الكتاب : الزيدية_قراءة في المشروع وبحث في المكونات |
الزيدية ..قراءة في المشروع وبحث في المكونات
تأليف
عبد الله بن محمد حميد الدين
1420هـ
مؤسسة الإمام زيد بن علي (ع) الثقافية
كلمة شكر
أقدم خالص الشكر والامتنان لكل من أسهم في خروج هذا البحث بشكله الحالي وأخص بالشكر سيدي الوالد العلامة بدر الدين الحوثي، وسيدي الوالد العلامة عبد الرحمن شايم.. وغيرهم من الأفاضل. وأتحمل وحدي مسؤولية الآراء الواردة فيه
تصدير
هناك حاجة ماسة لتفعيل دور الفكر في حياة الناس لدى النخبة التي يفترض أن تكون من أولويات مهامها رسم صورة المستقبل، وتقديم الرؤى والدراسات، وتحديد مواضع القصور والخلل، والانتقال بالأمة من واقع مستسلم وساحة لتجارب الآخرين إلى صاحبة فعل تصنع الحدث في ظل استقلالية كاملة. وهناك مشكلة أو التباس حول موضوع تقديم الرؤى والأفكار لدى الوسط الفاعل في المجتمع بمختلف توجهاته، فالبعض لا يزال يصر على تقديم نفسه من خلال شعارات عامة، ومجموعة من الخطوات والإجراءات، أو من خلال مجموعة من المبادئ والمفاهيم الإسلامية التي هي أقرب للشعارات منها للمفاهيم، مستغلاً عمق التدين لدى الناس ليقدم تلك الشعارات تحت مظلة عاطفية واسعة، هذا في حين أن الوضع الفكري والسياسي المتخلف ــ الذي كان نتيجة لقدوم النموذج الغربي الذي نزل في كل الأماكن وتواجد على كل الساحات، وفي غياب النموذج الإسلامي الوطني كتجربة تراكمية في الواقع ورؤية فكرية قد أدى إلى ضياع الهوية واختفاء الشخصية الوطنية وتخبط في المشروع الثقافي ـ جعل الخروج بمشروع سياسي تحتضنه دولة شبه أمر مستحيل. وللأسف فإن هذا الوضع لم يدفع بتلك النخب الإسلامية والسياسية إلى مراجعة التأريخ اليمني بكل تجاربه المتعددة والمتنوعة، واكتفت بالنظرة إليه بسذاجة سياسية مبطنة بقطيعة غير مبررة، وفي الوقت الذي ينظر العالم فيه إلى تأريخنا بجدية كبيرة، ويحاول التدقيق فيه لكي يعرف من خلاله طبيعة المجتمع اليمني ومقوماته وخصائصه، حتى يمكنه
التعامل معه الدخول إليه وتفسير تصرفاته وتوجهاته في هذه اللحظة التي يتعامل الآخرون معنا من خلال ماضينا وموروثنا الفكري والسياسي نجد أننا نصنع بيننا وبينه قطيعة، ونضع جداراً أملساً بيننا وبين فهم أنفسنا، وأيضاً بيننا وبين الاستفادة من الثروة الفكرية لدينا. والدراسة القيمة التي يضعها (مركز الرائد للدراسات و البحوث) بين أيديكم هي محاولة جادة في عرض مكثف للمشروع الفكري والسياسي للزيدية، إضافة إلى قضايا أخرى تتعلق بهذه الدراسة، مثل: سبب التسمية بـ(الزيدية) والعلاقة بكل من الإمام زيد، وأهل البيت، والمعتزلة، والفرق التي نسبت إلى الزيدية، أيضاً فيه لمحة عن كل من الزيدية المعاصرة وتأريخ المرحلة التأسيسية لها، مع ذكر لأهم مصادر هذا الفكر، إضافة إلى مجموعة أخرى من القضايا، وقد شمل البحث مجموعة من الإشارات لقضايا مهمة مثل: علاقة الثقافة والفكر وتأثيرهما على الواقع الاجتماعي والسياسي، الطائفة والمدرسة الفكرية، سلبية المذهبية المعاصرة، الموازنة بين ضرورة الاجتهاد لتجديد المعرفة وبين أهمية التقليد لاستقرار التشريع، وغيرها. بعض هذه القضايا توسع فيها قليلاً، والأخرى اكتفى بالإشارة إليها. ولما كان الفكر الزيدي جزءاً من مكونات المجتمع اليمني تأريخاً وحاضراً، حيث أنه حكم اليمن أكثر من ألف عام، فإن ممارسة القطيعة معه لن تعمل إلا على تعزيز مشكلة فقدان الهوية التي نعاني منها، وبذلك فإن فهم هذا الفكر على أي صفة كان، والتعمق في تجربته التأريخية مهما كان شكلها، وطرح كل ما يتعلق بهذين الأمرين للحوار والنقاش والأخذ والرد والإضافة والحذف والنقد والتقويم من الأهمية بمكان في عملية تشكيل هويتنا الوطنية، أما والحال أنه كان فكراً إسلامياً منطلقاً من مكانة العقل العالية في فهم الوجود، وإدراك المصالح والمفاسد، وفهم الشريعة وتنزيلها إلى الواقع، وممارساً قدراً كبيراً من القيم السياسية التي ننشدها جميعاً، ونتطلع
إلى تفعيلها في واقعنا وطناً وأمة، أقول أما والحال ذلك فإنه يمكن حينها أن يسهم في تكوين مشروع نهضة للوطن، بل وللأمتين العربية والإسلامية، وبالتالي فإن القطيعة معه ليست فقط إرباكاً في الهوية، وإنما تفوِّت على اليمن فرصة الاستفادة الذاتية مما لديه، كما تفوِّت عليه فرصة أن يكون له دور يتجاوز حدودها الوطنية والإقليمية.
وقد تبنى مركز الرائد هذه الدراسة لأنه يرى أنها يمكن أن تحقق هدفين معاً، تسهم في طرح القضايا التي لا بد منها في عملية تشكيل الهوية اليمنية المتوازنة، وثانياً لأنها قدمت فكر الزيدية بوصفه مشروعاً فكرياً وسياسياً في سياق المشكلة الحضارية التي تعاني منها الأمة، مقترحة ذلك المشروع كجزء ضروري من أي حل، وبهذا أبعدت الفكرة عن إطارها الطائفي الضيق، فأخرجتها من كونها قضايا مجردة غرضها الأساسي تكوين هوية، ولا علاقة لها بالواقع اليمي المعاش إلى قضايا غرضها الأساسي تغيير رؤيتنا جميعاً ـ زيدية وغير زيدية ــ للحياة، وطريقة تعاملنا معها. وإذا كان يمكن للفكر الزيدي أن يلعب دوراً حضارياً على مستوى الأمة، فإن أولى من يستفيد منه هو اليمن الذي رعى هذا الفكر وحافظ عليه عبر أحد عشر قرناً، وإذا كان لليمن أن يكون له دور حضاري فاعل على مستوى العالم فإنه لا غنى له عن استلهام هذا الفكر في مسيرته الحياتية. لقد جاء ولادة هذه الدراسة في اللحظة الزمنية المناسبة. وذلك بعد مضي أكثر من عقد من الزمن على الوحدة اليمنية المباركة، التي حملت في رحمها تباشير التعددية السياسية والحزبية، وجعلت من الديمقراطية توأمها الحي الذي لا يمكن الفصل بينهما إلا بموتهما معاً، لقد أصبح من الضروري في هذه المرحلة أن تبحث اليمن عن مشروعها الفكري الذاتي، وأن تؤسس لدروها الحضاري، إن هذين الأمرين لا يتعلقان بفريق معين أو جماعة معينة أو منطقة معينة، بل يعنيان كل مواطن يمني يريد رسم مستقبل حياته وحياة الأجيال من بعده، وكل وطني
يريد من اليمن أن يكون منطلقاً لنهضة الأمة. وواضع هذه الدراسة شخصية تحمل الهم الإسلامي والهم اليمني، وقد درست العلوم الشرعية والتحقت بالحياة المعاصرة في جوانبها الأكاديمية والسياسية، ويقطع النظر عن النتائج التي توصل إليها، أو المنقولات التي طرحها، وسواء اتفقنا معه أو اختلفنا، فقد حاول أن يضع الفكر الزيدي في السياق الذي نريده ويبقى علينا، بصفتنا مجتمع حي ذات اهتمامات عالية، أن نتفاعل مع تلك المحاولة، وأن نتناول مضامين البحث ونثريها بالنقاش والحوار وصولاً إلى رؤية أعمق وطرح أشمل. والله من وراء القصد. عبد الله هاشم السياني رئيس مركز الرائد22/9/2003م.
المقدمة
الحمد لله رب العالمين، وصلوات الله وسلامه على سيدنا ومولانا محمد، وعلى أهل بيته الطاهرين الذين قضوا بالحق وبه يعد لون، وعلى الصحابة الراشدين والتابعين المخلصين. الحديث عن الزيدية قد يكون من حيث إنها طائفة، أو من حيث إنها مدرسة فكرية سياسية. البحث عنها "طائفةً" يعني الكلام في تاريخ مجتمع تكوَّن على أساس الانتماء لفكرة. البحث عنها "مدرسةً" يعني البحث عن أفكار وحياة جماعة من المفكرين. في الحالتين نحن نعرض أفكاراً وننظر في تاريخ أشخاص. عند النظر إلى الزيدية طائفياً، فإن دور الفكرة ينتهي مع تكوُّن هوية اجتماعية سياسية. فيصير زيدياً من انتمى إلى تلك الهوية بقطع النظر عن وعيه بالأصول الفكرية لتلك الهوية. وعليه فموضوع البحث سيركز على كل من أثَّر فيهم. عند البحث عن المدرسة الزيدية فإن الفكرة هي البداية والنهاية. والتاريخ ليس إلا تاريخ رجال قدموا للفكرة بمختلف الطرق. الطوائف الإسلامية موجودة، كما المدارس الفكرية الإسلامية. لعلنا نغمض أعيننا عن أولوية الانتماء الطائفي القائم بيننا، وعن آثاره المقيتة، ولكننا نعلم وجودهما. الطائفية ليس لها إلا أغراض سياسية اجتماعية. تسعى للتميُّز لكي تكسب مشروعية وجود موقع سياسي أو اجتماعي متناسب مع ذلك التميز. لا مشكلة في وجود جماعات سياسية اجتماعية متميزة في المجتمع المسلم. المشكلة في أن يكون أساس تميز تلك الجماعات الانتماء إلى مدارس فكرية دينية. لا يصح أن يظن مسلم من الطائفة "أ" أن مسلماً من الطائفة "ب" يستحق مواقع ومصالح مختلفة، لمجرد اختلاف رأيه، بل المسلمون سواسية في ذلك، والاستحقاق بينهم لا يكون إلا وفق الكفاءات والجهد، والتميز بينهم ينطلق من الاختلاف السياسي الاجتماعي الذي يعم أثره على الكل. أي انتساب فكري لا يصح أن يستتبعه أي تميز سياسي أو اجتماعي، وغرضه الأساس تحديد موقف فكري حيال القضايا الكبرى التي تهم الأمة، وتقديم مشروع سياسي ينفع الأمة
بجميع أطيافها وأطرافها. ما يلي بحث مختصر حول المدرسة الفكرية الزيدية. يشير إلى مجموعة من القضايا التي تسهم في إلقاء بعض الضوء على أصولهم الفكرية ورؤيتهم السياسية، إضافة إلى توضيح بعض المسائل التي تطرح حول تاريخهم ورجالاتهم.
لمعرفة هذه الأمور لا بد من الاطلاع على مجموعة من القضايا، أبرزها: 1. المشروع الفكري السياسي وفق رؤية الزيدية. 2. الاجتهاد عند الزيدية. 3. الزيدية والإمام زيد. 4. الزيدية والصحابة. 5. الزيدية والحنفية، والمعتزلة. 6. استعمالات كلمة "زيدية" في المراجع والمصادر. 7. فرق الزيدية. 8. أهل البيت. 9. الإمامة. 10. مصادر الزيدية. 11. الزيدية اليوم و لمحة عن جذورها التاريخية.
مسوغات الاهتمام بالمدرسة الفكرية الزيدية
تميزت المدرسة الزيدية بأمرين: مشروع فكري سياسي؛ وتجربة في إسقاط ذلك المشروع على أرض الواقع. ــ مشروعها الفكري السياسي يتضمن رؤية دينية عقلانية يمكن بشيء من التوظيف والتطوير والتجسيد على أرض الواقع أن تشكل أساساً لحركة الأمة نحو نهضتها وعزتها. هذا في مقابل ما ساد بين الأمة من أفكار تشل طاقتها، وتضعف من عمق توجهها نحو ربها، وتعرقل دورها في بناء وتوجيه الحضارة الإنسانية عموماً. ــ تجربتها في إسقاط مشروعها تجلى بالحركات السياسية الإصلاحية المتتابعة التي قاموا بها بدءا من ثورة الإمام زيد بن علي"عام 122هـ. أيضاً تظهر من الدول التي نشأت في كل من المغرب 172هـ، وطبرستان 250هـ، واليمن 280هـ. لتجربتهم أهمية تظهر من:
1. أنها تجربة مستندة إلى نظرية: فالتجربة الزيدية كانت في جميع مراحلها منبثقة عن نظرية سياسية إسلامية تنتمي إلى الإسلام في مراحل قوته. فلم تستورد، ولم يؤخذ بها لمواكبة الحضارات الغالبة. أسس النظرية هي: أ. المساواة العادلة بين الناس. ب. الأهمية العليا لإقامة نظام سياسي عادل. ج. وجوب المشاركة السياسية لكل أفراد الأمة؛ د. الدولة لا يجوز لها أن تكون طرفاً من أطراف الاتجاهات الاجتماعية. كانت النظرية تسعى لتجسيد نفسها في واقع الأمة؛ فتاريخها يكشف عن تجربة من تجارب الإسلام السياسي بمختلف ظروفه وأوضاعه عبر مئات السنين. إنها دراسة لفكرة تحركت في الواقع وتفاعلت معه. وبهذا تختلف عن دراسة التجارب السياسية الأخرى التي هي دراسات لتاريخ أنظمة حُكم تعاقبت عبر مراحل تاريخية مختلفة. إننا اليوم إذ نحاول بلورة نظرية إسلامية سياسية تطبيقها على الواقع بحاجة إلى تجارب تاريخية سابقة. ويكتمل الأمر أهمية حين نجد أصحاب تلك التجربة وروادها من العلم والديانة بمكان.
2. أنها تعالج مشكلة "فقدان الأصول التاريخية" التي تواجهها النظريات السياسية الإسلامية الحديثة: أي نظرية سياسية إسلامية معاصرة لا يمكنها أن تستند كلية على الرؤية التقليدية لتيار ما يُعرف بـ"أهل السنة والجماعة"، والتي سادت في الغالبية العظمى من دول العالم الإسلامي. ذلك لأنها تتضمن عنصراً لا يمكن القبول به وهو "شرعنة الأمر الواقع". فبقطع النظر عن مدى فساد الواقع السياسي، فإن ذلك العنصر يأمر المسلمين بطاعة القائمين بالأمر. ولعل أبرز ما ينسب إلى النبي صلى الله عليه وعلى آله في هذا المعنى حديث يأمر فيه النبي بطاعة الحاكم ولو كان قلبه قلب شيطان، ولا يستن بالسنة ولا يهتدي بالهدى، ويضرب ظهور رعاياه، ويأخذ أموالهم. فقد أخرج مسلم في صحيحه(رقم الحديث (1847) عن حذيفة بن اليمان (قلت يا رسول الله إنا كنا بشر فجاء الله بخير فنحن فيه فهل من وراء هذا الخير شر ؟ قال: نعم، قلت: هل من وراء ذلك الشر خير؟ قال نعم، قلت: فهل من وراء ذلك الخير شر؟ قال نعم، قلت: كيف؟ قال: يكون بعدي أئمة لا يهتدون بهدي ولا يستنون بسنتي وسيقوم فيهم رجال قلوبهم قلوب الشياطين في جثمان إنس قال قلت كيف أصنع يا رسول الله إن أدركت لك ؟ قال: تسمع وتطع للأمير وإن ضرب ظهرك وأخذ مالك فاسمع وأطع) الحديث. والأحاديث في هذا المعنى كثيرة ومعروفة. ولا يمكن أيضاً الاستناد تماماً إلى الرؤية الشيعية الإمامية التقليدية؛ لأنها منعت من تحقيق مثالها السياسي المنشود؛ لما اشترطت أن يكون القائم به إماماً معصوماً، في الحين الذي قالت بغيبته. إن تلك الأفكار من أشد ما حال بين المسلمين وبين قيام واقع سياسي عادل. فالنظرية السنية مع كل ما فيها من مُثل إلا أنها أعاقت أي إمكانية لتنزيلها لما شرعت للأمر الواقع، واعتبرته مهما كان شكله ممثلاً لإرادة الله تعالى ومحرماً تغييره من أصله؛ وبذلك كان دورها التاريخي الأبرز إضفاء الشرعية على من تَربعَ سُدَّةَ
الحكم على أي صفة كان. وأما النظرية الإثنا عشرية فقد عملت عكس ذلك؛ حيث سلبت الشرعية عن كل نظام قائم صلح أو فسد، عدل أو جار، فكل ما سوى إمامة المعصوم لا تجوز، ولكنها إذ سلبت الأنظمة كل مشروعية لم تتقدم آنذاك برؤية بديلة يمكن تحقيقها. فلم يكن ممكنا ـ في غالبية الأقطار المسلمة ـ وجود تجربة متوافقة مع المثال المنشود. وكيف ذلك؟ وهناك نظرية تجيز الأمر الواقع، وتأمر بالانصياع له، وأخرى ترى في كل ما هو قائم جوراً وضلالة واغتصاباً لحق إمام غائب، حتى وإن حُكم بالعدل، وأقيم القسط. فكيف والحال هكذا يُخلق الحافز الكافي لصنع واقع متوافق مع الحالة المثلى التي ينشدها الجميع؟ ولذلك نجد أن الإسلام ــ في أغلبيته السكانية ــ عاش أكثر زمنه خارج الدولة؛ أي خارج الحياة العامة، واقتصر دوره على التقنين لها دون الأخذ بزمامها. فلم يكن اعتماد الدولة على الفقهاء نابعاً من قناعتهم بمرجعية الإسلام بقدر ما كان بسبب غياب مصدر آخر للتقنين. في ظل هذا الغياب التشريعي والتاريخي نجد أن الحاجة إلى إبراز النظرية والتجربة السياسية الإسلامية للزيدية تتجاوز مجرد التاريخ إلى إيجاد امتداد تاريخي عميق لأي توجه يسعى إلى عودة الإسلام إلى الحياة العامة للأمة، هذا من جهة. ومن جهة أخرى إلى إبراز أصالة النظرية السياسية المنشودة، وانتمائها إلى الفكر الإسلامي قبل الاصطدام بالحضارات الأخرى التي ألجأتنا إلى إعادة النظر في كل شيء. 3. إن المسار العام لتلك التجربة كان إيجابياً: لقد أنتجت لنا مجموعة كبيرة من نماذج متميزة من الحكام، جمعوا بين العلم والعمل، والتقوى والعدل، وخشية الله والحكمة في الأمر والنهي. هذه الإيجابية تغير من الفكرة الشائعة التي حصرت وجود خلفاء راشدين في ثلاثين سنة من التأريخ الإسلامي، فنجد أنه في كل مرحلة تاريخية وجدت نماذج تُحتذى وتُقتدى.
4. إن التجربة ثرية بالدروس التي يمكن أن نستفيد منها اليوم: تقدم التجربة السياسية دروساً في إنتاج رجال دولة، وفي كيفية تطبيق العدل، وإعمال الشريعة. وتؤكد لنا التجربة حقيقة أنه أي فكرة مهما كملت فإن القائمين عليها بشر، ولا بد أن يعتري تنزيلها ما يعتري البشر من النقص. وضْعُ هذه الحقيقة يؤدي بنا إلى الاهتمام بوضع أنظمة تغطي ذلك النقص، والذي أدى في كثير من الأحوال إلى عدم استمرارية تلك التجربة. إن التجربة السياسية للزيدية جزء من تاريخ الأمة الإسلامية، وليس من تاريخ الزيدية فحسب. بل هي جزء من تاريخ جميع الحركات التي اتفقت معها في أهدافها السياسية، مهما كان دينها أو مذهبها . ومما يحسن ذكره هنا أن كلمة "زيدية" في أول أمرها لم يكن لها دلالة مذهبية أو فكرية بقدر دلالتها السياسية. فقد كانت تشير إلى كل من اتفق مع الإمام زيد بن علي 122هـ في دعوته الإصلاحية إلى دفع الظالمين، ونصر المستضعفين، ورعاية المال، والحق العام، والحريات السياسية. فكان من وافقه في تلك يسمى زيدياً، وإن اختلف مع الإمام في رؤيته الفكرية أو الفقهية. إن هذا التاريخ هو لِتجربة إنسانية إسلامية تمثلت في مرحلة ما ضمن فئة من المسلمين، ويجب أن تخرج من إطارها الديني والمذهبي؛ لتكون ملكاً لجميع الأمة والإنسانية؛ فالقيم السياسية الأساسية لا تختص بدين، ولا مذهب، ولا حدود؛ فالأمن والعدل والعلم والرفاه ــ وهي من القيم السياسية الأساسية ــ أمور مطلقة عن كل قيد، فلا يوجد عدل سُنِّي، وآخر شيعي، ولا يوجد فقر على الطريقة الإسلامية وآخر على الطريقة الكفرية، ولا يوجد جهل عربي وآخر عجمي، وبالتالي فأي حركة كان شعارها الأبرز تحقيق تلك القيم ملك للناس جميعاً باختلاف أفكارهم وأصولهم العرقية أو القومية، وأما الشعارات الفرعية لتلك الحركة، فالغالب أن لا يتفق عليها الناس، وهذا أمر طبيعي، ولا يضرُّ أصل القضية في شيء.
قلة الدراسات
مما يؤسف له قلة الدراسات عن هذه المدرسة. وما كان الأمر صدفة، أو عفوياً. فمع تقصير الزيدية أنفسهم في إبراز فكرهم، بل وتقصيرهم في إبراز الدور الكبير الذي يمكن لهذا الفكر أن يقوم به في نهضة هذه الأمة، وتوجه كثير منهم إلى توجهات طائفية لا تخدم الأمة؛ ومع صعوبة الوصول إلى مصادر هذا الفكر لكون أغلبه ـ لظروف غير طبيعية ـ ظل حبيس المكتبات الخاصة والعامة بشكل مخطوط، لا يصل إليه إلا القلة من الناس ذوي الهمم العالية، أو ذوي الحظ الجيد. والأدهى من ذلك عدم المعرفة بحجم وطبيعة المادة العلمية الزيدية الموجودة، مما يحير أي باحث يريد أن يخوض غمار هذا الفكر، مع كل ذلك إلا أنه كان هناك تغييب متعمد ومقصود لهذا الفكر. أغلب أسباب التغييب مخاوف لا أساس ولا واقع لها. وللتغييب جذور تاريخية تعود إلى القرن الأول حيث جرت عادة الدولة، ومن ثَم كثير ممن تبعها من العلماء على اتخاذ مواقف عدائية من كل ما يمت لأهل البيت " بصلة. فأما الدولة فقد عالجت الأمر من خلال التضييق في المعائش، أو الحبس، أو التنكيل الجسماني وصولاً إلى القتل في كثير من الأحيان. وأما علماء الدولة فقد حكموا على كل من يمت بصلة إلى فكر أهل البيت، أو رجالاتهم بالتبديع تارة، والتضليل أو التكفير تارة أخرى.
التقارب الإسلامي وطرح مثل هذه القضايا
قد يقال: إن إثارة هذه القضايا تضرُّ بالتقارب بين المسلمين، خصوصاً إذا اقترنت بنقد المذاهب الأخرى صراحة. نحن نقدِّر القلق من استمرار ظاهرة بثِّ الفرقة بين المسلمين، مع ذلك لا نرى في عرض الرؤى المختلفة ما يؤدي إلى ضرر بذاته. إن المسلمين مختلفون؛ وهذه حقيقة لا مناص منها، ولكنها ليست الداهية العظمى ولا المصيبة الكبرى، بل إن مشكلتنا هي في طريقة تعاملنا مع اختلافنا. إننا بين إحدى ثلاثة: داعي فرقة صراحة من خلال التأكيد على الهوة الموجودة بين المسلمين. أو داعي وحدة من خلال المطالبة بفتح حوارات في أصول القضايا المختلف عليها بغرض التوصل إلى وفاق حولها. وبين أولئك يوجد من يدعو إلى التعايش على أحد معنيين: أولهما: تعايش سلبي يعمل على تجاهل القضايا المختلف فيها. أو إنكار وجودها، أو التقليل من أهميتها. ثانيهما: تعايش إيجابي يعمل على تحييد أثر الاختلافات بين المسلمين مع إقرار بأهمية المسائل المختلف فيها. إن الدعوة إلى الفرقة شر. والدعوة إلى التعايش السلبي خطأ؛ لأنه لا يعمل إلا على إبقاء الجمر تحت الرماد. وأكثر الأعمال للتقارب بين المسلمين منصبة على هذا النوع. هذا واضح في مؤتمرات ومؤلفات مشاريع التقريب بين المذاهب الإسلامية. ما يسوغ موقفهم هو صعوبة العمل على التعايش الإيجابي، وأصعب منه العمل نحو الوحدة. ينبغي الدعوة إلى "الوحدة"، فإن لم تكن فـ"التعايش الإيجابي". والوحدة المطلوبة هي في القضايا الكلية التي لا يصح أن نختلف عليها. فالدين قد رسم لنا اتجاهاً ووضع لنا طريقاً عريضاً للسير إلى ذاك الاتجاه. وعلينا أن نسير فيها معاً، ونتنوع ونتعدد ضمن ذلك الطريق العريض، بمعنى آخر يكون التنوع والتعدد في القضايا التي تتعلق بالحياة وتختلط بها، فيكون تنوعاً تبعاً للتنوع في الحياة، وأما القضايا التي تتعلق بالاتجاه وهي الإيمان بالله واليوم الآخر وتفاصيل ذلك فلا معنى ولا فائدة في الاختلاف حولها. وإلى حين أن
تتحق الوحدة، فلا بد من التعايش الإيجابي. والسبيل إليه يكون بالعمل على كلٍ مما يلي:
1. أن ننفي عن القضايا المختلف فيها أثرها في تصنيف الناس؛ وحصر التصنيف في النص الشرعي. فمهما لم نجد نصاً يوجب لاختلافنا أثراً كان الواجب علينا أن نبقى على الأصل. فحتى لو اختلفنا في قضايا أصولية، أو في قضايا الإلهيات الكبرى، فإن ذلك وحده لا ينتج وجوباً شرعياً للحكم بالتكفير أو التضليل. إنَّ كل من آمن بالله وكتبه ورسله واليوم الآخر فالأصل والضرورة الشرعية تحكم أنه مسلم له ما للمسلمين وعليه ما عليهم. إنَّ إخراجه من هذه الدائرة يتطلب دليلاً شرعياً قطعياً في ثبوته وقطعياً في دلالته. هذا يعني أنه مهما اعتقدتُ خطأ وشناعة قول مسلم فإن اعتقادي هذا يجب أن لا ينتج حكماً شرعياً بتكفيره، ما لم يكن هناك نص قطعي يوجب على صاحب تلك المقالة بعينها الكفر. هذا مع إبقاء حق التعبير عن الرأي مصوناً، فلا يعني هذا الكلام السكوت عما يراه أحد خطأ.
2. التذكير المتواصل بقول الله تعالى: {لاَ يَنْهَاكُمُ الله عَنِ الَّذِينَ لَمْ يُقَاتِلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَلَمْ يُخْرِجُوكُمْ مِنْ دِيَارِكُمْ أَنْ تَبَرُّوهُمْ وَتُقْسِطُوا إِلَيْهِمْ}[الممتحنة:8]، وهي تدل على أن الاختلاف في الدين ليس مانعاً للبر والإحسان. وقد يؤخذ من الآية أيضاً أنه لا يكفي الاختلاف في الدين لإيقاع العداء، وإنما لا بد أن يرافقه الظلم.
3. مواجهة الأساليب غير المتوازنة في التعامل مع المخالف.
4. ضرورة إبراز وتصنيف القضايا المختلف عليها، والتي تميزت بها المذاهب وذلك لتحقيق الأغراض التالية: أ. لكي يكون الاختلاف على قضايا موجودة وليس على قضايا وهمية. وهنا يجب الابتعاد عن المجاملة قدر الإمكان.
ب. لفتح مجال البحث فيها، وذلك بتحديد موطن وطبيعة الاختلاف بشكل دقيق، ثم لتحديد أدلة كل فريق، وذلك سيُمكِّن الجميع من الوصول إلى حقيقة مهمة، وهي أننا نختلف على قضايا ليست من القضايا الواضحة 100%، مما يعني فسح المجال لحسن الظن.
جـ. لتحييد أثرها في بث الخلاف. فالاختلاف بمجرده لا مشكلة فيه. المشكلة حين يتحول الاختلاف إلى شقاق. ويجب بحث أسباب التحول، وذلك لتجنبه. لا شك في أن تحقيق ما سبق سيحتاج إلى مراحل وإلى زمن وإلى جهود، ولكن الخطوة الأولى هي وضوح الرؤية، ووضوح الهدف، ووضوح المطلب. على ضوء ما سبق ذكره، فإن هذا التعريف لن يضر التقارب بين المسلمين، بل يمكن أن يفيد في التقارب، وذلك لأنه يعمل على إبراز المختلف عليه تحقيقاً للأهداف المذكورة سالفاً.
التعدد المذهبي
أود في هذا السياق أن أبين وجهة نظر حول التعدد القائم في المذاهب التشريعية والعقائدية. لا يقلل أحد من أهمية وإيجابية وجود التعدد الفكري الذي يعكس التنوع الموجود بين أفراد المجتمع وظروفهم. يذهب البعض إلى أن تعدد المذاهب الإسلامية الفقهية والعقائدية كما هو اليوم يعكس حالة من تلك التعددية الفكرية الإيجابية بين المسلمين. وعليه فإن بقاء هذه الحالة أمر مرغوب ومحمود، وغاية الطموح والأمل هو التعايش السلمي بين أبناء تلك المذاهب، وتجاوز مظاهر التكفير والتفسيق والتضليل التي شتت المسلمين قروناً من الزمان مع الإبقاء على وجود المذاهب من حيث اسمها، ومن حيث مضمونها. فيبقى المنهج الفقهي الشافعي بإزاء الحنفي، ويبقى المنهج العقائدي الإثنا عشري بإزاء الأشعري، وتبقى التسميات المتعددة أيضاً. إزاء هؤلاء هناك من يرى أن الوضع القائم اليوم يخالف المشروع، لأن الأصل الذي كان عليه السلف هو عدم وجود مدارس فكرية، ذات مناهج متميزة في فهم النصوص، واستنباط الأحكام، وبالتالي فلا بد من تجاوز هذه المذاهب جميعاً، والعودة إلى الينابيع الصافية من الكتاب والسنة. ما أذهب إليه يؤيد المذهبية فكرةً، ولكنه ينقدها ممارسةً. إن التنوع المذهبي كما هو اليوم قد يعكس تعددية فكرية، ولكنه قطعاً لا يعكس تعددية فكرية تنطلق من واقع العصر وقضاياه، بقدر ما يعكس التعدد الذي نشأ قبل ما يقرب من 12 قرناً من الزمان. وبهذا الاعتبار، فإنها ليست حالة إيجابية، بقدر ما هي تأطير لتفكير المسلمين بأطر ثابتة وقارَّة صنعت لتعالج ظروفاً غير ظروفنا، وواقعاً غير واقعنا. إن التعددية الإيجابية إنما تكون انعكاساً للتنوع الموجود في الفهم ووجهات النظر بين الناس، وأيضاً في الظروف التاريخية القائمة. أما ما هو موجود اليوم فتجميد للتنوع الذي وجد في مرحلة زمنية محددة هي مرحلة التأسيس للمذهب، وفي فهمٍ ووجهة نظر محددتين، هي تلك التي للمؤسسين للمذهب، ثم فرض ذلك
القالب الزمني على جميع الأزمنة التي تلت، وقسر وجهة النظر تلك على كل العقول الذي أتت. إن استقرار المذاهب على ما هي عليه طوال 12 قرناً بالرغم من التغيرات الجذرية التي مرت بها المجتمعات الإسلامية، وبالرغم من ظهور عباقرة فاق بعضهم مؤسسي المذاهب في قدراتهم العلمية، وفي أدواتهم البحثية، لأمر جدير بالنظر. إن التعدد الفكري له عوامل متعددة، بعضها يعود إلى عوامل فردية تتمثل في تميز عبقرية فكرية وتفرد جاذبية شخصية لدى عالم من العلماء. وأخرى إلى عوامل سياسية حيث يسعى أطراف في صراع سياسي إلى تسويغ مواقفهم المتنوعة بالاستناد إلى رؤى فكرية. وأخرى إلى عوامل اجتماعية حيث يكون اختلافها مدعاة لاختلاف الأوليات التي تبحث، أو الإجابات التي تقدم. وجميع هذه العوامل، وغيرها، تتسم بسمة أساسية وهي أنها متغيرة دوماً. وعليه فما كان منها سبباً للتنوع في مرحلة ما، قد زال، وتغير بحيث إن المفترض أن تكون قد ظهرت مدارس ومذاهب أخرى تعكس التنوع الجديد القائم. والحالة الطبيعية والصحية هو أن يستمر لذلك التغير في نشوء المذاهب بحيث لا يستقر الحال لأكثر من ثلاثة أجيال أو أربعة على الأكثر. ولا يعني هذا إلغاء الأفكار السابقة، وإنما النظر إليها لا بوصفها أفكاراً ننتمي إليها، وإنما بوصفها أفكاراً نستفيد منها في تأسيس الحالة الفكرية الملائمة مع تفكيرنا، ومع واقعنا. ومع أن الغاية هي تجاوز المذهبية، إلا أن هذا الأمر لا يتأتى إلا من خلال التعرف عليها. وذلك لأنه لا يمكن لنا الانطلاق الصحيح إلى واقع جديد إلا من خلال فهم واقعنا الحالي. فالمستقبل يبدأ "الآن"، وما لم يكن لنا حاضر راسخ، وماض عريق، فلا مستقبل لنا. ففهم أطروحات المذاهب الإسلامية القائمة، والاطلاع على تاريخها، لا بد منه حتى في مرحلة مذاهب إسلامية حديثة باعتبار أنها تمثل اجتهادات وتجارب لا بد من الاستفادة منها. فالفكر عندما يتطور فإنه يستند إلى الأفكار التي سبقته،
ولكنه يتجاوزها، أو يعيد صياغتها بما يلائم ظروفه التي يعيش بينها. وأي مدرسة فكرية ناشئة ستضع أمامها الاتجاهات السابقة لها، وسوف تختار منها ما يحقق شرطين أساسين:
* أن تكون تلك القضايا مما يعالج الواقع القائم إيجابياً.
* وثانيهما أن تكون أسسها الاستدلالية قوية. على ضوء ما سبق، فإنني أرى أن أي مشروع يعمل على إبقاء الحالة المذهبية كما هي عليه يعمل في اتجاه غير صحيح. سواء كان من حيث التركيز على أحقية مذهب واحد، أم من حيث التشديد على حق الاختلاف في المذاهب.
المشروع الفكري السياسي وفق رؤية الزيدية
يقدم الزيدية رؤية دينية للحياة تنطلق من مسلمات العقل وثوابت القرآن الكريم، تبين موقعنا في هذه الحياة، وترسم لنا المسار العام الذي يجب علينا أن نسير فيه. بحيث تشكل تلك الرؤية منطلقاً وإطاراً للحركة والتقدم. منطلقاً من حيث إنها تدفعنا للحركة، وإطاراً من حيث إنها تحدد وجهة تلك الحركة، وتشير إلى مقوماتها. وأي حركة واعية في هذه الحياة، سواء أكانت حركة فردية، أم جماعية، أم حركة حضارة برمتها، لا بد من أن تستند إلى رؤية للحياة، وخلاف ذلك دلالة على تدنٍ في الوعي من جهة، وعلى الارتكاز على النزعات الغرائزية، والانفعالات الظرفية التلقائية في توجيه دفة الحياة من جهة أخرى. مقدمةً لاستعراض موجز لتلك الرؤية، سأقوم أولاً بإشارة مجملة إلى أثر الثقافة على الواقع الحضاري بكل أبعاده الاقتصادية والسياسية والاجتماعية. ثم بيان بعض مظاهر ثقافة الشلل التي سادت وحكمت المجتمعات المسلمة عبر قرون من الزمان. قطعاً، ليس الغرض مجرد سرد لرؤية فكرية وسياسية لمذهب من المذاهب، بل الطموح هو إلى أن ينظر في ما يمكن أن تقدمه هذه الرؤية لحركة الأمة نحو الأمام، ولذلك كانت هذه المقدمة لازمة.
