الكتاب : إثبات نبوة النبي المؤلف : الإمام المؤيد بالله أحمد بن الحسين بن هارون الحسني. المحقق : عبدالكريم جدبان . www.al-majalis.com ترقيم الصفحات موافقة للكتاب المطبوع . |
روائع تراث الزيدية
إثبات نبوة النبي
صلى الله عليه وآله وسلم
تأليف
الإمام المؤيد بالله أحمد بن الحسين بن هارون الحسني
(333 - 421هـ)
تحقيق
عبد الكريم أحمد جدبان
أعده إلكترونياً / فريق العمل بـ مجالس آل محمد (ع)
www.al-majalis.com
الطبعة الأولى
1423ه- 2002م
حقوق الطبع محفوظة للمحقق
l
مقدمة
" من حق الناس أن يسألوا كل رجل يزعم أنه مرسل لهم من عند الله: ما دليلك على صدق قولك ؟
فإذا قدَّم لهم الدليل المقنع على صحة رسالته قبلوه واستمعوا له .
وقد جاء صالح إلى ثمود يخبرهم بأنه نبي من الله ، ثم يصيح فيهم: { فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَطِيعُونِ (150) وَلَا تُطِيعُوا أَمْرَ الْمُسْرِفِينَ (151) الَّذِينَ يُفْسِدُونَ فِي الْأَرْضِ وَلَا يُصْلِحُونَ (152) } [الشعراء] .
ولكن ثمود ردوا هذا النصح ، وطالبوا صالحاً بالبرهان على أنه ليس شخصاً عاديَّا . { قَالُوا إِنَّمَا أَنتَ مِنَ الْمُسَحَّرِينَ (153) مَا أَنتَ إِلَّا بَشَرٌ مِّثْلُنَا فَأْتِ بِآيَةٍ إِن كُنتَ مِنَ الصَّادِقِينَ (154) قَالَ هَذِهِ نَاقَةٌ لَّهَا شِرْبٌ وَلَكُمْ شِرْبُ يَوْمٍ مَّعْلُومٍ (155) وَلَا تَمَسُّوهَا بِسُوءٍ فَيَأْخُذَكُمْ عَذَابُ يَوْمٍ عَظِيمٍ (156) }[الشعراء] . فكان طلب ثمود معقولاً ، ولذلك جاءت الإجابة عليه سريعة .
وكانت الطريقة التي وجدت وعاشت بها هذه الناقة ، خارقة لما تعارف عليه القوم .
ودل محياها على أنه أثر لقدرة عليا ، لا لقُدَر الناس المعتادة .
وهذا النوع من الاستدلال يقوم على تفهيم الناس أن الشخص الذي يحدثهم لا يمثل نفسه ، ولكن يمثل رب الأرض والسماء . لذلك يعمل بقوته المطلقة ، لا بقوى البشر المحدودة !
وقد فزع موسى إلى هذا الدليل ، لمَّا كذبه فرعون في دعواه أنه مرسل من رب العالمين وتهدده ، { قَالَ لَئِنِ اتَّخَذْتَ إِلَهًا غَيْرِي لَأَجْعَلَنَّكَ مِنَ الْمَسْجُونِينَ (29) قَالَ أَوَلَوْ جِئْتُكَ بِشَيْءٍ مُّبِينٍ (30) قَالَ فَأْتِ بِهِ إِن كُنتَ مِنَ الصَّادِقِينَ (31) فَأَلْقَى عَصَاهُ فَإِذَا هِيَ ثُعْبَانٌ مُّبِينٌ (32) وَنَزَعَ يَدَهُ فَإِذَا هِيَ بَيْضَاء لِلنَّاظِرِينَ (33) } [الشعراء] .
وكذلك صنع عيسى عليه السلام عندما عرض نفسه على بني إسرائيل ، فنبأهم بأنه رسول من عند الله سبحانه وتعالى .
ثم سرد أدلته على رسالته: { أَنِّي أَخْلُقُ لَكُم مِّنَ الطِّينِ كَهَيْئَةِ الطَّيْرِ فَأَنفُخُ فِيهِ فَيَكُونُ طَيْرًا بِإِذْنِ اللّهِ وَأُبْرِىءُ الأكْمَهَ والأَبْرَصَ وَأُحْيِي الْمَوْتَى بِإِذْنِ اللّهِ وَأُنَبِّئُكُم بِمَا تَأْكُلُونَ وَمَا تَدَّخِرُونَ فِي بُيُوتِكُمْ إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَةً لَّكُمْ إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ (49) } [آل عمران] .
وقد لوحظ أن أكثر الأمم - برغم ما سبق إليها من آيات باهرة - لم تستجب للحق ، ولم تسلِّم بدعوى المرسَلين ، لا عن قصور في الأدلة التي تسندهم ، بل على عناد وتبجُّح . { إِنَّ اللّهَ عَهِدَ إِلَيْنَا أَلاَّ نُؤْمِنَ لِرَسُولٍ حَتَّىَ يَأْتِيَنَا بِقُرْبَانٍ تَأْكُلُهُ النَّارُ قُلْ قَدْ جَاءكُمْ رُسُلٌ مِّن قَبْلِي بِالْبَيِّنَاتِ وَبِالَّذِي قُلْتُمْ فَلِمَ قَتَلْتُمُوهُمْ إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ (183) } [آل عمران] .
والدليل على صدق أية دعوى قد يكون بأمور خارجة ، أو يكون بحقيقتها في نفسها .
فقد يزعم أحد الناس أنه مهندس ، ويقول: دليلي على ذلك أني أستطيع السير بقدمي على الماء ، أو الطير بجناحي في الهواء . فإذا فعل ذلك سلمنا له !
وقد يقول: دليلي على ما أقول: أني أبني - فعلاً - عمارة مدعمة الأركان ، أو أَصِلُ بين شاطئين - مثلا - بجسر متين ! فإذا فعل فقد دل بقدرته الهندسية على أنه مهندس يقيناً . بل قد تستريح النفس إلى هذا الاستدلال أكثر من راحتها إلى البراهين الخارقة الأُول .
قال ابن رشد: (( إن دلالة القرآن على نبوة محمد صلى الله عليه وآله وسلم ليست كدلالة انقلاب العصا حية ، ولا إحياء الموتى ، وإبراء المرضى .
فإن تلك وإن كانت أفعالاً لا تظهر إلا على أيدي الأنبياء ، وفيها ما ينفع الجماهير من العامة ، إلا أنها مقطوعة الصلة بوظيفة النبوة وأهداف الوحي ومعنى الشريعة .
أما القرآن فدلالته على صفوة النبوة ، وحقيقة الدين مثل دلالة الإبراء على الطب .
ومثال ذلك: لو أن شخصين ادعيا الطب فقال أحدهما: الدليل على أني طبيب أني أطير في الجو .
وقال الآخر: دليلي أني أشفي الأمراض وأذهب الأسقام . لكان تصديقنا بوجود الطب عند من شفى من المرض قاطعا ، وعند الآخر مقنعاً فقط )) . ملخصاً بتصرف .
فالمعجزات إذن قد تكون ذاتية في الرسالة ، وقد تكون خارجة عن جوهرها ، والتفاوت بينها واسع النطاق ، باختلاف البيئات التي ظهرت فيها ، والرسالات التي اقترنت بها .
وقد كان التعويل في العصور الأولى عل الخوارق المادية فحسب ، أما ما تضمنته الأديان من حقائق فكانت منزلته ثانوية . حتى جاء الإسلام فغض من شأن الاعجاز المادي ، ونوّه بالاعجاز العقلي والقيم المعنوية للرسالات ، وقرر إلى جانب ذلك أن الخوارق التي دعمت بها الديانات القديمة ، لم تمنع التكذيب بها أولاً ، فلا معنى لطلب التصديق بها أخيراً ، { وَمَا مَنَعَنَا أَن نُّرْسِلَ بِالآيَاتِ إِلاَّ أَن كَذَّبَ بِهَا الأَوَّلُونَ وَآتَيْنَا ثَمُودَ النَّاقَةَ مُبْصِرَةً فَظَلَمُواْ بِهَا وَمَا نُرْسِلُ بِالآيَاتِ إِلاَّ تَخْوِيفًا (59) } [الإسراء] ، ومن ثمَّ اتجه تأييد الأنبياء وجهة أخرى .
المعجزة بين الرسالة الخاتمة والرسالات الأولى
جرت سنة الله في أنبيائه جميعاً أن يؤيدهم بالمعجزات الواضحة ، وأن يسوق بين أيديهم من الخوارق ما يلفت الأنظار ويستهوي الأفئدة ، ثم ما يبني معالم اليقين وعناصر الاستقرار ودواعي الطمأنينة في النفوس . وكانت معجزات الأنبياء شيئاً آخر غير الرسالات التي يبشرون بها ويدعون إليها . فطب عيسى غير إنجيله ، وعصا موسى غير توراته . إلا أن الله شاء أن يجعل معجزة الرسالة الأخيرة شيئاً لا ينفصل عن جوهرها ، فجعل حقائق الرسالة ودلائل صحتها كتاباً واحداً ، وجعل من أصول الدعوة وأساليب عرضها ، البرهان الأكبر لدعوى الرسالة، والسناد الأعظم لصدق صاحبها .
فآي القرآن الكريم - بما تتضمن من دساتير العدالة الخلقية والاجتماعية والسياسية ، وبما تغرس في الطبائع من آثار الأدب والتربية والاستقامة - هي هي رسالة الإسلام ومعجزته .
وأعظم ما في هذه الآيات أن الفطرة الانسانية تجد فيها مجالها الحيوي الفذ ، وتجد في جوها المتنفَّس الطلق الحر .
ومن ثمَّ كان القرآن كتاباً إنسانياً ، وكان نبي القرآن إنساناً كاملاً ، وكانت رسالة الإسلام في موضوعها وأهدافها إنسانية بحتة . ولذلك توجه القرآن - مباشرة - إلى العقل البشري يخاطبه ويفك عنه آصاره ، ويرد إليه اعتباره .
وأكد القرآن أن أصحاب هذا العقل وحده همُ الذي يستطيعون فهمه وتبين معانيه ، { أَفَمَن يَعْلَمُ أَنَّمَا أُنزِلَ إِلَيْكَ مِن رَبِّكَ الْحَقُّ كَمَنْ هُوَ أَعْمَى إِنَّمَا يَتَذَكَّرُ أُوْلُواْ الأَلْبَابِ (19) } [الرعد] . بل إن أصحاب هذا العقل وحده ، همُ الذين يفهمون رسالة الوجود ، ويفقهون أسرار الكون ، { إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَاخْتِلاَفِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ لآيَاتٍ لِّأُوْلِي الألْبَابِ (190) } [آل عمران] . فلتكن إذاً معجزة نبي الإسلام عقلية ، وما دام البشر يحترمون عقولهم ، فستبقى لهذه المعجزة قيمتها ، أجل ستبقى لهذه المعجزة قيمتها ما بقي العقل أنفس شيء في الحياة ، وما استلهم الناس عقولهم في الحكم على الأمور ، وفي قيادة الانسانية إلى آفاق الترقي والكمال .
مقترحات كافرة
غير أن هذا المنطق لم يكن ليلقى القبول الواجب له عند أعراب الجزيرة ، وبقايا القرون الأولى ، وصرعى الأوهام والخيالات . إذ كان أقصى ما يفكر فيه هؤلاء أن يشاهدوا خارقاً يقلب البر بحراً ، أو الخصب جدباً . وعندئذ يلقون السلم ويدخلون في الاسلام ، ولم يكن شيء من هذا الذي اقترحوه عزيزاً على قدرة الله . ولكن حكمة الله أبت إلا أن تَتعَالى بقيمة العقل الإنساني الذي أرخصوه ، وإنه لعزيز على هذه القدرة العليا أن تعطي الإنسان عقلاً يصنع المعجزات - إذا ما اعتني به والتفت إليه - ثم تترك هذا الذي أعطت يضيع عبثاً ، وتستجيب لرغبات الجاهلين الذين سفهوا أنفسهم وأفكارهم ، وأبوا تحكيم مشاعرهم وعقولهم ، وطالبوا بمعجزات مادية ، قليلة أو كثيرة لتصديق نبيهم .
وكان لا بد في معاملة أولئك القوم من سلوك منهج يرغم آنافهم على احترام العقل الإنساني ، لمصلحتهم ولمصلحة الأجيال من بعدهم !! ولذلك تقرر أن تكون المعجزة الكبرى لمحمد صلوات الله وسلامه عليه هي هذا القرآن الكريم .
فيه كان التحدي ، عليه كان الرسول يعتمد في سيرته ، مع خصومه وأصحابه طول حياته . ومن بعده ظل القرآن كتاب الاسلام الناطق بدعوته وحجته معاً .
إلا أن الحكمة الإلهية اقتضت أن تبث في طريق الرسول أنواعاً من الخوارق التي أُيد بها النبيون الأولون ، فجاءت هذه الخوارق تحمل طابعاً خاصاً
، ينبغي أن نعرفه حتى لا نتجاوز به حدوده الصحيحة .. هذه الخوارق ثانوية الدلالة في تصديق النبوة والشهادة لها ، والطريقة التي أرسلت بها من عند الله ، تشير إلى أن الحكمة الإلهية لم تعلق عليها كبير أهمية ، ولم تغض بها من قيمة المعجزة العقلية التي انفرد الرسول بها .
فقد حدثت جملة من هذه الخوارق بين المؤمنين ، الذين استقر الايمان في قلوبهم فعلاً ، والذين سبق لهم تصديق النبي صلى الله عليه وآله وسلم في دعوته ، لأنهم أعملوا عقولهم واحترموا إنسانيتهم ، وحدث بعض آخر أمام أعين الكافرين .
بيد أن الصورة التي تم بها تثير الدهشة ، إذ كانوا يقترحون معجزة فتأتيهم أخرى ، أو يأتي ما يقترحون بعد سنين طوال ، وعلى وجه يبدو منه أن إجابتهم إلى ما طلبوا لم تقصد أصلا ، وربما تهمل مقترحاتهم كلها، فلا ينظر لها قط ، فما معنى ذلك ؟ وما السر فيه ؟!
حقيقة الاعجاز المادي
بيّن الله عز وجل أنه فَصَّل في كتابه كافة أسباب الايمان وأسانيد النبوة ، ولكن الناس أبوا الرضى بهذا اللون من الاقناع . { وَلَقَدْ صَرَّفْنَا لِلنَّاسِ فِي هَذَا الْقُرْآنِ مِن كُلِّ مَثَلٍ فَأَبَى أَكْثَرُ النَّاسِ إِلاَّ كُفُورًا (89) } [الإسراء] ، وماذا بعد أن كفروا ؟ طلبوا أشياء معينة ، زعموا أنها - وحدها - هي التي تدعوهم إلى الإيمان ، { وَقَالُواْ لَن نُّؤْمِنَ لَكَ حَتَّى تَفْجُرَ لَنَا مِنَ الأَرْضِ يَنبُوعًا (90) أَوْ تَكُونَ لَكَ جَنَّةٌ مِّن نَّخِيلٍ وَعِنَبٍ فَتُفَجِّرَ الأَنْهَارَ خِلالَهَا تَفْجِيرًا (91) أَوْ تُسْقِطَ السَّمَاء } [الإسراء] ... إلخ .
ودعك من المطالب التي أملاها العناد والسخف من سلسلة هذه المقترحات الطويلة ثم تأمل .
أتفجير ينبوع من الأرض ينظر إليه البشر على أنه عمل تنزل قوى من السماء لاتمامه ؟ فما هو إذاً عمل القوى الانسانية ؟
إن المرء في طفولته يعتمد على أبيه دائماً في جلب كل خير وإتمام كل عمل ، أفليس من حق الأب إذا رأى ابنه جاوز الطفولة أن يضربه على يديه ، ويتركه يتجشم وحده مشقة السعي ، واقتحام المستقبل ، وتحمل أعباء الرجولة ؟!
هكذا صنع الله مع عباده ، لقد أرضى الإنسانية في طفولتها بألوان صارخة من الخوارق ، حتى إذا اشتد عودها واستوى فكرها ، تركها لتستخدم مواهبها الفكرية ، ولتتبين الصواب والخطأ . فإما هلكت عن بينة ، أو نجت عن بينة .
ويوم أن تعرف البشرية (( العقل )) في قبول دين أو رفضه ، فستعرف من تلقاء نفسها كيف تستغل هذا العقل في تفجير الينابيع ، وتحويل رمال الصحراء إلى حدائق غنّاء . وهذا بعض ما طلب أعراب الجزيرة من رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ليصدقوا رسالته . وقد طلبوا منه أن يرقى في السماء ، ولكن الله أحب أن يكشف لهم عن سقم البواعث التي توحي بهذه المطالب ، وأن يثير فيهم الإيمان بإنسانيتهم المهدرة ، وأن يرد الحرمة إلى عقولهم المحتقرة ، وأن يعلمهم تكريم البشرية المجردة بالإيمان بني البشرية ، المبعوث لمد ضيائها وبسط روائها . ولذلك يهتف القرآن عقب هذه المقترحات: { قُلْ سُبْحَانَ
رَبِّي هَلْ كُنتُ إَلاَّ بَشَرًا رَّسُولاً (93) } [الإسراء] . وقد حدث بعدئذ أن رَقي النبي صلى الله عليه وآله وسلم في السماء ليلة الإسراء ، بعد تقديم هذه الاقتراحات بأمد طويل ، فكان وقوع الارتقاء على هذا النحو ، دليلاً ناطقاً على أن الحكمة الإلهية لم تكترث قط بمطالب الكفار ، ولم تُعِرها أية قيمة ، بل جاء الرقي في السماء ليلة المعراج ، مظهر تكريم بحت من الله لنبيه ، لم تنزل به الإرادة العليا على رغبة بشر ، ولم يرتب على إيقاعه ما يترتب - غالباً - على وقع التحدي ، من إيمان أو كفران ، بل تركت مسألة اتباع النبي صلى الله عليه وآله وسلم أو التخلف عنه ، موكولة إلى المعجزة العقلية الفريدة ، معجزة القرآن الكريم ، { فَمَن شَاء فَلْيُؤْمِن وَمَن شَاء فَلْيَكْفُرْ } [الكهف: 29] .
وقد أقسم المشركون مرة أنهم يؤمنون لدى أية معجزة مادية تقع ، كما يضرب الشاب لوالده أن يرضي نوازع طفولته ثم يسمى بعدئذ رجلاً ! فأبى الله إلا أن يردهم إلى أفئدتهم وأبصارهم ، يتعرفون بها الحق ويثبتون بها عليه ، فإن معجزات الأرض والسماء لا غناء فيها إن لم يستنر القلب والعقل بما أودع الله فيهما من نور ، { وَأَقْسَمُواْ بِاللّهِ جَهْدَ أَيْمَانِهِمْ لَئِن جَاءتْهُمْ آيَةٌ لَّيُؤْمِنُنَّ بِهَا قُلْ إِنَّمَا الآيَاتُ عِندَ اللّهِ وَمَا يُشْعِرُكُمْ أَنَّهَا إِذَا جَاءتْ لاَ يُؤْمِنُونَ (109) وَنُقَلِّبُ أَفْئِدَتَهُمْ وَأَبْصَارَهُمْ كَمَا لَمْ يُؤْمِنُواْ بِهِ أَوَّلَ مَرَّةٍ وَنَذَرُهُمْ فِي طُغْيَانِهِمْ يَعْمَهُونَ (110) } [الأنعام] . ويزيد هذا المعنى جلاء ، قول القرآن في تصوير موقف الكافرين ، وبيان ما انطوت عليه أفئدتهم وأبصارهم من عناد وغباء ، { وَلَوْ فَتَحْنَا عَلَيْهِم بَابًا مِّنَ السَّمَاء فَظَلُّواْ فِيهِ يَعْرُجُونَ (14) لَقَالُواْ
إِنَّمَا سُكِّرَتْ أَبْصَارُنَا بَلْ نَحْنُ قَوْمٌ مَّسْحُورُونَ (15) } [الحجر] . فماذا تجدي المعجزات المادية مع هؤلاء ؟! وهم إنما ضلوا لاستغراق قلوبهم وعقولهم ، وهم لو تفتحت قلوبهم لاكتفوا بالقرآن آية لا تعلوها آية ، ومعجزة لا تدانيها معجزة ، { أَفَلَا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ أَمْ عَلَى قُلُوبٍ أَقْفَالُهَا (24) إِنَّ الَّذِينَ ارْتَدُّوا عَلَى أَدْبَارِهِم مِّن بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُمُ الْهُدَى الشَّيْطَانُ سَوَّلَ لَهُمْ وَأَمْلَى لَهُمْ (25) } [محمد] .
النبي الانسان
ولئن كان القرآن هو الكتاب الذي يصور للإنسانية آفاق كمالها ، إن محمداً صلوات الله عليه وسلامه هو الرجل الذي حقق في شخصه وفي آثاره أعلى ما تنشده الانسانية من مُثُل ، فقد رفع شأن (( الضمير )) عندما أعلن أن التقوى تستقر في القلوب الزكية ، ولا تغني عنها قشور العبادات ، وثبَّت قيمة العقل وجعله أصل دينه ، وأسس عليه المسلمون حضارة متشعبة الثقافات والفنون ، وصلت ما انقطع من تراث الانسانية الفكري ، وكانت البذور المنتجة التي أورثت العالم حضارته الحديثة .
ثم إن هذا النبي صلى الله عليه وآله وسلم هو المحرر الأول للانسان ، والمقرر الأول لحرية العقل والضمير . لقد جعل الكون كله مسخراً لنشاط الانسان الذهني والبدني ، وجعل الانسان سيداً في نفسه ، سيداً لعناصر هذا العالم ، عبداً لله فقط ، فلا سلطة البتة لدهاقين السياسات والديانات ! ونبي الاسلام عربي ، ولكن الدين الذي جاء به لا جنسية له ، وأي جنسية لدين
يخاطب العقل حيث كان ؟ ويبني أدلته على النظر في فجاج الأرض والسماوات ؟!
بينَ النبوة والعبقرية
تاريخ البشر حافل بأسماء الكثيرين من أصحاب المواهب الرفيعة ، والكفايات الضخمة . وعتْهُمُ الانسانية في ذاكرتها ، وسجلت لهم في صحائف الخلود ما قاموا به من أعمال جليلة ، وروت للأجيال آيات مجدهم ، وآثار نبوغهم ، لتكون منه عبرة حافزة . والعظمة قدر مشترك بين ألوف من الناس ، ظهروا في شتى الأعصار والأمصار ، ودفعهم امتيازهم المعنوي إلى اعتلاء القمة ، إلا أن العظماء يتفاوتون فيما بينهم تفاوتاً بعيد المدى .
ألا ترى كواكب السماء ونجومها ، إن بعضها أكبر من الآخر ألف ألف مرة ؟! ومع ذلك فالدراري الصغيرة ليست من الحصى والجنادل !
فإذا فحصنا تواريخ العظماء ، وفيهم الأنبياء من مبلِّغي الوحي ، وفيهم الفلاسفة من قادة الفكر ، وفيهم المخترعون من علماء الكون ، وفيهم الزعماء من قادة الجماهير ، وفيهم الأدباء من حملة القلم ، وفيهم ، وفيهم . فإن هذا التمحيص وما يستتبعه من موازنة وترجيح ، لا يميل بقدر أحد من أولئك العظماء ، من الحد الذي يهوي فيه إلى منازل السوقة .
العباقرة
كثيراً ما تكون العظمة امتداداً في موهبة من مواهب النفس ، بل كثيراً ما يكون هذا الامتداد على حساب المواهب الانسانية الأخرى . فإما أصابها
بالضمور والشلل ، وإما ردّ النواحي الأخرى من شخصية العظيم إلى مثيلاتها في سائر الناس ، بل قد تكون أبعد سقوطاً وأشد ضراوة !! ومن هنا لا تعدم في سيرة كل عظيم من أولئك المشهورين نقطة سوداء وجانباً غائماً .
كان نابليون قائداً محنكاً مِسعر حروب ، ولكنه كان ساقط الخلق ، فاحش الغدر .
وكان جاك روسو أديباً ثائراً ، من أعظم واضعي دساتير الحرية في العالم ، ولكنه كان معوج السلوك ، هزيل الشرف .
وكان بسمارك داهية في السياسة لا يبارى ، وكان كذلك كذاباً مزوراً .
وهناك من الفلاسفة والشعراء ، والمفكرين والمخترعين ، من تفجئك في أحوالهم وأعمالهم أمور شائنة ، تستغرب كيف يصدر مثلها عنهم !!
وهم - مع هذا كله - عباقرة ، لأن انتاجهم العلمي والأدبي ، وتراثهم الرائع الفريد ، يسمو بهم فوق مستوى العامة ، والذين طهرت سيرهم من هذه الشوائب ، تراهم مبرزين في ناحية ، ومعتادين في ناحية أخرى ، أو مرضى بما يفسد عليهم أفكارهم .
فأبو العلاء الأديب الرقيق المتشائم ، لو وهب معدة قوية ، أو بصراً حاداً ، لكان لفلسفته اتجاه آخر غير التبرم بالدنيا ، وتسخُّط الوجود فيها .
ومن أعظم زعماء العلماء من تراه أسير عقدة نفسية ، أو شذوذ جنسي ، أو أثرة حادة !
ومنهم المصابون بجنون العظمة وتقديس الذات ، وكراهية شيء معين أو محبته !
ولذلك تتسم حياتهم بالنقائض الموزعة على جانب مستور منهم ، وجانب مكشوف للجماهير ، لا غبار عليه . وقد اعتبرت الحضارة الأوربية هذا التناقض شيئاً عادياً مألوفاً ، ومن ثم أباحت للعظماء أن تكون لهم شخصية مزدوجة ، ورأت أن تنتفع الأمم بمواهبهم ، وأن تتجاوز لهم عن سقطاتهم . والانجليز يعرفون أن (( نلسن )) مات وهو يختلس عرض غيره ، ولكنهم يغضون الطرف . ويعرفون أن (( تشرشل )) خان عهوداً شخصية واجتماعية ، بَيدَ أنهم يتعامون عنها . فلْنَدَع هذا الفريق المعدود من زعماء العالم ولنرتفع . أجل لنرتفع كثيراً ، لنصل إلى مستوى أكرم وأطيب ، ولنتكلم عن صنف آخر .. هم
الأنبياء
لئن كانت العبقرية امتداداً في موهبة واحدة ، أو في جملة مواهب ، إن النبوة امتداد في المواهب كلها ، واكتمال عقلي وعاطفي وبدني ، وعصمة من الدنايا ، ورسوخ في الفضائل ، وعراقة في النُّبْل والفضل .
هُمُ الرجالُ المصابيحُ الذين همُ ... كأنهم من نجومٍ حيَّةٍ صُنعوا
أخلاقُهُم نُورهُم مِن أي ناحيةٍ ... أَقبَلتَ تَنظرُ في أخلاقهم سَطعوا
فالذين يُرَشّحون للنبوة يُصطفَون لها اصطفاء .
قلوب نقية تربطها بالملأ الأعلى أواصر الطهر والصفاء . وعقول حصيفة ناضجة ، لا تنخدع عن حقائق الأشياء ، ولا يصيبها ما أصاب كبار
الفلاسفة ، من شرود وعماء . وأجسام مبرأة من العلل الخبيثة ، والأمراض المشوهة أو المنفرة . وصلة بالناس قوامها البر والخير . فليس يتصور في حق نبي لله ، أنه أخلَّ بحق المروءة والفضل ، بَلْهَ أن يرتكب ما يخدش الشرف ، أو يقدح في العصمة !
ثم إن الرسل أمناء على الوحي السماوي ، والهداية الاسلامية ، فكلامهم حكمة ، وحياتهم أسوة ، سريرتهم وعلانيتهم سواء ، ليست لأحدهم صفة مطوية ، وصفحة مكشوفة .
طرائق معيشتهم الخاصة كمناهج دعوتهم العامة ، تنضح عفافاً واستقامة . ظلوا بين الناس ما شاء الله ، فكانت مجتمعاتهم بركة ، ثم قبضوا فخلفوا أقدس مواريث ، وأقدس تركة ، وحسبك أنهم خيرة الله من خلقه ، { اللّهُ أَعْلَمُ حَيْثُ يَجْعَلُ رِسَالَتَهُ } [الأنعام ] ، { اللَّهُ يَصْطَفِي مِنَ الْمَلَائِكَةِ رُسُلًا وَمِنَ النَّاسِ إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ بَصِيرٌ (75) يَعْلَمُ مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَمَا خَلْفَهُمْ وَإِلَى اللَّهِ تُرْجَعُ الأمُورُ (76) } [الحج] . وأقدار الرسل تتفاوت سناء وسمواً .
فالرسول في قبيلة محدودة ، أفضل منه الرسول لمدينة فيها مائة ألف أو يزيدون ، أفضل منه الرسول لشعب بأسره .
وصاحب الكتاب المستقل أفضل ممن يحكم بشريعة سابقة ، ولا نزال نرقى في مراتب العظمة ، ولا نزال نحلق صعداً نحو القمة ، ولا نزال نقطع أشواطاً بعد أشوط في مدارج الكمال البشري ، حتى نصل إلى مستوى تنحسر دونه أبصار العباقرة مهما طمحت ، وتتطامن عنده أقدار الأنبياء مهما عظمت ، لنجد صاحب الرسالة العظمى إلى خلق الله قاطبة ، ملتقى الفضائل المشرفة
، ومظهر المثل العلياء ، التي صورتها الخيالات ثم صاغها الله انساناً يمشي على الأرض مطمئناً .
ذلكم هو محمد بن عبد الله صلى الله عليه وآله وسلم ، وذلكم منزله بين عباقرة الأرض وأمناء الوحي !
أفق للمجد يزهو على كل أفق ، وتسطع فيه أشعة متموجة تنطلق بالحب والحنان والرحمة ، والعقل والفراسة والحكمة . هيهات هيهات أن يدرك كنه ذلك أحد ، فالعظيم لا يعرفه إلا عظيم مثله ، ومن كمحمد في الناس ؟!!
كيف ترقى رقيك الأنبياء ... يا سماء ما طاولتها سماء
لم يساووك في علاك وقد ... حالَ سناً منك دونهم وسناء
مسك الختام
كان المرسلون الأولون مصابيح تضيء في جوانب الليل الذي ألقى بِجِرِانه على أنحاء الدنيا ، فلما بدأ فجر الانسان ينشق عنه الظلام ، وبدأت أشعة الرسالة العامة تتهادى في الأفق ، انتقل العالم من عهد إلى عهد .
لا تذكروا الكتب السوالف قبله ... طلع الصباح فأطفأ القنديلا
والكلام في عظمة الشخصية التي حملت عبء هذه الرسالة يطول ، وحسبنا أن الله عز وجل جمع في سيدنا محمد صلى الله عليه وآله وسلم من شارات السيادة والنبالة ، ما تفرق في النبيين من قبل .
ولقد ذكر الله أسماء ثمانية عشر نبياً ، فيهم أولو العزم وأصحاب الرسالات الأولى ، ثم قال: { أُوْلَئِكَ الَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ وَالْحُكْمَ وَالنُّبُوَّةَ فَإِن يَكْفُرْ بِهَا هَؤُلاء فَقَدْ وَكَّلْنَا بِهَا قَوْمًا لَّيْسُواْ بِهَا بِكَافِرِينَ (89) أُوْلَئِكَ
الَّذِينَ هَدَى اللّهُ فَبِهُدَاهُمُ اقْتَدِهْ قُل لاَّ أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْرًا إِنْ هُوَ إِلاَّ ذِكْرَى لِلْعَالَمِينَ (90) } [الأنعام] .
وهذا الأمر بالاقتداء كان ماثلاً في ذهن النبي صلى الله عليه وآله وسلم وهو يقوم بتبليغ الدعوة . فلما طعن أحد المنافقين في تصرف له وهو يقسم الغنائم قائلاً: هذه قمسة ما أريد بها وجه الله . كظم النبي صلى الله عليه وآله وسلم غيظه وقال: (( رحم الله موسى لقد أوذي بأكثر من هذا فصبر )) .
ومن ثَمَّ قال المفسرون في شرح هذه الآية: إنها تومئ إلى فضل الرسول صلى الله عليه وآله وسلم على من سبقه .
فإن خصال الكمال التي توزعت عليهم ، التقت أطرافها في شخصه الكريم .
كان نوح صاحب احتمال وجَلَد وصبر على الدعوة .
وكان إبراهيم صاحب بذل وكرم ومجاهدة في الله .
وكان داود من أصحاب الشكر على النعمة وتقدير آلاء الله .
وكان زكريا ، ويحيى ، وعيسى من أصحاب الزهادة في الدنيا ، والاستعلاء على شهواتها .
وكان يوسف ممن جمع بين الشكر في السراء والصبر في الضراء .
وكان يونس صاحب تضرع وإخبات وابتهال .
وكان موسى صاحب شجاعة وبأس وشدة .
وكان هارون ذا رفق .
حتى تنظر إلى سيرة محمد صلى الله عليه وآله وسلم بعد هذه السير السابقة ، فتراها كالبحر الخضم تصب فيه الأنهار .
فمَبلَغُ العلمِ فيه أنهُ بَشَرٌ ... وأنهُ خيرُ خلق الله كُلّهمِ
موئل البطولات
من ذوي المواهب من يعيشون في عزلة قصيّة عن الجماهير ، ويؤثرون البقاء في البرج العاجيّ ، عما تستتبعه مخالطة الناس ، من سخط وتبرم .
ومنهم من يلقي بنفسه في معترك الحياة ومعه عُدة النجاح ، مع عمق النظرة ، وذكاء الفكرة ، والبصر النافذ إلى أدواء الشعوب وأدويتها . غير أنه مع هذه المواهب الجليلة ضيق العاطفة ، لا يألف إلا القليلين ممن هم على شاكلته في المزاج ، أو من يتفقون معه في الأهداف .
ومن العظماء من أوتي امتداداً في شخصيته ، وبسطة في مشاعره ، تجرف الناس إليه ، وتعلق القلوب به . ولسنا نقصد بهذا قوة السيطرة على العامة ، والقدرة على تحريكهم وتسخيرهم ، كلا كلا . وإنما نقصد هذا النوع من العظماء الذي يلتف به أصحاب الكفايات الكبيرة ، ويرمقونه بالإجلال ، ويقدمونه على أنفسهم ، عن طواعية واختيار .
وقد ظهر أفراد قلائل من زعماء الشعوب على هذا الغرار الفذ ، وتركوا في تاريخهم أثراً لا يمحى .
على أن الانسانية لم تعرف في ماضيها الطويل - ولن تعرف - رجلاً وقّرَه الأبطال وكرَّمه العظماء ، وانطبعت محبته في شغاف القلوب ، كما عرف ذلك في النبي الكريم ، محمد صلى الله عليه وآله وسلم .
كان أصحاب الشجاعة في القتال يحبونه ، لأنه أشجع منهم حين تحمر الحدق ويشتد البأس .
وكان أصحاب الحذق في السياسة والتدبير يحبونه ، لأنهم يرونه أكثر منهم مرونة ، وأرحب أفقاً .
وكان الأجواد الأسخاء يرونه وقد ملك وادياً من الإبل والغنم ، فما غربت عليه الشمس إلا وهو مِنَحٌ وهدايا للطالبين والراغبين .
وكان العبَّاد يرونه صواماً قواماً ، والزهاد يرونه عفيفاً مترفعاً ، وأصحاب البيان واللسان يرونه فصيحاً معرباً . حتى المعجبون بالقوى المادية ، كانوا يرونه مصارعاً يهزم العمالقة .
وهكذا ما عرف أحد من العظماء ميزة في نفسه يفخر بها ، إلا وجد رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم على خلق أعرق منها وأرقى . ولذلك يرفع إليه بصره مثلما يرفع الناس أبصارهم إلى القمم الشواهق التي لا تنال ! ومع هذا الجلال الفارع ، وذلك الامتياز الرائع ، فقد كان هذا الرسول الأمين قريباً بسهولة طبعه من كل فرد ، فما يعز مناله على أرملة أو مسكين ، بل بلغ من اتساع عواطفه وتدفق مشاعره ، أن كل فرد كان يحس في نفسه أنه آثر الناس عند رسول الله ، وأقربهم إليه ، وأعزهم عليه . كالشمس ترسل أشعتها فيستمتع الجميع بها ، ويأخذ كل امرئ حظه من الدفء والحرارة والمتعة ، لا يحس بأن أحداً يشاركه فيها ، أو يزاحمه عليها . كذلك كان محمد صلى الله عليه وآله وسلم مع صحابته ، يأوون من نفسه الكبيرة إلى كنف رحيم .
الوصفُ بالعبقرية
يقولون: إن النبوة هبة لا كسب ، وفضل يغدق ، لا نصيب يطالب به ويسعى إليه ، وهذا حق { أَهُمْ يَقْسِمُونَ رَحْمَةَ رَبِّكَ } [الزخرف: 32] ، { أَمْ عِندَهُمْ خَزَائِنُ رَبِّكَ أَمْ هُمُ الْمُصَيْطِرُونَ (37) أَمْ لَهُمْ سُلَّمٌ يَسْتَمِعُونَ فِيهِ فَلْيَأْتِ مُسْتَمِعُهُم بِسُلْطَانٍ مُّبِينٍ (38) } [الطور] .
بَيْدَ أن هذا الخير لا ينزل اتفاقاً ، ولا يدرك اعتباطاً !
وقد حاول شاعر في الجاهلية - بكثرة الكلام في الإلهيات - أن يكون نبياً ففشل ، وتوقع نفر من الأحبار والرهبان أن يصيبوا هذا الشرف ، ففاتهم مع تشوقهم إليه ورغبتهم فيه . إن الله سبحانه وتعالى يختار لهذا المنصب العظيم أهله !!
ومَن ظن أن العصمة تمنع المحنة والابتلاء ، أو أن الرسل الكرام ليسوا أكثر من حملة وحي ، وظيفتهم التبليغ المجرد ، كأن أحدهم مكبر صوت تنفخ من ورائه الملائكة ، فليست له مواهب ، ولا استعداد خاص ، ولا امتيازات رفيعة .
مَن ظن ذلك فقد ضل في فهم المرسلين ، وجهل ما حباهم الله به من خلال ، تجعل أعظم فلاسفة الأرض لا يصل إلى مصاف أقدامهم .
إن الكتَّاب الذين ألفوا في سيرة النبي صلى الله عليه وآله وسلم ووصفوه بالعبقرية ، يمكننا أن نقبل منهم هذا الوصف بحذر وبقدر .
نقبله إذا كان القصد منه كشف النقاب عن معالم العظمة الشخصية ، وإلقاء ضوء على البطولة الأدبية لأولئك المصطفَين الأخيار .
ونقبله إذا كان القصد منه الاعتراف بمبدأ الوحي الذي يصل المادة بما وراء المادة ، وهذا هو أساس النبو الأول .
ونرفضه إذا كان وصفاً لعظمة إنسانية معتادة ، تسلك صاحبها مع غيره من رجال التاريخ البارزين .
ذلك موقف المسلم من جمهرة المؤلفين والمؤرخين ممن كتبوا في حياة النبي الأمين " (1) .
- - -
__________
(1) عقيد ة المسلم 187-204.
ترجمة المؤلف
من الجدير بالذكر أن لخراسان وما جاورها من المناطق صلة وثيقة وقديمة ، بالتشيع لأهل البيت عليهم السلام عموما ، ولأئمة الزيدية ودعاتها خصوصا ، فالإمام يحيى بن زيد بن علي عليه السلام لاذ بخراسان وفجر ثورته من هنالك ، وأحبه الناس حتى أنه عام قتل واستشهد لم يولد ولد في خراسان إلا وسمي: يحيى ، ومشهده على مشارف الجوزجان مشهور مزور .
ومن بعده الإمام يحيى بن عبد الله بن الحسن بن الحسن بن علي بن أبي طالب ، والذي توجه أيضا إلى خراسان ، وكان الحسن بن زيد الملقب بالداعي الكبير مع يحيى بن عمر حين خرج إبان خلافة المتوكل والمستعين ، ولما قتل يحيى ، والذي سبق أن خرج إلى خراسان ، خرج الحسن هاربا وداعيا مع بعض أصحابه إلى الديلم ، ثم إلى طبرستان حيث نشر دعوته ، فبايعه أهلها عام (250هـ) ، ثم غزا بعد ذلك الري - طهران - ثم جرجان إلى أن توفي عام (270هـ) .
ثم تولى بعده أخوه الإمام محمد بن زيد ولقب بالداعي الصغير ، لأن بعض الزيدية لم يعدهما من الأئمة ، بل من الدعاة ، ولهذا لقبا بالداعيين .
وخرج الإمام الهادي يحيى بن الحسين عليه السلام إلى آمل قبل ظهوره في اليمن ، فنزل الإمام الهادي عليه السلام مع أصحابه ومنهم أبوه ، وبعض عمومته فندقا ، فامتلأ الفندق بالناس حتى كاد السطح أن يسقط وعلا صيته في آمل ، حتى خافه محمد بن زيد ، فكتب إليه الحسن بن هشام ، وكان وزيرا لمحمد بن زيد بأن ما يجري يوحش ابن عمك . فقال: ما جئنا ننازعكم
أمركم ، ولكن ذكر لنا أن لنا في هذه البلدة شيعة وأهلا ، فقلنا: عسى الله أن يفيدهم منا ، وخرجوا مسرعين ، وثيابهم عند الخياط لم يسترجعوها .
وأقام الإمام الناصر الأطروش دولة إسلامية هنالك .
من هنا نرى أن طبرستان والأقاليم المجاورة لها ، كانت أرضا خصبة لتقبل الفكر الزيدي ، فليس غريبا أن تنشأ فيها الدولة الزيدية والتي استمرت عدة قرون .
المؤلف
هو الإمام المؤيد بالله أبو الحسين ، أحمد ، بن الحسين ، بن هارون ، بن الحسين ، بن محمد ، بن هارون ، بن محمد ، بن القاسم ، بن الحسن ، بن زيد ، بن الحسن ، بن علي ، بن أبي طالب عليهم السلام .
أبوه
هو الحسين ، بن هارون ، كان من أعبان أصحاب الناصر الأطروش ، وكان إمامي المذهب.
أمه
أم الحسن ، بنت علي ، بن عبد الله الحسيني العقيقي .
مولده
ولد بآمل طبرستان في الكلاذجة ( محافظة مازندران حاليا ) تقع في شمال إيران على بحر الخزر . ولد سنة (333هـ) .
نشأته
نشأ في أحضان أسرة علوية كريمة ، تترشف رحيق العلم العلوي ، وتتنسم عبق الخلق النبوي ، " نشأ على السداد ، وأحوال الآباء الكرام والأجداد ، وتأدب في عنفوان صباه حتى برع فيه " (1) .
أخذ في طلب العلم والتوفر على المعرفة منذ نعومة أظفاره ، مع أخيه الناطق بالحق أبي طالب يحيى بن الحسين .
شيوخه
1ـ أبو العباس أحمد ، بن إبراهيم ، بن الحسن الحسني (خاله) .
2ـ أبو الحسين ، علي ، بن إسماعيل ، بن إدريس .
3ـ أبو عبد الله البصري شيخ المعتزلة المتوفى سنة (377هـ) .
4ـ قاضي القضاة عبد الجبار ، بن أحمد ، بن عبد ا لجبار ، شيخ المعتزلة المتوفى سنة (415هـ) .
5ـ قاضي القضاة أبو أحمد ، بن أبي علان .
6ـ أبو بكر المقري أحد علماء الحنفية .
7ـ الحافظ محمد ، بن عثمان النقاش .
8ـ أبو رشيد ، سعيد ، بن محمد النيسابوري .
__________
(1) الحدائق الوردية 2/65.
تلامذته
1ـ الإمام الموفق بالله أبو عبد الله الحسين ، بن إسماعيل الحسني ، والد الإمام المرشد بالله ، وصاحب كتاب (( الإحاطة )) في علم الكلام ، وكتاب (( الإعتبار وسلوة العارفين في الزهد )) .
2ـ الإمام أبو الحسين أحمد ، بن أبي هاشم ، المعروف بالشريف (( مانكديم )) وهو الذي قام بالإمامة بعده بـ(( لنجا )) سنة (417هـ) .
3ـ الشريف أبو جعفر الزيدي ، الزاهد العابد ، الذي استدعاه المؤيد بالله عليه السلام ليستخلفه أكثر من مرة فأبى .
4ـ الفقيه أبو القاسم ، بن تال الهوسمي الزيدي المتكلم ، راوي المذهب عن المؤيد بالله ، وجامع (( الإفادة ، والزيادات )) المتوفي سنة (420هـ) .
5ـ علي بن بلال الآملي الزيدي ، مولى السيد المؤيد بالله وأخيه أبي طالب ، وصاحب كتاب (( الوافي )) وتتمة (( مصابيح أبي العباس الحسني )) .
6ـ القاضي يوسف الخطيب الجيلاني صحبه ستة عشر عاما .
7ـ القاضي أبو الفضل زيد ، بن علي الزيدي .
8ـ أبو منصور ، بن شيبة الفرزاذي .
9ـ الشريف أبو القاسم ، بن زيد ، بن صالح الزيدي .
10ـ الشريف محمد ، بن زيد الجعفري .
11ـ القاضي أبو بكر الموحدي .
12ـ أبو الحسين الآبسكوني .
13ـ أبو علي ، بن الناصر الأطروش .
14ـ أبو الفوارس توران شاه ، بن خسرو شاه .
15ـ أبو عبد الله ، بن الحسين ، بن محمد سياه سريجان .
16ـ أبو القاسم يوسف ، بن كج الدينوري ، وكان إمام أصحاب الشافعي .
مؤلفاته
قال الموفق بالله: وله عليه السلام التصانيف المعجبة ، فمنها في الأصول: (( كتاب النبوات )) وهو يدل على غزارة علمه في الأصول ، ثم في الأدب ، فإنه بيّن المعارضات التي عورض بها القرآن الكريم ، وكشف عن إدحاضها وأبان عوارها بكل وجه ، وسلك في ذلك من طريقة علم الأدب ما يدل على علو منزلته وارتفاع درجته .
وله في الأصول: (( التبصرة )) كتاب لطيف ، وله في فقه الهادي عليه السلام (( كتاب التجريد )) وشرحه أربعة مجلدة استوفى فيها الأدلة من الأثر والنظر ، وأحسن فيها كل الإحسان. وله (( البلغة )) أيضا في فقه الهادي عليه السلام ، وله في فقه نفسه (( الإفادة )) مجلد ، و (( الزيادات )) مجلد ، علق ذلك أصحابه عنه. وفيه كل مسألة عجيبة ، وفتوى غريبة. ولهذين الكتابين شروح وتعاليق عدة ، ومهما طلبت الغرائب فإنها توجد في فقهه عليه السلام منصوصة (1) .
__________
(1) أخبار أئمة الزيدية /268.
من مؤلفاته:
1- كتاب إثبات النبوة. طبع عام (1979م) ، وهو هذا الذي بين يديك .
2- كتاب التجريد . في فقه الهادي يحيى بن الحسين وجده القاسم الرسي عليهما السلام .
3- كتاب شرح التجريد ، تحت التحقيق .
4- كتاب البلغة في الفقه .
5- كتاب (( الإفادة في الفقه )) . ويسمى أيضاً (( التفريعات )) ، تَوَلَّى جمعها تلميذه أبو القاسم بن تال: ويتضمن آراءه الفقهية وعليه زيادات وشروح وتعاليق عِدَّة .
6 - كتاب (( الزيادات )) . فتاوى ومسائل عليه زيادات ، وشروح ، وتعاليق عدة ، منها شرح القاضي أبي مضر.
7 - كتاب (( نقض الإمامة على ابن قبة الإمامي )) . صنفه في شبابه.
8 - كتاب (( إعجاز القرآن في علم الكلام )) . ذكره الجنداري في رجال الأزهار .
9 - كتاب (( التبصرة )) ـ وقد طبع بتحقيقي ـ عليه تعليق لإسماعيل الرازي ، وشرح للإمام الهادي الحسن بن يحيى القاسمي .
10 - تعليق على شرح السيد مانكديم. ذكره الجنداري في رجال الأزهار .
11 - الهوسميات. ذكره الجنداري في رجال الأزهار .
12 - كتاب الحاصر لفقه الناصر. ذكره حُمَيْد في الحدائق الوردية في ترجمة الناصر الأطروش .
13 - سياسة المريدين .
14 - رسالة جواب قابوس في الطعن على الصحابة. ذكره الحاكم
الجشمي في جلاء الأبصار .
15 - كتاب الدعوة .
16 - ديوان شعر . ذكره آغا بزرك الطهراني في الذريعة ج9/ق3 ص1127 . وقال: إنه ديوان ضخم .
17 - كتاب الأمالي الصغرى . طبع .
علمه
خاض الإمام المؤيد بالله في كل بحر من بحار العلم والمعرفة ، والتقط أنفس ما فيها ، فكان رأسا في علم الكلام ، والحديث ، والفقه وأصوله. أخذ علم الكلام وفق منهج المدرسة البغدادية .
كان في الأصل إماميا يرى رأيهم على طريقة والده ، بَيْد أنه كان متحرر الفكر ، لا يتقبل أي فكرة ويعتنقها إلا بعد فحص وتدقيق ، وعندما رأى بعض الأصول الإمامية لا تقوم على بينة من صريح العقل ، أو صحيح النقل ، ورأى التناقض والتعارض البيِّن في مروياتهم عن الأئمة ، أشاح بوجهه عنها ، وأخذ في البحث والنظر عن شاطئ أمان يرسو عليه ، فألقى بعصاه واستقر به النوى في رياض الزيدية ، وأحدث ذلك الانتقال هزة في صفوف الإمامية ، مما حدا بالشيخ الطوسي المعاصر له إلى أن يؤلف كتابه الشهير (( تهذيب الاحكام )) ردا عليه وتبيينا له .
قال الطوسي في مقدمة التهذيب: بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله ولي الحمد ومستحقه ، وصلواته على خيرته من خلقه محمد وآله وسلم تسليماً ، ذاكرني بعض الأصدقاء أيده الله ممن أوجب حقه علينا
بأحاديث أصحابنا أيدهم الله ورحم السلف منهم وما وقع فيها من الاختلاف والتباين والمنافاة والتضاد حتى لا يكادُ يتفق خبر إلا وبإزائه ما يضاده ، ولا يسلم حديث إلا وفي مقابلته ما ينافيه ، حتى جعل مخالفونا ذلك من أعظم الطعون على مذهبنا ، وتطرقوا بذلك إلى إبطال معتقدنا ، وذكروا أنه لم يزل شيوخكم السلف والخلف يطعنون على مخالفيهم بالاختلاف الذي يدينون الله تعالى به ، ويشنعون عليهم بافتراق كلمتهم في الفروع ، ويذكرون أن هذا مما لا يجوز أن يتعبد به الحكيم ، ولا أن يُبيح العمل به العليم ، وقد وجدناكم أشد اختلافا من مخالفيكم ، وأكثر تبايناً من مباينيكم ، ووجود هذا الاختلاف منكم ، مع اعتقادكم بطلان ذلك دليل على فساد الأصل ، حتى دخل على جماعة ممن ليس لهم قوة في العلم ، ولا بصيرة بوجوه النظر ومعاني الألفاظ شبهة ، وكثير منهم رجع عن اعتقاد الحق لما اشتبه عليه الوجه في ذلك ، وعجز عن حل الشبهة فيه ، سمعت شيخنا أبا عبد الله أيده الله يذكر أن أبا الحسين الهاروني العلوي كان يعتقد الحق ويدين بالإمامة ، فرجع عنها لما التبس عليه الأمر في اختلاف الأحاديث وترك المذهب ودان بغيره (1) .
كان الإمام المؤيد بالله ذا عارضة قوية ، وقريحة صافية ، وبديهة حاضرة ، ولسان حاد ، محاورا من الطراز الأول ، يناظر ويحاور علماء المسلمين واليهود ، فلا يسعهم إلا التسليم له ، والإذعان لحجته .
__________
(1) تهذيب الاحكام 1/3.
قال الشهيد حميد: كان وحيد عصره ، وفريد دهره ، والحافظ لعلوم العترة عليهم السلام ، والناصر لفقه الذرية الكرام (1) .
وقال أيضا: كان عليه السلام ( بحرا يقذف بالدرر ، وجونا يهطل بالدرر ، لم يبق فن إلا وقد بلغ فيه الغاية ، وأدرك النهاية ) (2) .
وقال مصنف سيرته الإمام الموفق بالله: كان عارفاً باللغة والنحو ، متمكناً من التصرف في منثورها ومنظومها ، وكان يعرف العروض والقوافي ونقد الشعر ، وكان فقيهاً بارعاً متقدماً فيه مناظراً. وكان متقدماً في علم الكلام وأصول الفقه ، حتى لا يعلم أنه في أي العلوم الثلاثة كان أقدم وأرجح. ولم يبلغ النهاية في العلوم الثلاثة غيره ، وإنما تقدم في علم أو علمين. وكان قد قرأ على الشيخ المرشد أبي عبد الله البصري ، ولقي علماء جميع عصره واقتبس منهم. وعلق زيادات الشرح بأصفهان عن قاضي القاضاة بقراءة غيره. وحكي عن الشيخ أبي رشيد أنه قال: لم أرَ السيد أبا الحسين منقطعا قط مع طول مشاهدتي له في مجلس الصاحب ، وكان لا يُغلب إن لم يَغلب ، وكانا يستويان إن لم يظهر له الرجحان .
وذكر بعض من صنف في أخباره ، أن الصاحب الكافي قال ذات ليلة للحاضرين: ليذكر كل واحد منكم أمنيته ، فذكروا ، فقال: أما أنا فأتمنى أن يكون السيد أبو الحسين حاضراً وأنا أسأله عن المشكلات وهو يبينها لي بألفاظه الفصيحة وعباراته المليحة. وكان قد فارقه إلى أرض الديلم .
__________
(1) الحدائق الوردية 2/65.
(2) الحدائق الوردية 2/67.
ويُحكى أن يهودياً متقدماً في المناظرة والمجادلة قدم على الصاحب ، فاتفق أنه حضر مجلس الصاحب ، فكلم اليهودي في النبوات حتى أعجزه وأفحمه ، فلما قام من المجلس ليخرج قال له الصاحب: أيها السيد أشهد أنك أوتيت الحكمة وفصل الخطاب .
وحكي عنه قدس الله روحه أنه قال: عزمت على أن أسافر إلى الأهواز للقاء قاضي القضاة أبي أحمد بن أبي علان وسماع مختصر الكرخي عنه ، فأنهيت إلى الصاحب ما وقع في قلبي ، فكتب كتاباً بخط يده وأطنب في وصفي ورفع عن قدري حتى كنت أستحيي من إيصال ذلك الكتاب ، فأوصلت الكتاب إلى قاضي القضاة ، فقال: مرحباً بالشريف فإذا شاء افتتح المختصر. ولم يزد على ذلك ولا زارني بنفسه مع تقاعدي عنه من الغد ، ولا أزارني أحدا من أصحابه .
فعلمتُ أنه اعتقد في كتاب الصاحب أنه صدر عن عناية صادقة لا عن حقيقة. فقعدت عنه ، حتى كان يوم الجمعة حضرت الجامع بعد الظهر ومجلسه غاصّ بكبار العلماء ، فقد كان الرجل مقصوداً من الآفاق ، فسئل القاضي أبو أحمد مسألة كلامية ، وكان لقي أبا هاشم فقلت لما توسط في الكلام: إن لي في هذا الوادي مسلكاً ، فقال: تكلم ، فأخذت في الكلام وحققت عليه المطالبات ، ثم أوردت أسئلة عرَّقتُ فيها جبينه ، فامتدت الأعين نحوي. فقلت بعد أن ظهرت المسألة عليه: يقف على فضلي القاضي. وسئل شيخ إلى جنبه عن مسألة في أصول الفقه ، فلما أنهى السائل ما عنده قلت: إن لي في هذا الجوّ متنفساً ، فقال القاضي: والأصول أيضا ؟! فحققت تلك
المسألة على ذلك الشيخ ، فظهر ضعفه ، فسامحته. وسئل شيخ عن يساره عن مسألة في الفقه فقلت: لي في هذا القطيع شاة ، فقالوا: والفقه أيضاً ؟! فأوفيت الكلام في تلك المسألة أيضا حتى تعجب الفقهاء من تحقيقي وتدقيقي ، فلما ظهرت المسألة كان المجلس قد انتهى. فقام القاضي من صدره وجاء إلى جنبي فقال: أيها السيد نحن ظننا أن الصدر حيث جلسنا فإذا الصدر حيث جلست ، فجئناك نعتذر إليك من تقصيرنا في بابك. فقلت: لا عذر للقاضي مع استخفافه بي مع شهادة الصاحب بخطه. فقال: صدقت لا عذر لي ، ثم عادني من الغد في داري مع جميع أصحابه وبالغ في التواضع ، فحضرته فقرأت عليه الأخبار المودَعة في المختصر فمسعتها بقراءته ، وأمدّني بأموال من عنده ، فرددتها ولم أقبل شيئا منها ، وقلت: ما جئتك عافياً مستمنحاً ، فقد كان حضرة الصاحب أوفى حالاً وأسهل منالاً ، ولم يكن هناك تقصير في لفظ ، ولا تفريط في لحظ ، ففارقته فشيعني مع أصحابه مسافة بعيدة وتأسفوا على مفارقتي (1) .
وقال أيضا: وسمعت الشيخ أبا الفضل ابن شروين رحمه الله يقول: دع أئمة زماننا ، إنما الشك في الأئمة المتقدمين من أهل البيت وغيرهم ، هل كانوا مثل هذا السيد في التحقيق في العلوم كلها أم لا ؟!
قال: وسمعت القاضي أبا الحسين الرفّاء يقول: ليس اليوم في الدنيا أشد تحقيقاً في الفقه من السيد أبي الحسين الهاروني .
__________
(1) أخبار أئمة الزيدية / 265 - 267.
وحكي أن المؤيد بالله سئل عن الطلاق الثلاث بلفظة واحدة في مجلس الصاحب ، فكلمه القاضي أبو القاسم بن كج ، وكان إمام أصحاب الشافعي ، وآل الكلام إلى جميع من حضر من الفقهاء ، فانقطعوا في يده ، فقال الصاحب: يقال: لا علم لطائفة فيهم هذا الأسد ، يعني المؤيد بالله .
وحكي أنه ورد عليه من كلار مسائل صعبة على أصول الهادي ، فأجاب عنها ، وهذه المسائل موجودة ، فقال الصاحب: لست أتعجب من هذا الشريف كيف أتى بهذا السحر ، وإنما أتعجب من رجل بكلار كيف اهتدى إلى مثل هذه الأسئلة (1) .
وقال الشهيد حميد: ولقد حكى لي بعض أصحابنا الواصلين من ناحية العراق ، وهو الفقيه الفاضل الحسن بن علي بن الحسن الديلمي اللنجائي رضي الله عنه ، أنه بات ليلة من الليالي ومعه رجل من الصالحين ، فبات ذلك الرجل يعبد الله عز وجل والسيد المؤيد بالله بالقرب منه ، فلما طلع الفجر قام المؤيد للصلاة ، فقال له ذلك الرجل: أيها السيد أتصلي بغير وضوء ؟! فقال: لم أنم في هذه الليلة شيئا ، وقد استنبطت سبعين مسألة. ولقد كان علماء عصره يعجبون من تحقيقه وشدة تدقيقه. ولا عجب من أمر الله يؤتي فضله من يشاء ، ولذرية الرسول صلى الله عليه وآله المزّية على من عداهم ، والفضل على من سواهم .
ولقد سمعت شيخنا الفاضل العالم محيي الدين محمد بن أحمد بن الوليد القرشي الصنعاني رضي الله عنه يحكي أن السيد المؤيد بالله قدس الله روحه ،
__________
(1) أخبار أئمة الزيدية /269 -270.
لما توفي وأقبل الناس إلى أخيه السيد أبي طالب عليه السلام يسألونه ، فقال له قائل: أين كان هذا العلم في حياة السيد أبي الحسين ؟! فقال: أوكان يحسن بي أن أتكلم والسيد أبو الحسين في الحياة ؟! مع أن علم السيد أبي طالب غزير ، وفهمه جم كثير ، على ما نحكي ذلك .
وروينا أنه قيل لأخيه السيد أبي طالب عليه السلام: أتقول بإمامة أخيك؟ فقال: إن قلنا بإمامة زيد بن علي ، فما المانع من القول بإمامة أخي؟! فانظر كيف شبهه عليه السلام بأعلى الأئمة قدراً ، وأغزرهم علماً ، لأنا قد بيّنا أنه أقام خمسة أشهر يفسر سورة الحمد والبقرة ، وذكرنا غير ذلك مما يكثر (1) .
وقال أيضا: كان في بعض الليالي يطالع مسألة مع الملحدة الدهرية ، فاشتبه عليه جواب مسألة ، فأمر باتخاذ مشعلة وقصد باب قاضي القضاة ، بعد قِطْع من الليل وهدوء الناس والأصوات ، فأُخبر قاضي القضاة بحضوره ، فاشتغل خاطره وهيأ مكاناً وجلس فيه حتى إذا دخل عليه وجاراه في تلك المسألة وانفتح له جوابها واتضح لديه ما كان منها ، قال له قاضي القضاة: هلا أخّرت إلى الغد وتعنيت في هذا الوقت ؟ فقال المؤيد مغضباً من كلامه متعجبا: ما هذا بكلام مثلك !! أيجوز لي أن أبيت وقد أشكلت علي مسألة ، ويمكننني أن أجتهد في حلّها ؟! فاعتذر إليه قاضي القضاة وقال: إنما ذكرت هذا الكلام على الرسم الجاري من الناس ، وطيَّب قلبه وعاد إلى منزله (2) .
__________
(1) أخبار أئمة الزيدية / 268 - 269.
(2) أخبار أئمة الزيدية / 271.
وقال الموفق بالله: وحُكيَ أنه وقع بينه وبين قاضي القضاة وحشة واستزادة بسبب مسألة الإمامة ، فتقاعد عن لقائه حدود شهر ، حتى ركب إليه قاضي القضاة وقال له: قد بلغك حديث جدك الحسن بن علي وأخيه الحسين وقول الحسين: لولا أن الله فضلك في السن علي حتى أردت أن يكون السبق لك إلى كل مكرمة ، لسبقتك إلى فضل الاعتذار ، فإذا قرأت كتابي هذا فاسبق إلى ما كتب الله لك من حق السبق ، والبس نعلك وقدِّم في العذر والصلح فضلك. فقال المؤيد بالله: قد أطاع قاضي القضاة أيضا فضل سهمه وعلمه ، وعمل بمقتضى ما زاده الله من سهمه ، واعتنقا وطالت الخلوة والسلوة بينهما .
وكان الصاحب يقول: الناس يتشرفون بالعلم والشرف ، والعلم تشرف بقاضي القضاة ، والشرف ازداد شرفاً بالشريف أبي الحسين .
وكان الصاحب يعظمه كل الإعظام ، وكانت يمينه للسيد المؤيد بالله ، ويساره لقاضي القضاة ، وكا لا يرفع فوق المؤيد أحداً ، إلى أن قدم العلوي رسولاً من خراسان وكان محتشماً عند السلطان ملك الترك الخاقان الأكبر مبجلاً عنده ، حتى أن الصاحب استقبله ، فلما دخل عليه أجلسه عن يمينه ، فلما دخل المؤيد بالله رآه على مكانه فتحير ، فأشار غليه الصاحب أن يرتفع إلى السرير الذي استند إليه الصاحب ، فصعد المؤيد بالله إلى السرير وجلس في الدست الذي كان عليه (1) .
__________
(1) أخبار أئمة الزيدية / 271 - 272.
شعره
من شعره عليه السلام قوله:
تُهذِّبُ أخلاقَ الرجالِ حوادثٌ ... كما أنَّ عينَ السَّبك يُخلصه السَّبكُ
وما أنا بالواني إذا الدهرُ أمَّني ... ومن ذا مِنَ الأيام ويحكَ ينفكُّ
بلانيَ حيناً بعد حينٍ بلوتهُ ... فلم أُلفَ رِعديداً يُنهنهُهُ السَّهكُ
وحنَّكني كَيْما يقود أزمَّتي ... فطحطحتُهُ حنكاًَ وما عقَّني الحنكُ
ليعلمَ هذا الدهرُ في كلِّ حالةٍ ... بأنّي فتى المضمارِ أصبحَ يَحتكُّ
نماني آباءٌ كرامٌ أعزَّةٌ ... مراتبُها أنَّى يُحيطَ بها الدَّركُ
فما مُدركٌ بالله يبلُغُ شأوهَم ... وإن يكُ سبَّاقاً فغايتهُ التَّركُ
فلا بَرقُهم يا صاحِ إن شِمتَ خُلَّبٌ ... ولا رفدُهم ولسٌ ولا وعدُهُم إفكُ
بهم زَهَتِ الأعرابُ في كلِّ مشهدٍ ... سكونٌ ولخمٌ ثم كِندةُ أوعكُّ
وقال عليه السلام يمدح الصاحب الكافي:
سقى عهدها صوبٌ من المُزنِ هاطلٌ ... تحيَّى به تلك الرُّبى والمنازلُ
منازلُ نجمُ الوصل فيهنَّ طالعٌ ... يُضيءُ ونجمُ الهجرِ فيهنَّ آفلُ
ومُرتبعٌ للَّهوِ بينَ ربُوعها ... مسارحُهُ مأنوسةٌ والمناهِلُ
رياضٌ حَكَتْ أبرادَ صنعاءَ رُقمُها ... غداةَ حباها الوشيَ طلٌّ ووابلُ
وكلُّ سحابٍ شافَهَ الأرض قُربهُ ... كأنَّ التِماعَ البرقِ فيه مشاعلُ
سحبنا عطافَ اللهو في عرصاتها ... وعنَّ لنا فيها غزالٌ مغازلُ
وطابت بها الأيامُ إذ سمحتْ لنا ... بما سَمَحَت والدهرُ عنهنَّ غافلُ
وكان شبابي عاذلاً لعواذِلي ... وليس لها في أنْ تُعاتبَ طائلُ
نَعِمنا بها لم نعرفِ البؤسَ والأسَى ... فلا الجهلُ مُنتابٌ ولا الوصلُ راحلُ
كأنيَ أُغرى بالصبابةِ كُلمَّا ... وشَى بيننا الواشي ولجَّ العواذلُ
لياليَ عينُ الوصلِ فيها قريرةٌ ... كما أَنَّ دمع الهجرِ أَخرقُ هاملُ
وإذ لِمَمي للغانياتِ صوائدٌ ... ولي حَولَ ربّاتِ الحجالِ حبائلُ
أجُرُّ رِدائي صبوةً وصبابةً ... هُما شيمٌ أرضى بها وشمائلُ
إلى أن بدا للشَّيبِ بين مفارقي ... أساطيرُ لم تنهض لهنَّ أناملُ
فللأُنس عنّي حيثُ كنتُ تنكُّبٌ ... وللهمِّ حولي حيث سرتُ قنابلُ
أتانا الربيعُ الغضُّ في ثوبِ عفَّةٍ ... فجاءَ به أُنس من الغيِّ حائلُ
إذا حاول الضَّلالُ إسعافَ أهله ... فمِن دون ما يبغي مِنَ الصَّومِ خامل
كذا مَنْ يسوسُ الصاحبُ القرمُ أمرهُ ... تتمُّ له النُّعمى وتَزكو الفضائلُ
ولمَّا انتحى النَّيروزُ خدمةَ بابه ... تنسَّكَ حتى ليسَ ينحوهُ باطلُ
غَدَا سيفه الظمآنُ في اللهِ مُصلتاً ... على منكبِ الجوزاء منه الحمائلُ
وفصلُ خطابٍ لم تنله الأوائلُ ... إذا عَنَّ لم تشمخ بسحبانَ وائلُ
تبلَّجُ عنه غُرَّةُ الدين والهدى ... وشخص الرَّدى من وقعه مُتضائلُ
دعا دعوةً لله جرَّدَ سيفها ... فللكفر منها حيثُ شاء زلازِلُ
ولمَّا شكت أرضُ الجبال خطوبَها ... ولاذَت به حين اعترتها الغوائلُ
وأَذرَت دُموعاًَ مثلَ نائله الذي ... يفيضُ وهَلْ تُغني الدموعُ الهواملُ
دعا نحوها عزماً كَبَا البرقُ دونَه ... وكلَّ لديه السيفُ والسيفُ قاصلُ
فشقَّ ظلام الظُّلم عن وجه أهلها ... ولم يبقَ فيها عن سَنَا العدل عادل
وأوضح فيها للنجاةِ دلائلاً ... وقد غُمِرت تلك النُّهى والدلائلُ
ومِنْ قبلُ ما حكَّمتَ قي كل مارقٍ ... أقامَ مقامَ الرّوحِ منه المَناصل
صوارمَ واصلن الطُّلى فألِفْنَها ... وإنَّ قضايا المُرهَفاتِ فواصلُ
وشرَّدت من أبقت سيوفُك منهمُ ... ومن دونِ ما لاقوهُ تَطوي المراحِل
وليس لهم إلا السيوفُ منازلٌ ... وليس لهم إلا الحُتوفُ رواحِلُ
ألا أَيُّهذا الصاحبُ الماجدُ الذي ... أناملُه العُليا غُيوثٌ هواطِلُ
أناملُ لو كانت تُشيرُ إلى الصَّفا ... تفجَّرَ للعافينَ منها جَداول
لأَغنيتَ حتى ليس في الأرض مُعدمٌ ... وأعطيتَ حتى ليس في الأرض آملُ
وكم لك في أبناءِ أحمدَ من يدٍ ... لها مَعلَمٌ يومَ القيامة ماثلُ
إليكَ عقيدَ المجد سارت ركابُهم ... وليسَ لهم إلا عُلاكَ وسائل
فأعطيتهم حتى لقد سئموا اللُّهَى ... وعادَ من العُذَّال من هو سائل
وأسعدتَهم والنحسُ لولاك ناجمٌ ... وأَعززتهَم والذُّلُ لولاكَ شامل
فكلُّ زمانٍ لم تزيِّنه عاطلٌ ... وكلُّ مديحٍ غير مدحكَ باطلُ
ولما قال أحمد بن محمد الهاشمي المعروف بابن سُكَّرة:
إن الخلافةَ مُذْ كانتْ ومُذْ بدأتْ ... معقودةٌ بفتىً من آل عباس
إذا انقضى عُمرُ هذا قامَ ذا خلفاً ... ما لاحتِ الشمسُ وامتدَّتْ على الناس
فقلْ لمنْ يرتجيها غيرهُمْ سفهاً ... لو شِئتَ روَّحتَ كربَ الظنِّ بالياسِ
فأجابه السيد المؤيد بالله قدس الله روحه في حال حداثته:
قُلْ لابن سُكرةٍ يا نَغْلَ عباس ... أَضحتْ خلافتكُم منكوسَةَ الراسِ
أمَّا المطيعُ فلا تُخشَى بوادِرُهُ ... يعيشُ ما عاشَ في ذُلٍّ وإتعاسِ
فالحمدُ لله رَبِّي لا شريك له ... خصَّ ابنَ داعي بتاجِ العّزِ في الناسِ(1)
فأحوج المؤيد بالله إلى مفارقة جيلان وامتد إلى الري وأنشد:
فررتُ من العُداة إلى العُداةِ ... وكنتُ عددتُهم زُمَرَ الثِّقاتِ
لقد خابتْ ظنوني عند قومٍ ... يرونَ محاسِني من سَيِّئاتي
يُهِيجونَ الغُواةَ عليَّ هيجاً ... وهم شَرٌ لديَّ من الغُواةِ (2)
__________
(1) أخبار أئمة الزيدية / 274 - 280.
(2) أخبار أئمة الزيدية / 282 - 283.
ورعه وزهده وحلمه
كان عليه السلام في الورع والتقشف والاحتياط والتقزز إلى حد تقصر العبارة دونه ، والفهم عن الإحاطة به. وتصوَّف في عنفوان شبابه حتى بلغ في علومهم مبلغاً منيعاً ، وحل في التصوف والزهد محلاً رفيعاً ، وصنف سياسية المريدين. وكان عليه السلام يحمل السمك من السوق إلى داره ، وكانت الشيعة يتشبثون به ويتبركون بحمله فلا يمكِّن أحداً من حمله ، ويقول: إنما أحمله قسراً للهوى وتركاً للتكبر ، لا لاعواز مَن يحمله. وكان قدس الله روحه يجالس الفقراء وأهل المسكنة ، ويكاثر أهل الستر والعفة ويميل إليهم ، ويلبس الوسط من الثياب القصيرة إلى نصف الساقين قصيرة الكمين. وكان يرقع بيده قميصه ، ويشتمل بإزارٍ إلى أن يفرغ من إصلاحه. وكان يلبس قلنسوة من صوف أحمر مبطنة يحشوها بقطن ، ويتعمم فوقها بعمامة صغيرة متوسطة. وكان يلبس جورباً يخيطه من الخِرَق ثم يلبس البطيط. وكان لا يتقوَّت ولا يُطعم عياله إلا من ماله. وكان يردّ الهدايا والوصايا إلى بيت المال ، وكان يكثر ذكر الصالحين ، وإذا خلا بنفسه يتلو القرآن بصوت شجي حزين. وكان غزير الدمع ، كثير البكاء ، دائم الفكر ، يتأوّه في أثنائه ، وربما تبسَّم أوكشر عن أسنانه .
قال القاضي يوسف: صَحبته ست عشرة سنة فلم أره مستغرقاً في الضحك. وكان لا يفطر في شهر رمضان حتى يفرغ من العشاء الآخرة. وكان يداوم على الصلاة بين العشائين ، ويُطعم في شهر رمضان كثيراً من
المسلمين. وكان يمسك بيت المال بيده ويحفظه بنفسه ولا يثق فيه بأحد ، ويفرّق على الجند بيده ، ويوقّع في الخطوط بيده .
ويُحكى أنه رضي الله عنه اشتهى يوماً من الأيام لحمَ حوت ، فبعث الوكيل إلى السماكين فلم يجد فيها إلا حوتاً لم يقطع ، وقالوا: لا نريد أن نقطعه اليوم ، فعاد إليه وأخبره بامتناعهم من قطعه. فوجّه به ثانياً وقال: مرهم عني بقطعه ، فأبوا بقطعه ، فلما عاد إليه حمد الله على أن رعيته لا تحذر جنبته ، وأنه عندهم ورعاياه سواء .
وكان قدس الله روحه كثير الحِلْم عظيم الصفح. يُحكى أنه دخل المتوضأ ليجدد الطهارة فرأى فيه رجلاً متغير اللون يرتعد فزعاً ، فقال له: ما دهاك ؟ فقال: إني بعثت لقتلك. قال: وما الذي وَعَدُوك عليه ، قال: بقرة ، قال: ما لنا بقرة ، وأدخل يده في جيبه وناوله خمسة دنانير وقال: اشتر بها بقرة ولا تعُد إلى مثل ذلك .
وحُكي أنه قدس الله روحه كان يسير في طريق كلار فطلب ممِطَراً له من بُندار صاحبه ، فقال: هو على بغل لبيت المال ، فأنكر عليه وقال: متى عهدتني أستجيز حمل ملبوسي على دواب بيت المال ؟ فأمر بإخراجه وتوفير الكراء من ماله. وكان يصرف عليه السلام من خاص ماله إلى بيت المال ما يكون عوضاً عما يرسله الكتّاب في أول الكتب وتفرجه بين السطور إلى الكبار .
