الكتاب : نهاية التنويه في إزهاق التمويه
المؤلف : السيد الإمام الهادي بن إبراهيم الوزير

كلمة المركز
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله رب العالمين، وصلى الله على سيدنا محمد وعلى أهل بيته الطيبين الطاهرين.
وبعد:
فاستجابة لقول الله سبحانه وتعالى: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ ءَامَنُوا اسْتَجِيبُوا لِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ إِذَا دَعَاكُمْ لِمَا يُحْيِيكُمْ}[الأنفال:24]ولقوله تعالى: {وَلْتَكُنْ مِنْكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ}، [آل عمران:104]ولقوله تعالى:{قُلْ لَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْرًا إِلَّا الْمَوَدَّةَ فِي الْقُرْبَى} [الشورى:23]، ولقوله تعالى: { إِنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيُذْهِبَ عَنْكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيرًا}[الأحزاب:33]ولقوله تعالى: {إنما وَلِيُّكُمُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَالَّذِينَ ءَامَنُوا الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلَاةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَهُمْ رَاكِعُونَ}[المائدة:55].

(1/1)


ولقول رسول الله صَلّى الله عَليه وآله وسَلّم :((إني تارك فيكم ما إن تمسكتم به لن تضلوا من بعدي أبداً كتاب اللّه وعترتي أهل بيتي، إن اللطيف الخبير نبأني أنهما لن يفترقا حتى يردا عليّ الحوض))، ولقوله صَلّى الله عَليه وآله وسَلّم : ((أهل بيتي فيكم كسفينة نوح، من ركبها نجا ومن تخلف عنها غرق وهوى))، ولقوله صَلّى الله عَليه وآله وسَلّم : ((أهل بيتي أمان لأهل الأرض كما أن النجوم أمان لأهل السماء))، ولقوله صَلّى الله عَليه وآله وسَلّم : (( من سرّه أن يحيا حياتي؛ ويموت مماتي؛ ويسكن جنة عدن التي وعدني ربي؛ فليتول علياً وذريته من بعدي؛ وليتولّ وليه؛ وليقتد بأهل بيتي؛ فإنهم عترتي؛ خُلقوا من طينتي؛ ورُزقوا فهمي وعلمي )) الخبر- وقد بيّن صَلّى الله عَليه وآله وسَلّم بأنهم علي؛ وفاطمة؛ والحسن والحسين وذريّتهما عليهم السلام، عندما جلَّلهم صلى اللّه عليه وآله وسلم بكساءٍ وقال: ((اللّهم هؤلاء أهل بيتي فأذهب عنهم الرجس وطهرهم تطهيراً)) -.
استجابةً لذلك كله كان تأسيس مركز أهل البيت(ع) للدراسات الإسلامية بصعدة.

(1/2)


ففي هذه المرحلة الحرجة من التاريخ ؛ التي يتلقى فيها مذهب أهل البيت(ع) مُمثلاً في الزيدية، أنواعَ الهجمات الشرسة من أعدائه الظاهرين ومن أدعيائه المندسين، رأينا المساهمة في نشر مذهب أهل البيت المطهرين صلوات الله عليهم عَبْر نَشْرِ ما خلّفه أئمتهم الأطهار عليهم السلام وشيعتهم الأبرار رضي الله عنهم، على أن نقدمها للقارئ الكريم نقيّة خالصة من الشوائب، لتصل العقيدة الصافية إليه سليمةً خاليةً من التحريف والتبديل والزيادة والنقصان، وما ذلك إلا لثِقَتِنا وقناعتنا بأن العقائد التي حملها أهل البيت(ع) هي مراد الله تعالى في أرضه، ودينه القويم، وصراطه المستقيم، وهي تُعبِّر عن نفسها عبر موافقتها للفطرة البشرية السليمة، ولما ورد في كتاب الله عز وجل وسنة نيبه صلى الله عليه وآله وسلم.

(1/3)


واستجابةً من أهل البيت صلوات الله عليهم لأوامر الله تعالى، وشفقة منهم بأمة جدهم صلى الله عليه وآله وسلم، كان منهم تعميدُ هذه العقائد وترسيخها بدمائهم الزكية الطاهرة على مرور الأزمان، وفي كل مكان، ومن تأمّل التاريخ وجَدهم قد ضحّوا بكل غالٍ ونفيس في سبيل الدفاع عنها وتثبيتها، ثائرين على العقائد الهدَّامة، منادين بالتوحيد والعدالة، توحيد الله عز وجل وتنزيهه سبحانه وتعالى، والإيمان بصدق وعده ووعيده، والرضا بخيرته من خَلْقِه.
ولأن مذهبهم صلوات الله عليهم دينُ الله تعالى وشرعه، ومرادُ رسول الله صَلّى الله عَليه وآله وسَلّم وإرثه، فهو باقٍ إلى أن يرث الله الأرض ومنْ عليها، وما ذلك إلا مصداق قول رسول الله صَلّى الله عَليه وآله وسَلّم: ((إن اللطيف الخبير نبأني أنهما لن يفترقا حتى يردا عليّ الحوض)).
"واعلم أن الله جل جلاله لم يرتض لعباده كما علمتَ إلا ديناً قويماً، وصراطاً مستقيماً، وسبيلاً واحداً، وطريقاً قاسطاً، وكفى بقوله عز وجل: {وَأَنَّ هَذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيمًا فَاتَّبِعُوهُ وَلَا تَتَّبِعُوا السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَنْ سَبِيلِهِ ذَلِكُمْ وَصَّاكُمْ بِهِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ} [الأنعام:153].

(1/4)


وقد علمتَ أن دين الله لا يكون تابعاً للأهواء: {وَلَوِ اتَّبَعَ الْحَقُّ أَهْوَاءَهُمْ لَفَسَدَتِ السَّمَوَاتُ وَالْأَرْضُ} [المؤمنون:71]، {فَمَاذَا بَعْدَ الْحَقِّ إِلَّا الضَّلَالُ} [يونس:32]، {شَرَعُوا لَهُمْ مِنَ الدِّينِ مَا لَمْ يَأْذَنْ بِهِ اللَّهُ} [الشورى:21].
وقد خاطبَ سيد رسله صلَّى الله عليه وآله وسَلَّم بقوله عز وجل: {فَاسْتَقِمْ كَمَا أُمِرْتَ وَمَنْ تَابَ مَعَكَ وَلَا تَطْغَوْا إِنَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ(112)وَلَا تَرْكَنُوا إِلَى الَّذِينَ ظَلَمُوا فَتَمَسَّكُمُ النَّارُ وَمَا لَكُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ مِنْ أَوْلِيَاءَ ثُمَّ لَا تُنْصَرُونَ(113)} [هود:112ـ113]، مع أنه صلَّى الله عليه وآله وسَلَّم ومن معه من أهل بدر، فتدّبر واعتبر إن كنت من ذوي الاعتبار، فإذا أحطت علماً بذلك، وعقلت عن الله وعن رسوله ما ألزمك في تلك المسالك، علمتَ أنه يتحتم عليك عرفانُ الحق واتباعه، وموالاة أهله، والكون معهم، {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ ءَامَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَكُونُوا مَعَ الصَّادِقِينَ} [التوبة:119]، ومفارقةُ الباطل وأتباعه، ومباينتهم {وَمَنْ يَتَوَلَّهُمْ مِنْكُمْ فَإِنَّهُ مِنْهُمْ} [المائدة:51]، {لَا تَجِدُ قَوْمًا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ يُوَادُّونَ مَنْ

(1/5)


حَادَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَلَوْ كَانُوا ءَابَاءَهُمْ أَوْ أَبْنَاءَهُمْ أَوْ إِخْوَانَهُمْ أَوْ عَشِيرَتَهُمْ} [المجادلة:22]، {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ ءَامَنُوا لَا تَتَّخِذُوا عَدُوِّي وَعَدُوَّكُمْ أَوْلِيَاءَ تُلْقُونَ إِلَيْهِمْ بِالْمَوَدَّةِ} [الممتحنة:1]، في آيات تتلى، وأخبار تملى، ولن تتمكن من معرفة الحق وأهله إلا بالإعتماد على حجج الله الواضحة، وبراهينه البيّنة اللائحة، التي هدى الخلق بها إلى الحق، غير معرّج على هوى، ولا ملتفت إلى جدال ولا مراء، ولا مبال بمذهب، ولا محام عن منصب، {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ ءَامَنُوا كُونُوا قَوَّامِينَ بِالْقِسْطِ شُهَدَاءَ لِلَّهِ وَلَوْ عَلَى أَنْفُسِكُمْ أَوِ الْوَالِدَيْنِ وَالْأَقْرَبِينَ} [النساء:135]"([1]).
وهنا يتشرَّف مركز أهل البيت(ع) للدراسات الإسلامية بصعدة بتقديم مجموعة من كتب أهل البيت المطهرين عليهم السلام وكتب شيعتهم الأبرار رضي الله عنهم، ومنها هذا الكتاب الذي بين يديك.

(1/6)


وأخيراً يتوجه العاملون بمركز أهل البيت(ع) والمنتسبون إليه بالشكر والعرفان لكل من ساهم في إنجاح هذا العمل، وفي مقدّمتهم عالم العصر، شيخ الإسلام وإمام أهل البيت الكرام/ مجدالدين بن محمد بن منصور المؤيدي أيده الله تعالى وأطال بقاه، سائلين الله عز وجل أن يجعله من الأعمال الخالصة المقبولة لديه، وأن يثبّتنا على نهج محمد وآله محمد.
والحمد لله أولاً وآخراً وصلى الله على سيدنا محمد وعلى أهل بيته الطيبين الطاهرين.
إبراهيم بن مجدالدين بن محمد المؤيدي
مركز أهل البيت(ع) للدراسات الإسلامية
اليمن- صعدة، ت(511816)، ص ب (91064)
ـــــــــــــــــــــ
مقدمة التحقيق
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام علي نبينا محمد الأمين، وعلى أهل بيته الطيبين الطاهرين.
وبعد:
فقد كان لي شرف المشاركة في تحقيق وإخراج هذا الكتاب العظيم، بعد أن عمل فيه أخي السيد العلامة الفاضل/ أحمد درهم حورية، الذي بذل فيه جُهداً كبيراً يُشكر عليه، ونظراً لمشاغله الكثيرة فقد قمتُ بإكمال ما بدأ، وقد رأيتُ أن أقوم بمقابلته مرة أخرى، وأن أقوم بالترجمة لأعلامه، والتخريج للأحاديث الواردة فيه، حسب الطاقة والإمكان.

(1/7)


وقد كان حفظه الله تعالى قد رَسَم مقدّمة عظيمة لهذا الكتاب، وترْجمة وافيةً لمؤلِّفه رضي الله عنه، وأهم الأسباب التي دعته إلى تأليفه؛ أُورِدُها عقب هذا بتمامها.
ـــــــــــــــ
هذا وتظهر في صفحات هذا الكتاب المعاناة الشديدة التي كابدها المؤلف رضوان الله تعالى عليه ممن يظهرون التصوّف والتقشف وهم منه براء، وإذا كانت هذه معاناته في ذلك الزمان المتقدم، فكيف بزماننا الذي "نزغت فيه نوازع الجهالات، وبزغت فيه بوازغ الضلالات"، إلا أن ثقتنا بالله عظيمة، فقد قال صلى الله عليه وآله وسلم: ((إن عند كل بدعة تكون من بعدي يكاد بها الإسلام ، ولياً من أهل بيتي موكلاً يذب عنه ، يعلن الحق وينوّره ، ويرد كيد الكائدين، فاعتبروا يا أولي الأبصار، وتوكلوا على اللَّه))، ومصداقُ هذا الحديث ملموس ومحسوس، "فكلما هدرت شقاشق الشيطان، قطعتها بواتر قرناء القرآن"، وما أروع ما قاله مولانا الإمام الحجة/ مجدالدين بن محمد بن منصور المؤيدي أيده الله تعالى في كتابه التحف شرح الزلف ط3/398، وذلك في سنة 1386هـ، 1966م:

(1/8)


"وأقول والله تعالى سائل كل قائل: إنه ليشق علينا ما وقفنا عليه من مباينة كثير للمنهج القويم، وعدولهم عن الصراط المستقيم، وقد انصدعت على هذا الأسلوب طائفة، واشتدت من متأخريهم المكاشفة والإنحراف، والبعد عن الإنصاف، مع الزهو والخيلاء والتفيهق والتبجح، ولو أدركهم الأئمة الهداة كإمام اليمن الهادي إلى الحق، أو إمام الجيل والديلم الناصر للحق، أو الإمام المتوكل على الله أحمد بن سليمان، أو الإمام المنصور بالله عبدالله بن حمزة، أو غيرهم من أعلام الهدى رضوان الله عليهم، النافين عن الدين تحريف الغالين وانتحال المبطلين، لهتكوا أستارهم، وكشفوا عوارهم، فإنهم أضرّ على الدين من كثير من سلفهم المتقدمين، وقد فارقتهم عصابة المحقين، وإن لم يكن لهم همم السابقين، مع ابتلائهم بفساد الزمن، وغلبة الفتن، ولعمر الله لقد أصبحنا في زمان كما قال أمير المؤمنين عليه السلام: (القائل فيه بالحق قليل).
ومن أعجب البدع أن كثيراً من المتقشفين ـ الذين صدق فيهم قوله عليه السلام: (يقول: أعْتَزِل البدع، وفيها وقع) ـ، يعدّ الخوض فيما هذا حاله مما لا يعني، وليته يميز بين ما يعني، وما لا يعني، أيها المتقشف لو جرى الكتاب والرسول صلى الله عليه وآله وسلم على مهذبك في التصوّن، هل كان يتميز موحد من مُلْحد، أو محق من مبطل؟

(1/9)


ألم تسمع ما في الكتاب المبين، وعلى ألسنة الرسل المطهرين صلوات الله عليهم أجمعين؟: {لُعِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ عَلَى لِسَانِ دَاوُدَ وَعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ ذَلِكَ بِمَا عَصَوْا وَكَانُوا يَعْتَدُونَ(78)كَانُوا لَا يَتَنَاهَوْنَ عَنْ مُنْكَرٍ فَعَلُوهُ لَبِئْسَ مَا كَانُوا يَفْعَلُونَ(79)} [المائدة:78ـ79]، {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ ءَامَنُوا إِنَّ كَثِيرًا مِنَ الْأَحْبَارِ وَالرُّهْبَانِ لَيَأْكُلُونَ أَمْوَالَ النَّاسِ بِالْبَاطِلِ وَيَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ} [التوبة:34].
ألم تسمع الأمر بالقيام بالقسط والشهادة لله ولو على النفس والوالدين والأقربين، ولأي شيء وضع الجرح والتعديل بإجماع طوائف المسلمين؟
فإن قلت: إنما أتحرج عن غير المستحقين؟
قلنا: فهل بغير موجبه قلنا؟

(1/10)


لكن المجادلة عن علماء السوء المضلين بما ورد من النهي عن أعراض العلماء العاملين، من لبْس الحق بالباطل، {وَلَا تُجَادِلْ عَنِ الَّذِينَ يَخْتَانُونَ أَنْفُسَهُمْ إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ مَنْ كَانَ خَوَّانًا أَثِيمًا} [النساء:107]، {هَا أَنْتُمْ هَؤُلَاءِ جَادَلْتُمْ عَنْهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا فَمَنْ يُجَادِلُ اللَّهَ عَنْهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَمْ مَنْ يَكُونُ عَلَيْهِمْ وَكِيلًا} [النساء:109].

(1/11)


يالله، بدأ الإسلام غريباً وسيعود غريباً، والجاهلية الأخرى شر من الجاهلية الأولى، وأقول: والذي يعلم السر وأخفى إنه ليسوؤنا أي خلل في جناب أقصى علماء الأمة، ولعلنا بحمد الله أعرف بمقدار مكانتهم من العلم، وإنه ـ وحق المعبود ـ لا يخفى علينا أن الإعراض عن الأعراض، والصمت والإدهان أسلم لدنيانا، وأبقى لعرضنا، وأبعد عن تطرق نفثات سفهاء الأحلام، وبادرات جهلاء الأنام، ولكن كيف السبيل، والله عز وجل يقول: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ ءَامَنُوا كُونُوا قَوَّامِينَ بِالْقِسْطِ شُهَدَاءَ لِلَّهِ وَلَوْ عَلَى أَنْفُسِكُمْ أَوِ الْوَالِدَيْنِ وَالْأَقْرَبِينَ} [النساء:135]، فحق الله أعظم، وأمره المقدّم، وإن مجته الأسماع، ونفرت عنه الطباع، فلسنا بحمد الله نبالي بعد امتثال أمره، والوقوف تحت حكمه، بقالة المتقولين، وقعقعة المتحزبين، الذين يقلدون في دين الله الرجال، فيميلون بهم من يمين إلى شمال، لا سيما هذه الطائفة من الزائغين، الذين صار لديهم من خالف الحق وأهله موسوماً باتباع الدليل، ولو كانوا يسمعون أو يعقلون لعلموا أولاً أن المعتبر اتباع الحق المأخوذ على الخلق، لا المشاقة واتباع غير سبيل المؤمنين، وأن لزوم جماعة الحق والكون معهم هو فرض الله المتعين، {اتَّقُوا اللَّهَ وَكُونُوا مَعَ الصَّادِقِينَ}

(1/12)


[التوبة:119]، {وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعًا وَلَا تَفَرَّقُوا} [آل عمران:103]، {الَّذِينَ فَرَّقُوا دِينَهُمْ وَكَانُوا شِيَعًا لَسْتَ مِنْهُمْ فِي شَيْءٍ} [الأنعام:159]، والله عز وجل يقول: {أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الْأَمْرِ مِنْكُمْ} [النساء:59]، {وَلَوْ رَدُّوهُ إِلَى الرَّسُولِ وَإِلَى أُولِي الْأَمْرِ مِنْهُمْ لَعَلِمَهُ الَّذِينَ يَسْتَنْبِطُونَهُ مِنْهُمْ} [النساء:83]، {الَّذِينَ يَسْتَمِعُونَ الْقَوْلَ فَيَتَّبِعُونَ أَحْسَنَهُ} [الزمر:18].
ويقول الرسول صلى الله عليه وآله وسلم: ((إني تارك فيكم ما إن تمسكتم به لن تضلوا من بعدي كتاب الله وعترتي))، الخبر المروي في دواوين الإسلام، عن بضع وعشرين صحابياً، و((أهل بيتي فيكم كسفينة نوح))، وغيرها من الأخبار المعلومة، إنما نهى الله ورسوله صلى الله عليه وآله وسلم عن اتباع الباطل، والرجوع إلى من لم يأمر الله بالرجوع إليه، والطاعة لمن لم يجعل الله له ولاية من الظالمين، ومتابعة الأهواء، ومحبة الترؤس والإخلاد إلى الدنيا، وبيع الآخرة بالأولى، كما علم من حال هؤلاء المضلين، الذين لا يفقهون الخطاب، ولا يفهمون فرقاً بين خطأ وصواب.
ومن البلية عذل من لا يرعوي .... عن غيره وخطاب من لا يفهم

(1/13)


وتالله لقد غرست في صدور المتمردين شجرات، تجتنى من زيغها وضلالها ثمرات، ولله حكمة بالغة، وربنا الرحمن المستعان على ما يصفون، فهذا الذي يلزمنا وندين الله به من البيان، والخروج عن عهدة الكتمان، موجهاً إلى ذوي العرفان، وأما غيرهم فنقول لهم: سلام عليكم لا نبتغي الجاهلين"، انتهى.
ـــــــــــــــ
[السند إلى مؤلفات السيد الإمام الهادي بن إبراهيم الوزير]
أروي مؤلفات السيد الإمام الهادي بن إبراهيم الوزير عن والدنا ومولانا الإمام الحجة/ مجدالدين بن محمد بن منصور المؤيدي أيده الله تعالى، عن والده السيد العلامة محمد بن منصور المؤيدي رضي الله عنه، عن الإمام المهدي لدين الله محمد بن القاسم الحسيني، عن الإمام المنصور بالله محمد بن عبدالله الوزير، عن مشائخه السادة الأعلام: أحمد بن زيد الكبسي ، وأحمد بن يوسف زبارة، ويحيى بن عبدالله الوزير ، ثلاثتُهم عن السيد الإمام الحسين ، عن أبيه يوسف ، عن أبيه الحسين بن أحمد زبارة الحسني، عن السيد العلامة عامر بن عبدالله بن عامر ، عن الإمام المؤيد بالله محمد ، عن أبيه الإمام القاسم بن محمد ، عن السادة الأعلام: أمير الدين بن عبدالله ، وإبراهيم بن المهدي وصلاح بن أحمد بن عبدالله الوزير ، عن السيد الإمام أحمد بن عبدالله الوزير ، عن الإمام شرف الدين، عن السيد

(1/14)


الإمام صارم الدين إبراهيم بن محمد بن عبدالله، عن أبيه، عن جده عبدالله بن الهادي، عن أبيه السيد الإمام الهادي بن إبراهيم؛ "أعاد الله من بركاتهم، وأولاهم التحيات والتسليم".
ـــــــــــــــ
وقد رأيتُ أن أزيدَ على ترجمة السيد الإمام الهادي بن إبراهيم الوزير هنا ماذكره مولانا الإمام/ مجدالدين المؤيدي أيده الله تعالى في لوامع الأنوار وجوامع العلوم والآثار نقلاً عن كتاب صلة الإخوان ج/2/216/ط1، وقصيدة السيد الحافظ محمد بن إبراهيم الوزير وجوابها للسيد الإمام الهادي بن إبراهيم الوزير رضي الله عنه، وقد نقلتُهما من كتاب عيون المختار من فنون الأشعار والآثار لمولانا الإمام الحجة/ مجدالدين بن محمد المؤيدي أيده الله تعالى.
ــــــــــــــــ
هذا وقد تمت المقابلة على ثلاث نسخ
* النسخة الأولى: جيّدة الخط، تم الصف عليها، وهي مصوّرة، من مكتبة السيد العلامة/ محمد حسن العجري، وقد رمزنا لها بـ(أ)، قال في آخرها: تم الكتاب الجليل العظيم، بعون الملك الرؤوف الرحيم، وذلك صبح يوم الربوع لعله ثامن عشر شهر ربيع الأول من شهور سنة 1325هـ، بخط الحقير الفقير إلى خالقه القدير، عبدالصمد بن عبدالرحمن بن أحمد بن عبدالله أبوطالب، وفقه الله لصالح الأعمال، آمين.

(1/15)


* النسخة الثانية: رمزنا لها بـ(ب)، نُسخت بخط المولى العلامة، والمدرة الفهّامة، عز الدين، وسلالة الآل المطهرين، شحاك المعتدي، وقبلة المقتدي، محمد بن إبراهيم المؤيدي، وهي من مكتبة ولده الوالد العلامة صارم الدين / إبراهيم بن محمد حفظه الله تعالى، وهي بخطه الجميل المعروف، إلا أنها مليئة بالأخطاء الإملائية، والسقط، ونقص بعض الكلمات، مما يدل على أنه رحمه الله تعالىلم يراجعْها بعد النسخ، وهي في مجلد على ربع القطع تقريباً، يضم عدة كتيبات معظمها في علم الكلام، وتقع هذه النسخة في اثنتين ومائة صفحة.
وقد كتب على ظهرها بعد كتابة عنوانها ونسب المؤلف رحمه الله تعالى خمسة أبيات كتب قبلها ما لفظه:
" لكاتبه محمد بن إبراهيم المؤيدي عفى الله عنه"، وهذه الأبيات:
إن شئت تعرف أهل الحق في الدين .... وترتقي رتباً نحو الميامين
وتقمع الضد عن زيغ يزخرفه .... مما يزين إخوان الشياطين
لمن يكون لهم في دينهم تبع .... وقلّدوهم لأهواء وتظنين
فاعكف على ما أتى الهادي فذاك هدىً .... وهو النهاية حقاً ليس بالمين
وقل كما قال رب العرش جاء وقل .... قد زهق الباطل المدعو بالمين
ثمّ أرّخها بعد التمام بقوله في الهامش: 14 شهر جماد الآخر، وكتب بيتين كأنهما من إنشائه آخرهما هذا:
تاريخه نون وشين قبله .... والغين فاحفظ حصرها ببيان

(1/16)


فيكون تاريخ تمام نسخها 14 جمادى الأخرى سنة 1350هـ، بقصر غمدان أيام اعتقاله، رحمه الله تعالى، وجمعنا به وينبينا وآله عليهم الصلاة والسلام بداره دار السلام.
* النسخة الثالثة: جيدة الخط، مصوّرة؛ استعرتها من الأخ الفاضل السيد/ إبراهيم يحيى الدرسي، رمزنا لها بـ(ج)، قال في آخرها: تمّ الكتاب الجليل، بعون الملك الرؤوف الرحيم، وذلك بعد الظهر يوم السبت لعله ثامن شهر ربيع الأول أحد شهور 1344هـ،بقلم أفقر العباد وأحوجهم إلى الله تعالى عبدالله بن سليمان بن أحمد بن محمد بن أحمد بن محمد العزي بن علي بن أحمد بن الإمام المنصور بالله القاسم بن محمد رضوان الله عليهم، وكان تمام ذلك بمحروس الدرب الأعلى بمجز، فنسأل الله تعالى أن يجعل الأعمال خالصة لوجهه الكريم، وصلى الله على محمد وآله، ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم.
ـــــــــــــــــ
أسأل الله عز وجل أن يجعله من الأعمال الخالصة المقبولة لديه، وأن يرزقنا الثبات على نهج محمد وآل محمد، والحمد لله أولاً وآخراً، وصلى الله على سيدنا محمد وعلى أهل بيته الطيبن الطاهرين.
إبراهيم بن مجدالدين بن محمد المؤيدي
مركز أهل البيت(ع) للدراسات الإسلامية
اليمن - صعدة، ت(511816) ، ص ب (91064)
ـــــــــــــــــ

(1/17)


مقدمة للعلامة السيد أحمد درهم
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله الذي فرض على خلقه الجهاد بكل ما يمكن من آلات العباد .
الحمد لله الذي ساق إليّ هذه المنحة، وأتاح لي هذه الفرصة، وحباني بغاية المراد، ومكنني من المشاركة في القيام بفرض الجهاد؛ إذ قد يكون باللسان كما يكون بالسنان، وقد يكون بنشر العلوم المندرسة كما يكون بصد الليوث المفترسة، فأحمده على هذا الإحسان، وأشكره على هذا الامتنان، وأصلي وأسلم على حبيب المؤمنين، وخاتم النبيين، وسيد المرسلين، محمد الصادق الأمين، وعلى آله الغر الميامين.
أما بعد:

(1/18)


فإني كغيري من أهل هذا المذهب المتين، - الذي كثُرت عليه النكبات، وتعاورته الفتن المتتاليات، من أعدائه وأدعيائه على حد سواء، منذ بروزه إلى الوجود حتى الآن - كنت كثير التأمل في تاريخه، شديد التألم من نكباته، إذْ لا يكاد زمان يخلو من عاصفة تعصف به، وكارثة تنزل به، من ظالم يحاول اجتثاثه بالقوة، بسفك دماء أعلامه، ومصادرة آرائه وأحكامه، وحظر علومه، ودعم خصومه، أو جاهل احتضنه السلطان؛ فصار بقربه منه عالم العصر والأوان، وصار كلامه لذلك حجة الحجج واضح المنهج، ولو كان عاطلاً عن الدليل، بل لو كان مصادماً للتنزيل، يهوي عليه بمعاوله الظالمة، ويلحي عليه بصوارمه الغاشمة، فيجر وراءه الثليل الأسود من الهمج الرعاع، حرصاً على نيل فتات موائده، وطلباً للمزيد من عوائده، إذْ دعاته التقريب بأهل الفساد، والإبعاد لأهل الفضل والرشاد.

(1/19)


على أنه لم يكن هؤلاء بأعظم نكاية، ولا أكثر غواية ممن تقَمّص بقميص اعتناقه، ودعا سراً وجهراً إلى فراقه، تارة بالتنكيت على أئمته السابقين، وتارة بالهمز واللمز في الحاضرين، وتارة بوصم أدلته بالضعف، وأخرى بإرجاع نصوصه إلى الخلف؛ إما بالتأويل المتعسف، وإما بالنقل المحرف أو المصحّف، وحتى صار الناظر في كتب هذا المذهب – وأعني بها المنسوبة إليه والمحسوبة عليه سواء كانت صادقة الانتساب، أم وليدة الأفنية والأبواب – لا يعرف صرفه من مقتوله، ولا صدقه من معسوله، لمّا ساده هؤلاء المندسون، وزخرفه هؤلاء المبطلون، إلا أن يكون ذا قدم ثابت، وعلم راسخ، يفرق بين العصب والعظم، والسها والنجم، اعتمد على أرباب النقول، وفَتَّش عن ثقة الناقل وصحة المنقول، وهم بحمد الله في كل عصر ليسوا بالقليل، وشبا مقاولهم ليس بالكليل، ولكن الأغمار الذين تنطلي عليهم الترَّهات، وتستهويهم الخجع والخيالات- وما أكثرهم في كل جيل، وأوفرهم في كل قبيل- يكثرون أهل التثبت في معظم أرجاء البلاد، ويجادلون بما ليس لهم به علم إلا مجرد العناد، فينفق جدالهم في سوق الهمج الذين لا تهمهم الأدلة والحجج، فيلتبس الجاهل بالفاضل، ويختلط الحابل بالنابل .

(1/20)


ولعمري إن هذا لهو الداء العضال، لولا ما مَنَّ به الكبير المتعال، من حياطة الدين بمقاول أهل الحق واليقين.
فبينما أنا بين هذه الهواجس التي تترامى بي في نواحي محيط التاريخ الزيدي، وبين موجاته الهائلة، إذْ أحدثت إليّ مواهب الله أخوين زائرين كريمين فاضلين هما - إبراهيم بن مجدالدين بن محمد المؤيدي، وإسماعيل بن مجدالدين بن محمد المؤيدي، - يطلبان مني مساعدتهما بما يقومان به من عملهما الجدير بالإجلال والتقدير، وهو طبع ونشر ما يمكن طبعه ونشره من كتب الزيدية الصريحة النسب، التي لا زالت حبيسة خزائنها، وعرضا علي نشرةً بأسماء الكتب التي هما بصدر طبعها ونشرها، فوقع اختياري من بينها على كتاب (نهاية التنويه في إزهاق التمويه) للسيد العالم الجليل الهادي بن إبراهيم الوزير عليه السلام، إذْ كان فيه بغيتي المقصودة، وضالتي المنشودة، فقمتُ بتحقيقه على تبلبل البال، وكثرة الأشغال، وتزاحم الأعمال، رجاءً للثواب، وإعانة للأصحاب، بل الأخوة الأحباب، فكنت أنتهز الفرصة عند سنوحها في الأسبوع فما دونه الساعة والساعتين حتى أعان الله على إنجازه، بمنِّه وعونه، فالرجاء من الأخوة الدعاء بنيل الجزاء، والله أسأل أن يجعل هذا العمل نفعاً للإسلام والمسلمين، وإرغاماً للعتاة المفسدين، الذين يبغون الغوائل لهذا المذهب المتين، وأن
يجعلني وعملي من المقبولين، إنه هو الجواد الكريم .
ــــــــــــ

(1/21)


من أهم عوامل التأليف
إن من يتصفّح التاريخ بإمعان يجد أن عصر المؤلف يعتبر شامة في جسم التاريخ، ويجد المؤلف غرة تلك الشامة؛ إذ أن عصره كان زاخراً بالأفذاذ أمثال :
الإمام علي بن المؤيد، والإمام المهدي أحمد بن يحيى، والإمام الناصر صلاح الدين، وعشرات الأئمة والأعلام، ويلاحظ أن أهل هذا العصر كانوا مقبلين كل الإقبال على طلب العلوم وتحصيلها، يظهر ذلك في نبوغ كثير من أهله، ويتجلى في بلوغ الإمام المهدي أحمد بن يحيى عليه السلام درجة الإمامة وهو في الثامنة عشرة من عمره، كما ذكره مولانا شيخ الإسلام وإمام أهل البيت الكرام/ مجدالدين في التحف ص277 الطبعة الثالثة، ولكنه مع هذه المزية لم يَخْلُ من كائد يحاول زعزعة المذهب الزيدي، بل اجتثاثه لو تمكن من ذلك، مما حدى بالمؤلف إلى إنشاء هذه القصيدة كالشكاية، مخاطباً بها إمام زمانه، وهو الإمام الناصر لدين الله صلاح الدين محمد بن علي بن منصور بن مفضل بن الحجاج، يلتمس منه إشفاء غلته بكشف الستار عن أولئك المتسترين تحت ستار الولاء الزائف، العاملين على إخراب أهم خصائص المذهب، ولكنه لم يحالفه الحظ، فلم يجب الإمام لعلة أو لأخرى .
فعزم على التشمير عن ساق العزم للقيام بهذه المهمة، وقد كان ضليعاً بما هو أهم منها.
ـــــــــــــــــ

(1/22)


ترجمة المؤلف
هو السيد الحافظ : الهادي بن إبراهيم بن علي بن المرتضى بن المفضل بن منصور بن محمد العفيف بن المفضل الكبير، وعنده التقى نسبهم هم والإمام علي بن محمد، والإمام أحمد بن يحيى المرتضى، وجميع آل المفضل، أفاده المولى الإمام/ مجدالدين بن محمد المؤيدي أيده الله في التحف ص286، ط3.
قال السيد العلامة ابن الوزير : هو السيد الفذ، الإمام المعتمد، ذو الفضائل والآثار، والذي لم تسمع بمثله الأعصار .....إلى أن قال : وكان في علم الكلام بحراص، لا تقطعه الألواح، ولا تخوضه الملاَّح .
مولده عليه السلام: يوم الجمعة السابع والعشرين من شهر محرم الحرام سنة 758هـ بهجرة الظهراوين بشظب.
ولما فرغ من قراءة القرآن، سار به والده رحمه الله تعالى إلى صعدة، فقرأ فيها مدة طويلة، حكى هذا عن السيد ابن الوزير شارح منظومة المترجم له في مقدمة الشرح الموسوم بالإرشاد الهادي إلى كشف مستور منظومة الهادي، وهو السيد العلامة عبدالكريم بن عبدالله الملقب بأبي طالب.

(1/23)


فهو كما ترى من أسرة عريقة، أصلها ثابت وفرعها في السماء، تربّى في أحضان الأئمة، وأهل البيت الأطهار، ورتع في رياض علوم العترة الأخيار، وشرب من نهرهم العذب الفرات حتى فاق أقرانه وفات .
قال مولانا الإمام/ مجدالدين بن محمد المؤيدي أيده الله تعالى:
قرأ على الإمام الواثق بالله المطهر بن محمد بن المطهر، وعلى خاله صلاح بن محمد بن الحسن بن المهدي، وعلى الشيخ إسماعيل بن إبراهيم بن عطية النجراني، وعلى الفقيه محمد بن ناجي، وعلى القاضي العلامة عبدالله بن حسن الدواري، وعلى عمه المرتضى بن علي، وعمه أحمد بن علي، وعلى العلامة أحمد بن سليمان الأوزري، وأخذ عنه صنوه محمد بن إبراهيم، والسيد أبو العطايا عبدالله بن يحيى، والسيد عز الدين محمد بن الناصر، والسيد عبدالله بن الهادي بن الإمام يحيى بن حمزة .
* قال الإمام الحجة / مجدالدين بن محمد بن منصور المؤيدي أيده الله تعالى في كتابه لوامع الأنوار وجوامع العلوم والآثار ج/2/216/ط1، نقلاً عن كتاب صلة الإخوان:
نعم، ثم ذكر في الصلة نكتة شافية في فضل الهادي بن إبراهيم، وأبيه، وجده علي بن المرتضى ـ عليهم السلام ـ، فقال:
أما الهادي: فكتابه الذي مرّ من عنوان فضله وعلمه وورعه وزهده.

(1/24)


أما علمه: فهو رجلٌ جامعٌ للعلوم، له موضوعات في كل فن، أَكْمَلُ أهل زمانه، يُؤَهّل للإمامة، ويُتوخَّى لتحمّل أمر الخاصة والعامة، مع الخوف العظيم، للعدل الحكيم، والورع الشافي، ومكارم الأخلاق، التي شَرُف بها وفاق، يُضرب بلطف شمائله المثل، ويُقْتدى به في كل قول صالح وعمل؛ إمام لأهل العبادة، قد زيّنه الله بالتقوى والزهادة، وكمّله بفصاحة اللسان، التي لا توجد الآن في إنسان، من النظم والنثر، والتصانيف الرائقة، والحكم الفائقة.
ثم ذكر جواب الإمام الناصر لدين الله محمد بن علي بن محمد عليهم السلام عليه؛ وفيه من درر الكلام ما يدل على فضله، وفضل الإمام عليهما السلام، وهو ما لفظه:

(1/25)


وصل كتابه الجامع للمحاسن، الفارق بين العذب الزلال والآجن الآسن؛ فتعطّل جيد الخلافة بدرره، وتثمر وجه الحال بغرره، متجلبباً بالعجب، جامعاً للأدب، قد ملأ الدلو إلى عقد الكرب، وضمَّنه ما هو أشهى من المن والضرب؛ ولعمري، لقد أصبح منشؤه عميد الفصاحة وناموسها، ويافوخ البلاغة وقاموسها، وما هو إلا لطائم المسك الأذفر، وكرائم اليم الأخضر، كنوز الرموز، ورموز الكنوز، وأفكار الأبكار، وأبكار الأفكار، نبّه ووعظ، وقرض وأيقظ، لله دره من منطيق! وما ذكره من كلام الشافعية فالغيرة من الإيمان، وينبغي الذب عن الحوزة الزيدية، والانتصار للأسرة النبوية، باليد واللسان، والسيف والسنان؛ فلا زالت تلك الروية تنبذ الجواهر الطريفة، وتقذف بالدرر الشريفة، والله يمد مدته، ويحرس كريم مهجته، ويعيد من بركاته، والله يعلم أن القلب يأنس به، ويعتقد فضله وكرمه؛ ويأنس بأهل الدين لا يهضم لهم جانب، وهو في الحياة...إلخ كلامه المتين النبوي، والمعين العلوي، عليهم أفضل تحياته وسلامه.
قال: وكان إبراهيم الكينعي ـ رحمه الله ـ يعظّمه تعظيماً عظيماً، ويكرمه.
سمعته يوماً يقول: هذا الهادي بن إبراهيم، إمام من أئمة أهل البيت؛ لأنه يافلان، أعلم الناس في علوم الشريعة، وأكملهم في معرفة علوم أهل الطريقة والحقيقة.

(1/26)


وقال له: أحب منك أبياتاً على وزن:
كسيحون محبته .... غدا قلبي به سمكاً
فأنشأ ـ رضي الله عنه ـ:
صغير هواك عذَّبني .... فكيف به إذا احتنكا؟
هواك عليك مقتصرٌ .... وقلبي هام فيك لكا
ولي روح به شغف .... يروح إليك وهو لكا
ولي قلب أراك به .... إذا ما العين لم تركا
وإني فيك ذو وَلَهٍ .... فما أبقى وما تركا
ولي شوق إليك غدا .... عليه القلب مشتبكا
لقلبي باللقا ضحك .... ومن خوف الصدود بكا
فيا عجباه من دَنَف .... لدمع جفونه سفكا
ومنها:
ولو صبت مدامعه .... غدت من مائه بِرَكا
كسيحون...البيت.
وهذا آخرها:
ومالي عنه من بدل .... ومن لسمائه سمكا
قال: وله (ع) كرامات تُروى، وذكر منها: واقعة قوم تعدّوا عليه فسلّط الله تعالى عليهم عاجلاً وانتُهبوا، وأُسر بعضهم، وقُتل بعضهم، وشاهدهم بعينه؛ ثم تاب من بقي منهم وأناب؛ هذا حاصلها، انتهى من اللوامع.
ــــــــــــــ

(1/27)


مؤلفاته
له كثير من المؤلفات ، قال مولانا حجة العصر/ مجد الدين بن محمد المؤيدي أيده الله تعالى:
له المصنفات العديدة منها : كفاية القانع في معرفة الصانع، ومن مؤلفاته نظم الخلاصةـ قلت : وتسمى بدرة الغواص في نظم خلاصة الرصاص إلى كمال الدين والإخلاصـ، وكتاب الطرازين المعلمين في المفاخرة بين الحرمين، والتفصيل في التفضيل، وكتاب الرد على ابن العربي، وهداية الراغبين إلى مذهب أهل البيت الطاهرين، وكتاب الرد على الفقيه ابن سليمان في المعارضة والمناقضة، وكاشفة الغمة عن حُسْن سيرة الأئمة، وكريمة العناصر في الذب عن سيرة الإمام الناصر، وكتاب السيوف المرهفات على من ألحد في الصفات، ونهاية التنويه [هذا الذي بين يديك].
وفاته عليه السلام
توفي عليه السلام آخر نهار تاسع عشر ذي الحجة الحرام سنة 822هـ ثمان مائة واثنتين وعشرين بحمام السعيدي بذمار المحروسة صائماً، وقد أشار المزاح إلى ذلك في مرثيته عليه السلام بقوله :
أيقال إن حِمَامَه حَمَّامُه .... كلا لقد كانا على ميعاد
لما استتم طهارةً ونظافةً .... وافاه بين الماء والإيقاد
ولعل ذلك حظه من حرها .... وسواه واردها مع الوراد
وكان موته عليه السلام رائعاً للمسلمين، وفَلاًّ عظيماً في عضد الدين، ونقصاً في أهل البيت المطهرين، وعمره ثلاث وستون سنة وشهر وبضعة أيام .

(1/28)


وقبره بذمار بموضع يقال له جربة صنبر، غربي قصر ذمار مشهور مزور [و] إلى هذا الموضع أشار من قال شعراً :
إن الفصاحة والرجاحة والعلا .... في تربة الهادي بجربة صنبر
شرفت بأعظمه فطاب صعيدها .... فترابها كالمسك أو كالعنبر
مفضل من صيد آل مفضل .... سادات أبناء النبي وحيدر
أكرم بها من تربة يمنية .... نسبت إلى ترب بطيبة والغري
وقد رثاه عليه السلام كثير من الناس من أهله وغيرهم، ومن أحسن مراثيه، مرثية الفقيه عبدالله بن عتيق المعروف بالمزاح الموزعي التي مستهلها :
مات الندى وثوى لسان النادي .... ونعي إلينا ديمة الرواد
وأعرت ماء الورد لون مدامعي .... ومنحتها لوناً من الفرصاد
فبحقه لو كان يُفدى هالك .... من هلكه لفديته بفؤادي
إلى قوله : أيقال إن حِمَامَه حَمَّامُه .....الأبيات السابقة المتقدمة .
ومنها :
أما الدليل على عظيم ثوابه .... فمماته في أشرف الأعياد
إلى آخر القصيدة المذكورة ، والبيت الأخير أشار به إلى تاريخ وفاته، وأنه في يوم الغدير، وكأنه أطلقه عليه وإن كان ثانيه؛ تسامحاً للتيمن.

(1/29)


* ومن روائع شعره رضي الله عنه ما دار بينه وبين أخيه السيد محمد بن إبراهيم الوزير، قال مولانا الإمام الحجة/ مجدالدين بن محمد المؤيدي أيده الله تعالى في كتابه "عيون المختار من فنون الأشعار والآثار":وقد رأيت النقل من قصيدة السيد الحافظ محمد بن إبراهيم الوزير وجوابها لأخيه السيد الإمام الهادي بن إبراهيم الوزير رضي الله تعالى عنهم، قال السيد محمد بن إبراهيم الوزير:
ظلّت عواذله تروح وتغتدي .... وتعيد تعنيف المحب وتعتدي
واللوم لايثني المحب عن الهوى .... ويزيد توليع الفؤاد المعمدِ
إن المحب عن الملامة في الهوى .... في شاغل لولا اللوائم تعتدي
ألْهى المحب عن الملام وضده .... بين الجوانح لوعة لم تبردِ
وخفوق قلب لايقر قراره .... وسفوح دمع صوبه لم يجْمدِ
قٌلْ للعذول أَفِقْ فلست بمنتهٍ .... عن حب أجمل من تحلى فابعدِ
لو لمتني في الغور لم أشتق إلى .... شطيه أو في نجدهم لم أنجدِ
أوكان لومك في التصابي ماصبا .... قلبي ولا غلب الغرام تجلدي
أو لمتني في اللهو لم أطرب على .... نغم الغناء من القريض ومعبد
أو لمتني في المال لم يستهوني .... نظر اللِّجين ولا نضار العسجد
أو لمتني في حب غير محمد .... لحسبت أنك بالنصيحة مرشدي

(1/30)


أو لو رأيت محبة مثلا له .... للمهتدي والمرتجي والمجتدي
يهديه أو يجديه أو يغنيه عن .... نور الرسول الساطع المتوقّدِ
هيهات ما ابتهج الوجودُ بمثله .... فدع اللجاج فمثله لم يُوجَدِ
ياصاحبيَّ على الضبابة والهوى .... من منكما في حب أحمد مسعدي
حسبي بأني قد شهرت بحبه .... شرفاً ببردته الجميلة أرتدي
لي باسمه وبحبه وبقربه .... ذمم عظام قد شددت بها يدي
ومحمد أوفى الخلائق ذمة .... فلتبْلُغن بي الأماني في غدِ
ياقلب لاتستبعدنّ لقاءه .... ثِقْ باللقاء وبالوفا وكأنْ قد
ياحبذا يوم القيامة شهرتي .... بين الخلائق في المقام الأحمدي
بمحبتي سنن الشفيع وإنني .... فيها عصيت معنِّفي ومفنِّدي
وتركت فيها جيرتي وعشيرتي .... ومحل أترابي وموضع مولدي
فلأشكون إليه شكوى موجع .... متظلم متجرم مُسْتنْجد
مما لقيت من المتاعب والأذى .... في حبه من ظالميَّ وحُسَّدي
وأقول أنجد صادقاً في حبه .... من ينجد المظلوم إن لم تُنْجدِ
إني أحب محمداً فوق الورى .... وبه كما فعل الأوائل أقتدي
فقد انقضت خير القرون ولم يكن .... فيهم بغير محمد من يهتدي
وأحب آل محمد نفسي الفدا .... لهمُ فما أحد كآل محمدِ
هم باب حطةَ والسفينة والهدى .... فيهم وهم للظالمين بمرصدِ
وهم النجوم لِخَيِّر متعبد .... وهم الرجوم لكل من لم يعْبُدِ
وهم الأمان لكل من تحت السما .... وجزاء أحمد ودهم فتوددِ
والقوم والقرآن فاعرف قدرهم .... ثقلان للثقلين نص محمدِ
وكفى لهم شرفاً ومجداً باذخاً .... شرع الصلاة لهم بكل تشهدِ
ولهم فضائل لست أحصي عدها .... من رام عد الشهب لم تتعددِ
إلى قوله:

(1/31)


وأنا الذي أفنيت شرخ شبيبتي .... في بحث كل محقق ومجود
والافتخار مذمة مني فسل .... عني المشائخ فالمشائخ شهدي
وإذا أتتك مذمتي من ناقصٍ .... فافهم فتلك كناية عن سُؤْددي
وإذا شككت بأن تلك فضيلة .... فاستقر ويْحَك وصف كل محسد
فلحسدي ما في الضمائر منهمُ .... يغلي ولي ماهم عليه حسدي
وهي طويلة اكتفيت بهذا القدر منها.
وهذا جواب أخيه السيد الإمام الهادي بن إبراهيم الوزير:
عجلت عواذلة ولم تتأيد .... وجنت عليه جناية المتعمدِ
ماشرعة العذل المعوج نهجه .... عن سنة العدل القويم الموردِ
شيئان ما أعيا الأنام سواهما .... لوم البري وتهمة المتوددِ
وأخو الهوى مسدودة أسماعه .... لايرعوي لمقال كل مسددِ
سددْ كلامك في إصابة رأيه .... أو لا تقع في مسمع متسددِ
ياعاذلي في حب آل محمد .... دعْ ماتقول فأنت غير محمدِ
لو كنت تعذل في محبة غيرهم .... لعلمت أنك بالنصيحة مرشدي
أأحبهم وأحب غير طريقهم .... هذا المحال من الضلال الأبعد
من مال عنهم لم يكن منهم وسلْ .... أهل المعارف والطريق الأرشدِ
أنا منهمُ في فعلهم ومقالهم .... ياشاهد الله المهيمن فاشهدِ

(1/32)


حبي لهم فرض وحبي جدهم .... مجد وصلت فريضتي بتمجد
لا ريب في حب النبي لمسلم .... إذْ كان ذلك أصل دين محمد
فاخصص بحبك آله متقرباً .... بهمُ إليه وودهم فتزود
لم يسأل الرحمن إلا ودَّهم .... أجراً على إبلاغ ملة أحمد
ماذاك إلا أن حب محمد .... شرعٌ له في الناسك المتعبد
جمعَ الطوائفَ حبُّه وتفرقوا .... في حب عترته بغير ترددِ
فاجعل ودادك حيثما ماافترقوا تُصِبْ .... نهجاً معبدةً لخير مُعَبِّد
ومحبر وافى إلي نظامه .... كالدر في عنق الغزال الأغيدِ
رقَّت محاسنه برقة شوق مَنْ .... أهداه في طلب الحديث المسندِ
وافى وعين جماله وكماله .... تزهي ولمَّا يكتحل بالإثمدِ
ماكان أحوج ذا الجمال إلى الذي .... فيه من العين اتقاء الحسَّدِ
لما تنحى عن محجة أهله .... ومشى على الطرقات مشي الأصيد
أأخي وقرة ناظري ومشاركي .... في أصله ومحله والمولد
أخوان إلا أن هذا قد عتا .... كِبَراً وهذا في الشباب الأملد
ولد صغير في حداثة سنه .... وأخ كبير في العلا والسؤدد
أربى علي براعة وبلاغة .... وأكلَّ مذودُه المفَوِّه مذودي

(1/33)


قد زادني علماً فتلك وسيلة .... للراغبين فإن تجدها فازدد
وأفادني من علمه وبيانه .... حسن الإفادة فاستفده وأَسْنِد
أبنيَّ إن ناديته لتلطف .... وأخيَّ إن ناجيته لتجلد
مالي أراك وأنت صفوة سادة .... طابت شمائلهم لطيب المحتدِ
تمتاز عنهم في مآخذ علمهم .... وهم الذين علومهم تروي الصدي
أخذوا مباني علمهم وأصولهم .... عن أهلهم عن سيد عن سيدِ
سند عن الهادي وعن آبائه .... لا عن حديث مسدد بن مسرهد
سند عن الآباء والأجداد في .... أحكامهم وفنونهم والمفرد
وكذاك في التجريد والتحرير والتـ .... ـعليق والمجموع ثم المرشد
لهمُ من التصنيف ألف مصنف .... مابين عِلْم سابق ومجددِ
قد قلتَ في الأبيات قولاً صادقاً .... ولقد صدقت وكنت غير مفنَّدِ
هم باب حطة والسفينة والهدى .... فيهم وهم للظالمين بمرصد
وهم الأمان لكل من تحت السما .... وجزاء أحمد ودّهم فتودد
والقوم والقرآن فاعرف قدرهم .... ثقلان للثقلين نص محمد
وكفى لهم شرفاً ومجداً باذخاً .... شرع الصلاة لهم بكل تشهد
هذا مقالك في القصيد وإنه .... محض الصواب وعصمة المسترشد

(1/34)


فأتمَّ قولك بالمصير إليهمُ .... في كل قول يامحمد تهْتدي
فهم الأمان كما ذكرت ونهجهم .... نهج البلوغ إلى تمام المقصد
مالي أراك تقول فيهم هكذا .... وبغير مذهبهم تدين وتقْتدي
أوليس هم حجج الإله على الورى .... والفلْك في بحر الضلال المزبد
ماكان أحسن حسن فهمك ترتقي .... درجات علمهم إلى المتصعد
حتى إذا استوريت زند علومهم .... وأردت تزنّد مابدا لك فازند
بعد النهاية في العلوم ودرْسها .... وإحاطة المتوغل المتجرّدِ
ولأنت فرعٌ باسق من دَوْحة .... شرفت بحيدرة الوصي وأحمد
متردد بين النبوة والهدى .... من أهله ناهيك من متردد
فأَعدْ هداك الله نظرة وامق .... في علمهم تَلْقَ الرشاد لمرشد
وتوسم العلم الذي في كتبهم .... تجد الدراية والهداية عن يد
وذكرتَ سنة أحمد وحديثه .... يا حبذا سنن النبي محمد
أَوْرِدْ مسائلها وَرِدْ في مائها .... ياحبذاك لوارد ولمورد
لسنا نقول بأن سنة أحمد .... متروكة وحديثه لم يُوجد
بل سنة المختار معمولٌ بها .... وحديثه شنف النضار العسجد
ومقالهم في سنة وجماعة .... قول رديء ليس بالمستحمد
سبوا الوصي وأظهروها سنة .... لبني الدنا من مغورين ومنجد

(1/35)


وكذاك سَمّوا حين صالح شبر .... ابن التي عرفت بأكل الأكْبُد
عام الجماعة واستمروا هكذا .... حتى تملّك عصره المستنجد
أعني به عمراً فأنكر بدعة .... ونظيره في عدله لم يوجد
ونقول في كتب الحديث محاسن .... من سنة المختار لما نقصد
لكن نرجِّح مارواه أهلنا .... سفن النجاة وأهل ذاك المسجد
ونقول مذهبهم أصح رواية .... وأمت في سنن الحديث المسند
فبهم على كل الأكابر نبتدي .... وإليهمُ أبداً نروح ونغتدي
وبهديهم في كل سمت نهتدي .... وبقولهم في كل أمر نقتدي
وبفعلهم في كل نجد نحتذي .... وبعلمهم في كل وقت نجتدي
وإذا تعارض عندنا قول لهم .... ولغيرهم قول وإنْ هو أَوْحَدي
ملنا إلى القول الذي قالوا به .... لتوثّق في حفظهم وتشددِ
وتصلّب في دينهم وتنزه .... وتورع في كسبهم وتزهدِ
ولما رُوينا فيهمُ عن أحمد .... حسبي به للمقتدي والمهتدي
فاليوم عصمتنا بهم وبحبهم .... وهم الأئمة والأدلة في غدِ نشروا العلوم وأيدوا دين الهدى .... علماً بهاد فيهم ومؤيدِ

(1/36)


ومضوا على سنن الجهاد ورسمه .... مابين مقتول وبين مشردِ
ومخلد في حبسه ومطرد .... عن أهله ومصلّب ومقيدِ
مَنْ في البرية يامحمد مثلهم .... في فضلهم وجهادهم والسؤدد
وذكرت تصحيح الخلاف وأنهم .... قد خالفوا آباءهم بتعمد
فصدقت فيما قُلْتَه وحكيتَه .... وقع الخلاف وليس ذاك بمفسد
إن الصحابة ماج فيما بينهم .... بحرُ الخلاف وهم صحابة أحمدِ
وكذا الأئمة بعدهم لمّا تزل .... آراؤهم في العلم ذات تبددِ
والحق تصويب الخلاف ومانرى الـ .... إجماع إلا في نوادر شرّد
وذكرتَ أن الموت يقطع في الهدى .... تقليد صاحبه لكل مقلدِ
وحكيت ذلك مذهب الجمهور عن .... علمائه وبنيت كالمستشهدِ
فخلاف ذلك ظاهر متعارف .... في كتْبنا وبِكتْبهم فاستوردِ
قد نص بيضاويّهم في شرحه .... تجويز تقليد الإمام المُلْحَدِ
وكذاك في المعيار جوّزه وقد .... أفتى به حسن سليل محمد
قالوا جميعاً للضرورة إنه .... لم يبق مجتهد فطفْ وتَفَقّدِ قالوا وإلا أي فائدة لنا .... في دَرْس علم الشافعي ومحمد

(1/37)


وكذاك درس علوم آل محمد .... كم دارس لعلومهم متفردِ
فإذاً تبين أن تقليد الورى .... حق لمهديّ وهاد قد هُدي
وأصبت فيماقلت من تصويب أهـ .... ـل العلم في فن الخلاف الأمجدِ
فن الفروع فإنه لابأس في .... سعة الخلاف به لكل مجردِ
وذكرت قولك في الكلام ومالهم .... فيه من القول الغريب الموجدِ
فلقد ذكرت من العلوم أجلها .... قدراً وأعظمها لكل موحد
فن به شهد الكتاب وصحة الـ .... ألباب ليس لفضله من مجْحد
راضته أفكار الأفاضل واغتدى .... كالدر بين زبرجد وزمرد
مافيه من عيب سوى أن حققوا .... لدفاع قول الفيلسوف الملحد
لولا صناعتهم وحسن كلامهم .... نزعت يد الحربا لسان الأسود
وصدقت أن محمداً في صحبه .... لم يعرفوا تلك العبارة عن يد
ماذا أراد محمد منها وجبـ .... ـريل لديه كل حين في الندي
حماد عجرد لم يكن في وقته .... أبداً ولا سمعوا هناك بعجردِ
وابن الروندي وابن سينا أحدثا .... بعد النبوة في الزمان الأقردِ ماكان في وقت النبي مدقق .... منهم فيحتاج البيان لملحدِ

(1/38)


لكن علي قد أبان بنهجه .... هذي الدقائق فاستبنها واقصدِ
هو أول المتكلمين وقوله .... قبس كنار القابس المستوقدِ
فاتْبع مقالته فإن شيوخنا .... أتباعه فيها أصبها ترشدِ
ماذا أردت بانتقاص مشايخ .... هم أصلتوا في العلم كل مهند
لولا سيوف كلامهم وعلومهم .... لم ينتقض تاج الغواة الجحَّدِ
نقضوا به شبه الفلاسفة الأولى .... دانوا بأفلاك وقول أنكدِ
فنريهم القمر المنير من الهدى .... ويروننا وجه السها والفرقد
فهناك أمسينا بأحسن ليلة .... وهناك قد باتوا بليل أنكدِ
وأدلة التوحيد ليس شعاعها .... يخفى على من لم يكن بالأرمدِ
ولهم مسالك في العبارة بعضها .... يشفى به قلب العليل المعمدِ
والبعض منها ليس بالمرضي في .... قول الهداة من النصاب الأحمدِ
ولنا من الماء السلاسل صفوه .... والآسن المنبوذ للمستوردِ
فاشرب من الماء الزلال ألذه .... ودع الكدورة في شواطي الموردِ
وشكوت من حسد البغاة ولم تجد .... ذا سؤدد ألا أصيب بحسدِ
لازلت ياسبط الكرام محسداً .... فالناقص المسكين غير محسدِ
انتهت بتمامها رضوان الله وسلامه على سابك درر نظامها، انتهى.