البدايات
مع وجود ظروف تاريخية مميزة توفرت للأمة الإسلامية في عصر النبي÷ وبعده، ومع ما أنعم الله عليها من فكر إلهي باعث ناهض، دافعٍ للإنسان نحو تحقيق ذاته وترقية أحواله،وإيجاد أسس لأمة عظيمة، إلا أن الواقع السياسي الجائر الذي عانت منه الأمة إبان سقوط الخلافة الإسلامية عام 41هـ، أخذ يضرب في تلك الأسس، وعلى وجه الخصوص الجانب الفكري منه. فنشأت عبر القرون التي تلت ثقافة تميت وتشل وتخدر. كان للأسطورة والخرافة والتفكير اللاعقلاني والكهنوت مساحة ملحوظة فيها. قُدِّس السلطان، ونُبِذ التفكير، ومُنِع الحوار. وابتعدت الأمة عن النظرة الفاحصة، وغاب عن ساحتها العقل المستقل. إضافة إلى سقوط الخلافة وما تلاها من تفاعلات سلبية، حصل أمر آخر شكل منعطفاً حاداً لمسار الأمة الفكري هو إعلان الوثيقة القادرية في 17محرم من العام 409هـ ، فعندها أعلن الخليفة العباسي الملقب بالقادر بالله منشوره الشهير الذي منع به التفكير والاجتهاد وكفَّر فيه المعتزلة واستباح دماءهم. وقد سارع هذا القرار في تدهور الأوضاع الفكرية والثقافية للأمة الإسلامية، فشاعت الخرافة والأسطورة والدروشة والمهدوية والانتظار والخمول، وتعزز كل ذلك من خلال كتابات متعددة ظهرت عبر القرون. ازداد الأمر سوءا مع نشوء الدولة العثمانية التي أوقفت الانهيار المحتوم بقوتها العسكرية، ولكن بغير أن تعالج أسبابه. ويمكن القول إنها بتأخيرها موعد الانهيار قد أضرت بالأمة من حيث لا تدري. ففي وقت سيطرتها على زمام الأمور سياسياً، أخذ الغرب يتحرك نحو الأمام، ولكن سرعته في البدء كانت تجعل من اللحاق به أمراً يسيراً في فترة قصيرة. ولكن الذي حصل أننا لا تقدمنا، ولا سقطنا سقوط اليقظة، فلما أتى المحتوم من الإنهيار كانت المسافة بيننا وبين الغرب قد اتسعت بشكل فلكي. سادنا اليوم الفقر، والجهل، والظلم، والاستبداد. تخلينا عن الفعل واستسلمنا للانفعال. أصبحنا نقتات على فضلات خصومنا
وأعدائنا. فقدنا إضافة لذلك أسباب الحياة، والتأثير على مصيرنا فضلاً عن مصير غيرنا. بتنا نستمرئ أخلاق الكذب والنفاق والخيانة والحسد والبغضاء. تخلفت أمتنا عن حركة الإنسانية نحو النمو الاقتصادي، والرفاه المادي، والقيم الاجتماعية، والنظام السياسي العادل والمعبِّر عن إرادة شعوبها. نصبح ونمسي حالمين بحياة كريمة حرة، بحرية القول والتفكير، بالمساواة أمام القانون، بحق الحماية المشترك، بحق المشاركة في القرارات التي تؤثر على حياتنا وحياة من نعول، بحق امتلاك مستوى معيشة لائق صحياً وغذائياً وملبساً ومسكناً، بحق التعلم. نعم!! لا زلنا نحلم بكل ذلك، إلا قلة قليلة. هذا كله في حين أن المسافة بيننا وبين الغرب في ازدياد متواصل. وفي مواجهتنا معه خلال المائتي سنة التي مضت فإنه لم يزدد إلا قوة، ولم نزدد إلا ضعفاً. ويزداد المرء منَّا حسرةً حينما يدرك حجم الدور الذي قمنا به نحن في خدمة من استنزفنا، وفي تدمير بُنْيَتِنَا الأخلاقية والاجتماعية والاقتصادية والسياسية. بدون تقليل من شأن وحجم الدور الذي لعبته القوى الغربية فيما آلت إليه أوضاعنا، إلا أننا يجب أن نُقدِّر أن العالم عالم الأقوياء، لا يرحم الضعيف، وأنه لم يحل بنا ما حل لولا حالة الضعف الذاتي التي وصلنا إليها قبل مجيء الاستعمار. إن الاستعمار منذ أن دخل بلادنا، ومن بعد ما خرج منها، وإلى اليوم، ما اعتمد إلا علينا في القضاء على أنفسنا. فمهما كان دور الغير، يجب أن نتجاوز أي سؤال غرضه تخفيف وطأة المسؤولية علينا. لننصرف إلى استكشاف الأسباب الذاتية التي بها صرنا نعيش خارج الزمن، وصار السعيد منا من سعد بشقاء غيره. نحن في مشكلة!! نعرف أننا في مشكلة لأننا نريد أن نكون على حال غير الحال الموجود اليوم. نريد نظاما اجتماعيا يؤمن الناس من الفقر والجهل والخوف والظلم. وحال اليوم بعيد جداً عن هذا النظام المراد. بديهي أنه عند معالجة أي مشكلة فلا بد من تحديد
أسبابها. تحديد الأسباب ليس بالأمر الهين. ولكن لو افترضنا أنها حددت بدقة، فإننا سنواجه مشكلة تتمثل في أن معالجتها جميعاً بشكل فعَّال وعملي يتجاوز دوماً الموارد المتاحة بنسبة عالية. فلو افترضنا على سبيل التمثيل أن مشكلة ((أ)) تحتاج إلى مائة ساعة تفكير لحلها تماماً، فما سنجده فعلاً متوفراً لنا من تلك المائة قد لا يتجاوز الخمسين في بعض الحالات. بمعنى أننا سنكون مضطرين لمعالجة بعض أسباب المشكلة دون غيرها، أي الوصول إلى حل جزئي فحسب. يغيب عن بعضنا أن أسباب أي مشكلة، وإن استوت في قدر ما تحتاجه من معالجة، فإنها لا تستوي في قدر تأثيرها على أصل وحل المشكلة. فلو افترضنا أن للمشكلة ((أ)) خمسة أسباب، وافترضنا أن كلاً منها يحتاج إلى عشرين ساعة تفكير لمعالجتها، أي أنها تستوي في حاجتها للموارد، فإن ذلك لا يعني أن كل سبب يتحمل خُمس المشكلة، بل تتفاوت في ذلك تفاوتاً كبيراً. فإذا لم يكن لدينا إلا خمسين ساعة متوفرة، فإنه بعد تحديد الأسباب التي أدت إلى المشكلة، علينا أن نحدد نسبة تحمل كل سبب من تلك الأسباب للمشكلة التي نحن فيها. ظهر بالاستقراء، أن ما يقرب من20% من أسباب أي مشكلة، تتحمل80% من المشكلة نفسها، وأن80% من الأسباب لا تتحمل إلا حلاً لـ20% من المشكلة. هذه المعادلة تعني أن قلة الموارد ليست عائقاً أساسياً أمام حل المشكلة، وإنما العائق الأكبر تحديد السبب الذي يجب أن يعالج. فلو لم نملك إلا 20% من موارد حل مشكلة، فإنه مع حسن التدبير سنستطيع حل 80% من المشكلة نفسها.
السبب الثقافي
في تصور كثير اليوم فإن "ثلاثية الهيمنة/الاستبداد المحلي/ التخلف الثقافي" تشكل الـ20% من الأسباب التي في يدها 80% من المشاكل. والجزء الأهم من تلك الـ20% هي الأسباب الثقافية. يظهر هذا الأمر الأخير بالنظر إلى أيها أكثر تأثيراً على تقييد الإرادة وتعطيل التفكير اللذان هما لب مشاكلنا وعمقها. الثقافة في هذا السياق يقصد بها مجموع الأفكار والانطباعات، والقيم السائدة والتوجهات، والافتراضات الأساسية، في أي مجمتع والتي تحدد أهداف وآمال وطموحات ودوافع المجتمع في حركته. فتوجد عوامل ثقافية تطلق إرادة الإنسان، وتفتح الآفاق أمام تفكيره، فتشكل بذلك مناخاً ملائماً للتطور الاقتصادي والسياسي، وهناك عناصر أخرى تشكل الأرضية الملائمة لإعاقة كل ذلك. وذلك أن كل عمل سياسي أو اقتصادي يعتمد على فاعلية العاملين فيهما،والفاعلية ناتجة عن التفكير والإرادة،وهما مقيدان بالثقافة السائدة. وقد أكد تأثير الثقافة على مسار المجتمع كثير من الدراسات حول التطور الاجتماعي والاقتصادي والسياسي. ثم إنه وبنظرة واحدة إلى مجموعة من العناصر الثقافية السائدة تعطي بداهة القناعة بأن تأثيرها سيكون مُحْبِطاً للغاية. ولا شك في أن الثقافة لا تعمل وحدها، بل تعمل ضمن عوامل أخرى متعددة، بعضها ناشئ عنها نفسها، وبعضها مستقل عنها، فالثقافة مؤثرة ومتأثرة، وموجودة ضمن شبكة من المؤثرات غيرها، ولكن هذا لا يُلْغِي دورها المركزي في التأثير على غيرها من العوامل من جهة، وفي التأثير على المسار العام للمجتمع من جهة أخرى.
على ضوء ما سبق، فإنه لا يوجد أفق للمجتمع العربي المسلم لتحقيق آماله، ما لم تحصل عملية إعادة تشكيل للثقافة الإسلامية العربية، بحيث تشتمل على العناصر الثقافية الفاعلة، وتخلو من العناصر الثقافية المُثْبَطِّة. وهذه الحالة المثالية قد لا يمكن تحقيقها بشكل تام، كما هو الحال في جميع المجتمعات البشرية، ولكن لا بد من حصول هذا الأمر في القضايا الكبرى المؤثرة على مسار المجتمع.
الرؤية الكونية وصناعة الواقع
يمكن تقسيم النظام الثقافي من زاوية الحضارة إلى ثلاثة أنواع من العناصر، لكل منها تأثير على حركتها:
1. عناصر هي انعكاس لرؤية كونية. قد تكون رؤية كونية تؤمن بإله، وقد تكون رؤية تنفي وجود الإله. وفي الحالتين قد تؤمن بعبثية الحياة، أو بحكمتها. وبخصوص مجتمعاتنا فالسائد هو رؤية إلهية تبين قضايا نحو: كوننا لله، علاقتنا بالله، علاقة الله بنا، دورنا في الحياة، امكانياتنا وقدراتنا، ومآلنا بعد أن نفارق الحياة. وعليه فسيحصر الكلام حول الرؤية الكونية بما هو موجود لدينا.
2. عناصر هي انعكاس لتجارب المجتمعات، والممارسات التي فيه، وتشمل هذه التقاليد والأعراف والعادات.
3. عناصر تشريعية، وتشترك مع ما سبق في أنها من صناعة المجتمع، ولكنها تختلف في أنها مقننة غير عفوية. أيضاً فإن درجة الوعي بها وبحضورها أقوى. هذا الأمر الأخير يجعل تأثيرها أضعف من الأعراف والتقاليد والعادات والتي يمكن اعتبارها "تشريعات" غير حاضرة في الوعي مما يضعف مقاومتها، فيقوى تأثيرها. تتميز العناصر من النوع الأول بامتلاكها قداسة وهيبة الدين، قداسة تعطي الفكرة أثراً مضاعفاً سلباً أو إيجاباً،حسب خطأ أو صحة الفكرة. والتجارب التاريخية للحركات الاجتماعية والسياسية تظهر أن الرؤية للعالم ذات قيمة كبرى، هذه القيمة لا تختلف باختلاف طبيعة الرؤية دينية أو غيرها، إلهية أو إلحادية. ونجد أن الثورات الحضارية إنما انطلقت في البدء من تغير جذري في الرؤية للحياة وللإنسان ولدوره ومركزه فيها. من المشاكل التي لازمتنا منذ عصر النهضة الفصل بين الرؤية الكونية الغربية وبين المفاهيم السياسية والاقتصادية والعلمية التي أوصلتهم إلىما هم فيه. فلولا تلك الرؤية لاختلفت المفاهيم السائدة بينهم اليوم، ولاختلف تبعاً لذلك حالهم حضارياً. من الخطأ اعتبار مفاهيمهم السائدة مجرد أدوات يمكن استيرادها واستهلاكها دون أسسها الفكرية التي تولدت منها. إننا اليوم وكما كنا بالأمس، وكما يشعر كل واحد منَّا، نحتاج إلى أن نتحرك إلى الأمام. نعلم جميعاً أن مظاهر الحضارة لدينا لا تعني كثيراً، حيث إنها التي تتحرك نحونا، في حين أننا لا نسعى إليها أو إلى الأسس التي تنشئها. نحن لا زلنا نستقبل العصر، ولكن لا نتقدم إليه. تلفيقيون في حلولنا، وغاية ما نطمح إليه في كل مرحلة مختلفة إما التكيف نفسياً وفكرياً مع الآخر الذي لا ينتظر إذناً ليدخل حياتنا، وليسيطر على جميع مناحيها؛ وإما حسن تطبيق نتائج تجربته السياسية والاقتصادية والاجتماعية. ذلك كله لأننا نغفل الأسس الفكرية التي أنشأت الحركة الحضارية للمجتمع الغربي، ظانين أنه يمكن الفصل بين
التجربة وبين الأسس التي أنتجتها. لقد عاش الغرب التخلف قروناً من الزمان، ثم لما تخلَّص ممِّا كان يُكَبِّلَ حركته، أنتج حضارة متلائمة مع هويته، وظروفه التاريخية. اليوم علينا أولاً التخلّص مما يُكَبِّلَ حركتنا، لنتحرك وفق هويتنا الخاصة، وظروفنا التاريخية المختلفة فننتج واقعنا المتقدم المتناسب معهما. هذا الواقع الذي سنصل إليه قد يشابه ما وصل إليه الغرب، وقد يختلف عنه، ولكنه في نهاية الأمر سيكون واقعاً نملكه نحن، سيكون واقعاً مستمداً أساساً من حركتنا، وفي الوقت نفسه يُقَدِّم لنا ما نريده لأنفسنا ولمن يلينا من الأجيال. لا يعني هذا عدم الاستفادة من بعض أو كل ما أنتجته الحضارة الغربية من أدوات سياسية واجتماعية واقتصادية وغيرها، ولكن لتكن استفادة من يتحرَّك، وليست استفادة من يستقبل؛ استفادة مجتمع وجدت لديه تلك الروح المحركة نفسها التي وجدت لدى الغرب حين انطلق، تلك الروح التي منحته أسس الفاعلية، وأزالت من فوقه مسببات الانفعالية. تلك الروح التي تشكل أرضية لا غنى عنها لنجاح جميع المشاريع الاجتماعية والاقتصادية والسياسية. فالخطوة التي يجب أن تتقدم استيراد المنتجات الحضارية هي خلق الروح المحركة لمجتمعنا. ولكن لما كانت تلك الروح تستمد وجودها بل وأيضاً فناءها من طبيعة الرؤية الكونية السائدة، فلا بد لنا أولاً وقبل كل شيء من النظر فيها وما تقدمه لنا من عناصر محركة، أو مُثْبَطِّة، لنعزز من الأولى، ونتخلص من الثانية. وما يؤسف له أنه وجدت ضمن مفاهيمنا الدينية المؤسسة لرؤيتنا الكونية مجموعة من المثبطات الحضارية التي كان لها دور حاسم في الحد من طبيعة حركتنا الحضارية. بعض هذه المفاهيم لم يَعد لها حضور في الثقافة الدينية العامة، وأخرى بقيت محافظة على موقعها ودورها في تشكيل الواقع اليومي للمسلمين إلى اليوم.
ولا مناص لنا إذا ما أردنا التقدم أن نبدأ بها، تقييماً وتصحيحاً، لأنه بغير ذلك، فسيبقى وجودها مُعِيْقاً لجميع الخطوات التي نحاولها خروجاً من محنتنا. لا يعني هذا عدم مراعاة الثقافة الاجتماعية السائدة، فهي حتماً تؤثر بشكل كبير على واقعنا. وبالنظر إلى بعض ما هو سائد، يمكن إدراك ذلك بداهة. فقد انتشرت بيننا بعض مفاهيم عامة، بعضها يرجع إلى الثقافة الدينية، والآخر منه إلى ممارسات سلبية تحولت مع الوقت إلى ثقافة سائدة. من ذلك ثقافة "البحث عن سبب خارجي لفشلنا"، ومنها ثقافة "الانتظار لمن يُخَلِّصُنا"، و ثقافة "التقليل من شأن الإنجاز من حيث هو"، وجعل الشأن لما فيه مكتسبات مادية. وهذه الفكرة جعلت العيش ينصرف عن الإنجاز والانتاج والإبداع. كما أنها أعاقت من أن يكون الوجود الفردي خارج ذاته هدفاً لذاته، وصار العيش للنيل والاستهلاك، وأصبح السعي لأن توجد الأمور في الذات، بأن نأخذ منها أكبر قدر ممكن. وثقافة تعتبر "أن السلطة في الشخص، وليست في القانون". وثقافة تجعل "الولاء للأسرة والعشيرة، مقدماً على الولاء للمصلحة العامة". وثقافة تجعل "المشاهير خبراء في كل شيء" ...إلخ إن ثقافات من هذا النحو لا شك أنها تؤثر سلباً على حركة المجتمع للأمام.
كما أن إعطاء الأولوية للقضايا الدينية لا يعني تجاهل أهمية وتأثير التشريعات والقوانين. فلا شك أنها معيقة إذا لم تواكب حاجات الناس، ولكنها دوماً كانت الإطار الذي تتحرك ضمنه وخلاله الأمم، وليست الباعثة إليه. بالتالي فإن غاية ما يقوم به التشريع المتخلف هو إعاقة الحركة، ولكنه لا يمنع منها، كما أنه لا يدفع إليها. توجيه الاهتمام يجب أن يأتي أولاً إلى خلق الحركة، وحينها سنجد أن التشريعات تتطور تلقائياً وفق الشروط الموضوعية القائمة. وتجربة الأمم من حولنا تدلنا على أن التشريعات مهما تخلفت، لم تكن سبباً في منع التقدم، وإنما عرقلته أحيانا. إن أول وأهم خطوة في التغيير لا بد من أن تبدأ بمراجعة الرؤية الكونية السائدة، وتقييم تماسكها وشمولها وقدرتها على توفير فهم واضح وسليم للحياة، ثم مراجعة آثارها الثقافية المباشرة، ثم العمل على صياغة رؤية مؤسسة على أصولنا الدينية والتاريخية، يتحقق من ورائها هدفان معاً: أولهما: توفر الهوية اللازمة لتأسيس استقلال نفسي عن التبعية الغربية وإنجاز تكليفنا أمام الله تعالى. ثانيهما: إنشاء رؤية قادرة على أن تحرِّك المجتمعات الإسلامية نحو التقدم بنفس القدر من القوة التي أمكن للتغير الفكري الغربي أن يغير من مساره التاريخي.
ما أقوله هنا مبني على افتراضات:
1. أن رؤيتنا للعالم تتطلب مراجعة شاملة ودقيقة، لأنها تؤسس لمفاهيم ثقافية مُعِيْقَة للحركة الإيجابية للمجتمع.
2. كما أفترض أنه يمكن لرؤية أخرى للعالم غير الرؤية الغربية أن تُوَفِّر لنا الشرط اللازم للتقدم النوعي.
3. كما أرى أنه ما لم نعمل على هذا الأمر، فإن أملنا في التقدم ضعيف للغاية.
أمام ضرورة المراجعة وإعادة الصياغة هناك عقبات:
1. الاعتماد غير المتحفظ على الغير في التفكير الديني، بمعنى آخر التقليد، وتقديس العلماء وآرائهم، وخصوصاً من مضى منهم.
2. ما يقرب من الإهمال للأثر الجوهري والعلاقة العميقة بين الرؤية الكونية والتقدم الاجتماعي والسياسي، وهذا من التيارات الدينية والليبرالية على السواء. فيتفق الطرفان إلى حد ما على أولوية التغييرات التشريعية والعرفية متجاهلين أثر الرؤية الكونية. ثم يشدد التيار الليبرالي على ضرورة الأخذ بالمفاهيم الغربية من حيث إنها نجحت في ظروفها. وهي رؤية العاجز عن خلق المفاهيم اللازمة لتغيير واقعه، والمستمدة من خصوصية فلسفته، واختلاف ظروفه. كما نجد التيار الديني العام يشدد على اعتقاد أن العودة إلى الله تعالى من خلال تعميق التقوى وزيادة الطاعات ستحل الأمور بنصر الله وتأييده وتَدَّخُلِهِ. وهذه رؤية سلبية ناشئة عن ثقافة قدرية، وتغفل تماماً أن التقوى حالة نفسية، ولا بد منها في حركة الإنسان نحو الله تعالى في هذه الحياة، ولكنها ليست حالة فكرية تفسر له وجوده ودوره وإمكانياته، ومساحة الحركة المتاحة لديه،والجهة التي ينبغي أن يتحرك إليها. وهذه الأخيرة هي التي يتم بها بناء الحضارات، ومن خلالها تتقدم الشعوب.
. قناعة، لدى بعض من يرى ويدرك أهمية وأثر تلك العلاقة بين الرؤية الكونية وبين التقدم، بأنه لا يوجد بديل للرؤية الغربية للعالم إذا ما أردنا أن نصل إلى ما وصلوا إليه ولو بعد حين، وبأن الرؤية الإسلامية للحياة فيها عناصر شلل ذاتية، لا يمكن تجاوزها إلا بالخروج عن الدين نفسه. وبالتالي فالأولى طرح صياغة تعزل تلك الرؤية عن الحياة.
4. الواقع السلبي الذي نحن فيه، والذي يجعل من دور الفكر دوراً تسويغياً، إما للواقع وإما للانفعالات ضده. في حين أن الفكر في الحالات الطبيعية يكون هو المحفز للفعل والمحدد له.
5. طبيعة مقاومة المجتمع للتغيير في قِيَمِهِ وثقافاته المتأصلة. أمام هذه العوائق للمراجعة والتغيير ثم إعادة الصياغة، فإن أحسن ما يمكن الحصول عليه إن لم يتم تغييراً جوهرياً هو أن يعيش الناس نوعاً من الانفصام حيث يعتقدون رؤية كونية رجعية كنظام اعتقاد، وفي الوقت نفسه تَبَنِّي مفاهيم ثقافية تقدمية باعتبارها ضرورة معيشية. ولأن مثل هذه الحالة التوافقية غير ممكنة البقاء والاستمرار عملياً، فإن الخيارات الحقيقية هي:
1. أن تفقد الرؤية الكونية الدينية السائدة اتصالها بالحياة، وتفقد قيمتها التفسيرية والتوجيهية للمجتمع والفرد، وتتحول إلى عقيدة صماء معزولة تماماً مما حولها من قضايا الناس.
2. أن يكون هناك صراع متواصل بين العناصر التقدمية الثقافية التي تتطلبها الحياة منَّا، وبين العناصر الرجعية التي تفرضها الرؤية الكونية علينا. إذا تجاوزنا تلك العقبات فإنه يمكن آنذاك أن ننقذ الرؤية الكونية بأن نعيد لها دورها ونفوذها الذي يمكن أن تحرك به الجبال، وذلك بأن نعيد الانسجام بينها وبين متطلبات الحياة وخصوصاً في هذه الأوقات الحرجة. وأود هنا أن أشير إلى التجربة المسيحية في الغرب. إن ما حصل للنصرانية هو الأمر الأول. ونحن لن يصيبنا إلا ما أصاب غيرنا إذا ما توافقت الأسباب. إن النصرانية لما لم يمكنها أن تقدم رؤية عملية للحياة، تحولت لدى المتدينين من الغربيين إلى نظام اعتقاد لا علاقة له بالحياة مطلقاً، ولا محل له خارج الكنيسة، والجمعيات الخيرية الدينية، والمعاهد الثيولوجية العقائدية. وأما الحياة، فَمُقَامَة ومُؤَسَسَّة على مفاهيم وأفكار تتناقض في أغلب أحوالها مع المفاهيم والأفكار النصرانية. وأرى أننا ما دمنا لم نُزِِلْ ما شَابَ ثقافتنا الإسلامية فإننا سنتجه بهذا الاتجاه بشكل لا مناص عنه.
ضرورة القرار السياسي
أتصور أنه لا يوجد أمل حقيقي بالتغيير ما لم يتم اتخاذ قرار سياسي يدفع البلاد جميعها، بكل مواردها وإمكانياتها نحو المراجعة والتغيير والتجديد. فطبيعة التغيير المطلوب يتطلب تجاوزاً للواقع، والدولة هي الأكثر قدرة على دعم هذا التجاوز لما لها من موارد. والمثل القائل: اتسع الخرق على الراقع، هو خير ما يصف حال اليوم. فالمفكر يحاول أن يرقع هنا وهناك، ولكن الخرق يتسع يوماً بعد يوم، إضافة إلى هذا فإنه مع كل راقع يوجد ألف خارق. وهذا بطبيعة الحال يتطلب قيادات سياسية قادرة على تقييم أهمية مثل هذه القرارات. قيادات سياسية قادرة على توجيه الأمة وليس مجرد ضبطها. قيادات سياسية تمتلك الرؤية التاريخية والفلسفية التي تؤهلها لاتخاذ مثل هذا القرار. وأهم من كل ذلك، قيادات سياسية تفتح المجال للحركة ولكن بغير أن تعمل على تحديد وجهتها. وما لم يتم مثل هذا، فإن عوامل التخلف المتأصلة المتزامنة مع هيمنة غربية متزايدة ستزيد من الاحتقان الموجود في المجتمعات، مما قد يؤدي إلى انفجاره. ولعل التزايد المتدرج في نشاط الحركات الصوفية في العالم الإسلامي يأتي في سياق تجنب تلك النتيجة. ولكن بالرغم من عدم وجود القرار السياسي، فإن طرح البدائل، والسعي إلى فتح الحوار حولها، وإيجاد من يتبناها أمر لازم. ذلك أنه مع استمرار الحال كما هي اليوم فإن عاصفة التغيير ستأتي، والأحداث السياسية الأخيرة في العالم مؤشر على أنها لن تكون بعيدة. وعند ذاك فإما أن نكون جاهزين برؤية مستقبلية مؤسسة على طرح ثقافي متقدم، وإلا فإننا سَنُدَمَّر. والدمار الذي يخشى منه ليس الدمار العسكري، أو السياسي، فإن الشعوب لا تنتهي بذاك، ولكن يخشى من الدمار الثقافي حيث نتحرك في الحياة وفق ثقافة غريبة كل الغربة عن جميع معتقداتنا التي نؤمن بها.
عناصر سلبية شائعة اليوم
ترسخت خلال مئات السنين من الفساد السياسي والانحراف الفكري الذي عانته الأمة منذ سقوط الخلافة الإسلامية عام 41 هـ. كان لها آثار سلبية على الرؤية الكونية الإسلامية، وتبعاً لذلك أثرت على المسيرة الحضارية للأمة المسلمة. نشأت ضمن مناخ سياسي أسهم في بروزها، ثم بلورتها، فاستمرارها حتى ترسخت. لقد ابتعدت السياسة العامة عن مقاصد الإسلام وخرجت عن مقتضى العدل. فنتج عن ذلك مجموعة كبيرة من المشكلات. من تلك المشكلات والتي تمس الفكر الإسلامي مباشرة كانت في أن أغلبه نشأ وتبلور خارج إطار الدولة، الإطار السياسي للأمة. بمعنى آخر نشأ خارج الحياة العامة، باعتبار أن السياسي يمثل الإطار المنظِّم لجميع شؤون الحياة الكبرى. نتج عن هذا مناهج وطرق بين المسلمين تسعى لأن تعيش ديناً خارجاً وبعيداً عن الواقع السياسي. لقد ابتعد النظام السياسي عن الإسلام بوصفه الطاقة المعنوية الرديفة للمدركات العقلية والقيم والمبادئ الإنسانية السياسية التي توجب معاً إقامة العدل بين الناس، ورعاية حقوقهم، وزاد الأمر سوءاً أنه بدلا من أن يؤدي الدين دوره في تقديس تلك القيم، وصبغها بصبغة ربانية، بحيث يصبح التعدِّي عليها تعدياً على الله جلَّ جلالهُ، صار يُوَظَّفَ الدين ليصبح طاقة مضادة للقيم الإنسانية.
لقد أمسى الدين مصدرَ شرعيةٍ للأمر الواقع الجائر من جهة، وصانعاً لعالم لا علاقة له بالشأن العام من جهة أخرى. ولم تكن صياغة الدين خارج الدولة وحدها هي المشكلة، وإنما أضيف إليها تدخل الدولة المباشر في تلك الصياغة. لقد عملت الدول الجائرة المتعاقبة في المراحل التأسيسية للفكر الإسلامي ــ بين 41هـ وأواسط القرن الرابع ــ على صياغة دين يوافق هواها، ويخدم مصالحها. فجندت رجالاً لخدمتها؛ كما أشهرت بعض العلماء البسطاء السطحيين من أصحاب النوايا الحسنة حيث إن بساطتهم تخدم مصالحها؛ كما عملت على كتم الحق، إما بقتل قائله، وإما بتشريده، أو بنفيه، أو بحبسه، أو بمنع نشر كلامه؛ أو بغير ذلك من الطرق والوسائل.
وزاد من سوء أثر تدخل السلطة السياسية أمران:
أولهما: أن السلطة السياسية الأولى التي مارست هذا الدور كان لها خلفية سياسية واجتماعية ضاعفت من أثرها السلبي على واقع الأمة. ذلك أن تلك السلطة تمثلت في معاوية بن أبي سفيان، وهو من أسرة عملت جاهدة منذ أيام الإسلام الأولى على القضاء عليه، وعلى رسوله، و أبنائه، ودولته. وبتولي معاوية، يكون قد وصل إلى السلطة رجل نشأ في كنف مشاعر العداء تلك. مشاعر لا شك أنها ستبقى آثارها، خصوصاً أنه أسلم متأخراً، ثم لم يبق بعد إسلامه بين المهاجرين والأنصار فترة كافية، وإنما انتقل إلى الشام في مرحلة مبكرة جداً.
والثاني: قصر الفترة التي عاش فيها الإسلام عزيزاً وهي ثلاثون سنة قبل تولي معاوية أمر هذه الأمة. ضمن ذلك المناخ شاع بين الأمة مجموعة من الأفكار السلبية كان لها آثار كبيرة على مسارنا الحضاري. لعل أبرزها ما يلي:
1. إبعاد العقل عن كونه المصدر المعرفي الأول المُوَجِّه للحياة العامة: أول هذه العناصر وأبرزها وأهمها وأعمقها أثراً وأشملها. لقد حصر دوره المستقل في إثبات نسبة القرآن الكريم إلى الله تعالى، وأما بعد ذلك، فغاية دوره هو التفسير. ولما تم تأخير العقل عن النص، صار العقل منتظراً للنص ليعطيه الإذن بالعمل في هذا الاتجاه أو ذاك. ولما كان النص من شأنه أنه لا يعطي التفاصيل كلها، اعتماداً على العقل وخبرته، وجدنا أنفسنا بعقل ممنوع من العمل، وأمام حاجات لم يفصل فيها النص، وصرنا إما نتهم النص بالتقصير، أو نجهد بالتكلف في استخراج دلالات منه، لم يردها ولم يشر إليها. إن النص أتى لينبه العقل إلى معنى الحياة، كما أتى ليعطي الإنسان الدافع الروحي في التحرك وفق ذلك المعنى، ثم تركه ليحدد معالم وتفاصيل تلك الحركة، مع شيء من التدخل في قضايا فرعية لا تؤثر على جوهر الحركة، ولا على وجهتها، كما لا تقلل من دور العقل في رسم مستقبله. ولكن الذي حصل في الثقافة الإسلامية هو أن العقل تم إلغاؤه، وحصر دوره في فهم النصوص الدينية، واعتبرت جميع القضايا التي أتى بها النص تأسيساً لأحكام لا يمكن للعقل أن يدرك ضرورة القيام بها بذاته، كما اعتبر أن جميع شؤون الحياة لا بد وأن تنطلق من النصوص لتجد مشروعية لها في الحياة.
. التقليد: يقصد به تقليد الرموز في القضايا الدينية الأساسية التي تتعلق بإيماننا بالله وعلاقتنا به جل وعلا، وفي تحديد المصالح والمفاسد. ويمكن اعتباره أول وأبرز آثار إبعاد العقل. فهو أساساً العمل وفق تفكير عقل الغير، ولذلك يقضي ابتداء على ميزة أساسية لدى الفرد، هي عقله المستقل. إضافة إلى ذلك فإن التقليد يولد مجموعة أخرى من المشاكل، منها:
أ. أن خطاب الله تعالى الموجّه إلى العباد جميعاً، يصير من الناحية الفعلية موجَّهاً إلى أهل العلم فقط، ومن ثَمَّ منهم إلى غيرهم من الأمة، أي يكون خطاب العامة آتياً من العلماء وليس من الله تعالى مباشرة.
ب. يؤدي إلى تعطيل التفكير في أهم قضية من قضايا الحياة الإنسانية، أي قضية الله التي تعطي الحياة كلها معنى وروحاً.
جـ. يؤدي إلى تسويغ تسليم التفكير للغير حتى في القضايا غير الدينية.
د. أدَّى إلى وجود شيء من الكهنوت في المجتمع المسلم حيث حصرت أمور التشريع والإرشاد الروحي بطبقة محددة. في حين تلك الأمور تستند إلى العلم، وليس إلى انتماء ما.
هـ. أفقد الأمة الجرأة على التفكير المستقل، وهذا أدى إلى ضعف العقل وتناقص قدراته الإبداعية. و. يضاف على ذلك أنه أضعف حرارة تأثير الإيمان. فإن تأثير الفكرة التي تؤخذ إيماناً بعد فكر ونظر أشد من الفكرة التي تؤخذ تقليداً. فَرْقٌ بين فكرة تؤخذ بعدما يتم معالجتها في العقل والقلب، ثم الاقتناع بها، وبين فكرة تأتي جاهزة، قد فكَّر فيها آخر، وأعمل عقله فيها، ثم لقَّنها غيره طالباً منه التسليم بها وأن يعمل في حياته وفقاً لها.
3. عدم وضوح معيار الفضل: معيار الفضل هو من القضايا الأخلاقية الأساسية التي لا بد لها من أن تتضح للمجتمع، بحيث يكون واضحاً لديه، من يستحق الفضل، ومن لا يستحقه، ومن يستحق الذم. ولكن في الثقافة الإسلامية التقليدية تم تعويم هذا المفهوم من خلال أمرين أحدهما كان أسوأ من الآخر: الأول: تقليل الاعتماد على معيار الأعمال في تحديد الفضل، مقابل التركيز على ما حددته النصوص. وبالتالي أصبح الفضل كما لو كان أمراً غيبياً لا ضابط مطرد له ولا معيار واضح ودائم. فقد يكون شخص قد تقدم على جميع أقرانه في كل ما يفضل به المرء، ومع ذلك يظل دونهم، وأقل منهم في نظر من اعتمد على النصوص. الثاني: وهو الأسوأ، وذلك عندما وجدنا أناساً ساءت أعمالهم يصنفون على أنهم خير من أناس حسنت أعمالهم. يتجلى هذا في الثقافة التي جعلت من معاوية بن أبي سفيان ومن على شاكلته خيراً من العباد الزهاد العلماء من بعده. وإذا كان الأمر الأول يميِّع مفهوم الفضل، فإن هذا الثاني يضيِّعه تماماً.
