الكتاب : التبصرة المؤلف : الإمام المؤيد بالله أحمد بن الحسين بن هارون الحسني . المحقق : عبدالكريم جدبان . www.al-majalis.com ترقيم الصفحات موافق للكتاب المطبوع . |
روائع تراث الزيدية
التبصرة
في التوحيد والعدل
تأليف
الإمام المؤيد بالله أحمد بن الحسين الهاروني
(333 - 411هـ)
تحقيق
عبد الكريم أحمد جدبان
أعده إلكترونياً / فريق العمل بـ مجالس آل محمد (ع)
www.al-majalis.com
مقدمة التحقيق
l
مقدمة
المؤلف
هو الإمام المؤيد بالله أبو الحسين، أحمد، بن الحسين، بن هارون، بن الحسين، بن محمد، بن هارون، بن محمد، بن القاسم، بن الحسن، بن زيد، بن الحسن، بن علي، بن أبي طالب عليهم السلام.
أبوه
هو الحسين، بن هارون، بن الحسين، بن محمد، بن هارون، بن محمد، بن القاسم، بن الحسن، بن زيد، بن الحسن، بن علي، بن أبي طالب عليهم السلام.
أمه
أم الحسن، بنت علي، بن عبد الله الحسيني العقيقي.
مولده
ولد بآمل طبرستان في الكلاذجة (محافظة مازندران حاليا ) تقع في شمال إيران على بحر الخزر. ولد سنة (333هـ).
نشأته
نشأ في أحضان أسرة علوية كريمة، تترشف رحيق العلم العلوي، وتتنسم عبق الخلق النبوي، ( نشأ على السداد، وأحوال الآباء الكرام والأجداد، وتأدب في عنفوان صباه حتى برع فيه ) (1).
__________
(1) الحدائق الوردية 2/65.
أخذ في طلب العلم والتوفر على المعرفة منذ نعومة أظفاره، مع أخيه الناطق بالحق أبي طالب يحيى بن الحسين.
شيوخه
1ـ أبو العباس أحمد، بن إبراهيم، بن الحسن الحسني (خاله).
2ـ أبو الحسين، علي، بن إسماعيل، بن إدريس.
3ـ أبو عبد الله البصري شيخ المعتزلة المتوفى سنة (377هـ).
4ـ قاضي القضاة عبد الجبار، بن أحمد، بن عبد ا لجبار، شيخ المعتزلة المتوفى سنة (415هـ).
5ـ قاضي القضاة أبو أحمد، بن أبي علان.
6ـ أبو بكر المقري أحد علماء الحنفية.
7ـ الحافظ محمد، بن عثمان النقاش.
8ـ أبو رشيد، سعيد، بن محمد النيسابوري.
تلامذته
1ـ الإمام الموفق بالله أبو عبد الله الحسين، بن إسماعيل الحسني، والد الإمام المرشد بالله، وصاحب كتاب (( الإحاطة )) في علم الكلام، وكتاب (( الإعتبار وسلوة العارفين في الزهد )).
2ـ الإمام أبو الحسين أحمد، بن أبي هاشم، المعروف بالشريف (( مانكديم )) وهو الذي قام بالإمامة بعده بـ(( لنجا )) سنة (417هـ).
3ـ الشريف أبو جعفر الزيدي، الزاهد العابد، الذي استدعاه المؤيد بالله عليه السلام ليستخلفه أكثر من مرة فأبى.
4ـ الفقيه أبو القاسم، بن تال الهوسمي الزيدي المتكلم، راوي المذهب عن المؤيد بالله، وجامع (( الإفادة، والزيادات )) المتوفي سنة (420هـ).
5ـ علي بن بلال الآملي الزيدي، مولى السيد المؤيد بالله وأخيه أبي طالب، وصاحب كتاب (( الوافي )) وتتمة (( مصابيح أبي العباس الحسني )).
6ـ القاضي يوسف الخطيب الجيلاني صحبه ستة عشر عاما.
7ـ القاضي أبو الفضل زيد، بن علي الزيدي.
8ـ أبو منصور، بن شيبة الفرزاذي.
9ـ الشريف أبو القاسم، بن زيد، بن صالح الزيدي.
10ـ الشريف محمد، بن زيد الجعفري.
11ـ القاضي أبو بكر الموحدي.
12ـ أبو الحسين الآبسكوني.
13ـ أبو علي، بن الناصر الأطروش.
14ـ أبو الفوارس توران شاه، بن خسرو شاه.
15ـ أبو عبد الله، بن الحسين، بن محمد سياه سريجان.
16ـ أبو القاسم يوسف، بن كج الدينوري، وكان إمام أصحاب الشافعي.
مؤلفاته
قال الموفق بالله: وله عليه السلام التصانيف المعجبة، فمنها في الأصول: (( كتاب النبوات )) وهو يدل على غزارة علمه في الأصول، ثم في الأدب، فإنه بيّن المعارضات التي عورض بها القرآن الكريم، وكشف عن إدحاضها وأبان عوارها بكل وجه، وسلك في ذلك من طريقة علم الأدب ما يدل على علو منزلته وارتفاع درجته.
وله في الأصول: (( التبصرة )) كتاب لطيف، وله في فقه الهادي عليه السلام (( كتاب التجريد )) وشرحه أربعة مجلدة استوفى فيها الأدلة من الأثر والنظر، وأحسن فيها كل الإحسان. وله (( البلغة )) أيضا في فقه الهادي عليه السلام، وله في فقه نفسه (( الإفادة )) مجلد، و(( الزيادات )) مجلد، علق ذلك أصحابه عنه. وفيه كل
مسألة عجيبة، وفتوى غريبة. ولهذين الكتابين شروح وتعاليق عدة، ومهما طلبت الغرائب فإنها توجد في فقهه عليه السلام منصوصة (1).
من مؤلفاته:
1- كتاب النبوات. طبع بغير تحقيق، وأنا أعمل على تحقيقه، أسأل الله العون والتيسير .
2- كتاب التجريد. في فقه الهادي يحيى بن الحسين وجده القاسم الرسي عليهما السلام.
3- كتاب شرح التجريد، تحت التحقيق.
4- كتاب البلغة في الفقه.
5- كتاب ((الإفادة في الفقه)). ويسمى أيضاً ((التفريعات))، تَوَلَّى جمعها تلميذه أبو القاسم بن تال: ويتضمن آراءه الفقهية وعليه زيادات وشروح وتعاليق عِدَّة.
6 - كتاب ((الزيادات)). فتاوى ومسائل عليه زيادات، وشروح، وتعاليق عدة، منها شرح القاضي أبي مضر.
7 - كتاب ((نقض الإمامة على ابن قبة الإمامي)). صنفه في شبابه.
8 - كتاب ((إعجاز القرآن في علم الكلام)). ذكره الجنداري في رجال الأزهار.
9 - كتاب ((التبصرة)) ـ وهو هذا الذي بين يديك ـ عليه تعليق لإسماعيل الرازي، وشرح للإمام الهادي الحسن بن يحيى القاسمي.
10 - تعليق على شرح السيد مانكديم. ذكره الجنداري في رجال الأزهار.
11 - الهوسميات. ذكره الجنداري في رجال الأزهار.
12 - كتاب الحاصر لفقه الناصر. ذكره حُمَيْد في الحدائق الوردية في ترجمة
__________
(1) أخبار أئمة الزيدية /268.
الناصر الأطروش.
13 - سياسة المريدين.
14 - رسالة جواب قابوس في الطعن على الصحابة. ذكره الحاكم الجشمي في جلاء الأبصار.
15 - كتاب الدعوة.
16 - ديوان شعر. ذكره آغا بزرك الطهراني في الذريعة ـ ج9/ق3 ص1127. وقال: إنه ديوان ضخم.
17 - كتاب الأمالي الصغرى. طبع.
علمه
خاض الإمام المؤيد بالله في كل بحر من بحار العلم والمعرفة، والتقط أنفس ما فيها، فكان رأسا في علم الكلام، والحديث، والفقه وأصوله. أخذ علم الكلام وفق منهج المدرسة البغدادية.
كان في الأصل إماميا يرى رأيهم على طريقة والده، بَيْد أنه كان متحرر الفكر، لا يتقبل أي فكرة ويعتنقها إلا بعد فحص وتدقيق، وعندما رأى بعض الأصول الإمامية لا تقوم على بينة من صريح العقل، أو صحيح النقل، ورأى التناقض والتعارض البيِّن في مروياتهم عن الأئمة، أشاح بوجهه عنها، وأخذ في البحث والنظر عن شاطئ أمان يرسو عليه، فألقى بعصاه واستقر به النوى في رياض الزيدية، وأحدث ذلك الانتقال هزة في صفوف الإمامية، مما حدا بالشيخ الطوسي المعاصر له إلى أن يؤلف كتابه الشهير (( تهذيب الأحكام )) ردا عليه وتبيينا له.
قال الطوسي في مقدمة التهذيب: بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله ولي الحمد ومستحقه، وصلواته على خيرته من خلقه محمد وآله وسلم تسليماً، ذاكرني بعض الأصدقاء أيده الله ممن أوجب حقه علينا بأحاديث أصحابنا أيدهم الله ورحم السلف منهم وما وقع فيها من الاختلاف والتباين والمنافاة والتضاد حتى لا يكادُ يتفق خبر إلا وبإزائه ما يضاده، ولا يسلم حديث إلا وفي مقابلته ما ينافيه، حتى جعل مخالفونا ذلك من أعظم الطعون على مذهبنا، وتطرقوا
بذلك إلى إبطال معتقدنا، وذكروا أنه لم يزل شيوخكم السلف والخلف يطعنون على مخالفيهم بالاختلاف الذي يدينون الله تعالى به، ويشنعون عليهم بافتراق كلمتهم في الفروع، ويذكرون أن هذا مما لا يجوز أن يتعبد به الحكيم، ولا أن يُبيح العمل به العليم، وقد وجدناكم أشد اختلافا من مخالفيكم، وأكثر تبايناً من مباينيكم، ووجود هذا الاختلاف منكم، مع اعتقادكم بطلان ذلك دليل على فساد الأصل، حتى دخل على جماعة ممن ليس لهم قوة في العلم، ولا بصيرة بوجوه النظر ومعاني الألفاظ شبهة، وكثير منهم رجع عن اعتقاد الحق لما اشتبه عليه الوجه في ذلك، وعجز عن حل الشبهة فيه، سمعت شيخنا أبا عبد الله أيده الله يذكر أن أبا الحسين الهاروني العلوي كان يعتقد الحق ويدين بالإمامة، فرجع عنها لما التبس عليه الأمر في اختلاف الأحاديث وترك المذهب ودان بغيره (1).
كان الإمام المؤيد بالله ذا عارضة قوية، وقريحة صافية، وبديهة حاضرة، ولسان حاد، محاورا من الطراز الأول، يناظر ويحاور علماء المسلمين واليهود، فلا يسعهم إلا التسليم له، والإذعان لحجته.
قال الشهيد حميد: كان وحيد عصره، وفريد دهره، والحافظ لعلوم العترة عليهم السلام، والناصر لفقه الذرية الكرام (2).
وقال أيضا: كان عليه السلام ( بحرا يقذف بالدرر، وجونا يهطل بالدرر، لم يبق فن إلا وقد بلغ فيه الغاية، وأدرك النهاية ) (3).
وقال مصنف سيرته الإمام الموفق بالله: كان عارفاً باللغة والنحو، متمكناً من التصرف في منثورها ومنظومها، وكان يعرف العروض والقوافي ونقد الشعر، وكان فقيهاً بارعاً متقدماً فيه مناظراً. وكان متقدماً في علم الكلام وأصول الفقه، حتى لا يعلم أنه في أي العلوم الثلاثة كان أقدم وأرجح. ولم يبلغ النهاية في العلوم الثلاثة
__________
(1) تهذيب الأحكام 1/3.
(2) الحدائق الوردية 2/65.
(3) الحدائق الوردية 2/67.
غيره، وإنما تقدم في علم أو علمين. وكان قد قرأ على الشيخ المرشد أبي عبد الله البصري، ولقي علماء جميع عصره واقتبس منهم. وعلق زيادات الشرح بأصفهان عن قاضي القاضاة بقراءة غيره. وحكي عن الشيخ أبي رشيد أنه قال: لم أرَ السيد أبا الحسين منقطعا قط مع طول مشاهدتي له في مجلس الصاحب، وكان لا يُغلب إن لم يَغلب، وكانا يستويان إن لم يظهر له الرجحان.
وذكر بعض من صنف في أخباره، أن الصاحب الكافي قال ذات ليلة للحاضرين: ليذكر كل واحد منكم أمنيته، فذكروا، فقال: أما أنا فأتمنى أن يكون السيد أبو الحسين حاضراً وأنا أسأله عن المشكلات وهو يبينها لي بألفاظه الفصيحة وعباراته المليحة. وكان قد فارقه إلى أرض الديلم.
ويُحكى أن يهودياً متقدماً في المناظرة والمجادلة قدم على الصاحب، فاتفق أنه حضر مجلس الصاحب، فكلم اليهودي في النبوات حتى أعجزه وأفحمه، فلما قام من المجلس ليخرج قال له الصاحب: أيها السيد أشهد أنك أوتيت الحكمة وفصل الخطاب.
وحكي عنه قدس الله روحه أنه قال: عزمت على أن أسافر إلى الأهواز للقاء قاضي القضاة أبي أحمد بن أبي علان وسماع مختصر الكرخي عنه، فأنهيت إلى الصاحب ما وقع في قلبي، فكتب كتاباً بخط يده وأطنب في وصفي ورفع عن قدري حتى كنت أستحيي من إيصال ذلك الكتاب، فأوصلت الكتاب إلى قاضي القضاة، فقال: مرحباً بالشريف فإذا شاء افتتح المختصر. ولم يزد على ذلك ولا زارني بنفسه مع تقاعدي عنه من الغد، ولا أزارني أحدا من أصحابه. فعلمتُ أنه اعتقد في كتاب الصاحب أنه صدر عن عناية صادقة لا عن حقيقة. فقعدت عنه، حتى كان يوم الجمعة حضرت الجامع بعد الظهر ومجلسه غاصّ بكبار العلماء، فقد كان الرجل مقصوداً من الآفاق، فسئل القاضي أبو أحمد مسألة كلامية، وكان لقي أبا هاشم فقلت لما توسط في الكلام: إن لي في هذا الوادي مسلكاً، فقال: تكلم، فأخذت في الكلام وحققت عليه المطالبات، ثم أوردت أسئلة عرَّقتُ فيها جبينه، فامتدت الأعين نحوي. فقلت بعد أن ظهرت المسألة عليه: يقف على فضلي القاضي. وسئل
شيخ إلى جنبه عن مسألة في أصول الفقه، فلما أنهى السائل ما عنده قلت: إن لي في هذا الجوّ متنفساً، فقال القاضي: والأصول أيضا ؟! فحققت تلك المسألة على ذلك الشيخ، فظهر ضعفه، فسامحته. وسئل شيخ عن يساره عن مسألة في الفقه فقلت: لي في هذا القطيع شاة، فقالوا: والفقه أيضاً ؟! فأوفيت الكلام في تلك المسألة أيضا حتى تعجب الفقهاء من تحقيقي وتدقيقي، فلما ظهرت المسألة كان المجلس قد انتهى. فقام القاضي من صدره وجاء إلى جنبي فقال: أيها السيد نحن ظننا أن الصدر حيث جلسنا فإذا الصدر حيث جلست، فجئناك نعتذر إليك من تقصيرنا في بابك. فقلت: لا عذر للقاضي مع استخفافه بي مع شهادة الصاحب بخطه. فقال: صدقت لا عذر لي، ثم عادني من الغد في داري مع جميع أصحابه وبالغ في التواضع، فحضرته فقرأت عليه الأخبار المودَعة في المختصر فمسعتها بقراءته، وأمدّني بأموال من عنده، فرددتها ولم أقبل شيئا منها، وقلت: ما جئتك عافياً مستمنحاً، فقد كان حضرة الصاحب أوفى حالاً وأسهل منالاً، ولم يكن هناك تقصير في لفظ، ولا تفريط في لحظ، ففارقته فشيعني مع أصحابه مسافة بعيدة وتأسفوا على مفارقتي (1).
وقال أيضا: وسمعت الشيخ أبا الفضل ابن شروين رحمه الله يقول: دع أئمة زماننا، إنما الشك في الأئمة المتقدمين من أهل البيت وغيرهم، هل كانوا مثل هذا السيد في التحقيق في العلوم كلها أم لا ؟!
قال: وسمعت القاضي أبا الحسين الرفّاء يقول: ليس اليوم في الدنيا أشد تحقيقاً في الفقه من السيد أبي الحسين الهاروني.
وحكي أن المؤيد بالله سئل عن الطلاق الثلاث بلفظة واحدة في مجلس الصاحب، فكلمه القاضي أبو القاسم بن كج، وكان إمام أصحاب الشافعي، وآل الكلام إلى جميع من حضر من الفقهاء، فانقطعوا في يده، فقال الصاحب: يقال: لا علم لطائفة فيهم هذا الأسد، يعني المؤيد بالله.
__________
(1) أخبار أئمة الزيدية / 265 - 267.
وحكي أنه ورد عليه من كلار مسائل صعبة على أصول الهادي، فأجاب عنها، وهذه المسائل موجودة، فقال الصاحب: لست أتعجب من هذا الشريف كيف أتى بهذا السحر، وإنما أتعجب من رجل بكلار كيف اهتدى إلى مثل هذه الأسئلة (1).
وقال الشهيد حميد: ولقد حكى لي بعض أصحابنا الواصلين من ناحية العراق، وهو الفقيه الفاضل الحسن بن علي بن الحسن الديلمي اللنجائي رضي الله عنه، أنه بات ليلة من الليالي ومعه رجل من الصالحين، فبات ذلك الرجل يعبد الله عز وجل والسيد المؤيد بالله بالقرب منه، فلما طلع الفجر قام المؤيد للصلاة، فقال له ذلك الرجل: أيها السيد أتصلي بغير وضوء ؟! فقال: لم أنم في هذه الليلة شيئا، وقد استنبطت سبعين مسألة. ولقد كان علماء عصره يعجبون من تحقيقه وشدة تدقيقه. ولا عجب من أمر الله يؤتي فضله من يشاء، ولذرية الرسول صلى الله عليه وآله المزّية على من عداهم، والفضل على من سواهم.
ولقد سمعت شيخنا الفاضل العالم محيي الدين محمد بن أحمد بن الوليد القرشي الصنعاني رضي الله عنه يحكي أن السيد المؤيد بالله قدس الله روحه، لما توفي وأقبل الناس إلى أخيه السيد أبي طالب عليه السلام يسألونه، فقال له قائل: أين كان هذا العلم في حياة السيد أبي الحسين ؟! فقال: أوكان يحسن بي أن أتكلم والسيد أبو الحسين في الحياة ؟! مع أن علم السيد أبي طالب غزير، وفهمه جم كثير، على ما نحكي ذلك.
وروينا أنه قيل لأخيه السيد أبي طالب عليه السلام: أتقول بإمامة أخيك؟ فقال: إن قلنا بإمامة زيد بن علي، فما المانع من القول بإمامة أخي؟! فانظر كيف شبهه عليه السلام بأعلى الأئمة قدراً، وأغزرهم علماً، لأنا قد بيّنا أنه أقام خمسة أشهر يفسر سورة الحمد والبقرة، وذكرنا غير ذلك مما يكثر (2).
__________
(1) أخبار أئمة الزيدية /269 -270.
(2) أخبار أئمة الزيدية / 268 - 269.
وقال أيضا: كان في بعض الليالي يطالع مسألة مع الملحدة الدهرية، فاشتبه عليه جواب مسألة، فأمر باتخاذ مشعلة وقصد باب قاضي القضاة، بعد قِطْع من الليل وهدوء الناس والأصوات، فأُخبر قاضي القضاة بحضوره، فاشتغل خاطره وهيأ مكاناً وجلس فيه حتى إذا دخل عليه وجاراه في تلك المسألة وانفتح له جوابها واتضح لديه ما كان منها، قال له قاضي القضاة: هلا أخّرت إلى الغد وتعنيت في هذا الوقت ؟ فقال المؤيد مغضباً من كلامه متعجبا: ما هذا بكلام مثلك !! أيجوز لي أن أبيت وقد أشكلت علي مسألة، ويمكننني أن أجتهد في حلّها ؟! فاعتذر إليه قاضي القضاة وقال: إنما ذكرت هذا الكلام على الرسم الجاري من الناس، وطيَّب قلبه وعاد إلى منزله (1).
وقال الموفق بالله: وحُكيَ أنه وقع بينه وبين قاضي القضاة وحشة واستزادة بسبب مسألة الإمامة، فتقاعد عن لقائه حدود شهر، حتى ركب إليه قاضي القضاة وقال له: قد بلغك حديث جدك الحسن بن علي وأخيه الحسين وقول الحسين: لولا أن الله فضلك في السن علي حتى أردت أن يكون السبق لك إلى كل مكرمة، لسبقتك إلى فضل الاعتذار، فإذا قرأت كتابي هذا فاسبق إلى ما كتب الله لك من حق السبق، والبس نعلك وقدِّم في العذر والصلح فضلك. فقال المؤيد بالله: قد أطاع قاضي القضاة أيضا فضل سهمه وعلمه، وعمل بمقتضى ما زاده الله من سهمه، واعتنقا وطالت الخلوة والسلوة بينهما.
وكان الصاحب يقول: الناس يتشرفون بالعلم والشرف، والعلم تشرف بقاضي القضاة، والشرف ازداد شرفاً بالشريف أبي الحسين.
وكان الصاحب يعظمه كل الإعظام، وكانت يمينه للسيد المؤيد بالله، ويساره لقاضي القضاة، وكا لا يرفع فوق المؤيد أحداً، إلى أن قدم العلوي رسولاً من خراسان وكان محتشماً عند السلطان ملك الترك الخاقان الأكبر مبجلاً عنده، حتى أن الصاحب استقبله، فلما دخل عليه أجلسه عن يمينه، فلما دخل المؤيد بالله رآه
__________
(1) أخبار أئمة الزيدية / 271.
على مكانه فتحير، فأشار غليه الصاحب أن يرتفع إلى السرير الذي استند إليه الصاحب، فصعد المؤيد بالله إلى السرير وجلس في الدست الذي كان عليه (1).
شعره
من شعره عليه السلام قوله:
تُهذِّبُ أخلاقَ الرجالِ حوادثٌ ... كما أنَّ عينَ السَّبك يُخلصه السَّبكُ
وما أنا بالواني إذا الدهرُ أمَّني ... ومن ذا مِنَ الأيام ويحكَ ينفكُّ
بلانيَ حيناً بعد حينٍ بلوتهُ ... فلم أُلفَ رِعديداً يُنهنهُهُ السَّهكُ
وحنَّكني كَيْما يقود أزمَّتي ... فطحطحتُهُ حنكاًَ وما عقَّني الحنكُ
ليعلمَ هذا الدهرُ في كلِّ حالةٍ ... بأنّي فتى المضمارِ أصبحَ يَحتكُّ
نماني آباءٌ كرامٌ أعزَّةٌ ... مراتبُها أنَّى يُحيطَ بها الدَّركُ
فما مُدركٌ بالله يبلُغُ شأوهَم ... وإن يكُ سبَّاقاً فغايتهُ التَّركُ
فلا بَرقُهم يا صاحِ إن شِمتَ خُلَّبٌ ... ولا رفدُهم ولسٌ ولا وعدُهُم إفكُ
بهم زَهَتِ الأعرابُ في كلِّ مشهدٍ ... سكونٌ ولخمٌ ثم كِندةُ أوعكُّ
وقال عليه السلام يمدح الصاحب الكافي:
سقى عهدها صوبٌ من المُزنِ هاطلٌ ... تحيَّى به تلك الرُّبى والمنازلُ
منازلُ نجمُ الوصل فيهنَّ طالعٌ ... يُضيءُ ونجمُ الهجرِ فيهنَّ آفلُ
ومُرتبعٌ للَّهوِ بينَ ربُوعها ... مسارحُهُ مأنوسةٌ والمناهِلُ
رياضٌ حَكَتْ أبرادَ صنعاءَ رُقمُها ... غداةَ حباها الوشيَ طلٌّ ووابلُ
وكلُّ سحابٍ شافَهَ الأرض قُربهُ ... كأنَّ التِماعَ البرقِ فيه مشاعلُ
سحبنا عطافَ اللهو في عرصاتها ... وعنَّ لنا فيها غزالٌ مغازلُ
__________
(1) أخبار أئمة الزيدية / 271 - 272.
