الكتاب : الإصباح على المصباح المؤلف : الإمام الناصر إبراهيم بن محمد بن أحمد المؤيدي |
الاصباح على المصباح
في معرفة الملك الفتاح
تأليف الإمام الناصر لدين الله
إبراهيم بن محمد ين أحمد المؤيدي
(عليه السلام) ( ت: 1083هـ )
تحقيق السيد العلامة: عبد الرحمن بن حسين شايم
من إصدارات
مؤسسة الإمام زيد بن علي الثقافية
ص.ب. 1135، عمان 11821
المملكة الأردنية الهاشمية
www.izbacf.org
مقدمة المحقق
إن علم العقائد الذي هو علم التوحيد علم من أفضل العلوم، نطقت الآيات القرآنية بفضله، وصرحت الأحاديث النبوية بنجاة أهله، فالتوحيد ثمن الجنة كما ورد، فالظفر به من أجَلِّ الفوائد، ورد شبه المضلين من أعذب الموارد، وقد كثرت فيه الآراء، واتُّبعت فيه الأهواء، من فِرَقٍ ضلت سواء السبيل، واتبعت ثنيات الطريق، من ملاحدة ينكرون الصانع المختار، وسوفسطائي ينكر المشاهدات والضروريات، وفلسفي يثبت التأثير للعلل بالإيجاب ولا يبالي، وباطِني يقول بالسابق والتالي، وثنوي يقول بالنور والظلمة ويدين بالقديم الثاني، وبرهمي ينفي النبوة، وأشعري يقول بقدم المعاني، ومجسم يُشبِّه الله بالمحدثات، ويقول إن له تعالى أعضاء وجوارح وآلات، ومجبري يدين بأن الله يخلق أفعال العباد، وأنه تعالى يريد المعاصي ويرضى بالفساد وأنه لا يقبح من الله قبيح؛ لأنه رب أو غير منهي أو مالك، وأنه يفعل الفعل لا لغرض، وأنه يضل عن الدين ويأمر بالإيمان ويمنع منه، ويكلف مالا يطاق، وينهى عن الكفر ويخلقه ويزينه، ومرجئ يُغْري المكلفين بالمعاصي ويمنيهم بغفرانها، أو بخروجهم من النار إلى غير ذلك من المذاهب الردية التي انتحلتها فرق الضلال وبالغوا في نصرتها بالأعمال والأقوال، لذلك قام أئمة الآل الذين اصطفاهم الله وطهرهم وعصم جماعتهم، وأمر بالتمسك بهم اقتفاءً منهم للكتاب العزيز، فبنوا أصول عقيدتهم على الأدلة العقلية، ودعموا ذلك بالأدلة النقلية من محكمات آيات القرآن، وردوا المتشابه إلى المحكم، ونظروا إلى ما صح عن الرسول الأعظم ً موافقاً لأدلة العقول ومحكمات الآيات، فعزَّزوا به تلك الأدلة النيرات، وتصفحوا كلام باب مدينة العلم أمير المؤمنين ووصي رسول رب العالمين (صلوات الله عليهما وعلى آلهما) فهو أول المتكلمين ورأس الموحدين، فنسجوا على منواله، واحتذوا على مثاله، فزكت عقائدهم، وصفت مشاربهم، وكثرت مؤلفاتهم، وردوا على خصومهم، فأناروا السبيل
لطالب الحق، جزاهم الله عن الإسلام وأهله خيراً، وإنَّ من أحسن ما أُلِّفَ في هذا الفن هذا الكتاب الذي نُقدِّم له وهو الكتاب المسمى بـ(الإصباح)، فهو كتاب نفيس على صغر حجمه، قد جمع مؤلفه أمهات المسائل ولخص واضحات الدلائل، فهو تذكرة للمنتهي وتبصرة للمبتدئ، فهو اللباب، والعذب الخالص المستطاب، ولرجاء النفع به فقد قمت بتصحيح أصله وبتكميل الناقص منه، وبتعليقات وجيزة إكمالاً للفائدة، وبترقيم الآيات التي احتج بها المؤلف وبإشارات خاطفة حول تراجم رجاله، وليس عملي هذا كما يقوم به المحققون من أهل العصر، وإنما هو عبارة عن إخراج الكتاب إلى حيز الوجود.
ترجمة المؤلف
هذه نبذة يسيرة من ترجمة مؤلف كتابنا هذا (الإصباح على المصباح)، مأخوذة من الكتب التاريخية من كتاب (الأنوار البالغة شرح الدامغة) للعلامة: الحسن بن صلاح الداعي -رحمه الله- ومن (التحف شرح الزلف) للمولى العلامة: مجدالدين بن محمد بن منصور المؤيدي اليحيوي متع الله بحياته، ومن (طبق الحلوى وصحاف المن والسلوى) المطبوع باسم تاريخ اليمن لعبدالله بن علي الوزير -رحمه الله- قال في الدامغة:
والبدر ناصر دين الله سيدنا .... الناصر القوم إبراهيم خير ولي
سبط الأئمة من أبناء فاطمة .... من الوجود وعين الآل عن كمل
داعٍ أقام لأهل العلم دولته .... وفيه ألَّف عِلماً غير ذي خلل
وسلم الأمر مختاراً وقلده .... نجم الأئمة إسماعيل ثم خلي
وقال مولانا العلامة مجدالدين بن محمد المؤيدي حفظه الله:
وعارض إسماعيل ناصر ديننا .... إمام لأطراف الشمائل جامع
ثم قال في شرح هذا البيت في صفحة (158) الطبعة الأولى، وصفحة (335) الطبعة الثالثة: هو الإمام الناصر لدين الله: إبراهيم بن محمد الملقب (ابن حورية) بن أحمد بن عزالدين بن علي بن الحسين بن الإمام عزالدين بن الحسن -عليهم السلام- قام على نهج آبائه، مقتفياً أثر أسلافه، وكان ممن آتاه الله بسطةً في العلم، وردَّاه بجلباب الحلم، ثم نظر في إصلاح أمة جده فسلم الأمر للمتوكل على الله إسماعيل.
دعوته عليه السلام
سنة أربع وخمسين وألف، قبضه الله سنة ثلاث وثمانين وألف، وقد طلع بعد دعوته إلى جبل برط، وأقام فيه مدة، وله قصيدة في مدح أهله؛ لقيامهم بنصرة الأئمة من أهل البيت (عليهم السلام).
مؤلفاته
ومن مؤلفات الإمام الناصر: (الروض الحافل شرح متن الكافل) لابن بهران في أصول الفقه، و(شرح الثلاثين المسألة) في أصول الدين، و(قصص الحق المبين في حكم البغي على أمير المؤمنين)، و(شرح على هداية ابن الوزير) في الفقه، و(المسائل المهمة في المعمول عليه من أقوال الأئمة)، و(اللمعة الذهبية في بعض القوانين الخطية).
أولاده
عبدالله، ومحمد، ويحيى، وأحمد.
وقال العلامة الحسن بن صلاح الداعي -رحمه الله- في شرح أبياته: هو الإمام الكبير الخطير الشهير الناصر لدين الله: إبراهيم بن محمد بن أحمد بن عزالدين بن علي بن الحسين بن الإمام عزالدين بن الحسن -عليهم السلام- اليحيوي صاحب العلم الغزير الشهير، والقدر الخطير، فنذكر أولاً علمه:
فله في إحياء العلم على فنونه ما لم يكن لغيره من المتأخرين، حتى كان يقرأ في اليوم والليلة أربعة أدوال في العلم على فنونه، وله من المؤلفات كتاب تنقيح الأنظار في شرح هداية الأفكار أربعة مجلدات، وله شرح على الثلاثين المسألة واسمه (الإصباح على المصباح) وهو هذا الذي بين يديك.. وغير ذلك من المؤلفات، وله رسائل عجيبة، وجوابات على المسائل غريبة، وكان حسن السيرة صالح السريرة من المحل الأعلى في قدر العلماء الكبار، وفي التواضع والعبادة للحيِّ القيوم مع الإحسان إلى المسلمين، وإكرام الوافدين، والغلظة على الظالمين، والهيبة على الفاسقين.
دعوته عليه السلام
ودعى عقيب موت المؤيد بالله: محمد بن القاسم -عَلَيْهِ السَّلامُ- مع دعاة عدة، وكان الغلبة فيها وثبوت الإمامة للإمام المتوكل على الله: إسماعيل -عَلَيْهِ السَّلامُ.
ثم دعى الناصر لدين الله الدعوة الثانية لأسباب ثانية بينه وبين أجناد المتوكل على الله، وساق كلاماً وأورد التنحية الفصيحة وذكرها صاحب طبق الحلوى، ووجدتها بقلم الإمام -عَلَيْهِ السَّلامُ- ونقلتها في غير هذا الموضع.
ثم قال الحسن بن صلاح -رحمه الله-: وله أشعار فائقة وأقوال رائقة، منها القصيدة التي فعلها لما غدر به أبو طالب أحمد بن المنصور بالله بعد الأمان ودخوله إلى صعدة تحت المضلة وفوق الحصان بأمان مؤكد، وعقد مشدد في الدعوة الأولى فقال:
توكل على الرحمن في السر والجهر ... فأفراجه تأتيك من حيث لا تدري
ثم وصف الغدرة بقوله:
هم غدرونا تحت ظل بيوتهم ... وفوق قراهم لا رعى الله من يقري
ثم ساق كلاماً طويته طي البساط، ثم قال: فأحيا الله بعد تسليمه مدارس العلم، ونعش الشريعة بالحكم، ونفع الله المسلمين بذلك نفعاً ظاهراً، وتوفي إلى رحمة الله في شهر ربيع الآخر يوم عشرين من سنة ثلاث وثمانين وألف، وقُبِر في هجرة فلله في القبة الداخلية شامي الجامع إلى جهة الغرب، وفوق القبة الدار المطلة عليها، وهو مشهور مزور -سلام الله عليه- وتوفي في عَشَّة آل أبي الحصين فحُمِل ليلاً إلى هجرة فلله.
وقال في طبق الحلوى صفحة (113) من المطبوعة: ودخلت سنة ست وخمسين وألف، فيها أعلن السيد صارم الدين إبراهيم بن محمد بدعوته ودعى الناس إلى بيعته وهو من العلم بمكان، ومن المنصب بحيث لا يختلف اثنان.
من آل يحيى مساميح قساور في الـ ... ـهيجاء سنع الأسامي مسبلي الأزر
وله هناك أتباع وأعوان، قد حل منهم محل الروح من الأبدان، فهو أنفس عندهم من الزمرد الأخضر، وأعز على خواطرهم من الكبريت الأحمر، يُودِعون دراري فتاواه أصداف قلوبهم، ويحملون أثقال جِدابه على عيونهم فضلاً عن جنوبهم، كلامه أندى على قلوبهم من القطر، ومفاكهته ألطف على خواطرهم من مقاربة النهر بعيون الزهر، فبمجرد أن يشير يأتمرون، وعلى تقلب أنفاسه يميلون...إلخ.
وقد ذكره في حوادث سنة سبع وستين، وذكره في حوادث سنة ثلاث وثمانين.
قلت: ومن شعر المُتَرْجَم له القصيدة الفريدة التي أرسلها للإمام إسماعيل -عَلَيْهِ السَّلامُ- يحثه على تفقد طلبة العلم بالمشهد اليحيوي الهادوي بصعدة:
أمير المؤمنين فدتْك نفسي .... أتتك عروس فكر أي عرس
تذكرك المدارس كيف صارت .... لتدرك شمسها من قبل طمس
فإني قد رأيت العلم أشفى .... أما تشفيه قبل حلول رمس
وتدرك من مدينتنا حياة .... فليس الطب بعد خروج نفس
وتعمر من معالمها خراباً .... بأمر منك في منشور طرس
فأمرك والمهند في سواء .... وعدلك في الورى يضحي ويمسي
أما كانت ليحيى من قديمٍ .... مهاجر كل شيعي ورسي
وللمنصور يوم معين فيها .... مقام عند ربك غير منسي
به قامت جهابذة كبار .... بدعوته وفيها كل نطسي
وما زالت لعلم الآل فيها .... جبال شامخات ليس ترسي
ووقت أبي الحسين بها مئات .... أبوك لهم وسيطة عقد درس
فلو عينيك تنظر كيف صارت .... مدارسها دوارس مثل أمس
ومَنْ فيها من الطلاب يمسي .... يفكر كيف في تحصيل فلس
لأن حقوقهم صارت نهاباً .... وحظهم من الصدقات منسي
فهل يرضى إلهك مثل هذا؟! .... وقد ولاَّك ربي كل نفس
وحاشا أن تغاضى مثل هذا .... وأن ترضى بتطفيفٍ وبخْس
وترجمهُ العلامة عبدالرحمن بن حسين سهيل في كتابه بغية الأماني ترجمةً ممتعةً، قال في آخرها: وممن أخذ عنه ولده السيد الإمام الهادي: أحمد بن إبراهيم، وسيدنا أحمد بن علي شاوِر، والقاضي أحمد بن صالح بن أبي الرجال، وعدة من العلماء، وهو أخذ عن السيد صلاح بن أحمد بن المهدي -رحمه الله-، وعن غيره وأجازه الإمام المؤيد بالله إجازة عامة، وله كرامات منها: ما رواها عنه القاضي أحمد بن صالح بن أبي الرجال -رضي الله عنه- قال: حكى لي شيخي شيخ آل الرسول إبراهيم بن محمد المؤيدي (أسعده الله) قال: لما حججت إلى بيت الله لم أشعر إلا برجل جليل المقدار من العجم له بشارة حسنة، فسألني ما مذهبي؟ فأخبرته، فقال: يا مولاي رأينا علي بن الحسين وجماعة من آل محمد أظن أن منهم السبطين هذا ظنٌ مني أنا، قال: رأيت هؤلاء يصلون خلفك فعلمت أن الحق مع طائفتك، وطلب من السيد أن يضع له موضوعاً في الأصول والفروع ففعل.
وعلى الجملة فإنه كان من آيات الله الباهرة. الله أعلم حيث يجعل رسالاته. وتوفي في شهر ربيع آخر يوم عشرين منه سنة ثلاث وثمانين وألف، وكانت وفاته بالعَشَّة من مخاليف صعدة، فحُمِل بليلته تلك إلى هجرة فلله وقُبِر بها، وقيلت فيه المراثي منها ما رثاه بها الفقيه صلاح الدين صلاح بن حفظ الله -رحمه الله- وهي طويلة مطلعها:
هي المصيبة منها القلب في حرق .... والجسم من فيض دمع العين في غرق
هذا ولكن بدمع أو تفيض دماً .... لا أرتضى الجفن مالم يجر بالحدق
إلى أن قال:
كلٌّ حزين على مقدار همته .... وقدر ما قد دهانا جل لم يطق
لموت مَنْ كان نوراً تُستضاء به الـ .... آفاق وهو قد استعلى على الأفق
عجبت من جسم إبراهيم مهبطه .... في الأرض والروح في أعلى السماء رقى
إلى أن قال:
والله إنْ مات إبراهيم إنَّ به .... موت المحابر والأقلام والورق
انظر تصانيفه في العلم كيف أتت .... للآي والسنة البيضاء على نسق
خليفة الأنبياء والمرسلين فمن .... في المشكلات يرى الفتاح للغلق
كم في هُدى وضلال أُلبست أمم .... فكنت فارقتها يا مفتي الفرق
مَنْ للمساجد؟ بل من للمدارس؟ بل .... من للشريعة عن كيد الغواة يقي؟
من للمنابر يعلوها لموعظة .... إن يرقها غير إبراهيم لم ترق؟
... إلخ تركتها خوف الإطالة.
ورثاه القاضي العلامة الصدر المقول، صفي الإسلام والمسلمين: أحمد بن صالح أبي الرجال -رحمه الله- بهذه الفريدة الغراء فقال:
أجِدُّك أنَّ الدهر نابت نوائبه .... وشابت صفاء الصالحين شوائبه
وعُطِّل عن دست العلوم مليكه .... وسارت إلى جنات عدنٍ ركائبه
وفاض خِضَمُّ العلم وهو غمطمط .... وقد مليت بالطيبات مراكبه
وغابت شموس الفضل في وسط الضحى .... فعمَّت من الجهل القبيح غياهبه
أجل هذه أشراط يوم معادنا .... فمَنْ ذا الذي يلهو وتصفو مشاربه
فما بال رضوى لا يُدَك فهذه .... غريبة دهر ما تزال غرائبه
ألم يدر رضوى أنه مال شامخ .... رفيع يمس الزاهرات مناكبه
إمام علوم كان فرد زمانه .... إذا ذُكرت في العالمين مناقبه
أناف على الماضين في العلم والنهى .... كما سبقت في العالمين مناسبه
سليل رسول الله وابن وصيه .... ومن كرمت في الناسبين ذوائبه
عليم إذا تُملى العلوم تضايقت .... من الأفق الرحب الوسيع جوانبه
ففي النحو ما عمرو بن عثمان مثله .... وإن كَرِهَت ذا المدح فيه نواصبه
وعلم المعاني والبيان فسَعْدُه .... استقام على ساق وجاءت عجائبه
وعلم أصول الفقه فهو إمامه .... يرى منتهى التحقيق إن جاء طالبه
وعلم أصول الدين أبدى خفيَّهُ .... بمعراج تحقيق ولاحت كواعبه
وحقق في تفسير كل غريبة .... شكى من خفاها ثابت العقل ثاقبه
خرائد من علم الكتاب تحجبت .... فلمَّا أتى لم يُغلِقِ الباب حاحبه
ويملي حديث الآل حتى كأنما .... رأى ما حكى طه وما قال حاجبه
وأما فروع الفقه فاقتاد ركنها .... فجاءت بأنفال الفروع نجائبه
ونظم من هدي العلوم جواهراً .... ترى العقد منها كالنجوم ثواقبه
ولله ما أسنى الظلام إذا أتى .... بمحرابه والنور فيه يصاحبه
إلى أن قال:
يقطع ساعاتٍ من الليل تالياً .... ومدمع عينيه تفيض سحائبه
وإنَّ لنا من بعد غيبته ملاً .... مناصبهم في الصالحات مناصبه
بنوه أجل الناس قدراً ورتبةً .... إذا اجتمعت عُجم الورى وأعاربه
أضاءت لنا أحسابهم ووجوههم .... دجى الليل حتى نظَّم الجزع ثاقبه
يقول فتاهم حين يذكر مجدهم .... إذا دَبَّ مِن خِبٍّ إليهم عقاربه
وإني من القوم الذين هم هم .... إذا غاب منهم سيد قام صاحبه
نجوم سماءٍ كلما انقض كوكب .... بدا كوكب تأوي إليه كواكبه
انتهى المختار من هذه الفريدة، ولله در منشيها فهي تدل على خيم طاهر ومعتقد صالح، وولاء ظاهر.
وللإمام الناصر إبراهيم بن محمد -عَلَيْهِ السَّلامُ- أولاد كرام، منهم ولده الإمام الهادي لدين الله: أحمد بن أمير المؤمنين الناصر لدين الله إبراهيم بن محمد رضوان الله عليهم.
قال الحسن بن صلاح الداعي -رحمه الله- في الدامغة:
وسيف صارم دين الله أحمدنا الـ .... ـمرجو للخير والملحوظ بالمقل
...إلخ الأبيات.
قال في شرحها: هو السيد الإمام، والعلم الهمام، شمس الملة والإسلام، الهادي إلى الحق: أحمد بن إبراهيم بن محمد بن أحمد بن عزالدين -عَلَيْهِ السَّلامُ-، وقد مر ذكر أبيه -عَلَيْهِ السَّلامُ-، وكان هذا السيد آية زمانه خَلقاً وخُلقاً وعلماً وعملاً، كثير التواضع لحسن خلقه وخُلقه وكرم طبعه، تام الخلقة، من سمع بصفات النبي ً توسمها فيه، لا يدانيه في كرمه في زمانه أحد، ولا ينازعه في جوده في حياته وبعد وفاته من أتهم ولا من أنجد، كان يستدين الديون الكثيرة مع نذوره الواسعة الغزيرة حتى مات، إلى أن قال: ورقى في مراقي العلم ما لم يرقَ فيها غيره، وشرح على متن الأزهار أوراقاً قليلة عاقه عن إتمامها اشتغاله بترادف المحن ومشقة الزمن، وتوفي -رحمه الله- في شهر ربيع الأول سنة 1099هـ. تسعة وتسعين وألف هجرية، وهو في قدر ثمان وأربعين سنة أو تسع وأربعين، وقبره في عشة أبي الحصين بقبلة المسجد المسمى (مسجد غافل)، وهو من الدعاة الذين دعوا بعد موت المتوكل على الله إسماعيل، ومن المعاصرين له، وتكنى بالهادي إلى الحق وبقي أياماً على دعوته وتنحى للإمام القاسم بن محمد..، إلخ كلامه.
ثم ذكر وفاته ومرثاته التي مطلعها:
دعواك أنك محرق لا تسمع .... أبداً وأنت على الأرائك تهجع
وذكر ولده محمد بن أحمد بن إبراهيم، ووفاته بعد وفاة والده في شهر صفر سنة اثنتين ومائة وألف، وذكر بقية أولاد الإمام الناصر إبراهيم بن محمد -عَلَيْهِ السَّلامُ- وهم: محمد بن إبراهيم، ويحيى بن إبراهيم، وإسماعيل، وحسن، وعبدالله -رحمهم الله- وإيانا وألحقنا بهم صالحين.
وبهذا ينتهي ما أردناه والحمد لله رب العالمين وصلى الله وسلم على سيدنا محمد وآله.
………بقلم المفتقر إلى الله: عبدالرحمن بن حسين شايم. وفقه الله.
مدخل
الحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على سيدنا محمد الأمين وعلى آله الطاهرين.
وبعد: فيقول المفتقر إلى رحمة الله وعفوه عبدالرحمن بن حسين شايم المؤيدي أيده الله وثبته في الدارين: إن الله وله الحمد يسر لنا الاطلاع على عِلْق نفيس يتنافس فيه المتنافسون، ويرغب في اقتنائه وتحصيله المحصلون، ألا وهو (شرح مصباح العلوم) المعروف بالثلاثين المسألة للرصاص، ذلك الشرح الذي تنشرح به الصدور، لمؤلفه الإمام علم الأعلام حجة الله على الأنام الناصر لدين الله: إبراهيم بن محمد المؤيدي اليحيوي، بل الله بوابل الرحمة ثراه، وجعل الجنة مقره ومثواه، فوجدته شرحاً قد حوى من مسائل علم الكلام وأدلتها ما يشفي الآوام، ومِنْ حَلِ شِبَهِ الخُصُوم ورَدِّ أقاويلهم الباطلة فوق ما يُرام، مع إيفاء المطالب في إيجاز، وبلاغة تكاد أن تقارب حد الإعجاز.
ولما كانت النسخة التي عثرت عليها هي مسودة التأليف -أعني نسخة الإمام بخط يده- رأيت أن من الصواب إخراجها ونسخها، ثم رسمها ونشرها لتخرج إلى رواد علم الكلام؛ لأن ذلك من المعاونة على البر.
ولكون النسخة المشار إليها قد اخترم من أولها خطبة الكتاب وسقط من أصل المسائل بعض صفحات، من المسألة الأولى بعض الرد على أهل النجوم، والمسألة الثانية (مسألة قادر بكمالها) وبعض (مسألة عالم) فقمت بإكمال ذلك النقص لتمام الفائدة، فإن سهل الله تعالى بنسخة كاملة، وصلنا كلام المؤلف بعضه ببعض، وإلا فليس لي من قصد إلا إفادة الطالب والأجر من الله تعالى.
وأول كلام الإمام عَلَيْهِ السَّلامُ دعاءه للشارح المحقق بقوله عَلَيْهِ السَّلامُ:
عمر الله به ربوع المدارس وقوَّم به أركان العلم الدارس، فشفى بشرحه عليل مهج الصدور، وأزرى بمقاله حسن كل مصدور، وجمع من علوم الآل شتاتاً، وزخر بحره أبلج عذباً فراتاً، لكن لما تقاصرت الهمم كادت أن تغرق الأفهام في تلك الأمواج، ولتشعب الأقوال عليهم لم يؤمن عدم اهتدائهم إلى المنهاج، فدعتني الهمة القاصرة إلى تعليق مختصر يكون وافياً، وندبتني الخواطر الفاترة إلى تبيين مقاصد المختصر تبييناً شافياً من غير تطويل ممل، ولا اختصار مخل، ولا انتحال شيء من الأنظار، بل أخذته من أقوال النظار، فإن جاء حسناً فلفضل المتقدمين، وإن غير ذلك فلقصوري الواضح المبين، ومن الله أستمد الهداية وأستعينه في البداية والنهاية، إنه ولي ذلك والقادر على ما هنالك:
قال المصنف مبتدئاً: (بسم الله الرحمن الرحيم) أي بسم الله أبتدئ تأليف هذا الكتاب، ومعناه أستعين على ذلك بالتسمية؛ ليمنها وبركتها، فالباء للاستعانة، ويقدر الفعل متأخراً عنها لإفادة الاختصاص، والبداية بالبسملة لدليلين: عقلي، وسمعي:
أما العقلي: فلما تقرر في العقول من وجوب شكر المنعم والاهتمام به ضرورة، والثناء باللسان هو أحد شعب الشكر، فلا يظهر الاهتمام إلا بالتقديم.
وأما السمع: فلما ورد في الكتاب العزيز نحو:{بِسْمِ الله مِجْرَاهَا} [هود:41] {إِنَّهُ مِنْ سُلَيْمَانَ وَإِنَّهُ بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ}[النمل:30] وقال ً: ((كل أمرٍ ذي بال لم يذكر اسم الله عليه فهو أجذم)) وقيل: أبتر، وقيل: خداج، روته عائشة، وقد حسنه بعض الحفاظ، والمعنى بذلك منزوع البركة.
وفائدة إقحام لفظ اسم ما في ذلك من التعظيم لله عز وجل حيث كان من التيمن باسم الذات، فكيف بالذات؟ و(الله) اسم للواجب الوجود جل وعلا الحقيق بجميع المحامد، و(الرحمن) إسم لذلك الجلال شرعاً، و(الرحيم) كذلك، فهما حقيقتان دينيتان عرفيتان منقولتان من وصف للمبالغة.
اعلم: أن من ألَّف مُؤلفاً ينبغي له أن يقدم مقدمة تُعين الطالب، ويكون بها على بصيرة، وبعضهم يذكر فيها تعريف العلم وموضوعه وغايته واستمداده وحكمه، وبعضهم يقتصر على الحد، ونحن نذكر تعريفه واستمداده والغرض منه وفائدته.
أما تعريفه: فهو علمٌ يعرف به كيفية الاستدلال على واجب الذات وما له من الصفات.
واستمداده من العقل بواسطة النظر في الآثار من أدلة الأنفس والآفاق، كما قال تعالى: {سَنُرِيهِمْ آيَاتِنَا فِي الآفَاقِ وَفِي أَنْفُسِهِمْ}[فصلت:53] وكذلك النظر في كتاب الله عزوجل، وما صح عن رسوله كما جاء في الحديث المرفوع: ((مَنْ أخذ دينه عن التفكر في آلاء الله والتدبر لكتاب الله والتفهم لسنتي زالت الرواسي ولم يزل، ومن أخذ دينه عن أفواه الرجال مال به الرجال من يمين إلى شمال وكان من دين الله على أعظم زوال)) والغرض منه الفوز بالسعادات الباقيات الدائمات.
وفائدته: التمسك بأصل عُرى الإيمان لمعرفة الملك الديان، وهو العلم به، وما يجب له ويجوز عليه، وما يتوسط في أثناء ذلك من الزيادات لرابطة مَّا.
ثم اعلم: أن كل علمٍ يشرف بشرف معلومه، ويعظم نفعه بحسب الحاجة إلى مفهومه، فمن هنا كان علم التوحيد رأس العلوم؛ لأن معلومه الله الحي القيوم، ولأنَّ به يتميز الكفر من الإيمان، وعليه يدور رحى الحق في كل زمان، وقد حكم بوجوبه وجلالته العقل، وجاء بتأكيد ذلك القول الفصل، قال تعالى: {فَاعْلَمْ أَنَّهُ لاَ إِلَهَ إِلاَّ اللَّهُ}[محمد:19] وقال: {شَهِدَ اللَّهُ أَنَّهُ لاَ إِلَهَ إِلاَّ هُوَ وَالْمَلاَئِكَةُ وَأُوْلُوا الْعِلْمِ قَائِمًا بِالْقِسْطِ}[آل عمران:81] وإنما تكون الشهادة عن يقين، وأهل الأصول هم المعنيون بهذه الآية المخصوصون بشرفها، وردَ عنه ً : ((ما جزاء من أنعم الله عليه بالتوحيد إلا الجنة)) رواه الإمام عزالدين -عَلَيْهِ السَّلامُ-.
ومن هنا (اعلم أن أول ما يجب على المكلف) قيل المكلف: هو من أُعلم بوجوب بعض المقدورات عليه، وقبح بعضها منه مع مشقة تلحقه في الفعل أو الترك، أو أحدهما، أو في سبب ذلك، أو ما يتصل بذلك مالم يبلغ الحال حد الإلجاء.
فقوله:( أُعْلِمَ): ليدخل الكفار، فإنهم أُعلِموا، وإن لم يعلموا أنهم مكلفون، وقوله: (مع مشقة في الفعل) للاحتراز عن أهل الجنة، ومن عَلِمَ ذلك ممن لا تكليف عليه كالصبيان، وقوله: (أو في سبب ذلك) كالعلم بالله فالمشقة في سببه، وهو النظر، وقوله: (وما يتصل بذلك) نحو حراسة الفعل من نحو الرياء، وإن كان الفعل لا مشقة فيه، وقوله: (مالم يبلغ حد الإلجاء) احتراز عن المحتظر وأهل الآخرة، وهذا على القول بأن الإلجاء يُجَامِعُ الوجوب، وإلا فلا حاجة إلى القيد عند من قال: بأنه لا يُجَامِعُه إذ قد خرج من قوله: (مع مشقة تلحقه في الفعل) فمن جمع هذه الشروط فالواجب عليه (هو النظر) وهو النظر الفكري. وحقيقته: المعنى الذي يولد العلم عند تكامل شروطه، إذ لفظ النظر مشترك بين معانٍ هذا أحدها.
والثاني: نظر العين نحو: نظرت إلى الهلال فلم أَرَه، وقد قيل في تحقيقه: فتح الجفن الصحيح الحدقة إلى حيث تقع الرؤية للمرئي، أو القصد لرؤيته إذا لم يُر.
وثالثها: نظر الرحمة، وحقيقته: إرادة حصول منفعة للغير أو دفع مضرة عنه نحو: {وَلاَ يَنْظُرُ إِلَيْهِمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ}[آل عمران:77].
ورابعها: نظر المقابلة وهو تحاذي المتحيزين نحو: داري تنظر إلى دار فلان.
وخامسها: نظر الانتظار، وحقيقته: التوقع لحصول أمر في المستقبل خيراً كان أو شراً نحو قوله تعالى: {فَنَاظِرَةٌ بِمَ يَرْجِعُ الْمُرْسَلُونَ}[النمل:35] والنظر الفكري المراد هنا نحو: {قُلِ انْظُرُوا مَاذَا فِي السَّمَاوَاتِ}..الآية [يونس:101] ومحله القلب.
قال المهدي: بلا خلاف بين من أثبته معنى، والقول بوجوب النظر وأنه فرض عين على كل مكلف هو قول القاسم والهادي وغيرهما من عامة الآل.
وقال (م بالله) والإمام عزالدين وغيرهما من الآل: يجوز حصول العلم ضرورة لبعض الأنبياء ونحوهم، ولعل من ذلك ما وقع لعيسى -عَلَيْهِ السَّلامُ- حيث قال: {إِنِّي عَبْدُ اللَّهِ آتَانِي الْكِتَابَ}[مريم:30] وهو في تلك الحال ليس من أهل النظر قطعاً، وبهذا جزم الإمام (ي) -عَلَيْهِ السَّلامُ- فلا يجب النظر على هؤلاء، وكذا لا يجب النظر عند من قال بجواز التقليد في الأصول كأبي القاسم وأبي إسحاق بن عياش وغيرهما، ولا يجوز عند من قال إن النظر يؤدي إلى الشك والحيرة، وكذا لا يجب عند أهل التكافؤ القائلين بأن الأدلة متكافئة، وعند أهل السمع القائلين بأنه لا طريق إلى العلوم الدينية إلا السمع، وأهل الظن وأهل البدعة القائلين بأن الإسلام لم يرد إلا بالسيف وأن النظر بدعة.
وإنما قال: من سبق بوجوبه عقلاً لأمرين: أحدهما: أنه (المؤدي) أي الموصل (إلى معرفة الله وهي) أي معرفة الله الإجمالية (واجبة) عقلاً على كل مكلف من غير شرط، وذلك لأجل القيام بواجب شكره تعالى على ما أنعم، وشكره واجب عقلاً، إذ شكر المنعم مركوز في العقول حُسْنُ القيام به ووجوبه، وجهل المنعم بكل وجه يستلزم الإخلال بشكره على المنافع الواصلة إلينا (ولا طريق للمكلفين إليها سواه) أي النظر، لامتناع أن يُعَرفْ الله بالبديهة، وإلا لما اختلف العقلاء فيه (ولا [ظ]) بالمشاهدة، وإلا لشاهدناه الآن، ومعلوم أنا لا نشاهده و (لا[ظ]) بالأخبار المتواترة، إذ من شروطها الاستناد إلى محسوس، وقد استحال، فلم يبق سبيل إلى معرفته تعالى إلا النظر، (ومالا يتم الواجب) الذي هو مشروط كالمعرفة (إلا به يكون واجباً كوجوبه) وإلا وقع الإخلال بالواجب، وقد قضى العقل بقبحه، وذهب كثيرٌ من المعتزلة وجماعة من الأئمة إلى أن الوجه لوجوب المعرفة كونها لطفاً في واجبات عقلية، قيل: عملية من رَدِ وديعة وشكر منعم ونحو ذلك.
فإنَّ مَنْ عرف أنَّ له صانعاً إن عصاه عذبه، وإن أطاعه أثابه كان أقرب إلى فعل الطاعة، وترك المعصية فتجب؛ لأنها جرت مجرى دفع الضرر عن النفس، ودفعه واجب، وإنما جرت مُجراه؛ لأنها تدعو إلى فعل الواجب وترك القبيح، وبهما يندفع الضرر فقد قَربَّت إلى ذلك.
قالوا: لأن شكر المنعم لا يجب إلا بعد معرفته، ومعرفة إحسانه وتحصيل شرط الواجب ليجب لا يجب؟
والجواب: أنا لا نسلم عدم وجوب تحصيل شرط الواجب، بل يجب إن لم يرد الأمر مشروطاً به، والأمر الآخر الدال على وجوب النظر عقلاً إفحام الرسل لو لم يجب إلا سمعاً كما ذلك مذهب البعض، بيانه أن الرسول إذا قال لمن يخاطبه: انظر في معجزتي كي تعلم صدقي، فله أن يقول: لا أنظر حتى يجب النظر، ويكون هذا القول حقاً لا سبيل للرسول إلى دفعه، وهذا حجة عليه وهو معنى الإفحام، وللمخالف معارضة وتحقيق، وقد كفى في الرد عليهم علماء العدل، والغرض الإشارة لا التطويل.
فائدة: معنى قولهم: النظر أول واجب أنه لا يَعْرَى المكلف عن وجوبه عند ابتداء تكليفه بخلاف سائر الواجبات، فإنه قد يعرى عنها نحو قضاء الدين ورد الوديعة وشكر المنعم؛ لأنه قد يخلو عن الدين، وعن الوديعة، وعن نعمة غير الله، وأما نعمة الله فهو وإن لم يَعْرَ عنها في حال لكنه لا يجب عليه شكرها حتى يعرفه، وهو في أول تكليفه غير عارف فلا يلزمه الشكر، فظهر لك أنه قد يعرى في أول تكليفه عن جميع الواجبات ما خلى النظر فإنه لا يعرى عنه، ولما كان كذلك وُصِفَ بأنه أول الواجبات وليس بأولها في كل حال بل عند عُرو المكلف عمَّا عداه من الواجبات، والذي حملهم على الإطلاق المبالغة في الحث عليه والاهتمام به.
(باب إثبات الصانع)
أي اعتقاد ثبوته، وقوله: (وذكر توحيده) من باب عَطْف العام على الخاص، وهو وارد مثل قوله تعالى: {فَإِنَّ اللَّهَ هُوَ مَوْلاَهُ وَجِبْرِيلُ وَصَالِحُ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمَلاَئِكَةُ}[التحريم:4] ووجه ذلك هو التنبيه على أن إثبات الصانع هو أصل باب التوحيد.
وجعل ذكر التوحيد (وذكر عدله ووعده ووعيده) باباً واحداً تقريباً وتسهيلاً للمبتدئ، وإلا فالتوحيد باب، والعدل وما يلحق به كذلك، والوعد والوعيد باب.
(واعلم أن) ما يجب على المكلف من (المهمات) في صفة اعتقاده (من) فن (أصول الدين ثلاثون مسألة) في التوحيد عشر، وفي العدل وما يتبعه عشر، وفي الوعد والوعيد وما يتصل بذلك عشر، وإنما قدم التوحيد على العدل؛ لأن بعض مسائله دالة على بعض مسائل العدل، وباقي مسائله تابعة ودليل الشيء مقدم عليه.
وأيضاً: فإن التوحيد كلام في ذاته تعالى وصفاته، والعدل كلام في أفعاله، ومهما لم تُعلم ذاته وصفاته لم تُعلم أفعاله.
وقدّم العدل على الوعد والوعيد؛ لأن في بعض مسائله دلالة على مسائل الوعد والوعيد، ولأن من جملة مسائل العدل إثبات كون القرآن كلام الله، والوعد والوعيد كلام في أنه قد وعدنا فيه وتوعدنا، وأنه لا يُخلفُ الوعد والوعيد، ولا يمكن أن نتكلم في أنه وعد ووعيد، وأنه لا يخلفه حتى نعلم كون القرآن كلامه، وألحقت سائر مسائل العدل بمسألة القرآن اتباعاً؛ لأنهما من بابٍ واحد.
باب التوحيد
قال القرشي: هو في اللغة: عبارة عن فعل ما يصير به الشيء واحداً انتهى.
يقال: وَحَّد الشجرة إذا فعل فعلاً تبقى به واحدة كقطع أغصانها، وإبقاء أصلها، وفي عرفها: هو الخبر عن كون الشيء واحداً.
وفي اصطلاح المتكلمين: هو العلم بالله تعالى، وما يجب له من الصفات، وما يستحيل عليه منها، وأنه لا ثاني له يشاركه في ذلك الحد الذي يستحقه.
وقال علي عَلَيْهِ السَّلامُ لما سُئِلَ عن حد التوحيد: (هو أن لا تتوهمه) ومعناه: أن كل ما خطر ببال ذوي الأفكار فبمعزل عن حقيقة ملكوته، وجميع ما تنعقد عليه ضمائر أولي الأبصار فعلى خلاف ما ذاته المقدسة عليه من نعوت جبروته، لا تدرك كنه عظمته الأفهام، ولا يبلغ شأو كبريائه الأوهام، جلَّ عما يجول به الوسواس، وعظم عما تُكَيِّفه الحواس، وكَبُر عما يحكم به القياس، إن قيل: أين؟ فهو سابق للمكان، أو قيل: متى؟ فهو سابق للزمان، أو قيل: كيف؟ فقد جاوز الأشباه والأمثال، وإن طُلِب الدليل عليه فقد غلب الخبر العيان، وإن طلب البيان فالكائنات بيان وبرهان؛ فهو تعالى بخلافها في الذات والصفات، وهو الوصف الذي به التمايز بينه وبين العوالم، وإن اختلفت العوالم في صفةٍ فإنها توافق في أخرى؛ فهو تعالى بخلاف الأشياء كما أشار إليه القاسم -عَلَيْهِ السَّلامُ- ذكر ذلك بعض العارفين. ويشتمل هذا الباب على عشر مسائل:
(المسألة الأولى: في أن لهذا العالم صانعاً صنعه ومدبراً دبره)
ولا كلام في وجوب تقديم هذه المسألة على سائر مسائل الإثبات؛ إذ الكلام على كل واحدة منها لا يتأتى إلا بعد تحقيق هذه المسألة، فإنه قد تقرر وثبت أنه لا يمكن العلم بالحال إلا مع العلم بالذات.
والمراد بالعالم: المخلوقات من السموات والأرض والحيوانات وغيرها، قال الجوهري: العالم الخلق، والجمع العوالم، والعالمون أصناف الخلق.
وقد اختلف أصحابنا هل من العقلاء من ينكر أن للعالم مؤثراً، ويزعم أنه حاصل لا عن تأثير مؤثر، ولا يوجد في ذلك مخالف على الجملة، وإنما الخلاف في التفصيل، والذي عليه الجمهور: أن الخلاف واقع في المؤثر جملة، كما أنه واقع فيه تفصيلاً، وأن من الناس من لم يثبت مؤثراً قط فقد رويَ نفي المؤثر عن الملحدة، والدهرية، والفلاسفة المتقدمين، والطبائعية، والذي عليه أهل الإسلام والكتابيون والبراهمة وبعض عُبّاد الأصنام، وهم فرقة أقرت بالله وبالبعث وبالرسول، وعبدوا الأصنام معتقدين أن عبادتهم تقربهم إلى الله تعالى أن لهذا العالم صانعاً مختاراً.
(والدليل على ذلك) المذهب الصحيح الذي هو مذهب أهل الإسلام ومن تابعهم من وجوه كثيرة، اعتُمد منها على دلالة الأكوان وطريقة الدعاوي، وأول من حررها ولخصها قيل: أبو الهذيل وتابعه عليها مَن بعده من المعتزلة.
وذكر الشيخ أحمد بن محمد الرصاص: أن أول من أشار إليها إبراهيم -صلى الله عليه- كما حكى الله عنه في آية الأفول، وهو (أن هذه الأجسام) على تنوعها من حيوان وجماد، ونام وغير نام (محدثة) والمحدث: هو الموجود الذي لوجوده أول (والمحدث لا بد له من محدث) وقالت الدهرية: بل هي قديمة لم يسبق وجودها عدم، ولا يخالفون في تراكيبها كالحوادث اليومية أنها محدثة (والذي يدل على) إبطال مذهبهم (أن هذه الأجسام محدثة أنها لم تخل من الأعراض المحدثة) ولم تتقدمها، وما لم يخل من المحدث ولم يتقدمه فهو محدث مثله، وهذه الدلالة مبنية على أربع دعاوٍ وهي: أن في الجسم أعراضاً غيره، وأنها محدثة، وأن الجسم لم يخل منها ولم يتقدمها، وأن مالم يخل من المحدث ولم يتقدمه فهو محدث، فهذه أربع.
