الكتاب : البدور المضيئة |
البدور المضيئة (/)
جوابات الأسئلة الضحيانية
للإمام المهدي محمد بن القاسم الحوثي الحسيني عليهم السلام
بسم اللّه الرحمن الرحيم (1/1)
وبه نستعين الحمد لله الذي علم بالقلم، علم الإنسان ما لم يعلم، والصلاة والسلام على المبعوث رحمة للعالمين، وهادياً إلى الطريق المبين، وعلى آله المصطفين الذين أورثهم الكتاب والحكمة، وجعلهم هداة هذه الأمة أجمعين.
أما بعد: فيقول العبد الفقير إلى الملك الكبير عبد اللّه أمير المؤمنين المهدي لدين اللّه رب العالمين محمد بن القاسم بن محمد بن إسماعيل بن الحسن بن محمد بن الحسين بن على بن عبداللّه بن أحمد بن على بن الحسين بن على بن عبداللّه بن محمد بن أمير المؤمنين المؤيد برب العزة يحيي بن حمزة عليهم السلام، هذه جوابات الأسئلة الضحيانية، والمشكاة النورانية ، الواردة من الجهة الشامية، مهابط البركة والأنوار، ومواطن السادات والعلماء الصالحين الأخيار .
أوردها القاضي العلامة الحُلاحل([1])، والخريت الماهر الماثل، شمس سماء المعارف، وغيث نداها الواكف، برهان الإسلام صارم الدين الولي بن الولي إبراهيم بن عبداللّه الغالبي أدام اللّه فوائده، وأجزل صلاته وعوائده، وصادف وصولها عند الحركة السعيدة من الجهة البرطية إلى الديار الحاشدية لإحياء فريضة الجهاد ، والقيام ببعض حقوق رب العباد ، فكانت الأجوبة عنها على حسب الإمكان مع تكاثر الأشغال واعتوار عوامل الأفعال ، وبعد كتب المطالعة بسبب الانتقال، وكان أبقاه اللّه قد يسر بالرخصة ، وأحسن بالتوئِدة ، واللّه المسئول أن يتولى إعانة الجميع في كل الأمور، وأن يصلح الراعي والرعية إنه عليم بذات الصدور، ولابد من إيراد لفظ السؤال ثم الجواب . (1/2)
قال أيده اللّه تعالى :
بسم اللّه الرحمن الرحيم
الحمد لله الذي بحمده تنال الدرجات، وبلطفه وتوفيقه تحل المشكلات، الملزم لمن جهل شيئاً سؤال العلماء العاملين، وجعل العلم وراثة في صلب خاتم النيئين ، والصلاة والسلام على سيدنا محمد فاتح باب العلوم لمن ورد وصدر، المنزل عليه {وَأَمَا الْسَائِلَ فَلا تَنْهَر}، وعلى آله وارثي علمه كما ورد به الأثر.
__________________
([1]) ـ الحلاحل بالضم :السيد الشجاع أو الضخم الكثير المروءة أو الرزين في ثخانه يخص الرجال وما له فعل .(أهـ )ق.من مولانا مجتهد العصر مجدالدين الؤيدي.
وبعد: فهذه أسئلة من فنون شتى طالباً من العلماء الأعلام حل مشكلها، وفتح مقفلها، وتبيين عللها وأدلتها ، غير مكتف من المجيب بذكر الأقاويل، بل طالباً من المجيب نصب الدليل وإيضاح السبيل ، إذ ليس القصد تقليده فيما أفتى، ولا نقل ما قد قاله في المسألة بعض العلماء من غير دلالة شرعية، ولا أمارة مرضية، خصوصاً في المسائل الفقهية والأصولية، فليفد العلماء بالجواب، وليريحوا بذكر الكلام المستطاب ، أعاد اللّه من بركاتهم ومتع المسلمين بحياتهم. (1/3)
ـــــــــــــــــــــــــــــــــ
(1) السؤال الأول( في أهوال يوم القيامة) (1/4)
هل يفزع منها المؤمن وغيره، أم مخصوصة بالمنافق ونحوه؟ إن قلتم بالأول فقد قال تعالى: {وهم من فزَع يومئذ آمنون} ، {لا يحزنهم الفزع الأكبرٍ} ، {ألا إن أولياء اللّه لا خوف عليهم ولاهم يحزنون} ، وإن قلتم بالثاني فقد ورد في الأحاديث أن الفزع يعمّ المؤمن وغيره، بل والأنبياء حتى يجثوا على الركب، ويؤكده قوله تعالى: {ففزع من في السماوات ومن في الأرض} فما الجواب في ذلك بالدليل الواضح؟.
*الجواب الأول ( واللّه الموفق والهادي إلى الصواب):
أن أهوال يوم القيامة لا يفزع منها المؤمن ولا يحزن، لأن الفزع والحزن الحقيقيين نوع من الألم، والألم نوع من العذاب، والمؤمن غير معذب قطعاً، لأنه قد صار من عند الموت في أول موقف من مواقف الآخرة التي هي دار الثواب والجزاء ، وهذا هو الذي دلت عليه الأدلة المحكمة من الكتاب والسنة ، مثل ما ذكره السائل من الآيات، ومثل قوله تعالى: {إن الذين قالوا ربنا اللّه ثم استقاموا تتنزل عليهم الملائكة ألاّ تخافوا ولا تحزنوا وأبشروا بالجنة التي كنتم توعدون ، نحن أولياؤكم في الحيوة الدنيا وفي الآخرة ولكم فيها ما تشتهي أنفسكم ولكم فيها ما تدعون} ، ولا شك أن أحداً لا يشتهي الفزع والحزن ، وهذا هو اللائق بعدل اللّه تعالى وحكمته، فيجب المصير إليه ، وحمل ما عارضه من الأدلة عليه ، وحينئذ يجب تأويل مثل قوله تعالى: {وترى كل أمة جاثية} وقوله تعالى: {ففزع من في السماوات ومن في الأرض} وهو ممكن الجمع إمّا بالتعميم والتخصيص بأن هذه عمومات مخصصة بأدلة المؤمن لأن المؤمنين هم القليل ، أو التأويل بأن المعنى بالفزع ونحوه ما يشاهدونه من الوقيعة بغيرهم من العصاة ، وكون هذا اليوم عظيماً فيه الإنصاف والجزاء ، وتمييز الخبيث من الطيب مع طمأنينة القلب بالسلامة، والبشارات للمؤمن بأنك لا تخف ولا تحزن ، فهذا ما تقتضيه الأدلة والقواعد الأصولية.
وأما قوله تعالى: {ففزع من في السماوات ومن في الأرض}([13]) فالمعنى الظاهر في تفسير هذه الآية الكريمة، أن المراد به الموت الذي لابد أن يجري على كل حي، لأنها عبارة عن النفخة الأولى، ولهذا لم يذكر الفزع في النفخة الثانية في قوله تعالى: {ثم نفخ فيه أخرى فإذا هم قيام ينظرون} وقد قيل إن ما قبل ثم وما بعدها مدة لا يعلم قدرها إلا اللّه تعالى. (1/5)
___________
([13]) ـ أما الآية الكريمة فالتخصيص فيها متصل بالاستثناء وهو قوله تعالى [إلاّ من شاء الله ]، تمت من مولانا مجتهد العصر /مجد الدين المؤيدي أيده الله تعالى.
(2) السؤال الثاني (قال أبقاه اللّه تعالى) سؤال: (1/6)
قد أوجبوا محبة المؤمنين وكراهة الفاسقين ، وهي معلومة بالضرورة الدينيَّة مع تصريح الحديث أن المحبة من فعل اللّه لا يعاقب المرء عليها بقوله صلى اللّه عليه وآله وسلم: (( فلا تلمني فيما لا أملك )) ، وقد يحب الإنسان زوجته محبة كاملة مع كونها فاسقة، وقد أوجب اللّه تعالى معاداة الفاسق وكراهيته وعدم محبته، وقال تعالى: {وجعل بينكم مودة ورحمة} فكيف الجمع بين ذلك؟.
*الجواب الثاني:
أن المحبة والكراهة تستعمل تارة ، ويراد بها الأمر الطبيعي الجبلي ، ومعناه ميل النفس بالطبع ، والاستحسان للشئ ، وهذا من فعل اللّه تعالى لايتعلق به ثواب ولاعقاب ، ولا أمر ولا نهي، وعليه يحمل حديث: ((اللّهم هذه قسمتي فيما أملك فلا تؤاخذني فيما لا أملك )) ، وإن كان يجب مدافعة المقدور منه في مواضع النهي من باب ((لا يكون المؤمن مؤمناً حتى يدع ما لا بأس به حذراً مما به البأس)) ، ولهذا قال تعالى: {فلا تميلوا كل الميل..الخ } فعلّق النهي بالكل الممكن، لا بالبعض غير الممكن، وتحصيل الممكن منه في باب الأمر واجب ، وتارة يستعمل ويراد به عمل القلب والجوارح الممكن للمكلف ، وهذا هو الذي يتعلق به الأمر والنهي والمدح والذم والثواب والعقاب ، ولهذا قالوا في الموالاة: أن تحب له كل ما تحب لنفسك ، وتكره له كل ما تكره لها ، ومعنى ذلك أن تعتقد وتنوي له ذلك ، ولا شك أن النية من أفعال القلوب الاختيارية، ومن جملة محبته تعظيمه بأفعال الجوارح، ورعاية حقوقه وتنزيله في منزلته، ولهذا قال تعالى: {قل إن كنتم تحبون اللّه فاتبعوني يحببكم اللّه} .
وأما قوله تعالى: {وجعل بينكم مودة ورحمة} فقد جاء في التفسير أن المراد بالمودة الجماع ، والرحمة الولد، وفيه شائبة من المعنى الأول ، لأن ذينك مما تميل إليهما النفس ، ويدل على صحة ما قلناه قوله تعالى: { كتب عليكم القتال وهو كره لكم وعسى أن تكرهوا شيئاً وهو خير لكم وعسى أن تحبوا شيئاً وهو شر لكم} ، واللّه أعلم.
(3) السؤال الثالث (قال عافاه اللّه تعالى) سؤال: (1/7)
قوله صلى اللّه عليه وآله وسلم: (( الجبن والجراءة غريزتان يضعهما اللّه حيث يشاء )) وقول علي عليه السلام: (الجبن والبخل والحرص غرائز شتى) فكيف حسن النهي عنها مع كونها من فعل اللّه تعالى؟.
*الجواب الثالث:
كذلك: أن الجبن والبخل والجراءة والحرص تنقسم إلى غريزي ومكتسب :
فالأول: من فعل اللّه تعالى لا يتعلق به أمر ولا نهي ولا ذم ولا عقاب ولا ثواب، وهو المعنى الذي لا يقدر المكلف على دفعه ولا على تحصيله ، وهو أمر قلبي غريزي يحدثه اللّه تعالى فهو سبب باعث على الجبن والجراءة الاختياريين وهما مسببان عنه فيكون الحديث من المجاز المرسل من تسمية المسبب([20])باسم السبب .
والثاني: وهو الممكن هو الذي يتعلق به الأمر والنهي والثواب والعقاب لأنها لا تتعلق إلا بممكن ، ولو تعلقت بغير ممكن لكان من تكليف ما لا يطاق واللّه يتعالى عن ذلك وهذا القسم يتعلق بأعمال الجوارح والقلوب أيضاً، أما أعمال الجوارح فظاهر ، مثل عدم الفرار من الزحف ، وثبات الواحد للإثنين، ومثل بذل الحقوق المالية ، وأمّا أعمال القلوب فمثل الصبر عند الجهاد ، والصبر على الإنفاق ونحو ذلك، والأمر الأول القلبي تجب مدافعته ما أمكن دفعه في غير موضعه ، واللّه أعلم.
_______________
([20]) ـ هكذا كلام الإمام عليه السلام وهي كعبارة الإمام أحمد بن يحيى عليه السلام في تكملة البحر وهي مشكلة ، والذي يظهر أنه من تسمية السبب الذي هو الغريزة باسم المسبب الذي هو الجبن والجراءة لينحل الإشكال في قوله يضعهما الله حيث يشاء فيقال ليس المقصود بالجبن والجراءة الحقيقيين بل الغريزة التي هي السبب المسماة جبناً وجراءةً مجازاً غريزتان يضعهما الله ….الخ وكلام الإمامين عليهما السلام ممكن أي أنه يسمى الجبن والجراءة المسببين الحقيقيين باسم سببهما الذي هو الغريزة ، لكنه يبقى الإشكال في قوله[ يضعهما الله حيث يشاء ] وهذا عند التأمل واضح ، وإنما أطلتُ الكلام لإفهام من يأخذ بأول نظرة لا سيما حين يرى عبارة الإمامين الذين هما حجتا عصرهما وقدوتا دهرهما ، ولكن لا يعدل عن التحقيق وإنما يتوجه مثل هذه الإنتقادات في التعبير على أعلام المحققين كما ذلك كثير والعصمة عن مثل هذا مفقودة عن البشر ، والخطب يسير ولعل ذلك سبق قلم ، والله تعالى ولي التوفيق .تمت من مولانا الحافظ مجتهد العصر/ مجد الدين بن محمد المؤيدي أيده الله تعالى.
(4) السؤال الرابع (قال حماه اللّه تعالى) سؤال : (1/8)
ما البر والعقوق للوالدين الذين ورد الوعيد عليه بالنار والوعد بالجنة ؟ فظاهر الآية أنه العصيان بأدنى شئ ، ولو بقول أفٍ ، فكيف التفسير الذي به يتبين العقوق الذي هو كبيرة؟ ثم هل يجوز للوالد أن يأخذ من مال ولده شيئاً مع كراهة الولد، إن قلتم: نعم، دخل في قوله صلى اللّه عليه واله وسلم: (( لا يحل مال امرئ مسلم ..الخ )) وإن قلتم لا يأخذ فقد نهرهما وذلك محرم.
*الجواب الرابع:
أن المراد بعقوق الوالدين ظلمهما، وعدم القيام بحقوقهما مع الإمكان ، وإن كانت الدرج فيه متفاوتة في العظم والشدة وضديهما ، فأدناه التأفيف ، وأعلاه العداوة والقتل.
ولا مانع من كون التأفيف كبيرة لثلاثة أمور:
أحدها: أنه قد أفاده النهي من الكتاب، والنهي حقيقة يفيد التحريم، والحرام ما يستحق عليه الذم والعقاب، إلا ما خصه الدليل من الصغائر المكفرة بجنب الطاعات ، ولا دليل هنا إلا ما ورد من الأدلة على عظم العقوق ، وأما على القول بأن كل عمدٍ كبيرة فالأمر أجلى.
وثانيها: أن هذه اللفظة تتضمن الاستحقار والاستهانة بحقهما، فتنبي أن ما في القلب أبلغ مما جرى به اللسان.
وثالثها: لما عظم اللّه من حقوقهما حتى قرن برهما بتوحيده في قوله تعالى: {واعبدوا اللّه ولا تشركوا به شيئاً وبالوالدين إحساناً} فيكون تحقيراً لما عظم اللّه ، وأي فظاعة أبلغ من ذلك، بل قد يبلغ إلى حد الكفر إذا اقترن به الاستخفاف بأمر اللّه تعالى.
وأما أخذ الأب من مال ولده فظاهر الحديث الجواز مطلقاً، وهو قوله صلى اللّه عليه وآله وسلم: (( أنت ومالك لأبيك )) ، إلا أنه قد حكي الإجماع، حكاه الأمير الحسين عليه السلام على منع الأب مما زاد على حاجته ، أو خالف مصلحة الولد ، فيكون الإجماع مخصصاً للخبر، ويبقى قدر النفقة مع الحاجة إليها، فمهما أخذ الأب ما هو جائز فله ذلك ، وإذا منعه عد عقوقاً، وإن كان الأولى أن يأخذ برضا ولده، أو من يده دفعاً للإيحاش، وعملاً بقوله صلى اللّه عليه وآله وسلم: (( رحم اللّه امرءاً أعان ولده على بره )) ويكون حديث (( لا يحل مال امرئ مسلم إلا بطيبة من نفسه )) عموماً مخصصاً بحديث الأب، كما خص بأدلة الأخذ من مال الغائب والمتمرد لقضاء دينه ونفقة زوجاته، وأما إذا حاول الأب أخذ الزائد على الجائز ففعله منكر فيجوز للولد المنع، ولا يعد عقوقاً، وهو ممكن بالمدافعة الحسنة، والنصح كما فعل إبراهيم عليه السلام في التلطف بوالده مع شركه من قوله يا أبتِ... يا أبتِ... ، وقد قال تعالى: { وإن جاهداك على أن تشرك بي ما ليس لك به علم فلا تطعهما وصاحبهما في الدنيا معروفاً} وقال تعالى: {يا أيها الذين آمنوا كونوا قوامين بالقسط شهداء لله ولو على أنفسكم أو الوالدين والأقربين} ولعموم أدلة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، لكن لا يعاملهما معاملة غيرهما بل يراعي حقوقهما ، وناهيك أنه لم يثبت حق لكافر على مسلم إلا الوالدين ، والأولى للولد الإغضاء والمسامحة فيما لا ضررة ولا منكر فيه. (1/10)
فإن قلت: فهل يجوز للولد المدافعة بالإضرار بهما إذا لم يمكن اللين عند تهافتهما على أخذ ماله كما يجوز ذلك مع غيرهما؟. (1/11)
قلت: الذي يلوح لي واللّه أعلم لعظم حقهما، ووجوب برهما، أنه إن لم يكن ما فعلاه منكراً ولا ضرر فيه على الولد ، عدم جواز الإضرار لأن الحق له خاصة في مثل ذلك ، وإسقاط حقه لوالده من كمال البر، ولهذا ذكروا أن الأب لا يحبس لولده ، ولا يقاد به ، وإن كان ما فيه منكر، أو ضرر جاز النهي على بابه، لكن يبالغ في اللين ومحض النصح وذلك لأن الحق فيما هو منكر لله تعالى، ولأن الضرار ممنوع لقوله صلى اللّه عليه وآله وسلم: (( لا ضر ولا ضرار في الإسلام )) ، مع كون الضرار نوعاً من المنكر، ولعموم أدلة النهي عن المنكر فهذا ما سنح من الجمع بين الأدلة.
(5) السؤال الخامس: (1/12)
(قال عافاه اللّه تعالى) سؤال:إذا قلتم إن الإمامة قطعيه، وأن المطلوب فيها اليقين فإذا ادعى رجل الإمامة فلا شك أن فرض العالم الاختبار، أو التواتر حسبما قرر، وفرض العاميّ ماذا يكون؟ فمقتضى كلام بعض الأئمة أن فرضه السؤال للعالم وهو لا يفيد إلا الظن ، ولاشك أنه يُقْدم على أمرٍ قطعي من قتل وغير ذلك، وعند بعضهم أنه لابد من الاختبار فذلك تكليف بما لا يطاق ، أو يجلس طول الزمان يتعلم ثم يختبر، والمعلوم خلاف ذلك من أتباع الأئمة وأنهم يتبعهم العوام من غير اختبار بل وأكثرهم من غير سؤال، فهل يجب على الإمام الإنكار على من تابعه ، ثم هل يجب على العوّام البحث عن من أُمِروا بقتله ما السبب الموجب لذلك كالكفر مثلاً والفسق، فحينئذ هم مقلدون فيهما وهو لا يجوز التقليد فيهما، أو لا يجب البحث عليهم بل يقتلون وهم لا يعلمون لماذا، فهم مقدمون على ما لا يؤمن خطؤه ، ثم إذا عرف الإمام أن قتال من قاتل معه البغاة إنما هو لأغراض دنيوية أو سوابق جاهلية وعرف ذلك منهم وأنهم لم يقاتلوا لتكون كلمة اللّه هي العليا، فهل يجوز تمكينهم من القتل والاستنصار بهم على ذلك أم لا يجوز؟.
*الجواب الخامس: (1/13)
أن مسألة الإمامة ، قد وقع الخلاف فيها هل قطعية، أو ظنية، والصحيح أنها قطعيه لأنها أصل من أمهات مسائل الأصول ، ولهذا فزع الصحابة بعد وفاة رسول اللّه صلى اللّه عليه وآله وسلم إلى نصب إمام وإن اختلفوا في المحل فلم يسمع من أحد القول بأن لا حاجة لإمام ، فجرى مجرى الإجماع بل أيد الشرع دليل العقل:
لا يصلح القوم فوضى لا سراة لهم * ولا سراة إذا جُهَّالهم سادوا([24])
والأدلة على ذلك من الكتاب والسنة مبسوطة في مواضعها وليست بمحل السؤال ، ولا يمنع قطعيتها كونُ بعض شروطها ظنياً كالكرم والتدبير ، إذ لا طريق إليهما إلا الظن ، وإلا لزم الدور لأن التدبير مثلاً متوقف على الإمامة والإمامة متوقفة عليه ، ولها نظائر في القطعيات مثل الصلاة والصوم، فإنها قطعية وإن كان بعض شروطها ظنياً كالقبلة والوقت وبعض الطهارة ونحو ذلك، وفرض العالم ما ذكره السائل من الاختبار أو التواتر، وفرض الجاهل سؤال العلماء المحقين والاقتداء بهم ، وإن كان لا يفيد إلا الظن لأنهم قد نزلوا العالم في حق الجاهل بمنزلة الدليل في حق العالم، فيجب على الجاهل في هذه المسألة الترجيح بين أدلته التي هي العلماء إذا تعارضت كما يرجح العالم بين الأدلة الشرعية ، فيتحرى اتباع أهل العلم الراسخ والورع الكامل والخبرة التامة البعيدين عن الأغراض والأهواء والميل إلى الدنيا التي حبّها رأس كل خطيئة، فمهما فعل ذلك فذمته بريئة ، وقد فعل ما وجب عليه ولو بايع أو جاهد أو قُتِل أو
________________
([24]) ـ السراة: بالفتح جمع سري ، وأما بالضم فهو جمع سارٍ كغزاة جمع غازٍ ورماة جمع رامٍ كما هو معروف في موضعه تمت نقلاً من خط شيخنا الحافظ/ مجد الدين المؤيدي أيده الله تعالى.
قَتَل، وهذا الذي قضت به الأدلة القطعية ، بل يمكن دعوى الإجماع عليه لأنه لم يروَ عن أحد من الأئمة أنه أنكر على من تابعه وجاهد معه من العوام مع علمهم بأنهم لم يبلغوا درجة النظر والاجتهاد ، بل لا زال دعاؤهم إياهم متواتراً ويلزمون البيعة والجهاد كرهاً، ولأنه لو كلف الجاهل العلم مع كون الأمور فورية لكان من تكليف ما لا يطاق ، ولما جاز للإمام أن يجبر على الواجبات التي أمرها إليه ، بل لا يقبلها لجواز كون فاعلها غير عاثر على اليقين في حقه، فكيف وقد قال أبو بكر بمحضر من الصحابة واللّه لو منعوني عقالاً، أو قال: عناقاً مما كانوا يؤدونه إلى رسول اللّه صلى اللّه عليه وآله وسلم لقاتلتهم عليه، وجرى مجرى الإجماع في الحكم ، لا في إمامته ، بل العبرة بمذهب الإمام عند نفسه، فإذا علم صحة ولايته ، جاز له الإجبار كالرسول صلى اللّه عليه وآله وسلم فإنه قال: (( أمرت أن أقاتل الناس حتى يقولوا: لا إله إلا اللّه، فإذا قالوها عصموا مني دمائهم وأموالهم إلا بحقها وحسابهم على اللّه )) ، فلو كان لا يجوز له قتالهم حتى يعلموا بنبوئته لما قال هذا، ولقال: حتى يعلموا أني مرسل ، ولما ورد من الكتاب والسنة من الأدلة المفيدة للعلم على وجوب اتباع أهل البيت والكون معهم عموماً وخصوصاً مع الأئمة المحقين منهم مثل (( خبري السفينة )) و ((إني تارك فيكم )) و ((تمسكوا بطاعة أئمتكم))،وقوله تعالى{أطيعوا اللّه وأطيعوا الرسول وأولي الأمر منكم} وعلى الرجوع إلى العلماء من قوله تعالى : {فاسألوا أهل الذكر إن كنتم لا تعلمون} وقوله تعالى: {فلولا نفر من كل فرقة منهم طائفة } وقوله تعالى: {ولو ردوه إلى الرسول وإلى أولي الأمر منهم لعلمه الذين يستنبطونه منهم} وغير ذلك كثير ، فتقرر بذلك أن ليس للجاهل طريق إلى هذه المسألة إلا العلماء ، وهذا كله فيما يرجع إلى متابعة الجاهل ومبايعته وجهاده وتسليم حقوقه ونصيحته لإمامه ، وغير ذلك من العمليات. (1/14)
وأمّا مسائل الاعتقاد كالتفسيق وما ترتب عليه فلا يبعد وجوب التوقف عليه عند التعارض بين صالحين لأن العالم يعمل بعلم قطعي ، والجاهل يعمل بعلم ظني ، والمسألة قطعية بخلاف القتل والجهاد ونحوه ، فيجوز لأنه وإن كان تحريم الدماء قطعياً فقد أبيح بالدليل الظني مثل حكم الحاكم بالقود بقيام الشهادة ولا تفيد إلا ظناً، وكذلك الحدود تثبت بالبينة ولا تفيد إلا ظناً، حتى نصوا على إقامة حد الشرب بالشم ، ونصوا على جواز قتل من لا يؤمن ضرره على المسلمين ، وتلك الخشية لا تفيد إلا الظن لتعذر العلْم في الأمور المستقبلة ، ولما ثبت من أنها كانت تترتب الحروب في عهد رسول اللّه صلى اللّه عليه وآله وسلم ومن بعده من الأئمة برجوع جواباتهم ، أو رسلهم بالمخالفة ، وذلك لا يفيد إلا ظناً، فصارت أدلة جواز القتل بالطريق الشرعية الظنية في تلك الجزئيات كالمخصصة لأدلة عموم تحريم الدماء والأموال، وقد ثبت في الأصول أنه يصح تخصيص القطعي العملي بالظني، ومنه تخصيص الكتاب بالسنة [أي الأحادية]، لأنه نوع من الجمع بين الأدلة المقدم على الترجيح وطرح أحد الدليلين ، ومن هنا نصوا أنه يجوز امتثال أمر الحاكم بالحدود والقصاص، ويجب بأمر الإمام من غير أن يبحث الممتثل عن المستند ما لم يكن المأمور به ظاهراً يخالف ما يعلمه الممتثل في الباطن . (1/16)
وما ذكره السائل من أنه يقدم على ما لا يؤمن خطاؤه لا يلزم بعد وجود المستند الشرعي ، ولهذا نصوا أن خطأ الحاكم في بيت المال ولم يبطلوا ولايته إلاّ إذا تعمد ، وكما وَدَى رسول اللّه صلى اللّه عليه وآله وسلم الذين قتلهم خالد بن الوليد ولم يعزله عن الإمارة .
