الكتاب : الإرشاد إلى سبيل الرشاد |
الإرشاد إلى سبيل الرشاد (1/1)
تأليف
الإمام الحجة المنصور بالله
القاسم بن محمد عليهما السلام
اعتمدنا على نسخة الإمام الحجة مجد الدين المؤيدي أيده الله تعالى
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله كما يجب لجلاله ، وصلواته وسلامه على رسوله وآله.
هذا كتاب الإرشاد الهادي إلى سبيل الرشاد تأليف مولانا إمام الجهاد والاجتهاد المجدد للدين أمير المؤمنين المنصور بالله رب العالمين القاسم بن محمد بن علي بن محمد بن علي بن الرشيد بن أحمد بن الحسين بن علي بن يحيى بن محمد بن يوسف الأشل بن القاسم بن الإمام الداعي يوسف بن الإمام المنصور بالله يحيى بن الإمام الناصر لدين الله أحمد بن الإمام الهادي إلى الحق المبين يحيى بن الحسين بن القاسم بن إبراهيم بن إسماعيل بن إبراهيم بن الحسن المثنى بن الحسن السبط بن أمير المؤمنين علي بن أبي طالب عليهم أزكى التحيات والتسليم.
دعا إلى الله سبحانه سنة ست وألف فجدد الله تعالى بعلمه وسيفه الدين الحنيف وأحيا بجهاده واجتهاده الشرع الشريف . له المؤلفات النافعة المحررات الصادعة ، منها الأساس في أصول الدين ، والاعتصام بحبل الله المتين في الأحكام ، والمرقاة في أصول الفقه ، ورسالة التحذير, وهذا الإرشاد، وما لا ينحصر من الرسائل والمسائل . وتوفاه الله في ثاني عشر شهر ربيع الأول سنة تسع وعشرين وألف عن اثنتين وستين سنة رضي الله عنه وأرضاه وجزاه عن الإسلام والمسلمين أحسن جزاه.
المفتقر إلى الله سبحانه مجد الدين بن محمد بن منصور المؤيدي عفا الله عنهم أجمعين . تمت نقلاً عن خطه .
بسم الله الرحمن الرحيم (1/2)
الحمد لله وسلام على عباده الذين اصطفى.
[موضوع الرسالة: ((حكم الخلاف في الأحكام الشرعية))؟]
أما بعد، فإنه لما كان الخلاف واقعاً في الأحكام الشرعية بين الأمة المحمديةـ وقد عرفنا أن ربنا تبارك وتعالى واحدٌ, ونبينا صلى الله عليه وآله واحد, وديننا زاده الله شرفاً ورفعةً واحدٌ ـ وجب على العاقل اللبيب أن ينظر في كتاب الله تعالى وسنة رسوله صلى الله عليه وآله وسلم:
أيسوغ ذلك الاختلاف؛ فنعذر على التفرق في الدين باتباع المختلفين؟
أم لا يسوغ؛ فلا نعذر في ذلك؟
وما المعمول عليه بعد إذٍ؟
[قبح الإخلال بالنظر عقلاً وشرعاً]
لأن في الإخلال بالنظر في ذلك مخاطرة بلا ملجئ، والعقل يقضي ضرورةً بقبح المخاطرة بغير ملجئ [فيكون الإخلال بالنظر قبيحاً], وكذلك الشرع [يقضي بقبح الإخلال بالنظر], قال الله تعالى: {ولا تقف ما ليس لك به علم} الآية(الإسراء :36).
وقد جمعت في ذلك ما يرشد الطالبين إن شاء الله تعالى, ولم أقصر في بيانه؛ مريداً للإصلاح ما استطعت وما توفيقي إلا بالله عليه توكلت وإليه أنيب, وذلك يتضمن ستة فصول:
الفصل الأول في الإرشاد إلى حكم الخلاف
[الآراء في حكم الخلاف]
[الرأي الأول: وهو رأي محرمي الخلاف من أئمتنا عليهم السلام]
[حكم الخلاف في كتاب الله]
وذلك أنا نظرنا في كتاب الله فإذا هو ناطق بتحريم الخلاف في الدين على الإطلاق, قال تعالى: { واعتصموا بحبل الله جميعاً ولا تفرقوا }(ال عمران :103) . وقال تعالى: { ولا تكونوا كالذين تفرقوا واختلفوا ... الآية }(ال عمران:105) . وقال تعالى: { إن الذين فرقوا دينهم و كانوا شيعاً لست منهم في شيء } الآية (الأنعام: 159). و قال تعالى: { أن أقيموا الدين ولا تتفرقوا فيه }(الشورى: 13) ,ولم يفصل في أيّها. (1/3)
[حكم الخلاف في السنة المطهرة]
[حديث اختلاف الأمة بعد رسول الله]
ثم نظرنا في سنة رسول الله صلى الله عليه و آله و سلم فإذا هي جارية على هذا النسق. روي عن أمير المؤمنين عليه السلام أنه قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يقول:(( أتاني جبريل عليه السلام فقال: إن أمتك مختلفة بعدك . فقلت: فأين المخرج يا جبريل ؟ فقال: كتاب الله به يُقْصَمُ كل جبار عنيد, ومن اعتصم به نجا, ومن تركه هوى ، قول فصل وليس بالهزل, لا تخلقه الألسن, ولا يثقل على طول الرد, ولا تفنى عجائبه, فيه أثر من كان قبلكم, و خبر من هو كائن بعدكم )).
[تحريم الاختلاف]
وروى الهادي عليه السلام عنه صلى الله عليه وآله وسلم أنه قال: (( أقيموا صفوفكم ولا تختلفوا فيخالف الله بين قلوبكم)) .
قلت: ولا يتوهم قصره على السبب ؛لأن الأسباب لا تمنع الألفاظ عن إفادة معانيها.
ألا ترى أنه يصح أن تقول لغلمانك عند عصيان بعضهم: كل من عصاني عاقبته بكذا. وأن تقصد بذلك جميعهم بلا نصب قرينة؛ لأن ذلك مما يدل عليه اللفظ بحقيقته. (1/4)
وألا ترى إلى آية الظهار فإن سبب نزولها: ظهار أوس بن الصامت من زوجته خولة بنت ثعلبة, ولم تكن الآية مقصورة على ذلك السبب وحده.
[النهي عن الاختلاف]
وروى الحسين بن القاسم عليه السلام في (تفسيره) عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أنه قال ما لفظه أو معناه : ((ألا لا يقتتل مسلمان ولا يختلف عالمان)).
[هلاك أكثر فرق الأمة]
وقوله صلى الله عليه وآله وسلم: (( ستفترق أمتي إلى ثلاث وسبعين فرقة كلها هالكة ... )) الخبر, ولم يفصل في أيها كذلك.
[نفي المخصص للعموم في أحاديث تحريم الاختلاف]
قلت وبالله التوفيق: وجميع ذلك من الكتاب والسنة نصوص صريحة في تحريم الاختلاف في أصول الدين وفروعه, للقطع بانتفاء المُخَصِّص, كما نبين إن شاء الله تعالى في الرد على من خالفنا في ذلك؛ لأنهم قد بحثوا عن المخصِّص أشد البحث وتمحلوا له بما سنقف عليه إن شاء الله.
[آراء العلماء في حكم الاختلاف]
وذلك مذهب قدماء العترة عليهم السلام, ومن وافقهم من متأخريهم, ومن سائر علماء الإسلام[1] .
[الرأي الثاني: رأي البصرية ومن وافقها في الاختلاف في الشرع]
وقالت البصرية من المعتزلة ومن وافقها: بل هي [أي تحريم الاختلاف] خاصة بما عدا المسائل الفروعية الظَّنِّيَّة.
_________________
[1] قال الإمام زيد بن علي عليه السلام في كتاب مدح القلة وذم الكثرة :(وقد نهى عن الاختلاف فيما أنزل على رسوله صلى الله عليه وآله وسلم وأمرنا لنسلم لأمر الله تعالى . وأنتم تزعمون وترون خلاف كتاب الله تعالى, تزعمون الخلاف رحمة, وقد وعد الله عليه العذاب).
وقوله تزعمون الخلاف رحمة إشارة إلى ما روي عنه صلى الله عليه وآله وسلم انه قال: (اختلاف أمتي رحمة). ويبدو أن هذا الحديث من موضوعات بعض وعاظ السلاطين ليكون مبرراً لهم في تشتيت الأمة وإثارة الخلاف فيمت بينهم. وليس لهذه الرواية سند يعرف. حتى قال السيوطي في الجامع الصغير: لعله مخرج في بعض كتب الحفاظ التي لم تصل إلينا؛ وهذا بعيد. أما السبكي فقد أنكره غاية الإنكار. وفال ابن حزم: باطل مكذوب. سلسلة الأحاديث الضعيفة رقم (57).
[أدلة البصرية] (1/5)
[مخصص الأدلة:اختلاف الصحابة وسكوتهم عليه]
قالوا: والمخصص لها [أي لأدلة تحريم الاختلاف] وقوع الاختلاف بين الصحابة.
قالوا: وذلك إجماع منهم؛ لعدم النَكير من بعضهم على بعض. قال الإمام يحيى (بن حمزة) عليه السلام في (شرح نهج البلاغة): ( ولم يسمع من أحد منهم إنكار على صاحبه فيما ذهب إليه ولا ذم، بل يعتذرون في المخالفة, بأن يقولوا: هذا رأيي وهذا رأيك).
قالوا: ولم ينقض أحد منهم حكم صاحبه.
[حديث اجتهاد الحاكم]
ومما احتجوا به أيضاً على ذلك: ما روي عن أبي هريرة, عنه صلى الله عليه وآله وسلم أنه قال: (( إذا اجتهد الحاكم فأصاب فله أجران, وإن اجتهد فأخطأ فله أجر واحد )) . وما روي عن عقبة بن عامر, عنه صلى الله عليه وآله وسلم أنه قال: (( اقض بينهما (يعني خصمين ) فإن أصبت فلك عشر حسنات, وإن أخطأت فلك حسنة واحدة )).
[الشرائع مصالح]
قالوا: والشرائع مصالح, فلا يمتنع أن يخاطب الله بمجمل يريد من كُلٍ ما فَهِمَه؛ لأن المصالح تختلف باختلاف الناس.
[حكم الله تابع لما أداه نظر المجتهد] (1/6)
ثم قالوا: ولا حكم لله فيها مُعَيَّن, وإنما مراد الله تابع لما أداه نظر المجتهد؛ لأن نظر المجتهد تابع لمراد الله تعالى. قال بعضهم: بأنه لا يخلو إما أن يريد الله من كُلٍ ما أداه إليه نظره, أو يريد ذلك من بعض دون بعض, أو لا يريده من الكل . الثالث باطل؛ لأنه خلاف الإجماع ، والثاني باطل؛ أيضاً لأنه محاباة, ومن وصف الله بها كفر؛ لأنها لا تجوز عليه, بقي الأول.
[الرأي الثالث: رأي من جوَّز الخلاف مطلقاً]
وقال بعض الناس: بل كُلٌ مصيبٌ في الفروع والأصول, واحتجوا على ذلك بأن قالوا: لا إثم على من طلب الحق.
[مناقشة الآراء]
[مناقشة الرأي الثالث]:
فنظرنا في هذه الثلاثة الأقوال؛ فإذا الثالث منها ساقط لمصادمته النصوص.
[عدم الإثم لا يدل على التصويب]
وأما قولهم: لا إثم على من طلب الحق. فعدم الإثم لا يدل على التصويب للمختلفين؛ لأنه قد ينتفي عن المخطئ والساهي عن الصواب، لقوله تعالى: { وليس عليكم جناح فيما أخطأتم به}(الأحزاب 5 ) . وقوله صلى الله عليه وآله وسلم: (( رفع عن أمتي الخطأ والنسيان )) ،( الخبر ، لأن الطلب غير المطلوب ، وليس كل طالب شيء لا يخطئه ) وذلك بحمد الله واضح.
[مناقشة الرأي الثاني]:
ثم نظرنا في الباقيين، فإذا الثاني منهما ساقط أيضاً؛
[نقد الحجة الأولى] (1/7)
[نفي قول الصحابة بالتصويب]
لأنّا نظرنا فيما ادعاه أهل هذا القول من إجماع الصحابة على القول بالتصويب في مسائل الفروع الظنية؛ فإذا هو لم ينقل عن أحد القول به قبل البصرية.
[وقوع الاختلاف بين الصحابة لا يدل على التصويب]
وأما وقوع الاختلاف بين الصحابة فلا يدل على أنهم يقولون بالتصويب؛ لأن الأفعال لا دلالة لها على المعاني المترجم عنها بالقول، كخرق الخضر عليه السلام للسفينة، فإن موسى عليه السلام لم يفهم بمجرده ما الغرض منه. بلى قد يكون ما يعتاد لأمر قرينة على تحصيله لذلك الأمر، كالأكل والشرب فإن كل واحد منهما قرينة على تحصيله للحاجة المخصوصة من الجوع أو الشهوة أو العطش. فوقوع الخلاف بينهم قرينة على تخطئة كل لصاحبه؛ لأن العاقل - في مجرى العادة - لا يخالف صاحبه فيما اتفقا على طلبه، إلا لأنه أنكره وادعى خطأه, وإلا لوافقه لارتفاع المانع.
[نفي دعوى عدم النكير من بعضهم]
وأما دعوى عدم النكير من بعضهم على بعض؛ فباطلة، لأنه نقل بالأخبار المتواترة وقوع النزاع بينهم في ذلك، ومن عادات العقلاء أنه لا يقع بينهم نزاع إلا فيما ينكره بعضهم على بعض.
[النكير من علي على الصحابة]
وأيضاً قد وقع التصريح بالنكير من علي عليه السلام في كثير من المسائل، قال العلماء: ورجع عمر إليه في ثلاث وعشرين مسألة.
[النكير من الإمام علي في قضية المرأة التي أسقطت خوفاً من عمر] (1/8)
وصرح أيضاً بالتخطئة في مشهد من الصحابة في قضية المرأة التي استحضرها عمر فأسقطت خوفاً منه، فاستشارهم عمر؛ فقال عبد الرحمن بن عوف وعثمان بن عفان: إنما أنت مؤدب لا نرى عليك شيئاً .فقال علي كرم الله وجهه في الجنة: إن كانا قد اجتهدا فقد أخطأا، وإن لم يجتهدا فقد غشاك. وفي رواية أن القائل بذلك عبد الرحمن بن عوف وحده . فقال علي عليه السلام : إن كان قد اجتهد فقد أخطأ وإن لم يجتهد فقد غشك . وفي رواية أخرى: فاستشار عمر جماعة الصحابة فقالوا: لا شيء عليك لأنك مؤدب. فقال علي عليه السلام: إن كانوا قد جهلوا فقد أخطئوا، وإن كانوا عرفوا فقد غشوك. ولم ينازعه أحد منهم في التخطئة, ولو كان القول بالتصويب مذهباً لبعضهم لنازعه فيها، كما كانوا ينازعونه في كثير من المسائل، لما كان مذهبهم فيها خلاف مذهبه.