أما الأولى: وهي أن في الجسم عرضاً غيره، والعرض في اللغة: هو ما يعرض في الوجود ويقل لبثه.
وفي الاصطلاح: الحادث الذي لا يشغل الحيز، وهذا العرض هو غير الجسم عند مثبتي المعاني.
وأما من جعله صفات كأبي الحسين فلا يجعله غيره بل في حكم الغير، وهذا مذهب الجمهور.
وقال حفص الفرد وجماعة من الفلاسفة وغيرهم: لا عرض في الجسم، وهؤلاء هم المعروفون بنفاة الأعراض.
وذهب أبو الحسين وابن الملاحمي والإمام يحيى إلى نفي المعاني وجعلوا الأعراض صفات للجسم بالفاعل.
وقد قيل: أن نفات الأعراض لا ينفون الصفات إذ هي ضرورة فيكون مذهبهم ومذهب أبي الحسين ومن معه مذهباً واحداً.
قال ابن زيد: ومذهب أبي الحسين مذهب القاسم والهادي، لنا على ثبوت الأكوان (التي هي الحركة والسكون والاجتماع والافتراق) أن الأجسام اتفقت في الجوهرية والتحيز والوجود، ثم افترقت في الحركة والسكون والاجتماع والافتراق، فلا بد أن يكون ما افترقت فيه، أمراً زائداً على ما اتفقت فيه، وإلا كانت متفقة مختلفة في أمر واحد وهو محال.
وأما الدليل على إثبات المعاني وأن هذه الصفات موجبة عنها: هو أن الجسم حصل في جهة مع جواز أن يحصل في غيرها، والحال واحدة والشرط واحد، فلا بد من أمر له حصل كذلك، وذلك الأمر ليس إلا وجود معنى، والمراد بالحال ههنا: ما يصحح الصفة المعنوية وضدها، أو ما يجري مجرى ضدها إن كان، وذلك كالتحيز مثلاً فإنه المصحح لكونه مجتمعاً ولكونه مفترقاً، ونريد بالشرط ههنا: ما كان مصححاً لهذه الحال وتحرير هذا الدليل في المطولات والغرض الاختصار.
وأما من قال: إنا لا نعقل إلا الصفات كأبي الحسين وغيره: فنقول: الحاصل لا يخلو إما أن يكون جسماً أو معنى أو صفة، لا يجوز أن يكون جسماً لوجهين: أحدهما: أن الواحد منا ليس بقادر على الجسم ولا يقف على اختياره، وكون الجسم متحركاً يقف على اختيارنا.
الثاني: أن كون الجسم متحركاً يتجدد ثبوته في حال بقائه، ولا يجوز أن تكون معاني؛ لأن المعاني تعلم على انفرادها، وكون المتحرك متحركاً لا يعلم على انفراده، وإنما يعلم تبعاً للعلم بذي الإحتراك، فلم يبق إلا أنه صفة.
وأما الدعوى الثانية: وهي أن الأعراض محدثة فقد خالف في ذلك فرقة من الفلاسفة زعموا أنها قديمة، ولكنها تكمن وتظهر، وهؤلاء هم أهل الكمون والظهور، قلنا: الدليل على حدوثها أنها تعدم والقديم لا يعدم، أما أنها تعدم، فلأنه متى سكن الجسم المتحرك عدمت الحركة التي كانت فيه، والعكس، وإنما قلنا: أنه عدم؛ لأنه لا يخلو إما أن يكون باقياً فيه مع وجود ضده، أو منتقلاً منه إلى غيره، أم معدوماً كما نقول لا يصح أن يكون باقياً، إذ لو كان باقياً مع وجود ضده لكان الجسم متحركاً ساكناً مثلاً في حالة واحدة، وهو محال إذ المعاني توجب الصفات لما هي عليه في ذاتها، فيلزم أن توجبها في كل أو قات وجودها إذ لا اختصاص لذلك بوقت دون وقت، ولا يصح أن يكون المعنى منتقلاً، وإلا لكان العرض منتقلاً، وانتقاله محال؛ لأنه إن أريد بالانتقال ما هو المعقول من أنه تفريغ جهة وشغل أخرى فهو إنما ثبت في المتحيزات وبه تتميز عن غيرها، والأعراض ليست بمتحيزة وإلا لم يصح اجتماع الأعراض الكثيرة في المحل الواحد.
وإن أريد بالانتقال أن تحل محلاً آخر غير محلها الأول فهو لا يصح؛ لأن حلول العرض في المحل المعين له كيفية في وجوده، وكيفية الوجود لا تفارقه، فلم يبق إلا أن يكون معدوماً، وأما أن القديم لا يعدم، فلأن جواز القدم ينافي وجوب الوجود ويقتضي أن الموجود والمعدوم على سواء في الجواز، وإذا كان كذلك لم يكن الوجود أولى من العدم إلا بمخصص والمخصص باطل.
وأما الدعوى الثالثة: وهو أن الأجسام لم تخل من الأعراض المحدثة ولم تتقدمها في الوجود، والمراد بالأعراض التي لم يخل منها الجسم الأكوان الخمسة وهي: الحركة، والسكون، والاجتماع، والافتراق، والكون المطلق، وأما ما عداها من الأعراض فهي على ضربين: ضرب غير باق فيجوز خلو الجسم عنه قبل وجوده وبعد وجوده، وذلك كالصوت والاعتماد. وضرب باق، فيجوز خلو الجسم عنه قبل وجوده في الجسم، فإن وجد لم يجز خلوه عنه إلاَّ لأمر يرجع إلى الجسم وذلك
كاللون فإنه يجوز أن لا يوجد الله في الجسم الذي خلقه لوناً، وإن أوجد سواداً مثلاً لم يجز أن يخلو ذلك الجسم عن جنس من أجناس اللون، وإن جاز خلوه من السواد، فإذا تحققت هذا فالذي لا يخلو عنه الجسم هو الكون المطلق الحاصل حالة حدوثه، وما عداه فقد تقدم الجسم عليه وإن أمكن الاستدلال به على حدوث الجسم؛ لأن الجسم لم يسبقه إلا بوقت واحد، وقد خالف في ذلك فرقة من الفلاسفة فقالوا بالأكوان وأنها محدثة، إلا أنهم قالوا: إن أصل العالم متغير عنها ثم حصلت بعد ذلك.
وقالوا: إن هيولى الجسم قديمة خالية عن العرض حتى حلتها الصورة، ويريدون بالهيولى أصل الشيء المُنزَّل منزلة الطين من اللَّبنِ، وبالصورة ما يحصل من التركيب المنزل منزلة التربيع منه.
قلنا: إن الجسم لا يحصل إلا في جهة بالضرورة فيما نشاهده وبجامع التحيز فيما غاب عنا، ولسنا نعني بالكون أكثر من حصوله في الجهة، ولكن التسمية تغير عليه فيسمى سكوناً إن لبث به الجسم أكثر من وقت واحد، أو حركة إذا انتقل به، واجتماعاً إذا وجد مع الجوهر غيره وكان بالقرب منه، وافتراقاً إذا كان ذلك الغير بالبعد منه.
وأما قولهم: بالهيولى والصورة فإنه باطل؛ لأنهما غير معقولين ولا طريق إليهما، ولأنهما إذا كانا قديمين غير متحيزين لم يكن أحدهما بأن يكون هيولى والآخر صورة، ولا بأن يكون حالاً والآخر محلاً أولى من العكس لاشتراكهما في القدم.
وأما الدعوى الرابعة (و) هي: (أن مالم يخل من المحدث ولم يتقدمه في الوجود فهو محدث) فقيل العلم بها ضرورة، وقال بعض العلماء: بل هي استدلالية فتحتاج إلى النظر والاستدلال.
وزعم ابن الراوندي والفلاسفة: أنَّ الجسم قديم وهو لم يخل من الأعراض المحدثة بأن يحصل في الجسم حادث قبله حادث إلى مالا أول له، والجسم وإن قارن جملة الحوادث فلا أول لها، فكذلك لا أول له، وقولهم بحوادث لا أول لها ظاهر الفساد؛ لأنه إذا كان كل واحد من هذه الحوادث له فاعل كما سيأتي، وحق الفاعل أن يتقدم على فعله كان في ذلك تقدمه على جميعها، فلا يستقيم حصول شيء منها فيما لا أول له لتقدم غيرها عليها.
(فثبت) بما تقرر من الأصول الأربعة (أن هذه الأجسام محدثة) وظهر بطلان قول من قال بقدمها.
قيل: (و) قد اتفق العقلاء على أنه لا بد من محدث لهذا المحُدَث، قيل: والعلم بذلك ضروري، المهدي أحمد بن يحيى: بل استدلالي في الأصح، وإليه ذهب الجمهور والمؤلف فقال: (والذي يدل على أن المحدَث لا بد له من محدِث أنه) قد وجد في بعض المحدثات ما فيه إحكام عظيم، وصنعة باهرة، وإتقان عجيب، فلو كان ذلك لا من مؤثر، أو من موجب لصح أن يجتمع ألواح في البحر، ويتركب منها سفينة محكمة من دون صانع بطبع تلك الألواح، وأيضاً فإن الجسم (إذا كان في الأصل معدوماً، ثم خرج من العدم إلى الوجود لم يكن بد من مُخْرِجٍ أخرجه، وإلا لوجب بقاؤه على عدمه الأصلي) إذ قد أثبتنا وجوده بالأدلة بعد أن لم يكن (وذلك يُعَلمُ بأدنى نظر) ولذلك ادعى بعضهم أنه ضروري كما سبق.
وإنما قلنا: أنه استدلالي؛ لأنه لو كان ضرورياً لكان بديهياً؛ لأن الضروري الحاصل عن طريق ليس إلا عن المشاهدة، أو الأخبار المتواترة، أو عن الخبرة والتجربة على قولٍ، ولا شيء من هذه الطرق حاصل ههنا، ولو كان بديهياً أيضاً لاشترك العقلاء فيه، وفيه خلاف ثمامة فإنه يقول: لا محدث للمتولدات مع اعترافه بحدوثها، وعوام الملحدة يقرون بحدوث الدجاجة والبيضة ولا يقرون بمحدث، وكذلك سائر الحوادث اليومية.
(فثبت) بما تقرر من الأدلة (أن لهذا العالم صانعاً صنعه، ومدبراً دبره وهو الله) وفيه مخالفة الفلاسفة القائلين بالعقول والأنفس، والباطنية القائلين بالسابق والتالي، وأهل الطبع وأصحاب النجوم، لنا: أنها إما أن تكون أحدثت نفسها أو غيرها، والأول باطل؛ لأنها حالة العدم يستحيل أن تقدر فضلاً عن أن تؤثر في نفسها، وحالة الوجود تستغني عن المؤثر، وإن أحدثها غيرها فهو إما مختار كما نقول، أو موجب، الثاني باطل؛ لأن ذلك الموجب إن كان محدثاً عاد الكلام في محدثه حتى ينتهي إلى المختار، وإن كان قديماً لزم أن تحصل الأجسام دفعة واحدة في جهة واحدة، بل في كل الجهات؛ لأنه لا يخصها بوقت دون وقت، وجهة دون جهة إلا المختار، ويلزم أن تكون لصفة واحدة؛ لأنه ليس بعضها بأن يوجب كون الماء ماءً والطين طيناً أولى من العكس، ولا بأن يوجب كون الماء رطباً والطين يابساً أولى من العكس.
فإن قال: إنما لم توجب في الأزل لحصول مانع أو فقد شرط.
قيل له: ذلك المانع إن كان محدثاً عاد الكلام في كون محدثه مختاراً أوموجباً، وإن كان قديماً استحال عليه الزوال، فلا يوجد العالم أبداً لاستمرار المانع.
ويقال للفلاسفة: أي شيء العقول والنفوس وما الدليل على ثبوتها؟ وإذا كانت قديمة فلمَ كان البعض بأن يؤثر في البعض أولى من العكس؟ ولِمَ كان البعض بأن يكون عقلاً والآخر نفساً أولى من العكس؟ وما الدليل على أن الأفلاك حية وأن لها نفوساً؟
وبقريب من هذا الكلام يبطل قول الباطنية؛ لأن مذهبهم يضاهي مذهب الفلاسفة؛ لإثباتهم علة قديمة صدر عنها السابق وعن السابق تالي، وعن التالي نفس كلية، كما أن الفلاسفة أثبتت علة قديمة وصدر عقل عنها، فالكلام متقارب وإن اختلفت العبارة.
وأما الطبائعية فيبطل قولهم: أن الطبع الذي نسبوا إليه التأثير غير معقول وأن من حق ما ينسب إليه التأثير أن يكون أمراً معقولاً مميزاً موجوداً.
وأما الطبع: الذي أثبته أهل اللغة فهو وإن كان معقولاً فهو ليس بأمر وجودي بل أمر اعتباري، ومعناه العادة والسجية، وأيضاً فالطبع شيء واحد، فما الأمر الذي اقتضى وقوع الأشياء على هذا الترتيب البديع والحكمة الباهرة، ووقوعها بحسب المصالح في كل وقت؟ وأيضاً فالطبع إما موجود أو معدوم، والموجود إما قديم أو محدث، القسمة الأولى بعينها في أول المسألة.
وأما أصحاب النجوم: وهم فرقة من الفلاسفة وغيرهم، فالنجوم عند المسلمين جمادات سخرها الله تعالى بأمره ودبَّر حركاتها بمشيئته، خلقها تعالى حكمة لمنافع عبيده لما فيها من الألطاف لهم، وزينة للسماء، ورجوماً للشياطين، وعلامات يهتدى بها كما حكى الله تعالى، فالذي يُبطل قول من جعلها فاعلةً مختارةً أنها غير حية، ولا قادرة والفعل لا يصح إلا من حي قادر ضرورة فبطل ما قاله المخالف، والنجوم التي زعموها مؤثرة سبعة هي: زحل والمشتري والمريخ والشمس والزهرة وعطارد والقمر، على اختلاف بينهم، فمنهم من يقول: تأثيرها على جهة الإيجاب ولا قدرة لها، ومنهم من يقول: بل على جهة الصحة والاختيار، وهي حية قادرة عالمة، وهذه دعوى لا دليل عليها، ولا يصح تأثير جسم في إيجاد جسم ولا إحداثه، فإذا بطل قولهم لم يبق إلا أن المؤثر هو الصانع المختار، والحمد لله.
(المسألة الثانية: أن الله تعالى قادر)
وحقيقة القادر: هو من يصح منه الفعل مع سلامة الأحوال، هذا الحد ذكره ابن الملاحمي وبعض أصحابنا، وهو بناء على ما ذهب إليه ابن الملاحمي وأبو الحسين من أن صدور الفعل من الفاعل على سبيل الصحة والاختيار يُعلم ضرورة أنه يقتضي قادريته.
وعند المتقدمين: القادر: هو المختص بصفة لكونه عليها يصح منه الفعل مع سلامة الأحوال.
فقوله المختص بصفة: جنس الحد، وقوله لكونه عليها: أي لأجل اختصاصه بها، وقوله يصح منه الفعل: فصل مخرج لما تناوله الجنس، والمراد بالصحة: ما كان على وجه الاختيار لا الصحة التي تقابل الاستحالة، فإنها لا تدل على القادرية كالمسبِبَات، وقوله مع سلامة الأحوال: يعني مالم يكن ثَمَّ مانع أو ما يجري مجرى المانع، والمراد بالمانع: هو الضد كأن يريد أحدنا حمل شيء فيعتمد عليه من هو أكبر منه قدراً، فالمنع هو الضد لفعلك، والضد هو ما فعله الأقوى من السكون، والذي يجري مجراه هو القيد والحبس، فإنهما يمنعان من كثير من الأفعال، وهما جاريان مجرى الضد؛ لكونه يتعذر معهما الفعل كما يتعذر عند حصول الضد، أفاد هذا صاحب الغياصة.
وقيل: هو المختص بصفة؛ لكونه عليها يصح منه الفعل مالم يكن ثم مانع أو ما يجري مُجراه، ولم يكن الفعل مستحيلاً في نفسه كوجوده فيما لم يزل، وهذا الحد قريب من الأول، وقيل في حده: هو الذي إن شاء فعل، وإن شاء لم يفعل.
والقول بأن الله قادر هو قول من يُقِرُّ بالصانع المختار (والدليل على ذلك) المذهب الصحيح (أن الفعل) وهو ما وجد من جهة من كان قادراً عليه، وهذا الحد اعتمده الأمير الحسين -عَلَيْهِ السَّلامُ- والقرشي، وقال قاضي القضاة: الفعل هو ما يحصل من قادر من الحوادث..، واعترضه السيد الإمام في الشرح، وقال الإمام المهدي -عَلَيْهِ السَّلامُ-: هو ما أثر في وجوده قادرية.
وحقيقة الفاعل: هو الذي وجد من جهته بعض ما كان قادراً عليه..، أفاده الأمير الحسين -عَلَيْهِ السَّلامُ- والقرشي، ثم قال: وقلنا بعض؛ لأن الفاعل يكون فاعلاً وإن لم توجد جميع مقدوراته، انتهى.
(قد صح منه) والمراد الصحة التي تقابل الاختيار لا الصحة التي تقابل الاستحالة كما تقدم (والفعل لا يصح إلا من قادر) ضرورة (دليل ذلك أنَّا وجدنا في الشاهد ذاتين: أحدهما: إذا حاول حملاً ثقيلاً حمله، والآخر: يتعذر عليه، فالذي صح منه الفعل يجب أن يفارق من تعذر عليه ذلك).
اعلم أن هذا الدليل هو من قياس الغائب وهو الله جل جلاله على الشاهد، وهو الواحد منا بعلة جامعة، قالوا: لأن طُرق الأدلة لا تختلف شاهداً ولا غائباً.
قالوا: وثبوت المفارقة معلوم ضرورة، وكلام الإمام القاسم بن محمد -عَلَيْهِ السَّلامُ- أن صحة الفعل لا تكون إلا من قادر ضرورة. انتهى.
فالعلم بذلك ضروري ولا نحتاج إلى الاستدلال بالقياس؛ لأن الفعل قد صح منه تعالى، وكل من صح منه الفعل فهو قادر.
قال مولانا العلامة الإمام علي بن محمد العجري -رحمه الله- في (مفتاح السعادة): اعلم: أن هذا الدليل المركب من القياس وما ذكره النجري مبنيان على ما ذهب إليه الأكثر أن هذه الصفة أمر وجودي زائد على الذات، وأما على ما ذهب إليه الأئمة عليهم السلام ومن وافقهم ممن ينفي الأحوال، فالدليل على قادريته عندهم ما مر من أن العلم بأن صحة الفعل لا تكون إلا من قادر ضرورة، انتهى.
(و) يجب (أن يختص القادر عليه بمزية، تلك المزية هي التي عبَّرنا عنها بكونه قادراً، فإذا كان الله سبحانه قد صح منه من الأفعال ما يتعذر على غيره ثبت أنه تعالى قادر) وقال ابن حابس رحمه الله: إن هذا ليس بقياس، وإنما هو رجوع إلى كلية. انتهى.
ولا شك في إثبات صفة القادرية للقادر، ومرجعها عند أئمتنا عليهم السلام إلى ذات الباري جل وعلا، وفي الشاهد إلى البنية المخصوصة.
واعلم: أنه يلزم المكلف أن يعلم أن الله تعالى قادر فيما لم يزل وفيما لا يزال، ولا يجوز خروجه عن هذه الصفة في حال من الأحوال، ويعلم أنه تعالى قادر على جميع أجناس المقدورات، ومن كل جنس على مالا يتناهى، فلا تنحصر مقدوراته جل وعلا جنساً ولا عدداً، وصلى الله على سيدنا محمد وعلى آله الطاهرين.
(المسألة الثالثة: أن الله سبحانه عالم)
قال القرشي: حقيقة العالم: هو المختص بصفة؛ لكونه عليها لمكانها يصح منه الإحكام تحقيقاً أو تقديراً، وزاد غيره إذا لم يكن ثم مانع، ولا ما يجري مجراه، فقوله: المختص بصفة جنس الحد، وقوله لمكانها: يعني لاختصاصه بها، وقوله: يصح منه الإحكام، أي يصح منه الفعل المحكم، وهو فصل يُخرجُ غير المحدود، ومعنى الإحكام: إيجاد فعل عقيب فعل، أو مع فعل على وجه لا يتأتى من كل قادر ابتداءً، والمحكِم (بكسر الكاف) : هو المرتِبْ لذلك، والمحكَم (بفتح الكاف): هو الفعل المرتب، وقوله: في الحد أو تقديراً، أراد به مالا يكون مقدوراً كفعل الغير، أو يكون مقدوراً لكن لا يصح إحكامه كالفعل الواحد، فإن ما هذا حاله يصح إحكامه تقديراً بمعنى أنه لو كان مقدوراً، ومما يصح ترتيبه لأحكمناه، والمراد بالمانع: الضد، كأن يريد أحدنا كتابة فيمسك الغير يده، فيفعل من الأكوان ضد ما يريد الكاتب فعله، والذي يجري مجراه عدم الآلات كعدم القلم، وقد أورد على هذا الحد أسئلة وأجيب عنها.
وقال أبو الحسين وابن الملاحمي: العالم: هو المتبين لأمر من الأمور تبيناً يمتنع معه في نفسه تجويز خلافه. انتهى.
واعترضه القرشي، وقال ابن حابس رحمه الله: هو من يمكنه إحكام الأشياء المتباينة وتمييز كل منها بما يميزه، أو من أدرك الأشياء إدراك تمييز وإن لم يقدر على فعل محكم.
والقول بأنه تعالى عالم هو قول من يقر بالصانع المختار (والدليل على ذلك أن الأفعال المحكمة قد صحت منه ابتداءً) والمراد وجودها منه تعالى على سبيل الصحة والاختيار كما مر في مسألة قادر (والأفعال المحكمة لا تصح إلا من عالم، والدليل على أن الأفعال المحكمة قد صحت منه ابتداءً أنه أوجد العالم على سبيل الترتيب والنظام؛ لأن فيه من بدائع الحكمة وعجائب الصنعة ما يزيد على كل صناعة محكمة في الشاهد من بناء وكتابة وغيرهما) وإذا نظر المتأمل إلى خلق السماء المرفوعة وكونها كالسقف، وإلى الأرض المبسوطة، وإلى ما أعد الله فيها من النبات، ومن المياه الجارية والمستخرجة، والجبال الراسية، والأخاديد، والآكام، والشّمِ الشوامخ، وإلى زينة السماء بالشمس والقمر، وحكمة مطالعهما ومغار بهما وكونهما ضياءً، وإلى الشُّهبِ التي هي كالمصابيح المضيئة، فالسماء والأرض كالبيت المسقوف، والقمران والنجوم كالمصابيح المعدة للاهتداء بها إلى رؤية ما في البيت، والواحد منا كالمالك المتصرف في بيته مع الشموع المشتعلة والمصابيح المضيئة.
ثم انظر إلى خلق الإنسان وتركيبه، فقد كان نطفة ثم علقة ثم مضغة ثم لحماً ودماً ثم عِظاماً صلبة متفرقة في ذلك اللحم، والدم يقويهما، وعصباً رابطة بين تلك العظام صالحة لذلك الربط بما فيها من القوة والمتانة، ثم تركب من ذلك آلات وحواسٌّ حية موافقة للمصالح مع ضيق ذلك المكان وشدة ظلمته، وإلى ذلك أشار تعالى بقول: {يَخْلُقُكُمْ فِي بُطُونِ أُمَّهَاتِكُمْ خَلْقًا مِنْ بَعْدِ خَلْقٍ فِي ظُلُمَاتٍ ثَلاَثٍ ذَلِكُمُ اللَّهُ رَبُّكُمْ}[الزمر:6] والظلمات الثلاث: هي ظلمة البطن، وظلمة المشيمة، وظلمة الرحم، ثم انظر موضع العينين ما أنسبهما بموضعهما مرتفعتان عمَّا يؤذيهما، محفوفتان بالأجفان عن القذاء، في موضع لا يحتاجان إلى التغطية باللباس فلم يكونا في ظهر ولا بطن مع الجمال البديع.
وانظر إلى ستر القذر في البطن بالسواتر العظيمة، بحيث لا يُحَس له حَس، ولا يظهر له ريح، ولا يخرج إلا باختيارنا، وأن من عجيب الصنع استمساك البول في حالة الغفلة والنوم، حتى يرضى خروجه ويختاره من غير رباط ولا سداد في مجرى، ولا مانع محسوس.
ثم حياتنا في بطون الأمهات، ولو غُمّ الإنسان ساعة لمات كما في كثير ممن يدفن في الحبوس مع سعتها، ثم خروجنا من ذلك المكان الضيق بغير اختيارٍ من الوالدة والمولود، وهو فعل محكم صعب لا بد له من فاعل مختار، ثم إحداث اللبن في ثدي الأم من بين فرث ودم.
وتربية المولود وفهمه للغة أهله كيف كانت، فصيحة عربية، أو غيرها، مع أن العاقل مع كثرة مجالسته لغير أهل لغته لا يعرف من ذلك ما عرف الصغير الذي لا عقل له ولا تمييز. إلى غير ذلك من عجائب الملكوت التي لا تحصى.
فلو جاز أن يكون هذا بغير صانع لجاز أن يصح لنا دور معمورة ومصاحف مكتوبة وغير ذلك بغير بانٍ ولاكاتب، ولو كان هذا أثر طبع لكانت أثراً واحداً، كما لو جمدت النطف بفعل البرد (والدليل على أن الأفعال المرتبة) المنظومة (لا تصح إلا من عالم، أنا وجدنا في الشاهد قادرين) وهذه عبارة جيدة، وهي أولى من أن يقال ذاتين أو جملتين أو حَيَّين؛ لأنه قد استغنى بإيراد هذه العبارة عن إبطال أن يكون المؤثر في صحة الإحكام كون المؤثر ذاتاً أو جملة أو حياً من حيث أن (أحدهما) وهو من (من تصح منه الكتابة المحكمة المرتبة) كالكاتب، (و) نحوه قد شاركه (الآخر) وهو من (يتعذر عليه ذلك كالأُمي) في جميع تلك الأمور) ولم تصح منه الكتابة المحكمة، (فالذي يصح منه ذلك يجب أن يفارق من تعذر عليه، ويختص عليه بمزية، تلك المزية هي التي عبرنا عنها بكونه عالماً) بفعل المحكم (فثبت) بالدليل القطعي (أن الله عالم).
وقولنا: في حد العالم مع القدرة على فعلها غير محكمة لدفع ما يقال لا نسلم أن الإحكام دليل العالمية، فإن النحلة وهي من العالم البهيمي لها عمل متقن في بيوتها كما نشاهد ذلك، وتمييزها العسل من الشمع وذلك بيِّن، وكذلك شيء من الطير؛ لأن هذه الحيوانات لا تقدر على فعلها كذلك إلا بإلهام الله لها.
(المسألة الرابعة:) أنه يجب على كل مكلف أن يعلم (أن الله تعالى حي)
وحقيقة الحي: من يمكنه إدراك الأشياء عند اجتماع شرائط الإدراك والقدرة عليها مع سلامة الأحوال، وقيل: هو المختص بصفة لمكانها يصح أن يقدر ويعلم.
ذهب المسلمون وكثير من الناس إلى أن الله تعالى حي، والخلاف في ذلك على نحو ما مر في مسألة قادر (والدليل على ذلك) المذهب الصحيح ما تقرر من الأدلة القاطعة من (أنه تعالى قادر عالم) وإنما خص الاستدلال بهاتين الصفتين على كونه حياً دون سائر الصفات التي تصححها الحييه؛ لأن سائرها منها ما لا تصححه الحيية له تعالى، وهي كونه مشتهياً ونافراً وظاناً وناظراً، إذ لا تصحهها إلا بشروط لا تحصل في حقه، ومنها مالا يصح العلم بصحتها إلا بعد العلم بكونه حياً ككونه مدركاً ومريداً وكارهاً، فلم يبق مما يصححه ما يعلم أنه يصح عليه تعالى قبل العلم بكونه حياً إلا القادرية والعالمية، وقد جرت عادة المتكلمين على الجمع بينهما في الاستدلال على الحيية وإلا فأحدهما كافٍ.
(و) إذا قد ثبت أنه قادر عالم عُلِمَ أن (القادر العالم لا يكون إلا حياً) فهذان أصلان لا بد لكل واحدٍ منهما من دليل، (أما الدليل على أنه تعالى قادر عالم فقد تقدم) في مسألة قادر ومسألة عالم، وأما الدليل على أن القادر العالم لا يكون إلا حياً فهو في الجملة معلوم ضرورة، ولهذا يصفهُ العقلاء بأنه حي.
وأيضاً فلأن الميت والجماد لا يعلمان شيئاً، ولا يقدران عليه، فلا بد من مفارقة لولاها لما صح من أحدهما ما استحال على الآخر، وليس ذلك إلا كونه حياً، (فثبت) بما تقرر من الدليل القاطع (أن الله تعالى حي).
(المسألة الخامسة: أن الله تعالى سميع بصير)
والمرجع بهما عند الجمهور إلى أنه تعالى لا آفة به، وحُكيَ عن أبي هاشم إثبات حالةٍ زائدةٍ، وهو لا يصح؛ لأن العلم بكونه سميعاً بصيراً يدور على كونه حياً لا آفة به ثبوتاً وانتفاءً، ولو كانت غيرين لصح انفصال أحدهما عن الأخرى.
وحكى الإمام القاسم بن محمد -عادت بركاته- عن جمهور أئمتنا والبغدادية: أنهما بمعنى عالم؛ لأن السميع حقيقة لغوية مستعملة لمن يصح أن يدرك المسموع بمعنى محله الصماخ، والبصير حقيقةٌ كذلك لمن يصح أن يدرك المبصر بمعنى محله الحدق، والله تعالى ليس كذلك، فلم يبقَ إلا أنهما بمعنى عالم. انتهى.
فمتى دللنا على ذاته بكونه عالماً لذاته بجميع المعلومات ثبت أنه تعالى عالم بالمسموعات والمبصرات التي يعلمها غيره من جهة السمع والبصر، فكان سميعاً بصيراً بهذا المعنى.
قال الإمام يحيى -عَلَيْهِ السَّلامُ-: إن الخلاف ههنا فرع على الخلاف في كونه مدركاً، فمن ذهب إلى أن كونه مدركاً أمر زائد على كونه حياً وعالماً. قال: السميع البصير هو الذي يصح أن يختص بهذه الصفة عند وجود المُدرك.
ومن ذهب إلى أن كونه مدركاً ليس أمراً زائداً على كونه عالماً قال: إن كونه سميعاً بصيراً مدركاً ليس إلا أوصافاً للمبالغة في كونه تعالى عالماً من غير أمر زائد كقولنا عالم وعليم، انتهى كلامه.
والذي عليه جمهور أئمتنا والبغدادية أن المرجع بمدرِك في حقه تعالى إلى أنه عالم.
بعض أئمتنا وبعض شيعتهم والبصرية: بل هما صفتان له حين يدرك.
لنا عليهم ما مر في احتجاج القاسم، ولا خلاف بين أهل القبلة في أنه يوصف بأنه تعالى سميع بصير إلا عن الباطنية، وقد نطق القرآن الكريم بما قلنا، وإنما الخلاف في معناه (والدليل على ذلك) الذي ذهبنا إليه ونفي مقالتهم (أنه تعالى حي لا آفة به) ولا مانع له، (وكل من كان حياً لا آفة به) ولا مانع له (فهو سميع بصير) فهذان أصلان لا بدَّ من إقامة البرهان على كل واحدٍ منهما (أما أنه تعالى حي فقد تقدم) في مسألة حي، وأما الدليل على أنه لا آفة به ولا مانع له؛ فلأن الآفات والموانع إنما تجوز على الأجسام (لأن معنى الآفات فساد الآلات)، ومعنى المانع وجود غفلة أوذهول، أو بأن يُغْلَب على سمعه وبصره، وهذه الأشياء (وفساد الآلات لا تجوز إلا على الأجسام والله تعالى ليس بجسم) وإذا كان كذلك استحال أن يكون له آلة تتطرق إليها الآفة أو المانع، وإنما لم يكن تعالى جسماً (لأن الأجسام محدثة والله تعالى قديم على ما يأتي بيانه) إن شاء الله.
وقد يقال قولكم: إنه حي لا آفة به غير مسلَّم، بل به آفة؛ لأنكم إما أن تجعلوا زوال الحاسة آفة أو غير آفة، إن كان فالباري تعالى عادم لها فهو إذن ذو آفة، وإن لم يكن عدم الحاسة آفة فهو خلاف ما يقضي به العقل والسمع، إذ عدمها أبلغ من حصول الآفة، ولهذا قال الدواري: الأولى في الاستدلال أن يقال: إنه تعالى حي والآفة مستحيلة عليه، فيجب أن يكون سميعاً بصيراً، دليله الشاهد، فإن الواحد منا إذا كان حياً لا آفة به كان سميعاً بصيراً، وإن كانت جائزة عليه ففي حق الباري أولى؛ لأن الآفة مستحيلة عليه واستحالتها أقوى في زوالها من عدمها مع جوازها، (فثبت بذلك) الدليل (أن الله تعالى سميع بصير).
(المسألة السادسة: أن الله تعالى قديم)
ومعنى القديم في اللغة: هو ما تقادم وجوده، ومنه {حَتَّى عَادَ كَالْعُرْجُونِ الْقَدِيمِ}[يس: 39] (ومعنى القديم) في الاصطلاح: (هو الأول الذي لا أول لوجوده).
وقد اشتملت هذه المسألة على طرفين: أحدهما: أنه تعالى موجود، والثاني: أنه تعالى لا أول لوجوده، ولا خلاف بين أهل الإسلام وكثير من الفرق الكفرية، وهم المقرون بالصانع كاليهود والنصارى والبراهمة وبعض عبدة الأصنام في أنه موجود، وأما الباطنية فلعلهم يقولون في هذه المسألة كقولهم في سائر الصفات، ولا يحتاج إلى الاستدلال على وجوده عند من جعل الوجود هو ذات الموجود.
وأما جمهور المعتزلة فيجعلونه زائداً على الذات شاهداً وغائباً فاحتاجوا إلى الاستدلال وصحة ما يقولونه مبنية على أن المعدوم ذات، والدليل على أنه موجود أنه قادر عالم، والقادر العالم لا يكون إلا موجوداً؛ لأن المعدوم يستحيل أن يكون قادراً على شيء أو عالماً به، ألا ترى أن كثيراً من الموجودات كالجمادات والأعراض يستحيل أن تكون قادرة على شيء وعالمة به مع وجودها، وإذا كانت كذلك فالمعدوم أولى، (و)أما (الذي يدل على أن الله تعالى قديم أنه لولم يكن قديماً) لا أول لوجوده بأن يكون لوجوده أولاً (لكان محدثاً)؛ لأن ذلك حقيقة المحدث (ولو كان محدثاً لاحتاج إلى محدث) أحدثه قطعاً لما تقدم من أن كل محدث يحتاج إلى محدث، والمحدث يحتاج إلى أن نتكلم فيه فنقول: هو إما قديم أو محدث، فإن كان محدثاً تكلمنا في محدثه وقلنا: (وكل محدث يحتاج إلى محدث أحدثه، ومحدثه إلى محدث) فيتسلسل (إلى مالا نهاية) من المحدثين ومحدثيهم (وذلك محال) أو ينتهي إلى محدث قديم وهو المطلوب، فوجب الاقتصار على أنه قديم لا يحتاج إلى محدث، وهو الله تعالى فثبت أن الله تعالى قديم.
قال الإمام عزالدين عادت بركاته: وفيه سؤال وهو أن يقال: ما أنكرتم أكثر ما في الباب أنه لا بد من الانتهاء إلى قديم واجب الوجود وإلاَّ أدَّى إلى مالا يتناهى من المحدثين أو محدثي المحدثين، ولكن ما أنكرتم أن صانع العالم الذي أثبتم له تلك الصفات بعض هؤلاء المحدثين المتوسطين، أو أول ما ذكرتم من المحدثين كما هو مقتضى سياق الكلام، فلا يثبت أن الإله المستحق للعبادة واجب الوجود.
والجواب: أن هذا المحدث الذي قدرتموه صانعاً للعالم لا يخلو إما أن يكون من قبيل الأجسام أو الأعراض؛ إذ المحدثات لا تنفك عن هذين القسمين، وسيأتي التوجيه أن الجسم والعرض لا يصح منهما فعل الأجسام ونحوها، وإذا تقرر ذلك فلا بد أن يكون صانع العالم قادراً لذاته، عالماً لذاته، وفي ذلك نفي أن يكون محدثاً، ووجوب أن يكون قديماً، وكلامنا في المحدثين وتسلسلهم إنما هو على جهة الفرض والتقدير وبيان أنه لا بد من قديم، وهذا الجواب وإن كان فيه استعانة بما يصلح أن يكون دليلاً مستقلاً حسن صحيح.
إذا عرفت ذلك فاعلم أن عامة الآل يقولون إن صفاته تعالى من نحو قادر وعالم وموجود وقديم وحي تعبير ليس إلاَّ، وإلا لزم التكثر في الذات، والتعدد في القدماء والواجبات، أو التلاشي إن قالوا: لا شيء ولا لا شيء، وهذه عبارة زين العابدين في توحيده لرب العالمين حيث قال: فأسماؤه تعبير وأفعاله تفهيم، وذاته حقيقة، وكنهه تفريق بينه وبين خلقه.
وقال الهادي -عَلَيْهِ السَّلامُ- في كتاب الديانات: لم يزل قادراً عالماً ليس لقدرته غاية، ولا لعلمه نهاية، وليس علمه وقدرته سواه، ومن قال علم الله هو الله، وقدرة الله هي الله، وسمع الله هو الله، وبصر الله هو الله فقد قال في ذلك بالصواب.
قال الإمام المهدي -عَلَيْهِ السَّلامُ-: وهذا قول أبي الهذيل، ولو أمعن النظر الهادي لما كان لإضافتها إليه معنى؛ إذ لا يضاف الشيء إلى نفسه.
قال والدنا العلامة محمد بن عزالدين المفتي كثَّر الله فوائده: وما أحق المهدي بإمعان النظر في قوله تعالى: {وَيُحَذِّرُكُمُ اللَّهُ نَفْسَهُ}[آل عمران:28] {كُلُّ شَيْءٍ هَالِكٌ إِلاَّ وَجْهَهُ}[القصص:88] وهذا من ذلك عند أولئك كما صرح به القاسم، وليست صفاته ثابتة لمعانٍ كما يقوله مثبتوا المعاني من المتكلمين، فإنهم قالوا: حي له حياة أزلية ليست بعرض ولا مستحيل البقاء وعالم له علم أزلي شامل، ليس بعرض ولا مستحيل البقاء ولا ضروري ولا مكتسب، وليست ثابتة لمزايا زائدة كما يقوله الكثير من المعتزلة واختاره جماعة من متأخري الآل، فكونه قادراً وعالماً وحياً وموجوداً صفات زائدة على ذاته، مقتضاة عن صفة أخص بها فارق مفارقه تعالى بعد المشاركة في الذات لسائر الذوات، وهي صفته الذاتية.
قالوا: ومدركٌ صفة مقتضاة عن الحيية بشرط وجود المُدرَك، وليست تلك مزايا زائدة هي صفات له تعالى كما يقوله منهم من نفى الصفة الأخص، وكذا من يقول منهم بالتعلق، بمعنى أن ذاته تسمى باعتبار التعلق بالمعلومات عالمة، وبالمقدورات قادرة، وليست تلك الصفات عدم صفة نقص كما يقوله البعض منهم، وقد حُكىَ عن بعضهم أنه مذهب الآل.
فإن قلت: فما هذه النعوت للجلال المقدس، فإنه لا بد من اعتبار أمر فيها يصح إطلاقه على الله تعالى سوى ما أفاده الآخر، وما الدليل على بطلان ما ذهب إليه من تقدم من المخالفين؟
قلنا: الأمر كذلك فإنه من حيث صح الفعل منه بغير واسطة سُمِّيَ قادراً ومن حيث صح منه الإحكام سمي عالماً، فاعتبار الأمر هو هذا كما يدل عليه قول علي -عَلَيْهِ السَّلامُ-: (الظاهر بعجائب تدبيره للناظرين، والباطن بجلال عزه عن فكر المتوهمين).
ولصعوبة هذا المقام قال مثبتوا المعاني ليست بعرض، ولا هي هو ولا هي غيره، وقال أهل المزايا: لا توصف بوجود ولا عدم، ولا حدوث ولا قدم، ولا هي شيء ولا لا شيء، وأهل التعلق قالوا: المرجع بها إلى تعلق مخصوص من القادر والمقدور، والعالم والمعلوم، وصحة أن يقدر ويعلم في حي، وهو قريب من كلام الآل، فعرفت تلاشي الأقوال السالفة وأنها لا تكاد تعقل فضلاً عن أن يحكم بها العقل.
قال بعض المحققين: وعندي في ذلك الوقف وهو ترك الخوض في تلك الصفات، والكلام في حقائق تلك السمات، لما ورد من النهي عن التفكر في الذات بالنص، قال رسول الله ً كما رواه المتكلمون: ((تفكروا في الخلق ولا تفكروا في الخالق فإنكم لن تقدروا قدره)) ، وهذا يعم التفكر في ذاته وصفاته سواء جُعلَت تعبيراً أو غير ذلك على وجه التعمّق وإدراك الكنه.
و قال علي -عَلَيْهِ السَّلامُ-: (من تفكر في غير الذات وحد، ومن تفكر في الذات ألحد).
وقال -عَلَيْهِ السَّلامُ-: (العقل آلة أُعطيها العبد؛ لاستعمال العبودية لا لإدراك الربوبية).
وكما قال بعض المحققين: إن العجز عن معرفة الله تعالى ذاتاً وصفة ضروري؛ لأن كلما لم نشاهد ولا مثل له في الشاهد استحال تصوره، وما استحال تصوره أي العلم به تصوراً استحال أن يعرف إلاَّ على جهة الإجمال، وإن تصوره متصور من غير معرفة وقع في الخطأ.