وطابت بها الأيامُ إذ سمحتْ لنا ... بما سَمَحَت والدهرُ عنهنَّ غافلُ
وكان شبابي عاذلاً لعواذِلي ... وليس لها في أنْ تُعاتبَ طائلُ
نَعِمنا بها لم نعرفِ البؤسَ والأسَى ... فلا الجهلُ مُنتابٌ ولا الوصلُ راحلُ
كأنيَ أُغرى بالصبابةِ كُلمَّا ... وشَى بيننا الواشي ولجَّ العواذلُ
لياليَ عينُ الوصلِ فيها قريرةٌ ... كما أَنَّ دمع الهجرِ أَخرقُ هاملُ
وإذ لِمَمي للغانياتِ صوائدٌ ... ولي حَولَ ربّاتِ الحجالِ حبائلُ
أجُرُّ رِدائي صبوةً وصبابةً ... هُما شيمٌ أرضى بها وشمائلُ
إلى أن بدا للشَّيبِ بين مفارقي ... أساطيرُ لم تنهض لهنَّ أناملُ
فللأُنس عنّي حيثُ كنتُ تنكُّبٌ ... وللهمِّ حولي حيث سرتُ قنابلُ
أتانا الربيعُ الغضُّ في ثوبِ عفَّةٍ ... فجاءَ به أُنس من الغيِّ حائلُ
إذا حاول الضَّلالُ إسعافَ أهله ... فمِن دون ما يبغي مِنَ الصَّومِ خامل
كذا مَنْ يسوسُ الصاحبُ القرمُ أمرهُ ... تتمُّ له النُّعمى وتَزكو الفضائلُ
ولمَّا انتحى النَّيروزُ خدمةَ بابه ... تنسَّكَ حتى ليسَ ينحوهُ باطلُ
غَدَا سيفه الظمآنُ في اللهِ مُصلتاً ... على منكبِ الجوزاء منه الحمائلُ
وفصلُ خطابٍ لم تنله الأوائلُ ... إذا عَنَّ لم تشمخ بسحبانَ وائلُ
تبلَّجُ عنه غُرَّةُ الدين والهدى ... وشخص الرَّدى من وقعه مُتضائلُ
دعا دعوةً لله جرَّدَ سيفها ... فللكفر منها حيثُ شاء زلازِلُ
ولمَّا شكت أرضُ الجبال خطوبَها ... ولاذَت به حين اعترتها الغوائلُ
وأَذرَت دُموعاًَ مثلَ نائله الذي ... يفيضُ وهَلْ تُغني الدموعُ الهواملُ
دعا نحوها عزماً كَبَا البرقُ دونَه ... وكلَّ لديه السيفُ والسيفُ قاصلُ
فشقَّ ظلام الظُّلم عن وجه أهلها ... ولم يبقَ فيها عن سَنَا العدل عادل
وأوضح فيها للنجاةِ دلائلاً ... وقد غُمِرت تلك النُّهى والدلائلُ
ومِنْ قبلُ ما حكَّمتَ قي كل مارقٍ ... أقامَ مقامَ الرّوحِ منه المَناصل
صوارمَ واصلن الطُّلى فألِفْنَها ... وإنَّ قضايا المُرهَفاتِ فواصلُ
وشرَّدت من أبقت سيوفُك منهمُ ... ومن دونِ ما لاقوهُ تَطوي المراحِل
وليس لهم إلا السيوفُ منازلٌ ... وليس لهم إلا الحُتوفُ رواحِلُ
ألا أَيُّهذا الصاحبُ الماجدُ الذي ... أناملُه العُليا غُيوثٌ هواطِلُ
أناملُ لو كانت تُشيرُ إلى الصَّفا ... تفجَّرَ للعافينَ منها جَداول
لأَغنيتَ حتى ليس في الأرض مُعدمٌ ... وأعطيتَ حتى ليس في الأرض آملُ
وكم لك في أبناءِ أحمدَ من يدٍ ... لها مَعلَمٌ يومَ القيامة ماثلُ
إليكَ عقيدَ المجد سارت ركابُهم ... وليسَ لهم إلا عُلاكَ وسائل
فأعطيتهم حتى لقد سئموا اللُّهَى ... وعادَ من العُذَّال من هو سائل
وأسعدتَهم والنحسُ لولاك ناجمٌ ... وأَعززتهَم والذُّلُ لولاكَ شامل
فكلُّ زمانٍ لم تزيِّنه عاطلٌ ... وكلُّ مديحٍ غير مدحكَ باطلُ
ولما قال أحمد بن محمد الهاشمي المعروف بابن سُكَّرة:
إن الخلافةَ مُذْ كانتْ ومُذْ بدأتْ ... معقودةٌ بفتىً من آل عباس
إذا انقضى عُمرُ هذا قامَ ذا خلفاً ... ما لاحتِ الشمسُ وامتدَّتْ على الناس
فقلْ لمنْ يرتجيها غيرهُمْ سفهاً ... لو شِئتَ روَّحتَ كربَ الظنِّ بالياسِ
فأجابه السيد المؤيد بالله قدس الله روحه في حال حداثته:
قُلْ لابن سُكرةٍ يا نَغْلَ عباس ... أَضحتْ خلافتكُم منكوسَةَ الراسِ
أمَّا المطيعُ فلا تُخشَى بوادِرُهُ ... يعيشُ ما عاشَ في ذُلٍّ وإتعاسِ
فالحمدُ لله رَبِّي لا شريك له ... خصَّ ابنَ داعي بتاجِ العّزِ في الناسِ(1)
فأحوج المؤيد بالله إلى مفارقة جيلان وامتد إلى الري وأنشد:
__________
(1) أخبار أئمة الزيدية / 274 - 280.
فررتُ من العُداة إلى العُداةِ ... وكنتُ عددتُهم زُمَرَ الثِّقاتِ
لقد خابتْ ظنوني عند قومٍ ... يرونَ محاسِني من سَيِّئاتي
يُهِيجونَ الغُواةَ عليَّ هيجاً ... وهم شَرٌ لديَّ من الغُواةِ (1)
ورعه وزهده وحلمه
كان عليه السلام في الورع والتقشف والاحتياط والتقزز إلى حد تقصر العبارة دونه، والفهم عن الإحاطة به. وتصوَّف في عنفوان شبابه حتى بلغ في علومهم مبلغاً منيعاً، وحل في التصوف والزهد محلاً رفيعاً، وصنف سياسية المريدين. وكان عليه السلام يحمل السمك من السوق إلى داره، وكانت الشيعة يتشبثون به ويتبركون بحمله فلا يمكِّن أحداً من حمله، ويقول: إنما أحمله قسراً للهوى وتركاً للتكبر، لا لاعواز مَن يحمله. وكان قدس الله روحه يجالس الفقراء وأهل المسكنة، ويكاثر أهل الستر والعفة ويميل إليهم، ويلبس الوسط من الثياب القصيرة إلى نصف الساقين قصيرة الكمين. وكان يرقع بيده قميصه، ويشتمل بإزارٍ إلى أن يفرغ من إصلاحه. وكان يلبس قلنسوة من صوف أحمر مبطنة يحشوها بقطن، ويتعمم فوقها بعمامة صغيرة متوسطة. وكان يلبس جورباً يخيطه من الخِرَق ثم يلبس البطيط. وكان لا يتقوَّت ولا يُطعم عياله إلا من ماله. وكان يردّ الهدايا والوصايا إلى بيت المال، وكان يكثر ذكر الصالحين، وإذا خلا بنفسه يتلو القرآن بصوت شجي حزين. وكان غزير الدمع، كثير البكاء، دائم الفكر، يتأوّه في أثنائه، وربما تبسَّم أوكشر عن أسنانه.
قال القاضي يوسف: صَحبته ست عشرة سنة فلم أره مستغرقاً في الضحك. وكان لا يفطر في شهر رمضان حتى يفرغ من العشاء الآخرة. وكان يداوم على الصلاة بين العشائين، ويُطعم في شهر رمضان كثيراً من المسلمين. وكان يمسك بيت المال
__________
(1) أخبار أئمة الزيدية / 282 - 283.
بيده ويحفظه بنفسه ولا يثق فيه بأحد، ويفرّق على الجند بيده، ويوقّع في الخطوط بيده.
ويُحكى أنه رضي الله عنه اشتهى يوماً من الأيام لحمَ حوت، فبعث الوكيل إلى السماكين فلم يجد فيها إلا حوتاً لم يقطع، وقالوا: لا نريد أن نقطعه اليوم، فعاد إليه وأخبره بامتناعهم من قطعه. فوجّه به ثانياً وقال: مرهم عني بقطعه، فأبوا بقطعه، فلما عاد إليه حمد الله على أن رعيته لا تحذر جنبته، وأنه عندهم ورعاياه سواء.
وكان قدس الله روحه كثير الحِلْم عظيم الصفح. يُحكى أنه دخل المتوضأ ليجدد الطهارة فرأى فيه رجلاً متغير اللون يرتعد فزعاً، فقال له: ما دهاك ؟ فقال: إني بعثت لقتلك. قال: وما الذي وَعَدُوك عليه، قال: بقرة، قال: ما لنا بقرة، وأدخل يده في جيبه وناوله خمسة دنانير وقال: اشتر بها بقرة ولا تعُد إلى مثل ذلك.
وحُكي أنه قدس الله روحه كان يسير في طريق كلار فطلب ممِطَراً له من بُندار صاحبه، فقال: هو على بغل لبيت المال، فأنكر عليه وقال: متى عهدتني أستجيز حمل ملبوسي على دواب بيت المال ؟ فأمر بإخراجه وتوفير الكراء من ماله. وكان يصرف عليه السلام من خاص ماله إلى بيت المال ما يكون عوضاً عما يرسله الكتّاب في أول الكتب وتفرجه بين السطور إلى الكبار.
وحكي أن شيئاً من المقشَّر حُمل إلى داره لصرفه في مصالح المسلمين، فالتقط منه حبّاتٍ بعضُ الدجج التي تُقتنى لأكله خاصة، فغرم من ماله أضعاف ذلك، وقيل: إنه صرف الدجج إلى بيت المال.
ورورى أن ولده الأمير أبا القاسم شكا إليه ضيق يده وقلة نصيبه من بيت المال، واستأذنه في الإنصراف، فأطلق له ذلك، فقال له أصحابه: إن أبا القاسم فارس فَارِهٌ ولا غنى عن مثله، فلو أطلق له ما يكفيه، فقال: إني أدرّ عليه ما نَصيبه ولا يمكن الزيادة عليه، فإن الله سبحانه أمر بالتسوية بين الأولاد والأجانب.
وكان له صديق يتحفه كل سنة بعدد من الرمان، فلما كان في بعض السنين زاد على رسمه وعادته، فسأله عن ذلك؟ فقال: لأن الله زاد في رماننا فزدنا في رسمك.
فلما أراد الخروج شكا عن بعض الناس، فقال: رُدّوا عليه رمانه كله، وأمر بإزالة شكايته ودفع الأذى عنه، إلى غير ذلك من الحكايات الجمة في ورعه وزهده وتقشفه (1).
جهاده
عاش المؤيد بالله في عصر يموج بالفوضى والفتن، يحكمه الاستبداد السياسي، وتتقاسمه الدويلات المتنازعة الخارجة على بني العباس بعد ضعف دولتهم المركزية، وحصادهم نتائج استبدادهم وجورهم وتحكمهم في مصائر البلاد والعباد، وجعلهم مال الله دولا وعباده خولا.
وقد نهض المؤيد بالله داعياً إلى الله، خارجاً على الظلمة، فكان أول خروج له سنة (380هـ) قبل وفاة الصاحب بن عباد بأربع سنوات، وفشلت حركته، فخلصه الصاحب من انتقام بني بويه الذين كانوا يحكمون الجيل والديلم في تلك الفترة. ثم عاد مرة أخرى فقام بالإمامة وبايعه الجيل والديلم واستتب له الأمر في تلك البلاد فترات، وخرج من يده فترات أخرى، وخاض حروباً طاحنة، وجابه معارضين أشداء، منهم: أبو الفضل بن الناصر. وتغلب عليه السلام على (( هوسم )) ثم هزمه (( شوزيل ))، فعاد إلى الري، ومكث بآمل حتى جاءته الكتب بمناصرة الجيل والديلم، فعاد وافتتح مدينة هوسم، ثم افتتح آمل، وبقي عليه السلام في كر وفر وجهاد يطول شرحه، حتى توفاه الله يوم عرفة سنة (411هـ) (2).
منهجه في الحكم
أما عن منهجه في الحكم ورؤيته للسلطة فيمكن أن يتبينه القارئ من كتاب دعوته الذي ضمنه المبادئ والأفكار التي قام من أجلها، والذي حدد فيه ما يجب عليه تجاه المجتمع، وما يجب له إن عدل من الطاعة.
__________
(1) أخبار أئمة الزيدية / 263 - 265.
(2) يرجع في ذلك إلى الحدائق الوردية 2/ 73 - 78.
قال: عباد الله إني رأيت أسباب الحق قد مرجت، وقلوب الأولياء به قد خرجت، وأهل الدين مستضعفين في الأرض، يخافون أن يخطفهم الناس، ورأيت الأموال تؤخذ من غير حلها، وتوضع في غير أهلها، ووجدت الحدود قد عطلت، والحقوق قد أبطلت، وسنن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قد بدلت وغيرت، ورسوم الفراعنة قد جددت واستعملت، والآمرين بالمعروف قد قلوا، والناهين عن المنكر قد وَهنوا فذلوا، ووجدت أهل بيت لانبي صلى الله عليه وآله وسلم مقموعين مقهورين مظلومين، لا يؤهلون لولاية ولا شورى، ولا يتركون ليكونوا مع الناس فوضى، بل منعوهم حقهم، وصرفوا عنهم فيهم، فهم يحسبون الكف عن دمائهم إحسانا إليهم، والانقباض عن حبسهم وأسرهم إنعاماً عليهم، يطلبون عليهم العثرات، ويرقبون فيهم الزلات، ووجدتهم في كل واد من الظلم يهيمون، وفي كل مرعى من الضلال يسيمون بعضه بعضا، وأموال تنهب نهباً، لا يرقبون في مؤمن ألاًّ ولا ذمة، وأولئك هم المعتدون، { إِنَّ الَّذِينَ يَأْكُلُونَ أَمْوَالَ الْيَتَامَى ظُلْمًا إِنَّمَا يَأْكُلُونَ فِي بُطُونِهِمْ نَارًا وَسَيَصْلَوْنَ سَعِيرًا } [النساء:10].
ووجدت الفواحش قد أقيمت أسواقها وأدية نفاقها، لا خوف الله يُذع، ولا حتى الناس يمنع، بل يتفاخرون بالمعاصي، ويتنابزون ويتباهون بالإثم، قد نسوا الحساب، وأعرضوا عن ذكر المآب والعقاب، فلم أجد لنفسي عذراً أن قعدت ملتزماً أحكامهم، متوسط آثامهم، أونسهم ويونسوني، وأسالمهم ويسألموني، فخرجت أدعوا إلى الله على بصيرة أنا ومن اتبعني، وسبحان الله وما أنا من المشركين.
أيها الناس أدعوكم إلى كتاب الله وسنة نبيه صلى الله عليه وآله وسلم، والرضى من آل محمد، ومجاهدة الظالمين، ومنابذة الفاسقين، وإني كأحدكم لي ما لكم وعلي ما عليكم، إلا ما خصَّني الله به من ولاية الأمر، يا قومنا أجيبوا داعي الله وآمنوا به { يَغْفِرْ لَكُمْ مِنْ ذُنُوبِكُمْ وَيُجِرْكُمْ مِنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ } [الأحقاف:31]، استجيبوا لربكم من قبل أن يأتي يوم لا مردّ له من الله، ما لكم من ملجأ يومئذ، وما لكم من نكير، تعاونوا على البر والتقوى ولا تعاونوا على الإثم والعدوان ومعصية الرسول.
أيها الناس سارعوا إلى بيعتي، وبادروا إلى نصرتي، وازحفوا زحفاً إلى دار هجرتي، انفروا خفافاً وثقالا، وجاهدوا بأموالكم وأنفسكم، ذلكم خير لكم إن كنتم تعلمون، ولا تركنوا إلى هذه الدنيا وبهجتها، فإنها ظل زائل، وسحاب حائل، ينقضي نعيمها، ويضعن مقيمها، والآخر خير وأبقى أفلا تعقلون، وإن الدار الآخرة لهي الحياة لو كانوا يعلمون، تلك الدار الآخرة نجعلها للذين لا يريدون علوا في الأرض ولا فسادا والعاقبة للمتقين.
أيها الناس مهما اشتبه عليكم فلا يشتبه عليكم أمري، أنا الذي عرفتموني صغيرا وكبيرا، وزاحمتموني طفلا وناشئا وكهلا، قد صحبت النساك حتى نسبت إليهم، وخالطت الزهاد حتى عرفت فيهم، وكاثرت العلماء، وحاضرت الفقهاء، فلم أخل عن مورد ورده عالم بارغ، ومشرع شرع فيه متقن فارع، وجادلت الخصوم نصحاً عن الدين ونضالاً عن الحق المبين، حتى عرفت مواقفي، وكتبت وحفظت طرائقي، وأثبت هذا وما أثري نفسي في أثناء هذه الأحوال، ومجامع هذه الخصال، من تقصير وتعذير، ولا أزكيها بل أتبرأ إلى الله من حولها وقوتها، وإن جميع ذلك من فضل ربي ليبلوني أأشكر أم أكفر، ومن شكر فإنما يشكر لنفسه ومن كفر فإن ربي غني كريم.
وأما نسبي إلى جدي رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فدونه فلق الصباح، ولا عذر لكم أيها الناس في التأخر عني، والاستبداد دوني، وقد ناديت فأسمعت لتجيبوا دعوتي، وتنجروا لنصرتي، وتعينوني على ما نهضت له من الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، { لُعِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ عَلَى لِسَانِ دَاوُودَ وَعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ ذَلِكَ بِمَا عَصَوْا وَكَانُوا يَعْتَدُونَ } [المائدة:78]، { كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ } [آل عمران:110]، ألا فاعينوني على أمري، وتحرَّوا بجهدكم نصرتي، أوردكم خير الموارد، وأبلغكم أفضل المحامد.
عباد الله أعينوني على إصلاح البلاد، وإرشاد العباد، وحسم دواعي الفساد، وعمارة مناهل السداد، ألا ومن تخلف عني وأهمل بيعتي، إلا لسبب قاطع أو لعذر مانع بين الحجة، فإني أجاثيه للخصام يوم يقوم الأشهاد، يوم لا ينفع الظالمين
معذرتهم ولهم اللعنة ولهم سوء الدار، يوم الآزفة، فأقول: ألم تسمع قول جدي رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: (( من سمع واعيتنا أهل البيت لم يجبها كبه الله على منخريه في النار ))، ألا فاسمعوا وأطيعوا، انفروا خفافا وثقالاً، وجاهدوا بأموالكم وأنفسكم في سبيل الله ذلكم خير لكم إن كنتم تعلمون، قل إن كان آباؤكم وأبناءكم ... الآية، فليتفق كلمتكم، وليجتمع شملكم، ولا تنازعوا فتفشلوا وتذهب ريحكم واصبروا إن الله مع الصابرين.
ألا وقد سلك سبيل من مضى من آباءي الأخيار، وسيلفي النجباء الأبرار في منابذة الظالمين، ومجاهدة الفاسقين، مبتغياً فيه مرضات رب العالمين، فاسلكوا أيها الإخوان سبيل أتباعهم الصالحين، وأشياعهم البررة الخاشعين، في المعاونة والمظاهرة، والمكاتف والموازرة، وتبادروا رجالاً، وسارعوا إليَّ إرسالاً، وإياكم والجنوح إلى الراحة طالبين لها وجوه العلل، مغترين بما فسح الله لكم من المهل، وعن قليل يحق الحق، ويبطل الباطل، ويعاين كل امرئ ما اكتسب، ويجازى كلٌ بما اجترم، يومئذ يوفيهم الله دينهم الحق ويعلمون أن الله هو الحق المبين، فستذكرون ما أقول لكم، وأفوض أمري إلى الله إن الله بصير بالعباد (1).
وفاته
توفي عليه السلام يوم عرفة سنة (411هـ) عن (78 سنة)، ودفن في يوم الأضحى، وصلى عليه السيد (( مانكديم ))، وبني عليه مشهد مشهور مزور في لنجا من محافظة مازندران.
عرج على قبر بصعدة ... وابك مرموسا بلنجا
واعلم بأن المقتدي بهما ... سيبلغ ما ترجا
__________
(1) الحدائق الوردية 2/ 86 - 87.
منهج التحقيق
بما أن الكتاب يكاد يكون مفقودا لولا أن مَنَّ الله سبحانه بنسخة مخطوطة، لعلها الوحيدة فيما أعتقد، لأني رغم بحثي وتنقيبي المستمر عنها، بيد أني لم أحصل على نسخة أخرى في اليمن، ولم أقف عليها أيضا في فهارس كثير من مكتبات العالم. نماذج من المخطوط
ـ لهذا فقد كنت مضطرا لتصحيح وتقويم النص اجتهادا.
ـ وزعت النص إلى فقرات، والفقرة إلى جمل، مستخدما علامات الترقيم المتعارف عليها.
ـ خرجت الأحاديث المذكورة في الكتاب، والوقائع التاريخية التي يشير إليها المؤلف.
ـ علقت بعض التعاليق التي رأيت أنها ضرورة لتبيين وتوضيح مقصود المؤلف.
ـ وضعت مقدمة تشتمل على دراسة موجزة عن الكتاب، وترجمة مختصرة عن المؤلف.
ـ وضعت عناوين للمباحث.
ـ وضعت فهرسا.
سائلا الله سبحانه أن يتقبل منا إنه سميع مجيب، والحمد لله رب العالمين.
عبد الكريم أحمد جدبان
اليمن ـ صعدة
جماد أول /1422هـ الموافق 8/ 2001م
- - -
كتاب التبصرة
للمؤيد بالله (ع)
l
قال السيد الإمام أبو الحسين أحمد بن الحسين بن هارون الحسني عليه السلام: الحمد لله على فواضل قسمه، وسوابغ نعمه، وصلواته على خيرته، محمد النبي وعترته.
[ التفكير فريضة إسلامية ]
اعلم أن أول ما يلزم المكلف هو النظر المفضي به إلى معرفة الله تبارك وتعالى، والذي يدل على ذلك أنه قد ثبت وجوب معرفة الله تعالى على جميع المكلفين، وثبت أن معرفة الله لا تحصل مع التكليف إلا بالنظر.
فإن قيل: ولم قلتم إن معرفة الله تعالى واجبة على جميع المكلفين؟
قيل له: لأنه قد ثبت أن معرفة الله لطف في فعل الواجبات وترك المقبحات، لأن الإنسان إذا عرف أن له صانعا مدبرا صنعه ودبره، كان أقرب إلى اجتناب القبائح اللوازم، وما كان لطفا في الواجبات وترك المقبحات كان واجبا.
فإن قيل: ولم قلتم إن معرفة الله تعالى لا تحصل ضرورة إلا بالنظر؟
قيل له: لأنه قد ثبت أن معرفة الله تعالى لا تحصل ضرورة، وثبت فساد التقليد فلم يبق إلا أن يكون النظر هو الذي يتوصل به إليها، ونجد أنفسنا في المعرفة بالله على خلاف ما نجدها في المعرفة بالمشاهدات.
فإن قيل: ولم قلتم إن التقليد فاسد؟
قيل له: لأن التقليد لو جاز لم يكن تقليد بعض المقلدين بأولى من تقليد غيره، وهذا يؤدي إلى أن يجوز تقليد من يقول بقدم العالم، كما يجوز تقليد من يقول بحدوثه، وتقليد كل من قال شيئا، كفرا كان ما قال أو إيمانا، وهذا معلوم الفساد، فثبت بذلك صحة ما قلناه.
وقد أمر الله تعالى بالنظر في محكم كتابه، فقال : { قُلِ انْظُرُوا مَاذَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا تُغْنِي الْآيَاتُ وَالنُّذُرُ عَنْ قَوْمٍ لَا يُؤْمِنُونَ } [يونس:101]. وقد عنَّف على ترك النظر فقال عز من قائل: { أَفَلَا يَنْظُرُونَ إِلَى الْإِبِلِ
كَيْفَ خُلِقَتْ ، وَإِلَى السَّمَاءِ كَيْفَ رُفِعَتْ ، وَإِلَى الْجِبَالِ كَيْفَ نُصِبَتْ ، وَإِلَى الْأَرْضِ كَيْفَ سُطِحَتْ } [الغاشية:17-20]. وقال: { أَفَلَمْ يَرَوْا إِلَى مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَمَا خَلْفَهُمْ مِنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ } [سبأ:9]. وإحصاؤها وغير ذلك من الآيات التي يكثر عدها، ولا يمكن إحصاؤها.
فإن قيل: ما أنكرتم أنه تعالى أراد بالآيات التي تلوتموها نظر البصر؟
قيل له: هذا الذي ذكرت لا يصح، لأنا نعلم أن القوم الذين دُعوا إلى النظر وعوتبوا على تركه، كانوا ينظرون بالأبصار إلى هذه الأشياء، فبان أن الدعاء إنما كان إلى النظر الذي هو الفكر.
باب [ التوحيد ]
فإن قال قائل: فما النظر المفضي به إلى معرفة الله تعالى؟
قيل له: هو النظر فيما ذكره الله تعالى، حيث يقول: { إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَاخْتِلَافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ وَالْفُلْكِ الَّتِي تَجْرِي فِي الْبَحْرِ بِمَا يَنْفَعُ النَّاسَ وَمَا أَنْزَلَ اللَّهُ مِنَ السَّمَاءِ مِنْ مَاءٍ فَأَحْيَا بِهِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا وَبَثَّ فِيهَا مِنْ كُلِّ دَابَّةٍ وَتَصْرِيفِ الرِّيَاحِ وَالسَّحَابِ الْمُسَخَّرِ بَيْنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ لَآيَاتٍ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ } [البقرة:164]. وقوله تعالى: { أَوَلَمْ يَرَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنَّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ كَانَتَا رَتْقًا فَفَتَقْنَاهُمَا وَجَعَلْنَا مِنَ الْمَاءِ كُلَّ شَيْءٍ حَيٍّ أَفَلَا يُؤْمِنُونَ } [الأنبياء:30]. وقوله تعالى: { وَلَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسَانَ مِنْ سُلَالَةٍ مِنْ طِينٍ ، ثُمَّ جَعَلْنَاهُ نُطْفَةً فِي قَرَارٍ مَكِينٍ ، ثُمَّ خَلَقْنَا النُّطْفَةَ عَلَقَةً فَخَلَقْنَا الْعَلَقَةَ مُضْغَةً فَخَلَقْنَا الْمُضْغَةَ عِظَامًا فَكَسَوْنَا الْعِظَامَ لَحْمًا ثُمَّ أَنْشَأْنَاهُ خَلْقًا آخَرَ فَتَبَارَكَ اللَّهُ أَحْسَنُ الْخَالِقِينَ } [المؤمنون:12-14]. وغير ذلك من الآيات التي معناها معنى هذه الآيات.