[الخلاف حول علة النكير من الإمام]
لا يقال: أنهم قصروا في الاجتهاد، فنكيره عليه السلام إنما وقع لأجل التقصير؛ لأنا نقول وبالله التوفيق:
[حقيقة الاجتهاد] (1/9)
حقيقة الاجتهاد عند البصرية ومن وافقها: بذل الوسع في تحصيل الظن بحكم فرعي عند أكثرهم مطلقاً، وعند أقلهم: لا من قبل النصوص والظواهر. وعلي عليه السلام قد صرح بلفظ الاجتهاد في الروايتين وحكم بأنه خطأ، وفي قولهم: إنما أنت مؤدب. دلالة على دعوى حصول الاجتهاد منهم حيث عللوا بذلك، ولم يقولوه خبطا، فشك علي عليه السلام فيها، فقسَّم قولهم فيها إلى: الخطأ، والغش في روايتين، وإلى: الجهل والغش في أخرى، لئن المخطئ جاهل فيما أخطأ فيه إجماعا، فلما ثبت أنه عليه السلام قد صرح بلفظ الاجتهاد، وثبتت الدلالة على دعوى الاجتهاد منهم؛ وجب أن يُحمل اللفظ على حقيقته المعروفة بين أهل الشرع؛ لاقتضاء المقام ذلك ضرورة، ولا مقتضى للعدول عنها، ولأن التقصير في استنباط الأحكام الشرعية عن أدلتها وأماراتها لا يسمى اجتهاداً في عرف أهل الشرع إجماعاً.
[استنكار الخلاف من علي] (1/10)
وروي عنه عليه السلام في (نهج البلاغة) أنه قال: (ترد أحدهم القضية في حكم من الأحكام فيحكم فيها برأيه, ثم ترد تلك القضية بعينها على غيره فيحكم فيها بخلاف قوله, ثم يجتمع القضاة بذلك عند الإمام الذي استقضاهم, فيصوب أراءهم جميعا, وإلههم واحد, ونبيئهم واحد, وكتابهم واحد, أفأمرهم الله-سبحانه-بالاختلاف فأطاعوه؟! أو نهاهم عنه فعصوه؟! أم أنزل الله دينا ناقصا فاستعان بهم على إتمامه؟! أم كانوا شركاء له, فلهم أن يقولوا وعليه أن يرضى؟! أم أنزل الله ديناً تاماً فَقَصَّر الرسول صلى الله عليه وآله وسلم عن تبليغه وأدائه؟! والله سبحانه يقول: { ما فرطنا في الكتاب من شيء }(الأنعام: 38) .وقال:{تبيانا لكل شيء}(النحل: 38) ,وذكر أن الكتاب يصدق بعضه بعضا,ً وأنه لا اختلاف فيه, فقال سبحانه: { ولو كان من عند غير الله لوجدوا فيه اختلافاً كثيرا }(النساء: 82) ,وإن القرآن ظاهره أنيق, وباطنه عميق, لا تفنى عجائبه, ولا تنقضي غرائبه, ولا تُكشف الظلمات إلا به) . قلت وبالله التوفيق: ولعل هذا جرى مجرى اقتصاص الملاحم, لأنه لم يرو عن أحد من الصحابة القول بالتصويب.وقال عليه السلام في خطبة: ( فيا عجباً وما لي لا أعجب من خطأ هذه الفرق على اختلاف حججها في دينها ).
[تخطئة ابن عباس] (1/11)
وروي عنه عليه السلام, و(عن)زيد بن ثابت وغيرهما تخطئة ابن عباس في عدم القول بالعول . وروي عن ابن عباس أنه خطأ من قال بالعول ، وروي عن ابن عباس أيضاً أنه قال: ( ألا يتقي الله زيد بن ثابت يجعل ابن الابن ابناً ولا يجعل أبا الأب أباً ).
[إقرار أبي بكر بالتخطئة]
وروي أن أبا بكر سئل وهو على منبر رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم عن الكلالة فقال: ( ما سمعت فيها شيئاً, وسأقول فيها برأيي, فإن أصبت فالله وفقني, وإن أخطأت فالخطأ مني ومن الشيطان, والله ورسوله منه بريّان ) . فصرّح بالرأي, وهو في عرف أهل الشرع يطلق على الاجتهاد والقياس والحكم, ولم ينقل أنه نوزع في التخطئة, ولو كان التصويب مذهباً لبعضهم لنازعه ونُقِل.
[إقرار عمر بالتخطئة]
وروي أن كاتباً كتب عند عمر: هذا ما أرى الله عمر . فقال عمر: (امحه, واكتب: هذا ما رأى عمر, فإن يك صواباً فمن الله, وإن يك غير صواب فمن عمر) . وروي عن عمر أيضاً أنه قال: (لا يقولن أحدكم: قضيت بما أراني الله, فإن الله لم يجعل ذلك إلا لنبيئه صلى الله عليه وآله وسلم, ولكن ليجتهد رأيه).
[إقرار ابن مسعود بالتخطئة]
وروي أن ابن مسعود سئل عن امرأة مات عنها زوجها ولم يفرض لها صداقاً, فقال: (أقول فيها برأيي, فإن يك صواباً فمن الله, وإن يك خطأً فمني ومن الشيطان, والله ورسوله منه بريّان). وفي رواية أخرى: فإن يكن خطأ, فمن ابن أم عبد . إلى غير ذلك.
[نقد تأويل تلك الأخبار] (1/12)
وتأويل ما روي من ذلك بأنه للتشديد في الاجتهاد فقط تلعب بأقاويل أكابر الصحابة بلا دليل؛ إلا أنه خلاف مذهب المتأول, إذ لو صح ذلك التأويل لكان من اعتنق مذهبا مبتدعا على الصواب؛ لأنه يمكنه شبه ذلك التأويل في كل دليل, فيقول الباطني: لا جنة ولا نار, وإنما الوعد لمجرد الترغيب, والوعيد لمجرد الترهيب, وذلك خلاف ما علم من الدين ضرورة. وأيضا قد وقع الخلاف بين الصحابة في الإمامة, والسكوت من الجميع بعد النزاع فيها, كما وقع الخلاف والسكوت بعد النزاع في مسائل الفروع, والإمامة من الأصول, فلو كان ذلك تصويبا منهم لجرى في الأصول كما جرى في الفروع, والفرق تَحَكُّم. وأيضا لا خلاف أن السكوت لم يقع من الصحابة إلا بعد النزاع في مسائل الخلاف والأياس من رجوع المخالف إلى صاحبه. ومن قواعد كثير من أئمتنا عليهم السلام ومن وافقهم من علماء الإسلام: أنه لا يجب النكير إلا عند ظن التأثير, وبعد النزاع والأياس من رجوع المخالف ينتفي ظن التأثير ضرورة, فكيف يعتد بسكوتهم مع ذلك في تخصيص الأدلة القطعية.
[دلالة قولهم هذا رأيي وهذا رأيك] (1/13)
وأما ما حكاه الإمام يحيى عليه السلام من تولي بعضهم بعضا, وعدم الذم, واعتذارهم بقولهم: هذا رأيي وهذا رأيك. فبمراحل عن الدلالة على التصويب؛ لأن الخطأ لا يمنع التولي؛ ولا يبيح الذم؛ لكونه معفوا عنه, وقد مر الدليل على كونه معفوا عنه, وقولهم: هذا رأيي وهذا رأيك. لا يدل عليه لا بصريحه ولا بفحواه, ألا ترى أنه يصح أن نقول للجبري: هذا مذهبي وهذا مذهبك, ونقول لليهودي: هذا ديني وهذا دينك إجماعا, ولو كان ذلك يدل على التصويب لما جاز, وأيضا قد أمر الله تعالى رسوله صلى الله عليه وآله وسلم أن يقول للكفار:{ لكم دينكم ولي دين}(الكافرون: 6) ,ولم يكن ذلك تصويبا لهم, مع أنه أوكد من قولهم: هذا رأيي وهذا رأيك؛ لأن فيه الإضافة ولام الاختصاص, وذلك لم يكن فيه إلا الإضافة فقط.
[عدم نقض بعضهم أحكام بعض] (1/14)
وأما دعوى عدم نقض بعضهم لحكم صاحبه- إن صح- فلصيانة أحكام المصيبين عن أن ينقضها المخطئون, كما يدعيه- في عدم نقض الأحكام المختلف فيها- المخالفون لنا في هذه المسألة؛ لأنهم يقولون: لو جاز نقضها لم يستقر حكم البتة؛ لأن كل حاكم يستجيز حينئذ نقض كل حكم يخالف مذهبه, ويفعل ذلك كما فعل غيره, وكذلك هذا إذ لا فرق, وهو كاف في حل شبهتهم لكونه عندهم حجة. مع أن التحقيق أنه لم يصح ذلك؛ لأن علياً عليه السلام رد قطائع عثمان, وفِعْل عثمان في قطائعه جار مجرى الحكم لكونه خليفة في اعتقاد نفسه في الظاهر,وفعل الخليفة في نحو ذلك جار مجرى الحكم بلا خلاف أعلمه.
[نقد الحجة الثانية]
وأما خبر أبي هريرة وخبر عقبة بن عامر[2] فهما حجة لنا؛ لأن فيهما التصريح بالتخطئة, وأما الأجر والحسنة المذكوران فيهما للمخطئ فثواب من الله تعالى على النظر؛ لأنه عبادة إجماعا, لا على الحكم بالخطأ, وإنما هو معفو عنه فقط, لقوله تعالى :{ ليس عليكم جناح فيما أخطأتم به }(الأحزاب: 5).
__________________
[2] قد تقدما. وقال الإمام أبو طالب في التعليق على حديث أبي هريرة-وقد رواه عن عمر بن العاص: (الخبر محمول على أن يخطئ خبرا مخالفا لحكمه فيما حكم به وردّ ولم يبلغه أو يخطئ طريقة أخرى في الاجتهاد لو سلكها لكان ثوابه أكثر, فأما نفس الخطأ فلا يستحق عليه الأجر).
[نقد الحجة الثالثة: وبيان أن الشرائع شكر] (1/15)
وأما قولهم: الشرائع مصالح فلا يمتنع أن يخاطب الله بمجمل يريد من كلٍ ما فهمه؛ لأن المصالح تختلف باختلاف الناس؛ فَمُعَارض بقولنا: لا يمتنع أن يبيح الله كل ما وقع عليه النصوص من المحرمات لبعض من الناس دون بعض؛ لأن المصالح فيها تختلف باختلاف الناس, فيكون الخمر حلالاً لزيد حراماً على عمرو!! وهذا خلاف ما علم من الدين ضرورة, والفرق بينه وبين ما قالوا معدوم, إذ لا دليل ولا مخصص, وإن كان غير ممتنع من العقل. وممنوع من كون الشرائع اللازمة مصالح؛ لأنها شكر, من حيث أنه يجب في قضية العقل امتثال المالك المنعم في ما أمر به ونهى عنه, لأجل النعم السابغة والملك, وذلك حقيقة الشكر. ألا ترى أن العقلاء يذمون العبد المخل بامتثال أمر سيده المنعم عليه, ويقضون بحسن عقوبته, دون من لم يعقد في عنقه لأحد نعمة, فإنهم لا يوجبون عليه شيئاً لمن أمره أو نهاه ولا يذمونه في ترك ذلك, وبذلك نطق القرآن المجيد, قال تعالى:{ اعملوا آل داود شكراً }(سبأ: 13) , وانعقد عليه إجماع قدماء العترة عليهم السلام. وقد جعل سبحانه التكليف بشكره متحداً إلا في أشياء معينة محصورة, نحو ما اختص به النبي صلى الله عليه وآله وسلم من الواجبات, وكذلك الأئمة, وكذلك ما يختص به الرجال دون النساء من الجهاد والجمعة والأذان, ونحو ذلك, وهذه لم ترد مورد الخلاف فيقاس عليها جواز الخلاف في غيرها, ومن ذلك ما يختص به كلٌ من استقبال الجهات بالصلوات عند اختلاف الظنون في القبلة؛ لأنه
متفق على ذلك, وبالاتفاق عليه لم يقع التفرق في الدين, وإنما أرشد ذلك إلى أنه من باب الاختصاص, كاختصاص الجهاد بالرجال, بخلاف سائر المسائل المختلف فيها, فإنها لم تقم دلالة البتة على أنها من باب الاختصاص, فتأمل. (1/16)
[نقد الحجة الرابعة]
وأما قولهم: لا حكم لله فيها معين. فنقول وبالله التوفيق: لا يخلو: إما أن يكون الحكم الذي حصل بنظر المجتهد مما أنزل الله تعالى, أو لا. إن كان مما أنزل الله, بطل قولهم, وصار معينا عند الله سبحانه؛ لأنه لا ينزل سبحانه إلا ما قد عينه وأثبته, إذ خلاف ذلك لا يصدر إلا عن جهل وذهول, والله تعالى منزه عنهما, وأيضا فإن الله سبحانه قد أثبته إذ أنزله وعلم من حصله بنظره وكلَّفه أن يعمل به, فكيف لا يكون مع ذلك معينا عنده. وإن كان من غير ما أنزل الله سبحانه فليس من الشرع؛لأنه لم يشرعه حيث لم ينزله, وقد قال الله تعالى: { ومن لم يحكم بما أنزل الله فأولئك هم الظالمون }(المائدة: 45) ونحوها ولم يفصل.
[نفي القول بأن مراد الله تابع لنظر المجتهد] (1/17)
وأما قولهم: إن مراد الله تابع لما أداه نظر المجتهد, لأن نظر المجتهد تابع لمراد الله. فنقول وبالله التوفيق: لا يخلو إما أن يكون ما أداه نظر المجتهد من الحكم مما جاء به رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم, أو لا, إن كان الأول بطل قولهم؛ لأن جميع ما جاء به رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم مراداً لله تعالى, وذلك معلوم من الدين ضرورة, وأيضا جميع ما جاء به الرسول صلى الله عليه وآله وسلم صراط الله المستقيم, وقد قال تعالى: { وأن هذا صراطي مستقيما فاتبعوه }(الأنعام: 153) ,وذلك نص في اتباع صراطه الذي هو مراده تعالى بلا خلاف. وإن كان الثاني فليس من الشرع, لأنه ليس مما جاء به رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم, ولا من صراط الله الذي أمر باتباعه, وإنما هو من السبل التي قال تعالى فيها: { ولا تتبعوا السبل فتفرق بكم عن سبيله }(الأنعام: 153).
[نقد دليل القول السابق] (1/18)
وأما قول بعضهم: لأنه لا يخلوا إما أن يريد الله سبحانه من كلٍّ ما أداه إليه نظره, أو يريده من بعض دون بعض, أو لا يريد ذلك من كلهم . الثالث باطل؛ لأنه خلاف الإجماع, والثاني باطل أيضا؛ لأنه محاباة, ومن وصف الله بها كفر, فثبت الأول. فنقول وبالله التوفيق: إن هذا القول لا يخلو من جهل, أو تمويه على الجهال الذين لا يفهمون؛ لأن القائلين بتحريم الاختلاف يقولون: إن الله يريد من كلٍّ في كل قضية طلب حكم واحد, إذ أمر الله سبحانه بالاجتماع في الدين دون التفرق, فإن اجتمعوا عليه فذلك مراده منهم, وإن أصابه بعض وأخطأه بعض؛ فقد أصاب مراده تعالى المصيب وأخطأه المخطئ فهذا خارج من ذلك التقسيم.
[حجة الكتاب على التصويب]
وأورد على ذلك قوله تعالى: { ففهمناها سليمان وكلاً آتينا حكماً وعلماً... الآية }(الأنبياء: 79) .وقوله تعالى: { ما قطعتم من لينة أو تركتموها قائمة على أصولها فبإذن الله }(الحشر: 5) ,ولا حجة لهم في الآيتين على تصويب المجتهدين عند الاختلاف.
