإمام أحمد بن سليمان عليه السلام في كتابه (أصول الأحكام) على وجه وجب القول بصحتها، فإنه صنف كتابه في حديث الأحكام وصرح في خطبته بالرواية منها ولم يميز حديثها من حديث أهل البيت" فتأمل ذلك، وكذلك الإمام المنصور بالله في كثير من مصنفاته منها كتاب (العقد الثمين) ونص فيه على صحة أسانيدها، وكذلك الأمير العلامة الحسين بن محمد في كتابه (شفاء الأوام) الذي لم يصنف أحد من الزيدية في الحديث مثله، فإنه صرح فيه بالرواية منها على سبيل الاحتجاج بحديثها، وكذلك صاحب (الكشاف) فإنه روى من صحيح مسلم وسماه صحيحاً...إلى آخر كلامه. (1/48)
[المؤلف] والجواب عليه من وجوه:
[الوجه] الأول عن مسألة الإجماع السكوتي:
فذهب أبو طالب في (المجزي) وأبو الحسين وأبو عبد الله البصريان ووافقهم الظاهرية أنه ليس بحجة ولا إجماع؛ إذ السكوت هنا لا يقتضي الرضا لتصويب المجتهدين.
وقيل: إنه حجة ظنية كالخبر الأحادي والقياس الظني.
قلنا: لا دليل على حجيته مع ما ذكرنا مع كون المسألة اجتهادية فعدم الإنكار في الاجتهاديات شائع ذائع لا ينكره إلا جهول، على أن القائل بحجيته شرط حضور الجماعة المعتبرة في الإجماع ولا وجه لسكوتهم، وهنا الوجه ظاهر بعد استقرار المذاهب وألف الخلاف، فالإجماع الذي ذكرتم لا يوافق أحد القولين، وفلتات العلماء لا تقاوم صرائح شرائطهم ولا يلزم منه تأثيم أحد لعدم جريه مجرى الإجماع. فتأمل وأنصف. (1/49)
الوجه الثاني فيما ظفرنا به من كلام أئمتنا
" في كتب المحدثين فذكر الإمام المهدي عليه السلام في (المنهاج) ما لفظه: ولقد وقفت على كتاب (القياس) للهادي عليه السلام فذكر فيه من تقبل روايته ومن لا تقبل في كلام طويل من جملته أنه ذكر أهل الحديث فضعف روايتهم حتى قال: ولهم كتابان يعبرون عنهما بالصحيحين -يعني صحيح البخاري [وصحيح] مسلم- ثم قال: وإن بينهما وبين الصحة لمسافات ومراحل، هذا معنى كلامه، ولعمري إنه على ورعه لا يقول ذلك عن وهم وتخمين، بل عن علم ويقين.
واعلم أن بعض العلماء شكك في هذه الرواية عن الهادي بمعنى أنه معاصر للبخاري ومسلم والذي اطلعت عليه في (مجمع البحار) أن البخاري ولد في شهر شوال سنة أربع وتسعين ومائة وتوفي ليلة الفطر سنة ستة وخمسين ومائتين، ومسلم ولد سنة أربع ومائتين وتوفي رجب سنة إحدى وستين ومائتين، فأما الهادي رضوان الله عليه فكانت وفاته في شهر الحجة سنة ثمان وتسعين ومائتين وعمره ثلاث وخمسون سنة، فلعل مولده في سنة خمس وثلاثين ومائتين وخروجه إلى اليمن في سنة ثمانين فعلى هذا لا مانع من اطلاعه على الصحيحين فافهم.
وقال في (محاسن الأنظار) لشيخنا أمير المؤمنين الهادي إلى الحق الحسن بن يحيى ـ رضوان الله عليه ـ وفي (الجامع الكافي) ما لفظه: قال الحسن بن يحيى عليه السلام : سألت عن سماع العلم من أهل الخلاف وذكرت أن قوماً يكرهون ذلك.
فالجواب: أن النبي صلى الله عليه وآله قد بلغ ما أمر به وعلّم أمته ما فرض عليهم ولم يقبض رسول الله صلى الله عليه وآله إلا عن كمال الدين، ودليله قوله تعالى: {الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي}[المائدة:3] فقال صلى الله عليه وآله: ((نعيت إليّ نفسي)) فما روته العامة من سنته المشهورة أخذت وحملت عن كل من يؤديها إذا كان يحسن التأدية مأمون على الصدق فيها وما جاء من الآثار التي تخالف ما مضى عليه آل رسول الله" ترك من ذلك ما خالفهم وأخذ ما وافقهم ولم يضف سماع ذلك من كل من نقله من أهل الخلاف إذا كان يعرف بالصدق على هذا التمييز. (1/50)
قال: ((ولا خير في السماع من أهل الخلاف إذا لم يكن مع المستمع تمييز، وقال أيضاً: المخرج من الاختلاف في الحلال والحرام اتباع المحكم المنصوص عليه من كتاب الله سبحانه والأخذ بالأخبار المشهورة المتسق بها الخبر من غير تواطئ عن رسول الله وعن علي أو عن أخيار العترة عليهم الصلاة والسلام الموافقة للمحكم من كتاب الله تعالى واتباع الأبرار الأتقياء من الأخيار من عترة رسول الله صلى الله عليه وآله)).
وقال المرتضى لدين الله محمد بن يحيى الهادي عليه السلام في بعض أجوبته: ((وقلت: لأي معنى لا ندخل الأحاديث في أقوالنا ولسنا ندخل من الحديث ما كان باطلاً عندنا وإنما كثير من الأحاديث مخالف لكتاب الله سبحانه ومضاد له، فلم نلتفت إليها ولم نحتج بما كان كذلك منها، وكلما وافق الكتاب وشهد له بالصواب صح عندنا وأخذنا به، وما كان من الحديث أيضاً مما رواه أسلافنا أباً فأباً عن علي بن أبي طالب -رضي الله عنه- عن رسول الله صلى الله عليه وآله فنحن نحتج به، وما كان مما رواه الثقات من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وآله قبلناه وأخذناه وأنفذناه، وما كان خلاف ذلك لم نره صواباً ولم نقل به...إلى أن قال -رضي الله عنه: وفي الحديث الذي ترويه العامة ما لا تقوم به حجة، ولا تصح به بينة، ولا شهد له كتاب ولا سنة، وكل ما قلناه وأجبنا به فشاهده في كتاب الله تعالى، وفي السنة المجمع عليها عن رسول الله صلى الله عليه وآله، أو حجة من العقل يصدقها الكتاب، فكل ما كان من هذه الطرق فهو أصح مطلوب وأنفذ حجة)). (1/51)
وقال في (الزهور): إن عمر بن عبد العزيز روى لعلي بن الحسين عليه السلام خبراً فقال: عن من؟ فقال: عن فلان، فقال: إنه أكل من حلوائهم فمال إلى أهوائهم، وفيها عن أبي طالب أنه قال: لا يقبل خبر فاسق التأويل وكافره.
وروي عن أبي طالب أنه قال: وكيف نقبل رواية من شرك في دماءنا وسود علينا؟!!
وقال الإمام القاسم بن محمد عليه السلام ما لفظه: ((وما يجري في كتب أصحابنا وغيرهم من إيراد أحاديث من لا تقبل روايته عندهم، فإنما يوردونه لأغراض لا يلزم من إيرادها العمل بها مثل الاحتجاج بها على من يقبله أو يقويه، أو الترجيح لما يوافق، أو المبالغة والاستئناس، أو تقوية قياس أو ترجيحه على ما يساويه في الأساس، أو زيادة ترغيب وترهيب فيما لا يحتاج فيه إلى إثبات حكم من أحكام الشريعة من الأذكار والأوراد والطب والرقية وغير ذلك)) انتهى.
قال العلامة المحقق المقبلي: وهذان البخاري ومسلم رويا عن عقبة بن سعيد بن العاص وهو جليس الحجاج، وعن مروان بن الحكم، وتجنب البخاري من لا يحصى من الحفاظ العباد كما تخبرك عنه كتب الجرح والتعديل مع أن من رويا عنه متكلم فيه بالضعف الكثير، بل في رجال الصحيحين من تكلم فيه كذلك، ومنهم من لم يعدل صريحا ولا كثر الرواة عنه حتى يصير كالمعدل. (1/52)
قال -يعني الذهبي- في ترجمة يحيى بن مالك الذماري: في رواة الصحيحين عدد كثير ما علمنا أن أحداً نصَّ على توثيقهم. انتهى.
وذكر القاسم بن محمد عليه السلام أن المتكلم فيه عند البخاري ومسلم ممن خرجا عنه قدر ألف ومائتين.
قال في (الرسالة المنقذة): وقالوا: إن البخاري نظر في كتاب مسلم بمحضر منه فعلّم على جماعة عدهم مسلم من الصحابة وهم من التابعين، وجماعة عدّهم من التابعين وهم من الصحابة، ورغب مسلم عن جماعة لم يرغب عنهم البخاري كما قالوا في عكرمة وعاصم بن علي وغيرهما، وحكوا أن مسلماً لما وضع كتابه الصحيح عرضه على أبي زرعة فأنكر عليه وتغيظ وقال: سميته الصحيح فجعلته سلماً لأهل البدع وغيرهم!
وقالوا: اعتمد البخاري على كثير ممن يقول بالإرجاء وغيرهم من أهل التدليس ومجاهيل ومتكلَّم فيهم، فالذي تكلم فيهم بالجرح بحق وباطل ممن اعتمدهم ثلاثمائة وخمسة وخمسون رجلاً، والذي علق بهم من المتكلم فيهم خمسة وسبعون رجلاً، والمجاهيل المختلف فيهم وفي تعيينهم مائة وثمانية وأربعون رجلاً...إلى أن قال فيها: عدد من أخرج له البخاري ولم يخرج له مسلم ـ يريد أن مسلماً استضعفهم ـ أربعمائة وأربعة وثلاثون شيخاً، وعدد من احتج بهم مسلم ولم يحتج بهم البخاري -يريد أن البخاري استضعفهم- ستمائة وعشرون شيخاً...إلى أن قال فيها: ومثله ذكره ابن حجر. انتهى ما نقلته من المحاسن.
قلت: وقد ذكر مثل هذا ابن حجر في مقدمة (فتح الباري).
إذا عرفت هذا علمت أنه روى الإجماع عنهم مجازفة، وعدم تثبت في النقل، وتدليس في الحكاية عنهم على من لا بصيرة له بهذا الشأن، واستنفر بيد شلاء وصال على خصمه بيد جذاء، ولو عاملناه بما عامل الزيدية به لكان أهلاً أن يرمى بعدم العدالة والتثبيت، وبالتدليس، يعلم ذلك من يقف على كتب الزيدية ومصنفاتهم ورواياتهم ثم يقف على روايته عنهم. (1/53)
الوجه الثالث: في ذكر من بلغنا أنه انتقد على البخاري ومسلم
فمنهم الدارقطني استدرك على البخاري ومسلم أحاديث طعن في بعضها وذلك الطعن مبني على قواعد المحدثين، ولابن مسعود الدمشقي عليهما استدراك، ولأبي علي الغساني.
قال الشيخ محيي الدين في مقدمته لشرح مسلم ما نصه: فصل قد استدرك جماعة على البخاري ومسلم أحاديث أخلاَّ فيها شرطهما ونزلت عن درجة ما التزماه. انتهى عن (مقدمة فتح الباري).
ومن أراد استيفاء ما قيل في الصحيحين من أهل الأحاديث فليقف على (مقدمة فتح الباري) ليعلم عدم وقوع الإجماع الذي زعمه الإمام محمد بن إبراهيم ـ رحمه الله ـ وأنه قد تكلم في صحتهما الموالف والمخالف بالحق والباطل، وليس مقصدنا إلا رداً للدعاوى الموهومة من العبارات النادرة، وإلا فأئمتنا ـ “ ـ لم يقطعوا بكذب ما في الصحيحين جميعه، بل قبلوا ما عرفوا صحته.
قال السيد البدر المنير محمد بن إسماعيل الأمير ـ رحمه الله ـ ما لفظه: قد تتبع أئمة هذا الشأن وفرسان الميدان ما صحح الشيخان فوجدوه مبنياً على أساس صحيح وجزم بالرواة ومعرفة وإتقان، وإن وجد الشيء اليسير في رجالهما مما انتقده الحفاظ من بعدهما كانتقاد الحافظ أبي الحسن الدارقطني على الشيخين فإن مجموع ما انتقده عليهما من الأحاديث مائة حديث وعشرة، انفرد البخاري منها بثلاثة وسبعين حديثاً، واشترك هو ومسلم في اثنين وثلاثين حديثاً، وقد أجاب عنه غيره من الحفاظ بأجوبة فيها الغث والسمين، وجملة من قدح فيه من رجال البخاري ثلاثمائة وثمانية وتسعون، وقد دفع الحافظ ابن حجر ما قدح به فيهم بعضه فيه تكلف وبعضه واضح. (1/54)
إلى أن قال: وبهذا التحقيق علمت مزية الصحيحين لا ما ادعاه ابن الصلاح من تلقي الأمة لهما بالقبول فإنه قول غير مقبول قد حققنا في (ثمرات النظر في علم الأثر) بطلانه بما لا مزيد فيه.
ومثله في البطلان قول العلامة الجلال في ديباجة (ضوء النهار) إنه يجب العمل بما حسنوه أو صححوه كما يجب العمل بالقرآن، فإنه كلام باطل قد بينا وجه بطلانه في (منحة الغفار). انتهى.
وأما استدلاله على الصحة بمجرد التسمية فقد أطلق أهل البيت على أئمة الجور أسماءهم كالمهدي العباسي والهادي والرشيد وتبريهم منهم ظاهر غير خفي فلا يستحي من يدعي العلم والفهم أن يبني محاججته على مثل هذه الخرافات.
وأما قوله: إنه يلزمهم ذلك من قولهم بقبولهم رواية أهل التأويل فمن التمويه؛ لأن القائل بذلك منهم لا يقبل ذلك إلا بشروط قد ذكروها، منها ما قد مضى من كلام الإمام القاسم والحسن بن يحيى، ومنها ما ذكره الإمام شرف الدين فإنه روي عنه في المحاسن ما لفظه: وسائر الأحاديث إنما يذكرها من يذكر إما لاستظهارها مع ظاهر القرآن أو سنة صحيحة أو استشهاد بضم بعض إلى بعض من المحتملات، أو تقوية قياس يثبت الحكم به في المسألة، أو زيادة ترغيب في الطاعة، أو ترهيب عن معصية، أو قطع حجاج خصم يقول بقبول مثل ذلك. (1/55)
إذا عرفت هذا فليخبرنا في وقت وقع الإجماع، أما أوائل الزيدية فإنهم لا يقبلون إلا ما كان من طريقهم، وأما المتأخرون فقد بينا كيفية قبولهم لأخبار العامة، على أننا ننكر عليه دلالة الموافقة من الألفاظ التي حكاها عن المنصور بالله عليه السلام وغيره مع تقدم الخلاف وتأخره من الفريقين كما ذكرنا، ومن ادعى دعوى فعليه البرهان وترجيحه لصحيح البخاري نظر له لا يلزم الغير على أنه لو أنصف لما رووا عن الفربري من أنه سمع الصحيح معه عن البخاري تسعون ألفاً وأنه لم يبق من يرويه غيره منهم لاستشكل أمرين:
أحدهما: ذكر العدد وموتهم جميعاً فما هذا الاتفاق العجيب ولم يبلغنا أنهم حضروا واقعة قتال فهلكوا أو رميوا بطاعون فبادوا.
ثانياً: إطلاقه لعدم الراوي غيره، وقد زعموا أنه رواه إبراهيم بن معقل النسفي، فإما أن يكون الفربري ادعى تفرده بالرواية باطلاً أو حقاً فاختر أيهما وأنت بعد الحكم، وقد نقلت عن ابن الصلاح في كتاب (علوم الحديث) أن في البخاري ما ليس بصحيح...إلى أن قال: إن كون ذلك فيه معلوم، فاعلم ذلك فإنه مهم خاف. انتهى.
ولا يخفى على المتطلع أن في الصحيحين الرواية عن من انفرد عنه راوٍ واحد وفي قبوله خلاف، وعن النواصب والخوارج والبغاة من الصحابة والتابعين والناكث لبيعته منهم والمجهول من الصحابة، وعن أمراء الجور وجلسائهم وأعوانهم، وعن الداعية إلى بدعته وربما دلس بأسماء آباء الرواة وفي روايتهما ممن تكلم فيه أهل الحديث كثير فلا يجترئ على قبول أخبارهم وتصحيحهم إلا الجاهل بأحوالهما أو الغالي فيهما أو من وافقهما وقدمهما على سائر أئمة الحديث، هذا علي بن المديني وابن معينن وغيرهما قد تكلموا في بعض رواتهما فكيف يكون رواية المتكلم فيه صحيح على قاعدة المحدثين، وكيف يلزم الزيدية قبول رواية من شرك في دمائهم وأعان عليهم أو جرحهم أو تجنب الرواية عن أئمتهم. (1/56)
هذا وقد أجاب عن مطاعن المحدثين في روايتهما ابن حجر وغيره بما مرجعه إلى الترجيح بين الجرح والتعديل، وهل هذا إلا فتح باب النظر في روايتهما وما ترتب عليها، وذا مناف لمطلق الصحة من غير نظر وترجيح، فتأمل، ومن هنا تعرف غلو من قال بصحة ما فيهما من الأخبار، وقبول ما نصا على جميع مع ما قدمنا، ومن طالع (ميزان الاعتدال) و(اللآلئ المصنوعة) تحقق ما عرفناك وما ذكره المترسل ـ رحمه الله ـ انتهى.
وأما احتجاجه على حجية ما نقل أهل كل فن عن أهل الإسلام وما سود من التهويل فمن الغلو ويلزمه أيضاً الرجوع إلى أهل علم الكلام ليقاد بهم فيه ومعرفتهم به وإلا فما هذا التهويل، على أنا لا نسلم له ما يزعم من اختصاص أهل نحلته بالحديث، بل ندعيه لغيرهم ونحتج بقوله صلى الله عليه وآله: ((إني مخلف فيكم كتاب الله وعترتي أهل بيتي فإنهما لن يفترقا...)) الخبر، وفي لفظ: ((وسنتي)) فقد ثبت من الأخبار أن أهل البيت عليهم الصلاة وأزكى السلام لا يفارقون الكتاب أو السنة مع ذمهم التقليد.
فإن قلت: فإنهم لم يتكلموا في رجال الإسناد فقد قدمنا كلام الهادي عليه السلام وغيره من الأئمة وتضعيفهم لغالب الرواة الذي اعتمد عليهم العامة وذلك ظاهر غير خفي على المطلع. فتأمل. (1/57)
واعلم أن العلماء اختلفوا في شرط الشيخين والذي استقر عليه حكاية ابن حجر في المقدمة عن العلماء كلام أبي بكر الحازمي وذلك أن شرط الصحيح أن يكون إسناده متصلاً، وأن يكون يرويه مسلم صادق غير مدلس ولا مختلط، متصف بصفات العدالة والضبط، متحفظ سليم الذهن، قليل الوهم، سليم الاعتقاد. انتهى.
قلت: وهذا الشرط منتقض، فإن البخاري روى عن أهل البدع عنده كالشيعة والروافض والنواصب وغيرهم ممن هو داعية إلى بدعته ومن ترك فيه سليم الاعتقاد بشرط أن لا يروي إلا عمن له روايات وهذا أيضاً منتقض بأنه روى عن رجال من الصحابة ليس لأحدهم سوى راوٍ واحد.
وقيل: إن شرط البخاري أن يخرج الحديث المتفق على ثقة نقلته إلى الصحابي المشهور من غير اختلاف بين الثقات الأثبات ويكون إسناده متصلاً غير مقطوع وإن كان للصحابي راويان فصاعداً فحسن وإن لم يكن إلا راوٍ وصح الطريق إليه كفى.
قلت: وهذا أبعد فإنه قد روى عن المختلف فيهم ومن رمي بالتدليس والمجاهيل وعن غير مشهور من الصحابة ولذا قال ابن حجر ما لفظه: ما ادعاه الإمام أبو عمرو بن الصلاح وغيره من الإجماع على تلقي هذا الكتاب بالقبول والتسليم لصحة جميع ما فيه فإن هذه المواضع متنازع في صحتها فلم يحصل لها من التلقي ما حصل لمعظم الكتاب وقد تعرض لذلك ابن الصلاح في قوله: إلا مواضع يسيرة انتقدها عليه الدارقطني وغيره.
وقال في مقدمة شرح مسلم: له مآخذ عليهما ـ يعني على البخاري ومسلم ـ وقدح فيه معتمد من الحفاظ وهو مستثنى مما ذكرنا لعدم الإجماع على تلقيه بالقبول. انتهى وهو احتراز حسن. ا ه.
ومن هنا يظهر له أن الإجماع المحكي مقيد.
ثانياً أن إطلاق الإجماع إنما هو متوجه إلى اتفاق الجمهور ممن تعقب البخاري ومسلماً من أهل الحديث وفيه من البعد ما لا يخفى لتعدد الأقطار وتفرقهم في الأمصار، وكون إجماع الجمهور ليس بحجة، على أن المحدثين نصوا على عدم قبول رواية الداعية من المبتدعة وهم مثبتون من رجال الصحيحين ونصوا على ضعف أبي حنيفة لروايته عن الضعفاء، وقد ثبت أن البخاري ومسلماً رويا عن الضعفاء وغيرهم، ومن اعتذر لهما بأنهما لم يرويا عنهم إلا وقد ثبت لهما ذلك من طريق صحيحة عدلا عنها لعلو السند وغير ذلك من المحامل فمن باب التجويز، ولو فتحنا ذلك الباب لما صح لنا طعن في خبر ولا عدالة، بل لو فتحنا التجويزات لأمكن ذلك في النبوة وغيرها. (1/58)
والحق الذي لا غبار عليه أن الصحيحين كغيرهما من الكتب، وقد أخرجا ما أخرجاه مسنداً فبرئا من العهدة وعلى العامل التفتيش عن تلك الطرق ولا يلزم من هذا الخطأ على المصنف مع الإسناد وكل على أصله والترجيح باتفاق العقائد نوع من الغلو والعبرة في هذا الشأن بالضبط مع الصدق وعدم التجاري على المعاصي وخصوصاً أبواب سلاطين الجور فافهم.
وقد أجاب العلماء عن العيوب المستدركة على الشيخين بأجوبة منها المفيد، ومنها ما هو إلى الضعف أقرب ومقصدنا المناقشة على صحة الإجماع لا المدعي المعارضة وكثرة الهذيان بما لا طائل تحته والحق أحق أن يتبع.
[روايات أهل البيت وشروطها]
[الإمام] قال ـ رحمه الله ـ: قال ـ يعني المترسل ـ والضابط في ذلك : أن ما صححه أئمتنا من ذلك فهو صحيح وما ردوه أو طعنوا في راويه فهو مردود مثل خبر الرؤية عن قيس بن أبي حازم عن جرير بن عبد الله، وإنما كان ما ردوه أو جرحوا راويه فهو مردود ومن جرحوه مجروحاً لوجهين:
أحدهما: أن أئمتنا عدول لصحة اعتقادهم واستقامة أعمالهم والقطع أنه إذا جرح الراوي جماعة عدول فإن جرحهم مقبول؛ لأن الجارح مقبول مقدم على المعدل.
الثاني: أنها إذا تعارضت رواية العدل الذي ليس على بدعة ورواية المبتدع قدمت رواية العدل الذي ليس على بدعة وهذا مجمع عليه. انتهى. (1/59)
[ابن الوزير] اعترضه محمد بن إبراهيم بما محصله: إن الأئمة إن كان هم الخلفاء فليس إجماعهم حجة وهو ظاهر. انتهى.
[المؤلف]: لكن المترسل لم يدع الإجماع ومع تعارض رواية العدل والمتأول فالعدالة مرجحة لتقديم الرواية وكلٌ على أصله.
وأما اعتراضه بأن من ولد فاطمة الحنفي والمالكي والشافعي والحنبلي فغير جيد؛ لأن المقلد لا يعتبر في الإجماع كما ذلك مقرر في موضعه.
وأما قوله: إن من الزيدية من لم يقل بحجية إجماع أهل البيت" فالمذكور في كتبهم صريحاً نسبة القول بحجيته إلى كافة الشيعة وتوهينه لحجية إجماعهم مع تنويهه بحجية إجماع المحدثين بغير دليل ولا شبهة من التعسف الباطل فالله المستعان!
واعتراضه أيضاً بأن أهل البيت ليس لهم مصنف في العلل، فيصح منهم التصحيح والرد، بل اختص بذلك المحدثون وأطراهم حتى تمثل بقوله:
أقلوا عليهم لا أباً لأبيكم .... من اللوم أو سدوا المكان الذي سدوا
والجواب عن هذه من وجوه:
أحدها: لا يخلو إما أن يكون النقل الذي نقلت عنهم وذلك إجماعهم على صحة البخاري ومسلم وقبول المجاهيل إلى غير ذلك من الدعاوى صحيحاً أو لا، إن كان الأول فقد نقحوا الصحيح من الكتب التي ادعيت وردوا المردود، وصرحوا بذلك في حشو مصنفاتهم قبولا ورداً واحتجاجاً، وذلك أحسن من إفراده في مصنف ليسهل على الطالب أو فلكونهم لا يعرجون على تلك الطرق ولا يقبلونها، لعدم العدالة الدينية، وكون المخالف لهم في العقائد غير مرضي الرواية، كما صح أنه غير مصيب الدراية، ولذلك لم يحتاجوا إلى إفراد العلل في مؤلفات مستقلة، وفي هذين الجوابين نظر.
الوجه الثاني: أن قدماء العترة" اعتمدوا على الكتاب العزيز ومن السنة على ما وافقه إما بظاهر آية أو قياس جلي أو نحو ذلك وما ذكروه من غير هذه الطريقة التي عن سلفهم فللاستظهار أو غير ذلك من المحامل، وبالجملة فكل من خالفهم في العقائد غير مقبول النقل من كان وكيف كان وكلامهم في ذلك ظاهر، وما ذكره المتأخرون من القبول فذلك للاحتجاج على الخصم بما يحججه نصرة للتخريج لا غير ذلك، وقد سبق ذرواً من كلامهم في معنى هذا على أن من كانت هذه طريقته ارتفع عن القال والقيل والجرح والتعديل، أما الطريقة القرآنية فظاهر، وأما المتواتر فلا يشترط فيه ذلك وما لم يعضده ظاهر قرآن ولا غيره فمردود عندهم. (1/60)
وأما قوله إنه لا يكفي المجتهد من أهل الإسلام كتبهم لعدم مؤلف في العلل فاعتراض ضعيف لأنه إن وافقهم المجتهد في عقائدهم وجب أن يكفيه ما كفاهم، وإن خالفهم في الأصول فقد سد باب التصويب ونادت عليه الأدلة بأنه في مخالفتهم غير مصيب مع أن كتب العلل مع ما قدمنا غير محتاج إليها البتة.
[ابن الوزير] قال ـ رحمه الله ـ في (الروض): إن معرفة كتب الجرح والتعديل غير مشترطة فيما نص على صحته إمام مشهور بالحفظ والأمانة حتى يعارضه قول من هو أرجح منه أو مثله وإنما يحتاج إليها في معرفة كثير من أحاديث المسانيد الذي لم يصحح مصنفوها كل ما روي فيها. انتهى.
[المؤلف] والحاصل عند أئمتنا تصحيح كل ما نصوا على صحته من الأخبار وحصر طرقهم في أهل طريقتهم وهذه المندوحة التي ذكرتها غالبها غير مقبول عند النقاد مطرح الثمرة عند أهل الاجتهاد بل حذر من قبوله المصنفون وأنت منهم، بل الأعلام من الفرق عن ذلك هاربون ولتلك المندوحة مقبحون، أما قد اشترط محققوا الأصولين اتحاد مذهب المعدل والمعدَّل والجارح والمجروح؛ إذ الاختلاف في سبب الجرح والتعديل يقضي بعدم قبول الإطلاق فيهما ولو كان من عارف، فكم من جرح عند جارح تعديل عند الآخر، وقد جعلت في (تنقيح الأنظار) قولهم: كذاب. مما يلحق بالجرح المطلق، وقلت: لأنه يطلق على من يخالف ما تقرر عند المخالف كبعض الشيعة ومن ذلك قولهم: فلان هالك ساقط الحديث متروك، قد يطلق على المبتدع الداعية وربما كان من التورع عن الكذب والعدالة والحفظ بمكان، وقلت في سياق مراتب التخريج: فإن قلت: فأي هذه الألفاظ جرحه متبين السبب. قلت: ليس فيها صريح في ذلك ولكن أقربها إلى ذلك قولهم: وضّاع ـ انتهى. (1/61)
قال في (التعليق الممجد على موطأ محمد): وبعض الجرح صدر من المتأخرين المتعصبين كـ (الدار قطني) و (ابن عدي) وغيرهما ممن تشهد القرائن الجلية بأنه في هذا الجرح من المتعسفين، والتعصب أمر لا يخرج منه البشر.
إلى أن قال: وقد تقرر أن مثل ذلك غير مقبول عن قائله بل هو موجب لجرح نفسه، قال بعضهم في الدارقطني: وقد تكلم في أحد الأئمة الأربعة ومن أين له تضعيفه وهو يستحق التضعيف بنفسه، فإنه روى في مسنده أحاديث مستقيمة ومعلومة ومنكرة وغريبة وموضوعة.
قال آخر: وهناك خلق لهم تَشَدُّدٌ في جرح الرواة يجرحون من غير مثال، ويدرجون الأحاديث الغير الموضوعة في الموضوعات، منهم ابن الجوزي، والجوزجاني، والمجد الفيروز آبادي، وابن تيمية الحراني، وابن القطان وغيرهم، فلا يجترئ على قبول قولهم من دون التحقيق إلا من هو غافل عن أحوالهم.
ومنهم من عادته في تصانيفه ك(ابن عدي) في كامله، والذهبي في ميزانه أن يذكر ما قيل في الرجل من دون فصل ما بين المقبول والمهمل، فإياك ثم إياك أن تجرح أحداً بمجرد قولهم من دون تقيد بأقوال غيرهم...إلى أن قال: وبعض الجروح لا تثبت برواية معتبرة كروايات الخطيب في جرحه وأكثر من جاء بعده عيال على روايته وهي مردودة ومجروحة. ا ه. (1/62)
وهذا كلامهم في بعضهم الآخر، ألا ترى أنا لو قبلنا قولهم في جرح الشيعة كافة، ومن قال: القرآن مخلوق أو توقف فيه، أو قال بعدم خلق الأفعال لله، أو روى ما يخالف قواعدهم لضاعت السنة، وأنورت البدعة، وانطمس الإسلام وأعلامه، وانهدم الدين وأركانه.
وما انتفاع أخي الدنيا بناظره .... إذا استوت عنده الأنوار والظلم
وأما ما في البيتين من الهجو وقوله:
……… (لا أباً لأبيكم)
فاختر -رحمك الله- أي آبائهم، إما محمداً رسول الله صلى الله عليه وآله سيد الأولين والآخرين أو علي بن أبي طالب -رضي الله عنه- سيد الوصيين
أتهجوهُ ولست له بكفوٍ .... فشركما لخيركما الفداء
وفي أيهما اخترت ما يزجر اللبيب عن سبهما أو سب ذريتهما كما ذلك معروف مذكور في موضعه ولكن لا غرو، فمن أحب شيئاً استحسنه وإن قبحه المعقول والمنقول.
وأما قولك:
…… (فسدوا المكان الذي سدوا)
فقل لي ما هذا الثغر الذي سدوه، وهل (جَنَتْ براقش إلا على نفسها)، آذيتم الله ورسوله بذم عترته وشيعتهم وخيار المسلمين، ثم نقلوا عن أولئك فلم يكتسبوا إلا الإثم ولله القائل:
فدع عنك نهياً صيح في حجراته .... ولكن حديثاً ما حديث الرواحل
المقصود بهذه العلوم إبطال الأمر بالمعروف، والنهي عن المنكر المخوف، وتزييف الخروج على البغاة، وتولي أعداء التنزيل، والتقرب إلى أئمة الجور بجرح أهل الحق والتعديل، سبحانك اللهم هذا بهتان عظيم.
[ابن الوزير] وأما قوله: فعلى الجملة فالزيدية إن لم يقبلوا كفار التأويل وفساقه قبلوا مرسل من يقبلهم من أئمتهم وإن لم يقبلوا المجهول قبلوا مرسل من يقبله، ولا يعرف فيهم من يتحرز عن هذا البتة، وهذا يدل على أن حديثهم في مرتبة لا يقبلها إلا من جمع بين قبول المراسيل ـ بل المقاطيع ـ وقبول المجاهيل، وقبول الكفار والفساق من أهل التأويل، فكيف يقال مع هذا، إن الرجوع إلى حديثهم أولى من الرجوع إلى حديث أئمة الأثر، ونقاده الذين أفنوا أعمارهم في معرفة ثقاته وجمع متفرقاته وبيان صحاحه من مستضعفاته...إلخ. (1/63)
[المؤلف] أقول: هذه دعاوى لا برهان عليها، فقد قدمنا ما يدلك على أنهم لا يقبلون كفار التأويل وفساقه إلا مع ظاهر آية أو قياس أو بضم بعضها إلى بعض حتى يحصل ما يوجب الظن بصدقها، على أنا لو سلمنا لك هذه الدعوى فمنزلة المصنفين المشار إليهم في التطلع على مرويات الفريقين وأصولهم مع الورع الكامل والدين القويم في أعلى المراتب، وقد قلتم في حق البخاري ومسلم وأمثالهما ما لفظه: ومن وقف على قدح في بعض روايتهما أو تعليل لبعض حديثهما وكان ذلك من النادر الذي لم يُتلق بالقبول، فالذي يقوى عندي وجوب العمل بذلك؛ لأن القدح بذلك محتمل، والثقة العارف إذا قال: إن الحديث صحيح عندي وجزم بذلك ولم يكن له في التصحيح قاعدة معلومة الفساد وجب قبول حديثه بالأدلة العقلية والسمعية الدالة على قبول خبر الواحد، وليس ذلك بتقليد له بل عمل بما أوجب الله تعالى من قبول أخبار الثقات، ولو كان مجرد الاحتمال يقدح لطرحنا جميع أحاديث الثقات لاحتمال الوهم والخطأ في الرواية بالمعنى، بل احتمال تعمد الكذب لا يمنع القبول مع ظن الصدق.
هذا وقد ذكر الإمام في (تنقيح الأنظار) بعد حكايته لكلام زين الدين في المسألة الخامسة ما لفظه: هذا الذي رجع إليه أهل الحديث هو بعينه الذي بدأ به أهل البيت" وهو قبول المراسيل من العدول والثقات الأمناء ولكن لا بد من تقييد المراسيل بما تقدم في بابها. انتهى. (1/64)
وقال عند الكلام على المرسل المقبول: وهو ما نص على صحته ثقة عارف بهذا الشأن...الخ.
أقول: قرر ـ رحمه الله ـ هذا الجواب وهو غير مطابق لقواعد أهل نحلته ولكن قد أنصف القارة من راماها.
أما شرح القاضي زيد فهو منتزع من شرح أبي العباس للأحكام وغيره من كتب السيدين وشرطهما معروف ليس كما ذكر عنهما، و(أصول الأحكام) أخبارها أخبار (شرح التجريد) والغالب على أخبارها الإسناد وليس في أخباره من صح نكارته أو وضعه، فأما الضعف فيمكن، لكن لا يخرج ذلك عن الاحتجاج به، صرح به غير واحد من علماء السنة.
وأما الإمام يحيى عليه السلام فلا نعلم له قاعدة معلومة الفساد إلا قبول أخبار أهل الأهواء، والبخاري ومسلم قبلا ذلك، فإما اطردت قاعدتك هنا وإلا فما الوجه لتخصيص نقل أحد متفقي العدالة دون الآخر إلا لمجرد التعسف؟فما أجبتم به فهو جوابنا.
وأما قبول رواية المجهول وهو مذهب الشيخين كما قررنا سابقاً وحكى في (الروض النضير) عند الكلام على مس الذكر عن الذهبي ما لفظه: إن في البخاري ومسلم من لا يعرف إسلامه فضلاً عن عدالته. انتهى.
أما أئمتنا فلا نسلم ما حكي عنهم إلا مجهول العترة فقد ذكر ذلك عنهم، وهل هذه الإشكالات إلا مجرد دعوى أحاطت المحدثين بالحديث دون أهل البيت" وذلك من إنكار الضرورة، وينبغي للعاقل ترك ما رآه منكر الضرورات.
وأما صاحب (الشفاء) فمن قواعده قوله في (ينابيع النصيحة): إن رواية غير العدل الضابط مردودة بلا خلاف، وقال في ديباجة (الشفاء) زبدا مما صحت أسانيدها.
وقوله في (كتاب البيع) بعد أن روى خبراً عن امرأة صحابية: فإن قيل: إن هذه المرأة التي روت هذا الخبر عن عائشة لا تعرف، قلنا: وهذا لا يلزم؛ لأن من روى هذا الخبر من أعيان الصحابة واحتج به قد عرفوها لولا ذلك لردوه وجهل غيرهم بها لا يقدح، ورده لخبر النبيذ؛ لقوله: وخامسها أنه رواه أبو زيد عن عبد الله وهو مجهول، ورده لحديث القهقهة بثلاثة نصّ أنهم مجاهيل وغير ذلك، فلو كان يقبل المجاهيل من الصحابة وغيرهم أو غير العدل لما رد هؤلاء، ونصه صريح يغني عن المحتملات، مع أنه لا يستكفي في الباب بخبر واحد، على أنا لا نسلم أن أصول أخبار الكتب المذكورة من لدى المحدثين فما نقلوه عنهم نادر، والنادر محمول على ما حملته في نادر أخبار الصحيحين وأمثالهما. (1/65)
وقال الأمير الحسين: ومنها أن أخبار الآحاد لا يجوز الأخذ بها ولا العمل عليها إلا متى تكاملت شرائطها وهي ثلاثة:
أحدها: أن يكون الراوي عدلاً ضابطاً؛ لأن رواية غير العدل الضابط مردودة بلا خلاف...إلى أن قال:
ثانيها: أنه لا يعارض أدلة المعقول، ولا محكم الكتاب، ولا السنة المعلومة...إلى أن قال: ولا يرد في أصول الدين ولا فيما يؤخذ فيه بالأدلة العلمية. ا ه.
وهاك شروط أئمتنا":
فعند القاسم والهادي × لا يقبل من الحديث إلا ما كان متواتراً أو مجمعاً على صحته أو كان رواته ثقات، وله في كتاب الله أصل وشاهد.
وكلام المنصور بالله عبد الله بن حمزة عليه السلام في الأولين، وقال في الثالث: هو أن يكون الخبر سليم الإسناد عن المطاعن سليم المتن من الاحتمالات متخلصاً من معارضة الكتاب والسنة.
وكلام الإمام شرف الدين مثل ذلك، وقال في الآخر: أو صححه آل محمد.
فأما أبو طالب والحسن بن يحيى فقد تقدم كلامهما.
وأما الصادق عليه السلام فقد روي في العلوم عن أحد العلوية أنه قال لجعفر الصادق: إن قوماً من أصحابنا خلطوا عليّ في شيء من الحجج، قال: فقال لي: ألست قد أدركت أباك وسمعت منه؟ قال: قلت: بلى، قال: ورأيت خالك محمد بن علي وسمعت منه؟ ورأيت خالك زيد بن علي وسمعت منه؟ قال: وعدد عليّ رجالا من أهلنا، قال: [في] كل ذلك أقول: بلى، قال: فقال لي: فانظر إلى ما سمعت منهم فخذ به وما سمعت به من غيرهم فارم به تهتد. ا ه. (1/66)
فدلّ على أن الهدى عنده رد السماع عن غير أهله وأنه لا يؤخذ إلا عنهم.
وأما المؤيد بالله فقال ما لفظه: وعندنا لا يحل لأحد أن يروي الحديث عن رسول الله صلى الله عليه وآله إلا إذا سمعه من فم المحدث العدل فحفظه ثم حدّث به كما سمعه، فإن كان إماماً تلقاه بالقبول وإن كان غير إمام فكذلك، ثم ما روي غير مرسل وصح سنده، فإن المراسيل عندنا وعند عامة الفقهاء لا تقبل.
قال أبو العباس الحسني ـ رحمه الله ـ : والفاسق لا يحتج بسنده، قال أحمد بن عيسى ـ رحمه الله ـ ما معناه: والذي نأخذ به قول أصحابنا وما أسندوا من ذلك إلى النبي صلى الله عليه وآله ولا أؤثر به على الأخذ بقول أصحابنا إذا صح عنهم القول فيه.
وأما محمد بن منصور، فقال في (تتمة الاعتصام): إن المعروف من مذهب أبي عبد الله اشتراط العدالة في المخبر، وقال فيها: ورواية الحافظ محمد بن منصور من أعلى درجات التعديل لمن أسند إليه من مشائخه.
قال في (الروض النضير): وقد ثبت عن قدماء أهل البيت" كزيد بن علي والباقر والصادق وأحمد بن عيسى والقاسم بن إبراهيم ومن في طبقتهم أنهم لا يروون ويحتجون إلا بمن ثبت لديهم عدالته وصح عندهم ثقته وأمانته. ا ه.
فهذا كلامهم يدفع كلما ألصقه الإمام محمد في مصنفاتهم من العيوب والأوهام وغير ذلك مع أن عدالتهم ومعرفتهم مرجحة لتقديمهم على غيرهم كما ذكر في الرسالة، على أنا لو سلمنا لك جميع الدعاوي التي ادعيتها عليهم فقد اشتمل مصنفات أهل نحلتك على ذلك جميعه كما يعرفه المطلع المنصف وهذه كتبهم منادية عليهم بما قلنا، بل ذلك فيها كنار على علم. (1/67)
[استطراد في ذكر المحدثين وذكر مسألة الرؤية]
[ابن الوزير] قال ـ رحمه الله ـ: فأما الوجوه التفصيلية فقد اشتمل كلامه على مسائل:
المسألة الأولى:
مثل المردود من كتب المحدثين كحديث جرير بن عبد الله البجلي في الرؤية وهذا من الإغراب الكثير والجهل العظيم فإن المحدثين رووا في الرؤية أحاديث كثيرة تزيد على ثمانين حديثاً عن خلق كثير من الصحابة أكثر من ثلاثين صحابياً.
[المؤلف] قلت: الذين عدهم من الصحابة واحداً وثلاثين رجلاً، ومنهم عمر بن ثابت الأنصاري وعده صحابيا، وفي كونه صحابياً نظر وهذا التمثيل صحيح على قواعد المحدثين من أنه لا تقبل رواية المبتدع الداعية لا سيما فيما يجر إلى بدعته وإن كثر المخرج.
[الإمام] قال ـ رحمه الله ـ: المسألة الثانية: قال: إذا تعارض رواية العدل الذي ليس على بدعة ورواية المبتدع قدمت رواية العدل الذي ليس على بدعة وهذا مجمع عليه.
[ابن الوزير] والجواب عليه من وجوه:
أحدها: منع الإجماع الذي ادعاه بشهرة الخلاف، فقد أجمع أئمة الحديث على تقديم الحديث الصحيح على الحديث الحسن مع إخراجهم لأحاديث كثيرة من أهل البدع في الصحيح، بل إن في مراتب الصحيح وهو المتفق عليه المتلقى بالقبول من حديث الصحيحين، فحديث أولئك المبتدعة الذي اتفق الشيخان على تصحيح حديثهم مقدم عند التعارض على حديث كثير من أهل العقيدة الصالحة الذين نزلوا عن مرتبة أولئك المبتدعة في الحفظ والإتقان.
[المؤلف] أقول: وهذا الكلام ممن لم يكن تأمل لمعاني كلام خصمه وحمله على سياق أوله، وإنما أراد المترسل إذا اتفق الراويان في الحفظ والإتقان فإنه يقدم رواية غير المبتدع ودليل ذلك عقلي لا يخالف فيه إلا غير العاقل. (1/68)
أما استدلاله بفعل الشيخين فلا ينفي ما قلنا، سلمنا فليسا من أهل الترجيح وهذه المسألة من بضائع أهل أصول الفقه وأهل الفروع لا المحدثين وثقلاء الظاهرية المجسمين.
[ابن الوزير] قال ـ رحمه الله ـ: الوجه الثاني: إنا قد بينا أن الزيدية أحوج الناس إلى قبول المبتدعة وإن مدار حديثهم على من يخالفهم وإن كثيراً من أئمتهم نصوا على قبول كفار التأويل وادعوا الإجماع على ذلك.
[المؤلف] أقول: هذا من البهت، فإن احتياج المحدثين إلى رواة الشيعة أكثر وأحوج وكلامهم في ذلك مصرح به نقلاً صحيحاً غير مدرج، وهذه زلة منك ينبغي تداركها، أردت أن تفضح الزيدية ففضحت أهل نحلتك الظاهرية.
قال الذهبي: لو تركت رواية ثقاة الشيعة لذهب جملة من الآثار النبوية.
[الإمام] قال ـ رحمه الله ـ: قال: لأن رواية غيرهم لا تخلو من ضعف وإنما تقبل عند عدم المعارض يعني رواية غير أئمة الزيدية.
[ابن الوزير] أقول: هذا فضل للعدالة على أئمة الزيدية الذين ادعوا الخلافة، وهذا غلو لم يسبق إليه بل هذيان لا يعول عليه.
[المؤلف] أقول: هذا لا يلزم المترسل؛ لأنه ما قصد إلا العدول جميعاً الدعاة وغيرهم كما تقدم مع أن المخالفة في علم الكلام بينهم وبين أهل السنة ظاهر والتكفير والتفسيق فيما بينهم وبين العامة معروف، وكل دعاويه عليهم من قبول كفار التأويل فمقيد ولا يلزمهم مما ألزمهم شيئاً، وقول صاحب الرسالة: لأن الترجيح بالخبر إنما يكون بعد كونه صحيحاً، ولا يكون صحيحاً حتى يكون راويه عدلاً والعدالة غير حاصلة كما سنذكره.
[ابن الوزير] قال: أقول: نفي العدالة عن رواة حديث الكتب الصحيحة جهل مفرط لم يقل به أحد من الزيدية ولا من السنية...إلخ.
[المؤلف] قلت: كلام صاحب الرسالة قويم؛ إذ لا يكون الترجيح إلا بين الصحيحين، والعدالة مشروطة وكل على أصله والزيدية قاطبة لا يقولون بعدالة مخالفهم إنما قبلوا روايتهم مع ظاهر آية أو نحو ذلك مما تقدم ذكره، والإجماع الذي ذكره قد تقدم ما عليه من المواخذة فلا تغتر. (1/69)
وقول صاحب الرسالة: ولأنه لا يرجح بالخبر حتى يعلم أنه غير منسوخ ولا مخصص ولا معارض بما هو أقوى منه من إجماع أو غيره.
إن كان أراد بالعلم هنا الظن فما اعترضه به الإمام محمد غير سديد، وإن أراد به اليقين فينفرد بذلك دون غيره كما قرر في الأصول، هذا فيما مرجعه الأحكام دون العقائد فلا يؤخذ فيها بالآحاد.
وأما اعتراضه كلام المترسل في تسميته أهل الحديث حشوية فقد نقل عن (ضياء الحلوم) أن الحشوية سموا بذلك؛ لكثرة قبولهم الأخبار من غير إنكار، ثم ذكر أن المحدثين انتدبوا للذب عن السنن وبيان صحيحها من سقيمها.
وأقول: إن ذلك واقع لقبولهم للأخبار المعارضة للقرآن كخبر الرؤية وغيرها من أخبار التجسيم والفضائل، فتراهم يروون لأبي بكر ما يقتضي أنه أفضل الصحابة، فإذا عدوا فضائل عمر رووا له ما يقتضي تفضيله على المصطفى صلى الله عليه وآله فضلاً عن أبي بكر وعثمان بالأولى، وأما علي عليه السلام فإنهم إذا شموا روائح الشيعة ضعفوا ما روي فيه لأجل الشيعة.
وأما رده لما روي عن الحشوية من القول بجواز الكبائر على الأنبياء" لكلام الأشاعرة فغير صحيح كأنه ما علم أنا نعلم أن القاضي عياض والنووي ومن عده في كتابه هناك أشاعرة العقائد، وكلامنا في الظاهرية على أنه يلزم الكل من نفي التحسين والتقبيح العقليين وكون الكسب مجرد اعتبار، ولولا ضيق المقام لرميناهم بحجرهم لكن محل المسألة كتب الكلام.
فأما نفيه عنهم القول بالعصمة لأحد غير النبي صلى الله عليه وآله فضعيف؛ لأنهم يعتقدون أن العشرة في الجنة وصاحب الكبيرة ولذا قرروا خروجه بعد تطهيره، ثم رووا خبر الاقتداء بالخلفاء وليس العصمة إلا هذا. (1/70)
أما اعتذاره عن روايتهم عن الوليد ومروان وغيرهما من المجاريح فقد صرحوا بعدالة من روي أنه صحابي، حتى قال ابن حجر: إذا صحّ أن مروان صحابي فلا كلام.