(1/39)


هذا وقد طال الكلام؛ وهذه قطرة من مطرة، ومجة من لجة من فضائل ذلك السيد الهمام، وقد اعتمدت في هذه الترجمة عدة مراجع منها:
* لوامع الأنوار لمولانا الإمام/ مجد الدين بن محمد المؤيدي أيده الله تعالى.
* التحف الفاطمية لمولانا الإمام/ مجد الدين بن محمد المؤيدي أيده الله تعالى.
*صلة الإخوان للسيد العلامة يحيى بن المهدي.
* مقدمة السيد العلامة عبد الكريم بن عبدالله الملقب بأبي طالب لشرحه للمنظومة الموسومة بدرة الغواص.
* عيون المختار من فنون الأشعار والآثار لمولانا الإمام/ مجدالدين بن محمد بن منصور المؤيدي أيده الله تعالى.
هذا، والله نسأل التثبيت وحسن الختام بحق محمد سيد الأنام، وآله الغر الكرام .
أحمد بن درهم بن عبدالله حورية
مركز أهل البيت(ع) للدرسات الإسلامية
اليمن - صعدة،ت(511816) ص ب (91064)
ـــــــــــــــــ

(1/40)


[مقدمة المؤلف]
وبه نستعين، الحمد لله الذي جعل العترة النبوية لها ميم الشرف، وَسَادات هذه الأمة الخلف منها والسلف، خصهم الله سبحانه بالتفضيل، وَحَباهم بالتعظيم وَالتبجيل، وجعلهم الدعوة الباقية في عقب إبراهيم الخليل، مهبط التنزيل، وملجأ التأويل، ومختلف ميكائيل وجبرائيل، ألبسهم الله سرابيل النبوة في الإبتداء، وَتوَّجهم بأكاليل الإمَامة في الإنتهاء، فجعل الإمامة من النبوَّة خلفاً، وجعلهم أئمة يهتدون بأمره وَخُلَفَاْء، لا معقب لحكمه لهم في وحيه، ولا راد لأمره فيهم ونهيه، إلاّ من حكم عليه حب الإلف والعادة، واختار الشقاوة على السعادة، صفوة الله من بريته، وحججه على الكافة من خليقته، سفينة نوح، وباب السلم المفتوح، ولله در من قال ولقد أحسن في المقال:-
أنتم سفينة نوح وَالمراد بها .... ولاكم لامسَاميراً ولا خُشُبَا
فمن تعلق منها بالولاءِ نجا .... ومن تخلف في بحر الهوى عطبا
وما المودة في القربى بواجبةٍ .... لهاشم بل لكم يا أقرب القُرَبَى
وما الصراط سوى إضمار طاعتكم .... فمن تنكّب عن منهاجكم نكبا
وكل منقلب عن عقد بيعتكم .... كان الجحيم له مأوى وَمنقلبا
بني أبي طالب لولا محبتكم .... مَا فاز ذُوْ الدين والدنيا بما طلبا
لولا محبتكم فينا وحجتكم .... لكان يزهد في الإسلام من رغبا

(1/41)


وَأشهد أن محمداً صلى الله عليه وآله وسلم تاج آنبيائه، وَغرة أصفيائه، أشرف البشر، ووسيلة الرسل يوم المحشر:
دع ما تقول النصارى في نبيئهم .... من الغلو وقل ما شئت واحتكم
وأن علياً نافجة زنده، ويافخ فرنده، والإمام المنصوص عليه من بعده، سيد الأوصياء، وصفوة خاتم الأنبياء، المخصوص بعقائل الكرامات، الفاتح لباب الإمامات.
لا تقبل التوبة من تائب .... إلاّ بحب ابن أبي طالب
حب علي وَاجب لازب .... في عنق الشاهد وَالغائب
أخو رسول الله حلف الهدى .... والأخ لا يعدل بالصاحب
إن مال عنهُ الناس في جانب .... ملتُ إليه الدهر في جانب
جاءت به السُّنة مقبولةً .... فلعنة الله على النَّاصبِ
وأن المفضل لغيره عليه مرتبك في الخطأ، متقاصراتٌ عنه فسيحات الخُطا، ولله الشافعي(45) حيث يقول:
وإن جاش طوفان الضلال فنوجُه .... عليٌ وإخلاص الولاءِ له فلْك
إمام إذا لم يعرف المرءُ فضله .... على الناس لم ينفعه زهد ولا نُسْك
ولَوْ لاَمَنِي فيه أبي لم أطع أبي .... وَحَاشا أبي أن يعتريه به شك
وأن الحسن والحسين سيدا شباب أهل الجنة، ورضيعا حلف الكتاب والسنة، نص عليهما أبوهما الأمين، وأخبر أنهما وذريتهما أمان من في الأرض من العالمين، [شعراً]:
قيل لي أنت أوحد الناس في النظم .... فماذا تقول في السبطين
قلتُ لا أهتدي على الحسن السبـ .... ـط ثناءً ولا مديح الحسين
مهجتا أحمدٍ وَشبلا عليّ .... وسليلا كريمة الأبوين

(1/42)


وأن العترة النبوية سادات الأنام، والمفضلون بما آتاهم الله من الفضائل على الخاص والعام، نص عليهم أبوهم حيث قال: ((قدموهم ولا تَقَدَّمُوهم، ولا تشتموهم فتكفروا، ولا تخالفوهم فتضلوا))(48).
________________
([48]) - قال الإمام المنصور باالله عبدالله بن حمزة (ع) في الشافي: (رُوينا عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أنه قال: ((قدموهم ولا تقدموهم، وتعلموا منهم ولا تعلموهم، ولا تخالفوهم فتضلوا، ولا تشتموهم فتكفروا)).
قال المولى الحسن بن الحسين الحوثي رحمه الله تعالى في التخريج: ورواه في الكامل المنير بلفظ: ((فلا تعلموا أهل بيتي فإنهم أعلم منكم، ولا تسبقوهم فتمرقوا، ولا تقصروا عنهم فتهلكوا، ولا تتولوا غيرهم فتضلوا))، من حديث طويل عن أبي الطفيل، عن زيد بن أرقم.
وروى المرشد بالله بسنده إلى أبي سعيد عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال: ((لا تعلموا أهل بيتي فهم أعلم منكم، ولا تشتموهم فتضلوا)).
ولذا قال علي عليه السلام من خطبة:(انظروا أهل بيت نبيكم فالزموا سمتهم واتبعوا إثرهم، فلن يخرجوكم من هدى، ولن يعيدوكم في ردى، فإن لَبَدُوا فَاْلبُدُوا وإن نهضوا فانهضوا، ولا تسبوهم فتضلوا، ولا تتأخروا عنهم فتهلكوا)، انتهى.
قال الإمام الحجة مجدالدين بن محمد المؤيدي أيده الله تعالى في اللوامع ج/2/524:
وقوله صلى الله عليه وآله وسلم : ((لاتعلموا أهل بيتي فهم أعلم منكم، ولا تقصروا عنهم فتهلِكوا، ولا تتولوا غيرهم فتضلوا)) من رواية القاسم بن إبراهيم عن زيد بن أرقم.
وقوله صلى الله عليه وآله وسلم : ((من سره أن يحيا حياتي))...إلى قوله: ((فليتول علي بن أبي طالب، والأخيار من ذريتي)) وقد علم أن ذريته ـ صلى الله عليه وآله وسلم ـ من ولد فاطمة بالأخبار الجمة، وهذا الخبر رواه محمد بن سليمان الكوفي، وروى بإسناده إلى محمد بن علي رفعه، وروى بسنده إلى محمد بن عبدالله، وأخيه يحيى بن عبدالله الكامل؛ عن جدهما، عن علي بن أبي طالب، قال: لما خطب أبو بكر قام أبي بن كعب، فقال: يا معشر المهاجرين والأنصار، ألستم تعلمون أن رسول الله ـ صلى الله عليه وآله وسلم ـ، قال: ((أوصيكم بأهل بيتي خيراً فقدموهم، ولا تقدموا عليهم، وأمِّروهم ولا تأمروا عليهم...إلخ))؟.
قال رحمه الله في التخريج: تأمل إلى شدة عناد المخالفين للعترة ـ عليهم السلام ـ كيف يستدلون على أن الإمامة في قريش بما يروونه آحاداً من أنه قال: ((قدموا قريشاً...إلخ)).
قلت: وبخبر: ((الأئمة من قريش)).
قال: ولا يلتفتون إلى حديث الثقلين المتواتر، الذي فيه: ((قدّموهم ولا تقدموا عليهم)) وأنه دليل على أن الإمامة في العترة، انتهى.

(1/43)


ولقد أحسن سعيد السعيد:-
أجبت كتاب الله حق إجابة .... وصدقته فيكم فأنتم ولاته
وسلمت للفرقان فيما قضى به .... ووليتكم فيه فأنتم هداته
وأنتم حصون العلم بعد محمد .... بكم يهتدي الهادي وأنتم رعاته
وأن المتعَرض لمحاولة ثلمهم من الضالين، وأن الله لعمله من القالين ،
أحب النبي وآل النبي .... لأني ولدت على الفطرة
إذا شك في ولد والدٌ .... فآيته البغض للعترة
وبعد: فإنه قل ما يسلم جسد من حسد، فكانت العترة النبوية محسدة المناقب، لابتغائها في الشرف هامات النجوم الثواقب.
وفي تعب من يحسد الشمس ضوءها .... ويجهد أن يأتي لها بنظير
وما زال الدهر يرعف عن كل يوم بروافض ونواصب، والشيطان يملي على ألسنتهم ليُبَوِّأهم دار العذاب الواصب، شعراً:
وإذا أراد الله نشر فضيلة .... طُويت أتاح لها لسان حسود
لولا اشتعال النار فيما باشرت .... مَا كان يعرف طيب عرف العود

(1/44)


إلى أن نبغ في هذا الأوان كل وانٍ، واختلط بالفضلاء كما يختلط بالقمح الزوان ، فاختار ضلالته على رشده، وأخبرتنا كراهته للعترة عن حكم ميلاده، ولله در الصاحب الكافي حيث يقول:
من كان ذا نسك وَذا عفة .... وبغض أهل البيت من شانه
فإنما العتب على أمّه .... أتت به من بعض جيرانه
فتارة يقعقع بشنه على الوصي، وتارة يسوي بين السيوف والعصي، وآخر يتنسك ويصوم، وهو ينهش لحم المعصوم، وفينةً يطن طنين الذباب، ليروّع بطنينه أسود الغاب، ويعارض بلمع السراب ماءَ الشراب، [شعراً]:-
يبيت عمروٌ غارزاً رأسه .... في سنة يوعد أخواله
هيهات كم بين البحر والثماد، وأين العنبر من الرماد، قارب من خَطْوه، وطامن من شخصه، وزعم نقض الأدلة، ومدح الكثرة، وذم القلة.
كدعواك كل يدعي صحة العقل .... ومن ذا الذي يدري بما فيه من جهل
انتحل التدليس، وأجاب دعوة إبليس، وفضل على التبر الخزف، وساوى بين الدر والصدف، أين مسامعه ـ أصم الله صداه ـ عن قول الرشيد بن الزبير في مدح العترة الهداة.
إذا العيون اجتلتهم قال مبصرهم .... سبحان رب البرايا بارئ النّسمِ
صاغ الخلائق من طين ومن حما .... وآل أحمد من طول ومن كرم
ماذا تنال القوافي في مديحكم .... وبعض أوصافكم تربوا على الكلم

(1/45)


هذا ولما رأيت عقربَة متحككة بالأفعى، وذكرت المثل السائر: استنت الفصال حتى القرعا، ورأيته مجداً في العداوة، على أنها سلمة كسلمة الإداوة، أنشأت قصيدة في التأَلم لمذهب العترة الزكية، والحث على طم هذه الركية البكية، علماً بأن سنة الأعداء بعلوم أئمتنا مقطوعة، ورؤوس الحساد بحلوم ساداتنا مقموعة، وكم من مهجة تحسد العترة مبتوتة، وكبد من شأنها مفتوتة، شعراً:
فدام فينا وفيهم ما بنا وبهم .... ومات أكثرنا غيظاً بما يجد

(1/46)


وعزمت على التوجيه بالقصيدة المذكورة، إلى صاحب الكرامات المشهورة، والآيات المسطورة، معيد حياة الإسلام، خاتم الأئمة الكرام، مولانا أمير المؤمنين، الناصر لدين الله رب العالمين، محمد بن علي بن محمد المشهور بصلاح الدين، صلوات الله عليه وسلامه، هزاً لقطوف حكمته الحالية المجاني، واستثماراً لغراس أقلامه الطيبة المعاني، واستنصاراً بعلومه المعدة للاستنصار، واستبصاراً بآرائه المعدة للاستبصار، حتى كان عليه السلام غاية المستنصر بالسيف والقلم، وآية المستبصر بالرأي والحكم، إن نطق أفاد، وإن ضرب أباد، وإن أراد جواب علمٍ أتقنه وأحسنه، وإن رجح خلافه أنفذه وأمكنه، يُحْلِي ويُمر، ويمضي ويَمر، ويَبلغ بكلامه حيث يبلغ بحسامه، وبحسامه حيث يبلغ بكلامه، ويُحْكِمُ بِحَكَمَتِهِ كما يَحْكُم بِحِكْمَتِه، ويَحْكُمُ بِحِكْمَتِهِ كما يُحْكِمُ بِحَكَمَتِهِ، كم أبدأ وأعاد، وأفاد وأباد، وساد وشاد، وصَالَ بقوله نهاية المُوصَل بصوله، وبصوله غاية الوصول بقوله، كم قد قال وصال، وأبان الأوصال، يا مبدي يا مندي أَبِّد أَيِّد مليك ملّتك، محمّد مُخْمِد، مُذهِب مَذْهَبٍ، جَدّل جَدَلَ، أَلْحَقَ الحقَّ الأَئِمَّةَ الأَثَمَةَ بواراً ثوَاراً، وقَتلهم وقَيلَهم فصار قصارى سلامتِهم، سلاّ منهم أرواحاً أزواجاً، أقْماهم أفَماهم مَوْتى مُؤتى مترتون مترثون مجدَّلون مخذَّولون.

(1/47)


نعم وخشيت أن ترد القصيدة على مولانا أمير المؤمنين، عليه صلوات رب العالمين، فيشتغل باله الكريم بجواب خيالات أحقر من أن يجيل في جوابها قلماً، فلزمت طريقة الأدب، ورأيت تنقيح خيالات المموهين، بعد أن طلبت جوابها من سيدنا العلامة فخر الدين حافظ علوم الأئمة الهادين، عبد الله بن حسن الدواري أعاد الله من بركاته، فكتب إلي معتذراً، وكان من كلامه أيده الله: "نعم ما ندب إليه من الجواب عن الخيالات التي بلغته ممن لم يعض على العلم بضرس قاطع، ولم يكن له في منابت الطهارة والفضل سنخ أصل معرق، فيعلم أن الحكمة لا ينبغي أن تلقى إلاّ إلى أهلها وهم العملة، وإلقاء ذلك إلى غير أهله كالمتجمل للضرير، ومعلق سلك الجواهر في عنق الخنزير"، هذا كلامه أيَّدَهُ الله تعالى بعد أن قال: "وإن كان الجواب الجملي عن كل المسائل، الإثم والتخطية للمعتقد والقائل، ثم هو بعد ذلك يترقَّى إلى درجة الفسق والكفر، فنعوذ بالله من الزيغ الشديد، والضلال العتيد"، تم كلامه رضي الله عنه.

(1/48)


ولما رأيت كلامه رضي الله عنه يحوم حول الإضراب، ويرجح إيصاد هذا الباب، وربما قال لا بأس بالجواب، قلت في نفسي: لا يحك جلدي مثل ظفري، ولا يدرك وتري مثل بتري، فبذلت في الجواب جهد المستطيع، وإن لم يدرك الضالع شأو الضليع، وسميته (نهاية التنويه في إزهاق التمويه)، وبالله أعتضد فيما أعتمد، وأعتصم فيما يضم، إنه ولي ذلك، والقادر على ما هنالك، وهذه القصيدة، ويتلوها الجواب عن كل مسألة بعينها:
[تظلّمه مما يسمع ويرى من هضم حق أهل البيت عليهم السلام]
أقاويل غي في الزمان نواجم .... وأوهام جهل بالضلال هَوَاجم
ومسترق سمعاً لآل محمدٍ .... فأين كرام بالنجوم رواجم
ومستوقد ناراً لحرب علومهم .... فأين البحار الزاخرات الخضارم
ومعترض فيهم بمخراق لاعب .... فأين السيوف الباترات الصوارم
ومجتهد في ذم قوم أكارمٍ .... فأين الأباة السابقون الأكارم
ومنتهش لحماً لهم وهو ثعلبٌ .... فأين الأسود الخادرات الضراغم
[ترجّيه لإزالة الظلم عنهم]
عسى نخوة تحمي على آل أحمد .... فقد ظهرت بغياً عليهم سخائم
عسى غاضب لله فيهم بحكمه .... يحكِّم فيه الحق فالحق حاكمُ
عسى ناظر فيهم بعين بصيرة .... وحَاكٍ لما نصت عليه الملاحمُ
عسى ناقم ثاراً لهم من عدوهم .... فذاك عدو بالمناقم ناقمُ
عسى عارف ما قال فيهم أبوهم .... فقد جهلت تلك النصوص العظائمُ
عسى سالم فيهم عداوة ناصب .... فقد فاز منها سالم ومسالمُ
عسى عادم حقداً عليهم بقلبه .... فقد قل منه اليوم من هو عادمُ
عسى صَائم من لحم أولاد حيدر .... فما شاتم من لحمهم هو صائمُ

(1/49)


[شكوى من إبليس وأتباعه]
إلى الله أشكو ذنب إبليس إنه .... أهاب بقوم دينه المتقادمُ
دعاهم إليه فاستجابوا لصوته .... ولمَّا يرعهم حوبهُ المتعاظمُ
وطار بهم في قلب كل معاندٍ .... فهاهم خوافي ريشه والقوادمُ
[بيان مدى اتباعهم، وتعداد نقاط الإتباع، ومنها تحاملهم على عليٍّ عليه السلام]
حِنَاق صدور من فضائل حيدر .... يكالمهم فيها كليم مكالمُ
لهم كل يوم من كراهة فضله .... مآثم شبُّوا نارها ومآتمُ
إذا ذكر الفاروق أمست صدورهم .... مفطرة مما تكن السخائِمُ
على أنه خير البرية عن يد .... وإن ورمت منهم أنوف رواغم
يقولون لا فضلٌ له فوق غيره .... وهذا ضلال منهم متراكمُ
وهل بلغت فضل السنام مناسم .... وهل أدركت شأو البحار الكظائمُ
وإن ذكروا يوم الغدير تأولوا .... ولايته تأويل من هو ظالمُ
وتأويلهم نص الكتاب تعامياً .... على ما يداني حقدهم ويلائمُ
وقد زعموا نقض الأدلة كلها .... وأكثر من يُعزى إلى الجهل زاعمُ

(1/50)


[جرائم الانكار والجحود]
وهم أنكروا حصر الإمامة في بني الـ .... ـبتول وقالوا الغير فيها مسَاهمُ
ولم يجعلوا إلاّ اختياراً طريقها .... وبالعقد قالوا أمرها متعالمُ
وهم أبطلوا الإجماع من آل أحمدٍ .... دليلا وآي السمع في ذاك قائمُ
وهم أنكروا علم البتول وفضلوا .... عليها وهذا لا تراه الفواطمُ
وهم أنكروا لعن ابن هند وسبّه .... وهذا الذي تنهدُّ منه الصلادمُ
وزادوا على هذا وقالوا بأنّ من .... توقف فيه فهو في الجهل غاشمُ
[الحجج على ما أنكروه]
وحرب علي منه كالشمس ظاهرٌ .... وَهل لطلوع الشمس في الناس كاتمُ
وَ حسبك منه مقتل ابن سمية .... وَتأويله للنص فيه مصادمُ
معَاويةٌ في لعنة الله خالدٌ .... وتعذيبه فيها من الله دائمُ
ولعنته أحلى من الشهد مطعماً .... إذا حنظلت فيها لقوم مطاعمُ
[عودة إلى تعداد الجرائم]
وقالوا يزيد مستحق توقفاً .... وَرأس حسين عنده وَ الغلاصمُ
وهم جهَّلوا الرسيَّ وَهو مقدس .... عن الجهل بحر الحكمة المتلاطمُ
وهم أنكروا إسناد يحيى وقاسمٍ .... وَمَا لهما في العالمين مقاسمُ
وقالوا لنا الهادي إلى دين ربه .... ملبس دين حظهم متفاقمُ
وهم عجبوا منه لإحداث مذهب .... وَما إنْ له في الحق قالوا دعائمُ
[تعجب وسخرية]
إذا القاسم الرسي ضل بزعمكم .... فمن يهتدي في الناس إن ضل قاسم!
وإنْ يكن الهادي إلى الحق جَاهلاً .... على زعمكم فيه فمن هو عالم!

(1/51)


[عودة إلى التعداد]
وقالوا بأن المذهب الحق مذهب .... أتاه بن إدريس عليه عوالم
وما كثرة الأتباع في الحق آية .... إذا ذهبت بالفلج منه الأعاجمُ
وهم صوبوا نشوان في هذيانه .... على أنه فيما هذى فيه آثمُ
وسَاداتنا نصت بقطع لسَانه .... رواه لنا المنصور إذ هو ناظمُ
وهم ظلموا المختار أجراً أتى بـ .... ـه الكتاب ومن هذا تكون الجرائمُ
[تصبر وتسلي]
إذا ظلموا آل الرسول مودةً .... فلا بد يوماً تستقص المظالمُ
وإن نبحوا سادات آل محمد .... فهل قمر من نبحة الكلب واجمُ
وليس يضر البحر وهو غَطَمطَم .... إذا مَا رمَاه بالحجارة رَاجمُ
[نداءٌ وبلاغ]
فيا راكباً هوجاء من نسل شدقم .... تأخر عنها اليعملات الشداقمُ
تجوب الفيافي فدفداً بعد فد فدٍ .... وتوجف إن كلت هناك الرواسمُ
[مدح وثناء]
انخها على باب الإمام محمد .... إمام هدىً طابت به الناس هاشمُ
أقول له ما قاله في جدوده .... أخو مقةٍ للمدح في الآل ناظمُ
فجودكم للرزق في الناس قاسم .... وسيفكم في البأس للكفر قاصِمُ
وما الناس إلاّ أنتم دون غيركم .... وسائر أملاك الزمان بهائمُ
وقل لي له من بعد تقبيل كفه .... ولثم له حتى كأني لاثمُ

(1/52)


[استنكار متأدب]
أَيُنْكَرُ مولانا عليٌ مكانه .... وعلمك زخَّار وَ سيفك صَارمُ
وَتُشْتَمُ سَادات الرسول عَدَاوة .... ويرغد في أكناف فضلك شاتمُ
وَيُوصَم يحيى بن الحسين بن قاسم .... ويأوي إلى إحسانك الجم وَاصِمُ
ويُدعى وَقد أحيا الرشاد ملبساً .... وأنت لأهل البيت بالحق قائمُ
ويَرفع أركان الضلالة ناصبٌ .... وَأنت لأركان الضلالة هادمُ
وتُنسى لأَسباط الرسول مناقب .... وتؤذى لأولاد البتول مكارمُ
وينكر فضل السبق من آل أحمد .... وتطمس منهم في العلوم معالمُ
لقد عظمت هذي الجرائم غاية .... وقد هتكت فيها هناك المحارمُ
فماذا ترى فالأمر أمرك في الورى .... أتنكر هذا أم على الغيظ كاظمُ
وماذا يقول السابقون إلى الهدى .... ومن لهمُ في الحق تقرى العزائمُ
أمستيقظ طرف الحمية فيهمُ .... عَلى مذهب السادات أم هو نائمُ
[استغاثة وحث]
ألا يالَزيد دعوة علوية .... لصاحبها التوفيق واليُمن خادمُ
عدو علي والأئمة بعده .... أمشتدة منكم عليه الشكائمُ
وَهل قائم منكم له بفريضة .... فإن ابتداعات الأعادي قوائمُ
وَهل عَاملٌ لله لاشيء غيره .... ومجتهد فالأمر والله لازمُ
إذا لم يكن فيكم ظهور حمية .... عَلى مذهب الهادي وإن لام لائمُ
فلا نشرت للعلم فيكم دفاترٌ .... ولا لُويَت للفضل منكم عَمائمُ
تمت القصيدة المفيدة
ـــــــــــــــــــ

(1/53)


[مبتدأ الأسئلة وإجاباتها]
المسألة الأولى:
ما الذي تراه الزيدية ـ كثر الله تعالى محافلها، وحرس عن بدع المخالفين مقاولها ـ في مظهر التمسك بمذهب العترة النبوية، وهو يذهب أن طريق الإمامة العقد والإختيار ؟ وأنّ حصر الإمامة في أولاد البطنين محدث ضعيف ؟ ويرى تصويب المتقدمين على أمير المؤمنين علي بن أبي طالب - عليه السلام - ؟ ويعتقد أن علياً كرم الله وجهه كواحد من الصحابة، لا فضل له على واحد منهم بخلة من خلال الفضل ؟ ويتأول حديث الغدير وأمثاله من نصوص الكتاب والسنة ؟ ويرجح ما تقوله المعتزلة أن الولي والمولى بمعنى الناصر فقط ؟ ويتّبع النصوص الواردة في إمامة علي عليه السلام فيتأولها واحداً واحداً، نافياً لها عن أن تكون دالة على إمامته - عليه السلام، جاعلاً ما ورد عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم في علي عليه السلام، منه ما هو آحادي فلا يقبل، ومنه ما ورد في معنى الفضل لا التفضيل لمن ورد فيه على غيره، كخبر الغدير وخبر المنزلة وخبر الطير وأمثالها ؟
ويقول: له بهذه الأخبار وما يشابهها فضل ما، وأما الضرب الثالث مما ورد فيه عليه السلام شئ لم يقل به إلا الإمَامية وقصاص الأخبار الذين يقال لهم في اللغة المجلوزين، قال: وما كان هذا سبيله فلا يجوز الاعتماد عليه، ولا ينبغي تصديقه.
هذا كلامه، ويرى كلام الأئمة وعلماء الزيدية هذياناً لا يعتد به عنده إلاّ كلّ مائقٍ مألوس، ويظهر اشتداده بهذه الفضيلة، واختصاصه بهذا التحقيق في علماء الأوان، هل يعد هذا من الزيدية، والمتمسكين بمذهب العترة النبوية ؟ وما حكمه ؟ وما الذي يجب في معاملة الزيدية له ؟ ومايستحب في ذلك ؟ وما تجوز معاملته به ؟ فقد عظمت محنته ونجمت نجوم قرن الماعز بدعته.
والجواب والله الهادي إلى الصواب ينحصرفي أربعة مطالب: الأول: في حكم صاحب هذه المقالة، والثاني: هل يعد من الزيدية، والثالث: في بيان ما تجب معاملته، وما يستحب في ذلك وما يجوز وما لا يجوز، والرابع: في الإشارة إلى الجواب عن مقالته.

(1/54)


[حكم صاحب هذا الرأي]
* أما المطلب الأول وهو في حكمه: فحكمه الخطأ بما ارتكبه من إنكار النصوص الشريفة الواردة في إمامة علي عليه السلام وتفضيله، وقد زاد على جماهير المعتزلة في الخطأ ؛ لأنهم وإن أجمعوا على تصويب المتقدمين على أمير المؤمنين، فقد اختلفوا في التفضيل، قال ابن أبي الحديد(108) صاحب شرح نهج البلاغة الكبير: "مذهب بشر بن المعتمر وأبي موسى وجعفر بن مبشر وسائر قدماء البغداديين إن أفضل المسلمين علي عليه السلام"، قال: "والمراد بالأفضل أكثرهم ثواباً، وأكبرهم في دار الجزاءِ منزلة"، وحكى هذه المقالة عن الشيخ أبي عبد الله البصري، ونسبها إلى البغداديين، وبه قال أبوالحسين الخيَّاط، وتلامذة أبي القاسم البلخي، كلهم قالوا بها،
___________________
([108]) - قال الإمام الحجة / مجدالدين بن محمد بن منصور المؤيدي أيده الله تعالى في لوامع الأنوار ج/1/469:
وأشهر شروحه [أي: نهج البلاغة]، وأبسطها وأجلّها، وأكملها وأبهجها، شرح البحر المتدفق، والحبر المحقق المدقق، العالم النحرير، والحافظ الكبير، عز الدين، أبي حامد، عبد الحميد بن هبة الله بن محمد المدايني، الشهير بابن أبي الحديد المعتزلي، المتوفى سنة خمس وخمسين وست مائة، من علماء العدل والتوحيد، القائمين بحق الله ورسوله ووصيه وأهل بيت نبيه صلى الله عليه وآله وسلم .
ويلوح للمنتقد من لمحات كلامه لزوم ما عليه أئمة العترة المطهرة ـ عليهم السلام ـ ويفوح للمختبر من نفحات مرامه الحوم حول طرائقهم النيرة .
ولعله منعه عن المصارحة في الأغلب إظهار النصفة للخصوم، لعل لها عذراً وأنت تلوم، وقد كان تحت وطأة الدولة العباسية فعذره في ذلك معلوم، إلا أنه يصمم في بعض المقامات، على بعض الأقوال، تصميماً لا يتضح الحامل عليه، ولا يظهر الملجئ إليه .
وعلى كل حال فشرحه ذلك بغية المرتاد، لكل مراد .

(1/55)


وحكى صاحب الشرح المذكور، أن رأي المعتزلة استقر بعد خلاف كثير بينهم في التفضيل وغيره أن علياً أفضل الجماعة(115)، وأنهم تركوا الأفضل لمصلحة رأوها، وأن علياً عليه السلام، نازع، ثم بايع، وأحجم، ثم أصحب، ولو أقام على الإمتناع، لم نقل بصحة البيعة، ولا بلزومها، ولو جرّد السيف كما جرّده آخر الأمر؛ لقلنا بفسق كل من خالفه على الإطلاق كائناً من كان، قال: "وبالجملة فإن أصحابنا يقولون: إن الأمركان له، وكان هو المستحق والمتعين، إن شاء أخذه لنفسه، وإن شاء ولاّه غيره، فلما رأيناه قد وافق على ولاية غيره،
_____________
([115]) - قال الإمام الحجة / مجدالدين بن محمد بن منصور المؤيدي أيده الله تعالى في لوامع الأنوار ج/1/470:
ولما بلغ [أي ابن أبي الحديد في شرح النهج] إلى القول في التفضيل ، قال : وقال البغداديون قاطبة، قدماؤهم ، ومتأخروهم ، كأبي سهل بشر بن المعتمر ، وأبي موسى عيسى بن صبيح ، وأبي عبدالله جعفر بن مبشر ، وأبي جعفر الإسكافي.
قلت : هو محمد بن عبدالله ، صاحب الكتاب العظيم في الرد على الجاحظ ؛ لأن الجاحظ والنظام، وأمثالهما من البصريين المائلين عن أمير المؤمنين عليه السلام، وغير مستنكر منهم، وكلام الوصي في البصرة وأهلها معلوم .
قال : وأبي الحسين الخياط ، وأبي القاسم عبدالله بن محمود البَلْخِي ، وتلامذته [قالوا] : إن علياً عليه السلام أفضل من أبي بكر ، وإلى هذا المذهب ذهب من البصريين أبو علي محمد بن عبد الوهاب الجبائي .
إلى قوله : وقال ـ أي قاضي القضاة ـ: إن أبا علي رضي الله عنه يوم مات استدنى ابنه أبا هاشم إليه، وقد كان ضعف عن رفع الصوت ، فألقى إليه أشياء، من جملتها القول بتفضيل علي عليه السلام.
وممن ذهب من البصريين إلى تفضيله عليه السلام: الشيخ أبو عبدالله الحسين بن علي البصري رضي الله عنه، كان متحققاً بتفضيله، ومبالغاً في ذلك ، وصنف فيه كتاباً مفرداً ، وممن ذهب إلى تفضيله عليه السلام من البصريين قاضي القضاة أبو الحسن عبد الجبار بن أحمد رضي الله عنه .
ومن البصريين الذاهبين إلى تفضيله عليه السلام ، أبو محمد الحسن بن مَتَّويه ، صاحب التذكرة ، نص في كتاب الكفاية على تفضيله عليه السلام على أبي بكر واحتجّ لذلك ، وأطال الاحتجاج.
إلى قوله : وأما نحن فنذهب إلى ما يذهب إليه شيوخنا البغداديون من تفضيله عليه السلام ، وقد ذكرنا في كتبنا الكلامية ما معنى الأفضل ، وهل المراد به الأكثر ثواباً أم الأجمع لمزايا الفضل ، والخلال الحميدة؟ وبيّنا أنه عليه السلام أفضل على التفسيرين معاً .
ثم ساق في بيان أحوال الوصي رضوان الله عليه ، وأبان في خلال ذلك استناد جميع العلوم من جميع الفرق إليه .
وقال في حكاية مذهب البغدادين في الإمامة مانصه : إنه الأفضل ، والأحق بالإمامة .
إلى قوله: فرسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أخبره أن الإمامة حقه ، وأنه أولى بها من الناس أجمعين إلى قوله : ولم يخرجه من تقدم عليه من كونه الأفضل والأولى والأحق ؛ وقد صرح شيخنا أبو القاسم البلخي رحمه الله تعالى بهذا ، وصرح به تلامذته ، وقالوا : لو نازع عقيب وفاة رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ، وسلّ سيفه، لحكمنا بهلاك كل من خالفه وتقدّم عليه ، كما حكمنا بهلاك من نازعه حين أظهر نفسه ، ولكنه مالك الأمر ، وصاحب الخلافة ، إذا طلبها وجب علينا القول بتفسيق من ينازعه فيها ، وإذا أمسك عنها وجب علينا القول بعدالة من أغضى له عنها؛ وحكمه في ذلك حكم رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ؛ لأنه قد ثبت عنه في الأخبار الصحيحة أنه قال : ((علي مع الحق، والحق مع علي ، يدور حيثما دار)) .
وقال له غير مرة : ((حربك حربي ، وسلمك سلمي)) .
وهذا المذهب هو أعدل المذاهب عندي ، وبه أقول . انتهى، انتهى من اللوامع.

(1/56)


اتّبعناه، ورضينا بما رضي".
هذا كلام علماء المعتزلة رواه عنهم خرّيت مذاهب مذاهبهم، وقد أردنا بيان مذهبهم في تفضيل علي عليه السلام، وإن كان في كلامهم دعوى موافقته عليه السلام للقوم، والرضى بما أقدموا عليه، فهذا ليس من مذهبنا، وربما يعرض من الكلام في المطلب الرابع ما يبطل هذه الدعوى إن شاء الله تعالى.
هذا وقد روي توقف أبي علي وأبي هاشم في تفضيل علي عليه السلام، وفي الرواية المتقدمة عن ابن أبي الحديد مَا يخالف ما روي عن أبي علي وأبي هاشم من التوقف ؛ لأنه أطلق الرواية عن المعتزلة في تفضيل علي عليه السلام، وقال: هو المستقر من مذهبهم، وظاهره العموم، ولا تصدر هذه الرواية عن عالم كبير إلا بعد خبرةٍ و تحقيق لما رواه، فلعل أبا علي وأبا هاشم قد رجعا عن التوقف إلى القول بتفضيل علي عليه السلام على من تقدم من الصحابة، وهذا الذي يليق بهما لرسوخ أقدامهما في التحقيق.
وأما قاضي القضاة، فقد صرح أن علياً عليه السلام أفضل من الثلاثة، فحصل من هذه النبذةِ أن صاحب المقالة المتقدمة قد زاد في خطأه على المعتزلة، وخرج عن مذهبهم في التفضيل، والمعلوم من إجماع العترة النبوية أن المعتزلة أخطأت في إنكار النصوص الواردة في إمامة الفاروق الأزهر.

(1/57)


قال الشيخ العلامة سيف الأصوليين أحمد بن محمد بن الحسن الرصاص في كتابه المعروف "بمنهاج الإنصاف العاصمة عن شب نار الخلاف" ـ بعد أن أطال الثناءَ على المعتزلة حتى قال ما لفظه ـ:
وإن كانت الهفوة لا تعصمهم، فللجواد كبوة، وفي الحسام نبوة، وإن كنا لا نحمدهم، بل نقول: إنهم قصَّروا في حق علي عليه السلام تقصيراً فتّ عضد تحقيقهم، وغيَّر في وجه تدقيقهم، ونقول ـ مع ذلك ـ: "بأنهم سقوا من فضالة الزيدية، وشرفوا باتباع العترة النبوية"، هذا كلام الشيخ صاحب الجوهرة، فقد بان بما ذكرناه زيادة صاحب هذه المقالة في الخطأ على مشائخ المعتزلة، وأنه كما تقول العامة في أمثلتها: "زاد على معلمه"، ومن أمثال العرب: "هذا أجل من الحرش".
[عدم انتسابه إلى الزيدية]
* وأما المطلب الثاني وهو في بيان هل يعد من الزيدية ؟
فالذي تقررت عليه قواعد مذهب الزيدية، شيد الله أركانه، هو القول بأن علياً عليه السلام، هو الإمَام بعد رسول الله – صلى الله عليه وآله وسلم -، وأن المتقدم عليه مخطٍ بتقدمه، لا خلاف في الخطأ من المشائخ الثلاثة عند المحققين من الزيدية، وقد قيل أن القول يجمع الزيدية، أعني القول بخطأ من تقدم على علي عليه السلام في الإمامة، وإن اختلفوا في الخطأ وأحكامه، كما هو معروف في كتبهم ومقالاتهم.

(1/58)


فحصل بما قلناه أن صاحب هذه المقالة لا يعد من الزيدية رأساً.
قال الإمام المنصور بالله عليه السلام: في كتابه المعروف "بالكاشف للإشكال في الفرق بين التشيع والإعتزال": وسألت عمن رَضَّى عن الخلفاء، ويُحَسِّنُ الظن بهم من الزيدية، ويقول أنا أُقَدِّم علياً، وأرضّي عن المشائخ، ما يكون حكمه ؟ وهل تجوز الصلاة خلفه ؟
قال الإمام المنصور بالله: "الجواب عن ذلك: أن هذه المسألة غير صحيحة، فيتوجه الجواب عنها ؛ لأن الزيدية على الحقيقة هم الجارودية، ولا نعلم في الأئمة عليهم السلام من ليس بجارودي، وأتباعهم كذلك.
وأكثر ما نُقل وصح عن السلف هو ما قلناه على تلفيق واجتهاد، وإن كان الطعن والسب من بعض الجارودية ظاهر، وإنما هذا رأي المحصّلين منهم، وإنما هذا القول قول بعض المعتزلة، يفضلون علياً، ويرضُّون على المشائخ، وليس هذا يطلق على أحد من الزيدية ؛ لأنا نقول: قد صح النص على أمير المؤمنين من الله تعالى، ومن رسول الله - صلى الله عليه وآله وسلم -، وصحت معصية القوم وظلمهم وتعديهم لأمر الله سبحانه، وإن كانت جائزة المعصية والترضية فما أبعد الشاعر في قوله:-
فويل تالي القرآن في ظلم الليـ .... ـل وطوبى لعابد الوثن

(1/59)


ومن حاله ما ذكرت لم يعد من الزيدية رأساً، وإنما هذا قول بعض المعتزلة، وصاحب هذا القول معتزلي لا شيعي ولا زيدي، وأجمل من قال في أبي بكر وعمر وعثمان - من آبائنا عليهم السلام - إنما هو المؤيد بالله عليه السلام، ونهاية ما ذكر أنهم لايُسبون، وأن سبهم لا يصح عن أحد من السلف الصالح عليهم السلام.
وأما الترضية فهذا يوجب القطع على أن معصيتهم صغيرة، فان أوجدنا صاحب المقالة البرهان على أن معصيتهم صغيرة تابعناه، فليس على مُتَّبع الحق غضاضة، ولكنه لا يجد السبيل إلى ذلك أبداً، أو عصمتهم، ولا قائل بذلك من الأمة، وشاهد الحال لو ادعى ذلك لفضحه ؛ لأن طلحة وَ الزبير كانا من أفاضلهم، وقد صح فسقهما بالخروج على إمام الحق ؛ وإنما رويت توبتهما، ولم يروَ عن الثلاثة توبة عما أقدموا عليه من الإمامة وتأخير علي عليه السلام عن مقامه الذي أقامه الله تعالى فيه ورسوله.
وأما الصلاة خلف من ذكرت، ففي الصلاة خلاف طويل، وقد أجازها الأكثر خلف المخالفين، مالم تكن مخالفتهم كفراً، فالأمر في ذلك أهون، والإحتراز من الصلاة خلف من يقول بذلك أولى"، تم كلام المنصور بالله منقولاً من كتابه المذكور.

(1/60)


والقصد بيان قوله عليه السلام: "إن من قال بهذه المقالة لا يعد من الزيدية رأساً"، وقد استوفيت كلامه عليه السلام في المسألة لشدة الحاجة إليه، وإيضاح مذهب الزيدية في ذلك.
وقال الإمام المؤيد بالله عليه السلام، يحيى بن حمزة في كتابه المسمى "مشكاة الأنوار للسالكين مسالك الأبرار" ـ على شدة ذبه عن المشائخ، ومبالغته في نصرة سلامتهم من التضليل ـ: "ونحن وإن قلنا بأن النصوص الواردة في إمامة أمير المؤمنين علي عليه السلام قاطعه، فخطأهم في النظر فيها لا يوجب كفراً ولا فسقاً"، تم كلامه.
وإنما قصدنا بذكره بيان حكمه في الخطأ، فقد صح أن صاحب هذه المقالة المتقدمة ليس من الزيدية في ورد ولاصدر، وأن إظهاره للتمسك بمذهب أهل البيت مخرفة لا صحة لها.
وأما التفضيل والكلام في أمره فلم نتعرّض لذكره لظهور مذهب أئمتنا وساداتنا وعلمائنا في ذلك، وما أحسن هاهنا ما قاله الزبيري لبشر المريسي حين قال له بشر: "أتفضل علياً على أبي بكر وعمر؟
قال الزبيري: لا.
قال: أفتقول إنهم في الفضل سواء؟
قال: لا.
[قال: أفتقول إنهما أفضل من علي؟
قال: لا] .
قال: فكيف ؟.