وبيان ذلك أنا قد علمنا أن هذه الأجسام التي ذكرها الله تعالى في كتابه، لا بد أن تكون على أحوال لا يصح كونها عليها إلا بالفاعل المدبر، لعلمنا أن الكتابة لا تكون إلا من كاتب، ولا البناء إلا من بانٍ، والتصوير لا يكون إلا من مصوِّر، وقد ثبت أن الفاعل يجب أن يكون متقدما لفعله، فثبت أن الصانع يجب أن يكون متقدما لجميع هذه الأجسام، إذ قد ثبت أن هذه الأجسام لا تنفك من أحوال لا يجوز أن تكون عليها إلا بالصانع، وإذا ثبت تقدم الصانع لهذه الأجسام، ثبت (1) حدوثها، لأن من تأخر وجوده عن وجود غيره، فلا شك في حدوثه، وإذا ثبت حدوث الأجسام، وجب أن يكون الذي دبرها وأوجدها على تلك الأحوال، هو الذي أحدث عينها وفعلها، إذ الفعل لا بد له من فاعل على ما بينا.
__________
(1) في المخطوطة: وثبت. والصواب ما أثبت.
[ شواهد الحدوث ]
فإن قيل: وما هذه الأحول التي ادعيتم أن الأجسام لا يجوز انفكاكها منها؟
قيل له: هي الأحوال التي أثبتناها في صدر هذه الفصل، وهي كونها متحركة وساكنة، ومجتمعة ومتفرقة، وكون التراب ترابا، ثم كونه نطفة، ثم كونه مخلقة، ثم كونه مضغة، ثم كونه عظاما، ثم كسونا العظام لحما، ثم كون الإنسان طفلا، ثم كونه ناشئا، ثم كهلا، ثم مردودا (1) إلى أرذل العمر، فهذه الأحوال هي التي يُعلم أن الأجسام لا تنفك من بعضها أو مثلها، وقد علمنا أنه لا يجوز أن تحصل عليها إلا بالفاعل المدبر، فوجب بهذه الجملة إثبات الصانع، فإذا عرف المكلف بما ذكرنا وقلنا من إثبات الصانع، وجب عليه أن يعلم أنه قادر، عالم، حي، سميع، بصير، قديم.
[ القادر ]
فإن قيل: فما الدليل على أنه تعالى قادر؟
قيل له: الذي يدل على ذلك، أنا وجدنا في الشاهد من لا يتعذر عليه الفعل مفارقا لمن يتعذر عليه، فلا بد من اختصاصه بصفة لكونه عليها فارق من يتعذر منه الفعل، فإذا ثبت ذلك وثبت أن صانع العالم لا يتعذر منه الفعل ـ إذ قد بيَّنا أنه هو الفاعل لهذا العالم ـ ثبت اختصاصه بتلك الصفة، والقادر هو المختص بتلك الصفة، فثبت أنه تعالى قادر.
[ العالِم ]
فإن قيل: فما الدليل على أنه عالم؟
قيل له: الدليل أنا وجدنا في الشاهد قادرا يتعذر منه الفعل المحكم المنسق المنتظم، وقادرا (2) لا يتعذر منه ذلك، فوجب أن يكون الذي لا يتعذر منه ذلك مختصا
__________
(1) في المخطوطة: مردود. والصواب ما أثبت.
(2) في المخطوطة: وقادر. والصواب ما أثبت.
بصفة، لكونه عليها فارق من يتعذر عليه ذلك من القادرين، والعالم هو المختص بتلك الصفة، فإذا ثبت بذلك وثبت أن القديم تعالى قد صح منه الفعل المحكم المنسق المنتظم، صح اختصاصه بالصفة التي من اختص بها كان عالما، فوجب كونه تعالى عالما.
فإن قيل: ولم قلتم إن القديم تعالى قد صح منه الفعل المحكم المنسق المنتظم؟
قيل له: لما قد بيناه فيما مضى من جعله التراب نطفة، والنطفة علقة، والعلقة مضغة، والمضغة عظاما، ثم إنشاؤه إياها، يعني خلقا آخر، ولما علمنا من حسن خلقه وتركيبه للنجوم والأفلاك، وتسخيره الرياح والسحاب، وتقديره الشتاء والصيف وغير ذلك مما يتعذر عده، ولا يمكن حده.
[ الحي ]
فإن قيل: وما الدليل على أنه حي؟
قيل له: الدليل على ذلك أنا وجدنا في الشاهد موجودا، يتعذر كونه عالما قادرا، ويستحيل ذلك فيه، وموجودا لا يتعذر ذلك منه ولا يستحيل، فوجب أن يكون الموجود الذي يصح ذلك فيه ولا يستحيل، مختصا بصفة يفارق بها الموجود الذي يستحيل ذلك فيه، ولا يصح في الحي والمختص بتلك الصفة، فإذا صح ذلك ثبت ذلك، وثبت أن القديم تعالى قد صح كونه عالما قادرا، ولم يستحل ذلك فيه، صح اختصاصه بتلك الصفة، وإذا صح ذلك ثبت كونه حيا.
[ السميع البصير ]
فإن قيل: وما الدليل على أنه سميع بصير؟
قيل له: الدليل على ذلك أنا وجدنا في الشاهد من كان حيا، وارتفعت عنه الآفات، وجب كونه سميعا بصيرا مدركا للمدركات، ولم يكن الموجود لكونه كذلك أكثر من أنه حي لا آفة به، فإذا ثبت ذلك وثبت أن القديم لا آفة به، ثبت أنه سميع بصير مدرك للمدركات.
[ القديم ]
فإن قيل: فما الدليل على أنه قديم؟
قيل له: الدليل على ذلك أنه لا يخلو من أن يكون معدوما أو موجودا، أو محدثا أو قديما، وقد ثبت أنه لا يجوز أن يكون معدوما، لأن المعدوم يستحيل أن يكون عالما قادرا حيا، وقد دللنا على وجوب كونه عالما قادرا حيا، ولا يجوز أن يكون محدثا، لأنه لو كان محدثا لوجب أن يكون له صانع، وكان القول في صانعه كالقول فيه، وهذا يؤدي إلى إثبات صانعين محدثين لا نهاية لهم، وذلك محال، فثبت أنه تعالى قديم.
[ نفي المعاني في حق الله تعالى ]
فإن قيل: فهل تقولون أن الله عالم يعلم؟ وقادر يقدر؟ وحي بحياة؟ وسميع بسمع؟ وبصير ببصر؟ وقديم بقدم؟ أم تقولون إنه عالم لنفسه وقادر لنفسه؟!
قيل له: لا نقول إنه عالم بعلم، وكذلك القول في سائر الصفات لمعاني هي: العلم، والقدرة، والحياة، والسمع، والبصر، والقدم، لم تخل هذه المعاني من أن تكون قديمة؟ أو محدثة؟ أو معدومة؟ ولا يجوز أن تكون معدومة، لأن المعدوم لا نوجب أن يكون له حكم.
ولا يجوز أن تكون محدثة، لأنها لو كانت محدثة لوجب أن يكون القديم تعالى قبل حدوثها غير عالم، ولا قادر، ولا حي، ولا سميع، ولا بصير، ولا موجود. وإن (1) لم يكن قادرا ولا عالما ولا حيا ولا سميعا ولا بصيرا ولا موجودا، لم يصح منه إحداث هذه المعاني.
ولا يجوز أن تكون قديمة، لأنها لو كانت قديمة لوجب أن تكون أمثال القديم تعالى وأشباهه، لأن كون القديم قديما من أخص أوصافه، وما يشارك الشيء في أخص
__________
(1) لعلها: وإذا.
أوصافه، وجب أن يكون مثلُه شبَهَه، فبطل بهذا أن يكون القديم تعالى موصوفا بهذه الصفات لمعاني، وثبت أنه قادر لنفسه، وعالم لنفسه، وبصير لنفسه، وقديم لنفسه. وإذا ثبت أنه عالم لنفسه، وجب أن يكون عالما بجميع المعلومات، إذ حكمه تعالى مع جميعها حكم واحد، وقد دل الله تعالى على ذلك بقوله: { وَفَوْقَ كُلِّ ذِي عِلْمٍ عَلِيمٌ } [يوسف:76]. فأخبر أن كل عالم بعلم فوقه عالم، فوجب أن يكون القديم تعالى عالما لا بعلم، وقوله تعالى: { أَنْزَلَهُ بِعِلْمِهِ } [النساء:166]. لا يوجب إثبات العلم به، لأن معناه أنزله عالما به.
[ تنزيه الله عن شبه الخلق ]
فإن قيل: فهل يجوز عندكم أن يكون القديم يشبه شيئا من الأشياء؟
قيل له: لا يجوز ذلك، لأنه لو أشبه شيئا، لكان محدثا، لأن الذي يشبه المحدث يجب حدوثه، وقد دللنا على أنه تعالى قديم، وكل ما ذكرناه قد ورد به الكتاب، ونطق به القرآن، قال تعالى: { وَكَانَ اللَّهُ قَوِيًّا عَزِيزًا } [الأحزاب:25]. وقال: { وَكَانَ اللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمًا } [الأحزاب:40، الفتح:26]. وقال: { اللَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ لَا تَأْخُذُهُ سِنَةٌ وَلَا نَوْمٌ } [البقرة:255]. وقال: { وَكَانَ اللَّهُ سَمِيعًا بَصِيرًا } [النساء:134]. وقال: { وَفَوْقَ كُلِّ ذِي عِلْمٍ عَلِيمٌ } [يوسف:76]. وقال تعالى: { لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ } [الشورى:11]. وقال: { هَلْ تَعْلَمُ لَهُ سَمِيًّا } [مريم:65]. أي: مثلا ونظيرا. وقال: { وَلَمْ يَكُنْ لَهُ كُفُوًا أَحَدٌ } [الإخلاص:4].
[ تنزيه الله عن الحلول في الأماكن ]
فإن قيل: فهل يجوز على القديم تعالى الكون في شيء من الأماكن؟
قيل له: معاذ الله! بل ذلك محال لأن الكون في المكان يكون على أحد وجهين:
أحدهما: ككون الأجسام في الأماكن، وذلك لا يكون إلا بالمجاورة، وذلك دليل الحدوث.
والثاني: كحلول (1) الأعراض في المحآل، وذلك أيضا دليل الحدوث، لأن الحلول لا يكون إلا بالحدوث.
ألا ترى أن ما استحال فيه الحدوث، استحال فيه الحلول! فإذا كان الكون في الأماكن لا يكون إلا على هذين الوجهين، وكان كل واحد منهما يدل على حدوث الكائن، وجب القضاء بأن القديم تعالى لا يجوز أن يكون في شيء من الأماكن وإذا ثبت هذا ثبت أنه يستحيل عليه تبارك وتعالى النزول، والصعود، والإنتقال، والإستقرار.
فإن سأل سائل: عن معنى قول المسلمين إن الله تعالى بكل مكان؟
قيل له: معناه أن الله تعالى حافظ لكل مكان، ومدبر له.
فإن قيل: ما معنى قوله تعالى: { الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى } [طه:5] ؟
قيل له: معنى (2) الإستواء: هو الإستيلاء (3) والغلبة (4). وذلك مشهور في اللغة، والعرش قد يراد به الملك، وذلك مما لا يختلف فيه أهل اللغة.
__________
(1) في المخطوطة: كحول. والصواب ما أثبت.
(2) في المخطوطة: معناه. ولعل الصواب ما أثبت.
(3) في المخطوطة: الإستال. مصحفة.
(4) الإستواء في اللغة على وجوه منها:
- ... الإعتدال.
قال بعض بني تميم:
.................... فاستوى ظالم العشيرة والمظلوم
أي: اعتدلا.
- ... التمام.
قال تعالى: { وَلَمَّا بَلَغَ أَشُدَّهُ وَاسْتَوَى } [القصص:14].
أي: تم.
- ... القصد إلى الشيء.
قال تعالى: { ثُمَّ اسْتَوَى إِلَى السَّمَاءِ فَسَوَّاهُنَّ سَبْعَ سَمَاوَاتٍ وَهُوَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ } [البقرة:29].
- ... الإستيلاء على الشيء.
قال الأخطل:
قد استوى بشر على العراق ... من غير سيف ودم مهراق
وقال آخر:
إذا ما علونا واستوينا عليهم ... جعلناهمُ مرعى لنسر وطائر
ومنه قوله تعالى: { الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى } [طه:5].
وهو قول عامة الموحدين من أهل البيت الزيدية، والجعفرية، والمعتزلة،والأباضية، والأشاعرة، خلا الطائفة المجسمة.
قال الراغب الأصفهاني في المفردات في مادة سوا: الإستواء متى عُدِّي بعلى اقتضى معنى الإستيلاء. كقوله: ? الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى } ، وقيل: معناه استوى له ما في السماوات وما في الأرض، أي: استقام الكل على مراده بتسوية الله تعالى إياه، كقوله: { ثُمَّ اسْتَوَى إِلَى السَّمَاءِ فَسَوَّاهُنَّ }، وقيل: معناه استوى كل شيء في النسبة إليه، فلا شيء أقرب إليه من معه شيء، إذ كان تعالى ليس كالأجسام الحالة في مكان دون مكان، وإذا عدي بإلى اقتضى معنى الإنتهاء إليه، إما بالذات، أو بالتدبير، وعلى الثاني قوله: { ثُمَّ اسْتَوَى إِلَى السَّمَاءِ وَهِيَ دُخَانٌ } [فصلت:11]. المفردات/ 439 - 440.
وقال الإمام زيد بن علي: { الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى } . معناه: علا وقهر، والعرش: العزة والسلطان. تفسير غريب القرآن/ 203.
وقال ابن جرير الطبري في تفسيره ( ا / 192 ) عند تأويل قوله تعالى: { ثُمَّ اسْتَوَى إِلَى السَّمَاءِ }: والعجب ممن أنكر المفهوم من كلام العرب في تأويل قوله الله: { ثُمَّ اسْتَوَى إِلَى السَّمَاءِ } الذي هو بمعنى: العلو والإرتفاع. هربا عند نفسه من أن يلزمه بزعمه إلى أن تأويله بالمجهول من تأويله المستنكر، ثم لم ينج مما هرب منه، فيقال له: زعمت أن تأويل قوله: { اسْتَوَى }: أقبل، أفكان مدبرا عن السماء فأقبل إليها؟! فإن زعم أن ذلك ليس بإقبال فعل ولكنه إقبال تدبير. قيل له: فكذلك فقل: علا عليها علو ملك وسلطان لا علو انتقال وزوال.
وقال الحافظ ابن حجر في فتح الباري: ولا يلزم من كون جهتي العلو والسفل محال على الله أن لا يوصف بالعلو، لأن وصفه بالعلو من جهة المعنى، والمستحيل كونه ذلك من جهة الحس. الفتح 6 / 136.
وقال أبو الحسن الأشعري: وأن الله تعالى استوى على العرش على الوجه الذي قاله وبالمعنى الذي أراده، استواء منزها عن الممآسة والإستقرار والتمكن والحلول والإنتقال، لا يحمله العرش بل العرش وحملته محمولون بلطف قدرته، ومقهورون في قبضته، وهو فوق العرش وفوق كل شيء إلى تخوم الثرى، فوقية لا تزيده قربا إلى العرش والسماء، بل هو رفيع الدرجات عن العرش، كما أنه رفيع الدرجات عن الثرى، وهو مع ذلك قريب من كل موجود، وهو أقرب إلى العبد من حبل الوريد، وهو على كل شيء شهيد. الإبانة ص ( 21 )، تحقيق الدكتورة فوقية حسين محمود طبع دار الأنصار القاهرة.
وللعلم فإن هذه القطعة من الإبانة محذوفة من أكثر نسخ الإبانة التي طبعتها مجسمة العصر، والموجودة في الأسواق وبأيدي الناس.
وقال أبو المعالي عبد الملك الجويني الشافعي الأشعري في كتابه الإرشاد: ( وذهبت الكرامية ـ وهي فرقة غالية في التجسيم تنتسب إلى محمد بن كرام المتوفي سنة 225 هـ ـ وبعض الحشوية إلى أن الباري ـ تعالى عن قولهم ـ متحيز مختص بجهة فوق، تعالى الله عن قولهم، ومن الدليل على فساد ما انتحلوه... إلى أن قال: فإن استدلوا بظاهر قوله تعالى: { الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى }، فالوجه معارضهم بآيٍٍيساعدوننا على تأويلها، منها قوله تعالى: { وَهُوَ مَعَكُمْ أَيْنَ مَا كُنْتُمْ } [الحديد:4]. وقوله تعالى: { أَفَمَنْ هُوَ قَائِمٌ عَلَى كُلِّ نَفْسٍ بِمَا كَسَبَتْ } [الرعد:33]. فنسآئلهم عن معنى ذلك؟ فإن حملوه على كونه ـ معنا ـ بالإحاطة والعلم، لم يمتنع منا حمل الإستواء على القهر والغلبة، وذلك شائع في اللغة، إذ العرب تقول: استوى فلان على الممالك إذا احتوى على مقاليد الملك، واستعلى على الرقاب. وفائدة تخصيص العرش بالذكر أنه أعظم المخلوقات في ظن البرية، فنص تعالى عليه تنبيها بذكره على ما دونه.
فإن قيل: الإستواء بمعنى الغلبة ينبئ عن سابق مكافحة ومحاولة؟!
قلنا: هذا باطل، إذ لو أنبأ الإستواء عن ذلك لأنبأ عنه القهر!!!
ثم الإستواء بمعنى الإستقرار بالذات ينبئ عن اضطراب واعوجاج سابق، والتزام ذلك كفر. ولا يبعد حمل الإستواء على قصد الإله إلى أمر في العرش، وهذا تأويل سفيان الثوري رحمه الله، واستشهد عليه بقوله تعالى: { ثُمَّ اسْتَوَى إِلَى السَّمَاءِ وَهِيَ دُخَانٌ } [فصلت:1]، معناه: قصد إليها. الإرشاد/ 95 _ 60.
وروى مسلم في صحيحه ( 4 / 61 ) وغيره: اللهم أنت الظاهر فليس فوقك شيء،و أنت الباطن فليس دونك ـ يعني تحتك ـ شيء.
قال البيهقي في الأسماء والصفات/ 400: واستدل بعض أصحابنا بهذا الحديث على نفي المكان عن الله تعالى، فإذا لم يكن فوقه شيء ولا دونه شيء لم يكن في مكان.
وقال ابن حجر في الفتح ( 1 / 508 ) عند شرح حديث: ( إن أحدكم إذا قام في صلاته فإنه يناجي ربه، أو إن ربه بينه وبين القبلة، فلا يبزق أحدكم قِبَلَ قبلته... ). الحديث. قال ابن حجر: وفيه الرد على من زعم أنه على العرش بذاته.
وقال الطحاوي في متن الطحاوية / 15: تعالى عن الحدود والغايات، والأركان والأعضاء والأدوات، لا تحويه الجهات الست كسائر المبتدعات.
والمجسمة تورد شبهة مفادها: إذا قلتم إن معنى { اسْتَوَى }: قهر واستولى يقتضي المغالبة، ومعنى هذا أن الله تعالى لم يكن قاهرا ولا مستوليا ولا غالبا ثم صار كذلك.
فنقول: ليس الأمر على ما توهمت المجسمة، فإن الله يقول مخبرا عن يوم القيامة: { لِمَنِ الْمُلْكُ الْيَوْمَ } [غافر:16]. فهل يعني هذا أن الملك قبل ذلك اليوم كان لغير الله تعالى؟!!
وبعد هذا كله فالله سبحانه يقول: { مَا يَكُونُ مِنْ نَجْوَى ثَلَاثَةٍ إِلَّا هُوَ رَابِعُهُمْ وَلَا خَمْسَةٍ إِلَّا هُوَ سَادِسُهُمْ وَلَا أَدْنَى مِنْ ذَلِكَ وَلَا أَكْثَرَ إِلَّا هُوَ مَعَهُمْ أَيْنَ مَا كَانُوا } [المجادلة:7]، { وَاللَّهُ مَعَكُمْ } [محمد:35]، { وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنْ حَبْلِ الْوَرِيدِ } [ق:16]، { وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنْكُمْ وَلَكِنْ لَا تُبْصِرُونَ } [الواقعة:85]. ويقول النبي صلى الله عليه وآله: (( أقرب ما يكون العبد من ربه وهو ساجد )). أخرجه مسلم برقم ( 744 )، والنسائي ( 1125 )، وأبو داود ( 741 )، وأحمد ( 9083 ).
ولعل المجسمة تتوهم من قوله تعالى: { أَأَمِنْتُمْ مَنْ فِي السَّمَاءِ أَنْ يَخْسِفَ بِكُمُ الْأَرْضَ } [الملك:16]، وقوله تعالى: { إِلَيْهِ يَصْعَدُ الْكَلِمُ الطَّيِّبُ } [فاطر:10]، وقوله تعالى: { إِنِّي مُتَوَفِّيكَ وَرَافِعُكَ إِلَيَّ } [آل عمران:55]، وقوله: { تَعْرُجُ الْمَلَائِكَةُ وَالرُّوحُ إِلَيْهِ } [المعارج:4]. أن الله سبحانه وتعالى موجود في السماء!! وذلك من قلة معرفتهم باللسان العربي.
وإنما معنى قوله تعالى: { أَأَمِنْتُمْ مَنْ فِي السَّمَاءِ }: مَن شأنه عظيم في السماء. لأن العرب إذا أرادت أن تعظم شيئا وصفته بالعلو، فتقول: فلان اليوم في السماء. وتقول: في المقارنة: كما قال عمرو بن العاص:
وأين الثريا وأين الثرى ... ... وأين معاوية من علي
والثريا نجم عال في السماء. أو يكون المراد به جبريل عليه السلام أو أي ملك يرسله الله ليخسف بهم، لأن السماء مسكن الملائكة.
قال القرطبي في تفسيره عند تفسير الآية: وقيل: تقديره: أأمنتم من في السماء قدرته وسلطانه وعرشه ومملكته، وخص السماء وإن عم ملكه تنبيها على أن الإله الذي تنفذ قدرته في السماء، لا من يعظمونه في الأرض.
وقيل: هو إشارة إلى الملائكة.
وقيل: إلى جبريل وهو الملك الموكل بالعذاب. ويحتمل أن يكون المعنى: أأمنتم خالق من في السماء أن يخسف بكم الأرض كما خسفها بقارون.
ومعنى { إِلَيْهِ يَصْعَدُ الْكَلِمُ الطَّيِّبُ } [فاطر:10]: يقبله. قال أبو حيان: وصعود الكلام إليه تعالى مجاز في الفاعل وفي المسمى إليه، لأنه تعالى ليس في جهة، ولأن الكلم ألفاظ لا توصف بالصعود، لأن الصعود يكون من الأجرام، وإنما ذلك كناية عن القبول. البحر المحيط 8 / 303.
وكما قال تعالى في مهاجرة إبراهيم عليه السلام: { إِنِّي مُهَاجِرٌ إِلَى رَبِّي } [العنكبوت:26] أي: متوجه إليه. أو إلى الموضع الذي أمرني به.
وقال القرطبي في تفسيره عند تفسير الآية: والصعود هو الحركة إلى فوق، وهو العروج أيضا. ولا يتصور ذلك في الكلام لأنه عرض، لكن ضرب صعوده مثلا لقبوله، لأن موضع الثواب فوق.
وقال الحافظ ابن حجر في الفتح 13 / 416: قال البيهقي: صعود الكلام الطيب والصدقة الطيبة عبارة عن القبول، وعروج الملائكة هو إلى منازلهم في السماء ...
ومعنى قوله تعالى: { إِنِّي مُتَوَفِّيكَ وَرَافِعُكَ إِلَيَّ } [آل عمران:55] رافعك إلى السماء الثانية، كما جاء في البخاري برقم ( 336 )، ومسلم ( 238 ) في حديث الإسراء أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وجد عيسى عليه السلام في السماء الثانية.
وقال القرطبي في تفسير الآية: وقال الحسن، وابن جريج: معنى متوفيك قابضك، ورافعك إلى السماء من غير موت، مثل توفيت مالي من فلان أي: قبضته.
ومعنى قوله تعالى: { تَعْرُجُ الْمَلَائِكَةُ وَالرُّوحُ إِلَيْهِ }. قال القرطبي: في تفسيره عند تفسير الآية: تعرج إليه: إلى المكان الذي هو محلهم في السماء، لأنها محل بره وكرامته. وقيل: هو كقول إبراهيم { إِنِّي ذَاهِبٌ إِلَى رَبِّي } [الصافات:99]. أي: إلى الموضع الذي أمرني.
والعرش: هو الملك.
ومعنى قوله تعالى: { وَيَحْمِلُ عَرْشَ رَبِّكَ فَوْقَهُمْ يَوْمَئِذٍ ثَمَانِيَةٌ } [الحاقة:17]. أي: أمره، من الحساب، وإدخال المؤمنين الجنة، والمجرمين النار.