واعلم أن أحداً لم يُنب عن الله تعالى كما أنبأ ًفارضَ به رائداً وإلى النجاة قائداً، وقد قال أمير المؤمنين علي -عَلَيْهِ السَّلامُ- في صفة ملك الموت والعجز عن صفته: (فكيف يصح وصف الإله لمن عجز عن وصف مخلوق مثله، إلى أن قال: هيهات من يعجز عن صفات ذي الهيئة والأدوات فهو عن صفات خالقه أعجز).
ومن كلام الحسن -عَلَيْهِ السَّلامُ-: أصف إلهي بما وصف به نفسه، وأعرفه بما عرَّف به نفسه، لا يدرك بالحواس ولا يقاس بالناس..، وفي هذا الكلام إشارة إلى أنها توقيفية كما أشار إليه والده -عَلَيْهِ السَّلامُ- من قبل.
واعلم أن الكلام في ذات الله تعالى على جهة المعرفة التفصيلية، أو على وجه الإحاطة على حد علمه ممالا تدركه عقولنا، قال القاسم -عَلَيْهِ السَّلامُ-: وقد قال الله تعالى: {وَلاَ يُحِيطُونَ بِهِ عِلْمًا}[طه:110] {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ}[الشورى:11] وهذا مذهب علي -عَلَيْهِ السَّلامُ- حيث قال في امتناع معرفته على العقول: (لم تحط به الأوهام ـ أي العقول ـ بل تجلىَّ لها بها وإليها حاكمها) ومعناه امتنع من العقول بمعرفة العقول بعجزها عن إدراكه والإحاطة به، وإليها حاكمَها: أي جعلها محكَّمة في ذلك؛ لأنه نزّلها منزلة الخصم المدعي، والخصم لا يحكم إلا حيث يصح.
(المسألة السابعة)
وهي الأولى من مسائل النفي، ومسائل النفي ثمان، لكن أربع منها داخل فيما سبق، وهي: أنه تعالى ليس بعاجز ولا جاهل ولا ميت ولا معدوم ولا محتاج ولا مشبه للمحدثات ولا مرئي ولا ثاني له، فالأربع الأول قد تقررت بإثبات القادرية والعالمية والوجودية له تعالى وأنها واجبةٌ في حقه تعالى فإنه يستحيل ثبوت أضدادها مع ثبوتها ووجوبها.
وأما الأربع الأخر فهذا موضع الكلام عليها، ولا خلاف بين المتكلمين في تأخير مسألة نفي الثاني؛ إذ هي كلام في أنه لا ثاني له يشاركه في صفاته الإثباتية والنفيية، ومالم تعين من المسائل لا يحسن الكلام على نفي المشاركة فيها؛ إذ لا يعلم نفي المشاركة في أمر إلا بعد العلم به.
وأما مسألة نفي الرؤية فيحسن تأخيرها عن الأولتين؛ لأنها كلام في نفي صفة له مع غيره، إذ مضمونها أنه تعالى لا يرى، وأن غيره لا يراه بخلافهما فإنهما كلام في نفي صفة يختص نفيها بذاته تعالى.
أما مسألة نفي الحاجة والتشبيه فقد وقع الخلاف فيهما، والذي ذهب إليه العترة وصفوة الشيعة والمعتزلة وغيرهم (أن الله تعالى لا يشبه الأشياء) فليس بجسم ولا عرض، ولا يجوز عليه ما يجوز عليهما من التحيز والحلول، والتنقل في الأمكنة والجهات، ونحو ذلك من توابعها.
وقال هشام بن الحكم وغيره: بل جسم له أعضاء وجوارح، وهو خمسة أشبار بشبر نفسه.
وقال بعض الحشوية: أنه سبيكة ملقاة فوق العرش، وقال مقاتل بن سليمان وداود الجوزجاني: أنه على العرش كبعض ملوك البشر لحم ودم، وقال بعضهم: أنه فضاء منبت والأجسام كلها فيه، قالوا: وهو لا يحتاج إلى مكان؛ لأنه مكان في نفسه.
وحُكيَ عن بعض الحنابلة القول: بأنه جسم طويل عريض عميق وعليه جل أهل الحشو.
وقالت الثنوية: أنه نور لا يتناهى..، إلى غير ذلك من خرافات أهل الزيغ -تعالى الله عما يقول الظالمون علواً كبيراً- (والدليل على ذلك) المذهب الصحيح، وهو القول: أن الله تعالى لا يشبه الأشياء (أنه لو أشبهها لكان محدثاً مثلها أو كانت قديمة مثله، ولا يجوز أن يكون تعالى محدثاً ولا أن الأشياء سواه قديمة) لما مر من الدليل على أنه تعالى ليس بمحدث، والدليل على حدوث العالم (وهذه الدلالة مبنية على أصلين: أحدهما: أنه لو أشبهها لكان محدثاً مثلها، أو كانت قديمة مثله، والثاني: أن ذلك لا يجوز، أما) الأصل (الأول فالذي يدل عليه أن من حق المثلين أن يشتركا في وجوب ما يجب، وجواز ما يجوز، واستحالة ما يستحيل فيما يكون وجوبه وجوازه، واستحالته راجعة إلى ذاته) كالقدم والحدوث مثلاً بخلاف ما كان راجعاً إلى العوارض للجسم، كالسواد والبياض فلا يقدح في صحة تماثلها يكون بعضها أسود وبعضها أبيض، وبعضها يصح حلول الحياة فيه ونحو ذلك؛ لأن هذه عوارض للجسم غير واجبة له وعدم الاشتراك في العوارض لا يوجب المخالفة، وكذلك وجوب القادرية عند وجود القدرة واستحالة الحياة عند فقد البنية، إذ مثل هذه راجعة إلى غير الذات، (ألا ترى أن الجوهرين لما كانا مثلين اشتركا في وجوب ما يجب لهما من التحيز والشغل للجهات، وجواز ما يجوز عليهما من التنقل في الأمكنة، واستحالة ما يستحيل عليهما من الكون في جهتين في وقت واحد، وإنما وجب لكونهما مثلين، ولهذا لم يجب في الجوهر والعرض لماَّ لم يكونا مثلين) لا يقال: إن الجوهرية تقتضي القدم في حقه دوننا؛ لأنا نقول: إما أن تقتضيه لا بشرط فيجب أن تقتضيه لنا أو إما أن تقتضيه بشرط فكان يصح حصوله لنا؛ إذ لا يصح حصول المقتضي ويستحيل شرط الاقتضاء على الإطلاق (فثبت بما ذكر) الأصل (الأول) وهو أنه يلزم أن يكون تعالى محدثاً كالأشياء، أو أن تكون قديمة كالباري عند ادعاء المشابهة بينهما.
(وأما الأصل الثاني) وهو كونه تعالى محدثاً كالأشياء، أو هي قديمة مثله (فهو معلوم انتفاؤه) بما تقدم من كون الباري تعالى قديماً، إذ قد أقمنا عليه البرهان القطعي فلا يثبت كونه محدثاً كالأشياء، ومن كون هذه الأجسام والأعراض محدثة، وقد بينا دليله القطعي فلا تثبت كونها قديمة، وإذا علمنا التخالف بالأدلة القطعية لم يصح دعوى المشابهة بينهما في حال من الأحوال.
فإن قيل: لا مانع من دعوى أن يقال هو قديم محدث أو هي قديمة محدثة.
قلنا: ذلك معلوم الانتفاء (ضرورة؛ إذ اجتماع النقيضين مستحيل تقتضيه فطرة العقول) وهذا الدليل من جهة العقل، وأما الدليل من جهة السمع فلا شك أن القرآن والسنة مشحونان بنفي التشبيه نحو قوله تعالى: {قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ}[الصمد:1] و {ليس كمثله شيء}[الشورى:11] وهو معلوم ضرورة من الدين، ووجه الاستدلال بـ {قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ} أنه لو كان جسماً لم يكن واحداً؛ لمماثلة الأجسام له، وهذا مأخذ حسن، والاستدلال بالسمع هنا إنما هو من طريق الجدل على من يقر بالسمع، فأما من جهة العلم فقيل: إنه لا يصح؛ لأن صحة السمع تنبني على العدل، والعدل ينبني على إنه عالم لذاته وغني لذاته والجسم ليس كذلك.
واعلم: أن هذه الأدلة إنما تُوجَّه إلى من يثبت له الجسمية حقيقة، فأما من يخالف في العبارة فالمرجع في إبطال كلامه إلى الوضع، وقد وجدنا أهل اللغة لا يستعملون الجسم إلا فيما كان طويلاً عريضاً عميقاً، ولو سلمنا استعماله في غيره لمنعنا إطلاقه على الله تعالى؛ لإيهامه الخطأ، وليس إذا صح أن نقول: شيء لا كالأشياء صح أن نقول: جسم لا كالأجسام؛ لاختلاف الفائدة، فإن فائدة قولنا: شيء ما يصح العلم به والخبر عنه، وفائدة قولنا: جسم أنه طويل عريض عميق، فإذا قلنا: شيء فالمراد أنه يصح العلم به والخبر عنه، وإذا قلنا: لا كالأشياء فمرادنا أنه لا يشبه سائر الأشياء والذوات المحدثة، وإذا قلنا: جسم فقد أفاد أنه طويل عريض عميق، وإذا قلنا: لا كالأجسام نفينا بذلك الطول والعرض والعمق عنه، فيكون في ذلك محض المناقضة والله أعلم.
(فصل: وإذا ثبت أنه تعالى لا يشبه الأشياء لم يجب عليه ما يجب عليها من التحيز في الجهة وشغل المكان والنزول والصعود والزيادة والنقصان) والاستراحة، والغم والسرور، والألم واللذة، وهذا مذهب أهل العدل وأكثر الفرق الإسلامية.
وحُكيَ عن الفلاسفة القول بأنه ملتذ بإدراك ذاته وكماله، وقد حُكي عن الغزَّالي وحاشاه.
وروي عن بعض قدماء المعتزلة أنه تعالى يجوز عليه الغم والسرور والأسف والغيرة، وتعلق بما ورد من أنه تعالى يفرح بتوبة العبد، وبما ورد في الأخبار: ((لا أغير من الله تعالى)) وبقوله تعالى: {يَاحَسْرَةً عَلَى الْعِبَادِ}[يس: 3] والصحيح خلاف ذلك جميعاً؛ (لأن ذلك من توابع الجسمية والتحيز، وهو تعالى ليس بجسم ولا متحيز) وأن هذه ألفاظ وردت في حقه على سبيل المجاز.
واعلم: أن من أثبت التجسيم أثبت توابعه من الكون في جهة، والاستقرار على مكان، ومن نفاه فمن حقه أن ينفي توابعه كلها.
وعن بعض الكرامية نفي التجسيم وإثبات الجهة، وأنه تعالى بجهة فوق، وعن الكلابية صحةٌ وصفة بأنه على العرش بلا استقرار، ويبطل قولهم جميعاً أن الجهة والمكان من لوازم الجسمية وتوابعها، فلا يتصور ذلك مع نفيها الذي قامت الدلالة عليه وشبهتهم ما رود من السمع مما يقتضي بأنه تعالى فوق كقوله تعالى: {وَهُوَ القَاهِرُ فَوْقَ عِبَادِهِ}[الأنعام:18]{إلَيْهِ يَصْعَدُ الكَلِمُ الطَّيِّبُ وَالعَمَل الصَّالِح يَرْفَعُهُ}[فاطر:10]، {بَلْ رَفَعَهُ اللهُ إلَيْهِ}[النساء:158] وما ورد من رفع اليدين عند الدعاء وهو متعارف عند الأمة غير متناكر.
والجواب: أن الأدلة العقلية قد قامت على نفي الجسمية وفي ذلك انتفاء لوازمها من الفوقية وغيرها، ويجب تأويل ما قضى ظاهره بخلاف ما قامت الدلالة القاطعة عليه، وتأويل مثل تلك الآيات والأفعال ظاهر غير مستور عند من له أدنى مسكه بعلم البيان، وكذلك لا يجوز عليه ما يجوز على الأعراض، ولذلك قال: (و) هو (لا يجوز عليه تعالى العدم والبطلان) والتضاد (والحلول في المحال؛ لأن ذلك من توابع الأعراض، وهو تعالى ليس بعرض) لما قررنا من أنه تعالى ليس بجسم ولا عرض فلا يثبت له ما يتفرع عليهما.
تنبيه: قال أصحابنا: يلزم المكلف في هذه المسألة أن يعلم أنه تعالى لا يشبه الأجسام والمتحيزات فيما لم يزل وفيما لا يزال، ولا يصح عليه مشابهتها في حال من الأحوال، ولا توابعها من الحركة والسكون، والصعود والهبوط والموت والعجز، والجهل والهرم، والسقم والحاجة، وأنه ليس بعرض ولا يشبه الأعراض فيما لم يزل وفيما لا يزال، فلا يصح كونه كذلك في حال من الأحوال، ولا يصح عليه خصائصها ولوازمها المتقدم ذكرها (فثبت أنه تعالى لا يشبه الأشياء) وأنه يجب على المكلف اعتقاد ذلك. والله أعلم.
(المسألة الثامنة: أنَّ الله تعالى غني)
وقد عدَّها كثير من الأصوليين من صفات النفي، (وحقيقة الغني) في اللغة: من استغنى بما في يده عما في أيدي الناس ومنه: ((القناعة رأس الغنى)).
وفي اصطلاح الفقهاء: هو من ملك النصاب أو ما قيمته نصاب، وقيل: من ملك الكفاية.
وأما في اصطلاح المتكلمين: فالغني: (هو الحي الذي ليس بمحتاج) هذه الحقيقة لا تثبت إلا في حق الله تعالى، فأما من عداه من الأحياء فهم محتاجون إليه تعالى، بل يحتاج بعضهم إلى بعض، فلا بد من اعتبار الطرفين في هذه الحقيقة كونه حياً، إذ لو لم يكن حياً لم يوصف بالغنى كالجماد والأعراض، وكونه غير محتاج إذ لو احتاج إلى شيء لم يكن غنياً.
واعلم: أنه لا خلاف بين أهل الإسلام ومن أقر بالصانع في أنه تعالى غني إلا فرقة من اليهود حكى الله عنهم نسبة الحاجة إليه حيث قال: {لَقَدْ سَمِعَ اللَّهُ قَوْلَ الَّذِينَ قَالُوا إِنَّ اللَّهَ فَقِيرٌ وَنَحْنُ أَغْنِيَاءُ}[آل عمران:181] وقد قيل: إن القائلين بذلك لم يقولوه عن اعتقاد، وإنما أوردوه على جهة الإلزام للرسول ً والتهكم بما جاء به من قوله: {مَنْ ذَا الَّذِي يُقْرِضُ اللَّهَ قَرْضًا حَسَنًا}[البقرة:245] (والدليل على ذلك) القول الصحيح (أن الحاجة) الاصطلاحية التي هي الدواعي والصوارف، وهي ما يدعوا إلى جلب نفع له، أو يصرفه عن جلب ضرر إليه، والداعي هو ما يرجح وجود الفعل على عدمه من غير تأثير، والصارف هو ما يرجح عدم الفعل على وجوده من غير تأثير، فهذه (لا تجوز إلا على من جازت عليه الشهوة والنفار)؛ وذلك لأن النفع والضرر مأخوذ في تلك الحاجة، والمنفعة هي اللذة والسرور، أو ما أدى إليهما أو إلى أحدهما، والمضرة: هي الألم والغم، أو ما أدى إليهما أو إلى أحدهما، واللذة والألم مأخوذان في تعريف المنفعة: هما المعنى المدرك بمحل الحياة فيه، لكن إن قارنه شهوة سُمي لذة، وإن قارنه نَفَار سُمي ألماً، فبهذا التدريج صارت الحاجة من ملازمات الشهوة والنفار (و) وجب القطع (بأن الشهوة والنفار لا يجوزان إلا على من جازت عليه اللذة والألم، واللذة والألم لا يجوزان إلا على من جازت عليه الزيادة والنقصان) من حيث يزداد جسم أحدنا بتناول ما يشتهيه ، وينقص بتناول ما ينفر عنه (والزيادة والنقصان لا يجوزان إلا على من كان جسماً)؛ إذ المرجع بالزيادة إلى انضمام بعض الأجزاء المتحيزة إلى بعض والمرجع بالنقصان إلى افتراق بعض الأجزاء المتحيزة من بعض (وهو تعالى ليس بجسم؛ لأن الأجسام محدثة وهو تعالى قديم على ما تقدم) وهذه علة أبي هاشم في امتناع الشهوة والنفار عليه تعالى، واعترضه الشيخ أبو إسحاق: بأنه لا يصح كون الشهوة مؤثرة
في زيادة الجسم، إذ ليست من الأسباب المولدة ولا المتحيزات مما تولد عن غيرها، فلا يصح أن تُولِد الشهوة تلك الأجزاء، ولا أن تولد اجتماعاً ولا تأليفاً، وكذلك النفرة لا يصح أن تولد افتراق الجواهر ولا أن توجد عدمها، فحينئذٍ علمنا أن تلك الزيادة والنقصان من جهة الله تعالى أجرى العادة بذلك، ولو قدرنا أن الله تعالى مُشْتَهٍ ونافر لم يمتنع أَلاَّ يثبت ما مجراه العادة في حقه تعالى، ولا تزداد ذاته ولا تنقص بإدراك ما يشتهيه أو ينفر عنه، لا سيما وذلك لا يصح عليه، بل هو مستحيل في حقه تعالى، وقال الجمهور في امتناع الشهوة والنفرة عليه؛ لأنه لو جاز أن يشتهي لكان إما أن يشتهي لذاته أو لما هو عليه في ذاته، أو بالفاعل أو لمعنى، والأول باطل وإلاَّ وجب أن يشتهي جميع المشتهيات فيكون ملجأً إلى فعلها دفعة واحدة، وإلى أنه يوجد أكثر مما أوجد وأكبر، وقبل الوقت الذي أوجد المشتهيات فيه؛ لتوفر دواعيه إلى جميع ذلك، والثاني باطل لما تقدم من أن القديم لا فاعل له ولا لشيء من صفاته، ولأن تأثير الفاعل لا يتعدى تأثير إحداث الذات وإخراجها من العدم إلى الوجود وتوابع الحدوث، وهي الوجوه التي يقع عليها الفعل ككون الكلام أمراً أوخبراً، وكون الفعل طاعة أو معصية. والثالث: باطل؛ لأن المعنى إن كان قديماً لزم أن يشتهي أكثر المشتهيات فيوجد أكثر مما أوجد قبل الوقت الذي أوجد فيه، وإن كان معدوماً فلا اختصاص للشهوة المعدومة لمشتهى دون مشتهى، وإن كان المعنى محدثاً لزم ذلك أيضاً، ومثل هذا الكلام يجيء في أنه تعالى لا يجوز أن يكون نافراً إلا في كونه نافراً بنفار محدث، فإنه يقال: لو جاز عليه النفار المحدث لجازت عليه الشهوة المحدثة، إذ لو قلنا: كان يلزم أن يكون ملجأً إلى أن لا يخلق شيئاً من النفرة ولا من المُنفِّر لكان لقائل أن يقول: إنه يخلق لنفسه نفرة عن منفرات لم يخلقها، ولا يخلق نفرة عن المنفرات التي خلقها (فثبت بذلك) المذكور من
الأدلة (أن الله تعالى غني) لا يحتاج إلى شيء أصلاً.
تنبيه: قال أصحابنا: يلزم المكلف في هذه المسألة أن يعلم أن الله تعالى غني لا تجوز عليه الحاجة في شيء أصلاً، لا في الدنيا ولا في الآخرة، وأنه غني فيما لم يزل وفيما لا يزال، ولا تجوز عليه الحاجة في حال من الأحوال.
(المسألة التاسعة): في استحالة الرؤية على الله تعالى
فالذي ذهب إليه العدلية جميعاً والنجارية من المجبرة والخوارج والمرجئة، وأكثر الفرق الخارجة عن الإسلام (أن الله تعالى لا يرى بالأبصار) ولا يرى نفسه (لا في الدنيا ولا في الآخرة)، وذهبت المجسمة وأكثر أهل الجبر إلى أنه يرى نفسه ويراه غيره، وبعض المجسمة تقول: أنه مدرك بكل الحواس ويرى في جهته على حد رؤية الأجسام، ويُرى بالحاسة من دون معنى، والأظهر من مذهب الأشعرية أنه لا يرى بحاسة غير حاسة الرؤية، وذهب ضرار إلى أنه يرى بحاسة سادسة غير الحواس الخمس، واتفقوا جميعاً أنه لا يرى في جهة لا خلف ولا أمام ولا فوق ولا تحت ولا يمين ولا شمال. قال أصحابنا: وهذه رؤية غير معقولة.
قال الإمام يحيى بن حمزة -عَلَيْهِ السَّلامُ-: ويقرب أن يكون الخلاف بيننا وبين الأشعرية في هذه المسألة لفظياً كما ذكره المحققون من متأخريهم، فإنَّ الغزالي ذكر في كتاب الاقتصاد: أن الرؤية عبارة عن تجلٍ مخصوص لا ينكره العقل، وهذا العلم بعينه ونحن لا نأباه، وقال الرازي في النهاية: بعد تحرير الأدلة العقلية لهم أنها ليست بقوية، قال: ويقرب أن يكون الخلاف في المسألة لفظياً. انتهى.
قال الإمام عزالدين في المعراج: واعلم أن من طالع كتبهم، كالأربعين للرازي وعرف احتجاجهم، وتصفح كلامهم علم أن خلافهم معنوي، وأنهم يثبتون الرؤية التي هي الإدراك، إذا عرفت هذا فاعلم أنه لا يحتاج في الاحتجاج على هذه المسألة إلى الرد على المجسمة؛ إذ لا نزاع بيننا وبينهم فيها على الحقيقة؛ لأنهم مُسَلِّمون أن الله تعالى لو لم يكن جسماً لم يصح رؤيته ونحن نسلم لهم أنه لو كان جسماً لصحت رؤيته، فالكلام عليهم في إبطال التجسيم، (والدليل على ذلك) الذي ذهب إليه أهل العدل: أن من أدركته الأبصار فقد أحاطت به الأقطار؛ لأن الرؤية المعقولة إنما تكون في جهة ومقابلة، والله تعالى يتعالى عن الجهة والحلول.
قال الهادي عَلَيْهِ السَّلامُ: وأنها لا تدركه الأبصار لا في الدنيا ولا في الآخرة؛ لأن كل ما وقع عليه البصر فمحدود ضعيف ذليل محتاج محوي محاط به له كل وبعض ولون... إلخ.
وقال: من زعم أن الأبصار تدركه، وأن العيون تراه مجاهرة فقد قال قولاً عظيماً، أو يقال: ويرى في القيامة بشيء مما عليه العباد فقد قال إفكاً مبيناً؛ لأن كل من وقعت عليه الرؤية فمحدث، فلا عين تراه ولا يدرك بأداة.
ومعنى ذلك عن علي كرم الله وجهه في الجنة وغيره، ذكره في البدر الساري للوالد العلامة محمد بن عزالدين المفتي -رحمه الله-، وهذا الذي تقدم صدر الدليل هو الدليل المسمى دليل المقابلة.
وذهب جماعة من الآل إلى الاستدلال بالدليل المسمى دليل الموانع، وهو (أنه لو كان يرى في حال من الأحوال لوجب أن نراه الآن)، ومعلوم بالضرورة أنا لا نراه الآن كما سيأتي، وإنما قلنا: لو كان يرى في حال من الأحوال لوجب أن نراه؛ فذلك (لأنَّ) من المعلوم قطعاً أن (الحواس) التي لو أدرك المدرك لما أدرك إلا بها (سليمة) بدليل أن المدركات تدرك بها، ولو كانت سقيمة لم تدرك (والموانع مرتفعة)، وهي ثمانية: البعد، والقرب المفرطان، والرقة واللطافة، والحجاب الكثيف، وكون المرئي في خلاف جهة الرائي، وكون محله في بعض هذه الأوصاف، وعدم الضياء المناسب للعين، (وهو تعالى موجود) كما تقدم وحاصل على الصفة التي لو رُئي لما رُئي إلا لكونه عليها، (وهذه الأمور) الأربعة (هي التي تصح معها رؤية المرئيات)، والخامس: أن هذه الشرائط هي التي يجب معها رؤية المرئيات، فهذه خمسة أصول، وأما أن الحواس سليمة فقد تقدم دليله، وأما ارتفاع الموانع في حقه تعالى؛ فلأنها إنما تمنع من رؤية الأجسام والألوان، وليس بجسم ولا لون تعالى عن ذلك، وأما أنه تعالى موجود فقد تقدم، وأما أن هذه الشرائط هي التي معها ترى المرئيات؛ فلأنه قد حصل المقتضي، وهو كون أحدنا حياً، وشرط الاقتضاء وهو صحة الحاسة، وزوال المانع ووجود المدرك، فيجب حصول المقتضى، وهوكون أحدنا مدركاً له تعالى، ومتى قيل هو يرى، وقولكم: لم نره الآن دعوى تحتاج إلى برهان.
قلنا: (والذي يدل على أنا لا نراه أنا لو رأيناه الآن لكان معلوماً بطريق المشاهدة، ومعلوم ضرورة أنا لا نشاهده الآن، فثبت) بذلك المذكور من دليل العقل القطعي (أن الله لا يرى بالأبصار في الدنيا ولا في الآخرة، وقد) جاء السمع مؤكداً لما دل عليه العقل من نفي الرؤية حيث (قال تعالى: {لاَ تُدْرِكُهُ الأَبْصَارُ وَهُوَ يُدْرِكُ الأَبْصَارَ وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ} )[الأنعام:103] فنفى تعالى أنه يُدرَكَ بالبصر مطلقاً في كل وقت ولكل بصر؛ لأن الفعل وقع في سياق النفي المطلق، والأبصار جمع مُعرَّفٌ بالألف واللام، وكل ذلك يوجب الاستغراق ويفيد القطع في مثله على المختار، وهذه المسألة أيضاً مما يصح الاستدلال عليها بالسمع، وتشكيك الرازي ونحوه فيها لا يُسمع.
قالوا: قال الله تعالى: {وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ نَاضِرَةٌ، إِلَى رَبِّهَا نَاظِرَةٌ}[القيامة:23] وفي الحديث: ((سترون ربكم يوم القيامة كالقمر ليلة البدر)).
قلنا: معنى قوله تعالى: {إِلَى رَبِّهَا نَاظِرَةٌ}: منتظرة لرحمته إذ ذلك أحد معانيه ويوجب حمله عليه ما تقدم من الأدلة فدون ذلك يصرف عن حمل المشترك على معانيه الغير متنافية إلى أحدها، والنظر قد ورد بمعنى الانتظار كثيراً كقوله تعالى: {فَنَاظِرَةٌ بِمَ يَرْجِعُ الْمُرْسَلُونَ}[النمل: 39] أي منتظرة، وقوله تعالى حاكياً عن الأشقياء: {انْظُرُونَا نَقْتَبِسْ مِنْ نُورِكُمْ}[الحديد:13] أي انتظرونا، وقوله تعالى: {وَقُولُوا انْظُرْنَا}[البقرة:104] أي انتظرنا، قال الشاعر حسان بن ثابت:
إلى الرحمن باني بالخلاص ... وجوه يوم بدر ناظرات
والخبر مقدوح فيه بروايته عن قيس بن أبي حازم وجرير بن عبدالله البجلي، فإن صح مع بُعدِه فمعناه ستعلمون ربكم كقوله تعالى: { أَلَمْ تَرَ إِلَى رَبِّكَ كَيْفَ مَدَّ الظِّلَّ}[الفرقان:45]، ورأيت الله إذ ..... البيت، وغير ذلك مما يكثر تعداده، ومع ذلك فهو ظني لا يقاوم القاطع، والله سبحانه وتعالى أعلم.
(المسألة العاشرة: أن الله سبحانه واحد لا ثاني له في القدم والإلهية)
والواحد يستعمل في معان أحدها: واحد العدد، وهذا مستحيل في حقه تعالى؛ لاقتضائه التناهي والتحديد، وقد يراد به ما لا يقبل التجزيء والانقسام، أما من كل وجه وهذا جائز في حقه تعالى، ويكون مدحاً بانضمامه إلى كونه حياً خلافاً لعبَّاد، وأما من بعض الوجوه كالإنسان الواحد والدار الواحد فإنه لا يقبل التجزيء من حيث الإنسانية والدارية وإن قبله من جهة أخرى، وهذا مستحيل في حقه تعالى، وقد يراد به المختص بصفات الكمال أو بعضها على حد يقبل المشاركة له، وهذا أيضاً مستحيل في حقه تعالى؛ لأنه يقتضي صحة مشاركة الغير له فيها، وهذا هو المتعارف به.
(و)أما في اصطلاح المتكلمين: فإنَّ (المعنى في ذلك أنه) واحد القدم والإلهية المستحق للعبادة، وهو (المتفرد بصفات الكمال على حد لا يشاركه فيها غيره على الوجه الذي يستحقها) عليه، وهو المقصود هنا، وهذا هو ما ذهب إليه المسلمون كافة، وخالف في ذلك الوثنية والثنوية والمجوس وبعض النصارى.
(والدليل على) ما ذهب إليه أهل الإسلام (أن الله تعالى واحد لا ثاني له: أنه لو كان له ثان لصح بينهما الاختلاف والتمانع) وصحة الاختلاف والتمانع محال، فهذان أصلان، أما الأول: وهو أنه كان يصح بينهما التمانع والاختلاف فلأن اشتراكهما في القدم يقتضي اشتراكهما في القادرية وسائر صفات الذات؛ لأنه قد عُرف أن الشيئين متى كانا مثلين كانا قد اشتركا في صفة ذاتية كالسوادين فإنهما إنما كانا مثلين؛ لاشتراكهما في كونهما سوادين، ويجب اشتراكهما في سائر الصفات الذاتية، وإلا كانا مختلفين ومن حق كل قادرين صحة التمانع بينهما، وذلك ضروري في الشاهد، ولا علة لهذه الصحة إلا كونهما قادرين، بدليل أن العلم بصحة التمانع يدور مع العلم بالقادرية ثبوتاً وانتفاءً مع فقد ما هو أولى من القادرية بأن تعلق عليه صحة التمانع، والتمانع: هو أن يفعل كل واحد من القادِرين ما لأجله يتعذر على الآخر إيجاد مراده، كمتجاذبي الحبل، فإن كل واحد منهما يفعل من الاعتماد ما لأجله يتعذر على الآخر تحصيل الحبل في جهته التي يجذبه إليهما.
وأما الأصل الثاني: وهو أن صحة التمانع محال، (فكان يجب إذا أراد أحدهما تحريك جسم وأراد الآخر تسكينه) في حالة واحدة (فلا يخلو الحال من ثلاثة أقسام: إما أن يحصل مرادهما معاً فيكون الجسم متحركاً ساكناً في حالة واحدة وذلك محال، وإما أن لا يحصل مرادهما معاً فيخلو الجسم من الحركة والسكون، وذلك محال) وأيضاً ففي ذلك خروج عن كونهما قادرين للذات، (وإما أن يحصل مراد أحدهما دون الآخر، فمن حصل مراده فهو الإله القديم، ومن تعذر مراده فهو عاجز ممنوع، والعجز والمنع لا يجوزان إلا على المحدثات).
فإن قيل: إنهما حكيمان فلا يختلفان في الإرادة والداعي؛ لأنهما إذا كان حكيمين فالذي يدعو أحدهما إلى الفعل من العلم بحصول منفعة للغير تدعو الآخر إليه، والذي يدعو أحدهما إلى فعل الإرادة يدعو الآخر، إذ ليس دواعيهما دواعي حاجة، فتختلف دواعيهما لاختلاف نفعهما، وإذا كانا لا يختلفان في الداعي والإرادة لم يتمانعا، إذ التمانع فرع على اختلاف الدواعي.
قلنا: كلامنا في الصحة لا في الوقوع، ومعلوم أن كل حيين يصح اختلافهما في الإرادة والداعي، وإلاَّ لَمْ ينفصل الحي الواحد من الاثنين على أنه يعلم صحة التمانع من لا يعلم اتحاد الإرادة أو تعددها، بل يعلمه من ينفي المعاني.
قال الوالد العلامة محمد بن عزالدين المفتي: قلت: وأيضاً لو كان متعدداً ومنعت الحكمة من تخالفهما لما وصلنا رسول مؤيد بمعجز خارق يدعو إلى أحدهما ومكذب دعوى التعدد، ومثله ذكره الإمام القاسم بن محمد -عَلَيْهِ السَّلامُ- في الأساس: (وقد) دل السمع على المنع حيث (قال تعالى: {لَوْ كَانَ فِيهِمَا آلِهَةٌ إِلاَّ اللَّهُ لَفَسَدَتَا}) [الأنبياء:22] قال جار الله في قوله تعالى: {لَوْ كَانَ فِيهِمَا آلِهَةٌ إِلاَّ اللَّهُ لَفَسَدَتَا} دلالة على أمرين: أحدهما: وجوب أن لا يكون مدبرهما إلا واحد، والثاني: ألا يكون ذلك الواحد إلا إياه.
فإن قلت: لم وجب الأمران؟ قلت: لعلمنا أن الرعية تفسد بتدبير الملكين لما يحدث بينهما من التناكر والتغاير والاختلاف، وهذا ظاهر.
قال: وأما طريقة التمانع فللمتكلمين فيها تجادل وطراد وقوله تعالى:{إِذًا لَذَهَبَ كُلُّ إِلَهٍ بِمَا خَلَقَ}[المؤمنون:91] وقوله تعالى: {قُلْ لَوْ كَانَ مَعَهُ آلِهَةٌ كَمَا يَقُولُونَ إِذًا لاَبْتَغَوْا إِلَى ذِي الْعَرْشِ سَبِيلاً}[الإسراء:42] فهذه الآيات فيها مناسبة لدليل التمانع وإشارة إليه، ومما يدل على الوحدانية قوله تعالى: ({وَمَا مِنْ إِلَهٍ إِلاَّ إِلَهٌ وَاحِدٌ})[المائدة:73] وقوله تعالى: {قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ}[الإخلاص:1] وغير ذلك من الآيات المصرحة بالتوحيد.
وأما الكلام على الثنوية في النور والظلمة ومقالتها: أن كل خير فهو من النور بطبعه، وكل شر فهو من الظلمة بطبعها، وأن كل واحد منهما لا يقدر على خلاف ما يصدر عنه، وأن العالم ممتزج منهما، وأنهما غير متناهين إلا من جهة التلاقي.
فالكلام عليهم: أن النور والظلمة جسمان عند كثير من الناس وعرضان عند الباقين، والأجسام والأعراض محدثة، وأما المجوس الذين يقولون: بأن النور يزدان والظلمة إهرمن، وقال بعض هؤلاء: بحدوث إهرمن، قيل: من عفونة كانت قديمة. وقيل: من فكرة يزدان الرديَّة، وقيل: من شكه.
فيقال لهم: أما القول بأنه حدث من عفونة فباطل؛ لأن العفونة جسم، وكل جسم محدث؛ لأن الجسم لا يتولد عن جسم، ولأن العفونة من القاذورات ومما تعدُّونَه شراً فهلا كانت الشرور قديمة ولا يحتاج إلى إثبات ثان يخلقها، أوكانت هذه العفونة محدثة فيجب تقدم إهرمن عليها ليكون محدثاً لها، ولأنه كان يجب أن يتولد من كل عفونةٍ إهرمن؛ لأنه إذا كان إهرمن محدثاً فكيف يكون إلهاً دون غيره من المحدثات؟ وكيف يصح منه فعل الأجسام؟
وأما القول بأنه حدث من فكرة الله أو من شكه فباطل؛ لأن الشك والفكرة إنما يجوزان على من يجهل، ولأنه كان يجب في كل فكرة وشك مثله؛ لأن الشك والفكرة متماثل إذا اتحد متعلقه، ولأنه إذا حدث من فكرة يزدان لزم كون يزدان محدثاً للشرور؛ لأن هذه الفكرة الرديئة من قبيل الشرور، وفي ذلك حصول الشرور من غير إهرمن.
وأما الكلام على الصابئين الذين زعموا أن للعالم صانعاً واحداً لكنه خلق الأفلاك حية قادرة عالمة وجعلها آلهة عبدوها وعظموها وسمَّوها الملائكة وجعلوا بيوت العبادات بعدة الأفلاك السبعة، وزعموا أن بيت الله الحرام هو بيت زحل وأنكروا الآخرة، ومنهم قائلون بالتناسخ، وزعموا أن لهم نبيئاً وأنه على دين شيث.
فإنا نقول: الأفلاك جمادات سخرها الله بأمره ودبر حركتها بمشيئته وخلقها لمنافع العباد، وألطافاً لهم، وقد ذكر الله تعالى من منافعها في القرآن العظيم أنها زينة للسماء ورجوماً للشياطين وعلامات يُهتدى بها وغير ذلك، وهي أجسام والجسم لا يقدر على إحداث جسم كما هو مقرر بدليله، والطبع غير معقول، إذ لا يعلم ضرورة ولا دليل عليه، (فثبت بذلك) الذي ذكرناه من الأدلة (أن الله واحد لا ثاني له).
(باب العدل)
العدل في أصل اللغة: المِثل، يقال هذا عدل هذا أي مثله، وفي عرفها مصدر عدلَ في فعله، أي أنصف نقيض الجور هكذا نُقِلَ.
وفي الشرع: ما قاله أمير المؤمنين -عَلَيْهِ السَّلامُ- حيث قال: (العدل أن لا تتهمه) هذا نهاية التنزيه، وهو يقتضي التفويض والتسليم لأوامره تعالى وقضاياه وأحكامه، وما قصر عنه الفهم اتهم فيه العقل القاصر عن بلوغ شأو أحكم الحاكمين وَوَكَلَ عِلْمَه إلى الله العزيز الحكيم، وقَطَعَ المُكَلَّفُ بأن ذلك هو الراجح كما أرشد إليه ملائكته المقربين لما قالوا على وجه الالتماس لا الاعتراض {أَتَجْعَلُ فِيهَا مَنْ يُفْسِدُ فِيهَا وَيَسْفِكُ الدِّمَاءَ وَنَحْنُ نُسَبِّحُ بِحَمْدِكَ وَنُقَدِّسُ لَكَ قَالَ إِنِّي أَعْلَمُ مَا لاَ تَعْلَمُونَ}[البقرة:30] وقد صرح به القاسم بن إبراهيم -عَلَيْهِ السَّلامُ- والمرتضى وغيرهما.
واعلم: أن هذا الباب يشتمل على عشر مسائل ذكرها الشيخ في الباب أولها:
(المسألة الحادية عشرة) من الكتاب
(أنه يجب على المكلف أن يعلم أن الله تعالى عدل حكيم ليس في أفعاله ما هو قبيح ولاظلم ولا عبث ولا سفه) ولا كذب (ولا شيء من القبائح).
ولم يسمع عن أحد من أهل الجبر هذه المسألة، ولا وجدت في شيء من كتبهم الكلامية، وإن كانوا لو سئلوا عن ذلك لما وسعهم إنكاره، وهذه المسألة هي أم مسائل العدل، وما عداها من مسائله داخل تحتها ومُفَصِّلٌ لها كما نقوله في الدلالة على أنه غير خالق لأفعالنا، فهي مشتملة على القبيح، والله تعالى لا يفعله، وتحقيق ذلك أن مسائل العدل على ضربين:
الأول: المسائل الإثباتية، كالكلام في أنه تعالى يثيب من أطاعه ويعاقب من عصاه، ويبين للمكلفين ما كُلفوه، ويمكنهم منه فلا يكلفهم مالا يُعلم ولا يطاق، ويعوض المؤلمين ، ويقبل توبة التائبين، وهي داخلة تحت قولهم فيها لا يخل بالواجب.
والثاني: المسائل النفيية، كالكلام في أنه ليس بخالق لأفعال العباد، ولا يثيب أحداً بغير عمل منه، ولا يعاقبه بغير ذنب منه، ولا يريد المعاصي ولا يقضي بها، ولا يرضى بها ولا يكلف مالا يطاق ومالا يُعْلَم، وهذه كلها داخلة في أنه لا يفعل القبيح، فعرفت صحة ما ذكر من كونها أم مسائل العدل، وإنما سائر مسائله تفصيل لها وعائدة إليها.
نعم: وقد وافقت المجبرة في المنع من إطلاق القول بأن الله تعالى ظالم وجائر وفاعل للقبيح، وأثبتوا المعنى فأضافوا إليه كل قبيح، وجعلوا يحتالوا للمنع من إطلاق العبارة بمالا محصول له ولا طائل فيه.
(والدليل) لنا (على ذلك: أنه تعالى عالم بقبح القبيح وغني عن فعله وعالم باستغنائه عنه، وكل من كان بهذه الأوصاف فهو لا يفعل القبيح ولا يختاره ولا يرضاه).
أما كونه تعالى عالماً بقبح القبيح وغنياً عنه، وعالماً باستغنائه عنه فقد تقدم في مسألة غني وعالم أنه يستحيل عليه الجهل والحاجة.
وأما أنه لا علة في حق الشاهد لفعل القبيح إلا اجتماع هذه الأوصاف؛ فلأن العلم بذلك يدور مع العلم باجتماعها ثبوتاً وانتفاءً، ولو كان لمؤثر غيرها لجاز أن يفعل أحدنا القبيح مع اجتماعها أو يستمر الحال في أنه لا يفعله مع زوالها أو بعضها وخلافه معلوم، ألا ترى أن الظلمة لا يغتصبون الأموال إلا لاعتقادهم أنهم محتاجون إليها أو لجهلهم بأن ذلك ظلم، إما بأن يعتقدوا بأن المغصوب عليه يستحق بأن يغصب عليه، أو أنهم يدفعون بذلك ضرراً عن الرعية ويدَّخرونه لما ينوب الجميع، يزيد ذلك وضوحاً أن العاقل لو خير بين أن يكذب ويأخذ درهماً أو يصدق ويأخذ درهماً مثله فإنه يختار الصدق لا محالة.
فإن قيل: إنه لا يختار الكذب لاستحقاق الذم عليه والعقوبة.
قلنا: نفرض الكلام في كافر دنيء لا يتضرر بالذم ولا يعلم استحقاق العقاب، فثبت أنه لا علة لكونه لا يفعله إلا اجتماع هذه الأوصاف، (فثبت) بهذه الطريق أن الله (عدل حكيم) كما ذكر.
(المسألة الثانية عشرة)
(أن أفعال العباد) جميعها (الحسن منها والقبيح) والمبتدئ والمتولد غير مخلوقة بل هي (منهم) ونسبتها إليهم حقيقة (لا من الله تعالى).
وهذا مذهب أكثر أهل القبلة وغيرهم من أهل الأديان الكفرية.