(1/61)


فقال الزبيري: وجدت الأشياء شيئين، شكلاً وضداً، فمتى وجد شئ يشاكل شيئاً فيجري مجراه ولا يسوّى به، ووجدت من شبه الشكل بغير شكله، وقاس الجنس بغير جنسه، نسب إلى الجهل وقلة التمييز، وذلك أنه لا يقال الليل أضوَأ أم النهار ؟ ولا الصبر أحلى أم العسل ؟ لأن أحدهما لا يشبه صاحبه، ولا هو من جنسه، وإنما يقال: الشمس أضوأ أم القمر؟ ويقال: العسل أحلى أم السكر ؟ فيقال العسل ؛ لأنهما من جنس واحد، وأحدهما أحلى من صاحبه وأضوأ، وكذلك وجدنا الناس جنسين، جنس نبؤة؛ وجنس رعية؛ ولا يقاس أحدهما بصاحبه؛ فلذلك لا يقال علي أفضل أم أبوبكر؟ لأنه لا يشبهه، ولأنهما ليسا من جنس واحد.
ولكن يُقال النبي صلى الله عليه وآله وسلم أفضل أم ابن عمه علي عليه السلام؟، فيقال: النبي صلى الله عليه وآله وسلم أفضل من علي عليه السلام، ويقال علي أفضل أم الحمزة وجعفر والعباس رضي الله تعالى عنهم ؟
فيقال علي عليه السلام.
وجائز أن يقال: أبو بكر أفضل أم عمر أم عثمان أم طلحة أم الزبير ؟ لأن النبي صلى الله عليه وآله وسلم - كذلك ألفهم حين آخى بين الصحابة، وآخى بين نفسه صلى الله عليه وآله وسلم وبين علي عليه السلام ؛ لأنه من شكله في الجنس ونظيره في المولد، شعراً:-
إن علي بن أبي طالب .... جدا رسول الله جداه
أبو علي وأبو المصطفى .... من طينة طهرها الله

(1/62)


وقد قال صلى الله عليه وآله وسلم بإجماع المسلمين لعلي عليه السلام: ((يا علي إنك أخي وأنا أخوك في الدنيا والآخرة))(135)، مناظرة الزبيري إلى آخرها، وإنما أردنا الإشارة، لا الإطالة في العبارة.
________________
([135]) - قال الإمام الحجة مجدالدين بن محمد بن منصور المؤيدي أيده الله تعالى في لوامع الأنوار ج/2/514:
وقال ـ صلى الله عليه وآله وسلم ـ لعلي (ع): ((أنت وصيي)) رواه محمد بن سليمان الكوفي عن زيد بن علي، عن أبيه، عن جده، عن علي (ع)؛ ورواه عن زيد بن أرقم، من طريقين.
وروى أيضاً عن الباقر (ع) قوله ـ صلى الله عليه وآله وسلم ـ: ((يا علي أنت أخي ووصيي، وأنت أمين النبيين؛ وخاتم الوصيين)).
وروى أيضاً بسنده عن الباقر (ع) من حديث الإسراء: ((فقلت: يا جبريل من هؤلاء؟
قال: هؤلاء ملائكة يقال لهم: الأوابون، فسمعتهم يقولون: محمد خير الأنبياء، وعلي خير الأوصياء...إلخ)).
وروى بإسناده إلى أبي رافع عنه ـ صلى الله عليه وآله وسلم ـ قال: ((أما ترضى يا علي أنك أخي في الدنيا والآخرة، وأنك خير أمتي في الدنيا والآخرة، وأن امرأتك خير نساء أمتي في الدنيا والآخرة، وأن ولديك سيدا شباب أمتي في الدنيا والآخرة، وأنك أخي ووزيري ووارثي)).
وخطب علي (ع) فقال: (أنا عبدالله وأخو رسوله، لا يقولها أحد قبلي ولا بعدي إلا كذاب؛ ورثت نبي الرحمة، ونكحت سيدة نساء هذه الأمة، وأنا خاتم الوصيين)، أخرجه محمد بن سليمان بسنده إلى أبي البحتري الأنصاري، والأصبغ بن نباتة، وهو في شرح النهج عن حكيم بن جبير، شرح نهج البلاغة. انتهى.
وقال الإمام الحجة مجدالدين بن محمد بن منصور المؤيدي أيده الله تعالى في لوامع ج/1/115:
وروى الإمام الحجة المنصور بالله عليه السلام في الشافي، عن مجدوح بن زيد الهذلي، أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم آخى بين المسلمين، ثم قال: ((يا علي أنت أخي مني بمنزلة هارون من موسى، غير أنه لانبي بعدي ؛ أما علمت يا علي، أنه أول من يدعا به يوم القيامة يدعا بي ؛ فأقوم عن يمين العرش، فأُكسى حلة خضراء من حلل الجنة، ثم يدعا بالنبيين بعضهم على إثر بعض أيأيأيك منتلخهض، فيقومون سماطين عن يمين العرش، ويكسون حللاً خضراً من حلل الجنة ؛ ألا وإني أخبرك يا علي، أن أمتي أول الأمم يحاسبون يوم القيامة ؛ ثم أنت أول من يدعا ؛ لقرابتك ومنزلتك عندي، ويدفع إليك لوائي، وهو لواء الحمد، فتسير به بين السماطين، آدم عليه السلام وجميع خلق الله يستظلون بظل لوائي ؛ وطوله مسيرة ألف سنة)) الخبر، الشافي.
قال في تفريج الكروب: رواه أحمد بن حنبل عن مجدوح بن زيد الهذلي، ورواه الخوارزمي في فصوله. انتهى.
قال أيده الله تعالى في التخريج: ورواه الخوارزمي، وابن المغازلي عن عطية بن زيد الباهلي، ورواه الأكوع بسنده إلى عطية في الأربعين، ورواه الفقيه حميد الشهيد بطريقه إلى ابن المغازلي بسنده إلى زيد الباهلي، ورواه أحمد في مسنده، وفي كتاب فضائل علي انتهى بتصرف .
قلت: وقد تقدم له رضي الله تعالى عنه مالفظه: وروى ـ أي محمد بن سليمان الكوفي رضي الله عنه ـ بإسناده إلى عبدالله بن أبي أوفى، قال: دعا رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أصحابه، إلى قوله صلى الله عليه وآله وسلم لعلي: ((إنما ادخرتك لنفسي، فأنت مني بمنزلة هارون من موسى، وأنت أخي ووصيي، ووارثي)) إلخ.
وقال صلى الله عليه وآله وسلم لعلي: ((فأنت مني بمنزلة هارون من موسى، وأنت أخي ووارثي)).
أخرجه أحمد بن حنبل عن زيد بن أبي أوفى من التفريج، انتهى.
وأخرج الإمام في الشافي، بسنده إلى أنس، من خبر طويل في المؤاخاة، قال فيه: فأخذ بيده فأرقاه المنبر وقال: ((اللهم إن هذا مني وأنا منه ؛ ألا إنه مني بمنزلة هارون من موسى ؛ ألا من كنت مولاه فهذا علي مولاه)).
قال: فانصرف علي عليه السلام، قرير العين، فاتبعه عمر بن الخطاب فقال: بخ بخ ياأبا الحسن، أصبحت مولاي ومولى كل مؤمن.
وقال حذيفة في حديثه: فرسول الله صلى الله عليه وآله وسلم سيد المرسلين، وإمام المتقين، ورسول رب العالمين، الذي ليس له شيبه ولا نظير، وعلي أخوه. انتهى، وقد جمع هذا الخبر الشريف خبر الموالاة والمنزلة والمؤاخاة، انتهى.
وفي المعجم الكبير 1/319 برقم 949: أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قال لعلي: (( أما ترضى أنك أخي وأنا أخوك)).

(1/63)


وقد روي عن الشافعي رضي الله عنه في التفضيل هذه الأبيات:-
يقولون لي فضل علياً عليهم .... ولست أقول الدر خير من الحصا
إذا أنا فضلت الإمام عليهم .... أكون لمن فضلته منتقصا
أمَا هو عار في الحسام وسبة .... متى قيل هذا السيف أمضى أم العصا
وقد أجاد - رحمه الله تعالى - واستكمل الإحسان في هذه الأبيات الغريبة، ولا ريب في محبته لأهل البيت عليهم السلام، ومدائحه فيهم ظاهرة، وسوف يعرض من الكلام ما يكون أليق بذكره نبذة من ذلك إن شاء الله تعالى.
[ما يعامل به]
* وأما المطلب الثالث: وهو في بيان ما يعامل به صاحب هذه المقالة: فالذي يعامل به يختلف فيه الحال، فحين يظهر منه الاستخفاف بمذهب العترة النبوية، وتضعيف أقوالهم، واستركاك كلامهم في هذه المسألة، وما يتعلق بها، ونسبة الخطأ إليهم في أقوالهم ومذاهبهم، فإنه يجب الإنكار عليه، ومنعه من التدريس بهذا التلبيس، وللإمام والحاكم وأهل الولايات العامة النظر في أمره بما يرونه مصلحة من أنواع التأديبات، ويستحب مراجعته بالتي هي أحسن حين يرجو رجوعه إلى الحق، وتجوز الغلظة عليه في الكلام حين الأياس من ذلك، ولا يجوز لعنه ولا سبه ما لم يظهر من قوله ما يوجب شيئاً من هذه الأمور.
إن قلت: يلزم هذا الحكم في علماء المعتزلة، قلت: لا سواء ؛ لأن علماء المعتزلة وإن ذهبوا إلى تصويب المتقدمين على أمير المؤمنين، فلم يظهر على أحد منهم نسبة الخطأ إلى العترة المطهرة ولا استهانة بأقوالهم، وأكثر ما ظهر منهم الحجاج والجدال في المسألة، كما هو دأب العلماء.
ووجه آخر وهو أن من نبغ في بحبوحة بلاد الزيدية مسفهاً لحلومها، مخطئاً لعلومها، مصوباً لخصومها، مهجناً لأئمتها، مزيفاً لأدلتها، متركاً لأقوالها، منهوماً بخلالة أحوالها، فإنه مخالف لغيره مما ليس على هذه الصفات الذميمة، والطرائق غير المستقيمة.

(1/64)


وقال مولانا أمير المؤمنين الناصر لدين الله محمد بن أمير المؤمنين - عليهما السلام - مَا معناه أن بعض أئمة العترة قال ـ فيمن اقتعد في مساجد الزيدية يقرأ في علوم خصومهم، ويفري أديم أقاويل العترة وعلومهم ـ: إن من فعل ذلك يمنع من القراءة في مساجد الزيدية.
وأظن القائل بهذه المقالة حي والده مولانا الإمام المهدي لدين الله عليه السلام لأني سمعت من يروي عن حي الإمام عليه السلام شيئاً من هذا القبيل، وإذا تمرد ذلك وخالف هذا المشار إليه أمر الإمام حين يمنعه من الإقراءِ في مساجد الزيدية، كان للإمام تأديبه بما يراه.
وقال المؤيد بالله يحيى بن حمزة(143) عليه السلام في كتابه "مشكاة الأنوار" مَا هو أبلغ من هذا وهو أنه قال: "للإمام قتل الناس حتى يتركوا المنكرات، ويحملهم على سلوك الطريقة الوسطى مقتفين لآثار أئمة العترة"، هذا كلامه بلفظه، ولا شك أن نسبة الخطأ إلى الأئمة من المنكر.
___________________
([143]) - قال الإمام الحجة مجدالدين بن محمد بن منصور المؤيدي أيده الله تعالى في التحف شرح الزلف ط/3/270:
هو الإمام المؤيد بالله أبو إدريس يحيى بن حمزة بن علي بن إبراهيم بن يوسف بن علي بن إبراهيم بن محمد بن أحمد بن إدريس بن جعفر الزكي بن علي التقي بن محمد الجواد بن الإمام علي الرضى بن موسى الكاظم بن جعفر الصادق بن محمد الباقر بن سيد العابدين علي بن الحسين السبط بن الإمام الوصي عليهم السلام.
هذا الإمام من منن الله على أرض اليمن، وأنواره المضيئة في جبين الزمن، نفع الله بعلومه الأئمة، وأفاض من بركاته على هذه الأمة، وله الكرامات الباهرة، والدلالات الظاهرة.
قيامه: بعد وفاة الإمام محمد بن المطهر سنة تسع وعشرين وسبعمائة.
وقد ذكر والدنا الإمام المهدي لدين الله محمد بن القاسم الحسيني الحوثي في تراجمه لآبائه عليهم السلام من كراماته عليه السلام ما يكفي ويشفي، وقد ذكرت ذلك آخر الموعظة الحسنة [مطبوع]، وقد ذكر كرامات الإمام وخصائصه علماء الأمة.
إلى قوله أيده الله تعالى: وفاته: سنة تسع وأربعين وسبعمائة، عن اثنتين وثمانين سنة، مشهده بمدينة ذمار، وكان يُسمع وقت وفاته نداء لفظه: إمام علم وهدى.
وخرج لزيارة الإمام يحيى بن حمزة من الجيل والديلم الشريف العالم العابد المجتهد الراسخ أحمد بن مير ـ بميم مكسورة فمثناة تحتية فراء بمعنى سيد ـ بن الناصر (الحسني) ينتهي نسبه إلى الحسن بن زيد بن الحسن بن علي عليهم السلام، فوجد الإمام يحيى قد توفي، وأوصل نسخة الجامع الكافي جامع آل محمد إلى اليمن وعليها خطوط العلماء من الزيدية ووقفها على المسلمين.

(1/65)


وقال أمير المؤمنين علي بن أبي طالب صلوات الله عليه ـ في تقسيم أحوال المنكرين للبدع وأنواع المنكر ما هذا لفظه ـ: (ومنهم المنكر للمنكر بيده ولسانه وقلبه، فذلك المستكمل لخصال الخير، ومنهم المنكر بلسانه وقلبه والتارك بيده، فذلك مستمسك بخصلتين من خصال الخير ومضيع خصلة، ومنهم المنكر بقلبه والتارك بيده ولسانه، فذلك الذي ضيع أشرف الخصلتين من الثلاث، وتمسك بواحدة، ومنهم تارك لإنكار المنكر بلسانه وقلبه ويده، فذلك ميت الأحياء) تم كلامه عليه السلام.
فالواجب على كل مسلم الإنكار على صاحب المقالة المتقدمة ؛ لأنها من المنكر، وكل في الإنكار على قدر حاله، والخارج من هذه التقاسيم المذكورة في كلام الوصي عليه السلام ميت الأحياء والمعنى أنه لا نفع فيه، كما أن الميت لا نفع فيه، أو لا تنفعه حياته في إحراز الثواب والأجر بهذا بالعمل الصالح فكان حاله كالميت.
إن قلت: هما على سواء، فما الفرق بين من لا نفع فيه أو لا تنفعه حياته في إحراز الثواب ؟
قلت: فرق بينهما، فالمراد بالأول لا نفع فيه أصلاً أولا تنفعه أي الحياة في إزالة هذا المنكر من دون نظر إلى ثواب يكتسبه بإزالته، وبالثاني غرض اكتساب الثواب وإحراز الأجر في إزالة المنكر.

(1/66)


[الجواب على صاحب هذه المقالة]
* وأما المطلب الرابع في الجواب على صاحب هذه المقالة الغائلة، والعقيدة المائلة، فالقصد هاهنا إنما هو التنبيه على الجواب في قول صاحب هذه المقالة الفاسدة: إن المولى بمعنى الناصر، وتأويله لخبر الغدير على هذا المعنى، وإنكاره أن يكون في الآية دلالة على إمامة علي عليه السلام، وهي قوله تعالى: {إِنَّمَا وَلِيُّكُمُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَالَّذِينَ ءَامَنُوا الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلَاةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَهُمْ رَاكِعُونَ(55)}[المائدة] لا الكلام في الإمامة بطولها وأفانينها، إذ كانت بحمد الله مستوفاة بالأدلة الواضحة، والبراهين اللائحة، في غير كتاب من تصانيف أئمتنا وساداتنا وعلمائنا، ومن أراد استيفاءَ الكلام، فليقصد مصنفات الزيدية وعلمائها في هذه المسألة، كالدعامة للسيد أبي طالب عليه السلام وشرحه للفقيه علي بن زيد الجيلاني مجلدان كبيران، وكتاب تثبيت الإمامة للقاسم عليه السلام، وإنه عليه السلام كما وصفه الفقيه حسام الدين حميد بن أحمد أحسن فيه كل الإحسان في نصرة مذهب الزيدية في تقديم أمير المؤمنين عليه السلام على المشائخ، وأورد من الأسئلة العجيبة في هذا المعنى على المتقدمين عليه بما يشهد بأنه البحر الزخّار، والقمر النوّار، والغمام المدرار، ومن التصانيف المشهورة في مسألة الإمامة كتاب الإمام

(1/67)


المنصور بالله عليه السلام المعروف "بالشافي" فإنه عليه السلام بسط فيه من الكلام، ما هو شفاء للأوام، ودواءٌ للأسقام إلاّ الداء العقام، فما دواؤه إلا الحسام.
ومن ذلك أيضاً كتاب الإمامة من تصانيف الهادي - عليه السلام- وعلى الجملة ما نعلم في الغالب إماماً من أئمتنا عليهم السلام سابقاً ولا مقتصداً إلا وله كلام في مسألة الإمامة، إما تصنيف بسيط في هذه المسألة أو وسيط أو مختصر، وكل ذلك موجود بحمد الله تعالى، وأئمة الزيدية قدر مائة إمَام، ذكره الفقيه محمد الديلمي رحمه الله تعالى.

(1/68)


ولا يبعد أن تكون التصانيف منهم في هذه المسألة هذا القدر في العدد أو تزيد، و من علمائنا البحور الزواخر، ولهم في هذه المسألة التصانيف الفائقة، والرسائل الرائقة، ولو لم يكن إلاّ كتاب "فائض المحيط" في مسألة الإمامة، للقاضي شمس الدين جمال الإسلام والمسلمين جعفر بن أحمد بن أبي يحيى رضوان الله عليه، ومن تصانيف المتأخرين الجزء الثالث من كتاب "المحجة البيضاء"، لحي الفقيه العلامة حسام الدين عبدالله بن زيد المذحجي، رضي الله عنه، و"محاسن الأزهار في مناقب العترة الأطهار"، لحي الفقيه الشهيد حميد بن أحمد، رضي الله عنه، و"النجم الثاقب في إمامة علي بن أبي طالب" عليه السلام، لحي الشيخ الإمام الزاهد أحمد بن حسن الرصاص، رضي الله عنه، ومنهاج السلامة في مسائل الإمامة، للشيخ العالم محمد بن أحمد بن الوليد القرشي، رحمه الله تعالى.
وكم عسى أن يذكر الذاكر؟ إن في البحر للغريق لَعُذْراً واضحاً أن يفوته تعداده.
وإنما قصدنا في هذا المختصر تنبيه في الرد على صاحب هذه المقالة الفرية.
وتمام هذا التنبيه بإيراد ثلاث نكت: الأولى في بيان الآية الشريفة، والثانية في بيان خبر الغدير، والثالثة في جواب الخيالات التي عوّل عليها صاحب المقالة المذكورة.

(1/69)


[معنى الآية الشريفة]
أما النكتة الأولى: فالكلام منها يقع في موضعين:
1- الأول: في أن أمير المؤمنين عليه السلام هو المراد بها.
2- والثاني: أن ذلك يفيد معنى الإمامة.
أما أنه عليه السلام المراد بها دون غيره، فلوجهين:
* أحدهما إجماع أهل النقل والتفسير على تباين أغراضهم إلاّ من لا يعتد به أنها نزلت في علي عليه السلام، وأنه المتصدق بخاتمه دون غيره.
* وثانيهما: أنه لا يجوز أن يكون المراد بها غيره لوجوه ثلاثه:
أولها: أن الله وصف المولى في هذه الآية بصفة لم توجد في غيره عليه السلام وهي الصدقة بخاتمه في حالة الركوع.
وثانيها: أن الآية واردة على وجه لا يصح أن تكون عامة في جميع المؤمنين ؛ لان ظاهرها يقتضي ثبوت ملك التصرف لمن ذكر فيها على المخاطبين بها، وهم المؤمنون، ومن المحال أن يكون الكل من المؤمنين أولياء ومولىّ عليهم في أمرٍ واحد، فيجب أن يكون المراد به بعض المؤمنين مالك التصرف عليهم دون سائرهم، وكل من قال أنّ المراد بها ذلك قال بأن ذلك البعض هو أمير المؤمنين.
وثالثها: إجماع العترة على ذلك، وإجماعهم حجة كما سيأتي بيانه، إن شاء الله تعالى.

(1/70)


[بيان خبر الغدير]
وأمَّا النكتة الثانية وهي في بيان خبر الغدير، فهو مما أجمع على صحته المؤالف والمخالف، وهو مذكور في الجمع بين الصحاح الستة، وفي صحاح السجستاني والترمذي، وفي مسند أحمد بن حنبل، وفي مناقب الفقيه بن المغازلي الشافعي، وإن اختلفت طرقه ورواياته، وزادوا في لفظه أو نقصوا، وهو قوله صلى الله عليه وآله وسلم: ((ألستم تعلمون أني أولى بكل مؤمن من نفسه))، قالوا: بلى، فأخذ بيد علي عليه السلام فقال: ((اللهم من كنت مولاه فعلي مولاه، اللهم وال من ولاه، وعاد من عاداه))، وفي رواية: ((وانصر من نصره، واخذل من خذله))(170)، وهناك قال عمر بن الخطاب: "بخ بخ لك يا ابن أبي طالب، أصبحت مولاي ومولى كل مؤمن ومؤمنه".
___________________
([170]) - الحديث: ((ألستم تعلمون أني أولى بكل مؤمن من نفسه))، قالوا: بلى، فأخذ بيد علي عليه السلام فقال: ((اللهم من كنت مولاه فعلي مولاه، اللهم وال من ولاه، وعاد من عاداه))، وفي رواية: ((وانصر من نصره، واخذل من خذله))، وهناك قال عمر بن الخطاب: "بخ بخ لك يا ابن أبي طالب، أصبحت مولاي ومولى كل مؤمن ومؤمنه".
قال الإمام الحجة مجدالدين بن محمد بن منصور المؤيدي أيده الله تعالى في لوامع الأنوار ج/1/38:
وخبر الموالاة معلوم من ضرورة الدين، متواتر عند علماء المسلمين، فمنكره من الجاحدين.
* أما آل محمد صلوات الله عليهم فلا كلام في إجماعهم عليه، قال الإمام الحجة، المنصور بالله عبد الله بن حمزة، عليهما السلام في الشافي، هذا حديث الغدير ظهر ظهور الشمس، واشتهر اشتهار الصلوات الخمس.
ومن كلامه عليه السلام ورفع الحديث مفرعاً إلى مائة من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم منهم العشرة، ومتن الحديث فيها واحد، ومعناه واحد، وفيه زيادات نافعة، في أول الحديث وآخره، وسلك فيه اثنتي عشرة طريقاً - يعني بهذا صاحب المناقب- قال الإمام عليه السلام: بعضها يؤدي إلى غير ما أدى إليه صاحبه من أسماء الرجال المتصلين بالنبي صلى الله عليه وآله وسلم، وقد ذكر محمد بن جرير صاحب التاريخ خبر يوم الغدير وطرقه من خمس وسبعين طريقاً، وأفرد له كتاباً سماه كتاب الولاية، وذكر أبو العباس أحمد بن محمد بن عقدة خبر يوم الغدير، وأفرد له كتاباً، وطرقه مائة وخمس طرق، ولاشك في بلوغه حد التواتر، ولم نعلم خلافاً ممن يعتد به من الأمة إلى آخر كلامه عليه السلام.
وكلام أئمة آل محمد صلوات الله عليهم في هذا المقام الشريف وغيره معلوم، في جميع مؤلفاتهم في هذا الشأن، وقد رواه السيد الإمام الحسين بن الإمام عليهما السلام في الهداية عن ثمانية وثلاثين صحابياً بأسمائهم غير الجملة كلها من غير طرق أهل البيت عليهم السلام، وقال السيد الحافظ محمد بن إبراهيم الوزير: إن خبر الغدير يروى بمائة وثلاث وخمسين طريقاً، انتهى.

(1/71)


تابع الحاشية [170]
_______________
* وأما غيرهم فقد أجمع على تواتره حفاظ جميع الطوائف، وقامت به وبأمثاله حجة الله على كل مؤالف ومخالف، وقد قال الذهبي: بهرتني طرقه فقطعت بوقوعه، وعده السيوطي في الأحاديث المتواترة وقال الغزالي في كتابه سر العالمين: لكن أسفرت الحجة وجهها وأجمع الجماهير، على خطبة يوم الغدير؛ وذكر الحديث، واعترف ابن حجر في صواعقه أنه رواه ثلاثون صحابياً، وذكره ابن حجر العسقلاني في تخريجه أحاديث الكشاف عن سبعة وعشرين صحابياً، ثم قال: وآخرون كل منهم يذكر أسماء أفرادهم غير الجملة مثل اثني عشر ـ ثلاثة عشر ـ جمع من الصحابة ـ ثلاثين رجلاً.
وقال المقبلي فيه في أبحاثه: فإن كان هذا معلوماً وإلا فما في الدنيا معلوم، انتهى.
ولو استوفيت من صرح به من العلماء بتواتره لطال المقام؛ وعلى الجملة أن خبر الغدير ومقدماته وما ورد على نهجه مما يفيد الولاية في ذلك المقام وغيره لاتحيط به الأسفار، ولا تستوعبه المؤلفات الكبار، وقد ألفت علماء الإسلام في ذلك الباب مؤلفات جامعة ومن أعمها جمعاً، وأعظمها نفعاً، من المؤلفات الحافلة بروايات آل محمد عليهم السلام وشيعتهم رضي الله عنهم ومخالفيهم تولى الله مكافأتهم: كتبُ الإمام الحجة عبدالله بن حمزة كالشافي، والرسالة النافعة والناصحة، والأنوار للإمام الأوحد الحسن بن بدر الدين محمد بن أحمد، وينابيع النصيحة لأخيه الحافظ الأمير الناطق بالحق الحسين بن محمد، واعتصام الإمام الأجل المنصور بالله عز وجل القاسم بن محمد، وشرح الغاية لولده إمام التحقيق ونبراس التدقيق، الحسين بن الإمام، ودلائل السبل الأربعة لحفيده جمال آل محمد علي بن عبدالله بن القاسم، وتفريج الكروب لإسحاق بن يوسف بن المتوكل على الله إسماعيل بن القاسم، وتخريج الشافي لعلامة العصر الأوحد [تحت الطبع] نجم آل محمد الحسن بن الحسين الحوثي رضي الله تعالى عنه، وغيرها من مؤلفات السابقين واللاحقين من الآل عليهم السلام وغيرهم، فهي واسعة العدد، طافحة المدد، وقد جمعت هذه المؤلفات بحمد الله فأوعت، وعمت فأغنت.

(1/72)


تابع الحاشية [170]
_______________
فأقول وبالله التوفيق: قد تقدمت رواية إمام اليمن، الهادي إلى أقوم سنن، في الأحكام عليه السلام وفي تفسير آل محمد من جوابات نجم آل الرسول القاسم بن إبراهيم صلوات الله عليهم [تحت الطبع]: وسألت عن قول النبي صلى الله عليه وآله وسلم: ((من كنت مولاه فعلي مولاه))، ((ومن كنت وليه فعلي وليه)) إلخ كلامه، وذكر الرواية في أن قوله تعالى: {الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي}[المائدة:3] الآية نزلت في حجة الوداع، قال أي نجم آل الرسول القاسم بن إبراهيم عليهم الصلاة والتسليم: والحج آخر مانزلت فريضته.
وأخرج الإمام المؤيد بالله عليه السلام في أماليه بسنده إلى كامل أهل البيت عبدالله بن الحسن بن الحسن بن علي صلوات الله عليهم قال: قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يوم غدير خم: ((أليس الله عز وجل يقول: {النَّبِيُّ أَوْلَى بِالْمُؤْمِنِينَ مِنْ أَنْفُسِهِمْ وَأَزْوَاجُهُ أُمَّهَاتُهُمْ وَأُولُو الْأَرْحَامِ بَعْضُهُمْ أَوْلَى بِبَعْضٍ}[الأحزاب:6])) قالوا بلى يارسول الله، فأخذ بيد علي عليه السلام فرفعها حتى رؤي بياض إبطيهما فقال: ((من كنت مولاه، فعلي مولاه، اللهم وال من والاه وعاد من عاداه وانصر من نصره)) فأتاه الناس يهنئونه فقالوا: هنيئاً لك يا ابن أبي طالب: أمسيت مولى كل مؤمن ومؤمنة.
وأخرج فيها أيضاً [الأمالي]من طريق الإمام الناصر للحق الحسن بن علي ووالده علي بن الحسن مسنداً إلى أبي عبدالله جعفر بن محمد الصادق عليهم السلام قال: قيل لجعفر بن محمد ما أراد رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم بقوله يوم غدير خم: ((من كنت مولاه فعلي مولاه، اللهم وال من والاه وعاد من عاداه)) فاستوى جعفر بن محمد قاعداً؛ ثم قال: سئل عنها والله رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فقال: ((الله مولاي أولى بي من نفسي لا أمر لي معه، وأنا مولى المؤمنين أولى بهم من أنفسهم لا أمر لهم معي، ومن كنت مولاه أولى به من نفسه لا أمر له معي فعلي مولاه أولى به من نفسه لا أمر له معه))، وأخرج فيها أيضاً [الأمالي]حديث المناشدة بسنده إلى عامر بن واثلة وفيه: ((هل فيكم من أحد نصبه رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم للناس ولكم يوم غدير خم فقال: ((من كنت مولاه فعلي مولاه اللهم وال من والاه وعاد من عاداه)) غيري قالوا اللهم لا..إلخ)).

(1/73)


تابع الحاشية [170]
_______________
وأخرج صاحب جامع آل محمد صلوات الله عليهم [ تحت الطبع] فيه عن الإمام الحسن بن يحيى بن الحسين بن الإمام الأعظم زيد بن علي عليهم السلام مالفظه: ثم دل على أن الإمام أمير المؤمنين وسيدهم علي بن أبي طالب فقال لنبيه صلى الله عليه وآله وسلم: {يَاأَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ مَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ وَإِنْ لَمْ تَفْعَلْ فَمَا بَلَّغْتَ رِسَالَتَهُ وَاللَّهُ يَعْصِمُكَ مِنَ النَّاسِ}[المائدة:67] فلما نزل جبريل بهذه الآية وأمر أن يبلغ ما أنزل إليه من ربه، أخذ بيد علي صلى الله عليه فأقامه وأبان ولايته على كل مسلم، إلى قوله: ذلك في آخر عمره حين رجع من حجة الوداع متوجهاً إلى المدينة ونادى الصلاة جامعة ولم يقل الصلاة جامعة في شيء من الفرائض إلا يوم غدير خم؛ ثم قال: ((أيها الناس ألست أولى بكم من أنفسكم)) يعيد ذلك ثلاثاً يؤكد عليهم الطاعة ويزيدهم في شرح البيان، قالوا بلى، قال: ((من كنت مولاه فعلي مولاه، اللهم وال من والاه، وعاد من عاداه، وانصر من نصره، واخذل من خذله)) فأوجب له رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم من الطاعة ما أوجب لنفسه، وجعل عدوه عدوه، ووليه وليه وجعله علماً لولاية الله يعرف به أولياء الله من أعدائه، فوجب لعلي على الناس ما وجب لرسول الله صلى الله عليه وآله وسلم من الولاية والنصرة، فمن تولاه وأطاعه فهو ولي الله، ومن عاداه فهو عدو الله، إلى قوله: ثم أنزل الله في علي عليه السلام: {إِنَّمَا وَلِيُّكُمُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَالَّذِينَ ءَامَنُوا الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلَاةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَهُمْ رَاكِعُونَ}[المائدة:55] وذكر فيه رواية خبر الغدير والمنزلة وغيرهما عن الإمام أحمد بن عيسى عليهما السلام، وروى الإمام الحسن بن محمد عليهم السلام في الأنوار عن الإمام علي الرضى بن موسى الكاظم بن جعفر الصادق عليهم السلام ما لفظه: وأنزل الله عز وجل على هدايته وصحة ولاية أخيه من السماء وأمره أن يبلغ ذلك فقال: {يَاأَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ مَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ} أي بلغ الولاية بعد الرسالة: {وَإِنْ لَمْ تَفْعَلْ فَمَا بَلَّغْتَ رِسَالَتَهُ وَاللَّهُ يَعْصِمُكَ مِنَ النَّاسِ} إلى قوله فقام صلى الله عليه وآله وسلم بغدير خم ونصبه مكان نفسه؛ إلى قوله: وقال لأصحابه: ((ألست أولى بالمؤمنين من أنفسهم)) قالوا: اللهم نعم، ثم قال: ((من كنت مولاه فعلي مولاه، ومن كنت نبيه فعلي أميره، ومن كنت أولى بنفسه من نفسه فهذا أولى بنفسه من نفسه، اللهم وال من والاه، وعاد من عاداه، وانصر من نصره، واخذل من خذله)).
وأمر أصحابه أن يبلغ الشاهد الغائب فأنزل الله عز وجل: {الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي} [المائدة:3]، إلى قوله: فقال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: ((الله أكبر على إكمال الدين وإتمام النعمة والولاية لعلي بن أبي طالب))، ولم يؤكد موسى عليه السلام على قومه أكثر من هذا في خلافة هارون عليه السلام إنما كانت خلافته كلمة اخلفني في قومي.
إلى قوله: ورسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وكد على قومه في خلافة علي عليه السلام ما وكد بغدير خم إلخ كلامه عليه السلام.

(1/74)


تابع الحاشية [170]
_______________
وأخرج الإمام المرشد بالله عليه السلام بسنده إلى ابن عباس رضي الله عنهما في قوله: {بَلِّغْ مَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ} إلخ أنزلت في علي، أمر رسول الله أن يبلغ فيه، فأخذ رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم بيد علي فقال: ((من كنت مولاه فعلي مولاه، اللهم وال من والاه وعاد من عاداه)) وروى عن جعفر عليه السلام؛ قال: لما نزل جبريل بالولاية على النبي صلى الله عليه وآله وسلم ضاق بذلك ذرعاً فنزل: {وَاللَّهُ يَعْصِمُكَ} إلخ، وروى بإسناده عن الإمام زيد بن علي عليهما السلام نحوه، وروي بإسناده عن أبي جعفر عليه السلام {الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ}؛ قال نزلت حين أقام النبي صلى الله عليه وآله وسلم علياً يوم غدير خم فقال: ((من كنت مولاه فعلي مولاه)) وروى بسنده إلى أبي سعيد أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم لما دعا الناس بغدير خم، إلى قوله فلم يتفرقوا حتى نزلت هذه الآية {الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ} [المائدة:3]، إلخ فقال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: ((الله أكبر على إكمال الدين وإتمام النعمة ورضى الرب برسالتي والولاية لعلي)).
وروى مثل ذلك إمامُ الشيعة محمد بن سليمان الكوفي رضي الله عنه عن أبي سعيد الخدري بلفظ: ((ورضى الرب بولايتي وبالولاية لعلي من بعدي))، ثم قال: ((من كنت مولاه فعلي مولاه اللهم وال من والاه وعاد من عاداه وانصر من نصره واخذل من خذله)) رواه عنه في المناقب من طريقين، ورواه الحاكم الحسكاني عن أبي سعيد الخدري من طريقين، وروى الحاكم بإسناده عن ابن عباس عنه صلى الله عليه وآله وسلم قال لعلي: ((نزلت الآية في ذكري وذكرك)) من طريقين.
وروى الإمام المرشد بالله عليه السلام بسنده إلى أبي هريرة وساق الخبر قال: فأنزل الله: {الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ} الآية وزاد ذكر فضيلة اليوم.
وروى فرات بن إبراهيم بن محمد الكوفي بإسناده إلى حذيفة بن اليمان رضي الله عنه قال: كنت والله جالساً بين يدي رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قد نزل بغدير خم فقام رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وقال: ((أيها الناس إن الله أمرني بأمر فقال: {يَاأَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ مَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ}))؛ ثم نادى علياً فأقامه عن يمينه، ثم قال: ((ياأيها الناس ألم تعلموا أني أولى بكم من أنفسكم)) قالوا: اللهم بلى، قال: ((من كنت مولاه فعلي مولاه، اللهم وال من والاه، وعاد من عاداه، وانصر من نصره، واخذل من خذله)).
رواه الحاكم الحسكاني في شواهد التنزيل، وروى نزول قوله عز وجل: {يَاأَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ مَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ} في ذلك في الشواهد عن أبي جعفر الباقر عليه السلام وعن ابن عباس رضي الله عنهما من ثلاث طرق؛ وعن جابر بن عبدالله، وعن عبدالله بن أبي أوفى، وعن أبي سعيد وعن أبي هريرة، وروى ذلك الحلي في كتاب العمدة عن ابن عباس، وعن أبي جعفر الباقر عليهم السلام.
ورواه الثعلبي في تفسير قوله تعالى: {يَاأَيُّهَا الرَّسُولُ} الآية قال: قال أبو جعفر محمد بن علي عليهم السلام معناه: بلّغ ما أنزل إليك من ربك في فضل علي بن أبي طالب عليه السلام، ورواه محمد بن سليمان الكوفي بسنده إلى أبي جعفر عليه السلام.

(1/75)


تابع الحاشية [170]
_______________
قلت: والموقوف في مثل هذا له حكم المرفوع كما لا يخفى.
وقد روى نزول قوله عز وجل: {يَاأَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ مَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ} الآية. في الأمر لرسول الله صلى الله عليه وآله وسلم بتبليغ ولاية أمير المؤمنينَ الجمُّ الغفير من آل محمد عليهم السلام وشيعتهم والعامة.
منهم الإمام الأعظم أبو الحسين زيد بن علي، وأخوه أبو جعفر الباقر محمد بن علي، وولده أبوعبدالله جعفر بن محمد الصادق، وحفيده الإمام أبو الحسن علي بن موسى الرضى، والإمام نجم آل الرسول أبو محمد القاسم بن إبراهيم وحفيده الإمام الهادي إلى الحق أبو الحسين يحيى بن الحسين، والإمام المرشد بالله أبو الحسين يحيى بن الحسين، والإمام أبو الفتح الديلمي، والإمام المتوكل على الرحمن أبو الحسن أحمد بن سليمان، والإمام المنصور بالله أبو محمد عبدالله بن حمزة، والإمام الأوحد المنصور بالله أبو علي الحسن بن بدر الدين محمد بن أحمد صلوات الله عليهم.
وأبو الحسين أحمد بن موسى الطبري في كتاب المنير؛ ومحمد بن سليمان الكوفي، صاحبا إمام اليمن عليه السلام، والحاكم الجشمي في التنبيه قال: والمروي عن جماعة أنها نزلت هذه الآية {يَاأَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ مَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ } فقام رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم خطيباً بغدير خم إلى قوله: (ألست أولى بكم من أنفسكم قالوا اللهم نعم فقال: ((من كنت مولاه، فعلي مولاه، اللهم وال من والاه، وعاد من عاداه، وانصر من نصره، واخذل من خذله)). ثم ساق تهنئة عمر وأبيات حسان.
والحاكم الحسكاني في الشواهد، والواحدي في أسباب النزول، وأبو إسحاق الثعلبي في تفسيره؛ والبطريق الحلي في عمدته، والطوسي في تفسيره، والرازي في مفاتيح الغيب، وغيرهم، ورفعت إلى من سبق ذكرهم من الصحابة وغيرهم.
وقد روى خبر المولاة بلفظ: ((من كنت مولاه، فعلي مولاه، اللهم وال من والاه، وعاد من عاداه)) من العامة خصوصاً أحمد بن محمد بن حنبل، والطبراني وسعيد بن منصور عن علي عليه السلام؛ وزيد بن أرقم؛ وثلاثين رجلاً من الصحابة؛ وعن أبي أيوب وجمع من الصحابة والحاكم في المستدرك عن علي عليه السلام وطلحة، وأبو نعيم في فضائل الصحابة عن سعد بن أبي وقاص؛ والخطيب عن أنس بن مالك؛ والطبراني عن ابن عمر؛ وابن أبي شبيه عن البراء بن عازب وعن أبي هريرة واثني عشر رجلاً من الصحابة؛ والطبراني عن عمرو بن مرة وزيد بن أرقم بزيادة ((وانصر من نصره وأعن من أعانه)) تطابق على هذا اللفظ هؤلاء الرواة، دع عنك من سواهم وماسواه.

(1/76)


تابع الحاشية [170]
_______________
واعلم أن هذا الخبر الشريف صدر في مقامات عديدة وأوقات كثيرة؛ وأعظمها يوم الغدير فإنه حضره ألوف كما رواه الحاكم الجشمي عن جابر بن عبدالله بلفظ: (قال جابر وكنا اثني عشر ألف رجل) انتهى.
وفي جامع الصحيح سنن الترمذي 5/633 برقم 3713: بسنده يرفعه، عن سلمة بن كهيل قال: سمعت أبا الطفيل يحدث عن أبي سريحة أو زيد بن أرقم شك شعبة عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال: ((من كنت مولاه فعلي مولاه)) قال أبو عيسى هذا حديث حسن صحيح وقد روى شعبة هذا الحديث عن ميمون أبي عبد الله عن زيد بن أرقم عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم؛ وأبو سريحة هو حذيفة بن أسيد الغفاري صاحب النبي صلى الله عليه وآله وسلم، ومثله في: المعجم الكبير 5/195 برقم 5068، مسند أحمد 4/372 برقم 19347.
وفي صحيح ابن حبان بترتيب ابن بلبان 15/375 برقم 6931: عن أبي الطفيل قال قال علي أنشد الله كل امرئ سمع رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يقول يوم غدير خم لما قام؛ فقام أناس فشهدوا أنهم سمعوه يقول: (( ألستم تعلمون أني أولى الناس بالمؤمنين من أنفسهم))، قالوا: بلى يا رسول الله قال: ((من كنت مولاه فإن هذا مولاه اللهم وال من والاه وعاد من عاداه))؛ فخرجت وفي نفسي من ذلك شيء فلقيت زيد بن أرقم فذكرت ذلك له؛ فقال: قد سمعناه من رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يقول ذلك له؛ قال أبو نعيم: فقلت لفطر: كم بين هذا القوم وبين موته؛ قال: مائة يوم؛ قال أبو حاتم: يريد به موت علي بن أبي طالب رضي الله تعالى عنه، ومثله في السنن الكبرى 5/131 برقم 8469.
وهو بألفاظ مختلفة في: مسند أحمد بن حنبل 1/84 برقم 641- 1/88 برقم 670، مسند أبي يعلى 11/307 برقم 6423، السنن الكبرى 5/136 برقم 8484، المعجم الصغير 1/119 برقم 175، المعجم الكبير 4/16برقم 3514، فضائل الصحابة 2/705 برقم 1206.

(1/77)


قال الإمام المنصور بالله عليه السلام :
"هذا الخبر قد بلغ حد التواتر، وليس لخبر من الأخبار ماله من كثرة الطرق، وطرقه مائة وخمس طرق، وفي هذا زيادة على الحد المعتبر في التواتر".
قال محمد بن جرير الطبري:
خبر الغدير طرقه من خمس وسبعين طريقاً، وأفرد له كتاباً سماه "كتاب الولاية".
وقال أبو العباس أحمد بن محمد: "خبر الغدير له مائة وخمس طرق"، وقد أفرد له كتاباً أيضاً.
وقال الفقيه الإمام الفاضل محب العترة النبوية محمد الديلمي رضي الله عنه: لا شك في بلوغ خبر الغدير حد التواتر وحصول العلم به، و لم يعلم خلافاً لمن بعده من الأُمة في أمره، وهم بين محتج به ومتأول له.
قال سيدنا العلامة فخر الدين يعسوب العلماء الهادين عبد الله بن الحسن الدواري، أعاد الله من بركاته: قد زاد خبر الغدير على الطريقة المعتبرة في التواتر، وبلغ مبلغا عظيماً في العلم به والجلاء، فلا شك فيه ولا ريب.
قلت: من أنكر خبر الغدير، فقد أنكر ما عُلم ضرورة من الدين ؛ لأنا علمنا من طريق الأخبار المتواترة صحة خبر الغدير، كما علمنا يوم بدر وحنين وأمثالهما من أيامه صلى الله عليه وآله وسلم، وعلمنا ذلك ضرورة من طريق الأخبار المتواترة، كعلمنا أن في الدنيا مكة وشبهها، فمن ناكرنا في صحة خبر الغدير، لم يستحق جواباً ؛ لأنه سوفسطاي، للأخبار المتواترة.

(1/78)


لمعةٌ: روى الفقيه بدرالدين محمد الديلمي(178) - رضي الله عنه - عن أهل البيت وشيعتهم البررة الكرام أنه صلى الله عليه وآله وسلم لما فرغ من هذا الحديث نزل، وكان وقت الظهيرة، فصلى ركعتين، ثم زالت الشمس، فأذن مؤذن، فصلى بهم الظهر، وجلس صلى الله عليه وآله وسلم في خيمته، وأمر علياً عليه السلام أن يجلس في خيمة له بإزائه، ثم أمر المسلمين أن يدخلوا عليه فوجاً فوجاً، فيهنّوه بالمقام، ويسلموا عليه بإِمرة المؤمنين، ففعل الناس ذلك كلهم، ثم أمر أزواجه وجميع نساء المؤمنين أن يدخلن عليه، ويسلمن، ففعلن، وكان فيمن أطنب في تهنئته عمر بن الخطاب، فأظهر له المسرة، وقال فيما قال: "بخ بخ" كما ذكرنا.
[مقدمة قبل الجواب على متعلقات صاحب هذه المقالة]
وأما النكتة الثالثة: وهي في جواب ما يتعلق به صاحب المقالة من الخيالات، فقبل أن نتكلم عليها نذكر فائدة في سبب تعلقه بها.
_______________
([178]) - الديلمي المذكور؛ هو الفقيه العلامة المتكلم المحدث محمد بن الحسن الديلمي الزبيري؛ صاحب كتاب التصفية؛ وكتاب الصراط المستقيم؛ وكتاب تحقيق قواعد عقائد آل محمد؛ وهو كتاب جليل ذكر فيه أدلة إمامتهم وترجيح مذهبهم؛ وفضل زيد بن علي على سائر الأئمة؛ وفرغ من تأليفه بصنعاء في شهر شوال سنة 706 هـ؛ وهو حينئذ على ظهر السفر راجعاً إلى وطنه الديلم؛ ولم يبلغ ذلك بل توفي رحمه الله بوادي مُرْ في موضع يسمى أرض حسان شامي مكة عام 711هـ، وكان رحمه الله من أوعية العلم وأهل المعرفة التامة.انتهى، منقولة من خط السيد صارم الدين رحمه الله تعالى، أهـ من هامش (أ).

(1/79)


إعلم أن علماء المعتزلة أوسعوا في اعتراضات أئمة الزيدية فيما تذهب إليه من النصوص على إمامة أمير المؤمنين عليه السلام، وطولوا في أفانين الاعتراضات، وأفردوا كتباً جمة، وتوارثوا هذا الرأي خلفاً عن سلف، وجعلوه دَيْدَناً وديناً، وفي كل عصر من أئمتنا وعلمائنا البحور الزواخر، والسيوف البواتر، والأقمار الزواهر، فكلما تمسكت به الخصوم من شبهة بتكت أئمتنا أسبابها، وكلما أوقدوا ناراً للحرب، أطفت علماؤنا التهابها.
وعلى ذلك مضت بهم الأعصار، واختلف بهم الليل والنهار، وشم صاحب المقالة شيئاً من علم المعتزلة حبب إليه مذهب القوم، ومن عشق شيئاً أعمى نظره، وأمرض قلبه، فاغتر بالشكير وطار مسفاً، ووقع على اعتراضات الشيوخ فمسخ منها، وسلخ ونسخ، واعتقد أنه جاء بغريب، فأوضع في القدح بين تعريس وتأويب، وإيجاف وتقريب، ولم يدر أن لتلك الخيالات أنواراً تنفيها، وأن للكعبة رباً يحميها، ولله القائل :
وَ من لم يتق الضحضَاح زلت .... به قدماه في البحر الغميق
والقصد هاهنا هو التنبيه [على] أشف ما خيل إليه وعول عليه.

(1/80)


خيال: زعموا أن لفظة الولي في الآية لم ترد بمعنى تملك التصرف، وإنما وردت بمعنى الناصر، وعليه قوله تعالى: {إِنَّ وَلِيِّيَ اللَّهُ}[الأعراف:196]وقوله تعالى: {وَلَمْ يَكُنْ لَهُ وَلِيٌّ مِنَ الذُّلِّ}[الإسراء:111] وأمثالهما مما عولوا عليه.
جوابه: أن المرجع في معرفة ألفاظ اللغة إلى أئمتها، لا إلى تحكمات الأهواء والأغراض، وقد وردت هذه اللفظة بمعنى الناصر، كما ذكروه، وبمعنى المالك للتصرف وللأحق بالأمر، وللأملك، وعليه قول شاعرهم وهو الكميت في قصيدته المشهورة:
فنعم ولي الأمر بعد وليه .... ومنتجع التقوى ونعم المؤدب
فاستعمل الولي في القائم بالأمر، المتولي له، القائم فيه بتدبيره.
وقال أبو العباس المبرد: الأصل في تأويل لفظ الولي هو الأولى والأحق، ومثله لفظ المولى، وعليه من القرآن قوله تعالى في المقتول {فَقَدْ جَعَلْنَا لِوَلِيِّهِ سُلْطَانًا}[الإسراء:33] يعني لأولى الناس به، ومن له الولاية على القتيل، وعلى هذا ولي المرأة من يملك عقدة نكاحها، ويوصف الزوج بأنه ولي المرأة من طريق اللغة، لما كان يمنعها من أمور، ويبيح لها أموراً.

(1/81)


خيال: زعموا أنا وإن سلمنا ذلك فإنه لا يفيد معنى الإمامة.
جوابه: أنا لا نعني بالإمامة إلاّ ملك التصرف على الكافة، واستحقاق القيام على الأمة، والاستبداد بذلك دون الغير، فإذا صح أن علياً عليه السلام هو الولي على المؤمنين، ثبت أنه إمامهم، وصح ما أردنا.
خيال: قالوا: لستم بحمل هذه اللفظة على الأملك والأحق بأولى منا بحملها على الناصر والمحب.
جوابه: أن الخطاب متوجه إلى بعض المؤمنين، وهو علي عليه السلام، والنصر والمحبة لا تخصه دون غيره ؟ يوضحه أنه تعالى أخبر بلفظ ((إنما))، وهي تقتضي الحصر على ما دخلت عليه، كقوله تعالى: {أَنَّمَا إِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ}[الكهف:110].
لنا أيضاً: حمل لفظ الولي على المعنيين جميعاً من حيث لا اختلاف بينهما، فصح ما قلناه.
خيال: يختص بخبر الغدير، قالوا: إنما قصد صلى الله عليه وآله وسلم بلفظ مولى الناصر دون ما ذكرتم.
جوابه: أن ذلك المقام مما لا ينبغي أن يكون أمره وخبره مصروفاً إلى إخباره صلى الله عليه وآله وسلم بأن علياً عليه السلام ناصره ؛ لأن هذا أمر معلوم لا يحتاج فيه إلى بيان.

(1/82)


يزيده وضوحاً أن نزول الرسول صلى الله عليه وآله وسلم في غير وقت النزول، وأمره بقم الدوحات واجتماع الناس وإنصاتهم إلى كلامه صلى الله عليه وآله وسلم لا يصح أن يقصد به إخبار القوم بما هم عالمون به، فكما لا يصح أن يقيمهم ذلك المقام ويقول: أيها الناس إن أبا بكر ولد لأبي قحافة، ويسكت على هذا، أو يقول: هذا عمر بن الخطاب، وزوجتي عائشة بنت لأبي بكر، وحفصة بنت لعمر أيضاً، فكما أنه صلى الله عليه وآله وسلم لا ينبغي أن يتكلم بهذا، ويوقف السيارة، ويقوم فيهم خطيباً به فكذلك قولكم إنه قصد أن علياً ناصره ؛ لأن علمهم بذلك يضاهي علمهم بهذه الأُمور، وكيف يسوغ لعاقل أن يفعل مثل هذا، فيجعل انتصاب النبي صلى الله عليه وآله وسلم في الرمضاء والحر الشديد، وجمع أقتاب الإبل وانتصاب النبي صلى الله عليه وآله وسلم وأخذه بيد علي عليه السلام ليعرف الناس أنه ناصره، مع علمهم بذلك، وهل هذا إلاّ غاية السفه والعبث الذي لا يجوز أن يقصده صلى الله عليه وآله وسلم ؟ وما وجه قوله صلى الله عليه وآله وسلم: ((ألست أولى بكم من أنفسكم ؟)) وهلاّ قال: ((من كنت مولاه فعلي مولاه))، من دون هذا التنزيل في إيقاع الكلام على الصفة المعروفة، وقد بان أن من ذهب إلى هذا مَائل عن الحق، سالك غير طريق الصواب.