[حكم داود في الغنم] (1/19)
أما الآية الأولى فهي حجة لنا؛ لأنه لو كان داود عليه السلام وسليمان عليه السلام مصيبين معاً لم يكن لتخصيص سليمان عليه السلام بالتفهيم فائدة, وقوله: { كلا آتينا حكما وعلما } احتراس من سوء توهم المتوهمين أن داود عليه السلام لم يكن ذا حكم وعلم على الإطلاق, لو اقتصر على قوله: { ففهمناه سليمان }, كما في قوله تعالى: { أذلة على المؤمنين أعزة على الكافرين }(المائدة:54) , فإنه ربما توهم أن ذلك لضعفهم, وكقول كعب بن سعيد العنوي شعراً:
حليم إذا ما الحلم زين أهله مع الحلم في عين العدو مهيب
فإنه لو اقتصر على وصفه بالحلم ربما توهم ذلك لضعفه.
[قطع النخيل]
وأما قوله تعالى :{ ما قطعتم من لينة أو تركتموها قائمة على أصولها فبإذن الله } فمعناها الإباحة فقط, لأنه سَوَّى سبحانه بين القطع والترك, وأباح ذلك لكلٍّ من الفريقين, ولا يجوز مثل ذلك من المذهبين, فطلاق البدعة لا يجوز للناصر عليه السلام العمل به, ولا للهادي عليه السلام اطراحه[3], فليتأمل ذلك والله أعلم, وذلك لا يدل على تصويب المجتهدين عند الاختلاف لا بالمطابقة, ولا بالتضمن, ولا بالالتزام, ولا بالقياس, لانتفاء الجامع.
______________
[3] لأن الناصر عليه السلام يقول أن طلاق البدعة لا يقع, والهادي عليه السلام يقول إن طلاق البدعة يقع.
فإن قيل: كان سبب نزولها وقوع الاختلاف في ذلك. قلت وبالله التوفيق: قد ذكر بعض المفسرين أن سبب نزولها أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم أمر بالقطع, فقيل له كيف نفعل وقد نهانا الله عن الفساد في الأرض, فنزلت مؤذنة بالإباحة, فبطل ما قالوا, وإن سُلِّمَ ما قالوا فنزول الآية مُبَيِّن لحكم ما اختلفوا فيه وهو الإباحة في ذلك, فتأمل, والله أعلم وهو حسبنا ونعم الوكيل. (1/20)
الفصل الثاني في الإرشاد إلى معرفة المحق وتمييزه من المخطئ:
[أدلة الكتاب على وجود طائفة على الحق واستمرارها]
وذلك أنه لما تقرر تحريم التفرق في الدين والاختلاف فيه, علمنا أنّا لا نُعذر فيه باتباع المختلفين فيه, فنظرنا بعد ذلك في كتاب الله تعالى وسنة رسوله صلى الله عليه وآله وسلم؛ فإذا كتاب الله تعالى ناطق بأن طائفة من الأمة لم تزل على حق, قال تعالى: {والذين اهتدوا زادهم هدى وآتاهم تقواهم}(محمد: 17) ,وقال تعالى: {والذين جاهدوا فينا لنهدينهم سبلنا وإن الله لمع المحسنين}(العنكبوت: 69) ,وقال تعالى: {ولا يزالون مختلفين إلا من رحم ربك ولذلك خلقهم}(هود: 118-119) ,أي لا يزالون مختلفين في الحق إلا من رحم ربك, فإنهم لا يختلفون فيه {ولذلك خلقهم} أي للاجتماع على العمل بالحق دون الاختلاف فيه.
وقال تعالى: {ثم أورثنا الكتاب الذين اصطفينا من عبادنا فمنهم ظالم لنفسه ومنهم مقتصد ومنهم سابق بالخيرات}(فاطر: 33) [4],والمقتصد والسابق بالخيرات على الحق.
________________
[4] روى الحسين بن الحكم الحبري, عن حسن بن حسين العرني, عن يحيى بن مساور, عن أبي خالد الواسطي, عن الإمام زيد بن علي عليه السلام في قوله تعالى: {ثم أورثنا الكتاب ......}الآية, قال: الظالم لنفسه المختلط منا بالناس, والمقتصد: العابد, والسابق: الشاهر سيفه يدعو إلى سبيل ربه. انظر: تفسير الحبري 355, شواهد التنزيل رقم(783).
وقال تعالى: {فاسألوا أهل الذكر إن كنتم لا تعلمون بالبينات والزبر}(النحل: 43-44), فأمر سبحانه بسؤال أهل الذكر لعلمه أنهم على الحق, إذ لو كانوا على الباطل لم يأمر تعالى بسؤالهم؛ لأن ذلك من صفات النقص, وهي لا تجوز على الله تعالى عنها, ولقوله تعالى :{إن هذا القرآن يهدي للتي هي أقوم}(الإسراء: 9) ,فلو كانوا على الباطل لكان قوله تعالى {فاسألوا أهل الذكر} هادياً لغير التي هي أقوم, وذلك تكذيب لله تعالى علواً كبيراً, وهو لا يجوز عليه تعالى. (1/21)
ثم نظرنا هل تلك الفرقة مستمرة؟ فإذا القرآن ناطق باستمرارها؛ لأنه خطاب للأمة إلى آخر الدهر, قال تعالى ملقناً لرسوله صلى الله عليه وآله وسلم: {لأنذركم به ومن بلغ}(الأنعام: 19) ,قد أمر تعالى جميع المخاطبين بسؤال أهل الذكر إن كانوا لا يعلمون بالبينات والزبر.
[أدلة السنة]
وكذلك سنة رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم جارية على هذا النسق, قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: (( ستفترق أمتي من بعدي إلى ثلاث وسبعين فرقة كلها هالكة إلا فرقة واحدة )), وقال صلى الله عليه وآله وسلم: (( لا تزال طائفة من أمتي على الحق ظاهرين )).
[وجوب معرفة الطائفة المحقة]
فلما عرفنا ذلك, وجب علينا أن نطلب تلك التي حكم الله سبحانه أنها على الحق, لنتبعها في طريقها, ونهتدي بها في هديها.
[الفرقة الظاهرة على الحق] (1/22)
[أدلة وجوب اتباع أهل البيت عليهم السلام من الكتاب]
[الدليل الأول: آية التطهير]
فنظرنا في كتاب الله تعالى وفي سنة رسوله صلى الله عليه وآله وسلم؛ فإذا كتاب الله تعالى ناطق بأنها أهل البيت عليهم السلام وأتباعهم, قال تعالى : { إنما يريد الله ليذهب عنكم الرجس أهل البيت ويطهركم تطهيرا }(الأحزاب: 33).
[وجه مجيء الآية في سياق ذكر أزواج النبي]
ومجيء هذه الآية مع ذكر أزواج النبي صلى الله عليه وآله وسلم على طريقة مجيء قوله تعالى: { إنما يستجيب الذين يسمعون والموتى يبعثهم الله }(الأنعام: 36) ,مع قوله تعالى قبل: { وإن كان كبر عليك إعراضهم فإن استطعت أن تبتغي نفقاً في الأرض أو سلماً في السماء فتأتيهم بآية ولو شاء الله لجمعهم على الهدى فلا تكونن من الجاهلين }(الأنعام: 35) ,وقال تعالى بعده: { وقالوا لولا أنزل علية آية من ربَّه }الأنعام: 37) .والوجه في ذلك أنه تعريض بهن بأنهن غير معصومات, كما أن قوله سبحانه وتعالى: { إنما يستجيب الذين يسمعون ... الآية} تعريض بالذين ذكرهم الله قبلها وبعدها أنهم لا يسمعون, أي لا يعلمون ما يسمعونه من النبي صلى الله عليه وآله وسلم عن الله تعالى, وقد أطبق البلغاء على أن أحسن مواقع (إنما) التعريض كما ذكرته في الآيتين الكريمتين, ويؤيد ذلك تذكير الضمير حيث قال تعالى : { إنما يريد الله ليذهب عنكم الرجس أهل البيت ويطهركم تطهيرا }(الأحزاب: 33), وقال:{يطهركم} بخلاف ما قبل ذلك وبعده, فإنه مؤنث.
[اعتراض وجواب] (1/23)
لا يقال إن الله تعالى مريد لمثل ذلك من جميع البشر, لأنا نقول :وهو تعالى مريد لأن يفعل البشر كلهم, لا أنه تعالى يفعله لهم, ألا ترى إلى قوله تعالى: { أولئك الذين لم يرد الله أن يطهر قلوبهم ... الآية }(المائدة: 41) ,بخلاف أهل البيت عليهم السلام, فإن الآية نص صريح على أنه يريد أن يفعل ذلك لهم, حيث قال تعالى: { إنما يريد الله ليذهب عنكم الرجس أهل البيت ويطهركم تطهيرا }, ولم يقل إنما يريد لِتُذْهِبُوا عنكم الرجس أهل البيت ولِتُطَهَّروا تطهيرا, فإذا أراد شيئاً من فعله سبحانه فعله, إذ هو على كل شيء قدير.
فإن قيل :وما فعله تعالى الذي ذكرت؟ قلت وبالله التوفيق :هو عصمته, وقد تقدم ذكر حقيقة العصمة في(الأساس).
[الدليل الثاني آية المودة]
وقال: {قل لا أسألكم عليه أجراً إلا المودة في القربى }(الشورى: 23) ,والله تعالى لا يلزم عباده مودة من كان على غير الحق, لقوله تعالى: { لا تجد قوما يؤمنون بالله واليوم الآخر يوادون من حاد الله ورسوله ... } الآية(المجادلة: 22).
[الدليل الثالث آية الاصطفاء]
وأجمع قدماء العترة عليهم السلام على أن قوله تعالى: { ثم أورثنا الكتاب الذين اصطفينا من عبادنا } الآية(فاطر: 33) نزلت في أهل بيت رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم, وقد أذهب الله عنهم الرجس وطهرهم تطهيرا, فما كانوا ليجمعوا في ذلك على باطل.
[أهل الذكر] (1/24)
وكذا أجمعوا على أن قوله تعالى: { فاسألوا أهل الذكر إن كنتم لا تعلمون } نزلت فيهم عليهم السلام, ومن شك في ذلك بحث في كتبهم عليهم السلام وكتب أشياعهم رضي الله عنهم[5].
وفيهم من كتاب الله سبحانه من ذلك كثير, وقد روى اختصاصهم به الموالف والمخالف.
[أدلة السنة]
وكذلك سنة رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم مما يكثر ويطول, حتى أفاد العلم القطعي الذي لا يمكن دفعه بشك ولا شبهة.
_________________
[5]قال الإمام زيد بن علي عليه السلام في تثبيت الوصية:(فجعل الله عز وجل عند محمد صلى الله عليه وآله وسلم علم القرآن,وجعله ذكرا له وجعل الله علمه عند أهل بيته, وجعله ذكرا لهم, فمحمد وآل محمد هم أهل الذكر,وهم المسؤولون المبينون للناس,قال تعالى:{وأنزلنا إليك الذكر لتبين للناس}. وأخبر الله عز وجل أن أهله سيسألون من بعده؛ فقال: {وسوف تسألون}, فجعل عندهم علم القرآن, وأمر الناس بمسألتهم. وقال: {فاسألوا أهل الذكر إن كنتم لا تعلمون}, والذكر: هو القرآن. وقال: {وأنزلنا إليك الذكر لتبين للناس ما أنزل إليهم ولعلهم يتفكرون}, ولم يأمر المسلمين أن يسألوا اليهود والنصارى,[لأن بعض المفسرين فسر أهل الذكر بأهل الكتاب]وكيف يأمر الله تعالى أن نسأل اليهود والنصارى؟ أوينبغي لنا أن نصدقهم إذا قالوا؟ لأنا إذا سألناهم جعلوا اليهودية والنصرانية خيرا من الإسلام, فلم يكن الله ليأمرنا بمسألتهم ثم ينهانا عن تصديقهم, إنما أمرنا أن نسأل الذين يعلمون, ثم أمرنا أن نصدقهم ونطيعهم, فمن كذَّب آل محمد في شيء وضللهم فإنما يكذِّب الله, لأن الله تعالى قد اصطفاهم وأذهب عنهم الرجس, وطهرهم تطهيرا).
[حديث الثقلين] (/)
من ذلك قوله صلى الله عليه وآله وسلم: (( إني تارك فيكم ما إن تمسكتم به لن تضلوا بعدي أبدا: كتاب الله, وعترتي أهل بيتي, إن اللطيف الخبير نبأني أنهما لن يفترقا حتى يردا علي الحوض ))[6].
_________________
[6] أخرجه وفيه لفظ: (العترة): الإمام زيد بن علي عليه السلام في المجموع 404, والإمام علي بن موسى في الصحيفة 464, والدولابي في الذرية الطاهرة 166 رقم (228), والبزار 3/89 (864)عن علي عليه السلام.
وأخرجه مسلم 15/179, والترمذي 5/622 رقم (3788), وابن خزيمة 4/62 رقم (2357), والطحاوي في مشكل الآثار 4/368-369, وابن أبي شيبة في المصنف 7/418, وابن عساكر في تاريخ دمشق 5/369 (تهذيبه), والطبري في ذخائر العقبى 16, والبيهقي في السنن الكبرى 7/30, والطبراني في الكبير 5/166 رقم (4969), والنسائي في الخصائص 150 رقم (276), والدارمي 2/431, وابن المغازلي الشافعي في المناقب 234,236, وأحمد في المسند 4/367, وابن الأثير في أسد الغابة 2/12, والحاكم في المستدرك 3/148 وصححه وأقره الذهبي, عن زيد بن أرقم.
وأخرجه عبد بن حميد 107-108 (في المنتخب), وأحمد 5/182 و 189, والطبراني في الكبير 5/166, وأورده السيوطي في الجامع الصغير 157 رقم (2631), ورمز له بالتحسين, وهو في كنز العمال 1/186 رقم (945) وعزاه إلى ابن حميد وابن الأنباري عن زيد بن ثابت.
أخرجه أبو يعلى في المسند 2/197 و 376, وابن أبي شيبة في المصنف 7/177, والطبراني في الصغير 1/131 و 135 و 226, وأحمد في المسند 3/17 و 6/26, وهو في كنز العمال 1/185 رقم (943), وعزاه إلى البارودي, ورقم (944) وعزاه إلى ابن أبي شيبة وابن سعد وأبي يعلى, عن أبي سعيد الخدري.
وأخرجه الخطيب في التاريخ 8/442 عن حذيفة بن أسيد, وهو في الكنز 1/189.
وأخرجه الترمذي في السنن 5/621 رقم (3786), وذكره في كنز العمال 1/117 رقم (951), وعزاه إلى ابن أبي شيبة, والخطيب في المتفق والمفترق عن جابر بن عبدالله.
[حديث السفينة] (1/25)
وقوله صلى الله عليه وآله وسلم: (( مثل أهل بيتي فيكم كمثل سفينة نوح من ركبها نجا ومن تخلف عنها غرق وهوى ))[7].
[حديث النجوم]
وقوله صلى الله عليه وآله وسلم: (( النجوم أمان لأهل السماء, فإذا ذهبت النجوم من السماء أتى أهل السماء ما يوعدون, وأهل بيتي أمان لأهل الأرض فإذا ذهب أهل بيتي من الأرض أتى أهل الأرض ما يوعدون ))[8], إلى غير ذلك.