[ابن الوزير] قال ـ رحمه الله ـ في شأن إيواء عثمان للحكم بن أبي العاص طريد رسول الله صلى الله عليه وآله ما لفظه: ولا حفظت في ذلك إلا ما ذكره الحاكم المحسن بن كرامة المعتزلي المتشيع في كتاب (شرح العيون) فإنه ذكر فيه أن رسول الله صلى الله عليه وآله أذن في ذلك لعثمان، وهذا الجواب مقنع إن صحّ الحديث، لكني لم أعرف صحته.
فأما المعتزلة والشيعة من الزيدية وغيرهم فيلزمهم قبوله وترك الاعتراض على عثمان بذلك؛ لأن راوي الحديث عندهم من المشاهير بالثقة والعلم وصحة العقيدة إلا فيما لا يقدح به من الاختلاف في فروع الكلام وما لا يخرج من الولاية.
وأما الجواب المقنع عند النقاد فهو ما ألقاه الله على خاطري في ذلك فأقول غير خافٍ عمن له أنس بقواعد العلماء: أن أفعال النبي صلى الله عليه وآله لا تدل بنفسها على الوجوب بل ولا على الندب وإنما تدل على الإباحة...إلى أن قال: فإذا فعل رسول الله صلى الله عليه وآله فعلاً نظرنا هل دلت القرائن على أنه فعل ذلك متقرباً به إلى الله تعالى أو لا، فإن لم تدل القرائن على ذلك لم يجب التأسي فيه وكان من فعله على الإباحة من شاء فعله ومن شاء تركه...الخ.
[المؤلف] وجوابه من وجهين:
الأول: وإن روى الإذن لعثمان الحاكم فلا يلزم الزيدية؛ لمعارضته ما تواتر من الأمر بطرده من المدينة وتكذيب أبي بكر وعمر لعثمان حيث روي ذلك حتى روي أنهما انتهراه.
الوجه الثاني: قوله: ألقاه الله على خاطره، فيه من البشاعة ما لا يخفى، هلا قال كما قالت الصحابة: إن كان صواباً فمن الله، وإن كان خطأً فمني، والله ورسوله منه بريئان. (1/71)
وأما قوله: إن الفعل لا يدل على الوجوب حتى تدل عليه القرائن، فموضعه غير هذا.
وأما استدلاله على عدم الوجوب بقوله تعالى: {فَلَمَّا قَضَى زَيْدٌ مِنْهَا وَطَرًا...}[الأحزاب:37] الآية، فقوله في آخرها: {لِكَيْ لاَ يَكُونَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ حَرَجٌ}[الأحزاب:37] دليل المراد من الآية أن فعله مراد به التشريع ورفع الجناح، والآية تدل لسياقها من أول ذكر ذلك لا على قصة الأمر أو حكاية مجرد الفعل.
وأما استفهامه عن خلع النعال، فذلك محتمل، والاحتمال دعوى معرفة الموجب له حيث لم يسألوه تنبيها لهم إن ذلك موضع سؤال عن الحادثة ولم يخرج استفهامه مخرج الإنكارفيتأتى لك ما ادعيت.
وأما عدم إخبار عمر على موافقته من جهة أسارى بدر فقد تركه وشأنه يوم أحد معتصماً بالجبل يصعد كالراوية ورسول الله في الرعيل وتركه يوم الحديبية ومرجع الموافقة له صلى الله عليه وآله الإيمان القلبي، لكنك أبيت إلا دعوى العصمة لعمر بالإشارة التي هي أدخل من صرائح العبارة على أن ذلك أقل بشاعة مما أنت مورده في حق الطلقاء، فرحم الله عمر.
وأما قولك: إن بعض أفعاله غير واجب إجماعاً. فإن كان لاعتقاد الصارف فهو المراد، وإن كان لغيره فلا نسلم صحة الإجماع. والله أعلم.
وأما قوله تعالى: {فاتبعوه} فهو يدل على الوجوب ما لم تصرفه القرينة عن الوجوب فتأمل.
[ابن الوزير] قال ـ رحمه الله ـ: فإذا تقرر هذا فاعلم أنه لا يدل دليل على أنه صلى الله عليه وآله طرد الحكم معتقداً لوجوب ذلك عليه وعلى أمته، بل الظاهر خلاف ذلك لوجوه:
الأول: أنه صلى الله عليه وآله لم يوجب ذلك ولا أمر به، والبيان واجب عليه. ا ه.
[المؤلف] أقول: لا يخلو إما أن يكون النبي صلى الله عليه وآله دفعه بيده حتى خرج من المدينة أو لا، الأول باطل؛ لعدم الرواية؛ إذ لو كان لنقل، فتعين الثاني وهو المطلوب موافقاً لما قررتم قولاً لا فعلاً. (1/72)
[ابن الوزير] قال: الثاني: أنه لم يطرده من دار الإسلام بل طرده من جواره فقط وتركه في الطائف مع المسلمين وأمره عليه السلام نافذ في الطائف.
[المؤلف] أقول: وهذا ضعيف لتركه لأهل الذمة في بلاد الإسلام.
[ابن الوزير] قال: الثالث: إنه لم يخبر أهل الطائف أنه يحرم عليهم مجاورة الحكم ويجب عليهم نفيه وهم مسلمون ممتثلون لأوامره وتقريره أحد الحجج.
[المؤلف] أقول: التقرير لا يفيد رجوعه المدينة وتأمينه.
[ابن الوزير] قال: الرابع: إنه لو وجب نفيه لم يكن إلا لأجل فسقه أو كفره ولا ذنب أكبر من الكفر وقد ترك المنافقين واليهود في جواره وأجمعت الأمة على جواز إقرار اليهود بين المسلمين إلا في جزيرة العرب.
[المؤلف] أقول: لا وجه لاختصاصه بالطرد عن المدينة إلا لزيادة خبثه وأذيته للرسول صلى الله عليه وآله، ولا وجه لما اعتذر به لعثمان وأنه رده للرحامة الماسة؛ لأنه أعطاه من بيت المال وهو لغيره، قصد النبي صلى الله عليه وآله إهانته وإحرامه وعثمان أعزه وأعطاه، هب أنه رده وأعطاه من ماله لكنه أعطاه من مال الله ووسع عليه وأمّر ولده حتى عظم في القلوب وطار صيته في الآفاق إلى أن نال هو وولده ما نالوا، ولو استمر في الطائف هان هو وولده لما كان ما كان. والله المستعان.
وما هذه المحاماة عمن قال فيه الرسول صلى الله عليه وآله ما قال، فمن ذلك ما أخرج الحاكم وصححه عن عبد الرحمن بن عوف أنه قال: كان لا يولد لأحد مولود إلا أتى به النبي صلى الله عليه وآله فيدعو له، فأدخل عليه مروان بن الحكم فقال: ((هذا الوزغ ابن الوزغ الملعون ابن الملعون)).
[ابن الوزير] قوله في أبي موسى: وهذا يدل على براءته من الجرأة على الله التى اجترى المعترض على الله في غيبته بها، فقد كان متعبداً متزهداً...إلى قوله: وروى فيه -يعني في النبلاء- عن الشعبي عن حذيفة أنه تكلم في أبي موسى بكلام يقتضي أنه منافق، ثم قال: في الشعبي تشيع يسير. ا ه. (1/73)
وقد قال الشعبي: حدثناهم بغضب أصحاب محمد فاتخذوه دينا. وعندي أن هذا لا يصدق فإنه معارض بما هو أصح منه، بل هو معلوم الصحة وذلك أن حذيفة وإن كان صاحب العلم بالمنافقين فبغير شك أنه إنما أخذ العلم بذلك من رسول الله صلى الله عليه وآله وفي أيام الخلفاء الراشدين وكانت حالة المنافقين أحقر من ذلك فلم يكن رسول الله صلى الله عليه وآله ليولي القضاء منافقاً ويقره على الفتيا وكذلك أصحابه، فهذا أمر معلوم بالضرورة ولا يعارض بحديث مظنون، ومن الأحاديث المظنونة في الثناء على أبي موسى ما روى مالك بن معول وغيره عن أبي يزيد عن أبيه بريدة عن رسول الله صلى الله عليه وآله أنه قال في أبي موسى: ((إنه مؤمن منيب)) لما قال له بريدة: أتراه يرائي. ا ه.
[المؤلف] الجواب: أما قوله: عابد متزهد، ففي الخوارج من هو كذلك لكن لا يجاوز التراقي كما أخبر عنهم النبي صلى الله عليه وآله.
وأما رده لخبر حذيفة بالأمر المعلوم فإن الولاية لا تقتضي العدالة، فقد ولى النبي على الصدقات الوليد بن عقبة وأبا سفيان على نجران حال تألفه له.
وأما الفتيا فلم ينقل أن النبي صلى الله عليه وآله علم به وأقرّه.
وأما القضاء فلعل معه من يحرسه إن صحّ سلمنا، فليس ذلك كله ينفي نجوم النفاق فيما بعد وفاة النبي صلى الله عليه وآله.
وأما الخلفاء فقد استعانوا بمن هو أخبث منه من الطلقاء وأهل الردة لميلهم عن بني هاشم.
وأما الخبر المروي في الثناء عليه فهو لما اقتضى دوامه مع ورود خبر النفاق للجمع بين الأدلة؛ لأنه ليس لحذيفة ولا لغيره أن يرمي مؤمناً بالنفاق، إذاً باء بها أحدهما فاختر أيهما أهون عليك، وليت شعري لم قلت: إن المظنون هنا لا يعارض المعلوم، مع أنه غير معلوم، وقد اعترضت فيما مضى وفيما سيأتي على المترسل في رده لخبر الرؤية وغيره مما يعارض القرآن والأدلة العقلية الكلامية، هل هذا إلا تتبع الأهواء الردية. (1/74)
[ابن الوزير] قال ـ رحمه الله ـ : ولو كان منافقاً لاغتنم الفرصة حين حكمه علي ومال إلى الدنيا وتابع من أعطاه منها ولم ينظر للمسلمين، ولو كان كذلك لما اختار عبد الله بن عمر للخلافة فإن عبد الله من أئمة التقوى ومعادن الزهادة في الدنيا، والمنافق إنما يحب أهل الفسق والجراءة. ا ه.
[المؤلف] أقول: أما اغتنام الفرصة فإن أمير المؤمنين كرم الله وجهه في الجنة قد حال دونها بشرطه عليهما إذا خالفا حكم القرآن فلا حكم لهما.
وأما ميله إلى ابن عمر فليس ذلك اختياراً للمسلمين وإنما كان ابن عمر من المغفلين وأبو موسى كان والياً لأبيه فرجى رجوع ذلك مع معرفته بضعف الرجل وقول أبيه فيه، ولو كان مقصده الدين لما خفي عليه زهد أمير المؤمنين لكن شأنه معروف وإنما الخطب الجسيم والأمر العظيم ذبك عن أعداء الله واستصغارك لأبيك أخي رسول الله صلى الله عليه وآله، فتارة تجعله رابعاً لمن لا يساويه في مشهد من مشاهد رسول الله صلى الله عليه وآله، وتارة تعرض ابن عمر في مقابلته مع دعواك العلم والنسب الشريف والتمسك بالسنة، كيف لو حضرت أحد مجالس جدك المصطفى صلى الله عليه وآله حيث يقول: ((من كنت مولاه فعلي مولاه، اللهم وال من والاه، وعاد من عاداه، وانصر من نصره، واخذل من خذله)) بعد أن قد سبق منك ما قد مهدت، أكنت مستحياً أن يقع عليك بصره الشريف؟ أكنت خائفاً أن تشملك دعوته؟ كلا إن الحياء قد ارتفع من كثيرين بكثرة التجاري.
[ابن الوزير] قال ـ رحمه الله ـ : فإن كان صدر من حذيفة شيء من ذلك فلعله تأول في ذلك وغلط فيه وربما أخذ ذلك من قول رسول الله صلى الله عليه وآله في علي -رضي الله عنه: ((لا يحبك إلا مؤمن ولا يبغضك إلا منافق)) وأخذ بغضه لعلي من تخلفه عنه، وهذا كله ضعيف، فإن التخلف لا يدل على البغض ولا يستلزم استخراج النفاق...إلى [أن] قال: على أن بغض علي عليه السلام إنما كان علامة النفاق في أول الإسلام، فإن المنافقين كانوا يبغضون من فيه قوة على الحرب لكراهتهم لقوة الإسلام، ولذلك جاء في الحديث أيضاً أن بغض الأنصار علامة النفاق لهذا المعنى، وكذلك حبهم وحب علي كان في ذلك الزمان علامة للإيمان لهذا، وأما في الأعصار المتأخرة عن أول الإسلام فلا يدل على ذلك، فإن الخوارج يبغضون علياً ويكفرونه مع الإجماع على أنهم غير منافقين...إلى أن قال: وكذلك الروافض يحبونه مع ضلالتهم وفسوقهم...إلى قوله: وقصدت وجه الله في الذب عن هذا الصاحب المعتمد في نقل كثير من الشريعة المطهرة لما رأيت الحافظ الذهبي روى ذلك ولم يقدح في إسناده بما ينفع. (1/75)
[المؤلف] الجواب: إن هذا الاعتذار غلط فاحش؛ لأن حذيفة ـ رضي الله عنه ـ توفي قبيل الجمل، أما حال محاصرة عثمان أو بعده بيسير وأبو موسى لم يتخلف ويخذل عن علي عليه السلام إلا يوم الجمل، وقد قدمنا الجواب مع أن ابن عبد البر قد أشار إلى كلام حذيفة فيه، وفسر ابن أبي الحديد قوله فيه، وقد ذكر عنده بالدين، أما أنتم فتقولون ذلك، وأما أنا فأشهد أنه عدو لله ولرسوله وحرب لهما في الحياة الدنيا ويوم يقوم الأشهاد {يَوْمَ لاَ يَنفَعُ الظَّالِمِينَ مَعْذِرَتُهُمْ وَلَهُمُ اللَّعْنَةُ وَلَهُمْ سُوءُ الدَّارِ}[غافر:52] ا ه.
فهذا مقام غضب وإخبار عن النبي صلى الله عليه وآله وروي أن عماراً سئل عن أبي موسى فقال: لقد سمعت فيه من حذيفة قولاً عظيماً سمعته يقول: صاحب البرنس الأسود ثم كلح كلوحا، علمت منه أن كان ليلة العقبة بين ذلك الرهط. (1/76)
وأما أن التخذيل والتخلف لا يكون بغضاً فلا نسلم:
أخاك الذي إن تدعه لملة ...الخ.
أما قام وقعد في منع أهل الكوفة عن إجابة أمير المؤمنين وهو إذ ذاك أميرها من قبله قد شملته البيعة والتزم الإمامة ثم خذل وتربص بإمامه، قل لي لو لم يدفع أمير المؤمنين طلحة والزبير ومن معهما أكانا يتركانه في بقية بلاد الإسلام؟!
تود عدوي ثم تزعم أنني .... صديقك ليس النوك عنك بعازب
وأما المساواة بين خبر الأنصار وخبر أمير المؤمنين فلا سوى؛ لتعلق خبر الأنصار بجميعهم لا الذي أشار إلى معين النص ظاهر مع وجوب بقاء ذلك وإلا لجاز التبري منهم اليوم.
ثانياً: إن النبي صلى الله عليه وآله جعل نفسه منهم يوم الفتح ولم يزل يوصي بهم، أما علي عليه السلام فإنه أراد بذلك اختصاص ذاته بتلك الكرامة التي جعل الله سبحانه له -أعني ذاته- لذكره باسمه ولا سوى المحلى باللام والعلم.
وأما الإجماع على عدم نفاق الخوارج فلا يضر الخبر، والإجماع من مدعياتك الباطلة، ويكفينا قول الرسول صلى الله عليه وآله: ((يمرقون من الإسلام)) فأخبرني ما المروق؟ هل هو غير الخروج؟ وقوله صلى الله عليه وآله: ((إنهم كلاب أهل النار)). وهذا أعظم إهانة من الدرك الأسفل؛ لأنه زيادة على ذلك إن شاء الله.
وأما قولك: إن الروافض تحبه، فقد ورد أنه يهلك فيه رجلان محب مفرط وهم الروافض؛ لأن القصد من الحب هو المودة والاتباع، قال سبحانه وتعالى: {قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ}[آل عمران:31].
قلت: واعلم أن هذا التأويل منقول عن ابن حجر تلقفه السيد محمد، ولعل غير ابن حجر قد تقدمه فانظر لهذه الحماقة والتعسف البين كيف قيدوا الخبر بأن الخوارج غير منافقين وجعلوا أنفسهم مشرعين يقيدون الأخبار النبوية بآرائهم فافتعلوا في الصلاة وغيرها من شرائع الحكيم، سبحانك هذا بهتان عظيم. (1/77)
[ابن الوزير] قال ـ رحمه الله ـ: وقد أحسن الشعبي ـ رحمه الله ـ بقوله: حدثناهم بغضب أصحاب محمد فاتخذوه ديناً؛ فإنه يحتمل صدور مثل ذلك عند الغضب بأدنى شبهة، وفي الصحيح أن رسول الله صلى الله عليه وآله قال: ((اللهم إني بشر آسف كما يأسف بنو آدم فمن دعوت عليه أو سببته وليس لذلك بأهل فاجعلها له رحمة وزكاة)) أو كما ورد، فهذا رسول الله صلى الله عليه وآله كيف غيره؟! ..الخ.
[المؤلف] أقول: أما كلام الشعبي فمن مروياتهم وليس حجة علينا مع أن حذيفة ليس كغيره من بقية الصحابة ولا أظن الشعبي قصد بكلامه حذيفة.
وأما خبر النبي صلى الله عليه وآله فكان يجب عليه ذكر سنده؛ لأن المخالف يطعن في صحيحه هذا، بل هذا عين النزاع بينهما لكن الإمام ـ رحمه الله ـ وإن كان واحد زمانه فغيره أبصر بالجدل منه اللهم إلا أن يكون سلب بعض الفهم لتعسفه أو أصابته دعوة جده صلى الله عليه وآله، على أنه لو صح لوجب أن لا يقر على شيء مما أخطأ {إِنْ هُوَ إِلاَّ وَحْيٌ يُوحَى}[النجم:4] فما بال هذه الاعتذارات التي تكاد أن تكيدنا عن الإسلام والقواعد المقررة في الأصول التي أجمع عليها الأعلام.
ثانياً: لا يخلو إما أن نتبعه صلى الله عليه وآله فيما سمعنا منه أم لا، إن كان الأول وجب ألا يقر علي على الخطأ، والثاني لزمنا الخطأ وتعليق آيات وجوب الاتباع فتعين معارضة الخبر للآية مع أنهم لا زالوا يلهجون بهذا الخبر عند كل خبر يقتضي ثلب الفاسقين كمروان الوزغ بن الوزغ الملعون بن الملعون بالنص النبوي، فقد قيل: إن ابن حجر جعل بدل هذا اللعن على عدده زكاة.
وأما قولك ـ عفا الله عنا وعنك ـ إنما قصدت بذلك وجه الله، فقد سبقك من تلا: {وَعَجِلْتُ إِلَيْكَ رَبِّ لِتَرْضَى}[طه:84] ما قصد علي بن أبي طالب عليه السلام وأصحابه من لعن أبي موسى بعد الفرائض على رؤوس الأشهاد، ولقد روى الحاكم بسنده إلى الناصر الحسن بن علي الأطروش عليه السلام بسنده إلى أبي مريم الحنفي قال: كنت أصلي خلف أبي موسى بالكوفة فلما صلى يوماً الفجر قال: قدم الليلة رجل من خيار أصحاب محمد صلى الله عليه وآله عمار بن ياسر، فمن أحب أن ينطلق معي فليفعل فإن له حقاً، فانطلقنا ودخلنا عليه وسلمنا وسلم أبو موسى فما سمعناه رد، ثم كان أول كلامه أنه قال: يا عبد الله بن قيس أنت المثبط الناس عن علي، وأنت الذي تقول: اقطعوا أوتار قسيكم، ويلك فمن يضرب خراطيم الفتن، وأين قول الله تعالى: {وَقَاتِلُوهُمْ حَتَّى لاَ تَكُونَ فِتْنَةٌ}[البقرة:193] وأنت القائل: إن رسول الله صلى الله عليه وآله قال: ((ستكون فتنة النائم فيها خير من اليقضان))، ويلك يا عبد الله بن قيس أما سمعت رسول الله يقول: ((من كذب عليَّ متعمداً فليتبوأ مقعده من النار)) وأنا أشهد أنك كذبت على رسول الله، قال: فرأيت أبا موسى يتقرع كما يتقرع الديك وقام وخرج. (1/78)
وأخرج الطبراني في الكبير عن سويد بن غفلة قال: سمعت أبا موسى الأشعري يقول: قال رسول الله صلى الله عليه وآله: ((سيكون في هذه الأمة حكمان ضالان ضال من اتبعهما)) فقلت: يا أبا موسى انظر لا تكون أحدهما قال: فوالله ما مات حتى رأيته أحدهما، قال: وفي رواته مجهول. ا ه.
قلت: الحديث صحيح إن له شاهد في كتاب الله قال: {وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنزَلَ اللَّهُ...}[المائدة:44] الآيات، وقد حكما بغير ما أنزل الله، وله شاهد من السنة أيضاً في قوله صلى الله عليه وآله: ((القضاة ثلاثة: قاضيان في النار وقاض في الجنة، قاض قضى بغير الحق وهو يعلمه فهو في النار، وقاض قضى بالحق وهو لا يعلمه فهو في النار...))الخبر، أو معناه، وقضاهما بغير الحق معلوم، وعلمهما بضلاله كذلك. (1/79)
وذكر السيوطي في (اللآلئ المصنوعة) عن حكيم بن يحيى قال: كنت جالساً مع عمار فجاء أبو موسى فقال له عمار: إني سمعت رسول الله صلى الله عليه وآله يلعنك ليلة الجمل، قال: إنه استغفر لي، قال عمار: قد شهدت اللعن ولم أشهد الاستغفار، وقال السيوطي: موضوع، وقال: البلاء من (العطار) لا من (حسين).
قلت: (العطار) وثقه الخطيب في تأريخه. ا هـ نقلاً عمن نقل عنها.
وأقول: الحديث له شاهد وذلك لعن علي بن أبي طالب عليه السلام أبا موسى ولعنتُه من لعنةِ رسول الله صلى الله عليه وآله كما قد ورد، ثم نكثه على أمير المؤمنين عليه السلام وتخذيله الناس عنه وقد قال النبي صلى الله عليه وآله في علي عليه السلام : ((اللهم عاد من عاداه وانصر من نصره واخذل من خذله)) مع ما ورد من الوعيد للناكثين.
أقول: والذي يظهر أنه لا ينبغي الاعتماد على ما تفرد بروايته؛ لأن عمر بن الخطاب رد خبره في العمرة وخبره في الاستئذان وحده حتى شهد له أبو سعيد الخدري روى ذلك البخاري في صحيحه وكذلك عمار، فأقل الأحوال أنه متهم مع ما له من الطوام في صحيح البخاري.
[ابن الوزير] قال ـ رحمه الله ـ عند الكلام على رمي الشافعي بالرؤية: قد رويت الرؤية من الصحابة عن إمام الجميع علي بن أبي طالب عليه السلام ...الخ.
قلت: وذلك أخذا من قوله عليه السلام : ((وكيف أعبد ما لا أرى))...الخبر.
نعم وقد زعم الجوبي أنه لا يلزم من الرؤية التجسيم وهو باطل، فإنهم زعموا أنهم يروه كما يروا البدر، فإن أرادوا العلم فقد قال: {وَلاَ يُحِيطُونَ بِهِ عِلْمًا}[طه:110] وإن أرادوا بالجارحة فالرؤية شخص المرئي قطعاً، وقد قال تعالى: {يَنقَلِبْ إِلَيْكَ الْبَصَرُ خَاسِئًا وَهُوَ حَسِيرٌ}[الملك:4]. (1/80)
هذا وقد أكثر ـ رحمه الله ـ من تدوين مناقب الأربعة وتنزيههم مما رماهم به المعترض وذلك هو المطلوب، لكن الرجل ما أراد بذلك حبهم ولا إجلالهم إلا حطا للمعترض وأصحابه؛ لأنه شم من المعترض رواية العداوة لهم، وأهل البيت" لم يزروا بالأئمة وإنما استقبحوا منهم ما رواه عنهم أتباعهم فالله يسامح الجميع، ولو علمت أن ذلك لا يضرنا لما شرحت ذلك وأسهبت فيما هنالك وأتعبت نفسك فيما لا يعود عليك نفعه، اللهم إلا أن يكون لك مأرب في مثل ابن حنبل فلعل، أما الشافعي وأبو حنيفة فهما من العدالة والتشيع بمكان لا يرام، وقد ذمهما المحدثون بذلك وليس إلا أصحابك أغاروا على الأئمة الأربعة خصوصاً أبي حنيفة والشافعي وهدموا مبانيهم وجرحوهم وجرحوا مشائخهم فلم لا تلومهم.
وعين الرضا عن كل عيب كليلة .... ولكن عين السخط تبدي المساويا
فأما ذكر أقوالهم في مصنفات الأئمة وتدريس المعترض طلبته لذلك فليست من باب التعديل، قد حكى الله كلام المشركين في كتابه المبين، وكذلك العلماء يذكرون كلام مخالفهم للرد والاستحسان وعدم الإنكار على من وافق أحدهم ولا سيما الزيدية فإنهم بنو دينهم على الإنصاف واتباع الدليل كيف كان، فما لك من تقميش العرفج أما تتأذى من نتنه وتشتاك من لمسه ويكضك سعال دخانه؟!
[ابن الوزير]: وقد تقدم له قبل هذا البحث قوله.
الوهم الثاني: وهم أنه يمكنه تخصيص المحدثين بالقدح عليهم في حديثهم بالحديث الذي فيه: ((يؤتى بقوم يوم القيامة فيذهب بهم ذات الشمال فأقول: أصحابي أصحابي)) ولقوله تعالى: {وَمِمَّنْ حَوْلَكُمْ مِنَ الأَعْرَابِ مُنَافِقُونَ وَمِنْ أَهْلِ الْمَدِينَةِ مَرَدُوا عَلَى النِّفَاقِ لاَ تَعْلَمُهُمْ نَحْنُ نَعْلَمُهُمْ}[التوبة:101]. (1/81)
قال: دلت الأدلة على أن في من يعدونه صحابياً من هو كافر مجروح. انتهى.
وهذا يصلح من شُبَه الزنادقة القادحة على أهل الإسلام لا من شُبَه الشيعة القادحة على أهل الحديث ولكن المعترض لا يدري ما يخرج من رأسه.
[المؤلف] والجواب: إن الإجماع منعقد على الاعتبار بالظاهر دون الباطن ومن نجم نفاقه وظهر كفره يترك حديثه ومن ظهر إسلامه وأمانته وصدقه قبل...الخ.
أقول: قوله: إنها من شُبَه الزنادقة فلا يتأتى حملها كذلك فلهم غيرها، بل من أدلة المتحري، فقد روى الموالف والمخالف أن النبي صلى الله عليه وآله قال: ((ألا وإنه سيكذب عليَّ...)) الخبر، وقال أمير المؤمنين عليه السلام : فإنه قد كذب على رسول الله صلى الله عليه وآله في حياته حتى قام خطيباً...الخبر، وهو حجة على المحدثين بلا ريب؛ لأنهم زعموا أن مطلق الصحبة تعديل.
أما قولك: ومن ظهر إسلامه...الخ، فهو مطلوبنا ولسنا نحوم إلا حوله وذلك يشترك فيه الصحابي وغيره وأصحابك يأبون من ذلك كما هو مقرر في مصنفاتهم.
وأما عيبك للمعترض بأنه لا يدري ما يخرج من رأسه فأنت رحمك الله قد ناقضت هنا ما قدمت في حق الصحابة ووافقتنا أنهم مثل غيرهم فما بعد الحق إلا الضلال، والعصمة منتفية عن الجميع، نسأل الله التوفيق.
وكلام أئمتنا" متوجه إلى من نجم منه العمل بالمعاصي وخالف ما كان عليه النبي صلى الله عليه وآله وأصحابه الذين أثنى الله عليهم في كتابه العزيز وذلك للأحاديث الواردة في حق من غيّر وبدّل فمن ذلك ما أخرجه ابن عساكر عن أبي بكرة من حديث حدث به معاوية ـ لعنه الله ـ قال: قال رسول الله صلى الله عليه وآله: ((ليردنّ عليّ الحوض رجال ممن صحبني ورآني فإذا رفعوا إليّ ورأيتهم اختلجوا دوني، فأقول: رب أصحابي -وفي لفظ: أصيحابي- فيقال: لا تدري ما أحدثوا بعدك)). (1/82)
وأخرج البخاري في صحيحه عن ابن مسعود قال: قال النبي صلى الله عليه وآله: ((أنا فرطكم على الحوض ليرفعن إليّ رجال منكم حتى إذا أهويت لأناولهم اختلجوا دوني، فأقول: أي رب أصحابي، فيقال: لا تدري ما أحدثوا بعدك)).
وأخرج في صحيحه عن سهل بن سعد قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وآله يقول: ((أنا فرطكم على الحوض من ورد شرب منه، ومن شرب منه لم يضمأ بعده أبداً، ليردنّ عليّ أقوام أعرفهم ويعرفونني ثم يحال بيني وبينهم)).
قال أبو حازم: فسمعني النعمان بن عياش وأنا أحدثهم هذا فقال: هكذا سمعت سهلاً؟ فقلت: نعم، قال: وأنا أشهد على أبي سعيد الخدري لسمعته يزيد فيه: قال: ((إنهم مني، فيقال: إنك لا تدري ما أحدثوا بعدك فأقول سحقاً سحقاً لمن بدل بعدي)).
وأخرج ابن عساكر عن أبي الدرداء مثله وابن عبد البر وأحمد في المسند عن أم سلمة معناه بتعبير يسير، وأخرج أحمد في المسند والطبراني في الكبير وأبو نصر في الإبانة عن ابن عباس مثله، وأخرج أبو داود الطيالسي وأحمد في المسند وعبد بن حميد وأبو يعلى والحاكم في المستدرك وابن أبي شيبة عن أبي سعيد عن النبي صلى الله عليه وآله أنه قال لي: ((ما بال أقوام يزعمون أن رحمي لا ينفع، والذي نفسي بيده إن رحمي لموصولة في الدنيا والآخرة، ألا وإني فرطكم أيها الناس على الحوض، ألا وسيجيء أقوام يوم القيامة فيقول القائل منهم: أنا فلان بن فلان، فأقول: أما النسب فقد عرفت ولكنكم ارتددتم ورجعتم القهقرى)). ا ه. (1/83)
على أن لقائل أن يقول في معاوية وأصحابه: إنهم لم يدخلوا في الثناء على الصحابة من جهة عموم ولا خصوص، أما كونهم من الأنصار فمعلوم بطلانه ضرورة، وأما كونهم من المهاجرين فكذلك؛ لقول النبي صلى الله عليه وآله: ((لا هجرة بعد الفتح)).
فإن قيل: إن عمرا والمغيرة من المهاجرين الأولين.
فالجواب عليهم مأخوذ من قصة إسلامهما، لماذا؟ أما عمرو فغلبه الإسلام فأحب أن يبادره خوفاً مما كان قدم، وأما المغيرة فغدرته مشهورة وفجرته غير مستورة، وقد ورد في حق معاوية وعمرا ما لفظه: أخرج الطبراني في الكبير وابن عساكر عن شداد بن أوس عن رسول الله صلى الله عليه وآله أنه قال: ((إذا رأيتم معاوية وعمرو بن العاص جميعاً ففرقوا بينهما فو الله ما اجتمعا إلا على غدر)). ا ه.
وأخرج أحمد في مسنده وأبو يعلى عن أبي برزة قال: كنا مع النبي صلى الله عليه وآله فسمع صوت غناء فقال: ((انظروا ما هذا)) فصعدت فإذا معاوية وعمرو بن العاص يتغنيان، فجئت فأخبرت النبي صلى الله عليه وآله، فقال: ((اللهم اركسهما في الفتنة ركساً، اللهم دعهما في النار دعا)). وأخرجه الطبراني في الكبير عن ابن عباس بمثل هذا. انتهى.
وأخرج الزبير بن بكار في (الوفيات) عن المطرف بن المغيرة بن شعبة قال: دخلت مع أبي على معاوية فكان أبي يأتيه فيتحدث معه ثم ينصرف إليّ ويذكر معاوية وعقله ويعجب بما يرى منه، إذ جاء ذات ليلة فأمسك عن العشاء ورأيته مغتماً فانتظرته ساعة وظننت أنه لأمر حدث فينا، فقلت: ما لي أراك مغتماً منذ الليلة؟ فقال: يا بني جئت من عند أكفر الناس وأخبثهم، قلت: وما ذاك؟ قال: قلت وقد خلوت به: إنك قد بلغت سنا يا أمير المؤمنين فلو أظهرت عدلاً وبسطت خيراً فقد كبرت، ولو نظرت إلى إخوتك من بني هاشم فوصلت أرحامهم فو الله ما عندهم اليوم شيء تخافه، وإن ذلك مما يبقى لك ذكره وثوابه، فقال: هيهات هيهات أي ذكر أرجو بقاه؟ ملك أخو تيم فعدل وفعل ما فعل، فما عدا أن هلك حتى هلك ذكره، إلا أن يقول قائل أبو بكر، ثم ملك أخو عدي فاجتهد وشمر عشر سنين فما عدا أن هلك حتى هلك ذكره، إلا أن يقول قائل: عمر، وإن ابن أبي كبشة ليصاح به كل يوم خمس مرات أشهد أن محمدا رسول الله صلى الله عليه وآله فأي عمل يبقى وأي ذكر يدوم بعد هذا لا أباً لك لا والله إلا دفنا. ا ه. (1/84)
قلت: الزبير بن بكار هذا هو قاضي مكة وهو مشهور في المحدثين ومن رواة الصحيح وغير متهم على معاوية لعدالته وفضله مع أن في آل الزبير انحرافاً عن علي عليه السلام وأهل بيته.
قلت: والأثر له شاهد من جواب معاوية على الأنصار واستخفافه برسول الله صلى الله عليه وآله وأفعاله تدل على صحة هذه الرواية من استلحاقه زياد وغيرها من البوائق المخرجة عن الإسلام، وكقتلة حجرا وأصحابه، وإخافة الحرمين، وغير ذلك كثير، وكفاه لعن علي بن أبي طالب عليه الصلاة والسلام على المنابر معاندة لرسول الله صلى الله عليه وآله وأمره لعماله بذلك.
روي أن المغيرة ـ عامله على الكوفة ـ قال لصعصعة بن صوحان وهو من أصحاب علي عليه السلام لما بلغه أنه يذكر عليا وتفضيله: إياك أن يبلغني عنك أنك تغتاب عثمان، وإياك أن يبلغني أنك تظهر شيئاً من فضل علي فإننا أعلم بذلك منك، ولكن هذا السلطان قد ظهر، وقد أخذنا بإظهار عيبه للناس فنحن ندع شيئاً كثيراً مما أمرنا به ونذكر الشيء الذي لا نجد منه بداً ندفع هؤلاء القوم عن أنفسنا، فإن كنت ذاكرا فضله فاذكره بينك وبين أصحابك في منازلكم سراً، وأما علانية في المسجد فإن هذا لا يحتمله الخليفة لنا. انتهى من الكامل. (1/85)
هذا ولا يخفى أنه قد ورد أحاديث تدل على خيرية بقية الأمة على الصحابة ومساواتهم في الخيرية، فمن ذلك حديث: ((مثل أمتي كالمطر لا يدرى أوله خير أو آخره)) أخرجه الترمذي وابن حبان وصححه.
وحديث ابن أبي شيبة من حديث عبد الرحمن بن جبير بإسناد حسن قال: قال رسول الله صلى الله عليه وآله: ((ليدركن المسيح أقواماً إنهم لمثلكم أو خيركم ثلاثاً ولن يخزي الله أمة أنا أولها والمسيح آخرها)).
وما روى أحمد والطبراني من حديث أبي جمعة الأنصاري قال: قال أبو عبيدة: يا رسول الله أحد خير منا؟ أسلمنا معك، وجاهدنا معك، قال صلى الله عليه وآله: ((قوم يكونون من بعدكم يؤمنون بي ولم يروني)). صححه الحاكم.
وأخرج البخاري في كتاب خلق الأفعال من حديث أبي جمعة أيضاً ولفظه: كنا مع رسول الله صلى الله عليه وآله ومعنا معاذ بن جبل عاشر عشرة فقلنا: يا رسول الله هل من أحد أعظم منا أجراً؟ آمنا بك واتبعناك، قال: ((وما يمنعكم من ذلك ورسول الله بين أظهركم يأتيكم بالوحي من السماء، بل قوم يأتون من بعدكم يأتيهم كتاب بين لوحين فيؤمنون به ويعملون بما فيه أولئك أعظم منكم أجراً)).
وأخرج الترمذي من حديث أبي ثعلبة معناه، ومثله أخرج أبو داود الطيالسي عن عمر مرفوعاً وغير ذلك تركناه اختصاراً.
تم ما استدركت على الجزء الأول والحمد لله وصلى الله وسلم على سيدنا محمد وآله وصحبه الراشدين والتابعين لهم بإحسان إلى يوم الدين
المتيسر على ما في الجزء الثاني من (الروض الباسم) (1/86)
[مدخل]
ابتدأ بالرد على المترسل في وصفه المعتزلة بكمال المعرفة، ثم تهجين العوض على علم الحقائق وممارسة علم الكلام زاعماً أن الصحابة لم يقع منهم شيء من ذلك، ولقد أهمني هذا [الدعاء] المموه إلى الجهل القبيح، وأي قبح أعظم من الإخلال بمعرفة الله سبحانه مع أن الشيطان ملازم لهذا الإنسان غير منفك عنه البتة، فكم أغوى من الأعوام، ووسوس للرؤساء والأعلام، ومن زعم أن الصحابة لم يغوصوا [في] دقائقه فقد جهل معاني القرآن، هل ابتدأ القرآن بغير ذكر المخلوقات الدالة على قديم الذات وقياس الأخرى على الأولى وخطاب العقلاء بقوله: {فَاعْتَبِرُوا يَا أُولِي الأَبْصَارِ}[الحشر:2]، وعدد ما يستحق من الصفات، ثم عقبها بقوله تعالى: {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ}[الشورى:11]، {لاَ تُدْرِكُهُ الأَبْصَارُ وَهُوَ يُدْرِكُ الأَبْصَارَ وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ}[الأنعام:103]، ثم بين ذلك الرسول صلى الله عليه وآله.
ولما اتسع نطاق العلوم وطلب العجم والعرب منطوقه والمفهوم، أبرز أمير المؤمنين علي عليه الصلاة والسلام لهم أساليب المجادلة وتحرير الدليلين من العقل والنقل في أثناء خطبه في المدينة والعراق، وقام بضده الطاغية بالشام، فقرر الجبر من غير احتشام، ونفث بما ألقاه على لسانه إبليس اللعين، فتلقفها عنه الجهلة ورد عليه رؤساء من الأنصار وغيرهم من المسلمين يعرف ذلك من طالع التواريخ وعلم منشأ فتنة الإسلام، ثم قيض إبليس بمهواة العراق آل أبي موسى الأشعري فمنهم من حكم بغير ما أنزل الله سبحانه، ومنهم الشاهد على حجر الخير، ومنهم القائم مع الأموية، ومنهم محيي المهاوي والفتن -أعني بذلك خليفة إبليس المدعو بأبي الحسن- المجوز لتكليف ما لا يطاق، والمموه على الأوهام سفهاء الشام والعراق، فلو لم يكن الغوص على الحقائق مطلوباً لكان بعثة الرسل كافية لتبيين الفقه لا غير، هل معظم ما في القرآن إلا مسائل العدل والتوحيد. (1/87)
فإن قلت: أسلوب العلماء في كتب الكلام غير أسلوب القرآن.
قلت: وأنى للبشر أن يشابه كلامهم كلام عظيم القوى والقدر.
ثانياً: خاطب الله أهل اللسان بما يعقلون فلو خاطبهم بهذي التحاوير لأهل الكلام لتعسرت على بعضهم.
فإن قلت: هل عرفوا ما حرر في كتب الكلام؟
قلت: علماؤهم معروفون بالغوص على الحقائق، والقرآن قد شمل جميع الدقائق، قال سبحانه: {مَا فَرَّطْنَا فِي الْكِتَابِ مِنْ شَيْءٍ}[الأنعام:38]، وعرفوه بأدنى تعريف لمعرفتهم بلغتهم وإنما تعسر علينا وعلى العجم لما تغير من اللسان فارتطمنا في اللحن أي ارتطام.
وهنا سؤال لطيف وهو: إن الله سبحانه أرسل النبي صلى الله عليه وآله إلى من شمله التكليف ومنهم من لا يستقر إيمانه بالبديهة أو بأدنى عارض إما لجمود فطنه أو لكثرة توارد الشكوك عليه إلا بمعرفة علم الكلام.
فإن قلتم: لا يجب عليه ذلك؛ إذ ليس في القرآن، لزم منه عدم وجوب استقرار الإيمان أو تكليف ما لا يطاق ورد آية من القرآن، قال تعالى: {تِبْيَانًا لِكُلِّ شَيْءٍ}[النحل:89]، {مَا فَرَّطْنَا فِي الْكِتَابِ مِنْ شَيْءٍ}[الأنعام:38]، {الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ}[المائدة:3]، {أَفِي اللَّهِ شَكٌّ فَاطِرِ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ}[إبراهيم:10] أو الثاني وهو المطلوب. (1/88)
وكم قرر الإمام ـ رحمه الله ـ أن أهل كل فن حجة على غيرهم فلم خرج عما قرر في علم الكلام مع تسليمه لقصور أهل نحلته عن ذلك، فإذا أراد مكابرة المعتزلة أتى ب(ابن الخطيب) و(الغزالي) و(النووي) وغيرهم من الأشاعرة، وخبأ أصحابه في زوايا الجرح للمؤمنين وتعديل الفجرة من الموارق والنواصب والقاسطين.
[العلم والهداية]
[ابن الوزير] قال ـ رحمه الله تعالى ـ: وإن كانت العقائد التي لا تدرك إلا بالممارسة وهي قول شيخكم: إن الله لا يعلم من نفسه إلا ما يعلمون. ا ه.
[المؤلف] قلت: هذه الكلمة رويت عن أبي هاشم ولم يقل بها أحد من متكلمي الزيدية والمعتزلة فكيف أطلق الرواية عن الشيوخ، فإن أراد بذلك تعظيم أبي هاشم نقض أصله، وإن أراد الظاهر وذلك نسبة الجمع من الإضافة إلى ضمير الجمع فغلط فاحش يعرفه من هو أقل معرفة منه.
هذا ولم يقصد أبو هاشم إلا الإخبار عن رسوخ يقينه وتنزيه الله عن تكليفنا بغير الحق فما عرفناه من صفاته سبحانه من دلالة الدليل القطعي فهو على ما هو عليه للتكليف به والله لا يكلف بغير الحق ولكن الجاهل لمقاصد العلماء يخرج كلامهم مخرج البشاعة ومن جهل شيئاً عاداه.
[ابن الوزير] قال: وقولهم: إن الله تعالى لا يقدر على هداية أحد من المذنبين.
[المؤلف] قلت: الأولى أن ينسب هذا الكلام إلى من يقول: إن علم الله سابق سايق وذلك أنه إذا علم أن إنساناً مثلاً كافر لم يتأت منه هدايته لئلا ينكشف علمه جهلاً، ومن قال: إنه خلق بعضهم للنار مكتوب عليهم الشقاء، وهم أهل نحلتك، أما أصحابنا فقد تبرءوا من هذا وقالوا: لو أراد الله الهداية القسرية لفعل سبحانه لكنه خلاهم مختارين مجازين بأعمالهم ومثابين على حسناتهم فانظر لقولهم عند قوله تعالى: {وَهَدَيْنَاهُ النَّجْدَيْنِ}[البلد:10]، وقوله: {وَأَمَّا ثَمُودُ فَهَدَيْنَاهُمْ}[فصلت:17] وغير ذلك من نصوصهم. (1/89)
[ابن الوزير] قال ـ رحمه الله ـ: وقولهم: إن الله لم يخلق شيئاً على الحقيقة قط لأن الأشياء ثابتة فيما لم يزل وَتَذْويت الذات محال وإنما الذي هو فعل الله اكتساب الذوات الثابتة في القدم صفة الوجود وليس لله عندهم فعل إلا صفة الوجود لكن صفة الوجود عندهم وسائر الصفات ليست بشيء فحصل من هذا أن الله تعالى لم يخلق شيئاً قط وإنما يقال: إنه خالق كل شيء مجازاً. انتهى.
[المؤلف] قلت: هذا الكلام ليس لأصحابنا وشيوخنا وإنما هو يلزم الأمورية وهذا ظاهر كلام ابن الراوندي، مع أن هذا عين كلام أهل السنة من أن القدرة موجبة للمقدور لأن الله سبحانه قادر في الأزل اتفاقاً فلزم مقارنة القدرة للمقدور في الأزل.
هذا واعلم أنهم قد حكوا اتفاق أهل الإسلام على حدوث العالم جميعه، والذوات منه، فلا يلزمهم قدمها بل قدرة الله شاملة للذوات وغيرها من المتعلقات، لأنهم قد صرحوا بحدوث الجسم واكتساب الوجود عرض لا كما قال: إن صفة الوجود ليست بشيء، وفي هذه المسألة غموض من القول لتعلق القدرة بالمقدور مع وجود كون الصيغة لا تقتضي إطلاق الخلق إلا على من قد خلق فيقال قولنا خالق هو من يصح منه الخلق.
قال الإمام الناصر الحسن بن علي بن داود المؤيدي عليه السلام : ليس مرادهم ثبوتها إلا تصورها للعالم بها ورد.
أما علم الله سبحانه فليس يتصور وردانها عبارة عما يجب له لا بمعنى التخيل والتمثيل في الذهن، وعلى هذا فالخلاف لفظي إن شاء الله. (1/90)
أما أصحابنا وأبو هاشم فقد صرحوا بأنه خالق حقيقة، وقال الجمهور: إنه مجاز في حقه تعالى لعدم حصول معناه المشتق وهو الخلق ولافتقاره إلى القرينة.
أقول: فهذا ليس موضع الرد ولا يخفى أنه جمع مسألتين متباينتين فوقع التخليط؛ لأن قدم الذوات عند القائل به متعلق بالقدرة والوجود إبرازها المقدور خارجاً، وهل إطلاق لفظة خالق بمعنى المجاز أو الحقيقة مسألة أخرى أو إحداهما فرع للأخرى.
[ابن الوزير] قال ـ رحمه الله ـ: وقولهم: إن الله غير قادر على إعدام الألوان كلها، وكذلك الطعوم فلا يقدر على قلب الأسود أغبر لأنه إنما يزيل الصفة بواسطة طرو ضدها عليه.
[المؤلف] والجواب: أنها مسألة خلافية، فذهبت البصرية إلى أن الألوان باقية، وقال البلخي: لا للأول استمراره ما لم يطرو الضد، وقالوا: كلما ينتفي من غير ضد أو ما يجري مجراه كالصوت فليس باقياً، والعكس باق.
قال أبو علي: الباقي ما يستمر أوقاتاً وما لا فلا، كالصوت، ومن هنا يعرف أن مقصدهم بالبقاء الاستمرار حيناً ما، لا مطلقا.
فأما قوله: بواسطة طرو الضد، فلو قيل: إنا مجمعون على أن ضد الوجود هو العدم والعكس للزم القول إنه إنما يزيل الصفة بواسطة طروء الضد أولى وهو المطلوب، مع أنهم لم ينصوا إلا عليه فقد تتبعنا أقوالهم فلم نجد فيها ما رماهم به ولكن كما قيل:
ولكن عين السخط تبدي المساويا
ومن تطلب عثرات العلماء وجد لعدم العصمة {وَلَوْ كَانَ مِنْ عِنْدِ غَيْرِ اللَّهِ لَوَجَدُوا فِيهِ اخْتِلاَفًا كَثِيرًا}[النساء:82].
[ابن الوزير] قال: وقولهم: إن الله تعالى يريد بإرادة محدثة موجودة على حده وجود عرض مستقل بنفسه غير حال في ذاته تعالى ولا في غيره ولا داخل في العالم ولا خارج منه. انتهى.
[المؤلف] قلت: هذا كلام لجمهور المعتزلة لكنهم لم يصرحوا بالحدوث إلا أنه يلزم من قولهم مقارنة للمراد. (1/91)
فأما قولهم: غير داخل في العالم، فيمكن أن يريدوا بذلك الإرادة التي بمعنى العلم، فقد نص بعضهم على أن إرادته تعالى هي علمه، وقولهم: ولا خارج منه بمعنى المقدور الذي هو منه، هذا وقد استدلوا على أن المتقدم عزم وهو مستحيل على الله، وزعم الأشعرية والكلابية أنها قديمة، وفي المسألة أبحاث ليس هذا موضع إيرادها؛ لأنه لم يستدل وإنما أخرجها مخرج التهجين.
[ابن الوزير] قال ـ رحمه الله ـ: وإن أول الواجبات النظر في الله، وإن النظر فيه لا يتم إلا بالشك فيه، فوجب الشك في الله، بل كان أول الواجبات؛ لأن ما لا يتم الواجب إلا به يجب كوجوبه بحيث يحصل الثواب على الشك في الله والعقاب على تركه ويستمر وجوب الشك في مهلة النظر ويقبح فيها تعظيم الله سبحانه؛ لأنه عندهم في تلك الحال لا يؤمن أن لا يستحق التعظيم فيحرم فيها لذلك الصلاة وسائر العبادات وتحل جميع المحرمات بالشرعيات. ا ه.