وما ذكره السائل من قوله هل يجوز للإمام التمكين من الجهاد ونحوه لمن يعلم أنه لا يعمل إلا لغرض دنيوي، فنقول: نعم يجوز، لأن نفس الجهاد وإقامة الحدود والقصاص أمر شرعي يجب إقامته والدعاء إليه، والممتثل إنما خالف مقصد الشارع بمجرد النية ، وأما العمل فلا مخالفة فيه ، فحينئذ بطل الثواب على العامل فيما يرجع إلى نفسه، وأما مقصد الشارع من الفعل فقد تم، ولهذا نصوا على جواز إقامة فاسق على معين، وعلى جواز الاستعانة بالكفار والفسّاق، بل استعان بالكفار رسول اللّه صلى اللّه عليه وآله وسلم مع العلم بأنه لا نية لهم مطابقة ، ونص الشارع على جواز التأليف لجلب منفعة، أو دفع مفسدة ، مع العلم بأن الفاعل لم يعمل لله تعالى خالصاً بل لأجل العوض.
(6) السؤال السادس (قال عافاه اللّه تعالى) سؤال: (1/18)
ورد في الحديث: ((الصلوات الخمس كفّاراتٌ لما بينهنّ ما اجتنبت الكبائر )) ، قوله (ما اجتنبت الكبائر) مشكلٌ لأن الصغائر مكفرة باجتناب الكبائر كما ذلك معروف ، فماذا كفّرت الصلاة مع أنه لا يتحقق اجتناب الكبائر إلا مع الإتيان بالصلوات الخمس فهما متلازمان ، ثم هل يحاسب على الصغائر أم لا؟ إن قلتم لا يحاسب، فكيف بقوله صلى اللّه عليه وآله وسلم: (( ما من نبي إلا وهو يحاسب يوم القيامة بذنب غيري )) ، ومعلوم أن معاصي الأنبياء صغائر ، وقوله تعالى: {ومن يعمل مثقال ذرة شراً يره} وغير ذلك، وإن قلتم يحاسب فما معنى الحساب مع التكفير لها ومع التوبة؟ .
*الجواب السادس:
أن الصغائر مُكفَّرة بجنب الطاعات، والطاعات هي الإتيان بالواجبات واجتناب المقَبَّحات ، فحينئذ الحديث وهو قوله صلى اللّه عليه وآله وسلم: (( الصلوات الخمس كفّارات لما بينهنّ )) من باب التنصيص على بعض أفراد العام تنبيهاً على عظم شأن الصلاة وكونها معظم أركان الإسلام، ولهذا ثبت في الأذان حي على خير العمل ، وإلا فالمعلوم أنه لو صلى ولم يصم، أو صلى وفعل كبيرة فإن الصلوات لا تكون كفارة لما بينهن.
وأما قول السائل: وهل يحاسب على الصغائر أم لا؟ فظاهر الأدلة أنه لابد من الحساب على الصغير و الكبير لقوله صلى اللّه عليه وآله وسلم: (( ما من نبي إلا وهو يحاسب بذنب غيري )) ومن المعلوم أن ذنوب الأنبياء صغائر، وقوله تعالى: {ويقولون ياويلتنا مال هذا الكتاب لا يغادر صغيرة ولا كبيرة إلا أحصاها} وقوله تعالى: {إن تبدوا ما في أنفسكم أو تخفوه يحاسبكم به اللّه} وقوله تعالى: {ومن يعمل مثقال ذرة شراً يره} ، ويكون فائدة الحساب على الصغائر إظهار النعمة، والتمنن من اللّه تعالى، وصدق الوعد والوعيد ، وهذه ثمرة ظاهرة مثل ورود المؤمن على النار أي إطلاعه عليها ليعرف قدر ما هو فيه من النعمة، وما صرف اللّه عنه من النقمة، ومثل هذا محاسبة التائب على ما تاب منه سواء، ويكون الحديث المخصوص بالرسول صلى اللّه عليه وآله وسلم مخصصاً لعمومات أدلة الحساب. (1/19)
ويبقي الإشكال في حديث (( إن لله سبعين ألفاً يدخلون الجنة بغير حساب )) لما يلزم منه أن تكون حالتهم أفضل من حالة الأنبياء عليهم السلام مع النص على (( أنه ما من نبي إلاّ وهو يحاسب بذنب غيري )) ؟
ويجاب عنه بمنع اللزوم ، أعني أنه لا يلزم من محاسبة الأنبياء أن تكون حالتهم أدنى، بل يمكن جعل حديث السبعين الألف مخصصاً ثانياً لعموم أدلة الحساب، ويمكن أن تكون محاسبة الأنبياء فيها زيادة نعمة وراحة لهم حيث تُمحَي عنهم تلك الصغائر، ثم يبلغون مراتب عالية على المكلفين، وثواباً نامياً على ثواب سائر المتَعبَّدين لكرامتهم على اللّه وخلوص أعمالهم، ويعرفون بذلك أنه لم يساو بينهم وبين من ليس هو من معاشر النبيئين فتقر خواطرهم، ويزدادوا راحة إلى راحتهم سلام اللّه عليهم.
(7) السؤال السابع ( قال أيده اللّه تعالى) سؤال: (1/20)
ما يقال في صفات اللّه تعالى من نحو الصمد والمتفضل ونحوهما ؟ إن قلنا لم يزل متفضلاً مصموداً لزم قدم المتفضل عليه والصامد لأن صفة الفعل الثابتة بعد أن لم تكن كما ذكره الإمام المرتضي وغيره ، وإن قلنا إن اللّه تعالى كان غير متفضل ومصمودٍ فهذا لفظ يوجب الذم ، فما الجواب في هذه وفي نحوها من صفات الفعل الثابتة بعد أن لم تكن كالخالق والرازق والجواد ونحوها؟ وقولنا: إن علم اللّه تعالى غير متناهٍ، فهل المعلومات غير متناهية كالعلم أم لا؟.
*الجواب السابع:
أن صفات اللّه تعالى انقسمت إلى قسمين:
صفة الذات، وصفة الفعل، وانقسامها باعتبار معانيها.
فإن صفة الذات هي الذات من غير وجود شئ آخر يعني أنه لم يكن هناك شئ زائد على ذاته تعالى، وإنما سمي بها من حيث وجوده وحياته وقدمه وقدرته، ونحو ذلك.
وصفة الفعل ما ثبت له تعالى من الصفات باعتبار التعلق بشيء آخر كالخالق والرازق والصمد والمتفضل ، فإنها باعتبار المخلوق والمرزوق ونحوهما، ولا يمتنع إتصافه تعالى بها في الأزل حقيقة كما هو اختيار الإمام القسم بن محمد عليه السلام ومن معه على معنى أنها حاصلة بالقوة ([34]) وإن لم تحصل بالفعل وكلا الأمرين حقيقة، كما هو المعروف من الوضع العربي في مثل اسم الفاعل، فإنه بمعنى الحال والماضي والمستقبل من باب المشترك ، وحينئذ فالقرينة إذا نصبت فإنما هي لتمييز أحد المعاني عما سواه، وإن لم تنصب حمل على الإطلاق، وإن كان قد اختار الجمهور في خالق ما سيكون أنه مجاز لعدم حصول المعنى المشتق منه ولافتقاره إلى القرينة، فقد أجيب عنه بأن حصول المعنى المشتق منه ليس بشرط في الوضع بل من الجائز الوضع باعتبار معنى مستقبل كتسمية السيف صارما أخذاً من الصرم وهو القطع ، وإن لم يكن قد حصل وفي القرينة أنها نصبت للتمييز بين معاني المشترك ، لا أنها قرينة المجاز. (1/21)
_________________
([34]) ـ قال السيد الإمام أبو عبداللّه قاموس آل محمد صلى اللّه عليه وآله وسلم محمد بن القاسم بن إبراهيم صلوات اللّه عليهم، وكذلك كان رحيماً ولا مرحوم بالقوة التي يرحم بها المرحوم، إذ خلقه ورضاه الرحمة وأنها عنده محموده من فعله للأمة، ولا يجوز أن يقال إن اللّه لم يزل لهذه المخلوقات فاعلا قبل فعلها ولكن يقال كان خالقا بالقوة إذا أراد أن يخلقه إلى قوله وحكيم بقدرته التامة على الحكمة ولا محكمات قبل خلقه لها إلى آخر كلامه عليه أزكى صلوات اللّه وسلامه، وقال الإمام الموفق باللّه أبو عبداللّه الحسين بن إسماعيل الجرجاني عليهما السلام في كتاب الإحاطة: فأما من قال إنه تعالى لم يزل جواداً عدلاً إن أراد بذلك أنه بالصفة التي يصح أن يجود ويعدل في المستقبل فهو صحيح، وإن أراد بذلك فاعلاً للجود والعدل فإنه لا يجوز، لأن كون الفاعل فاعلاً يقتضي تقدمه.... الخ كلامه عليه السلام انتهى من خط شيخنا مجتهد العصر/ مجدالدين المؤيدي أيده اللّه تعالى.
وثمرة الخلاف في كون الوصف قبل وجود المتعلق حقيقة أو مجازاً، أن من قال: هو حقيقة، لم يفتقر إلى السمع ، ومن قال: هو مجازاً افتقر إلى السمع، إذ لا يطلق علي اللّه تعالى من الأسماء إلا ما كان حقيقة([35]) أو ورد به أذن سمعي، والصحيح الأول، ومن هنا ارتفع إشكال ما يلزم من إيهام الذم، ويمكن التلفيق بين القولين بأنها إن كانت بالقوة فهي ثابتة في الأزل، لأنها بمعنى القدرة مثلاً، وهي من صفات الذات ، وإن كانت بمعنى الفعل فهي ثابتة بعد أن لم تكن. (/)
وأما لفظ الجواد ففيه نظر([36]) ، فقد قيل إنه لم يرد به إذن سمعي مع كونه مجازاً.
وما ذكره السائل من قوله إنَّ علم اللّه غير متناهٍ فهل المعلومات غير متناهيه كالعلم أم لا؟
________________
([35]) ـ أي وتضمن مدحاً ، وعند المرتضى عليه السلام ومن معه أنه لا يجوز إطلاق شيء من الأسماء لا حقيقة ولا مجازاً إلابإذن سمعي، كما ذكروا ذلك وحججه في موضعه من أصول الدين .انتهى من شيخنا مجتهد العصر/مجد الدين بن محمد المؤيدي أيده اللّه تعالى .
([36]) ـ وجه النظر أنه مجاز فلا يصح إطلاقه قبل ورود السمع فلا يصح أن يفرض اتصاف الباري تعالى به في الأزل، وأما بعد ورود السمع فلا كلام في صحة إطلاقه لكنه خلاف مراد السائل فتأمل فمحطّ الإفادة في قوله مع كونه مجازاً أي فإذا قد قيل بمنعه بعد ورود السمع فبالأولى قبله. انتهى نقلاً من خط شيخنا الحافظ/ مجد الدين المؤيدي قدس اللّه سره.
فنقول: إذا تقرر أن علم اللّه تعالى ذاته فلا يجوز وصفها بالتناهي، لأن التناهي من صفات الأجسام ، ولأن كل متناه محدود، وكل محدود جسم أوعرض واللّه يتعالى عن ذلك ، فمن هاهنا قيل إن علم اللّه غير متناهٍ بخلاف المعلومات فإنها متناهية([37]) لوجوب الحكم بالمباينة بين ذات القديم وصفاته، وبين ذات المحدث وصفاته ، ومعنى تناهيها إحاطة علم اللّه تعالى بها لأنه يعلم الأمرين وشرطيهما، ويعلم ماكان وما سيكون، ويعلم مالم يكن لوكان كيف كان يكون ، فتبارك اللّه وتعالى وعز سلطانه عظمة وجلالاً. (1/22)
وهاهنا إشكال وهو أن يُقال من جملة معلوماته تعالى ذاته الشريفة وقد قلتم إنها لا توصف بالتناهي فكيف جعلتم المعلومات متناهية؟.
وجوابه من وجهين :
أحدهما : أن يقال معنى تناهي المعلومات عدم غيبوبة شيء منها عن علمه ولا يلزم من هذا تناهي ذاته تعالى.
وثانيهما : أن يقال معنى قولنا: إن المعلومات متناهية منصرف إلى المحدثات فلا تدخل ذاته تعالى في لفظ الجمع ، وأمّا باقي المعلومات فيجب أن يكون اللّه تعالى بخلافها وهو معنى المباينة بين القديم والمحدث التي هي حقيقة التوحيد، كما قال الوصي عليه السلام: (باينهم بصفته رباً كما باينوه بحدوثهم خلقاً).
________________
([37]) ـ أي المعلومات الموجودة إذ لا يمكن أن يدخل في حيز الإيجاد إلاّ ما يتناهى ، أو أن المراد بإعتبار كل معلوم على إنفراده وإلا فمعلومات اللّه تعالى غير متناهية، ومن ذلك نعيم أهل الجنة وعذاب أهل النار نعوذ باللّه منها، وأما قول الإمام عليه السلام ومعنى تناهيها فهو أحد المعاني للتناهي وليس ذلك مما يحصل الفرق به بين القديم والمحدث، لئن ذات اللّه سبحانه كذلك أي هو عالم بها، ويدل على أن مراد الإمام عليه السلام أي أن إحاطة العلم أحد معاني التناهي، لا أنه لا معنى له غيره قوله عليه السلام، وثانيهما أن يقال معنى قولنا: إن المعلومات متناهية منصرف إلى المحدثات فلا تدخل ذاته تعالى في لفظ الجمع.. الخ فحاصل كلام الإمام أن التناهي، إ ما أن يراد به إحاطة العلم وهو يستوي فيه القديم والمحدث، وإما أنه الانحصار والانتهاء والانقطاع، وليس إلا للمحدثات، ولكن يحمل ذلك كما ذكر على أن المراد الموجود وإلا فلا انحصار ولا نهاية لمعلومات اللّه تعالى فتدبر واللّه ولي التوفيق تمت من مولانا مجتهد العصر/مجدالدين بن محمد بن منصور المؤيدي أيده اللّه تعالى.
(8) السؤال الثامن (قال أيده اللّه تعالى) سؤال: (1/23)
عن الوسوسة في القلب كيف يتصوّر ذلك، والحوّاس من السمع والبصر والشم والذوق واللمس لا تدرك الشيطان ولا فعله، فتؤدي ذلك إلى القلب كما في نظائرة؟.
*الجواب الثامن:
أن وسوسة الشيطان قد قضت بها الأدلة المتضافرة، ومع العلم بأن موردها ليس بإحدى الحواس يجب الحكم بثبوتها بأمر قد مكّن اللّه الشيطان منه وإن لم نعلم كيفيته: {وما أوتيتم من العلم إلا قليلاً } ويظهر الأثر بالوجدان وأوله الخاطر النفسي ، ثم الداعي، ثم العزم ، ثم الفعل، وهذه الأشياء منها ما هو من فعل اللّه، ومنها ما هو من فعل العبد، ومنها ما هو مشترك بين العبد والشيطان.
فالأول : وهو الخاطر النفسي الذي لا يمكن دفعه من فعل اللّه وهو الذي ضج منه المسلمون إلى رسول اللّه صلى اللّه عليه وآله وسلم لما نزل قوله تعالى: {وإن تبدوا ما في أنفسكم أو تخفوه يحاسبكم به اللّه} فقال لهم: (( لا تقولوا كما قالت اليهود سمعنا وعصينا، فقالوا: سمعنا وأطعنا )) فرفع([40]) عنهم ، ونزل قوله تعالى: {آمن الرسول.. } إلى آخر الآية وما بعدها {لا يكلف اللّه نفساً إلاّ وسعها..إلى آخر الآية} وهو سر قوله صلى اللّه عليه وآله وسلم: (( رفع عن أمتي ما حدثت به أنفسها ما لم تقل أو تفعل )).
________________
([40]) ـ أي حصل البيان بأنه مرفوع لا أنهم كلفوه ثم رفع لأنه تكليف مالا يطاق واللّه يتعالى عنه وسيأتي للإمام عليه السلام كلام في جواب السؤال عقيب هذا. تمت من مولانا مجتهد العصر / مجدالدين بن محمد المؤيدي حفظه اللّه وأبقاه.
والثاني: وهو الداعي المشترك بين الإنسان والشيطان، وهو محل مدخل الشيطان لأنه يأتي من قبيل الشهوة، والحمية، والهوى، وما تميل النفس إليه، فلا يتم له المرام إلا بالتفات العبد وملاحظته للدواعي والمحسنات لفعل القبيح، وإغماضه عن الحدود الشرعية، ومن هاهنا كان كيد الشيطان ضعيفاً، ولولا معاونة فعل العبد ما تم له مرام، ولهذا فإن وسوسته لا تضر المخلص، كما قال تعالى: {إن الذين اتقوا إذا مسّهم طائف من الشيطان تذكروا فإذا هم مبصرون} وقوله تعالى: {إن عبادي ليس لك عليهم سلطان} وقوله تعالى: {إلاّ عبادك منهم المخلصين}. (1/25)
والثالث والرابع: من فعل العبد وهما: العزم، والفعل، وذلك ظاهر، فكأن الشيطان لعنه اللّه يفهم ملاحظة العبد لمحل الداعي، كما يفهم الرضى والغضب في الوجه، فيعمل وسوسته لتقويته بأمر قد مكنه اللّه تعالى منه من غير اتصال، بل كما يدرك حر النار المنفصلة في الموضع المجروح.
وما روي (( أن الشيطان يجري من ابن آدم مجاري الدم )) قد حمله قوم على حقيقته ، لكون ابن آدم ذا مخاريق وأجواف، وهو جسم لطيف الطف من الريح، لأنها تدرك باللمس بخلافه، والصحيح أن لفظ الحديث من مجاز الحذف والمعنى وسواس الشيطان، والقرينةالعقل والعدل.
أما العقل فلعدم الإدراك بأي حاسة، وأما العدل فاللّه أعدل من أن يمكنه الدخول إلى جوف ابن آدم مع كون طبعه الإفساد واللّه أعلم.
(9) السؤال التاسع (قال أيده اللّه تعالى) سؤال: (1/26)
هل تطلع الملائكة الكتبة على أعمال القلوب كما هو ظاهر قوله تعالى: {ويقولون ياويلتنا مال هذا الكتاب لا يغادر صغيرة ولا كبيرة ....الخ} وقوله: {وكل شيء أحصيناه في إمام مبين} {وكل شيء أحصيناه كتاباً} وقوله صلى اللّه عليه وآله وسلم عن ربه قال: ((إن اللّه تعالى كتب الحسنات والسيئات ، ثم بين ذلك ، فمن همّ بحسنة ولم يعملها كتبها اللّه عنده حسنة كاملة )) وفي رواية أخرى حكاية عن اللّه تعالى: ((إذا همّ عبدي بسيئة فلا تكتبوها عليه سيئة، وإن عملها فاكتبوها عليه سيئة، وإن همّ بحسنة فلم يعملها فاكتبوها حسنة....الحديث )) أم لا تطلع ؟كما هو ظاهر قوله صلى اللّه عليه وآله وسلم: (( إن الرجل ليقوم في الليلة القرة فيتطهر فيحسن الطهور، ثم يدخل بيته فيرسل ستره فيصلي فتصعد الملائكة بعمله فيرد عليهم فيقولون: ربنا إنك تعلم أنّا لم نرفع إلا حقاً. فيقول: صدقتم ولكنه صلى وهو يحب أن يعلم به )) ، وكذلك حديث السبعة الأملاك المشهور برواية أهل البيت مصرح فيه بعدم إطلاع الملائكة على بعض من عمل القلب ، إن قلتم بالأول فما وجه الحديث الثاني ، وإن قلتم بالثاني فما وجه الحديثين والآيات، ثم إذا نوى العبد الظلم والعناد وغيرهما من المعاصي ولم يتمكن من ذلك لعذر هل هي معصية معاقب عليها كما يدل عليه ((ونية الفاسق شر من عمله))،و((إنما الأعمال بالنيات))، أم لا عقاب في ذلك كما هو ظاهر الحديث المتقدم (( وإذا هم عبدي بسيئة .. الخ )) فلا
يعاقب إلا على الفعل بيِّنوا ذلك بياناً شافياً؟.
*الجواب التاسع: (1/27)
أن اطلاع الحفظة على أعمال القلوب وعدمها قد تعارضت الأدلة فيه باعتبار الظاهر، ولكن الجمع بينها ممكن، إما أن يقال أن الحفظة لا تطلع إلا على العمل الظاهر دون ما في القلب كما قضت به بعض الأدلة التي ذكرها السائل وغيرها، ولا يمتنع أن يكون لله تعالى ملائكة موكلون بقلب ابن آدم يعلمون ما يوسوس به ، فيحمل حديث (السبعة الأملاك)، وحديث (( إن الرجل ليقوم في الليلة القرة)) ونحوهما على خطاب الكتبة، ويحمل حديث: (( وإذا هم بحسنة فلم يعملها...الخ)) وما أتى على منوالها على خطاب الرقباء على القلب، وإما أن يقال إن عمل القلب استأثر اللّه تعالى بعلمه، وهو الظاهر الذي يشعر به قوله تعالى: {تعلم ما في نفسي ولا أعلم ما في نفسك} وقوله تعالى: {ولقد خلقنا الإنسان ونعلم ما توسوس به نفسه} لأنه تعالى تمدح بهذه الصفات، فينبغي أن يختص بها، وحينئذ يحمل قوله تعالى: (( وإن هم بحسنة فاكتبوها حسنة )) وما ضاهاه يعني يكون كتبها بوحي من اللّه تعالى إليهم لما في ثبوت الكتب من المصالح التي علمها اللّه تعالى، وإن كان غنياً عن كتب الظاهر والباطن، وبأخذ هذين التأويلين يندفع إشكال التعارض على أنه قد جاء في تفسير قوله تعالى: {وكل شئ أحصيناه في إمام مبين} أن المراد بالإمام اللوح المحفوظ على الخلاف في معناه، وكذلك قوله تعالى: {وكل شئ أحصيناه كتاباً} قيل اللوح، وقيل كتاب الحفظة.
وأما قول السائل: إذا نوى العبد الظلم أو غيره من المعاصي، ولم يتمكن لعذر، فهل ذلك معصية يعاقب عليها أم لا؟. (1/28)
فنقول: الصحيح أنها ليست بمعصية ([52]) يعاقب عليها ما لم يشارك العزم المعزوم فيما يوجب كفراً أو فسقاً، وعليه حديث: (( رفع عن أمتي ما حدثت به أنفسها ..الخ )) وحديث: (( إذا نوى العبد بسيئة فلا تكتبوها)).
واعلم أن ما في القلب منه ما هو من فعل اللّه تعالى كالخاطر، وهذا لا عقاب عليه قطعاً لأنه يستلزم الظلم، واللّه يتعالى عنه.
فإن قلتَ: فكيف حسن قوله تعالى: {وإن تبدوا ما في أنفسكم أو تخفوه يحاسبكم به اللّه}؟.
قلتُ: إما أن يراد بما أخفى المعزوم عليه ولا إشكال لأنه اختياري، وإما أن يراد الخاطر، والمعنى المحاسبة عليه من غير معاقبة كالصغائر، وقد أسلفنا([54]) أنه رفع عنهم، ومنه ماهو من فعل العبد كالعزم، وهذا قسمان:
*ما شارك العزم المعزوم فيما هو كفرٌ أو فسقٌ، وهذا لا إشكال أنه قد صار كبيرة كالاستخفاف بالنبي والقرآن، لأنه بعزمه قد دخل في الفعل نفسه .