__________________
[7] أخرجه الإمام الهادي في الأحكام 2/555 بلاغا, وأخرجه الإمام أبو طالب في الأمالي 105, والإمام المرشد بالله في الأمالي الخميسية 1/ 151 و 156, وابن المغازلي الشافعي في المناقب 133, والحموئي في فرائد السمطين 2/246رقم (519), والطبراني في الكبير 3/45 رقم (2636), والحاكم في المستدرك 3/151 و 2/343 عن أبي ذر الغفاري, وقال الحاكم :هذا حديث صحيح على شرط مسلم ولم يخرجاه.
وأخرجه أبو نعيم في الحلية 4/306,والطبراني في الكبير 12/34 (12388), وابن المغازلي الشافعي في المناقب 132, والطبري في ذخائر العقبى 20, وقال :أخرجه الملاء. عن ابن عباس.
وأخرجه الإمام المرشد بالله في الأمالي الخميسية 1/154, والطبراني في الصغير 2/85 (852) عن أبي سعيد الخدري.
وأخرجه الإمام علي بن موسى الرضا في الصحيفة المطبوعة مع المجموع 464, والطبري في ذخائر العقبى 20 عن علي عليه السلام, وقال: أخرجه ابن السري.
وأخرجه الخطيب البغدادي في تاريخ بغداد 12/91 عن أنس بن مالك.
وأخرجه ابن المغازلي الشافعي في المناقب 233 عن سلمة بن الأكوع, بألفاظ مختلفة.
[8]أخرجه الإمام علي الرضا في الصحيفة 363, والإمام المرشد بالله في الأمالي الخميسية 2/152, والحموئي في فرائد السمطين 2/153, والطبري في ذخائر العقبى 17 عن علي عليه السلام.
وأخرجه محمد بن سليمان الكوفي في المناقب رقم (220 و 624), والإمام المرشد بالله 1/155, والطبراني في الكبير 7/22, والحموئي في فرائد السمطين 2/241 و 252, ورواه الهيثمي 9/174 وقال: رواه الطبراني. ورواه السيوطي في إحياء الميت 23 وقال: أخرجه ابن أبي شيبة ومسدد في مسنديهما, والحكيم الترمذي في نوادر الأصول والطبراني وأبو يعلى عن سلمة بن الأكوع. ومثله في تخريج شمس الأخبار 1/127.
وأخرجه الحاكم في المستدرك 2/448 عن جابر وصححه.
[عدد الأحاديث في أهل البيت] (/)
قال الديلمي رحمه الله: الأحاديث التي من روايات الفقهاء المتفق عليها- يعني في أهل البيت عليهم السلام- ألف وستمائة وخمسة أحاديث, غير ما ذكره أهل البيت عليهم السلام وشيعتهم رضي الله عنهم, منها ستمائة وخمسة وثمانون حديثاً تختص بعلي عليه السلام, وتسعمائة وعشرون تختص بالعترة عليهم السلام, كل واحد منها يدل على إمامتهم وفضلهم على سائر الناس.
وقال الإمام المنصور بالله(عبد الله بن حمزة) عليه السلام ما معناه: الأحاديث فيهم عليهم السلام من رواية الموالف والمخالف قريب من ألف ألف حديث.
[فضل شيعة أهل البيت رضوان الله عليهم]
وفي شيعتهم عليهم السلام قوله صلى الله عليه وآله وسلم: (( ما أحبنا أهل البيت أحد فزلت به قدم إلا ثبتته قدمٌ حتى ينجيه الله يوم القيامة ))[9].
وقوله صلى الله عليه وآله وسلم: (( يا علي من أحب ولدك فقد أحبك, ومن أحبك فقد أحبني, ومن أحبني فقد أحب الله, ومن أحب الله أدخله الله الجنة, ومن أبغضهم فقد أبغضك, ومن أبغضك فقد أبغضني, ومن أبغضني فقد أبغض الله, ومن أبغض الله كان حقيقا على الله أن يدخله النار ))[10] إلى غير ذلك مما يكثر ويطول, ويفيد العلم الذي لا يمكن دفعه.
__________________
[9] رواه الإمام الهادي عليه السلام كما في درر الأحاديث النبوية 51.
[10] رواه الإمام الهادي عليه السلام في الأحكام 2/555, وله شواهد كثيرة, انظر: فضائل الخمسة من الصحاح الستة 3/249
الفصل الثالث في ذكر وقوع الاختلاف من أهل البيت عليهم السلام والإرشاد إلى معرفة أسبابه: (1/26)
[أسباب وقوع الاختلاف بين أهل البيت عليهم السلام]
[السبب الأول: السهو والغلط]
وذلك أنه لما تقرر وجوب اتباعهم عليهم السلام, نظرنا في أقاويلهم وإذا الخلاف قد وقع بينهم, وإذا له أسباب, منها: السهو والغلط.
[حكم السهو والغلط في الكتاب]
وقد نبه الله سبحانه على ذلك وعفى عنه, قال تعالى مرشداً أو ملقناً: { ربنا لا تؤاخذنا إن نسينا أو أخطأنا }(البقرة: 286) ,وقال تعالى: { وليس عليكم جناح فيما أخطأتم به }(الأحزاب: 5).
[حكم السهو والغلط في السنة]
وكذلك السنة شرفها الله تعالى قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم :((رفع عن أمتي الخطأ والنسيان)) الخبر, إلى غير ذلك, نحو ما تقدم من خبري أبي هريرة وعقبة بن عامر.
[أقوال الأئمة عليهم السلام في السهو والغلط]
وكذلك جاء عن الأئمة كما ذكره الهادي عليه السلام في كتاب(القياس), وستقف على ذلك إن شاء الله تعالى بلفظه, وكما ذكره المؤيد بالله عليه السلام في (الإفادة) ولفظه: (يجوز أن يخطئ الإمام ويسهو فيما يفتي ويجتهد من المسائل, ولا خلاف في ذلك إلا عن بعض الإمامية).
وحكي في (سيرة المؤيد بالله عليه السلام) عنه عليه السلام أنه قال: (وددت أني أتمكن مما أفتيت به فأحرقه). قلت :وإنما قال ذلك عليه السلام لأنه قد تبين أن الحق على خلاف ذلك, إذ لو كان حقاً لما قال ذلك؛ لأنه بجب إظهار الحق ولا يجوز تحريفه لقوله تعالى: { إن الذين يكتمون ما أنزلنا من البينات والهدى من بعد ما بيناه للناس في الكتاب أولئك يلعنهم الله ويلعنهم اللاعنون }(البقرة:9 15).
ومن ذلك ما قاله الإمام المتوكل على الله أحمد بن سليمان عليه السلام في كتاب الحدود من (كتاب أصول الأحكام) ولفظه: (لأن من يباشر مثل الإمامة لا يبعد أن يكثر خطأُه, لأن كَثْرَته بحسب كثرة الأعمال). (1/27)
ومن ذلك ما قاله الإمام المنصور بالله عليه السلام في كتاب الوقف من (المهذب) ولفظه: (وأما قول السائل: هل ينقض حكم الهادي عليه السلام ؟ فنحن نهاب ذلك لعظم حاله فيما أضيف إليه, كما نهاب إثبات ما قامت الأدلة على بطلانه, بل نقول لا يمتنع وقوع السهو في المسألة وأشباهها لاسيما على مثله عليه السلام, فإن كثيراً منها أملاها وهو على ظهر فرسه تجاه العدو). وكذلك ذكر المتأخرون عليهم السلام جواز الخطأ على الحكام المجتهدين, في باب القضاء من مصنفاتهم.
[السبب الثاني من أسباب الخلاف الخروج إلى مذاهب الفرق]
ومن أسباب الخلاف بينهم عليهم السلام خروج بعضهم إلى غيرهم من سائر الفرق كالخارجين إلى الروافض وإلى مذهب المُطََرَفِّيَّة.
الفصل الرابع في الإرشاد إلى ما يجب من العمل في اتباع أهل البيت عليهم السلام بعد اختلافهم: (1/28)
وقد تضمن ذلك مطلبين:
المطلب الأول:[في وجوب النظر في صحيح الأدلة]
إنّا لما علمنا وقوع الاختلاف بينهم وقد أُمرنا باتباعهم, ونُهينا عن التفرق في الدين, وعلمنا أسباب وقوع ذلك الخلاف بينهم, وأنه إنما وقع خطأً أو سهواً, وإن عُذِروا عليه فليس بحق, وأنه ليس منا بسهو ولا خطأ فنعذر عليه, وكذلك ما شورك فيه من أقوال أهل البدع ليس بحق, وجب علينا أن ننظر ما يجب علينا في ذلك.
[أدلة الكتاب على وجوب النظر في صحيح الأدلة]
فنظرنا في كتاب الله تعالى فإذا هو ناطق بوجوب عرض المختلف فيه على الكتاب العزيز, وما صح من سنة الرسول صلى الله عليه وآله وسلم, قال تعالى: { يا أيها الذين آمنوا أطيعوا الله وأطيعوا الرسول وأولي الأمر منكم فإن تنازعتم في شيء فردوه إلى الله والرسول }(النساء: 59) ,فأمر تعالى بطاعته وطاعة رسوله وأولي الأمر, وهم أهل البيت عليهم السلام؛ لما مر من الأدلة على وجوب اتباعهم, والمطاع متبوع وليس بتابع, ولوقوع الإجماع على صلاحية ذلك فيهم, والاختلاف فيمن سواهم, وقفّاه تعالى برد ما تنوزع فيه إلى الله والرسول, والمختلف فيه متنازع فيه, والرد إلى الله هو الرد إلى كتابه, والرد إلى رسوله هو إلى سنته الجامعة غير المفرقة, وهذا ـ أعني تفسير الرد إلى الله والرسول ـ مأثور عن أمير المؤمنين عليه السلام, ولا أحفظ في ذلك خلافاً بين العترة عليهم السلام.
قال تعالى: { وما اختلفتم فيه من شيء فحكمه إلى الله }(الشورى: 10) ,أي :مردود إلى ما جاء عن الله تعالى في كتابه العزيز وعلى لسان رسوله الكريم صلى الله عليه وآله وسلم. (1/29)
[أدلة السنة على وجوب النظر في صحيح الأدلة]
وكذلك السنة كما تقدم ذكره عن أمير المؤمنين عليه السلام أنه قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يقول: (( أخبرني جبريل عليه السلام فقال: إن أمتك مختلفة بعدك فقلت: أين المخرج يا جبريل ؟ فقال: كتاب الله ... الخبر )).
[عدم ورود دليل على جواز اتباع أفراد العترة إلا علياً عليه السلام]
ولم يرد دليل على-جواز اتباع فرد من العترة في غير طاعة الإمام فيما يترتب على صحة إمامته, كالحدود والجمعة- عند الاختلاف غير علي عليه السلام, وذلك معلوم باستقراء الكتاب والسنة, كما قال تعالى: { أن أقيموا الدين ولا تتفرقوا فيه }(الشورى: 13) ,واتباع الآحاد مع الاختلاف مؤدٍ إلى التفرق في الدين. وكما قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: (( مثل أهل بيتي فيكم كمثل سفينة نوح من ركبها نجى )), فذكر صلى الله عليه وآله وسلم أهل بيته جميعاً لا أفرادهم.
[أدلة وجوب طاعة الوصي]
[علي مع الحق]
وأما علي عليه السلام فمخصوص بما تواتر معنى وأفاد القطع الذي لا يُدْفع, من نحو قوله صلى الله عليه وآله وسلم: (( علي مع الحق والحق مع علي ))[11].
___________________
[11] أخرجه الإمام أبو طالب في الأمالي الباب (3), ومن طريقه أخرجه الحموئي في فرائد السمطين 1/176 (140). وأخرجه الدولابي في الكنى 2/89, وابن عساكر في ترجمة الإمام علي 3/154 من طريق مالك بن جعونه, عن أم سلمة. وأخرجه الخطيب البغدادي في تاريخ بغداد 14/321, والطبراني في المعجم الكبير 23/329-330 رقم (756) و 395-396 رقم (946), ورواه الهيثمي في مجمع الزوائد 9/134-135, وقال: رواه الطبراني عن أم سلمة قالت: سمعت رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يقول: (علي مع الحق والحق مع علي, ولن يفترقا حتى يردا علي الحوض يوم القيامة).
وفي الباب عن سعد بن أبي وقاص, رواه الهيثمي أيضا في مجمع الزوائد 7/235, وقال: رواه البزار, وفيه سعد بن شعيب, ولم أعرفه, وبقية رجاله رجال الصحيح.
هو: سعد بن شبيب الحضرمي, أبو عثمان المصري رفيق بن إدريس, خفي عليه لمكان التصحيف, وقد ترجمه غير واحد, وقال الجوزجاني: شيخ صالح صدوق, وذكره المزي في تهذيب الكمال 10/498, وقال: روى له النسائي. وله ذكر في تهذيب التهذيب 4/42,
والخلاصة 139.
وعن أبي سعيد أخرجه ابن عساكر في تاريخ دمشق 2/153 (تهذيبه), وابن المغازلي الشافعي في المناقب 244, وأبو يعلى الموصلي في المسند 2/318 رقم (1052). وقال الهيثمي في مجمع الزوائد 7/235: رواه أبو يعلى ورجاله ثقات.
وعن علي أخرجه الحاكم في المستدرك 3/124, والترمذي في السنن 5/592 رقم (3714).
وقال المبار كفوري معلقا على الحديث: أي اجعل الحق دائرا وسائرا (حيث دار) أي علي, ومن ثمة كان أقضى الصحابة وأعلمهم. تحفة الأحوذي 10/217. وقال: رواه أبو يعلى ورجاله ثقات.
وروى ابن قتيبة في الإمامة والسياسة 1/78, عن محمد بن أبي بكر أنه دخل على أخته عائشة, فقال لها: أما سمعت رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يقول: (علي مع الحق, والحق مع علي), ثم خرجت تقاتلينه.
[من ترك علي مرق من الدين] (1/30)
وقوله صلى الله عليه وآله وسلم: (( خذوا بحجزة هذا الأنزع, فإنه الصديق الأكبر, والهادي لمن اتبعه, ومن اعتصم به أخذ بحبل الله, ومن تركه مرق من دين الله, ومن تَخَّلف عنه محقه الله, ومن ترك ولايته أضله الله, ومن أخذ ولايته هداه الله )).
[علي مدينة العلم]
وقوله صلى الله عليه وآله وسلم: (( أنا مدينة العلم وعلي بابها ))[12], وذلك كثير مما يطول ولا يتسع له هذا المسطور, وهو عليه السلام لا يخالف الكتاب و السنة ولا جماعةُ العترة عليهم السلام تخالفه.
وإلى ما قد تقرر من عدم جواز اتباع الواحد من العترة عليهم السلام عند الاختلاف- في غير ما يترتب على صحة إمامة الإمام- غير علي عليه السلام, ومن وجوب العرض مع ذلك على كتاب وسنة رسوله ذهب قدماء العترة عليهم السلام ومن وافقهم من المتأخرين.
[قول علي في الفُرْقَة]
قال علي عليهم السلام في بعض خطبه :(وإن الله سبحانه وتعالى لم يعط أحداً بفُرقة خيراً فيمن مضى ولا فيمن بقي), وذلك تصريح منه عليه السلام بتحريم اتباع الآحاد عند الاختلاف, لوقوع الفرقة بذلك ضرورة.
وقال عليه السلام في كلام كَلَّمَ به الخوارج: (وإياكم والفرقة فإن الشاذ من الناس للشيطان, كما أن الشاذة من الغنم للذئب).
قلت وبالله التوفيق :والمراد بالشاذ هو من شذ عن الحق, فإنهم للشيطان ولو كثروا, كالشاذة من الغنم عن رعاتها, فإنها للذئب ولو كثرت.