[المؤلف] قلت: اعلم رحمك الله أن الإمام هنا لم يتحاش عن البهت مع علمه بقبح ذلك وإن مثل أولي النهى لا يقول بمثل هذا القول؛ لعدم تصور وقوعه من عاقل، دع عنك نحارير الأئمة وساداتها، وميادين الحكم وبحور العلم وأهلتها، فنقول: أما وجوب النظر من حيث هو فيدل عليه المعقول والمنقول.
أما الأول فهو أنه ليس تقليد البعض أولى من تقليد الباقي، فإما أن يجوز تقليد الكل فيلزمنا تقليد الكفار، وإما أنه يجب تقليد البعض دون البعض فيلزم أن يصير الرجل مكلفاً بتقليد قوم دون آخرين من دون حجة، وإما أن لا يجوز التقليد أصلاً وهو المطلوب، فإذا بطل التقليد لم يبق طريق إلى معرفة الله إلا طريقة النظر إلا أن يقولوا: إن المعرفة غير واجبة.
والمنقول فقد أمر الله سبحانه عباده بالنظر فقال: {أَفَلاَ يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ}[محمد:24] {أَفَلاَ يَنْظُرُونَ إِلَى الإِبِلِ كَيْفَ خُلِقَتْ}[الغاشية:17]، {سَنُرِيهِمْ آيَاتِنَا فِي الآفَاقِ وَفِي أَنْفُسِهِمْ}[فصلت:53] {أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّا نَأْتِي الأَرْضَ نَنْقُصُهَا مِنْ أَطْرَافِهَا}[الرعد:41] {قُلِ انْظُرُوا مَاذَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ}[يونس:101] {أَوَلَمْ يَنظُرُوا فِي مَلَكُوتِ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ}[الأعراف:185] وما أدى معنى ذلك، كما ذكر التفكر في معرض المدح قال تعالى: {إِنَّ فِي ذَلِكَ لَذِكْرَى لأُوْلِي الأَلْبَابِ}[ الزمر:21] {إِنَّ فِي ذَلِكَ لَعِبْرَةً لأُوْلِي الأَبْصَارِ}[آل عمران:13] {إِنَّ فِي ذَلِكَ لاَيَاتٍ لأُوْلِي النُّهَى}[طه:54] مع ذم المتغافل عن النظر، قال سبحانه: {وَكَأَيِّنْ مِنْ آيَةٍ فِي السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ يَمُرُّونَ عَلَيْهَا وَهُمْ عَنْهَا مُعْرِضُونَ}[يوسف:105]، {لَهُمْ قُلُوبٌ يَعْقِلُونَ بِهَا}[الحج:46] ومثله ما ورد في ذم التقليد فقال حاكياً عن الكفار: {إِنَّا وَجَدْنَا آبَاءَنَا عَلَى أُمَّةٍ وَإِنَّا عَلَى آثَارِهِمْ مُقْتَدُونَ}[الزخرف:23]، وقال: {بَلْ نَتَّبِعُ مَا وَجَدْنَا عَلَيْهِ آبَاءَنَا}[لقمان:21] وقال: {بَلْ وَجَدْنَا آبَاءَنَا كَذَلِكَ يَفْعَلُونَ}[الشعراء:74] وقال: {إِنْ كَادَ لَيُضِلُّنَا عَنْ آلِهَتِنَا لَوْلاَ أَنْ صَبَرْنَا عَلَيْهَا}[الفرقان:42] وقال عن والد إبراهيم: {لَئِنْ لَمْ تَنتَهِ لاََرْجُمَنَّكَ وَاهْجُرْنِي مَلِيًّا}[مريم:46]، فكل هذا يدل على وجوب النظر والاستدلال والتفكر وذم التقليد فمن دعا إلى النظر والاستدلال كان موافقاً للقرآن وسائر الكتب المنزلة وجميع الأنبياء المرسلة. (1/92)
وأما قوله: إنه يلزم في النظر الشك فمردود من وجهين:
الأول: أنا لم نوجب النظر على العارف؛ لأن تحصيل الحاصل محال.
الثاني: أنه ليس الأمر بالنظر أمر بالشك ولا يستلزمه. (1/93)
أما الأول فلأن الأمر بالكيفية ليس هو الأمر بالمكيف فضلاً عن غيره، وأما لا يستلزمه فلأنه ليس من مقدماته وغير ممتنع بدونه.
إذا تأملت ذلك عرفت أنه بهتهم بهذه الفاقرة من غير بيان ولا مأخذ ولو دق مسلكه إلا مجرد الكذب ورمي الغافل بمحض الباطل، هذا وقد تمسك القائل بعدم وجوب النظر بشبه، منها:
[الأولى]: أن النظر لا يفيد العلم.
الثانية: أن النظر المفيد للعلم غير مقدور لنا.
الثالثة: أنه لا يجوز الإقدام عليه؛ لأنا لا نأمن عاقبته.
الرابعة: أن النبي صلى الله عليه وآله لم يأمر به.
الخامسة: أنه بدعة.
وقد احتجوا على هذه الشبه [بحجج] تركنا نقلها لأنها تظهر في تأمل الجواب الجملي فنقول:
الجواب عن هذه الشبه التي تمسكوا بها في أن النظر لا يفيد العلم فهي فاسدة؛ لأن الشبه التي ذكروها ليست ضرورية بل نظرية فهم أبطلوا كل النظر ببعض أنواعه وهو متناقض.
وأما الشبه في أن النظر غير مقدور فهي فاسدة؛ لأنهم مجازون في استخراج تلك الشبه فبطل قولهم أنها ليست اختيارية.
وأما الشبه التي تمسكوا بها في أن التعويل عليه قبيح فهي متناقضة أيضاً؛ لأنه يلزمهم أن يكون إيرادهم لهذه الشبه قبيحاً.
وأما الشبه في أن النبي صلى الله عليه وآله لم يأمر به فذلك باطل؛ لأنا قد بينا أن الأنبياء بأسرهم ما جاؤا إلا بالأمر بالنظر والاستدلال.
وأما قوله تعالى: {مَا ضَرَبُوهُ لَكَ إِلاَّ جَدَلاً}[الزخرف:58] فهو محمول على الجدل بالباطل لتأتلف الآيات هذه، وقوله: {وَجَادِلْهُمْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ}[النحل:125].
وأما قوله: {وَإِذَا رَأَيْتَ الَّذِينَ يَخُوضُونَ فِي آيَاتِنَا فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ}[الأنعام:68] فالجواب: إن الخوض هنا هو التعنت واللجاج لا النظر.
وأما قوله صلى الله عليه وآله: ((تفكروا في الخلق)) فذاك إرشاد لعباده طريق معرفة الخالق وهو المطلوب مع أن فيه الأمر بالتفكر.
وأما قولكم: أنه صلى الله عليه وآله أمرنا بدين العجائز فإن صح فليس المراد منها إلا تفويض الأمور كلها إلى الله سبحانه والاعتماد في كل الأمور عليه. (1/94)
وأما قولكم: أنه صلى الله عليه وآله قال: ((إذا ذكر القدر فامسكوا)). فضعيف؛ لأن النهي الجزئي لا يفيد النهي الكلي ولأنه قد علم الله أنكم تقولون إنه قدر عليكم المعاصي فنهاكم عن قول القدرية.
وأما الإجماع فنقول: إن عنيتم أن الصحابة لم يستعملوا ألفاظ المتكلمين فمسلم لكنه لا يلزم منه القدح في الكلام، كما أنهم لم يستعملوا ألفاظ الفقهاء ولا ألفاظ المحدثين واصطلاحاتهم في طرق الأخبار، وإن عنيتم أنهم ما عرفوا الله بالدليل فبئس ما قلتم أو عرفوه إلهاماً فَلِمَ تكلف النبي صلى الله عليه وآله دُعاهم، والله تعالى يقول عنه: {وَمَا أَنَا مِنَ الْمُتَكَلِّفِينَ}[ص:86] وأما تشديد السلف على الكلام فإن صح فعلى أهل البدعة.
[التحسين والتقبيح العقليان]
[ابن الوزير] قال ـ رحمه الله ـ: وقولهم: إن جميع الواجبات وجبت لأنفسها وجميع المحرمات كذلك من غير إيجاب موجب ولا تحريم محرم وأن الله غير مختار في التحليل والتحريم وإنما هو حاكي فقط. انتهى.
[المؤلف] الجواب: أقول: لم أطلع على مأخذ هذا الإلزام إلا أن يكون من قول أبي القاسم البلخي والإمامية وبعض الفقهاء أن القبيح يقبح لعينه فيلزم أن الحسن يحسن لنفسه، وروى أبو مضر عن أهل البيت" أنهم يقولون: إن الشرعيات من العبادات ونحوها وجبت عقلاً كالعقليات سواء، والسمع إنما كان شرطاً للأداء لا للوجوب، قال الشرفي: وهو معنى كونها وجبت شكراً. انتهى.
قلت: واعلم أن قولنا بوجوب شكر المنعم عقلاً وأن الأعمال من الإيمان الذي هو معنى الشكر هو معنى قولنا وجبت التكاليف الشرعية عقلاً -أعني جملتها- وامتثال أوامر الشارع والشرع قرر ما عند العقل وبين كيفية مراد الله تعالى من شكره وذلك ظاهر لخلقه العباد على فطرة الإسلام.
بيانه أن نقول: من لطم صبياً فتلك اللطمة تدل بنفسها على التنزيل على وجود البارئ المختار ووجوب الواجبات وعلى دار الجزاء ووجود النبي، أما وجود الصانع المختار فلأن الصبي إذا لطم يتألم ويقول: من الذي ضربني وما ذاك إلا أن شهادة فطرته تدل على أن اللطمة لما حدثت بعد عدمها وجب أن يكون حدوثها لأجل فاعل فعلها ولأجل مختار أدخلها في الوجود فلما شهدت بذلك الفطرة الأصلية بافتقار ذلك الحادث مع قلته وحقارته إلى الفاعل فبأن تشهد بافتقار جميع حوادث العالم إلى الفاعل كان أولى. (1/95)
وأما وجوب التكليف فلأن ذلك الصبي ينادي ويصيح ويقول: لِمَ ضربني ذلك الضارب؟ وهذا يدل على أن فطرته شهدت بأن الأفعال الإنسانية داخلة تحت الأمر والنهي ومندرجة تحت التكليف وأن الإنسان لم يخلق مفوضاً ولا سدىً.
وأما وجوب دار الجزاء فهو أن ذلك الصبي يطلب الجزاء على تلك اللطمة وما دام يمكنه طلب ذلك الجزاء فإنه لا يتركه، فلما شهدت الفطرة الأصلية بوجوب الجزاء على ذلك العمل القليل فبأن تشهد على وجوب الجزاء على جميع الأعمال كان أولى.
وأما على وجوب النبوة فلأن المكلفين يحتاجون إلى مبين يبين لهم أن العقوبة الواجبة على ذلك القدر من الجناية كم هي فلا معنى للنبي إلا الإنسان الذي يقدر هذه الأمور ويبين لهم هذه الأحكام فثبت أن فطرة العقل حاكمة بوجوب ما ذكرنا وجوباً لا ينفك عن معرفته عاقل، فافهم.
وأما قوله: إن الله حاكي .. إلى آخر كلامه، فيلزمه أنه حاكي في الأصوليات أيضاً؛ لأن الشرع يُوافق مع العقل على ذلك، بل كل ما وافق العقل والشرع من المسائل فيلزم منها أن الله حاكي، أما نحن فنقول: إن الله سبحانه خلق العقل حجة علينا نميز به الحسن والقبيح وفطرنا على معرفة وجوب شكره بواسطة النظر وبيّن لنا على لسان أنبيائه كيفية الشكر تقريراً للواجب العقلي وبياناً للكيفية؛ لأن الشرع نفسه لا يوجب، بل أصل الوجوب من جهة الشارع كله أما ما كان من جهة العقل فقد تقدم الدليل على وجوبه وأن الله خلقه على هذه الفطرة وأنتم توافقونا أيضاً على أن شكر المنعم واجب، وأما ما كان طريقه الشرع فمسألته اتفاقية. (1/96)
[ابن الوزير] قال ـ رحمه الله ـ: وقولهم: إنه يقبح من الله أن يتفضل على أحد من خلقه بغفران ذنب واحد وأنه لا يغفر إلا ما وجب غفرانه وجوباً يقبح خلافه حتى لو زادت سيئات المسلم مثقال حبة من خردل قبح من الله مسامحته في ذلك ووجب على الله تخليده في النيران...إلخ.
[المؤلف] أقول: قد حكى الإمام القاسم عليه السلام في (الأساس) ما لفظه: ويحسن العفو عن العاصي ولا يجب على الأصح إن علم ارتداعه كالتائب اتفاقاً، ولا يحسن العفو عنه عقلاً إن علم عدم ارتداعه وفاقاً للبلخي وخلافاً للبصرية. ا ه.
قلت: واعلم أن مستند الجميع أمران:
أحدهما: أن العفو عن العاصي إذا كان يستلزم الإغراء على المعاصي قبح والله تعالى متنزه عن فعل ما يستلزم القبح.
الثاني: كون العفو خلفاً للوعيد وذلك لا يجوز على الله، قال تعالى: {مَا يُبَدَّلُ الْقَوْلُ لَدَيَّ...}[ق:29] الآية، وغيرها، وهذا في حق من أتى بكبيرة، أما الصغائر فلا، وإنما نقول عليهم ما لم يقولوه.
وأما قوله: إنه لا يغفر إلا ما وجب عليه غفرانه فإنما أراد بذلك تهجين كلام العدلية إما جهلاً لمعنى لفظ الوجوب عندهم أو تعسفاً، أما معنى الوجوب عندهم فقد بينه المنصور بالله عليه السلام في (الشافي) بما معناه: إن معنى الإيجاب على الله تعالى الإخبار بواجب حكمته، بمعنى أن الحكمة تقتضي ذلك لا الإيجاب الذي هو الإلزام؛ لأنه متفرع على علو منزلة الموجب على الموجب عليه. ا ه. (1/97)
وقد ورد الشرع بذلك، قال تعالى: {وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُعَذِّبَهُمْ وَأَنْتَ فِيهِمْ وَمَا كَانَ اللَّهُ مُعَذِّبَهُمْ وَهُمْ يَسْتَغْفِرُونَ}[الأنفال:33] وما روى معاذ عن النبي صلى الله عليه وآله: ((إن حق الله على العباد أن يعبدوه ولا يشركوا به شيئاً، يا معاذ، هل تدري ما حق العباد على الله إذا فعلوا ذلك؟ قلت: الله ورسوله أعلم، قال: ألا يعذبهم)). أخرجه الشيخان في صحيحيهما، وقد ورد في الحديث: ((إني حرمت الظلم على نفسي وجعلته بينكم حراماً)) أخرجه مسلم في صحيحه، لكن ابن تيمية مسخ معنى الحديث فقال في شرحه ما معناه: إنه لا يسمى فعله تعالى ظلماً؛ لأنه قبيح والله يتعالى عنه ولو فعل ما فعل؛ لأنه تصرف في ملكه، وغفل أنه قد حرم الظلم على نفسه وقال: {وَمَا أَنَا بِظَلاَّمٍ لِلْعَبِيدِ}[ق:29] فلو لم يكن تعالى قادراً عليه ويتناول أفعاله لما سماه ظلماً وحرمه على نفسه.
[ابن الوزير] قال: لأن الفعل ليس بظلم وإنما هو من جهة الفاعل بمعنى تصور كونه ظلماً؛ لأن الفاعل الله تعالى وذلك رد إلى أنه لا يكون الظلم إلا الاعتبار الذي بمعنى الكسب وتعجيز الله عن أن يعتبر فعله وليس أنه معتبر باعتبار حادث، فتأمل لدق المأخذ.
[المؤلف] والجواب: إنه قد خاطب العرب بما تعرف وقد منعتم من تأويل القرآن وأوجبتم علينا الأخذ بالظاهر وإجراء الآيات على حقائقها والعرب لا تعرف غير ما تدين به العدلية في جميع مسائل الكلام من أن الفاعل العبد، وأن في الأفعال ما هو الحسن وما هو القبيح، وأن الظلم أخذك الغير بما لم يستحق .. إلى غير ذلك، ثم يقال: هل الظلم المحرم على العباد هو غير المحرم على الله أو لا؟ الأول باطل؛ لأنه لم يبين، والمقام مقام بيان؛ فتعين الثاني، وإلا لزم العبث في كلام الحكيم، بل إنكار الحكمة في أفعاله ومنكرها منكر للضرورة. (1/98)
[ابن الوزير] قال ـ رحمه الله ـ : وقولهم: إن من لم يعرف الله تعالى بأحد الأدلة التي حرروها فهو جاهل بالله كافر وهذا يستلزم تكفير السواد الأعظم من المسلمين من الأولين والآخرين والأنصار والمهاجرين...الخ.
[المؤلف] أقول: هذا آخر ما سرده من التهجين وقصدنا رد رواية الخطأ عن شيوخنا وقد قدمنا بعض الأدلة على وجوب النظر.
أما قوله: يستلزم تكفير السواد...الخ إما مع القول بأن المولود يولد على الفطرة فلا يلزم ذلك البتة، وأما الصحابة فنقول: لا يخلو إما أن يكون إسلامهم إلهاماً أو عن نظر، الأول باطل وإلا لما افتقر إلى بعثة الرسول صلى الله عليه وآله ودعاه لهم الفينة بعد الفينة وإتيانهم بالمعجزات فتعين الثاني، ثم لا يخلو إما أن تكون الأدلة الكلامية المحررة عقلية وقرآنية أم لا، إن كان الأول فهو المطلوب، أو الثانية فكتبهم على ظهر البسيطة منادية بكذب من ناكرهم في ذلك، ثم إن العقلي الموالف والمخالف لا يستقيم له الاستدلال والمناظرة وتحرير المقدمات والنتائج العلمية والعملية بدون النظر فتعين وجوبه وأن المخل به على جرف هار واتبع هواه بغير علم ولا هدى ولا كتاب منير.
أما من قال: إن الدليل كاف من السمع وأن العقل غير حجة.
فالجواب عليه: أن معرفة الحق من السمع متوقف على النظر في صحته وصحة النظر متوقفة على السمع فلزم الدور وهو باطل مع أنا لا نمنع حصول المعرفة من دون نظر ففضل الله واسع ولا يعجزه شيء فقد يلهم بعض عباده المعرفة وما ذلك على الله بعزيز، وتفصيل البحث في مواضعه وسيأتي مزيد بيان. (1/99)
[أفعال العباد والكسب والاختيار]
[ابن الوزير] قال ـ رحمه الله ـ : الوهم الثالث عشر: أراد المعترض أن يحتج على أن الأشعرية وأهل الحديث كفار تصريح لإنكارهم ما هو معلوم ضرورة من الدين ذكر أشياء منها زعم أنهم ينكرون أن لنا أفعالاً وتصرفات.
والجواب: إن هذا مجرد دعوى عليهم من غير بينة بل بهت لهم ومصادمة لنصوصهم...إلى أن قال: الفرقة الأولى منهم هم الجبرية الخلص وهم الذين يقولون: لا تأثير لقدرة العبد في الفعل ولا في صفة من صفاته بل الله يخلق الفعل بقدرته ويخلق للعبد قدرة متعلقة بفعله مقارنة في حدوثها لحدوثها غير متقدمة عليه ولا مؤثرة فيه البتة، وهذا قول الأشعري وأتباعه وجماهير المحققين من المتأخرين على خلاف هذا. ا ه.
واحتج لهم بكلام الرازي أن لنا أفعالاً أوجبها الداعي ولكن بعد إقراره بما سمعت من حكايته عنهم فلا محيص من الجبر وإن تلون أي تلون، هذا وذكر الباقلاني وجعله فرقة ثانية وقال: إنهم أهل الكسب.
قال: ومعنى الكسب عندهم أن قدرة الله مستقلة بإيجاد ذوات العباد التي لا توصف بحسن ولا قبح ولا يستحق عليها ثواب ولا عقاب، وقدرة العبد مستقلة بصفات تلك الأفعال التي توجب وصفها بالحسن والقبيح ويستحق عليها الثواب والعقاب، مثال ذلك أن أصل الحركة عندهم من الله وأما كون تلك الحركة متصفة بصفة مخصوصة مثل كونها صلاة أو زنا فذلك أثر قدرة العبد. ا هـ.
[المؤلف] قلت: وهذان القولان لم يتخلصا عن الجبر والكسب المذكور إنما هو أمر اعتباري وإن موّهوا عليه قالوا: اعتبره العبد في فعل الرب وهو المسمى عندهم بالكسب وزعموا أن ذلك هو الاختيار كما ستقف عليه إن شاء الله تعالى مع اعترافهم باستقلال قدرة الله بالفعل، وليت شعري كيف جوابهم إذا سها العبد عن الاعتبار، هل تمتنع القدرة الإلهية أو يؤاخذ بصفة العقل وإن لم يعتبر؟ ثم الاعتبار مطلق العصيان أو كونها كبيرة أو صغيرة؟ (1/100)
وقد ذكر الفرقة الثالثة فقال: قالوا: قدرة العبد تؤثر بمعنى يعين من أعان وهو يستلزم مقدور لقادرين.
وذكر الفرقة الرابعة وهم الجويني قالوا: إن قدرة العبد مؤثرة في ذات فعله وصفاتها كلها صفة الوجود وصفة الحسن والقبح...إلخ.
قلت: الجويني إمام مجتهد خرج عن أسر التقليد وقد لهج محمد بن إبراهيم بعده من السنة وليس منهم.
قال في (شعب الإيمان) وحواشيها:
فصل في الاختيار والكسب
ذهب الماتريدية أن الله تعالى إذا خلق في ذهن العبد داعيه فعل اختياري أي صورة أم بطلبه النفس وتصوره ملائما ينبعث عنه شوقها أي ميلها إليه ويخلق الله تعالى ما يشاء فيه حالة اختيارية تمكن من قصد الفعل والترك على البدل تسمى الإرادة الكلية كما يشير إليه قوله تعالى: {لِمَنْ شَاءَ مِنْكُمْ أَنْ يَتَقَدَّمَ أَوْ يَتَأَخَّرَ}[المدثر:37] {وَمَاذَا عَلَيْهِمْ لَوْ آمَنُوا بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ}[النساء:39] وصرفها بذلك التمكين إلى جانب معين هو الإرادة الجزئية، فإن كان هو قصد الحركة عند الاستطاعة أي سلامة الأسباب والآلات يخلق الله تعالى على جاري عادته في العبد الفعل مع القدرة التي يكون بها موصوفاً بما يميزه على غيره ككونه قياماً أو قعوداً طاعة أو معصية إلى غير ذلك مما لا توصف به أفعاله تعالى كما يرشد إليه قوله تعالى: {إِنَّ اللَّهَ لاَ يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنفُسِهِمْ}[الرعد:11] {وَلَكِنْ يُؤَاخِذُكُمْ بِمَا كَسَبَتْ قُلُوبُكُمْ}[البقرة:225]
فالحركة باعتبار نسبتها إلى قدرة الله وتكوينه تسمى خلقا وباعتبار نسبتها إلى قدرة العبد تسمى كسباً، وتصوير الملائم واستحضار كون المراد محبوباً للنفس بالعلم القائم بها الذي صار ملكة راسخة فيها من تكرر الجزئيات الملائم عليها؛ أي لكون متصور اللازم في ذلك العلم والقصد والإرادة الجزئية أي الكون مريدا اللازم للإرادة الكلية وتعلق القدرة الحادثة بالمقدور هو الكسب أي الكون قادرا للازم للقدرة وليس هي من الوجوديات؛ لأنها إما أحوالا أو أموراً اعتباريات والخلق ما يقع به المقدور لا في محل القدرة، ويصح انفراد القادر بإيقاع المقدور بذلك الأمر، وعلى هذا فالفعل الاختياري للعبد داخل تحت قدرة الله تعالى وتكوينه خلقاً لتعلقه بوجود الفعل وتحت قدرة العبد كسباً لتعلقها بوصفه كما يرشد إليه قوله تعالى: {وَمَا رَمَيْتَ إِذْ رَمَيْتَ وَلَكِنَّ اللَّهَ رَمَى}[الأنفال:17] {وَاللَّهُ خَلَقَكُمْ وَمَا تَعْمَلُونَ}[الصافات:96] فقد أثبت لذاته العلية الخلق ولنا العمل والكسب، وعلى الإرادة الجزئية الكسب يترتب الثواب والعقاب. (1/101)
وذهب (الأشعري) إلى أنه تعالى قد أجرى عادة أنه يوجد في العبد قدرة واختياراً فإذا لم يكن هناك مانع أوجد فيه في فعله المقدور مقارناً لها أي لقدرة العبد وإرادته فيكون فعل العبد مخلوقاً لله ابتداعاً وإحداثاً ومكسوباً للعبد والمراد بكسبه إياه مقارنته لقدرته وإرادته من غير أن يكون هناك تأثير أو مدخل في وجوده سواء كان محلا كما في شرح المواقف. ا ه.
قال (عبد السلام) على (الجوهرة): يسمى أثر القدرة الحادثة كسباً وإن لم تعرف حقيقته.
قال الأمير: إنا نعرفها...إلى قوله: وإن عجزت عن بيانها العبارة فيكفي الشعور بها إجمالاً.
وقال (البيجوري) في كلام له: والخالق الحق منفرد بعموم التأثير، ومن كلام له على الجوهرة أيضاً: وبالجملة فليس للعبد تأثير ما فهو مجبور باطناً مختارٌ ظاهراً والله تعالى لا يسأل عما يفعل. (1/102)
قال في (فيض الرحمن على شعب الإيمان): والحاصل أن أهل السنة تبعوا النصوص الشرعية فأسندوا الخلق لله في أفعال العبد الاختيارية وأثبتوا لهم الاختيار فيها والكسب إلا أنهم اختلفوا في الكسب، فعند الماتريدية: هو تعلق القدرة الحادثة بالمقدور وأثرها وصف الفعل بكونه طاعة أو معصية مثلاً.
والأشعرية قالوا: الكسب عبارة عن مقارنة قدرة العبد للفعل في كونهما مخلوقين معاً ولا دخل للعبد في الفعل سوى كونه محلاً.
والجبرية نفوا الاختيار والكسب.
والمعتزلة نسبوا خلق أفعال العباد الاختيارية إليهم بقدرة خلقها الله تعالى فيهم. ا ه.
فانظر إلى نصوصهم نقلناها من كتبهم المعتمدة.
أقول: وعلى كل ذلك الهذيان الذي لا يعقله أكثر النحارير فجوابنا إن كان القدرة من الله للعبد موجبة انتفاء المشارك؛ لأنه الموجب مستقل بالتأثير وغيره طرد في المؤثر وبذلك يبطل مقدور بين قادرين. (1/103)
فإن قالوا: الكسب غير الفعل الواجب عن القدرة؛ لأن الفعل كون وهو ذات كالجوهر ولا يقدر على الذوات غير الله تعالى.
قلنا: بل صفة مقدورة للعبد وإلا لم يتحقق الكسب إن كان الفعل ذاتاً مع أنه لا يمتنع خلق الذات على من أقدره الله كما صرح بذلك الجويني وأبو إسحاق ولأن الكسب إن كان أمراً اعتبره العبد في فعل الرب من طاعة أو معصية أو نحو ذلك لم يصح تعلق الاعتبار بفعل الغير وإلا عم الفعل غير الفاعل فكان فعل الواحد طاعة ومعصية لكثيرين إذ اعتبروهما في فعله فأثيبوا وعوقبوا بفعل غيرهم وذلك باطل بضرورة العقل والنقل، وإن كان الكسب أمراً وجودياً متميزاً فهو كون آخر والمفروض أن ليس هناك إلا كون واحد أثر في الأثر والعبد لا يقدر على الكون أو غير متميز بل مقدور بين قادرين اجتمع فيه النقيضان الوجوب بإيجاب القدرة والجواز باختيار الكسب وانتفاء المشاركة بينهما فيه إن استقل به أحدهما لما تقدم من أن الموجب مستقل بالتأثير وغيره طرد في المؤثر.
واعلم أن السنية فرضوا أن مشتهيات أنفسهم واقعة بقدرة الله كأهل الجنة على أنه يشكل من قولهم أن يقال: إذا خلق الله الاعتبار الاختياري بزعمكم ولم يخلق الفعل فهل يثاب العبد على ذلك الاعتبار ويعاقب أم لا؟ الأول باطل لما روي مرفوعاً: ((إن الله تجاوز لأمتي عما حدثت به أنفسها)) الخبر، ومفهوم قوله تعالى: {فَبِمَا كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ}[الشورى:30] {جَزَاءً بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ}[الأحقاف:14] فتعين الثاني ووجب أن لا مؤاخذة به وبذلك بطل الكسب.
فإن قيل: إنه لا يقع الاعتبار إلا ويخلق الفعل لزم أن خلق الاعتبار موجب لخلق الفعل، وأنتم تقولون: لا يجب على الله واجب أو عدم الاختيار في أفعاله، وذلك كفر ويرد عليهم إشكال أن علم الله وإرادته أزلاً بوقوع الفعل يستلزمان أن العبد يفعل الفعل لا باختياره البتة؛ إذ العلم أن يكون صفة بها الانكشاف إلا أن الإرادة صفة بها التخصيص على وفق العلم ففعل العبد واجب الوجود أو ممتنع الحصول لغيره وهذا ينافي الاختيار. (1/104)
وأجيب بأن الوجوب باختيار العبد محقق لاختياره لا مناف له.
وأجيب عنه: إذا كان العلم سابقاً محققاً لاختياره وجب الوجود أو عدمه على مقتضى جريه وذلك المطلوب، أو سبباً للمعلوم فكذلك لئلا ينكشف خلافه ولا يلزم في أفعال الله لوجود المخصص عقلاً وشرعاً؛ لأن الكلام في لازم الوقوع وواجب الوجود موجب لنفي الاختيار لئلا ينكشف خلاف العلم أو يلزم ثبوت المعلوم في الأزل فوضح لزوم الجبر وعدم الاختيار كما صرح بذلك خرِّيتهم ابن الخطيب في (مفاتيح الغيب) والبيجوري على (الجوهرة).
قال أبو المعالي في مقدمات كتاب (البرهان): إن الكسب تمويه؛ لأن المكلف هو المتمكن وأن التكليف لا يكون إلا بالممكن وأن تكليف ما لا يطاق باطل، وأبو إسحاق لا يوافق الأشاعرة على هذا وقد تصلف السيد محمد بن إبراهيم في (إيثار الحق) في تنزيه الأشاعرة وأهل الحديث حتى تكلف لهم مذاهب لم ينصوا عليها كما روي عن ابن تيمية أنه أثبت للعبد قدرة مؤثرة في الفعل، وجوابه على الذمي منادي بكذب هذه الرواية، فلهذا تحرينا نقل كلامهم من مصنفاتهم لئلا ننسب إلى التمويه، كما أن السيد محمد ينقل عن المعتزلة من كتب خصومهم ما لم يقولوا به وكذلك بعض أصحابنا فإنهم نقلوا عنهم من غير تثبت فافهم، وقد استوفى البحث إصداراً وإيراداً في (التحفة العسجدية) للمولى أمير المؤمنين الهادي لدين الله الحسن بن يحيى بن علي القاسمي رضوان الله عليه فليراجع.
نعم وقد تقدم الجواب على من زعم أن الصحابة كانت لا تعرف دقائق الكلام ولعل يأتي لها مزيد بيان. (1/105)
وهذا حصر بعض مشائخ أهل السنة كما حصرهم الصابوني في رسالته وهم: سفيان الثوري، ومالك بن أنس، والأوزاعي، وشعبة، وابن المبارك، والأحوص، وشريك، ووكيع، ويحيى بن سعيد، وعبد الرحمن بن مهدي، وابن معين، وابن حنبل، وابن راهويه، والشافعي، وسعيد بن جبير، والزهري، والشعبي، والتيمي، ومن بعدهم: كالليث، وابن عيينة، وحماد بن سلمة، وحماد بن زيد، ويونس بن عبيد، وأيوب، وابن عوف، ونظرائهم: يزيد بن هارون، وعبد الرزاق، وجرير بن عبد الحميد، ومن بعدهم: محمد بن يحيى الذهلي، والبخاري، ومسلم، وأبو داود، وأبو زرعة، وابن خزيمة، وأبو حاتم وابنه، ومحمد بن مسلم، ومحمد بن أسلم الطوسي، وعثمان بن سعيد الدارمي...إلخ.
قلت: الغالب على الرواية عنهم الغلط فإنه قد روي عنهم العدل والتشيع كالشافعي وابن جبير تلميذ ابن عباس وبعضهم معدود من رجال الزيدية كالسفيانين ويونس بن عبيد وعبد الرزاق والشعبي تشيعه غير خاف على من له خبرة بالسير والأخبار وكذلك شريك وغيرهم.
وقوله: إنهم لا يختلفون في الجمل التي ذكرها عنهم في رسالته، فغلط محض، بل لم يثبت عن أكثرهم إلا العدل والتشيع والقول بوجوب الخروج على الظلمة، بل محمد بن إسماعيل البخاري خالف الذهلي وغيره في اللفظ بالقرآن حتى جرى عليه بسبب ذلك ما هو مذكور في التواريخ وكذا ذكر الذهبي في النبلاء أن أبا زرعة وأبا حاتم تركا حديثه عندما كتب إليهما الذهلي أن البخاري أظهر بنيسابور عندهم أن لفظه بالقرآن مخلوق.
هذا وقد استحسنا نقل تعريفهم للأحوال والاعتبار السابقين التي أثبتوها للعبد.
قال في (فيض الرحمن): المفهومات أربعة:
الأول: الموجودات وهي التي تكون في الخارج.
الثاني: المعدودات الصرفة وهي التي ليس لها ثبوت أصلاً.
الثالث: الأحوال أي الواسطة بين الموجود والمعدوم بأن يقال: الشيء إما أن يثبت له الوجود أو يثبت له العدم فتحصل الواسطة وهي ما لا يثبت له الوجود ولا العدم، وهذا بناء على أن الثبوت أعم من الوجود؛ لأن كل موجود ثابت ولا عكس...إلى أن قال: وإن كان ثابتاً -يعني غير موجود ولا معدوم- فهو الحال وهي إضافيات لا تعقل إلا مع أمر آخر هو ملزوم لها وهي ثلاثة أقسام: (1/106)
الأول: النفسية وهي ما لا يصح توهم ارتفاعه عن الذات مع بقائها ككونها جوهراً أو موجوداً أو ذاتاً أو شيئاً.
والثاني: المعللة كالعالمية والقادرية ونحوهما.
والثالث: المعنوية غير المعللة كالضرب والايقاع والأحوال إما حادثة أي متجددة بعد عدم ككون زيد أبيض اللازم لبياضه فإنه لا يعقل كون زيد أبيض إلا إذا تعقل البياض، وكونه كاتبا اللازم لكتابته أو قديمة له تعالى كوكنه تعالى قادراً اللازم لعدله قادراً اللازم لقدرته.
والرابع: الأمور الاعتبارية وهي قسمان: انتزاعية من هيئة ثابتة في الخارج كقيام الصفة بالموصوف كقيام البياض بزيد مثلاً فهو ثابت في نفسه وحاصل في الذهن ومنتزع من زيد الأبيض الموجود في الخارج، واختراعية كبحر من زئبق فهو حاصل في الذهن فقط، والأول لا يتوقف على اعتبار معتبر، والثاني يتوقف عليه والفرق بين الحال والأمر الاعتباري أن الحال قار للذات أي وصف لها والأمر الاعتباري قار للصفة، فإن قيام القدرة بالذات الأقدس وصف للقدرة وقيام البياض وصف للبياض وما كان قادراً للذات أقوى مما كان قادراً للصفة. ا ه.
قلت: والحاصل أن قولنا: زيد أبيض فتصور البياض هو الحال وتصور كون البياض قائماً بذات زيد هو الأمر الاعتباري فظهر من هذا أنها أفعال قلبية، وأن قولهم: الاختيار هو هذان الخيالان على أن عليهم إشكالاً في ذلك أيضاً بما ذهبوا إليه من تفسير قوله تعالى: {وَمَا تَشَاءُونَ إِلاَّ أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ}[الإنسان:30] أن الاستقامة بالمشيئتين وهو معنى تركب العلة في التأثير بناء على أن متعلق المشيئتين هو الاستقامة، وعلى ذلك فقد انتفى الاختيار، أما أئمتنا" فقالوا: بل المعنى وما يحدث لكم من مشيئة إلا أن يشاء الله أن تشاءوا أي أن يكون لكم مشيئة واختيار فمتعلق المستثنى هو مشيئة العباد واختيارهم لا إكراههم، قال سبحانه وتعالى: {لاَ إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ قَدْ تَبَيَّنَ الرُّشْدُ مِنَ الغَيِّ...} الآية[البقرة:156]. (1/107)
إذا تأملت لكلامهم وتدبرت لخيالاتهم وكم حاولوا تغطية الخبر بتصورات خالية أو أمور اعتبارية مرجعها الخيالات النفسانية تحقق لديك أن السيد محمد ـ رحمه الله ـ قد أتعب نفسه في تنزيه القوم ومسخ تصانيفه بسماجة التعسف من أجلهم.
ما لابن إبراهيم أنكر قولهم .... بالجبر بعد النص والتصريح
ما لاختيار خيالنا يابن الأولى .... إن البلية ما جنى الترجيح
تالله لو أنصفت ما زكيتهم .... كلا ولو أسهبت في التلويح
قد أعرب المكنون من هفواتهم .... كتب سمت بالدرس والتصحيح
دع عنك قوما قد شئَوْك بجهلهم .... واضرب بقولك مطلق التسريح
قال أبو عثمان إسماعيل الصابوني في رسالته التي حصر فيها مذهب المحدثين ما لفظه: ومن مذهب أهل السنة والجماعة أن الله عز وجل مريد لجميع أفعال العباد خيرها وشرها لم يؤمن أحد إلا بمشيئته ولم يكفر أحد إلا بمشيئته ولو شاء لجعل الناس أمة واحدة، ولو شاء أن لا يعصى ما خلق إبليس فكفر الكافر وإيمان المؤمن بقضائه وقدره وإرادته ومشيئته أراد كل ذلك وشاءه وقضاه ويرضى الإيمان والطاعة ويسخط الكفر والمعصية قال تعالى: {إِنْ تَكْفُرُوا فَإِنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ عَنْكُمْ وَلاَ يَرْضَى لِعِبَادِهِ الْكُفْرَ وَإِنْ تَشْكُرُوا يَرْضَهُ لَكُمْ}[الزمر:7]. ا هـ. (1/108)
وقال في موضع آخر ما لفظه: ومن قول أهل السنة والجماعة في اكتساب العباد أنها مخلوقة لله تعالى لا يمترون فيه ولا يعدون من أهل الهدى ودين الحق من ينكر هذا القول وينفيه، ويشهدون أن الله تعالى يهدي من يشاء ويضل من يشاء لا حجة لمن أضله الله عليه ولا عذر له لديه قال تعالى: {قُلْ فَلِلَّهِ الْحُجَّةُ الْبَالِغَةُ فَلَوْ شَاءَ لَهَدَاكُمْ أَجْمَعِينَ}[الأنعام:149] وقال: {وَلَوْ شِئْنَا لاَتَيْنَا كُلَّ نَفْسٍ هُدَاهَا وَلَكِنْ حَقَّ الْقَوْلُ مِنِّي...} الآية[السجدة:13]، وقال: {وَلَقَدْ ذَرَأْنَا لِجَهَنَّمَ كَثِيرًا مِنَ الْجِنِّ وَالإِنسِ...} الآية[الأعراف:179]، سبحانه خلق الخلق بلا حاجة إليهم فجعلهم فرقتين فريقاً للنعيم فضلاً وفريقاً للجحيم عدلاً، وجعل منهم غوياً ورشيداً وشقياً وسعيداً وقريباً من رحمة الله وبعيداً {لاَ يُسْأَلُ عَمَّا يَفْعَلُ وَهُمْ يُسْأَلُونَ}[الأنبياء:23].
[ابن الوزير] قال ـ رحمه الله ـ : الوهم الخامس عشر: وهم المعترض أن مذهبهم القول بجواز تكليف ما لا يطاق وليس كذلك فلم يذهب منهم إلى هذا إلا الأشعري والرازي.
[المؤلف] أقول: لا إشكال أن المحققين قد نزهوا أنفسهم عن هذا القول واستقبحته عقولهم ولكن مع قولهم إن المعلوم واجب الوجود لئلا ينكشف علمه جهلاً ثابتاً في الأزل. (1/109)
وقولهم: إن الكفر بمشيئته وإرادته وأنه يهدي من يشاء ويضل من يشاء ويأمر بما لا يريد، أليس طلبه سبحانه الإيمان من الكفار تكليفاً بما لا يطاق، كيف وقد ذرأهم لجهنم وختم على قلوبهم وطبع عليها.
وقالوا أيضاً: إن القدرة مقارنة للمقدور غير متمكنة من الضدين.
هذا ومن تأمل منهم لكلامهم أراح نفسه من تعب التمويه وصرح به مع معرفته أنه قبيح ولا يتجاسر عليه إلا سفيه لكن تغطية الشمس من العناء، وتبصير ضوءها الرائي من البلاء.
[ابن الوزير] قال ـ رحمه الله ـ : الوهم السادس عشر: وهم المعترض أنهم قد دفعوا الضرورة في تجويز تعذيب الأطفال بذنوب آبائهم. ا ه.
ثم نفى ذلك عن محققيهم واستدل وأنصف لكن لو سلمنا للنافي فغايته عن أهل النص به لا عن غيرهم مع شهرته عنهم فليتأمل.
وأما رده على المعترض بأن عدم تعذيبهم غير ضروري أعني قطعياً وأن من أثبته ليس بكافر؛ لأن سلفنا قالوا: إنهم متأولون.
[المؤلف] فالجواب عنه: إن أراد أحد الأمرين إن كان إنكارهم لضرورية الدليل مكابرة فكفرهم كفر جحود، وإن تعلقوا بشبهة فكفر تأويل وهذا مما لا خلاف فيه بين أهل الأصول، أما كون الدليل على عدم تعذيبهم قطعياً فمن العقل والنقل، أما العقل فظاهر، وأما من النقل فمتفق عليه في عدم تكليفهم في أنفسهم، وأما بذنب آبائهم فلقوله تعالى: {أَلاَّ تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى}[النجم:33] وفي آية: {وَلاَ تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى وَإِنْ تَدْعُ مُثْقَلَةٌ إِلَى حِمْلِهَا لاَ يُحْمَلْ مِنْهُ شَيْءٌ وَلَوْ كَانَ ذَا قُرْبَى}[فاطر:18] ولقوله تعالى: {لَهَا مَا كَسَبَتْ وَعَلَيْهَا مَا اكْتَسَبَتْ}[البقرة:286] بزيادة التاء والزيادة في اللفظ من الحكيم زيادة في المعنى، وهاتان الآياتان محكمتان في مقام بيان لا يجب تأخيره عن مقام البيان، وفي معناها آيات أخر: {لاَ يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلاَّ وُسْعَهَا}[البقرة:286] مع الخبر المتلقى بالقبول: ((رفع القلم عن ثلاثة: عن الصبي حتى يبلغ..)). (1/110)
وروى أبو طالب الحسني ـ رحمه الله ـ بسنده إلى عباد بن منصور عن أبي رجاء عن سمرة بن جندب أن رسول الله صلى الله عليه وآله سئل عن أطفال المشركين قال: ((هم خدام أهل الجنة)).
فأما حديث ابن عمر: ((إنه ليعذب ببكاء أهله)) فقد رده من يعتبر برده من الصحابة ببيان كيفية ورود الخبر مع استنادهم إلى السماع معه وصرحوا بوهم ابن عمر في روايته لهذا الحديث.
وأما حديث: إنا نغير على المشركين فنصيب من أولادهم فقال: ((هم من آبائهم)). ا ه.
فذلك في جواز الاسترقاق وإلا فقد ورد النهي عن قتلهم مع أنه معارض لحديث: ((يولد المولود على الفطرة)) سلمنا جري الحكم عليهم في دار الحرب مجرى أحكام الآباء، أما في الآخرة فلا لما قدمنا على أن الآحاد والموهومات لا تظنن القطعي لو كان ذلك لما سلم لنا قطعي لكثرة الوهم والكذب على النبي صلى الله عليه وآله.
وأما خبر: ((إنها تأجج لهم نار فيقال: ردوها، فيردها من كان في علم الله سعيداً لو أدرك العمل، وتمسك عنها من كان في علم الله شقياً لو أدرك العمل، فيقول الله: إياي عصيتم فكيف برسلي لو أتتكم)). ا ه. (1/111)
فالجواب عنه من وجوه:
الأول: روي وقفه عن أبي هريرة.
ثانياً: إن أبا هريرة غير مرضي الرواية عند المعتزلة والزيدية إذا انفرد، وتصحيح أئمتك لا يلزم خصمك.
ثالثاً: إن فيه إثبات التكليف في الأخرى الممنوع بصرائح الأدلة وخبر: ((يولد المولود على الفطرة)) ينافيه، وعلى كل حال فالخبر وإن صححه أحمد وغيره فهو مما يجر إلى بدعتهم مع معارضة القطعيات، لكن الهوى ألجأ اللبيب إلى مدارك الجهل وحمله عليه بعد المعرفة.
لهوى النفوس سريرة لا تعلم .... كم حار فيها عالم متكلم
وأما قوله: إنه يجوز أن يدخلوا النار ولا يتألموا كالحيات..الخ.
فاعلم أن ذلك وإن كان فهو ممنوع؛ لأن النيران هي منزل غضب الرحمن ودخول أهلها فيها من مقامات الهوان فكيف يهان من لا يستحق الإهانة من الولدان، وقياسهم على الحيات ممنوع أيضاً لكون الحيات خلقوا من جنس العقاب على المعاقبين فكيف يتأذى من جنسه أو نفسه على أنه لو صح للعصيان حكم في الآخرة للزم أن تصح التوبة ليقابلهما تكليفا والفرق بينهما وبين البالغ في الدنيا عاصياً والطفل في الآخرة للاجتماع في المعصية والطاعة بحكم صرف، ومن هنا يمكن أن لا يدخل النار أحد من المشركين لإمكان التوبة وأن تصح توبة فرعون لعنه الله بقوله: {أَنَّهُ لاَ إِلَهَ إِلاَّ الَّذِي آمَنَتْ بِهِ بَنُو إِسْرَائِيلَ}[يونس:90].
إن من تجويز مثل هذه الهنات ما تقشعر له قلوب المؤمنين وتسيل العبرات، فارفع رأسك عن البذا يا من زعم أن عبادة الأصنام جائزة ثم افترى وقال: إن الله أمرنا بها، فبينا من يقول قضاه الله علينا إلى غير ذلك من الأباطيل. سبحانك اللهم هذا بهتان عظيم.
نعم وأما رده على المعترض حكايته عن ابن بطال إجماع الفقهاء بأنهم يمنعون الخروج على الظلمة لما نقل من علماء الأشاعرة فقد نقل مثل نقل ابن بطال أبو بكر المقري فإنه أيضاً ادعى الإجماع على تحريم الخروج على الظلمة وغيره، وإن كان قد رد بعضهم على من ادعى الإجماع وأنكروا ذلك، ولكن المعترض ـ رحمه الله ـ لم ينفرد بالنقل. (1/112)
وأما إنكاره ذلك الفعل على المحدثين فليطالع كتب الجرح والتعديل تراهم يغمزون من يرى الخروج على الظلمة كسفيان والحسن بن صالح وغيرهما، وقد نقل عن ابن تيمية ما معناه: إن الحسين عليه السلام لو لم يتدارك نفسه بطلب وصوله إلى يزيد لعنه الله...الخ، ونقل عنه ما هو أشنع من هذا كقوله: قتل بسيف جده، وكذا ذمهم لمن خرج مع المختار من العلماء وإنكار مثل ذلك مكابرة.
[الولاية والإمامة]
[ابن الوزير] وأما قوله: فاعلم أن الفقهاء لم يخالفونا في شرائط الإمامة التي زعم المعترض أنهم خالفوا فيها...إلى قوله: فإن قلت: أين موضع الخلاف بينهم وبين المعتزلة والشيعة؟
قلت: في موضعين: الموضع الأول: إنهم ذكروا أن الخروج على أئمة الجور متى كان مؤدياً إلى أعظم من جورهم من إراقة الدماء وفساد ذات البين حرم تحريماً ظنياً اجتهادياً...إلى قوله: وللزيدية والمعتزلة ما يلزمهم موافقة الفقهاء على هذا فإنهم نصوا في باب النهي عن المنكر على أنه لا يحسن متى كان يؤدي إلى وقوع منكر أكبر منه والمسألة واحدة. ا ه.
[المؤلف] أقول: إن الفقهاء سووا بين أئمة العدل والجور في وجوب الطاعة وإن منعوا من نصب الفاسق ابتداء، وأما إلزامه الزيدية موافقة الفقهاء، فالمسألة ليست على عمومها؛ إذ ذلك في المسائل الخاصة لا فيما يعم الأمة والأئمة.