_______________
([52]) ـ أي قطعاً لأنها محتملة للصغر والكبر وحينئذٍ لا قطع إلا فيما ورد الوعيد عليه بخصوصه كالإلحاد في الحرم وهذا هو الذي صرح به الإمام عليه السلام بقوله فيما يأتي فلا قطع بكبره مطلقاً ويدل عليه تفسيره ونية الفاسق شر من عمله آخر البحث فتدبر والله ولي الهداية والتوفيق. تمت من مولانا وحجة عصرنا مجد الدين بن محمد المؤيدي أيدهم الله تعالى. وفي نسخة أخرى: ترك السائل البدل ولعله لكون البدل وعطف البيان من واد واحد.تمت نقلاً من خط شيخنا /مجد الدين المؤيدي أيده الله تعالى.
([54]) ـ في جواب السؤال الذي قبل هذا في الكلام على قوله تعالى: { إن تبدوا ما في أنفسكم} إلى قوله: {فرفع عنهم}.تمت من مولانا المجتهد / مجد الدين المؤيدي أيده الله تعالى .
* وإن لم يشارك العزم المعزوم فهاهنا محط الأنظار: (1/29)
فذهب بعض المتكلمين إلى أنه معصية كبيرة إذا كان عمداً ، وهو ظاهر كلام القدماء من أئمتنا عليهم السلام، وهو يناسب القول بأن كل عمد كبيرة، وعليه عموم قوله تعالى: {ومن يعص اللّه ورسوله ...الآية} وقوله صلى اللّه عليه وآله وسلم: (( إذا التقى المسلمان بسيفيهما فالقاتل والمقتول في النار قالوا: يارسول الله هذا القاتل فما بال المقتول؟ قال: إنه أراد قتل صاحبه )) ، وقوله عليه السلام: ((لا يزني الزاني حين يزني وهو مؤمن )) وغير ذلك ، وحملوا الآية الكريمة {لا يكلف اللّه نفساً إلا وسعها} أن ترك العزم داخل في الوسع وبقوا حديث (رفع عن أمتي ما حدثت به أنفسها) على حديث النفس الذي لا عزم معه وقالوا(مالم تقل أو تفعل) دال على أن فعل القلب كفعل الجارحة يشملها عموم الفعل.
وذهبت طائفة إلى أن العزم يتبع المعزوم في الصغر والكبر، وهذا يناسب قول الإمام المهدي عليه السلام وبعض المتأخرين أن بعض العمد ليس بكبيرة، وحجتهم قوله تعالى: {إلا اللمم} وقوله تعالى: {إن تجتنبوا...الخ}، وقوله صلى اللّه عليه وآله وسلم: (( رفع عن أمتي ما حدثت به أنفسها)) ويتأول لهم الحديث (( إذا التقي المسلمان..الخ )) وحديث (( لا يزني الزاني..الخ )) بأنه قد فعل بعض المقدمات لأنه قال: التقى المسلمان، وقال: حين يزني.
وذهب آخرون إلى أن العزم إن لم يشارك المعزوم فلا قطع بكبره مطلقاً، وقول بعض المتأخرين القائلين: بأن بعض العمد ليس بكبيرة يحتمله وأدلته أدلة الذي قبله إلا أنهم فرقوا بين العزم والفعل. فقالوا: ما ورد الوعيد مع الحد أو لفظ يفيد العظم إلا على الفعل لا على العزم إلا قوله تعالى: {ومن يرد فيه بإلحاد بظلم نذقه من عذاب اليم} فلما نص عليه كان خاصاً ، وهذا القول هو الراجح لأن الأدلة محتملة، والمسألة قطعية فيجب التأويل لما خالف الصريح القاطع وهو صريح الحديث (( إذا هم عبدي بسيئة فلا تكتبوها )) وقوله {إلا اللمم} وقوله تعالى : {إن الحسنات يذهبن السيئات }. (1/30)
فيقال: ما أذهبت الحسنة هل عمداً، أو خطأً ونسياناً؟.
إن قلتم: خطأً ونسياناً لزمكم أن الفاسق معاقب على الخطأ والنسيان، إذ لا حسنة له لقوله تعالى: {إنما يتقبل اللّه من المتقين} وهذا يخالف عدل اللّه أعني المعاقبة على الخطأ والنسيان، ويلزم منه الظلم وهو محال([62]) عليه تعالى ، وما استلزم المحال فهو محال.
وإن قلتم: أذهبت عمداً فهو مطلوبنا ، وقوله تعالى: {لا يكلف اللّه نفساً إلا وسعها} يفيده لأن الوسع دون الطاقة، فالطاقة: هي العزم الذي تفضل اللّه بعفوه، والوسع: هو الفعل، وهذا يطابق معنى رفع الإصر {ربنا ولا تحمل علينا إصراً}لأن من قبلنا كلفوه ، مثل التوبة بقتل النفس وهو داخل في الوسع، لكنه رفع عن هذه الأمة ببركاته صلى اللّه عليه وآله وسلم.
وأما تفسير حديث (( نية المؤمن خير من عمله )) فالمراد بالخيرية: أنه ينوي من أعمال الخير ما لا يبلغه بعمله ولا يقدر عليه، بل قد ينوي الأشياء المتضادة فيؤجر على النية فكانت النية خيراً من العمل، وقوله: (( ونية الفاسق شر من عمله))عكس هذا لأنه ينوي من الشر مالا يقدر على فعله من أنواع المعاصي، فكانت نيته شراً من عمله، فظهر أنه لا يلزم عنه أن تكون النية وحدها كبيرة لأن الحيثية مختلفة.
___________________
([62]) ـ أي في الحكمة لأنه قادر على فعله تعالى لكن لا يفعله لحكمة. تمت من مولانا مجتهد العصر / مجدالدين المؤيدي أيده الله تعالى.
(10) السؤال العاشر (قال رضي اللّه عنه) سؤال : (1/32)
قد ثبت عند جمهور أئمتنا وغيرهم أن القراءات السبع متواترة، وخالف في ذلك الإمام يحيى والرضي والزمخشري وغيرهم، وثبت من قواعد الأئمة أن من زاد في القرآن أو نقص كفر، فهذا يقتضي تكفير من أثبت القراءة الآحادية أو قرأ بها، والمعلوم خلاف ذلك، بل لم يزل العلماء يستدلون بها وينقلونها، ولم ينقل تكفير أحد ولو كان لنقل، وأيضاً يلزم أن يخطئ من عمل بها إذ المسألة قطعية لا مجال للإجتهاد فيها، ولم يسمع ذلك فما يقال في الخروج عن ورطة ذلك، ثم ما يقال فيما نقله الإمام القاسم وغيره عن الهادي عليه السلام أنها لم تتواتر إلا قراءة نافع، قال محمد بن يحي: وهي قراءة آبائنا، فهذا ينفي تواتر غيرها، إذ القول بتواتر القراءات السبع منّا إنما هو تقليد لمن قال: بالتواتر إذ لم تتواتر لنا نحن فمن أولى بالإتباع؟ هل من قال: بتواتر القراءات السبع أو العشر كما روي، أو القول بتواتر قراءة نافع فقط، ثم التواتر المدعى إنما هو عن القراء السبعة، وأما عن النبي صلى اللّه عليه وآله وسلم فنص الأكثر أنه لم يبلغ حد التواتر، وحينئذ فهل تصح القراءة في الصلاة بغير قراءة نافع على مذهب الهادي وأولاده أم لا يصح كما هو مفهوم من كلامه يبنوا ذلك بياناً شافياً؟.
*الجواب العاشر واللّه الموفق: (1/33)
أن الكلام في مسألة القراءات متوقف على بيان معنى التواتر، وهو نقل عدد عن عدد يحيل العقل تواطؤهم على الكذب، فلا يلزم من التواتر لشخص التواتر لشخص آخر، كما إذا تواتر لك أن زيداً في الدار، فإنه لا يلزم أن يتواتر لعمرو مثله، ومن هاهنا وقع الاختلاف في القراءات حتى قال بعضهم إن القراءات كلها أحادية وليس المتواتر إلا جوهر القرآن، وعدّ الاختلاف فيها إنما هو اختلاف في الصفة لا في الذات، وعلى ذهني أنه مذهب الإمام زيد بن علي عليه السلام، فعلى هذا كل عالم ينزل القراءات في الصلاة على مذهبه، ومن قلّده يجب أن يعمل بقوله، والقاعدة المذكورة (( أن من زاد في القرآن ما ليس منه كفر)) مشروطة بأنه زاد عمداً مدعياً كونه قرأناً وأدلة الشرطين جلية، أما العمد فقوله تعالى: {وليس عليكم جناح فيما أخطأتم به .. الخ }، وأما ادعاء كونه قرأناً فإجماع الأمة، لأنه قد أدمج القرآن بالتفسير والأدعية من دون نكير، بل ورد في الأدعية المأثورة والمرفوعة كذلك، ووردت القراءة الشاذة بذلك، وقالوا: إن الشاذة تحمل على الخبر الأحادي وتأوّلوها بأن الصحابي سمعها تفسيراً فظنها قرأناً، وأما ما روي عن الهادي والقاسم عليهما السلام أنها لم تتواتر إلا قراءة نافع، فهي قراءة أهل المدينة ويحمل على أنه لم يتواتر لهما سواها وقد قررنا أنه لا يلزم من عدم تواترها لهم عدم تواترها لغيرهم، كيف وقد قيل إن الصحابة الذين توفي رسول اللّه صلى اللّه عليه وآله وسلم وهم في الحرمين الشريفين زهاء مائة الف.
وأما قول السائل: إن القول بتواتر القراءات السبع منا إنما هو تقليد إذ لم تتواتر لنا، ومن أولى بالإتباع؟ من قال: بالعشر أو السبع أو قراءة نافع فقط؟. (1/34)
فنقول: بل قد تكون القراءات كلها حتى قراءة نافع غير متواترة لغير المطلع ولكن عهدة العالم أن يعمل بعلمه وما صح عنده هل كلها أو بعضها، ولا يجوز له التقليد، والجاهل يعمل بمذهب من قلّده لأنها من المسائل العملية، وإن كانت قطعية فهو يجوز التقليد فيها.
وأما أولوية التقليد فالأئمة المشهورون من أهل البيت عليهم السلام أولى من غيرهم، ومهما كان في السفينة فهو ناج وإن كان أوسطها أحسنها.
وأما قول السائل: إن التواتر إنما هو عن القرّاء السبعة، وأما عن النبي صلى اللّه عليه وآله وسلم فنص الأكثر أنها لم تتواتر؟.
فنقول: قول القائلين لذلك نفي وقول الناقلين لذلك إثبات، وعدم العلم لا يدل على العدم، والمثبت أولى من النافي، كيف وقد قال نافع: سمعتها عن سبعين بدرياً فلا أبالي بنحوتكم، والتواتر قد يحصل بالأربعة والخمسة كما قرر في مواضعه، وكيف والصحابة زهاء مائة الف في نفس الحرمين دون غيرهما، ولا زال الإسلام يتكاثر وأكثر عنايتهم فيما جاء عن اللّه تعالى على لسان رسول اللّه صلى اللّه عليه وآله وسلم، والصحيح أن القراءات السبع متواترة لأنها تقرأ في سائر الأمصار والقرى والمدن الكبار، بالقرب والبعد من الديار في جميع الأعصار، من غير اختلاف ولا إنكار، حتى منعوا من إدخال اسم السورة بينه، وحتى اختلفوا في البسملة، وكان حجة أهل البيت إثباتها في المصحف، وأجمعوا على ثبوتها آية، فتواترها أبلغ من تواتر غيرها من متواتر السنة يعلم ذلك من تتبعه، حتى أثبتت في المصاحف المقروءة المشهورة في مدن الإسلام وحتى خدمت وكتبت بماء الذهب، ولم يسمع إنكارها بل تقريرها وقراءتها مع حرصهم على نفي أدنى زيادة، ولو قرأ قارئ بالشاذة لسورع إلى نهيه وزجره، ثم إن اللّه تعالى يقول: {إنا نحن نزلنا الذكر وإنا له لحافظون } فلو لم يكن هذا المتلوّ على سبع قراءات من غير إنكار لما كان اللّه تعالى قد حفظه، وهذا إنما هو بالنسبة إلى مواضع اختلاف القراء فيما يرجع إلى الصفات وما يلحق بها وهو يسير وإلاّ فالقرآن معلوم من ضرورة الدين عند العالم والجاهل واللّه أعلم. (1/35)
(11) السؤال الحادي عشر (قال رضي اللّه عنه) سؤال : (1/36)
فيمن أطاع اللّه مدة، ثم فعل كبيرة، ثم تاب بعد ذلك، وعكس هذه الصورة، ما هو الراجح على كلام أبي هاشم وبعض أئمتنا القائلين بالموازنة ؟، هل يعود ثواب الطاعة في المسألة الأولى وعقاب المعصية في الثانية أم لا يعود فيهما؟ أم يعود في الأولى دون الثانية؟. إن قلتم يعود فيهما فأي شيء أسقطت المعصية في الأولى والطاعة في الثانية ؟مع أن الإسقاط بالموازنة ، وإن قلتم لا يعود أبطلنا ما قرروه من أن العقاب والثواب إنما يسقطان بالموازنة، وإن قلتم يعود في الأولى دون الثانية فما الفارق؟ ، وما هو الذي يعود ؟، وما هو الذي قد سقط؟ وهل الساقط دائم وقت استحقاقه أم غير دائم ؟ مع أن الموافاة غير شرط عند أهل الموازنة، والثواب والعقاب دائمان بالاتفاق.
وإذا قلنا بالعود فهل تعود الطاعة؟ فمحال، أو الثواب المستحق عليها فليس إلاّ دخول الجنة ولم يقع حتى يعود، وإذا قلنا بعدم العود فهل يبقي الدوام ويسوى بين من عصى اللّه مدة عمره وتاب يوماً ثم مات، ومن أطاع اللّه مدة عمره، ثم عصى بفعل كبيرة ثم تاب توبة نصوحاً ومات ؟، وهذا ليس من العدل واللّه تعالى عدل حكيم، فهذا ما أشكل علينا .
وقد قال بعض أهل الموازنة إنه لا يعود له ما قد انحبط من الطاعات إذا تاب ، وظاهره أما ما لم ينحبط فيعود، وفرّع عليه الإمام المهدي أنه يتجدد له استحقاق ثواب في الأوقات المستقبلة على الطاعات الماضية التي تعقبتها معصية وأنها مراد أهل الموازنة، فأشكل علينا ذلك ، إذْ يقال هل الساقط دائم؟ أم لا- لايصح الدوام لأنه قد سقط ولا عدمه للاتفاق على أن الثواب والعقاب دائمان؟، وكذلك المتجدد إذا كان دائماً فما الفرق بينه وبين الساقط؟، وإن كان غير دائم فما هو؟ والجواب مطلوب.
*الجواب الحادي عشر: (1/38)
في قول أبي هاشم وبعض أئمتنا عليهم السلام القائلين بالموازنة فيمن أطاع اللّه تعالى مدة عمره ثم فعل كبيرة ثم تاب والعكس أن المشهور عنهم عدم عود الثواب والعقاب في المسألتين معاً، وحجتهم في الأول أن عقاب تلك الكبيرة صيّر الثواب كالمعدوم ولسقوطه بالموازنة، وحجتهم في الثانية أن التوبة قد أسقطت عقاب المعاصي الأولة ولم يبق إلا عقاب المتجددة بعد التوبة، ويبقي الإشكال في قولهم (ولسقوطه بالموازنة)، فكأنهم يحكمون في هذه المسألة الأولى برجحان الكبيرة على الطاعات مطلقاً لمصير الحال إلى السلامة بتجدد التوبة بخلاف الثانية، فقد انتهي الحال إلى استحقاق العقاب على الكبيرة الواقعة بعد التوبة، لكن التوبة قد أسقطت ما قبلها من المعاصي، إلا ما حكي عن بشر بن المعتمر فأشبه كلامهم في هاتين المسألتين كلام القائلين بالإحباط،، وإنما تظهر ثمرة الخلاف فيمن فعل الكبيرة ثم فعل الطاعة في حال عصيانه وإصراره، هل تسقط شيئاً من عقاب المعاصي أم لا؟ فهذه هي المشهورة بمسألة الموازنة التي جوّزوا فيها نمو الطاعات على المعصية وقالوا: إن العبرة بالمقادير عند اللّه، ولهذا قال الإمام القاسم عليه السلام: إن الملجي لهم إليها تجوز السلامة لمن يخالف من الصحابة وغيرهم فعارضوا آيات الإحباط بآيات الموازنة.
وأما ديمومة الثواب والعقاب بالاتفاق فلا شك، لكنه يحمل كلامهم على تخفيف العقاب وتقليل الثواب وذلك لا ينافي الدوام.
وأما مسألة إلزام التسوية بين من عصي اللّه مدة عمره ثم تاب وبين من أطاع اللّه تعالى مدة عمره ثم فعل كبيرة ثم تاب فهذا وارد أيضاً على القائلين بالإحباط ، وجوابهم يصلح جواباً لهم بزيادة انتهاء الحال إلى السلامة في الطرفين معاً، والقول بالتفصيل للإمام المهدي عليه السلام وابن الملاحمي باستحقاق ثواب متجدد أشبه زيادة الكرامة من اللّه تعالى مع ملاحظة العمل السابق ، وكلام المعتزلة في مسألة الموازنة مضطرب، ويلزم عليه إشكالات تصعب، ولهذا فإن المختار عند أئمتنا([67]) عليهم السلام خلافها، وبقاؤها متغلقة زيادة في تقوية المذهب المختار وإن كان لا بأس بالمذاكرة فيها، ولهذا فإن الخلاف بين أبي على وأبي هاشم في كيفية الإحباط الخلاف المشهور. (1/39)
واعلم أن هذا إنما هو تخريج على قول أهل الموازنة وهو لا يلزم القائلين بالإحباط ، وأن المذهب الصحيح قول أهل الإحباط بصرائح الآيات والأدلة التي لا احتمال فيها ، وأن العبرة بخاتمة العمر من طاعة وتوبة أو معصية كبيرة ، وأن آيات الموازنة من المتشابه الذي يجب رده إلى المحكم والمؤول الذي يجب رده إلى الظاهر ، والأمثال والمجاز شائع في لسان العرب ، وآيات الإحباط صريحة لا احتمال فيها ، ولهذا قال الوصي عليه السلام: (بقية العمر لا قيمة له) .
____________________
([67]) ـ أي القائلين بالإحباط ، لأن كثيراً منهم يقولون بالموازنة كالإمام المهدي عليه السلام كما سبق في أول الجواب ، تمت من مولانا مجتهد العصر/ مجد الدين بن محمد المؤيدي أيده الله تعالى.
وما ذكر من الإشكال اللازم بالتسوية بين من أطاع اللّه مدة عمره ثم فعل كبيرة ثم تاب ومن عصى اللّه مدة عمره ثم تاب إشكال تهويل ، ومصادرة فيما قام عليه الدليل ، لأنّا وإن قلنا بالتسوية لم يقدح ذلك في عدل اللّه وحكمته لأن المكلف المبطل لأعماله بالكبيرة من جهة نفسه أُتي لا من جهة اللّه تعالى ، فأشبه من بنى بناءً تاماً في مدة مديدة ثم هدمه ، فإنه هو ومن لم يبن سواء ، ولا عتب له على أحد ، ولأنه يعارض ذلك بمثله ، فيقال: فما تقولون فيمن أطاع اللّه مدة عمره ثم كفر ثم تاب ، وبين من عصى اللّه مدة عمره بالكفر ثم تاب ؟، ولا قائل بلزوم التفرقة في عدل اللّه بينهما ، ومَنْ نظر في قصة إبليس لعنه اللّه وقد أحبط عمله - وهو عبادة ستة آلاف سنة - بمجرد تكبره عن السجود لأدم حتى لعنه اللّه وأخبر أنه من أهل النار في تلك الحال عَلِمَ أن اللّه عدل حكيم ، وأن إبليس أُتي من جهة نفسه ، فإذا دلت الأدلة القاطعة على أن اللّه عدل حكيم ، ودلت الأدلة الآخرة على أن عمل صاحب الكبيرة قد صار هباءً منثوراً وجب الحكم بأن ذلك عدل وحكمة عُرف وجههما أم لا ، وإلاّ لزم الاعتراض الذي أورده بعض العلماء فيما هو الوجه في تخليد الفاعل لكبيرة واحدة في العذاب المهين مع كونه فعلها في وقت يسير؟، وأجيب عنه من أوجه عديدة وأعظمها وأجمعها ما ذكرناه ، وهذا هو اختيار الإمام القاسم بن محمد عليه السلام وغيره من الأئمة المتقدمين والمتأخرين من الآل وغيرهم ، وأبي علي ومن معه ، وهو الذي نطقت به صرائح الآيات والأدلة، وإذ يلزم من القول بالموازنة استحقاق العقاب والثواب لشخص واحد في وقت واحد، وهو محال لأن أحكامهما متنافية، ولا حاجة لإيراد آيات([68]) الإحباط لأنها قد صارت معلومة عند الكافة. (1/40)
______________
([68]) ـ وهي مثل قوله تعالى: {وقدمنا الى ما عملوا من عمل فجعلناه هباء منثورا} وقوله تعالى: {ولا تبطلوا صدقاتكم بالمن والأذى} وقوله تعالى:{ياأيها الذين آمنوا لا ترفعوا أصواتكم فوق صوت النبي ولا تجهروا له بالقول كجهر بعضكم لبعض أن تحبط أعمالكم وأنتم لا تشعرون} وغيرها كثير تمت عن شيخنا المجتهد/ مجد الدين المؤيدي أيده اللّه تعالى.
(12) السؤال الثاني عشر (قال رضي اللّه عنه) سؤال : (1/41)
تقرر عند أكثر أئمتنا عليهم السلام أن من عصى اللّه ومات غير تائب أنه يستحق العقاب لا محالة لئلا يلزم الخلف في الوعيد، وقرروا ذلك بالأدلة، وهم سفن النجاة والأئمة الهداة يجب إتباعهم لكن فيما أجمعوا عليه، وأما ما اختلفت فيه أراءهم وتشتت فيه أنظارهم فلم يقل باتباع فرد معين أحد([69]) بعد أمير المؤمنين وسيد الوصيين، والمروي عن بعضهم أن العاصي داخل تحت المشيئة إن عذبه فبذنبه ، وإن عفى عنه فبفضله، وقدحوا في أدلة الأولين القائلين بالقطع حتى جعلوا أدلتهم ظنية يعرفها المطلع عليها ، وذكروا أن العفو جائز عقلاً وورد به السمع، ورووا معناه عن علي عليه السلام وعن زين العابدين، وقد روي عن زيد بن على عليهما السلام، وأما الروايات في الجامع الكافي المسمى بجامع آل محمد ففيه تصريح عن محمد بن منصور فقيه آل محمد وعن الحسن بن يحي بن زيد أحد الأئمة الأربعة الذين بنى مصنف الجامع الكافي كتابه على مذهبهم، ونقل عن الإمام يحيى والهادي بن إبراهيم والإمام شرف الدين، وأما محمد بن إبراهيم فقرره وذكر أن أحاديثه تنيف على أربع مائة حديث بالغة حد التواتر، وتأولوا آيات
____________________
([69]) ـ لم يعتد بخلاف الإمامية تمت.
الوعيد بأنها محتملة للتخصيص (إلا أن يعفو اللّه عنه ) كما قدر التخصيص الجميع (إلاّ أن يتوب) وهذا هو الرجاء وليس الإرجاء المذموم إلا القطع بالغفران للعاصي إما بشفاعة أو غيرها والقول بخروج أهل النار فذاك أيضاً لم يقل به أحد من أئمتنا، ولم نذكر هذا اعتقاداً له بل أشكل علينا لأن المسألة أصولية والمخالف فيها مخطٍ آثم، فإن كانت أدلة الأولين قطعية فالآخرون مخالفون للقطعي وفيه ما فيه، وإن كانت الأدلة ظنية فلا ضير على المخالف، ونحن ننزه أفراد أهل البيت عليهم السلام أن يخالفوا قطعياً وحاشاهم ، فهل هذه إلا مشكلة تحيرنا فيها نرجوا كشفها بالأدلة الواضحة ، ثم ما روي في أمالي أحمد بن عيسي برواية عيسى بن عبد اللّه عن أبيه عن جده عن عمر عن علي عليه السلام من: (( قرأ قل هو اللّه أحد مائة مرة دبر كل صلاة جاز الصراط يوم القيامة وعن يمينه وشماله ثمانية أذرع وجبريل آخذ بحجزته، وهو متطلع في النار يميناً وشمالاً من رأى فيها دخلها بذنب غير شرك أخرجه)) فهذا مشكل غاية الإشكال على قواعد الآل ، إن قلنا برده مع هذا السند لزم التشكيك في جميع أحاديث الكتاب ، وهو أعظم معتمدات أئمتنا ، وإن قلنا بقبوله ففيه ما فيه؟ والجواب مطلوب جزيتم خيراً . (1/42)
*الجواب الثاني عشر عن هذا السؤال: (1/43)
أنه لا بد من تقديم بيان أصلين في هذا البحث ليقع البناء عليهما .