4. الجبر: توجد قناعة تامة في أعماق عقل كل مسلم متدين ذي ثقافة دينية أولية بأن الأمور المستقبلة قد رسمت وحسمت. وليس للاختيار الإنساني معنى سوى أننا لا نعلم ذلك المستقبل. هذا المعنى للاختيار غير معقول، ويربك التفكير المنطقي بشكل كبير. ويتحسر المرء لما ينظر إلى الجهود الكبيرة التي بذلها عباقرة من الفرق الكلامية في إضفاء معقولية على هذا المعنى. إضافة إلى ذلك فإن هذا الأمر يضعف الفاعلية بشكل كبير. فالإنسان يتحرك من خلال أمرين: رغبة في خلق مستقبل يرسمه هو لنفسه. أو انفعال من واقع يسعى لأن يهدد وجوده أو مصالحه بنحو من الأنحاء. فالجبر قضى على الأول بشكل كبير، ولكنه لم يقض على الثاني لسبب بسيط، وهو أن حاجة الإنسان للحياة أقوى من تلك الفكرة. فحين يُهدَّد الإنسان فإنه ينفعل، ويتحرك وفق ذلك الانفعال إلى أن يحقق الأمان له، ثم تضعف العزيمة لديه بقدر ما ترسخت عقيدة الجبر فيه. الأثر الآخر الخطير من آثار هذه الفكرة كما هي شائعة، هو رفع المسؤولية التامة عن الفرد. فالعقيدة هذه تشرك الله مع الإنسان في كل ما يحصل له من أمور غير مرغوبة. في حين أن المفروض أن المسؤولية توقع حصراً على الإنسان بحيث تخلق فيه مرارة الفشل والتي هي دافع هام للتطور والتحسن في الأداء. والجبر له صور متعددة ولكنها جميعاً قد تأسست على فكرة واحدة هي: (أن الله تعالى يخلق جميع أفعال عباده) بمعنى أن كل فكرة نحركها في عقولنا وكل عزم نعزم عليه وكل قصد وكل حركة وكل فعل نقوم به... إلخ فإن الله تعالى هو الذي يخلقها فينا.
5. العزل بين النتائج وأسبابها: من آثار الجبر قطع العلاقة بين الأسباب ونتائجها، بحيث يكون كل منهما معزولاً عن الآخر، فمن أصعب الأمور أن يقنع عامة الناس أن أفعالهم مخلوقة لله تعالى، حيث أن هذه الفكرة تتنافى مع الشعور الوجداني للإنسان الذي يشعر أنه إذا أراد فعل، وإذا لم يرد لم يفعل، كما أنه يؤدي إلى نفي المسؤلية رأساً، ويصعب أن يجعل أمراً كهذا ثقافة اجتماعية ولكن شاع بديلاً عنه يعمل على الفصل التام بين أفعال الناس وبين نتائج تلك الأفعال، بحيث يطلب من الإنسان أن يعمل وأن يتحمل مسؤلية عمله؛ ولكن في الوقت نفسه تعتبر نتائج أعماله بيده وإنما هي بيد الله تعالى، كما قيل: وليس عليه أن تتم المطالب على المرء أن يسعى إلى الخير جهده هذه الفكرة حاولت أن تخفف من الآثار السلبية لمقولة (أن أفعال العباد مخلوقة لله تعالى) ولكنها تنطوي على المشكلات ذاتها التي تنطوي عليها تلك المقولة إضافة إلى جملة من التناقضات الأخرى. لقد صار شائعاً أن كلما هو مطلوب من الفرد هو أن يسعى ويعمل، وأما النتائج فأمرها إلى الله جل شأنه. وكم نسمع: (علينا العمل والنتائج على الله).
لقد نتج عن هذا نفي شفافية الأسباب، وعزلها عن التأثير وقطع ما بينها وبين نتائجها من روابط وشيجة. لقد أصبح المسلم يطلب السبب ولكنه لا يتوقع يقيناً النتيجة في حين أن كل شيء يمكن فعله عبر أكثر من طريق، وكل طريق مكون من مجموعة من الأسباب، فلو عرفت الطرق المتعددة وتم اختيار أحدها ومن ثم حصرت الأسباب للطريق المختار، وكان للفعل ظروفه الملائمة، وتم رعاية العقبات والموانع والأفعال التي لا يمكن السيطرة عليها، سواءً كانت أفعالاً إنسانية أو طبيعية...إلخ، فإنه لابد من أن تثمر نتائج بشكل حتمي. فإذا لم يتحقق ما نريده فمعنا ذلك أننا لم نقم بما يجب القيام به، أو لم يتتوفر لنا الظروف الملائمة أو تدخلت أطراف أخرى بشكل غير مناسب...إلخ. بمعنى آخر أننا نقف على حافة وتقف النتائج التي نريدها على حافة أخرى، ولابد لنا من أن نبني جسراً بيننا وبين النتائج التي نريدها، وشكل الجسر يختلف باختلاف الظروف التي نحن فيها،ولكن لابد من التجسير. عدم تحقيق النتائج يعني أن بناء الجسر لم يكتمل لسببٍ أو لآخر، وعندما نستعين بالله فعلينا أن نستعين به على إكمال الجسر، وليس على القفز من حافة إلى أخرى، وعندما نطلب منه تعالى أن لا يخذلنا وأن لا يقف بيننا وبين ما نرومه فإننا نطلب منه أن لا يمنعنا من إكمال الجسر، وكما يمكن أن نتصور أن يمنعنا فرد من الناس في عمل ما، وكما يمكن أن نتصور أن يعيننا شخص ما على أمرٍ ما، كل ذلك بدون أن يعني أننا مجبرون، أو أنهم خلقوا أفعالهم، فلله تعالى طرقه في التدخل بدون أن يكون هو الخالق لأفعالنا والمجبر عليها. إن نفي خلق أفعال العباد هو نفي للجبر، وليس نفي لتدخل الله تعالى في أفعالنا تأييداً أو منعاً.
6. التجسيم والتشبيه: الثقافة الشائعة اليوم بين المسلمين ثقافة تجسيمية تشبيهية إلى حد كبير. توصف الله تعالى بصفات خلقه، وتشبه الله جل وعلا بالبشر. فضلا عن سوء هذا من حيث إنه ينسب لله تعالى ما لا يليق به، فإن له أثراً دقيقاً على الوعي الجمعي للأمة. فالفكر المجسم المشبه يوجب علينا أن نؤلِّه من هو مثلنا، ونحن مثله، ولكن له الألوهية لأنه "أكثر" منا في تلك الصفات. وبالتالي فإن استحقاق التأليه إنما ارتكز على الفرق في الـ"كم" بيننا وبين المعبود. في حين أن الفكر المنزه لله عن التجسيم والتشبيه يؤسس استحقاق الألوهية على أساس الفرق النوعي والكيفي إضافة إلى الفرق الكمي. إن الارتكاز على الفرق الكمي فقط في استحقاق الألوهية يؤدي إلى خلق آلهة صغيرة في المجتمع، حيث إن كل من تقدم كماً في صفة من الصفات، استحق نوعاً من الخضوع والتعظيم بقدر ذلك التقدم. في حين الاستناد إلى التفوق الكيفي والكمي يؤدي إلى حصر الألوهية في الله تعالى الذي ليس كمثله شيء.
7. اهتزاز الثقة بالله: إن الله تعالى في الفكر السائد قد يعذب من لا ذنب له. وقد يمكر بالعبد في آخر حياته فَيُزِلُّه بعد طول صلاح ليدخله النار. ومن يطع الله لا يحق له أن يقول: إنه سيدخل الجنة قطعاً ما دام مطيعاً، وإنما هو على الرجاء حتى لو مات مطيعاً. والله تعالى يأمر وينهى ويمدح ويذم عباداً لا فعل لهم ولا عمل على الحقيقة، ذلك أن الله هو خالق أفعالهم، ومقدر جميع أعمالهم. ويجوز أن يدخل الله تعالى الجنة من لم يطع الله لحظة، وأن يدخل النار أصلح عباده. إن نحو تلك الأمور تفقد العبد ثقته بالله تعالى. فمع كل ما وعد الله وأوعد يبقى الإنسان قلقاً مضطرباً، غير واثق من مآل الأمور. ويصير المرء عابداً لإله تُفقد معه كل المعايير الأخلاقية التي من خلالها يؤسس الإنسان علاقاته بالغير. إنه إله لا يمكن للعباد أن يثقوا بمآل أمورهم في ظله. إضافة إلى هذا الأثر الخطير، فإن الثقة بين الناس تفقد. فإذا كنا لا نثق بمآل أمورنا مع الله، وهو أحكم الحاكمين، وأصدق الصادقين، بعدما أوعد ووعد، فكيف نثق بمن دونه من الخلق مهما وعدوا وأوعدوا؟
8. تعطيل الثقة بالمشاهدة الحسية: إن ما يشاهده المرء لا يفسره الفكر السائد دوماً على ظاهره. ولعل أدق مثل على هذا إيمان ذلك الفكر بأن الله هو خالق أفعالنا. فالمشاهدة الذاتية الوجدانية، وهي أكثر المشاهدات شدة وقوة، تفيد أن الإنسان هو موجد فعله باستقلال. في حين أن الثقافة السائدة تملي عليه أن لا يثق بهذه المشاهدة، وأن ينفيها ويقر بأن الفعل مخلوق من غيره، وأن ذلك الشعور بالحرية المطلقة إنما هو مجرد شعور لا واقع له. وأما الواقع فهو أن الله هو خالق وفاعل جميع ما يصدر عنه. مثال آخر يتعلق بالحسد، حيث أن المشاهدة تنفي وجود أي ارتباط بين العين وبين الواقع المادي من حولنا، في حين أننا نخالف ذلك معوِّلين على نصوص لم تبلغ من القوة درجة يمكن الاعتماد عليها. 9. تشويه مفهوم الوعيد: حيث أن العاصي والظالم المتمرد يمكن أن يدخل الجنة برحمة الله تعالى حتى لو لم يتب، ومات مصراً غير نادمٍ على جرائمه ومظالمه ومعاصيه.
10. تشويه مفهوم القيادة السياسية: حيث صار يمكن للظالم العاتي الجبار أن يكسب الشرعية ووجوب الطاعة والولاية إذا ما وضع يده على مقاليد الحكم. ثم يتحول السلطان من خادم لمصالح الأمة، يتولى أمورها لها، إلى حاكم يطاع لذاته ولمنصبه بقطع النظر عن ممارسته. وهذا الأمر قد ينتج أمراً آخر ذا أهمية، وهو أن المنصب يصير سبب استحقاق الولاء، فكل من جلس على الكرسي وجب له ذلك، بدلا من أن تكون الكفاءة والعمل هما سبب استحقاق الولاء ومن ثم المنصب.
11. تغير دور الفرد في الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر: من المفاهيم التي كان لها أثر على العلاقات الاجتماعية هو الفهم حول دور الفرد في الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر. ففي حين أن الدور هذا يجب أن يمارس أساساً بشكل رأسي بين الفرد والدولة، وبشكل ثانوي بين الأفراد في نطاقات محدودة، فإنه صار يمارس حصراً بشكل أفقي بين أفراد المجتمع. وهذه الممارسة الأفقية غير مجدية في أغلب الأحوال. فالأمر والنهي بين الأنداد مستصعب، وإن وقع فإنه يخلق شعوراً بالمرارة وبالتعدي، كما أنه يفتت المجتمع، وَيحوِّله إلى جيوب من المؤمنين الآمرين، وأخرى من الفاسقين المنهيين. في حين أن الأصل أن يكون نحو الدولة لإصلاحها إذا ما فسدت، ثم تقوم هي بواجبها على الأفراد، وهو أمر لا يجد الناس منه غضاضة، حتى وإن كان غير محبوب لديهم.
12. اختلاط الأوليات: لقد اعتبرت قضية الدولة فرعية، في حين أنها القضية العملية الكبرى في حياة الإنسان، وجعلت هي ومئات من الأحكام الفقهية بمستوى واحد، فصارت القضايا الفردية تحتل الأهمية نفسها للقضايا الاجتماعية، وصار المتدين يغار ويسخط لمَّا يرى مخالفات ذات سمة فردية شخصية، أكثر مما يسخط لمَّا يرى أو يسمع بمخالفات تطال الشأن العام. مثال ذلك رد فعل أغلب المتدينين عند رؤية امرأة سافرة عن شعرها، أو كاشفة لبعض جسدها، مقابل ردود أفعالهم من منظر طفل يمدُّ يده للناس. تلك بعض عناصر بارزة أصبحت ضمن الثقافة اليومية للمسلمين، ولها آثار سلبية على واقعهم. وأي رؤية كونية فيها نحو هذه العناصر لا شك وأنها ستفرز لنا عناصر ثقافية سلبية أخرى سياسياً، واجتماعياً، واقتصادياً، وعلينا أن نستكشفها، ونستخرجها، ونحلِّل أثرها، وكيفية معالجتها.
رؤية بديلة
شرط الخروج من الأزمة رؤية دينية عقلانية تجيب على أسئلة الإنسان الكبرى من جهة، ومن جهة أخرى يكون لها مشروع سياسي تعمل من خلاله على خلق الإطار الملائم لحياة كريمة على ضوء إجاباتها. صبغتها الدينية ستوفر لها قيمة روحية عالية. عقلانيتها ستقدم تفسيراً واقعياً للحياة بعيداً عن الخيالات والأوهام. إجاباتها ستبين للإنسان المسار الذي عليه أن يسير عليه، وستكشف له مقومات حركته، ومآله. مشروعها السياسي سيحمي الإنسان من ظلم نفسه، ويحميها هي من الاستغلال. غني عن القول أن تلك السمات سيعني حتماً تجاوز السلبيات المشار إليها. للزيدية رؤية تمتلك كثيراً من تلك السمات. هذا يضعهم أمام مسؤولية كبرى أمام الله تعالى وأمام التاريخ. يحاول البعض أن يشيع عدم إمكانية التوافق بين الرؤية الدينية وبين الواقع، باعتبار أن موافقة الواقع مصدرها العقل، والرؤية الدينية مصدرها الروح، ولا يمكن أن يكون بينهما توافق، بل لكل منهما مجاله الخاص. وما نذهب إليه خلاف هذا الأمر. فالعقل يقدم لنا رؤية للواقع، ولكن لكي يكون لتلك الرؤية قيمة روحية فلا بد من احتضان الروح لها. إن الروح وعاء للمعرفة، وليس منشئاً لها. والمشكلة تأتي من اعتبارهما جميعاً مصدراً للمعرفة. مصدر هذا الرأي التيارات المسلمة وغير المسلمة التي ترى أن العقل لا يمكنه أن يعرف شيئاً عن ما وراء المادة. ويزداد زخم هذه التيارات كلما ضعف أداء العقل في مجالات الدين، فيتم اللجوء إلى اعتبار أن العقل ليس من شانه الحكم على الدين. إنها حماية سلبية للدين، ليس بتقديم الرأي المضاد، ولكن بنفي صلاحية تناول المسألة. ترتكز الرؤية على ركنين أساسيين أو أصلين كبيرين هما: الإيمان بالله ورسالاته واليوم والآخر من جهة، ووجوب إقامة دولة عادلة ترعى مصالح الناس ومعايشهم من جهة أخرى. وتستند إلى منهجية تؤمن بالعقل مصدراً أساسياً للمعرفة. وإن الله تعالى يثير العقل باتجاه استكشاف ما حوله عبر
مجموعة من المثيرات أولها وأعلاها شاناً الأنبياء والرسل. أبرز ما تطرحه الرؤية هي أن تبين موقع الله في حياة الإنسان. هذا الأمر كان دوماً المعنى الثابت في جميع مطالب الأديان السماوية والرسالات الإلهية. بيان تلك القضية ((الله في حياة الإنسان)) هي جوهر الدين والرسالات السماوية. وهي ما يميز الدين عن المبادئ والفلسفات والمدارس الأخلاقية بأشكالها والرؤى الاجتماعية والسياسية بأنواعها. أي رؤية لا تنطلق من هذا الأمر، أو لا تجعل بيان الأمر من أمهات مقرراتها تفقد صبغتها الدينية. ببقاء قضية ((الله في حياة الإنسان)) يكون للدين معنى. ببقائه يكون، وبزواله يذهب. ما سوى هذه يعد من الأعراض التي إذا زالت لم يَزُلِ الدين. فالتشريعات تختلف من دين إلى دين. وأشكال العبادة تتنوع. ولكنها جميعاً تجيب على تلك القضية الجوهرية. جميعها تربط الإنسان بالله تعالى شأنه وعز سلطانه وجل جلاله. وموقع الله في حياة الإنسان مما يدل عليه الدين، ويرشد إليه. بمعنى آخر إنه أمر لا يؤسسه؛ لأنه أمر يُعلم عقلاً، وكل ما يُعلم عقلاً فالدين يكون فيه دالاً ومقرراً، يأتي ليثير دفائن العقول باتجاه التفكير فيه واستكشافه، ولا يأتي ليؤسسه. إننا ندرك بعقولنا أننا ((لله)). ندرك هذه الحقيقة، التي هي بحق أعمق حقيقة في وجودنا. حقيقة تحيط بنا من حين وجدنا. إن كينونتنا هي في أننا لله، وليس لنا أي كينونة مستقلة عنه تعالى. فنحن لسنا لله بمعنى أنه أوجدنا فملكنا فحسب، ليس بمعنى أن بيننا وبينه تعالى علاقة مملوكية، وإنما نحن لله، بمعنى أن وجودنا هو نفسه مملوكيتنا لله تعالى. وقد قرر الله تعالى هذه الحقيقة المدركة عقلاً بقوله تعالى على لسان عباده المؤمنين: ((إنَّا لله)) وكما ندرك تلك الحقيقة، فإننا ندرك أننا إليه تعالى ((وإنَّا إليه راجعون)). إن المسيرة نحو الموت ليست إلا مسيرة إليه جل شأنه. نحن عائدون إليه. ولكنها ليست عودة حسية. ليست العودة إلى
الله تعالى ذهاب إلى مكان، فالله تعالى يتعالى عن المكان. العودة إليه هي عودة إلى وعي حقيقتنا، حقيقة إنا لله. يرافق هذه المسيرة الاضطرارية أخرى اختيارية. مسيرة فكرية روحية. فنحن يمكننا أن ندرك هذه الحقيقة باختيارنا، قبل موتنا. وقد كشف الله هذه الحقيقة لنا بقوله: ((وإنا إليه راجعون))، وبقوله جل وعلا{يَاأَيُّهَا الإِنسَانُ إِنَّكَ كَادِحٌ إِلَى رَبِّكَ كَدْحًا فَمُلاَقِيهِ}[الانشقاق:6] ووصف طبيعة اللقاء وأثره: {فَكَشَفْنَا عَنْكَ غِطَاءَكَ فَبَصَرُكَ الْيَوْمَ حَدِيدٌ}[ق:22] {لِيُرَوْا أَعْمَالَهُمْ}[الزلزلة:6]. هذه الحقيقة الكلية، والتي تشملنا شئنا أم أبينا ، كفرنا أم آمنا،حقيقة: {إِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعُونَ}[البقرة:156]، هي جوهر جميع الرسالات، وجميع الديانات السماوية. ولا بد لأي رؤية أن تعزز هذا المعنى، وتؤكده. إن إدراك تلك الحقيقة ليس إلا خطوة تتبعها ضرورة خطوة أخرى هي أن نتمثَّل ما أدركناه من أفكار. إن معرفة "إنا لله وإنا إليه راجعون" ليست كغيرها من المعارف التي لا تتبعها مواقف عملية. فليس المطلوب صياغات وعبارات، وحفظاً في الكتب والصدور. فإذا كان جوهر الدين في الحقيقة الكبرى ((الله في حياة الإنسان)) فإن جوهر التدين هو في التمثل الإرادي لتلك الحقيقة. فنحن وإن كنَّا نسير إليها مسيراً وجودياً اضطرارياً، فإننا قادرون على أن نسير إليها في هذه الحياة مسيرة اختيار وذلك بعقلنا وإرادتنا الحرة التي ميزنا الله تعالى بها عن غيرنا.
التمثل فكري تارة، وسلوكي تارة أخرى. فكري: بأن نعرف تلك الحقيقة، ونعيها. فنشهد لله تعالى بما شهد لنفسه، وبما شهد له ملائكته وأولو العلم به{شَهِدَ الله أَنَّهُ لاَ إِلَهَ إِلاَّ هُوَ وَالْمَلاَئِكَةُ وَأُوْلُوا الْعِلْمِ قَائِمًا بِالْقِسْطِ لاَ إِلَهَ إِلاَّ هُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ}[آل عمران:18] .فهو الإله الواحد الذي لا إله سواه، الذي له كل صفات الكمال والجلال ومنزه عن كل صفات النقص. وهو القائم في خلقه بالعدل. ونعي أننا راجعون إليه ومعنا كل ما تحملناه من متاع الحياة الدنيا لنرى تلك الأعمال بنفسها{لِيُرَوْا أَعْمَالَهُمْ}[الزلزلة:6]، ولكن نراها من وجهة أخرى، هي وجهتها الحقيقة{إِنَّ الَّذِينَ يَأْكُلُونَ أَمْوَالَ الْيَتَامَى ظُلْمًا إِنَّمَا يَأْكُلُونَ فِي بُطُونِهِمْ نَاراً}[النساء:10] فأكل الأموال في الدنيا بغير حق صار ناراً في البطون يوم لقاء الأعمال. سلوكي: بتمثل ألوهية الله تعالى فيما بيننا وبينه، وفيما بيننا وبين أنفسنا. فتمثل الألوهية فيما بيننا وبينه جل جلاله يكون أولاً بالإقرار والرضا عن تلك الحقيقة، وبحب الله جل وعلا، وبإخضاع إرادتنا له. هو إخضاع تلقائي، لا تكلف فيه، متى كان ناشئاً عن تمثل تام لتلك الألوهية، ولكنه في أوله إخضاع إرادي اختياري ناشئ من تقدير الإنسان بوجوب نحو ذلك الخضوع لمن كان على نحو تلك الصفات.
ثم نتمثل عدل الله تعالى وقيامه بالقسط فيما بيننا وبينه لنطمئن في مسيرتنا إليه، ونركن إلى حسن مآلنا، وإلى عدالة من سيحكم أمرنا. تمثل تلك الحقيقة فيما بيننا وبين أنفسنا، أو بعبارة أخرى انعكاس تلك الحقيقة على علاقاتنا الإنسانية، فبأن نقف أمام بعضنا البعض موقف الأنداد المتساوين وجوداً وإن تفاوتنا خِلقةً. فلا علو إلا للكمال المطلق، ولا كمال مطلق إلا الله تعالى. فلا يحق مطلقاً لأي إنسان أن يعلو على آخر بأي علو مهما كان صغيراً، كما لا يحق لأي إنسان أن يخضع لأي إنسان مهما كان. ويستثنى من ذلك ما أذن الله تعالى به، أو وجود مصلحة عامة من ذلك. بغير هذا يكون العلو والخضوع تعدياً على مقام الألوهية، وجريمة كبرى في حق الإنسانية. بل لا يحق نحو هذا العلو حتى على الأحياء الأخرى غير الإنسان بغير تلك الشروط. لأن مثل هذا التعدي ممكن، ومحتمل؛ فإنه يجب على الإنسان أن يحمي نفسه، ويحمي حقه. هذه الحماية تعني وجود مشروع سياسي يخلق حياة عادلة بين الناس تحميهم من التعدي على بعض، وتمنعهم من تجاوز حقوق بعض. غياب المشروع السياسي يؤدي حتماً إلى غياب العدل بين الناس. مما يعني غياب التمثل السلوكي للدين على مستوى علاقة الإنسان بالإنسان. قد يبقى التمثل على مستوى علاقة الإنسان بالله، إلا أن هذا الأمر يؤدي إلى إفقاد العلاقة بالله تعالى كثيراً من معانيها لسببين:
أ. إن غياب العدل يؤدي دوماً إلى إعادة صياغة علاقة الناس بالله تعالى وفق معادلة تُبقي الظلم قائماً، وفي بعض الأحوال تجعل من وجود لله سبباً له.
ب. إن الله تعالى لغناه عن علاقة الناس به، يريد أن يكون لوجوده في حياتهم مصلحة لهم. فإن غابت تلك المصلحة، فإن قيمة علاقتهم به تضمحل. لذلك يمكن القول إن غياب العدل بمثابة غياب الله تعالى من وعي الناس وتفكيرهم. غياب العدل يعني غياب الدين. لذلك كان وجود العدل ضرورياً لبقاء الدين. ما سبق يبين الرؤية بشكل مجمل. إنها رؤية عقلية تؤمن بأن العقل مصدر المعرفة، وأن الروح وعاء لها. رؤية تدعو إلى إحياء وجود الله في حياتنا. إحياء وعينا بعلاقتنا الوجودية به، وإحياء وعينا بمسيرتنا الاختيارية والاضطرارية إليه. والعمل على تفعيل أثرَيْ وجود الله: الأثر على علاقة الإنسان به، والأثر على علاقة الإنسان بالإنسان. ما يلي توضيح لبعض تفصيلات هذه الرؤية. هذه التفصيلات يمكن أن يضاف إليها، أو يطور فيها، كل ذلك بحسب الظرف والحاجة. وسنبدأ أولاً بعرض المفاهيم المنهجية لهذه الرؤية. المفاهيم المنهجية …
أولوية العقل
أول ما تؤكده الرؤية هو استنادها للعقل في تأسيسها. سنجد أن مفاهيمها المنهجية المذكورة كلها تفرعات عن أولوية العقل وتقديمه في كل شيء. وهناك اختلاف حول أمر العقل وعلاقته بالنص. فالسائد هو اعتبار أن أمر الدين يعود كلية إلى النص، وأن العقل عليه التوقف عند حدود المادة والمحسوسات. وقد صاغه البعض بعبارة "التعارض بين العقل والنقل". ومحور الخلاف ليس التعارض، وإنما صلاحية العقل في إدراك القضايا الدينية، والمصالح الدنيوية مستقلاً عن النص من جهة، ومن جهة أخرى قبول مبادئ دينية تتعارض مع العقل. على ضوء ذلك تشكل لنا منهجان:
1. منهج يستند إلى العقل ليفهم به النص.
2. ومنهج يستند إلى النص ويُكيِّف العقل وفق فهمنا له.
منهج الاستناد إلى العقل
يرى أن النص حمَّال ذو وجوه، يحتمل معاني متعددة وأحياناً متباينة. ولذلك فإن النص بطبيعته، أياً كان مصدره، لا يُفهم فهماً سليماً إلا من خلال الاستناد إلى أمرٍ خارجٍ عنه. هذا الأمر هو الواقع. والواقع لا يستكشف إلا من طريقين: الطريق الأول هو الحس والمشاهدة. والطريق الثاني هو الاستدلال بالعقل. ففيما يتعلق بمعرفة الله؛ فنحن نعلم أنه تعالى لا يعلم بالحس ولا بالمشاهدة، فليس لنا وسيلة إلى معرفته إلا الاستدلال بالعقل. وفيما يتعلق بالأمور التشريعية فإن العقل يمكنه أن يدرك المصالح والمفاسد وبالتالي يطابق بين التشريع وبينها. النص وفق هذا التصور لا يُملي على العقل معلوماته عن الله تعالى أو عن المصالح والمفاسد، بل يثير انتباهه إلى ما كان غفل عنه العقل، ولربما ظل كذلك لدقة بعض تلك الحقائق. إلا أن هذه الحقائق التي كان غافلاً عنها، والتي أثار النص انتباهه إليها، من شأن العقل أن يصل إليها بمفرده، لو قدَّرنا وافترضنا أن العقل وُجِّه توجيهاً سليماً. لذلك وفق هذا المنهج فنحن نعقل معاني النصوص ولا نكرر ألفاظها كلما ذكرناها. النص يثير دفائن العقول بحيث يصل العقل بنفسه إلى معرفة الله تعالى، كما يصل إلى معرفة ما يجب عليه من الأفعال. النص في هذا المنهج يرشد العقل إلى إدراك الواقع. أولوية العقل على النص تعم كل ما يأتي به الأنبياء. نعم يوجد فرق بسيط بين العبادات التي يرشدون إليها وبين الشرائع التي يضعونها. في مجال العبادات يضع الأنبياء قواعد سلوكية تعبدية يدرك العقل بشكل عام أنه بحاجة إليها. فالإنسان يدرك حق الله عليه، ويدرك أن عليه أن يؤدي الشكر لله تعالى على ما أولى وأنعم. كما يدرك حاجته للاتصال بالله تعالى مصدر كل قوة، ومنبع كل خير، والعالم بكل شيء. ويعلم الإنسان أن أغلب البشرية إن لم يكن جميعها تحتاج في أداء شكرها لله تعالى وفي الاتصال به إلى ممارسات حسية. وعليه فالعقل يدرك الحاجة إلى وجود ممارسات
تعبدية. ونلمس هذا من دعوة إبراهيم صلى الله عليه{وَأَرِنَا مَنَاسِكَنَا}[البقرة:128]. إذ يطلب من الله تعالى أن يرشده إلى الوجه الذي من خلاله يعبده به. يدرك العقل أيضاً أن تحديد هذه الممارسات يحسن أن تخرج عن مسؤولية الإنسان، وتكون لله وحده، وذلك لأكثر من سبب:
أ. هناك لا محدودية في الاحتمالات الممكنة لتلك الممارسات، فهي في نهاية الأمر تكسب قيمتها لا من ذاتها، أو شكلها، وإنما من المعنى الذي يفترض أنها تعبر عنه، وبالتالي يمكن لنا أن نتصور أشكالاً متنوعة ومختلفة من الممارسات العبادية والتي لا يختلف أحدها عن الآخر من حيث شكل الفعل، وإنما سيكون الاختلاف في المعنى وراء الفعل.
ب. إن أخذ هذه الأمور من الله تعالى له قيمة روحية أساسية هي التعبد المحض لله تعالى فيما يريد، كيفما يريد.
جـ. هناك ضرورة إلى وحدة الممارسات بين الأمم، لخلق روح جماعية ضرورية، وهي قيمة لا يمكن تحقيقها لو كان لكل منا الخيار في اختيار الشكل الذي يريد من خلاله أن يعبد الله تعالى. ونجد أن مع كل الاختلافات التي حصلت بين المسلمين في كل شيء، إلا أن شكل الممارسات التعبدية لله تعالى لم يختلف عليها. فالكل يصلي ويصوم ويزكي ويحج ويدعو الله.
د. يضاف إلى ما سبق، ضرورة سلب حق تحديد شكل هذه الممارسات إلى أي بشر، حيث إن ذلك يعطيهم قدرة هائلة على السيطرة على الناس، وإخضاعهم لأهوائهم. إذن خروج الممارسات العبادية المحضة عن مجال فعل العقل، لم يكن من حيث إنه لا يعقل قيمتها، أو أهميتها، ولكن من حيث إن أي شكل من أشكالها يحقق الغرض منها، في حين أن إحالة أمرها إلى العقل سيؤدي إلى مشكلات مختلفة، فإذا كان الأمر كذلك، فليكن اختيار الله تعالى لنا هو الشكل الذي نعمل عليه، ونتقيد به. في المجالات الأخرى من مجالات حياتنا الفردية، والاجتماعية في مختلف أبعادهما، فإن الأنبياء هنا يؤكدون ما ارتكز من قضايا العقل جملة وتفصيلاً، أو يثيرونه ليستكشف أبعاداً أخرى. وقلما يؤسسون شيئاً في هذا المجال، وإن وجد فهو في قضايا فرعية لا تعتمد الحياة عليها. أما القضايا الكبرى، والتي ترتكز حركة المجتمع عليها، فهي قضايا عقلية، يأتي الدين ليثيرها، ويبْرِزَها إلى الأمام، ثم يحميها، ويهب لها القداسة، ويَعِدُ من تقيد بها بالثواب، ويتوعد من تعدَّى عليها بالعقاب.
منهج تأخير العقل
يرى أن العقل المتدين عليه أن يتنحى للنص تماماً، ويتلقى منه الألفاظ التي يوردها، بغير أن يكون له دور سوى دور المستمع. النص يملي على العقل تلك الألفاظ، وهو ليس إلا وعاءاً خالياً تماماً، يستلم ألفاظاً يجب عليه فهم المعنى اللفظي من أفراد الكلمات؛ لأن العقل وفق هذا التصور لا يستطيع أن يدرك من الواقع الخارجي ما له علاقة بالله تعالى أو ما كان يتعلق بمصلحة ومفسدة تشريعية. فالله قادر، لأن القرآن قال: إنه قادر. والله تعالى عالم، لأن القرآن قال:إنه عالم. أردد هذه الألفاظ دون أن يكون لي الحق أو القدرة على تعَقُّل المراد منها، ومع ذلك فعليَّ أن أفهمها. هذا الأمر مضر وقبيح لأن النص قال بذلك، وليس للعقل أي قدرة على تقييم الأمر. بل الأمر أكثر من هذا؛ فالنص هنا يَفرض على العقل معلومات لا يقبلها العقل، ولكن أصحاب هذا المنهج يقسرون العقل على قبولها مهما كان الأمر. يمكن إيضاح الفرق بين المنهجين بالنظر إلى طريقتهما في أمرين مهمين: معرفة الله، وشمولية الدين. حسب المنهج الأول فالنص عندما ينفي الشريك عنه تعالى، فإن النص يقرر، ويؤكد، معنى يمكن للعقل أن يقبله، ويدرك أنه يتوافق وكمال الله؛ لأن العقل يستطيع إدراك ما هو كمال لله. حسب المنهج الثاني فإن النص يُملي على العقل هذا المعنى، فلا يمكنه أن يحكم عليه ببطلان أو صحة، إلا من حيث صدق المصدر أو كذبه؛ بمعنى أن العقل لا يمكنه أن يحلل هذه القضية، فيحكم من خلال تحليله إياها أنها صحيحة، بل ما يعمله العقل هنا هو أنه يؤمن بصدق مصدر هذا الخبر فيصدقه، فلا يمكن أن يقول: إنه يتوافق وإياه، أو يختلف معه. على ضوء ذلك فإنه وفق المنهج الثاني؛ لو أثبت النص شريكاً لله تعالى فإنه سيقبله لأن دوره دور المتلقي لا غير. أما حسب المنهج الأول فلو أثبت النص شريكاً لله تعالى لنفى العقل صحته، لأن دوره دور المثار المتفكر. في المنهج الأول يكون العقل مستكشفاً لكمالات الله، ويكون
النص كاشفاً لتلك الكمالات، ويتعاونا معاً من خلال عملية الكشف والاستكشاف. في المنهج الثاني يكون النص هو الكاشف عن الواقع، ويكون العقل متلقياً لهذا الواقع، بغير أن يكون له دور في استكشافه. صفات الله تعالى في المنهج الثاني تؤخذ من النص، وصفات الله تعالى في المنهج الأول يكون مصدرها ما ندركه من كمالات الله تعالى، والكاشف عنه النص والعقل معاً؛ إلا أن السابق في ذلك هو العقل: زمنياً لأن العقل قبل النص، ورتبةً لأن النص ـ أيُّ نص ـ لا يُفهم إلا من خلال الاستناد إلى فهم مسبق للواقع. وفيما يتعلق بالعلم بالله فهذا الفهم المسبق ليس مصدره إلا العقل كما ذكرت.