(1/83)


خيال: قالوا: لم يوجد في اللغة أن مولى بمعنى الإمامة فلا يحمل عليه.
جوابه: أنا إنما قلنا: أن أحد معاني المولى المالك للتصرف والأحق، وعليه مالا يحصى كثرة من منظوم ومنثور، ومنه ما مدح به الأخطل عبد الملك بن مروان(190):
فأصبحت مولاها من الناس كلهم
وإنما أراد مدحه بملك التصرف على الأمة وهذا هو معنى الإمامة، فصح ما قلناه، وبطل ما تعلقوا به.
خيال: قالوا: الإمامة أمر شرعي لا يجوز أن يستفاد إلاّ من لفظ شرعي، ولفظة مولى لغوية، فلا يجوز أن تفيد المعاني الشرعية، وهذا الاعتراض لقاضي القضاة.
جوابه: أن ما ذكره خارج عن قول الفقهاء وسقيم في نفسه ؛ لأن الأحكام الشرعية تارة تستفاد بالألفاظ الشرعية، نحو لفظ الزكاة والصلاة والحج، وتارة بالألفاظ اللغوية، نحو قتل المشركين، وسبيهم، وتحليل ذبح الذبائح، ولباس الزينة عند المساجد، وغير ذلك، بل أكثر الأحكام الشرعية مستفادة من الألفاظ اللغوية، وقليل منها يستفاد من الألفاظ الشرعية، وقد ذكر قاضي القضاة وغيره أن الأحكام الشرعية تستفاد من الألفاظ اللغوية بأن تحمل على المعنى الشرعي، فإن لم يكن، فعلى العرفي، فإن لم يكن فعلى المعنى اللغوي.
___________
([190]) - عبدالملك بن مروان بن الحكم، ولد سنة 26هـ بالمدينة، وأمه عائشة بنت معاوية بن الوليد بن المغيرة بن العاص بن أمية.
ولي الخلافة بعد أبيه بعهد منه، قضى على حركة مصعب بن الزبير، ووجه الحجاجَ بن يوسف الثقفي لقتال عبدالله بن الزبير، فسار إليه في جمادى الأولى سنة 72هـ فلما وصل مكة حصر ابن الزبير بها ورماها بالمجانيق، وانتهى الأمر بمقتل عبدالله بن الزبير، وهو الذي ولّى الحجاج بن يوسف الثقفي على العراقين سنة 75هـ، توفي عبدالملك في شوال سنة 86هـ.

(1/84)


خيال: قالوا: ما أنكرتم أنه صلى الله عليه وآله وسلم إنما أراد بيان عصمته ووجوب موالاته ظاهراً وباطناً، وهذه هي منزلة شرعية يجوز أن يقصدها، هذا الخيال أهم ما تمسكوا به، وأشف ما عولوا عليه.
جوابه: أن لفظ مولى لا يقتضي وجوب ما ذكروه، ولا تكليف علينا أن تقع الموالاة في الباطن، ويكفي في وجوب موالاته عليه السلام ظاهر الحال، كظاهر الإسلام، وقد كانوا عارفين بذلك من حاله بدون تعريفه صلى الله عليه وآله وسلم، وأما عصمته فقد ورد فيها دليل غير هذا، وهو قوله تعالى: {إِنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيُذْهِبَ عَنْكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيرًا(33) }[الأحزاب] على ما نبينه، إن شاء الله تعالى.
قالوا: أراد صلى الله عليه وآله وسلم زيادة في البيان في عصمته عليه السلام فلا معنى لقولك: إن على عصمته دليلاً غير هذا ؛ لأنه أبلغ في الإيضاح متى تكاثرت الأدلة.

(1/85)


قلنا: تعلقكم بالدليل على عصمته عليه السلام إنما هو بآخر الكلام، حيث قال صلى الله عليه وآله وسلم: ((ووال من والاه، وعاد من عاداه)) ونحن لا ننكر هذا ؛ لكن دليلنا على الإمامة قوله صلى الله عليه وآله وسلم في أول الكلام: ((من كنت مولاه فعلي مولاه)) فأولها دليل على الإمامة، وآخرها دليل على العصمة، وحينئذ مرحباً بالوفاق، ولا تنافي بين العصمة والإمامة.
جواب آخر: سلّمنا لكم أن هذا الخبر إنما يدل على عصمته حين دعا له على القطع الذي يوجب له المولاة ظاهراً وباطناً، وأن هذا متى ثبت فإنه يدل على أنه كرم الله وجهه أحق بالإمامة من غيره الذي لم تثبت عصمته ؛ لأنه عليه السلام متى كان مقطوعاً بعصمته، كان إيمانه وعدالته مقطوعين معلومين، وهذان الشرطان معتبران في الإمامة، أعني الإيمان والعدالة، ومتى كانا فيه عليه السلام معلومين قطعاً وفي غيره مظنونين، لم يجز العدول عن المعلوم إيمانه وعدالته إلى المظنون ذلك من حاله ؛ لأن العدول إلى الظن مع حصول ما يوجب العلم لا يجوز، كما لا يجوز العدول إلى الإجتهاد مع وجود النص، فقد بان بذلك أنّ في الخبر دلالة على إمامته عليه السلام كيفما دارت القضية، وأن المتقدم عليه مخطئٌ على كل حال.

(1/86)


وقد أتينا على جواب ما ذكرناه من الخيالات على جهة التنبيه لا غير، ومن أراد استيفاء الأجوبة الشافية على اعتراضات المعتزلة بأزمتها فعليه بفايض القاضي شمس الدين، والجزء الثالث من المحجة البيضاء، وكتاب الأوامر المجملة لحي جدي المرتضى بن المفضل قدس الله روحه، وأمثالها من تصانيف الأئمة الأقمار، والعلماء الأخيار، والقصد في هذا المختصر بيان حكم صاحب هذه المقالة المذكورة، وإكذاب دعواه في إظهار التمسك بمذهب أسباط الرسول وأولاد البتول.

(1/87)


المسألة الثانية:
وهي في معنى الأَولى وما الذي تراه الفرقة الناجية والعصابة الهادية؛ في إلقاء صاحب هذه المقالة مقالته هذه إلى قلوب كثير من المسلمين، وحرْصه على ميلها إلى رأيه هذا، واجتهاده الكلي في غرس خيالاته وخراريف كلاماته في خواطر بُلْه الدَّرسة ومن لا معرفة له بتصانيف الأئمة الهداة والعلماء الأبرار، وتراه يلقنهم هذه الآراء الفاسدة والعقائد المائدة، ويعهد عليهم أن هذا هو الدين الصحيح، والمذهب الصريح، والطريقة النبوية، والحجة الجلية، وأن المائل عن سمته مائل عن الصواب، والمخالف له مخالف لما في السنة والكتاب، هل يجب على المسلمين إنكار هذه المقالة ؟ وهل تستحق أن تسمى بدعة في مذهب الزيدية يجب انتهار صاحبها وكشف قناع المحاباة في دين الله ؟ أم لا تستحق أن تسمى بدعة ؟ وإذا كانت بدعة، فهل يجب إنكارها ؟
وما حكم القادر على إنكارها بيده ولسانه وقلبه وقلمه ؟ وهل يأثم بترك الإنكار أم لا؟
وإذا لم تكن بدعة، فهل تسمى سنة ؟
وهل يخلو الحدث في الإسلام من أن يكون سنة أو بدعة ؟ وهل هذه المقالة تسمى حدثاً في الإسلام أم لا ؟
الجواب: والله الهادي إلى الصواب ينحصر في أربعة فصول:
* الأول: في بيان السنة والبدعة.
* والثاني: في بيان الحدث في الإسلام وماهو ؟.

(1/88)


* الثالث: في بيان ما يطلق على هذه المقالة من هذه الأسماء.
* والرابع: في حكمه وحكم السامع لقوله.
[بيان معنى البدعة]
أما الفصل الأول: فالبدعة في اللغة مصدر ابتدع يبتدع بدعة وابتداعاً، يقال ذلك لمن جاء بغريب من فعله أو قوله، ومنه تسمية الله تعالى لنفسه بديعاً، قال تعالى: {بَدِيعُ السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضِ}[البقرة:117] لما أبدع فيهما من المخلوقات الباهرة، ومن ذلك يسمى علم البديع بهذا الإسم لغرابته، ومنه سمي بديع الزمان حين فاق أهل زمانه في براعة لسانه وبلاغة بيانه، وقد صار هذا الإسم في الشرع لمن خالف السنة النبوية، فهي في اللغة اسم مدح، وفي الشرع اسم ذم، وعليه الحديث المشهور ((من انتهر صاحب بدعه ملأ الله قلبه أمناً وإيماناً)).
وعن علي عليه السلام: (السنة ما كان عليه الرسول صلى الله عليه وآله وسلم، والبدعة ما خالف ذلك).
وقال المؤيد بالله قدس الله روحه: "البدعة هي الطاعة التي يؤديها فاعلها مختلطة بمعصية".

(1/89)


وبين الإسم الشرعي واللغوي مناسبة معنوية ؛ لأن أهل اللغة سموا من جاء بالغريب من فعله أوقوله مبتدعاً لغرابة ما جاء به، وهذا في الشرع معتبر ؛ لأنه إنما سمي من خالف السنة مبتدعاً لأنه جاء بالغريب الذي لم يعلم من الشريعة، ولما علم من الشرع أن البدعة إسم ذم، اتسع تداول الألسنة هذا الإسم، حتى قال في ذلك أهل اللسَان، واعتمد في تشبيه التخييل من شواهد علم البيان.
فكأن النجوم بين دجاها .... سنن لاح بينهن ابتداع
قال أهل البيان: وجه التشبيه الهيئة الحاصلة من حصول أشياء مشرقة في جوانب شيء مظلم أسود فهي غير موجودة في المشبه به إلاّ على طريق التخييل، وذلك أنه لما كانت البدعة وكلما هو جهل يجعل صاحبها كمن يمشي في الظلمة فلا يهتدي إلى الطريق، ولا يأمن أن ينال مكروهاً، شبهت به، ولزم من طريق العكس أن تُشبه السنة وكلما هو علم بالنور والبياض، ومنه الحديث ((أتيتكم بالحنيفية البيضاء)).
وأما السنة فهي في اللغة الطريقة، وعليه قول أبي ذويب الهذلي:-
فلا تجزعن من سنة أنت سرتها .... فأول راض سنة من يسيرهَا
وقد بين ذلك مولانا أمير المؤمنين المنصوربالله عليه السلام في كتابه المعروف "بالحكم السوابغ في شرح الكلم النوابغ".

(1/90)


وفي الشرع عبارة عن كل قول أو فعل للرسول صلى الله عليه وآله وسلم على جهة المداومة، واحتراز مما فعله صلى الله عليه وآله وسلم لا على جهتها، فإن ذلك لا يعد من السنة.
وأما الفصل الثاني: فقد اختلف العلماء في معنى الحدث في الإسلام، فقال قائل: الحدث في الإسلام هو ما كان كالردة ومؤازرة الكفار والبغي على إمام المسلمين ومَا شابه هذه الأشياء.
وقال غيره: كل معصية لله سبحانه فهي تسمى حدثاً في الإسلام، كشرب الخمر وأشباهه.
وأما الفصل الثالث: وهو فيما يطلق على المقالة المتقدمة من هذه الأشياء، فلا شك في تسميتها بدعة ؛ لأن السنة جاءت بإمامة علي عليه السلام وإعظامه وتفضيله على غيره، وأنه هو الخليفة بعده صلى الله عليه وآله وسلم، ومما جاءت به السنة توقير العترة المطهرة والتمسك بأسبابها والدخول في الحطة من بابها، وهذا معلوم من دينه صلى الله عليه وآله وسلم، ولا شك أن المقالة المذكورة عاكست هذه الفصول، وردت هذه الأصول، فلا جرم أن تكون بدعة ؛ لأنه لا يخلو ما كان من باب التدينات من أن يكون سنة أو بدعة، وليس قولنا سنة في أفعالنا إلاّ اتباع السنة النبوية والعمل بموجبها، لا أن في أفعالنا المجردة ما يسمى سنة.

(1/91)


فائدة: قد لا يطلق لفظ السنة إلاّ على ما داوم عليه الرسول صلى الله عليه وآله وسلم كما تقدم بيانه وهذا مختص بعلم أصول الفقه، وقد يطلق ويراد به ما قاله النبي صلى الله عليه وآله وسلم مطلقاً، وإن لم يداوم عليه، ومن ذلك أسلوب العلماء في قولهم يدل عليه الكتاب والسنة، إذا أخذوا في الإحتجاج على شيء، ويريدون بالسنة كلام الرسول صلى الله عليه وآله وسلم، وهي بهذا الاعتبار اسم لما تكلم به النبي صلى الله عليه وآله وسلم، ومن ذلك كلام علي عليه السلام لعبد الله بن العباس، لما بعثه للاحتجاج على الخوارج: (لا تخاصمهم بالقرآن، فإن القرآن حمال ذو وجوه، تقول ويقولون، ولكن حاججهم بالسنة فإنهم لن يجدوا عنها محيصاً)، أراد عليه السلام بالسنة كلام النبي صلى الله عليه وآله وسلم، وإنما اعتبر في لفظ السنة المداومة فيما كان يخص العبادات القولية والفعلية، كما هو مقرر في مواضعه من كتب الأصول.
ونعود إلى تمام ما كنا فيه فنقول: قد تلخص أن لفظ البدعة واقع على المقالة المذكورة، وأنها ليست من السنة في مراح ولا مغدا.
وبقي الكلام هل تسمى حدثاً في الإسلام ؟

(1/92)


فيقال: من قصر على ذلك الأحداث الكبيرة كالردة وموالاة الكفار والبغي على أئمة الحق، لم يسمِ هذه المقالة بهذا الإسم، ومن قال: كل معصية مطلقاً تسمى في الإسلام حدثاً، سمى هذه المقالة بهذا الإسم.
وأما الفصل الرابع: وهو في بيان حكم القائل بتلك المقالة وحكم السامع لها، فقد تقدم في المسألة الأولى شطر من الكلام في هذا المعنى، ونزيده بياناً هَاهُنا.
فيقال: قد ثبت تسمية تلك المقالة بدعة، ولا أبلغ في الحث على إنكارها من الحديث المشهور ((من انتهر صاحب بدعة ملأ الله قلبه أمنا وإيماناً يوم القيامة))، وروي عنه - صلى الله عليه وآله وسلم أنه قال لعائشة: ((يا عائشة، لكل ذنب توبة إلاّ أصحاب الأهواء والبدع، فإنه ليس لهم توبة، أنا منهم بريء، وهم مني براء))، وعنه صلى الله عليه وآله وسلم: ((من وقَّر صاحب بدعة، فقد أعان على هدم الإسلام)).
وأما هل يجب الإنكار أم لا ؟ فلا يبعد أن يكون وجوبه كوجوب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، ويشترط هَاهنا ما يشترط هناك، وأما حُسن الرد واستحبابه، فلا شك فيه.
وفي كتاب "الكواكب الدرية في النصوص على إمامة خير البرية"، من تصانيف حي الأمير السيد العلامة صلاح بن أمير المؤمنين إبراهيم بن تاج الدين ما لفظه:

(1/93)


"أما بعد فإنها ظهرت مقالة من بعض من ينتمي إلى العلم، ويدعي بزعمه أنه من أولي الفهم، وهي إنكار النصوص على أمير المؤمنين وسيد الوصيين - عليه صلوات رب العالمين - فلما بلغ ذلك إليّ، إعتقدت وجوب الرد عليه وتصويب أسِنَّةِ الطعن والتشنيع إليه ؛ لكون ذلك بدعة يجب إنكارها، ومقالة يقبح إظهارها".
تم كلامه، قدّس الله روحه، فقد رأيت كيف ذكر الرد بلفظ الوجوب، وسمى هذه المقالة بدعة، وهذا عين ما نحن فيه.
وأقول: لقد كان من تقدم من الأئمة والسادات والعلماء عاملين بقدر ما علموا من فضل علي عليه السلام ومكانته عند الله وعند رسوله، فأقاموا في تصحيح إمامته المحجة، وأوضحوا في ذلك كل دليل وحجة، وكان هجيراهم رد الشبه والخيالات الواردة في إنكار النصوص، ومقارعة المخالفين بقواضب الأدلة، ومطاعنة النواصب برماح البراهين، لا يمسهم في ذلك سَأَم، ولا يردهم مَلام مَنْ لامَ وكَلّم، ولله القائل:
إذا لم تبر من أعدا علي .... فما لك في محبته ثواب

(1/94)


هيهات أصبحنا في حثالة رضوا من محبته بما سنح، وسمعوا في دهرهم مَنْ طعن في إمامته ومَنْ قدح، فما هزتهم للرد حمية، وهم يرون إمامة خير البرية لرماح الطاعنين في ميدان الطرد دريئة، ولله القائل:
لو كنت من مازن لم تستبح إبلي .... بنو اللقيطة من ذُهْل ابن شيبانا
إذاً لقام بنصري معشر خشن .... عند الحفيظة إن ذو لوثة لانا
لكن قومي وإن كانوا ذوي عددٍ .... ليسوا من الحرب في شيء وإن هانا(203)
______________
([203]) - في حاشية الدسوقي على المغني ما لفظه: قوله (لو كنت من مازنٍ..... إلخ). صاحب هذه الأبيات رجل من بني العنبر، وقوله : من مازن؛ أبوقبيلة من تميم، وقوله: لم تستبح؛ أي لم يستأصلها ويأخذها قهراً، وبنو اللقيطة: قوم من العرب، وقوله: ذهل؛ بضم الذال المعجمة وإسكان الهاء.
والمعشر: جماعة من الناس، وخشن بضم الخاء والشين المعجمتين، أي: شجعان، والحفيظة: الخصلة التي تُحفَّظ لها.
واللوثة بضم اللام: الضعفة، وبفتحها: القوة، والثاء مثلثة فيهما.
قال المرادي: في الرواية الصحيحة ضم اللام وهو تعريض بقومه ليغضبوا أو يهتاجوا لنصرته، من هامش(أ).

(1/95)


المسألة الثالثة:
مَا يرى أتباع زيد بن علي عليهما السلام فيمن أنكر أن يكون إجماع العترة حجة؟ ليس لتعذر إجماعهم - كما ذهب إليه من ذهب - بل لأنه لم يرد بذلك دليل شرعي من كتاب ولا سنة في زعم القائل بذلك، وهو يرى تصانيف الأئمة والعلماء مشحونة بنصب الأدلة والبراهين على أن إجماع العترة حجة واجبة الإتباع، ويضعف بالجهل البسيط أدلة الأئمة والعلماء في هذه المسألة وينكر منها ما ينكر، ويدعي فيما لا يستطيع إنكاره أنه ليس بدليل على أن إجماع العترة حجة، دعوى فارغة عن الإعتراضات القادحة، والمطاعن الفادحة، هل يستحق هذا جواباً؟ وما حكمه؟ وما يلزم العلماء من معاملته في مثل هذه المقالة؟ وإذا سلَّم تسليماً جدلياً أن إجماع العترة حجة لكن أنكر أن يكون قطعياً في مسألة إمَامة علي عليه السلام وحصر الإمامة في أولاد البطنين، مالذي تراه الزيدية؟ هل إجماع العترة المطهرة على أن علياً عليه السلام هو الخليفة بعد رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قطعياً أو ظنياً، وإذا كان قطعياً، فهل يفسق مخالفه كما يفسق مخالف إجماع الأمة؟ أم بينهما فرق في هذا الحكم؟ وهل يعتد بمن في جانب الإمامية من أهل البيت عليهم السلام في مسألة حصر الإمامة في أولاد الحسنين؟ أم لا يعتد بخلافهم في هذه المسألة؟

(1/96)


الجواب والله الهادي إلى الصواب ينحصر في سبع فوائد:
* الأولى: هل يستحق من أنكر أن يكون إجماع العترة حجة جواباً مع معرفته بالدليل على ذلك؟
* الثانية: ما حكمه بهذا الإنكار؟ ومَا يعامل به؟
* الثالثة: هل يكون إجماع العترة على إمامة علي عليه السلام قطعياً أو ظنياً؟
* الرابعة: ما حكم مخالفته إذا ثبت كونه قطعياً؟، وما الفرق بينه وبين [إجماع] الأمة في ذلك؟
* الخامسة: في التنبيه على أشفَّ ما يتعلق به المخالفون من الخيالات في إبطال كون إجماع العترة حجة.
* السادسة: هل يعتد بمن في جانب الإمامية من العترة في مسألة حصر الإمامة؟
* السابعة: هل يمكن أن يكون الإجماع سابقاً لهم في ذلك؟

(1/97)


الفائدة الأولى: القوي أن المُنْكِر [لكون] إجماع العترة حجة لا يستحق جواباً؛ لأنه لا يخلو إما أن يكون عالماً بالأدلة الشرعية على ذلك، أو لا، إن كان عالماً بها، فلا فائدة في إعلامه بما هو عالم به وله، وإن كان غير عَالم بها، فقد أكذبته دعواه أن إجماع العترة ليس بحجة؛ لأنه لو لم يعلم أن ها هنا إجماع يجب اتباعه، لم يضعفه؛ لأن التضعيف للشيء فرع على العلم به، فحصل أن صاحب هذه المقالة متجاهل غير عالم ولا جاهل؛ لأنه لو كان عالماً لاعترض تلك الأدلة إعتراضات العلماء، ولو كان جاهلاً لسأل عنها سؤال الجهلاء، فلا يستحق والحال هذه جواباً أصلاً.
الفائدة الثانية: حكم صاحب هذه المقالة الخطأ بتجاهله عما يعلم به، وتعاميه عما يعرفه.
ويظهر الجهل بي وأعرفه .... والدرُ درٌ برغم من جهله
وأما ما يعامل به، فقد تقدم بَيانه، وهو الإضراب عنه صفحاً حتى يتجلى رشده، ويتبين استرشاده في سؤاله، فإن كان عالماً جودل بالتي هي أحسن، وإن كان جاهلاً عُرّف مَا جهله، وَ هُدي للتي هي أقوم.
[القطعي والظني من الإجماع وما يستتبعه]
الفائدة الثالثة: قد اشتملت على معرفة القطعي والظني من الإجماع، فالقطعي مَا نقل بالتواتر من خمسة فما فوق، وَ الظني ما نقل بالآحاد، ولهما أحكام ليس هذا موضعها.

(1/98)


وأما حكم إجماع العترة على إمامة علي عليه السلام، فهو على حسب نقلته.
وحكاية أصحابنا لهذا الإجماع أعني على هذه المسألة حكايات مرسلة عن بيان هذا الحكم، وقد طالعت له ما حضرني من موضوعات العترة وأتباعها، فلم أقف منها على بيان هذا الحكم، وسألت سيدنا الإمام العلامة فخر الدين عبد الله بن حسن الدوّاري أيده الله تعالى، فتردد في الجواب، وأشار إلى أن الأمر محتمَل.
وأقول: إذا نظر الإنسان متأملاً في موضوعات أئمتنا وعلمائنا، وجدها متطابقة الحكايات لإجماع العترة على إمامة علي عليه السلام، ومعلوم نقل الخلف عن السلف لهذا الإجماع في كل عصر وزمان من وقتنا هذا إلى الصدر الأول حتى ينتهي إلى من عاصر الوصي عليه السلام من أهل البيت المطهرين، لا يختلف أصحابنا في هذا الضبط، على هذا الوصف، وما كان [هكذا] يقرب أن يكون متواتراً في نقل هذا الإجماع، والله أعلم.
قال الأمير صلاح بن أمير المؤمنين في كتاب "الكواكب الدرية": "إجماع العترة على إمامة علي عليه السلام أظهر من أن يذكر، وكل أحد يعلمه، المؤالف والمخالف"، هذا كلامه، قدس الله روحه.
وما هذا حاله لا يكون إلاّ متواتراً.

(1/99)


وقال الفقيه محمد الديلمي في كتابه وقد أخذ في الإستدلال على إمامة علي عليه السلام بالكتاب والسنة والإجماع، فلما انتهى [على] إجماع العترة قال: "وأما إجماع العترة فظاهر"، وإطلاق هذه العبارة يقتضي أن يكون إجماع العترة على إمامة علي عليه السلام قطعياً، وأكثر كلامات أئمتنا في مصنفاتهم إطلاق هذه الحكاية في إجماع العترة.
[حكم مخالف إجماع العترة]
الفائدة الرابعة: في حكم مخالف هذا الإجماع، فقد تقدم الكلام في ماهيته، وأما حكم مخالفه لو ثبت نقله بالتواتر، وكان قطعياً، فقد قال الإمام المؤيد بالله يحيى بن حمزة عليه السلام في كتابه "مشكاة الأنوار": "إن مخالف العترة فيما ورد في إجماعاتها القاطعة لا يكون فسقاً كما كان في إجماع الأمة؛ لأن الأدلة التي دلت على كون إجماعهم حجة لم تتعرض في أن مخالفتهم تكون فسقاً، بخلاف ما ورد في إجماع الأمة، فإن تلك الآيات والأخبار متعرضة للوعيد بالمخالفة فافترقا"، هذا كلامه عليه السلام بلفظه.

(1/100)


فائدة: لا خلاف بين العترة أن مخالف إجماعاتها ضال هالك عَاصٍ لربه، وعليه الحديث المشهور ((مثل أهل بيتي فيكم كسفينة نوح، من ركبها نجا، ومن تخلف عنها غرق وهوى))(7)،
_________________
(7) - قال الإمام الحجة مجدالدين بن محمد بن منصور المؤيدي أيده الله تعالى في لوامع الأنوار ج/1/93:
قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: ((مثل أهل بيتي فيكم مثل سفينة نوح من ركبها نجا، ومن تخلف عنها غرق وهوى)) رواه إمام اليمن الهادي إلى الحق عليه السلام في الأحكام وهو خبر معلوم بالتواتر لا اختلاف فيه بين الأمة، ورواه من أئمة العترة عليهم السلام الإمام علي بن موسى الكاظم، في الصحيفة، والإمام أبو طالب، والإمام المرشد بالله في أماليهما، والإمام أبوعبدالله الموفق بالله الجرجاني، والإمام المنصور بالله عبدالله بن حمزة في الشافي، وغيرهم عليهم السلام كثير.
قال الإمام يحيى شرف الدين عليه السلام: حديث: ((أهل بيتي كسفينة نوح)) أخرجه الحاكم من وجهين عن أبي ذر رضي الله عنه، ولفظه: سمعت رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يقول: ((مثل أهل بيتي فيكم مثل سفينة نوح من ركبها نجا، ومن تخلف عنها غرق، ومثل باب حطة في بني إسرائيل)) وفي الوجه الآخر بدون ومثل باب حطة...إلخ.
قلت: وأخرجه عنه الإمام المرشد بالله عليه السلام بلفظ: ومن تخلف عنها هلك، والإمام أبوطالب عليه السلام كذلك بدون ومثل باب حطة إلخ.
قال الإمام شرف الدين: وأخرجه أبو يعلى في مسنده، والطبراني في الصغير والأوسط من غير طريق، والفقيمي وأبو نعيم كذلك، وأبو يعلى عن أبي ذر رضي الله عنه أيضاً، والبزار، وابن المغازلي أبوالحسن، وزاد: ((من قاتلنا في آخر الزمان فكأنما قاتل مع الدجال)) وأخرجه الطبراني، وأبو نعيم في الحلية، والبزار، وغيرهم عن ابن عباس رضي الله عنهما وغيره، وأخرجه ابن المغازلي عن سلمة بن الأكوع، وأخرجه البزار عنه، ورواه الطبراني في الصغير والأوسط أيضاً عن أبي سعيد الخدري. انتهى.
قال الإمام القاسم بن محمد عليه السلام: وفي ذخائر العقبى عن علي عليه السلام قال: قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: ((مثل أهل بيتي كمثل سفينة نوح من ركبها نجا، ومن تعلق بها فاز، ومن تخلف عنها زج في النار)).
قال: أخرجه ابن السري.
وفيها أيضاً عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: ((مثل أهل بيتي كمثل سفينة نوح من ركبها نجا، ومن تخلف عنها غرق)).
قال ـ أي صاحب الذخائر ـ: أخرجه الملا في سيرته.
قلت: وأخرج الروايتين بلفظهما عن أمير المؤمنين عليه السلام وابن عباس رضي الله عنهما في كتاب الجواهر للقاسم بن محمد اليمني الشقيفي، قال الحسين بن القاسم عليهما السلام: وقوله صلى الله عليه وآله وسلم: ((فأين يتاه بكم عن علم تنوسخ من أصلاب أصحاب السفينة حتى صار في عترة نبيكم)) رواه الإمام المهدي عليه السلام في الغيث مرفوعاً، ووقفُهُ على علي عليه السلام أشهر. انتهى.
وقال في دلائل السبل: وقد أخرجه ـ أي خبر السفينة ـ من المحدثين الحاكم في مستدركه وابن الأثير في نهايته، والخطيب ابن المغازلي في مناقبه، والكنجي في مناقبه، وأبو يعلى المحدث في مسنده، والطبراني في الثلاثة، والسمهودي في جواهر العقدين، وأخرجه الأسيوطي في جامعيه، وأخرجه الملا، وأخرجه ابن أبي شيبة، ومسدد وهو في كتاب الجواهر للقاسم بن محمد اليمني المعروف بالشقيفي، وهو في ذخائر المحب الطبري الشافعي.
وأخرجه غيرهم ممن يكثر تعدادهم؛ وأكثرهم أخرجه بطرق كثيرة عن عدة من الصحابة منهم: علي كرم الله وجهه، وابن عباس، وأبو ذر الغفاري، وسلمة بن الأكوع، قلت: وأبو سعيد الخدري، وابن الزبير.
وأخرجه عن عمار أحمد بن حنبل، وعن أنس أحمد والترمذي، وعن ابن عمر الطبراني أفاده السيوطي.
هذا وقد تحصل هنا بحمدالله من الطرق مافيه الكفاية، وإن وقع التكرير في بعض فلا يخلو عن الفائدة.
قال في الدلائل: ولم يكن قاله النبي صلى الله عليه وآله وسلم مرة؛ بل مرات، فلهذا في لفظ بعضه: ((ومن تأخر عنها هلك)) وفي بعضها: ((ومن تركها غرق)) وفي بعضها: ((ومن ركبها نجا ومن تعلق بها فاز ومن تخلف عنها زخ في النار)) وفي بعضها زيادة: ((ومن قاتلنا آخر الزمان فكأنما قاتل مع الدجال)) يعني: من قاتلنا في كل زمان.
قال في صحاح الجوهري: وقولهم: لا أفعله آخر الليالي أي أبداً انتهى باختصار.
وقد وضح البرهان، بما ورد في أهل بيت النبوة على أبلغ البيان، من وجوب التمسك بهم، وقصر النجاة على ركوب سفينتهم، وأنهم قرناء القرآن، وحجة الله في كل زمان، انتهى.
وهو في: معجم الصغير 1/240 برقم 391، المعجم الكبير 3/45 برقم 2636، مسند الشهاب 2/273 برقم 1342، فضائل الصحابة 2/785 برقم 1402.

(1/101)


وفي بعض [الأخبار] (وهلك)، ونحو قوله صلى الله عليه وآله وسلم: ((إني تارك فيكم ماء إن تمسكتم به لن تضلوا من بعدي كتاب الله وعترتي أهل بيتي))(9)
______________
(9) - قال الإمام الحجة مجدالدين بن محمد بن منصور المؤيدي أيده الله تعالى في لوامع الأنوار ج/1/51:
* وقد أخرج أخبار الثقلين والتمسك أعلام الأئمة، وحفاظ الأمة، فمن أئمة آل محمد صلوات الله عليهم: الإمام الأعظم زيد بن علي والإمام نجم آل الرسول القاسم بن إبراهيم وحفيده إمام اليمن الهادي إلى الحق يحيى بن الحسين والإمام الرضى علي بن موسى الكاظم، والإمام الناصر الأطروش الحسن بن علي، والإمام المؤيد بالله، والإمام أبو طالب، والسيد الإمام أبو العباس، والإمام الموفق بالله، وولده الإمام المرشد بالله، والإمام المتوكل على الله أحمد بن سليمان، والإمام المنصور بالله عبدالله بن حمزة، والسيد الإمام أبو عبدالله العلوي، صاحب الجامع الكافي، والإمام المنصور بالله الحسن بن بدر الدين، وأخوه الناصر للحق حافظ العترة الحسين بن محمد، والإمام المهدي لدين الله أحمد بن يحيى، والإمام الهادي لدين الله عز الدين بن الحسن، والإمام المنصور بالله القاسم بن محمد، وولده إمام التحقيق الحسين بن القاسم، وغيرهم من سلفهم وخلفهم.
* ومن أوليائهم إمام الشيعة الأعلام قاضي إمام اليمن الهادي إلى الحق محمد بن سليمان رضي الله عنه رواه بإسناده عن أبي سعيد من ست طرق وعن زيد بن أرقم من ثلاث وعن حذيفة وصاحب المحيط بالإمامة الشيخ العالم الحافظ أبو الحسن علي بن الحسين والحاكم الجشمي، والحاكم الحسكاني، والحافظ أبو العباس ابن عقدة، وأبو علي الصفار وصاحب شمس الأخبار رضي الله عنهم، وعلى الجملة كل من ألَّف من آل محمد عليهم السلام وأتباعهم رضي الله عنهم في هذا الشأن، يرويه ويحتج به على مرور الأزمان.
* ومن العامة أحمد بن حنبل في مسنده، وولده عبدالله، وابن أبي شيبة، والخطيب ابن المغازلي، والكنجي الشافعيان، والسمهودي الشافعي، والمفسر الثعلبي، ومسلم بن الحجاج القشيري في صحيحه رواه في خطبة الغدير من طرق ولم يستكملها، بل ذكر خبر الثقلين وطوى البقية، والنسائي، وأبو داوود، والترمذي، وأبو يعلى، والطبراني في الثلاثة والضياء في المختارة، وأبو نعيم في الحلية، وعبد بن حميد، وأبو موسى المدني في الصحابة، وأبو الفتوح العجلي في الموجز، وإسحاق بن راهويه، والدولابي في الذرية الطاهرة، والبزار والزرندي الشافعي، وابن البطريق في العمدة، والجعابي في الطالبيين، من حديث عبدالله بن موسى بن عبدالله بن الحسن بن الحسن بن علي عن آبائه عن علي عليهم السلام، وغيرهم.
ورفعت رواياته إلى الجم الغفير، والعدد الكثير، من أصحاب الرسول صلى الله عليه وآله وسلم أمير المؤمنين علي بن أبي طالب عليه السلام، وأبي ذر، وأبي سعيد الخدري، وأبي رافع مولى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، وأم هانئ، وأم سلمة، وجابر، وحذيفة بن أسيد الغفاري، وزيد بن أرقم، وزيد بن ثابت، وضمرة الأسلمي، وخزيمة بن ثابت، وسهل بن سعد الساعدي، وعدي بن حاتم، وعقبة بن عامر، وأبي أيوب الأنصاري، وأبي شريح الخزاعي، وأبي قدامة الأنصاري، وأبي ليلى، وأبي الهيثم بن التيهان، وغيرهم هكذا سرد أسماءهم الحسين بن القاسم عليه السلام ومن تبعه.
وزاد في نثر الدر المكنون جماعة نذكرهم وإن تكرر ذكر بعض المخرجين لأجل من لم يسبق من الراوين وهم احمد بن حنبل، وابن ماجه عن البراء، والطبراني في الكبير عن جرير، وأبو نعيم عن جندع، والبخاري في التاريخ، والطبراني، وابن قانع عن حبشي بن جنادة، وابن أبي شيبة، وابن عاصم، والضياء عن سعد بن أبي وقاص، والشيرازي في الألقاب عن عمر، والطبراني في الكبير عن مالك بن الحويرث، وابن عقدة في الموالاة عن حبيب بن بدر بن ورقا، وقيس بن ثابت وزيد بن شراحيل الأنصاري، والخطيب عن أنس بن مالك، والحاكم وابن عساكر عن طلحة، والطبراني في الكبير عن عمرو بن مرة، وأحمد والنسائي وابن حبان والحاكم والضياء عن بريدة، والنسائي عن عمر بن ذر، وعبدالله بن أحمد عن جماعة منهم ابن عباس، وابن أبي شيبة عن أبي هريرة واثني عشر رجلاً من الصحابة.
وهو مروي في مسند أبي يعلى 2/303 برقم 1027، مسند أحمد 4/371 برقم 19332، المعجم الكبير 5/186 برقم 5040، المنتخب من مسند عبد بن حميد 0/107 برقم 240، فضائل الصحابة 2/786 برقم 1403، ورواه مسلم/ فضائل الصحابة برقم 4452، والترمذي / المناقب برقم 3720، الدارمي / فضائل القرآن برقم 3182.......

(1/102)


ومفهومه وإن لم تمسكوا به ضللتم، ولا شك أنّ من خالف إجماع العترة فهو غير متمسك بها، فلا جرم يضل بتركه التمسك.
وروى الفقيه الديلمي رحمه الله تعالى في كتابه عن السيد أبي عبد الله الجرجاني عليه السلام فسق مخالف إجماع العترة، قال: "لأن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال في خبر السفينة: ((من تخلف عنهم غرق))، فينبغي أن يكونوا مستحقين للعقاب بما فعلوه، محبطين لثوابهم؛ لأن الغرق في الذنب لا يستعمل إلاّ وقد بلغ نهايته، وتبين ذلك أن المتخلف عن سفينة نوح وجب أن يستحق العقاب الشديد، على وجه يبطل ثوابه إن كان له،كذلك هنا". هذا كلامه بلفظه.
[اعتراضات على أدلة حجّية إجماع العترة وجواباتها]
الفائدة الخامسة: في إبطال ما يتعلق به صاحب هذه المقالة من الخيالات في إجماع العترة:..

(1/103)


إعلم أن أدلة العترة على صحة إجماعها، وكونه حجة يجب اتباعها، مما يكثر عده، ولا يكمل حده، وهي أدلة مستوفاة في تصانيف أئمتنا وعلمائنا، ملخصة البراهين، مهذبة المسالك، والإشارة هاهنا إلى أشف ما يمكن التعلق به من الاعتراضات، فمنها على الآية الشريفة وهي قوله تعالى: {إِنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيُذْهِبَ عَنْكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيرًا(33)}[الأحزاب]
اعتراض: زعموا أن المراد بالآية أزواجه صلى الله عليه وآله وسلم.
جوابه: أنها لو كانت في الزوجات، لوجب في الخطاب أن يكون بلفظ التأنيث، فكان صيغته (ليذهب عنكن الرجس).
قالوا: إن الخطاب ورد على صيغة جمع المذكر لتعظيمهن، كما تقول في سلامك على المرأة العظيمة: (السلام عليكم)، وكما يقال ذلك للواحد المعظم.
قلنا: لا يصح لوجهين: 1- أولهما: أن لفظة أهل البيت - عليهم السلام - إذا أطلقت، لم يقصد بها إلاّ أقارب الرجل دون نسائه، وعليه كلام الرسول صلى الله عليه وآله وسلم: ((أهل بيتي كالنجوم كلما أفل نجم طلع نجم))، إنما قصد صلى الله عليه وآله وسلم علياً والحسن والحسين وأبناءهما،

(1/104)


وقوله صلى الله عليه وآله وسلم: ((أهل بيتي أمان لأهل الأرض، كما أن النجوم أمان لأهل السماء))(11) الحديث إلى آخره، وإنما قصد صلى الله عليه وآله وسلم الوصي وأسباطه، فلو كانت لفظة (أهل البيت) متناولة لزوجاته، لما ساغ هذا الكلام؛ لأن الزوجات قد ذهبن، ولم يأت أهل الأرض ما يوعدون، ومن ذلك كلام ابن عباسٍ رضي الله عنه لمعاوية - لعنه الله- تعالى وقد دخل عليه، فقال معاوية - لعنه الله-: "ما أسرع ما وخطك الشيب يا ابن عباس".
فقال: "نحن أهل البيت يسارع إلينا الشيب".
______________
([11]) - قال الإمام الحجة مجدالدين بن محمد بن منصور المؤيدي أيده الله تعالى في لوامع/ج/1/64:
قال الإمام الناصر عبد الله بن الحسن عليه السلام: الدليل الثاني [على أن الأربعة وذريتهم هم أهل البيت(ع)]قول النبي صلى الله عليه وآله وسلم: ((النجوم أمان لأهل السماء وأهل بيتي أمان لأهل الأرض فإذا ذهب أهل بيتي من الأرض ذهب أهل الأرض)) أخرجه أحمد بن حنبل عن علي عليه السلام وعمار رضي الله عنه؛ وأخرج معناه الطبراني والحاكم؛ وقال صحيح الإسناد ولم يخرجاه.
فلو كان أهل البيت الأربعة فقط لكان قد ذهب أهل الأرض.
قلت: أخبار النجوم والأمان شهيرة رواها الإمام الهادي إلى الحق في الأحكام وكتاب معرفة الله، والإمام الرضى علي بن موسى الكاظم بسنده المتصل عن آبائه عليهم السلام، والإمام أبو طالب والإمام الموفق بالله والإمام المرشد بالله والإمام المنصور بالله عليهم السلام بأسانيدهم، وصاحب جواهر العقدين عن سلمة بن الأكوع؛ وقال: أخرجه مسدد وابن أبي شيبة وأبو يعلى والطبري في ذخائر العقبى عن سلمة أيضاً؛ وصاحب الجواهر أيضاً عن أنس قال: قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: ((النجوم أمان لأهل السماء وأهل بيتي أمان لأهل الأرض فإذا هلك أهل بيتي جاء أهل الأرض من الآيات مايوعدون)) قال: أخرجه ابن المظفر من حديث عبدالله بن إبراهيم الغفاري، وعن علي بن أبي طالب رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: ((النجوم أمان لأهل السماء)) الخبر بلفظ ماتقدم أخرجه أحمد في المناقب، وهو في ذخائر العقبى بلفظ قال: وعن قتادة عن عطاء عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: ((النجوم أمان لأهل الأرض من الغرق، وأهل بيتي أمان لأمتي من الإختلاف فإذا خالفتها قبيلة من العرب اختلفوا فصاروا حزب الشيطان)) قال: أخرجه الحاكم؛ وقال الحاكم في المستدرك: هذا حديث صحيح الإسناد.
قلت: وهذا الخبر يفيد أن متابعتهم أمان من الإختلاف كما أن وجودهم أمان من الذهاب والهلاك، ورواه الحاكم الجشمي عن سلمة؛ ومحمد بن سليمان الكوفي رضي الله عنهم من ثلاث طرق عن سلمة بن الأكوع.
وروى في الشافي عن أمير المؤمنين صلوات الله عليه: ((مثل أهل بيتي مثل النجوم كلما مر نجم طلع نجم))؛ وفي نهج البلاغة: ((مثل آل محمد كمثل النجوم إذا خوى نجم طلع نجم))؛ وفي الأمالي عن نصر بن مزاحم قال: سمعت شعبة يقول: قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: ((مثل أهل بيتي في أمتي مثل النجوم كلما أفل نجم طلع نجم)) قاله لما ظهر الإمام إبراهيم بن عبدالله عليهما السلام.
ورواه الإمام المنصور بالله عليه السلام عن علي بن بلال، عن شعبة، ورواه الإمام المرشد بالله عليه السلام بسنده إلى موسى الكاظم بسند آبائه عن علي عليهم السلام، عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قال: ((أهل بيتي أمان لأهل الأرض كما أن النجوم أمان لأهل السماء، فويل لمن خذلهم وعاندهم)).
قال الإمام الناصر عليه السلام: الدليل الثالث: قول النبي صلى الله عليه وآله وسلم: ((إني تارك فيكم)) الحديث إلى قوله: ((لن يفترقا حتى يردا علي الحوض)) وهذا الحديث متواتر انتهى المراد من كلام الإمام عبدالله بن الحسن الناصر الأخير، في الأنموذج الخطير.
وقد وشحنا فصوله بما وفق الله تعالى إليه، ولولا العناد لم يحتج في كثير من هذه الأبواب وأمثالها إلى الإستشهاد، فهي أنور من فلق الصباح، وأبين من براح.....
وفي تعب من يحسد الشمس نورها انتهى من اللوامع. ويجهد أن يأتي لها بضريب
وفي المستدرك على الصحيحين 3/162 برقم 4715 عن النبي صلَّى الله عليه وآله وسَلَّم ((النجوم أمان لأهل الأرض من الغرق، وأهل بيتي أمان لأمتي من الإختلاف، فإذا خالفتها قبيلة من العرب اختلفوا فصاروا حزب إبليس)) وقال هذا حديث صحيح الإسناد.
وروى في المعجم الكبير 7/22 برقم 6260 عن إياس بن سلمة عن النبي صلَّى الله عليه وآله وسَلَّم ((النجوم جُعلت أماناً لأهل السماء، وإن أهل بيتي أمان لأمتي))، وفي فضائل الصحابة 2/671 برقم 1145 عن علي عليه السلام قال: قال رسول الله صلَّى الله عليه وآله وسَلَّم: ((النجوم أمان لأهل السماء، إذا ذهبت النجوم ذهب أهل السماء، وأهل بيتي أمان لأهل الأرض، فإذا ذهب أهل بيتي ذهب أهل الأر ض)).......

(1/105)


ومن كلام علي عليه السلام لأهل الكوفة:
(وجزاكم الله من أهل مصر عن أهل بيت نبيكم أحسن ما يجزي العاملين بطاعته، والشاكرين لنعمته، فقد سمعتم، وأطعتم، ودُعيتم فأجبتم) هذا كلامه عليه السلام.
وقد بان أنه ما أراد بأهل البيت إلاّ نفسه وذريته الطاهرة.
ومنه قوله عليه السلام: (فنظرت، فإذا ليس لي معين إلاّ أهل بيتي، فضننت بهم عن الموت).
ويكفي في نصب الحجة على أنَّ لفظة "أهل البيت" تقع على أقارب الرجل دون الزوجات هذا الكلام المذكور آنفاً، وهو قوله عليه السلام: (فنظرت، فإذا ليس لي معين) إلى آخره، وعلي عليه السلام مما لا يشك في استقامة لسانه وفصاحة منطقه.
ومن كلامه عليه السلام: (والله ما كان يلقى في روعي، ولا يخطر ببالي أن العرب تنزع سلطان محمد عن أهل بيته) أو قال: (تزعج هذا الأمر عن أهل بيته) أو كما قال.
ومن كلامه عليه السلام: (من أحبنا أهل البيت فليعد للبلاءِ جلباباً).
...

(1/106)


وكلامه عليه السلام لا يحصى كثرة في إطلاق هذه اللفظة قاصداً بها نفسه وذريته، إما مصرحاً، أو ملوحاً.
ومن كلام الناصر الكبير عليه السلام: "بيتان طاهران، بيتي وبيت القاسم بن إبراهيم عليهم السلام، أما بيتي فيخرب، وأما بيت القاسم، فيبقى معموراً إلى يوم القيامة"، يريد أولاده وأولاد القاسم، وكم عسى أن يعد الإنسان من الشواهد من شعر العرب:
إن أبا ثابت لمجتمع الرّأي .... شريف الآباء والبيت
يريد بالبيت أولاده وقومه، قال في ضياء الحِلوم: "البيت عيَال الرجل، والبيت واحد بيوتات العرب"، فلم ينازع نشوان على شدة تعصبه على العترة في أن البيت عيَال الرجل
قالوا: فما معنى أهل بيتي كالنجوم؟ وكأنه قال: "أهل أولادي"، وكذا في قوله: "أهل البيت" فكأنه قال: "أهل أولادي".
قلنا: إن أهل بيت الرجل أولاده وقرابته، وإذا أُطلق لفظ "البيت" من دون ذكر "الأهل" أفاد أولاد الرجل، ومتى قيل: "أهل البيت"، أفاد هذه الفائدة، ولا يلزم ما قلتم؛ لأن لأولاد الرجل اسمين أحدهما نفس لفظ "البيت"، والثاني نفس لفظ "أهل البيت"، وقد قال نشوان: "إن الأهل الأتباع"، فلما كثر استعمال ذلك، سمي بهما أهل بيت الرجل، وهذا تحامل من نشوان، وهو ظاهر التهافت، أليس قد أقر أن الأصل في "الأهل" الأتباع؟ وأن الأتباع لما كثر، سمي بذلك أهل بيت الرجل، فلا بد هاهنا من اسم ومسمى، والإسم لفظ "الأهل" بزعمه، والمسمى "أهل بيت الرجل"، فعلى هذا الإسم هو المسمى لأن المسمى عنده "أهل بيت الرجل"، والإسم لفظ "الأهل"، ومعلوم أن الإسم غير المسمى، وإلاّ لزم إحتراق من يلفظ بإسم النار، شعراً:
لو كان من قال ناراً أحرقت فمه .... لَمَا تلفظ باسم النار مخلوق

(1/107)


وقد بان بهذا أن تحامل نشوان على عترة الرسول صلى الله عليه وآله وسلم أعشى ناظري بصيرته، وأعمى إنسان فطنته ولوذعيته، وأكْمه قلب براعته وألمعيته(13).
______________
([13]) - قال الإمام الحجة الحافظ مجدالدين بن محمد بن منصور المؤيدي أيده الله تعالى في لوامع الأنوارج/1/67:
وإن شئت أن تنظر غاية الخذلان، ونهاية التهافت في هذا الشأن، الدال على سلب التوفيق وعما البصيرة، الموقع لصاحبه في المباهته ومكابرة الضرورة، فانظر إلى أمثال هذيان نشوان في قوله:
آل النبي هم أتباع ملته .... من الأعاجم والسودان والعرب
لو لم يكن آله إلا أقاربه .... صلى المصلي على الغاوي أبي لهب­
ولعمر الله إن مثل هذا الاستدلال لايستحق الجواب لكونه مكابرة في مقابلة الضرورة، مع خلله وفساده، ووضوح عناده، لأولي الألباب، وإنما يجاب بمثل قول بعض قرناء الكتاب:
أشعة الفضل أعمت ناظريك فما .... فرّقت بين حصاء الأرض والشهب
وإنه ماكان ينبغي أن يصدر ممن له مسكة بصر، أو رائحة نظر، فضلاً عن مثل نشوان لولا الخذلان الشديد، والضلال البعيد، وإنه لايدرى أي وجهيه أعجب أمخالفة القواطع المعلومة من آية المودة ونحوها من الآيات وأخبار الكساء الدالة على الحصر والتعيين، وأخبار الثقلين المتواترة.
فمن المتروك؟ ومن المتروك فيهم؟ ومن المتمسك؟ ومن المتمسَّك بهم؟ وأخبار السفينة فمن المشبه بها؟ ومن المشبه براكبها؟ وغير ذلك مما لايحصى كثرة مما سبق وما يأتي ومالم نذكره، ولو لم يكن إلا ماورد في المعنى العام باللفظ الصريح من تحريم الزكاة على آل محمد صلى الله عليه وآله وسلم، في النصوص المعلومة، لجميع الأمة، وهذا ونحوه هو العمدة في الاستدلال وإنما ذكرت ماسبق وإن لم يكن فيه نزاع لأن أصل آل أهل كما ذكروه فالمعنى واحد، أم اعوجاج الاحتجاج، الدال على وضوح اللجاج، وتنكب المنهاج.
قال السيد الإمام السباق، المجتهد على الإطلاق، صلاح بن أحمد المؤيدي في شرحه لهداية ابن الوزير المسمى لطف الغفار، الموصل إلى هداية الأفكار: وقلت أيضاً مستعيناً بالله سبحانه:
آل النبي هموا أهل الكساء كما .... جاءت به واضحات النقل عن كثب
قد قال أهلي بتقديم الإشارة في .... بعض الأحاديث قولا غير ذي كذب
وذاك حصر لهم فافطن لما زبرت .... أهل المعاني أولوا التحقيق في الكتب
وألحقوا بهمو أبناء ابنته .... إذ يلحقون به بالنص في النسب
واستقر ماضمت الأسفار من شرف .... سام لآل النبي السادة النجب
[وقل تعالوا] يفيد القطع أنهمو .... أبناء أحمد فادعوهم لخير أب
ذرية شرفت من نسبة عظمت .... ترددت في وصي طاهر ونبي
والله ميز آل الأنبياء بها .... في آل عمران لابالعجم والعرب
ذرية بعضها من بعضها فلذا .... قلنا هم الآل لا أبناء مطلب
إلى قوله:
قال الإله لنوح ليس إبنك من .... أهليك دع عنك عمَّا غير مقترب
كيف التعامي عن الإنصاف ويحك يا .... نشوان لم تصح لامن خمرة العنب
انتهى.
هذا وقد رويت توبته، والله أعلم بصحتها، والله سبحانه يقول: {إلاّ الَّذِينَ تَابُوا وَأَصْلَحُوا وَبَيَّنُوا} [البقرة:160]، فلا بد من الإصلاح والبيان كما شرطه الله تعالى مع الإمكان، والذي يقضي به هذا وكلام الإمام الهادي إلى الحق عز الدين بن الحسن عليه السلام حيث قال لما وقف على قبره ـ ولله دره ـ:
ياقبر نشوان ماضمنت من حكم .... ومن علوم له تُربي على الديم
ياقبر نشوان لولا النصب فقت على .... من كان من علماء العُرب والعجم
وهكذا كلام الإمام يحيى شرف الدين، والسيد الإمام الهادي بن إبراهيم الوزير عليهم السلام بقاؤه على ماكان، وكم لنشوان من إخوان وأخدان، في جميع الأزمان، ومع هذا فقد كان نشوان يعترف بالحق لآل محمد عليهم الصلاة والسلام، من ذلك قوله:
وذكرت آل محمد وودادهم فرض علينا في الكتاب مؤكد
وهذا نقض صريح لقوله السابق: آل النبي.. إلخ.
قال:
وذكرت زيداً والحسين ومولداً بأبي وأمي من ذكرت ومن بهم وأنا المناضل ضدكم عن دينكم لا أستعيض بدين زيد غيره إني على العهد القديم بحبكم لهم زكي الأصل نعم المولد يهدى الجهول ويرشد المسترشد والله يشهد والبرية تشهد ليس النحاس به يقاس العسجد كلف الفؤاد بكم وجسمي مبعد
وقوله:
سلام الله كل صباح يوم .... على خير البرية أجمعينا
على الغر الجحاجح من قريشٍ .... أئمتنا الذين بهم هدينا
بني بنت الرسول إلام كل .... يظن بكم من الناس الظنونا
فأبلغ ساكني الأمصار أنا .... بأحمد ذي المكارم قد رضينا
يعني الإمام أحمد بن سليمان عليه السلام قال:
بأكرم ناشيء أصلاً وفرعاً رضينا بالإمام وذاك فرض وأعلا قائم حسباً وديناً نقول به ونعلن مابقينا
وقال مخاطباً للإمام عليه السلام:
يابن الأئمة من بني الزهراء .... وابن الهداة الصفوة النجباء
وإمام أهل العصر والنور الذي .... هدي الولي به من الظلماء
كم رامت الكفار إطفاءاً له .... عمدا فما قدروا على إطفاء
شمس يراها الجاحدون فلم يطق .... منهم لها أحد على إخفاء
الأبيات وقد ذكرتها في شرح الزلف، وقد ذكر في اللآلي المضيئة ومآثر الأبرار، شرحي البسامة وغيرهما من أحوال القاضي نشوان بن سعيد الحميري مافيه الكفاية.

