الكتاب : الحقوق

الحقوق
الحقوق ... 1
بسم الله الرحمن الرحيم ... 2
مقدمة ... 2
فأول ... 3
وثانيها ... 4
ورابعها ... 4
وخامسها ... 4
الثاني : واقع الإنسان مع الحقوق المتعلقة بغيره من مجتمعه : ... 4
اليمن ـ صعدة ... 5
عبادة الله { وَاعْبُدُوا اللَّهَ } ... 5
الإنسان والعبادة : ... 6
مفهوم العبادة في الإسلام : ... 7
أقسام العبادة : ... 8
حقوق الله على عبادة : ... 8
فاللسان : ... 9
وحق الله على المؤمن في سمعه ... 9
وحق الله في البصر ... 9
وحق الله في اليدين : ... 9
وحق الله تعالى في الرجلين : ... 10
وحق الله في البطن ... 10
وحق الله في الطعام : ... 10
وحق الله على عبده في فرجه ... 10
ثم حقوق الله تعالى في الصلاة : ... 10
وحق الله في الصيام : ... 10
وحق الله تعالى في الأموال : ... 10
وحق الله على عبده في أئمة الهدى : ... 10
وحق الله على عبده في معرفة حقوق العلماء ، الدالين عليه في الأمر والنهي : ... 10
وحق الله على العالم في علمه : ... 10
وحق الله على المالك في ملك يده : ... 11
وحق الله في بر الوالدين : ... 11
وحق الله في الأخ : ... 11
وحق الله في تعظيم المؤذّنين وهو : ... 11
وحق الله في أئمة المؤمنين في صلاتهم : ... 11
وحق الله في الجليس : ... 11
وحق الله في الجار : ... 11
وحقوق الله كثيرة ... 11
مخ العبادة : ... 11
( ... 16
وهنا تنهد الداعية قائلاً : ... 19
نظرة في الآلهة المزعومة: ... 21
المعرفة الصحيحة حصانة من الشرك : ... 22
ـ فأما الإعتقاد : ... 23
2ـ الإعتماد على الحجج القرآنية وإرجاع متشابه الكتاب إلى محكمة : ـ ... 25
3ـ مراعاة سياق الآيات : ... 26
4ـ تحديد معنى المصطلحات : ... 26
أحدهما : ... 27
5ـ فهم الأحاديث النبوية في ضوء القرآن الكريم : ... 27
ـ أماالشعائر التعبدية : ... 29
ـ الشرائع الإجتماعية والقانونية : ... 29
المجتمع الجاهلي المعاصر : ... 29
والخلاصة : ... 31

(1/1)


1ـ الشرك النظري : ... 31
2ـ الشرك العملي : ... 31
نبذ المعبودات المزيفة : ... 32
الإحسان إلى الوالدين ... 33
العقوق ومساوئه : ... 35
البر في الحياة وبعد الممات : ... 35
علاقة الوالدين بأولادهم : ... 36
ـ المودة والرحمة : ... 36
ـ التكريم والإحترام : ... 36
ـ التربية : ... 37
ـ التعليم : ... 38
الإحسان إلى ذوي القربى ... 38
عقوبة القطيعة : ... 39
الصلة بعد القطيعة : ... 40
الصدقة على الرحم : ... 41
عادة سيئة : ... 41
الأول : ... 41
الثالث : ... 41
الإحسان إلى اليتامى ... 42
النهي عن زجر اليتيم : ... 42
النهي عن قهر اليتيم : ... 42
النهي عن أكل مال اليتيم : ... 42
إصلاح اليتيم : ... 43
الإحسان إلى المساكين ... 43
الإحسان إلى الجيران ... 46
حقوق الجار على جاره : ... 48
إختيار الجار قبل الدار : ... 53
عدالة الإسلام في حقوق الجيران : ... 53
ثبوت حق الجار القريب والبعيد : ... 54
حق الصاحب بالجنب ... 54
وقفة حول الأصدقاء والأصحاب والجلساء : ... 54
إمتحان الصديق قبل مصادقته : ... 55
معيار إختيار الأصدقاء : ... 56
حرص الإسلام على تقوية أواصر الصداقة : ... 57
حقوق الصحبة : ... 58
وحقوق الصحبة في السفر كثيرة من أهمها ماذكره لقمان لإبنه : ... 58
الإحسان إلى ابن السبيل ... 58
تميز التكافل الإجتماعي في الإسلام : ... 60
شروط إعطاء ابن السبيل : ... 61
هل يوجد ابن سبيل في عصرنا ؟ ... 61
الإحسان إلى ماملكت الأيمان ... 61
سبق الإسلام بتصفية نظام الرق : ... 62
الخاتمة ... 63
{ إِنَّ اللَّهَ لاَ يُحِبُّ مَنْ كَانَ مُخْتَالاً فَخُورًا } ... 63

بسم الله الرحمن الرحيم
مقدمة
الحمدلله رب العالمين ، والصلاة والسلام على أشرف الأنبياء والمرسلين ، سيدنا محمد الأمين وعلى آله الطاهرين .

(1/2)


ـ وبعد كثيرة هي الحقوق والواجبات التي حددها الإسلام وتحدث عنها القرآن الكريم ، وفصلتها السنة النبوية المطهرة على صاحبها وآله أفضل الصلاة وأتم التسليم .
ومن الممكن تقسيمها إلى قسمين رئيسيين : ـ
1ـ قسم يتعلق بالخالق جل وعلا .
2ـ قسم يتعلق بالمخلوق .
فأما مايتعلق بالخالق عز وجل ، فيتمثل في العقيدة والعبادة والتشريع وتوابعها .
وأما مايتعلق بالمخلوق ، فيتمثل في الإنسان ومايحيط به من المخلوقات الأخرى ، ويستمد شرعيته من القسم الأول .
ومن المعروف إن إقرار حقوق الإنسان في العصور الحديثة والإعتراف بها من لدن المجتمع الدولي لم يكن بالأمر الجديد بالنسبة للمسلمين الذين قام دينهم على إحترامها وضرورة الحفاظ عليها ، أما المجتمع الدولي فلم يعلنها إلا في وقت متأخر ، وفي أطر ضيقة لم تتسم بالإتزان والإنصاف ، وإنما اتصفت بالإزدواجية والإنتهاك .
فالذين أعلنوا حقوق الإنسان بالأمس هم أول من ينتهكها اليوم ، خاصة قضايا الإنسان المسلم .
وماجرى ويجري في فلسطين والعراق والبوسنة والهرسك وكوسوفا والشيشان أكبر دليل .
وأما الإسلام فقد أكد على حقوق الإنسان وإحترامها ، وحفظ للإنسان كرامته وحريته وأمنه وإستقراره .
ومن الملاحظ أن الإسلام أكد على ضرورة الحفاظ على حقوق الخالق ، وحقوق المخلوق في آن واحد ، وجعلها مرتبطة ببعضها البعض
والإنسان الذي يحرص على بعضها ويترك البعض الآخر يعتبره الإسلام مقصراً غير ملتزم .
والإنسان المسلم المتزن لا ينقسم على هذه الحقوق أبداً ، وأي تقصير في أي منها يرجع إلى المنتسبين إلى الإسلام لا إلى الإسلام.
لأن الإسلام لا يقبل من يلتزم مثلاً بقواعد العقيدة ولايلتزم بقواعد الشريعة ، أو العكس .
قد نجد قسماً من الناس يقر بالله تعالى ، ولكنه لا يلتزم بمقتضيات هذا الإقرار ، فقد يكذب ، أو يظلم ، أو يسرق ، أو يزني ، أو يقتل ، أو

(1/3)


يعتدي ، أو يخون ، أو يعق والديه ، أويتهاون بحقوق الجيران والإخوان .
ونجد قسماً آخر يقر بالله تعالى ، ولكن قد لا يصلي ، أو يصلي ، ولكنه لا يصوم ، أو لا يحج ، أو لا يؤدي الزكاة ، فمن كان على هذه الصفة فلا بد أن يبادر بالتوبة والرجوع إلى الله تعالى .
وليتأكد الإنسان بأن الإسلام لن يقبل الإنسان المنقسم على نفسه الذي يكون طيباً هنا وخبيثاً هناك ، ولو فتشنا عن واقع المسلم في عصرنا لوجدنا أنه أمام واقعين تجاه هذه الحقوق المطلوبة منه .
الأول : واقعه مع الحقوق المتعلقة بالخالق : قد يقوم بهذه الحقوق المتعلقة بالخالق ، ولكنه قد لا يؤديها على وجهها المطلوب ، أو لا يلمس أثرها على واقعه المعاش ، وعلى سبيل المثال :
لو تناولنا أركان الإسلام الخمسة الأساسية التي لا يعفى أحد من أدائها في حالة انطباق الشروط ، لأدركنا تقصيرنا ورجعنا بحصيلة كبيرة من الحقائق الغائبة عن أذهاننا .
فأول أركان الإسلام الإقرار بالله تعالى وحده ، والإقرار بنبيه صلى الله عليه وآله وسلم ، فقد يقر الإنسان بذلك ، ولكنه ينافي هذا الإقرار بشبه خطيرة ، كالتشبيه والإرجاء ، أو مايتعلق بقضايا العقيدة بشكل
عام وينسب إلى الرسول صلى الله عليه وآله وسلم مالم يقله .
إذن يجب على المسلم الحصيف أن يرجع إلى ما وضحه القرآن من الصفات اللائقة بالله تعالى ، وسار عليها أهل البيت عليهم السلام .
وثانيها الصلاة ، قد يصلي الإنسان ولكن قد لا يظهر أثرها على حياته ، أو لم يحقق الحكمة التي أبانها الله من إقامتها :
{ وَأَقِمْ الصَّلاَةَ إِنَّ الصّلاَةَ تَنْهَى عَنْ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ } [ العنكبوت : 45] .
فالإبتعاد عن جميع الرذائل ، والتطهير من سوء القول والعمل هو حقيقة الصلاة ، وقد جاء في الحديث القدسي :

(1/4)


( إنما تقبل الصلاة ممن تواضع بها لعظمتي ، لم يستطل على خلقي ولم يبت مصراً على معصيتي ، وقطع النهار في ذكري ، ورحم المسكين ، وابن السبيل ، والأرملة ، ورحم المصاب ، ذلك نوره كنور الشمس أكلؤُهُ يعزني وأستحفظه بملائكتي ، أجعل له في الظلمة نوراً ، وفي الجهالة حلماً ، ومثله في خلقي كمثل الفردوس في الجنة )(1) .
وثالثها الزكاة ، فهي ليست ضريبة تؤخذ من الحبوب ، بل هي غرس لمشاعر الحنان والرأفة ، وتوطيد لعلاقة الألفة والمحبة قال تعالى :
{ خُذ مِنْ أَمْوَالِهِم صَدَقَةً تُطَهِّرُهُمْ وَتُزَكِّيهِمْ بِهَا } [ التوبة : 103] ،
وقال تعالى : { قَوْلٌ مَعْرُوفٌ وَمَغْفِرَةٌ خَيْرٌ مِنْ صَدَقَةٍ يَتْبَعُهَا أَذًى } [ البقرة : 263] .
لأن الصدقة تطهر النفس ، وتسمو بالمجتمع ، ولذا نجد الرسول صلى الله عليه وآله وسلم توسع في دلالة كلمة الصدقة ، فقال صلى الله عليه وآله وسلم : ( تبسمك في وجه أخيك صدقة ، وأمرك بالمعروف ونهيك عن المنكر صدقة ، وإرشادك الرجل في أرض الضلال لك صدقة ، وإماطتك الأذى والشوك والعظم عن الطريق لك صدقة ، وإفراغك من دلوك في دلو أخيك صدقة ، وبصرك للرجل الرديء البصر لك صدقة )(2) .
ورابعها الصوم ، ليس الغرض منه الجوع والعطش ، بل الهدف منه تهذيب النفس وحرمانها من الشهوات المحظورة ، وتنمية الإرادة الصادقة { يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمْ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ } [ البقرة : 183 ] ، وهنا وضح بأن الصوم يولد التقوى ، ويعين عليها ، فجاء في الحديث : ( ليس الصيام من الأكل والشرب ، إنما الصيام من اللغو والرفث ، فإن سابك أحد أو جهل عليك فقل : إني صائم ) .
__________
(1) ـ رواه البزار عن ابن عباس ، انظر شرح الأحاديث القدسية : 44 .
(2) ـ رواه الترمذي برقم 1879 ، كتاب البر والصلة .

(1/5)


وخامسها الحج ، هذا المؤتمر الإسلامي العالمي ، الذي يجمع المسلمين من شتى بقاع العالم ، وقد حدد الله كيفيته بقوله :
{ الْحَجُّ أَشْهُرٌ مَعْلُومَاتٌ فَمَنْ فَرَضَ فِيهِنَّ الْحَجَّ فَلاَ رَفَثَ وَلاَ فُسُوقَ وَلاَ جِدَالَ فِي الْحَجِّ وَمَا تَفْعَلُوا مِنْ خَيْرٍ يَعْلَمْهُ اللَّهُ وَتَزَوَّدُوا فَإِنَّ خَيْرَ الزَّادِ التَّقْوَى وَاتَّقُونِي يَاأُوْلِي الأَلْبَابِ } [ البقرة : 197] .
الثاني : واقع الإنسان مع الحقوق المتعلقة بغيره من مجتمعه :
وأما الحقوق المتعلقة بالإنسان مع نفسه أو مع مايحيط به من أفراد المجتمع فواقعه معها التجاهل والإهمال وهي حقوق كثيرة من أهمها : ـ
حق الوالدين ، وحق الأولاد ، وحق الإخوان والأخوات ، وحق الأقارب ، وحق الأرحام ، وحق الجيران ، وحق الأصحاب ، وحق المسلمين ، وحق الشركاء ، وحق الأصدقاء ، وحق الضعفاء ، وحق المساكين ، وحق الأيتام … إلى غير ذلك من الحقوق الهامة .
ونظراً لأهمية هذه الحقوق ، وضرورة القيام بأدائها ، فقد حاولت جمع هذه الوريقات موضحاً بعضاً منها ، وذلك من خلال آية الحقوق العشرة التي ذكرها الله بقوله : { وَاعْبُدُوا اللَّهَ وَلاَ تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئًا وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا وَبِذِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ وَالْجَارِ ذِي الْقُرْبَى وَالْجَارِ الْجُنُبِ وَالصَّاحِبِ بِالْجَنْبِ وَابْنِ السَّبِيلِ وَمَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ إِنَّ اللَّهَ لاَ يُحِبُّ مَنْ كَانَ مُخْتَالاً فَخُورًا } [ النساء : 37] ،
وقد تم ترتيب الكلام عنها حسب ورودها :
الموضوع الأول : عبادة الله .
الموضوع الثاني : عدم الإشراك بالله .
الموضوع الثالث : الإحسان إلى الوالدين .
الموضوع الرابع : الإحسان إلى ذوي القربى .
الموضوع الخامس : الإحسان إلى اليتامى .
الموضوع السادس : الإحسان إلى المساكين.
الموضوع السابع : الإحسان إلى الجار بنوعيه .

(1/6)


الموضوع الثامن : الإحسان إلى الصاحب .
الموضوع التاسع : الإحسان إلى ابن السبيل .
الموضوع العاشر : الإحسان إلى ماملكت الأيمان .
وأهمية هذه الحقوق لا تخفى ، وموقعها يحتم فهمها ، ويلزم المسلم بمراعاتها ، وقد ذكر الله هذه المواضيع في آية واحدة من كتابه .
وهكذا هو الإسلام يدعو إلى مدارج الكمال ، وروافد التطهير الذي يصون الحياة ويعلي شأنها ويواكب تطوراتها في إطار ثابت إلى قيام الساعة .
وقد حاولت قدر الإستطاعة الكلام عن كل موضوع بما يناسبه ، كما طرزت هذه الصفحات برسالة للإمام زيد بن علي عليه السلام حول الحقوق بصفة عامة ، وفي الأخير أسأل الله أن يوفقنا في جميع أعمالنا ، وأن يجعلها خالصة لوجهه الكريم وأن يعيننا على أداء حقوقه وحقوق خلقه إنه سميع مجيب .
عبدالله حمود درهم العزي
اليمن ـ صعدة
18/شوال / 1420هـ 24/1/ 2000 م
عبادة الله { وَاعْبُدُوا اللَّهَ }
السجود والتسليم والخضوع والإلتزام ، كلها معان متعددة لحقيقة واحدة وهي العبادة وهي بهذا المعنى جارية على كل مخلوقات الله تعالى :
فالكون ومافيه يتجه بتكوينه إتجاهاً مرتبطاً بإرادة الله تعالى ومشيئته بصورة تنطبق بالسجود والتسليم لله تعالى .
وجميع المخلوقات تحقق بهذا التسليم أفضل صور الأداء الوظيفي المرسوم لها وهو حفظ النظام الكوني ولوقدر لشيء من المخلوقات أن يخرج عن نظام الخلق لتعرض للفناء والدمار .
وعلى سبيل المثال : لو خرجت الكواكب عن مداراتها ، أو الأرض عن موقعها ، أو الشمس عن مجموعتها لتعرض النظام الكوني للفناء ، وعلى هذا كل المخلوقات من جماد ، ونبات ، وحيوان ، وإنسان خاضة خضوعاً تكوينياً بمعنى أنها تسير وفق نظام وقانون عام جعل الله العالم يسير بمقتضاه قال تعالى :

(1/7)


{ إِنْ كُلُّ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ إِلاَّ آتِي الرَّحْمَانِ عَبْدًا } [ مريم :93] ، وقال تعالى : { أَوَلَمْ يَرَوْا إِلَى مَا خَلَقَ اللَّهُ مِنْ شَيْءٍ يَتَفَيَّأُ ظِلاَلُهُ عَنْ الْيَمِينِ وَالشَّمَائِلِ سُجَّدًا لِلَّهِ وَهُمْ دَاخِرُونَ وَلِلَّهِ يَسْجُدُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ مِنْ دَابَّةٍ وَالْمَلاَئِكَةُ وَهُمْ لاَ يَسْتَكْبِرُونَ } [ النحل : 48، 49] ، وقال تعالى : { أَفَغَيْرَ دِينِ اللَّهِ يَبْغُونَ وَلَهُ أَسْلَمَ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ طَوْعًا وَكَرْهًا وَإِلَيْهِ يُرْجَعُونَ } [ آل عمران : 83 ] .
وقال تعالى : { سَبَّحَ لِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ } [ الحديد : 1 ] .
الإنسان والعبادة :
الإنسان يخضع كغيره لنظام الكون كالحياة ، والموت ، والطول ، والقصر ، والنمو ، والولادة ، وهو لايستطيع أن يختار شكله وحجمة ، ولا يستطيع أن يختار أباه أو أمه .
بينما يختلف عن غيره من الكائنات بكونه كائناً عاقلاً يملك القدرة على الإختيار في الأمور السلوكيه ، لأن الله جعله مختاراً في السلوكيات وأفاض عليه بنعمة العقل ، ووهبة حرية الإختيار ، فهو يستطيع أن يفعل الخير مختاراً وكذلك الشر .
ونرى فارقاً بين علاقة الإنسان التكوينية التي لا يستطيع أن يمتلك إختياراً فيها ، وبين علاقته السلوكية التي منحها الله الإختيار فيها فبإستطاعته أن يختار طريق العبادة التي أمر الله بها وهي طريق الخير ، وبإستطاعته أن يختار طريق الخضوع لغير الله التي هي طريق الشر ، وهو في الحالتين
مختاراً مثاباً على الأولى ومعاقباً على الأخرى ، قال تعالى :

(1/8)


{ وَكُلَّ إِنسَانٍ أَلْزَمْنَاهُ طَائِرَهُ فِي عُنُقِهِ وَنُخْرِجُ لَهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ كِتَابًا يَلْقَاهُ مَنشُورًا اقْرَأْ كِتَابَكَ كَفَى بِنَفْسِكَ الْيَوْمَ عَلَيْكَ حَسِيبًا مَنْ اهْتَدَى فَإِنَّمَا يَهْتَدِي لِنَفْسِهِ وَمَنْ ضَلَّ فَإِنَّمَا يَضِلُّ عَلَيْهَا وَلاَ تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى وَمَا كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولاً } [ الإسراء 13ـ15 ] .
ولقد أصيب فكرنا الإسلامي بالمرجئة والمجبرة والقدرية ، الذين قاوموا حرية الإنسان وإختياره .
فالأولى قالت : ( الإيمان قول بلا عمل ) ، والثانية قالت : ( أن الإنسان مسير كالشجرة في مهب الرياح ) ، والثالثة قالت :
( أن المعاصي قضاء وقدر ) ، فيجب على الإنسان الحصيف أن يبتعد عن هذه الأفكار المنحرفة الدخيلة على الإسلام ، وأن يتبع إرشادات القرآن والسنة النبوية المطهرة ، وأقوال أهل البيت في هذا الجانب العقائدي الهام لأنه إذا قال بأي قول من الأقوال الثلاثة عطل كثيراً من الآيات ، وأبطل الثواب والعقاب والهدف من الحياة والخلق ، وقلص دور الأنبياء والرسل .
ومن المعلوم أن الله قد هدى الناس جميعاً بإرسال الرسل ، وإنزال الكتب ، وتركيب العقول ، ومن أخذ بهذه الوسائل التي جعلها الله طريقاً للهداية زاده الله هدى وبصيرة ، قال تعالى : { وَالَّذِينَ اهْتَدَوْا زَادَهُمْ هُدًى وَآتَاهُمْ تَقْواهُمْ } [ محمد : 17] ، أما من تنكب عنها فلن يزداد إلا ضلالة ، قال تعالى : { وَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ فَزَادَتْهُمْ رِجْسًا إِلَى رِجْسِهِمْ وَمَاتُوا وَهُمْ كَافِرُونَ } [ التوبة : 125] ، وهو في الأمرين الواضع نفسه حسب إختياره .
مفهوم العبادة في الإسلام :

(1/9)


يقول الراعب الأصفهاني : ( العبودية إظهار التذلل ، والعبادة أبلغ منها ، لأنها غاية التذلل ولا يستحقها إلا من له غاية الإفضال وهو الله تعالى )(1) ، وتعتبر حكمة الوجود وغاية الخلق .
لقد خلق الله الإنسان لأجل غاية محددة المعالم ، ألا وهي عبادة الله عز وجل قال تعالى : { وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالإِنسَ إِلاَّ لِيَعْبُدُونِ مَا أُرِيدُ مِنْهُمْ مِنْ رِزْقٍ وَمَا أُرِيدُ أَنْ يُطْعِمُونِ إِنَّ اللَّهَ هُوَ الرَّزَّاقُ ذُو الْقُوَّةِ الْمَتِينُ } [ الذاريات : 56] ، وقال تعالى : { أَفَحَسِبْتُمْ أَنَّمَا خَلَقْنَاكُمْ عَبَثًا وَأَنَّكُمْ إِلَيْنَا لاَ تُرْجَعُونَ } [ المؤمنون : 115] ، وقد سخر الله للإنسان كافة السبل لتسير العبادة على الوجه الأكمل والأحسن ، والعبادة في الإسلام هي الجوهر والأساس وهي كل عمل صالح يتقرب به الإنسان إلى الله تعالى ، فالصلاة عبادة ، والصيام عبادة ، والزكاة عبادة ، والحج عبادة ، وكفالة اليتيم عبادة ، وجماع الرجل لأهله عبادة ، وإماطة الأذى عن الطريق عبادة ، وكل فعل يفعله الإنسان قاصداً به وجه الله عبادة مع مطابقته لمراد الشارع .
ولقد أساء فهم العبادة كثير من الناس فالبعض يفهم أنها تتمثل في الطقوس كالصلاة والصوم ، وهذا فهم محدود يمثل جزءاً واحداً من مفهوم العبادة .
__________
(1) ـ المفردات في غريب القرآن : 319 ، كتاب العين .

(1/10)


والحقيقة أن الإسلام لا يدعو إلى شعائر مجردة تؤدى بطريقة ميكانيكية بدون أي تأثير على حياة الأفراد الشخصية ، قال تعالى : { لَيْسَ الْبِرَّ أَنْ تُوَلُّوا وُجُوهَكُمْ قِبَلَ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ وَلَكِنَّ الْبِرَّ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ وَالْمَلآئِكَةِ وَالْكِتَابِ وَالنَّبِيِّينَ وَآتَى الْمَالَ عَلَى حُبِّهِ ذَوِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينَ وَابْنَ السَّبِيلِ وَالسَّائِلِينَ وَفِي الرِّقَابِ وَأَقَامَ الصَّلاَةَ وَآتَى الزَّكَاةَ وَالْمُوفُونَ بِعَهْدِهِمْ إِذَا عَاهَدُوا وَالصَّابِرِينَ فِي الْبَأْسَاءِ وَالضَّرَّاءِ وَحِينَ الْبَأْسِ أُوْلَئِكَ الَّذِينَ صَدَقُوا وَأُوْلَئِكَ هُمْ الْمُتَّقُونَ } [ البقرة : 177] .
أنت تمارس يومياً الصلوات الخمس ولكن هل هنالك تأثير في سلوكك ؟ هل أنت مبتعد عن الفحشاء والمنكر كما قال تعالى :
{ إِنَّ الصَّلاَةَ تَنْهَى عَنْ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ وَلَذِكْرُ اللَّهِ أَكْبَرُ وَاللَّهُ يَعْلَمُ مَا تَصْنَعُونَ } [ العنكبوت : 45] ؟ .
أنت تصوم ولكن هل ولّد الصوم لديك خوفاً من الجليل وعملاً بالتنزيل ؟ هل ولد في أحشائك التقوى التي تجعلك محلقاً مع الله في كل الأحوال ، راحماً للضعفاء والمساكين ، مطعماً للجائعين ؟ ، قال تعالى : { يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمْ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ } [ البقرة : 183] ، أنت تتصدق ولكن هل أنفقت مما تحب ؟ ، قال تعالى : { لَنْ تَنَالُوا الْبِرَّ حَتَّى تُنْفِقُوا مِمَّا تُحِبُّونَ } [ آل عمران : 92] .
أنت تتصدق ولكن هل اجتنبت الأذية والمن ؟ قال تعالى : { قَوْلٌ مَعْرُوفٌ وَمَغْفِرَةٌ خَيْرٌ مِنْ صَدَقَةٍ يَتْبَعُهَا أَذًى وَاللَّهُ غَنِيٌّ حَلِيمٌ } [ البقرة : 263] .

(1/11)


أنت قد تعمل ، وتعمل ، و …..ولكن هل عملك موافقاً لمراد الله ورسوله أم لا ؟ ضع على نفسك هذا السؤال عند أي عمل تقوم به .
فالإيمان شعب متعددة أعلاها كلمة التوحيد " لا إله إلا الله " وأدناها رفع الأذى عن الطريق ، والمطلوب من الإنسان أن يكون مخلصاً لله في عبادته { فَمَنْ كَانَ يَرْجُوا لِقَاءَ رَبِّهِ فَلْيَعْمَلْ عَمَلاً صَالِحًا وَلاَ يُشْرِكْ بِعِبَادَةِ رَبِّهِ أَحَدًا } [ الكهف : 110] ، ويتأكد من مصداقية ترديده يومياً : { إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ } [ الفاتحة : 5] .
ويتأكد أيضاً من موافقتها لمراد الله ورسوله خوفاً من الوقوع في البدع لأن كل بدعة ضلالة وكل ضلاة في النار .
أقسام العبادة :
وقد قسم الإمام القاسم بن إبراهيم عليه السلام العبادة إلى ثلاثة أقسام:ـ
الأول : معرفة الله تعالى .
الثاني : معرفة مايرضية ومايسخطه .
الثالث : إتباع مايرضيه وإجتناب مايسخطه .
وقال عليه السلام : ( وهذه الثلاثة هي كمال العبادة وجميع العبادات غير خارجة منها ، فمعرفة الله عبادة كاملة لمن ضاق عليه الوقت ، وهي منفصلة من العبادة الثانية لمن تراخت به الأيام إلى اصول التعبد وهو الأمر والنهي الذي فيه رضى المعبود وسخطه ثم العمل بما يرضيه وإجتناب ما يسخطه عبادة ثالثه منفصلة من الوجهين الأولين لمن تراخى به الوقت إلى إستماع كيفية العبادة على لسان الرسول صلى الله عليه وآله وسلم الذي جاءت الشريعة على يديه . فهذه ثلاث عبادات من ثلاث حجج احتج بها المعبود على العباد وهي : ( العقل ، الكتاب ، الرسول ) ، فجاءت حجة العقل بمعرفة المعبود ، وجاءت حجة الكتاب بمعرفة التعبد ، وجاءت حجة الرسول بمعرفة العبادة ، والعقل أصل
الحجتين الأخيرتين ، لأنهما عرفا به ولم يعرف بهما فافهم ذلك ) (1) .
حقوق الله على عبادة :
__________
(1) ـ رسائل العدل والتوحيد : 124 .

(1/12)


ومن المؤكد إن لله علينا حقوقاً كثيرة جداً لا نستطيع حصرها ، أو القيام بها ولكن رحمة منه بالعباد قبل منهم اليسير ، ولم يكلفهم العسير ، أمرهم تخييراً ونهاهم تحذيراً ليميز الخبيث من الطيب ويعرف الشاكر من الكافر . فيجزي الذين أحسنوا بالحسنى والذين أساءوا بما عملوا ، وللإمام زيد بن علي عليه السلام رسالة أسماها ( الحقوق ) ، وضح فيها كثيراً من الأمور الهامة المتعلقة بحقوق الله على عباده وهي ثابتة عنه برواية أبي خالد الواسطي رحمة الله تعالى عليه ، ونظراً لأهمية هذه الرسالة ، ولما تحتويه من معان عظيمة ، وحقائق جليلة فسأوردها بكاملها ، ثبت عن خالد الواسطي أنه قال : كتب أبو الحسين زيد بن علي عليهما السلام هذه الرسالة .
قال مالك بن عطية : قلت لأبي خالد : لمن كتبها ؟
قال : سأله أبو هاشم الرَّماني فقال : جُعِلتُ فداك ، أخبرني بحقوق الله علينا .
قال أبو خالد : فكتب لنا هذه الرسالة ، وقال لنا : تدراسوها وتعلموها وعلموها من سألكم ، فإن العالم له أجرُ من تعلم منه وعمل ، والعالم له نور يضيء له يوم القيامة بما علّم من الخير ، فتعلموها وعلموها ، فإن من عَلِمَ وعمل كان ربانياً في ملكوت السماوات .
قال أبو خالد رحمه الله تعالى : فكتبناها من زيد بن علي عليهما السلام ، وقرأها عليه أبو هاشم الرّماني ، وكان يَدْرُسها ويقول : " لو رعاها مؤمن كانت كفاية له " .
قال الإمام زيد بن علي عليه السلام :
( جعلكم الله من المهتدين إليه ، الدالّين عليه ، وعَصَمَكم من فتنة الدنيا ، وأعاذكم من شر المنقلب ، والحمدلله على ماهدانا وأولانا ، وصلى الله على جميع رسله وأنبيائه وأوليائه ، وخص محمداً بصلاة منه ورحمة وبركة وسلّم عليه وعلى أهل بيته الطاهرين تسليماً أما بعد :

(1/13)


فإنكما سألتماني عن حقوق الله عز وجل وكيف يسلم العبد بتأديتها وكمالها ؟ فاعلموا أن حقوق الله عز وجل محيطة بعبادة في كل حركة ، وسبيل ، وحال ، ومنزل ، وجارحة ، وآلة ، وحقوق الله تعالى بعضها أكبر من بعض .
فأكبر حقوق الله تعالى : ما أوجب على عباده من حقه ، وجعله أصلاً لحقوقه ، ومنه تفرّعت الحقوق . ثم ما أوجبه من قَرْنِ العبد إلى قَدَمِه على إختلاف الجوارح ، فجعل للقلب حقاً ، وللسان حقاً ، وللبصر حقاً ، وللسمع حقاً ، ولليدين حقاً ، وللقدمين حقاً ، وللبطن حقاً ،
وللفرج حقاً ، فبهذه الجوارح تكون الأفعال .
وجعل تعالى للأفعال حقوقاً ، فجعل للصلاة حقاً ، وللزكاة حقاً ، وللصوم حقاً وللحج حقاً ، وللجهاد حقاً ، وجعل لذي الرَّحم حقاً .
ثم إن حقوق الله تتشعب منها الحقوق ، فاحفظوا حقوقه .
فأما حقه الأكبر : فأن يعبده العارف الْمُحْتَجُّ عليه فلا يشرك به شيئاً ، فإذا فعل ذلك بالإخلاص واليقين فقد تضمّن له أن يكفيه ، وأن يجيره من النار .
ولله عز وجل حقوق في النفوس : أن تستعمل في طاعة الله بالجوارح ، فمن ذلك : اللسان ، والسمع ، والبصر ، قال الله عز وجل في كتابه : { إِنَّ السَّمْعَ وَالْبَصَرَ وَالْفُؤَادَ كُلُّ أُوْلَئِكَ كَانَ عَنْهُ مَسْئُولاً } [ الإسراء : 36 ] .
فاللسان : يُنَزَّهُ عن الزور ، والكذب ، والخناء ، وأن تقيمه بالحق لا تخاف في الله لومة لائم ، وتحمِّله آداب الله ، لموضع الحاجة إليه ، وذلك أن اللسان إذا ألف الزور والكذب والخناء اعوَّج عن الحق ، فذهبت المنفعة منه ، وبقي ضرره ، وقد قال أمير المؤمنين علي بن أبي طالب صلوات الله عليه وسلامه : ( يُعرف ذو اللب بلسانه ) .
وقال صلوات الله عليه : ( المرء مخبوء تحت لسانه ) وقال صلوات الله عليه وسلامه : ( لسان ابن آدم قلم المَلَك ، وريقه مداده ، يا ابن آدم
فقدّم خيراً تغنم أو اصمت عن السوء تسلم ) .