وحكي أن شيئاً من المقشَّر حُمل إلى داره لصرفه في مصالح المسلمين ، فالتقط منه حبّاتٍ بعضُ الدجج التي تُقتنى لأكله خاصة ، فغرم من ماله أضعاف ذلك ، وقيل: إنه صرف الدجج إلى بيت المال .
ورورى أن ولده الأمير أبا القاسم شكا إليه ضيق يده وقلة نصيبه من بيت المال ، واستأذنه في الإنصراف ، فأطلق له ذلك ، فقال له أصحابه: إن أبا القاسم فارس فَارِهٌ ولا غنى عن مثله ، فلو أطلق له ما يكفيه ، فقال: إني أدرّ عليه ما نَصيبه ولا يمكن الزيادة عليه ، فإن الله سبحانه أمر بالتسوية بين الأولاد والأجانب .
وكان له صديق يتحفه كل سنة بعدد من الرمان ، فلما كان في بعض السنين زاد على رسمه وعادته ، فسأله عن ذلك؟ فقال: لأن الله زاد في رماننا فزدنا في رسمك. فلما أراد الخروج شكا عن بعض الناس ، فقال: رُدّوا عليه رمانه كله ، وأمر بإزالة شكايته ودفع الأذى عنه ، إلى غير ذلك من الحكايات الجمة في ورعه وزهده وتقشفه (1) .
جهاده
عاش المؤيد بالله في عصر يموج بالفوضى والفتن ، يحكمه الاستبداد السياسي ، وتتقاسمه الدويلات المتنازعة الخارجة على بني العباس بعد ضعف دولتهم المركزية ، وحصادهم نتائج استبدادهم وجورهم وتحكمهم في مصائر البلاد والعباد ، وجعلهم مال الله دولا وعباده خولا .
وقد نهض المؤيد بالله داعياً إلى الله ، خارجاً على الظلمة ، فكان أول خروج له سنة (380هـ) قبل وفاة الصاحب بن عباد بأربع سنوات ، وفشلت حركته ، فخلصه الصاحب من انتقام بني بويه الذين كانوا يحكمون
__________
(1) أخبار أئمة الزيدية / 263 - 265.
الجيل والديلم في تلك الفترة. ثم عاد مرة أخرى فقام بالإمامة وبايعه الجيل والديلم واستتب له الأمر في تلك البلاد فترات ، وخرج من يده فترات أخرى ، وخاض حروباً طاحنة ، وجابه معارضين أشداء ، منهم: أبو الفضل بن الناصر. وتغلب عليه السلام على (( هوسم )) ثم هزمه (( شوزيل )) ، فعاد إلى الري ، ومكث بآمل حتى جاءته الكتب بمناصرة الجيل والديلم ، فعاد وافتتح مدينة هوسم ، ثم افتتح آمل ، وبقي عليه السلام في كر وفر وجهاد يطول شرحه ، حتى توفاه الله يوم عرفة سنة (411هـ) (1) .
منهجه في الحكم
أما عن منهجه في الحكم ورؤيته للسلطة فيمكن أن يتبينه القارئ من كتاب دعوته الذي ضمنه المبادئ والأفكار التي قام من أجلها ، والذي حدد فيه ما يجب عليه تجاه المجتمع ، وما يجب له إن عدل من الطاعة .
قال: عباد الله إني رأيت أسباب الحق قد مرجت ، وقلوب الأولياء به قد خرجت ، وأهل الدين مستضعفين في الأرض ، يخافون أن يخطفهم الناس ، ورأيت الأموال تؤخذ من غير حلها ، وتوضع في غير أهلها ، ووجدت الحدود قد عطلت ، والحقوق قد أبطلت ، وسنن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قد بدلت وغيرت ، ورسوم الفراعنة قد جددت واستعملت ، والآمرين بالمعروف قد قلوا ، والناهين عن المنكر قد وَهنوا فذلوا ، ووجدت أهل بيت لانبي صلى الله عليه وآله وسلم مقموعين مقهورين مظلومين ، لا
__________
(1) يرجع في ذلك إلى الحدائق الوردية 2/ 73 - 78.
يؤهلون لولاية ولا شورى ، ولا يتركون ليكونوا مع الناس فوضى ، بل منعوهم حقهم ، وصرفوا عنهم فيهم ، فهم يحسبون الكف عن دمائهم إحسانا إليهم ، والانقباض عن حبسهم وأسرهم إنعاماً عليهم ، يطلبون عليهم العثرات ، ويرقبون فيهم الزلات ، ووجدتهم في كل واد من الظلم يهيمون ، وفي كل مرعى من الضلال يسيمون بعضه بعضا ، وأموال تنهب نهباً ، لا يرقبون في مؤمن ألاًّ ولا ذمة ، وأولئك هم المعتدون ، ? ?????? ?????????? ????????????? ???????????? ??????????????? ???????? ????????? ????????????? ? ???????????? ???????? ?????????????? ???????? ???? ? [النساء:10] .
ووجدت الفواحش قد أقيمت أسواقها وأدية نفاقها ، لا خوف الله يُذع ، ولا حتى الناس يمنع ، بل يتفاخرون بالمعاصي ، ويتنابزون ويتباهون بالإثم ، قد نسوا الحساب ، وأعرضوا عن ذكر المآب والعقاب ، فلم أجد لنفسي عذراً أن قعدت ملتزماً أحكامهم ، متوسط آثامهم ، أونسهم ويونسوني ، وأسالمهم ويسألموني ، فخرجت أدعوا إلى الله على بصيرة أنا ومن اتبعني ، وسبحان الله وما أنا من المشركين .
أيها الناس أدعوكم إلى كتاب الله وسنة نبيه صلى الله عليه وآله وسلم ، والرضى من آل محمد ، ومجاهدة الظالمين ، ومنابذة الفاسقين ، وإني كأحدكم لي ما لكم وعلي ما عليكم ، إلا ما خصَّني الله به من ولاية الأمر ، يا قومنا أجيبوا داعي الله وآمنوا به ? ??????????? ????? ???? ????????????? ??????????? ?????? ??????? ???????? ???? ? [الأحقاف:31] ، استجيبوا لربكم من قبل أن يأتي يوم لا مردّ له من
الله ، ما لكم من ملجأ يومئذ ، وما لكم من نكير ، تعاونوا على البر والتقوى ولا تعاونوا على الإثم والعدوان ومعصية الرسول .
أيها الناس سارعوا إلى بيعتي ، وبادروا إلى نصرتي ، وازحفوا زحفاً إلى دار هجرتي ، انفروا خفافاً وثقالا ، وجاهدوا بأموالكم وأنفسكم ، ذلكم خير لكم إن كنتم تعلمون ، ولا تركنوا إلى هذه الدنيا وبهجتها ، فإنها ظل زائل ، وسحاب حائل ، ينقضي نعيمها ، ويضعن مقيمها ، والآخر خير وأبقى أفلا تعقلون ، وإن الدار الآخرة لهي الحياة لو كانوا يعلمون ، تلك الدار الآخرة نجعلها للذين لا يريدون علوا في الأرض ولا فسادا والعاقبة للمتقين .
أيها الناس مهما اشتبه عليكم فلا يشتبه عليكم أمري ، أنا الذي عرفتموني صغيرا وكبيرا ، وزاحمتموني طفلا وناشئا وكهلا ، قد صحبت النساك حتى نسبت إليهم ، وخالطت الزهاد حتى عرفت فيهم ، وكاثرت العلماء ، وحاضرت الفقهاء ، فلم أخل عن مورد ورده عالم بارغ ، ومشرع شرع فيه متقن فارع ، وجادلت الخصوم نصحاً عن الدين ونضالاً عن الحق المبين ، حتى عرفت مواقفي ، وكتبت وحفظت طرائقي ، وأثبت هذا وما أثري نفسي في أثناء هذه الأحوال ، ومجامع هذه الخصال ، من تقصير وتعذير ، ولا أزكيها بل أتبرأ إلى الله من حولها وقوتها ، وإن جميع ذلك من فضل ربي ليبلوني أأشكر أم أكفر ، ومن شكر فإنما يشكر لنفسه ومن كفر فإن ربي غني كريم .
وأما نسبي إلى جدي رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فدونه فلق الصباح ، ولا عذر لكم أيها الناس في التأخر عني ، والاستبداد دوني ، وقد
ناديت فأسمعت لتجيبوا دعوتي ، وتنجروا لنصرتي ، وتعينوني على ما نهضت له من الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ، ? ??????? ?????????? ????????? ???? ??????? ???????????????? ?????? ??????????? ???????? ???????? ??????? ??????????? ??????? ?????? ??????? ???????????? ????????????? ???? ? [المائدة:78] ، ? ??????? ??????? ?????????? ????????????? ????????? ? [آل عمران:110] ، ألا فاعينوني على أمري ، وتحرَّوا بجهدكم نصرتي ، أوردكم خير الموارد ، وأبلغكم أفضل المحامد .
عباد الله أعينوني على إصلاح البلاد ، وإرشاد العباد ، وحسم دواعي الفساد ، وعمارة مناهل السداد ، ألا ومن تخلف عني وأهمل بيعتي ، إلا لسبب قاطع أو لعذر مانع بين الحجة ، فإني أجاثيه للخصام يوم يقوم الأشهاد ، يوم لا ينفع الظالمين معذرتهم ولهم اللعنة ولهم سوء الدار ، يوم الآزفة ، فأقول: ألم تسمع قول جدي رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: (( من سمع واعيتنا أهل البيت لم يجبها كبه الله على منخريه في النار )) ، ألا فاسمعوا وأطيعوا ، انفروا خفافا وثقالاً ، وجاهدوا بأموالكم وأنفسكم في سبيل الله ذلكم خير لكم إن كنتم تعلمون ، قل إن كان آباؤكم وأبناءكم ... الآية ، فليتفق كلمتكم ، وليجتمع شملكم ، ولا تنازعوا فتفشلوا وتذهب ريحكم واصبروا إن الله مع الصابرين .
ألا وقد سلك سبيل من مضى من آباءي الأخيار ، وسيلفي النجباء الأبرار في منابذة الظالمين ، ومجاهدة الفاسقين ، مبتغياً فيه مرضات رب العالمين ، فاسلكوا أيها الإخوان سبيل أتباعهم الصالحين ، وأشياعهم البررة الخاشعين ، في المعاونة والمظاهرة ، والمكاتف والموازرة ، وتبادروا رجالاً ، وسارعوا إليَّ
إرسالاً ، وإياكم والجنوح إلى الراحة طالبين لها وجوه العلل ، مغترين بما فسح الله لكم من المهل ، وعن قليل يحق الحق ، ويبطل الباطل ، ويعاين كل امرئ ما اكتسب ، ويجازى كلٌ بما اجترم ، يومئذ يوفيهم الله دينهم الحق ويعلمون أن الله هو الحق المبين ، فستذكرون ما أقول لكم ، وأفوض أمري إلى الله إن الله بصير بالعباد (1) .
وفاته
توفي عليه السلام يوم عرفة سنة (411هـ) عن (78 سنة) ، ودفن في يوم الأضحى ، وصلى عليه السيد (( مانكديم )) ، وبني عليه مشهد مشهور مزور في لنجا من محافظة مازندران بإيران.
عرج على قبر بصعدة ... وابك مرموسا بلنجا
واعلم بأن المقتدي بهما ... سيبلغ ما ترجا
__________
(1) الحدائق الوردية 2/ 86 - 87.
هذا الكتاب
يعد هذا الكتاب من أهم الكتب التي تناولت مسألة النبوة ، إثباتا لها ، أو دفاعا عنها ، بل أهمها على الاطلاق ، إذ لم أعثر فيما قرأت على كتاب من هذا القبيل ، فهو بحق يعد أهم كتاب إسلامي تناول هذا المسألة بالبحث والتمحيص والايراد والرد ، فقليلٌ أولئك الأفذاذ من علماء الاسلام ، الذين يحيطون بعلوم الاسلام وعلوم الأديان الأخرى ، كالتوراة والانجيل والزبور وغيرها من الكتب والصحف التي نزلت على الأنبياء والمرسلين عليهم السلام ، والمؤيد بالله أحد أولئك ، بل أبرزهم بلا شك ، ولأن مؤلفه عاش في القرن الرابع الهجري ، فقد ولد سنة (333 هـ ) ، فهو يعد وثيقة تاريخية هامة ، تكشف لنا بجلاء ما كان يواجهه الاسلام آنذاك من تحديات فكرية وعقائدية ، وتبرز لنا أيضا الدور الكبير والمتميز الذي اضطلع به أئمة الاسلام ، والعلماء الكرام لمواجهة تلك التحديات ، وتلك المؤامرات .
وكنت قد أزمعت على إيراد دلالات وبشارات أخرى من الكتب السماوية الأخرى ، سيما إنجيل (( برنابا )) ، وفيه الكثير الكثير من هذا القبيل - ولهذا السبب تنكره النصارى إضافة إلى النصوص التي تؤكد وحدانية الله سبحانه - ثم عدلت عن هذا الرأي ، مكتفيا بتصحيح النصوص التي أوردها المؤلف ، ومقارنتها بالتوراة والانجيل ومزامير داود - الزبور - على أن أعد بحثا مستقلا في وقت لاحق إن شاء الله تعالى .
وقد طبع هذا الكتاب عام (1979م) ، بتحقيق الأستاذ خليل أحمد إبراهيم الحاج ، إلا أنه نفد من الأسواق ، إضافة إلى وجود أخطاء عدة في
هذه الطبعة . ولم نعثر إلا على مخطوطة واحدة منه ، كتب في آخرها: صادف الفراغ منه غرة شهر شعبان من شهور سنة إحدى وخمسين وخمسمائة ، وصلى الله على رسوله محمد وعلى آله ، وسلم تسليما كثيرا .
موجودة في معهد إحياء المخطوطات العربية ، التابع لجامعة الدول العربية ، والذي أحضِّر فيه الماجستير حاليا.
سائلا الله أن يجعل هذا العمل خالصا لوجهه ، وأن ينفع به ، إنه سميع مجيب ، والحمد لله رب العالمين .
عبد الكريم أحمد جدبان
اليمن - صعدة 12/ رمضان/ 1423ه
الموافق 17 / 11 / 2002م
- - -
l
الحمد لله ذي الفضل والإحسان ، المخوِّل من شاء من عباده سوابغ الأنعام ، الذي هدانا لدينه ، وأوضح سواء السبيل ، بما نصب من أدلته الباهرة ، وحجته القاهرة ، { لِّيَهْلِكَ مَنْ هَلَكَ عَن بَيِّنَةٍ وَيَحْيَى مَنْ حَيَّ عَن بَيِّنَةٍ وَإِنَّ اللّهَ لَسَمِيعٌ عَلِيمٌ (42) } [الأنفال] .
ثم أرسل إلينا خير مولود ، وأكرم مبعوث ، رحمة للعالمين ، [وهدى] للمتقين ، { لِيُنذِرَ مَن كَانَ حَيًّا وَيَحِقَّ الْقَوْلُ عَلَى الْكَافِرِينَ (70) } [يس] ، فصلى الله عليه وعلى آله الطاهرين .
وإني لما رأيت غثاء الملحدة ورعاعها ، مجتهدة لإدخال الشُّبَه في معجزات نبينا صلى الله عليه وآله وسلم على أنفسنا ، وعلى مَن قادته يد الشقاء ، وسلكت به خبط العشواء ، من جهال العوام وأوباشها ، فهم عن الحق اليقين معرضون ، وعن الصراط السوي ناكبون . قد استهواهم الشيطان ، واستزلهم الطغيان { نَسُوا اللَّهَ فَأَنسَاهُمْ أَنفُسَهُمْ أُوْلَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ (19) } [الحشر] . يظنون بجهلهم وعماهم أنهم قد فطنوا لما جهله العلماء ، واستدركوا ما فات أهل الدين ، وتنبهوا عما غبي عنه فضلاء المسلمين .
كلا ، بل هم صم عن الحق لا يسمعون ، وبُكمٌ عند المحاج لا ينطقون ، وعمي عن الرشاد لا يبصرون ، { كَلَّا بَلْ رَانَ عَلَى قُلُوبِهِم مَّا كَانُوا يَكْسِبُونَ (14) } [المطففين] .
[الباطنية]
فإن أرذلهم طبقة ، وأخسهم (1) طريقة ، وأقلهم شبهة ، وأعتاهم على الله عز وجل وعلى رسوله صلى الله عليه وآله وسلم ، وأعداهم للمسلمين ، وأحرصهم على التحيل لإطفاء نور الله المبين ، { وَيَأْبَى اللّهُ إِلاَّ أَن يُتِمَّ نُورَهُ وَلَوْ كَرِهَ الْكَافِرُونَ (32) } [التوبة] ، من ينتسب منهم إلى الباطن ، ويوهم أن وراء ما في أيدي المسلمين من حجج العقول والكتاب والسنة حقيقة عرفوها وحصلوها ، وأنها ممنوعة أو مستورة إلا عمن بذل لهم العهود والمواثيق ، فإذا كَشَفْتَها وجدتَ مخازي ، تلوح عن صفحاتها أثر الاستهزاء بمن يأخذ عنهم ويلوذ بهم ، يعدونهم حمرا مستنفرة . قد زينوا عندهم ارتكاب الفواحش ، وأباحوا لهم قطوف المظالم ، وأحلوا لهم شرب الخمور ، وترك الصلوات ، ومنع الزكوات ، { قَدْ ضَلُّواْ مِن قَبْلُ وَأَضَلُّواْ كَثِيرًا وَضَلُّواْ عَن سَوَاء السَّبِيلِ (77) } [المائدة] .
ينفون الصانع ، وينكرون النبوات أجمع ، ويجحدون الشرائع . فيقولون: لايقال في الله تعالى: موجود ، ولا لا موجود .
__________
(1) في المخطوط: وأحسنهم . ولعل الصواب ما أثبت .
لايعلمون لجهلهم ، وفرط غباوتهم ، أن نفي النفي يقتضي الإثبات عند أهل اللسان .
ألا ترى أنهم إن أرادوا أن يحققوا الإثبات قالوا: (( لا غير )) ، فيقولون: (( هو الرأي لا غير ، وهو زيد لاغير )) . فيجمعون بين النفيين لتحقيق الإثبات .
فإذا قالوا: موجود . فقد حققوا أنه موجود .
وإذا قالوا: لا موجود . فقد نفوا ما أثبتوا ، ونَقضوا ما قالوا ، وليس ذلك مما يخفى .
لكن غرضهم في ذلك: هو التوصل الى التعطيل ، ونفي الصانع .
ويقولون: (( إن النبي محمدا صلى الله عليه إنما كان له التأييد ، دون ما سواه من الوحي والإرسال ، ونزول جبريل عليه السلام )) ، ويشيرون بالتأييد الى المزية التي تحصل لكل من تقدم في صناعة وبرع فيها ، من شاعر ، أو طبيب ، أو فقيه ، أومتكلم ، أومنجم .
ويسمون الشرائع: نواميس . ويتوصلون إلى جحدها وإبطالها ، بإدعاء: أن لكل شيء منها باطنا ، إذا عرف سقط وجوب العمل به .
وينكرون البعث والنشور ، ويقولون: معنى القيامة ، هو قيام محمد (1) بن إسماعيل بن جعفر وخروجه .
__________
(1) هو: محمد بن إسماعيل بن جعفر الصادق ، إمام عند الإسماعيلية ، يكنى عندهم بالمكتوم ، حذرا من بطش العباسيين ، وهو أول الأئمة المكتومين ، توفي ببغداد سنة (198هـ) تقريباً .
ولولا أنه ليس غرضنا في كتابنا هذا وصف أقوالهم ، ونشر فضائحهم ، وبسط مقابحهم ، من فساد عقائدهم ، ومساوئ دفائنهم ، مما بيَّنه شيوخنا - رحمهم الله - من الأشراف والعلماء في كتبهم المصنفة . في هتك أستارهم ، وإذاعة أسرارهم ، نحو أبي زيد عيسى بن محمد العلوي الحسيني ، وأبي جعفر بن قنة الرازي ، وأبي عبد الله بن درام الكوفي ، وأبي أحمد بن عبدك الجرجاني ، وغيرهم - رحمة الله عليهم - .
ثم ذكرت ما في رسالتهم الموسومة بـ (( البلاغ السابع )) وربما سموها: (( البلاغ الأكبر ، والناموس الأعظم )) ، لكني أحيل من أراد الوقوف على باطنهم وسرائرهم على هذه الكتب ، فإنها مشهورة معروفة ، معروضة لمن أرادها .
وأرجع إلى الغرض الذي قصدته: وهو أني رأيت أن أضع كتابا في الإبانة عن معجزات نبينا صلى الله عليه وآله وسلم ، وما أيده الله تعالى به من الآيات البيِّنات ، والدلائل الواضحات ، التي لا يذهب عنها من نصح نفسه ، ولم يتلعب بدينه ، مستعينا بالله تعالى ، ومستهديا له ، وراغبا إليه تبارك وتعالى ، أن يعظم النفع لنا به ، والمثوبة عليه ، وأن يجعل سعيي فيه ، وكدحي له ، خالصا لوجهه .
هذا ، ولست أطمع أن أزيد على ما قاله السلَّف - رحمهم الله - في هذا الباب . وإنما أوجز من كلامهم - رحمة الله عليهم - ما جعله البسط متباعد الأطراف ، وأبسط ما جعله الإيجاز خفي الأغراض .
وأنتم - رحمكم الله - إذا تأملتم أحوال الفترات التي كانت بين آدم ونوح وإبراهيم وموسى وعيسى ومحمد صلوات الله عليهم ، ازددتم معرفة بحسن تدبير الله تعالى لخلقه في ابتعاث الرسل ، وتجديد ما درس أو كاد يدرس من الشرائع والملل ، وأنه جل وعز ابتعث حين علم الصلاح في الابتعاث ، ومد الفترة حين علم اقتران المصلحة بها ، لأن الفترة - على ما يقوله بعض أهل التواريخ ، على اختلاف بينهم فيه ، والله أعلم بتحقيق ذلك - كانت بين آدم ونوح صلى الله عليهما سبع مائة عام (1) .
وإنما كان كذلك - والله أعلم - وإنما نقول على مقدار ما يلوح لنا ، ويبلغه مقدار أفهامنا: إن آدم عليه السلام أُهبِطَ إلى الأرض - وهو أبو البشر وأول الإنس - ولم يكن في زمانه شيء من الكفر ، ولا عبادة الأصنام ، ولم يكن غيره وغير زوجته حواء وأولادهما عليهم السلام ، وكانوا يعرفون حاله ، فلم يكن في أمره شك عندهم ، بوضوح أمره ، وظهور ديانته ، وقلة من بعث إليهم ، فامتد زمان الفترة . وكان بينهما صلى الله عليهما مع ذلك: شيث وإدريس عليهما السلام ، فاستحدث
__________
(1) في التوراة العبرانية: أن المدة من آدم إلى نوح 1586 سنة ، وفي السامرية 1237 سنة ، وفي التوراة اليونانية 2262 سنة . انظر كتاب: إظهار الحق ، للعلامة الشيخ رحمت الله بن خليل الهندي ، مؤسس المدرسة الصولتية في مكة ، والمدرس في المسجد الحرام ، المولود سنة 1233 هوالمتوفى سنة 1308ه. طبعة دار التراث العربي بمصر ، وانظر النص العربي الكامل للتوارة السامرية ترجمة الكاهن السامري أبي الحسن إسحاق الصوري ، نشر دار الأنصار بمصر .
الناس الكفر ، وعبادة الأصنام ، واتخذوا ودا ، وسواعا ، ويغوث ، ويعوق ، ونسرا (1) .
فابتعث الله سبحانه نوحا صلى الله عليه يدعوهم إلى التوحيد ، وخلع الأصنام والأنداد ، ولبث فيهم كما قال تعالى: { أَلْفَ سَنَةٍ إِلَّا خَمْسِينَ عَامًا } [العنكبوت: 14] . فغرقهم الله تعالى بالطوفان حين علم أنهم لا يصلحون . ونجا نوحا صلى الله عليه ومن معه .
ثم كانت الفترة بين نوح وإبراهيم صلى الله عليهما على ما يقوله المؤرخون نحو سبعمائة عام (2) . وإنما كانت هذه المدة نحو تلك ، لأن الغرق أعاد حال نوح إلى نحو حال آدم صلى الله عليهما وظهور أمره ، وابتداء البشر منهم . مع أنه لم يكن بقي من الكفار أحد ، إلا أن الناس كانوا قد عرفوا عبادة الأصنام ، واتخاذ الأنداد من دون الله عز وجل ، فأسرعوا بعده في الكفر ، وعبادة الأصنام .
وكان الله تعالى قد بعث هودا إلى عاد لما ازداد تمردهم ، وصالحا صلى الله عليهما بعثه إلى ثمود .
ثم لما ازداد الكفر ظهورا وانتشارا ، ابتعث الله عز وجل إبراهيم صلى الله عليه فدعاهم إلى الله تعالى ، وكسر أصنامهم ، ونبههم على خطأ أفعالهم ، وجدد لهم الذكرى ، وأنزل الله عز وجل عليه الصحف .
__________
(1) أشار الله إلى ذلك في القرآن الكريم في سورة نوح الآية/ 23 .
(2) الفترة من نوح إلى إبراهيم في التوراة العبرانية 292 سنة ، وفي التوراة السامرية 942 سنة .
وبعث لوطا صلى الله عليه إلى قوم مخصوصين ، حين ازداد عتوُّهم، واستحدثوا من الفاحشة ما لم يكن قبلهم .
ثم كانت الفترة بينه وبين موسى صلى الله عليهما نحو أربعمائة سنة (1) ، وإنما كانت كذلك - والله أعلم - لأن إبراهيم صلى الله عليه مضى والكفر باق بينهم وظاهر ، ولم يكثر أتباعه الكثرة الظاهرة على ما بلغنا .
وبعث الله تعالى بعده: إسماعيل وإسحاق ويعقوب والأسباط وشعيبا صلوات الله عليهم قبل مبعث موسى صلى لله عليه .
وقيل: إن أيوب صلى الله عليه كان قد بُعث قبل موسى .
فتغيرت أحوال بني إسرائيل ، وقلَّ قبول الناس للحق وظهر الكفر ، وبلغ مبلغا لم يكن بلغ من قبل ، لأن فرعون اللعين ادعا الربوبية ، { فَقَالَ أَنَا رَبُّكُمُ الْأَعْلَى (24) } [النازعات] . واستعبد بني إسرائيل ، فعظم الأمر وازداد الكفر ، واتسع الخرق ، ونُسي الحق . فلذلك قصرت مدة هذه الفترة ، حتى بعث موسى صلى الله عليه مع تلك الآيات العظام ، كالعصا ، واليد البيضاء ، ومجاوزة بني إسرائيل البحر بعد أن انفلق البحر ، { فَكَانَ كُلُّ فِرْقٍ كَالطَّوْدِ الْعَظِيمِ (63) } [الشعراء] . وتغريق فرعون اللعين ومن تبعه ، إلى غير ذلك من الحجر الذي انفجرت منه
__________
(1) الفترة من إبراهيم إلى موسى 400 سنة في الإصحاح الخامس عشر من سفر التكوين ، و430 سنة كما جاء في الإصحاح الثاني عشر من سفر الخروج .
العيون ، وما كان ظهر قبل ذلك من الجراد ، والقمل ، والضفادع ، والدم ، وغير ذلك مما يطول ذكره .
وأنزل عليه التوراة ، وبَبّن فيها أحكام الحلال والحرام ، وظهر أمره صلى الله عليه أتم الظهور . وإنما كانت أعلام موسى صلى الله عليه أكثر ، وآياته أظهر ، لأن بني إسرائيل كانوا - والله أعلم - أجهل الأمم ، وأغلظهم وأبعدهم عن الصواب ، وأبلدهم عن استدراك الحق . ألا ترى أنهم بعدما جاوز الله تعالى بهم البحر ، وغرق آل فرعون وهم ينظرون ، قالوا لموسى - حين مروا على قوم عاكفين على أصنام لهم -: { يَا مُوسَى اجْعَل لَّنَا إِلَهًا كَمَا لَهُمْ آلِهَةٌ } [الأعراف: 138] . واتخذوا العجل وعبدوه ، وظنوا أنه إلههم وإله موسى ، وأنه نسي .
فبحسب هذه الأحوال اقتضت الحكمة إيضاح الآيات والأعلام ، وتكثيرها لهم .
ثم بعث يشوع ويونس .
ثم بعث داود صلوات الله عليهم ، وأنزل عليه الزبور .
وبعث سليمان صلى الله عليه وآتاه الملك ، مع تلك الآيات العظيمة .
ثم بعث بعدهم زكريا ويحيى صلى الله عليهما .
فكانت الفترة بين موسى وعيسى صلى الله عليهما نحو ألفي سنة (1) ، لِعظَم آيات موسى ، وعظم الكتاب الذي أنزل معه ، ولما بعث بينهما من الأنبياء ، صلوات الله عليهم ، وهذه المدة أطول المدد التي كانت بين من ذكرنا عليهم السلام .
ثم لما تزايد الكفر ، وتغيرت أحوال بني إسرائيل ، وشاع الإلحاد بالفلاسفة ، بعث الله تعالى عيسى صلى الله عليه وبقي فيهم ما بقي . وقد أكرمه الله تعالى ورفعه إليه ، ثم كانت الفترة بينه وبين نبينا محمد صلى الله عليه وعلى آله نحو ستمائة عام (2) .
فكانت هذه المدة أوسط المدد . وذلك - والله أعلم - لأن حجج الله تعالى كثرت فيها ، لبقاء التوراة والزبور ، ونزول الانجيل . ومع ذلك كثر الضلال ، وقيل في المسيح صلى الله عليه قولان عظيمان:
أحدهما: ما قالت اليهود (3) .
والثاني: ما قالته النصارى (4) .
__________
(1) في كتب التواريخ المسيحية: أن المدة بين موسى وعيسى عليهما السلام ألف وخمسمائة وواحد وسبعون سنة .
(2) المدة بالتحديد خمسمائة وسبعون سنة ، وفي رواية: خمسمائة وواحد وسبعون سنة .
(3) قول اليهود هو ما حكى القرآن: { وَبِكُفْرِهِمْ وَقَوْلِهِمْ عَلَى مَرْيَمَ بُهْتَانًا عَظِيمًا (156) وَقَوْلِهِمْ إِنَّا قَتَلْنَا الْمَسِيحَ عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ رَسُولَ اللّهِ ... } [النساء] إلخ .
(4) قول النصارى هو:
1- ... الأرثوذكس يقولون: إن عيسى هو الله .
2- ... والكاثوليك والبروتستانت يقولون: إن عيسى إله من آلهة ثلاثة .
وفي القرآن الكريم يقول الله عنهم: { لَقَدْ كَفَرَ الَّذِينَ قَالُواْ إِنَّ اللّهَ هُوَ الْمَسِيحُ ابْنُ مَرْيَمَ . . . لَّقَدْ كَفَرَ الَّذِينَ قَالُواْ إِنَّ اللّهَ ثَالِثُ ثَلاَثَةٍ } [المائدة: 72-73 ] .
ثم ابتعث الله عز وجل النبي محمدا صلى الله عليه وآله وسلم وختم به الرسالة ، ونحن من مبعثه على نحو من أربع مائة عام (1) ، فدل ذلك على قرب الساعة ، وأزف القيامة ، وتحقيق ذلك قول الله تعالى: { اقْتَرَبَ لِلنَّاسِ حِسَابُهُمْ وَهُمْ فِي غَفْلَةٍ مَّعْرِضُونَ (1) } [الأنبياء] . وقوله: { اقْتَرَبَتِ السَّاعَةُ وَانشَقَّ الْقَمَرُ (1) } [القمر] . وقول النبي صلى الله عليه: (( بعثت أنا والساعة كهاتين وأشار بإصبعيه )) (2) .
فانظروا - رحمكم الله - في حسن نظر الله عز وجل لعباده ، بما ذكرناه ، واعتبروا به ، واستعدوا للدوام والبقاء . فلها خلقتم ، فكأن الواقعة قد وقعت ، والحآقة قد حقت ، { فَرِيقٌ فِي الْجَنَّةِ وَفَرِيقٌ فِي السَّعِيرِ (7) } [الشورى] . ولا يصدنكم عنها الشيطان ، وأتباع الشيطان ، كما قال تعالى: { إِنَّ اْلسَّاعَةَ ءَاتِيَةٌ أَكَادُ أُخْفِيَها لِتُجْزَى كُلُّ نَفْسِ بِمَا تَسْعَى (15) فَلَا يَصُدَّنَّكَ عَنْهَا مَن لَّا يُؤْمِنُ بِهَا وَاْتَّبَعَ هَوَاهُ فَتَرْدَى (16) } [طه] . وفقنا الله وإياكم لطاعته ، واتباع مرضاته .
وأُقدِّم أمام الغرض فصلا أذكره من قبل علماء أهل البيت عليهم السلام ، وهو أن الله تعالى لما بعث موسى صلى الله عليه بعثه بالآيات
__________
(1) هو الزمن الذي كان فيه مؤلف الكتاب . وفي زمني هذا نحن في سنة ألف وأربعمائة وثلاثة وعشرين من الهجرة ، الموافق سنة ألفين واثنين من الميلاد .
(2) أخرجه البخاري في صحيحه 4/ 1882(4652) ، ومسلم في صحيحه 4/ 2268 (2950).
التي بهرت ، ما كان هي ولوع الناس به في ذلك الزمان من السحر والتمويهات ، وأتاهم من العصا واليد البيضاء ، وفلق البحر ، ونحو ذلك ، مما لا تبقى معه شبهة في أن ذلك ليس من السحر في شيء ، إذ كان أولئك به أعرف ، وبالفصل بين السحر وبين ما ليس بسحر أعلم. لعلمهم بمبلغ قوة السحر ، وغاية أمره .
ولما بعث الله سبحانه المسيح صلى الله عليه ، آتاه من الآيات التي بهرت ما كان ولوع الناس به في ذلك الزمان من الطب ، فأيده سبحانه بإحياء الموتى ، وإبراء الأكمه والأبرص ، لئلا تبقى شبهة لأحد منهم ، لأنهم كانوا أعرف الناس بمبلغ قوة صناعة الطب ، ومنتهى غايته . وما يكشف لهم من الأمر ما عساه كان لا ينكشف لغيرهم في تلك المدة اليسيرة (1) .
ولما بعث الله تعالى نبينا محمدا صلى الله عليه في قوم هم الغاية في الفصاحة والبلاغة ، والنهاية في البيان والسلاقة . إذ حظ العرب من ذلك أوفر الحظوظ ، ولهم منه ما ليس لغيرهم من الأمم ، فأيده سبحانه بالقرءان ، وجعله معجزا له ، لأنهم يعرفون من حاله ، ما لا يعرف غيرهم ، ولأنهم إذا عجزوا عن معارضته ، لم تبق شبهة في أن غيرهم أعجز وأعجز . ومع ذلك لم يُخْلِه عز وجل من سائر المعجزات على ما نبيِّنه من بعد . بل كثر ذلك ، وتواتر ، حتى لم يبق في أمره شبهة لمنصف . والحمد لله على نعمه السابغة ، ومِنَحِه البالغة .
__________
(1) كان علماء اليهود في زمن المسيح عليه السلام يوهمون الناس أنهم بواسطة تسخير الجن بالعزائم والرقى والتفل على العاهات يستطيعون الشفاء من الأمراض ، وقد صدَّقهم بعض الناس ، فكان المسيح يفعل ما يشفي من الأمراض ، بواسطة الدعاء إلى الله . وكانت معجزاته على هذا من جنس ما برع فيه العلماء - كما اشتهر عنهم - ولقد اتهموه بأنه يشفي بواسطة استخدام (بعل زبول) رئيس الشياطين . انظر إنجيل متى .
- - -
الباب الأول
البيان عن إعجاز القرآن
إن سأل سائل فقال: ما الدليل على أن القرءان معجز؟
قيل له: الدليل على ذلك: أن النبي صلى الله عليه ادعا النبوة ، وأتى بالقرءان ، وادعا أنه معجز قد أنبأه عز وجل به ، وجعله دلالة على صحة دعواه ، وبرهانا على صدقه ، وتحدى به العرب قاطبة ، وقرعهم بالمعجز عن الاتيان بمثله ، بل بسورة مثله . وفيهم الخطباء ، والشعراء ، والبلغاء ، وهم الغاية في البيان ، وأولو المعرفة بمواقع الكلام ، وأجناسه وأساليبه من المنثور والمنظوم ، ولهم العادة المشهورة في التفاخر بالبلاغة والفصاحة . والمعرفة بطرق المعارضات ، ومزايا المخاطبات ، مع ما كانوا عليه من الحمية والأنفة والعصبية ، ومع شدة حرصهم على تكذيبه ، وتوهين أمره ، وإبطال دعواه ، حتى بذلوا لذلك ما عز وهان من النفس فما دونها . وهو صلى الله عليه يتحداهم ، ويقرعهم بالعجز ، ويدعي أنه حجته وبَيِّنته ، ويذم مع ذلك أديانهم ، ويسب آلهتهم التي اتخذوها من دون الله عز وجل ، ويدعوهم إلى طاعته
، والتصرف على أمره ونهيه ، واستمر على ذلك زمانا (1) بعد زمان فلم يعارضوه ، وعدلوا إلى الحرب التي هي أشق ، فقاتلوا حتى قَتَلوا وقُتِلوا.
فدل ذلك على أن عدولهم عن معارضة القرءان لم يكن إلا لتعذره عليهم ، إذ لا يجوز على العقلاء إذا حاولوا أمرا أن يعدلوا لمحاولته من الأسهل إلى الأعضل ، ومن الأيسر إلى الأعسر ، إذا كانوا متمكنين منهما ، وإذا ثبت تعذرها عليهم ثبت أنها على غيرهم أشد تعذرا .
والمعجز هو الأمر الذي يتعذر مثله على جميع البشر ، فثبت أنه معجز على ما قلناه ، وهذه الدلالة مبنية على أن التحدي بالقرءان قد وقع ، وأن المعارضة لم تقع ، وأن السبب الذي من أجله لم تقع هو التعذر ، وأن التعذر متى صح ، صح كونه معجزا .
ونحن نبين ذلك فصلا فصلا ، إن شاء الله سبحانه .
- - -
__________
(1) في المخطوط: زمان . والصواب ما أثبت .
الكلام في أن التحدي قد وقع
إن قيل: إنكم بنيتم دلالتكم هذه على أن النبي صلى الله عليه [وآله وسلم] تحدى العرب بالقرءان ، فدلوا عليه وبيِّنوه ، ليستتب غرضكم ، ويتم ما ذكرتموه .
قيل له: قد ذهب كثير من العلماء ، ومجيدو العلم ، بأنه صلى الله عليه [وآله وسلم] تحدى به ضرورة ، كالعلم بأنه ادعا النبوة ، وأتى بالقرءان ، وإن كان العلم بهذين أجلُّ من العلم بالتحدي .
قالوا: ولا يمتنع في العلمين وإن كانا ضروريين أن يكون أحدهما أجلى ، والآخر دونه في الجلاء . ونحن لا نذكر هذه الطريقة ، إلا أنا لا نقتصر عليها ، ونوضح الأمر فيه إيضاحا نرجو أن تزول معه الشبهة .
وإن الخبر إذا كان في الأصل قويا ، وموجبا للعلم لا يمتنع مع تطاول المدة ، وتراخي الزمان أن يعرض فيه بعض الضعف ، سيما عند من يقل نظره في الأخبار ، وسماعه لها . وقد كان الأمر في التحدي ظاهرا في الأعصار السالفة ، حتى لم يبلغنا عن مخالف الاسلام من ملحد أو متهود أو متنصر إنكاره ، حتى حدث بالآخرة قول بلغنا عن بعض الملحدة والمتهودة . وهو أنهم قالوا: لم يحصل لنا العلم بأن النبي صلى الله عليه [وآله وسلم] تحدى به . ولظهور الأمر فيه حقق العلماء القول فيه.
فهذا الجاحظ مع بسطه الكلام في كتاب (( الفرق بين النبي والمتنبىء)) حقق القول في التحدي ، لأنه رأى أنه (1) يتعذر أن ينكره منكر . وهذا ابن الراوندي (2) لما صنَّف كتابه الموسوم بـ (( العزيز )) ، واجتهد فيه وقعد ، وأورد الغث والسمين في الطعن على نبوة نبينا محمد صلى الله عليه [وآله وسلم] ، وأنكر كثيراً من روايات المسلمين ، لم ينكر التحدي ، وإنما تكلم فيما تكلم مع تسليمه ، ولم ينكر ذلك إلا لوضوح الأمر فيه، وأنه استحيا لنفسه أن تبلغ صفاقة وجهه إلى إنكاره . ولهذا قال في الكتاب المسمى بـ (( الزمرد )): (( وقد أطنب محمد - يعنى النبي صلى الله عليه وعلى آله - في الاحتجاج لنفسه بالقرءان، وبعجز الخلق عنه )) . ولم يقل ذلك إلا لشهرة الأمر فيه وبلوغه في الطعن .
ونعود إلى ما وعدنا به من الزيادة وإيضاح ذلك ، فنقول: قد ثبت أن النبي صلى الله عليه [وآله وسلم] لما أتى بالقرءان كان يقرأ على
__________
(1) في المخطوط: أن . ولعل الصواب ما أثبت .
(2) هو: أحمد بن يحيى بن إسحاق الراوندي ، أو ابن الراوندي ، فيلسوف مجاهر بالإلحاد ، من سكان بغداد . نسبته إلى راوند من قرى إصبهان ، له كتاب سماه: (( الدامغ للقرءان )) ، و (( التاج )) ، و (( الزمرد )) ، وللخياط المعتزلة كتاب (( الانتصار )) في الرد عليه ، لدي نسخة منه . توفي سنة (298هـ) ، برحبة مالك بن طوق ، بين الرقة وبغداد ، وقيل: صلبه أحد السلاطين ببغداد . من كلام ابن الراوندي:
كم عالم عالم أعيت مذاهبه ... وجاهل جاهل تلقاه مرزوقا
هذا الذي ترك الأوهام حائرة ... وصير العالم النحرير زنديقا
المسلم والكافر ، ولا يكتم أحدا ممن قرب منه ، أو بعد عنه . وفي القرءان تحدٍ كثير ظاهر ، ففي ستة مواضع منه قد تحدى حتى لم يبق للشبهة فيه موضع ، وفي مواضع أُخر نبَّه على أنه يتحداهم ودل عليه ، وإن لم يكن لفظ التحدي ظاهرا في تلك الآيات ، وهذا كثير يطول ذكره وإحصاؤه .
فأما المواضع الستة:
فأحدها: في السورة التي يذكر فيها البقرة ، وهو قوله: { وَإِن كُنتُمْ فِي رَيْبٍ مِّمَّا نَزَّلْنَا عَلَى عَبْدِنَا فَأْتُواْ بِسُورَةٍ مِّن مِّثْلِهِ وَادْعُواْ شُهَدَاءكُم مِّن دُونِ اللّهِ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ (23) فَإِن لَّمْ تَفْعَلُواْ وَلَن تَفْعَلُواْ فَاتَّقُواْ النَّارَ الَّتِي وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجَارَةُ أُعِدَّتْ لِلْكَافِرِينَ (24) } [البقرة] .
فانظروا - رحمكم الله - هل يجوز أن يكون في التحدي والتقريع قول أشفى من هذا ، وأوضح منه ، وأَدْعَا لأعدائه إلى الاهتزاز للإتيان بمثله ؟! لولا تعذره بها ، لأنه تعالى قال: قل { فَأْتُواْ بِسُورَةٍ مِّن مِّثْلِهِ } ، وهذا كافٍ في التحدي . ثم قال: { وَادْعُواْ شُهَدَاءكُم مِّن دُونِ اللّهِ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ (23) } في إنكاركم أنه من عند الله ، وهذا أيضا تحدٍ ثان . ثم قال: { فَإِن لَّمْ تَفْعَلُواْ وَلَن تَفْعَلُواْ } تحدٍ ثالث (1) ، مع أنه خبر عن المستقبل . ومثله لا يجوز أن يقع من العاقل إذ لا يأمن أن
__________
(1) في المخطوط: رابع . والصواب ما أثبت .
يفعلوا ذلك فيظهر كذبه ، فدل ذلك على أنه كان من عند علام الغيوب .
والموضع الثاني: في السورة التي يذكر فيها يونس صلى الله عليه ، وهو قوله عز وجل: { وَمَا كَانَ هَذَا الْقُرْآنُ أَن يُفْتَرَى مِن دُونِ اللّهِ وَلَكِن تَصْدِيقَ الَّذِي بَيْنَ يَدَيْهِ وَتَفْصِيلَ الْكِتَابِ لاَ رَيْبَ فِيهِ مِن رَّبِّ الْعَالَمِينَ (37) أَمْ يَقُولُونَ افْتَرَاهُ قُلْ فَأْتُواْ بِسُورَةٍ مِّثْلِهِ وَادْعُواْ مَنِ اسْتَطَعْتُم مِّن دُونِ اللّهِ إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ (38) } [يونس] . فإن قوله: { وَمَا كَانَ هَذَا الْقُرْآنُ أَن يُفْتَرَى مِن دُونِ اللّهِ } ، تحدٍ بهذا وأنه لا يأتي به أحد إلا من عند الله ، وفيه أيضا مع أنه تحدٍ خبر لا يقع مثله إلا من عند علام الغيوب .
وقوله: قل { فَأْتُواْ بِسُورَةٍ مِّن مِّثْلِهِ } تحد ثانٍ ظاهر ، لا مرية فيه ، وكذلك قوله : { وَادْعُواْ شُهَدَاءكُم مِّن دُونِ اللّهِ } تحد ثالث .
والثالث: في السورة التي يذكر فيها هودا صلى الله عليه ، وهو قوله عزوجل: { أَمْ يَقُولُونَ افْتَرَاهُ قُلْ فَأْتُواْ بِعَشْرِ سُوَرٍ مِّثْلِهِ مُفْتَرَيَاتٍ وَادْعُواْ مَنِ اسْتَطَعْتُم مِّن دُونِ اللّهِ إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ (13) فَإِن لَّمْ يَسْتَجِيبُواْ لَكُمْ فَاعْلَمُواْ أَنَّمَا أُنزِلِ بِعِلْمِ اللّهِ وَأَن لاَّ إِلَهَ إِلاَّ هُوَ فَهَلْ أَنتُم مُّسْلِمُونَ (14) } [هود] ، فكان قوله عزوجل: { قُلْ فَأْتُواْ بِعَشْرِ سُوَرٍ مِّثْلِهِ مُفْتَرَيَاتٍ } تحديا ظاهرا ، وتقريعا بالغا ، أنه عزوجل فسح لهم في المعارضة ، وإن كانت الأقاصيص التي يوردونها قد اقتربت (1) ، لأنهم
__________
(1) كذا في المخطوط .
كانوا يحتجون عليه صلى الله عليه [وآله وسلم] بأنه كان يعرف من أخبار الأمم وأيامها وأقاصيصها ما لا يعرفون ، فأدحض الله تعالى حجتهم ، وكذَّب قولهم . وفضحهم بقوله: { فَأْتُواْ بِعَشْرِ سُوَرٍ مِّثْلِهِ مُفْتَرَيَاتٍ } ، ودل ذلك على أن الاعجاز تعلَّق بنظمه . وإن كان أيضا متعلقا بمعانيه .
وقوله: { وَادْعُواْ مَنِ اسْتَطَعْتُم مِّن دُونِ اللّهِ } تحدٍ ثان . لأنه إخبار عن أن أحدا من دون الله لايأتي بمثله .
قال: { فَإِن لَّمْ يَسْتَجِيبُواْ لَكُمْ فَاعْلَمُواْ أَنَّمَا أُنزِلِ بِعِلْمِ اللّهِ } ، وكان هذا تحديا ثالثا ، لأن جعل حجته في أنه أنزل بعلم الله: تركُهم الإستجابة إلى الاتيان بعشر (1) سور مثله . فهل يكون في التحدي أبلغ من هذا ؟!
وقوله عز وجل: { فَهَلْ أَنتُم مُّسْلِمُونَ (14) } ، أيضا يتضمن معنى التحدي ، لأنه دعاهم إلى الاسلام لظهور عجزهم .
والموضع الرابع: في السورة التي يذكر فيها بني إسرائيل ، وهو قوله: { قُل لَّئِنِ اجْتَمَعَتِ الإِنسُ وَالْجِنُّ عَلَى أَن يَأْتُواْ بِمِثْلِ هَذَا الْقُرْآنِ لاَ يَأْتُونَ بِمِثْلِهِ وَلَوْ كَانَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ ظَهِيرًا (88) } [الإسراء] . فانظروا - رحمكم الله - فهل يكون في التحدي شيء أبلغ منه ؟! وإخباره عز وجل: { قُل لَّئِنِ اجْتَمَعَتِ الإِنسُ وَالْجِنُّ عَلَى أَن يَأْتُواْ بِمِثْلِ هَذَا الْقُرْآنِ } ، دليل على أنه خبر من عند علام الغيوب ، لأن
__________
(1) في المخطوط: إتيان عشر . ولعل الصواب ما أثبت .
الانسان لا يعلم ما يكون بعده ، والعاقل لا يرضى لنفسه أن يخبر خبرا ، لا يأمن أن يقع غيره على خلاف ما أخبر ، فيظهر كذبه عند أوليائه وأعدائه ، سيما إذا كان أمره مبنيا على الصدق ، وبأن أعظم ما يرميه به أعداؤه أنه كاذب في دعواه . فوضَحَ لما بيَّناه أنه صدر عن العالم بما كان وبما يكون ، وهو الله رب العالمين . وهذا مما يمكن أن يعد دلالة برأسها ، وسنذكرها وما يوضحها من بعد ، بعون الله تعالى .
والموضع الخامس: في السورة التي يذكر فيها القصص ، وهو قوله تعالى: { قُلْ فَأْتُوا بِكِتَابٍ مِّنْ عِندِ اللَّهِ هُوَ أَهْدَى مِنْهُمَا أَتَّبِعْهُ إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ (49) فَإِن لَّمْ يَسْتَجِيبُوا لَكَ فَاعْلَمْ أَنَّمَا يَتَّبِعُونَ أَهْوَاءهُمْ وَمَنْ أَضَلُّ مِمَّنِ اتَّبَعَ هَوَاهُ بِغَيْرِ هُدًى مِّنَ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ (50) } [القصص] .
كان قوله عز وجل: { قُلْ فَأْتُوا بِكِتَابٍ مِّنْ عِندِ اللَّهِ } تحديا ظاهرا . وقوله: { فَإِن لَّمْ يَسْتَجِيبُوا لَكَ فَاعْلَمْ أَنَّمَا يَتَّبِعُونَ أَهْوَاءهُمْ } تحدٍ ثانٍ ، لأنه قرعهم بترك الاستجابة إلى ذلك ، ودل بذلك على أنهم يتبعون أهواءهم . وقوله: { وَمَنْ أَضَلُّ مِمَّنِ اتَّبَعَ هَوَاهُ } تحدياً ثالثاً ، لأنه ذمهم ونسبهم إلى الضلال ، لاتباعهم الهوى الذي جعل تركهم الاستجابة إلى الاتيان به عَلَما عليه .
وقوله: { إِنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ (50) } ، في هذا الموضع أيضا فيه معنى التحدي ، لأنه أخبر أن الله لا يهديهم .
والموضع السادس: في الطور حيث يقول: { أَمْ يَقُولُونَ تَقَوَّلَهُ بَل لَّا يُؤْمِنُونَ (33) فَلْيَأْتُوا بِحَدِيثٍ مِّثْلِهِ إِن كَانُوا صَادِقِينَ (34) } [الطور] ، وكان هذا تحديا ظاهرا .
فأما المواضع التي تتضمن معنى التحدي ولو لم يكن اللفظ لفظ التحدي فكثير ، كقوله تعالى: { أَوَلَمْ يَكْفِهِمْ أَنَّا أَنزَلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ يُتْلَى عَلَيْهِمْ } [العنكبوت: 51] .
وقوله: { الَر كِتَابٌ أُحْكِمَتْ آيَاتُهُ ثُمَّ فُصِّلَتْ مِن لَّدُنْ حَكِيمٍ خَبِيرٍ (1) } [هود] .
وقوله: { الَر كِتَابٌ أَنزَلْنَاهُ إِلَيْكَ لِتُخْرِجَ النَّاسَ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ } [إبراهيم: 1] .
وقوله: { وَلَوْ أَنَّ قُرْآنًا سُيِّرَتْ بِهِ الْجِبَالُ أَوْ قُطِّعَتْ بِهِ الأَرْضُ أَوْ كُلِّمَ بِهِ الْمَوْتَى } [الرعد: 31] .
وقوله: { لَوْ أَنزَلْنَا هَذَا الْقُرْآنَ عَلَى جَبَلٍ لَّرَأَيْتَهُ خَاشِعًا مُّتَصَدِّعًا مِّنْ خَشْيَةِ اللَّهِ } [الحشر: 21] .
وقوله بعد آية التحدي: { أَفَأَنتَ تُسْمِعُ الصُّمَّ وَلَوْ كَانُواْ لاَ يَعْقِلُونَ (42) } [يونس] .
وقوله: { أَفَأَنتَ تَهْدِي الْعُمْيَ وَلَوْ كَانُواْ لاَ يُبْصِرُونَ (43) } [يونس] ، لأن ذلك يحرك الطبع ، ويقوى الداعي إلى التحكك والمعارضة ، ونظائرها كثير .
فإن قيل: دُلُّوا على أن هذه الآيات هي من القرءان الذي تلاه النبي صلى الله عليه [وآله وسلم] على الناس ، وأنها ليست زيادة فيه .
قيل له: من العلماء من رأى أن العلم بكل آية من القرءان ، مما أتى به النبي صلى الله عليه [وآله وسلم] علم ضروري ، كما أن العلم بجملته ضروري .
قال: لأن القرءان كله آية آية ، فلو لم يكن العلم بكل آية علما ضروريا ، لم يكن العلم بجميع القرءان ضروريا . لكنا لا نقتصر على هذا القدر ، ونوضح الكلام فيه فنقول: لا إشكال أن هذه الآيات كانت كلها في المصاحف التي كتبت أيام عثمان ، وتلك المصاحف كتبت بمشهد أقوام لا يجوز التواطؤ عليهم لكثرتهم ، وفيهم الحفاظ ، منهم من كان يعرف الفرق بين ما هو من القرءان ، وما ليس من القرءان ، بل كان أكثرهم - والله أعلم - بهذه الصفة . كما أن عامة المسلمين اليوم - وإن لم يكونوا حفاظا - يفصلون بين ما هو من القرءان وما ليس من القرآن . فلم ينقل عن أحد أنه تكلم في ذلك ، وأنكر معرفتهم ، كما نقل ما كان من ابن مسعود في المعوذتين (1) ، وفي آي سورة القنوت ، ومن عمر فيما ذكره من الرحمن ، ومن عائشة
__________
(1) أخرج الطبراني في معجمه الكبير 9/ 235(9150) عن عبد الله أنه (( كان يحك المعوذتين من المصحف يقول: ليستا من كتاب الله )) .
فيما ذكر من الرضاع (1) ، وغير ذلك مما جرى مجراه ، فلولا أن هذه الآيات بَانَ كونها من جملة القرءان ظاهرا مكشوفا لجرى فيها التضاد ، وعرض فيها النزاع .
فإن قيل: ما تنكرون على من قال لكم: إنهم جميعا سكتوا عنها ، لأنها كانت مقوية لأمرهم ، معليةً لكلمتهم ، مصححة لنحلتهم .
قيل له: الاتفاق على مثل ذلك لا يصح من العدد الكثير ، ولولا ذلك لم يصح أن يقع العلم بشيء من الأخبار التي تعلق بها الأغراض .
وذلك أن الطبائع مبنية على نشر الأخبار إذا عرفتها الجماعة الكثيرة ، ضرتهم أو نفعتهم ، لأن الدواعي إلى النشر كثيرة مختلفة ، فيخرج المكتوم لأغراض مختلفة ، فلو كان الأمر على ما ذكرتم ، والحال على ما توهمتم ، لظهرذلك ، ونقل ولم ينكتم . لأن واحدا كان لديانته ، وسداد طريقته ، يذكره إنكارا وتوجعا .
وآخر كان لسخافة دينه ، وضعف عقيدته ، يذكره لبعض أعداء الدين تقربا وتوددا .
وآخر كان يورده ويحكيه لأهله ولولده تحيرا وتعجبا .
__________
(1) أخرج مسلم في صحيحه 2/1075(1452) ، وابن ماجه في سننه 1/625(1942)، ومالك في الموطأ 2/609(1270) عن عائشة زوج النبي صلى الله عليه وآله وسلم أنها قالت: (( كان فيما أنزل من القرآن عشر رضعات معلومات يحرمن ، ثم نسخن بخمس معلومات ، فتوفي رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو فيما يقرأ من القرآن )) .
وآخر كان يرى أن فيه ضربا من الجلادة (1) والشهامة فيحكيه افتخارا وتبجحا (2) .
وآخر يذكره لضيق عَطِنه (3) عن حفظ الأسرار .
والأغراض في هذا الباب أكثر من أن تعد وتحصى .
ثم كان من يسمع منهم ، أو من واحد منهم ينشره بغير حساب ، فلا تلبث الأيام والليالي حتى ينتشر ويَذِيع . وبهذا تجد أسرار الملوك مع ما يتعلق بهم من عظيم الرهبة والرغبة ، متى جرت بين عشرين أو خمسة أو عشرة أو دون ذلك لم تنكتم ، وظهرت في أقرب زمان ، وأرخى مدة .
لهذا قيل:
إذا جاوز الاثنين سر فإنه ... ببث وإفشاء الوشاة قمين (4)
على أن مثل ذلك لو كان جائزا أن يكون الفرزدق (5) ملجما لا يقول الشعر ، وإنما اجتمع عدة من الشعراء لأغراض كانت لهم على أن يعملوا قصائد ، وينسبوها (6) إليه ، وكان مثله على كل مصنَّف في أي جنس من أجناس العلوم ، كان مثل ما كان من ذلك ، مما لا يستجيزه
__________
(1) كذا في المخطوط . والجلادة في اللغة: القوة والشدة والصلابة .
(2) في المخطوط: وتبحبحا . ولعل الصواب ما أثبت .
(3) العطن: مبرك الإبل .
(4) البيت لجميل بثينة . ورد في المخطوط: . . . يبث وإفشاء . . .
(5) في المخطوط: كان ملجما . ولعل الصواب ما أثبت .
(6) في المخطوط: وينسبونها . والصواب ما أثبت .
عاقل ، ولا يرتاب فيه ، لأنه كان أظهر ، كان ما سألوا فيه كذلك . وهذا الباب قد استقصاه أبو عثمان الجاحظ في (( الفرق بين النبي والمتنبئ )) استقصاء شافيا . وفيما أوردناه كفاية وبلاغ .
فإن قيل: ما أنكرتم أن هذا الاتفاق جرى من عدد يسير نحو ثلاثة أو أربعة أو خمسة ، ومثلهم يجوز أن يقع منهم التواطئ على الكذب وحفظ السر ؟!
قيل له: هذا سؤال من يغش نفسه عن علم منه بأحوال الصحابة أيام عثمان ، أو يقول غير مراقب عن جهل منه بها ، وذلك أن الحفاظ في ذلك الوقت كان فيهم كثرة ، نحو أمير المؤمنين علي عليه السلام ، وعثمان بن عفان ، وعبد الله بن مسعود ، وعبد الله بن العباس ، وعبد الله بن عمر بن الخطاب ، وأبي بن كعب ، وزيد بن ثابت ، وعبد الله بن عمرو بن العاص ، وغيرهم . وكثير من هؤلاء كانت بينهم منافرات ، بحيث لو عثر بعضهم على خيانة بعض في مثل هذا الأمر العظيم ، كان يسرع إلى التنديد به .
فأما من كان منهم يعرف القرءان ، أو كان يحفظ السور منه فكثير لا يحصون . وكيف يصح اجتماع ما ذكرتم ؟! أم ما الذي يغني لو اجتمعوا ؟!
فإن قيل: ما أنكرتم على من قال: إني أُسلِّم أن هذه الآيات كانت في جملة القرءان ، لكن ما تنكرون أن تكون هذه الآيات لم تكن تلفت مشركي العرب ، ولم تكن قرعت أسماعهم ، ولا علقت بأفهامهم ،
لأنها أو عامتها في السور الطوال . وكان الذي تعلق لحفظ مشركي العرب ، إنما هو الآية بعد الآية ، والكلمة بعد الكلمة ، أو السورة بعد السورة من السور القصار ، وكانت هذه الآيات مغمورة في جملة القرءان ، وفي السور الطوال ، فبهذا لم يهتموا بمعارضته ؟!
قيل لهم: قد علمنا أن النبي صلى الله عليه وآله كان يتلو القرءان على أصحابه ، وعلى من كان يفد عليه من المشركين من أحياء العرب ومدنها ، ثلاثا وعشرين سنة حتى تَحَقَّقَه الخلق من الصحابة ، وكانوا يتلونه في المحافل والمجامع ، وبين أهليهم في صلواتهم ومدارسهم ومجالسهم ، وكان المشركون يسمعون ذلك ، ويقرع (1) أسماعهم ، وإن لم يكونوا يحفظونه .
وانتهى الاسلام في هذه المدة إلى اليمن ، وسائر نواحي العرب ، ويكفي في آية واحدة من آيات التحدي أن تقرع أسماعهم . فكيف يصح أن يقال: إنهالم تبلغهم ؟! إلا أن يكون الله تعالى قد صرفهم عن سماعها ، ولئن جاز ذلك ، فالصرف من عظيم المعجزات .
على أن عامة آيات التحدي إنما هي في السور المكية ، ولم يكن لرسول الله صلى الله عليه وعلى أهله وهو بمكة شغل بالجهاد ، وبيان الاحكام . وإنما كان أكثر شغله صلى الله عليه [وآله وسلم] الدعاء الى الله تعالى ، وقراءة القرءان ، على ما كان يستدعيه .
__________
(1) يقرع: يعنف ، والتقريع: التعنيف .
يؤكد ما ذكرناه ويوضحه: الآثار الواردة في اجتماع مشركي العرب على التشاور والنظر في حال القرءان ، وتدبر أمره ، حتى قال الوليد بن المغيرة لعنه الله: (( قد سمعت الأشعار والخطب ، وكلام الكهنة ، وليس القرءان شيئا من ذلك )) (1) ، ثم قال ما حكى الله تعالى عنه في قوله: { ثُمَّ نَظَرَ (21) ثُمَّ عَبَسَ وَبَسَرَ (22) ثُمَّ أَدْبَرَ وَاسْتَكْبَرَ (23) فَقَالَ إِنْ هَذَا إِلَّا سِحْرٌ يُؤْثَرُ (24) إِنْ هَذَا إِلَّا قَوْلُ الْبَشَرِ (25) } [المدثر] .
فالتجأ إلى أن قال: إنه سحر ، لما بهره أمره .
وروي (( أنهم اجتمعوا وتشاوروا حوله في أمره,أبو جهل لعنه الله والملأ من قريش ، قد التبس أمره (2) ، فقالوا: فعليكم برجل يعرف السحر والكهانة والشعر . فقال عتبة بن ربيعة: أنا لذلك . فأتى النبي صلى الله عليه وآله وسلم فخاطبه (3) إلى أن تلا عليه رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: { بِسْمِ اْللَّهِ اْلرَّحْمَنِ اْلرَّحِيمِ حم (1) تَنزِيلٌ مِّنَ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ (2) كِتَابٌ فُصِّلَتْ آيَاتُهُ } [فصلت] حتى انتهى إلى قوله: { فَإِنْ أَعْرَضُوا فَقُلْ أَنذَرْتُكُمْ صَاعِقَةً مِّثْلَ صَاعِقَةِ عَادٍ وَثَمُودَ (13) } [فصلت] . فقال عتبة: ناشدتك الله والرحم ، إلا كففت . وقام جزعا
__________
(1) أخرجه البخاري في صحيحه 2/722(1943) ، والترمذي في سننه 4/329(1933) ، وابن حنبل في مسنده 3/205(13145) .
(2) كذا في المخطوط .
(3) في المخطوط: فخاطب . ولعل الصواب ما أثبت .
دهشا مرعوبا . ورجع إلى أصحابه ، وذكر لهم الحال ، وعرفهم أنه تحيَّر فيه ، وأنه ليس من الشعر ، وكلام الكهنة في شيء )) (1) .
وقد حكى الله تعالى عن بعضهم أنه قال: { سَمِعْنَا لَوْ نَشَاء لَقُلْنَا مِثْلَ هَذَا } [الأنفال: 31] ، ويقال: إنه أمية بن خلف لعنه الله (2) .
وهذا دليل على أنه عرف التحدي والتقريع فدفع عن نفسه بما قال في نفس الوقت والحال .
وأيضا فإن النبي صلى الله عليه وآله وسلم لما هاجر إلى المدينة ، كثر المنافقون واختلطوا بالمسلمين ، وحضروا الجماعات ومواضع الصلوات . وكذلك أهل الكتاب اختلطوا بالمسلمين حتى لم يَخْفَ عليهم عامة أحوالهم . فكيف يظن بأنه خفي عنهم آيات التحدي بواحدة .
وفي وقوف بعضهم عليها وقوف عامة المشركين , لأنهم كانوا يهدونها إليهم ولو على أجنحة الطير ، لأغراض مختلفة على ما بيناه ، فيسقط بما قلنا ما سألوه .
فإن قيل: يجوز أن يكون النبي صلى الله عليه وآله وسلم استكتمهم هذه الآيات فكتموها ، وأذاعوا سائر القرآن .
قيل له: هذا لا يصح ، ولا يظنه عاقل لوجهين:
__________
(1) رواه البيهقي في دلائل النبوة ، وابن عساكر . الدر المنثور 7/ 310 .
(2) أخرج ابن جرير ، وابن أبي حاتم ، وابن مردويه: أنها نزلت في النضر بن الحارث . الدر المنثور 4/ 56 .
أحدهما: ما بيّناه أن كتمان مثل هذا لا يصح ولا يتأتى ، ولا يجد المحاول إليه سبيلا .
والثاني: أنه كيف يستكتمهم النبي صلى الله عليه وآله وسلم مع أنه يتلو عليهم: { إِنَّ الَّذِينَ يَكْتُمُونَ مَا أَنزَلْنَا مِنَ الْبَيِّنَاتِ وَالْهُدَى مِن بَعْدِ مَا بَيَّنَّاهُ لِلنَّاسِ فِي الْكِتَابِ أُولَئِكَ يَلعَنُهُمُ اللّهُ وَيَلْعَنُهُمُ اللَّاعِنُونَ (159) } [البقرة] ، وقوله تعالى: { إِنَّ الَّذِينَ يَكْتُمُونَ مَا أَنزَلَ اللّهُ مِنَ الْكِتَابِ وَيَشْتَرُونَ بِهِ ثَمَنًا قَلِيلاً أُولَئِكَ مَا يَأْكُلُونَ فِي بُطُونِهِمْ إِلاَّ النَّارَ } [البقرة: 174] ، وقوله تعالى: { وَأَنزَلْنَا إِلَيْكَ الذِّكْرَ لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إِلَيْهِمْ وَلَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ (44) } [النحل] .
وكيف يُظن بالعاقل أنه يأمر أصحابه بكتمانه بعدِ ما يدَّعيه وحياً نازلا من عند الله عز وجل ، ثم يتلو عليهم في الكتمان ما ذكرناه ؟!
على أنه كيف كان يأمن أن يكون فيمن يُستكتَم من يرتد وينافق ويذيع ما استُكتِم ؟كما حكي من ارتداد عبد الله بن سرح (1) بعد ما
__________
(1) عبد الله بن سعد بن أبي سرح كان قد أسلم فدعاه رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ذات يوم يكتب له شيئاً، فلما نزلت الآية التي في المؤمنين {ولقد خلقنا الانسان من سلالة......}. أملاها عليه فلما انتهى إلى قوله تعالى: {ثم أنشأناه خلقا آخر...}. عجب عبد الله في تفصيل خلق الانسان فقال: تبارك الله أحسن الخالقين. فقال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: هكذا أنزلت علي. فشك عبد الله حينئذ! وقال: لئن كان محمد صادقا لقد أوحي إلي كما أوحي إليه، ولئن كان كاذبا لقد قلت كما قال. وارتد عن الاسلام. فنزل فيه قول الله تعالى: {ومن أظلم ممن افترى على الله كذبا أو قال أوحي إلي ومن قال سأنزل مثل ما أنزل الله}[الأنعام/93]. أي: نزل فيه {ومن قال سأنزل مثل ما أنزل الله} عندما قال: لقد قلت كما قال.
وقيل: كان إذا أملى عليه رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم {سميعا عليما} كتب {عليما حكيما}، أو {عزيز حكيم} كتب {غفور رحيم}. وأنا استبعد هذه الرواية الأخيرة، إن لم أقطع بكذبها لأنها تشكك في القرآن الكريم.
ولحق بمكة فأهدر رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم دمه يوم فتح مكة، وكان أخا لعثمان من الرضاعة، ففر إلى عثمان فجاء به عثمان إلى النبي صلى الله عليه وآله وسلم ولم يزل به حتى أمّنه.القصة في الدر المنثور 3/317، وأسباب النزول/156، والمصابيح للشرفي 4/70، والكشاف 2/35، والمعارف لابن قتيبة/300 في ترجمة عبد الله.
كان رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم استكتمه كثيرا من الوحي معه ، وأملاه عليه ، على أن المسلمين كانوا لا يقرون يسيراً لشبهة حتى تنحل عنهم ، والمنافقون يتعلقون بيسير ما يظنونه شبهة ، كما روي عن عمر وغيره يوم الحديبية ، حين أراد النبي صلى الله عليه وآله وسلم الإنصراف عنها ، أنهم قالوا: (( ألسنا وُعِدنا دخول مكة آمنين ؟ فقيل: هل عُيِّنتُ لكم هذه السنة بعينها ؟! قالوا: اللهم لا ، فسكتوا واستقامت بصائرهم )) (1) .
ولما روي أن ناقة لرسول الله صلى الله عليه وعلى آله ضلت . فتكلم المنافقون في ذلك ، حتى قال صلى الله عليه وعلى آله: (( إني لا أعلم إلا ما علمنيه الله تعالى )) (2) ، وذكر لهم موضع الناقة وحالها حتى وجدوها على ما وصف لهم .
__________
(1) أخرجه البخاري في صحيحه 4/1832 (4563) ، ومسلم في صحيحه3/1412 (1785).
(2) أخرجه الطيالسي في مسنده1/50 (377).
والقوم الذين يراجعون هذه المراجعة ، من مستبصر يطلب بها مزيد الاستبصار ، ومنافق يحاول بها ما يجري مجرى الطعن ، كيف يظن بهم اتفاقهم على الكتمان ، لمثل هذا الأمر العظيم ؟!
ثم يقال لهم: هبكم شككتم في وقوع التحدي بمكة والمدينة أيام رسول الله صلى الله عليه وعلى آله ، على أنا قد بينا ما يزيل الشك فيه ، ألستم تتيقنون وقوعه من أيام عمر وعثمان إلى يومنا هذا ؟! يكرر على أسماع كل مخالف لدين الاسلام ، منحرف عن تصديق الرسول صلى الله عليه وعلى آله ، ينقلونه بالتقريع ، والعيب الوجيع ، للعجز الظاهرعن الاتيان بمثله . وهذا كافٍ في التحدي ووقوعه !!
فإن قيل: فالمروي عن الأكثر: أنهم أسلموا لغير سماع القرءان ، كما روي (( أن العباس أسلم حين أخبره رسول الله صلى الله عليه وعلى آله بما كان من إيداعه المال زوجته أم الفضل لما أراد الخروج إلى بدر )) (1) .
وما روي عن (( عمير بن وهب أنه أسلم حين عرّفه صلى الله عليه وعلى آله ما جرى بينه وبين صفوان بن أمية بمكة )) (2) .
__________
(1) أخرجه أحمد في المسند 1/353 (331 ) .
(2) أخرج الطبراني في المعجم الكبير17/58 ( 188) ، عن محمد بن جعفر بن الزبير قال: (( جلس عمير بن وهب الجمحي مع صفوان بن أمية ، بعد مصاب أهل بدر من قريش في الحجر بيسير ، وكان ممن يؤذي رسول الله صلى الله عليه وآله سلم وأصحابه ، ويلقون منهم عنتا إذ هم بمكة ، وكان ابنه وهب بن عمير في أسارى أصحاب بدر . قال: فذكروا أصحاب القليب بمصائبهم ، فقال صفوان: والله إنه لا خير في العيش بعدهم ، وقال عمير بن وهب: صدقت ، والله لولا دين علي ليس عندي قضاؤه ، وعيال أخشى عليهم الضيعة بعدي ، لركبت إلى محمد حتى أقتله ، فإن لي فيهم علة ، ابني عندهم أسير في أيديهم .
فاغتنمها صفوان فقال: علي دينك أنا أقضيه عنك ، وعيالك مع عيالي أسوتهم ما بقوا ، لا يسعهم شيء نعجز عنهم .
قال عمير: اكتم علي شأني وشأنك . قال: أفعل .
قال: ثم أمر عمير بسيفه فشحذ وسم ، ثم انطلق الى المدينة ، فبينا عمر بن الحطاب بالمدينة في نفر من المسلمين يتذاكرون يوم بدر وما أكرمهم الله به ، وما أراهم من عدوهم ، إذ نظر إلى عمير بن وهب قد أناخ بباب المسجد متوشح السيف ، فقال: هذا الكلب عدو الله عمير بن وهب ، ما جاء إلا لشر ، هذا الذي حرش بيننا ، وحزرنا للقوم يوم بدر ، ثم دخل عمر على رسول الله صلى الله عليه وآله سلم ، فقال: يا رسول الله هذا عدو الله عمير بن وهب قد جاء متوشحا السيف .
قال: فأدخله ، فأقبل عمر حتى أخذ بحمالة سيفه في عنقه فلببه بها ، وقال عمر لرجال ممن كان معه من الأنصار: ادخلوا على رسول الله صلى الله عليه وآله سلم فاجلسوا عنده ، واحذروا هذا الكلب عليه فإنه غير مأمون . ثم دخل به على رسول الله صلى الله عليه وآله سلم وعمر آخذ بحمالة سيفه ، فقال: أرسله يا عمر ، ادن يا عمير ، فدنا ، فقال: أنعموا صباحا ، وكانت تحية أهل الجاهلية بينهم . فقال رسول الله صلى الله عليه وآله سلم: قد أكرمنا الله بتحية خير من تحيتك يا عمير ، السلام تحية أهل الجنة .
فقال: أما والله يا محمد إن كنت لحديث العهد بها .
قال: فما جاء بك ؟!
قال: جئت لهذا الأسير الذي في أيديكم فأحسنوا إليه .
قال: فما بال السيف في عنقك ؟!
قال: قبحها الله من سيوف ، فهل أغنت شيئا .
قال: اصدقني ما الذي جئت له ؟
قال: ما جئت إلا لهذا .
قال: بل قعدت أنت وصفوان بن أمية في الحجر فتذاكرتما أصحاب القليب من قريش ، فقلت: لولا دين علي وعيالي لخرجت حتى أقتل محمدا ، فتحمَّل صفوان لك بدينك وعيالك على أن تقتلني ، والله حائل بينك وبين ذلك .