(1/108)


لنا على أن أهل البيت علي وفاطمة والحسنان وأولادهما دون الزوجات ما روته عائشة بنت أبي بكر، قالت: "ولد لأبي غلام، فحملته إلى النبي صلى الله عليه وآله وسلم، فقلت: يا رسول الله سمه فسماه محمداً.
فقلت: يا رسول الله ادع له بالبركة، فقال: ((اللهم بارك فيه واجعله محباً لنبيك وأهل بيته)).
قالت عائشة: فقاتلني والله بالبصرة مع علي بن أبي طالب عليه السلام، وذكرت عند ذلك الدعوة، فوددت أنّي كنت سقيمة سبع سنين ولم أسر ذلك المسير"، فهذه عائشة سيدة زوجاته صلى الله عليه وآله وسلم إعترفت على نفسها بأن أهل البيت قرابة الرسول صلى الله عليه وآله وسلم، فمن قال غير ذلك، فقد ادعى للخصم ما لم يدعه لنفسه.
لنا أيضاً ما قاله هشام بن عبد الملك - لعنه الله تعالى- لزيد بن علي عليهما السلام حين قال له: "بلغني أنك تهم بالقعود في هذا المجلس، وأن أمك أمة، ولا يصلح ولد أمة لهذا الأمر"، أو كما قال.
فقال زيد بن علي عليهما السلام: (مَا أمي مع أمك إلاّ كأم إسماعيل مع أم إسحاق)، وقيل: بل قال زيد بن علي عليهما السلام: (إن النبوة فوق الإمامة، وقد كان إسماعيل نبيا وأمه أم ولد)، فبهت هشام وقال: "زعمتم أنه قد فني [أهل هذا البيت]"، فأقر هشام أن "أهل البيت" هم أولاد فاطمة عليها السلام على شدة عداوته. شعراً:

(1/109)


ومناقب شهد العدو بفضلها .... والفضل ما شهدت به الأعداء
لنا ما قاله الحسن البصري:"قتل مع الحسين ستة وعشرون من أهل بيته، والله ما على وجه الأرض من أهل بيت يشبّهون بهم".
قالوا: قال تعالى: {فَأَسْرِ بِأَهْلِكَ}[هود:81] {وَسَارَ بِأَهْلِهِ}[القصص:29] وقال أبوبكر: "وليت عليهم خير أهلي"، فالمراد بقوله: "سار بأهله زوجته"، وبقول أبي بكر: "خير أهلي" أتباعي لا أقاربي.
قلنا: أكبر دليل على نشوان قوله تعالى: {فَأَسْرِ بِأَهْلِكَ بِقِطْعٍ مِنَ اللَّيْلِ وَلَا يَلْتَفِتْ مِنْكُمْ أَحَدٌ إِلَّا امْرَأَتَكَ}[هود:81] واستثنى من الأهل امرأة الرجل، ولو كان المراد بالأهل امرأة الرجل لما ساغ هذا الاستثناء؛ لأنه كان يلزم أن يستثني زوجته من زوجته، وهذا ظاهر السقوط.
قالوا: إن الاستثناء ليس من الالتفات، إنما هو من السري، فأسر بأهلك إلاّ امرأتك.
قلنا: هذا أوضح في بطلان هذه المقالة، فكأنه قال: فأسر بامرأتك إلاّ امرأتك، وعلى الوجهين في الإستثناء يلزم ما قلناه...

(1/110)


وأما الآية الأخرى، فإنّا لا ننكر أن تسمى زوجة الإنسان أهلاً، ولكن على المجاز لا الحقيقة، لأن أهليتها معرضة للزوال، بإيقاع الطلاق وأمثاله، مما يوجب بطلان عقد النكاح، وفي اللغة الحقيقة والمجاز، وهذا مما لا ينكر، وعلى هذا لفظة الأخوة في الدين مجازاً، وعلى هذا جرت العادة بين الخلف والسلف في لفظ الولد والوالد بقول الصغير للكبير: أنت لي والد، والكبير للصغير: أنت لي ولد، وهذا من باب المجاز.
وفي الحديث عليّ والد المسلمين رواه الديلمي، والمعنى أنه عليه السلام عظيم الشفقة عليهم، فكأنه لهم كالوالد.
ومن ذلك الحديث المشهور: ((سلمان منا أهل البيت))، المعنى أن مودته وصحبته أدخلاه مدخلاً خاصاً، فكأنه من جملة الأهل، وعليه [قول الكميت]:
كانت مودة سلمان له رحماً .... ولم يكن بين نوح وابنه رحم

(1/111)


وأما قول أبي بكر: "وليت عليهم خير أهلي"، فمعناه خير قرابتي، لأن عدياً وتيماً أهل، فمن أين لنشوان انه أراد خير من اتبعني وأطاعني؟ ثم لو سلمنا ذلك، كان مجازاً كما ذكرنا مثله في حديث سلمان لما كانت مودة عمر لأبي بكر عظيمة أكيدة، كان كأنه من أهله، وهذا مجاز، وأمثاله معروفة، وكذا قوله تعالى لنوح عليه السلام: {إِنَّهُ لَيْسَ مِنْ أَهْلِكَ}[هود:46] معناه يرجع إلى ما ذكرناه من المجازات لما خالف ابن نوح أباه في دينه خرج عن مودته ومحبته، وقد قال شاعرهم:
تعصي الإله و[أنت] تزعم حبّه .... إنّ المحبَّ لمن يحبُ مطيع
فكان قوله تعالى: {إِنَّهُ لَيْسَ مِنْ أَهْلِكَ}[هود:46] مجاز، بمعنى ليس من أهل مودتك على الحقيقة، ولهذا قال نوح عليه السلام: {إِنَّ ابْنِي مِنْ أَهْلِي}[هود:45]، معناه من قرابتي، فكان الجواب غير مطابق لكلام نوح؛ لأنه لم يرد من أهل طاعتي وأتباعي، إذ كان هذا كذب، والكذب لا يجوز على الأنبياء عليهم السلام، بل أراد من قرابتي الخاصة، فأجيب أن القرابة قرابة الدين لا قرابة النسب، ويلزم نشوان أحد أمرين في قول نوح: {إِنَّ ابْنِي مِنْ أَهْلِي}[هود:45] على زعمه أن الأهل الأتباع:

(1/112)


* إمّا الكذب، والأنبياء معصومون عن ذلك.
* وإما الجهل بأن لفظة الأهل لا تطلق إلاّ على الأتباع، ولا محيص من أحدهما.
ويؤيد ما ذهبنا إليه من أن الأهل القرابة ما ورد في القرآن من ذلك في غير مكان، ومن ذلك قول موسى: {وَاجْعَلْ لِي وَزِيرًا مِنْ أَهْلِي(29) هارون أخي}[طه:29-30]، وقال في أيوب عليه السلام: {وَوَهَبْنَا لَهُ أَهْلَهُ}[ص:43] وقال تعالى: {وَإِنَّ لُوطًا لَمِنَ الْمُرْسَلِينَ(133) إذ نجيناه وأهله}[الصافات:134]، وقال تعالى لنوح عليه السلام: {احْمِلْ فِيهَا مِنْ كُلٍّ زَوْجَيْنِ اثْنَيْنِ وَأَهْلَكَ}[هود:40]، وفيه {وَنَجَّيْنَاهُ وَأَهْلَهُ مِنَ الْكَرْبِ الْعَظِيمِ(76) }[الصافات] وعلى هذا يجري الكلام في الرد على نشوان في لفظ الآل.
ومن افترائه العظيم وتزويره إنكاره أن يكون لفظ الآل قرابة الرجل، واحتج بالآية الشريفة {أَدْخِلُوا ءَالَ فِرْعَوْنَ أَشَدَّ الْعَذَابِ(46) }[غافر]، وبقول عبد المطلب:
نحن آل الله في بلدته .... لم نزل ذاك على عهد إبرهيم
ولنا على هذا جوابان أولهما من باب المعارضة، والثاني من باب الإفادة وإبطال هذا الخيال.

(1/113)


الجواب الأول: ما ظهر واشتهر ورواه المؤالف والمخالف من قوله صلى الله عليه وآله وسلم: ((حرمت الصدقة على محمد وعلى آل محمد))(18)، فإن قال نشوان: آله أتباعه، لزمهم أن تكون الصدقة محرمة عليهم لا يجوز لهم تناولها، والمعلوم من الشريعة جواز الزكاة للأتباع الفقراء، وإن قال: بل آله ذريته، فهذا ما قلناه، والرجوع إلى الحق خير من التمادي في الباطل.
الجواب الثاني: ما أشرنا إليه من قبل أن هذا وارد على سبيل المجاز، فكأن أتباع فرعون لمَّا لزموا طريقته وصرّفهم في إرادته وصرفهم إلى عبادته، صاروا كأنهم أولاده، يحكم عليهم بما أراد، وينفذ إليهم ما أحب، وهذا ظاهر البيان، واضح البرهان، ومجازات القرآن أكثر من أن تحصى في هذا المختصر.
وأما شعر عبد المطلب، فهو على هذا الأسلوب، وأوردوا عليه ما لايوصف من الشواهد، ولما كانت مكة بيت الله الحرام، وهم فيها على بقية من دين خليله عليه السلام، فأفرع بيته في قالب البراعة المجازية لا جرم أنه كان من أهلها، بيد أنه عبدالمطلب وأبوه.
عمرو العلا هشَم الثريد لقومه .... ورجال مكة مسنتون عجاف
__________________
([18]) - روي بألفاظ متقاربة في صحيح مسلم 2/751 برقم 1069، سنن الدارمي 1/451 برقم 1591، أحمد بن حنبل 1/200 برقم 1723، صحيح ابن حبان بترتيب ابن بلبان 8/89 برقم 3294، صحيح ابن خزيمة 4/59 برقم 2347، السنن الكبرى 5/194 برقم 8645، المعجم الكبير 3/76 برقم 2710

(1/114)


وأراد بالمجاز إنا كآل الله عز وجل، لو كان له آل تعالى عن ذلك الله علواً كبيراً، بحمايته لنا، ومدافعته عنا، وجعله لنا بلداً حرماً، وبيتاً محجوجاً، {رَبَّنَا إِنِّي أَسْكَنْتُ مِنْ ذُرِّيَّتِي بِوَادٍ غَيْرِ ذِي زَرْعٍ عِنْدَ بَيْتِكَ الْمُحَرَّمِ رَبَّنَا لِيُقِيمُوا الصَّلَاةَ فَاجْعَلْ أَفْئِدَةً مِنَ النَّاسِ تَهْوِي إِلَيْهِمْ وَارْزُقْهُمْ مِنَ الثَّمَرَاتِ}[ابراهيم:37] فاستجاب الله دعوة خليله، وخصهم من فضله بجميله وجليله.
نعم: وإيراد الشواهد على أن لفظ "الآل" أولاد الرجل وذريته مما يسمج إيراده لظهوره وكثرته وانتشار الأمر وشهرته، شعراً:
وهبني قلت هذا الصبح ليل .... أيعمى العَالمون عن الضياء
ومكابرة نشوان لا يعتد بها ذوو الألباب، وهي لاحقة بصرير الباب، وطنين الذباب.
وأما نقيقه بالبيتين المشهورين، فلسنا من هذيانه بجازعين، ولامن ثرثرة لسانه بمروّعين، شهد لنا التنزيل، واعتزى إلى آبائنا جبريل، فقال عليه السلام في خبر الكسا: (وأنا منكم)، وجاءت أم سلمة لتدخل رأسها، وقالت: (وأنا منكم يا رسول الله)، فقال: ((لستِ منا وإنكِ لعلى خير))(23)، فسميت أم سلمة الخير، فأين يتاه بابن سعيد؟
ما يضر البحر أمسى زاخراً .... أن رمى فيه سفيه بحجر
________________
([23]) - قال الإمام الحجة مجدالدين بن محمد بن منصور المؤيدي أيده الله تعالى في لوامع الأنوار ج/1/55:
وقد لخص البحث في أخبار الكساء من هذا الوجه الإمام الناصر الأخير عبدالله بن الحسن عليه السلام في الأنموذج الخطير، ولفظه: وقد دلّ الحديث على تخصيص علي وفاطمة والحسن والحسين عليهم السلام، وإخراج غيرهم، من الموجودين في ذلك الوقت من وجوه:
الأول: أنه دعاهم دون غيرهم، ولو شاركهم غيرهم في كونه من أهل البيت عليهم السلام، لدعاه.
الثاني: اشتماله عليهم بالكساء دون غيرهم ليكون بياناً بالفعل مع القول.
الثالث: أنه قال: ((اللهم إن هؤلاء أهل بيتي)) مؤكداً للحكم بإنّ.
الرابع: تعريف المسند إليه بالإشارة الذي يفيد تمييزه أكمل تمييز كما يعرفه علماء المعاني.
قلت: وهذه الصيغة من طرق الحصر، كما صرح به أهل المعاني والبيان وأصول الفقه، وقد وردت هذه الصيغة في غير هذا المقام، لما نزل قوله تعالى: {فَقُلْ تَعَالَوْا}[أل عمران:61] الآية، دعا رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم علياً وفاطمة وحسناً وحسيناً فقال: ((اللهم هؤلاء أهلي)) أخرجه الحاكم عن عامر بن سعد عن أبيه وقال: حديث صحيح، ورواه عن سعد قال: لما نزلت هذه الآية ((ندع)) دعا علياً وفاطمة وحسناً وحسيناً، فقال: ((اللهم هؤلاء أهل بيتي)) أخرجه مسلم والترمذي كلاهما في الفضائل أفاده في الإقبال عن كتاب كشف المناهج قال للعلامة صدر الدين محمد بن إبراهيم السلمي الشافعي انتهى.
قال: الخامس: أنه أتى بالجملة مكررة للتأكيد ليرفع توهم دخول الغير، كما هو شأن التأكيد اللفظي عند أهل اللغة.
السادس: دفعه لأم سلمة رضي الله عنها بأن قال لها: ((مكانك أنت إلى خير)).
وفي بعض الأخبار: ((لست من أهل البيت أنت من أزواج النبي)) صلى الله عليه وآله وسلم، وفي بعضها ((أنت ممن أنت منه)) دل بإخراجها على خروج جميع الزوجات، وأيضاً علل إخراجها بأنها من الزوجات.[راجع التحف شرح الزلف ط3 /355].
فإن قلت: إن في بعض الأخبار عن أم سلمة قالت: يارسول الله ألست من أهل البيت؟ قال: بلى فادخلي في الكساء فدخلت.
قلت: الجواب عنه من وجوه ثلاثة:
الأول: أن روايات دفعها أكثر وأصرح، فكانت أولى وأرجح.
الثاني: أنه لم يشر إليها معهم بقوله: ((هؤلاء أهل بيتي)) ولم يدعها وأيضاً قالت: فدخلت بعدما قضى دعاءه لابن عمه، وابنيه وفاطمة، فعَرفَتْ أن دخولها كان على جهة التبرك فقط.
الثالث: أنه ما أدخلها إلا على وجه الإيناس، وتجنباً للإيحاش، بدليل أنه ما أدخلها إلا بعد أن سألته، ثم إن في الروايات الأُخر مثل رواية أبي الحمراء وغيره أنه كان يأتي إلى باب علي وفاطمة ثمانية عشر شهراً أو تسعة أشهر ويتلو الآية، ولم يكن في البيت أم سلمة ولاغيرها وهكذا ماقاله في حق واثله بن الأسقع، فظهر أنه لم يرد إلا الإيناس.
قلت كما ورد من نحو ((سلمان منا أهل البيت))، ((وشيعتنا منا)) مما يعلم قطعاً أن ليس المراد في الأحكام الخاصة على الحقيقة وإنما هو في الاتصال والانضمام.
قال الإمام رضي الله عنه: السابع: أنه لو اريد غيرهم في الآية لما دعاهم وحدهم ولما أشار إليهم وحدهم؛ بل يكون ذلك الفعل والحكم بأنهم أهل البيت وحدهم تلبيساً وخيانة في التبليغ وحاشا رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم عن ذلك، فيقطع حينئذ مع هذه الوجوه بخروج غيرهم عن أن يكون من أهل البيت سواء كن الزوجات او الأقارب كبني العم أو نحوهم كما يقتضيه بيانه وإيضاحه صلى الله عليه وآله وسلم للمقصود من الآية، انتهى من اللوامع.
وقد ورد حديث الكساء بألفاظ مختلفة في المعجم الكبير 23/337 برقم 783، الجامع الصحيح سنن الترمذي 5/351 برقم 3205، المستدرك على الصحيحين 2/451 برقم 3558، سنن البيهقي الكبرى 2/150 برقم 2683، المعجم الكبير 3/52 برقم 2662.

(1/115)


وقوله: وكان يلزم دخول أبي لهب في الصلاة على الآل فقول محال، أَوَلَمْ يسمع إلى قوله تعالى لنوح في ولده: {إِنَّهُ لَيْسَ مِنْ أَهْلِكَ}[هود:46] كما قدمنا بيانه،كذلك هاهنا، وإنما أراد التهويل.
ومن عجائبه: إنكار قوله: "إن لفظ الآل ذرية الرجل" وهو يسمع ويتلو {إِنَّ اللَّهَ اصْطَفَى ءَادَمَ وَنُوحًا وَءَالَ إِبْرَاهِيمَ وَءَالَ عِمْرَانَ عَلَى الْعَالَمِينَ(33) ذريةً بعضها من بعض والله سميع عليم}[آل عمران:33-34] أوَ لا ترى كيف فسَّر الله تعالى [الآل] بالذرية تفسيراً ظاهراً، لا يحتاج إلى طائل نظر،‍‍‍‍‍‍‍‍ ونصب ذريةً على البدل من الآل.
ومن القرآن قوله تعالى: {يَرِثُنِي وَيَرِثُ مِنْ ءَالِ يَعْقُوبَ}[مريم:6] وقوله تعالى: {فَقَدْ ءَاتَيْنَا ءَالَ إِبْرَاهِيمَ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ}[النساء:54] بعد قوله تعالى: {وَجَعَلْنَا فِي ذُرِّيَّتِهِمَا النُّبُوَّةَ}[الحديد:26] وفسر هَاهنَا الذرية بالآل، كما فسر الآية الأولى الآل بالذرية، فقد بان أن أحدهما هو الآخر، وقد تعامى من خالف في ذلك، وسلك أعوج المسالك، وعلينا الدليل، وعلى الأمة الاستدلال، موجب إرث الجنين الاستهلال.
ومن نظم قاله الصنو عماد الدين محمد بن أحمد في العترة المطهرة سلام الله عليهم:

(1/116)


نحن على رغم عداةٍ لنا .... نبقى إلى يوم تزول الجبَال
في كل عصر و لنا قائمٌ .... يهدي إلى الرشد وينفي الضلال
فقل لمن رام زوالاً لنَا .... مُتْ كمداً مَا إنْ لنا من زوال
نحن بنوا المختار نبقى على .... رغم المعَادين على كل حَال
وآله ليس له غيرنا .... آل وإن قيل فقولٌ محَال
آل رسول الله أسباطه .... والشمس لا يشبهها لمع آل
من قال فيهم غير مَا قلته .... فأمّه أصل فساد المقال
2- الجواب الثاني: من أصل الإعتراض، وهو أن المراد بأهل البيت عليهم السلام في الآية الشريفة زوجاته صلى الله عليه وآله وسلم، وقد تخلل في الوجه الأول الذي فرغنا منه كلام لم يكن هذا المكان موضعه، لكن الحديث يجرّ بعضه بعضاً.
خذا أنف هرشا أو قَفَاها فإنه .... كلا جَانبيْ هرشا لهن طريق
وتحقيق الجواب الثاني أنه لا يصح أن يكون لفظ أهل البيت يعود إلى الزوجات؛ لأنه لو كان كذلك لوجب أن يكون إجماعهن حجة، ولا قائل بذلك، وإنما قلنا أنه يلزم أن يكون إجماعهن حجة لمثل الذي قلناه في إجماع أهل البيت عليهم السلام من نفي الرجس المذكور في الآية، وتحرير الدلالة على ذلك في مواضعها من كتب الزيدية، زين الله علومها بأقمار العترة المحمدية.

(1/117)


خيال: زعموا أن أول الآية وما بعدها في ذكر الزوجات، فيجب أن يكون أهل البيت الزوجات لتوسط هذا اللفظ بين ذكر الزوجات أولاً وآخراً.
جوابه: من وجهين:
أولهما: ما قدمناه من تحقيق لفظ أهل البيت ووقوعه على ذرية الرسول صلى الله عليه وآله وسلم وامتناع وقوعه على الزوجات، كما مر تقريره وتلخيصه.
الوجه الثاني: أن جمل القرآن يجوز أن يتخلل بعضها بعضاً والمراد ببعضها غير المراد بالآخر، وقد ورد ذلك في سورة الصافات حيث قال تعالى: {فَإِنَّكُمْ وَمَا تَعْبُدُونَ(161)}[الصافات] وهذا خطاب موجه إلى بني آدم، ثم قال حكاية عن الملائكة: {وَمَا مِنَّا إِلَّا لَهُ مَقَامٌ مَعْلُومٌ(164)}[الصافات] ثم رد الخطاب إلى بني آدم، فقال: {وَإِنْ كَانُوا لَيَقُولُونَ(167) لَوْ أَنَّ عِنْدَنَا ذِكْرًا مِنَ الْأَوَّلِينَ(168)}[الصافات] وهذا عين ما نحن فيه، ذكر الله تعالى في أول الجمل الزوجات، ثم ذكر أهل البيت، ثم رجع إلى ذكر الزوجات.

(1/118)


إعتراض: ذكره سيدنا الإمام العلامة فخرالدين عبدالله بن حسن الدواري، أيده الله تعالى، قال: "هذا ما ذكر أصحابنا في وجه دلالة الآية، وفيه نظر؛ لأنه يقال: ليس في عصمتهم مَا يقضي بكون قولهم حجة، ولهذا فإن كل واحد من الخمسة معصوم، وقول الواحد منهم ليس بحجة، إلاّ قول أمير المؤمنين عليه السلام لدلالة غير العصمة"، هذا كلام سيدنا منقول من بعض حواشيه، وبيض الكاغد من دون جواب.
الجواب عن هذا الاعتراض من وجهين:
* أحدهما: أن الآية دلت على عصمتهم، والخبر دل على أن قولهم حجة، وهو قول النبي صلى الله عليه وآله وسلم: ((إني تارك فيكم ما إن تمسكتم به لن تضلوا من بعدي أبداً كتاب الله وعترتي أهل بيتي))...إلى آخره، فقرن بين العترة والكتاب، وقد ثبت أن كتاب الله حجة، فوجب لاقترانهم به أن يكون قولهم حجة، وإلاّ بطل معنى الإقتران وهو لا يجوز.
* الوجه الثاني من الجواب: أنا لا نسلم أن قول المعصوم ليس بحجة، بل هو حجة واجبة الاتباع، والوجه في ذلك القطع على صدق قوله، وعلى إستحالة الكذب عليه، ولا أبلغ في الحجة من هذا.

(1/119)


فأما قوله: "إن قول كل واحد من الخمسة على الانفراد ليس بحجة، إلاّ قول علي عليه السلام"، فقد ذكر فيه أقوال، وأصحها أن قول كل واحد منهم على الانفراد حجة، ذكر ذلك الشيخ أبوالقاسم البستي، واحتج على ذلك بحجج لا يسعها هذا الموضع، وجواب مولانا جمال الدين فيه بعض نظر؛ لأنه يؤدي إلى التوقف والدور، فلا يكون الإجماع الأول حجة حتى يكون الآخر حجة، وذلك باطل.
جواب آخر: أن الآية إذا دلت على عصمة أهل البيت عليهم السلام، وَجب أن يكون إجماعهم حجة، بدليل أنهم أجمعوا على ذلك، فيكون الدليل على أن إجماعهم حجة إجماعهم على أن إجماعهم حجة، يزيده بياناً أن الآية قد دلت على عصمتهم، والمعصوم إذا قال: قولي حجة كان قوله حجة، ولا يجوز مخالفته؛ لأنه لا فائدة في العصمة إلاّ سلامة الأقوال والأفعال من الكبائر، والكذب من جملتها على الصحيح، وإذا قال المعصوم: قولي حجة، وَجب إتباعه، ولم يجز نزاعه، هذا ما سنح من الجواب على هذا الإعتراض، وقد عرضته على سيدنا العلامة فاستحسنه، وقد أشار إلى هذا الإمام الحسن بن بدرالدين عليه السلام في أنوار اليقين.

(1/120)


الفائدة السادسة من أصل المسألة: وهي هل يعتد بمن في جانب الإمامية من أهل البيت في حصر مسألة الإمامة في أولاد السبطين.
واعلم: أن خلاف الإمامية ومن في جانبها لا يعتد به في هذه المسألة، وإنما كان الأمر كذلك لوجهين:
أولهما: أن مذهب الإمامية حادث في زمن المأمون بن هارون، قال السيد الدامغاني في رسالته المسماة "بالجوهرة الخالصة عن الشوائب في العقائد المنقومة على جميع المذاهب": "إن أول من وضع مذهب الإمامية أبوالدوانيق، لما أثخن القتل في أولاد الحسن، وعرف أنه لا يزال يخرج عليه من العلوية قائم بالخلافة، ورأى جماعةً من الشيعة تذكر قيام القائم بالإمامة، وتعتقد أن إمامها منصوص عليه، وهو غائب عنها، وهم الكيسَانية، فلاحت له الحيلة، فأعملها في جماعة من أصحابه، وبعث إلى الأقطار، وأمر ببث هذا المذهب في جهال الشيعة، وهم لا يشعرون، وصنع له نسخةً، ووضعها مع بعض أصحابه، وأمرهم بالتشيع وإظهاره". انتهى

(1/121)


وقيل: مذهب الإمامية وضعه المأمون، ينفر الناس من الخروج مع الأئمة من أولاد الحسن، وجعله شبهة ليعميهم، وقال المأمون مفتخراً:"رأيي في صرف الناس عن محبة أولاد الحسن خير من رأي آبائي"، معناه: أن رأي آبائه كان حصد شجرة النبوة، وإطفاء نورهم، وأبى الله إلاّ ظهوره، ولهذا لا يعتد بخلاف مَنْ في جانب الإمامية من العترة؛ لأن إجماع أهل البيت عليهم السلام سابق لمذهب الإمامية، وابتداؤه على اختلاف الروايتين سنة ست وثلاثين ومائة، وفيها ابتداءُ دولة المأمون، فقد حصل بهذا أن مذهب الإمامية حادث، وأن إجماع العترة سابق له، والحمد لله، فلا اعتراض والحال هذه.
وأما الوجه الثاني: وهو ما يعتمده أصحابنا في كتبهم الكلامية في هذه المسألة، وهو أن الأمة افترقت في جواز الإمامة في أولاد البطنين على قولين، وقد بطل أحدهما، وهو قول الإمامية فيتعين الحق في قول الآخرين، إذ لو لم يكن كذلك لكان الحق قد خرج عن أيدي الأمة، وخروج الحق عن أيدي الأمة لا يجوز، وهذه دلالة عقلية قاطعة، وليست من باب الإجماع، ذكره سيدنا فخرالدين في كتابه "جوهرة الغواص"، وذكره أيضاً الفقيه شرف الدين محمد بن يحيى حنش في غياصته.
الفائدة السابعة: وبها يتم الجواب عن هذه المسألة، فقد قدمنا في الفائدة التي قبلها صحة سبق إجماع العترة لمذهب الإمامية، وأن مذهبها محدث ضعيف، ولما سمعه جعفر الصادق عليه السلام أنكره على الشيعة فأبوا، وقالوا: إن جعفراً ينكر علينا هذا تقية على نفسه.

(1/122)


المسألة الرابعة:
[بحث في فاطمة عليها السلام]
ماذا تراه العترة النبوية فيمن فضل عائشة على فاطمة عليها السلام في باب العلم، وفُهِم منه تجهيل البتول صلوات الله عليها؟ هل يجوز له الإقدام على هذا، والقطع من دون مخرج أم لا؟.
الجواب والله الهادي إلى الصواب: أنه لا ينبغي لمسلم أن يقطع على أن عائشة أكثر علماً من فاطمة عليها السلام، لأن فاطمة وإن لم تظهر الرواية الواسعة عن أبيها صلى الله عليه وآله وسلم يجوز أن تكون أعلم من عائشة، يزيده بياناً أن فاطمة عليها السلام لم يُثْنَ لها الوساد بعد وفاة أبيها صلى الله عليه وآله وسلم بل كانت أيام حياتها بعده صلى الله عليه وآله وسلم سبعين يوماً وليلة، رواه السيد أبو العباس الحسني في كتاب "المصابيح"، وهي في هذه الأيام اليسيرة متجرعة للمصائب، مرهقة بالنوائب، اجتمع عليها في هذه الأيام حزن أبيها صلى الله عليه وآله وسلم، ونزع فدك من يدها، وانكارهم لها حق الوراثة والنحلة، وهجومهم دارها، والتوعد بتحريقه، وإخراجهم لعلي عليه السلام مجروراً من دار رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، وردهم لشهادة شهودها، إلى غير ذلك من الأفعال الشنيعة، ثم اتصل بعد ذلك مرض الوفاة المفضية بها إلى دار الكرامة، فلا ينبغي لمسلم أن يقطع عليها بجهل علوم الشريعة، وكيف وهي درة أصدافها، ورضيعة أخلافها، وعقيلة أشرافها، من عبد منافها؟

(1/123)


كما أن عائشة لو كانت هي الهالكة بعد رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم لماتت وهي عالمة بما روي عنها من الرواية عنه صلى الله عليه وآله وسلم، ولم يكن لأحد أن يقطع عليها بجهل، فأولى منها وأحرى بضعة المصطفى، وأم الأئمة الخلفاء.
ولا يلزم على هذا التجويز في غير البتول، فيقال: يلزم على هذا أن كل من مات مجهول الحال يجوز أن يكون عالماً مبرزاً؛ لأنّا إنما جوزنا ما ذكرناه في حق فاطمة عليها السلام حين كان علم الصحابة إنما هو رواية عن الرسول صلى الله عليه وآله وسلم والحفظ لما نفث به من الحكمة، وهذا مجوَّز في حق فاطمة عليها السلام، لكثرة مجالستها لأبيها صلى الله عليه وآله وسلم ومجالستها لعلي عليه السلام وهو باب مدينة العلم، فحصل من هذا كله صحة التجويز المانع من القطع على أن غيرها أعلم منها. هذا ولا ننكر أن عائشة مختصة بأشياء روتها عن الرسول صلى الله عليه وآله وسلم لمكان الزوجية، كقولها: قَبَّل رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم بعض نسائه وهو صائم، فقيل لها: وهل هي إلاّ أنت؟ فضحكت، ونحو: ((تحيضي في علم الله ستاً أو سبعاً كما تحيض النساء))، ونحو: ((حتيه، ثم اقرصيه، ثم لا يضرك أثره))، وأمثال هذه الأشياء من أحكام الجماع والحيض والنفاس والتقبيل لشهوة، ولا شك أن للزوجات من الإختصاص بهذه الأشياء ما ليس للبنات،

(1/124)


ثم إن فاطمة عليها السلام كانت ترجع في مثل هذه الأحكام إلى بحر العلم الزخّار الذي قال فيه صلى الله عليه وآله وسلم: ((أنا مدينة العلم، وعلي بابها، فمن أراد المدينة، فليأت الباب))(42)، وقد كانت صلوات الله عليها محافظة على أنواع الطاعة، سابقة إلى محاسن الخيرات ومجالسة سيد السادات.
وكنت جليس قعقاع ابن سورٍ .... ولن يشقى لقعقاع جليس
وهذه المسألة مما لا تكليف علينا فيها؛ لكنها هاجت بالنواصب لوعة العدوان، وغلت في صدورهم مراجل الشنآن، فأرادوا نقص البتول الأمينة، ووصم الجوهرة الفائقة الثمينة.
لا أبالي أنبَّ بالحزن تيسٌ .... أم جفاني بظهر غيب لئِيمُ
وإذ قد نجز الغرض من الجواب على النواصب، فنحن نتكلم في أربعة وجوه:
* الأول: في طرف من الإشارة إلى فضل البتول.....
* الثاني: في الدليل على عصمتها.
* والثالث: في طرف من أخبارها.
* والرابع: في حكم من نسب إليها ما يصمها، وفرط منه ما يُؤْذِن بتجهيلها.
_____________
([42]) - قال المولى العلامة الحسن بن الحسين الحوثي رحمه الله تعالى في التخريج:
أخرجه الحاكم عن جابر وعن ابن عباس، والخطيب عن ابن عباس، وابن عدي والعقيلي عن ابن عباس، ورواه الكلابي عن ابن عباس، وأخرجه ابن المغازلي عن ابن عباس، وعن جابر، وعن علي، بطرق أخرى، وفيه: (كذب من زعم أنه يصل المدينة إلاَّ من قِبَل الباب).
وصححه أبو عبدالله الحاكم ومحمد بن جرير الطبري، عن ابن الأمير محمد بن إسماعيل، والكنجي عن علي، ونحوه عن جابر، وصدره عن ابن عباس كما يأتي.
وأخرج نحوه الطبراني عن ابن عباس بلفظ: ((فليأته من بابه)).
وأخرجه ابن المغازلي بلفظ: ((ولا تؤتى البيوت إلاَّ من أبوابها))، عن علي.
وأخرج الترمذي، وأبو نعيم، والكنجي، وابن المغازلي: ((أنا دار الحكمة وعلي بابها))، عن علي عليه السلام.
وزاد ابن المغازلي: ((فمن أراد الحكمة فليأتها من بابها))، أخرجه ـ أيضاً ـ عن ابن عباس بالزيادة بلفظ: ((فمن أراد الحكمة فليأت الباب)).
وقوله صلى الله عليه وآله وسلم: ((علي باب علمي ومبيِّن لأمتي ما أرسلت به من بعدي"...إلخ)). أخرجه الديلمي.
وروى في (المحيط) عن الإمام أبي طالب رفعه بطريقه إلى ابن عباس، قال: قال النبي صلى الله عليه وآله وسلم: ((أقضى أمتي بكتاب الله علي، فمن أحبني فليحبه، فإن العبد لا ينال ولا يتي إلاَّ بحب علي)).
وأخرج الخطيب وابن المغازلي عن أنس: ((أنا وهذا ـ يعني علياً ـ حُجَّة على أمتي يوم القيامة)). وقال: (أنا الصديق الأكبر). أخرجه ابن قتيبة عن معاذة العدوية.
وقال علي: (أنا عبدالله، وأخو رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، وأنا الصديق الأكبر، لا يقولها بعدي إلاَّ كاذب، صليت قبل الناس سبع سنين)، أخرجه الحاكم عن عبدالله الأسدي عن علي، وقال: صحيح على شرط الشيخين. تمت تفريج.
وقوله صلى الله عليه وآله وسلم: ((علي عيبة علمي))، أخرجه ابن عدي عن ابن عباس.
وقوله صلى الله عليه وآله وسلم: ((أعلم أمتي من بعدي علي بن أبي طالب)) أخرجه الديلمي عن سلمان.
وقوله صلى الله عليه وآله وسلم: ((علي أعلم الناس بالله...إلخ)) أخرجه أبو نعيم، عن علي عليه السلام، انتهى من التخريج.
وهو في المستدرك على الصحيحين 3/138 برقم 4639،المعجم الكبير 11/65 برقم 11061...

(1/125)


[فضل فاطمة عليها السلام]
أما الوجه الأول: ففضائلها عليها السلام مشهورة، ومحامدها النبوية مأثورة، قال الإمام المنصور بالله الحسن بن محمد عليهما السلام في كتابه المعروف "بأنوار اليقين" ما لفظه: "روينا عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم أنه قال: ((فاطمة بضعة مني من آذاها فقد آذاني، ومن آذاني فقد آذى الله [ومن آذى الله] يوشك أن ينتقم منه))(44)، ولم [يُروَ] هذا في بنت أحد سواها.
_______________
([44]) - قال الإمام الحجة مجدالدين بن محمد بن منصور المؤيدي أيده الله تعالى في لوامع الأنوار ج/2/577:
وقال ـ صلى الله عليه وآله وسلم ـ: ((إنما فاطمة بضعة مني يؤذيني ما آذاها)) أخرجه البخاري، ومسلم، وأخرجه أحمد بزيادة: ((وينصبني ما أنصبها))، والترمذي؛ وقال: صحيح، والطبراني، والحاكم في المستدرك، والضياء المقدسي في المختارة.
وبلفظ: ((إنما فاطمة بضعة مني، فمن آذاها فقد آذاني)) أخرجه الحاكم عن أبي حنظلة.
قال في المحيط: وهو خبر معروف لا ينكره أحد.
وبلفظ: ((إنما فاطمة بضعة مني، فمن أغضبها أغضبني))؛ أخرجه ابن أبي شيبة عن محمد بن علي، وأخرجه البخاري.
والروايات في هذا أكثر من أن تحصر.
إلى قوله أيده الله تعالى:
وفي الفرائد: وقد ورد في الحديث المتفق عليه المؤالف والمخالف: ((فاطمة بضعة مني، فمن أغضبها فقد أغضبني)) بجميع ألفاظه وسياقاته مثل: ((من آذاها فقد آذاني)) ((يريبني ما يريبها)) وغير ذلك، كما في كتب الحديث، انتهى من اللوامع.
وهو في: الآحاد والمثاني 5/361 برقم 2955، المعجم الكبير 22/404 برقم 1010، صحيح مسلم 4/1903 برقم 2449، الجامع الصحيح المختصر 3/1361 برقم 3510، أحمد بن حنبل 4/5 برقم 16168، صحيح ابن حبان بترتيب ابن بلبان 15/535 برقم 7060، السنن الكبرى 5/97 برقم 8370، المستدرك على الصحيحين 3/173 برقم 4750، فضائل الصحابة 2/755 برقم 1324.
..

(1/126)


وروينا عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم أنه قال: ((إذا كان يوم القيامة نادى مناد من تحت الحجب يا أهل الجمع غضوا أبصاركم ونكّسوا رؤوسكم، هذه فاطمة بنت محمد رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم تريد أن تمر على الصراط))(46).
________________
([46]) - قال المولى العلامة الحسن بن الحسين الحوثي رحمه الله تعالى في التخريج:
عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ((إذا كان يوم القيامة نادى منادٍ من وراء الحجاب يا أهل الجمع غضوا أبصاركم عن فاطمة بنت محمد حتى تمر)) أخرجه الحاكم عن علي عليه السلام، وعنه صلى الله عليه وآله وسلم نحوه وأخره ((حتى تجوز فاطمة الى الجنة)) أخرجه أبو بكر في الغيلانات عن أبي هريرة.
وعنه صلى الله عليه وآله وسلم: ((إذا كان يوم القيامة حملت على البراق، وحملت فاطمة على ناقتي الخ))، أخرجه ابن عساكر عن علي عليه السلام.
وعنه صلى الله عليه وآله وسلم نحو حديث أبي هريرة: ((إذا كان يوم القيامة الى قوله حتى تجوز فاطمة بنت محمد صلى الله عليه وآله وسلم)) أخرجه أبو الحسين بن نشران في فوائده، والخطيب عن عائشة.
وعنه صلى الله عليه وآله وسلم: ((إذا كان يوم القيامة قيل يا أهل الجمع غضوا أبصاركم حتى تمر فاطمة بنت محمد صلى الله عليه وآله وسلم فتمر وعليها ربيطتان خضراوان)) أخرجه الحاكم وأبونعيم، والطبراني عن علي عليه السلام، انتهى من التخريج.
وهو مروي في: المستدرك على الصحيحين 2/763 برقم 1344،المعجم الكبير 1/108 برقم 180، فضائل الصحابة 2/763 برقم 1344.

(1/127)


وروينا عنه صلى الله عليه وآله وسلم أنه قال لفاطمة عليها السلام: ((إن الله عز وجل يغضب لغضبك ويرضى لرضاك))(47).
وروينا عنه صلى الله عليه وآله وسلم: ((فاطمة حصنت فرجها فحرم الله ذريتها على النار)) يعني من ولدته بنفسها.
وعنه صلى الله عليه وآله وسلم أنه قال: ((إنما سميت ابنتي فاطمة لأن الله فطمها وفطم محبها من النار)).
_______________
([47]) - قال الإمام الحجة مجدالدين بن محمد بن منصور المؤيدي أيده الله تعالى في لوامع الأنوار ج/2/577:
قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: ((يا فاطمة إن الله يغضب لغضبك، ويرضى لرضاك)) أخرجه الإمام علي بن موسى الرضى بسند آبائه ـ عليهم السلام ـ.
وأخرجه الإمام المرشد بالله (ع) في أماليه الأنوار بسنده إلى الإمام الحسين بن زيد بن علي، وعلي بن عمر بن علي، عن جعفر بن محمد، عن آبائه ـ عليهم السلام ـ، قال: قال رسول الله ـ صلى الله عليه وآله وسلم ـ لفاطمة ـ عليها السلام ـ: ((إن الله ـ عز وجل ـ يغضب لغضبك، ويرضى لرضاك)).
وأخرجه ابن المغازلي عن الإمام الحسين بن زيد، عن جعفر بن محمد، عن آبائه ـ عليهم السلام ـ.
وأخرجه الفقيه حميد الشهيد بسنده إلى جعفر بن محمد، عن أبيه بسنده السابق: أن رسول الله ـ صلى الله عليه وآله وسلم ـ، قال: ((يا فاطمة إن الله...الخبر)).
وأخرجه الكنجي عن الحسين بن علي.
وأخرجه أبو سعيد، وأبو المثنى، والديلمي، والطبراني، والحاكم في المستدرك، وأبو نعيم في الفضائل، وابن عساكر، وصححه المحدث أحمد بن سليمان الأوزري، والشيخ الحافظ محمد بن عبد العزيز العنسي.
وفي النهاية في مواد الكلم حديث: ((إن الله يغضب لغضب فاطمة، أو: لغضبك يا فاطمة)) أفاده الإمام محمد بن عبدالله الوزير (ع)، انتهى من اللوامع.
وهو في المعجم الكبير 22/401 برقم 1001، الآحاد والمثاني 5/363 برقم 2959، المستدرك على الصحيحين 3/167 برقم 4730.

(1/128)


وروينا عن علي عليه السلام أنه قال: ((كان رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم إذا خرج كان آخر عهده بفاطمة عليها السلام وإذا رجع كان أول عهده بفاطمة عليها السلام)).
وروينا عن ابن عباس رضي الله عنهما أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال: ((كأني أنظر إلى ابنتي فاطمة، وقد أقبلت يوم القيامة على نجيب من نور، على يمينها سبعة آلاف ملك، وعلى يسارها سبعة آلاف ملك، وبين يديها كذلك وخلفها كذلك، تقود مؤمنات أمتي إلى الجنة)).
وروينا عنه صلى الله عليه وآله وسلم أنه قال: ((فاطمة بضعة مني، يريبني ما رابها))".
ومن الجزء الرابع من صحيح مسلم يرفعه إلى المسور بن مخرَمة أنه حدث أنه سمع رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم على المنبر، وهو يقول: ((إن بني هشام بن المغيرة استأذنوا أن ينكحوا ابنتهم علي بن أبي طالب عليه السلام، ولا آذن لهم، ثم لا أذن لهم، ثم لا آذن لهم، إلاّ أن يحب علي بن أبي طالب أن يطلق ابنتي وينكح ابنتهم، فإنما ابنتي بضعة مني، يريبني ما رابها، ويؤذيني ما آذاها)).

(1/129)


قلت: وقد ذكر الإمام المؤيد بالله يحيى بن حمزة عليه السلام ما نقم على كل واحد من الصحابة في كتابه الموسوم "بالشامل" في علم الكلام، وأجاب عن كل واحد ما نقم عليه، فكان مما نقم على علي عليه السلام هذا الحديث، وتكلّم فيه الإمام، وقال: إن صح هذا الحديث، فهذه هفوة من أبي الحسن عليه السلام.
ولما تكلم في الذي نقم على أبي بكر، من إغضابه لفاطمة - عليها السلام - (إن الله يغضب لغضبها)، قال الإمام ما معناه: "لا حرج على أبي بكر في إغضاب فاطمة عليها السلام، إنما طلب منها إقامة البينة، وقد جاءت بعلي عليه السلام وأم أيمن، فقال: امرأة مع امرأة، أو رجل مع رجل.

(1/130)


قال الإمام يحيى عليه السلام: فَغَضَبُ فاطمة لذلك، وإنما طلب أبو بكر الحق، فإذا غضبت لأجله، فالحق أغضبها، فلا حرج على أبي بكر"، هذا معنى كلام الإمام يحيى(56) عليه السلام، ولقائل أن يقول: ما الفرق بين الصورتين، غضبها لطلب أبي بكر الحق، وغضبها لطلب علي الحق، لو سلمنا صحة الرواية، وحاشا له عن غضبها، وعن صحة الرواية، وهل فرق بين غضبها لتمام الشهادة، وغضبها بالنكاح لواحدة واثنتين عليها سلام الله؟ فلم أطلق الإمام إسم الهفوة على علي عليه السلام، وحاشا عنها أبا بكر؟ وهلا كان العكس أليق لمكان العصمة في حق المعصوم؟ وإمكان تأويل الحديث المذكور على ما سنذكره إن شاء الله تعالى، وبطلان أبي بكر عن العصمة فيما يأتي ويذر، وقد قيل: إن علياً عليه السلام كان هو الشاهد لفاطمة، والحسن والحسين وأم أيمن، فقد تم نصاب الشهادة، وشهادة ذوي الأرحام مقبولة، وإن كانت المسألة خلافية، فقد بان من مذهب أبي بكر قبول شهادة ذوي الأرحام، لما ظهر منه من الإعتذار بزيادة رجل مع الرجل، فقد قبل علياً عليه السلام في الشهادة، فما باله لم يقبل شهادة الحسن والحسين عليهما السلام لأمهما عليها السلام؟‍‍‍
قالوا: لم يعْلم أن الحسنين كانا شاهدين، فمن أين هذه الرواية؟ ومن صاحبها؟
________________
([56]) - قال الإمام الحجة / مجدالدين بن محمد بن منصور المؤيدي أيده الله تعالى في لوامع الأنوار ج/2/78:
قال الإمام محمد بن عبدالله (ع): وحكى الإمام عز الدين، عن الإمام يحيى [بن حمزة](ع)، نقلاً من كتابه المسمى التحقيق في الإكفار والتفسيق، ما نصه: والمختار عندنا أمران:
الأول: أن الذي ادعت فاطمة ـ عليها السلام ـ كان حقاً.
ثم قال ما حاصله: أنه شَهد لها أمير المؤمنين (ع)، وأم أيمن، فقال أبو بكر: رجل مع رجل، أو امرأة مع امرأة.
ثم قال أبو بكر: إن الله إذا أطعم نبيه طعمة فهي للخليفة من بعده.
فلما أقر بالملك لرسول الله ـ صلى الله عليه وآله وسلم ـ وإقراره مقبول، قالت: ويحك يا ابن أبي قحافة! ترث أباك ولا أرث أبي.
فاحتج بالخبر.
ثم ذكر إعراضها عنه، ورجوعها إلى قبر أبيها ـ صلى الله عليه وآله وسلم ـ وتمثلها بالأبيات المشهورة:
قد كان بعدك أنباء وهينمة .... لو كنت حاضرها لم تَكْثُرِ الخُطَبُ
...إلخ.
وهذه المناظرة ظاهرة لايمكن إنكارها.
ثم قال: الأمر الثاني: أنها صادقة فيما ادعته؛ لأن النبي ـ صلى الله عليه وآله وسلم ـ بشرها بالجنة، وأن منزلها ومنزل أمير المؤمنين حذاء منزله.
وساق أحاديث في شأنها وكمالها، وأحاديث ((فاطمة مني، يريبني ما يريبها، ويؤذيني ما يؤذيها))، فكيف لاتكون صادقة في تلك الدعوى، وقد شهد بصدقها أمير المؤمنين، ولا يشهد إلا بالحق، ولا يقول إلا الحق؟!.
انتهى باختصار.
قلت: وهذا تصريح بعصمة الوصي، وحجية قوله ـ صلوات الله عليه ـ كما قضت به النصوص النبوية، والحمد لله.
قال الإمام محمد بن عبدالله (ع): وقد روي عن الإمام زيد بن علي، وقد سأله سائل عن فاطمة بعد أبيها ـ صلوات الله عليهم ـ وكيف كان حالها مع القوم؟.
فأجاب ـ عليه السلام ـ: أما سمعت قول الذي عبر عما في نفسها بقوله:
غداة تنادي يابتا ما تمزقت .... ثيابك حتى أزمع القوم بالغدر
وحتى ارتكبنا بالمذلة والأذى .... وليس لأحرار على الذل من صبر
ولقد أجاد الشاعر، وصدق.
فهو رجوع منه عما في الشامل.
قلت: يعني من تصويب الحكم.
قال: فهذا رجوع إلى قول أسلافه الطاهرين.
قلت: وهذا يدل على اطلاع الإمام على تأخر كلام الإمام يحيى (ع) هذا.
إلى قوله أيده الله تعالى:
قال الإمام: وقد عرفت كلام الإمام يحيى (ع) في هذين المهمين، ورجوعه إلى مقالة أسلافه الذين لايقال لهم إلا ما قاله يوسف الصديق (ع): {وَاتَّبَعْتُ مِلَّةَ ءَابَائِي إِبْرَاهِيمَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ}[يوسف:38]، وما حكى الله في آية الاجتباء {مِلَّةَ أَبِيكُمْ إِبْرَاهِيمَ} [الحج:78]، انتهى المراد، انتهى من اللوامع...