معنى شمولية الإسلام
نأتي الآن للنظر في معالجة المنهجين، فبسبب الخلاف حول قضية العقل والنص ظهر تفسيران لمعناها. فمن ضروريات الدين التي لم يختلف عليها أحد أن جميع أمورنا، صغيرها وكبيرها خاضعة لله تعالى. وأننا مملوكون له جل شأنه لا نتصرف في حياتنا إلا بما يرضاه. وقد تجلَّى هذا المعنى من خلال أوامر الله تعالى ونواهيه التي طالت تفاصيل حياتنا، حتى وصلت إلى كيفية الاستئذان وأحكامه. ولكن ما معنى هذه الشمولية؟ أهي شمولية نص أم شمولية رؤية؟ هل الشمولية تعني أن جميع مناحي الحياة تقع ضمن النصوص الدينية القرآنية والنبوية؟ تأخير العقل عن النص سيؤدي حتماً إما إلى القول بشمولية الإسلام بهذا المعنى، وإما إلى إلغاء مبدأ الشمولية لما تواجهه من مشكلات نابعة من سياقه الذي تفسر فيه. إن النصوص مهما كثرت فهي محدودة، ودلالاتها مهما اتسعت إلا أنها لا يمكن أن تستوعب كل المتغيرات المستحدثات، فضلاً عن كونها تشمل جميع تفاصيل الحياة. ولا يتعارض هذا مع قوله تعالى:{مَا فَرَّطْنَا فِي الْكِتَابِ مِنْ شَيْءٍ}[الأنعام:38]، ولا مع قوله تعالى:{تِبْيَانًا لِكُلِّ شَيْءٍ}[النحل:89] ذلك أن عبارة "كل شيء" لا تعني العموم المطلق، وإنما العموم المخصوص بمقتضيات السياق الذي وردت فيه العبارة. فقوله تعالى: {تُدَمِّرُ كُلَّ شَيْءٍ}[الأحقاف:25] لم يقصد تدمر كل شيء من الأشياء، بل كل ما بتدميره تكون العقوبة التامة على القوم قد تحققت. وقوله تعالى: {وَأُوتِيَتْ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ}[النمل:23] لا يعني أكثر من أنها أوتيت كل ما من شأنه أن يعزز ملكها. ومحدودية دلالة النصوص تؤدي في نهاية الأمر إلى تكلف كبير في استخراج دلالات خارجة عن مقصود النصوص، أو إلى القول بمحدودية دور الدين في حياة الإنسان ضمن نطاق ما صرحت به النصوص. المنهج العقلاني، باعتبار جعله العقل مصدراً أولياً للمعرفة، اعتبر أن الشمولية أعم من شمولية النصوص. إنها شمولية رؤية. شمولية تنطلق من
تأثير الإسلام على لون رؤيتنا للحياة. إن كل ما يقع فيه الإنسان مشمول برؤية ((إنا لله وإنا إليه راجعون)) وكل ما يعمله الإنسان تتناوله هداية. فالقرآن الكريم كتاب هداية أولاً، وكتاب تشريع ثانياً. والهداية هي الدلالة إلى المطلوب. وهداية القرآن هي إلى الله تعالى، وإلى سعادتنا. وقد وضع الله في كتابه كل ما يحتاج إليه الإنسان لكي يسير على الطريق المقصود، كما قدم له ما يغنيه لكي يحدد تفاصيل ذلك المسار. ولكن الله تعالى كما دلنا على الطريق، بغير أن يوصلنا إليه بنفسه، وإنما ترك الوصول علينا، وترك باب الاستعانة به مفتوحاً؛ فهو كذلك قد دلنا على كيفية وضع تفاصيل ذلك المسار،وترك لنا الكثير مما يجب القيام به. مثالاً لهذا الأمر موضوع الدولة، والتي تُعْتَبَرُ من أهم القضايا ومن أولويات الدين. فضرورة الدولة العادلة التي ترعى مصالح الناس وفق منهج الشمولية الأول ينطلق من وجود النص. في حين أنها وفق المنهج الثاني أمر ينطلق من العقل ولا يتطلب النص. كما أن التحرك نحو تلك الدولة يتأسس على جملة من المفاهيم حول العدل، والحرية، والمساواة، والحقوق ونحوها. وهذه مفاهيم عقلية يدرك الإنسان ضرورتها، وضرورة العمل بها بغير أن يكون هناك نص شرعي. فإذا أشار النص الشرعي إلى أي من تلك المفاهيم فإنما يؤكِّد ويشدِّد على ضرورتها، ويجعل من الله تعالى حامياً لها، ومدافعاً عنها، ولكنه لا يؤسس لها. فهي مشمولة بحضور الله معها، وليست مشمولة بتشريع الله لها. هذا المعنى الروحي في حين أنه لا يسلب العقل استقلاليته في إدراكها، فإنه أيضاً يعطي الفرد والمجتمع دافعاً أكبر نحو العمل لتحقيق تلك المفاهيم، ولإنشاء مثل تلك الدولة. ولكن لما تم تأخير العقل عن النص، صار العقل منتظراً للنص ليعطيه الإذن بالعمل في هذا الاتجاه أو ذاك. ولما كان النص من شأنه أنه لا يعطي التفاصيل كلها، اعتماداً على العقل وخبرته، وجدنا أنفسنا بعقل ممنوع من العمل،
وأمام حاجات لم يفصل فيها النص، وصرنا إما نَتَهِمُ النص بالتقصير، أو نجهد بالتكلُِّف في استخراج دلالات منه، لم يردها ولم يشر إليها. إن النص أتى لينبه العقل إلى معنى الحياة، ليعطي الإنسان الدافع الروحي في التحرك وفق ذلك المعنى، ثم تركه ليحدد معالم وتفاصيل تلك الحركة، مع شيء من التدخل في قضايا فرعية لا تؤثر على جوهر الحركة، ولا على وجهتها، كما لا تقلل من دور العقل في رسم مستقبله. ولكن الذي حصل في الثقافة الإسلامية هو أن العقل تم إلغاؤه، وحصر دوره في فهم النصوص الدينية، واعتبرت جميع القضايا التي أتى بها النص تأسيساً لأحكام لا يمكن للعقل أن يدرك ضرورة القيام بها بذاته، كما اعتبر أن جميع شؤون الحياة لا بد وأن تنطلق من النصوص لتجد مشروعية لها في الحياة. إن شمولية الإسلام كانت من أنه قدم رؤية تغير من نظرتنا للحياة، فأثار العقول نحوها وطلب من الناس السعي إليها وقدم قيمتها الذاتية قبل قيمتها الشرعية، بحيث يكون السعي إليها أساساً نابعاً من الحاجة الذاتية للأمر، وليس من التشريع الخارجي له.
من أبرز عناصر المنهج العقلي هي:
1. أولوية العقل كمصدر للمعرفة: إن العقل هو المصدر الأول والأهم للمعرفة الإنسانية، وكل ما يضاده فهو غير مقبول البتة. وكل ما لا يدل العقل عليه فلا حكم له على الإطلاق. وكل ما يمكن أن يعلم عقلاً فالدين يكون فيه دالاً ومقرراً، يأتي ليثير دفائن العقول باتجاه التفكير فيه، واستكشافه، ولا يأتي ليؤسسه. على أساس القاعدة الأولى فإنه لا يمكن تفسير النصوص الدينية إلا ضمن إطار ما يقبل عقلاً، فيستثنى ابتداء أي معنى يتعارض مع العقل، ثم يتم تفسير النص لغوياً. وعلى أساس القاعدة الثانية فإنه لا يصح بناء أي رأي على أساس أنه أمر محتمل عقلاً، بل لا بد من أن يبنى على أساس دليل مباشر من العقل أو من النص. ولو نظرنا من حولنا إلى كثير من الخرافات المنتشرة في العالم الإسلامي، لوجدنا أن من أسس قبولها هو احتمال وجودها أي كونها غير مستحيلة، وليس دليل وجودها. وعلى أساس القاعدة الثالثة فإنه لا يصح أن نلوم الدين بالتقصير إذا لم يدلنا على القيام بما يدلنا عليه العقل، كما إننا لا نُعفى من مسؤولية ترك ما يدل عليه العقل، لمجرد أن النص لم يدل عليه.
2. أولوية نظام العلل والمدركات الحسية القطعية على النصوص الظنية:إذا تعارضت دلالة دينية ظنية مع دلالة حسية مقطوع بها فإن الأولوية للحقيقة الحسية. مثال ذلك موضوع العين وعلاقته بالحسد، فالمشاهدة الحسية المقطوع بها لا تجد أي علاقة بين العين الحاسدة وبين الواقع المادي من حولنا، فإلى حين إثبات هذه العلاقة بطرق معتبرة فلا بد من نفي هذا الأمر، حتى لو وجدت نصوص ظنية في هذا الأمر.
3. حجية العقل في معرفة الله: الإيمان بأن العقل هو الوسيلة الأساسية لمعرفة الله تعالى، ولمعرفة رسالاته. بمعنى أنه لا يمكن إثبات وجود الله تعالى، إلا من خلال مفاهيم عقلية محضة. كما لا يمكن إثبات الرسالة، وصدقها إلا من خلال مفاهيم عقلية محضة. وأهم ما يترتب على هذا الكلام أنه يستحيل أن يأتي عن الله تعالى، أو عن رسله أي أمر ينقض المفاهيم التي بها أُثبت وجود الله تعالى. فلا يمكن أن يدل القرآن أو كلام الرسول صلوات الله عليه وآله على التجسيم أو التشبيه. كما لا يمكن أن يدل على الجبر وعلى خلق أفعال العباد. وما يتوهمه البعض من وجود ذلك في القرآن فهو ناشئ عن سوء فهمهم لكتاب الله عز وجل. وأما وجود ذلك في كلام رسول الله صلوات الله عليه وآله فسببه الكذب عليه، أو الخطأ في الرواية عنه، أو سوء الفهم. وتلك المفاهيم العقلية نوعان: نوع يستدل به على وجود الله تعالى، وعلى صفاته. وذلك نحو ضرورة مبدأ العلية، ومبدأ استحالة العلل إلى ما لا نهاية. ونوع يستدل به على حكمة الله تعالى وعلى صدقه. وذلك نحو كون الكذب والظلم والعبث أموراً قبيحة.
4. استقلال القرآن الكريم في دلالته: الإيمان بأن جميع القرآن الكريم يمكن أن يفهم بمعزل عن كلام رسول الله صلوات الله عليه وعلى آله. وعليه فكل ما ينسب إلى رسول الله صلى الله عليه وآله، لا بد من سلامته من معارضته. ولا علاقة لهذه المسألة بالخلاف حول دور السنة في التشريع. فنحن نفهم القرآن الكريم بالإجمال الذي فيه، وتأتي السنة لتبين المجملات التي لا يمكن إدراكها عقلاً. نحو (أقيموا الصلاة)، آية مفهومة تماماً، وإنما لا نعلم كيفية هذه الإقامة، فنأخذها من سنة النبي صلوات الله عليه وعلى آله. وخلاف هذا القول، هو قول من يرى أن القرآن لا يفهم أصلاً إلا من خلال الآثار، وقد نتج عن هذا القول تفسيرات تغيِّر من دلالة ظاهرة للقرآن الكريم بسبب وجود أثر منسوب إلى النبي أو إلى أحد من صحابته.
5. وجوب معرفة الله تعالى: الإيمان بأن معرفة الله تعالى ومعرفة موقعنا منه أهم الواجبات، من حيث إن هذه المعرفة تتناول أصل وجودنا، وسبب دوامنا، ومعنى حياتنا.
6. حرمة التقليد في أصول الدين: الإيمان بأنه لا يجوز التقليد في أصول الدين على الإطلاق، بل يجب أن ينظر كل مكلف في الأدلة على ما يعتقده. مستند هذا الرأي هو أن أصول الدين ترتكز على الأدلة العقلية، ولا يحق لأحد أن يتنازل عن استقلالية عقله لصالح عقل غيره على الاطلاق مهما كان. 7. الإيمان بأن العقل من أدلة التشريع في الإسلام: فالعقل يدرك الحسن أو القبح في الأفعال. فإذا جزم العقل بأن في فعل ما مفسدة، وفي فعل آخر مصلحة، حرم الأول ووجب الثاني. وإذا تعارض مُدرك العقل مع دلالة النص، لزم أن يرجح بينهما.
8. حجية النصوص الظنية: لا يجب التصديق بدلالة النصوص الخبرية ـ وهي التي تخبر عن أمر ما ـ ما لم يكن ثبوتها قطعياً، نحو: الملائكة موجودة. ذلك لأنها تحكي عن واقع موجود، وتدعو إلى العلم به، ولا يجب العلم، وجوباً شرعياً يعاقب مخالفه، إلا بما كانت الدلالة عليه قطعية. وأما النصوص الإنشائية الظنية، وهي نحو الأوامر والنواهي، فيجوز العمل بمقتضاها لأن غرضها تحقيق مصلحة للعبد. وعادة العقلاء الاكتفاء بالظن في تحديد مواطن المصلحة.
9. العبادات شكر لله والتشريعات مصالح للعباد: إن العبادات التي في الشريعة من صلاة وصيام وزكاة وحج وتعظيم شعائر الله ونحوها تؤدى على وجه الشكر له جل جلاله. وأما الشرائع الأخرى فتؤدى لأنها مصالح للعباد. لأن العبادات تؤدى شكراً لله تعالى، فإنه يمكن أن نتصور عدم عمل العقل فيها. أما التشريعات الأخرى، فلأنها تؤدى لتحقيق مصالح الناس يمكن إدراك وجه تلك المصالح.
لوازم المنهج العقلي
من لوازم المنهج العقلي ضرورة الاستقلال في التفكير الذي يؤدي كثيراً إلى وجود تيارات متباينة، بخلاف غيرها من المناهج التي تؤدي إلى استقرار نسبي في التعدد الفكري. بعض هذه التيارات قد تنشأ مضادة للفكرة الأصلية، ولكن لا يمكن أن تستحق البقاء، وتتطلب التطور إلا بالحرية الفكرية. وأما الفكرة التي لا تستحق البقاء فلا ضرورة للتمسك بها. فإذا كان ثمن الحرية هو التباين فليكن. وقد يرى البعض أن المنهج العقلاني يؤدي إلى خروج كثير من الناس عن الإسلام، لأن من لوازمه حرية التفكير، ولكن لا يمكن أن تعطي الحرية قيمة عليا في أي مجال، إلا وتنعكس عليك في بعض التفاصيل، وهذه طبيعة الحياة، وذلك ثمن الحرية. إضافة إلى النتائج الكبرى لنحو هذا المنهج عند صياغة رؤية للحياة، فهناك نتائج فرعية تتوخى منها. ذلك أن مقتضى ما سبق يعني أن لا تشيع كثير من الخرافات التي شاعت في المجتمعات المسلمة، نحو ما شاع عن الحسد والعين، والكرامات المعجزة، والأخبار والقصص عن الدجال، وغيرها. فعلى سبيل المثال ينتج المنهج رأياً مفاده أنه لا يجوز أن تقع معجزة لغير الأنبياء، وذلك باعتبار أن وقوع ذلك يفقد الأنبياء اختصاصهم بها، وبالتالي فلا يصح أن نقبل أو نروي كرامة من الكرامات التي تخالف السنن، وتشبه في طبيعتها المعجزات النبوية. كما سيفسر العين أنها كناية عن الحسد والمكيدة، وليست أكثر من ذلك، باعتبار أن المعنى الشائع بين العامة يقتضي أن المشاهدة غير صحيحة، ولا يمكن قبول ذلك. وأما الدجال فباعتبار أن النصوص الواردة فيه قد جعلت له من المعجزات ما لا يمكن أن يمتحن الله تعالى به عباده، أو يظهره على عدو من أعدائه، وعليه فلا يمكن قبول تلك الروايات.
الرؤية الدينية
سبق القول بأن الرؤية الدينية تطلب من الإنسان أن يتمثل حقيقة{إِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعُون} وتبعاً لذلك إنشاء مشروع سياسي يرعى حقوق الناس. بعبارة أخرى فإن الرؤية الدينية تقوم على أصلين أساسيين هما: الإيمان بالله واليوم الآخر من جهة، ومن جهة أخرى الإيمان بضرورة إقامة الدولة العادلة باعتبارها المشروع السياسي الذي يحقق الغرض.
الأصل الأول: الإيمان بالله واليوم الآخر …
يتعلق الأصل الأول بالإيمان بالله تعالى واليوم الآخر. والإيمان به تعالى يتضمن أمرين: معرفة ذات الله، ومعرفة أفعال الله. والمعرفة بذاته تعالى تستند إلى التوحيد، وأما المعرفة بأفعاله تعالى فتستند إلى الحكمة. السمة العامة لهذه الرؤية في معرفة ذات الله تعالى أنها توحيدية،تضع حدا فاصلا لا يمكن تجاوزه بين الله تعالى وبين خلقه. حدا يجعل من الألوهية مرتبة لا يستحقها إلا الله الواحد الأحد، وتجعل كل من سواه عبداً مخلوقاً داخراً لا حول له ولا قوة مهما بلغ من تفوق في خصائصه المادية. فترى أن الله تعالى واحد {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ}[الشورى:11]. لا يوصف بشيء من صفات الخلق الدالة على حدوثهم. وأن كل ما خطر بالبال وتصور بالوهم فالله تعالى بخلافه. فليس بجسم، وليس له شكل ولا صورة، ولا طول ولا عرض ولا عمق. لا يتحرك ولا يسكن. ليس بذي أجزاء. وليس له جوارح ولا أعضاء. وليس بذي جهات لا بذي يمين ولا شمال، ولا أمام ولا خلف ولا فوق ولا تحت. لا تراه العيون ، ولا تدركه الأبصار ، ولا تحيط به الأوهام ، ولا يسمع بالأسماع. عالم قادر حي ولم يزل كذلك، ولا يزال. عالم قادر حي لا كالعلماء القادرين الأحياء. القديم وحده ولا قديم غيره. عالم بما كان، وما يكون، وما لم يكن لو كان كيف يكون(1) وعلمه بأفعالنا لا يؤثر عليها إطلاقاً(2) هو الإله ولا إله سواه ، ولا شريك له في ملكه ، ولا وزير له في سلطانه ، ولا معين له على إنشاء ما أنشأ وخَلْق ما خَلَق.
لم يخلق الخلق على مثال سبق ، وليس خلق شيء بأهون عليه من خلق شيء آخر ولا بأصعب عليه منه. الغني فلا يجوز عليه اجترار المنافع ولا تلحقه المضار ، ولا يناله السرور واللذات ، ولا يصل اليه الأذى والآلام ولا يلحقه العجز والنقص، ولا تجري عليه الآفات ، ولا تحل به العاهات. إله يتعالى عن كل خصائص وسمات المادة. لا يمكن الوصول إليه إلا عبر التأمل في أفعاله التي هي مخلوقاته. وذلك من خلال تفاعل بين المسلمات العقلية، وبين المشاهدات الحسية. عند معرفة أفعاله نجد أن هذه الرؤية عدلية، تؤمن بحكمة الله في أفعاله، وبعدله في معاملة مخلوقاته. هذه الرؤية العدلية تحدد موقفنا من الله تعالى بدرجة قد تتجاوز تأثير الرؤية التوحيدية؛ لأنه بدون العدل الإلهي فلا قيمة على الاطلاق لأي تقييم لموقفنا من الله تعالى، لأن أي موقف سنتخذه عندئذٍ لن يكون له أي انعكاس مؤكد.
العدل أيضاً يشكل منهج الحياة في التعامل مع الخلق؛ فإن عدالة الله تعالى مع خلقه تنعكس، وتدعو إلى العدالة بين خلقه. الرؤية العدلية تؤمن أنه تعالى لا يظلم، ولا يكذب، ولا يعبث. فلا ينزل ضرراً على أي مخلوق، إلا إذا كان لذلك نفع أعظم من الضرر في الدنيا أو في الآخرة، أو كان عقوبة مستحقة. كما إنه تعالى لا يفعل فعلاً إلا إذا كان فيه مصلحة عائدة إلى خلقه. وتؤمن هذه الرؤية العدلية بأنه تعالى لا يمكن أن يدعنا بغير إرشاد، كما إنه لا بد من المناصفة بين المخلوقات، ويجب أن نكون أحراراً في اختياراتنا، وتؤمن بضرورة تعويض الله لنا، وتأييده. وينتج عنها ما يلي:
1. الرسالات: إن بعثة الأنبياء ضرورة يقتضيها عدل وحكمة الله تعالى، حيث إنه تعالى لم يكن ليترك عباده بغير إرشاد.
2. اليوم الآخر: إن ضرورة التناصف بين العباد، وضرورة أن يكافأ المحسن على إحسانه، وضرورة أن يؤاخذ المسيء على إساءته، يدل على أن هناك بعد الحياة أمراً. وأما تفاصيل اليوم الآخر، فلا سبيل للعقل إلى معرفته، وإنما يعرف بالنصوص. وقد دلت على أن الله تعالى سيدخل الفاسقين نار جهنم خالدين فيها أبداً، وأنه لن يغفر لهم بعد مماتهم، ولن يقبل فيهم شفاعة أحد، بل لن يشفع لهم أحد ابتداءً.
3. حرية إرادة الانسان: من أهم ما يتفرع عن العدل الإيمان بأن الإنسان هو الفاعل لأعماله بغير أن يكون هناك من الله أي إلجاء للعبد نحو فعل من الأفعال. فالإنسان يصنع مصيره. وما يشيع في الثقافة العامة حول بعض القضايا التي توضع خارج الاختيار الإنساني المطلق غير صحيح. * من ذلك أن الطاعات والمعاصي من العبد، وليس لله تعالى فيها أي فعل. قد يقوي الله تعالى نية العبد على فعل طاعة أو ترك معصية، وهذا يسمى "اللطف"، وقد يترك الله تعالى عبدا وشأنه في مواجهة المعصية وهذا هو الخذلان. ولكن اللطف والخذلان لا يُلجئان العبد بأي نحو من الإلجاء نحو فعل من الأفعال. * وأعمالنا ونتائجها المترتبة عليها من أعمالنا نحن، وليس لله تعالى فيها فعل، إلا من حيث اللطف. فالنجاح والفشل العائد على الفرد يعود في نهاية الأمر إلى فعل من أفعال العباد. * و الحوادث المتعمدة وغير المتعمدة تعود مسؤوليتها على جهة إنسانية. فعبارة "قدَّر ولطف" ، أو "قدر وما شاء فعل" عندما نرى من أصابه حادث، أو أمر غير مرغوبٍ فيه غير دقيقة؛ لأن الله تعالى لم يُقدِّر على عبدٍ فِعلَ فعلٍ أصلاً. أما إذا قصدنا أن الله تعالى قدر علينا أن نكون مخلوقات ضعيفة: تتألم، وتمرض، وتموت؛ ثم لطف بنا، فسهل علينا آثار ذلك الأمر، فهذا المعنى صحيح. * والأرزاق أيضا تعتمد على عمل الإنسان، وقولنا((الله يرزق عباده)) هو بأحد المعاني التالية:
أ. أن الله تعالى هو الخالق للنعم التي نتنعم بها.
ب. أن الله تعالى يرزق عباده بمعنى أنه يبيح لهم ما خلقه من النعم، وأكثر الآيات التي تناولت الرزق في القرآن تناولته بهذا المعنى. وهذا المعنى يفيد أن قولنا عن شخص: فلان لديه كذا وكذا لا يعني بالضرورة صحة قولنا عن نفس ذلك الشخص: فلان رزقه الله كذا وكذا؛ لأن ما أخذه بالحرام ليس رزقاً لغاصبه. ج. أن الله تعالى يرزق عباده بمعنى أنه يُسّهِّل لهم الحصول على بعض ما خلقه من النعم وهي المراد بقوله تعالى {وَمَن يَتَّقِ الله يَجْعَل لَّهُ مَخْرَجاً، وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لا يَحْتَسِبُ}[الطلاق:2-3]. وهذه تكون بطرق منها: أن الله تعالى يلين قلوب الناس لعبده بحيث لا يصعب عليه حصول ما يريده منهم. وهذا التليين ليس فيه إلجاء، بل هو مجرد تليين، أو أنه تعالى يلهم عبده معرفةً بها يحصل على ما يريد من الرزق. ومنها أن الله تعالى يبارك لعبده في ما يعمله من أمور فإذا زرع بارك له وإذا رعى بارك له.فالقاعدة فيها والأصل أن الحصول عليها جميعاً منهم لا فعل لله تعالى فيها إلا من حيث أنه خلقها ويسر أسباب الحصول عليها، مع التأكيد على أنه تعالى قد يعين على ذلك بالألطاف. * والأعمار أيضا تتأثر بأعمالنا وأفعالنا، فلنا أن نطيل العمر كما لنا أن نقصره. نطيله بأن نهتم بأنفسنا، ونقصره بأن نقتل أو نظلم أو نهمل أنفسنا. * والزواج ليس قسمة ونصيب كما يشيع، بل هو قرار من الزوج والزوجة، أو من المجتمع من حولهم، ولا يلجئ الله إليه. وفعله تعالى فيه قد يكون باللطف أو بالخذلان. * والواقع السياسي لا يخضع إلا لأعمالنا ومواقفنا. فالله تعالى لا يهب الملك لأحد، كما لا ينْزعه من أحد. ومعنى قوله تعالى: {تُؤْتِي الْمُلْكَ مَنْ تَشَاءُ}[آل عمران:26] هو أنه تعالى يُبَيِّن لنا من يجب علينا طاعتهم؛ كما في قوله تعالى {وَتَنْزِعُ الْمُلْكَ مِمَّنْ تَشَاءُ}[آل عمران:26] {إِنَّ الله قَدْ بَعَثَ لَكُمْ طَالُوتَ مَلِكًا}[البقرة:247] فالملك الذي
آتاه الله لطالوت لم يكن إلا أنه أمر بني إسرائيل بطاعته؛ ومعنى قوله تعالى: {وَتَنْزِعُ الْمُلْكَ مِمَّنْ تَشَاءُ} أي أنه تعالى يُبَيِّن لنا من لا يجوز علينا طاعتهم. وليس المعنى أنه تعالى يوصل إلى الملك من يشاء، وينْزع بعض الملوك عن عروشهم كما يشيع بين الناس.
4. التعويض: ويعني أن الله سبحانه وتعالى سيعوض عباده في الآخرة على ما أصابهم من مشقة، أو حزن، أو تعب في الحياة الدنيا بأعواضٍ يتمنون معها لو أن حياتهم كانت شقاءً. فالله تعالى لا ينْزل علينا أضراراً إلا لعقوبة سابقة، أو لمصلحة للعبد مع العوض على ذلك.
5. التأييد والعون: بمعني أن الله تعالى سيعين كل من يريد السعي إليه. فمع أنه تعالى قد مكننا إلا أنه لا يدعنا، بل يقوي عزائمنا، ويلقي الخواطر في عقولنا. وقد يتعارض هذا مع وجود إبليس، إلا أن التدقيق في تأثيره وفق ما دلَّ عليه القرآن الكريم يؤكد أن ليس له إلا تقوية الدواعي، أما في الواقع فكما قال تعالى: {رَبَّنَا مَا أَطْغَيْتُهُ وَلَكِنْ كَانَ فِي ضَلاَلٍ بَعِيدٍ}[ق:27]، بمعنى أن من عصى لم يضل بفعل إبليس وإنما بفعله وإرادته، وما كان من إبليس إلا أن شدد العزم، تقريباً كما يعمل أي رفيق سوء من البشر. وكذلك الخذلان من الله تعالى فليس هو أكثر من كونه تعالى ترك العون بسبب معاصي من المكلف. وكذلك التسليط من الله تعالى هو بمعنى الخذلان، ولكن لما كان الخذلان في كثير من الحالات مؤدياً إلى تسلط الشياطين والظلمة سمي الخذلان باسمه.
الأصل الثاني: الإيمان بوجوب قيام الدولة العادلة
أغلب المسلمين جعلوا موضوع الدولة من فروع الدين،وأكدوا أنها لا يجب أن تحتل المكانة العليا. كان ذلك على أساس أن كل قضية عملية، غير اعتقادية، فهي من الفروع. يتضح وفق ما سبق أن الدولة لا يصح إلا أن تكون من أصول الدين، وأنها تختلف نوعاً عن جميع الأعمال الأخرى العبادية وغيرها، حيث إنها جميعاً تعتمد على الدولة العادلة في بقائها ذا معنى. فكل ما نقوم به يجب أن يؤول إلى تحقيق مصالح العباد، فإذا كانت الدولة جائرة، أو لم تكن تعمل على تحقيق العدل بين الناس، فإن كل ما دون ذلك يضيع معناه. إضافة إلى ذلك فإن النفع العائد من الدولة يعود على الأمة أجمع، بخلاف غيرها والعبادات على وجه الخصوص والتي يعود نفعها على الفرد أو بعض الأفراد. وقد أشار إلى هذا الخبر المرفوع:((لو أن عبدا قام ليله، وصام نهاره، وأنفق ماله في سبيل الله عِلْقاً عِلْقاً، وعبد الله بين الركن والمقام، ثم يكون آخر ذلك أن يذبح بين الركن والمقام مظلوماً لما صعد إلى الله من عمله وزن ذرة؛ حتى يظهر المحبة لأولياء الله، والعداوة لأعداء الله)) وأولياء الله تعالى هم الدعاة إلى الحق والعدل ومحبتهم تكون بنصرتهم. وأما أعداؤه فهم الظالمون المتعدون على حقوق العباد وحرمات الله، وعداوتهم بإزالة ظلمهم وجورهم. ومنه ما قاله يحيى بن الحسين (ت 298هـ) حيث قال في معرض كلام له عن أولوية الوقوف أمام الظالمين على بقية الطاعات: ((وكيف لا يكون الجهاد أعظم فرائض الرحمن، وهو عام غير خاص لجميع المسلمين؟ وعَملُ من عمِلَ به شامل لنفسه ولغيره من المؤمنين؛ لأن الجهاد عز لأولياء الله، مخيف لأعداء الله، مشبع للجياع، كاسٍ للعراة النياع، نافٍ للفقر عن الأمة، مصلح لجميع الرعية، به يقوم الحق، ويموت الفسق، ويرضى الرحمن، ويسخط الشيطان، وتظهر الخيرات، وتموت الفاحشات. والمصلي فإنما صلاته وصيامه لنفسه، وليس من أفعاله شيء لغيره، وكذلك كل فاعل خير فعله لنفسه لا لسواه وكيف لا
يكون الجهاد في سبيل الله فُضِّل على جميع أعمال المؤمنين؟ وبه يحيا الكتاب المنير، ويطاع اللطيف الخبير، وتقوم الأحكام، ويعز الإسلام، ويأمن الأنام، وينصر المظلوم، ويتنفس المهموم، وتنفى الفاحشات، ويعلو الحق والمحقون، ويخمل الباطل والمبطلون، ويعز أهل التقوى، ويذل أهل الردى، وتشبع البطون الجائعة، وتكسى الظهور العارية، وتقضى غرامات الغارمين، وينهج سبيل المتقين، وينكح الأعزاب، ويقتدى بالكتاب، وترد الأموال إلى أهلها، وتفرق فيما جعل الله من وجوهها، ويأمن الناس في الآفاق، وتفرق عليهم الأرزاق)). ومن المدارس الإسلامية، من جعل الإمامة من أصول الدين(الإمامية والإسماعيلية)، ولكن ليس باعتبارها قيادة زمنية، ضرورية لحياة الناس، أي ليس بمعنى الدولة، وإنما باعتبارها قيادة فردية ضرورية لمعرفة الدين. فوفق هذه الرؤية لا يمكن للدين أن يُعرف بغير الإمام، ومن هذه الحيثية جُعلت الإمامة لديهما من أصول الدين.
وما يتعلق بالتنظير لقيام الدولة يمكن تقسيمه إلى قسمين:
المبادئ التي تمثل بمجموعها جوهر النظرية.
المبادئ التي تمثل آليات الوصول إلى الحكم ومن بعد ذلك ممارسته. والذي يجب ذكره هنا إنما هو الأمر الأول حيث إن الثاني يخضع لاعتبارات ظرفية، ولا يمكن أن يكون له صفة الإطلاق.
الأول من تلك المبادئ وأهمها: أن الله تعالى خلق البشر متساوين في الحقوق الاجتماعية والسياسية، وبالتالي فلا يحق لأحدٍ مهما كان أن يُقَيِّدَ حرية أي مخلوق آخر، كما لا يحق لأحد أن يخضع نفسه لمخلوق آخر إلا بإذن من الله، كما لا يحق لأحدٍ أن يتقدم أو يتصدر غيره من الناس إلا بإذن من الله تعالى أو لمصلحة مشتركة تعمهم جميعاً. وإن الله تعالى إذ يأذن فلا يأذن إلا بما يقرُّه العقل ويؤيده؛ لأن الله تعالى لا يأذن بما يخالف العقل أبداً. الثاني: أن إقامة نظام سياسي عادل يرعى حقوق الناس، ويؤمنِّهم من الظلم والخوف والفقر والجهل، هو من أصول الدين. وهو من مدلولات الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر. وفي غياب هذا الأمر يصبح "التقلب بالأموال والتجارات والمكاسب في وقت ما تُعطَّل فيه الأحكام ويُنتهب ما جعل الله للأرامل والأيتام والمكافيف والزَّمْنَى وسائر الضعفاء ليس من الحل والإطلاق كمثله في وقت ولاة العدل والإحسان والقائمين بحدود الرحمن." قال د. محمد عمارة معلقاً عليها: هذا الحكم يجعل الكسب في مثل هذه الظروف لا يمكن أن ينجو من التلوث بمثل هذه الظلامات. وفي هذا الحكم حثٌّ على العمل لتغيير الجائر من الأوضاع تطهيراً للكسب والمأكل وإراحة للضمير. الثالث: وهو يتفرع بشكل طبيعي عن الثاني، وهو وجوب المشاركة السياسية الفاعلة من جميع أفراد الأمة في تأسيس ذلك النظام، وفي رعايته وحمايته. وهذا يفرض على المجتمع المسلم التواجد الإيجابي والفاعل في الساحة السياسية، مع اختلاف شكل التواجد وآليته باختلاف الظروف الموضوعية، كما يفرض على المجتمع السعي الدؤوب وصولاً لنحو ذلك النظام، حتى لو لزم الأمر التدخل القسري، وبالتالي يخلق لنا مجتمعاً مشاركاً ومراقباً للوضع السياسي في البلاد، إضافة إلى أنه يخلق شعوراً لدى القائمين بالأمر بالمراقبة المستمرة لهم ولأعمالهم. الرابع: إن الدولة تعبر عن مصالح المجتمع بجميع أطيافه واتجاهاته
المختلفة وإنه لا يجوز لها أن تكون طرفاً من أطراف الصراع الاجتماعي بأشكاله المختلفة، وإنما هي مظلة يستظل بها جميع أفراد المجتمع مهما تناقضت هوياتهم، وقد عبَّر عن شيء من هذا المبدأ الإمام محمد بن عبد الله النفس الزكية(ت145هـ) حيث: أوجب على من قام بهذا لأمر الدعاء لجميع الديانين، وقطع الألقاب التي يدعى بها فرق المصلين، وغلق الأبواب التي في فتح مثلها يكون عليهم التلف، والامساك عمَّا شتت الكلمة، وفرَّق الجماعة، وأغرى بين الناس فيما اختلفوا فيه وصاروا به أحزاباً، والدعاء لطبقات الناس من حيث يعقلون إلى السبيل الذي لا ينكرون وبه يؤلفون، فيتولى بعضهم بعضاً، ويدينون بذلك، فإن اجتماعهم عليه إثبات للحق وإزالة للباطل. الخامس: إن القيادة في الدولة قيادة سياسية، وليست زعامة دينية. فالقيادة السياسية هي التي يراد منها أساساً رعاية مصالح العباد. والزعامة الدينية هي تلك التي تملك حقاً زائداً أو حصرياً في أن تتكلم وتمثل الدين. فمع أن قيام الدولة مما يجب أمام الله تعالى، ومع أنه يجب طاعة الدولة فيما تأمر به، إلا أنها مع ذلك قيادة سياسية وليست زعامة دينية. فليس لها ولاية على الدين، ولا يعتبر رأيها في الأمور الدينية ملزماً للجميع. وتنحصر ولايتها في ما يحقق غرض وجودها وهو تحقيق العدل والأمن بين الناس. هذا لا يمنع من اشتراط مؤهلات دينية وعلمية وخلقية لمن يتولى أمورها. كما لا يمنع أن يكون للقيادات فيها مواقف دينية تتميز عن غيرهم، ولكنها لا تلزم إلا من اقتنع برأيهم. أيضاً لا يتعارض هذا مع اعتبار أن طاعة القيادة فيها ثواب من الله، وأن معصيتها عليها إثمٌ، لأن ذلك يعود إلى أنه يترتب على الطاعة والمعصية مصالح ومفاسد للأمة. أخيراً قد يكون من الأمة من هو أكثر ديناً ممن في رأسها، ولكن لما كانت العبرة بالقدرة على القيادة لم يمتنع هذا الأمر. هذه الأفكار تمثل أبرز مرتكزات المشرع السياسي الزيدي. ما سواها من
عناصر فرع عليها، وأغلبها ــ إن لم يكن جميعهاـ إنما يتناول آلية الوصول إلى الحكم، كما يتناول آلية انتقال الحكم وطريقة حل النزاعات المحتملة حين انتقال الحكم، وهي قضايا على أهميتها لا تعدو أن تكون إجرائية ونسبية بخلاف تلك الأمور التي تحدد دوافع الحركة وأهدافها وشكلها العام، وهذه الأفكار ــ كما هو واضح ــ أساس أي مشروع سياسي معاصر يهدف إلى إقامة العدل، وإلى إبقاء الإسلام في الحياة العامة.