قال عمير: أشهد أنك رسول الله ، قد كنا يا رسول الله نكذبك بما كنت تأتينا به من خبر السماء ، وما ينزل عليك من الوحي ، وهذا أمر لم يحضره إلا أنا وصفوان ، فوالله إني لأعلم ما أنبأك به إلا الله ، فالحمد لله الذي هداني للإسلام ، وساقني هذا المساق . ثم شهد شهادة الحق .
فقال رسول الله صلى الله عليه وآله سلم: فقهوا أخاكم في دينه ، وأقرئوه القرآن ، وأطلقوا له أسيرهم .
قال: يا رسول الله إني كنت جاهدا على اطفاء نور الله ، شديد الأذى على من كان على دين الله ، وإني أحب أن تأذن لي فأقدم مكة فأدعوهم إلى الله وإلى الاسلام ، لعل الله يهديهم ، وإلا آذيتهم كما كنت أؤذي أصحابك في دينهم . فأذن له رسول الله صلى الله عليه وسلم فلحق بمكة ، وكان صفوان حين خرج عمير بن وهب قال لقريش: أبشروا بواقعة تأتيكم الآن تنسيكم وقعة بدر ، وكان صفوان يسأل عنه الركبان حتى قدم راكب فأخبره عن إسلامه ، فحلف أن لا يكلمه أبدا ، ولا ينفعه بنفع أبدا ، فلما قدم عمير مكة أقام بها يدعو إلى الاسلام ، ويؤذي من يخالفه أذى شديدا ، فأسلم على يديه ناس كثير )) .
إلى غير ذلك مما روي من إسلام خلق كثير ، لأسباب مختلفة غير سماع القرءان ، وهذا يضعف تعلقكم بالقرءان ، وبأن التحدي به كان قد وقع .
قيل: هذا يلزم من قال: إنه لا معجز له صلى الله عليه وعلى آله سوى القرءان ، ولا أعرف مسلما يقول ذلك ، أو يعتقده . وإذا كان هذا هكذا فليس ذلك طعنا فيما نذهب (1) إليه ، وسنفرد إن يسَّر الله
__________
(1) في المخطوط: ذهب . ولعل الصواب ما أثبت .
سبحانه وتعالى بابا من هذا الكتاب ، نذكر فيه المشاهير من معجزاته صلى الله عليه وعلى آله التي هي سوى القرآن .
على أنه قد روي عن جماعة أنهم أسلموا حين سمعوا القرآن . ولو ثبت أن أحدا لم يسلم عنده ، كان ذلك مما يقدح في صحة كونه معجزا ، دالا على صدق رسول الله صلى الله عليه وعلى آله ، والدليل لا يقدح فيه الاستدلال به ، أو أن المستدل به لا يعرف صحته (1) .
وإنما يجب علينا أن ننظر في حال الدليل ، هل هو دليل صحيح أم لا ؟
وأما ما عدا ذلك فما (2) لا فكر فيه .
فممن (3) روي أنه أسلم حين سمع القرآن: عمر بن الخطاب . وروي أنه أسلم حين سمع { طه (1) } [طه] (4) .
وروي أن جبير بن مطعم أسلم حين سمع النبي صلى الله عليه وعلى آله يقرأ: { وَالطُّورِ (1) } [الطور] (5) ، وفيه آية التحدي الظاهر
__________
(1) في المخطوط: بصحته . ولعل الصواب ما أثبت .
(2) في المخطوط: فيما . ولعل الصواب ما أثبت .
(3) في المخطوط: فمن . ولعل الصواب ما أثبت .
(4) سيرة ابن هشام1/370 .
(5) عن جبير بن مطعم أنه (( أتى المدينة في فداء وهو يومئذ مشرك فدخل المسجد ورسول الله صلى الله عليه وآله سلم يصلي المغرب فقرأ بالطور فكأنما صدع قلبي قراءة القرآن )) .
أخرجه أحمد بن حنبل في مسنده 4/83(16808) ، والطبراني في معجمه الكبير 2/141(1595) .
، حيث يقول: { أَمْ يَقُولُونَ تَقَوَّلَهُ بَل لَّا يُؤْمِنُونَ (33) فَلْيَأْتُوا بِحَدِيثٍ مِّثْلِهِ إِن كَانُوا صَادِقِينَ (34) } [الطور] .
وروي أن سعد بن معاذ قرئ عليه القرءان ، وأسلم .
وكذلك: أسيد بن حضير .
فإن قيل: تلاوة آية التحدي لا تكون تحديا ، وإنما التحدي أن يبتدئ مخاطبتهم بالتحدي ؟!
قيل له: لا فرق بين الأمرين في حصول التحدي ، بل إذا قرأ عليهم آية التحدي ، وعرَّفهم أنها من عند الله تعالى ، ربما كان أبلغ في التحدي ، على أن آية التحدي في أوائلها الأمر بالتحدي ، لأنه تعالى يقول: { فَلْيَأْتُوا بِحَدِيثٍ } ، ولا يجوز أن يُظهر صلى الله عليه وعلى آله أن الله تعالى أمره أن يقول قولا ، إلا ويعرف منه أنه قال ذلك ، أو ما ينوب منابه . يدل ذلك على أنه لا بد من أن يكون تحديا ابتداء في المخاطبة ، أو تلاوة تنوب مناب ابتداء المخاطبة .
- - -
الكلام في أن معارضة القرءان لم تقع
فإن قيل: فما الدليل على أن رسول الله صلى الله عليه وعلى آله لما تحداهم بالقرءان لم يعارضه أقوام ولم يأتوا بمثله ؟!
قيل له: الدليل على ذلك أنه لو كان لنُقِلَ ، ولو نُقِلَ لوقع العلم .
فلما لم يقع العلم به ، علمنا أنه لم ينقل . وإذا ثبت أنه لم ينقل ، ثبت أنه لم يكن .
فإن قيل: فلِم ادعيتم أنه إذا لم ينقل لم يجب القطع على أنه لم يكن؟
قيل له: لأنا بمثل هذه الطريقة نعلم أنه لم تجر بين رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وبين قريش من مبعثه صلى الله عليه وعلى آله إلى يوم بدر وقعة مثل وقعة بدر ، وأنه لم يكن بين وقعة بدر ووقعة أُحد مثل وقعة أُحد . وأن الأحزاب لم يجتمعوا على باب المدينة إلا مرة واحدة ، وأنه لم تجر بين أبي حنيفة وابن أبي ليلى ومالك نقائض في الشعر ، مثل ما جرى بين الفرزدق وجرير ، والأخطل والبعيث . وأن جعفر بن محمد عليه السلام لم يقع منه خروج مثل خروج زيد بن علي عليهما السلام ، وأن زيدا بن علي لم يكن له خروج بخراسان ، وأن أبا يوسف ومحمدا لم يصنفا في النحو مثل كتاب سيبويه . وأنه لم يظهر عنهما من الطب مثلما ظهر عن جالينوس ، إلى نظائر ما ذكرنا ، أكثر من أن تعد وتحصى .
ولم يتحصل لنا العلم بكل ما ذكرنا ، إلا من حيث علمنا أن شيئا من ذلك لو كان لنُقِل ، ولو نقل عُلِمَ . فبان بما ذكرنا أن القرءان لم يعارَض ، لأنه لو كان عُورِض لنقل ، ولو نقل لحصل لنا العلم .
فإن قيل: إن جميع ما استشهدتم به قد وقع العلم لنا بصحته ولا ننكره . ولكن من أين وجب أن يكون حكم معارضة القرءان حكم ما استشهدتم به ؟!
قيل له: لأن ما ذكرنا من الطريقة أمر عام ليس يختص شيئا دون شيء ، فيجب أن تكون جميع الطرق التي تتعلق بها الدواعي إلى نشرها وذكرها ، وتقوى البواعث عليها ، جارية في هذا الباب مجرى واحدا .
فإن قيل: فكأنكم تقولون: إن كل ما لم ينقل من الأحوال الماضية نقلا متواترا يجب القطع على أنه لم يكن . ولئن قلتم ذلك لزمكم أن تقطعوا على أنه لا معجز للنبي صلى الله عليه وعلى آله إلا ما يكون الخبر به متواترا . ويلزمكم القطع على أن كل خبر يروى عنه صلى الله عليه وعلى آله من طريق الآحاد كذب لا أصل له . وهذا خلاف ما بين المسلمين . ويلزمكم في أحوال الدنيا والمعاملات أن كل ما لا يتواتر الخبر به من المجوَّزَات ، فهو مقطوع على أنه لم يكن ، وفي هذا من الفساد ما لا يخفى ؟!
قيل له: نحن لا نقول إن كل ما لا يتواتر الخبر به يجب القطع على أنه لم يكن على الإطلاق ، وهذا لا يقوله مُحصِّل . وإنما نقول: إن الأمر إذا كان مما يكون وقوعه لو وقع ظاهرا لا خفاء به ، ثم كانت
الدواعي إلى نشره قوية ، والبواعث على ذكره شديدة ، ما لم يعرض ما يوجب تغيُّر حال الدواعي والبواعث ، ومتى لم يكن له نقل يوجب العلم فيجب القطع على أنه لم يكن .
وشيء مما ذكرتم لا يلزم على هذا - على ما نبيِّنه - بأن كثيرا من معجزات رسول الله صلى الله عليه وعلى آله يجوز أن يكون ظهر للواحد ، أو الاثنين ، أو الثلاثة ، دون العدد الكثير . ومثل هذا مما لا يصح أن يتواتر به الخبر .
وكثير من معجزاته صلى الله عليه وعلى آله وإن كانت ظهرت ، بشهادة العدد الكثير . يجوز أن تقوى الدواعي إلى نشرها والبواعث عليها ، تعويلا على غيرها , ويجوز أن تضعف الدواعي على نقلها على مر الأيام ، لقيام غيرها مقامها (1) ، وإن كانت الدواعي والبواعث في أول الأمر قوية .
وكل هذا يجوز أن يكون الأصل صحيحا ، وإن لم يتواتر النقل به ، وعلى هذه الطريقة يجري الكلام في أحوال الدنيا والمعاملات ، لأنا نجوِّز في السلطان أن يفعل أفعالا كثيرة مما تخصه فلا تُنقل نقلا متواترا . ولا يجوز أن يفعل فعلا يعم نفعه أو ضرره ظاهرا ذائعا ، فلا يتواتر في المدة بعد المدة إلى أن يعرض ما يوجب ضعف الدواعي والبواعث إلى نقله ، ولهذا جاز أن تخفى كثير (2) من معجزات الأنبياء المتقدمين
__________
(1) في المخطوط: مقامه . ولعل الصواب ما أثبت .
(2) في المخطوط: كثيرا . والصواب ما أثبت .
صلوات الله عليهم ، لأن التكليف بمعرفتها زال ، أو عُرِف حالهم من جهة نبي بعدهم ، فضعفت الدواعي إلى نقله .
وإذا ثبتت هذه الجملة ، فإن معارضة القرءان لو كانت ووقعت ، كان وقوعها على وجه يظهر للولي المصدق برسول الله صلى الله عليه وعلى آله ، والعدو المكذب له ، وكانت الدواعي إلى نقلها والبواعث على نشرها قوية مستمرة إلى يومنا هذا ، بل إلى آخر الدهر ، لأن الاسلام ما بقي (1) ، والاحتجاج بالقرءان ما استمر ، فيجب أن تكون الدواعي ثابتة حاصلة إلى نقل المعارضة ، لأن المكذب به صلى الله عليه وعلى آله كان يذكرها احتجاجا ، والمصدق به طالبا للكلام عليها ، كما يذكر الخصم حجة خصمه أو شبهته للكلام عليها . وآخر كان يذكرها لفصاحتها ومزيتها كما يؤثر ويحفظ كلام الفصحاء ، وكانت الملحدة والباطنية من بينهم خصوصا ، يهتفون بها لما في أنفسهم على رسول الله صلى الله عليه وعلى آله .
فكل ما ذكرناه يوضح أنها لو كانت وقعت كان وقوعها معروفا ، والدعاوي إلى نقلها تكون مستمرة .
ومتى كان الأمر على ما وصفنا ، ولم نجد النقل الذي ذكرنا ، فيجب القطع على أنها لم تكن ، كما نقول في سائر ما جرى مجراه في
__________
(1) كذا في المخطوط . ولعل المراد: أن الاسلام يظل إسلاما ودينا مدة بقائه . والقرءان يحتج به مدة استمراره .
الظهور ، وقلة الدواعي إلى نقله من أمور الدنيا والدين ، وأحوال الملوك وسياساتهم .
ولمثل هذا نقول: إن ما تدعيه الإمامية من النصوص لا أصل لها ، لأنها لو كانت لوجب أن يتواتر بها النقل ، ويظهر .
ولخَّص بعض العلماء القول في ذلك فقال: (( كل أمرين كانا في زمان واحد ، أو زمانين متقدمين , وكانت الدواعي إلى نقلهما (1) متساوية أو متقاربة ، فلا يجوز أن يظهر أحدهما ويظهر نقله ، ويخفى الآخر ويخفى نقله , لأنهما إذا اجتمعا في السبب الموجب الظهور ، فيجب اجتماعهما في الظهور )) .
قال: (( وقد علمنا أن القرءان لو كانت له معارضة من مشركي العرب كانت تكون في الزمان المتقارب ، وكانت الدواعي إلى نقلها كالدواعي إلى نقل القرءان وأقوى منه ، على ما أوضحناه ، ولأن المعارضة لو كانت ، لكانت هي الحجة دون القرءان ، وكان القرءان هو الشبهة ، وكان ذلك مما يزيد في قوة الدواعي إلى نقلها ، وهذا بيِّنٌ واضح لمن تأمله بعين النصفة )) .
على أن أحد لا يدعي: أن أحدا من العرب انتُدِب لمعارضة القرءان ، فعارضه أو عارض بعضه ، فلا وجه لتطويل الكلام في هذا الباب .
فإن قيل: ما أنكرتم أن يكون خوف السيف ، وعلو كلمة الاسلام ، أوجب خفاء نقل المعارضة ، أو منع ابتداءها ؟!
__________
(1) في المخطوط: نقلها . ولعل الصواب ما أثبت .
قيل له: أما ابتداؤها والاتيان بها لو لم يتعذر عليهم ، كان لا يجوز أن يكون ما ذكرتم مانعا لهم منها ، لأن الأحوال كانت على خلاف ذلك,وسنشبع القول فيه ، ونوضحه في الفصل الذي نذكر فيه أن كَفَّهم عن المعارضة لم يكن إلا للتعذر . وأما النقل فلا يجوز أن يخفى لما ذكرتم .
ألا ترى أن عامة الأحوال مع قوة جملة الاسلام ، وظهور أمره ، لم يسلم من أن يكون فيها من كان يطعن على النبي صلى الله عليه وعلى آله ، ويروم القدح في الاسلام .
فهذا يزيد بن معاوية لعنه الله لما حمل إليه رأس الحسين بن علي صلوات الله عليه جعل يقول:
ليت أشياخي ببدر شهدوا ... جزع الخزرج من وقع الأسل
لأهلوا واستهللوا فرحا ... ولقالوا يا يزيد لا شلل
لست من عتبة إن لم أنتقم ... من بني (1) أحمد ما كان فعل (2)
__________
(1) في المخطوط: نبي . والصواب ما أثبت .
(2) البيتان الأولان لعبد الله بن الزبعري ، قالها متحسرا على قتلى المشركين ببدر ، قال عامر الشعبي: وأضاف يزيد على تلك الأبيات بيتين هما: ... لعبت هاشم بالملك فلا
1@خبر جاء ولا وحي نزل
من بني أحمد ما كان فعل ... لست من خندف إن لم أنتقم
مقتل الحسين للخوارزمي 2/ 58 ، وتاريخ ابن كثير 8/ 192 ، 204 ، والفتوح لأعثم الكوفي 3/ 150 . غيَّر يزيد البيت اثاني فوضع فيه اسمه .
فمَن لا يتحاشى أن يقول ذلك ، أي مانع يكون في زمانه من نقل معارضته القرءان ، وهو السلطان المنتصب للخلافة ؟!!
ثم الوليد بن عبد الملك بن مروان على ما روي - يُظَن في أيام خلافته - مزق (1) المصحف ، وقيل: حرَّقه . ثم أنشأ يقول:
أتوعد كل جبار عنيد ... فها أنا ذاك جبار عنيد
إذا ما جئت ربك يوم حشر ... فقل يا رب حرقني الوليد (2)
وهو القائل:
تلَّعب بالبرية هاشميٍ ... بلا وحي أتاه ولا كتاب (3)
فكيف يظن بأن نقل المعارضة للقرآن يخفى في زمانه ؟! أو كان يقع الكف عنها لولا التعذر !! ثم كان في آخر أيام بني أمية وأول أيام
__________
(1) في المخطوط: في المصحف . ولعل الصواب ما أثبت .
(2) جاء في الأغاني لأبي الفرج الأصفهاني: أن الوليد لعنه الله استفتح المصحف يوماً ، فقرأ أول ما قرأ الآية الكريمة: { وَخَابَ كُلُّ جَبَّارٍ عَنِيدٍ (15) } [إبراهيم] ، فثار لعنه الله ومزق المصحف قائلا: ... أتوعد كل جبار عنيد
1@فها أنا ذا جبار عنيد
فقل يا رب مزقني الوليد ... إذا ما جئت ربك يوم حشر
وانظر مروج الذهب 3/228 -229.
(3) البيت للوليد بن يزيد الأموي ، وبعده: ... تذكرني الحساب ولست أدري
1@أحقا ما تقول من الحساب
وقل لله يمنعني شرابي ... فقل لله يمنعني طعامي
انظر مروج الذهب 3/229.
بني العباس مثل ابن المقفع (1) الذي تهوَّس (2) ، وأوهم الأغمار (3) أنه ممن يعارض القرءان ، ولم يتحاش ذلك .
__________
(1) ابن المقفع: هو أبو محمد عبد الله روزبة بن دَاذَوَيه. فارسي الأصل.
ولد حوالي سنة/106هـ، في قرية بفارس اسمها (جور). وهي مدينة (فيروز آباد) الحالية، وقيل بالعراق.
لقب أبوه بالمقفَّع، بفتح الفاء، لأن الحجاج ضربه فتقفعت يده، أي: تشنجت.
وقيل: بكسرها لعمله القفعة، وهي شبيهة بالزنبيل، بلا عروة وتعمل من الخوص.
نشأ بين أحياء العرب. فكان أبوه (داذويه) المقفع الفارسي يعمل في جباية الخراج لولاة العراق، مِن قِبَلِ بني أمية، وهو على دين المجوسية، ثم أسلم في آخر عمره، وولد له ابنه هذا وسماه (روزبة) فنشأ بالبصرة، وهي يومئذ حلبة العرب، ومنتدى البلغاء والخطباء والشعراء.
فكان لكل ذلك ـ فوق ذكائه المفرط ـ أعظم أثر في تربيته، وتهيئته، لأن يصير من الكتاب والأدباء، والمترجِمِين إليها.
وكان مجوسيا مزدكيا، قيل أسلم على يد عيسى بن علي ـ عم السفاح ـ بمحضر من الناس، وتسمى (عبد الله) وتكنى بأبي محمد.
وتقرب من بني أمية وولاتهم، فكان يكتب ليزيد بن عمر بن هبيرة والي العراق في عهده، ثم كتب لأخيه داود بن هبيرة بعده وهو لا يزال مجوسيا. في خلافة مروان بن محمد آخر خلفاء بني أمية.
فلما ظهر العباسيون، وتمكنوا من الأمويين اتصل بعيسى بن علي ـ عم الخليفبن السفاح، والمنصور ـ وكان حاكم الأهواز، فأسلم على يده ـ كما قيل ـ فكان كاتب ديوانه، كما قام بتعليم بني أخيه فنون العربية.
والمؤرخون يقولون إنه كان كاتبا بليغاً يضارع صديقه الكاتب عبد الحميد الكاتب، والذي كان يكتب بالشام لمروان بن محمد الملقب بالحمار ـ آخر خلفاء بني أمية.
وترجم له كتب (أرسطاطاليس) الثلاثة في المنطق، وكتاب (المدخل إلى علم المنطق) المعروف بإيساغوجي. وترجم له عن الفارسية وقيل عن الهندية كتاب (كليلة ودمنة) الشهير.
واتهم بالزندقة.
قال ابن حجر: وحكى الجاحظ أن ابن المقفع، ومطيع بن أياس، ويحيى بن زياد، كانوا يتهمون، ويقال: إن ابن المقفع مر ببيت نار المجوس، فتمثل بأبيات عاتكة.
والبيتان ذكرهما الشريف المرتضى في أماليه، وقال روى ابن شيبة قال حدثني من سمع ابن المقفع وقد مر ببيت نار المجوس، بعد أن أسلم فلمحه وتمثل:
يا بيت عاتكة الذي أتغزل حذر العدى وبه الفؤاد موكل
إني لأمنحك الصدود وإنني قسما إليك مع الصدود لأميل
وقال الشريف المرتضى أيضا:
وروى أحمد بن يحيى ثعلب قال: قال ابن المقفع يرثي يحيى بن زياد، وقال الأخفش: والصحيح أنه يرثي بها ابن أبي العوجاء:
رزئنا أبا عمرو ولا حي مثله ... فلله ريب الحادثات بمن وقع
فإن تك قد فارقتنا وتركتنا ... ذوي خلة ما في السداد لها طمع
لقد جر نفعا فقدُنا لك أننا ... أَمِنَّا على كل الرزايا من الجزع
قال ثعلب: البيت الأخير يدل على مذهبهم في أن الخير ممزوج بالشر، والشر ممزوج بالخير.
أقول: والأبيات مذكورة في حماسة أبي تمام/357.
وقال ابن حجر: ونقل عن ابن المهدي أنه قال: ما رأيت كتاباً في زندقة إلا هو أصله. لسان الميزان 3/449.
وكذلك قال الشريف المرتضى في أماليه 1/135.
وأيضا ما نقل عنه الإمام القاسم الرسي في كتابه الرد على ابن المقفع ، من النصوص التي تؤكد صدق ما قيل عنه من الزندقة، شاهدُ عدل، وخبرُ ثَبْت، سيما والإمام القاسم قريب العهد به، إذ ولد ابن المقفع سنة(106هـ)، وولد الإمام القاسم سنة(169هـ). إضافة إلى ورع الإمام الشديد الذي يستحيل معه التقول والإفتراء. ورغم أني بحثت كثيرا عن كتب ابن المقفع إلا أني لم أعثر إلا على مجلد بعنوان آثار ابن المقفع، بعد لأْيٍ وجهد، حصلت عليه من مكتبة بعمان الأردن، يحتوي هذا المجلد على:
ـ كليلة ودمنة
ـ الأدب الكبير
ـ الأدب الصغير
ـ الدرة اليتيمة
ـ رسالة في الصحابة، وبضع وريقات رسائل وحكم.
ولم أقف على كتابه الذي نقل منه الإمام القاسم ، والإمام المؤيد بالله ، ولعل الله أن يمن بالوقوف عليه.
ولقد شن الجاحظ حملة شعواء على الثنوية، وذكر طرفا من عقائدهم التي ذكرها الإمام القاسم في كتابه (الرد على ابن المقفع)، وهو من المعاصرين للإمام القاسم، فقال: إن كتبهم لا تفيد علما ولا حكمة، وليس فيها مثل سائر، ولا خبر طريف، ولا صنعة أدب، ولا حكمة غريبة، ولا فلسفة، ولا مسألة كلامية... وجل ما فيها ذكر النور والظلمة، وتناكح الشياطين، وتسافد العفاريت، وذكر الصنديد، والتهويل بعمود الصبح). الحيوان 1/28.
وهذا يؤكد وجود رسالة ابن المقفع في هذا الشأن، التي رد عليها الإمام القاسم، وقد أثبت المستشرق الإيطالي (ميكل أنجلو جويدي) رسالة ابن المقفع التي فندها الإمام القاسم وأكد أنها من تأليفه.
قتله - حرقا بتهمة الزندقة - سفيان بن معاوية المهلبي، أمير البصرة، بأمر المنصور.
وقيل: إن سبب قتله الأمان الذي كتبه لعبد الله بن علي ـ عم المنصور ـ بعد أن خرج بالشام بعد موت السفاح، وكان أميراً عليها، وغلب عليها، وادعى أن السفاح عهد إليه، فجهز المنصور أبا مسلم الخراساني، فدخل البصرة، فاستأمن له أخواه عيسى وسليمانُ المنصورَ فآمنه، فطلب عبد الله من يرتب له كتاب أمان لا يستطيع المنصور أن ينقضه، وكان ابن المقفع كاتب سليمان أمير البصرة فأمره فكتب نسخة الأمان، ومن جملته: ومتى غدر أمير المؤمنين بعمه عبد الله، فرقيقه أحرار، ونساؤه طوالق، والمسلمون في حل من بيعته. فاشتد على المنصور، وأمر سفيان بن معاوية المهلبي ـ وكان يعادي ابن المقفع ـ أن يقتله فقتله.
هذا ما قيل في سبب قتله.
وكما أسلفنا فقد ولد ابن المقفع سنة (106هـ)، وقتل سنة (142هـ). يعني أنه كان في ريعان شبابه عند مقتله، فعمره آنذاك (36) سنة.
(2) الهوس: طرف من الجنون .
(3) الأغمار: جمع غِمر ، وهو الجاهل الغر الذي لم يجرب الأمور .
وفي أيام المأمون ظهر الإلحاد وظهر الكلام في نصرة (( المانوية )) (1) و (( الديصانية )) وبالأخيرة صُنِّف (( الدامغ في مطاعن القرءان )) واختلف في مصنفه .
__________
(1) المانوية نسبة إلى ماني بن فاتك، مؤسس المانوية، ولد بجنوبي بابل نحو سنة (216م) أي بعد ميلاد المسيح عليه السلام، واختلف في أصله، إلا أن أقرب للصواب أنه كان فارسي الأصل، وتربى تربية دينية، هيئته فيما بعد إلى ادعاء النبوة هو في سن صغيرة في الرابعة والعشرين من عمره. أما عن أسباب ادعائه النبوة في هذه السن وبواعث ذلك فهو أمر يصعب معرفته أو التكهن به، لأن أغلب المراجع التي أرخت له تقف عند أسباب ادعائه للنبوة، إلا أن الظاهر من ذلك هو أن ميوله الشخصية وبيئته والتربية الدينية التي تلقاها قد أثرت كثيرا في ذلك. الموسوعة الفلسفية/417.
وشرع يبشر بالمانوية وقصد الهند، ولما ارتقى شابور عرش فارس (241م) استدعاه، لكن دعوته لاقت معارضة شديدة من كهنة الزرادشتية، فلما نصب بهرام بن شابور ملكاً قضى بإعدامه سنة (272م).
وتعتبر المانوية فرقة غنوصية مسيحية، وهي من أخطر الدعوات على العقيدة المسيحية والأفكار التي تعرضت لها منذ بشر بها المسيح عليه السلام، بل تعتبر من أطول هذه الدعوات التي أثرت فيها، إذ استمرت من القرن الثالث الميلادي حتى القرن الثالث عشر.
انتشرت المانوية وشاعت واعتنقها الكثيرون في سوريا وآسيا الصغرى والهند والصين ومصر وبلاد البلقان وإيطاليا وفرنسا، وكان القديس أوغسطين نفسه مانويا لبعض الوقت.
وتقوم عقيدة المانوية على ثنائية الإله، وهي أهم فكرة في هذه العقيدة، فهناك إله للنور وإله للظلمة، والأول إله للخير والخصب والثمار، والثاني إله للشر والدمار.
وصنف ابن الروندي (( الفريد )) في الطعن على نبوة نبينا صلى الله عليه وعلى آله ، والقدح في معجزاته , غير خائفٍ ولا متحاش .
وصنف (( التاج )) في قدم العالم .
و (( الزمرد )) في إبطال النبوات ، وإذا كانت الأحوال على ما وصفنا ، فكيف يظن: أن معارضة القرءان لو كانت ، يخفى نقلها ، سيما في زماننا هذا .
والباطنية قد اتسعت أحوالهم ، وكثر بذلهم الأموال على الاستدعاء إلى ما هم عليه ، من الجحد للتوحيد والنبوءات ، فلو وجدوا سبيلا إلى ذلك لحصَّلُوه بما لهم من طارف أو تليد (1) .
__________
(1) الطارف من المال: المستحدث . والتليد: المال القديم الأصلي الذي ولد عندك .
وبمثل هذه الطريقة يتبين أن معارضة القرءان لو كانت ممكنة في شيء من الأعصار التي هي بيننا وبين النبي صلى الله عليه وعلى آله لأتي بها ، ولم يكن دونها مانع ولا حاجز .
فإن قيل: فقد حكي عن مسيلمة (1) ، وطليحة الأسدي (2) ، وبالأخير عن ابن المقفع ، فصول عدة ادعي أنها معارضة للقرآن ، فما قولكم فيه ؟!
قيل له: أول ما في هذا أنه مما يدل على أن المعارضة للقرآن لم تقع ، لأنها لو وقعت لنقلت ، كما نقلت هذه الفصول التي ذكرتها ، ولم يمنع منها مانع ، كما لم يمنع من نقل هذه الفصول مع ما فيها من الركاكة والسخافة في النظم والوضع .
__________
(1) مسيلمة بن ثمامة بن كبير الحنفي الوائلي ، متنبئ ، من المعمرين ، في الأمثال: أكذب من مسيلمة . ولد ونشأ باليمامة المسماة اليوم: بالجبيلة بقرب العيينة في نجد . تلقب في الجاهلية بالرحمن . وعرف برحمان اليمامة ، وفد مع قومه على رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم بعد فتح مكة ، إلا أنه تخلف مع الرحال خارج مكة ، وهو شيخ هرم ، فأسلم الوفد ، وذكروا للنبي صلى الله عليه وآله وسلم مكان مسيلمة ، فأمر له بمثل ما أمر به لهم ، وقال: ليس بشركم مكانا ... لما رجعوا إلى ديارهم كتب مسيلمة إلى النبي صلى الله عليه وآله وسلم: (( من مسيلمة رسول الله إلى محمد رسول الله . سلام عليك ، أما بعد: فإني قد أشركت في الأمر معك ، وإن لنا نصف الأرض ، ولقريش نصف الأرض ، ولكن قريشا قوم يعتدون )) . فأجابه صلى الله عليه وآله وسلم: (( بسم الله الرحمن الرحيم ، من محمد رسول الله ، إلى مسيلمة الكذاب ، السلام على من اتبع الهدى . أما بعد: فإن الأرض لله يورثها من يشاء من عباده والعاقبة للمتقين )) ، قاتله المسلمون بقيادة خالد بن الوليد في خلافة أبي بكر ، فقتل سنة (12هـ) . ولا يزال في نجد من ينتسب إلى بني حنيفة الذين تفرقوا في أنحاء الجزيرة .
(2) طليحة بن خويلد الأسدي ، ادعا النبوة ، وارتد بعد أن وفد على النبي صلى الله عليه وآله وسلم في وفد من قومه في السنة التاسعة للهجرة ، ثم أسلم في خلافة عمر ، توفي سنة ( 21هـ ) .
وجملة الكلام في هذا أنها تنقسم قسمين:
إما أن تكون كلاما مسترذلا لا ينحط عن كلام المتوسطين في العربية ، من أهل هذا العصر والأعصار التي كانت قبله . فكيف أن تبلغ مرتبة كلام فصحائهم ، [و] ما جرى هذا المجرى . لا يخيل (1) على أحد أنه ليس يجوز أن يظن به أنه معارِض للقرءان , كما لا يجوز أن يظن أن أشعار الحبر الوردي تصلح أن تكون معارضة لأشعار امرئ القيس ، والنابغة ، أو الأعشى ، أو يكون المورد له أخذ ألفاظ القرءان فقدَّم منها البعض ، وأخَّر البعض ، وزاد فيها ونقص منها . ومثل هذا لا يعد معارضة ، لأنه لو عُدَّ معارضة لكان لا يتعذر على المفحَم (2) إذا عرف وزن الشعر أن يعارض ديوان امرئ القيس ، وسائر الشعراء الفحول من القدماء والمحدثين - على ما نبينه من بعد - ونحن نذكر تلك الفصول ونبين صحة ما قلناه .
- - -
__________
(1) لا يخيل: لا يُظن .
(2) المفحَم: العيي ، والذي لا يقول الشعر .
[ قرآن مسيلمة الكذاب ]
فمن ذلك ما حكى عن مسيلمة الكذاب أنه قال: (( والليل الأطخم ، والديب الأدلم ، والجزع الأزلم ، ماهتكت أسيد من محرم )) .
وقال: (( والليل الدامس ، والذئب الهامس ، ما قطعت أسيد من رطب ولا يابس )) .
وكان يقول: (( والشاء وألوانها ، وأعجبها السود وألبانها ، والشاة السوداء ، واللبن الأبيض ، إنه لعجب محض ، وقد حرم المذق ، فما لكم لا تجمعون )) .
وقال: (( ضفدع بنت ضفدعين ، نقي ما تنقين ، أعلاك في الماء وأسفلك في الطين . لا الشارب تمنعين ، ولا الماء تكدرين . لنا نصف الأرض ، ولقريش نصفها . ولكن قريشا قوم يعتدون )) .
وقال: (( والمدريات (1) زرعا ، والحاصدات حصدا ، والذاريات قمحا ، والطاحنات طحنا ، والخابزات خبزا ، و الثاردات ثردا ، واللاقمات لقما ، إهالة وسمنا ، لقد فضلتم على الوبر ، وما سبقكم أهل المدر . ربعكم فامنعوه ، والمعتر فآووه ، والباغي فناوءوه )) (2) .
__________
(1) كذا في المخطوط ، ولعلها: المذريات .
(2) عن قيس (( جاء رجل إلى ابن مسعود فقال: إني مررت بمسجد من مساجد بني حنيفة فسمعتهم يقرأون شيئا لم ينزله الله ، الطاحنات طحنا ، العاجنات عجنا ، الخابزات خبزا ، اللاقمات لقما ، قال: فقدم ابن مسعود بن النواحة إمامهم فقتله واستكثر البقية ، وقال: لأجزرهم اليوم الشيطان ، سيروهم إلى الشام حتى يرزقهم الله توبة ، أو يفنيهم الطاعون )) .
قال: وأخبرني إسماعيل عن قيس بن أبي حازم أن ابن مسعود قال: (( إن هذا لابن النواحة ، أتى رسول الله صلى الله عليه وآله سلم وبعثه إليه مسيلمة ، فقال النبي صلى الله عليه وآله سلم: لو كنت قاتلا رسولا لقتلته )) . رواه ابن أبي شيبة في مصنفه 6/439 (32743) ، والطبراني في معجمه الكبير 9/194 (8956) .
وهذه الفصول أبين سخافة ، وأظهر ركاكة ، من أن يحتاج إلى ذكرها في كتابنا هذا ، على أنها ليست مما فيه شبهة على أحد سمعها ، لكنا ذكرناها ليتعجب منها المتعجب !! وليعلم أنه لو كانت للقرآن معارضة في الحقيقة لنقلت ، كما نقل هذا الكلام السخيف الذي لو أراد بعض المتعلمين - الذين تكون بضاعتهم في اللغة مزجاة (1) - إيراد أسجاع في هذا المعنى لم يرض لنفسه بمثل هذا .
والرجل - أعني مسيلمة - وإن كان كاذبا وقحا ، فإنه كان رجلا من العرب ، ولم يبلغ به جهله إلى أن يدعي أنه يعارض بمثل هذا الكلام القرءانَ ، لأنه لو فعل ذلك كان يفتضح بين قومه ، وهو لم يوردها على أنها معارِضة ، وإنما كان يوردها على أنها منزَّلة عليه ، وليس كل ما يقصد أن يدعا فيه أنه منزل من عند الله يمكن أن يقال فيه: إنه معارَضة للقرآن ، لأنا لا ندعي إعجاز القرءان من حيث أنه منزل من عند الله تعالى فقط ، بل لأوصاف أخر تخصه .
__________
(1) مزجاة: يسيرة ناقصة .
ألا ترى أنه لا شك أن التوراة والانجيل والزبور كانت منزلة من عند الله ، وإن لم يثبت فيها الاعجاز .
ومن كلام هذا المهرص (1) الكذاب: (( ألم تر كيف فعل ربك بالحبلى )) .
وحكى: (( لقد منَّ الله على الحبلى ، أخرج منها نسمة تسعى ، من بين صفاق وحشا ، وأحل لها الزنا )) . وهذا الكلام وإن كان سخيفا ، فإنه أسفـ[ـه] مما تقدم من كلامه . والعلة فيه: أنه أدخل فيه شيئا من ألفاظ القرءان ، لأنه أخذ الابتداء من قوله: { أَلَمْ تَرَ كَيْفَ فَعَلَ رَبُّكَ بِأَصْحَابِ الْفِيلِ (1) } [الفيل] ، فجعل (( الحبلى )) مكان { أَصْحَابِ الْفِيلِ (1) } .
وكذلك فيما حكى من قوله: (( لقد منَّ الله على الحبلى )) ، أخذه من قول الله عز وجل: { لَقَدْ مَنَّ اللّهُ عَلَى الْمُؤمِنِينَ } [البقرة: 164] . فجعل (( الحبلى )) مكان { الْمُؤمِنِينَ } .
وقوله: (( أخرج منها نسمة تسعى )) من ألفاظ القرءان إلا قوله: (( نسمة )) ، فاكتسى هذا الفصل ضربا من الزبرج (2) ، لما فيه من ألفاظ القرآن .
واعلم أن الشاعر يدخل لفظة من القرءان في بيت من الشعر ، أو يدخلها الكاتب في فصل من كتابه ، والمُحاوِر في فصل من محاورته ،
__________
(1) كذا في المخطوط ، ولم أقف له على معنى يتوافق مع السياق في كتب اللغة .
(2) الزبرج: الذهب ، وكل شيء حسن: زبرج .
فيكتسب ذلك البيت وذلك الفصل من العذوبة والرونق ما يصيِّره غُرة (1) في سائره ، وهذا من عجيب ما اختص به القرءان ، وفيه دلالة واضحة أنه مباين لكلام البشر والحمد لله .
وقد رأيت بعض من كان يتعاطى الفصاحة ، ويدعي البلاغة من أهل عصرنا هذا ، يعجب بفصل يحكيه عن طليحة الأسدي ، وهو (( ما يفعل الله بتعفير خدودكم ، وفتح أدباركم ، اذكروا الله أعفة قياما )) .
وكان يقول: (( ما هذا بكلام رذِل )) . وكان يوشح به ما كتب ، أُقدِّره أنه منطوي عليه (2) .
وهذا الفصل إنما صار له يسير من الرونق ، لأنه أدخل فيه شيئا من ألفاظ القرءان ، لأن الله تعالى يقول: { مَّا يَفْعَلُ اللّهُ بِعَذَابِكُمْ } [البقرة: 147] ، فأخذه ، وأخذ (3) (( اذكروا الله أعفة )) من قوله تعالى: { يَذْكُرُونَ اللّهَ قِيَامًا وَقُعُودًا } [آل عمران: 191] ، ومن قوله تعالى: { اذْكُرُوا اللَّهَ ذِكْرًا كَثِيرًا (41) } [الأحزاب] .
على أن هذا القدر وبأضعافه لا يمكن أن يعرف حال الكلام ، وحال المتكلم ، كما أن بالبيت الواحد وبالبيتين لا يمكن أن يعرف حال الشاعر ، و بالفصل الواحد وبالفصلين وبالثلاثة لا يمكن أن يعرف حال الكاتب والكتابة . وإنما يمكن أن يعرف ذلك إذا امتد نَفَس الكلام
__________
(1) الغُرة: أول كل شيء وأكرمه .
(2) كذا في المخطوط . ولعله يريد: أن هذا الرجل معتقد لنبوة طليحة الأسدي .
(3) في المخطوط: فأخذ هو أخذا . ولعل الصواب ما أثبت .
، وظهر التصرف فيه ، ولهذا نقول: إن بهذا القدر من القرءان لا يمكن أن يعرف إعجازه ، لأن هذا القدر من القرءان لا يمكن أن يعرِّف إعجازه , لأن هذا القدر وأضعافه قد يتفق فيه ما لا يمكن لصاحبه الاستمرار عليه .
فأما ما ذكر عن ابن المقفع في هذا الباب فهو أكثر ، ونحن نذكر طرفا منه وننبه به على نمطه ، فإني رأيت كثيرا من الجهال يدخلون به الشُّبَه على أنفسهم . فمن ذلك: (( وأما الذين يزعمون أن الشك في غير ما يفعلون ، وتنتهي الثقة إلى ما يقولون ، أولئك ممن غضب عليهم ربهم ، إنه خبير بما يعملون ، الذين اتخذوا من دوني نصيرا ، أولئك لا يجدون وليا ولا هم ينصرون ، ومنهم من يتخذ أندادا من دون الله رجما بالغيب ، أولئك وراءهم شر ما يظنون )) .
فانظروا - رحمكم الله - إلى صفاقة هذا الانسان ، كيف جاء إلى ألفاظ القرءان فحرَّفها عن مواضعها ، وأوهم أنها من كلامه ، فأفسد وضعه ونضمه ، وما أشبهه ، إلا ما حكى لي بعض أهل الأدب أنه أنشد قول المتنبئ:
بقائي شاء ليس هم ارتحالا ... وحسن الصبر زموا لا الجمالا (1)
...
فقال: أخذ قول أبي تمام فنسخه وفسخه ومسخه ، يعني قوله:
قالوا الرحيل فما شككت بأنها ... نفسي عن الدنيا تريد رحيلا (2)
__________
(1) لم أقف عليه .
(2) البيت لأبي تمام . ورد في المخطوط: شككت بأنه . . . انظر ديوانه .
فأبلغت الحكاية المتنبئ , فقال: هلا وهبه لقولي:
وحسن الصبر زموا والجمالا
وابن المقفع أسوأ حالا من المتنبئ ، لأنه ليس لكلامه من الحسنات ما يوهب له السيئات . فتأملوا - رحمكم الله - كيف جاء إلى ألفاظ القرءان ، لأن { غَضِبَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ } [المجادلة: 14] (1) من ألفاظ القرءان ، وأنه { خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ (13) } [المجادلة] من ألفاظ القرءان ، وكذلك قوله: (( أولئك لا يجدون وليا ولا هم ينصرون )) كله من ألفاظ القرءان ، إلا أنه حرَّف وغيَّر وأفسد اللفظ ، وسلبه حسنه بتغيير النظم .
وكذلك قوله: (( ومنهم من يتخذ من دون الله أندادا رجما بالغيب أولئك وراءهم )) كل ذلك من ألفاظ القرآن . وليس له من الزيادة في هذا إلا قوله في أوله: (( يزعمون أن الشك في غير ما يفعلون )) ، وهذا كلام مبتذل (2) من ألفاظ العامة والسوقة ، لأن إرادتهم نفي (3) الشك عما كانوا يفعلون ، فلم يصرح به ، وإنما أثبته في غير ما يفعلون .
ولعمري إن الفصيح قد يعدل عن التصريح إلى التلويح ، لكن على وجه يكون أبلغ من التصريح ، وبألفاظ تكون أجزل من ألفاظ التصريح ، ويكون ذلك لغرض صحيح . وذلك مثل قول الله تعالى: {
__________
(1) في المخطوط: { غضب عليهم } . ولا يوجد بهذا اللفظ .
(2) في المخطوط: مستدل . ولعل الصواب ما أثبت .
(3) في المخطوط: نفو .
وَإِنَّا أَوْ إِيَّاكُمْ لَعَلَى هُدًى أَوْ فِي ضَلَالٍ مُّبِينٍ (24) } [سبأ] ، أراد: إني على الهدى وأنتم في ضلال مبين ، فعدل عن ذلك إلى الإيجاز والتلويح بلفظ هو أشرف وأجزل ، وكان الفرض في هذا بيان ذلك بما يكون أجمل ، والتنبيه عليه بما يكون ألطف ، وكلام هذا المختلق (1) لا يحتمل ذلك ، لأنه أردفه بقوله: (( عليهم غضب من ربهم )) ، وهذا نبوٌّ في المعنى الذي له يعدل عن التصريح إلى التلويح .
ومن ذلك قوله تعالى: { مِنكُم مَّن يُرِيدُ الدُّنْيَا وَمِنكُم مَّن يُرِيدُ الآخِرَةَ } [آل عمران: 152] ، فعاتبهم بألطف عتاب ، وجعل خطابهم أجمل خطاب . ثم عقبه بقوله: { وَلَقَدْ عَفَا عَنكُمْ } [آل عمران: 152] ، فكان عجز الكلام مطابقا لصدره ، واستمر الغرض فيهما على منهاج واحد .
ومن زيادته أيضا قوله: (( أولئك وراءهم شر ما يظنون )) ، وهذا وإن كان اللفظ لغوا (2) ، فإنه أخذه من معنى قول الله تعالى: { وَبَدَا لَهُم مِّنَ اللَّهِ مَا لَمْ يَكُونُوا يَحْتَسِبُونَ (47) } [الزمر] ، وكساه من لفظه الخسيس ما أزال رونقه وبهجته .
ومن كلام هذا الجاهل وأوهم أنه عارض: (( قل أعوذ برب الناس ، المعاذ بصاحب البلد ، مالك البلد ، وباني البلد ، وساكن البلد ، من
__________
(1) في المخطوط: المختلف . ولعل الصواب ما أثبت .
(2) في المخطوط: لغو . ولعل الصواب ما أثبت .
شر العاربة ، وأهل الطاغية ، الذي أضل صاحبه ، ومنع جانبه ، وحمى جاره من سكان المدر ، وخلاف العذر والعرر )) .
تأملوا - رحمكم الله - حال هذا الجاهل في ادعائه أنه أورد معارضة ، ومن جاء إلى كلام فصيح شريف الوضع أو كلام متوسط أو مسترذل . فأبدل (1) كل كلمة منه بكلمة نافرة أو غير نافرة ، هل يكون معارضا ؟ وهل يستحق ذلك أن يسمى: معارضة ؟!
فأما قوله: (( أضل صاحبه ، ومنع جانبه )) . . . إلى آخر الفصل ، فكلام لا يلاحن بعضه بعضا ، لأن قوله: (( أضل صاحبه )) ذم ، وقوله: (( حمى جاره )) مدح . وقوله: (( سكان المدر ، وخلاف العذر والعرر )) لا ملاءمة بين بعضه والبعض ، وإنما طلب به السجع من أقبح الوجوه . على أن سكان المدر لا مزية لهم في الشر على غيرهم ، فلا وجه لتخصيص الاستعاذة من شرهم لولا عمى قلبه .
وقلنا: إن هذا الفصل لا يصح بتة على وجه من الوجوه أن يسمى: معارضة ، لأنه جارٍ مجرى أن يقول الانسان: ونظنهم منتبهين وهم نيام .
ويدعي أنه عارض قوله: { وَتَحْسَبُهُمْ أَيْقَاظًا وَهُمْ رُقُودٌ } [الكهف: 18] ، فلا يستحق أن يسمى: معارضة بتة ، لأنه أبدل كل لفظة منه بلفظة ، وأتى بألفاظ وضيعة بدل ألفاظ شريفة .
__________
(1) في المخطوط: فأبدأ . لعلها مصحفة ، ولعل الصواب ما أثبت .
ولئن جاز أن ذلك معارضة ، فلِمَ لا يكون معارضا لقول امرئ القيس:
كأن قلوب الطير رطبا ويابسا ... لدى وكرها العناب والحشف البالي (1)
بأن يقول:
تخال الوحش في طل أرضنا ... وفي بيتنا التفاح والعنب البالي
ولِمَ لا يكون معارِضا لقوله:
خليليَ مرا بي على أم جندب ... لنقضي حاجات الفؤاد المعذب (2)
بأن يقول:
حبيبيا سيرا بي على أخت زينب ... لنقضي أوتار الفؤاد المعذب
ولِمَ لا يكون معارضا لقول الكميت:
طربت وما شوقا إلى البيض أطرب ... ولا لعبا منى وذو الشيب يلعب (3)
بأن يقول:
لعبت وما ميلا إلى السمر ألعب ... وما لهوىً مني وذو السن يطرب
أترى هذا الجاهل لم يعرف شيئا من نقائض جرير والفرزدق ، وما معارضات أمرئ القيس وعلقمة ؟ ولم يتصور كيف كانت تجري المعارضات بين العرب .
وما عندي أنه خفي عنه ذلك ، لكنه أراد أن يسخر بما أتاه من بعض الجهال أو الأغمار .
__________
(1) البيت من معلقة امرئ القيس .
(2) البيت مطلع قصيدة لامرئ القيس . انظر ديوانه .
(3) البيت مطلع قصيدة للكميت بن زيد الأسدي . انظر ديوانه .
على أن كلام ابن المقفع إذا لم يدَّع أنه يعارض القرءان ليس من هذا الجنس ، بل هو من كلام الفصحاء .
فإن قيل: فكيف يجوز أن يُجوّد كلامه إذا قصد غير معارضة القرءان ، ويسقط إذا أرادها ، إلا أن يقولوا بالصرف ؟!
قيل له: هذا مما نبيِّنه ونوضحه في الفصل الذي نبين أن الاعجاز تعلَّق بالنظم والفصاحة جميعا ، وستجده إن شاء الله هناك شافيا كافيا .
ومن كلام هذا الجاهل - أعني ابن المقفع -: (( ألا إن الذين اتخذوا إلها من دون الواحد القهار ، لبئس ما يصنعون ، ولا تكونوا كا لذين آمنوا ، ولم يثمر إيمانهم لظلمهم ، أولئك عليهم غضب من ربهم وهم لا يهتدون )) ، والكلام في هذا كالكلام فيما تقدم ، الألفاظ كلها ألفاظ القرءان ، حرَّفها وأفسدها بالتقديم والتأخير ، والتبديل والتغيير ، ثم جاء إلى قوله تعالى: { الَّذِينَ آمَنُواْ وَلَمْ يَلْبِسُواْ إِيمَانَهُم بِظُلْمٍ } [الأنعام: 82] ، فغيَّره بأن قال: (( الذين آمنوا ولم يثمر إيمانهم لظلمهم )) ، فجاء إلى ذلك النظم الشريف الرائع فنقله إلى النظم العامي .
ألا ترى أن قوله تعالى: { الَّذِينَ آمَنُواْ وَلَمْ يَلْبِسُواْ إِيمَانَهُم بِظُلْمٍ } ، جرى على منهاج وطريقة واحدة . فإنه جعل الفعل في الأول والآخر للذين آمنوا ، فاتسق الكلام أحسن الاتساق ، وانتظم أحسن الانتظام .
وهذا الغبي جعل الفعل الأول للذين آمنوا ، والفعل الثاني لإيمانهم ، لأنه قال: (( لم يثمر إيمانهم )) ، فحصل في الكلام بعض الاضطراب .
ولست أقول: إن هذا القدر لا يحتمل أن يقع في كلام الفصحاء ، ولكن إذا أتى كلاما فصيحا فرام أخذ معناه بلفظ من عنده يكسوه ، فأقل ما في بابه أن يساويه ، إن لم يجاوزه (1) .
فأما أن يسقط دونه فهو من أمارات الخذلان . على أنا قد بيّنا أن هذا الجنس من الكلام لا يستحق اسم المعارضة ، ومن أتى به لا يصح أن يسمى: معارضا على مذهب العرب والعجم . فإن للعجم أيضا معارضات على مقادير لغاتهم ، وضربنا لصحة ما قلناه الأمثال بالأبيات التي أبدلنا كل لفظة منها بلفظة ، فاتضح الكلام فيه بحمد الله ومنِّه .
ومن كلام هذا الجاهل - وقيل: إنه أوهم به معارضة قول الله تعالى: { أَلَمْ تَرَ كَيْفَ فَعَلَ رَبُّكَ بِعَادٍ (6) إِرَمَ ذَاتِ الْعِمَادِ (7) } [الفجر] -: (( تأمل صنيع الله بأهل الشام ، وقد شملتها الآثام ، وكثر فيها الإجرام ، فيومئذ حين أظلتهم الآكام ، والقادمين من السوق بالخيام ، إن ربك صب عليهم سوء العذاب ، إنه لا يعجل العقاب ، ولهم الجزاء الأوفى يوم الثواب )) .
تأملو - رحمكم الله - هذا الفصل وما فيه من الخلل ، لتعلموا بُعدَ هذا الانسان عما تحراه ، وسقوط كلامه دون الغرض الذي رماه .
فإن أول الكلام من كلام الكُتّاب المقلِّين في البضاعة ، المتكلفين للصناعة ، وفي كُتَّاب عصرنا من لا يلحق هذا الكلامُ شيئا من كلامه (2) .
__________
(1) في المخطوط: وإن لم يجاوره . ولعل الصواب ما أثبت .
(2) في المخطوط: شيئا وكلامه . ولعل الصواب ما أثبت .
فقوله: (( شملتها الآثام ، وكثر فيها الإجرام )) ، تطويل لا يفيد آخره إلا ما أفاد أوله .
ولعل ظانا يظن أنه مثل قول الله عزوجل: { الَّذِينَ طَغَوْا فِي الْبِلَادِ (11) فَأَكْثَرُوا فِيهَا الْفَسَادَ (12) } [الفجر] ، وليس ذلك كذلك ، لأن الطغيان هو مجاوزة الحد في الترفع والتكبر ، ومنه قوله تعالى: { إِنَّا لَمَّا طَغَى الْمَاء حَمَلْنَاكُمْ فِي الْجَارِيَةِ (11)} [الحاقة] ، والخنا والفساد ليسا من ذلك في شيء .
وهذا الجاهل أخذ هذا من قول الله تعالى: { وَأَحَاطَتْ بِهِ خَطِيئَتُهُ } [البقرة: 81] ، فانظروا في حال الكلامين في جزالة اللفظ واختصاره ، مع أن فيها المعاني ، ليعلم أن ما بين الكلامين ما بين الثرى والثريا .
وقوله: (( إن ربك صب عليهم سوء العذاب )) . وقوله: (( الجزاء الأوفى )) ، كله من ألفاظ القرءان ، لأنه أفسد الوضع حين عقب (( صب عليهم سوء العذاب )) بقوله: (( إنه لا يعجل العقاب )) ، لأنه لا يحسن أن يقال: (( عذبهم )) .
ثم يقال: (( لا يعجل العقاب )) ، لأن الإخبار بأنه لا يعجل العقاب إنما يحسن أن يكون توعدا مع المهل ، أو توعدا قبله ، أو بعد ذكر العفو . فأما مع الإخبار بنزول العذاب فإنه لا يحسن . لكن يد الخذلان تصرفه كيف شاءت ، ولهذا لم يذكر الله عزوجل ترك تعجيل
العقاب إلا مع ذكر المهل أو العفو ، وهما كقوله تعالى: { وَرَبُّكَ الْغَفُورُ ذُو الرَّحْمَةِ لَوْ يُؤَاخِذُهُم بِمَا كَسَبُوا لَعَجَّلَ لَهُمُ الْعَذَابَ بَل لَّهُم مَّوْعِدٌ لَّن يَجِدُوا مِن دُونِهِ مَوْئِلًا (58) } [البقرة] ، وكقوله: { وَلَوْ يُؤَاخِذُ اللّهُ النَّاسَ بِظُلْمِهِم مَّا تَرَكَ عَلَيْهَا مِن دَآبَّةٍ وَلَكِن يُؤَخِّرُهُمْ إلَى أَجَلٍ مُّسَمًّى } [النحل: 61] ، وكقوله: { وَلَوْ يُؤَاخِذُ اللَّهُ النَّاسَ بِمَا كَسَبُوا مَا تَرَكَ عَلَى ظَهْرِهَا مِن دَابَّةٍ وَلَكِن يُؤَخِّرُهُمْ إِلَى أَجَلٍ مُّسَمًّى } [فاطر: 45] ، وكقوله تعالى: { وَرَبُّكَ الْغَنِيُّ ذُو الرَّحْمَةِ إِن يَشَأْ يُذْهِبْكُمْ وَيَسْتَخْلِفْ مِن بَعْدِكُم مَّا يَشَاء . . . إلى قوله: إِنَّ مَا تُوعَدُونَ لآتٍ } [الأنعام: 133 - 134] .
وقول هذا الجاهل: (( ولهم الجزاء الأوفى يوم الثواب )) ، كلام مختل لأن جزاء المخرج (1) لا تعلق له الثواب .
ومن كلام هذا الجاهل بعد هذا الفصل: (( يا أيها الناس قد نسب أهل العراق إلى الشقاق والنفاق ، وفي الزعاق ، ويظهرون طاعتهم للخلاف ، وإن ربك هو أعلم بمن حاد عن طريقهم ، وهو أعلم بالمعتدين ، وأوفى للمهتدين )) .
أما ابتداء هذا الكلام فهو أسجاع باردة لا فائدة فيها ، وهو من جنس كلام مسيلمة ، ولهذا قال أبو بكر لما بلغه شيء من كلام مسيلمة: (( إنه كلام لم يخرج من إله )) ، يعني: من عند الله تعالى ، { إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ بِمَن ضَلَّ عَن سَبِيلِهِ وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ (125) }
__________
(1) كذا في المخطوط .
[النحل] ، فأفسد النظم لأن قول الله تعالى اشتمل على قسمة حسنة ، لأنه بيّن أنه أعلم بمن ضل عن سبيله ، وبمن اهتدى ، وهذا الجاهل غيَّر ذلك ، وأزال حسنه ، وجعله تطويلا غير مفيد ، لأن الحائد عن الطريق والمعتدي واحد ، مع أن فيه إبدال لفظة بلفظة . وقد بيّنا أن ذلك لا يصح أن يسمى: معارضة .
ثم قال هذا الجاهل: (( ولئن أكرمه ، وأفاء من النعمة عليه ليتم لها شكره ، ثم يعرف بذلك ربه ، إنه رب عليم ، ورءوف حليم )) ، وهذا كلام كما ترى ركيك من كلام الكُتَّاب الذين لم يتقدموا في الصناعة ، ولم يؤتوا حظا من البراعة .
ولهذا الجاهل كلام كثير يجري هذا المجرى ، ولا فائدة في إطالة الكتاب بذكر جميعه ، بعد أن نبهنا على نمطه وطريقه ، لئلا يغتر به مغتر .
ثم قال بعد فصول من كلامه: (( وبقي أن تستوي حالة الكلامين بأن لا يتفاضل الإعتقاد فيهما , فيعظم أحدهما ، ويصغر الآخر ، ثم تكثر تلاوة أحدهما كما كثرت تلاوة الآخر ، فيستعذب ألفاظ أحدهما كما يستعذب ألفاظ الآخر ، ويستفصحه كما استفصح الأول ، فبالإلف يَعذُب المتلو ، ويُستلَذ المأكول والمشروب والمنكوح ، وبالتنكر والاستغراب ينفر عنه ، ويبعد عن الصواب ، ولتمد به الحنجرة ، كما تمد بغيره )) .
فيقال لهذا الجاهل السخيف: أرأيت لو أن بعض سخفاء الكُتَّاب المتأخرين في البلاغة كتب كتابا يظن (1) اللفظ ساقط المعنى ، ثم يذكر أنه عارض به رسائل المتقدمين في صناعة الكتابة ، ثم اعتذر بما اعتذرتَ به ، فقال: يجب أن لا يتفاضل الاعتقاد فيهما فيعظم كلامه ، ويصغركلامي ، هل يكون جوابه عند أهل المعرفة بهذا الشأن إلا التبسم والاستسخاف لعقله ومعرفته ؟!
وأما قوله: (( وليكثر من تلاوته كما أكثر من تلاوة الآخر . . . )) إلى آخر الفصل ، إلى ذكره المأكول والمشروب والمنكوح ، كلام جاهل بالعبارات ، أو متجاهل .
لأن المعلوم من أحوال الناس وعاداتهم التي لا تكاد تخفى على المراهقين فضلا على البالغين المحصلين: أن الاكثارمن الشيء تلاوة كانت فيما يتلى ، أو شربا فيما يشرب ، أو غير ذلك يوجب الملال ، ويسبب السآمة ، ويصور المتلو والمشروب والمأكول والمنكوح يصوره بما يستقل ، لهذا يعدل الانسان في هذه الأمور من شيء إلى شيء ، مستريحا إلى الثاني عند الملال من الأول ، ولهذا يستكثر من ألوان الطبيخ .
ولهذا يعدل في النكاح عن الحلال الحاصل إلى الحرام المستحدث ، وربما كان من يتمكن الانسان منها أَصْبَحَ (2) وجها ممن لا يتمكن ،
__________
(1) كذا في المخطوط .
(2) من الصباحة وهو الجمال .
وليس الغرض فيه إلا الاستلذاذ للجديد ، فالأمر فيما ذكره إذن على العكس مما قاله .
فإن قيل: فنحن نعلم أن بعض أهل البلدان يستلذون من الأطعمة والملابس ما لا يستلذه أهل بلد آخر ، وليس ذلك إلا للإلف .
قيل له: ذلك يكون إذا اختلفت الأجناس ، كما أن أهل طبرستان يستلذون خبز الأرز فوق ما يستلذون خبز البر .
فأما إذا كان الجنس واحدا ، فلا شك في مزية المستحدث الجديد . ولهذا قيل في المثل: (( لكل جديد لذة )) .
ولهذا قالوا في القرآن: (( إنه لا يخلق ولا يمل على كثرة الرد )) .
فجعلوا ذلك من آياته .
ولا يكسب الملال إذا كثر ترديده ، ودامت تلاوته .
يجري الأمر فيه على خلاف المعتاد ، على أن ما ذكره لو كان صحيحا لبطل التفاضل بين الأشياء في ذواتها ، وكان الفضل يرجع إلى المعتاد المتقادم ، وكان المكثر لإنشاد (1) شعر الحبرزي إذا أنشد في النادر شعر امرئ القيس ، وكان عارفا بالشعر ومحاسنه ومساوئه ، وبالفرق بين الكلام الفصيح وغير الفصيح ، يجب أن يرى شعر الحبرزي على طبقة من شعر امرئ القيس ، وهذا لا يرتكبه إلا جاهل ، فكان يجب على هذا أن يكون الذي يكثر عنده الجواري الزنجيات القبائح ، إذا
__________
(1) في المخطوط: لإنشاء . والصواب ما أثبت .
وجد رومية حسناء أن يكون استلذاذه للزنجيات القباح أشد ، وهذا هوس لا يظنه عاقل !!
فأما مد الحنجرة به ، فأي تأثير له في مواقع الكلام ؟! أَمَا يعلم هذا الجاهل: أن الانسان قد يسمع كثيرا من الأبيات الملحنة من المغنين والقوَّالين ، ثم لا يخفى عليه إذا كان من أهل الصناعة الفرق بين جيدها ورديئها ، وفصيحها ومستَرذَلها ، ثم لا يخفى عليه الفرق بين الرديء الذي سمعه ملحنا ، وبين الذي لم يسمعه قط ملحنا ؟ فأي تأثير في هذا الباب لمد الحنجرة ؟لولا أنه كما قال عزوجل: { فَإِنَّهَا لَا تَعْمَى الْأَبْصَارُ وَلَكِن تَعْمَى الْقُلُوبُ الَّتِي فِي الصُّدُورِ (46) } [الحج] .
فإن قيل: فهبكم قد عرفتم التفاوت الذي بين القرءان ، وبين كلام هذا الانسان ، وعلمتم أنه لا يصح أن تكون معارضة للقرآن للوجوه التي ذكرتموها ، والأمثال التي ضربتموها ، فكيف تعرفه العامة والذين لا يعرفون ما ذكرتم وبينتم ؟!
قيل لهم: طريق معرفتهم هو أنهم يعرفون الأخبار التي تتوافر عليهم . إن مثل (1) أهل العراق ومن نحا نحوهم ، وكذلك الفرس وأشباهم ، تقصر فصاحاتهم وبلاغاتهم في منثور الكلام ومنظومه عن فصاحة العرب من أهل البادية وبلاغاتهم . إذا عرفوا ذلك وعرفوا عجز العرب عن الاتيان بمثل القرءان بما نبينه عرفوا عجزَ مَن دونهم ، لأنه لا يجوز أن يعجز عن الشيء من يكون في الطبقة العليا من التمكن ، ولا يعجز عنه
__________
(1) في المخطوط: مثلا . ولعل الصواب ما أثبت .
من يكون في الطبقة الدنيا ، فيحصل لهم العلم بهذا الاعتبار أن ما أتى به هذا الجاهل لا يصح أن يكون معارضا للقرآن ، وأن القرءان معجز . والحمد لله رب العالمين على ذلك .
- - -
الكلام في بيان أن الإعراض عن المعارضة إنما كان للتعذر
فإن قيل: ولم ادعيتم أن العرب كفَّت عن معارضة القرءان لتعذرها عليهم ، وما أنكرتم أن يكونوا كفوا عنها وتركوها لبعض أغراض كانت لهم ، فإن الناس قد تصرفهم الصوارف عن كثير مما يتمكنون من فعله ؟
قيل له: قلنا ذلك لأنهم كفوا عن المعارضة وتركوها وعدلوا عن الاشتغال بها ، مع ما كان من النبي صلى الله عليه وآله وسلم من التحدي لهم على ما بيناه ، مع توفر دواعيهم لتوهين أمره ، وإظهار ما كانوا يدَّعون من افترائه (1) صلى الله عليه وآله وسلم وحاشاه من ذلك .
وقد علمنا: أن العقلاء إذا دُعوا إلى أمر يكرهونه ، يهون عليهم لدفعه وإبطاله بذلُ أموالهم وأنفسهم ، وكان من يدعوهم إلى ذلك يدعوهم لحجة يبرزها ويدعيها ، وكانوا متمكنين من إيراد ما يدحضها ويبطلها ، ويكشف عن ضعفها ووهنها ، من غير ضرر يمسهم ، أو مشقة عظيمة تلحقهم ، فلا بد من أن يأتوا به ، ومتى لم يأتوا به ، دل على أنهم غير متمكنين من الاتيان به .
__________
(1) في المخطوط: اقترابه . ولعل الصواب ما أثبت .
ألا ترى أن واحدا لو جاء وادعا النبوة في قوم ، وهم له كارهون ، ولتكذيبه مجتهدون ، فقال لهم: معجزي أن مَن كلمته منكم في هذا اليوم لا يمكنه أن يجيبني ، ثم أخذ يكلمهم طوال النهار من غير أن يجيبه أحد منهم ، مع وفور بواعثهم على توهين أمره ، وتنفير أصحابه عنه بإظهار كذبه ، دلنا ذلك على أن جوابه قد تعذَّر عليهم ، وأن ذلك معجز له ، وهذا مما لا يخيل على أحد أنصف نفسه أنه على ما قلنا .
وجملة هذا الباب: أن كل مَن علمنا من حاله أنه لا يفعل فعلا ما ، مع توفر الدواعي إليه ، وقوة البواعث عليه ، ومع ارتفاع الموانع عنه ، وفُقدِ الحواجز دونه ، نعلم أنه (1) لم يفعله إلا لتعذره عليه . ولولا ذلك ، لم يكن لنا طريق من جهة الاكتساب يُتوصَّل به إلى العلم بتعذر شيء على أحد . وفيما ذكرناه وأوضحناه دليل على أن معارضة القرءان كانت متعذرة على العرب .
فإن قيل: فأنتم بنيتم كلامكم هذا على أن دواعيهم كانت متوفرة إلى ما ذكرتموه . فدلُّوا عليه .
قيل له: مِن أوضح ما يدل على قوة دواعي المرء إلى أمر من الأمور ، يُعرف من حاله أنه قد بذل لطلبه ونيله والتوصل إليه ، أعز الأشياء عليه . وقد علمنا أن أعز الأشياء على الانسان: النفس ، والمال ، والأرحام .
__________
(1) في المخطوط: أن . ولعل الصواب ما أثبت .
ووجدنا مشركي العرب من قريش وغيرهم قد بذلوا الأنفس والأموال ، وقطعوا الأرحام ، لمعاداة رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ، ولإدخال الوهن عليه ، وإبطال ما كان يدعيه من النبوة ، وبذلُ هذه الأمور لا تصح من العاقل لإبتغاء أمر وطلب حال ، إلا إذا كانت دواعيه إليه ، وبواعثه عليه ، تكون قد بلغت في القوة مبلغا عظيما ، حتى قاربت حد الإلجاء وإن لم تكن (1) بلغته .
على أن الأسباب المقوية للدواعي والبواعث كانت حاصلة ، فلا بد من حصول قوتها ، لأن أقوى الدواعي أن ينظر الانسان إلى نظرائه في النسب ، ويدعي عليهم الرئاسة ، وأنه يجب عليهم (2) الإنقياد له ، والخضوع لأوامره ونواهيه فيما يحكم عليهم ولهم ، في أنفسهم وأموالهم وأهليهم وذراريهم ، مع ذمه من خالفه منهم فلم يتبعه ، ولم ينقد له ، وتكفيره إياهم ، وذم أديانهم ، وما كان عليه آباؤهم وأسلافهم ، من غير رئاسة كانت له عليهم ، ولا زيادة في مال أو جاه أو ملك يتميز به منهم ، بل يكون في القوم من يزيد عليه في كثير من الأحوال ، ثم تكون أحواله مع ذلك في ضمان (3) القوة ، وآخذة في المزيد ، وأحوال القوم آخذة في جانب التراجع ، ماضية في حيز التهافت ، مع حصول تلقيهم بالامكان لجميع ما ادعاه ودعاهم إليه وشدة امتعاضهم لذلك ،
__________
(1) في المخطوط: يكن . ولعل الصواب ما أثبت .
(2) في المخطوط: لهم . ولعل الصواب ما أثبت .
(3) كذا في المخطوط .
مع أن القوم يُعرفون بالعصبية ، وشدة الحمية . والقرءان مما كانوا يعتقدون أن عليهم فيه سُبة وعارا ، وكل ما ذكرناه كانت أحوال القوم مع رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ، فدل ذلك على قوة دواعيهم إلى ما ذكرنا ، ولم يجز مع ذلك أن لا يقع منهم (1) معارضة القرءان لولا تعذرها عليهم .
فإن قيل: ما أنكرتم أن يكون القوم خَفيَ عليهم أن معارضة القرءان أبلغ الأشياء في إبطال دعواه ، وإزالته عما كان يتوخاه ، فأعرضوا عنها إلى ما سواها ، واشتغلوا بما عداها ؟!
قيل له: هذا لا يجوِّزه مَن عرف أحوالهم ، لأنهم كانوا أعرف الأمم بمواقع المخاطبات , ومذاهب المعارضات ، إذ تلك من عاداتهم السالفة ، وسجاياهم الخالفة (2) .
ولا يجوز أن يكون خفي عليهم أن معارضته لو تمكنوا منها تكون أبلغ الأشياء في توصُّلهم إلى مرادهم فيه , لأنه صلى الله عليه وآله لم يكن يدعي ما كان يدعيه لتمكنه من مال أو سلطان أو اقتدار ، أو تعزُّز بشريعة يصدرون عن أمره فيما يمثله لهم من محاربة عدو ، أومعاونة ولي ، وإنما كان يدعي أنه رسول الله صلى الله عليه وآله ، وأن شعاره ودثاره الصدق ومجانبة الكذب ، ومن يكون كذلك لا
__________
(1) في المخطوط: ينفع منه . والصواب ما أثبت .
(2) في المخطوط: الحالفة . ولعل الصواب ما أثبت .
يخفى على العقلاء أن أبلغ الأشياء في تبديل حاله ، وتفريق أصحابه ورجاله عنه ، إظهار كذبه فيما يدعيه ويقوله .
وهب أن ذلك يخفى على الواحد والاثنين لغفلة تعرِض - مع تعذر ذلك - كيف يجوز أن يخفى ذلك على العدد الكثير ، والجم الغفير ؟!!
وهب أن ذلك يخفى مدة من الزمان يسيرة ، كيف يجوز أن يخفى ذلك ثلاثا وعشرين سنة ؟!
وهب أنهم ظنوا في أول الأمر أنهم يقمعونه بالحرب والقتال . كيف يظنون ذلك بعد ما كشفت لهم تلك الحروب عن قوة أمره ، وضعف أمرهم ، بل قتل كثير من صناديدهم وساداتهم حربا وصبرا ، وسبي كثير من ذراريهم ، ونفي كثير منهم عن أوطانهم ؟ وهذا أوضح من أن يحتاج له إلى تطويل الكلام !!
فإن قيل: ما أنكرتم أن يكون ذلك خفي عليهم ، لأنهم كانوا إخوان الحروب ، وأصحاب الغارات ، ولم يتواتر أن ضربوا في الجدل وطرائقه بسهم ، ولا ثبت لهم في ذلك قدم ، ولم يكن النظر في الديانات ، والبحث عن صحيحها وسقيمها ، والتنقير عن الطرق المؤدية إلى الفصل بين الحجج والشُّبه من عاداتهم ؟!
قيل له: هذا ما لا يجوز أن يخفى عليهم,لأن علمهم بالمعارضات وطرقها كان أقوى علومهم ، ومعرفتهم بها أكثر معارفهم ، وما يجري هذا المجرى يكون العلم به ضروريا ، ثم العلم بأن من ادعا حالا من الأحوال ، واعتصم لصحته بأمر من الأمور ، فأقوى الأشياء في إيضاح
كذبه ، والإبانة عن إفترائه وتقوُّله ، هو تبيين فساد ما اعتصم به ، وسقوط ما التجأ لتصحيح دعواه إليه ، من العلوم الضرورية التي يشترك فيها العقلاء , والمراهقون الذين قاربوا كمال العقل ، وإن لم يكونوا بلغوه .
ولهذا ترى المختلفين في قيمة سلعة إذا ذكر المغالي بها سلعة على صفة ، يجب أن يغالي بقيمتها من أجل تلك الصفة التي يجد (1) المخالف له في ذلك أن يطعن في تلك الصفة وينازع فيها ، ولا يشتغل بغير ذلك . وتجد الصبيين إذا ادعا أحدهما أنه أحسن (2) صراعا من الآخر لوجه يورده ، ترى المباري له ينازعه في تلك الصفة يحاول إيراد ما يمنعه من الاحتجاج بها ، ثم تجد أحوال أصحاب المهن من الصناعات ، والمشتغلين بالزراعات ، يستوون فيما ذكرناه ، ويتبارون فيما حكيناه ، فإذا ثبت ذلك بان أن ما ادعوا (3) خفاءه على العرب من أحوال المعارضات ، باطل لا يدعيه عاقل .
على أنهم بعد مهاجرة النبي صلى الله عليه وآله إلى المدينة قد خالطوا أهل الكتاب ، واستعانوا بهم ، ولهذا انضم قريش وغطفان بعضها إلى بعض ، وانضم اليهم اليهود الذين كانوا حول المدينة ، يوم الأحزاب ، واجتمعوا وتناصروا ، وكان الساعي في ذلك والجامع
__________
(1) في المخطوط: تحد . ولعل الصواب ما أثبت .
(2) في المخطوط: أحدهما أمرا أحسن . ولعل الصواب ما أثبت .
(3) في المخطوط: ذلك بأن ما ادعوا . ولعل الصواب ما أثبت .
لشملهم ، والمؤلف بينهم حيي بن أخطب ، وهو القائل لرسول الله صلى الله عليه وآله يوم قريظة حين قُدِّم لضرب عنقه: (( يا محمد ما لمت نفسي في عداوتك )) (1) .
واليهود كانوا يتعاطون النظر في الديانات ، وكذلك النصارى ، فهلا تهيأ لهم من ذلك ما خفي على مشركي العرب ؟ وهلا اهتموا (2) بها - أعني اليهود والنصارى - إذ كان فيهم الفصحاء والبلغاء وأرباب الألسن ، لولا علمهم بتعذرها عليهم .