قال الإمام الهادي عليه السلام: ثمانية أصناف من الملائكة، أو ثمانية ملائكة، أو ثمانية آلاف.
والكرسي: هو العلم.
قال في لسان العرب في مادة كرس: كَرُس الرجل إذا ازدحم علمه على قلبه، والكراسة من الكتب، سميت بذلك لتكرسها.
وقال: وفي التنزيل { وَسِعَ كُرْسِيُّهُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ } [البقرة:255]. في بعض التفاسير: الكرسي العلم. وفيه عدة أقوال.
قال ابن عباس: كرسيه علمه...
وقال قوم: كرسيه قدرته التي بها يمسك السماوات والأرض.
قالوا: وهذا كقولك: اجعل لهذا الحائط كرسيا. أي: اجعل له ما يعمده ويمسكه.
قال: وهذا قريب من قول ابن عباس.
أقول: والكرسي: هو العالم. والكراسي: العلماء.
قال أبو ذؤيب الهذلي:
................... ... ... ولا تكرّس علم الغيب مخلوق
أي: ما تعلم.
وقال آخر:
تحف بهم بيض الوجوه وعصبة ... كراسي بالأحداث حين تنوب.
أي: علماء.
قال في ضياء الحلوم المختصر من شمس العلوم لمحمد بن نشوان الحميري: ( ومنه قيل للعلماء كراسي. واستشهد بالبيت.
وقيل: الكرسي الملك.
قال أسعد تبع يذكر بلقيس:
ولقد بنت لي عمتي في مأرب ... عرشا على كرسي ملك متلد
ذكره في منتخبات في أخبار اليمن من شمس العلوم لنشوان الحميري/ 92.
وذكره أيضا في كتابه ملوك حمير وأقيال اليمن/ 86.
وقد ذكرت المجسمة أحاديث مفتراة على رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم تمجها الأسماع وتنفر عنها الطباع، منها ما أخرجه الحاكم ( 2/ 282 )، وقال على شرط الشيخين ووافقه الذهبي، وذكره الهيثمي في المجمع ( 6/ 323 9، وقال رجاله رجال الصحيح.
قالوا: روى ابن عباس رضي الله عنهما عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم في قوله تعالى: التنزيل { وَسِعَ كُرْسِيُّهُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ }. قال: كرسيه موضع قدميه، والعرش لا يقدر قدره )!!!!
تعالى الله عما يقولون علوا كبيرا !!!!
أقول: وأخرج عبد بن حميد، وابن جرير ، وابن المنذر، وابن أبي حاتم، والبيهقي في الأسماء والصفات عن ابن عباس: التنزيل { وَسِعَ كُرْسِيُّهُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ }. قال: كرسيه علمه. ألا ترى إلى قوله: { وَلَا يَئُودُهُ حِفْظُهُمَا } [البقرة:255]. الدر المنثور 2/ 16.
وقال الإمام الهادي عليه السلام في كتابه تفسير العرش والكرسي: فمما نحتج به عليكم ما ذكره الله سبحانه في هذه الآية من قوله: { وَسِعَ كُرْسِيُّهُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَلَا يَئُودُهُ حِفْظُهُمَا وَهُوَ الْعَلِيُّ الْعَظِيمُ } [البقرة:255]. فأخبر الله سبحانه أن كرسيه قد وسع السماوات والأرض، يريد عز وجل: أن هذا الكرسي اشتمل على السماوات السبع فأحاط بأقطارها، وكذلك اشتمل على الأرضيين السفلى فأحاط بأقطارها أيضا، فصار الكرسي مشتملا على السماوات السبع عاليا فوقها واسعا لها ... إلى قوله: وسأذكر لك في إحاطة الكرسي بالأشياء خبرا مذكورا عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم ، وذكر عن أبي ذر الغفاري رحمة الله عليه أنه قال: (( يا رسول الله أي آية أنزلها الله تبارك وتعالى عليك أعظم؟
قال: آية الكرسي. ثم قال: يا أبا ذر ما السموات والأرض عند الكرسي إلا كحلقة ملقاة في فلاة...إلى قوله: واعلم رحمك الله، أن هذا الكرسي مثلٌ ضربه الله لعباده ليستدل به العباد على عظمة الله تبارك وتعالى، وإحاطته بالأشياء واتساعه لها ... )) إلخ كلامه.
والحديث أخرجه ابن جرير، وأبو الشيخ في العظمه، وابن مردويه، والبيهقي في الأسماء والصفات عن أبي ذر. الدر المنثور 2/ 17 .
ولم أنقل أقوال أئمة وعلماء الزيدية، والمعتزلة، والجعفرية، والأباضية. لأن مذاهبهم في هذا معروفة ومتفقة، وإنما اعتمدت على أقوال الأشاعرة والمحدثين للإحتجاج بها على المجسمة الذين يدَّعون متابعتهم.
والموضوع متشعب وبحاجة إلى دراسة وافية مفردة، وأنا أعمل في ذلك أرجو من الله التسديد والعون.
فإن قيل: فما تقولون في معنى قوله: { وَهُوَ الَّذِي فِي السَّمَاءِ إِلَهٌ وَفِي الْأَرْضِ إِلَهٌ } [الزخرف:84] ؟
قيل له: معناه: أنه هو الذي يستحق العبادة، يستحق أن يعبد في السماء والأرض، لأن الإله هو الذي يستحق العبادة، وهذا مشهور متعارف في ألفاظ الناس.
ألا ترى أنهم يقولون: فلان أمير في بلد كذا، وبلد كذا. وفلان قاض في بلد كذا، وبلد كذا؟ ولا يريد أنه كائن في البلدان لأن ذلك يستحيل، وإنما يراد أن الأم له والقضاء في هذه له، فقد صح ما ذكرناه من التأويل.
[ الرؤية ]
فإن قيل: فهل تقولون إن الله تعالى يُرى بالأبصار؟
قيل له: لا نقول ذلك، بل نحيله، والدلالة على ذلك، قول الله تعالى: { لَا تُدْرِكُهُ الْأَبْصَارُ وَهُوَ يُدْرِكُ الْأَبْصَارَ } [الأنعام:103]. والإدراك بالأبصار هو الرؤية بالبصر عند أهل اللغة، فكأنه قال تبارك وتعالى: لا تراه (1)، فثبت لذلك صحة ما ذهبنا إليه، من نفي الرؤية عن الله عز وجل (2).
__________
(1) في المخطوطة: أي لا يراه. ولعله تصحيف.
(2) عن أنس رضي الله عنه:
(( أنَّ رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم مَرَّ بأعرابي وهو يدعو في صلاته وهو يقول:
يا مَنْ لا تراه العيون، ولا تخالطه الظنون، ولا يصفه الواصفون، ولا تغيّره الحوادث ولا يخشى الدوائر، يعلم مثاقيل الجبال، ومكاييل البحار، وعدد قطر الأمطار، وعدد ورق الأشجار، وعدد ما أظلم عليه الليل وأشرق عليه النهار، وما تواري منه سماءٌ سماءً ولا أرضٌ أرضاً، ولا بحر ما في قعره، ولا جبل ما في وعره، اجعل خير عمري آخره، وخير عملي خواتيمه، وخير أيامي يوم ألقاك فيه.
فوكل رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم بالأعرابي رجلاً، فقال: إذا صلى فائتني به، فلمّا صلّى أتاه، وقد كان أُهْدِيَ لرسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ذَهَبٌ من بعض المعادن، فلمّا أتاه الأعرابي وهب له الذهب، وقال: ممّن أَنْتَ يا أعرابي؟ قال: من بني عامر بن صعصعة يا رسول الله، قال: هل تدري لم وهبت لك الذهب؟ قال: للرحم بيننا وبينك يا رسول الله، قال: إن للرحم حقا، ولكن وهبت لك الذهب بحُسنِ ثنائك على الله عَزَّ وجل )).
قال الحافظ الهيثمي في ((مجمع الزوائد)) (10/158): رواه الطبراني في الأوسط، ورجاله رجال الصحيح غير عبد الله بن محمد أبو عبد الرحمن الأذرمي وهو ثقة.
فإن قيل: ما أنكرتم أن يكون تعالى يُرى في الآخرة، لأنه ليس فيها نفي الرؤية في الآخرة؟
قيل له: لا يجوز ذلك، لأنه تعالى مدح نفسه بنفي الرؤية عنها، فيجب أن يكون إثباتها نقصا، والنقص لا يجوز على الله تعالى في الآخرة، ولا في الدنيا.
فإن قيل: فما الفصل بينكم وبين من قال: إن الله تعالى يجوز أن يرى، واحتج بقوله: { وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ نَاضِرَةٌ ، إِلَى رَبِّهَا نَاظِرَةٌ } [القيامة:22-23]. كما استدللتم على نفي الرؤية، بقوله (1) تعالى: { لَا تُدْرِكُهُ الْأَبْصَارُ وَهُوَ يُدْرِكُ الْأَبْصَارَ } [الأنعام:103] ؟
قيل له: إن النظر بالعين ليست حقيقة الرؤية، بل حقيقة الرؤية تقليب الحدقة في جهة المرئي طلبا لرؤيته، وإذا كان هذا هكذا، فظاهر الآية لا تدل على إثبات الرؤية، وتأويلها ما روي عن المفسرين، وهو: أنه إنما أراد به انتظار الثواب (2)، عند
__________
(1) في المخطوطة: لقوله. والصواب ما أثبت.
(2) أخرج ابن أبي شيبة وابن جرير، عن أبي صالح رضي الله عنه في قوله : { وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ نَاضِرَةٌ } [القيامة:22]، قال: حسنة : { إِلَى رَبِّهَا نَاظِرَةٌ } [القيامة:23]، قال: تنتظر الثواب من ربها.
وأخرج ابن جرير عن مجاهد رضي الله عنه في قوله : { إِلَى رَبِّهَا نَاظِرَةٌ ? قال: تنتظر منه الثواب. الدرر 8/360. وهو في تفسير الإمام زيد في سورة القيامة.
قال الحافظ ابن حجر في الفتح 13/ 358: وقد أخرج عبد بن حميد عن عكرمة من وجه آخر إنكار الرؤية ... ثم قال: وأخرج بسند صحيح عن مجاهد: { نَاظِرَةٌ }. تنظر الثواب. وعن أبي صالح نحوه، وأورد الطبري الإختلاف.
وأخرجه الربيع بن حبيب في مسنده الصحيح ص ( 226 )، ( 228 )، عن علي عليه السلام من طريق أبي معمر السعدي، وعن ابن عباس من طريق الضحاك بن قيس، وسعيد بن جبير، وعزاه إلى مجاهد، ومكحول، وإبراهيم، والزهري وسعيد بن جبير، وسعيد بن المسيب.
وهو في تفسير الميزان للطباطبائي عن الإمام عي بن موسى الرضى قال: يعني مشرقة تنتظر ثواب ربها. قال: ورواه في التوحيد، والإحتجاج، والمجمع عن علي عليه السلام 2/ 116.
وهو قول القاسم الرسي في كتاب العدل والتوحيد.
أهل اللغة يجوز أن تقول: ناظرة إلى الله، بمعنى ناظرة إلى ثوابه، على ضرب من التوسع، وأراد انتظاره الثواب، والنظر إليه، لأن النظر بمعنى الإنتظار مشهور عند أهل اللغة. ويجوز أن يقال ناظر إلى الله، بمعنى ناظر إلى ثوابه، على ضرب من التوسع، كما قال الله تعالى حاكياً عن إبراهيم عليه السلام: { إِنِّي ذَاهِبٌ إِلَى رَبِّي سَيَهْدِينِ } [الصافات:99]. أي: إلى حيث أمر ربي، فأما الأخبار المروية في إثبات الرؤية، فإن أكثرها ضعاف (1)، وقد بيَّن ذلك العلماء في الكتب المؤلفة في
__________
(1) الأحاديث الواردة في الرؤية رغم أنها أكثر من عشرين حديثا إلا أن أكثرها ضعيفة إن لم تكن كلها، بَيدَ أن البعض منها إن صح يمكن تأويله بما لا يتناقض مع قدسية الذات الإلهية، وتعاليها عن صفات المخلوقين.
فمن جهة السند لا يخلو حديث منها عن مطعن من قِبَل رجال الجرح والتعديل المعتمدين في هذا الفن، وقد جمع السيد محمد بن إبراهيم الوزير في كتابه العواصم والقواصم الجزء الخامس أكثر الأحاديث في هذه المسألة بأسانيدها، وعند الرجوع إلى كتب الجرح والتعديل سيتضح للقارئ صحة قول الإمام: أكثرها ضعاف. والإمام محدث كبير ولو لا ضيق المقام لنقلت للقارئ مقالات ومطاعن علماء الجرح والتعديل في رجال أسانيد هذه الأحاديث.
هذا من جهة السند.
أما من جهة المتن فالأمر جلل.
أخرج البخاري ومسلم عن أبي هريرة: أن ناساً قالوا: يا رسول الله، هل نرى ربنا يوم القيامة؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: هل تضآرون في رؤية القمر ليلة البدر؟ قالوا: لا يا رسول الله. قال: هل تضآرون في رؤية الشمس ليس دونها سحاب؟ قالوا: لا يا رسول الله.
قال: فإنكم ترونه كذلك، يجمع الله الناس يوم القيامة، فيقول: من كان يعبد شيئا فليتبعه، فيتبع من كان يعبد الشمس الشمس، ويتبع من كان يعبد القمر القمر، ويتبع من كان يعبد الطواغيت الطواغيت، وتبقى هذه الأمة فيها منافقوها!!!فيأتيهم الله تبارك وتعالى في صورة غير صورته التي يعرفون، فيقول: أنا ربكم. فيقولون: نعوذ بالله منك هذا مكاننا حتى يأتينا ربنا فإذا جاء ربنا عرفناه، فيأتيهم الله تعالى في صورته التي يعرفون، فيقول: أنا ربكم. فيقولون: أنت ربنا فيتبعونه...
البخاري فتح الباري 13/ 361، ومسلم بشرح النووي 3/ 17.
وفي رواية أخرى للبخاري الفتح 13/ 362، ومسلم بشرح النووي 3/ 25. قريبة من الأولى إلا أنه قال في هذه: حتى إذا لم يبق إلا من كان يعبد الله تعالى من بر وفاجر أتاهم رب العالمين سبحانه وتعالى في أدنى صورة من التي رأوه فيها. قال: ما تنتظرون؟! تتبع كل أمة ما كانت تبعد. قالوا: يا ربنا فارقنا الناس في الدنيا أفقر ما كنا إليهم ولم نصاحبهم. فيقول أنا ربكم. فيقولون: نعوذ بالله منك لا نشرك بالله شيئا ـ مرتين أو ثلاثا ـ حتى إن بعضهم ليكاد ينقلب!!!!! فيقول: هل بينكم وبينه آية فتعرفون بها؟ قالوا: نعم. فيكشف عن ساقه، فلا يبقى من كان يسجد لله من تلقاء نفسه إلا أذن الله له بالسجود، ولا يبقى من كان يسجد اتقاء ورياء إلا جعل الله ظهره طبقة واحدة، كلما أراد أن يسجد خر على قفاه، ثم يرفعون رؤوسهم وقد تحول في صورته التي رأوه فيها أول مرة. فقال: أنا ربكم. فيقولون: أنت ربنا...
لن أعلق على هاتين الروايتين، فالقارئ الحصيف في غنى عن أي تعليق أو توضيح لبيان بطلانهما، بيد أني سأكتفي بإثارة بعض علامات الإستفهام.
فأقول:
ـ هل الرؤية في موقف الحشر والقضاء؟ كما هو واضح من الروايتين!! أم في الجنة كما في روايات أخر؟
ـ هل الرؤية نعيم وجزاء على الأعمال الصالحات، وعلى هذا فهل هي خاصة بالمؤمنين؟ أم عامة للمنافقين والفجار كما تصف الروايتان !!!؟
ـ هل لله تعالى صورة أو صور يتشكل ويتغير فيها بحسب المقامات؟! وهل يجوز ذلك على الذات المقدسة؟!
ـ هل سبق للأمة بما فيها منافقوها وفجارها أن تعرَّفوا على الله وعلى صورته وساقه في لقاء سابق؟ وإذا صح ذلك!!! فهل يصح ويجوز من الله تعالى أن يتنكر ويوقع الأمة في حيرة منه، حتى ليكاد بعضهم أن يرتد ويكفر بالله؟!
ـ هل دار الآخرة دار ابتلاء وتكليف حتى يختبرهم ويمتحنهم فيها؟!
ـ ثم ما هذه الآية والعلامة ـ ساق ـ التي اتفق معهم عليها؟! ما علاقة الله تعالى بالساق، وما في هذا الساق من العلامات والآيات الإلهية؟
إن هذه الأسئلة وغيرها الكثير لتنتظر الجواب الشافي من ذوي الإختصاص، ومن يهمهم الأمر.
هذا الباب، فإن صح منها شيء فالمراد بالرؤية هو العلم، وذلك غير مستنكر في اللغة (1).
__________
(1) كما قال الإمام عليه السلام إن صح منها شيء فالمراد بالرؤية هو العلم.
قال أبو بكر الجصاص الحنفي: { لَا تُدْرِكُهُ الْأَبْصَارُ } [الأنعام:103]. معناه: لا تراه الأبصار، وهذا تمدح بنفي رؤية الأبصار، كقوله: { لَا تَأْخُذُهُ سِنَةٌ وَلَا نَوْمٌ } [البقرة:255]. وما تمدح الله بنفيه عن نفسه إثبات ضده ذم ونقص، فغير جائز إثبات نقيضه بحال، كما لو بطل استحقاق الصفة بـ { لَا تَأْخُذُهُ سِنَةٌ وَلَا نَوْمٌ }. لم يبطل إلا إلى صفة نقص، ولا يجوز أن يكون مخصوصا بقوله: { وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ نَاضِرَةٌ ، إِلَى رَبِّهَا نَاظِرَةٌ } [القيامة:22-23]. لأن النظر محتمل لمعان منه:
انتظار الثواب كما روي عن جماعة من السلف، فلما كان ذلك محتملا للتأويل لم يجز الإعتراض عليه بما لا مساغ للتأويل فيه، والأخبار المروية في الرؤية إنما المراد بها العلم لو صحت، وهو علم الضرورة الذي لا تشوبه شبهة، ولا تعرض فيه الشكوك، لأن الرؤية بمعنى العلم مشهورة في اللغة. أحكام القرآن 3/ 4 - 5.
وقال ابن حجر في الفتح 13/ 359: واختلف من أثبت الرؤية في معناها، فقال قوم: يحصل للرآئي العلم بالله تعالى برؤية العين كما في غيره من المرئيات، وهو على وفق قوله في حديث الباب ) كما ترون القمر )، إلا أنه منزه عن الجهة والكيفبة، وذلك أمر زائد على العلم. وقال بعضهم: إن المراد بالرؤية: العلم. وعبر عنها بعضهم: بأنها حصول حالة في الإنسان نسبتها إلى ذاته المخصوصة نسبة الأبصار إلى المرئيات. وقال بعضهم: رؤية المؤمن لله نوع كشف وعلم، إلا أنه أتم وأوضح من العلم، وهذا أقرب إلى الصواب من الأول.
وقال العلامة بدر الدين الحوثي: فأما الروايات فكثير منها ما يمكن تفسيره بمعنى قريب، وهي أن الرؤية فيها مقيدة بكونها كما يرون القمر، والقمر لا يُرى إلا شعاعه لا جرمه لأن الجرم بعيدا جدا، ولا يرى من بعيد إلا النور، فالمعنى أنها تتجلى للمؤمنين عظمته وجلاله وحكمته وكرمه ورحمته وجبروته وعزته، بما يشاهدون في القيامة من قضائه سبحانه وتعالى.
ويكون العلم بذلك ضروريا بمنزلة العلم بالمشاهدات، واختص بذلك المؤمنون لأن أعداء الله في شغل عن ذلك بأنفسهم كما قال تعالى: { وَمَنْ كَانَ فِي هَذِهِ أَعْمَى فَهُوَ فِي الْآخِرَةِ أَعْمَى وَأَضَلُّ سَبِيلًا } [الإسراء:72]. وقال تعالى: { وَنَحْشُرُهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ عَلَى وُجُوهِهِمْ عُمْيًا وَبُكْمًا وَصُمًّا مَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ كُلَّمَا خَبَتْ زِدْنَاهُمْ سَعِيرًا } [الإسراء:97]. ووصف الأبرار بضد ذلك فقال: { إِنَّ الْأَبْرَارَ لَفِي نَعِيمٍ ، عَلَى الْأَرَائِكِ يَنْظُرُونَ } [المطففين:22-23]. فكانت مشاهدتهم لقضائه، ورؤيتهم لعدله وعزته ورحمته وفضله هي مشاهدة جلاله وعظمته، وكان ذلك معنى رؤيته، لأنه تجلى لهم بهذا المعنى من حيث كمال المعرفة والعلم وكونه ضروريا كالعلم بالمشاهدات. تحرير الأفكار/ 315.
وعلاوة على هذا فهذه الروايات آحادية لا يقبل شيء منها في مسائل الإعتقاد، لأنه يشترط في العقيدة العلم واليقين، والآحاد لا تفيد إلا الظن، هذا مع سلامته من المعارضة العقلية والنقلية، فكيف به مع المعارضة لصرائح الآيات، وموجبات ودلائل لعقول.
وإليك نصوص الأئمة والمحدثين والأصوليين في أخبار الآحاد، وأنها مما لا يبنى عليه في باب الإعتقاد.
قال الحافظ الخطيب البغدادي في الفقثه والمتفقه 1/ 132:
باب القول فيما يرد به خير الواحد:
... وإذا روى الثقة المأمون خبرا متصل الإسناد رُدَّ بأمور:
أحدها: أن يخالف موجبات العقول فيعلم بطلانه، لأن الشرع إنما يرد بمجوزات العقول، وأما بخلاف العقول فلا.
الثاني: أن يخالف نص الكتاب، أو السنة المتواترة، فيعلم أنه لا أصل له أو منسوخ.
والثالث: يخالف الإجماع فيستدل على أنه منسوخ أو لا أصل له....
الرابع: أن ينفرد الواحد برواية، يجب على كافة الخلق علمه، فيدل ذلك على أنه لا أصل له، لأنه لا يجوز أن يكون له أصل، وينفرد هو بعلمه من بين الخلق العظيم... إلخ كلامه.
وقال أيضا في كتابه ( الكفاية في علم الرواية ) /432
باب ذكر ما يقبل فيه خبر الواحد وما لا يقبل فيه:
خبر الواحد لا يقبل في شيء من أبواب الدين المأخوذ على المكلفين العلم بها والقطع عليها، والعلة في ذلك أنه إذا لم يعلم أن الخبر قول رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم كان أبعد من العلم بمضمونه، فأما ما عدا ذلك من الأحكام التي يوجب علينا العلم بأن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قررها وأخبر عن الله عز وجل بها فإن خبر ا لواحد فيها مقبول والعمل واجب.
وعقد بابا في كتابه هذا سماه:
[ ذكر شبهة من زعم أن خبر الواحد يوجب العلم، وإبطالها ].
وقال البيهقي في الأسماء والصفات/ 357:
ولهذا الوجه من الإحتمال ترك أهل النظر من أصحابنا الإحتجاج بأخبار الآحاد في صفات الله تعالى، إذا لم يكن لما انفرد منها أصل في الكتاب أو الإجماع، واشتغلوا بتأويله.
قال الحافظ ابن عبد البر في ( التمهيد ) 1/ 7:
واختلف أصحابنا وغيرهم في خبر الواحد العدل هل يوجب العلم والعمل جميعا، أم يوجب العمل دون العلم؟ والذي عليه أكثر أهل العلم منهم أنه يوجب العمل دون العلم، وهو قول الشافعي وجمهور أهل الفقه والنظر، ولا يوجب العلم عندهم إلا ما شهد به على الله وقطع العذر بمجيئه قطعا ولا خلاف فيه.
وقال الإمام الشافعي: الأصل القرآن والسنة وقياس عليها، والإجماع أكبر من الحديث المنفرد .
رواه عنه أبو نعيم في الحلية 9/ 105، وأبو حاتم في ( آداب الشافعي ) 231، 233، والبيهقي في ( مناقب الشافعي ) 2/ 30.
وعليه الإمام البخاري قال في كتاب أخبار الآحاد من صحيحه بشرح الفتح 13/ 196: باب ما جاء في إجازة خبر الواحد الصدوق، في الأذان والصلاة والصوم والفرائض والأحكام.
قال الحافظ ابن حجر في شرحه عليه: وقوله: والفرائض بعد قوله: في الأذان والصلاة والصوم، من عطف العام على الخاص، وأفرد الثلاثة بالذكر للإهتمام بها، قال الكرماني: ليعلم إنما هي في العمليات لا في الإعتقاديات.
وقال النووي في شرحه على مسلم 1/ 131:
وأما خبر الواحد فهو ما لم يوجد فيه شروط المتواتر، سواء كان الراوي له واحدا أو أكثر، واختلف في حكمه فالذي عليه جماهير المسلمين من الصحابة والتابعين فمن بعدهم من المحدثين والفقهاء وأصحاب الأصول: أن خبر الواحد الثقة حجة من حجج الشرع يلزم العمل بها، ويفيد الظن ولا يفيد العلم ...
وقال عبد القاهر البغدادي في كتابه أصول الدين / 12:
وأخبار الآحاد متى صح إسنادها وكانت متونها غير مستحيلة في العقل كانت موجبة للعمل بها دون العلم.