ثانياً: إن إراقة دم الباغي والفاسق غير محرم في جنب وجوب النهي عن المنكر فافترق الحال بين المسألتين {وَقَاتِلُوهُمْ حَتَّى لاَ تَكُونَ فِتْنَةٌ وَيَكُونَ الدِّينُ كُلُّهُ لِلَّهِ}[البقرة:193] {فَقَاتِلُوا الَّتِي تَبْغِي حَتَّى تَفِيءَ إِلَى أَمْرِ اللَّهِ}[الحجرات:9]. (1/113)
أما إراقة دم المؤمن فمن الألطاف الموجبة لدخول الجنة {فَلَيَعْلَمَنَّ اللَّهُ الَّذِينَ صَدَقُوا وَلَيَعْلَمَنَّ الْكَاذِبِينَ}[العنكبوت:3]، على أن أدلة ما أشرنا إليه مبسوط في مواضعه.
[ابن الوزير] قال ـ رحمه الله ـ : وقد تمسك جمهور الفقهاء في هذا -يعني في جواز أخذ الولاية من الظالم- بظواهر الأحاديث الواردة في طاعة السلطان...إلى قوله: والأحاديث في ذلك كثيرة شهيرة لا حاجة إلى ذكرها، وفي بعضها ما يدل على أن السلطان قد يكون جائراً بلفظ خاص مثل الحديث المرفوع: ((وإنما الإمام جنة يتقى به ويقاتل من ورائه فإن عدل كان بذلك أجر وإن جار كان عليه بذلك وزر)) رواه البخاري، وحديث حذيفة الذي في مسلم وفيه: ((فإن كان لله خليفة في الأرض فاسمع وأطع وإن ضرب ظهرك وأخذ مالك)). والحديث الذي فيه: أرأيت إن كان علينا أمراء يمنعونا حقنا ويسألونا حقهم، قال: ((اعطوهم حقهم واسألوا الله حقكم)). ونحو هذا مما يطول ذكره، وبقية الأحاديث تدل على ذلك بإطلاقها فإن المرجع في تفسير السلطان إلى اللغة. ا ه.
[المؤلف] والجواب على هذه الأخبار مع فرض صحتها:
أما الأول فخرج مخرج الترغيب والترهيب على الأمراء وليس فيه الأمر بإقرارهم على الوزر.
وأما الثاني فمقيد بما إذا كان أخذه الأموال أو ضرب الأبشار بحق فإنه يجب طاعته على ذلك كيف وهو خليفة الله في الأرض، فأما الظالم فليس بخليفة لله {لاَ يَنَالُ عَهْدِي الظَّالِمِينَ}[البقرة:124]، أما إذا كان أخذ المال ظلماً والضرب كذلك فلا لقوله صلى الله عليه وآله: ((لا طاعة لمخلوق في معصية الخالق)). والخبر من المتلقى بالقبول، ومثله: ((قاتل ولو على عقال بعير))، ومثله: ((من قتل دون ماله فهو شهيد))، ودلالة هذه الأخبار أظهر على ما قلنا بخلاف خبركم فإنه يحتمل أن يأخذ ماله أو يضربه ظلماً أو حقاً فيقدم الغير المحتمل وهو أدلتنا على المحتمل وهو دليلكم. (1/114)
وأما الثالث وهو قوله: ((واسألوا الله حقكم)) فليس في هذا الأمر أيضاً ما يدل على وجوب الطاعة وعدم الخروج.
والجواب عليهما إجمالاً: إن الدليل لو أفادكم على زعمكم أخص من الدعوى؛ لأنكم قلتم إنه يقتضي عدم المنازعة، وقد قلتم: إذا أمكن بغير إراقة دماء وجب المبادرة بعزله، وقلتم: إنه لا يجوز العقد للفاسق، فدلالة الأخبار هذه على زعمكم تحجكم فما أجبتم به فهو جوابنا.
[ابن الوزير] قال ـ رحمه الله ـ: وأما المعتزلة والشيعة فاحتجوا بالسمع والرأي، أما السمع فبعمومات مثل قوله تعالى: {قَالَ إِنِّي جَاعِلُكَ لِلنَّاسِ إِمَامًا قَالَ وَمِنْ ذُرِّيَّتِي قَالَ لاَ يَنَالُ عَهْدِي الظَّالِمِينَ}[البقرة:124]، وللفقهاء أن يجيبوا عن هذه الآية من وجوه:
أحدها: أن الإمامة المذكورة في الآية هي النبوة؛ لأن إبراهيم عليه السلام سأل لذريته الإمامة التي جعلها الله له وهي النبوة.
وثانيها: أن الإمامة التي في الآية مجملة محتملة لإمامة النبوة وإمامة خلافة النبوة وأدلة الفقهاء المتقدمة نصوص في خلافة النبوة فكانت أخص. اه.
[المؤلف]والجواب عن الأول: أن العموم لا يقصر على سببه مع عموم اللفظ كما قرر في مواضعه. (1/115)
وعن الثاني: أن الآية شاملة لمطلق الرئاسة نبوة أو خلافتها خرجت النبوة بالأدلة على امتناعها بموت خاتم الأنبياء سيدنا محمد صلى الله عليه وآله وبقيت الخلافة، والنصوص التي تقدمت من حجج الفقهاء قد تقدم ما عليها من الأجوبة فلا تعارض الآية لصيرورتها يوم النزول من قسيم الخاص في الخلافة على أن الإمام هو المتبع فلو سلم لكم ما ادعيتم من مدلول الأخبار وعمومها في كل متبع لوجبت طاعة الكافر كذلك لوجود العلة فيه وهو الاتباع ولكون عزله يفتقر إلى سفك الدماء وإثارة الدهماء والفرق تحكم، ولو أنصف السيد محمد ـ رحمه الله ـ لعلم أن القوم يحرمون الخروج على الظلمة، وينهون عنه جهدهم، ويزينون طاعتهم، ويختلقون الأخبار فيما يوافق غرضهم، ويقبلون صلاتهم، ويأنسونهم بأكل مطاعمهم والصلاة خلفهم.
[ابن الوزير] قال ـ رحمه الله ـ: وثالثها أن الآية من شرع من قبلنا وقد ورد في شرعنا ما يخالفها ولا يجوز العمل بشرع من قبلنا مع مخالفة شرعنا له إجماعاً، وسائر أدلة المعتزلة والشيعة من هذا القبيل، إما دليل صحيح في لفظه لكنه ليس بنص أو دليل نص في المسألة لكن صحته غير مسلمة. ا ه.
[المؤلف] والجواب: أما قوله: فقد ورد ما يخالف شرع من قبلنا فغير مسلم اللهم إلا أن يكون ذلك مفهوماً من قوله: {لاَ تَجِدُ قَوْمًا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ يُوَادُّونَ مَنْ حَادَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ}[المجادلة:22]، وقوله تعالى: {فَقَاتِلُوا الَّتِي تَبْغِي حَتَّى تَفِيءَ إِلَى أَمْرِ اللَّهِ}[الحجرات:9] {وَقَاتِلُوهُمْ حَتَّى لاَ تَكُونَ فِتْنَةٌ وَيَكُونَ الدِّينُ لِلَّهِ فَإِنِ انتَهَوْا فَلاَ عُدْوَانَ إِلاَّ عَلَى الظَّالِمِينَ}[البقرة:193].
وما روى أئمتنا": ((لا يحل لعين تطرف ترى الله يعصى حتى تغير أو تنتقل))، وإجماع الصحابة على الإنكار على عثمان، ومع هذا كله فيلزمك جواز العقد للفاسق والنهي عن الإنكار عليه مطلقاً، وحينئذ فقد ناقضت ما قد قدمت. (1/116)
وأما قولك: لكن صحته غير مسلمة.
قلنا: القول في حججك مثل مقالتك؛ لأنها من رواية من يدعو إلى بدعته ويتعسف مثلك على أن من العجب دعواك الفطنة في الإصدار والإيراد وجميع ما يتعلق به الحجج من أول الكتاب إلى آخره من الطرق المتنازع فيها وعلى كل حال فجميع ما تورده من الأخبار لا تحج المترسل ـ رحمه الله ـ لكون طرقها من عين المتنازع فيه، فاستدلالك بعين المتنازع فيه من هفوات النظر وضعفك عن مقاومة أقرانك وقلة الخبرة بقواعد الجدليين، أما شرطوا أن لا يحتج على مجادلة إلا بحجة يسلم صحتها الخصم أو قد ثبتت بدليل لم يستطع الخصم رده لظهور دلالته على المطلوب والحاصل هنا غيره.
واعلم رحمك الله أن أعظم مكيدة كيد بها الإسلام ما لهج به المحدثون من إبطال البرهان العقلي، ثم تضعيفهم وردهم لجميع رواية العدلية، ولما لم يتجاسر ذوو الحياء منهم على جرح قدماء أئمتنا جرحوا الرواة عنهم حتى غمرت أكثر الأخبار الصحيحة عن أولئك الأئمة، وتداول الناس مختلقات علماء السوء بما تقربوا به إلى أئمة الجور من الأموية والعباسية حتى استوزر في ممالك الإسلام من الطوائف الذمية بل أمروا علينا، ومضت فينا أحكام الفرق الكفرية، فأعظم بها مكيدة كيد بها الإسلام وفاقرة مهمة ضعضعت أركان شريعة سيد الأنام. رجع.
وأما قولك في الرد على الرأي: وقد أجمع العقلاء وأطبق أهل الرأي على وجوب احتمال المضرة الخفيفة متى كانت دافعة لما هو أعظم منها...الخ، فغير مسلم لك خفة جور الوالي، كيف وبصلاحه صلاح البلاد والعباد، وبفساده فسادهما كما جاء في الأخبار، فالرد هنا غير قويم لعموم المضرة.
وأما قولك: لا يصلح الناس هملا وأن الغالب على بلاد الإسلام لم يستأذن أئمة العدل. ا ه. (1/117)
فمن ثمرات التقاعد عن النهي عن المنكرات وتقرير الجورة على السيئات وجرحكم للخارج عليهم وتسويدكم أهل السنة معهم، ولو استقام العلماء لصلح أمر الجمهور ولم يكن لظالم ولاية، ولم يقع له بداية ولا نهاية (لكن كيفما تكونوا يولّ عليكم) كما سلط على بني إسرائيل بخت نصر من أجل معاصيهم {إِنَّ اللَّهَ لاَ يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنفُسِهِمْ}[الرعد:11].
أما أن كلامك هذا يصلح حجة، فلا؛ لأن البلاد قبل الإسلام قد استوجزت أحكام الشرك، أفيكون ذلك حجة؟
[ابن الوزير] قال ـ رحمه الله ـ : الوهم الثامن عشر: قدح المعترض على المحدثين بالرواية عن الزهري وجرّح الزهري بمخالطته للسلاطين فقد كانت منه ومن غير واحد ممن أجمع أهل العلم على عدالتهم وفضلهم وميلهم مثل الإمام علي بن موسى الرضا عليه السلام والقاضي أبو يوسف ومن لا يأتي عليه العد، وأما الإعانه على المظالم فدعوى على الزهري غير صحيحة.
[المؤلف] قلت: الحجج على جواز المخالطة إذا لم يكن معها معصية ظاهرة ولنذكر منها وجوهاً:
الوجه الأول: بالحديث الصحيح والنص الصريح وهو قوله صلى الله عليه وآله في أئمة الجور: ((فمن غشي أبوابهم فصدقهم في كذبهم وأعانهم على ظلمهم فليس مني ولست منه وليس بوارد عليّ الحوض يوم القيامة، ومن غشيها فلم يصدقهم في كذبهم ولم يعنهم على ظلمهم فهو مني وأنا منه وهو وارد عليّ الحوض)). رواه الترمذي في موضعين من جامعه بإسنادين مختلفين أحدهما صحيح وعليه الاعتماد والثاني معلول. ا ه.
والجواب عن هذا الخبر: أنه من طريق داعية إلى مذهبه وذلك مردود على صاحبه كما قرّره علماء هذا الشأن سلمنا، فالحديث مطلق يصلح للتقييد بالآيات والأخبار الموجبة لمهاجرتهم ونهيهم عما هم عليه من البهتان كما فعل الصحابة مع معاوية لعنه الله إذا وفدوا عليه، والزهري وإن تؤول له فقد روي أنه كان جندياً وأحد الحرس لخشبة الإمام زيد بن علي عليه السلام وكان من المنحرفين عن علي عليه السلام . (1/118)
روى جرير بن عبد الحميد عن محمد بن شيبة قال: شهدت مسجد المدينة فإذا الزهري وعروة بن الزبير جالسان يذكران علياً عليه السلام فنالا منه، فبلغ ذلك علي بن الحسين عليه السلام فجاء حتى وقف عليهما فقال: أما أنت يا عروة فإن أبي حاكم أباك إلى الله فحكم لأبي على أبيك، وأما أنت يا زهري فلو كنت بمكة لأريتك بيت أبيك، وقال له ـ في كلام جرى بينهما في معاوية ـ: كذبت يا زهري.
وقال المؤيد بالله في الزهري: هو في غاية السقوط، قال عليه السلام : وقد روي أنه كان أحد حرس خشبة زيد بن علي. ا ه.
أقول: قد روى المحدثون أخباراً في ذم من سب أحد الصحابة وفي بعضها التصريح باللعن فعلى هذا فقد صح عن الزهري الذم لعلي عليه السلام فإما أن يصدق عليه ما رووا أو يقال: إن عليا وصي رسول الله صلى الله عليه وآله ليس من الصحابة.
[ابن الوزير] قال ـ رحمه الله ـ : ومن ذلك ما روى أبو داود عن النبي صلى الله عليه وآله أنه نهى عن المسألة إلا أن يسأل الرجل ذا سلطان، والمسألة لا تمكن إلا بضرب من المخالطة. ا ه.
[المؤلف] والجواب: إن لفظة سلطان مشتركة بين أئمة العدل وأئمة الجور فيمكن رد الثاني بالمقيدات له ولأمثاله كما قدمنا مع إمكان المسألة بدون تكرر المخالطة المنهي عنها من الإيناس وغيره مع أنه ليس فيه ما يقتضي النهي عن المهاجرة فذلك يمكن بطلب الحق من الظالم لا غير.
[ابن الوزير] قال ـ رحمه الله ـ : الوجه الثاني: قوله تعالى: {لاَ يَنْهَاكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذِينَ لَمْ يُقَاتِلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَلَمْ يُخْرِجُوكُمْ مِنْ دِيَارِكُمْ أَنْ تَبَرُّوهُمْ وَتُقْسِطُوا إِلَيْهِمْ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ}[الممتحنة:8]، وعمومها وسبب نزولها يستلزم جواز المخالطة ونحوها. ا ه. (1/119)
[المؤلف] والجواب: إن الآية متعقبة بقوله تعالى: {وَقَاتِلُوا الْمُشْرِكِينَ كَافَّةً}[التوبة:36]، وقوله: {فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ}[التوبة:5] وغيرهما مما يقتضي معناهما. ا ه.
[ابن الوزير] قال ـ رحمه الله ـ : الوجه الثالث: قصة يوسف عليه السلام ومخالطته لعزيز مصر وقوله: {اجْعَلْنِي عَلَى خَزَائِنِ الأَرْضِ}[يوسف:55]...إلخ.
[المؤلف] والجواب: إن الآية في شرع من قبلنا وقد ورد في شرعنا ما يخالفها فلا حجة فيها كما قررتم سابقاً، قال سبحانه وتعالى: {لاَ يَتَّخِذِ الْمُؤْمِنُونَ الْكَافِرِينَ أَوْلِيَاءَ}[آل عمران:28] {لاَ تَجِدُ قَوْمًا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ يُوَادُّونَ مَنْ حَادَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ}[المجادلة:22] {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لاَ تَتَّخِذُوا آبَاءَكُمْ وَإِخْوَانَكُمْ أَوْلِيَاءَ إِنِ اسْتَحَبُّوا الْكُفْرَ عَلَى الإِيمَانِ وَمَنْ يَتَوَلَّهُمْ مِنْكُمْ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ}[التوبة:23].
هذا ولا يخفى أنه قد ورد التحذير عن غشيان أبواب [أهل] الجور، فأخرج السيوطي في الجامع الصغير وهو مما يحتج به عند المحققين لالتزامه أن لا يذكر فيه موضوعاً إلى آخر ما ذكر في ديباجته عن أنس عن النبي صلى الله عليه وآله أنه قال: ((العلماء أمناء الرسل ما لم يخالطوا السلاطين ويداخلوا الدنيا فإذا خالطوا السلطان ودخلوا في الدنيا فقد خانوا الرسل فاحذروهم)). وقوله صلى الله عليه وآله لكعب بن عجرة: ((أعيذك بالله من إمارة السفهاء، إنه سيكون أمراء من دخل عليهم فأعانهم على ظلمهم وصدقهم بكذبهم فليس مني ولست منه ولن يرد عليّ الحوض، ومن لم يدخل عليهم ولم يعنهم على ظلمهم ولم يصدقهم بكذبهم فهو مني وأنا منه وسيرد عليّ الحوض)). الخبر في مفاتيح الغيب عن عبد الرحمن بن ساباط عن جابر مرفوعاً، وعند أصحابنا قوله صلى الله عليه وآله: ((يكون في آخر الزمان علماء يُزهدون ولا يَزهدون ويرغبون الناس في الآخرة ولا يرغبون، وينهونهم عن غشيان السلاطين ولا ينتهون...)) إلى أن قال: ((أولئك أعداء الرحمن)). ا ه. (1/120)
وقوله صلى الله عليه وآله: ((ما ازداد عبد من السلطان قرباً إلا ازداد من الله بعداً))، وقوله صلى الله عليه وآله: ((اتقوا أبواب السلاطين...))الحديث، وغير ذلك من روايات الفريقين، على أنا لو سلمنا جواز مداخلتهم لما منع من تهمتهم فيما رووا وأن رواياتهم على حدتهم لا تقبل ـ رجع.
فأما الزهري وشأنه فقد روى الغزالي في (الإحياء) قال: لما خالط الزهري السلطان كتب أخ له في الدين إليه: عافانا الله وإياك يا أبا بكر من الفتن، فقد أصبحت بحال ينبغي لمن عرفك أن يدعو الله لك ويرحمك، أصبحت شيخاً كبيراً وقد أثقلتك نعم الله عليك بما فهمك من كتابه وعلمك من سنة نبيه، وليس كذلك أخذ الله الميثاق على العلماء فإنه تعالى قال: {لَتُبَيِّنُنَّهُ لِلنَّاسِ وَلاَ تَكْتُمُونَهُ}[آل عمران:187] واعلم أن أيسر ما ارتكبت وأخف ما احتملت أنك آنست وحشة الظالمين، وسهلت سبيل الغي بدنوك إلى من لم يؤد حقاً ولم يترك باطلاً حين أدناك، اتخذوك أبا بكر قطباً تدور عليه رحى ظلمهم، وجسراً يعبرون عليه إلى بلائهم ومعاصيهم، وسلماً يصعدون فيه إلى ضلالتهم، يدخلون بك الشك على العلماء، ويقتادون بك قلوب الجهلاء، فما أيسر ما عمروا بك في جنب ما خربوا عليك، وما أكثر ما أخذوا منك في جنب ما أفسدوا من حالك ودينك، وما يؤمنك أن تكون ممن قال الله تعالى [فيهم]: {فَخَلَفَ مِنْ بَعْدِهِمْ خَلْفٌ أَضَاعُوا الصَّلاَةَ وَاتَّبَعُوا الشَّهَوَاتِ فَسَوْفَ يَلْقَوْنَ غَيًّا}[مريم:59]، يا أبا بكر، إنك تعامل من لا يجهل، ويحفظ عليك من لا يغفل فداو دينك فقد دخله سقم، وهيء زادك فقد حضر سفر بعيد، وما يخفى على الله من شيء في الأرض ولا في السماء. والسلام. ا ه. (1/121)
إذا عرفت ما تضمن هذا المكتوب ظهر لك كيفية مخالطة الزهري للظلمة، وأنه في غاية السقوط ـ كما قال المؤيد بالله ـ مع روايته للحديثين في علي عليه السلام والعباس -رضي الله عنه- فلا ينبغي لمؤمن أن يعتمد على ما انفرد به مع أن مثل هذا الكتاب حقيق بالتأمل والحفظ لما فيه من المواعظ والفوائد النفيسة.
هذا وأما فعل علي بن موسى الرضا عليه السلام فقد كان المأمون استخلفه فنمَّ على المأمون من أجل ذلك ما لا يخفى من الخلع والقتال كما تحكيه كتب التواريخ، على أنه لا حجة في فعل أحد من الناس غير المعصوم، وعلى كل حال فالزهري أقل من أن يأمر الأمراء الذين خالطهم بالمعروف أو ينهاهم عن المنكر إذاً لنقل مع أنه قد ثبت عنه النصب. (1/122)
فإن قيل: إن أصحابنا قد رووا عنه وعن أمثاله.
قلنا: قد تقدم الجواب عن هذا عند ذكر شروط أئمتنا" في طرق الرواية فراجعه.
[الأخبار المردودة وكيفية ردها]
[الإمام] قال صاحب الرسالة ـ رحمه الله ـ : الوجه الرابع: مما يدل على أن في أخبار هذه الكتب التي يسمونها الصحاح ما هو مردود؛ لأن في أخبار هذه الكتب ما يثبت التجسيم والجبر والإرجاء ونسبة ما لا يجوز إلى الأنبياء" ومثل ذلك يضرب به وجه راويه، وأقل أحواله أن يكذب فيه...إلى آخر كلامه ـ رحمه الله ـ في هذا الفصل.
[ابن الوزير] أجاب الإمام محمد بن إبراهيم ـ رحمه الله ـ بمقدمات إلى أن قال: المقدمة الخامسة: إن القطع بأنهم تعمدوا الكذب فيها يؤدي إلى بطلان أمر مجمع على صحته وكل ما أدى إلى ذلك فهو باطل، وقد تقدم الكلام على إجماع طوائف الإسلام على الرجوع إلى المحدثين في علم الحديث...إلخ.
[المؤلف] أقول: قد تقدم الجواب على عدم صحة الإجماع وأنه من مقامات المؤاخذة عليه وهفواته التي لم ينتبه لها وأوهامه التي دب عليها ودرج، بل مثل هذه الرواية مما يخل بعدالة الراوي.
[ابن الوزير] قال ـ رحمه الله ـ : المرجح الثاني: قوله تعالى: {وَلاَ تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ}[الإسراء:36] والقول بأن ثقات الرواة قد تعمدوا الكذب على رسول الله صلى الله عليه وآله مما ليس لأحد به علم، ومن قطع بذلك فقد قطع بغير تقدير. ا ه.
[المؤلف] أقول: النزاع بينكما حاصل في توثيق رواة أخبار الصحاح فلا يلزمه ما ألزمته إلا بعد تسليمه لك مدعاك أو توثيقك الرواة بما يلتزمه خصمك على أنا نقطع أن النبي صلى الله عليه وآله لا يخاطبنا بغير العربية وما لا نتعقله مما يتعلق بالتكليف، فإذا روى الراوي ما يعارض النصوص من الكتاب والسنة الصحيحة ولم يكن تأويله من العربية فما بقي إلا القطع برده عندنا، أما أهل الحديث فإنهم يجرحون من روى منكراً مطلقاً. (1/123)
[ابن الوزير] وأما قوله: إن الخطأ في القبول أهون من الخطأ في الرد والتكذيب...إلى أن قال: أقصى ما في الباب أن يكون الخطأ في القبول كذبا عليه والخطأ في الرد تكذيباً بكلامه لكن عمد الكذب عليه فسق وعمد التكذيب كفر. ا هـ.
[المؤلف] أقول: ليس القصد من الرد هو تكذيب المصطفى صلى الله عليه وآله فيلزم التكذيب بكلامه، وجهلك بذلك مع ركة هذا القياس من مواطن المشاغبة والخطأ، كيف والشريعة ـ أعلى الله شأنها ورفع أعلامها ـ نصوصها لا يخالف بعضها بعضاً فما عارضها ولم يمكن رده إليها تركناه ومن اختلقه مع أن هذا القياس لا يسلمه أحد من الناس، أما أصحابنا فقد تقدم كلام المترسل عنهم، وأما المحدثون فإن من خالف الحفاظ في رواية وإن لم يصادم النصوص عدوا روايته منكرة وضعفوه، فإن روى ما يقتضي القدح في الصحابة أو في عقائدهم كذبوه لأجل ذلك، وأما سائر الطوائف فإنا نجدهم يردون الأخبار المعارضة للنصوص سلمنا لك هذه القاعدة فيلزمك قبول جميع روايات العدلية التي فيها هدم جميع بدع أصحابك والرجوع إلى مذهب العدلية ـ فإنهم كثر الله أنديتهم ـ لم يذهبوا في عقائدهم أصولا وفروعاً إلا مع الأدلة العلمية في العقائد والظنية في المعاملات، ومن أنكر بحث في مصنفاتهم.
وأما قوله ـ رحمه الله ـ : إنه وجد في كتاب الله شواهد لجميع ما أنكرته المبتدعة من أحاديث الصحاح...الخ، فمن أعاجيب الزمان وسفه رجال الأوان أن ينسب أهل بيت رسول الله -صلوات الله عليهم- إلى الابتداع بعد الأمر بحبهم والاهتداء بهديهم والاتباع (1/124)
ومن يرد عزازاً بالهوان فقد ظلم
وليست من أبي بكر بِبِكْرِ
ومن يطلع على كتب المحدثين وجد هذه العبارة من أكثر هذيانهم ونهيقهم ولججهم وسميرهم.
بلينا بأقوام مراجلهم تغلي .... على أهل بيت المصطفى خاتم الرسل
إذا ما ذُكرنا لقبونا روافضاً .... وهم نبزونا بابتداع وبالجهل
وهم أنكروا تنويه طه بفضلنا .... وسفهوا قول الحق من عصبة العدل
وهم أعظموا البهتان في حق ربنا .... ودانوا بأن الله أثر في الفعل
ودانوا بأن الكفر والفسق والزنا .... فخالقها الرحمن والظلم والقتل
وأيامهم في النار معدودة كما .... تقدمهم غلف القلوب من النغل
وهم صوبوا بغي ابن حرب ولعنه .... عليا وتغيير الحنيفية السجلي
وهم جرحوا الأخيار من غير حجة .... سوى حبنا يتلى من الإفك والتبل
وهم كفروا من لم يقل بمقالهم .... هم القوم ثلى في ضلال وفي أدلي
نعم، ولعلك وجدت من الشواهد التي زعمتها من عين المتشابه في كتاب الله فاتبعته أو مقيداً فأطلقته، أو مشتركاً فعينته، أو منسوخاً فتمسكت به، وما أحراكم به على أن الإمام ـ رحمه الله ـ قد صرح بتأويل بعض تلك الأخبار الموهمة لما ذكره المترسل ـ رحمه الله ـ ليقاس عليها ما شابهها وإن كان بعض تلك التآويل غير مقبول لبعده لكن المحدثين لم يذهبوا في الآيات والأخبار الموهمة إلى مذهبه من التأويل، ولم يتأولوا كما فعل، ولم يراقبوا المجاز المرسل ولا غيرها من الاستعارات، بل قال أبو عثمان الصابوني ما لفظه: ويعتقد أهل الحديث ويشهدون أن الله سبحانه وتعالى فوق سبع سماوات على عرشه كما نطق به كتابه في قوله عزّ وجل في سورة الأعراف: {إِنَّ رَبَّكُمُ اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ}[الأعراف:54] ...إلى قوله: يثبتون له من ذلك ما أثبته الله، ويؤمنون به ويصدقون الرب جل جلاله في خبره، ويطلقون ما أطلقه سبحانه وتعالى من استوائه على العرش، ويمرونه على ظاهره...إلى أن قال: سمعت عبد الله ابن المبارك يقول: نعرف ربنا فوق سبع سماوات على العرش استوى بايناً منه خلقه، ولا يقول [ما] قالت به الجهمية: إنه هاهنا وأشار إلى الأرض...إلى قوله: سمعت أبا بكر محمد بن إسحاق بن خزيمة يقول: من لم يقل بأن الله عز وجل على عرشه فوق سبع سماوات فهو كافر بربه حلال الدم يستتاب فإن تاب وإلا ضربت عنقه وألقي على بعض المزابل حتى لا يتأذى المسلمون ولا المعاهدون بنتن رائحة جيفته وكان ماله فيئاً..الخ. (1/125)
وقال: ويثبت أصحاب الحديث نزول الرب سبحانه وتعالى كل ليلة إلى سماء الدنيا من غير تشبيه له بنزول المخلوقين ولا تمثيل ولا تكييف...إلى قوله: ويمرون الخبر الصحيح الوارد بذكره على ظاهره.. إلى قوله: وكذلك يثبتون ما أنزله الله عز اسمه في كتابه من ذكر المجيء والإتيان المذكورين، ثم سرد الآيات والأحاديث المذكور فيها بدعته هذه. (1/126)
وبالجملة فإنهم منعوا من تأويل شيء من الآيات الكريمة والأخبار، فإن تعارضت الآيات أثبتوها جميعاً فتراهم أثبتوا آيات الاستواء على العرش ولم يتأولوها، وقوله سبحانه وتعالى: {هُوَ الَّذِي خَلَقَ لَكُمْ مَا فِي الأَرْضِ جَمِيعًا ثُمَّ اسْتَوَى إِلَى السَّمَاءِ فَسَوَّاهُنَّ سَبْعَ سَمَاوَاتٍ وَهُوَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ}[البقرة:29]، ودلالة هذه غير تلك على ما حملوهن عليه من الإمرار على الظاهر من بادي الرأي، وأطلقوا على صفاته المناقضة، وعلى كتابه الاختلاف وعدم الموافقة فجهلوا أسرار القرآن بجهلهم بلاغة العربية، وأعماهم اللجاج عن مباينة الصفات لعقولهم التي استحوذ عليها الشيطان، ولقد جرى بيني وبين أحد الظاهرية مناظرة طويلة منها أنه حكى آيات الاستواء ومنع من تأويلها، وجعل قرار الباري سبحانه سطح العرش فألزمته عدم التأويل بكل آية في القرآن في حق الله سبحانه وتعالى فالتزم ذلك، فأمليت عليه قوله تعالى: {مَا يَكُونُ مِنْ نَجْوَى ثَلاَثَةٍ إِلاَّ هُوَ رَابِعُهُمْ...}[المجادلة:7] الآية، والنجوى لا يكون إلا في الدنيا والعرش مباين للسماوات والأرض، وأمليت عليه قوله تعالى: {اللَّهُ نُورُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ}[النور:35] فالتزم ذلك، فقلت له: أين ذهب في الليل مع عدم القمر؟ وكيف غلبته الظلمة؟ فإما أن تأول هاتين الآيتين وما شابههما أو لا، إن كان الأول فما في يدي أولى بالتأويل مما في يدك من غير دليل، أو الثاني لزم التعارض، فبهت ولم يناظرني بعد، وكان له صاحب يسمع فتركه وتاب، والله يمن بالهداية على من يشاء، ممن قصد التسليم بالحق وإن قل ما لديه من الدراية،
لكن السيد محمد ـ رحمه الله ـ يحاول رد كلامهم الصريح إلى الصواب وينزلهم منزلته من التحقيق وذلك ممتنع الوجود وكأنه حسب أن تمويهه على كلامهم لا ينكشف للمتطلع وأنا لا نظفر بصريح جهلهم من مصنفاتهم ويأبى الله إلا أن يكشف للمؤمنين مساويهم على أنهم لو تأولوا كما تأولت لما ساغ لنا بعض النكير عليهم ولكن شاءك الغراب في بكوره. (1/127)
وأما زعمهم أن ذلك مذهب الصحابة فغير صحيح كيف وهم أهل اللسان وأعرف الناس بالبيان، وأرباب الخطابة، وأملك الناس لزمام البراعة والبلاغة، وإنما البليد من رمى الألمعي ببلادته، والعي من قذف البليغ بعيه وبرادته، هذا وقد تقدم شيء من الرد على هذا الكلام.
[ابن الوزير] قال ـ رحمه الله ـ : الحديث الرابع: خروج أهل التوحيد من النار والشفاعة لهم إلى الوهاب الغفار وتمييزهم بذلك من بين الكفار، فإن المعترض أنكر ذلك أشد الإنكار، ونظمه في سلك ما يجب تكذيب راويه من الأخبار، وبنى كلامه في ذلك على شفا جرف هار، وتوهم أنه في ذلك موافق لإجماع أهل البيت الأطهار، وخطؤه ينكشف بذكر فائدتين يتضح بهما مذهب الحق المختار. ا ه.
فذكر في الأولى أن ذلك مذهب بعض المعتزلة وأبي القاسم البستي من الزيدية، قال: إن الحاكم نسبه إلى زيد بن علي عليه السلام ثم قال: وإلى ذلك ذهب من أئمة الزيدية الدعاة يحيى بن المحسن المعروف بالداعي والمهدي أحمد بن يحيى من المتأخرين...إلخ.
[المؤلف] أقول: أما رواية جواز ذلك عن المعتزلة فلا يضرنا وليسوا لنا بشيوخ ولم يرد فيهم عن النبي صلى الله عليه وآله أنهم قرناء الكتاب وأنهم لا يفارقونه إلى مورد الحوض والإياب، ولا أنهم سفينة نوح عليه السلام ولا باب حطة، ولا قال فيهم: ((اللهم هؤلاء أهل بيتي...))الخبر، ولا وصى بهم سيد البشر صلى الله عليه وآله.
فأما أئمتنا المتقدمون فالظاهر اتفاقهم على عدم خروج أهل النار منها كما قال تعالى: {وَمَا هُمْ بِخَارِجِينَ مِنَ النَّارِ}[البقرة:167]، {مَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ حَمِيمٍ وَلاَ شَفِيعٍ يُطَاعُ}[غافر:18]، وقال تعالى: {لاَ يَنْظُرُ إِلَيْهِمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَلاَ يُزَكِّيهِمْ}[آل عمران:77]. (1/128)
وأما الأخبار التي زعم أنها بلغت في ذلك حد الكثرة فلا يلزم الخصم لوجهين:
أحدهما: أنها من رواية المبتدعة الداعين إلى بدعتهم وقد نص أهل الحديث وغيرهم على رد مثل ذلك وإن كثر.
الثاني: إنها وإن كثرت فلم تتواتر لفظاً ولا معنى، والمسألة قطعية لا يؤخذ فيها بالظني.
فإن قيل: إن آيات الوعيد عامة وهذه الأخبار مخصصة وتخصيص القطعي بالظني جائز.
قلنا: التخصيص بيان وآيات الوعيد وإن عم لفظها فالمقام صيرها من قسيم الخاص لو لم يكن كذلك لكان قد تعبدنا بما ليس واقعاً من عدم خروجهم عند نزول الآية فظهر أنه لا يجوز تأخير البيان عن وقت الحاجة، وبهذه المقالة يعرف أنهم فتنوا كما فتن بنو إسرائيل [حين] قالوا: {لَنْ تَمَسَّنَا النَّارُ إِلاَّ أَيَّامًا مَعْدُودَةً}[البقرة:80] قالوا: يطهرهم من الذنوب الدنياوية، فرد الله عنهم هذه المقالة بقوله سبحانه وتعالى: {قُلْ أَتَّخَذْتُمْ عِنْدَ اللَّهِ عَهْدًا فَلَنْ يُخْلِفَ اللَّهُ عَهْدَهُ أَمْ تَقُولُونَ عَلَى اللَّهِ مَا لاَ تَعْلَمُونَ ، بَلَى مَنْ كَسَبَ سَيِّئَةً وَأَحَاطَتْ بِهِ خَطِيئَتُهُ فَأُوْلَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ}[البقرة:80،81]، فعمت كل من أحاطت به خطيئته في مقام بيان وتعليم ومحاجة بين الفريقين، ونزولها جواباً على الجميع فامتنع تخصيصها في غير مقام البيان مع قوله تعالى: {لَيْسَ بِأَمَانِيِّكُمْ وَلاَ أَمَانِيِّ أَهْلِ الْكِتَابِ مَنْ يَعْمَلْ سُوءًا يُجْزَ بِهِ}[النساء:123].
وأما الكلام على خبر محاجة آدم وموسى × وخبر موسى وملك الموت × فمع إمكان تأويلهما، فكلام السيد محمد هو الصواب وأولى من تكذيب الراوي مع العدالة ولا شك أن التأويل ممكن. (1/129)
وأما وجوب الإيمان به مع عدم إمكان التأويل فلا يجب ذلك مع كون المسألة قطعية لا يؤخذ فيها بالظني وهذه الأخبار ظنية وقد ذم الله تعالى متبع الظن فكيف يجب الإيمان به، بل يرد الخبر.
فأما المحدثون فمن قواعدهم أن من فحش خطؤه وكثرت مناكيره استحق الترك وجرحوه بذلك.
وأما إلزامه للمترسل قبول هذه الأخبار ربما روي من الإجماع على وجوب قبول خبر المتأول عن أئمة الزيدية فقد تقدم الجواب عليه، مع أنا لو سلمنا له ذلك فقد شرط العلماء من الزيدية وغيرهم اعتقاد الراوي تحريم الكذب ورجحان الضبط فيجب عليه تعريفنا حصول الشرطين في رواة هذه الأخبار وأنى له ذلك أقصى ما يكون لزوم الوقف مع اختلاف المذاهب وظهور الكذب على رسول الله صلى الله عليه وآله واختلاف مراتب العدالة والحفظ.
وأما قوله: إذا روى الثقة الإجماع واطلعنا على خلافه لزمنا العمل برواية الثقة، فنقول: بل ذلك محل نظر وترجيح للناظر؛ إذ رواية العدل لا تثمر غير الظن، فإن غلب على ظنه وهم الثقة أو أنه تكلم بقدر علمه حيث لم يجد مخالفاً قدم رواية من بحث فوجد المخالف لكونه أولا لاستناده إلى العلم بالوجدان بخلاف النافي لاستناده إلى الظن بعدم المخالف مع أن الأكثر نفى حجية ما هذا حاله.
وأما قوله: إن الإجماع ـ يعنى بقبول رواية المتأول ـ كان في زمن الصحابة والتابعين، فقد روينا عن آبائنا وابن عباس رحمهم الله إنكار قبول أخبار مخالفيهم وتكذيبهم، أما أمير المؤمنين عليه السلام فخطبه معروفة في ذلك حتى قال: ((فأين يتاه بكم))؟ وحتى رمى أبا هريرة بالكذب وأبا مسعود البدري، وكذا بنو هاشم جميعاً رموا أبا بكر بافتعال خبر: ((إنا معاشر الأنبياء لا نورث))، ورمته الأنصار بافتعال خبر: ((الأئمة من قريش)) وكذب الشيخان وغيرهما عثمان في قوله: إن النبي صلى الله عليه وآله وعده برجوع الحكم بن أبي العاص، وكذلك عمر تهدد أبا هريرة، وعمار رمى أبا موسى بالنفاق وكذبه، وابن الزبير كذب في دعواه شعر المزني عند معاوية، ومعاوية افتعل كتاب ذكر فيه أن النبي صلى الله عليه وآله أمره أن يسكن الشام، وادعى أنه كاتب الوحي إلى غير ذلك من مفترياته، وبنو هاشم وأكثر المسلمين يكذبونه في ذلك، وابن عباس وعائشة ردا خبر أبي هريرة في الاستيقاظ وكذباه، وعمر رد خبر فاطمة بنت قيس، وأمير المؤمنين عليه السلام رويتم عنه أنه كان يحلف الصحابة في عهد أبي بكر؛ فهل ذلك إلا لتهمته لهم بالكذب، وكذب الهاشميون المغيرة في دعواه أنه آخر الناس عهداً بلحد رسول الله صلى الله عليه وآله، فأما غيرهم من صغار الصحابة وفسقة صفين فأمرهم معروف، وقد تقدم ما فيه كفاية فلا نعيده اختصاراً وإنما يعجب الناظر من تعديلهم لراوي مثالب الأنبياء" كهذين الخبرين، وخبر داود ويونس وقصة نزول: {عَبَسَ وَتَوَلَّى}[عبس:1] مع تصريحهم بعصمة الأنبياء عن الكبائر، فإذا روى الراوي شيئاً من أحوال الصحابة وما جرى بينهم أو خبراً في علي عليه السلام يقتضي فسق المحاربين له ذموه ونسبوه إلى الرفض وأطلقوا [على] روايته الإنكار وكذبوه، وبعضهم يقول: خبيث يروي مثالب الصحابة حتى قال بعضهم في بعض: الماص بظر أمه .. إلى غير ذلك مما يطول ذكره يعرفه من تطلع على كتب الجرح والتعديل. (1/130)
[ابن الوزير] قال ـ رحمه الله ـ : الفائدة الرابعة في ذكر ثلاث طوائف خصهم بالذكر وأورد في الاحتجاج على جرحهم في الرواية ما لم يورد في غيرهم: (1/131)
الطائفة الأولى المجبرة:
لكنه أراد من ليس بجبري من الأشعرية وأهل الحديث، وهذا لفظه:
قال ـ رحمه الله ـ : أما المجبرة فعندهم أن الله تعالى يجوز أن يعاقب المطيع وأن يثيب العاصي فلا فائدة في الطاعة، وأيضاً فعندهم أن أفعالهم من الله فالإثابة عليها والعقاب لا معنى له.
فإن قالوا: هذا من جهة العقل لكن قد ورد السمع أنه يدخل المطيع الجنة والعاصي النار.
قلنا: إنه إنما وعد ذلك مقروناً بمشيئته لقوله: {يَغْفِرُ لِمَنْ يَشَاءُ وَيُعَذِّبُ مَنْ يَشَاءُ}[آل عمران:129] وهم لا يعلمون من الذي شاء الله أن يغفر لهم. ا ه.
[ابن الوزير] اعترضه السيد محمد فقال: الجواب عليه من وجوه:
الوجه الأول: إنا قد بينا غير مرة أن الأشعرية وأهل الحديث لا يقولون بالجبر وبينا نصوص أئمتهم على ثبوت الاختيار ونفي الإجبار كالجويني، والخطابي، والنووي، وابن الحاجب وغير واحد ممن قدمنا ذكره وهم أعرف بمذاهبهم من غيرهم، والرجوع إليهم في تفسير مقاصدهم في عباراتهم أولى من الرجوع إلى غيرهم، وإذا جاز أن ينسب إليهم ما هم مفصحون بالبراءة منه جاز أن ينسب إلى الشيعة والمعتزلة مثل ذلك. ا ه.
[المؤلف] قلت: والجواب عن هذا الوجه قد تقدم، وأن عبارتهم وإن احتملت الاختيار فقد صرحوا بمعنى الجبر بقولهم: لا قدرة للعبد ولا تأثير لقدرته في الفعل وأن الخالق له والمؤثر هو الله سبحانه، وإنما الاختيار المذكور في صدر العبارة هو مجرد الاعتبار عند الأشاعرة والأحوال عند الماتريدية وقد نقلنا كلامهم بعينه لئلا يرتاب فيه مع أن الجويني ليس من الأشاعرة وكل من نص عليهم فليسوا من أئمة أهل الحديث الذين قصد الذب عنهم، فأما هم فلم يطلع لأحد منهم على نص في الاختيار أصلاً إلا أن يكون ابن القيم ففي ذهني أنه يثبت الكسب كالأشاعرة لكن [لم ] يحضرني مصنفه فانقل كلامه هذا. (1/132)
وأما ابن تيمية الحراني فإنه لم يخرج عن إلزام الذهبي في جوابه عليه ومن تأمل ذلك الجواب عرف مقدار صاحبه من الهذيان والمغالطة وعرف أنهم إذا اضطروا قالوا: لا يسأل الله عن فعله ولا يعترض في حكمه، إشارة إلى أنه أجبرهم وأغواهم وكلفهم بغيره.
وأما تجويز عذاب من لا يستحق العذاب فذلك كتجويزهم عذاب المعتبر والفاعل غيره، وكتجويز عذاب أطفال المشركين بذنوب آبائهم، وقولهم: إنه يأخذ قبضة فيلقيها في جهنم ولا يبالي.
وأما ثواب من لا يستحق الثواب فقد قطعوا بدخول الموحد دار الثواب والرحمة ولو قتل المصطفى صلى الله عليه وآله وعلي المرتضى عليه السلام وجميع العالم وزنا وسرق فيدخل الجنة على رغم أنف أبي ذر ـ رحمه الله ـ، فإن وجب دخوله النار فأياماً معدودة كما زعمت اليهود لعنهم الله ثم يصيرون إلى الجنة ويثابون في غير شيء حتى قال بعضهم: إن ابن ملجم يتأول في قتل أمير المؤمنين بخلاف قاتل عمر فزعموا أنه نصراني وكذلك قتلة عثمان تبرأوا منهم ولعنوهم ولم يتأولوا لهم كابن ملجم.
فإن زعموا أنهم مثابون في النطق بالشهادة واعتقاد التوحيد.
فالجواب: إن التوحيد مع المعاصي غير مقبول وإلا لزم خطأ الصحابة في قتال أهل الردة وهم موحدون وما منعوا إلا الزكاة فاستدل عليهم الصحابة بأن الزكاة من حقوق التوحيد. (1/133)
[ابن الوزير] قال ـ رحمه الله ـ : الوجه الثاني: إن المعلوم ضرورة من مذهبهم خلاف ما ذكره، وإنما ألزمتهم بذلك المعتزلة مجرد إلزام، كما أنهم قد ألزموا المعتزلة القول بأقبح من ذلك في كثير من مسائل الكلام، والفريقان أعقل من أن يرتكبوا من الكذب المعلوم بالضرورة ما ارتكبه المعترض، فإن الكذاب إنما غرضه أن يعتقد صحة باطله...إلخ.
[المؤلف] والجواب: إن حواشي أَلْسِنَة سادات الإسلام وعلماء الأمة ومصابيح الظلام طيبة الكلام، ريها عطر، وشأنها الخير، وشأوها عزيز المرام، لا يقدر محاورتها بالقبح، ولا ترمي البريء بما ليس فيه، بل تتجاوز عن مساوئه وإن كان عنه صحيح.
أما قوله: إنه مجرد إلزام، فقد بلغهم فلم يستدركوه وتلك مصنفاتهم شاهدة عليهم حتى إن الأماثل منهم تركوا كلام الأشعري ظهريا في مسألة تكليف ما لا يطاق، وابن الحاجب والسعد في التحسين والتقبيح العقليين، والرازي في الكسب.
وأما قوله: إن المعلوم ضرورة من مذهبهم خلاف ما ذكره، فدعوى لا دليل عليها، فقد عرفناك بنصوصهم {وَمَا تُخْفِي صُدُورُهُمْ أَكْبَرُ}[آل عمران:118] لكن ما زال التمويه ديدنهم، والتستر بجلباب الكسب الذي لم يقفوا على حقيقة هجيرهم فراراً من التصريح بالجبر وعن التجسيم بهبوبة ريح إثبات المغالطة بلا كيف، وعن الفرار من عقاب المعاصي بمجرد التوحيد.
وأما إنكاره أن يكون أحد قال: إن الله يثيب العاصي ويعاقب المطيع، فهو صريح قولهم، أما اليهود والنصارى وغيرهم من الفرق فلا شك أنهم يتحاشون عن مثل هذه المقالة إلا أهل السنة فقالوا: إن الله سبحانه فدى عصاة الموحدين بأمثالهم من اليهود فيلزم أنه أثاب الموحد بدون توبة وعاقب اليهودي لا بذنبه، وقالوا: إن الله يأمر بما لا يريد ويقضي بالمعاصي ويغوي على قدر ما يريد، فإذا كان العاصي اتبع مراد الله وقضائه وغوايته وسلم لذلك فهو مطيع، وقد صرحتم أنه يدخل بعض العصاة النار لتطهيره من الذنوب فقد عاقب المطيع على [مقتضى] قولكم، والمترسل ـ رحمه الله ـ لم يفتر عليهم وإنما نقل عنهم الصحيح لا ما لا معنى له من قيد الاختيار مع عدم التأثير، مع أنك قد نقلت نقولات منها اللازم صحيحاً ومنها ما لا يشم رائحة اللازم فرضا عن الصريح فنقلت عن أئمتنا" قبول رواية أهل التأويل وعنهم هم والمعتزلة ما تقدم من المسائل الكلامية فمالك تعيب على الناس لبس دثار استشعرته؟ وكيف خلفتهم عما نهيتهم عنه؟! (1/134)
[قدرة العبد وتعلقها]
[ابن الوزير] قال ـ رحمه الله ـ : الوجه الثالث: إن هذا الاستدلال هو المعروف في علم المنطق بالمغالطة، قال المنطقيون: والمورد لها إن قابل بها الحكيم فهو سوفسطائي وإن قابل بها الجدلي فهو مشاغبي، وإنما قلت ذلك لأن المغالطة قياس يتركب من مقدمات شبيهة بالحق تفسد صورته بأن لا يكون على هيئة منتجة لاختلال شرط معتبر وهذا حاصل كلام المعترض، وبيانه من وجهين:
[الوجه الأول]: قوله عنهم: إنه يجوز أن يعاقب الله المطيع ويثيب العاصي، فهذه مقدمة باطلة تشبه الحق...إلى أن قال: الوجه الثاني في سلوكه مسلك المغالطة.
قوله: فلا فائدة في الطاعة، فإنه أوهم أن هذا من جملة مذهبهم ليتم له ما قصد...الخ.