وقال أهل الجبر: هي من الله تعالى، وإنما سُموا جبرية لمذهبهم في هذه المسألة، وقولهم بأن العبد مجبور على هذه الأفعال، ولا اختيار له فيها، ثم اختلفوا بعد ذلك فقال جهم: هم لها كالظروف، وإضافتهم إليها كإضافة ألوانهم، وكإضافة حركة الشجرة إليها، وسَوَّا في ذلك بين المباشر والمتعدي.
وقال ضرار: هي من الله تعالى حدوثاً ومن العبد اكتساباً، ولم يفرق بين المباشر والمتعدي، وبه قال الأشعري في المباشر، فأما المتعدي فالله متفرد به عنده.
وقال المدعون للتحقيق منهم كالجويني والغزالي والقاضي أبي بكر الباقلاني وغيرهم من مشاهير علماء هذا المذهب: الفعل يقع بقدرة العبد ولكنها موجبة ففاعلها هو فاعل الفعل؛ لأن فاعل السبب فاعل المسبب.
قال بعض المحققين: والأقرب أن هذه الأقوال في التحقيق تعود إلى قول جهم؛ لأن أهل الكسب لا بد أن يجعلوا العباد كالظروف لها في الحدوث، وأما الكسب فهو إما أن لا يكون فعلاً فذكره هنا بطالة وهذيان؛ لأن كلامنا في الأفعال، وإما أن يكون فعلاً فهو إما أن ينفرد الله به، وهو مذهب جهم، وإما أن يحتاج إلى كسب آخر فيعود السؤال، وكذلك المثبتون للقدرة الموجبة لا بد أن يجعلوا العباد كالظروف لأفعالهم؛ لأنه لا اختيار لهم في السبب ولا في المسبب، ويصير الحال فيه كالحال في الشجرة التي يوجد الله فيها اعتماداً توجب الحركة، فإن ذلك لا يخرج الشجرة عن كونها كالظرف للحركة الموجبة عن الاعتماد، فظهر بذلك أن المجبرة كلهم جهيمة في التحقيق.
(والدليل على ذلك) المذهب الصحيح، وهو مذهب أهل العدل ومن وافقهم: العلم بأنا محدثون لأفعالنا ضروري؛ لأنه لا مجال للشك فيه؛ لأن العقلاء يعلمون بعقولهم (أنه يحسن أمرهم ببعضها ونهيهم عن بعض وثوابهم ومدحهم على الحسن) الذي يستحق عليه الثواب، (وعقابهم على القبيح منها)، ويعللون ذلك بكونه فعله، وكل ذلك فرع على أنهم المحدثون لها، وإنما قلنا على الحسن الذي يستحق عليه الثواب؛ لأن بعض الحسن لا يستحق عليه ثواب، كالمكروه والمباح فإنهما حسنان عند المحققين ولا ثواب فيهما، (فلو كانت من الله لما حسن شيء من ذلك كما لم يحسن شيء من ذلك على صورهم وألوانهم، فإذا حسن ثوابهم وعقابهم، ومدحهم وذمهم، على أفعالهم، ولم يحسن شيء من ذلك على صورهم وألوانهم علمنا) الفرق بين أفعال العباد وبين الصور والألوان ودل ذلك على (أن أفعالهم منهم لا من الله تعالى، وذلك مقرر في عقل كل عاقل).
فإن قالوا: ألستم تحمدون الله تعالى على الإيمان وهو من فعلكم؟
والجواب: أنا نحمده على مقدمات الإيمان من الإقدار والتمكين والتوفيق، وهو يحمدنا تعالى على فعله كما صرح به في قوله تعالى: {فَأُولَئِكَ كَانَ سَعْيُهُم مَشْكُوراً}[الإسراء:19] وقوله تعالى: {وَمَا يَفْعَلُوا مِنْ خَيْرٍ فَلَنْ يُكْفَرُوهُ}[آل عمران:115] وصار الحال في حمدنا له تعالى على الإيمان كالحال في الوالد إذا اجتهد في تخريج ولده وحسن تأديبه حتى يبدو صلاحه، فإنه يقال: هذا من أبيه، والمراد أنه تقدم من أبيه من العناية والرعاية ما كان سبباً في ذلك.
ولنا طريقة أخرى سمعية، وإنما استدللنا بالسمع هنا وإن كان العلم بصحته يقف على العلم بهذه المسألة استظهاراً على الخصوم، لموافقتهم في أنه دلالة، ولأنهم تمسكوا بالمتشابه فتمسكنا بالمحكم على أن المتأخرين من أصحابنا كالشيخ الحسن الرصاص والإمام يحيى والفقيه حميد قد صححوا الاستدلال بالسمع على هذه المسألة وغيرها من جنسها على أنه يكفي في معرفة صحة السمع ثبوت الدلالة على أنه عدل حكيم في الجملة، فإذا عرف المستدل عدله وحكمته ونبؤة نبيه صح الاستدلال بالسمع، فمنها قوله تعالى: {فَمَنْ شَاءَ فَلْيُؤْمِنْ وَمَنْ شَاءَ فَلْيَكْفُرْ}[الكهف:29] مما يقتضي أنا مختارون في أفعالنا، ومنها قوله تعالى: {وَتَخْلُقُونَ إِفْكًا}[العنكبوت:17] مما يدل على أنهم يقدرون على أفعالهم، ومنها قوله تعالى: {بما تعملون}، {بما تصنعون}، {هَلْ تُجْزَوْنَ إِلاَّ مَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ}[النمل:90] {لَنَا أَعْمَالُنَا وَلَكُمْ أَعْمَالُكُمْ}[القصص:55] {يَوْمَ تَجِدُ كُلُّ نَفْسٍ مَا عَمِلَتْ مِنْ خَيْرٍ مُحْضَرًا}[آل عمران:30] {وَقَدِمْنَا إِلَى مَا عَمِلُوا مِنْ عَمَلٍ}[الفرقان:23] {مَنْ يَعْمَلْ سُوءًا يُجْزَ بِهِ}[النساء:123] ونحو ذلك مما يصرح بأن لنا أعمالاً نجازى عليها، والقرآن مشحون بذلك، ومذهبهم يقضي بصرف القرآن عن ظاهره، ويدخله في قالب الهذيان.
ومما نستدل به على صحة ما نقوله في هذه المسألة السنة النبوية والإجماع، أما السنة فنحو قوله ً : ((اعملوا فكل ميسر لما خلق له)) ، وقوله: ((نية المؤمن خير من عمله، ونية الفاسق شر من عمله)) وقوله ً: ((الأعمال بالنيات)) وأما الإجماع: فهو أن الرضى بقضاء الله واجب، ولو كان الكفر من قضاء الله تعالى لكان الرضى به واجباً لكن الرضى بالكفر كفر بالإجماع، فعلمنا أن الكفر ليس من فعل الله فلا يكن من خلقه، ذكر هذا بعضهم، (فثبت بذلك) الذي ذكرنا من الأدلة العقلية والنقلية (أن) العباد (أفعالهم منهم) لا من الله تعالى وبطل ما ذهب إليه المخالفون، وقد ألزموا بإلزامات في البسائط تقضي بكفرهم ولا محيص لهم عنها، ولله القائل: (أتظن أن الذي نهاك دهاك، إنما دهاك أسفلك وأعلاك) ، فيالله من سلب العقول وتضييع المعقول والمنقول.
تنبيه: واعلم أن المعتزلة قد اتفقت على انقسام فعل العبد إلى متولد، وهو الفعل الموجود بواسطة موجبة كالعلم الحاصل بواسطة النظر والمبتدئ يقابله، وهما يرادفان السبب والمسبب في أغلب الأحوال، ويفارقان المباشر والمتعدي مفارقة الأعم للأخص؛ لأن المباشر هو الموجود في محل القدرة عليه، والمتعدي هو الموجود في غير محلها بواسطة فعل في محلها، فكل متعد متولد ولا عكس، وكل مباشر مبتدئ ولا عكس، واختلفوا في المتولد، فالذي عليه الزيدية أن المتولد فعل العبد حقيقة وتأثيره كالمبتدئ، وإن اختلفا في أن أحدهما بواسطة والآخر بغير واسطة، وقال أبو عثمان الجاحظ: لا فِعلَ للعبد مبتدئ إلا الإرادة فقط، وجميع ما عداها من الأفعال المنسوبة إليه فهو متولد، لكن لا من فعل العبد بل متولد بطبع المحل ولاتأثير لله تعالى فيه.
وقال تلميذه إبراهيم بن سيار النظام: المباشرُ سواء كان بواسطة أوْلا، فِعْلُ العبد، والمتعدي فعل الله تعالى لكن لم يجعله طبعاً للمحل فهو فِعلهُ بواسطة ذلك الطبع.
وقال قبة : بل المتعدي فعل الله يبتدئه، وقال ثمامة: بل هو حدث لا محدث له، لنا وجوده بحسب القصد والداعي دل على توليده من فعلنا كما تقدم، وللمجبرة شبه لا طائل تحتها فلا نشتغل بإيرادها، وهي مذكورة في البسائط.
(المسألة الثالثة عشرة:أنه لا يجوز إطلاق القول بأن المعاصي من قضاء الله وقدره)
والقضاء في اللغة: بمعنى الخلق نحو: {فَقَضَاهُنَّ سَبْعَ سَمَاوَاتٍ}[فصلت:12] وبمعنى الأمر نحو: {وَقَضَى رَبُّكَ أَلاَّ تَعْبُدُوا إِلاَّ إِيَّاهُ}[الإسراء:23] وبمعنى الإعلام نحو: {وَقَضَيْنَا إِلَى بَنِي إسْرائِيلَ فِي الْكِتَابِ لَتُفْسِدُنَّ فِي الأَرْضِ مَرَّتَيْنِ}[الإسراء:4] وبمعنى الفراغ نحو: {فَلَمَّا قَضَى مُوسَى الأَجَلَ}[القصص:29].
وأما القَدَرُ فلم يرد إلا بمعنى الكتابة والعلم نحو قوله:
واعلم بأن ذا الجلال قد قدر ... في الصحف الأولى التي كان سطر
أمرك هذا فاجتنب (منه) التبر.. أي الهلاك. أي علم وكتب.
ثم إن أهل القبلة اتفقوا على إثبات القضاء والقدر في جميع أفعال العباد بمعنى العلم والكتابة، واتفقوا على نفيه بمعنى الأمر بكل أفعال العباد، واختلفوا في هل قضاء أفعال العباد وقدرها بمعنى خلقها، فأنكره أهل العدل ومنعوا إطلاق القول بأن أفعال العباد بقضاء الله وقدره، ولقولهم بثبوته بمعنى العلم والكتابة،ومنعوا القول أيضاً من إطلاق نفي كونها بقضاء الله وقدره.
وأما المجبرة فلإثباتهم معنى الخلق أجازوا إطلاق القول بأنه بقضائه وقدره، (والدليل على ذلك) هو أنه لا يصح إطلاق القول: (أن إطلاقه يوهم المعنى الفاسد، وهو أنه تعالى خلقها) كما يقوله المجبرة، (وذلك لا يجوز؛ لأنا قد بينا) بالدليل القاطع فيما تقدم من مسألة خلق الأفعال (أن أفعالهم منهم لا منه تعالى).
وأيضاً فقد وقع الإجماع على قبح الرضى بالمعاصي وأخبر الله عن نفسه أنه لا يرضى لعباده الكفر.
وأيضاً فقد وقع الإجماع على أن قضاء الله حق، لقوله تعالى: {وَاللهُ يَقْضِيْ بِالْحَقِّ}[غافر:20].
ووقع الإجماع على أن الكفر باطل كما قال تعالى: {وَزَهَقَ الْبَاطِلُ}[الإسراء:81] فلو كانت المعاصي بقضائه لكانت حقاً.
وأيضاً إذا جاز القضاء بالمعاصي بمعنى الخلق جاز القضاء بمعنى الأمر؛ لأنه ليس الأمر بالكفر بأبلغ من فعله في الكافر ومنعه من الإيمان.
واعلم: أنه قد اختلف في بيان القدرية واتفق الناس على أنه اسم ذم لما ورد الأمر بذمهم ولعنهم، والنهي عن مجالستهم وتشبيههم بالمجوس، فعندنا أن المجبرة المعنيون به ودليلنا اللغة والمعنى والآثار.
أما اللغة: فهو أن الاسم إنما يشتقه أهل اللغة لمن أثبت الشيء لا لمن نفاه، والخصوم أثبتوا القدر بالمعنى المختلف فيه، ونحن ننفيه فهم أحق بهذا الاسم، كما أن الموحد من أثبت الواحد، والثنوي من أثبت الثاني، والمجسم من أثبت التجسيم، فكذلك القدري من أثبت القدر، هكذا قيل، وفي العبارة وهم؛ لأن القدري ليس مشتقاً من القدر بل منسوب إليه إذ هو اسم القدر زيدت عليه ياء النسبة، فالأولى في تحرير العبارة أن القدرية اسم نسبة.
فإن قيل: قد أثبتم يا عدلية القدر؛ لأنكم تجعلون المعاصي بقدر العبد فصحت النسبة والاشتقاق، فأنتم إذاً القدرية؟
فالجواب: أن هذه ليست من عبارات العدلية ولا يتولعون بذكر القدر بخلاف المجبرة، ولا يقال أنه منسوب إلى القدرة، فأنتم تقولون بها؛ لأنكم تثبتون القدرة على أفعالكم؛ لأنا نقول: لو كانت كذلك لكنتم أيضاً قدرية؛ لأنكم تثبتون القدرة لله تعالى، وأكثركم يثبت القدرة للعباد، ويلزم أن يكون الله قدَرِياً.
وأيضاً فالنسبة إليها قُدْري بضم القاف وسكون الدال، والأصل عدم تغيير النسبة، فهلم الدليل إلى أنه من تغيير النِسَبْ فإنه خلاف الظاهر، وأما من جهة المعنى فهو أن النبي ً ذمهم ونهى عن مجالستهم وحكم بأنهم شهود إبليس وخصماء الرحمن وشبههم بالمجوس، فسبيلنا أن ننظر في معاني هذه الأطراف.
أما الذم فوجدناهم أحق به؛ لأنهم أضافوا إلى الله كل قبيح من ظلم وعبث وسفه وتكليف مالا يطاق، والاضلال عن الدين ونحو ذلك مما لو نسبته إلى أحدهم لأنف منه ونفاه عن نفسه، ونحن نقول: إن الله تعالى عدل حكيم منزه عن كل نقص في الذات منعم على كل الخلق، له الحجة على المكلفين.
وأما النهي عن المجالسة؛ فلأنا وجدنا في مجالستهم من المفسدة مالا يخفى، أما أولاً: فلأنهم يغرون بالمعاصي ويسهلونها، ويقولون ما قدّره الله كان، ومالم يُقَدره لم يكن، فلا وجه للصبر عن المعصية والتحفظ عنها.
وأما ثانياً: فلأنهم يؤيسون عن رحمة الله تعالى وعدله بتجويزهم أن يعذب من لا ذنب له، إلى غير ذلك مما يجري مجراه.
وأما كونهم شهود إبليس وخصماء الرحمن فإن الله إذا قال: ما منعك أن تسجد ولِمَ كفرت؟ فيقول: يا رب أنت منعتني من السجود وقضيت علي بالكفر، فهو منسوب إليك، ونسْبته إليَّ كذب لا صحة له، ولا حجة لك عليَّ، فإذا قال الله: مَنْ شَاهِدُك على ذلك فلا يجد غير أهل هذه المقالة.
قال الإمام عزالدين -عَلَيْهِ السَّلامُ-: وشهادتهم له ومخاصمتهم لله عز وجل تقديرية وبلسان الحال، وإن كانوا هم وإبليس في الآخرة أحقر من أن يحاجوا الله بالأباطيل، وينطقوا بالهَجْر من الأقاويل، والمعنى أن هذا يكون قولهم لو قالوا ونطقوا بما كانوا عليه من الاعتقاد، وهيهات هذا يوم لا ينطقون ولا يؤذن لهم فيعتذرون. انتهى.
وأما شبههم بالمجوس فمن وجوه: أحدها: أنهم ينكحون أمهاتهم وأخواتهم ويقولون: كل ذلك من الله تعالى، وقول المخالفين كذلك.
ومنها: أن المجوس علقوا المدح والذم والأمر والنهي بما لا يعقل، وهو الطبع، والمخالفون علقوا ذلك بمالا يعقل، وهو الكسب.
ومنها: أن المجوس يعلقون المدح والذم بمالا اختيار في فعله ولا تركه، يحكى أنهم يرمون بالبقرة من شاهق، ويقولون: انزلي لا تنزلي، فإذا وقعت على الأرض، قالوا: غَصْبٌ وأكلوا لحمها، وكذلك مذهب الخصوم في المؤمن والكافر.
وأما الآثار الدالة على ذلك؛ فلأنه قد رويَ (أنه قال ً: ((صنفان من أمتي لا تنالهما شفاعتي لعنهم الله على لسان سبعين نبياً، وهم القدرية والمرجئة، قيل: يا رسول الله: من القدرية؟ قال: الذين يعملون المعاصي، ويقولون: هي من الله تعالى، قيل: ومن المرجئة؟ قال: الذين يقولون: الإيمان قول بلا عمل)) .).
وروى القرشي في منهاجه قال: رويَ في الفائق أنه قال: ((لُعِنَت القدرية والمرجئة على لسان سبعين نبياً، قيل: ومن القدرية يا رسول الله؟ قال: قوم يزعمون أن الله تعالى قدَّر المعاصي عليهم وعذبهم عليها، قيل: ومن المرجئة؟ قال: قوم يقولون: الإيمان قول بلا عمل)) .
وفيه أيضاً: وروى أبو الحسن عن محمد بن علي المكي بإسناده أن رجلاً قدم على النبي ً من فارس فقال له النبي: ((أخبرني بأعجب ما رأيت؟ قال: رأيت قوماً ينكحون أمهاتهم وبناتهم وأخواتهم، فإذا قيل لهم: لم تفعلون؟ قالوا: قضاه الله وقدّره، فقال -عَلَيْهِ السَّلامُ-: أما إنه سيكون في هذه الأمة قوم يقولون بمثل مقالتهم أولئك مجوس أمتي)) .
ورويَ فيه عن جابر بن عبد الله قال: ((يكون في آخر الزمان قوم يعملون المعاصي ويقولون: قدرها الله تعالى، الراد عليهم كالشاهر سيفه في سبيل الله)) .
وعن الأصبغ بن نباتة قال: قام شيخ إلى علي -عَلَيْهِ السَّلامُ- بعد انصرافه من صفين فقال: أخبرنا عن مسيرنا إلى الشام أكان بقضاء الله وقدره؟ فقال علي -عَلَيْهِ السَّلامُ-: (والذي فلق الحبة وبرأ النسمة ما وطئنا موطئاً، ولا هبطنا وادياً، ولا علونا تلعةً إلا بقضاء الله وقدره، فقال الشيخ: عند الله أحتسب عناي ما أرى أنَّ لي من الأجر شيئاً، فقال له: مهٍ أيها الشيخ بل أعظم الله أجركم في مسيركم وأنتم سائرون، وفي منصرفكم وأنتم منصرفون، ولم تكونوا في شيءٍ من حالاتكم مكرهين، ولا إليها مضطرين، فقال الشيخ: كيف والقضاء والقدر ساقانا؟ فقال: ويحك لعلك ظننت قضاءً لازماً وقدراً حتماً، لو كان كذلك لبطل الثواب والعقاب والوعد والوعيد والأمر والنهي، ولم تأت من الله لائمة لمذنب ولامحمدة لمحسن، ولم يكن المحسن أولى بالمدح من المسيء، تلك مقالة عبدة الأوثان وجنود الشيطان، وشهود الزور وأهل العمى عن الصواب، وهم قدرية هذه الأمة ومجوسها، إن الله تعالى أمر تخييراً، ونهى تحذيراً، وكلف يسيراً، ولم يُعصَ مغلوباً ولم يُطَع مُكرَهاً، ولم يرسل الرسل إلى خلقه عبثاً، ولم يخلق السموات والأرض وما بينهما باطلاً ذلك ظن الذين كفروا فويلٌ للذين كفروا من النار، فقال الشيخ: فما القضاء والقدر الذي ما سرنا إلا بهما؟ قال: هو الأمر من الله والحكم، ثم تلى : {وَقَضَى رَبُّكَ أَلاَّ تَعْبُدُوا إِلاَّ إِيَّاهُ}[الإسراء:23] فنهض الشيخ مسروراً وقال:
أنت الإمام الذي نرجوا بطاعته
أوضحت من ديننا ما كان ملتبساً ... يوم الحساب من الرحمن غفراناً
جزاك ربك عنا فيه إحساناً
فانظر في هذا الكلام الذي هو صريح في أنهم هم القدرية، وهو من كلام سيد البشر الصادق المصدق، ومن كلام باب مدينة العلم ومن هو على الحق والحق معه.
ولهم شُبَهٌ في هذه المسألة، منها أخبار آحادية لا تُقبلُ في مثل هذه المسألة، ومع ذلك فهي محتملة فلا نشتغل بإيرادها، وتعلقوا بقوله تعالى: {وَإذْ يُرِيْكُمُوهُمْ إِذِ التَقَيْتُمْ فِيْ أَعْيُنِكُمْ قَلِيْلاً وَيُقَلِّلُكُمْ فِي أَعْيُنِهِمْ لِيَقْضِيَ اللَّهُ أَمْرًا كَانَ مَفْعُولاً}[الأنفال:44] فبين أنه بعث المؤمنين على محاربة الكفار وجرأهم عليه، وكذلك بعث الكفار على المؤمنين وجرأهم عليهم ليقضي ذلك.
والجواب: ليس في ظاهرها من هذه الدعوى شيء، والمراد بالقضاء التمام فقلل الكفار في أعين المؤمنين؛ ليجترؤا عليهم تثبيتاً لهم ونصراً، وقلل المؤمنين في أعينهم؛ لئلا يحترزوا منهم خذلاناً لهم؛ ليتم ما وعد من نصر المؤمنين وخذلان عدوهم وهلاكهم بأيدي المؤمنين.
ومنها: قوله تعالى: {قُضِيَ الأَمْرُ الَّذِي فِيهِ تَسْتَفْتِيَانِ}[يوسف:41].
والجواب: أن لفظ الأمر ليس فيه تصريح بما يدعيه الخصم، وهو من الألفاظ المشتركة إلى غير ذلك مما لا تعلق لهم به من المتشابه.
وأيضاً فإنه لا يصح الاستدلال بسمع قط لتجويزهم القبيح عليه تعالى، ومع ذلك فما يؤمنهم أنه تعالى لم يرد بخطابه معنى من المعاني المفهومة، بل تكلم به على جهة الهذر واللعب، (فثبت بذلك) الذي ذكرنا (أنه لا يجوز إطلاق القول بأن المعاصي بقضاء الله وقدره)، وبطل ما زعموا.
(المسألة الرابعة عشرة: أنَّ الله تعالى لا يكلف عباده مالا يطيقون)
وهذا قول الأكثر، واتفق أهل الجبر إلا الغزالي على جوازه، وليس وجه الامتناع عنده الوجه الذي تعلل به العدلية وهو قبحه، وأن الله تعالى لا يفعل القبيح؛ لأن قاعدته نفي التقبيح العقلي، بل علل بأن الطلب ممن لا يتأتى منه المطلوب محال كما يستحيل طلب الحركة من الشجرة، ووافقونا إلاَّ الأشعري وأتباعه على أنه ممنوع سمعاً ثم اختلفوا في صحة تكليف مالا يعلم والعاجز، فمنعه محققوهم وأجازه الباقون مع اتفاق الجميع على منع تكليف الجماد.
واعلم: أنه لا محصول لشيء من هذا الخلاف؛ لأنهم متفقون على أن الله تعالى خالق لجميع الأفعال، وأنه لا يوجد شيء إلا بقدرته، فلا بد أن يكون التكليف بالأفعال تكليفاً لما لا يطاق ولا ينجيهم من ذلك قولهم: إن للمؤمن قدرة على الإيمان، وللكافر قدرة على الكفر؛ لأنه لا معنى لذلك إلا أن الله أوجد الفعل عندها على ما يقولون، (والدليل على ذلك) الذي ذهبنا إليه أن تكليف مالا يطاق قبيح مع أنه معلوم قبحه على الجملة ضرورةً لا يختلف فيه أهل العدل، وإنما اختلفوا في العلم بقبحه تفصيلاً وفي وجه قبحه، وفي حق الله تعالى، فالشيخان: أبو الحسين ومحمود ابن الملاحمي طردا القضية وقالا: كل ذلك معلوم بالضرورة، قيل لهما: لو كان ذلك ضرورياً لم يخالف المجبرة؟ فأجابا: بأنهم صنفان: عوام وعلماء، فالعلماء منهم قلة فيجوز منهم التواطؤ على إنكار الضرورة لأغراض دنيوية، والعوام هم السواد منهم ومن غيرهم، وهم أتباع للناعق.
والذي عليه جمهور العدلية أنه لا يعلم قبح تكليف مالا يطاق مفصلاً وفي حق الله إلا استدلالاً.
وقالوا: على ذلك (إن تكليف مالا يطاق قبيح، والله تعالى لا يفعل القبيح).
فإن قيل: (و) ما (الذي يدل على أن تكليف مالا يطاق قبيح)؟
قيل له: (هو معلوم) قبحه (ضرورة في حق الشاهد، ألا ترى أنه يقبح في الشاهد منا أن يأمر الأعمى بنقط المصحف، وأن يأمر المقعد بالجري مع الخيل العربية، وأن يأمر من لا جناح له بالطيران، وقبح ذلك معلوم ضرورة، ولم يقبح ذلك إلا لكونه تكليفاً لما لا يطاق) بدليل أن من علمه كذلك علم قبحه، وإن جهل كل أمر من سمع وغيره، (فلو كلف الله تعالى عباده مالا يقدرون عليه لكان قبيحاً، والله تعالى لا يفعل القبيح).
ولهم شبهٌ من جهة السمع والعقل، فأما السمع فلا مدخل له في هذه المسألة؛ لأنها ممالا يصح الاحتجاج فيها به عند البعض.
وأما العقل فقالوا: لو قدر أحدنا على الفعل لكان إما أن يقدر حال وجوده وهو محال، لاستحالة إيجاد الموجود، أو قبل وجوده وهو محال؛ لأن القدرة إن كان لها أثر لزم حصول المقدور حال حصول الأثر، وإن لم يكن لها أثر لزم أن لا يكون قُدْرة.
والجواب: أن هذا معارض بقدرة الباري تعالى وجوابهم جوابنا، والتحقيق: أنَّ القدرة ثابتة قبل الفعل، ولها به تعلق يثبت حال ثبوتها، وهو صحة إيجاده لها.
وأما التأثير: فمعناه أنه وجد بها، وذلك لا يحصل إلا حال وجود المقدور؛ لأنه هو وجود المقدور بها.
قالوا: قد كلف الله تعالى ما يعلم أنه لا يقع والقدرة على خلاف الفعل محال؛ لأن ذلك يؤدي إلى انقلاب علم الله جهلاً.
والجواب أن يقال: من سلم لكم استحالة القدرة على خلاف المعلوم، ولو ادعينا الضرورة على القدرة على خلاف المعلوم لأمكن، فإن أحدنا يعلم من نفسه أنه قادر على إلقاء خاتمه في البحر، وعلى أن يسعى في السوق ويقتل نفسه فحينئذ لا حجة لهم، (فثبت بذلك) الذي قررنا (أن الله تعالى لا يكلف عباده مالا يقدرون عليه) وبطل ما قاله المخالف.
(المسألة الخامسة عشرة: في معنى أن الله تعالى عدل حكيم)
واعلم: أن الحكمة هي: كل فعل حسن لفاعله فيه غرض صحيح هذا إذا رجع بهذا الوصف إلى الفعل وهو الغرض، فإن رجع به إلى الذات فالحكمة بمعنى العلم، وعليه حُملَ قوله تعالى: {وَمَنْ يُؤْتَ الْحِكْمَةَ فَقَدْ أُوتِيَ خَيْرًا كَثِيرًا}[البقرة:269] وقد اتفق أهل الإسلام على أنه تعالى يوصف بأنه حكيم، ثم اختلفوا في المعني فقال أهل العدل: لا يفعل الله تعالى الفعل إلا لغرض (فلا يثيب أحداً إلا بعمله ولا يعاقب أحداً إلا بذنبه)، وقالت المجبرة: يجوز أن يفعل لا لغرض، بل يجوز أن يعذب الأنبياء ويثيب الأشقياء.
قال الإمام عزالدين: وهذا هو الظاهر من مذهبهم والذي تقضي به نصوصهم، وصرح به الرازي في نهايته، واحتج لصحته بأن الغرض في فعل الله تعالى إذا كان عائداً إلى غيره، فهل له في انتفاع ذلك الغير غرض يعود عليه فيلزم صحة الحاجة عليه، أو لا غرض فيه يعود عليه فيلزم كون وجود ذلك الفعل وعدمه بالنظر إليه على سواء، ومع ذلك فلا معنى لكونه غرضاً مرجحاً للإيجاد.
ويمكن الجواب: بأن حاصل دليلك هذا إنكار أن يكون النفع العائد إلى الغير غرضاً وهو نفس المتنازع فيه، فإنا نقول: أنه غرض صحيح، وأنه يعلم بالعقل حصول الغرض في إرشاد ضال عن الطريق، وإطعام جائع قد أشرف على التلف، وإن فرضنا عدم العلم بحصول نفع في ذلك يعود إلى المرشد والمطعم بأن لا يخطر بباله ثناء ولا ثواب، أو بأن يكون ممن ينكر ذلك أو يجهله (والدليل على ذلك) المذهب الصحيح، وهو مذهب العدلية (أن المجازاة) بالثواب والعقاب (لمن لا يستحقها قبيح، والله تعالى لا يفعل القبيح، أما الدليل على أنه لا يثيب أحداً إلا بعمله فهو أن الثواب يتضمن التعظيم).
قال الشارح المحقق: لا يخفى ما في هذه العبارة من الركة؛ لأن الاشتغال بإبانة أن الثواب لمن لا يستحقه قبيح، وفي تصدير الكلام في قوله: أما الدليل على أنه لا يثيب أحداً إلا بعمله رجوع إلى نفس المسألة لا إلى الاستدلال على أصلها المبنية عليه هي، وإنما قلنا: يتضمن التعظيم؛ لأن حقيقته المنافع المستحقة على جهة التعظيم، (و)معلوم قطعاً (أن تعظيم من لا يستحق التعظيم قبيح)، دليله ما نعلمه في الشاهد (ألا ترى أنه يقبح من الواحد منا تعظيم البهائم كتعظيم الأنبياء وتعظيم الأجانب كتعظيم الوالدين) وأن من أهان وليه وأعز عدوه فلا شك في سخافته، (وإنما قبح ذلك؛ لكونه تعظيم من لا يستحق التعظيم)، إذ لا نجد ما يتعلق الحكم به أولى فثبت أنها هي العلة، وإذا ثبت ذلك لزم أن إثابة الباري من لا يستحق الثواب قبيحة وقد قدمنا أن الله لا يفعل القبيح كما بيّناه.
(وأما الدليل على أنه لا يعاقب أحداً إلا بذنبه، فلأن عقاب من لا يستحق العقاب يكون ضرراً عارياً عن جلب نفع، أو دفع ضرر أو استحقاق، وهذه حقيقة الظلم) والعقاب هي المضار المستحقة على جهة الإهانة.
قال الدواري: الأجود في حقيقة الظلم أن يقال: هو الضرر العاري عن استحقاق، أو جلب منفعة أو دفع مضرة، أو الضرر الذي لا يعرى عنها أو عن أحدها، ولم يقض الشرع أو العقل بحسن ذلك الضرر، أو العاري عن ظن جلب النفع أو دفع الضرر، أو الذي لا يعرى عن ظن ذلك، ولم يكن فعله حسناً ولا يكون في الحكم كأنه من جهة غير فاعل الضرر.
وقال أيضا: وأوجز من هذه الحقيقة ما ذكره المؤيد بالله والحاكم في حقيقة الظلم فقالا: حقيقة الظلم: هو الضرر القبيح، والدليل على أن ذلك الضرر ظلم، أن من علم ضرراً هذا حاله علمه ظلماً، ومن لم يعلمه بهذه الصفة لم يعلمه ظلماً، (والظلم قبيح) بدليل أن القبح وعدمه يدور على العلم بكونه ظلماً وجوراً وعدماً، (والله تعالى لا يفعل القبيح)، وقد جاء السمع بتصحيح ما ذكرنا (قال تعالى: {وَلاَ تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى}[النجم:38] {وَلاَ يَظْلِمُ رَبُّكَ أَحَدًا}[الكهف:49]، {فَكُلاأَخَذْنَا بِذَنْبِهِ}[العنكبوت:40] إلى غير ذلك من الآيات الدالة على عدله وحكمته، وبهذا نستدل على أن الله تعالى لا يعذب أطفال المشركين لفعل آبائهم القبائح.
(وأما أنه تعالى لا يفعل القبيح فقد تقدم بيانه)، وتقدم الدليل عليه (فثبت بذلك أن الله لا يثيب أحداً إلا بعمله، ولا يعاقبه إلا بذنبه).
(المسألة السادسة عشرة) أنَّ الله تعالى يريد الطاعات ولا يريد الظلم وسائر القبائح
واعلم: أن عادات المصنفين في علم الكلام تختلف في ذكر إرادة الله وكراهته وما يريده وما يكرهه، فمنهم من يذكر جميع ذلك في باب التوحيد؛ نظراً إلى أن كونه تعالى مريداً أو كارهاً من صفاته الثابتة وأحواله التي تستحقها ذاته، وذكر ما يريده وما يكرهه من فروع ذلك ولواحقه.
ومنهم من يذكر ذلك جميعه في باب العدل نظراً إلى أن مقتضى العدل والحكمة أن يريد الطاعات ويكره المعاصي، وأن خلاف ذلك ينافي الحكمة، وإذا عرفت ذلك فقد ذهب أهل العدل إلى أن الله تعالى مريد لجميع أفعاله ما خلى الإرادة والكراهة، وأنه تعالى مريد لجميع الطاعات من أفعالنا ما حدث منها ومالم يحدث، و (أنه لا يريد الظلم ولا يرضى لعباده الكفر ولا يحب الفساد).
وذهب سائر فرق المجبرة من الأشعرية والكُلابية والنجارية إلى أن الله تعالى مريد لجميع ما حدث من الكائنات، طاعة كان أومعصية، وأنه لا كائن في عالمه إلا وهو متعلق بإرادته، وما لم يحدث منها فإنه لا يريده طاعة كان أو معصية، (والدليل على ذلك) الذي ذهب إليه أهل العدل (أن الرضى والمحبة يرجعان إلى الإرادة)، فإذا قد قام الدليل على عدم الرضى، وعدم المحبة للقبيح كان غير مريد لهما، وبيانه أن الرضى والمحبة من جنس الإرادة وإن كانا لنوعين مخصوصين منها فالرضى اسم للإرادة المتقدمة المتعلقة بفعل الغير بشرط وقوع ذلك الفعل، والمحبة اسم للإرادة التي تطابق الداعي وقد يخلق الله فينا إرادة بما لاداعي لنا إليه كدخول النار فإنه يسمى إرادة ولا يسمى محبة.
فقول الشارح المحقق بترادفهما فيه ما فيه، (والذي يدل على ذلك) الذي ذهبنا إليه من العقل (أن إرادة القبيح قبيحة، والله تعالى لا يفعل القبيح) والعلم بذلك ضروري، (وهو مما لا خلاف فيه) في الشاهد عند زوال اللبس ووجوه الشبه، (ولهذا أن العقلاء يذمون من أراد القبيح كما يذمون من فعله، وتسقط منزلة المريد للقبيح كما تسقط منزلة من فعله)، وما ذاك إلا لكونه قبيحاً ولا وجه لقبحه إلا كونه إرادة للقبيح، لأنا عند العلم بذلك نعلم قبحه وإن جهلنا كل أمر، وعند الجهل بذلك لا نعلم قبحه.
ولنا على ذلك أيضاً أن الله تعالى لو كان مريداً للمعاصي لكان الفاعل لها مطيعاً؛ لأن من فعل ما أراده المطاع وصفه أهل اللغة بأنه مطيع، وقولهم بل المطيع من فعل ما أمر به المطاع غير مسلم؛ لأن العبد يوصف بأنه مطيع لسيده وإن لم يصدر منه أمر حيث فعل مراده، وإن سلمنا فلا ينجيهم؛ لأن الأمر لا يكون أمراً إلا بالإرادة.
(و) أما الدليل على ذلك من السمع: فإنه (قد) جاء السمع بذلك حيث (قال تعالى: {وَلاَ يَرْضَى لِعِبَادِهِ الْكُفْرَ}[الزمر:7] وقال تعالى: {وَمَا اللَّهُ يُرِيدُ ظُلْمًا لِلْعِبَادِ}[غافر:31] {وَاللَّهُ لاَ يُحِبُّ الْفَسَادَ})[البقرة:205] ونحو: {يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلاَ يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ}[البقرة:185] أي ما يؤدي إلى اليسر من الطاعة، ولا يريد بكم العسر وهو ما يؤدي إلى العسر من المعصية، هكذا فسره بعضهم.
وقال ً فيما رواه مسلم: ((إن الله يقول للعبد العاصي إذا جاء يوم القيامة أردت منك أيسر من ذلك)) فصرح بأنه أراد منه الطاعات التي لم يفعلها، وقوله تعالى: {وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالإِنسَ إِلاَّ لِيَعْبُدُونِ}[الذاريات:56] وهذه لام الغرض بلا شبهة، والغرض والإرادة واحدة في الأغلب بلا خلاف، وقوله تعالى: {تُرِيدُونَ عَرَضَ الدُّنْيَا وَاللَّهُ يُرِيدُ الآخِرَةَ}[الأنفال:67] إلى غير ذلك من الآيات.
وأما ما تعلق به المخالف فإنه تعلق بشبهتين من قبل العقل فقالوا: الإرادة مطابقة للعلم، فما لا يعلم الله وقوعه لا يصح أن يريده.
والجواب: أن هذه دعوى محض ومحل النزاع، وأيضاً فكيف يصح ذلك عندهم أن كونه مريداً ككونه عالماً في أنها تستحق للذات أو لمعنى قديم؟ فلم كانت إحداهما تطابق الأخرى أولى من العكس؟ وهلا طابقت القدرة كما هي مطابقة للعلم؟ أو هلا كانت القدرة والعلم مطابقين للإرادة؟ وما وجه هذه التحكمات من غير دليل؟
الشبهة الثانية: قالوا: لو وقع في ملك الله مالا يريده لدل على عجزه قياساً على الشاهد.
والجواب أولاً: بأنهم يمنعون قياس الغائب على الشاهد ويقولون لا يقاس بالناس فكيف قاسوا هنا؟
وثانياً: أنه معارض بالأمر، فلو وقع في ملك الله خلاف ما أمر به أو ما نهى عنه لدل على عجزه قياساً على الشاهد بل مخالفة أمر الملك في الشاهد أدل على عجزه من مخالفة إرادته.
وأما السمعيات فقد منعوا من الاستدلال بها؛ لتجويزهم القبيح على الله تعالى.
وأيضاً فما ذكروه من الأدلة محتمل يجب رده إلى المحكم، (فثبت بذلك أن الله تعالى لا يريد الظلم ولا يرضى لعباده الكفر، ولا يحب الفساد) فبطل ما قاله المخالف.
(المسألة السابعة عشرة في الآلام)
واعلم: أنَّ الألم جنس من الأعراض متميز عن غيره راجع إلى النفي، واللذة من جنسه ولا يتميز أحدهما عن الآخر إلا بمقارنة الشهوة أوالنفرة، فما قارنته الشهوة فلذة، وما قارنته النفرة فألم،ودليل كونهما جنساً واحداً أن الواحد منا قد يتألم بما يلتذ به ويلتذ بما يتألم به كالحك وغيره.
وحقيقة الألم: المعنى المدرك بمحل الحياة فيه مع النفرة، فقولنا: بمحل الحياة فيه قيدٌ يمتاز به عن سائر المدركات؛ لأن سائرها يدرك بمحل الحياة في غيره، فلهذا كان فصلاً.
وأما الغم: فإنه اعتقاد الحي أو ظنه بأن عليه أو على من يحب في فعل الغير فوت نفع أو جلب ضرر في الحال أو في المستقبل.
واعلم: أن الآلام مضرة عاجلة ووجوه حسنها خفية غير ظاهرة، فلذلك ضل كثير من الناس حتى كان ذلك شبهة في إثبات ثان مع الله تعالى وفي جواز كل قبيح على الله تعالى.
وفي التعطيل عند ابن الراوندي حيث رأى أهل الفضل والعلم مبتلين بمقاسات الفقر والأمراض والمصائب، وأهل الجهالة والوضاعة بالعكس حتى أنشد البيتين المعروفين:
كم عاقل عاقل أعيت مذاهبه وجاهل جاهل تلقاه مرزوقاً
هذا الذي ترك الأوهام حائرة وصَيَّر العالم النحرير زنديقاً
وكذلك أبو عيسى الوراق فإن ذبح البهائم صار له شبهة حتى صنف كتاباً سماه النوح على البهائم، وكان السبب في ذلك نفار الطبع عن هذه الآلام وميله إلى اللذة.
(واعلم أن جميع الآلام والنقائص) إذا كانت من أفعالنا، فإنها تحسن إذا كانت لجلب نفع أو دفع ضرر أعظم، أو استحقاق، أو لظن أحد الوجهين المتقدمين، وهذا لا شبهة فيه، فإن كل عاقل يعلم حسن تحمل المشاق في الأسفار ومعالي الأمور ومشاق التعليم طلباً للمنافع سواءً كانت معلومة أو مظنونة، وكذلك يستحسنون الفصد والحجامة وشرب الأدوية الكريهة ونحو ذلك طلباً لدفع مضار هي أعظم منها سواءً كان اندفاعها معلوماً أو مظنوناً.
وأما الظن لاستحقاق الألم فقيل لا يحسن إنزاله بالظن؛ لأن المنزل له يكون مُقْدماً على مالا يأمن من كونه ظلماً، وقال أبو هاشم: يحسن واحتج بإنزال الحدود عند الشهادة التي لا تفيد إلا الظن، وأجيب بأن ذلك ورد به الشرع لمصلحة شرعية حتى لو تركنا والعقل لما استحسنه.