أحدهما: تقرير الحق في هذ ه المسألة بالدليل إذ الدليل هو المعتمد ، فيقال: تقرر في الأصول بآيات الإحباط وآيات الوعد والوعيد المشهورة أن فاعل الكبيرة يستحق العقاب الدائم ولو تقدمت له أعمال مثل الجبال ، والأدلة في ذلك صريحة مذكورة في مواضعها عموماً وخصوصاً مثل قوله تعالى :{ ومن يقتل مؤمناً متعمداً فجزاؤه جهنم خالداً فيها وغضب اللّه عليه ولعنه وأعد له عذاباً عظيماً} وغير ذلك مما ورد في الكبائر ، وإنما أشرنا إلى طرف من ذلك ووجدنا استثناء التائب صريحاً في كتاب اللّه تعالى في غير ما آية فوجب أن يكون من المخصصات سواء كان متصلاً أو منفصلاً ، وما أطلق من آيات الوعيد وجب حمله على المقيد كما هي القاعدة الأصولية ، ولم نجد الاستثناء بقوله: (إلاّ أن يعفو اللّه) في شيء من الآيات فلا يصح جعله مخصصاً من دون دليل وإن وجد في بعضها{ إلاّ ما شاء اللّه} ، فالتقييد بالمشئية محتمل ولا استدلال بمحتمل، إذ يحتمل إلا ما شاء اللّه وهي الأ وقات المتقدمة على دخول النار ، كيف ويوم الحساب وحده خمسون ألف سنة ، ويحتمل أن التقييد بها ليس باستثناء حقيقة بل هو لتعليم التأديب كما في قوله تعالى: {ولا تقولنّ لشيء إني فاعل ذلك غداً إلا أن يشاء اللّه} ولهذا دخلت في سياق أهل الجنة مع أنه لا قائل باستثناء أحد منهم، وفي قوله تعالى: {إن اللّه لا يغفر أن يشرك به ويغفر ما دون ذلك لمن يشاء} المراد بهم أهل الصغائر ، لأنها قد أفادت أن ما عدا الشرك فمنهم من يشاء تعذيبه ومنهم من لا يشاء ،وكل دليل من أدلة الإرجاء محتمل والمقام مقام بيان في مسألة قطعية لو جوزنا التشكيك فيها لزم عنه التلبيس في أمر الدين، وناقض قوله تعالى: {ما فرطنا في الكتاب من شئ} {وتبياناً لكل شئ} والوعيد من اللّه إخبار وهو لا يجوز تخلفه من الحكيم تعالى.
والأصل الثاني: أن الكتاب والعترة لا يختلفان لما تقرر من الأدلة أن الحق معهم، وأنهما ((لن يفترقا حتى يردا عليّ الحوض)) ، وأنهم تراجمة الكتاب وحماته وورثته، والأدلة في ذلك واسعة بالغة حد القطع ليس هذا موضع ذكرها، وقد تقرر في مسائل الفروع أن كل مجتهد مصيب أو المخطي معذور على اختلاف المذهبين، وتقرر أيضاً أن الحق في أصول الدين مع واحد والمخالف مخط غير معذور، إذا تقرر هذا فنقول: (1/45)
الروايات المشهورة عن أئمتنا عليهم السلام في كتب الأصول وغيرها الإطباق على أن صاحب الكبيرة إذا مات غير تائب فهو يستحق العذاب الدائم لا محالة، وهو الذي يجب حمل أقوالهم عليه ورد ما شذّ عنه إليه لأنه قد تقرر أن هذه المسألة من أمهات مسائل أصول الدين، وتقرر بآيات الوعيد الصريحة وما وافقها من السنة النبوية الجزم بعدم جواز تخلف الوعيد من اللّه تعالى، ووافق ذلك قضية العقل لأنها إخبار عما يؤول إليه حالهم، ولو جوزنا تخلف الوعيد من الله تعالى لزم الكذب وهو محال على اللّه([75]) تعالى، وصفة نقص يتنزه عنها فيجب الحكم بأن قولهم عليهم السلام مطابق لما في الكتاب ولا يخالفة، وإذا وجدنا رواية شاذة لبعضهم تخالف في الظاهر آيات الكتاب وأقوال جماعتهم وجبَ تأويلها وردها إلى ما يوافق الصواب والجمهور والكتاب كما يجب رد المتشابه من القرآن إلى المحكم لأنهم قرنائه وأحد الثقلين الذين وجب التمسك بهما والشبه بينهما غير خلي.
__________________
([75]) ـ أي في الحكمة . تمت من مولانا الحافظ/ مجد الدين المؤيدي أيده الله تعالى.
وإذا قدر وجود قول لأحدهم لا يمكن تأويله ولا حمله على ما يوافق وكانت روايته قد صحت وجب تحكيم الكتاب عليه، لأنه الثَّقل الأكبر،وبقينا نحن على اتباع الكتاب والجمهور من العترة على الأصول المقررة، وقد بينا أن المقرر في هذا الأصل هو ما ذكرنا من القول بعذاب صاحب الكبيرة وتخليده في النار، لأن أدلته صريحة لا احتمال فيها، منها عمومات مثل قوله تعالى:{ومن يعص اللّه ورسوله ويتعد حدوده يدخله ناراً خالداً فيها وله عذاب مهين } ولا يقال فقد ذكروا أن دلالة العموم ظنية، لا سيما إذا قد خص وهاهنا قد خص بالتائب وخص بالصغائر، لأنا نقول الصحيح أن دلالة العموم في مسائل الأصول قاطعة سواء كان قد خص أم لا، لأن خلاف ذلك يؤدي إلى التلبيس والتغرير بإطلاق العام وإرادة الخاص من دون نصب دليل، وما ذكر من أدلة الأرجاء لا تصلح مخصصة لإجمالها، فوجب التعويل على العام وإن خالف في ذلك من خالف فالمعتمد الدليل ولئن الأصل في خطابات الشارع القطع بموجبها سواء عامة أو خاصة في الأصول والفروع، هذا هو الذي يقتضيه الوضع العربي مع كونه خطاب من لا يجوز مخالفة أمره وخبر من لا يجوز كذبه ولا تلبيسه، وإنما خصصت عمومات الفروع بمصير دلالتها ظنية لكثرة المخصصات فيها بخلاف الأصول ولكونه مما يكتفى فيها بالظن بخلاف الأصول وبقيت عمومات الأصول على أصلها، ثم إنه لا يجوز أن يتعبدنا اللّه تعالى بالعلم ولا ينصب لنا عليه إلا دليلاً ظنياً فهل هذا إلاّ تكليف ما لا يطاق واللّه يتعالى عنه، ومنها ما هو خاص مثل آية القاتل وآية القاذف وغيرهما، فأي إحتمال يدخلهما. (1/46)
وما ذكر من أن العفو جائز عقلاً معارض بمثله فيقال: بل قبيح عقلاً لأنه إغراء على فعل القبيح، بيانه أن الآمر الناهي إن لم يعاقب على مخالفته تجرأ المأمور عليها وسقطت ثمرة الأمر والنهي، لأنه يصير المأمور والمنهي الممتثل وغيره على سواء، وإن قيل بحسنه عقلاً في جزئية لا تتكرر كالعفو عمن أساء إليك فلا سواء إذ هذه أعمال بتكاليف تنبني على أصول وضوابط وحواجز مانعة رادعة حتى قضى العقل بأن عفوك عن المسئ لو عرف تجريه على المعاودة بسبب العفو لكان قبيحاً، فكيف بعد التصريح بمثل قوله تعالى: {ما يبدل القول لديّ وما أنا بظلام للعبيد}، {ما للظالمين من حميم ولا شفيع يطاع}، {ليس بأمانيكم ولا أماني أهل الكتاب من يعمل سوءاً يجز به} وغير ذلك كثير. (1/47)
إذا تقرر هذا فيجب حمل ماروي عن بعضهم عليه وتأويله ورده اليه بأي وجه من الوجوه.
فمثل دعاء علي بن الحسين عليه السلام:( اللّهم إن تشأ تعذبنا فبعدلك، وإن تشأ تعف عنا فبفضلك)، يحمل على التأدب، وأن المعنى أنك لو شئت أن تعذب ولا تقبل([80]) التوبة أو تعذب على الصغيرة لكان عدلاً، لأن ذلك من اللّه تعالى تفضل، وهذا معنى كون العبد تحت المشيئة لكنك لم تشاء ذلك بما وعدت.
____________________
([80]) ـ هذا بناء على أن قبول التوبة تفضل وفيه نزاع بين أهل الكلام كما حقق في محله من الأصول، واللّه ولي التوفيق. تمت من مولانا المجتهد/ مجد الدين المؤيدي أيده اللّه تعالى.
مع أن لزين العابدين عليه السلام من الصرائح ما هو مشهور مثل قوله عليه السلام: ( فالويل الدائم لمن جنح عنك، والخيبة الخاذله لمن خاب منك، والشقاء الأشقى لمن أغتر بك، ما أكثر تصرفه في عذابك، وما أطول تردده في عقابك، وما أبعد غايته من الفرج، وما اقنطه عن سهولة المخرج). (1/48)
ومثل حديث: (( من قرأ قل هو اللّه أحد ..الخ )) مع كونه ظنياً لا يعمل به في مسائل الأصول إلا مؤيداً لغيره من القواطع يمكن تأويله بأن المعنى من رأى في رفاقته من أهل الكبائر أخرجه عن مرافقته في حال الجواز على الصراط عند الإطلاع على النار لأنه في سياقه، والمقصود الطريق الموصلة إلى الجنة، وقوله: ((بذنب غير شرك )) لأن المشرك لا يطمع في مرافقته من أول وهلة، ويؤيد هذا التأويل قوله تعالى: { قيل ارجعوا وراءكم فالتمسوا نوراً} ونحو ذلك من التأويلات التي هي أولى من الرد، ولأنه لو صح الحديث وكان على ظاهره لكان دليلاً على الخروج من النار لا على ماذكره السائل، ولا قائل به، وإن ورد ما لا يمكن تأويله وجب رده كما هي القاعدة المقررة في الأصول، ولا يقدح ذلك في ناقله ولا في كتابه، أما ناقله فالخطأ والنسيان والوهم مجوز على البشر، وإنما هو ناقل روى ما سمع، وإنما يقدح ما كان عمداً، ولهذا قال صلى اللّه عليه واله وسلم: (( من كذب على متعمداً فليتبوأ مقعده من النار )) فقيده بالعمد، وكثير من أفراد الأحاديث ما نُظِّر عليها وحكم بعدم صحتها ولم يعد ذلك قادحاً في الناقل ولا في كتابه، وأما كتابه فلبقاء الظن بصحته وكمال شروط الرواية في باقيه.
وأما ما ذكره السائل من أن هذا هو الرجاء لا الإرجاء المذموم فالمصرح في كتب الأصول أن ذلك القول هو حقيقة الإرجاء المذموم ، لأن الإرجاء التردد في الشيء لا القطع به كما قال تعالى: {وآخرون مرجون لأمر اللّه إما يعذبهم وإمّا يتوب عليهم} ، وأما الرجاء: فهو رجاء قبول الأعمال وزيادة الكرامة ونحو ذلك مثل صحة التوبة والتوفيق إلى الأعمال الموجبة للرحمة والجنة والعصمة المبعدة عن أسباب الغضب والنار، ولهذا قال تعالى: {ويرجون رحمته ويخافون عذابه} وقال تعالى: { وترجون من اللّه ما لا يرجون} ولهذا قَبُحَ الرجاء في غير موضعه كما قال الشاعر: (1/49)
تصل الذنوبَ إلى الذنوب وترتجي .... درج الجنان بها وفوز العابد
أنسيت أن اللّه أخرج آدماً .... منها إلى الدنيا بذنبٍ واحد
نعم قد ذكر السائل كثرة الروايات وكثرة المروي عنهم مما يشوش الخاطر في هذه المسئلة الأصلية القطعية، وثمة تأويل وحمل جامع يمكن تطبيقُ كلما ورد من ذلك القبيل عليه ، ورد كل شاذ إليه ، وهو أن مراد الناقلين ومعنى مانقلوه ومقصد القائلين فيما قالوه هو تجويز العفو وعدمه فيما كان من الذنوب عمداً، ولا ورد فيه الوعيد مع الحد، ولا لفظ يفيد العظم أو الكبر لأن حال المعصية ملتبس في ذلك والعاصي تحت المشيئة فيحتمل أن تكون صغيرة عنده اللّه مكفرة، ويحتمل أن تكون كبيرة معاقباً عليها، ولفظ العاصي يشمل فاعل الكبيرة والصغيرة فيكون كلامهم موافقاً لقول من يقول: بعض العمد ليس بكبيرة كما هو المختار، وهو الظاهر من كلامهم وأنهم لا يريدون القاتل والسارق، واندفع الإشكال، والحمد لله على كل حال.
(13) السؤال الثالث عشر (قال رضي اللّه تعالى عنه) سؤال : (1/51)
على القول بقطعية الإمامة بمعنى أنه لا بد من إمام جملة وفي كل مدع من أهل البيت عليهم السلام ، والظاهر واللّه أعلم أن كونها قطعية في المدعي لها غير المنصوص عليهم لا يصح، إذ من المعلوم أن كونه مجتهداً أمر مظنون، وكونه مدبراً شجاعاً ونحوهما كذلك، فما الذي صيّرها قطعية في حق كل إمام يدعي سيما في أعصارنا هذه، فمن عارض الأول لاعتقاده عدم كماله هل ذلك جائز أم لا؟! ثم إذا اختبر العالمُ القائمَ فوجده قاصراً فهل يجوز له اعتقاد إمامته أم لا؟ أو عرف اختلاله بالتواتر؟ ثم إذا اعتزل بعد ذلك فهل يجوز للإمام إلزامه طاعته وهو يعتقد نقصانه أم لا يجوز؟ مع أن الأئمة قد ذكروا أنه لا يجوز للإمام إلزام العوام المبايعة بغير دليل، ويلزم الإنكار عليهم إذا فعلوا إذ يجب عليهم البحث والإختبار في الشروط التي يعرفونها وتقليد العلماء فيما لا يعرفونه، ثم العامي هل يجوز له تقليد هذا العالم الذي قد اعتزل أم لا؟ وفي شأن المعارضة لم تزل منذ قيام الإمام الهادي عليه السلام إلى الآن والمتعارضون جمٌ غفير من أهل البيت عليهم السلام، هل يعتقد الإيمان فيهم جميعاً وصلاح النية ونتولاهم ونقبل روايتهم أم لا؟ فذلك خلاف المعلوم من حال أهل البيت جميعاً بل لم يرو عنهم تضليل أحد من المتعارضين ، كيف وهم حملة العلم والمبلغون للشريعة من أهل البيت المطهرين، فبينوا ذلك بالدليل الواضح، فهذه موضع حيرة سواد ليلها مع كون المتعارضين قبل الدعوه وبعدها من أهل الفضل
والصلاح وعرف ذلك منهم مع لزومهم للسيرة المرضية من العدل وبذل الوسع فيما هم بصدده قبل الدعوة وبعدها بحيث يعلم من قصد كل منهم أنه لا حامل لهم على التورط في حبائل الأمر والنهي إلاّ وجوب ذلك عنده وصلاحيته له دون غيره، وظنه قيام الحجة عليه بحيث يعلم من قصده أن لو عرف أن معارضه أنهض منه وأكمل لترك معارضته واتبعه، فما هو الذي يعتقد في المتعارضين والحال ما ذكرنا؟ ثم العوام الذين لا خبرة لهم إذا اتبع بعضهم واحداً والبعض الآخر مع الآخر مع اعتقاد كل منهم حقيّة من اتبعوه فهل يجوز حملهم على السلامة أم لا؟. (1/52)
ثم ما يصير به الباغي باغياً يحل منه ما يحل من الباغي، هل لا بد من المحاربة أو العزم عليها مع إظهار أنه محق أو بمجرد عدم القول بالإمامة، إن قلتم لا بد من المحاربة أو العزم عليها مع الإظهار أنه محق والإمام مبطل فما يكون حال من قاتل من لم يحارب ولا عزم؟ وما حكمه مع قول أمير المؤمنين عليه السلام: (ولا نبدأهم بقتال إلا أن يبدؤنا)، وقال صلى اللّه عليه وآله وسلم: (( من أغلق بابه فهو آمن )).
ثم إذا فرضنا بغيهم فهل يجوز منع الميرة عنهم ونصب المنجنيق والمدافع ورميهم على وجه لايدرى أين يقع مع أنهم مختلطون بالنساء والصبيان ومن لا يقتل، فهل يجوز فعل ذلك مع أنهم مبطلون مع قول أمير المؤمنين: (أهل القبلة لا ينصب عليهم منجنيق ولا يمنعون ميرة)، فإن قال: لم أقصد إلاّ من يجوز قتله فهذا غير مخلّص إذ هو إقدام على ما لايؤمن قبحه وهو غير جائز، لهذا ورد في بعض الأثار العلوية أن أهل القبلة لا يبيتون ، فنبه على العلة . (1/53)
ثم إذا علم الإمام فعل المقاتلين لما لا يجوز هل يجب عليه إعلامهم فقط أو دفعهم عن المنكر بالممكن؟، ثم إذا كان جنده فسّاقاً أكثرهم وليس معه عصابة مؤمنون يستقل بهم في إمضاء الأحكام الشرعية عليهم وعلى غيرهم هل يجوز له الإستعانة بهم أم لا؟ إذ العلماء بين قائلين قائل تجوز الإستعانة مع الشرط، وقائل بأنه لا يجوز الإستعانة رأساً.
ثم إذا طلبوا الأمان فهل يجوز قتالهم مع قوله صلى اللّه عليه وآله وسلم: (( من ألقى سلاحه فهو آمن ))، ثم إذا اختلط أهل قرية الموالي بالمعادي فهل يجوز حصارهم مع أنه لا يمكن الموالي الهجرة؟ أمْ يقاتلون ويحاصرون؟ فكيف بقول اللّه تعالى: { ولولا رجال مؤمنون .. الخ}.
ثم إذا علم الإمام أن جنده يطمعون من تلك الطريق كائناً من كان فهل يقرهم على ذلك ؟ فما الدليل؟ أو يمنعهم عن الطمع لئلا يصادموا من لا يجوز أخذه ويلزمه إظهار ذلك والتبري منه مطلقاً؟.
ثم إذا قال ناس من العوّام المقلدين وغيرهم في شأن هذين المتعارضين: كل واحد منهما يطلبنا الدخول تحت طاعته وليس مقصدنا إلا اتباع القائم من أهل بيت رسول اللّه لا المخالفة لهما، فعزم أحد المتعارضين على إكراههم وحاربهم فأعرضوا عن ذلك أنهم متبعون لما قاله وأجمع عليه علماء أهل البيت عليهم السلام فلم يقبل منهم ذلك وحاربهم وحاصرهم فما حال منْ فعل هذا ؟ هل جائز له ذلك الفعل أم لا؟ . (1/54)
وعلى الجملة فسيرة البغاة معلومة من فعل أمير المؤمنين كرم اللّه وجهه في الجنة في الناكثين المعلوم بغيهم قطعاً على إمام معلوم إمامته قطعاً فمن سار بغير سيرته فقد شرع ما لا ينبغي.
*الجواب الثالث عشر: (1/55)
أن مسالة الإمامة كونها قطعية جملة أمر متفق عليه، بل هي إحدى المسائل الثلاثين التي يجب معرفتها على كل مكلف، وأما تعيينها في الأفراد فالصحيح أنها قطعية أيضاً، والذي صيّرها قطعية مع كون بعض شروطها ظنياً هو الدعوة الحاصلة من الفاطمي الكامل، ولهذا علق وجوب النهوض إليه بها، ثم ينظر في بقية الشروط،وهو صريح الحديث قوله صلى اللّه عليه وآله وسلم: (( من سمع واعيتنا أهل البيت فلم يجبها كبّه اللّه على منخريه في نار جهنم )) لأنها دعاء إلى اللّه، وإلى ما جاء به رسول اللّه صلى اللّه عليه وآله وسلم من إحياء الشريعة والعمل بها، وإماتة البدع وإحياء الفرائض والسنن، ولا شك أنه يجب التعاون بين آحاد المسلمين على ذلك كما قال تعالى: {وتعاونوا على البر والتقوى ولا تعاونوا على الإثم والعدوان} وعموم أدلة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، لكن لما كان حماة شريعة رسول اللّه صلى اللّه عليه وآله وسلم هم أهل بيته وحفاظها وورثة الكتاب كما قال تعالى: {ثم أورثنا الكتاب الذين اصطفينا من عبادنا} وكان عهدتهم القيام والذبّ عنها وتبليغها كما أهلهم اللّه تعالى بالقيام بوظيفة جدهم صلى اللّه عليه وآله وسلم، وكان القائم منهم يختص بأحكام وله مباشرة أمور لا تجوز لغيره من سائر الناس وبها تمام قيام معالم الإسلام، وكان قائمهم قائماً مقام الرسول صلى اللّه عليه وآله وسلم إلاّ فيما يخصه من الأحكام فمهما استقام على طريقة الذي استخلفه ووجدت فيه
صفاته لا جرم تحتّم وجوب إجابته والمسارعة إلى دعوته، وجعلت تلك الأوصاف شروطاً لمعرفة كماله، ومن شأن الشروط أن يكتفى فيها بالظن ولا تحتاج إلى القطع، ولا يقدح ظنيتها في قطعية الأصل كالصلاة وغيرها من القطعيات، فلا يقدح في قطعيتها كونه يكفي الظن في القبلة والوقت وبعض الطهارة، وإن كان نفس اشتراط الإجتهاد والتدبير مثلاً في القائم على الجملة قطعياً لكن وجوده في الآحاد يكفي فيه الظن كما حكينا، وقد ينتهي الحال إلى العلم بكماله لكن العلم غير شرط في الإبتداء إذ لو كان شرطاً لزم الدور في مثل التدبير والشجاعة والكرم، فعرفت أن الذي صيرها قطعية هو الدعاء إلى اللّه من ذي المنصب المخصوص، وأن الشروط مما يكتفى فيها بالظن كما في نظائرها من الصلاة والصوم والحج وغيرها، بل أكثر القطعيات على هذا المنوال. (1/56)
ومن هاهنا يظهر فساد ما قيل : إن ما ترتب على ظني فهو ظني على الإطلاق، لأنه يقال: إلاّماكان من قبيل الشروط فهو يكفي فيها الظن، ولهذا نصوا أنه يجوز إستهلاك مال الغير بشرط ظن الرضا، وكخبر المنادي ببيع ما في يده من مال غيره بشرط ظن الرضا، وفي وكيل عقد النكاح وغيره مع كونها محرمات قطعية وكفى الظن في شرط إباحتها والعبرة بالإنكشاف.
وسألتم عن من عارض الأول لإعتقاد عدم كماله هل يجوز أم لا؟.
والجواب: أن المعارضة بعد اعتقاد إمامته وانعقادها لا تجوز إلاّ بأمر معلوم ولا يكفي الظن، وأما قبل الإعتقاد فلا يدخل العالم إلاّ بالطريق الشرعية، والجاهل طريقه العالم، وأما القائم الثاني فالعبرة بما صح عنده وعرفه من حال نفسه وحال من قبله، فإذا عرف القصران في الأول والكمال في نفسه جاز له القيام بل قد يجب، ومهما فعل الدعوة مع الكمال، فقد ثبتت إمامته فيما بينه وبين اللّه تعالى، وجاز له كلما يجوز للإمام، ولا تتوقف الصحة على الإجابة. (1/57)
وقلتم: إذا اختبر العالم القائم فوجده قاصراً فهل يجوز له إعتقاد إمامته أم لا؟
نقول: إذا قد علم ذلك فلا يجوز، لكن يعينه على الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ما لم يعارض ذلك القائم من هو كامل، لأن إعانته إيّاه تغرير وتوهين في جانب الكامل.
وقلتم: إذا اعتزل بعد ذلك فهل يجوز للإمام إلزامه طاعته أم لا وهو يعتقد نقصانه؟.
فنقول: إذا علم الإمام من نفسه الكمال جاز له الإجبار، والمجبر إذا علم النقصان جاز له الإمتناع فيما أمره إلى الأئمة، لكن أحدهما مخطٍ لأن العلمين لا يتناقضان فأحدهما غير علم.
وقلتم: قد ذكروا أنه لايجوز للإمام الزام العوام المبايعة بغير دليل لأنه يجب عليهم البحث عن الشروط التي يعرفونها ..الخ؟ .
فنقول: إنما يعرف العوام الذكورة، واشتهار النسب، وبقية الشروط إلى العلماء العارفين بمعناها، وإن عرف العامي معنى الكرم والتدبير مثلاً فقد يعتقده على خلاف الحد المعتبر، ويظن أنه زيادة العطاء والدهاء وليس كذلك، ما هو إلا وضع الحقوق في مواضعها وكون أكثر رأيه الإصابة مثلاً، وكونه لم يتقدمه مجاب يعني كاملاً فالصحيح أن أكثر الشروط لا يعرف حقيقتها إلا العلماء، ومن بلغ علمه إلى معرفة المعتبر منها شرعاً نظر لنفسه فمهما كان قد تابعه العلماء أهل الورع جاز للعوام الدخول لأن ذلك دليلهم وهذا إن وجد المعارض، وإلاّ فالإمام يكفيهم في الإقتداء به، وقد بينّا أنها إذا قد صحت ولايته عند نفسه جاز له كلما يجوز للإمام، ومن جملة ذلك طلب البيعة، والحمل على الواجب وعلى ما يقوي به أمره، لأن طريقه الدعوة لا العقد والإختيار. (1/58)
وقلتم: ثم العامي هل يجوز له تقليد هذا العالم الذي قد اعتزل أم لا؟ .