قلت: اعلم رحمك الله أن الأشاعرة ومن حذا حذوهم من المحدثين قالوا: الحاكم الشرع لا غير -أعني في ثبوت الثواب والعقاب- وقالوا: العلم سايق وأنه لا يقع من العبد إلا ما أراده الله وأنه الخالق لأفعالهم والمؤثر فيها مع ما قدمنا، ومن هنا تعرف أنه يعاقب المطيع صورة وذلك لعدم صدور الطاعة منه ويثاب العاصي صورة لعدم التأثير منه في المعصية وذلك نتيجة هذه المذاهب. (1/135)
إذا عرفت صحة المقدمات مما ذكروا وجب أن المغالط هو غير المعترض؛ لأنه بنى مقدماته على اليقين من قولهم، والسيد محمد بنى في أكثر منقوله على قضايا كاذبة من ثبوت الاختيار غير محسوسة على نحو المحسوس ويعرف كذبها بمساعدة العقل لذلك في المقدمات من ثبوت الاختيار من قولهم (والقدرة حتى إذا وصل إلى النتيجة) وهو التأثير وبصلوح القدرة للضدين فمنعوا عنه امتناع العقل عن مساعدتهم إلى صحة المقدمات، فهذه هي المغالطة بعينها.
قال الصابوني ما لفظه: لا يوصف الله سبحانه بصفة نقص، فلا يقال: يا خالق القردة والخنازير، وفسّر قوله صلى الله عليه وآله: ((والخير في يديك، والشر ليس إليك)) فقال: والشر ليس مما يضاف إليك إفرادا وقصداً حتى يقال لك في المناداة: يا خالق الشر أو يا مقدر الشر وإن كان هو الخالق والمقدر لها جميعاً...الخ.
وقال الغزالي: كل كفر وفسق وزنا ولواط فالله الخالق له والمقدر له، وقد صرح الرازي أن الله يفعل الفعل لا لحكمة، وقد قدمنا كثيراً من أقوالهم وأنه يلزمهم تكليف ما لا يطاق في مقتضى عباراتهم فظهر بهذا أنهم قلبوا العربية عن قالبها الصحيح وحرفوا الآيات عن معناها الصريح، واتبعوا الشهوات فسوف يلقون غيا، وإن مقدمات المترسل صحيحة والنتيجة من أقوالهم صريحة لقولهم: إنه قد كتب ما أراد وعلم من سعادة وشقاوة، وأنه أمر مفروغ منه.
هذا ولا يخفاك أن السيد محمد أكثر المغالطة ورد ما هو قريب من الضرورة من مذاهبهم كما تحكيه أقوالهم ومصنفاتهم نقلنا ذلك منها اللفظة باللفظة لكن الهوى أعمى بصر اللبيب. (1/136)
شعرا:
ما بال عقلك واله في غمرة .... من لوعة قرت عيون الحسد
هذا الهوى أعمى اللبيب وقد رأى .... بهتان ما قد صدروه عن يد
فغدا على آل النبي متنقصاً .... يرميهمُ بسهام خب معتد
وأتى يناضل عن طغاة قد رموا .... رب العباد بذنب زان مفسد
لولا الحياء لما غمضت على القذى .... ولقلب بهتان أتوه بمشهد
الله أعلم ما الجواب لدى اللقا .... يوم القيامة ما اعتذارك في غد
[ابن الوزير] قال ـ رحمه الله ـ : قال -يعني صاحب الرسالة: فإن قالوا: هذا من جهة العقل لكن قد ورد السمع بأنه يدخل المطيع الجنة والعاصي النار.
قلنا: إنما وعد ذلك مقروناً بمشيئته لقوله: {يَغْفِرُ لِمَنْ يَشَاءُ وَيُعَذِّبُ مَنْ يَشَاءُ} وهم لا يعلمون من يشاء الله أن يغفر لهم.
والجواب عليه: أنه جحد للضرورة فإنهم يعلمون أن الذي يشاء الله أن يغفر لهم هم من أهل الإسلام دون المشركين وأن أهل الكبائر من أهل الإسلام قد توعدهم الله بالعقاب وأن وعيد الله لهم صادق لكنه عموم يجوز تخصيصه بالمغفرة لبعضهم من غير تعيين وبهذا يبقى الخوف والرجاء مع كل مؤمن وهذا مذهبهم معلوم بالضرورة...الخ.
[المؤلف] قلت: قال أبو عثمان الصابوني: ويعتقد ويشهد أصحاب الحديث أن عواقب العباد مبهمة لا يدري أحد بما يختم له ولا يحكم لواحد بعينه أنه من أهل الجنة ولا يحكمون على أحد بعينه أنه من أهل النار؛ لأن ذلك يغيب عنهم لا يعرفون على ما يموت عليه الإنسان ولذلك يقولون: إنا مؤمنون إن شاء الله، ويشهدون لمن مات على الإسلام أن عاقبته الجنة، فإن الذين سبق القضاء عليهم من الله أنهم يعذبون بالنار مدة لذنوبهم التي اكتسبوها ولم يتوبوا عنها فإنهم يردون أخيراً إلى الجنة ولا يبقى أحد في النار من المسلمين فضلاً من الله ومنّة...الخ. (1/137)
أقول: هذا حاصل كلامهم ولم يذهبوا مذهب الإمام محمد بن إبراهيم من خصوص وعموم.
والجواب عليه: أما قوله: إنهم قد عرفوا أن المغفور لهم من المسلمين دون المشركين فذلك تعنت محض؛ لأن صاحب الرسالة ما قصد المشركين ولا شملتهم عبارته، والحق أن أهل السنة قد قطعوا بدخول كل مسلم الجنة وذلك مع المغفرة ومبنى المسألة على دليلين عقلي ونقلي:
الأول يقال: إنه لا يحسن من الله العفو والفضل إذا كان ذلك يؤدي إلى الإغراء لقبحه والله يتعالى عن القبيح والإغراء به.
ثانياً: أنا نجد العقلاء يذمون ملكاً أغرى رعيته حتى استخفوا بأوامره ونواهيه وجاء الشرع بتصديقه، كما عاتب الله النبي صلى الله عليه وآله وأصحابه على أخذ الفدى من أسارى بدر حتى يثخنوا في الأرض وذلك لتعظم الهيبة من المسلمين وتكسر نفوس أهل الشرك لكثرة القتل وأن المسلمين لا هوادة عندهم ولا رحمة على المشركين ولذا مدحهم الله فقال: {أَشِدَّاءُ عَلَى الْكُفَّارِ}[الفتح:29].
وأما من النقل فلا يخلو المخصص إما أن يكون من القرآن أو من السنة، أما من القرآن فلا إلا ما هو مجمل والمجمل لا يخصص به العموم، وأما السنة فلا يخلو إما أن يكون من طريق داعية إلى البدعة فهذا مردود عند أئمة التحقيق من أهل الحديث وغيرهم وإن كان من طريق غير الداعية فلا يخلو إما أن يقال: تُخصص الآحاد آيات القرآن الكلامية أو لا، إن كان الأول فلا يخلو إما أن يكون العام المخرج منه مجازاً أو حقيقة ليس الثاني فلا يخلو إما أن تكون دلالته على ما بقي قاطعاً عاد النزاع هل يخصص بالظني أم لا، أو الدلالة صارت ظنية جاز تخصيص الظني بمثله اتفاقاً على أنه قد ورد أخبار صحيحة بتعذيب أقوام على معاص معينة لا يمكن تخصيصها، فذهب الإمام المهدي أحمد بن يحيى إلى الرجاء والتخصيص فيما أحسب وذلك في بعض مصنفاته، وذهب الإمام إبراهيم بن محمد المؤيدي ووالدنا الإمام الهادي الحسن بن يحيى عليه السلام إلى أن الباقي بعد إخراج التائب وإن كان مجازاً قطعياً، وهذا المقام مما ينبغي فيه التحري لهذا توقفنا عن ترجيح أحد الطرفين حتى يفتح الله لنا بمرجح لأحدهما على الآخر. (1/138)
قال شيخنا أمير المؤمنين الحسن بن يحيى ـ رحمه الله ـ وتجاوز عن سيئاته ورفع في عليين درجته- في جواب سؤال ورد عليه من الجهة التهامية ما لفظه: وأما حسن العفو عن فاعل الكبيرة عقلا فيدل عليه قول خليل الرحمن: {فَمَنْ تَبِعَنِي فَإِنَّهُ مِنِّي وَمَنْ عَصَانِي فَإِنَّكَ غَفُورٌ رَحِيمٌ}[إبراهيم:36]، وقول عيسى عليه السلام : {إِنْ تُعَذِّبْهُمْ فَإِنَّهُمْ عِبَادُكَ وَإِنْ تَغْفِرْ لَهُمْ فَإِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ}[المائدة:118]، وأما عدم حسنه عقلاً فلما فيه من الإغراء والإغراء قبيح عقلاً.
وروي أن رجلاً تلا قوله تعالى: {فَإِنْ زَلَلْتُمْ مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَتْكُمُ الْبَيِّنَاتُ}[البقرة:209]، فجعل موضع: { فَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ}[البقرة:209] {فَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ}[المائدة:34] فسمعه أعرابي لم يقرأ القرآن فأنكره وقال: إن كان هذا كلام حكيم فلا يقول كذا الحكيم لا يذكر الغفران عند الزلل لأنه إغراء عليه. ا ه. (1/139)
فيمكن الجمع بأن العقل يحسنه في صورة لا يكون فيها إغراء. والله أعلم.
وأما العمومات فاعلم أن في الموضوعات اللغوية الوارد بها الكتاب والسنة ألفاظ موضوعة للعموم حقيقة وذلك كأسماء الشرط والاستفهام والموصولات و (كل) ونحوها.
والدليل على ذلك التبادر عند الإطلاق، فإنه إذا قيل: لا تقرب أحداً ولا تشتم رجلاً فهم العموم من ذات الصيغة قطعاً، والتبادر دليل الحقيقة، وما كان كذلك فدلالته قطعية؛ لأجل التبادر سواء كان ذلك في العلمي أو في العملي ولا يخرج عن دلالته المذكورة لغير مغير إلا أنه لما وجد المغير في العملي وهو كثرة التخصيص في أكثر عموماته ضعفت تلك الدلالة وصارت ظنية وبقي العلمي على الأصل؛ إذ لم يحصل فيه ما يقتضي الخروج عن الأصل فلا بد أن يكون دلالة مخصصة قطعية مثله؛ إذ القلة لا تقدح في الأصل مع أن العام العملي إذا اشتد البحث عن مخصصه وحصل العلم بعدمه كانت دلالته قطعية على الأصل يزيد ذلك وضوحاً أنا نقطع أن العلماء لم يزالوا يستدلون بهذه الصيغ على وجه العموم نحو: {وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ}[المائدة:38]، و{الزَّانِيَةُ وَالزَّانِي}[النور:2]، {يُوصِيكُمُ اللَّهُ فِي أَوْلاَدِكُمْ}[النساء:11] ونحو ذلك بلا نكير.
قال السعد فيما أورد على ذلك من التشكيكات: إنه عناد؛ لأنا نقطع أن العموم في مثل: لا تضرب أحداً، إنما يفهم من الصيغة. ا ه.
وقال بعضهم: إنا لما استقرينا اللغة العربية وتتبعناها وبحثنا في مفهوم تلك الألفاظ واختبرناها وجدناها مفيدة للعموم وعلمنا ذلك علماً قطعياً. ا ه. (1/140)
هذا والكتاب والسنة عربيان.
وأما أحاديث الإرجاء فاعلم أنه كذب على نبينا محمد صلى الله عليه وآله قطعاً لقوله صلى الله عليه وآله: ((ألا وإنه سيكذب عليّ...)) الخبر، فإن كان هذا الخبر صدقاً في نفس الأمر دل على أنه سيكذب عليه، وإن كان كذباً فقد كذب عليه قطعاً.
إذا عرفت هذا فالعلماء من غير نظر إلى قدماء الأئمة وأشباههم يقبلون حديث الترغيب والترهيب من دون مناقشة في رواتها ويتساهلون.
نعم وأما ما كان يرجع إلى العقائد فلا يقبل رواية من جر إلى مذهبه حتى يكون له شاهد من غيره، وقد ادعى السيد محمد بن إبراهيم الوزير أن أخبار الإرجاء بلغت فوق أربعمائة وثلاثين حديثاً.
نعم وجلتها من رواية أهل مذهبه من أهل الحديث مما يجر إلى قولهم أو من غيرهم من أخبار الترغيب كخبر: ((من قرأ في دبر كل صلاة مكتوبة مائة مرة قل هو الله أحد...)) الخبر، رواه محمد بن منصور في الأمالي.
ومن الأخبار المحتملة التي ليست نصاً في المقصود مع أنها معارضة بأخبار تبلغ حد التواتر المعنوي من دواوين الإسلام مع الأدلة القرآنية العاضدة لها فإن قلنا بصحة أخبار الوعيدية وأهل الإرجاء على كثرة ذلك من الجانبين تناقضت، وإن قلنا بكذبها جميعاً لزم أن الأمة قد اتفقت على ضلاله وذلك اعتمادهم على الأخبار المكذوبة مع أن المسألة خطرها عظيم، ولما يلزم من أخبار الإرجاء الإغراء على فعل الزنا واللواط وشرب الخمر والاعتكاف على اللهو وغير هذه من الكبائر وترك الواجبات كالصلاة والصوم وغير ذلك جملة ترك أوامر الله وفعل مناهيه فيندم في المعاد حيث لا ينفع الندم، إن كان القول قول الوعيدية.
إن كان قولكم فليس بضائري .... أو كان قولي فالوبال عليكم
نعم فالقول الفصل الأخذ في هذه المسألة بما دل عليه القرآن المعجزة العظمى إلى آخر الزمان المحفوظ من الزيادة والنقصان...إلخ، ثم أورد أدلة الفريقين جميعها فراجعه فإنه بحث كامل نفيس. (1/141)
قلت: وهنا قاعدة يعرف منها كذب هذه الأخبار التي تمسك بها المرجئة وذلك أنها مخالفة لما كان عليه النبي صلى الله عليه وآله وأصحابه فإنهم تبرأوا من الغال وإن كان شيئاً يسيراً وصرحوا بدخوله النار، ونسبوا مانع الزكاة إلى الردة واستحلوا دمه وماله في أيام أبي بكر وصرحوا بكفر تارك الصلاة، وكذلك النبي صلى الله عليه وآله لم يقبل إسلام من استأذنه في تركها أو في شرب الخمر إلى غير ذلك من أحوالهم، هذا عمر استأذن النبي صلى الله عليه وآله في قتل حاطب لما كتب إلى قريش، وقصة ثعلبة لا يخفى على أحد وإنما أصل هذا المذهب من الجوابات الإقناعية وذلك أنه لما عوتب معاوية وعدد عليه ما ارتكب في الإسلام لم يلق مساغاً للإنكار فأجاب بقوله: وثقت بقول الله تعالى: {إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعًا}[الزمر:53] وعمرو بن العاص لما حضرته الوفاة فجعل يتندم على أحداثه فجعل ولده عبد الله يذكر له مواقفه مع النبي صلى الله عليه وآله فقال له عمرو ما معناه: نسيت لا إله إلا الله، فهما أول من فتح الإرجاء، وتبعهم الملوك على ذلك فتقرب إليهم علماء السوء واختلقوا كثيراً من الأخبار مع ما طرق الإسلام من مكائد الزنادقة الأشرار وغيرهم من الباطنية والمنافقين والكفار ليلبسوا علينا قواعد الإسلام فتداولها الناس حتى صارت في أيدي الديانين فشهروها تديناً وعملوا بسلامة صدورهم وحفظوها لحرصهم على السنن ففشا من هذه الأقوال الردية والاختلاف بين هذه الأمة المحمدية.
[الإمام] قال ـ رحمه الله ـ: (1/142)
الطائفة الثاني المرجئة:
وهذا لفظه فيهم: قال ـ رحمه الله ـ : ولأن المرجئة والمجبرة لا يرتدعون عن الكذب وغيره من المعاصي، أما المرجئة فعندهم أنهم مؤمنون وأن الله لا يدخل النار من في قلبه مثقال حبة من خردل من إيمان وإن زنى وإن سرق وإن قتل، والكذب أخف من ذلك. ا ه.
[ابن الوزير] إلى أن قال السيد محمد بعد اعترافه بصدق ما نسب إليهم وتحرير الجواب على ما ذكره يتم بذكر وجوه:
الوجه الأول: أن قوله: المرجئة لا يرتدعون عن الكذب وغيره من المعاصي مباهتة عظيمة وإنكار للضرورة، فإن كلامنا إنما هو فيمن عرف منهم بالديانة والأمانة وأدى الواجبات وترك المحرمات، والمعلوم بالضرورة أن من المرجئة من هو من أهل العبادة والزهادة والعلم والإفادة...الخ.
[المؤلف] أقول: إن صاحب الرسالة لم يسلبهم فعل الطاعات فيتوجه عليه هذا الجواب، وإنما ذكر أنه لا رادع لهم عن الكذب لقطعهم بعدم دخولهم النار فلا نأمن أن يفتعلوا ما أرادوا مما يقوي بدعتهم كما قد نقل، وأقصى ما هنا أن رواية الخايف أرجح من رواية الآمن يعرف ذلك كل منصف وينكر شمسه المتعسف، وجميع الهذيان من هذا الوجه الذي زعم أن الله منّ عليه بعلمه لا يشم رائحة ما تكلم به صاحب الرسالة ـ رحمه الله ـ ولا يحوم حول المحرر من أقواله، شكونا عليك الأفعال القلبية فأجبتنا بأفعال الجوارح كأن ابن أُبِّي لم يفعل من ذلك شيئاً، بل أين أنت من عبادة الخوارج وقرآنهم الذي لا يجاوز تراقيهم (أُرِيه السُّها ويريني القمر).
[ابن الوزير] قال: الوجه الثاني: اعلم أن الحاصل على المحافظة على الخيرات والمجانبة للمكروهات ليس مجرد اعتقاد أن الله تعالى يعاقب على الذنب وإنما هو شرف في النفوس وحياء في القلوب من مبارزة المنعم بجميع النعم بالمعاصي، ولهذا فإن أكثر الخلق محافظة على الخير، ومجانبة للمكروه، أشدهم حياء من الله وإجلالا له، وأما مجرد الاعتقاد فهو واحد لا يزيد ولا ينقص ولهذا نجد الوعيدية مختلفين مع اتحاد معتقدهم...إلخ. (1/143)
[المؤلف] أقول: لا يخلو إما أن يكون العمل مجرداً عن طلب شكر المنعم أو طلب النجاة أو لا، الأول باطل لمصيره لا لغرض فتعين الثاني إما لوجهي الشكر والخوف أو لأحدهما كما قال صلى الله عليه وآله لما عوتب على إجهاد نفسه في العبادة بعد تبشيره بغفران ذنبه: ((أفلا أكون عبداً شكوراً)) والمعاتب له من أصحابه لم يظهر له هذا الشرف الذي ذكرتم ولاحام جواب النبي صلى الله عليه وآله [حول] حمى ما حررتم بل قال سبحانه في وصف الممدوح: {وَهُمْ مِنْ خَشْيَتِهِ مُشْفِقُونَ}[الأنبياء:28]، وقال: {يَخَافُونَ يَوْمًا تَتَقَلَّبُ فِيهِ الْقُلُوبُ وَالأَبْصَارُ}[النور:37] وغير ذلك كثير، بل كانت الصحابة إذا غضبت قال المقسم: أما والله لولا خوف الله. وغير منكر وجود الحياء من كفائف الناس الخُوَّفْ.
وأما اختلاف الوعيدية فلتفاوت الاعتقاد في القلوب كما قال أهل نحلتك: إنما الإيمان يزيد وينقص، وقد اختلفت عبادة الملائكة" والأنبياء كذلك صلوات الله عليهم، ألا ترى إلى قوله: ((لو تعلمون ما أعلم لضحكتم قليلاً ولبكيتم كثيراً...)) الخبر، ومعناه عن النبي صلى الله عليه وآله أو عن وصيه عليه السلام فأعرف الناس بالله أشدهم خوفاً منه كما روي عنه صلى الله عليه وآله في بعضهم: ((لو لم يخف الله لم يعصه)) بتصدير حرف الامتناع لوجود، وهذه المرتبة التي ذكرتم أحد المراتب التي ذكرها الرازي عن المتصوفة غلو لم يدل عليها دليل من الكتاب ولا نطقت بها السنة ولا جرت على ألسن ذوي الألباب. (1/144)
وأما الأشعار العشقية التي استشهدتم بها فمن غلو العشاق ومقامات المبالغة لا تخفى عن أهل البيان كما قال سبحانه: {إِنْ تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ سَبْعِينَ مَرَّةً...} الآية[التوبة:80]، بيان ذلك أن فعل المساق لا لغرض من العبث.
فإن قلت: بل مجرد المحبة من العارفين.
قلنا: لا تخلو تلك المحبة إما أن تكون ثمرة النعم العديدة عادة ونتيجتها من قسيم الشكر أو الخوف من هجر المحبوب وعتبه كان ذلك هو المطلوب، فليت شعري ما ألجأك إلى ترك مناهج الظاهرية والتمسك هنا بمسالك المتصوفين بعد أن عنفتمونا ورميتمونا بانتحال أقوال الفلاسفة والمبتدعين، هلم كلام الصحابة على هذه المرتبة والتابعين أو برهان لذي المحاجة مبين.
فأما قوله في جواب الفنقلة أن المرجئ لا يقطع أنه يموت مسلماً مثلما أن المعتزلي لا يقطع بأنه يموت تائباً، فجوابه أنه وإن لم يقطع بذلك أجلا مع معرفته بأنه مؤمن على قواعدهم في تلك الحالة لا شك أنه يقطع باستحقاقه الجنة، ولو كان على بطن الأجنبية لتلبسه بالإيمان على زعمه في تلك الحال وطروء الشك الآجل لا يغير حكم اليقين الحاصل عنده مع أن ذلك من الأفعال القلبية ونحن مخاطبون بالظاهر لنا من أحوالهم، وكما أنه قد يصدق الكذوب فلا يلزمنا تصديقه مع تجربته على الكذب فكذلك المرجئ لا يلزمنا اعتقاد خوفه من الخاتمة مع قطعه في الحال أنه من أهل الجنة فيرتدع عن الكذب في الرواية. (1/145)
وأما نقله عن المعتزلة من وجوب الأصلح على الله فليس ذلك بمعنى الوجوب من جهة الاستعلاء وإنما هو باعتبار قود الحكمة الربانية، قال سبحانه: {مَا يُبَدَّلُ الْقَوْلُ لَدَيَّ}[ق:29]، {إِنَّ اللَّهَ لاَ يُخْلِفُ الْمِيعَادَ}[آل عمران:9].
[ابن الوزير] قال ـ رحمه الله ـ : الوجه الرابع: إن من اعتقد أن الله يتفضل على أهل الإسلام بمغفرة جميع الذنوب من غير توبة لم يلزم من ذلك أن يتعمد الكذب على الله ويجاهر بجميع المعاصي.. إلى آخر كلامه من هذا القبيل.
[المؤلف] أقول: لم يقصد صاحب الرسالة ـ رحمه الله ـ أن تعمد الكذب يلزم من هذا ولكن عدم الخوف عن تعمد الكذب يلزم منه عدم الثقة بروايته؛ إذ لا نأمن أن يتعمدوه فيما يجر إلى بدعتهم كما قد وقع من كثير من الوضاعين، ثم من أين لنا أنهم من أهل شرف النفوس والمحبة الزاجرة عن غضب المحبوب وهجره؟ سلمنا فإذا عنده أن ذلك غير معصية لكونه كذب له لا عليه ولمقام الإيمان فما بقي لنا من متمسك من قبول أخبارهم فيما انفردوا به.
[ابن الوزير] قال ـ رحمه الله ـ : الوجه الخامس: إن القول بالإرجاء وإن كان حراماً فليس بكفر ولا فسق وكل بدعة محرمة [تقول] فيها صاحبها ولم يكن كفراً ولا فسقاً فصاحبها مقبول بالإجماع، أما أن الإرجاء ليس بكفر ولا فسق فذلك مقتضى الدليل ومذهب أصحاب الخصم، أما الدليل فلأن التكفير والتفسيق يحتاج إلى دليل سمعي وهو مفقود ومخالفتهم في النصوص تأويلاً لا يكفي في الكفر على أن ابن الحاجب اختار عدم التأثيم لمن خالف القطعي مجتهداً وهو قوي...الخ. (1/146)
[المؤلف] أقول: قال الشرفي ـ رحمه الله ـ في شرح الأساس: وأما المرجئة فمن قطع بخلف الوعيد في حق مرتكب الكبيرة أو انقطاعه فلا شك في كفره برده آيات القرآن الصحيحة في بطلان قوله. انتهى.
قال في (القلائد): والمسلمون العاصون داخلون في الوعيد لعمومه، (الأصم): لا لعلمنا أنها ليست على عمومها بدليل خروج التائب ونحوه، فهي مجملة مع التخصيص، (مقاتل): لا وعيد لمسلم. ا ه.
وقال في موضع آخر: المعتزلة: ويصح الإكفار مع التأويل إذ أكثر الكفار متأول. (أبو حنيفة): لا أكفر أحداً من أهل القبلة.
قلنا: إذ استحل الخمر أو سبّه صلى الله عليه وآله كفر إجماعاً وكذا فيما علم ضرورة أنه مثلهم.
[ابن الوزير] وقال: ومن قال: لا وعيد لأهل الصلاة أو جوز الخلف على الله كفر.
قلت: فهذا كلام أصحابنا لا أرى لأحد منهم خلاف ذلك إلا رواية عن المؤيد بالله وقد نفاها عنه فيما أحسب الأمير الكبير شرف الدين الحسين بن بدر الدين عليه السلام .
فأما الدليل فنقول: من رد آية من القرآن لفظاً أو معنى نص في المقصود فقد كفر، والمرجئة ردوا حكم آيات محكمات صريحات لا تحتمل التأويل وذلك قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا لَقِيتُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا زَحْفًا فَلاَ تُوَلُّوهُمُ الأَدْبَارَ...} إلى قوله: {وَمَأْوَاهُ جَهَنَّمُ}[الأنفال:16] وقوله: {لَيْسَ بِأَمَانِيِّكُمْ وَلاَ أَمَانِيِّ أَهْلِ الْكِتَابِ مَنْ يَعْمَلْ سُوءًا يُجْزَ بِهِ وَلاَ يَجِدْ لَهُ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَلِيًّا وَلاَ نَصِيرًا}[النساء:123] وقوله: {إِنَّ الَّذِينَ جَاءُوا بِالإِفْكِ عُصْبَةٌ مِنْكُمْ لاَ تَحْسَبُوهُ شَرًّا لَكُمْ بَلْ هُوَ خَيْرٌ لَكُمْ لِكُلِّ امْرِئٍ مِنْهُمْ مَا اكْتَسَبَ مِنَ الإِثْمِ}[النور:11] والخطاب للمهاجرين والأنصار، وقوله: {إِنَّ الَّذِينَ يُبَايِعُونَكَ...} إلى قوله: {فَمَنْ نَكَثَ فَإِنَّمَا يَنْكُثُ عَلَى نَفْسِهِ...}[الفتح:10] الآية، وقال: {قُلْ لِلْمُخَلَّفِينَ مِنَ الأَعْرَابِ...} إلى قوله: {وَإِنْ تَتَوَلَّوْا كَمَا تَوَلَّيْتُمْ مِنْ قَبْلُ يُعَذِّبْكُمْ عَذَابًا أَلِيمًا}[الفتح:16] والأعراب في تلك الحالة من المسلمين، وقال تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لاَ تَرْفَعُوا أَصْوَاتَكُمْ...} إلى قوله: {أَنْ تَحْبَطَ أَعْمَالُكُمْ وَأَنْتُمْ لاَ تَشْعُرُونَ}[الحجرات:2] وقال: {لَقَدْ كِدْتَ تَرْكَنُ إِلَيْهِمْ شَيْئًا قَلِيلاً ، إِذًا لأَذَقْنَاكَ ضِعْفَ الْحَيَاةِ وَضِعْفَ الْمَمَاتِ}[الإسراء:74،75] وقوله: {وَلَكِنْ يُؤَاخِذُكُمْ بِمَا كَسَبَتْ قُلُوبُكُمْ}[البقرة:225] وقوله تعالى مخاطباً للمسلمين في آيات الربا: {وَمَنْ عَادَ فَأُوْلَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ}[البقرة:275] وقوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لاَ تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبَاطِلِ...} إلى (1/147)
قوله: {فَسَوْفَ نُصْلِيهِ نَارًا}[النساء:29،30] وقوله في آخر آية الصيد: {فَمَنِ اعْتَدَى بَعْدَ ذَلِكَ فَلَهُ عَذَابٌ أَلِيمٌ}[المائدة:94] وقال تعالى: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا مَا لَكُمْ إِذَا قِيلَ لَكُمُ انفِرُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ...} إلى قوله: {إِلاَّ تَنفِرُوا يُعَذِّبْكُمْ عَذَابًا أَلِيمًا}[التوبة:38،39] وقوله تعالى: {وَالَّذِينَ يَنقُضُونَ عَهْدَ اللَّهِ مِنْ بَعْدِ مِيثَاقِهِ...} إلى قوله: {..وَلَهُمُ اللَّعْنَةُ وَلَهُمْ سُوءُ الدَّارِ}[الرعد:25] وقوله تعالى: {وَمَنْ يَظْلِمْ مِنْكُمْ نُذِقْهُ عَذَابًا كَبِيرًا}[الفرقان:19] وقوله تعالى: {يَانِسَاءَ النَّبِيِّ مَنْ يَأْتِ مِنْكُنَّ بِفَاحِشَةٍ مُبَيِّنَةٍ يُضَاعَفْ لَهَا الْعَذَابُ ضِعْفَيْنِ}[الأحزاب:30] وقوله تعالى: {إِنِّي أَخَافُ إِنْ عَصَيْتُ رَبِّي عَذَابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ}[الزمر:13] وقوله تعالى: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لاَ يَسْخَرْ قَومٌ مِنْ قَوْمٍ...} إلى قوله: { ... بِئْسَ الاِسْمُ الْفُسُوقُ بَعْدَ الإِيمَانِ وَمَنْ لَمْ يَتُبْ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ}[الحجرات:11] .. إلى غير ذلك من آيات الوعيد فضلاً عن الأخبار التي لا تحصى في جميع دواوين الإسلام. (1/148)
هذا وقد ورد من غير ما سبق التصريح بأن الظالم والفاجر من أهل النار، ولولا ضيق المقام وخوفاً من الإسهاب وشفقاً من ملل المطلع لاتسع النطاق، وظهرت أعلام الحق ظهور الإشراق، فإن المسألة حريَّة بذلك فراجع البسائط.
فإن قلت: هذه الآيات مخرج منها التائب، والباقي منها، إما مجمل كما قال الأصم أو مجاز كما قال غيره ودلالة أيهما ظني ولا تكفير ولا تفسيق إلا بدليل قاطع.
قلت: أما الإجمال فغير مسلم يعرف ذلك من استقراء لغة العرب، وأما كونه مجازاً فالجواب من وجهين:
الأول: العمومات العلمية قطعية وإن خصصت كما تقدم عن شيخنا رضوان الله عليه.
الثاني: نزول الخارج والمخرج معا دليل إرادة الخصوص وإن خوطبوا بلفظ العموم فقد يطلق لفظ الجمع على المفرد لغرض كما قال تعالى: {الَّذِينَ قَالَ لَهُمُ النَّاسُ}[آل عمران:173] والقائل نعيم بن مسعود الأشجعي لا غير: {إِنَّ النَّاسَ قَدْ جَمَعُوا لَكُمْ}[آل عمران:173] وهو أبو سفيان وغير ذلك، وبذلك يتضح وجوب القطع في الباقي مع أن المتأمل يعلم أن الأحاديث التي احتج بها السيد محمد من رواية الداعي إلى بدعته وهي لا تتمشى على قاعدة المحدثين وغيرهم بل لا يبعد أن رواية الداعية لا تقبل بالإجماع. (1/149)
فإن قيل: إن الشيخين قد رويا عن الداعية في صحيحيهما.
قلنا: لا يعارض ذلك النص الصريح منهما ومن غيرهما لاحتمال أنهما لم يطلعا على كونه داعية أو رويا عنه ما لم يجر إلى بدعته وذلك جائز كما هو مصرح به على أنه قد ذكر الطيب محمد توفيق في (سنن الكائنات) ما لفظه: فكم في الصحيحين من أحاديث اتضح لعلماء الحديث غلط الرواة فيها...إلى قوله: وكم فيهما من أحاديث لم يأخذ بهما الأئمة في مذاهبهم...الخ.
الطائفة الثالثة:
[ابن الوزير] قال ـ رحمه الله ـ:
معاوية والمغيرة وعمرو بن العاص ومن تقدم ذكره في الأوهام، فإن كثيراً من الشيعة ذكروا أنها ظهرت على هؤلاء الثلاثة قرائن تدل على عدم التأويل، وقدحوا بتصحيح حديثهم في حديث الكتب الصحاح كالبخاري ومسلم، وأما أهل الحديث فمذهبهم أنهم من أهل التأويل والاجتهاد والصدق لكونهم أظهروا التأويل فيما يحتمله وعلم البواطن محجوب...إلى قوله: والقصد مجرد تصحيح الحديث الصحيح والذب عنه لا غيره...إلى قوله: فأما أبو موسى وعبد الله بن عمرو بن العاص ونحوهما ممن لم يصح عنه لعلي -رضي الله عنه- حرب ولا سب...الخ.
ثم سرد أحاديث معاوية في الأحكام وما لها من الشواهد من حديث غيره بعضها عن الثقات من الصحابة وبعضها عن المتنازع في ثقتهم إلى أن قال بتزكيته ولو لم يدل على ذلك إلا أن معاوية لم يرو شيئاً قط في ذم علي -رضي الله عنه- ولا في استحلال حربه ولا في فضائل عثمان ولا في ذم القائمين عليه، ولهذا روى عن معاوية غير واحد من أعيان الصحابة والتابعين كعبد الله بن عباس وأبي سعيد الخدري وعبد الله بن الزبير...الخ. (1/150)
[المؤلف] أقول: أما إنكاره أن يكون ابن عمرو قاتل علياً عليه السلام فغير سديد، هذا ابن ديزيل يقول: وروى إسماعيل بن أبي أويس قال: حدثني عبد الملك بن قدامة بن إبراهيم بن حاطب الجمحي عن عمر بن أبي سعيد عن أبيه عن جده عبد الله بن عمرو بن العاص قال: قال رسول الله صلى الله عليه وآله: ((كيف بك يا عبد الله إذا بقيت في حثالة من الناس قد مرجت عهودهم ومواثيقهم وكانوا هكذا؟ -فخالف بين أصابعه- فقلت: تأمرني بأمرك يا رسول الله، قال: تأخذ مما تعرف وتدع ما تنكر وتعمل بخاصة نفسك وتدع الناس وهوان أمرهم))، قال: فلما كان يوم صفين قال له أبوه عمرو بن العاص: يا عبد الله اخرج فقاتل، فقال: يا أبتاه أتأمرني فأقاتل وقد سمعت ما سمعت يوم عهد إليّ رسول الله صلى الله عليه وآله ما عهد؟ فقال: أنشدك الله يا عبد الله ألم يكن آخر ما عهد إليك رسول الله صلى الله عليه وآله أن أخذ بيدك فوضعها في يدي فقال: ((أطع أباك)) فقال: اللهم بلى، قال: فإني أعزم عليك أن تخرج فتقاتل، فخرج عبد الله بن عمرو فقاتل يومئذ متقلداً سيفين، وقال: إن من شعر عبد الله بعد ذلك يذكر علياً بصفين:
فلو شهدت حمل مقامي ومشهدي .... بصفين يوم شاب منه الذوائب
عشية جاء أهل العراق كأنهم .... سحاب ربيع رفعته الجنايب
إذا قلت قد ولت سراعاً بدت لنا .... كتائب منهم وارجَحَنَّتْ كتائب
وجئناهم نردي كأن صفوفنا .... من البحر مد موجه متراكب
فدارت رحانا واستدارت رحاهم .... سراة إليها ما نولي المناكب (1/151)
فقالوا لنا إنا نرى أن تبايعوا .... فقلنا بلى إنا نرى أن نضارب
وذكر ابن عبد ربه في (العقد الفريد) أن عبد الله كان يقاتل في صفين بسيفين وروى له هذه الأبيات، وقد رويت لمحمد بن عمرو هذا ولو لم يقاتل فلم يختلف النقلة أنه حضر مع أبيه وسود بصفين ((ومن سود علينا فقد شرك في دمائنا)) مع توليه لمعاوية مصراً بعد أبيه وأحسب أني اطلعت على ما يقتضي ندمه على القتال واعتذاره إلى الحسين بن علي عليه السلام إلا أني قد سهوت عن موضعه.
[معاوية بن أبي سفيان]
فأما معاوية فأمره مكشوف لا يستر وظاهر لا يتستر، ومثالبه أكثر من أن تحصى، ومخازيه أعظم من أن تستقصى، ومن ذكره في حيز الصحابة فقد استخف بذلك المنصب الشريف واستهدف ذلك الشامخ المنيف.
فمنها ما روى أبو عبيدة عن الواقدي وهما ممن لا يتهم على معاوية أن معاوية لما عاد من العراق إلى الشام بعد بيعة الحسن عليه السلام واجتماع الناس إليه خطب فقال: أيها الناس، إن رسول الله صلى الله عليه وآله قال لي: ((إنك ستلي الخلافة من بعدي فاختر الأرض المقدسة فإن فيها الأبدال))، وقد اخترتكم فالعنوا أبا تراب، فلعنوه، فلما كان من الغد كتب كتاباً، ثم جمعهم فقرأه عليهم، وفيه: هذا كتاب كتبه أمير المؤمنين معاوية صاحب وحي الله الذي بعث محمداً نبياً وكان أمياً لا يقرأ ولا يكتب فاصطفى له من أهله وزيراً كاتباً أميناً فكان الوحي ينزل على محمد وأنا أكتبه وهو لا يعلم ما أكتب فلم يكن بيني وبين الله أحد من خلقه، فقال له الحاضرون كلهم: صدقت يا أمير المؤمنين. ا ه.
واعلم أن القرائن الدالة على خبث عقيدة معاوية وكفره كثيرة نقلها الإخباريون، منها أنه أخبر عن النبي صلى الله عليه وآله أنه قال: ((ويح عمار تقتله الفئة الباغية، يدعوهم إلى الجنة ويدعونه إلى النار)). فأجاب معاوية عليهم: إنما قتله من جاء به -يعمي على عمي القلوب معنى معجزة اطلعها على نبيه علام الغيوب- فهذا جواب عاقل مجتهد أو جاحد مستخف مرتد، كيف وهو من المؤلفة قلوبهم هو وأبوه بلا خلاف. (1/152)
ومنها: طلبه أن يقتل بعثمان غير قاتله والله يقول: {النَّفْسَ بِالنَّفْسِ}[المائدة:45] ويقول: {فَلاَ يُسْرِفْ فِي الْقَتْلِ}[الإسراء:33] فرد حكم الله في ذلك هو ومن معه، وقد بذل له أمير المؤمنين حكم الله في ذلك، ومن رد آية قرآنية كفر.
ومنها: استلحاقه زيادا مع قول النبي صلى الله عليه وآله في الخبر المشهور: ((الولد للفراش وللعاهر الحجر))، وقد لامه على ذلك الأموية وغيرهم حتى قال قائلهم مخاطباً له:
أتغضب أن يقال أبوك عف .... وترضى أن يقال أبوك زان
فأشهد أن قربك من زياد .... كقرب الفيل من ولد الأتان
ولما روى له أحد الصحابة النهي عن الشرب في آنية الذهب والفضة قال: أما أنا فلا أرى به بأساً، فأقسم الراوي أن لا يساكنه في بلد.
ومنها: قتله حجر بن عدي وأصحابه بعذراء غدراً وصبراً.
ومنها: ابتزازه الأمة أمرها من غير مشورة ولا سابقة، أما في الإسلام فلا يعرف ونكره في الدين لا يتعرف.
ومنها: سمه الحسن السبط صلوات الله عليه، وسعد بن أبي وقاص -رضي الله عنه- وحمله الناس على بيعة يزيد السكير، وقوله للأنصار لما استأثر عليهم فشكوا إليه ذلك فسألهم: ما الذي أمرهم رسول الله صلى الله عليه وآله به؟ فقال: أمرهم أن يصبروا حتى يلقوه على الحوض، فقال لهم: فاصبروا حتى تلقوه. مستهزئاً بالآمر والمأمور، وبذله الأموال لمن روى فضائل المشائخ ليهدم بذلك ما لعلي عليه السلام ولمن روى القبائح فيه حتى أسرع إلى ذلك أبو هريرة وعمرو وعروة بن الزبير وسمرة بن جندب وغيرهم، أفينبغي أن يقال: مجتهد متأول، وأي تأويل في يده بعد هذا مع معرفته لقوله صلى الله عليه وآله، ولله القائل: (1/153)
ولم تزل قلة الإنصاف قاطعة .... بين الرجال ولو كانوا ذوي رحم
وكلما قلنا شايع ذائع متواتر النقل في دواوين الإسلام يعرفه الخاص والعام، ومن روى عنه من الصحابة فإنما روى عنه ما لم يخالف الناس فيه مع أنهم قد رووا كلام المشركين وأشعارهم وليست الرواية تعديل عند غير المعتبر، وكان الأولى والأحرى ترك الذب عن معاوية وغيره من أهل البهتان لو كان ثم عقول عارفة وأسماع لطرق الحق واعية، ولله در السيد محمد بن إسماعيل الأمير حيث قال من قصيدة طويلة:
وهل لابن هند غير كل قبيحة .... فمن ذا الذي فيه يشك ويمتري
أليس الذي أجرى الدماء جراءة .... بصفين من أصحاب خير مطهرِ
وقاد طغاة الشام من كل وجهة .... يقاتل يقيناً كل بر وخيرِ
وأورد عماراً حياضا من الردى .... ببيع حدانا فدى كل ممطري
وسب أمير المؤمنين مجاهراً .... وألزم أن يملى على كل منبر
فقد عاد لعن اللاعنين جميعه .... عليه كذا من سن سنة منكر
وكم من جنايات جناها تجاريا .... وأبرزها جهراً ولم يتسترِ
أيجهد من يدعي ابن هند محققا .... ومن قال هذا فهو والله مجتري
وما هو إلا ماكر متحيل .... على الملك حتى ناله بتجبرِ
[عمرو بن العاص] (1/154)
وأما عمرو بن العاص السهمي فمثالبه ظاهرة الأعلام، ومخازيه مشهورة في الجاهلية والإسلام، وهو الأبتر الذي هجا رسول الله صلى الله عليه وآله، فلما بلغ رسول الله صلى الله عليه وآله ذلك لعنه بكل بيت لعنة، وأما في الإسلام فابتدأ بهجو الأنصار، وتكلم بما تكلم به ليغري بذلك بين المهاجرين من قريش والأنصار، فغضب أمير المؤمنين وبنو هاشم للأنصار، فخرج عمرو عن المدينة ولم يرجع حتى رضوا عنه وشعره في ذلك وجواب الفضل بن العباس وحسان بن ثابت مذكور في البسائط فراجعه، واستعمله عمر بن الخطاب فخانه، فأخذ عمر نصف ماله لبيت المال، والقصة مشهورة، ولما عزله عثمان عن مصر حرض عليه حتى قتل، فلما بلغه قتله استبشر وافتخر حتى قال: أنا أبو عبد الله إذا أنكيت قرحة أدميتها، ثم شارك معاوية في حروبه كلها، وأعطى عهد الله أن يحكم بالحق فغدر أبا موسى وحكم بغير الحق جرأة ومحاباة، أفما لك عقل يا مدعي اجتهاده إنما يكون الاجتهاد فيما خفيت أرجحية قرائنه، فأي حجة في يده إلا قوله من على منبر دومة الجندل: إن معاوية أولى بعثمان، فإن كان ذلك نافعاً فمروان بن الحكم أولى بعثمان وإلا فلم لا يجعل قرابة النبي صلى الله عليه وآله كقرابة عثمان، ثم أتى بطامة كبرى وجرح لا يبرى وذلك اختلاقه الخبر المخرج في الصحيح للبخاري أن آل أبي طالب ليسوا لي بأولياء .. إلى آخر فريته هو ومن أخرجه ورواه، فيا عجباً عن تصديق هذا الأبتر اللعين، ألم يعارض خبره الكتاب والسنة، قال سبحانه في الذكر الحكيم: {وَأُوْلُوا الأَرْحَامِ بَعْضُهُمْ أَوْلَى بِبَعْضٍ فِي كِتَابِ اللَّهِ}[الأنفال:75] وقال النبي صلى الله عليه وآله [في علي] عليه السلام : ((من كنت مولاه فعلي مولاه)).
وأخرج الترمذي مرفوعاً قال: قال صلى الله عليه وآله لعلي: ((أنت أخي في الدنيا والآخرة))، وقال في الحسنين إنهما ابناه، وقال: ((أنا سلم لمن سالمتم حرب لمن حاربتم))، وقال لعقيل إنه يحبه حبين حب القرابة ولحب أبي طالب له، وأما جعفر الطيار فإن أراده بخبرهم هذا فليعقلوا. (1/155)
ومن العجائب أن المحدثين إذا سمعوا رواية تقتضي الطعن في آحاد الصحابة ردوها وجرحوا رواتها وقالوا: يروي ما يقتضي الطعن على الصحابة، فلما سمعوا بما يقتضي الطعن في بني هاشم أجمع أهل الكساء وغيرهم كجعفر الطيار وعقيل بن أبي طالب، بل لم يتحاشوا من سيد المرسلين صلى الله عليه وآله فإنهم رووا أنه عبس في وجه ابن أم مكتوم والقصة مشهورة عندهم، وبعضهم قال: كان ضالاً قبل البعثة كافراً وعلي بن أبي طالب عليه السلام روي عنه خطبته ابنة أبي جهل وغير ذلك من مختلقاتهم رفعوا رؤوسهم إلى ذلك وعدوه من أقوى المسالك، {هُمُ الْعَدُوُّ}، {قَاتَلَهُمُ اللَّهُ} ولله أمير المؤمنين حيث قال: ما سُتر ظهر في صفحات الوجه أو فلتات اللسان، وأعظم من ذلك وأصله قول الله سبحانه وتعالى: {وَلَتَعْرِفَنَّهُمْ فِي لَحْنِ الْقَوْلِ}[محمد:30] وما نقم القوم من آل أبي طالب إلا أنهم كفلوا الرسول صلى الله عليه وآله في صغره، وحاموا عنه بمكة، وقاتلوا دونه بالمدينة، وذبوا عن دينه بالعراق، فمنهم المقتول غدراً، والمحبوس والمطرود، والمصلوب والمحروق، وقد تشرف الصحيح بإخراج حديث الأبتر في أبي طالب واختلاقه ما الله يعلم براءة نبيه صلى الله عليه وآله من ذلك.
ولا لك أم من قريش ولا أب .... أعباد ما للؤم عنك محول
وشعر عمرو في بيعه دينه من معاوية بخراج مصر معروف، وأكبر الطوام روايته لخبر: ((تقتل عمار الفئة الباغية)) وقتاله بعد ذلك، وعدم توبته.
روى نصر بن مزاحم عن عمر بن سعد قال: بينما علي عليه السلام واقف بين جماعة من همدان وحمير وغيرهم من أبناء قحطان إذ نادى رجل من أهل الشام من دل على أبي نوح الحميري، فقيل له: قد وجدته فماذا تريد، فحسر عن لثامه فإذا هو ذو الكلاع الحميري ومعه جماعة من أهله ورهطه فقال لأبي نوح: سر معي، قال: إلى أين؟ قال: إلى أن نخرج عن الصف، قال: وما شأنك؟ قال: إن لي إليك لحاجة، فقال أبو نوح: معاذ الله أن أسير إليك إلا في كتيبة، قال ذو الكلاع: بلى فسر فلك ذمة الله وذمة رسوله صلى الله عليه وآله وذمة ذي الكلاع حتى ترجع إلى خيلك فإنما أريد أن أسألك عن أمر فيكم تمارينا فيه، فسار أبو نوح وسار ذو الكلاع وقال: إنما دعوتك أحدثك حديثاً حدثناه عمرو بن العاص قديماً في خلافة عمر بن الخطاب ثم أذكرناه الآن به فأعاده، إنه يزعم أنه سمع رسول الله صلى الله عليه وآله قال: ((يلتقي أهل الشام وأهل العراق وفي إحدى الكتيبتين الحق وإمام الهدى ومعه عمار بن ياسر)) فقال أبو نوح: نعم والله رأيته إنه لفينا، قال: نشدتك الله أجاد هو على قتالنا؟ .. (1/156)
إلى آخر القصة، منها أنه سأل ذو الكلاع أبا نوح أن يذهب معه إلى عمرو فذهب معه إليه وأخبره ذو الكلاع فسأله عمرو عن عمار فاستفهمه أبو نوح لم سألت عنه؟ فأعاد عليه الحديث الذي حدث به ذي الكلاع فأخبره أنه فيهم، فسأله عمرو أن يجمع بينهم وبين عمار فجمع بينهم فأخبره عمار أن النبي صلى الله عليه وآله أمره أن يقاتل مع علي عليه السلام الناكثين والقاسطين وأخبره أنهم هم ...إلخ.