وأما الآلام والنقائص (النازلة بالأطفال والمجانين، وسائر الممتحنين اللاتي من الله تعالى)، وكذلك المضار اللاتي لا تتوقف على اختيارنا كفساد الثمار واجتياحها بالبَرْد والبَرَد، فالذي عليه أهل الإسلام وكثير من الخارجين عنه أن ذلك فعل الله تعالى (ولا بُدّ فيها) من أحد وجهين: إما الاستحقاق، ولا شبهة في ذلك كعقاب أهل النار ونحوه، وإما لمجموع (العوض) للمؤلم (والاعتبار)، ولا يكفي في حسن الألم أحد الأمرين: إما العوض، أو الاعتبار.
وقد ذهب عَبَّاد إلى أن الاعتبار كاف في حسن الألم، فإن كان كلامه على عمومه بحيث أنه يقول: يحسن منه تعالى إيلام الأطفال ونحوهم؛ لمجرد أن يحصل بذلك اعتبار للمكلفين، أو بعضهم، أو إيلام مكلف لمجرد إعتبار يحصل لغيره فقد أبعد في مقالته (والدليل على) بطلان (ذلك) أنها (لو خلت عن العوض) وكانت كما قال (لكانت ظلماً؛ لأنه يكون ضرراً عارياً عن جلب نفع للمؤلم، أو دفع ضرر عنه أو استحقاق، وهذه هي صفة الظلم، والظلم قبيح والله تعالى لا يفعل القبيح).
وأيضاً فلو أجزنا ذلك لأجزنا جميع أنواع الظلم، فإنه لا يكاد يخلو شيء منها عن نفع لغير المظلوم، وإن أراد أن الألم يحسن لمجرد اعتبار يحصل للمؤلم.
قال الإمام عزالدين بن الحسن -عادت بركاته-: وهو اللائق بعلمه وفهمه، فمذهبه في غاية القوة، وأي نفع للمكلف أعظم من تأدية الألم هذا إلى كونه من أهل الجنة والسعادة الأبدية، انتهى.
(و) قال أبو علي في القديم: إن العوض كاف في حسن الآلام، قلنا له: (لو خلت الآلام من الاعتبار لكانت عبثاً؛ لأن العبث هو الفعل الواقع من العالم به عارياً عن عوض مثله)، وهذا المعنى حاصل في الألم لو خلى من الاعتبار؛ لأنه كان يمكن ويحسن إيصال نفع العوض إلى المؤلم من دون الألم، وله أن يجيب بأن فائدته أن يصير العوض مستحقاً وليس المستحق كالمتفضل به، (و) إذا كان عبثاً فلا شك أن (العبث قبيح والله يتعالى عن فعل القبيح).
والذي يدل من السمع أنه لا بد في الآلام من العوض قوله تعالى: {وَإِذَا الْوُحُوشُ حُشِرَتْ}[التكوير:5] ولا وجه لحشرها إلا للعوض، والذي يدل على أنه لا بد من الاعتبار قوله تعالى: {فَاعْتَبِرُوا يَاأُولِي الأَبْصَارِ} فلو لم يكن مراداً لله تعالى لما أمر به، والله أعلم.
(فثبت بهذه الجملة أن جميع الآلام والنقائص لا بد فيها من العوض والاعتبار).
(المسألة الثامنة عشرة: في القرآن الكريم)
قال الإمام عزالدين بن الحسن -عادت بركاته-: وجه الصحة في ذكر الكلام في القرآن في باب العدل، أن العدل لما كان كلاماً في أن الله لا يفعل القبيح ولا يخل بالواجب، والقرآن لطف لنا وبيان لما كلفناه، واللطف والبيان واجبان على الله تعالى ذُكِر في باب العدل؛ لأنه من قبيل الواجب على الله تعالى.
قال الإمام يحيى -عَلَيْهِ السَّلامُ- في حد القرآن الكريم: هو الكلام الذي نزل به جبريل على النبي ً تعبدنا بتلاوته المنقول نقلاً متواتراً.
إذا عرفت ذلك، وأن القرآن جنس من الكلام، فلنتكلم على ذكر حقيقة الكلام وفاعله وهو المتكلم.
أما الكلام: فهو ما انتظم من الحروف المسموعة المتميزة، قلنا: ما انتظم تشبيهاً بالنظام الحقيقي لتواليه على السمع، وقلنا: من الحروف؛ لأن الحرف الواحد لا يكون كلاماً، وقلنا: المتميزة احترازاً من صرير الباب وأصوات البهائم، وقلنا: المسموعة احترازاً من الكتابة، ولا يعتبر فيه الإفادة؛ لأنها إنما تعتبر في الكلام الاصطلاحي لا اللغوي، وذلك متفق عليه.
وأما المتكلم: فهو عندنا فاعل الكلام بدليل أن من علمه فاعلاً للكلام علمه متكلماً ومن لم يعلمه فاعلاً له لم يعلمه متكلماً.
والخلاف في ذلك مع أبي الحسين وابن الملاحمي فقالا: المرجع بالكلام إلى صفة للجسم، وقال أبو علي: الكلام معنى زائد على الحروف والأصوات يسمع معها تقارن الملفوظ والمكتوب والمحفوظ، وقال بعض الأشعرية: بل الكلام معنى في نفس المتكلم، وتسمية هذا المسموع كلاماً مجاز وهذه مباهتة.
وقال بعضهم: بأنَّ هذا المسموع كلام، ويدعون إثبات كلام آخر قائم بالنفس ويجعلون هذا الاسم مشتركاً بينهما، قال القرشي: وهذا بعيد عن التحصيل؛ لأن من ينفي الكلام النفسي كيف يسلم أن الاسم موضوع عليه بالاشتراك، وأيضاً فالعرب لا يعقلون الكلام النفسي فضلاً عن أن يضعوا له عبارةً أو يشركوا بينه وبين غيره فيها، يوضحه أنه إذا أطلق لفظ الكلام فإنما يسبق أفهامهم إلى هذا المسموع.
واعلم: أنه لا خلاف في (أنَّ هذا القرآن المتلو في المحاريب، الموجود بين المسلمين) هو القرآن، ومحل الخلاف هل هو (كلام الله تعالى دون أن يكون كلاماً لغيره) أولا؟
فالذي عليه أهل العدل بل جميع الفرق المقرة بنبوة محمد ً: أنه كلام الله ووحيه، وتنزيله، أي: كلامه عرفاً لا لغة؛ لأن المتكلم لغة: المحدث للكلام والمتفوه، به ومُخرجه من العدم إلى الوجود، والمتلو ليس كذلك بل المحدث له والمتكلم هو المتفوه به، وهو الذي يُمدح على قراءته ويذم ويثاب ويعاقب بحسب اختلاف الأحوال.
والمتكلم في العرف: من كان أنشأ ذلك الكلام ونظم ألفاظه، وإن احتذى غيره على ذلك ونطق به كما نطق به المبتدئ وذلك ظاهر، وخالف في ذلك الأشعرية والكلابية والمطرفية والباطنية، فهؤلاء جميعاً قالوا: إن هذا القرآن ليس بكلام الله لا لغةً ولا عرفاً، ثم افترقوا فقالت الأشعرية: كلام الله معنى قديم قائم بذاته والمتلو عبارة عنه، ومثله قالت الكلابية إلا أنهم بدلوا لفظة قديم بأزلي، ولفظ العبارة بالحكاية، وقالت المطرفية: بل كلام الله صفة قائمة بقَلْبِ ملك يقال له: ميخائيل، وبعضهم قال: إن الله أجبر الملك عليه، وبعضهم قال: إن الملك صفتْ طبيعته وخلصت جوهريته، فاستنبط القرآن، والذي بيننا حكاية ذلك، وقالت الباطنية: هو كلام الرسول حصلت معانيه بالفيض في النفس الكلية إلى نفسه الجزئية فصاغ هذا القرآن وهو لفظه، (والدليل على ذلك) الذي ذهب إليه أهل العدل: أن المعقول هو هذه الحروف والأصوات، بدليل أن من علمها وصفها بأنها كلام وإن جهل المعنى النفسي، ومن جهلها لم يصفها بأنها كلام، وإن علم المعني النفسي.
وأيضاً فإن كلامه تعالى لا يخلو إما أن يكون من جنس الكلام المعقول فيما بيننا وهو أن يتركب من جنس الأصوات والحروف أو مخالفاً لذلك.
فإن كان من جنس الأصوات والحروف فلا شبهة في حدوثه، وإن كان مخالفاً لذلك لم يصح أن يكون كلاماً وأن يفهم منه شيء، فالمثبت لكلام مخالف للكلام المعقول فيما بيننا، فإنه في حكم من يثبت جسماً مخالفاً للأجسام المخالفة للمعقول فيما بيننا، ويثبت مع الله تعالى جسماً قديماً مخالفاً لسائر الأجسام.
وأيضاً (فإنَّ النبي ً كان يدين بذلك ويخبر به، وهو ً لا يدين إلا بالحق، ولا يخبر إلا بالصدق، وذلك معلوم ضرورة عند كل من عرف النبي ً وآثاره وروى أخباره)، فإنه كان يعتقد ويرى أن القرآن الذي أتى به هو كلام الله تعالى دون أن يكون كلاماً له ً أو لغيره من المتكلمين، ويخبر الناس بذلك، واستمر على هذا إجماع المسلمين بعده ً إلى أن حدث مذهب هذه الطوائف.
(و) أيضاً فـ(قد قال تعالى: {وَإِنْ أَحَدٌ مِنَ الْمُشْرِكِينَ اسْتَجَارَكَ فَأَجِرْهُ حَتَّى يَسْمَعَ كَلاَمَ اللَّهِ ثُمَّ أَبْلِغْهُ مَأْمَنَهُ})[التوبة:6] ولا شك أن الكلام المسموع هو القرآن، قالوا: ذلك مجاز، قلنا: هَلُمَّ الدليل، فالأصل في الإطلاق الحقيقة، ولو سلم جُعِل للتفاسير ما له من الأحكام؛ إذ هي عبارة عنه ولا قائل به.
قالوا: لو لم يكن متكلماً فيما لم يزل بكلام قديم أو لذاته، لكان أخرساً أو ساكتاً كالشاهد.
والجواب: أن المرجع بالخرس إلى فساد آلة الكلام وبالسكوت إلى تسكينها عنه.
وأيضاً فإذا اعتُمدَ على الشاهد في ذلك فمعلوم أنَّ الشاهد إذا لم يكن متكلماً بهذه الحروف والأصوات كان أخرساً أو ساكتاً، فيلزم إذا لم يكن الباري متكلماً فيما لم يزل أن يكون أخرساً أو ساكتاً.
وأما قول غير الأشعرية فهو أجدر بالضعف من مقالتهم ولا نحتاج في رده إلى تكلف؛ إذ هو من التمحلات التي لا دليل عليها، والله أعلم.
(المسألة التاسعة عشرة: في أن هذا القرآن الذي هو كلام الله تعالى محدث).
ولا شك أنا إذا قلنا: القرآن محدث، فإنما نريد به هذه الأصوات والحروف المتلوة في ألسنة الناس.
فأما الكلام النفسي فلسنا نثبته، فضلاً عن أن نقول فيه بقدم أو حدوث، وأهل التمييز من المجبرة لا يكلمونا في ذلك؛ لأنهم يعرفون بحدوث هذا الذي نتلوه، ولكنهم يدَّعون أن القرآن معنى قائم بالنفس غير هذا الذي نسمعه، فموضع مكالمتهم نفي هذا المعنى النفسي وقد تقدم.
وأما غير المميزين كالكرامية والحنابلة وبعض أهل الحديث، فيعترفون بأن القرآن هو هذه الحروف والأصوات المسموعة، ويدعون أنه قديم، (والذي يدل على) بطلان قولهم في (ذلك) من جهة العقل: (أنه مرتب منظوم في الوجود يوجد بعضه في أثر بعض)، فوجب القطع بأنه محدث، (و) ذلك لأن (المرتب على هذا الوجه يجب أن يكون محدثاً وذلك ظاهر)، فإن الألف من الحمد متقدم على اللام، واللام على الحاء وكذلك سائره، وكل ما تقدمه غيره فهو محدث، وكذلك ما يتقدم على المحدث بأوقات محصورة فهو محدث، (وقد) جاء بتأييد ذلك الكتاب، فـ(قال تعالى:{مَا يَأْتِيهِمْ مِنْ ذِكْرٍ مِنْ رَبِّهِمْ مُحْدَثٍ إِلاَّ اسْتَمَعُوهُ وَهُمْ يَلْعَبُون})[الأنبياء:2] (و) مثله ما (قال تعالى: {مَا يَأْتِيهِمْ مِنْ ذِكْرٍ مِنَ الرَّحْمَنِ مُحْدَثٍ})[الشعراء: 26] ولا شك أن المراد بالذكر القرآن بدليل: { إِلاَّ اسْتَمَعُوهُ وَهُمْ يَلْعَبُون}، وقوله: {إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ}[الحجر:9] وقوله: {وَهَذَا ذِكْرٌ مُبَارَكٌ أَنزَلْنَاهُ}[الأنبياء: 21]، وقوله: {إِنْ هُوَ إِلاَّ ذِكْرٌ وَقُرْآنٌ مُبِينٌ}[يس: 69]، ومثل: {وَإِنَّهُ لَذِكْرٌ لَكَ وَلِقَوْمِكَ}[الزخرف:44] وغير ذلك، والسبب في قوله تعالى: {مَا يَأْتِيهِم} الآية، يشهد بذلك؛ لأنهم كانوا يلعبون ويلغون عند نزول القرآن وتلاوته، وقال تعالى: {اللَّهُ نَزَّلَ أَحْسَنَ الْحَدِيثِ كِتَابًا مُتَشَابِهًا}[الزمر:23] فوصفه بأنه منزل، والقديم لا يصح عليه النزول، ووصفه بالحسن والحسن من صفات الأفعال، ووصفه بالحديث، والحديث نقيض القديم باعتبار أصل وضعه، وإن كان المراد به في الآية الكلام، لكنه لم يسم حديثاً إلا لكونه محدثاً فيدل على حدوثه، وقال تعالى: {وَمِنْ قَبْلِهِ كِتَابُ مُوسَى إِمَامًا وَرَحْمَةً}[الأحقاف:12] رداً على الذين قالوا: هذا إفك قديم. وما كان قبله غيره فهو محدث.
قالوا: قال الله تعالى: {إِنَّمَا أَمْرُهُ إِذَا أَرَادَ شَيْئًا أَنْ يَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ} [يس:82] قالوا: فإن كان قوله: كن قديماً فهو المطلوب، وإن كان محدثاً احتاج إلى كُنْ آخر فيتسلسل.
والجواب: لاشك أن لفظ (كن) حرفان يتقدم بعضهما على بعض ويعدم ثاني وجودها وذلك لا يتأتى في القديم.
وأيضاً فالآية على مذهبنا أدل؛ لأنه تعالى أخبر بأنه إذا أراد شيئاً قال له كن، وإذا للشرط والشرط إنما يدخل في المستقبل، فيجب أن تكون الإرادة حادثة وأن يكون لفظ (كن) مقارناً لها.
قالوا: القرآن يشتمل على أسماء الله تعالى، والاسم هو المسمى، فيجب أن يكون القرآن قديماً، واستدلوا على أن الاسم هو المسمى بقوله تعالى: {سبح اسْمَ رَبِّكَ الأَعْلَى}[الأعلى:1] وكذلك فأحدنا يقول: طلقت زينب وأعتقت سعداً، والطلاق إنما يقع على الشخص المسمى، وكذلك إذا حلف أحدنا فقال: والله وبالله، ويقول باسم الله، قال الشاعر:
إلى الحول ثم السلام عليكما ... ومن يبك حولاً كاملاً فقد اعتذر
والجواب: لو كان الاسم هو المسمى لكان إذا ذكر أحدُنا النار احترق فمه، قال:
لو أن من قال ناراً أحرقت فمه ... لما تَفَوَّه باسم النار مخلوق
بل الاسم عبارة عن اللفظ الموضوع للمسمى، فهو غير المسمى، مثاله: رجل، فالاسم عبارة عن هذا اللفظ، وهذا اللفظ هو عبارة عن مسماه المعروف.
وأيضاً فلو كان الاسم هو المسمى، فمعلوم أن لله أسماءً كثيرةً مختلفة وكان يجب أن يتعدد بتعدد أسمائه لاختلافها.
وأيضاً فالقرآن عندهم قائم بذات الله تعالى، وأسماء الله من جملة القرآن فيجب أن يكون الله من جملة القرآن حتى يكون أمراً ونهياً، وهذا واضح السقوط.
(المسألة العشرون: في النُّبُوة)
والنبوة: فعولة فحروفها أصول إلا الواو الأولى، والنبوة مصدر، فإن هُمِزَتْ فهي بمعنى الإنباء؛ لأن النبي مخبر عن الله، وإن لم تهمز فهي من النبو نبا المكان ينبو إذا ارتفع.
وحقيقة النبوة: تحمل إنسان لما يتحمله عن الله إلى الخلق من غير واسطة بشر.
قلنا: تحمل الإنسان، احترازاً من تحمل الملائكة إلى الأنبياء فلا تسمى نبوة، وقلنا: من غير واسطة احترازاً من العلماء، فإنهم وإن تحملوا عن الله تعالى إلى الخلق ولكن بواسطة بشر، هم الأنبياء.
ولا فرق عند أصحابنا بين الرسول والنبي، والخلاف في ذلك معزوٌ إلى الحشوية وإلى الإمامية والزمخشري وقاضي القضاة قالوا: قال تعالى: {وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ رَسُولٍ وَلا نَبِيٍّ}[الحج:52] والعطف يقتضي المغايرة.
قلنا: لا يدل على المغايرة كما في قوله تعالى: {وَمَلاَئِكَتِهِ وَرُسُلِهِ وَجِبْرِيلَ وَمِيكَالَ}[البقرة:98] لأن اللفظين إذا اختلفت فائدتهما من وجه صح عطف أحدهما على الآخر للتأكيد، وإن كان معناهما واحد في الحقيقة، ولفظ النبي يفيد الرفعة بنفسه، ولفظ الرسول يفيدها بواسطة لحمله الرسالة وصبره على المشاق فيها.
واحتجوا أيضاً لما رُوي عنه ً أنه سئل عن الأنبياء؟ فقال: ((مائة ألف وأربعة وعشرون ألفاً، قيل: فكم الرسل منهم؟ قال: ثلاثمائة وثلاثة عشرة)) وفي رواية: ((ثلاثمائة وثلاثة وستون))، فإن الخبر آحادي، والمسألة قطعية.
فإن قيل: ما الدليل على صرف العطف عن ظاهره، فإن ظاهر العطف هو تغاير الذوات فقد عدلتم عن الظاهر فَهَلُمَّ الدليل.
قلنا: لا نسلم أن العطف ظاهر في ذلك، بل وفي التغاير في الصفات سلَّمنا، فالذي صرف عن الظاهر هو الدليل العقلي، وهو أنه إذا نبَّأ الله نبياً لا يمكن أن يدل على نبوته إلا بالمعجزة إذ لا طريق إليه غيرها، ولا بد إليها من طريق وإلا كانت النبوة عبثاً، والنبي لا بد فيه من معنى الإرسال ولا يصح أن يكون رسولاً إلى نفسه، ولا يتصور فرقٌ بينه وبين الأفاضل من أمته أهل وقته إلا بكونه يُوحى إليه ويظهر المعجز علي يديه ويهتدي إلى مالا يهتدي إليه غيره ويهدي إليه.
فقول الحشوية إنه يسمى بعض الأشخاص نبياً من غير وحي ولا معجزة ولا شريعة متجددة ولا إحياء مندرسة بل يفارق سائر البشر بالتنويرات والإلهامات، باطل لما ذكرنا، وكذلك ما قاله الزمخشري وقاضي القضاة: إن النبي مَن بعث لتقرير شريعة جاء به غيره وإحيا ما اندرس منها كيوشع وأكثر أنبياء بني إسرائيل المقررون لشريعة موسى المجددون لمندرسها.
فإنا نقول: إن أُوحيَ إليهم بها من غير واسطة بشر كما أوحي إلى موسى فلا فرق بينهم وبين موسى، وإلا كانوا كغيرهم، والله أعلم.
واعلم: أن المهم المقصود من هذا الباب، والقطب الذي يدور عليه رحى الكلام في النبوات: هو (أنَّ محمداً ً نبي صادق)، فإن هذه المسألة أصل للقواعد الشرعية، وعمدة مسائل أصول الدين بعد معرفة توحيد الله وعدله، وعليها مدار العلم بجميع أنبياء الله وملائكته وأحوال الآخرة وجميع التكاليف العلمية إلا ما قضى به العقل منها قضية مطلقة، ولهذا ينبغي أن ترمق إليه عيون الجِد، وسَنَفرِغُ في الاطلاع على حقائقه بقدر المختصر فنقول:
واعلم: أن جميع من يثبت الصانع يقول بنبوة نبينا ً إلا اليهود والنصارى، والمجوس والبراهمة، وعُبّاد الأوثان والنجوم، فإنهم أنكروا نبوته ً إلا فرقة من اليهود نسبوا إلى البَلَه فإنهم يقولون: هو رسول إلى العرب فقط، وإنما نسب هؤلاء إلى البله لكونهم اعترفوا بأنه رسول، والرسول صادق في الذي جاء به، وقد جاء بأنه رسول إلى الناس كافة فلا بد من تصديقه، ووجه كونه ليس بنبي عند اليهود قيل: لأنه جاء بنسخ الشرائع، وقال بعضهم: لأنه ليس له معجز، (والدليل على ذلك) المذهب الصحيح: (أنَّ المعجز ظهر على يديه عقيب دعوى النبوة)، قيل: والمعجز هو مالا يطيقه بشر ولا يمكن التعلم لإحضار مثله ابتداء، سواء دخل جنسه في مقدورنا كالكلام، أم لا، كحنين الجذع، وقيل: هو الفعل الناقض للعادة المتعلق بدعوى المدعي للنبوة، وهذا الحد أولى لدخول الكرامات في الحد الأول كنزول المطر عند دعوة الأولياء ونحو ذلك، (وكل من ظهر المعجز على يديه عقيب دعوى النبوة فهو نبي صادق)، فهذان أصلان، (والذي يدل على) الأصل الأول وهو: (أن المعجز ظهر على يديه عقيب دعوى النبوة أنه)، جاء بمعجزات كثيرة قد دونت فيها أسفار عديدة و(جاء) من جملة ذلك (بالقرآن) وهو المعجز العظيم ولذلك فالمؤلفين يُقَدِّمونه على سائر المعجزات؛ لأنه أوقع في النفوس، وأوضح في الدلالة لوجوهٍ لا يعقلها إلا العالمون، (و) لماَّ جاء بالقرآن (جعله معجزاً له، ولم يسمع من غيره) قبله (وتحدى به فصحاء العرب) وقرعهم بالعجز عن ذلك (ولم يأتوا بشيء من ذلك) الذي تحداهم به، (وإنما لم يأتوا به لعجزهم عنه، فوجب أن يكون القرآن معجزة ظاهرة على يديه عقيب دعوى النبوة)، فهذه ثمانية أصول.
أما كونه -عَلَيْهِ السَّلامُ- إدعى النبوة فلا شك أنه معلوم ضرورة لجميع المكلفين.
وأما أنه أتى بالقرآن ولم يسمع من غيره، وجعله معجزة له، فإنه يعلمه كل مكلف مع البحث والمخالطة لأهل العلم أو من يتصل بهم، أو الإقامة في أمصار المسلمين وهِجَرِهم، وليس كالأول إذ من المعلوم جهل كثير من المسلمين بذلك.
فإن قيل: ما أنكرتم أن الله بعث نبياً وأظهر القرآن فقتله محمد ً وادعى النبوة لنفسه؟
قلنا: لو أجزنا ذلك لما وثقنا بنسبة شعر الشعراء وخطب الخطباء، ولا وثقنا بنبوة نبي قط ولا شيء من الكتب السالفة كالتوراة والإنجيل، ثم كيف يبعث الله نبياً ثم يمكن غيره منه قبل التبليغ.
وأيضاً فقد ظهر عليه -عليه الصلاة والسلام وعلى آله- غير القرآن من المعجزات مما يدل على أن القرآن معجز له.
وأما الأصل الخامس: وهو أنه تحدى العرب بالإتيان بمثله وقرعهم بالعجز عن ذلك، (فإنه معلوم ضرورة).
أيضاً لكن (لمن كان له أدنى فحص وتفتيش ممن عرف أحواله -عَلَيْهِ السَّلامُ- وسِيَره وسمع أخباره علم بالتواتر أنه كان يغشى مجامع العرب ومشاهدهم ويتلوه عليهم ويحدثهم به) ويلتمس منهم المعارضة، (والأمر في ذلك ظاهر)
(والقرآن) أيضاً (مشحون بآيات التحدي) قال تعالى: {فَلْيَأْتُوا بِحَدِيثٍ مِثْلِهِ إِنْ كَانُوا صَادِقِينَ}[الطور:34] ثم أنزلهم مرتبة ثانية فقال: {فَأْتُوا بِعَشْرِ سُوَرٍ مِثْلِهِ مُفْتَرَيَاتٍ وَادْعُوا مَنِ اسْتَطَعْتُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ إِنْ كُنتُمْ صَادِقِينَ}[هود:13] ثم أنزلهم مرتبة ثالثة فقال: {وَإِنْ كُنتُمْ فِي رَيْبٍ مِمَّا نَزَّلْنَا عَلَى عَبْدِنَا فَأْتُوا بِسُورَةٍ مِنْ مِثْلِهِ}[البقرة:23] ثم أخبر أنهم لا يأتون بشيء مما تحداهم به حتى (قال تعالى: {قُلْ لَئِنِ اجْتَمَعَتِ الإِنسُ وَالْجِنُّ عَلَى أَنْ يَأْتُوا بِمِثْلِ هَذَا الْقُرْآنِ لاَ يَأْتُونَ بِمِثْلِهِ وَلَوْ كَانَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ ظَهِيرًا})[الإسراء:88].
فإن قيل: ما أنكرتم أنه إنما كان التحدي عن المشركين لئلا يعارضوه؟
قلنا: نحن نعلم أنها نقلت على حد نقل القرآن، فلو جوزنا في بعض الآيات أنها كتمت لجوَّزنا في سائرها، وأيضاً فالتحدي شامل للمشركين والمؤمنين، فلو علم المؤمنون شيئاً لنفروا عنه.
وأما الأصل السادس: وهو أنهم لم يأتوا بشيء مما تحداهم به فذلك ظاهر أيضاً، فإنه لو عورض لوجب أن يكون اشتهار المعارضة أولى من اشتهار القرآن؛ لأن القرآن يصير كالشبهة وتلك المعارضة كالحجة، ومتى كان الأمر كذلك كانت الدواعي متوفرة إلى إسقاط أبَّهة المدعي وإبطال رونقه وكان اشتهار المعارضة أولى من اشتهار الأصل.
وأما الأصل السابع: وهو أنهم إنما لم يعارضوه (فلم يأتوا بمثله لعجزهم عنه؛ لأن دواعيهم كانت متوفرة إلى معارضته ليبطلوا به نبوته) ولا صارف لهم عن ذلك وكانوا يعلمون أنَّ أمره يبطل بالمعارضة فلو قدروا عليها لفعلوها.
أما أن دواعيهم كانت متوفرة إلى إبطال أمره عليهم فذلك لا يشتبه على عاقل، فإنه -عَلَيْهِ السَّلامُ- ادعى الرئاسة عليهم في الدنيا والآخرة فيما يتصل بالنفس، كإقامة الحدود من قتل وغيره وإتعابها في طاعته والجهاد معه ونحو ذلك، وفي المال كأخذ الحقوق والاستعانة ونحو ذلك، وادعى أنه على الحق وهم على الباطل، وسفه أحلامهم وسبَّ آلهتهم، ووعدهم وأوعدهم، ولا شيء أعظم من هذه الأشياء في تحريك طباع البشر.
ودعائهم إلى إبطال أمره لا سيما العرب، فإنَّ لهم من الحمية والأنفة ماليس لغيرهم من الأمم.
وأما أنه لا صارف لهم عن ذلك، فلأنه إن كان صارف دين، فليس من الدين ترك المعارضة؛ لأنها تميز الحق لهم من الباطل لا سيما وعندهم أنهم كانوا على الحق، وإن كان صارف دنيا من رغبة أو رهبة فذلك باطل؛ لأنه كان -عَلَيْهِ السَّلامُ- فقيراً مضطهداً.
وأما أنهم كانوا يعلمون أن أمره -عَلَيْهِ السَّلامُ- يبطل بالمعارضة؛ فلأنه -عَلَيْهِ السَّلامُ- قد كان يصرح بذلك، ولأن كل عاقل يعلم أن كل من ادعى التميز على غيره لمكان أمرٍ يأتي به فإن دعواه تبطل عند الإتيان بمثل ما أتى به.
وأما أنهم لو قدروا على المعارضة لفعلوها؛ فلأنا نعلم بالضرورة أنَّ من توفرت دواعيه إلى الشي، ولا صارف له عنه، وغير ممنوع منه، وهو قادر عليه فإنه يمنعه لا محالة حتى إن لم يفعله، فإنه غير قادر عليه.
فإن قيل: إنهم اشتغلوا عن المعارضة بالقتال؟
قلنا: ليس أحد من العقلاء يؤثر الأمر الصعب على الأمر السهل، (فلما عدلوا إلى المحاربة الشاقة الصعبة التي لا تدل على صحة صحيح ولا بُطلان باطل، دل ذلك على عجزهم عن معارضة القرآن فثبت) بتقرير هذه الأصول (أنه معجز دالّ على نبوة النبي ً)، وهذا هو الأصل الثامن، وذلك لحصول حقيقة المعجز فيه، وهو كونه ناقضاً لعادتهم في الفصاحة ومتعلقاً بدعوى النبوة، وبهذا التقرير تم الأصل الأول.
وأما الأصل الثاني: وهو أن كل من ظهر المعجز على يديه عقيب دعوى النبوة فهو نبيٌ صادق، وذلك لأن المعجز يجري مجرى التصديق بالقول لمن ظهر على يديه، وتصديق الكاذب كذب، والكذب قبيح، والله لا يفعل القبيح، فإذا بطل أن يكون من ظهر المعجز على يديه كاذباً ثبت أنه صادق إذ لا واسطة بينهما.
وأما احتجاج اليهود بقول موسى: (شريعتي لا تنسخ أبداً وتمسكوا بالسبت أبداً)، فإنها رواية مغمورة آحادية لاينبغي التعويل عليها فلا تقاوم الأدلة القطعية، وإن سلمنا أنها صحيحة قطعية، فإنه يصح نسخ ما قيِّد بالتأبيد وقد نسخها ً بقول الله تعالى: {قُلْ يَاأَيُّهَا النَّاسُ إِنِّي رَسُولُ اللَّهِ إِلَيْكُمْ جَمِيعًا}[الأعراف:158] وغير ذلك من الآيات الظاهرة، وإذا تظاهرت الأدلة على نبوته ً (ثبت بهذه الجملة أن محمداً نبي صادق).
(باب الوعد والوعيد)
حقيقة الوعد: الخبر عن إيصال نفع أو دفع ضرر إلى الغير في مستقبل الزمان من المُخْبِر إلى المُخْبَر.
فقولنا: الخبر جنس الحد القريب، وقولنا: عن إيصال نفع، أو دفع ضرر فصل له عن عكس ذلك، فإنه وعيد وعما ليس كذلك من الأخبار، وقولنا: في المستقبل يفصله عن الأخبار في إيصال نفع أو دفع ضرر في الماضي فليس بوعد، وقولنا: من المخبر إلى المخبر يفصله عن البشارة وهي الإخبار بإيصال ذلك من غير المخبر.
والوعيد: هو الخبر عن إيصال ضرر أو تفويت نفع...إلخ الحد المتقدم، والاحترازات فيه تُعرف مما ذكر آنفاً.
ثم اعلم: أنه لا يجوز خلف الوعد على الله تعالى للمثابين؛ لأن ذلك أخو الكذب، وهو يتعالى عنه؛ لأنه لا يفعل القبيح، خلافاً للمجبرة، ويحسن منه العفو عن التائب لارتداعه اتفاقاً ولا يحسن العفو عن العاصي غير التائب وفاقاً للبلخي وابن المعتمر وخلافاً للبصرية. قلنا: يصير كالإغراء وهو قبيح عقلاً.
وكذا لا يجوز إخلاف الوعيد من الله تعالى للمعاقبين؛ لأنه كذب والكذب قبيح. وقد حقق فيما سيذكر من المسائل.
(المسألة الحادية والعشرون:أنه يجب على المكلف أن يعلم أن من وعده الله بالجنة من المؤمنين فإنه إذا مات تائباً غير مصر على شيء من الكبائر فإنه صائر إلى الجنة ومخلد فيها دائماً)
ولا خلاف في ذلك إلا رواية عن جهم والبطيحي فإنهما نفيا معنى الدوام وهذا بالنظر إلى السمع.
أما الجواز فيجوز أن يخلف الله وعده بالنظر إلى الثواب بناءً على قاعدتهم الفاسدة أنه لا يقبح منه قبيح، (والدليل على ذلك) القول الصحيح (أن النبي كان يدين بذلك ويخبر به)؛ لأن من المعلوم ضرورة أنه كان يدعو الخلق إلى طاعته ومبايعته، ويعدهم على ذلك الجنة، والقرآن الكريم ناطق بذلك في الآيات العديدة الظاهرة، (وهو ً لا يدين إلا بالحق ولا يخبر إلا بالصدق بشهادة المعجز، وأيضاً فإن الأمة أجمعت على دخول المؤمنين الجنة والخلود فيها، والإجماع على ذلك ظاهر) فثبت بذلك أن المؤمنين يدخلون الجنة خالدين فيها أبداً.
(المسألة الثانية والعشرون)
أنَّه يجب على المكلف أن يعلم (أن من توعده الله بالنار من الكفار) فإنه وعيد مقطوع به، و (إذا مات مصراً على كفره غير تائب منه فإنه صائر إلى النار ومخلدٌ فيها خلوداً دائماً)، وهذا مجمع عليه، إلا ما يحكى عن مقاتل وبعض الخراسانية، وبعض الكرامية، فذهبوا إلى أن المشرك لا يعاقب، وأنه لا معنى للشرك لكنهم يسترون هذا المذهب.
قال الإمام عزالدين -عادت بركاته-: لا ينبغي أن يكون هذا مذهباً لأحد من المسلمين، فإنه ردٌ لما عُلمَ من ضرورة الدين، ولعل الرواية عن مقاتل غير صحيحة، وكيف يقول عاقل ممن يؤمن بالله أنه لا معنى للشرك، وهذا مقاتل قال فيه ابن خلكان: كان إماماً في التفسير، انتهى.
وقال الشافعي -رحمه الله-: الناس عيال على مقاتل في التفسير، انتهى.
(والدليل على ذلك) المذهب الصحيح مع كونه معلوماً من ضرورة الدين ما يعلم ضرورة من (أنَّ النبي ً كان يدين بذلك ويخبر به)، وتوعّده ً الكفار بذلك مما لا يُردُّ ولا يخفى، (وهو ً لا يدين إلا بالحق ولا يخبر إلا بالصدق) بشهادة المعجز كما تقدم.
وقد ورد به القرآن الكريم، قال تعالى بعد ذكر الفُجَّار: {وَمَا هُمْ عَنْهَا بِغَائِبِينَ}[الانفطار:16] والفجار يشمل الفساق والكفار بالإجماع، إلى غير ذلك مما يكثر تعداده من الآيات الآتي ذكرها في المسألة التي بعد هذه.
وكذلك السنة فإنَّها دالة على ذلك (كما قد وردت به الأخبار) الصحيحة، فمن جملة ذلك ما رواه أبو الدرداء قال: قال رسول الله ً: ((يلقى على أهل النار الجوع، فيعدل ما هم فيه من العذاب، فيستغيثون فيغاثون بطعام من ضريع لا يسمن ولا يغني من جوع، فيستغيثون بالطعام فيغاثون بطعام ذي غصة، فيتذكرون أنهم كانوا يجيزون الغصص في الدنيا بالشراب، فيستغيثون بالشراب فيدفع إليهم الحميم بكلاليب الحديد، فإذا دنت من وجوههم شوى وجوههم، فإذا دخلت بطونهم قطعت ما في بطونهم، فيقولون: ادعوا خزنة جهنم عساهم يخففون عنا، فيقولون لهم: ألم تك تأتيكم رسلكم بالبينات؟ قالوا: بلى، قالوا: فادعوا وما دعاء الكافرين إلا في ضلال، فيقولون: ادعوا مالكاً، فيقولون: يا مالك ليقضي علينا ربك؟ فيجيب إنكم ماكثون، (قال الأعمش: ثبت أن ما بين دعائهم وإجابة مالك لهم مقدار ألف عام)، فيقولون: ادعوا ربكم فلا تجدون خيراً منه، فيقولون: ربنا غلبت علينا شقوتنا وكنا قوماً ضالين، ربنا أخرجنا منها فإن عدنا فإنا ظالمون، قال: فيجيبهم: اخسؤا فيها ولا تكلمون، فعند ذلك يئسوا من كل خير، وعند ذلك يأخذون في الزفير والحسرة والويل)) أخرجه الترمذي.
وعن ابن عمر أن النبي ً قال: ((يدخل أهل الجنة الجنة وأهل النار النار، ثم يقوم مؤذن بينهم، يا أهل الجنة: لا موت، ويا أهل النار: كل خالد فيما هو فيه)) أخرجه البخاري ومسلم، إلى غير ذلك من الأحاديث الدالة على ذلك (وهو إجماع المسلمين) في الصدر الأول، ومن كان قبل هؤلاء المخالفين حتى أحدثوا هذا القول، والإجماع حجة قاطعة كما وردت بذلك الآيات القرآنية، والأحاديث النبوية، (فثبت بذلك) الذي ذكرنا (خلود الكفار في النار)، وبطل قول المخالفين، على أن قولهم إنكار لما علم من الدين ضرورة كما ذكر في صدر المسألة فلا نشتغل بالحجاج فيه.
(المسألة الثالثة والعشرون:أنَّه يجب على المكلف أن يعلم أن من توعده الله من الفساق بالنار)
كمرتكبي الفواحش التي هي غير مخرجة من الملة، كالزنا وشرب الخمر ونحو ذلك (فإنه إذا مات مصراً على فسقه غير تائب منه فإنه صائر إلى النار ومخلد فيها خلوداً دائماً).
وهذه المسألة هي أم مسائل الوعيد، والمختصة بالنزاع الشديد، عظيمة الأخطار متشعبة الخلاف بين علماء الأمصار، فالجمهور من العدلية المعتزلة والزيدية والإمامية والخوارج وغيرهم: أن كل واحد من فساق هذه الأمة وأهل الكبائر يستحق العذاب بالنار في الآخرة، ولا بدَّ أن يدخلها ويعذب فيها ويخلد فيها أبد الآبدين، وما هم عنها بغائبين، وخالفت في ذلك المرجئة، فقطع بعضهم على أنهم غير داخلين في الوعيد، وتوقف البعض الآخر.
وقد جرى اصطلاح أصحابنا على أن كل من قال بخروج الفساق، أو توقف أو قطع بعدم دخولهم النار فإنه مرجئ، والإتفاق على أن المرجئة مذمومون ملعونون، وأن الإرجاء اسم ذم كالقدرية لما روي عنه ً: ((لعنت القدرية والمرجئة على لسان سبعين نبياً)).
وروى الحاكم عنه ً: ((لكل أمة يهود فيهود هذه الأمة المرجئة)) إلى غير ذلك، ولكن اختلف في مُسماه وموضوعه، فالأصحاب بنوا على ما ذكرناه، وإن كانوا يقولون الإرجاء الحقيقي مذهب الواقفة، منهم الذين لا يقطعون بشيء قيل: لأن الإرجاء التردد.
وقال الفقيه حميد في العمدة: لأنه الوقف والشك.
قال الإمام عزالدين -عَلَيْهِ السَّلامُ-: قلت: بل التحقيق أن الإرجاء هو التأخير ومنه قوله تعالى: {تُرْجِي مَنْ تَشَاءُ مِنْهُنَّ}[الأحزاب:51] قال الجوهري: أرجأت الأمر أخرته.
ومنه: {وَآخَرُونَ مُرْجَوْنَ لِأَمْرِ اللَّهِ}[التوبة:106] أي مؤخرون حتى ينزل الله فيهم ما يريد ومنه سُميت المرجئة.
قلت: ويكون وجه التسمية تأخيرهم القطع بالعقوبة والتخليد، والله أعلم.
وطوائف المخالفين يتبرؤن من هذا الاسم ويقولون: الإرجاء المذموم قائلوه هو مذهب من زعم أن الإيمان قول بلا عمل، لما روي عنه ًوقد سئل عن المرجئة فقال: ((يقولون الإيمان قول بلا عمل)) ويقولون فيما يحكم الأصحاب عليه أنه الإرجاء الحقيقي هو الرجاء، انتهى.
وقد نص على الحديث القاسم -عَلَيْهِ السَّلامُ- والمرتضى ذكر في حقيقته ذلك ولفظه: وسألت عن المرجئي من هو؟ والمرجئي من زعم أن الإيمان قول بلا عمل، وإنما سمي مرجئاً؛ لأنه أرجأ الحق، ومعنى أرجأ الحق تركه، وهو من الحقائق الدينية التي نصَّ القاسم -عَلَيْهِ السَّلامُ- أنها لا تكون إلا عن الله.
واعلم: أن من المرجئة من قطع على أن الفساق لا يدخلون النار، وهم الكرامية والخراسانية ومقاتل بن سليمان كما قالوا بذلك في أهل الشرك.
ومنهم من قطع بدخولهم وخروجهم، وهم بشر المريسي ومن قال بقوله.
ومنهم من قال: يستحق الفاسق العقوبة الدائمة، إلا أنه يجوز أن يعفوا الله عمن شاء منهم وإذا عفى عن البعض عفى عن الكل، وإلا أدى إلى المحاباة وهي لا تجوز على الله تعالى، وهذا قول محمد بن شبيب من المعتزلة ومن قال بقوله.
ومنهم من قال: بدخول الفاسق النار إلا أن الطاعات التي صدرت منه تَرُدُّ عقابه من الدوام إلى الانقطاع، وهذا قول الخالدي وأتباعه.
ومنهم من قال: بالوقف ومال إليه لتعارض آيات الوعد والوعيد، وعدم المرجح لحمل أحدهما على الآخر، وعدم العلم بالمخصص منهما فالوقف حينئذٍ هو الواجب وهذا قول أبي حنيفة وغيره.