(1/14)


وحق الله على المؤمن في سمعه : أن يحفظه من اللغو ، والإستماع إلى جميع ما يكرهه الله تعالى ، فإن السمع طريق القلب ، يجب أن تحذر ما يسلك إلى قلبك .
وحق الله في البصر : غضه عن المحظورات ما صغر وما كبر ، ولا تمده إلى ما منع الله به المترفين ، واترك إنتقال البصر في ما لا خير فيه ، ولكن ليجعل المؤمن نظره عِبرَاُ ، فإن النظر باب الإعتبار .
وحق الله في اليدين : قبضهما عن المحرمات في التناول ، واللمس ، والبطش ، والأثَرَة ، والخصام ، ولكن يبسطهما في الخيرات والذب عن الدين ، والجهاد في سبيل الله .
وحق الله تعالى في الرجلين : لا يسعى بهما إلى مكروه ، فكل رِجْل سعت إلى مايكره الله تعالى فهي من أرجل إبليس لعنه الله تعالى .
وحق الله في البطن : أن لا يجعله وعاء للحرام ، فإنه مسئوول عنه ، وقد كان أمير المؤمنين صلوات الله عليه وسلامه يقول : " نِعمَ الغريم الجوف ، أي شيء تقذفه إليه قَبِلَه منك " ، وقال صلوات الله عليه وسلامه في البطن : " ثلث للطعام ، وثلث للشراب ، وثلث للنفس " ، وقال صلوات الله وعليه وسلامه : ( إذا طعمتم فصلوا واصف الطعام ، فأخَفَّ الطعام وأطيبه وأمرأه وأثراه الحلال) ، ويجب أن يقتصد في أكله
وشربه ، فإن كثرة الأكل والشرب مقساة للقلب .
وحق الله في الطعام : أن يُسمِّي إذا إبتدأ ، وأن يحمده إذا إنتهى ، والشبع المليا هو مَكْسَلةٌ عن العبادة ، مضرَّةٌ للجسد ، ولا خير في العبد حينئذ " .
وحق الله على عبده في فرجه : حفظه وتحصينه وبابه المفتوح إليه هو البصر ، فلا تمدوا أبصاركم إلى ما لا يحل لكم ، ولا تُتْبعوا نظرة الفجأة نظرة العمد فتهلكوا ، وكفى بذلك معصية وخطيئة ، فأخيفوا نفوسكم بالوعيد واقرعوها ، فمن قرع نفسه وأخافها بالوعيد فقد أبلغ في موعظتها وتحصينها ، وتأديبها بأدب الله عز وجل .

(1/15)


ثم حقوق الله تعالى في الصلاة : أن يعلم المصلي أنها وافدته إلى الله عز وجل ، فليصل صلاة مودع ، يعلم أنه إذا أفسد صلاته لم يجد خلفاً منها ولا عوضاً ، ومن أفسد صلاته فهو لسائر الفرائض أفسد ، وإذا قام العبد إلى الصلاة فليقم مقام الخائف المسكين المنكسر المتواضع خاشعاً بالسكون والوقار ، وإحضار المشاهدة بيقين بالله ، فإذا كملت فقد فاز بها ، وهي تنهى عن الفحشاء والمنكر ، كما قال الله تبارك وتعالى .
وحق الله في الصيام : إجتناب الرَّفث وفضول الكلام ، وحفظ البصر ، وتحريم الطعام ، والشراب ، والصوم جُنَّة من النار ، ومن تعطّش لله جل
ثناؤه أرواه الله من الرحيف المختوم في دار السلام .
وحق الله تعالى في الأموال : على قدرها ، فما كان من زكاة فإخراجها عند وجوبها ، وتسليمها إلى أهلها ، فإن أخرجتموها إلى غير أهلها فهي مضمونة لأهلها في جميع المال ، وهي إذا لم تُخْرَج إلى أهلها مَخْبَثَةٌ لجميع المال ، فيجب إخراجها بيقين وإخلاص ، فتلك من أفضل الذخائر عند الله عز وجل وهي مقبولة .
وإذا توجه العبد إلى الله بقصد ونية ، أقبل الله تعالى إليه بالخير ، وإذا اهتدى زاده الله هداية في هدايته إليه ، وبصّره وعرّفه طريق نجاته ، فإنما يريد الله تعالى بنا اليُسْر وهو الهادي ، وهو المُسعف بالقوة على صعوبة الحق وثِقَلِهِ على النفوس .
ومن علامات القاصد إلى الله : إقبال قَلْبه وجوارحه وإرشاد النفس وإستعبادها بالتذلل والخشوع والخشية له ، السالمة من الرياء ، والتخلص من التبعة بالصلاح .
وحق الله على عبده في أئمة الهدى : أن ينصح لهم في السر والعلانية ، وأن يجاهد معهم ، وأن يبذل نفسه وماله دونهم ، إن كان قادراً على ذلك من أهل السلامة .
وحق الله على عبده في معرفة حقوق العلماء ، الدالين عليه في الأمر والنهي : أن يسألهم إذا جَهِل ، وأن يَعْرِفَ لهم حقهم في تعليم الخير .

(1/16)


وحق الله على العالم في علمه : أن لا يمنعه من الطالبين ، وأن يغيث به الملهوفين .
وحق الله على المالك في ملك يده : أن لا يكلفه من العمل فوق طاقته ، وأن يلين له جانبه ، فإنما هو أخوه ملّكه الله تعالى إياه ، وله حقه وكسوته ومطعمه ومشربه ، ومالا غنى به له عنه .
وحق الله في بر الوالدين : الإحسان إليهما ، والرفق بهما ، فلو علم الله شيئاً هو أقل من " أف " لحرمه منهما فقال تعالى :
{ وَقَضَى رَبُّكَ أَلاَّ تَعْبُدُوا إِلاَّ إِيَّاهُ وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا إِمَّا يَبْلُغَنَّ عِنْدَكَ الْكِبَرَ أَحَدُهُمَا أَوْ كِلاَهُمَا فَلاَ تَقُلْ لَهُمَا أُفٍّ وَلاَ تَنْهَرْهُمَا وَقُلْ لَهُمَا قَوْلاً كَرِيمًا وَاخْفِضْ لَهُمَا جَنَاحَ الذُّلِّ مِنْ الرَّحْمَةِ وَقُلْ رَّبِّ ارْحَمْهُمَا كَمَا رَبَّيَانِي صَغِيرًا } [ الإسراء 23ـ24 ] .
وحق الله في الأخ : أن تنصحه ، وأن تبذل له معروفك إذا كان محتاجاً وكنت ذا مال ، فقد عظّم الله شأن الأخ في الله عز وجل ، فأخوك في الله هو شقيقك في دينك ، ومعينك على طاعة الله عز وجل .
وحق الله تعالى على العبد في مولاه المنعم عليه :
أن يعلم أنه أنفق فيه ماله ، وأخرجه من ذل العبودية ، فهذا يجب حقه في النصيحة له ، والتعظيم لمعرفة ما أتى من الخير .
وحق الله في تعظيم المؤذّنين وهو : أن يعلم العبد ماقاموا به وما دعوا إليه ، فيدعو لهم بلسانه ، ويوَدُّهم بقلبه ، ويوقرهم في نظره .
وحق الله في أئمة المؤمنين في صلاتهم : أن يعرف العبد لهم حقهم بما تقلدوه وبما قاموا به ، وأن يدعو لهم بالإرشاد والهداية ، وقد قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم : " تخيروا الأئمة فإنهم الوافدون بكم إلى الله عز وجل " .
وحق الله في الجليس : أن تلين له كنَفَك ، وأن تقبل عليه في مجلسك ، وأن لا تحرمه محاورتك ، وأن تحدثه من منطقك ، وأن تختصه بالنصح .

(1/17)


وحق الله في الجار : حفظه غائباً ، وإكرامه شاهداً ، ونصرته ومعونته ، وأن لا تتبع له عورة ، وأن لا تبحث له عن سوء ، فإن علمت له أمراً يخافه فكن له حصناً حصيناً ، وستراً ستيراً فإنه أمانة
وحقوق الله كثيرة ، وقد حرّم الله الفواحش ماظهر منها ومابطن ، فجانبوا كل أمر فيه ريبة ، ودعوا مايريب إلى مالايريب ، والسلام ) ، ففي هذه الرسالة الكثير من الحقائق الغائبة عنا وعن مجتمعاتنا ، ولقد شدد فيها الإمام زيد بن علي عليه السلام كل ما من شأنه الرقي بالإنسان إلى مستوى العبادة المطلوبة ، والعبودية الصادقة .
مخ العبادة :
ويعتبر ذكر الله تعالى وتسبيحه وتحميده مخ العبادة ، وأساس السعادة ، وسمة عظيمة من سمات الكمال والإتصال بذي العزة والجلال ، قال تعالى : { وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِي إِذَا دَعَانِي فَلْيَسْتَجِيبُوا لِي وَلْيُؤْمِنُوا بِي لَعَلَّهُمْ يَرْشُدُونَ } [ البقرة : 186] ، وهو سلاح المؤمن القاطع ، وحرزه المانع ، يقول الإمام علي عليه السلام : ( الدعاء سلاح المؤمن )(1) ،وقال تعالى :
{ يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اذْكُرُوا اللَّهَ ذِكْرًا كَثِيرًا وَسَبِّحُوهُ بُكْرَةً وَأَصِيلاً } [ الأحزاب : 41ـ42] .
كما أنه زاد الأنبياء وسجيتهم العظماء ، قال تعالى : { وَاذْكُرْ رَبَّكَ فِي نَفْسِكَ تَضَرُّعًا وَخِيفَةً وَدُونَ الْجَهْرِ مِنْ الْقَوْلِ بِالْغُدُوِّ وَالآصَالِ وَلاَ تَكُنْ مِنْ الْغَافِلِينَ } [ الأعراف : 205] ، وقال على لسان نوح :
__________
(1) ـ رواه الإمام زيد في المجموع : 157، وأبو طالب في الأمالي : 185 .

(1/18)


{ فَقُلْتُ اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ إِنَّهُ كَانَ غَفَّارًا يُرْسِلْ السَّمَاءَ عَلَيْكُمْ مِدْرَارًا وَيُمْدِدْكُمْ بِأَمْوَالٍ وَبَنِينَ وَيَجْعَلْ لَكُمْ جَنَّاتٍ وَيَجْعَلْ لَكُمْ أَنْهَارًا } [ نوح : 10ـ12] ، والإعراض عن الدعاء ذنب خطير قال تعالى :
{ وَقَالَ رَبُّكُمْ ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ إِنَّ الَّذِينَ يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِي سَيَدْخُلُونَ جَهَنَّمَ دَاخِرِينَ } [ غافر :60] ، فيجب علينا جماعات وأفراداً ، ذكراناً وأناثاً ذكر الله كثيراً وتسبيحه بكرة وأصيلاً ، وما سبب مانحن فيه من البؤس والحرمان والقلق والتوتر والتفكك والتشرذم إلا الإبتعاد عنه وعدم الإتصال به ، فما من عبد يدعو ربه مخلصاً إلا استجاب له ولبى طلبه لأنه أكرم الكرماء ، وأسمح الغرماء كيف لا ونعمه إلينا نازلة وذنوبنا إليه صاعدة بلا حياء يردع أو خوف يمنع قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم :
( من لزم الإستغفار جعل الله له من كل ضيق مخرجاً ، ومن كل هم فرجاً ، ورزقه من حيث لا يحتسب )(1).
وللدعاء آداب وشرائط :
1ـ التقوى قال تعالى : { إِنَّمَا يَتَقَبَّلُ اللَّهُ مِنْ الْمُتَّقِينَ } [ المائدة : 27] ، والتقوى هي : أن لا يراك الله في موضع يكرهه ، ولا يفتقدك في موضع يحبه .
__________
(1) رواه الإمام أبو طالب في الأمالي : 194 .

(1/19)


2ـ الثقة بالله تعالى ، واليأس عما في أيدي الناس ، يقول الرسول الأكرم صلى الله عليه وآله وسلم : ( إذا أراد أحدكم أن لا يسأل ربه شيئاً إلا أعطاه ، فلييأس من الناس كلهم ، ولا يكون له رجاء إلا عند الله ، فإذا علم ذلك من قلبه لم يسأله شيئاً إلا أعطاه ، ألافحاسبوا أنفسكم قبل أن تحاسبوا ، فإن في القيامة خمسين موقفاً ، كل موقف ألف سنة ، ثم تلى صلى الله عليه وآله وسلم هذه الآية : { فِي يَوْمٍ كَانَ مِقْدَارُهُ خَمْسِينَ أَلْفَ سَنَةٍ } [ المعارج : 4] )(1) .
3ـ أن يكون مطعمه حلال ومشربه حلال وملبسه حلال ، قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم : ( من أحب أن تستجاب دعوته فليطيب مكسبه )(2) .
4ـ أن يصلي على محمد وآل محمد ، يقول الإمام علي عليه السلام : ( الدعاء محجوب عن السماء ، حتى يصلى على محمد وآل محمد )(3) ، لأن الصلاة على النبي وآله جزء من العبادة .
أفضل أوقات الدعاء بعد أداء الفريضة ، قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم : ( من أدى فريضة فله عند الله دعوة مستجابة )(4) ، ويقول الرسول صلى الله عليه وآله وسلم :
( دعوتان ليس بينهما وبين الله حجاب دعوة المظلوم ، ودعوة المرء لأخيه بظهر الغيب )(5) ، فعليك أخي المسلم برسم خطة لبرنامج الدعاء بعد الصلوات الخمس ، وفي الأوقات المستجاب فيها الدعاء .

مكافحة الشرك
{ وَلاَ تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئًا }
قال تعالى : { إِنَّ اللَّهَ لاَ يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ وَمَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَقَدْ ضَلَّ ضَلاَلاً بَعِيدًا } [ النساء :116] .
__________
(1) ـ رواه الإمام أبو طالب في الأمالي : 180 .
(2) ـ رواه أبو طالب في الأمالي : 187 .
(3) ـ رواه المرشد بالله في الأمالي : 1/222 .
(4) ـ رواه أبو طالب : 182 .
(5) ـ رواه المرشد بالله في الأمالي : 1/253 .

(1/20)


ما أكثر الآيات التي عالجت موضوع العقيدة ، وحذرت من الوقوع في مصيدة الشرك ، ومزقت كل ما تنسجه الغفلة علىالأعين من الجهالة والجحود قال تعالى : { اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ وَأَنزَلَ مِنْ السَّمَاءِ مَاءً فَأَخْرَجَ بِهِ مِنْ الثَّمَرَاتِ رِزْقًا لَكُمْ وَسَخَّرَ لَكُمْ الْفُلْكَ لِتَجْرِيَ فِي الْبَحْرِ بِأَمْرِهِ وَسَخَّرَ لَكُمْ الأَنهَارَ وَسَخَّرَ لَكُمْ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ دَائِبَيْنِ وَسَخَّرَ لَكُمْ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ وَآتَاكُمْ مِنْ كُلِّ مَا سَأَلْتُمُوهُ وَإِنْ تَعُدُّوا نِعْمَةَ اللَّهِ لاَ تُحْصُوهَا إِنَّ الإِنسَانَ لَظَلُومٌ كَفَّارٌ } [ إبراهيم : 32ـ34 ] .
ويسأل في آيات أخرى أسئلة متواصلة تفتح على النفوس آفاقاً من الإيمان الصحيح ، وتجعلها نافرة من شوائب الشرك القبيح ، مقرة لله بالعظمة والوحدانية والقدرة العجيبة :
{ قُلْ الْحَمْدُ لِلَّهِ وَسَلاَمٌ عَلَى عِبَادِهِ الَّذِينَ اصْطَفَى ءاللهُ خَيْرٌ أَمَّا يُشْرِكُونَ ؟ } ، { أَمَّنْ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالأََرْضَ وَأَنزَلَ لَكُمْ مِنْ السَّمَاءِ مَاءً فَأَنْبَتْنَا بِهِ حَدَائِقَ ذَاتَ بَهْجَةٍ مَا كَانَ لَكُمْ أَنْ تُنْبِتُوا شَجَرَهَا أَإلَهٌ مَعَ اللَّهِ ؟ بَلْ هُمْ قَوْمٌ يَعْدِلُونَ } .
{ أَمَّنْ جَعَلَ الأرْضَ قَرَارًا وَجَعَلَ خِلاَلَهَا أَنْهَارًا وَجَعَلَ لَهَا رَوَاسِيَ وَجَعَلَ بَيْنَ الْبَحْرَيْنِ حَاجِزًا أَإلَهٌ مَعَ اللَّهِ ؟ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لاَ يَعْلَمُونَ } .

(1/21)


{ أَمَّنْ يُجِيبُ الْمُضطَرَّ إِذَا دَعَاهُ وَيَكْشِفُ السُّوءَ وَيَجْعَلُكُمْ خُلَفَاءَ الأَرْضِ أَإلَهٌ مَعَ اللَّهِ ؟ قَلِيلاً مَا تَذَكَّرُونَ } ، { أَمَّنْ يَهْدِيكُمْ فِي ظُلُمَاتِ الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَمَنْ يُرْسِلُ الرِّيَاحَ بُشْرًا بَيْنَ يَدَيْ رَحْمَتِهِ أَإِلَهٌ مَعَ اللَّهِ ؟ تَعَالَى اللَّهُ عَمَّا يُشْرِكُونَ } ، { أَمَّنْ يَبْدَأُ الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ وَمَنْ يَرْزُقُكُمْ مِنْ السَّمَاءِ وَالأَرْضِ أَإلَهٌ مَعَ اللَّهِ قُلْ هَاتُوا بُرْهَانَكُمْ إِنْ كُنتُمْ صَادِقِينَ } [ الآيات : 59ـ64 من سورة النمل ] .
ثم يذكر جل شأنه في آية أخرى العجز الكامل لمن يدعو من دون الله أو يعتقد بوجود خالق غير الله فيقول : { يَاأَيُّهَا النَّاسُ ضُرِبَ مَثَلٌ فَاسْتَمِعُوا لَهُ إِنَّ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ لَنْ يَخْلُقُوا ذُبَابًا وَلَوْ اجْتَمَعُوا لَهُ وَإِنْ يَسْلُبْهُمْ الذُّبَابُ شَيْئًا لاَ يَسْتَنقِذُوهُ مِنْهُ ضَعُفَ الطَّالِبُ وَالْمَطْلُوبُ } [ الحج : 73 ] . وهكذا يبين الله في كثير من الآيات القرآنية أنه وحده القادر على كل شيء لا شريك له ولا مثيل وكيف يكون له ذلك وعجزهم حاصل في خلق ذبابة !! بل إن جرثومة من الجراثيم الكامنة في بطنها لو سلبت أحدهم صحته ما قدر على ردها ،
سبحان الله الخالق البصير !! جلت عظمته ، وتقدست أسماؤه .
الله أم الشركاء ؟

(1/22)


ومن المعروف أن وجود الله تعالى من البديهيات التي يدركها الإنسان بفطرته ، ويهتدي إليها بطبيعته : { أَفِي اللَّهِ شَكٌّ فَاطِرِ السَّمَاوَاتِ وَالأرْضِ } [ إبراهيم : 10] ، وفي زمن الجاهلية الجهلاء لم يوجد إنكار لوجوده ، إنما وجد الخطأ في الإشراك به { وَالَّذِينَ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ أَوْلِيَاءَ مَا نَعْبُدُهُمْ إِلاَّ لِيُقَرِّبُونَا إِلَى اللَّهِ زُلْفَى إِنَّ اللَّهَ يَحْكُمُ بَيْنَهُمْ فِي مَا هُمْ فِيهِ يَخْتَلِفُونَ إِنَّ اللَّهَ لاَ يَهْدِي مَنْ هُوَ كَاذِبٌ كَفَّارٌ } [ الزمر : 3] ، وفي أهل الكتاب يقول جل شأنه : { قُلْ يَاأَهْلَ الْكِتَابِ تَعَالَوْا إِلَى كَلِمَةٍ سَوَاءٍ بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ أَلاَّ نَعْبُدَ إِلاَّ اللَّهَ وَلاَ نُشْرِكَ بِهِ شَيْئًا وَلاَ يَتَّخِذَ بَعْضُنَا بَعْضًا أَرْبَابًا مِنْ دُونِ اللَّهِ فَإِنْ تَوَلَّوْا فَقُولُوا اشْهَدُوا بِأَنَّا مُسْلِمُونَ } [ آل عمران : 64] .
وإذا إستقرأنا ما توهمه الناس شريكاً لله في ألوهيته لم نجد أحداً من هؤلاء الشركاء المزعومين ترشحه حالته ليكون في هذا الوجود أهلاً لذلك .
ـ لقد عبد القدماء أحجاراً اقتطعوها من سطح الأرض فهل يصح في خلَد عاقل ـ أن حجراً في الأرض ـ بل الأرض كلها تصلح لأن تكون إلها ؟
ـ وعبدوا صنفاً من الحيوان وقدسوا نسله كما يفعل الهندوس في الهند
فهل هناك عجل مهما كان حجمة يصلح لمنصب الألوهية ؟
ـ وقد أدعى بعض الناس الألوهية لنفسه . كفرعون حاكم مصر وكالنمرود مع إبراهيم ولكن اتضح عجزهم ولم يدفعوا الضر عن أنفسهم فضلاً عن دفعة من الآخرين .

(1/23)


وبعض الدهماء من اليهود والنصارى ضلوا في فهم أنبياءهم ورفعوهم إلى مصاف الآلهة مع أن هؤلاء المرسلين ليسوا إلا عبيداً اختارهم الله واصطفاهم وبينوا للناس ذلك وحذروهم من الوقوع في الإشراك قال تعالى : { وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ إلاَّ نُوحِي إِلَيْهِ أَنَّهُ لاَ إِلَهَ إِلاَّ أَنَا فَاعْبُدُونِ } [ الأنبياء : 25] ، وقال تعالى : { وَإِذْ قَالَ اللَّهُ يَاعِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ أَأَنتَ قُلْتَ لِلنَّاسِ اتَّخِذُونِي وَأُمِّي إِلَهَيْنِ مِنْ دُونِ اللَّهِ قَالَ سُبْحَانَكَ مَا يَكُونُ لِي أَنْ أَقُولَ مَا لَيْسَ لِي بِحَقٍّ إِنْ كُنتُ قُلْتُهُ فَقَدْ عَلِمْتَهُ تَعْلَمُ مَا فِي نَفْسِي وَلاَ أَعْلَمُ مَا فِي نَفْسِكَ إِنَّكَ أَنْتَ عَلاَّمُ الْغُيُوبِ مَا قُلْتُ لَهُمْ إِلاَّ مَا أَمَرْتَنِي بِهِ أَنْ اعْبُدُوا اللَّهَ رَبِّي وَرَبَّكُمْ وَكُنتُ عَلَيْهِمْ شَهِيدًا مَا دُمْتُ فِيهِمْ فَلَمَّا تَوَفَّيْتَنِي كُنتَ أَنْتَ الرَّقِيبَ عَلَيْهِمْ وَأَنْتَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ } [ المائدة : 116،117] .

(1/24)


وبالرغم من بطلان خرافة ألوهية عيسى عليه السلام وفسادها فإنها قد صادفت رواجاً في العالم منقطع النظير ، خاصة في الدول التي تدعي التقدم فلذا نتناول ذلك بشيءٍ من التفصيل من خلال كلام للشيخ محمد الغزالي قال فيه : ( لم تصادف خرافة من الرواج في العالم مثل الخرافة التي تعد عيسى إلها لهذا العالم أو شريكاً فيه مع الله !! وهذه الخرافة تتسع وتضيق حسب إختلاف الأهواء والآراء ، فتارة تعتبر هذا العالم خاضعاً لإشراف شركة مساهمة من الله ثم من عيسى وأمه ، والروح القدس وتارة تضيق فتعتبر هؤلاء الشركاء شعباً لحقيقة واحدة ، أو مظاهر متعددة لإله واحد على نحو يعجز العقل تصوره ، وذلك كله شرود عن الصواب وضلال كبير : { لَقَدْ كَفَرَ الَّذِينَ قَالُوا إِنَّ اللَّهَ هُوَ الْمَسِيحُ ابْنُ مَرْيَمَ } [ المائدة : 72] ، { لَقَدْ كَفَرَ الَّذِينَ قَالُوا إِنَّ اللَّهَ ثَالِثُ ثَلاَثَةٍ وَمَا مِنْ إِلَهٍ إِلاَّ إِلَهٌ وَاحِدٌ } [ المائدة : 73] .
وعيسى بشر يأكل ويشرب ويقذف من جسمه بالفضلات الحيوانية ، فكيف تنفي عنه صفة الإنسانية ، أو يزعم له ما هو فوقها ؟ ، { مَا الْمَسِيحُ ابْنُ مَرْيَمَ إِلاَّ رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ وَأُمُّهُ صِدِّيقَةٌ كَانَا يَأْكُلاَنِ الطَّعَامَ انظُرْ كَيْفَ نُبَيِّنُ لَهُمْ الآيَاتِ ثُمَّ انظُرْ أَنَّى يُؤْفَكُونَ } [ المائدة : 75] .
ثم هو عبد يعنو وجهه لربه الأعلى ، ويذل في ساحته ويسمع ـ في صمت وإقرار ـ هذا التقرير الخطير : { قُلْ فَمَنْ يَمْلِكُ مِنْ اللَّهِ شَيْئًا إِنْ أَرَادَ أَنْ يُهْلِكَ الْمَسِيحَ ابْنَ مَرْيَمَ وَأُمَّهُ وَمَنْ فِي الأَرْضِ جَمِيعًا } [ المائدة : 17] .

(1/25)


وعيسى نفسه يعرف أنه وأمه عبدان فقيران لله ، ويوم الحساب يقران بذلك ويستنكران غُلو الغالين فيهما { أَأَنتَ قُلْتَ لِلنَّاسِ اتَّخِذُونِي وَأُمِّي إِلَهَيْنِ مِنْ دُونِ اللَّهِ قَالَ سُبْحَانَكَ مَا يَكُونُ لِي أَنْ أَقُولَ مَا لَيْسَ لِي بِحَقٍّ } [ المائدة : 116] ، { مَاقُلْتُ لَهُمْ إِلاَّ مَا أَمَرْتَنِي بِهِ أَنْ اعْبُدُوا اللَّهَ رَبِّي وَرَبَّكُمْ } [ المائدة : 117] ، والواقع الذي يعلو به صوت البديهية : إنه من المستحيل جعل عيسى إلها يخلق ويرزق ، ويحيي ويميت ، ويدير شؤون البلاد والعباد ، وأمر السماء والأرض … إلخ .
لأنه في حياته عبد ضعيف ، وبعد مماته رفات موارى في حفرة من التراب ، ومؤلهو عيسى يشعرون بذلك جيداً .
ومن ثم فهم يلتمسون له القوة ـ التي تجعل منه إلهاً ـ من طبيعة أخرى غير طبيعته العاجزة كإنسان ، وذلك بالتحايل على إيجاد نسبة بينه وبين الله سبحانه وتعالى هي نسبة البنوة ـ كأنه ولي عهد !! وزين لهم هذا التخبط أن عيسى ولد من أم فقط .
والحق أن النسبة بين الله وبين خلقه كافة هي نسبة الموجد المتفضل بالإيجاد المختار فيه أتم إختيار على عالم لم يملك لنفسه ضراً ولا نفعاً ولا موتاً ولاحياةً ولا نشورا .
وإن كل صامت ناطق في هذا العالم يدين الله بكينونته ، وهو طوعاً أو كرهاً يسبح بحمده ، ويذل لربوبيته !! .
والله سبحانه وتعالى قد يجعل بعض مخلوقاته أرضاً وبعضها سماءً ، بعضها تراباً وبعضها ذهباً ، بعضها نباتاً وبعضها حيواناً ، بعضها إنساً وبعضها جناً ، فما أعلى شأنه من خلقه فهو محض فضله ، وما حدد له وضعه فهو محض حكمته ، وقد يمنح بعض البشر والملائكة مواهب تميزهم عن أقرانهم ثم يختارون رسلاً لعباده .

(1/26)


وأيا ما يفعل ربك بخلقه . فإن ذلك ما يمس أصل النسبة المقررة بين العالم وموجده العظيم ، إذا جعل المهندس بعض أحجار البيت دعائم مختفية في الطين وبعضها الآخر شرفات تعلو في الفضاء ، ظننت أن الأحجار العالية أنها قد تحولت مهندساً أو شبه مهندس .
أي سخف هذا الذي يجعل بعض الخلق شركاء في الألوهية ، لأنه منح فضل إحترام ؟
وكيف يتصور في بديع السماوات والأرض أن يكون والداً لتلك الأجساد التي ذرأها ؟ وما عيسى في جانب الملكوت الضخم:
{ وَقَالُوا اتَّخَذَ الرَّحْمَانُ وَلَدًا سُبْحَانَهُ ! بَلْ عِبَادٌ مُكْرَمُونَ لاَ يَسْبِقُونَهُ بِالْقَوْلِ وَهُمْ بِأَمْرِهِ يَعْمَلُونَ } [ الأنبياء : 26،27] ، وشأن الألوهية أعز مما يهرف به الجهلة من ولادة وبنوة وإتصال وأنسال ! { لَوْ أَرَادَ اللَّهُ أَنْ يَتَّخِذَ وَلَدًا لاَصْطَفَى مِمَّا يَخْلُقُ مَا يَشَاءُ سُبْحَانَهُ هُوَ اللَّهُ الْوَاحِدُ الْقَهَّارُ } [ الزمر : 4] ، ولو كانت ولادة عيسى من أم فقط ، ترشحه للألوهية ـ بصفة البنوة ـ لكان آدم أولى منه بها ، بل لكان الملائكة المقربون أولى بذلك فهم من الملأ الأعلى ، وليس من الحمأ المسنون ، وفي هذا كفاية لمن كان له قلب أو ألقى السمع وهو شهيد .
حوار حول الألوهية :
ونظراً لأهمية هذه الحوارالذي وقع في مدينة ( دلهي الهندية ) حول معرفة الصانع رأيت من المناسب ذكره :
( ذكروا أنه كان في مدينة ( دلهي ) من أرض الهند ، أحد الدعاة المسلمين ، وكانت حرفته الصياغة ، وهو كثير الحب لله ورسله وللناس جميعاً يتخذ من صياغته وسيلة لجمع المال لينفقه في سبيل الدعوة إلى الله ، الصانع الأعظم لهذا الوجود بكل مافيه من مادة وقوة روحية ، وقد بلغه أن حكومة الهند ، أعلنت أنها ستقيم معرضاً صناعياً وطنياً كبيراً في مدينة ( دلهي ) تدعو إليه سكان الهند وسواهم .

(1/27)


وقد سره هذا الإعلان ، وصمم في نفسه ، أن يتخذ من فنه البارع وسيلة للدعوة إلى الله ، وكشف حقيقة الإيمان به ، وصلته بمخلوقاته .
من أجل هذه الغاية الشريفة ، أخذ يسهر الليالي الطوال وهو يصوغ عوالم الوجود ، المادية والروحية ، في صورة شجرة فنية رائعة ، وقد عرض فيها الأرض والشموس والأقمار والسماوات وعوالم الأرواح عرضاً فنياً رائعاً جداً فجعلها أغصاناً متشابكة ، تحمل كرات شتى ، وأرسل بينها مختلف الإشعاعات الكهربائية المغناطيسية وسواها ، لتمثل القوى المعنوية في الوجود ، كما أرسل إشعاعات بيضاء صافية مجنحة ، تمثل الأملاك والجنة ، وأشار إلى الشياطين بأشباح سوداء مخيفة ، وقد اتخذ لشجرته هذه مكاناً بارزاً في صدر المعرض لتلفت الأنظار .
احتشد الناس صبيحة يوم إفتتاح المعرض ، واجتمعوا متزاحمين حول هذه الشجرة الفنية العجيبة وهم مابين بوذيين يعبدون روح بوذا الأزلية القديمة ، التي تأنست فيه وتجسدت حسب تعاليمهم ، وما بين براهمة يؤلهون روح برهمة وسيفا ، وفشنو الذين يقولون عنهم قد حل الله فيهم ، لأنهم اعتقدوا أن الله روح . ومابين مجوس يعبدون النار التي هي جزء من الشمس الحالة فيها قوة روحية ، يزعمون أنها هي الخالق العظيم . ومابين شنتويين يابانيين يعبدون روحاً عامة ، يعتقدونها حالة في طبيعة اليابان وجبالها وأوديتها وأنهارها ، ومابين سياميين يعبدون الروح الحالة في الفيل الأبيض . ومابين حلوليين يعتقدون أن الله روح كلية يحل في كل ذرة من ذرات الوجود ، هي التي تسيره . ومابين ثنويين يرون العالم يدار بيد روحين كبيرتين : هما ( يزدان ) خالق الخير ، و( أهرمن ) خالق الشر ، وسوى هؤلاء كثير من أهل تلك البلاد ، كعباد النوافع والمضار والجمال ، كالبقر والأفاعي والغزلان .