وروى الشعبي قال: دخل عمرو بن العاص على معاوية فسأله حاجة وقد كان بلغ معاوية عنه ما يكرهه، فكره قضاها وتشاغل، فقال عمرو: يا معاوية إن السخاء فطنة وإن اللؤم تغافل والجفاء ليس من أخلاق المؤمنين، فقال معاوية: يا عمرو بماذا تستحق منا قضاء الحوائج العظام، فغضب عمرو وقال: بأعظم حق وأوجبه إذ كنت في بحر عجاج فلولا عمرو لغرقت في أقل مائه وأرقه ولكني دفعتك فيه دفعة فصرت في وسطه، ثم دفعتك فيه أخرى فصرت في أعلى المواضع منه فمضى حكمك، ونفذ أمرك، وانطلق لسانك بعد تلجلجه، وأضاء وجهك بعد ظلمته، وطمست لك الشمس بالعهن المنفوش، وأظلمت لك القمر بالليلة المدلهمة. ا ه. (1/157)
وكم أروي له من الجراءة بعد المعرفة والكذب على الله وعلى رسوله صلى الله عليه وآله مع أنا نتحاشا من نقل بعض الأخبار تحاشياً وخوفاً من الإسهاب فيما هو أشهر من نار على علم فقصرنا عنان القلم عن استقصاء بعض ما يلزم.
[المغيرة بن شعبة]
وأما المغيرة بن شعبة الثقفي فقصة إسلامه مشهورة وغدرته بأصحابه في التواريخ مصدورة، وفجرته في الإسلام ظاهرة غير مستورة، ويكفيه جواب الحسن سبط رسول الله صلى الله عليه وآله أحد سيدي شبابي أهل الجنة وأحد ريحانتي نبي هذه الأمة حيث قال: وإن حد الله في الزنا لثابت عليك، ولقد درأ عمر عنك حق الله [والله] سائله عنه، ولقد سألت رسول الله صلى الله عليه وآله: هل ينظر الرجل إلى المرأة يريد أن يتزوجها؟ فقال: ((لا بأس بذلك يا مغيرة ما لم ينو الزنا)) لعلمه بأنك زان. ا ه.
وقد نقل غير واحد أنه كان يلعن أمير المؤمنين عليه السلام على منبر الكوفة وهو الساعي بين معاوية وزياد حتى استلحق معاوية زياداً.
[أبو هريرة] (1/158)
وأما أبو هريرة، فروى ابن أبي الحديد أنه غير مرضي الرواية عند المعتزلة...إلى أن قال: ضربه عمر بالدرة وقال: قد أكثرت من الرواية وأحرى بك أن تكون كاذباً على رسول الله صلى الله عليه وآله.
قلت: وروي أنه تهدده بالنفي إلى جبال دوس، قال: وروى سفيان الثوري عن منصور عن إبراهيم التيمي قال: كانوا لا يأخذون عن أبي هريرة إلا ما كان من ذكر جنة أو نار.
وروى أبو أمامة عن الأعمش قال: كان إبراهيم صحيح الحديث فكنت إذا سمعت الحديث أتيته فعرضته عليه فأتيته يوماً بأحاديث من حديث أبي صالح عن أبي هريرة فقال: دعني من أبي هريرة إنهم كانوا يتركون كثيراً من حديثه، وقد روي عن علي عليه السلام أنه قال: ألا إن أكذب الناس ـ أو قال: أكذب الأحياء ـ على رسول الله صلى الله عليه وآله أبو هريرة الدوسي.
وروى أبو يوسف قال: قلت لأبي حنيفة: الخبر يجيء عن رسول الله صلى الله عليه وآله يخالف قياسنا ما نصنع به؟ قال: إذا جاءت به الرواة الثقات عملنا به وتركنا الرأي، فقلت: ما تقول في رواية أبي بكر وعمر، فقال: ناهيك بها، قلت: علي وعثمان، قال: كذلك، فلما رآني أعد الصحابة قال: والصحابة كلهم عدول ما عدى رجالا، ثم عد منهم أبا هريرة وأنس بن مالك.
وروى سفيان الثوري عن عبد الرحمن بن القاسم عن عمر بن عبد الغفار أن أبا هريرة لما قدم الكوفة مع معاوية كان يجلس بالعشيات بباب كندة ويجلس الناس إليه فجاء شاب من الكوفة فجلس إليه فقال: يا أبا هريرة أنشدك الله أسمعت من رسول الله صلى الله عليه وآله يقول لعلي بن أبي طالب: ((اللهم وال من والاه وعاد من عاداه))، فقال: اللهم نعم، قال: فأشهد بالله لقد واليت عدوه وعاديت وليه، ثم قام عنه. ا ه.
أقول: ولّى أبا هريرة عمر فخانه فأخذ عمر ما وجد معه، ويكفيه مداخلته معاوية وولايته لعمله ومفارقته أمير المؤمنين عليه السلام بعد أن سمع فيه من رسول الله صلى الله عليه وآله ما سمع.
قال عبد الرحمن الشافعي الملقب بأبي شامة في رسالته (مختصر كتاب المؤمل): وروى محمد بن الحسن عن أبي حنيفة أنه قال: أقبل من كان من القضاة من الصحابة ـ وفي رواية: جميع الصحابة ـ ولا أستجيز خلافهم إلا ثلاثة نفر: أنس بن مالك، وأبو هريرة، وسمرة بن جندب، فقيل له في ذلك فقال: أما أنس فاختلط في آخر عمره وكان يفتي من عقله وأنا لا أقلد، وأما أبو هريرة فكان يروي كل ما سمع من غير أن يتأمل في المعنى ومن غير أن يعرف الناسخ والمنسوخ. ا ه. (1/159)
قال: وكذلك روى ابن قتيبة أن عائشة كذبت أبا هريرة.
وأخرج أبو داود الطيالسي عن عائشة أنها أنكرت على أبي هريرة بعض الأخبار.
وأخرج البخاري في صحيحه ما لفظه: عن نافع يقول: حدث ابن عمران أبا هريرة يقول: ((من تبع جنازة فله قيراط)) فقال: أكثر أبو هريرة علينا فصدقت -يعني عائشة- أبا هريرة وقالت: سمعت رسول الله صلى الله عليه وآله يقوله، فقال ابن عمر: لقد فرطنا في قراريط كثيرة. ا ه.
وفيه: أن أبا هريرة اعتذر عن قولهم أنه أكثر بالآية، فقف عليه تعرف تهمة الصحابة له بالكذب حتى استهزأ به ابن عمر فقال: لقد فرطنا في قراريط كثيرة.
[سمرة بن جندب]
فأما سمرة بن جندب فكان على شرطة زياد سفاكاً للدماء يفعل الأفاعيل، روى الأعمش عن أبي صالح قال: قيل لنا: قدم رجل من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وآله فأتيناه فإذا هو سمرة بن جندب وإذا عند إحدى رجليه خمر وعند الأخرى ثلج فقلنا: ما هذا؟ قالوا: به النقرس. ا ه.
وقيل له: اتق الله تقتل هذا وتقتل هذا على الظنة، فقال: وأي بأس في ذلك إن كان من أهل الجنة مضى إلى الجنة وإن كان من أهل النار مضى إليها. ا هـ شرح النهج بالمعنى.
وكان سمرة على شرطة ابن زياد يوم مقتل الحسين بن علي عليه السلام وكان يحرض الناس على الخروج عليه وقتاله وهو الراوي لما بذل له معاوية أربعمائة ألف أن قوله تعالى: {وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يُعْجِبُكَ قَوْلُهُ...}[البقرة:204] الآية، نزلت في علي عليه السلام وأن قوله تعالى: {وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَشْرِي نَفْسَهُ ابْتِغَاءَ مَرْضَاةِ اللَّهِ}[البقرة:207] نزلت في ابن ملجم لعنه الله. ا ه. (1/160)
قلت: وهو القائل لما عزله معاوية عن إمارة البصرة: لعن الله معاوية والله لقد أطعته طاعة لو أني أطعت الله مثل ذلك ما عذبني قط. كلامه أو معناه خسر الدنيا والآخرة، وهو آخر الثلاثة موتاً الذين قال لهم رسول الله صلى الله عليه وآله: ((آخركم موتاً في النار)).
[الدعوة إلى الله ووسائلها]
[ابن الوزير] قال ـ رحمه الله ـ : قال المعترض: ويقال ما تقول إذا وردت شبهات الملحدين ومشكلات المشبهة والمجبرة المتمردين وقد ساعدك الناس إلى إهمال النظر في علم الكلام وهل هذه إلا مكيدة للدين...إلى آخر ما ذكره.
أقول: لا يخلو الكفرة إما أن يطلبوا منا أدلتنا حتى يسلموا أو يوردوا علينا شبههم حتى نترك الإسلام فهاتان مسألتان:
أما المسألة الأولى: وهو إذا سألونا أدلتنا حتى يسلموا.
فالجواب من وجوه:
الوجه الأول: أن نقول لأهل الكلام: ما تقولون للكفرة إذا قالوا: إن أدلتكم المحبرة في علم الكلام شبهة ضعيفة وخيالات باردة كما قد قالوا ذلك وأمثاله فما أجبتم به بعد الاستدلال والنزاع والخصومة فهو جوابنا عليهم قبل ذلك كله. ا ه.
[المؤلف] قلت: أما مع عدم المعرفة فما يكون الجواب الجملي مع إرادة الإنصاف، وأما مع المكابرة فلا يضر دعوى من ادعى ضعف الدلائل العقلية المنيرة الشاهد لها السمع.
[ابن الوزير] قال: فإن قالوا: إنه يحسن منا إقامة البراهين العقلية قبل أن نحكم عليهم بالعناد ونرجع إلى الإعراض عنهم وإلى الجهاد، وأما أنتم فإنه يقبح منكم ذلك قبل إقامة البراهين. (1/161)
[المؤلف] قلنا لهم: إن الحجة لله تعالى عليهم قد تمت قبل أن تذكروا لهم تلك البراهين بما خلق الله لهم من العقول وأرسل إليهم من الرسل فكما أنهم لو ماتوا على كفرهم قبل مناظرتكم لهم حسن من الله أن يعذبهم بالنار فكذلك يحسن منا أن نقول لهم: قد أقام الله الحجة عليكم وعرفكم، ثم استدل أن النبي صلى الله عليه وآله قاتل المشركين حتى يشهدوا الشهادتين ولم يوجب الله عليه المجادلة. ا ه كلامه.
أقول: أما إذا استطعمونا الدليل وجب لفعله صلى الله عليه وآله مع أهل نجران وغيرهم ممن قبلهم وبعدهم بالضرورة.
وأما قوله: إنه قاتل قبل الدعاء في آخر الأمر، فغير مسلم؛ إذ قد عرض نفسه على قبائل العرب ودعاهم في المواسم كافة حتى فشى الإسلام وطار صيته وظهر ظهوراً لا يجهله أحد من العرب، وأرسل دعاته إلى اليمن قبل الكتاب فلما أعرض العرب أمره الله بالقتال بادئاً بقريش ومن ظاهرهم ثم الذين يلون المدينة، ثم كافة أهل الشرك بعد الفتح.
وقد جرت عادة الحكيم سبحانه وتعالى بعدم مؤاخذة الناس حتى يقيم عليهم الأدلة فإذا فسقوا أخذهم بتكذيبهم، هذا نبينا صلى الله عليه وآله أمره الله بالجدال فقال: {وَجَادِلْهُمْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ}[النحل:125].
وأما التقسيم الآخر وهو هل هم معذورون قبل المناظرة أم لا؟
قلنا: أما قواعدنا فهي قاضية بعدم عذرهم لكن نحن متعبدون بكمال معرفة الله سبحانه على ما يجب له وإرشاد عباده بما فهمنا من العلوم حتى ورد الوعيد على كتم علم يحتاج إليه الناس ومن لم يعرف حجج الله على عباده كيف يعرف ثمرة الحجج.
[ابن الوزير] قال: الوجه الثاني: إن الكفار متى سألونا الدليل على ثبوت الإسلام قلنا لهم: انظروا في ملكوت السماوات والأرض ومعجزات الأنبياء ونحو ذلك من أدلة الإسلام على الإنصاف...إلى آخر كلامه. (1/162)
[المؤلف] أقول: جوابك هذا من أوله بمعزل عن كلام صاحب الرسالة ـ رحمه الله ـ ، لكن الجواب على هذه الوجوه بأجمعها من وجهين:
أحدهما: أن الله سبحانه وتعالى تعبدنا بالنظر لعدم الطريق إلى معرفته كما يجب له إلا من جهته ليس إلا، فثبت وجوبه كما قلتم أنكم تأمرون الكفرة به، أما الكفار فقد قدمنا وجوب دعاهم إلى الحق إذا استطعمونا ذلك بما أمكن ولا يلزمنا إدخاله في قلوبهم، بل نحن متعبدون بذلك سواء انتفعوا أم لا، كما وجب على الأنبياء صلوات الله عليهم؛ لأن العلماء ورثة الأنبياء، على أن جميع ما تردون به لا يستقيم إلا بالنظر، وجميع أدلة السمع لا يحكم على رجحان بعضها على بعض إلا العقل بواسطة النظر الذي قمتم وقعدتم في هدم وجوبه.
الوجه الثاني: إنك قررت فيما سبق لك أن كل أهل فن حجة في فنهم على من سواهم من سائر الفرق فمالك الآن رجعت على عقبيك وأنكرت وجوب النظر ثم استدليت به، ومع أن هذا يستلزم أن إيمان المحدثين أعظم من إيمان أئمتكم أبي بكر وعمر، فإنهما لم يؤمنا حتى تلا عليهما القرآن ودعاهما الرسول صلى الله عليه وآله فلما نظرا صدق قوله بعقولهما آمنا بواسطة النظر، وهلا عرفا ربهما من غير نظر كما عرفه أهل الحديث، ولم لا يسكت الرسول صلى الله عليه وآله من دعائهما ووكلهما إلى عقولهما، بل تكلف ذلك فأين قوله: {وَمَا أَنَا مِنَ الْمُتَكَلِّفِينَ}[ص:86].
وأما استدلاله على عدم المحاجة بقوله تعالى: {فَإِنْ حَاجُّوكَ فَقُلْ أَسْلَمْتُ وَجْهِي لِلَّهِ}[آل عمران:20] وأمثالها فهي من الأجوبة المسكتة التي يسميها البيانيون بالإقناعية كقوله تعالى: {قُلْ إِنْ كَانَ لِلرَّحْمنِ وَلَدٌ فَأَنَا أَوَّلُ الْعَابِدِينَ}[الزخرف:81] بعد إقامة البرهان وتحقق العناد؛ لأن القرآن من حكيم واحد يجب حمله على الائتلاف ومقعده على شريعة الإنصاف والجمع بين آياته وأحكامه فلا تذهب به مذاهب الاختلاف وقد قال سبحانه: {وَجَادِلْهُمْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ}[النحل:125] وقال تعالى: {يَاأَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ مَا أُنزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ}[المائدة:67] {وَأَنذِرْ عَشِيرَتَكَ الأَقْرَبِينَ}[الشعراء:214] {وَذَكِّرْ فَإِنَّ الذِّكْرَى تَنفَعُ الْمُؤْمِنِينَ}[الذاريات:55] إلى غير ذلك مما يقتضي معناه. (1/163)
[ابن الوزير] قال: فإن قلت: قد يكون في الناس من هو بليد لا يستطيع أن ينظر ولا يعرف الأدلة إلا بالتعليم فيجب تعليمه.
والجواب من وجوه:
الأول: لا سبيل على قواعدكم إلى العلم القاطع بوجود من هو كذلك، سلمنا فإن الله تعالى حين يعلم منه النظر وطلب الحق يلهمه ويمكنه لا محالة، سلمنا أن الله تعالى لم يمكنه من ذلك لبلادته، فمن أين أنه مكلف بالعلم؟ وما المانع أنه غير مكلف عند من لا يجيز التقليد. ا ه.
[المؤلف] أقول: لا يخلو إما أن تكون تلك البلادة مانعة عن معرفة الدليل أصلا فالتكليف ساقط، أو يكون متمكناً معها من المعرفة وجب عليه التعلم؛ لأن العاقل إذا خاف من وبال أمر وجب عليه طلب النجاة من الوبال ولقوله تعالى: {فَاسْأَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لاَ تَعْلَمُونَ}[النحل:43] فلو ترك ذلك لكان إلى الخبط أقرب منه إلى الصواب كما قال سبحانه وتعالى: {وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يُجَادِلُ فِي اللَّهِ بِغَيْرِ عِلْمٍ وَلاَ هُدًى وَلاَ كِتَابٍ مُنِير}[الحج:8] وهذا هو الوجه في تكليفه بالعلم؛ إذ ما لا يتم الواجب إلا به وكان مقدوراً يجب كوجوبه والتعليم مقدور، وقد قال سبحانه: {وَالَّذِينَ اهْتَدَوْا زَادَهُمْ هُدًى}[محمد:17] {وَرَبَطْنَا عَلَى قُلُوبِهِمْ}[الكهف:14] وقال سبحانه: {وَهَدَيْنَاهُ النَّجْدَيْنِ}[البلد:10] وقد ورد: ((اطلبوا العلم ولو بالصين)) أخرجه المرشد بالله عليه السلام في أماليه، والسيوطي في الجامع الصغير وغيرهما. (1/164)
[ابن الوزير] قال: الوجه الثاني: أن يقول: قد يكون في الناس من لا يفهم الأدلة المحققة بالتعليم أيضاً لشدة بلادته فما أجبتم به فهو جوابنا.
فإن قلتم: الأدلة تمنع وجود مثل هذا فإن وجد فغير مكلف.
قلنا: ونحن نقول بمثل هذا فيمن لا يتمكن من معرفة الإسلام بمجرد خلق العقل وبعثة الرسل. ا ه.
[المؤلف] أقول: تقدم الجواب، وهنا لطيفة وذلك رجوعه إلى العقل وبعثة الرسل بخلاف ما تقدم.
[ابن الوزير] قال: الوجه الثالث: إن الذي يعرفه أهل الجهل من المسلمين يكفي أهل البلادة من الكفار فإنه لا يطالب بالأدلة التي لا يعرفها إلا علماء الكلام إلا أهل الذكاء من الكفار وأهل الذكاء منهم قد تمت عليهم الحجة ومكنهم الله من المعرفة ولا يجب علينا تعريفهم بما هم متمكنون من معرفته من غير تعريفنا كما تقدم. ا ه.
[المؤلف] أقول: أما الكفار فقد تقدم الجواب فإن كان مطلوبك التساوي بين العالم والجاهل فقد خالفت العقل وفضلت الجهل أو رجحته كما تقدم ورديت النقل، قال تعالى: {هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَالَّذِينَ لاَ يَعْلَمُونَ}[الزمر:9] وأهل الإسلام البصير منهم وغيره قد ثبت الإيمان في قلوبهم وإن تناول العي بعضهم عن تحرير الدليل فهو ثابت قلبي عجز عن التعبير عنه وأنت خرجت عما تضمنه كلام صاحب الرسالة من التعلم لرد الشبه كما قيل: (1/165)
إذا لم تستطع شيئاً فدعه .... وجاوزه إلى ما تستطيع
فأما وجوب التعريف علينا فكذلك قد تقدم إلا أنه قد دب ودرج على كثرة الهذيان والترويج على قصارى العقول والبيان ليخلص أهل نحلته من بحار الجهل الوخيم، وينزه أقوالهم عن لوازم التشبيه والتجسيم حتى وهي الحجج النيرة على أهل الكفر فإن لم يكن خرج إلى النصرة فقد كاد، نسأل الله التوفيق إلى أوضح طريق.
[ابن الوزير] قال: الوجه الرابع: سلمنا أنه من عرف علم الكلام تمكن من محاجة الكفار وإفحامهم دون غيره ولكن ذلك لا يجب ولا يستحب، أما أنه لا يجب فلعدم ما يدل على وجوبه. ا ه.
[المؤلف] قلت: أما الدليل على وجوب التعليم فإن العقلاء قاطبة يذمون من رأى غريقاً قادراً على إنقاذه ولا ينقذه أو ضالاً عن المحجة فلا يرشده والكافر بمنزلة الغريق، وأما من الشرع فأدلة وجوب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر لا تحصى، وقد تقدم بعض إشارة، وأما الإفحام فهلا يجب لمناظرة الرسول صلى الله عليه وآله طوائف الكفر حتى أبلغ فلما فحموا عن معارضته لاذوا بالسيوف وأهدوا مهجهم للحتوف، وأهل نجران أقروا بالجزية وتركوا موضع المباهلة، فإن كان ذلك غير واجب على الرسول صلى الله عليه وآله فقد تكلف أو كان واجباً فهو خلاف مبانيك وما يغنيك إنكار ما علم من تواريخ الإسلام وتفسير الكتاب العزيز {رَبَّنَا لاَ تُزِغْ قُلُوبَنَا بَعْدَ إِذْ هَدَيْتَنَا وَهَبْ لَنَا مِنْ لَدُنْكَ رَحْمَةً إِنَّكَ أَنْتَ الْوَهَّابُ}[آل عمران:8]. (1/166)
[ابن الوزير] قال: وأما أنه لا يستحب فلما يخاف من المضرة الحاصلة بمعرفته كما تقدم تحقيق ذلك في الوهم الثاني عشر.
[المؤلف] قلت: قد مر الجواب عليه هناك وأن معرفة الله حق معرفته لا يحصل منها إلا الأمن لا كما قال، فانظر لغرابة هذا القول كيف جعل محل الأمن خوفاً والعكس، وقد بينا هناك ارتفاع شيوخنا عما ألصق بهم فراجعه.
[ابن الوزير] قال: فإن قيل: قد ورد في السمع ما يدل على وجوب البيان، فالجواب من وجوه:
الوجه الأول: إن المراد بذلك بيان ما لم يبينه الله للعامة إلا بواسطة علماء الشريعة من أحكام الفروع وأركان الشريعة وأما العلوم العقلية التي ساوى الله بين الجميع فيها فلا يجب تعلمها؛ لأن ما لم يتعلق بالإسلام من ذلك لا يجب إجماعاً وما يتعلق بالإسلام منه فقد بينه الله تعالى وما بينه لم يجب إعادة البيان...إلى أن قال: غاية ما في الأمر أن هذا تخصيص للعمومات الموجبة لتعليم الجاهل فهو تخصيص صحيح؛ لأنه تخصيص بالعقل وتخصيص العموم جائز عند العلماء بالقياس الظني كيف بالدليل العقلي. ا ه.
[المؤلف] أقول: قد سلم ورود السمع بوجوبه ومع ذلك فلا يخلو إما أن يكون الله قد بين لهم معرفته في كتابه أو لا، إن كان الأول وجب تعريفهم وإبلاغهم؛ لأنه مما ينتفع به الناس، ولكون النبي صلى الله عليه وآله بلغ الأمة ذلك وهذا بالأولى من تعريف مسائل الفروع لترتب صحتها أو قبولها على المعرفة، أو لم يكن الله تعالى قد بينه لزمك أن القرآن غير كامل وأن النبي صلى الله عليه وآله لم يستوف عليهم الحجة وذلك باطل. (1/167)
ثانيا: إنه لو لم يجب علينا تعريف العقليات لوجب أن يعد النبي صلى الله عليه وآله متكلفاً حيث تلا على مشركي العرب الأدلة المثيرة لدفائن العقول على الوحدانية وعلى أهل الكتاب لكل من الفريقين مما يليق به ليتخلص عن الواجب.
إذا عرفت هذا علمنا أن العموم باقي لبقاء التعبد بذلك.
وقوله: وما يتعلق بالإسلام منه، فقد بينه الله تعالى وما بينه لم يجب إعادة البيان.
فنقول: إن البيان إما عقلي أو نقلي، إن كان الأول فعلينا التذكير لا البيان، أو الثاني وجب بيانه للميثاق الذي أخذه الله علينا لنبينه للناس، والعقل يستحسن وجوب إرشاد الضال وإنقاذ الغريق كما تقدم، ولا نسلم قبول العقل لهذا القياس الذي زعمت أنه مخصص على أنا لا نقول بزيادة غير ما بينه الله كما أنا نقول لا يجب إعادة الدعاء مع المكابرة ولا ندفع التخصيص بالعقل ولكن أنت وأهل نحلتك دفعتموه عند قوله تعالى: {اللَّهُ خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ}[الزمر:62] {وَاللَّهُ خَلَقَكُمْ وَمَا تَعْمَلُونَ}[الصافات:96] وعند آية الاستواء وآية المجيء وغير ذلك، فإن العقل يحيل استواء غير الجسم والعرض وتنقل غيرهما.
وأما أنه قد أعلمنا بقيام الحجة فذلك مسلم لكن قد قال: {فَأَجِرْهُ حَتَّى يَسْمَعَ كَلاَمَ اللَّهِ}[التوبة:6] أمر لنا في معرض الإخبار، والنبي صلى الله عليه وآله ابتدأ الدعاء بالعقليات وعقب الفروع الإسلامية حتى ضرب الإسلام بجرانه الأرض وملأ الأرض كلامه في جميع الأنحاء طولها والعرض ومن تشكك فيما قلنا تأمل لأول القرآن نزولاً والفرق بين المكي والمدني والتواريخ منادية بما قلنا فلتراجع. (1/168)
[ابن الوزير] قال: الوجه الثاني: إنا نخصص تلك العمومات بفعل رسول الله صلى الله عليه وآله فإنه عليه السلام لم يشتغل ببيان كيفية النظر وتعليم العقلي ذلك بل دعا الناس إلى الإسلام وقاتلهم عليه وبلغ ما أوحي إليه، والعلماء ليسوا أبلغ من الأنبياء، وقال الله تعالى في الأنبياء: {وَمَا عَلَيْنَا إِلاَّ الْبَلاَغُ الْمُبِينُ}[يس:17] وكذلك العلماء فإنما هم ورثة الأنبياء، وأهل السنة قد قاموا بحق الوراثة للعلم النبوي، وقد علمنا أن رسول الله صلى الله عليه وآله لم يأمرنا بالمناظرة قبل قتال الكفار وإنما أمرنا بالدعا قبل القتال حتى اشتهرت الدعوة النبوية وقاتل عليه السلام قبل الدعوة. ا ه.
[المؤلف] قلت: أما فعله صلى الله عليه وآله فقد قدمنا ما فعل مع المشركين وما ناظرهم به حتى تحداهم ودعاهم إلى إقامة البرهان عليه إن كان وعرض المباهلة لأهل نجران بعد المناظرة بل لبث الزمان الطويل في مكة في مناظرة ومجادلة وتعقب ذلك مقامه بالمدينة كذلك مناظرا للناس بما يعرفون ولم يقاتل حتى دعاهم الفينة بعد الفينة، والدعا ينقسم إلى قسمين: كامل وغير كامل، فالكامل دعا الأنبياء كما حكى الله صفته قال عز من قائل: {وَمَا عَلَيْنَا إِلاَّ الْبَلاَغُ الْمُبِينُ} أي الكامل في البيان المعروف لدى المخاطب.
فإن قال قائل: إن النبي صلى الله عليه وآله ربما أرسل غيره مع المسلمين فيقاتل قبل الدعا.
قلنا: ليس كما وهمتم بل كان يبعث صلى الله عليه وآله السرايا ويأمرهم بدعاء من وردوا عليه إلى كتاب الله، والكتاب مشحون بالأدلة العقلية على قدر ما يفهمون لنزوله بلغتهم. (1/169)
وأما أنه قاتل قبل الدعوة فإنما ذلك إذا كان لمعرفتهم لما دعا وشهرة المدعو إليه والإعادة لا تجب بعد البيان البليغ.
فأما زعمك أن يكون أهل الحديث قاموا بما قام به النبي صلى الله عليه وآله وأصحابه وفهموا كما فهموا من معاني التنزيل ففرية ليس فيها مرية كيف أيقاس عقل النبي صلى الله عليه وآله بأجلاف الظاهرية وقد وزن فرجح بأمته أو بأصحابه فرسان البلاغة وأرباب الخطابة في مقابل من لا يعرف قبيل من دبير، ولا حقيقة من مجاز، ولا تجسيم من تعطيل، ولا تشبيه من تمثيل؟
فيا لله والعجب!! أتنسب رسول الله صلى الله عليه وآله وأصحابه إلى الجهل الوخيم وترميهم ببلادتكم؟ إن ذلك لهو البلاء المبين! وهل أردت غير هذا؟ وهل حمت إلا في حماه؟!!
[ابن الوزير] قال ـ رحمه الله ـ : ومن المعلوم أن الكفار لو اعتذروا بالشبه وجاءوا بفيلسوف يجادل عنهم وطلبوا من النبي صلى الله عليه وآله ترك الجهاد حتى يتعلموا أدلة علم الكلام ويجيب النبي عن جميع شبه الفلاسفة القادحة في العلم حتى يؤمنوا على يقين ما عذرهم النبي صلى الله عليه وآله في الكفر يوماً واحداً وكيف يمهلهم ويترك جهادهم حتى يتعلموا ذلك؟ ا ه.
[المؤلف] أقول: بل العلم اليقين أن النبي صلى الله عليه وآله كان يجيب عن كل شبهة ويقيم الحجة عليهم كما جرت عادة الله الحكيم بإرسال الرسل وتمكين المرسل إليهم والإنذار والإعذار لكلٍّ بما يليق به، أليس نبينا صلى الله عليه وآله لبث في مكة ثلاثة عشر سنة أو أقل قليلاً، وأمّن صفوان بن أمية مدة، وجعل الخيار له بعد انقضاء المدة بين الإسلام أو الرحيل، وكذلك اليهود كم تناظر هو وإياهم ولم يقتلهم إلا بعد الخندق، ونقطع يقيناً أنه صلى الله عليه وآله لا يعاجل أحداً حتى يستوفي إقامة البرهان عليه، إن شرعنا مقتبس من حكيم لا من عقل محدث جليف لا يدري بمجازات القرآن الكريم، أتقيس شريعتنا المطهرة ونبينا الذي قال الله فيه: {وَإِنَّكَ لَعَلى خُلُقٍ عَظِيمٍ}[القلم:4] بعقل جاهل ضعيف كفر الناس بقولهم: القرآن مخلوق لله، حتى كفر من لم يكفر من قال ذلك وزعم أن الله لا يقدر على خلق القرآن وأنه لا يغفر ذنب من قال: القرآن مخلوق، ولو قام بجميع الواجبات واجتنب جميع المقبحات ويغفر كل المعاصي مع القول بإثبات قديم ثانيا مع الله وهو القرآن حتى لو قتل رسول الله وجميع أصحابه وقال بقدم القرآن وإن لم يعمل بحرف منه غير الشهادتين فإنه يدخل الجنة أما بعد الأيام المعدودة التي تلقفوها عن اليهود أو شفاعة أو عفو؟! سبحانك اللهم هذا بهتان عظيم، والله المستعان على ما تصفون!! (1/170)
فأما قوله: إنه لا يحصل العلم بما تقدم إلا في مدة طويلة فغير مسلم؛ لأن الدليل على الوحدة وما تستحق من الصفات إيجاباً وسلباً قريبة الانتوال، أما صاحب الفطنة فقابليته لا تحتاج إلى جور مؤنة وأما البليد فهو أقرب لعدم معرفته لشبه الفلاسفة فلا يهمك هذه المخافة فإن الحق ظاهر الأعلام قريب المعاني سهيل المسلك إلى أفئدة ذوي الأفهام.
إذا عرفت هذا فمن أين اشتغلتم يا أهل الحديث بعمارة الدين؟ أم أين المصلوب منكم في ذات الله رب العالمين؟ أم أين المقتول منكم في مباينة الظالمين؟ أم أين المهجور منكم في الإزراء على الفاسقين؟ بل نثرت دراهمهم على رؤوسكم، ونشرت ملابسهم على صحفكم!! (1/171)
[ابن الوزير] قال ـ رحمه الله ـ : الوجه الخامس: إنها وردت نصوص تقتضي العلم أو الظن أن الخوض في الكلام على وجه التحكيم للأدلة العقلية في المجازات الخفية، وتقديمها على النصوص السمعية مضرة عظيمة ودفع المضرة المظنونة واجب عقلي بإجماع الخصوم ودليل المعقول.
فإن قالوا: وفي ترك علم الكلام خوف مضرة أيضاً.
[المؤلف] فالجواب: إن تسمية المرجوح خوفاً غير مسلم وإلا تسمينا خائفين لسقوط الأبنية القائمة الصحيحة علينا، سلمنا أنه يسمى خوفاً لكن دفع المضرة الموهومة أو المجوزة لا تجب لا سيما إذا لم يندفع إلا بارتكاب ما فيه مضرة مظنونة فإن ذلك قبيح بالضرورة مع تساوي المضرتين واحتمال تساويهما. ا ه.
قلت: والجواب عن هذا الوجه: إن ورود النصوص إن كانت معارضة للقطعيات فغير مأخوذ بها لئلا يعارض القطعي بالظني، قال تعالى: {وَلاَ تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ}[الإسراء:36] وقال الله في ذم المشركين: {إِنْ يَتَّبِعُونَ إِلاَّ الظَّنَّ وَإِنَّ الظَّنَّ لاَ يُغْنِي مِنَ الْحَقِّ شَيْئًا}[النجم:28] أو ورود النص المماثل وجب تأويله لئلا يتعارض القطعيان.
وأما قولك: ودفع المضرة المظنونة واجب عقلاً لمسلم لكن نحن ننفي المضرة المظنونة لوجوب اتباع القواطع وتأويل المظنون لتجتمع الأدلة ونعمل بجميعها.
وأما قوله: إن خوف مضرة ترك علم الكلام مرجوحة. فنقول: أما ما كان دليله قطعي فمضرة ترك معرفته راجحة وغيره لا مضرة فيه كما قدمنا وما كان منه ظنياً فمرجعه نظر الناظر وترجيحه إليه والخطأ في الظنيات معفو عنه وغير مسلم لك ترتيب المضرات ولا وجود النص المُدّعى، وإنما ذلك من أوائل باب طليعة المخازي الآتية لأهل الحديث. (1/172)
وأما قوله في الوجه السادس: إن من المعتزلة والزيدية من يقول: المعارف ضرورية، فلم يطرحوا وجوب النظر إلا فيما هو ظاهر بالضروريات ومن مبتداها، وقوله عنهم بجواز تقليد المحق فيتنزل فيما مرجعه الغموض أما ما يعرف بديهة فقد أثبتوه لجميع العقلاء يعرف ذلك من تأمل كلامهم.
[ابن الوزير] قوله من الوجه السادس: وأما المسألة الثانية وهي قوله: ما يصنع المحدثون عند ورود الشبه الدقيقة من الفلاسفة وغيرهم وذكرهم لحكاية ملك الروم وإرساله إلى الرشيد بطلب المناظرة وأن الرشيد أمر بمحدث فسألوه عن الدليل على ثبوت الصانع فاحتج عليهم بقول النبي صلى الله عليه وآله: ((بني الإسلام على خمس دعائم...)) الحديث، فكتبوا إلى الرشيد في ذلك وطلبوا غيره فأرسل لمتكلم فدسوا عليه من فهمه فوجده كما يحذرون فسموه قبل الوصول إليهم، والجواب على ذلك من وجهين:
الوجه الأول معارضة وهو أن يقول: أخبرنا ما كان يصنع الصحابة والتابعون ومن أجاز التقليد في الأصول من المتكلمين وأهل المعارف الضرورية منهم، وأول من ابتكر علم الكلام منهم فإنه لا يمكن من لا يعرف الكلام أن يصنع مثله.
فإن قالوا: إن في الصحابة وكل من ذكرتم من يتمكن من ذلك من غير تعليم ولا رياضة في الكلام لفرط ذكائه.
قلنا: وما المانع أن يكون في كل عصر من هو كذلك .. إلى آخر كلامه.
[المؤلف] أقول: أما وجوب تعلم المعقولات فلا كلام فيه، وأما إيراد وإصدار ما يفحم الخصم ويلجئه إلى المكابرة أو التسليم فمحتاج إلى ذلك ليقطع الكلام في مواضعه وعند كل مشكلة ما يحلها ولا شك أن الناس متفاوتون في الفهم والقرآن الكريم ينبي على وضع كل شيء في موضعه على ما تقتضيه أساليب البلغاء، والناس متفاوتون في الأخذ منه على قدر أفهامهم ورسوخ أقدامهم في العربية، أما جهال الحنابلة وبلهاء أهل الحديث فليسوا من هذا الشأن في شيء وإنما يثير دفائن عقول العقلاء، والخطابات القرآنية لم تتوجه إلا إليهم، وفعل الرشيد فضيحة تعمد بها الإسلام ومكرة هدّ بها أركان الناموس المحمدي وهتك بها أستار المحدثين ضعفاء الأحلام لدعواهم وراثة الحكمة والاحتواء على ما بعث به سيد الأنام صلى الله عليه وآله. (1/173)
من تزيا بغير ما هو فيه .... فضحته شواهد الامتحان
[ابن الوزير] قال ـ رحمه الله ـ: الوجه الثاني: إن أُصولكم تقتضي عدم الخوف من ذلك؛ لأن عندكم أن النظر واجب على القيد والبيان واللطف واجبان على الله، فنقول: لا حاجة على هذا إلى تعلم الكلام بل نقف حتى ترد الشبهة فإن لم يقدح في أحد أركان الدليل لم توجب شكا ولا تستحق جواباً، وإن قدحت فعلنا ما يجب علينا وهو النظر عند المعتزلة...إلخ.
[المؤلف] أقول: القول بوجوب اللطف والبيان كالقول بوجوب بعثة الرسل وسلامة العقل، فإن عدم أحدهما فيما مرجعه إليهما ارتفع التكليف، وهذا الأمر مجمع عليه مصرح به في كتب أهل الإسلام، ومقتضى الدليل واللطف هو التمكين ولم نسد عليكم ذلك إنما المراد أن الغير الناظر رد اللطف وهو التمكين مع القدرة، وأما الوقوف حتى ترد الشبهة فلا يمنع ذلك مع صحة الاعتقاد فإنها وإن لم ترد من الخارج فقد ترد من الخواطر النفسانية بواسطة الوساويس الشيطانية كما قد وقع من أهل البدع وبعض العوام دع عنك الإيرادات الخارجية، وقد رجعتم إلى وجوب النظر عند الحاجة وذلك هو المطلوب، أما من لم يحتج فلا يكلف به؛ لأن تحصيل الحاصل محال. (1/174)
[ابن الوزير] قال ـ رحمه الله ـ: فإن قيل: فهل تقولون بقبح النظر فقد أبطلتم كل النظر ببعض النظر؛ لأن أدلتكم هذه نظرية وهذا متناقض.
والجواب: إنا لا نقبح النظر وكيف وقد أمر الله تعالى به ونحن إنما دفاعنا عن الكتاب والسنة لكن نبطل مبتدع النظر بمسنونه فيبطل من الأنظار ما أدى إلى القدح في الصحابة وإلى تكفير المسلمين وإلى القطع في صفات الله تعالى بغير تقدير ولا هدى ولا كتاب منير، وقد بينا في الوهم الثاني عشر أن الذي يبطله أهل السنة من النظر نوعان:
أحدهما: ما كان متوقفاً على المراء واللجاج الذي لا يفيد اليقين ويثير الشر.
وثانيهما الانتصار للحق بالخوض في أمور يستلزم الخوض فيها الشكوك والحيرة والبدعة لما في تلك الأمور من الكلام بغير علم في محار العقلاء ومواقفها، وقد أوضحت ذلك في الوهم الثاني عشر وذكرت أقوال فحول المتكلمين فيه واعترافهم بذلك فخذه من هنالك فقد أبطل أهل الحديث بعض النظر ببعضه كما فعل أهل الكلام في إبطال أنظار خصومهم بأنظارهم وهذا صحيح عند الجميع. ا ه.
[المؤلف] أقول: هذا الذي من أجله سياق الكلام من أول الكتاب إلى آخره ونتيجة تلك المقدمات، وفي قوله: فإن قيل ... إلى آخر الجواب، نقض لما قدم من الشبه جميعها وهدم لمبانيه من أساسه، ومن تأمل الكتاب إلى هنا علم أن الشبه التي حررها أخص من الدعاوى التي أعلن بها، وأنه قد أثبت وجوب النظر ووافقنا في ذلك والحمد لله رب العالمين، وليس المنكر منه إلا الضعيف وما تركب على غير هدى ولا كتاب منير، ونحن نوافقه على رد الأنظار الضعيفة والآراء الركيكة وما كان على غير علم ولا هدى، وقد رأيت من الإنصاف تحرير عقائد المحدثين لتطلع عليها على جهة الاعتبار، وتعلم مجانبتها عن الأدلة العلمية والنصوصات البيانية، والمخالفة للمجازات والبلاغات القرآنية، ليستبين لك الهدى والضلال المبين وأنهم كفروا خيار المسلمين وجانبوا غير سبيل المؤمنين. (1/175)
قال أبو عثمان الصابوني: أصحاب الحديث -حفظ الله أحياءهم ورحم موتاهم- يشهدون لله تعالى بالوحدانية وللرسول صلى الله عليه وآله بالرسالة والنبوة، ويعرفون ربهم عز وجل بصفاته التي نطق بها وحيه وتنزيله أو يشهد له بها رسول الله صلى الله عليه وآله على ما وردت الأخبار الصحاح به ونقلته العدول الثقات عنه، ويثبتون له جل جلاله ما أثبت لنفسه في كتابه وعلى لسان رسوله صلى الله عليه وآله، ولا يعتقدون تشبيهاً لصفاته بصفات خلقه فيقولون: إنه خلق آدم بيده كما نص سبحانه عليه في قوله عز من قائل: {قَالَ يَاإِبْلِيسُ مَا مَنَعَكَ أَنْ تَسْجُدَ لِمَا خَلَقْتُ بِيَدَيَّ}[ص:75]، ولا يحرفون الكلم عن مواضعه بحمل اليدين على النعمتين أو القوتين تحريف المعتزلة الجهمية أهلكهم الله، ولا يكيفونهما بكيف أو يشبهوهما بأيدي المخلوقين تشبيه المشبهة خذلهم الله، وقد أعاذ الله أهل السنة من التحريف والتكييف ومنّ عليهم بالتعريف والتفهم حتى سلكوا سبل التوحيد والتنزيه، وتركوا القول بالتعليل والتشبيه، واتبعوا قول الله عز وجل: {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ البَصِيرُ}[الشورى:11]. ا ه. (1/176)
قلت: أول الغباوة من هذا الشيخ الذي زعموه شيخ الإسلام نسبة المعتزلة إلى جهم بن صفوان رئيس المجبرة وأعظم خصومهم المعتزلة.
ثانياً: الإثبات المقابل لسلب المثبت بعينه فإن إثبات الآلات لله سبحانه على الحقيقة كما قال ثم التعقيب بعدم التكييف والتأويل من التناقض.
فإن قال: إن القرآن عربي وجب أن يراعي فيه لسانهم وما جرت عليه أساليب كلامهم على قالب الفصاحة والبلاغة فإن سلم هذا فاليد عندهم تطلق على معان منها النعمة والقوة والجارحة، فالآية دالة على كل المعاني إلا أنه قد اختار الجارحة لكن بغير تكييف ولا تمثيل وهذا باطل؛ إذ لا بد إما من التأويل أو التكييف؛ إذ لا واسطة بين الوجود والعدم.
فإن قلت: موجود لا جسم ولا عرض خرجت عن الظاهر أوهما فهو التجسيم والتشبيه بعينه وبهذا تعرف أنهم على مقتضى كلامهم خرجوا عن ظاهر القرآن لتقييد المطلق بـ {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ}[الشورى:11] لكن الظاهر التجسيم من قولهم: (لكن جسما لا كالأجسام) المحسوسة وبذلك خرجوا عن الظاهر للمخاطبين، ولضعف عقله وقلة إدراكه وفهمه اعتقد أن الآية من أدلة سخافته وأعلام بلادته ولم يشعر أنها من هوادم أساس بدعته، كيف وهي من كلام الحكيم الذي لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه، شان البلغاء ببلاغته، وباين البلداء بقديم ولادته وبراعته، كيف يحمل على الحقائق الظاهرية ويترك معانيه المجازية والإطلاقية والتقييدية، ولسوء تفسيرهم واعتقادهم أثبتوا لله أيدياً كثيرة في جنب واحد وأعيناً كثيرة في وجه واحد ورجلاً واحدة من قوله: {وَالسَّمَاءَ بَنَيْنَاهَا بِأَيْيدٍ}[الذاريات:47] [وقوله]: {... يَاحَسْرَتَا عَلَى مَا فَرَّطْتُ فِي جَنْبِ اللَّهِ}[الزمر:56] [وقوله] {تَجْرِي بِأَعْيُنِنَا}[القمر:14] [وقوله] {كُلُّ شَيْءٍ هَالِكٌ إِلاَّ وَجْهَهُ}[القصص:88] [وقوله] {يَوْمَ يُكْشَفُ عَنْ سَاقٍ}[القلم:42] [وقوله] {سُبْحَانَ رَبِّكَ رَبِّ الْعِزَّةِ عَمَّا يَصِفُونَ}[الصافات:180]. (1/177)
وقال الصابوني أيضاً: وكذلك يقولون في جميع الصفات التي نزل بذكرها القرآن، ووردت بها الأخبار الصحاح من السمع والبصر، والعين والوجه، والعلم والقوة، والقدرة والعزة، والعظمة، والإرادة والمشيئة، والقول والكلام، والرضى والسخط، والحياة واليقظة، والفرح والضحك وغيرها من غير تشبيه بشيء من ذلك بصفات المربوبين المخلوقين بل ينتهون فيها إلى ما قاله الله عز وجل وقال رسوله صلى الله عليه وآله من غير زيادة عليه، ولا إضافة إليه، ولا تكييف له ولا تشبيه، ولا تحريف ولا تبديل ولا تغيير، ولا إزالة للفظ الخبر عما يعرفه العرب وتضعه عليه بتأويل منكر ويجرونه على الظاهر ويكلون علمه إلى الله، ويقرون بأن تأويله لا يعلمه إلا الله كما أخبر الله عن الراسخين في العلم أنهم يقولون .. إلى آخر الآية. (1/178)
أقول: انظر لهذه المناقضة في قوله: ولا إزالة للفظ الخبر عما يعرفه العرب ويضعه عليه بتأويل منكر ويجرونه على الظاهر، فأوله أثبت معرفة العرب ثم نفى التأويل وأجراه على ظاهره وقد أجمعنا أن القرآن في أعلى مراتب الفصاحة والبلاغة، ونص البيانيون على أن المجاز أبلغ من الحقيقة، فنقول: أما نفيتم عن القرآن المجازية وحملتموه على الحقيقة، فما جناح الذل؟ .. إلى غيره من المجازات والاستعارات، أو أثبتوا ذلك عربياً لزمكم التأويل أو التعطيل.
ويقال للإمام محمد بن إبراهيم: كيف قد أوردت من المجازات والاستعارات عند القول على الأخبار الموهمة للتشبيه وهذا الذي صدره الصابوني عن أهل نحلتك الذي صرحت بأن مذهبك مذهبهم هل هذا إلا من التعسف الديني والمخالفة المباني وذلك فتح التأويل فيما تحبون والنهي عنه فيما تكرهون كأنكم الحكام على الكتاب والسنة.
قال الصابوني: ويشهد أصحاب الحديث ويعتقدون أن القرآن كلام الله وكتابه ووحيه وتنزيله غير مخلوق ومن قال بخلقه واعتقده فهو كافر عندهم..
إلى أن قال: وهو الذي تحفظه الصدور وتتلوه الألسنة ويكتب في المصاحف كيفما تصرف بقراءة قارئ ولفظ لافظ وحفظ حافظ وحيث تلي وفي أي موضع قرئ وكتب في مصاحف أهل الإسلام وألواح صبيانهم وغيره كله كلام الله جل جلاله غير مخلوق فمن زعم أنه مخلوق فهو كافر بالله العظيم...إلى أن قال: ومن قال إن القرآن بلفظي مخلوق أو لفظي به مخلوق فهو جاهل ضال كافر بالله العظيم. (1/179)
[خلق القرآن]
قال الرازي:
المسألة العاشرة: الكلام الذي هو متركب من الحروف والأصوات فإنه يمتنع في بديهة العقل كونه قديماً لوجوه:
الأول: أن الكلمة لا تكون كلمة إلا إذا كانت حروفها متوالية فالسابق المنقضي محدث؛ لأن ما ثبت عدمه امتنع قدمه والآتي الحادث بعد انقضاء الأول لا شك أنه حادث.
والثاني: أن الحروف التي تألفت منها الكلمة إن حصلت دفعة واحدة لم تحصل الكلمة؛ لأن الكلمة الثلاثية يمكن وقوعها على التقاليب الستة فلو حصلت الحروف معاً لم يكن وقوعه على بعض تلك الوجوه أولى من وقوعها على سائرها ولو حصلت على التعاقب كانت حادثة.