على أن ما روي عن الوليد بن المغيرة ، وعتبة بن ربيعة ، وأمية بن خلف فيما تقدم ذكره ، يدل على أن القوم كانوا فطنوا لذلك ، ولم يكن خفي عليهم ، وكانوا قد صرفوا همهم إلى الاشتغال به ، فبان أن الذي أوجب كفهم هو التعذر .
وإنما كان لسهوٍ عرض لهم ، وخطأ في التدبير اتفق عليهم ، فقد يعرض السهو فيما يكون العلم به ضرورة ، ويتفق الخطأ والذهاب عن الرأي في كثير من التدبير .
ولهذا تجد الخطأ يكثر في تدبير العقلاء في الحروب والسياسات ، والأمور العامة والخاصة .
قيل له: إن الذي يجري هذا المجرى من الخطأ والانحراف عن الصواب ، إن اتفق يتفق للواحد والاثنين ، والمرة بعد المرة .
__________
(1) أخرجه عبد الرزاق في مصنفه5/367 (9737) . من حديث طويل .
(2) في المخطوط: اهتم . ولعل الصواب ما أثبت .
فأما أن يكون العدد الكثير من العقلاء ، تمر عليهم السنون ، وتكرُّ عليهم الأعوام ، وهم على ضربٍ من السهو فيما يكون العلم به ضرورة . ولا يتنبهون عليه ، ولا يتنبه عليه واحد منهم ، على مر الزمان ، وتطاول الأعوام ، فذلك مما يستحيل ، ولا يجوز توهمه .
فإن قيل: إن القوم كانت لهم صوارف صرفتهم عن الاشتغال بالمعارضة . فقابلت تلك الصوارف تلك الدواعي التي دعتهم ، ولا يمتنع في الدواعي والبواعث أن تقابلها (1) الصوارف ، فلا يحصل الفعل الذي دعت الدواعي إليه ، وإن كان ممكنا غير متعذر (2) ؟!
قيل له: لا سبب إلى ادعاء صوارف مجهولة ، ولا صوارف غير معلومة . لأن ذلك يؤدي إلى أن لا يمكن الفصل بين ما يتعذر فعله علينا ، وما لا يتعذر .
فإذا ثبت ذلك ، فالصوارف المعلومة لا تخلو من وجوه نذكرها:
إما أن تكون طلبتهم الراحة ، وفرارهم من التعب الذي يلحقهم بالاتيان بالمعارضة ، أو إيثارهم الابقاء عليه صلى الله عليه وآله حشمة له ، وكراهة لمكاشفته ، واستشعارهم خوفه وخشيته ، واستهانتهم به ، واشتغالهم بالحروب ، أو ظنهم أن غير المعارضة أجدى عليهم ، وأدنى إلى مرادهم .
__________
(1) في المخطوط: يقابلها . ولعل الصواب ما أثبت .
(2) في المخطوط: معتذر . والصواب ما أثبت .
ولا يصح أن يقال: إن القوم مالوا إلى طلب الراحة ، من الاشتغال بالمعارضة ، لأنهم قد باشروا بمعاداته صلى الله عليه وآله أمورا هي أكثر تعبا ، وأشد نصبا ، وأعظم خطرا من المعارضة .
فإنهم بذلوا الأموال والمُهج ، وحاربوا حتى قَتَلوا وقُتلوا ، وفرَّقوا كلمة العشيرة ، وقطعوا الأرحام القريبة ، وواصلوا أولي الأسباب البعيدة ، ولا يخفى على أحد من العقلاء أن المعارضة لو أمكنتهم كانت (1) تكون أقوى مشقة ، وأقرب متناولا ، وأيسر مطلبا ، وأذهب مع الراحة ، وأدنى إلى السلامة .
ولا يصح أن يقال: إنهم آثروا الابقاء على رسول الله صلى الله عليه وآله واحتشموه وكرهوا مكاشفته ، لأن القوم لم يَدَعُوا من قبح معاملته عليه السلام بابا إلا قرعوه ، بل وَلَجُوه . حتى حملوا أَختَانه على طلاق بناته صلى الله عليه وآله ، فقالوا: نشغله بهن حتى لا يتفرغ إلى ما هو فيه ، فأجابهم إلى ذلك عتبة وعتيبة ابنا أبي لهب ، وردهم أبو العاص بن الربيع (2) .
وقالوا لأبي طالب: ندفع إليك فتى قريش وأصبحهم وأفصحهم عمارة بن الوليد بن المغيرة لتتبناه ، وتدفع إلينا محمدا فنقتله . فقال أبو طالب: بئس الرأي رأيتم لي ، آخذ ولدكم للتربية ، وأُسَّلم ولدي للقتل
__________
(1) في المخطوط: كادت . ولعل الصواب ما أثبت .
(2) سيرة ابن هشام 2/ 306 - 307 .
(1) !! وكتبوا الصحيفة على بني هاشم وبني المطلب على ألا يؤووهم ، ولا ينكحوهم ، ولا ينكحوا إليهم ، وأجلوا كثيرا من أصحابه صلى الله عليه وآله إلى المهاجرة إلى الحبشة وإلى المدينة ، واجتمعوا في دار الندوة يدبرون عليه ، كما حكى الله تعالى ذلك عنهم بقوله تعالى: { وَإِذْ يَمْكُرُ بِكَ الَّذِينَ كَفَرُواْ لِيُثْبِتُوكَ أَوْ يَقْتُلُوكَ أَوْ يُخْرِجُوكَ وَيَمْكُرُونَ وَيَمْكُرُ اللّهُ وَاللّهُ خَيْرُ الْمَاكِرِينَ (30) } [الأنفال] .
وهذا يسير من كثير مما عاملوه به صلى الله عليه وآله ، بل طلٌ من وابل ، بل وشل من بحر . فكيف يظن بهم أنهم آثروا الابقاء عليه ؟!
ولا يصح أن يقال: إن القوم تركوا المعارضة خوفا له (2) ولأصحابه ، وخشية لهم ، لأن جميع ما قدمنا يدل على أن القوم لم يخافوه ، ولم يحذروا جانبه .
ولا يصح أن يقال: إنهم أعرضوا عن حديث المعارضة استهانة به صلى الله عليه وآله ، وقلة اكتراث بأحواله ، لأن جميع ما قدمناه يبين أن القوم كانوا مهتمين بأمره ، بل كانوا قد جعلوا الاشتغال [به] أوكد مهماتهم ، ثم الحروب التي جرت بينهم وبينه صلى الله عليه وآله بعد مهاجرته إلى المدينة ، توضّح جميع ما قلناه من أنهم لم يحتشموه ، ولم يخافوه خوفا يصرفهم عن إيحاشه ، ولم يستهينوا به استهانة دعتهم إلى ترك الفكر فيه ، والانشغال بأحواله .
__________
(1) تاريخ الطبري 2/ 327 .
(2) في المخطوط: عليه . والصواب ما أثبت .
ولا يصح أن يقال: إن اشتغالهم بالحروب صرفهم عن المعارضة ، وأقطعهم دونها ، وصدهم عنها ، لأنه كان بين مبعثه صلى الله عليه وآله وأول وقعة عظيمة وقعت بينه وبينهم وهي وقعة بدر نحو (1) من خمسة عشر سنة . فأين كانوا طول هذه المدة ؟!
ثم كان بين وقعة بدر ووقعة أحد نحو سنة ، ثم من بعد ذلك أيضا لم تكن الوقائع بحيث لا تنفس ، ولا ترجيىء (2) من الأعنة ، وكثير من تلك الوقائع هم الذين كانوا يبتدأونها .
فهل عدلوا عنها إلى المعارضة لوكانت ممكنة لهم ؟! على أن الحروب لا تمنع من المعارضات ، وهذا واضح .
ولا يصح أن يقال: إنه خفي عليهم أن المعارضة أجدى عليهم ، وأدنى إلى ما طلبوه من توهين أمره ، لما بيناه من قبل أن ذلك مما لا يجوز أن يخفى على المراهقين ، فضلا عن العقلاء ، وأن العلم بذلك من علوم الضرورة .
فإن قيل: ما أنكرتم أن تكون الدواعي دعتهم إلى تكذيبه وإبطال دعواه ، وتوهين أمره دون معارضة إذ كان ذلك غرضهم ومرادهم ؟ فمن أين لكم أن الدواعي دعتهم إلى المعارضة ؟!
قيل: قد علمنا أن الداعي إلى الشرع داعٍ إلى أبلغ ما به يُتوَصَّل إليه سبحانه ، إذ (3) كان ذلك من أيسر الأمور وأسهلها في التوصل إليه
__________
(1) في المخطوط: نحوا . والصواب ما أثبت .
(2) كذا في المخطوط .
(3) في المخطوط: إذا . ولعل الصواب ما أثبت .
. ألا ترى أن من دعاه عطشه إلى شرب الماء فإنه يدعوه إلى استدعائه إن كان ذلك أخف وأيسر ، أو استعبابه إن كان ذلك أدنى وأسهل ، أو اشترائه إن كان ذلك أهون وأقرب .
فإذا ثبت ذلك ، ثبت أن الداعي لهم إلى إبطال أمره وتكذيب دعواه ، وإفساد حاله صلى الله عليه وآله ، كان داعيا لهم إلى المعارضة ، لعلمهم بأنهم لو أتوا بها كانت أبلغ الأشياء في التوصل إلى مرادهم ، مع أنها أسهل الأمور في ذلك وأيسرها .
ويمكن أن يُورَد هاهنا أسئلة ضعيفة تركنا ذكرها ، لوجهين:
أحدهما: ما كان من كراهتنا لتطويل الكتاب .
والثاني: أن ما قدمناه من الابتداءات والأجوبة يأتي عليها ، إذا تأملها المتأمل ، ونظر فيها الناظر .
على أن القرءان لا بد من أن يكون قد وقع على وجه يكون بوقوعه عليه ناقضا للعادة ، أو يكون وقع خلاف ذلك الوجه ، بأن يكون وقع كما يقع سائر الكلام المعتاد ، فلا بد من أن تكون العرب عارفة بذلك ، لأن أحوال الكلام لم تكن تخفى عليهم ، فإن كانوا عرفوه ناقضا للعادة ، فقد بان أنهم تركوا معارضته لتعذرها عليهم ، وإن عرفوه جاريا مجرى الكلام المعتاد ، فلا وجه من أجله يكونون تاركين لمعارضته ، وإذا لم يعارضوه فقد صح أنهم تركوها للتعذر ، لوقوع القرءان على وجه يكون ناقضا للعادة .
ولا يصح أن يقال: إنهم شكوا في حاله (1) ، لأن علمهم بمثل هذا علم ضرورة ، على أنهم لو شكوا كان أقل ما يكون منهم أن يجربوا أنفسهم ، ليحصل لهم العلم به بذلك ، فيعود الأمر إلى ما قلناه ، من أنه لا بد من أن يكونوا عرفوا ذلك وتحققوه .
ولا يصح أن يقال: [إنهم] تركوا معارضته لأنهم وجدوه كسائر الكلام المعتاد الذي كان يجري بينهم دائما في محاوراتهم ومخاطباتهم ، لأن العلم بأنه بخلاف ذلك علم ضروري . ولأن ذلك لو كان كذلك لجرى مجرى أن يدعي النبوة ، ويتحداهم بأنه يأكل ويشرب ويقوم ويقعد ، ويتصرف كما يتصرف غيره ، ويجعل ذلك معجزته صلى الله عليه وآله ، وهذا لا يجوز أن يقع من العاقل الذي يكون غرضه أن يَعظُم في الصدق ، ويُعتَقَد فيه أنه ممن يجب أن يطاع ، وأن يأتمر الخلق لأوامره ، وينزجروا عند زواجره ، لأن ذلك مما يجري مجرى التسوية بالنفس إليه (2) ، [وهذا] يؤدي إلى أن يسخر منه ويستهزأ به ، ويسقط بإيراده من العيون ، وتنحط منزلته ، لأن ذلك مما ينفِّر عنه أصحابه ، ويمكِّن أعداءه من التسلق (3) عليه ، ولأن ذلك لو كان كذلك لاحتج به الأعداء ، وقرعوه وقرعوا أصحابه . وهذا يوضح بطلان قول مَن يتعلق بذلك .
__________
(1) في المخطوط: حال . ولعل الصواب ما أثبت .
(2) كذا في المخطوط .
(3) التسلق: الصعود . يقال: تسلَّق الجدار: تَسَوَّره .
الكلام في بيان أن القرءان يجب أن يكون معجزا إذا تعذرت معارضته
فإن قيل: فلِمَ قلتم: إن تعذر المعارضة إذا ثبت يكون القرءان معجزا ؟!
قيل له: لأنه قد ثبت أن المعجز هو ما يظهر على بعض الناس ، مما يتعذر الاتيان بمثله على جميع البشر,لحسنه أو لصفة تخصه ، فإذا ثبت ذلك ، ثبت أن الاتيان بمثل القرءان قد تعذر على جميع البشر ، وثبت أنه معجز ، وأنه جارٍ مجرى إحياء الموتى ، وفلق البحر ، وقلب العصا حية ، والمشي على الماء .
فإن قيل: ولم ادعيتم تعذره على جميع البشر ، وإنما بيَّنتم حال العرب ، وتعذره عليهم ؟!
قيل له: قد علمنا أن البشر أجمع ثلاث طبقات:
أحدها: عوام الفرس والهند والروم والزنج ، ومن جرى مجراهم من سائر الأمم ، الذين لا علم لهم بشيء من لغات العرب بتة ، ولا سبيل لهم إلى نظم سطر واحد منها على وجه من الوجوه .
والثانية: هم الذين تعلموا اللغة وتكلفوا معرفتها ، وهم طبقات:
فمنهم: من لم يتعلق منها إلا باليسير الذي لا تأثير له .
ومنهم: من تجاوز ذلك إلا أنه لم يبلغ مبلغا يعد به في الفصحاء ، ولا يتأتى له التصرف في شيء من أقسام الكلام ، على وجه يعد فصاحة وبلاغة .
ومنهم: من تجاوز ذلك إلى أن كاد يناطح فصحاء العرب ، ويباريهم في أقسام المنظوم ، وأصناف المنثور .
والثالثة: هم فصحاء العرب الذين حصلت لهم مزايا الفصاحة طبعا لا تكلفا ، وسجية لا تعمُّلا ، ولا إشكال على أحد في أن الاتيان بمثل القرءان متعذر على الطبقة الأولى ، الذين لا معرفة لهم بشيء من لغات العرب ، والطبقة الذين يلونهم ، وهم الذين أخذوا منها يسيرا لا يؤبه لمثله . والطبقة الذين يجاوزونهم ، إلا أنهم لم يلحقوا بشأو الفصحاء ، ولم يحِلُّوا بواديهم ، وهؤلاء لا يتعذر عليهم صياغة بيت من الشعر ، لكن لا يعد في الفصاحة ، وإنشاء رسالة أو خطبة ، لكن لا يحكم لهم بالبلاغة .
وإنما يقع الاشتباه في حالة الطبقتين الأُخريين ، وهم الذين بلغوا من هؤلاء مرتبة الفصحاء ، ولحقوا بدرجة البلغاء ، وتصرفوا في أقسام الكلام ، ثم فصحاء العرب الذين جاوزوا الفصاحة والبلاغة طبيعة وجِبِلَّة .
وقد بيَّنا تعذر الاتيان به على هاتين الطبقتين بما تقدم ، بما لا فائدة في إعادته ، فإذا ثبت ذلك وثبت أن جميع البشر لا يعدون الأقسام التي
ذكرناها ، ثبت تعذُّره على جميع البشر ، وإذا ثبت تعذره على جميع البشر ثبت أنه معجز على ما بيناه .
على أنه إذا ثبت أنه قد تعذر على فصحاء العرب ، وهم الطبقة العالية في هذا الباب ، فتعذره على الطبقة التي هي دونهم ، وهم سائر الفصحاء مما لا شبهة فيه .
على أنه يمكننا أن نعرف تعذره على هؤلاء بمثل ما أمكن تعذره على العرب ، لأن الأزمنة كلها لم تخل ممن كان يعادي النبي صلى الله عليه وآله وسلم ويناوئ الاسلام ، إما إعتقادا ، أو تقربا إلى من كان يعتقد ذلك ، أو تكسبا به ، حتى استفرغوا في ذلك جهدهم ، واستنفدوا (1) وسعهم على ما تقدم طرف من ذكرهم .
فإذا لم يأتوا به ، صح تعذره عليهم ، ولا يجب أن يظن ظانٍ أن المتأخرين أشد تمكنا في هذا الباب من المتقدمين ، من حيث فرعوا التحسين والتطبيق ، وعطف إعجاز الكلام على صدره ، والاستطراد ، والتشبيه ، والاستعارة ، وما جرى مجرى هذا مما يعد فصاحة . وذلك أن المتقدمين كانوا أعرف بجمع هذه المحاسن من المتأخرين ، وكانوا أشد تمكنا من إيرادها مواردها ، ووضعها في مواضعها ، وإن لم يكونوا وضعوا هذه الأسماء ، وكانوا يَجرُون فيها على طبائعهم من غير تكلف لها ولا تَعَمُّل ، وذلك مما يزيد الكلام حسنا ويكسبه رونقا ، والمعرفة بهذه الأمور على حدها يعرفه المتأخرون ، ووضع الأسماء لها مما لا يصير
__________
(1) في المخطوط: واستنفذوا . ولعل الصواب ما أثبت .
الانسان به أفصح ولا أشعر ولا أخطب . وإنما يصلح به الانسان الفاسد ، ويضم المتشعب ، ويسدد المختل .
لهذا تجد من يعرف كل ما ذكرنا ونعتنا ، ويتصوره ويتحققه , ويفصل بين غثه وسمينه ، ومستحسنه ومسترذله .
ثم إذا أراد أن يعمل قصيدة ، أو يبتدئ خطبة ، أو ينشئ رسالة ، عجز عن إنشائها .
والمتقدم الذي لم يحصل له العلم بهذه الأسماء والأوصاف .
وهذا يجري مجرى العلم بالعروض وألقابه .
ألا ترى أن المتقدم في ذلك لا يوجبه التقدم في الشعر .
ألا ترى أن الشعراء المتقدمين من جاهلي أو مخضرمي أو إسلامي ، كان قبل الخليل لم يعرف شيئا من ذلك ، ثم من جاء بعدهم لم يلحق شأوهم من حيث عرف ذلك ، بل أن ينشأ بعدهم مَن ضرب في جنس الشعر بسهم ، فلِطبعٍ أوتي ، لا لمعرفة بهذه الأمور ، فبان بجميع ما بيَّنا أن المتأخر الذي تكلف العلم باللغة ، وتعلم المحاسن والمساوئ بالتعمُّل ، لا يجب أن يوفى في هذا الباب المقصود على المتقدمين من فصحاء العرب ، الذين جروا على طريقة الفصاحة في منظوم كلامهم ومنثوره طبعاً وسجية ، ولهذا تجد فيمن يُعدُّ في الشعر مفلقا من إذا ترسَّل اختل اختلالا ظاهرا ، وفي المتقدم في الرسائل من إذا حاول النظم بَعُدَ بُعَداً متفاوتا ، وهذا يكشف أن التكلف والتعمل لا يُبلِغان المرء طبقة الفصحاء ، ولا يُلحقانه شأو البلغاء ، ولهذا تجد المكثر في اللغة ، والعلم
بأقسام الفصاحة ، والمعرفة بمحاسن النظم والنثر ومساوئهما ، إذا لم يكن له طبع في الشعر والترسل ، يسقط إذا حاول الشعر أو الترسل - عن درجة المطبوع فيهما ، وإن كان مقلا في جميع ذلك ، وبضاعته منها مزجاة - سقوطا ظاهرا ، أو يهبط عن رتبته هبوطا بيّنا ، كالخليل بن أحمد,ومن نحا نحوه من العلماء ، الذين لم يكونوا أولي طبع .
فإن قيل: لوكان القرءان معجزا لأنه لم يُعارَض ولم يؤت بمثله ، لوجب أن يكون المجسطي وأقليدس والعروض (1) كل واحد منه معجزا يدل على نبوة من أتى به . وإذ قد ثبت بطلان كون هذه الكتب معجزا ، فيجب أن يبطل كون القرءان معجزا على ما ادعيتموه !!!
قيل له: هذا كلام من لم يعرف وجه استدلالنا فحرَّفه (2) ، ولم يذكره على جهته ، وألزم عليه ما لا يلزم ، ونحن نبيِّن ذلك بعون الله عز وجل وجل ، ونكشف عن سقوط هذا السؤال .
اعلم أنَّا لم نقل: إن القرءان معجز لأنه لم يؤت بمثله قط ، بل لأنه تحدى به ، ولم يؤت بمثله ، مع سائر الشروط التي ذكرناها ، وكتاب المجسطي وأقليدس ، وما جرى مجراهما من الكتب ، لا يصح أن يقع التحدي به ، لأنه إن تعذر على غير من أتى به يكون تعذره لأحد وجهين:
__________
(1) المجسطي كتاب بطليموس في علم النجوم ، وأقليدس كتاب في علم الهندسة ، والعروض: أوزان الشعر التي وضعها الخليل .
(2) في المخطوط: فحرمه . ولعل الصواب ما أثبت .
إما أن يكون قد استنفذ الطرق ، فلم يبق هناك طريق آخر لذلك الشيء ، وما جرى هذا المجرى فالإتيان (1) به مستحيل ،لا تصح القدرة عليه ، وما لا تصح القدرة عليه لا يصح التحدي به . ألا ترى أن إنسانا لو أتى بشعر مركب من هذه الحروف التي هي ثمان وعشرون ، ثم تحدى به ، فقال: ائتوا بمثله من غير هذه الحروف ، لم يصح التحدي به ، لأنه ليس في المقدور . وكذلك لو قال: إني أضرب واحدا في واحد فيكون واحدا ، أو اثنين في واحد فيكون اثنين ، واثنين في اثنين فيكون أربعة ، واثنين في ثلاثة فيكون ستة ، واثنين في أربعة فيكون ثمانية ، واثنين في خمسة فيكون عشرة ، وثلاثة في ثلاثة فيكون تسعة ، وثلاثة في أربعة فيكون اثني (2) عشر ، وثلاثة في خمسة فيكون خمسة عشر ، وأربعة في أربعة فيكون ستة عشر ، وأربعة في خمسة فيكون عشرين ، وخمسة في خمسة فيكون خمسة وعشرين ، ثم تحدى ، وقال: اضربوا بعض هذا العدد ببعض ، وأْتُوا بكامل (3) غير ما أتيت به ، كان ذلك لا يصح ، لأن ما تحدى به يكون مستحيلا ، أو جرى مجرى أن يفعل حركة في جسم فيقول: افعلوا في غير جسم أو جوهر .
__________
(1) في المخطوط: الاتيان . ولعل الصواب ما أثبت .
(2) في المخطوط: اثنا عشر . والصواب ما أثبت .
(3) بكامل ، يعني: بمجموع أو بجملة .
أو يكون التعذر الآن غيره ، لم نعمل فيه العكس ، ولم نمتحن ولم نتعلم ، وهذا أيضا لا يصح التحدي به ، لأن ذلك يجري مجرى تعذر الصياغة على النجار ، والنجارة على الخياط .
ألا ترى أن كل من أَفْكَر (1) فيه فكره ، وتعمَّل له تعمُّله ، يأتي منه مثل ما يأتي به المتحدي ، حتى لا يكون بينهما من التفاوت إلا مقدار ما يكون بين الصانعين من الذكاء والبلادة .
فإذا ثبت ما بيناه ، وثبت أن المجسطي وأقليدس والعروض ، وما أشبههما من الكتب ، يمكن التوصل إليه بالفكر والتعمل والتعلم والامتحان ، ثبت أنه مما لا يصح التحدي به ، وإذا ثبت ذلك ثبت أنه لا يصح أن يلزم كونه معجزا ، على قولنا إن القرءان معجز . لأن الاتيان بأسلوب من الكلام في أعلى طبقات الفصاحة ، أو في الطبقة العالية بالفكر والتعمل ، مما لا يصح على وجه من الوجوه . بل لا بد فيه من طبع لا طريق إليه للتكلف والتعمل .
ألا ترى - ولا نشك - أن الخليل بن أحمد كان أكثر في اللغة والعلم بأوزان الشعر وعيوبه ومحاسنه من امرئ القيس ، لأن امرئ القيس كان الظاهر من أمره أنه كان يعرف لغة قومه ، والقوم الذين قاربوهم ، والخليل تعلَّم اللغة حتى أحاط بها ، ومع ذلك فلا يشك أن الخليل كان لا يمكنه أن يقول من الشعر ما يماثل شعر امرئ القيس أو يقاربه .
__________
(1) أَفكَر ، يعني: أعمل فكره .
ولهذا نرى ما بيننا المكثر من علم اللغة ومحاسن الشعر ومساوئه ، إذا لم يكن مطبوعا في الشعر لا يمكنه أن يأتي من الشعر مثلما يأتي به المطبوع ، الذي لا يبلغ علمه باللغة ومحاسن الشعر ومساوئه معشاره ، بل ربما لم يمكنه أن ينظم بيتاً واحدا إلا بجهد عظيم ، وتعب شديد . ثم إذا أتى به ، أتى به في غاية الوحشة ونهاية السقوط . وهكذا حال إنشاء الرسائل والخطب والتوسع في المحاورات .
فإن قيل: إن المجسطي وإن كان يمكن أن يتوصل إليه بالامتحان والفكر والتعلم ، فقد كان في مبادئه ما لا يمكن ذلك فيه ، ولا طريق للتوصل إليه بالامتحان والتعمل .
قيل له: هذا إن صح ، فقد قالوا هم: إن ابتداءه كان من هرمس ، وإن هرمس هو إدريس النبي صلى الله عليه (1) ، وإن كان فيه ما سبيله هذا السبيل ، فيجب أن يكون معجزاً يدل على نبوة من أتى به .
ولهذا قال كثير من العلماء في علم النجوم وعلم الطب: إنهما كانا في الأصل مما أتت به الأنبياء صلوات الله عليهم ، وأنه لا سبيل للخلق إلى الاتيان بمثله . فهذا مما يجب أن ينظر فيه . إلا أن سؤال القوم قد سقط ، لأنه إذا صح وثبت ما ادعوه ، وجب أن يكون ذلك القدر منه معجزا .
__________
(1) القائلون بذلك هم الصابئة ، ومعنى هرمس عندهم: عطارد. مروج الذهب للمسعودي 1/39.
على أن المجسطي وأقليدس وما أشبههما من الكتب لو صح التحدي به ، لم يلزمنا أن نقول: إنه معجز . على قولنا: إن القرءان معجز .
لأنا لم نعلم أن القرءان معجز بأن صح التحدي به ، وإنما عملنا ذلك لأن النبي صلى الله عليه وآله وسلم أتى به قوما هم في الفصاحة والمعرفة بأساليب الكلام مثله أو دونه بيسير ، فتحداهم به وقرعهم بالمعجز عن الاتيان بمثله ، وادعا عليهم أنهم له في حكم العبيد في نفوذ أحكامه فيهم ، وأنهم يلزمهم مفارقة ما كانوا عليه من الدين ، وتكفيرهم لم يفارقه (1) ، والإنقياد له ولأوامره ، والقوم له كارهون ، وفي تكذيبه جاهدون ، وظهرت قوة دواعيهم إلى كل ما دعا إلى إفساد أمره ، وتوهين حاله ، وإظهار كذبه ، ولم يأتوا بمثله .
فدلنا ذلك على أنه كان متعذرا عليهم ، ولم يثبت في المجسطي وما جرى مجراه شيء من ذلك ، لأنه لم يثبت أنه أتى قوما مثله في تلك الصناعة وتحداهم بالعجز عن الاتيان بمثله ، وجعله لنفسه حجة عليهم ، في أنهم يلزمهم الجري على أحكامه ، والتصرف تحت أوامره ونواهيه ، مع كراهة القوم له ولأحواله ، ووفور بواعثهم إلى إفساد أمره ، والإبانة عن كذبه ، وأنهم لم يأتوا بمثله ، مع تطاول الزمان على تلك الأحوال .
__________
(1) كذا في المخطوط . والعبارة غير واضحة المعنى ، لعل بها سقطا أو تصحيفا .
فإذا لم يثبت شيء من ذلك ، فكيف يلزمنا أن نقول: إنه كان معجزا ؟ وما له (1) قلنا: إن القرءان معجز لم يحصل له ؟!
فإن قيل: قد علمنا أن تفرد الواحد بضرب من الفضل حتى يُذكر به ، ويَرؤُس بتحصيله ، مما يحرك طبع غيره على الاتيان بمثله ، فيجري ذلك مجرى التحدي .
قيل له: هذا لا يقوله من عرف أحوال الناس وعاداتهم ، لأنا نعلم من أحوال كثير من العلماء الذين يتقدمون في كثير من العلم ، أنهم لم يكن لهم دواعي إلى تصنيف الكتب في العلوم التي برعوا فيها ، بل ربما لم يُجدّ الواحد منهم ، إذا علم أن غيره قد كفاه المؤنة في ذلك ، وأتى بما كان مراده ، كان ذلك صارفا له عن الاشتغال به ، وإن جاز أيضا أن يتفق ذلك ما سأل عنه السائل ، لكن ذلك لا يمكن الإبانة بعلم أن للقوم أحوالا كأحوال من عادى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ، من كفار قريش وسائر العرب ، على ما بيناه . ومتى ما مرت الأحوال على ذلك ، فلا بد من الاتيان بمثل ما أتى به من كان معهم في مثل حال النبي صلى الله عليه وآله وسلم ، إلا أن يتعذر ذلك عليهم .
فأما مقدار ما سأل عنه السائل ، فلا يجب من سائرهم أن يقع الاتيان بمثل ما أتى به بعضهم ، وإن كان ممكنا لهم .
فإن قيل: فإذا لم يعلموا تلك الأحوال فشكوا في كونه معجزا ؟!
__________
(1) كذا في المخطوط .
قيل له: الوجه الأول يمنعنا من الشك ، ويوجب القطع على أنه ليس بمعجز ، وأنه يجري مجرى سائر الصناعات والمهن ، لأنا قد بيّنا أن التحدي مما لا يصح ، كما لا يصح ذلك في الصناعات والمهن .
فإن قيل: فما تنكرون على من قال: إن القرءان هو من هذه الحروف وجنسها مقدور للبشر ، ولا يصح أن يكون المعجز جنسه في مقدور العباد ، لأنه يؤدي إلى التناقض ، لأن من شأن المعجزات أن يتعذر على العباد ، وما كان جنسه مقدورا لهم ، فهو متأتي منهم ، والتأتي ينافي التعذر ، وإذا كان ذلك كذلك ، لم يصح أن يكون القرءان معجزا ؟!
قيل له: هذا الذي ادعيتَ من التناقض على الوجه الذي ظننت ظاهر السقوط ، لأن جنس الشيء وإن كان مقدورا للعباد ، فإنه لا يجب أن يصح فعل ذلك الشيء منهم على كل وجه ، بل لا يمتنع أن يتعذر فعله على بعض الوجوه ، وإن صح فعله على وجه آخر ، وهذا لا يؤدي إلى التناقض ، لأنه من الوجه الذي يتأتى لا يتعذر ، ومن الوجه الذي يتعذر لا يتأتى ، وإنما يتعذر ما يتعذر بما يكون جنسه مقدورا للعباد ، لأن القادر ربما احتاج لإيقاعه على وجه مخصوص إلى كونه عالما ، أو في حكم العالم ، أو يحتاج إلى الآلة ، وما يجري مجرى الآلة ، فإذا قصد الآلة فيما يحتاج لفعله على وجه مخصوص إلى الآلة ، أو القلم فيما يحتاج لفعله على وجه مخصوص إلى كونه عالما ، تعذر فعله على ذلك الوجه ، وإن كان جنسه مقدورا .
ألا ترى أن الفعل المحكم ، وإن كان جنسه مقدورا لمن ليس بعالم ، فإنه يتعذر عليه ولا يتأتى مثله .
ألا ترى أن هذه الحروف أجمع مقدورة للناس أجمع ، ومع هذا فلا يصح من أحد إيقاعها على وجه يكون متكلما بلغة العرب إذا لم يكن عالما بلغتهم ، وكذلك لا يصح إيقاعها من الأعرابي على وجه يكون متكلما بلغة الفرس ، إذا لم يكن عالما بلغتهم ، وكذلك حكم الصناعات أجمع كالكتابة والصناعة وغيرهما ، لأن جنس ذلك أجمع مقدور للجميع ، ثم إيقاعها على وجه الاتقان والاحكام يتعذر على من لم يكن عالما بتلك الصناعة ، وكذلك الآلة أيضا .
ألا ترى أن الخياط يتعذر عليه الخياطة ، مع كونه قادرا عليها وعالما بها ، إذا فَقَدَ الإبرة ، وكذلك الصانع إذا فقد المطرقة ، وسائر الآلات التي يحتاج إليها ، ولهذا يتعذر علينا الطيران ، وإن كنا نقدر على جنسه ، لأن جنسه إنما هو الأكوان ، وإنما يصح منا لفقدنا الآلة التي هي الريش والجناح ، ونظائره أكثر من أن تعد وتحصى .
فإذا صح ذلك وثبت ، وصح سقوط قول من قال: إنه يتناقض كون الشيء مقدوراً لنا ، متعذرا فعله علينا ، على وجه مخصوص ، فإذا ثبت ذلك جاز أن يكون القرءان معجزا يتعذر فعلُ مثلِه على جميع البشر ، وإن كان جنسه مقدورا لنا .
يكشف ذلك أن فلق البحر جنسه مقدور لنا ، وإن كان يتعذر فعله على ذلك الوجه المخصوص على جميع البشر .
ألا ترى أنه تفريق أجزاء الماء على وجه مخصوص ، وإحداث أكوان مخصوصة ، وذلك جنسه مقدور للبشر .
ألا ترى الله عز وجل لو بعث نبيا وجعل معجزته أنه ينقل بعض الجبال الراسيات عن موضعه لصح ذلك ، وإن كان جنس نقله مقدورا لنا ، لأن نقله إنما هو أكوان تحدث على وجوه مخصوصة ، وإنما المراعى في هذا الباب أنه يحصل أمر نعلم أنه يتعذر فعل مثله على جميع البشر ، سواء كان التعذر للجنس أو للصفة .
ألا ترى أنه لا فرق بين فلق البحر ، وبين قلب العصا حية في هذا الباب ، وإن كان تعذر فلق البحر للصفة ، وتعذر قلب العصا حية للجنس .
فإن قيل: فلم لا يجوز أن يكون ما يدخل تحت مقدور العباد معجزا ، لأن المشاهد له يُجوِّز أن يكون ذلك من فعل بعض مردة الشياطين ، أو من فعل بعض من يعصي من الملائكة ، لأن العلم بأن الملائكة لا تعصي إنما هو بطريق السمع ، ونحن بعد في إثبات السمع ؟
قيل له: لا يجب للناظر أن يشك فيه ، بل يجب القطع على أن الله عز وجل يمنع منه . وذلك أنه لو حصل لكان شبهة لا يمكن حلها . وما جرى من الشبه هذا المجرى يجب على الله عز وجل المنع منها .
فإن قيل: ولم قلتم: إن ذلك يكون شبهة لا يمكن حلها ، بل ما أنكرتم أن يكون ذلك حجة لمن قال: إنه لا يجوز أن يكون المعجز مما يكون جنسه في مقدور العباد ؟!
قيل له: لأن هذا الجنس من الشبهة يصح إيراده فيما ليس يكون جنسه في مقدور العباد ، بأن يقال: يجوز أن يكون بعض الناس ظفر بشجرة إذا قطع غصنها ، وألقى على وجه مخصوص يصير حية ، ويكون ذلك عادة ، ويكون ظفر بشيء إذا مسح به الميت صار حيا من طريق العادة ، ويجري ذلك مجرى الخواص التي تحكى في أشياء .
ألا ترى أن من لم يشاهد حجر المغناطيس ولم يسمع به ، إذا شاهده يحرك الحديد بغير مماسته يُجوِّز كون ذلك معجزا ، وكذلك ما يحكى من الحجر المسمى: باغض الخل ، فقد حكي أنه إذا أُرسِلَ على إناء فيه خل انحرف ، وسقط خارج الإناء ، ولم يسقط في الخل ، وكذلك نظائر كثيرة تحكى وتذكر في الخواص ، وكل ذلك جائز من طريق العقل ، ولا جواب عن ذلك ، إن تعلَّق به البرهمي (1) ، وحاول التوصل به إلى إبطال النبوات رأسا ، إلا ما ذكرناه من أن ذلك لو كان لكان شبهة لا مخلص منها ، فيجب على الله عز وجل المنع منها .
__________
(1) البرهمي نسبة إلى هندي يدعى (برهم) والبهمية طوائف ثلاث: فطائفة تقول: بقدم العالم، وتعترف بمدبر له قديم، إلا أنها تعتقد أن الإنسان غير مكلف بسوى المعرفة.
وطائفة تقول: بحدوث العالم، وتعترف بوجود صانع حكيم، ولكنها تنكر الرسل والكتب السماوية وترى أن لا واسطة بين الله تعالى وخلقه غير العقل.
وطائفة ثالثة تقول: بحدوث العالم ووجود الخالق، ولكنها تؤمن بأن مدبرات العالم: الأفلاك السبعة (البروج الاثنا عشر) ولا تزال هذه النحلة الباطلة قائمة في الهند يعتنقها الكثيرون من أبنائها.
ذكر بعض كتاب الملل والنحل أن من عقائدهم أنهم لا يأكلون البقر وأنهم يغتسلون ببولها. فلعلهم فرقة من الهندوس عباد البقر.
فإن قيل: ما تنكرون على البرهمي إن ادعا أن ذلك ليس بشبهة ، بل هو حجة ، ويوجب إبطال النبوات؟
قيل له: جوابه أنا نبين أن البعثة يجوز أن تصير واجبة ، بأن يعلم الله عز وجل أنها لطف للمكلفين ، فإذا ثبت ذلك فلو كانت واجبة لم يكن لها طريق إلا المعجز ، فكل ما أدى إلى إبطال المعجزات أجمع ، فيجب على الله المنع منه .
فإن قيل: بين هذه الأشياء التي ذكرتم ، وبين ما يكون جنسه مقدورا للعباد ، أن هذه الأشياء لو وقعت عند ادعاء الكاذب النبوة ، لكان الله هو الفاعل لها على وجه يقبح ، والله عز وجل لا يفعل القبيح ، وما يكون جنسه تحت مقدور العباد لو وقع لوقع من مردة الشياطين ، ولا يمتنع وقوع القبائح منهم .
قيل له: لا فرق في هذا الباب بين فعل القبيح والانصراف عن الفعل الواجب ، لأن الله تعالى كما لا يجوز أن يفعل القبيح ، لا يجوز أن يدع فعل الواجب ، لأن كل واحد منهما لا يكون إلا من محتاج أو جاهل ، أو من يكون بالصفتين جميعا ، ويتعالى الله عن ذلك !! وإذا كان هذا هكذا ، فلا فضل في أن يفعل تلك الأشياء عند دعوى الكاذب مع قبحها ، وأن (1) هذا انصراف عن فعل الواجب ، وذلك فعل القبيح ، ولا فضل بينهما ، وأن كل واحد منهما لا يجوز على الله عز وجل .
__________
(1) كذا في المخطوط .
على أن هذا أيضا يرجع إلى أنه عز وجل لو أجرى الأمر على ذلك ، يكون قد انصرف عن الفعل الواجب ، لأنه عز وجل إن كان أجرى العادة بتلك الأمور أن يفعلها ، فإنه لا يجوز أن يفعلها عند دعوى الكاذب ، وذلك يجري مجرى القبيح ، وإنما كان يجب على القديم عز وجل ، لو كان الأمر على ما ذكرتم أحد أمرين:
إما أن يمنعه التمكن منه .
أو يدفع ذلك ويظهره بلطائفه ، لئلا يصير شبهة لا يمكن حلها ، فلو لم يفعل ذلك ، لكان قد عاد الأمر إلى أنه لم يفعل ما وجب عليه تعالى الله عن ذلك !!
فإن قيل: ما أنكرتم على من قال لكم: يجوز أن يكون النبي صلى الله عليه وآله وسلم أخذ هذا القول من نبي كان أتى به قبل (1) ذلك النبي ، وأخفى حاله ، وادعا النبوة به من غير أن يكون (2) صادقا فيما ادعا فيه ؟!
قيل له: هذا سؤال قد أجاب بعض العلماء المتقدمين عنه بجوابين:
أحدهما: أنه قال: (( لقد علمنا ضرورة أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم هو الذي أتى به دون من سواه ، كما علمنا في شعر كثير من الشعراء ، وكتب كثير من المصنفين . وفي هذا سقوط هذا السؤال .
__________
(1) في المخطوط: وقبل . ولعل الصواب ما أثبت .
(2) في المخطوط: كان . ولعل الصواب ما أثبت .
والجواب الثاني: أن ذلك لو كان ، لكان شبهة لا يمكن حلها ، وما جرى هذا المجرى فيجب على الله عز وجل المنع منه ، فيعلم أنه لم يكن .
ويمكن أن يجاب عنه بأن يقال له: إن ذلك لو كان كذلك ، لكان ذلك النبي ممن قد بعثه الله ، وكلفه أداء الرسالة . ولو كان ذلك كذلك ، لوجب على الله عز وجل أن يحفظه إلى أن يبلغ ويؤدي الرسالة ، ولو كان بلَّغ وأدى ، لكان ذلك لا يخفى .
والجواب المعتمد عندي غير هذه الأجوبة ، وهو أن يقال لمن قال ذلك: في القرءان كثير من أقاصيص أحوال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ، وأحوال الصحابة رحمهم الله ، وأحوال أعدائه ، مثل ما ذكر سبحانه في السورة التي يذكر فيها الأحزاب من قوله تعالى: { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اذْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ جَاءتْكُمْ جُنُودٌ } [الأحزاب: 9] . . . إلى آخر القصص ، وفي هذه السورة ذكر زيد بن حارثة ، وما قال له رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم في شأن زوجته ، وما كان من رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم من التزويج ، حيث يقول: { وَإِذْ تَقُولُ لِلَّذِي أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِ وَأَنْعَمْتَ عَلَيْهِ } [الأحزاب: 37] . . . إلى آخر القصة .
وفي السورة التي يذكر فيها الأنفال قصة بدر من قوله: { وَإِذْ يَعِدُكُمُ اللّهُ إِحْدَى الطَّائِفَتِيْنِ أَنَّهَا لَكُمْ } [الأنفال: 7] . . . إلى آخر القصة . وفي هذه السورة قصة الأسارى ، والمفارقات (1) التي جرت .
وفي السورة التي يذكر فيها آل عمران قصة بدر ، وقصة أحد .
وفي السورة التي يذكر فيها التوبة وقصة حنين ، وقصة الغار ، ولو تتبعنا هذا في جميع القرءان لطال الكتاب به .
ومن المحال أن تكون هذه الأقاصيص بعينها كانت اتفقت لبعض الأنبياء غير نبينا صلى الله عليه وآله وسلم بمكة والمدينة . ولئن جاز أن يتفق ذلك ، لوجب أن يكون نقله ظاهرا ، وهذا من أوضح ما يقال في إسقاط هذا السؤال .
فإن قيل: فهل يجوز أن يكون مثل القرءان مقدورا للجن أو للملائكة ؟!
قيل له: لا سبيل لنا من طريق النظر إلى المنع من ذلك ، لأنا لا نعرف أحوال الملائكة عليهم السلام والجن . إلا أنا من طريق السمع علمنا أنه ليس في مقدور الجن .
فأما الملائكة عليهم السلام فلا يعرف ذلك من حالهم ، ولو لم نعرف أحوالهم نحن أيضا لم يقدح ذلك في كونه معجزا ، لأنا إذا عرفنا تعذره على أمر يخفى ، كفى في كونه معجزا . على ما مضى القول فيه.
__________
(1) كذا في المخطوط .
فأما ما ذهب إليه قوم من أنّا قد سمعنا من أحوال الجن وأشعارهم ، ما يمكننا الاستدلال به على أنهم على الاتيان بمثله عاجزون .
كنحو ما يحكى عن عمرو الجني من قوله:
أشجاك تشتت شعب الجن ... فأنت له أرق وصب (1)
. . . إلى آخر القصيدة .
وما يحكى من قوله:
من معذب جذل جاد القريض له ... حبر يجير لنا بيتا على دار (2)
وما يحكى عن بعضهم:
وقبر حرب بمكان قفر ... وليس قرب قبر حرب قبر (3)
وما روي عن سواد بن قارب من الأبيات التي يحكيها عن بعض الجن وهي:
عجبت للجن وألعابها ... وركبها العيس بأقتابها (4)
. . . إلى آخر الأبيات .
حكايات لم تعرف صحتها ، بل ليس لشيء منها سند ، لا ضعيف ولا قوي ، إلا ما يحكى عن سواد بن قارب ، وبمثل هذا لا يقع العلم .
__________
(1) لم أقف عليه .
(2) لم أقف عليه .
(3) التلخيص في علوم البلاغة / 28 .
(4) لم أقف عليه .
والثاني: أن هذه الأبيات ، وما جرى مجراها ، لو علمنا على التحقيق أنها من قول الجن ، لم يمكنا أن نعلم بهذا القدر من أحوال جميعهم ، فصار الاشتغال به مما لا يجدي ، والاعتماد على قول الله عز وجل: { قُل لَّئِنِ اجْتَمَعَتِ الإِنسُ وَالْجِنُّ عَلَى أَن يَأْتُواْ بِمِثْلِ هَذَا الْقُرْآنِ لاَ يَأْتُونَ بِمِثْلِهِ وَلَوْ كَانَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ ظَهِيرًا (88) } [الإسراء] ، وعلى إجماع الأمة على ذلك .
دليل آخر على أن القرءان معجز: ومن الدليل على ذلك أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم مهما شُكَّ في شيء من أحواله ، فلا شك في صحة عقله ، وأصالة ذاته ، وشدة حصافته ، ووفور ذاتيته (1) . قد علم ذلك المصدق به ، والمكذب له ، لأن الحال في ذلك أظهر من أن يجوز أن يرتاب فيه عاقل .
على أن المصدق به يعلم ذلك ، من حيث يعلم أن الله عز وجل لا يجوز أن يبعث إلى خلقه من لم يكن على تلك الصفة ، والمكذب له يعلم ذلك ، من حيث يظن أنه دبر أحوال نفسه وأحوال أصحابه ، حتى تم له ما تم ، وقد تلا هو صلى الله عليه وآله وسلم على أعدائه وأوليائه ، على ما تقدم بيانه ، { وَإِن كُنتُمْ فِي رَيْبٍ مِّمَّا نَزَّلْنَا عَلَى عَبْدِنَا فَأْتُواْ بِسُورَةٍ مِّن مِّثْلِهِ وَادْعُواْ شُهَدَاءكُم مِّن دُونِ اللّهِ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ (23) فَإِن لَّمْ تَفْعَلُواْ وَلَن تَفْعَلُواْ فَاتَّقُواْ النَّارَ الَّتِي وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجَارَةُ } [البقرة] ، وتلا عليهم: { وَمَا كَانَ هَذَا الْقُرْآنُ أَن
__________
(1) كذا في المخطوط .
يُفْتَرَى مِن دُونِ اللّهِ } [يونس: 37] ، وقوله: { أَمْ يَقُولُونَ افْتَرَاهُ قُلْ فَأْتُواْ بِسُورَةٍ مِّثْلِهِ وَادْعُواْ مَنِ اسْتَطَعْتُم مِّن دُونِ اللّهِ إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ (38) } [يونس] ، وتلا عليهم: { { قُل لَّئِنِ اجْتَمَعَتِ الإِنسُ وَالْجِنُّ عَلَى أَن يَأْتُواْ بِمِثْلِ هَذَا الْقُرْآنِ لاَ يَأْتُونَ بِمِثْلِهِ وَلَوْ كَانَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ ظَهِيرًا (88) } [الإسراء] .
وقد علمنا أن العاقل إذا ادعا أمرا لا يكون مبناه إلا على الصدق ومجانبة الكذب ، ويشتد حرصه على تصحيحه ، حتى يتحمل له المشاق ، ويركب له الأخطار ، ويعاديه على ذلك قوم أَلِبَّاء عقلاء ، يرجعون إلى الحصافة التامة ، والتمييز الشديد ، سيما إذا كان ما يدعيه لا يتم إلا بما يحصل في النفوس من تعظيمه وحشمته ، لصدق لهجته ، ووفور وقاره وهيبته ، فلا يجوز مع سلامة الأحوال أن يورد على العدو الكاشح ، والولي المناصح ، ما لا يأمن أن يظهر فيه كذبه في يومه أو غده ، أو بعد مدة قصيرة أو طويلة ، حتى يفتضح بذلك عند الجميع ، ويحتج به عليه أعداؤه ، وينفر عنه أصحابه ، لأن ذلك يجري مجرى التعرض بتشويه الانسان لنفسه بين أعدائه وأوليائه ، مع التماسه منهم تعظيمه وتوقيره وإكباره وإجلاله ، مع سلامة الأحوال . وما جرى هذا المجرى ، نعلم قطعا أنه لا يقع على وجه من الوجوه .
فإذا ثبتت هذه الجملة فتلاوته صلى الله عليه وآله وسلم هذه الآيات عليهم لا تخلو:
من أن تكون من تلقاء نفسه .
أو بأمر علام الغيوب .
ولا يجوز أن يظن عاقل أنه كان يتلوها عليهم من تلقاء نفسه ، لأنه تلاها على قوم هم مثله,أو مقاربون له في المعرفة بأحوال الكلام وأساليبه ، وبأحوال الفصاحة ، ولم يكن يجوز أن يأمن أن يأتي عدة منهم كل واحد منهم بمثله ، إما في الوقت ، وإما في مدة قصيرة أو طويلة ، فيظهر كذبه ويبين تَقَوُّله ، ويتسلق (1) به أعداؤه ، ويخذله أوليائه .
فإذا فسد ذلك ، صح أنه وارد من عند علام الغيوب تبارك وتعالى ، وإذا صح أنه من عنده عز وجل ، صح أنه معجز .
فإن قيل: أكثر ما ذكرتموه يكون تغريرا بالجاه ، ومن طلب مثل الأمر الذي طلبه فغير ممتنع أن يغرر بنفسه ، فضلا عن جاهه ، لأن التغرير بالنفس أعظم من التغرير بالجاه .
قيل له: التغرير بالنفس أيسر عند من طلب معالي الأمور ، من التغرير بالجاه ، لهذا تجد كثيرا من الناس يغرر بنفسه في الحروب للأنفة ، وكذلك تجد كثيرا ممن له علو الهمة ، يؤثر إعانة (2) النفس على التشويه بها .
على أن التغرير بالنفس أو بالجاه إن اختاره العاقل ، فليس يختاره إلا إذا لم يكن منه بد في الأمر الذي يطلبه .
__________
(1) كذا في المخطوط .
(2) كذا في المخطوط ، وفي المخطوط: ويؤثر . ولعل الصواب ما أثبت .
فأما إذا كان يعلم أنه يجد منه بدا ، أو يغلب في ظنه ، وكان الذي يغلب في الظن أن المحذور واقع ، فإنه لا يجوز أن يختاره بتة .
ومن المعلوم أن هذا القرءان لو لم يكن من عند الله عز وجل كان النبي صلى الله عليه وآله وسلم مستغنيا عن هذه الآيات المخصوصة ، وأنه لم يكن يتلوها عليهم ، لأن كثيرا منهم كان قد أسلم وآمن بسائر ما ظهر عليه من الآيات - على ما نبينه بعد هذا إن يسر الله سبحانه وأعان عليه - وكان في حكم المعلوم أنه لو لم يكن معجزا ، ولم يكن من عند الله ، أنه كان يحصل منهم الاتيان بمثله لا محالة .
ولو وقع لعاد الأمر إلى ما كان يكره ، ولم يكن له في ظاهر الحال فيها فائدة كثيرة ، لأن العرب كانت عارفة بحال القرءان ، وفائدة التحدي ، وكانت تحمله بعده صلى الله عليه وآله وسلم لسائر الناس ، وما يجري هذا المجرى لا يجوز أن يختاره العاقل مع سلامة الأحوال ، فثبت أنها كانت من عند الله عز وجل .
على أن ما نعرفه من حكم التحدي ، وأنه كان لا بد من حصول المعارضة من القوم ، ولم يتعذر عليهم ، معلوم لكل عاقل ، ومعلوم أيضا أحوال القوم وأحواله صلى الله عليه وآله وسلم بكمال عقله ، فلولا أن القرءان من عند الله عز وجل ، كان لا يجوز أن يتحدى ذلك التحدي ، لعلمه بأنه يؤتى بمثله في أقرب مدة ، كما أن إنسانا لو جاء إلى أعدائه ، وطلب الترؤس عليهم ، والتحكم بما شاء فيهم ، وأن يكون أولى بأنفسهم منهم ، وقال: دلالتي على ما أدعي أني أكلمكم
اليوم طول نهاري ، فلا يمكن لأحد منكم أن يجيبني . فمن المعلوم إذا كانت الأحوال سليمة ، أن لا يدع أحدا منهم أن يجيبه ، وأن يكون هو لا يفعل إذا كان عاقلا سليما ، سيما إذا كان مبنى أمره على الصدق ، ومجانبة الكذب .
وهذه كانت حال النبي صلى الله عليه وآله وسلم مع العرب فيما تحداهم به ، لولا أنه من عند الله عز وجل .
فإن قيل: ما تنكرون على من قال لكم: إن ذلك كان خطأ من جهة الرأي على ما قلتم ، وأن الأَولى كان لا يأتي به ، إلا أن الحازم قد يزل ، والمصيب قد يخطئ ، والمحق (1) قد يسف ، وإذا كان ذلك كذلك ، لم يجب أن يكون ذلك من عند الله عز وجل ، وجاز أن يكون من عنده ، اتفق على سبيل الخطأ كما يتفق من الناس ، ثم اتسق الأمر على مراده ، فلم يعارض الاتفاق ، كما يتفق في كثير من الأمور أن يخطئ فيه الانسان ، فيجري الأمر مع خطئه على مراده على سبيل الاتفاق .
قيل له: إن الخطأ إذا عظُمَ وفحش حتى يشترك في العلم به المميز المحصل ، والغمر الذي لم يحكم التجارب ، بل المراهق الذي لم يبلغ بعد الحلم ، لم يجز أن يقع من العاقل المميز الذي له في التحصيل والتنقير عن الأمور أوفى الحظوظ .
ألا ترى أن من يريد تأديب ولده وتهذيبه ويردعه عما لا يحسن ، وحمله على طريق الصلاح يجوز أن يمسه بمقارع ، فيقع الخطأ فيه ،
__________
(1) في المخطوط: والمحلق . ولعل الصواب ما أثبت .
ويتجاوز الغرض المطلوب حتى يوهن بعض أعضائه ، ولكن لا يجوز أن يبلغ به الخطأ مع كمال عقله ، وسلامة أحواله ، حتى يضربه بالسيف ضربة يعلم أو يغلب على الظن أنها تأتي عليه ، وكذلك من يداوي نفسه يجوز أن يخطئ فيرسل على بعض أعضائه العلق (1) ، فيزيد ذلك في مرضه وألمه . ولكن لا يجوز مع كمال العقل أن يخطئ فيرسل الأفعى على بعض أعضائه على سبيل التداوي .
وكذلك يجوز أن يجني على نفسه ، بتناول ما يضره من الأدوية على سبيل الخطأ , ولكن لا يجوز أن يخطئ فيتناول الببش (2) ، مع علمه به وبصفته وفعله . ونظائر هذا أكثر من أن تعد وتحصى .
فإذا صح ذلك وثبت ، فقد علمنا أن إيراد هذه الآيات لو لم تكن من عند الله عز وجل ، لكان من الخطأ العظيم الفاحش الذي لا يجوز وقوع مثله من كامل العقل ، لأنه صلى الله عليه وآله وسلم أتى قوما هم نظراؤه في النسب ، وأشكاله في اللسان ، وأمثاله في المعرفة بمجاري الأمور ، فدعاهم إلى دين كرهوه ، وعادوه عليه وناصبوه ، ولم يَدَعُوا ممكنا في مناوأته إلا أتوه ، وهو يعلم أن أمره مبني على صدق اللهجة ، ومجانبة الكذب والتنزه عنه ، وأنَّ يسير الكذب لو ظهر منه لأدى إلى إفساد حاله ، وتوهين أمره ، ومكَّن منه أعداءه ، ونفَّر عنه أولياءه ، وهدم ما أسسه ، ونشر ما ضمه ، ونقض ما شاده .
__________
(1) العلق: الدم الغليظ ، والقطعة منه .
(2) كذا في المخطوط .
وهو مع ذلك قد ابتدأ أمره يستتب ، وحاله ينتظم ، وقد آمن به قوم بما ظهر من سائر آياته ، وصار أصحابه في الزيادة .
فإذا كانت أحواله جارية على ما مثَّلنا ، ماضية على ما وصفنا ، فمن الخطأ العظيم الفاحش ، الذي لا يقع (1) مثله من العقلاء ، أن يأتي بأمر أقل ما فيه أن يغلب على الظن إن لم يكن معلوما مقطوعا به أن يفضحه في أقرب مدة ، وأرخى (2) زمان ، ويفسد حاله ، وتبطل دعوته ، ويظهر كذبه .
فإذا ثبت ما ذكرناه ، صح وبان أن هذا القرءان لم يكن من عنده صلى الله عليه وآله وسلم ، وإنما كان من عند علام الغيوب جل وتعالى ، وعلى أن هذا التحدي لم يقع منه مرة واحدة ، أو في سورة واحدة ، فينسب إلى الاتفاق والغفلة . بل كرره صلى الله عليه وآله وسلم حالا بعد حال ، وأورده في سور كثيرة ، وأمر أصحابه بتلاوته في جميع القرءان ، إلى أن اختار الله عز وجل له دار كرامته ، لم يتلوم فيه ، ولم تضعف نفسه صلى الله عليه وآله وسلم ، وما جرى هذا المجرى لا يجوز أن ينسب إلى أنه اتفق على سبيل الغلط والخطأ . وإذا لم يجز ذلك وبان فساده ، صح ما قلناه من أنه من عند الله عز وجل .
فإن قيل: ما تنكرون على من قال لكم: إن عدد من كان يكمل لمعارضة القرءان من العرب كان محصورا ، لأن من المعلوم أن كل واحد
__________
(1) في المخطوط: لا ينفع . والصواب ما أثبت .
(2) كذا في المخطوط ، ولعلها: وأدنى .
منهم لم يكن يكمل للاتيان بالكلام الفصيح ، منظوما كان أو منثورا ، ومتى كان ذلك كذلك ، فيجوز أن يكون النبي صلى الله عليه وآله وسلم كان واطأهم على أن يكفوا عن معارضته ، وأن يكون القوم جعلوه على ثقة من ذلك ، حتى وثق بما عاهدوه عليه واعتمدوه ، لما كان من تمكينه إياهم من أغراض كانت لهم ، وإطماعه لهم في رياسات تحصل لهم ، فتحداهم لذلك بانشراح صدر ، وقوة نفس .
قيل له: هذا كلام من لا يعرف أحوال العرب ، وأحوال النبي صلى الله عليه وآله وسلم ، لأن العرب كانوا في ديار متباعدة الأطراف كتهامة ، وسائر أرض الحجاز إلى اليمن وشجر (1) وعمان ونجد والشام ، وكان الفصحاء منهم متفرقين بحسب بلدانهم ، وتنائي أوطانهم .
والنبي صلى الله عليه وآله وسلم يومئذ كان في حكم المنفرد الوحيد ، إذ لم يكن يساعده على أمره إلا من كان يؤمن به ويصدقه ، ولم يكن صلى الله عليه وآله وسلم واجدا سعة من المال ، ولا متمكنا من الرجال ، بل كان شريدا طريدا ، قد جفاه أهله ، فكيف كان يظن مع هذه الأحوال من تجميع الرجال ، وجمع كلمتهم ، مع تراخي الديار ، وتباعد مزارهم ، وعدمه صلى الله عليه وآله وسلم الرسل الذين يوجههم إليهم ، بل أي رغبة كانت فيه لطلاب الدنيا وأحوالها ؟!
على أنه لو كان مثل كسرى في كثرة أمواله ، وانبساط ملكه ، ووفور حاله ، وعظم هيبته ، مع ما كان يتعلق به من الرغبة والرهبة ،
__________
(1) كذا في المخطوط ، ولعلها: وشحر . منطقة في جنوب اليمن .
كان لا يتم له ذلك ، بل كان يتعذر عليه جمعهم على ذلك ، وتقريرهم عليه ، فكيف يظن العاقل أنه تم لرسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ذلك ؟!!
على أن مثل هذا التواطئ مما لا يصح وقوعه في العرف ، ومجرى العادة ، وبه يستدل على صحة الأخبار المتواترة ، ولولا تعذر ذلك واستحالته من طريق العادة ، لكان يجوز أن يشك في كثير من (1) مخبَر الأخبار المتواترة ، وهذا أظهر من أن يحتاج إلى إطالة الكلام فيه .
على أن ذلك لو كان ، لكان لا يجوز أن ينكتم ، بل كان يظهر ظهورا تاما ، على ما تقدم بيانه في باب التحدي . لأن الدواعي تدعو إلى نشر مثله ، والبواعث تبعث على إذاعته ، والأغراض تتوفر في ذلك وتختلف .
على أنه من أين كان يثق بأن من واطأه - لو أمكن ذلك وكان الطريق إليه مستجيبا (2) - يفي له بذلك ؟ وكيف كان يأمن أن يتغير رأيه ، فينقض ما بذله حتى يفتضح بذلك ، ويفسد عليه أموره ، ويظهر كذبه ، وهذا ظاهر الفساد .
فبان بهذه الوجوه التي بيَّناها سقوط ما سألوا عنه في هذا الباب .
فإن قيل: ما تنكرون على من قال لكم: إن النبي صلى الله عليه وآله وسلم يجوز أن يكون ظن أن الاتيان بمثل هذا القرءان يتعذر على
__________
(1) في المخطوط: في . ولعل الصواب ما أثبت .
(2) كذا في المخطوط .
قومه ، من حيث علم أحوالهم ، ومجاري أمورهم ، فأقدم على التحدي ، لِمَا غلب من ذلك في ظنه,لأن العاقل الحصيف قد يقدم على الأمر المظنون بما يقدم (1) على الأمر المعلوم ، وفي كون ما ذكرناه جائزا خارجا من حيز (2) الامتناع ما يبطل دعواهم أنه يجب أن يكون من عند الله عز وجل .
قيل له: هذا الظن ظنٌ لا أمارة عليه ، بل لا يجوز حصوله للعاقل المميز (3) ، لأن خلافه هو المعلوم .
فالمتعلم (4) إن ما يأتي به الانسان من أي جنس كان ، وأي باب كان ، فإنه من المعلوم أنه لا يتعذر الاتيان بمثله على من كان على مثل صفته في ذلك الشيء .
ونحن نعلم أن أولئك العرب كانوا مثل النبي صلى الله عليه وآله وسلم في المعرفة بأحوال الكلام وطرقه ، وجيده ورديئه ، وفصيحه ومتوسطه ، أو مقاربين له في ذلك .
ومن كان كذلك ، فمن المعلوم أنه لا يتعذر عليه الاتيان بمثل ما أتى به ، والعلم بهذا طريقُه الضرورة ، فلا يصح أن يقال: إنه صلى الله عليه وآله وسلم يجوز أن يكون عدمه (5) ، وإذا كان ذلك معلوما ، فلا
__________
(1) في المخطوط: تقدم . ولعل الصواب ما أثبت .
(2) في المخطوط: خبر . ولعل الصواب ما أثبت .
(3) في المخطوط: المتميز . ولعل الصواب ما أثبت .
(4) كذا في المخطوط .
(5) كذا في المخطوط .
يجوز أن يظن العاقل خلافه ، لأن ذلك يصير من ظنون السودوس (1) ، الزائلين عن كمال العقل ، ونحن بنينا (2) دليلنا هذا على أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم كان كامل العقل ، وافر التحصيل ، صحيح التمييز ، على أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم لم يَتَحَدَّ به قومه الذين هم قرابته فقط ، بل عم التحدي جميع العرب ، بل جميع البشر ، فلو جاز أن يظن الانسان أنه صلى الله عليه وآله وسلم ظن ذلك بقومه لمعرفته بكثير من أحوالهم ، وبواطن أمرهم - على بُعد ذلك - فكيف يظن أنه ظن ذلك بسائر العرب ، مع كونه متباعدا عن ديارهم ، متنائيا عن ضبط أحوالهم ، وفيهم مثل: لبيد بن ربيعة ، وكعب بن زهير ، الذي جاءه صلى الله عليه وآله وسلم ، والأعشى ، وحسان ، وغيرهم من الفصحاء المشهورين ؟!
وإذا ثبت أن الأحوال كانت على ما ذكرناه ، صح ووضح أنه صلى الله عليه وآله وسلم لم يكن يجوز أن يظن ذلك ، لوكان القول من عنده ، إذ كان يجب أن يكون المعلوم بخلاف ذلك . وفي بطلان ذلك دليل على أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم كان عالما بتعذر ذلك عليهم ، لكونه من عند الله عز وجل .
__________
(1) كذا في المخطوط .
(2) في المخطوط: بينا . ولعل الصواب ما أثبت .
فإن قيل: يجوز أن يكون صلى الله عليه وآله وسلم ظن أن القوم يكفون عن الاشتغال بالاتيان بمثله ، وإن لم يكن متعذرا عليهم ، فبنى أمر التحدي عليه .
قيل له: هذا الظن حصوله للعاقل أبعد وأشد استحالة من الظن الذي بَعَّد التحدي عنه .
أولا: لأنا قد بينا فيما تقدم أنه معلوم بكمال العقل أن من أتى قوما هم أمثاله ونظراؤه في النسب والمحل ، وادعا رئاسته عليهم ، وأنهم يلزمهم الانقياد له ، وقبول طاعته ، وهم له كارهون ، قد أظهروا له البغضاء والعداوة ، واحتج عليهم بأمر يمكنهم مقابلته بمثله من غير ضرر يلحقهم ، فإنه لا يجوز منهم الكف عن ذلك على وجه من الوجوه .
يكشف ما قلنا في جواب السؤال وما قبله: أنَّا نعلم أن واحدا من علماء عصرنا هذا ، من فقيه أو متكلم ، أو أديب أو متطبب ، إذا كان في بلد فيه وفيما حوله عدة من نظرائه فيما يتعاطاه ، أو مقاربين له مع ظهور بغضهم (1) له ، وكراهتم رياسته عليهم ، وانتصابهم لعداوته ، وركوبهم الصعب والذلول في ذلك .
فإنه لا يجوز متى كان عاقلا لا آفة به أن يظن أنه يطلب الرئاسة عليهم ، وتصريفهم على أوامره ونواهيه ، بأن يحتج به عليهم ويتحداهم به ، وهم متمكنون من مقابلته بمثل ما احتج وأورد بأهون سعي ، فلا يقع منهم ، ولا يختارون فعله ، بل يكفون عنه .
__________
(1) في المخطوط: بعضهم . ولعل الصواب ما أثبت .
وإذا ثبت ذلك ، صح أن ما ذكروه من جواز حصول مثل ذلك الظن باطل ، وأنه صلى الله عليه وآله وسلم إنما تحداهم بما أورده عليهم بأمر علام الغيوب ، ومع العلم أنه متعذر عليهم .
فإن قيل: فَجَوِّزوا أن يكون النبي صلى الله عليه وآله وسلم عرف ذلك من جهة بعض الأنبياء ، وأن يكون وقع إليه أنه أخبر عن حاله وحال القوم معه بأن يكفوا (1) عن معارضته ، فاعتمد ذلك ، وبنى أمر التحدي عليه ، لعلمه بصحته ، وأن أصل ذلك الخبر من عند الله عز وجل .
قيل له: هذا الذي ذكرت لوكان ، يزيد أمره صلى الله عليه وآله وسلم قوةَ رغبةٍ وتأكيدا ، وكان ذلك ضربا من التبشير به ، وذلك أن ذلك النبي لو أخبر أن القوم يكفون عن معارضته ، وأحوالهم على ما وصفنا ، لكان لا يخلو ذلك الكف من أن يكون منهم على سبيل الاختيار ، أو لأن (2) الاتيان بها كان متعذرا عليهم ، أو لأن (3) الله عز وجل صرفهم عنها ببعض لطائفه .
وقد ثبت أن الكف على سبيل الاختيار منهم مما يستحيل ، ولا يصح كونه ، فلم يبق إلا أنه كان للتعذر أو للصرف ، وأيهما كان وجب كونه معجزا ، دالا على نبوته . فتقدُّم خبر نبي - إن تقدم -
__________
(1) في المخطوط: يكفون . والصواب ما أثبت .
(2) في المخطوط: ولأن . ولعل الصواب ما أثبت .
(3) في المخطوط: ولأن . ولعل الصواب ما أثبت .
يكون بشارة له بأن الله عز وجل بعثه نبيا ، ويُظهر عليه العلم الذي يدل على نبوته .
فإن قيل: فإذا ثبت أنه من عند الله عز وجل ، فما الذي يدل على أنه معجز ؟ لأن التوراة والانجيل ، وإن كانا منزلين من عند الله ، فلا يجب كونهما معجزا ؟
قيل له: إذا ثبت بما بيناه تعذُّر مثله على الناس ، ثبت كونه معجزا كما بيناه في الدليل الأول .
فإن قيل: إذا كان هذا الدليل لا يتم إلا بذكر التحدي ، وبيان تعذر مثله ، وعليه بنى الدليل الأول ، فلم جعلتم هذا دليلا ثانيا ؟!
قيل له: هذان الشرطان وإن جمعا الدليلين ، فلكل واحد منهما شرط يخصه ، لأن الدليل الأول لا يتم إلا بأن يعلم أن المعارضة لم تقع ، وهذا لا يجب أن يشترط في الدليل الثاني ، لأن الدليل الثاني يصح أن يستدل به .
وقيل: النظر في أن المعارضة وقعت أو لم تقع ، حين يكون حصول العلم بأن المعارضة لم تقع بعد استكمال النظر في الدليل ، ووقوع العلم به .
والدليل الأول ليس من شروطه أن نبين أن كامل العقل (1) لا يجوز أن يقع منه من تلقاء نفسه مثل هذا التحدي ، ولا يجب اشتراطه في الدليل الأول .
__________
(1) في المخطوط: العقلاء . ولعل الصواب ما أثبت .
والدليل الثاني لا يتم إلا باشتراطه ، لأنه مبني عليه .
وإذا كان لكل واحد من الدليلين شرط يخصه - ولا يتم الدليل إلا بشرطه - لما صح كونهما دليلين ، وإن جمعتهما شروط أُخر .
دليل آخر على أن القرءان معجز: ومن الدليل على ذلك أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم ابتدأ الاتيان بهذا القرءان على غاية الاحكام والاتقان ، وقد ثبت جريان العادة أن كل أمر يقع على وجه لا يصح وقوعه عليه إلا بعلوم تحصل للفاعل له ، لا يصح وقوعه ابتداء على غاية الاحكام والاتقان ، وأن بلوغه الغاية يتعذر على (1) مر الدهور والأعصار ، وتعاطي جماعة فجماعة له . وأنه لا فرق في ذلك بين (2) شيء من الأمور التي هي منظوم الكلام ومنثوره ، أو ما يتعلق بالتنجيم أوالطب أو الفقه أو النحو ، أو الصناعات التي هي النساخة أو الصياغة أو البناء أو ما أشبه ذلك .
فإذا ثبت ذلك وثبت وقوع القرءان على الوجه الذي بيناه ، ثبت أنه وقع على وجه انتقضت به العادة ، وما وقع على وجه تنتقض به العادة ، وجب كونه معجزا ، وجرى مجرى قلب العصا حية ، وإحياء الموتى ، والمشي على الماء والهواء .
فإن قيل: ولم ادعيتم أن القرءان وقع على غاية الاحكام والاتقان ؟!
__________
(1) في المخطوط: إلا على . ولعل الصواب ما أثبت .
(2) في المخطوط: من . ولعل الصواب ما أثبت .
قيل له: قد علمنا ذلك كما علمنا في غيره مما بلغ الغاية في بابه ، وذلك كما علمنا أن التنجيم بلغ الغاية في أيام بطليموس ، وأن الهندسة قد بلغت الغاية في أيام أقليدس ، وأن الطب بلغ الغاية في أيام جالينوس ، وأن الشعر بلغ الغاية في أيام امرئ القيس ، والنابغة ، وزهير ، والأعشى ، وأن النحو بلغ الغاية في أيام سيبويه والخليل ، وأن الخط بلغ الغاية في أيام ابن مقلة ، وكذلك سائر الصناعات والمهن ، وكان الطريق إلى الجميع أنا قد علمنا من حال كل واحد ممن تعاطاه ، بأن كل من حاوله وتعاطى مثله ، إما أن يكون قصر عنه قصورا بينا ، وبَعُدَ بُعداً متفاوتا ، أو قاربه ، أو زاد عليه شيئا ، زيادة كانت يسيرة لا يؤبه لمثلها .
فدلنا ذلك على أن جميع ما ذكرناه وقع على غاية الاحكام والاتقان في بابه ، في الأوقات التي ذكرناها .
فإذا ثبت ذلك وثبت أن القرءان لما أتى به النبي صلى الله عليه وآله وسلم حاول كثير من الناس الاتيان بمثله ، فقصروا عنه قصورا ظاهرا ، وسقطوا دونه سقوطا فاحشا ، عرفه من نصح (1) نفسه ، ولم يجحد ما تصوَّره .
فأما مَن عَانَدَ وتواقح (2) ، فإنه ادعا المقاربة ، وأوهم الأغمار المماثلة ، ولم يدع أحد أنه يبرز عليه ، ويطلب وراءه أمرا للمزيد ،
__________
(1) في المخطوط: أنصح . ولعل الصواب ما أثبت .
(2) من الوقاحة .
لوضوح الأمر في بلوغه الغاية ، ولحوقه درجة النهاية . فكان وقوعه على غاية الاحكام والاتقان ، أوضح من سائر ما ذكرناه ، لأن عامة ذلك قد زيدت عليه زيادات على مقدار احتمال الصنعة ، والقرءان ارتفع عن ذلك ارتفاعا حسم المطامع عن ابتغاء المماثلة ، فكيف ابتغاء الزيادة ؟! فصح بذلك ما ادعيناه ، ووضح ما ذكرناه .
على أنه لو ثبت أن وراء غاية القرءان غاية يترتب وقوعها مزيدا يُطلب ، لم يقدح ذلك في استدلالنا هذا ، لأنا قد علمنا أنه لما حصل ووقع ، لم يكن وقوعه على أدنى مراتب الكلام وأضعف وجوهه ، بل كان متجاوزا لذلك شأوا بعيدا ، وأمدا مديدا .
وهذا القدر كافٍ في وقوعه على وجه انتقضت به العادة .
على أنا نقول لهذا السائل: إن كنت تعرف شيئا من الأشياء بلغ الغاية في مجرى العادة ، فَأَبِن عنه لنوضِّح بمثله أن ما ادعيناه في حال القرءان أوضح من ذلك ، ولسنا نريد بالغايات التي ذكرناها في هذه المواضع أجمع الغاية التي لا تكون في المقدور أو المعلوم ما يزيد عليها . وإنما نريد ما يسمى غاية ، ويُعد نهاية في مثله من طريق العادة ، فليكن ذلك مقصورا عند الناظر في كلامنا هذا . فإن المدار عليه ، والغرض ينتهي إليه .