(1/28)


أما الداعية ـ صانع الشجرة ـ فقد فرح فرحاً عظيماً ، حين رأى الناس مجتمعين بإحتشاد وتزاحم حول شجرته الفنية الرائعة ، وهم معجبون كيف استطاع صانعها العبقري أن يمثل فيها كل قوى عوالم الوجود المادية والروحية ، كما استطاع أن يشير إلى كل أشياء الوجود التي عبدت ، واعتقد أنها هي الله الخالق العظيم .
أجل فرح الداعية الصانع حين رآهم معجبين بالشجرة ، وكيف تسنى لصانعها أن يجعلها تشتمل على كل صور الآلهة المعبودة من دون الله ، كالغزلان والأبقار والأرض والسماوات وبقية الأجرام ، والشموس وبوذا وبرهمة وسيفا وفشنو وتشتري وزرادشت ومترا وفولكان ولاوتسو وكونفشيوس والبابا ، وسواهم من الملوك والقياصرة والأباطرة والفراعنة ومؤسسي الأديان وبعض أتباعهم الذين بولغ بهم حتى ألّهوا فعُبدوا .
نعم فرح لأنه رأى المحتشدين معجبين بعبقريته الفنية الخارقة التي استطاعت أن تصور عوالم الوجود المادية والروحية هذا التصوير الدقيق ويبرزها في هذا الجمال الفني الباهر للعيان .
أخذ المحتشدون يلتفتون يميناً وشمالاً ، وهم يتساءلون عن صانع الشجرة وقد كان تلاميذه منتشرين بين جمهور المحتشدين ، وكلما رأوا إلحاح الجمهور في طلب رؤية صانع الشجرة ، يصرفونهم عنه بإلفات أنظارهم إلى عجائب الشجرة الفنية ، وغرائب صنعتها الظاهرة في كل جزء من أجزائها ، وأخيراً صاح المشاهدون جميعاً : إن هذه الشجرة الفنية هي أعظم مافي المعرض ، فلابد لنا من معرفة صانعها العظيم الكبير ، وأخذوا يهتفون ويرددون الهتاف بصورة متواصلة . فقال التلاميذ :
ماذا تريدون من معرفة الصانع ؟
أجاب المحتشدون : إن صانعاً قديراً ، وصانعاً ماهراً ، قد استطاع أن يمثل عوالم الوجود بقسميه المادي والروحي في هذه الشجرة يجب أن نعرفه معرفة أكيدة صحيحة ، حتى لا ننسب إمجاده وإحترامه وإكباره إلى سواه .
التلاميذ : وماذا يضركم إذا احترمتم غيره وأكبرتموه ، ونسبتم صنعته إلى سواه ؟

(1/29)


المحتشدون : يعطى الحق إلى غير أهله ، ويقدر غير الجدير بالتقدير ويجر ذلك إلى تقدير الجهل بإسم العلم ، وفي هذا إفساد للأوضاع وقلب للحقائق ، بل فيه كل الشر ، فيجب أن نعرف صانع هذه الشجرة بالذات . وحين أصر الجمهور على ذلك اقترب أحد تلاميذ الداعية من الشجرة ومد يده مشيراً إلى الشمس البادية فيها قائلاً : إن الذي صنع هذه الشجرة هي الروح الثاوية في هذه الشمس ، فظنه المحتشدون مجنوناً وأعرضوا عنه ، فتقدم تلميذ آخر قائلاً : لا . لا ، إنه كاذب لأننا نشاهد عياناً أن الشمس والروح الحالة فيها مصنوعتان لصانع الشجرة ، ففرح الجميع وقالوا : هذا تلميذ يفهم الحقائق ويعلم أن الصنعة غير الصانع ، وطلبوا إليه أن يرشدهم إلى معرفة الصانع الصحيحة ، فقال لهم حباً وكرامةً ، ثم مشى إلى الشجرة ومد يده وأشار إلى القوة التي تمثل الجاذبية العامة الممزوجة بكل الشجرة ، المتخللة كل ذرة من ذراتها ، وكل عنصر من عناصرها ، وقال : هذه القوة الروحية ، هي التي صنعت الشجرة بكل مافيها من عوالم سواء كانت من الأرواح أو من المادة فضج الجميع وسخطوا وقالوا : إن هذا التلميذ لا يقل عن زميلة جنوناً ، وهنا ظهر أحد التلاميذ أمام الجمهور بوقار ورزانة قائلاً : إنه أشار إلى الروح العامة التي تتخلل الشجرة . وهذه أوجدها الصانع لتمسك ذرات الشجرة وعناصرها وعوالمها ، ولكن الذي صنع الشجرة ، هو : هؤلاء وأشار بيده إلى التماثيل الثلاثة ( برهمة ، وسيفا ، وفشنو ) قائلاً : إن الروح الكامنة في هؤلاء الثلاثة ، المتحدة المنبثق بعضها من بعض قبل الدهور ، هي التي صنعت الشجرة بكل عوالمها المادية والروحية والحية وغير الحية والعاقلة وغير العاقلة ، وهذه التماثيل الثلاثة تشير إلى أقانيم ثلاث هي في الحقيقة إله واحد . فصرخ الناس وقالوا : مالنا ولهؤلاء المجانين ، وأخذوا يتنادون من يعلم شيئاً عن حقيقة صانع الشجرة فليتقدم .

(1/30)


وهنا تقدم جماعة آخرون من التلاميذ ، وأشاروا إلى النار قائلين ، هي التي صنعت الشجرة فقال آخرون : كذبوا بل الذي صنعها ، الروح الحالة في هذا الفيل الأبيض. وقال آخرون : بل الروح الأزلية التي حلت في بوذا هذا . وقال آخرون : كذبتم بل هذه ، وأشار إلى الروح الحالة
في طبيعة اليابان وجبالها وأدويتها كما هو ماثل في الشجرة …
وهنا أعرض جماهير المشاهدين عنهم ، وطفقوا يضحكون قائلين : هل نحن في ( مارستان ) تلاميذ أي مجنون هؤلاء ؟‍‍‍‍
ثم قال حكيم من حكماء الجماهير المحتشدين .. مالكم ياقوم ؟ نسألكم عن صانع الشجرة ، لا عن الأشياء المكونة منها الشجرة ، فكيف تشيرون إلى الصنعة ، وتقولون هي الصانع ، فبرز تلميذ كأنه فيلسوف كبير وقال : إن كل جزء من أجزاء الشجرة المادية والمعنوية ، هو الذي صنع الشجرة ، أي أن الشجرة هي التي صنعت نفسها ، وليس لها صانع سواها .
فأخذ المحتشدون يضحكون على عقليات التلاميذ السخيفة ونظراتهم الواهمة ووزنهم الخفيف الخفيق .
وحينئذ أدرك جماعة من الحكماء أن التلاميذ ماقالوا الذي قالوه إلا لغاية مقصودة ، وأدركوا أن في المسألة سراً ، إذ التلاميذ ليسوا بمجانين ولا مخبولين ، لذلك قالوا : علمنا يقيناً أن الصنعة غير الصانع ، هلموا فاطلبوا صانع الشجرة ليكلم الجماهير . فذهب التلاميذ جميعاً ، حين رأوا الجد في طلب الصانع وما لبثوا أن أقبلوا ، وصانع الشجرة يتقدمهم ، وماكادت الحكماء والجماهير تشاهده مقبلاً حتى قابلته بعاصفة من التصفيق والهتاف ، فانحنى متقبلاً هتافهم وخطبهم قائلاً :
لقد رأيتم بعيداً كل البعد أن شيئاً من أشياء هذه الشجرة المادية أو الروحية هو الذي صنعها ، وقلتم مستحيل ذلك عقلاً وعلماً وتجربة ، بيد أنكم جميعاً آمنتم بذلك وأذعنتم له تقليداً ووراثة وتلقيناً وتعليماً .

(1/31)


المحتشدون : لا . لا ، نحن لم نؤمن به ولم نذعن له ، إنما تلاميذك هؤلاء المحيطون بك ، هم الذين أعلنوا ذلك وتنادوا به .
الداعية : إن تلاميذي أرادوا أن يقربوا لكم الحقيقة ، ويكشفوا لكم ما أنتم عليه من تقاليد ووراثات وتربيات وتلقينان تنافي واقع العلم والمعرفة ، أما تعلمون أن هذه الأرض التي نعيش فيها ، وهذا الفضاء الذي تسبح فيه الأجرام المترامية في أبعاده ، وهذه الأرواح والجاذبية والمغناطيسية وكل القوى الروحية ، والملائكة والجن … وكل ماتشاهدونه أو تقرؤون عنه من أشياء الوجود هي صنعة بين أيديكم تشاهدونها وتدركونها بحواسكم وعقولكم ، أما تدل هذه الكائنات على جلال صانعها وعظيم قدرته وأنه لا يشبهها ولا تشبهه في صفة ما ، وأنه وحده المهيمن عليها المسير لها ؟‍
نعم انتم تعلمون هذا كل العلم ، ومع ذلك تقولون ـ تقليداً ووراثة ـ إن صانعها هو بعضها كما هو معلوم لكم …
المحتشدون : محال أن نقول : إن بعض الصنعة هو الذي صنع كل الصنعة ، بل نتحقق من طريق العلم اليقيني والمشاهدة ، أن لكل صنعة صانعاً هو
سواها بلا ريب .
الداعية : لا لا ، بل قلتم ذلك ، أما فيكم من يقول : ( نؤمن بسافستري ) إله واحد ضابط الكل خالق السماوات والأرض ، وبإبنه الوحيد ( آني ) نور من نور ، مولود غير مخلوق تجسد من ( فايو ) في بطن ( مايا ) العذراء ، ونؤمن ( بغايو ) الروح المنبثق من الأب والإبن الذي هو مع الأب والإبن يسجد له ويمجد(1) ، أما فيكم من يقول : إن الله روح محض لا تحل في شيء ، ولكنها تتجلى وتشرق على من تشاء فيعبد لأجل ذلك ؟
__________
(1) ـ هذا هو قانون الإيمان الهندي القديم ، كما نقله العلامة المستشرق ( مالغير ) في كتابه المطبوع عام 1895 ، الذي ترجمه للعربية نخلة بك شفوات عام 1913هـ ، ومعنى ( سافستري ) الشمس ، ومعنى (آني ) النار ، ومعنى (فايو) الروح ، و (مايا) هي العذراء المقدسة المشهورة في الهند القديمة وهي والدة الإله .

(1/32)


أما فيكم من يعتقد أن الروح الحالة في الشمس هي الخالق العظيم ؟ أما فيكم من يعتقد أن الخالق العظيم هو الروح المحض التي حلت في برهمة وسيفا وفشنو ، ثم قلتم بعد ذلك إن هؤلاء الثلاثة ، إله واحد حيث انبثق بعضهم من بعض قبل الدهور ؟
أما فيكم من قال : إن موجد هذا الكون روح حلت في الفيل الأبيض ؟
أما فيكم من قال : إن صانع الوجود بقسميه المادي والروحي ، هو روح حالة في طبيعة اليابان ؟ أليس فيكم من أنكر كل ذلك ، زاعماً أن الصانع هو الروح التي حلت في بوذا ؟ أليس فيكم من قال : بل الروح التي حلت في البابا ؟ أليس فيكم من جعل الصانع الأعظم لهذا الوجود روح الخير وروح الشر ، التي حلت في ( يزدان وأهرمن ) ؟ أليس فيكم من جعل الصانع روحاً تحل في النوافع كالثيران والعجول ، وطير أبي قردان ، أو المضار كالأفاعي والشياطين ، أو الجميلة الوديعة كالحمام والغزلان والنساء ؟ أما فيكم من وصلت به سخافة الفكر والمهانة أن أنكر الصانع لهذا الوجود زاعماً أن العوالم المادية والروحية هي التي خلقت نفسها بنفسها أي قال : إن الصانع هو الصنعة ؟ أما فيكم …؟ أما فيكم …….؟
وهنا تنهد الداعية قائلاً : وياليت بعضكم مسلّم لبعض ولم تختلفوا على أنفسكم ، وتحتربوا من أجل هذه الأساطير والسخافات ، ولم ينكر كل فريق منكم الروح التي ألهها الآخرون غير مصدق بسوى الروح التي آمن بها هو ، واعتقدها وحدها هي التي صنعت عوالم الوجود .
والمقصود أنكم اختلفتم على أنفسكم وعلى العلم والحق والدين ، وجعلتم الأجيال تختلف بإختلافكم وتمرض بمرضكم وتتوارث سخافتكم وأساطيركم ، وتعتقدون أن ترهاتكم هذه هي وحي الله المنزل الذي لا يأتيه الباطل.

(1/33)


وماذا أقول لكم : وفيكم جماعات كثيرة لها من عمق الفكرة وسعة الحضارة مالم يكن لقدماء الفرس والروم واليونان والكلدان … ومع ذلك لا يزالون يعبدون أشياء كثيرة ، متخيلين أن خالق الوجود هو الروح التي زعموا أنها تحل فيها ، ولن يجدوا مثلاً يصدق عليهم إلا كلمة الأديب ( جرجي زيدان ) التي قالها حين درس تاريخ سكان مصر القدماء ورآهم يعتقدون أن الله روح تحل في الأشياء التي يعبدونها : ( لقد عبدوا كل شيء إلا الله ) .
المحتشدون : قلت حقاً ، فكيف النجاة من مضايق هذه البلايا وأغلال هاتيك التقاليد ، وكابوس رحى المورثات والتعاليم والتربيات ؟
الداعية : النجاة هي في الرجوع إلى العلم والعقل ، إلى الحرية والفهم ، إلى الإنتصاف من النفس لوجه الحق وواقع المعرفة .
المحتشدون : ألا إن الأرواح التي زينتها تقاليدنا في أعيننا وجعلتنا نعتقدها هي الله الخالق العظيم ، هي التي حملتنا ثقل هذه الأساطير وبلايا هذه الخرافات والترهات ، لذلك نطلب إليك أيها الداعية الكريم أن تخرجنا منها ، وها نحن أولاء نعلنك المساعدة .
الداعية : إنكم لا تستطيعون الخروج من أغلالها وخنادقها المظلمة ، وقيودها الحديدية الثقيلة .
المحتشدون : بل في مقدورنا ، وهل في الوجود من ينكر الحق بعد معرفته إياه ، ويؤثر عليه الجهل والخرافة ، ويحني عنقه للخرافات التي تضاد العقل وتناقض العلم والمعرفة !!

(1/34)


الداعية : نعم ذلك موجود وبينكم أيضاً ، لأنكم أنتم ثلاث فرق : الفرقة الأولى ، هي التي تؤمن بفطرتها وعقلها وعلمها ، وتعلم أن لهذه المصنوعات التي تبدو ماثلة في الوجود صانعاً تدل صنعته على مدى قدرته وعظمته ، وعلى جلال صفاته التي تليق به سبحانه وتعالى ، وعلى مغايرته لها جميعاً المادية والروحية ، وهؤلاء يستطيعون أن يؤمنوا بالحقيقة متى أدركوها ، أي يستطيعون أن يؤمنوا بما أوحاه الله على خاتم الأنبياء ، ويعلموا أن الصنعة غير الصانع ، وحينئذ يمكنهم أن يأخذوا الوحي الإلهي من منبعه الصافي ، خاتم الكتب الإلهية ـ القرآن المجيد ـ .
وهنا صرخت هذه الفرقة وقالت : نؤمن بوجود الصانع العظيم ، بمعارفنا وعلومنا ، ونطلبه بإيمان وصدق وإخلاص ، ونضحي في سبيل طلبه بأنفسنا وأولادنا ولا ندخر دون ذلك مالاً أو جاهاً أوسلطاناً ، وإن انحرفت بنا عنه التقاليد والموروثات والتلقينات ، وأوصلتنا إلى اعتقاد أنه ـ تعالى ـ روح يحل في مصنوعاته من إنسان وحيوان وشجر وكواكب وشموس … نعم لا ندخر وسعاً دون معرفته العلمية الصحيحة ، لأننا نعتقد أن الإنحراف عن واقع تلك المعرفة والحق ، يغضب الخالق العظيم . لذلك نطلب منك أن تذكر لنا الدلائل القطعية التي تثبت أن خاتم وحي السماء القرآن ، جاء بهذه الحقيقة العلمية التي كشفتها في شجرتك مادمنا تحققنا علمياً أن الصنعة غير الصانع ، وفهمنا أنه تعالى واحد أزلي أبدي ، من قبل جميع المخلوقات ، وأنه هو وحده الذي لا أول له ولا آخر ، وجميع مخلوقاته الروحية والمادية ، لها بداية ونهاية لأنها خلقه وصنعته وحده .
وهنا ، ابتسم الداعية وقال : يكفي أن تقرؤوا القرآن مرة واحدة ، وتنعموا أنظاركم في آياته آية آية لتفهموا ذلك ، وها أنا أسمعكم جانباً من الآيات البينات :

(1/35)


قال الله تعالى : { لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ البَصِيرُ } [ الشورى : 11] { لَهُ مَقَالِيدُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ } [ الزمر : 63] { هُوَ الأَوَّلُ وَالآخِرُ وَالظَّاهِرُ وَالْبَاطِنُ وَهُوَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ } [ الحديد: 3] { وَمَا قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ وَالأَرْضُ جَمِيعًا قَبْضَتُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَالسَّماوَاتُ مَطْوِيَّاتٌ بِيَمِينِهِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ } [ الزمر : 67] { يَاأَيُّهَا النَّاسُ ضُرِبَ مَثَلٌ فَاسْتَمِعُوا لَهُ إِنَّ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ لَنْ يَخْلُقُوا ذُبَابًا وَلَوْ اجْتَمَعُوا لَهُ وَإِنْ يَسْلُبْهُمْ الذُّبَابُ شَيْئًا لاَ يَسْتَنقِذُوهُ مِنْهُ ضَعُفَ الطَّالِبُ وَالْمَطْلُوبُ } [ الحج : 73] { اللَّهُ خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ } [ الرعد : 16 ]، وفي [ الزمر : 62] { بَدِيعُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَإِذَا قَضَى أَمْرًا فَإِنَّمَا يَقُولُ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ } [ البقرة : 117] { شَهِدَ اللَّهُ أَنَّه لاَ إِلَهَ إِلاَّ هُوَ وَالْمَلاَئِكَةُ وَأُوْلُوا الْعِلْمِ قَائِمًا بِالْقِسْطِ لاَ إِلَهَ إِلاَّ هُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ } [ آل عمران : 18] .

(1/36)


ولما أنهى تلاوة الآيات هتفوا قائلين : نشهد أن الله هو الصانع الأعظم لكل شيء ، وأنه واحد أزلي قديم ، ليس هو الروح أو المادة ، بل هو وحده خالق الروح والمادة معاً ، وخالق كل شيء ، وخالق الأزمنة والأمكنة ، وهو وحده كان قبل خلقه ، كان ولا يزال متفرداً بالوجود الأبدي القادر وحده ، لا تحيط به مخلوقاته من زمان أو مكان أو سواهما ، ولا يماثل شيئاً منها ولا تماثله ، بيد أن جميع مخلوقاته في قبضته وقهره وسلطانه ، وهو يحيط بها جميعاً وأن محمداً عبده ورسوله ، ختم به الرسالات السماوية والوحي ، وأن الله لم يحرم أمة من الأمم من الرسالات الإلهية في زمن من الأزمان ، وأن كل جمال وخير وهدى وإنسانية وسمو وإجتماع ، جاءت على ألسنة الرسل السابقين ، هي مذخورة في خاتم الوحي الإلهي ، والقرآن المجيد ، وأن كل جمال وخير وهدى وإنسانية وسمو وإجتماع جاءت بعده ، إنما هو مصدرها وينبوعها الخالد الحي . وقد أرسل الله أنبياءه للدعوة إلى الإيمان به ، إيماناً خالياً من كل شائبة من شوائب الوثنية والشرك والتشبيه والتمثيل والحلول والإنتقال ، سائلين المولى الكريم ، أن يعفوا عنا ما مضى من عبادة سواه .
الداعية : قد عفا الله عنكم منذ الساعة التي آمنتم به وحده لأن الإسلام إليه ، يقطع جراثم عبادة مخلوقاته المادية أو الروحية المبتداة بالعدم والمنتهية إلى العدم ) (1) .
نظرة في الآلهة المزعومة:
قال تعالى : { سَنُرِيهِمْ آيَاتِنَا فِي الآفَاقِ وَفِي أَنْفُسِهِمْ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُ الْحَقُّ أَوَلَمْ يَكْفِ بِرَبِّكَ أَنَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ } [ فصلت : 53] ، الله وحده هو الخالق القادر على كل شيء ، المستحق للعبادة .
__________
(1) ـ عن كتاب شرح رسالة الحقوق للشيخ / حسن السيد علي القبانجي من صفحة 41 إلى صفحة 49.

(1/37)


إن جميع الآلهة الأخرى المزعومة ليست إلا خيالات عقول مريضة وأسماء لا مدلول لها أبداً : { أَلاَ إِنَّ لِلَّهِ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَمَنْ فِي الأَرْضِ وَمَا يَتَّبِعُ الَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ شُرَكَاءَ إِنْ يَتَّبِعُونَ إِلاَّ الظَّنَّ وَإِنْ هُمْ إِلاَّ يَخْرُصُون } [ يونس : 66] .
وإذا استقرأنا حال من نسب إليهم الألوهية الموهومة نجدهم :
اما متهمون أبرياء مقرين بالعبودية لله وحده لا سواه كبعض الرسل والملائكة .
واما مخلوقات لا تحسن ولا تعقل كالأحجار والأبقار .
واما حكام سفلة كالفراعنة وأشباههم .
وقد عرف الله سفهاء المشركين أقدار هذه الآلهة التي اتخذوها آلهة من دونه ، فقال في الأصنام الجامدة : { أَلَهُمْ أَرْجُلٌ يَمْشُونَ بِهَا ؟ أَمْ لَهُمْ أَيْدٍ يَبْطِشُونَ بِهَا ؟ أَمْ لَهُمْ أَعْيُنٌ يُبْصِرُونَ بِهَا ؟ أَمْ لَهُمْ آذَانٌ يَسْمَعُونَ بِهَا ؟ } [ الأعراف : 195] ، وقال في من منحه هذه الوسائل :
{ إِنَّ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ عِبَادٌ أَمْثَالُكُمْ فَادْعُوهُمْ فَلْيَسْتَجِيبُوا لَكُمْ إِنْ كُنتُمْ صَادِقِين } [ الأعراف : 194] ، ثم كشف حالتهم في حالة سماعهم لوسمعوا وبعده فقال جل شأنه : { إِنْ تَدْعُوهُمْ لاَ يَسْمَعُوا دُعَاءَكُمْ وَلَوْ سَمِعُوا مَا اسْتَجَابُوا لَكُمْ وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ يَكْفُرُونَ بِشِرْكِكُمْ وَلاَ يُنَبِّئُكَ مِثْلُ خَبِيرٍ } [ فاطر : 14] .
ويقول في آيات أخرى :
{ أَأَرْبَابٌ مُتَفَرِّقُونَ خَيْرٌ ؟ أَمْ اللَّهُ الْوَاحِدُ الْقَهَّارُ! } [ يوسف : 39] ، ويقول ذاكراً فساد السماوات في حالة وجود آلهة أخرى : { لَوْ كَانَ فِيهِمَا آلِهَةٌ إِلاَّ اللَّهُ لَفَسَدَتَا فَسُبْحَانَ اللَّهِ رَبِّ الْعَرْشِ عَمَّا يَصِفُونَ } [ الأنبياء : ]

(1/38)


{ مَا اتَّخَذَ اللَّهُ مِنْ وَلَدٍ وَمَا كَانَ مَعَهُ مِنْ إِلَهٍ إِذًا لَذَهَبَ كُلُّ إِلَهٍ بِمَا خَلَقَ وَلَعَلاَ بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ سُبْحَانَ اللَّهِ عَمَّا يَصِفُونَ } [ المؤمنون : 91] { ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلاً رَجُلاً فِيهِ شُرَكَاءُ مُتَشَاكِسُونَ وَرَجُلاً سَلَمًا لِرَجُلٍ هَلْ يَسْتَوِيَانِ مَثَلاً الْحَمْدُ لِلَّهِ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لاَ يَعْلَمُونَ } [ الزمر : 29] ، وهكذا يفيض الله بآياته العظيمة في قرآنه المجيد وكونه الواسع العجيب الدلائل الدالة على وحدانيته وكلها شواهد ناطقة وأدلة شاهدة بأنه واحد أحد فرد صمد لم يلد ولم يولد ولم يتخذ صاحبةً ولا شريكاً ولا ولد سبحانه عما يصفون .
المعرفة الصحيحة حصانة من الشرك :
والآن نعود إلى واقع المسلم المقر بوجود الله تعالى ، المعترف بوحدانيته الرافض للشرك فنضع بين يديه هذه التساؤلات التي تدور في خلده ولعله من خلالها يعيد علاقته مع ربه جل وعلا بوجه أو بآخر .
ـ كيف عرفت الله ؟
ـ مامدى تأثير هذه المعرفة ؟
من المعروف أن معرفة الله تعالى أول واجب يجب على الإنسان وهذا أمر لا يختلف فيه إثنان ، قال تعالى : { هَذَا بَلاَغٌ لِلنَّاسِ وَلِيُنذَرُوا بِهِ وَلِيَعْلَمُوا أَنَّمَا هُوَ إِلَهٌ وَاحِدٌ } [ إبراهيم : 52 ] ، وقال تعالى : { فَاعْلَمْ أَنَّهُ لاَ إِلَهَ إِلاَّ اللَّهُ } [ محمد : 19] .
عن ابن عباس أنه جاء رجل إلى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فقال : يانبي الله علمني من غرائب العلم ، فقال له رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم : ( وماذا صنعت في رأس العلم حتى تسألني عن غرائبه ، فقال الرجل : وما رأس العلم يارسول الله ؟ ، قال : معرفة الله حق معرفته ، فقال : يارسول الله وما معرفة الله حق معرفته ؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم : أن تعرفه بلا مثل ولاشبيه ، وأن تعرفه

(1/39)


إلها واحداً فرداً صمداً أولاً آخراً ظاهراً باطناً لا كفؤ له ) (1) .
معرفة الله هي رأس العلم ، وأساس العبادة ، فلا نجاة لأي فرد إلا بها ، ومهما حاول أي إنسان التنكر لها فإنه سيأتي يوم لتذكرها ، والرسول صلى الله عليه وآله وسلم في جوابه للرجل الطالب غرائب العلم لم يقصد بأن يعرفه بهذه الصفات فحسب ، بل يريد أن يستشعرها إستشعاراً كاملاً في جميع حركاته وسكناته ، ويعرف أن الله ليس كمثله شيء ، وأنه يعلم السر وأخفى ، فإذا عرف تلك الصفات معرفة حقيقية فلا يمكن أن يخرج عن نطاق العبودية لله وحدة .
نحن كمسلمين نقر بالعبودية لله تعالى وحده ، والله تعالى في كتابه يبين أنها الهدف من خلقنا فيقول : { وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالإِنسَ إِلاَّ لِيَعْبُدُونِ } [ الذاريات: 56] ، وهنا لا بد من الوقوف على حقيقة العبادة المطلوبة منا ( الإعتقادية ، والتعبدية ، والقانونية ) ، والتي مكننا الله من تحقيقها بما سخره لنا من الوسائل .
قال الإمام القاسم بن إبراهيم : ( إعلم يا أخي ، علمك الله الخير والهدى ، وجنبك المكاره والردى : أن الله خلق جميع عباده المكلفين لعبادته كما قال عز وجل : { وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالإِنسَ إِلاَّ لِيَعْبُدُونِ } [ الذاريات :56] ، والعبادة تنقسم على ثلاثة وجوه :
أولها : معرفة الله .
والثاني : معرفة مايرضيه وما يسخطه .
والوجه الثالث : إتباع مايرضيه ، واجتناب ما يسخطه ، إلى أن قال : فهذه ثلاث عبادات من ثلاث حجج احتج بها المعبود على العباد وهي : العقل ، والكتاب ، والرسول .
فجاءت حجة العقل بمعرفة المعبود ، وجاءت حجة الكتاب بمعرفة التعبد ، وجاءت حجة الرسول بمعرفة العبادة ، والعقل أصل الحجتين الأخيرتين لأنهما عرفا به ولم يعرف بهما فافهم ذلك ) (2) .
__________
(1) ـ أمالي أبي طالب : 111 .
(2) ـ رسائل العدل والتوحيد :124 .

(1/40)


ومن هنا يمكن القول أن العبودية لله وحده هي شطر الركن الأول في العقيدة المتمثل في شهادة أن ( لا إله إلا الله ) ، والتلقي عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم هو شطرها الثاني المتمثل في شهادة ( أن محمداً رسول الله ) ، وعلى هاتين الكلمتين تقوم حياة الأمة الإسلامية بحذافيرها ، وتعتبر القاعدة والركيزة لكل مابعدها من مقومات الإيمان وأركان الإسلام ، ولن تحقق هاتان الكلمتان معناهما والهدف منهما إلا بإخلاص العبودية الصادقة لله وحده في جميع الأمور المطلوبة من الفرد المسلم والمجتمع المسلم ، سواء ( الإعتقادية ، أم الشعائر التعبدية ، أم النظم الإجتماعية والقانونية ) .
ـ فأما الإعتقاد :
فلا بد أن ينشأ في ظل الحقائق اللائقة بالله جل جلاله وعظم شأنه ووصفه بما وصف به نفسه من القدرة ، والعظمة ، والوحدانية ، الجلال ، وغيرها من الصفات والأفعال الكمالية الخالية من كل نقص ، وفي هذا يقول أمير المؤمنين عليه السلام : ( أول الدين معرفته ، وكمال معرفته التصديق به ، وكمال التصديق به توحيده ، وكمال توحيده الإخلاص له ، وكمال الإخلاص له نفي الصفات عنه ، لشهادة كل صفة أنها غير الموصوف ، وشهادة كل موصوف أنه غير الصفة ، فمن وصف الله سبحانه فقد قرنه ومن قرنه فقد ثناه ، ومن ثناه فقد جزأه ، ومن جزأه فقد جهله ، ومن جهله فقد أشار إليه ومن أشار إليه فقد حده ، ومن حده فقد عده ومن قال فيم فقد ضمنه ، ومن قال علام ، فقد أخلى منه ، كائن لاعن حدث ، موجود لا عن عدم ، مع كل شيء لا بمقارنه ، وغير كل شيء لا بمزايله ، فاعل لا بمعنى الحركات والآله ، بصير إذ لا منظور إليه من خلقه ، متوحد إذ لا سكن يستأنس به ، ولا يستوحش لفقده ) (1) .
__________
(1) ـ نهج البلاغة : 39ـ40 .

(1/41)


ويقول الإمام القاسم بن إبراهيم عليه السلام : فكل من وصف الله بهيئات خلقه ، أو شبهه بشيء من صفاتهم أو توهمة صورة ماكان من الصور وجسماً ماكان من الأجسام أوشبحاً أو أنه في مكان أو أن الأقطار تحويه ، وأن الحجب تستره ، وأن الأبصار تدركه من جميع خلقه أو شيء منها ، أو أن شيئاً من خلائقه يدرك شيئاً مما خلق وذرأ وبرأ ومما كان أبد الأبد ، فقد نفاه وكفر به وأشرك وعبد غيره ، فافهموا وفقنا الله وكل مؤمن لإصابة الحق ، وبلوغ الصدق إن قريب مجيب ) (1) .
فلابد أن تكون عبودية الإعتقاد منطلقة من التفكر في عجائب مصنوعات الله وغرائب مخلوقاته بعيدة كل البعد عن التفكر في ذاته لأنه يقود إلى الإلحاد ، كما قال أمير المؤمنين عليه السلام : ( من تفكر في المخلوق وحد ، ومن تفكر في الخالق ألحد ) (2) ، ولا بد أن تكون عبودية الإعتقاد مستقرة إستقراراً أكيداً في النفوس يشعر من خلالها الإنسان بالتوجه الكامل نحو الله تعالى بكل قواه وحركاته في الضمير والجوارح والحياة ، ويعرف أنه عبداً يَعْبُد رباً يُعْبَد ، ولا تتأتى هذه المشاعر إلا إذا كانت خالية عن التقليد الأعمى ، قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم : ( من أخذ دينه عن التفكر في آلاء الله ، والتدبر لكتاب الله ، والتهم لسنتي زالت الرواسي ولم يزُل ، ومن أخذ دينه من أفواه الرجال ، وقلدهم فيه ذهبت به الرجال من يمين إلى شمال ، وكان من دين الله على أعظم زوال ) (3) .
فالذي يقلد في أمور العقيدة شأنه شأن البهيمة العجماء يقودها صاحبها لا تدري أذاهبت إلى مرتعها أم إلى مصرعها .
والمقصود بالتقليد : إعتقاد صحة قول الغير ، بغير إعتماد على حجة أو بصيرة ولا بد من التفرقة بين أمرين حول هذا المفهوم : ـ
__________
(1) ـ رسائل العدل والتوحيد : [2/187] .
(2) ـ سبيل الرشاد : 16
(3) ـ أخرجه الإمام أبو طالب في الأمالي :115 .