__________________
[12] رواه الإمام الهادي عليه السلام في كتاب العدل والتوحيد 69 (رسائل في العدل والتوحيد), ورواه الشريف الرضي في مجازات السنة 203-204.
وأخرجه الحاكم في المستدرك 3/126-127 من طرق وصححه, والطبراني في الكبير 11/65-66 رقم (11061), وابن أبي حاتم في الجرح والتعديل 6/99 وقال: سألت أبي عنه فقال: ما أراه إلا صدقا, وابن المغازلي الشافعي في المناقب 81 رقم (121), و82 رقم (123), و83 رقم (124), وابن الأثير في أسد الغابة 4/22, والحموئي في فرائد السمطين 1/98 رقم (67). والسيوطي في الجامع الصغير 1/161 رقم (2705), وابن عساكر في تاريخ دمشق 2/466 رقم (992)( ترجمة الإمام علي بتحقيق المحمودي), والديلمي في الفردوس 1/44 رقم (106), والخطيب البغدادي في تاريخ بغداد 4/348 و 7/173 و 11/48, 49, 204, والحافظ السمرقندي كما في تذكرة الحفاظ 4/1231 وصححه عن ابن عباس.
وأخرجه أبو نعيم في معرفة الصحابة كما في كنز العمال 11/614 رقم (32978), وابن المغازلي الشافعي في المناقب 82 رقم (122) و 85(126), ومحب الدين الطبري في الرياض 3/159, وفي الذخائر 77, وابن عساكر في تاريخ دمشق 2/465 رقم(991) (ترجمة الإمام علي بتحقيق المحمودي), والحاكم الحسكاني في شواهد التنزيل 1/334 و 2/274 عن علي غليه السلام.
وأخرجه الحاكم في المستدرك 3/127, وابن عدي في الكامل 1/195, وابن المغازلي الشافعي في المناقب 81 (120) و 84 (125) عن جابر بن عبدالله. وصححه الحاكم كما في 3/127, والسيوطي, والطبري ويحيى بن معين كما في الكنز 13/148, وتاريخ بغداد 11/49, وصححه الحافظ السمرقندي كما في التذكرة 4/1231.
[كلام علي في وجوب طاعته] (1/31)
وقال عليه السلام في بعض خطبه-وهو على منبر الكوفة- :(والله لو تبعتموني ما عال عائل الله, ولا طاش سهم من كتاب الله, ولا اختلف اثنان في حكم الله تعالى, ولأكلتم من فوقكم ومن تحت أرجلكم).
وقال عليه السلام في بعض خطبه: (فاسألوني قبل أن تفقدوني, فوالذي نفسي بيده لا تسألوني عن شيء فيما بينكم وبين الساعة, ولا عن فئة تهدي مائة وتضل مائة, إلا أنبأتكم بناعقها وقائدها وسائقها, ومُنَاخَ ركابها, ومحط رحالها, ومن يقتل من أهلها قتلا,ً ومن يموت منهم موتاً ...) إلى آخر كلامه عليه السلام.
وروى الهادي عليه السلام في (الأحكام) عن علي رضوان الله عليه أنه كان يقول :(والله لو أطعتموني لقضيت بينكم بالتوراة حتى تقول التوراة :اللهم قد قضى بي, ولقضيت بينكم بالإنجيل حتى يقول الإنجيل :اللهم قد قضى بي, ولقضيت بينكم بالقرآن حتى يقول القرآن: اللهم قد قضى بي, ولكن والله لا تفعلون, والله لا تفعلون).
قلت وبالله التوفيق :وهذا كما تقرر بالأدلة من أنه يجب اتباعه عليه السلام وحده عند الاختلاف, وأما وجه دلالة كلامه الآخر على ذلك فواضح, وأما الأول فلأنه عليه السلام حث على سؤاله وذكر سبب ذلك, والسبب لا يوجب قصر اللفظ عليه كما تقدم بيانه.
[علي يذم اتباع الهوى في الحكم الشرعي] (1/32)
وقال عليه السلام في بعض خطبه: (واعلموا عباد الله أن المؤمن يستحل العام ما استحل عاماً أول, ويحرم العام ما حرم عاما أول, وإن ما أحدث الناس لا يُحَلُّ لكم[شيئاً] مما حرم عليكم, ولكن الحلال ما أحل الله والحرام ما حرم الله).
قلت وبالله التوفيق :وهذا الكلام منه عليه السلام قاضٍ عند اختلاف الناس وفقد معرفة مذهبه, لوجوب العرض على كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وآله وسلم, ليعرف ما أحل الله سبحانه وما حرم, إذ لا سبيل إلى معرفة الشرعيات من غيرها, وأما إذا عُرف مذهبه عليه السلام فلا يجب العرض عليهما, لأنه المترجم عن كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وآله وسلم بدليل ما مرَّ.
[حكم الله واحد]
وقال عليه السلام في بعض خطبه): فإنه لم يخف عنكم شيئاً من دينه, ولم يترك شيئا رضيه أو كرهه إلا وجعل له علما باديا,ً و آيةً محكمة تزجر عنه, أو تدعوا إليه, فَرِضَاه فيما بقي واحد, وسخطه فيما بقي واحد).
قلت وبالله التوفيق :وهذا كالأول. وإجماع قدماء العترة عليهم السلام على أن قول علي عليه السلام حجة, وبذلك قال من وافقهم من المتأخرين وذلك نص صريح منهم عليهم السلام, يعني وجوب اتباعه عليه السلام عند الاختلاف.
[وجوب رد أقوال أحاد العترة عليهم السلام إلى الكتاب والسنة عند الاختلاف] (1/33)
[قول الإمام زيد بن علي عليهما السلام في ذلك]
وأما غيره-[يعني علياً] عليه السلام- من سائر العترة, عند الاختلاف, فحكى الديلمي رحمه الله, عن زيد بن علي عليه السلام أنه قال: (إنما نحن مثل الناس ، منا المخطئ ومنا المصيب, فسائلونا ولا تقبلوا منا إلا ما وافق كتاب الله وسنة نبيئه صلى الله عليه وآله وسلم)[13].
[قول الإمام محمد الباقر والإمام جعفر الصادق عليهما السلام]
ورُوِيَ عن محمد بن علي الباقر وولده جعفر وغيرهما من القدماء أنهم قالوا: (لا تقبلوا منا ما خالف كتاب الله).
[قول الإمام القاسم بن إبراهيم عليهما السلام في ذلك]
وروى الديلمي رحمه الله, عن عبد الله بن زيد العنسي رحمه الله تعالى, قال :بلغنا بإسناد صحيح إلى القاسم بن إبراهيم عليه السلام, أنه قال: (أدركت مشيخة آل محمد من ولد الحسن والحسين وما بين أحد منهم اختلاف, ثم ظهر أحداث فتابعوا العامة في أقوالها).
قلت وبالله التوفيق :وهذا دليل أنه عليه السلام لم يقبل متابعة الآحاد منهم عند الاختلاف, لأنه لا يعرف إلا اجتماع مشايخ آل محمد صلى الله عليه وآله وسلم حتى استنكر متابعة الأحداث للعامة.
وروى بعض المتأخرين عنه عليه السلام ما معناه أنه يقول بتقليد جماعة أهل البيت عليهم السلام.
________________
[13] وقال عليه السلام في جواب على سؤال: (وكتبت تسألني عن أهل بيتي وعن اختلافهم. فاعلم يرحمك الله تعالى أن أهل بيتي فيهم المصيب وفيهم المخطئ, غير أنه لا تكون هداة الأمة إلا منهم, فلا يصرفك عنهم الجاهلون, ولا يزهدك فيهم الذي لا يعلمون, وإذا رأيت الرجل منصرفا عن هدينا, زاهدا في علمنا, راغبا عن مودتنا, فقد ضل ولا شك عن الحق,وهو من المبطلين الضالين, وإذا ضل الناس عن الحق, لم تكن الهداة إلا منا, فهذا قولي يرحمك الله تعالى في أهل بيتي).
وقال في جواب سؤال لآخر: (فمن جاءك عني بأمر أنكره قلبك وكان مباينا لما عهدته مني, ولم تفقهه عني, ولم تره في كتاب الله عز وجل جائزا, فأنا منه برئ, وإن رأيت ذلك في كتاب الله عز وجل جائزا, وللحق مماثلا, وعهدت مثله ونظيره مني, ورأيته أشبه بما عهدته عني, وكان أولى بي في التحقيق, فاقبله فإن الحق من أهله ابتدأ وإلى أهله يرجع).
[تحريم الأخذ بالأخَفِّ اتباعاً للهوى] (1/34)
وفي (الغيث) وغيره ما معناه :أنه يُحَرِّم الأخذ بالأخف اتباعاً للهوى إجماعا,ً فإذا كان يقول بتقليد جماعة أهل البيت عليهم السلام, ويقول بتحريم العمل بالأخف اتباعاً للهوى كما تضمنته حكاية الإجماع, كان الحاصل من مذهبه عليه السلام أنه يقول بوجوب العرض على كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وآله وسلم, والعمل بالأحوط, وهو الأشق, وذلك يرجع إلى إجماعهم كما يأتي بيانه إن شاء الله تعالى, فتأمل ذلك.
[وقال القاسم بن إبراهيم
في الجزء الأول من كتاب (الكامل المنير) في الرد على الخوارج ما لفظه-بعد أن ذكر جماعة بأسمائهم- :رووا عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم روايات الزور, وأحاديث الفجور, المدخول عليهم فيها,لتقوم بذلك أمر رئاستهم, زعموا أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أمر بما نهى الله عنه, وذلك أن الله عز وجل نهى عن الاختلاف, وزعموا أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أمر به, إذ قال-زعموا- :(إن أصحابي كالنجوم بأيهم اقتديتم اهتديتم)[14].
وفي (المسائل) عنه عليه السلام أنه سئل عن الاختلاف الذي بين أهل البيت عليهم السلام فقال :يؤخذ من ذلك بما أجمعوا عليه ولم يختلفوا فيه, وأما ما اختلفوا فيه؛ فما وافق الكتاب والسنة المعروفة فقول من قال به فهو المقبول المعقول].
__________________________
[14] حكم كثير من المحدثين بأن هذا الحديث موضوع, فقال أحمد بن حنبل: هذا الحديث لا يصح. رواه ابن عبدالبر في جامع العلم 2/91, وقال: هذا إسناد لا تقوم به حجة. وابن حزم في الأحكام 6/82 عن جابر, وقال: هذه رواية ساقطة. وأورده الألباني في سلسة الأحاديث الضعيفة رقم (58), وقال: موضوع.
[قول الإمام الهادي عليه السلام في ذلك] (1/35)
وقال الهادي عليه السلام في آخر خطبة (الأحكام): (فيجب عليه- أي المسترشد- أن يطلب من ذلك ما ينبغي له طلبه من علم أهل بيت نبيئه صلى الله عليه وآله وسلم, فيتبع من ذلك أحسنه وأقربه إلى الكتاب).
وقال عليه السلام في كتاب(القياس) ما لفظه: (فإن قلت أيها السائل :قد نجد علماء كثيراً منهم ممن يُنْسَب إليه علمهم مختلفين في بعض أقاويلهم, مفترقين في بعض مذاهبهم, فكيف العمل في افتراقهم؟ وإلى من نلجأ منهم؟ وكيف يعمل باختلافهم؟ وقد حَضَضْتنا عليهم, و أعلمتنا أن كل خير لديهم, وأن الفرقة التي وقعت بين الأمة هي من أجل مفارقة الأئمة من آل الرسول صلى الله عليه وآله وسلم, قلنا لك قد تقدم بعض ما ذكرنا لك في أول هذا الكلام ونحن نشرح لك ذلك بأتم التمام إن شاء الله تعالى:
إن اختلاف آل رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم-أيها السائل عن اختلافهم-لم يقع ولا يقع أبداً إلا من وجهين:
فأما أحدهما :فمن طريق النسيان للشيء بعد الشيء, والغلط في الرواية والنقل, وهذا أمر يسير حقير قليل, يُرجِعُ النَّاسيَ منهم-عن نسيانه إلى قوله الثابت-المدّكرُ عند الملاقاة والمناظرة.
والمعنى الثاني وهو أكثر الأمرين وأعظمهما وأجلهما خطراً وأصعبهما, وهو أن يكون بعض من يؤثر عنه تعلم من غير علم آبائه, واقتبس علمه من غير علم أجداده, ولم يستنر بنور الحكمة من علمهم, ولم يستضئ عند إظلام الأقاويل بنورهم, ولم يعتمد عند تشابه الأمور على فقههم, بل جَنَبَ عنهم إلى غيرهم, واقتبس ما هو في يده من علم أضدادهم, فصار علمه لعلم غيرهم مشابهاً, وصار قوله لقولهم صلوات الله عليهم مجانباً, إذ علمه من غيرهم اقتبسه, وفهمه من غير زِنَادِهم أزْدَنَده, فاشتبه أمره وأمر غيرهم, وكان علمه كعلم الذين تعلم من علمهم, وقوله كقول من نظر في قوله, وضوء نوره كضوء العلم الذي في يده, وكان هو ومن اقتبس منه سواء في المخالفة لأهل بيت رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم والإقتداء, وإن كان منهم في نسبه, فليس علمهم كعلمه, ولا رأيهم-فيما اختلف فيه الحكم-كرأيه, والحجة على من خالف من آل رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم كالحجة على غيرهم من سائر عباد الله, ممن خالف الأصول الموصلة وجَنَبَ عنها. (1/36)
[المعتمد من الأقوال هو الكتاب والسنة] (1/37)
والأصل الذي يثبت علم من اتبعه, ويبين قول من قال به, ويصح قياس من قاس عليه, ويجوز الإقتداء بمن اقتدى به, فهو كتاب الله تبارك وتعالى المحكم, وسنة رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم اللذان جُعلا لكل قول ميزاناً, ولكل نور وحق برهاناً, لا يضل من اتبعهما, ولا يغوى من قصدهما, حجة الله القائمة, ونعمته الدائمة. فمن اتبعهما في حكمهما, واقتدى في كل أمر بقدوتهما, وكان قوله بقولهما, وحكمه في كل نازلة بهما دون غيرهما؛ فهو المصيب في قوله, والمُعْتَمَدُ عليه في علمه, القاهر لغيره في قوله, الواجب على جميع المسلمين من آل رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ومن غيرهم أن يرجعوا إلى قوله, ويتبعوا من كان كذلك في علمه, لأنه على الصراط المستقيم الذي لا اعوجاج فيه ولا دَخَل, ولله الحمد عليه. فمن كان على ما ذكرنا, وكان فيه ما شرحنا من الاعتماد على الكتاب والسنة والاقتباس منهما, والاحتجاج بهما وكانا شاهدين له على قوله, ناطقين له بصوابه, حجة له في مذهبه, فواجب على كل واحد أن يقتدي به, ويرجع إلى حكمه.
[العمل عند اختلاف آل الرسول صلى الله عليه وآله وسلم] (1/38)
فإذا جاء شيء مما يختلف فيه آل رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم مَيَّزَ الناظر المُمَيِّزُ السامع لذلك بين أقاويلهم, فمن وجد قوله متبعاً للكتاب والسنة, وكان الكتاب والسنة شاهدين له بالتصديق؛ فهو على الحق دون غيره, وهو المُتَّبَعُ لا سواه, الناطق بالصواب, المتبع لعلم آبائه في كل الأسباب. وإن ادعى أحد من آل رسول صلى الله عليه وآله وسلم أنه على علم رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وأنه مقتد بأمير المؤمنين والحسن والحسين صلوات الله عليهم, فاعلم هديت أن علم رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم لا يخالف أمر الله و وحيه, فاعرض قول من ادعى ذلك على الكتاب والسنة, فإن وافقهما ووافقاه, فهو من رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم, وإن خالفهما وخالفاه فليس منه صلى الله عليه وآله وسلم) إلى آخر كلامه.