فإن قيل: ما تنكرون على من قال لكم: إن ما ادعيتموه من النبي صلى الله عليه وآله وسلم ابتداء الاتيان به لا يصح ، لأن الفصاحة لم يكن هو صلى الله عليه وآله وسلم ابتدأها ، بل كانت متقادمة العهد ،
متداولة [بين] العرب ، قد استمرت عليها الأعصار ، وتصرفت فيها الأفكار ؟
قيل له: لسنا نزعم أن الذي اختص به القرءان هو الفصاحة فقط ، حتى يلزمنا ما ذكرتموه ، وإنما نقول: إن الذي اختص به هو هذا النظم المخصوص ، والأسلوب المتميز ، واقعا في أعلى طبقات الفصاحة . وإذا كان هذا هكذا ، ولم يعرف للعرب قبله صلى الله عليه وآله وسلم هذا النظم المتميز عن غيره ، صح ما قلناه من أنه ابتدأ به على الغاية في معناه .
فإن قيل: إلى ماذا تشيرون بقولكم: هذا النظم المخصوص ، والأسلوب المتميز ، فإنَّا لا نعقل فيه أمرا زائدا على الكلام المعتاد ، ولم نعرف تميزا إلا بالفصاحة ؟
قيل له: نريد بذلك ما نعرفه ، ويعرفه كل متأمل كلام العرب ، لأن كلامهم أجمع لا يخلو:
من أن يكون موزونا .
أو غير موزون .
فالموزون تختلف أجناسه ، ويتميز قصيره عن رجزه ، وكل ذلك مما يعرفه أهله .
وما ليس بموزون منه ينقسم أربعة أقسام:
منها نظم الخطب وطريقتها .
ومنها نظم الترسل ومنهاجه .
ومنها أسجاع الكهنة .
ومنها المحاورات التي تجري بين الناس ، ملفوظا بها ومكتوبا في منافع الدين والدنيا ومضارهما ، وما ينطوي على الجد والهزل . ووجدنا أسلوب القرءان ونظمه مفارقاً لهذه الأساليب أجمع ، لأنه ليس من نظم الخطب ، ولا الرسائل ، ولا أسجاع الكهان ، ولا المحاورات ، يعرفه كل مَن تأمَّله ، ممن ليس له أيسر حظ من المعرفة لكلام العرب .
فأما بيان أن الاعجاز تعلَّق بهذا الأسلوب المخصوص ، واقعا في أعلى طبقات الفصاحة , فسيجيء بعد الفراغ من إيضاح هذا الدليل ، إن يسَّر الله عز وجل ، وسنفرد له فصلا ، فإنه باب عظيم لا يستغنى عنه .
فإن قيل: ما تنكرون على من قال لكم: يجوز أن يكون النبي صلى الله عليه وآله وسلم أدار القرءان في نفسه نحوا من خمسة وعشرين سنة ، من حين بلغ إلى أن بعث ، حتى رتبه ونقحه وهذبه ، ثم أظهره على ما هو عليه من الغاية؟
قيل له: ذلك مما لا يصح ، لأن القرءان ليس دون الأشعار والرسائل .
وقد علمنا: أن الشعر لم يبلغ الغاية في هذا القدر من الزمان . ولا برجل واحد ، وكذلك الرسائل ، وكذلك سائر الصناعات ، وأن العادة جارية بأن كل من ابتدأ صناعة وابتكرها ، لا يتسع لبلوغ آخرها في مقدار عمره ، وأنها لا تبلغ الغاية إلا بأزمنة تتصل ، وبجماعات
يقتدي بعضهم ببعض ، ويستعين بعضهم بخواطر بعض ، ويبني الخالف على ما أسسه السالف . فوضح بذلك سقوط هذا السؤال .
فإن قيل: إن الخليل بن أحمد ابتدأ العروض فأورده على غايته ، ولم يدل ذلك عندهم على انتقاض العادة ، فما أنكرتم أن يكون القرءان مثل ذلك ؟!
قيل له: إن العروض هو ضرب من تقطيع الأصوات وترتيبه ، وقد سبقه بذلك صاحب المسيقى (1) ، وبلغ الغاية فيه .
وقد سمعنا من كان يعرف اللغة السريانية يذكر أن للأشعار المعمولة على ذلك اللسان عروضا قد عملت (2) ، ويجوز أن يكون الخليل بنى على تلك الطريقة ، ولا يكون له إلا بتتبع أشعار العرب ، وعدِّ أجناسها ، وردها إلى الوزن ، مقتفيا به ما ذكرناه .
ثم قد سقط عنه أوزان وأضرُبٌ ، منها الوزن المسمى: ركض الخيل (3) ، وقد جاء عليه الشعر المنسوب إلى عمر الجني ، وهو:
أشجاك تشتيت شعب الجن ... فأنت له أرق وصب (4)
وهي قصيدة طويلة .
وفي المحدثين من عمل على ذلك ، فقال قصيدة طويلة أولها:
__________
(1) يعني: صاحب الموسيقى .
(2) في المخطوط: عمل . ولعل الصواب ما أثبت .
(3) في المخطوط: الخليل . والصواب ما أثبت . كما في كتاب البرهان الرائق ، والذي نقل هذا النص من هذا الكتاب .
(4) لم أقف عليه.
أنسيت أفعالهم السمحا ... فأراك تذكرهم لهجا (1)
وسقط عنه أيضا ضربٌ من الوزن المسمى بالمنشرح (2) ، وهو أن يقع في القافية (( مفعولات )) بدل (( مفتعلن )) ، وقد جاء على ذلك أشعار كثيرة ، وتَتَبُّعُ هذا مما يخرجنا عن غرض كتابنا هذا ، وفيما أشرنا إليه كفاية .
فبان بما ذكرناه أنه لا يصح أن يقال: إن الخليل أورد ذلك ابتداء على الغاية ، كما أورد النبي صلى الله عليه وآله وسلم القرءان مبتدئا به ، ومبتكراً له على الغاية في معناه ، فسقطت المعارضة .
فإن قيل: ما تنكرون على من قال لكم: يجوز أن تكون أكثر هذه الصناعات لم تبلغ الغاية برجل واحد ، لأن العناية بها لم تتم ، والدواعي
__________
(1) لم أقف عليه .
(2) بحر المنسرح - بالسين ، والمؤلف كتبه بالشين - إما أن يكون تاما ، وإما أن يكون منهوكاً ، فالمنسرح التام: عروضه صحيحه ، وضربه: إما مطوي ، وإما مقطوع . مثل:
أرسلت نفسي على سجيتها ... وقلت ما قلت غير محتشم
مستفعلن ـ مفعولات ـ مستفعلن . . . إلخ . والضرب جاء على: مستعلن ، حذف رابعه الساكن حذفاً لازما ، فهو مطوي .
لو كنت يوم الوداع شاهدنا ... وهن يضرمن لوعد الوجد
والضرب - وهو الشطر الثاني - جاء على: مستفعل ، فهو متطوع .
والمنسرح المنهوك: عروضه وضربه يكونان موقوفين ، أو مكسوفين . مثل:
1- ... صبرا بني عبد الدار .
مستفعلن ـ مفعولات .
2- ... وسؤددا ومجدا .
مستفعلن ـ مفعولات .
إليها لم تَقْوَ ، والبواعث عليها لم تتوفر . وإذا كان كذلك ، جاز أن تكون دواعي النبي صلى الله عليه وآله وسلم إلى إيراد القرءان على هذه الصفة توفرت ، وبواعثه عليه قويت ، فأتى به ، وإن لم يتفق لأحد قبله ما جرى هذا المجرى ، ومتى جوزتم ذلك بطل ما اعتمدتموه من أنه وقع على وجه انتقضت به العادة ؟
قيل له: هذا الذي ذكرتموه مما لا نجيزه ، لأن تجويز مثله يؤدي إلى أن يلتبس ما هو متعذر ، بما لا يتعذر ، وإلى أن لا يكون بينهما فرق ، وقد ثبت الفرق بينهما . فوجب بطلان هذا السؤال .
ألا ترى أن ذلك لو جاز لجاز لقائل أن يقول: جَوِّزوا أن يكون واحد من الأطباء لم تقو عنايته ، ولم تتوفر بواعثه ، حتى يبلغ إلى حيث يحيي الموتى ، ويبرئ الأكمه والأبرص ، وأنه لا يستحيل أن يبلغ بعض الأطباء بعنايته ، ووفور دواعيه ، وقوة بواعثه .
ولجاز للآخر أن يقول: جَوِّزوا أن يكون واحد (1) من السحرة المشعبذين لم تبلغ به قوة دواعيه وبواعثه إلى أن يبلغ مبلغا ، ثم إن قلب العصا حية ضربٌ من الحِيَل ، وأنه من الجائز المتوهَّم أن يبلغه بعض السحرة والمشعبذين ، وكذلك يجوز ذلك في سائر الصناعات ، فلما علمنا بطلان قول من يجيز ذلك ويشك فيه ، وجب بطلان ما سأل عنه السائل في هذا الباب .
__________
(1) في المخطوط: أحدا . والصواب ما أثبت .
فإن قيل: الفرق بين ما ذكرتم وبين ما سألنا عنه ظاهر ، لأن الذي ذكرتموه ليس جنسه في مقدور العباد ، وما سألنا عنه جنسه في مقدور العباد .
قيل له: عن هذا جوابان:
أحدهما: أنَّا عرفنا الفرق بين ما يكون جنسه في مقدور العباد ، وبين ما لا يكون جنسه في مقدورهم . بأن عرَّفنا ما قلناه: أن جنسه ليس في مقدور العباد على (1) كل وجه ، وسؤالكم هذا يؤدي إلى أن لا يصح لنا العلم بالفرق بين ما يتعذر علينا وبين ما لا يتعذر . وذلك يؤدي إلى أن يفسد علينا الطريق الذي به نعرف الفرق بين ما يكون جنسه في مقدور العباد وما لا يكون . وكل سؤال يؤدي إلى إفساد ما لا يتم ذلك السؤال إلا به ، يجب أن يكون فاسدا .
والجواب الثاني: أنه لا فرق في هذا الباب بين ما يكون جنسه في مقدور العباد ، وبين ما لا يكون جنسه في مقدورهم .
ألا ترى أنَّا كما لا نجوِّز (2) أن يبلغ الانسان بقوة دواعيه ، ووفور بواعثه ، وشدة عنايته ، إلى أن يحتال حتى يطير كالنسر أو العقاب ، وإن كان الطيران جنسه في مقدورنا ، لأن ذلك ليس أكثر من أكوان واقعة على وجوه مخصوصة ، وكذلك لا يجوز أن يحصل الانسان بشيء
__________
(1) في المخطوط: العباد علينا على . ولعل الصوابم ا أثبت .
(2) في المخطوط: يجوز . ولعل الصواب ما أثبت .
من ذلك إلى أن ينقل بعض الجبال الراسيات عن مواضعها ، وإن كان جنسه في مقدونا ، ونظائره أكثر من أن تحصى .
فبان أن القول بما يؤدي إلى أن يلتبس ما يتعذر بما لا يتعذر ، مما لا يصح ويجب بطلانه . وسواء قيل ذلك فيما يكون جنسه تحت مقدورنا أو لم يكن .
على أن الذي قالوه لو كان صحيحا ، لأدى إلى أن لا تقع الثقة بشيء من المعجزات ، وما جرى هذا المجرى من الشبه التي لا يمكن حلها ، يجب على القديم عز وجل المنع منه ، على ما سلف القول فيه . فكان يجب عليه عز وجل أن لا يقع إيراد مثله ابتداء الغاية,أو يمنع أن يأتي به المتخرص على وجه ينقض العادة .
فإن قيل: هذا الذي بنيتم استدلالكم عليه فاسد ، لأنه يؤدي إلى أن السبق إلى الشيء يوجب كونه معجزا ، وقد علمنا فساده ، لأن أمورا كثيرة تتجاوز الاحصاء والعد ، قد وقع إليها السبق ، كالصناعات والمهن وما جرى مجراها ، وكثير من العلوم ، وليس يكون شيء من ذلك معجزا .
قيل له: مَن تَأمَّلَ كلامنا لم يسأل هذا السؤال ، لأنا لم نقل: إن الابتداء بالقرءان فقط يدل على أنه معجز ، وإنما قلنا: إنه وقع على وجه انتقضت به العادة ، لأن العادة جارية بأن الأمر المبتدأ به لا يجوز وقوعه على الغاية في الباب المقصود إليه ، وأوضحنا ذلك وكشفنا عن صحة ما قلناه .
ثم قلنا: وقد وقع القرءان ابتداء على الغاية في المعنى المقصود إليه ، فوجب أن يكون وقوعه على وجه يوجب نقض العادة ، وذلك يوجب كونه معجزا . وليس هذا من السبق المجرد إلى الأمر في شيء ، بل هو جارٍ مجرى من لا يحفظ اليوم شيئا من القرءان ، ثم يجده في اليوم الثاني حافظا له وللقراءات ولوجوه القراءات ، في أنه يجب أن يكون معجزا ، لأن حفظه وقع على وجه انتقضت به العادة .
ولا يلزم على ذلك القول بأن مجرد الحفظ للقرآن وللقراءات ووجوهها معجز ، وكذلك القول في سائر الحروف والصناعات وأصناف العلوم . فوضح سقوط هذا السؤال عما اعتمدناه في هذا الباب .
فإن قيل: دليلكم هذا يقضي جواز وقوع الاتيان بمثل القرءان على مر الأعصار ، وامتداد الأزمان ، لأنكم إنما قلتم: إن مثله لا يجوز الابتداء به . والدليلان المتقدمان يقضي كل واحد منهما أن الاتيان بمثله لا يصح ، وعلى هذا إن صح واحد من الدليلين المتقدمين ، فيجب فساد هذا الدليل ، وإن صح هذا الدليل ، وجب فساد الدليلين المتقدمين ، فيجب فساد هذا . وأنتم قد اعتمدتم الأدلة الثلاثة وصححتموها ، وذلك متعذر .
قيل له: هذا غلظ ظاهر ، وقلة تأمل لتراتيب أدلتنا ، لأن الدليلين يوجبان أن الاتيان بمثل القرءان لا يصح ولا يجوز ، وإن كان قد حكي
عن قوم أنهم ذهبوا إلى أن التحدي وقع خاصا في ذلك العصر ، وأنه إن أُتي بمثل القرءان بعد ذلك ، لم يقدح في كونه معجزا .
والدليل الثالث: لم يتضمن جواز الاتيان بمثله بعد ذلك ، وإن كان لم يتضمن وجوب تعذر الاتيان بمثله كما تضمنه الدليلان (1) ، فلا تناقض بينه وبين الدليلين المتقدمين ، فلم يمتنع (2) أن يشتمل جميعها على صحته كما ظنه السائل ؟!
ومثال ذلك: أن المستدل على حدوث الأجسام بأنها لم تسبق الأعراض الحادثة ، يصح له مع ذلك أن يستدل على حدوثها بأنها لم تسبق الأحوال المتجددة .
ويصح الاعتماد على الدليلين . وإن كان الدليل الأول يتضمن إثبات أعيان حادثة ، والدليل الثاني لا يتضمنه ، لأن الدليل الثاني وإن لم يتضمن إثبات أعراض حادثة ، فلم يتضمن أيضا نفيها ، ولم يمتنع أن يكون كل واحد منهما دليلا صحيحا مستقلا بنفسه .
فكذلك أدلتنا في إعجاز القرءان ، وإن كان بعضها يتضمن وجوب ما لا يتضمن وجوبه بعضها ، إذ لا يتضمن نفيه .
يوضح ذلك: أن القرءان لا يمتنع أن يكون معجزا لوجهين .
أحدهما: لا يتم إلا بأن يتعذر الاتيان بمثله على جميع البشر إلى آخر الدهر .
والوجه الثاني: يتم تعذر ذلك مع تراخي الزمان أو لم يتعذر .
- - -
__________
(1) في المخطوط: الدليلين . والصواب ما أثبت .
(2) في المخطوط: فلم امتنع . ولعل الصوابم ا أثبت ، ويؤكده ما في المثال التالي .
الكلام في بيان ماله كان معجزاً
اعلم أن ما فيه من الإخبار عن الغيوب لا إشكال في كونه معجزا ، لأن مثله لا يجوز أن يصدر إلا عن علام الغيوب ، وسنفرد لذلك كلاما بعون الله .
وأما ماله كان معجزا من غير هذا الوجه ، فقد اختلف فيه على ما نبينه .
وهذا الاختلاف لا يقدح في الدليلين اللذين قدمنا ذكرهما ، لأن واحدا منهما لم يُبْنَ على وجه مخصوص مما اختلف فيه .
وإنما بنينا الدليل الثالث فقط على وجه مخصوص مما اختلف فيه ، لأنه مبني على أنه صار معجزا للنظم المخصوص ، واقعا في أعلى طبقات الفصاحة ، على ما مضى القول فيه ، فأي وجه من الوجوه التي اختلف فيها صح ، لم يقدح فيما قدمناه من الدليلين .
وذلك أنهما مبنيان على أنه قد تعذر على العرب الاتيان بمثله ، على وجه انتقضت به العادة ، فلأي وجه كان التعذر لم يؤثر ذلك في كونه معجزا .
ألا ترى أن نبياً من الأنبياء لو أتى بما يتعذر الاتيان بمثله على جميع البشر علمنا أنه معجز ، وإن شككنا أنه تعذر لجنسه أو صفته ، أو لأية صفة كانت من صفاته ، أو لأن الخلق أجمع صرفوا عنه ، على أي وجه حصل الصرف ، لأن الذي يتم به كونه معجزا ، هو حصول التعذر على وجه تنتقض به العادة ، فكذلك ما قلناه في وجوه إعجاز القرءان .
فإن قيل: ما تنكرون على من قال لكم: إذا كان كل واحد منكم يطعن في الوجه الذي يعتمده صاحبه في بيان الوجه الذي كان له القرءان معجزا ، ويبين فساده ، فليس يثبت شيء من تلك الوجوه ، وإذا بطلت تلك الوجوه أجمع لم يصح كونه معجزا ، لأنه لا يكون معجزا إلا لوجه يخصه .
قيل له: الصحيح لا يفسد لطعن من يطعن فيه ، أو يحاول إفساده ، فإذا ثبت ذلك ، لم يجب فساد تلك الوجوه أجمع ، ولم يمنع أن يكون في جملتها وجه صحيح لا يؤثر فيه طعنُ مَن يطعن .
وإذا ثبت ذلك صح ما ادعيناه ، من كونه معجزا على ما بيناه . وإن اختلف في الوجه الذي له كان معجزا .
ونعود إلى ذكر الوجوه التي ادعا أن إعجاز القرءان يتعلق بها ، ونبين ما نعتمده منها .
اعلم أن من الناس من ذهب إلى أن القرءان لم يتعذر الاتيان بمثله ، لشيء من أوصافه . وإنما الاعجاز هوالصرف .
ومنهم من قال: إن الاعجاز هو الفصاحة المجردة ، وإنها قد بلغت الحد الذي يتعذر الاتيان بمثلها على جميع البشر ، وهذا قول الأكثرين من المتكلمين .
ومنهم من ذهب إلى أن الاعجاز: إنما هو في النظم المخصوص الذي تميز (1) به القرءان عما سواه .
__________
(1) في المخطوط: يميز . ولعل الصواب ما أثبت .
ومنهم من ذهب إلى أن الاعجاز فيهما جميعا - أعني النظم مع الفصاحة البالغة أعلى طبقات الفصاحة - وهذا هو الذي يصح عندي ، ويتضح لدي .
على أن من قال بالصرف لابد له من الرجوع إلى بعض هذه الوجوه ، لأن الصرف عنده لم يقع عن جميع الكلام ، وإنما وقع عن كلام له صفة مخصوصة ، وتلك الصفة لا بد من أن تكون هي الأسلوب ، أو الفصاحة ، أو هما جميعا . والكلام في الصرف يأتي بعد هذا الموضع .
والذي يبين صحة ما اخترناه وادعينا صحته ، أنه لا يخلو:
من أن يكون الاعجاز فيه تعلَّق بالأسلوب المجرد .
أو الفصاحة المجردة .
أو بهما جميعا ، ولا يصح ادعاء من يدعي تعلُّقه بالنظم ، أي الأسلوب فقط ، لأنا نعلم ضرورة أن تميز نظم القرءان عن سائر أساليب الكلام المنثور كأسلوب الخطب ، وأسلوب الرسائل ، وأسلوب كلام الكهنة وأسجاعهم ، وأسلوب المحاورات ، ليس أكثر من تميز بعض الأساليب عن بعض .
وقد علمنا أن من تَقَدَّم (1) في بعض هذه الأساليب حتى بلغ فيها الغاية ، لا يجوز أن يتعذر عليه الأسلوب الآخر ، حتى لا يمكنه أن يأتي
__________
(1) في المخطوط: يقدم . ولعل الصواب ما أثبت .
بشيء منه ، وإن لم يمكنه التصرف فيه وبلوغ الغاية ، كما أمكنه في النظم الآخر .
يبين ذلك أن الخطيب المصقع ، وإن تعذر عليه إنشاء الرسائل على الغاية التي يطلب لها ، فليس يتعذر عليه جملة ، بل لا بد من أن يتمكن من إنشائها في الطبقة الدنيا أو الوسطى ، وكذلك من تقدم في صناعة الرسائل ، هذا حكمه (1) في الخطب ، وكذلك المقدَّم في المحاورات ، المتناهي فيها .
فإذا ثبت ما بيناه ، ووضح أن من تقدَّم وبرع في بعض هذه الأساليب حتى فاق نظراءه ، وقرع أكفاءه ، لا يتعذر عليه الاتيان بأسلوب القرءان في الطبقة الدنيا ، فصح بما بيناه أنه لا يمكن أن يقال: إن الاعجاز تعلَّق بمجرد النظم .
ولا يمكن أن يقال: تَعلَّق بمجرد الفصاحة ، لأن ذلك لا يتم إلا بأن تعلم أن القرءان قد بلغ في الفصاحة مبلغا ، تجاوزت (2) الحد الذي يتمكن منها البشر تجاوزا انتقضت به العادة ، ولا يمكن ادعاء هذا العلم ، لأنه لا يخلو من أن يكون ضرورة أو مكتسبا ، ولا يجوز أن يكون ضروريا ، لأن ذلك لو كان كذلك لاشترك فيه جميع من له قَدَم في اللغة ، وحظ من العلم بمواقع كلام العرب ، والأمر بخلاف ذلك ، لأن
__________
(1) في المخطوط: هذه حكمة . ولعل الصواب ما أثبت .
(2) في المخطوط: وتجاوزت . ولعل الصواب ما أثبت .
مثل ذلك في التمييز فيه ، وفي غيره من الكلام ، وفي سائر الصناعات ، يجب أن يكون طريقه الضرورة .
فإذا ثبت بما بيناه أن ادعاء التعذر في كل واحد من الأمرين لا يمكن ولا يصح ، ثبت أن الاعجاز تعلق بمجموعها ، لأنا قد علمنا تعذر الاتيان بمثله على العرب ، بما أثبتناه وأوضحناه في كتابنا هذا ، والصفتان جرتا مجرى واحدا - أعني النظم والفصاحة - في المَيل إلى التعذر ، فوجب القول: بأنه تعذر الاتيان بمثل القرءان في الصفتين جميعا ، فصح ما ذهبنا إليه .
فإن قيل: ما تنكرون على من قال لكم: إنَّا وإن لم نعلم الآن ضرورة أن القرءان قد بَايَنَ سائر كلام العرب في الفصاحة مباينة انتقضت بها العادة ، فإنا نجوِّز أن يكون العرب الذين كانت المعرفة لهم بذلك جِبِلَّة وطبيعة ، عرفوا ذلك ضرورة .
قيل له: تجويز ذلك لا يؤيد صحة ما ادعيتموه ، لأن الذي بني عليه الدليل ، لا يغني فيه التجويز ، وإنما يجب أن تثبت فيه الصحة على القطع ، حتى يصح الدليل الذي بني عليه ، وأنتم لم تثبتوا صحته ، ولا يستقيم سؤالكم .
فإن قيل: ما أنكرتم أن يكون مَن تأمل قول الله عز وجل: { وَقِيلَ يَا أَرْضُ ابْلَعِي مَاءكِ وَيَا سَمَاء أَقْلِعِي وَغِيضَ الْمَاء وَقُضِيَ الأَمْرُ وَاسْتَوَتْ عَلَى الْجُودِيِّ وَقِيلَ بُعْداً لِّلْقَوْمِ الظَّالِمِينَ (44) } [هود] ، وقوله سبحانه: { وَالنَّجْمِ إِذَا هَوَى (1) مَا ضَلَّ صَاحِبُكُمْ وَمَا غَوَى (2)
وَمَا يَنطِقُ عَنِ الْهَوَى (3) إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يُوحَى (4) } [النجم] ، وقوله عز وجل: { فِي سِدْرٍ مَّخْضُودٍ (28) وَطَلْحٍ مَّنضُودٍ (29) وَظِلٍّ مَّمْدُودٍ (30) وَمَاء مَّسْكُوبٍ (31) } [الواقعة] . عرف ما ادعيناه ، من أن فصاحة القرءان وقعت على وجه انتقضت به العادة ؟!
قيل له: نحن لا ننكر أن ألفاظ هذه الآيات جزلة واقعة في أعلى طبقات الفصاحة من جهة الجزالة ، إلا أن بين أن يكون الكلام كذلك ، وبين أن تنتهي فصاحته إلى حيث تنتقض العادة بَونٌ (1) ، وهذه الآيات لا يكاد يذكرها إلا المتكلم الذي لا يتصور من أقسام الفصاحة إلا جزالة اللفظ .
وذلك لعمري قسم منها عظيم الموقع ، وإن كانت أقسام الفصاحة كثيرة متنوعة ، على ما نذكرها ونبينها بعد الفراغ من هذا الفصل ، وإنما صار هذا القسم يشترك في العلم به من خفَّتْ بضاعته في معرفة كلام العرب أو توفرت ، لأن لها حلاوة تُدرك من جهة السمع ، كما أن للألوان المخصوصة كالصفرة والخضرة ونحوهما حلاوة تدرك من جهة البصر ، وكذلك ما يختص سائر الحواس ، وليس كذلك سائر أقسام الصناعات ، لأن العلم بها مفتقر إلى العلم بطرائق العرب في منظوم كلامهم ومنثوره ، وجهات تصرفهم فيها ، وكثير من أحوال لغاتهم وعاداتهم في إيرادها .
__________
(1) البون: الفرق .
وهذه أبواب لا يستقل بمعرفتها مَن لم يكن مطبوعا عليها ، إلا أن ينال منها حظا جزيلا ، و قسما وافرا .
فإن قيل: ما تنكرون على من قال لكم: إن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قد تحدى بالقرءان ، وعلمنا ذلك من حاله ، ولم يثبت أن النظم كان مقصودا بالتحدي ، وإذا لم يثبت ذلك ، ثبت أنه لا بد من وجه يكون هو المقصود بالتحدي ، ثبت أن ذلك الوجه هو الفصاحة فقط ، فبطل قول من يقول: إن النظم مقصود بالتحدي ؟!
قيل له: لا فصل بينكم وبين من قال: لم يثبت أن الفصاحة مقصودة بالتحدي ، وإذا لم يثبت ذلك ، فكان لا بد من وجه يكون هو المقصود بالتحدي ، وعليه ثبت أن ذلك الوجه هو النظم فقط ، وذلك أن القرءان له هذا النظم المخصوص والفصاحة المخصوصة ، وقد وقع التحدي به ، وثبت عجز البشر عن الاتيان بمثله ، فلم يكن ادعاء تعلُّق العجز بأحد الأمرين أولى من ادعاء تعلقه بالآخر ، فيجب أن يقال: إنه متعلق بهما ، أو يقال: إنه لا يتعلق بواحد منهما ، ولا يصح القول بأنه لا يتعلق بواحد منهما ، لأنه لا بد من وجه به يتعلق الاعجاز ، ويكون هو المقصود بالتحدي ، فإذا ثبت ذلك ، فيجب تعلق الاعجاز بالأمرين ، وأن يكونا جميعا مقصودين بالتحدي على ما ذهبنا إليه .
على أنَّا قد عرفنا من حال كل من ادعا أنه يعارض القرءان ، أو يأتي بما يقاربه ، نحو مسيلمة ، وطليحة ، وابن المقفع ، على اختلاف
أحوالهم ، طلب الأسلوب والفصاحة معا ، ولم يكن فيهم من كان يأتي بشعر أو خطبة فيدعي أنه قد أتى بما يقاربه ، فدل ذلك على أنهم أجمعون عرفوا أن المقصود بالتحدي هو النظم والفصاحة معا . فدل ذلك على صحة ما قلناه .
على أن قوله عز وجل: { فَأْتُواْ بِسُورَةٍ مِّن مِّثْلِهِ } [البقرة: 23] ، وقوله عز وجل: { فَأْتُواْ بِعَشْرِ سُوَرٍ مِّثْلِهِ مُفْتَرَيَاتٍ } [هود: 13] ، يدل على أن النظم مقصود بالتحدي ، لأن اسم السورة لا ينطلق على الشعر ، ولا الخطبة ، ولا الرسالة ، ولا أسجاع الكهنة ، ولا المحاضرة ، وإنما ينطلق على ما له هذا النظم المخصوص .
فإذا كان كذلك ، كان قوله: { قُلْ فَأْتُواْ بِسُورَةٍ } [يونس: 38] جاريا مجرى أن يقول: فأتوا بجملة لها هذا النظم المخصوص ، فبان صحة ما ادعيناه من تعلق الاعجاز بالنطم مع الفصاحة .
فإن قيل: إذا ثبت أن هذا النظم المخصوص لم تكن العرب تعرفه ، ولا جرت عادتها باستعماله ، فمن أين ادعيتم أن اسم السورة يتناوله دون سائر أجناس الكلام ؟!
قيل له: هذا الاسم جاري مجرى الأسماء الشرعية ، لأنه لم تكن العرب تستعمله في جمل شتى من أجناس الكلام ، وإنما استُعمِلَ ذلك بعد نزول القرءان ، إلا أنه لما قال عز وجل: { بِسُورَةٍ مِّن مِّثْلِهِ } [البقرة: 23] ، وقال: { عَشْرِ سُوَرٍ مِّثْلِهِ مُفْتَرَيَاتٍ } [هود: 13] ، صح أنه يجوز استعماله فيما يجانس نظمه من الكلام .
وهذه دلالة قوية يجوز أن تعتمد ابتداء ، في بيان أن النظم مقصود بالتحدي ، وإذا ثبت ذلك ، ثبت تعلق الاعجاز بالنظم على ما قلناه .
فإن قيل: ما تنكرون على من قال لكم: إن الاعجاز تعلق بالنظم فقط ؟
قيل: قد تقدم بيان فساد قول من يقول ذلك . لأنا بيَّنا أن مثل هذا النظم لا يجوز أن يتعذر على من لا يتعذر عليه سائر أجناس النظم ، وذلك يُسقِط هذا السؤال .
ولا يصح أيضا سؤال من يسأل فيقول: إذا لم يكن النظم معجزا ، فيجب أن تكون الفصاحة هي المعجزة .
ولا سؤال من يسأل فيقول: إن الفصاحة قد انتقضت بها العادة ، فلا وجه لضم الأسلوب إليها ، لأنا قد بيَّنا أن الاعجاز بهما تعلَّق ، وأنه لا سبيل لنا إلى العلم بأن فصاحة القرءان قد بلغت إلى حد انتقضت به العادة ، وبيَّنا أن الاعجاز بهما تعلَّق - أعني النظم والفصاحة - وأن ذلك جاري مجرى العلة ذات وصفين ، في أن كل واحد من الوصفين لا يتعلق الحكم به على الانفراد .
فإن قيل: فإذا قلتم: إن النظم على الانفراد غير متعذر على البشر ، وكذلك الفصاحة على الانفراد غير متعذرة على البشر ، فكيف يصح أن تقولوا: يتعذر عليهم الجمع بينهما ؟! وهذا يؤدي إلى القول بأن الاتيان بمثل القرءان لا يتعذر على البشر !!
قيل له: معاذ الله من ذلك !! فإن القول الذي قلناه ، لا يؤدي إلى ما ذكرتم ، على ما نبينه ونوضحه .
وذلك أن الذي من أجله أن لا يتعذر النظم هو العلم الذي يحصل به ، وهو العلم بأن كل كلمة إذا وقعت عقيب أي كلمة أعقب هذا النظم ، أو غيره من نظم أجناس الكلام ، موزونه أو منثوره ، ويتعذر ما يتعذر من ذلك ، لفقد هذا العلم ، وكذلك الذي من أجله أن لا تتعذر الفصاحة هو أن يعلم أن كل كلمة إذا وقعت عقيب أي كلمة وما جرى مجراها من تبديل حرف عن حرف ، أو كلمة عن كلمة ، خرج الكلام فصيحا .
وجملة هذا العلم هي علوم ضرورية ، وإن كانت لا تحصل إلا بالممارسة ، كالعلم بالمهن والصناعات .
ثم العلم بما إذا أتى به كان فصاحة ، في الطبقة الدنيا ، أو الوسطى ، أو العليا ، في نظم مخصوص ، علم ثالث . وهو أيضا إذا حصل حصل ضرورة .
وإذا كان هذا هكذا ، لم يمتنع أن يكون الله عز وجل لم يجمع لأحد من البشر بين هذه العلوم الثلاثة .
أحدها: هو العلم بما به يكون هذا النظم واقعا في أعلى طبقات الفصاحة . وإذا لم يمتنع ذلك ، لم يمتنع أن يتعذر على جميع البشر الاتيان بمثل القرءان ، لفقد أحد العلوم الثلاثة ، وإن حصل العلمان .
يكشف هذه الجملة أنَّا نعلم أن الكاتب الذي يكتب الرسائل في أعلى طبقات الفصاحة إذا عدل عنها إلى الشعر ، ربما لم يمكنه أن يأتي به في أعلى طبقات الفصاحة ، وكذلك الشاعر المفلق ربما أمكنه في الشعر أن يرتقي إلى طبقات الفصاحة ، فإذا أخذ يكتب الرسائل هبط عن مرتقاه .
وعلم أن هذا الخطيب المصقع ، أو المحاور الفصيح ، قد يعدل الواحد منهما عما هو نهاية فيه إلى غيره ، فلا يمكنه بلوغ النهاية فيه .
فوضح بما ذكرنا أن العلم بإيقاع الفصاحة في نظم مخصوص ، علم ثالث غير العلم بالنظم ، والعلم بالفصاحة .
فلم يمتنع أن يتعذر ما ذكرنا ، لفقد ذلك العلم . وهذه العلوم هي التي يعبر عنها بالطبع ، فيقال: فلان مطبوع في كذا ، غير مطبوع في كذا . والمرجع به إلى العلوم التي ذكرناها .
يكشف ذلك أنا نعرف من حال الخليل والأصمعي ، ومن جرى مجراهما ، أنهم كانوا يعرفون الفصاحة ولم تتعذر عليهم . وكانوا يعرفون وزن الشعر ولم يكن يتعذر . ومع هذا نعلم أن واحدا منهم لم يكن يمكنه أن يأتي بمثل أشعار امرئ القيس ، والنابغة ، والأعشى ، ومَن دونهم من فحول الشعراء ، وليس السبب فيه إلا ما ذكرناه ، ولهذا تجد من يتفاصح (1) في كثير من أجناس النظم إذا طلب نظم القرءان ، سقط
__________
(1) يعني: يدعي الفصاحة ويحاولها .
دون غرضه ، وهبط دون مرتقاه ، وليس ذلك إلا أنه يفقد العلم الذي معه يصح إيقاع الفصاحة في هذا النظم المخصوص .
فإن قيل: ما تنكرون على من قال لكم: إذا كان هذا النظم لم يكن عُرِفَ قبل النبي صلى الله عليه وآله وسلم ، فما أنكرتم أن يكون معجزا على الانفراد ، لأنه بالاتيان به يكون ناقضا للعادة ؟
قيل له: ليس معنى قولنا في المعجز: إنه ناقض للعادة ، أنه أتى به من غير أن كان مثله قبل ذلك الوقت ، لأن السبق إلى الشيء لا يوجب كونه معجزا . ألا ترى أن كثيرا من الصناعات قد ابتدئت ، ووقع السبق إليها من أقوام ، ولا يصح ادعاء المعجز في شيء [منها] .
وإنما نريد بقولنا: إنه ناقض للعادة ، أن مثله يتعذر على جميع البشر . والعادة المنقوضة استمرار الحال في تعذره على ما قلنا .
فأما قول من يقول: إن الاعجاز في الصرف في جملة القرءان ، فهو عندي بعيد جدا ، لأن الصرف عن الشيء يمكن أن يُدَّعا ، إذا عُلِمَ أنه مقدور عليه ، غير متعذر وجود مثله ، ممن ادعا أنه مصروف عنه .
وليس هاهنا ما يبين أن الاتيان بمثل القرءان كان ممكنا للعرب غير متعذر عليهم ، بل قد ذهبنا على خلاف ذلك ، فبان سقوط من ادعاه .
وأيضا القول بذلك يؤدي إلى أن يُعرف الفرق بين ما يتعذر على الناس ، وبين ما لا يتعذر ، لأنه لو جاز لهم أن يقولوا: إن العرب صُرِفوا عن الاتيان بمثل القرءان ، وإن لم يثبت تَأَتِيِّه منهم ، لجاز أن
يقال: إن الناس صُرِفوا عن فعل الأجسام والألوان والحياة والقدرة ، وإن لم يثبت أن شيئا منه متأَتٍّ منهم ، وهذا واضح السقوط . وكذلك القول في الصرف عن القرآن .
وأما سؤالُ مَن يسأل من أهل هذه المقالة ، فيقول: إذا كان الانسان قادراً على أن يقول: { الْحَمْدُ للّهِ } [الفاتحة: 2] ويتأتى منه أن يقول: { رَبِّ الْعَالَمِينَ (2) } [الفاتحة] ، وغير متعذر عليه أن يأتي على جميع القرءان ، فما الذي يمنعه عن الاتيان بمثله ؟! ومتى يحصل التعذر ، أعند أول كلمة ، أو عند الثانية ، أو الثالثة ، أو ما بعدها ؟! وذلك مما لا يصح ، فثبت أن الاعجاز هو الصرف . فإنه من ركيك السؤال ، لأنا قد بيَّنا فيما تقدم أن إنشاء الخطبة ، أو الشعر ، أو الرسالة ، أو نظم القرءان ، في أعلى طبقات الفصاحة ، يحتاج إلى علم زائد على العلم بالنظم والفصاحة ، وذلك العلم الزائد هو الذي يعبر عنه بالطبع ، فلا وجه لهذا السؤال .
على أنا نوضح سقوطه ، بأن نقول لهذا السائل: أليس قد علمت أن كل أحد ممن يعرف لغة العرب يمكنه أن يقول: (( فإنك )) ، ويمكنه أن يقول: (( كالليل )) ، ويمكنه أن يقول: (( الذي )) ، ولا يتعذر عليه أن يقول: (( هو مدركي )) ، ويتأتى منه أن يقول: (( وإن خلت )) ، ويتأتى منه أن يقول: (( أن المنتأى )) ، ولا يتعذر عليه أن يقول: (( عنك واسع )) .
أفترى أن كل من يعرف لغة العرب ، يمكنه أن يأتي بمثل قول النابغة:
فإنك كالليل الذي هو مدركي ... وإن خلت أن المنتأى عنك أوسع (1)
فيقال له: متى يحصل المتعذر عليه عند أول لفظة ، أو عند الثانية ، أو عند الثالثة ، أو بعدها ؟! ثم يلزم ذلك في جميع أشعار العرب وخطبهم ، وهذا فساد أظهر من أن يحتاج إلى الاطناب ، ولا بد لهذا السائل من الرجوع إلى ما تقدم من جوابنا .
ولهذا قالوا: إن الشاعر المفلق: هو الذي ترمي (2) قريحته بالبيت بعد البيت .
والمتوسط: من يأتي بالمصراع بعد المصراع .
والمتكلف: من يأتي بالكلمة بعد الكلمة ، حتى يؤلفها شعرا .
وليس الفاصل بين الشاعر الأول والثاني أو الثالث إلا العلوم التي أشرنا إليها ، المعبَّر عنها بالطبع ، وهكذا أحوال الخطباء والمترسلين ، منهم (3) من يستجيب طبعه إلى أن يأتي بالفصول بعد الفصول ، والأسجاع بعد الأسجاع ، يكاد يتسلسل عليه ماء العذوبة ، ويبعد عن التكلف والتعسف ، ومنهم من يؤلف الكلمة إلى الكلمة ، والسجع إلى
__________
(1) البيت للنابغة الذبياني ، انظر ديوانه.
(2) في المخطوط: يرمي . ولعل الصواب ما أثبت .
(3) في المخطوط: عنهم منهم . والصواب ما أثبت .
السجع ، متعمدا أن تنادي على نفسها بأنها متكلفة متعسفة ، وليس الفاصل بينهم إلا الطبع .
وعلى أن الاعجاز لو كان من جهة الصرف ، لكان الصرف هو المعجز ، ولم يكن القرءان معجزا . وهذا خلاف ما يُعلم من دين المسلمين ، لأن المسلمين مجمعون على أن الله عز وجل جعل القرءان معجزا لنبيه صلى الله عليه وآله وسلم .
ويدل على ما قلناه أيضا ، من كون القرءان معجزا في نفسه ، ما حكى الله عز وجل حيث يقول: { ثُمَّ نَظَرَ (21) ثُمَّ عَبَسَ وَبَسَرَ (22) ثُمَّ أَدْبَرَ وَاسْتَكْبَرَ (23) فَقَالَ إِنْ هَذَا إِلَّا سِحْرٌ يُؤْثَرُ (24) } [المدثر] .
وما ذكر من اجتماع أبي جهل ، وعتبة بن ربيعة ، في ملأ من قريش يتعجبون من القرءان حين قالوا: نحتاج إلى رجل يعرف الشعر ، ويعرف كلام الكهنة .
فقال عتبة: أنا لذلك ، ومضى إلى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فتلا عليه قول الله عز وجل: { حم (1) تَنزِيلٌ مِّنَ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ (2) } [فصلت] ، حتى مر في السورة وانتهى إلى قوله: { فَإِنْ أَعْرَضُوا فَقُلْ أَنذَرْتُكُمْ صَاعِقَةً مِّثْلَ صَاعِقَةِ عَادٍ وَثَمُودَ (13) } [فصلت] ، فقام مرعوبا مدهوشا .
وقال: سمعت الشعر ، وسمعت كلام الكهنة ، وما هذا شيئا من ذلك )) (1) ، وإلى سائر ما ذكر من غيرهم في أمر القرءان ، فلو كان
__________
(1) سيرة ابن هشام1/314 .
القرءان أمرا لا يتعذر مثله على العرب وإنما صرفوا ، كان لا يتعجب منه المتعجب ، ولا يحار فيه الحائر ، وإنما كان يكون التعجب والحيرة في صرفهم .
ألا ترى أن نبياً لو قال: معجزتي أن أكلمكم اليوم إلى المساء بما تكرهون ، فلا يمكن أحد (1) منكم أن يجيبني ، لأنكم تصرفون عنه ، كان الاعجاز في صرفهم هو الذي يكون أعجوبة .
وقد يحار من يحار دون مخاطبته المعهودة لهم ، كذلك يجب أن يكون حال القرءان والصرف على أوضاعهم لو كانت صحيحة ، وفي جري الأحوال على خلاف ذلك دلالة على فساد قولهم .
فأما السور القصار ، فليس يبعد عندي أن يقال: إنهم صرفوا عن الاتيان بمثلها ، إذ ليس يظهر لنا في نظمها وفصاحتها ما يمكن أن نقول: إن الاعجاز تعلَّق (2) فيه ، وهذا فيه نظر . والله أسأل حسن التوفيق .
ونحن نبين الآن فصاحة القرءان وشرف موقعه ، ومصادفة نظمه أعلى (3) طبقات الفصاحة ، إذ به يتم ما اعتمدناه وبنينا كلامنا عليه . والله الموفق والمعين .
هذا ولست أطمع في أن أذكر جميع مزاياه وعجائبه ، وما اختُص به من دقائق المعاني ، وعلو رتبته في الفصاحة ، ومباينته عامة كلام
__________
(1) في المخطوط: أحدا . والصواب ما أثبت .
(2) في المخطوط: يعلق . ولعل الصواب ما أثبت .
(3) في المخطوط: على . ولعل الصواب ما أثبت .
العرب ، مما يوجب شرفه ، ويدل على بلوغه ذروة البلاغة ، وغارب (1) الفصاحة ، التي أذكر [منها] يسيرا من كثير ، وغيضا من فيض ، على ما يحضرني في الحال ، منبها به على ما سواه ، مستعينا بالله عز وجل ، ومستمدا من فضله ، وراغبا إليه عز وجل أن يكتبه في صحفنا ، إذا الصحف نشرت ، وإذا السماء كشطت ، ويُبِيِّض وجوهنا يوم تبيض وجوه ، وتسود وجوه . حسبي الله وكفى .
- - -
__________
(1) الغارب: من الدابة ما بين السنام إلى العنق ، منه: حبلك على غاربك .
الكلام في بيان أن القرءان في أعلى طبقات الفصاحة
اعلم أن هذا لا يتم إلا بأن نبين جُملا من أقسام الفصاحة ، ثم نبين أن نظم القرءان مشتمل عليها ، ونبين مزايا القرءان فيها ، ونُلحق بذلك ما يكشف عن غرضنا في هذا الباب كشفاً يوضحه ، ولا يبقى معه لمرتادِ الحق شبهة ، بعون الله عز وجل ، وحسن توفيقه .
اعلم أن أصل الفصاحة هو الإبانة عن المعنى المقصود بحسن البيان . وهذا معنى ما حكى الله عز وجل عن موسى صلى الله عليه: { وَأَخِي هَارُونُ هُوَ أَفْصَحُ مِنِّي لِسَانًا } [القصص: 34] ، أي: أحسن بيانا .
فمن أقسام الفصاحة أن يكون الكلام مركبا من اللغات الفاشية في العرب ، التي لم يسترذلها أحد منهم ، نحو (( عنعنة تميم )) ، و (( كشكشة ربيعة )) ، وذلك أن قوما من تميم تجعل الهمزة المفتوحة عينا ، وأنشد الخليل فيه:
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ... وجيها موشك عن يصدع الكبدا (1)
أراد: أن يصدع .
وقوم من ربيعة يقولون للمرأة: عليش ، وإليش ، وبش . يريدون: عليكِ ، وإليكِ ، وبكِ . فيجعلون الكاف شينا ، وينشدون:
فعيناش عيناها وجيدش جيدها ... سوى أن عظم الساق منش دقيق (2)
__________
(1) لم أقف عليه .
(2) يريد: ... فعيناك عيناها وجيدك جيدها
1@سوى أن عظم الساق منك دقيق
والبيت لم أقف عليه .
قال الخليل: مَن ترك عنعنة تميم ، وكشكشة ربيعة ، فهو من الفصحاء (1) .
ومن ذلك ما حكي عن قوم من العرب أنهم يكسرون النون ، التي تدخل على الفعل المستقبل فيقول: نِذهب (2) ، ونِخرج .
ومن ذلك جر الاسم لمجاورة المجرور ، وإن لم يكن ذلك حقه ، كقولهم: جحرُ ضبٍ خربٍ ـ ولذلك ذهب نُحاة البصرة إلى أنه لا يجوز أن يتأول قول الله عز وجل: { وَامْسَحُواْ بِرُؤُوسِكُمْ وَأَرْجُلَكُمْ } [المائدة: 6] ، إذا قُرئ بجر اللام ، فيقال: إن ذلك لمجاورة المجرور .
فأصل الفصاحة أن يَسْلم الكلام من ذلك وأشباهه ، وقد سَلِمَ كل القرءان من أوله إلى آخره . فهذا باب من الفصاحة .
ولهذا قرأ أبو عمر: { إِنْ هَذَانِ لَسَاحِرَانِ } [مريم: 63] (3) ، ولم يتأوله على لغة من يجعل المنصوب للألف ، فيقول: (( خذ رجلاها (4) واخلع نعلاها )) .
ومثل ذلك:
إن أباها وأبا أباها ... قد بلغا في المجد غايتاها (5)
__________
(1) في المخطوط: فهم الفصحاء . ولعل الصواب ما أثبت .
(2) في المخطوط: ونذهب . والصواب ما أثبت .
(3) لفظ الآية هكذا: { قَالُوا إِنْ هَذَانِ لَسَاحِرَانِ . . . } .
(4) في المخطوط: خدر جلاها . ولعلها مصحفة ، والصواب ما أثبت .
(5) البيت لابن الوردي . وقبله بيت واحد فقط . ... زوجة مجد الدين والدها
1@في أخذ عرض المجد أشبهاها
انظر ديوانه .
وممن (1) قرأ بالألف من حمله على أنَّ (( أَنْ )) بمعنى (( نعم )) ، وكره تأويله على الوجه الأول لما قلناه .
ومن أقسام الفصاحة: أن يكون الكلام مؤلفا من لغات ترتفع عن المبتذل السوقي ، وتنحط عن المستفل الحُوشي (2) . ولهذا نجد أشعار الفصحاء المجيدين ، نحو امرئ القيس ، والنابغة ، وزهير ، والأعشى ، جارية على هذه الطريقة ، لا يكاد يوجد فيها الحوشي المستفل ، إلا أن تتفق ندرا ، وإنما يكثر ذلك في كلام الأجلاف من العرب والمتكلفين ، نحو الشماخ ، ورؤبة ، ومن نحَّا نحوهما .
فأما السوقي (3) المبتذل ، فَقَلَّ ما يتفق في كلام أهل البادية ، وإنما يكثر ذلك في كلام الموَلَّدين (4) وأشعارهم ، والقرءان من أوله إلى آخره مؤلف من النمط المختار في هذا الباب .
فهذان القسمان من الفصاحة قد استمرا في جميع القرءان بحمد الله ومنِّه .
__________
(1) في المخطوط: وفيمن . ولعل الصواب ما أثبت .
(2) المستفل: الهابط ، والحوشي: الغامض من الكلام .
(3) السوقي: نسبة إلى السُّوقة ، وهي الرعية ، سميت بذلك لأن الملوك تسوقها فتنساق .
(4) المولدون: المولودون بين العرب وليسوا بعرب .
ومن أقسام الفصاحة: جزالة اللفظ ، وهي موجودة في جلِّ القرءان وجمهوره ، وإن لم يوجد في جميعه - كما قلناه - في القسمين الأولين ، لأنه في قوة الطويل الذي يصرف على معاني مختلفة ، ومقاصد متباينة ، وأغراض متمايزة ، كالأوامر والنواهي ، والزواجر والمواعظ ، والوعد والوعيد ، والقصص والمثل ، أن يكون جميعه مؤلفا من ألفاظ جزلة ، لأن جزالته تكون لتأليفه من حروف مخصوصة ، والكلام مبني من الأسماء والأفعال والحروف ، وفي الكثير من الأسماء والأفعال والحروف ما لم يؤلف من الحروف التي تقتضي الجزالة ، والفصيح إذا صار إلى تلك الأسماء والأفعال والحروف ، فلا بد من إيرادها على ما هي عليه ، إذا كان متكلما بكلام العرب .
ولهذا لا يمكن في شيء من أشعار فحول الشعراء ، وكلام البلغاء ، أن يكون من أوله إلى آخره مؤلفا من ألفاظ جزلة .
فأما العذوبة فهي أمكن ، لأنها تكون بالتلاؤم ، وأن لا تكون الكلمة مؤلفة من حروف متنافرة ، وذلك أمكن من الجزالة ، وقد يكون ذلك بتلاؤم الحركات والسكنات ، كما يكون بتلاؤم الحروف ، وأما مواضعها من القرءان فأكثر من أن يأتي عليها الاحصاء والعد ، ونحن نذكر منها مواضع ننبه بها على ما سواها .
من ذلك قوله عز وجل: { كَمَثَلِ الَّذِي اسْتَوْقَدَ نَاراً فَلَمَّا أَضَاءتْ مَا حَوْلَهُ ذَهَبَ اللّهُ بِنُورِهِمْ وَتَرَكَهُمْ فِي ظُلُمَاتٍ لاَّ يُبْصِرُونَ (17) } [البقرة] .
وقوله: { يَكَادُ الْبَرْقُ يَخْطَفُ أَبْصَارَهُمْ كُلَّمَا أَضَاء لَهُم مَّشَوْاْ فِيهِ وَإِذَا أَظْلَمَ عَلَيْهِمْ قَامُواْ } [البقرة: 20] ، وفي هذه الآية من وجوه الفصاحة سوى الجزالة ما نبينه في موضعه .
وكقوله: { الْحَجُّ أَشْهُرٌ مَّعْلُومَاتٌ فَمَن فَرَضَ فِيهِنَّ الْحَجَّ فَلاَ رَفَثَ وَلاَ فُسُوقَ وَلاَ جِدَالَ فِي الْحَجِّ } [البقرة: 197] .
وكقوله عز وجل: { وَلَكُمْ فِي الْقِصَاصِ حَيَاةٌ } [البقرة: 179] ، وقوله: { وَالْحُرُمَاتُ قِصَاصٌ } [البقرة: 194] .
وقوله عز وجل: { فَإِنِ انتَهَواْ فَلاَ عُدْوَانَ إِلاَّ عَلَى الظَّالِمِينَ (193) } [البقرة] ، وقول عز وجل: { وَدَمَّرْنَا مَا كَانَ يَصْنَعُ فِرْعَوْنُ وَقَوْمُهُ وَمَا كَانُواْ يَعْرِشُونَ (137) } [الأعراف] ، وقوله: { وَجَاوَزْنَا بِبَنِي إِسْرَآئِيلَ الْبَحْرَ فَأَتَوْاْ عَلَى قَوْمٍ يَعْكُفُونَ عَلَى أَصْنَامٍ لَّهُمْ قَالُواْ يَا مُوسَى اجْعَل لَّنَا إِلَهًا كَمَا لَهُمْ آلِهَةٌ قَالَ إِنَّكُمْ قَوْمٌ تَجْهَلُونَ (138) } [الأعراف] .
وكقوله: { خُذِ الْعَفْوَ وَأْمُرْ بِالْعُرْفِ وَأَعْرِضْ عَنِ الْجَاهِلِينَ (199) } [الأعراف] .
وقوله عز وجل: { فَانسَلَخَ مِنْهَا فَأَتْبَعَهُ الشَّيْطَانُ فَكَانَ مِنَ الْغَاوِينَ (175) } [الأعراف] .
وكقوله عز وجل: { كِتَابٌ أُحْكِمَتْ آيَاتُهُ ثُمَّ فُصِّلَتْ مِن لَّدُنْ حَكِيمٍ خَبِيرٍ (1) } [هود] ، وهذه السورة أكثر ألفاظها من ألفاظ الجزالة مع العذوبة . وفيها: { وَقِيلَ يَا أَرْضُ ابْلَعِي مَاءكِ وَيَا سَمَاء
أَقْلِعِي وَغِيضَ الْمَاء وَقُضِيَ الأَمْرُ } [هود: 44] ، وفيها: { ذَلِكَ مِنْ أَنبَاء الْقُرَى نَقُصُّهُ عَلَيْكَ مِنْهَا قَآئِمٌ وَحَصِيدٌ (100) وَمَا ظَلَمْنَاهُمْ وَلَكِن ظَلَمُواْ أَنفُسَهُمْ } [هود] .
ومن ذلك عامة سورة القصص وهو من الفصاحة العجيبة ، لأن أول هذه السورة في اقتصاص أحوال موسى صلى الله عليه من مولده إلى مبعثه إلى قصده فرعون ، مبلِّغاً ما أرسل به إليه ، وذلك مما يصعب جدا في اقتصاص أحوال بعينها ، لأنه لا بد من ضعف يَعرِض فيما جرى مجراه ، فإذا أردت أن تتحقق ذلك ، فتأمل كلام الفصحاء إذا قصدوا هذا القصد .
ومن ذلك عامة { حم } السجدة . تأملها تجدها على ما قلناه .
ومن ذلك: { وَالنَّجْمِ إِذَا هَوَى (1) مَا ضَلَّ صَاحِبُكُمْ وَمَا غَوَى (2) } [النجم] ، وما بعدها من الآيات .
ومن ذلك قوله عز وجل: { أَمَّن جَعَلَ الْأَرْضَ قَرَارًا وَجَعَلَ خِلَالَهَا أَنْهَارًا وَجَعَلَ لَهَا رَوَاسِيَ وَجَعَلَ بَيْنَ الْبَحْرَيْنِ حَاجِزًا أَإِلَهٌ مَّعَ اللَّهِ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لَا يَعْلَمُونَ (61) } [النمل] .
ومن ذلك في السور القصار قوله: { أَلَمْ تَرَ كَيْفَ فَعَلَ رَبُّكَ بِأَصْحَابِ الْفِيلِ (1) أَلَمْ يَجْعَلْ كَيْدَهُمْ فِي تَضْلِيلٍ (2) وَأَرْسَلَ عَلَيْهِمْ طَيْرًا أَبَابِيلَ (3) تَرْمِيهِم بِحِجَارَةٍ مِّن سِجِّيلٍ (4) فَجَعَلَهُمْ كَعَصْفٍ مَّأْكُولٍ (5) } [الفيل] .
وقوله عز وجل: { وَالْعَادِيَاتِ ضَبْحًا (1) فَالْمُورِيَاتِ قَدْحًا (2) فَالْمُغِيرَاتِ صُبْحًا (3) فَأَثَرْنَ بِهِ نَقْعًا (4) فَوَسَطْنَ بِهِ جَمْعًا (5) } [العاديات] .
وتتبُّعُ هذا مما يتعذر ، فإن أكثر القرءان على هذا ، ونحن إذا بينا سائر أقسام الفصاحة ننبه (1) في أثنائها أيضا على ما فيها من الجزالة ، وإن هذا باب عام فيه . وإن كان بعض الألفاظ يزيد على بعض في (2) هذا المعنى ، أعني: في الجزالة والعذوبة .
ومن أقسام الفصاحة: الاستعارات والتشبيهات ، وإحداهما قريبة من الأخرى ، وإن كان بينهما فصل ، وذلك أن التشبيه هو أن يذكر الشيء باسمه ، ويشبهه بغيره ، كقولك: زيد مثل الأسد شجاعة ، وكالريح جودا ، وكالبدر حسنا .
والاستعارة أن تنقل إليه اسم الشيء المشبه به ، وذلك كقولك: حمار ، إذا وصفته بالبلادة ، أو كلب ، إذا وصفته بالخساسة . والاستعارات والتشبيهات في القرءان كثيرة حسنة ، واقعة موقعها لحسنها ، وشرف موضعها .
ونحن نذكر منها جملا ننبه بها على ما سواها ، لأن استيفاءها مما يطول ويتعذر .
__________
(1) في المخطوط: نتيه . ولعل الصواب ما أثبت .
(2) في المخطوط: وفي . والصواب ما أثبت .
فمن ذلك قوله عز وجل: { مَثَلُهُمْ كَمَثَلِ الَّذِي اسْتَوْقَدَ نَاراً فَلَمَّا أَضَاءتْ مَا حَوْلَهُ ذَهَبَ اللّهُ بِنُورِهِمْ وَتَرَكَهُمْ فِي ظُلُمَاتٍ لاَّ يُبْصِرُونَ (17) } [البقرة] ، فشبَّه المنافقين الذين (1) أظهروا الإيمان ، وانتفعوا به بين المسلمين ، بمن استوقد نارا ، حتى أضاءت ما حوله ، وشبَّه أحوالهم عند الموت وبعد الموت ، في أنهم لا ينتفعون بما أظهروه من الإيمان ، ثم { ذَهَبَ اللّهُ بِنُورِهِمْ } حتى بقوا في { ظُلُمَاتٍ لاَّ يُبْصِرُونَ (17) } ، ثم استعار لهم عز وجل اسم الأصم والأبكم ، وضم الأعمى فقال: { صُمٌّ بُكْمٌ عُمْيٌ فَهُمْ لاَ يَرْجِعُونَ (18) } [البقرة] ، فهم في إعراضهم عن استماع الحق بمنزلة الصُّم الذين لا يسمعون ، وفي تركهم النطق بالحق - على ما أمرهم الله عز وجل ودعاهم إليه - بمنزلة الخرس الذين لا ينطقون .
ثم قال عز وجل: { أَوْ كَصَيِّبٍ مِّنَ السَّمَاء فِيهِ ظُلُمَاتٌ وَرَعْدٌ وَبَرْقٌ . . . } [البقرة: 19] إلى آخر الآية ، فشبههم في حيرتهم وتبلدهم ، واضطراب أمورهم ، وحرج صدورهم ، بمن يكون في ظلمات ورعد وبرق ، ثم ذكر هذا المعنى بقوله عز وجل: { وَمَن يُرِدْ أَن يُضِلَّهُ يَجْعَلْ صَدْرَهُ ضَيِّقًا حَرَجًا كَأَنَّمَا يَصَّعَّدُ فِي السَّمَاء } [الأنعام: 125] ، ثم زاد في وصف أحوالهم ، فقال: { يَكَادُ الْبَرْقُ يَخْطَفُ أَبْصَارَهُمْ كُلَّمَا أَضَاء لَهُم مَّشَوْاْ فِيهِ وَإِذَا أَظْلَمَ عَلَيْهِمْ قَامُواْ وَلَوْ شَاء اللّهُ لَذَهَبَ } [البقرة: 20] ، ثم رد عز وجل هذا المعنى - أعني تأثير البرق في الأبصار - في غير هذه الألفاظ ، فقال: { يَكَادُ سَنَا بَرْقِهِ يَذْهَبُ بِالْأَبْصَارِ (43) } [النور] ، وهذا من الفصاحة العجيبة والبلاغة التامة ، أن يَرِد معنى واحد (2) بألفاظ مختلفة تجمعها الفصاحة .
ثم عاد عز وجل إلى ذكر من بدأ بذكرهم ، فقال: { واللّهُ مُحِيطٌ بِالْكافِرِينَ (19) } [البقرة] ، وهذا قسم من الفصاحة ، وهو أن يجري ذكر شيء ثم يتجاوز إلى ذكر غيره ، ثم يعطفه عليه ويعاد ذكره - أعني المذكور أولا - مثل قول جرير:
متى كان الخيام بذي طلوح ... سقيت الغيث أيتها الخيام (3)
فجمعت هذه الآية أنواع الفصاحة ، منها الجزالة في اللفظ ، مع التشبيهات والاستعارة الواقعة ، والعطف آخر الكلام على أوله .
ومن الأمثال الحسنة والتشبيهات الواقعة ، ما ذكره عز وجل من قوله عز وجل: { مَّثَلُ الَّذِينَ يُنفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ فِي سَبِيلِ اللّهِ كَمَثَلِ حَبَّةٍ أَنبَتَتْ سَبْعَ سَنَابِلَ فِي كُلِّ سُنبُلَةٍ مِّئَةُ حَبَّةٍ . . . إلى قوله: يُبَيِّنُ اللّهُ لَكُمُ الآيَاتِ لَعَلَّكُمْ تَتَفَكَّرُونَ (266) } [البقرة] (4) ، فشبَّه عز وجل من
__________
(1) في المخطوط: الذي . والصواب ما أثبت .
(2) في المخطوط: واحدا . ولعل الصواب ما أثبت .
(3) البيت مطلع قصيدة مكونة من ثمانية وأربعين بيتا ، لجرير . انظر ديوانه .
(4) كمال الآيات: { . . . الَّذِينَ يُنفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ فِي سَبِيلِ اللّهِ ثُمَّ لاَ يُتْبِعُونَ مَا أَنفَقُواُ مَنًّا وَلاَ أَذًى لَّهُمْ أَجْرُهُمْ عِندَ رَبِّهِمْ وَلاَ خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلاَ هُمْ يَحْزَنُونَ (262) قَوْلٌ مَّعْرُوفٌ وَمَغْفِرَةٌ خَيْرٌ مِّن صَدَقَةٍ يَتْبَعُهَآ أَذًى وَاللّهُ غَنِيٌّ حَلِيمٌ (263) يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ لاَ تُبْطِلُواْ صَدَقَاتِكُم بِالْمَنِّ وَالأذَى كَالَّذِي يُنفِقُ مَالَهُ رِئَاء النَّاسِ وَلاَ يُؤْمِنُ بِاللّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ فَمَثَلُهُ كَمَثَلِ صَفْوَانٍ عَلَيْهِ تُرَابٌ فَأَصَابَهُ وَابِلٌ فَتَرَكَهُ صَلْدًا لاَّ يَقْدِرُونَ عَلَى شَيْءٍ مِّمَّا كَسَبُواْ وَاللّهُ لاَ يَهْدِي الْقَوْمَ الْكَافِرِينَ (264) وَمَثَلُ الَّذِينَ يُنفِقُونَ أَمْوَالَهُمُ ابْتِغَاء مَرْضَاتِ اللّهِ وَتَثْبِيتًا مِّنْ أَنفُسِهِمْ كَمَثَلِ جَنَّةٍ بِرَبْوَةٍ أَصَابَهَا وَابِلٌ فَآتَتْ أُكُلَهَا ضِعْفَيْنِ فَإِن لَّمْ يُصِبْهَا وَابِلٌ فَطَلٌّ وَاللّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ (265) أَيَوَدُّ أَحَدُكُمْ أَن تَكُونَ لَهُ جَنَّةٌ مِّن نَّخِيلٍ وَأَعْنَابٍ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الأَنْهَارُ لَهُ فِيهَا مِن كُلِّ الثَّمَرَاتِ وَأَصَابَهُ الْكِبَرُ وَلَهُ ذُرِّيَّةٌ ضُعَفَاء فَأَصَابَهَا إِعْصَارٌ فِيهِ نَارٌ فَاحْتَرَقَتْ كَذَلِكَ . . . } .
أنفقوا ابتغاءً لوجه الله ، وطلباً لثوابه الرادع (1) ، بما يحصل لهم من الربح بحبة ، وبمن له جنة بربوة ، آتت أكلها ضعفين .
وشبَّه من أحبط ثواب انفاقه بطلب الرياء والسمعة ، بصفوان عليه تراب إذا أصابه الوابل ، وبمن له جنة وله ذرية ضعفاء ، فأصابها إعصار فيه نار فاحترقت . وكلها تشبيهات وأمثال ، واقعة بألفاظ جزلة .
ومن الاستعارة الحسنة قوله عز وجل: { وَاخْفِضْ لَهُمَا جَنَاحَ الذُّلِّ مِنَ الرَّحْمَةِ } [الإسراء: 24] ، وقوله: { وَاخْفِضْ جَنَاحَكَ لِمَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ (215) } [الشعراء] ، فجمعت الآية بين الاستعارة (2) الحسنة ، والجزالة البالغة ، والعذوبة اللطيفة . وأخذ هذا المعنى الكميت فقال:
خفضت لهم مني جناحي مودة ... إلى كنف عطفاه أهل ومرحب (3)
فأخذ اللفظ والمعنى ، ولكن لم يرزق تلك العذوبة الصافية ، وذلك الماء المتسلسل ، على أن هذه اللفظة في غرة هذا البيت مع ما بها ، والباقي كما ترى (4) .
__________
(1) كذا في المخطوط .
(2) في المخطوط: فجمع بين الآية الاستعارة . ولعل الصواب ما أثبت .
(3) البيت من قصيدة للكميت الأسدي ، مطلعها: ... طربت وما شوقا إلى البيض أطرب
1@ . . .
(4) في المخطوط: يرى . ولعل الصواب ما أثبت .
ومن الاستعارة الحسنة العذبة مع الجزالة قوله عز وجل: { وَاشْتَعَلَ الرَّأْسُ شَيْبًا } [مريم: 4] ، فاستعار للبياض اسم الاشتعال ، مصبوبا في قالبه ، مقصورا عليه ، وهذا من الفصاحة البالغة .
ومن ذلك قوله عز وجل: { اللَّهُ نُورُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ . . . } [النور: 35] إلى آخر الآية ، فسمى نفسه باسم: النور ، لَمَّا كان عز وجل هو خالق النور ومنشؤه ، مع ما فيه من النفع العظيم لأهل السماوات والأرض ، وهذا من الاستعارة الحسنة ، ومن تسمية الفاعل بفعله . ومنه قول الشاعر:
ترتع ما رتعت حتى إذا ادكرت ... فإنما هي إقبال وإدبار (1)
وعلى هذا تَأَوَّل مَن قرأ: إنه عمَلٌ غير صالح - برفع اللام وفتح الميم - ثم شبَّه نوره بالمصباح ، فقال: { مَثَلُ نُورِهِ كَمِشْكَاةٍ فِيهَا مِصْبَاحٌ الْمِصْبَاحُ فِي زُجَاجَةٍ } [النور: 35] ، ثم شبَّه الزجاجة بالكوكب ، فقال: { الزُّجَاجَةُ كَأَنَّهَا كَوْكَبٌ دُرِّيٌّ } ، وهو أضوأ الكواكب ، ثم عاد إلى ذكر المصباح ، وهذا يسمى الالتفات ، فقال: { يُوقَدُ مِن شَجَرَةٍ مُّبَارَكَةٍ زَيْتُونِةٍ . . . إلى قوله: يَهْدِي اللَّهُ لِنُورِهِ مَن يَشَاء } ، فعاد إلى ذكر النور ، وهذا أيضا مما يسمى: الالتفات ، وهو
__________
(1) البيت للخنساء من قصيدة ترثي بها أخاها صخرا . ورد في المخطوط هكذا: تراعى إذا غفلت . مصحفة .
أن يجري ذكر شيء ثم يتجاوزه إلى غيره ، ثم يذكر ثانياً ، كما قال جرير:
متى كان الخيام بذي طلوح ... سقيت الغيث أيتها الخيام (1)
فجمعت هذه الآيات وجوها من الفصاحة ، منها جزالة اللفظ ، ومنها الاستعارة ، ومنها تشبيه بعد تشبيه ، ومنها الالتفات بعد الالتفات .
ومن التشبيه الواقع قوله عز وجل بعد هذه الآية: { وَالَّذِينَ كَفَرُوا أَعْمَالُهُمْ كَسَرَابٍ بِقِيعَةٍ يَحْسَبُهُ الظَّمْآنُ مَاء حَتَّى إِذَا جَاءهُ لَمْ يَجِدْهُ شَيْئًا وَوَجَدَ اللَّهَ عِندَهُ فَوَفَّاهُ حِسَابَهُ } [النور: 39] . لما كانت أعمالهم محبطة لا نفع فيها في الآخرة ، شبهها بالسراب الذي لا نفع فيه ، ولأنه مما يظن الناظر أنه ماء ، وكذلك الكافر لما يظن أن له نفعا في عمله ، شبهه أيضا به ، فهذان وجهان من التشبيه . وفيه تشبيه ثالث وهو انكشاف حال كل واحد منهما عن أنه لا نفع فيه لراجيه . وفيه تشبيه آخر وهو تشبيه الكافر بالظمآن ، وتشبيه ظنه بظنه ، وتشبيه خيبته بخيبته عند شدة حاجته إليه ، و قوة تعويله عليه ، فقد جمعت الآية هذه الوجوه من التشبيهات مع جزالة اللفظ ، وحسن المعنى ، وقد عُدَّ من محاسن امرئ القيس أنه جمع بين تشبيهين في بيت واحد ، حيث يقول:
كأن قلوب الطير رطبا ويابسا ... لدى وكرها العناب والحشف البالي
__________
(1) سبق تخريجه .
ومن التشبيه الحسن في هذا المعنى قوله: { مَّثَلُ الَّذِينَ كَفَرُواْ بِرَبِّهِمْ أَعْمَالُهُمْ كَرَمَادٍ اشْتَدَّتْ بِهِ الرِّيحُ فِي يَوْمٍ عَاصِفٍ } [إبراهيم: 18] .
ومن الاستعارة في هذا المعنى: { وَقَدِمْنَا إِلَى مَا عَمِلُوا مِنْ عَمَلٍ فَجَعَلْنَاهُ هَبَاء مَّنثُورًا (23) } [الفرقان] ، فعبَّر عن فعله عز وجل بالقدوم ، وعن أعمالهم بالهباء المنثور .
ومن التشبيه الحسن قوله عز وجل: { وَيَطُوفُ عَلَيْهِمْ وِلْدَانٌ مُّخَلَّدُونَ إِذَا رَأَيْتَهُمْ حَسِبْتَهُمْ لُؤْلُؤًا مَّنثُورًا (19) } [الانسان] .
ومن التشبيه قوله تعالى: { كَأَنَّمَا أُغْشِيَتْ وُجُوهُهُمْ قِطَعًا مِّنَ اللَّيْلِ مُظْلِمًا } [يونس: 27] .
ومن ذلك قوله عز وجل: { كَأَنَّهُم بُنيَانٌ مَّرْصُوصٌ (4) } [الصف] .
ومنه قوله عز وجل: { فَكَأَنَّمَا خَرَّ مِنَ السَّمَاء فَتَخْطَفُهُ الطَّيْرُ أَوْ تَهْوِي بِهِ الرِّيحُ فِي مَكَانٍ سَحِيقٍ (31) } [الحج] .
ومن الاستعارة قوله عز وجل: { نِسَآؤُكُمْ حَرْثٌ لَّكُمْ فَأْتُواْ حَرْثَكُمْ أَنَّى شِئْتُمْ } [البقرة: 223] ، فسماهن: حرثا ، لأن النسل يخرج منهن ، كما يخرج الزرع من الأرض .
ومن ذلك قوله عز وجل: { وَلَسْتُم بِآخِذِيهِ إِلاَّ أَن تُغْمِضُواْ فِيهِ } [البقرة: 267] أي تترخصوا ، فسمى الترخص: إغماضا ، لأن الانسان يصرف بصره عما لا يحب أن يراه ، ويقف على حقيقته .
ومن ذلك قوله عز وجل: { كُلَّمَا أَوْقَدُواْ نَارًا لِّلْحَرْبِ أَطْفَأَهَا اللّهُ } [المائدة: 64] ، أراد: كلما أهاجوا شرا .
وأمثال هذا في القرءان أكثر من أن يعدَّ ويحصى (1) ، وهي عادة العرب في مخاطباتها ومحاوراتها ، وأشعارها وخطبها ، ولم نطول الكتاب بذكر ما ورد عنهم في هذا الباب ، لشهرته واستفاضته .
ومن أقسام الفصاحة: الإيجاز .
وذلك ينقسم إلى قسمين ، قد يكون بتقليل الحروف مع استيفاء المعنى ، وقد يكون بالحذف ، والحذف على أنحاء شتى ، ونحن نبينه على جميع ذلك بذكر بعضه ، إذ استيفاء جميعه مما يطول .