(1/42)


الأول : الإيمان بالفكرة وتصديقها بلا حجة ولا بصيرة وإنما لكون فلان قال بها .
الثاني : النظر في أقوال الأئمة والعلماء وفي أدلتهم واختيار القول الصائب الذي يوافق الدليل ، فالأمر الأول يعتبر من التقليد ، والثاني لا يعتبر منه لأن الناظر فيه استعان بأقوال الأئمة في إيضاح المسألة واتبع الدليل فكان على بصيرة من عبودية الإعتقاد ، وفي هذا يقول الإمام علي عليه السلام : ( إعرف الحق تعرف أهله قلوا أم كثروا ) ، فالكثرة ليست مقياساً للحق لأن الله قد ذمها في أكثر آياته ومنها قوله تعالى :
{ وَإِنْ تُطِعْ أَكْثَرَ مَنْ فِي الأَرْضِ يُضِلُّوكَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ إِنْ يَتَّبِعُونَ إِلاَّ الظَّنَّ وَإِنْ هُمْ إِلاَّ يَخْرُصُونَ } [ الأنعام : 116] ، وإذا أردنا تحقيق عبودية العقيدة تحقيقاً صحيحاً خالياً من التقليد فلا بد من فهمها في ضوء الآتي : ـ
1ـ إستعمال العقل بإعتباره مناط التكليف ، وأدة النظر قال تعالى : { وَالَّذِينَ اجْتَنَبُوا الطَّاغُوتَ أَنْ يَعْبُدُوهَا وَأَنَابُوا إِلَى اللَّهِ لَهُمْ الْبُشْرَى فَبَشِّرْ عِبَادِي الَّذِينَ يَسْتَمِعُونَ الْقَوْلَ فَيَتَّبِعُونَ أَحْسَنَهُ أُوْلَئِكَ الَّذِينَ هَدَاهُمْ اللَّهُ وَأُوْلَئِكَ هُمْ أُوْلُوا الأَلْبَابِ } [ الزمر 17ـ18] .
ويعتبر بمثابة النور للإنسان يميز به بين الحق والباطل ، وبين الممكن والمستحيل .

(1/43)


والقرآن يوصي كثيراً بإستخدام العقل في مسائل الإعتقاد ، ومن الأمثلة على ذلك قوله تعالى : { لَوْ كَانَ فِيهِمَا آلِهَةٌ إِلاَّ اللَّهُ لَفَسَدَتَا } [ الأنبياء : 22] ، فالآخذ بالعقل في مسائل أصول الدين آخذ بالقرآن الكريم ، ولذلك انتهج المذهب الزيدي النهج القرآني في إستخدام الدليل العقلي وجمع في الإستدلال على صحة معتقداته بين صحيح النقل ، وصريح العقل ، ولذلك لم تأسره ظواهر الألفاظ المتشابهات ، كما أسرت بعض المذاهب التي عطلت العقل ، وحصرت دوره ، وقصرت فهمه وإدراكه على فهم من قلدوه تقليداً أعمى ، { وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ اتَّبِعُوا مَا أَنزَلَ اللَّهُ قَالُوا بَلْ نَتَّبِعُ مَا أَلْفَيْنَا عَلَيْهِ آبَاءَنَا أَوَلَوْ كَانَ آبَاؤُهُمْ لاَ يَعْقِلُونَ شَيْئًا وَلاَ يَهْتَدُونَ } [ البقرة : 170] .
قال الإمام القاسم بن إبراهيم عليه السلام : ( معرفة الله عز وجل وهي عقليه ، منقسمة على وجهين وهما : إثبات ونفي ، فالإثبات هواليقين بالله والإقرار به ، والنفي هو نفي التشبيه عنه تعالى ، وهو التوحيد وهو ينقسم على ثلاثة أوجه : ـ
الوجه الأول : الفرق بين ذات الخالق وذات المخلوق حتى ينفي عنه جميع ما يتعلق بالمخلوقين في كل معنى من المعاني صغيرها وكبيرها وجليلها ودقيقها حتى لا يخطر في قلبك في التشبيه خاطر شك ولا توهم ، ولا إرتياب حتى توحد الله سبحانه بإعتقادك وقولك وفعلك ، فإن خطرت على قلبك في التشبيه خاطرة شك فلم تنف عن قلبك بالتوحيد خاطرها وتمط باليقين البت والعلم المثبت حاضرها ، فقد خرجت من التوحيد إلى الشرك ومن اليقين إلى الشك لأنه ليس بين التوحيد والشرك واليقين والشك منزلة ثالثة ، فمن خرج من التوحيد فإلى الشرك مخرجه ، ومن فارق اليقين ففي الشك موقعه .
الوجه الثاني : هو الفرق بين الفعلين حتى لا تصف القديم بصفة من صفات المحدثين .

(1/44)


والوجه الثالث : هو الفرق بين الفعلين حتى لا تشبه فعل القديم [ الموجود الذي لا أول لوجوده ] بفعل المخلوقين ) (1) .
2ـ الإعتماد على الحجج القرآنية وإرجاع متشابه الكتاب إلى محكمة : ـ
من المعروف أن القرآن يحمل في طياته القواعد الأساسية ، والأصول العامة لكل مايحتاجه الإنسان من عقائد ، وقوانين ، وأحكام ، وأنظمة ، وآداب ، وهو الأصل الأول الذي يجب الإعتماد عليه ، وإنما قدمنا الحجج العقلية للتدليل على وجوب تأويل ظواهر النصوص التي توحي بالتشبيه والتجسيم وهي بهذه لا تلغي دوره أو تغض من شأنه ، وإنما تقودنا للعمل به وفقاً للإرادة الإلهية قال تعالى : { هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ عَلَيْكَ الْكِتَابَ مِنْهُ آيَاتٌ مُحْكَمَاتٌ هُنَّ أُمُّ الْكِتَابِ وَأُخَرُ مُتَشَابِهَاتٌ فَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ فَيَتَّبِعُونَ مَا تَشَابَهَ مِنْهُ ابْتِغَاءَ الْفِتْنَةِ وَابْتِغَاءَ تَأْوِيلِهِ وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلاَّ اللَّهُ وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ يَقُولُونَ آمَنَّا بِهِ كُلٌّ مِنْ عِنْدِ رَبِّنَا } [ آل عمران : 7] .
فالمحكم هو أصل الكتاب والمتشابه هو فرعه ويجب رد المتشابه إلى المحكم ولن نستطيع رده إلا بإستعمال العقل في ضوء اللغة والسياق والمراد الإلهي ، وما صعب يجب إرجاعه إلى الراسخين في العلم ليوضحوا صعوبته ويكشفوا غامضه .
__________
(1) ـ رسائل العدل والتوحيد : [1/126] .

(1/45)


ولو لم يستخدم أهل العدل والتوحيد هذه القاعدة الصحيحة لاستفحل داء المجسمة والقدرية والمرجئة والمجبرة وصعب دوائهم لأنهم يوردون الآيات المتشابهة التي تحتمل أكثر من معنى ليبرروا صحة عقائدهم المنحرفة التي وصفوا الله من خلالها بصفات غير لائقة وقد وضح الله مقاصدهم وكشف أستارهم وأبان زواغ قلوبهم من خلال ما يستدلون به من الآيات المتشابهات مع تركهم للآيات المحكمات وفي هذا الصدد يقول الإمام الهادي إلى الحق يحيى بن الحسين عليه السلام :
( إعلم أن القرآن محكم ومتشابه ، وتنزيل وتأويل ، وناسخ ومنسوخ ، وخاص وعام ، وحلال وحرام ، وأمثال وعبر ، وأخبار وقصص ، وظاهر وباطن ، وكل ما ذكرنا يصدق بعضه بعضاً فأوله كآخره ، وظاهره كباطنه ، ليس فيه تناقض ، وذلك أنه كتاب عزيز على يدي رسول كريم وتصديق ذلك في كتاب الله حيث يقول : { لاَ يَأْتِيهِ الْبَاطِلُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَلاَ مِنْ خَلْفِهِ تَنزِيلٌ مِنْ حَكِيمٍ حَمِيدٍ } [ فصلت : 42] ، ويقول : { بَلْ هُوَ قُرْآنٌ مَجِيدٌ فِي لَوْحٍ مَحْفُوظٍ } [ البروج : 21] ، ويقول : { أَفَلاَ يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ وَلَوْ كَانَ مِنْ عِنْدِ غَيْرِ اللَّهِ لَوَجَدُوا فِيهِ اخْتِلاَفًا كَثِيرًا } [ النساء : 82] ، فالمحكم كما قال الله : { وَلَمْ يَكُنْ لَهُ كُفُوًا أَحَدٌ } [ الصمد :2 ] ، و { لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ البَصِيرُ } ] الشورى : 11] ، و { لاَ تُدْرِكُهُ الأَبْصَارُ وَهُوَ يُدْرِكُ الأَبْصَارَ وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ } [ الأنعام : 103] ، وغير ذلك .

(1/46)


والمتشابه مثل قوله تعالى : { وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ نَاضِرَةٌ إِلَى رَبِّهَا نَاظِرَةٌ } [ القيامة : 22] ، معناها بيّن عند أهل العلم ، وذلك أن تفسيره عندهم أن الوجوه يومئذ نضرة مشرقة ناعمة ، إلى ثواب ربها منتظرة ، كما نقول : لا أنظر إلا إلى الله وإلى محمد ، ومحمد غائب ، ولا ينظر الله إليهم يوم القيامة ، معناه لا يبشرهم برحمته ولا يبذل لهم ما أنال أهل الجنة من الثواب ) (1) .
ويقول جده الإمام القاسم بن إبراهيم عليه السلام : ( وقد أنكرت الحشوية(2) رد المتشابه إلى المحكم ، وزعموا أن الكتاب لا يحكم بعضه على بعض وأن كل آية منه ثابتة واجب حكمها بوجوب تنزيلها وتأويلها ولذلك وقعوا في التشبيه ، وجادلوا عليه لما سمعوا من متشابه الكتاب فلم يحكموا عليه بالآيات التي جاءت بنفي التشبيه ، فاعلم ذلك ) (3) .
3ـ مراعاة سياق الآيات :
__________
(1) ـ رسائل العدل والتوحيد : [2/101ـ102] .
(2) ـ الحشوية هم المشبهة والمجسمة وأهل الظاهر الذين لا يسلكون سبيل التأويل للمتشابه من آيات القرآن الكريم وسمو حشوية لأن كلامهم حشو لا منطق فيه ولا عقل .
(3) ـ رسائل العدل والتوحيد : [1/126] .

(1/47)


ولا بد عند الإستشهاد بآيات الكتاب من مراعاة سياقها سواء أكانت الآيات دالة على مسائل التوحيد أم مسائل العدل ، أو ما يتعلق بالعقيدة بشكل عام ، ومن الأمثلة على ذلك قوله تعالى : { وَاللَّهُ خَلَقَكُمْ وَمَا تَعْمَلُونَ } [ الصافات : 96] ، استدلت بها بعض الفرق على أن الله خلقنا وخلق ما نعمله من الأعمال خيرها وشرها ولو رجعوا إلى السياق لوجدوا زيف قولهم وفساده ، فالسياق هو : { فَرَاغَ إِلَى آلِهَتِهِمْ فَقَالَ أَلاَ تَأْكُلُونَ مَا لَكُمْ لاَ تَنطِقُونَ فَرَاغَ عَلَيْهِمْ ضَرْبًا بِالْيَمِينِ فَأَقْبَلُوا إِلَيْهِ يَزِفُّونَ قَالَ أَتَعْبُدُونَ مَا تَنْحِتُونَ وَاللَّهُ خَلَقَكُمْ وَمَا تَعْمَلُونَ } [ الصافات : 91ـ96] ، فالآية مقترنة بما قبلها والمراد بها أن الله خلقكم وخلق هذه المادة التي تعملون منها الأصنام فكيف تعبدون ما تنحتونه مما خلق .
4ـ تحديد معنى المصطلحات :
ومما يعين على فهم الكلمة المطلوبة حصر معانيها اللغوية ومواردها في القرآن الكريم ، وكذلك شواهدها من أشعار العرب لأن القرآن نزل بلغتهم فلا مانع من الإستشهاد بكلماتهم في إيضاح معاني الكلمات ، ومن الأمثلة على ذلك ما أجاب به الإمام الهادي إلى الحق عليه السلام على أحد المجبرة الذي زعم أن الإغفال من الله واستدل بقوله تعالى :

(1/48)


{ وَلاَ تُطِعْ مَنْ أَغْفَلْنَا قَلْبَهُ عَنْ ذِكْرِنَا وَاتَّبَعَ هَوَاهُ وَكَانَ أَمْرُهُ فُرُطًا } [ الكهف : 28] ، فقال الإمام الهادي عليه السلام موضحاً فساد قوله ، وزيف إعتقاده : ( وأما ما سأل عنه من قول الله سبحانه : { وَلاَ تُطِعْ مَنْ أَغْفَلْنَا قَلْبَهُ عَنْ ذِكْرِنَا } ، فقال : خبرونا عن هذا الذي أغفل الله قلبه عن ذكره ، هل أراد الله أن يطيعه فتوهم ، ويله وغوله إن لم يتب من الله ويحه !! إن الله تبارك وتعالى أدخله في الغفلة ، وحال بينه بذلك وبين الطاعة ، فليس كما توهم ، ألا يسمع إلى قول الله عز وجل :
{ وَاتَّبَعَ هَوَاهُ وَكَانَ أَمْرُهُ فُرُطًا } ، فأخبر ، سبحانه أنه متبع في ذلك لهواه ، ضال عن رشده ، تارك لهداه ، ولو كان ذلك من الله لم يكن العبد متبعاً لنفسه هواه ، بل كان داخلاً لله فيما شاء وارتضى ، وسنفسر معنى الآية إن شاء الله ، والقوة بالله وله : إن الله تبارك نهى نبيه عن طاعة من أغفل قلبه ممن آثر هواه على هداه ، وأما معنى ماذكر الله سبحانه من الإغفال فقد يخرج على معنيين والحمدلله شافيين كافيين :
أحدهما : الخذلان من الله والترك لمن اتبع هواه وآثره على طاعة مولاه فلما أن عصى وضل وغوى وترك مادل عليه الهدى ، استوجب من الله الخذلان لما كان فيه من الضلال والكفران ، فغفل وضل وجهل إذ لم يكن معه من الله توفيق ولا إرشاد ، فتسربل سربال الغي والفساد .

(1/49)


وأما المعنى الآخر : فبين في لسان العرب موجود ، معروف عند كلها محدود وهو أن يكون معنى قوله : { أَغْفَلْنَا قَلْبَهُ عَنْ ذِكْرِنَا } أي تركناه من ذكرنا والذكر هو التذكرة من الله والتسديد والتعريف والهداية إلى الخير والتوفيق فيقول سبحانه : تركنا قلبه من تذكيرنا وعوننا وهدايتنا بما أصر عليه من الإشراك بنا والإجتراء علينا ، تقول العرب : يا فلان أغفلت فلاناً ، ويقول القائل : لا تغفلني أي تتركني ، وتقول العرب : قم مني ، أي قم عني ،فتخلف بعض حروف الصفات ببعض وتقيم بعضها مقام بعض ، قال الشاعر :
شربنا بماء البحر ثم ترفعت

لدى لجج خضر لهن نئيج

فقال : لدى للجج ، وإنما يريد على لجج ، فذكر السحاب وشربها من البحار ، واستقلالها بما فيها من الأمطار ، وقال آخر :
أغفلت تغلب من معروفك الكاسي
فخلت قلبك منهم مغضباً قاسي
فقال : أغفلت تغلب من معروفك ، أي تركتها من عطائك ونوالك ومنتك وأوصالك ، ثم قال : فخلت قلبك منهم مغضباً قاسي ، فقال : منهم ، وإنما يريد عليهم غضباً ، فأقام حرف الصفة وهو ( من ) مقام أختها وهي ( على ) ، وأقام ( منهم ) مقام ( عليهم ) ، فهذا معنى الآية إنشاء الله ومخرجها ، لا ما توهم الجهّال على ذي المعالي والجلال من
الجبر لعباده والإضلال ، والظلم والتجبر بالإغفال ) (1) .
5ـ فهم الأحاديث النبوية في ضوء القرآن الكريم :
وإذا أردنا عبودية عقائدية صادقة ، فلا بد أن تكون وفق الصفات اللائقة بالله تعالى ، ومن المستحيل أن يتناقض الوحي في هذه الصفات سواء في الكتاب أو السنة فأما الكتاب فقد تقدم كيفية التعامل معه وأما السنة فلا بد أن يكون الحديث المستدل به منها في أمر العقيدة قطعياً متواتراً ، وبما لا يتعارض مع القرآن الكريم بوجه أو بآخر ، ويلزمنا عدم المجازفة في الرد والقبول .
__________
(1) ـ رسائل العدل والتوحيد : [ 2/246ـ247] .

(1/50)


وقد أكد الرسول صلى الله عليه وآله وسلم على قاعدة العرض على القرآن الكريم فقال : ( سيكذب عليًّ كما كذب على الأنبياء من قبلي فما أتاكم عني فأعرضوه على كتاب الله ، فما وافقه فهو مني وأنا قلته ، وماخالفه فليس مني ولم أقله ) (1) ، وبالرغم من المحاولات التشكيكية في هذا الحديث من قبل الحشوية فإنه يزداد صحةً يوماً بعد آخر ، وأبسط مثال على ذلك أن عائشة زوج الرسول صلى الله عليه وآله وسلم طبقته على أحاديث كثيرة ، ومنها حديث : ( إن الميت ليعذب ببكاء أهله ) (2) ، فقالت : ( إنه يتعارض مع قول الله تعالى : { وَلاَ تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى } [ الأنعام : 164] .
قال النووي : ( وهذه الروايات من رواية عمر بن الخطاب وابنه عبدالله رضي الله عنهما ، وأنكرته عائشة ، ونسبتهما إلى النسيان والإشتباه عليهما ، وأنكرت أن يكون النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال ذلك ، واحتجت بقوله تعالى : { وَلاَ تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى } [ الأنعام : 164] ، قالت : وإنما قال النبي صلى الله عليه وآله وسلم في يهودية أنها تعذب وهم يبكون عليها يعني تعذب بكفرها في حال بكاء أهلها لا بسبب البكاء ) (3) .
__________
(1) ـ أورده الإمام القاسم بن محمد في الإعتصام [1/21] ، وأخرجه أبو الفتح الديلمي في أول البرهان ـ خ ـ وهو في كنز العمال [1/176] ، ومجمع الزوائد : [1/17] ، وفي الجامع الصغير : [1/74] ، وهو من الأحاديث الصحيحة والمعتبرة عند أهل البيت عليهم السلام .
(2) ـ رواه البخاري فتح [3/151ـ152] ، ومسلم في صحيحه [2/638ـ642] .
(3) ـ شرح صحيح مسلم [5/228] .

(1/51)


ويقول الشيخ الغزالي : ( إنها ترد ما يخالف القرآن بجرأة وثقة ومع ذلك فإن هذا الحديث المرفوض من عائشة مايزال مثبتاً في الصحاح بل إن ( ابن سعد ) في طبقاته الكبرى كررها في بضعة أسانيد !! … وعندي أن ذلك المسلك الذي سلكته أم المؤمنين أساس لمحاكمة الصحاح إلى نصوص الكتاب الكريم الذي لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه ) (1) .
وهكذا تتوالى الإعترافات من هنا وهناك ، وتؤكد صحة قواعد أهل البيت في كيفية التعامل مع الأحاديث النبوية .
ثم لماذا ترفض الحشوية هذه القاعدة النبوية ، وتقبل قواعد أصحابها وبقطع النظر عن صحة حديث العرض من عدمه فإن القاعدة صحيحة ومطلوبة ، ولذلك لمّا تركوها وقعوا في إشكالات كثيرة وتلونات عديدة لم تستوعبها مصطلحاتهم وقواعدهم .
يقول الإمام القاسم بن محمد معلقاً على قبولهم لحكم الشيخ من مشائخهم في الحديث بالصحة أم بالضعف ورفضهم لحكم كتاب الله فيه : ( وناهيك أن يكون كتاب الله أعزه الله تعالى ، كأصول الخطابي والذهبي ، أوكحكم شيخ حكم بصحة الحديث ، أو عدمها مع أن المعلوم عدم عصمة ذلك الشيخ في حكمه ، ومع عدم صحة ما حكم في نفس الأمر ، وهم يوجبون رد مايخالف أصولهم وماخالف ما حكم به شيخ من مشائخهم ، وهل هذا إلا الضلال ؟! ) (2) .
وكم وكم من الأحاديث الإسرائيلية (3) التي تسربت بطريقة أو بأخرى إلى الأحاديث النبوية ، فلذا يلزم التنبه لها والتحذير منها حتى لا يقع الناس في فخ التجسيم والتشبيه ، ووصف الله بما لا يليق بجلاله ، وخير وسيلة لكشفها هو عرضها على القرآن وفقاً للأسس المذكورة ، مع إستعمال طرق التضعيف الأخرى المعتبرة .
ـ أماالشعائر التعبدية :
__________
(1) ـ السنة النبوية بين أهل الفقه وأهل الحديث : [ 16،17،18] .
(2) ـ الإعتصام : [ 1/24] .
(3) ـ للمزيد راجع كتابنا ( تقريب مصطلح الحديث ) .

(1/52)


فلا بد أن تتمثل العبودية الخالصة في ممارستها ، ، وتكون خالصة لله وحده ، قال تعالى : { قُلْ إِنَّ صَلاَتِي وَنُسُكِي وَمَحْيَاي وَمَمَاتِي لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ } [ الأنعام : 162ـ163] ، وقال تعالى : { فَمَنْ كَانَ يَرْجُوا لِقَاءَ رَبِّهِ فَلْيَعْمَلْ عَمَلاً صَالِحًا وَلاَ يُشْرِكْ بِعِبَادَةِ رَبِّهِ أَحَدًا } [ الكهف : 111 ] .
ـ الشرائع الإجتماعية والقانونية :
كذلك لا بد أن تتمثل العبودية في إستمداد الشرائع التي تنظم للبشرية حياتها ، ويلزم تنقيتها من الإستمداد من غير الله تعالى ، قال تعالى :
{ أَمْ لَهُمْ شُرَكَاءُ شَرَعُوا لَهُمْ مِنْ الدِّينِ مَا لَمْ يَأْذَنْ بِهِ اللَّهُ } [ الشورى : 21] ، وقال تعالى : { وَمَا آتَاكُمْ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا } [ الحشر : 7] .
فعلى هذه الدعائم الثلاث ( عبودية الإعتقاد ، عبودية الشعائر ، عبودية القوانين والشرائع ) ، تقوم شخصية الفرد المسلم ، والمجتمع المسلم ، والدولة المسلمة .

المجتمع الجاهلي المعاصر :
والإسلام في الحقيقة لا يعترف بمن لا يستشعر هذه الدعائم الثلاث استشعاراً عملياً بل يعتبره جاهلاً ، شأنه شأن المجتمع الجاهلي القديم .
ومن الممكن الإشارة إلى ما يمكن أن نسميه ( بالمجتمع الجاهلي المعاصر) وهو على ماقال سيد قطب : ( كل مجتمع غير المجتمع المسلم ! وإذا أردنا التحديد الموضوعي قلنا : إنه كل مجتمع لا يخلص عبوديته لله وحده .. متمثلة هذه العبودية في التصور الإعتقادي ، وفي الشعائر التعبدية ، وفي الشرائع القانونية ..
وبهذا التعريف الموضوعي تدخل في إطار ( المجتمع الجاهلي ) جميع المجتمعات القائمة اليوم في الأرض فعلاً !!

(1/53)


تدخل فيه المجتمعات الشيوعية .. أولاً : بإلحادها في الله ـ سبحانه ـ وبإنكار وجوده أصلاً ، ورجع الفاعلية في هذا الوجود إلى ( المادة ) أو ( الطبيعة ) ، ورجع الفاعلية في حياة الإنسان وتاريخه إلى ( الإقتصاد ) أو ( أدوات الإنتاج ) .
ثانياً : بإقامة نظام العبودية فيه للحزب ـ على فرض أن القيادة الجماعية في هذا النظام حقيقة واقعة ! ـ لا لله سبحانه ! ثم مايترتب على ذلك التصور وهذا النظام من إهدار لخصائص ( الإنسان ) وذلك بإعتبار أن ( المطالب الأساسية ) له هي فقط مطالب الحيوان ، وهي : الطعام والشراب والملبس والمسكن والجنس ! وحرمانه من حاجات روحه ( الإنساني ) المتميز عن الحيوان ، وفي أولها : العقيدة في الله ، وحرية إختيارها ، وحرية التعبير عنها ، وكذلك حرية التعبير عن ( فرديته ) وهي من أخص خصائص ( إنسانيته ) . هذه الفردية التي تجلى في الملكية الفردية . وفي إختيار نوع العمل والتخصص ، وفي التعبير الفني عن ( الذات ) إلى آخر ما يميز ( الإنسان ) عن ( الحيوان ) أو عن ( الآلة ) إذ أن التصور الشيوعي والنظام الشيوعي سواء ، كثيراً ما يهبط بالإنسان عن مرتبة الحيوان إلى مرتبة الآله !

(1/54)


وتدخل فيه المجتمعات الوثنية ـ وهي ماتزال قائمة في الهند واليابان والفليبين وأفريقية ـ تدخل فيه ـ أولاً : بتصورها الإعتقادي القائم على تأليه غير الله ـ معه أو من دونه ـ وتدخل فيه ثانياً : بتقديم الشعائر التعبدية لشتى الآلهة والمعبودات التي تعتقد بألوهيتها .. كذلك تدخل فيه بإقامة أنظمة وشرائع ، المرجع فيها لغير الله وشريعته . سواء استمدت هذه الأنظمة والشرائع من المعابد والكهنة والسدنة والسحرة والشيوخ ، أو استمدتها من هيئات مدنية ( علمانية ) تملك سلطة التشريع دون الرجوع إلى شريعة الله .. أي أن لها الحاكمية العليا بإسم ( الشعب ) أو بإسم ( الحزب ) أو بإسم كائن من كان .. ذلك أن الحاكمية العليا لا تكون إلا لله سبحانه ، ولا تزاول إلا بالطريقة التي

(1/55)


بلّغها عنه رسله ، وتدخل فيه المجتمعات اليهودية والنصرانية في أرجاء الأرض جميعاً .. تدخل فيه المجتمعات أولاً : بتصورها الإعتقادي المحرّف ، الذي لا يفرد الله ـ سبحانه ـ بالألوهية بل يجعل له شركاء في صورة من صور الشرك ، سواء بالبنوة أو بالتثليث ، أو بتصور الله سبحانه على غير حقيقته ، وتصور علاقة خلقه به على غير حقيقتها : { وَقَالَتْ الْيَهُودُ عُزَيْرٌ ابْنُ اللَّهِ وَقَالَتْ النَّصَارَى الْمَسِيحُ ابْنُ اللَّهِ ذَلِكَ قَوْلُهُمْ بِأَفْوَاهِهِمْ يُضَاهِئُونَ قَوْلَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ قَبْلُ قَاتَلَهُمْ اللَّهُ أَنَّى يُؤْفَكُونَ } [ التوبة : 30] ، { لَقَدْ كَفَرَ الَّذِينَ قَالُوا إِنَّ اللَّهَ ثَالِثُ ثَلاَثَةٍ وَمَا مِنْ إِلَهٍ إِلاَّ إِلَهٌ وَاحِدٌ وَإِنْ لَمْ يَنتَهُوا عَمَّا يَقُولُونَ لَيَمَسَّنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ } [ المائدة : 73] ، { الْيَهُودُ يَدُ اللَّهِ مَغْلُولَةٌ غُلَّتْ أَيْدِيهِمْ وَلُعِنُوا بِمَا قَالُوا بَلْ يَدَاهُ مَبْسُوطَتَانِ يُنفِقُ كَيْفَ يَشَاءُ } [ المائدة : 64] ، { وَقَالَتْ الْيَهُودُ وَالنَّصَارَى نَحْنُ أَبْنَاءُ اللَّهِ وَأَحِبَّاؤُهُ قُلْ فَلِمَ يُعَذِّبُكُمْ بِذُنُوبِكُمْ بَلْ أَنْتُمْ بَشَرٌ مِمَّنْ خَلَقَ } .. [ المائدة : 18] .
وتدخل فيه كذلك بشعائرها التعبدية ومراسمها وطقوسها المنبثقة من التصورات الإعتقادية المنحرفة الضالة .. ثم تدخل فيه بأنظمتها وشرائعها ، وهي كلها لا تقوم على العبودية لله وحده بالإقرار له وحده بحق الحاكمية ، واستمداد السلطان من شرعه ، بل تقيم هيئات من البشر ،
لها حق الحاكمية العليا التي لا تكون إلا لله سبحانه ..

(1/56)


وقديماً وصمهم الله بالشرك لأنهم جعلوا هذا الحق للأحبار والرهبان ، يشرعون لهم من عند أنفسهم فيقبلون منهم ما يشرعونه : { اتَّخَذُوا أَحْبَارَهُمْ وَرُهْبَانَهُمْ أَرْبَابًا مِنْ دُونِ اللَّهِ وَالْمَسِيحَ ابْنَ مَرْيَمَ وَمَا أُمِرُوا إِلاَّ لِيَعْبُدُوا إِلَهًا وَاحِدًا لاَ إِلَهَ إِلاَّ هُوَ سُبْحَانَهُ عَمَّا يُشْرِكُونَ } [ التوبة :31] .
وهم لم يكونوا يعتقدون في ألوهية الأحبار والرهبان . ولم يكونوا يتقدمون لهم بالشعائر التعبدية ، إنما كانوا فقط يعترفون لهم بحق الحاكمية ، فيقبلون منهم ما يشرعونه لهم ، بما لم يأذن به الله ، فأولى أن يوصموا اليوم بالشرك والكفر ، وقد جعلوا ذلك لناس منهم ليسوا أحباراً ولا رهبانا .. وكلهم سواء ..
وأخيراً يدخل في إطار المجتمع الجاهلي تلك المجتمعات التي تزعم لنفسها أنها ( مسلمة ) !!
وهذه المجتمعات لا تدخل في هذا الإطار لأنها تعتقد بألوهية أحد غير الله ، ولا لأنها تقدم الشعائر التعبدية لغير الله أيضاً ، ولكنها تدخل في هذا الإطار لأنها لا تدين بالعبودية لله وحده في نظام حياتها . فهي ـ وإن لم تعتقد بألوهية أحد إلا الله ـ تعطى أخص خصائص الأولوهية لغير الله ، فتدين بحاكمية غير الله ، فتتلقى من هذه الحاكمية نظامها ، وشرائعها وقيمها ، وموازينها ، وعاداتها وتقاليدها . . وكل مقومات حياتها تقريباً ! .
والله سبحانه يقول عن الحاكمين : { وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنزَلَ اللَّهُ فَأُوْلَئِكَ هُمْ الْكَافِرُونَ } [ المائدة : 44] ، ويقول عن المحكموين :

(1/57)


{ أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ يَزْعُمُونَ أَنَّهُمْ آمَنُوا بِمَا أُنزِلَ إِلَيْكَ وَمَا أُنزِلَ مِنْ قَبْلِكَ يُرِيدُونَ أَنْ يَتَحَاكَمُوا إِلَى الطَّاغُوتِ وَقَدْ أُمِرُوا أَنْ يَكْفُرُوا بِهِ .. } إلى أن يقول : { … فَلاَ وَرَبِّكَ لاَ يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لاَ يَجِدُوا فِي أَنفُسِهِمْ حَرَجًا مِمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيمًا } [ النساء : 60ـ65] .
كما إنه ـ سبحانه ـ وقد وصف اليهود والنصارى من قبل بالشرك والكفر والحيدة عن عبادة الله وحده ، واتخاذ الأحبار والرهبان أرباباً من دونه ، لمجرد أن جعلوا للأحبار والرهبان ما يجعله الذين يقولون عن أنفسهم أنهم ( مسلمون ) لناس منهم ! واعتبر الله سبحانه ذلك من اليهود والنصارى شركاً كإتخاذهم عيسى ابن مريم رباً يؤلهونه ويعبدونه سواء . فهذه كتلك ـ خروج من العبودية لله وحدة ، وخروج من دين الله ، ومن شهادة لا إله إلا الله .
وهذه المجتمعات بعضها يعلن صراحة ( علمانيتة ) وعدم علاقته بالدين أصلاً ، وبعضها يعلن أنه ( يحترم الدين ) ولكنه يخرج الدين من نظامه الإجتماعي أصلاً ، ويقول : إنه ينكر ( الغيبية ) ويقيم نظامه على ( العلمية ) بإعتبار أن العلمية تناقض الغيبية ! وهو زعم جاهل لا يقول به إلا الجهال ، وبعضها يجعل الحاكمية الفعليه لغير الله ، ويشرع ما يشاء ثم يقول عما يشرعه من عند نفسه : هذه شريعة الله ! … وكلها سواء في أنها لا تقوم على العبودية لله وحده …
وإذا تعين هذا ، فإن موقف الإسلام من هذه المجتمعات الجاهلية كلها يتحدد في عبارة واحدة : إنه يرفض الإعتراف بإسلامية هذه المجتمعات كلها وشرعيتها في إعتباره .