ومنهم من توقف في دخولهم النار، وإذا قَدّرَ دخولهم قطع بخروجهم.
ومنهم من قطع بدخولهم وتوقف في خروجهم.
ومنهم من جوَّز دخولهم النار وعدمه، وجوّز إن دخلوا خروجهم وخلودهم، وهذا هو مذهب المرجئة الخُلَّص ومذهبهم هو الإرجاء الحقيقي، وبه قال أبو القاسم البستي وكثير من المرجئة، وإليه ذهب جملة أهل الإرجاء من العدلية.
وقال الغزالي: بل المرجئة الخالصة هم القاطعون بأنَّ الفساق لا يعذبون ولا يدخلون.
هكذا حقق الحكاية لمذهبهم الإمام عزالدين -عَلَيْهِ السَّلامُ- في المعراج مع شيء من الاختصار.
(والدليل) لنا (على ذلك)، وهو تخليد الفُسَّاقِ في النار الكتاب والسنة، أما الكتاب: فـ(قوله تعالى: {وَمَنْ يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَإِنَّ لَهُ نَارَ جَهَنَّمَ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا})[الجن:23] فوعد الله سبحانه كل عاصٍ على سبيل العموم بالخلود في النار أبداً.
(والخلود هو الدوام) في لغة العرب، وكذلك التأبيد وإن استعمل في غير ذلك فعلى سبيل المجاز، والخلاف في ذلك مكابرة.
قالوا: سياق الآية في الكفار بدليل قوله: {حَتَّى إِذَا رَأَوْا مَا يُوعَدُونَ فَسَيَعْلَمُونَ مَنْ أَضْعَفُ نَاصِرًا وَأَقَلُّ عَدَدًا}[الجن: 24].
قلنا: خصوص آخر الآية لا يمنع من عموم أولها، فلا يلزم إذا كان آخر الآية وهو قوله: {حَتَّى إِذَا رَأَوْا} محمولاً على الكفار وخاصاً بهم أن يخص أول الآية، بل يجب ترك أولها على عمومه، وحمل آخرها على ما يصح حمله عليه.
(و) منها: (قوله تعالى: {إِنَّ الأَبْرَارَ لَفِي نَعِيمٍ، وَإِنَّ الْفُجَّارَ لَفِي جَحِيمٍ، يَصْلَوْنَهَا يَوْمَ الدِّينِ، وَمَا هُمْ عَنْهَا بِغَائِبِينَ}) [الانفطار:13- 16] فحكم بعدم غيبوبة الفجار عن النار، والفجار يطلق على الكفار والفساق، وقد ورد إطلاق الفاجر على الفاسق في السنة كثيراً (وهاتان الآياتان عامتان) كما ذُكِر، وحينئذٍ فإنهما (تدلان على دخول كل عاص النار، وعلى دخول كل فاسق وفاجر النار وخلودهم فيها)، ومثلهما قوله تعالى: {وَلاَ يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ حَتَّى يَلِجَ الْجَمَلُ فِي سَمِّ الْخِيَاطِ وَكَذَلِكَ نَجْزِي الْمُجْرِمِين}[الأعراف:40] فإنه تعالى حكم على الذين كذبوا بالآيات واستكبروا عنها بعدم دخول الجنة حتى يلج الجمل في ثقب الإبرة، وكما أن وُلُوجه فيه محال، فكذلك دخولهم الجنة محال، ثم قال تعالى: {وَكَذَلِكَ نَجْزِي الْمُجْرِمِين} أي ومثل ذلك الجزاء المذكور نجزي كل من أجرم، ولا شك أن المجرم هو المذنب والفاسق مذنب قطعاً، ومثله قوله تعالى: {إِنَّ الْمُجْرِمِينَ فِي عَذَابِ جَهَنَّمَ خَالِدُونَ، لاَ يُفَتَّرُ عَنْهُمْ وَهُمْ فِيهِ مُبْلِسُونَ}[الزخرف:75] فإنه لم يكتفِ بذكر الخلود حتى أردفه بلا النافية للتفتير عنهم، وهي تقتضي العموم في جميع الأحوال إلى غير ذلك من الآيات التي يطول تعدادها كقوله: {إِنَّهُ مَنْ يَأْتِ رَبَّهُ مُجْرِمًا فَإِنَّ لَهُ جَهَنَّمَ لاَ يَمُوتُ فِيهَا وَلاَ يَحْيَا}[طه: 74] {وَنَذَرُ الظَّالِمِينَ فِيهَا جُثِياً}[مريم:72] {وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ يَلْقَ أَثَامًا، يُضَاعَفْ لَهُ الْعَذَابُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَيَخْلُدْ فِيهِ مُهَانًا}[الفرقان:69].
وأما السُّنة: فالأخبار مشحونة بالوعيد العظيم على من سرق وزنا واغتاب وقتل النفس، ومنه: (ومن تحسَّى سماً، ووجى نفسه بحديدة) إلى غير ذلك.
والوارد من الأحاديث النبوية في الوعيد على أنواع المعاصي أكثر من أن تحصر، وأجل من أن تذكر في ضمن غيره وتُسطَر.
وللمخالفين شبه عقلية وسمعية، أما العقلية: فهو أن قالوا: الغرض بالوعيد الزجر والتخويف، وذلك حاصل مع تجويز العفو.
والجواب: أن مع القطع على لحوق العقاب يكون أبلغ في اللطف والزجر، قالوا: مدح الله العفو ورغب فيه فهو أحق بذلك.
وأيضاً فمن توعد من الملوك ثم عفى عدّ ذلك عدلاً ومدح عليه.
والجواب عن الأول: أنه مُسَلَّم لو لم يعارضه ما يقبح العقل العفو عنده وهنا قد عارضه ذلك، وهو أنه تعالى لو عفى لكان قد ساوى بين من أحسن وأساء، والمعلوم أن المساواة قبيحة عقلاً، فيكون العفو قبيحاً.
وأيضاً فإنما يستحسن حيث لا يقتضي كذباً، فأما إذا اقتضى إخلاف القول الذي هو كذب فلا يُسَلَّم، فيحمل ما رغب الله فيه ومدح عليه على مالا يقتضي مساواة بين محسن ومسيء، ولا يقتضي الكذب للدليل القاضي بذلك.
وعن الثاني: بأنَّ الملك إذا توعد غيره فإما أن يتوعده بأن يظلمه أو يتوعده بما له أن يوصله كالحدود ورد المظلمة، إن توعده بالظلم وهو الأغلب في الشاهد؛ لأن أحدنا لا يستحق على غيره عقوبة، وإنما يستحق عليه أعواضاً، والعقوبة على الله تعالى، فمتى أخلف وعيده والحال هذه لم يسمَ ذلك عفواً؛ لأن العفو إنما يكون عما يستحقه، وإن توعده بما له أن يوصله إليه كالحدود ونحوها لم يسلم أن الخلف فيه يسمى عفواً ولا حسناً ولايمدح عليه، ولكنه يقال على هذا الطرف أن الحدود ونحوها يجب عليه أن يوصلها، والله سبحانه لا يجب عليه إيصال العقاب، فَوِزَانُ المسألة ما كان للسلطان أن يوصله أو لا يوصله كما لو توعده باستيفاء دين له أوعقوبة له أن يسقطها، كالتعزير، والخصم حينئذٍ يوافق أن عدم تنفيذ ذلك عدل وحسن يستحق المدح والثناء.
وأما شبههم السمعية، فأقواها قوله تعالى: {إِنَّ اللَّهَ لاَ يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ}[النساء:116] ففي ظاهرها تصريح بمغفرة ما دون الشرك لولا قوله: {لِمَنْ يَشَاءُ} وهي أعظم مستند المرجئة وأبلغ متمسكاتهم، ولهذا قال صاحب زهر الكمائم: هذه الآية سيوف وخناجر على حناجر المعتزلة.
وقال الإمام المهدي -عَلَيْهِ السَّلامُ-: ولعمري أن هذه الآية الكريمة كالمصرحة بأنه سبحانه يغفر ما دون الشرك من غير توبة، ولكنه لما قال: {لِمَنْ يَشَاءُ} صارت مجملة، ووجه الاستدلال بها أن الله لا يغفر أن يشرك به تفضلاً؛ لأنه قد ثبت أنه يغفره بالتوبة.
قالوا: فيجب أن يكون التقدير: {وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ} تفضلاً وذلك عام في الصغائر والكبائر.
وأيضاً فلو حمل ما دون ذلك على الصغائر أو الكبائر مع التوبة لكان لا وجه لتعلقه بالمشيئة؛ لأنه إنما يعلق على المشيئة في وضع اللسان مالم يكن مستحقاً، ألا ترى أنه لا يحسن أن يقال: فلان يقضي الدين لمن يشاء من المستحقين، ويحسن أن يقال: الملك يخلع على من يشاء.
وأيضاً فإنه تعالى أضاف الغفران إلى نفسه، والذي يتعلق به من المغفرة ليس إلا مغفرة أصحاب الكبائر دون التائب وأصحاب الصغائر، فإن التائب لتوبته وصاحب الصغيرة باجتنابه الكبائر.
وأيضاً فما دون الشيء إنما يستعمل فيما قاربه، فيكون المراد الكبائر، كما أن القائل إذا قال: الألف فما دونه لم يحمل ما دونه على العشرة، وإنما يحمل على تسع مائة ونحوها.
وقد أجيب عن هذه الآية بأجوبة كثيرة منها: ما ذكره جار الله الزمخشري -رحمه الله تعالى- فقال: الفعل المنفي وهو غفران الشرك والمثبت وهو غفران ما دونه موجهان إلى قوله: {لِمَنْ يَشَاءُ} فكأنه قيل: إن الله لا يغفر لمن يشاء الشرك، ويغفر لمن يشاء ما دون الشرك على أن المراد بالأول من لم يتب، وبالثاني من تاب، ونظيره قولك: إن الأمير لا يبذل الدينار، ويبذل القنطار لمن يشاء، يريد لا يبذل الدينار لمن لا يستحقه ويبذل القنطار لمن يستحقه، وحكي في سبب نزولها أنه جاء إلى رسول الله ً شيخ من العرب فقال: إني شيخ منهمك في الذنوب إلا أني لم أشرك بالله شيئاً منذ عرفته، وآمنت به ولم أتخذ من دونه ولياً، ولم أوقع المعاصي جرأة على الله ولا مكابرة له، وما توهمت طرفة عين أني لم أعجز الله هرباً، وإني لنادم مستغفر تائب، فما ترى حالي عند الله؟ فنزلت. قال: وهذا الحديث ينصر من فسَّر من يشاء بالتائب من ذنبه. انتهى.
وأيضاً فإنما يقتضي ظاهرها أنه إنما يغفر ما دون ذلك لمن يشاء تفضلاً، فمن أين أنه قد شاء أن يغفر الكبائر تفضلاً، وهو محل النزاع لا سيما وغفرانها يكشف عن الكذب في آيات الوعيد.
قال الرازي معترضاً لاحتجاج أصحابه بهذه الآية: ولئن سلمنا دلالة الآية على غفران الكبيرة فإن الله تعالى لو قال: إنَّ الله لا يغفر أن يشرك به، ولا أكل أموال اليتامى، ولا الفرار من الزحف، ولا قتل المؤمن بغير حق، ويغفر ما دون ذلك لكنا نقطع على أنه ليس المراد بما دون ذلك شيئاً من هذه الكبائر، وقد توعد تعالى على هذه الذنوب في غير هذه الآية، فوجب أن لا يختلف الحكم الذي ذكرناه؛ لأن القرآن كله كالكلمة الواحدة في البعد عن التناقض والاختلاف، وأيضاً فلا تعلق لواحد من فرق المرجئة.
أما من قال: لا وعيد على مرتكبي الكبائر من أهل الصلاة كما ينسب إلى مقاتل وغيره، فيقال له: إذا لم يكن عليه وعيد مستحق فلا معنى للغفران؛ لأن الذنب ساقط.
وأما من قال: إن الفاسق يعذب عذاباً منقطعاً كما يحكى عن المريسي، فيقال له: الآية عندك تقضي بالغفران وأنت قطعت على نزول العقاب فأين الغفران؟
وأما من قال: بالوقف، وهم الجمهور من المرجئة، فيقال لهم: ظاهر الآية عندكم تقتضي القطع على المغفرة لمن عدا المشركين وأنتم تتوقفون، وقوله: {لِمَنْ يَشَاءُ} لا يقتضي الوقف؛ لأن الذي عُلِّق بالمشيئة هو تعيين المغفور له، فأما المغفرة فمطلقة، وإذا كان ظاهرها يقتضي مالا يقول به أحد من الأمة وجب صرفها إلى الصغائر أو الكبائر مع التوبة.
وأيضاً فإن الآية مجملة لم يبين الله تعالى فيها مَنِ الذي يشاء له المغفرة وبيانها في قوله: {إنْ تَجْتَنِبُوا كَبَائِرَ مَا تُنْهَونَ عَنْهُ نُكَفِّرْ عَنْكُم سَيِّئَاتِكُم}[النساء:31] إلى غير ذلك مما تحتمله الآية.
ولئن سلمنا فبهذه الاحتمالات تكون ظاهراً، فلا يقاوم القاطع وهي آيات الوعيد الصريحة.
وأقول: إن الآية تحتمل وجهاً يبين ما ذكر، وهو أنه تعالى توعد أهل الكتاب في الآية التي قبلها بتعجيل العقوبة إن لم يؤمنوا، فقال سبحانه: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ آمِنُوا بِمَا نَزَّلْنَا مُصَدِّقًا لِمَا مَعَكُمْ مِنْ قَبْلِ أَنْ نَطْمِسَ وُجُوهًا فَنَرُدَّهَا عَلَى أَدْبَارِهَا أَوْ نَلْعَنَهُمْ كَمَا لَعَنَّا أَصْحَابَ السَّبْتِ} أي نمسخهم قردة وخنازير {وَكَانَ أَمْرُ اللَّهِ مَفْعُولاً}[النساء:47] ثم حذرهم سبحانه وتعالى بأنه لايقع منه غفران للشرك في حالة من الحالات، بل يستحق من أشرك تعجيل العقوبة أيضاً كما استحقها من تقدم ذكره، فأتى بالنفي الداخل على المضارع الذي هو في معنى النكرة، فلو لم يعجل عقوبة الشرك لكان غفراناً، كما قال تعالى حاكياً: {وَأَنِ اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ ثُمَّ تُوبُوا إِلَيْهِ يُمَتِّعْكُمْ مَتَاعًا حَسَنًا إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى}[هود:3] فجعل المتاع الحسن إلى الموت من موجبات المغفرة، ثم قال سبحانه: {وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ}[النساء:116] فلا يعاجل بعض المرتكبين للكبائر بالعقوبة بل يغفرها بتأخير العقوبة في الدنيا كما قال تعالى: {وَإِنَّ رَبَّكَ لَذُو مَغْفِرَةٍ لِلنَّاسِ عَلَى ظُلْمِهِمْ}[الرعد:6] وبهذا يندفع الإشكال ولله الحمد.
ومما احتجوا به قوله تعالى: {قُلْ يَاعِبَادِي الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ لاَ تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعًا}[الزمر:53].
والجواب: أنه إنما نهى تعالى عن القنوط الذي هو الإياس من رحمة الله تعالى بإهمال التوبة واعتقاد أن الذنب لا تمحوه التوبة، ولذلك أمر سبحانه وتعالى بالتوبة عقيبها تحقيقاً لغفران الذنوب بها، وأنها باب مفتوح لا يُغلق عن المذنب فقال: {وَأَنِيبُوا إِلَى رَبِّكُمْ}[الزمر:54].
وأيضاً فالظاهر يقتضي غفران الشرك فما خصصوا به غفران الشرك خصصنا بمثله غفران الفسق، والمعنى: {يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعًا} بالتوبة؛ لأنه قد تكرر ذكر هذا القيد في القرآن فكان ذكره فيما ذُكِرَ فيه ذكراً له فيما لم يذكر فيه؛ لأن القرآن في حكم كلام واحد لا يجوز فيه التناقض، وقد ذَكَرَ مثل ذلك جار الله في كشافه، (فثبت بذلك) الذي ذكرنا وبغيره من الأدلة الواضحة (خلود كل فاسق وفاجر في النار).
(المسألة الرابعة والعشرون): في المنزلة بين المنزلتين
وهذه مسألة الأسماء والأحكام، وإنما سميت المنزلة بين المنزلتين؛ لأن معنى ذلك لغةً الشيء بين الشيئين في العلو والانحطاط، وقيل: الشيء بين الشيئين ينجذب إلى كل واحد منهما بشبه.
وأما اصطلاحاً: فكون صاحب الكبيرة ممن ليس بكافر له أسماءٌ وأحكامٌ بين أسماء المؤمن والكافر وأحكامهما، ووجه تسمية هذه بالمنزلة بين المنزلتين: كونها كلاماً في إثبات منزلة للفاسق في أسمائه وأحكامه بين منزلتي المؤمن والكافر في أسمائهما وأحكامهما، ووجه تسميتها بمسألة الأسماء والأحكام أنها كلام في أسماء المكلفين وأحكامهم، ووجه الحاجة إليها أن المكلفين لما كانوا على ضربين، ضرب يستحق العذاب، وهو فريقان: فريق يستحق العقاب العظيم، وفريق يستحق عقاباَ دون ذلك، ومنهم من يستحق الثواب، وهم فريقان: فريق يستحق الثواب العظيم، وفريق يستحق ثواباً دون ذلك فاحتجنا إلى معرفة كل فريق وحكمه لنجري عليه اسمه ونعامله معاملته.
وقد ذهب أهل الحق إلى (أن أصحاب الكبائر من هذه الأمة، كشارب الخمر والزاني ومن يجري مُجراهم يُسَمّون فُسّاقاً وفجاراً)، وهذا مما لا خلاف فيه، وهل يسمون مع ذلك مؤمنين أو كفاراً أو منافقين؟
فذهب المرجئة إلى الأول، ومنهم من قال: إن إيمانهم كإيمان جبريل وميكائيل لاعتقادهم أن الإيمان هو التصديق فقط.
وذهب الخوراج إلى الثاني، واتفقت على وصفهم بأنهم كفار، واختلفت في أنهم هل يوصفون بأنهم مشركون؟ فمنعه الإباضية، وأجازه سائرهم.
وذهب الحسن إلى الثالث، (و) إذا عرفت ذلك، وأنهم (لا يسمون مؤمنين) فليس حكمهم حكم المؤمنين على الإطلاق، (ولا) حكم الـ (منافقين)، (و) ليسوا (كفاراً) على الإطلاق، بل لهم اسم بين الاسمين، وحكم بين الحكمين، وهو معنى قولهم المنزلة بين المنزلتين.
وقد حُكيَ عن الناصر -عَلَيْهِ السَّلامُ- تسميتهم كفار نعمة. قال الوالد العلامة محمد بن عزالدين: وهو قياس قول من جعل نحو العبادات شكراً، وقد صرَّح بهذا المرتضى والإمام أحمد بن سليمان مع تسميته فاسقاً أيضاً.
(و) أما (الدليل على أن الفاسق لا يسمى كافراً) كما زعمت الخوارج: فهو (أن الكافر) المتصف بالكفر، والكفْرُ كان في الأصل التغطية، والكافر المُغَطّي، ومنه سمي البحر كافراً؛ لأنه يستر ويغطي ما فيه، وصار الكافر في الشرع (له أحكام مخصوصة وأسماء معلومة لا تجوز على الفاسق، أما أحكامه: فنحو حرمة المناكحة والموارثة والدفن في مقابر المسلمين) ونحو ذلك مما لا تجري على الفاسق بالإجماع، وأراد بنحو ذلك سبي النساء والأولاد والقتل في حق بعض الكفار أو ضرب الجزية في حق البعض، وهذا هو المعلوم من حال الصحابة بل ربما نصوا على فساد هذه المقالة، كما روي أن أمير المؤمنين سئل عن الخوارج أكفار هم؟ فقال: من الكفر فروا، قيل: فمسلمون؟ قال: لو كانوا مسلمين ما قاتلناهم، كانوا إخواننا بالأمس فبغوا علينا، فمنع من تسميتهم كفاراً أو مؤمنين، ولم يُنكَر عليه فكان إجماعاً هذا إن لم يكن قوله حجة.
ولنا أيضاً أن الله قد شرع اللعان بين الزوجين، ومعلوم أن أحدهما فاسق إما المرأة بالزنا، أو الزوج بالقذف، فلو كان الفسق كفراً لوقعت البينونة بنفس الفسق فلا يصح اللعان إذ لا لعان بين أجنبيين وكان أيضاً لا يحتاج إلى حكم.
وأيضاً كان يلزم إذا شرب الزوج أو زنى أن يُفَرَّق بينه وبين امرأته، وأن يستتاب وإلا قتل كالمرتد، وهم يلتزمون هذا، ولولم يلتزموه أيضاً فهم محجوجون بالإجماع، فإن المعلوم من حال الصحابة أنهم لم يحكموا بانفساخ نكاح شارب الخمر والقاذف ونحو ذلك، ولا يسمع عن أحد منهم، ولهم شبهٌ عقلية لا يُلتفت إليها لضعفها ولظهور بطلانها.
وأما الشبهه السمعية فمنها: قوله تعالى: {فَأَنْذَرْتُكُمْ نَارًا تَلَظَّى، لاَ يَصْلاَهَا إِلاَّ الأَشْقَى، الَّذِي كَذَّبَ وَتَوَلَّى}[الليل:14،15،16] قالوا: الفاسق ممن يصلى النار فيجب أن يكون كافراً.
والجواب: أنَّا نقول مُسلَّمٌ أنه ممن يصلى النار، فمن أين يصلى هذه النار المخصوصة التي وصفها الله تعالى، وإنما هي نار مُنَكرَّة غير مُعيَّنة.
وأيضاً فلسنا نحكم بدخوله النار لأجل هذه الآية، بل لمثل قوله تعالى: {فَأَمَّا الَّذِينَ شَقُوا فَفِي النَّارِ}[هود:106] والفاسق شقي وليس بأشقى.
قالوا: قال تعالى: {وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنزَلَ اللَّهُ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الْكَافِرُونَ}[المائدة:44] والفاسق قد يكون فسقه بالحكم بغير ما أنزل الله.
قلنا: هي واردة في اليهود، وإنما قُصِرَت على السبب لمانع من العموم، وهو ما قدمنا من الأدلة على أن الفاسق ليس بكافر، ولما روي عن ابن عباس من أن الفاسقين والكافرين والظالمين أهل الكتاب.
هذا وأما قول المصنف: (وأما الأسماء فيقال: كافر وملحد؛ لأنه جاحدٌ لله تعالى ولرسوله ولجنته وناره، ولا شك أن الفاسق لا يفعل شيئاً من ذلك) فقد قال الشارح المحقق: ما كان ينبغي؛ لأن إطلاق الكافر على الفاسق هو عين محل النزاع، وأما ملحد فهو اسم لكافر مخصوص، وهو الجاحد للصانع، فعدم إطلاقه على الفاسق كعدم إطلاقه على من كفر بغير ذلك.
(وأما الدليل على أنَّ الفاسق لا يسمى منافقاًأن المنافق) كما يقوله الحسن البصري فهو وإن كان في الأصل اسماً لمن يُظهِر أمراً ويُبطِنُ خلافه، مأخوذ من النافقا أحد جُحرَة اليربوع حيث كان يخفي أحد جانبيه ويظهر الآخر، فقد صار في الشرع يسمى به (من أبطن الكفر وأظهر الإسلام) و معلوم أن الفاسق لا يكون كذلك، فإن أحدنا يعلم من نفسه أنه يقدم على المعصية مع إقراره بالله تعالى ووعيده، ومع الخوف الشديد، لكن يؤثر الشهوة ويؤمل العفو إن كان من أهل الإرجاء، ويسوف التوبة إن كان من أهل الوعيد.
وأيضاً فلا خلاف في أن كل منافق كافر فكان يلزم أن يكون الفاسق كافراً بل كما نص الله على أن المنافق كافر، فقد نص الله على أنه من أشد الناس عقاباً فقال تعالى: {إِنَّ الْمُنَافِقِينَ فِي الدَّرْكِ الأَسْفَلِ مِنَ النَّارِ}[النساء:145].
[شبهة]: قال: لو لم يكن في اعتقاده خلل، وكان مؤمناً بالله وبوعده ووعيده لما ارتكب الكبيرة، كما لو كان بين يديه نار مؤججة، وقال له من يقدر عليه إذا واقعت الكبيرة أوْقَعْتُكَ في هذه النار، وكذلك إذا علم في الجحر صُرة دراهم وحية تُهلِكُ لسعتها فإنه لا يُدخِلُ يده للصرة والحال هذه.
والجواب: ما تقدم من أنا نعلم من حال الفاسق أنه لا خلل في اعتقاده حال إقدامه على المعصية وما ذكره من المثال ليس نظيراً للمسألة؛ لأن من وصف حاله يكون ملجئاً إلى ترك المعصية والحال هذه، وليس هذا حال المكلف فإنه يجوّز العفو والتوبة، ووزِان مسألة الحية أن يكون معه ترياق يعلم أنه ينفع من اللسعة، أو يجوز أن الحية لا تلسعه، فإنه والحال هذه يدخل يده للصرة.
(وأما الدليل على أن الفاسق لا يسمى مؤمناً) كما تزعمه المرجئة، (فهو أن المؤمن) وإن كان في أصل اللغة المُصدِّق فقد صار منقولاً في الشرع إلى (من يستحق الثواب والمدح والتعظيم)، فالإيمان كان في الأصل التصديق، ثم صار موضوعاً في الشرع للعمل بالأركان والتصديق بالقلب والإقرار باللسان، وأن اسم المؤمن في الشرع مشتق من الأمان بهذا المعنى، ونَقْلُ الإيمان إلى ما ذكر هو مذهب أئمة الزيدية ومن تابعهم وقول الجُلة من المعتزلة.
قال الإمام يحيى: وهو مذهب السلف وهو المختار، والذي يدل على أنه يستحق عليه المدح الإجماع، فلا نعلم في ذلك مخالفاً وصحة توسطه بين أوصاف المدح، ولأن الله تعالى ما ذكر المؤمن والإيمان في القرآن إلا مدحه، وكل ذلك لا يصح في الفاسق، وقد دل الدليل السمعي على نقل اسم المؤمن إلى من يستحق الثواب، قال تعالى: {إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ إِذَا ذُكِرَ اللَّهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ وَإِذَا تُلِيَتْ عَلَيْهِمْ آياتُهُ زَادَتْهُمْ إِيمَانَاً وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ، الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلاَةَ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنفِقُونَ، أُوْلَئِكَ هُمُ الْمُؤْمِنُونَ حَقًّا}[الأنفال: 2،3] وإنما للحصر، ثم أكد ذلك في أخر الآية بالحصر أيضاً بما يقتضيه بلا مِرْية عند جهابذة الأصوليين، وقال تعالى: {قَدْ أَفْلَحَ الْمُؤْمِنُونَ، الَّذِينَ هُمْ فِي صَلاَتِهِمْ خَاشِعُونَ}[المؤمنون:1،2] الآيات، وقد يقال: أن الوصف في هذه الآيات للتقييد لا للتوضيح، وإن سُلِّم أنه للتوضيح فهو محتمل، والمحتمل لا يصح حجة، وقال تعالى: {بِئْسَ الاِسْمُ الْفُسُوقُ بَعْدَ الإِيمَانِ}[الحجرات:11] وذلك يدل على التنافي بين الاسمين، وقال تعالى: {وَكَانَ بِالْمُؤْمِنِينَ رَحِيمًا}[الأحزاب:43]، وقال في حق الزاني والزانية: {وَلاَ تَأْخُذْكُمْ بِهِمَا رَأْفَةٌ فِي دِينِ اللَّهِ}[النور:2]، وقال تعالى: {قَالَتِ الأَعْرَابُ آمَنَّا قُلْ لَمْ تُؤْمِنُوا وَلَكِنْ قُولُوا أَسْلَمْنَا وَلَمَّا يَدْخُلِ الإِيمَانُ فِي قُلُوبِكُمْ وَإِنْ تُطِيعُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ لاَ يَلِتْكُمْ مِنْ أَعْمَالِكُمْ شَيْئًا إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ، إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ ثُمَّ لَمْ يَرْتَابُوا وَجَاهَدُوا بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنفُسِهِمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ}[الحجرات:14،15] فإنه لو كان الإيمان هو التصديق
لما جُعِلَ فيه ما هو عمل قطعاً وهو الجهاد في سبيل الله، فلا يكون مؤمناً إلا من كان كذلك، وذلك ظاهر ولله الحمد.
وكذلك قال النبي ً: ((لا يزني الزاني حين يزني وهو مؤمن، ولا يسرق السارق حين يسرق وهو مؤمن)) إلى غير ذلك من الأدلة.
ولهم شبه منها: أنه لو كان الإيمان فعل الطاعات، واجتناب المقبحات لصح وصفه بالزيادة فيه والنقصان، وهو باطل.
والجواب: أنَّا لانُسلِّم بطلانه بل يصح دخول الزيادة فيه، فمن كانت طاعته أكثر كان إيمانه أكثر، وعلى هذا قال: {فَزَادَتْهُمْ إِيمَانًا} وقال: {أَيُّكُمْ زَادَتْهُ هَذِهِ إِيمَانًا}.
قالوا: وردت آيات كثيرة تعطف الأعمال الصالحة على الإيمان نحو قوله تعالى: {وَمَنْ يُؤْمِنْ بِاللَّهِ وَيَعْمَلْ صَالِحًا} ونحوها، وحق العطف المغايرة؟
قلنا: إنَّا لم ندَّع أن كل لفظة اشتقت من الإيمان، فإنها لا تستعمل إلا في المعنى الذي قلناه، وأنه لا يجوز استعمالها في الذي وضعت له في الأصل، فلا مانع من أن تكون هذه اللفظة التي ذكرها الله في هذه الآيات مبقَّاةٌ على أصل الوضع فلا يُقدَحُ في كلامنا، ويكون العطف قرينة المجازية، وغير ذلك من الآيات الواردة بلفظ الإيمان في حق من ليس بمؤمن شرعاً، مأول بما ذكر كقوله: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا لِمَ تَقُولُونَ مَا لاَ تَفْعَلُونَ}[الصف:2] ونحو: {وَإِنْ طَائِفَتَانِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ}[الحجرات:9] (فثبت بذلك) التقرير (أن الفاسق لا يسمى مؤمناً ولا كافراً ولا منافقاً) وبطل ما قاله المخالفون.
(المسألة الخامسة والعشرون) في الشفاعة
ووجه اتصالها بالوعد والوعيد ظاهر، فإنها من تتمة الكلام في إيصال عقاب ذوي الكبائر إليهم وخلودهم في النار، ولا يصح ما تقدم إلا بتصحيح ما ذهب إليه الأصحاب فيها من أنها ليست للفساق ولا لمن يستحق النار، وأنها لا تقتضي عدم دخولهم النار، ولا خروجهم عنها بعد دخولها.
واختلف الناس في موضوعها، فقال أهل الإرجاء: إنما تستعمل في دفع الضرر فقط، وقال الجمهور: بل فيه وفي جلب النفع.
قال المهدي -عَلَيْهِ السَّلامُ-: ونعلم بتواتر النقل عن أهل اللغة أنهم يقولون: شفع فلان إلى فلان ليقضي دينه، أو ليغني فقره أو نحو ذلك، ولايخالف أحد في ذلك، بل هي في جلب المنافع أكثر، قال الشاعر:
فذاك فتى إن جئته لصنيعة ... إلى ماله لم تأته بشفيع
واعلم: أنه لا خلاف بين أهل الإسلام أن لنبينا ً شفاعة مقبولة، وهو المقام المحمود الذي وعده الله إياه يوم القيامة في قوله: {عَسَى رَبُّكَ أَن يَبْعَثَكَ مَقَاماً مَّحْمُوداً}[الإسراء: 79] وأنكرتها المطرفية وقد سبقهم الإجماع.
والمشهور عن الجمهور وهم الأكثر من الزيدية والمعتزلة: (أن شفاعة النبي ً لا تكون لمن يستحق النار من الكفار والفساق) أصلاً، (وإنما تكون للمؤمنين) سواء كانوا قد أتوا كبائر ثم تابوا عنها، أو لم يواقعوا كبيرة رأساً (حتى يزيدهم الله بها شرفاً) ونعيماً إلى نعيمهم وسروراً إلى سرورهم.
قال المصنف: (أو تكون لمن يستوى حسناته وسيئاته) على القول بصحة ذلك (فيشفع له النبي ً ليدخل الجنة)، وإلى هذا القول الأخير ذهب أبو القاسم البلخي، وهو باطل بالدليل الدال على المنع من الاستواء، ومن أجاز ذلك فبطلانه بأنه لا دليل على قصر الشفاعة على من كان له هذا الحكم دون غيرهم من أهل الجنة.
وقال أهل الإرجاء: بل الشفاعة للمصرين من أمته من أهل الكبائر، والمطلوب بالشفاعة أن يعفوَ عنهم ويدخلوا الجنة تفضلاً.
(والدليل على أن شفاعة النبي) ً (لا تكون لأحد من الظالمين) أنها لو كانت لكانت إما أن تقبل وهو باطل؛ لما تقدم من أن الفساق في النار على جهة الدوام، وإما أن لا تقبل، وهو باطل بالإجماع.
(قوله تعالى: {لاَ يَشْفَعُونَ إِلاَّ لِمَنِ ارْتَضَى وَهُمْ مِنْ خَشْيَتِهِ مُشْفِقُونَ})[الأنبياء:28] فإذا كانت الملائكة لا تشفع إلا للمؤمنين فكذلك الأنبياء، والاتفاق وقع على أن الفاسق غير مرضي على الإطلاق، وإنما المرتضى على الإطلاق المؤمن الذي ليس بفاسق، والآية دلت على أن الشفاعة لمن ارتضاه مطلقاً غير مقيد.
وقال تعالى: {مَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ حَمِيمٍ وَلاَ شَفِيعٍ يُطَاعُ}[غافر:18] فقد أخبر الله على سبيل القطع بأنه لا شفيع للظالمين يوم القيامة تقبل شفاعته، ولا شك أنه ً مقبول الشفاعة، فلا يشفع لفاسق؛ لأن اللام لام الاستغراق والنكرة في سياق النفي للاستغراق، والفاسق ظالم بلا خلاف بدليل قوله تعالى: {وَلاَ تَنَابَزُوا بِالأَلْقَابِ بِئْسَ الاِسْمُ الْفُسُوقُ بَعْدَ الإِيمَانِ وَمَنْ لَمْ يَتُبْ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ}[الحجرات:11] ولا يقال: إنه تعالى لم ينف الشفاعة إلا عن جملة الظالمين وهو محل اتفاق؛ لأنا نقول: لو شفع النبي ً لظالم لما صدق العموم فبطل ما قلتموه، قال تعالى: {وَمَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ أَنصَارٍ}[ آل عمران :192] ولا نصرة فوق دفع ضرر العقاب، وقال في الذين كسبوا السيئات: {مَا لَهُمْ مِنَ اللَّهِ مِنْ عَاصِمٍ}[يونس:27].
شبهتهم أن المطيع مستغن بكونه من أهل الجنة عن الشفاعة فلا فائدة فيها.
والجواب: أن فائدتها بيان مرتبة الشافع وزيادة مسرة المشفوع له ومنافعه، ونعارضهم بقوله: {وَيَسْتَغْفِرُونَ لِلَّذِينَ آمَنُوا}[غافر:7] فنقول: لا فائدة في هذا الاستغفار وبالزيادة في قوله: {وَيَزِيدُهُمْ مِنْ فَضْلِهِ}[النساء:173].
قالوا: قال ً: ((شفاعتي لأهل الكبائر من أمتي))، ونحوه كما رواه أبو هريرة أن النبي ً قال: ((لكل نبي دعوة مستجابة فتعجل كل نبي دعوته وأنا اختبأت دعوتي شفاعة لأمتي يوم القيامة فهي نائلة من مات إن شاء الله من أمتي لا يشرك بالله شيئاً)) أخرجة البخاري ومسلم ومالك في الموطأ والترمذي.
والجواب: أن هذه الأحاديث لو صحت لم تخرج عن رتبة الآحاد، فإن التواتر من حقه كثرة الرواة، واستواء الطرفين والأوساط في ذلك، والمسألة قطعية على أن الحديث التالي للحديث الأول وما يشابهه ممكن التأويل بتخفيف جزء من العقاب لا يفضي إلى خلاف ما قضى به رب الأرباب، هذا مع الصحة التي بها تعارض القاطع، والذي يحسم المادة أن شفاعة النبي ً للفاسق كيف تليق بخلائقه الشريفة الفائقة أن يقول لرب العزة يوم القيامة: يا رب قد كُنتَ أنزلت عليَّ كتاباً في الدنيا وبعثتني رسولاً إلى الجن والإنس؛ لأعلِّمهم ما شرعت لهم، وآمرهم بطاعتك وأعدهم عليها ثوابك، وأنهاهم عن معصيتك، وأتوعدهم عليها بعقابك، وأنا الآن أسألك ألاَّ تفي بذلك، وأن تُصيِّر المسيء مع المحسن والمجرم مع المسلم مع قوله: {أَفَنَجْعَلُ الْمُسْلِمِينَ كَالْمُجْرِمِينَ}[القلم:35] هذا ممالا يستحسنه عاقل، فكيف به ً وهو الأعظم حلماً وعقلاً.
(المسألة السادسة والعشرون): في الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر
وقد استشكل الإمام عزالدين -عَلَيْهِ السَّلامُ- جعلها من أصول الدين قال: وأقرب ما يمكن تَمحُلُه أن يقال: لما كان باب الوعد والوعيد ينطوي على ذكر الطاعات والمعاصي، وما يقتضيه وما يجب من التوبة عن ترك الطاعة، وفعل المعصية، وذكر أسماء فاعليها وأحكامهم، حَسُنَ وناسب أن يردف بذكر الأمر بوجوب الطاعة والحث عليها، والنهي عن المعصية، وأن لا يترك لمريدها سبيلاً إليها، فكما أن في ذلك الباب ذكر أحكام فاعلي الطاعة والمعصية وما ينبغي من حسن المعاملة، فهذا كلام في بعض ما ينبغي أن يعاملهما به غيرهما من الأمر بالطاعات والنهي عن المعاصي، ولو إلى حد القتال بعد تحسين المقال.
واعلم: أنه لا خلاف (أن الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر واجبان) على كل مكلف وجوب كفاية، سواء كان ثم إمام أولا، ولا اعتداد بما يعزى إلى الحشوية من الخلاف في وجوبه قولاً وفعلاً، وأما الإمامية فلم يخالفوا إلا في كيفية وجوبه، وإلا فقد قالوا بوجوبه قولاً لكنهم قالوا: لا يجب فعلاً إلا في زمن الإمام.
وقال الأصم: لا يجبان إلا إذا كان ثم إمام مجمع عليه، وإنما يجبان على قدر الطاقة والإمكان، فإن لم يقدر ولم يستطع فلا وجوب عليه لقوله تعالى: {فَاتَّقُوا اللَّهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ}[التغابن:61] وعلى مراتبه، فيبدأ بالقول اللين، فإن حصل به المقصود من الامتثال وإلا تعداه إلى القول الخشن والوعيد، فإن نفع وإلا فالعصا ثم السيف، والوجه في هذا الترتيب أن الغرض بالأمر والنهي هو أن يقع المعروف وأن لا يقع المنكر، فإذا تم الغرض بالأمر فلا وجه للتعدي إلى الوجه الصعب، ولقوله تعالى: {ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ}[فصلت:34] ونحوها.
والذي يدل على وجوب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر أدلة كثيرة منها قوله تعالى: {لُعِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ عَلَى لِسَانِ دَاوُودَ وَعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ ذَلِكَ بِمَا عَصَوْا وَكَانُوا يَعْتَدُونَ، كَانُوا لاَ يَتَنَاهَوْنَ عَنْ مُنكَرٍ فَعَلُوهُ لَبِئْسَ مَا كَانُوا يَفْعَلُونَ}[المائدة:78،79] ونحن متعبدون بشرائع من قبلنا مالم تنسخ على الأصح.
وما ثبت في النهي عن المنكر ثبت في الأمر بالمعروف، وقال تعالى: {وَلْتَكُنْ مِنْكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ}[آل عمران:104] فأمر الله تعالى أن يكون فينا من يأمر بالمعروف وينهى عن المنكر، فأوجبه على الكفاية؛ إذ الأمر يقتضي الوجوب على الراجح، وقال تعالى: {وَالْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ يَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنكَرِ}[التوبة:71] فحكم سبحانه على المؤمنين بكون الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر من أوصافهم، فمفهومه من لم يكن كذلك فليس بمؤمن، كما أن من لم يقم الصلاة ولم يؤتِ الزكاة فليس بمؤمن. وقوله ً: ((لا يحل لعين ترى الله يعصى فتطرف حتى تغير أو تنتقل)) قيل: عن البلد، وقيل: عن المكان، والمراد أن تنتقل إن لم يمكن التغيير.
وفي الترمذي عن حذيفة عنه ً: ((والذي نفسي بيده لتأمُرُنَّ بالمعروف ولتنهُنَّ عن المنكر أو ليوشكن الله يبعث عليكم عقاباً منه ثم تدعونه فلا يستجيب لكم)) إلى غير ذلك مما يدل على الوجوب قطعاً.
ثم إن المُصَنٍّفَ أطلق القول بالوجوب، وهو تابع للمتقدمين من المعتزلة فإنهم أطلقوا، وأما المتأخرين كأبي علي وأبي هاشم وطبقتهم فإنهم فصلوا، فجعلوا الأمر بالواجب واجباً، والأمر بالمندوب مندوباً، قالوا: لأنه لا يزيد حال الأمر على حال المأمور به، فإذا جاز للمأمور أن يترك المندوب جاز للآمر أن يترك الأمر به، فأما المنكر فلا ينقسم؛ لأنه قسم واحد، وهو ما يستحق عليه العقاب فيجب فيه النهي إذا تكاملت الشروط الآتية، وإنما يجب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر عند من قال بالوجوب (إذا تكاملت شروطهما)، وشروطهما خمسة:
الأول: أن يعلم الذي يأمر بمعروف وينهى عن منكر أنَّ الذي يأمر به معروف والذي ينهى عنه منكر، وإلا لم يأمن أن يأمر بالمنكر وينهى عن المعروف، ولأن الآمر لزيدٍ مثلاً بأن يفعل كذا لوجوبه يتضمن الإخبار بالوجوب إذ لو لم يكن حاكماً بوجوبه لما أمر به، وكذلك في النهي فإذا كان الخبر لا يحسن إلا مع العلم فكذلك ما يتضمنه وينبي عنه.