فنقول: يكفي بعد غلبة ظن العامي برجحان هذا العالم.
وقلتم: في شأن المعارضة وما حكم المتعارضين من أهل البيت عليهم السلام؟
فنقول: هذا يحتاج إلى تفصيل، وهو إما أن يعرف من حالهما معاً العدل والعلم والكمال وصلاح النية في القيام بأمر اللّه وإعزاز دينه، والبعد عن محبة الدنيا الدنية والأهواء الردية، فالواجب حمل الكل على السلامة حتى نص بعض العلماء أنهما لو تحاربا وجب القول بأن قتلا الجميع في الجنة حملاً لهما على أن كلا منهما يعتقد الأرجحيّة والأنهضيّة والكمال لنفسه وضدهما في صاحبه، وقد أشار إلى هذا البحث القاضي أحمد بن يحي حابس في المقصد الحسن، وإن كان أحدهما مخطئاً في نفس الأمر فهو معذور لعدم التعمد، وأتباعهم قد فعلوا ما يجب عليهم من اتباع العلماء، وإن عرف ذلك من أحدهما ومن الأخر خلافه فلا شك أن الكامل محق والآخر مخطٍ آثمٌ باغ، وأحوال من سلف من آبائنا عليهم السلام غالبهم من ذلك المنوال الأول، حتى كان بعضهم يكتب إلى الأخر يا أخي جُعلت فداك ،هؤلاء الذين عرف منهم الإنصاف وقصد وجه اللّه والدار الأخرة. (1/59)
وقلتم: ثم ما يصير به الباغي باغياً؟ .
فنقول: يصير باغياً بحرب إمام الحق أو العزم، والتأليب لحربه، وأحكام السيرة في البغاة لم تعرف إلا من سيرة أمير المؤمنين عليه السلام، ولم يسمع منه أنه سمى من توقف عنه من دون إضرار باغياً، وإن كان من عرف حقية الإمام وقعد عنه آثماً كما في حديث: (( من سمع واعيتنا أهل البيت.. الخ )) لكن لا نعامله معاملة الباغي.
وقلتم: إذا فرضنا بغيهم فهل يجوز منع الميرة ونصب المنجنيق مع إخلاطهم بالنساء والصبيان؟...الخ.
فنقول: أما إذا قد صح أنه إمام حق وأنهم بغاة جاز ذلك لأن النبي صلى اللّه عليه وآله وسلم قد فعله، والعلة المانعة من صبيان البغاة مانعة من صبيان الكفار إذْ كلهم لا ذنب له، ولأنه إذا جاز رمي الفارس مع تجويز إصابة فرسه جاز مثل ذلك، ولأنه لو لم يقع ذلك لتعذر الجهاد ومصلحة الجهاد عامة وهذه مفسدة خاصة، والمصلحة العامة ترجح على المفسدة الخاصة، وهذا هو محل نظر للإمام، والراجح أنه إذا تعذر إلا بذلك جاز، ويحمل كلام الوصي عليه السلام على الإمكان بدونه وإلا لزم أن يتحصنوا بصبيانهم ويبغوا في الأرض الفساد، وأما القصد فلا شك أنه غير جائز. (1/60)
وأما نهيه عليه السلام عن البيات فليس العلة البيات بل ذلك تنبيه على تحريم القتال قبل الدعاء لما في البيات من ظهور الغدر قال اللّه تعالى: { وإمّا تخافنّ من قوم خيانة فانبذ إليهم على سوآء .. الخ} ولأنه يجب تقديم الأخف فالأخف، والجهاد نوع من الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر.
وقلتم: ثم إذا علم الإمام فعل المقاتلين لما لا يجوز هل يجب عليه إعلامهم أو دفعهم عن المنكر بالممكن؟.
نقول: بل يجب دفعهم بالممكن لأن الإعلام نهي باللسان، فإن لم يؤَثِّر وجب بالفعل.
وأما مسألة الاستعانة بالفساق ، فالصحيح جوازها ، وقد استعان الرسول صلى اللّه عليه وآله وسلم بخزاعة وهم كفار، ولا فرق بين الفسق والكفر مع جواز القتل، لكن اختلفت شروط القائلين بالجواز، منهم من شرط وجود عصابة يمكن بهم إمضاء الأحكام عليهم، ومنهم من لم يشرط إلاّ وجود عصابة يمنعونهم التعدي وهو الصحيح وإلاّ لزم عدم جواز الإستعانة بهم ودار الحكم، ويختلف باختلاف الحال، ولا يبعد رجوعها إلى نظر الأصلح، والترجيح بين المصالح والمفاسد خصوصاً حالة الضرورة ولا سيما فيما هو دفع، وكون ما يحصل منهم من النفع العام أرجح مما يقع من الفساد الخاص ونحو ذلك، ونظر المصالح الشرعية معمول به مهما لم يصادم النصوص الشرعية، ويكون ذلك من باب تخفيف المنكر وإعانة الأقل ظلماً على الأكثر. (1/61)
وقلتم: ثم إذا طلبوا الأمان هل يجوز قتالهم.. الخ؟ .
نقول: إن عرف منهم الصدق مع بذل ما يجب والإنتهاء عما يحرم وجب القبول قطعاً لقوله تعالى: {وقاتلوهم حتى لا تكون فتنة ويكون الدين لله فإن انتهوا فلا عدوان إلا على الظالمين} وغير ذلك كقوله تعالى: {حتى تفئ إلى أمر اللّه} ، وإن عرف الخداع وجب عليهم تأكيد ما يدفعهم وهو عنوان الصدق، وإن أرادوا بالصلح التقرير على منكر لم تجز إجابتهم إلى الصلح، إلاّ لضرب من الصلاح، أو ضرورة ملجية كعدم القدرة على إزالة كلية المنكر فالتخفيف كاف.
وقلتم : إذا اختلط أهل قرية الموالي بالمعادي ولم يمكن الهجرة فهل يجوز حصارهم .. الخ؟ . (1/62)
نقول: العبرة بالشوكة بالنسبة إلى جواز الحصار ونحوه، وبها اختلفت أحكام الدور، ولهذا قال النبي صلى اللّه عليه وآله وسلم لعمّه العباس: (( ظاهرك علينا )) وإن كان لا يجوز قصد الصالح كما قلنا في مسئلة الصبيان ونحوهم، وأما قوله تعالى: {ولولا رجال مؤمنون ..الخ} فإنما أبان في الآية الكريمة عن الحكمة في الأذن له صلى اللّه عليه وآله وسلم بصلح الحديبية مع كون الصلح في الحديبية أصلح من الحرب، بل كان فيه تقوية الإسلام، فإذا عرف الإمام الأصلحية فيه وجب.
وقلتم: إذا علم الإمام أن جنده يطمعون .. الخ؟.
نقول: وهذه راجعة إلى مسئلة الحصار، ويقال: إن كان قبل المواذنة بالحرب فلا يجوز نهب البريء، فإن وقع غلطاً وجب التدارك بالرد ونحوه، وأما بعد المؤاذنة فللإمام إلزامهم بأخذ من وجد لأنه عاص لمخالفة أمر الإمام، والمؤاذنة تفيد المنع إلاّ لمن يطلب الشر، فيجوز أخذ ماله عقوبة له على السكون بعد المنع، وإن كان الأولى في غير المخالف رَد ماله.
وقلتم: ثم إذا قال أناس من العوام المقلدين إلى قوله..... فأعرضوا وحاربهم، فما حال من فعل هذا؟.
نقول: قد تقدمت إشارة إلى جواب هذا، وأن العالم يعمل بعلمه، ومهما عمل به فذمته بريئة في الدفع والقصد، والجاهل يتبع من ترجح عنده من العلماء أهل الورع والعلم والعمل، فإن استووا توقف، وفريضة الإمام غير فريضة هذين،فإنه إذا عرف من نفسه الكمال التّام جاز له الإكراه والإجبار بل والحرب، لكن إحدى الفئتين مخطئة في نفس الأمر لأن القطعيات لاتتعارض، ولهذا جعل اللّه إحدىالفئتين باغية لقوله تعالى: { فقاتلوا التي تبغي} فيجب إمعان النظر لتحري الحق، ولو حكَّم الكل الكتاب والسنة لاهتدوا إلى واضح المحجة وبانت الشبهة من الحجة، واللّه أعلم. (1/63)
(14) السؤال الرابع عشر (قال رضي اللّه عنه) سؤال :
قد تقرر أن من أعظم المخصصات مفهوم الحصر بالنفي والإستثناء ومفهوم إنما، فما الراجح لديكم، هل المنطوق المنفي والمفهوم المثبت أو العكس؟، فقد اضطربت العبارات بين أهل البيان وأهل الأصول ففي لاإله إلا اللّه ما المنطوق وماالمفهوم؟ بينوه بالدليل، وهل هي على سواء هذه الالفاظ أم هي مختلفة في تعيين المفهوم والمنطوق؟ وكذلك أطبق الناس في أكثر عباراتهم على تقدير موجود في لا إله إلا اللّه فلم ينتفِ إلا الوجود لا الإمكان مع أن كلمة الشهادة قاطعة لعرق الشركة إمكاناً ووجوداً، فكيف الأمر الذي لا إشكال معه؟.
*الجواب الرابع عشر: (1/64)
أنه لا شك أنها قد اضطربت العبارات واختلفت المذاهب فيها بين الأصوليين والأنظار عند البيانيين، وقد حكى ابن الإمام عليه السلام الأقوال في الغاية وشرحها مع الإتفاق أن مفهوم الحصر والقصر بالنفي والإستثناء من باب الدلالة اللفظية، وإنما اختلفت الأنظار هل لفظية وضعية أو لفظية عقلية وهل بالمفهوم أوبالمنطوق ، والراجح فيما ذكرتم في قول الموحد لا إله إلا اللّه أن المثبت والمنفي كلاهما من قبيل المنطوق، وهذا هو الذي جنح إليه ابن الحاجب وغيره من علماء الأصول وحكى الحسين بن القاسم عليه السلام إطباق علماء البيان عليه وإن كان المصرح عند بعض أهل الأصول أن المنطوق هو المنفي والمفهوم هو المثبت واختاره ابن الإمام، وبعضهم فصل بما إذا ذكر المستثنى منه، وقال بعضهم: الإثبات مسكوت عنه وهو ساقط، والدليل على أن ما ذكرناه هو الراجح الفهم من أهل اللغة بأنهم لا يريدون بمثل ذلك النفي والإثبات إلا النصوصية على الطرفين معاً ،فقول القائل: (ما جاء إلا زيد) ، لا شك أنه أراد النصوصية على مجيئه، و[على] نفي من عداه وليس المراد النصوصية على نفي مجيء القوم والسكوت عن زيد ولا العكس ولا إثبات أي الطرفين مفهوماً بل نصاً، وكيف يقال في لا إله إلا اللّه أن دلالتها على إثبات الإلهية لله تعالى بالمفهوم وخطابات الشارع واردة على هذا المنوال، فمثل قوله تعالى: { فاعلم أنه لا إله إلا اللّه} يفيد النصوصية على وجوب الطرفين أعني وجوب معرفة الصانع ووجوب نفي الثاني، وهذا وإن قال القائل: إن المفهوم يحصل به من الإفادة كما يحصل بالمنطوق إذ الكل من قبيل الدلالة اللفظية، لكنّا نقول: لاسواء في النصوصية بينهما لما نصوا من أنه إذا تعارض المنطوق والمفهوم رجح المنطوق ما ذاك إلا لقوته.
ثم إن حقيقة المنطوق: هو ما دل عليه اللفظ في محل النطق، والمفهوم: مادل عليه اللفظ في غير محل النطق([97]) ، وهاهنا قد دل اللفظ على الطرفين في محل النطق ولا يقدح كون المستثنى منه لم يذكر([98]) لأن المقدر في العربية كالمنطوق به ولهذا عدو نعم كلاماً في جواب من قال: هل قام زيد؟، ولا يقال: إنه يلزم حينئذٍ خلو الجملة عن المفهوم لأنّا نقول وإن لزم، إذ ليس من لازم الجملة المفهوم وإن كان المفهوم الإصطلاحي من لازمه الكلام. (1/65)
إذا تقرر هذا فحينئذٍ لا فرق بين تقدم النفي أو الإثبات ، فقول الموحد: اللّه لا إله غيره مثل قوله: لا إله إلا اللّه.
وأما ما ذكره السائل من تقدير بعض النحاة موجوداً ، فهذا التقدير لا يصح لما أشار إليه السائل من أن نفي الوجود لا يستلزم نفي الإمكان والمقصود نفي الإمكان المستلزم لنفي الوجود فكان القياس تقديره، أو يقال وضعت (لا) لنفي الجنس فلما استحال الجنس عليه تعالى عدلنا إلى تقدير نفي المماثل أي لا متصف بصفات الإله إلا اللّه تعالى([99]).
_________________
([97]) ـ اختار الإمام عليه السلام هذا الحد للمنطوق والمفهوم هنا وفيما سيأتي، وفيه إشارة إلى عدم ورود الإعتراضات على هذين الحدين لا سيما وقد قال السائل العلامة رضي اللّه عنه في ذلك السؤال ما دل عليه اللفظ في غير محل النطق كما حققه بعضهم ، أو ما كان أحوالاً لغير مذكور كما حققه آخرون ، ففي هذا الكلام إشارة إلى الإعتراضات وفي جواب الإمام عليه السلام إشارات إلى المختار ، مع أن هذا البحث غير مقصود في الظاهر ، ومثل هذا الباب سمي عند أهل البديع الادماج ، فلله هؤلاء الأعلام الذين خاضوا من العلوم أسرارها وأغوارها وصلى الله وسلم على سيدنا محمد وآله. تمت من مولانا المجتهد/ مجد الدين بن محمد المؤيدي أيده اللّه تعالى.
([98]) ـ قول الإمام عليه السلام :ولا يقدح كون المستثنى منه لم يذكر لأن المقدر في العربية كالمنطوق به (اختيار) لكون المستثنى منه محذوفاً ، وهو المضمر في الخبر المقدر ، فلم يجعله مفرغاً ولا من محل اسم لا ولا من محل لا واسمها ، والى هذا المذهب ذهب بعض المتأخرين من أهل العربية، وقد رجح هذا القول بترجيحات ليس هذا محل ذكرها ، فافهم رمزات هذا الإمام صلوات الله عليه {الله أعلم حيث يجعل رسالاته } ، وفي هذا المقام بحث بسيط فخذه من مظانّه وصلى الله على محمد المصطفى وعلى آله الحنفاء . تمت من مولانا مجتهد العصر / مجد الدين بن محمد المؤيدي أدام الله تعالىظله.
([99]) ـ أما قول السائل إن الناس في أكثر عباراتهم على تقدير موجود في لا إله إلا اللّه، فلم ينتفِ إلا الوجود لا الإمكان مع أن كلمة الشهادة قاطعة لعرق الشرك، فذلك قول فخر الدين بن الخطيب الرازي، قال: قول النحويين إن التقدير في كلمة الشهادة لا إله في الوجود خطأ، لأن هذا النفي عام مستغرق، فتقديرهم (في الوجود) أوْ (لنا) لا يكون هذا إقراراً بالوحدانية على الإطلاق، فأجيب بأن الإله من له الخلق والأمر، ومن له هذه الصفة، فلا بد ان يكون موجوداً لاستحالة إسناد هذا الخلق إلى المعدوم، فينعكس انعكاس النقيض، وهو أن ما ليس بموجود فليس بإله، فعلمت أن نفي الإله عن الوجود يستلزم نفي الإمكان، إذ هو نفي عام على الإطلاق، إذ من نفى الإلهية عن الوجود فقد نفاها مطلقاً، إذ ما لا يتصف بالوجود فلا حقيقة له أصلاً فارتفع الإشكال ، وكذا في لنا ، فيقال من ليس لنا بإله فليس بإله أصلاً، فعلمت أن نفي الإله نفي عام في التقديرين معاً مستلزم نفي الإمكان، وصح تقديرهما خبرين، ولا ضير واللّه أعلم. انتهى نقلاً من هامش الأصل، وقد أحاطت عبارة الإمام عليه السلام بهذا المعنى وأبلغ منه حيث جعل التقدير متصفاً. ومن المعلوم أن من لم يكن متصفاً بتلك الصفات فليس بإله، وهو في آخر الجواب فتدبر واللّه أعلم. انتهى نقلاً عن خط مولانا العلامة الحجة /مجد الدين بن محمد بن منصور المؤيدي أيده اللّه تعالى.
(15) السؤال الخامس عشر (قال رضي اللّه عنه) سؤال : (1/66)
في قول الجمهور في المعنى الحقيقي الذي وضع له المشتق أنه يشترط بقاؤه كضارب فإذا أطلق ضارب على غير المباشر فمجاز، هل ذلك يعم جميع المشتقات كاسم الفاعل والمفعول والفعل ونحوها أم لا؟ وهل بين الجمهور وغيرهم محل خلاف أم لا؟ وهل اشتراط الجمهور للبقاء يدل على أن اسم الفاعل يدل على الحال كما هو ظاهر تلك العبارة؟ مع أن أهل العربية قد ذكروا أنه لا يدل وضعاً على زمن أصلاً ، وكيف ينقل صاحب الأساس أن (خالق) ما سيكون حقيقة وفاقاً لبعض أهل العربية وأبي هاشم ..الخ؟ و نقل ابن الإمام أنه في المستقبل مجاز بالإتفاق، فبين العبارتين تنافٍ ، وما هي الحجة للجمهور التي لا إشكال عليها؟ ، فهذا السؤال أشكل علينا؟.
*الجواب الخامس عشر:
أنه قد عرف كلام الجمهور أن ضارباً مثلاً قبل الضرب مجاز ، ولعلهُ يستوي عندهم في ذلك اسم الفاعل وغيره من المشتقات مما يفيد التجدد والحدوث إذ لا فرق بين مشتق ومشتق وحجتهم فيه النظر إلى الماصَدَق فإنه لم يقع ، فكان من تسمية الشيء بما يؤول إليه، والنظر إلىالقرينة في أنه إذا أريد به الإستقبال فلا بد من نصبها كما هو شأن المجاز، وأغمضوا عن أصل الوضع العربي، ويلزمهم مثله في الماضي أعني بعد الضرب لأنه من تسمية الشيء باسم ماكان عليه وألاّ يسمى ضارباً إلاحال الضرب ، وهو يفهم من كلامهم أنهم وجدوا القرينة لا تخلو عنه إذا أريد به الماضي أو المستقبل فيجعلونه حقيقة في الحال مجازاً في غيره .
والراجح ما ذكره الإمام القاسم عليه السلام وغيره أن(خالق) ما سيكون حقيقة. (1/67)
واحتج بكونه المعروف من أهل العربية حيث أنهم ذكروا أنه لا يدل وضعاً على زمن معين ، وهذا كلامهم بالإتفاق ، فيلزم عليه أن يكون من باب المشترك الذي يصح تطبيقه على أي معانيه حقيقة، وحينئذٍ فالقرينة عنده إنما هي للتمييز بين معاني المشترك وليست بقرينة المجاز، وما ذكره ابن الإمام من حكاية الإتفاق لا يدل على الإجماع ، وحجة القاسم عليه السلام أظهر لأنه نظر إلى الوضع العربي الذي هو المناط في الدلالة لا إلى المعنى المدلول عليه ، وقد ذكروا أنه لا يدل على زمن وضعاً عند أهل العربية فلو كان حقيقة في الحال لكان قد دل عليه وضعاً كما هي حقيقة الحقيقة، ثم إنه قد استعمل في كلام العرب من غير ملاحظة ما ض أو مستقبل من غير نصب قرينة إذا كان مرادهم الإشارة إلى نفس الحدث من غير إرادة إلى متعلقه، ومن تأمّل كلامهم وجد ذلك شائعاً ذائعاً موضوعاً على حد وضع الحقائق، وفي كتاب اللّه من ذلك كثير كما في قوله تعالى: {أفمن يخلق كمن لا يخلق} {وسيداً وحصوراً ونبيئاً من الصالحين}{ وبراً بوالدتي ولم يجعلني جباراً شقياً} ولعل الجمهور يقولون القرينة عقلية لكن قد كثر استعماله من دون ملاحظة إليها، وإن نصبت فللتمييز بين معاني المشترك كما ذكرنا لا للمجاز والأصل في الإطلاق الحقيقة، وقد سبقت الإشارة إلى طرف من هذا البحث.
وثمرة الخلاف بينهم تظهر في جواز إطلاقه على اللّه تعالىقبل الأذن السمعي، وعدم ذلك، فعند القاسم وأبي هاشم يجوز لأنه حقيقة ويلزم الجمهور أنه لا يجوز لأنه لا يطلق على اللّه تعالى من الأسماء إلا ما كان حقيقة أوورد به اذن سمعي، واللّه سبحانه أعلم.
(16) السؤال السادس عشر( قال رضي اللّه عنه) سؤال: (1/68)
من قال زوجتي طالق أو امرأتي طالق وله أربع نسوة، كم يطلق منهن على كلام أهل المذهب؟ وهل ثمة فرق بين هذه الألفاظ في إفادتها العموم وعدم الإفادة أم لا؟.
وكذلك إذا كان المفهوم مادل عليه اللفظ في غير محل النطق كما حققه بعضهم، أو ما كان أحوالاً لغير مذكور كما حققه آخرون وذكروا في حقيقة غير الصريح من المنطوق أنه دلالة الإلتزام المنقسمة إلى دلالة اقتضاء ([103]) وإيماء وإشارة، فحينئذ هذه الثلاثة كما ذكروه غير مقصودة للمتكلم وإنما فهمت منه، فما الفرق بين المفهوم والمنطوق غير الصريح فرقاً ظاهراً؟.
*الجواب السادس عشر:
الذي يتخرج على كلام أهل المذهب أن العبرة بالقصد هل الكل أو البعض معيناً أو ملتبساً ، والصحيح أن الجنس المضاف له حكم المعرف باللام ، والذي قررناه عند السماع:
_________________
([103]) دلالة الإقتضاء تنقسم إلى ثلاثة أقسام ما يتوقف عليه الصدق أو الصحة العقلية أو الصحة الشرعية،فالأولى نحو (رفع عن امتي الخطأ والنسيان)،والثانية نحو {حرمت عليكم أمهاتكم}،والثالثة نحو اعتق عبدك عني.تمت من مولانا المجتهد /مجد الدين المؤيدي أيده اللّه تعالى.
أن اللام أصل وضعها للماهية من حيث هي هي وهي المسماة بلام الجنس ، ويرادفها الحقيقة والطبيعية كقولك:(الرجل خير من المرأة) ، فهي على هذا المعنى لا تحتاج إلى قرينة، فيلزم أن يطلقن جميعاً لأن الماهية حاصلة في كل واحدة منهن عند الإطلاق، ثم إن أشير بها إلى الماهية في ضمن جميع الأفراد فهي لام الإستغراق التي تخلفها "كل" حقيقة ويصح الإستثناء من مدخولها كقوله تعالى: {إن الإنسان لفي خسر} وهي المرادة عند أهل الأصول بإفادتها العموم، وإنما كانت للعموم مع أن الأصل هي الأولى من حيث كثرة الإستعمال وغلبته في كلام الشارع فصارت كالمجاز المشهور وصار إعتبارها هو الظاهر لأن الظاهر مقدم على الأصل وهذه الصورة لا إشكال في وقوع الطلاق على الكل. (1/69)
وإما أن يشار بها إلى الماهية في ضمن فرد معين وهذه لام العهد الخارجي الشامل للذكري والحضوري كقولك:(ادخل السوق)، لمن بينك وبينه سوق معهود وكقوله تعالى: {فعصى فرعون الرسول} وكقوله تعالى: { اليوم أكملت لكم دينكم} وهذه الصورة لا تطلق إلا تلك المعينة.
وإما أن يشار بها إلى الماهية في ضمن فرد غير معين وهذه لام العهد الذهني كقوله تعالى: {فأكله الذئب} وكقولك:( ادخل السوق) لمن ليس بينك وبينه سوق معهود، فيلزم أن تطلق واحدة غير معينة ويقع الطلاق ملتبساً ويعمل فيه بما يعمل في الطلاق الملتبس، فيعامل الجنس المضاف هذه المعاملة ما لم يكن له قصد يخالف ذلك فهو معتبر في مسائل الطلاق والأيمان ونحوهما. (1/70)
وقلتم: إذا كان المفهوم مادل عليه اللفظ ..الخ؟.
فنقول: لا شك أن دلالة الإلتزام قد لا تكون مقصودة للمتكلم ولكن لم تعلق معرفة المفهوم والمنطوق بقصد المتكلم بل علق تعريفهما بإفادة النطق ودلالته سواء قصد أو لم يقصد إذ قد يقصد إلى المفهوم البعيد ولايلاحظ اللازم القريب فلا عبرة بالقصد بل العبرة بمؤدى اللفظ ، لكنّا قد بينا أن مثل مسائل الطلاق العبرة بالقصد فيها، وأما إذا لم يقصد عمل بعرفه ثم باللغة، وأما مثل كلام الشارع فهو كلام حكيم ولابد أن يحمل على جميع الفوائد ومن جملتها ما دل عليه بالإلتزام.