(1/131)


قلنا: رواها الأمير الكبير العلامة صلاح ابن أمير المؤمنين في كتاب "الكواكب" وهو قدس الله روحه الثقة الأمين، الصادق في روايته، الناقل لها عن آبائه الأعلام، وسلفه الأئمة الكرام، ومنارج الإعتذارات واسعة، لكن إنما يوجب التأويل لمثل هذه الأمور حين ترد ناقضة للأدلة، وليس في خطأ أبي بكر ما ينقض دليلاً، لا من كتاب ولا سنة، حيث كان الخطأ جائزاً عليه.
وأما ما روي من هذه الأمور في حق المعصوم، فإنه متأول على أحسن وجوه التأويل؛ لأن في خلاف تأويله نقض أدلة العصمة، فلا جرم بكون التأويل في حق علي عليه السلام لازماً، وفي حق أبي بكر غير لازم، على أنا لو سلمنا صحة الحديث الذي رواه أبو بكر وهو قوله: ((إنّا معاشر الأنبياء لا نورث ما تركناه صدقة))، فهو لا يسلم من الخطأ في نزع فدك من يد فاطمة عليها السلام لوجهين:
أولهما: أن قبضه لفدك وصرفه لها في وجوه الصرف مبني على أصل فاسد عندنا، وما بني على الفاسد فهو فاسد؛ لأن أبابكر معتقد الإمامة، وأن أخذه لفدك من فروعها، وهذا مما لا تراه العترة الطاهرة الهادية، وأتباعها الفرقة المهدية الناجية.

(1/132)


وأما الوجه الثاني: فهو أن فدكاً لم يخلفها الرسول صلى الله عليه وآله وسلم ولا هي من تركته؛ لأنه كان قد نحلها ابنته فاطمة، فهي مما قد ملكته ملكاً شرعياً، فكيف ساغ له الإحتجاج بهذا الخبر في أمر فدك وحالها ما قلناه؟‍‍‍
وعلى كل حال فهو غير سالم من الوقوع في الخطأ بنزعه لفدك من يد البتول عليها السلام كيفما دارت القضية، فنسأل الله التثبت والهداية.
وأما تأويل الحديث المتقدم ذكره، ولأجله انتهينا إلى هذه الغاية فتأويل ما روي عنه صلى الله عليه وآله وسلم من وجهين:
أولهما: أنا لا نسلم صحة هذا الحديث المشار إليه؛ لأن ظاهره خالف كتاب الله عز وجل وقد قال صلى الله عليه وآله وسلم: ((ما روي عني، فأعرضوه على كتاب الله تعالى، فإن كان موافقاً له، فهو مني وأنا قلته، وإن لم يوافقه، فليس مني، ولم أقله))، فعرضنا ذلك على قوله تعالى: {فَانْكِحُوا مَا طَابَ لَكُمْ مِنَ النِّسَاءِ}[النساء:3] فلم يوافق القرآن، فعلمنا أنه غير صحيح، وأنه قضى بغضب الله ورسوله على علي عليه السلام وقد تقررت عصمته، فلا يجوز إغضاب الله ورسوله.

(1/133)


الوجه الثاني: من تأويل الخبر المذكور أن يكون المتكلم في زواجة علي عليه السلام بني هشام بن المغيرة، ولم يظهر أن الوصي عليه السلام استأذن رسول الله - صلى الله عليه وآله وسلم- في الزواجة، إنما المستأذن بنو هشام ابن المغيرة، فلعل خواطرهم حدثتهم بذلك، وأرادوا جرح خاطر النبي صلى الله عليه وآله وسلم فقد روي في آخر هذا الحديث قال عليه السلام: ((ولا يجمع الله بين بنت نبيه وبنت عدوه))، ومن كان موصوفاً بعداوة رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فغير بعيد أن يكون حريصاً على جرح صدر رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وهذا وجه لا غبار عليه.
قالوا: إن في تصحيح هذا التأويل إبطال، أو ليس قد قلتم أن ظاهر هذا الحديث يخالف القرآن؟! فلا يجوز أن يكون صلى الله عليه وآله وسلم تكلم بهذا الحديث أصلاً، لمناقضته للقرآن في جواز النكاح بأكثر من واحدة، فما معنى هذا؟!

(1/134)


قلنا: إنما ذكرنا هذا التأويل لكون الحديث من صحيح مسلم، وقد كثر الفقهاء في الصحاح، وادعوا أن رجلاً لو حلف بطلاق امرأته أن الذي في الصحاح مما قاله الرسول صلى الله عليه وآله وسلم لأفتوا ببقاء نكاحه، لصدق حلفه، فكان هذا التأويل لأجل ذلك، ولايلزم مما قلناه مناقضة الحديث للقرآن؛ لأنه لو صح لقلنا هذا خاص لفاطمة عليها السلام أنه لا يجوز لعلي عليه السلام الزواجة عليها، كما خُص الرسول صلى الله عليه وآله وسلم بزواجة تسع من الحرائر، فحسن هذا التأويل.
قالوا: ما أنكرتم أن تكون هذه المعصية صغيرة، والعصمة لا تمنع من وقوع الصغائر، ويكون المراد بقول الإمام عليه السلام: "هذه هفوة من أبي الحسن" يعني صغيرة من الهفوات.
قلنا: فارضوا منا مثل هذا في حق أبي بكر، فنقول ما أنكرتم أن يكون أبوبكر عاصياً في قبضه نحلة فاطمة، ورده شاهدها المعصوم، وأم أيمن رحمهما الله تعالى.
قالوا: إنه يمكن تأويل ذلك.
قلنا: ويمكن تأويل هذا.
قالوا: إن الإمام قد قال: "إن صح هذا الحديث، كانت هفوة من أبي الحسن"، فقد احترز بقوله: "إن صح".

(1/135)


قلنا: فهلا قال الإمام: إن صح أن أبا بكر أخذ فدكاً من يد فاطمة، فطلبها البينة على شيء هو في يدها وتصرفها، فالقول قولها فيما كان تحت يدها، وفعل هذا أبوبكر لغير وجه، فهذه هفوة من أبي بكر، ما بال طريق تهفية الوصي مسلوكة؟! وطريق تهفية أبي بكر متروكة؟! وهذا عارض من الكلام، ونعود إلى ما كنا فيه.
ومن كتاب "أنوار اليقين"، وروينا من كتاب الفقيه ابن المغازلي الشافعي الواسطي ما رفعه إلى أنس: أن أبابكر خطب فاطمة عليها السلام إلى النبي صلى الله عليه وآله وسلم فلم يرد إليه جواباً، ثم خطبها عمر فلم يرد إليه جواباً، ثم جمعهم، فزوجها علي بن أبي طالب – عليه السلام- وقيل: أقبل على أبي بكر وعمر فقال: إن الله عز وجل أمرني أن أزوجها من علي، ولم يأذن لي في افشائه [إلى] هذا الوقت فلم أكن لأفشي ما أمر الله تعالى به.
وروينا أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ليلة المعراج ناوله رضوان تفاحة، فتناولها، وخلقت فاطمة عليها السلام منها: حتى كان رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يقول: ((إذا اشتقت إلى الجنة، قبلت شفتيها فأجد فيها رائحة الجنة، وهي حورية إنسية)).

(1/136)


وروينا عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: "كان النبي صلى الله عليه وآله وسلم جالساً مع عائشة، فدخلت فاطمة عليها السلام، فعانقها النبي صلى الله عليه وآله وسلم وقبلها، وشم شفتيها، فقالت عائشة: ما أكثر ما تقبل فاطمة!
فقال: ((يا حميرا، أتدرين لماذا أقبلها))؟
قالت: لا.
قال: ((إنه لما أسرى بي جبريل إلى السماء، وأدخلني الجنة، فرأيت على بابها شجرة يقال لها: طوبى، حملها أصغر من الرمان وأكبر من التفاح، وأحلى من العسل، وأبيض من اللبن، وألين من الزبد، وأعذب من الشهد، ليس له عجم، فناولني جبريل عليه السلام واحدة منها، فأكلتها، فإذا عند أصل الشجرة عين يقال لها: سلسبيل، أبيض من اللبن، وأضوأ من الشمس، فسقاني جبريل من ذلك الماء، فشربت، فلما نزلت إلى الأرض، اشتهيت خديجة، فواقعتها، فحملت بفاطمة، وهي حورية إنسية، ليس يخرج منها ما يخرج من النساء عند الحيض، وإذا اشتهيت رائحة الجنة قبلتها، وشميت منها رائحة الجنة))".

(1/137)


قلت: يلوح من كلام عائشة في قولها للنبي صلى الله عليه وآله وسلم: ما أكثر ما تقبل فاطمة! كراهة ما شاهدته من شغف النبي صلى الله عليه وآله وسلم بثمرة فؤاده، ويشم من ذلك رائحة الحسد، كما هو عادة النسوان في الربايب، إلاّ من عصم الله، وقليل ما هم، والكلام في فضائل البتول عليها السلام لا يحصى، لكنا نقتصر هاهنا على هذا القدر.
[عصمة البتول ودليلها]
وأما الوجه الثاني : وهو في الدليل على عصمتها، فالدليل على ذلك آية التطهير المعروفة بأدلتها المحررة، وبراهينها المقررة، قال الإمام الحسن الداعي عليه السلام: روينا أنها لما نزلت آية التطهير، دخل رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم بيت فاطمة - عليها السلام - وهم نيام، فانزعجوا لدخوله، فقال: كما أنتم، وجاء النبي صلى الله عليه وآله وسلم بين صدر فاطمة وعلي، وأخذ رأس علي والحسن على يمينه، [ورأس فاطمة] والحسين على شماله - صلوات الله عليهم أجمعين - ورفع يده إلى السماء، وقال: اللهم هؤلاء أهل بيتي فأذهب عنهم الرجس وطهرهم تطهيراً، فقالت أم سلمة: وأنا منكم يارسول اللَّه، فقال: أنتِ إلى خير، وفي بعض الأخبار لست منهم وإنك لعلى خير، فسميت لذلك أم سلمة الخير، وقال جبريل عليه السلام، وقد أدخل رجله تحت العباة: وأنا منكم يا رسول الله، فقال: أنت منا، فصعد إلى السماء

(1/138)


يفتخر، ويقول من مثلي؟ وأنا من أهل بيت محمد صلى الله عليه وآله وسلم إني ليس في الملائكة لي نظير، في هذا المعنى، وهذا الخبر يدل على عصمتهم، وعلى جلالة قدرهم؛ لكون نبي الأنبياء ورسول الرسل، يزداد بهم فخراً، وهي عليها السلام خامسة المعصومين، وهي أم الأئمة الهادين.
قلت: فهل لِنشوان وجيله بعد هذا الخبر من طماعية في قولهم بزعمهم أن أهل البيت الزوجات، لولا مناكرة الحق الأبلج، والميل عن سوي المنهج.
قد تنكر العين ضوء الشمس من رمد .... وينكر الفم طعم الماء من السقم
[ولادة البتول وزواجها عليها السلام]
وأما الوجه الثالث: وهو في طرف من أخبار البتول - عليها السلام - كانت ولادتها بمكة، وعقد بها علي عليه السلام بالمدينة، سنة اثنتين من الهجرة، ودخل بها عليهما السلام في شهر صفر سنة ثلاث من الهجرة، وهذا طرف من أخبار الزواجة:

(1/139)


قال الإمام الحسن عليه السلام: لما زوج الله تبارك وتعالى فاطمة من علي - عليه السلام - أمر الملائكة المقربين أن يحدقوا بالعرش، وفيهم جبريل وميكائِيل وإسرافيل - عليهم السلام - فأحدقوا بالعرش، وأمر الحور العين أن تتزين، وأمر الجنان أن تزخرف، فكان الخاطب الله تبارك وتعالى، والشهود الملائكة، ثم أمر شجرة طوبى أن تنثر عليهم، فنثرت اللؤلؤ الرطب، مع الدر الأخضر، مع الياقوت الأحمر، مع الدر الأبيض، فتبادر الحور يلتقطن من الحلي والحلل، ويقلن هذا من نثار فاطمة ابنة محمد صلى الله عليه وآله وسلم.
قال الإمام: وفي حديث آخر عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم: "لما كانت ليلة الزفاف، أتى النبي صلى الله عليه وآله وسلم ببغلته الشهباء، وثنا عليها قطيفة، وقال لفاطمة عليها السلام: اركبي، وأمر سلمان أن يقودها، والنبي صلى الله عليه وآله وسلم يسوقها، فبينا هو في بعض الطريق إذ سمع النبي صلى الله عليه وآله وسلم وجبة، فإذا هو جبريل عليه السلام في سبعين ألفاً من الملائكة وميكائيل في سبعين ألفاً، فقال النبي صلى الله عليه وآله وسلم: ((ما أهبطكما إلى الأرض))؟

(1/140)


قالوا: جئنا نزف فاطمة إلى زوجها علي بن أبي طالب، فكبر جبريل، [وكبر ميكائيل] وكبرت الملائكة، وكبر محمد صلى الله عليه وآله وسلم، فوقع التكبير على العرايس من تلك الليلة".
[خبر فدك]
ومن أخبارها عليها السلام، ما كان من أمر فدك نحلتها من أبيها - صلى الله عليه وآله وسلم - قبضت خراج فدك أربع سنين في حياة النبي صلى الله عليه وآله وسلم، وكان خراجها والعوالي ثلاث مائة ألف دينار، ذكر ذلك أصحابنا في غير موضع، وذكره أبو العباس في مصابيحه عن جعفر الصادق - عليه السلام - قال: وفدك سبع قريات متصلات، وكان وكيل فاطمة عبداً يسمى جبير، أخرجه أبو بكر من فدك بعد خمسة عشر يوماً من وفاة الرسول صلى الله عليه وآله وسلم، فلما ورد وكيل فاطمة عليها السلام، قال: أخرجني أبو بكر، فسارت فاطمة عليها السلام، ومعها أم أيمن، ونسوة من قومها، إلى أبي بكر، فقالت: فدك بيدي أعطانيها رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم.
فقال: يا بنت محمد، أنت عندنا صادقة، إلاّ أن عليك البينة؟
فقالت: يشهد لي علي بن أبي طالب، وأم أيمن.
فقال: هاتي، فشهد أمير المؤمنين عليه السلام، وأم أيمن رحمها الله تعالى، فكتب لها صحيفة، فأخذتها فاطمة، واستقبلها عمر، وقال: يا بنت محمد، هلمي الصحيفة، ونظر فيها، ومزقها، وقيل: تفل فيها، ومحا ما فيها.

(1/141)


ومن كلام علي عليه السلام: (فوالله ما كنزت من ديناكم تبراً، ولا ادخرت من غنائمها وفراً، ولا أعددت ليالي ثوبي طمراً).
حتى قال عليه السلام: (بلى، كانت في أيدينا فدك فشحت عنها نفوس قوم، وسخت عنها نفوس آخرين، ونعم الحكم الله، وما أصنع بفدك وغير فدك؟ والنفس مظانُّها في غدٍ جدثٌ، تنقطع في ظلمته آثارها، وتغيب أخبارها)، الكلام المشهور إلى آخره.
قلت: وفي هذا الكلام ما يدل على أن نزع أبي بكر لفدك من يد فاطمة عليها السلام لم يكن بطريقة شرعية؛ لأنه عليه السلام قال: (فشحت عنها نفوس قوم)، والشح لا يدخل في الأحكام الشرعية، فلا يقال إذا حكم القاضي لأحد الخصمين على الآخر بشيء: شح القاضي على الخصم الآخر الذي لم يحكم له، بل يعد من قال ذلك ظالماً للقاضي، ناسباً إليه الجور في قضائه وحكمه، فلو كان انتزاع أبي بكر فدكاً بحكم الله على ما زعم، ما ساغ لعلي عليه السلام أن يقول: شحت نفس أبي بكر بفدك علينا، فسخت نفوسنا بها، ولينظر الناظر إلى قوله عليه السلام: (ونعم الحكَم الله)، لا بد أن يكون في ذكره لهذه الكلمة فائدة وغرض، فإن كان أبو بكر محقاً في أخذه لفدك، فلا فائدة لهذا التألم، بل لأبي بكر أن يقول: نعم الحكم الله بيني وبينكم، تعتقدون فيَّ الظلم والجور؟ وأنَا من ذلك براءٌ، فالله نعم الحكم في الاستنصاف لي من تجويركم، ونسبتكم إليّ مالم أتعد فيه حدود الله، ولم أتجاوز إلى غير حكمه والعمل بمقتضى شريعة نبيه صلى الله عليه وآله وسلم.

(1/142)


وإن كان أبوبكر غير محق في أخذه لفدك كان هذا الكلام لائقاً؛ لأنه في معنى التألم، والتظلم، وطلب الاتستنصاف من العدل الحكيم، ولا بد أن يكون هذا الكلام حجة لأبي بكر، أو حجة عليه، بأن يكون الكلام تظلماً منه ومن فعله.
* فإن كان الأول لزم أن يكون عليٌ متألماً لأبي بكر، مستنصراً له على فاطمة عليها السلام في غضبها عليه من دون موجب.
* وإن كان الثاني لزم أن يكون أبو بكر حاكماً في فدك بغير حجة ولا برهان، فانظر أين تضع قدمك ياسالك، واختر لنفسك أوضح المسالك، وأحسن في العقيدة لحالك، وميز ببصرك بين النهار الجلي والليل الحالك.

(1/143)


ونعود إلى ما كنا فيه: لما أكرم الله رسوله صلى الله عليه وآله وسلم بالنقله إلى دار الكرامة، ورضي له ما عنده، عمت مصيبة المسلمين، وخصت أهل بيته المطهرين، فبينا فاطمة عليها السلام تعالج سكرات فقده - صلى الله عليه وآله وسلم - إذ قبض أبو بكر فدكاً، ولم يقبل شهادة الوصي، وجاء بمعكوس الحكم في طلب البينة وإنكار الوراثة، وفعل معها تلك الأفاعيل، وقيلت تلك الأقاويل، والحليم تكفيه الإشارة، فلو أن مؤمناً مات لذلك كمداً وغيضاً وأسفاً، ما كان عندي به ملوماً، ولمّا أيست فاطمة عليها السلام من فدك، وفعل في جانبها ما فعل، أنشدت كالمناجية به رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم:
قد كان بعدك أنباء وهينمةٌ .... لو كنت فينا لما خفنا من النوب

(1/144)


قال الأمير صلاح الدين بن أمير المؤمنين، قدس الله روحه: وقع في تصرفهم (يعني المشائخ الثلاثة) من الجور ما لا ينكره إلا من عَنَدَ عن الحق من هتك حرمة الرسول صلى الله عليه وآله وسلم، وظلم البتول، أخرجوا واليها من مالها ونحلتها المعروفة لها، وطلبوا منها البينة على شيء في يدها، وحكموا فيها بغير حكم الله، كما قال أمير المؤمنين عليه السلام: فنكثوا عهد رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، وخالفوا إلى غير فعله، في أخذهم فدكاً من يد ابنته، فلما رأت عزمهم على أن يركبوها العنف، ويأخذها بالعَسْف، جاءت بأمير المؤمنين، والحسن عليهما السلام، وأم أيمن رحمها الله تعالى، يشهدون لها على دعواها بالنحلة، وهم عدول، قد حكم بتطهيرهم، فردوا شهادتهم، فماتت وهي غاضبة عليهم، بلا خلاف بين آبائنا عليهم السلام.
وكان من آخر كلامها الذي لقيت الله سبحانه وتعالى عليه ما ذكرته لنساء المهاجرين والأنصار، لما سألنها كيف أصبحت يابنت محمد؟

(1/145)


قالت: (أصبحت والله عائفة لدنياكم، قالية لرجالكم، شنيتهم بعد إذ خبرتهم، ولفظتهم بعد إذ عجمتهم، فقبحاً لفلول الحد، وخور القنا، وخطل الرأي، {لَبِئْسَ مَا قَدَّمَتْ لَهُمْ أَنْفُسُهُمْ أَنْ سَخِطَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ وَفِي الْعَذَابِ هُمْ خَالِدُونَ(80)}[المائدة]، ويحهم لقد زحزحوها عن قواعد الرسالة، وقواعد النبوءة، ومهبط الروح الأمين، والطيبين لأهل الدنيا والدين، ومانقموا من أبي الحسن؟! نقموا والله شدة وطأته، ونكال وقعته، وتنمره في ذات اللَّه، والله لو تكافوا على زمام نبذه إليه رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم لاعتقله، ولسار بهم سيراً سجحاً، لا ينكلم حشاشه، ولا يتعتع راكبه، ولأوردهم مورداً نميراً، تمير ضفتاه، ولأصدرهم بطاناً، قد تخيرهم الرّي، غير متحل منه بطائل إلاّ بغمزة الناهز، وردعة سورة الساغب، ولفتحت عليهم بركات من السماء والأرض، ولكن كذبوا، وسيعذبهم الله بما كانوا يصنعون، ألا هلممْن فاسمْعن، وما عشتن أراكن الدهر عجباً! إلى أي ركن لجأوا؟ وبأي عروة تمسكوا؟ فلبئس المولى، ولبئس العشير، وبئس للظالمين بدلاً، استبدلوا والله الذنابا بالقوادم، والعجز بالكاهل، وبعداً وسحقاً لقوم يحسبون أنهم يحسنون صنعاً، ألا إنهم هم المفسدون، ولكن لا يشعرون).
قال الأمير صلاح قدس الله روحه:

(1/146)


ولا خلاف بين آبائنا عليهم السلام أنها ماتت غاضبة عليهم، وقد قال صلى الله عليه وآله وسلم: ((فاطمة بضعة مني، يريبني ما رابها، ويؤذيني ما آذاها))، وقد قال صلى الله عليه وآله وسلم: ((إن الله ليغضب لغضبك، يا فاطمة)) ولله القائل!:
وما ضرهم لو صدقوها بما ادعت .... وماذا عليهم لو أطابوا جنانها
وقد علموها بضعة من نبيهم .... فلم طلبوا فيما ادعته بيانها
فإنا لله ما أفضعها من هفوة؛ وأشنعها من عثرة.
وأقول: إن هذا الكلام المروي عن البتول عليها السلام لعظيم موقعه، ممقرة جرعه، وقد رواه أكابر أئمتنا وعلمائنا وساداتنا، رواه المنصور بالله في كتابه "الشافي"، والسيد أبوالعباس في كتاب "المصابيح"، والإمام أحمد بن سليمان في كتاب "الحقائق"، وغيرهم، ممن يطول ذكره، وهو فيما أحسب كالإجماع من العترة المطهرة أن هذا الكلام كلام فاطمة عليها السلام، وإذا تأمله المتأمل وجد عليه طلاوة نبوية، ومسحة ليست إلا على كلامها عليها السلام، وهذه نفثة مصدور، وأنَّة محرور، ولله القائل! وهو محمد بن الحسن العليف:
أيظلم فيء لآل الرسول .... فتىً لسوى الحق لم يعدل
أراد لفاطمة إرثها .... وعادى معاوية في علي
وتقديم زيد وعمرو على .... علي أمَرُّ من الحنظل

(1/147)


[أسماؤها عليها السلام]
فائدة في أسمائها عليها السلام: قال الإمام الحسن: وروينا عن الصادق عليه السلام: لفاطمة ثمانية أسماء: الصديقة، والزهراء، والطاهرة، والزكية، والرضية، والمرضية، والبتول، وفاطمة.
[وفاتها عليها السلام]
فائدة في مدّة عمرها، وموضع قبرها: روينا عن جابر بن عبدالله قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يقول لعلي بن أبي طالب عليه السلام: ((أوصيك بريحانتي من الدنيا، فعن قليل ينهد ركناك، والله خليفتي عليك)).
فلما قُبِضَ رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قال عليه السلام: هذا أحد ركناي، قال: فلما ماتت فاطمة عليها السلام، قال عليه السلام: هذا الركن الثاني الذي قال لي رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم.
وروى السيد أبو العباس الحسني عليه السلام في مصابيحه عن علي عليه السلام، قال: لما حضرت فاطمة الوفاة دعتني، فقالت: أمنفذ أنت وصيتي وعهدي؟ أو والله لأعهدنّ إلى غيرك، قال: قلت بل أنفذها، قالت: أما الآن، فلا يشهدني أبو بكر، ولا عمر، ولا يصليا عليّ.
قال: ولما توفيت، أرسل الرجلان متى تريد دفنها؟ قال: قلت الصبح(107) إن شاء الله تعالى.
_________________
([107]) - لا يقال: إن في كلام الوصي صلوات الله عليه إخبار على خلاف ما هو به؛ لأنه لا يمتنع أن تكون إرادته عليهما السلام دفنها الصبح، ولكن منع من ذلك خشية حضورهما، فالإرادة المسئول عنها واقعة كذلك ولولا المانع لأخرها للصبح، وليس دفنها ليلاً يقتضي أن لا يكون خلافه مراداً فتدبر، وليس ببعيد لمح مثل هذا لباب مدينة العلم صلوات اللَّه عليه وهو أجل من أن يصدر في كلامه الخلف ((وإن في التعريض لمندوحة عن الكذب)) ولا حق لهم في ذلك، فلا بأس بإيقاع الوهم عليهم، والله الموفق، المفتقر إلى اللَّه تعالى/مجدالدين بن محمد المؤيدي عفا اللَّه عنهما.
أقول لله در المجيب بهذا فلقد أصاب الحق الصراح، ولا غرو فإنهم معدن العلم وأهله، من هامش (أ).

(1/148)


قال: وماتت في بيتي الذي في المسجد، فنقلتها إلى داري القصوى، وغسلتها في بيت فيه، فجعلت أغسلها، وتسكب علي الماء أسماء بنت عميس، ثم خرجت بها ليلاً، أنا وابناها الحسن والحسين، وعمار، وأبو ذر، والمقداد بن الأسود، وعبد الله بن أبي رافع، حتى دفناها بالبقيع، وبعث إليَّ الرجلان أحدهما على ميلين من المدينة، مع امرأة له من الأنصار، فجاء يركض وقد آثرت سبعة أقبر، ورششتها، فقالا لي: أغدرتنا؟
فقلت: لا ولكنه عهد ووصية، فأما أحدهما فنكس، وأما الآخر فقال: لو علمنا أن هواها أن لا نشهدها ما شهدناها.
وكان مدة عمرها ثمان عشرة سنة، وسبعة أشهر، وقيل: كان عمرها عليها السلام ثلاث وعشرون سنة، ومما روي عن الصادق عليه السلام هذه الأبيات:
يا سائلي مستخبراً .... عن كل معضلة ظريفهْ
إن الجواب لحاضرٌ .... لكنني أخفيه خيفهْ
لولا اتقاء رعية .... خلاّ سياستها الخليفهْ
وسيوف أعداء بها .... هاماتنا أبداً قطيفهْ
لنثرت من مكنون آ .... ل محمدٍ جُمَلاً ظريفهْ
تغنا به عما روا .... ه مالك وأبو حنيفهْ
وأريكم أن الحسيـ .... ـن أصيب في يوم السقيفهْ
ولأي شيءٍ أُلحدت .... في الليل فاطمة الشريفة
ولما حوى شيخاكم .... عن وطي حجرتها المنيفهْ
آهٍ لبنت محمد .... ماتت بغصتها لهيفهْ
لا تكشفنّ مغطياً .... فلربما كشّفت جيفهْ

(1/149)


[حكم من نسب إلى الزهراء الجهل]
وأما الوجه الرابع: وهو في حكم من نسب إلى فاطمة عليها السلام تجهيلاً، فحكمه الخطأ، إن لم يقصد الإستخفاف، وإن قصده وتهاون ببضعة الرسول صلى الله عليه وآله وسلم فليتبوأ مقعده في النار، وحكم السامع لذلك والقادر على الإنكار مثله، وقد تقدم مثله في المسألة الأولى.
المسألة الخامسة:
ما ترى العدلية المخلصون فيمن أنكر لعن معاوية -لعنه الله، ليس لأنه لا ينبغي للمؤمن أن يكون لعاناً كما ورد به الحديث، بل لأنه عند صاحب هذه المقالة أهل للترضية، حتى كان من كلامه: التوقف في معاوية مخالف لما عليه أهل السنة، ومن العجب أن القائل بهذه المقالة يعتزي إلى مذهب الزيدية، هل لصاحب هذه المقالة نصيب في ولاية علي عليه السلام؟ وهل يصدق فيما يظهره من محبة العترة النبوية، وادعائه للقول بإمامة أمير المؤمنين كرم الله وجهه؟ أم لا يصدق في هذا كله؟
وهل ثمة واسطة بين تخطية علي، والترضية على معاوية -لعنه الله -؟
وهل المرضّي عن معاوية سالم عن اعتقاد الخطأ في الإمام المعصوم؟
وهل صاحب هذه المقالة إلا صاحب ضلالة، وقامش جهالة؟! فما حكمه، والحال هذه؟ وما حكم العالم في مثل هذا، والمتمكن من إزالة هذه الضلالة؟
وهل يجب لعن معاوية حين يتهم الإنسان بموالاته؟ أم لا يجب؟..

(1/150)


وهل أُثِر عن أحد من علماء الزيدية والمعتزلة التوقف عن معاوية؟
الجواب والله الهادي إلى الصواب: ينحصر في سبعة أنماط:
الأول: في حكم معاوية.
والثاني: في حكم من ذهب إلى الترضية عنه.
والثالث: في أنه لا واسطة بين التخطية لعلي والترضية عن معاوية.
والرابع: في أن المرضّي عن معاوية معتقد للخطأ في علي عليه السلام، وغير سالم من هذا الاعتقاد.
والخامس: في حكم [هذا] العَالم، ومايلزم المتمكن من إزالة هذه الضلالة.
والسادس: في هل يجب لعن معاوية في حال؟
والسابع: في هل عُلم المتوقف في معاوية من علماء الزيدية والمعتزلة؟
[توضيح فسق معاوية بالدليل]
أما النمط الأول: وهو في حكم معاوية: فحكمه فاسق بلا خلاف بين الزيدية والمعتزلة، ومحققي علماء الأمة المحمدية، وفسقه من الأمور الظاهرة التي لا يحتاج فيها إلى دلالة، لتجلي الأمر في محاربة علي عليه السلام، وإذا أردنا إفحام المنكر للعن معاوية، قلنا له:
ما تقول في علي عليه السلام؟ هل هو إمام عندك؟ أوليس بإمام؟
فإن قال: ليس بإمام، نقلنا معه الكلام إلى الإستدلال بصحة إمامته، ولا يرتكب أحد هذه المقالة من الشيعة والمعتزلة وأهل المذاهب الأربعة.
وإن قال: بل أقول إن علياً عليه السلام إمام حق، قلنا: فما حكم الخارج على إمام الحق؟..

(1/151)


فإن قال فاسق، نقلنا معه السؤال، هل حارب معاوية علياً عليه السلام؟ أم لا؟
فإن أنكر أن يكون معاوية حارب علياً عليه السلام، فقد ارتكب إنكار الضروريات؛ لأن حرب معاوية لعلي معلوم بالضرورة بطريق التواتر، كعلمنا أن في الدنيا مكة، وما شابهها، مما لم نشاهده، وإن قال: بل حارب معاوية -لعنه الله- علياً عليه السلام.
قلنا: فيلزم من القول بأن من حارب إمام الحق فَسَقَ فِسْقُ معاوية وأصحابه، وإلا فما الإخراج من الإلزام لنا في الرد عليهم أنه لا خلاف بين المعتزلة والزيدية، في فسق طلحة، والزبير، وعائشة، وإنما فسقوا لخروجهم على إمام الحق، وهاهنا أصل وفرع وعلة وحكم، فالأصل خروج طلحة والزبير وعائشة، والفرع خروج معاوية، والعلة محاربة إمام الحق، والحكم فسق المحارب.
لنا ما روي عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم: أنه قال لعلي عليه السلام: ((تقاتل الناكثين والقاسطين والمارقين))(112)، فالناكثون طلحة والزبير، والمارقون الخوارج، والقاسطون معاوية وأصحابه.
_______________
([112]) - قال الإمام الحجة مجدالدين بن محمد بن منصور المؤيدي أيده الله تعالى في لوامع الأنوار ج/1/130:
روى الإمام الحجة المنصور بالله عبدالله بن حمزة عليه السلام في الشافي بسنده إلى صاحب المحيط بالإمامة، يبلغ به ابن عباس رضي الله عنهما: أن رسول اللَّه صلى الله عليه وآله وسلم تزوج زينب بنت جحش؛ ثم تحول إلى بيت أم سلمة فلما تعالى النهار انتهى علي إلى الباب فدقه دقاً خفيفاً، عرف رسول اللَّه صلى الله عليه وآله وسلم دقه؛ فقال: ((يا أم سلمة، قومي فافتحي له الباب، فإن بالباب رجلاً ليس بالخرق ولا بالنزق، ولا بالعجل في أمره، يحب اللَّه ورسوله، ويحبه اللَّه ورسوله)).
فقامت ففتحت؛ فدخل علي عليه السلام؛ فقال: ((يا أم سلمة، هو علي بن أبي طالب، لحمه من لحمي، ودمه من دمي، وهو مني بمنزلة هارون من موسى، إلا أنه لا نبي بعدي، يا أم سلمة، اسمعي واشهدي، علي أمير المؤمنين، وسيد المسلمين، وعيبة علمي وباب الدين، والوصي على الأموات من أهل بيتي، والخليفة في الأحياء من أمتي، أخي في الدنيا، وقريني في الآخرة، ومعي في السنام الأعلى؛ اشهدي يا أم سلمة، أنه قاتل الناكثين، والقاسطين، والمارقين)) انتهى.
وقال الإمام الحجة مجدالدين بن محمد بن منصور المؤيدي أيده الله تعالى في لوامع الأنوارج/1/218:
قال الإمام أبو طالب (ع): بعد أن روى عن عبدالله بن مسعود أنه قال: أمر علي بقتال الناكثين والقاسطين والمارقين، هذا حديث مستحسن لأن عبدالله بن مسعود توفي وقد حدث بأمر هؤلاء القوم قبل وقوعه بمدة.....إلخ.
قال المولى الحسن بن الحسين الحوثي رحمه الله تعالى في التخريج:
وروى ابن المغازلي من حديث المناشدة عن عامر عن علي قوله صلى الله عليه وآله وسلم: ((قاتلت على تنزيل القرآن، وتقاتل أنت على تأويله)) وقوله: ((إنك تقاتل الناكثين، والقاسطين، والمارقين)).انتهى.
وفي المستدرك على الصحيحين 3/150 برقم 4674 بسنده إلى الأصبغ بن نباتة قال: حدثني أبوأيوب الأنصار في خلافة عمر بن الخطاب قال: أمر رسول الله صلَّى الله عليه وآله وسَلَّم علي بن أبي طالب بقتال الناكثين والقاسطين والمارقين، ومله عن علي في مسند أبي يعلى 1/397 برقم 519، وفي المعجم الكبير 10/91 برقم 10054.

(1/152)


لنا قوله صلى الله عليه وآله وسلم لعمار بن ياسر رحمه الله تعالى: ((تقتلك الفئة الباغية))(114)، فقتله فئة معاوية في بعض أيام صفين، ولما قتل رحمه الله تعالى بعد أن كان الحديث مشهوراً ظهر لأهل الشام ضلال معاوية وبغيه، ومرج عليه أمره، فقال معتذراً وقد قيل له في ذلك: إنما قتله من جاءَ به، فألزمه علي عليه السلام أن يكون الرسول صلى الله عليه وآله وسلم قتل حمزة؛ لأنه جاء به إلى أحد.
لنا أيضاً قوله تعالى: {وَمَنْ يَقْتُلْ مُؤْمِنًا مُتَعَمِّدًا}[النساء:93] الآية، وقد قتل معاوية جماعة من المؤمنين، لا يحصون عدداً.
قال وروى السيد أبو العباس الحسني عليه السلام في مصابيحه: أن عمار بن ياسر قُتِل في ألف من المؤمنين، قتلهم معاوية وأصحابه، لعنهم الله، وقتل حجر بن عدي في سبعة من أهل بيته لمّا امتنع من البيعة، رواه المنصور بالله في "الشافي"، وروى السيد أبو العباس في كتاب "المصابيح": أن عدة القتلى يوم صفين كانت سبعين ألفاً.
قال الفقيه الديلمي رحمه الله: عشرون ألفاً من أهل العراق، من أصحاب علي، وخمسون ألفاً من أهل الشام، من أصحاب معاوية، وكانت الحرب أربعين يوماً.
_______________
([114]) - قال الإمام الحجة مجدالدين بن محمد بن منصور المؤيدي أيده الله تعالى في لوامع الأنوار ج/2/257:
قال الإمام (ع) في المعراج، في قوله ـ صلى الله عليه وآله وسلم ـ لعمار: ((ستقتلك الفئة الباغية)): هذا الحديث مما لاشك في صحته، وإطباق الأمة عليه، وهو في البخاري من رواية أبي سعيد، وقد ذكر بناء المسجد، قال: كنا نحمل لبنة لبنة، وعمار لبنتين، فرآه النبي ـ صلى الله عليه وآله وسلم ـ فجعل ينفض التراب عنه، ويقول: ((ويح عمار تقتله الفئة الباغية، يدعوهم إلى الجنة ويدعونه إلى النار))انتهى.
وقال المولى العلامة الحسن بن الحسين الحوثي رحمه الله تعالى في التخريج:
روى الكلابي بإسناده إلى أبي هريرة أن رسول اللَّه صلى الله عليه وآله وسلم قال: ((أبشر ياعمار تقتلك الفئة الباغية)) وسيأتي جملة أخبار في فضائله في الجزء الثاني.
عنه صلى الله عليه وآله وسلم قال لعمار: ((تقتلك الفئة الباغية)) أخرجه النسائي في خصائصه عن أم سلمة من ثلاث طرق، وعن أبي سعيد من طريقين، وعن عبدالله بن عمرو من ثلاث طرق، وأخرجه الكنجي عن أبي سعيد من طريقين، وعن أنس.
قال ابن أبي الحديد: اتفق الناس كلهم أن عماراً رضي الله عنه أصيب مع علي عليه السلام بصفين، وروى ذلك نصر بن مزاحم في كتاب صفين بسنده إلى أبي البحتري، وقال الناس كلهم: إن رسول اللَّه صلى الله عليه وآله وسلم قال: ((إن الجنة لتشتاق إلى عمار)) ورووا عنه صلى الله عليه وآله وسلم أنه قال فيه: ((مرحباً بالطيب المطيب))، وروى سلمة بن كهيل عن مجاهد أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال: ((مالهم ولعمار يدعوهم إلى الجنة، ويدعونه إلى النار)) وروى الناس كافة أن رسول اللَّه صلى الله عليه وآله وسلم قال له: ((تقتلك الفئة الباغية)) تمت شرح نهج، انتهى.
وهو في: صحيح مسلم/ الفتن 5193، الترمذي/ المناقب 3736، أحمد / مسند المكثين من الصحابة 6211، أحمد / باقي مسند المكثرين من الصحابة 10789، أحمد / باقي مسند الأنصار 21561، الجامع الصحيح سنن الترمذي 5/669 برقم 3800، الجامع الصحيح المختصر 1/172 برقم 436، صحيح مسلم 4/2236 برقم 2916، أحمد 6/300 برقم 26605، صحيح ابن حبان بترتيب ابن بلبان 15/554 برقم 7079، المستدرك على الصحيحين 2/168 برقم 2663، السنن الكبرى 5/75 برقم 8275، سنن البيهقي الكبرى 8/189 برقم 16566، مسند أبي يعلى 13/330 برقم 7346، المعجم الكبير 5/266 برقم 5296، مسند ابي داود الطيالسي 0/90 برقم 649، مسند ابن الجعد 0/246 برقم 1622، بغية الباحث عن زوائد مسند الحارث 2/924 برقم 1017.

(1/153)


وروى الإمام المتوكل على الله أحمد بن سليمان عليه السلام، في "حقائق المعرفة": قُتِل من أصحاب معاوية خمسة وسبعون ألفاً، ومن أصحاب علي عليه السلام خمسة وعشرون ألفاً، ومن جملة من قُتل في صفين من أصحاب علي عليه السلام أويس القرني(116)، العابد المشهور، وخزيمة بن ثابت، ذو الشهادتين(117)، وكثير من عيون الفضلاء والعباد، والعلماءِ والزهاد.
_______________
([116]) - قال مولانا الإمام الحجة / مجدالدين بن محمد المؤيدي أيده الله تعالى في لوامع ج1/ 531 نقلاً عن الينابيع للأمير الحسين في سياق إخباره بمعجزات الرسول صلى الله عليه وآله وسلم:
ونحو إخباره للصحابة أن أويس القرني رحمه الله ـ قلت: كذا في المنقول عنها بغير ألف على لغة ربيعة، قال ـ: يرد عليهم بعد وفاته، وأن به برصاً، دعا اللَّه تعالى فبرئ كله إلا قدر الدرهم، وكان عمر يسأل عنه، ويطلبه حتى ظفر به.
قلت: وهو من الشهداء رضوان الله عليهم بصفين، بين يدي سيد الوصيين، صلوات الله عليه، انتهى من اللوامع.
قال في الإصابة 1/219/ برقم 500: الزاهد المشهور، أدرك النبي صلى الله عليه وسلم، وروى عن عمر وعلي، وروى عنه بشير بن عمرو وعبد الرحمن بن أبي ليلى، ذكره بن سعد في الطبقة الأولى من تابعي أهل الكوفة، وقال: كان ثقة،....إلى قوله: إلا أن شهرته وشهرة أخباره لا تسع أحدا أن يشك فيه، وقال عبدالغني بن سعيد: القرني بفتح القاف والراء، هو أويس، أخبر به النبي صلى الله عليه وسلم قبل وجوده، وشهد صفين مع علي، وكان من خيار المسلمين، وروى ضمرة عن أصبغ بن زيد قال: أسلم أويس على عهد النبي صلى الله عليه وسلم ولكن منعه من القدوم برّه بأمه، وروى مسلم في صحيحه من حديث أبي نضرة عن أسير بن جابر عن عمر بن الخطاب قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: ((إن خير التابعين رجل يقال له أويس بن عامر))، وفي رواية له: ((فمن لقيه منكم فمروه فليستغفر لكم))، وله من طريق قتادة عن زرارة عن أسير بن جابر وفيها قول عمر: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: ((يأتي عليك أويس بن عامر مع أمداد أهل اليمن ثم من مراد ثم من قرن، كان به برص فبرأ منه الا موضع درهم،...إلى قوله: لو أقسم على الله لأبره، فإن استطعت أن يستغفر لك فافعل))... الحديث، ورواه البيهقي وأبو نعيم في الدلائل وفي الحلية من هذا الوجه مطولاً، وله طرق أخرى منها ما روى بن منده من طريق سعد بن الصلت عن مبارك بن فضالة عن مروان الأصغر عن صعصعة بن معاوية قال: كان عمر يسأل وفد أهل الكوفة إذا قدموا عليه: تعرفون أويس بن عامر القرني، فيقولون: لا، فذكر نحوه،....وقال أحمد في مسنده: حدثنا أبو نعيم حدثنا شريك عن يزيد بن أبي زياد عن عبد الرحمن بن أبي ليلى قال: نادى رجل من أهل الشام يوم صفين: أفيكم أويس القرني، قالوا: نعم قال سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: ((إن من خير التابعين اويساً القرني))، ورواه جماعة عن شريك،.....وأخرج أحمد في الزهد عن عبد الرحمن المهدي عن عبد الله بن أشعث بن سوار عن محارب بن دثار يرفعه: ((إن من أمتي من لا يستطيع أن يأتي مسجده أو مصلاه من العرى، يحجزه إيمانه أن يسأل الناس، منهم أويس القرني...إلى قوله: وفي المستدرك من طريق يحيى بن معين عن أبي عبيدة الحداد حدثنا أبو مكيس قال: رأيت امرأة في مسجد أويس القرني قالت: كان يجتمع هو وأصحاب له في مسجده هذا يصلون ويقرءون حتى غزوا فاستشهد أويس وجماعة من أصحابه الرجالة بين يدي علي، ومن طريق الأصبغ بن نباتة قال: شهدت علياً يوم صفين يقول: من يبايعني على الموت، فبايعه تسعة وتسعون رجلاً، فقال: أين التمام فجاءه رجل عليه أطمار صوف محلوق الرأس فبايعه على القتل، فقيل: هذا أويس القرني، فما زال يحارب حتى قُتل...إلخ.
أنظر: الطبقات الكبر 1/161ن طبقات خليفة 0/146، لسان الميزان 1/471 برقم 1449.
([117]) - قال الإمام الحجة / مجدالدين بن محمد بن منصور المؤيدي أيده الله تعالى في لوامع الأنوار ج/3/ 79:
خزيمة بن ثابت، أبو عمارة الأنصاري الأوسي، ذو الشهادتين؛ شهد بدراً وما بعدها؛ كانت راية بني خطَمة بيده يوم الفتح، وكان سيداً فيهم.
وشهد مع علي ـ عليه السلام ـ الجمل وحضر صفين، فلما قُتل عمار بن ياسر، قال: سمعت رسول الله ـ صلى الله عليه وآله وسلم ـ يقول: ((تقتل عماراً الفئة الباغية)) ثم سلّ سيفه، وقاتل حتى قُتل سنة سبع وثلاثين ـ رضوان الله عليه ـ.
قلت: وهو من الصحابة المفضلين للوصي عليه السلام.
أخرج له: المؤيد بالله، ومحمد، ومسلم، والأربعة.
روى عنه عبدالله بن حصين.
وقال مولانا الإمام الحجة/ مجدالدين بن محمد المؤيدي أيده الله تعالى في لوامع الأنوار ج1/218، في سياق ذكره للصحابة المفضلين لعلي عليه السلام:
وأبو عمارة: خزيمة بن ثابت الأنصاري الأوسي الذي أقام الرسول صلى الله عليه وآله وسلم شهادته مقام شاهدين، الشاهد بدراً وما بعدها، ومع أمير المؤمنين صلوات الله عليه، قتال الناكثين يوم الجمل، واستشهد بين يديه بصفين، بعد أن وقف لينظر معجزة الرسول الأمين صلوات اللَّه عليه وآله في الإخبار بقتل عمار، وقال: سمعت رسول اللَّه صلى الله عليه وآله وسلم يقول: ((تقتل عماراً الفئة الباغية))؛ ثم سل سيفه فقاتل حتى قتل.
ومثل هذه الآية العظمى التي يزداد المؤمنون بها إيماناً، والموقنون إيقاناً، وتطمئن إليها القلوب عرفاناً، قد تطلبها إبراهيم الخليل صلوات الله عليه، ولم يُعِب عليه في ذلك الملك الجليل، سبحانه وتعالى، مع أنه لم يتضيق عليه الإقدام، وهو قائم في صف الإمام، فأي حرج في الإنتظار بين يدي إمام الأبرار؟ صلوات الله عليه، وقد جاهد الناكثين معه يوم الجمل، انتهى.
قال في الإصابة ج/2/278 برقم 2253: من السابقين الأولين،....إلى قوله: وكان يكسر أصنام بني خطمة، وكانت راية خطمة بيده يوم الفتح، وروى أبو داود من طريق الزهري عن عمارة بن خزيمة بن ثابت أن عمّه حدثه وهو من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم أن النبي صلى الله عليه وسلم ابتاع فرساً من أعرابي....الحديث، وفيه: فقال النبي صلى الله عليه وسلم: ((من شهد له خزيمة فحسبه))، وروى الدارقطني من طريق أبي حنيفة عن حماد عن إبراهيم عن أبي عبد الله الجدلي عن خزيمة بن ثابت أن النبي صلى الله عليه وسلم جعل شهادته شهادة رجلين، وفي البخاري من حديث زيد بن ثابت: قال فوجدتها مع خزيمة بن ثابت الذي جعل النبي صلى الله عليه وسلم شهادته بشهادتين،....إلى قوله: وعند أحمد عن عبد الرزاق بن معمر عن الزهري: أن خزيمة استشهد بصفين، وروى أحمد من طريق أبي معشر عن محمد بن عمارة بن خزيمة قال ما زال جدي كافاً سلاحه حتى قُتل عمار بصفين فسلّ سيفه وقاتل حتى قُتل،.....إلى قوله: وشهد صفين، وقال أنا لا أقاتل أبداً حتى يُقتل عمار فأنظر من يقتله، فإني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: ((تقتله الفئة الباغية))، فلما قُتل عمار قال: قد بانت لي الضلالة، ثم اقترب فقاتل حتى قُتل.
أنظر: الطبقات الكبرى 6/51، تهذيب الكمال 8/243 برقم 1685، تقريب التهذيب 1/193 برقم 1710، الثقات 3/107 برقم 355.

(1/154)


لنا أيضاً ما روي في لعن النبي صلى الله عليه وآله وسلم لمعاوية في حياته، ولعن أباه وأخاه، وكان أبو سفيان راكباً، ومعاوية يقود به، وأخوه يسوق الجمل، فقال النبي صلى الله عليه وآله وسلم: ((لعن الله الراكب والسائق والقائد))(120).
ولنا أيضاً: ما ظهر، واشتهر، من قنوت علي عليه السلام بلعن معاوية غير مره، رواه الهادي عليه السلام في "الأحكام"، ورواه الحاكم رحمه الله تعالى في كتاب "تنزيه الأنبياء عليهم السلام"، ولعنة علي من لعنة رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، ولعنة رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم من لعنة الله تعالى، {وَمَنْ يَلْعَنِ اللَّهُ فَلَنْ تَجِدَ لَهُ نَصِيرًا(52)}[النساء:52]
______________
([120]) - قال الإمام محمد بن عبدالله (ع) في الفرائد: وقد روى أئمتنا ـ عليهم السلام ـ وغيرهم حديث: ((لعنتك يا علي من لعنتي ولعنتي من لعنة الله، ومن يلعن الله فلن تجد له نصيراً))، إلى قوله: وحديث: ((لعن الله السائق والقائد والراكب)) رواه الهثيم وذكره في العواصم.
قال المولى العلامة الحسن بن الحسين الحوثي رحمه الله تعالى في التخريج: رواه محمد بن سليمان الكوفي عن الحسن البصري من طريقين، تمت مناقب، وروى نحوه إبراهيم الثقفي في كتاب الغارات عن أنس بن مالك، تمت شرح نهج البلاغة، انتهى...