الاجتهاد عند الزيدية
من أبرز ما تميز به الزيدية في فقههم هو الاجتهاد. هذه الميزة جعلت مذهبهم (( أكثر المذاهب الإسلامية نماءً وقدرة على مسايرة العصور)) على حد تعبير الشيخ محمد أبو زهرة. الاجتهاد مَلَكة علمية ونفسية تُمكن صاحبها من استنباط الأحكام الشرعية من مظانها، والثقة بنتائج ذلك الاستنباط بقطع النظر عن مخالفة أو موافقة السابقين من العلماء. وعندما نقول: إنها ملكة، نؤكد أنها ليست مجرد تحصيل مجموعة من العلوم، فقد يجمعها واحد، ولكن لا يستطيع أن يستنبط حكماً واحداً. وعندما نشير إلى أنها علمية ونفسية، نشير إلى أنه لا يكفي امتلاك الملكة العلمية، إذ أن صاحبها قد يستطيع عندها أن يستنبط أحكاماً، ولكن ما لم تكن لديه الجرأة والشجاعة على العمل بما أداه إليه بحثه وتأمله، فإن وجود تلك الملكة لن يفيد كثيراً. والقول بأنها ملكة لا يعني أنها غير مكتسبة بل يمكن اكتسابها بالجهد والمثابرة. والتعريف الشائع للاجتهاد بأنه استفراغ الفقيه الوسع في تحصيل ظنٍّ بحكم شرعي. إنما يشير إلى ما يعمله المجتهد، ولكنه لا يبين جوهر الاجتهاد، أو منطلقه الأساسي التي هي امتلاك الملكة المشار إليها. أصعب ما في الاجتهاد امتلاك الملكة النفسية. فقد يستطيع طالب علم مجد في تحصيله أن يمتلك الملكة العلمية، ولكن الأمر ليس كذلك بالنسبة للملكة النفسية. والسبب يعود إلى ثلاثة أمور: أولها: إن زيادة العلم تولد التواضع، وغالباً لا يحصل المرء على الملكة العلمية إلا بعد تحصيل علمي معمق، يتولد معه تواضع شديد، وشعور هائل بالجهل. هذا يتنافى مع ما تتطلبه الملكة النفسية من الثقة بالنفس، وبنتيجة البحث العلمي. ثانيها: إن الاجتهاد يعني في نهاية الأمر الافتاء، وكل من يخشى الله يهاب من تحمل نتائج الفتوى، ويفضل أن يتحمل غيره ذلك. ثالثها: إن طبيعة العلاقة بين طالب العلم والرموز العلمية الذين استفاد منهم تولد شعوراً بالدونية أمامهم بحيث لايجروُ على ممارسة التفكير
مستقلاً عن رأيهم وتوجههم. يقابل الاجتهاد التقليد، وهو أساساً غياب الملكة النفسية أولاً، ثم الملكة العلمية. وعملياً هي العمل وفق قول الغير. وذكر الدليل لا يغير من واقع التقليد، فكل من ليس لديه الملكة مقلد ضرورة، سواء عرف دليل القول أم لم يعرفه. لأنه إن كان فاقداً للملكة العلمية فإن معرفته بالدليل لن تنفعه حيث إنه لا يملك قدرة على تقييم ذلك الدليل. وإن كان لديه الملكة العلمية وفاقداً للملكة النفسية فإنه لن يتبع القول بسبب الدليل، وإنما بسبب المصدر القائل. وقد حرصت المدرسة الزيدية على إبقاء تلك الملكة النفسية بين علمائها، وكانت وسيلة ذلك أن حرمت على من امتلك الملكة العلمية ممارسة التقليد، وأوجبت عليه اتباع رأيه دون رأي غيره. كان هذا لتقديرهم للاستقلال الفكري والعلمي. أما من لم يمتلك تلك الملكة العلمية، فلم تطلب منه أن يمارس الاجتهاد بل أجازت له أن يقلد أهل العلم. فميزت بين تقليد مذموم وممنوع وبين تقليد واجب. فالمذموم الممنوع هو التقليد من قبل أهل الملكات الاجتهادية، وأما الواجب فهو التقليد ممن فقدها. وقد حرصت من هذا أن لا يتوقف أهل الاجتهاد عن ممارسته، كما حرصت أيضاً على أن لا تخلق فوضى علمية في الساحة بأن توهم الناس بأنه يكفي للخروج من التقليد معرفة الدليل من كتاب أو سنة، بحيث يصير كل من قرأ كتاباً في الحديث ظاناً نفسه مجتهداً. وقد نجحت في هذا. من الانجازات الأخرى التي حرص عليها الزيدية، وهي تأتي في موازاة الانجاز السابق هو إيجاد التوازن بين أمرين: أحدهما: الحاجة إلى استقرار المجتمع على رأي فقهي موحد خصوصاً في القضايا العامة، يمنع من بلبلة فقهية بين الناس، حيث يكون لكل جماعة رأيها الفقهي الخاص بها. ثانيهما: المحافظة على حق الاجتهاد الذي قد يفضي إلى استنباط آراء تخالف الآراء السائدة قطعاً.
وقد نجحت من خلال أمرين: أولهما: ما اشترطته أصلاً من أن يكون الإمام مجتهداً، فبذلك منحت الدولة حقاً شرعياً في ممارسة الاجتهاد.
ثانيهما: بأن قسمت مجال الاجتهاد على دوائر مختلفة:
1. دائرة الحقوق المتعدية: وهي تلك التي يكون الحكم فيها مؤثراً على العلاقات بين الناس مثل أحكام الزواج والتجارة. فأي حكم لصالح طرف من الأطراف هنا، يؤثر على حقوق أطراف أخرى بشكل مباشر. فلو حكم ببطلان نكاح رجل، أثر هذا تلقائياً على نكاح زوجته أيضاً، وربما غيرها. هذا بخلاف الأحكام التي تأثيرها لا يتعدى الفرد، مثل الأحكام العبادية. فلو حكم ببطلان وضوء على شكل ما، فإن من توضأ بتلك الكيفية لن يؤثر بطلان وضوئه على غيره من الأشخاص، بل سيخصه هو وحده.
2. دائرة الحلقات العلمية: وهي دائرة العلماء، وطلبة العلم.
3. دائرة الحقوق الفردية: وقد سبق تعريفها. فدائرة الحقوق العامة جعلت صلاحية الاجتهاد في أمورها. ولأن الدولة قادرة على الاجتهاد واختيار الأحكام الملائمة، فلم يجد أهل العلم مشكلة في هذا الأمر. ودائرة الحلقات العلمية جعل الاجتهاد فيها مفتوحاً لكل من كانت له الملكة. فوجدنا مجموعة كبيرة من العلماء عبر العصور ممن كانت له آراء جريئة خالفت السائد والسابق وبمنهجية علمية عميقة وأصيلة. وقد كانت هذه الحلقات من خلال مؤلفاتها وآراء علمائها بمثابة الروافد التي تغذي حاجة الدولة بالآراء الأصيلة التي تنتقد ما هو سائد، وتقترح بدائل عنه. ولهذا السبب لم يمكن القول: إن للزيدية مذهباً فقهياً محدداً، بل كان فيه مدارس فقهية متعددة، بتعدد المجتهدين اجتهاداً مطلقاً. ونجد كلمة "مذهب" في كثير من المصادر الفقهية الزيدية بعد القرن الثاني عشر، فقد يقال: المذهب هو كذا وكذا، وليس المقصود بتلك الكلمة أن مذهب الزيدية الفقهي هو كذلك، فكما سبق لا يوجد مذهب فقهي للزيدية. وتشير الكلمة إلى اصطلاح تبلور مع القاضي زيد بن علي الأكوع، ثم تابعه القاضي حسن بن أحمد الشبيبي (1169هـ)، في تعليقاتهما على كتاب شرح الأزهار، فقد وضعا اصطلاح (مذهب) عند الاختيارات الفقهية التي رأيا وفق اجتهادهما أنها أكثر ملائمة للمنهج الفقهي لبعض أعلام أهل البيت الذين هم: الإمام القاسم بن إبراهيم، والإمام محمد بن القاسم بن إبراهيم، والإمام الهادي يحيى بن الحسين، والإمام محمد بن الإمام الهادي، والإمام أحمد ابن الإمام الهادي. وقد اعتبر رأيهم في تحديد ما الـ "مذهب"؟ هو المعتمد بين الزيدية على مستوى الدولة، وعلى مستوى الحقوق الفردية. وأما دائرة الحقوق الفردية، فقد اعتبر فيها أن الأصل هو مجموعة من الآراء التي تمثل في الأغلب رأي الإمام الهادي يحيى بن الحسين في مرحلة أو رأي "المذهب" في مرحلة أخرى. فكانت تلك الآراء هي المعتمدة عند تعليم الناس أمور
دينهم. ولكن في الوقت نفسه احتفظ المجتهدون بحق الافتاء بخلاف تلك الآراء في القضايا الفردية، أو في القضايا العامة التي لا يريد أصحابها أن يوصلوها إلى الدولة. كما احتفظ المقلدون بحق أن يقلدوا علماء في آرائهم التي تخالف الآراء المعتمدة. وقد شاع رأي بين الزيدية يسمح للمقلد أن يأخذ الحكم الشرعي من غير الفقهاء من الزيدية. وذلك على أساس ((أن الاجتهاد لا مذهب له)). ولا يُطلب من المجتهد المستفتَى في تلك الحالة إلا أمراً واحداً: وهو أن لا يكون الحكم مرتكزاً في ثبوته على قاعدة أصولية تخالف قاعدة المستفتِي. وهذا المطلب يكاد يكون نظرياً لندرة نحو تلك الأحكام. لعل أول من صرح بهذا الرأي الإمام أحمد بن يحيى بن المرتضى ت840هـ. كما سمحوا للمقلد أن يقلد أكثر من مجتهد في وقت واحد في أوقات مختلفة وذلك على أساس أن الأدلة الفقهية ظنية الدلالة، وأن أي اجتهاد من مجتهد معتبر غالباً يكون حكمه ضمن دلالات الأدلة الظنية. بهذه الطرق استطاع الزيدية أن يحافظوا على كل من: ملكة الاجتهاد في حلقاتهم العلمية وما تثمره من تطوير في الفقه، وعلى استقرار الأحكام على مستوى الدولة وطرق التعليم، وعلى حق الاجتهاد والتنوع في القضايا الفردية. ولأن وجود الاجتهاد سيؤدي إلى تعدد في الآراء في مسائل بعينها. إزاء هذا يرى كثير من الزيدية أن كل مجتهد مصيب، فلا يصح وفق هذا أن يتنازع الناس لاختلاف الاجتهادات التي يتبعونها في القضايا الفردية. وأما القضايا العامة، فمع أن كل مجتهد فيها مصيب أيضاً، إلا أنه من حق الدولة أن تفرض على الناس اختيارها في القضايا لكي تحقق الاستقرار اللازم. ومعنى كل مجتهد مصيب أحد أمرين: أولها: إن الاجتهادات لا تتناقض: فلا يعني القول بصواب اجتهاد ما في مسألة محددة خطأ من خالفها باجتهاده. لأن الاجتهاد إنما يكون في فهم وتفسير النصوص العملية والتي تدعو إلى عمل شيء أو نهي عنه. والنصوص العملية لا توصف بالصدق أو
الكذب فجملة: اذهب إلى البيت. لا توصف بأنها صادقة أو كاذبة، لأنها جملة إنشائية، والوصف بالصدق والكذب يتعلق بالجمل الخبرية نحو: الشمس مشرقة. والنصوص الإنشائية يمكن أن يفهم منها أكثر من معنى، بغير أن ينفي أحدها الآخر. حيث إن النفي يستلزم أن تكون ذات معيار صدق أو كذب، وهو أمر غير متحقق فيها. فلو فهم أحد من النص معنى غير الذي فهمه آخر، لأمكن تطبيق المعنيين من دون مشكلة لأن الأعمال لا تتناقض، فيمكن أن لكل من العملين أن يصدرا عن كلا الطرفين بغير أن يتناقضا. وهذا بخلاف الاختلاف في تفسير نص خبري، حيث إن كل معنى ينفي المعنى الآخر. ثانيها: البعض يرى أن لله تعالى حكماً محدداً واحداً في كل نص إنشائي: وبالتالي فإنه لا يصح إلا معنى واحد من المعاني المتعددة؛ ولكن المخطئ معذور. والبعض يرى أن المطلوب إعمال النص في الحياة، وبالتالي فإن التعدد في التفسير ممكن، وكل مجتهد مصيب من حيث إنه قد قام بما طلبه الله منه. ملاحظة: عندما يشار إلى سمة الاجتهاد بين الزيدية، فإن بعض الكُتَّاب المعاصرين يحاولون أن يحصروا وجود هذه السمة بين عدد محدود من أعلام الزيدية وهم محمد بن إبراهيم الوزير (840هـ)، والحسن الجلال (1084هـ)، وصالح المقبلي(1108هـ)، ومحمد بن إسماعيل الأمير( 1182هـ)، ومحمد بن علي الشوكاني (1250هـ). وكأنه لم يكن قبلهم من كان ذا استقلال في التفكير، أو نزعة للاجتهاد المطلق. وتجدر الإشارة هنا إلى أن هؤلاء يختلفون فيما بينهم اختلافاً بيناً، إلا أنهم اشتركوا في قضيتين: أ. الهجوم اللاذع على رجال الزيدية في عصرهم، واتهامهم بالجمود والتقليد. ب. عدم قدرتهم على التمييز بين الدوائر المختلفة لممارسة الاجتهاد والتقليد بحيث لا توجد فوضى علمية، ولا يكثر مدعي العلم والمعرفة. ثم بعد ذلك نجد أنهم اختلفوا بعض الشيء فنجد ما تميز به:
1. الشوكاني: الميل إلى مذهب أهل الحديث في القضايا المنهجية والأصولية. فمنهجياً كان يدعو إلى إقصاء العقل تماماً، وعدم الاعتماد عليه لا في عقيدة ولا في فقه ولا تفسير. وعقائدياً كان يقول بالتجسيم والتشبيه، ويؤمن بالجبر، ويقول بالإرجاء، كما يؤمن بوجوب طاعة الظلمة. وكان الاجتهاد لديه يتلخص أساساً في أمرين:
أ. التوسع في علوم تصحيح وتضعيف الأحاديث والجرح والتعديل. وهي أضعف مراتب الاجتهاد، فعند استنباط الأحكام نحن بحاجة إلى معرفة النصوص الصحيحة، وأصعب منه استنباط الأحكام منها. وكل من اطلع على علم التصحيح والتضعيف الذي كان يدعو إليه الشوكاني يرى أنه لا يقدم علماً أكثر مما كان فعلاً موجوداً بين الزيدية، ولكن يستهلك وقتاً أكثر، ويدخل العالم في متاهات وتفاصيل لا طائل تحتها. وسنجد أن الأحاديث التي صححها الزيدية معتمدين على مراسيل أئمتهم قد أغنتهم عن التقصي في الأسانيد، وفي الوقت نفسه لن نجد أن في الأحاديث المسندة ما يقدم كثيراً بحيث يستحق الأمر كل تلك الجلبة التي خلقها الشوكاني وخلفه.
ب. الدعوة إلى نَبْذِ المؤلفات الفقهية واعتماد نصوص الكتاب والسنة بشكل عام، بحيث يفتي المفتي مستدلاً على فتواه بنص من الكتاب أو السنة. وهذا الأمر يؤدي إلى فوضى علمية هائلة في المجتمع، ويحرم المجتمع من الاستفادة من تجارب فقهية لمئات السنين. كما أنه لا يقدم شيئاً حيث إن طالب الفتوى لن يستفيد من معرفة النصوص شيئا ما لم يملك ملكة الاجتهاد. كما أنه يؤدي إلى خلق أنصاف العلماء الذين يظنون أنهم بمجرد اطلاعهم على صحيح البخاري أو مثله صاروا من أهل الاجتهاد والافتاء.
2. ابن الوزير وابن الأمير والجلال: التقليل من شأن العقل، دون إلغائه، مع التشدد في الدعوة إلى اعتماد روايات المحدثين في أصول الدين، وانتقاد الزيدية لعدم الاعتداد بتلك الروايات.
3. الاقتصار على النقد اللاذع لواقع عصره، مع الحفاظ على المرتكزات الأساسية للأصول الفكرية والسياسية وهذا ما كان عليه المقبلي.
إن اعتبار هؤلاء ممثلي الحرية الفكرية والاجتهاد فيه حيف كبير، ويدل إما على عدم اطلاع على الحركة العلمية بين الزيدية حيث وجد عشرات العلماء ممن كان يعمل بالاجتهاد، وإما على أغراض أخرى غير الغرض العلمي المحض. ثم إن من نظر إلى كتابات ابن الوزير وابن الأمير والشوكاني قطع بأنهم كانوا أقرب إلى التقليد منهم إلى الاجتهاد، ولكن ذهب تقليدهم صوب علماء آخرين.
الزيدية والإمام زيد
لفظ "الزيدية" يشير إلى الانتساب إلى الإمام زيد بن علي بن الحسين بن علي بن أبي طالب قدس الله أرواحهم في أعلى عليين، وحشرنا في زمرتهم، ونفعنا بمحبتهم وولايتهم يوم لا ينفع مال ولا بنون. وسبب الانتساب إلى الإمام زيد% دون غيره من أئمة أهل البيت"؛ إنما كان لأن الإمام زيداً جسَّد آمالها، ومبادئها، واستشهد وصُلب عرياناً في سبيلها، في عصر كالح اندرست فيه معالم الدين من التوحيد والعدل وصدق الوعيد والجهاد ، واستبدلت بمفاهيم التشبيه، والتجسيم، والجبر، وإلغاء الجهاد، وإطماع الفاسقين من الجبابرة والمجرمين بدخول الجنة وبشفاعة المصطفى صلى الله عليه وآله. وقد بين سبب الاعتزاء إلى الإمام زيد بن علي الإمام محمد بن عبدالله النفس الزكية إذ قال: ((أما والله لقد أحيا زيدُ بن علي ما دَثَرَ(1) من سنن المرسلين، وأقام عمود الدين إذ اعوج، ولن ننحو إلا أثره، ولن نقتبس إلا من نوره، وزيدٌ إمام الأئمة، وأول من خرج داعياً إلى الله بعد الحسين بن علي)) وقال أبوه عبدالله الكامل: ((العَلَمُ بيننا وبين الناس علي بن أبي طالب، والعَلَمُ بيننا وبين الشيعة زيد بن علي)) فكان خروج الإمام زيد% إذ خرج بمثابة إحياء للدين، وبعثه من جديد. فسلام الله عليه يوم ولد، وسلام الله عليه يوم استشهد، وسلام الله عليه يوم يبعث حياً. ظاهر أن العلاقة بين الزيدية وبين الإمام زيد% ليست علاقة اتباع في قضايا علمية. لا شك أن الزيدية تقدر رأي الإمام زيد%، ولكنها لا تلتزم تقليده، بل لا تلتزم تقليد غيره من أئمة أهل البيت، فالزيدية ترى أن الاجتهاد واجب في كل عصر، وفي كل مكان لكل من ملك أدوات الاجتهاد. يحاول بعض المعاصرين القول بأن الزيدية تنتسب للإمام زيد اسماً فقط، وإلا فلا علاقة لها به. يريد هذا الرأي أن يصل إلى أن الإمام زيد لم يمثل أياً من المبادئ الكبرى التي قال بها الزيدية اليوم، وإنما الذي مثلها كان الإمام الهادي يحيى بن الحسين الذي
استحدث ـ وفق هذا الرأي ـ مجموعة من الآراء التي تخالف منهج الإمام زيد ومنهج أهل البيت. لا يحتاج المرء إلى كثير معرفة ليعرف مدى بعد هذا الرأي عن الحقيقة. فالنصوص موجودة، نصوص الإمام الهادي، ونصوص الإمام زيد، ونصوص من بينهما من الأئمة، ومنها جميعاً يظهر أن الإمامين، بل جميع أئمة تلك المرحلة كانوا في الأصول الدينية على منهج واحد، وأن اختلافهم إن وجد، كان في القضايا الفرعية، والقضايا التي تتطلب اجتهاداً ورأياً. ويلاحظ أن من يقول بهذا القول يعول كثيراً على نص للمؤرخ يحيى بن الحسين بن القاسم (1100هـ)، حيث يقول: إنه لم يبق لمذهب زيد متابع في الأصول ولا الفروع. وفضلا عن أن هذا القول لا يمثل إلا رؤية قائله، فالنصوص الموجودة تبين علاقة الإمامين ببعضهما. صحيح أن قليلاً من الزيدية اتبع مذهب الإمام زيد% الفقهي، وكان أغلبهم على مذهب الإمام الهادي، وذلك لأسباب منها دور الإمام الهادي في اليمن، ومنها اشتهار نصوصه، وعظم تأثيره على عموم الزيدية في زمانه وبعده. والمؤرخ المذكور كثير الخلط يعتمد الاستنباط والتخمين لا على النصوص. من هذه التعميمات قوله: ((فالذي كان من قبل [أي من قبل المائتين] هم الصالحية والجريرية، وهو الذي كان عليه زيد بن علي. وأما سائر الفرق فإنما حدثت بعد ذلك، وخالفت زيد بن علي في أصوله وفروعه...))، فهذا النفي المطلق ينافي الحاضر من النصوص. مثل هذه التعميمات التي لا أصل لها، هي مستند بعض الكُتَّابِ غير الموضوعيين في كتابتهم عن علاقة الإمام زيد بأهل بيته من بعده، أو بالزيدية المتأخرين.
الزيدية والصحابة
الكلام في الصحابة له اعتباران. الاعتبار الأول الكلام فيهم على الجملة، والاعتبار الثاني الكلام في أفرادهم. فأما على الجملة فلا يجوز القدح فيهم، لأن الله تعالى قد مدحهم وأثنى عليهم. وفي ذلك نجد للإمام الهادي يحيى بن الحسين% في رسالة وجهها لأهل صنعاء ما نصه: ((ولا أنتقص أحداً من الصحابة الصادقين والتابعين بإحسان، المؤمنات منهم والمؤمنين، أتولى جميع من هاجر، ومن آوى منهم ونصر، فمن سب مؤمناً عندي استحلالاً فقد كفر، ومن سبه استحراماً فقد ضل عندي وفسق، ولا أسب إلا من نقض العهد والعزيمة، وفي كل وقت له هزيمة، من الذين بالنفاق تفردوا، وعلى الرسول÷ مرة بعد مرة تمردوا، وعلى أهل بيته اجترءوا وطعنوا، وإني أستغفر الله لأهمات المؤمنين اللواتي خرجن من الدنيا وهن من الدين على يقين، وأجعل لعنة الله على من تناولهن بما لا يستحققن من سائر الناس أجمعين، إن أصحاب رسول الله÷ الذين قاموا بالدين، وكانوا في حقيقة الإيمان، واتبعوا بالطاعة والإحسان، واجب فضلهم مشهور، والطاعن عليهم مأزور، والمنتقص لهم مذموم، هالك عند الله مثبور، مُعَذَّبٌ مدحور، لمدح الله سبحانه لهم...)) إلخ كلامه. وأما الكلام على أفرادهم، فإن الزيدية ترى أن المعصية لها حكمها بقطع النظر عمن صدرت منه، وأن الله تعالى قد نبّه أنبياءه {وَلَقَدْ أُوحِيَ إِلَيْكَ وَإِلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكَ}[الزمر:65]، كما نبَّه سيد رسله لما قال : {لَقَطَعْنَا مِنْهُ الْوَتِينَ}[الحاقة:46]. فكذلك الأمر في الصحابة. فمن مات منهم على طاعة الله ورسوله% لقي الله مرضياً. وأما من زاغ عن الهدى، واتبع هواه، وآثر الدنيا على الآخرة، فلا كرامة له عند الله، مثله مثل غيره من الخلق. وأغلب ما يثار هذا الأمر هو لمعرفة رأي الزيدية في الخلفاء الثلاثة على وجه الخصوص، ثم رأيهم في معاوية ومن وقف معه.
الزيدية والخلفاء
موضوع الخلفاء من المواضيع الحساسة، وكنت أفضل عدم التعرض له ولكن كثرة التساؤلات حول موقف الزيدية منهم أوجبت طرحه. المشترك بين الزيدية أن الإمام علياً% كان الأولى بالخلافة، وأن أبا بكر ومن معه أخطأوا في صرفها عنه. وأن أبا بكر أخطأ أيضاً لما منع فاطمة من إرثها من النبي، كما أخذ منها أرض فدك والعوالي وهي أرض غنية جداً كان النبي أنحلها فاطمة بعد فتح خيبر. إلا أنه بعد هذا القدر المشترك فقد اشتهر رأيان: الرأي الأول يرى أن الترضية عنهم لازمة باعتبار أن وقوفهم السابق مع النبي يكفر ذلك الخطأ. الرأي الثاني يرى أن سابقتهم مع النبي توجب علينا الترضية عنهم، والخطأ منهم يوجب التوقف في شأنهم. وهناك قلة قليلة كانت تصرح بالبراءة منهم، والدعاء عليهم. وسأذكر نصين لإمامين أحدهما من أئمة الديلم، والآخر من أئمة اليمن، وهما من المتوقفين، وذلك لكي يعلم حقيقة معنى التوقف. قال الإمام الهادي علي بن جعفر بن الحسن الحقيني%(490هـ): وأشهد أن أمير المؤمنين إمام المسلمين بعد رسول رب العالمين؛ لما خصه الله تعالى بمجموع الفضائل والمناقب، ووضعه في أشرف المناسب، بمنصوص التنزيل المعرض للتأويل، لتقابل الأشباه والأمثال، وتعارض المعاني والأشكال، سميناه نصًّا خفيًّا، وإن كان معناه عند الرُّساخ واضحاً جلياً. وأما كبار الصحابة الذين تصدروا للإمامة ونهضوا بالخلافة فلا أغضُّ نفوسهم وأغراضهم، ولا أقابل بالشتم أعراضهم، بل أجد موجدة الزاري عليهم، والمستريب منهم لتمسكهم بالمحتملات، وتعلقهم بالمتأوَّلات وَأَكِلُ أمرهم إلى الله تعالى كما قال القاسم%: {تِلْكَ أُمَّةٌ قَدْ خَلَتْ}[البقرة:134]. وأما الإمام عبدالله بن حمزة (614هـ) فقد جاءته مسألة فيمن تقدم الإمام علي بن أبي طالب فأجاب إجابة مطولة فيها تفصيل، وأهم ما فيها: إن الصحابة عندنا أفضل بعد الأئمة" قبل إحداثهم، وبعد الإحداث لنا أئمة نرجع إليهم في أمور ديننا ونقدم حيث
أقدموا، ونحجم حيث أحجموا، وهم علي وولداه"، والحادث عليهم وغضبنا فيهم، ولم نعلم من أحد منهم سب أحدٍ من الصحابة ولا لعنه ولا شتمه لا في مدة حياتهم ولا بعد وفاتهم. فالذي تقرر عندنا أن علياً% أفضل الأمة بعد رسول الله÷، وولديه أفضلهم بعد علي%، لما تظاهر فيهم من الأدلة عن الله سبحانه وتعالى وعن رسول الله÷ المتقدم عليهم من أبي بكر وعمر وعثمان نقول بتخطئتهم ومعصيتهم لترك الاستدلال على علي% بالنصوص الواردة عن الله سبحانه وعن رسوله÷ في إمامته، ونقول: إن النصوص استدلالية لأنها محتملة، ولذلك جرى فيها النزاع الطويل والجدال الشديد من ذلك اليوم إلى يوم الناس هذا وإلى انقطاع التكليف وكل يحتج بما له وجه.
وقولنا هو الأحق والأولى لما ظاهرنا عليه من البراهين، ونصبنا من الأدلة التي لا توجد مع خصومنا، وندَّعي عليهم انقطاع المرام في تصحيح ما توسموه، وتلك الخطايا والمعاصي بالتقدم فتنقطع العصمة، وإنما يجوز أن يكون كفرا وأن يكون صغيرة، ولما يظهر لنا على ذلك دليل ولا بلغنا عن سلفنا الصالح% ما نعتمده في أمرهم، ولهم أعظم حرمة في الإسلام، لأنهم أول من أجاب دعوة جدنا÷، ونابز عنه، وعزَّ به الإسلام وقاتل الآباء والأبناء والأقارب في الله حتى قام عمود الإسلام، وأتى فيهم رسول الله÷ ما لم يأت في غيرهم وكان فيهم حديث بدر وآية بيعة الرضوان فصار الإقدام في أمرهم شديداً. وإنما نقول: إن كانت معاصيهم كبيرة، فالله تعالى لا يتهم في حال، والكبائر تبطل الطاعات وإن عظمت، وإن كانت صغيرة فلبعض ما تقدم من عنايتهم في الإسلام وسبقهم إلى الدين ولا يمكن أحد من أهل العصر ولا من قبله من الأعصار أن يدعي مثل سعيهم ومثل عنايتهم في الدين، وعلي% وولداه هم القدوة فلا نتجاوز ما بلغوه في أمر القوم، وهو نعي أفعالهم عليهم وإعلامهم لهم أنهم أولى بالأمر منهم، ولم يظهروا لنا أحكام أولئك أن خالفوهم ولا باينوهم مباينة الفاسقين في عصرهم... ثم قال بشأن فدك: وأما أمر فدك فقد كان فيها النزاع وتأولوا خبر النبي: ((نحن معاشر الأنبياء لا نورث ما خلفناه صدقة)) على غير ما تأولناه؛ لأن عندنا أن رسول الله÷ بيَّن أن ما قبضه من الصدقة لا يكون إرثاً لوارثه، وإنما يكون مرجعه إلى بيت المال فما عندنا اسم ناقص بمعنى الذي، فكأنه قال الذي نتركه من الصدقات لا يورث عندنا معاشر الأنبياء، وأما أملاكهم فلم نعلم أن الله سبحانه فرَّق بينهم وبين غيرهم في ذلك. وقد وقعت أمور هنالك رددنا أمرها إلى الله عز وجل، ورضينا على الصحابة عموماً، فإن دخل المتقدمون على علي% في صميمهم في علم الله سبحانه لم نحسدهم رحمة ربهم، وإن أخرجهم سبحانه بعلمه لاستحقاقهم فهو لا يتهم
في بريته، وكنا قد سلمنا خطر الاقتحام، وأدّينا ما يلزمنا من تعظيم أهل ذلك المقام، الذين حموا حوزة الإسلام، ونابذوا في أمره الخاص والعام. وأما عثمان وإحداثه فلا شك في قبحها، وجوابنا فيها ما قال علي%: إنه قد قدم على عمله فإن كان محسناً فقد لقي رباًّ شكوراً كافئه على إحسانه، وإن كان مسيئاً فقد أتى رباً غفوراً لا يتعاظم أن يعفو عن شأنه، وهذا كلام علي% فيه مثل قوله: إنه استأثر فأساء في الأثرة، وجزعتم فأسأتم الجزع، ولله حكم في المستأثر والجازع، وهذا ما قضى به الدليل وأدى إليه النظر، ومن الله سبحانه نستمد التوفيق في البداية والنهاية والبلوغ إلى أسعد غاية)). وقد نجد في كتب التواريخ الزيدية بعض الروايات التي قد تقتضي براءة منهم، ولكن لا يعمل بمقتضى تلك الأخبار وإن كانت تروى لأنها مجرد أخبار تاريخية آحادية لا يجوز الاعتماد عليها في شأن كهذا. وأما معاوية ومن كان معه ممن قاتل الإمام علي بن طالب، فلا يخفى أمرهم على من له أدنى اطلاع.
الزيدية والحنفية والمعتزلة
نجد في بعض كتب الفرق أن الزيدية أخذت فقهها عن مذهب أبي حنيفة، وبالتالي فهي حنفية في الفروع. وأما أصول دينها فقد أخذته عن المعتزلة، في المقابل نجد أن الزيدية تنفي هاتين النسبتين بشدة. وفي تصوري فإن الخلاف بين المثبتين وبين النافين ينطوي على غرض أعمق من مجرد التاريخ لحركة علمية. أظن الأمر يتعلق باستقلالية أئمة أهل البيت وعلماء الزيدية في علومهم. فالمثبت لتلك النسبة يريد أن يقول: إنهم وإن كانوا اليوم مدرسة مستقلة، إلا أن جذورهم لا تصل بحال من الأحوال إلى أبعد من أبي حنيفة في الفقه، وواصل بن عطاء في الأصول. والنافي لهما يريد أن يتجاوز تلك العقبة ويصل بآراء الزيدية إلى الإمام علي، فالنبي عليهما الصلاة والسلام. وموضوع الأصالة التاريخية من القضايا التي كانت تهم كل فرقة من الفرق الإسلامية. فكل فرقة تريد أن توصل آراءها بالنبي وصحابته، وباعتبار أن شرعية ما يقولونه يرتكز على ذلك. إضافة إلى ذلك، فإن نفي أصالة فرقة من الفرق يُعَدُّ من الحجج عليها باعتبارها فرقة مبتدعة قالت بأمر لم يعرف على عهد النبي، ولا عهد صحابته. وأرى أن مثل هذا الخلاف لا معنى له. فالصواب صوابٌ باعتبار ذاته، لا باعتبار أصله. وإذا غاب عنَّا ما يدل على أصالة رأي لدعم قول من الأقوال، فإن حجج العقول والنصوص لا زالت بين أيدينا وهي كافية وافية شافية. على ضوء هذا، فإنني سأعلق على هذا الكلام من الناحية التاريخية فقط. فآراء الزيدية لا تقيَّمُ انطلاقاً من أصلها، وإنما انطلاقاً من مرتكزاتها، ثم من تفعيلها في الحياة. من الناحية الفقهية، فمعلوم أن الزيدية تمنع على المجتهد التقليد في الفقه، وأنها لذلك لا يمكن اعتبارها تتبع مذهب فقهي لعلم من أعلام أهل البيت، فكيف يكون ذلك بالنسبة لعلم من غيرهم؟ وأما مقلدو الزيدية فلا يقلدون أبا حنيفة رحمه الله، كما لا يعتمدون أياً من مصادر الفقه الحنفي في تقليدهم. وأما قدماء أهل البيت"، فلم يعلم
منهم من كان حنفياً. نعم، قرأ كثير من علماء أهل البيت في العراق في القرن الرابع الفقه الحنفي، ولكنها قراءة اجتهاد ونظر وليست قراءة تقليد. وقد يكون أصل هذا القول، إذا كان لا بد له من أصل، هو المشابهة بين فقه الإمام الهادي%، وفقه الحنفية. ولكن حتى هذا الأمر لا يكفي. فالمشابهة بين المسائل وحدها لا تعني أنها مشابهة تقليد. كما إن هذه المشابهة قد تعود لاعتبارات أخرى غير التقليد نحو وحدة المنشأ. ففقه العراق الذي عليه الحنفية متأثر بفقه الإمام علي بن أبي طالب، ومثله في التأثر فقه أهل البيت بما فيهم الإمام الهادي% إضافة إلى كل ذلك فإن طبيعة الاختلافات الفقهية بين المذهبين الموجودة فعلاً تدل على خطأ مثل هذا القول. وأما العلاقة بين الزيدية والمعتزلة، فهي أعمق، ولكنها لا تبلغ حد أن يكونا مدرسة واحدة، أو أن يكون أهل البيت أسسوا مدرستهم متأثرين بها. إن كل من يثبت تلك النسبة قد اعتمد على مجموعة من الأمور وهي:
1. التقدير الكبير الذي يكنه أعلام أهل البيت والزيدية لمشائخ المعتزلة، التقدير الذي أوصل أحدهم وهو الإمام أحمد بن يحيى بن المرتضى إلى أن يضع كتاباً في الطبقات سماه طبقات المعتزلة، ذاكراً ضمن تلك الطبقات أعلام أهل البيت والزيدية، فنسب الزيدية إلى المعتزلة وليس العكس. وهذا الأمر إن دلَّ على شيء فإنما يدل على تقدير أهل العلم بعضهم لبعض. فمما لا شك فيه أن مشائخ المعتزلة بلغوا في العلم غاية لا يستهين بها إلا جاهل، أو قليل إنصاف. كما أن أغلبهم كان غاية في الورع والخشية من الله تعالى. ولكن لا يدل على أنهما مدرسة واحدة.
2. اتفاقهما في القضايا الكبرى في أصول الدين. وهذا لا يكفي أيضاً لأن الموافقة في الآراء لا تعني ضرورة أنهما مدرسة واحدة، أو أن لهما شيخاً مشتركاً. وخصوصاً في آراء تجد نسبتها في العقل ومحكم التنزيل، مما يعني أنها شائعة لكل من أرادها. فالقول بالتوحيد والعدل والوعيد والإمامة لا تحتاج إلى عقول متميزة لتدركها، وتقول بها. ربما الاحتجاج لها قد يتطلب ذلك، ولكن القول بها متيسر لكل من أعمل يسيراً من عقله، وتأمل قليلاً في كتاب الله جل وعلا. فما بالك بأعلام أهل البيت النبوة في ذلك العصر، ممن عرفوا واشتهروا برجاحة عقل، ووفرة علم؟ ثم إذا كان لا بد من أن تكون هذه الموافقة نشأت عن شيخ مشترك، فإن الإمام علياً سيكون هو ذلك الشيخ حيث إن واصل بن عطاء تتلمذ في الأصول على يد أبي هاشم عبدالله بن محمد بن علي بن أبي طالب(ت98هـ)، وأعلام أهل البيت آنذاك أخذوا علومهم أباً عن أبٍ إلى الإمام علي أيضاً.