فمن الإيجاز بتقليل الحروف ، قوله عز وجل: { وَلَهُ كُلُّ شَيْءٍ } [النمل: 91] ، ومن ذلك قوله عز وجل: { أَخْرَجَ مِنْهَا مَاءهَا وَمَرْعَاهَا (31) وَالْجِبَالَ أَرْسَاهَا (32) } [النازعات] ، قلَّلَ الحروف في هذا الموضع ، لما أراد الإيجاز ، وبسط حيث أراد البسط في هذا المعنى ، فقال: { أَنَّا صَبَبْنَا الْمَاء صَبًّا (25) ثُمَّ شَقَقْنَا الْأَرْضَ شَقًّا (26) فَأَنبَتْنَا فِيهَا حَبًّا (27) وَعِنَبًا وَقَضْبًا (28) وَزَيْتُونًا وَنَخْلًا (29) وَحَدَائِقَ غُلْبًا (30) وَفَاكِهَةً وَأَبًّا (31) } [عبس] ، وقال أيضا: { خَلَقَ الانسان مِن نُّطْفَةٍ فَإِذَا هُوَ خَصِيمٌ مُّبِينٌ (4) } [النحل] .
فانظر - رحمك الله - إلى شرف هذا الكلام ، فإنه أوجز هذا الإيجاز ، وذكر للإنسان حالتين:
__________
(1) في المخطوط: تعد وتحصى . ولعل الصواب ما أثبت .
إحداهما: أضعف الحالات .
والأخرى: أقواها .
ثم نبَّه على ما بينهما . فجمع في الآية وجهين من الإيجاز:
أحدهما: تقليل الحروف .
والثاني: حذف الوسائط بين الحالتين ، مع جزالة اللفظ ، وحسن المعنى ، ثم [لما] أراد عز وجل بسط هذا المعنى قال: { وَلَقَدْ خَلَقْنَا الانسان مِن سُلَالَةٍ مِّن طِينٍ (12) ثُمَّ جَعَلْنَاهُ نُطْفَةً فِي قَرَارٍ مَّكِينٍ (13) ثُمَّ خَلَقْنَا النُّطْفَةَ عَلَقَةً فَخَلَقْنَا الْعَلَقَةَ مُضْغَةً فَخَلَقْنَا الْمُضْغَةَ عِظَامًا فَكَسَوْنَا الْعِظَامَ لَحْمًا ثُمَّ أَنشَأْنَاهُ خَلْقًا آخَرَ فَتَبَارَكَ اللَّهُ أَحْسَنُ الْخَالِقِينَ (14) } [المؤمنون] .
وهذا باب كبير من الفصاحة ، لأن البليغ هو الذي يبسط الكلام إذا شاء بسطه من غير خطل ، ويرخي عنان الخطاب ، ويتمطى ظهر الاطناب ، ويوجز إذا شاء الإيجاز من غير تحيف للمعنى .
وحكي عن بعض الفصحاء أنه وصف كاتبا بالبلاغة ، فقال: (( إن أخذ طوبارا ملاه (1) ، وإن أخذ شبرا كفاه )) ، يريد: أنه كان يبسط إذا شاء ، ويوجز إذا شاء .
ومن هذا الباب قوله عز وجل: { إِذْ أَرْسَلْنَا عَلَيْهِمُ الرِّيحَ الْعَقِيمَ (41) مَا تَذَرُ مِن شَيْءٍ أَتَتْ عَلَيْهِ إِلَّا جَعَلَتْهُ كَالرَّمِيمِ (42) } [الذاريات] ،
__________
(1) يعني: ملأه ، وإنما حذفت الهمزة تسهيلا على لغة هل الحجاز ، وليستقيم السجع. والطوبار: الورق الطويل الذي يطوى .
فأراد عز وجل هذا الإيجاز ، ثم لما أراد أن يزيد هذه الصفة يسيرا مع البسط ، قال: { كَذَّبَتْ عَادٌ فَكَيْفَ كَانَ عَذَابِي وَنُذُرِ (18) إِنَّا أَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ رِيحًا صَرْصَرًا فِي يَوْمِ نَحْسٍ مُّسْتَمِرٍّ (19) تَنزِعُ النَّاسَ كَأَنَّهُمْ أَعْجَازُ نَخْلٍ مُّنقَعِرٍ (20) } [القمر] .
ثم لما أراد أن يزيد على ذلك في البسط ، قال عز من قائل: { فَأُهْلِكُوا بِرِيحٍ صَرْصَرٍ عَاتِيَةٍ (6) سَخَّرَهَا عَلَيْهِمْ سَبْعَ لَيَالٍ وَثَمَانِيَةَ أَيَّامٍ حُسُومًا فَتَرَى الْقَوْمَ فِيهَا صَرْعَى كَأَنَّهُمْ أَعْجَازُ نَخْلٍ خَاوِيَةٍ (7) فَهَلْ تَرَى لَهُم مِّن بَاقِيَةٍ (8) } [الحاقة] .
ثم لما أراد عز وجل البسط التام ، بسط في السورة التي يذكر فيها هودا صلى الله عليه ، والسورة التي يذكر فيها الأعراف ، والسورة التي يذكر فيها الشعراء ، وعلى هذا أوجز ذكر ثمود ، فقال عز وجل: { فَأَمَّا ثَمُودُ فَأُهْلِكُوا بِالطَّاغِيَةِ (5) } [الحاقة] ، ثم بسط ذلك في سائر المواضع ، ومن ذلك قوله عز وجل: { وَمَا بِكُم مِّن نِّعْمَةٍ فَمِنَ اللّهِ } [النحل: 53] . فانظر - رحمك الله - إلى هذا الإيجاز مع استيفاء المعنى ، تعلم أنه أبلغ ما يمكن في بابه .
ثم زاد عز وجل بسطه يسيرا ، فقال: { وَسَخَّرَ لَكُم مَّا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا مِّنْهُ } [الجاثية: 13] .
وقال أيضا: { وَأَسْبَغَ عَلَيْكُمْ نِعَمَهُ ظَاهِرَةً وَبَاطِنَةً } [لقمان: 20] ، ثم بسط عز وجل ذكر الآية ونعمه في السورة التي يذكر فيها النحل من قوله: { وَالأَنْعَامَ خَلَقَهَا لَكُمْ فِيهَا دِفْءٌ وَمَنَافِعُ وَمِنْهَا تَأْكُلُونَ (5) . . .
إلى قوله: وَبِالنَّجْمِ هُمْ يَهْتَدُونَ (16) } [النحل] (1) ، ثم من قوله: { وَاللّهُ أَنزَلَ مِنَ الْسَّمَاء مَاء فَأَحْيَا بِهِ الأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا . . . إلى قوله: أَفَبِالْبَاطِلِ يُؤْمِنُونَ وَبِنِعْمَتِ اللّهِ هُمْ يَكْفُرُونَ (72) } [النحل] (2) ، ومن قوله عز وجل: { وَاللّهُ أَخْرَجَكُم مِّن بُطُونِ أُمَّهَاتِكُمْ لاَ تَعْلَمُونَ شَيْئًا
__________
(1) كمال الآيات: { ... وَلَكُمْ فِيهَا جَمَالٌ حِينَ تُرِيحُونَ وَحِينَ تَسْرَحُونَ (6) وَتَحْمِلُ أَثْقَالَكُمْ إِلَى بَلَدٍ لَّمْ تَكُونُواْ بَالِغِيهِ إِلاَّ بِشِقِّ الأَنفُسِ إِنَّ رَبَّكُمْ لَرَؤُوفٌ رَّحِيمٌ (7) وَالْخَيْلَ وَالْبِغَالَ وَالْحَمِيرَ لِتَرْكَبُوهَا وَزِينَةً وَيَخْلُقُ مَا لاَ تَعْلَمُونَ (8) وَعَلَى اللّهِ قَصْدُ السَّبِيلِ وَمِنْهَا جَآئِرٌ وَلَوْ شَاء لَهَدَاكُمْ أَجْمَعِينَ (9) هُوَ الَّذِي أَنزَلَ مِنَ السَّمَاء مَاء لَّكُم مِّنْهُ شَرَابٌ وَمِنْهُ شَجَرٌ فِيهِ تُسِيمُونَ (10) يُنبِتُ لَكُم بِهِ الزَّرْعَ وَالزَّيْتُونَ وَالنَّخِيلَ وَالأَعْنَابَ وَمِن كُلِّ الثَّمَرَاتِ إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَةً لِّقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ (11) وَسَخَّرَ لَكُمُ اللَّيْلَ وَالْنَّهَارَ وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ وَالْنُّجُومُ مُسَخَّرَاتٌ بِأَمْرِهِ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِّقَوْمٍ يَعْقِلُونَ (12) وَمَا ذَرَأَ لَكُمْ فِي الأَرْضِ مُخْتَلِفًا أَلْوَانُهُ إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَةً لِّقَوْمٍ يَذَّكَّرُونَ (13) وَهُوَ الَّذِي سَخَّرَ الْبَحْرَ لِتَأْكُلُواْ مِنْهُ لَحْمًا طَرِيًّا وَتَسْتَخْرِجُواْ مِنْهُ حِلْيَةً تَلْبَسُونَهَا وَتَرَى الْفُلْكَ مَوَاخِرَ فِيهِ وَلِتَبْتَغُواْ مِن فَضْلِهِ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ (14) وَأَلْقَى فِي الأَرْضِ رَوَاسِيَ أَن تَمِيدَ بِكُمْ وَأَنْهَارًا وَسُبُلاً لَّعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ (15) وَعَلامَاتٍ ... } .
(2) كمال الآيات: { . . . إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَةً لِّقَوْمٍ يَسْمَعُونَ (65) وَإِنَّ لَكُمْ فِي الأَنْعَامِ لَعِبْرَةً نُّسْقِيكُم مِّمَّا فِي بُطُونِهِ مِن بَيْنِ فَرْثٍ وَدَمٍ لَّبَنًا خَالِصًا سَآئِغًا لِلشَّارِبِينَ (66) وَمِن ثَمَرَاتِ النَّخِيلِ وَالأَعْنَابِ تَتَّخِذُونَ مِنْهُ سَكَرًا وَرِزْقًا حَسَنًا إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَةً لِّقَوْمٍ يَعْقِلُونَ (67) وَأَوْحَى رَبُّكَ إِلَى النَّحْلِ أَنِ اتَّخِذِي مِنَ الْجِبَالِ بُيُوتًا وَمِنَ الشَّجَرِ وَمِمَّا يَعْرِشُونَ (68) ثُمَّ كُلِي مِن كُلِّ الثَّمَرَاتِ فَاسْلُكِي سُبُلَ رَبِّكِ ذُلُلاً يَخْرُجُ مِن بُطُونِهَا شَرَابٌ مُّخْتَلِفٌ أَلْوَانُهُ فِيهِ شِفَاء لِلنَّاسِ إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَةً لِّقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ (69) وَاللّهُ خَلَقَكُمْ ثُمَّ يَتَوَفَّاكُمْ وَمِنكُم مَّن يُرَدُّ إِلَى أَرْذَلِ الْعُمُرِ لِكَيْ لاَ يَعْلَمَ بَعْدَ عِلْمٍ شَيْئًا إِنَّ اللّهَ عَلِيمٌ قَدِيرٌ (70) وَاللّهُ فَضَّلَ بَعْضَكُمْ عَلَى بَعْضٍ فِي الْرِّزْقِ فَمَا الَّذِينَ فُضِّلُواْ بِرَآدِّي رِزْقِهِمْ عَلَى مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُمْ فَهُمْ فِيهِ سَوَاء أَفَبِنِعْمَةِ اللّهِ يَجْحَدُونَ (71) وَاللّهُ جَعَلَ لَكُم مِّنْ أَنفُسِكُمْ أَزْوَاجًا وَجَعَلَ لَكُم مِّنْ أَزْوَاجِكُم بَنِينَ وَحَفَدَةً وَرَزَقَكُم مِّنَ الطَّيِّبَاتِ . . . } .
... إلى قوله: كَذَلِكَ يُتِمُّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكُمْ لَعَلَّكُمْ تُسْلِمُونَ (81) } [البقرة] (1) ، وعامة هذه السورة في ذكر نعم الله عز وجل .
ومن ذلك قوله عز وجل: { ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ فَإِذَا الَّذِي بَيْنَكَ وَبَيْنَهُ عَدَاوَةٌ كَأَنَّهُ وَلِيٌّ حَمِيمٌ (34) } [فصلت] ، وقوله (2): { خُذِ الْعَفْوَ وَأْمُرْ بِالْعُرْفِ وَأَعْرِضْ عَنِ الْجَاهِلِينَ (199) } [الأعراف] ، فدلَّ عز وجل بهاتين الآيتين على حسن العشرة بأوجز اللفظ ، ثم ضبط ذلك في السورة التي يذكر فيها الحجرات أتم بسط .
ومن الاختصار الحسن قوله عز وجل: { يَحْسَبُونَ كُلَّ صَيْحَةٍ عَلَيْهِمْ } [المنافقون: 4] ، وقد طلب هذا المعنى بعض الشعراء فقال:
ولو أنها عصفورة لحسبتها مسومة ... تدعو عبيدا وأرنما (3)
وقال آخر: ... ... ... ... ...
ما زلت تحسب كل شيء بعدهم ... خيلا تكر عليكم ورجالا (4)
وقال آخر: ... ...
__________
(1) كمال الآيات: { . . . وَجَعَلَ لَكُمُ الْسَّمْعَ وَالأَبْصَارَ وَالأَفْئِدَةَ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ (78) أَلَمْ يَرَوْاْ إِلَى الطَّيْرِ مُسَخَّرَاتٍ فِي جَوِّ السَّمَاء مَا يُمْسِكُهُنَّ إِلاَّ اللّهُ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِّقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ (79) وَاللّهُ جَعَلَ لَكُم مِّن بُيُوتِكُمْ سَكَنًا وَجَعَلَ لَكُم مِّن جُلُودِ الأَنْعَامِ بُيُوتًا تَسْتَخِفُّونَهَا يَوْمَ ظَعْنِكُمْ وَيَوْمَ إِقَامَتِكُمْ وَمِنْ أَصْوَافِهَا وَأَوْبَارِهَا وَأَشْعَارِهَا أَثَاثًا وَمَتَاعًا إِلَى حِينٍ (80) وَاللّهُ جَعَلَ لَكُم مِّمَّا خَلَقَ ظِلاَلاً وَجَعَلَ لَكُم مِّنَ الْجِبَالِ أَكْنَانًا وَجَعَلَ لَكُمْ سَرَابِيلَ تَقِيكُمُ الْحَرَّ وَسَرَابِيلَ تَقِيكُم بَأْسَكُمْ . . . } .
(2) في المخطوط: قوله . والصواب ما أثبت .
(3) لم أقف عليه.
(4) البيت لجرير ، ورد في ديوانه هكذا: خيلا تشد ...
أراني الخوف عدَّتهم ألوفا ... وكان القوم خمسا في ثلاث (1)
فلم يتفق لهم هذا الاختصار ولا هذه العذوبة .
وسمعت بعض أهل الأدب يحكي أن شاعرين كانا يتهاجيان فقال أحدهما في صاحبه: ...
يحسب كل صيحة عليه
فكاع (2) الآخر عنه ، وضعفت نفسه إعجابا بهذا البيت ، إحساسا من نفسه بالعجز عن مثله ، إلى أن عرف أنه أخذه من القرءان ، فتجرأ عليه ، وعادت له قوته ، وأخذ في مهاجاته .
ومن ذلك قوله عز وجل: { وَلَكُمْ فِي الْقِصَاصِ حَيَاةٌ } [البقرة: 179] ، وقد أخذ هذا بعضهم فقال: (( وبعض القتل أحيا للجميع )) .
وقال غيره: (( القتل أفلُّ للقتل )) . فلم يقع من ذلك موقع قوله: { وَلَكُمْ فِي الْقِصَاصِ حَيَاةٌ } ، وتتبُّعُ هذا مما يطول .
وأما القسم الثاني من الاختصار فهو الذي يكون بالحذف ، وذلك يتنوع أنواعا كثيرة .
فمن ذلك أن يحذف (3) المضاف ويقام المضاف إليه مقامه ، كقوله عز وجل: { وَاسْأَلِ الْقَرْيَةَ الَّتِي كُنَّا فِيهَا وَالْعِيْرَ الَّتِي أَقْبَلْنَا فِيهَا وَإِنَّا لَصَادِقُونَ (82) } [يوسف] ، أراد: أصحاب العير ، وأهل القرية .
__________
(1) لم أقف عليه.
(2) كاع: هاب وجبن .
(3) في المخطوط: تحذف . ولعل الصواب ما أثبت .
وكقوله: { إِذاً لَّأَذَقْنَاكَ ضِعْفَ الْحَيَاةِ وَضِعْفَ الْمَمَاتِ } [الإسراء: 75] ، أي: ضعف عذاب الحياة ، وضعف عذاب الممات .
وكقوله عز وجل: { وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ نَّاضِرَةٌ (22) إِلَى رَبِّهَا نَاظِرَةٌ (23) } [القيامة] ، ذُكِرَ عن أكثر المفسرين أن المراد: إلى ثواب ربها ناظرة ، فحذف الثواب .
وهذا مذهب للعرب مشهور ، وهو في القرءان كثير .
وقد يكون بحذف اسم أو فعل أو جواب ، كقوله عز وجل: { وَلَوْ أَنَّ قُرْآنًا سُيِّرَتْ بِهِ الْجِبَالُ أَوْ قُطِّعَتْ بِهِ الأَرْضُ أَوْ كُلِّمَ بِهِ الْمَوْتَى } [الرعد: 31] ، وتقديره: لكان هذا القرءان ، فحذفه .
وكقوله: { وَلَوْ أَنَّهُمْ رَضُوْاْ مَا آتَاهُمُ اللّهُ وَرَسُولُهُ وَقَالُواْ حَسْبُنَا اللّهُ سَيُؤْتِينَا اللّهُ مِن فَضْلِهِ وَرَسُولُهُ } [التوبة] ، تقديره: لكان ذلك خيراً لهم ، فحذفه .
ومثله قوله عز وجل: { وَلَوْلَا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ وَأَنَّ اللَّهَ تَوَّابٌ حَكِيمٌ (10) } [النور] ، ومثل ذلك: { أَمَّنْ هُوَ قَانِتٌ آنَاء اللَّيْلِ سَاجِدًا وَقَائِمًا يَحْذَرُ الْآخِرَةَ وَيَرْجُو رَحْمَةَ رَبِّهِ } [الزمر: 9] ، وتقديره: أيساويه من لا يكون كذلك ؟! فحذفه .
ومثله في الشعر كثير ، فمن ذلك قول الشاعر:
فأقسم لو شيٍ أتانا رسوله ... سواك ولكن لم نجد لك مدفعا (1)
__________
(1) البيت من قصيدة لامرئ القيس . ورد في ديوانه هكذا: وجدك لو شيء . . . انظر ديوانه .
معناه: أردناه ولم نقبل منه .
ومثله قول الشاعر:
عصاني إليها القلب إني لأمره ... سميع فما أدري أرشد طلابها (1)
معناه
عصيت إليها القلب إني لأمرها
معناه: فما أدري أرشد هو أم غي ؟ فحذف .
ومثله قول النابغة:
أزف الترحل غير أن ركابنا ... لما يزل برحالنا وكأن قد (2)
يريد: كأن قد زالت ، فحذف .
ومن ذلك أن يضمر أحد المذكورين ويظهر فعل الآخر لهما ، وذلك كقوله عز وجل: { وَامْسَحُواْ بِرُؤُوسِكُمْ وَأَرْجُلَكُمْ } [البقرة: 6] - إذا قرئ بكسر اللام - المراد: وألحقوا الغسل بأرجلكم .
وكقوله عز وجل: { يَطُوفُ عَلَيْهِمْ وِلْدَانٌ مُّخَلَّدُونَ (17) بِأَكْوَابٍ وَأَبَارِيقَ وَكَأْسٍ مِّن مَّعِينٍ (18) } [الواقعة] ، ثم قال: { وَفَاكِهَةٍ مِّمَّا يَتَخَيَّرُونَ (20) وَلَحْمِ طَيْرٍ مِّمَّا يَشْتَهُونَ (21) } [الواقعة] ، والمراد: ويؤتون بفاكهة ولحم طير ، لأن الفاكهة واللحم لا يطاف بهما .
وكذلك تأويل من قرأ: { وَحُورٌ عِينٌ (22) } [الواقعة] - بالجر - تقديره: ويتزوجون بحور عين ، فحذف ذلك أجمع .
__________
(1) البيت لأبي ذؤيب الهذلي ، ورد في ديوانه هكذا:
1@ . . . .
(2) البيت للنابغة الذبياني ، أنشده الأشموني في الشواهد رقم (5) ، وابن عقيل رقم (2) .
ومنه قوله عز وجل: { فَأَجْمِعُواْ أَمْرَكُمْ وَشُرَكَاءكُمْ } [يونس: 71] ، تقديره: وادعوا شركاءكم .
وورد مثله في الشعر:
ما حططت الرحل عنها واردا ... حتى بدت همَّالة عيناها (1)
علفتها تبنا وماء باردا
أراد: سقيتها ماء باردا ، فحذفه .
وقال الآخر:
إذا ما الغانيات برزن يوماً ... وزججن الحواجب والعيونا (2)
أراد: وكحلن العيونا ، لأن العيون لا تزجج .
وقال آخر:
يا ليت زوجك قد غدا ... متقلدا سيفا ورمحا (3)
ورأيت بعلك في الوغى
والمراد: حاملا رمحا ، لأن الرمح لا يتقلد ، لكنه حذف المراد .
ومنه قوله تعالى: { وَقَالَ إِنِّي ذَاهِبٌ إِلَى رَبِّي } [الصافات] ، والمراد: إلى حيث أمر ربي .
__________
(1) البيت لذي الرمة ، ورد في ديوانه هكذا:
1@علفتها تبنا وماء باردا
انظر ديوانه . وهو بيت يتيم .
(2) انظر شرح التلخيص .
(3) البيت لعبد الله بن الزبعري ، ورد في ديوانه هكذا:
1@متقلدا سيفا ورمحا
انظر ديوانه . وهو بيت يتيم .
ومنه قوله: { بَلْ مَكْرُ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ } [سبأ: 33] والمراد: مكركم بالليل والنهار .
ومنه قوله: { فَأَمَّا الَّذِينَ اسْوَدَّتْ وُجُوهُهُمْ أَكْفَرْتُم بَعْدَ إِيمَانِكُمْ } [آل عمران] ، فحذف .
ومن الحذف: إقامة الضمير مقام الذكر ، نحو قوله: { حَتَّى تَوَارَتْ بِالْحِجَابِ (32) } [ص] ، يعني: الشمس ، ولم يجر لها ذكر . وهذا رأي عامة المفسرين ، وإن كان بعضهم قال: إن المعنى: هو الصافنات الجياد (1) .
ومن ذلك قوله عز وجل: { وَلَوْ يُؤَاخِذُ اللّهُ النَّاسَ بِظُلْمِهِم مَّا تَرَكَ عَلَيْهَا مِن دَآبَّةٍ } [النحل: 61] يعني: على الأرض ، ولم يجر لها قبل ذلك ذكر .
وكذلك قوله عز وجل: { وَلَوْ يُؤَاخِذُ اللَّهُ النَّاسَ بِمَا كَسَبُوا مَا تَرَكَ عَلَى ظَهْرِهَا } [فاطر: 45] ، يعني: على ظهر الأرض .
ومنه قوله عز وجل: { إِنَّا أَنزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةِ الْقَدْرِ (1) } [القدر] ، أراد به: القرءان ، من غير أن يكون جرى له ذكر .
ومثله قول الشاعر:
لعمرك ما يغني الثراء عن الفتى ... إذا حشرجت يوما وضاق بها الصدر (2)
يعني: النفس .
__________
(1) ذكر ذلك أبو مسلم ، وعلي بن عيسى . مجمع البيان للطبرسي 5/ 113 .
(2) لم أقف عليه .
وكذلك قول لبيد:
حتى إذا ألقت يدا في كافر ... وأجن عورات الثغور ظلامها (1)
يعني: الشمس ، لقوله: ألقت يدا في كافر .
ومن الحذف قوله عز وجل: { وَتَرَكْنَا عَلَيْهِ فِي الْآخِرِينَ (78) } [الصافات] ، يعني: ذكرا حسنا ، وثناء جميلا .
ومن أقسام الفصاحة: التجنيس ، وهو أن يجمع بين كلمتين التقتا من حروف متجانسة ، وذلك مثل قوله عز وجل ، حاكيا عن صاحبة سليمان صلى الله عليه: { وَأَسْلَمْتُ مَعَ سُلَيْمَانَ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ (44) } [النمل] .
ومن ذلك قوله عز وجل:{ لِّلَّذِينَ أَحْسَنُواْ الْحُسْنَى }[ يونس:26] .
وكذلك قوله:{ثُمَّ كَانَ عَاقِبَةَ الَّذِينَ أَسَاؤُوا السُّوأَى}[الروم: 1] .
وقوله عز وجل حاكيا عن يعقوب صلى الله عليه: { يَا أَسَفَى عَلَى يُوسُفَ } [يوسف: 84] .
وكذلك قوله عز وجل: { يَخَافُونَ يَوْمًا تَتَقَلَّبُ فِيهِ الْقُلُوبُ وَالْأَبْصَارُ (37) } [النور] .
وكذلك قوله عز وجل: { فَسَنُيَسِّرُهُ لِلْيُسْرَى (7) } [الليل] .
وقوله: { اثَّاقَلْتُمْ إِلَى الأَرْضِ أَرَضِيتُم } [التوبة: 38] ، ولم يكثر هذا الباب في القرءان لما نذكره ، وكذلك في أشعار المتقدمين ، ولا
__________
(1) البيت من معلقة لبيد .
المطبوعين من المتأخرين ، وإنما استكثر ذلك من المتأخرين من كان يتكلف الصنعة .
سمعت بعض أهل الأدب يقول: إن القليل من التجنيس يحسِّن الكلام ، والاكثار يسلب الكلام بهجته . قال: ومثله مثل الخال في الحسناء في أنه يزيدها حسنا ، وإن كثرت الخيلان حتى تستوفي (1) على عامة جسدها أكسبتها الوحشة ، وسلبتها البهجة . وصدق فيما قال ، لأن الاستكثار والجمع بين الحروف المتجانسة يوجب للكلام ضربا من التنافر . ألا ترى إلى قول الأعشى:
وقد غدوت إلى الحانوت يتبعني ... شاو مشل شلول شلشل شول (2)
كيف يظهر عليه التنافر ؟
وكذلك قول الشاعر:
وقبر حرب بمكان قفر ... وليس قرب قبر حرب قبر
فأما إذا وقع ذلك في الكلام لُمعاً ، فإنه يزيده حسنا وبهجة ، فلذلك - والله أعلم - وجد في القرءان قليلا ولم يكثر .
ومن أقسام الفصاحة ما يسميه أكثر أهل الصنعة: المطابق ، وهو إيراد لفظتين يفيد كل واحدة منهما ضد ما تفيده الأخرى ، نحو قوله عز وجل: { إِنَّ الْحَسَنَاتِ يُذْهِبْنَ السَّيِّئَاتِ } [هود: 114] ونحو قوله: { يَوْمَ تَبْيَضُّ وُجُوهٌ وَتَسْوَدُّ وُجُوهٌ } [آل عمران: 106] ، وقوله
__________
(1) في المخطوط: يستوفى . ولعل الصواب ما أثبت .
(2) البيت من معلقة الأعشى .
عز وجل: { يُضِلُّ مَن يَشَاء وَيَهْدِي مَن يَشَاء } [النحل: 93] ، وقوله: { إِنَّ الْأَبْرَارَ لَفِي نَعِيمٍ (13) وَإِنَّ الْفُجَّارَ لَفِي جَحِيمٍ (14) } [الإنفطار] ، وقوله: { وَمَا يَسْتَوِي الْأَعْمَى وَالْبَصِيرُ (19) وَلَا الظُّلُمَاتُ وَلَا النُّورُ (20) وَلَا الظِّلُّ وَلَا الْحَرُورُ (21) وَمَا يَسْتَوِي الْأَحْيَاء وَلَا الْأَمْوَاتُ } [فاطر] ، وقوله: { هَذَا عَذْبٌ فُرَاتٌ وَهَذَا مِلْحٌ أُجَاجٌ } [الفرقان: 53] ، وقوله: { فَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتَابَهُ بِيَمِينِهِ } [الحاقة: 19] ، وقوله: { وَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتَابَهُ بِشِمَالِهِ } [الحاقة: 25] ، وهذا النوع في القرءان كثير ، بحيث يكاد يتعذر إحصاؤه .
ولكنا قد نبهنا على الجميع بالجملة التي أوردناها ، وإنما كثر هذا في القرءان لأن كثرته لا توجب للكلام نبواً عن السمع ولا تنافرا ، كما يوجبه التجنيس .
ومن أقسام الفصاحة: الفواصل ، وهي الأسجاع . ومن الناس من كره تسميتها بالأسجاع إذا كانت في القرءان ، والكلام فيه خارج عن غرضنا ، لأن بيان المراد يغني عن الاشتغال بالتسمية ، وهذه العوامل تكثر في القرءان ، وتتجاوز حد الاحصاء والعد .
وأول ذلك في فاتحة الكلام ، كقوله: { مَلِكِ يَوْمِ الدِّينِ (4) إِيَّاكَ نَعْبُدُ وإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ (5) } [الفاتحة] ، ثم في سائر السور إلى آخر القرآن .
وهذه الفواصل تكون بحروف متفقة تسمى: أسجاعا ، وتكون بحروف مختلفة وتسمى: موازنة ، فما يسمى من ذلك موازنة ، نحو
قوله: { الْحَمْدُ للّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ (2) الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ (3) } [الفاتحة] ، لأن آخر الآية الأولى هو النون ، وآخر الآية الثانية هو الميم .
ومثل قوله: { إِنَّا جَعَلْنَا مَا عَلَى الْأَرْضِ زِينَةً لَّهَا لِنَبْلُوَهُمْ أَيُّهُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا (7) وَإِنَّا لَجَاعِلُونَ مَا عَلَيْهَا صَعِيدًا جُرُزًا (8) أَمْ حَسِبْتَ أَنَّ أَصْحَابَ الْكَهْفِ وَالرَّقِيمِ كَانُوا مِنْ آيَاتِنَا عَجَبًا (9) إِذْ أَوَى الْفِتْيَةُ إِلَى الْكَهْفِ فَقَالُوا رَبَّنَا آتِنَا مِن لَّدُنكَ رَحْمَةً وَهَيِّئْ لَنَا مِنْ أَمْرِنَا رَشَدًا (10) } [الكهف] ، ألا ترى أن آخر الآية الأولى هو اللام ، وآخر الثانية هي الزاي ، وآخر الثالثة هو الباء ، وآخر الرابعة هو الدال ، ومثله: { حَمَّالَةَ الْحَطَبِ (4) فِي جِيدِهَا حَبْلٌ مِّن مَّسَدٍ (5) } [المسد] ، ونظائرها كثيرة .
وما يسمى من هذه الفواصل: أسجاعا (1) . فمثل قوله عز وجل: { ذَلِكَ الْكِتَابُ لاَ رَيْبَ فِيهِ هُدًى لِّلْمُتَّقِينَ (2) } [البقرة] ، إلى تمام أربع آيات وآخرها كلها نون .
ومثله: { قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ (1) اللَّهُ الصَّمَدُ (2) } [الإخلاص] ، وقوله: { قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ الْفَلَقِ (1) مِن شَرِّ مَا خَلَقَ (2) } [الفلق] ، ولا وجه لتعداد أمثاله في القرءان لكثرته ، وتجاوز حد الاحصاء ، ولأن شيئا من السور لا يخلو من ذلك .
وهذا باب كبير من أبواب الفصاحة ، إذ ورد مع الحلاوة ، ورونق الطلاوة ، وجاء به متسمحا ، ولم يقهر عليه تكلفاً وتعسفاً ،
__________
(1) في المخطوط: أسجاع . والصواب ما أثبت .
ولم يكن مما تنبو عنه الأسماع ، وتمجه الأفهام ، وهو مشهور عند العرب لا يخلو منه كلام فصيح ، في أحوال الاسترسال والاحتفال .
وللفصاحة أقسام كثيرة سوى ما بيناه ، وليس منها قسم إلا وهو موجود في القرءان ، وقد نبهنا بما ذكرناه منها على ما لم نذكره .
ومن أقسام الفصاحة: التلاؤم ، وهو نقيض التنافر ، وهذا الباب هو من أكثر أبواب الفصاحة ، وكنا نبهنا عليه في أول هذا الباب عند ذكرنا جزالة الألفاظ ، لكن أعدنا ذكره في آخر الباب لنوضحه فضل إيضاح ، لأنه هو العمدة . وذلك أن عامة ما ذكرنا من أقسام الفصاحة بل كلها غير هذا القسم ، للتكلف والتعمل فيها مجال ومسرح . ويمكن التوصل إليها باحتذاء آثار من تقدم فيها ، بأن يُتعلم طرائقها ، ويستفاد مناهجها ، وهذا القسم الذي هو التلاؤم يتعذر ، إلا أن يسمح به طبع مخصوص ، يعرف ذلك كل من له أدنى حظ من الأدب والمعرفة بنقد الكلام .
وذلك أن التلاؤم به تكون العذوبة والحلاوة ، وعنه تكون حسن ديباجة الكلام ، ولهذا تجد الكلام المنظوم المنثور جيد السبك ، رصين النظم ، صحيح الوضع ، متسق المعنى . ومع ذلك تجده نابيا عن السمع ، نافرا عن الطبع ، إذا لم تحصل له العذوبة التي يكون سببها التلاؤم .
واعلم أن التلاؤم يكون بتلاؤم الحروف ، وتلاؤم الحركات والسكنات ، وتلاؤم المعنى ، فإذا اجتمعت هذه الوجوه ، خرج الكلام غاية في العذوبة ، وفي حصول بعضها انحطاط درجة العذوبة عن الغاية
، وسائر أقسام الفصاحة مع عدم التلاؤم يُعد تكلفاً ، وكلما ظهرت الصنعة أكثر ، كان الكلام أقرب إلى أن يكون تعسفاً ، وإذا حسن التلاؤم ، وحسن معه يسير الصنعة أشرق تأليف الكلام ووضعه .
ألا ترى إلى قول الشاعر:
تمتع من شميم عرار نجد ... فما بعد العشية من عرار
ألا يا حبذا نفحات نجد ... وريَّا روضه بعد القطار
شهور ينقضين وما شعرنا ... بأنصاف لهن ولا سرار (1)
لما حصل التلاؤم حصل في النفس القبول التام مع قلة الصنعة فيه .
ومن ذلك قول القائل:
ولما قضينا من منى كل حاجة ... ومسَّح ركن البيت من هو ماسح
نزعنا بأطراف الأحاديث بيننا ... ومالت بأعناق المطي الأباطح (2)
ألا ترى إلى ديباجته كيف حسنت ؟ وإلى عذوبته كيف ظهرت ؟ وإلى سلامته كيف استمرت ؟ مع خلوه من الصنعة ، ووقوعه بالبعد عن التعمل .
وهذا باب تأملته في الأشعار والخطب ، والرسائل والمحاورات ، في الجد والهزل . وصح لك بيانه ، وقام عندك برهانه . وهذا القسم من
__________
(1) الأبيات من قصيدة لمجنون ليلى ، ورد البيت الثاني في الديوان هكذا: وريا روضه غب القطار .
(2) البيتان لكعب بن زهير ، ورد البيت الأول في المخطوط هكذا: ومسح بالأركان . . . والثاني هكذا: أخذنا بأطراف الأحاديث بيننا وسالت . . .
الفصاحة موجود في القرءان من أوله إلى آخره ، وأهل هذا الشأن يختلفون في أجناس ذلك والتبين له .
ومن كان منهم أعرف بنقد الكلام ، كان إلى تبيين ما ذكرناه أقرب ، فإن ساعده على ذلك الطبعُ الجيد ، كان في طريق تصوره أذهب ، وقد يكون في أهل كل صناعة من الشعر والخطب والرسائل مَن إذا سمع كلام غيره عرف صاحبه ، وميَّز بين طبعه وطبع غيره ، كما حكي أن جريرا رأى ذا الرمة ، وهو ينشد قصيدة أولها:
نبت عيناك عن طلل بحدوى ... . . . . . . . . . . . . . . . . . . . (1)
فقال له: ألا آمرك بأبيات تلحقها بشعرك ؟ فقال: بلى .
فقال:
يعد الناسبون إلى تميم ... بيوت المجد أربعة كبارا
يعدون الرباب لهم وعمرا ... وسعدا ثم حنظلة الخيارا
يعد الناسبون بني تميم ... كما ألغيت في الدية الحوارا (2)
ويهلك بيتها المرئي لغوا
__________
(1) البيت لذي الرمة ، وعجزه:
. . . . . . . . . . . . . ... ... ... عفته الريح وامتنح القطارا
انظر ديوانه .
(2) الأبيات في قصيدة جرير ، وردت في المخطوط هكذا:
1@بيوت المجد أربعة كبارا
يعدون الرباب وآل تيم ... وسعدا ثم حنظلة الخيارا
ويذهب بيتها المرعي لغوا ... كما ألفيت في الدية الحوارا
ثم أنشد ذو الرمة هذه القصيدة الفرزدق مع هذه الأبيات ، فلما انتهى إليها قال له: مه ، فإن هذه الأبيات لأكلها أشد لحيين منك .
فميَّزَ بطبعه بين شعره وشعر جرير ، وهذا ظاهر بين أهله ، وإنما أردت أن أبين بهذا أن غباوة من يغضي عن هذه الحالة [التي] وصفناها في القرءان لا يؤثر فيها ، لشهرتها وظهورها عند أهله .
والذي أحوجنا إلى هذا التنبيه على هذا القسم ، أنه لا يظهر لكل من يفهم العربية ، ولا يمكن كما أمكن سائر أقسام الفصاحة ، لأن استدراكه يفتقر إلى العلوم الضرورية المعبَّر عنها بالطبع ، كما أن الاتيان به مفتقر إليه ، ولأن القرءان كله من هذا النمط .
والأَوجَهُ ذكر آيات منه ، لأنا نريد تنبيه المبتدئ والشادي (1) عليه .
فمن ذلك قول الله عز وجل: { وَالنَّجْمِ إِذَا هَوَى (1) مَا ضَلَّ صَاحِبُكُمْ وَمَا غَوَى (2) وَمَا يَنطِقُ عَنِ الْهَوَى (3) } [النجم] وما بعدها .
وقوله عز وجل: { فَخَرَجَ مِنْهَا خَائِفًا يَتَرَقَّبُ قَالَ رَبِّ نَجِّنِي مِنَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ (21) وَلَمَّا تَوَجَّهَ تِلْقَاء مَدْيَنَ قَالَ عَسَى رَبِّي أَن يَهْدِيَنِي سَوَاء السَّبِيلِ (22) وَلَمَّا وَرَدَ مَاء مَدْيَنَ وَجَدَ عَلَيْهِ أُمَّةً مِّنَ النَّاسِ يَسْقُونَ وَوَجَدَ مِن دُونِهِمُ امْرَأتَيْنِ تَذُودَانِ قَالَ مَا خَطْبُكُمَا قَالَتَا لَا نَسْقِي حَتَّى
__________
(1) كذا في المخطوط .
يُصْدِرَ الرِّعَاء وَأَبُونَا شَيْخٌ كَبِيرٌ (23) } [القصص] . . . إلى آخر القصة .
فتأمل هذه الألفاظ ووقوعها مواقعها ، لتعلم شرف هذا الكلام ، وهل تجد لفظة لسوء أبدل مكانها غيرها ، فنابت منابها حسنا وعذوبة ورونقا ؟! ألا ترى أنه عز وجل لو قال: (( والكوكب إذا سقط )) ، أو (( إذا غرب )) ، أو قال: (( إذا أفل )) ، لم يَنُب في الحسن مناب قوله تعالى: { وَالنَّجْمِ إِذَا هَوَى (1) } .
ورأيت في كلام الجهال أنه لو قال: (( والنجم إذا علا )) ، كان أولى . ولن يكون ذلك ، فمن له حاسة في هذا الباب . فبين اللفظتين في هذا الموضوع في باب الحلاوة والعذوبة ما لا يخفى على بصير .
ولو قال: (( ما زاغ نبيكم عن الهدى )) ، أو (( ما أخطأ رسولكم )) ، أو قال: (( ما حاد عن الرشد والهدى )) ، وما أشبه ذلك ، لم يغن غناء قوله عز وجل: { مَا ضَلَّ صَاحِبُكُمْ وَمَا غَوَى (2) } .
ولو قال: (( فهرب منها مذعورا )) ، أو قال: (( مرعوبا )) ، أو غير ذلك من الألفاظ التي تؤدي معناها ، لم يسد مسد قوله عز وجل: { فَخَرَجَ مِنْهَا خَائِفًا يَتَرَقَّبُ } [القصص: 21] ، حلاوة وعذوبة .
ولو قيل: (( ولما أخذ على سمت مدين )) ، أو (( مضى حذاء مدين )) ، أو (( جهة مدين )) ، لم يقع موقع قوله عز وجل: { وَلَمَّا تَوَجَّهَ تِلْقَاء مَدْيَنَ } [القصص: 22] . وكذلك عامة ألفاظ هذه الآيات ، فتأملها تجدها على ما أقول .
واعلم أن كثيراً من الألفاظ تكون له حلاوة وعذوبة ، إذا وقع في بعض المواقع دون بعض ، وإنما حصلت لهذه الآيات العذوبة التامة ، لما حصل لحروفها من التلاؤم ، ولحركاتها وسكناتها من الاعتدال ، ولمعانيها من حسن الاطراد والمقاصد ، لأن الحروف لو لم تتلاءم لكان يحصل للكلام بعض التنافر .
والحركات والسكنات لو لم تعتدل لم يتم حسن النظم ، لأن كثرة الحركات توجب للكلام بعض الثقل .
ألا ترى إلى ما روى أهل العروض في جنس البسيط ، وزعموا: أنهم لقيهم رجل فأخذوا ماله وضربوا عنقه ، كيف حصل الثقل لما كثرت حركاته ؟!
وكثرة السكنات توجب لنسج الكلام بعض الضعف والسخافة . ولهذا صار الكلام موزونا باعتدال الحركات والسكنات ، ويتكسر البيت بخروج الحركات أو السكنات عن الاعتدال .
وأما حسن أطوار المعاني والمقاصد فلا بد منه ، لأن موضوع العبارة إنما هو للمعنى ، فإذا لم يحسن المعنى ، كان بمنزلة تعليق الحلي على المرأة الشوهاء .
ومن ذلك قوله عز وجل: { أَمَّن جَعَلَ الْأَرْضَ قَرَارًا وَجَعَلَ خِلَالَهَا أَنْهَارًا وَجَعَلَ لَهَا رَوَاسِيَ وَجَعَلَ بَيْنَ الْبَحْرَيْنِ حَاجِزًا أَإِلَهٌ مَّعَ اللَّهِ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لَا يَعْلَمُونَ (61) } [النمل] ، وقوله عز وجل في أول السورة: { إِنَّ الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ زَيَّنَّا لَهُمْ أَعْمَالَهُمْ فَهُمْ يَعْمَهُونَ
(4) أُوْلَئِكَ الَّذِينَ لَهُمْ سُوءُ الْعَذَابِ وَهُمْ فِي الْآخِرَةِ هُمُ الْأَخْسَرُونَ (5) وَإِنَّكَ لَتُلَقَّى الْقُرْآنَ مِن لَّدُنْ حَكِيمٍ عَلِيمٍ (6) إِذْ قَالَ مُوسَى لِأَهْلِهِ إِنِّي آنَسْتُ نَارًا سَآتِيكُم مِّنْهَا بِخَبَرٍ أَوْ آتِيكُم بِشِهَابٍ قَبَسٍ لَّعَلَّكُمْ تَصْطَلُونَ (7) } [النمل] . . . إلى آخر القصة .
وعلى نحو من هذا عامة هذه السورة ، وكذلك عامة السورة التي يذكر فيها القصص بعد هذا .
ومن ذلك قوله عز وجل: { حم (1) تَنزِيلُ الْكِتَابِ مِنَ اللَّهِ الْعَزِيزِ الْعَلِيمِ (2) غَافِرِ الذَّنبِ وَقَابِلِ التَّوْبِ شَدِيدِ الْعِقَابِ ذِي الطَّوْلِ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ إِلَيْهِ الْمَصِيرُ (3) . . . إلى قوله: الَّذِينَ يَحْمِلُونَ الْعَرْشَ وَمَنْ حَوْلَهُ يُسَبِّحُونَ بِحَمْدِ رَبِّهِمْ وَيُؤْمِنُونَ بِهِ وَيَسْتَغْفِرُونَ لِلَّذِينَ آمَنُوا رَبَّنَا وَسِعْتَ كُلَّ شَيْءٍ رَّحْمَةً وَعِلْمًا فَاغْفِرْ لِلَّذِينَ تَابُوا وَاتَّبَعُوا سَبِيلَكَ وَقِهِمْ عَذَابَ الْجَحِيمِ (7) . . . إلى قوله: إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا يُنَادَوْنَ لَمَقْتُ اللَّهِ أَكْبَرُ مِن مَّقْتِكُمْ أَنفُسَكُمْ إِذْ تُدْعَوْنَ إِلَى الْإِيمَانِ فَتَكْفُرُونَ (10) } [غافر] (1) .
وقوله عز وجل بعد هذه الآيات: { وَقَالَ الَّذِي آمَنَ يَا قَوْمِ اتَّبِعُونِ أَهْدِكُمْ سَبِيلَ الرَّشَادِ (38) يَا قَوْمِ إِنَّمَا هَذِهِ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا مَتَاعٌ وَإِنَّ
__________
(1) كمال الآيات: { . . . مَا يُجَادِلُ فِي آيَاتِ اللَّهِ إِلَّا الَّذِينَ كَفَرُوا فَلَا يَغْرُرْكَ تَقَلُّبُهُمْ فِي الْبِلَادِ (4) كَذَّبَتْ قَبْلَهُمْ قَوْمُ نُوحٍ وَالْأَحْزَابُ مِن بَعْدِهِمْ وَهَمَّتْ كُلُّ أُمَّةٍ بِرَسُولِهِمْ لِيَأْخُذُوهُ وَجَادَلُوا بِالْبَاطِلِ لِيُدْحِضُوا بِهِ الْحَقَّ فَأَخَذْتُهُمْ فَكَيْفَ كَانَ عِقَابِ (5) وَكَذَلِكَ حَقَّتْ كَلِمَتُ رَبِّكَ عَلَى الَّذِينَ كَفَرُوا أَنَّهُمْ أَصْحَابُ النَّارِ (6) . . . رَبَّنَا وَأَدْخِلْهُمْ جَنَّاتِ عَدْنٍ الَّتِي وَعَدتَّهُم وَمَن صَلَحَ مِنْ آبَائِهِمْ وَأَزْوَاجِهِمْ وَذُرِّيَّاتِهِمْ إِنَّكَ أَنتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (8) وَقِهِمُ السَّيِّئَاتِ وَمَن تَقِ السَّيِّئَاتِ يَوْمَئِذٍ فَقَدْ رَحِمْتَهُ وَذَلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ (9) . . . } .
الْآخِرَةَ هِيَ دَارُ الْقَرَارِ (39) مَنْ عَمِلَ سَيِّئَةً فَلَا يُجْزَى إِلَّا مِثْلَهَا وَمَنْ عَمِلَ صَالِحًا مِّن ذَكَرٍ أَوْ أُنثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَأُوْلَئِكَ يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ يُرْزَقُونَ فِيهَا بِغَيْرِ حِسَابٍ (40) } [غافر] . . . إلى آخر القصة .
ولو تتبعنا الآيات الجارية هذا المجرى في العذوبة ، وحسن الديباجة ، لاحتجنا أن نذكر عامة آيات القرءان ، ولكن نبهنا بما ذكرنا على ما سواه ، فتأمل - رحمك الله - مواقع هذه الألفاظ ، وحسن نظامها ، وخِفَّتها على السمع ، وقبول النفس لها ، واهتزازك لسماعها ، لتعلم حقيقة ما ذكرناه . وأنت إذا راعيت هذا الباب في عامة القرءان إذا تلوته ، تبينت صحة ما قلناه ، وظهر لك شواهده ، ووضحت دلائله .
ومن كبير أقسام الفصاحة: حسن التصرف . وهذا الباب أيضا لا يمكن بالتعمل ، ولا يستجيب للمتكلف ، بل لا بد له من العلوم الضرورية المعبَّر عنها بالطبع . وبهذا (1) تفاضل الخطباء والشعراء وأصحاب الرسائل .
وإذا تأملت تصرف القرءان في المعاني المقصودة ، عرفت أنه زائد في الحسن على تصرف جميع أقسام الكلام وأنواعه ، وشهد لك قلبك أنه ليس من كلام البشر ، لمجاوزته في الحسن جميع كلامهم ، لأنك تجد عامة كلام الناس إذا أخذوا في الاقتصاص والتصرف في المعاني المختلفة
__________
(1) في المخطوط: وهذا . ولعل الصواب ما أثبت.
، والأغراض المتباينة ، والمقاصد المتغايرة ، يضعف بناؤه ، ويَهِي (1) نسجه ، ويظهر عليه الاختلال ، وحال القرءان بخلاف ذلك .
ألا ترى إلى قوله عز وجل: { وَفِي الأَرْضِ قِطَعٌ مُّتَجَاوِرَاتٌ وَجَنَّاتٌ مِّنْ أَعْنَابٍ وَزَرْعٌ وَنَخِيلٌ صِنْوَانٌ وَغَيْرُ صِنْوَانٍ يُسْقَى بِمَاء وَاحِدٍ وَنُفَضِّلُ بَعْضَهَا عَلَى بَعْضٍ فِي الأُكُلِ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِّقَوْمٍ يَعْقِلُونَ (4) } [الرعد] .
تأمل - رحمك الله - حسن هذا التصرف ، فإنه ذكر الدليل على فساد قول من يضعف (2) هذه الحوادث إلى الطبع ، وحرره على وجه أسقط عنه كثيرا من الأسئلة ، بأن بيَّن أن في الأرض قطعا متجاورة ، يقرب بعضها من بعض ، ليسقط سؤال من يقول: إن الأرضين إذا تباعدت أطرافها ، اختلفت التربة ، فكان منها الطيب والخبيث ، لأن ذلك يبعد في المتقارب منها .
وكذلك الهواء لا يمكن أن ندعي أن تغيرُّه هو المؤثِّر ، لأن الأرضين ما لم تتباعد بعضها من بعض ، لا يظهر في أهويتها التغير ، وكذلك الماء إذا كان واحداً لا يمكن أن يُدَّعا أن اختلاف الأكل راجع إلى اختلاف الماء ، فدل بذلك على أنه من فعل القادر الحكيم ، تبارك وتعالى .
__________
(1) يهي: يضعف ، يقال: وهى الرجل ، إذا ضعف .
(2) كذا في المخطوط .
ومعنى هذه الآية: معنى كلمي (1) ، فإذا أردت أن تعرف حال هذا التصرف ، وشريف موقعه ، فتأمل كلام المتكلمين . هل تجد لشيء منها هذا الجنس الرابع ؟لأنه جمع فيها بين حسن المعنى وشرف الوضوح ، وجزالة اللفظ وعذوبته ، مع جمع المقاصد الكثيرة في ألفاظ يسيرة ، بحيث ربط بعضها ببعض ، وحسم عنها مطاعن المعترضين . من ذلك قوله عز وجل بعد هذه الآية: { وَيَسْتَعْجِلُونَكَ بِالسَّيِّئَةِ قَبْلَ الْحَسَنَةِ وَقَدْ خَلَتْ مِن قَبْلِهِمُ الْمَثُلاَتُ وَإِنَّ رَبَّكَ لَذُو مَغْفِرَةٍ لِّلنَّاسِ عَلَى ظُلْمِهِمْ وَإِنَّ رَبَّكَ لَشَدِيدُ الْعِقَابِ (6) } [الرعد] ، فتأمل ما جمعت هذه الآية من المعاني ، بأن ذكر جهل القوم باستعجالهم السيئة قبل الحسنة ، ثم بيَّن عز وجل أنه أنزل العذاب بمن كان قبلهم من المنحرفين عن طاعته ، المسرعين إلى معصيته ، زاجراً لهم عما هم فيه ، ومحذراً لهم عواقب مَن قبلهم .
ثم بَيَّن لهم أنه عز وجل يغفر لعباده وإن كانوا ظالمين ، إذا تابوا وأنابوا ، وأنه عز وجل شديد العقاب ، لمن أصرَّ وأقام على ما نهي عنه . فجمع هذه المعاني وكساها حسن اللفظ ، إذ فيه ما يسميه أهل الصنعة: المطابق . لأنه ذكر الحسنة والسيئة ، والمغفرة والعقاب ، مع الجزالة والعذوبة . فهل يكون في التصرف أحسن من هذا ؟!!
ثم تأمل من هذه السورة قوله عز وجل: { اللّهُ يَعْلَمُ مَا تَحْمِلُ كُلُّ أُنثَى وَمَا تَغِيضُ الأَرْحَامُ وَمَا تَزْدَادُ وَكُلُّ شَيْءٍ عِندَهُ بِمِقْدَارٍ (8) . . .
__________
(1) كذا في المخطوط .
إلى قوله: وَمَا دُعَاء الْكَافِرِينَ إِلاَّ فِي ضَلاَلٍ (14) } [الرعد] (1) ، وتأمل عامة هذه السورة وما في آياتها من حسن التصرف ، وضرب الأمثال .
وتأمل قول الله عز وجل: { يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُواْ رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُم مِّن نَّفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالاً كَثِيرًا وَنِسَاء } [النساء: 1] ، ثم تأمل آية المواريث ، فإن معناها معنى فقهي (2) .
فانظر هل تجد ما يقارب ذلك في شيء من ألفاظ الفقهاء ؟ وإذا أردت ذلك فتأمل أقاصيص القرءان وأحكامه ، لترى من ذلك ما يبهر عقلك ، ويكشف لك أنه كلام مرتفع عن كلام البشر أجمع ، وعلى هذا تجد ما يتضمن الوعد والوعيد ، وأدلة العدل والتوحيد .
وإذا تأملت ذلك ، فتأمل أشعار العرب من جاهلي ، أو مخضرمي ، أو إسلامي ، وتأمل أشعار المحدثين ، وتأمل الخطب المحفوظة عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم ، وعن أمير المؤمنين عليه السلام ، وسائر الصحابة ، ومن بعدهم أو قبلهم من الفصحاء ، تجد القرءان مبايناً لها ،
__________
(1) كمال الآيات: { ... عَالِمُ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ الْكَبِيرُ الْمُتَعَالِ (9) سَوَاء مِّنكُم مَّنْ أَسَرَّ الْقَوْلَ وَمَن جَهَرَ بِهِ وَمَنْ هُوَ مُسْتَخْفٍ بِاللَّيْلِ وَسَارِبٌ بِالنَّهَارِ (10) لَهُ مُعَقِّبَاتٌ مِّن بَيْنِ يَدَيْهِ وَمِنْ خَلْفِهِ يَحْفَظُونَهُ مِنْ أَمْرِ اللّهِ إِنَّ اللّهَ لاَ يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُواْ مَا بِأَنْفُسِهِمْ وَإِذَا أَرَادَ اللّهُ بِقَوْمٍ سُوءًا فَلاَ مَرَدَّ لَهُ وَمَا لَهُم مِّن دُونِهِ مِن وَالٍ (11) هُوَ الَّذِي يُرِيكُمُ الْبَرْقَ خَوْفًا وَطَمَعًا وَيُنْشِىءُ السَّحَابَ الثِّقَالَ (12) وَيُسَبِّحُ الرَّعْدُ بِحَمْدِهِ وَالْمَلاَئِكَةُ مِنْ خِيفَتِهِ وَيُرْسِلُ الصَّوَاعِقَ فَيُصِيبُ بِهَا مَن يَشَاء وَهُمْ يُجَادِلُونَ فِي اللّهِ وَهُوَ شَدِيدُ الْمِحَالِ (13) لَهُ دَعْوَةُ الْحَقِّ وَالَّذِينَ يَدْعُونَ مِن دُونِهِ لاَ يَسْتَجِيبُونَ لَهُم بِشَيْءٍ إِلاَّ كَبَاسِطِ كَفَّيْهِ إِلَى الْمَاء لِيَبْلُغَ فَاهُ وَمَا هُوَ بِبَالِغِهِ ... } .
(2) في المخطوط: فقهيا . والصواب ما أثبت .
مميزا (1) بمزايا أقسام الفصاحة عليها ، فيتضح عندك أنه على ما ادعيناه في أعلى طبقات الفصاحة ، وأن من ذهب من العلماء إلى أن الاعجاز راجع إلى مجرد الفصاحة لم يبعد عن الصواب كل البعد ، وإن كان الأصح عندي على ما قدمت أنه راجع إلى النظم والفصاحة معاً .
ومما يبين بلوغ القرءان غاية الفصاحة ، أن الشاعر ربما ضمَّن لفظة من القرءان بيتا من الشعر ، أو حشا الخطيب بها فصلا من الخطب ، أو وشَّح الكاتب بها موضعا من الرسالة ، فيتميز بحسنها عن غيرها ، ويتبين ببهجتها على ما سواها ، ويصير الموضع الذي تضمنها (2) غرة من سائره ، وبحسنه الذي اكتسبه من تلك اللفظة ، وزبرجه الذي استعاره منها .
ومما يبين ذلك: أن كثيرا من الفصحاء ، وُجِدَ في كلامهم كلمات فصيحة رائعة ، صارت لبلاغتها أمثالاً سائرة ، ووُجِدَ معناها في القرءان ، إلا أنك إذا تأملتها وجدت التفاهم (3) بينها كثيرا ، وظهر لك فضل ألفاظ القرءان على تلك الألفاظ ظهوراً تاماً . فمنها ثلاث كلمات تذكر عن أمير المؤمنين عليه السلام:
__________
(1) في المخطوط: مبراً . ولعل الصواب ما أثبت .
(2) في المخطوط: يضمنها . والصواب ما أثبت .
(3) كذا في المخطوط .
إحداها (1): (( مَن جهل شيئا عاداه )) (2) ، ومثله قول الله عز وجل: { وَإِذْ لَمْ يَهْتَدُوا بِهِ فَسَيَقُولُونَ هَذَا إِفْكٌ قَدِيمٌ (11) } [الأحقاف] ، وقوله: { بَلْ كَذَّبُواْ بِمَا لَمْ يُحِيطُواْ بِعِلْمِهِ } [يونس: 39] .
والثانية: (( أبغض بغيضك هونا ما عسى أن يكون حبيبك يوما ما )) (3) ، وفي قريب من معناه قوله عز وجل: { عَسَى اللَّهُ أَن يَجْعَلَ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَ الَّذِينَ عَادَيْتُم مِّنْهُم مَّوَدَّةً } [الممتحنة] .
والثالثة: (( المرء مخبوء تحت لسانه )) (4) ، وفي قريب من معناه قوله عز وجل: { وَلَتَعْرِفَنَّهُمْ فِي لَحْنِ الْقَوْلِ } [محمد: 30] . فتأمل التفاوت الذي بين تلك الكلمات الثلاث ، وبين ألفاظ الآيات التي ذكرناها ، يَبِنْ (5) لك صحة ما ادعيناه .
ومن ذلك قول الله عز وجل: { وَتَرَى الْجِبَالَ تَحْسَبُهَا جَامِدَةً وَهِيَ تَمُرُّ مَرَّ السَّحَابِ } [النمل: 88] ، فانظر كم بينه وبين قول الشاعر:
بأرعن مثل الطود تحسب أنهم ... وقوف لحاج والركاب تهملج (6)
__________
(1) في المخطوط: أحدها . ولعل الصواب ما أثبت .
(2) غرر الحكم للآمدي 2/ 161 ، بلفظ: (( من جهل علما عاداه )) .
(3) نهج البلاغة ، قصار الحكم / 268 ، وأخرجه الترمذي في السنن 4/360 (1997) ، والشهاب في مسنده 1/431 (739) ، عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم .
(4) نهج البلاغة ، قصار الحكم/148 .
(5) في المخطوط: يبين . والصواب ما أثبت .
(6) البيت للنابغة الذبياني ، ورد في المخطوط هكذا: فارعا مثل الطود ...
ومن ذلك قوله عز وجل: { وَلَكُمْ فِي الْقِصَاصِ حَيَاةٌ يَاْ أُولِيْ الأَلْبَابِ } [البقرة: 179] ، وفي معناه قيل ما قدمنا ذكره: (( بعض القتل أحيا للجميع )) ، وقيل: (( القتل أفلُّ للقتل )) ، فلم تلحق واحدة من الكلمتين بشأوِ قوله عز وجل: { وَلَكُمْ فِي الْقِصَاصِ حَيَاةٌ } .
ومما افتخر به النابغة قوله (1):
فإنك كالليل الذي هو مدركي ... وإن خلت أن المنتأى عنك واسع (2)
فانظر أين يقع ذلك من قوله عز وجل: { واللّهُ مُحِيطٌ بِالْكافِرِينَ (19) } [البقرة] ، ومن قوله: { وَلَهُ مَا سَكَنَ فِي اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ } [الأنعام: 13] .
وقد ذكرنا فيما مضى ما قيل في معنى قول الله تعالى: { يَحْسَبُونَ كُلَّ صَيْحَةٍ عَلَيْهِمْ } [المنافقون: 4] .
وقد عُدَّ من فصيح الكلام ما حكي عن بعض المتقدمين من قوله: (( سل الأرض من شق أنهارك ، وغرس أشجارك ، فأخرج ثمارك ، فإن لم تجبك حوارا ، أجابتك (3) اعتبارا )) . فانظر أين يقع ذلك من قول الله عز وجل: { أَمَّنْ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَأَنزَلَ لَكُم مِّنَ السَّمَاء مَاء فَأَنبَتْنَا بِهِ حَدَائِقَ ذَاتَ بَهْجَةٍ مَّا كَانَ لَكُمْ أَن تُنبِتُوا شَجَرَهَا أَإِلَهٌ مَّعَ اللَّهِ بَلْ هُمْ قَوْمٌ يَعْدِلُونَ (60) } [النمل] ؟! بل أين يقع ذلك من قوله: {
__________
(1) في المخطوط: بقوله . ولعل الصواب ما أثبت .
(2) البيت للنابغة الذبياني ، انظر ديوانه.
(3) في المخطوط: حوار أجابتك . ولعل الصواب ما أثبت .
وَالْأَرْضَ مَدَدْنَاهَا وَأَلْقَيْنَا فِيهَا رَوَاسِيَ وَأَنبَتْنَا فِيهَا مِن كُلِّ زَوْجٍ بَهِيجٍ (7) تَبْصِرَةً وَذِكْرَى لِكُلِّ عَبْدٍ مُّنِيبٍ (8) وَنَزَّلْنَا مِنَ السَّمَاء مَاء مُّبَارَكًا فَأَنبَتْنَا بِهِ جَنَّاتٍ وَحَبَّ الْحَصِيدِ (9) وَالنَّخْلَ بَاسِقَاتٍ لَّهَا طَلْعٌ نَّضِيدٌ (10) رِزْقًا لِّلْعِبَادِ } [ق] ؟!
ومن الكلام الفصيح قول الشاعر:
بكت عيني وحق لها بكاها ... وما يغني البكاء ولا العويل (1)
لكن أين يقع ذلك من قول الله عز وجل ، حاكيا عن أهل النار: { سَوَاء عَلَيْنَآ أَجَزِعْنَا أَمْ صَبَرْنَا مَا لَنَا مِن مَّحِيصٍ (21) } [إبراهيم] ؟!! وتتبُّعُ هذا مما يطول لكثرته . وفيما ذكرناه كفاية ، وفيه تنبيه على ما لم نذكره .
- - -
__________
(1) البيت لحسان بن ثابت قاله من قصيدة في رثاء حمزة بن عبد المطلب.
الكلام في ذكر ما في القرءان من الإخبار عن الغيوب
من ذلك قول الله عز وجل: { وَإِن كُنتُمْ فِي رَيْبٍ مِّمَّا نَزَّلْنَا عَلَى عَبْدِنَا فَأْتُواْ بِسُورَةٍ مِّن مِّثْلِهِ وَادْعُواْ شُهَدَاءكُم مِّن دُونِ اللّهِ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ (23) فَإِن لَّمْ تَفْعَلُواْ وَلَن تَفْعَلُواْ فَاتَّقُواْ النَّارَ الَّتِي وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجَارَةُ } [البقرة] ، وقوله: { قُل لَّئِنِ اجْتَمَعَتِ الإِنسُ وَالْجِنُّ عَلَى أَن يَأْتُواْ بِمِثْلِ هَذَا الْقُرْآنِ لاَ يَأْتُونَ بِمِثْلِهِ وَلَوْ كَانَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ ظَهِيرًا (88) } [الإسراء] ، وهذا من الغيب لا يعلمه إلا الله عز وجل ، لأن البشر لا سبيل لهم أن يعلموا كلاما يوجد مشتملا على التحدي والتقريع على العجز عن الاتيان بمثله ، فلا تقع له معارضة أبدا ، سيما والقوم الذين تُحِدُّوا به غاية في العداوة للمتحدي ، مع أنهم أهل البلاغة والمعرفة بذلك الشأن ، بل المعلوم أن المعارضة تقع لا محالة منهم إذا تمكنوا منها .
فإن قيل: فما يؤمنكم أن تقع المعارضة بعد هذا الوقت ، وإن لم تكن وقعت إلى هذه الغاية ؟!
قيل له: يؤمننا ذلك أن الخبر صدق ، ويُعلم أنه صدق أنه لو لم يكن صدقا ، لكان لا يجوز أن يجري الأمر في مخبَره على ما أخبر نحوا من أربعمائة سنة ، مع الأحوال التي ذكرناها . لأن ما يقال على سبيل التخمين والرجم ، لا يجوز أن يستمر الأمر في مخبَره على هذا الحد ، فعلم أنه خبرٌ صَدرَ عن علام الغيوب .
وأيضا قد علمنا أن الدواعي إلى إيراد المعارضة لم تكن حبست عن المطامع ، وكانت الصنعة أيضا في نفسها أقوالا في أمثلة العرب ، ولم يكن يكمن فيها من الفساد ما يكمن الآن . وعلى استمرار الأزمان ، ومضي الأعصار ، تزداد الصنعة ضعفا ، والدواعي قلة - لما تعذر وقوعه - فلما تعذر وقوعها (1) فيما سلف من الزمان ، كان وقوعها فيما بعد أيسر تعذرا .
وأيضا ظاهر الخطاب هو لأهل ذلك العصر ، وإن كنا قد عرفنا بدليل سوى الظاهر أن المراد به إلى آخر الدهر ، وإذا لم تقع المعارضة من أهل ذلك العصر ، وجب كون الخبر صدقا .
ومن ذلك قوله عز وجل: { قُلْ إِن كَانَتْ لَكُمُ الدَّارُ الآَخِرَةُ عِندَ اللّهِ خَالِصَةً مِّن دُونِ النَّاسِ فَتَمَنَّوُاْ الْمَوْتَ إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ (94) وَلَن يَتَمَنَّوْهُ أَبَدًا بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ } [البقرة] ، وقال أيضا في السورة التي يذكر فيها الجمعة: { قُلْ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ هَادُوا إِن زَعَمْتُمْ أَنَّكُمْ أَوْلِيَاء لِلَّهِ مِن دُونِ النَّاسِ فَتَمَنَّوُا الْمَوْتَ إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ (6) وَلَا يَتَمَنَّوْنَهُ أَبَدًا بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ } [الجمعة] ، فأخبر أنهم لا يتمنون الموت أبدا .
فوجد مخبَر الخبر على ما أخبر به ، ولم يقل أحد منهم: إني أتمنى الموت . هذا مع ما كان عليه اليهود من شدة الحرص على تكذيبه ، وإبطال دعواه ، وتوهين أمره ، حتى أنهم استهانوا بالموت ، وما يجري من القتل الذريع عليهم ، في جنب استمرارهم على معاداته ، وتحققهم
__________
(1) في المخطوط: وقوعه . ولعل الصواب ما أثبت .
بمناوأته ، فلو لا أن الخبر صدر من عند علام الغيوب ، لم يكن يجوز أن يورده النبي صلى الله عليه وآله وسلم ، خشية أن يظهر منهم ما يوجب تكذيبه .
ومن ذلك قوله عز وجل: { يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ مَا أُنزِلَ إِلَيْكَ مِن رَّبِّكَ وَإِن لَّمْ تَفْعَلْ فَمَا بَلَّغْتَ رِسَالَتَهُ وَاللّهُ يَعْصِمُكَ مِنَ النَّاسِ } [المائدة] ، يعصمه الله عز وجل من الناس كما وعده ، وجرى الأمر فيه إلى قبضه صلى الله عليه وآله وسلم ، على ما دل عليه الخبر .
وهذا أمر الغيب الذي لا يعلمه إلا الله سبحانه ، لأن الانسان لا يدري ما يجري عليه إلى أن يموت ، سيما من كان على مثل حاله صلى الله عليه وآله وسلم في كثرة الأعداء .
ومن ذلك قوله عز وجل: { وَإِذْ يَعِدُكُمُ اللّهُ إِحْدَى الطَّائِفَتِيْنِ أَنَّهَا لَكُمْ وَتَوَدُّونَ أَنَّ غَيْرَ ذَاتِ الشَّوْكَةِ تَكُونُ لَكُمْ } [الأنفال: 7] ، وهذه الآية قد تضمنت خبرين من أخبار الغيوب .
أحدهما: ما وعدهم الله عز وجل به من كون إحدى الطائفتين لهم ، وأنه يظفر بها ، والطائفتان:
أحدهما: العير التي كانت مع أبي سفيان .
والثانية: الذين خرجوا للمحاماة عنهم من أحزاب قريش ، فأظفرهم الله تعالى بأحزاب قريش يوم بدر ، وأنجز لهم الموعود .
فإن قيل: الآية نزلت بعد الكائنة ، وإذا كان هذا هكذا ، فليس فيه خبر عن الغيب ، لأنه خبر عن الواقع المعلوم ؟!
قيل له: الآية تضمنت تقدم الوعد على الكائنة ، لأن الوعد لا بد من أن يتقدم الموعود ، ولولا أنه كان معلوما عند أصحاب رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أن ذلك الوعد كان قد حصل لهم ، لم يكن النبي صلى الله عليه وآله وسلم ليتلو عليهم ما تلاه ، لأنه جرى (1) مجرى أن يقول لهم: قلت لكم أمس شيئا ، وهم يعلمون أنه لم يقله لهم ، وأنه يفضح القائل ، ويظهر كذبه ، وتقوُّله (2) بين أصحابه . فبان أن الوعد في الأمل (3) والوعيد كان قد تقدم . وأن الموعود جرى على ما وُعِدوا به . ومثل هذا لا يجوز أن يصدر إلا عن علام الغيوب سبحانه وتعالى .
ويبين ما قلناه من أن الوعد كان قد تقدم ، قوله عز وجل بعد هذه الآيات: { وَمَا جَعَلَهُ اللّهُ إِلاَّ بُشْرَى وَلِتَطْمَئِنَّ بِهِ قُلُوبُكُمْ } [الأنفال: 10] ، والبشرى لا تكون إلا قبل حصول الشيء . فدل ذلك أيضا على أنهم كانوا مبشرين قبل وقوعه .
الوجه الثاني الذي تضمنته الآية من الإخبار عن الغيوب ، قوله عز وجل: { وَتَوَدُّونَ أَنَّ غَيْرَ ذَاتِ الشَّوْكَةِ تَكُونُ لَكُمْ } [الأنفال: 7] ، وهي العير التي كانت مع أبي سفيان ، فأخبر عما في نفوسهم ، ولم يقل أحد منهم: إن الذي كان في نفسي خلاف ذلك .
__________
(1) في المخطوط: مجرى . ولعل الصواب ما أثبت .
(2) في المخطوط: ويقوله . ولعل الصواب ما أثبت .
(3) كذا في المخطوط .
على أن ذلك لو لم يكن معلوما أنه صدق ، وأنه من عند علام الغيوب ، كان النبي صلى الله عليه وآله وسلم لا يتلوه عليهم ، خشية أن يكون المخبَر بخلافه فيظهر كذبه .
فإن قيل: هذا معلوم لكل عاقل أنكر فيه ، فإن المعلوم من أحوال الناس أن الظفر بالأموال التي لا مدافع عنها ، أحب إليه من الظفر بالمقاتلة للذين (1) لا يظفر بهم إلا بعد شدة ، وبعد أن يقتل منهم من يقتل ، ويجرح من يجرح .
قيل له: هذا الذي ادعيتم غير مستمر ، وإن كان الأكثر ما ذكرتم . وذلك أن من الناس من يكون قتلُ الأعداء وأسرُهم وجرحُهم والظفر بهم ، أحب إليه من كثير من الأموال التي تأتيه عفوا ، ولهذا ترى الرجل ينفق ماله من طارف وتليد ليتوصل به إلى النكاية في العدو .
وإذا ثبت ذلك ، ثبت أن إخباره عن جميعهم - مع كونهم معروفين بشدة الحمية والعصبية - أنهم يودون أن غير ذات الشوكة تكون لهم ، خبر عن الغيب .
ومن ذلك قوله عز وجل: { قُل لِّلَّذِينَ كَفَرُواْ سَتُغْلَبُونَ وَتُحْشَرُونَ إِلَى جَهَنَّمَ وَبِئْسَ الْمِهَادُ (12) } [آل عمران] ، والخبر عن أن الكفار الذين كانوا يعادون رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يغلبون ، خبر عن الغيب الذي لا يعلمه إلا الله تعالى ، ولأنه لا سبيل لأحد إلى أن يعلم أن أولئك الكفار ، مع كثرة عددهم ، ووفور عددهم ، هم
__________
(1) في المخطوط: الذين . ولعل الصواب ما أثبت .
يغلبون لا محالة . وقد جرى الأمر على ما ورد الخبر به ، فإن جميعهم غُلِبوا وقُهِروا واستُذِلُّوا .
ومن ذلك قوله عز وجل: { هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدَى وَدِينِ الْحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ وَلَوْ كَرِهَ الْمُشْرِكُونَ (33) } [التوبة] ، ذكره عز وجل في السورة التي يذكر فيها التوبة ، والسورة التي يذكر فيها الصف ، والسورة التي يذكر فيها الفتح ، وفي هذه السورة آخر الآية: { وَكَفَى بِاللَّهِ شَهِيدًا (79) } [النساء: 79 ، 166 ، الفتح 28] ، فأكد الخبرَ هذا التأكيدَ ، وكرر ذكره في هذه السورة ، ثم أنجز الله عز وجل وعده لنبيه صلى الله عليه وآله وسلم بإظهار دين الاسلام ، ونشر دعوته في الآفاق ، فطبقت الشرق والغرب ، وعمت العرب والعجم ، وخلصت إلى الروم والهند والترك ، وصار كثير من البلدان المنسوبة إلى هؤلاء - أعني الروم والهند والترك - من بلاد الاسلام ، والفتوح إلى الآن متصلة ترد بها الأخبار ، من النواحي والأقطار .
فأما بلاد العرب والعجم - بحمد الله ومنِّه - فقد صارت كلها بلاد الاسلام ، ولم يبق أهل ملة من الملل ، ولا أمة من الأمم ، إلا نفذ فيهم الاسلام ، حتى صار هذا الدين أعلى الأديان كلمة ، وأرفعها حكمة ، ولو كره المشركون ، كما قال الله عز وجل .
وليس يخفى على عاقل أنصف نفسه أن الخبر بهذا ، خبر عن الغيب الذي لا يطلع عليه أحد إلا الله عز وجل ، الذي يعلم ما كان
وما يكون وما لا يكون أن لو كان كيف كان يكون ، فسبحانه لا نشرك به شيئا ، ولا نتخذ من دونه إلها ولا وليا !!