(1/58)


إن الإسلام لا ينظر إلى العنوانات واللافتات والشعارات التي تحملها هذه المجتمعات على إختلافها .. إنها كلها تلتقي في حقيقة واحدة .. وهي أن الحياة فيها لا تقوم على العبودية الكاملة لله وحده .
وهي من ثم تلتقي ـ مع سائر المجتمعات الأخرىـ في صفة واحدة .. صفة [ الجاهلية ] ) (1) .

والخلاصة :
إن الشرك أنواع عديدة يمكن حصرها في قسمين رئيسيين : ـ
1ـ الشرك النظري : ويتمثل في الإعتقاد بتعدد ذات واجب الوجود أو تعدد الخالق أو نحو ذلك .
ويعتبر من أسوأ أنواع الشرك قال تعالى : { إِنَّ اللَّهَ لاَ يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ وَمَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَقَدْ ضَلَّ ضَلاَلاً بَعِيدًا } [ النساء : 116] .
2ـ الشرك العملي : ويتمثل في تحويل العبادة أو الخضوع لغير الله تعالى أو إلتماس التشريع من غيره .
وللشرك آثارة السيئة والخطيرة على الكون والإنسان وهو من أشر أنواع الظلم لأنه يساوي بين الخالق والمخلوق وعبادة من يستحق العبادة مع من لا يستحقها ، وقد اعترف بذلك المشركون في قولهم : { تَاللَّهِ إِنْ كُنَّا لَفِي ضَلاَلٍ مُبِينٍ إِذْ نُسَوِّيكُمْ بِرَبِّ الْعَالَمِينَ } [ الشعراء : 97ـ98] ، وقد حذر لقمان ابنه إذا قال الله حاكياً عنه : { وَإِذْ قَالَ لُقْمَانُ لاِبْنِهِ وَهُوَ يَعِظُهُ يَابُنَيَّ لاَ تُشْرِكْ بِاللَّهِ إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ } [ لقمان : 13] .
إعترافات متأخرة بصحة عقائد العدلية : ـ
ومن المعروف إن جنود إبليس اعترفوا بضلالهم وسجلوا اعترافهم بالخطأ في جميع عقائدهم المنحرفة .
ولكن اعترافهم في ذلك اليوم لا ينفعهم لأنهم في دار جزاء وكان الأحرى بهم أن يستعملوا عقولهم التي وهبها الله لهم ويخضعوا لما أتى به الرسل في الحياة العملية الحياة الدنيا .
__________
(1) ـ لا إله إلا الله منهج حياة : [44ـ49] .

(1/59)


قال تعالى : { وَجُنُودُ إِبْلِيسَ أَجْمَعُونَ قَالُوا وَهُمْ فِيهَا يَخْتَصِمُونَ تَاللَّهِ إِنْ كُنَّا لَفِي ضَلاَلٍ مُبِينٍ إِذْ نُسَوِّيكُمْ بِرَبِّ الْعَالَمِينَ وَمَا أَضَلَّنَا إِلاَّ الْمُجْرِمُونَ فَمَا لَنَا مِنْ شَافِعِينَ وَلاَ صَدِيقٍ حَمِيمٍ فَلَوْ أَنَّ لَنَا كَرَّةً فَنَكُونَ مِنْ الْمُؤْمِنِينَ إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَةً وَمَا كَانَ أَكْثَرُهُمْ مُؤْمِنِينَ } [ الشعراء : 95ـ103] ، فنجد أنهم اعترفوا بصحة عقائد أهل العدل والتوحيد ، قال الله حاكياً عنهم :
ـ { قَالُوا وَهُمْ فِيهَا يَخْتَصِمُونَ تَاللَّهِ إِنْ كُنَّا لَفِي ضَلاَلٍ مُبِينٍ إِذْ نُسَوِّيكُمْ بِرَبِّ الْعَالَمِينَ } ، هذا إعترافهم بالتوحيد .
ـ { وَمَا أَضَلَّنَا إِلاَّ الْمُجْرِمُونَ } [ الشعراء : 96] إعترافهم بالعدل ونفي الجبر .
ـ { فَمَا لَنَا مِنْ شَافِعِينَ وَلاَصَدِيقٍ حَمِيمٍ } إعترافهم بنفي الشفاعة للظالمين .[ الشعراء : 100ـ101] .
ـ { فَلَوْ أَنَّ لَنَا كَرَّةً فَنَكُونَ مِنْ الْمُؤْمِنِينَ } [ الشعراء : 102] ، إعترافهم بنفي الخروج من النار .
ولكنهم اعترفوا في وقت لا ينفعهم الإعتراف فيه ولا سبيل لهم إلى السعادة لأن الله قد أكمل حججه عليهم في الدنيا وحذرهم مما وقعوا فيه ، ولكنهم لم يستيجبوا ، فوصلوا إلى ماوصلوا إليه .
نبذ المعبودات المزيفة :
ويجب على المسلمين نبذ جميع المعبودات المزيَّفة الداعية إلى الشرك والمتدخلة في حقوق الله تعالى . أو المتعارضة مع أحكامه ومنها القوانين الوضعية لأنها طواغيت حذر منها الله تعالى .

(1/60)


قال الله سبحانه : { وَلَقَدْ بَعَثْنَا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَسُولاً أَنْ اُعْبُدُوا اللَّهَ وَاجْتَنِبُوا الطَّاغُوتَ } [ النحل :36] ، وقال تعالى : { اللَّهُ وَلِيُّ الَّذِينَ آمَنُوا يُخْرِجُهُمْ مِنْ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ وَالَّذِينَ كَفَرُوا أَوْلِيَاؤُهُمْ الطَّاغُوتُ يُخْرِجُونَهُمْ مِنْ النُّورِ إِلَى الظُّلُمَاتِ أُوْلَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ } [ البقرة : 257] ، فالعبادة لغير الله طاغوت واتباع الشيطان طاغوت وقواعد الجاهلية طاغوت والحكم بغير ما أنزل الله طاغوت ومتابعة أهل الباطل في باطلهم طاغوت والمناصرة لهم طاغوت وإتباع المبادي الهدامة طاغوت .
فيجب علينا عبادة الله وحده لا سواه نوحده في ذاته وفي صفاته فلا نشبهه ولا نجسمه ولا نشرك به ، ونعتبره الخالق للكون وظواهره ولا نعتقد بمؤثر ومدبر للعالم سواه سبحانه ولا نقبل بولاية وطاعة أحد غير الله تعالى وغير من أمرنا بموالاتهم والسير على نهجهم .

الإحسان إلى الوالدين
{ وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا }
قال تعالى : { وَإِذْ أَخَذْنَا مِيثَاقَ بَنِي إِسْرَائِيلَ لاَ تَعْبُدُونَ إِلاَّ اللَّهَ وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا وَذِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ } [ البقرة : 83] ، وقال تعالى : { وَقَضَى رَبُّكَ أَلاَّ تَعْبُدُوا إِلاَّ إِيَّاهُ وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا إِمَّا يَبْلُغَنَّ عِنْدَكَ الْكِبَرَ أَحَدُهُمَا أَوْ كِلاَهُمَا فَلاَ تَقُلْ لَهُمَا أُفٍّ وَلاَ تَنْهَرْهُمَا وَقُلْ لَهُمَا قَوْلاً كَرِيمًا وَاخْفِضْ لَهُمَا جَنَاحَ الذُّلِّ مِنْ الرَّحْمَةِ وَقُلْ رَّبِّ ارْحَمْهُمَا كَمَا رَبَّيَانِي صَغِيرًا } [ الإسراء : 23ـ24] .

(1/61)


وقال تعالى : { وَوَصَّيْنَا الإِِنسَانَ بِوَالِدَيْهِ حَمَلَتْهُ أُمُّهُ وَهْنًا عَلَى وَهْنٍ وَفِصَالُهُ فِي عَامَيْنِ أَنْ اشْكُرْ لِي وَلِوَالِدَيْكَ إِلَيَّ الْمَصِيرُ } [ لقمان : 36] .
لقد عظّم القرآن شأن الوالدين وحض على إجلالهما ومصاحبتهما بالبر والإحسان والمعروف . وذلك لما قاما به من جهود عظيمة في رعاية الأولاد والحفاظ عليهم وتحملا في سبيلهم المشاق والمتاعب ، فاضطلعت الأم بأعباء الحمل والوضع، ومشقة الرضاع ، وسهرت الليالي ، وتحملت
أعباء النظافة والعناية المستمرة .

واضطلع الأب بأعباء الجهاد في توفير وسائل العيش والراحة لأولاده ، وتحمل مشقة تأديبهم وتربيتهم ، والصبر على أذاهم .
فمن أجل ذلك كله ، قرن الله بر الوالدين والإحسان إليهما بتوحيده وعبادته مباشرة وهذا غاية في تكريمهما ، والإحسان إليهما ، كما إن المصطفى صلى الله عليه وآله وسلم أكد في كثير من المواقف ضرورة بر الوالدين والسعي في خدمتهما في كل الأوقات ، ومهما كانت الظروف ، روى الإمام الهادي إلى الحق يحيى بن الحسين عليه السلام في أحكامه عن الإمام زيد عن آبائه عن علي عليه السلام قال : صعد رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم المنبر فقال : ( يا أيها الناس إن جبريل أتاني فقال : يامحمد من أدرك أبويه أو أحدهما فمات فدخل النار فأبعده الله قل آمين فقلت آمين ) (1) ، وروى الإمام علي بن موسى الرضا عليه السلام في صحيفته قال : حدثني أبو جعفر عليه السلام قال : أدنى العقوق أف ولو علم الله شيئاً أهون من أف لنهى عنه ) (2) .
__________
(1) ـ الأحكام : [2/527] .
(2) ـ صحيفة علي بن موسى الرضا :188 .

(1/62)


وهنالك الكثير من الأحاديث الدالة على فضل الوالدين وضرورة البر بهما منها ما روي عن عبدالله بن مسعود رضي الله عنه عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم حين سأله أي الأعمال أحب إلى الله قال : ( " الصلاة لوقتها " ، قال : قلت ثم أي ؟ قال " بر الوالدين " قلت : ثم أي ؟ قال " الجهاد " ) (1) .
وعنه صلى الله عليه وآله وسلم : ( لنومك على السرير ارضاء لوالديك تضحكهما وتضحك معهما أفضل من جلادك بالسيف في سبيل الله ) (2) ، وروي أن رجلاً جاء إلى النبي صلى الله عليه وآله وسلم وأبوه ، فقال : يارسول الله إن أبي أخذ مالي فسأل الأب عن ذلك . فقال الأب : إنما أنفقته على احدى عماته أو احدى خالاته فهبط جبريل عليه السلام فقال : يارسول الله سل الأب عن شعر قاله ، فسأل الأب عن ذلك ، فقال الأب : إن الله وله الحمد والمنة يزيدنا ثباتاً يارسول الله كل يوم وليلة والله لقد قلت هذا الشعر في نفسي ولم تسمعه أذناي ثم أنشأ يقول :
غذوتُك مولوداً وعلْتُكَ يافعاً
إذا ليلة صَابَتْكَ بالسُّقْم لم أنم
كأني أنا المطروقُ دونك بالذي
تخافُ الرَّدى نفسي عليك وإنَّها
فلما بلغت السِّن والغاية التي
جعلت جزائي غلظة وفظاظة
وتزعم أني قد كبرت وعفتني
وسميتني بإسم المفند رأيه
فليتك إذ لم ترع حق أبوتي
وقد علم الله المهيمن أنني
فتبخل بالود اليسير على أب
لو تعرض الدنيا علي بأسرها
فأسأل ربي العفو عنك بمَنَّه
__________
(1) ـ صحيح البخاري برقم (496) .
(2) ـ رضا رب العباد : 100.

(1/63)


تُعَلُّ بما أجني عليك وتَنهلُ
لسقمك إلا ساهراً أتململُ
طرقت به دوني فعيناي تهملُ
لتعلم أن الموت حتمٌ مؤجل
إليها مدى ماكنت فيك أؤمل
كأنك أنت المنعم المتفضل
ولم يأت لي في السن ستين كمل
وفي رأيك التفنيد لو كنت تعقل
فعلت كما الجار المجاور يفعل
بمالي ونفسي عنك ما كنت أبخل
بك الدهر مشغوف معنى موكل
وتحجب عن عيني ماكنت أفعل
وأني مداك الدهر لا أتحول

قال جابر رضي الله عنه : فقبض رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم بتلابيب الإبن وقال : ( أنت ومالك لأبيك ) (1) ، وكررها ثلاثاً .
وروى الإمام الهادي إلى الحق يحيى بن الحسين عليه السلام بسنده عن الإمام زيد عن آبائه عن علي عليه السلام أنه قال : قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم : ( إن من تعظيم إجلال الله أن تجل الأبوين في طاعة الله ) (2) ، وروى أيضاً بلاغاً عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أنه قال : النظر في كتاب الله عبادة ، والنظر إلى البيت الحرام عبادة ، والنظر في وجوه الوالدين إعظاماً لهما وإجلالاً لهما عبادة ) (3) .
سأل رجل الإمام الحسين عليه السلام عن قوله تعالى : { وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا } ماهذا الإحسان ؟ فقال : الإحسان أن تحسن صحبتهما ، وأن لا تكلفهما أن يسألاك مما يحتاجان إليه ، وإن كانا مستغنيين ، وأما قوله تعالى : { إِمَّا يَبْلُغَنَّ عِنْدَكَ الْكِبَرَ أَحَدُهُمَا } ، قال : إن اضجراك فلا تقل لهما أف ولا تنهرهما إن ضرباك ، قال :
__________
(1) ـ رضا رب العباد : 103 ـ 104.
(2) ـ الأحكام : [2/527] .
(3) ـ الأحكام :[ 2/527] .

(1/64)


{ وَقُلْ لَهُمَا قَوْلاً كَرِيْمَاً } ، إن ضرباك فقل لهما غفر الله لكما ، فذلك منك قول كريم ، قال : { وَاخْفِضْ لَهُمَا جَنَاحَ الذُّلِّ مِنْ الرَّحْمَةِ } ، قال : لا تملأ عينيك من النظر إليهما إلا برحمة ورقة ، ولا ترفع صوتك فوق صوتهما ، ولا يدك فوق أيديهما ، ولا تقدم قدامهما ) .
العقوق ومساوئه :
وهنالك الكثير من الآيات والأحاديث المحذرة من عقوق الوالدين كما إن العقل يستنكر الإساءة إلى المحسن فما بالك بالوالدين اللذين عظم جميلهما وكثر إحسانهما ، إضافة إلى ماورد في حقهما من التعظيم
والتحذير من العقوق وجعله من الكبائر .
وللعقوق مساوئ خطيرة ، وآثار سيئة تحذر العاق وتتوعده بالشقاء الدنيوي والأخروي ، ومنها :
1ـ أن العاق لوالديه يلقى نفس العقوق من ولده لقد حكي أن الأصمعي قال : حدثني رجل من الأعراب قال : خرجت من الحي أطلب أعق الناس ، وأبر الناس ، كنت أطوف بالأحياء حتى انتهيت إلى شيخ في عنقه حبل يستقي بدلو ولا تطيقه الإبل في الهاجرة والحر الشديد ، وخلفه شاب في يده رشاء قدٍّ تلوى يضربه به ، قد شق ظهره بذلك الحبل .
فقلت له : أما تتقي الله في هذا الشيخ الضعيف ، أما يكفيه ماهو فيه من هذا الحبل حتى تضربه ؟
قال الشاب : إنه مع هذا أبي ، قلت : فلا جزاك الله خيراً ، قال : اسكت فهكذا كان يصنع هو بأبيه ، وهكذا كان يصنع أبوه بجده ، فقلت هذا والله أعق الناس .
قال : ثم جلت أيضاً حتى انتهيت إلى شاب في عنقه زنبيل فيه شيخ هرم كأنه فرخ ، فيضعه بين يديه في كل ساعة ، فيزقه كما يزق الفرخ .
فقلت له : ما هذا ؟ فقال أبي ؟ وقد خَرِفْ ، فأنا أكفله ، قلت : وهذا أبّر العرب فرجعت فقد رأيت أعقهم وأبرهم .
2ـ يشعر العاق بالقلق ، وعدم الإرتياح ، ويسوده الضيق والضنك المستمرين .
3ـ ينال العاق العذاب الأكبر يوم القيامة وفي النار يكون الجزاء الأوفى
البر في الحياة وبعد الممات :

(1/65)


ولا بد من الإشارة إلى ضرورة بر الوالدين في حياتهما وبعد وفاتهما ، لأن البر ليس مقصوراً على حياة الوالدين فحسب ، بل هو ضروري في حياتهما وبعد وفاتهما ، ومن المعلوم أن ابن آدم إذا مات انقطع عمله إلا من ثلاث : صدقة جارية ، أو علم ينتفع به ، أو ولد صالح يدعو له .
فما أحوج الأب والأم بعد موتهما إلى دعاء ولدهما الصالح ، قال الإمام علي عليه السلام :( إن الرجل ليكون باراً بوالديه في حياتهما فيموتان فلا يستغفر لهما فيكتب عاقاً ، وإن الرجل ليكون عاقاً بهما في حياتهما فيموتان فيستغفر لهما فيكتبه الله باراً ) (1) .
ومن المعروف أن الإبن العاق في حياتهما إذا استغفر لهما بعد موتهما فإنه يدل على أنه قد تاب على مابدر منه في حقهما خلال حياتهما ، وعوض العقوق بالإستغفار لهما ، والتصدق على نيتهما بعد وفاتهما .
فإسداء الخيرات إليهما ، وقضي ديونهما من الأمور التي حث عليها الإسلام وجعلها تكفيراً للعقوق الحاصل لهما في حياتهما .
علاقة الوالدين بأولادهم :
قال الإمام زين العابدين علي بن الحسين عليه السلام : ( وأما حق ولدك فأنت تعلم أنه منك ومضاف إليك في عاجل الدنيا بخيره وشره ، إن عمل ابنك عملاً حسناً قال له الناس : رحم الله أباك !
وإن عمل سوءاً قال الناس : لعن الله أباك ، وإنك مسئول عما وليته به من حسن الأدب والدلالة على ربه جل وعلا ، والمعونة على طاعته ، فاعمل في أمره عمل من يعلم أنه مثاب على الإحسان إليه ، معاقب على الإساءة إليه ) (2) .
تكلمنا عن حقوق الوالدين على أولادهما والآن نأتي إلى الحديث عن حقوق الأولاد على الوالدين ، لأن الحياة أخذ وعطاء ، ولا تستقيم إلا بتبادل الحقوق ، وتقاسم الواجبات ، ولو أن الأفراد عرفوا هذه الحقوق وفهموا تلك الواجبات لشعروا بالسعادة والإطمئنان جميعاً ، فمن أهم مايلزم للأولاد على الوالدين : ـ
__________
(1) ـ الأحكام : [2/527] .
(2) ـ تحف العقول : 263 .

(1/66)


ـ المودة والرحمة :
إن حاجة الطفل إلى المودة والرحمة من والديه لا تقل عن حاجته إلى النوم والغذاء وللرحمة والمودة تأثير كبير في نمو الطفل نمواً سليماً ومن لم يتغذى بالرحمة والمودة لا ينشأ نشأة سليمة .
روي أن الأقرع بن حابس رأى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يقبل ولده الحسن فقال : إن لي عشرة أولاد ما قبلت واحداً منهم فقال له : ( من لا يَرحم لا يُرحم ) (1) ، وعن علي عليه السلام أنه قال : ( من قبل ولده كان له حسنه ، ومن فرحه فرحه الله يوم القيامة ) .
وقال عبدالله بن شداد : بينما رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يصل بالناس إذ جاء الحسن فركب عنقه وهو ساجد فأطال السجود بالناس حتى ظنوا أنه حدث أمر فلما قضى صلاته قالوا : قد أطلت حتى ظننا أنه حدث أمر ، فقال : إن ابني هذا قد ارتحلني فكرهت أن أعجله حتى يقضي حاجته ) (2) .
ـ التكريم والإحترام :
وحاجته إلى التكريم والإحترام كحاجته إلى المودة والرحمة ، روي عن الرسول صلى الله عليه وآله وسلم أنه قال : ( رحم الله والداً أعان ولده على بره أي لم يحمله على سوء العقوق على سوء عمله ) (3) .
ومن أهم التكريم أن يحسن أسمه ، روي عن الحسن بن علي عليه السلام أنه قال : ( أول ما يبر الرجل ولده أنه يسميه بإسم حسن فليحسن أحدكم اسم ولده ) (4) ، ويقول الإمام عبدالله بن حمزة عليه السلام : ( وعلى الوالد لولده تحسين إسمه ، وتحسين لقبه ، وأن يختار له من الأمهات من لا يعاب بها فإذا قد تقرر من هذه القاعدة ما قد تقرر رأيت أن الذي يلزم الوالد مقدم على مايلزم الولد للوالد ، فإن لم يقم الوالد بما يلزمه من ذلك كان عقوق الولد له قصاصاً ، وجفوته ثاراً ) (5) .
ـ التربية :
__________
(1) ـ تصفية القلوب : 3991 .
(2) ـ تصفية القلوب : 425 .
(3) ـ تصفية القلوب :424 .
(4) ـ وسائل الشيعة : [15/122] .
(5) ـ رسالة الثبات تحت الطبع بتحقيقنا .

(1/67)


وعلى الوالدين تربية أولادهما تربية إسلامية صحيحة ، لأن قلب الطفل كالأرض الخالية فليبادر الوالدان بزراعة القيم والأخلاق ، والتقوى في هذه الأرض الخصبة ، قبل أن يزرع غيرهما الإنحرافات الفكرية والسلوكية فيندمان بعد فوات الأوان
ولا بد من مراعاة ظوابط التربية على ضوء مر احلها ففي السبع السنوات الأولى التي تعتبر ( المرحلة الأولى ) لا بد من التعامل مع الطفل تعاملاً حسناً يلبي رغباته في حدود المعقول ، وفي السبع الأخرى ( المرحلة الثانية ) ينتقل الطفل إلى مرحلة الفهم والإدراك ، وفي هذه المرحلة لا بد أن يخضع لمنهج تربوي دقيق بمعنى ضرورة مراقبته في المنزل وفي الشارع وفي القرية ، مع معرفة أصدقائه ، ويُعلّم الصلاة
والتدرب عليها .
وفي السبع الثالثة : ( المرحلة الثالثة ) يدخل الطفل سن المراهقة ، وهنا يختلف الأمر إختلافاً كاملاً عن المرحلتين السابقتين ، فهذه المرحلة هي مرحلة المراهقة يتنقل الأبناء فيها من مرحلة الأبناء إلى مرحلة الشباب وهي مرحلة حساسة ودقيقة حيث يتطلع الأبناء فيها إلى الإستقلال ، وتجاوز القيود التي كان يفرضها عليهم الوالدان ، وهنا يلزم الوالدان الإستجابة لرغبتهم في حدود المعقول ، وإشراكهم في إدارة شؤون البيت لأنهما إذا تعاملا معهما بخلاف ذلك دفعا بهم إلى التمرد ، والخروج من دائرة الطاعة وهذه النقطة إذا لم يتم فهمها فإنها ستسبب كثيراً من الإشكالات والخلافات بين الآباء والأبناء.
ولا بد في الأخير أن يحتفظ الوالدان بالكلمة الحاسمة في حياة أولادهما مع الأخذ بعين الإعتبار طموحات أولادهما ورغباتهم المعقولة ، وقد أشار الرسول صلى الله عليه وآله وسلم إلى هذه المراحل الثلاث بقوله صلى الله عليه وآله وسلم : ( الولد سيّد سبع سنين ، وخادم سبع سنين ، ووزير سبع سنين ) (1) .
__________
(1) ـ وسائل الشيعة : [ 15/195] عن مكارم الأخلاق .

(1/68)


وهو منهج نبوي دقيق ينبغي أن يحسن الوالدان تنفيذه في كل مرحلة من المراحل الثلاث ، فالأولى يكون الطفل فيها كالسيد يأمر بما يريد ، وفي الثانية عبد يأتمر بما أمر به ، وفي الثالثة كالوزير والوزير مستشار في شؤون الدولة ، ومنفذ كذلك ، ولكن الكلمة الحاسمة في الأخير لمن هو أعلى منه في الأمور الهامة ، ومن أهم الأمور التي يتحتم على الوالد تربية ولده عليها :
1ـ أن يحبب إليه الله تعالى من خلال تبيين رحمته وفضله الواسع ، ورزقه الدائم ، والتفكر في مخلوقاته الكثيرة .
2ـ أن يعوده الإلتزام بالشعائر الإسلامية منذ الصغر كالصلاة والصيام : ( علموهم لسبع واضربوهم لعشر ) ، ويقول الإمام جعفر الصادق عليه السلام : ( إنا نأمر صبياننا إذا كانوا بني سبع سنين بما أطاقوا من صيام اليوم ، فإن كان إلى نصف النهار أوأكثر من ذلك أو أقل ، فإذا غلبهم العطش أفطروا ، حتى يتعودوا الصوم ، ويطيقوه ، فمروا صبيانكم إذا كانوا أبناء تسع سنين بما أطاقوا من صيام ، فإذا غلبهم العطش أفطروا ) (1) .
3ـ أن يبين له أهمية الأخ لأخيه .
أن يربيه على إحترام الكبير ، وكذلك على العطف على الصغير .
أن يربيه على إحترام الجار ، والأرحام ، والإحسان إليهم .
أن يغرس فيه القيم الروحية الهامة التي تدفعه إلى تعميق العلاقة بينه وبين
الله تعالى ، وإلى مزيد من العمل الصالح ، وذلك من خلال ترغيبه وترهيبه ، وتوجيهه إلى قراءة المزيد من المواعظ والحكم ، وتعويده على ممارسة بعض العبادات المندوبة .
أن يعوّده على مكارم الأخلاق كالصدق والأمانة والتقوى والخوف والخشية ، وأن يحذره من مساوئ الأخلاق كالكذب ، والخيانة ، والغش ، والخداع ، والتكبر ، والعجب ، ومايتعلق بذلك .
ـ التعليم :
__________
(1) ـ كيف تسعد أبناءك : 231 .

(1/69)


ومن الواجبات الملقاة على عواتق الآباء تعليم الأبناء التعليم الصحيح قال الإمام عبدالله بن حمزة عليه السلام في رسالة البيان والثبات : ( فمتى أرضعته الأم وأحسنت الغذاء بنهاية جهدها ، ونظفت الولد من أقذاره وأدرانه ، وقامت بما يتعين عليها القيام به من شأنه في طعامه وشرابه ومنامه ، فقد أدت ما عليها وانتقل الحق إلى الأب في تأديبه وتربيته وتأنيسه وتقريبه ، وتعليمه ، وتهذيبه ) (1) .
ويقول الإمام علي عليه السلام في وصيته لأولاده : ( يابَني ليبر صغاركم كباركم ، وليرؤف كباركم بصغاركم ، ولا تكونوا كالأشباه الغواة الجفاة ، الذين لم يتفقهوا في الدين ) (2) .
ومن المعروف أن الفراغ الفكري ، والثقافي يغذي عوامل الإنحراف في الجيل الصاعد ، وهنالك طوائف في الساحة ترصد حالات الفراغ الفكري في هذا الجيل لزرع أفكارها ومفاهيمها المنحرفة ، فلا بد من تثقيف أجيالنا بالثقافة الإسلامية الصحيحة في ضوء منهج أهل البيت عليهم السلام ، وفكرهم النير الصحيح .
الإحسان إلى ذوي القربى
{ وَبِذِي الْقُرْبَى }
من المعروف أن الرسالة الإسلامية شاملة لكل نواحي الحياة ، رسالة إجتماعية تستهدف بناء المجتمع الإنساني على أسس المحبة والوئام والتعاون والسلام ، وتحث الفرد بإعداد نفسه إعداداً جماعياً ليعيش ضمن المجموعات البشرية ، ويتفاعل مع الحياة الإجتماعية .
__________
(1) ـ رسالة الثبات تحت الطبع بتحقيقنا .
(2) ـ الأحكام : [ 2/ ] .

(1/70)


ومن أهم القضايا الإجتماعية التي أولاها الإسلام إهتماماً بالغاً قضية الأسرة والأهل والرحم وذوي القربى ، وأكد على ضرورة تمتين العلاقة بين أفراد هذه الشبكة المحيطة بالإنسان ، لما لها من دور كبير في سلامة الفرد والمجتمع ، وفي حماية الإنسان وسط مشاكل الحياة ومتاعبها المختلفة ، إذ جعل الإحسان إلى ذوي القربى بعد الإحسان إلى الوالدين مباشرة ، قال الإمام علي عليه السلام في نهج البلاغة : ( أيها الناس إنه لا يستغني الرجل ـ وإن كان ذا مال ـ عن عترته ، ودفاعهم عنه بأيديهم وألسنتهم ، وهم أعظم الناس حيطة من ورائه ، وألمّهم لشعثه ، وأعطفهم عليه عند نازلة إذا نزلت به . ولسان الصدق يجعله الله للمرء في الناس خير له من المال يرثه غيره ، ألا لا يعدلن أحدكم عن القرابة يرى بها الخصاصة أن يسدها بالذي لا يزيده إن أمسكه ، ولا ينقصه إن أهلكه ومن يقبض يده عن عشيرته فإنما تقبض منه عنهم يد واحدة ، وتقبض منهم عنه أيد كثيرة )(1) ، وفي هذه الكلمات العلوية وصف دقيق لحاجة الإنسان إلى قرابته وحاجتهم إليه ، أشد من الحاجة إلى المال
وقد ورد في القرآن الكريم كثيراً من الآيات التي تحث الإنسان على الإحسان إلى القرابة ، وذوي الأرحام ، قال تعالى : { إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالإِحْسَانِ وَإِيتَاءِ ذِي الْقُرْبَى } [ النحل : 90] ، وقال تعالى : { وَاعْبُدُوا اللَّهَ وَلاَ تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئًا وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا وَبِذِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ } [ النساء : 36] ، وقال تعالى : { وَإِذْ أَخَذْنَا مِيثَاقَ بَنِي إِسْرَائِيلَ لاَ تَعْبُدُونَ إِلاَّ اللَّهَ وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا وَذِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى } [ البقرة : 83] .
__________
(1) ـ نهج البلاغة : 65 تحقيق صبحي صالح .

(1/71)


وأكد في آيات أخرى على ضرورة صلة الأرحام ، ومواصلة الأهل والأقربين ، فقال تعالى : { وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَتَسَاءَلُونَ بِهِ وَالأَرْحَامَ } [ النساء : 1] ، والرسول صلى الله عليه وآله وسلم أكد في كثير من أحاديثه على ذلك ، ورغب في مواصلة الأرحام وإن قطعوك وإعطائهم وإن منعوك ، وضمن لمن فعل ذلك إبتغاء وجه الله ضمانات أكيدة تجعل الإنسان في سعادة دنيوية وأخروية ، ومنها ما رواه الإمام الهادي عليه السلام في الأحكام عنه صلى الله عليه وآله وسلم أنه قال :
( من يضمن لي واحدة أضمن له أربعاً ، من يصل رحمه فيحبه أهله ، ويكثر ماله ويطول عمره ، ويدخل جنة ربه ) (1) .
وقال أيضاً : ( إن الرجل ليصل رحمه وقد بقي من عمره ثلاث سنين ، فيجعلها الله ثلاثاً وثلاثين ، وإن الرجل ليقطع رحمه وقد بقي من عمره ثلاث وثلاثون ، فيجعلها الله ثلاثاً ) (2) .
فلكي تنال هذه الضمانات النبوية ، فارسم لك جدولاً لصلة من لديك من أقارب وأرحام من آباء وإخوان وأخوات وأولاد وأعمام وبنات وعمات وأخوال وخالات .
والصلة قد تكون بالمال أو بالسلام والعفو عن المسيء ، والمبادرة إلى الإصلاح والمشاركة في الأفراح والأتراح .
قال الإمام الصادق عليه السلام : ( صل رحمك ولو بشربة ماء ، وأفضل ما تواصل به الرحم كف الأذى عنه ، وصلة الرحم منسأة في الأجل ومحببة في الأهل ) .