وقال في آخر كتاب (الأحكام) :( إن آل محمد صلى الله عليه وآله وسلم لا يختلفون[15] إلا من جهة التفريط, فمن فرط منهم في علم آبائه ولم يتبع علم أهل بيت نبيئه صلى الله عليه وآله وسلم أباً فأباً حتى ينتهي إلى علي رضوان الله عليه والنبي صلى الله عليه وآله وسلم, وشارك العامة في أقاويلها, واتبعها في شيء من تأويلها, لزمه الاختلاف, ولاسيما إذا لم يكن ذا نظر وتمييز, وردٍ لما ورَدَ عليه إلى الكتاب, وردِّ كل متشابه إلى المحكم. فأما من كان منهم مقتبساً من آبائه أباً فأباً حتى ينتهي إلى الأصل غير ناظر في قول غيرهم, ولا يلتفت إلى قولٍ لأيٍّ سواهم, وكان مع ذلك مميزاً فَهِماً حاملاً لما يأتيه على الكتاب والسنة المجمع عليهما, والعقل الذي ركبه الله حجة فيه, وكان راجعاً في جميع أمره إلى الكتاب والسنة, ورد المتشابه إلى المحكم, فذلك لا يضل أبداً ولا يخالف الحق أصلا)ً. (1/39)
[قول الإمام الناصر الأطروش عليه السلام في ذلك]
وقال الناصر عليه السلام ما لفظه: (فإذا نظر الطالب في اختلاف علماء آل الرسول صلى الله عليه وآله وسلم فله أن يتبع قول أحدهم إذا وقع له الحق بدليل, من غير طعن ولا تخطئة للباقين). رواه الإمام المنصور بالله الحسن بن بدر الدين عليهما السلام في كتاب (أنوار اليقين).
__________________
[15] أي في أصول المسائل فأما مسائل الاجتهاد فهم يختلفون قطعاً وانظر كلام الإمام الناصر عليه السلام في السفر الرابع قبل الأخير فهو صريح في اختلافهم وقد نص على ذلك الإمام الهادي عليه السلام في الأحكام, فتأمل والله ولي التوفيق. تمت سماع شيخنا الحجة علامة الآل مجد الدين بن محمد بن منصور المؤيدي أيده الله تعالى آمين .
[قول الإمام المؤيد بالله والإمام الداعي عليهما السلام] (1/40)
[القول بوجوب العمل بالظن عند من أمكنه]
وفي حاشية (الفصول) ما لفظه: ( قال المؤيد بالله عليه السلام: يجب التنقير عن الأدلة على المميز الذي لم يبلغ درجة الاجتهاد حتى يغلب على ظنه رجحان ما يعمل به ). وقال فيها ما لفظه: ( قال الداعي عليه السلام :من انتهى في العلم إلى حالة يمكنه الترجيح بين الأقوال وَجَب عليه ذلك, وإن لم يكن يبلغ درجة الاجتهاد, ولم يجز له التقليد).
[وجوب تقليد الأولى، وعدم إمكان معرفته إلا بالعود إلى الكتاب]
وفي(شرح الإفادة) عن المؤيد بالله عليه السلام: (وإن لم يكن من أهل الاجتهاد فعليه أن يقلد من كان عنده من المجتهدين أولى, وليس له أن يعدل إلى غيره, فإن عدل عن قول من رأى تقليده أولى كان مخطئاً). انتهى بمعناه وأكثر لفظه. وهذا مؤدٍ لمعنى ما ذكرنا, لأنه لا يكون بعض المقلدين أولى بالتقليد من غيره, حتى يكون قوله أرجح, ولا يكون أرجح إلا بشاهد من الكتاب والسنة إذ لا يُهدى إلى الشرعيات إلا بهما.
[قول الإمام أبي طالب عليه السلام في ذلك]
وقال أبو طالب عليه السلام في شرحه على كتاب (البالغ المدرك)-أحد كتب الهادي عليه السلام- ما لفظه: ( ولابدَّ للعاقل من أن يكون على مذهب يشهد له به العقل والكتاب والسنة, لينجو من تخاليط أهل الأهواء ).
[قول الإمام أحمد بن سليمان عليه السلام في ذلك] (1/41)
وقال الإمام المتوكل على الله أحمد بن سليمان في كتاب (حقائق المعرفة) ما لفظه: ( فوجب على كل عاقل أن ينظر ويختار مذهباً يشهد له به العقل والكتاب والرسول والإجماع, وأن يجتهد في إصابة السنة ).
[قول الإمام المنصور بالله عبد الله بن حمزة عليهما السلام]
وقال الإمام المنصور بالله عبد الله بن حمزة عليه السلام: ( ربما احتجوا بقول يضيفونه إلى بعض آبائنا عليهم السلام جهلاً بأحكام الإضافة, وهو لم يصح, فإن صح وجب تأويله على موافقة كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وآله وسلم وحجج العقول ... ) إلى قوله عليه السلام: ( هذا الذي يجب عليه حمل كلام الأئمة عليهم السلام لئلا تتناقض حجج الله وبيناته, وتنسب إلى أئمة الهدى بمخالفة نصوص الكتاب وأدلة العقول). ذكره السيد حميدان في منتزعه من كتب المنصور بالله عليه السلام.
[تقليد جماعة العترة]
وكذا ذهب جماعة من متأخري العترة عليهم السلام إلى القول بتقليد جماعة العترة عليهم السلام.
وقد وقع الإجماع من العترة عليهم السلام وغيرهم على تحريم الأخذ بالأخَفِّ اتباعاً للهوى ذكر ذلك في (الغيث) وغيره.
[حاصل الكلام في المعمول به عند الخلاف] (1/42)
فكان حاصل كلام من قال بتقليد جماعة العترة عليهم السلام من المتأخرين:
أنه يجب العمل بما وقع إجماعهم عليه، ثم بالأشق-وهو يعود إلى إجماعهم كما يأتي بيانه إن شاء الله تعالى-ثم التخيير فيما لا ينفك الواجب عنه, وسيأتي الدليل إن شاء الله تعالى على صحة ذلك وجوازه. ولا يجوز الأخذ بالأخف إلا لضرورة أو بطريق شرعية, وإلا لكان اتباعاً للهوى, وهم يقولون بتحريمه كما تضمنته حكاية الإجماع.
وهذا عين ما ذهبنا إليه من وجوب الأخذ بالإجماع, وإلا وجب العرض على كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وآله وسلم؛ لأن الأخف إن أخذ به لضرورة فقد وقع الإجماع على جوازه, إذ قد صار حكمه كحكم أكل الميتة المباح للضرورة، وإن أخذ به بطريق شرعية, فذلك معنى ما أوجبنا من العرض على كتاب الله, إذ مرادنا أن لا يؤخذ بشيء من المختلف فيه إلا بطريق من الكتاب والسنة .
المطلب الثاني: [كيفية العمل في المختلف فيه وأقسامه]
إنه لما تقرر وجوب عرض الأقوال عند الاختلاف على الكتاب والسنة, عرفنا أن ذلك متعذر على كثير من الناس.
[أقسام الأحكام المختلف فيها]
والأحكام المختلف فيها على قسمين:
قسم يمكن العمل بالإجماع فيما اختلفوا[16] فيه منها،
وقسم لا يمكن.
_______________________________
[16] أما ما صح دليله, ووضح سبيله, من كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وآله وسلم فالواجب اتباعه والعمل به وإن خالف فيه من خالف . فخلاف المخالف لا يوجب طرح ما صح عن الله سبحانه وعن رسوله صلى الله عليه وآله وسلم . وقد رجح الإمام القاسم عليه السلام نفسه كثير من المسائل وإن كان الإجماع لا يتم إلا بتركها, وذلك مثل القنوت بغير القرآن اللهم اهدني فيمن هديت ... الخ ، وقال :إنه متواتر وأن له حكمه . وكذلك رجح الإمام الهادي إلى الحق عليه السلام التسبيح في الآخرتين مع أن من قرأ فيهما بالفاتحة تصح صلاته بالإجماع وصلاة من سبح فيهما مختلف فيها ، إلى غير ذلك من المسائل التي لا يسعها المحل . وجعْلُ الإمام رفع اليدين في الصلاة من المسائل المختلف في صحة صلاة من فعلها لا يستقيم فإن ذلك فعل يسير لا يوجب فساد الصلاة بالإجماع, وإنما قالوا تفسد إن تركهما كثيرا,ً مع أن رفعهما يكون قبل الدخول في الصلاة, مع أن ظاهر كلام الإمام الحسن بن يحيى بن الحسين بن زيد عليه السلام يقضي بوجوب ذلك كما حكاه عنه في شرح الهداية, فلم يتخلص التارك بالإجماع والحقيقة أنه لا معنى لإدخال رفعهما في هذا الباب أصلاً فقد صحت الرواية برفعهما عند تكبيرة الإحرام في جميع كتب أهل البيت عليهم السلام المعتمدة مع كتب سائر الأمة ، منها :مجموع الإمام الأعظم زيد بن علي عليه السلام المتلقى بالقبول عند آل محمد عليهم الصلاة والسلام ، وأحكام الإمام الهادي إلى الحق عليه السلام, روى ذلك عن أبيه عن جده عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم في صلاة الجنازة, ولم يقل هو ولا غيره أنه خاص بها, وهي من جملة الصلوات بلا شك, وأثبت الرواية فيها عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم على العموم بكثرة في المنتخب ، وهي مروية في أمالي الإمام أحمد بن عيسى عليه السلام, وفي الجامع الكافي, وسائر كتب الأئمة والأمة, فتدبر موفقاً . تمت سماع ، مولانا وشيخنا العلامة فقيه الآل الكرام مجد الدين بن محمد بن منصور المؤيدي أيده الله تعالى ونفع بعلومه الإسلام والمسلمين كتبه المفتقر إلى عفو الله قاسم بن صلاح بن عامر الشهيد غفر الله لهم وللمؤمنين .
[القسم الأول المسائل المتنازع في حظرها وإباحتها] (1/43)
فالأول :المسائل المتنازع في حظرها وإباحتها:
كالقنوت بغير القرآن, فهم مختلفون في صحة صلاة من فعله, ومجمعون على صحة صلاة من تركه وقنت بالقرآن، وكرفع اليدين في الصلاة, ووضع اليد على اليد, والتأمين, والدعاء بغير القرآن فيها, فإنهم مختلفون في صحة صلاة من فعل واحداً منها, ومتفقون على صحة صلاة من تركها, وكصلاة الجماعة فإنهم متفقون على أن المواظبة عليها طاعة ومختلفين في تركها لغير عذر, فقيل :معصية. وقيل :لا. وكأكل الشظا[17] فإنهم مختلفون في كونه معصية ومتفقون على أن تركه غير معصية, وكبيع الرجاء, وبيع الشيء بأكثر من سعر يومه لأجل النسأ, فإنهم مختلفون في كون فعل ذلك معصية, ومتفقون على أن تركه غير معصية, وأشباه ذلك كثير.
والثاني :نوعان كما يأتي بيانه إن شاء الله تعالى.
ومعرفة إمكان الأخذ بالإجماع كما في القسم الأول وعدمه كما سيأتي إن شاء الله تعالى في القسم الثاني, مما يشترك فيه المجتهد والمقلد المميز وغير المميز بعد حكاية الأقوال ومعرفة معانيها.
[العمل في القسم الأول]
فنظرنا بعد ذلك في كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وآله وسلم؛ فإذا هما قاضيان في القسم الأول بوجوب العمل بما اتفقوا عليه وتحريم العمل بما اختلفوا فيه.
____________________________
[17] نوع من الحشرات لونه أحمر أكثر ظهوره بعد الأمطار.
قال تعالى: { فبشر عبادي الذين يستمعون القول فيتبعون أحسنه أولئك الذين هداهم الله وأولئك هم أولوا الألباب }(الزمر: 17-18) ,والعقل يقضي ضرورة بأن قولهم الدال على تيقن عدم المعصية لله تعالى ـ كترك الدخول في بيع الرجاء, وترك أكل الشطا ـ أحسن مما اختلفوا في كونه معصية إذ لا يأمن المكلف أن يكون بذلك عاصياً لربه. (1/44)
وقد بشر الله تعالى في الآية الكريمة التابعين للأحسن, وحكم لهم بالهدى وبأنهم أولوا الألباب, ونفى ذلك عن الآخذين بغير الأحسن في مفهوم الحصر في هذه الآية, لأن الألف واللام في (الذين) في قوله تعالى :{ أولئك الذين هداهم الله} للاستغراق, بدليل أنها متناولة لمن ذكرنا, ولمن عمل بموافق الكتاب والسنة من المميزين والمجتهدين, ومن وافقوهم من الأنبياء والملائكة صلوات الله عليهم وسلامه.
فمحمد صلى الله عليه وآله وسلم والأنبياء والملائكة صلوات الله عليهم أجمعين تابعون للأحسن, وهو :ما يوحى إليهم, وتاركون لغير الأحسن, وهو :ما يسمعونه من خلاف ذلك من الجهال والكفار وسائر أهل المعاصي.
ولأن ذلك مثل ما روي عن علي كرم الله وجهه أنه قيل له: صف لنا العاقل، فقال عليه السلام: (هو الذي يضع الشيء مواضعه). قيل :فصف لنا الجاهل، قال :(قد فعلت). قلت وبالله التوفيق :وذلك لأن الألف واللام من قوله عليه السلام :(هو الذي يضع الشيء مواضعه) للاستغراق.
[أدلة الكتاب على وجوب العمل بالمتفق فيه] (1/45)
وقال تعالى: { ولا تقف ما ليس لك به علم ... الآية }(الإسراء: 36) وهذا نص صريح على تحريم اتباع المختلف فيه, على من لم يتمكن من رده إلى الكتاب والسنة؛ ولأنه ليس له به علم, والآية عامة للمكلفين؛ لأن الخطاب موجه إلى المكلف الذي يراد به كل فرد, بدليل قوله تعالى في أول الكلام: { وقضى ربك ألا تعبدوا إلا إياه وبالوالدين إحسانا إما يبلغن عندك الكبر }(الإسراء: 23) ,ولم يقل (عندكم) لما كان يفيد ما ذكرنا ، وأُجْرِيَ قوله تعالى :{ ولا تقف ما ليس لك به علم } هذا المجرى.
[أدلة السنة على وجوب العمل بالمتفق فيه]
وقال صلى الله عليه وآله وسلم فيما بلغنا عنه: (( الحلال بَيِّن, والحرام بَيِّن, وبينهما أمور مشتبهات لا يعلمها كثير من الناس, فمن اتقى الشبهات استبرأ دينه وعِرْضَه, ومن وقع في الشبهات وقع في الحرام )).
وبلغنا بالإسناد الموثوق به إلى الناصر الحسن بن علي بن الحسن, عن أخيه الحسين, عن أبيه علي بن الحسن, عن علي بن جعفر, عن أبيه جعفر, عن أبيه محمد عليهم السلام جميعاً يرفعه قال: (( الوقوف عند الشبهة خير من الاقتحام في الهلكة )).