فإن قيل: أليس مما يجب علينا فيه الأمر والنهي المسائل الاجتهادية التي طريقها الظن، بحيث أنا نظن وجوبها أوقبحها ولا نعلم ذلك، ومقتضى ما ذكرتم وشرطتم أن يرتفع باب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر فيها لكونها غير معلومة؟
والجواب: أنَّ الظن إنما هو في مسائلها فمتى دلت عليها الأدلة الظنية بعد توفية الاجتهاد حقه صار الوجوب والقبح فيها معلومين؛ لأن دليل وجوب العمل بما أدى إليه الاجتهاد قطعي، ونظيره ما إذا حصلت قرينة تقتضي الظن بأن الطعام مسموم، وأن في سلوك هذه الطريق لحوق ضرر، فإنه حينئذٍ يعلم بالعقل علماً يقيناً وجوب تجنب الطعام.
والطريق الثاني: أن يعلم أو يغلب على ظنه أن لأمره أو نهيه تأثيراً، فإن علم أو غلب على ظنه العكس فاتفقوا على أنه لا يجب، واختلفوا في الحسن، فقيل: يحسن ويُنَزِّلُ منزلة استدعاء الغير إلى الدين وإقامة الحجة عليه وإزالة علته، وقيل: يصير عبثاً فيقبح، وفرق هؤلاء بينه وبين الاستدعاء إلى الدين وأمر الله ونهيه من عُلِمَ أنه لا يأتمر ولا ينتهي، أن الغرض بهذا الاستدعاء وأمر الله ونهيه يعود إلى التمكن والإعلام وإزاحة العلة، وذلك حاصل، وإن علم أنه لا يقبل والغرض بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر أن يقع المعروف وأن لا يقع المنكر، فإذا علم أو غلب في ظنه زوال الغرض صار الأمر والنهي عبثاً، فيزول الحسن مع زوال الوجوب، وأما إذا لم يعلم ولم يغلب على ظنه أحد الأمرين بل جوَّز أن يكون لأمره تأثير وألاَّ يكون فههنا يجب، وقيل: يحسن فقط، وفي كلام الإمام القاسم -رحمه الله- ما يقضي بعدم اشتراط هذا الشرط؛ لأنه قال ما معناه: إن كان المأمور والمنهي جاهلين بأن المأمور به معروف، والمنهي عنه منكر وجب، وإن لم يظن التأثير، لإن إبلاغ الشرائع واجب إجماعاً، وإن كانا عارفين أيضاً وجب لمثل قوله تعالى: {قَالُوا مَعْذِرَةً إِلَى رَبِّكُمْ وَلَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ}[الأعراف:164] والمعذرة لا تكون إلا عما لا يجب.
وأيضاً فلا معنى لقول من قال: بأنه إذا لم يعلم أو يظن التأثير يصير عبثاً إذ أقل درجاته أن يكون من الذكر الحسن، وقد صدر ذلك من الأنبياء -عليهم السلام-، وذلك معروف لمن نظر بعين البصيرة فأين العبث؟ ويؤيد ذلك قوله تعالى: {قُلْ يَاأَيُّهَا النَّاسُ إِنِّي رَسُولُ اللَّهِ إِلَيْكُمْ جَمِيعًا الَّذِي لَهُ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ لاَ إِلَهَ إِلاَّ هُوَ يُحْيِ وَيُمِيتُ فَآمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ النَّبِيِّ الأُمِّيِّ الَّذِي يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَكَلِمَاتِهِ وَاتَّبِعُوهُ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ}[الأعراف:158] فإنه أمر الناس جميعاً بالإيمان به والاتباع له، وقد قال تعالى: {وَمَا أَكْثَرُ النَّاسِ وَلَوْ حَرَصْتَ بِمُؤْمِنِينَ}[يوسف:103] فقد دعا إلى الإيمان من علم أنه لا يؤمن، والله أعلم.
والثالث: أن يعلم أو يغلب في ظنه أنه إن لم يأمر بالمعروف وينهَ عن المنكر أدى إلى تضييعهما، نحو أن يرى آلات الملاهي المعتادة موضوعة والخمر حاضر، أو من يريد الشرب واقفاً أو يشاهد الغير يصلي مع أن وقت الصلاة قد آذن بالزوال؛ لأن الغرض وقوع المعروف وألا يقع المنكر، فمتى علم أو غلب في ظنه زوال هذا الغرض لم يجب ولم يحسن إلا لغرض الوعظ والتذكير والزجر عن مثله، والأمر بالتوبة عنه ونحو ذلك.
الرابع: أن لا يخاف تلفاً ينزل به أو بأطرافه أو بماله المجحف أو الضرر به أو حبسه الطويل الذي يختار الضرر عنده والضرر حدوث علة أو زيادتها أو استمرارها، قيل: أو بطء برئها، فإن خاف ذلك لم يجب عليه اتفاقاً؛ لأن عند خوف التلف نحو قد أباح له الشرع ما هو منكر، كأكل الميتة وشرب الخمر، والأخذ من مال الغير مالا يضر به، والتلفظ بكلمة الكفر ونحو ذلك، فبالأولى أن يباح له ترك الأمر والنهي عند مثل هذا الخوف.
واختلفوا في الحسن إذا زال الوجوب فقيل: لا يحسن، وقيل: يحسن مطلقاً؛ لأن فيه إعزازاً للدين، وقيل: يحسن إن صدر ممن يقتدى به وله رتبة عالية، وإن أدى إلى هلاكه وعلى ذلك جرت أحوال كثير من أئمتنا عليهم السلام نحو الحسين وزيد ومن حذا حذوهم، فإنهم قاتلوا في قلة من الأنصار حتى أدّى إلى الاستئصال، فصاروا قدوة للآمرين بالمعروف والناهين عن المنكر بعدهم، وليس صدوره ممن هو كذلك كصدوره ممن لا يُنظر إليه ولا يُلتفت عليه.
الخامس: ألا يعلم أو يغلب في ظنه أن أمره ونهيه يؤدي إلى تضييع واجب آخر أو فعل منكر آخر، فإن علم أو غلب في ظنه ذلك فقيل: لا يجب ولا يحسن؛ لأن في ذلك مفسدة، ولأنه يكون في حكم المعين على المنكر الآخر، وقيل: لا يسقط بل يحسن؛ لأنه يكون بذلك مقيماً للحجة مُعِزاً للدين، ومتى فعل المأمور أو المنهي منكراً آخر أو ضَيَّع معروفاً فإنما أُتيَ من قبل نفسه، ولا يوصف الآمر الناهي بأنه معين له؛ لأن الإعانة تحتاج إلى الإرادة.
وفي الأساس: أنها إذا حصلت القدرة والتأثير للآمر الناهي، وظن الانتقال إلى منكر غيره لا يرخص في الترك؛ لأن هذا منكر معلوم، وذلك مُجوّز مظنون ، وهو كلام جيد.
وقيل: إن كان ما يقع من المنكر أو يضيع من الواجب أعظم مما نهى عنه أو أمر به لم يحسن؛ لأن الغرض بالأمر والنهي تقليل المنكر وتكثير المعروف وإلا حسن ووجب.
وقيل: إن كان المنكر الذي يحصل عند الأمر والنهي ضرراً يرجع إلى الآمر الناهي لم يزل الحسن، وإن زال الوجوب، لقوله تعالى: {يَابُنَيَّ أَقِمِ الصَّلاَةَ وَأْمُرْ بِالْمَعْرُوفِ وَانْهَ عَنِ الْمُنكَرِ وَاصْبِرْ عَلَى مَا أَصَابَكَ}[لقمان:17] ومعلوم أن الذي يصيبه منكر آخر، وأيضاً فمعلوم من حال الأنبياء أنهم كانوا يأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر، مع علمهم بأنه يلحقهم من المضار في ذلك ما يقضي بكفر فاعله أو فسقه.
وذهب القاسم -عَلَيْهِ السَّلامُ- إلى أن ما يلحق الآمر الناهي من نحو تشريد وانتهاب مالً غير مُرخِّصٍ في الترك لما ذكر من الآية، ولقوله: ((أفضل الجهاد كلمة حق عند سلطان جائر)) .
وكالجهاد (والذي يدل على ذلك) المذهب الذي هو وجوب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر أدلة كثيرة منها، (قوله تعالى: {وَلْتَكُنْ مِنْكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَأُوْلَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ})[آل عمرن:104] فأمَرَ الله تعالى أن يكون فينا من يأمر بالمعروف وينهى عن المنكر، فأوجبه على الكافة؛ إذ الأمر يقتضي الوجوب على الأرجح، وقال تعالى: {لُعِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ عَلَى لِسَانِ دَاوُودَ وَعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ ذَلِكَ بِمَا عَصَوْا وَكَانُوا يَعْتَدُونَ،كَانُوا لاَ يَتَنَاهَوْنَ عَنْ مُنكَرٍ فَعَلُوهُ لَبِئْسَ مَا كَانُوا يَفْعَلُونَ}[المائدة:78،79] ونحن متعبدون بشرع من قبلنا مالم ينسخ على الأصح، وما ثبت في النهي عن المنكر ثبت في الأمر بالمعروف، وقال تعالى: {وَالْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ يَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنكَرِ}[التوبة:71] فحكم سبحانه على المؤمنين بكون الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر من أوصافهم، فمفهومه أن من لم يكن كذلك فليس بمؤمن، كما أن من لم يقم الصلاة ولم يؤتِ الزكاة فليس بمؤمن، (وقوله ً: ((لتأمرن بالمعروف ولتنهنَّ عن المنكر أو ليسلطنَّ الله عليكم سلطاناً جائراً لا يرحم صغيركم ولا يوقر كبيركم فيدعوا خياركم فلا يستجاب لهم)))، وفي الترمذي عن حذيفة عنه ً: ((لتأمرن بالمعروف ولتنهن عن المنكر أو ليوشكن الله يبعث عليكم عقاباً منه ثم تدعونه فلا يستجيب لكم)) إلى غير ذلك من الأدلة الدالة على الوجوب قطعاً، (فثبت بذلك أن الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر
واجبان).
(المسألة السابعة والعشرون: في إمامة علي عَلَيْهِ السَّلامُ)
وينبغي أن نذكر طرفاً صالحاً يشتمل على ماهية الإمامة ووجوبها، وقد قدمنا في جعل الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر من فن علم الكلام وعدهما من أبوابه ما ينبغي أن يؤتى بمثله في مسألة الإمامة، وقيل: إنما جُعلتْ باباً من أبوابه؛ لأن الإمامة خالِفَةٌ النبوة، وعليها مدار كثير من أحكام الإسلام، ولهذا ذكر أصحابنا أن العلم بها جملة من فروض الأعيان وتفصيلاً من فروض الكفايات.
والإمام في اللغة: المتقدم في أمر من الأمور على وجه يُقتدى به.
وفي الاصطلاح: رئاسة عامة لشخص واحد في أمور مخصوصة على وجه لا يكون فوق يده يد أخرى.
قلنا: رئاسة عامة احترازاً من الخاصة، كرئاسة الرجل على أهل بيته، والمراد بعمومها أنَّها تعم الأمة كافة، ولا تتعلق ببعضهم دون بعض، ولا جهة دون جهة، ولا بوقت دون وقت، وقولنا: لشخص واحد احترازاً من النبوة، فإنها قد تثبت لاثنين فأكثر، والفارق بينهما هو الإجماع، قيل: ووجهه أن مع كثرة الأئمة يحصل التشاجر والمنازعة، ولهذا قال عمر يوم السقيفة جواباً للأنصار وقد قال قائلهم: منا أمير ومنكم أمير: سيفان في غمد إذاً لا يصلحان، بخلاف النبوة فلا يحصل فيها شيء من ذلك للعصمة، قيل: ولأنَّ النبوة لطف، والألطاف تختلف، فمن الجائز أن يكون اللطف في بعثة نبي واحد، وأن يكون في بعثة نبيين أو ثلاثة، وقلنا: في أمور مخصوصة نحو أخذ الزكوات طوعاً وكرهاً، وتجييش الجيوش، وإقامة الجمعات، وحفظ بيضة الإسلام، وإقامة الحدود ونحو ذلك، وقلنا: على وجه لا يكون فوق يده يد، احترازاً ممن يتولى من جهة الإمام، فإنه يُنفِّذُ هذه الأحكام، لكن يد الإمام فوق يده.
وقد اختُلِفَ في وجوب الإمامة، والظاهر من كلام أكثر العلماء أنها واجبة، ويحتجون لذلك بإجماع الصحابة، حيث فزعوا إلى نصب إمام بعد رسول الله ً وما ظهر من اهتمامهم بتأدية هذا الأمر الواجب حتى اشتغلوا به عن تجهيز رسول الله ً وقدَّموه عليه وآثروه بالنظر، ثم لما دنت الوفاة من أبي بكر اشتغل بذلك في مرضه وأمعن النظر فيه، وعقد الولاية لمن يقوم بالأمر بعده، ثم لمَّا اتفقت قضية عمر جعل المهم له النظر في ذلك، مع معاناته لأسباب الموت وصير الأمر شورى، ولما اتفق مهلك عثمان انثال الناس إلى علي -عَلَيْهِ السَّلامُ- وبادروا إلى بيعته من غير تراخٍ ولا مهلة، وفي جميع هذه الأحوال لم يسمع من دان ولا عال أن قال: لا حاجة بنا إلى هذا ونحن في غنية عنه، أو قال: ليس هذا بلازم لنا ولا واجب علينا، ولا أنكر أحد قول أبي بكر : لا بد لهذا الأمر ممن ينظمه ويقوم به، ولا قول غيره في هذا المعنى، وهذا الدليل هو أقوى ما يعتمد عليه في وجوب الإمامة، واستقواه كثير من العلماء، وبنوا على أنه دليل قطعي برهاني، وقد أورد عليه إشكالات، وأُجِيب بجوابات نتركها الجميع اختصاراً.
ومما استُدِلّ به على الوجوب، قوله تعالى: {فَاقْطَعُوا أَيْدِيَهُمَا}[المائدة:38] ونحوه، وقد أجمعت الأمة على أن الحدود لا يقيمها إلا الإمام أو من ناب من قبله؛ لقوله ً: ((أربعة إلى الولاة: الحدود والجمعات والفيء والصدقات)) فيجب نصب الإمام؛ لأن ما لا يتم الواجب إلا به ولم يرد الأمر مشروطاً به فإنه يجب تحصيله، وهذا الدليل هو الذي اعتمده القاسم بن إبراهيم -عَلَيْهِ السَّلامُ- وأبو علي وأبو هاشم في بعض كتبهما، ولسنا بصدد تصحيح المقالة في ذلك حتى نورد ما ورد عليه من الإشكالات وحلها، إذ ليس ذلك إلا كالمقدمة لما قال المصنف من أن (الإمام بعد رسول الله ً بلا فصل علي بن أبي طالب)، وهذا كلام أهل البيت -عليهم السلام- وأكثر الزيدية ما عدا الصالحية منهم، فذهبت هي والمعتزلة وسائر الفرق إلى أنه أبو بكر، وتتفق الزيدية جميعاً على أن علياً هو الأفضل والأولى بالإمامة، (والدليل) لنا (على ذلك) النص والوصاية، والتفضيل والعصمة، وإجماع أهل البيت -عليهم السلام-، وكفى به دليلاً، أما النص فـ(قوله تعالى: {إِنَّمَا وَلِيُّكُمُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَالَّذِينَ آمَنُوا الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلاَةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَهُمْ رَاكِعُونَ})[المائدة: 55] ووجه الاستدلال بهذه الآية أنها نزلت في علي -عَلَيْهِ السَّلامُ- فقط، فقد أثبت الله له فيها الولاية كما أثبتها لنفسه ولرسوله، والولاية هنا هي ملك التصرف، وذلك معنى الإمامة.
وهذه الدلالة تنبني على ثلاثة أصول: أحدها: أنها نزلت في علي، والثاني: أن المراد بها الرئيس الذي يلي التصرف، والثالث: أن ذلك هو معنى الإمامة.
أما الأصل الأول: وهو أن الآية نزلت في علي -عَلَيْهِ السَّلامُ- وصفة ذلك ما روي أن سائلاً كان يسأل في مسجد الرسول ً والناس بين قائم وراكع فلم يعطه أحد شيئاً، فقال: اللهم إني أشهدك أني سألت في مسجد رسول الله ً فلم أُعطَ شيئاً، وعليٌ في حال الركوع فأشار إليه بخاتمه فنزعه وأخذه السائل، ونزلت الآية على النبي ً فخرج والناس بين قائم وراكع، فبصر بالسائل فقال: ((هل أعطاك أحد شيئاً؟)) قال: نعم، وأشار إلى علي -عَلَيْهِ السَّلامُ- فتلى ً الآية.
وعن سلمة بن كهيل قال: تصدق علي بخاتمه فنزلت: {إِنَّمَا وَلِيُّكُمُ اللَّهُ} الآية...، رواه ابن أبي حاتم، وروى نحوه ابن جرير عن مجاهد وعن الضحاك عن ابن عباس قال: كان علي -عَلَيْهِ السَّلامُ- قائماً يصلي فمر سائل وهو راكع فأعطاه خاتمه فنزلت: {إِنَّمَا وَلِيُّكُمُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ} الآية...، رواه ابن مردويه، والضحاك لم يلقَ ابن عباس، وأخرج نحو الرواية الأولى وفيها قال: فكبر رسول الله ً عند ذلك وهو يقول: {وَمَنْ يَتَوَلَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَالَّذِينَ آمَنُوا فَإِنَّ حِزْبَ اللَّهِ هُمُ الْغَالِبُونَ}[المائدة:56] إلى غير ذلك من الروايات، ومما يدل على نزولها إجماع أهل البيت، رواه القرشي.
وفي الأساس: لوقوع التواتر بذلك من المفسرين وأهل التواريخ وإطباق العترة وشيعتهم على ذلك، انتهى.
وما يدل على ذلك، أن الله تعالى وصفه بصفة لم توجد في غيره، وهو إيتاء الزكاة حال الركوع.
قال الإمام المنصور بالله: وبالاتفاق أن أحداً من لدن آدم -عَلَيْهِ السَّلامُ- لم يؤت الزكاة حال الركوع إلا علي -عَلَيْهِ السَّلامُ-، وقد ثبت بالنقل الظاهر المشهور في كتب أكثر المفسرين وأهل التواريخ، ومن طرق أهل البيت -عليهم السلام- ورواياتهم أنها نزلت في علي، وأنه تصدق بخاتمه وهو راكع، انتهى كلام المنصور.
قال الإمام الناطق بالحق أبو طالب -عَلَيْهِ السَّلامُ- في كتاب زيادات شرح الأصول ما هذا لفظه: ومنها النقل المتواتر القاطع للعذر أن الآية نزلت في علي -عَلَيْهِ السَّلامُ-.
وقال في محاسن الأزهار للفقيه حميد -رحمه الله تعالى- بإسناده، قال: قال عمر بن الخطاب: أخرجت مالي صدقة فتُصُدِقت بها عني وأنا راكع أربع وعشرون مرة على أن ينزل فيَّ مثل ما نزل في علي -عَلَيْهِ السَّلامُ- فما نزل، وإذا ثبت أنها نزلت في علي -عَلَيْهِ السَّلامُ- لما ذكر من الإجماع ومن النقل المتواتر لم يكن لما أورد من التشكيك ثمرة فلا حاجة لنا إليه.
وأما الأصل الثاني: وهو أن المراد بالولي في الآية الرئيس الذي يلي التصرف، فالذي يدل على ذلك أن هذه اللفظة وإن كانت مشتركة بين المود والناصر والأولى والرئيس الذي يلي التصرف، فقد صار الغالب عليها بعرف الاستعمال الرئيس؛ لأنها متى أطلقت فقيل: فلان ولي القوم سبق إلى الفهم أنه رئيسهم الذي يلي التصرف، وعلى هذا ورد قوله تعالى: {وَهُمْ يَصُدُّونَ عَنِ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَمَا كَانُوا أَوْلِيَاءَهُ إِنْ أَوْلِيَاؤُهُ إِلاَّ الْمُتَّقُونَ}[الأنفال:34].
وعلى الجملة فذكر الولاية بمعنى الرئاسة في اللغة أكثر من أن يحصر، وكلمة ولي وإن كانت مشتركة كما ذكرتم ولم تسلموا، سبق الرئاسة إلى الأفهام، فإنه يجب حملها على كل معانيها الغير الممتنعة على قاعدة أئمتنا والجمهور بدليل قوله تعالى: {إِنَّ اللَّهَ وَمَلاَئِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ}[الأحزاب:56] وهي من الله معظم الرحمة، ومن الملائكة الدعاء والاستغفار.
ومما يوضح أن المراد بالولي الوالي للتصرف في أمورهم: أنَّ الله تعالى أخبر أنه ولينا، وإنما أراد بذلك أنه المالك للتصرف علينا، ثم عطف رسوله فأثبت له من ذلك ما أثبت لنفسه من ملك التصرف على المؤمنين، ثم ثلث بأمير المؤمنين، فوجب أن يثبت له مثل ذلك ليصح معنى العطف في الكلام، كما أن القائل إذا قال: رأيت زيداً وعمراً أفاد رؤية عمرو كما يقضي أول الكلام برؤية زيد.
قال الإمام عزالدين -عَلَيْهِ السَّلامُ-: هكذا قرره الفقيه حميد، وهو كلام جَيِّد.
وأما الأصل الثالث: وهو أن ذلك معنى الإمامة: فالذي يدل على ذلك أنا لانعني بالإمامة إلا الرئاسة في أمور مخصوصة، وهذا واضح والذي يمكن الخصم أن يقول هاهنا أن الآية وإن اقتضت ثبوت ولاية له -عَلَيْهِ السَّلامُ-، فإنها اقتضت ولاية مطلقة وتصرفاً مطلقاً، وليس تقتضي الولاية في الأمور المخصوصة، وليس يلزم من ثبوت الولاية المطلقة ثبوت الولاية المقيدة كما لا يلزم من ثبوت الولاية في النكاح ثبوت الولاية التي هي الإمامة، ويمكن الجواب: أنها إذا اقتضت ثبوت الولاية المطلقة لشخص معين اقتضى ذلك عموم الولاية في كل شيء، إلا ما خصه الدليل والإجماع، وقد أُخرج ما عدا هذه الأمور المخصوصة بالإمامة، حتى لولا الإجماع لثبتت له الولاية في أمور المسلمين كلها دينها ودنيويها.
(و)أما الدليل الثاني مما يدل على إمامته -عَلَيْهِ السَّلامُ-: (ما روي عن النبي ً أنه قال لعلي يوم غدير خم) لما قفل من حجة الوداع ونزل بواد يقال له: خم فيه غدير ماء ينسب إليه، فنزل ً على ذلك الغدير وكُسِحَ له ً تحت دوحات حوله وأمر منادياً فنادى: الصلاة جامعةً، ثم أخذ بيدي علي -عَلَيْهِ السَّلامُ- وقال: (((ألستم تعلمون أني أولى بكم من أنفسكم؟ قالوا: بلى يا رسول الله، قال: من كنت مولاه فعلي مولاه، اللهم وال من والاه وعاد من عاداه)) وفي رواية: ((وانصر من نصره واخذل من خذله)).
ووجه الاستدلال بهذا الخبر أنه ً أثبت لعلي -عَلَيْهِ السَّلامُ- كونه مولىً لجميع المؤمنين كما أنَّ الله تعالى مولاهم ورسوله، والمولى هنا هو السيد الرئيس الذي يلي التصرف، وهذه الدلالة تنبني على ثلاثة أصول: أحدها: في بيان صحة الخبر، وثانيها: في أن المولى هاهنا هو الرئيس الذي يلي التصرف، وثالثها: أنَّ ذلك هو معنى الإمامة.
أما الأصل الأول، وهو الذي يدل على صحته: فالذي يدل على ذلك وجهان: أحدهما: إجماع العترة الطاهرة، وحكم المجمع على صحته، وأن النبي ً قاله، حكم المتواتر في نقله.
والثاني: النقل الظاهر المشتهر المتلقى بالقبول المُخرَّج في الصحيحين وغيرهما من كتب الحديث، عن بعضهم أن طرق هذا الحديث خمس وسبعون طريقاً.
وذكر الإمام المنصور بالله أنه مأثور عن مائة رجل منهم العشرة، وأن بعض أهل العلم أفرد له كتاباً جعل طرقه مائة طريق وخمس طرق، قال ولا يوجد خبر قط نقل بطُرقٍ مثل هذه الطرق.
وقد ذكره الترمذي في جامعه من رواته زيد بن أرقم وأحمد بن حنبل عن رواية البراء بدون الزيادة: ((وانصر من نصره))، وفيه فلقيه عمر وقال: هنيئاً لك يا بن أبي طالب أصبحت وأمسيت مولى كل مؤمن ومؤمنة.
قال أصحابنا: هذا الخبر متواتر، وقال المنصور بالله في الشافي: وقد تجاوز هذا حد التواتر.
وأما الأصل الثاني: وهو أن المولى هنا السيد والرئيس، فإنه أقرب إلى معنى ذلك من الولي، وقد تقدم ما قلنا فيه، ولو سلمنا أنه غير غالب فيما ذكر فقد حصل في الحال وللفظ قرائن تدل على أن المراد ما ذكرنا، أما القرائن الحالية فهو أنه ً نزل يوم الغدير نزولٌ مُهمٌ بأمر عظيم، وليس إلا للإخبار بأنَّ علياً -عَلَيْهِ السَّلامُ- مولى لمن هو ً مولاه، وذلك إنما يكون إذا أراد الرئاسة وولاية التصرف؛ لأن ما عدا هذا من المعاني مما يعلم بطلانه، نحو كونه مُعتِقاً لمن أعتق، وكونه ابن عم للناس، ومنه ما هو داخل تحت ما ذكرنا من كونه ناصراً لهم ومُوِداً؛ لأن الأخبار بمثل ذلك لا تحتمل تعظيم الموقف والنزول في غير وقته وموضعه إن احتمل أن يدخل تحت كونه رئيساً لهم يلي التصرف؛ لأن رئيس القوم أشد الناس عناية في نصرتهم ومودتهم، وجلب النفع إليهم معروف عند أهل كل زمان.
وأما القرينة اللفظية: فإنه ً لما قرر ثبوت ولايته بقوله: ((ألست أولى بكم من أنفسكم)) والمراد وجوب طاعته على الأمة مطابقة لما أثبته الله من الولاية بقوله: {النَّبِيُّ أَوْلَى بِالْمُؤْمِنِينَ مِنْ أَنْفُسِهِمْ}[الأحزاب:6] عقب ذلك بقوله: ((فمن كنت مولاه فعلي مولاه)) أي من كنت أولى به فعلي أولى به، ليتطابق الكلام وينخرط في سلك الانتظام، (وإذا ثبت ذلك فهو صريح) على إمامته -عَلَيْهِ السَّلامُ- بما ذكرنا.
وأما الأصل الثالث: وهو أن ذلك معنى الإمامة: فالذي يدل على ذلك أنا لا نعني بالإمامة إلا الرئاسة في هذه الأمور المخصوصة، وهذا ظاهر.
(ومما يدل على ذلك) من السنة أيضاً (ما روي عن النبي ً أنه قال له: ((أنت مني بمنزلة هارون من موسى إلا أنه لا نبي بعدي))) ووجه الاستدلال بهذا الخبر أنه أثبت لعلي -عَلَيْهِ السَّلامُ- جميع منازل هارون من موسى إلا النبوة، (ولا شك أن منازل هارون أنه خليفته على قومه) كما قال الله تعالى: {اخْلُفْنِي فِي قَوْمِي وَأَصْلِحْ}[الأعراف:142] وهذه الدلالة تنبني على أربعة أصول: أحدها: أن الخبر صحيح، وثانيها: في أنه ً أثبت لعلي جميع المنازل إلا النبوة، وثالثها: أن من جملة المنازل الخلافة، ورابعها: أن ذلك هو معنى الإمامة.
أما الأصل الأول في صحته: فعليها دليلان: أحدهما: إجماع العترة الطاهرة، والثاني: النقل الظاهر المشهور.
قال المنصور بالله: فيه من الكتب المشهورة الصحيحة عند المخالفين أربعون إسناداً من غير رواية أهل البيت وغيرهم من الشيعة، ثم قال بعد ذلك: والخبر مما علم ضرورة، قال في العمدة: واختلف علماؤنا -رحمهم الله- في العلم به، فمنهم من ادعى كونه معلوماً بالاضطرار، وأجراه مجرى الخبر الأول في كونه متواتراً، ومنهم من قضى بصحته، ولم يقض بكونه متواتراً، بل سلك في صحته طريقة الإجماع، وهذا بعد الاتفاق على كونه معلوم الصحة، قال في تعليق الشرح: والإجماع على صحته يقع به العلم بأنه ً قاله، وإن لم يحصل من طريق التواتر.
قال الإمام عزالدين: قلت: وممن صرح بتواتره العلامة المحدث يوسف بن عبد البر، فإنه ذكر الحديث في مختصره لسيرة ابن هشام، قال: والآثار بذلك متواترة صحاح، انتهى.
قلت: وممن صرح بتواتره، والإجماع على صحته. الإمام الأعظم القاسم بن محمد -عَلَيْهِ السَّلامُ-.
وأما الأصل الثاني: وهو أن النبي ً أثبت لعلي -عَلَيْهِ السَّلامُ- جميع منازل هارون من موسى إلا النبوة: فذلك ينبني على أن لفظ المنزلة تقتضي الاستغراق؛ إذ الاستثناء معيار العموم بدليل أنه لو قال: لا نبي بعدي ولا أحد يلي من الأمر ما وليت، ولا يخلفني على أمتي لصح.
وأما الأصل الثالث: وهو أن من منازل هارون من موسى الخلافة: فإن منازل هارون من موسى كثيرة، وهي موجودة في علي -عَلَيْهِ السَّلامُ- منها الأخوة، ومنها المؤازرة وشد الأزر، ومنها أن هارون كان أحب الناس إلى موسى.
أما الأخوة: فدليلها ما هو معلوم مشهور من مؤاخاة النبي ً بين كل اثنين من الصحابة وجعل علياً أخاه.
وأما المؤازارة وشد الأزر: فلأنه كان أحسن الناس بلاءً في الإسلام، وهذا مما لا شك فيه.
وأما المحبة: فلحديث الطير وغيره، ولما بينهما من حصول أسباب المحبة من المؤازرة والأخوة والنسب والمصاهرة، ومن جملة منازل هارون من موسى الخلافة كما قال تعالى: {اخْلُفْنِي فِي قَوْمِي}[الأعراف:142] فيجب ثبوت جميع هذه المنازل إلا النبوة، ومن جملتها الخلافة.
وأما ما يُعتَرَضُ به هذا الخبر من أنه إنما كان يثبت ذلك لعلي -عَلَيْهِ السَّلامُ- لو كان عاش هارون بعد موسى كما عاش علي -عَلَيْهِ السَّلامُ- بعد محمد ً فلأنا نقول: لو عاش هارون بعد موسى لكان خليفة بالاتفاق، فكذلك علي -عَلَيْهِ السَّلامُ-، ولا يشترط الاتفاق في العمر، كمالا يشترط الاتفاق في الطول والقصر ونحو ذلك.
وأيضاً قوله ً: ((إلا أنه لا نبي بعدي)) إشارة إلى أنَّ علياً يفارق هارون في هذه الجملة التي هي كونه يعيش بعده ً.
وأما ما يقال: أنه كان يلزم أن يشارك علي النبي ً في مدة حياته في الأمور المذكورة ومن جملتها الخلافة.
فالجواب: أن تلك المشاركة في الولاية مخصوصة بالإجماع، على أنه ليس لأحد تصرف في حياته.
أما الأصل الرابع: وهو أن ذلك معنى الإمامة: فالذي يدل على ذلك أنه لا فرق في عرف الشرع بين الإمامة والخلافة.
(فثبت ذلك لعلي -عَلَيْهِ السَّلامُ-) أي كونه خليفة رسول الله ً (ودل على أنه الإمام بعد رسول الله ً بلا فصل).
تنبيه: اعلم: أن هذه النصوص الثلاثة هي التي يعتمدها أهل البيت -عليهم السلام- لظهورها ولتأديتها إلى العلم، فأما ما يوصل إلى الظن من النصوص فهي كثيرة، كحديث الطائر وهو ما رواه أنس بن مالك قال: أهدي لرسول الله ً طائر مشوي فقال: ((اللهم ائتني بأحب خلقك إليك يأكل معي من هذا الطائر، فجاء علي -عَلَيْهِ السَّلامُ- فدق الباب، فقلت: من هذا؟ فقال: أنا علي، فقلت: إن النبي على حاجة، حتى فعل ذلك ثلاثاً، فجاء الرابعة فضرب الباب برجله فدخل، فقال له النبيً: ما حبسك؟ فقال: قد جئت ثلاث مرات، فقال ً لأنس: ما حملك على ذلك؟ قال: كنت أحب أن يكون رجلاً من قومي)) وفي رواية أن النبي ً لما سمع صوت علي قال: ((وإلَيّ)) أي وكما أنه أحب خلق الله إليه فهو أحبهم إلي، وأنه لما اعتذر أنس بذلك قال: إن الرجل ليحب قومه. قال الإمام عزالدين: واعلم أن هذا الخبر من أجَلِّ الفضائل وأبلغها، وأدلها على فضل علي -عَلَيْهِ السَّلامُ-.
وقال الفقيه حميد: لأنه -عَلَيْهِ السَّلامُ- لا يكون أحبهم عند الله إلا وهو أكثرهم ثواباً وأكرمهم عنده تعالى، وهو عندهم خبر صحيح مشهور، وممن أخرجه الترمذي في جامعه، قال في كتاب (العواصم): ولقد صنَّف الحافظ العلامة محمد بن جرير الطبري كتاباً في طريق حديث الطير في فضائل علي -عَلَيْهِ السَّلامُ- لما سمع رجلاً يقول: إنه ضعيف.
قال الذهبي: وقفت على هذا الكتاب فاندهشت لكثرة ما فيه من الطرق.
ومن ذلك خبر النجم، وهو ما روي عنه ً أنه لما انقض كوكب ذات ليلة فقال: ((انظروا إلى هذا الكوكب فمن انقض في داره فهو الخليفة من بعدي)) فنظروا فإذا قد انقض في منزل علي -عَلَيْهِ السَّلامُ- رواه في أنوار اليقين وغيرها، وهو مما يُعزى إلى أنس.
وخبر الأتْرُجَّةِ: وهو ما رواه في الحدائق عن عبدالله قال: دخل علي يوم قَتَل عمرو بن عبدود على رسول الله ً وسيفه يقطر دماً، فقال ً: ((اللهم اتحف علياً بتحفة لم تتحف بها أحداً قبله، ولا تتحف بها أحداً بعده)) قال: فهبط جبريل -عَلَيْهِ السَّلامُ- على النبي ً بأترجة فإذا مكتوب فيها: ((هدية من الطالب الغالب إلى علي بن أبي طالب)).
وكذلك خبر المؤاخاة والأخبار الدالة على عصمته، والخبر المروي في قصة: {وَأَنذِرْ عَشِيرَتَكَ الأَقْرَبِينَ}[الشعراء: 214] وهو ما رواه الحاكم في التهذيب عن البراء بن عازب لما نزل قوله تعالى: {وَأَنذِرْ عَشِيرَتَكَ الأَقْرَبِينَ} جمع بني عبد المطلب، وهم يومئذ أربعون رجلاً الرجل يأكل المسنة ويشرب العس، فأمر النبي ً علياً فأتى برجل شاة ثم قال: ((ادنوا بسم الله، فدنى القوم عشرة عشرة فأكلوا وشبعوا، ثم دعى بقعب من لبن فشرب منه ثم قال: اشربوا بسم الله، فشربوا حتى رووا، فبدرهم أبو لهب، وقال: هذا ما سحركم به الرجل يومئذ ولم يتكلم، ثم دعاهم من الغد على مثل ذلك الطعام والشراب، ثم أنذرهم ودعاهم إلى الإيمان، وقال: من يؤازرني ويؤاخيني ويكون وليي ووصيي بعدي وخليفتي في أهلي؟ فسكت القوم، فأعادها ثلاثاً والقوم سكوت، وعلي يقول كل مرة: أنا، فقال في المرة الثالثة: أنت، فقاموا يقولون لأبي طالب: أطع ابنك فقد أمَّرهُ عليك))
إلى غير ذلك من الأخبار المتظافرة التي روتها سادة العترة الطاهرة وشيعتهم البحور الزاخرة، ويكفيك أيها المنصف إجماع العترة الطاهرة على تقدمه في الإمامة، فإن من المعلوم الذي لا شك فيه أنه والحسنين وفاطمة معتقدون أنه صاحب الولاية والتقدم، وإنما غُلِب على أمره وخشي -عَلَيْهِ السَّلامُ- من شق عصى الإسلام، وانتثار النظام، وعرف أنه لو قام بالأمر الواجب لحصلت المفسدة العظيمة الذي لا شك في ترك المصلحة عندها، ويدلك على ذلك كلاماته -عَلَيْهِ السَّلامُ- وتجرماته، فإذا عرفت أن ذلك معتقد العترة الطاهرة الذين قال فيهم النبي ً: ((اللهم هؤلاء أهل بيتي)) بطريق الحصر، حتى قالت أم سلمة: وأنا معهم، فقال: ((إنك لعلى خير)) والحديث من الأحاديث المشهورة التي تلقتها العترة بالقبول، وقال ً: ((إني تارك فيكم ما إن تمسكتم به لن تضلوا من بعدي أبداً كتاب الله حبل ممدود، فرَغَّب في كتاب الله ثم قال: وعترتي أهل بيتي إن اللطيف الخبير نبأني أنهما لن يفترقا حتى يردا علي الحوض)) وغيره من الأحاديث الدالة على أنهم السفينة، مما تواتر نقله بنص أهل التحقيق، عرفت أن إجماعهم على أنه الإمام حجة قاطعة.
وأيضاً فإنه لو لم يكن هناك نص على إمامته -عَلَيْهِ السَّلامُ-، فإن إمامة المفضول مع وجود الأفضل باطلة على ما ذلك مقرر بأدلته، ولا شك في أنه أفضل الصحابة، فإن له -عَلَيْهِ السَّلامُ- فضيلة القرابة، وفضيلة النجابة، وفضيلة طيب المنشأ، وفضيلة السبق، فإنه أول من آمن بالنبي ً من الرجال، وقد قال تعالى: {والسابقون السابقون}[الواقعة:10] وفضيلة العلم، وفضيلة الصبر، وغير ذلك من الفضائل التي بها يفتخر المفتخرون ويتفاوت المتفاوتون، ولو عددنا فضائله -عَلَيْهِ السَّلامُ- لاستغرقت مجلدات، فلو أتينا على شيء منها في هذا المختصر لكان فيه إيهام بانحصاره، ثم إنه لا يحتاج النهار، إلى دليل ولكن الشمس لا تبدوا لعين الأرمد، {ويأبى الله إلا أن يتم نوره}[التوبة:32].
إذا عرفت ذلك فإنه ينبغي الاقتداء بالسلف الأبرار في ترك السب جهاراً لمن تقدمه، ومراعاة حق النبي المختار في أصحابه الذين لهم سوابق في الإسلام كبار، وقد حَكى القول بخطأهم قطعاً عن العترة السيد الجليل إبراهيم بن محمد في فصوله، وحكاه في حواشيها عن القاضي عبدالله بن الحسن الدواري وغيره.
فأما سبهم فقد قال: (م بالله) -عَلَيْهِ السَّلامُ- كما حكاه عنه في الحواشي: لا أعلم أحداً من العترة سب الصحابة، ومن قال بذلك فقد كذب، انتهى.
قلت: فإن كثيراً من الآل متوقف كما حُكِي عن الحسين وعبدالله بن الحسن وأولاده الأربعة، قيل: وهو الأشهر عن زيد بن علي وابنيه يحيى وعيسى وأحمد بن عيسى والصادق والباقر، والأشهر أنه رأي أهل البيت وشيعتهم، فهؤلاء لم يسمع منهم سب ولا ترضية ولا تبريء مع التجرم، ذكره في الشريدة، وهو الذي ذكره أبو الحسين وأصحابه المتأخرون، لكنه قال في الهداية: ويُخطَّأ من تقدم عليه؛ لمخالفته القطعي بلا تكفير له ولا تفسيق على المختار ويرضَّى عنه استصحاباً لحاله الأول، ومن توقف فلالتباس معصيته، فأما السب حرام، وقد عزر يحيى -عَلَيْهِ السَّلامُ- من فعله بصنعاء. انتهى.
قلت: وقد تأول كلام الهادي -عَلَيْهِ السَّلامُ- في الأحكام أبو مضر والكني.
وأما ما احتجت به المعتزلة وغيرهم على إمامة أبي بكر فالكلام في هذا الباب هو مع من يقول بإمامته من جهة العقد والاختيار، فأما من يقول بإمامته من جهة نص جلي، فالكلام معه لغو لا ثمرة فيه، إذ لا يشتبه على أحد فساد ذلك، وكذلك من يقول بإمامته من جهة نص خفي، فإنه مما لا مرية في إبطاله، فلا نشتغل بإيراد الكلام عليه.
وقد أوردت المعتزلة وغيرهم ثلاث طرق: الطريقة الأولى: إن قالوا الأمر الذي يعلم به كون الإمام إماماً لا تعدوا الإمامة النص والعقد والدعوة والغلبة والإرث وغير ذلك مما اختلف في إثبات الإمامة، وكلها ظاهر السقوط، وإنما الذي يُشتَبَه فيه الحال هو النص الخفي والعقد والاختيار.
قالوا: وقد بطل النص الخفي فبقي العقد والاختيار، وإلا خرج الحق عن أيدي الأمة. والجواب: أن نقول دون إبطال النصوص خرط القتاد، ونحن قد ذكرنا النصوص ووجه دلالتها فلا نعيده.
الطريقة الثانية: فيما استدلوا به على أن العقد والاختيار هو الطريق إلى الإمامة من الإجماعات. فنقول: إن وقع الإجماع على الاختيار فأنما يدل على حسنه، فأما أنه الطريق إلى الإمامة فلا.