3. ما رواه الشهرستاني(ت584هـ) من أن الإمام زيداً تتلمذ على واصل بن عطاء فأخذ عنه أصول المعتزلة، ثم نقلها الإمام زيد إلى بقية أهل البيت ممن تبعه. والأمر هذا أيضاً لا مستند له. فكلام الشهرستاني غير مسبوق، ولم يذكره أو يشر إليه أحد من قبله من المؤرخين، بل حتى المعتزلة في كتبهم، عندما يذكرون الإمام زيداً في طبقاتهم لا يذكرون هذا الأمر. ثم إن الشواهد التاريخية تعارضه. فاللقاء بينهم إن حصل لم يكن ليتم إلا بعد أن تقدم الإمام زيد في عمره، وبالتالي في نضوجه العلمي. وآنذاك من البعيد أن يكون جاهلاً بتلك القضايا ليأخذها عن واصل، خصوصاً أن كلاً من أبيه وأخيه كانا يقولان بالتوحيد والعدل.
4. ما يُروى من أن واصلاً قدم إلى المدينة فاستقبله إبراهيم بن أبي يحيى (ت184هـ) شيخ الإمام الشافعي (ت204هـ)، وأن الإمام زيداً وبعض أهل البيت تسارعوا للجلوس معه. ثم تحكي قدوم جعفر الصادق ونكيره على واصل،صحة الرواية تحتاج إلى تحقيق، فروايتها أتت منقطعة في كتاب أبي القاسم البلخي(319هـ). ثم إن صحت الرواية ففيها شقان. شق يتعلق بمبادرة أعلام أهل البيت إلى لقاء واصل. وشق يتعلق بموقف الإمام من جعفر الصادق. فالشق الأول يدل على عناية أعلام أهل البيت باللقاء بكل من عرف بالعلم والعمل. وواصل بن عطاء كان من العلم بمكان، وكان من الدعاة العاملين المعروفين. وأما ما يتعلق بالشق الثاني، فإن الكلام عن الحسد في ذلك الموقف لا معنى له، فإن الإمام جعفر الصادق لم يعرف منه أي نشاط سياسي دعوي بحيث يكون حاسداً أو محسوداً، وإنما كان جل اهتمامه بالعلم والتعليم. ولعل أصل الاختلاف حصل، ولعله يتعلق برأي للإمام جعفر في التعاون السياسي مع واصل، ثم حُرِّفِّت الرواية. وفي كل الأحوال فإن صحت الرواية فلا تدل على أكثر من لقاء طابعه الأساسي سياسي وليس علمياً.
5. الأمر الأخير الذي يذكر لدعم تلك المقولة كون المعتزلة قاتلت بين يدي إبراهيم بن عبدالله بن الحسن حتى قتل الكثير منها، وكونها هي التي نصرت الإمام إدريس بن عبدالله في المغرب، وعلى أكتافها أقام دولته هناك. وهذا الكلام صحيح لا شك فيه، ولكن لا يدل على علاقة علمية. في مقابل تلك الأمور نجد قضايا مشكلة في علاقتهم ببعض وهي:
1. إن كتب الطبقات التي وضعها المعتزلة خالية من ذكر الأئمة من أهل البيت بعد الإمام إبراهيم بن عبدالله. وهذا الأمر مشكل على من يقول بأنهم فرقة واحدة، وأظنه مفتاحاً للبحث في العلاقة بينهم، بل لعله مؤشر على رأي المعتزلة في الخروج.
2. فالذي يظهر أن المعتزلة بعد مقتلهم بين يدي الإمام إبراهيم بن عبدالله تغير منهجهم من الخروج والثورة. ربما لقناعتهم أن الدولة العباسية بلغت بعد القضاء على حركة النفس الزكية وأخيه إبراهيم من القوة مبلغاً لا يمكن معه الوقوف أمامهم. وبالتالي فإنه لا يجب الخروج عليهم، لأن الخروج لا يكون واجباً ما لم يظن الغلبة. أيضاً ربما لرأيهم أن العمل العلمي أجدى وأنفع. ولذلك فلو تتبعنا أعلام المعتزلة من القرن الثاني حتى أول الرابع، لما وجدنا واحداً منهم ممن خرج أو ثار. وقد كانوا على فريقين: فريق يُجَوِّز التعاون مع السلطان نحو: بشر بن المعتمر(210هـ) الذي كان مقرباً من المأمون، وثمامة بن أشرس(213هـ) وكان مستشاراً للمأمون،و هشام الفوطي(221هـ) الذي كان المأمون يجله، ويوسف الشحام(267هـ) كان صاحب وظيفة في الدولة. وفريق يتشدد في العمل مع السلطة نحو: عيسى المردار راهب المعتزلة، وكان يتشدد في الاختلاط مع السلطان (220هـ)، وجعفر بن مبشر الثقفي (234هـ) كان زاهداً، تتلمذ على عيسى المردار، وكان مبتعداً عن السلاطين، وجعفر بن حرب (236هـ) الذي كان له عمل كبير في الدولة قبل أن يصبح من علماء الكلام، ثم ترك الدولة، وابتعد عنها. ويلاحظ أن السمة العامة لمن كان يتجنب السلاطين هم المعتزلة المتشيعة، أي البغدادية منهم. ولعل من أجاز الاختلاط بهم كان من باب معاونتهم على الحق. وقد يكون عدم قيام أي من أعلامهم بأي عمل ثوري يعود إلى رأي لعمرو بن عبيد (144هـ)، فَيُنْقَلُ عنه ما يدلُّ على أن له رأياً خاصاً في الخروج على الولاة، بعضهم يقول: إنه لا يُجيز الخروج حتى يتوفر له عدة أهل بدر ممن هم مثله ديناً، ولذلك قال أبو جعفر الدوانيقي في شأن المعتزلة الذين قاتلوه: ما خرجت المعتزلة علينا حتى مات عمرو بن عبيد. وفي تصوري فإن المعتزلة الذين خرجوا كان لهم رأي مختلف في الخروج، ولعله رأي يعود إلى واصل بن عطاء (131هـ) الذي كان يرى
الخروج كما تدل عليه الروايات. كما أتصور أنهم كانوا خارجين حتى لو لم يمت عمرو بن عبيد. يدل عليه أن من خرج كان من العلم والشأن بمكان يمنع من أن تكون علاقتهم بعمرو علاقة طاعة. ومهما كان الأمر، فإن غياب ذكر أعلام أهل البيت بعد ثورة النفس الزكية يدل على أن المعتزلة في مرحلة ما ارتأت أن تقطع اتصالها السياسي بأهل البيت. وأما ذكرهم لمن كان قبل ذلك، فقد لا يكون أزيد من ذكرهم لأبي بكر وعمر وعثمان وعلي في الطبقة الأولى من طبقات المعتزلة، وإنما ذكروا أولئك باعتبار أنهم يقولون بالتوحيد والعدل.
3. إضافة إلى ما سبق حول العلاقة بين المعتزلة والزيدية بعد ثورة النفس الزكية، فإن هناك ما يدل على أن واصلاً بن عطاء كان ذا توجه سياسي مستقل عن الإمام زيد بن علي. ذلك أن واصل كان يرسل رجالاً إلى مناطق كان للإمام زيد% فيها رجال.
4. وأما ما ينقل من أن الإمام الهادي يحيى بن الحسين أخذ أصول دينه عن أبي القاسم البلخي (319هـ)، فكان الأولى القول بأنه أخذها عن أبيه العالم المحدث، الذي أخذها عن أبيه القاسم بن إبراهيم نجم أهل بيته في زمانه، والذي تدل مؤلفاته الكلامية أنه بلغ غاية العلم. وإذا صحت التقديرات أن البلخي كان في الستينات من عمره حين توفي، فإن أخذ الهادي عنه أبعد.
استعمالات كلمة "زيدية" في المراجع والمصادر
استعملت كلمة "زيدية" بأكثر من معنى من قبل الباحثين قديماً وحديثاً. سبب هذا التباساً عند تناول الزيدية حيث وضعت استعمالات متعددة ذات اعتبارات مختلفة في خانة واحدة. وما يلي بعض الاستعمالات، ويلاحظ أنها قد تتداخل، ولكنها مع ذلك تتمايز، وبالتالي فما يقال عن الزيدية بمعنى من هذه المعاني، لا ينطبق على الزيدية بمعنى آخر بالكلية، وإن كان قد ينطبق جزئياً. هم الجماعة التي تدين لله تعالى بما سبق ذكره من الأصول الدينية، والمفاهيم المنهجية، وهو المستعمل في هذا البحث. كانت الكلمة في المراحل التاريخية الأولى بعد خروج الإمام زيد% تطلق على كل من خرج مع الإمام زيد، أو دعا إليه. ثم في مرحلة تالية أصبحت تطلق فقط على الشيعة ممن كان يرى الخروج مع الداعي من أهل البيت، أي تقلص نطاقها. ولكنها في المرحلتين لم تكن لتطلق لتشمل أحداً من أئمة أهل البيت آنذاك، فلم يقل عن الإمام محمد بن عبدالله النفس الزكية، أو عن الإمام الحسين بن علي الفخي، أو عن الإمام القاسم بن إبراهيم، إلخ ... لم تطلق هذه الكلمة لتشملهم، وإنما لتشمل شيعتهم، ممن وافقهم في الخروج على أئمة الجور. ثم في مرحلة متأخرة ولعلها حول القرن السادس أو السابع بدأت تطلق لتشمل أئمة أهل البيت أيضاً. بناء على هذا فإنه يمكن أن نفهم معنى الكلام على الفرق الزيدية في القرن الثاني للهجرة، فهو كلام عن بعض الاختلافات التي نشأت بين الزيدية أي بين الشيعة القائلين بالخروج، وهي لا تشمل بأي حال الأئمة من أهل البيت آنذاك. وقد تطلق على مقلدي الإمام زيد بن علي×، كما يقال قاسمية لمقلدي الإمام القاسم وناصرية لمقلدي الإمام الناصر وهادوية لمقلدي الإمام الهادي، ومؤيدية لمقلدي الإمام المؤيد بالله عليهم جميعاً سلام الله. وهذا الاستعمال متأخر بعض الشيء، ولا يشير إلا إلى الاختلافات الفقهية ضمن الزيدية، ولا علاقة له بأصول الدين. كما قد يقال "الزيدية" ويراد بها مذهب أئمة أهل
البيت. أي يراد بها الفكرة لا الشخصيات. وهذا الاستعمال يبدو أنه معاصر بعض الشيء، ومقارب للأول.
فرق الزيدية
المشهور من هذه الفرق هي: الجارودية، والبترية الصالحية، والبترية الجريرية. وهذه الفرق الثلاث تنسب إلى أشخاص عاشوا في الفترة التي تلت استشهاد الإمام زيد بن علي. فالجارودية تنسب إلى أبي الجارود المتوفى سنة 150 او 160، والبترية الصالحية تنسب إلى الحسن بن صالح بن حي 168، والبترية الجريرية تنسب إلى سليمان بن جرير المتهم بسم الإمام إدريس بن عبدالله. وهناك أكثر من تَحَفُّظٍ على اعتبار وجود هذه الفرق، بل وغيرها من الفرق الإسلامية، حيث إنه كان يكفي وجود عدد قليل من الأشخاص ذوي رأي مميز في قضية ما لكي يصبحوا فرقة. ولقد كان كُتَّابَ الفرق مولعين بتكثير الفرق لكي يمكنهم الوصول إلى عدد 72 المشار إليه في الحديث، وتكون الفرقة الـ 73 هي فرقة المؤلف الناجية. كما إنه يوجد خلط في المصادر بين البترية والصالحية والجريرية مما يوقع المرء في حيرة من واقع حالهم. فالصالحية نسبة للحسن بن صالح بن حي، والبترية نسبة إلى سليمان بن جرير على رأي، ونسبة إلى كُثير النوا على رأي آخر. وأما السليمانية فنسبة لسليمان بن جرير. والصالحية والبترية يعدان فرقة واحدة، وتأتي مشكلة نسبتهما من هذه الجهة، فإذا كانت البترية نسبة إلى سليمان بن جرير، فهذا يجعلها والسليمانية نسبة لشخص واحد. ومهما كان الأمر، فإنها عدا الجارودية لم يظهر لها أثر بعد القرن الثاني؛ فلا نكاد نجد من ينسب إليها، كما لا نكاد نجد بين الزيدية بعد القرن الثاني من قال بما نسب إليهم من مقالات. أما الجارودية فلعلها أطلقت في أول الأمر على الشيعة الزيدية التي كان لها رأي مخصوص في طبيعة النص على الإمام علي، فقد كانت ترى أنه نصٌ جليٌ يظهر مدلوله بمجرد سماعه. ثم صارت فيما بعد علماً على كل من قال بمثل قولهم. ولعل هذا يبين قصد صاحب الحور العين، والإمام عبدالله
بن حمزة إلى أن زيدية اليمن جارودية. ومن الفرق الأخرى هي الحسينية والمطرفية والمخترعة. أما الحسينية فهي جماعة لم تقبل خبر مقتل إمامها الإمام الحسين بن القاسم العياني(ت 404هـ)، فقالت بغيبته، وهي جماعة محدودة لم تستمر. وأما المطرفية فجماعة من الزيدية كان لها تفسيرها الخاص لعلاقة الله تعالى بخلقه، وقد نشأت نسبة لمطرف بن شهاب ق5، ثم امتد وجودها حتى عصر الإمام عبدالله بن حمزة (ت614هـ)، حيث إنه في آخر أيامه، ولما بدءوا يظهرون التمرد على بيعته، قاتلهم. وهناك من يقول بأنه بالغ في قتلهم، ولكثرة ما دار حولهم رأيت أن أفرد بعض الملاحظات حولهم. وأما المخترعة فأطلقت على الرأي الذي يخالف رأي المطرفية، وبالتالي على من خالفهم، فالتسمية عارضة، وسببها نشوء الخلاف حول ذلك الموضوع. ولأهمية المطرفية حيث كان لوجودها تأثير على الساحة الفكرية والسياسية للزيدية، بخلاف غيرها من الفرق العقائدية، سأضع بعض النقاط حولهم فيما يلي:
تنسب المطرفية إلى مطرف بن شهاب المتوفى في منتصف القرن الخامس الهجري. وهناك خلاف حول بدايات ظهور فكرها، ولكن تاريخ الفرقة لا يعنينا في هذا السياق. ويمكن اعتبار أن موقفهم الأساسي يتلخص في قولهم: إن الله تعالى خلق أصول الأربعة التي هي: الماء، والهواء، والنار، والتراب، وأما خصائص تلك الأصول، وكل ما سواها في الكون، من مادة وخصائصها فإنما نتجت بتفاعل بين تلك الأصول، ولم يكن لله تعالى في ذلك أمر. وهي مقولة قال بها بعض فلاسفة الإغريق وغيرهم. وقد رأى أعلام الزيدية وأهل البيت آنذاك في هذا القول مخالفة للأدلة العقلية وللضرورات الدينية. وقد جادلهم مجموعة من أولئك عبر عقود من الزمن، منهم الإمام أبو هاشم الحسن بن عبدالرحمن(431هـ)، والإمام أبو الفتح الديلمي(444هـ)، والعلامة سعيد بن برية(476هـ)، والعلامة محمد بن حميد الزيدي(520هـ)، والقاضي جعفر بن عبد السلام(537هـ)، والإمام المتوكل على الله أحمد بن سليمان (566هـ)، والإمام عبدالله بن حمزة(614هـ)، والقاضي عبدالله بن زيد العنسي (667هـ)، وغيرهم كثير. وفي عصر الإمام عبدالله بن حمزة(614هـ) تطور الأمر إلى قتال بينهم وبين الإمام، فكانت الغلبة للإمام عبدالله، وقد رأى أنهم كفار. والظاهر من نصوص المطرفية التي وصلتنا أنها اقتضت أمرين متلازمين:
* إنكار مبدأ التدبير الإلهي. وذلك باعتبار أن كل ما نراه اليوم ليس لله فيه تدبير أو شأن، وإنما هو بتفاعل المواد الأربعة.
* إنكار مبدأ الربوبية باعتبار أن ذلك القول عزل الله تعالى فعلياً عن خلقه وحكماً فإن عزل الله عن خلقه، يعني عزل الخلق عن الله تعالى، فلا يبقى أي معنى لكل أشكال اللجوء إلى الله تعالى. ولتوضيح الفكرة أكثر يمكن الإشارة إلى التعدد في الآراء حول علاقة الله تعالى بخلقه. يمكن القول بأن الكون فيه ثلاثة أمور أساسية: 1. المادة. 2. النظام. 3. الأفعال. هناك من يرى أن فعل الله تعالى محصور في إخراج أصل الكون من العدم إلى الوجود، أي ليس له إلا خلق المادة، وليس كل المادة، إنما المادة الأولى والتي منها نشأت بقية أشكال المواد. وقد اختلف أهل هذا الرأي حول الخلق الأول، وهو اختلاف ليس بذي أهمية، فأصل الفكرة لا علاقة لها بتحديد ذلك المخلوق الأول. وكلما بعد المخلوق الأول إنما نشأ من خلال ذلك الخلق الأول. يمكن اعتبار أن هذا الرأي يقول بأن الله تعالى اعتزل الكون بعد إنشائه، فهو "المحرك الأول". وأما النظام في الكون، أي القوانين التي تحكم التفاعلات الموجودة، وكذلك الأفعال التي تصدر عن المادة ضمن ذلك النظام، فهي كلها خارجة عن خلق الله تعالى. وبالتالي فكل مظاهر التدبير التي نشاهدها، وجميع ألوان الحكمة التي نراها، وجميع الخصائص المتنوعة للمادة، فليس الله تعالى مدبرها، ولا محكمها، ولا فاعلها. بخلاف هذه الرؤية، فهناك رؤية ترى أن الله تعالى خلق المادة، وخلق النظام، وأما الأفعال فمنها ما يصدر عن المادة ضمن النظام الذي وضعه الله، ومن الخصائص التي جعلها الله في المادة، أو عن الإرادة الحرة التي آتاها الله تعالى للأحياء العاقلة. ثم هناك رؤية ترى أن الله خلق الخلق والنظام، وكذلك الأفعال الصادرة عن النظام، وأيضاً الأفعال المتعلقة بالإرادة. فليس لكل من المادة أو الإرادة أي تأثير، وإنما الله يفعل كل شيء. وعليه فقيمة النظام والإرادة شكلية هنا. الرأي الأول هو رأي المطرفية، ومنه يتضح القصد بأنه رأي يعزل الله عن خلقه،
كما إنه ينفي التدبير. الرأي الثاني للزيدية، وهو يثبت النظام، ويثبت تأثيره، ولكنه يرى أن الله تعالى هو الذي خلق النظام، وهو الذي خلق القدرة التأثيرية الموجودة في المادة. والرأي الثالث للأشعرية وهو يرى أن لا تأثير مطلقاً إلا لله تعالى، فينفي القدرة التأثيرية في المادة كما ينفي القدرة التأثيرية للإرادة الإنسانية. مما سبق يظهر لنا موقع قولهم بين الأقوال. أما موقف الإمام عبدالله بن حمزة، فقبل تأييده أو تخطئته، لا بد أولاً من إدراك آثار قول المطرفية على علاقتنا بالله تعالى، وتصورنا لربوبيته عز وجل. هذا من جهة. ومن جهة أخرى لا بد من تقييم حجم نحو ذلك القول في تلك الفترة من الإسلام، وفي تلك البيئة. ذلك أن نحو هذا القول قد لا يجده البعض مسوغاً للقتال وذلك إما لكثرة ما قد شاع اليوم من أنواع الكفر بالله والإلحاد به عز وجل. وإما لعدم تمييزنا بين القول بالسببية والذي قال به أئمة أهل البيت، وبين إنكار الربوبية والذي دعت إليه المطرفية، وإن لم تكن مدركة لذلك. وفي كل الأحوال، فالإمام مجهتد يخطئ ويصيب.
أهل البيت عليهم السلام
من أبرز ما تميّزت به الزيدية المكانة العالية التي جعلوها للأئمة من أهل البيت". فكانت لهم المرجعية السياسية، كما إن إجماعهم صار أحد الأدلة على الأمور الفرعية، إضافة إلى أن أبرز أعلامهم سياسياً وعلمياً كانوا من أهل البيت. ولذا فتجدر الإشارة إلى مرادهم من أهل البيت، وسبب منحهم هذه المكانة العالية باختصار شديد. أهل البيت ــ وفق فهم الزيدية والمنطلق من مجموعة من الأدلة المتظافرة ــ هم الإمام علي بن أبي طالب، والإمام الحسن بن علي، والإمام الحسين بن علي"؛ ومن نحا نحوهم وسار بسيرتهم واقتدى بأفعالهم من ذريتهم. أما من خرج عنهم فلم ينحُ منحاهم في العلم والعمل، ولم يعرف حرمتهم وقدرهم، ولم يراع منْزلتهم، فليس داخلاً في ما ورد من فضائلهم. وأعلامهم بعد الحسنين× كثيرون؛ وأهمهم إلى آخر القرن الثالث هم: الإمام الرضا الحسن بن الحسن(ت93هـ)، والإمام السجاد علي بن الحسين(ت94هـ)،والإمام باقر علم الأنبياء محمد بن علي بن الحسين(ت114هـ)،والإمام زيد بن علي(ت122هـ)، والإمام عبد الله ابن الحسن بن الحسن كامل أهل البيت في زمانه(ت145هـ)، والإمام علي ابن الحسن بن الحسن بن الحسن عابد أهل البيت (ت145هـ)، والإمام المهدي محمد بن عبد الله النفس الزكية (ت145هـ)، والإمام إبراهيم بن عبد الله (ت145هـ)، والإمام الصادق جعفر بن محمد بن علي(ت148هـ)، والإمام عيسى بن زيد(ت166هـ)، والإمام الحسين بن علي بن الحسن الفخي(ت169هـ)، والإمام إدريس بن عبد الله(ت177هـ)، والإمام يحيى بن عبد الله(ت180هـ)، والإمام موسى بن عبد الله بن الحسن(ت180هـ)، والإمام الكاظم موسى بن جعفر(ت183هـ)، والإمام محمد بن إبراهيم(ت199هـ)، والإمام الرضا علي بن موسى(ت203هـ)، والإمام علي بن جعفر العريضي(ت210هـ)، والإمام أحمد بن عيسى(ت247هـ)، والإمام عبد الله بن موسى الجون(ت247هـ)، والإمام نجم آل رسول الله القاسم بن إبراهيم بن إسماعيل الرسي(ت247هـ)، والإمام
الحسن بن يحيى بن الحسين بن زيد(ت260هـ)، والإمام الهادي إلى الحق يحيى بن الحسين(ت298هـ)، والإمام الناصر الأطروش الحسن بن علي(ت304هـ). واقتصرت على ذكر أولئك؛ لأن المرحلة التي عاشوها تعتبر المرحلة الأساسية في صياغة الفكر الأصولي والسياسي للزيدية، وفيها تجلت رؤية أهل البيت لتلك القضايا. ويتفاوت أولئك الأئمة من حيث انتشار فكرهم واشتهار مؤلفاتهم. فأشهر أولئك من هذا الاعتبار هم: الإمام الهادي يحيى بن الحسين، والإمام القاسم بن إبراهيم الرسي، والإمام الناصر الأطروش، والإمام زيد بن علي، والإمام الحسن بن يحيى بن الحسين، والإمام أحمد بن عيسى بن زيد. والترتيب بينهم بحسب شهرة وكثرة ما تدوالته الزيدية عنهم. وأما من سواهم، فتوجد عنهم روايات كثيرة، ولكنها لا تبلغ حد ما روي عن أولئك. سبب المكانة العالية لأهل البيت أمران: أولهما: ما كان لأهل البيت" من دور بارز في المحافظة على روح الإسلام متمثلة في الأصلين البارزين: الإيمان بالله وضرورة قيام إمامة عادلة. الثاني: مجموعة من الأدلة القرآنية والنبوية. من أبرزها قوله تعالى: {إِنَّمَا يُرِيدُ الله لِيُذْهِبَ عَنْكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيراً}[الأحزاب:33]، والصلاة الإبراهيمية، وحديث الثقلين الذي فيه: ((إني تارك فيكم ما إن تمسكتم به لن تضلوا من بعدي أبداً؛ كتاب الله وعترتي أهل بيتي، إن اللطيف الخبير نبأني أنهما لن يفترقا حتى يردا علي الحوض)). وفي آخر أحد ألفاظه: ((فانظروا كيف تخلفوني فيهما)). والحديث لا يتعارض مع الحديث الآخر الذي ضعفه الألباني وورد بلفظ: ((كتاب الله وسنتي))، بل يكملان عضهما البعض. أما الآية، فقد أشارت إلى أنه تعالى سيطهر أهل البيت عن الرجس، وأفادت ذلك بصيغ تأكيدٍ قوية جداً. فـ"إنما" تفيد التأكيد،وتقديم "عنكم" يفيد التأكيد، و"يطهركم" هو تأكيد لمعنى "يذهب الرجس"، و"تطهيرا" أيضاً تفيد التوكيد. إن مجرد ذكر
أهل البيت في هذه الآية الكريمة، بالصيغة هذه، تدعو إلى التأمل العميق.
وأما الصلاة الإبراهيمية: اللهم صل على محمد وعلى آل محمد كما صليت على إبراهيم وعلى آل إبراهيم... فإنها قابلت بين أهل البيت وبين آل إبراهيم، هذه المقابلة التي تفيد أن لهم المكانة العامة في هذه الأمة التي كانت لآل إبراهيم في أمتهم. كما أنها تدل على فضلهم من وجه آخر، حيث إن الأمة مأمورة بالصلاة عليهم كلما صلت على محمد المصطفى. إضافة إلى كل هذا فإن جعلها في الصلاة، بحيث يتم الصلاة عليهم ليلاً نهاراً إلى قيام الساعة لا يخلو من معنى لكل ذي بصيرة. أما حديث الثقلين فأشار إلى أمور منها:
1. أن النبي ترك فينا القرآن وعترته أهل بيته. وهذا وحده يدعو المؤمن إلى الوقوف والتأمل.
2. أن النبي صلى الله عليه وآله، قرن القرآن بالعترة، وجعل كلاً منهما ثقلاً، والثقل هو الأمر العظيم الشأن.
3. أن التمسك بالعترة عصمة من الضلال.
4. أن النبي÷ سوف يسألنا عن موقفنا من العترة. تلك النصوص، إضافة إلى غيرها، سبب تلك المكانة المشار إليها. ومهما اختلفنا حول دلالة تلك النصوص، فلن نختلف في أن أقل ما تدل عليه هو أن لأهل البيت شأناً عند الله، شأناً يوجب على الأمة أن تبحث عن أخبارهم، وتُنَقِّب عن أحوالهم، وتتبع علومهم، وتنظر في كتبهم، وتتعلم من أعلامهم، وتترك أعداءهم. ولكن وللأسف فأكثر الناس نحو أئمة أهل البيت إما غافل، وإما جاهل، وإما حاسد. والناظر في كتب التاريخ يجد عجباً حين يرى أن أهل البيت قوبلوا بكثير من الجفاء تارة، والإغماط تارة، والقدح تارة أخرى. هذا فضلاً عن قتلهم، وتشريدهم، هم وكل من انتسب إليهم. فقد قتل أمير المؤمنين و سُمَّ الحسن% سراً، وقُتِل الحسين هو وأهل بيته وخيرة أصحابه جهراً، وسم الحسن بن الحسن وعلي بن الحسين زين العابدين، وصُلِب زيد بن علي عرياناًُ في كناسة الكوفة، وقُطع رأسه ونصب أمام قبر جده المصطفى صلى الله عليه وآله، كما قتل ولده يحيى%، وقتل عبد الله بن الحسن بن الحسن كامل أهل البيت مع خيرةٍ من أهل بيته نحو إبراهيم الشبه بن الحسن بن الحسن، وعلي العابد بن الحسن بن الحسن بن الحسن " في حبس أبي جعفر الدوانيقي، وبُني على محمد بن إبراهيم بن عبدالله بن الحسن%، وقُتل محمد وإبراهيم ابنا عبدالله بن الحسن، وقتل موسى بن جعفر شهيداً في حبس هارون العباسي، وسمم هارون إدريس بن عبدالله، وقتل أخاه يحيى بن عبدالله، وسُم علي بن موسى الرضا على يدي المأمون(ت218) وهذا فضلاً عمن شُردِّ وطُرِدَ نحو الإمام عيسى بن زيد، وابنه الإمام أحمد بن عيسى، والإمام علي بن جعفر العريضي، والإمام القاسم بن إبراهيم الرسي، وقد وصف الإمام يحيى بن عبدالله أحوال من شُرِّد من أهل البيت ضمن رسالة وجهها إلى هارون العباسي حيث قال: (فلما أهلكه الله ـ أي أبو جعفر الدوانيقي ــ قابلتنا أنت وأخوك الجبَّار الفظ الغليظ العنيد ــ يعني موسى
الملقب بالهادي ـ بأضعاف فتنته واحتذاء سيرته قتلاً وعذاباً وتشريداً وتطريداً، فأكلتمانا أكل الرُبا حتى لفظتنا الأرض خوفاً منكما, وتأبَّدنا بالفلوات هرباً عنكما، فأنست بنا الوحوش، وأنسنا بها وألفتنا البهائم وألفناها). وإضافة لكل ما سبق فقد كان الإمام علي يُلْعَنُ ويُشْتَمُ بعد كل صلاة جمعة وفي الخطبة، في كل قطر من أقطار ديار الإسلام في العصر الأموي. والكلام فيما تعرض له أهل البيت ومن انتسب إليهم يطول، وما ذكرته غيض من فيض، والغرض الإشارة. في مقابل ذلك فإننا نجد أن من سَفَكَ دماء أهل البيت، وانْتَهَكَ حرماتهم، ولم يُرَاع مكانتهم ومنزلتهم من رسول الله، قد تم الثناء عليه وقبوله والرضا عنه. ولو اقتصر ذلك على الساسة ورجال الدولة، لكان الأمر مقبولاً إلى حد ما، ولكن الأمر امتد إلى رجال الحديث من أهل السنة حيث صارت القاعدة لديهم كما قال ابن حجر العسقلاني: "توثيقهم الناصبي غالبا وتوهينهم الشيعة مطلقا..." ؛ فقد أثنوا على مروان بن الحكم بن أبي العاص الأموي، وهو رأس الفتنة أيام عثمان بن عفان، وقاتل طلحة يوم الجمل، والمشير بقتل الحسين بن علي، وكان يسبه وأخاه وأباهما. وزهير بن معاوية بن خديج الجعفي الكوفي أثني عليه خيراً، ولم يعب عليه إلا أنه كان ممن يحرس خشبة زيد بن علي لما صلب. وإبراهيم بن يعقوب الجوزجاني الدمشقي المشهور ببغضه للإمام علي. ومدح حريز بن عثمان وهو ممن كان يلعن أمير المؤمنين علي بن أبي طالب جهراً، وعمر بن سعد بن أبي وقاص قاتل الحسين بن علي، وأبو لبيد لمازة البصري الملقب بأسد السنة والمعروف بعداوته لأهل البيت، وعمران بن حطان السدوسي المادح لقاتل الإمام علي بن أبي طالب، وغيرهم عشرات ممن مدحوا وأثني عليهم. نعم، قد كان في أهل البيت الفاسق والفاجر، ولكن الله تعالى إنما مدح جملتهم، كما قال جل وعلا: {وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا نُوحًا وَإِبْرَاهِيمَ وَجَعَلْنَا فِي ذُرِّيَّتِهِمَا
النُّبُوَّةَ وَالْكِتَابَ فَمِنْهُمْ مُهْتَدٍ وَكَثِيرٌ مِنْهُمْ فَاسِقُونَ}[الحديد:26]، فالله تعالى لما جعل النبوة والكتاب في ذرية نوح وإبراهيم لم يعن أنه جعلها فيهم جميعاً، وإنما في فئة مخصوصة منهم. ويعلم كل منصف، أن لا علاقة بين الكلام في شأن أهل البيت وبين العنصرية والسلالية والعرقية ونحوها. المسألة لا تتجاوز الكلام في ابتلائين: ابتلاء الله تعالى لأهل البيت، وابتلاء الله تعالى للأمة. لقد ابتلى الله أهل البيت بأن جعلهم: الثقل الأصغر، وسفينة نوح، وباب حطة، ونجوم أهل الأرض، وورثة الكتاب، والمطهرين من الرجس، والمصطفين بين الأمم. فكان ابتلاء الله لهم هو بأن منحهم ذلك المقام، وجعل لهم تلك المنْزلة. فمن سعى منهم لأن يكون كما أراد الله له، فله الحسنى عند الله تعالى، ومن قصَّر سقط. وبذلك كان في أهل البيت السابق المجاهد المؤمن، والمقتصد والعابد والمقصر، والظالم لنفسه بأن لم يسع لنفسه ما جعل الله له، أو بأن تعدى ذلك وفسق وتجبر في الأرض {وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا نُوحًا وَإِبْرَاهِيمَ وَجَعَلْنَا فِي ذُرِّيَّتِهِمَا النُّبُوَّةَ وَالْكِتَابَ فَمِنْهُم مُّهْتَدٍ وَكَثِيرٌ مِّنْهُمْ فَاسِقُونَ،ثُمَّ أَوْرَثْنَا الْكِتَابَ الَّذِينَ اصْطَفَيْنَا مِنْ عِبَادِنَا فَمِنْهُمْ ظَالِمٌ لِّنَفْسِهِ وَمِنْهُم مُّقْتَصِدٌ وَمِنْهُمْ سَابِقٌ بِالْخَيْرَاتِ بِإِذْنِ اللَّهِ ذَلِكَ هُوَ الْفَضْلُ الكَبِيرُ} كما ابتلى الله تعالى أمة محمد بأهل البيت، فأمرها بالاقتداء بهم، وبالأخذ عنهم، وبمحبتهم؛ وبالجملة أمرهم أن ينْزلوهم حيث أنزلهم الله تعالى، وأن يجعلوا لهم ما جعله الله تعالى لهم. فمن أطاع وخضع لله تعالى فله الثواب العظيم، والأجر الوفير، والمغفرة، وكان فعله كفعل بني أسرائيل إذ دخلوا باب حطة. والتشبيه بباب حطة يدل على أن الأمر يتطلب تواضعاً، وخضوعا لله تعالى. وأما من نصب العداوة لأهل البيت حسداً لما
جعله الله لهم، وذلك بغمط فضائلهم، أو القدح فيهم، أو بصرف الناس عنهم، أو بسفك دمائهم وانتهاك حرماتهم فقد خالف ما أُمِر به، وحسابه على الله. {أَمْ يَحْسُدُونَ النَّاسَ عَلَى مَا آتَاهُمُ اللّهُ مِن فَضْلِهِ فَقَدْ آتَيْنَا آلَ إِبْرَاهِيمَ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَآتَيْنَاهُم مُّلْكًا عَظِيمًا فَمِنْهُم مَّنْ آمَنَ بِهِ وَمِنْهُم مَّن صَدَّ عَنْهُ وَكَفَى بِجَهَنَّمَ سَعِيرًا}. جعلنا الله تعالى ممن يأتمر بأمره، ويخضع لقوله، وحشرنا مع الأنبياء والمرسلين.