وهو قول الحافظ ابن حجر أيضا انظر شرح نخبة الفكر ص ( 25 - 26 ).
وقال ابن تيمية في منهاج السنة 2/ 133:
الثاني: أن هذا من أخبار الآحاد فكيف يثبت به أصل الدين الذي لا يصح الإيمان إلا به.
قال الإمامان ابن السبكي في جمع الجوامع والمحلي في شرحه: (خبر الواحد لا يفيد العلم إلا بقرينة) كما في إخبار الرجل بموت ولده المشرف على الموت، مع قرينة البكاء، وإحضار الكفن والنعش.
( و ) قال ( الأكثر لا ) يفيده ( مطلقا ). جمع الجوامع لابن السبكي بشرح جلال الدين المحلي مع حاشية ابن قاسم العبادي ج 3 ص 215.
وفي تنقيح ابن الحاجب وشرحه ( التوضيح ) ما نصه: والثالث ـ ويعني به الخبر الآحادي ـ يوجب عليه الظن إذا اجتمع الشرائط التي نذكرها إن شاء الله تعالى، وهي كافية لوجوب العمل لأنه لا يوجب العلم؛ ولا عمل إلا عن علم... إلى أن قال : والعقل يشهد أنه لا يوجب اليقين. التوضيح على التنقيح / 431- 432 هامش حاشية التلويح للسعد التفتازاني، مطبعة مكتب صنايع من طرف الشركة الصحافية العثمانية شوال من سنة 1310هـ.
وفي حاشية السعد التفتازاني عليهما أن هذا هو قول الجمهور. انظر التلويح للسعد التفتازاني / 431.
ثم قال: بل العقل شاهد بأن خبر الواحد العدل لا يوجب اليقين، وأن احتمال الكذب قائم وإن كان مرجوحا، وإلا لزم القطع بالنقيضين عند إخبار العدلين بهما. المرجع السابق ص 433.
وقال حجة الإسلام أبو حامد الغزالي: اعلم أنا نريد بخبر الواحد في هذا المقام ما لا ينتهي من الأخبار إلى حد التواتر المفيد للعلم، فما نقله جماعة من خمسة أو ستة مثلا فهو خبر الواحد ... إلى أن قال: وإذا عرفت هذا فنقول خبر الواحد لا يفيد العلم، وهو معلوم بالضرورة فإنا لا نصدق بكل ما نسمع، ولو صدقنا وقدرنا تعارض خبرين فكيف نصدق بالضدين؟ وما حكي عن المحدثين من أن ذلك يوجب العلم فلعلهم أرادوا أنه يفيد العلم بوجوب العمل إذ يسمى الظن علما، ولهذا قال بعضهم: يورث العلم الظاهر. والعلم ليس له ظاهر وباطن وإنما هو الظن. المستصفي للإمام أبي حامد الغزالي 1 / 145طبعة بولاق.
وفي فواتح الرحموت بشرح مسلم الثبوت لابن عبد الشكور ما نصه: الأكثر من أهل الأصول ومنهم الأئمة الثلاثة على أن خبر الواحد، إن لم يكن هذا الواحد المخبر معصوما نبيا، لا يفيد العلم مطلقا، سواء احتف بالقرائن أو لا ... إلى أن قال: لو أفاد خبر الواحد العلم لأدى إلى التناقض إذا أخبر عدلان بمتناقضين ... ثم قال: وذلك أي إخبار العدلين بمتناقضين جائز بل واقع، كما لا يخفى على المستقرئ في الصحاح والسنن والمسانيد. فواتح الرحموت بشرح مسلم الثبوت المطبوع بذيل المستصفي 2 /121.
وقال الإمام محمد عبده في إحدى فتاواه: ولو أراد مبتدع أن يدعو إلى هذه العقيدة، فعليه أن يقيم عليها الدليل الموصل إلى اليقين، إما بالمقدمات العقلية البرهانية، أو بالأدلة السمعية المتواترة، ولا يمكنه أن يتخذ حديثا من حديث الآحاد دليلا على العقيدة، مهما قوي سنده، فإن المعروف عند الأئمة قاطبة أن أحاديث الآحاد لا تفيد إلا الظن {وَإِنَّ الظَّنَّ لَا يُغْنِي مِنَ الْحَقِّ شَيْئًا } [النجم:28]. من فتوى للإمام محمد عبده نقلها القاسمي في تفسير سورة الأحزاب من تفسيره محاسن التأويل 13/4920 طبع عيسى البابي الحلبي وشركائه.
وقال العلامة السيد محمد رشيد رضا: إن بعض أحاديث الآحاد تكون حجة عند من ثبتت عنده واطمأن قلبه بها، ولا تكون حجة على غيره يلزم العمل بها، ولذلك لم يكن الصحابة رضي الله عنهم يكتبون جميع ما سمعوه من الأحاديث ويدعون إليها، مع دعوتهم إلى اتباع القرآن والعمل به، وبالسنة العملية المتبعة المبينة له إلا قليلا من بيان السنة، كصحيفة علي كرم الله وجهه، المشتملة على بعض الحكام كالدية، وفكاك الأسير، وتحريم المدينة كمكة، ولم يرض الإمام مالك من الخليفتين المنصور والرشيد أن يحملا الناس على العمل بكتبه حتى الموطأ، وإنما يجب العمل بأحاديث الآحاد على من وثق بها رواية ودلالة. المنار 1/ 138 الطبعة الرابعة.
وإذا كان هذا موقف حجية الآحادي في الأمور الفرعية العملية فكيف بالإعتقاد؟! بل كيف تكون حجيته مع معارضته للقطعي المتواتر؟! وقد قال هذا الإمام نفسه: وإذا كان من علل الحديث المانعة من وصفه بالصحة مخالفة راويه لغيره من الثقات، فمخالفة القطعي من القرآن المتواتر أولى بسلب وصف الصحة عنه. المرجع السابق 85 - 86.
ولهذا ردت عائشة كثيرا من الأحاديث التي كان يرويها بعض الصحابة لمخالفتها للقرآن وموجبات العقول.
ردت حديث من ادعى أن محمدا صلى الله عليه وآله وسلم رأى ربه، وهو أنس وغيره.
روى ابن حجر في الفتح 8/ 494 أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال: رأيت ربي. وقبله في نفس الصفحة أن ابن خزيمة روى بإسناد جيد عن أنس قال: رأى محمد ربه.
فردت ذلك كما في البخاري فتح 8/ 492، ومسلم بشرح النووي 3/ 8 عن مسروق قال: قلت لعائشة رضي الله عنهما: يا أُمتاه، هل رأى محمد ربه؟ فقالت: ( لقد قف شعري مما قلت، أين أنت من ثلاث من حدثكهن فقد كذب: من حدثك أن محمدا رأى ربه فقد كذب، ثم قرأت: { لَا تُدْرِكُهُ الْأَبْصَارُ وَهُوَ يُدْرِكُ الْأَبْصَارَ وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ } [الأنعام:103]. { وَمَا كَانَ لِبَشَرٍ أَنْ يُكَلِّمَهُ اللَّهُ إِلَّا وَحْيًا أَوْ مِنْ وَرَاءِ حِجَابٍ ...} [الشورى:51] ).
فها هي أم المؤمنين ترد الخبر الآحادي المخالف لصريح القرآن وتكذب من رواه.
وروى البخاري ( فتح 3/ 151 - 152 )، ومسلم ( 2/ 638 - 642 ) أن عمر وابنه عبد الله رويا عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أنه قال: (( إن الميت يعذب ببكاء أهله عليه )). فردت ذلك عائشة كما في صحيح مسلم ( 6/ 235 ). فقالت: يغفر الله لأبي عبد الرحمن. أما إنه لم يكذب، ولكنه نسي أو أخطأ، إنما مر رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم على يهودية يُبكي عليها فقال: (( إنهم ليبكون عليها، وإنها لتعذب في قبرها )). وفي رواية أخرى لمسلم قالت: (( لا والله ما حدث رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أن الله يعذب المؤمن ببكاء أحد .... ثم قالت: حسبكم القرآن { وَلَا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى } [فاطر:18] )).
وروت أيضا حديث أبي هريرة.
روى أبو داود الطيالسي ( ص 215 ) عن مكحول قيل لعائشة: إن أبا هريرة يقول: قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: (( الشؤم في ثلاث في الدار والمرأة والفرس )). فقالت عائشة: لم يحفظ أبو هريرة لأنه دخل ورسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يقول: (( قاتل الله اليهود يقولون: إن الشؤم في ثلاث في الدار والمرأة والفرس )). سمع آخر الحديث ولم يسمع أوله.
ألا ترى أن الله تعالى يقول: { أَلَمْ تَرَ إِلَى رَبِّكَ كَيْفَ مَدَّ الظِّلَّ } [الفرقان:45]. يريد: ألم تعلم، وكذلك قوله تعالى: { أَلَمْ تَرَ كَيْفَ فَعَلَ رَبُّكَ بِأَصْحَابِ الْفِيلِ } [الفيل:1]. وقوله تعالى: { أَوَلَمْ يَرَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنَّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ كَانَتَا رَتْقًا فَفَتَقْنَاهُمَا وَجَعَلْنَا مِنَ الْمَاءِ كُلَّ شَيْءٍ حَيٍّ أَفَلَا يُؤْمِنُونَ } [الأنبياء:30]. فبان (1) بهذه الآيات صحة ما ادعيناه من الرؤية، وقد تكون بمعنى العلم (2).
[ الله واحد ]
فإن قيل: ما الدليل على أن الله تعالى واحد؟
قيل له: الدليل على ذلك، أنه لو كان معه ثاني لصح بينهما التمانع، وصحة التمانع تقضي عليهما، أو على أحدهما بالعجز والضعف، لأن المتمانعين إذا تمانعا، يمنع كل واحد منهما صاحبه، أو يكون (3) أحدهما يمنع صاحبه، فإن منع أحدهما صاحبه، وجب القضاء بالضعف على الممنوع، وإن منع كل واحد منهما صاحبه، وجب القضاء عليهما بالضعف، والإله لا يكون ضعيفاً، فثبت أنه واحد لا ثاني معه. وقد نبه الله تعالى على معنى هذا الدليل بقوله: { قُلْ لَوْ كَانَ مَعَهُ آلِهَةٌ كَمَا يَقُولُونَ إِذًا لَابْتَغَوْا إِلَى ذِي الْعَرْشِ سَبِيلًا } [الإسراء:42]. وبقوله تعالى: { لَوْ كَانَ فِيهِمَا آلِهَةٌ إِلَّا اللَّهُ لَفَسَدَتَا } [الأنبياء:22]. وبقوله: ? مَا اتَّخَذَ اللَّهُ مِنْ وَلَدٍ وَمَا
__________
(1) في المخطوطة: فيات. مصحفة.
(2) لعل العبارة هكذا: ما ادعيناه من الرؤية بمعنى العلم.
(3) لعل كلمة ( يكون ) زائدة.
كَانَ مَعَهُ مِنْ إِلَهٍ إِذًا لَذَهَبَ كُلُّ إِلَهٍ بِمَا خَلَقَ وَلَعَلَا بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ سُبْحَانَ اللَّهِ عَمَّا يَصِفُونَ } [المؤمنون:91].
[ القرآن ]
فإن قيل: فما قولكم في القرآن؟
قيل له: نزعم أنه كلام الله، ووحيه ومستنزله، وأنه مخلوق، والدليل على ذلك أنه محدَث، ولا محدِث له إلا الله، وما أحدثه الله تعالى، فيجب أن يكون مخلوقاً.
فإن قيل: ولم قلتم إنه محدث؟
قيل له: لأنه سور مفصلة، وله أول وآخر، ونصف وثلث وسبع، وما كان كذلك فيجب أن يكون محدثاً، لأن كل ذلك شيء يستحيل على القديم تعالى، وأيضا فإنا قد بينا فيما تقدم من هذا الكتاب أن ما شارك القديم تعالى في كونه قديماً فيجب أن يكون مثلاً له، وقد بينا أن الإله لا مثل له، فوجب أن لا يكون القرآن قديماً، وإن لم يكن قديما فوجب حدوثه، وقد قال الله تعالى وجل ذكره: { مَا يَأْتِيهِمْ مِنْ ذِكْرٍ مِنْ رَبِّهِمْ مُحْدَثٍ إِلَّا اسْتَمَعُوهُ وَهُمْ يَلْعَبُونَ } [الأنبياء:2]. وقال: { وَمَا يَأْتِيهِمْ مِنْ ذِكْرٍ مِنَ الرَّحْمَنِ مُحْدَثٍ } [الشعراء:5]. والذكر هو القرآن.
ألا ترى إلى قول الله تعالى: { إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ } [الحجر:9] ؟
- - -
باب [ العدل ]
[ الإرادة ]
اعلم أن أفعال القديم تعالى تحسن لوقوعها على وجه، لا تقع عليه (1) إلا إذا كان القديم تعالى مريداً، والذي يدل على ذلك، أنه تعالى قد ثبت أنه آمر ومخبر (2)، وقد ثبت أن الآمر لا يكون آمراً إلا بأن يكون مريداً للمأمور به، والمخبر (3) لا يكون مخبراً إلا إذا أراد إيقاع الحروف خبراً، فإذا ثبت ذلك ثبت أن القديم تعالى مريد.
فإن قيل: ولم قلتم إن الآمر لا يكون آمرا إلا إذا كان مريداً للمأمور به، والمخبر لا يكون مخبراً إلا إذا أراد إيقاع الحروف خبراً؟
قيل له: إنما قلنا ذلك لأن لفظ الأمر يصلح للتهدد كما يصلح للأمر (4)، فلا بد من وجه ما، له يكون الآمر (5) آمراً، وليس ذلك الوجه إلا كون الآمر مريداً للمأمور به، لأن سائر الأوصاف والمعاني لا تؤثر في ذلك، وكذلك القول في الخبر، لأن الخبر عن زيد بن عبد الله، مثل الخبر عن زيد بن خالد، بل اللفظتان واحدة، فلا بد من أمر ما، له يتعلق كل واجد من الخبرين بمخبره، وليس ذلك غير كون المخبر مريداً إيقاع الحروف خبراً، إذ سائر المعاني والأوصاف لا تؤثر فيه.
فإن قيل: فهل تقولون بأنه تعالى مريد بإرادة محدثة لنفسه (6)، أومريد بإرادة محدثة؟
قيل له: نقول إنه مريد بإرادة محدثة (7)، ونحيل القول إنه مريد لنفسه، لأنه لو كان مريداً لنفسه لوجب أن يكون مريدا لجميع الإرادات، [وهذا] يؤدي أن يكون
__________
(1) في المخطوطة: عليها. ولعل الصواب ما أثبت.
(2) في المخطوطة: آمرا ومخبرا.
(3) في المخطوطة: والمخبر عنه لا يكون مخبراً. ولعل الصواب حذف كلمة (عنه).
(4) في المخطوطة: يصلح التهدد كما يصلح الأمر. ولعل الصواب ما أثبت.
(5) في المخطوطة: للآمر. ولعل الصواب ما أثبت.
(6) لعل السؤال هكذا: مريد لنفسه؟ أو مريد بإرادة محدثة.
(7) اختلف أصحابنا وغيرهم في حقيقة الإرادة الإلهية على أقوال:
الأول: الوقف في حقيقتها مع اعتقاد أن الله يريد الحسن ويكره القبيح.
وهذا قول الحسن بن بدر الدين، والهادي بن إبراهيم، والإمام شرف الدين، والمفتي، والجلال.
الثاني: إرادته في أفعاله فعله، وفي فعل غيره الأمر به، والإخبار نفس الخير.
وهذا قول الصادق، والهادي، والقاسم العياني، والإمام أحمد بن سليمان، والسيد حميدان، وقديم قولي الإمام القاسم بن محمد، والنظام، وأبي الهذيل.
الثالث: إرادته علمه باشتمال الفعل على مصلحة، وكراهته علمه باشتماله على مفسده.
وهو قول الإمام يحيى بن حمزة، والقول الثاني للإمام القاسم بن محمد، وأبي الهذيل، والنظام، والبلخي، والجاحظ، والخوارزمي، ونسبة هذا القول إلى معتزلة بغداد بناء على أن هذا القول والقول الثاني السابق بمعنى واحد. وبيانه: أنه سبحانه مريد لا بإرادة لاستحالة حقيقتها في حقه، وقد ثبت كونه عليما حكيما، فإذا عَلم كون فعله مشتملا على المصلحة أوجده من غير تقدم ضمير، فصح إطلاق اسم الإرادة على علمه تعالى، وصح إطلاق اسم الإرادة في حقه تعالى على المراد، لما لم يكن بينه وبين مراده واسطة إرادة.
الرابع: إرادته معنى حادث موجود لا في محل غير مراد في نفسه.
وهو قول المؤيد بالله، والسيد ما نكديم، وأبي طالب، والمنصور بالله، والأمير الحسين، والمهدي، وجماهير المعتزلة، كأبي علي، وأبي هاشم، والقاضي، وأبي عبد الله البصري، وغيرهم.
الخامس: إرادته: معنى قديم قائم بذاته. وهو قول الأشعرية.
السادس: أن الله مريد لذاته. وهو قول النجارية من المجبرة.
وثمت أقوال أخرى أعرضنا عنها لسخافتها.
وأسلم الأقوال فيما أرى القول الأول، وهو ما نطق به القرآن الكريم. وعذري في إيراد هذه المقالات إشارة الإمام إليها، وذكره لمذهبه وإلا فإن الإعراض عن الخوض فيها أسلم.والله تعالى أعلم.
مريداً للضدين في حالة واحدة، وذلك محال، ويجب أن يكون الواحد منا إذا أراد أن يرزق (1) أموالا وأولادا، أن القديم أيضا مريدا (2) لذلك، وهذا فاسد، فثبت بطلان القول بأنه مريد لنفسه، وإذا بطل ذلك ثبت أنه مريد بإرادة محدثة.
[ مراد الله من المكلفين الطاعات ]
فإن قيل: ما الذي أراد الله تعالى من جميع المكلفين عندكم من الكافر، والفساق (3)؟
قيل له: الذي أراد الله تعالى من جميع المكلفين برهم وفاجرهم، مؤمنهم وكافرهم، هو الطاعات، الفرائض منها والنوافل، ولا يجوز أن يريد شيئا من القبائح.
ألا ترى إلى قوله تعالى: { يُرِيدُ اللَّهُ لِيُبَيِّنَ لَكُمْ وَيَهْدِيَكُمْ سُنَنَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ وَيَتُوبَ عَلَيْكُمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ ، وَاللَّهُ يُرِيدُ أَنْ يَتُوبَ عَلَيْكُمْ وَيُرِيدُ الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الشَّهَوَاتِ أَنْ تَمِيلُوا مَيْلًا عَظِيمًا ، يُرِيدُ اللَّهُ أَنْ يُخَفِّفَ عَنْكُمْ وَخُلِقَ الْإِنْسَانُ ضَعِيفًا } [النساء:26-28]. وقال: { يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلَا يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ } [البقرة:185]. وقال: { وَمَا اللَّهُ يُرِيدُ ظُلْمًا لِلْعِبَادِ } [غافر:31]. فنفى عن نفسه إرادة القبائح، وبيَّن أنه مريد للطاعة، وكذَّب الله تعالى من أراد إضافة الشرك إلى الله ووبخهم على ذلك، فقال تعالى: { وَقَالَ الَّذِينَ أَشْرَكُوا لَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا عَبَدْنَا مِنْ دُونِهِ مِنْ شَيْءٍ نَحْنُ وَلَا آبَاؤُنَا وَلَا حَرَّمْنَا مِنْ دُونِهِ مِنْ شَيْءٍ كَذَلِكَ فَعَلَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ فَهَلْ عَلَى الرُّسُلِ إِلَّا الْبَلَاغُ الْمُبِينُ } [النحل:35]. وقال: { سَيَقُولُ الَّذِينَ أَشْرَكُوا لَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا أَشْرَكْنَا وَلَا آبَاؤُنَا وَلَا حَرَّمْنَا مِنْ شَيْءٍ كَذَلِكَ كَذَّبَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ حَتَّى ذَاقُوا بَأْسَنَا قُلْ هَلْ عِنْدَكُمْ مِنْ عِلْمٍ فَتُخْرِجُوهُ لَنَا إِنْ تَتَّبِعُونَ إِلَّا الظَّنَّ وَإِنْ أَنْتُمْ إِلَّا تَخْرُصُونَ }
__________
(1) في المخطوطة: أن يردف. ولعل الصواب ما أثبت.
(2) خبر ليكون. ولعلها: مريد.
(3) لعلها: الفاسق.
[الأنعام:148]. ومما يدل على أن الله لا يريد القبائح أنه لو أرادها لوجب أن يكون العصاة مطيعين، وذلك محال، لأن المطيع إنما يكون مطيعاً لوقوعه إذا فعل مراده (1)، وأيضا فإن إرادة القبيح قبيحة، والله تعالى لا يفعل القبائح، فثبت أنه لا يفعل إرادة الكفر والفسوق والمعاصي، فإذا لم يفعل إرادتها لم يكن مريدا لها، وليس يلزمنا ما تظنه المجبرة من أنا قد حكمنا على الله بالضعف، متى قلنا إنه غير مريد لما (2) وجد من القبائح، لأنه إذا وجد ما كان القديم غير (3) مريد له، لا يؤثر ذلك في أحواله.
ألا ترى أن كل من مضى من اليهود والنصارى إلى الكنائس والبِيَع، لا يوجب ضعفًا للمسلمين والإمام، وإن كان ذلك غير مراد لهم، لأن ذلك لا يؤثر في أحوالهم.
فإن قيل: أوليس المسلمين قد قالوا ما شاء الله كان، وما لم يشأ لم يكن. وهذا خلاف مذهبكم، لأن عندكم أن الله تعالى أراد الطاعات من الكفار، مع أنها لم تكن، وهو غير مريد للمعاصي الكائنة منهم؟
قيل له: إن المسلمين أرادوا بذلك ما يريده الله تعالى من أفعال نفسه، دون أفعال غيره.
ألا ترى أن غرضهم بهذا القول وصف إقراره وثبات امتداحه، وقد علمنا أن وقوع ما يريده الواحد منا من أفعال عبادته، لا يدل على قدرته.
ألا ترى أن العبد قد يفعل ذلك مع ضعف سيده، وإنما يدل على اقتدار المريد ما يقع من المراد، إذا كان من أفعاله، فوجب أن يكون غرض المسلمين ما بيَّناه، فإذا صح ذلك لم يجب له فساد مذهبنا.
__________
(1) لعل هنا سقطا.
(2) في المخطوطة: لها. مصحفة.
(3) في المخطوطة: غيره مريدا له. ولعل الصواب ما أثبت.
فصل
[ الله غير مريد للقبائح ]
فإن سأل سائل فقال: ما الدليل على أن الله تعالى لا يفعل شيئا من القبائح؟
قيل له: الدليل على ذلك أنه تعالى قد ثبت:
ـ استغناؤه عن جميع القبائح.
ـ وكونه عالماً بقبحها.
ـ وعالم باستغنائه عنها.
والعالم بقبح القبيح متى استغنى عنه، لا يجوز أن يختاره على وجه من الوجوه.
فإن قيل: فَلِمَ قلتم إنه سبحانه مستغنٍ عن جميع القبائح؟
قيل له: لأنه لا يخلو من أن يستحيل عليه عز وجل الشهوة ونفور النفس، أو لا يستحيلان عليه؟
فإن استحالا عليه ثبت استغناؤه عن جميع الأشياء، لأن المحتاج إنما يحتاج إلى إدراك ما يشتهيه، أو دفع ما تنفر نفسه عنه، فمن استحالت عليه الشهوة ونفور النفس، استحالت عليه الحاجة. والحي إذا استحالت عليه الحاجة ثبت استغناؤه عن الأشياء. فإن صح عليه الشهوة ونفور النفس ـ تعالى عن ذلك ـ استغنى بالحسن عن القبيح، لأن المحتاج ليس يحتاج إلى الشيء على الوجه الذي يقبح دون الوجه الذي يحسن، وإنما يحتاج إليه فقط. وفي كلا (1) الأمرين ثبوت استغناء القديم تعالى عن المقبحات.
فإن قيل: ولم قلتم إنه عالم بقبح المقبحات، وعالم باستغنائه عنها؟
قيل له: قد قدمنا الكلام في أنه تعالى لا يجوز أن يكون عالماً بعلم، وإذا بطل أن يكون عالماً بعلم، ثبت أنه تعالى عالم لنفسه، ومِن حكمِ العالم لنفسه أن يعلم المعلومات كلها، على جميع الوجوه التي يصح أن تعلم عليها.
__________
(1) في المخطوطة: كل. ولعل الصواب ما أثبت.
فإن قيل: فهل تقولون إن ما يقبح عندكم فعله، يقبح من الله تعالى فعله؟
قيل له: نقول إنه يقبح فعله من القديم تعالى، متى فعله على الوجه الذي إذا فعلناه عليه قَبُحَ منا. والذي يدل على ذلك أن الذي يقبح إنما يقبح لصفة ترجع إليه، لا لصفة ترجع إلى الفاعل.
ألا ترى أن المؤمن (1) فيه صفاته الراجعة إليه، مثال ذلك أن الخبر يقبح لكونه كذباً، فلو خرج عن كونه كذبا لحَسُنَ، وكذلك الضرب، قد يقبح لتعرِّيه من المنافع، فلو حصلت فيه المنافع لحَسُن.