عقوبة القطيعة :
قال تعالى : { فَهَلْ عَسَيْتُمْ إِنْ تَوَلَّيْتُمْ أَنْ تُفْسِدُوا فِي الأَرْضِ وَتُقَطِّعُوا أَرْحَامَكُمْ أُوْلَئِكَ الَّذِينَ لَعَنَهُمْ اللَّهُ فَأَصَمَّهُمْ وَأَعْمَى أَبْصَارَهُمْ } [ محمد : 22ـ23] .
__________
(1) ـ الأحكام : [ 2/528] .
(2) ـ الأحكام : [ 2/528] .

(1/72)


لقد نهى الإسلام نهياً شديداً عن قطيعة الرحم ، وحذر من عواقبها الوخيمة وآثارها الخطيرة التي تنذر القاطع بأخوم العواقب ، وتعاجله بالفناء وقصف الأعمار ومحق الديار ، والخسران المبين في دينه ودنياه ، وقد يعمل الإنسان أعمالاً عظيمة لكنه يقصر في صلة أرحامه وأقاربه فيكون حاله كما قال الرسول صلى الله عليه وآله وسلم : ( من أحب أن يُملى له في عمره ، ويبسط له في رزقه ، ويستجاب له الدعاء ، ويدفع عنه ميتة السوء ، فليطع أبويه في طاعة الله ، وليصل رحمه ، وليعلم أن الرحم معلقة بالعرش تأتي يوم القيامة لها لسان طَلقٌ ذَلق تقول : اللهم صل من وصلني ، اللهم اقطع من قطعني ، قال : فيجبها الله تبارك وتعالى : إني قد استجبت دعوتك ، فإن العبد لقائم يرى أنه بسبيل خير ، حتى تأتيه الرحم فتأخذ بهامته فتذهب به إلى أسفل درك من النار بقطيعته إياها ، كان ذلك في دار الدنيا ) (1) .
وهنا تقع الخسارة العظيمة والندم الضائع ، ويكون الحال كما قال الله تعالى : { قُلْ هَلْ نُنَبِّئُكُمْ بِالأَخْسَرِينَ أَعْمَالاً الَّذِينَ ضَلَّ سَعْيُهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَهُمْ يَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ يُحْسِنُونَ صُنْعًا } [ الكهف 103ـ104] .
فشعب الإيمان كثيرة ، ومتصلة لابد من القيام بها جميعاً حتى يكون النصر والنجاح .
فالعبادة يا أخي ليست محصورة في الصلاة والصيام والزكاة والحج ، بل هي شاملة لكل ما أمر الله به من الواجبات ، وعما نهى عنه من المقبحات .
الصلة بعد القطيعة :
__________
(1) ـ الأحكام : [ 2/527] .

(1/73)


لا بد من البحث عن أسباب القطيعة فإن كانت ناتجة عن نسيان أو تساهل فحاول التذكر والإهتمام واعتذر عن قطيعتك السابقة وإن كانت ناتجة عن عداوة فابحث عن أسباب العدواة ، وحاول الصفح والمبادرة بالصلح والصلة لأن الإسلام أكد على ذلك ، ورغب فيه قال تعالى : { وَلاَ تَسْتَوِي الْحَسَنَةُ وَلاَ السَّيِّئَةُ ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ فَإِذَا الَّذِي بَيْنَكَ وَبَيْنَهُ عَدَاوَةٌ كَأَنَّهُ وَلِيٌّ حَمِيمٌ } [ فصلت : 34] .
ويقول الإمام علي عليه السلام : ( إصلاح ذات البين أفضل من عامة الصلاة والصيام ) ، وأكد الرسول صلى الله عليه وآله وسلم على صلة الرحم الكاشح وهو الذي تصله ويقطعك وتعطيه ويمنعك قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم : ( ليس الواصل بالمكافئ ولكن الواصل الذي إذا قطعت رحمه وصلها )(1) .
ولا شك أن المبادر إلى الصلة والصلح مع رحمة أكثر ثواباً ، وأوسع صبراً وهنا يتحتم الواجب على الطرف الآخر فيجب عليه قبول العفو إذا كان قد حصل تقصير أو ذنب.
قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم : ( من لم يقبل العذر من محق أومبطل لا ورد عليّ الحوض ) (2) .
ويقول الإمام الحسن عليه السلام : ( لو شتمني رجل في أذني هذه ، واعتذر إليّ منه في أذني هذه لقبلت منه ) (3) .
فأين نحن من هذه التعاليم النبوية ، والأخلاق الحميدة التي اتصف بها أهل أهل البيت النبوي الطاهر عليهم السلام .
الإمام الحسن يقول : لو شتمني رجل أي رجل واعتذر مما فعل لقبلت منه فكيف لو شتمك قريبك هل تقبل منه ؟!
بالأولى والأحرى القبول منه والصفح عنه ما أكثر الشقاق بين الإخوة ،
وذوي الأرحام في عصرنا حتى إن الإنسان في هذا العصر ليهجر أخاه لمجرد كلمة عابرة أو لفظة غير مقصودة .
__________
(1) ـ رواه الترمذي برقم (1331) ، كتاب البر والصلة ، ورواه أبو داود برقم (1446) .
(2) ـ الأحكام : [2/545] .
(3) ـ الأحكام : [ 2/545] .

(1/74)


والرسول صلى الله عليه وآله وسلم يقول : ( لا يحل المسلم أن يهجر أخاه فوق ثلاثة أيام فيلتقيان فيعرض هذا ، ويعرض هذا وخبرهما الذي يبدأ بالسلام ) (1) .
وقال الإمام الهادي عليه السلام : ليس من أخلاق المسلمين التهاجر إنما التهاجر من أخلاق الفاسقين ، والمؤمنون كما قال الله تعالى : { إِخْوَانًا عَلَى سُرُرٍ مُتَقَابِلِينَ } ) (2) [ الحجر : 47] .
فما بالك إذا هجرة قريبك المؤمن وقطعة صلته فالمصيبة أعظم ، والخسارة أفدح .
ويوجد في المجتمعات من يغذي خلافات الأشقاء ، وذوي القربى من الوشاة والمفرقين ، وأكبر علاج لذلك هو فتح باب التأويل ، وتحسين الظن بالآخرين وفق الشرع الحكيم قال تعالى : { يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اجْتَنِبُوا كَثِيرًا مِنْ الظَّنِّ إِنَّ بَعْضَ الظَّنِّ إِثْمٌ } [ الحجرات : 12].
الصدقة على الرحم :
ومن أفضل القرابات ، التصدق على الأقرباء والأرحام ، لقول الرسول الأكرم صلى الله عليه وآله وسلم : ( الصدق على المسكين صدقة ، وعلى الرحم ثنتان ) (3) ، وقال صلى الله عليه وآله وسلم : ( أفضل الصدقة على ذي الرحم الكاشح ) (4) .
عادة سيئة :
ومن أسوأ العادات أن تمنع المرأة من أخذ ما تستحقه من الميراث ، وذلك يرجع إلى أحد ثلاثة أسباب : ـ
الأول : عدم إقتناع بعض الأسر بتوريث المرأة وأنه من العجيب أن تأخذ المرأة ما تستحقه من الميراث في نظرهم وتملّكه أبنائها من القبيلة الأخرى ، وهذه الحالة منتشرة في بعض القرى ، وهذا يدل على الجهل وعدم الوعي ، فالإسلام أعطى للمرأة حقها من الميراث .
__________
(1) ـ الأحكام : [ 2/549] .
(2) ـ الأحكام : [ 2/549] .
(3) ـ رواه الترمذي برقم : (594) .
(4) ـ أخرجه أحمد برقم (14781) ، وبرقم (22420) .

(1/75)


الثاني : عدم رغبة المرأة نفسها في أخذ ماتستحقه من الميراث خاصة إذا كان من مال أهلها وأقربائها ، واعتبار ذلك في نظرها انتزاع ملك أهلها إلى غيرهم .
ومن جانب آخر عندما يكلمها أخوها بأخذ حقها تظن في نفسها أنه
كاره لها فتأخذها العبرات وتتساقط الدمعات ، وفي هذه الحالة تبرء ذمة من أعرض عليها ما تستحقه إلا ان بإمكانه إعطائها ما تستحق بطريقة غير مباشرة وذلك بصلتها منه وإكرامها عند زيارته لها أو زيارتها له .
الثالث : تساهل المرأة نفسها في أخذ حقها نتيجة للعرف والعادة السائدة في بعض العزل والنواحي القاضية بأن المرأة لا تأخذ الورث ولو أنها طلبته لأخذته ولكنها تساهلت عن أخذه ووليها لا يمانع أخذ ورثها بل إن بعضهم سيشعر بالإرتياح عند ما تطلب حقها .
وفي الأخير : نؤكد تأكيداً شديداً على إعطاء المرأة ما تستحقه من الميراث سواء بطريقة مباشرة أو غير مباشرة وكذلك تشجيع المرأة على أخذ ورثها وإخبارها أنه حق لها من الله تعالى لا ينبغي أن تتساهل فيه أبداً ولا تتنازل عنه ، إلا بطيبة من نفسها مالم فلا بد من إعطائها حقها الذي جعله الله لها وخصها به من الميراث .

الإحسان إلى اليتامى
{ وَالْيَتَامَى }
قال الله تعالى : { وَيَسْأَلُونَكَ عَنْ الْيَتَامَى قُلْ إِصْلاَحٌ لَهُمْ خَيْرٌ } [ البقرة : 220] ، وقال تعالى : { أَرَأَيْتَ الَّذِي يُكَذِّبُ بِالدِّينِ فَذَلِكَ الَّذِي يَدُعُّ الْيَتِيمَ } [ الماعون : 1ـ2] .
وقال تعالى : { فَأَمَّا الْيَتِيمَ فَلاَ تَقْهَرْ وَأَمَّا السَّائِلَ فَلاَ تَنْهَرْ وَأَمَّا بِنِعْمَةِ رَبِّكَ فَحَدِّثْ } [الضحى : 9ـ11] .
وقال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم : ( أنا وكافل اليتيم في الجنة هكذا ) (1) ، وأشار بالسبابة والوسطى وفرج بينهما .
__________
(1) ـ رياض الصالحين : 134 .

(1/76)


وقال صلى الله عليه وآله وسلم : ( الساعي على الأرملة والمسكين كالمجاهد في سبيل الله ) ، قال أبو هريرة وأحسبه قال : ( وكالقائم الذي لا يفتر ، والصائم الذي لا يفطر ) (1) .
وقال صلى الله عليه وآله وسلم : ( اللهم إني أُحَّرج حق الضعيفين اليتيم والمرأة ) (2) ، ومعنى أُحرَّج أي ألحق الحرج وهو الإثم بمن ضيع حقهما ، وأحذر من ذلك تحذيراً بالغاً .
اليتيم : هو من فقد والديه أو أحدهما . ومن المعروف أن الإسلام اهتم به اهتماماً كبيراً ، وأولاه رعاية خاصة في كل النواحي التي تحتاج إلى الرعاية كالعطف عليه ، وعدم قهره ، والمحافظة على ممتلكاته ، وما إلى ذلك من الأمور الهامة التي تتعلق بشخصيته ونفسيته ، ولنأخذ بعضاً من الآيات الكريمة التي عالجة كثيراً من الأمورالتي يحتاجها اليتيم في حاضره ومستقبلة .
النهي عن زجر اليتيم :
وصف الله المكذب بالدين بأنه الذي يدع اليتيم ، ولا يعطف عليه ، ويزجره ويشتمه بلا ذنب جناه ، أو اثم ارتكبه ، ولم يكن ذلك النهر إلا بسبب عدم وجود والده الذي كان يوليه حبه ورعايته وكان الأجدر بهذا أن يكون عاطفاً عليه ، وأن يبدأه بالكلمة الطيبة لتسلو بها نفسه ، ويعود بها أُنسه ، ويعوض ما افتقده بعد وفاة أبيه من الشفقة والرحمة ، قال تعالى : { أَرَأَيْتَ الَّذِي يُكَذِّبُ بِالدِّينِ فَذَلِكَ الَّذِي يَدُعُّ الْيَتِيمَ وَلاَ يَحُضُّ عَلَى طَعَامِ الْمِسْكِينِ } [ الماعون : 1ـ3] .
النهي عن قهر اليتيم :
كذلك أكد القرآن على ضرورة إحترام مشاعر اليتيم وعدم قهره وإذلاله ، ونبه على مراعاة يتمه والسعي في مصلحته وإعانته بالمال عند حاجته ، والقيام بتربيته ، قال تعالى مخاطباً نبيه في ذلك : { فَأَمَّا الْيَتِيمَ فَلاَ تَقْهَرْ } [ الضحى : 9] .
النهي عن أكل مال اليتيم :
__________
(1) ـ المصدر السابق : 135 .
(2) ـ المصدر السابق : 136 .

(1/77)


كما أشار جل شأنه إلى عدم أكل مال اليتيم ، لأنه مظنة الأكل نظراً لصغره وعدم قدرته على اليقظة والإنتباة لما أخذ منه قال تعالى :
{ إِنَّ الَّذِينَ يَأْكُلُونَ أَمْوَالَ الْيَتَامَى ظُلْمًا إِنَّمَا يَأْكُلُونَ فِي بُطُونِهِمْ نَارًا وَسَيَصْلَوْنَ سَعِيرًا } [ النساء : 10] .
فإذا كان اليتيم عاجزاً عن المحاسبة والمراجعة لمن أكل ماله وكذلك مراقبته في الغفلة فإن الله ليس بغافل عما يعمل الظالمون ، فليتق الله هؤلاء الأوصياء ، وليعلموا أن الدهر يتقلب بين ساعة وأخرى ، وأنهم قد يموتون ويتركون أولاداً صغاراً ، فهل يرضون لأوصياء أولادهم أن يعملوا في أموالهم ماعملوا في أولاد غيرهم ، قال تعالى :
{ وَلْيَخْشَ الَّذِينَ لَوْ تَرَكُوا مِنْ خَلْفِهِمْ ذُرِّيَّةً ضِعَافًا خَافُوا عَلَيْهِمْ فَلْيَتَّقُوا اللَّهَ وَلْيَقُولُوا قَوْلاً سَدِيدًا } [ النساء : 9] .
فالإيمان يشترط عليك أن تحب لغيرك ماتحبه لنفسك ، وأن تحب لأولاد غيرك ما تحبه لأولادك .

إصلاح اليتيم :
كما إن إصلاح اليتيم وتربيته من الأمور الهامة التي أشار إليها القرآن ، وأمر نبيه بأن يجيب على السائلين له عن اليتامى بعد أن رأوا الآيات التي تحرم أكل أموالهم أوضمها إلى أموال الأوصياء فقال تعالى :
{ وَيَسْأَلُونَكَ عَنْ الْيَتَامَى قُلْ إِصْلاَحٌ لَهُمْ خَيْرٌ وَإِنْ تُخَالِطُوهُمْ فَإِخْوَانُكُمْ وَاللَّهُ يَعْلَمُ الْمُفْسِدَ مِنْ الْمُصْلِحِ وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ لَأَعْنَتَكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ } [ البقرة : 220] .
فإصلاح اليتيم وتربيته ، وكذلك إصلاح ماله وتنميته بالتنمية الشرعية من أهم مقاصد الإسلام وأهدافه ، فيجب المحافظة على إصلاح اليتامى وتهذيبهم تهذيباً عظيماً ، والمحافظة على أحاسيسهم وشعورهم في كل الأوقات .

الإحسان إلى المساكين
{ وَالْمَسَاكِينِ }

(1/78)


الإحسان إلى المساكين من الأمور الهامة التي حث عليها الإسلام ودعى إليها القرآن وأشاد بها الرسول الأكرم صلى الله عليه وآله وسلم قال تعالى : { وَاعْبُدُوا اللَّهَ وَلاَ تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئًا وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا وَبِذِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ } [ النساء : 36] .
وقال تعالى : { وَيُطْعِمُونَ الطَّعَامَ عَلَى حُبِّهِ مِسْكِينًا وَيَتِيمًا وَأَسِيرًا } [ الإنسان : 8 ] ، وقال تعالى واصفاً أصحاب الشمال { إِنَّهُ كَانَ لاَ يُؤْمِنُ بِاللَّهِ الْعَظِيمِ وَلاَ يَحُضُّ عَلَى طَعَامِ الْمِسْكِينِ فَلَيْسَ لَهُ الْيَوْمَ هَاهُنَا حَمِيمٌ وَلاَ طَعَامٌ إِلاَّ مِنْ غِسْلِينٍ لَا يَأْكُلُهُ إِلاَّ الْخَاطِئُونَ } [ الحاقة :33ـ37] .
وقال تعالى : { أَرَأَيْتَ الَّذِي يُكَذِّبُ بِالدِّينِ فَذَلِكَ الَّذِي يَدُعُّ الْيَتِيمَ وَلاَ يَحُضُّ عَلَى طَعَامِ الْمِسْكِينِ } [ الماعون : 1ـ3] .
والمسكين : هو الضعيف المحتاج الذي لا يسأل الناس ولا يوضح لهم أحواله ويتعفف كثيراً عن السؤال .
وقد وضحه الرسول صلى الله عليه وآله وسلم بقوله : ( ليس المسكين بهذه الطواف عليكم ترده التمرة والتمرتان واللقمة واللقمتان . قالوا : فمن المسكين يارسول الله ؟ قال : الذي لا يجد غناً يغنيه ولا يقطن فيتصدق عليه ) (1) .
هذا هو المسكين الحقيقي وهو الجدير بالتعاون والإحترام ، ولكن هل يوجد في عصرنا من ينطبق عليه هذا الوصف النبوي ؟
من المؤكد إنه يوجد من ينطبق عليه هذا الوصف ولكنهم قلة ومن بحث وجد ، وفي الزوايا خبايا لمن أراد فعل الخير .
__________
(1) ـ الأحكام :[2/549 ] .

(1/79)


فكم من أسرة ضعيفة لا تجد ما تأكل ، وكم من مسكين ضعيف محتاج يلزم بيته خوفاً من انكشاف حاجته ، ومن الواضح أن مساكين عصرنا ضاعوا بين مطرقة المتسولين ، وبين سندان الجمعيات الخيرية المتسولة بالتراخيص الرسمية ، ولا نعم كل الجمعيات ، فهنالك جمعيات خيرية بما تعنيه الكلمة ، تسعى إلى فعل الخير على كل الأصعدة ، لا تريد جزاءً ولا شكوراً .
وعندما نتصفح تاريخنا الإسلامي نجد أمثلة رائعة لكيفية أداء الصدقة المقبولة جسدها كوكبة من أهل البيت عليهم السلام والسلف الصالح رضوان الله عليهم .
ومن الأمثلة على ذلك ما أخبر الله عنه في كتابه بقوله جل شأنه مادحاً عباده الأبرار ، الذين أوفوا بالنذر وأطعموا الطعام مع حاجتهم إليه وحبهم له فأتاهم المسكين في اليوم الأول واليتيم في اليوم الثاني والأسير في اليوم الثالث ، قال تعالى : { إِنَّ الأَبْرَارَ يَشْرَبُونَ مِنْ كَأْسٍ كَانَ مِزَاجُهَا كَافُورًاعَيْنًا يَشْرَبُ بِهَا عِبَادُ اللَّهِ يُفَجِّرُونَهَا تَفْجِيرًا يُوفُونَ بِالنَّذْرِ وَيَخَافُونَ يَوْمًا كَانَ شَرُّهُ مُسْتَطِيرًا وَيُطْعِمُونَ الطَّعَامَ عَلَى حُبِّهِ مِسْكِينًا وَيَتِيمًا وَأَسِيرًا إِنَّمَا نُطْعِمُكُمْ لِوَجْهِ اللَّهِ لاَ نُرِيدُ مِنْكُمْ جَزَاءً وَلاَ شُكُورًا } [ الإنسان : 5ـ9] ، وهذه الآية معروفة أنها نزلت في أهل البيت بلا خلاف بين جميع الطوائف إلا من كابر وجاحد .

(1/80)


وذلك إن الإمام علي وزوجته فاطمة الزهراء نذرا أن يصوما ثلاثة أيام إن برئا الحسنان مما بهما فشفاهما الله تعالى ، ولم يكن معهم طعام فاستقرض الإمام علي عليه السلام من شمعون اليهودي ثلاثة أصوع من شعير ، فطحنت فاطمة صاعاً واختزته وجهزته للإفطار ، فوقف عليهم سائل فقال : السلام عليكم يا أهل بيت محمد صلى الله عليه وآله وسلم مسكين من مساكين المسلمين ، اطعموني أطعمكم الله من موائد الجنة ، فآثروه على أنفسهم وباتوا ولم يذوقوا إلا الماء ، وأصبحوا صياماً ، فلما أمسوا ووضعوا الطعام وأعدوه للإفطار وقف عليهم في اليوم الثاني يتيم فآثروه على أنفسهم ووقف عليهم في اليوم الثالث أسير ففعلوا مثل ذلك ، فلما أصبحوا أخذ الإمام علي عليه السلام بيد الحسنين وأقبلوا إلى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فلما أبصرهم وهم يرتعشون كالفراخ من شدة الجوع قال : ما أشد ما يسوؤني ما أرى بكم ، وقام فانطلق معهم فرأى فاطمة في محراب قد التصق ظهرها ببطنها وغارت عيناها ، فساءه ذلك فنزل جبريل وقال : خذها يامحمد هنأك الله في أهل بيتك ، فأقرأه سورة الإنسان ) (1) .
كما كان الإمام علي بن الحسين عليهما السلام يقوم في نصف الليل فيحمل على ظهره الصدقات فيطوف بها على الضعفاء والمساكين دون أن يشعروا بذلك ، ولم يعرفوا أنه هو إلا بعد وفاته لإنقطاع ماكانوا يعتادونه منه ولظهور أثر ذلك في ظهره .
__________
(1) ـ ذكر هذه الرواية جمع من المفسرين ، والمحدثين ، ومنهم : الشرفي في المصابيح الساطعة : [1/316] ، والحبري في تفسيره :76 ، والزمخشري في الكشاف الجزء الرابع ، سورة الإنسان ، والحسكاني في شواهد التنزيل : [2/309] ، وفرات الكوفا في تفسيره : 199 ، وأرودها محمد بن سليمان في المساكين : [1/77] ، وغيرهم كثير ، وللرواية شواهد ومتابعات انظرها في تخريج تفسير الحبري برقم : 69.

(1/81)


وهكذا يجب أن تكون الصدقات سراً بسر لأن صدقة السر تطفئ غضب الرب ، قال الإمام الهادي رضي الله عنه : ( صدقة السر تطفئ غضب الرب ، وإن أفضل الصدقات لما كان في السنين المسنات وذلك إكمال ماجعله الله عقبة لا ينالها إلا الصابرون ، وفي ذلك ما يقول الله تبارك وتعالى : { فَلاَ اقْتَحَمَ الْعَقَبَةَ وَمَا أَدْرَاكَ مَا الْعَقَبَةُ فَكُّ رَقَبَةٍ أَوْ إِطْعَامٌ فِي يَوْمٍ ذِي مَسْغَبَةٍ يَتِيمًا ذَا مَقْرَبَةٍ أَوْ مِسْكِينًا ذَا مَتْرَبَةٍ } [ البلد : 11ـ16] .
وبالصدقة ما أثنى الله على آل محمد صلى الله عليه وعليهم حين يقول : { إِنَّمَا نُطْعِمُكُمْ لِوَجْهِ اللَّهِ لاَ نُرِيدُ مِنْكُمْ جَزَاءً وَلاَ شُكُورًا } [ الإنسان : 8] ، وفي ذلك ما يقول الله تعالى : { وَالْمُتَصَدِّقِينَ وَالْمُتَصَدِّقَاتِ } [ الأحزاب : 35] ، وإن الصدقة لتجلب الرزق وتدفع ميتة السوء وفي ذلك ما بلغنا عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أنه قال : ( استنزلوا الرزق بالصدق ) (1) ، ومن المعروف أن الله تعالى نهى عن الصدقات المتبوعة بالمن والأذى ، فقال جل وعلا : { قَوْلٌ مَعْرُوفٌ وَمَغْفِرَةٌ خَيْرٌ مِنْ صَدَقَةٍ يَتْبَعُهَا أَذًى وَاللَّهُ غَنِيٌّ حَلِيمٌ } [ البقرة : 263] .
__________
(1) ـ الأحكام : [ 2/543] .

(1/82)


ومهما عمل الإنسان من عمل وفيه شائبة من الرياء والمنة فإنه من الخاسرين الذي يحسبون أنهم يحسنون صنعاً ، والمسكين مثاب على ما أصابه من الفقر إذا صبر وشكر لأن الله لم يفقره إلا لينظر صبره ، ولم يغن الغني إلا لينظر شكره ، والأغنياء وكلاء الله فليعطوا عباد الله الضعفاء ولا يبخلوا أبداً ، روي عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أنه قال : ( إن الله جل جلاله في آخر ساعة تبقى من ساعات الليل يأمر ملكاً ينادي فيسمع ما بين الخافقين ما خلا الإنس والجن ألا هل من مستغفر فيغفر له ، هل من تائب يتب عليه ، هل من داع بخير يستجب
له ، هل من سائل يعط سؤله ، هل من راغب يعط رغبته ، يا صاحب الخير أقبل يا صاحب الشر أقصر اللهم أعط كل منفق مالٍ خلفاً ، وأعط كل ممسك مال تلفا ) (1) .
يقال إن رجلاً من بني إسرائيل كان يتناول الطعام مع زوجته ذات يوم فطرق الباب عليهما طارق .
قالوا : من الطارق ؟
قال : سائل يطلب إحساناً .
وكان أمام الرجل دجاجة فقالت زوجته : أعطه شيئاً منها .
فقال لها زوجها : لا .
وبعد ذلك طرد السائل شرّ طرده ، ومرت الأيام وإذا بهذا الرجل يصاب بالفقر الشديد ويطلق زوجته من شدة الفقر ، وتمر الأيام وتتزوج المرأة ، وتجلس مع زوجها يتناولان الطعام ذات يوم وإذا بالباب يُطرق وإذا بالطارق سائل .
وكان أمام الرجل ( زوجها الثاني ) دجاجة فقال لها زوجها : خذي الدجاجة كلها وأعطيها للسائل فلما أعطته الدجاجة رجعت حزينة باكية .
فقال لها زوجها : أحزنت لأننا تصدقنا بالدجاجة ؟
فقالت : كلا إنما أبكي أتدري من السائل ، إنه زوجي الأول .
فقال لها : أتدرين من أنا ، وأنا السائل الأول .
دع المقادير تجري في أعنتها

ما بين غمضة عين وانتباهتها
ولا تبيتنَّ إلا خالي البالي

يغير اللهُ من حال إلى حال

الإحسان إلى الجيران
__________
(1) ـ الأحكام : [ 2/532] .

(1/83)


{ وَالْجَارِ ذِي الْقُرْبَى وَالْجَارِ الْجُنُبِ }
قال تعالى : { وَاعْبُدُوا اللَّهَ وَلاَ تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئًا وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا وَبِذِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ وَالْجَارِ ذِي الْقُرْبَى وَالْجَارِ الْجُنُبِ وَالصَّاحِبِ بِالْجَنْبِ وَابْنِ السَّبِيلِ } [ النساء :36 ] .
عن أبي أمامة عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال : ( لم يزل جبريل يوصيني بالجار حتى ظننت أنه سيؤرثه ) (1) .
الإهتمام بالجار مقصد عظيم من مقاصد الإسلام ، وهدف سام من أهدافه التي أشاد بها ونبه عليها ، ومازال جبريل الأمين يوضح ذلك ويوصي به النبي الكريم صلى الله عليه وآله وسلم حتى ظن من كثرة ما أوصاه به أنه سيؤرثه ، وهذا يدل دلالة أكيدة على أهمية الإحسان إلى الجار وضرورة مراعاة حقوقه والحفاظ عليها .
ومن المعروف أن الحقوق تختلف بإختلاف قرابة الشخص ونوع ديانته ، روي عن الرسول صلى الله عليه وآله وسلم أنه قال :
( الجيران ثلاثة : جار له حق واحد ، وجار له حقان ، وجار له ثلاثة حقوق ، فالجار الذي له ثلاثة حقوق هو الجار المسلم ذو الرحم ، فله
حق الجوار ، وحق الرحم ، وأما الذي له حقان فالجار المسلم ، له حق الجيرة والإسلام ، وأما الذي له حق واحد فالجار المشرك ) (2).
ما أروع نظم الإسلام وتعاليمه ، وحرصه على تقوية الروابط وإحترام المشاعر ، ومن المهم الإشارة إلى حقوق المسلم على أخيه المسلم :
جاء في كتاب شمس الأخبار عن السلوة بسنده إلى الإمام علي عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم أنه قال : ( للمسلم على أخيه ثلاثون حقاً لا براءة له منها إلا بالأداء أو بالعفو له :
__________
(1) ـ رواه البخاري برقم (5556) ، كتاب الأدب .
(2) ـ التصفية : 403 ، انظر تخريج الأحياء : [2/270] .

(1/84)


يغفر زلته ، ويرحم عبرته ، ويستر عورته ، ويقيل عثرته ، ويقبل معذرته ، ويرد غيبته ، ويديم نصيحته ، ويحفظ خلته ، ويرعى ذمته ، ويعود مرضته ، ويشهد ميتته ، ويجيب دعوته ، ويقبل هديته ، ويكافي صلته ، ويشكر نعمته ، ويحسن نصرته ، ويرشد ضالته ، ويرد سلامه ، ويبر إنعامه ، ويصدق أقسامه ويواليه ، ولا يعاديه ، وينصره ظالماً أو مظلوماً ، فأما نصرته ظالماً فيرده عن ظلمه ، وأما نصرته مظلوماً فيعينه على أخذ حقه ، ولا يسلمه ، ولا يخذله ، ويحب له من الخير مايحب لنفسه ، ويكره له من الشر مايكره لنفسه ) (1) .
وبإسناده أيضاً إلى علي عليه السلام عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم أنه قال : ( إن أحدكم ليدع من حقوق أخيه فيطالبه به يوم القيامة فيقضي له عليه ) (2) ، وفي حديث آخر عن أنس أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال : ( لا تباغضوا ، ولا تحاسدوا ، ولا تدابروا ، ولا تقاطعوا وكونوا عباد الله إخوانا، ولا يحل لمسلم أن يهجر أخاه فوق ثلاث ) (3) ، وهنا نهى الرسول صلى الله عليه وآله وسلم عن فعل ما يؤدي إلى التباغض بيننا ، وإلى التحاسد ـ وهو تمني زوال النعمة عن الغير ـ ، والتدابر ـ وهو الإعراض عن بعضنا البعض ـ ، والتقاطع ـ وهو ترك التواصل ـ ، ونهانا كذلك عن هجران بعضنا البعض أكثر من ثلاث ، قال الإمام الهادي عليه السلام : ( ليس من أخلاق المسلمين التهاجر إنما التهاجر من أخلاق الفاسقين . والمؤمنون كما قال الله تعالى { عَلَى سُرُرٍ مُتَقَابِلِينَ } [ الحجر : 47] ، وفي ذلك ما بلغنا عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أنه قال : ( لا يحل لمسلم أن يهجر أخاه فوق ثلاثة أيام فيلتقيان فيعرض هذا ويعرض هذا ، وخيرهما الذي يبدأ بالسلام ) (4) .
__________
(1) ـ شمس الأخبار : 186 .
(2) ـ شمس الأخبار : 186 .
(3) ـ شمس الأخبار : 186 .
(4) ـ الأحكام : [2/549] .