وفي هذا المعنى قال صلى الله عليه وآله وسلم وصدق ، ونحن على ذلك من الشاهدين: (( زويت لي الأرض ، فأُرِيتُ مشارقها ومغاربها ، وسيبلغ ملك أمتي ما زوي لي منها )) (1) .
ومن ذلك قوله عز وجل: { الم (1) غُلِبَتِ الرُّومُ (2) فِي أَدْنَى الْأَرْضِ وَهُم مِّن بَعْدِ غَلَبِهِمْ سَيَغْلِبُونَ (3) فِي بِضْعِ سِنِينَ لِلَّهِ الْأَمْرُ مِن قَبْلُ وَمِن بَعْدُ وَيَوْمَئِذٍ يَفْرَحُ الْمُؤْمِنُونَ (4) بِنَصْرِ اللَّهِ } [الروم] ، وهذه الآية قد تضمنت ثلاثة من الأخبار عن الغيوب .
أحدها: قوله عز وجل: { وَهُم مِّن بَعْدِ غَلَبِهِمْ سَيَغْلِبُونَ (3) } ، هذا من الغيب الذي لا يعلمه إلا الله عز وجل .
والثاني: قوله: { فِي بِضْعِ سِنِينَ } ، والبضع: فوق الثلاثة ودون العشرة ، وهذا التحديد أيضا من الغيب الذي لا يعلمه إلا الله .
والثالث: قوله عز وجل: { وَيَوْمَئِذٍ يَفْرَحُ الْمُؤْمِنُونَ (4) بِنَصْرِ اللَّهِ يَنصُرُ مَن يَشَاء } ، فأخبر أنهم يفرحون في ذلك الوقت بنصر الله .
وهذا أيضا من الغيب ، لأنه خبر عن بقاء المؤمنين إلى ذلك الوقت مع قلتهم ، وطمع الأعداء في ابتسافهم (2) . وعن أنهم يفرحون ، ولا تعرض هناك أحوال تمنعهم الفرح ، لأن هذه الآية نزلت بمكة قبل
__________
(1) أخرجه مسلم في صحيحه 4/2215(2889) ، والترمذي في سننه 4/473(2176) .
(2) كذا في المخطوط .
الهجرة ، في حال ضعف المسلمين وقلتهم ، واستيلاء المشركين عليهم ، والقصة في ذلك مشهورة ، وهي (( أن الفرس كانوا غلبوا الروم ، ففرح لذلك المشركون واغتم المسلمون ، لأن الروم كانوا أهل الكتاب ، فكان المسلمون بهم آنس ، والفرس كانوا مجوسا ، وكان المشركون بهم أشبه . فأنزل الله عز وجل: { وَهُم مِّن بَعْدِ غَلَبِهِمْ سَيَغْلِبُونَ (3) فِي بِضْعِ سِنِينَ } ، ففرح المسلمون ، وأنكره المشركون واستبعدوه ، فخاطر (1) أبو بكر أمية بن خلف الجمحي ، على أن تعود الغلبة للروم على الفرس إلى ثلاث سنين ، وظن أن بضع معناه: ثلاث ، فقال له رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: (( زد في الأجل وفي الخطر )) ، وكان ذلك قبل نزول التحليل والتحريم ، وحين كانت المخاطرة مباحة ، ففعل أبو بكر ذلك ، وظهرت الروم على فارس لتمام سبع سنين ، ففرح المسلمون يومئذ )) (2) .
والنصر الذي ذكر الله عز وجل أن المؤمنين به يفرحون .
فقد قيل: إنه نصر الله عز وجل نبيه صلى الله عليه وآله وسلم ، بما أظهر له من الاعجاز الظاهر ، بإطلاعه على هذا الغيب الذي لا يعلمه إلا الله عز وجل ، لأن فيه آية بينة ، ودلالة واضحة على نبوته .
__________
(1) المخاطرة: الرهان .
(2) أخرجه ابن جرير ، انظر الدر المنثور6/483 .
ويحتمل أيضا أن يكون المراد به (1) أن ذل الفرس كان فيه قوة للمسلمين ، ونصرة لهم على المشركين ، لِمَا كان من ميل المشركين إليهم ، وطمعهم في الإعتضاد بهم ، لأن الله عز وجل لا يجوز أن ينصر الكفار بعضهم على بعض ، وإن كان جائزاً أن يزيد في خذلان بعضهم ، إذا كان في ذلك ضرب من المصلحة .
ومن ذلك قوله عز وجل: { يُرِيدُونَ أَن يُطْفِؤُواْ نُورَ اللّهِ بِأَفْوَاهِهِمْ وَيَأْبَى اللّهُ إِلاَّ أَن يُتِمَّ نُورَهُ وَلَوْ كَرِهَ الْكَافِرُونَ (32) } [التوبة] ، وقال في السورة التي يذكر فيها الصف: { يُرِيدُونَ لِيُطْفِؤُوا نُورَ اللَّهِ بِأَفْوَاهِهِمْ وَاللَّهُ مُتِمُّ نُورِهِ وَلَوْ كَرِهَ الْكَافِرُونَ (8) } [الصف] ، فوعد عز وجل أن يتم أمر الدين الذي ابتعث به نبيه صلى الله عليه وآله وسلم على كره من أعدائه الكفرة ، ومع كونهم مريدين اطفاء نور الحق وطمسه ، فجرى الأمر فيه على ما وعد . وهذا من الغيب الذي لا يطلع عليه إلا الله عز وجل .
ومن ذلك قوله عز وجل: { وَيَنصُرَكَ اللَّهُ نَصْرًا عَزِيزًا (3) } [الفتح] بعد قوله: { إِنَّا فَتَحْنَا لَكَ فَتْحًا مُّبِينًا (1) . . . } [الفتح] . . . إلى آخر الآية .
ومن المعلوم أن نصر الله عز وجل لنبيه صلى الله عليه وآله وسلم إلى أن اختار الله له دار كرامته ، كان نصرا عزيزا ، وهذا مما لا يجوز أن يكون اطلع عليه إلا الله عز وجل .
__________
(1) في المخطوط: له . ولعل الصواب ما أثبت .
ومن ذلك قوله عز وجل: { وَإِذْ يَقُولُ الْمُنَافِقُونَ وَالَّذِينَ فِي قُلُوبِهِم مَّرَضٌ مَّا وَعَدَنَا اللَّهُ وَرَسُولُهُ إِلَّا غُرُورًا (12) } [الأحزاب] ، يعني: يوم الأحزاب ، ثم يقول بعد ذلك: { وَلَمَّا رَأَى الْمُؤْمِنُونَ الْأَحْزَابَ قَالُوا هَذَا مَا وَعَدَنَا اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَصَدَقَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ } [الأحزاب: 22] ، فدل بهاتين الآيتين (1) على أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم كان وعد أصحابه وعداً ظاهراً ، أن الأحزاب يأتون ، وأن الله ينصرهم عليهم ، حتى عرفه المؤمنون والمنافقون وانتشر فيهم ، حتى قال المنافقون: { مَّا وَعَدَنَا اللَّهُ وَرَسُولُهُ إِلَّا غُرُورًا (12) } ، وقال المؤمنون حين رأوا الأحزاب: { هَذَا مَا وَعَدَنَا اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَصَدَقَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ } ، وهذا مما لا يعلمه ولا يطلع عليه إلا الله عز وجل ، لأنه لا سبيل إلى العلم بأن الأحزاب يأتونه ، وأنهم مع قوتهم وكثرتهم ينهزمون لا محالة .
فإن قيل: هذه الآية نزلت بعد يوم الأحزاب .
قيل له: هذا وإن كان كذلك ، ففيها دلالة على أن الوعد به كان قد تقدم .
ألا ترى إلى ما حكى الله تعالى عن المؤمنين والمنافقين في ذلك . والنبي صلى الله عليه وآله وسلم تلا ذلك عليهم ، ولو لم يكن الأمر كذلك ، لم يكن ليتلو صلى الله عليه وآله ذلك عليهم ويدعيه ، لئلا
__________
(1) في المخطوط: بهاتان الآيتان . والصواب ما أثبت .
يكون منبهاً لهم على كذبه ، حاشاه صلى الله عليه وآله وسلم من ذلك !!
ومن ذلك قوله عز وجل: { وَيَسْتَأْذِنُ فَرِيقٌ مِّنْهُمُ النَّبِيَّ يَقُولُونَ إِنَّ بُيُوتَنَا عَوْرَةٌ وَمَا هِيَ بِعَوْرَةٍ إِن يُرِيدُونَ إِلَّا فِرَارًا (13) } [الأحزاب] ، فأخبر عما في ضمائرهم من إرادة الفرار ، تعللا بأن بيوتهم عورة ، وهذا لو لم يكن كذلك ، لظهر منهم إنكاره .
ومن ذلك قوله في السورة التي يذكر فيها { ص وَالْقُرْآنِ ذِي الذِّكْرِ (1) } [ص] ، { جُندٌ مَّا هُنَالِكَ مَهْزُومٌ مِّنَ الْأَحْزَابِ (11) } [ص] ، وهي سورة مكية . أولها: ذكر قريش ، وما كان من قولهم: { هَذَا سَاحِرٌ كَذَّابٌ (4) } [ص] ، فأخبر عز وجل في حال ضعف النبي صلى الله عليه وآله وسلم وقلة أنصاره ، وقوة مشركي قريش ، أنهم جند مهزوم . فكان الأمر على ما أخبر به - عز وجل - هزموا يوم بدر .
وكذلك قوله في السورة التي يذكر فيها القمر ، وهي أيضا سورة مكية ، مخاطباً لقريش: { أَكُفَّارُكُمْ خَيْرٌ مِّنْ أُوْلَئِكُمْ أَمْ لَكُم بَرَاءةٌ فِي الزُّبُرِ (43) أَمْ يَقُولُونَ نَحْنُ جَمِيعٌ مُّنتَصِرٌ (44) سَيُهْزَمُ الْجَمْعُ وَيُوَلُّونَ الدُّبُرَ (45) } [القمر] ، فأخبر أنهم يهزمون ويولُّون الدبر ، وهذا أمر الغيب الذي لا يعلمه إلا الله عز وجل .
ومن ذلك قول الله عز وجل: { إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُواْ يُنفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ لِيَصُدُّواْ عَن سَبِيلِ اللّهِ فَسَيُنفِقُونَهَا ثُمَّ تَكُونُ عَلَيْهِمْ حَسْرَةً ثُمَّ يُغْلَبُونَ }
[الأنفال: 36] ، فكان الأمر على ما أخبر به عز وجل ، لأن الكفار أنفقوا ما أنفقوا من الأموال للخروج إلى أحد ، وصار في آخر الأمر عليهم حسرة .
وكذلك ما أنفقوا لجمع الأحزاب ، وما أنفقه مالك بن عوف حين جمع هوازن يوم حنين ، صار جميع ذلك حسرة عليهم ، وغلبوا ، على ما أخبر الله عز وجل ، وهذا أيضا من الغيب الذي لا يطلع عليه أحد إلا الله عز وجل ، وليس لأحد أن يدعي أن هذه الآية نزلت بعد الانفاق ، لقوله عز وجل: { فَسَيُنفِقُونَهَا } ، والسين إذا دخلت على الفعل المضارع حققت أنه للاستقبال . فدلَّ ذلك على أن الآية نزلت قبل الإنفاق .
ومن ذلك قول الله عز وجل: { قَاتِلُوهُمْ يُعَذِّبْهُمُ اللّهُ بِأَيْدِيكُمْ وَيُخْزِهِمْ وَيَنصُرْكُمْ عَلَيْهِمْ وَيَشْفِ صُدُورَ قَوْمٍ مُّؤْمِنِينَ (14) وَيُذْهِبْ غَيْظَ قُلُوبِهِمْ } [التوبة] ، فجرى الأمر على ما أخبر الله عز وجل به ، فإنه تبارك وتعالى عذَّب الكفار بأيدي المؤمنين ، إذ أمكنهم من قتلهم وأسرهم وسبي ذراريهم ، وأورثهم أرضهم وديارهم وأموالهم وأخزاهم ، كما وعد سبحانه . ونصر المؤمنين عليهم وشفى صدورهم ، وأذهب غيظ قلوبهم كما أخبر . وهذا مما لا يجوز أن يعلمه قبل كونه إلا الله عز وجل .
ومن ذلك قوله عز وجل: { أَلَمْ تَر إِلَى الَّذِينَ نَافَقُوا يَقُولُونَ لِإِخْوَانِهِمُ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ لَئِنْ أُخْرِجْتُمْ لَنَخْرُجَنَّ مَعَكُمْ
وَلَا نُطِيعُ فِيكُمْ أَحَدًا أَبَدًا وَإِن قُوتِلْتُمْ لَنَنصُرَنَّكُمْ وَاللَّهُ يَشْهَدُ إِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ (11) لَئِنْ أُخْرِجُوا لَا يَخْرُجُونَ مَعَهُمْ وَلَئِن قُوتِلُوا لَا يَنصُرُونَهُمْ } [الحشر] ، وهذه قصة مشهورة ، وهي قصة بني النضير ، وذلك أنهم كانوا في عهد رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فغدروا ونقضوا العهد ، وهموا باغتيال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ، فأوحى الله بذلك إلى نبيه صلى الله عليه وآله وسلم وبما تآمروا بينهم . وهذا إحدى المعجزات .
ثم تقدم إليهم رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم بمفارقة موضعهم ، والجلاء عنه ، وأعلمهم أنهم نقضوا العهد وبما تآمروه بينهم .
فأذعنوا وعزموا على الجلاء ، فراسلهم عبد الله بن أبي بن سلول ، وكان من كبار المنافقين ، ووعدهم بالنصرة . وأنه مع أصحابه معهم ، وأنهم إن خرجوا إلى الجلاء أجلوا معهم ، وإن قاتلوا نصروهم ، وأنهم لا يطيعون فيهم رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ، فشهد الله عز وجل أنهم لكاذبون ، وأنهم لا يفون لليهود بما وعدوهم ، فجرى الأمر في ذلك على ما أخبر الله به عز وجل وشهد به عليهم ، وأن النبي صلى الله عليه وآله وسلم أخرج بني نضير عن حصونهم ، فلم يخرج المنافقون معهم ، ولا نصروهم في قتل رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم بني قريظة صبرا ، وسبي ذراريهم ونسائهم بعد ما حاصرهم ، وحارب أهل
خيبر حتى ظفر بهم وبديارهم وأموالهم ، فلم ينصروهم ، كما أخبر الله عز وجل في ذلك عنهم ، فكان في القصة ثلاث من المعجزات:
إحداها: أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم كان مضى إلى بني النضير ، ومعه أمير المؤمنين عليه السلام وأبو بكر وعمر وغيرهم ، في أمر كان عرض ، وجلس مستندا (1) إلى جدار حصنهم صلى الله عليه وعلى آله وسلم ، فتآمروا فيما بينهم ، واتفقوا على أن يرسلوا عليه من فوقه صخرة تقتله ، فأتاه الوحي في الحال ، وعرف ما كانوا تآمروا ، فقام في الوقت من موضعه ذلك وعاد إلى المدينة ، ولم يعرف أحد من أصحابه السبب في ذلك ، إلى أن عرَّفهم صلى الله عليه وآله وسلم ذلك .
فكان ذلك أمرا واضحا في وقوفه على سرهم ، من غير خبر أتاه من جهة أحد من الناس ، ولا يجوز أن يكون إلا من جهة الوحي .
والثانية: ما أخبر من سر المنافقين ومراسلتهم ، فإنهم كانوا مجتهدين في إخفاء ذلك .
والثالثة: خبره عز وجل عنهم أنهم كاذبون ، وأنهم لا يفون لهم بما وعدوهم ، فجرى الأمر على ذلك .
ومن ذلك قوله عز وجل بعد هذه القصة: { لَا يُقَاتِلُونَكُمْ جَمِيعًا إِلَّا فِي قُرًى مُّحَصَّنَةٍ أَوْ مِن وَرَاء جُدُرٍ } [الحشر: 14] ، فجرى الأمر على ما أخبر عز وجل . فإن من قاتل منهم لم يقاتل إلا من { وَرَاء
__________
(1) في المخطوط: مسندا . ولعل الصواب ما أثبت .
جُدُرٍ } ، ولم يبرزوا للنبي صلى الله عليه وآله وسلم كما برز المشركون يوم بدر ، ويوم أحد وحنين . وهذا مما لا يجوز أن يطلع على حقيقته إلا الله عز وجل ، العالم بالمغيبات .
ومن ذلك قوله عز وجل في اليهود: { وَإِذْ تَأَذَّنَ رَبُّكَ لَيَبْعَثَنَّ عَلَيْهِمْ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ مَن يَسُومُهُمْ سُوءَ الْعَذَابِ } [الأعراف:167] ، وقد علمنا [ذلك] من أحوالهم ، لأنهم في جميع المواضع مقهورون مستذلون ، لا يمكنهم الثبات إلا مع الجزية والصغار ، وأحوالهم خلاف أحوال النصارى . فإن للنصارى دارا (1) ومملكة مثل الروم وما حوله ، على ما أخبر الله تعالى في القلة والذلة .
ومن ذلك قوله عز وجل: { تَبَّتْ يَدَا أَبِي لَهَبٍ وَتَبَّ (1) . . . } [المسد] إلى آخر السورة . وذلك إخبار عن موته على الكفر ، وجرى مخبره على ما أخبر به عز وجل ، وهو مما لا يعلمه إلا علام الغيوب .
ولهذه الآيات في القرءان نظائر ، وفيما ذكرنا كفاية وبلاغ لمن نصح نفسه ، وأنصف عقله ، واتبع رشده .
فإن قيل: ولم ادعيتم أن الإخبار عن الغيوب يتضمن الاعجاز الذي إذا أتى به إنسان وادعا النبوة ثبتت نبوته ؟ وما أنكرتم أن يصح ذلك من المنجم الذي يخبر عن الشيء ، فيتفق أن يكون مخبره على ما أخبر به ؟!
__________
(1) في المخطوط: دار . والصواب ما أثبت .
قيل له: لأن الخبر عن الغيب على وجه يكون صدقا على جهة الاستمرار ، لا يصح إلا من العالم به ، لأن ذلك لو صح من غير العالم ، لم يمكن (1) الاستدلال بالفعل المحكم المتقن ، على أن فاعله عالم ، لأن من جوَّز ذلك ، يلزمه أن تكون الأفعال الكثيرة المنتظمة المتسقة تقع من المبَخِّت الذي ليس بعالم به ، لأن الخبر الصدق في حكم الفعل المتقن ، في احتياجه إلى أن يكون الفاعل له عالما ، وهذه الجمل هي من علوم البدايه (2) التي لا تعزب عن كامل العقل ، بل عن المراهق ، وإن لم يبلغ كمال العقل .
فإن قيل: كيف ادعيتم أن ذلك من البدايه ، وأنتم تجدون كثيرا من العقلاء ، يعتقدون في الكهان والمنجمين ، أنهم يجوز أن يخبروا عن الغيوب ؟
قيل لهم: إنهم لا يجوزون ذلك ، إلا إذا اعتقدوا أنهم عالمون بذلك ، وليس ذلك خلاف ما ادعيناه ، من أن العلم بأن الاخبار عن الغيب لا يصح إلا من العالم .
ومن جملة البدايه أن أولئك أخطأوا ، حين اعتقدوا أن هؤلاء يعلمون الغيب ، ولم يعتقدوا أنهم أخبروا من غير أن يعلموا (3) .
__________
(1) في المخطوط: يكن . والصواب ما أثبت .
(2) في المخطوط: البداية . والصواب ما أثبت .
(3) في المخطوط: علموا . ولعل الصواب ما أثبت .
فإن قيل: فإنا نجد من يعتقد في كثير من المجانين أنهم يخبرون عن الغيب .
قيل له: هؤلاء يعتقدون أن الجن هم الذين ينطقون على ألسنتهم ، وأن الجن يعلمون ذلك ، فليس في العقلاء من يضيف الإخبار عن الغيب إلا إلى العالم به ، على بعض الوجوه .
وقد رأيت من سخفاء الفلاسفة من يذهب إلى أن الانسان إذا احتمل ربما أخبر عن الغيب . ومن يقول ذلك ، يذهب إلى أن النفس عالمة ، فإذا احتمل خلُصت النفس ، وجرى مجرى النائم الذي يرى ما يكون مما لم يكن بعد في نومه . وهذا وإن كان هذيانا لا يؤبه له ، وكان ما يراه النائم على خلاف ما ذهبوا إليه ، فإنا ذكرناه لنبيِّن أنه لا أحد من العقلاء يعتقد أن المخبِر عن الغيب إذا كثر[ت] أخباره ، واستمرت على وجه يكون صدقا ، يجوز أن يكون غير عالم ، فإذا ثبتت هذه الجملة ، نقول: إن الانسان قد ثبت أنه عالم بعلم يتجدد له ، والعلم لا يخلو من أن يكون ضروريا أو مكتسبا .
وقد علمنا أنه لا طريق يمكن للإنسان أن يكتسب به العلم بالغيوب ، لأن العلوم تكتسب بالنظر في الأدلة ، ولا أدلة على الغيوب ، فلم يبق إلا أن مَن علم الغيوب يعلمه بعلم يضطره الله إليه ، أو بخبر يأتيه من قبله عز وجل ، وأيهما كان معجزا . لأنه متعذر على جميع الخلق الاتيان به ، إلا من خصه الله عز وجل به ، كفلق البحر ، وقلب العصا حية ، وإحياء الموتى ، وإبراء الأكمه والأبرص .
فإن قيل: ما أنكرتم على من قال لكم: إن النبي صلى الله عليه وآله وسلم علم تلك الغيوب من طريق التنجيم ، كما يعرفها حذاق المنجمين ، وإذا صار ذلك لم يجب كونه معجزا على ما ادعيتموه ؟!
قيل له: هذا يسقط من وجهين:
أحدهما: أن المنجم لا يمكنه أن يخبر عن تفاصيل الأمور ، ولا يحصل له العلم بذلك ، وإنما يحصل له غالب الظن . لذلك يصيب في شيء ، ويخطيء في غيره . وذلك من أحوال المنجمين معلوم .
يبيِّن ذلك أنهم يدَّعون أن في جملة الكوكب الثابتة وهي التي تسمى: بيابيات كواكب كثيرة ، لا يعرفها أحد من الناس ، وفيها السعود والنحوس ، وإن حصول ما يحصل منها في الطالع ، يغيِّر الاحكام من غير أن يشعر بها المنجم ، فيعتذرون للخطأ الذي يتفق لهم بذلك ، وربما نسبوه إلى خطأ أصحاب الرصد ، وربما ينسبون بعض الزيجات إلى أن فيها خطأ كثيرا ، وكل ذلك لأن الصواب لا يستمر لهم ، لأنهم لا يمكنهم أن يحكموا تفاصيل الأمور ، وليس كذلك إخبار الله عز وجل في القرءان عن الغيوب . فوجب أن يكون صَدَرَ عن علام الغيوب ، الذي لا تخفى عليه خافية تبارك وتعالى .
والوجه الثاني: أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم لو كان بلغ في علوم النجوم المبلغ الذي كانت له هذه الأمارات من أجلها - مع استحالة ذلك - لوجب أن يظهر اشتغاله بها ، وصرف العناية إليها ،
وأخذها عن أهلها . ولم يكن للعرب اختصاص بهذا الجنس من العلم ، ولم يُعرف أحد منهم به ، ولم يكن يجوز أن يخفى عليهم .
ومن المعلوم أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم كان مولده ومنشؤه في أقوام لم يتعاطوا هذا العلم ، ومسافرته إلى الشام قبل البعثة كانت مع قومه ، وكانت أياما قليلة . فبان بما بيناه أنه لم يكن من أهل هذه الصنعة .
على [أن] المتعاطي لهذه الصنعة إذا بلغ مبلغ المتوسطين منها ، فلا بد له من مدارسة أهله ، والنظر في كتبهم ، بل لا بد له من آلات يعرف بها الطوالع التي يبني عليها الاحكام . فكيف من بلغ الغاية ؟! وإذ قد علمنا أنه صلى الله عليه وآله وسلم لم يتعاط شيئا من ذلك ، ولم يشتغل به ، ولم يعرف شيئا منه ، فقد بطل قول من قال: إن ما أتاه عليه السلام أتاه من طريق النجوم .
وأيضا بمثل ما عرفنا أن الفرزدق وجريراً لم يكونا فقيهين ولا متكلمين ، وأن أبا حنيفة وأبا يوسف ومحمداً لم يكونوا شعراء ، وأن سيبويه لم يكن متكلما ، وأن أبا الهذيل لم يكن متطببا ، وأن الشافعي لم يكن متفلسفا . نعلم أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم لم يكن منجما .
فإن قيل: ما أنكرتم أن يكون النبي صلى الله عليه وآله وسلم كان يرى ذلك في المنام ، وكان قد عرف من نفسه أنه صحيح الرؤيا ، فكان يخبر بما يرى ، تعويلا على ما عرف من نفسه ؟!
قيل له: إن المعتاد من أمر الرؤيا وصحتها ، معلوم أنه إلى أي حد يكون ، وإن كان صحيح الرؤيا قد تعرض له أضغاث الأحلام . والتعبير أيضا قد يقع فيه الخطأ كما يقع الصواب ، ولا يستمر الأمر فيه هذا الاستمرار ، وهو يوجب غالب الظن دون العلم المقطوع به ، فإذا كان الله عز وجل خص نبينا صلى الله عليه وآله وسلم من الرؤيا بما أبانه من سائر الخلق ، وبما هو ناقض للعادة ، فهو أيضا معجز دال على صحة نبوته .
فإن سألوا عن الفرق بينه صلى الله عليه وآله وسلم وبين الكاهن ، والذي ينظر في الكف ؟!
فالجواب عنه: أن الكهان لا يمكنهم الخبر عن تفاصيل الأمور على الاستمرار على وجه يكون صدقا ، وهذا معروف من أحوالهم ، لأنهم يقولون بأمور تعرض لهم ، وبأمارات تظهر لهم ، وإن أصاب الواحد منهم ، ففي شيء على سبيل الاتفاق ، ويخطئون في أشياء يظهر فيها كذبهم .
وكذلك من ينظر في الكف . إنما يخبر عن جمل الأحوال ، ولهم كلام في ذكر الأمارات الدالة على الأمور ، والأوراق المصنفة لهم في ذلك ، يذكرون حال العَظْم ، وما يظهر فيه من النقْط والتخطيط ، ومواضع ذلك من العظم الذي هو الكف ، وليس يمكنهم الخبر عن تفاصيل الأمور ، وأكثر ما يحكى من ذلك حكايات يغلب على الظن أنها كذب ، وإن صح شيء من ذلك فعلى سبيل الاتفاق ، على أنه
يجوز أن تكون الأمارات مما يظهرها الله عز وجل على مجرى العادة لكل ناظر . هذا إن صح ما يُدَّعا من ذلك . وليس الاخبار عن الغيوب التي يتضمنها القرءان مشابهاً لشيء من ذلك ، فبان وصح أنه وارد من عند علام الغيوب .
فإن قيل: ما أنكرتم على من قال لكم: يجوز أن يكون النبي صلى الله عليه وآله وسلم ظفر ببعض أحوال الأنبياء المتقدمين صلى الله عليهم عن تلك الغيوب ، فادعاه لنفسه ؟!
قيل له: لا يخلو وقوع ما سألتم عنه إليه صلى الله عليه [وآله وسلم] إن كان على ما ذكرتم - ومعاذ الله من ذلك - أن يكون على طريق التواتر أو على طريق الآحاد ، ولا يجوز أن يكون على سبيل التواتر ، لأن ذلك يوجب كون تلك الأخبار ظاهرة في زمانين بين أهل الكتاب . والمعلوم خلاف ذلك .
ولا يجوز أن يكون وقوعه على طريق الآحاد ، لأن ذلك مما لا تسكن النفس إليه ، ولا يجوز أن يعتمده العاقل في بناء الأمر عليه ، على ما بيناه في نظائره فيما تقدم من كلامنا في هذا الكتاب .
فإن قيل: ما أنكرتم أن يكون النبي صلى الله عليه وآله وسلم سمع تلك الأخبار ممن شاهده ورءآه ، واتفق صدقه بما شاهده من معجزاته فأظهرها ، وادعا أنه عرفها بالوحي ؟
قيل له: لو كان ذلك كذلك ، لوجب على الله عز وجل المنع منه ، بأن يحول بينه وبين سماعها ، وبينه وبين إظهارها ، أو بأن يُظِهر تلك
الأخبار لغيره ، على وجه لا يمكن التمويه ، لأن ذلك لو كان على ما قلتم ، لكان شبهة لا يمكن حلها ، وكل شبهة لا يمكن حلها يجب على الله عز وجل المنع منها .
على أن هذا السؤال لا بد من أن يتضمن الاقرار بالنبوات والمعجزات .
ويمكن أن يسأل في كل معجز وما (1) يجري هذا المجرى ، بأن يقال: يجوز أن يكون عيسى صلى الله عليه ظفر ببعض الخواص التي يحيي بها الموتى ، ويبرئ الأكمه والأبرص ، وأن يكون موسى صلى الله عليه ظفر ببعض منها ، يقلب بها العصا حية ، ويفلق البحر ، وليس الجواب عن ذلك إلا ما قلناه ، من أن ذلك - لو كان - شبهة لا يمكن حلها ، ويجب على القديم تعالى المنع منها . فكذلك جواب هذا السؤال ، إذا سألنا عنه . وهذا الكلام أيضا مما تقدم بيانه في كتابنا هذا .
- - -
__________
(1) في المخطوط: بم . ولعل الصواب ما أثبت .
ذكر جملة من المعجزات التي وردت بها الأحاديث
من المشهور الظاهر ما روي عن النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم أنه قال لعمار: (( تقتلك الفئة الباغية )) (1) ، وهذا جرى مخبَره بعد نحو من ثلاثين سنة على ما أخبر به صلى الله عليه وآله وسلم ، وهذا الحديث معلوم صحته ، لا إشكال فيه ولا لبس عند أهل النقل .
وذلك لما اشتهر من تفاوض أصحاب معاوية لعنه الله فيه ، واضطراب معاوية في تأويله ، فمرة يقول: أنحن قتلناه ؟! إنما قتله من جاء به - يعني عليا عليه السلام - حتى قال علي عليه السلام حين بلغه ذلك: (( فعلى هذا يجب بأن يكون النبي صلى الله عليه وآله وسلم قتل حمزة بن عبد المطلب حين حمله إلى أحد )) (2) .
ومرة يقول: نحن البغاة ، لأنا نبغي دم عثمان .
فلولا أن الحديث كان مشهورا فيما بينهم ، قد عرفوه ضرورة بالشهرة والاستفاضة ، وبكثرة من سمعه من النبي صلى الله عليه وآله وسلم لأنكره معاوية ، ولم يشتغل بتلك التأويلات البعيدة .
وقد روى أهل النقل أن ذا الكلاع كان يفاوض معاوية لعنه الله في هذا الحديث ويضطرب في قتل عمار ، فكان معاوية يلبِّس عليه ،
__________
(1) أخرجه البخاري في صحيحه 1/172(436) ، ومسلم في صحيحه 4/2235(2915) .
(2) وقعة صفين /343.
ويقول له: ما يقتل عماراً غير أهل العراق ، فإنا نقتله عن رأيه ونستدعيه إلينا ، وسيقتل في جملة عسكرنا ، إلى أن قتل ذو الكلاع في جملة أصحاب معاوية ، وعمار رضي الله عنه في جملة أصحاب علي صلوات الله عليه في يوم واحد ، فكان معاوية لعنه الله يقول: (( أنا بقتل ذي الكلاع أسر مني بقتل عمار ، فإنه لو بقي بعد عمار أفسد عليَّ عسكري )) (1) ، فكل ذلك يدل على أن الحديث كان معلوما عندهم .
وأيضا (( إن الزبير اضطرب يوم الجمل حين بلغه أن عماراً رضي الله عنه في عسكر علي عليه السلام ، وجعل يروِّح عن نفسه بمنعه ما بلغه التصديق ، إلى أن أخرج عينا (2) له ، فرجع وعرَّفه أنه في جملتهم ، فقال الزبير: واقطع ظهراه ، واجدع أنفاه . ووقع عليه الأفكل ، حتى قعقع ما عليه من السلاح )) (3) ، وذلك لما عرف من قول النبي صلى الله عليه وآله وسلم: (( تقتله الفئة الباغية )) .
ومن الخبر المشهور الذي لا يرتاب فيه أهل النقل ، وهو معلوم بينهم ، ما كان من (( النبي صلى الله عليه وآله وسلم من إنذار عائشة ، وتعريفه إياها: أن كلاب الحوأب تنبحها في مسراها ، وأنها لما بلغت الحوأب ونبحتها كلابها ، سألت الجمَّال عن ذلك الموضع ؟ فعرَّفها أنه الحوأب ، فأمرت أن يناخ بعيرها ، وفزعت واضطربت ، حتى جاء بها
__________
(1) وقعة صفين /341. وشرح نهج البلاغة8/24.
(2) أي: جاسوساً .
(3) رواه الشيخ المفيد في الإرشاد 2/98. والمجلسي في بحار الأنوار 15/214.
أصحابها ، وحلف - على ما في الخبر - نحو (1) من ثلاثين رجلا أن ذلك الموضع ليس بحوأب )) (2) ، واشتهرت القصة فيه ، حتى ذكر كلاب الحوأب أهل اللغة في كتبهم .
وقال الخليل في كتاب (( العين )): (( الحوأب موضع حيث نبحت الكلاب عائشة )) ، وقال ثعلب في كتاب (( الفصيح )): (( وهي كلاب الحوأب مهموز - يعني الحوأب )) ، وقد ذكر[ه] أيضا القتيبي في (( أدب الكتاب )) ، ولشهرة هذه القصة لا يكاد يذكر الحوأب إلا ويذكر الكلاب التي نبحت عائشة .
ومن الخبر المشهور قوله صلى الله عليه وآله وسلم لعلي: (( إنك تقاتل بعدي الناكثين والقاسطين والمارقين )) (3) ، يعني بالناكثين: أصحاب الجمل ، والقاسطين: أهل الشام ، والمارقين: أهل النهروان ، فكان كل ذلك على ما أخبر صلى الله عليه وآله وسلم .
__________
(1) في المخطوط: نحوا . والصواب ما أثبت .
(2) رواه ابن قتيبة في الإمامة والسياسة /55 . وهو في كنز العمال برقم (31668) ، بلفظ: عن عائشة (( أن النبي صلى الله عليه وسلم قال لأزواجه: أيتكن التي تنبحها كلاب الحوأب ؟ فلما مرت عائشة ببعض مياه بني عامر ليلا نبحت الكلاب عليها ، فسألت عنه ؟ فقيل لها: هذا ماء الحوأب ، فوقفت وقالت: ما أظنني إلا راجعة ، إني سمعت رسول الله صلى الله عليه وآله سلم قال ذات يوم: كيف بإحداكن تنبح عليها كلاب الحوأب ؟! قيل لها: يا أم المؤمنين إنما تصلحين بين الناس )) . ورواه أيضا في كنز العمال برقم (31671) ، بلفظ: عن طاوس أن رسول الله صلى الله عليه وآله سلم قال لنسائه: (( أيتكن التي تنبحها كلاب كذا وكذا ، إياك يا حميراء )) .
(3) أخرجه الحاكم في المستدرك 3/ 148 (4668) ، و 3 (150) .
ومن المشهور قوله صلى الله عليه وآله وسلم لعلي: (( أشقى الأولين عاقر الناقة ، وأشقى الآخرين قاتلك ، يخضب هذه من هذه وأشار صلى الله عليه وآله وسلم إلى لحيته ورأسه )) (1) . فكان ذلك على ما أخبر به صلى الله عليه وآله وسلم .
ومن المشهور المستفيض حديث ذى الثدية ، وهو (( أن عليا عليه السلام لما قتل أهل النهروان قال: اطلبوا ذا الثدية ، فطُلِب ، فلم يوجد ، فقال علي عليه السلام: والله ما كَذبتُ ولا كُذِبت ، فاطلبوا . وما زالوا يطلبونه حتى وجدوه ، فإذا هو رجل مخدج اليد ، إذا مددتها امتدت ، وإذا أرسلتها انقبضت ، في رأسها حلمة كحلمة ثدي المرأة . فسُّر أمير المؤمنين عليه السلام وسُّر الناس )) (2) ، ولا يجوز أن يكون علي عليه السلام عرفه إلا بخبر رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم .
على أن في أكثر الأخبار أن عليا عليه السلام قال: (( إن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أخبرني أن فيهم رجلا يده كهيئة الثدي )) (3) .
ومن المشهور المستفيض الذي لا يرتاب فيه أهل النقل ، وأصحاب السير والتواريخ ، ولاشتهارها يعرفها كثير من العامة قصة كسرى ،
__________
(1) أخرجه الحاكم في مستدركه 3/122(4590) ، والطبراني في معجمه الكبير 1/106(173) ، وابن عمرو الشيباني في الآحاد والمثاني 1/147(174) ، والبيهقي في سننه الكبرى 8/59(15848) ، وأبو يعلى في مسنده 1/431 (569) ، وعبد بن حميد في مسنده 1/60(92) .
(2) أخرجه النسائي في السنن الكبرى 5/163(8569) .
(3) أخرجه عبد الرزاق في مصنفه 3/ 358(5962) ، وأبو داود في سننه 4/245(4769) .
وهو (( أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم كتب إليه كتابا يدعوه إلى شهادة أن لا إله إلا الله ، وأن محمدا رسول الله ، فلما ورد عليه الكتاب مزقه ، فلما بلغ رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم الخبر ، قال: مزق ملكه ، فكان كما قال صلى الله عليه وآله وسلم .
ثم غضب كسرى ، وكتب إلى صاحبه باذان ، وكان على اليمن ، يأمره بإشخاص رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ، فبعث باذان رسولين إليه صلى الله عليه وآله وسلم يُعرِّفانه بالصورة ، ويقولان له: أجب شاهنشاه الملوك: كسرى . فإنك إن فعلت ذلك كتب لك الملك باذان إليه ، ليحسن إليك ، وإن أبيت فهو من تعلم - يعنيان كسرى - يهلكك ويهلك قومك ، ويخرب ديارك .
فقال لهما رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: انصرفا وعودا إلي غدا . فأتاه صلى الله عليه وآله وسلم الوحي بأن كسرى وثب عليه ابنه شيرويه وقتله ، في ساعة كذا ، من ليلة كذا ، من شهر كذا ، فلما دخلا عليه صلى الله عليه وآله وسلم عَرَّفهما ما نزل الوحي به من وثوب شيرويه على أبيه كسرى وقتله له ، فاستعظما ذلك وعادا إلى باذان ، فقصا عليه القصص ، فقال باذان: ما هذا كلام ملك ، بل هو كلام نبي مرسل ، لكنا ننتظر ، فإن ورد الخبر بما قال ، فهو نبي مرسل لا شك فيه ، وإن يكن غير ذلك ، نرى فيه رأينا . فورد عليه كتاب شيرويه بذلك ، فأسلم باذان ومن معه من الفرس )) (1) .
__________
(1) بحار الأنوار 20 / 377 .
ولست أقول: إن هذا التفصيل مشهور عند كثير من العامة والخاصة ، وإنما أقول: إن قدر المعجز منه مشهور ، وهو ورود الرسل على رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم بالتهديد ، وتعريفه صلى الله عليه وآله وسلم إياهم أن كسرى قد قتل .
فأما أهل النقل فهم يعرفون القصة بشرحها وطولها . وقد حذفنا ما لم نحتج إليه منها .
ومن ذلك قصة العباس بن عبد المطلب (( حين أُسِرَ يوم بدر ، فلما جاء إلى المدينة قال له صلى الله عليه وآله وسلم: افْدِ نفسك وابني أخويك ، عقيل بن أبي طالب ، ونوفل بن الحارث .
قال: ليس لي مال .
قال: فأين المال الذي وضعته بمكة ، حين خرجت عند أم الفضل ليس معكما أحد ؟! ثم قلت لها: إن أُصبتُ في سفري هذا ، فللفضل كذا ، ولعبد الله كذا ، ولقثم كذا ، ولعبيد الله كذا .
فقال العباس: والذي بعثك بالحق ما عَلِمَ هذا غيري وغيرها ، وإني لأعلم أنك رسول الله صلى الله عليك ، ففدى العباس نفسه وابني أخويه )) (1) . وهذه قصة مشهورة ظاهرة عند أهل النقل .
ومن ذلك قصة عمير بن وهب الجمحي في سبب إسلامه ، وهي (( أنه وصفوان بن أمية الجمحي قعدا في الحجر يتذاكران قتلى بدر ، ويتوجعان لهم ، ويقول صفوان: لا خير في العيش بعدهم . فقال عمير:
__________
(1) أخرجه أحمد في المسند 1/353 (331 ) .
لولا دَين عليّ ، وما أخشى من ضيعة عيالي بعدي . ركبت إلى محمد بعلة أسيرٍ لي في أيديهم ، وقتلته .
فقال له صفوان: فعليَّ دينك . وعيالك أسوة بعيالي ، فتكاتما ذلك ، وخرج عمير حتى قدم المدينة ، ودخل على رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم متوشحا بسيفه ، فأقبل عمر حتى أخذ بحمالة سيفه في عنقه فلببه ، فلما رءاه رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قال: أرسله يا عمر ، ادن يا عمير . ما حاجتك ؟
قال: جئت للأسير الذي في أيديكم .
فقال صلى الله عليه وآله وسلم: أصدقني ما الذي جئت له ؟
قال: ما جئت إلا لذلك .
فقال له صلى الله عليه وآله وسلم: بل قعدت أنت وصفوان في الحجر ، وقص عليه ما كان جرى منهما . وقال له: جئت لتقتلني والله حائل بيني وبينك .
فقال عمير: أشهد أنك رسول الله . هذا أمر ما حضره غيري وغير صفوان ، وما أخبرك به إلا الله عز وجل ، فأسلم وشهد شهادة الحق ، وحسن إسلامه )) (1) .
ومن المشهور (( أن ناقة ضلت لرسول الله صلى الله عليه وآله وسلم في بعض غزواته ، فطلبوها ، فلم يجدوها ، فتكلم أهل النفاق وقالوا: إنه يخبرنا أخبار السماء ، ولا يدري أين ناقته ؟ فأتاه صلى الله
__________
(1) أخرجه الطبراني في المعجم الكبير17/58 ( 188) .
عليه وآله وسلم الوحي بموضعها وحالها ، فقال للناس: إني لا أعلم إلا ما علمني الله ، وإن الناقة في موضع بعينه - ذكره - قد تعلق زمامها بشجرة بعينها ، فمضوا وطلبوا فوجدوها كما أخبر به صلى الله عليه وآله وسلم )) (1) .
ومنها (( أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أخذ حفنة من الحصى ، فاستقبل بها قريشا ، ثم قال: شاهت الوجوه ، ثم نفحهم بها ، فكانت الهزيمة ، فأنزل الله عز وجل في ذلك: { وَمَا رَمَيْتَ إِذْ رَمَيْتَ وَلَكِنَّ اللّهَ رَمَى } [الأنفال: 17] )) (2) .
ولا يجوز أن يخاطب الله عز وجل في كتابه [رسوله] صلى الله عليه [وآله وسلم] إلا وذلك الرمي مشهور حاله عندهم ، لأن أحواله صلى الله عليه وآله وسلم في تلك الجملة (3) كانت معلومة لأصحابه ، ظاهرة فيهم لا خفاء بها (4) عندهم .
ومن ذلك (( نعيه النجاشي وهو صلى الله عليه وآله وسلم بالمدينة ، وصلاته عليه ، ثم ورد الخبر بموته في اليوم الذي كان نعاه )) (5) .
__________
(1) أمالي أبي طالب/67 (17) .
(2) أخرجه مسلم في صحيحه3/1402 (1777) ، وابن حبان في صحيحه 14/452(6520) .
(3) في المخطوط: الحملة . ولعل الصواب ما أثبت .
(4) في المخطوط: به . والصواب ما أثبت .
(5) أخرجه البخاري في صحيحه 1/420(1188) ، ومسلم في صحيحه 2/657(951) .
ولشهرته جعل كثير من الفقهاء تكبيره صلى الله عليه وآله وسلم أصلا في الصلاة على الجنائز .
ومن ذلك حديث المسرى فإن (( رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم لما أسري به إلى بيت المقدس ، وعاد إلى مكة في ليلة واحدة ، حدَّث أصحابه بما شاهد في طريقه ، فسئل عن عير كانت لقريش في الطريق ، فقال: لقيتها بمكان كذا ، ومررت عليها ، ففزع فلان . فقيل له: يا فلان ما رأيت ؟
فقال: ما رأيت شيئا ، إلا أن الإبل نفرت .
وقالوا له: أخبرنا متى تأتينا ؟
قال: تأتيكم يوم كذا وكذا ، يقدمهم جمل أورق ، عليه غرارتان ، أحدهما: سوداء . والأخرى: بيضاء .
قالوا: أي ساعة ؟
قال: ما أدري أطلوع الشمس من هاهنا أسرع ، أو طلوع العير من هاهنا ؟!
قال: فلما كان ذلك اليوم بعثوا رجلا من هاهنا ، ورجلا من هاهنا . فقال رجل: هذه الشمس قد طلعت ، وقال الآخر: هذه عيركم قد طلعت )) (1) .
__________
(1) أخرجه الطبراني في الكبير 7/282 (7142) ، والصدوق في أماليه /448 ، وانظر سيرة ابن هشام 2/ 43-44.
وقال أيضا صلى الله عليه وآله وسلم: (( مررت بالعير فوجدت أربابها نياما ، ولهم إناء فيه ماء ، وقد غطوا عليه ، فكشفت غطاءه وشربت ما فيه ، ثم رددت الغطاء كما كان . وإن القوم لما وردوا سئلوا عن الإناء وحاله ، فكان الأمر على ما قال صلى الله عليه وآله وسلم )) (1) .
وفي الحديث: (( أن المشركين لما سمعوا ذلك أنكروه ، وحكوا ذلك لأبي بكر فقال: إن كان قال ذلك ، فقد صدق ، فسمي: صديقا (2) .
وقال له المشركون: صف لنا بيت المقدس . فوصفه صلى الله عليه وآله وسلم لهم ، وقال: جعل المسجد بحذائي ، حتى وصفته )) (3) ، وهذه قصة مشهورة ، ولشهرتها ذكرها الله عز وجل في كتابه .
ومن ذلك حديث (( الشاة المسمومة ، التي قدمتها امرأة يهودية إلى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وهو بخيبر ، فلما أكل منها لقمة أو لقمتين ، وأكل منها مَن هناك من أصحابه ، قال: إنها تخبرني أنها مسمومة ، وقال لها: لم فعلت ذلك ؟ قالت: أردت إن كنت كاذبا أن يستريح الناس منك ، وإن كنت نبيا لم يضرك )) (4) . وهذه قصة
__________
(1) سيرة ابن هشام 2/ 43-44.
(2) سيرة ابن هشام 2/40 .
(3) أخرجه الطبراني في المعجم الكبير 17/58 ( 188) .
(4) أخرجه البخاري في صحيحه 2/ 923(2474) ، ومسلم في صحيحه 4/ 1721(2190) .
مشهورة حتى تكلم المتكلمون في كيفية خبر الشاة ، وأن ذلك يكون كلامها ، أو كلاما يخلقه الله تعالى فيها ، ومن يكون متكلما به .
وروي عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم أنه قال عند وفاته: (( ما زالت أكلة خيبر تعاودني ، فالآن قطع أبهري )) (1) ، وكل ذلك يبين اشتهارته واستفاضته .
ومن ذلك حديث الاستسقاء ، وهو (( أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم شُكي إليه الجدب وهلاك المواشي ، لانقطاع الأمطار ، فرفع رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يده إلى السماء ، وجعل يدعو الله عز وجل وما في السماء سحابة ، فلم يرد رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يده إلى نحره وصدره ، حتى ابتدأت السحائب ترتفع وتجتمع وأرخت عزاليها ، ثم جاءوا إلى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يقولون: الغرق . الغرق . تهدمت البيوت .
فقال صلى الله عليه وآله وسلم: حوالينا ، ولا علينا . اللهم على الظهران والجبال ، وبطون الأودية . فانجاب السحاب عن المدينة ، وصار حولها كالإكليل ، ومطروا بعد ذلك مدة طويلة ، وقد اختلفوا في مقدار تلك المدة .
__________
(1) أخرجه أبو داود في سننه 4/ 175(4513) ، وابن ماجه في سننه 2/ 1174(3546) ، و ابن حنبل في مسنده 6/ 18(23978) .
( ) أخرجه البخاري في صحيحه 4/ 1526(3921) ، و النسائي في سننه 1/ 60(76) ، وأبو طالب في أماليه/69 (20) .
فقال صلى الله عليه وآله وسلم: لله درُّ أبي طالب ، لو كان حياً لقرت عيناه . من ينشدنا قوله . فقام علي عليه السلام فقال: يا رسول الله . كأنك أردت:
وأبيض يستسقى الغمام بوجهه ... ثمال اليتامى عصمة للأرامل
. . . إلى آخر الأبيات (1) .
وهذه قصة مشهورة ، حتى صار قوله صلى الله عليه وآله وسلم: (( حوالينا ولا علينا )) (2) . مثلاً يضرب لاشتهاره .
ومن المشهور (( أنه صلى الله عليه وآله وسلم لما احتاج أصحابه إلى الماء ، وضع يده في الإناء فانفجر الماء من بين أصابعه ، حتى توضأوا وشربوا )) (3) .
وقد ذكر في مواضع عدة ، وفي أوقات مختلفة .
ومن المشهور حنين الجذع وذلك (( أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم كان إذا خطب في المسجد خطب إلى جذع فيه ، فلما عُمِل
__________
(1) شرح البخاري للقسطلاني 2/ 227 ، والسيرة الحلبية 1/ 125 ، والخصائص الكبرى للسيوطي1/146 .
(2) أخرجه البخاري في صحيحه 3/ 1313(3389) ، ومسلم في صحيحه 2/ 614(897 ).
(3) أخرجه البخاري في صحيحه 4/ 1526(3921) ، و النسائي في سننه 1/ 60(76) ، وأبو طالب في أماليه/69 (20) .
له المنبر ، وقام عليه حنَّ الجذع حنين الناقة ، فأتاه رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فاحتضنه ومسحه بيده ، حتى سكن )) (1) .
ومن ذلك ما كان من رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم حين نزل بالحديبية ، فقيل له: (( ليس بالوادي ماء ينزل عليه الناس . فأخرج سهما من كنانته ، فأعطاه رجلا من أصحابه ، فنزل في قليب هناك ، فغرزه فيه ، فجاش الماء حتى أخذ الناس حاجتهم ، وصدروا عنه )) (2) .
وروي (( أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم بصق فيها )) ، ولشهرة ذلك بصق مسيلمة الكذاب في بئر فيه وشل . فغار ماؤها ، وجفت قرارها (3) .
ومن المشهور (( تعريفه صلى الله عليه وآله وسلم أويس القرني ، وأنه به برص ، دعا له الله فبرىء منه ، إلا قدر الدرهم )) (4) ، إلى غير ذلك من أحواله ، حتى ذكره عمر ، وسأل عنه وطلبه حتى ظفر به .
__________
(1) أخرجه البخاري في صحيحه 3/ 1314(3392) ، والنسائي في سننه 3/ 102(1396) ، وأبو طالب في أماليه/61 (9) .
(2) أخرجه ابن حنبل في مسنده 4/ 323(18930) ، وابن خزيمة في صحيحه 4/ 290(2906) .
(3) بحار الأنوار 21/295 - 296.
(4) عن أسير بن جابر قال: (( لما أقبل أهل اليمن جعل عمر رضي الله عنه يستقري الرفاق ، فيقول: هل فيكم أحد من قرن ؟ حتى أتى عليه قرن ، فقال: من أنتم ؟ قالوا: قرن ، فرفع عمر بزمام أو زمام أويس فناوله عمر ، فعرفه بالنعت ، فقال له عمر: ما اسمك ؟ قال: أنا أويس . قال: هل كان لك والدة ؟ قال: نعم . قال: هل بك من البياض ؟ قال: نعم ، دعوت الله تعالى فأذهبه عني إلا موضع الدرهم من سرتي لأذكر به ربي . فقال له عمر: استغفر لي . قال: أنت أحق أن تستغفر لي ، أنت صاحب رسول الله صلى الله عليه وآله سلم . فقال عمر: إني سمعت رسول الله صلى الله عليه وآله سلم يقول: إن خير التابعين رجل يقال له: أويس القرني ، وله والدة ، وكان به بياض ، فدعا ربه فأذهبه عنه إلا موضع الدرهم في سرته . قال: فاستغفر له ، قال: ثم دخل في أغمار الناس فلم يدر أين وقع ، قال: ثم قدم الكوفة فكنا نجتمع في حلقة فنذكر الله ، وكان يجلس معنا ، فكان إذ ذكرهم وقع حديثه من قلوبنا موقعا لا يقع حديث غيره ، ففقدته يوما ، فقلت لجليس لنا: ما فعل الرجل الذي كان يقعد إلينا ، لعله اشتكى . فقال رجل: من هو ؟ فقلت: من هو ؟ قال: ذاك أويس القرني ، فدللت على منزله فأتيته ، فقلت: يرحمك الله أين كنت ، ولم تركتنا ؟ فقال: لم يكن لي رداء فهو الذي منعني من إتيانكم . قال: فألقيت إليه ردائي فقذفه إلي ، قال: فتخاليته ساعة ، ثم قال: لو أني أخذت رداءك هذا فلبسته فرآه علي قومي ، قالوا: انظروا إلى هذا المرائي ، لم يزل في الرجل حتى خدعه وأخذ رداءه ، فلم أزل به حتى أخذه . فقلت: انطلق حتى أسمع ما يقولون ، فلبسه فخرجنا فمر بمجلس قومه ، فقالوا: انظروا إلى هذا المرائي لم يزل بالرجل حتى خدعه وأخذ رداءه ، فأقبلت عليهم فقلت: ألا تستحيون ؟! لِمَ تؤذونه ؟ والله لقد عرضته عليه فأبى أن يقبله . قال: فوفَدَت وفود من قبائل العرب إلى عمر ، فوفد فيهم سيد قومه ، فقال لهم عمر بن الخطاب: أفيكم أحد من قرن ؟ فقال له سيدهم: نعم أنا . فقال له: هل تعرف رجلا من أهل قرن يقال له: أويس ، من أمره كذا ومن أمره كذا . فقال: يا أمير المؤمنين ما تذكر من شأن ذاك ومن ذاك ؟ فقال له عمر: ثكلتك أمك أَدرِكه مرتين أو ثلاثا . ثم قال: إن رسول الله صلى الله عليه وآله سلم قال لنا: إن رجلا يقال له: أويس من قرن ، من أمره كذا ومن أمره كذا . فلما قدم الرجل لم يبدأ بأحد قبله ، فدخل عليه فقال: استغفر لي . فقال: ما بدا لك ؟ قال: إن عمر قال لي كذا وكذا ، قال: ما أنا بمستغفر لك حتى تجعل لي ثلاثا . قال: وما هن ؟ قال: لا تؤذيني فيما بقي ، ولا تخبر بما قال لك عمر أحدا من الناس ، ونسي الثالثة )) .
أخرجه أحمد بن حنبل في مسنده 1/39 (266) ، والحاكم في مستدركه 3/457(5720) .
ومن ذلك (( أن الطعام أعوز أصحابه صلى الله عليه وآله وسلم في غزوة تبوك ، وضاق عليهم فشكوا ذلك إلى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فقال: من كان عنده فضل طعام فليأتنا به . فأتي بنيف
وعشرين صاعا ، فجلس رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ودعا بالبركة ، ثم دعا الناس . فقال: خذوا فأخذوا حتى اكتفوا وصدروا ، وفضلت فضلة )) (1) .
وهذه الآية - أعني تكثير القليل من الطعام ، وإشباع الكثير منه - قد تكررت في مواضع واشتهر منها (( بمكة في أول البعثة ، لما نزل قوله عز وجل: { وَأَنذِرْ عَشِيرَتَكَ الْأَقْرَبِينَ (214) } [الشعراء] ، دعا صلى الله عليه وآله وسلم رهطا من عشيرته ، فقدم إليهم يسيرا من الطعام ، فأكلوا منه وشبعوا )) (2) .
ومنها خبر (( دعائه صلى الله عليه وآله وسلم جابرا إلى الطعام - وكان أعد له يسيرا - فدعا صلى الله عليه وآله وسلم عدداً كثيراً من أصحابه ، حتى أكلوا وشبعوا )) (3) .
ومنها حديث عبد الرحمن بن أبي بكر قال: (( كنا مع رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ثلاثين ومائة ، فقال صلى الله عليه وعلى أهله: هل مع أحد منكم طعام ؟ فإذا مع رجل صاع واحد ، فأطعم الجميع منه إلى أن شبعوا وفضل )) (4) .
__________
(1) أخرجه أحمد في مسنده 3/418 (15487) ، وابن حبان 1/456 (221) ، والحاكم في المستدرك3/675 (4234) .
(2) مناقب الكوفي1/95 (47) .
(3) أخرجه مسلم في صحيحه 1/ 56 (27) ، وأحمد بن حنبل في مسنده 3/ 11 (11095) .
(4) أخرجه مسلم في صحيحه 3/1626(2056) .
ومن ذلك حديث جابر (( أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أعطى رجلا وسق شعير ، فما زال الرجل يأكل منه وامرأته ، حتى كالوه ، فقال لهم صلى الله عليه وآله وسلم: لو لم تكيلوه لأكلتم منه ، وأقام لكم )) (1) .
وغير ذلك فيما يكثر عدده .
ومن المستفيض (( أن جابر بن عبد الله الأنصاري أتى محمداً بن علي بن الحسين عليهم السلام ، وهو في الكُتَّاب فقبَّله ، وقال له: إن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أمرني أن أقرأك السلام )) (2) .
ومن ذلك (( أنه صلى الله عليه وآله وسلم نعى جعفر بن أبي طالب وهو على بعد منه )) (3) .
ومن ذلك (( مجيء الشجرة فإنه تكرر في مواضع منها: مكة والمدينة ، حتى أقبلت إليه تشق الأرض شقا )) .
__________
(1) أخرجه مسلم في صحيحه 4/ 1784(2281) ، وأحمد بن حنبل في مسنده 3/ 337(14661) .
(2) ينابيع النصيحة /413 ، ومناقب الكوفي 2/275(743) ، وفي ترجمة الباقر من تاريخ دمشق لابن عساكر الحديث (23) ، روى عن النبي صلى الله عليه وآله أنه قال: (( إنك ستعيش حتى تدرك رجلا من أولاديي اسمه اسمي يبقر العلم بقرا ، فإذا رأيته فأقره مني السلام . فلما دخل محمد بن علي على جابر وسأله عن نسبه ، فأخبره ، قام إليه فاعتنقه وقال له: جدك يقرأ عليك السلام )) . أخرجه الكليني في أصول الكافي 1/469 ،470 ، والكشي في رجاله 27-28 ، والمجلسي في بحار الأنوار46/227باب/3 ، وكشف الغمة2/119 ، والهيثمي في المجمع 1/22 ، وابن عساكر في تاريخه 51/41 ، وهو في الوافي بالوفيات 4/102 ، والذهبي في سير أعلام النبلاء 4/241 ، وقال: وأقرأه جده الحسين السلام عن رسول الله صلى الله عليه وآله .
(3) أخرجه البخاري في صحيحه 3/ 1372(3547) ، والنسائي في سننه 4/ 26(1878) .
و(( مرتين في الصحراء ، حين أراد قضاء الحاجة اجتمعت له صلى الله عليه وآله وسلم شجرتان فاستتر بهما ، وقضى الحاجة ، ثم افترقا وعادا إلى مكانهما )) (1) .
و(( دعا صلى الله عليه وآله وسلم غصنا من شجر فأتاه ، حتى رأى ذلك من كان طلب الآية ، ثم عاد إلى مكانه )) (2) .
ومن ذلك (( انشقاق القمر )) ، وقد رواه عدة من أصحابه . وإن كان الأشهر رواية عبد الله بن مسعود ,فقد قال: (( إني رأيته فلقتين )) (3) .
وروى أنس: (( أن أهل مكة سألوا رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم آية ؟ فأراهم انشقاق القمر )) (4) ، وكان يحدث به في تفسير قوله عز وجل: { وَانشَقَّ الْقَمَرُ (1) } [القمر] .
وعن عبد الله بن مسعود ، قال: (( انشق القمر بمكة .
فقالت قريش: هذا سحر سحركم به .
__________
(1) أخرجه ابن حنبل في مسنده 1/ 268(2418) ، وابن عمرو الشيباني في الآحاد والمثاني 3/ 252(1612) ، وابن حبان في صحيحه 14/ 435(6505) ، و الدارمي في سننه 1/ 22(16) .
(2) مناقب الكوفي 1/ 57 ( 22 ) .
(3) أخرجه البخاري في صحيحه 3/ 1331(3437) ، ومسلم في صحيحه 4/ 2158(2800) ، و الترمذي في سننه 4/ 477(2182) .
(4) أخرجه الطيالسي في مسنده1/265(1960) .
فقال بعضهم: انظروا إلى السفار ، فسألوهم ؟ فقالوا: قد رأينا القمر انشق )) (1) .
وروى ذلك عن حذيفة ، وابن عباس ، وجبير بن مطعم ، ويدل على صحته: (( أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم تلا عليهم قوله عز وجل: { اقْتَرَبَتِ السَّاعَةُ وَانشَقَّ الْقَمَرُ (1) وَإِن يَرَوْا آيَةً يُعْرِضُوا وَيَقُولُوا سِحْرٌ مُّسْتَمِرٌّ (2) } [القمر] )) (2) .
ولو لم يكن ذلك ظاهرا بينهم لأنكروا ذلك ، وكذَّبوا قوله صلى الله عليه وآله وسلم ، ولقالوا: لم ينشق القمر ، ولم يُحْوَجُوا إلى أن يقولوا: إنه سحر مستمر ، فوضح بذلك أنهم كانوا شاهدوا ذلك وعرفوه ، ولا وجه لتأويل من يتأوله على أنه بمعنى: ينشق يوم القيامة ، لوجوه:
منها: أنهم لا يقولون في الآيات يوم القيامة: إنها سحر ، لأنهم يعرفون تلك الأحوال ضرورة .
فإن قيل: لا نسلِّم لكم يوم القيامة ولا كون الآيات فيها ، فكيف نسلم أنها تعلم ضرورة ؟!
__________
(1) أخرجه الطيالسي في مسنده 1/ 38(295) ، وأحمد بن حنبل في مسنده 1/ 377(3583) ، والحاكم في مستدركه 2/ 513(3758) .
(2) أخرجه الترمذي في سننه5/398 (3289) ، والطبراني في المعجم الكبير10/303 (10734) .
قيل له: لسنا نحتاج إلى تسليمكم صحة ذلك ، لأن ذلك معلوم من دين النبي صلى الله عليه وآله وسلم ، وأديان سائر الأنبياء صلوات الله عليهم ، ولا يجوز أن يخبر النبي صلى الله عليه وآله وسلم بخبر يعلم خلافه من دينه ضرورة .
ومنها: أنه ليس في القرآن ولا في شيء من الأخبار الصحيحة ، أن القمر ينشق يوم القيامة ، وإنما في القرآن: { وَخَسَفَ الْقَمَرُ (8) وَجُمِعَ الشَّمْسُ وَالْقَمَرُ (9) } [القيامة] .
ومنها: أن ظاهر الآية خبر عن الماضي ، فلو لم يكن ذلك معلوما عند الكفار لراجعوه فيه ، حتى يعرِّفهم صلى الله عليه وآله وسلم مراده ، ولَمَّا لم يجز ذلك ، ثبت صحة ما قلناه .
ولا وجه أيضا لتأويلِ مَن يتأول فيه فيقول: إن المراد به ضربُ المثل لوضوح الأمر . كما يقال: هذا أمر قد طلع فجره ، وأشرقت شمسه ، لأن ضرب المثل بطلوع الفجر وإشراق الشمس يصح ، لأن طلوع الفجر وإشراق الشمس يزيدان في الضوء ، ولو انشق القمر لم يجب أن يتزايد الضوء ، بل يكون ذلك إلى تناقصه أقرب . فكيف يصح ضرب المثل به لوضوح الأمر ؟!
ولا معنى لقولِ مَن يقول: إن ذلك لو كان لم يخف على أهل الشرق والغرب ، لأنه لا يمتنع أن يعلم ثقة أن الأصلح إظهاره لقوم بعينهم دون سائر الخلق ، فيخفيه على سائر الخلق بالغمام ، في بعض المواضع ، وبالشغل أو النوم لآخرين .
ومن المشهور قوله صلى الله عليه وآله وسلم لسراقة بن جعشم ، وقد نظر إلى ذراعيه: (( كأني بك وقد لبست سواري كسرى . وكان سراقة أشعر الذراعين دقيقهما ، ولما كان ما كان في زمان عمر بن الخطاب ، وفتحت خزائن كسرى ، حمل المال فوضع في المسجد ، فرأى عمر منظراً لم ير مثله ، والذهب والياقوت والزبرجد واللؤلؤ يتلألأ .
فقال: أين سراقة بن جعشم ؟ فأتي به .
فقال: البسهما .
فَفَعَلَ .
فقال: الله أكبر ، الحمد الله الذي سلبهما كسرى ، وألبسهما سراقة بن جعشم )) (1) . فكان ذلك آية ظاهرة لرسول الله صلى الله عليه وآله وسلم .
ومن المشهور ما روي عن أمير المؤمنين عليه السلام أنه قال: (( لما غسلت رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ما أردت عضوا أغسله إلا قُلِبَ لي حتى أغسله . ولقد أردت يد غيري عليه ، وسمعت مناديا ينادي في جانب البيت: لا تخلعوا القميص . ولقد رأيت أن أكبه فنوديت: ألا تكبه )) (2) .
__________
(1) رواه البيهقي في السنن الكبرى 6/357 (12812) .
(2) الأحكام 1/151 .
وروي (( أنه لما توفي رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم جاءهم آت ، يسمعون حسه ، ولا يرون شخصه ، فقال: السلام عليكم أهل البيت ورحمة الله وبركاته ، { كُلُّ نَفْسٍ ذَآئِقَةُ الْمَوْتِ وَإِنَّمَا تُوَفَّوْنَ أُجُورَكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ } [آل عمران: 185] ، إن في الله عزاء من كل مصيبة ، وخلفاً من كل هالك )) (1) .
فهذه أخبار مشهورة ظاهرة ، ولم نتتبع من معجزاته صلى الله عليه وآله وسلم التي رواها الواحد والاثنان . فإن ذلك يكثر ويبلغ نحو ألف معجز .
فإن قيل: فما تقولون في هذه الأخبار التي رويتموها ، هل تقولون: إنها توجب العلم على التفاصيل ؟
قيل له: في جملة هذه الأخبار أخبار توجب العلم لمن عُني بسماعها والبحث عنها ، وفيها ما يوجب اجتماعُها العلمَ على الجملة بأنه صلى الله عليه وآله وسلم كان يظهر عليه آيات ناقضة للعادة ، ولا يمتنع أن تكون أخبار الآحاد إذا وردت تتضمن أمرا من الأمور ، أن يقع العلم بذلك الأمر على الجملة .
ألا ترى أن عامة ما يروى عن علي عليه السلام من مسائل الفقه طريقها الآحاد ، ثم يحصل العلم الضروري بأنه كان فقيها .
__________
(1) أخرجه الحاكم في المستدرك3/60 (4391) ، والشافعي في المسند 1/361 ، والطبراني في الصغير 8/110 (8120).
وكذلك حال عبد الله بن مسعود ، وابن عباس ، وغيرهما من فقهاء الصحابة ، وكذلك كل موقف لعلي عليه السلام في الحروب ، لا يكاد يثبت إلا من طريق الآحاد ، ثم يجعل الضروري أنه كان شجاعا .
وكذلك حال الزبير ، وأبي دجانة ، وغيرهما من الشجعان من الصحابة ، وغيرهم .
وهذه الطريقة هي التي اعتمدها أصحابنا ، في إثبات إجماع الصحابة على القول بالقياس وخبر الواحد .
وبمثل هذه الطريقة يعلم جود الأجواد ، وبخل البخلاء ، وسِيَر الملوك في العدل والظلم ، فيجب على ما بيَّناه أن تكون هذه الأخبار الواردة في معجزات نبينا صلى الله عليه وآله وسلم ، وإن لم يكن كل واحد منها واردا موردا يوجب العلم بجملتها ، موجبة للعلم بأنه صلى الله عليه وآله وسلم كانت تظهر عليه آيات ناقضة للعادة .
فإن قيل: إن هذه الأخبار لم ينقلها إلا مَن كان مصدقا به صلى الله عليه وآله وسلم ، وهذا يمنع الاعتماد عليها !!
قيل له: الإعتبار في إيجاب الأخبار للعلم لا يرجع إلى أحوالهم في باب الديانات ، وإنما يرجع إلى أحوالهم في الكثرة ، وكونهم عالمين صرفة بما يخبروا به ، أو استحالة التواطؤ منهم على وضع ما يخبرون به ، فوجب بذلك سقوط هذا السؤال .
على أن هذا السائل لا يخلو:
من أن يكون من غثاء الملحدة .
أو من أهل الكتاب .
فإن كان من أهل الكتاب ، فقد علم الكل منهم أنه لم ينقل معجزات أحد من الأنبياء صلوات الله عليهم إلا من كان مصدقاً بهم ، ولم يوجب ذلك طعناً في معجزاتهم ، أو في نقلهم ، فوجب أن يكون ذلك حال نقل معجزات نبينا صلى الله عليه وآله وسلم .
وليس يؤثر فيه قول اليهود إن معجزات موسى صلى الله عليه قد نقلها النصارى والمسلمون .
وقول النصارى: إن معجزات عيسى صلى الله عليه قد نقلها المسلمون ، لأن ذلك لا يخرجها من أن يكون نقلها من جهة المصدقين بهما (1) صلى الله عليهما .
ألا ترى أن ملحدة الفلاسفة والمجوس لا ينقلون شيئا من ذلك ولا يصدقون به .
فإن قيل: فإن المخالفين لليهود في التهود ، قد نقلوا معجزات موسى صلى الله عليه ، وكذلك المخالفون للنصارى في التنصر ، قد نقلوا معجزات المسيح ، وليس للمسلمين من يخالفهم في الاسلام ، وينقل مع ذلك معجزات محمد صلى الله عليه وآله وسلم ؟!
قيل له: فليخبرنا اليهود ، هل نقل معجزات موسى عليه السلام قبل مبعث المسيح عليه السلام غير اليهود ؟!
__________
(1) في المخطوط: بها . والصواب ما أثبت .
ولْتُخبِرنا النصارى هل نقل معجزات المسيح قبل مبعث النبي صلى الله عليه وآله وسلم غير النصارى ؟!
فلا بد لهم من أن يقولوا: لم ينقل ذلك غير من ذكرتم !!
قيل له: فهل قدح ذلك في نقل معجزات موسى صلى الله عليه ، أو معجزات المسيح عليه السلام في تلك الأزمنة ؟!
فلا بد لهم من أن يقولوا: لم يقدح ذلك في نقل تلك المعجزات !!
قيل لهم: فكذلك حال نقل المسلمين معجزات النبي صلى الله عليه وآله وسلم في أنه لا يقدح فيها أن غيرهم لا ينقلها .
على أنا نقول لليهود والنصارى: نحن لا ننقل شيئا من معجزات موسى وعيسى عليهما السلام إلا من جهة القرءان ، وإخبار النبي صلى الله عليه وآله وسلم بها . فلو لم تثبت نبوة نبينا صلى الله عليه وآله وسلم لم يثبت عندنا شيء من معجزات موسى وعيسى عليهما السلام ، يكشف ذلك أن علمنا بنار إبراهيم صلى الله عليه كعلمنا بفلق البحر ، وإن كان اليهود والنصارى ينكرون نار إبراهيم !!
وعلمنا بكلام المسيح في المهد ، كعلمنا بإبرائه الأكمه والأبرص ، وإحيائه الموتى ، وإن كان النصارى ينكرون كلامه في المهد !!
وإنما أردنا بذلك أنا لم نعلم شيئا من ذلك إلا من جهة القرءان ، وخبر الرسول صلى الله عليه وآله وسلم .
وإن كان السائل من ملحدة الفلاسفة والمجوس ، قيل لهم: فأنتم أيضا قد علمتم كثيراً من أحوال أرسطا طاليس وأفلاطون ومن جرى
مجراهما ، وأخبارهم بنقل أصحابهم لها ، ولم يكن ذلك عندكم موجباً للقدح في ذلك النقل .
وكذلك يقال للمجوس: وأنتم أيضا قد عرفتم كثيراً من أخبار زرادشت ، وأخبار ملوكهم بنقل أصحابهم لها ، ولم يقدح ذلك عندكم (1) في نقلهم ، فكذلك حال نقل المسلمين لمعجزات الرسول صلى الله عليه وآله وسلم لا يوجب فيه قدحا !!
والأصل في هذا الباب: أن الأحوال التي يكون العهد بها متقادما ، لا ينقلها ولا يهتم بحفظ أخبارها إلا من كانت له دواعٍ قوية إلى ذلك ، فليراع ما ذكرناه في أخبار الأمم كلها ، ونقلها . وليس يجب أن يكون ذلك قادحا في شيء من النقل ، فكذلك حال المسلمين .
فإن قيل: ما تنكرون على من قال لكم: إن هذه الأخبار كانت في الأصل ضعافا ، وإنما قويت فروعها بالديانات والعصبيات ، وتلقِّي الأتباع لها بالتصديق ، وإلا فأصولها انتشرت بنفسين أو ثلاثة من أصحاب المغازي كابن إسحاق ونحوه .
قيل له: أما من ذهب من العلماء إلى أن الاعتبار في باب الأخبار الموجبة للعلم ، هو تحصيل العلم الضروري دون أوصاف الأخبار والمخبِرين . فإن هذا السؤال ساقط عنهم .
__________
(1) في المخطوط: عندهم . ولعل الصواب ما أثبت .
فأما من راعى صفات المخبرين . فجوابه أن نقول (1): من أين لهذا السائل أن هذه الأخبار في الأصل كانت ضعيفة ؟! بل المعلوم من حالها أنها كانت في الأصل أقوى وأظهر .
ولئن جاز لقائل أن يقول في الأخبار هذا القول ، ويدعي هذه الدعوى ، من غير أن يقيم عليها برهانا ويكون لها أدلة ، لجاز أن يقال مثله في أخبار البلدان أجمع ، وسِيَر الملوك وأحوالهم كلها .
وهذا يؤدي إلى أن لا يثبت شيء من الأخبار ، ولا يصح أن يعلم بها شيء من الأمور المتباعدة . وهذا واضح السقوط ، لأنه من المعلوم من أحوال الأمم أجمع ، أنهم قد علموا من أحوال سلفهم من الملوك وغيرهم ، أمورا كثيرة من جهة الأخبار .
وهذا السؤال إن صح ، أدى إلى أن لا يصح العلم بشيء من ذلك ، وفي علمنا أن الأمر بخلاف ذلك ، مما يكشف فساده .