وأما([108])الفرق بين المنطوق غير الصريح وبين المفهوم فهو ظاهر ، فالمنطوق غير الصريح هو دلالة الإلتزام الشامل للثلاثة الأنواع لأنها مدلولة في محل النطق، فحينئذ المفهوم ما وراءها مما يدل عليه اللفظ لا في محل النطق ، فمثل قوله عليه السلام :(( في سائمة الغنم زكاة)) ، لم يتعرض لذكر المعلوفة ولا أفادها اللفظ وإنما فهمناها فهماً من قيد الوصف ، وهذا على المختار وهو كلام الجمهور ، وإلاّ فقد جعل بعضهم دلالة الإلتزام من قبيل المفهوم بأنواعها وحقق المنطوق بأنه ما أفاده اللفظ مما وضع له وهو غير مختار ، فقد تبينت الأحكام والفروق بحمد اللّه تعالى.
____________________
([108]) ـ اعلم أن حقيقة المنطوق ماكان أحوالاً لمذكور ، وهو ينقسم الى صريح وغير صريح ، فالصريح ما ذكرت فيه الأحوال مع صاحبها مثل ( في السائمة زكاة) ، فالحال (وهو إيجاب الزكاة) مذكور، وكذا صاحبها (وهو السائمة) فهو منطوق صريح ، بخلاف المفهوم وهو (المعلوفة) ، فهي والحال الذي هو عدم إيجاب الزكاة غير مذكورين ، وغير الصريح وهو ما لم تذكر فيه الأحوال مع أن صاحبها مذكور ، أما المفهوم فالحال وصاحبها غير مذكورين ، ففي مثل في السائمة زكاة ، الحال وهو ايجاب الزكاة وصاحبها وهو السائمة مذكوران فهو منطوق صريح ، وعدم ايجاب الزكاة في المعلوفة لم يذكر لا الحال الذي هو نفي الإيجاب ولا صاحبها الذي هو المعلوفة ، وفي المنطوق غير الصريح نحو دلالة الإقتضاء الأحوال التي هي ( الموآخذة )في رفع عن أمتي الخطأ ، و ( الأهل ) في واسأل القرية ، و( التمليك ) في إعتق عبدك غير مذكورات لكن أصحابها وهي الخطأ والنسيان والقرية والعبد مذكورات ، فلما كان حال المنطوق غير الصريح غير مذكور إشتبه على البعض بالمفهوم ، ولكن صاحب الحال مذكور وهو الفاصل بينه وبين المفهوم، فإن صاحب الحال الذي هو المعلوفة مثلاً والحال الذي هو عدم الإيجاب غير مذكورين بخلاف المنطوق غير الصريح فإن صاحب الحال الذي هو الخطأ مثلاً في رفع الخطأ مذكور وإن لم يذكر حاله وهو المؤاخذة، فهذا هو الفرق الواضح بينهما فتأمل ، واللّه ولي الهداية والتوفيق تمت من شيخنا الحافظ شيخ الإسلام/ مجدالدين بن محمد المؤيدي أيده اللّه تعالى ونفع بعلومه.
(17) السؤال السابع عشر( قال رضي اللّه عنه) سؤال: (1/71)
عن قوله تعالى: { كذلك يطبع اللّه على كل قلب متكبر جبار } قرأ بترك التنوين في قلب وقرأ بعض السبعة بالتنوين ، فهل لكل قراءة معنى أم هو متفق؟ وهل العموم المستفاد من كل مع الإضافة لأفراد القلوب فترده الإضافة إلى متكبر واحد وليس له إلاّ قلب؟ أو للأجزاء ، فيعم كل أجزاء متكبر واحد؟ وليس ذلك المراد بالآية ، وهل يؤخذ بمفهوم الصفة في الآية هنا ؟، والمطلوب منكم التحقيق لما ذكره أهل المعاني والبيان في الفرق في اقتضاء (كل) العموم - [يعني] بين كونها في حيز الإثبات أو النفي- هل كلام أهل الأصول كذلك أم هي للعموم مطلقاً؟
ثم قولهم (سلب العموم لايقتضي عموم السلب)، هل هذه قاعدة قررها الأئمة الأعلام أم لا؟ مع أنه يلزم منافاتها لبعض الأدلة العقلية والسمعية مثل قوله تعالى : {لاتدركه الأبصار} ونحوها من الآيات.
ثم إذا دخلت (كل) على ما فيه اللام مثل {كل الطعام..الآية} وقوله صلى اللّه عليه وآله وسلم: (( كل الطلاق واقع )) فهل يفيد تأسيساً أو تأكيداً ؟،
ثم إذا دخلت (كل) على الجمع نحو (كل الرجال جاؤني ) فهل يفيد استغراق الأفراد أو مراتب الجموع ؟ ما هو المختار على كلام أهل المذهب إذا أتي بذلك اللفظ في عتق أو طلاق؟.
*الجواب السابع عشر عن الآية الكريمة: (1/72)
أن المعنى في القرائتين واحد كما سنبينه، فعند بعض المفسرين أن المعنى عموم الضلال في جميع القلب لاعموم القلوب، قال بعضهم: قراءة أبي عمر وابن ذكوان بتنوين قلب وصف القلب بالتكبر والتجبر لأنهما ناشئان منه وإن كان المراد الجملة كما وصف بالإثم في قوله: {فإنه آثم قلبه} والباقون بإضافة قلب إلى ما بعده أي على كل قلب شخص متكبر.
وقد قدر الزمخشري مضافاً في القراءة الأولى أي على كل ذي قلب متكبر بجعل الصفة لصاحب القلب ، واعترض بأنه لا ضرورة تدعو إلى اعتبار الحذف ، وأجيب عنه بأن ثمَّ ضرورة الى ذلك وهي توافق القرائتين فإنه يصير الموصوف في القرائتين واحداً وهو صاحب القلب، بخلاف عدم التقدير فإنه يصير الموصوف في أحدهما القلب وفي الأخرى صاحبه، وهذا هو الأقوى لاتحاد المعنى كما أشرنا اليه.
وقد ظهر الفرق بين معنى الإضافة وعدمها، فإن كان بالتقدير فالمعنى واحد، وإن كان مع عدمه اختلف المعنى، ففي قراءة الإضافة عموم القلب وفي قراءة التنوين عموم القلوب.
وأما مفهوم الصفة هاهنا فقد يقال بين التكبر والتجبر تلازم يوجب الاتحاد لأن الكبر محله القلب والتكبر ما ظهر على الجوارح ، فإذا ظهر فهو التجبر لأنه يستلزم ظلم الغير بالتعالي عليه مع أنهم قد ذكروا([114]) أن مفهوم الصفة إذا سيق لمعنى غير إرادة التقييد والأخذ به لم يؤخذ به كما في قوله تعالى: {وربائبكم اللاتي في حجوركم} هذا إذا فرضنا عدم الاتحاد.
______________
([114]) ـ قد أدرج الإمام عليه السلام مثال ماسيق لغير قصد التقييد في قوله:(مع أنهم قد ذكروا أن مفهوم الصفة الخ ) لأن مفهوم ذلك أن غير مفهوم الصفة يؤخذ به وإن لم يقصد به التقييد ، ولا يؤخذ بهذا المفهوم لأنه هنا جواب سؤال وهو قول السائل رضي اللّه عنه وهل يؤخذ بمفهوم الصفة.. الخ. فهذه من اللمحات اللطيفة فتأمل مدارك هذه الأنظار ومواقع هذه الأفكار إنتهى نقلاً من خط شيخنا الحافظ/ مجد الدين المؤيدي أيده اللّه تعالى .
وسألتم عن التحقيق لما ذكره أهل المعاني والبيان في الفرق في اقتضاء (كل) العموم بين الإثبات والنفي، وهل كلام أهل الأصول كذلك أم لا؟ (1/73)
فنقول لاخلاف بين الأصوليين والبيانيين في أن (كلاً) تفيد العموم سواء في الإثبات أوفي النفي لكنها تختلف حالتها في التقدم والتأخر والدخول على المثبت والمنفي،ولسعد الدين والسكاكي وعبد القاهر الأنظار المعروفة كما حكاها في التلخيص وشروحه، وهو يتخرج مما ذكرنا صور يعرف بها أن القاعدة أن سلب العموم لا يستلزم عموم السلب حكم أكثري لا كلي:
أما سلب العموم فكقولك (لم يقم كل رجل) ، فالمعنى لم يقم المجموع، وأما الآحاد فجائز ، فهذا لا يستلزم عدم قيام واحد لكن قد يستلزمه في مثل قوله تعالى: { ولا تطع كل حلاف مهين} {واللّه لا يحب كل مختال فخور}{لا تدركه الأبصار وهو يدرك الأبصار} مما أفاد المعنى عموم السلب بمعونة المقام ودليل العقل والسمع ، ومن هاهنا ظهر أنه حكم أكثري لا كلي،
وأما عموم السلب فلا شك أنه مستلزم لسلب العموم كما في قوله صلى اللّه عليه وآله وسلم ((كل ذلك لم يكن)) فقد أراد نفي الآحاد من القصر والنسيان المستلزم نفي المجموع ولهذا أجابه الصحابي بقوله: (بعض ذلك قد كان) لما فهم من عموم السلب.
وقلتم: إذا دخلت (كل) على ذي الأداة، مثل {كل الطعام} فهل تفيد تأسيساً أو تأكيداً .. الخ؟.
فنقول: قد عرف من القاعدة البيانية أن التأسيس أولى من التأكيد، لأنه إثبات فائدة جديدة بخلاف التأكيد، وهاهنا ينبغي حمل اللام على أنها لام الجنس، ويستفاد العموم من (كل) لأجل يحمل على التأسيس ولإمتناع جعلها لام الاستغراق لتأديته إلىتضاعف أداة الإستغراق مع أنها هي التي تخلفها (كل) لا أنها تجامعها، ولا يفترق الحال بين الجنس المحلا والجمع المحلا لإفادة الكل الإستغراق، فكأنه قد انهدم معنى الجمعية كما ذكره بعض المحققين لكنه في العتق والطلاق له نيته عند أهل المذهب فكانت النية قرينة صارفة فيما يحتمله بحقيقته أو مجازه أو عرفه وإن كانوا قد فرقوا بين هذا وبين المجرد عن (كل) فجعلوا لام الجنس المفيدة للإستغراق الداخلة على الجمع تفيد استغراق الجموع فقط والداخلة علىالمفرد مفيدة لإستغراق الأفراد لكنه يفترق الحال بعد دخول (كل) فيأتي فيها ما تقدم من سلب العموم أو عموم السلب وما قيل فيه . (1/75)
(18) السؤال الثامن عشر( قال رضي اللّه عنه) سؤال: (1/76)
عن قوله تعالى:{فأسر بأهلك} إلى قوله تعالى: {إلا امرأتك} قرئ في السبع بالرفع والنصب في (امرأتك) وذكر الزمخشري أن الرفع على البدل من (أحد) والنصب على الإستثناء من (فأسر بأهلك)، وهذا الحمل يقتضي تدافع المعنيين والقصة واحدة ولا يصح ذلك لأن مع البدل تكون المرأة مسرياً بها ولكن التفتت فتهلك وإذا جعل الإستثناء من مفعول (فأسر) فهي غير مسري بها، هذا نقيض ما أفادته قراءة الرفع فيلزم التناقص وهو باطل فيبطل حمل الآية على ماذكر، وجعل النصب على الإستثناء من (ولا يلتفت منكم أحد) وجه مرجوح ولا ينبغي حمل القرآن إلا على معنى راجح فهل للقراءتين معنى لا تناقض فيه صحيح في العربية؟
ومثل هذه الآية قوله تعالى: {وما يعلم تأويله إلا اللّه والراسخون في العلم}، من اختار الوقف على العلم وقال إن الراسخين يعلمون تأويله كما هو مختار أكثر أئمتنا فلا يخلو إما أن ننكر قراءة الأكثرين ونغلط الناقلين لها لفساد المعنى معها أو لا ننكرها بل نجوزها، إن حصل الإنكار فهو إنكار لمتواتر وهو خطأ، وإن جوزناها فقد حصل التدافع في المعنيين والقصة واحدة وهو كلام حكيم لا تدافع فيه، فهل لكل قراءة معنى لا يدافع المعنى الثاني أم لا؟ وقد أجيب عن هذا بأجوبة لم تفد فبينو ذلك بياناً شافياً جزيتم خيراً .
وقوله تعالى:{لا تتخذوا إلهين اثنين} إن جعل (اثنين) عطف بيان كما قال أهل البيان فعطف البيان موضح أو مخصص وكلاهما منفي([122]) هنا، وإن جعل تأكيداً فليس من التأكيد النحوي في شيء، وإن كان صفة أي نعتاً فلم يصدق عليه شيء من معنى النعت، فما ذا يكون؟.
_________________
([122]) ـ هذه قاعدة أغلبية ، أعني كون عطف البيان موضحاً ، وقد ذكر ذلك سعد الدين في قوله تعالى: {جعل اللّه الكعبة البيت الحرام قياماً للناس} ذكر صاحب الكشاف أن البيت الحرام عطف بيان جيء به لا للإيضاح تمت . قال المحشي: فإن قلت: إن النحاة جعلوا عطف البيان بعد المعرفة للإيضاح قلت هذا بالنظر للغالب إلى آخر ما في الحاشية تمت منقولة من هامش نسخة من الأسئلة الضحيانية بخط شيخنا العلامة /مجد الدين بن محمد منصور المؤيدي أيده اللّه تعالى.
*والجواب الثامن عشر: (1/77)
عن تخريج معنىالآية الكريمة في قوله تعالى:{فأسر بأهلك بقطع من الليل ولا يلتفت منكم أحد إلا إمرأتك} واختلاف القراءتين فيها المؤدي إلى اختلاف المعنى أنه قد ذكر الزمخشري وغيره أن قراءة الرفع أقوى وأبلغ على البدل من (أحد) هذا في نفس القراءة.
وأما المعنى ففي إخراج المرأة روايتان:
إحداهما: أنه أخرجها معهم وأمر أن لا يلتفت منهم أحد إلا هي فلما سمعت العذاب التفتت فأدركتها حجر.
والثانية : أنه أمر أن يخلفها عند قومها لكون هواها معهم فلم يسر بها.
فاختلاف القرائتين لإختلاف الروايتين هكذا أشار إليه جار اللّه .
وعلى هذا فالإشكال باقٍٍ ، لأن الكلام كلام اللّه ولا يصح إختلاف الراوية عليه لعلمه بالواقع وصفته.
فالجواب من أحد وجهين:
أحدهما: أن يقال إن اللّه تعالى حكى ما قالوه في شأنهم فتنوع القراءتين على تنوع الروايتين ويكون من باب قوله تعالى: {سيقولون ثلاثة رابعهم كلبهم ويقولون خمسة....الخ}.
وثانيهما: أن المراد بالإستثناء في قراءة النصب الإسراء التام لأنه قال إن موعدهم الصبح وهو المطابق لرواية بقاها عند قومها بعودها بعد الخروج إلى بعض الطريق وتناسب المصلحة في إخراجها لئلا تنذر قومها بخروجه لأن هواها هواهم، فالمعنى اسر بأهلك الاسراء التام الذي أمرت به إلاّ امرأتك، وقد علم أنه المأمور به المفهوم عند نبي اللّه لوط عليه السلام، ويكون المعنى بقراءة الرفع أن المراد لا يلتفت منكم بعد الخروج أحد لما علم اللّه في تركه من المصلحة إلاّ امرأتك فغير منهية لأنه لا ينفعها ترك الإلتفات لكونها على طريقة قومها،
ويستفاد منه أيضا نكتة وهو أن مجرد الإلتفات غير مؤثر في وقوع العذاب وعدمه عليها، وإنما المؤثر سوء سريرتها ويكون معنى الرواية أنها سمعت العذاب فالتفتت ....الخ([125]) أي سمعت مقدماته، أو سمعت ضجة من لوط عليه السلام فالتفتت فرجعت فأصابتها حجر وحنيئذ تصير الروايتان والقراءتان في معنى واحد، وهذا لم أقف فيه على نص لكنه مناسب. (1/78)
ولا مانع من إحداث تأويل ثالث كما نص عليه أئمة الأصول لا سيما في مثل هذا الذي هو غير رافع للتأويلين وتخريج لكلام الحكيم على وجه الصحة.
__________________
([125]) ـ الحمد لله وحده ، قف وتدبر هذا الكلام الشريف ، وانظر إلى التوجيه الوجيه في الآيات المتتاليات ، واجل الطرف في تخريج آية الإسراء، والتفسير المنير للآية الأخرى وهي قول الله عز وجل {لا تتخذوا إلهين اثنين} هذا إذا كنت ذا نظر ثاقب وفكر صائب.
وإلاّ فمن يك ذا فم مريض .... يجد مراً به الماء الزلالا
وإن شئت قابلت بين كلام الإمام عليه السلام وبين كلام صاحب الكشاف وغيره في قوله تعالى{فأسر بأهلك بقطع من الليل} وبين كلام الإمام في قوله تعالى {إلهين اثنين}وكلام الرضي والزمخشري يظهر لك البيان والإيضاح في كلام الإمام ، فإن الفارق أجلى من ابن جلا ، لا يخفى إلا على أبله لا يعرف القمر،أو عاذراً لا تراه مقلة عمياء، ألا ترى كيف أطال بعضهم الثناء على الزمخشري في توجيه إلاهين ،فهاك انظر عبارة الإمام كيف حسرت عن ذلك المعنى اللثام ، وما بينها وبين تلك من التفاوت في الجزالة وإيضاح المقام،وقد أبرز الإمام صلوات الله عليه في هذه الأبحاث الشريفة والأنظار المنيفة ما بهر الألباب وحيّر الأفهام ، وكم من غوامض وعويصات قد طال فيها النزاع في بطون المؤلفات صيرها مشرقة البيان ساطعة البرهان ، ولا غرو فإنها نابعة من عباب العلوم ، ولباب المنطوق والمفهوم الذي اغترفت من افاضته علماء الأمة،وارتشفت من فضالته أعلام الأئمة،وماذا أقول في كلام الإمام القائم بحجة الله على الأنام ،والمجدد لدين الله اذا أشرفت على الإنهدام،وكذلك أهل بيت النبوة لم يزل الله تعالى يقيم للأمة في كل قرن من يكشف عنهم الغمة،ويجلو غياهب الظلمة،إن لله عند كل بدعة يكاد بها الإسلام ولياً من أهل بيتي …الخ، فماذا يقال في كلام عليه مسحةٌ من العلم الرباني،وجذوةٌ من الكلام النبوي، صلوات الله على صاحبه وعلى آله المطهرين من ذريته وأقاربه.تمت من سماحة مولانا العلامة مجتهد العصر / مجد الدين بن محمد بن منصور المؤيدي أيده الله تعالى ونفع بعلومه.
وأما قوله تعالى: { والراسخون في العلم يقولون آمنا به} فالمختار عند أئمتنا عليهم السلام واختاره الزمخشري: أن الراسخين في العلم يعلمون تأويله وهو على قراءة الوقف عليه، وقد أشار إلى المعنى الثاني وهو الوقف على الجلالة ثم الإبتداء وجعله مرجوحاً رجوعاً إلى قاعدة العدل والحكمة في أن اللّه لا يخاطب المكلفين بما لا يفهمون ، وكون قوله تعالى: {هن أم الكتاب} يعني يرد المتشابه إليها ، ومعنى الرد هو تأويلها بما يطابق معنى المحكم ومع صحة تأويلها، فحينئذ قد علموه . (1/79)
وبقي الكلام فيما السؤال عنه وهو المعنى الذي يوافق قراءتي الوقفين معاً ، قد سمعنا عن بعض مشائخنا كلاماً فيه توفيق المعنيين بالقراءتين وهو أن الوقف على الجلالة لا يستلزم عدم الإرتباط بما بعدها وإرادة الفرق بين علم اللّه وعلم الراسخين في العلم لأن الأوقاف راجعة إلى التلاوة وهي سماعية حتي أنها تفصل برؤوس الآي والإرتباط حاصل كما في قوله تعالى:{رجال لا تلهيهم تجارة ولا بيع..... الخ}، فإنه مرفوع على أنه فاعل لما قبل الفاصلة ، وهاهنا يكون من باب العطف ، وجملة قوله تعالى:{يقولون آمنا به} حالية على هذا الوجه.
وفائدة الوقف الفرق بين العلمين ، ويؤيد هذا كون الوقفين متواترين توقيفين في الجملة، فيجوز القراءة بهما معاً، ولا تنافي.
ووجه آخر وهو أن المعنى وما يعلم تأويله إلا اللّه أي تمام الحكمة في إنزاله والتكليف به، لأنه من تمام التأويل والراسخون في العلم يعلمون تأويله برده إلى المحكم وتأويله لما يطابقه ، فكأنه قال: وما يعلم تمام الحكمة في إنزاله إلا اللّه والراسخون في العلم يقولون آمنا به ويردونه إلى المحكم كما أمروا.
وللإمام يحي عليه السلام كلام بسيط متين في معنى الآية حكاه في مشكاة الأنوار يحصل منه أن معنىالآية أنزل عليك الكتاب فيه محكم ومتشابه، فأما الزائغ فيتعلق بالمتشابه ويبتغي تأويله، وأما الراسخون فيؤمنون به على ظاهره([129]) ويصدقون بأن الجميع حق وصدق، ويكون قوله: {وما يعلم تأويله إلا اللّه} جملة معترضة بين الكلامين هذا محصله من كلام طويل ، وهو وجه وجيه مناسب للمعاني العربية. (1/80)
وأما قوله تعالى: {وقال اللّه لا تتخذوا إلهين اثنين }، فلا يصلح إلا للتأكيد لا غيره لتضمنه([131]) معنى اللفظ الأول مع زيادة، وهذا وإن كانت القاعدة العربية أنهم([132]) لا يجمعون بين العدد والمعدود إلا من الثلاثة فصاعداً لعدم النصوصية في الجمع على المرتبة المرادة وإفادة الجمع إياها بخلافه في المفرد والمثنى فالمرتبة مستفادة من العدد لكنه يراد بالإفراد والتثنية الدلالة على شيئين الجنسية والمرتبة، فإذا قلت: (إنما هو رجل) تردد بين المعنيين الجنس والوحدة، فإن كان الملحوظ إليه هي الوحدة أحتيج إلى تأكيده بقولك: (واحد) ليرفع إيهام إنما هو رجل لا امرأة، وهاهنا كذلك المعنى المساق له الكلام هو إثبات الوحدانية فاحتيج إلى التأكيد بإثنين لأنه في سياق نفي، ومثله في الإثبات إنما هو إله واحد سواء هذا معنى ما ذكروه.
__________________
([129]) ـ أي على ظاهر ما يراد من الإيمان بأنه حق من عند اللّه تعالى. تمت سماعاً عن شيخنا الحجة/ مجدالدين المؤيدي أبقاه اللّه تعالى.
([131]) ـ تضمنه مصدر مضاف إلى مفعوله ، والمعنى أنه قد تضمنه اللفظ الأول وزيادة. انتهى نقلاً عن خط شيخنا الحافظ مجتهد العصر/ مجدالدين المؤيدي أبقاه اللّه تعالى.
([132]) ـ كأن الإمام عليه السلام قال :بل هو تأكيد وإن كان لا يصلح للتأكيد ولا غيره في ظاهر قاعدة العرب لأنهم لا يجمعون بين العدد والمعدود.. الخ لكنه يراد بالإفراد..الخ ، وفي كلام الرضى أنه من الوصف التأكيدي وكلام الزمخشري يحتمل أن يكون وصفاً للتأكيد أو يكون تأكيداً محضاً ، وأما كلام الإمام عليه السلام فظاهره أنه توكيد محض ، ولكن يمكن أن يكون عند الإمام من الوصف التأكيدي لأن القصر في قوله: فلا يصلح إلا للتأكيد لا غيره قصر قلب لا حقيقي، لأن المخاطب وهو السائل في حكم المنكر أن يكون للتأكيد ، فصلوات اللّه على هذا الإمام فلو أنه كان في حال الجوابات على هذه السؤالات مكبٌ على النظر في البسائط من المؤلفات لكان إيراد مثل هذا التحقيق الذي تقصر عنه أرباب الإمعان والتدقيق غاية الغايات ونهاية النهايات ، فكيف وهو في حال تذهل فيها الأحلام ، وتزل راسخات الأقدام من مقاسات الجهاد ومعانات السداد حياطة للدين الحنيف من أهل الزيغ والتحريف . تمت من مولانا و شيخنا المجتهد / مجد الدين بن محمد المؤيدي أيده اللّه تعالى .
(19) السؤال التاسع عشر (قال رضي اللّه عنه) سؤال: (1/81)
قوله تعالى: {ارأيتك هذا الذي كرمت علي.. الخ} ما إعرابها؟ وهل هي من رؤية القلب أم البصر؟ وما محل الكاف؟ وهل هي كالكاف الداخلة على الفعل تتصرف بإعتبار المخاطب أم لا؟ وهل التاء لا تتغيرعن الفتح؟ وكيف أصلها قبل دخول الهمزة؟ وهل معناه بعد دخول الهمزة عند وجود الكاف كهذه الآية؟ وعدم الكاف نحو {ارأيت الذي يكذب بالدين} واحد أم مختلف؟ فبينوا ذلك وأوضحوها .