قلت وبالله التوفيق :وفي هذا دلالة على تحريم العمل بالمختلف فيه؛ لأنه شبهة, حيث قال به بعضهم, ونفاه بعضهم، وفي الخبر تصريح أن الاقتحام في الشبهة اقتحام في الهلكة, حيث قال: (والوقوف عند الشبهة خير من الاقتحام في الهلكة)، إذ لا هلكة إلا في ارتكاب الحرام.
وبلغنا عنه صلى الله عليه وآله وسلم أنه قال: (( دع ما يريبك إلا ما لا يريبك )). وهذا أمر بالترك لما يريب, والمجاوزة إلى ما لا يريب ، والمختلف فيه مريب, لقوله تعالى: { ولا تكونوا كالذين تفرقوا واختلفوا ...الآية }(آل عمران: 105) وغيرها؛ لما تقدم، وغير المختلف فيه غير مريب؛ لقوله تعالى: { أن أقيموا الدين ولا تتفرقوا فيه }الشورى: 13) وغيرها. (1/46)
وبلغنا عنه صلى الله عليه وآله وسلم أنه قال ما لفظه أو معناه: (( أمر استبان رشده فاتبعوه, وأمر استبان غيه فاجتنبوه, وأمر اشتبه عليكم فكلوه إلى الله )).
وروي عن النعمان بن بشير أنه قال :سمعت رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يقول: (( الحلال بيِّن والحرام بيِّن, وبين ذلك أمور مشتبهات, وسأضرب لكم في ذلك مثلا :إن الله حمى وإن حما الله حرام, وإن من يرعَ حول الحما يوشك أن يخالط الحمى )).
وروي عنه صلى الله عليه وآله وسلم أنه قال: (( من دار حول الحما يوشك أن يقع فيه )), إلى غير ذلك مما يؤدي هذا المعنى, حتى تواتر معنىً وأفاد العلم قطعاً، والاحتجاج بها على نحو ما مر.
[أقوال قدماء العترة في تحريم العمل بالمختلف فيه]
وعلى ما ذكرته في هذا جرى مذهب قدماء العترة عليهم السلام ومن وافقهم من المتأخرين.
قال [الإمام علي ] عليه السلام في كلام له: ( أيها الناس من سلك الطريق الواضح ورد الماء, ومن خالف وقع في التيه ).
وقال عليه السلام في وصية لابنه الحسن عليه السلام: ( دع القول فيما لا تعرف, والخطاب فيما لم تُكَلَّف, وامسك عن طريق إذا خفت ضلالته, فإن الكف عند حيرة الضلال خير من ركوب الأهوال ). (1/47)
وقال عليه السلام: ( ثم أشفقت أن يلتبس عليك ما اختلف الناس فيه من أهوائهم وآرائهم مثل الذي التبس عليهم ... ) إلى أن قال: ( واعلم يا بني أن أحب ما أنت آخذ به من وصيتي تقوى الله والاقتصار على ما فرضه الله, والأخذ بما مضى عليه الأولون من آبائك, والصالحون من أهل بيتك, فإنهم لم يدعوا أن نظروا لأنفسهم كما أنت ناظر, وفكروا كما أنت مفكر, ثم ردهم آخر ذلك إلى الأخذ بما عرفوا, والإمساك عمَّا لم يكلفوا ). وقال عليه السلام فيها: ( ولا تقل ما لم تعلم وإن قل ما تعلم ).
وروى محمد بن الهادي, عن الباقر عليه السلام, أن رجلاً سأله فقال: دلني على أمر إذا عملت به نجوت عند الله, وإن سُئِلْتُ غداً قُلتُ :أنت هديتنيه ، فقال: (اعمل ما أجمع عليه المختلفون).
وكذا في (مصباح الشريعة) عن ولده جعفر الصادق عليه السلام.وكذلك في (المسائل) عن القاسم أنه سئل عن الاختلاف الذي بين أهل البيت عليهم السلام, فقال :(يؤخذ بما أجمعوا عليه فلم يختلفوا فيه. كما تقدم, وكذلك سائر القدماء منهم عليهم السلام, ومن وافقهم من المتأخرين عليهم السلام, لأنهم يقولون بتحريم الأخذ بالأخف, بعد قولهم بوجوب اتباع جماعة العترة جملة كما تقدم مفصلاً.
وقال المنصور بالله عليه السلام: (تتبع الرُّخَص زندقة). (1/48)
وقال في (الفصول) :( والأحوط الأخذ بما أُجمع عليه, وتحريم الأخذ بالأخف, اتباعاً للهوى, إجماعاً ).
[القسم الثاني وهو نوعان]
[كيفية العمل في المختلف فيه والمنع من تقليد الآحاد]
[حكم العمل في القسم الثاني:النوع الأول وهو ما اختلف في تعيين المشروع منه بعد العلم بوجوبه]
ثم نظرنا في الكتاب والسنة, ما حكم القسم الثاني؟
فإذا هما قاضيان في النوع الأول منه بالتخيير، وهو:
ما اختُلف في تعيين المشروع منه بعد العلم بوجوبه كالأذان مثلاً، أو[بالعلم ب ] أنه لا حرج على فاعل أيهما, كالحمد والتسبيح في غير الركعتين الأولتين في الثلاثيَّة والرباعية من الصلاة.
و اختلف في تعيين المحظور منه بعد الاتفاق على أن الواجب-الذي لا عذر في تركه ولا رخصة-لا يخلو منهما على الجملة,كالتوضي بالماء المستعمل, والتيمم, فإن بعضهم يقول: التيمم حرامٌ مع وجود الماء، وبعضهم يقول: بل الحرام التوضي بهذا الماء لأن الصلاة لا تجزي به.
[أدلة التخيير في النوع الأول]
وقال تعالى: { لا يكلف الله نفساً إلا وسعها }(البقرة: 286) ,وقال تعالى: { فاتقوا الله ما استطعتم }(التغابن: 16).
ورُوي عنه صلى الله عليه وآله وسلم أنه قال: (( إذا أُمرتم بأمر فأتوا منه ما استطعتم )).
وقد علمنا أن من كان كذلك لا يستطيع الترجيح بالعرض على الكتاب والسنة مع علمه أنه لا يُعْذَر عن تجنب الجميع؛ لأنه لا إثم عليه لو فعل أيهما, وإن الجمع بين الأمرين بدعة إجماعا,ً إذ لم يشرع إلا أحدهما؛ لاتفاقهم على ذلك على سبيل الجملة والله أعلم. (1/49)
[العمل في النوع الثاني من القسم الثاني]
وفي النوع الثاني الوقف، وهو ما اختلف في تعيين المحظور منه مع الاتفاق على أن تجنب الجميع مباح كالعمل بما اقتضاه الطلاق المختلف فيه وعدمه؛ لأن من قال بوقوعه قال :المحظور إمساكها، ومن قال بعدم وقوعه, قال :المحظور إباحة تزويج الغير لها وإسقاط حقوقها.
[أدلة وجوب الوقف في النوع الثاني]
وقد حرم الله التفرق في الدين كما تقدم.
وقال تعالى: { ولا تقف ما ليس لك به علم ... الآية }.
وقال صلى الله عليه وآله وسلم: (( وأمر اشتبه عليكم فَكِلوه إلى الله )) كما تقدم, وغير ذلك.
فعلى هذا لا يجوز العمل بالطلاق المختلف فيه, ولا إهماله واعتقاد بطلانه, حتى يبحث عن ذلك بسؤال من أمر الله بسؤاله, في قوله تعالى: { فاسألوا أهل الذكر إن كنتم لا تعلمون بالبينات والزبر }, حتى يردوه إلى آيةٍ ناطقة بأحد القولين, أو سنةٍ مجمع عليها, أو موافقة لكتاب الله تعالى.
وجميع هذا مقتضى مذهب من يقول :أن الحق مع واحد, وإن مخالفه مخطٍ, من قدماء العترة عليهم السلام ومن وافقهم ، يظهر ذلك بالتأمل.
[القول بأن تقليد الواحد جائز مع الاختلاف] (1/50)
وقال بعض متأخري العترة عليهم السلام ومن وافقهم بجواز تقليد الواحد مع الاختلاف، ونفوا وجوب العرض على المقلد الذي يمكنه العرض على كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وآله وسلم، وكذلك نفوا وجوب العمل بالمجمع عليه والتخيير والوقف كما ذكرنا في هذا الفصل.
[أدلة القائلين به]
قالوا: لأن العوام كانوا يأخذون من أفراد الصحابة مع الاختلاف بينهم من غير نكير وذلك إجماع.
وقالوا: قد روي أيضاً عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أنه قال: (( أصحابي كالنجوم بأيهم اقتديتم اهتديتم )) وذلك دليل على جواز تقليد الواحد ولو مع الاختلاف إذ لم يفصل الدليل.
[الجواب عليهم]
وجميع ذلك باطل. أما حكاية إجماع الصحابة فالمشهور عن أمير المؤمنين عليه السلام تخطئة من لم يتبعه, قال عليه السلام في بعض خطبه: ( قد خاضوا بحار الفتن, وأخذوا بالبدع دون السنن, وأرَزَ المؤمنون, ونطق الضالون المكذبون, نحن الشَّعار والأصحاب, والخزنة والأبواب, ولا تؤتى البيوت إلا من أبوبها, فمن أتاها من غير بابها يسمى سارقاً ) وكفى بذلك نكيراً. وقدماء العترة عليهم السلام مجمعون على ذلك عنه, وكذا جُلُّ متأخريهم عليهم السلام, حيث قالوا :إن قوله عليه السلام حجة، فأين الإجماع؟
وأما الخبر إن سلمنا صحته على التَّنَزُّل, فقد حكى الإمام يحيى عليه السلام الإجماع على تحريم تقليد الصحابة, فلا حجة فيه على جواز تقليد واحد منهم، وإنما يصير معناه: بأيهم اقتديتم-فيما أوضحوا طريقه من كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وآله وسلم-اهتديتم. (1/51)
وإن سلمنا عدم صحة ما حكاه الإمام يحيى عليه السلام, فالخبر آحادي والقول بجواز التقليد وعدمه أصل كبير من الأصول لا يثبت بخبر الآحاد عند العترة عليهم السلام, لاسيما وقد ثبت أن الحق واحد وأن مخالفه مخطٍ.
وأيضاً فإنه لا خلاف بين العترة عليهم السلام أنه يجب التحري في أخذ الحكم عن طرقه الشرعية ، ولا يعمل بعام حتى يبحث عن الخاص ، ولا بنص حتى يبحث عن ناسخه ونحو ذلك, فكيف لا يجب التحري في أخذه عن أقوال الذين يقع منهم السهو والغلط ؟ وهل ذلك إلا تحكم؟
الفصل الخامس في الإرشاد إلى حكم أقوال المخالفين للعترة عليهم السلام الخارجين بأقوالهم عن موافقة المجتهدين منهم ، وحكم أقوال الفاسقين من المجاهرين والمتأولين: (1/52)
[حكم أقوال المخالفين للعترة عليهم السلام غير الموافقة للمجتهدين منهم]
أما حكم أقوال المخالفين للعترة عليهم السلام غير الموافقة للمجتهدين؛ فجميع ما تقدم ذكره من: آية التطهير, وآية المودة, وإني تارك فيكم, وخبر السفينة, والإشارة إليه من غير ذلك ناطق ببطلانها ، فإن صدر ذلك عن علم من المخالف فسق؛ لقوله تعالى: { ومن يشاقق الرسول من بعد ما تبين له الهدى ويتبع غير سبيل المؤمنين نوله ما تولى ونصله جهنم وساءت مصيرا }(النساء: 115) ,وتلك الأدلة قاضية بأنهم عليهم السلام وأتباعهم هم المؤمنون دون من سواهم.
[حكم أقوال الفاسقين من المجاهرين والمتأولين]
وأما حكم أقوال الفاسقين من المجاهرين والمتأولين فباطل أيضا؛ً لقوله تعالى: { يثبت الله الذين آمنوا بالقول الثابت في الحيوة الدنيا والآخرة ويضل الله الظالمين }(إبراهيم: 27) ,أي: يخذلهم فلا يهتدون, ويحكم بضلالهم ، ومن خذله الله وحكم بضلاله فلا شك ببطلان قوله.
ولقوله تعالى: { وإن الشياطين ليوحون إلى أوليائهم ليجادلوكم ... الآية }(الأنعام: 121) ,أي: يوسوسون لهم بالباطل, ليجادلوكم به, وذلك نص على بطلان أقوالهم أيضاً.
ولقوله تعالى: { ومن يعْشُ عن ذكر الرحمن نقيِّض له شيطاناً فهو له قرين وإنهم ليصدونهم عن السبيل ... الآية }(الزخرف: 36-37) ,وذلك نص في بطلان أقوالهم أيضا,ً لأنه لا يفسق إلا من عشى عن قوله تعالى: { فاتقوا الله ما استطعتم واسمعوا وأطيعوا } لمخالفته لذلك.
ولقوله تعالى: { وما كنت متخذ المضلين عضدا }(الكهف: 51) ,وهم يضلون بدعائهم إلى أقاويلهم الباطلة كما حكم الله تعالى ، فكيف يؤخذ بأقوالهم ولم يتخذهم الله عضدا لتبيين الحق؟ (1/53)
[القول بصحة أقوال مخالفي أهل البيت والفساق]
وقد قيل: إن أقوالهم صحيحة, ولعل أهل هذا القول يحتجون لذلك بما احتج به بعضهم على صحة تأويل كل الفرق لمتشابه الكتاب العزيز, حيث قال: لا يخلوا إما أن يكون الطريق إلى ذلك: العقل, أو الشرع, أو اللغة، وهم مشاركون في ذلك, بل لا يبعد أن تكون معرفتهم باللغة أوكد من الأئمة عليهم السلام لفراغهم.
والجواب والله الموفق: لا يخلوا هذا الاحتجاج من غلط أو تعام ليُموِّه به على الجهال الذين لا يعرفون؛ لأن الطريق إلى معرفة الأحكام وتأويل المتشابه هو ذلك مع انضمام تثبيت الله وعصمته من وساوس إبليس لعنه الله تعالى وإضلاله وصده عن السبيل, كما في الآيات المتقدم ذكرها، وكما في قوله تعالى: { فهدى الله الذين آمنوا لما اختلفوا فيه من الحق بإذنه والله يهدي من يشاء إلى صراط مستقيم }(البقرة: 213) وليس كذلك من كان إبليس لعنه الله قرينه, يملي عليه بوساوسه الأباطيل ويحمله على التعسف في التأويل, حتى يرد الحجج إلى أرائه ويزين له قبيح قوله وفعاله.
مع أن ذلك رد لتلك النصوص, وإبطال لفائدتها, وهي خطاب حكيم, ورَدُّ خطاب الحكيم وإبطال فائدته باطل عقلا وشرعاً.
وأيضا أهل الزيغ يشاركون في ذلك, وقد أخبر الله تعالى أن تأوليهم للمتشابه غير صحيح, فقال تعالى: { وأما الذين في قلوبهم زيغ فيتبعون ما تشابه منه ابتغاء الفتنة وابتغاء تأويله وما يعلم تأويله إلا الله والراسخون في العلم ... الآية }(آل عمران: 7) فلو كان مجرد المشاركة في ذلك تقضي بصحة التأويل لم يخبر الله تعالى بخلافه, لأنه لا يقول إلا الحق, فكذلك في استنباط الأحكام إذ لا فرق.