(1/155)


قال المنصور بالله عليه السلام في كتاب "الشافي": الواجب على المسلمين كافة متابعة علي عليه السلام في القول والعمل، وقد كان عليه السلام يقنت بلعن معاوية، لعنه الله، فالواجب متابعته؛ لأنه في حال لعنه معاوية إمام هدىً بالإجماع من المسلمين كافة، والله يقول: {أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الْأَمْرِ مِنْكُمْ}[النساء:59] وأولي الأمر علي عليه السلام، وقد ورد في الأخبار، ((علي مع الحق والقرآن، والحق والقرآن مع علي))(122).
________________
([122]) - قال الإمام الحجة مجدالدين بن محمد بن منصور المؤيدي أيده الله تعالى في لوامع الأنوار/1/147:
قال: وحدثني والدي؛ وساق إلى عبدالله بن الحسن قال: كان رسول اللَّه صلى الله عليه وآله وسلم يذكر الفتن، وما يكون في أمته؛ فمر علي بن أبي طالب فقال: ((ياحذيفة، هذا وحزبه الهداة إلى يوم القيامة، لو أخذت الأمة جانباً، وأخذ علي جانباً كان الحق مع علي، وعلي مع الحق)). من المحيط.
قلت: وقد سبق للإمام رواية خبر عمار، بسنده إلى علقمة بن قيس، والأسود بن يزيد، قالا: أتينا أباأيوب الأنصاري، فقلنا له: إن اللَّه تعالى أكرمك بمحمد صلى الله عليه وآله وسلم، إذ أوحى إلى راحلته، فبركت على بابك.
إلى قول أبي أيوب: إني أقسم لكما بالله، لقد كان رسول اللَّه صلى الله عليه وآله وسلم في هذا البيت، الذي أنتما فيه، ومافي البيت غير رسول اللَّه صلى الله عليه وآله وسلم، وعلي جالس عن يمينه، وأنا قائم بين يديه، إذ حرك الباب، فقال رسول اللَّه صلى الله عليه وآله وسلم: ((يا أنس انظر من بالباب)).
فنظر فرجع، فقال: هذا عمار بن ياسر.
قال أبو أيوب: فسمعت رسول اللَّه صلى الله عليه وآله وسلم، يقول: ((يا أنس افتح لعمار، الطيب المطيب)).
ففتح أنس الباب.
إلى قول رسول اللَّه، صلى الله عليه وآله وسلم لعمار: ((فعليك بهذا الذي عن يميني ـ يعني علياً عليه السلام ـ وإن سلك الناس كلهم وادياً، وسلك علي وادياً، فاسلك وادي علي، وخل الناس طراً؛ ياعمار، إن علياً لايضل عن هدى؛ ياعمار، إن طاعة علي من طاعتي، وطاعتي من طاعة اللَّه عز وجل)).
قال رحمه الله تعالى في التخريج: ورواه الإمام أبو طالب عليه السلام، بإسناده إلى أبي أيوب الأنصاري.
وأخرجه ابن البطريق في العمدة؛ ذكره علي بن عبدالله بن القاسم عليهم السلام في الدلائل.
وأخرجه الديلمي وهو معنى ماذكر.
قال: وقال أبو جعفر الهوسمي: إن خبر علي مع الحق صحيح بالإجماع.
قال في المحيط: حديث علي مع الحق، والحق مع علي؛ روي ذلك رواية عامة، لم يدفعه أحد.
وعنه صلى الله عليه وآله وسلم، أنه قال لعلي: ((أنت باب علمي، والحق معك، وعلى لسانك)).
أخرجه الكنجي، عن علي عليه السلام.
وروى محمد بن سليمان الكوفي، بإسناده إلى سعد، وأم سلمة، أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال: ((علي مع الحق، والحق معه)).
إلى قوله: وروى بإسناده، عن سهل بن سعد الساعدي، قال: سمعت رسول اللَّه صلى الله عليه وآله وسلم يقول: ((من أحبني فليحب علياً؛ ألا إنه مني، وأنا منه)).
وساق إلى قوله: ((فالحق معه وهو حيث الحق))؛ ثم التفت إلى علي، وقال: ((أما ترضى أن تكون مني بمنزلة هارون من موسى؛ إلا أنه لانبي بعدي)).
وروى ـ أي محمد بن سليمان ـ بإسناده إلى أم سلمة قالت: سمعت رسول اللَّه صلى الله عليه وآله وسلم، يقول لعلي: ((أنت مع الحق، والحق معك)).
وروى بسنده إلى زيد بن علي، عن آبائه، عن علي قال: قال رسول اللَّه صلى الله عليه وآله وسلم: ((يا علي، إنك الهادي لمن اتبعك؛ ومن خالفك ضل إلى يوم القيامة)).
وروى بسنده إلى محمد بن ثابت الأنصاري، عن أم سلمة، عنه صلى الله عليه وآله وسلم، قال: ((لايزال الدين مع علي، وعلي معه، حتى يردا علي الحوض)).
وروى بسنده إلى ابن عباس، عنه صلى الله عليه وآله وسلم، أنه قال: ((يامعشر المسلمين، لاتخالفوا علياً فتضلوا، ولاتحسدوه فتكفروا)).

(1/156)


تابع الحاشية(122)
________________
قلت: ورواه محمد بن منصور، بسنده إلى زيد بن علي، عن آبائه، عن علي عليهم السلام.
قال: وقد مر حديث بريدة، الذي أخرجه الكنجي، عن عمران بن الحصين، عنه صلى الله عليه وآله وسلم، في علي عليه السلام؛ وفيه: ((فلا تخالفوه في حكمه)).
قال: ورواه أبو عيسى الحافظ ـ يعني الترمذي ـ.
وقال صلى الله عليه وآله وسلم، مخاطباً لعائشة.
إلى قوله: ((وأنه مع الحق، والحق معه)) من حديث طويل، أورده أبو جعفر الإسكافي، عن أم سلمة.
ومن حديث أبي الطفيل، عن زيد بن أرقم، قال صلى الله عليه وآله وسلم: ((أطيعوا علياً، فمن أطاعه فقد أطاعني، ومن خالفه فقد خالفني؛ ألا لعن اللَّه من خالف علياً)).
رواه في الكامل المنير، وقال: ((ألا إن التاركين ولاية علي، هم الخارجون من ديني، فلا أعرفن خلافكم على الأخيار من بعدي)) رواه أبو العباس الحسني، عن حذيفة.
وقال صلى الله عليه وآله وسلم: ((ألا أدلكم على ما إن تمسكتم به، لن تضلوا؟)).
قالوا: بلى.
قال: ((هذا علي))..الخ من حديث رواه أبو نعيم، ومحمد بن سليمان الكوفي، عن الحسن بن علي من ثلاث طرق، والطبراني والكنجي، عن الحسن السبط أيضاً.
وأخرجه ابن المغازلي، عن زيد بن أرقم.
وقوله صلى الله عليه وآله وسلم لعلي: ((وإن الحق معك، وعلى لسانك، وفي قلبك)) من حديث جابر.
رواه القاسم بن إبراهيم عليه السلام، وابن المغازلي.
ورواه عنه محمد بن سليمان الكوفي، من طريقين.
ورواه بهاء الدين علي بن أحمد الأكوع، بسنده عن جابر.
ورواه الإمام المنصور بالله، بطريقه إلى الناصر للحق عليه السلام، يبلغ به جابراً؛ وقد مرت روايته عليه السلام.
ورواه الكنجي، بسنده إلى زيد بن علي، عن أبيه، عن جده، عن علي عليهم السلام.

(1/157)


تابع الحاشية(122)
________________
وقوله صلى الله عليه وآله وسلم: ((فإنه ـ يعني علياً ـ لن يخرجكم من هدى، ولن يدخلكم في ضلالة)) من حديث زيد بن أرقم.
أخرجه الحاكم في المستدرك، والطبراني، والكنجي، ومحمد بن سليمان، وأبو نعيم.
ورواه فقيه الخارقة، بسنده إلى أبي إسحاق، عن زياد بن مطرف، عن زيد بن أرقم.
قلت: وإنما رواه لقصد التصويب على رواية الشيخ محيي الدين للخبر؛ وهو من إخراج الإقرار بالحق على ألسنة المبطلين.
وقال صلى الله عليه وآله وسلم: ((أنا المنذر وأنت الهادي؛ بك ياعلي، يهتدي المهتدون)).
أخرجه في المحيط، عن ابن عباس.
وأخرجه ابن عساكر، عن علي عليه السلام؛ والديلمي، والكنجي.
وأخرج في المحيط أيضاً نحوه، عن زين العابدين عليه السلام.
وأخرج نحوه الناصر للحق، عن أبي برزة الأسلمي، من دون زيادة ((بك يهتدي)) إلخ.
أخرجه ابن مردويه؛ والضياء في المختارة، عن ابن عباس، وابن مردويه أخرجه أيضاً عن أبي برزة.
وأخرجه في زوائد المسند، وابن أبي حاتم، والطبراني، والحاكم وصححه، وابن مردويه، وابن عساكر، عن علي عليه السلام.
وأخرجه ابن جرير، وأبو نعيم، والديلمي، وابن عساكر، وابن النجار، والثعلبي، والنقاش.
وأخرجه الحاكم الحسكاني، عن علي عليه السلام، وعن ابن عباس من ست طرق، وعن أبي برزة من ثلاث، وعن أبي هريرة، وعن يعلى بن مرة، وعن مجاهد، وعن زرقاء الكوفية.
وخبر: ((علي مع الحق، والحق مع علي)). رواه في المحيط، بإسناده إلى أبي اليسر، عن عائشة.
ورواه ابن المغازلي، بسنده إلى أبي سعيد.
ورواه أيضاً، عن علي، من حديث المناشدة.
ورواه الإمام أبو طالب عليه السلام بلفظ: ((علي مع الحق والقرآن، والحق والقرآن مع علي))، عن أم سلمة: ((وعلي مع القرآن، والقرآن مع علي)).
أخرجه الحاكم، والطبراني، والكنجي، ومالك؛ عن أم سلمة أخرجه في الموطأ.
وأخرج البخاري في صحيحه، عن علي عليه السلام، قال: سمعت رسول اللَّه صلى الله عليه وآله وسلم، يقول: ((رحم اللَّه علياً، اللهم أدر الحق معه حيثما دار)).
وقوله صلى الله عليه وآله وسلم: ((من فارق علياً فقد فارقني)).
أخرجه الحاكم، عن أبي ذر؛ وابن المغازلي، عن ابن عمر وأبي ذر.....

(1/158)


تابع الحاشية(122)
________________
قلت: وفي شرح الغاية: وأخرج أحمد في المناقب، والحاكم عن أبي ذر، قال: سمعت رسول اللَّه صلى الله عليه وآله وسلم، يقول: ((ياعلي من فارقني فارق اللَّه، ومن فارقك فقد فارقني)).
وقوله صلى الله عليه وآله وسلم: ((ستقاتلك الفئة الباغية، وأنت على الحق)).
أخرجه ابن عساكر، عن عمار.
وقوله صلى الله عليه وآله وسلم: ((الحقُّ مع ذا، الحقُّ مع ذا)) يعني علياً.
أخرجه أبو يعلى، وسعيد بن منصور، عن أبي سعيد الخدري، وابن المغازلي، عن عبد الرحمن بن أبي سعيد، عن أبيه.
وقوله صلى الله عليه وآله وسلم: ((علي على الحق، ومن تبعه فهو على الحق، ومن تركه ترك الحق)).
رواه موسى بن قيس، الملقب عصفور الجنة.
وقوله صلى الله عليه وآله وسلم: ((إن الحق معك، وعلى لسانك، وفي قلبك، وبين عينيك)) من حديث الناصر للحق، بسنده إلى جابر عنه صلى الله عليه وآله وسلم، وقد مر مثله؛ وهو طويل جامع لفضائل عظيمة.
وقوله صلى الله عليه وآله وسلم: ((أنا وهذا حجة على أمتي يوم القيامة)) يعني علياً عليه السلام.
أخرجه الخطيب، عن أنس؛ وأخرجه ابن المغازلي، عنه بدون ((يوم القيامة)).
وقوله صلى الله عليه وآله وسلم لعلي: ((وأنت الفاروق، الذي يفرق بين الحق والباطل)).
أخرجه المرشد بالله عليه السلام، وأبو علي الصفار، والطبراني عن أبي ذر، ومحمد بن سليمان عن أبي ذر من طريقين، وعن سلمان وأبي ذر معاً من طريق.
وأخرجه ابن عدي، والعقيلي، والبيهقي، والكنجي عن ابن عباس.
البيهقي وابن عدي، عن حذيفة، عنه صلى الله عليه وآله وسلم.
وأخرجه ابن عساكر عن ابن عباس، ورواه عن أبي ليلى في ظاهر قول الكنجي.
وأخرجه أبو عمر بن عبد البر، عن أبي ليلى الغفاري؛ والكنجي، عن أبي ليلى أيضاً.
ورواه أبو جعفر الإسكافي، عن أبي رافع؛ ورواه في المحيط علي بن الحسين.
وقوله صلى الله عليه وآله وسلم: ((أنت تبين لأمتي ما اختلفوا فيه)).
أخرجه الحاكم وصححه؛ والديلمي، عن ابن عباس؛ ومحمد بن سليمان، عن أنس من أربع طرق؛ وابن مردويه، عن أنس والحارث بن محمد الأسدي.
وأخرجه أبو نعيم، والكنجي، وصاحب المحيط.
ورواه أبو القاسم الجابري، بسنده إلى ابن عباس وابن مسعود وجابر؛ وصدره: ((ليهنك ياأبا الحسن العلم والحكمة؛ أنت وارث علمي؛ من أحبك لدينك وأخذ بسنتك، فقد هدي إلى صراط مستقيم؛ ومن رغب عن هداك وأبغضك، لقي اللَّه ولا خلاق له)).

(1/159)


تابع الحاشية(122)
________________
وقوله صلى الله عليه وآله وسلم: ((علي باب علمي، ومبين لأمتي ما أرسلت به من بعدي؛ حبه إيمان، وبغضه نفاق، والنظر إليه رأفة)).
أخرجه الديلمي عن أبي ذر.
وروى محدث الشام، محمد بن يوسف الكنجي الشافعي، بالإسناد إلى ابن عباس رضي الله عنه، يقول: ((هذا أول من آمن بي، وأول من يصافحني، وهو فاروق هذه الأمة، يفرق بين الحق والباطل، وهو يعسوب المؤمنين، والمال يعسوب الظلمة، وهو الصديق الأكبر، وهو بابي الذي أوتى منه، وهو خليفتي بعدي)).
وقوله صلى الله عليه وآله وسلم لعلي: ((أنت تؤدي دِيني، وتقاتل على سنتي، وأنت باب علمي، وإن الحق معك، والحق على لسانك)).
رواه الإمام الأعظم زيد بن علي عليهما السلام. أفاده في شرح الغاية.
وقوله صلى الله عليه وآله وسلم: ((خذوا بحجزة هذا الأنزع؛ فإنه الصديق الأكبر، والهادي لمن اتبعه؛ من اعتصم به أخذ بحبل اللَّه، ومن تركه مرق من دين اللَّه، ومن تخلف عنه محقه اللَّه، ومن ترك ولايته أضله اللَّه، ومن أخذ بولايته هداه الله)).
رواه العلامة إبراهيم بن محمد الصنعاني، في كتاب إشراق الإصباح، عن محمد بن علي الباقر، عن آبائه، عنه صلى الله عليه وآله وسلم.
انتهى المأخوذ من الشافي وشرح الغاية ودلائل السبل، والتفريج، والتخريج، بتصرف.
ولقد اعترف بالحق علماء المخالفين؛ لما بهرتهم البراهين.
قال البيهقي: ومن اقتدى في دينه بمتابعة علي بن أبي طالب، كان على الحق، والدليل عليه قوله صلى الله عليه وآله وسلم: ((اللهم أدر الحق مع علي أينما دار)).
وقال أيضاً هو والرازي: ومن اتخذ علياً إماماً لدينه، فقد تمسك بالعروة الوثقى في دينه، ونفسه.
والحق أبلج ماتخيل سبيله .... والحق يعرفه أولوا الألباب
انتهى من اللوامع.
وهو في الترمذي المناقب برقم 3647.
وفي المستدرك على الصحيحين 3/134 برقم 4629 يرفعه إلى علي رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلَّى الله عليه وآله وسَلَّم: ((رحم الله علياً اللهم أدر الحق معه حيث دار)) وقال: هذا حديث صحيح على شرط مسلم ولم يخرجاه.
وفي المعجم الكبير 23/395 برقم 946 عن مالك بن جعونة سمعت أم سلمة تقول: علي على الحق، فمن اتبعه اتبع الحق، ومن تركه ترك الحق، عهد معهود قبل موته......

(1/160)


[آراء العلماء في معاوية]
وروى الفقيه المحقق محمد الديلمي، رحمه الله تعالى، في كتابه أن جميع خصال الشر كان مجموعاً في معاوية -لعنه الله تعالى-، وذلك لأن العلماء اختلفوا فيه على خمسة أقوال، فذهب بعضهم إلى أنه كافر، فكان مسروق ممن كفَّره، وذهب بعضهم إلى أنه منافق، وقد ثبت أن النفاق أقبح الكفر، وذهب آخرون إلى أنه فاسق، وهؤلاء كلهم من أهل البيت عليهم السلام وأشياعهم، وذهب بعض الشافعية والحنفية وغيرهم من الفقهاء منهم الغزالي إلى أنه مخطئ في الإجتهاد، وذهبت الحشوية إلى أنه إمام حق. قال الفقيه رحمه الله: وقولهم محجوج بالإجماع، ولعمري إنه إمام لأمثالهم، وأنه قائدهم إلى النار، وداعيهم إلى جهنم وبئس القرار، كما قال تعالى: {وَجَعَلْنَاهُمْ أَئِمَّةً يَدْعُونَ إِلَى النَّارِ}[القصص:41] وأخذ الفقيه يورد الحجج على هذه الأقوال، وهذا المختصر لا يسعها لكنها إشارة.

(1/161)


[أدلة التكفير]
حجة من قال بكفره الأحاديث الدالة عليه، المتفق على صحتها، وهي موجودة في الصحاح الستة وغيرها من كتب الأحاديث، منها أنه استلحق زياداً بأبيه أبي سفيان، وجعله أخاً له، فكان رداً لما علم ضرورة من دين النبي صلى الله عليه وآله وسلم وهو قوله: ((الولد للفراش وللعاهر الحجر))(123)، وقد قال الشاعر فيه:
ألاَ أبلغ معاويةَ بن صخر .... مغلغلة من الرجل اليماني
أتغضب أن يقال أبوك عف .... وتفرح أن يقال أبوك زاني
فأقسم أنْ إلّك من زيادٍ .... كَإلِّ الفيل من ولد الأتان
ومنها قول أبي الدرداء لمعاوية: أشهد أني سمعت رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يقول: ((إن أحدنا يا معاوية يموت كافراً)) فانظر أيهما أولى به.
_____________
([123]) - الحديث في: صحيح مسلم 2/1080 برقم 1457، الجامع الصحيح المختصر 6/2481 برقم 6369، سنن الترمذي 3/463 برقم 1157، المجتبى من السنتن 6/180 برقم 3482، سنن ابن ماجه 1/646 برقم 2005، سنن الدارمي 2/203 برقم 2236، مسند أحمد 2/409 برقم 9291، صحيح ابن حبان بترتيب ابن بلبان 9/413 برقم 4104، السنن الكبرى 3/378 برقم 5676، مسند أبي يعلى 9/80 برقم 5148، المعجم الكبير 11/183 برقم 11434، سنن الدار قطني 2/142 برقم 18، مسند أبي داود الطيالسي 0/326 برقم 2488، مسند الشهاب 1/190 برقم 282، مسند الحميدي 2/465 برقم 1085، مسند ابن الجعد 0/174 برقم 1119، مسند الشاميين 1/360 برقم 620.

(1/162)


ومنها قوله صلى الله عليه وآله وسلم لأهل بيته: ((أنا سلم لمن سالمكم، وحرب لمن حاربكم))(126) وحرب رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم كفر بالإجماع، فكذلك من حاربهم للحديث.
_____________
([126]) - قال الإمام الحجة مجدالدين بن محمد بن منصور المؤيدي أيده الله تعالى في لوامع الأنوار ج/2/551:
قال الإمام محمد بن عبدالله (ع) في الفرائد: ومنها: حديث: ((أنا حرب لمن حاربكم، سلم لمن سالمكم)) بألفاظه وسياقاته، وعمومه للأربعة أهل البيت ـ عليهم السلام ـ، وخصوصه لعلي (ع)، وهو متواتر بشواهده، قرره المقبلي وغيره.
إلى قوله في اللوامع ج/2/559:
وفي أبحاثه [أي المقبلي] المسددة: ((أنا حرب لمن حاربكم سلم لمن سالمكم)) قاله لعلي (ع)، وفاطمة، والحسن، والحسين ـ صلوات الله عليهم ـ.
أخرجه أحمد، والطبراني، والحاكم.
وفي معناه عدة أحاديث بعضها تعمهم، وبعضها تخص الحسن والحسين حين يخاطبهما؛ وفي بعضها يعم أهل البيت في الجملة، وفي بعضها يخص أمير المؤمنين (ع).
ثم قال: مجموعها يفيد التواتر المعنوي؛ وشواهده لا تحصى، مثل: أحاديث قتل الحسين، وأحاديث ما يلقاه فراخ آل محمد وذريته، بألفاظ وسياقات يحتمل مجموعها مجلداً ضخماً؛ فمن كان قلبه قابلاً، فهو من أوضح الواضحات في كل كتاب، ومن ينبو عنها فلا معنى لمعاناته بالتطويل.
ثم ذكر حديث الغدير فقرر تواتره، كما قرر في الإتحاف؛ وساقه بمخرجيه ورجاله، كما هناك سواء.
ثم قال: نعم، فإن كان هذا معلوماً، وإلا فما في الدنيا معلوم؛ إذا حققت هذا فهاهنا أناس يقولون نوالي علياً، ومن حاربه، وقد علمت أن من حارب علياً فقد حارب أهل البيت، وحارب الحسن والحسين وفاطمة، ومن حاربهم فقد حارب رسول الله ـ صلى الله عليه وآله وسلم ـ، ومن حارب رسول الله ـ صلى الله عليه وآله وسلم ـ فقد حارب الله، فهو حرب لله، وعدو لله؛ فمن سالم العدو، فقد حارب من عاداه؛ {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ ءَامَنُوا لَا تَتَّخِذُوا عَدُوِّي وَعَدُوَّكُمْ أَوْلِيَاءَ}[الممتحنة:1]{وَمَنْ يَتَوَلَّهُمْ مِنْكُمْ فَإِنَّهُ مِنْهُمْ}[المائدة:51].
وبالجملة، فمعلوم بالآيات والأحاديث، ومعالم دين الإسلام، التنافي بين موالاة العدو وموالاة عدوه؛ وقد أحسن القائل:
إذا صافى صديقك من تعادي .... فقد عاداك وانصرم الكلام
انتهى المأخوذ من كلامه.
قال الإمام (ع) في الفرائد: انظر وتأمل ما حققه المقبلي، الحقيق بالإنصاف وقول الحق؛ وما كان أحسنه لو استقام!، انتهى من اللوامع.
وهو في صحيح ابن حبان بترتيب ابن بلبان 15/433 برقم 6977.
وفي فضائل الصحابة 2/767 برقم 1350 عن أبي هريرة قال قال رسول الله صلَّى الله عليه وآله وسَلَّم: ((أنا حرب لمن حاربكم وسلم لمن سالمكم))، ومثله في: الجامع الصحيح سنن الترمذي 5/699 برقم 3870، سنن ابن ماجه 1/52 برقم 145، مسند أحمد 2/442 برقم 9696، المستدرك على الصحيحين 3/161 برقم 4713، المعجم الصغير 2/53 برقم 767، المعجم الكبير 3/40 برقم 2619.

(1/163)


ومنها أنه رد على رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم في قوله في الحسن والحسين:((هذان إمامان قامَا أو قعدا))(127)، لأنه سمى نفسه بإمرة المؤمنين، وقعد في مكان الحسن عليه السلام.
____________
([127]) - قال الإمام الحجة مجدالدين بن محمد بن منصور المؤيدي أيده الله تعالى في لوامع الأنوار ج/2/522:
وقال الإمام (ع) في الشافي: والأمة لم تختلف في قول رسول الله ـ صلى الله عليه وآله وسلم ـ: ((الحسن والحسين إمامان قاما أو قعدا، وأبوهما خير منهما)).
وقال أيضاً: والخبر مشهور، تلقته الأمة بالقبول.
قال ـ أيده الله تعالى ـ في التخريج: قال الإمام الحسن بن بدر الدين (ع): والعترة مجمعة على صحته؛ وقال: إنه مما ظهر واشتهر بين الأمة، وتلقته بالقبول، ولا جحده أحد ممن يعول عليه من علماء المسلمين.
ثم حكى عن الإمام القاسم بن محمد، والمرتضى بن المفضل، والشرفي، وحميد الشهيد برواية الإمام عزالدين بن الحسن، والقاضي عبدالله بن زيد، والنجري، والقاضي أحمد حابس، مثل ذلك.

(1/164)


ومنها قوله صلى الله عليه وآله وسلم:((من آذى علياً فقد آذاني....إلى قوله: من آذى علياً بعثه الله يوم القيامة يهودياً أو نصرانياً))(128)؛ رواه الفقيه ابن المغازلي الشافعي، بإسناده إلى ابن عباس رضي الله عنهما، فما قولكم فيمن حارب علياً، وأمر بسبه على فروع المنابر، ومحاريب المساجد ثمانين سنة، هل يسمى مؤذياً له؟ وما يكون اسمه عند الله بعد حرب الصادق المصدوق؟
____________
([128]) - قال الإمام الحجة مجدالدين بن محمد بن منصور المؤيدي أيده الله تعالى في لوامع الأنوار ج/2/613:
وفي مناقب ابن المغازلي بسنده إلى معاوية بن حيدة القشيري، قال: سمعت النبي ـ صلى الله عليه وآله وسلم ـ يقول: ((يا علي، لا تبالي، من مات وهو يبغضك مات يهودياً أو نصرانياً...الخبر)).
وقال ـ كثر الله فوائده ـ في تخريج الشافي: قال ـ صلى الله عليه وآله وسلم ـ: ((من آذى علياً فقد آذاني))، أخرجه أحمد، عن عمرو بن شاس الأسلمي، ورواه عنه ابن عبد البر في الاستيعاب، ورواه أبويعلى، والبزار، وأحمد، والخوارزمي عن سعد بن أبي وقاص، وأخرجه الحاكم، وقال: صحيح.
ورواه الخوارزمي أيضاً عن عبدالله بن دينار الأسلمي، وابن المغازلي عن ابن عباس، وفيه: ((يا أيها الناس، من آذى علياً حشره الله يوم القيامة يهودياً أو نصرانياً)).
قلت: وصدره: ((يا أيها الناس، من آذى علياً فقد آذاني؛ إن علياً أولكم إيماناً، وأوفاكم بعهد الله، يا أيها الناس من آذى علياً بعث يوم القيامة...الخبر)).
قال: وأخرج هذا الخبر أحمد في مسنده من عدة طرق بلفظ: ((بعث يوم القيامة...إلخ))، وكذا هو بلفظ: ((بعث يوم القيامة)) في مناقب ابن المغازلي.
وقد قال تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ يُؤْذُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ لَعَنَهُمُ اللَّهُ} [الأحزاب:57].
وأخرج الكنجي عن مصعب بن سعد بن مالك، عن أبيه سعد، قال: قال رسول الله ـ صلى الله عليه وآله وسلم ـ: ((من آذى علياً فقد آذاني)).
وأخرجه الحاكم عن عمرو بن شاس الأسلمي وصححه هو والذهبي؛ ورواه محمد بن سليمان الكوفي بسنده عن عمرو بن شاس، وأخرجه البخاري في التاريخ.
وأخرجه أبو عمر النمري بزيادة: ((ومن آذاني فقد آذى الله)) عن عمرو بن شاس.
ومن حديث رواه الحاكم أبو القاسم عن علي، عنه ـ صلى الله عليه وآله وسلم ـ: ((من آذى شعرة منك، فقد آذاني، ومن آذاني فقد آذى الله، ومن آذى الله فعليه لعنة الله)).
وروى أيضاً عن أم سلمة عنه ـ صلى الله عليه وآله وسلم ـ، قال لعلي: ((من آذاك فقد آذاني)) من شواهده.
وحديث: ((فعليه لعنة الله)) رواه الحاكم في تنبيه الغافلين، والزرندي في الدرر عن زيد بن علي، عن آبائه، عن علي بلفظ: ((لعنه الله وملائكته ملأ السماء، وملأ الأرض)) انتهى.
وقوله ـ صلى الله عليه وآله وسلم ـ: ((من سبك ـ يا علي ـ فقد سبني، ومن سبني فقد سب الله، ومن سب الله أدخله النار)) أخرجه في الشافي عن الإمام المرشد بالله يبلغ به ابن عباس.
قال ـ أيده الله تعالى ـ: وأخرج هذا الحديث محمد بن يوسف الكنجي ـ رحمه الله ـ بسنده إلى ابن عباس.
وقال ـ صلى الله عليه وآله وسلم ـ: ((من سب علياً فقد سبني)) أخرجه النسائي عن أم سلمة، وأخرجه الحاكم وصححه هو والذهبي، وأخرجه أحمد عن ابن عباس، وعن أم سلمة؛ وأبو عبدالله الخلاجي عن ابن عباس، انتهى من الاعتصام.
وأخرجه الطبراني عن علي ـ عليه السلام ـ، وابن المغازلي بسنده إلى علي بن عبدالله بن عباس؛ وذكره المسعودي، انتهى.
وهو في فضائل الصحابة 2/633 برقم 1078، بغية الباحث عن زوائد مسند الحارث 2/904 برقم 983، صحيح ابن حبان بترتيب ابن بلبان 15/365 برقم 6923.

(1/165)


ومنها ماروي في الحديث المشهور أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال: ((إذا رأيتم معاوية على منبري فاقتلوه))(129) ولا يأمر صلى الله عليه وآله وسلم إلاّ بقتل كافر أو فاسق، وقال الحسن البصري(130)
: فما قتلوه ولا أفلحوا ولا أنجحوا.
____________
([129]) - قال المولى العلامة الحسن بن الحسين الحوثي رحمه الله تعالى في التخريج:
((إذا رأيتم معاوية على منبري فاقتلوه)) رواه الذهبي بثلاثة أسانيد، عن أبي سعيد، ورواه محمد بن سليمان الكوفي بإسناده إلى أبي سعيد الخدري، وروى أيضاً بإسناده إلى ثوبان أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال: ((معاوية يوم القيامة في صندوق من نار)) تمت من مناقبه.
وروى الذهبي في الميزان: ((إذا ارتقى معاوية منبري فاقتلوه))، وفي رواية: ((فابقروا بطنه))، وروى نصر بن مزاحم عن ابن مسعود بسنده إليه قال: قال صلى الله عليه وآله وسلم: ((إذا رأيتم معاوية يخطب على منبري فاضربوا عنقه)) رواه شارح نهج البلاغة، وقال الإمام عليه السلام: رواه جماعة منهم: أبو سعيد الخدري، وجابر بن عبدالله الأنصاري، وحذيفة بن اليمان بعد أن رواه بطريقه إلى الحاكم من سفينته يرفعه إلى النبي صلى الله عليه وآله وسلم.
([130]) - قال الإمام الحجة / مجدالدين بن محمد بن منصور المؤيدي أيده الله تعالى في لوامع الأنوار ج1/101:
هذا وكذا قول الحسن البصري فيه صلوات الله عليه [أي: أمير المؤمنين علي عليه السلام]ما أقول فيمن جمع الخصال الأربع: ائتمانه على براءة، وما قال له في غزوة تبوك؛ فلو كان غير النبوة شيء يفوته لاستثناه، وقول النبي صلى الله عليه وآله وسلم: ((الثقلان كتاب الله وعترتي))، وأنه لم يُؤمر عليه أمير قط، وقد أمرت الأمراء على غيره، رواه في شرح النهج مع رواية أخرى عن الحسن ذكر منها براءته عن الانحراف، وفيها: ما أقول فيه؟ كانت له السابقة، والفضل، والعلم، والحكمة، والفقه، والرأي، والصحبة، والنجدة، والبلاء، والزهد، والقضاء، والقرابة؛ إن علياً كان في أمره علياً، رحم الله علياً، وصلى عليه.
قال الراوي: فقلت: يا أبا سعيد، تقول: صلى عليه لغير النبي صلى الله عليه وآله وسلم؟
فقال: رحّم على المؤمنين إذا ذُكروا، وصلّ على النبي وآله؛ وعلي، خير آله.
قلت: هو خير من حمزة وجعفر؟.
قال: نعم.
قلت: وخير من فاطمة وابنيها؟.
قال: نعم، والله إنه خير آل محمد كلهم، ومن يشك أنه خير منهم، وقد قال صلى الله عليه وآله وسلم: ((وأبوهما خير منهما)).
إلى قوله: وقد قال صلى الله عليه وآله وسلم لفاطمة: ((زوجتك خير أمتي))، فلو كان في أمته خير منه لاستثناه؛ ولقد آخى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم بين أصحابه، فآخى بين علي ونفسه، فرسول الله صلى الله عليه وآله وسلم خير الناس نفساً، وخيرهم أخاً.
إلى قوله: يا ابن أخي احقن دمي من هؤلاء الجبابرة.
رواه ابن أبي الحديد عن الشيخ أبي جعفر الإسكافي قال: ووجدته في كتاب الغارات لإبراهيم بن هلال الثقفي، انتهى.
وهذا شيء عرض، ولنا فيه غرض، انتهى من اللوامع.

(1/166)


ومنها قوله صلى الله عليه وآله وسلم: ((من ناصب علياً الخلافة بعدي فهو كافر))(131).
ومنها إحداثه للجبر، وكان يقول: أنا خازن من خزان الله، أعطي من أعطاه الله، وأحرم من حرم اللَّه.
ومنها ما روي عنه -لعنه الله -أنه كان يستشفي بالأصنام، ويتاجر فيها، ويأمر ببيعها إلى الهند، إلى غير ذلك من دلائل جمة تركتها لطولها.
____________
([131]) - قال رحمه الله تعالى في التخريج قوله: [أي الإمام الحجة المنصور بالله عبدالله بن حمزة عليه السلام في الشافي]: عن أبي ذر الغفاري قال: قال رسول اللَّه صلى الله عليه وآله وسلم: ((من ناصب علياً في الخلافة بعدي فهو كافر..إلخ)).
قال: وروى أبو العباس الحسني بإسناده إلى الحارث بن الخزرج قال: قال رسول اللَّه صلى الله عليه وآله وسلم لعلي عليه السلام: (( مايتقدمك بعدي إلا كافر، ولايتأخر عنك بعدي إلا كافر، وإن أهل السماوات يسمونك أمير المؤمنين ))

(1/167)


[أدلة من قال بنفاق معاوية]
ومن أثبت نفاقه فلوجوه، منها قوله صلى الله عليه وآله وسلم لعلي عليه السلام: ((بحبك يعرف المؤمنون، وببغضك يعرف المنافقون))(132).
___________
([132]) - قال الإمام الحجة مجدالدين بن محمد بن منصور المؤيدي أيده الله تعالى في لوامع الأنوار ج/1/330:
[في مجموع الإمام الأعظم زيد بن علي عليهم السلام] عن علي عليه السلام قال: قال لي رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: ((أنت أخي، ووزيري وخير من أخلفه بعدي، بحبك يعرف المؤمنون، وببغضك يعرف المنافقون، من أحبك من أمتي فقد برئ من النفاق، ومن أبغضك لقي الله عز وجل منافقاً)).
وقال الإمام الحجة مجدالدين بن محمد بن منصور المؤيدي أيده الله تعالى في لوامع الأنوار ج/2/584:
وأخرج قوله ـ صلى الله عليه وآله وسلم ـ: ((محبك محبي، ومبغضك مبغضي)) ابن المغازلي عن علي(ع)، والطبراني عن سلمان ـ رضي الله عنه ـ.
وأخرج الحاكم في المستدرك عن سلمان: ((من أحب علياً فقد أحبني، ومن أبغض علياً فقد أبغضني)) انتهى.
وفي مسند أحمد بن حنبل 1/95 برقم 731 عن علي رضيالله تعالى عنه قال: (عهد النبي صلَّى الله عليه وآله وسَلَّم أنه لا يحبك إلا مؤمن ولا يبغضك إلا منافق)، ومثله في: المجتبى من السنن 8/117 برقم 5022، سنن ابن ماجه 1/42 برقم 114، السنن الكبرى 5/137 برقم 8486، فضائل الصحابة 2/563 برقم 948.
وفي فضائل الصحابة 2/685 برقم 1169، عن أم سلمة قالت سمعت رسول الله صلَّى الله عليه وآله وسَلَّم يقول لعلي: ((لا يبغضك مؤمن ولا يحبك منافق))، ومثله في مسند أحمد 6/292 برقم 26550، المعجم الكبير 23/374 برقم 885.
وفي مسند الحميدي 1/31برقم 58 عن علي بن أبي طالب رضي الله عنه قال: ((لقد عهد إلي النبي الأمي أنه لا يحبك إلا مؤمن ولا يبغضك إلا منافق))ن ومثله في صحيح مسلم 1/86 برقم 78ن المجتبى من السنن 8/115 برقم 5018، مسند أحمد 1/128 برقم 1062، صحيح ابن حبان بترتيب ابن بلبان 15/367 برقم 6924، السنن الكبرى 5/137 برقم 8478.
وفي المعجم الكبير 6/239 برقم 6097 عن سلمان أن النبي صلَّى الله عليه وآله وسَلَّم قال لعلي رضي الله عنه: ((محبك محبي ومبغضك مبغضي)).
وفي المستدرك على الصحيحين 3/145 برقم 4657 عن عمار بن ياسر رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلَّى الله عليه وآله وسَلَّم: ((يا علي طوبى لمن أحبك وصدق فيك، وويل لمن أبغضك وكذب فيك))، هذا حديث صحيح الإسناد ولم يخرجاه، ومثله في: مسند أبي يعلى 3/178 برقم 1602، فضائل الصحابة 2/680 برقم 1162.
([136]) - قال الإمام الحجة مجدالدين بن محمد بن منصور المؤيدي أيده الله تعالى في كتابه لوامع الأنوار ج/1/330:
وبه[أي مجموع الإمام زيد بن علي عليه السلام] عن علي عليه السلام قال: قال لي رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: ((أنت أخي، ووزيري وخير من أخلفه بعدي، بحبك يعرف المؤمنون، وببغضك يعرف المنافقون، من أحبك من أمتي فقد برئ من النفاق، ومن أبغضك لقي الله عز وجل منافقاً)).
وقال الإمام الحجة مجدالدين بن محمد بن منصور المؤيدي أيده الله تعالى في لوامع الأنوار ج/1/365:
وفيه [الأحكام] قال يحيى بن الحسين صلوات الله عليه، قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: ((يا علي من أحب ولدك فقد أحبك، ومن أحبك فقد أحبني، ومن أحبني فقد أحب الله، ومن أحب الله أدخله الجنة، ومن أبغضهم فقد أبغضك، ومن أبغضك فقد أبغضني، ومن أبغضني فقد أبغض الله، ومن أبغض الله كان حقيقاً على الله أن يدخله النار)).
وقال أيده الله تعالى في لوامع الأنوار ج/2/511:
قال أيده الله في التخريج:وقال ـ صلى الله عليه وآله وسلم ـ: ((يا علي، حربك حربي، وحزبك حزبي، من أحبك أحبني ومن أحبني فقد أحب الله، ومن أبغضك أبغضني ومن أبغضني فقد أبغض الله، أنت وزيري في حياتي، وخليفتي بعد وفاتي)).
رواه العالم الولي إسحاق بن أحمد بن عبد الباعث ـ رضي الله عنه ـ في كتاب الحياة.
وأخرجه أبو علي الصفار بسنده إلى أنس بلفظ: نظر رسول الله ـ صلى الله عليه وآله وسلم ـ إلى علي بن أبي طالب، فقال: ((أنت سيد في الدنيا، وسيد في الآخرة، ومن أحبك فقد أحبني، ومن أحبني فقد أحب الله، ومن أبغضك فقد أبغضني، ومن أبغضني فقد أبغض الله؛ وويل لمن أبغضك بعدي)) رواه في الأربعين.
وأخرج أحمد بن حنبل عن ابن عباس: ((أنت سيد في الدنيا وسيد في الآخرة، من أحبك فقد أحبني، وحبيبك حبيب الله، وعدوك عدوي، وعدوي عدو الله، والويل لمن أبغضك من بعدي)).
..

(1/168)


ومنها قوله صلى الله عليه وآله وسلم: ((من فرح بموت عالم فهو منافق))، وهذا في العالم مطلقاً، فكيف بأعلم الأئمة الطاهرين؟!
ومشهور أنه لما سمع بموت الحسن عليه السلام خَرَّ ساجداً، ذكره في كتاب الدولتين وغيره، وأظهر الفرح بذلك، وقيل: إنه حين بلغه موت الحسن عليه السلام، أمر ابن عباس بالدخول عليه، وشحن مجلسه بأكابر دولته، وحشمه، وقراهِمَته، فلما دخل ابن عباس، رضي الله عنهما، نعى إليه الحسن عليه السلام في معرض الشماتة بموته، فخرج ابن عباس رضي الله عنهما، وهو يقول:
أصبح اليوم ابن هند شامتاً .... ظاهر النخوة أن مات الحسن
رحمة الله عليه إنه .... طال ما أشجى ابن هند وأرن
ولقد كان عليه عُمْرُه .... مثل رَضْوا وثبير وحصن
قال المنصور بالله عليه السلام: اسْترَّ معاوية -لعنه الله- بموت الحسن عليه السلام، سروراً ما اسْترَّ به إلاَّ المشركون، لأن المعلوم ضرورة أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم كان يغتم بموت الحسن غماً شديداً، فما حكم من سره ما يغم رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم؟

(1/169)


قال المنصور بالله عليه السلام: لو علم معاوية أن الأمر ينتظم له برفض أمور الإسلام جملة، والرجوع إلى عبادة الأصنام لفعل ذلك، وقد صرح المنصور بالله عليه السلام بكفر معاوية -لعنه الله-.
ورُوي عن علي عليه السلام وأكابر أفاضل الصحابة.
ومنها ما رواه المنصور بالله عن علي عليه السلام عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم: ((يا علي من أحبك لقي الله مؤمناً، ومن أبغضك لقي الله منافقاً))(136)، والمعلوم ضرورة أن النفاق أقبح الكفر، وأن المنافقين في الدرك الأسفل من النار.
لنا أيضاً على جواز لعنه ما رواه المنصور بالله عليه السلام، أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم لعن هند بنت عتبة ونسلها، ومعاوية كبير نسلها وسلطانهم وشيطانهم، وقد تقدمت أدلة من ذهب إلى فسقه.
لنا أيضاً على جواز لعنه، ما رواه الحسن بن علي عليهما السلام عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، أنه لعن معاوية في سبعة مواطن، ذكرها الحسن عليه السلام في مجلس معاوية -لعنه الله - يوم دعاه، فنال منه أصحابه، فأجاب عن كل واحد منهم، وكان أول من تكلم عليه معاوية، والقصة مشهورة.

(1/170)


[حكم من أجاز الترضي عن معاوية]
وأما النمط الثاني: وهو في حكم من ذهب إلى جواز الترضية عن معاوية -لعنه الله-، فهذا حكمه حكم من والاه، فالواجب على كل مسلم البراءة من الفساق والكفار، قال الله تعالى في معرض الثناء على إبراهيم: {فَلَمَّا تَبَيَّنَ لَهُ أَنَّهُ عَدُوٌّ لِلَّهِ تَبَرَّأَ مِنْهُ إِنَّ إِبْرَاهِيمَ لَأَوَّاهٌ حَلِيمٌ(114)}[التوبة] فوصف الله تعالى إبراهيم بالحلم لتبريه من أبيه حين ظهر له أنه عدو لله، أفلا نتأدب بآداب الله، ونقتدي بأنبياء الله؟!، هذا خليل الله تبرأ من أبيه، لما رآه عدواً لله، أفلا نتبرأ من عدوٍ لله لا نسب بيننا وبينه.

(1/171)


ومن الحجة القاطعة على من والى معاوية -لعنه الله- ويرضي عنه قوله تعالى: {لا تَجِدُ قَوْمًا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ يُوَادُّونَ مَنْ حَادَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَلَوْ كَانُوا ءَابَاءَهُمْ أَوْ أَبْنَاءَهُمْ أَوْ إِخْوَانَهُمْ أَوْ عَشِيرَتَهُمْ}[المجادلة:22] الآية فنفى الله بهذه الآية إيمان من والى محادِّيه، ولو من القرابة القريبة، ومن حارب إمام الحق فقد حاد الله، بدليل أنه لا يجوز أن يثبت بأحد اللفظين، وينفى بالآخر، فلا يقال هو محارب لله غير محاد، ولا محاد لله غير محارب، بل يعد من قال ذلك مناقضاً جارياً مجرى من قال: هو محارب لله غير محارب، محاد لله غير محاد، فحصل لنا أن من يرضّي عن معاوية، لعنه الله، فقد خرج عن الإيمان، لموادة عدو الله؛ لأن الترضية مودة،بل هي ثمرة المودة، فمن أراد أن يخرج عن اسم الإيمان، بنص المحكم من القرآن، فليرضّ عن معاوية ويواده.

(1/172)


خيالات: قالوا معاوية كاتب الوحي لرسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، وختنه، وصاحبه، فكيف يجوز التبري منه؟
قلنا: أما كونه كاتباً، فليس كتابة الوحي عاصمة للكاتب عن الخطأ والمعصية، أولم يكن عبد الله بن أبي سرح كاتباً للوحي؟ حتى نزل قوله تعالى: {وَلَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسَانَ مِنْ سُلَالَةٍ مِنْ طِينٍ(12)}[المؤمنون] حتى قال تعالى: {فَكَسَوْنَا الْعِظَامَ لَحْمًا}[المؤمنون:14] فقال عبد الله بن أبي سرح: فتبارك الله أحسن الخالقين، سبق لسانه بذلك رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، فقال صلى الله عليه وآله وسلم: هكذا أنزلت، فاكتب، فارتد ابن أبي سرح، وكفر، ولحق بمكة، وقال: إن كان محمد نبياً فهو نبي، قال: لأن القرآن إن كان نزل على الرسول صلى الله عليه وآله وسلم، فقد نزل عليه بزعمه، وإن كان من تلقاء نفس الرسول صلى الله عليه وآله وسلم، قال: فقد جاءَ به من تلقاء نفسه، فلو كانت الكتابة تعصم صاحبها من الكفر، عصمت ابن أبي سرح.
وأما كونه صاحباً لرسول اللَّه صلى الله عليه وآله وسلم فصحبته من جنس صحبة عبدالله بن أبي سرح، وكذلك صحبة أبيه.
وأما كونه ختناً لرسول الله صلى الله عليه وآله وسلم لمكان أم حبيبة، رحمها الله، فقد كانت تحت رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم صفية بنت حيي بن أخطب، وأخوها يهودي، فأوصت له، فذلك أصل جواز الوصية لأهل الذمة.

(1/173)


وكونه خالاً للمؤمنين فلا تعصمه من النار؛ لأن ولادة النبوة أبلغ في باب الحرمة من خؤولة الإيمان، فلم تعصم ولد نوح ولادته لما عصى الله سبحانه وتعالى، ولله من قال:
يا أمة ملك الضلال زمامها .... فتهالكت في خالها الملعون
[بحث في أن المرضّي عن معاوية يخطّئُ علياً عليه السلام]
وأما النمط الثالث: وهو في أنه لا واسطة بين الترضية عن معاوية، والتخطية لعلي عليه السلام، فلأنا قد بينا حكم معاوية -لعنه الله- -، والمرضّي عنه لا يخلو إما أن يرضّي عنه واعتقاده فيه أنه فاسق بحرب علي عليه السلام، ولما سبق من الأدلة، أو غير معتقد لذلك.
* فإن كان الأول، فقد أوقع الترضية في غير محلها، وهي لا تكون إلاّ للمؤمنين، وإلاّ لزم من ذلك جواز الترضية على الشيطان، والترحم على عباد الأوثان، وهذا مما لم يقل به أحد.
* ولم يبق إلا أن الذي يرضي على معاوية، معتقد أنه أهل للترضية، منزه له عن القبائح في أفعاله وأقواله، ومن ذهب إلى هذا فقد اعتقد في علي الخطأ لمحاربة من لم يصدر منه قبيح على الإطلاق بزعم صاحب هذه المقالة، وهل هذا إلاّ نفس الضلالة والتزام الجهالة؟!

(1/174)


وأما النمط الرابع: فقد دخل بيانه في النمط الثالث، حيث كان المرضي عن معاوية-لعنه الله-، لا يسلم من اعتقاد الخطأ في أمير المؤمنين عليه السلام، ونزيده بياناً فنقول:
لا يخلو علي ومعاوية في الحروب التي كانت بينهما:
* إما أن يكونا مصيبين، * أو مخطئين، * أو أحدهما مخطئ.
لا جائز أن يكونا مصيبين؛ لأنه كان يلزم أن يكون القاتل والمقتول في الجنة، كما قالت عائشة يوم الجمل، وهذا ظاهر السقوط.
ولا جائز أن يكونا مخطئين؛ لأن المعلوم بغي إحدى الفئتين، لحديث مقتل عمار رضي الله عنه، وإجماع الأمة، أن أحدهما كان إماماً، والآخر باغياً، ولو كان الخطأ شاملاً للكل، لم تكن إحدى الفئتين بالبغي أولى من الأخرى.
ولم يبقَ إلا أن يكون أحدهما باغياً والآخر مبغياً عليه، وقد بينا أن الباغي من خرج على إمام الحق، فمن كان هو الإمام المحق، كان البغي عليه، فليتأمل المتأمل من الإمام، ويفرق بين الخَلْف والأمام، أولم فصمي صمام، فإن داءَهُ عقام.

(1/175)


[حكم المرضّي عنه]
وأما النمط الخامس: وهو فيما يلزم من الإنكار على صاحب هذه المقالة الفاسدة، فقد تقدم مثله في المسألة الأولى، ونزيد هاهنا طرفاً، وهو أن الذاهب إلى الترضية عن معاوية -لعنه الله-، يجوز لعنه، وإنما قلنا ذلك؛ لأنه موالي الفاسق أو الكافر على الخلاف المتقدم، وحكم الموالي حكم الموالَى.
وأما النمط السادس: وهو في هل يجب لعن معاوية -لعنه الله- في حالة؟
فاعلم أن الواجب على كل مسلم التبري من كل عدو لله على الإطلاق، ومعاوية -لعنه الله- أكبر أعداء الله تعالى وأعداء رسوله صلى الله عليه وآله وسلم، وقد أثنى الله على خليله إبراهيم، لما تبرأ من أبيه كما تقدم بيانه؛ ولأن الواجب على كل مكلف موالاة علي عليه السلام، فإذا شرعت التهمة إلى مسلم بموالاة عدو الله معاوية اللعين، ولم يكن لينفي هذه التهمة إلاّ بلعنه لمعاوية، وجب ذلك عليه؛ لأن ما لا يتم الواجب إلاّ به يجب كوجوبه، وقد تقدم كلام الإمام المنصور بالله عليه السلام في أن الواجب على المسلمين متابعة علي عليه السلام في أفعاله وأقواله، وقد كان عليه السلام يقنت بلعن معاوية، وقد تقدم كلام المنصور بالله فخذه من هناك.