فبان بذلك أن الموجِب لقبح الفعل هو ما يرجع إلى الفعل من الأحكام، فإذا كان ذلك كذلك وجب أن يقبح من القديم تعالى ما يقبح منا، إذا فعله على الوجه الذي لكونه عليه قبح منا فعله.
[ هل يُعذب الله من لا ذنب له ]
فإن قيل: فهل يجوز أن يعذب الله أطفال المشركين في الآخرة؟
قيل له: لهم لا يجوز.
فإن قيل: فما الدليل على ذلك؟
قيل له: لأنه لا يحسن أن يُعاقب إلا من يستحق العقاب، بارتكاب المعاصي، أو بالإنصراف عن الواجبات، أو بفعل. وقد علمنا أن الأطفال لم يرتكبوا شيئا من المعاصي، ولا انصرفوا عن شيء من الواجبات، وقد (2) قال الله تعالى: { وَلَا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى } [الأنعام:164، الإسراء:15، فاطر:18، الزمر:7]. وقال: { وَلَا يَظْلِمُ رَبُّكَ أَحَدًا } [الكهف:49]. ولا ظلم أقبح من تعذيب الطفل، ولا جناية له اكتسبها، ولا جريرة اقترفها، ولا واجباً تركه.
__________
(1) هكذا في المخطوطة، ولعل في الكلام سقطا، والله أعلم.
(2) في المخطوطة: فقد.
فإن قيل: أليس يحسن من الله تعالى إيلامهم في الدنيا، وكذلك إيلام البهائم، وسائر ما لا تكليف عليه، فما أنكرتم أن يحسن منه تعالى تعذيب أطفال المشركين في الآخرة؟
قيل له: إنما يحسن من الله تعالى إيلام الأطفال والبهائم في الدنيا، لأمرين:
أحدهما: أنه استصلاح للمكلفين.
والثاني: أن الله سبحانه وتعالى معوِّض لهم على ما نالهم من الآلام، وحل بهم من الأسقام، عوضا يربى، والآخرة ليست دار تكليف، فيستصلح بإيلامهم غيرهم، ولا هم يعوضون على ما تلحقهم من الآلام عند من أجاز ذلك، فوجب أن لا يكون حكم تعذيبهم في الآخرة مثل حكم إيلامهم في الدنيا.
[ أفعال العباد ليست من خلق الله ]
فإن قال قائل: فما الدليل على أن أفعال العباد غير مخلوقة لله، وأن العباد هم الذين يحدثونها؟
قيل له: الدليل على ذلك بأنها تقع بحسب أحوالهم، ودواعيهم، وهم الذين يستحقون عليها المدح والذم، فثبت تعلقها بهم، ولا وجه يصح من أجله تعلق الفعل بالفاعل إلا الحدوث، فواجب أن تكون هذه الأفعال محدثة من جهة العبيد، دون جهة الله تعالى، فبان أنها غير مخلوقة لله تعالى. وأيضا فقد ثبت أن من فعل الظلم يكون ظالماً، ومن فعل الكذب يكون كاذباً، ومن فعل العدل يكون عادلاً، ومن فعل الصدق يكون صادقاً، فلو كان الفاعل لها لوجب أن يكون ظالماً بظلمنا، وكاذباً بكذبنا، وعادلاً بعدلنا، وصادقاً بصدقنا، تعالى الله عن ذلك علواً كبيراً.
فإن قيل: أليس الله يخلق الولد، ولا يكون والداً (1) والحركة ولا يكون متحركاً؟! وما أنكرتم أن يخلق الله الظلم ولا يكون ظالماً، والكذب ولا يكون كاذباً، والصدق ولا يكون صادقاً به، والعدل ولا يكون عادلاً به؟
__________
(1) سقط من المخطوطة: والداً. وجواب السؤال يقتضيها فأثبتناها.
قيل له: ليس يشتبه الأمران، لأن الظالم اسم لمن فعل الظلم، والصادق اسم لمن فعل الصدق، فمن فعل الظلم والكذب والعدل والصدق، لا بد من أن يكون ظالما وكاذبا وعادلاً وصادقاً، والمتحرك ليس اسما لمن فعل الحركة، بل هو اسم لمن حلَّته، والوالد (1) ليس اسما لمن فعل الولد، وإنما هو اسم لمن وُلِدَ المولود على فراشه، فلا يجب أن يكون مَن فَعَلَ الحركة والولَدَ متحركاً والداً.
فإن قيل: فهل تقولون إن الإستطاعة قبل الفعل؟
قيل له: نعم. والذي يدل على ذلك أنها لو كانت مع الفعل لكان الله قد كلف عباده ما لا يطيقون، لأنه قد كلف الكفار أن يؤمنوا، فلو كانت الإستطاعة مع الفعل لكان الكافر غير مستطيع للإيمان، وقد ثبت أن تكليف ما لا يطاق قبيح، فوجب أن يكون الذي يؤدي إليه من القول فاسداً. وأيضا فلو كانت الإستطاعة مع الفعل لكان من يتوضأ أبداً بالماء، غير قادر على التوضؤ به، ولو كان غير قادر على التوضؤ به، لوجب أن يكون التيمم جائزا له، لأن المسلمين قد أجمعوا على أن من لم يقدر على التوضؤ بالماء جاز له التيمم، وفي هذا أن الواجد للماء لو صلى طول عمره بالتيمم، أجزاه!! وأيضا فلو كانت الإستطاعة مع الفعل لكان يجب أن يكون الإنسان لو أكل الميتة طول عمره لم يأكل إلا المباح، لأن عندهم أن آكل الميتة لا يقدر على أكل غيرها، والمسلمون قد أجمعوا على أن من لم يقدر إلا على أكل الميتة فأكلها مباح، وهذا المذهب أكثر فساداً من أن يحتاج فيه إلى الإكثار.
- - -
__________
(1) في المخطوطة: والولد. والصواب ما أثبت.
باب النبوة
إن سأل سائل: فقال ما قولكم في النبوة؟
قيل له: نقول إن محمد بن عبد الله صلى الله عليه وآله وسلم رسول الله تبارك وتعالى، إلى كافة خلقه، ونقول إن كل ما أتى به من عند الله فهو حق، وما أخبر به فهو صدق، ويقر بنبوته جميع الأنبياء الذين أخبر الله عز وجل رسوله صلى الله عليه وآله وسلم بنبوتهم، والدليل على ذلك ما أظهره الله تعالى على يديه من المعجزات الدآلة على نبوته، [منها] إشباعه الناس الكثير بالطعام اليسير (1)، ومنها
__________
(1) عن إياس بن سلمة عن أبيه قال: خرجنا مع رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم في غزوة فأصابنا جهد حتى هممنا أن ننحر بعض ظهرنا، فأمر نبي الله فجمعنا تزوادنا فبسطنا له نطعاً فاجتمع زاد القوم على النطع، قال: فتطاولت لأحرزه كم هو، فحرزته كربضة العنز ونحن أربع عشرة مائة، قال: فأكلنا حتى شبعنا جميعاً ثم حشونا جُرُبنا، فقال نبي الله صلى الله عليه وآله وسلم: فهل من وضوء؟ قال: فجاء رجل بأدواة فيها نطفة فأفرغها في قدح، فتوضأنا كلنا ندغفقه دغفقة أربع عشرة مائة، قال: ثم جاء بعد ذلك ثمانية، فقالوا: هل من طهور؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: فرغ الوضوء. أخرجه مسلم في صحيحه في كتاب الضيافة، في باب استحباب خلط الأزواد إذا قلَّت.
وعن جابر بن عبد الله قال: لما حفر الخندق رأيت برسول الله صلى الله عليه وآله وسلم خمصاً فانكفأت إلى امرأتي فقلت لها: هل عندك شيء ؟ فإني رأيت برسول صلى الله عليه وآله وسلم خمصاً شديداً فأخرجت لي جراباً فيه صاع من شعير ولنا بهيمة داجن، قال: فذبحتها وطحنت ففرغت إلى فراغي فقطعتها في برمتها ثم وليت إلى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فقالت: لا تفضحني برسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ومن معه، قال: فجئته فساررته فقلت: يا رسول الله إنا قد ذبحنا بهيمة لنا وطحنت صاعاً من شعير كان عندنا فتعال أنت ونفر معك، فصاح رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وقال: يا أهل الخندق إن جابراً قد صنع لكم سواراً فحيهلا بكم، وقال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: لا تنزلن برمتكم ولا تخبزن عجينتكم حتى أجيء، فجئت وجاء رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يقدم الناس حتى جاءت امرأتي فقلت: بك وبك، فقلت: قد فعلت الذي قلت لي، فأخرجت له عجينتنا فبصق فيها وبارك، ثم عمد إلى من برمتنا فبصق فيها وبارك، ثم قال: إدعي خابزة فلتخبز معك، وأقدحي من برمتكم ولا تنزلوها وهم ألف، فأقسم بالله لأكلوا حتى تركوه وانحرفوا وإن برمتنا لتغط كما هي، وإن عجينتنا لتخبز كما هي. أخرجه مسلم في صحيحه في كتاب الأشربة، في باب جواز استتباعه غيره إلى دار من يثق برضاه.
إجابة الشجرة له حين دعاها (1)، ومنها تسبيح الحصى في يده (2)، وغير ذلك مما يكثر عده وإحصاؤه ، ومعظم ذلك كله هو القرآن.
__________
(1) عن عبادة بن الوليد قال: خرجت أنا وأبي نطلب العلم في الحي من الأنصار قبل أن يهلكوا، فكان أول من لقينا أبا اليسر صاحب رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، ثم ساق الحديث ... إلى أن قال: ثم مضينا حتى أتينا جابر بن عبد الله رضي الله عنه في مسجده وهو يصلي ... إلى أن قال جابر: سرنا مع رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم حتى نزلنا وادياً أفيح، فذهب رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يقضي حاجته فاتبعته بأداوة من ماء، فنظر رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فلم ير شيئا يستتر به فإذا شجرتان بشاطئ الوادي فانطلق رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فأخذ بغصن من أغصانها، فقال: انقادي عليَّ بإذن الله، فانقادت معه كالبعير المخشوش الذي يصانع قائده حتى أتى الشجرة الأخرى فأخذ بغصن من أغصانها، فقال: انقادي عليَّ بإذن الله فانقادت معه كذلك، حتى إذا كان بالمنصف مما بينهما لآم بينهما - يعني جمعهما - فقال: التئما عليَّ بإذن الله فالتأمتا ... إلى أن قال جابر: فحانت مني لفتة فإذا أنا برسول الله صلى الله عليه وآله وسلم مقبلا وإذا الشجرتان قد افترقتا، فقامت كل واحدة منهما على ساق ... الحديث. أخرجه مسلم في صحيحه في كتاب الزهد، في باب حديث جابر الطويل.
وعن ابن عباس قال: جاء أعرابي إلى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فقال: بما أعرف أنك نبي ؟ قال: إن دعوت هذا العذق من هذه النخلة أتشهد إني رسول الله ؟ فدعاه رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فجعل ينزل من النخلة حتى سقط إلى النبي صلى الله عليه وآله وسلم ثم قال: ارجع فعاد، فاسلم الأعرابي. أخرجه الترمذي 2/285.
وعن ابن عمر قال: كنت مع رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم في سفر فأقبل أعرابي فلما دنا منه قال له رسول الله: أين تريد؟ قال: إلى أهلي، قال: هل لك في خير؟ قال: وما هو؟ قال: تشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له وأن محمداً عبده ورسوله، قال: ومن يشهد على ما تقول؟ قال: هذه السلمة، فدعاها رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وهي بشاطئ الوادي، فأقبلت تخد الأرض خداً حتى قامت بين يديه فاستشهدها ثلاثاً فشهدت ثلاثا أنه كما قال، ثم رجعت إلى منبتها ورجع الأعرابي إلى قومه وقال: إن اتبعوني أتيتك بهم، وإلا رجعت مكثت معك. أخرجه الدارمي في سننه 1/9.
(2) أخرجه أبو نعيم في دلائل النبوة.
[ إعجاز القرآن ]
فإن قيل: ومن أين علمتم أن القرآن معجز؟
قيل له: إنا قد علمنا ضرورة ذلك أن محمداً صلى الله عليه وآله وسلم أتى به، وتحدى العرب وقرَّعهم بالعجز عن الإتيان بمثله، فإن العرب لم يعارضوه، وقد علمنا أنه لا يجوز أن يكون تركهم للمعارضة إلا للعجز، لأنه قد ثبت حرصهم على إبطال أمره، وتوهين شأنه، حتى بذلوا مهجهم وأموالهم، وقتلوا أبنآءهم، وآبآءهم. ومعلوم بكمال العقل أن من تحداه خصمه بأمر من الأمور، وقرعه بالعجز عن الإتيان بمثله، فلا يجوز أن يعدل عن الإتيان بمثله، إلى ما هو أشق منه، إلا إذا تعذر عليه ذلك، ولا التباس في أن القتال أشق من معارضة الكلام، فلولا أنهم عجزوا عن المعارضة لم يجز أن يكونوا قد عدلوا عنها إلى القتال، وثبت بذلك عجز العرب عن الإتيان بمثل القرآن، فإذا ثبت عجزهم وثبت عجز جميع البشر ـ إذ العرب هم الغاية في الفصاحة والطلاقة ـ فثبت أن القرآن معجز.
فإن قيل: وكيف يدل المعجز على أن من أُظهر على يديه فهو نبي؟
قيل له: لأن المعجز كالتصديق.
ألا ترى أن من يدعي النبوة يقول: اللهم إني إن كنت صادقا فاقلب هذه العصا حية، وأنطق هذا الذئب، وما جرى مجراه، فإذا فعل ذلك عند ادعائه (1) غاية دعواه، كان ذلك الفعل تصديقاً له، وقد ثبت أن تصديق الكاذب قبيح، وأن الله لا
__________
(1) في المخطوطة: دعائه. ولعل الصواب ما أثبتنا.
يفعل القبيح، فثبت أن من صدَّقه الله بإظهار العلم عليه، صادق فيما ادعاه من النبوة، ولما بيناه قلنا إن المجبرة لا يمكنها الإستدلال بالمعجز على نبوة من ظهر عليه، لأن عندهم أن الله تعالى يفعل كل فعل يشار إليه، قبيحاً كان أو حسناً، وأن له أن يضل عباده فما (1) يؤمِّنهم أن يصدِّق الكاذبين في ادعاء النبوة.
[ أخبار النبي صدق ]
فإن قيل: ولم قلتم إن جميع ما أخبر به النبي صلى الله عليه وآله وسلم صدق؟
قيل له: لأنه قد ثبت كونه رسولاً لله تعالى، وقد ثبت أن الحكيم لا يجعل رسوله من يكذب أو يفتري في شيء يؤديه عنه، فهذا دليل على صدقه عليه السلام في جميع ما يؤديه عن الله تعالى.
فأما ما يدل على صدقه في سائر ما يخبر به عنه، فإجماع المسلمين على أن تصديق النبي صلى الله عليه وآله وسلم في جميع ما يخبر به عن الله واجب (2)، فثبت أنه صادق في جميع ما يخبر به، وفي جميع ما يدل على صدقه في جميع أخباره أن الكذب ينفر الأُمة، والله تعالى لا يبعث رسولا على وجه يقتضي تنفير أُمته، فثبت أنه لا يبعث إلا من يعلم أنه لا يكذب في شيء مما يخبر به.
ألا ترى انه تعالى جنَّب نبيه الغلظة والفظاظة، لما علم أنهما يؤديان إلى التنفير، فقال تعالى: { وَلَوْ كُنْتَ فَظًّا غَلِيظَ الْقَلْبِ لَانْفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ } [آل عمران:159]. فإذا ثبت وجوب صدقه صلى الله عليه وآله وسلم، ثبت وجوب ما أخبر بوجوبه من الصلوات والزكوات والصيام والحج وسائر الشرائع، وكل ما أخبر بتحريمه منه.
- - -
__________
(1) في المخطوطة: فيما. ولعل الصواب ما أثبت، والله أعلم.
(2) في المخطوطة: فواجب. ولعل الصواب ما أثبتناه.
باب الوعد والوعيد
فإن قيل: فما قولكم في الوعد والوعيد؟
قيل له: نقول إذا ثبت بما قدمنا من الدليل على أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم يجب كونه صادقا في جميع ما أخبر به عن الله تعالى، فيجب أن يقطع على أن جميع ما أخبر به عن الله تعالى من الوعد والوعيد حق، وإذا ثبت ذلك، ثبت أن ما أخبر الله تعالى به من أنه ثابت يثيب غداً، ويعاقب غدا، فإنه كائن لا محالة، ولا يجوز أن يقع في شيء من خبر الله تعالى، ولا خبر رسوله صلى الله عليه وآله وسلم خُلف ولا تبديل، قال الله تعالى: { مَا يُبَدَّلُ الْقَوْلُ لَدَيَّ وَمَا أَنَا بِظَلَّامٍ لِلْعَبِيدِ } [ق:29].
[ تخليد أهل الكبائر في النار ]
فإن قيل: فما قولكم في فسق أهل الصلاة المرتكبين للكبائر؟
قيل له: نقول إنهم معذبون في الآخرة بالنار، خالدين فيها أبدا.
والدليل على ذلك قول الله عز وجل: { وَمَنْ يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَيَتَعَدَّ حُدُودَهُ يُدْخِلْهُ نَارًا خَالِدًا فِيهَا وَلَهُ عَذَابٌ مُهِينٌ } [النساء:14]. وقوله تعالى: { إِنَّ الْأَبْرَارَ لَفِي نَعِيمٍ ، وَإِنَّ الْفُجَّارَ لَفِي جَحِيمٍ ، يَصْلَوْنَهَا يَوْمَ الدِّينِ ، وَمَا هُمْ عَنْهَا بِغَائِبِينَ } [الانفطار:13-16]. وقوله تعالى: { وَمَنْ يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَإِنَّ لَهُ نَارَ جَهَنَّمَ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا } [الجن:23]. فهذه الآيات قد حكمت بأن كل من ارتكب الكبائر، ولزمه اسم الفسق معذب في النار أبداً، فأما من تاب فإنه مخصوص في هذه الآيات بقوله تعالى: { إِلَّا مَنْ تَابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ صَالِحًا } [مريم:60]. وبقوله تعالى: { فَمَنْ تَابَ مِنْ بَعْدِ ظُلْمِهِ وَأَصْلَحَ فَإِنَّ اللَّهَ يَتُوبُ عَلَيْهِ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ } [المائدة:39].
فأما أصحاب الصغائر فقد أخبر الله تعالى عنهم أنه يغفر لهم، قال تعالى: { إِنْ تَجْتَنِبُوا كَبَائِرَ مَا تُنْهَوْنَ عَنْهُ نُكَفِّرْ عَنْكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ وَنُدْخِلْكُمْ مُدْخَلًا كَرِيمًا } [النساء:31].
فإن قيل: ما أنكرتم أن تكون الآيات التي نفت الوعيد إنما هي في الكفار؟
قيل له: لو كان ذلك كذلك، لدل الله سبحانه على مراده، وإذ (1) لم يدل على ما ادعيتم فقد ثبت في تلك الآيات أنها عامة في الكفار وغيرهم.
فإن قيل: فما تنكرون على من قال لكم إن في القرآن ما يوجب تخصيص هذه الآيات وتبيين أن المراد بها هم الكفار،و هو قوله تعالى: { إِنَّ اللَّهَ لَا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ } [النساء:48، 166] (2)؟
قيل له: أما قوله: { إِنَّ اللَّهَ لَا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ }، فليس فيه ذكر ما دون الشرك، وهو قوله تعالى: { وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ }. ليس فيه دليل على أنه يغفر كل ما دون الشرك لمن يشاء، بل فيه دليل على أنه يغفر بعض ما دون الشرك.
ألا ترى أنه قال: { وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ }. فعلقه بالمشيئة، ولم يقل ويغفر كل ما دون ذلك، ثم بيَّن الله بقوله: { إِنْ تَجْتَنِبُوا كَبَائِرَ مَا تُنْهَوْنَ عَنْهُ نُكَفِّرْ عَنْكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ وَنُدْخِلْكُمْ مُدْخَلًا كَرِيمًا } [النساء:31]. ما الذي يشاء أن يغفر مما دون الشرك، فبيَّن أنه هو الصغائر، تغفر لمجتنب الكبائر، فقد بان أن هذه الآية لم توجب كون تلك الآيات خاصة في الكفار على ما ظنته المرجئة .
[الشفاعة ]
إن سأل سائل فقال: ما تقولون في الشفاعة؟ وهل تجوزونها لأهل الكبائر؟
قيل له: إنا نقول إن النبي صلى الله عليه وآله وسلم يشفع للمؤمنين التائبين، ولا يشفع لأهل الكبائر، لقوله تعالى: { مَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ حَمِيمٍ وَلَا شَفِيعٍ يُطَاعُ } [غافر:18]. وقوله تعالى: { وَلَا يَشْفَعُونَ إِلَّا لِمَنِ ارْتَضَى وَهُمْ مِنْ
__________
(1) في المخطوطة: وإذا. ولعل الصواب ما أثبتناه.
(2) سقطت الآية من المخطوطة: وأقحم الناسخ بعدها خطأ : قيل له: أما قوله: { إِنَّ اللَّهَ لَا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ } [النساء:48]، فليس فيه ذكر ما دون ذلك لمن يشاء.
خَشْيَتِهِ مُشْفِقُونَ } [الأنبياء:28]. وقوله تعالى: { أَفَأَنْتَ تُنْقِذُ مَنْ فِي النَّارِ } [الزمر:19]. ثم سائر الآيات التي تلوناها في إثبات الوعيد دآلة على أن أهل الكبائر معذبون، نعوذ بالله من عذابه ونسأله العون على الإنابة والتوبة والعصمة. وإذا ثبت أنهم معذبون، ثبت أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم لا يشفع لهم.
فإن قيل: فإذا لم تجوزوا الشفاعة إلا للمؤمنين فلا معنى لها، فلا فائدة فيها، لأن المؤمنين قد استحقوا الغفران والثواب وإن لم يشفع لهم شافع؟
قيل له: ليس الأمر على ما ظننت، لأن الشفاعة تكون عندنا للمؤمنين في المزيد، وما يتفضل به عليهم من أنواع النعيم التي لا يستحقونها بعد ما يُوفون أجورهم المستحقة، وهذا معقول في الشاهد، لأن الإنسان كما يشفع لغيره في إزالة العقاب عنه، قد يشفع ليتفضل عليه ويزاد على مستحقه من المنافع.
فإن قيل: فما تقولون فيما روي عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم (( ادخرت شفاعتي لأهل الكبائر من أمتي ))(1)؟
قيل له: معنى هذا الحديث عندنا إن صح وثبت: هو فيمن تاب من أهل الكبائر، لأن من تاب منهم إذا لم تكثر طاعته بعد التوبة قلَّ ما يستحقه من الثواب، يشفع له النبي صلى الله عليه وآله وسلم ليتضاعف ما يصل إليه من المنافع، هذا معنى الخبر وتأويله.
__________
(1) أخرج الحديث بلفظ: (( شفاعتي لأهل الكبائر من أمتي )). الترمذي 4/ 45، وابن ماجة 2/ 1441، وأبو داود 5/ 106، وابن خزيمة/ 270، وابن حبان كما في الموارد/ 645، والحاكم 1/ 69، والخطيب في موضح أوهام الجمع والتفريق 2/ 56، والبخاري في التاريخ الكبير 2/ 126، والآجري في الشريعة/ 338، وأبو داود الطيالسي 2/ 228، وأبو نعيم 3/ 201.
وقال الهيثمي في مجمع الزوائد 10/ 378: رواه البزار، والطبراني في الصغير والأوسط.
وأخرج الخطيب في تاريخه:(( شفاعتي لأهل الذنوب من أمتي )). قال أبو الدرداء: وإن زنى وإن سرق؟!! فقال رسول الله صلى الله عليه وآله: (( نعم وإن زنى وإن سرق على رغم أبي الدرداء )). التاريخ 1/ 416.
- - -
باب الإمامة
[ إمامة علي عليه السلام ]
إن سأل سائل فقال: مَن الإمام عندكم بعد رسول صلى الله عليه وآله وسلم؟
قيل له: هو أمير المؤمنين علي بن أبي طالب عليه السلام، نقول ثم الحسن ثم الحسين عليهما السلام.
ونستدل على إمامة أمير المؤمنين عليه السلام بقول النبي صلوات الله عليه وعلى آله وسلم يوم الغدير مخاطبا للأمة: (( من أولى بكم من أنفسكم؟ فقالوا: الله ورسوله ـ ثم قال صلى الله عليه وآله وسلم ـ: من كنت مولاه فعلي مولاه )) (1)، فقدر
__________
(1) هذا الحديث يعرف بحديث الغدير،وهو من أكثر الأحاديث شهرة، فقد رواه مئات من المحدثين عن جمع من الصحابة منهم:
الإمام علي عليه السلام، أخرجه عنه: الإمام أبو طالب في الأمالي 33، والنسائي في الخصائص 156، وأحمد في المسند 1/152، وأبو يعلى 1/428(567)، والطبراني في الصغير 1/119، والطيالسي 23(154)، والطبري في ذخائر العقبى 68، والرياض النضرة 2/161.
وعن ابن عباس، أخرجه عنه: الحاكم 3/132، وأحمد 1/33، والنسائي في الخصائص 45 رقم (81 و 82)، والخطيب البغدادي 12/344، وصححه الحاكم ووافقه الذهبي.