وقال: زعمت الحشوية أن هذه الأصوات التي نسمعها من هذا الإنسان عين كلام الله وهذا باطل؛ لأنا نعلم بالبديهة أن هذه الحروف والأصوات التي نسمعها من هذا الإنسان صفة قائمة بلسانه وأصواته، فلو قلنا بأنها عين كلام الله تعالى لزمنا القول بأن الصفة الواحدة بعينها قائمة بذات الله تعالى وحالة في بدن هذا الإنسان وهذا معلوم الفساد بالضرورة، وأيضاً فهذا عين ما يقوله النصارى من أن أقنوم الكلمة حلت في ناصوة صريح، وزعموا أنها حالة في ناصوة عيسى عليه السلام ومع ذلك فهي صفة لله تعالى وغير زائلة عنه وهذا عين ما تقوله الحشوية من أن كلام الله تعالى حال في لسان هذا الإنسان مع أنه غير زائل عن ذات الله تعالى ولا فرق بين القولين إلا أن النصارى قالوا بهذا القول في حق عيسى عليه السلام وحده وهؤلاء الحمقى قالوا هذا الخبيث في حق كل الناس من المشرق إلى المغرب. ا ه كلامه. (1/180)
أقول: إذا كان لفظي به غير مخلوق فقد أبطلتم خلق الله أفعال عباده؛ لأن اللسان واللهوات والشفتين مخلوقات ولفظ الحي وصوته مخلوق، وكذا الكاغد والمداد واليد والقلم المكتوب به مخلوقات فيلزم أن ذلك المذكور إما غير مخلوق لله وهو كلام المعتزلة، أو مخلوق له فكل مخلوق محدث وهذه مناقضة ظاهرة والتعدد في القدم يعرف هذا ضرورة وإنكاره مكابرة وإنكار للضرورة، وقد استقصينا كلامه ليعتبر به الناظر ويعرف مقدار المحدثين أصحاب الإمام محمد بن إبراهيم ـ رحمه الله ـ وكم بين كلامه وكلامهم من التفاوت، وكم كفَّروا من أهل الإسلام والدين فقد باء بها أحد الفريقين مع اعترافهم أن السؤال عن اللفظ بالقرآن عن كونه مخلوقاً مما لم يبلغهم فيه شيء إلا عن ابن حنبل وبهذا خالفهم محمد بن إسماعيل البخاري ومن قال بقوله إن اللفظ به مخلوق، فثبت من قواعدهم أنهم مبتدعون في هذه المقالة وفي أمها كذلك لعدم الدليل على قدمه فهم في حيرتهم يترددون.
[عقائد المتسمين بأهل السنة] (1/181)
وقال الصابوني أيضاً: ويشهدون أن الله سبحانه وتعالى فوق سبع سماوات على عرشه كما نطق به كتابه في قوله عز وجل في سورة الأعراف: {إِنَّ رَبَّكُمُ اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ}[الأعراف:54].
إلى أن قال عنهم: ويمرون على ظاهره ويكلون علمه إلى الله.
إلى أن قال: سمعت أبا بكر محمد بن إسحاق بن خزيمة يقول: من لم يقل بأن الله عز وجل على عرشه فوق سبع سماوات فهو كافر بربه حلال الدم يستتاب فإن تاب وإلا ضربت عنقه، وألقي على بعض المزابل حتى لا يتأذى المسلمون ولا المعاهدون بنتن رائحة جيفته، وكان ماله فيئاً لا يرثه أحد من المسلمين؛ إذ المسلم لا يرث الكافر.
إلى أن قال: ويثبت أصحاب الحديث نزول الرب سبحانه وتعالى كل ليلة إلى سماء الدنيا من غير تشبيه بنزول المخلوقين، ولا تمثيل ولا تكييف، بل يثبتون ما أثبته رسول الله صلى الله عليه وآله وينتهون فيه إليه ويمرون الخبر الصحيح الوارد بذكره على ظاهره ويكلون علمه إلى الله، وكذلك يثبتون ما أنزل الله عز اسمه في كتابه من ذكر المجيء والإتيان المذكورين في قوله عز وجل: {هَلْ يَنظُرُونَ إِلاَّ أَنْ يَأْتِيَهُمُ اللَّهُ فِي ظُلَلٍ مِنَ الْغَمَامِ وَالْمَلاَئِكَةُ}[البقرة:210] وقوله عز اسمه: {وَجَاءَ رَبُّكَ وَالْمَلَكُ صَفًّا صَفًّا}[الفجر:22] ا ه.
أقول: وقد استظهر في تفسيره للاستواء بخبر رواه عن أم سلمة موقوفاً.
وتحرير الجواب الإجمالي أن يقال: إما أن يفسر الصحابة أو التابعين مجاز القرآن من تلقاء نفسه وفهمه من لغته فما المانع لمستقري لغتهم من ذلك إلا مجرد التحكم، وإن رفعوا ذلك فكلا على أصله هل يقبل في المسألة وما شابهها المظنون أم لا؟! ولا يخفى أنهم قد أثبتوا له سبحانه الاستواء، فإن أخذنا بظاهره على زعمهم لزم المستوي حقيقة وتعطيل ما سواه من الله سبحانه وتحيزه وحلوله، وقد قال سبحانه: {وَهُوَ الَّذِي فِي السَّمَاءِ إِلَهٌ وَفِي الأَرْضِ إِلَهٌ}[الزخرف:84] {مَا يَكُونُ مِنْ نَجْوَى ثَلاَثَةٍ إِلاَّ هُوَ رَابِعُهُمْ...}[المجادلة:7] إلى غير ذلك كثير. (1/182)
وإن قلنا بلا كيف فقد صرفنا الآية عن ظاهرها وهو المطلوب وليس تفسيركم بغير برهان شهير، ولا علم ولا هدى ولا كتاب منير بأولى من تفسيرنا ولا مقابل له، والقول في المجيء والإتيان كذلك ويشكل عليهم أن الله سبحانه قال: {مَا يَكُونُ مِنْ نَجْوَى ثَلاَثَةٍ إِلاَّ هُوَ رَابِعُهُمْ...}[المجادلة:7] الآية، وقال: {إِنِّي مَعَكُمْ} مخاطباً للملائكة" في آية ولبني إسرائيل في أخرى، فإما أن يثبتوا له ذلك صح أنه بكل مكان كما قال: {وَهُوَ الَّذِي فِي السَّمَاءِ إِلَهٌ وَفِي الأَرْضِ إِلَهٌ}[الزخرف:84] وقال: {وَلاَ يُحِيطُونَ بِهِ عِلْمًا}[طه:110] أو يتأولون هذه الآيات فقد خرجوا بذلك عن مذهبهم وعاد التقسيم الأول، وقد حذونا حذوهم في ترك الدليل العقلي؛ لأنهم نفوه لما يلزم كأنه أتى على زعمهم بما لم يأت به السمع.
وقال أيضاً: ويؤمن أهل الدين والسنة بشفاعة رسول الله صلى الله عليه وآله لمذنبي أهل التوحيد ومرتكبي الكبائر.
إلى أن قال: ويؤمنون بالحوض والكوثر وإدخال فريق من الموحدين الجنة بغير حساب، ومحاسبة فريق منهم حساباً يسيراً وإدخالهم الجنة بغير سوء يمسهم، أو عذاب يلحقهم، وإدخال فريق من مذنبيهم النار ثم إعتاقهم أو إخراجهم منها وإلحاقهم بإخوانهم الذين سبقوهم إليها ولا يخلدون في النار، فأما الكفار فإنهم مخلدون فيها ولا يخرجون منها أبداً ولا يترك الله فيها من عصاة أهل الإيمان أحدا، ويشهد أهل السنة أن المؤمنين يرون ربهم تبارك وتعالى بأبصارهم وينظرون إليه. (1/183)
قال: ويشهدون ويعتقدون أن أفضل أصحاب رسول الله صلى الله عليه وآله أبو بكر ثم عمر ثم عثمان ثم علي وأنهم الخلفاء الراشدون ... إلى أن قال: ويثبت أصحاب الحديث خلافة أبي بكر بعد وفاة رسول الله صلى الله عليه وآله باختيار الصحابة واتفاقهم عليه، وقولهم: رضيه رسول الله صلى الله عليه وآله لديننا فرضيناه لدنيانا.
إلى أن قال: وكان رسول الله صلى الله عليه وآله يتكلم في شأن أبي بكر في حال حياته بما يبين للصحابة أنه أحق الناس بالخلافة بعده فلذلك اتفقوا عليه. ا ه.
قلت: اعلم رحمك الله أنه أجمع من استقرأ لغة العرب على أن كلامهم ينقسم إلى قسمين حقيقة ومجاز، وأهل الحديث منعوا من حمل كلامهم على المجاز وأثبتوا الحقيقة ثم قيدوها بلا كيف وذلك خلاف الحقيقة العربية إلا على القول بالمجاز، فمن شرطه العلاقة والمشابهة في غير المجاز المرسل، ومن هنا يعرف أنهم قسموا الحقيقة إلى قسمين: أحدهما مطلق، والآخر مقيد بلا كيف ولا تشبيه لكن المنصف يعلم أنهم فتحوا باب التأويل للحقائق لكن إن شعروا بذلك وأنكروه فهم أكذب الناس وإن [لم] يشعروا فهم أجهل الناس.
وأما قول السيد محمد بن إبراهيم ـ رحمه الله ـ : إن حجج العقل قد تكون واهية مصادمة للسمع فأي سمع في يده نص في المطلوب غير محتمل؟ وأي حجة معه على هذه المذاهب لم يدخلها الظنون؟!!
وأما قوله: إن العدلية كفروا المسلمين مع ما قدمت أنه لا تكفير ولا تفسيق إلا بدليل قطعي فقد كفرتم من قال: القرآن مخلوق، بلا دليل ولا حجة منيرة ولا صراط مستقيم، ثم أنكرتم الضرورة بأن اللفظ بالقرآن مخلوق مع تسليمكم أن الشفتين واللهات والصوت مخلوقة، وكفرتم من لم ينكر الضرورة معكم بلا هدى ولا كتاب منير، وكفرتم من قال: إن الله بكل مكان محتجاً على ذلك بالقرآن الكريم والعقل السليم كما قال تعالى: {وَهُوَ الَّذِي فِي السَّمَاءِ إِلَهٌ وَفِي الأَرْضِ إِلَهٌ}[الزخرف:84] {مَا يَكُونُ مِنْ نَجْوَى ثَلاَثَةٍ إِلاَّ هُوَ رَابِعُهُمْ...}[المجادلة:7] {وَلَقَدْ أَخَذَ اللَّهُ مِيثَاقَ بَنِي إِسْرَائِيلَ وَبَعَثْنَا مِنْهُمُ اثْنَيْ عَشَرَ نَقِيبًا وَقَالَ اللَّهُ إِنِّي مَعَكُمْ}[المائدة:12] وهم في الدنيا، وقوله: {اللَّهُ نُورُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ}[النور:35] وقول أمير المؤمنين عليه السلام : كان الله ولا مكان فهو كما كان. ا ه. (1/184)
فما لهم وتقحم سدد الإلهيات وما لهم جزّؤوه وحيزوه في جهة من الجهات ولو أنهم آمنوا وتركوا التعيين والحلول لكان ذلك أقرب إلى الصواب.
وأما قوله: إنهم لا يأخذون في دينهم إلا بالعلم. فقد أوردنا أدلتهم ليقف عليها فليس فيها ما يثمر العلم بل ولا الظن، أما آية الاستواء فهي محتملة والمحتمل لا يؤخذ به في المظنونات فضلاً عن العلميات وسائر أدلتهم من هذا المنوال، وكذلك الأخبار فإنها أحادية وقابلة للتأويل.
فأما قولهم: لا ملجئ للتأويل من السمع.
قلنا: بلى، أولاً قوله تعالى: {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ}[الشورى:11] [وقوله:] {وَلاَ يُحِيطُونَ بِهِ عِلْمًا}[طه:10] [وقوله:] {لاَ تُدْرِكُهُ الأَبْصَارُ وَهُوَ يُدْرِكُ الأَبْصَارَ وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ}[الأنعام:103]، فتقتضي مخالفته لكل شيء متعقل يعرفه العقلاء من تعريف السمع مباينة الخالق للمخلوق والصانع للمصنوع وذلك متفق على صحته العقل والنقل، وما قلتم مختلف فيه بينهما واتباع المتفق عليه أولى من المختلف فيه. (1/185)
ثانياً: إنك نفيت إدراك العقل لئلا يلزم التجسيم من أقوالكم السمعية وغفلتم عن إدراك السمع لذلك على أنا لو قلنا بكونه على العرش بلا كيف فقد شابه الأشياء بالحلول والاستقرار والتحيز والقول في المجيء والنزول كذلك.
بحث في الإرادة
وإذ قد تعرضنا لحكاية بعض أهل السنة وجب علينا الإشارة إلى تحقيق ذلك والرد عليهم فنقول:
قال تعالى: {يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ}[البقرة:185] {وَاللَّهُ يُرِيدُ أَنْ يَتُوبَ عَلَيْكُمْ}[النساء:27] {يُرِيدُ اللَّهُ لِيُبَيِّنَ لَكُمْ وَيَهْدِيَكُمْ سُنَنَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ}[النساء:26]، {وَيُرِيدُ الشَّيْطَانُ أَنْ يُضِلَّهُمْ ضَلاَلاً بَعِيدًا}[النساء:60] {إِنَّ اللَّهَ يَحْكُمُ مَا يُرِيدُ}[المائدة:1] والآيات والأخبار دالة على حكمة أفعال الله والإجماع منعقد أن الله سبحانه وتعالى لا يوصف بصفة نقص.
إذا تقرر هذا فاعلم أن الإرادة لا تتعلق بفعل الغير من طاعة أو معصية إلا بمعنى التمكين فما ورد من الآيات التي تعلق بها الخصم فمحمول على التمكين أما أنها تخصص فعل الغير فغلط فاحش ولو كان ذلك كذلك لصح أن يشترك الناس في نية أحدهم أو عزمه والذي يظهر أن الإرادة ترد لمعاني، منها: الإرادة الملازمة للمحبة وحصول المراد، كما في قوله تعالى: {إِنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيُذْهِبَ عَنْكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيرًا}[الأحزاب:33] {يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ}[البقرة:185] {يُرِيدُ اللَّهُ لِيُبَيِّنَ لَكُمْ وَيَهْدِيَكُمْ}[النساء:26] {وَاللَّهُ يُرِيدُ الآخِرَةَ}[الأنفال:67] وما روى مسلم بن الحجاج مرفوعاً في حساب العاصي: ((قد أردت منك أيسر من ذلك)) وهي الملازمة لمحبة المراد والأمر به وتحسينهُ أو شيئاً مما يقارب هذا المعنى، وهي الإرادة الشرعية للواجبات والمستحبات، وهي إرادة الشيء لنفسه لا لوجوه واعتبارات، وهذه هي الإرادة الحقيقية بالإجماع، فالقبائح لا تكون مراده بهذا المعنى وهذا قول العدلية جميعاً ولم يعترفوا بمعنى الإرادة غير هذا المعنى. (1/186)
الثاني: بمعنى العلم وهو الإخبار بما كان وما سيكون كما قال الحسن بن يحيى ومحمد بن منصور: للعباد أفعال ومشيئات نسبها الله إليهم وعلم الله إرادته ومشيئته محيطة بإرادتهم فلا يكون منهم إلا ما أراد وعلم أنه كائن منهم وقد أراد خلقهم وخلقهم بعد علمه بما هو كائن منهم وعليه نزل قوله تعالى: {أَتُرِيدُونَ أَنْ تَهْدُوا مَنْ أَضَلَّ اللَّهُ وَمَنْ يُضْلِلِ اللَّهُ فَلَنْ تَجِدَ لَهُ سَبِيلاً}[النساء:88] لأنه لما سبق في علمه أن العبد لا يؤمن إما لكون قابليته لا تقبل هداية الفطرة، أو أنه يتولى الشيطان بعد ذلك حكم عليه بذلك لا بنفس العلم أو غير ذلك بل بنفس العمل {فَلَمَّا آتَاهُمْ مِنْ فَضْلِهِ بَخِلُوا بِهِ...}[التوبة:76] {فَأَعْقَبَهُمْ نِفَاقًا فِي قُلُوبِهِمْ إِلَى يَوْمِ يَلْقَوْنَهُ بِمَا أَخْلَفُوا اللَّهَ مَا وَعَدُوهُ}[التوبة:77] {وَمَا يُضِلُّ بِهِ إِلاَّ الْفَاسِقِينَ}[البقرة:26] {وَاللَّهُ أَرْكَسَهُمْ بِمَا كَسَبُوا}[النساء:88] وغير ذلك، وإلى أن الإرادة بمعنى العلم أشار بعض قدماء أئمتنا". (1/187)
المعنى الثالث: إرادة السبب لا غير، كأمر الله تعالى إبراهيم الخليل عليه السلام بذبح ولده لابتلائه بذلك ثم حال بين الموس وبين الأوداج بما حال، وفداه بما فداه، فإرادة الله السبب وهو الامتثال لا المسبب وهو الذبح ولا يخلو هذا الوجه من مؤاخذة المعنى.
الرابع: إرادة بمعنى المشيئة؛ لرجوع كل من الإرادة والمحبة والاختيار إلى الآخر، قال الشاعر:
يريد المرء أن يعطى مناه .... ويأبى الله إلا ما أرادَ
أي يحب أن يعطى مناه، والإرادة والمشيئة لغة: هو ما يقع الفعل به على وجه دون وجه، بيان ذلك أن الصائم العاطش يحب شرب الماء في حال صومه بالطبيعة ولا يريده بالعزيمة ونحو ذلك، وقد ذهبت الأشعرية أن الآيات التي في نفوذ المشيئة في قوة أن الله تعالى مريد لجميع الموجودات بأسرها سواء كانت حسنة أو قبيحة، وأنه غير مريد لما لم يوجد سواء كان حسناً أو قبيحاً وقد مر لك كلام الصابوني. (1/188)
قال الحذامي ـ لما قال الزمخشري في تفسير قوله تعالى: {وَمَا تَشَاءُونَ إِلاَّ أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ} معناه: وما تشاءون الطاعة إلا أن يشاء الله...الخ، فنقول: الله تعالى نفى وأثبت على سبيل الحصر الذي لا حصر ولا قصر أوضح منه، ألا ترى أن كلمة التوحيد اقتصر بها على النفي والإثبات؛ لأن هذا النظم أعلق شيء بالحصر وأدل عليه، فنفى الله أن يفعل العبد شيئاً له فيه اختيار ومشيئة إلا أن يكون الله تعالى قد شاء ذلك الفعل، فمقتضاه ما لم يشأ الله وقوعه من العبد لا يقع من العبد وما شاء منه وقوعه وقع وهو رديف ما شاء الله كان وما لم يشأ لم يكن. ا ه.
واعلم أن تلك الآيات سيقت للتمدح بكمال القدرة لا بإرادة القبائح لمنافاتها غرض السياق مع أن المعاصي مبغوضة مكروهة وأهلها كذلك؛ إذ المراد المطلق المراد لنفسه من جميع الوجوه الذي لا يكره من وجه قط والمعاصي ليست من هذا بالإجماع؛ لأن كراهة المكلفين لها واجبة وفاقاً مع وجوب الرضا عليهم بقضاء الله وإرادته ومشيئته، ولأن الله تعالى يكره المعاصي بالنص فلم تكن المعاصي من هذا الجنس من المرادات، كيف وإرادة القبيح ومحبته ليست بصفة مدح بالإجماع؟ وقد نص أئمتهم أن الله سبحانه لا يوصف بصفة نقص ولا بصفة لا مدح فيها ولا نقص فإرادة القبيح لغير وجه حسن إن لم تكن نقصاً كانت مما لا مدح فيها قطعاً فيجب أن لا يوصف بها الرب سبحانه على قواعد الجميع.
قال الرازي: واعلم أن هذه الآية من جملة الآيات التي تلاطمت فيها أمواج الجبر والقدر، فالقدري يتمسك بقوله تعالى: {فَمَنْ شَاءَ اتَّخَذَ إِلَى رَبِّهِ سَبِيلاً}[الإنسان:29] ويقول: إنه صريح مذهبي، ونظيره: {فَمَنْ شَاءَ فَلْيُؤْمِنْ وَمَنْ شَاءَ فَلْيَكْفُرْ}[الكهف:29] والمجبري يقول: متى ضمت هذه الآية إلى الآية التي بعدها خرج منه صريح مذهب الجبر وذلك أن قوله: {فَمَنْ شَاءَ اتَّخَذَ إِلَى رَبِّهِ سَبِيلاً}[الإنسان:29]، يقتضي أن تكون مشيئة العبد متى كانت خالصة فإنها تكون مستلزمة للفعل، وقوله بعد ذلك: {وَمَا تَشَاءُونَ إِلاَّ أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ}[الإنسان:30] يقتضي أن مشيئة الله تعالى مستلزمة بمشيئة العبد ومستلزم المستلزم مستلزم فإذا مشيئة الله مستلزمة لفعل العبد وذلك هو الجبر، وهكذا الاستدلال على الجبر بقوله: {فَمَنْ شَاءَ فَلْيُؤْمِنْ وَمَنْ شَاءَ فَلْيَكْفُرْ}؛ لأن هذه الآية أيضاً تقتضي كون المشيئة مستلزمة للفعل ثم التقرير ما تقدم. ا ه. (1/189)
والجواب عليه: أما على قول أهل الكسب فمعارضة؛ لأنا نقول: إذا كانت الاعتبارات والأحوال قلبية لا تتميز صارت موجبة؛ لأنها مشيئة وذلك هو الجبر بعينه في الأفعال والاعتبار والأحوال.
أما الجبرية فقد أثبتنا الاختيار بالأدلة القاطعة، منها قوله تعالى: {فَمَنْ شَاءَ فَلْيُؤْمِنْ وَمَنْ شَاءَ فَلْيَكْفُرْ} بمشيئتين حادثتين، وقوله تعالى: {وَمَا تَشَاءُونَ} مشيئة محدثة فلن تتجاوز المشيئة القديمة -يعني العلم- فافترق الحال بين الحادث والقديم والعزم وعدمه بمعنى وما تحدث لكم مشيئة إلا أن يشاء الله أن تشاءوا أي أن تكون لكم مشيئة واختيار، فمتعلق المشيئتين هو مشيئة العباد واختيارهم لا إكراههم قال سبحانه وتعالى: {لاَ إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ قَدْ تَبَيَّنَ الرُّشْدُ مِنَ الغَيِّ}[البقرة:256] وقال: {وَلاَ يَرْضَى لِعِبَادِهِ الْكُفْرَ}[الزمر:7].
وأما قوله: ومستلزم المستلزم مستلزم، فلا نسلم توقف المشيئة من العبد التي بمعنى المحبة والإرادة على مشيئة الله العلمية؛ لأن إرادة الغير لا تلزم الغير الآخر لعدم المناسبة وإلا لزم في إرادة واحدة أن تكون لأكثرين ولا مانع إلا التحكم على أن (ما تشاءون) في قوة (كل ما تشاءون) تقع موجبة كلية نقيضها موجبة جزئية وما بعدها محمول عليها بتحويل لفظ إلا إلى غير يكون بعض (ما تشاءون) غير (أن يشاء الله) وبهذا يفسد معنى التمدح فوجب حملها على ما قدمنا، والقرآن يفسر بعضه بعضها، أو تكون {وما تشاءون...} إلخ سالبة كلية النقيض بعد تبديل طرفي القضية ليس بعض ما يشاء الله أن تشاءون وهو الأنسب لموافقته العموم والخصوص فالطاعة يشاءها الله ويريدها ويحبها، ويكره المعصية كما قال: {وَكَرَّهَ إِلَيْكُمُ الْكُفْرَ وَالْفُسُوقَ وَالْعِصْيَانَ}[الحجرات:7] وقال بعد تعداد المعاصي: {كُلُّ ذَلِكَ كَانَ سَيِّئُهُ عِنْدَ رَبِّكَ مَكْرُوهًا}[الإسراء:38] وقال في سورة الزخرف حاكياً عن المشركين: {لَوْ شَاءَ الرَّحْمَنُ مَا عَبَدْنَاهُمْ مَا لَهُمْ بِذَلِكَ مِنْ عِلْمٍ إِنْ هُمْ إِلاَّ يَخْرُصُونَ}[الزخرف:20]. (1/190)
هذا وإذا قد عرفت من غضون البحث هذا أن الله سبحانه قد يخذل المكابر لعقله والجاحد بآيات ربه لسوء أفعاله فيتعرض لذكر الهداية فنقول:
البحث الثاني في الهداية
وهي أنواع:
الأول: الهداية التي عم بجنسها كل مكلف من العقل والفطنة والمعارف الضرورية التي أعم منها كل شيء بقدر فيه حسب احتماله كما قال تعالى: {الَّذِي أَعْطَى كُلَّ شَيْءٍ خَلْقَهُ ثُمَّ هَدَى}[طه:50] وقوله تعالى: {وَهَدَيْنَاهُ النَّجْدَيْنِ}[البلد:10]، وقوله: {إِنَّا هَدَيْنَاهُ السَّبِيلَ}[الإنسان:3] {وَهَدَيْنَاهُمَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ}[الصافات:118].
الثاني: الدعاء على ألسنة الأنبياء والكتب وهو المقصود بقوله تعالى: {وَجَعَلْنَا مِنْهُمْ أَئِمَّةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنَا}[الأنبياء:73]. (1/191)
الثالث: التوفيق الذي يختص به من اهتدى وهو المعني بقوله تعالى: {وَالَّذِينَ اهْتَدَوْا زَادَهُمْ هُدًى}[محمد:17] وقوله: {وَمَنْ يُؤْمِنْ بِاللَّهِ يَهْدِ قَلْبَهُ}[التغابن:11] وقوله: {إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ يَهْدِيهِمْ رَبُّهُمْ بِإِيمَانِهِمْ}[يونس:9] وقوله: {وَالَّذِينَ جَاهَدُوا فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا}[العنكبوت:69] {وَيَزِيدُ اللَّهُ الَّذِينَ اهْتَدَوْا هُدًى}[مريم:76] {فَهَدَى اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا}[البقرة:213] {وَاللَّهُ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ}[البقرة:213].
الرابع: الهداية في الآخرة إلى الجنة المعني بقوله تعالى: {سَيَهْدِيهِمْ وَيُصْلِحُ بَالَهُمْ}[محمد:5] {وَنَزَعْنَا مَا فِي صُدُورِهِمْ مِنْ غِلٍّ...} إلى قوله: {الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي هَدَانَا لِهَذَا}[الأعراف:43].
وهذه الهدايات الأربع مترتبة فإن من لم تحصل له الأولى لا تحصل له الثانية بل لا يصح تكليفه، ومن لم تحصل له الثانية لا تحصل له الثالثة والرابعة، ومن حصل له الرابع فقد حصل له الثلاث قبله، ومن حصل له الثالث فقد حصل له اللذان قبله، ثم ينعكس فقد تحصل الأولى ولا تحصل له ما بقي، والإنسان لا يقدر أن يهدي أحد إلا بالدعاء وتعريف الطرق دون سائر الهدايات وإلى الأولى أشار بقوله: {وَإِنَّكَ لَتَهْدِي إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ}[الشورى:52] [وقوله:] {يَهْدُونَ بِأَمْرِنَا}[الأنبياء:73] [وقوله:] {وَلِكُلِّ قَوْمٍ هَادٍ}[الرعد:7] وإلى سائر الهدايات أشار بقوله: {إِنَّكَ لاَ تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ}[القصص:56] وكل هداية ذكر الله عز وجل أنه منع الظالمين والكافرين والفاسقين فهي الهداية الثالثة وهي التوفيق الذي يختص به المهتدون، والرابعة التي هي الثواب في الآخرة وإدخال الجنة نحو قوله عز وجل: {كَيْفَ يَهْدِي اللَّهُ قَوْمًا...} إلى قوله: {وَاللَّهُ لاَ يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ}[آل عمران:86] وكقوله: {ذَلِكَ بِأَنَّهُمُ اسْتَحَبُّوا الْحَيَاةَ الدُّنْيَا عَلَى الآخِرَةِ وَأَنَّ اللَّهَ لاَ يَهْدِي الْقَوْمَ الْكَافِرِينَ}[النحل:107] وكل هداية نفاها الله تعالى عن النبي صلى الله عليه وآله وعن البشر وذكر أنهم غير قادرين عليها فهي ما عدى المختص من الدعاء وتعريف الطريق كالتوفيق وإدخال الجنة كقوله تعالى: {لَيْسَ عَلَيْكَ هُدَاهُمْ وَلَكِنَّ اللَّهَ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ}[البقرة:272] {وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ لَجَمَعَهُمْ عَلَى الْهُدَى}[الأنعام:35] {وَمَا أَنْتَ بِهَادِي الْعُمْيِ عَنْ ضَلاَلَتِهِمْ}[الروم:53] {إِنْ تَحْرِصْ عَلَى هُدَاهُمْ فَإِنَّ اللَّهَ لاَ يَهْدِي مَنْ يُضِلُّ}[النحل:37] {وَمَنْ يُضْلِلِ اللَّهُ فَمَا لَهُ مِنْ هَادٍ} {وَمَنْ يَهْدِ اللَّهُ فَمَا لَهُ مِنْ مُضِلٍّ}[الزمر:37] (1/192)
{إِنَّكَ لاَ تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ وَلَكِنَّ اللَّهَ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ}[القصص:56] وإلى هذا المعنى أشار بقوله تعالى: {أَفَأَنْتَ تُكْرِهُ النَّاسَ حَتَّى يَكُونُوا مُؤْمِنِينَ}[يونس:99] وقوله: {وَمَنْ يَهْدِ اللَّهُ فَهُوَ الْمُهْتَدِ}[الإسراء:97] أي طالب الهدى ومتحريه هو الذي يهديه ويوفقه إلى طريق الجنة لا من ضاده فيتحرى طريق الضلال والكفر كقوله: {وَاللَّهُ لاَ يَهْدِي الْقَوْمَ الْكَافِرِينَ}[البقرة:264] وفي أخرى: {الظَّالِمِينَ} وقوله: {إِنَّ اللَّهَ لاَ يَهْدِي مَنْ هُوَ كَاذِبٌ كَفَّارٌ}[الزمر:3] الكاذب الكفار هو الذي لا تقبل هدايته وجحد ربوبيته أو وحدانيته، فإن ذلك رجع إلى هذا وإن لم يكن لفظه موضوعاً لذلك ومن لم يقبل هدايته لم يهده كقولك من لم يقبل هديتي لم أهد له، ومن لم يقبل عطيتي لم أعطه، ومن رغب عني لم أرغب فيه، وعلى هذا النحو {وَاللَّهُ لاَ يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ} وفي أخرى: {الْفَاسِقِينَ} وقوله: {أَفَمَنْ يَهْدِي إِلَى الْحَقِّ أَحَقُّ أَنْ يُتَّبَعَ أَمَّنْ لاَ يَهِدِّي إِلاَّ أَنْ يُهْدَى}[يونس:35] وقد قرئ: {يَهْدِي إِلاَّ أَنْ يُهْدَى} أي لا يهدي غيره ولكن يهدى أي لا يعلم شيئاً ولا يعرف أي لا هداية له ولو هدي أيضاً لم يهد؛ لأنها موات من حجارة ونحوها. (1/193)
هذا ولما كانت الهداية والتعليم يقتضي شيئين تعريفاً من المعرِّف وتعريفا من المعرَّف وبهما تتم الهداية والتعليم، فإنه متى حصل البذل من الهادي والمعلم ولم يحصل القبول صح أن يقال لم يهد ولم يعلم اعتباراً بعدم القبول، وصح أن يقال: هدى وعلم اعتبار بدعائه وبذله وتمكينه فإذا كان كذلك صح أن يقال: إن الله لم يهد الكافرين والفاسقين والظالمين من حيث إنه لم يحصل القبول الذي هو تمام الهداية والتعليم وصح أن يقال هداهم وعلمهم من حيث إنه حصل البذل والتعليم والتمكين التي هي مبدأ الهداية فعلى الاعتبار بالأول يصح أن يحمل قوله تعالى: {وَاللَّهُ لاَ يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ} وما في معناها، وعلى الثاني قوله تعالى: {وَأَمَّا ثَمُودُ فَهَدَيْنَاهُمْ فَاسْتَحَبُّوا الْعَمَى عَلَى الْهُدَى} والأولى حيث لم يحصل القبول المفيد فيقال: هداه الله فلم يهتد كقوله: {وَأَمَّا ثَمُود...} سوى، وقوله: {لِلَّهِ الْمَشْرِقُ وَالْمَغْرِبُ يَهْدِي مَنْ يَشَاء}، وقوله: {وَإِنْ كَانَتْ لَكَبِيرَةً إِلاَّ عَلَى الَّذِينَ هَدَى اللَّهُ} فهم الذين قبلوا هداه واهتدوا به، وقوله: {اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيم} إما تعبد بطلب الحاصل أو بمعنى التوفيق والقبول، وقيل: دعاء بالحفظ عن غواية الغواة، والهدى والهداية في موضوع اللغة واحد لكن خص الله لفظة الهدى بمن تولاه وأعطاه واختص هو به دون ما هو إلى الإنسان نحو: {هُدًى لِلْمُتَّقِين}[البقرة:2]، { أُوْلَئِكَ عَلَى هُدًى مِنْ رَبِّهِم}[البقرة:5]، {وَهُدًى لِلنَّاس}[الأنعام:91]، {فَإِمَّا يَأْتِيَنَّكُمْ مِنِّي هُدًى فَمَنِ اتَّبَعَ هُدَايَ}[البقرة:38]، فلأن {هُدَى اللَّهِ هُوَ الْهُدَى}، {وَهُدًى وَمَوْعِظَةً لِلْمُتَّقِين}، {وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ لَجَمَعَهُمْ عَلَى الْهُدَى}[الأنعام:35]، {إِنْ تَحْرِصْ عَلَى هُدَاهُمْ فَإِنَّ اللَّهَ لاَ يَهْدِي مَنْ يُضِلُّ}[النحل:37]، (1/194)
{أُوْلَئِكَ الَّذِينَ اشْتَرَوْا الضَّلاَلَةَ بِالْهُدَى}[البقرة:175]، والاهتداء يختص بما يتحراه الإنسان على طريق الاختيار أما في الأمور الدنيوية أو الأخروية قال تعالى: {وَهُوَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ النُّجُومَ لِتَهْتَدُوا بِهَا}[الأنعام:97] وقال: {إِلاَّ الْمُسْتَضْعَفِينَ مِنَ الرِّجَالِ وَالنِّسَاءِ وَالْوِلْدَانِ لاَ يَسْتَطِيعُونَ حِيلَةً وَلاَ يَهْتَدُونَ سَبِيلاً}[النساء:98] ويقال ذلك لطلب الهداية نحو: {وَإِذْ آتَيْنَا مُوسَى الْكِتَابَ وَالْفُرْقَانَ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُون}[البقرة:53]، وقال: {فَلاَ تَخْشَوْهُمْ وَاخْشَوْنِي وَلأُتِمَّ نِعْمَتِي عَلَيْكُمْ وَلَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ}[البقرة:150]، {فَإِنْ أَسْلَمُوا فَقَدِ اهْتَدَوا}[آل عمران:20]، {فَإِنْ آمَنُوا بِمِثْلِ مَا آمَنتُمْ بِهِ فَقَدِ اهْتَدَوا}[البقرة:137]، ويقال: المهتدي لمن يقتدي بعالم أو غيره نحو: {أَوَلَوْ كَانَ آبَاؤُهُمْ لاَ يَعْلَمُونَ شَيْئًا وَلاَ يَهْتَدُونَ}[المائدة:104]، تنبيهاً أنهم لا يعلمون بأنفسهم ولا يقتدون بعالم، وقوله: {فَمَنِ اهْتَدَى فَإِنَّمَا يَهْتَدِي لِنَفْسِهِ وَمَنْ ضَلَّ فَإِنَّمَا يَضِلُّ عَلَيْهَا}[يونس:108] فإن الاهتداء هاهنا يتناول وجوه الاهتداء من طلب الهداية ومن الاقتداء أو من جزئيها وكذا قوله: {وَزَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطَانُ أَعْمَالَهُمْ فَصَدَّهُمْ عَنِ السَّبِيلِ فَهُمْ لاَ يَهْتَدُونَ}[النمل:24]، وقوله: {وَإِنِّي لَغَفَّارٌ لِمَنْ تَابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ صَالِحًا ثُمَّ اهْتَدَى}[طه:82] فمعناه ثم أدام طلب الهداية ولم يفتر عن تحريه ولم يرجع إلى المعصية، وقوله: {الَّذِينَ إِذَا أَصَابَتْهُمْ مُصِيبَةٌ...} إلى قوله: {وَأُوْلَئِكَ هُمُ الْمُهْتَدُونَ}[البقرة:156،157] أي الذين تحروا هدايته وقبلوها وعملوا بها، وقال مخبراً عن القائل: {يَا أَيُّهَا السَّاحِرُ ادْعُ لَنَا رَبَّكَ بِمَا عَهِدَ عِنْدَكَ إِنَّنَا لَمُهْتَدُونَ}[الزخرف:49]. (1/195)
وأما الإضلال ونحوه فقد ذكروا في علم البيان أن كل شيء يكون سبباً في وقوع فعل صح نسبة ذلك الفعل إليه وصح أن ينسب ضلال العبد إلى الله من هذا الوجه فيقال: أضله الله لا على الوجه الذي يتصوره الجهلة القائلون: {لَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا أَشْرَكْنَا}[الأنعام:14] {وَاللَّهُ أَمَرَنَا بِهَا}[الأعراف:28] ولما قلناه جعل الإضلال المنصوب إلى نفسه للكافر والفاسق دون المؤمن بل نفى عن نفسه إضلال المؤمن فقال: {وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُضِلَّ قَوْمًا بَعْدَ إِذْ هَدَاهُمْ}[التوبة:115]، {فَلَنْ يُضِلَّ أَعْمَالَهُمْ ، سَيَهْدِيهِمْ وَيُصْلِحُ بَالَهُمْ}[محمد:4،5] وقال في الكافر والفاسق: {فَتَعْسًا لَهُمْ وَأَضَلَّ أَعْمَالَهُمْ}[محمد:8] {وَمَا يُضِلُّ بِهِ إِلاَّ الْفَاسِقِينَ}[البقرة:26] {كَذَلِكَ يُضِلُّ اللَّهُ الْكَافِرِينَ}[غافر:74] {وَيُضِلُّ اللَّهُ الظَّالِمِينَ}[إبراهيم:27] وعلى هذا النحو تقليب الأفئدة في قوله: {وَنُقَلِّبُ أَفْئِدَتَهُمْ}[الأنعام:110]، والختم على القلب في قوله: {خَتَمَ اللَّهُ عَلَى قُلُوبِهِمْ}[البقرة:7] وزيادة المرض في قوله: {فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ فَزَادَهُمُ اللَّهُ مَرَضًا}[البقرة:10]. (1/196)
قال شيخنا الهادي رضوان الله عليه في كتابه (التحفة العسجدية): وأما الإضلال فهو بمعنى الهلاك، وبمعنى العذاب، وبمعنى الغواية عن واضح الطريق، والإضلال أيضاً بمعنى الإهلاك والتعذيب والإغواء وبمعنى الحكم والتسمية فمعنى {يُضِلُّ اللَّهُ الظَّالِمِينَ}[إبراهيم:27] ومن يشاء أي يحكم عليهم بالضلال ويسميهم به لما ضلوا عن طريق الحق أو بمعنى يهلكهم أو يعذبهم، وأما ما كان منسوباً إلى غيره تعالى فيجوز أغواهم وأضلهم عن طريق الحق، قال تعالى: {وَأَضَلَّ فِرْعَوْنُ قَوْمَهُ وَمَا هَدَى}[طه:79]. ا ه.
وقال عليه السلام : فصل: قالت العدلية: إن بعض ما تعلقت به الجبرية سياق السبب والمسبب فلما حصل منهم الكفر والتمادي ولم يقبلوا هداية الله حسن منه تعالى العقوبة بالطبع والإزاغة والختم ونحو ذلك قال تعالى: {طَبَعَ اللَّهُ عَلَيْهَا بِكُفْرِهِمْ}[النساء:155] {فَلَمَّا زَاغُوا أَزَاغَ اللَّهُ قُلُوبَهُمْ}[الصف:5] ...إلى آخر الفصل فراجعه فإنه بحث كامل نفيس. (1/197)
البحث الثالث في الخلق وما يتصل بذلك
قال الراغب الأصفهاني: الخلق أصله التقدير المستقيم ويستعمل في إبداع الشيء من غير أصل ولا احتذاء قال تعالى: {خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ} أي أبدعهما بدليل قوله تعالى: {بَدِيعُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ} ويستعمل في إيجاد الشيء من الشيء نحو: {خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ}[الزمر:6] إلى أن قال: وليس الخلق الذي هو الإبداع إلا لله تعالى ولهذا قال في الفصل بينه تعالى وبين غيره: {أَفَمَنْ يَخْلُقُ كَمَنْ لاَ يَخْلُقُ أَفَلاَ تَذَكَّرُونَ}[النحل:17].
وأما الذي يكون بالاستحالة فقد جعله الله تعالى لغيره في بعض الأحوال كعيسى عليه السلام حيث قال: {أَنِّي أَخْلُقُ لَكُمْ مِنَ الطِّينِ كَهَيْئَةِ الطَّيْرِ}[آل عمران:49] ب(أني) والخلق لا يستعمل في كافة الناس إلا على وجهين:
أحدهما في معنى التقدير كقول الشاعر:
ولأنت تفري ما خلقت .... وبعض القوم يخلق ثم لا يفري
والثاني في الكذب نحو قوله: {وَتَخْلُقُونَ إِفْكًا}[العنكبوت:17]. ا ه.
أقول: ولا مانع لصحة إطلاقه معنى التقدير كما ذكروا لقوله تعالى: {خَلَقُوا كَخَلْقِهِ فَتَشَابَهَ الْخَلْقُ عَلَيْهِمْ}[الرعد:16] وقوله: {فَتَبَارَكَ اللَّهُ أَحْسَنُ الْخَالِقِينَ}[المؤمنون:14] وقد استدل أهل السنة على قولهم أن أفعالنا مخلوقة لله تعالى بقوله: {اللَّهُ خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ}[الرعد:16] {هَلْ مِنْ خَالِقٍ غَيْرُ اللَّهِ}[فاطر:3] وبأن أفعال العباد ذوات حقيقة ولا يقدر على إيجادها أي الذوات إلا الله سبحانه وتعالى. (1/198)
والجواب على جهة الإجمال وإلا فليس هذا موضعه ولا معارضة وذلك أن نقول: {اللَّهُ خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ} عام ولا يصح تخصيص المسور بكل إلا متصل وبذلك يلزم أن الله خلق صفاته القديمة بل نفسه؛ لأنه سبحانه شيء {قُلْ أَيُّ شَيْءٍ أَكْبَرُ شَهَادَةً}[الأنعام:19] وهذا كفر بالإجماع ويلزم منه خلق القرآن وقد منعتم منه وخلق المعاصي والقبائح وخلق الكسب الذي زعمتم وما أجبتم به فهو جوابنا.
ثانياً: إن الآية مساقة للتمدح بعموم القدرة لما من شأنه الخلق فخرج ما يصح من غيره بضرورة العقل والنقل كما قيل في تفسير قوله تعالى: {وَأُوتِيَتْ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ}[النمل:23]، أما الصفات فلا خلاف في ذلك، وأما أفعالنا فنسبتها إلينا عقلي ونقلي، أما العقل فظاهر وإنكار ذلك سفسطة، وأما النقل فإجماع المسلمين من عدلي وسني وجبري وغيرهم إطلاق نسبة أفعالنا إلينا.
قال السيد محمد في (الإيثار): ألا ترى أن جميع عبارات الكتاب والسنة وأهل اللغة في الجاهلية والإسلام والمسلمين من أهل السنة والبدعة من العامة والخاص والصحابة والتابعين بل والجبرية والجهمية المبتدعة كلهم عبروا عن أفعال العباد بأسمائها الخاصة بها وبكسب العباد لها وفعلهم واختيارهم دون خلق الله تعالى لها فيهم فيقولون: إذا زنا الزاني مختاراً غير مكره وجب عليه الحد، وكذلك إذا قتل وجب عليه القصاص، وإذا كفر وجب جهاده ونحو ذلك، ولا يقول أحد منهم حتى الجبرية الضلال إذا خلق الله الزنا في الزاني جلد، وإذا خلق القتل في القاتل قتل، وإذا خلق الكفر في الكافر حورب وهذه كتبهم شاهدة بذلك ولو أن أحداً قال ذلك وحافظ عليه فلم ينطق بمعصية منسوبة إلى فاعلها ويدل نسبة المعاصي إلى أهلها بنسبتها إلى خلق الله تعالى في أهلها في جميع كلامه أو كثير منه، لكان ذلك من أوضح البدع، وأشنع الشنع. (1/199)
………... وشر الأمور المحدثات البدائع
وأما سائر من قال: إن أفعال العباد مقدور بين قادرين. من غير تمييز بالذات فالكلام معهم مثل الكلام مع الأشعرية؛ لأنهم وإن لم يفرقوا بين فعل الرب عزّ وجلّ وفعل العبد بالذات فإنهم يفرقون بينهما بالوجوه والاعتبارات وذلك أمر ضروري فإنهم لا بد أن يقولوا إن العبد فعل الطاعة على وجه الذلة والخضوع والامتثال والتقرب والرغبة والرهبة وأن الله تعالى منزه عن جميع هذه الوجوه وأن الله تعالى فعل ذلك الفعل، إما لغير علة كما هو قول بعضهم، وإما على جهة الحكمة والرحمة والنعمة؛ إذ [هو] على جهة الحكمة والابتلاء والامتحان فثبت بهذا أن فعل العبد مركب من أمرين اثنين: أحدهما من الذات التي هي مقدور بين قادرين، وثانيهما من تلك الوجوه والاعتبارات التي يكفر من أجازها على الله سبحانه أو سماه بها بالإجماع والله تعالى لا يشارك العبد إلا في أجمل هذين الأمرين وأحمدهما فكيف ينسب إليه أخبثهما وشرهما وأقبحهما بغير إذن منه...الخ .. إلى أن قال: ألا ترى أن جعل العبد من أهل السنة مؤثراً في الذات بإعانة الله تعالى لا يسميه خالقاً بإعانة الله ما ذلك إلا لأن هذه الذات هي الأكوان وكونها ذواتاً غير صحيح في لغة العرب وفي النظر الصحيح عند محققي أهل المعقول وتسمية الأشعرية لها خلقاً لله تعالى لم يصح لغة، يوضحه أن إمام الحرمين الجويني والشيخ أبا إسحاق ومن تابعهما من أهل السنة لم يسموا العبد خالقاً مع أنهم يقولون: إن قدرته هي التي أثرت في ذات فعله وحدها بتمكين الله تعالى ومشيئته من غير زيادة مشاركة بينه وبين قدرة الله تعالى في تلك الذات التي هي فعله وكسبه، فثبت أن الله خالق كل شيء مخلوق في لغة العرب التي نزل عليها القرآن ولم يكن أحد منهم يقول خلقت قياماً ولا كلاما، ولا صلاة ولا صياماً ونحو ذلك، ولذلك ورد الوعيد للمصورين المشبهين بخلق الله تعالى، فلو كانت أفعالنا خلق الله لم يحرم علينا التشبيه بخلق الله تعالى، وكذلك لعن (1/200)
الواشمات المغيرات خلق الله تعالى، ولا شك في جواز تغييرنا لكثير من أفعالنا ووجوب ذلك في كثير منها، وكذلك قال الله تعالى بعد ذكر مخلوقاته من الأجسام وتصويرها وسائر ما لا يقدر العباد عليه من الأعراض: {هَذَا خَلْقُ اللَّهِ فَأَرُونِي مَاذَا خَلَقَ الَّذِينَ مِنْ دُونِهِ}[لقمان:11] وإنما يعرف الخلق في اللغة لإيجاد الأجسام ويدل على ما ذكرته ما حكاه الله تعالى وذم الشيطان به من قوله: {وَلاَمُرَنَّهُمْ فَلَيُغَيِّرُنَّ خَلْقَ اللَّهِ}[النساء:119] فدل على أن التغيير الذي هو فعلهم ليس هو خلق الله تعالى بل هو مغاير له ولذلك نظائر كثيرة ذكرتها في (العواصم). ا ه. (1/201)
وأما كون أفعالنا ذواتاً وأنه لا يقدر على إيجاد الذوات إلا الله تعالى، الجواب من وجهين:
الأول: أوضحها، وهو أنهم لا يقولون بذلك بل يقولون: إن أفعالنا هي الوجوه والاعتبارات والأحوال المتعلقة بتلك الذوات وذلك هو معنى الكسب عندهم.
والثاني: أنا منازعون في أن الأكوان التي هي الحركة والسكون والاجتماع والافتراق ذوات بل هي صفات أو أحوال كما ذهبت إليه الجماهير وأهل التحقيق كابن تيمية وأصحابه منهم، وأبو الحسين وأتباعه، ومن لا يحصى من سائر الطوائف، مع أنا لا نسلم لهم أنه لا يقدر على إيجاد الذوات غير الله، بل قد خالفهم في ذلك الجويني وأبو إسحاق ومن تابعهما فقالوا: إنه يقدر على ذلك من أقدره الله تعالى ومكنه منه وأراده.
قلت: ويقرب من ذلك خلق عيسى عليه السلام الطير وقول جبريل عليه السلام لمريم: {لأَهَبَ لَكِ غُلاَمًا زَكِيًّا}[مريم:19].