وقوله تعالى: {إن السمع والبصر والفؤاد كل أولئك كان عنه مسؤلاً} هل المراد بكل أولئك الثلاثة المتقدمة - فهو مشكل - أو غيرها ؟ ولِمَ أفرد الضمير في (عنه)؟ وبينو إعرابها وضمائرها.
*الجواب التاسع عشر: (1/82)
عن قوله تعالى :{أرأيتك هذا الذي كرمت علي} أما إعرابها فالهمزة للإستفهام الإنكاري. و(رأيت) من أفعال القلوب لا من رؤية البصر فاعله تاء المخاطب، والكاف ([135]) ضمير آخر للمخاطب يؤتى به في لغتهم للتوكيد في الخطاب فلا محل له من الإعراب، ويثنى ويجمع كما في قوله تعالى: {قل أرأيتكم} ، و(هذا) مفعول به ، والمعنى أخبرني عن هذا الذي كرمته علي أي فضلته لم كرمته وأنا خير منه، فاختصر الكلام ولا فرق بينه وبين المجرد عن الكاف إلا بالتأكيد وعدمه، وأما التاء فلعلها لا تتصرف إلا مع عدم الضمير الثاني، ولعل المفعول الثاني سد مسد الاستفهام المقدر أعني قوله: (لم فضلته عليّ) وقد يحكم بحذفه للعلم به كما في قوله تعالى: { أرأيت الذي ينهى}، ونحوه ، ويظهر لي أن قوة الإنكار بالتأكيد مشعرة باستعظام المستفهم عنه المستنكر عند المتكلم منبىء عن الداء الدخيل وهو الكبر المنطوي عليه ، وهذه نكتة تناسب ما قالوه من تأكيد الحكم عند الإنكار لكن هناك هو في إنكار المخاطب، وهنا في إنكار المتكلم، ويمكن حمله على إنكار المخاطب المفهوم عند المتكلم، ويستفاد منه نكتة أخري وهي إرادة العناد وفعله الذي هو حقيقة التكبر لمصير المعنى كأنه قال: هذا الذي
أمرت به، وصارعندك المصلحة فيه عندي خلافه ، وهو أحد الأوجه التي عدوها في كفر إبليس لعنه اللّه، لأنه لم يكن منه في الظاهر إلا ترك واجب مع تنبيه النص على أنه استكبر وتكبر وهو مفتقر إلى الفعل فذلك قوله هذا المنبئ عن خبث طويته لعنه اللّه، واللّه أعلم.
_________________
([135]) ـ الحمد لله وصلى الله على رسوله وآله وسلم ، تأمل كلام الإمام صلوات الله تعالى عليه إنْ كان لك إلمام بهذا المقام الذي طال فيه الخطاب وتصاكّت عنده الركاب ، وانظر إلى أطراف الخلاف في مغني ابن هشام وحواشيه ، وشرح نجم الدين الرضي، وإلى بيان الإمام لما يختاره بأجلى بيان وأبهى برهان في هذه العبارة التي حصّلت ما لم تحصله مفترقات العبارات في تلك الأمهات ، وأدمجت هذه النكات التي أغار غورها وأنار نورها وصلى الله وسلم على محمد وآله وسلم.تمت نقلاً من خط السيد العلامة المجتهد/مجد الدين المؤيدي رضي الله عنه.
وأما قوله تعالى: {إن السمع والبصر والفؤاد كل أولئك كان عنه مسؤلاً} فلا إشكال فيه([138]) لأن (أولئك) إشارة إلى السمع والبصر والفؤاد كما في قول الشاعر: (1/83)
ذم المنازل بعد منزلة اللؤي * والعيش بعد أولئك الأيام
و(عنه) في موضع الرفع بالفاعلية([139]) لـ(مسئول) {كالمغضوب عليهم}، والمعنىكل واحد منها كان مسئولاً عنه فأفرد ضمير (عنه) لرجوعه إلى كل واحد ، فقد ظهر إعراب الآية وهو أن السمع والبصر والفؤاد أسماء إن وخبرها الجملة بعدها {كل أولئك ..الخ} وارتفاع (كل) على الإبتداء، ومحل (أولئك) الجر بالإضافة، و(كان) من الأفعال الناقصة اسمها فيها ضمير([140]) شأن، وخبرها (مسئول) منصوب بالخبربة لها، والجار والمجرور محله الرفع على الفاعلية لـ(مسئول) ، واللّه أعلم.
___________________
([138]) ـ وجه السؤال عن هذا أنه أشكل إعرابه ، لأن الجار والمجرور إذا كان مرفوعاً بالنيابة عن الفاعل لم يصح تقدمه ، إذ الفاعل وما في حكمة كذلك ، ولهذا نظر على كلام جار اللّه الزمحشري في الكشاف وقد اختلف في توجيهه على أقوال:
أحدها أنه مرفوع بمضمر يفسره الظاهر ويكون المفسر خالياً عن الفاعل إذ ليس فعلاً ، وأما الفعل فلا يجوز لأصالته في العمل ، واعترض بمخالفته للنقل والقياس.
ثانيها أن يقال حذف الجار واستتر الضمير بعده في الصفة.
ثالثها أنه هنا يجوز تقدمه لأنه لا يلتبس بالمبتداء إذ هو جار ومجرور.
رابعها أن يكون مسنداً إلى المصدر المدلول عليه باسم المفعول وهو مستقيم، لكن لا يكون كلام صاحب الكشاف عليه صحيحاً ، وقد أفاده الإمام عليه السلام بقوله كان مسئولاً عنه واللّه الموفق.
تمت من مولانا مجتهد العصر/ مجد الدين المؤيدي حفظه اللّه تعالى.
([139]) ـ على مذهب الزمخشري والشيخ عبد القاهر أن النائب فاعل كما هو معروف .تمت نقلاً من مولانا مجتهد العصر /مجد الدين بن محمد المؤيدي أيده الله تعالى.
([140]) ـ جعل الإمام عليه السلام اسم كان ضمير شأن ولم يشترط تفسير الجملة ، وهو مذهب الفراء من النحويين كما حكي عنه أنه أجاز (كان قائماً زيد) على أن قائماً خبر لكان واسمها فيها ضمير شأن ، وزيد فاعل قائماً.انتهى املاء شيخنا المولى مجتهد العصر/مجد الدين المؤيدي أيده اللّه تعالى.
(20) السؤال العشرون (قال رضي اللّه عنه) : (1/84)
وهذه أسئلة فقهية حادثة محتاج إليها والمقصود الجواب بكلام أهل المذهب في ذلك مع نصب الأدلة في ذلك.
سؤال منطوي على أطراف وذلك في الشركة العرفية:
الطرف الأول: إذا مات الميت وترك أولاداً ذكوراً و إناثاً وترك دراهم وأثاثاً ومالاً وغير ذلك، ثم تزوج الإناث بعد موت أبيهن، ولم تحصل قسمة مدة من الزمان قدر عشر سنين أو أكثر، والأولاد الذكور تصرفوا بالدراهم هذه وغيرها، وباعوا واشتروا وسافروا وتعبوا وحصلوا أموالاً جزيلة، والإناث مع ذلك مزوجات يَبَرهن إخوتهن بما جرى به العرف من البر في البلد، ثم بعد هذه المدة طلب الإناث نصيبهن فما هو الذي يقسم ؟هل ما هو حاصل الآن في يد الأخوة، أو ما تركه والدهم فقط ؟ وهل القول قولهم فيما تركه والدهم لثبوت أيديهم عليه أم لا؟ و هل يفترق الحال بين أن يكون الأخوة يبرون أخواتهم بشيء مما جرت به العادة من أن من تركت ميراثها عند إخوتها فلها البر في ضيافة أونحوها أم لا؟.
الطرف الثاني في الأب: إذا نشأ ابنه وكان الوالد يبيع ويشتري في شيء قليل فعاونه الولد واستقل بالأمور وحصل بسبب عنايته مال كثير مع مشارفة والده له ومعاونته، ثم مات الأب فكم يستحق الأبن هذا من المال المذكور لأن معه إخوة قاصرين؟.
الطرف الثالث: إذا مات ميت وترك أولاداً ذكوراً وإناثاً ولم يترك لهم إلاّ شيئاً قليلاً فتسبب الذكور بالبيع والشراء والسفر حتى حصل لهم أموال كثيرة، ثم أرادوا القسمة، فكم يستحق الإناث مع أن لهم شيئاً من التركة اشتركوا فيه فهل يستحق الإناث شيئاً مما كسبه أخوتهن أم لا؟.
الطرف الرابع: إذا تكافأ الأخوة في الأعمال مثلاً مع كون معهم تركة يعملون فيها ، واكتسبوا أموالاً فهل تستحق الزوجات نصيباً في المكتسب أم لا؟ وهل يستحق أولاد أحد الأخوين شيئاً لو كان له أولاد والآخر فرداً أم لا؟ (1/85)
الطرف الخامس: لو مات ميت وترك أولاداً ذكوراً وبعضهم بالغون وبعضهم صغار ، فتصرف الكبار في التركة واكتسبوا كسوبات وعمروا عمائر هل يستحق الصغير شيئاً من المكتسب مع عدم عمله أم لا؟ وهل يرجع بما أتلفوه من الغلات أم لا؟.
الطرف السادس: في الإناث اللاتي تركن أموالهن تحت يد أرحامهن فيستغلونه بالحرث والزراعة وغيرها، ويتلفون أعياناً ومنافع مع ظنهم الرضا من الإناث وعلم الإناث بذلك، وأرحامهن مع ذلك يبرونهن بما جرت به العادة من البر بين الأرحام، ثم ماتت الأنثى فطالب ورثتها بغلة الأموال فهل يجابون إلى تلك الدعوى أم لا؟ وهل يفترق الحال بين أن تطالب الأنثى أو ورثتها؟ وهل ثمة فرق بين الأعيان والمنافع ؟ وهل زراعة الأرض استهلاك منفعة أم عين؟ وكيف يكون تقدير الغلة إذا لزمت ؟ هل لا بد من بينة على قدر معروف أنه قد بذر به المال أم موكول إلى نظر الحاكم ؟ ثم تكافؤ الأعمال في الشركة العرفية هل يفترق الحال بين قليل العمل وكثيره أم هي على سواء وإن قل العمل كعمل انثى لا يساوي نفقتها ، وعمل ذكر يسافر للتجارة إلى المواضع البعيدة فالمطلوب بيان هذه الأطراف.
*الجواب العشرون: (1/86)
أن هذا السؤال قد اشتمل على أطراف ولا بد من بيان معنى الشركة العرفية على قاعدة المذهب الشريف اعزه اللّه تعالى حتى يتضح ما ينبني عليها .
فالشركة العرفية عندهم معناها التكافؤ في الأعمال بحيث يسد كل واحد من الشركاء في نوع من العمل تتم لهم المصلحة بالمجموع سواء استوى محصولهم أو اختلف، وسواء كانوا أخوة أو غيرهم ، فمرجعها عندهم إلى شركة الأبدان، لكنها لا تفتقر إلى عقد إذا جرى عليها رضى منهم بالتساوي في المستفاد ، وقاعدتهم أن العرف الجاري كالشرط المنطوق به، والعرف باب من أبواب الشرع معمول به ما لم يصادم نصاً ولا نص هنا، وقد قال صلى اللّه عليه وآله وسلم: (( ما استحسنه المسلمون فهو عند اللّه حسن )) فلهذا قالوا يستوون في الربح والخسران، وللمتوكل على اللّه إسماعيل بن القاسم عليهما السلام في هذا كلام جيد يؤيد ما ذكرناه وعلله بأن التساوي هو العدل المأمور به، واستدل عليه بقوله صلى اللّه عليه وآله وسلم: (( إنما رزقت بمواظبة أخيك على المسجد ))، وهذا ينبغي أن يحمل عندهم على أن محافظة المسجد فيها نوع من طلب المعيشة، وإلا فلا شركة لعدم العمل .
إذا تقرر هذا فقد استحسنا وأفتينا بذيول لهذا الأصل قضى بها النظر والدليل ويمكن تخريجها لأهل المذهب من جعلهم المناط العرف المستفاد من التراضي عادة.
* منها أن للذكر مثل حظ الأنثيين لئلا يزيد الفرع على الأصل في قسمة الأصل والفرض الشرعي، ولكن إنما يكون ذلك مع جري العرف كما هو جار في بعض الجهات كذلك لأن دخولهم في الشركه مع كون العرف رضا بالنقص والزياده، وإن كان كلام أهل المذهب يأباه لكنه راجع إلى أصل من أصولهم. (1/87)
* ومنها أن التركة تأخذ حصتها ([141]) من المستفاد فكأنهم أُجراء فيها، إذ لولا هي لما نمى المستفاد ذلك النمو فيقسم الأصل على الفرائض الشرعية وتنضم إليه حصته من المستفاد المسمى بالشركه، والباقي يقسم بين السعاه لجري العرف بأنهم لايرضون التساوي في الأصل حيث لا تكون التركه بينهم على سوآء في الفريضه.
* ومنها أنه لو وقع الربح والخسران معاً كأن يبيعوا مالاً من الأصل مع وجود الأرباح في التجاره مثلاً فإنه يقدم من الربح جبر الأصل، إذ لو كان باقياً لانتقص الربح بقدره، ولعدم معرفة الرضا في إتلاف نصيب أحدهم دون الآخر أو زيد من الآخر الذي هو المناط في هذه الشركه.
_________________
([141]) ـ وقد قدرها الإمام رضوان اللّه عليه بنصف المستفاد وإن كان التركة تقوم بذلك ، نص على ذلك في جواباته وعمل على ذلك الأئمة والحكام من بعد الإمام في أرض اليمن واللّه الموفق.تمت من مولانا المجتهد/ مجد الدين بن محمد المؤيدي أيده الله تعالى ونفع بعلومه.
* ومنها أن ما استفاده أيهم لا بسعي أو غرمه حصته له وعليه كأروش الجنايات والمهور داخلاً وخارجاً، وهذا يمكن أخذه من كلام أهل المذهب. (1/88)
* ومنها أن النسوة المشاركات في أصل التركه يشاركن في السعي إلى تاريخ تزويجهن، ثم ينقطع من المستفاد المتأخر لبطلان التكافؤ.
* ومنها أن الصغار كأولاد الإخوة يشاركون في المستفاد لكن من سن البلوغ لا ما قبلها فنفقته تقاوم سعيه وهو العرف في بعض الجهات، فإن اختلف عُمِل بحسبه.
* ومنها أن الزوجات يشاركن في السعي إن جرى عرف بذلك وإلا فلا مالم يجبرن، وكل هذا يمكن أخذه لأهل المذهب، إما نصاً أو عموماً أو تخريجاً، وإلا فهو غاية العدل الممكن الذي أمر اللّه به.
فإذا عرف هذا أمكن رد تلك الأطراف إليه.
أما الطرف الأول: فليس للإناث اللاتي تزوجن إلا نصيبهن من التركه المخلفه إذ لا شركة ولاتكافؤ اللّهم إلا أن يعرف انهن لم يدعن النقود ونحوها إلاّ لإرادة الربح أخذن حصتهن من نصيب التركه لا من نصيب السعاة، وأما في القدر فلا إشكال أن القول قولهم فيما هو أصل ومكتسب وفي قدره لأن اليد لهم ما لم يخالفوا ظاهرا قد أقروا بأصله، وأما ما سلموه من ضيافة وزيارة ونحوهما مما جرى به العرف فإنه صلة واجبة إلى حد ما يجري به العرف وما زاد لابأس بحسابه لهم إذا عرف أنه في مقابل شئ.
وأما الطرف الثاني فيقال قد صار الولد شريكاً لوالده من عند سعيه مع بلوغه تلك السن فيشارك والده فيما استفاده من ذلك التاريخ فيما هو نصيب السعاة لا في الأصل، فيقسم الأصلي بين الورثة على الفرايض الشرعية لقاصر وبالغ ويتبعه في القسمة كذلك ما استفاده الأب إلى تاريخ بلوغ ولده تلك السن لإنه خاص به، وكذلك يتبعه في القسمه حصة التركه من السعي، هذه الثلاثه الأصناف تقسم على الفرائض، وأما نصيب السعاة فيقسم بين الأب وولده، ويقسم نصيب الأب بين ورثته أيضاً ، وهذا على فرض أن الأب قد توفي فإن كان الأب حياً فليس للولد الا الحصة المذكورة من السعي والباقي ملك الأب. (1/89)
وأما الطرف الثالث فنقول: نعم يستحق الإناث نصيبهن من السعي إن كن عاملات ولو في البيت إذ لم يتم لهم عملهم الا بعملهن فالشركة حاصلة.
وأما الطرف الرابع فالزوجات يستحققن نصيباً من السعي مع جري العرف بذلك أو حصول الإكراه على العمل، وإن لم يحصل أيهما فلا لنص أهل المذهب أن المرأة إذا عملت في بيت زوجها لم تستحق أجرة إلا لشرط أو عرف أوإكراه، وأما أولادهم الصغار والكبار فقد مر بيانه.
وأما الطرف الخامس فنقول: يستحق الصغار الذين لم يسعوا نصيبهم من الأصل على الفرايض الشرعية، ويتبع الأصلي حصة التركة من المستفاد لاغير، واما نصيب السعاة فلا شي لهم فيه، وما اتلف من غلات نصيب الصغير يقدر له غلات نصيبه ويحسب عليه نفقته حيث وأبوه قد مات وإلا فنفقته عليه، وهذا مع عدم الشركة بينه وبين الكبار وأما مع الشركة فتسقط نفقته في مقابل عمله ويأخذ من المستفاد حصة نصيبه في التركة لامن حق السعاة، ومخالطة القاصرين قد ورد بها القرآن قال تعالى {وإن تخالطوهم فإخوانكم واللّه يعلم المفسد من المصلح}وإن كانت نصاً في شركة الأموال كما يقتضي به سبب النزول لكن العام لايقصر على سببه. (1/90)
وأما الطرف السادس في الإناث الاّتي تركن أموالهن تحت أيدي أرحامهن فزرعوا وحرثوا بظن الرضا ...الخ ، فيستغلونه بالحرث والزراعة ...الخ.
فنقول: ظن الرضا لايرفع إلا الإثم فقط ، وأما الضمان فبحاله ، والعبرة بالإنكشاف، فمع إنكشاف الرضا يعمل بحسبه هل رضا بالزرع ويردون لهن الغلات ؟ فهذه إباحة منافع لارجوع لهن بعد الزرع ولا للوارث إن كان البذر منهم ، فإن كان البذر من ملكهن فإباحة أعيان ويرجعن ووارثهن مع البقا لامع التلف ، وأما مع إنكشاف عدم الرضا فالضمان لازم بكل حال سواء كان من باب الأعيان أو من باب المنافع ، لأنه يلحق بالغصب ، ولايقال: فقد قالوا إن الأصل في المنافع عدم العوض لأنا نقول: ذلك مبني على الإذن في الإستعمال وإنما اختلفوا أهل بأجرة أوبغيرها، وأما مع عدم الإذن فهو يرجع إلى ضمان الغصب وهو يصير غاصباً وإن لم ينو ، لكنه هنا لا أجرة إن لم يستعمل لعدم منعهن منه، فإن منعوهن فكالغصب من كل وجه. (1/91)
وأما رجوع الوارث بالغلات فتسمع دعواه ويعمل بالظاهر والعرف الجاري من قراين الرضا ما لم يكن للسكوت محمل غير الرضا من حياء أو إكراه أو نحوهما، فإن كان العرف عدم رجوعهن حكم به ، وإلاّ حكم للوارث بالرجوع ، وكذلك لارجوع لهن مع العرف بعدم الرجوع مع ظهور مايثبت المسامحة، ومرجع هذا إلى الدعاوي فمن الظاهر معه فالقول قوله مع يمينه .
وأما إبرارهن بما جرت به العاده فقد سبقت الإشارة أن ذلك من باب الصلة الواجبة ، وهو يحرم العوض في مقابلة الواجب .
وأما تقدير الغلول اذا احتيج اليه فطريقه تقدير عدلين خبيرين يسقطان سني الخُلف ويقدران سني الصلح بالوفا والنقص بغالب الظن كقيم المتلفات ، وقد ورد النص بتقدير العدلين في الجزاء في الحج في قوله تعالى {يحكم به ذوا عدل منكم}. (1/92)
وسألتم: هل ثمة فرق بين الأعيان والمنافع ؟ .
فمع عدم الإذن لافرق بينهما، وإنما يفترق الحال مع الإذن ، ففي المنافع الأصل عدم العوض وفي الأعيان الأصل العوض.
وسألتم: هل زراعة الأرض استهلاك منفعة أو عين؟.
وقد أشرنا إلى أنه إن كان البذر من المستعمل فاستهلاك منفعة، وإن كان من ملك رب الأرض فاستهلاك عين.
وسألتم: عن قلة العمل وكثرته هل يستوون في المستفاد؟، كعمل أنثى مع ذكر له محصولات .
فالمختار للمذهب الإستواء لأن إستمرارهم على الشركه مع علمهم بنقص عمل البعض رضا بالتساوي ، ولحديث ((إنما رزقت..الخ )) ، وقد أشرنا إلى ما اخترناه من التنصيف للأنثى مع جري العرف به ، وقد نظّر بعض العلماء التفضيل على قدر السعي، والصحيح أن لا تفضيل بذلك إلا لعرف رداً للكل إلى المناط، وهو التراضي المستفاد من العرف العام أوالخاص ، واللّه أعلم.
(21) السؤال الواحد والعشرون (قال رضي اللّه عنه) سؤال: (1/93)
في أموال بجنب قرية لم تزرع مدة من الزمان للخوف بينهم وبين غيرهم، ثم أرادوا زرعها مع ثبوت يد أهل القرية على المال بالمنع لغيرهم والنسبة إليهم وتعارف أهل جهاتهم أنها لأهل القرية، ثم اختلف أهل القرية على قسمتها بعضهم ادعى أنها تكون قسمة المال على جدودهم الأولين وهم مثلاً خمسة أبيات آل فلان وآل فلان.... الخ، وبعضهم قال على عدد رؤوس الذكور إذْ بعض الأبيات قد قلّوا وبعضهم قد كثروا، وبعضهم قال تكون القسمة على ذكر وأنثى، فكيف تكون القسمة الشرعية هل على الجدود أو على رؤوس المدعين؟، والمدعون هل يدخل البطن الساقط مع وجود من يسقطه أو تكون على قدر التوارث بين البطون؟ والجميع مقرّون أنه ملك لآبائهم الأولين، ولا يعلمون كيف هو بينهم، فبيّنوا ما الحكم الشرعي في ذلك؟.
*الجواب الواحد والعشرون:
عن تلك الأموال: أنه يقسم ما فيه النزاع بين متنازعيه على الرؤوس، ولا فضل إلا لبينة أو إقرار، ومن الإقرار تصادقهم أنه بالتوريث، فيترتب عليه سقوط البطن الأسفل والتنصيف للبنات المدليات بأب والتربيع والتثمين للزوجات المدليات بزوج، وأما مع عدم الطريق الشرعية على التوريث فالتسوية مطلقاً لإستواء اليد ولا مخصص لتفضيل البعض على البعض، وقد نصوا على هذا في الدعاوي في اختلاط الأموال وجعلوا من الاختلاط الالتباس.
(22) السؤال الثاني والعشرون: (قال رضي اللّه عنه) سؤال: (1/94)
جرت عادة كثير من القبائل بوقف جربة لمسجد أو نحوه، ومن المعلوم أن نصيب أخواته في ذلك الموضع وسكتت الأخوات هل يصح وقفه جميعاً ويعاوضن من غيره أم لا يصح إلاّ في نصيبه؟ مع أن الوقف المشاع مضطرب عند الأكثر ووقف العوام لا شك أنه كذلك ولم ينقل عن أحد القول بعدم الصحة فما المقرر على كلام أهل المذهب؟.
*الجواب الثاني والعشرون:
أن الوقف صحيح نافذ في نصيبه لا غير لعدم الملك فيما سواه الذي هو شرط الوقف، والتعويض بمراضاة جديدة لا توجب مصير الحر وقفاً إذ المملّك هو القسمة ولماَّ تقع، والمقرر صحة وقف المشاع ويقسم، والدليل على صحة وقف المشاع حديث عمر بن الخطاب إذ قال للنبي صلى اللّه عليه وآله وسلم: إني أصبت مالاًلم أصب مثله قط، وإني أريد أن أتقرب به إلى اللّه تعالى. فقال عليه السلام: (( حبّس الأصل وسبّل الثمرة)) مع أن السهام التي ملكها عمر من جملة أرض خيبر وكانت مشاعة دل على صحة وقف المشاع.
(23) السؤال الثالث والعشرون: (قال رضي اللّه عنه) سؤال: (1/95)
رجل متول لمسجد فنقض مطاهير الماء وما يتعلق به فانفتح عمل كثير حتى احتاج إلى دراهم ولا غلة للمسجد موجودة تقوم بذلك جميعاً والرجل فقير، هل يجوز أن يبيع شيئاً مما هو موقوف على المسجد أم لا يجوز؟ فماذا يفعل الناقض وهو غير متعد ولم يجد قرضاً ولا غير ذلك؟.