وعن زيد بن أرقم، أخرجه عنه: أحمد 4/368 و 370، ومسلم 2/ 317، والحاكم 2/109، والنسائي في الكبرى 5/ 45(8148)، والطبراني في الأوسط 2/576(1987)، والطبري في ذخائر العقبى 155.
وعن البراء بن عازب، أخرجه عنه: الحافظ محمد بن سليمان الكوفي في المناقب 2/ 368 (844)، وابن ماجة 1/43 برقم (116)، والنسائي في الخصائص 162، والخطيب البغدادي 14/236، والطبري في الذخائر 67، وأحمد في المسند 4/281.
عن أبي الطفيل عامر بن واثلة، أخرجه عنه: أحمد 1/118، والنسائي في الخصائص 150، و ابن حبان 15/ 375 (6931)، والحاكم في المستدرك 3/109و110و533، وابن الأثير في أسد الغابة 3/925و 5/217، والهيثمي في المجمع 9/42.
عن سعد بن أبي وقاص، أخرجه عنه: ابن ماجة 1/42 برقم (115) وص 45برقم (121)، والنسائي في الخصائص 176برقم (94و95) وص 177برقم (96)، والحاكم في المستدرك 3/ 116، والهيثمي في مجمع الزوائد 9/107.
عن جرير بن عبدالله، أخرجه عنه: الطبراني في الكبير 2/357(2505).
وعن حبشي بن جنادة، أخرجه عنه: الطبراني في الكبير 4/16(3514).
وللحديث طرق كثيرة يطول الكلام عليها، وفيما يلي سنذكر شيئا مما قيل عن الحديث:
قال ابن المغازلي الشافعي في (المناقب 27): قال أبو القاسم الفضل بن محمد: هذا حديث صحيح عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وقد روي عن نحو من مائة نفس منهم العشرة، وهو حديث ثابت لا أعرف له علة.
قال الإمام المنصور بالله عبد الله بن حمزة في ( الشافعي 1/117): لا يوجد قط نقل بطرق بقدر هذه الطرق فيجب أن يكون أصلا متبعاً وطريقا مهيعاً.
قال الإمام الحسن بن بدر الدين في (أنوار اليقين/ مخطوط): أما خبر الغدير فقد روي بطرق مختلفة وأسانيد كثيرة وألفاظ مختلفة مترادفة على معنى واحد، وأجمع عليه أهل النقل، وبلغ حد التواتر لا إشكال في تواتره.
وقال ابن حجر العسقلاني في (فتح الباري7/61): وأما حديث: (( من كنت مولاه فعلي مولاه )). أخرجه الترمذي والنسائي، هو كثير الطرق جداً وقد استوعبها ابن عقدة في كتاب مفرد وكثير من أسانيدها صحاح وحسان.
وقال الذهبي في (تذكرة الحفاظ 2/713): رأيت مجلداً من طرق الحديث لابن جرير فاندهشت له ولكثرة تلك الطرق.
وقال كما في ( مفتاح كنز دراية المجوع 107): وأما حديث من كنت مولاه فعلي مولاه فله طرق جيدة وقد أفدت ذلك ـ يعني في كتاب ـ.
وقال الحافظ: محمد بن إبراهيم الوزير: إن حديث الغدير يروى بمائة طريق وثلاث وخمسين طريقاً.
وقال السيد الهادي بن إبراهيم الوزير في ( نهاية التنويه/ مخطوط): من أنكر خبر الغدير فقد أنكر ما عُلم من الدين ضرورة، لأن العلم به كالعلم بمكة وشبهها، فالمنكر سوفسطائي.
وقال ابن الجزري في ( أسنى المطالب 3-4): هو حديث متواتر عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم، رواه الجم الغفير عن الجم الغفير ولا عبرة بمن حاول تضعيفه ممن لا إطلاع له في هذا العلم.
وقال المقبلي في ( الأبحاث المسددة 244): فإن كان مثل هذا ـ يعني حديث الغدير ـ معلوماً وإلا فما في الدنيا معلوم.
وقال ابن حجر الهيثمي في ( الصواعق المحرقة 42): حديث صحيح لا مرية فيه، وقد أخرجه جماعة كالترمذي والنسائي وأحمد، وطرقه كثيرة من أسانيدها صحاح وحسان، ولا التفات إلى من قدح في صحته.
وقال علي القاري في ( المرقاة شرح المشكاة 5/568): هذا الحديث صحيح لا مرية فيه، بل بعض الحفاظ عده متواتراً إذا في رواية أحمد أنه سمعه من النبي صلى الله عليه وآله وسلم ، ثلاثون صحابياً وشهدوا به لعلي لما نوع أيام خلافته.
وقال ابن الأمير الصنعاني في ( الروضة الندية 67): حديث الغدير تواتر عند أكثر أئمة الحديث.
أورده السيوطي في ( الأزهار المتناثرة في الأحاديث المتواترة /1): عن ثمانية عشر صحابياً.
وأورده الكتاني في ( نظم المتناثر في الحديث المتواتر ).
وذكره الحناوي في كتاب( الصفوة) وصرح بتواتره.
وذكره الزبيدي في ( لقط اللآلئ المتناثرة في الأحاديث المتواترة 205) من اثنتين وعشرين طريقاً.
وأورده الأميني في كتاب ( الغدير 1/14- 151) عن مائة وعشرة من الصحابة. وأفرد قسماً لطبقات رواته الذين بلغ عددهم عنده ثلاث مائة وستين عالماً. من تخريج الأستاذ محمد يحيى عزان.
( ) أخرجه الإمام الأعظم زيد بن علي (ع) في المجموع 407ـ 408، والإمام الهادي (ع) في الأحكام 1/38، والإمام أبو طالب في أماليه 32،35، ومحمد بن سليمان الكوفي في المناقب رقم (419)، والمؤيد بالله في الأمالي الصغرى 104(20)، والبخاري 5/99 و 6/18، ومسلم 4/1870(2404)، والترمذي 5 رقم(3731)، وابن ماجة 1/42 رقم (175) و1/45 رقم(121)، والحاكم في المستدرك 3/109، والبزار 3/276 رقم(1065)، والحميدي في مسنده 1/38 رقم(71)، وأحمد بن حنبل 1/177 و1/179، وأبو يعلى في مسنده 2/86 رقم(739)، و66 رقم (709) و(698)، أبو نعيم في حلية الأولياء7/196، والخطيب البغدادي 1/325، والطبراني في الكبير 1/148رقم (337)، وفي الصغير 2/22، وابن الأثير 4/26-27، وابن عساكر في تاريخ دمشق 1/216رقم(349)(ترجمة الإمام علي عليه السلام)، عن سعد بن أبي وقاص. وأخرجه الإمام المرشد بالله في الخميسية 1/134، والطبراني 2/247 (2035) عن جابر بن عبد الله.
وأورده السيوطي في الأزهار المتناثرة في الأحاديث المتواترة عن عشرين من الصحابة، وتتبع ابن عساكر طرقه فبلغ عدد الصحابة نيفاً وعشرين، وقد استوعب طرقه ابن عساكر في نحو عشرين ورقة، وأورده في لقط اللآلئ المتناثرة في الأحاديث المتواترة 31. من تخريج الأستاذ محمد يحيى عزان.
لنفسه وجوب الطاعة على الأمة، ثم أثبت لعلي عليه السلام منه ما كان ثابتا له، فوجب أن تكون طاعة أمير المؤمنين عليه السلام واجبة على الأمة، وإذا ثبت وجوب الطاعة ثبتت الإمامة، ويدل عليه قوله عليه السلام لعلي: (( أنت مني بمنزلة هارون من موسى، إلا أنه لا نبي بعدي )) (1)، فأثبت لأمير المؤمنين جميع منازل
__________
(1) أخرجه الإمام الأعظم زيد بن علي (ع) في المجموع 407ـ 408، والإمام الهادي (ع) في الأحكام 1/38، والإمام أبو طالب في أماليه 32،35، ومحمد بن سليمان الكوفي في المناقب رقم (419)، والمؤيد بالله في الأمالي الصغرى 104(20)، والبخاري 5/99 و 6/18، ومسلم 4/1870(2404)، والترمذي 5 رقم(3731)، وابن ماجة 1/42 رقم (175) و1/45 رقم(121)، والحاكم في المستدرك 3/109، والبزار 3/276 رقم(1065)، والحميدي في مسنده 1/38 رقم(71)، وأحمد بن حنبل 1/177 و1/179، وأبو يعلى في مسنده 2/86 رقم(739)، و66 رقم (709) و(698)، أبو نعيم في حلية الأولياء7/196، والخطيب البغدادي 1/325، والطبراني في الكبير 1/148رقم (337)، وفي الصغير 2/22، وابن الأثير 4/26-27، وابن عساكر في تاريخ دمشق 1/216رقم(349)(ترجمة الإمام علي عليه السلام)، عن سعد بن أبي وقاص. وأخرجه الإمام المرشد بالله في الخميسية 1/134، والطبراني 2/247 (2035) عن جابر بن عبد الله.
وأورده السيوطي في الأزهار المتناثرة في الأحاديث المتواترة عن عشرين من الصحابة، وتتبع ابن عساكر طرقه فبلغ عدد الصحابة نيفاً وعشرين، وقد استوعب طرقه ابن عساكر في نحو عشرين ورقة، وأورده في لقط اللآلئ المتناثرة في الأحاديث المتواترة 31. من تخريج الأستاذ محمد يحيى عزان. والطبري في ذخائر العقبى / 63، وفي صفة الصفوة 1/ 120، وفي الإصابة 2/ 315، وابن عدي 6/ 6088، و 2222.
هارون إلا النبوة، ومن منازل هارون الإمامة من [بعد] موسى، فثبتت الإمامة لعلي عليه السلام. وقد دل الله تعالى على ذلك في محكم كتابه فقال: { إِنَّمَا وَلِيُّكُمُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَالَّذِينَ آمَنُوا الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلَاةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَهُمْ رَاكِعُونَ } [المائدة:55]. ولم يُروَ في أحد أنه زكى وهو راكع غيره، فنزلت هذه الآية فيه، إلا في علي عليه السلام (1)، فثبتت الولاية له.
__________
(1) روى نزول الآية في علي عليه السلام جمع كثير من الصحابة والتابعين منهم:
_ علي. في البداية والنهارية لابن كثير ( 7/ 357 )، ومناقب الخوارزمي/ 187،و في معرفة علوم الحديث للحاكم/ 102، ومناقب بين المغازلي ( ص 312 رقم ( 355 ) )، والعمدة لابن البطريق/ 60، والمرشد بالله في الأمالي 1/ 137، 138، وفرات الكوفي في تفسيره/ 39، 40، والسيوطي في الدر المنثور 2/ 293 عن أبي الشيخ وابن مردويه، والمتقي الهندي في الكنز 6/ 405.
_ الحسن السبط. ابن الجوزي في تذكرة الخواص / 207 - 208.
_ أنس بن مالك. الكنجي في كفاية الطالب / 228 - 229، ونحوه في شواهد التنزيل رقم ( 222 )، ( 223 )، ونقله في الغدير ( 2/ 159 ) عن فضائل الصحابة لأبي سعد السمعاني الشافعي.
_ أبو ذر الغفاري. الثعلبي في تفسيره، وعنه في مجمع البيان للطبرسي 2/ 210، والحسكاني في الشواهد رقم ( 235 )، وعنه الغدير 2/ 52، والعمدة ( الفصل 15 ص 59 ).
_ أبو رافع. المرشد بالله في أماليه 1/ 138، والطوسي في أماليه 1/ 58، والطبراني، وابن مردويه، وأبو نعيم كما في الدر المنثور 2/ 294، والهندي في الكنز 7/ 305.
_ جابر بن عبد الله. الحسكاني في الشواهد رقم ( 232 )، والأميني في الغدير ( 3/ 159 ) عن الإبانة لأبي الفتح النطنزي.
ـ عبد الله بن عباس. المرشد بالله في أماليه 1/ 138، والكوفي في المناقب 1/ 150 ( 58 )، 1/ 169 ( 100 )، والبلاذري في أنساب الأشراف 2/ 150، وابن المغازلي في المناقب/ 313 رقم ( 357 )، والطبري في الذخائر/ 88، والواحدي في أسباب النزول/ 148 - 149، والخوارزمي في المناقب/ 186، والحسكاني في الشواهد برقم ( 236 - 237 )، والطبرسي في مجمع البيان 2/ 210 - 211، والكنجي في الكفاية/ 249 - 250، وابن كثير في تفسيره 2/ 71، والخطيب، وعبد الرزاق، وعبد بن حميد، وأبو الشيخ، وابن مردويه، كما في الدر المنثور 2/ 293، وفتح القدير 2/ 50، والطبري في تفسيره 6/ 186، والهيثمي في مجمع الزوائد 7/ 17 عن الطبراني.
_ عبد الله بن سلام. الطبري في الذخائر/ 102 عن الواقدي وابن الجوزي، وفي الرياض 2/ 302 عن الفضائلي. وهو في الجمع بين الصحيحين للعبدري نقلا عن صحيح النسائي ذكر ذلك في جامع الأصول لابن الأثير 9/ 478. والرازي في مفاتيح الغيب 3/ 618، والنيسابوري في تفسيره 6/ 167، والطبرسي في المجمع 2/ 210.
_ عمار بن ياسر. الطبراني، وابن مردويه، كما في الدر المنثور 3/ 105. والحسكاني في الشواهد برقم ( 331 )، وابن كثير في التفسير 2/ 71، والهيثمي في مجمع الزوائد 7/ 17 عن الطبراني في الأوسط.
_ المقداد بن الأسود الكندي. الحسكاني في الشواهد رقم ( 234 ).
_ محمد بن علي الباقر. ابن المغازلي في المناقب/ 313، وفرات في تفسيره/ 36 - 37، وأبو نعيم في الحلية، كما في الدر المنثور 3/ 106، والكوفي في المناقب 2/ 414 ( 896 ).
_ محمد بن الحنفية. الكوفي في المناقب 1/ 189 ( 110 )، والحسكاني في الشواهد برقم ( 224 )، ( 225 )، وفرات الكوفي في تفسيره / 27، 39، 41.
_ مجاهد بن جبر. الطبري في تفسيره كما في الدر المنثور 3/ 105، وابن كثير في تفسيره 2/ 71.
_ السدي. الطبري في تفسيره كما في الدر المنثور 3/ 105.
_ زيد بن علي. المرشد بالله في أماليه 1/ 137.
_ عبد الملك بن جريح. الحسكاني في الشواهد برقم ( 227 ).
_ عتبة بن أبي حكيم. الطبري في تفسيره 6/ 186.
_ عطاء بن السائب. الحسكاني في الشواهد برقم ( 226 ).
_ سلمة بن كهيل. ابن كثير في البداية والنهاية 7/ 357، والتفسير 2/ 71، وابن أبي حاتم، وأبو الشيخ، وابن عساكر، كما في الدر المنثور 3/ 105.
وهو في تفسير الزمخشري الكشاف، وتفسير أبي البركات 1/ 496، وتفسير النيسابوري 3/ 461، والفصول المهمة لابن الصباغ المالكي/ 123، ومطالب السئول لابن طلحة الشافعي / 31، وتذكرة الخواص لابن الجوزي/ 9، وفرائد السمطين للحمويي في الباب الرابع عشر، والمواقف للقاضي عضد الدين الإيجي 3/ 276، ونور الأبصار للشبلنجي / 77، وروح المعاني للألوسي 2/ 329، وغيرهم كثير كثير.
فإن قيل: ما أنكرتم أن تكون الآية عامة في جميع المؤمنين؟
قيل له: لا يجوز ذلك، لأنه تعالى أثبت الولي والمولى عليه، لأنه قال: { إِنَّمَا وَلِيُّكُمُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَالَّذِينَ آمَنُوا الَّذِينَ }. فوجب أن يكون الولي غير المولى من هو ولي عليه، فثبت أن الآية خاصة، وإذا ثبت ذلك ثبت أنها في علي عليه السلام إذ (1) لم يدع أحد أنها خاصة في غيره.
فإن قال: فما تنكرون على من قال لكم إن جميع ما ذكرتم من الآية والخبر لا يوجب له إلا الفضائل والمراتب والمنازل والمناقب دون الإمامة، لأن الصحابة قد أجمعت على إمامة غيره؟
قيل له: لم تجمع الصحابة على إمامة غيره، وذلك أن من يدعي الإجماع على إمامة غيره، لا يدعي البيعة عن كل أحد من الصحابة، وإنما نقول وجدناهم في آخر أمر أبي بكر بين مبائع ومظهر للرضى، وساكت، والسكوت لا يدل على الرضى، إلا إذا سلمت الأحوال، وقد ثبت أنه جرى حينئذ (2) هناك أمور من القهر والحمل والإلجاء، والسكوت مع هذه الأحوال لا يدل على الرضى.
فإن قيل: وما تلك الأمور التي ادعيتم فيها القهر والحمل والإلجاء؟
__________
(1) في المخطوطة: إذا. والصواب ما أثبتنا.
(2) في المخطوطة: وحينئذ.
قيل له: هي ما نطقت به الأخبار، واتصلت بصحتها الآثار، أن الزبير لما امتنع من البيعة حُمِل عليه، وانتهى الأمر إلى أن كسر سيفه (1)، وأن عمار بن ياسر ضرب (2) وأن سلمان أستخف به (3)، وأن فاطمة عليها السلام هجموا على دارها لما
__________
(1) قال اليعقوبي : وتخلف عن بيعة أبي بكر قوم من المهاجرين والأنصار، ومالوا إلى علي بن أبي طالب، منهم: العباس بن عبد المطلب، والفضل بن العباس، والزبير بن العوام...
تاريخ اليعقوبي 2/ 124 - 125، والسقيفة للجوهري حسب رواية ابن أبي الحديد 2/ 13، والإمامة السياسة 1/ 10.
وقال عمر بن الخطاب: وإنه كان من خبرنا حين توفى الله نبيه أن عليا والزبير ومن معهما تخلفوا عنا في بيت فاطمة. مسند أحمد 1/55، والطبري 2/ 466، وابن الأثير 2/ 124، وابن كثير 5م 246، وصفوة الصفوة 1/ 97، وابن أبي الحديد 1/ 123، والسيوطي في تاريخه/ 45. وابن هشام 4/ 338، وتيسير الوصول 2/ 41.
قال الطبري: أتى عمر بن الخطاب منزل علي، وفيه طلحة والزبير ورجال من المهاجرين فخرج عليه الزبير مصلتا بالسيف، فعثر فسقط السيف من يده فوثبوا عليه فأخذوه. تاريخ الطبري 2/ 443، 444، 446، وذكر كسر السيف المحب الطبري في الرياض النضرة 1/ 167، والخميس 1/ 188، وابن أبي الحديد 1/ 122، 132، 134، 158، و ( 2/ 2 - 5، وكنز العمال 3/ 128، والإمامة والسياسة 1/ 11، وأنوار اليقين للأمير الحسين/ 133، ومصابيح الحسني.
(2) لم أقف على ضرب عمار بعد بيعة أبي بكر، ولكن في عهد عثمان وربما اشتبه الأمر على الإمام.
أما ما كن من أمر عمار فإنه اجتمع ناس من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فكتبوا كتابا ذكروا فيه ما خالف فيه عثمان من سنة رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وسنة صاحبيه وعددوا أموراً كثيرة... ثم تعاهدوا ليدفعن الكتاب في يد عثمان، وكان ممن حضر الكتاب عمار بن ياسر، والمقداد بن الأسود، وكانوا عشرة فلما خرجوا به إلى عثمان تسللوا عن عمار والكتاب في يده حتى بقي وحده ثم مضى حتى دخل على عثمان وعنده مروان بن الحكم، وأهله من بني أمية فدفع إليه الكتاب فقرأه، فقال له: أنت كتبت هذا الكتاب؟ قال: نعم. قال: ومن كان معك؟ قال: كان معي نفر تفرقوا فرقا منك. قال: من هم؟ قال: لا أخبرك بهم قال: فَلِمَ اجترأت علي من بينهم؟ فقال: مروان: يا أمير المؤمنين إن هذا العبد الأسود ـ يعني عمارا ـ قد جرأ عليك الناس، وإنك إن قتلته نكلت به من ورآءه. قال عثمان: أضربوه، فضربوه وضربه عثمان معهم حتى فتقوا بطنه!!!! فغشي عليه، فجرُّوه حتى طرحوه على باب الدار، فأمرت به أم سلمة زوج النبي عليه الصلاة والسلام، فأدخل منزلها، وغضب فيه بنو المغيرة وكان حليفهم، فلما خرج عثمان لصلاة الظهر، عرض له هشام بن الوليد بن المغيرة، فقال: أما والله لئن مات عمار من ضربه هذا لأقتلن به رجلا عظيما من بني أمية، فقال عثمان: لست هناك. الإمامة والسياسة لابن قتيبة 1/ 32 - 33. وأنوار اليقين/ 11 للأمير الحسين، ومروج الذهب 2/ 347. وتاريخ الخميس2/271،والسيرة الحلبية 2/78، وشرح نهج البلاغة 1/238، وأنساب الأشراف 5/48.
(3) ذكر في أنوار اليقين: أنهم وجأوا عنقه حتى خفض إلى الأرض. / 11.
تأخر علي عليه السلام عن البيعة (1)، وأن سعد بن عبادة لما أظهر الكراهة اضطر إلى مفارقة المدينة، ثم رشق بسهم في أيام عمر ومات (2)، وإذا صح هذا الذي
__________
(1) غضب رجال من المهاجرين في بيعة أبي بكر منهم: علي بن أبي طالب والزبير فدخلا بيت فاطمة ومعهما السلاح. الرياض النضر 1/ 218، والجوهري برواية ابن أبي الحديد 1/ 132، و6/ 293، وتاريخ الخميس 2/ 169.
فبعث إليهم أبو بكر عمر بن الخطاب ليخرجهم من بيت فاطمة، وقال له: إن أبو فقاتلهم، فأقبل بقبس من نار على أن يضرم عليهم الدار، فلقيتهم فاطمة فقالت: يا ابن الخطاب أجئت لتحرق دارنا؟ قال: نعم، أو تدخلوا في ما دخلت فيه الأمة. ابن عبد ربه 3/ 64، وأبو الفداء 1/ 156، وانظر انساب الأشراف 1/ 586، وكنز العمال 3/ 140، والرياض النضرة 1م 167، وشرح ابن أبي الحديد 1/ 132، والخميس 1/ 178، وأنوار اليقين لأمير الحسين/ 13، ومصابيح الحسني، وأعلام النساء 3/125.
وقال اليعقوبي: فأتوا في جماعة حتى هجموا على الدار ـ إلى قوله ـ وكسر سيفه ـ أي سيف علي ـ ودخلوا الدار فخرجت فاطمة فقالت: والله لتخرجن أو لأكشفن شعري ولأعجن إلى الله، فخرجوا وخرج من كان في الدار. تاريخ اليعقوبي 2/ 126.
قال أبو بكر في مرض موته: أما إني لا آسي على شيء من الدنيا إلا على ثلاث فعلتهن، وددت أني تركتهن... إلى قوله: فأما الثلاث التي فعلتها فوددت أني لم أكشف بيت فاطمة عن شيء وإن كانوا قد أغلقوه على الحرب. تاريخ الطبري 2/ 619، ومروج الذهب 1/ 414، وابن عبد ربه 3/ 69، وكنز العمال 3/ 135، والإمامة والسياسة 1/ 18، وتاريخ الذهبي 1/ 0388، وغيرهم.
وفي رواية اليعقوبي: وليتني لم أفتش بيت فاطمة بنت رسول الله وأدخله الرجال ولو كان أغلق على حرب. تاريخ اليعقوبي 2/ 137.
(2) ذكر أن سعدا ترك اياما بعد بيعة أبي بكر ثم بعث إليه أن أقبل فبايع، فقد بايع الناس وبايع قومك، فقال: أما والله حتى أرميكم بما في كنانتي من نبل، واخضب رمحي، وأضربكم بسيفي ما ملكته يدي، وأقاتلكم بأهل بيتي ومن أطاعني من قومي فلا أفعل. وأيم الله لو أن الجن اجتمعت لكم مع الإنس ما بايعتكم حتى أعرض على ربي وأعلم حسابي. تارخي الطبري 3/ 459، وابن الأثير 2/ 126، وكنز العمال 3/ 134ن والإمامة والسياسة 1/ 10، والسيرة الحلبية 4/ 397.
قيل فلما أتي أبو بكر بذلك قال عمر: لا تدعه حتى يبايع.
فقال له بشير بن سعد: إنه قد لج وأبى، وليس بمبايعكم حتى يقتل، وليس بمقتول حتى يقتل معه ولده وأهل بيته وطائفة من عشيرته، فاتركوه فليس تركه بضآركم، إنما هو رجل واحد. فتركوه وقبلوا مشورة بشير بن سعد، واستنصحوه لما بدا لهم منه، فكان سعد لا يصلي بصلاتهم ولا يجتمع معهم ولا يحج ولا يفيض معهم بإفاضتهم... إلخ. فلم يزل كذلك حتى توفي أبو بكر وولي عمر. الرياض النضرة إضاقة إلى سائر المصادر السابقة إلا الطبري فأورد الرواية إلى: فاتركوه.
ولما ولي عمر الخلافة لقيه في بعض طرق المدينة.
فقال له: إيه يا سعد!؟
فقال له: إيه يا عمر!؟
فقال له عمر: أنت صاحب المقالة؟
قال سعد: نعم، أنا ذلك وقد أفضى إليه هذا الأمر، كان والله صاحبك أحب إلينا منك وقد أصبحت والله كارها لجوارك.