واعلم أيدك الله أن أهل الحديث والأشاعرة خالفوا النصوص من الكتاب والسنة وكلام السلف في هذه المسألة فكم في الكتاب من نسبة أفعالنا إلينا: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا} {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ كَفَرُوا} وغير ذلك مما لا يحصى كثرة، ومن السنة كذلك ونصوص الصحابة في فتاويهم وغير ذلك لا ينكر ذلك إلا مكابر، وفي مسألة الإرادة والمشيئة، ولو وقفوا عند النصوص وسكتوا من التمحلات الباطلة لكان أوفق بدعوى السنة، فإن الله تعالى لم يجعل القرآن حجة عليه بل على المشركين، كيف ينعي عليهم عبادة الأوثان التي عملتها أيديهم ليستقيم له النعي في تهجين عبادتهم ويفحمهم فينتصر لهم أهل السنة بأنه الخالق لعباداتهم من تلقاء أنفسهم ولو سلم لهم ما قالوا لكان تفسير المبين للمنزل أولى بالاتباع وذلك ما أخرجه الحاكم في المستدرك في أول كتاب البر، منه: أخبرنا أبو عبد الله محمد بن عبد الله الزاهد الأصبهاني أخبرنا أبو إسماعيل محمد بن إسماعيل أخبرنا إبراهيم بن يحيى بن محمد المدني الشجري حدثني أبي عن عبيد بن يحيى عن معاذ بن رفاعة بن رافع الزرقي عن أبيه رفاعة بن رافع وكان قد شهد بدراً مع رسول الله صلى الله عليه وآله أنه خرج وابن خالته معاذ بن عفراء حتى قدما مكة فلما هبطا من الثنية رأيا رجلاً تحت الشجرة ...إلى قوله: فقلنا: من أنت؟ قال: ((انزلوا، فنزلنا، فقلنا: أين الرجل الذي يدعي ويقول ما يقول؟ فقال: أنا، فقلت له: فاعرض عليّ، فعرض علينا الإسلام فقال: من خلق السموات والجبال؟ فقلنا: الله، فقال: من خلقكم؟ قلنا: الله، قال: فمن عمل هذه الأصنام؟ قلنا: نحن، قال: فالخالق أحق بالعبادة أم المخلوق؟ فأنتم عملتموها والله أحق أن تعبدوه من شيء عملتموه)). قال الحاكم هذا حديث صحيح الإسناد. ا ه. (1/202)
مع أن الأشاعرة يوافقونا في أن المجمل ليس بحجة وهذه الآية من المجمل لاحتمالها.
هذا وأعظم ما أتى به الظاهرية من الفواقر إطلاق الآيات الصفاتية لذات واجب الوجود على الحقائق العربية، ومنع حملها على المجازات اللغوية حتى شبهوه بخلقه، وحازوه في مكان، وجعلوه محمولا للملائكة"، ونفوا منه سائر الجهات من غير دليل قاطع نص في المطلوب وما تكلفوا من التنزيه، بلا كيف من التمويه بعد التصريح، ومن فواقرهم الكلام في القرآن، وتكفيرهم لمن قال بحدوثه مع أن الله قد نص في القرآن على حدوثه وهم مقرون أنه لم يظهر الكلام عليه إلا في زمن العباسية فغايته أن يكون الكلام عليه من البدع فلم لا يتمسكون بسنة السلف وهو السكوت، أو رجعوا في ذلك إلى النص القرآني والتدين بأن هذا الذي بين الدفتين المنزل على رسول الله صلى الله عليه وآله هو كلام الله تعالى من دون إثبات قِدَم ولا حدوث؛ إذ على كل قول إلزام مع أن الكلام في هذه المسألة من فضول الكلام. (1/203)
وأما صوت القارئ فلا شك أنه عرض يفنى وأنه حاكي وكون الحكاية عين المحكي أو مثله أو غيره، أو أن القدرتين صوتا به، فمن الفضول الذي ينبغي الإعراض عنه، وقول الأشاعرة إن الكلام قائم بالنفس ومحاجتهم عليه كذلك؛ إذ الكلام على هذا الموجود المتلو المنزل لا غيره فافترقا. والله أعلم.
[بحث في الصحبة والصحابة] (1/204)
[ابن الوزير] وأما قول السيد محمد بن ابراهيم ـ رحمه الله ـ : لئلا يؤدي إلى القدح في الصحابة فيقال: إن كان المقصود من تعديلهم الآثار فليس للمقدوحين منهم خبر انفرد به في الأحكام، وأما العقائد فقد نبهناك على عدم الأخذ بالآحاد فيها وهل هذا إلا محض اقبل خبر الصحابي وإن كان كاذباً وإن كان ذلك مجرد حماية لغرض نفسي فينبغي بيانه، وقد ذكر عن أبي المعالي الجويني ما لفظه: إن رسول الله صلى الله عليه وآله نهى عن ذلك وقال: ((إياكم وما شجر بين أصحابي))، وقال: ((دعوا لي أصحابي فلو أنفق أحدكم مثل أحد ذهباً لما بلغ مد من أحدهم ولا نصيفه))، وقال: ((أصحابي كالنجوم بأيهم اقتديتم اهتديتم))، وقال: ((خيركم القرن الذي أنا فيه ثم الذي يليه ثم الذي يليه ثم الذي يليه))، وقد روى الثناء على الصحابة وعلى التابعين وقال رسول الله صلى الله عليه وآله: ((وما يدريك لعل الله اطلع على أهل بدر فقال اعملوا ما شئتم فقد غفرت لكم)).
وقد روي عن الحسن البصري أنه ذكر عنده الجمل وصفين فقال: تلك دماء طهر الله منها أسيافنا فلا نلطخ بها ألسنتنا، ثم إن تلك الأحوال قد غابت عنا وبعدت أخبارها على حقائقها فلا يليق بنا أن نخوض فيها ولو كان واحد من هؤلاء قد أخطأ لوجب أن نحفظ رسول الله صلى الله عليه وآله فيه، ومن المروءة أن يُحفظ رسول الله صلى الله عليه وآله في عائشة زوجته وفي الزبير ابن عمته وفي طلحة الذي وقاه بيده، ثم ما الذي ألزمنا وأوجب علينا أن نلعن أحداً من المسلمين أو نبرأ منه، وأي ثواب في اللعنة والبراءة، إن الله تعالى لا يقول يوم القيامة للمكلف: لم لم تلعن؟ بل قد يقول له: لِمَ لعنت؟ ولو أن إنساناً عاش عمره كله لم يلعن إبليس لم يكن عاصياً ولا آثماً، وإذا جعل الإنسان عوض اللعنة أستغفر الله كان خيراً له، ثم كيف يجوز للعامة أن تدخل أنفسها في أمور الخاصة وأولئك قوم كانوا أمراء هذه الأمة وقادتها ونحن اليوم في طبقة سافلة جداًّ عنهم فكيف يحسن بنا التعرض لذكرهم، أليس يقبح من الرعية أن يخوضوا في دقائق أمور الملك وأحواله وشئونه التي تجري بينه وبين أهله وبني عمه ونسائه وسراريه وقد كان رسول الله صلى الله عليه وآله صهراً لمعاوية وأخته أم حبيبة تحته فالأدب أن تحفظ أم حبيبة وهي أم المؤمنين في أخيها، وكيف يجوز أن يلعن من جعل الله بينه وبين رسول الله صلى الله عليه وآله مودة، أليس المفسرون كلهم قالوا: هذه الآية نزلت في أبي سفيان وأهله وهي قوله تعالى: {عَسَى اللَّهُ أَنْ يَجْعَلَ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَ الَّذِينَ عَادَيْتُمْ مِنْهُمْ مَوَدَّةً}[الممتحنة:7] فكان ذلك مصاهرة رسول الله صلى الله عليه وآله أبا سفيان وتزويجه ابنته على أن جميع ما تنقله الشيعة من الاختلاف بينهم والمشاجرة لم يثبت وما كان القوم إلا كبني أم واحدة ولم يتكدر باطن أحد منهم على صاحبه قط ولا وقع بينهم اختلاف ولا نزاع. ا ه. كما وجد. (1/205)
وقد أجاب عليه بعض قدماء الزيدية فأحببنا نقل بعض جوابه ملخصاً. (1/206)
[ابن الوزير] قال ـ رحمه الله ـ : لولا أن الله تعالى أوجب معاداة أعدائه كما أوجب موالاة أوليائه وضيق على المسلمين تركها إذا دل العقل عليها أو صح الخبر عنها بقوله سبحانه: {لاَ تَجِدُ قَوْمًا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ يُوَادُّونَ مَنْ حَادَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَلَوْ كَانُوا آبَاءَهُمْ أَوْ أَبْنَاءَهُمْ أَوْ إِخْوَانَهُمْ أَوْ عَشِيرَتَهُمْ}[المجادلة:22]، وبقوله تعالى: {وَلَوْ كَانُوا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالنَّبِيِّ وَمَا أُنزِلَ إِلَيْهِ مَا اتَّخَذُوهُمْ أَوْلِيَاءَ}[المائدة:81] وبقوله سبحانه: {لاَ تَتَوَلَّوْا قَوْمًا غَضِبَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ}[الممتحنة:13]، ولإجماع المسلمين على أن الله تعالى فرض عداوة أعدائه، وولاية أوليائه، وعلى أن البغض في الله واجب، والحب في الله واجب لما تعرضنا لمعاداة أحد...الخ.
[المؤلف] أقول: الجواب الذي لا محيص عنه على قواعد أهل السنة وترك ما نقل عن غير طريقتهم أنا قد أجمعنا نحن وأنتم على أن الإمام بعد عثمان علي عليه السلام والناكث على الإمام والخارج عليه باغي فاسق وقد صح من نقل الناقلين أن طلحة والزبير بايعا علياً عليه السلام ونكثا عليه، فإن اعتذرتم لهما بطلب دم عثمان، فالجواب: أنهما ليسا بأوليائه.
ثانياً: إن قتلة عثمان قد قتلوا في دار عثمان وقتل غير القاتل من السرف المنهي عنه في القرآن، فإذا صح أنهما نكثا بيعة الإمام وخرجوا عليه ومنعوه من دخول البصرة وأخرجوا عامله جرى عليهم حكم القرآن وهي قوله تعالى: {فَقَاتِلُوا الَّتِي تَبْغِي حَتَّى تَفِيءَ إِلَى أَمْرِ اللَّهِ}[الحجرات:9] والخطاب للمسلمين كافة صحابي وتابعي، وما روي عن عمار وأبي أيوب أن النبي صلى الله عليه وآله أمرهما أن يقاتلا مع علي عليه السلام الناكثين والقاسطين والمارقين، وما روي عن علي عليه السلام : أمرت أن أقاتل الناكثين والقاسطين والمارقين، فإذا صح أن الله تعالى ورسوله صلى الله عليه وآله أمر بقتال الباغي عموماً، والناكثين والقاسطين خصوصاً، علمنا أنهم قد جانبوا عن الحق واتبعوا غير سبيل المؤمنين وصاروا حرباً لله ولرسوله حلال الدم، ومن حل دمه فبالأولى أن يحل عرضه، ووجب البراءة منه وبغضه، ولأهل صفين زيادة أخصية وهي قتلهم لعمار، وقد ورد في قاتله ما ورد. (1/207)
فأما ثناء القرآن والنبي صلى الله عليه وآله على الصحابة فمسلم لكن بلفظ العموم والعموم يجوز تخصيصه.
فأما خبر أهل بدر فلعل الله اطلع على خواتم أعمالهم فإنها صائرة إلى الخير كما قد روي من غير طريق أن طلحة والزبير وعائشة تابوا، ومثل ذلك تقبل فيه رواية الآحاد ولا يقال بعدم خطأهم، فقد ورد من أهل بدر ما أوجب الحد كما كان من مسطح بن أثاثة من الإفك وبعضهم أيضاً تأول في تحريم الخمر فحده عمر.
فأما قوله: ((بأيهم اقتديتم اهتديتم)) ففي رجاله عبد الرحيم عن أبيه وهما ضعيفان جداً، بل قال ابن معين: إن عبد الرحيم كذاب، وقال البخاري وأبو حاتم: متروك، وله طريق أخرى فيها حمزة النصيبي وهو ضعيف جداً، قال البخاري: منكر الحديث، وقال ابن معين: لا يساوي فلساً، وقال ابن عدي: عامة مروياته موضوعة، وروي أيضاً من طريق جميل بن زيد وهو مجهول. ا ه من إرشاد الفحول باختصار هذا المقال في رجاله.
وأما المعنى فباطل؛ لأنه قد اقتدى قاتل عمار ـ رحمه الله ـ بمعاوية وعمرو بن العاص ومن معهما من الصحابة فيلزم أن يكون هادياً مهدياً أو محكوماً عليه بالنار ومخطئاً باغياً غوياً، وفيه أيضاً رد لما تواتر نقله عن النبي صلى الله عليه وآله أن قاتل عمار في النار عرف ذلك وليه وقاتله، بل يلزم في قتلة عثمان لأنهم اقتدوا في ذلك بمن حرض عليه من الصحابة كعائشة وطلحة والزبير. (1/208)
وأما قوله: ((خيركم القرن الذي أنا فيه...)) الخبر، فقد ساوى فيه بين الصحابة والتابعين وتابعيهم وعلى الجملة فالقرن مائة سنة وقيل خمسون فأطلق على أربعمائة سنة أو مائتين سنة التي وقع فيها قتل الصحابة وأهل البيت واستباحوا فيها حرم الله وأحرقوا بيته وحرم رسوله، واستباحوا بنات المهاجرين والأنصار واستعبدوهم، وفيها إمارتي الحجاج وزياد بن أبيه وغير ذلك، إذا تأملته عرفت أنه من وضع الأموية، بل إن كان كما يقولون فلا فائدة في كتب الجرح والتعديل لأنها وضعت في رجال هذه القرون، وكم نعد من مساوئها نعوذ بالله من الافتراء على الله وعلى رسوله صلى الله عليه وآله.
وأما كلام الحسن البصري فإن صح النقل عنه فلا حجة في كلام أحد غير المعصوم.
وأما أننا لم يبلغنا ما جرى بين الصحابة على التحقيق فمن رد الضرورات التي لا تخفى على من له أدنى مسكة بل يؤدي إلى التشكيك فيما جرى بين النبي صلى الله عليه وآله وأهل الكفر، كيف والناقل لتلك الأخبار هم نقلة الشريعة النبوية.
وأما اللعن فقال الزيدي ـ رحمه الله ـ : فأما لفظة اللعن فقد أمر الله تعالى بها وأوجبها، ألا ترى إلى قوله: {أُوْلَئِكَ يَلْعَنُهُمُ اللَّهُ وَيَلْعَنُهُمُ اللاَّعِنُونَ}[البقرة:19] فهو إخبار معناه الأمر كقوله: {وَالْمُطَلَّقَاتُ يَتَرَبَّصْنَ بِأَنفُسِهِنَّ ثَلاَثَةَ قُرُوءٍ}[البقرة:228] وقد لعن الله العاصين بقوله: {لُعِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ عَلَى لِسَانِ دَاوُودَ}[المائدة:78] وقوله: {الَّذِينَ يُؤْذُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ لَعَنَهُمُ اللَّهُ فِي الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ وَأَعَدَّ لَهُمْ عَذَابًا مُهِينًا}[الأحزاب:57]، وقوله: {مَلْعُونِينَ أَيْنَمَا ثُقِفُوا أُخِذُوا وَقُتِّلُوا تَقْتِيلاً}[الأحزاب:61]، وقال الله تعالى لإبليس: {وَإِنَّ عَلَيْكَ لَعْنَتِي إِلَى يَوْمِ الدِّينِ}[ص:78] وقال: {إِنَّ اللَّهَ لَعَنَ الْكَافِرِينَ وَأَعَدَّ لَهُمْ سَعِيرًا}[الأحزاب:64]. (1/209)
فأما قول من يقول: أي ثواب في اللعن؟ وإن الله لا يقول للمكلف: لِمَ لَمْ تلعن؟ بل قد يقول: لِمَ لعنت؟ وأنه لو جعل مكان (لعن الله) (اللهم اغفر لي) لكان خيراً له، ولو أن إنساناً عاش عمره كله لم يلعن إبليس لم يؤخذ بذلك، فكلام جاهل لا يدري ما يقول، اللعن طاعة ويستحق عليها الثواب إذا فُعلت على وجهها وهو أن يلعن مستحق اللعن لله وفي الله لا في العصبية والهوى، ألا ترى أن الشرع قد ورد بها في نفي الولد ونطق به القرآن وهو أن يقول الزوج في الخامسة: {أَنَّ لَعْنَةَ اللَّهِ عَلَيْهِ إِنْ كَانَ مِنَ الْكَاذِبِينَ}[النور:7] فلو لم يكن الله تعالى يريد أن يتلفظ عباده بهذه اللفظة وأنه قد تعبدهم بها لما جعلها من معالم الشرع ولما كررها في كثير من كتابه العزيز ولما قال في حق القاتل: وغضب الله عليه ولعنه، وليس المراد من قوله: ولعنه إلا الأمر بأن نلعنه ولو لم يكن المراد بها ذلك لكان لنا أن نلعنه؛ لأن الله قد لعنه أفيلعن الله تعالى إنساناً ولا يكون لنا أن نلعنه؟ هذا ما لا يسوغ في العقل كما لا يجوز أن يمدح الله إنساناً إلا ولنا أن نمدحه ولا يذمه إلا ولنا أن نذمه، وقال تعالى: {هَلْ أُنَبِّئُكُمْ بِشَرٍّ مِنْ ذَلِكَ مَثُوبَةً عِنْدَ اللَّهِ مَنْ لَعَنَهُ اللَّهُ}[المائدة:60] وقال: {رَبَّنَا آتِهِمْ ضِعْفَيْنِ مِنَ الْعَذَابِ وَالْعَنْهُمْ لَعْنًا كَبِيرًا}[الأحزاب:68] وقال عز وجل: {وَقَالَتِ الْيَهُودُ يَدُ اللَّهِ مَغْلُولَةٌ غُلَّتْ أَيْدِيهِمْ وَلُعِنُوا بِمَا قَالُوا}[المائدة:64] ...إلى آخر كلامه. (1/210)
أقول: فلما صح أن عليا هو المحق، وأعداءه من الناكثين والقاسطين والمارقين على الباطل، وصح أنه لعنهم وتبرأ منهم، وجب علينا ذلك فيمن لم تصح توبته لقوله تعالى: {قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ}[آل عمران:31] فوجب اتباع النبي واتباع المحق من بعده، كيف وقد روى الموالف والمخالف متواترا قوله صلى الله عليه وآله في علي عليه السلام : ((اللهم وال من والاه وعاد من عاداه، وانصر من نصره، واخذل من خذله))، وقوله صلى الله عليه وآله: ((لعنتك يا علي من لعنتي، ولعنتي من لعنة الله، ومن يلعن الله...))الخبر، وقد صح أنه قنت بلعن معاوية وعمرو والمغيرة وأبي موسى وأبي الأعور السلمي والضحاك بن قيس الفهري، وصح أن معاوية لعنه الله لعن علياً والحسنين وابن عباس. (1/211)
نعم وقد صح عن رسول الله صلى الله عليه وآله أنه قال: ((ستة لعنتهم ولعنهم الله وكل نبي مجاب: الزائد في كتاب الله، والمكذب بقدر الله، والمتسلط بالجبروت فيعز بذلك من أذل الله، ويذل من أعز الله، والمستحل لحرم الله، والمستحل من عترتي ما حرم الله، والتارك لسنتي)). أخرجه الترمذي عن عائشة وابن عساكر عن ابن عمر وهو عند أئمتنا"، ومعاوية استلحق زيادا ورد السنة في ذلك وفي حكم آنية الذهب والفضة بيعاً واستعمالاً، وأخاف أهل الحرمين وقتل بعض الشيعة فيهما على يدي عامله بسر بن أرطأة واستحل من العترة، وأعز الطلقاء وأذل المهاجرين والأنصار.
وقال الحسن البصري: أربع خصال في معاوية لو لم يكن فيه إلا واحدة منها لكانت موبقة: انتزاؤه على هذه الأمة بالسيف حتى أخذ الأمر من غير مشورة وفيهم بقايا الصحابة وذوي الفضيلة، واستخلف من بعده سكيرا خميرا يلبس الحرير ويضرب بالطنابير، وادعاؤه زياداً وقد قال رسول الله صلى الله عليه وآله: ((الولد للفراش وللعاهر الحجر))، وقتله حُجْرا وأصحاب حُجْر ويا ويلاه له من حُجْر وأصحاب حُجر. ا ه.
وروى أبو الحسن المدائني أن معاوية خطب أهل الكوفة بعد بيعة الحسن فقال: يا أهل الكوفة أتروني قاتلتكم على الصلاة والزكاة والحج وقد علمت أنكم تصلون وتزكون وتحجون، ولكني قاتلتكم لأتأمر عليكم وألي رقابكم...إلخ. (1/212)
وأخرج ابن عدي عن أبي سعيد مرفوعاً: ((إذا رأيتم معاوية على منبري فاقتلوه)). وأخرجه العقيلي عن الحسن، ورواه سفيان بن محمد عن منصور بن سلمة عن سليمان بن بلال عن جعفر بن محمد عن أبيه عن جابر مرفوعاً، وقد ذكره المعتضد العباسي في كتابه، وشاهده في القرآن، قال سبحانه: {فَقَاتِلُوا الَّتِي تَبْغِي...} الآية.
وأما قوله: ولو كان واحد من هؤلاء قد أخطأ لوجب أن يحفظ فيه رسول الله صلى الله عليه وآله، فلم لا حفظتم رسول الله صلى الله عليه وآله في عمه أبي لهب أما صار هجير المسلمين قراءة: {تَبَّتْ يَدَا أَبِي لَهَبٍ}[المسد:1] ولم لا حفظتموه في كافله وناصره أبي طالب حتى رويتم فيه في الصحيح عن عدو بني هاشم في الجاهلية والإسلام ما رويتم ولم ترقبوا فيه أولاده وأخويه العباس وحمزة، فإن قلتم بكفر من ذكرنا، قلنا: العلة واحدة وهي مراقبة الخير بعدم ذكر مساوئ قريبه وسواء كان كافراً أو فاسقاً مع أن الله تعالى قد طهر نبيه صلى الله عليه وآله وأهل بيته من مداهنة الفسقة وأهل المعاصي من كان.
وأما قوله: فالأدب أن تحفظ أم حبيبة وهي أم المؤمنين في أخيها، فهلا حفظها رسول الله صلى الله عليه وآله حيث لعن الراكب والسائق والقائد وحيث قال: ((إذا رأيتم معاوية على منبري فاقتلوه))، وحيث قال: ((لا أشبع الله بطنه)) رواه النسائي، وهلا حفظ رسول الله وأبو بكر وعمر عثمان في عمه الحكم وابنه مروان حتى قال صلى الله عليه وآله: ((الوزغ بن الوزغ)) فإما قلت: إن النبي صلى الله عليه وآله لم يراعِ مقام الأدب ولم يحترم حرمة أحد كفرت بقوله تعالى: {وَإِنَّكَ لَعَلى خُلُقٍ عَظِيمٍ}[القلم:4] أو سلمت وجوب عداوة الفاسق كائناً من كان وآمنت بقوله تعالى: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لاَ تَتَوَلَّوْا قَوْمًا غَضِبَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ}[الممتحنة:13] وغير ذلك، ولم لا حفظتم عائشة أم المؤمنين في أخيها محمد بن أبي بكر بل تبرأتم منه لكونه من المحاصرين لعثمان وعلى أنكم غلوتم غلواً لم يبلغه أهل الكتاب في أصحاب أنبيائهم فنزلتم معاصيهم منزلة الطاعات من دون أن يعرفوا لأنفسهم ذلك، هذا رسول الله صلى الله عليه وآله تبرأ من فعل خالد بن الوليد وهجر الثلاثة الذين تخلفوا عنه في تبوك وأقام الحدود على من استوجبها من أصحابه، وكذلك الخلفاء. (1/213)
فأما تبري الصحابة من بعضهم الآخر فأمر لا ينكر وضروري لا يرد، وأما تغير قلوبهم على بعضهم الآخر فغير مدفوع بدعوى الأباطيل ما يسلم لنا أهل بدر عن تغير قلوبهم على بعضهم الآخر فكيف بالطلقاء وغيرهم ولكنكم لا تستحيون من الكذب ولا تهابون المجاهرة بالبهتان، وكل ذلك معارضة لكتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وآله وعداوة لأهل بيته، أتنكرون تبري المشائخ من سعد بن عبادة وتبري عمر من خالد بن الوليد، وتبرأت عائشة وعمار وعبد الرحمن بن عوف وطلحة والزبير وغيرهم من عثمان وسمته عائشة نعثلاً، وتبري أمير المؤمنين من أعدائه وتبرأوا منه واستمر لعنه على منابر الإسلام ألف شهر ما عدا خلافة عمر بن عبد العزيز -رضي الله عنه-، أما تغير عمر على عماله ونسبهم إلى الخيانة وشاطرهم أموالهم؟ أما كان من الشيخين إلى فاطمة الزهراء البتول -رضوان الله عليها- ما كان في شأن فدك حتى هجرتهما مع سماعهما لقول أبيها صلى الله عليه وآله فيها: ((فاطمة بضعة مني يريبني ما رابها))؟ فهل ينكر ذلك إلا من أعمى الله قلبه، وختم على سمعه وبصره، وأصابته دعوة المصطفى لخذلانه علياً المرتضى. (1/214)
وأما قوله: أليس المفسرون كلهم قالوا: هذه الآية نزلت في أبي سفيان وأهله وهي قوله تعالى: {عَسَى اللَّهُ أَنْ يَجْعَلَ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَ الَّذِينَ عَادَيْتُمْ مِنْهُمْ مَوَدَّةً}[الممتحنة:7] فكان ذلك مصاهرة رسول الله صلى الله عليه وآله أبا سفيان وتزويجه ابنته. ا ه. فالجواب عليه:
أولاً: إن كتب المفسرين على ظهر البسيطة بريئة عما ادعى عليها وإنما تعرض بعضهم بعد التفسير فقال: وقيل ...إلى آخر ما شرحته.
وثانياً: أنه تعقب التزويج بأم حبيبة من العداوة والحروب التي قادها أبو سفيان ما لا يجهله متطلع واستمرت العداوة حتى الفتح ظاهراً وبعده باطناً بإجماع النقلة أن آل أبي سفيان من المؤلفة قلوبهم، يدل عليه جواب أمير المؤمنين عليه السلام على أبي سفيان بعد موت النبي صلى الله عليه وآله فافهم. (1/215)
وأما إنكاركم رواية ثقات الشيعة جميعاً فمن ركوبكم متن الاعتساف وتبجحكم بمساوئ عدم الإنصاف، ومجانبة لما دل عليه الدليل من وجوب قبول خبر العدل الضابط، ومجانبة ما أمر الله ورسوله من وجوب محبة آل محمد، فعوضتم ذلك بتكذيبهم وجرحهم وإهراق دمائهم والإفك عليهم.
وأما دعواكم أن الصحبة مانعة من الخطأ فمن زلل القول وخطله وفحش الاعتقاد وغلوه، هذا رسول الله صلى الله عليه وآله خاطبه الله بقوله: {لَقَدْ كِدْتَ تَرْكَنُ إِلَيْهِمْ شَيْئًا قَلِيلاً ، إِذًا لاََذَقْنَاكَ ضِعْفَ الْحَيَاةِ وَضِعْفَ الْمَمَاتِ}[الإسراء:74،75] وقوله: {لَئِنْ أَشْرَكْتَ لَيَحْبَطَنَّ عَمَلُكَ}[الزمر:65] وهو المعصوم، دع عنك ما عاتب الله الصحابة في القرآن وما في السنة من ذلك حتى قال: ((ليردنّ عليَّ الحوض أقوام...))الخبر تقدم، انظر بعين الإنصاف كيف توقف النبي صلى الله عليه وآله عن إيناس المتخلفين حتى نزلت توبتهم من السماء وعائشة زوجته وأم المؤمنين من أمته نزل براءتها آية محكمة فلم لا وَكَلَهم الله ورسوله إلى الصحبة؟ ولم أقام الحد على أهل الإفك؟ لكن أهل السنة لا يبالون بما قالوا ولو استلزم هدم قواعد الإسلام وطمس القرآن والسنة القائمة الأعلام مكيدة كادوا بها الدين، وغارة أغاروا بها على ناموس الموحدين، فأول المكائد الأخذ بالمظنون في صفات الله حتى جسموه وشبهوه بخلقه، ثم اختلقوا أخباراً في نقض آيات الوعيد، ثم تولوا أعداءه وأهانوا أولياءه، ثم حكموا برد أخبار الشيعة لما فيها من الرد على مختلقاتهم، وصغروا معاصي القرن الأول لتتم أسانيدهم. فالله المستعان. (1/216)
شعراً:
ومهما تكن عند امرئ من خليقة .... وإن خالها تخفى على الناس تعلم
تأمل روايتهم بمجادلة موسى وآدم× في المعصية في الصحيح من كتبهم، فإذا روينا بعض مناكير معاوية جرحونا بذلك تفضيلاً لمعاوية اللعين على أنبياء رب العالمين، انظر بعين الإنصاف كيف جادلونا في إسلام أبي طالب ومنعوا من إثباته بغضا أسرَّته أنفسهم لولده وكفراً لنعمة محاماته، ولله القائل:
ولولا أبو طالب وابنه .... لما مثل الدين شخصاً فقاما
فهذا بمكة والى وحاما .... وهذا بيثرب خاض الحماما
أما عفان والخطاب وغيرهما من أباء الصحابة فكأن الله لم يخلقهم. (1/217)
شعراً:
إن بنيَّ ضرجوني بالدم .... شنشنة أعرفها من أخزم
وأما قول السيد محمد بن إبراهيم ـ رحمه الله ـ : أن النبي صلى الله عليه وآله لم يخض في هذا الأسلوب لا هو ولا أصحابه -يعني علم الكلام- فجوابه من وجهين:
الأول: أنه لم يناظرهم أحد ممن له تعلق بهذا الأسلوب، فلو كان أحد ناظرهم لعلمنا يقينا أنهم كانوا مجيبين من العقل والنقل بما يشفي الغليل وإن القرآن قد اشتمل على جميع ما يحتاج إليه، قال سبحانه: {مَا فَرَّطْنَا فِي الْكِتَابِ مِنْ شَيْءٍ}[الأنعام:38] وقال: {لِئلاَّ يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَى اللَّهِ حُجَّةٌ}[النساء:165] فلو لم يشتمل على جميع ما يحتاج إليه للزم أن تكون الحجة لمن لم يجد فيه حجته، انظر لقوله سبحانه وتعالى: {لَوْ كَانَ فِيهِمَا آلِهَةٌ إِلاَّ اللَّهُ لَفَسَدَتَا}[الأنبياء:22] وقال في الرد على النصارى في شأن عيسى وأمه×: {كَانَا يَأْكُلاَنِ الطَّعَامَ}[المائدة:75] وقال: {لاَبْتَغَوْا إِلَى ذِي الْعَرْشِ سَبِيلاً} وأمثال ذلك، فهل هذا من أسلوب أهل الكلام أم لا؟ إن كان الأول فقد سلمت لي، أو الثاني فقد كابرت عقلك ونسبت القرآن إلى النقص فاختر أيهما.
الثاني: إن علياً عليه السلام وصي رسول الله صلى الله عليه وآله والمبين للأمة ما اختلفوا فيه من بعد نبيهم بالنص النبوي قد ملأ خطبه من فنون أهل الكلام، فمن ذلك قوله عليه السلام : الحمد لله الذي لا تدركه الشواهد، ولا تحويه المشاهد، ولا تراه النواظر، ولا تحجبه السواتر، الدال على قدمه بحدوث خلقه، وبحدوث خلقه على وجوده، وباشتباههم على أن لا شبيه له...إلى قوله: مستشهداً بحدوث الأشياء على أزليته، وبما وسمها به من العجز على قدرته، وبما اضطرها إليه من الفناء على دوامه...إلى قوله: لم تحط به الأوهام، بل تجلى لها وبها امتنع منها وإليها حاكمها ليس بذي كبر امتدت به النهايات فكبرته تجسيما، ولا بذي عظم تناهت به الغايات فعظمته تجسيدا. (1/218)
وقوله عليه السلام : الحمد لله الكائن قبل أن يكون كرسي أو عرش، أو سماء أو أرض، أو جان أو إنس، لا يدرك بوهم، ولا يقدر بفهم، ولا يشغله سائل، ولا ينقصه نائل، ولا ينظر بعين، ولا يحد بأين، ولا يدرك بالحواس، ولا يقاس بالناس.
إلى غير ذلك من تعليمه للناس، ومنه أخذ أهل الكلام فَنَّهم، فهل ينكر ذلك منصف أو ينسب أهل الكلام إلى معرفة علم لم يحتو عليه القرآن إثباتاً أو نفياً، أو لم يعرفه النبي صلى الله عليه وآله وأصحابه.
إذا تأملت لفنون الأصول وغصون المعقول وجدت القرآن لم ينس شيئاً من ذلك {وَمَا كَانَ رَبُّكَ نَسِيًّا}[مريم:64]، {عَلَّمَ الإِنسَانَ مَا لَمْ يَعْلَمْ}[العلق:5] وإنما أهل الحديث ادعوا لأنفسهم الكمال من قعود، وزيفوا ما عليه الناس وإن كان لذلك من القرآن والسنة شهود، حتى تقحموا سدد الهيبة فنسبوا القرآن إلى النقص والنبي صلى الله عليه وآله وأصحابه إلى الجهل.
ولنا عليهم معارضة وذلك أن نقول: إن كان مقصدكم أن النبي صلى الله عليه وآله وأصحابه لم يدونوا هذا العلم بالأبواب والفصول والقضايا والنتائج والإلزامات فكذلك علم العربية والفقه والحديث والجرح والتعديل وأصول الفقه، فلا يجوز الخوض فيها، وهنالك انسد الباب وقام كل جاهل فقال ما أراد، ولعمري إن ذلك مقتضى أقوالكم، ومبلغ أنظاركم، أو إن قواعد الكلام خالية عن الأدلة النقلية، فهذه الكتب على ظهر البسيطة منادية على مدعي ذلك بالتكذيب، وهذا الفرس وهذا الميدان لكنكم جهلتموه والإنسان عدو ما جهل. (1/219)
الجدال
[ابن الوزير] قال ـ رحمه الله ـ : فإن قيل: أليس قد أمر الله رسوله صلى الله عليه وآله بالجدال في قوله تعالى: {وَجَادِلْهُمْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ}[النحل:125] فالجواب من وجهين:
أحدهما: أن الله تعالى قيد ذلك بالتي هي أحسن ولم يأمره بمطلق الجدال، والنزاع إنما هو في كيفية ذلك وتفسير التي هي أحسن وحجة المحدثين فيه واضحة وذلك أن رسول الله صلى الله عليه وآله قد امتثل ما أمر به من الجدال في هذه الآية ومع ذلك فلم ينقل عنه أنه جادل بأساليب المتكلمين والجدليين، فثبت أن التي هي أحسن ليست سبيل المتكلمين وهذا واضح. ثم سرد محاججة النبي صلى الله عليه وآله للمشركين وما تلا عليهم من القرآن.
[المؤلف] وقد تقدم الجواب عن هذا على أنه غفل ـ رحمه الله ـ عن مقام الجدل، فإن النبي صلى الله عليه وآله لو جادلهم بغير ذلك فهموا غير لسانهم ولما لزمتهم الحجة بغير لغتهم قال تعالى: {وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ رَسُولٍ إِلاَّ بِلِسَانِ قَوْمِهِ}[إبراهيم:4] إنصافاً، فلذا جرى الرسول صلى الله عليه وآله في مناظرتهم مجراهم.
وأما ما جرى بينه وبين ابن الزبعرى فما زعمه ابن الزبعرى لازماً فغير صحيح؛ إذ لفظ (ما) لما لا يعقل ولذلك تركه النبي صلى الله عليه وآله لتعسفه وخروجه إلى المماراة والبهتان، ولو أن النبي صلى الله عليه وآله ناظر القوم بغير ما يقتضيه المقام لخرج عن حيز البلاغة التي هي في ذلك الوقت ناموس خطبائهم، وحلية رجالهم، ومآل مفاخرتهم فاتبع النبي صلى الله عليه وآله التي هي أحسن من مراعاة الكلام لمقتضى الحال والقرآن يفسر بعضه بعضاً، قال تعالى: {وَلاَ تَسُبُّوا الَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ فَيَسُبُّوا اللَّهَ عَدْوًا بِغَيْرِ عِلْمٍ}[الأنعام:108] وقال تعالى: {وَإِذَا مَرُّوا بِاللَّغْوِ مَرُّوا كِرَامًا}[الفرقان:72] وقال النبي صلى الله عليه وآله: ((المؤمن ليس بلعان ولا طعان)) وغير ذلك، والابتداء باللين ثم الخشونة، وآخرة الداء الكيّ، وذلك السيف، هذا وفي كل حال والمعجزات الإلهية نازلة بهم مع القرآن وهي أفحم من أساليب المتكلمين. (1/220)
وأما احتجاجه بخبر ابن عباس ـ رحمه الله ـ من أن النبي صلى الله عليه وآله صرح لقريش إلى قوله: ((فإني نذير لكم بين يدي عذاب شديد)) وخبر أبي موسى فكأنه غفل عن مقام النبي صلى الله عليه وآله فوق عشر سنين بين أظهرهم يدعوهم ويضرب لهم الأمثال، ويخبرهم بالمغيبات، ويتلو عليهم الآيات البينات، وينزل بهم الخوارق والمعجزات، ويهتف بهم الهواتف في القفار وفي الليالي المظلمات بعد أن تحداهم أن يأتوا بمثل سورة من القرآن العزيز فعجزوا وأفحموا عن معارضته فلذا رموه بالسحر والكهانة لما أفحمهم وأعجزهم كما رميتم أهل الكلام.
[ابن الوزير] قال ـ رحمه الله ـ : الوجه الثاني: إن الله تعالى أجمل كيفية الجدال بالتي هي أحسن في تلك الآية وبينه في غيرها بتعليمه في القرآن العظيم لنبيه صلى الله عليه وآله فقال تعالى: {إِنَّ الدِّينَ عِنْدَ اللَّهِ الإِسْلاَمُ وَمَا اخْتَلَفَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ إِلاَّ مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَهُمُ الْعِلْمُ بَغْيًا بَيْنَهُمْ وَمَنْ يَكْفُرْ بِآيَاتِ اللَّهِ فَإِنَّ اللَّهَ سَرِيعُ الْحِسَابِ ، فَإِنْ حَاجُّوكَ فَقُلْ أَسْلَمْتُ وَجْهِي لِلَّهِ وَمَنِ اتَّبَعَنِ وَقُلْ لِلَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ وَالأُمِّيِّينَ أَأَسْلَمْتُمْ فَإِنْ أَسْلَمُوا فَقَدِ اهْتَدَوا وَإِنْ تَوَلَّوْا فَإِنَّمَا عَلَيْكَ الْبَلاَغُ وَاللَّهُ بَصِيرٌ بِالْعِبَادِ}[آل عمران:19،20]، فهذه الآية الكريمة على ما يتمنى السني في وضوح الدلالة على المقصود في هذا الباب من النص الصريح على أن ما ذهبوا إليه وأجابوا به أهل اللجاج في الدين هو الذي أمر الله به رسوله صلى الله عليه وآله من الاقتصار على مجرد الدعاء إلى الإسلام والاتكال في إيضاح الحجة على ما قد فعله الله تعالى لهم من خلق العقول وبعثة الرسل وإنزال الآيات وإظهار المعجزات...الخ. (1/221)
[المؤلف] أقول: ليس كما زعم من أن الآية مجملة لوجهين:
أحدهما: أنه قيد المطلق فيها بالتي هي أحسن والقرآن كله حسن والنبي صلى الله عليه وآله لا ينطق عن الهوى ولا يجوز عليه البذاء، قال سبحانه: {وَإِنَّكَ لَعَلى خُلُقٍ عَظِيمٍ}[القلم:4] وقد عرفناك تفسير الآية، وأما هذه الآية فهي حكاية لما كان بينه صلى الله عليه وآله وبين أهل الكتاب وذلك بعد أن عرفهم ما أوحى الله إليه من صفاته في كتبهم السابقة وأفحمهم في جميع تلك المقامات حتى أدى ذلك إلى عرض المباهلة وخرج صلى الله عليه وآله هو وأهله لها فخافوا نزول العذاب وأقروا له بالجزية وامتنعوا من الإسلام، فنزلت الآية تسلية للرسول صلى الله عليه وآله لشدة حرصه على إسلام الناس وأمر أن يجيبهم بهذا الجواب الإقناعي الذي هو أبلغ ما يقال بعد ظهور التمرد في المقال. (1/222)
فإن قال: إنه لم يجبهم بغير هذا الجواب -أعني بغير هذه الآية- فقد رد الضرورة، فكم في القرآن من الحجج البليغة.
وإن قال: إنه قد أجاب بما يقتضيه المقام، فهو المطلوب، وعرفت أن تمنى السنن من الأباطيل وأنه حمل القرآن على غير محمله، أليس في آخرها: {فَإِنَّمَا عَلَيْكَ الْبَلاَغُ}[آل عمران:20] والبلاغ إبلاغ جميع الحجج كما قد ورد كثير غير قليل.
منتك نفسك في الخلا باطلا
وأما قوله: إنه لم يكن من النبي صلى الله عليه وآله إلا مجرد الدعاء، فإن زعم أن ذلك قوله: اسلموا تهتدوا. لا غير، فقد ورد النقل المتواتر ونسب رسول الله صلى الله عليه وآله إلى عدم التبليغ، وإن قال: بلى دعاهم بما في القرآن من حجج، فأمر مفروغ منه وهو المطلوب، فإن القرآن لم يترك شيئاً يقتضيه المقام مع كل مناظرة إلا وقد أتى عليه إما صريح أو إشارة، ألا ترى ترتيب نزوله فالمكي في محاجة المشركين والاحتجاج على التوحيد وقياس النشأة الأخرى على الأولى، والمدني في محاجة أهل الكتاب والمنافقين وتعليم شرائع الإسلام، وكفانا دليلاً على الحجج العقلية وصحتها قوله تعالى: {فَاعْتَبِرُوا يَاأُولِي الأَبْصَارِ}[الحشر:2] وغيرها ما يقتضي معناها، وأكثر الخطاب القرآني موجه إلى ذوي الألباب وعلم الكلام من تفسير القرآن كما أن التفاسير قد ملأت الآفاق، وكذلك كتب الفقه هل هي إلا ثمرة الكتاب والسنة وجميع كتب الأدب مما يحتاج إليها القارئ في تفسير القرآن، فهل زاد أهل الحديث منهم هذا الخبر [وزاد] السيد محمد ـ رحمه الله ـ على أن نسب النبي صلى الله عليه وآله وأصحابه إلى الجهل وقاسهم بأهل الحديث العمي القلوب، ضعفاء الأحلام، وسفهاء الأنام، كم يحملون من الآثام من جرح الأئمة الأعلام، كأنهم الحكام على دين الله والذي شافهوا رسول الله صلى الله عليه وآله فعرفوه حين جرح أهل بيته وشيعتهم، وعدل الفسقة وطبقتهم من الطلقاء والبغاة على المرتضى، ولم ير لعن أمير المؤمنين وقتاله جرحا، ولا قتل الحسين وأهله وبقية أهل البيت منكراً. (1/223)
[ابن الوزير] قال -رحمه الله تعالى-: فمن ادعى عدم بيان أدلة الإسلام بعد هذا لم يقبل منه ولا يلتفت إليه، وقد نص الله على ما يكذب القائل لذلك بقوله تعالى في الآية المتقدمة: {وَمَا اخْتَلَفَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ إِلاَّ مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَهُمُ الْعِلْمُ بَغْيًا بَيْنَهُمْ}[آل عمران:19]...الخ.
[المؤلف] أقول: إن عنى بالبيان قوله: أسلموا تهتدوا. لا غير، فقد زل ـ رحمه الله ـ هو، وإن عنى جميع ما جاء به الرسول صلى الله عليه وآله فهو الحق، ولكنكم خالفتم معاني القرآن وحملتموه على الظاهر وعلى أدنى المراتب، فإن أبلغ الكلام عند أهل اللسان هو المجاز والاستعارات ورددتم الحجج العقلية وقد نص على اعتبارها القرآن لكن هذا القول من التعريض بالعدلية وذلك لا يحسن من مثلك، فمتى وجدتم لأحد علمائهم لفظة من هذه المقالة فتنقلوها للتشنيع فقد أكثرت من التشنيع ونقل ما هم عنه براء والله حسيبكم. (1/224)
اعلم أنا لو عدلنا عن الاعتساف، وملَّكنا زمام أقوالنا أيدي الإنصاف لم نجد لأهل الكلام قولاً ولا قاعدة تخالف القرآن، وتشد أعضاء اليونان كما زعمتم خارجة عن أسلوب المناظرة من رسل الأمم الماضية، هذا القرآن مشحون بمناظرة الأنبياء لأممهم من الاستدلال بالمخلوقات على الخالق والحث على النظر العقلي، وتهجين تقليد الآباء والأخذ بالمظنون، وقد اطلعنا بحمد الله على مصنفاتكم فلم نجد فيها ما يشفي غليل الطالب إلا كثرة الهذيان، والدعاء إلى الجهل بأسرار القرآن ثم ختمتم كتابكم هذا بما لفظه: إخواني (فلا يستخفنكم الذين لا يوقنون) ولا يستهوينكم الذين يسمون المؤمنين بالسفهاء {أَلاَ إِنَّهُمْ هُمُ السُّفَهَاءُ وَلَكِنْ لاَ يَعْلَمُونَ}[البقرة:13]، ولا يطيش وقاركم الذين يسخرون منكم {سَخِرَ اللَّهُ مِنْهُمْ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ}[التوبة:79] ...إلى أن قال: فتأسوا رحمكم الله بمن تقدم من المؤمنين في الإعراض عن المستهزئين {اللَّهُ يَسْتَهْزِئُ بِهِمْ وَيَمُدُّهُمْ فِي طُغْيَانِهِمْ يَعْمَهُونَ، أُوْلَئِكَ الَّذِينَ اشْتَرَوْا الضَّلاَلَةَ بِالْهُدَى فَمَا رَبِحَتْ تِجَارَتُهُمْ وَمَا كَانُوا مُهْتَدِينَ}[البقرة:15،16] إلى آخر كلامه نثراً وشعراً من هذا القبيل من الافتخار بالجرح والتعديل ومدح كامل ابن عدي وميزان الذهبي ومدح المحدثين وأنهم لا يأخذون في أصولهم إلا بالقطعيات وفي فروعهم بالمظنون مع المدح للقرآن العزيز. (1/225)
أقول: إذا تأملت أيدك الله لما سبق عرفت أنه ذم أهل الكلام لكونهم كفروا الناس، ثم خلفهم إلى ما نهاهم عنه، ألا ترى إلى ما أملى من أنهم اشتروا الضلالة بالهدى، ثم مدح الكامل لابن عدي والميزان للذهبي مع علمه أنهما جرحا من لا يستحق الجرح من أئمة المسلمين وخالفا قوله تعالى: {لاَ يُحِبُّ اللَّهُ الْجَهْرَ بِالسُّوءِ مِنَ الْقَوْلِ}[النساء:148] وكم تناولوا بالقبيح من لا يحصى من المؤمنين.
وأما دعواه أنهم يأخذون في العقائد بالقواطع وفي العمليات بالمظنون فدعوى لا برهان عليها يعرف ذلك من وقف على حججهم وأقوالهم، وقد قدمنا شطراً من ذلك من كتبهم ليثق الناظر فلا يغتر بهذه الدعوى إلا من لم يمارس أقوالهم ويتطلع على شبههم ودعواهم أن السلف أئمتهم فقد عينت لك سلفهم الذين إليهم يؤول كلامهم وعليهم يعولون في إشاراتهم، وأما الصحابة فهم بمعزل عن أقوالهم. (1/226)
وأما دعواهم أنهم أتباع النصوص فإنما عنوا بذلك الآثار المجملات المتقدمة في فنون كلامهم، ومن السنة الآحاد التي تلقفوها عن القصاص والطلقاء وأهل السهو ومن داخل الدنيا من الصحابة والتابعين وأكثر من جرح المحدثين تعريضاً بالنقص من غيرهم كأنه لم يسمع قول الرسول صلى الله عليه وآله: ((أهل بيتي كسفينة نوح))، وقوله: ((إني مخلف فيكم كتاب الله وعترتي أهل بيتي)) وغير ذلك، فهل تجد النبي صلى الله عليه وآله قال في أهل نحلتك ولو كلمة واحدة، وقد تقدم ما يكفي (وكل إناء بالذي فيه ينضح)، ومن انتهى إلى اتباع آل محمد صلى الله عليه وآله كما أمره الله فقد انتهى إلى الغاية القصوى.
انتهى ما أردنا نقله والحمد لله رب العالمين جعله الله خالصاً لوجهه الكريم، ونفع به قلوب عباده الصالحين، آمين اللهم أمين.
حرر في تاريخ ربيع الآخر عام 1349 هجرية.