(1/85)


وما أكثر العداوة في هذه الأيام بين المسلمين بل بين أبناء الأب الواحد والأسرة الواحدة والمذهب الواحد والقبيلة الواحدة والقرية الواحدة ، أين نحن ممن وصفهم الله تعالى بقوله : { مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللَّهِ وَالَّذِينَ مَعَهُ أَشِدَّاءُ عَلَى الْكُفَّارِ رُحَمَاءُ بَيْنَهُمْ } [ الفتح :29] ، أصبحنا أشداء على بعضنا رحماء بأعدائنا الحقيقيين ، أصبحنا نحسد بعضنا ، ونحب الخير لأعدائنا الذين عاثوا في الأرض فساداً ، وقتلوا النساء والشيوخ والأطفال واستباحوا الأعراض .
حقوق الجار على جاره :
وبعد أن عرفنا مايجب للأخ على أخيه نأتي إلى ما ذكره الرسول صلى الله عليه وآله وسلم من الحقوق التي تجب على الجار لجاره ، قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم : ( أتدرون ما حق الجار ؟ إن استعان بك أعنته ، وإن استنصر بك نصرته ، وإن استقرضك أقرضته ، وإن افتقر عدت إليه ، وإن مرض عدته ، وإن مات اتبعت جنازته ، وإن أصابه خير هنأته ، وإن أصابته مصيبة عزيته ، ولا تستطل عليه بالبناء فتحجب عليه الريح إلا بإذنه ، وإن اشتريت فاكهة فأهدله فإن لم تفعل فأدخلها سراً ولا يخرج بها ولدك ليغيظ بها ولده ، ولا تؤذه بقتار قدرك إلا أن تغرف له منها ، أتدرون ما حق الجار ؟ والذي نفسي بيده لا يبلغ حق
الجار إلا من رحمه الله ) (1) .
الإسلام يدعو دائماً إلى التكافل الإجتماعي ، وإحترام المشاعر ، ويضع لنا وسائل مقومات الجسد الواحد الذي إذا اشتكى منه عضو تداعت له سائر الأعضاء بالسهر والحمى ، وفي الكلام النبوي السابق دعوة إلى كيفية إعطاء حق الجار :
1ـ إن استعان بك أعنته : إذا طلب منك المعونة في شيء وجب عليك إعانته وبالقدر والصفة التي بينها الإسلام .
2ـ وإن استنصر بك نصرته :
__________
(1) ـ الخرائطي في مكارم الأخلاق : 40ـ41 ، انظر تخريج الأحياء : [2/272] .

(1/86)


إذا طلبك لنصرته في الحق فلا بد من نصرته ، وإذا طلبك في الباطل فلا بد من إقناعه وردعه عن باطله .
3ـ وإن استقرضك أقرضته :
الناس للناس من بدو وحاضرة

بعض لبعض وإن لم يشعروا خدم

قد يكون في بعض الأوقات ثواب الإستقراض أكثر من ثواب الصدقة ، روى الإمام أبو طالب عليه السلام بسنده إلى الإمام علي عليه السلام عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم أنه قال : ( من أقرض قرضاً كان له مثلاه صدقة ، قال يارسول الله قلت أمس : من أقرض قرضاً كان له مثله صدقة ، وقلت اليوم : من أقرض قرضاً كان له مثلاه كل يوم صدقة ، قال : نعم ، من أقرض قرضاً فأخره بعد محله كان مثلاه كل يوم صدقة) (1) .
وذكر الإمام الهادي عليه السلام : إن رجلاً أتى الحسين بن علي عليهما السلام في حاجة فسأله أن يقوم معه فيها ، فقال : إني معتكف ، فجاء إلى الحسن بن علي عليه السلام فقال : إني أتيت أبا عبدالله في حاجة ليقوم معي فقال : إني معتكف ، فقام معه الحسن في حاجته وجعل طريقه على الحسين عليهما السلام فقال : يا أخي مامنعك من أن تقوم مع أخيك في حاجته ، فقال : إني معتكف ، فقال الحسن عليه السلام : لأن أقوم أخي المسلم في حاجته أحب إليَّ من إعتكاف شهر )(2)
فانظر يا أخي لم يمنع الإمام الحسين عليه السلام التحايل أو التكاسل ، إنما منعه الإعتكاف وذكر الله ، فوضح الإمام الحسن عليه السلام إن قضاء الحوائج أفضل بكثير من الإعتكاف مع الصيام .
__________
(1) ـ أمالي أبي طالب .
(2) ـ الأحكام : [2/528ـ 529]

(1/87)


فكيف بنا نحن الذين لم يشغلنا صيام أو إعتكاف إنما التكاسل وعدم الرغبة في قضاء الحوائج بل قد نجيد الإعتذار والتهرب من قضائها وكأن الأمر لا يعنينا لا من قريب ولا من بعيد ، وهنا لا بد من الإشارة إلى ضرورة الوفاء من المستقرض لكي يستطيع القارض إقراضه ، أو مساعدته في الحصول عليها ، لأن عدم الوفاء يؤدي إلى عدم الرغبة في الإعانة ويسبب عدم الثقة في الطلب .
بلغ ابن المقفع أن جاراً له يريد أن يبيع داره في دين تحمله ، وكان يجلس في ظل داره فقال : ما قمت إذاً بحق ظل داره إن باعها معدماً فدفع إليه ثمن الدار وقال : لا تبعها (1) .
4ـ وإن افتقر عدت إليه :
ليس من العيب أن يكون الإنسان فقيراً ، لأن الفقر إبتلاء من الله تعالى ، والأيام تتقلب يوم لك ويوم عليك فقد يكون أحد جيرانك غنياً ، والآخر فقيراً فلا بد من عيادة الفقير بإستمرار وتلمس حاجاته فلقد ورد عن الرسول صلى الله عليه وآله وسلم قوله : ( ما آمن بالله قالوا : من يارسول الله ، قال : من بات شبعان وجاره جائع وهو يشعر ) (2) .
ولو كان يصلي ويصوم ويعمل كل أعمال الإسلام ولكنه يبيت وهو يعلم بفقر جاره وبجوعه ولا يسعى إلى مساعدته مع قدرته على ذلك .
5ـ وإن مرض عدته :
عيادة المريض ضرورية للمسلم على أخيه المسلم ، فما بالك للجار على
__________
(1) ـ تصفية القلوب : 404 ، تحقيق الأهدل ، الإحياء [2/272 ] .
(2) ـ الأحكام : [2/529] .

(1/88)


جاره ، وقد ورد في العيادة آثار كثيرة كلها ترغب فيها ، وتبين ثواب العائد ، جاء في شمس الأخبار عن السلوة بسنده إلى الإمام علي عليه السلام عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم أنه قال : ( من دعاء مريضاً إيماناً بالله تعالى وتصديقاً بكتابه وكل الله به سبعون ألف ملك يصلون عليه حتى الليل وليلته حتى الصباح وكان ماكان قاعداً في أخراف الجنة ) (1) ، وفي حديث آخر : ( ولم يزل في أخراف الجنة مادام عنده جالساً ) (2) ، وفي حديث آخر : ( في خرفة الجنة قبل وماخرفة الجنة قال جناها ) (3) ، وفيه أيضاً عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم أنه قال : ( من عاد مريضاً ، أو زار أخاه في الله نادى مناد من السماء أن طبت وطاب ممشاك وتبوأت أو تبوأ في الجنة منزلاً ) (4)
وفيه أيضاً بسنده عن أبي أمامة عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم أنه قال : ( من تمام عيادة المريض أن تضع يدك على يده أوجبهته ثم تسأله كيف أمسيت أو كيف أصبحت والذي بعثني بالحق ما انطلق رجل مسلم عائداً لرجل مسلم لا يعنيه إليه إلا ذلك إلا خاض في الرحمة ، حتى إذا دخل عليه فوضع يده على يده يعني أو جبهته ثم سأله كيف أصبحت أو أمسيت ثم فارق إلا خاض مقبلاً ومدبراً ثم وضع رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يده على جبهته مقبلاً ومدبراً ).
__________
(1) ـ شمس الأخبار : 291 .
(2) ـ شمس الأخبار : 292 .
(3) ـ شمس الأخبار : 292 .
(4) ـ شمس الأخبار : 292.

(1/89)


وهنالك الكثير والكثير ، وما نريد تأكيده هو أن تكون الزيارة خالصة لله تعالى لا يدخل فيها غرض من الأغراض فإذا دخل فيها شيء من ذلك كان نصيبه من الأجر والثواب ويجب أن يكون ميزان الزيارة هو كثرة الإيمان لا كثرة الأموال وما أكثر المجاملات في عصرنا فكم من غني إذا أصيب بمرض أوعلة التف حوله أكثر الناس من جيران وغيرهم ، وكم من فقير لا يدخل عليه أحد لا من قريب ولا من بعيد ، ولا يجلس بجانبه رفيق أو صديق ، تغيرت الأحوال وتقلبت قلوب الرجال تبعاً للأهواء والأموال ، قال الشاعر :
نعيب زماننا والعيب فينا
ونهجو ذا الزمان بغير ذنب
فدنيانا التصنُّع والترائي
وليس الذئب يأكل لحم ذئب

وما لزماننا عيب سوانا
ولو نطق الزمانُ لنا هجانا
ونحن به نخادِعُ من يرانا
ويأكل بعضُنا بعضاً عيانا

6ـ وإن مات اتبعت جنازته :
تشييع الجنازة من الأمور التي حث عليها الدين وأرشدنا إليها الرسول الأمين صلى الله عليه وعلى آله الطاهرين ، وذكر العلامة القرشي في شمس الأخبار عن أنس بن مالك عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم أنه قال : ( من شيع جنازة كتب له بكل قدم يرفعها ويضعها ستمائة ألف ألف حسنة ، ومحا عنه ألف ألف سيئة ويرفع له بها ألف ألف درجة ) (1)
وروى الإمام أبو طالب بسنده إلى الإمام علي عليه السلام أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قال : ( من غسل ميتاً وكفنه وحنطه وحمله وصلى عليه ولم يفش ما رأى منه خرج من خطيئته كيوم ولدته أمه ) (2)
وروى الإمام الهادي عليه السلام بطريقه عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم أنه قال : ( من حثا في قبر أخيه ثلاث حثيات من تراب كفّر عنه من ذنوبه ذنوب عام ) (3) .
__________
(1) ـ شمس الأخبار : 300 .
(2) ـ أمالي أبي طالب : 35 .
(3) ـ درر الأحاديث :94 .

(1/90)


وذكر عن الإمام علي عليه السلام أنه كان إذا حثا على ميت قال : ( اللهم إيماناً بك وتصديقاً برسلك وإيقاناً ببعثك ، هذا ماوعدنا الله ورسوله وصدق الله ورسوله ، ثم قال : من فعل ذلك كان له بكل ذرة من تراب حسنة ) (1) .
وجاء في شمس الأخبار عن أمالي الإمام أحمد بن عيسى بسنده عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم أنه قال : ( الموت فزع فإذا بلغ أحدكم موت أخيه فليفعل كما أمر الله تعالى : إنا لله وإنا إليه راجعون وإنا إلى ربنا لمنقلبون ، اللهم اكتبه عندك من المحسنين ، واجعل كتابه في عليين ، واخلف على عقبه في الآخرين ، ولا تحرمنا أجره ولا تفتنا بعده ) (2) .
7ـ وإن أصابه خير هنأته :
هكذا هي التعاليم السامية تدعو إلى محبة الخير للآخرين وعدم الحسد لهم على ما أُعطوا مما يدخل على قلوبهم الفرح والسرور بل لا بد من التهنئة لهم على ما أعطوا والمشاركة لهم في فرحتهم على ما أصابهم من الخير ، أورد الإمام يحيى بن حمزة عليه السلام حديثاً عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم أنه قال : ( المؤمن ليس بحقود ولا حسود فالحقد ثمرة الغضب ) (3) ، وأورد أيضاً : ( المؤمن يغبط والمنافق يحسد ) (4)، وقال الإمام يحيى بن حمزة عليه السلام : ( إعلم أن الحسد لايكون إلا على نعمة فإذا أنعم الله سبحانه على أحد نعمة فلك فيها حالتان : ـ
ـ الحالة الأولى : أن تكره تلك النعمة وتحب زوالها وهذه الحالة تسمى
حسداً وعلى هذا تكون ماهية الحسد وحقيقة كراهية النعمة ومحبة زوالها عن صاحبها إلى غيره .
__________
(1) ـ درر الأحاديث : 94 .
(2) ـ شمس الأخبار : 301 .
(3) ـ التصفية : 176 ، انظر تخريج الأحياء : [1/66] .
(4) ـ التصفية : 164 ، انظر تخريج الأحياء [3/236] ، وقال بعضهم : أنه أثر عن الفضيل بن عياض .

(1/91)


ـ الحالة الثانية : أن لا تحب زوالها ولا تكره وجودها ، ولكنك تشتهي لنفسك مثلها وهي تسمى غبطة ) (1) ، ومن المعروف أن الحالة الأولى مذمومة والثانية مباحة .
8ـ وإن أصابته مصيبة عزيته :
قال تعالى : { وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ بِشَيْءٍ مِنْ الْخَوْفِ وَالْجُوعِ وَنَقْصٍ مِنْ الأَمْوَالِ وَالأَنفُسِ وَالثَّمَرَاتِ وَبَشِّرْ الصَّابِرِينَ الَّذِينَ إِذَا أَصَابَتْهُمْ مُصِيبَةٌ قَالُوا إِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعُونَ أُوْلَئِكَ عَلَيْهِمْ صَلَوَاتٌ مِنْ رَبِّهِمْ وَرَحْمَةٌ وَأُوْلَئِكَ هُمْ الْمُهْتَدُونَ } [ البقرة : 155ـ157] .
وروى الإمام أبو طالب بسنده إلى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قال : ( من عزّ مصاباً فله مثل أجره ) (2) ، وبسنده أيضاً إلى عبدالله بن جعفر قال : قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم : ( اصنعوا لآل جعفر طعاماً فإنه قد أتاهم ما شغلهم ) (3) ، ومن العادات السيئة في عصرنا أن المصابين يصنعون الطعام ويسهرون الليل والناس نيام ، فلذا يلزم أن نواسي المصاب بكل ما يلزم كتقديم الطعام وخدمة القادمين للعزاء ، وإستقبالهم وما يتبع ذلك .
__________
(1) ـ التصفية : 164 .
(2) ـ أمالي أبي طالب : 348 .
(3) ـ أمالي أبي طالب : 352 .

(1/92)


وفي أمالي السمان بسنده إلى معاذ بن جبل رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم أنه كتب إليه يعزيه في ابن له : ( بسم الله الرحمن الرحيم من محمد رسول الله إلى معاذ بن جبل سلام الله عليك ، فإني أحمد الله إليك الذي لا إله إلا هو أما بعد : فأعظم الله لك الأجر ، وألهمك الصبر ، ورزقنا وإياك الشكر ، فإن أنفسنا وأموالنا وأهلينا وأولادنا من مواهب الله عز وجل الهنية وعواريه المستودعة نمتع فيها إلى أجل ، ويقبضها إلى وقت معلوم وإنا نسأله الشكر على ما أعطى والصبر إذا ابتلى ، فكان إبنك من مواهب الله عز وجل الهنية وعواريه المستودعة متعك به في غبطة وسرور وقبضه منك بأجر كثير ، الصلاة ، والرحمة ، والهدى ، والصبر ، لا يحبطها جزعك فتندم ، واعلم أن الجزع لايرد ميتاً ولا يدفع حزناً وهو نازل وكأن قد والسلام ) (1) .
8ـ ولا تستطل عليه بالبناء فتحجب عليه الريح إلا بإذنه :
لم يترك ديننا شيئاً من أسباب الوحدة والألفة إلا وبينه ووضحه وحث عليه ، حتى على المستوى العمراني ، ومراعاة التخطيط الصحيح للبناء فهنا بين إن من حقوق الجار عدم رفع البناء إذا كان سيحجب عن جاره
الريح ، ويمنع من تجددالهواء .
وإذا كان فلا بد من الإستئذان منه ، وطلب السماح من لديه فإن أذن أطلت البناء مالم فلا .
وينبغي مراعاة حقوق الجار في هذا الشأن حكي أنه شكى بعض الجيران من كثرة الفئران في بيته فقيل له : لو اقتنيت هراً فقال : أخشى إن سمع الفأر صوت الهر فيهرب إلى دار الجيران فأكون قد أحببت لنفسي ما لا أحبه لهم .
__________
(1) ـ شمس الأخبار : 300 .

(1/93)


وعلى العموم فإنه لا يحق للجار أن يؤذي جاره بأي شكل ، سواء أكان برفع البناء المؤدي إلى أذيته وحجب الريح عن مسكنه ، أو بالتطلع من السطح على عوارته أو مضايقته بوضع الجذع على جداره أو بصب الماء في ميزابه أو على بابه ، ويطرح التراب في فنائه ، أو بتضييق طريقه أو نحو ذلك وقد ورد فيمن آذى جاره أو سعى إلى أذيته آثار كثيرة كلها تؤكد حرمة الجار وعدم ظلمه أو أذيته بأي شكل من الأشكال ،
قال الإمام الهادي عليه السلام : حدثني أبي عن أبيه قال : حدثنا أبو سهل سعد بن سعيد عن الفضل عن الحسن عن أخيه عن أبيه عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال : ( ما يؤمن قيل من يارسول الله ؟ قال رجل لا يأمن جاره بوائقه ) (1) .
وحدثني أبي عن أبيه قال : حدثنا المقبري عن الفضل عن الحسن قال : قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم : ( ما آمن قيل من يارسول الله ؟ قال من لم يأمن جار غشمه وظلمه ) (2) .
وقال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم : ( أول خصمين يوم القيامة جاران ) (3) ، ويشدد الرسول صلى الله عليه وآله وسلم على إحترام مشاعر الجار وعدم أذيته فيقول : ( إذا رميت كلب جارك فقد آذيته ) (4) فما رأيك فيمن يضرب جاره ؟
__________
(1) ـ الأحكام : [ 2/529] .
(2) ـ الأحكام : [ 2/529] .
(3) ـ التصفية : 427 .
(4) ـ التصفية : 529 .

(1/94)


وقد وضع رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم علاجاً عملياً لمن آذى جاره ، قال الإمام الهادي عليه السلام : بلغنا أن رجلاً أتى النبي صلى الله عليه وآله وسلم يشكو جاره فقال له رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم : ( إطرح متاعك على الطريق فطرحه ) ، فجعل الناس يمرون فيلعنونه إذ ألجأ جاره إلى ذلك قال فجاء إلى النبي صلى الله عليه وآله وسلم فقال : يارسول الله مالقيت من الناس فقال ، وماذا لقيت منهم قال : يعلنوني ، قال لقد لعنك الله قبل الناس ، قال : فإني لا أعود يارسول الله قال : فجاء الذي شكى إلى النبي صلى الله عليه وآله وسلم فقال له النبي صلى الله عليه وآله وسلم إرفع متاعك فقد أمنت وكفيت ) (1) .
وروى الإمام يحيى بن حمزة عليه السلام : ( أن رجلاً جاء إلى ابن مسعود فقال : إن لي جاراً يؤذيني ويشتمني ويضيّق علي ، فقال : إذهب فإن هو عصى الله فيك فأطع الله تعالى فيه ) (2) .
وقيل لرسول الله صلى الله عليه وآله وسلم : إن فلانة تصوم النهار ، وتقوم الليل ، ولكنها تؤذي جيرانها فقال صلى الله عليه وآله وسلم : (هي في النار ) (3) .
9ـ وإن اشتريت فاكهة فأهد له فإن لم تفعل فأدخلها سراً ولا يخرج بها ولدك ليغيظ بها ولده .
مراعاة شعور الجيران من أهم حقوقهم فإن اشتريت فاكهة فأهد لجارك فإن لم يمكنك الإهداء فأدخلها بدون أن يشعر وإذا أدخلتها بدون أن يشعر فلا تبديها أبداً وامنع ولدك من حملها أمام أولاد جيرانك لكي لا يغتاظوا فيحرجوا آباءهم بشراء ما لا يستطيعون شراءه .
__________
(1) ـ الأحكام : [2/529 ] .
(2) ـ التصفية : 427 .
(3) ـ التصفية : 427 .

(1/95)


روى الإمام أبو طالب بسنده إلى النبي صلى الله عليه وآله وسلم أنه قال : ( من كان يؤمن بالله واليوم الآخر فليكرم جاره ) (1) ، وعن عائشة قال : قلت يارسول الله إن لي جارين فإلى أيهما أُهدي ؟ قال : إلى أقربهما منك باباً ) (2)
10ـ ولا تؤذه بقتار قدرك إلا أن تغرف له منها :
وعلى مستوى الرائحة النفاذة التي يشم من خلالها الجار مرقه أوشيئاً لذيذاً فلا تؤذه بذلك إلا إذا كنت ستعطيه منها ، قال أبوذر رضي الله عنه : أوصاني رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فقال :
( إذا طبخت مرقة فأكثر ماءها ثم انظر بعض أهل بيت من جيرانك فأغرف لهم منها ) (3) ، وفي رواية : ( يا أبا ذر إذا طبخت مرقة فأكثر ماءها وتعاهد جيرانَك ) (4) ، وروى الإمام الهادي بلاغاً عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أنه قال : ( البر وحسن الجوار زيادة في الرزق وعمارة للديار ) (5) .
وفي الأخير : يؤكد الرسول أنه لا يبلغ حق الجار إلا من رحم الله فيقول : ( والذي نفسي بيده لا يبلغ حق الجار إلا من رحمه الله ) .
إختيار الجار قبل الدار :
ومن الأشياء الهامة في حياتك هو إختيار جارك قبل دارك ، ولا بد أن يكون إختياراً محسوباً تلافياً للنتائج غير المحمودة التي تترك أثرها على أبناءك من قبل أبناء جيرانك من جهة وأجواء البيئة الإجتماعية من جهة أخرى ، يقول الإمام علي عليه السلام : ( سل عن الرفيق قبل الطريق وعن الجار قبل الدار ) (6) .
عدالة الإسلام في حقوق الجيران :
__________
(1) ـ شمس الأخبار : 241 ، عن الأمالي كما نسبه .
(2) ـ رياض الصالحين : 150 ، وعزاه إلى البخاري .
(3) ـ تصفية القلوب : 405 ، وأخرجه مسلم .
(4) ـ رياض الصالحين : 149 .
(5) ـ درر الأحاديث : 29 .
(6) ـ كيف تصبح سعيداً : 63 .

(1/96)


ومن عدالة الإسلام أنه جعل الإحسان إلى الجيران متساوي(1) ، روي عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أنه قال : ( أحسن مجاورة من جاورك يكن مسلماً أو مشركاً ) (2) .
ويعتبر هذا نموذجاً واحداً من كثير من النماذج التي تبين متانة التعاليم
الإسلامية وصدقها ، وهشاشة الأنظمة الغربية وزيفها ، التي تندد بحقوق الإنسان ولكنها أول من يهدرها ، وإذا راعت هذه الحقوق فتبعاً للمصالح والأهواء ، أما الإسلام فتعاليمه ثابتة وعادلة كما هو ملاحظ في كل الجوانب .
ومن المؤسف أن بعض الأفراد من المسلمين يريدون جر المسلمين إلى أنظمة الغرب المزدوجة وترك التعاليم الإلهية الصادقة .
فأيهما أحق بالإتباع ؟
ثبوت حق الجار القريب والبعيد :
والإحسان إلى الجار سواء أكان داره قريباً ، أم بعيداً مطلوب ففي آية الحقوق قال الله تعالى : { وَالْجَارِ ذِي الْقُرْبَى وَالْجَارِ الْجُنُبِ } (3) [ النساء : 36] ، سواء الذي قرب جواره أم بعد ، وسواء قريب النسب أم بعيده ، وقد ورد أن الجوار إلى أربعين داراً (4) .
__________
(1) ـ ومن تمام عدالته أنه لا يسقط حقاً عند تداخل الحقوق فقد سبق وإن أشرنا إلى حقوق الجيران بإعتبار الإسلام والقرابة فجعل الإسلام للجار القريب ثلاثة حقوق ليس بإعتبار المجاورة فحسب ، بل بإعتبار حق القرابة وحق الإسلام ، وجعل للجار غير القريب حقين : حق المجاورة وحق الإسلام ، وجعل للجار المشرك حق المجورة ، فتساوى الجار المسلم وغيره في حق المجاورة .
(2) ـ انظر التيسير للمناوي : [2/223ـ224] .
(3) ـ لهذه الآية تفسيرات متعددة كلها تؤكد حق الجوار .
(4) ـ انظر تفسير الأعقم : 108 .

(1/97)


وقد أراد الإسلام منا أن نهتم بالجار كمظهر من مظاهر الإحساس بأن الجوار يحقق علاقة ألفه ومحبة تفرض على الإنسان حقاً في القيام برعاية الجار والإحسان إليه ، وتحمل أذيته سواء أكان هذا الجار قريباً أم بعيداً ، مسلماً أم كافراً ، وسواء أكان جار الدكان ، أم جارالمنزل .

حق الصاحب بالجنب
{ وَالصَّاحِبِ بِالْجَنْبِ }
الصاحب بالجنب قيل : أنه من كان رفيقاً في السفر أو جليساً في الحضر أو شريكاً في الدرس أو في فرقة وما إلى ذلك .
وهذا هو الحظ الإسلامي الذي يعتبر للصحبة حقاً إنسانياً يوحي بالرعاية والإحسان فيما يحتاجه من شؤون الحياة ، وفيما يواجهه من مشاكلها ، وفيما يحتاج إلى ستره من عيوبه وخطاياه ، مما يمكن أن يطلع عليه صاحبه من خلال إستمرار الصحبة ، وفيما يتطلبه من إحترام مشاعره وأحاسيسه في الأمور التي تثيره وتغضبه ، وفي القضايا التي تفرحه وتريحه ، وغير ذلك من الأمور التي تمثلها كلمة الإحسان فيما توحيه من مشاعر وممارسات(1) .
يذكر أن الإمام علي عليه السلام صاحب رجلاً ذمياً في سفره فقال له الذمي : أين تريد يا عبدالله ؟ قال : أريد الكوفة ، فلما عدل الطريق بالذمي عدل معه علي عليه السلام فقال له الذمي : أليس تريد الكوفة فلم عدلت معي وقد علمت ذلك ؟ فقال له الإمام علي عليه السلام :
هذا من تمام حسن الصحبة أن يتبع الرجل صاحبه هنية إذا فارقه ، وكذلك أمرنا نبينا صلى الله عليه وآله وسلم فقال له : هكذا قال ؟
قال نعم ، فقال له الذمي : لا جرم أنما تبعه من تبعه لأفعاله الكريمة ) (2)
وقفة حول الأصدقاء والأصحاب والجلساء :
وهنا لا بد من الإشارة إلى الصداقة والأصدقاء والأصحاب والجلساء ، نظراً لما لهم من أهمية في حياة الفرد والمجتمع .
فمن المعروف أن الإسلام دين ألفة ومحبة وتجمع .
__________
(1) ـ من وحي القرآن : [7/185] .
(2) ـ حق الأمان : 181 .

(1/98)


ونزعة التعرف إلى الناس والإختلاط بهم هدف من أهدافه وأصيلة في تعاليمه ، قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم : ( المؤمن الذي يخالط الناس ويصبر على أذاهم ، خير من المؤمن الذي لايخالط الناس ولا يصبر على أذاهم ) (1) .
ويقول صلى الله عليه وآله وسلم : ( المؤمن الف مألوف ، ولا خير فيمن لا يألف ولا يؤلف ) (2) ، وفي الوقت الذي حرص في الإسلام على مخالطة الناس ، وبناء صداقات وعلاقات معهم ، حرص كذلك على ضرورة إختيار من تخالط وإنتقاء من تجالس ، قال تعالى :
{ وَقَيَّضْنَا لَهُمْ قُرَنَاءَ فَزَيَّنُوا لَهُمْ مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَمَا خَلْفَهُمْ وَحَقَّ عَلَيْهِمْ الْقَوْلُ فِي أُمَمٍ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِمْ مِنْ الْجِنِّ وَالإِنسِ إِنَّهُمْ كَانُوا خَاسِرِينَ } [ فصلت : 25] .
وقال تعالى واصفاً من أحسن إختيار قرينه ، وابتعد عن قرين السوء :
__________
(1) ـ رواه الترمذي ، أنظر خلق المسلم : 184 .
(2) ـ رواه أحمد برقم (8831) .

(1/99)


{ فَأَقْبَلَ بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ يَتَسَاءَلُونَ قَالَ قَائِلٌ مِنْهُمْ إِنِّي كَانَ لِي قَرِينٌ يَقُولُ أَئِنَّكَ لَمِنْ الْمُصَدِّقِينَ أَئِذَا مِتْنَا وَكُنَّا تُرَابًا وَعِظَامًا أَئِنَّا لَمَدِينُونَ قَالَ هَلْ أَنْتُمْ مُطَّلِعُونَ فَاطَّلَعَ فَرَآهُ فِي سَوَاءِ الْجَحِيمِ قَالَ تَاللَّهِ إِنْ كِدْتَ لَتُرْدِينِي وَلَوْلاَ نِعْمَةُ رَبِّي لَكُنتُ مِنْ الْمُحْضَرِينَ أَفَمَا نَحْنُ بِمَيِّتِينَ إِلاَّ مَوْتَتَنَا الأُوْلَى وَمَا نَحْنُ بِمُعَذَّبِينَ إِنَّ هَذَا لَهُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ لِمِثْلِ هَذَا فَلْيَعْمَلْ الْعَامِلُونَ } [ الصافات : 50ـ61] ، وقال تعالى : { وَيَوْمَ يَعَضُّ الظَّالِمُ عَلَى يَدَيْهِ يَقُولُ يَالَيْتَنِي اتَّخَذْتُ مَعَ الرَّسُولِ سَبِيلاً يَاوَيْلَتِي لَيْتَنِي لَمْ أَتَّخِذْ فُلاَنًا خَلِيلًا لَقَدْ أَضَلَّنِي عَنْ الذِّكْرِ بَعْدَ إِذْ جَاءَنِي وَكَانَ الشَّيْطَانُ لِلإِنسَانِ خَذُولاً } [ الفرقان : 27ـ29] .
وقال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم : ( المرء على دين خليله فلينظر أحدكم من يخالل ) (1) .
ويقول صلى الله عليه وآله وسلم : ( مثل الجليس الصالح وجليس السوء
كحامل المسك ونافخ الكير ، فحامل المسك أن يحثيك أو تبتاع منه أو تجد معه رائحة طيبة ، ونافخ الكير إما أن يحرق ثوبك أو تجد منه رائحة منتنة ) (2) .
أثر الصديق على صديقه عميق ومن ثم كان لزاماً على المرء أن ينتقي إخوانه ، ويختار أصدقائه ، وأن يبلو حقائقهم حتى يطمئن إلى معدنها .
__________
(1) ـ رواه أحمد برقم (4163) .
(2) ـ رواه مسلم في كتاب البر والصلة برقم (4762) .

(1/100)


ولا يترك الصدف تختار له أصدقائه أو يغتر بالمظهر فيفقد الجوهر ، قال الإمام الحسن عليه السلام : ( لا تؤاخي أحداً حتى تعرف موارده ومصادره ، فإذا استطبت بالخير ورضيت العشرة فآخه على إقالة العثرة ، والمؤاساة في العسرة ) .
ويقول الإمام علي عليه السلام لإبنه الحسن : ( بني الرفيق ثم الطريق ) ( ويقول عليه السلام : " لا يعرف الناس إلا بالإختبار " (1) ، ويقول أيضاً : " لا تثق بالصديق قبل الخبرة " ، والصديق لابد أن تتوفر فيه عوامل الصداقة الكريمة ، وهي : العقل ، فلا خير في مصاحبة الأحمق قد يضرك ، وهو يريد أن ينفعك ، ولا بد أن تكون أخلاقه حسنة ، فلا خير في عاقل بلا أخلاق حسنة .
والدين شرط أساسي في الصداقة والصحبة ، فلا خير في صحبة فاسق مصر على فسق ، ولا بد أن يكون كريماً ، فلا خير في مصاحبة البخيل .
إمتحان الصديق قبل مصادقته :
فإذا أردت معرفة الصديق الجيد ، فلا بد أن تختبره ، يقول الإمام علي : " لا يعرف الناس إلا بالإختبار " ، ويقول عليه السلام : " لا تثق بالصديق قبل الخبرة " ، ويمكن إختباره عن طريق الوسائل التالية : ـ
1ـ الإمتحان الروحي :
يسأل رجل الصادق : إن الرجل يقول لي أودك ، فكيف أعلم أنه يودني ! ، فقال له : " إمتحن قلبك ، فإن كنت توده فإنه يودك " .
2ـ الإمتحان عند الحاجة :
جاء في الحديث الشريف : ( ثلاثة لا تعرف إلا في ثلاثة ، ولا يعرف الحلم إلا عند الغضب ، ولا الشجاع إلا عند الحرب ، ولا الشاح إلا عند الحاجة ) .
3ـ الإمتحان عند الغضب :
جاء في الحديث الشريف : " من غضب عليك من إخوانك ثلاث مرات ، ولم يقل فيك مكروهاً ، فأعده لنفسك " .

4ـ الإمتحان عند السفر :
__________
(1) ـ كيف تصبح سعيداً : 65 .