العصمة
من القضايا التي تتعلق بأهل البيت ما يتعلق بمفهوم العصمة. وموضوع العصمة ليس من مهمات الدين، والقول به أو عدمه لا يضر كثيراً. ثم إنه من المفاهيم التي يختلف تفسيرها بين المذاهب. عند الزيدية العصمة هي تأييد إلهي يساعد العبد على ترك المعاصي، ولكن لا تجبره على ذلك، ولذلك هي لا تتنافى مع الاختيار. كما إنها لا تتعلق بالخطأ، أو السهو، أو النسيان، فلا تنافي بين العصمة وكل ذلك. كما إنها أمر اكتسابي يمكن لأي عبد صالح أن يحصل عليه، سواء كان من أهل البيت أم من غيرهم، إلا أن الزيدية ترى وفقاً لقوله تعالى:{إِنَّمَا يُرِيدُ الله لِيُذْهِبَ عَنْكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيراً}، أن لأهل البيت اختصاصاً في رحمة الله ، بحيث يكون الصالح منهم أقرب إلى استحقاق التأييد من غيرهم. والمشهور بين الزيدية أن العصمة لأهل الكساء تعييناً، ولم يعين الله سواهم. وعصمتهم لا تعني أنهم لا يخطئون فيما لا معصية فيه. وأما في الفتيا أو المواقف السياسية والاجتماعية، فالقول بعصمتهم لا يعني قطعاً وجوب اتباع كل شيء عنهم. بل قد نص الإمام عبدالله بن حمزة على جواز مخالفة اجتهادات الإمام علي نفسه، فقال ما نصه: ((إن تعبدنا باجتهادنا في الشرعيات دون اجتهاده ولا يسعنا إلا ذلك)). والذي أفهمه أنَّ مخالفة الاجتهاد لا تعني ضرورة التخطئة له، باعتبار أن ذلك الاجتهاد إنما صدر ضمن ظروف موضوعية محددة، وقد تصح الفتيا باعتبار تلك الظروف، ولكن يجوز لغيره من المجتهدين مخالفتها إذا ظهرت لهم اعتبارات موضوعية تدعو إلى ذلك. وأما وجوب اتباع الإمام علي% فهي في منهجه وسيرته الإجمالية التي لم تحد عن الحق قال الإمام عبدالله بن حمزة: ((إن متابعة علي% واجبة، ومخالفته غير صائبة فذلك حق عندنا في اتباعه في الدعاء إلى الحق، والدلالة على الرشد، وإقامة الحدود، واستيفاء الحقوق، وسد الثغور، وسياسة الجمهور....)). نعم، هناك من رأى أنه
تجب متابعة الإمام علي% مطلقاً باعتبار أن الأحاديث التي وردت فيه ودلت على أنه على الحق، وأن الحق معه توجب ذلك.
المهدي عند الزيدية
من اللافت للانتباه أنه لو بُحث في قديم مؤلفات الزيدية لن يجد الباحث الكثير عن المهدي، بل لعله لن يجد عنه أكثر من بضع صفحات. وأما ما روي عنه في فترات متأخرة فمأخوذ من كتب الحديث التي رواها غير أهل البيت، بل غير الزيدية عموماً. والظاهر من النصوص أن أهل البيت يقولون بأن هناك مهدياً مخصوصاً، هذا يظهر من موقفهم من محمد بن عبدالله النفس الزكية، فقد اُعْتُقِدَ فيه أنه هو المهدي، فلعل أمر المهدي مما كان يتناقل بينهم معرفة، وليس رواية. كما تكلم فيه الإمام القاسم بن إبراهيم، وأشار إليه وإلى كريم أوصافه الإمام الهادي يحيى بن الحسين. ولكن أيضاً نجد أن الزيدية لم تكثر من وضع المؤلفات عنه وعن أحواله. ولعل السبب يعود إلى رؤية الزيدية لمفهوم المهدية. هذه الرؤية نجد أصلها في كلام إبراهيم بن عبدالله بن الحسن(ت145هـ) لما سئل عن أخيه، أهو المهدي؟ فقال%: المهدي عدة من الله لنبيه وعده أن يجعل من أهله مهدياً لم يسمه بعينه ولم يوقت زمانه، وقد قام أخي بفريضته عليه في الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، فإن أراد أن يجعله الله المهدي الذي يذكر فهو فضل الله يَمُنُّ به على من يشاء من عباده، وإلا فلم يترك أخي فريضة الله عليه لانتظار ميعاد لم يؤمر بانتظاره. يدل النص على أن موضوع المهدي ليس إلا فضلاً من الله يسعد به من جاءه، ولكنه ليس الأمل الوحيد المعقود عليه في إحداث التغيير ، وبالتالي فإن حضوره في الثقافة الزيدية لم يتجاوز كونه فضلاً من الله يؤتيه من يشاء. بخلاف المهدي عند الفرق الأخرى التي أصبح هو الأمل المنشود والوحيد للتغيير في المجتمع المسلم. إن الحق يمكن أن يعود، والعدل يمكن أن يقام بغياب المهدي. توجب الزيدية السعي إلى أن يكون لكل عصر مَهْدِيُّهُ الذي يملأ زمانه عدلاً وقسطاً.
الإمامة
سبق أن أشرت إلى مكانة الإمامة لدى الزيدية. هذه المكانة صارت سبباً للنقد من كثير من الناس، وذلك لأن الذي شاع في الثقافة الإسلامية العامة عدم الاعتداد بأمرها، واعتبارها من الفروع والقضايا الثانوية. وقد سبق ما يبين سبب علو مكانتها لدى الزيدية. أيضاً مما أخذ على الزيدية في أمر الإمامة قولهم بأن الإمامة محصورة في أهل البيت"، وأنه ما دام هناك الكفؤ لها من أهل البيت فلا يصح اختيار أحد من سواهم. ولعل هذا الأمر كان السبب في أكثر النقد الموجَّه إليهم، هذا النقد الذي توجه إليهم من بعض الزيدية فضلاً عن غيرهم. بل لعله سبب لكثير من التضييق الذي عانوه عبر السنين. وقد نجد في عبارة ((الزيدية في معتقل الإمامة)) كثيراً من المعاني التي تنعكس عن واقع الزيدية والإمامة اليوم. ولكن السبب لا يعود إلى الإمامة، إنما يعود إلى مفهوم الناس عن الإمامة، وإلى الطريقة التي يتم بها عرض المذهب في الآونة الأخيرة. وقد سبق أن بيَّنْت أن حصر الإمامة في أهل البيت إنما هو من آليات الوصول إلى الحكم، ولا يُمَثِّل جوهر أو روح النظرية في الإمامة، وبالتالي فهو من فروع نظرية الإمامة العامة، وليس هو الإمامة. ولكن الأمر يعرض وكأن الإمامة عند الزيدية ليست إلا التأكيد على الحق الفريد لأهل البيت فيها. ولعل هذا يعود إلى كونها من القضايا التي كثر الاختلاف حولها، فكثرت الكتابات فيها، مما قد يوحي للكثير، زيدية وغيرهم، أن موضوع الحصر هو الأساس. والأمر أوضح في الفترة الأخيرة، حيث إن خصوم الزيدية في هجومهم عليها شددوا على قضية الهاشمية، وعلى قضية العنصرية، وعلى قضية الحصر وهكذا. هذا التشديد دفع كثيراً من الزيدية الى تكريس جهودهم ودعوتهم الى قضايا التشيُّع، وولاية أهل البيت، حتى كأنها صارت هي المميز الرئيس لفكر الزيدية، وحتى صار التوحيد والعدل وكأنهما تابعان لمفهوم التشيع وليس العكس. وقد سبقت الإشارة إلى أن الزيدية
ترى أن لا بد للقائم بأمر الإمامة من إذن شرعي يسمح له بممارسة الأمر والنهي على غيره من الناس. وترى الزيدية أن الله تعالى قد جعل هذا الإذن للأكفأ، والأفضل من أهل البيت، ولذلك فإنّ الزيدي عندما يرشح قيادةً فإنما يرشح الأكفأ من أهل البيت. فإذا قَبِلَتْ الأمة القيادة التي رشَّحها الزيدي فذلك حق للأمة. أما إذا رفضت الأمة القيادة التي رشَّحها الزيدي فليس أمامه، وليس أمام قيادته إلا أن ينزلا عند رغبة الأمة، ويضعا يدهما في يدها، ويعملا معها لخدمة الصالح العام. وإن الزيدية عندما تمنع منعاً قاطعاً من قيام أي حركة معارضة لمجرد كون القيادة خارجة عن آل البيت، وإن إصرارها على أن المعارضة لا تكون إلا للظلم، يدلان على أن موضوع الحصر لا يتجاوز كونه آلية، وأنه فرعي على النظرية العامة. وهذا لا يمنع من أن تخطِّيء من لا يختار من رشحته إماماً، ولا يمنع التبرم منه، ولا يمنع أن تدَّعي أن الناس إذ تقوم بذاك فإنها تحرم نفسها من بركات كبيرة، فيحق لها أن تُصِرَّ على ما تراه صواباً، كما يحق لغيرها على أن يُصِرَّ على رفض رؤيتها. وتدل السيرة العملية، والنصوص الصريحة لأئمة أهل البيت على هذا الأمر. فهذا الإمام علي صلوات الله عليه لما رأى أن الأمر قد صار في أيدي غيره، لم يعمل ما يضر مصلحة الأمة ليسترده، وإنما قال: ((لأسالمنَّ ما سَلِمَتْ أمور المسلمين، ولم يكن الجور إلا عليَّ خاصة))، هذا مع أن النص فيه أوضح وأصرح وأشهر من النص على عموم أهل البيت. أيضاً قوله: ((لولا حضور الحاضر، وقيام الحجة بوجود الناصر)) يدل على أنه لن يقوم للأمر إلا إذا رضيت الأمة، ونصرته كقيادة، وإلا فإنه سيبقى مكانه. وكذلك موقف الإمام الحسن بن علي× من معاوية لما رأى أنه فقد الناصر. ثم الإمام زيد بن علي× لما سألوه عن سبب قيامه على بني أمية، والبراءة منهم، وعدم البراءة من أبي بكر وعمر، فقد بيَّن الإمام بهذا أن خلافهم لم يوجب ما يترتب عليه
البراءة. ثم أضاف مسوغ الخروج على بني أمية دون الخليفتين:((إن هؤلاء ظالمون لنا ولكم))، فبيَّن أنه في حالة ما يكون الظلم على الإمام فقط، بمعنى أن الإمامة معقودة لغيره، في تلك الحالة فإن الإمام لا يتعين عليه القيام، أما في حالة أن يتعدَّى الظلم، ويصبح على الأمة بأسرها، فإن القيام واجب. ثم إن مواقف الأئمة العملية دلت على هذا، فلم نرَ إماماً ممن يحتج بإمامته قام في وجه حاكم عادل، لمجرد أن ذلك الحاكم ليس من أهل البيت، بل دلت نصوصهم كلها على أن دعوتهم إنما كانت للإصلاح وإعادة العدل في الأمة. هذا الإمام الحسين صلوات الله عليه يقول لنا: ((ألا ترون أن الحق لا يعمل به، وأن الباطل لا ينهى عنه، ليرغب المؤمن في لقاء ربه، فإني لا أرى الموت إلا سعادة، والحياة مع الظالمين إلا شقاوة)) والإمام زيد% نجد أن دعوته كانت إلى : الكتاب، والسنة، ودفع الظالمين، ونصرة المظلومين، وقسم الفيء بين أهله بالسوية. وأما دعوة الإمام الحسين بن علي الفخي صلوات الله عليه فكانت:((أبايعكم على كتاب الله وسنة نبيه، والعدل في الرعية والقسم بالسوية، نُحِلُّ ما أحلَّ القرآن والسنة العادلة، ونُحَرَّم ما حرم القرآن والسنة العادلة، ونكون على ذلك أعواناً بجهدنا وطاقتنا، وتجاهدوا عدونا وتفلحوا معنا فإنْ وفينا لكم وفيتم لنا وإنْ خالفنا فلا طاعة لنا عليكم، وعليكم عهد الله أن تجاهدونا فيمن جاهدنا إن نحن خالفنا، ثم قال: اللهم، اشهد)) والإمام إدريس%نجده في دعوته يشدد على الدعوة إلى الكتاب والسنة والعدل والقسم بالسوية ودفع المظالم والأخذ بيد المظلوم، ويشير إلى الأرامل والأيتام الذين افتقروا وتركوا. ثم نجد الإمام محمد بن إبراهيم لما رأى عجوزاً فقيرة تَتبَّع أحمال الرُّطَبِ لتأكل ما سقط منها فقال لها: ((أنت والله وأشباهك يخرجوني غداً حتى يسفك دمي...)) وهكذا نجد في أقوال غيرهم من الأئمة أن الدعوة ليست إلى إمامتهم، وإنما إلى العدل
والشرع. وما نجده في بعض الدعوات من طلب رفع الظلم عن أهل البيت، فبسبب ما كان يقع عليهم من الظلم المخصص، وقد سبقت الإشارة إلى بعض ما كان يقع عليهم. وقد لخص تلك الحال الإمام المؤيد بالله أحمد ابن الحسين (411هـ) في قوله: ((ووجدت أهل بيت النبي" مقموعين مقهورين مظلومين، لا يُؤهّلون لولاية ولا شورى، ولا يتركون ليكونوا مع الناس فوضى، بل منعوهم حقهم، وصرفوا عنهم فيئَهم، فَهُم يحسبون الكف عن دمائهم إحساناً إليهم، والانقباض عن حبْسهم وأسرهم إنعاماً عليهم)). خلاصة القول إن الزيدية إذ تؤمن بحصر الإمامة في أهل البيت، فإنما تؤمن بذلك لأدلة ترجَّحت لديها، ولكنها لا تفرض هذا الإيمان على أحد، ولا تعادي من خالفها فيه، ولا تُفَسِّقه، ولا تُضَلِّله، وترى أنه يتعين عليها أن تقبل القيادة الصالحة التي ترتضيها الغالبية من الأمة. بل إن الزيدية لم يعرف عنها أنها تفسق من يخالف في إمامة الإمام علي بن أبي طالب%، فضلاً عن تفسيقها من لا يرى إمامة أهل البيت.
تبعاً لهذا ألحقت أمرين: أولهما: الصفات التي ترى الزيدية أنها يجب أن تكون فيمن ترشحه للأمر من أهل البيت"، وذلك ليعلم أن الأمر ليس مجرد اختيار من أسرة ما، وإنما اختيار لمن تميَّز في الأمة؛ وثانيهما: بعض من الدعوات السياسية التي كان أئمة أهل البيت يدعون من خلالها إلى إقامة الحق. وقد اخترت ثلاثة مقاطع لثلاثة أئمة من ثلاثة مناطق مختلفة.
صفات الإمام الذي تجب طاعته
قال الإمام الهادي يحيى بن الحسين بن القاسم (ت 298هـ) في وصفه للإمام المفترضة طاعته من أهل البيت: ((الإمام الذي تجب طاعته هو أن يكون من ولد الحسن أو الحسين× ويكون ورعاً، تقياً، صحيحاً، نقياً، وفي أمر الله عز وجل جاهداً، وفي حطام الدنيا زاهداً، فَهِماً بما يحتاج إليه، عالماً بملتبس ما يَرِدُ عليه، شجاعاً، كمياً، بذولاً، سخياً، رؤوفاً بالرعية، رحيماً، متعطفاً متحنناً، حليماً، مواسياً لهم بنفسه، مشاركاً لهم في أمره، غير مستأثر عليهم، ولا حاكم بغير حكم الله فيهم، رصين العقل، بعيد الجهل، آخذاً لأموال الله من مواضعها، راداً لها في سبلها، مفرقاً لها في وجوهها التي جعلها الله لها، مقيماً لأحكام الله وحدوده، آخذاً لها ممن وجبت عليه ووقعت بحكم الله فيه، من قريب أو بعيد شريف أو دني، لا تأخذه في الله لومة لائم، قائماً بحقه، شاهراً لسيفه، داعياً إلى ربه، مجتهداً في دعوته، رافعاً لرايته، مفرقاً للدعاة في البلاد، غير مقصِّر في تأليف العباد، مخيفاً للظالمين، مؤمِّناً للمؤمنين، لا يأمن الفاسقين ولا يأمنونه، بل يطلبهم ويطلبونه، قد باينهم وباينوه، وناصبهم وناصبوه، فهم له خائفون، وعلى هلاكه جاهدون، يبغيهم الغوائل، ويدعو إلى جهادهم القبائل، متشرداً عنهم، خائفاً منهم، لا تردعه ولا تهوله الأخواف، ولا يمنعه عن الاجتهاد عليهم كثرة الإرجاف، شمري مشمر، مجتهد غير مقصِّر. فمن كان كذلك من ذرية السبطين الحسن والحسين× فهو الإمام المفترضة طاعته الواجبة على الأمة نصرته)). تلك الشروط قد يرى البعض أنها صعبة، بل ذكر عبدالصمد الدامغاني (ق 6هـ) أن مما نقم على الزيدية هو شروط الإمام الصعبة لديهم... فنعم ما نقموا به.
دعوات الأئمة
طلباً للاختصار فقد اقتصرت على المقاطع التي تتعلق بما نحن فيه بشكل مباشر، وهي التي تبين دوافع الدعوة. وآمل أن يأتي يوم تجمع فيه جميع دعوات الأئمة هذه وتدرس دراسة وافية باعتبارها تمثل البيان الأول والأساس للمشروع السياسي الذي كان يطمح إليه أئمة أهل البيت". إن هذا المشروع نجد خلاصته في دعوة الإمام زيد الصغيرة في حجمها، الكبيرة في معانيها، ومطالبها: ((إنا ندعوكم أيها الناس إلى كتاب الله وسنة نبيه÷، والى جهاد الظالمين، والدفع عن المستضعفين وإعطاء المحرومين، وقسم الفيء بين أهله، ورد المظالم، ونصرنا أهل البيت على من نصب لنا الحرب، أتبايعونا على هذا؟)) . هذه المعاني الكبيرة نجدها في خطبة إدريس بن عبدالله بن الحسن بن الحسن بن علي بن أبي طالب" لما طلب البيعة لنفسه: ((أما بعد: فإني أدعوكم إلى كتاب الله وسنة نبيه÷ وإلى العدل في الرعية، والقسم بالسوية، ورفع المظالم، والأخذ بيد المظلوم، وإحياء السنة، وإماتة البدعة، وإنفاذ حكم الكتاب والسنة على القريب والبعيد، واذكروا الله في ملوك تجبّروا، وفي الأمانات خفروا، وعهود الله وميثاقه نقضوا، وولد نبيه÷ قتلوا، وأذكركم الله في أرامل افتقرت، ويتامى ضُيِّعَتْ، وحدود عُطّلت، وفي دماء بغير حق سُفِكَتْ، فقد نبذ الكتاب والإسلام، فلم يبق من الإسلام إلا اسمه، ولا من القرآن إلا رسمه، واعلموا عباد الله أن مما أوجب الله سبحانه على أهل طاعته المجاهدة لأهل عداوته ومعصيته باليد واللسان، فباللسان الدعاء إلى الله بالموعظة الحسنة والنصيحة والتذكرة والحض على طاعة الله تعالى، والتوبة عن الذنوب، والإنابة والإقلاع والنزوع عما يكره الله، والتواصي بالحق والصدق والصبر والرحمة والرفق، والتناهي عن معاصي الله كلها، والتعليم والتقويم لمن استجاب لله ولرسوله حتى تنفذ بصائرهم، وتكمل نحلتهم، وتجتمع كلمتهم، وتنتظم ألفتهم، فإذا اجتمع منهم من يكون للفساد دافعاً، وللظالمين مقاوماً،
وعلى البغي والعدوان قاهراً، أظهروا دعوتهم، وندبوا العباد إلى طاعة ربهم، ودافعوا أهل الجور عن ارتكاب ما حرم الله عليهم، وحالوا بين أهل المعاصي وبين العمل بها، فإن في معصية الله تلفاً لمن ارتكبها، وهلاكاً لمن عمل بها، ولا يثنيكم من علو الحق وإظهاره قلة أنصاره، فإن فيما بدئ به من وحدة النبي÷ والأنبياء الداعين إلى الله قبله، وتكثيره إياهم بعد القلة،وإعزازهم بعد الذلة، دليلاً بيناً وبرهاناً واضحاً، قال الله عزَّ وجلّ:{وَلَقَدْ نَصَرَكُمُ الله بِبَدْرٍ وَأَنْتُمْ أَذِلَّةٌ}[آل عمران:123]، وقال تعالى: {وَلَيَنصُرَنَّ الله مَنْ يَنصُرُهُ إِنَّ الله لَقَوِيٌّ عَزِيزٌ}[الحج:40]، فنصر الله نبيه÷، وكثّر جنده، وأظهر حزبه، وأنجز وعده، جزاء من الله سبحانه، وثواباً لفعله وصبره وإيثاره طاعة ربه، ورأفته بعباده ورحمته، وحسن قيامه بالعدل والقسط في بريّته، ومجاهدة أعدائه وزهده فيما زهّده فيه، ورغبته فيما ندبه إليه، ومواساته أصحابه، وسعة أخلاقه، كما أدبه الله وأمره، وأمر العباد باتباعه وسلوك سبيله والاقتداء بهديه واقتفاء أثره، فإذا فعلوا ذلك أنجز لهم ما وعدهم كما قال عزَّ وجلّ: {إِنْ تَنصُرُوا الله يَنصُرْكُمْ وَيُثَبِّتْ أَقْدَامَكُمْ}[محمد:7]، وقال تعالى: {وَتَعَاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوَى وَلاَ تَعَاوَنُوا عَلَى الإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ}[المائدة:2]، وقال تعالى: {إِنَّ الله يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالإِحْسَانِ وَإِيتَاءِ ذِي الْقُرْبَى وَيَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنكَرِ}[النحل:90]، وكما مدحهم وأثنى عليهم إذ يقول: {كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنكَرِ وَتُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ}[آل عمران:110]، وقال عزَّ وجلّ: {وَالْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ}[التوبة:71]، وفرض الله تعالى الأمر بالمعروف والنهي
عن المنكر، وأضافه إلى الإيمان والإقرار بمعرفته، وأمر بالجهاد عليه والدعاء إليه، قال عزَّ وجلّ: {قَاتِلُوا الَّذِينَ لاَ يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَلاَ بِالْيَوْمِ الآخِرِ وَلاَ يُحَرِّمُونَ مَا حَرَّمَ الله وَرَسُولُهُ وَلاَ يَدِينُونَ دِينَ الْحَقِّ}[التوبة:29]، وفرض قتال المعاندين عن الحق والباغين عليه ممن آمن به وصدّق بكتابه حتى يعود إليه ويفيء، كما فرض قتال من كفر به وصدَّ عنه، حتى يؤمن بالله ويعترف بدينه وشرائعه، فقال: {وَإِنْ طَائِفَتَانِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ اقْتَتَلُوا فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا فَإِنْ بَغَتْ إِحْدَاهُمَا عَلَى الأُخْرَى فَقَاتِلُوا الَّتِي تَبْغِي حَتَّى تَفِيءَ إِلَى أَمْرِ اللَّهِ}[الحجرات:9]، فهذا عهد الله إليكم وميثاقه عليكم بالتعاون على البر والتقوى ولا تعاونوا على الإثم والعدوان، فرضاً من الله واجباً وحكماً لازماً، فأين عن الله تذهبون؟ وأنّى تؤفكون؟ وقد جابت الجبابرة في الآفاق شرقاً وغرباً، وأظهروا الفساد وامتلأت الأرض ظلماً وجوراً، فليس للناس ملجأ، ولا لهم عند أعدائهم حسن رجاء، فعسى أن تكونوا معاشر إخواننا من البربر اليد الحاصدة للجور والظلم، وأنصار الكتاب والسنة، القائمين بحق المظلومين من ذرية النبيئين وآل النبيئين، فكونوا رحمكم الله عند الله بمنزلة من جاهد مع المرسلين، ونصر مع النبيئين... واعلموا معاشر البربر أنكم آويتم. وأنا المظلوم الملهوف، الطريد الشريد، الخائف الموتور، الذي كثر واتروه، وقلّ ناصروه، وقُتِل إخوته وأبوه وجده وأهلوه، فأجيبوا داعي الله فقد دعاكم إلى الله، قال الله تعالى: {وَمَنْ لاَ يُجِبْ دَاعِي الله فَلَيْسَ بِمُعْجِزٍ فِي الأَرْضِ وَلَيْسَ لَهُ مِنْ دُونِهِ أَولِيَاءُ أُوْلَئِكَ فِي ضَلاَلٍ مُبِينٍ}[الأحقاف:32]، أعاذنا الله وإياكم من الضلال، وهدانا وإياكم إلى سبيل الرشاد. وأنا إدريس بن عبد الله بن الحسن بن الحسن بن علي بن أبي
طالب". رسول الله÷ وعلي بن أبي طالب% جدَّاي، وحمزة سيد الشهداء وجعفر الطيار في الجنة عمَّاي، وخديجة الصديقة وفاطمة ابنة أسد الشفيقة برسول الله÷ جدّتاي، وفاطمة ابنة رسول الله صلوات الله وسلامه عليهما سيدة نساء العالمين وفاطمة ابنة الحسين سيدة بنات ذراري النبيئين أمّاي، والحسن والحسين ابنا رسول الله÷ أبواي، ومحمد وإبراهيم ابنا عبد الله المهدي والزاكي أخواي، فهذه دعوتي العادلة غير الجائرة، فمن أجابني فله ما لي وعليه ما عليَّ، ومن أبى فحظه أخطأ، وسيرى ذلك عالم الغيب والشهادة أني لم أسفك له دماً، ولا استحللت له محرماً ولا مالاً، واستشهدك يا أكبر الشاهدين شهادة، واستشهد جبريل وميكائيل أني أول من أجاب وأناب، فلبيك اللهم لبيك، مزجي السحاب، وهازم الأحزاب، مصير الجبال سراباً بعد أن كانت صمّا صلاباً، أسألك النصر لولد نبيك إنك على ذلك قادر)).
كما نجد تلك المعاني تتكرر لدى الإمام الهادي يحيى بن الحسين بن القاسم بن إبراهيم بن إسماعيل بن إبراهيم بن الحسن بن الحسن بن علي بن أبي طالب" في كتاب دعوة وجه بها إلى أحمد بن يحيى بن زيد؛ فبعد أن تكلم في وجوب الجهاد وفضله، وشروط القائمين به ووجوب إجابة دعوتهم قال:((فإني أدعوك إلى كتاب الله وسنة نبيئه÷، وإلى ما أمرني الله أن أدعوك إليه، وأخذ به علي العهد والميثاق، من الأمر بالمعروف الأكبر، والنهي عن التظالم والمنكر، وإلى أن نُحِلَّ نحن وأنت ما أحل لنا الكتاب، ونحرم نحن وأنت ما حرمه علينا، وإلى الاقتداء بالكتاب والسنة، فما جاءا به اتبعناه، وما نهيا عنه رفضناه، وإلى أن نأمر نحن وأنت بالمعروف في كل أمرنا ونفعله، وننهى عن المنكر جاهدين ونتركه، وإلى مجاهدة الظالمين من بعد الدعاء إلى الحق لهم، والإيضاح بالكتاب والسنة بالحجج عليهم، فإن أجابوا فلهم ما للمسلمين وعليهم ما على المؤمنين، وإن خالفوا الحق وتعلقوا بالفسق حاكمناهم إلى الله سبحانه، وحكمنا فيهم بحكمه، فإنه يقول سبحانه: {وَقَاتِلُوهُمْ حَتَّى لاَ تَكُونَ فِتْنَةٌ وَيَكُونَ الدِّينُ لِلّهِ فَإِنِ انتَهَواْ فَلاَ عُدْوَانَ إلا عَلَى الظَّالِمِينَ}[البقرة:193]، والعدوان هنا فهو: الجهاد والعدو على من ظهر منه الاجتراء على الله والاعتداء. ألا والدعوة مني لك، يرحمك الله، إلى ما تقدم ذكره من الكتاب والسنة، وأشرط لك ولمن معك على نفسي أربعاً: 1
. الحكم بكتاب الله وسنة رسوله جاهداً ما استطعت.
2. والأثرة لكم على نفسي فيما جعله الله بيني وبينكم.
3. وأن أؤثركم ولا أفضل عليكم بالتقدمة عند العطاء الذي جعله حظاً في أمواله لكم ولنا قبل نفسي وخاصتي.
4. والرابعة: أن أكون قدامكم عند لقاء عدوكم وعدوي. وأشترط لنفسي عليكم اثنتين أنتم شركائي فيهما:
1. النصيحة لله في السر والعلانية.
2. والطاعة في كل أحوالكم لأمري، ما أطعت الله، فإن خالفت طاعة الله فلا حجة لي عليكم. {هَذِهِ سَبِيلِي أَدْعُو إِلَى الله عَلَى بَصِيرَةٍ أَنَا وَمَنِ اتَّبَعَنِي وَسُبْحَانَ الله وَمَا أَنَا مِنَ الْمُشْرِكِينَ}))[يوسف:108]. ثم نجدها لدى الإمام المؤيد بالله أحمد بن الحسين بن هارون بن الحسين بن محمد بن هارون بن محمد بن القاسم بن الحسن بن زيد بن الحسن بن علي بن أبي طالب"، وهو من أئمة الجيل والديلم، وقد توفي في 411هـ: ((عباد الله، إني قد رأيت أسباب الحق قد مَرجَت، وقلوب الأولياء به قد حُرجت، وأهل الدين مستضعفين في الأرض يخافون أن يتخطفهم الناس، ورأيت الأموال تؤخذ من غير حلِّها، وتوضع في غير أهلها، ووجدتُ الحدود قد عُطِّلت، والحقوق قد أبطلت، وسنن رسول الله÷ قد بُدِّلت وغيّرت، ورسوم الفراعنة قد جُدّدت وآسْتُعْمِلتْ، والآمرين بالمعروف قد قلَّوا، والناهين عن المنكر قد وهنوا فذلَّوا، ووجدت أهل بيت النبي" مقموعين مقهورين مظلومين، لا يُؤهّلون لولاية ولا شورى، ولا يُتْرَكُوْنَ ليكونوا مع الناس فوضى، بل منعوهم حقهم، وصرفوا عنهم فيئَهم، فَهُم يحسبون الكفَّ عن دمائهم إحساناً إليهم، والانقباض عن حبْسهم وأسرهم إنعاماً عليهم، يطلبون عليهم العثرات ويَرْقُبُوْنَ فيهم الزلاّت، ووجدتُهم في كل واد من الظلم يهيمون، وفي كل مرعى من الضلال يسيمون، (ووجدت أملاك المسلمين) تُغْصَبُ غصباً، وأموالهم تُنْهَبُ نهباً،{لاَ يَرْقُبُونَ فِي مُؤْمِنٍ إِلاًّ وَلاَ ذِمَّةً وَأُوْلَئِكَ هُمُ الْمُعْتَدُونَ}[التوبة:10]، {إِنَّ الَّذِينَ يَأْكُلُونَ أَمْوَالَ الْيَتَامَى ظُلْمًا إِنَّمَا يَأْكُلُونَ فِي بُطُونِهِمْ نَارًا وَسَيَصْلَوْنَ سَعِيراً}[النساء:10]، ووجدت الفواحش قد أقيمت أسواقها وأديم نفاقها، لا خوف الله يَزَع، ولا حياء الناس يمنع، بل يتفاخرون بالمعاصي، ويتنابزون ويتباهون بالإثم، قد نسوا الحساب، وأعرضوا عن
ذكر المآب والعقاب، فلم أجد لنفسي عذراً إن قعدت ملتزماً أحكامهم، متوسطاً أيامهم، أؤنسهم ويؤنسونني، وأسالمهم ويسالمونني، فخرجت أدعو إلى الله على بصيرة أنا ومن اتَّبعني، وسبحان الله وما أنا من المشركين. أيها الناس؛أدعوكم إلى كتاب الله وسنة نبيئه والرضا من آل محمد ومجاهدة الظالمين ومنابذة الفاسقين، وإني كأحدكم لي ما لكم وعليَّ ما عليكم إلا ما خصني الله به من ولاية الأمر {يَاقَوْمَنَا أَجِيبُوا دَاعِي الله وَآمِنُوا بِهِ يَغْفِرْ لَكُمْ مِنْ ذُنُوبِكُمْ وَيُجِرْكُمْ مِنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ}[الأحقاف:31]،{اسْتَجِيبُوا لِرَبِّكُمْ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَ يَوْمٌ لاَ مَرَدَّ لَهُ مِنَ الله مَا لَكُمْ مِنْ مَلْجَإٍ يَوْمَئِذٍ وَمَا لَكُمْ مِنْ نَكِير}[الشورى:47]،{وَتَعَاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوَى وَلاَ تَعَاوَنُوا عَلَى الإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ}[المائدة:2]. أيها الناس سارعوا إلى بيعتي، وبادروا إلى نصرتي، وازحفوا زحفاً إلى دار هجرتي،{انفِرُوا خِفَافًا وَثِقَالاً وَجَاهِدُوا بِأَمْوَالِكُمْ وَأَنفُسِكُمْ فِي سَبِيلِ الله ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنتُمْ تَعْلَمُونَ}[التوبة:41]، ولا تركنوا إلى هذه الدنيا وبهجتها، فإنها ظل زائل وسحاب حائل، ينقضي نعيمها ويَظْعُنُ مقيمها، والآخرة خير وأبقى أفلا تعقلون،{وَإِنَّ الدَّارَ الآخِرَةَ لَهِيَ الْحَيَوَانُ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُون}[العنكبوت:64]،{تِلْكَ الدَّارُ الآخِرَةُ نَجْعَلُهَا لِلَّذِينَ لاَ يُرِيدُونَ عُلُوًّا فِي الأَرْضِ وَلاَ فَسَادًا وَالْعَاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ}[القصص:83]. أيها الناس مهما اشتبه عليكم فلا يشتبه عليكم أمري، أنا الذي عرفتموني صغيراً وكبيراً، ورحمتموني طفلاً وناشئاً وكهلاً. قد صحبت النُّسّاك حتى نُسبت إليهم، وخالطت العباد حتى عُرفت فيهم، وكاثرت العلماء وحاضرت الفقهاء، فلم أَخْلُ عن مورد ورده عالم بارع، ومشرع شرع
فيه متقن فارع، وجادلت الخصوم نضحاً عن الدين، ونضالاً عن الحق المبين، حتى عُرِفَتْ مواقعي، وكُتبت وحُفظت طرائقي وأثبتت، هذا وما أبرئ نفسي في أثناء هذه الأحوال ومجامع هذه الخصال من تقصير وتعذير، ولا أزكيها بل أتبرأ إلى الله من حولها وقوتها، وإن جميع ذلك من فضل ربي ليبلوني أأشكر أم أكفر. ومن شكر فإنما يشكر لنفسه، ومن كفر فإن ربي غني كريم. وأما نسبتي إلى جدي رسول الله÷ فدونه فلق الصباح، ولا عذر لكم أيها الناس في التأخر عني والاستبداد دوني، وقد ناديت فأسمعت؛ لتجيبوا دعوتي، وتتحروا لنصرتي، وتعينوني على ما نهضت له من الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر: {لُعِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ عَلَى لِسَانِ دَاوُودَ وَعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ ذَلِكَ بِمَا عَصَوْا وَكَانُوا يَعْتَدُونَ}[المائدة:78]،{كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ}[آل عمران:110]. ألا فعينوني على أمري، وتحروا بجهدكم نصرتي، أُوْرِدْكم خير الموارد، وأُبَلِّغُكُم أفضل المحامد. عباد الله، أعينوني على إصلاح البلاد، وإرشاد العباد، وحسم دواعي الفساد، وعمارة مناهل السداد. ألا ومن تخلف عني وأهمل بيعتي ــ إلا لسبب قاطع أو لعذر مانع بَيِّنِ الحجة ــ فإني أجاثيه للخصام يوم يقوم الأشهاد، يوم لا ينفع الظالمين معذرتهم ولهم اللعنة ولهم سوء الدار يوم الآزفة، فأقول: ألم تسمع قول جدي رسول الله:((من سمع واعيتنا أهل البيت فلم يُجبها كبّه الله على منخريه في النار))، ألا فاسمعوا وأطيعوا {انفِرُوا خِفَافًا وَثِقَالاً وَجَاهِدُوا بِأَمْوَالِكُمْ وَأَنفُسِكُمْ فِي سَبِيلِ الله ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنتُمْ تَعْلَمُونَ}[التوبة:41]،{قُلْ إِنْ كَانَ آبَاؤُكُمْ وَأَبْنَاؤُكُمْ} [التوبة:24] فلتتفق كلمتكم وليجتمع شملكم{وَلاَ تَنَازَعُوا فَتَفْشَلُوا وَتَذْهَبَ رِيحُكُمْ وَاصْبِرُوا إِنَّ الله مَعَ الصَّابِرِينَ}[الأنفال:46].