فقال عمر: من كره جوار جار تحول عنه.
فقال سعد: ما أنا غير مستسر بذلك، وأنا متحول إلى جوار من هو خير منك.
فلم يلبث إلا قليلا حتى خرج إلى الشام في أول خلافة عمر .... إلخ. طبقات ابن سعد 3/ 145، وابن عساكر 4/ 90 بترجمة سعد من تهذيبه، وكنز العمال 3/ 134 ( 2296 9، والسيرة الحلبية 3/ 397.
وفي رواية البلاذري: أن سعد بن عبادة لم يبايع أبا بكر وخرج إلى الشام، فبعث عمر رجلا وقال: أدعه إلى البيعة واحتل له، فإن أبى فاستعن الله عليه. فقدم الرجل الشام فوجد سعدا في حائط بجوارين ـ من قرى حلب ـ فدعاه إلى البيعة. فقال: لا أبايع قرشيا أبدا. قال: فإني أقاتلك. قال: وإن قاتلتني. قال: أفخارج أنت مما دخلت فيه الأمة. قال: أما من البيعة فإني خارج. فرماه بسهم فقتله. أنساب الأشراف 1/ 589، والعقد الفريد 3/ 64 - 65 باختلاف يسير، وأنوار اليقين/ 11.
ذكرناه وهو يسير من كثير بان أن السكوت معه لا يدل على الرضى على أنه لا فصل بين من ادعا الإجماع على إمامة أبي بكر وبين من ادعاه على إمامة معاوية بعد ما هادنه الحسن بن علي عليه السلام، وكل ما يمكن أن نبين به أن معاوية لم يجمع على إمامته، أمكن أن نبين بمثله أن أبا بكر لم يُجمع على إمامته.
فأما ما روي من تقديم أبي بكر في الصلاة، فهو من الأخبار التي فيها نظر (1)، وإن صح فهو لا يدل على الإمامة. ألا ترى أنه يجوز أن يقدم في الصلاة من لا يصلح
__________
(1) روي أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم مرض فاشتد مرضه فقال: مروا أبا بكر فليصل بالناس قالت عائشة: إنه رجل رقيق إذا قام مقامك لم يستطع أن يصلي بالناس فأمر ثانية فعادت فأمر ثالثة فصلى بالناس في حياة النبي صلى الله عليه وآله وسلم. أخرجه البخاري فتح الباري 2/ 130، ومسلم بشرح النووي 4/ 140، وقالت عائشة: لقد راجعت رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم في ذلك وما حملني على كثرة مراجعته إلا أنه لم يقع في قلبي أن يحب الناس بعده رجلا قام مقامه أبداً!!
أقول وهو يمكن أن تكره عائشة هذا الخير لأبي بكر؟!! ثم هل تجوز لها هذه المراجعة التي أغضبت النبي صلى الله عليه وآله وسلم فقال: إنكن لصواحب يوسف. وما يقصد بصواحب يوسف؟! مع العلم أن صواحب يوسف هن اللائي رادونه بالفحشاء عن نفسه. ثم كيف تجوز المراجعة بذلك الشكل مع قول الله تعالى: { وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ وَلَا مُؤْمِنَةٍ إِذَا قَضَى اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَمْرًا أَنْ يَكُونَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ } [الأحزاب:36]. وأيضا قالت مما حملها على المراجعة: كنت أرى أنه لن يقوم مقامه أحد إلا تشآم الناس به فأردت أن يعدل ذلك رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم عن أبي بكر. أقول: وهذه العلة تنقض العلة الأولى، فهنالك كراهة محبة الناس له، وهنا خوف تشآم الناس به!! فأيهما أصح؟!!
وفي رواية أخرى أخرجها البخاري الفتح 2/ 130، ومسلم بشرح النووي 4/ 141، أن عائشة قالت: إن أبا بكر رجل أسيف وإنه متى يقم مقامك لا يسمع الناس، فلو أمرت عمر!! وطلبت من حفصة أن تقول له ذلك. فغضب صلى الله عليه وآله وسلم فقالت حفصة لعائشة: ما كنت لأصيب منك خيرا. هذا عند البخاري، وعند مسلم، قالت: فلما دخل في الصلاة وجد رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم من نفسه خفة فقام يُهادى بين رجلين ورجلاه تخطان في الأرض، قالت: فلما دخل المسجد سمع أبو بكر حسه ذهب يتأخر فأومأ إليه رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قم مكانك فجاء رسول الله حتى جلس عن يسار أبي بكر، قالت: فكان رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يصلي بالناس جالساً وأبو بكر قائما، يقتدي أبو بكر بصلاة النبي صلى الله عليه وآله وسلم ويقتدي الناس بصلاة أبي بكر. وهو عند البخاري 2/ 132.
أقول: لقد تغيرت العلة التي حملت عائشة على المراجعة في هذه الرواية، وهذا اضطراب واضح يضعف الرواية.
وفي رواية أخرجها البخاري الفتح 2/ 137، ومسلم 4/ 135. عن عائشة قالت: ثقل رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فقال: أصلى الناس؟ قلنا: لا، هم ينتظرونك. قال: ضعوا لي ماء في المخضب. قالت: ففعلنا فاغتسل فذهب لينوء فأغمي عليه ثم أفاق حتى أغمي عليه ثلاث مرات وهو يسأل أصلى الناس؟ ثم أرسل صلى الله عليه وآله وسلم إلى أبي بكر ليصلي بالناس. فطلب أبو بكر من عمر أن يصلي بالناس فامتنع عمر. فصلى أبو بكر تلك الأيام، ثم خرج النبي صلى الله عليه وآله وسلم ليصلي وأبو بكر يصلي بالناس فتأخر أبو بكر فأومأ إليه صلى الله عليه وآله وسلم أن لا يتأخر، وجلس جنب أبي بكر وصلى به وأبو بكر يصلي بالناس.
وفي رواية للبخاري 2/ 130، ومسلم 4/ 142، أن أبا بكر كان يصلي الناس في وجع رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم حتى إذا كان يوم الإثنين وهم صفوف في الصلاة كشف رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ستر الحجرة فنظر إليهم، ونكص أبو بكر على عقبه فأشار إليه صلى الله عليه وآله وسلم أن يتموا الصلاة وأرخى الستر وتوفي رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم من يومه.
وفي رواية للبخاري 2/ 131، ومسلم 4/ 143. أنها أقيمت الصلاة فذهب أبو بكر ليتقدم فقال نبي الله صلى الله عليه وآله وسلم بالحجاب فرفعه فأومأ بيده إلى أبي بكر أن يتقدم وأرخى صلى الله عليه وآله وسلم الحجاب فلم نقدر عليه حتى مات.
أقول: ما هذا الإضطراب؟
في الرواية الأولى يكشف النبي صلى الله عليه وآله وسلم الحجاب وهم يصلون فيتأخر أبو بكر فيوميء لهم صلى الله عليه وآله وسلم أن يتموا؟؟ وهنا يكشف الحجاب وأبو بكر يذهب ليتقدم ثم يتراجع فيوميء له صلى الله عليه وآله وسلم أن يتقدم.
أقول: هذا من جهة المتن، وأما من جهة السند فارجع إلى فتح الباري تجد الشارح يحاول جاهداً التوفيق والتلفيق فبعض الروايات مرسلة والأخرى موصولة، وهناك أكثر من خلل. والمقام لا يتسع وإنما أردنا الإشارة إلى تنظير الإمام المؤيد بالله على هذه الروايات والموضوع بحاجة إلى دراسة وافية، أرجو أن يتيسر لي ذلك لاحقا إن شاء الله تعالى.
للإمامة!! على أن التقديم في الصلاة ليس هو إيجاب إمامته. ألا ترى إلى المسلمين إذا قدموا بعضهم للصلاة لم يكن ذلك عند أحد من المسلمين موجبا لإمامته.
[ إمامة الحسن والحسين ]
فأما ما يدل على أن الإمامة بعد أمير المؤمنين للحسن والحسين عليهما السلام، قول النبي صلى الله عليه وآله وسلم: (( هذان إمامان إن قاما أو قعدا )) (1).
ويدل أيضا على ذلك إجماع أهل البيت على القول بإمامتهما، وسنبين أن إجماع أهل البيت حجة، وعلى أنهما قد دعوا إلى أنفسهما وبويعا، ولم يكن في زمانهما
__________
(1) الحديث متلقي بالقبول عند أهل البيت عليهم السلام ولا يكاد يخلو من ذكره كتاب من العقيدة عند أهل البيت. وأخرجه الصدوق في علل الشرائع/ 211، مسندا.
من يدعي الإمامة غير معاوية ويزيد، وهذان قد ظهر فسقهما وكفرهما. فبان به (1) صحة إمامتهما.
[ إمامة أهل البيت ]
فإن سأل سائل فقال: ما قولكم في الإمامة بعد الحسن والحسين عليهما السلام؟
قيل له: نقول إنها ثابتة في أولادهما المنتسبين إليهما من الذكور دون الإناث، لا يخرج عنهما إلا البنات، ويستدل على صحة ذلك بإجماع أهل البيت عليهم السلام، إلا أنهم لم يختلفوا في أن الإمامة لا تخرج عن البطنين.
فإن قيل: ولم قلتم إن إجماع أهل البيت حق؟
قيل له: لقول النبي صلى الله عليه وآله وسلم: (( إني تارك فيكم ما إن تمسكتم به لن تضلوا من بعدي كتاب وعترتي أهل بيتي، ألا وإنهما لن يفترقا حتى يردا على الحوض )) (2).
__________
(1) في المخطوطة: له. ولعل الصواب ما أثبت.
(2) هذا الحديث ورد بألفاظ متفاوتة فممن أخرجه وفيه لفظ: (( وعترتي )) الإمام زيد بن علي في المسند /104، والإمام الرضى في الصحيفة/ 464، ، والحافظ محمد بن سليمان الكوفي في مناقبه المطبوعة / 167 رقم (646) ، والإمام أبو طالب في الأمالي 179، والمرشد بالله في الأمالي/ 152، والدولاي في الذرية الطاهرة /166 رقم (228) والبزار 3/ 89 رقم (864) عن علي.
وأخرجه مسلم 15/ (بشرح النووي) 199، والترمذي 5/ 622 رقم( 3788)، وابن خزيمة 4/ 62 رقم (2357)، والطحاوي في مشكل الآثار 4/ 368- 369، وابن أبي شيبة في المصنف 7/ 418، وابن عساكر في تاريخ دمشق 5/ 369 ( تهذيبه )، والطبري في ذخائر العقبى 16، البيهقي في السنن الكبرى 7/ 30، والطبراني في الكبير 5/ 166 رقم ( 4169)، والنسائي في الخصائص 150رقم (276)، والدارمي 2/ 431، وابن المغازلي في المناقب 234، 236، وأحمد في المسند 4/ 367، وابن الأثير في أسد الغابة 2/ 12، والحاكم في المستدرك 3/ 148، وصححه وأقره الذهبي عن زيد بن أرقم.
وأخرج عبد بن حميد 107- 108( المنتخب )، واحمد 5/ 182و 189، والطبراني في الكبير 5/ 166، وأورده السيوطي في الجامع الصغير 157 رقم ( 2631 )، ورمز له بالتحسين، وهو في كنز العمال 1/ 186 رقم ( 945 )، وعزاه إلى ابن حميد وابن الأنباري عن زيد بن ثابت وأخرجه أبو يعلى في المسند 2/ 197و 376، وابن أبي شيبة في المصنف 7/ 177، والطبراني في الصغير1/ 131و 135و 226، وأحمد في المسند 2/ 17، 6/ 26، وهو في كنز العمال 1/ 185 رقم ( 943 )، وعزاه إلى البارودي ورقم ( 944 )، وعزاه إلى ابنه أبي شيبة، وابن سعد، وأبي يعلى. عن أبي سعيد الخدري.
وأخرجه الخطيب البغدادي في تاريخه 8/ 442، وهو في الكنز 1/ 168، وعزاه إلى الطبراني في الكبير عن حذيفة بن أسيد.
وأخرجه الترمذي في السنن 5/ 621 رقم ( 3786 )، وذكره في كنز العمال 1/ 117،رقم ( 951 )، وعزاه إلى ابنه أبي شيبة، والخطيب في المتفق والمفترق عن جابر بن عبد الله.
والكنجي في كفاية الطالب 11، وابن سعد في الطبقات 4/ 8، ورواه في العقد الفريد 2/ 158، و346. وفي تذكرة الخواص/ 332. ورواه نور الدين الحلبي في إنسان العيون 3/ 308، والعزيزي في السراج المنير شرح الجامع الصغير 1/ 321، وابن الصباغ في الفصول المهمة/ 24ن وشهاب الدين الخفاجي في نسيم الرياض 3/ 410، والثعلبي في الكشف والبيان عند تفسير آية الاعتصام، وآية ( أيها الثقلان ). والرازي في تفسير آية الإعتصام 3/ 18 وهو في تفسير النظام النيسابوري 1/ 257، 4/ 94، وفي تفسير ابن كثير الدمشقي 3/ 485، و 4/ 113، ورواه في البداية والنهاية في ضمن حديث الغدير ،وابن الأثير في النهاية الجزء الأول، والسيوطي في الدر النثير/ 155، وذكره في لسان العرب في مادة عترة ومادة ثقل وحبل، والشيرازي في القاموس في مادة أو ثقل، والزبيدي في تاج العروس في مادة ثقل أيضا. وشرح نهج البلاغة 6/ 130 في معنى العترة، ومدارج النبوة لعبد الحق الدهلوي/ 250، والمناقب المرتضوية لمحمد صالح الترمذي الكشفي/ 96، 97، 100، 472، ومفتاح كنوز السنة 2/ 448، ومصابيح السنة للبغوي 2/ 205، 206. والصواعق المحرقة/ 75، 87، 90، 96، 136، وإسعاف الراغبين في هامش نور الأبصار/ 110. وينابيع المودة/ 18، 25.
قيل له: الذي يدل على هذا الخبر هو تلقي الأمة له بالقبول، وكل خبر تتلقاه الأمة بالقبول، فيجب له أن يكون صحيحاً مقطوعا به، وإن لم يكن في الأصل متواترا، إذ قد ثبت أن الأمة لا تجمع على الباطل.
فإن قيل: ولم قلتم وادعيتم أن أهل البيت أولاد الحسن والحسين عليهم السلام دون من سواهم؟
قيل لهم: لأن كونهم أهل البيت مجمع عليه لا خلاف فيه، وكون غيرهم من أهل البيت مختلف فيه، ولا دليل لمن يدعيه.
[ شروط الإمامة ]
فإن قيل: ما الصفة التي إذا حصلت في الواحد منهم صح له الإمامة؟
قيل له:
ـ أن يكون من أحد البطنيين على ما ذكرنا.
ـ وأن يكون ورعا يحجزه ورعه عن ارتكاب المعاصي، والإخلال بالواجبات.
ـ وأن يكون شجاعا، يثبت في الحروب، ويهتدي في الساعات.
ـ وأن يكون عالما بأصول الدين، وبما (1) تحتاج إليه الأمة، من علم الشريعة، ولن يتم ذلك إلا بعد أن يعرف جملة من العقليات، ليتم له معرفة الله عز وجل، ومعرفة رسوله، وليتم له العلم بما يجوز أن يريده الله، وما لا يجوز أن يريده، ليصح له العلم [متى ما] (2)، ورد خطابه تعالى عليه.
ويجب أن يكون عالماً بجملة الأخبار الواردة عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم في الشرائع.
__________
(1) في المخطوطة: ومما.
(2) في المخطوطة: بينا. والحرف الأول مهمل إلا أن الكمبيوتر لا يكتب المهمل، ولم اهتد لمعرفتها. ولعلها مصحفة. والصواب ما أثبت أو نحوها.
ويجب أن يكون عالما بكتاب الله، وجملة من الناسخ والمنسوخ، والخاص والعام، وحكم الأوامر والنواهي، والفصل بين المجمل والمفسر، وحكم الأخبار، والفصل بين ما يوجب العلم، وما يوجب العمل، وحكم أفعال النبي صلى الله عليه وآله وسلم، في الوجوب وغيره، ولن يتم معرفة ما ذكرنا إلا بعد أن يكون عالماً بجملة من اللغة، والفصل بين حقائقها، ومجازها، وبجملة من النحو ليتوصل بذلك إلى المعرفة بمراد الله تعالى، ومراد رسوله بخطابهما.
ويجب أن يكون عالماً بجملة من وجوه الإجتهاد والمقاييس، ليمكنه رد الفروع إلى الأصول، فإذا اجتمع في الواحد ما ذكرنا صلح للإمامة، ولم يكن في عصره من هو أفضل منه، في جمل هذه الخلال (1).
__________
(1) لم يذكر الإمام من شروط الإمامة التي تواضع عليها المتأخرون إلا سبعة شروط وهي الأساس والعمدة في نظره وهي:
1- ... البلوغ والعقل.
2- ... الذكورة.
3- ... الحرية.
4- ... المنصب.
5- ... الورع.
6- ... الشجاعة.
7- ... الإجتهاد.
بالنسبة للشرطين الأولين فذكرهما ضمني ، والعلم بأصول الدين، والسنة، والكتاب، ووجوه الإجتهاد تندرج كلها تحت بند الإجتهاد. وبقي مما اشتُرِط:
8- ... اجتناب المهن المسترذلة.
9- ... الأفضلية.
10- ... التدبير. وهذا الشرط مهم.
11- ... القدرة على القيام بمهام الإمامة.
12- ... السخاء بوضع الحقوق في مواضعها. وهذا الشرط أيضا ملحوظ ضمن الورع عند السيد المؤيد بالله.
13- ... السلامة من المنفرات نحو الأمراض المشوهة كالجذام.
14- ... سلامة الحواس والأطراف.
[ طريق الإمامة ]
فإن قيل: أخبرونا عن هذا الذي يصلح للإمامة، متى يصير إماما، يجب على المسلمين طاعته.
قيل له: [إن الأمة قد اتفقت على أن الرجل لا يصير إماما بمجرد صلاحيته للإمامة، واتفقت على أنه لا مقتضي لثبوتها إلا أحد أمور ثلاثة: النص، أوالعقد، أو الدعوة. وهي أن يباين الظلمة ، ويأمر بالمعروف، وينهى عن المنكر، ويدعو إلى اتِّباعه. وهذا القول هو الحق لإجماع أهل البيت عليه فثبت هذا القول وبطل ما سواه و](1) لأنه لا قول إلا قول من يقول بالنص، أو قول من يقول بالعقد، [وقد فسد القول بالعقد] لإجماع أهل البيت على خلافه، وفسد قول من يقول بالنص، إذ لو كان النص على ما يقولون لكان نقله ظاهراً، ولا نقلَ لهم يصح فوجب بطلان قولهم، وإذا فسد القولان ثبت القول الثالث، وهو القول بالدعوة.
فإن قيل: فلم ادعيتم أن القائلين بالنص ليس لهم نقلٌ صحيح؟
قيل له: لأنه لا يمكنهم أن يسندوا النص الذي يدعونه في الأصل إلى عشرة أنفس ولا خمسة، ولا معتبر بكثرتهم في هذا الوقت، إذا كان أصلهم على ما ذكرنا، ومن نظر في كتبهم، وفتش أخبارهم، عرف صحة ما نقول من ضعف أخبارهم في الأصل (2).
__________
(1) في المخطوطة: سقط واضح. وما أثبت بين المركنين إجتهاد لإصلاح النص، وقد استوحيته من السؤال وما بقى من الجواب. وعسى أن يمن الله بنسخة أخرى.
(2) للتوسع في البحث يُرجع إلى الرد على الرافضة للإمام القاسم بن إبراهيم الرسي بتحقيقنا.
- - -
باب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر
إن سأل سائل عما نذهب إليه في الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر؟
قيل له: المعروف عندنا على ضربين:
مفروض.
ومندوب إليه.
فالأمر بالمعروف فرض، والمندوب ندب، والنهي عن جميع المناكير واجب.
والذي يدل على ذلك، قول الله تعالى: { كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَتُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَلَوْ آمَنَ أَهْلُ الْكِتَابِ لَكَانَ خَيْرًا لَهُمْ } [آل عمران:110]. وقوله سبحانه: { لَيْسُوا سَوَاءً مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ أُمَّةٌ قَائِمَةٌ يَتْلُونَ آيَاتِ اللَّهِ آنَاءَ اللَّيْلِ وَهُمْ يَسْجُدُونَ ، يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ } [آل عمران:113-114]. وقال سبحانه حاكيا عن لقمان أنه قال لابنه: { وَأْمُرْ بِالْمَعْرُوفِ وَانْهَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَاصْبِرْ عَلَى مَا أَصَابَكَ إِنَّ ذَلِكَ مِنْ عَزْمِ الْأُمُورِ } [لقمان:17]. وقال عز وجل: { وَلْتَكُنْ مِنْكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ } [آل عمران:104]. وروي عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم: (( لا يحل لعين ترى الله يعصى، فتطرف حتى تغير )) (1).
فإن قيل: فعلى من يجب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر؟
__________
(1) رواه الهادي في الأحكام 2/ 540، والعلوي في الجامع الكافي 6/ 47، بلفظ: لا يحل لعين ترى الله يعصى فتطرف حتى تغيره. والإمام أحمد بن سليمان في أصول الأحكام في كتاب السير/ 245، والأمير الحسين في الشفاء في باب ما يجب على الإمام أن يسير به في رعيته. وقال: روينا بالإسناد إلى المنصور بالله أنه روى بإسناده إلى النبي صلى الله عليه وآله وسلم أنه قال: لا يحل لعين ترى الله يعصى فتطرف حتى تغير أو تنصرف. والحديث لا يكاد يخلو منه كتاب من كتب العقيدة عند الزيدية، وإنما اكتفيت بتخريجه من كتب الحديث.
قيل له: إن ذلك على ضربين:
ضرب منهما: مثل إقامة الحدود، وسماع الشهادات، وتنفيذ الأحكام، وغزو العدو في ديارهم، وما جرى مجراه. فهذا الضرب مما لا يجوز القيام به إلا لإمام، أو من يأمره الإمام.
والضرب الثاني: منع الظالم من ظلمه، وتغيير سائر المناكير وإزالتها، فهذا وما أشبهه يجب على كل من غلب في ظنه أنه يمكنه إزالته، لا يجوز أن يتوصل إلى ذلك بأصعب الأمرين، مع التمكن (1) من إزالته بالقول، لم يكن له أن يتجاوزه إلى الضرب ، ومن أمكنه إزالته بالضرب، لم يكن له أن يتجاوزه إلى السيف، فإن لم يمكن إزالته إلا بالسيف، وجب ذلك متى تمكن منه.
والذي يبين صحة هذا، أن الغرض في ذلك هو إزالة المنكر، فإذا تم هذا بأمر كان ما عداه من الضرب لا معنى له، والضرب الذي لا معنى له يكون ظلماً، فيجب على من رأى ذلك، أن يحتاط ويتثبت، ولا يجاوز أمر الله تعالى، فإنه روي عن أمير المؤمنين على بن أبي طالب عليه السلام: أنه أمر رجلا بإقامة حد على رجل، فأقامه وزاده بسوطين، فأمر أمير المؤمنين عليه السلام أن يقتص للرجل منه، للمزيود من الزائد (2).
تم الكتاب بحمد الله العزيز الوهاب، فله الحمد كثيرا، وله الشكر بكرة وأصيلاً، والحمد الله الذي بنعمته تتم الصالحات، وعلى النبي وآله أفضل الصلوات.
- - -
__________
(1) في المخطوطة: التمكين. ولعل الصواب ما أثبت.
(2) لم أقف على هذه الرواية.
الفهرس
فهرس
مقدمة ... 5
المؤلف ... 5
أبوه ... 5
أمه ... 5
مولده ... 5
نشأته ... 5
شيوخه ... 6
تلامذته ... 6
مؤلفاته ... 7
من مؤلفاته: ... 8
علمه ... 9
شعره ... 15
ورعه وزهده وحلمه ... 18
جهاده ... 20
منهجه في الحكم ... 20
وفاته ... 23
منهج التحقيق ... 24
[ التفكير فريضة إسلامية ] ... 30
باب [ التوحيد ] ... 32
[ شواهد الحدوث ] ... 33
[ القادر ] ... 33
[ العالِم ] ... 33
[ الحي ] ... 34
[ السميع البصير ] ... 34
[ القديم ] ... 35
[ نفي المعاني في حق الله تعالى ] ... 35
[ تنزيه الله عن شبه الخلق ] ... 36
[ تنزيه الله عن الحلول في الأماكن ] ... 36
[ الرؤية ] ... 45
[ الله واحد ] ... 55
[ القرآن ] ... 56
[ باب العدل ] ... 57
[ الإرادة ] ... 57
[ مراد الله من المكلفين الطاعات ] ... 58
فصل ... 61
[ الله غير مريد للقبائح ] ... 61
[ هل يُعذب الله من لا ذنب له ] ... 62
[ أفعال العباد ليست من خلق الله ] ... 63
باب النبوة ... 66
[ إعجاز القرآن ] ... 68
[ أخبار النبي صدق ] ... 69
باب الوعد والوعيد ... 71
[ تخليد أهل الكبائر في النار ] ... 71
[الشفاعة ] ... 72
باب الإمامة ... 75
[ إمامة علي عليه السلام ] ... 75
[ إمامة الحسن والحسين ] ... 86
[ إمامة أهل البيت ] ... 88
[ شروط الإمامة ] ... 90
[ طريق الإمامة ] ... 92
باب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ... 94
فهرس ... 98
- - -