(1/101)


يقول الرسول الأكرم صلى الله عليه وآله وسلم : ( لا تسمي الرجل صديقاً حتى تختبره بثلاث خصال ، حين تغضبه ، فتنتظر أيخرجه غضبه من الحق إلى الباطل ، وحين تسافر معه ، وحين تختبره بالدينار والدرهم " ) (1) .
لهذا كله يجب البحث الدقيق عن الصديق لا كشخص فقط ، بل لا بد أن تبحث عن صفاته ، فإن كان رجلاً صادقاً يعينك على أداء الواجب وحفظ الحقوق ويحجزك عن السوء وإقتراف الحرام ، فهو قرين خير يجب عليك الإستمساك به والحرص على مودته وهذا شأنه شأن حامل المسك .
وليحذر الإنسان ممن يزين له طريق الغواية ، أو يسترسل معه في أسباب اللغو واللهو فشأنه شأن نافخ الكير إما أن يحرقك ، أو تجد منه رائحة منتنة .
فالصديق العظيم قد يقود صاحبه إلى النجاح في الدنيا والفلاح في الأخرى ، أما الصديق السيء فهو شؤم على صاحبه يقود إلى خسارة في الدنيا والآخرة .
ومن هنا يجب على الإنسان إختيار أصدقائه وأصحابه ويجعل أساس الإختيار ( الإيمان ) .
معيار إختيار الأصدقاء :
__________
(1) ـ انظر كتاب كيف تصبح سعيداً : 64ـ67 .

(1/102)


ومعيار إختيار الأصدقاء هو الإيمان ، وأساس حبهم هو الله ، فمن تمسك بالأس والأساس نال الخير والثواب ، واستطاع إنتقاء خير الأصدقاء من الناس ، روى الإمام زيد بن علي عن آبائه عن علي عليه السلام قال : قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم : ( وعزتي وعظمتي وكبريائي وجودي لأدخلن داري ، ولأرافقن بين أوليائي ، ولأزوجن حور عيني ، المتحابين فيَّ ، المتواخين في ، المتحببين إلى خلقي ) (1) ، وروي عن أبي هريرة عن الرسول صلى الله عليه وآله وسلم قال : ( إن حول العرش منابر من نور عليها قوم لباسهم نور ، ووجوههم نور ليسوا بأنبياء ولا شهداء يغبطهم الأنبياء والشهداء ، فقالوا : يارسول الله صفهم لنا ، فقال : هم المتحابون في الله ، المتجالسون في الله ، المتزاورون في الله ) (2) ، فالحب في الله لا يزعمه كل أحد ، ولا يصدق من كل دعي ، فلا بد أن يعرف الإنسان ربه أولاً معرفة صحيحة ثم يغالي بهذه المعرفة حتى ترجح في نفسه ماعداها ، ثم ترقى هذه المعرفة إلى حب الله ذاته وإيثار العمل له ، وعندئذ يصدق على المرء إذا أحب أو كره ، أنه أحب لله وكره لله .
__________
(1) ـ الأحكام : [2/530] .
(2) ـ أخرجه النسائي في سننه الكبرى تخريج الأحياء : [ 2/202] ، وابن أبي الدنيا : 93رقم 7 .

(1/103)


أما أن يعجب المرء بموهبة عظيم أو أن يستطلف سيرة آخر فيحبه أو تكون له مصلحة فذلك لون آخر من الصداقة غير مانحن بإزائه ، قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم : ( ثلاث من كن فيه وجد حلاوة الإيمان وطعمه ، أن يكون الله ورسوله أحب الله مما سواهما ، وأن يحب في الله ويبغض في الله ، وأن توقد نارعظيمة فيقع فيها أحب إليه من أن يشرك بالله شيئاً ) (1) ، وأول شرائط الصحبة الكريمة أن تبرأ من الأغراض وتخلص لوجه الله تعالى ، وأن تنتزع من طريق الإيمان والإحسان ، وهذا هو معنى الحب في الله تعالى ، وفضيلة التآخي بين أفراد المجتمع .
حرص الإسلام على تقوية أواصر الصداقة :
إذا نشأت الصداقة لله فلن تدوم إلا بطاعته ، ولن تزكو إلا بالبعد عن معصيته ، فإذا تسربت المعصية إلى سيرة الصديقين أو أحدهما تغيرت القلوب وضاع الحب .
من أجل ذلك كان أهل البيت عليهم السلام ، وكذلك صحابة الرسول الأعظم صلى الله عليه وآله وسلم ورضوان الله عليهم يجعلون من التواصي بالحق والتعاون على الخير سياجاً يحفظ ما بينهم من ود ويقربهم من الله ورحمته ومزاحمة أوليائه ، وبقدر تركيز الإسلام على ذلك ركز أيضاً على تقوية أواصر الصداقة بالتعهد والمزوارة .
قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم : ( إذا أحب أحدكم أخاه فليخيره إنه يحبه ) (2) ، وعن أنس : كان رجل عند النبي صلى الله عليه وآله وسلم ، فمر رجل ، فقال : يارسول الله إني أحب هذا : قال : أعلمته ؟ ، قال : لا ، قال : فأعلمه ، فلحقه ، فقال : إني أحبك في الله تعالى فقال : أحبك الذي أحببتني له (3) ، وذلك لأن الحب في قلبك مثل العطر في الزجاجة المغلقة لن تقوم برائحته إلا بعد فتحها وإذا أردت أن يعرف أخوك حبك له فأخبره فإنه آكد للمحبة .
__________
(1) ـ رواه البخاري برقم (6426) .
(2) ـ انظر تخريج الأحياء : [2/230] .
(3) ـ رواه أبو داود ، خلق المسلم : 19 .

(1/104)


ويقول الرسول صلى الله عليه وآله وسلم : ( إذا آخى الرجل الرجل فليسأله عن إسمه وإسم أبيه وممن هو فإنه أوصل للمودة ) (1) .
وروي أيضاً : ( الأرواح جنود مجنَّدة ، ماتعارف منها ائتلف ، وما تناكر منها اختلف ) (2) ، وورى الإمام الهادي إلى الحق عليه السلام في فضيلة التزاور حديثاً بسنده إلى سلمان الفارسي رحمة الله تعالى عليه أنه قال : ( خرجت مع رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم زائراً لأناسية من أهل اليمن كانوا بايعوا رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم على الإسلام فدخل عليهم ، فجعل يصافحهم واحداً واحداً ، فلما خرجنا قال : يا سلمان ألا أبشرك ، فقلت : بلى يارسول الله ، قال : مامن مسلم يخرج من بيته زائراً لإخوة له مسلمين إلا خاض في رحمة الله وشيعه سبعون ألف ملك حتى إذا التقوا وتصافحوا كانوا كاليدين التي تغسل إحداهما الأخرى وغفر لهم ماسلف ، وأعطوا ما سألوا ) (3) .
وعلق الإمام الهادي عليه السلام قائلاً : ( أولئك المهتدون من المؤمنين الا تسمع كيف يقول صلى الله عليه ذوآله وسلم : ( ما من مسلم )، والمسلم لا يكون مسلماً حتى يخرج من معاصي الله إلى طاعته ) (4) .
حقوق الصحبة :
ـ ومن أهم الحقوق التي تلزم الصاحب لصاحبه والصديق لصديقه :
1ـ الإعانة له بالنفس والمال ، والقيام بقضاء حاجته .
2ـ نصحه وإرشاده ، وإهداء إليه عيوبه بطريقة حكيمة .
3ـ ندائه بأحب أسمائه إليه ، قال عمر بن الخطاب : ( ثلاث يصفين لك ود أخيك ، أن تسلم عليه إذا لقيته ، وتوسع له في المجلس ، وتدعوه بأحب أسمائه إليه )(5) .
__________
(1) ـ رواه الترمذي برقم : (2315) .
(2) ـ صحيح مسلم ، كتاب البر والصلة ، برقم (4773) .
(3) ـ الأحكام : [2/523 ـ 524] .
(4) ـ نفس المصدر السابق .
(5) ـ التصفية : 384 .

(1/105)


4ـ عدم التعرض لذكر عيوبه في حضرته وغيبته ، وقد جاء في الأثر : ( إن الله يكره لكم البيان كل البيان ) ، يعني التصريح بالمساوئ كلها(1) .
5ـ عدم ممارته ، أو التجسس عن أخباره .
6ـ السكوت عن أسراره ، وإذا رأيته في حاجة لا تفاتحه بذكر غرضه
7ـ العفو عن الزلات والهفوات إذا لم تكن في الدين .
8ـ الدعاء له في حياته ، وبعد وفاته ، وقد ورد في حديث ( يستجاب للرجل في أخيه ما لا يستجاب له في نفسه ) (2)
وحقوق الصحبة في السفر كثيرة من أهمها ماذكره لقمان لإبنه :
( إذا سافرت مع قوم فأكثر استشارتهم في أمرك وأمورهم ، وأكثر التبسم في وجوههم ، وكن كريماً على زادك بينهم ، وإذا دعوك فأجبهم ، وإذا استعانوا بك فأعنهم ، واستعمل طول الصمت ، وكثرة الصلاة ، وسخاء النفس بما معك من دابة أو ماء أو زاد ، وإذا استشهدوك على الحق فاشهد لهم ، وأجهد رأيك إذا استشاروك ، ثم لا تعزم حتى تتثبت وتنتظر ، وإذا رأيت أصحابك يمشون فامش معهم ، وإذا رأيتهم يعملون فاعمل معهم ، وإذا تصدقوا وأعطوا قرضاً ، فأعط معهم ، واسمع لمن هو أكبر منك سناً )(3) .
الإحسان إلى ابن السبيل
{ وَابْنِ السَّبِيلِ }
اهتم الإسلام بابن السبيل إهتماماً خاصاً إذ ورد ذكره في القرآن الكريم في معرض العطف عليه ، والإحسان إليه ، ثماني مرات :
1ـ قال تعالى : { وَآتِ ذَا الْقُرْبَى حَقَّهُ وَالْمِسْكِينَ وَابْنَ السَّبِيلِ وَلاَ تُبَذِّرْ تَبْذِيرًا } [ الإسراء : 26] .
2ـ وقال تعالى : { فَآتِ ذَا الْقُرْبَى حَقَّهُ وَالْمِسْكِينَ وَابْنَ السَّبِيلِ ذَلِكَ خَيْرٌ لِلَّذِينَ يُرِيدُونَ وَجْهَ اللَّهِ وَأُوْلَئِكَ هُمْ الْمُفْلِحُونَ } [ الروم : 38]
__________
(1) ـ الأحياء : [2/226] .
(2) ـ الأحياء : [2/237] .
(3) ـ مكارم الأخلاق : 226 .

(1/106)


3ـ وقال تعالى : { يَسْأَلُونَكَ مَاذَا يُنفِقُونَ قُلْ مَا أَنفَقْتُمْ مِنْ خَيْرٍ فَلِلْوَالِدَيْنِ وَالْأَقْرَبِينَ وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ وَابْنِ السَّبِيلِ } [ البقرة : 215] .
4ـ وقال تعالى : { وَاعْبُدُوا اللَّهَ وَلاَ تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئًا وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا وَبِذِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ وَالْجَارِ ذِي الْقُرْبَى وَالْجَارِ الْجُنُبِ وَالصَّاحِبِ بِالْجَنْبِ وَابْنِ السَّبِيلِ وَمَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ } [ النساء : 36] .
5ـ وقال تعالى : { إِنَّمَا الصَّدَقَاتُ لِلْفُقَرَاءِ وَالْمَسَاكِينِ وَالْعَامِلِينَ عَلَيْهَا وَالْمُؤَلَّفَةِ قُلُوبُهُمْ وَفِي الرِّقَابِ وَالْغَارِمِينَ وَفِي سَبِيلِ اللَّهِ وَاِبْنِ السَّبِيلِ } [ التوبة : 60] .
6ـ وقال تعالى : { وَاعْلَمُوا أَنَّمَا غَنِمْتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَأَنَّ لِلَّهِ خُمُسَهُ وَلِلرَّسُولِ وَلِذِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ وَابْنِ السَّبِيلِ } [ الأنفال : 41] .
7ـ وقال تعالى : { مَا أَفَاءَ اللَّهُ عَلَى رَسُولِهِ مِنْ أَهْلِ الْقُرَى فَلِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ وَلِذِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ وَابْنِ السَّبِيلِ كَيْ لاَ يَكُونَ دُولَةً بَيْنَ الأَغْنِيَاءِ مِنْكُمْ } [ الحشر : 7] .
8ـ وقال تعالى : { وَآتَى الْمَالَ عَلَى حُبِّهِ ذَوِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينَ وَابْنَ السَّبِيلِ وَالسَّائِلِينَ وَفِي الرِّقَابِ وَأَقَامَ الصَّلاًةَ وَآتَى الزَّكَاةَ } [ البقرة : 177] .
ففي هذه الآيات الكريمات نلاحظ أن الله تعالى أولى ابن السبيل عناية خاصة ، وذكر له نصيباً في كل وجه من أوجه التعاون والإنفاق والصدقات .

(1/107)


فيا ترى من هو ابن السبيل هذا الذي اهتم الله به ، ورغب في إعانته ؟ وما سر الإهتمام به ؟
ابن السبيل هو المنقطع الذي لا يملك من المال ما يوصله إلى بلده ، أو هو كناية عن المسافر الذي يجتاز من بلد إلى بلد ، والسبيل الطريق ، وأما سر الإهتمام به هو أن الدين الإسلامي قد دعا إلى السياحة ، ورغب في السفر والسير في الأرض لأسباب كثيرة :
1ـ فهنالك سفر دعا إليه لإبتغاء الرزق ، قال تعالى : { هُوَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمْ الأَرْضَ ذَلُولاً فَامْشُوا فِي مَنَاكِبِهَا وَكُلُوا مِنْ رِزْقِهِ وَإِلَيْهِ النُّشُورُ } [ الملك : 15] ، وقال تعالى : { يَضْرِبُونَ فِي الأَرْضِ يَبْتَغُونَ مِنْ فَضْلِ اللَّهِ وَآخَرُونَ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ } [ المزمل : 20] .
وروى الإمام زيد بن علي حديث السبعة الذين يظلهم الله في ظله يوم لا ظل إلا ظله ، ومنهم : ( … رجل ضارب في الأرض يطلب من فضل الله مايكفي به نفسه ، ويعود به عياله )(1) ، فالمشي والسياحة في ابتغاء الرزق من الأشياء الحسنة التي رغب فيها ، ولكن الحكومات العربية والإسلامية لم تسهل مهمة السائح المسلم ، بل وضعت أمامه العراقيل والحواجز .
الله أمر بالضرب في الأرض ، والمشي في البحث عن العمل لطلب الرزق ، ومن المعروف أن البعض يجد عملاً يدر عليه بالمال ، والبعض الآخر قد لا يجد ، فهنا جعل الله له حقاً في الصدقات والمساعدات لإعانته على مواصلة سفره إلى بلده ، أو إلى بلد آخر يجد فيه ما يأمله .
2ـ وهنالك سفر دعا إليه الإسلام لطلب العلم ، والنظر ، والإعتبار بآيات الله في الكون ، وسننه في الخلق ، وقال تعالى : { قُلْ سِيرُوا فِي الأَرْضِ فَانْظُرُوا كَيْفَ بَدَأَ الْخَلْقَ } [ العنكبوت : 20] ، وكأن في ذلك إشارة إلى البحوث الجيولوجيه وتاريخ الحياة .
__________
(1) ـ الأمالي : 311 .

(1/108)


وقال تعالى : { فَلَوْلاَ نَفَرَ مِنْ كُلِّ فِرْقَةٍ مِنْهُمْ طَائِفَةٌ لِيَتَفَقَّهُوا فِي الدِّينِ وَلِيُنذِرُوا قَوْمَهُمْ إِذَا رَجَعُوا إِلَيْهِمْ } [ التوبة : 122] ، وقال تعالى : { قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِكُمْ سُنَنٌ فَسِيرُوا فِي الأَرْضِ فَانْظُروا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُكَذِّبِينَ } [ آل عمران : 137] ، وقال تعالى : { أَفَلَمْ يَسِيرُوا فِي الأَرْضِ فَتَكُونَ لَهُمْ قُلُوبٌ يَعْقِلُونَ بِهَا أَوْ آذَانٌ يَسْمَعُونَ بِهَا فَإِنَّهَا لاَ تَعْمَى الأَبْصَارُ وَلَكِنْ تَعْمَى الْقُلُوبُ الَّتِي فِي الصُّدُورِ } : [ الحج : 46] .
وقال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم : ( من سلك طريقاً يطلب فيه علماً سهل الله طريقاً إلى الجنة ) (1) .
3ـ وهنالك دعا إليه الإسلام للجهاد في سبيل الله ، قال تعالى : { انفِرُوا خِفَافًا وَثِقَالاً وَجَاهِدُوا بِأَمْوَالِكُمْ وَأَنفُسِكُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنتُمْ تَعْلَمُونَ } [ التوبة : 41 ] ، ثم قال متحدثاً عن المنافقين : { لَوْ كَانَ عَرَضًا قَرِيبًا وَسَفَرًا قَاصِدًا لَاتَّبَعُوكَ وَلَكِنْ بَعُدَتْ عَلَيْهِمْ الشُّقَّةُ وَسَيَحْلِفُونَ بِاللَّهِ لَوْ اسْتَطَعْنَا لَخَرَجْنَا مَعَكُمْ يُهْلِكُونَ أَنفُسَهُمْ وَاللَّهُ يَعْلَمُ إِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ } [ التوبة : 42] .
4ـ وهنالك سفر دعا إليه الإسلام لأداء عبادته العالمية المتميزة [ الحج ] إلى بيت الله الحرام ، وهو الركن الخامس من أركان الإنسان ، قال تعالى : { وَأَذِّنْ فِي النَّاسِ بِالْحَجِّ يَأْتُوكَ رِجَالاً وَعَلَى كُلِّ ضَامِرٍ يَأْتِينَ مِنْ كُلِّ فَجٍّ عَمِيقٍ لِيَشْهَدُوا مَنَافِعَ لَهُمْ وَيَذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ فِي أَيَّامٍ مَعْلُومَاتٍ } [ الحج : 27ـ28] .
__________
(1) ـ المجموع : 384 .

(1/109)


هذه الأنواع من السفر والضرب في الأرض دعا إليها الإسلام ، أوحث عليها تحقيقاً لأهدافه في الأرض ، وتثبيتاً لتعاليمه بين الناس ، ودين هذا شأنه لا بد أن يعطي عناية خاصة للمسافرين والسائحين ، وخاصة من انقطع به الطريق منهم ، وانقطع عن ذويه وماله ومسقط رأسه ، وأن يأمر بمعونتهم بصفة عامة ، وإعطائهم من مال الزكاة ، وهو مال الجماعة بصفة خاصة ، وفي ذلك تشجيع للسياحة والسفر في سبيل الأغراض المشروعة ، وإكرام لهؤلاء في غربتهم وانقطاعهم ، وإثبات لحقيقة المجتمع المسلم المتماسك ، الذي يشد بعضه بعضاً ، ويأخذ بعضه بيد بعض دون إعتبار لإختلاف الديار ، أو بعد المزار .
تميز التكافل الإجتماعي في الإسلام :
إن عناية الإسلام بالمسافرين الغرباء والمنقطعين لهي عناية فذة لم يعرف لها نظير في نظام من الأنظمة ، أوشريعة من الشرائع ، وهي لون من ألوان التكافل الإجتماعي فريد في بابه ، فلم يكتف النظام الإسلامي بسد الحاجات الدائمة للمواطنين في دولته ، بل زاد على ذلك برعاية الحاجات الطارئة التي تعرض للناس لأسباب وظروف شتى كالسياحة والضرب في الأرض ، وخاصة في عصور لم تكن في طرق المسافرين بها فنادق أو مطاعم أو محطات معدة للإستراحة كما في عصرنا ) (1) .
شروط إعطاء ابن السبيل :
وعند إعطاء ابن السبيل لا بد من مراعاة الشرطين الآتيين ، خاصة إذا كان الإعطاء من مال الزكاة :
1ـ أن يكون محتاجاً في ذلك الموضع الذي انقطع فيه .
2ـ أن يكون سفره في غير معصية .
هل يوجد ابن سبيل في عصرنا ؟
ذهب بعض العلماء المتأخرين إلى أن صنف ابن السبيل لم يعد له وجود في عصرنا ، نظراً لسهولة المواصلات وسرعتها ، وتوسعها خاصة مع وجود الحوالات البنكية ، وذهب البعض إلى وجوده وهو الصحيح ومن الأمثلة على ذلك : ـ
__________
(1) ـ هذا بعض مما ذكره د/ يوسف القرضاوي في موضوع ابن السبيل في كتابه القيم فقه الزكاة : [25/672ـ674] بتصرف .

(1/110)


1ـ من الناس من يعد غنياً في بلده ، ولكن انقطع عنه المال أثناء سفره ، وليس له رصيد في البنوك .
2ـ ومن الناس من يجبر على مغادرة وطنه ومفارقة ماله وأملاكه ، كالمشردين واللاجئين .
3ـ ومن الناس من يغادر لطلب العلم ، ولا يجد مايوصله إلى أهله ، وهذه الصور الثلاث انطبق عليها وصف ابن السبيل ، فاستحق أصحابها العون والمساعدة ، حتى يصلوا إلى مقاصدهم .
الإحسان إلى ماملكت الأيمان
{ وَمَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ }
اهتم الإسلام بإحترام العبيد والإماء مما ملكت الأيمان ، وحث على رعايتهم والإحسان إليهم ، والحماية التامة لهم ، وكان آخر ماأوصى به رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أن قال : ( اتقوا الله فيما ملكت أيمانكم ، أطعموهم مما تأكلون ، واكسوهم مما تلبسون ، ولا تكلفوهم ما لا يطيقون ، فما أحببتم فامسكوا ، وما كرهتم فبيعوا ، ولا تعذبوا خلق الله ، فإن الله ملككم إياهم ولو شاء لملكم إياهم ) (1) .
وقال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم : ( للملوك طعامه وكسوته بالمعروف ، ولا يكلف من العمل مالا يطيق ) (2) ، وقال عبدالله بن عمر : ( جاء رجل إلى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فقال : يارسول الله كم يعفى عن الخادم ؟ فصمت رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وقال : اعف عنه كل يوم سبعين مرة ) (3) .
فالمملوك إنسان يجب إحترام مشاعره وأحاسيسه ، ويجب على الإنسان
__________
(1) ـ سنن أبي داود : [5/361] برقم 5161 .
(2) ـ أخرجه مسلم وأورده الإمام يحيى بن حمزة في التصفية : 407 .
(3) ـ أخرجه أبو داود وحسنه ، انظر تخريج الإحياء : [ 2/279 ] .

(1/111)


المؤمن أن لا يعتبر الرق مصدر شعور بالدونية، وقد عوض الله المملوك في الدنيا إذا كان صالحاً أجراً مضاعفاً قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم : ( إن العبد إذا نصح لسيده ، وأحسن عبادة الله ، فله أجره مرتين ) (1) ، وقال صلى الله عليه وآله وسلم : ( المملوك الذي يحسن عبادة ربه ، ويؤدي إلى سيده الذي عليه من الحق والنصيحة والطاعة ، له أجران ) (2) ، وقال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم :
( عرض عليّ أول ثلاثة يدخلون الجنة ، وأول ثلاثة يدخلون النار ، فأما أول ثلاثة يدخلون الجنة : فالشهيد ، وعبد مملوك أحب عبادة ربه ونصح لسيده ، وتخفيف متعفف ذو عيال ، وأول ثلاثة يدخلون النار : امير مسلط ، وذو ثروة لا يعطي حق الله ، وفقير فخور ) (3) .
سبق الإسلام بتصفية نظام الرق :
وقد سبق الإسلام غيره بتصفية نظام الرق والدعوة إلى الحرية ، وبشتى الوسائل ، فالترغيب من جانب ، وتكفير الخطايا من جانب آخر .
قال تعالى : { فَلاَ اقْتَحَمَ الْعَقَبَةَ وَمَا أَدْرَاكَ مَا الْعَقَبَةُ فَكُّ رَقَبَةٍ } [ البلد : 11ـ13] ، وقال الرسول صلى الله عليه وآله وسلم : ( من أعتق رقبة مسلمة أعتق الله بكل عضو منه عضواً من النار ) (4) .
يقول د/القرضاوي : ( وإذا كان رق الأفراد قد انتهى تقريباً من العالم ، فإن يحق لنا بل يجب علينا أن نسجل هنا أن الإسلام هو أول نظام في الدنيا عمل بكل الوسائل على تصفية الرق ، وإلغائه من دنيا الناس بالتدريج .
__________
(1) ـ متفق عليه ، انظر رياض الصالحين : 376 .
(2) ـ رواه البخاري ، رياض الصالحين : 376 .
(3) ـ أخرجه الترمذي وحسنه ، انظر تخريج الإحياء :[2/280] .
(4) ـ رياض الصالحين : 375 .

(1/112)


لقد سدد الأبواب الكثيرة الواسعة التي كانت مداخل للرق في العالم ، فحرم أشد التحريم الإستعباد عن طريق إختطاف الأحرار ، كباراً أو صغاراً ، ولم يبح بحال أن يبيع الإنسان نفسه ، أو ولده أو زوجته ، ولم يشرع أبداً أخذ المدين رقيقاً في دينه إذا عجز عن الوفاء به ، ولا أخذ المجرم رقيقاً بجريمته كما عرف ذلك في شرائع سابقة ، ولا استرقاق الأسير في الغارات الظالمة التي تشنها القبائل والأمم بعضها على بعض بغياً وعدواناً .
ولم يستثن من الأسباب التي عرفها العالم مفضية إلى الرق إلا سبباً واحداً ضيق فيه كل التضييق ، وأبقاه على سبيل الجواز والإختيار ، لا سبيل الحتم والإلزام . ذلك هو استرقاق الأسير في حرب إسلامية شرعية لم يبدأ المسلم فيها بعدوان ، وذلك إذا رأى إمام المسلمين وأهل شواره في ذلك مصلحة للأمة والملة ، وذلك كما إذا كان العدو يسترق أسرى المسلمين ، فإن المعاملة بالمثل تقتضيها المصلحة ، وللإمام العادل أن يطلق سراح الأسرى بغير مقابل ، أو بمقابل مادي أو معنوي ، أو إطلاق أسرى من المسلمين مقابل أسرى المشركين ، وهذا مانص عليه القرآن في صراحة أسرى المحاربين من أهل الكفر : { حَتَّى إِذَا أَثْخَنتُمُوهُمْ فَشُدُّوا الْوَثَاقَ فَإِمَّا مَنًّا بَعْدُ وَإِمَّا فِدَاءً } [ محمد : 4]
وإذا كان الإسلام قد أبقى ـ على سبيل الجواز ـ باباً ضيقاً للرق ، فقد فتح أبواباً واسعة للتحرير والعتق ، ومن فضل الإسلام أنه استحدث العتق ولم يستحدث الرق .
دعا الإسلام إلى العتق ورغب فيه ، وجعله من أحب القربات إلى الله ، وزاد على ذلك فجعله كفارة لكثير من الأخطأ التي يتورط فيها المسلم بحكم بشريته ، كالحنث في اليمين ، ومظاهرة الزوج لزوجته ، وجماع الصائم في نهار رمضان ، والقتل خطأ ، بل جعل كفارة السيد إذا ضرب عبده بغير حق أن يعتقه .

(1/113)


ثم أمر السادة بمكاتبة عبيدهم إذا علموا فيهم خيراً ، وذلك يكون بتمكينهم من الكسب الحر ، ومعونة المجتمع الإسلامي لهم ، كما قال تعالى في محكم القرآن : { وَالَّذِينَ يَبْتَغُونَ الْكِتَابَ مِمَّا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ فَكَاتِبُوهُمْ إِنْ عَلِمْتُمْ فِيهِمْ خَيْرًا وَآتُوهُمْ مِنْ مَالِ اللَّهِ الَّذِي آتَاكُمْ } [ النور : 33] .
ثم زاد على ذلك كله ، فجعل للعتق والتحرير سهماً من أموال الزكاة وهي الضريبة التي يشترك جمهور المسلمين الأعظم في أدائها ، وهي المورد الدائم لبيت المال الإسلامي وذلك هو سهم في الرقاب .
وليس من الهين أن يخصص الإسلام من هذا المورد الدوري الهائل جزءاً لتحرير الرقيق ، قد يكون ثمن حصيلة الزكاة ، وقد يكون أكثر ، بل قد يكون الحصيلة كلها إذا استغنت الأصناف الأخرى كما حدث في عهد عمر ابن عبد العزيز .
قال يحيى بن سعيد : بعثني عمر بن عبدالعزيز على صدقات أفريقيه فاقتضيتها ، وطلبت فقراء نعطيها لهم ، فلم نجد فقيراً ، ولم نجد من يأخذها منا ، فقد أغنى عمر بن عبدالعزيز الناس ، فاشتريت بها رقاباً فأعتقتهم ) (1) .
ولو أن المسلمين أحسنوا تطبيق إسلامهم ، وتهيأ لهم الحكم العادل الراشد فترات طويلة ، لانمحى الرق من ديارهم بعد وقت يسير .
هذه هي النظرة الإسلامية في الدعوة إلى تحرير الرق وما على دعاة الحرية والديمقراطية إلا الرجوع إلى هذه التعاليم الإسلامية الرائعة ، وهذه النظم السماوية الصادقة ، فينهلوا من معينها الصافي .
وما أكثر الشعارات الفارغة التي تطلقها الدول الكبرى راعية الإستكبار العالمي حول الإنسان وحقوقه ، وهي أكثر انتهاكاً لها ، وأسرع من يسعى إلى نقضها .
الخاتمة
{ إِنَّ اللَّهَ لاَ يُحِبُّ مَنْ كَانَ مُخْتَالاً فَخُورًا }
__________
(1) ـ فقه الزكاة د / يوسف القرضاوي : 618ـ620 .

(1/114)


بعد أن وقفنا عشر وقفات مع عشرة حقوق حددها الله في آية الحقوق التي ختمها بقوله : { إٍنّ اللَّهَ لاَ يُحِبُّ مَنْ كَانَ مُخْتَالاً فَخُورًا } [ النساء : 36] ، وربما ختمها بهذه الفقرة إيحاءً للإنسان بأن الإنسجام مع خط الله في العبادة والسلوك يفرض عليه التواضع بين يدي الله تعالى ، فيحس بأنه عبد لله تعالى ، فيخضع خضوعاً كاملاً لمبدأ العبودية الصادقة معه ، ويحس أيضاً بإنسانية الناس من حوله ، فلا يتكبر عليهم ، ولا يأخذه الزهو والغرور والشعور بالخيلاء فيما رزقه الله من مال وجاه ، أو يفخر عليهم فيحس بالإستعلاء عليهم ، ويمنعه ذلك من الإحسان إليهم بالكلمة والنظرة والممارسة ، خاصة من تم ذكرهم في هذه الآية التي نحن بصددها كالوالدين والأقرباء والجيران والأصحاب واليتامى والمساكين وأبناء السبيل .
ومن المعروف أن الخيلاء شعور طفولي بالعظمة ، والفخر حديث المرء عن نفسه ، أو قومه بإعجاب وإعتزاز ، وكلا الوصفين تنشأ عن الجهل أو القصور العلمي ، أو الذهول عن حقوق الآخرين .
وفي الإسلام حرب موصولة ضد الإختيال والإستكبار قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم : ( إن الله أوحى إليّ أن تواضعوا حتى لا يفخر أحد على أحد ، ولا يبغي أحد على أحد ) (1) ، وقال صلى الله عليه وآله وسلم : ( من يتواضع لله سبحانه درجة يرفعه الله به درجة ومن يتكبر على الله درجة يضعه الله به درجة حتى يجعله في أسفل السافلين)(2) ، وقال صلى الله عليه وآله وسلم معرفاً الكبر : ( الكبر بطر الحق ، وغمط الناس )(3) .
__________
(1) ـ رواه مسلم : [4/2189] .
(2) ـ سنن ابن ماجه برقم : (4166) ، كتاب الزهد ، ومسند أحمد برقم : ( 11299) ، كتاب باقي مسند المكثرين .
(3) ـ سنن الترمذي ، برقم : (1922) ، كتاب البر والصلة ، وسنن أبي داود برقم : (3569) ، كتاب اللباس ، ومسند أحمد برقم : (3852) ، كتاب مسند المكثرين من الصحابة .

(1/115)


إن رفض الحق عناداً واستعلاء هو أخس الصفات ، وهو ظلم للحقيقة التي يجب إنصافها على أية حال ، والعنيد يأبى الإنقياد للحق ، ويؤثر إرضاء هواه عليه .
وقد ألفنا أن يكون العدوان على الحقوق بكافة أنواعها ، وهذا نوع مقبوح من الظلم ، ولكن الشارع عد الإعتداء على الحقائق أشد وأقسى ، وشر صنوف العدوان ما كان على الحقيقة العظمى [ وحدة الألوهية وعبادة الله وحده ] ، والإستكبار مرفوض في مواطنه كلها ، سواء كان على الحقائق أو على الحقوق ، قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ( من كان في قلبه مثقال حبة من خردل من كبر كبه الله بوجهه في النار ) (1) .
( وصلى الله وسلم على سيدنا محمد الأمين وعلى آله الطيبين الطاهرين ،،، )
__________
(1) ـ الترغيب والترهيب : [3/566] .

(1/116)