الفصل السادس في الإرشاد إلى حكم ما يحصله المقلدون تفريعاً على نصوص المجتهدين: (1/54)
وهو قسمان:
الأول: ما يحصلونه بالقياس على النصوص وهو باطل لأن نصوص المجتهدين:
منها: ما قد رجع عنه فيكون القياس باطلاً لبطلان أصله المقيس هو عليه.
ومنها: ما هو مأخوذ عن دليل خاص لذلك النص, ولغيره-مما قاسوه عليه-عند الله-في محكم كتابه وسنة رسوله صلى الله عليه وآله وسلم-حكم آخر غير حكم المقيس عليه.
وقد علمنا من قواعدهم أنهم لا يبحثون عن ذلك, كما حكى الإمام المهدي عليه السلام عنهم:
أنه لا يلزم المقلد بعد وجوده النص الصريح والعموم الشامل من أقوال المجتهدين, طلب الناسخ- وهو القول الذي رجع إليه المجتهد-ولا طلب المخصص لما ورد من نصوصه بصيغة العموم,ولا معرفة أن المجتهد يقول بتخصص العلة التي جمع فيها هذا المقلد بين الأصل والفرع, أو يمنع من ذلك .
الثاني: ما حصلوه بمفهوم المخالفة:
[بطلان العمل بمفهوم الصفة] (1/55)
وهو باطل أيضاً؛ لأن منها ما لا يفيد ذلك كالصفة؛لأنه يجوز أن يقول: زيد العالم في الدار. مع أن زيداً الجاهل فيها أيضاً ويسكت عنه.
وأيضاً لو كان ما زعموا صحيحاً لكان من قال: النبي الأمي رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم, كافراً؛ لأنه يفهم منه-على زعمهم-أنه من لم يتصف بالأمي من سائر رسل الله صلوات الله عليهم فليس برسول الله، وذلك معلوم البطلان.
لا يقال إنما ترك العمل بالمفهوم في ذلك لما هو أقوى منه, وهو ما علم من الدين ضرورة، لأنا نقول وبالله التوفيق:
إن الدلالة لا تخلو عن موضعها، وذلك معلوم باستقراء لغة العرب. ألا ترى أن الحقيقة موضع دلالة على ما وضعت له, والمجاز موضع دلالة ما استعمل له؟
ونحو قوله تعالى: { ولا تقل لهما أف }(الإسراء: 23) موضع دلالة على الأصل والفحوى، ولا يجوز أن تتخلف دلالتها عنهما.
فلو كان ذلك موضع دلالة على ذلك لم يجز النطق به, لأنه يؤدي إلى خلاف ما علم من الدين ضرورة.
ولا يرد النسخ المنصوص والتخصيص للعموم لأن المنسوخ قد دل على معناه ولم يتخلف عنه، إذ لو لم يدل عليه لم يعرف كونه منسوخاً . والعام المُخصَّص صار بالتخصيص من قبيل المجاز, وقرينته ما خصص به كما هو مقرر في مواضعه . والمجاز لم تختلف دلالته عنه كما ذكرنا الآن فتأمل.
وكذلك مفهوم العدد إذا لم يكن جواباً لِكَمْ؛ لأنك تقول لمن تراه يطعم المساكين أطعم هؤلاء الثلاثة ولا يفهم منه منع الإطعام عمن سواهم,ويصح أن تقول: في عشرين وسقاً مما أنبتت الأرض العُشُر. ويصح أن يفتي بذلك المفتون، لاسيما إذا قال السائل: حصل لي من مزرعتي عشرون وسقاً في سنتي هذه, فما يجب علي في ذلك؟ وأجاب المفتي فقال: العشر. (1/56)
فكيف يصح التخريج من ذلك وأشباهه مع مصادمته للنصوص والإجماع؟
وأما احتجاجهم على ذلك بنحو قوله تعالى: { فاجلدوهم ثمانين جلدة }(النور: 4) فإنه يفهم منه تحريم الزائد على الثمانين, فباطل؛ لأن التحريم في الزائد ليس بمستفاد من العدد, وإنما هو مستفاد من الحظر العقلي؛ لأن الأصل في قضية العقل تحريم الضرب.
[مفهوم الغاية]
ومنها ما يدل على أن حكم المفهوم كحكم المنطوق، وذلك في الغاية؛لأنها قد تكون بمعنى مع. قال تعالى: { ولا تأكلوا أموالهم إلى أموالكم }(النساء: 2) أي مع أموالكم . وهم لا يبحثون عن مقاصد المجتهدين في ذلك.
[التسبيب الموجب للاشتراك] (1/57)
ومنها ما وقع للتسبيب الموجب للاشتراك في الحكم، كقول المفتي: إن لم يكن زيداً أُكره على شرب الخمر ولا اضطرته إليه ضرورة جلد الحد ثمانين. فكيف يصح أن يقال: إن من عداه بخلافه, والشرط مفيد للتسبيب الموجب للاشتراك؟ وكيف يعد ذلك من مفهوم الشرط, وهو في حقيقة الأمر من مفهوم اللقب؟ حيث قيل: إن من عداه بخلافه، وليس ذلك من مفهوم الشرط في شيء لأن المفهوم من الشرط أن زيداً إذا أكره على شرب الخمر أو اضطرته إليه ضرورة كخوف التلف من العطش لم يُحَدّ في نفسه.
لا يقال: إن مقصودهم بمفهوم الشرطِ ما ذكرتَ آخراً لا ما ذكرتَ أولاً؛ لأنا نقول: إنما يعدون مفهوم الشرط ما ذكرتُ أولاً كما هو مذكور في (شرح ابن مفتاح على الأزهار)، حيث عبر عن مفهوم الشرط واحتج له بقوله تعالى: { وإن كن أولات حمل ... الآية }(الطلاق: 6) ,وقال ما معناه: ( فإنه يفهم من ذلك أن من عداهن بخلافهن ). ولم يقل بأنه يفهم من ذلك أنهن إن لم يكن أولات حمل فحكمهن بخلاف ذلك ، فتأمل.
[بطلان العمل بالدليل قبل البحث عن الناسخ والمخصص] (1/58)
وأيضاً لا خلاف بين العترة عليهم السلام أن المجتهد إذا استنبط حكماً من كتاب الله سبحانه, وسنة رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ولم يبحث عن الناسخ والمخصص, ولم يتثبت في معاني الألفاظ, ومواضع استعمالها أن ذلك الحكم باطل, فإذا كان ذلك كذلك في استنباط المجتهد من كلام من لا يجوز عليه الغفلة ولا الغلط, فكيف بالمقلد في استنباطه من كلام من ليس بمعصوم عن الغفلة ولا الغلط ؟ وهل ذلك إلا محض تحكم ؟
وأيضاً الفتوى بالأحكام الشرعية قول عن الله إجماعاً؛ لأنه إنما يُسأل المفتي عما يثبت من الأحكام عن الله سبحانه, ولا يثبت شيء من الأحكام الشرعية بعد انقطاع الوحي إلا في كتابه تعالى وسنة رسوله صلى الله عليه وآله وسلم بالنص و القياس, والمقلِّد إذا أفتى بشيء فرَّعه على نصوص المجتهد لا يعلم أصولها من الكتاب والسنة, لاسيما مع ما قد تقدم من قاعدتهم في ذلك، فمن أفتى بذلك فقد قال على الله بما لا يعلم, وقد قال تعالى: { ولا تتبعوا خطوات الشيطان إنه لكم عدو مبين إنما يأمركم بالسوء والفحشاء وأن تقولوا على الله ما لا تعلمون }(البقرة: 168-169) ,وقال تعالى: { قل إنما حرم ربي الفواحش ما ظهر منها وما بطن ... } إلى قوله: { ... وأن تقولوا على الله ما لا تعلمون }(الأعراف: 33).
[أقوال العلماء في التخاريج]
ولم أطلع على حجة لهم على ذلك سوى دعوى الإجماع في الأعصار المتأخرة، وهي دعوى باطلة؛ لأنه لم يزل العلماء ينكرون ذلك.
[إنكار العلماء العمل بالتخاريج] (1/59)
قال الهادي عليه السلام ما لفظه: ( ثم اعلم أن القياس يخرج على معنيين:
أحدهما ثابت صحيح،والآخر باطل قبيح.
فأما المعنى الباطل فهو قول القائل: قاس فلان ويقيس فلان، يريد بذلك قياساً غير الكتاب، يضرب بعض القول ببعض, ويقيس برأي نفسه على رأي غيره ويشبه مذهبه في القياس بمذهب غيره, فيخرج قياسه قياساً فاسدا,ً لا يجوز هذا القياس عن الدين, ولا يثبت في أحكام المسلمين, بل من تعاطى قياساُ على ما ذكرناه أو قولاً فيما شرحناه كان محيلاً مبطلاً فاسد المذهب جاهلا)ً.
وروي عن السيد الناطق بالحق أبو طالب عليه السلام أنه ذكر أنه لا يُعَوِّل على تخاريج علي بن بلال صاحب (الوافي)، قال الراوي: وإنما قاله نصحاً للمسلمين وتحرياً في الدين, فكيف يرى الحال في تخاريج من لا يساوي علي بن بلال ؟ انتهى كلام الراوي.
وأخبرني بعض الثقات أن سائلاً سأل الإمام المهدي لدين الله أحمد بن يحيى عليه السلام والفقيه يوسف رحمه الله تعالى في (هجرة العين):
فقال ما معناه: كيف يكون تقليد المقلد ؟
فقالا: كالأعمى يقود أعمى.
فقال السائل: فما بالكما أثبتما في مصنفاتكما أقوال المقلدين ؟
فقالا: إنما حكينا الأقوال.
قلت: وفي كلامهما تصريح بإبطال تفريع المقلدين حيث صرَّحا بأن تقليد المقلد كأعمى يقود أعمى، واعتذرا عن إثباتهما لذلك في مصنفاتهما بأنه مجرد حكاية.
وبلغنا عن بعض العلماء في زمانهما أنه قال ما لفظه: ( إن هذا القول الذي تَعَيَّن أنه مُخَرَّج ليس بقولٍ لمن خَرَّج على قوله, ولا قولٌ للذي خَرَّجَه من قول المجتهد، فحينئذ يكون هذا الحكم لا قائل به, فكيف تجري عليه الأديان والمعاملات ؟ وهذه ورطة تورَّط فيها الفقهاء برمتهم إلا من لزم النصوص ). (1/60)
وكذا في بعض كتب الأصول لأهل المذهب ك (الجوهرة) إنكارها.
وكذا اعترضهم الإمام الحسن بن عز الدين في (شرح المعيار) على عدم اشتراط البحث عن كون نص المجتهد مخصِّصا, وعن كونه يقول بتخصص العلة, أو لا يقول بذلك, وقال ما لفظه: ( وقد يمنع من عدم لزوم البحث هنا عن الخاص مع وجوبه في ألفاظ الكتاب والسنة, وعن مذهبه في تخصيص العلة, وبالجملة فناهيك أن يكون المجتهد في المذهب بمنزلة المجتهد المطلق في الشرع على السوية, ومن عكس قالب الإضافة أن يجعل لغير المعصوم من الخطأ متقاصر الخُطَى على المعصوم مزية ).
وقرأت بخط شيخي شمس العترة أمير الدين بن عبدالله أبقاه الله وأظن أني سمعته من بعض السادة من أهل البيت عليهم السلام أنه قال: ( كثير من التخاريج مصادمة للنصوص[18] ). ولهذا يمتنع كثير من أهل التحري من العمل بالتخريجات, والإفتاء بها, لمخالفتها لنصوص الأئمة من غير ضرورة ملجئة إلى مصادمتها.
__________________________
[18] قف على كلام الإمام الأعظم القاسم بن محمد وكلام شمس العترة أمير الدين بن عبد الله الحوثي وكلام الإمام الناصر لدين الله الحسن بن علي عليهم السلام في إنكارهم للتخاريج و مصادمتها لنصوص الأئمة وأنها محدثة وتدبر وتبصر ، والله ولي التوفيق . مجدالدين بن محمد المؤيدي وفقه الله .
وسمعت الإمام الناصر لدين الله الحسن بن علي بن داود-فرج الله عنه ورعاه وحماه-ينكرها، وقال ما معناه: ( كان مذهبنا سليماً إلى زمن كذا ) وذكر بعض أول المخرجين في مذهبنا. (1/61)
[بداية العمل بالتخاريج]
لأن أول من أحدث هذه البدعة أتباع الفقهاء الأربعة، لما كانت نصوصهم غير وافية بالأحكام, وكان أتباعهم يعدُّون أقوال غيرهم من سائر المجتهدين بدعة، قال الذهبي في تاريخه: ( وللزيدية مذهب في الفروع بالحجاز واليمن لكنه من أقوال البدع ). وقال ابن سمرة اليمني في (طبقاته): ( وفي سنة كذا وكذا جرت فتنتان عظيمتان: أحدهما فتنة علي بن الفضل ودعاه للناس إلى الكفر, والأخرى فتنة الشريف يحيى بن الحسين الرسي ودعاه الناس للتشيع ).
وقال في حاشية (الفصول) ما لفظه: ( قال في (القواعد): ولقد عظمت المحنة على من اجتهد وترك التقليد من العلماء المتأخرين في كل عصر من الأعصار, ومصر من الأمصار كما يعرف ذلك من طالع كتب التواريخ والأخبار ، ومات كثير من الأخيار بسبب ذلك في الحبوس, وطرد كثير منهم من الأمصار ).
قلت وبالله التوفيق: ولعله يريد بالقواعد كتاب (قواعد عقائد أهل البيت عليهم السلام) للديلمي رحمه الله تعالى, والله أعلم.
ثم تابعهم بعض أتباع القاسم والهادي والناصر وغيرهم من الأئمة عليهم السلام في نفس ابتداع التفريع فقط في الأغلب، ولو أنهم تركوا ذلك ورجعوا إلى سؤال من أمر الله بسؤاله حيث قال تعالى: { فاسألوا أهل الذكر إن كنتم لا تعلمون بالبينات والزبر }, لكان خيراً لهم وأسلم لأنهم لا يعدمون من يُجيب سؤالهم حتى يختم الله أيام التكاليف, كما في الأخبار النبوية من نحو قوله صلى الله عليه وآله وسلم: (( لا تزال طائفة من أمتي على الحق ظاهرين )), وقوله صلى الله عليه وآله وسلم: (( بنا أهل البيت يختم كما بنا ابتدأ ... )), الخبر بلفظه أو معناه. (1/62)
فرحم الله امرأً نهى النفس عن الهوى, ونظر بعين البصيرة, وأطفأ نار الحمية, وأغمد سيوف العصبية, وبرئ من داء العناد, وسلك محجة الرشاد, بحق محمد وآله صلوات الله عليه وعليهم أجمعين. ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم وصلى الله على محمد وآله وسلم.
تم الكتاب بمن الله العزيز الوهاب - كتاب الإرشاد الهادي إلى سبيل الرشاد - يوم الثلاثاء سابع وعشرين من شهر ذي القعدة الحرام من شهور سنة اثنتي عشرة سنة وألف من الهجرة النبوية على صاحبها أفضل الصلاة والسلام بمسجد موسع من برط المحروس بالله تعالى من مولانا أمير المؤمنين وسيد المسلمين المنصور بالله القاسم بن محمد أيده الله وأصلح له أموره وصرف عنه جميع الشرور ووقاه كل مخوف ومحذور وجزاه عن المسلمين خيراً آمين اللهم آمين وصلى الله على سيدنا محمد وآله قال في الأم بخط الفقير إلى الله شمس الدين بن الحسن بن عزالدين بن المهدي بن جحاف وفقه الله إلى رضاه. (1/63)
تم بحمد الله.
---