ألا وقد سلكتُ سبيل من مضى من آبائي الأخيار، وسلفي النجباء الأبرار في منابذة الظالمين، ومجاهدة الفاسقين مبتغياً به مرضاة رب العالمين، فاسلكوا أيها الإخوان سبيل أتباعهم الصالحين، وأشياعهم البررة الخاشعين في المعاونة والمظاهرة والمكاثفة والموازرة، وتبادروا رجالاً وسارعوا إليَّ أرسالاً، وإياكم والجنوح إلى الراحة طالبين لها وجوه العلل، مغترين بما فسح الله لكم من المهل، وعن قليل يُحِقّ الحقّ ويبطل الباطل، ويعاين كل امرئ ما اكتسب، ويُجازى كل بما اجترم {يَوْمَئِذٍ يُوَفِّيهِمُ الله دِينَهُمُ الْحَقَّ وَيَعْلَمُونَ أَنَّ الله هُوَ الْحَقُّ الْمُبِينُ}[النور:25]،{فَسَتَذْكُرُونَ مَا أَقُولُ لَكُمْ وَأُفَوِّضُ أَمْرِي إِلَى الله إِنَّ الله بَصِيرٌ بِالْعِبَادِ}[غافر:44])).
تلك النصوص تبين حقيقة أهداف أئمة أهل البيت من الإمامة.
الخروج والدعوة
قضية أخرى تتعلق بالإمامة، وهي اعتقاد البعض أن الخروج هو طريق الزيدية الوحيد للإمامة. وسبب هذا الأمر أن الإمامة في أول أمرها كانت تشترط الخروج حيث إنها كانت في زمن ولاة الجور. وإلا فالأصل أن الإمامة تكون لمن تجرَّد لأمرها، ودعا الناس إلى بيعته. فإن كان ثَمَّة ضَرورة لثورة على ظالم، وكانت الظروف مواتية فبها، وإلا كفت الدعوة إلى النفس وبيعة الناس. وفي حالما يكون هناك أكثرمن داع لنفسه في وقت واحد، فإن الواجب الشرعي عليهم وفق ما نص عليه الأئمة والعلماء هو الاجتماع أمام أهل الحل والعقد من الناس، بحيث يقوم أولئك باختيار من يرونه الأكفأ من بين المرشحين. وللأسف فإن هذا الأمر لم يطبق دائماً ولأسباب مختلفة، أبرزها في تصوري ضعف السيطرة المركزية على الأقاليم التي كانت تخضع للإمام المتوفى، وذلك بسبب الطبيعة الجغرافية للبلاد التي كان لأئمة أهل البيت فيها دول، وهي المغرب الأقصى، واليمن، وبلاد الجيل والديلم وطبرستان. هذا الأمر كان يؤدي في كثير من الأحيان إلى نزاع بين أتباع المرشحين للإمامة.
إمامة المفضول مع وجود الأفضل
هذه مسألة فرعية للغاية، ومع ذلك فقد تُكلم فيها وكأنها شعار للزيدية. والقضية فيها بحوث طويلة، وسواء قال بها الإمام زيد، أو بعض الزيدية، أم لم يقولوا بها، فهي في النهاية مسألة فقهية يعود أمرها إلى ترجيح المجتهد، فهل تجوز إمامة المفضول لاعتبارات خاصة ترجح المصلحة في بيعته واختياره؟ هذا هو خلاصة الموضوع. وأغلب الزيدية ترى أن الأفضل هو الأولى لقيادة الأمة في كل الأحوال، ولكنهم يجيزون ولاية المفضول إذا كان كفؤاً في نفسه. سبب كثرة اللغط حول المسألة يعود إلى ظن البعض أن القول بها يؤدي إلى القول بصحة إمامة أبي بكر، حيث إنه الإمام المفضول الذي تمت بيعته، والإمام علي% هو الأفضل الذي لم يبايع. هذا الظن خطأ، لأن إمامة علي بن أبي طالب لم تكن بالأفضلية فحسب، وإنما بها مع النص عليه. وقبول خلافة أبي بكر لم يكن باعتبار هذه القاعدة، وإنما باعتبار أنه حكم فعدل، وأن الإمام علياً لم يكن له موقف عدائي منه.
سلبيات تجربة الإمامة
ينتقد البعض الزيدية بسبب غياب آلية واضحة تبين كيفية انتقال الحكم من إمام إلى آخر، مما أدى ـ على حد زعمهم ـ إلى اقتتال كثير بين قيادات الزيدية. العودة إلى كتب الزيدية يظهر بجلاء أن لهم آلية محددة لاختيار الإمام، وآلية تبين كيفية انتقال الإمامة. خلاصتها: بعد غياب الإمام القائم، فإنه يحق لكل من رأى في نفسه أهلية لتولي أمر الإمامة أن يدعو الناس إلى نفسه. فإذا كان أهلاً لتولي الإمامة، ولم يوجد غيره، ولم يكن ثمة مانعاً، فإن بيعته واجبة باعتبار أن المصلحة تقضي ملء الفراغ في السلطة. فإذا وجد غيره ممن رشح نفسه، أو رشحه غيره، فعندها يجب عليهما الاجتماع أمام مجموعة من العلماء وأهل الحل والعقد لتتم المفاضلة بينهما وتعيين الأولى منهما لقيادة الأمة. هذه الآلية مورست في حالات كثيرة. وفي حالات أخرى نجد أن الذي حصل لم يتوافق معها. الأسباب تتعدد وتتداخل. أهمها أن الآلية تحتاج إلى أن تتحول من نظرية بين الخاصة إلى ثقافة عامة تمتلك حماية المجتمع كله. أيضاً فإن الظروف السياسية، والاجتماعية، والجغرافية، التي تحيط بالآلية تؤثر كثيراً على تطبيقها، والأسوأ من ذلك فإنها تؤثر سلباً على التحول الضروري للنظرية إلى ثقافة عامة. يجب أن نلحظ أثر الطموح الفردي السلبي على ممارسة تلك الآلية. ولكن هذا الطموح لم يكن ليؤثر لولا ضعف سيطرة الجيش على أطراف الدولة من جهة. هذا الضعف كان للجغرافيا وصعوبة المواصلات دور كبير فيه. ومن جهة أخرى على عدم كون الآلية ثقافة عامة.
مفهوم الفرقة الناجية
سُئل الإمام محمد بن الهادي× عن حديث الافتراق والفرقة الناجية، فقال إن الفرقة الناجية:((فهم المؤمنون بالله ورسوله، الناسبون له إلى ما نسب إليه نفسه، المبرئون له من شبه خلقه، المثبتون لعدله، النافون الظلم عنه، القائلون بالحق فيه، المصدقون بوعده، المقِرُّون بوعيده، المتبِّعون لسنة نبيه، المقيمون لما افترض الله عليهم من أحكامه، المقتدون بكتابه، الآمرون بأمره، المنتهون عن نهيه، العاملون بطاعته، الموالون لأوليائه، المعادون لأعدائه، المجاهدون في سبيله، فهم الناجون من عذابه، المستوجبون لثوابه، صبروا يسيراً من دهرهم، فسروا كثيراً في آخرتهم، قد أمنوا الخزي والنيران، واستوجبوا الرضا والرضوان، في جنات النعيم مخلدون {فِيهَا مَا دَامَتِ السَّمَاوَاتُ وَالأَرْضُ إِلاَّ مَا شَاءَ رَبُّكَ عَطَاءً غَيْرَ مَجْذُوذٍ}[هود: 108])) فلم يذكر فرقة بعينها، ولم يسم طائفة محددة، وإنما ذكر أوصافاً لا يختلف مسلم على أن صاحبها ناج.
مصادر الزيدية
لا بد لمن أراد أن يعرف فكرًا ما أن يتعرف على مصادر ذلك الفكر. ولأسباب وظروف عديدة فقد تأخر تحقيق وطبع كتب الزيدية تأخراً كبيراً. فقد طبعت مجموعة من المصادر الهامة في الثلاثينيات والأربعينات والخمسينات، ثم توقف الأمر حتى طبع القليل في الثمانينات، ثم نشأت حركة تحقيق وطباعة واسعة في التسعينات.
ومن أهم ما طبع:
الروض النضير شرح المجموع الكبير للقاضي العلامة الحسين بن أحمد السياغي (ت1221هـ)، وهو موسوعة فقهية استدلالية مقارنة. وقد قرضه جماعة من كبار العلماء من الأزهر الشريف وغيره نحو العلامة محمد زاهد الكوثري، والعلامة محمد بخيت المطيعي، والمحدث أحمد بن محمد الصديق الغماري.
ومنها البحر الزخار الجامع لمذاهب علماء الأمصار وهو موسوعة فقهية شملت مذاهب الأمة الإسلامية، وهو من تأليف الإمام أحمد بن يحيى بن المرتضى (ت 840هـ)، وقد انتزعه من كتاب الانتصار للإمام يحيى بن حمزة(ت 749هـ). والكتاب الأخير لم يطبع منه ثلاثة أجزاء من 18 جزءاً مخطوطاً إلى الآن.
ومنه كتاب الغاية، وهو في أصول الفقه، جمع فيه مذاهب المسلمين باختصار غير مخل، لمؤلفه العلامة الحسين بن الإمام القاسم (ت 1050هـ)، وغيرها.
وفيما يلي إشارة موجزة إلى بعض مصادر فكر الزيدية التي ألفت قبل القرن الرابع: أصول الدين: رسائل الإمام زيد بن علي صلوات الله عليهما. وهي من المصادر التي لم يتم تداولها بين الزيدية بكثرة. والسبب هو حالة الشتات التي عاشها أئمة أهل البيت وشيعتهم الزيدية في القرون الثلاثة الأولى؛ ولهذا السبب بالذات لم تحفظ لنا نصوص طويلة ومفصلة عن أئمة أهل البيت قبل الإمام القاسم بن إبراهيم% بعد رسائل الإمام زيد% نجد الرسائل التي وضعها الإمام القاسم بن إبراهيم صلوات الله عليهما. وهي من أهم المصادر في أصول الدين لما تحتويه من تفصيل مفيد فيه. ثم رسائل أبنائه البررة خصوصاً رسائل ولده الإمام محمد بن القاسم صلوات الله عليه. ثم رسائل حفيده الإمام الهادي إلى الحق يحيى بن الحسين بن القاسم صلوات الله عليهم. والأخيرة مفصلة وواسعة ولا تخلو مسألة من مسائل أصول الدين المبتلى بها العبد إلا وقد عرضها الإمام% وقد طبعت أخيراً. ثم رسائل ومؤلفات الإمام الناصر الأطروش% ثم رسائل ابني الإمام الهادي الإمامين محمد(ت310هـ) وأحمد(ت 325هـ)، ويُخص بالذكر منها كتاب النجاة للإمام أحمد بن الهادي الذي يتناول موضوع خلق الأفعال، فقد فصل فيه الموضوع خير تفصيل، وأجاب عن جميع الشُّبه التي أخذها الجبرية من متشابهات القرآن وقد طبع بتحقيق المستشرق ماديلنغ.
أما في الفقه والحديث: فأول ما يأتي مجموع الإمام زيد بن علي صلوات الله عليهما. وهو مجموع فيه آراءٌ فقهية للإمام زيد بالإضافة إلى أحاديث مرفوعة إلى رسول الله صلوات الله عليه، وإلى الإمام علي%. وقد روى هذا المسند أبو خالد الواسطي الذي عدّله أهل البيت. بعد هذا هناك كتاب أمالي الإمام أحمد بن عيسى الذي جمعه العلامة محمد بن منصور المرادي(290هـ)، وفيه روايات كثيرة مرفوعة إلى رسول الله صلوات الله عليه من طرق أهل البيت، ومن طرق غيرهم. وكذلك إلى الإمام علي%، بالإضافة إلى نصوص عن الأئمة. بعد هذا مؤلفات الإمام القاسم بن إبراهيم%، وهي من أعمدة الفقه الزيدي. بعدها كتب الإمام الهادي ورسائله الفقهية نحو المنتخب، والأحكام، وهي قطب الرحى لدى الزيدية حتى اليوم. وهناك مؤلفات للإمام الناصر الأطروش، ولأبناء الإمام الهادي ولغيرهم من الأئمة. ومن المصادر المهمة المتأخرة الجامع الكافي، الذي جمع فيه المؤلف أبو عبدالله العلوي(ت 445هـ) الآراء الفقهية التي رويت له عن الأئمة القاسم بن إبراهيم، وأحمد بن عيسى بن زيد، والحسن بن يحيى بن الحسين بن زيد، وعبدالله بن موسى الجون، وشيخ العترة محمد بن منصور المرادي عليهم جميعاً السلام. وقد اقتصر على هؤلاء دون من سواهم، لأنه أراد أن يجمع أراء الأئمة المعتمد عليهم في الكوفة.
أما التفسير: فقد فُقِد أكثر ما كتب قبل القرن الرابع. فللإمام القاسم ولأبنائه ولحفيده الإمام الهادي والإمام عبدالله بن الحسين أخي الإمام الهادي، ولأبناء الإمام الهادي تفاسير. وقد بقي منها الشيء المفيد ولله الحمد، وقد طبعت ضمن كتاب المصابيح في التفسير. هذا ويمكن جمع بعض آرائهم في التفسير بتتبع كتبهم في أصول الدين، وفي الفقه، حيث يجد المرء الكثير النافع. هذا وتوجد كتباً كثيرة بعد هذه الفترة في شتى العلوم، ويمكن العودة إلى أعلام المؤلفين الزيدية للاستزادة.
ملاحظة حول المصادر الحديثية
يتهم الزيدية من قبل البعض بعدم العناية بعلوم الحديث، ويستشهد من يتهمهم بذلك بقلة المرويات الحديثية مقارنة بغيرهم من المدارس، إضافة إلى قلة عنايتهم بعلم الحديث. وليس من تهمة أبعد من هذه، فقد اهتم الزيدية بالرواية مثلهم مثل غيرهم، كما وضعوا للحديث الضوابط التي تحكم قبوله أو رده. والبحث يظهر أن قلة الرواية عند الزيدية لها أسباب، أهمها أن شروطهم في قبول الرواية شديدة. ثم إن التكرار في الروايات عندهم قليل. كما أن الروايات التي في كتب المدارس الأخرى إما في العقائد، وأغلب ما روي في ذلك إما هو في التجسيم، أو الجبر أو الإرجاء ونحوها مما لا يرضاه الزيدية لمخالفته العقل والقرآن،وإما في الفقه، وما روي في ذلك لا يكاد يزيد إذا حذف المكرر على الموجود في مثل كتاب العمدة للمقدسي، وبلوغ المرام لابن حجر، ومثل تلك الروايات موجودة ومروية في كتب أهل البيت، وإما أحاديث في الأخلاق أو الفضائل وهي مروية أيضاً ولكن بغير تكرار، ومن دون الإكثار مما ضاعف منها. وبذلك يظهر أن هذه الدعوة لا أصل لها.
الزيدية اليوم
في الوقت الحالي ليس للزيدية وجود معتبر إلا في اليمن. وكل من بخارجها من الزيدية يعود إليها بوجه من الوجوه. وقد كان للزيدية وجود في المغرب إبَّان تأسيس دولة الإمام إدريس بن عبدالله، إلا أن وجودهم انتهى بانتهاء الدولة، وبعدم وجود حركة علمية بينهم تغذي وجودهم الفكري، إضافة إلى كثرة خصومهم آنذاك. كما كان لهم وجود في العراق، ولكن شيئاً فشيئاً اضمحلوا لغياب إمامة تجمعهم. كما كان لهم وجود في شمال إيران، في بلاد الديلم وطبرستان على بحر قزوين، ولكن مع القرن العاشر تقريباً انتهى وجودهم كما انتهى وجود أغلب الفرق مع الحركة الصفوية. كما كان لهم وجود في الهند، ولكن لا نعلم كثيراً عن هذا سوى ما أخبرنا به أحد علمائها من ذرية الإمام علي بن موسى الرضا% اسمه: مهدي رضوي. وهو موجود حالياً بألمانيا، وقد تتلمذ على يديه الدكتور محمد كالش وهو ألماني مسلم قام مع غيره بتأسيس معهد علمي لخدمة فكر أئمة أهل البيت"، واسم هذا المعهد "معهد الإمام زيد بن علي". وقد أخبرنا السيد مهدي أسماء مجموعة من علماء هذا القرن ممن كان زيدي المنهج نحو العلامة شبلي نعماني، والسيد سليمان الندوي، والشيخ أمين أحسن إصلاحي، والشيخ حميدالدين فرّاحي. والذي يظهر وفق ما أخبرنا به السيد مهدي أن الكثير من الأسر الزيدية هناك رأت أن الانتساب إلى مدرسة فكرية معينة يهدد الوحدة الإسلامية، ولذلك لا يتسمون زيدية، وإن كان بعضهم يحمل بعض أفكار الزيدية في التوحيد والعدل. كما كان للزيدية وجود في الحجاز وعلى وجه الخصوص في مكة وينبع، حيث كان أشرافها جميعاً من الزيدية حتى أوائل القرن 14 هجري. والحديث عن الزيدية المعاصرة يتناول قضايا متعددة، وليس هذا مقامها، ولذلك فسأتجه إلى إعطاء لمحة تاريخية عن نشأتها.
لمحة عن الجذور التاريخية للزيدية
بعد وفاة رسول الله صلى الله عليه وعلى آله حصل الخلاف المعروف بين الصحابة. وقد كان الخلاف في بداية أمره في المرجعيات والقيادات. وكان الخلاف بين المرجعية السياسية للمستحق من أهل بيت رسول الله، المتمثلة آنذاك في الإمام علي، وبين مرجعية غيره. والناظر لطبيعة الخلاف كما ابتدأ قد لا يتوقع أن يؤدي إلى خلافات كبيرة في الدين، ما دام الأمر يقتصر على السياسة والقيادة. إلا أن إقصاء الإمام علي عن القيادة السياسية أنتج: أولاً: إقصاؤه عن المرجعية الدينية في وقتٍ كان المسلمون أحوج ما يحتاجون إلى من يعرف أمور دينهم. هذا الإقصاء ترك فراغاً في القيادة الدينية، تم ملؤه بجماعة من الصحابة والتابعين حصل بسببها الخلاف حول أمور الدين. وقد قلل هذا الإقصاء من نظرة الناس آنذاك إلى قيمة الدور الذي يمكن أن يقوم به الإمام علي%، فحتى عندما وصل إلى الخلافة كانت النفوس قد نفرت عنه، أو جهلت قدره. ثانياً: إن إقصاء الإمام علي عن القيادة السياسية أفرز المناخ المناسب لبروز القيادة السياسية الأموية. هذه القيادة رأت في العقائد وسيلة جيدة لتبرير أعمالها، وإضفاء الشرعية على وجودها في قمة الهرم السياسي الإسلامي؛ فأثرت هذه الدولة على الدين وذلك من خلال تشجيع جماعات توافق هواها ، وإعلاء مكانتهم الدينية بين الناس. وقد قتلت الدولة الأموية أو نفت كل من يختلف معها في هذا الأمر. إن قسوة الأمويين مع من خالفهم في العقيدة جهارا لم تكن مجرد قسوة سياسية. لقد كانت المجاهرة بالخلاف تهديدا لمشروعهم البعيد والذي لا يمكنهم التفريط فيه، وخصوصاً فيما أشاعوه بين الناس من وجوب طاعة الحاكم الظالم المتسلط على البلاد والعباد. وقد أكدوا هذا الرأي من خلال دعوتهم الحثيثة إلى الإيمان بالجبر. والخلاصة إن إقصاء الإمام علي، وإقصاء أهل بيته فيما بعد، عن أمور المرجعية الدينية قد أدى إلى بروز مرجعيات دينية أخرى إما مُسَيَّسة تخدم الأهواء الأموية؛
وإما نصف متعلمة أو جاهلة لعبت دوراً سلبياً على المعرفة الدينية بغير سوء قصد. لقد كان في تقليل شأن أهل البيت في تلك الفترة الدور الجوهري في القضاء على المعرفة الدينية الصحيحة، وعلى انتشار المعارف الدينية المنحرفة والمخطئة، مثل التجسيم، والجبر، والإرجاء، ووجوب طاعة أولى الأمر الظلمة. وكما سبق ذكره فإن جماعة قد التزمت للقيادة السياسية للإمام علي ومن ثم للقيادة السياسية والفكرية لبنيه عندما ظهر الخلاف الديني؛ وهذه الجماعة هي الجذور الأولى للزيدية، وقد عرفت آنذاك بالشيعة. أما المجموعات التي لم تلتزم به فنشأ عنها مختلف المذاهب والتيارات المعروفة. ولا بد من التأكيد هنا على أن التزام الزيدية بقول الإمام علي وقول أهل البيت في أصول الدين ليس التزام تقليد. فلا يجوز تقليد أحد في أصول الدين: التوحيد والعدل. ولكن الالتزام بهم كان يعني الأخذ عنهم. والواقع يُظهر ويدل على أن ما كان عليه الإمام علي وبنوه هو الصواب. كما يجب أن نلاحظ أن التزام الكثير بالقيادة السياسية للإمام علي لم يكن يعني بالضرورة الاسترشاد بمعرفته في كل أمور الدين. ففي حياة الإمام علي نجد أن بعض قادته اتخذ من نفسه محوراً، وهذا الأمر استمر في حياة بنيه. والسبب هو أن الاعتزاء إلى الإمام وبنيه أعطى لكثير من الشخصيات فرصة كبيرة للادعاء وللبروز وللانتفاع. أيضا كان للالتزام بالقيادة السياسية دوافع عملية للبعض، لا علاقة لها بالفكر والدين، أو كان يحقق مصالح شخصية. وقد أثَّر هذا الأمر على هوية الشيعة الفكرية، خصوصاً فيما بعد. إذ كَثُر من يدعي الانتساب إلى التشيع، واتخذت بعض القيادات التي كانت تنتسب إليه مجموعة أفكار نسبتها للإمام علي أو لبنيه لإضفاء شرعية عليها. من هذه الادعاءات نشأ عدد من الفرق الشيعية. وقد استمر هذا الوضع حتى عصر الإمام زيد بن علي. وفي أثناء تلك الظروف بقيت مجموعة من الشيعة الخُلّصُ التي التزمت بالمنحى الفكري
لأئمة أهل البيت". والذي عزز هذا هو أن الشيعة كانوا مستقلين إلى درجة ما في تنظيم أنفسهم عن أهل البيت". فهذا سليمان بن صرد الخزاعي(65هـ) الذي قاد حركة التوابين للثأر من قتلة الحسين بن علي، ثم المختار، ثم ابن الأشعث، ثم الحارث بن سريج (116هـ) ويقال: إنه كان خارجياً، إلا أن ضمن دعوته كان الدعوة إلى الرضا من آل محمد، وهذه الظاهرة وإن خفت بعد حركة الإمام زيد، وبروز جهاد أهل البيت، فإنها لم تنته تماماً، يدل عليه أن الإمام محمد بن إبراهيم لما خرج إنما كان بدعوة وإلحاح من أبي السرايا، الذي كان له جماعة تأتمر بأمره قدمها للجهاد بين يدي الإمام محمد. في حياة الإمام زيد كانت الجماعات الشيعية متعددة الاتجاهات والأهواء، وكل جماعة تنسب ما تقوله لإمام من الأئمة الأحياء. ويظهر أن محور الخلاف بينها آنذاك هو استحقاق الإمامة. هل هو بالوراثة أم لا؟ والذين أثبتوها بالوراثة اختلفوا: هل هي في أبناء الحسين أم في أبناء محمد بن الحنفية؟ وقد افترقوا إلى جماعات متعددة بحسب اختيارهم للإمام. وفي مقابل القائلين بالوراثة كانت الجماعة التي تؤمن بمرجعية وقيادة أهل البيت، ولكن ليس بوصفها وراثة، إنما لكون الأئمة من أهل البيت اتصفوا بتميز بالغ في بيان وتوضيح المشكلات العقائدية؛ وفي حكمة سياسية وقيادية. إن قيمة أهل البيت عند أولئك الشيعة كانت منبثقة من القدر الذي قام به أئمة أهل البيت في خدمة الإسلام. لقد كانت الأمة آنذاك تمر بتحولات فكرية كبيرة وفي هذا قام أهل البيت بدورهم؛ إذ حافظوا على الإسلام كما هو. أيضاً آمنت تلك المجموعة الشيعية آنذاك أن الله تعالى بلطفه وفضله قد تفضل على أهل البيت واصطفاهم وحباهم بما لم يحبُ غيرهم؛ وأمرنا بطاعتهم ومودتهم وتقديمهم على غيرهم. ولكنهم يؤمنون بأن الفرد من أهل البيت لا قيمة حقيقية له إلا إذا خدم الإسلام. وما نراه من احترام الزيدية لمن هم من أهل البيت نسباً، وليس على قدرهم علما
وعملاً، فإنما هو لاحترامهم لأهله الذين خدموا الدين.
إلا أنه قبل ثورة الإمام زيد بن علي%، لم تكن المجموعات الشيعية التي تظهر الموالاة لأهل البيت تتميز كثيراً وذلك لأن الواقع السياسي آنذاك، وهو الواقع الأكثر تأثيراً في تصنيف الناس، كان ينظر إليها بمنظار واحد. أما بعد ثورة الإمام زيد بن علي× فإن الشيعة التي تؤمن بالوراثة تميزت عن تلك التي لا تؤمن بها. والتي لا تؤمن بها سميت بالزيدية. فصارت الزيدية علماً على من يقول بقيادة "الإمام من أهل البيت المستحق لها بالعلم والفضل والجهاد وليس بالوراثة." وسبب التميز يعود: أولاً: إلى أن الدولة الأموية، وبشكل أخص الدولة العباسية صنفت الشيعة إلى صنفين، صنف يمثل معارضة "وهمية" إن صح التعبير، لا داعي للتشديد عليه والتنكيل به إلا في حالات محدودة جداً، وهم من يقولون بالوراثة حيث إن الإمامة عندهم لم تكن تتطلب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، فكان يكفيهم ليتشيعوا الإيمان بإمامة إمام من أهل البيت". وصنف يمثل معارضة مُهدِّدَة، وهم الزيدية الذين كانوا يؤمنون بوجوب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، والوقوف في وجه الجبابرة والظلمة، وعدم الخضوع لهم أو الركون إليهم في أمور الدنيا والدين. وثانياً: إلى أن الخلاف بين الشيعة حول الإمامة قد بدأ يأخذ منحنىً اقتصادياً كبيراً آنذاك، مما جعل حرص الأدعياء على المحافظة على مكتسباتهم كبيراً. والناظر للأحوال المادية لمن كان يدعي النيابة عن الإمام سيدرك هذا الوضع. بعد ثورة الإمام زيد بن علي% أطلق على الشيعة التي بايعته الزيدية. وقد شملت هذه التسمية شيعة أئمة أهل البيت المقربين، كما شملت بعض العناصر الشيعيِّة التي لم تكن تتوافق وأئمة أهل البيت في آرائها. فنجد بعضاً ممن كان من الزيدية آنذاك حمل واحتج لنفس المبادئ التي قال بها أئمة أهل البيت". كما أن بعضاً منهم قد حاد عنها، لأسباب متباينة، والذي أريد أن أنبه عليه هنا أن
ليس كل من قال بقيادة الداعي المستحق من أهل البيت كان يؤمن بالتوحيد والعدل. فقد برزت قيادة أئمة أهل البيت من حيث دعوتهم إلى العدل بين الرعية، ولم يكن جميع أنصارهم على نفس مذهبهم. إضافة إلى ذاك فإن الإمام زيداً لم يكن صاحب دعوة مذهبية، ولم يعتمد على الشيعة وإنما كان صاحب دعوة إصلاح في الأمة، وقد سار على هذا النهج الأئمة من بعده. ولكن مع السنين قلت نصرة المجموعات التي كانت تتباين مع أئمة أهل البيت في معتقداتها، وصارت كلمة زيدية تشير إلى المدرسة الفكرية والسياسية التي كان روادها أئمة أهل البيت وشيعتهم الخلص فقط. بعد مقتل الإمام زيد توالت الحركات الثورية لأهل البيت"، فكانت ثورة محمد بن عبدالله النفس الزكية(145هـ)، ثم متابعة أخيه الأمر من بعده (145هـ)، ولولا خيانات داخلية لسقطت الدولة العباسية. ثم قيام الحسين بن علي الفخي، ثم قيام يحيى بن عبدالله بالدعوة التي هزت أركان هارون العباسي وأقام الدنيا وأقعدها إلى أن ظفر به وقتله، مع أنه لم يقم بأي عمل ثوري، ثم قيام أخيه الإمام إدريس بن عبدالله في المغرب وتأسيس دولة هناك استقلت عن الخلافة العباسية إلا أنه لم يمهل فَسُمَّ في سنة 177هـ ، ثم قيام الإمام القاسم بن إبراهيم، ثم قيام دولة أخرى في طبرستان على يد الداعي الحسن بن زيد ، ثم قيام الإمام الهادي في اليمن الذي أسس نواة دولة هناك، ثم قيام الإمام الناصر الأطروش في بلاد الديلم التي أسلمت على يديه، وخلال كل تلك الدعوات كان هناك حركة علمية نشطة تركت لنا الكثير مما نستضيء به، وقد ذكرت بعضها فيما مضى،وهكذا استمرت دعوات أئمة أهل البيت، ودول العدل التي أنشئوها، إلا أنهم في المغرب لم يطل مكثهم لأسباب كثيرة، فبعد نصف قرن من تأسيس الدولة أصابها الوهن، ولم يمض قرن بعد ذلك حتى انتهت. وأما في بلاد طبرستان وبلاد الجيل والديلم، وهي اليوم في شمال إيران، فقد استمرت دولهم هناك فترات طويلة رغم وَهْنٍ كان
يدخلها بسبب دخول الأهواء والمطامع، ولكن مع ذلك تركت لنا نماذج من العدل وكثيرا من العلم. وأما في اليمن فقد استمرت دولتهم في مد وجزر وبقي الزيدية فيها إلى اليوم. وبالله التوفيق.
أهم المصادر والمراجع
1.…الإرشاد إلى سبيل الرشاد، الإمام القاسم بن محمد بن علي، تحقيق محمد يحيى سالم عزان، ط1، 1999م، دار الحكمة اليمانية.
2. الأساس لعقائد الأكياس، الإمام القاسم بن محمد بن علي، ط3، 2000م، مكتبة التراث الإسلامي.
3. الأصول الثمانية، السيد محمد بن الإمام القاسم بن إبراهيم، تحقيق عبد الله بن حمود العزي، ط1، 2001م، مؤسسة الإمام زيد بن علي الثقافية.
4. الأحكام في الحلال والحرام2/1، الإمام الهادي يحيى بن لحسين، علي بن أحمد بن أبي حريصة، ط3،2003م، مكتبة التراث الإسلامي.
5. الإفادة في تاريخ الإئمة السادة يحيى بن الحسين بن هارون الهاروني، تحقيق إبراهيم مجد الدين وهادي الحمزي، ط1، 2001م، مركز أهل البيت للدراسات الإسلامية.
6. البساط، الإمام الناصر الأطروش، تحقيق عبد الكريم أحمد جدبان، ط1، 1997م، مكتبة التراث الإسلامي.
7. التحف شرح الزلف، العلامة مجد الدين المؤيدي، ط3، 1996م، مكتبة مركز بدر.
8. الحدائق الوردية في مناقب أئمة الزيدية، العلامة حميد الشهيد بن أحمد بن محمد المحلي، تحقيق د/ المرتضى المحطوري،ط1، 2002م، مكتبة مركز بدر.
9. الزيدية نظرية وتطبيق، علي عبد الكريم الفضيل ط1، 1985م.
10. العقد الثمين في أحكام الائمة الطاهرين، الإمام عبد الله بن حمزة (ع)، تحقيق عبد السلام الوجيه، ط1، 2001م، مؤسسة الإمام زيد بن علي الثقافية.
11. العقد الثمين في معرفة رب العالمين، الحسين بن بدر الدين، تحقيق محمد يحيى سالم عزان، ط2، 1995م، مكتبة التراث الإسلامي.
12. العقد الثمين في معرفة رب العالمين، الحسين بن بدر الدين، تحقيق إسماعيل المؤيدي، ط1، 2002م، مركز أهل البيت للدراسات الإسلامية.
13. الغطمطم الزخار1/6، الإمام الشهيد محمد بن صالح السماوي، تحقيق محمد يحيى سالم عزان، ط1، 1994م. 14.
القول المبين في فضائل أهل البيت، السيد العلامة محمد بن سليمان العزي، ط2، 2003م، مؤسسة الإمام زيد بن علي الثقافية.
15. المنتخب والفنون، الإمام الهادي يحيى بن الحسين، ط1، 1993م، دار الحكمة اليمانية.
16. تحكيم العقول في تصحيح الأصول، الحاكم الجشمي، تحقيق عبد السلام الوجيه، ط1، 2001م، مؤسسة الإمام زيد بن علي الثقافية.
17. الشافي، الإمام عبد الله بن حمزة (ع)، لجنة من العلماء،ط1، 1986م، دار اليمن الكبرى. 18. شرح الأساس الكبير1/2، العلامة أحمد بن محمد الشرفي، ط1، 1991م، دار الحكمة اليمانية. 19. شرح الأزهار1/4، ابن مفتاح، الطبعة الأولى 2003م وزارة العدل.
20. شرح البالغ المدرك، الإمام أبي طالب يحيى بن الحسين، تحقيق محمد يحيى سالم عزان،ط1، 1997م، مكتبة مركز بدر.
21. صفوة الاختيار في أصول الفقه، الإمام عبد الله بن حمزة (ع)، تحقيق إبراهيم الحمزي وهادي الحمزي، ط1، 2002م، مركز أهل البيت للدراسات الإسلامية.
22. عدة الأكياس في شرح معاني الأساس1/2. أحمد بن محمد بن صلاح الشرفي، ط1، 1995م، دار الحكمة اليمانية.
23. علوم الحديث عند الزيدية والمحدثين، عبد الله بن حمود العزي، ط1، 2001م، مؤسسة الإمام زيد بن علي الثقافية.
24. قراءة في كتب العقائد،حسن بن فرحان المالكي، ط1، 2001م، مركز الدراسات التأريخية.
25. كتاب الأصول، الإمام المرتضى محمد بن الإمام الهادي، تحقيق عبد الله حمود العزي، ط1، 2001م، مؤسسة الإمام زيد بن علي الثقافية.
26. لوامع الانوار1/3، العلامة مجد الدين بن محمد بن منصور المؤيدي، ط1، 2001م، مركز أهل البيت للدراسات الإسلامية.
27. مجالس أبي الحسين الطبري، العلامة أحمد بن موسى الطبري، تحقيق عبد الله بن حمود العزي، ط1، 2002م، مؤسسة الإمام زيد بن علي الثقافية.
28. مجموع رسائل الإمام الهادي، الإمام الهادي يحيى بن الحسين (ع)، تحقيق عبد الله الشاذلي، ط2، 2002م، مؤسسة الإمام زيد بن علي الثقافية.
29. مجموع رسائل الإمام عبد الله بن حمزة (القسم الأول)، الإمام عبد الله بن حمزة (ع)، تحقيق عبد السلام الوجيه، ط1، 2002م، مؤسسة الإمام زيد بن علي الثقافية.
30. مجموع رسائل الإمام عبد الله بن حمزة (القسم الثاني)، عبد الله بن حمزة (ع)، تحقق عبد السلام الوجيه، ط1، 2002م، مؤسسة الإمام زيد بن علي الثقافية.
31. مجموع كتب ورسائل الإمام القاسم بن ابراهيم الرسي1/2، الإمام القاسم بن إبراهيم الرسي، تحقيق عبد الكريم أحمد جدبان، ط1، 2001م، دار الحكمة اليمانية.
32. مجموع كتب ورسائل الإمام المرتضى محمد بن يحيى الهادي1/2، الإمام محمد بن يحيى بن الهادي، تحقيق عبد الكريم أحمد جدبان، ط1، 2002م، مكتبة التراث الإسلامي.
33. مجموع كتب ورسائل الإمام زيد بن علي(ع)، الإمام زيد بن علي (ع)، تحقيق: إبراهيم الدرسي، ط1، 2001م، مركز أهل البيت للدراسات الإسلامية.
34. مجموع كتب ورسائل الإمام زيد بن علي(ع)، الإمام زيد بن علي (ع)، تحقيق: محمد يحيى سالم عزان، ط1، 2001م، دار الحكمة اليمانية.
35. من هم الزيدية، علي عبد الكريم الفضيل، ط1، 2003م، مؤسسة الإمام زيد بن علي الثقافية.
36. ينابيع النصيحة، العلامة الحسين بن بدر الدين، تحقيق د. المرتضى بن زيد المحطوري، ط2، 2001م، مكتبة ومركز بدر العلمي.