الطريقة الثالثة: هي أن قالوا: قد وقع الإجماع على إمامة أبي بكر، فإنه وإن وقع اختلاف يوم البيعة فقد زال من بعد واستقر الإجماع، وسكت الكل سكوت رضى، وتابع عليٌ أبا بكر ووالا وقاتل معه، وصلى خلفه وأخذ نصيبه من الفيء، وقرر أحكامه حين صار الأمر إليه، ونحو ذلك مما يدل على أن سكوته سكوت رضى. والجواب: أنا لا نسلم وقوع الإجماع قط، وعلى ناقله الدليل بالإسناد المتواتر، وكيف الإجماع مع ما رواه الإمام المتوكل على الله أحمد بن سليمان من تقاعد من تقاعد عن بيعته، وكان ممن تقاعد عن بيعته اثنى عشر رجلاً، ستة من المهاجرين وستة من الأنصار، فكان من المهاجرين: خالد بن سعيد وأبو ذر وعمار والمقداد وسلمان الفارسي وأبي بن كعب، وكان من الأنصار: قيس بن سعد بن عبادة الخزرجي وأبو الهيثم بن التيهان وسهل بن حنيف وأبو بردة الأسلمي وخزيمة بن ثابت ذو الشهادتين وأبو أيوب الأنصاري، وكان منهم ما كان من إنكار إمامة أبي بكر وإيراد النصوص الدالة على إمامة علي -عَلَيْهِ السَّلامُ-.
وقد روى كثير من أئمتنا -عليهم السلام- أن علياً لم يبايع أبا بكر قط، وإنما أظهر الطاعة فقط، قالوا: والظاهر في كلامه ومناشدته يوم الشورى وخطبته الشقشقية ونحو ذلك استمرار الإنكار.
والمشهور في السير أن سعد بن عبادة مات ولم يبايع، وهو يكفي في خرم الإجماع لو سلم مبايعة غيره، على أن كثيراً ممن بايع إنما بايع تقية كما اشتهر عن عمر وغيره من سله للسيوف في شوارع المدينة هو ومن معه حتى كف الصادع بالحق، وفيما ذكر من تجرم علي -عَلَيْهِ السَّلامُ- واشتهر عنه من ذلك كفاية في الرد عما سبق. إلى هاهنا أنهي حديثي وأنتهي فما شئت من خير وما شئت فافعل.
(المسألة الثامنة والعشرون: أن الإمام بعد علي -عَلَيْهِ السَّلامُ- الحسن)
واعلم: أنه لا شبهة في إمامته -عَلَيْهِ السَّلامُ- لاجتماع الطرق المعتبرة عند الأمة على اختلافهم فيه من النص والدعوة والعقد والاختيار والخروج، فلا ينبغي أن يعتَرِضَ لأحد شك في إمامته.
وخالفت الخوارج في إمامته -عَلَيْهِ السَّلامُ-، وقد روي عنهم تكفيره لدخوله مع أبيه في التحكيم.
قال الفقيه حميد في العمدة: وزعم بعض الطغام أن الحسن إمام إلى أن صالح معاوية ثم صارت الإمامة إلى معاوية بعد ذلك وانحلت إمامته، (و) نوضح (الدليل على ذلك) الذي هو إمامته -عَلَيْهِ السَّلامُ- من طريق النص (أن النبي ً قال: ((الحسن والحسين إمامان قاما أو قعدا وأبوهما خير منهما))) وهذا تصريح بإمامتهما، قيل: وتصريح بإمامة أبيهما، وقيل: بل إشارة إلى إمامته -عَلَيْهِ السَّلامُ-.
واعلم: أن هذا الخبر مما ادعى بعضهم تواتره، وبعضهم ادعى الإجماع على صحته، والإجماع على صحته يقوم مقام تواتره في القطع بأن النبي ً قاله.
قال الفقيه حميد: وإجماع العترة على صحته، قال: وقد ظهر بين الأمة ولم يعلم من أحد منهم إنكاره، بل هم بين مستدل به على إمامتهما، وبين متأول له على صلاحيتهما، ولو لم يكن صحيحاً لظهر من بعضهم إنكاره، ووجه الاستدلال به ظاهر، فإنه ً نص على إمامتهما نصاً صريحاً لا يحتمل التأويل، ولا يلزم ثبوت إمامتهما في زمن النبي ً أو زمن علي أو إمامة الحسين في وقت إمامة الحسن -عَلَيْهِ السَّلامُ-؛ لأن الإجماع قد أخرج هذه الأوقات، ويبقى ما عداها داخلاً في الدلالة، ولذلك قال المصنف: (ولا شكَّ أن إمامة الحسن قبل الحسين بالإجماع).
ومن الأدلة على إمامتهما أنهما أفضل الخلق بعد أبيهما، وقد تبين بالدليل أن الأفضل أولى بالإمامة من غيره، والقول بأن الحسن كان أفضل هو المختار، ودليله إجماع العترة على ذلك.
وأما الرد على من زعم أن الحسن كان إماماً، ثم كفر بالتحكيم، أو بتسليم الأمر إلى معاوية، وعلى الفرقة التي زعمت أن معاوية هو الإمام؛ لأن الحسن سلَّم الأمر طائعاً، وهؤلاء هم المتسمون بأهل الجماعة لقولهم: بأن العام الذي سلَّم فيه الأمر لمعاوية على زعمهم عام الجماعة، وفرقة زعمت أنه الإمام وطريق الإمامة الغلبة عندهم.
فأما الكلام على الفرقتين اللتين كفَّرتاه فهو ما نَرُدُّ به على الخوارج في التحكيم وبما ذهب إليه الأكثر من المسلمين إلى أن صلح الحسن -عَلَيْهِ السَّلامُ- كان صواباً لا تخطئة فيه ولاتأثيم؛ لأنه لم يصالح إلا بعد أن خذله أعوانه وخشي على نفسه وأهل بيته الاستئصال، ولا شك حينئذ في صواب السكون والهدنة، وأنه الأصلح والأرجح لدفع المضار والأمن من الاستئصال، ولا نزاع أنه يجوز للإمام المهادنة لمصلحة كما جاز لرسول الله ً أن يصالح الكفار عام الحديبية مع انطواء الصلح أنه يَردُّ عليهم من جاءه من المسلمين، ولا يردون إليه أحداً، ولم يصالح الحسن عن ترك الإمامة ولا تخلى عنها، بل على أمانه وأصحابه وارتفاع الحرب، وأنه لا يجري عقد لأحد حتى يموت معاوية، ولكن معاوية غدر ولم يقع منه، وفاء، فاحتال في البيعة ليزيد قبل أن يموت.
يدلك على ما قلناه أيضاً أن الإمامة لا تبطل بعد أن ثبتت واستقرت إلا باختلال شرط، أو حَدثٍ من الإمام يوجب الفسق، ولا شك أن إمامة الحسن -عَلَيْهِ السَّلامُ- ثابتة قبل الصلح قطعاً، ولم يخرج بالصلح عن شيء من الشروط ولا كان ذلك منه معصية لما سبق فضلاً عن أن يكون فسقاً.
وأما الكلام على القائلين بإمامة معاوية لعنه الله لأجل الغلبة، أو لأجل أن الحسن سَلَّم الأمر إليه، فالحجج على ذلك متسعة، لكنه يكفينا في ذلك أنه باغٍ بلا إشكال لحربه لعلي -عَلَيْهِ السَّلامُ- ولحديث عمار المتواتر والمتلقى بالقبول، فإذا كان باغياً كان ظالماً، وهذا ممالا نزاع فيه، وقد قال الله تعالى: {لاَ يَنَالُ عَهْدِي الظَّالِمِينَ}[البقرة:124].
ولو قلنا: إن معاوية إمامٌ، لكان الخبر الذي أخبر الله به كاذباً تعالى الله عن ذلك علواً كبيراً.
تنبيه: قد جعل المصنف إمامة الحسن والحسين مسألتين، وهما مسألة واحدة، كما يجعله الكثير من السلف إذ الدليل فيهما واحد فقال:
(المسألة التاسعة والعشرون: أن الإمام بعد الحسن أخوه الحسين) عليهما السلام
لما ذكر من الإجماع على الترتيب بعد ورود الدليل الدال على إمامتهما.
والذي خالف في إمامة الحسين فرقة من النواصب زعموا أن يزيد لعنه الله الإمام؛ لأن معاوية نص عليه، وأن الحسين -عَلَيْهِ السَّلامُ- كان خارجياً، (والدليل) الذي يدل (على ذلك) وعلى بطلان ما قالوه ما قدمناه من النص المقطوع من (قوله ً: ((الحسن والحسين إمامان قاما أو قعدا...)) الحديث).
وأيضاً ونقول: متى ثبت لكم أن معاوية إمام حتى يصح نصه على غيره، ولو لم نستدل على بطلان إمامة معاوية إلا بالنص على من ارتكب المحرمات على أنواعهن وظهر كفره ظهور الشمس، وذلك يزيد اللعين المستبيح لبضعة سيد المرسلين لكفى بذلك دليلاً، على أنه ليس من أئمة الهدى، بل من سلاطين الجور والاعتداء، وأيضاً فكيف تصح إمامة يزيد مع علوه في الفسق وظهور حظه في الكفر؟! ولو لم يكن من كفره إلا قتله لأولاد رسول الله، وانتهاك حُرمه وحَرمه، وإباحة مدينته، وقتل أصحابه فيها وأبنائهم، وربط خيله في مسجده وشدها إلى سواريه تبول وتروث فيه، وقد قال ً في حق الحسنين: ((أنا حرب لمن حاربكم، وسلم لمن سالمكم)) فما ظنك بمن حارب رسول الله ً؟ ويكفيك دليلا على كفره، ما ظهر من التواريخ عند الظهور الذي لا يخفى من إنشاده عقيب فعْلة الحرة، وقتله من قتل من أولاد المهاجرين والأنصار ما لفظه:
ليت أشياخي ببدر شهدوا .... جزع الخزرج من وقع الأسل
فأهلوا واستهلوا فرحاً .... ثم قالوا: يا يزيد لا شلل
فجزيناهم ببدر مثلها .... وأقمنا ميل بدر فاعتدل
لست من عتبة إن لم أنتقم .... من بني أحمد ما كان فعل
وهذه الأبيات لابن الزبعري لكنه زاد فيها الخبيث.
قال الفقيه حميد: ولا خلاف بين الأمة في أن ذلك كفر.
(المسألة الثلاثون): في بيان من يستحق الإمامة
فالذي يذهب إليه كثير من أهل البيت إلا من ذهب مذهب الإمامية منهم والجارودية من الزيدية إلى (أن الإمامة بعد الحسن والحسين فيمن قام ودعى من أولادهما) فقط، ومنعته أكثر الناس مثل المعتزلة والصالحية من الزيدية والخوارج والمجبرة، وسائر الفرق الإسلامية، وسيأتي الدليل عليهم.
وقول الشيخ: فيمن قام ودعى إشارة إلى أن القيام مع الدعوة مع جمع الشرائط الآتية هو الموجب للإمامة، وإلى ذلك ذهب أهل البيت عليهم السلام أن من قام لله داعياً إلى الحق ونابذ الظلمة، واحتمل أعباء الإمامة فقد صار بذلك إماماً بويع أم لا. وقالت المعتزلة والصالحية من الزيدية: بل الطريق إلى ذلك هو العقد والاختيار على أصلهم، وهذا قول (م بالله) فيما رويَ عنه، وقد استُدِل على ذلك المتقدم بإجماع العترة -عليهم السلام- على اعتبار الدعوة وعلى اعتقاد أنها هي الطريق.
أما إجماعهم على اعتبارها فذلك مما لا خلاف فيه بينهم، بل بين الأمة ما عدا أصحاب النص، ولهذا فإن كل إمام منهم لا بد أن يقوم ويشمِّر لاحتمال الأمر، ومنابذة الظلمة والجهاد.
وأما إجماعهم على أن ذلك هو الطريق إلى الإمامة، فلأنه هو المعروف من مذهبهم والمذكور في كتبهم والمشهور في سيرهم، ولا يلزمنا في دعوى إجماعهم عليهم السلام أكثر من هذا، كذا قيل في الاستدلال، ولا يخفى أن غاية هذا الدليل الظن بأن ذلك هو الطريق.
وذهبت الحشوية والكرامية والنواوي إلى أن طريقها: القهر والغلبة، ولا يخفى بطلان مذهبهم، فإن الإجماع قائم في وقت الصحابة إلى أن طريقها ليست الغلبة، وأن الفسقة قد يغلبون، وقد قال تعالى: {وَلا يَنَالُ عَهْدِي الظَّالِمِينَ}[البقرة: 124] وكذلك يبطل قول من قال: إن طريقها الإرث بالإجماع من الصحابة على أنه ليس بطريق، وإلا لطلبها العباس بعد النبي ً، وإنما اختلق هذا المذهب ابن الراوندي تقرباً إلى خلفاء السوء.
وأما من قال: إن طريقها النص، فإنه لا يثبت فيه شيء يعتد به، ومن قال بذلك فعليه الدليل المتواتر.
ولا بد أن يكون هذا الداعي داعياً (وهو جامع لخصال الإمامة)، وهي اثنا عشر شرطاً، أهمل المصنف منها ستة وهي: أن يكون بالغاً، عاقلاً، ذكراً، حراً، وأن يكون من العترة، وألا يكون في عصره إمام سبقت دعوته، وذكر ستة (وهي: العلم، والورع، والفضل والشجاعة، والسخاء، والقوة على تدبير الأمر).
أما البلوغ والعقل، فالدليل عليهما ظاهر؛ لأنه لا ولاية للصغير وغير العاقل على أنفسهما فضلاً عن غيرهما.
وأما الشرط الثالث وهي الذكورة: فلأن الأنثى يتعذر عليها التصرف في أمور الإمامة من حيث الجواز؛ لضرب الحجاب عليها وعدم إباحة الشرع لها رفع الستر.
قال الفقيه حميد: ولأن المرأة مُوَلَّى عليها، فكيف يجوز أن تلي عقد النكاح على غيرها، وقد قال الله تعالى: {الرِّجَالُ قَوِّامُونَ عَلَى النِّسَاءِ}[النساء: 34] وقد حكى أصحابنا الإجماع من الأمة على اشتراط الذكورة، وقد حكى أيضاً بعض أصحابنا الاتفاق على اشتراط البلوغ والعقل والحرية والسخاء والشجاعة والتدبير.
وأما الرابع وهو كونه حُرّاً: فلأنه لو كان عبداً لكان مملوك التصرف، فلا ولاية له على نفسه فأولى على غيره. والخامس والسادس سيأتيان.
وأما الستة التي ذكرها المصنف فقد بينها بقوله: (وهي العلم)؛ لأن الغرض الذي نُصِبَ له الإمام لا يتم إلا بالعلم، ثم لا يكفي أن يكون عالماً، بل لا بد أن يكون مجتهداً عند أهل العدل وغيرهم.
وذهب الغزالي والإمام يحيى: إلى أنه يصح أن يكون مقلداً.
قيل: وهما مسبوقان بالإجماع، وليس المراد بكونه مجتهداً أن يكون حافظاً لأقوال الفقهاء وكتبهم وترتيب أبوابها، مستحضراً لجميع المسائل، فإن مثل ذلك لا يكاد يتفق، ولكن لا بد من أن يتمكن من إيراد الأدلة وحمل المتشابه على المحكم، وترجيح بعض الأقوال الفقهية على بعض، ولا بد أن يكون مجوداً في علم الكلام حتى يتمكن من إرشاد الضال وحل الشبهة، ولن يتفق له ما تقدم إلا بأن يكون له علم بالأصول، فيكون عالماً بأنواع الخطاب التي هي الأمر والنهي والخبر ونحو ذلك؛ لأنها هي الأدلة، وكيفية دلالتها وكيفية الاستدلال بحقائقها، ومجازاتها وصريحاتها ومفهوماتها ومفرداتها ومشتركاتها، ويعلم الخاص لئلا يلغيه، والناسخ لئلا يَعْمَل على المنسوخ، وكذا في سائر أبواب أصول الفقه، ولا بد أن يكون مجوداً في العلم بكتاب الله، فيعلم منه ما يتعلق بالشرعيات، قيل: وهي خمسمائة آية، وقيل: أكثر، وليس من شرطها أن يحفظها، ولكن يعلم مواضعها؛ ليطلبها عند الحاجة، وأن يكون مجوداً في العلم بالسُّنة، فيعلم أيضاً ما يتعلق بالاجتهاديات، وكذلك يعلم أحوال الرواة، وكيفية الرواية، ووجوه الترجيح، وقيل: لا يشترط.
قال في ديباجة البحر ما لفظه: فأما عِلْمُ أحوال الرواة تفصيلاً، وانتقاد أشخاصهم جرحاً وتعديلاً فقبول المراسيل أسقطه، وإنكاره سفسطة، فإنه لما كان غاية محصوله التظنين، ولم يستثمر به العلم اليقين حكم فحول علماء الأصول بقبول مراسيل العدول، وأن رواية العالم العدل تعديل حيث لا يرى قبول المجاهيل. انتهى.
قال الإمام عزالدين: قلت بالغ -عَلَيْهِ السَّلامُ- في تسهيل الأمر وتيسيره كما بالغ حي السيد العلامة علي بن محمد بن أبي القاسم في تنكيده وتعسيره، وخير الأمور أوسطها، ولا أقل للمجتهد أن يطلع على نبذة وافية من علم الحديث وأحوال الرجال، وما يفتقر إليه الإسناد، ولا بد أن يكون مجوداً في علم العربية، فيعلم ما يحتاج إليه، كمختصر في النحو، وطرف من اللغة، والعلم بطرق المعاني والبيان، فقد عرفت بذلك بيان ما يحتاج إليه، وهو علم الأصوليين على خلاف في أصول الدين، لكن ينبغي التحقيق في أصول الدين فإنه أساس الاجتهاد، وعلم شيء من أحكام القرآن ومن السنة، ككتاب الشفاء، أو سنن أبي داود، وعلم العربية فهذه خمسة علوم.
وأما المنطق فمنهم من اعتبره، والأصح أنه غير محتاج إليه.
وأما الفقه فقيل: لا يحتاج أن يعلم منه إلا مسائل الإجماع القطعية لئلا يخالفها باجتهاده، وأما المسائل غير المجمع عليها فليس العلم بها من علوم الاجتهاد، وإنما هي تستنج بعلوم الاجتهاد، فإنه إذا علم مسائل الإجماع وآيات الأحكام، وجملة صالحة من الأخبار مع ما تقدم أرشده ذلك إليها.
وأما الفقيه حميد فإن في كلامه ما يقضي بأنه لا بد أن يكون له معرفة في الفقه في مسائل الإجماع وغيرها، وقد ذكره غيره.
قال الإمام يحيى: ولا يلزم الإحاطة بجميع الإجماعات، بل يكفيه أن لا يفتي بحكم قد وقع الإجماع على خلافه.
قال الإمام عزالدين عادت بركاته: تنبيه: اعلم أن أقوال العلماء مختلفة في تبعيد الاجتهاد وتقريبه، وتيسيره وتعسيره، وكثيراً ما يذكر الأصحاب أنه يكفي في الاجتهاد قراءة كتاب من كل فن، وإن كان مختصراً، كالخلاصة في الكلام، والمجزي أو الفائق في الأصول، ومعرفة آيات الأحكام، ومعرفة كتاب من كتب الحديث كالسنن لأبي داود أو شفاء الآوام ومقدمة طاهر أو ابن الحاجب، وكتاب المجمل لابن فارس في اللغة ونحو ذلك.
والتحقيق: أن مثل هذا لا يقف على تحديد، فإن أحوال القراءة وطلب العلم يختلف، فمنهم من يستثمر ويستفيد بأيسر علاج، ومنهم من لا يتم له ذلك إلا بعد التعب والنصب، وكثرة مدارسة الكتب، وذلك لأن العلوم منح إلهية ومواهب اختصاصية.
(و) الثاني من الستة (الورع) ومعنى الورع: الكَف عن المحرمات، والقيام بالفرائض الواجبات، واشتراطه مذهب الزيدية وجماهير العدلية وغيرهم.
قال الإمام يحيى: ولا يشترط حصول أعلى مراتب الكمال والورع والزهد، ولكنَّ مقدار الغرض يحصل بمجانبة الكبائر، والتنزه عن الأمور المستسخفة، انتهى.
وقالت الحشوية: لا يشترط ذلك؛ لأنهم لا يشترطون إلا التغلب على الأمر، لنا قوله تعالى: {وَلا يَنَالُ عَهْدِي الظَّالِمِينَ}[البقرة: 124] فإن المراد بالعهد الإمامة على ما يقضي به سياق الآية. قال جار الله عند تفسير قوله تعالى: {وَلا يَنَالُ عَهْدِي الظَّالِمِينَ}[البقرة: 124]: أن من كان ظالماً في ذريتك لا يناله استخلافي وعهدي إليه بالإمامة، وإنما ينال من كان عادلاً بريئاً من الظلم...إلخ ما قاله، وقد استدل على ذلك بالإجماع أيضاً من الصحابة.
(و) الثالث (الفضل) ولا خلاف فيه، فإن الصحابة فزعوا يوم السقيفة إلى ذكر المناقب والمفاخر، فعد الأنصار فضائلهم، وحَاجَّهم أبو بكر بتقرير امتياز المهاجرين بالفضل، واختلف ماذا أريد بالفضل، فقال (ص) بالله: ليس بشرط زائد، بل المرجع به إلى جمع الشرائط التي للإمام التي هي العلم والورع، والسخاء والشجاعة، والقوة على تدبير الأمور وسياسة الجمهور، وهو اختيار غيره أيضاً -عَلَيْهِ السَّلامُ- فلا ينبغي أن يعد شرطاً مستقلاً، وقيل: المرجع به إلى الصلاح في الدين والعفة، فيكون معناه معنى الورع.
قال بعضهم: الأصح أن المراد به أن يكون له من المحافظات على الطاعات والتجنب للمكروهات ما يعتاد كثير من الصالحين، ويكون بينه وبين القبيح حاجز كما هو شيمة كثير من الصالحين من اعتياد كثير من الطاعات غير الواجبة، وتجنب كثير مما لا يُقطع بقبحه، كما قيل: إن لكل ملك حمى، وحمى الله محارمه.
قال الإمام عزالدين -عَلَيْهِ السَّلامُ-: وليس المراد بالأفضل أن يكون أكثر ثواباً قطعاً، واختلف في هل يجب أن يكون أفضل أهل زمانه أولا؟
فقالت الإمامية: يوجب ذلك وقت الصحابة وبعدهم، وقال أكثر المعتزلة والصالحية من الزيدية رواه عنهم ابن الملاحمي في الفائق: يكفي أن يكون من جملة أفاضلهم وقت الصحابة وبعدهم، واستدلوا على ذلك بأن المرجع بالفضل إلى كثرة الثواب، وذلك مجهول. وأيضاً فمعرفة الأفضل متعذرة بعد وقت الصحابة؛ لكثرة الفضلاء وخفائهم، وأيضاً فقد جعل عمر الشورى في ستة متفاوتين في الفضل ولم ينكر عليه. ومنهم من قال: يجب أن يكون أفضل أهل زمانه في وقت الصحابة وبعدهم، وقد نسبه كثير من أصحابنا إلى الزيدية.
قيل: وممن نص على ذلك الهادي -عَلَيْهِ السَّلامُ- والقاسم والناصر والمؤيد، وحجة أهل هذا القول: أن الإجماع منعقد على جواز إمامة الأفضل، ولا دليل يدل على جواز إمامة المفضول، من كتاب ولا سنة ولا إجماع، فوجب قصرها على الأفضل، وما سبق من الصحابة من عد الفضائل وتقرير الامتياز فيها، ويمكن أن يقال: ليس عدم الإجماع على جواز إمامة المفضول يقدح في ذلك؛ لأن الأدلة قد دلت على وجوب الإمامة وعلى أن الإمام لا بدَّ له من شرائط، وقد حصلت في حق المفضول وافية، فعلى المانع من صحة إمامته الدليل، وأما فزع الصحابة، فإنما يؤخذ منه أنَّ الأفضل أولى ونحن لا ننكر ذلك.
(و) الرابع (الشجاعة): والمراد أن يكون له من رباط الجأش ما يتمكن معه من تجييش الجيوش، والوقوف في الصفوف، وتعبئة العساكر وحثهم على القتال.
قال الإمام يحيى: ولا يلزم أن يكون حاصلاً في الرتبة العلياء من الشجاعة.
قال الفقيه حميد: الواجب أن يُعَدْ واحداً من الشجعان سواءً حصل ذلك بالقتل والقتال، أو بما يقوم مقامه من المواقف التي يعلم بها ثبات القلب كما روي في مواقف زيد بن علي مع هشام بن عبد الملك، والذي يدل على وجوب اعتبار الشجاعة أن الأمة أجمعت على ذلك، وإجماعها حجة واجبة الاتباع.
(و) الخامس (السخاء) فلا بد أن يكون سخياً سخاءً متوسطاً، فلا يكون معه من الشح ما يمنعه من وضع الحقوق في مواضعها ويؤدِّي إلى البخل المؤدي إلى التقتير الذي نهى الله عنه، ولا يكون معه من الكرم ما يُضيِّع به أموال المسلمين فيتضرر أهل الحقوق بفواتها، ويتطلب هو الشيء وقت الحاجة فلا يجده، وإنما اشترط السخاء؛ لأنه لو لم يكن سخياً لانتقض الغرض بإمامته؛ لأن من جملة ما تُراد له الإمامة أخذ الحقوق ووضعها في مستحقها، ومهما لم يكن كذلك بطل الورع، والدليل قد دل على وجوبه، قيل: ولدخوله في الورع لم يعده بعضهم شرطاً مستقلاً.
(و) السادس القوة على (تدبير الأمر) وقد فُسِّر ذلك بأمرين: أحدهما: السلامة من الآفات، فلا يكون أعمى ولا أصم ولا أبكم؛ لأنه إذا كان كذلك انتقض الغرض بإمامته، إذ لا يتمكن مع ذلك من ضبط الجنود وتقويم أود العساكر، والاهتداء إلى مصالحهم ونظم أمورهم وغير ذلك من مباشرة الأمور المتعلقة به، والإجماع على اعتبار ذلك فيه.
وقيل: أن يكون ذا رأي سديد وتدبير مفيد، فإنَّ فُقِدَ الرأي الصائب، يجلب المصائب، فلا بد أن يكون معروفاً بحسن السياسة.
قال الإمام يحيى: وحاصله أن يكون ذا رأي ومكانة بتدبير الحرب والسلم ويشتد في موضع الشدة، ويلين في موضع اللين، ولا يلزم أن يكون بالغاً في العلم والأناة كل الغاية، فإن هذا متعذر، ولكن يكون بحيث لا يستفزه الطيش ولا يزعجه الفشل.
ومما أهمله المصنف من الشروط أن لا يكون ذلك الخليفة مسبوقاً، بأن يكون قد دعا قبله صالحٌ للإمامة، وهو مبني على ما ذهب إليه الجمهور من الزيدية والمعتزلة وغيرهم من أنه لا يصلح قيام إمامين معاً في عصر واحد، ولا قيام المتأخر منهما، وقد خالف في ذلك عباد بن سليمان ومحمد بن سلام الكوفي، وعزاه في الإبانة إلى كثير من السادة والعلماء، والحجة على منع ذلك إجماع الصحابة؛ لأنهم رجعوا إلى ذلك بعد الاختلاف وقرروا ما قاله عمر: سيفان في غمد لا يصلحان، سمعه بعضهم ولم ينكره الآخرون فكان إجماعاً، واحتُج على ذلك بإجماع أهل البيت عليهم السلام، فإن الظاهر منهم أنهم كانوا ينقادون لقائمهم عند قيامه ولا يظهر عنهم جواز إمامة غيره.
وأما ما ذهب إليه الناصر -عَلَيْهِ السَّلامُ- وهو أحد قولي (م بالله) وهو مذهب الجاحظ وعباد، فكلهم يشترطون تباعد الديار وقطع سلاطين الظلم بينهما، فقد قال الفقيه حميد في رده: لو جاز ثبوت الإمامة لإمامين إذا تباعدت الديار وجب مثله إذا تقاربت، كما في القضاة والأمراء، بل تجوز إمامة كثير في عصر واحد، وذلك فاسد، وكان يجب إذا التقيا أن لا تنفسخ إمامة أحدهما؛ لأن في الإمكان رجوعه إلى مُستَقَرّه، ولا خلاف أن إمامة أحدهما تنفسخ عند ذلك، انتهى قول الفقيه.
قلت: ولا يخفى أن قياس البعد على القرب بعيد جدَّاً، وكيف يقاس ما الغالب معه عدم التناقض الذي هو موجب لبطلان القول بإمامين على ما الغالب معه التناقض في الأحكام، وأيضاً فإنه قد أشار إلى ذلك عمر بقوله: في غِمدٍ، إذ مع التباعد لا يكونان في غمد، وأيضاً فلا يبعد إجماع الصدر المتأخر على القول بذلك كما لا يخفى، فإن مَن ببلاد الجيل والديلم ونحوهما لا يتفوه بخطأه في قيامه على من باليمن وكذلك العكس، والمانع الذي منع منه في الجهات المتقاربة منتفٍ مع التباعد.
وأما الشرط الثاني عشر: وهو أن الإمامة في أولاد الحسنين.
فقد اختلف الناس في ذلك، فقال به أهل البيت -عليهم السلام -إلا من ذهب مذهب الإمامية منهم والجارودية، ومنعه أكثر الناس المعتزلة والصالحية من الزيدية والخوارج والمجبرة وسائر الفرق الإسلامية.
(والدليل على ذلك) وهو القول بأن الإمامة محصورة في أولاد البطنين دليلان شرعيان: أحدهما: إجماع العترة على ذلك، وإجماعهم حجة، وإنما قلنا: إنهم أجمعوا على ذلك؛ لأنه هو الظاهر من مذهبهم المشهور في كتبهم.
فإن قيل: كيف يصح إجماعهم مع أن فيهم إمامية يدّعون قصرها في أولاد الحسين؟
قلنا: إن مذهب الإمامية في العترة حادث، وقد سبق انعقاد الإجماع في الصدر الأول على جواز الإمامة في البطنين، فلا يُعتَد بخلاف من يخالف منهم، وذلك الإجماع ظاهر من حالهم، فإنهم كانوا يُطبِقُون على إمامة القائم منهم حسنياً أو حسينياً، ولذلك لم يخالف أحد منهم في إمامة النفس الزكية محمد بن عبدالله، ولا في إمامة أخيه إبراهيم ولا في إمامة الفخي وكلهم من أولاد الحسن.
قال في العمدة: وذلك معلوم ضرورة من حالهم لمن عرف الآثار وسمع الأخبار فلا معنى لمباهتة الإمامية في شيء منه، وأيضاً فإن خلاف الإمامية ليس في محل النزاع، وهو عدم جواز الإمامة في غير أولاد الحسنين، بل هم موافقون في ذلك، وإنما بالغوا فيه فقصروها على بعضهم، فإذاً لا خلل في دعوى الإجماع على محل النزاع.
الدليل الثاني: (أن الأمة قد أجمعت على جواز الإمامة في ولد البطنين بعد قيام الدليل) القاطع (على بطلان قول أصحاب النص من الإمامية) وذلك بما قدمناه من الإجماع من الصدر الأول على خلافه، وذلك لأنهم إنما عولوا على النص بأن الإمامة لا تجوز إلا في عدد مخصوص من أولاد الحسين، وإذا ثبت بطلانه بإجماع العترة السابق سقط ما بنوه عليه؛ لأن العترة وكذلك الأمة إذا افترقت في المسألة على قولين ثم ثبت بطلان أحدهما تعين الحق في القول الآخر؛ لأنه لو بطل مع بطلان الأول لأدَّى إلى خروج الحق عن أيدي الأمة بموجب أنهم قد صاروا كلهم قائلين بقولين باطلين في مسألة واحدة وخروج الحق عن أيديهم يبطل كون إجماعهم حجة واجبة الاتباع، وهذا التقرير كافٍ في بطلان قولهم.
وإنما قلنا: إن الأمة أجمعت على ذلك لأن من أجازها في جميع الناس فقد أجازها فيهم؛ لأنهم خير الناس، ومن أجازها في قريش فقد أجازها فيهم؛ لأنهم خير قريش، (ولا شك أنه قد اختُلِفَ فيمن عداهم) ولم يدل دليل على جوازها فيه، فإن الخلاف لمن قال بجوازها في سائر الناس ظاهر بل لا يبعد أن يقال: إنه مخالف لإجماع الصحابة، وأما الخلاف لمن قال: بجوازها في قريش دون من عداهم، فإنه للعترة عليهم السلام، فإنهم يقولون بجوازها فيهم، وعدم جوازها في غيرهم، (و) إذا كانت الأمة قد أجمعت على ذلك فإن (إجماعهم حجة واجبة الاتباع).
فإن قيل: إن إجماع من عدا أصحاب النص ليس إجماعاً على محل النزاع، وهو جوازها فيهم، وعدم جوازها في غيرهم، ولم يُجمِع الناس على ذلك؛ لأن المخالف يقول: بجوازها في غيرهم وفيهم، وليس لكم أن تأخذوا بعض القول وتدَّعوا الإجماع إذ التمسك بأقل ما قيل ليس بإجماعٍ، ولهذا لما ادعى بعض أصحاب الشافعي الإجماع في قوله: إن دية الذمي ثلث دية المسلم، واحتج لذلك بأن الأمة افترقت فقال بعضها: مثل دية المسلم، وقال البعض: مثل نصف ديته، فلا بد أن يكونوا قد اتفقوا على قول الشافعي، وهو وجوب الثلث، فقال العلماء: لا يصح دعوى الإجماع على قول الشافعي؛ لأن القولين الأولين قد اشتملا على وجوب الثلث وزيادة، وقول الشافعي قد انطوى على وجوب الثلث، ونفي الزيادة، فلم يقع إجماع على هذا، كذلك هذه المسألة؛ لأن قول بعض الأمة قد انطوى على جوازها فيهم عليهم السلام، وجوازها في غيرهم، وقول البعض الآخر قد انطوى على جوازها فيهم، ونفي جوازها في غيرهم، فلم يقع إجماع على هذا القول الأخير، وإنما وقع الإجماع على بعضه؟
فالجواب: أن ظاهر احتجاج أصحابنا يقضي بما ذكرته، ولكن نسلك في الاحتجاج بهذا الدليل إلى مسلك آخر لا يبقى فيه مطعن، فنقول: إنَّ جواز الإمامة فيهم عليهم السلام وفي غيرهم حكم شرعي لا يثبت إلا بدليل قاطع، وقد ثبت لنا بالطريقة القاطعة جوازها فيهم -عليهم السلام- لأنه لما افترق الناس على قولين: أحدهما: قول أصحاب النص، والثاني: قول بقية الأمة، وقد ثبت بالدليل القاطع بطلان قول أصحاب النص وتعين الحق في قول الباقين، وصارت صحته قطعية وإلا خرج الحق عن أيدي الأمة، فثبت لنا جوازها فيهم -عليهم السلام- بدليل قاطع، ولم يحصل دليل قاطع مثل هذا على جوازها في غيرهم، والأصل عدم الجواز فيبقى هذا الجواز في حق غيرهم منتفياً على الأصل، وعدم الدليل في الشرعيات دليل على العدم، وإلا لجوَّزنا تكاليف شرعية ولا دليل عليها، وفيه هدم الشرائع وبطلان التكاليف وأنه محال.
فإن قيل: لا نُسلِّم أن الأصل عدم الجواز، بل الأصل بعد ثبوت وجوب الإمامة، ولزوم نصب الإمام جوازها فيمن صلح لذلك وحصل بقيامه وانتصابه الغرض المقصود منها، فإذا كان المقصود من الإمامة حفظ بيضة الإسلام وحماية سرحه أن يضام، وسد الثغور، ونظم أمور الجمهور، وإقامة الجمع والحدود، ونصب الحُكَّام، وقبض أموال الله وصرفها في مصارفها، وأداء فريضة الجهاد، وإجراء جميع ما ذكر على القوانين الشرعية والقواعد النبوية المرضية، فمن المعلوم أن ذلك لا يتوقف على منصب مخصوص ولا يتعذر فيمن صلح له من غير أهل البيت، فيعلم جواز إمامة من صلح لذلك منهم ومن غيرهم، ويكون ذلك هو الأصل المرجوع إليه إلا لدليل ينقل عنه، وقد ادَّعى الإمام المهدي -عَلَيْهِ السَّلامُ- أن قيام الدليل الشرعي على وجوب الإمامة كما يدل عليه، فهو يدل على جواز نصب كل من صلح للقيام بالمقصود منها، ويحصل العلم بذلك، قرشياً كان أو غيره، هاشمياً كان أو غير هاشمي.
قال: وهذا دليل مستقل يدل على جوازها في غيرهم وينقض ما ذكره أصحابنا من أنه لا دليل عليه، وذكر أنه لا وجه للأصحاب يدفعونه به؟
والجواب والله الموفق: أن ذلك مستقيم لولم يعتبر الشارع المنصب ويلحظ إليه، أما وقد اعتبره والتفت إليه فلا إشكال{ لا يَسْاَلُ عَمَّا يَفْعَلُ وَهُمْ يُسْاَلُونَ}[الأنبيا: 23] ودليل اعتباره ما وقع من احتجاج الصحابة يوم السقيفة بالقرب من رسول الله ً وبكونهم من قريش مع قوله ً: ((الأئمة من قريش..)) الخبر، وإجماع العترة عليهم السلام المتقدم على قصرها فيهم عليهم السلام فيضمحل مع ذلك السؤال وينطوي ذكر القيل والقال، فصح ما قاله المصنف (فثبت بذلك حصرها فيهم عليهم السلام دون غيرهم من الناس)، والله ولي التوفيق، وهو حسبنا ونعم الوكيل.
قال المصنف: (وهذه ثلاثون مسألة في أصول الدين يجب على المكلف المصير فيها إلى العلم اليقين، لا يجوز لأحد من المكلفين فيها التقليد لقوله ً: ((من أخذ دينه عن التفكر في آلاء الله وعن التدبر والتفهم لسنتي زالت الرواسي ولم يزل، ومن أخذ دينه عن أفواه الرجال مالت به الرجال من يمين إلى شمال وكان من دين الله على أعظم زوال)).
ومما يزداد به الإيضاح ويغنيك بالإصباح عن المصباح قوله تعالى:{وَلاَ تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ}[الإسراء: 36]، وقوله: {إنَّ الظَّنَّ لاَ يُغْنِي مِنَ الحَقِّ شَيْئا}[النجم: 28]، وقوله: {فَاعْلَمْ أَنَّهُ لاَ إلَهَ إلاَّ اللهُ}[محمد: 19] وأمثالها، وإنما يحصل لك من قول من قلدته الظن فقط، وإنما خص بعض العمليات إجماع الصحابة كما ذلك مقرر في مظانه، وعلينا الوقوف على ما اقتضته الأدلة.
وصلى الله على سيدنا محمد وآله وسلم، اللهم اجعلنا من الذين يستمعون القول فيتبعون أحسنه، وسددنا إلى القول الثابت في الحياة الدنيا وفي الآخرة، ولا تدحض حجتنا، ولا تزل أقدامنا بلطفك وتوفيقك، ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم.
قال المؤلف -عَلَيْهِ السَّلامُ-: وكان الفراغ من جمعه ضحوة يوم السبت شهر رجب الأصب من سنة تسع وأربعين وألف.
وأقول: الحمد لله، وافق الفراغ من نسخه ضحوة يوم الثلاثاء الموافق ثامن شهر محرم الحرام مفتاح سنة/1408هـ، ثمان وأربعمائة وألف بالجامع المقدَّس جامع الإمام عزالدين -عَلَيْهِ السَّلامُ- بهجرة فللة حرسها الله بالصالحين، آمين آمين.
نسأل الله الكريم العظيم أن يجعله خالصاً لوجهه، وعملاً متقبلاً مرضياً وسبباً لرضاه، آمين آمين.
بقلم راجي عفو ربه ومغفرته: عبد الرحمن بن حسين بن محمد شايم المؤيدي اليحيوي الحسني، ختم الله له ولوالديه بالحسنى، وصلوات الله وسلامه على سيدنا محمد وآله، آمين.
الحمد لله : وجدت بخط الإمام إبراهيم بن محمد -عَلَيْهِ السَّلامُ- ما لفظه: (كرامة: حدثني بعض الفضلاء أنه سمع في قبة الإمام أحمد بن عزالدين بيسنم بعد أن أطفأ سراج المسجد، ومضى وهنٌ من الليل دوياً مثل دوي النحل مع نور ظاهر، وكذلك الفقيه الفاضل حسن بن علي جميلة، وهو ممن لا شك في روايته أنه سمع في تلك الليلة التي سمع فيها المذكور مثل ذلك، ورأى النور في قبة الإمام أحمد وبقي وقتاً طائلاً يسمع ويرى، وكتب إبراهيم بن محمد وفقه الله) ا. هـ.
نقله المفتقر إلى عفو الله تعالى ومغفرته عبدالرحمن بن حسين شايم.وفقه الله.
ومن خط الإمام أحمد بن إبراهيم بن محمد -عَلَيْهِ السَّلامُ- نقلت ما لفظه: (وجدت بخط حي الوالد العلامة الشامة في الآل الكرام، والعلامة صارم الدين داود بن الهادي بن أحمد بن المهدي بن أمير المؤمنين عزالدين بن الحسن بن أمير المؤمنين -رحمه الله- ما لفظه: رأى الصنو العلامة شمس الدين أحمد بن المهدي أني كتبت إليه كتاباً فيه عشرون بيتاً حفظها في المنام وانتبه وقد غابت عنه إلا بيتين وهما:
على أنني والحمد لله قدوة
بنينا لنا في المجد بيتاًمؤثلاً ... لطالب علم أو لمن كان سائلاً
وصرنا له أهلاً وركناً وموئلاً
فلعمري أن هذين البيتين جديران بأن يُكتبا بالعين، بل بماء العين لدلالتهما على فضيلة السيد المذكور، وفضل هذا المنصب المُنِيف اليحيوي أعاد الله علينا من فضله بحق القرآن العظيم والنبي الكريم، وكتب الفقير إلى كرم مولاه الغني عمن سواه أحمد بن إبراهيم بن محمد بن أحمد بن عزالدين بن علي بن الحسين بن أمير المؤمنين عزالدين بن الحسن بن أمير المؤمنين علي بن المؤيد عليهم صلوات الله...شهر رمضان المعظَّم أحد شهور سنة اثنين وسبعين وألف).
نقله المفتقر إلى عفو الله ومغفرته تعالى عبد الرحمن بن حسين شايم...وفقه الله.