*الجواب الثالث والعشرون:
أن مع حصول الظن بكمال الإصلاح والناقض غير متعد فلا إثم عليه، ولا يلزمه الضمان مع فقره، وأما بيع وقف المسجد لإصلاح المطاهير فإن كان وقفاً على المسجد والمطاهير جاز إن اتحد الواقف، فإن اختلف أو كان الوقف على المسجد وحده لم يجز.
(24) السؤال الرابع والعشرون: (قال رضي اللّه عنه): (1/96)
إذا صارت عادة أهل البلاد أن الولي لا يزوج المرأة إلا بتسليم دراهم من الزوج للولي مع كونها بالغة وقد نص أهل المذهب أن ذلك رشوة إن امتنع من التزويج إلاّ بها وقد لعن الرسول صلى اللّه عليه وآله وسلم الراشي والمرتشي ([144])، فما يكون حكم الزوج المعطي إن لم يمكنه التوصل إلى التزويج إلا بذلك؟ فما المخرج في ذلك مع عموم البلوى به؟.
*الجواب الرابع والعشرون:
لا شك أن أهل المذهب قد نصوا على أنها رشوة محرمة، ونصوا أيضاً على تحريمه على الدافع، والمدفوع إليه لشمول الحديث، وعمموا الحكم، فلا مخرج على ظاهر كلامهم للدافع إلاّ إذا أغمض عن مناقشة الولي ومماكسته بحيث لا يلجئه إلى حد الإمتناع إلاّ بها، ويكون التسليم إبتداءً بالرضا وطيبة النفس، وإن كان قد نص بعض العلماء على جواز أخذ ما يلحق الولي غضاضة بتركه والمختار خلافه، وذكر المنصور باللّه عليه السلام وأبو جعفر وغيرهما جواز دفع الأجرة للحاكم ليحكم بالحق فيما هو مجمع عليه، لأنه توصل إلى حقه كالإستفداء لا في المختلف فيه لأن حكم الحاكم باطل لبطلان ولايته بظهور الإرتشاء، وهذا الكلام إنما هو في الدافع وأما في المدفوع إليه فيحرم إتفاقاً فلهذا كان قدحاً في الحاكم، وكلام المنصور باللّه جيد، ويقال في ولي عقد النكاح هكذا لأن العدالة غير شرط، وقد فصل الفقيه يوسف هذا البحث في الثمرات تفصيلاً عجيباً، وذكر الخلافات ولكنها غائبة عنا، وكثير من المفرعين قد ذكروه وهو الراجح.
فإن قيل: هذا توصل إلى المباح بما صورته صورة المحظور.
__________________
([144]) ـ والرائش: هو المصلح.
قلنا: لا عبرة بالصورة كما أبيح له أن يأخذ ماله من غاصبه بالتلصص والسرقة والقهر والغلبة وإن كان صورته صورة محظور، ولأنه قد أبيح التأليف للإمام ولا شك أنه على فعل واجب أو ترك محظور على الخلاف في جوازه للمؤلَّف، والظاهر الجواز لأجل النص فيكون خاصاً، وكذلك تسليم معتاد الرصد، وكذلك استفداء الأنفس من الكفار، وقد همّ صلى اللّه عليه وآله وسلم بمصالحة المشركين بثلث ثمار المدينة ولا يهم إلا بما هو جائز مع أنه يحرم عليهم لأنه في مقابلة ترك المنكر، فينبغي أن يقال: أما المدفوع إليه فيحرم عليه مطلقاً لأنه من أكْل أموال الناس بالباطل إلاّ ما خصه الدليل كالتأليف، وأما الدافع فإن كان على فعل محظور أو ترك واجب فحرام إلاّ ما حرم لسبب آخر كهدايا الأمراء، فيكون حقيقة الإرتشاء الذي هو كبيرة ما أومأ إليه تنبيه النص بقوله تعالى: {ولا تأكلوا أموالكم بينكم بالباطل و تدلوا بها إلى الحكّام لتأكلوا فريقاً من أموال الناس بالإثم وأنتم تعلمون} وما عداه مما دلّ عليه الدليل فحرام لا يقطع بكبره إلاّ لدليل يخصه كأكل مال اليتيم. (1/97)
(25) السؤال الخامس والعشرون (قال أيده اللّه) سؤال: (1/98)
ما جرت به عادة أهل جهات صعدة من كون المهر إنما يسلم مع الطلاق أو الموت عرفاً جارياً إلاّ أشياء معروفة من حلية ونحوها بحيث لو عرف الزوج لزوم تسليم المهر لما تزوج، فهل يعد ذلك من صفات العقد التي يعمل فيها بالعرف؟ فإذا طالبت المرأة بمهرها بعد الدخول فهل يحكم الحاكم بالتسليم أم لا؟ مع أن أهل المذهب قد نصوا أن التأجيل العرفي كاللفظي، ونصوا أن شرط التأجيل أن يكون إلى مدة معلومة، فما المرجح في ذلك على كلام أهل المذهب؟.
*الجواب الخامس والعشرون:
أن هذه المسألة قد بسط لها القاضي أحمد بن يحيى حابس في المقصد الحسن ونسب العرف إلى أهل صعدة، ولكن النسخة غائبة مع الكتب، والمذهب أن التأجيل المجهول باطل، وهذا منه، وأنها إذا طالبت وجب التسليم كما في ثمن المبيع إلى أجل مجهول فإنه يلزم حالاّ([146]) ولو أُجل بمثل الصِّراب ونحوه فإنه لاحق بالمجهول، وجرت عادة كثير من علماء صعدة وغيرهم بإتباع هذا العرف ولزومه وهي مسئلة نظرية.
_________________
([146]) ـ هذا إن كان التأجيل في ثمن المبيع بعد العقد، أما إن كان حال العقد فيفسد العقد كما نص عليه الإمام عليه السلام في مواضع واللّه ولي التوفيق. تمت إملاء مولانا العلامة الحجة / مجد الدين بن محمد بن منصور المؤيدي أيده الله تعالى.
(26) السؤال السادس والعشرون (قال رضي اللّه عنه) سؤال: (1/99)
ماقولكم في المحاجر وما جرت به عادة أهل الزمان من شرائها بالمال الكثير ثم يتنازعون في ثمن أو يحصل شفيع في المبيع؟ فإن حكم الحاكم بعدم صحة البيع وعدم لزوم الثمن وبإشتراك الناس فيها حصلت الفتنة ولم يقع للحكم تأثير، وإن حكم بالصحة أو بالمنع لمن يريد الإشتراك فهل لذلك وجه شرعي ومساغ مرضي؟ وإن ترك الحكم بينهم فهل يأثم الحاكم مع المشاحة في ذلك أم لا؟.
*الجواب السادس والعشرون:
أن المحاجر حقوق عامةٌ، الناسُ فيها على سواء لقوله صلى اللّه عليه وآله وسلم: (( الناس شركاء في ثلاث.... )) لكن اشتراكها لا يمنع قسمتها لثبوت الحق لأهل المحلات المجاورة لها، وهو الأولى لما فيه من الصلاح ودفع الفتن، فتصير من باب الحقوق الخاصة بالنسبة إلى أهل كل قرية ونحوها فيصح قسمتها وهبتها على غير عوض وإباحتها على قاعدة الحقوق، وإنما الممنوع أخذ العوض عليها إذ لا يصح بيع الحق، فما سألتم عنه من شرائها بالمال الكثير حكم البيع باطل، فإن أبيح الثمن فالإباحة تبطل ببطلان عوضها، ولا شفعة فيها لتوقف الشفعة على البيع الصحيح، والثمن في يد البائع كالغصب إلاّ في الأربعة([147])، فعهدة الحاكم أن يحكم بما أنزل اللّه ولا يتبع أهواءهم، فإن كان حكمه يؤدي إلى منكر ترك الحكم كما يترك الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر لذلك، وللحاكم النظر مهما كان من أهله فيما يدفع الفتنة بينهم ويكون أقرب إلى مصلحة الجميع، لأن الحديث المذكور محمول على ماهو علي أصل الإباحة من الماء والنار والكلأ للعلم بأنه إذا حصل أي أسباب الملك أو الحق ملكت واستحقت، فلا يقال: إن القول بالقسمة والإباحة بعد ثبوت الحق ينافي معنى الحديث، واللّه أعلم.
_________________
([147]) ـ الأربعة هي:
أنه يطيب له ربحه، ويبرأ من رد إليه، ولا أجرة إن لم يستعمل، ولا يتضيق الرد إلا بالطلب.
وقوله: يطيب ربحه: المراد إذا باعه واشترى بثمنه آخر فباعه وربح فيه، لأن ثمنه صار في يده بإذن مالكه، وليس المراد أنه يطيب له ثمنه إذا باعه، لأنه يجب عليه رده لمالكه، واللّه ولي التوفيق. انتهى من مولانا مجتهد العصر/ مجدالدين المؤيدي أيده اللّه تعالى.
(27) السؤال السابع والعشرون ( قال رضي اللّه عنه) سؤال: (1/100)
إذا قالت المرأة: (إشتريت منك طلاقي بمهري). فقال: أنت طالق، هل يكون رجعياً أو خلعاً؟ وهل يبرأ من المهر مع المراجعة وعدمها أم لا؟.
*الجواب السابع والعشرون:
أنها إن كانت ناشزة وقع خلعاً يمنع الرجعة والطلاق، لأن هذا عقد وهو يقوم الإمتثال في الخلع مقام القبول، هذا إن كان المهر باقياً بذمة الزوج، وكذا إن سقط عنه وأراد مثله، أو جهلا سقوطه أو الزوج وهي المبتدأة لا إن ابتدأ هو وقع رجعياً في العقد كما في المثال لا في الشرط فلا يقع شيئاً، وإن كانت غير ناشزة بطل العوض ووقعت طلقة رجعية، لأنه يصير مُخْتَلُّهُ رجعياً، ولا يقال: إن هذا اللفظ كناية طلاق يفتقر إلى النية، لأن الكناية فيما إذا شرت المرأة نفسها لا طلاقها.
(28) السؤال الثامن والعشرون (قال رضي اللّه عنه) سؤال: (1/101)
ما قولكم رضي اللّه عنكم في بيع الرجاء المتعارف به مع استكمال شروط البيع ثم بعد انبرامه يرضى المشتري أن البائع إذا أتى بالثمن أنه يرجع له مبيعه بما شرى، والبائع غير منسلخ عن البيع بل راجٍ عوده له، والمشتري غير متيقن بقاء المبيع تحت يده، فهل تحل الغلة للمشتري؟ وهل يفترق الحال بين جعل المدة معلومة أو مجهولة؟، وبين كون الثمن المدفوع القيمة المتعارف بها أو دون ذلك؟ وهل تثبت فيه الشفعة لمن له سبب أم لا؟ وهل هذا الرجاء إقالة وإن لم يكن بلفظها أم فسخ؟.
*الجواب الثامن والعشرون:
أن بيع الرجاء له صور عديدة وضابطه ما كان قصد المشتري فيه هو الغلة فهو الرجاء المحرم لأن الثمن في حكم القرض والغلة منفعة في مقابله فيكون قرضاً جر منفعة، ومضمر الرباء ومظهره على سواء عند أهل المذهب، وما كان قصد المشتري فيه هو التملُّك والغلة تبع من لازمه فالإقاله إلى أجل مجهول مفسدة وإلى أجل معلوم لها حكم خيار الشرط، وإن كانت بلفظ الإقالة ويأتي فيها ما يأتي في هذه الأنواع.
وهذه المسألة المسئول عنها هي التي صدرها صاحب البيان في مسألة بيع الرجاء الذي استعمله أهل زماننا حيلة في تحليل الربا، وجعل الضرب الأول أن يقول: (بعت منك بيع رجاء الي أن آتيك بحقك)، أو لم يلفظ بذلك بل هو عرف لهم ظاهر أن البائع متى رد على المشتري مثل ما أعطاه استرجع المبيع رضي المشتري أم كره، ولا يراعون في ذلك فسخاً ولا إقالة، فهذا باطل على المذهب، فلا يطيب للمشتري شيء من ثمار المبيع ولا منافعه قط ولو أباحها له البائع أو وهبها أونذر بها لأن ذلك حيلة في الربا، ويلزمه أجرة المبيع ولو ضمن له البائع دَرَك المبيع، وإذا تلف المبيع ضمنه كما في البيع الباطل، فلا فرق حينئذٍ بين علم المدة وجهلها، ولا بين استواء الثمن والقيمة واختلافهما، ولا شفعة لمن له سبب، وليس بإقاله ولا فسخ لبطلان العقد من أصله لأن أهل المذهب يجعلون مضمر الربا كمظهره، فيعتبرون القصد خلافاً للمؤيد باللّه عليه السلام، فعنده أن العبرة بالعقد لا الضمير، وأهل المذهب يجعلون العرف الجاري كالشرط المنطوق به، فهذا في الصورة التي ذكرها السائل، وإلاّ فقد نصوا على الضرب الثاني، أن البيع إذا استكمل شروط الصحة انقسم إلى قسمين، أحدهما: أن يكون قصد المشتري إنما هو التملك لا التوصل إلى الغلة، فهذا بيع صحيح بكل حال وليس من عقود الربا، ثم إن كان فيه شرط الرد أو الإقالة إلى أجل معلوم فهو من باب خيار الشرط على بابه، وإلى أجل مجهول يوجب الفساد مالم يكن طارئاً إذ لا يلحق بالعقد المفسد الطاريء، وإن كان غرضه التوصل إلى الغلة صار من باب الربا سواء كان مظهراً أو مضمراً لمنعهم كل حيلة توصل إليه، وثبوت الشفعة في العقد الصحيح الجائز متوقف على سقوط خيار البائع أو انقضاء مدته، واللّه أعلم. (1/102)
(29) السؤال التاسع والعشرون (قال رضي اللّه عنه) سؤال: (1/103)
امرأة مات زوجها أو طلق وقد ظهرت عليها أمارات الحمل من عيافة وكبر بطن وإنقطاع حيض، فلم تزل كذلك زايداً على أكثر مدة الحمل فهل يحكم بانقضاء العدة مع وفاء الأربع السنين أو يحكم بأنه لا حمل البتة؟ وهل يجوز لها أن تتزوج بعد مضي أكثر الحمل ومن المعلوم بقاء الحمل في بطنها أم تمكث السنين الكثيرة لا ذات زوج ولا فارغة؟ وهذه المسألة حادثة في كثير من النساء، وقد تيقن للمرأة موت ما في بطنها وبقاؤه في بطنها فما يكون الحكم في ذلك؟.
*الجواب التاسع والعشرون: (1/104)
عند أهل المذهب أن أكثر الحمل أربع سنين مطلقاً، لحديث أمير المؤمنين عليه السلام كما في الانتصار وضياء ذوي الأبصار وغيرهما، فإن كان الوضع لفوق أربع سنين من الوفاة لم يلحق به ولو حصلت أمارته فيجب القضاء بحكم الدليل بأن اللّه تعالى قد أجرى العادة أن الحمل لا يلبث أكثر من ذلك لا حياً ولا ميتاً، لما في تحديد المدة من المصلحة، إذ لو أطلق الحكم لاضطربت الأحكام الشرعية في ذلك وأدى إلى مفاسد، ولأن الأمارات إنما هي قرائن مفيدة للظن، ولهذا نص أهل الطب على علاج العلة التي ترفس في البطن كالجنين، وكذلك انقطاع الحيض وغيره من أمارات الحمل تحصل لعلل في البطن، ولما يجوز على البشر من العمد والخطأ، ويجوز أن تجامع مكرهة أو نائمة أو زائلة العقل ونحو ذلك، فهذه التجويزات تصير إلحاقه مظنوناً ظناً لا يقاوم الدليل الذي استفيد منه الحد بالقدر المعلوم المطابق لمصلحة الأحكام، ولهذا قال بعض العلماء: إنها تحد، والمختار عدم الحد حملا لها على السلامة لتجويز ما ذكرناه من الإكراه والنوم، وذلك لا ينافي إلحاق الولد بها ونفي نسبه ممن قد انقضت عدتها منه شرعاً وعدم إلزامه حقاً بمجرد القرائن التي لا دليل عليها، هذا توجيه كلام أهل المذهب وإن كانت المسألة نظرية وللناظر نظره، لكن كلامهم البينُ الذي لا غبار عليه.
وأما عن الطلاق فالبائن والرجعي بعد إقرارها بانقضاء العده حكمه ما مر، إذ الإقرار أقوى طرق الحكم لقوله تعالى:{بل الإنسان على نفسه بصيرة}، نظيره لو أقر لغيره بعين في يده هي ملكه لزمه إقراره، ولا يقال: إن إقرارها بالانقضاء يتضمن إسقاط حق لغيرها وهو الجنين مثلاً، لأنّا نقول: هذا أمر لا يعرف إلامن جهتهن - أعني الحمل والحيض-، ولهذا قال تعالى: {ولا يحل لهن أن يكتمن ما خلق اللّه في أرحامهن} فإذا أقرت بالانقضاء قبل قولها وصار هو الظاهر والمناط الشرعي المعمول به ودار الحكم عليه، وأيضاً فلو أبقينا حق الجنين لزم منه بطلان الإقرار وهو لا يصح، ولأن الأحكام غالباً تتبع الظاهر، ولهذا يحكم بالولد للفراش الجديد مع تجويز أن يكون من الأول فيما دون الأربع السنين، وأن يكون الذي انقضت به العدة دم علة أو فساد، ولكن لم يحكموا بهذا، بل أناطوا الحكم بالظاهر، والفراش الجديد. (1/105)
نعم وأما في الرجعي فيلحق به تجويزاً للرجعة وحملاً على السلامة إن أمكن حمله على وطئ منه حلال، ويتفرع عليه ما ذكره الإمام المهدي عليه السلام في الأزهار من قوله: (وكذا بعده بدون ستة أشهر لا بها أوبأكثر إلاّ حملاً ممكناً من المعتدة بالشهور لليأس).
وسألتم: هل يجوز لها أن تزوج بعد الأربع السنين والحال ما ذكر؟.
والجواب: أن لها أن تتزوج ولكن تمتنع من الوطئ فلا يجوز لها حتى تضع وتطهر من النفاس كما ذكروا في استبراء الحامل من زنى، وأما العقد عليها فجائز، واللّه أعلم.
* * * * * (1/106)
ثم قال رضي اللّه عنه: فهذه أسئلة المطلوب - من مولانا أمير المؤمنين المهدي لدين رب العالمين - الجواب عليها جواباً مبسوطاً بالأدلة الشافية ويكون ذلك منكم على حسب إمكانكم، ومع تمام الجواب أرسلوا بهذه السؤالات وجواباتها جزيتم خيراً، والسلام عليكم ورحمة اللّه وبركاته، والسائل مسترشد وهو الفقير إلى اللّه إبراهيم بن عبد اللّه الغالبي وفقه اللّه لصالح العمل، انتهى لفظه.
فنقول: وعليكم يعود جزيل السلام ورحمة اللّه وبركاته، وقد صدرت الجوابات حسب الإمكان بعون المنان حسبما ذكرنا في مستهلها، والحمد لله على كل حال من الأحوال، والصلوة والسلام على سيدنا محمد خير نبي وعلى آله خير آل.
قال في الأم وحرره بقلمه العبد الحقير المفتقر إلى الملك الكبير عبد اللّه أمير المؤمنين المهدي لدين رب العالمين لطف اللّه به وبالمؤمنين آمين.
قال في الأم وافق الفراغ ليلة الجمعة المباركة لعشر بقين من شهر جمادى الأولى سنة (1299هجرية ) ولا حول ولا قوة إلا باللّه العلي العظيم.
قال في الأم: يقول العبد الفقير، المعترف بالتقصير إبراهيم بن عبداللّه بن علي بن علي بن قاسم بن لطف اللّه الغالبي وفقهم اللّه آمين:
الحمد لله رب العالمين وصلى اللّه وسلم على سيدنا محمد وآله الطاهرين آمين:وبعد: (1/107)
فلما وصلت إلينا هذه الجوابات الفريدة، والحكم البديعة المفيدة، التي بها تنشرح الصدور، وبالتملي فيها يحصل الفرح والسرور، كشفت عنّا غياهيب الظلم، وأهدت إلينا بدائع الحكم، وأذهبت عنا الهموم، ورفعت الهمم، فلقد اشتملت على معان سطع صباحها مستنيراً، وظهر شعاعها مستطيراً، حتى صارت مشرقة الجوّ مغدقة النوّ، مونقة الضوء، تضعف الخواطر عن إدراك معانيها، وتصغر القرائح عن اقتراح ما يساويها، قد عمّ نورها عند وصولها الآفاق، وسمت وارتفعت على طويلات الأعناق، فهي بلا شك مغناطيس النفوس، والأمان من كل بؤس، والروضة الجامعة لكل بلاغة أنيقة، والمحتوية على كل معنى حسن وفصاحة غديقة، سقت سماءُ المعاني أرضَ ألفاظها فنبتت بأحكام ومعاني زكى نباتها، وأينعت ثمارها فهزتها لواقح الأفكار والأنظار فتساقط ثمارها، فلا يبرح الناظر مستخرجاً للدر الحسان، إلى أن ينتهي إلى ما لا يخطر على الأسماع والأذهان، لم يترك مقفلاً إلاّ فتحهُ وكشفه، ولا مختوماً إلاً أذهب خاتمه وعرّفه، فعاد الظلام منها ضياءً ونوراً، وابتهج القلب بها سروراً، كيف لا تكون كذلك، ومنشيها ومرصع درر ألفاظها وموشّيها،هلالُ هالة العلماء الأطهار، وفرع الأئمة البدور المتلألئة الأنوار، والهادية إلى دار القرار، مَنْ له اليد الطولى في معجزات البلاغة، الفائق لأبناء زمانه في الفصاحة، من خاض في بحار العلوم فاستخرج الدقائق ووقف على خفيات الحقائق، بقية العلماء المعتبرين، وخلاصة الآل الأكرمين مولانا أمير المؤمنين وسيد المسلمين المهدي لدين اللّه رب العالمين أيد اللّه الدين ببقائه،
وضاعف به الرحمة على أوليائه، وأعظم به النقمة على أعدائه، وأحيا به الميت من الإسلام، وأشاد به ما اندرس من الأحكام، وكان له خير ناصر ومعين، وحفظه بما حفظ به الذكر المبين، بحق محمد وآله الأكرمين، وبعد أن تأملت ما احتوت عليه، وتفهّمت ما تضمنت وأشارت اليه، قلت: (1/108)
هذي الرياضُ التي قد راقت البصرا .... فسرِّح الطرف فيها تبلغ الوطرا
كانت مسائلُنا ليلاً فلاح لها .... نورٌ يضئُ كضوء الشمس إذْ ظهرا
كانت مسائلنا بكراً مختمةً .... ففضَّها من لبيت المجدِ قد عَمرا
قد أطفأت نارَ كربي إذ رأيتُ بها .... سؤْلي وشاهدتُ ماللعقل قد بهَرا
سلت على جيش همّي سيف نصرتها .... فانسلَّ همِّي لواذاً خائفاً حذرا
وذقتُ منها جنياً من فواكهها .... لو ذاقه منْ براه سقْمه لبرا
وكيف لا وهي ممن طابَ عنصره .... لولا سناهُ لبدر التمّ ما ظهرا
العالمُ الكاملُ المشهورُ منْ ظهرت .... له الفضائلُ حتي فاقَ واشتهرا
بأمره قدْ أقامَ اللّه عثرتنا .... مذ قامَ فهو لدين الله قد نصرا
حاوي المفاخر لا تخفى فضائلُه .... إلا على أبلهٍ لا يعرف القمرا
نمت به دوحة زيتونة ظهرت .... مشكاةُ مصباحها قد ضاهت الدررا
يملي العلومَ التي أمواجها زخرت .... فالبحر منْ أجله قد صار مستترا
فاللّه ينصر راياتٍ له نُشِرت .... على العدوّ الذي بالكفر قد شهرا
واللّه يبقيهِ للاسلام ملتجأً .... غوثاً مغيثاً كمثل النو إذْ مطرا
فالحمدُ للهِ زال الهمُّ وانفرجت .... عنَّا مهمات ما في الصدر قد سترا
انتهى المنقول على الأم، وقد كان تصحيح هذه النسخة السؤالات والجوابات عند عرضها على الأم، ولم نألُ جهداً في ذلك، وقد تم ذلك بحمد اللّه في 15من شهر رجب سنة 1387 هجرية. (1/109)
مفتي اليمن الأكبر شيخ الإسلام:/
أبو الحسنين/ مجدالدين بن محمد المؤيدي الحسني.
السيد العلاّمة/ يحيى راوية الحسني.
السيد العلاّمة/ الحسن بن محمد الفيشي الحسني.
القاضي العلاّمة/ صلاح بن أحمد فليتة.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــ
تمت مراجعة هذا الكتاب وتصحيحه مقابلة على الأصل وقراءة على مولانا وحجة عصرنا / مجدالدين بن محمد بن منصور المؤيدي أيده الله تعالى وأطال بقاه، وذلك في 21/جماد الأول سنة 1419هـ _ عبد المجيد بن عبدالرحمن بن حسن الحوثي، محمد بن علي عيسى الحذيفي، عبدالعزيز بن محمد الشاذلي، محمد بن ناصر الحذيفي، يحيى بن عبدالرحمن بن حسن الحوثي، وفقهم الله تعالى آمين، والحمد لله رب العالمين.
تم الكتاب
والحمد لله المنعم الوهّاب