ثم يقال له: مما يفسد دعواك هذه ، ويوضح سقوط سؤالك هذا ، أنا قد علمنا أن هذه المعجزات لم تزل تنقل من أيام الصحابة إلى يومنا هذا ، عصرا بعد عصر ، وزمانا بعد زمان . ومن المعلوم أن هذا النقل كان ظاهرا مستفيضا قبل مولد أصحاب المغازي ، نحو ابن إسحاق وغيره . فكيف يصح أن ينسب ذلك إليهم ؟!
فإن قيل: عامة هذه الأخبار ينقلها الواحد والاثنان والثلاثة ، وما يزيد على ذلك ، ولا يمكن أن يذكر من نقلها إلا نحو هذا العدد .
__________
(1) في المخطوط: يقول . ولعل الصواب ما أثبت .
قيل له: لا يمتنع أن يكون الخبر مستفيضا شائعا يجب العلم به ، وإن كان ما نذكر من أسماء الناقلين هذا القدر .
ألا ترى أنا نعلم ضرورة أنه كان يوم بدر ، و جرى فيه ما جرى ، وظفر المسلمون على المشركين . ونعلم أيضا يوم أحد وما جرى فيه ، وكذلك سائر المغازي ، ونعلم ضرورة من دين النبي صلى الله عليه وآله وسلم أن الظهر أربع ، والمغرب ثلاث . ولو تتبعنا أسماء من ينقل ذلك ممن لهم ذكر في الكتب ، لم يزد على ما ذكرتم ، وهذا لا يوجب الشك في هذه الأخبار ، فكذلك حال المعجزات .
فإن قيل: ما الفرق بين هذا النقل ، وبين نقل الإمامية نصوص أئمتهم ومعجزاتهم ؟
قيل له: الفرق بينهما ظاهر ، لا يخفى على من تأمل حال النقلين ، وذلك أن ما نقلته الإمامية من ذلك ، لم يثبت أن أئمتهم ادعوا شيئا من ذلك ، بل الثابت عنهم أنهم كانوا ينكرون ذلك ويستبرأون منه ، ولظهور إنكارهم ذلك قالت (1) الإمامية: إن ذلك الانكار منهم كان على سبيل التقية ، ولم يقولوا: إنه لا أصل له ، إلا أن يتواقح (2) اليوم بعض من يدعي الكلام منهم فيجحده ، ثم هم لم يَدَّعوا أن شيئا من ذلك كان ظاهرا على الولي والعدو .
__________
(1) في المخطوط: ذلك ما قالت . والصواب ما أثبت .
(2) من الوقاحة .
وإنما يدعون أموراً يلبسونها إلى أنها كانت في السر ، وبحيث لم تظهر إلا للواحد والاثنين ، وأحوال معجزات الرسول صلى الله عليه وآله وسلم بخلاف ذلك ، لأنه لا يُرتاب في أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم كان يدعي ذلك . وأن ما نقل منها وادعي ، كان على رؤوس الأشهاد ، وحضور الملأ من المسلمين والمشركين ، كما نقل ذلك في حديث الاستسقاء ، وتكثير الطعام ، وخبر الميضأة ، وما كان منه صلى الله عليه وآله وسلم من غرز السهم في بئر بالحديبية ، ونحو ذلك . فأي فرق بين النقلين أوضح وأبين مما ذكرناه ؟!!
فإن قيل: فما الفرق بين نقلكم هذا ونقل اليهود والنصارى أنهم قتلوا المسيح وصلبوه ؟!
قيل لهم: إننا لا ننكر أنهم رأوا شخصا مقتولا مصلوبا ، وأنهم في هذا القدر صادقون . وإنما شُبِّه لهم ، فظنوا أن المقتول هو المسيح .
واختلف أهل العلم في كيفية التشبيه ؟ فذهب الأكثر إلى أنه تعالى ألقى شبه عيسى صلى الله عليه على رجل من أصحابه ، فظنوا أنه عيسى (1) . وهذا التأويل عندي سائغ .
__________
(1) عن ابن عباس قال: (( لما أراد الله أن يرفع عيسى عليه السلام إلى السماء ، خرج إلى أصحابه وهم اثنا عشر رجلا من غير البيت ، ورأسه يقطر ماء ، فقال لهم: أما إن منكم من سيكفر بي اثنتي عشرة مرة ، بعد أن آمن بي ، ثم قال: أيكم سيلقى عليه شبهي فيقتل مكاني ، ويكون معي في درجتي ، فقام شاب من أحدثهم سنا ، فقال: أنا ، فقال عيسى: اجلس ، ثم أعاد عليهم ، فقام الشاب فقال: أنا . فقال: نعم أنت ذاك ، قال: فألقي عليه شبه عيسى ، قال: ورفع عيسى عليه السلام من روزنة كانت في البيت إلى السماء ، قال: وجاء لطلب من اليهود فأخذوا الشبيه فقتلوه ثم صلبوه ، وكفر به بعضهم اثنتي عشرة مرة بعد أن آمن به ، فتفرقوا ثلاث فرق ، قال: فقالت فرقة: كان فينا الله ما شاء ثم صعد إلى السماء ، وهؤلاء اليعقوبية . وقالت فرقة: كان فينا ابن الله ما شاء ثم رفعه الله إليه ، وهؤلاء النسطورية . وقالت فرقة: كان فينا عبد الله ورسوله ما شاء الله ثم رفعه إليه ، وهؤلاء المسلمون . فتظاهرت الكافرتان على المسلمة فقاتلوها فقتلوها ، فلم يزل الاسلام طامسا حتى بعث الله محمدا صلى الله عليه وآله سلم ، فأنزل الله عليه: { فآمنت طائفة من بني إسرائيل } ، يعني: الطائفة التي آمنت في زمن عيسى ، { وكفرت طائفة } ، يعني: الطائفة التي كفرت في زمن عيسى ، { فأيدنا الذين آمنوا } في زمان عيسى { على عدوهم } ، بإظهار محمد صلى الله عليه وآله سلم دينهم على دين الكفار ، { فأصبحوا ظاهرين } )) . أخرجه ابن أبي شيبة في المصنف 6/339 (31876) .
وذهب بعض العلماء إلى أن اليهود لما لم يجدوا عيسى ، لأن الله عز وجل قد رفعه إليه ، أخذوا رجلا من أصحابه فألبسوه مثل ثيابه ، وستروا وجهه ، ثم قتلوه وصلبوه ، وأوهموا الباقين أنهم قد قتلوا المسيح صلى الله عليه ، والذين فعلوا ذلك من اليهود ، كانوا عددا يسيرا من رؤسائهم . وهذا أيضا محتمل جائز . فأي الأمرين كان ، فالأمر فيه مخالف لنقل المسلمين معجزات النبي صلى الله عليه وآله وسلم ، لما بيَّنا من كون عمومها لم يخفَ على المسلمين والمشركين وأهل الكتاب ، لظهورها ووقوعها على وجهِ مَن شاهدوها وعاينوها على ما ذكرناه .
فإن قيل: فما الفرق بين نقلكم هذا ونقل الصوفية معجزات بشار الراعي ، وبشر الحافي ، وإبراهيم بن أدهم ، ومن نحا نحوهم ؟!
قيل له: الفرق بينهما هو بعينه ما ذكرناه في الفرق بين نقلنا ونقل الإمامية ، لأنه لم يثبت أن هؤلاء الصالحين ادعوا شيئا من ذلك ، بل
الأظهر أنهم كانوا ينكرون ذلك خشية الفتنة ، وما جرى مجراه ، ولم يمكنهم رحمهم الله أن ينكروا (1) ذلك ، ثم من ينقله لا ينقل أن شيئا من ذلك كان بين الجمع العظيم ، وإنما يدعي أنه ظهر على سبيل الاخفاء ، أو لآخر معه . فأي اشتباه يقع بين نقل المسلمين معجزات النبي صلى الله عليه وآله وسلم ، وبين نقل الصوفية الذي سألتم عنه ؟!!
وقد أشار إلى هذا صاحب (2) الكتاب الملقب بـ (( الزمرد )) ، بأن قال: (( القوم الذين شاهدوا هذه الآيات ، لم يخلوا من أن يكونوا وقفوا حوله صلى الله عليه وآله وسلم على مقدار دائرة ضيقة تسع لنحو من خمسين رجلا ، أو على مقدار دائرة عظيمة تسع الخلق العظيم . فإن كانوا في مقدار دائرة واسعة ، اقتضى ذلك بُعدهم عما يشاهدونه ، وذلك يُجَوِّز التلبيس ، وأن يكون للشك فيه مسوِّغ )) .
وعن هذا بحمد الله أجوبة:
أحدها: أن يقال لهذا الجاهل المزري بعقله: أما علمت أن هذا السؤال يؤدي إلى أن لا يصح أن يعلم شيء من الأحداث والكوائن التي جرت في الدنيا من طريق الأخبار والنقل ؟!!
لأنه يصح أن يقال في كل حادثة أو كائنة: إن المحدقين بها لمشاهدتها إما إن كانوا في مقدار دائرة ضيقة أو واسعة ، فإن كانوا في مقدار دائرة ضيقة صح عليهم التواطؤ ، وإن كانوا في مقدار دائرة
__________
(1) في المخطوط: أنهم رحمهم الله ينكروا . ولعل الصواب ما أثبت .
(2) هو ابن الراوندي .
واسعة ، لم يمتنع أن يحل (1) إليهم الحادث على قدر ما هو عليه ، فيلزمنا جميع ما ذكرنا ، أو يُشك حتى لا يصح أن أحدا أُقِيل ، ولا أن أحدا وُلِّي ، ولا أن أحدا استُخلِف على أمر ، ولا أن أحدا تكلم في مسألة ، ولا أن أحدا ناظر أحدا في شيء من أمور الدين والدنيا . فإن التزم ذلك ، وضح خزيه ، وبان ظلاله ، وإن أجاب عنه بشيء ، فهو جوابنا فيما سأل عنه .
ومنها أن يقال له: إن المحدقين لا يجرون مجرى السُّوْرِ المبني ، أو الحائط المشيد ، بل لا يمتنع أن يكون مَن خلفهم يطَّلع ، فيرى ما يراه الأولون ، ويعاين ما يعاينونه .
ومنها أن يقال: لا يمتنع في كثير من هذه الآيات أن يشاهده قوم ثم يتأخرون ، ويتقدم آخرون فيشاهدوا ما شاهده الأولون .
ومنها أن يقال له: لا يمتنع أن يقع العلم بخبر الخمسين ، أو دون الخمسين ، إذا أخبروا على وجه يُعلم أنهم لم يتواطؤا . وكل ذلك يوضح سقوط ما ذكره هذا الجاهل .
- - -
__________
(1) كذا في المخطوط .
ذكر ما وجد في الكتب المتقدمة من البشارات بالنبي صلى الله عليه وآله وسلم
هذه فصول يعرفها أهل الكتاب في كتبهم وليسوا ينكرونها ، وقد جاريت فيها منهم من كان يرجع إلى حفظ كثير وضبطها ، غير أنهم يتأولونها تأويلات فاسدة .
فمن ذلك ما وجد في التوراة ، وقيل هو في السفر الأخير (1) في الفصل الثالث والثلاثين: (( جاء الله من سيناء ، وأشرق من ساعير ، واستعلن من جبل فاران )) (2) .
فقوله: (( جاء الله من سيناء )) ، أراد: ابتعاثه موسى صلى الله عليه من قِبَل طور سيناء .
وقوله: (( وأشرق من ساعير )) ، أراد: ابتعاثه المسيح صلى الله عليه ، و (( ساعير )) الناحية التي كان فيها عيسى صلى الله عليه .
__________
(1) السفر الأخير هو: سفر التثنية .
(2) النص بتمامه من الكتاب المقدس طبعة بيروت سنة (1976م) هكذا: (( وهذه هي البركة ، لتي بارك بها موسى رجل الله بني إسرائيل قبل موته . فقال: جاء الرب من سيناء ، وأشرق لهم من سعير ، وتلألأ من جبل فاران . وأتى من ربوات القدس . وعن يمينه نار شريعة لهم ، فأحب الشعب . جميع قديسيه في يدك ، وهم جالسون عند قدمك ، يتقبلون من أقوالك )) . سفر التثنية 33: 1- 3 ، وانظر في تفسير هذا النص كتاب (( إظهار الحق )) للشيخ رحمت الله الهندي .
وقوله: (( واستعلن من جبل فاران )) ، أراد به: ابتعاثه محمداً صلى الله عليه وآله وسلم من جبال مكة . لأن جبال مكة تسمى في التوراة: (( جبل فاران )) ، لا ينكر ذلك أحد ممن عرف التوراة .
وفي التوراة: (( أن إبراهيم صلى الله عليه أسكن هاجر وإسماعيل صلى الله عليه فاران ، يعني: مكة )) (1) .
ولم يبعث أحد من الأنبياء ابتعاثا ظاهرا ، فشا أمره في مشارق الأرض ومغاربها ، كما اقتضى قوله: (( استعلن )) ، لأن (( استعلن )) هو بمعنى: علن ، إذا ظهر وانكشف ، (( ولم يستعلن )) غير محمد صلى الله عليه وآله وسلم ، فلم يبق ريب في أنه هو المراد بهذه اللفظة (2) .
وفي التوراة: (( أن هاجر ترآءى لها ملاك ، وقال: يا هاجر إني سأكثر ذريتك وزرعك ، حتى لا يحصوا كثرة ، وهاأنت تحبلين وتلدين
__________
(1) نص التوراة: (( وكان الله مع الغلام - أي: إسماعيل بن هاجر - فكبر ، وسكن في البرية ، وكان ينمو رامي قوس ، وسكن في برية فاران ، وأخذ له أمه امرأة من أرض مصر )) . سفر التكوين 21: 20 - 21 .
(2) وأيضا لأن النص يذكر بركات ثلاث: واحدة لموسى ، وواحدة لعلماء وأنبياء بني إسرائيل ، وواحدة لمحمد صلى الله عليه وآله وسلم الآتي من ذرية إسماعيل . وإسماعيل هذا له بركة ، ففي التوراة: عن بركة إسماعيل أن الله قال لإبراهيم: (( وأما إسماعيل فقد سمعت لك فيه ، ها أنا أباركه وأثمره ، وأكثره كثيرا جدا ، اثني عشر رئيسا يلد ، وأجعله أمة كبيرة )) . سفر التكوين 17: 20 .
أبنا ، وتسمينه إسماعيل ، لأن الله عز وجل قد سمع خشوعك ، وتكون يده فوق يد الجميع ، ويد الجميع مبسوطة إليه بالخضوع )) (1) .
وقد علمنا أن المراد بهذا (2) ولد إسماعيل ، وهو رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ، لأن إسماعيل نفسه لم تكن يده فوق يد إسحاق ، ولا يد ولديه يعقوب صلى الله عليه وعيسى ، (( مبسوطة إليه بالخضوع )) ، ولم يكن في ولد إسماعيل من كانت أيدي أولاد إسرائيل وعيسى وسائر الناس مبسوطة إليه ، غير رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم .
إنه هو الذي دانت له الملوك من آل إبراهيم صلى الله عليه وغيرهم ، وخشعت له رقابهم ، وخضعت له الأمم ، وصارت الإمامة والملك في أهله ، وصارت أيديهم فوق أيدي الجميع . وأيدي الجميع مبسوطة إليهم ، كما وُعِدَت هاجر . فوضح أنه بشارة برسول الله صلى الله عليه وآله وسلم .
__________
(1) النص: (( وقال لها ملاك الرب: تكثيرا أكثر نسلك ، فلا يعد من الكثرة ، وقال لها ملاك الرب: ها أنت حبلى ، فتلدين ابنا ، وتدعين اسمه إسماعيل ، لأن الرب قد سمع لمذلتك ، وأنه يكون إنسانا وحشيا ، يده على كل واحد ، ويد كل واحد عليه )) . سفر التكوين 16: 10 - 12 .
(2) في المخطوط: بهذه . ولعل الصواب ما أثبت .
وفي فصل من كتاب أشعياء النبي صلى الله عليه: (( لتفرح أرض البادية العطشى ، ولتبتهج البراري والفلوات ، ولْتَزْهُ ، لأنها ستعطى بأحمد محاسن لبنان ، وكمال حسن الدساكر والرياض )) (1) .
ومن المعلوم أن البادية لم يحصل لها ولفلواتها المحاسن إلا بالاسلام والمسلمين ، فبان أنه بشارة بالنبي صلى الله عليه وآله وسلم ، وإن كان في أهل الكتاب من ينكر الاسم على عادتهم في التحريف .
وعن حبقوق النبي صلى الله عليه: (( جاء الله من التيمن ، والقدوس من جبال فاران ، وامتلأت الأرض من تمجيد أحمد وتقديسه ، وملك الأرض ورقاب الأمم )) (2) . وقد بيَّنا أن جبال مكة تسمى في التوراة: جبال فاران .
وقال داوو صلى الله عليه في مزموره ، في صفة النبي صلى الله عليه وآله وسلم: (( إنه يجوز من البحر إلى البحر ، ومن لدن الأنهار إلى منقطع الأنهار ، وأنه تجثو أهل الجزائر بين يديه على ركبهم ، ويلحس أعداؤه التراب . تأتيه الملوك بالقرابين ، تسجد له وتَدِينُ له الأمم
__________
(1) النص من الترجمة الحديثة: (( تفرح البرية والأرض اليابسة ، ويبتهج القفر ، ويزهر كالنرجس ، يزهر أزهارا ، ويبتهج ابتهاجا ، ويرنم ، يدفع إليه مجد لبنان ، بهاء كرمل وشارون ، هم يرون مجد الرب ، بهاء الهنا )) . سفر أشعياء 35: 1 - 2 .
(2) النص من الترجمة الحديثة: (( الله جاء من تيمان ، والقدوس من جبال فاران . سلاه . جلاله غطى السماوات ، والأرض امتلأت من تسبيحه ، وكان لمعان كالنور . له من يده شعاع ، وهناك استتار قدرته ، قدامه ذهب الوباء ، وعند رجليه خرجت الحمى ، وقف وقاس الأرض ، نظر فرجف الأمم ، ودكت الجبال الدهرية ، وخسفت آكام القدم ، مسالك الأزل له ... )) إلخ . سفر حبقوق 3: 3 - 6 .
بالطاعة والانقياد ، لأنه يُخلِّص المضطهد البائس ممن هو أقوى منه ، وينقذ الضعيف الذي لا ناصر له ، ويرؤف بالضعفاء والمساكين ، وأنه يُعطى مِن ذهب بلاد سبأ ، ويُصلَّى عليه في كل وقت ، ويُبارَك عليه في كل يوم ، ويدوم ذكره إلى الأبد ، وإن اسمه لموجود قبل الشمس ، والأمم كلها يتبركون به ، وكلهم يحمدونه )) (1) .
وقد قيل: معناه يسمونه: محمدا .
ومن مزمور آخر لداوود صلى الله عليه: (( تقلَّدِ السيف ، فإن ناموسك وشريعتك مقرونة بهيبة ، وسهامك مسنونة ، والأمم يخرون تحتك )) (2) .
__________
(1) النص من الترجمة الحديثة للمزمور كله هكذا: (( اللهم أعط أحكامك للمك ، وبرك لابن الملك . يدين شعبك بالعدل ، ومساكينك بالحق ، تحمل الجبال سلاما للشعب ، والآكام بالبر ، يقضي لمساكين الشعب ، يخلص بني البائسين ، ويسحق الظالمين . يخشونك ما دامت الشمس ، وقدام القمر إلى دور فدور . ينزل مثل المطر على الجزاز ، ومثل الغيوث الذارفة على الأرض . يشرق في أيامه الصديق وكثرة السلام ، إلى أن يضمحل القمر . ويملك من البحر ومن النهر إلى أقاصي الأرض . أمامه تجثو أهل البرية ، وأعداؤه يلحسون التراب . ملوك ترشيش والجزائر يرسلون تقدمة . ملوك شبا وسباء يقدمون هدية . ويسجد له كل الملوك . كل الأمم تتعبد له . لأنه ينجي الفقير المستغيث والمسكين ، إذ لا معين له . يشفق على المسكين والبائس ، ويخلص أنفس الفقراء من الظلم والخطف ، يفدي أنفسهم ، ويكرم دمهم في عينيه . ويعيش ويعطيه مِن ذهب شبا . ويصلى لأجله دائما . اليوم كله يباركه ، تكون حفنة بُر في الأرض في رؤوس الجبال تتمايل مثل لبنان ثمرتها ، ويزهرون من المدينة مثل عشب الأرض ، يكون اسمه إلى الدهر . قدام الشمس يمتد اسمه ، ويتباركون به . كل أمم الأرض يطوبونه . مبارك الرب الله إله إسرائيل ، الصانع العجائب وحده ، ومبارك اسم مجده إلى الدهر ، ولتمتلئ الأرض كلها من مجده )) . المزمور: 72 .
(2) نص المزمور كله من الترجمة الحديثة: (( فاض قلبي بكلام صالح . متكلم أنا بإنشائي للمك . لساني قلم كاتب ماهر . أنت أبرع جمالا من بني البشر ، انسكبت النعمة على شفتيك ، لذلك باركك الله إلى الأبد . تقلد سيفك على فخذك أيها الجبار جلالك وبهاءك ، وبجلالك اقتحم . اركب من أجل الحق والدعة والبر ، فتريك يمينك مخاوف . نَبلُك المسنونة في قلب أعداء الله ، شعوب تحتك يسقطون .
كرسيك يا الله إلى دهر الدهور . قضيب استقامة قضيب ملكك ، أحببت البر وأبغضت الإثم ، من أجل ذلك مسحك الله إلهك بدهن الابتهاج أكثر من رفقائك . كل ثيابك مر وعود وسليخة . من قصور العاج سرتك الأوتار . بنات ملوك بين حظياتك ، جعلت الملكة عن يمينك بذهب أوفير .
اسمعي يا بنت وانظري وأميلي أذنك ، وانسي شعبك وبيت أبيك ، فيشتهي الملك حسنك ، لأنه هو سيدك فاسجدي له . وبنت صور أغنى الشعوب ، تترضي وجهك بهدية .
كلها مجدٌ ابنة الملك في خدرها . منسوجة بذهبٍ ملابسها . بملابس مطرزة تحضر إلى الملك . في إثرها عذارى صاحباتها . مقدمات إليك ، يحضرن بفرح وابتهاج . يدخلن إلى قصر الملك . عوضا عن آبائك يكون بنوك تقيمهم رؤساء في كل الأرض . أذكر اسمك في كل دور فدور . من أجل ذلك تحمدك الشعوب إلى الدهر والأبد )) . المزمور: 45 .
وليس في الأنبياء بعد داوود صلى الله عليه من تقلَّد السيف ، وحارب الأمم تحته ، ومن قُرِنَت شريعته بالهيبة ، غير نبينا صلى الله عليه وآله وسلم .
وأيضا في الزبور: (( إن الله اصطفى أمته ، وأعطاه النصر ، وسدد الصالحين منهم بالكرامة ، ويسبحونه على مضاجعهم ، ويكبرون الله بأصوات مرتفعة ، بأيديهم سيوف ذوات شفرتين ، لينتقم الله عز وجل من الأمم الذين لا يعبدونه ، يوثقون ملوكهم بالقيود ، وأشرافهم بالأغلال )) (1) .
__________
(1) نص المزمور من الترجمة الحديثة: (( هللويا . غنوا للرب ترنيمة جديدة ، تسبيحته في جماعة الأتقياء . ليفرح إسرائيل بخالقه . ليبتهج بنو صهيون بملكهم ، ليسبحوا اسمه برقص . بدف وعود ليرنموا له . لأن الرب راض عن شعبه ، يُحمِّل الودعاء بالخلاص . ليبتهج الأتقياء بمجد ، ليرنموا على مضاجعهم ، تذويهات الله في أفواههم ، وسيف ذو حدين في يدهم . ليصنعوا نقمة في الأمم ، وتأديبات في الشعوب ، لأسر ملوكهم بقيود ، وشرفائهم بكبول من حديد ، ليجروا بهم الحكم المكتوب ، كرامة هذا لجميع أتقيائه . هللويا )) . المزمور: 149 .
ومن الظاهر أن هذه صفة أمة نبينا صلى الله عليه وآله وسلم ، لأنه ليس في غيرهم من الأمم من يكبِّر الله بأصوات مرتفعة ، ومعهم سيوف ذوات شفرتين ، يقاتلون بها من لا يعبد الله .
وعن أشعياء النبي صلى الله عليه [وآله وسلم] وقيل: إنه في الفصل التاسع: (( لنا ابن سلطانه كتفه ، وسلطانه هو حجته )) ، وقيل: إن هذا في النقل السرياني .
وأما النقل العبراني فقيل: إن فيه: (( على كتفه علامة النبوة )) (1) . وهذان التفسيران متقاربان .
ومن المعلوم المستفيض أن نبينا صلى الله عليه وآله وسلم كان على كتفه خاتم النبوة ، ولم ينقل أن ذلك كان لأحد من الأنبياء صلوات الله عليهم سواه .
وفي التوارة وقيل: إنه في السفر الخامس: قال الله عز وجل: (( إني أقيم لبني اسرائيل نبيا من إخوتهم مثلك ، أجعل كلامي على فمه )) (2) .
__________
(1) النص من الترجمة الحديثة: (( لأنه يولد لنا ولد ، ونعطى ابنا ، وتكون الرياسة على كتفه ، ويدعى اسمه عجيبا مشيرا ... )) إلخ . سفر أشعياء 9: 6 .
(2) تقول التوراة: إن الله عز وجل طلب من موسى عليه السلام أن يجمع له بني إسرائيل ناحية جبل طور سيناء ليسمعوا صوته ، وهو يتحدث معه فيخافوه ويهابوه ، ولما جمعهم حدث من هيبة الله رعد وبرق ونار ودخان ، فخافوا وقالوا لموسى: إذا أراد الله أن يكلمنا فليكن عن طريق النبي ونحن نسمع ونطيع . فوعدهم الله بنبي في هذا النص: (( يقيم لك الرب إلهك نبيا من وسطك ، من إخوتك مثلي ، له تسمعون . حسب كل ما طلبت من الرب إلهك ، في حوريب يوم الاجتماع ، قائلا: لا أعود أسمع صوت الرب إلهي ، ولا أرى هذه النار العظيمة أيضا لئلا أموت . قال لي الرب: قد أحسنوا في ما تكلموا . أقيم لهم نبيا من وسط إخوتهم مثلك ، وأجعل كلامي في فمه فيكلمهم بكل ما أوصيه به ، ويكون أن الانسان الذي لا يسمع لكلامي الذي يتكلم به باسمي أنا أطالبه . وأما النبي الذي يطغى فيتكلم باسمي كلاما لم أوصه أن يتكلم به ، أو الذي يتكلم باسم آلهة أخرى فيموت ذلك النبي . وإن قلت في قلبك كيف نعرف الكلام الذي لم يتكلم به الرب . فما تكلم به النبي باسم الرب ولم يحدث ولم يَصِرْ فهو الكلام الذي لم يتكلم به الرب بل بطغيان تكلم به النبي فلا تخف منه )) . سفر التثنية 18: 15 - 22 .
وهذا النبي الذي تتحدث عنه هذه النبوءة هو محمد صلى الله عليه وآله وسلم . واليهود يقولون: إن النبي الذي تتحدث عنه هذه النبوءة لم يظهر بعد .
والنصارى يقولون: هو عيسى عليه السلام . والصحيح هو محمد صلى الله عليه وآله وسلم ، لأن في التوراة أنه لن يظهر نبي من بني إسرائيل مثل موسى . وهذا النبي الذي تتحدث عنه النبوءة هذه ، من أوصافه أن يكون مماثلا لموسى في الحروب والمعجزات والانتصار على الأعداء . انظر سفر التثنية 34: 10 .
وهذا يجب أن يكون المراد به نبينا صلى الله عليه وآله وسلم ، لأن إخوة بني إسرائيل يجب أن تكون غيرهم ، ويجب أن يكونوا أولاد إسماعيل صلى الله عليه ، وأولاد عيسى ، أو أولاد إسحاق ، ولم يكن في أولاد عيسى بن إسحاق نبي غير أيوب صلى الله عليه ، وكان هو قبل موسى صلى الله عليه ، فلا يصح أن يكون هو المراد (1) ، فيجب أن يكون المراد نبينا صلى الله عليه وآله وسلم من ولد إسماعيل .
__________
(1) ذكرت التوراة: أن عيسى باع بُكُوريته ليعقوب ، فأصبحت بركة إسحاق مقصورة على يعقوب عليه السلام ، وقد نصت التوراة على انتقال الملك والنبوة منه إلى آل إسماعيل ، فقد قال يعقوب في الإصحاح التاسع والأربعين من سفر التكوين: (( لا يزول قضيب من يهوذا ، ومشترع من بين رجليه ، حتى يأتي شيلون وله يكون خضوع شعوب )) ، وشيلون من بني إسماعيل ، لأن لإسماعيل بركة .
يبين ذلك أن بني إسرائيل لم يُبعث فيهم نبي مثل موسى ، له شريعة ظاهرة قبل المسيح ، ولا يصح أن يقال: إن المراد به هو المسيح صلى الله عليه ، لأن القائل به إما أن يكون يهوديا منكراً لنبوته ، أو نصرانيا لا يقول: إنه كان مثل موسى صلى الله عليه ، لأن النصارى يقولون: إن المسيح ابن الله ، فلا يصح أن يكون مثل موسى صلى الله عليه ، فلم يبق إلا أن يكون المراد به نبينا صلى الله عليه وآله وسلم . على أن عيسى صلى الله عليه ، لم يكن مثل موسى صلى الله عليه ، لأن شريعته مبنية على شريعة موسى ، وشريعة نبينا مثل شريعة موسى صلى الله عليه ، فإنها لم تُبْن على شريعة غيره .
وعن أشعياء صلى الله عليه: (( قيل لي قم نظارا . فانظر ما ترى تُخبر به . قلت: أرى راكبين مقبلين ، أحدهما على حمار ، والآخر على جمل ، يقول أحدهما: هَوَتْ آلهة بابل ، وتكسرت عليه أصنامها المنجورة )) (1) ، فكان راكب الحمار: عيسى (2) صلى الله عليه ، وراكب الجمل نبينا صلى الله عليه وآله وسلم ، وآلهة بابل لم تزل تُعبد
__________
(1) النص من الترجمة الحديثة: (( لأنه هكذا قال لي السيد: اذهب أقم الحارس ليخبر بما يرى . فرأى رُكابا أزواج فرسان ، ركاب حمير ، ركاب جمال . فأصغى إصغاء شديدا ثم صرخ كأسد: أيها السيد أنا قائم على المرصد دائما في النهار ، وأنا واقف على المحرس كل الليالي . وهو ذا ركاب من الرجال ، أزواج من الفرسان . فأجاب وقال: سقطت سقطت بابل وجميع تماثيل آلهتها المنحوتة )) . سفر أشعياء 21: 6 - 9 .
(2) قال الإمام بذلك ، لأنه مكتوب في الأناجيل: أن عيسى عليه السلام دخل مدينة القدس على حمار .
من لدن إبراهيم صلى الله عليه ، إلى أن بعث الله نبيه صلى الله عليه وآله وسلم ، فعندها هوت وتكسرت ، واشتهار ركوب النبي صلى الله عليه وآله وسلم الجمل ، كاشتهار ركوب عيسى صلى الله عليه الحمار .
وفي التوارة: (( إذا جاءت الأمة الآخرة ، أتباع راكب البعير ، يسبحون الله تسبيحا جديدا في الكنائس الجدد ، فليفرح بنو إسرائيل ، ويسيرون إلى صهيون ، ولتطمئن قلوبهم ، لأنه اصطفى منهم في الأيام الآخرة أمة جديدة ، يسبحون الله بأصوات عالية ، بأيديهم سيوف ذات شفرتين ، فينتقمون له من الأمم الكافرة في جميع الأقطار )) (1) .
وعن أشعياء النبي صلى الله عليه: (( هكذا يقول الرب إنك ستأتي من جهة التيمن ، من بلد بعيد ، ومن أرض البادية مسرعا ، قدامك الروائع والرعارع والرياح )) (2) ، والتيمن: هو ناحية الجنوب .
وعنه من فصلِ ذكرِ هاجر ، وقال مخاطبا لها ولبلادها وولدها: (( مكة قومي ، وأنيري مصباحك ، فقد دنا وقتك ، وكرامة الله طالعة
__________
(1) سبق أن ذكرنا نص المزمور التاسع والأربعين بعد المائة ، وفيه هذا النص .
(2) النص بتمامه من الترجمة الحديثة: (( فيرفع راية للأمم من بعيد ، ويصفر لهم من أقصى الأرض ، فإذا هم بالعجلة يأتون سريعا . ليس فيهم رازح ولا عاثر ، لا ينعسون ولا ينامون ، ولا تنحل حزم أحقائهم ، ولا تنقطع سيور أحذيتهم . الذين سهامهم مسنونة ، وجميع قسيهم ممدودة ، حوافر خيولهم تحسب كالصوان ، وبكراتهم كالزوبعة . لهم زمجرة كاللبوة ، ويزمجرون كالشبل ، ويهرِّون ويمسكون الفريسة ويستخلصونها ولا منقذ . يهرِّون عليهم في ذلك اليوم كهدير البحر . فإن نظر إلى الأرض فهو ذا ظلام ، الضيق والنور قد أظلم بسحبها )) . سفر أشعياء 5: 26 - 30 .
عليك ، فقد تخلل الأرض الظلام ، وغطى على الأمم الضباب ، فالرب يشرق عليك إشراقا ، ويظهر كرامته عليك ، وتسير الأمم إلى نورك ، والملوك إلى ضوء طلوعك ، ارفعي بصرك إلى ما حولك وتأملي . فإنهم سيجتمعون كلهم إليك ويحجونك ، ويأتيك ولدك من بلد بعيد ، وسترين ذلك فتبتهجين ، وتفرحين ، ويستروح قلبك ، من أجل أنه يميل إليك ذخائر البحر ، وتحج إليك عساكر الإبل ، حتى تعمرك الإبل المأبلة ، وتضيق أرضك عن القطرات التي تجتمع إليك ، ويساق إليك كباش مدين ، وتسير إليك أغنام قيدار ، وتخدمك رجال نبايوت )) (1) ،
__________
(1) النص بتمامه من الترجمة الحديثة: (( ترنمي أيتها العاقر التي لم تلد ، أشيدي بالترنم أيتها التي لم تمخض ، لأن بني المستوحشة أكثر من بني ذات البعل ، قال الرب: أوسعي مكان خيمتك ، ولتبسط شقق مساكنك ، لا تمسكي ، أطيلي أطنابك وشددي أوتادك ، لأنك تمتدين إلى اليمين وإلى اليسار ، ويرث نسلك أمما ويعمر مدنا خربة . لا تخافي لأنك لا تخزين ، ولا تخجلي لأنك لا تستحين . فإنك تنسين خزي صباك ، وعار ترملك ، لا تذكرينه بعد . لأن بعلك هو صانعك ، رب الجنود اسمه ، ووليك قدوس إسرائيل ، إله كل الأرض يدعى . لأنه كامرأة مهجورة ومحزونة الروح دعاك الرب ، وكزوجة الصبا إذا رذلت قال إلهك . لحيظة تركتك ، وبمراحم عظيمة سأجمعك . بفيضان الغضب حجبت وجهي عنك لحظة ، وبإحسان أبدي أرحمك ، قال وليك الرب . لأنه كمياه نوح هذه لي ، كما حلفت أن لا تعبر بعد مياه نوح على الأرض هكذا حلفت أن لا أغضب عليك ولا أزجرك . فإن الجبال تزول ، والآكام تتزعزع ، أما إحساني فلا يزول عنك ، وعهد سلامي لا يتزعزع ، قال راحمك الرب .
أيتها الذليلة المضطربة غير المتعزية ، هاأنا ذا أبني بالأثمد حجارتك ، وبالياقوت الأزرق أؤسسك ، وأجعل شُرفك ياقوتاً ، وأبوابك حجارة بهرمانية ، وكل تخومك حجارة كريمة ، وكل بنيك تلاميذ الرب ، وسلام بنيك كثيرا . بالبر تثبتين بعيدة عن الظلم فلا تخافين ، وعن الارتعاب فلا يدنو منك . ها أنهم يجتمعون اجتماعا ليس من عندي من اجتمع عليك فإليك يسقط . هاأنا ذا قد خلقت الحداد الذي ينفخ الفحم في النار ، ويخرج آلة لعمله ، وأنا خلقت المهلك ليخرب . كل آلة صورت ضدك لا تنجح ، وكل لسان يقوم عليك في القضاء تحكمين عليه . هذا هو ميراث عبيد الرب ، وبِرُّهم من عندي يقول الرب )) . سفر أشعياء 54: 1 - 17 .
وقيدار هو: ابن إسماعيل صلى الله عليه ، وهو جد النبي صلى الله عليه وآله وسلم ، ونبايوت: هو أخو قيدار ، وأولاده شديدو القلب .
ومن كتاب أشعياء: (( سكان البادية والمدن وقصور آل قيدار يسبحون ، ومن رؤوس الجبال ينادون ، هم الذين يجعلون لله الكرامة ، وينهون تسبيحه في البر والبحر ، يرفع علما لجميع الأمم ، فيصفر لهم من أقاصي الأرض ، فإذا هم سراع يأتون )) (1) . وقيدار بن إسماعيل هو جد النبي صلى الله عليه وآله وسلم ، ونداؤهم بالتلبية من رؤوس الجبال ، وتسبيحهم لله عز وجل هو الذي ظهر من المسلمين ، والنبي صلى الله عليه وآله وسلم هو صَفَّر لمواسم - أي: نادى - فأتوه مسرعين .
وفي الانجيل: قال المسيح صلى الله عليه للحواريين: (( أنا ذاهب وسيأتيكم الفيرقليط (2) . روح الحق الذي لا يتكلم من قِبَل نفسه ، إنما هو كما يقال له ، وهو يشهد علي به )) (3) .
__________
(1) هذا النص بالمعنى من النصين المذكورين سابقا نص الإصحاح الخامس من أشعياء ، ونص الإصحاح الرابع والخمسين من أشعياء .
(2) الفيرقليط - بكسر الفاء -: كلمة عبرانية معناها: أحمد ، صلى الله عليه وآله وسلم .
وفي كتب النصارى يكتبونها بفتح الفاء ليكون معناها: المحامي ، والمؤيد ، والشفيع ، والنائب عن غيره ، وهكذا . وهذا النص في إنجيل يوحنا في الإصحاح الرابع عشر وما بعده ، ومكتوب بدل فيرقليط كلمة: (( المُعَزِّي )) ، بضم الميم وفتح العين تشديد الزاي مكسورة .
(3) هذا النص بالمعنى في إنجيل يوحنا ، ونص العبارات التي اقتبس منها المؤلف بالمعنى هو: (( إن كنتم تحبونني فاحفظوا وصاياي ، وأنا أطلب من الأب - الله - فيعطيكم معزيا - فارقليط - آخر ، ليمكث معكم إلى الأبد ، روح الحق الذي لا يستطيع أن يقبله ، لأنه لا يراه ولا يعرفه )) . إنجيل يوحنا 14: 15 - 17 .
(( ومتى جاء المعزى الذي سأرسله أنا إليكم من الأب روح الحق ، الذي من عند الأب ينبثق فهو يشهد لي ، وتشهدون أنتم أيضا لأنكم معي من الابتداء ، قد كلمتكم بهذا لكي لا تعثروا ، سيخرجونكم من المجامع ، بل تأتي ساعة فيها يظن كل من يقتلكم أنه يقدم خدمة لله . وسيفعلون هذا بكم ، لأنهم لم يعرفوا الأب ولا عرفوني . لكني قد كلمتكم بهذا ، حتى إذا جاءت الساعة تذكرون أني أنا قلته لكم . ولم أقل لكم من البداءة لأني كنت معكم . وأما الآن فأنا ماض إلى الذي أرسلني ، وليس أحد منكم يسألني: أين تمضي ؟ لكن لأني قلت لكم هذا ، قد ملأ الحزن قلوبكم . لكني أقول لكم الحق إنه خير لكم أن أنطلق ، لأنه إن لم أنطلق لا يأتيكم المعزي . ولكن إن ذهبت أرسله إليكم . ومتى جاء ذاك يبكت العالم على خطية ، وعلى بر ، وعلى دينونة ، أما على خطية فلأنهم لا يؤمنون بي . وأما على بر فلأني ذاهب إلى أبي ولا ترونني أيضا . وأما على دينونة فلأن رئيس هذا العالم قد دِينَ . إن لي أموراً كثيرة أيضا لأقول لكم ، ولكن لا تستطيعون أن تحتملوا الآن ، وأما متى جاء ذاك روح الحق فهو يرشدكم إلى جميع الحق ، لأنه لا يتكلم من نفسه . بل كل ما يسمع يتكلم به ، ويخبركم بأمور آتية . ذاك يمجدني لأنه يأخذ مما لي ويخبركم )) . إنجيل يوحنا 15: 26 - 27 ، و16 - 1 ... إلخ .
وفي حكاية يوحنا عن المسيح صلى الله عليه: (( الفيرقليط لا يجيئكم ما لم أذهب ، فإذا جاء وبخ العالم على الخطية ، ولا يقول من تلقاء نفسه شيئا ، ولكن مما يسمع به يكلمكم ، ويسوسكم بالحق ، ويخبركم بالحوادث والغيوب )) (1) .
وفصول كثيرة في التوراة والزبور والانجيل .
وعن أشعياء وغيره من الأنبياء صلوات الله عليهم أجمعين غير ما ذكرنا . لكنا اقتصرنا على هذا القدر ، لأن فيه كفاية . وهذه الفصول
__________
(1) هذا النص في التعليق السابق .
يُقِرُّ بها حفاظ أهل الكتاب ، وليسوا ينكرون منها إلا اسم نبينا صلوات الله عليه ، ويتأولون النبوءات تأويلات ظاهرة الفساد .
ومن المعلوم أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم تلا عليهم: { الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الرَّسُولَ النَّبِيَّ الأُمِّيَّ الَّذِي يَجِدُونَهُ مَكْتُوبًا عِندَهُمْ فِي التَّوْرَاةِ وَالانجيل } [الأعراف: 157] ، وتلا حكاية عن المسيح صلى الله عليه: { إِنِّي رَسُولُ اللَّهِ إِلَيْكُم مُّصَدِّقًا لِّمَا بَيْنَ يَدَيَّ مِنَ التَّوْرَاةِ وَمُبَشِّرًا بِرَسُولٍ يَأْتِي مِن بَعْدِي اسْمُهُ أَحْمَدُ } [الصف: 6] ، وتلا: { يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لِمَ تَكْفُرُونَ بِآيَاتِ اللّهِ وَأَنتُمْ تَشْهَدُونَ (70) } [آل عمران] ، وتلا: { الَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ يَعْرِفُونَهُ كَمَا يَعْرِفُونَ أَبْنَاءهُمُ } [الأنعام: 20] .
فلو لم تكن هذه الآيات من عند الله عز وجل ، ولم يكن اسمه مكتوبا في كتبهم ، ولم يكن أحبارهم عالمين بذلك ، لم يكن صلى الله عليه وعلى آله وسلم يورد عليهم ذلك ، لأنه لا يزيدهم إلا نفاراً عنه ، وتحققاً بتقوله ، حاشاه من ذلك .
فإن قيل: هذا الذي حكيتم من كتب الأنبياء صلوات الله عليهم صحيح ، وهذه الصفات موجودة في تلك الكتب ، إلا أن الموصوف بها لم يجئ بعدُ بتة (1) .
__________
(1) هكذا يقول اليهود إلى اليوم في نبوءات التوراة عن محمد صلى الله عليه وآله وسلم ، ويلقبون النبي صلى الله عليه وآله وسلم بلقب: المسيح المنتظر ، كما يلقبون أنبياءهم وعلماءهم وملوكهم ، ليوهموا الناس أنه سيأتي من بني إسرائيل .
قيل له: أرأيتم إن جاء مَن تدَّعونه ، ثم أنكره منكر . ما يكون برهانكم عليه ؟
فإن قيل: إذا جاء أتى بالمعجزات . فمهما قالوا في ذلك فهو جوابنا .
ثم يقال لهم: إذا أتى مَن توجد فيه الأوصاف المذكورة ، فيجب أن نعلم أنه هو الذي بشَّرت به الأنبياء صلوات الله عليهم ، لأنه لا يجوز أن يعرِّفنا نبي من الأنبياء أنه يأتيكم رجل حاله كذا وصفته كذا . فإذا أتاكم فافعلوا به كذا ، من تصديق أو تكذيب ، ثم يأتينا رجل بتلك الصفة ، ولا يكون هو مراداً بذلك الخبر ، بل يكون المراد غيره ، والمقصود سواه . لأنه لو كان ذلك كذلك ، كان ضربا من التلبيس ، ويجب أن يمنع الله عز وجل منه . وفي هذا إبطال هذا السؤال .
فإن قيل: بيِّنوا أن تلك الأوصاف حاصلة لنبيكم صلى الله عليه وآله وسلم ؟
قيل له: ما جاء في التوراة: (( جاء الله من سيناء ، وأشرق من ساعير ، واستعلن من جبل فاران )) ، لا التباس في أن المراد بقوله: (( واستعلن من جبل فاران )) هو ابتعاثه رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ، لأن جبال فاران لا إشكال في أنها جبال مكة ، ولم تظهر عبادة الله عز وجل وتسبيحه وتهليله ، وخلع الأصنام والأنداد بمكة ظهوراً انتشر في الآفاق ، وتحمله الركبان ، إلا برسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ، كما أن ظهور ذلك بظهور سيناء ، لم يكن إلا بموسى صلى
الله عليه ، وظهوره بساعير لم يكن إلا بعيسى صلى الله عليه ، وفي ذلك ثبوت أن هذه البشارة كانت بشارة بالنبي صلى الله عليه وآله وسلم ، لأنه لو جاز أن يقال ذلك في موسى وعيسى صلى الله عليهما ، لجاز في محمد صلى الله عليه وآله وسلم .
وأنت إذا تأملت الأوصاف التي ذكرناها وبيَّناها ، وجدت جميعها في رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وصفاً وصفاً . فيتبين لك أنه الموصوف بها . فإذا ثبت ذلك ، ثبت أنه المشير بها ، لأن خلاف ذلك مما لا يجوز في حكمة الله الحكيم عز وجل .
- - -
ذكر ما قيل في أمره صلى الله عليه وآله وسلم على سبيل التأكيد
اعلم أن الفصول التي ذكرناها في هذا الباب ، مِن العلماء مَن ذكر كثيراً منها على سبيل الاستدلال على صحة نبوته صلى الله عليه وآله وسلم ، وإن كان الأوضح أن ذكرها على سبيل التأكيد والإيضاح ، لما تقدم من الأدلة والبراهين أولا .
وإن كان ما ذهب إليه أولئك العلماء - رحمهم الله - ليس ببعيد .
فمن ذلك: ما اختص به صلى الله عليه وآله وسلم من الأحوال التي اجتمعت فيه على وجه لم يصح أنه اجتمع في أحد ، على ما نقل وذكر ، كالحكم الذي رسخ فيه صلى الله عليه وآله وسلم ، فإنه من مولده إلى مبعثه ، وإلى أن اختار الله عز وجل له دار كرامته ، مع اختلاف الأحوال عليه ، وتقلب الأمور لديه ، ومباشرته ما باشره ، من دعاء أعدائه إلى الدين مع غلظتهم عليه ، وإظهارهم الجفاء له من كل وجه أمكنهم ، ووجدوا السبيل إليه ، لم يقع منه ما ينسب إلى الحدة ، أو يُعدّ من الخفة ، أو يجري مجرى النزق والطيش .
ومن تتبع أخباره صلى الله عليه وعلى وآله وأحواله ، عرف ذلك وتحقَّقَه .
هذا مع أن أحدا ممن ادعا الحلم ، وانتسب إليه ، لم يخل في كثير من الأوقات مما يجري مجرى الحدة والنزق . كأحنف بن قيس ، ومعاوية
لعنه الله ، وغيرهما . فقد حكي على كل ، ولكل منهم أمور منكرة من ذلك .
ثم اختص صلى الله عليه وآله وسلم مع ذلك بالصبر في مواطن الجزع ، على وجه لم يسمع بمثله لغيره ، فقد جرى عليه في أول مبعثه صلى الله عليه وآله وسلم ما لا يخفى على حامل أثر ، ولا ناقد خبر ، من الأذى ما يطول ذكره .
ثم جرى على عمه حمزة بن عبد المطلب رحمة الله عليه بمرأى منه ومسمع . وجرى عليه صلى الله عليه وآله وسلم في نفسه يوم أحد من الكفار ما جرى . وجرى عليه من المنافقين قبل ذلك وبعده ، ما هو مشهور عند أهل الآثار . ومع ما كان يقاسيه من الضر والجوع ، ويقاسي معه أهل عنايته وهو في أثناء نكد الأحوال ، لم ينفد صبره ساعة من حياة ، ولم يظهر لأحد ضيق صدره ، ولا جزع لشيء من ذلك .
ثم كان صلى الله عليه وآله وسلم من الوفاء ، بحيث لم يَدَّعِ عليه عدو مكاشح ، ولا منابذ مكافح ، خلاف ذلك ، لظهور الأمر فيه ، ثم انضم إلى ذلك الزهد الخشن ، الذي لم يُرتَبْ فيه ، فإنه صلى الله عليه وآله وسلم ملك العرب ، وأقصى اليمن إلى أقصى الحجاز ، وإلى عمان ، ثم توفي صلى الله عليه وآله وسلم ، ولم ينقل أنه ترك عينا ولا وَرِقا .
ولا كان بنى دارا ، ولا شق نهرا ، ولا استبقى عينا .
واستأثر الله به ، وعليه دَين ، وكفن صلى الله عليه وآله وسلم في ثيابه التي كان يعبد الله فيها .
وحاله في ذلك أجمع ، كانت مشهورة عند أوليائه وأعدائه ، لم يختلف فيه اثنان ، ثم كان مع ذلك أشد الناس تواضعا . كان يأكل على الأرض ، ويجلس عليها ، ويلبس الخَلِق ، ويمشي في الأسواق ، كواحد من العامة ، ويجالس المساكين . وروي أنه كان يقول: (( إنما أنا عبد آكل كما يأكل العبيد ، وأشرب كما يشرب العبيد )) (1) .
ثم كان مع ذلك أشجع الناس ، وأقواهم قلبا ، وأثبتهم وأشدهم جماحا ، ما فرَّ قط ، ولا خاف ، ولا كان منه ما اتفق للشجعان من حَولِه (2) ، أو قوته .
ويوم حنين لما ولَّى أصحابه مدبرين ، ثبت هو الثبات الحسن في نفر من عترته ، حتى رجع إليه أصحابه ، وأظفره الله على أعدائه . ويوم أحد لما شاع في أصحابه القتل الذريع ، وجرى على حمزة صلى الله عليه ما جرى ، ثبت أحسن الثبات ، ولم يولِّ القوم دبره ، ولم يقف موقفا - مع قلة تجلد أصحابه وكثرة أعدائه - إلا ثبت ، ولم يعرض له فيه اضطراب ولا عجز ، ثم انضاف إلى ذلك كرمُ عفوه ، وعظيم صفحه ، مع كثرة الأعداء عليه .
__________
(1) طبقات ابن سعد 1/ 92.
(2) الحول: القوة .
فإنه صلى الله عليه وآله وسلم لم يقف من أحد ، ولا وقف مع أحد موقف المغتاظ الحنق ، بل كان يعفو ويصفح ، ثم لا يتبع ذلك منَّاً ولا أذى ، ولا يفسده بتنغيص أو تكدير ، وأظهره الله بأبي سفيان بعد تمثيله بعمه حمزة عليه السلام ، وبذله الوسع في معاداته ، فلم يَلْقَه إلا بأحسن صفح ، وأكرم عفو ، وتجاوز عنه أحسن التجاوز ، ولما أظهر الاسلام أكرمه بقوله: (( من دخل دار أبي سفيان فهو آمن )) (1) .
ولم يشف غيظه من أحد من أهل مكة ، مع ما كان منهم صلى الله عليه وعلى آله ، وإلى أصحابه من الأسباب القبيحة ، وطلبهم دمه ودماء أصحابه ، وتسفههم عليه وعليهم ، ولم يكافئ أحدا منهم على سوء صنيعه ، وقبيح فعاله . ولم يعاتب أحداً منهم على ما كان منه ، ولم يواقفه (2) عليه ، وقال لما قام فيهم خطيبا: (( أقول كما قال أخي يوسف صلى الله عليه: لا تثريب عليكم اليوم ، يغفر الله لكم )) (3) .
ثم انضاف إلى ذلك حسن العشرة ، مع القريب والبعيد ، والولي والعدو . وخفض الجناح ، ولين الجانب ، وبُعده عن الغلظة والفظاظة ، كما قال الله عز وجل: { وَلَوْ كُنتَ فَظًّا غَلِيظَ الْقَلْبِ لاَنفَضُّواْ مِنْ حَوْلِكَ } [آل عمران: 159] .
__________
(1) أخرجه الطيالسي في مسنده 1/321 (2442) ، وإسحاق بن راهويه في مسنده 1/301 (278) .
(2) في المخطوط: يوافقه . والصواب ما أثبت .
(3) أخرجه أبي داود في سننه 3/ 163(3024) ، والحاكم في مستدركه 2/ 62(2328) .
فتأمل - رحمك الله - هذه الخلال التي خصَّه الله بها ، وأبانه بفضائلها دون الناس كافة ، فنبَّه (1) ذلك على أنه صلى الله عليه وعلى آله مراد لأمر جسيم ، وخطر (2) عظيم ، كما قال الله عز وجل: { وَإِنَّكَ لَعَلى خُلُقٍ عَظِيمٍ (4) } [القلم] ، وقال: { اللّهُ أَعْلَمُ حَيْثُ يَجْعَلُ رِسَالَتَهُ } [الأنعام: 124] .
ومن ذلك ما اشتهر وعرف من أحواله صلى الله عليه وعلى آله ، أنه لم يكن في مولده ومنشأه وخروجه إلى ناحية الشام - حين خرج - يخالط أهل الكتاب ، ولا يشتغل بمدارستهم ومجالستهم ومجاراتهم .
وأن قومه الذين كان نشوؤه معهم ، وبين أظهرهم ، لم يكونوا يتعاطون شيئا من علوم أهل الكتاب ، بل لم يكونوا يعرفون شيئا منه ، فهو صلى الله عليه وعلى آله لم يفارق قومه في مقامه ولا ظَعَنه ، ولا شيء من أحواله .
ثم إنه صلى الله عليه وآله أتى بالأقاصيص التي كانت في كتبهم ، من قصة إبليس مع آدم صلى الله عليه ، وسائر أقاصيص آدم ومَن بعده إلى قصة المسيح صلى الله عليه ، وسردها وتلاها على ما في كتبهم ، ولم ينكر أهل الكتاب إلا يسيرا .
فكيف يجوز أن يكون عرف تلك إلا من جهة علام الغيوب ؟
__________
(1) في المخطوط: فتنبه . ولعل الصواب ما أثبت .
(2) الخطر: الشرف .
وكيف يرتاب في ذلك مَن علم مِن حاله أنه لم يكن يشتغل بعلوم أهل الكتاب ؟كما يعلم أنه لم يكن يشتغل بعلوم التنجيم والهندسة والفلسفة ، وهذا مما ذكره بعض العلماء على سبيل الاستدلال به .
فأما ما ذكره على سبيل التأكيد فمما لا مرية فيه ولا شبهة ، والحمد لله . وقد نبَّه الله عز وجل على ذلك ، بقوله تعالى: { وَمَا كُنتَ تَتْلُو مِن قَبْلِهِ مِن كِتَابٍ وَلَا تَخُطُّهُ بِيَمِينِكَ إِذًا لَّارْتَابَ الْمُبْطِلُونَ (48) } [العنكبوت] .
ومن ذلك سلامة القرءان وما (1) أتى به صلى الله عليه وآله وسلم من الشرائع ، عن التناقض والتدافع ، واستمرارها على طريقة واحدة ، وأنها لا تزداد إلا تأكدا وبيانا ، مع الفحص والبحث وشدة التنقيب على أحواله ، وكثرة إيراد أجناس الكفار للشُّبَه . سيما الملحدة ، فإنهم لم يَدَعُوا شيئا يجوز أن يخرج في تعريف شبهة أو تخييل ، إلا قاموا به وقعدوا ، وأوردوا وذكروا ، طمعا في إطفاء نور الحق ، { وَيَأْبَى اللّهُ إِلاَّ أَن يُتِمَّ نُورَهُ وَلَوْ كَرِهَ الْكَافِرُونَ (32) } [التوبة] .
وقد نبَّه الله جل ذكره على هذه الحملة (2) بقوله: { وَلَوْ كَانَ مِنْ عِندِ غَيْرِ اللّهِ لَوَجَدُواْ فِيهِ اخْتِلاَفًا كَثِيرًا (82) } [النساء] .
ومن ذلك أنه صلى الله عليه وآله وسلم كان من أول مبعثه إلى أن اختار الله له دار كرامته ، كان على غاية قوة اليقين ، وانشراح الصدر
__________
(1) في المخطوط: مما . ولعل الصواب ما أثبت .
(2) كذا في المخطوط .
، والتشدد في الأمر الذي كان يدعو إليه ، والاستهانة بجميع أعدائه والمخالفين ، لا يني ، ولا يضعف متنه (1) ، ولا تهن قوته ، ويخاطب قومه من السماء .
كما روي أن ذويه من قريش لما شكوه إلى عمه أبي طالب ، يلتمسون منه النزول عما هو فيه من الدعاء إلى الله ، وسب آلهتهم ، وتسفيه أحلامهم ، وبذلوا له الرغائب على ذلك . قال صلى الله عليه وعلى آله: (( لو جعلت الشمس في يميني ، والقمر في يساري ، ما تهاونت فيما أدعو إليه )) (2) .
ثم استمر على ذلك مع كثرة ما لقي من الأذى والتكذيب ، وفي أحوال الخوف والرهبة من الأعداء . هذا مع حصافته (3) وثبات لُبِّه ، وإصابة رأيه .
ومن المعلوم أن العاقل الحازم إذا عرف من نفسه أنه محترص في أمر يدعيه ، ومتحيل فيه ، عَلِمَ أنه لا حقيقة لما يذكره ، ودفع مع ذلك إلى موافقة أعدائه له ، وامتحانهم إياه ، وبحثهم عن أحواله ، وتنقيرهم عن أسراره ، يلين بعض اللين ، ويستعمل بعض التملق في كثير من أوقاته ، بل عامة أحواله ، وإن خشن جانبه في وقتِ تجلدٍ ألانه في آخر ، وإن أبدى الثبات وقوة النفس في حالة ، راوغ وداهن في أخرى .
__________
(1) مَتُنَ الشيء: صلب ، ومتنا الظهر: مكتفا الصلب عن يمين وشمال من عصب ولحم .
(2) سيرة ابن هشام 1/ 285.
(3) الحصافة: كمال العقل .
وأحواله صلى الله عليه وعلى آله جرت على خلافه . فدل ذلك على أنه كان صادقا في قوله ، واثقا بربه ، نافذا في بصيرته ، ماضيا على المنهاج الواضح صلى الله عليه وعلى آله .
ومن ذلك أن العرب لم تزل معروفة بالأنفة ، وشدة الحمية ، مشهورة بالتكبر والتعاظم ، ولذلك قط لم يجمعهم على الطاعة ملِك منهم ، ولم يخضعوا لعظيم من عظمائهم ، ولم يدينوا لأحد منهم .
خلاف سائر الأمم ، فإن أمة من الأمم لم تخل من ملك منهم يصرفها ، وعظيم يدبر أمورها منها ، ولم يكن ذلك إلا لأن الجل من العرب كانوا يعتقدون من أنفسهم أحوالا من الكبرياء ، تمنعهم عن أن ينقاد بعضهم لبعض ، لعزة نفوسهم ، وقوة قلوبهم ، وظهور فضائلهم النفسية .
ثم دانوا لرسول الله صلى الله عليه وآله وسلم بالطاعة ، وخفضوا له جناح الذلة ، وخضعوا تحت أحكامه ، وتصرفوا على قضايا أوامره ونواهيه ، جارفين عاداتهم العادية ، ومخالفين سجاياهم القديمة ، ويَجِلُّون أن يكونوا فعلوا ذلك إلا لأنه صلى الله عليه وآله وسلم بهرهم وقهرهم بحجته ، وقطع معاذيرهم بآياته المعجزة ، ودلالاته الواضحة .
وهل يكون لنقض العادة إلا مثل ما اتفق في أحوالهم ، والخضوع بعد الاستكبار ، والانقياد بعد الإباء ؟! ولهم الإصابة والفهم البيِّن ، والرأي الثاقب ، والبصيرة الثابتة ؟!
ثم رُزق صلى الله عليه وعلى آله ما لم ينقل أن أحدا من الأنبياء صلوات الله عليهم رزق من الأصحاب الذين كانوا أعلاما مثله ، نحو أمير المؤمنين عليه السلام ، الذي بهر بفضائله الكافة ، واجتمع فيه ما تفرق في غيره من المناقب والمحاسن .
فإن عُدَّ الفقهاء كان عليه السلام فقيها منعما ، وعالما مقدما .
وإن ذكر الزهاد كان زاهدا خشنا ، قد طوى دون الدنية كشحا ، وأعرض عنها صفحا .
وإن ذكر القرءان (1) كان حافظا غير مدافع ، قارئا بل مقرئا غير ممانع .
وإن ذكر الشجعان كان شجاعا بطلا ، يكر ولا يفر ، ويقبل ولا يدبر .
ثم مَن دونه من العلماء وكبار الفقهاء ، مثل عبد الله بن عباس في فقهه ، المتقدم في علمه . وكان يقال فيه: (( إنه رباني هذه الأمة )) (2) .
وعبد الله بن مسعود ، الفقيه الزاهد ، الذي قيل فيه: (( كتف ملئ علما )) (3) ، وروي عنه أنه قال: (( [ما كنت أحسب ] أن في أصحاب
__________
(1) لعلها: القراء .
(2) عن محمد بن الحنفية أنه كبر على بن عباس أربعا وقال: (( هلك رباني هذه الأمة )) .
أخرجه الحاكم في مستدركه 3/ 626(6310) ، وابن عمرو الشيباني في الآحاد والمثاني 1/ 288(383) ، وأحمد بن حنبل في فضائل الصحابة 2/ 952(1842) .
(3) رواه ابن حجر عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم بلفظ: إنك لغلام معلم . الإصابة2/361.
محمد صلى الله عليه وعلى آله من يريد الدنيا ، حتى أنزل الله عز وجل: { مِنكُم مَّن يُرِيدُ الدُّنْيَا وَمِنكُم مَّن يُرِيدُ الآخِرَةَ } [آل عمران: 152] )) (1) .
ثم زيد بن ثابت ، ثم معاذ بن جبل ، ثم عمر بن الخطاب الذي لم يُشك في فقهه ، وعثمان بن عفان الذي لم يُرتَبْ في حفظه للقرآن ، ثم عبد الله بن عمر ، ثم حذيفة بن اليمان ، ثم الزُّهاد مثل سلمان الفارسي ، فإنه مع زهده كان معدودا من الحكماء والعلماء . وقال النبي صلى الله عليه وآله وسلم: (( سلمان منا أهل البيت )) (2) .
ثم أبو ذر الغفاري ، الذي صعب على الزهاد اقتفاء أثره في الزهد ، وعثمان بن مظعون ، وعمار بن ياسر ، إلى سائر أصحاب الصّفة .
ولو ذكرنا فضلاءهم وعلماءهم وزهادهم حتى نستوفي ذكرهم ، وشرعنا في وصف تدقيقهم النظر في الفرائض ، لطال الكتاب ، ولأدى ذلك إلى الخروج عن الغرض الذي قصدناه .
ثم إنهم حازوا هذه الفضائل ، بل وحصَّلوا هذه المآثر في مدة يسيرة ، لأنه لم يكن بين مبعثه صلى الله عليه وعلى آله ، إلى أن اختار الله له دار كرامته ، غير ثلاثة وعشرين سنة .
فتأمل - رحمك الله - ما ذكرت من أحوالهم ، وكيف بلغوا ما بلغوه في هذا الأمد القصير ، لتعلم أن ذلك كان بتوفيق من الله . نبَّه به
__________
(1) أخرجه أحمد ، وابن أبي شيبة ، وابن أبي حاتم ، وابن جرير. الدر المنثور 2/ 349 .
(2) أخرجه الحاكم في المستدرك3/692 ،والطبراني في الكبير6/213 (6040) .
على نبيه المختار في صدق ما ادعاه ، بل لا يبعد أن يقال: إن ذلك آية بينة ، ودلالة محققة .
ومن ذلك تخصيص الله عز وجل إياه صلى الله عليه وعلى آله وسلم بالذرية الزاكية ، والسلالة الطاهرة . فإنه منذ مضى الحسنان صلوات الله عليهما وإلى يومنا هذا ، لم تطلع الشمس إلا على عدة من فضلاء نجباء من أولاهما عليهم السلام ، يرشحون للإمامة ، ويؤهلون للزعامة ، فيدعي أولياؤهم وأصحابهم أنهم أفضل أهل الزمان ، ويسلم لهم أعداؤهم ومخالفوهم المنحرفون عنهم أنهم من جملة الفضلاء . لأن الحسن صلوات الله عليه مضى عن الحسن بن الحسن ، وزيد بن الحسن ، وهما لم يُشَك في فضلهما .
ومضى الحسين صلوات الله عليه عن علي بن الحسين ، وهو الأوحد في علمه وزهده وعبادته ، وزين العابدين وحالته مشهورة . ثم مضى هو عن نجباء مثل محمد بن علي الباقر العالم ، وزيد بن علي الشهيد ، وقد ورد في ذكرهما وفضلهما عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم ما ورد .
وعبد الله بن الحسن ، المشهور بالعقل والعلم ، وأخوه (1) إبراهيم بن الحسن وغيره . ثم كان بعدهم أولاد عبد الله بن الحسن ، وهم نجوم يهتدى بهم ، مثل محمد بن عبد الله النفس الزكية ، وإبراهيم بن عبد الله
__________
(1) في المخطوط: وأخويه . ولعل الصواب ما أثبت .
، وإدريس بن عبد الله ، وموسى بن عبد الله . كل منهم مشارٌ إليه بأنواع من الفضل .
ومثل جعفر بن محمد الصادق ، وموسى بن جعفر ، ومحمد بن جعفر ، ويحيى بن زيد (1) ، والحسين بن علي بن الحسين صاحب الفخ .
وليس في هؤلاء صلوات الله عليهم إلا من ثبتت إمامته ، أو صلح للإمامة .
ثم بعد هؤلاء القاسم بن إبراهيم ، وأخوه محمد بن إبراهيم ، وعلي بن موسى بن جعفر ، وأحمد بن عيسى بن زيد ، وعبد الله بن موسى بن عبد الله ، والحسن بن يحيى بن الحسين بن زيد . وهؤلاء أيضا ليس فيهم إلا من كان إماما ، أو صلح للإمامة صلوات الله عليهم ، وعلى هذا جرت أحوال هذه العترة الزكية قرنا بعد قرن إلى يومنا هذا .
فتأمل - رحمك الله - عجيب صنع الله في هذا الباب ، وتنبيهه على عظيم محل رسول الله صلى الله عليه وعلى آله ، فإنك إن قسَّمت بني هاشم أجمع - وأولادُ الحسن والحسين بطنٌ منهم ، وهم آل عباس ، وآل أبي طالب ، من ولد عقيل وجعفر - وضممت إليهم أولاد علي عليه السلام ، من غير الحسن والحسين ، وهم أولاد محمد - يعني ابن الحنفية - وعمر والعباس . فهذه العترة الذين هم ذرية النبي صلى الله عليه وآله وسلم ، لم تجد في الجميع من الفضلاء والنجباء ، ما تجد في هؤلاء عليهم السلام ، وإذا قارنتهم ببني أمية بأسرها ، بل جميع آل عبد
__________
(1) في المخطوط: يحيى وزيد . ولعل الصواب ما أثبت .
مناف ، وهم قبيلة مثل بني هاشم في الكثرة ، أو يكونون أكثر منهم ، ثم قايست بين جميعهم وبين ذرية الرسول صلى الله عليه وعلى آله ، فإنك لا تجد في جميعهم من الفضل ما تجد في هؤلاء .
ثم أزيدك بياناً ، قس جميع قريش - وهم قبائل عدة ، وبنو هاشم قبيلة من تلك القبائل ، وأولاد الحسن والحسين بطن من بني هاشم - بهم ، فإنك لا تجد في جميع قريش ما تجد في هؤلاء صلوات الله عليهم ، فليشرح صدرك أن الله جل وعز أكرم نبيه صلى الله عليه [وآله وسلم] بأن جعل في ذريته من الفضل ما لم يجعله في سائر القبائل ، مع كثرة عددها ، وقلة عدد هؤلاء ، ثم مع ذلك قد خصوا بحشمة في النفوس واثقة (1) ، وهيبة في الصدور راسخة ، يشترك فيها أعداؤهم وأولياؤهم ، لا يمكن لهم دفعها عن أنفسهم ، وذلك مما لا يجوز أن يكون اتفق إلا بلطف من الله ، يلطفه لهم ، تعظيما لأمر نبيه صلى الله عليه وآله وسلم ، وتنبيهاً على عظيم محله صلى الله عليه وآله وسلم .
ومن ذلك ما اختصت به هذه الأمة من العلوم الجمة ، التي لم تختص بها أمة من الأمم ، فإن المتكلمين منهم ، عبروا في وجوه جميع المخالفين كالفلاسفة ، وفِرَق الثنوية ، من الدياصنية ، والمانوية ، وكاليهود والنصارى . وأُبِرُوا (2) عليهم ، ونصروا الحق ، حتى لا تجد أحدا من هؤلاء إذا ناظر متكلما من المسلمين إلا مجندَلا مشهودا . ولا
__________
(1) في المخطوط: وثقة . ولعل الصواب ما أثبت .
(2) كذا في المخطوط .
يكاد يجري معه شوطا (1) أو شوطين ، إلا أن يكون استعان على علمه بشيء من كلام متكلمي الاسلام .
ثم الفقهاء الذين أصَّلوا أصول الفقه وفروعه ، دققوا وأتقنوا ، وبلغوا من ذلك المبلغ الذي لا تخفى مرتبته على أحد من العلماء ، وليس لغير أهل الكتاب شيء منها . فإنهم صنفان: يهود ، ونصارى .
أما النصارى فليس لهم من الحلال والحرام ، إلا اليسير الذي لا يؤبه له . فإنهم يعولون في حوادثهم على أحكام التوراة .
وأما اليهود مع كثرة التوراة ، فليس لهم من الفقه إلا ما يكاد يبلغ عُشْرَ عُشر ما للمسلمين .
ثم القراء من المسلمين ضبطوا أصول القراءات ووجوهها ، ضبطا لا يحكى أقله عن أحد من أهل الكتاب ، ثم النُّحاة منهم ضبطوا الإعراب ، وفرعوا وأصلوا ، كما ترى . وليس ذلك إلى هذا الحين لشيء من الأمم .
ثم تأمل نقل أصحاب الحديث وضبطهم له ، واختصاصهم منه بما لم يختص به أحد من الأمم .
ومن ذلك استمرار دعواه ، وظهور شريعته صلى الله عليه وآله وسلم ، وتطبيقهم شرق الأرض وغربها ، لا تزيدهم الأيام إلا قوة وبقاء ، ولا تكسبهم مر الأعوام إلا هدوءاً وثباتاً ، بل لا يحاول تضعيف شيء منها محاول إلا عاد مغلولا ، ولا غالَبَها مغالب إلا عاد مغلوبا ، ولا
__________
(1) في المخطوط: شوط . والصواب ما أثبت .
يعاديها معادٍ إلا قصمه الله وأهلكه ، حتى يجعل كلمة الذين كفروا السفلى ، وكلمة الله هي العلياء .
فتأمل - رحمك الله - بعد النطق (1) في الأدلة التي ذكرناها ، والآيات التي بيَّناها ، هذه المحاسن التي اختص بها رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم في نفسه أولا . ثم ما اختصت بها ذريته عليهم السلام ثانيا ، ثم ما اختص بها أصحابه ، ثم ما اختصت بها دعوته ثالثا . لتعلم أنه رسول مرسل ، ونبي مبتعث صلى الله عليه وآله وسلم ، وأي عاقل يتأمل هذه المحاسن التي ذكرنا اليسير منها من جملة الكثير ، فيُخيِّل إليه الشيطان أنها أجمع حصلت على سبيل الاتفاق ، مع أن مثلها لم يحصل لبشر إلا خذله الله وأضله ، لعدوله عن طلب الرشد والهدى ، واتباعه الغي والهوى .
وهل يكون في نقض العادة ، أبلغ من أن يختص بشر بما لم يختص به أحد قبله ولا بعده ؟!!
تم الكتاب والحمد لله رب الأرباب ، العزيز الغلاب ، { رَبَّنَا لاَ تُزِغْ قُلُوبَنَا بَعْدَ إِذْ هَدَيْتَنَا وَهَبْ لَنَا مِن لَّدُنكَ رَحْمَةً إِنَّكَ أَنتَ الْوَهَّابُ (8) } [آل عمران] .
- - -
__________
(1) كذا في المخطوط .
الفهرس
مقدمة ... 3
المعجزة بين الرسالة الخاتمة والرسالات الأولى ... 6
مقترحات كافرة ... 8
حقيقة الاعجاز المادي ... 9
النبي الانسان ... 12
بينَ النبوة والعبقرية ... 13
العباقرة ... 13
الأنبياء ... 15
مسك الختام ... 17
موئل البطولات ... 19
الوصفُ بالعبقرية ... 21
ترجمة المؤلف ... 22
ترجمة المؤلف ... 23
المؤلف ... 24
أبوه ... 24
أمه ... 24
مولده ... 24
نشأته ... 25
شيوخه ... 25
تلامذته ... 26
مؤلفاته ... 27
من مؤلفاته: ... 28
علمه ... 29
شعره ... 37
ورعه وزهده وحلمه ... 40
جهاده ... 42
منهجه في الحكم ... 43
وفاته ... 47
هذا الكتاب ... 48
[الباطنية] ... 52
الباب الأول ... 62
البيان عن إعجاز القرآن ... 62
الكلام في أن التحدي قد وقع ... 63
الكلام في أن التحدي قد وقع ... 64
الكلام في أن معارضة القرءان لم تقع ... 85
[ قرآن مسيلمة الكذاب ] ... 98
الكلام في بيان أن الإعراض عن المعارضة إنما كان للتعذر ... 116
الكلام في بيان أن القرءان يجب أن يكون معجزا إذا تعذرت معارضته ... 129
الكلام في بيان ماله كان معجزاً ... 174
الكلام في بيان أن القرءان في أعلى طبقات الفصاحة ... 191
الكلام في ذكر ما في القرءان من الإخبار عن الغيوب ... 232
الكلام في ذكر ما في القرءان من الإخبار عن الغيوب ... 233
ذكر جملة من المعجزات التي وردت بها الأحاديث ... 255
ذكر ما وجد في الكتب المتقدمة من البشارات بالنبي صلى الله عليه وآله وسلم ... 286
ذكر ما قيل في أمره صلى الله عليه وآله وسلم على سبيل التأكيد ... 301
ذكر ما قيل في أمره صلى الله عليه وآله وسلم على سبيل التأكيد ... 302
الفهرس ... 317