(1/176)


وقال الفقيه محمد الديلمي رحمه الله؛ إنه يجب لعن معاوية، وأطلق، ولعله يريد عند التهمة بموالاته، كما ذكرناه، ولكن أصبحنا في دهر كاد يدخل مذهب الحشوية في قلوب شيعته، وتثمل بصائرهم عن فتنة معاوية وبدعته، ولله القائل:
بنو الطمث معروفون في كل ناحية .... ببغضهمُ آل النبي علانية
إذا قيل مولاكم علي توثبوا .... عليّ وقالوا لم تسب معاوية
[الفرق بين التوقف في معاوية وبين التوقف في غيره من المتقدمين لعلي عليه السلام]
وأما النمط السابع: في هل توقف في معاوية من يعتد به من المعتزلة والزيدية، فقد أشرنا إلى مذهبهم أولاً، والمعلوم إجماع الزيدية والمعتزلة على أن معاوية لا يستحق الترضية، وإن اختلفوا في فسقه أو كفره، فالتوقف أمر آخر لم يقل به قائل، وإنما يتوقف في الصحابة لسوابقهم الجميلة في الإسلام، وجهادهم أعداء العزيز العلام، ومحبتهم الرسول عليه أفضل الصلاة والسلام، ووقوع تلك الهفوة التي جُهل لفضلهم قدرها، ولم يُعْلم على التحقيق أمرها، فأما معاوية فهو مغناطيس الشرور والآثام، والمتفرد بركوب القبائح العظام، ولله در الصاحب الكافي حيث قال:
قالت معاوية الطاغي أتلعنه .... فقلت لعنته أحلى من العسل
---

(1/177)


المسألة السادسة:
ما تقول أهل الملة المحمدية، صلوات الله على صاحبها، فيمن ذهب إلى أن يزيد الملعون ممن ينبغي التوقف في شأنه، بمعنى أنه لا يجوز لعنه ولا الترضية عنه ؟ هل يعد صاحب هذه المقالة من أهل ملة الرسول صلى الله عليه وآله وسلم ؟ أم يكون بها خارجاً ؟ لان المعلوم من دينه صلى الله عليه وآله وسلم البراءة من الفاسقين، والمعلوم قتل يزيد -لعنه الله- للحسين عليه السلام، وأقل أحوال قتل الحسين الفسق، إن لم يكن قاتله كافراً، فما حكم من نسبت إليه هذه المقالة ؟ وما يلزم سامعها من الإنكار ؟
الجواب والله الهادي إلى الصواب: ينحصر في ثلاثة أركان:
الأول: في حكم يزيد.
والثاني: في حكم صاحب هذه المقالة.
والثالث: فيما يلزم من الإنكار على صاحبها.

(1/178)


[حكم يزيد]
أما الركن الأول: فحكم يزيد الكفر على الصحيح مما لخّصه علماؤنا رضي الله عنهم.
قال الديلمي رحمه الله تعالى:كان يزيد -لعنه الله تعالى- لا يمسي إلاّ سكراناً، ولا يصبح إلاّ فخوراً شيطاناً، وكان ابن الزبير(1) يذكر ذلك في خطبته، فيقول: السّكّير الخمّير، وكانت أيامه تسمى أيام الشؤم ؛ لأنه أصيب فيها الحسين بن علي عليهما السلام، الذي بكت عليه الأرض و السماء، وقطرت دماً، كما رويناه بالإسناد الصحيح، وحمل أهل بيت رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ونساءهم إلى الشام كالسبي المجلوب، وقتل من أولاد المهاجرين والأنصار ستة آلاف، وأباح حرم رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، وأوطيت الخيل حوالي قبر رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، وحصر بيت الله الحرام وأهله، وحرقه بالنار، فأي حرمة لله لم تُنْقض في أيامه، ولما جيء برأس الحسين عليه السلام مقطوعاً نكّت بالقضيب ثناياه، وتمثل بأبيات ابن الزبَعْرى:
__________________
([1]) - عبدالله بن الزبير بن العوام، أبو خبيب الأسدي، أول مولود من المهاجرين بعد الهجرة، شهد مع خالته الجمل ، بويع له سنة 64هـ بعد معاوية بن يزيد، وتخلّف عن بيعته ابن عباس وابن الحنفية، ثم حصره الحجاج بمكة، وقتل في جمادى سنة 73هـ وهي عمره. أهـ من لوامع الأنوار3/121.

(1/179)


ليتَ أشيْاخي ببدرٍ شهدوا .... جزعَ الخزرج من وقع الأسلْ
فأهلّوا واستهلّوا فرحاً .... ثم قالوا يا يزيد لا شللْ
لستُ من عتبة إنْ لم أنتقم .... من بني أحمدَ ماكان فعل(2)
_____________
([2]) - قال ابن حابس رحمه الله تعالى في كتاب الإيضاح شرح المصباح - شرح الثلاثين المسألة - ص343م ط1:
وأقبل [أي : يزيد بن معاوية] ينكِّت ثنايا الحسين عليه السلام؛ وهو يقول:
ليتَ أشياخي ببدرٍ شهدوا .... جزع الخزرج من وقع الأسلْ
فأهلّوا واستهلّوا فرحاً .... ثم قالوا يايزيدُ لا شللْ
فجزيناهم ببدر مثلها .... وأقمْنا مَيْلَ بدر فاعتدلْ
لستُ من شيخيَّ إنْ لم أنتقم .... من بني أحمدَ ما كان فعلْ
وهذه الأبيات قال بعضها ابن الزبعرى شاعر قريش يوم أحد، وزاد يزيد البعض من أبياتها، فلابن الزبعرى الأول والثالث، وليزيد الثاني والرابع، وكلامه هذا فيه أوْفى دليل على كفره، لأنه جعل ما وقع من ذلك انتقاماً بما فعله رسول الله صَلّى الله عَليه وآله وسَلّم، انتهى.

(1/180)


وقد روي بالإسناد الصحيح؛ أن الحسين عليه السلام كان عند النبي صلى الله عليه وآله وسلم، فأراد أن يخرج إلى بيت أمه فاطمة عليها السلام، ومطرت السماء، فدعاه النبي صلى الله عليه وآله وسلم، وأمسكه، فأمسكت السماء حتى وصل الحسين إلى أمه فاطمة عليهما السلام، فكره النبي صلى الله عليه وآله وسلم أن تقع عليه قطر المطر، مع أنه رحمة للحسين عليه السلام، فكيف حاله لو رآه وقد وقعت عليه السهام، وطعن بالرماح، وقطع بالسيوف إرباً إرباً، ورُكِض على جسده الشريف بالدواب، وحوافر الخيل، حتى كُسِرت عظامه، وأُبِين رأسه من جسده الشريف، فويل للكافرين من عذاب شديد، وقد قال النبي صلى الله عليه وآله وسلم: ((اللهم من أنكا حسيناً فلا تغفر له))(3).
_____________
([3]) - روى أحمد بن حنبل في مسنده عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلَّى الله عليه وآله وسَلَّم: ((من أحبهما فقد أحبني ومن أبغضهما فقد أبغضني)) يعني حسناً وحسيناً، انتهى، وهو بمثل هذا اللفظ في:سنن ابن ماجه 1/51 برقم 143، السنن الكبرى 5/49 برقم 8168، مسند أبي يعلى 11/78 برقم 6215، المعجم الكبير 3/48 برقم 2646.
قال المولى العلامة الحسن بن الحسين الحوثي رحمه الله في التخريج:
قوله [أي الإمام الأعظم المنصور بالله عليه السلام في الشافي]: عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال: ((من أحب الحسن والحسين فقد أحبني، ومن أبغضهما فقد أبغضني))، قال: ورواه محمد بن سليمان الكوفي بإسناده إلى أبي هريرة من ثلاث طرق، عن سلمان قال: قال رسول اللَّه صلى الله عليه وآله وسلم: ((الحسن والحسين من أحبهما أحببته، ومن أحببته أحبه اللَّه، ومن أحبه اللَّه أدخله جنات النعيم، ومن أبغضهما، وبغى عليهما أبغضته، ومن أبغضته أبغضه اللَّه، ومن أبغضه اللَّه أدخله نار جهنم، وله عذاب مقيم)) أخرجه الكنجي، وأبو نعيم، وأخرجه الحافظ أبو القاسم علي بن الحسن بن هبة اللَّه الشافعي محدث الشام الدمشقي المعروف بابن عساكر، وأخرجه الإمام أبو طالب وهو في أماليه عن زاذان عن سلمان، تمت من تتمة الإعتصام.
وأخرجه أحمد عن أبي هريرة من ثلاث طرق بعبارة الأصل، وابن ماجه، والحاكم في المستدرك، وأبونعيم أيضاً بعبارة حديث سلمان، وقد أخرجه عن سلمان الحاكم أيضاً في المستدرك، وروى نحوه الهادي إلى الحق عليه السلام في الأسانيد اليحيوية.
وعنه صلى الله عليه وآله وسلم قال: ((من أحب الحسن والحسين فقد أحبني، ومن أبغضهما فقد أبغضني)) أخرجه أبو سعيد في شرف النبوة عن إسرائيل، تمت شرح تحفة.
وقال صلى الله عليه وآله وسلم: ((من أحبني أحب هذين يعني الحسنين)) أخرجه ابن حاتم عن عبدالله، وقال صلى الله عليه وآله وسلم فيهما: ((إني أحبهما فأحبوهما)) أخرجه الدولابي عن يعلى بن مرة من حديث طويل، تمت شرح تحفة أيضاً.
وروى القاضي عياض قوله صلى الله عليه وآله وسلم في الحسنين: ((من أحبهما فقد أحبني، ومن أحبني فقد أحب اللَّه، ومن أبغضهما فقد أبغضني، ومن أبغضني فقد أبغض اللَّه)) رواه في الشفا مرسلاً.
وعنه صلى الله عليه وآله وسلم: ((من أحب الحسن والحسين فقد أحبني، ومن أبغضهما فقد أبغضني)) أخرجه أحمد، وابن ماجة، والحاكم عن أبي هريرة، تمت من الجامع الصغير للسيوطي. انتهى من التخريج.
([4]) - البخاري / الإعتصام بالكتاب والسنة برقم 6762، مسلم / الحج 2429، أحمد / باقي مسند المكثرين 13012، الجامع الصحيح المختصر 3/1157 برقم 3001، صحيح ابن حبان بترتيب ابن بلبان 9/32 برقم 3717، السنن الكبرى 2/486 برقم 4278، سنن البيهقي الكبرى 5/196 برقم 9731، مسند أبي يعلى 1/228 برقم 263، مسند أبي داود الطيالسي 0/26 برقم 184، مسند إسحق بن راهويه 1/376 برقم 396، فضائل الصحابة 2/704 برقم 1204.
.

(1/181)


وفي كتاب "الدولتين" عن الحسن البصري قال: قتل مع الحسين بن علي عليهما السلام ستة وعشرون من أهل بيته، والله ما على وجه الأرض يومئذٍ أهل بيت يشبهون بهم، ولله القائل:
يا ويل من شفعاؤه خصماؤه .... والصور في يوم القيامة يُنفخ
لا بد أن ترد القيامة فاطمٌ .... وقميصها بدم الحسين ملطخ
قال الديلمي رحمه الله تعالى:
اعلم أن العلماء قد أجمعوا على فسق معاوية ويزيد، وعلى لعنه وشتمه، حتى الحشوية، وإن اختلفوا في كفره، فهل يقع شك في أن قَتْل ستة آلاف من أولاد المهاجرين والأنصار، ونهب المدينة ثلاثة أيام، وإيطاء الخيل حوالي قبر رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، كفرٌ ظاهر، ونفاق شاهر، ولا يختلف مسلمان في أن قتل حمامة أو عصفور حدثاً، لقوله صلى الله عليه وآله وسلم في حديث طويل: ((أو آوى محدثاً فعليه لعنة الله، والملائكة، والناس أجمعين))(4)، وكذلك حرّق بيت الله، شرّفه الله، وجلس في موضع ابن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم المنصوص على إمامته، وفضله، وفي شأنه وبيانه وحياته عجب لمن يتفقد.
وروى السيد أبو العباس رحمه الله عن ابن عباس رضي الله عنهما، قال: اشتد برسول الله صلى الله عليه وآله وسلم مرض الوفاة فحضرته وهو يقول: ((مالي وليزيد لا بارك الله فيه، اللهم العن يزيد))، ثم غشي عليه طويلاً وأفاق، فجعل يقبل الحسين، وعيناه تذرفان، ويقول: ((أما إِن لي ولقاتلك مقاماً بين يدي الله تعالى))(5).
______________
([5]) - قال المولى العلامة الحسن بن الحسين الحوثي رحمه الله تعالى في التخريج مالفظه:
وكذا قال النبي صلى الله عليه وآله وسلم في حديث معاذ الذي أخرجه الطبراني عنه ((يزيد لا بارك الله في يزيد ))،ثم قال ((واهاً لفراخ آل محمد من خليفة مستخلف مترف، يقتل خلفي وخلف الخلف))....الخ، وليس إلا لأن له عناية من الأمر والتجهيز فسمي قاتلاً وإن لم يباشر بيده.
وقد جُعل الراضي بالفعل فاعلاً قال تعالى في ثمود: {فَقُلْ تَعَالَوْا}[أل عمران:61]، والمتولي لعقر الناقة هو قدير بن سالف، لكن رضوا فشاركوا، وقال تعالى في فرعون: {يُذَبِّحُ أَبْنَاءَهُمْ}[القصص:4]، ومن المعلوم أنه ليس المتولي لذلك بيده.
وقد مرّت رواية أبي سعيد السمان بسنده الى ابن عمر أنه صلى الله عليه وآله وسلم تنفس ثم قال: ((يزيد لا بارك الله في يزيد، أما إنه نُعى إليّ الحسين بن علي.......... الخ )).

(1/182)


[حكم من قال بالتوقف في يزيد]
وأما الركن الثاني: وهو في حكم صاحب هذه المقالة، فهو مخطٍ في طرف، ومصيب في طرف، فخطأه حيث قال لا يجوز لعنه، وصوابه حيث أشار أنه لا يجوز الترضية عنه، وهذا إنما هو في مشتبهات الأمور، آخذاً بقوله صلى الله عليه وآله وسلم: ((المؤمنون وقّافون عند المشتبهات))، وأما يزيد -لعنه الله-، فلا شبهة في كفره أو فسقه، فصاحب هذه المقالة متجاهل منكر لما علم ضرورة ؛ لأن المعلوم من طريق التواتر قتل يزيد للحسين عليه السلام علماً ضرورياً، لا شك فيه ولا ريبة، كعلم أحدنا أنه كان في الدنيا يزيد بن معاوية، وهذا مما لا ينتفي عن أحد بشبهة، ومن سلم هذا العلم، لزمه تسليم ما هو مثله في الجلاء والظهور، وهو قتل يزيد -لعنه اللَّه- للحسين عليه السلام، ومن أنكر أن يكون يزيد قاتلاً للحسين عليه السلام، فقد أنكر الحقائق وتسفسط في مذهبه.

(1/183)


[ما يلزم من الإنكار على القائِل بالتوقف]
وأما الركن الثالث: فالقائل بهذه المقالة، إن قصد بها إنكار لعن يزيد - لعنه الله -، وأنه لا يجوز لأحد من المسلمين لعنه، فقد أنكر على رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم لعنه ليزيد - لعنه الله -، وردّ في ذلك إجماع العترة النبوية، وقد تقدم حكم من خالف إجماع العترة عليهم السلام، وإن قصد بمقالته أنه لم يصح له قتل يزيد - لعنه الله - للحسين عليه السلام، فلو صح لفسَّقه، وهلَّكه، وهذا هو المعروف من مذهب رواة الحديث، وأهل التنسك في أمصار الشافعية، وقد سَرَتْ هذه المقالة إلى متنسكين في زماننا، ومظهرين للتمسك بمذهب الأئمة الأطهار، وسمعتُ ذلك من بعضهم، والأمر أهون، ولكن لا يعد صاحب هذه المقالة من الزيدية ؛ لأن الزيدية مجمعون على تضليل يزيد - لعنه الله - وتهليكه، من دون توقف في شأنه، وجر على نفسه بهذا التوقف البارد التهمة، بمحبة يزيد -لعنه الله-، وتحسين قبائحه، ومجانبة حبل العترة النبوية، والسلالة الفاطمية.

(1/184)


[شبهة وجوابها]
خيال: قالوا: لم يتعبدنا الله بلعن أحد من خلقه، فلو أن مسلماً لقي الله وصحيفته خالية من لعن الشيطان، ما قيل له: لِمَ لَمْ تلعن الشيطان، بل قد كره ذلك، وجاء فيه عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: ((المؤمن لا يكون لعاناً))، وفي كلام علي عليه السلام: (أكره لكم أن تكونوا سبابين).
قلنا: لا خلاف في صحة ما قلتم، ولكن تعبدنا الله بالبراءة من أعدائه، وعلامة التبري لعن المتبرأ منه، وفيه إهانة لعدو الله، ودعاءٌ عليه بالإنتقام، وقد كان الرسول يلعن أقواماً، منهم معاوية ويزيد في الرواية المتقدمة، وعلي عليه السلام كان يقنت بلعن جماعة، منهم معاوية، وقد جاء في القرآن الكريم {أَلَا لَعْنَةُ اللَّهِ عَلَى الظَّالِمِينَ(18)}[هود] وابن الزبَعْرَى سب رسول اللَّه صلى الله عليه وآله وسلم في سبعين بيتاً، فقال صلى الله عليه وآله وسلم: ((اللهم إني لا أحسن الشعر، ولكن العنه بكل بيت لعنة))، فلعنه الله سبعين لعنة، والنهي الوارد في ذلك أن يجعله الإنسان ديدناً وهجيراً، كما هو مذهب الإمامية، لا يحركون ألسنتهم بأكثر من اللعن والسب والأذية، وهذا هو موضع الكراهة ومتناولها. فأما رأينا، فليس إلاّ إظهار التبري من موالاة أعداء الله، فإذا ظهر من الإنسان التبري، فهو المأخوذ عليه، والمتعبد به، فأما حين يتهم بموالاة أعداء الله، يزيد وأمثاله، فإنه يجب عليه إظهار لعنه، وقد تقدمت الإشارة إلى هذا في الرواية عن المنصور بالله عليه السلام، والتهويل بذكر الشيطان -نعوذ بالله من شره- لاطائل تحته ؛ لأن المعلوم كراهة المسلمين لعدوهم، وهو عدوهم بنص الذكر الحكيم، وتعريف القرآن العظيم، فلو قدّرت أن في الناس من يوالي الشيطان، كانت المسألة واحدة، فافهم وتأمل.

(1/185)


المسألة السابعة:
ما تراه القاسمية نوّر الله بعلومها حنادس الجهالات، وقطع بسيوفها كراديس الضلالات، فيمن جهّل القاسم بن إبراهيم عليه السلام، مسلوب الرباعيتين، الذي ورد فيه عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم: ((مسلوب الرباعيتين من أهل بيتي، ولو كان بعدي نبي لكان هو)) ما حكم الصائر إلى هذه الغاية في الجهالة والضلالة ؟
الجواب: والله الهادي إلى منهاج الصواب، يكمل بإيراد أنموذجين:
* الأول: في التنبيه على فضل القاسم عليه السلام.
* والثاني: في حكم من نسب إليه الجهل، وحكم ما يلزم من الإنكار.

(1/186)


[فضائل القاسم بن ابراهيم عليه السلام]
أما الأنموذج الأول: ففضائل القاسم عليه السلام لا تحصى، ومحامده النبوية لا تُسْتقصى، وهو كما وصفه الفقيه حميد رضي الله عنه، كان عليه السلام من أقمار العترة النبوية، ويواقيتها المشرفية المضيئة، إنتهت إليه الرياسة في عصره، وتميز بالفضائل على أبناء دهره.
ووصفه الفقيه المقام الفاضل الديلمي، رحمه الله رحمة الأبرار، فقال شعراً:
نور من الملكوت مَثَّل صورة .... بشرية ضلت عليه دليلاً
لو لم يكن ختم الرسالة جده .... خلناه في هدي الرسول رسولاً
هذا الذي بهرَ العقول جلالُه .... وتجاوز التشبيه والتمثيلا
إن كنت تجهل قدره فاسأل به ال .... ـه القرآن والتوراة والإنجيلا
وروى الفقيه حميد رضي الله عنه عن الإمام المنصور بالله عليه السلام، يرويه عن آبائه إلى شيخ من شيوخ آل الحسن، كان يدرس عليه فتيان آل الحسن، وكان إذا دخلوا قام في وجوههم، وعظّمهم، وأقسموا عليه لا فعل، وكان القاسم عليه السلام من شباب ذلك العصر، فكان إذا أتى، قام في وجهه، وعظّمه، فقالوا أيها السيد: إنا قد عَذرناك وهذا الفتى لك اعذر.
فقال: لو تعلمون من حق هذا الفتى ما أعلم، لاستصغرتم ما أصنع في حقه.
قالوا: وما تعلم ؟

(1/187)


قال: هذا الفتى قال فيه رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: ((يخرج من ذريتي رجل مسلوب الرباعيتين، لو كان بعدي نبي، لكان هو)).
وفيه يقول الشاعر من أبيات اختصرت أكثرها:
ولو أنه نادى المنادي بمكة .... بخيف منىً فيمن تضم المواسم
مَن السيد السباق في كل غاية .... لقال جميع الناس لا شك قاسم(9)
وله عليه السلام العلم الغزير، والتصانيف الفائقة في علم الكلام وغيره من الفنون، منها كتاب "الدليل الكبير"، ومنها كتاب "الدليل الصغير" في الرد على الفلاسفة، وكتاب العدل والتوحيد الصغير، وكتاب العدل والتوحيد الكبير، وكتاب الرد على المجبر، وكتاب الرد على ابن المقفع، وكتاب الرد على النصارى، وكتاب المسترشد، وكتاب تأويل العرش والكرسي على المشبهة، وكتاب الأهليلجة في محاورة الملحد، وهو رجل من أرباب النظر من الملحدة، كان يغشى مجالس المسلمين ويورد عليهم الأسئلة الصعبة في قدم العَالَم، وغير ذلك، حتى وافاه الإمام عليه السلام، وأورد ما عنده من المشكلات، فَوَضّح له الحق، فتاب إلى ربه تعالى، ثم قال: تعست أمةٌ ظلت عن مثلك.
____________
([9]) - بعده كما في أنوار اليقين والحدائق الوردية:-
إمام من أبنا الأئمة قدمت .... له الشرف المعروف والمجد هاشم
أبوه علي ذو الفضائل والنهى .... وآباؤه والأمهات الفواطم
بنات رسول الله أكرم نسوة .... على الأرض والآباء شم خضارم
تمت ولله القائل وهي من مُؤَلف الديلمي رحمه الله تعالى، تمت من هامش(أ).

(1/188)


ودخل جعفر بن حرب على القاسم عليه السلام، وكان من شيوخ المعتزلة، فجاراه في دقائق علم الكلام، فلما خرج من عنده، قال: أين كنا من هذا الرجل، فوالله ما رأيت مثله.
ومن تصانيفه عليه السلام، كتاب تثبيت الإمامة؛ في نصرة مذهب الزيدية في تقديم أمير المؤمنين عليه السلام على المشائخ، وأورد من الأسئلة العجيبة في هذا المعنى على المتقدمين عليه ما يشهد على أنه البحر الزخّار، والقمر النوار، والغمام المدرار، وتصانيفه عليه السلام في الفقه أكثر من أن تذكر، منها كتاب الفرائض والسنن، وكتاب الطهارة، وكتاب صلاة اليوم والليلة، ومسائل ابن جهشيار، وكتاب النيروسي، وله عليه السلام في علوم القرآن ماليس لغيره، إذا أخذ يتكلم فيها فكأنه فنه الذي عليه نشأ، وله كتاب الناسخ والمنسوخ، وله في المواعظ والآداب كتاب سياسة النفس، فصل من فصوله يشفي كل غله، ويُبرئُ كل علة، بالغ عليه السلام في التزهيد في الدنيا وذمها، والترغيب في دار الخلود ووصفها، وحذر فيه وأنذر، وجمع فيه ما انتشر، من المواعظ، والآداب، والحكم، والوصايا، والملح، والنوادر، والأمثال، والغريب، ما لم يحط كتاب بمثله.
قال الفقيه الديلمي رضي الله عنه: ورد في القاسم بن إبراهيم عليه السلام أحاديث كثيرة، وتصانيفه تشهد له بالعلم والفضل، وكان فصيحاً متكلماً، وكان الناصر عليه السلام يقول لو جاز قراءة شعر أحد في الصلاة لكان شعر القاسم عليه السلام.

(1/189)


قلت: لعل الناصر عليه السلام أراد بما قال، أن شعر القاسم عليه السلام مشتمل على المواعظ والحكم، والحث على طاعة الله سبحانه، والترغيب في الزهد، وقمع الشهوات، وإيثار الآخرة على الأولى، ولباس شعار الصبر في البأساء والضراء، كما روي: أن المأمون أرسل إليه عليه السلام بوقر سبعة أبْغُل دنانير على أن يجيبه بكتاب، أو يبتديه بكتاب، فأبا القاسم ذلك، وأمر برد المال بعد أن وصل إليه، فلامته عليه السلام امرأته في ذلك، فقال عليه السلام هذه الأبيات:
تقول التي أنا عرس لها .... وِقاؤُ الحوادث دون الردى
ألست ترى المال منهلة .... مخارم أفواهها باللها
فقلت لها وهي لوّامة .... وفي عيشها لو صَحَت ما كفى
كفاف امرء قانع قوتُه .... ومن يرض بالقوت نال الغنى
فإِني وما رمتِ في نيله .... وقَبْلَك حب الغنى ما ازدهى
كذي الداء هاجت له شهوة .... فخاف عواقبها فاحتمى
وله عليه السلام في مثل ذلك:
وَعاذلة تورقني .... وجنح الليل معتلج
فقلت رويد عاتبة .... لكل مهمة فرج
أسرّك أن أكون رتعـ .... ـت حيث المال والبهج
وأني بت يصهرني .... بحرِّ فراقه وهج
فأُسلب ماكَلِفت به .... ويبقى الوزر والحرج
ذريني خلف قاصية .... تضايق بي وتنفرج
ولا ترمين بي غرضاً .... تطاير دونه المهج
إذا أكدى جَنى وطنٍ .... فلي في الأرض منفرج

(1/190)


وروى السيد أبو طالب عليه السلام عن الهادي عليه السلام أن بعض العلوية توسط بين المأمون والقاسم في أن يجيب عن كتابه بمال عظيم، فقال القاسم عليه السلام: لا يراني الله أفعل ذلك أبداً، ورد المال حين وصله كما تقدم.
ومن تصانيفه عليه السلام: كتاب المكنون في الوصايا والآداب، الجامعة للدين والدنيا.
وكان عليه السلام مستجاب الدعوة، دعا إلى الله في مخمصمة، فقال: اللهم إني أسألك بالاسم الذي دعاك به صاحب سليمان بن داوود فجاءه العرش قبل أن يرتد إليه الطرف، فتهدل البيت عليه رطباً.
ودعا مرة فقال: اللهم إني أسألك بالاسم الذي إذا دعيت به أجبت، فامتلأ البيت عليه نوراً، وعلى الجملة فهذا المختصر لا يسع جزءاً يسيراً من فضائل القاسم عليه السلام، ومحامده، ومحاسنه الجمة، ومناقبه، وفي ذلك كتب مستقلة بذواتها، فمن أراد الاستيعاب فليطالعها.

(1/191)


[حكم من جهّل القاسم عليه السلام]
وأما الأنموذج الثاني: وهو في حكم من نسب الجهل إلى القاسم عليه السلام، فحكمه الخطأ، لكنه يختلف بحسب اختلاف قصده، فإن قصد الاستهانة بالقاسم عليه السلام، فقد استهان بعظيم، وقال المنصور بالله في كتاب شرح الرسالة الناصحة:
منكر فضل أهل البيت عليهم السلام يشارك قتلة زيد بن علي عليهما السلام وأصحابه في سفك دمائهم، ووزر قتالهم ؛ لأن علة قتالهم لزيد بن علي عليهم السلام، إنكار فضله وفضل أهل بيته، صلوات الله عليهم، وما أوجب الله على الكافة من توقيرهم والرجوع إليهم، وأخذ العلم عنهم، والجهاد بين أيديهم، هذا كلام المنصور بالله بلفظه.
قلت: ولاشك في فسق قتلة زيد بن علي عليه السلام، وقد قال المنصور بالله الحكم في ذلك واحد، {وَتَحْسَبُونَهُ هَيِّنًا وَهُوَ عِنْدَ اللَّهِ عَظِيمٌ(15)}[النور]، اللهم اهدنا الصراط المستقيم، وجنبنا مداحض روافض أهل نبيك الكريم، ولله من قال في عدوهم:
قل له يبلغ في آل رسول الله جهدهْ .... قد علمنا أن من يبغضهم ليس لرشدهْ
هذا وإن كان ناسبُ الجهل إلى القاسم عليه السلام جاهلاً بحاله، ومحاسن خلاله، غير عارف بفضائله الوسام، ومكارمه العظام، وعلومه المتلاطمة الأمواج، وآياته المتسعة الفجاج، ومحامده الوضية الديباج، ومحاسنه الوهاجة السراج، فقد جهل الشمس نصف النهار، وأنكر ما يُشاهد من الأنوار، ولله القائل:
والشمس إن خفيت على ذي مقلةٍ .... نصف النهار فذاك محصول العما

(1/192)


ولا بأس بتعريف هذا الجاهل ما جهله، وأما حكم السامع لما تقدم السؤال عنه، من التجهيل لمن له التجليل والتفضيل، ومن هو الحجة في العرفان بين التحريم والتحليل، فقد تقدم بيانه في المسألة الأولى، إلا أن يكون جاهلاً على التحقيق، أعني المتكلم في علم القاسم عليه السلام وفضله، فالأولى تعريفه وإرشاده إلى ماجهل من الفضل والفضائل، ولله القائل !:
وإذا خفيت علىاللئيم فعاذرٌ .... أن لا تراني مقلةٌ عمياءُ
المسألة الثامنة:
مايرى المتمسكون بمذهب الهادي عليه السلام فيمن روي عنه أنه قال: الهادي عليه السلام لبَّس على المسلمين أديانهم، والله ليسأله الله عن ذلك (معناه عن التلبيس)؟
ثم لم يقف على هذه الغاية حتى قال: لقد تكلّف الهادي مذهباً لا أصل له ولاصحة، والمذهب كان مذهب الشافعية، لكن أراد الهادي عليه السلام أن يُذْكر، هذا معنى كلامه، ماحكم من أطلق لسانه بهذا الكلام على يحي عليه السلام ؟ وما يلزم المتمسكين بالإسلام الحقيقي من الانكار ؟ وفيما أحسب لو سمع السادة الهارونيون من يتكلم بهذا الكلام على الهادي عليه السلام لأفتوا بجواز قتله وتحريقه وتغريقه.
الجواب والله الهادي إلى الصواب، يتم بإيراد أربعة مسالك:
الأول: في حكم صاحب هذه المقالة.
والثاني: في التنبيه على فضلٍ مِنْ فضلِ الهادي عليه السلام.
والثالث: في ترجيح مذهبِ أئمة الزيدية على غير ه من المذاهب.
والرابع: فيما يلزم من الإنكار على صاحب هذه المقالة القاتلة.

(1/193)


[حكم من نسب التلبيس إلى الهادي عليه السلام]
أما المسلك الأول: فحكم من نسب التلبيس إلى الهادي عليه السلام حكم قَتَلة زيد بن علي عليه السلام، كما مر بيانه في المسألة التي قبل هذه المسألة، ولا شك في فسق قتلة زيد بن علي، عليه السلام، وها هنا تلخيص زائد، وهو أن المتكلم بهذا الكلام على الهادي عليه السلام، مُخْرج له من الهداية إلى الغواية، ومُلَبّس له ثوب التلبيس، الذي هو رداءُ إبليس، وناظم له في سلك الملحدين، ونازع عنه لباس الأئمة الهادين، فهو في هذه المقالة المردودة مكفر للهادي عليه السلام، ومساوٍ بينه وبين علي بن الفضل القرمطي في وقت الهادي عليه السلام، وفي الحديث: ((من كان في قلبه مثقال حبة من خردل عداوةً لي ولأهل بيتي، لم يرح رائحة الجنة))(15)، ولا أعظم عداوةً ممن نسب التلبيس إلى الهادي عليه السلام، وقد أحيى صاحب هذه المقالة مذهب معاوية -لعنه الله-، في سب علي عليه السلام، وهذا هجيرا النواصب.
__________________
([15]) - قال الإمام المنصور بالله عبدالله بن حمزة عليه السلام في شرح الرسالة الناصحة [تحت الطبع]:
وقد روينا عن نبينا رسول الله صَلّى الله عَلَيه وآله وسلّم أنه قال: (( من كان في قلبه مثقال حبَّة من خردل عداوة لي ولأهل بيتي لم يرح رائحة الجنَّة )) انتهى.
ولهذا الخبر شواهد كثيرة بمعناه منها: ما رواه الإمام المنصور بالله عبدالله بن حمزة عليه السلام في الشافي قال: وكذا الخبر من طريق علي عليه السلام: ((حرمت الجنَّة على من ظلم أهل بيتي وقاتلهم، والمعين عليهم ))...إلخ).
قال المولى العلامة الحسن بن الحسين الحوثي رحمه الله تعالى في التخريج: رواه علي بن موسى الرضى، وأبو طالب، وابن عساكر عن علي.
قال المولى العلامة الحسن بن الحسين الحوثي رحمه الله تعالى في التخريج: ((لا يبغضنا أحد إلاَّ أدخله الله النار))، أخرجه ابن حبان في صحيحه عن أبي سعيد وأخرجه الحاكم عنه ـ أيضاً ـ بزيادة: ((والذي نفسي بيده))، وقوله صلى الله عليه وآله وسلم: ((من أبغضنا أهل البيت حشرة الله يوم القيامة يهودياً وإن شهد أن لا إله إلاَّ الله))، أخرجه الطبراني والعقيلي عن جابر، وعنه صلى الله عليه وآله وسلم: ((لا نالت شفاعتي من لم يخلفني في عترتي))، أخرجه المرشد بالله، وكذا حديث جرير البجلي السابق (ألا ومن مات على بغض آل محمد...إلخ)، وقد رواه الزمخشري في ( الكشاف )، وقول علي عليه السلام: (لييحبّني قوم حتى يدخلوا النار في حبّي، وليبغضني قوم حتى يدخلوا النار في بغضي)، أخرجه أحمد بن حنبل عن علي عليه السلام، وقول علي عليه السلام: (الحسنة التي من جاء بها أدخله الله الجنَّة حبنا، والسيئة التي من جاء بها أكبه الله في النار ولم يقبل منه عملاً بغضنا)، رواه الثعلبي عن أبي عبدالله الجدلي.
قال الإمام الحجة مجدالدين بن محمد بن منصور المؤيدي أيده الله تعالى في لوامع الأنوار ج/2/612:
[قال أيده الله تعالى في التخريج]: وقال ـ صلى الله عليه وآله وسلم ـ: ((اشتد غضب الله وغضب رسوله على من أهرق دم ذريتي، أو آذاني في عترتي)) أخرجه الإمام علي الرضى بسند آبائه ـ عليهم السلام ـ.
وأخرج ابن المغازلي بلفظ: ((اشتد غضب الله وغضبي على من أهرق دمي، أو آذاني في عترتي)).
وأخرجه ابن النجار عن أبي سعيد، بلفظ: ((والله اشتد غضبه على من أراق دمي، أو آذاني في عترتي))، وأخرجه الديلمي عن أبي سعيد، بلفظ: ((إشتد غضب الله على من آذاني في عترتي)).
وأخرجه البزار عن ابن عمر، ذكره السيوطي في الجامع الصغير.
وأخرج الجعابي من الطالبيين: ((من آذى عترتي فعليه لعنة الله))، وأخرج أيضاً: ((من سب أهل بيتي، فإنما يريد الله والإسلام)).
وروى الأصبغ بن نباتة، عن علي (ع) مرفوعاً: ((من آذاني في أهل بيتي، فقد آذى الله، ومن أعان على أذاهم وركن إلى أعدائهم فقد آذن بحرب من الله؛ ولا نصيب لهم في شفاعتي)).
وقد سبق في سند البساط ما أخرجه الناصر للحق بسنده إلى الباقر ـ عليهما السلام ـ، قال: حدثنا جابر بن عبدالله الأنصاري، قال: خطبنا رسول الله ـ صلى الله عليه وآله وسلم ـ، فقال: ((أيها الناس، من أبغضنا ـ أهل البيت ـ بعثه الله يوم القيامة يهودياً)).
قال: قلت: يارسول الله، وإن صام وصلى وزعم أنه مسلم؟.
قال: ((وإن صلى وصام وزعم أنه مسلم)).
وأخرجه الطبراني والعقيلي عن جابر بلفظ: ((من أبغضنا ـ أهل البيت ـ حشره الله يوم القيامة يهودياً، وإن شهد أن لا إله إلا الله))، انتهى من اللوامع.

(1/194)


وقد روي: أن سبب قيام الإمام محمد بن جعفر الصادق(16) عليهما السلام، أن رجلاً في زمن المأمون صنف كتاباً وسب فيه أهل البيت عليهم السلام؛ حتى اتصل بفاطمة عليها السلام، رواه الفقيه محمد الديلمي رحمه الله، وهكذا كان سبب قيام زيد بن علي عليه السلام ما سمعه من سب يهودي في مجلس هشام -لعنه الله- لرسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، والحال واحدة، أولاَ ترى إلى كلام ابن عباس رضي الله عنهما حين سمع سب علي عليه السلام فقاده ولده حتى وقف على أهل السبّ فقال: أيكم الساب لله؟
فقالوا: حاشا لله ما كان ذلك.
فقال: فأيكم الساب رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ؟
فقالوا:حاشا لله ما كان ذلك.
فقال: فأيكم الساب علياً ؟
قالوا: قد كان ذلك.
فقال: شاهت الوجوه، إني سمعت رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يقول: ((من آذى علياً، فقد آذاني، ومن آذاني، فقد آذى الله، ومن آذى الله، أدخله النار)) أو كما قال.
_______________
([16]) - قال الإمام الحجة / مجدالدين بن محمد بن منصور المؤيدي أيده الله تعالى في التحف ط/3/152:
الإمام الصوام أبو علي محمد بن جعفر الصادق بن محمد الباقر بن علي بن الحسين السبط عليهم السلام.
دعا إلى الله بمكة المشرفة .
قال في طبقات الزيدية : قال الذهبي سنة مائتين .
ونابذ الظالمين ، وجاهد الفاسقين ، وكان يصوم يوماً ويفطر يوماً ، وكان يخرج إلى الصلاة في مكة المكرمة في ثلاثمائة من الزيدية عليهم ثياب الصوف ، وأسر عليه السلام بعد وقعات كثيرة ، ووجه إلى المأمون العباسي ، فتلقاه بالإنصاف ، ثم دس له السم .

(1/195)


ولا شك أن أذيةَ الهادي عليه السلام أذية لعلي عليه السلام، وليت شعري من أين يسمى الهادي ملبساً ؟ أبنشرهِ الإسلام في اليمن ؟! أم بإحيائه لما مات من الفرائض والسنن ؟! أم برحضه له عن درن الإلحاد ؟! أم بَعَلِّه من نحور القرامطة أطراف الصعاد ؟! أم بتجرعه كأسات المصارع والجلاد ؟! أم بمشاكلته لعلي في علمه وبراعته؟!، ومماثلته في نصرة الإسلام للأسد في خلقه وشجاعته ؟! أم بمشابهة الأنبياء في خصافة يقينه، ومشاكلة الملائكة في عقد عزائم دينه ؟! أم بإعادته على الدين ناموسه، وتفجيره من العلوم قاموسه ؟! أم بتثبيته لقواعد الإسلام، وتصنيفه للمنتخب والأحكام، وإشادته لما اندرس من علوم آبائه الأئمة الأعلام، وطمسه ما رسمه أولي الكفر والإجرام، واقتطافه بذي الفقار رؤوس الباطنية الطغام، وحصده جيوش الملاحدة في كل مقام، ونصبه لجبينه في رهج الصدام لشواجر الرماح ونوافذ السهام، حتى أباد من جيوش الإلحاد كل لهام، وفلق من رؤسهم كل قحف وهام؟!

(1/196)


ومن شعره عليه الصلاة والسلام:
الخيل تشهد لي وكل مثقف ....بالصبر والإبلاء والإقدام
حقاً ويشهد ذو الفقار بأنني ....أرويت حديه نجيعَ طغام
علاً ونهلاً في المواقف كلها ....طلباً بثار الدين والإسلام
حتى تذكر ذو الفقار مواقفاً ....من ذي الأيادي السيد القمام
جدي علي ذو الفضائل والنهى ....سيف الإله وكاسر الأصنام
هذه عيوب يحيى عليه السلام، فكيف يكون الزيْن إنْ عُدت هذه الأشياء من الشين!، وما أحسن ما قاله المؤيد بالله عليه السلام:
لقد خابت ظنوني عند قوم .... يرون محاسني من سيّآتي

(1/197)


[غزارة علم الإمام الهادي عليه السلام]
وأما المسلك الثاني: فالقصد التنبيه على غزارة علمه عليه السلام، ليعلم الناظر هل يجده للتلبيس أهلاً؟
فمن تصانيفه عليه السلام: كتاب الأحكام، وكتاب الفنون، وكتاب المنتخب، وكتاب المسائل، وكتاب محمد بن سعيد، وكتاب التوحيد، وكتاب القياس، وكتاب المسترشد، وكتاب الرد على أهل الزيغ، وكتاب الإرادة والمشيئة، وكتاب الرضاع، وكتاب المزارعة، وكتاب أمهات الأولاد، وكتاب العمدة، وكتاب تفسير القرآن ستة أجزاء، وكتاب الفوائد جزآن، وكتاب الرازي جزآن، وكتاب السنة، وكتاب الرد على ابن الحنفية، وكتاب تفسير خطايا الأنبياء، وكتاب أبناء الدنيا، وكتاب الولَى، وكتاب مسائل الحسين بن عبد الله، وكتاب مسائل ابن سعيد، وكتاب جواب مسائل نصارى نجران، وكتاب بوار القرامطة، وكتاب أصول الدين، وكتاب الإمامة وإثبات النبوة والوصية، وكتاب مسائل أبي الحسين، وكتاب الرد على الإمامية، وكتاب الرد على أهل صنعاء، وكتاب الرد على سليمان بن جرير، وكتاب البالغ المدرك، شرحه السيد عليه السلام، وكتاب المنزلة بين المنزلتين.

(1/198)


قال المنصور بالله عليه السلام: وقد تركنا قدر ثلاثة عشر كتاباً، لم نذكرها كراهة التطويل، وهي عندنا موجودة معروفة، وأول تصانيفه صنفها وهو ابن ستة عشر سنة، بلغت تصانيفه ثمانية وأربعين كتاباً، منها ماهو جزء، ومنها ماهو جزآن، ومنها ما هو ستة أجزاء، كما ذكرناه، هذا مع الإشتغال بالجهاد والجلاد، ومقارعة السيوف والصعاد، ومنازلة عفاريت الإلحاد، وإطفاء نيران الفتن في اليمن، وتدمير الفرق الغوية في ذلك الزمن، وكم له عليه السلام من مقام محمود، ويوم مشهود، عاد فيه وسيفه يقطر مهجاً، ويسيل لججاً، كم طفَّى وهجاً، وأباد منهجاً، وخاض غماراً، و عفى آثاراً، وأوضح مناراً، ودمر شراراً، وأباد كفاراً، وحَمَى ذماراً، وأنقذ من الهلاك أخياراً، هدى العباد، وأصلح البلاد، وعمر بالرشاد، وقمع أرباب الفساد، وقوّم الاعوجاج، وأثار العجاج، وملأ بالخيل الفجاج، وجلاّ براهين الحجاج.
هذا مع ما له عليه السلام من العبادة والزهادة، ومن وقف على تصانيفه عليه السلام، أيقن أنه لاحظ لصاحبها في غير التصنيف والتأليف، والرسائل والمسائل، ولم يدر أنه كلامٌ من يتغمس في الحرب، فيقط الرقاب، ويجدّل الأبطال، ويعود وسيفه ينطف دماً، ويسيل مهجا، كما قال عليه السلام في بعض أشعاره:
غريت أنامل راحتي بصفيحتي .... لله در خبعثن أغراها

(1/199)


وهو مع هذه الحال زاهد الزهاد، وبدل الأبدال، فهو كما قال الرضي(1) في وصفه علياً عليه السلام: "ذلك من فضائله العجيبة، وخصائصه اللطيفة، التي جمع فيها بين الأضداد، وألف بين الأشتات، ومن نظر أيضاً إلى كلامه في الزهد والمواعظ، لم يخالجه شك في أنه كلامُ مَنْ لا حظَّ له في غير الزهادة، ولا شغل له بغير العبادة، قد قبع في كسر بيت، وانقطع في سفح جبل، ولم يوقن أنه كلامُ مَنْ نفذ أمره، وأحاط بالرقاب ملكه، مع اختصاصه عليه السلام بالنشأة الطاهرة، والأعراق الطيبة، فرع طابت ثمرته، وكرمت شجرته، ولولا علمنا بأبيه لقلنا: أبوه من الملائكة الكرام، تهدأت إليه أغصان الفضائل، وبشرت به الملاحم والدلائل.
ولما ولد عليه السلام، حمله أبوه إلى جده القاسم عليه السلام، فدعا له، وبرَّك عليه، ووضعه في حجره، وقال لابنه: بم سميته.
_______________
(1) - قال الإمام الحجة / مجدالدين بن محمد بن منصور المؤيدي أيده الله تعالى : في التحف الفاطمية /138/ ط3:
أبو الحسن محمد بن الحسين بن موسى بن محمد بن موسى بن إبراهيم بن موسى الكاظم بن جعفر الصادق بن محمد الباقر بن علي السجاد بن الحسين السبط ـ المتوفى سنة ست وأربعمائة ، عن ستة وأربعين عاماً.
وقال الإمام الحجة / مجدالدين بن محمد بن منصور المؤيدي أيده الله تعالى في لوامع الأنوار ج/1/449 عنه:
وحاله في آل الحسنين أشهر من براح ، وأنور من فلق الصباح لذي عينين ، وقد أثنى عليه السابق من أئمة العترة واللاحق، منهم الإمام الحجة المنصور بالله عبدالله بن حمزة في الشافي ، وأفاد أنه من نجوم العترة المضيئة، وعيون العصابة المرضية، وكذا غيره من أئمة الأمة المحمدية، ومن شهد له خزيمة فهو حسبه، فلا يضره هرير الناصبية : (والحاسد القمر النوار في تعب) ، وكل ذلك لما هم عليه من الشقاوة ببغض السلالة النبوية، ولكونهم شاهدوا في النهج ما يهدم بنيانهم ، ويزلزل أركانهم....إلخ.

(1/200)


قال: يحيى، وكان للحسين عليه السلام أخ لأبيه وأمه اسمه يحيى، توفى قبل ذلك، فبكى القاسم عليه السلام حين ذكره، وقال: هو والله يحيى صاحب اليمن، وإنما قال ذلك لأخبار رويت بذكره وظهوره في اليمن.
قال الفقيه حميد رحمه الله تعالى في وصف الهادي عليه السلام:
هو الذي فقأ عين الضلال، وأجرى معين العلم السلسال، وضارب عن الدين كافة الجاحدين، وهو الذي نشر الإسلام في أرض اليمن بعد أن كانت ظلمات الكفر فيه متراكمة، وموجات الإلحاد متلاطمة، حتى أنهل من نحورهم الأسل الناهلة، وأنقع من هاماتهم السيوف الضامية، فانتعش الحق بعد عثاره، وعلا بحميد سعيه من مناره .
وقال الفقيه الديلمي رحمه الله تعالى في وصفه شعراً:
يسد مسد الألف بأساً ونجدة .... إذا أفرقوا من حوله وتفرقوا
ولقد صدق عليه السلام حيث يقول:
أنا ابن رسول الله وابن وصيه .... ومن ليس يحصى فضله ووقائعه
في قصيدة طويلة.

(1/201)


وفيه عليه السلام يقول الشاعر :
لو كان سيفك قبل سجدة آدم .... قد كان جُرِّد ما عصى إبليس
وما أحقه عليه السلام بقول القائل:
ولو كان في يوم السقيفة حاضراً .... وفي كفه ماض الغراريْن صارم
لما نازع المفضول في الأمر فاضلاً .... ولا قاوم الفاروقَ فيها مقاوم
ولا غصبت بنت النبي تراثها .... ولا جار في حكم عن الحق حاكم
قال الفقيه المذكور رحمه الله تعالى:
وثبات الزيدية وثبات الأشراف في اليمن من حسنات الهادي عليه السلام وبركاته، وأقام عليه السلام ثماني عشرة سنة، مقيماً لأحكام الله تعالى وسنة جده المصطفى صلى الله عليه وآله وسلم، وفيه يقول الشاعر:
إذا ما شئت أن تحيا .... حياةً حلوة المحيا
فزر يحيى تجد يحيى .... لدين الله قد أحيا

(1/202)


أفمن كان على هذه الصفات الكريمة يسمى ملبساً(1) ؟!!
لا والله، ولكن نفث إبليس بلفظ التلبيس، {وَمَا أَنْتَ عَلَيْهِمْ بِوَكِيلٍ(107)}[الأنعام]، {أَفَأَنْتَ تُكْرِهُ النَّاسَ حَتَّى يَكُونُوا مُؤْمِنِينَ(99)}[يونس:99].
______________
(1) - قال الإمام الحجة/ مجدالدين بن محمد المؤيدي أيده الله تعالى في التحف شرح الزلف ط/3/167: شيء مما قيل فيه:
ومن الشهادات التاريخية الحقّة ما شهد به للإمام الهادي إلى الحق وللأئمة من أهل البيت الحافظ ابن حجر في فتح الباري شرح البخاري [فتح الباري 13/ 100، كتاب الأحكام، باب الأمراء من قريش] حيث فسر بهم الخبر النبوي المروي في البخاري [صحيح البخاري 9/ 112 رقم (7140) عن عبدالله بن عمر] وغيره، وهو: ((لا يزال هذا الأمر في قريش ما بقي منهم اثنان))، فأفاد أنه صدق الحديث ببقاء الأمر في قريش باليمن من المائة الثالثة في طائفة من بني الحسن، قال: ولا يتولى الإمامة فيهم إلا من يكون عالماً متحرياً للعدل.
إلى قوله: والذي في صعدة وغيرها من اليمن، لا شك في كونه قرشياً ؛ لأنه من ذرية الحسن بن علي.
وقال العلامة إمام المحدثين في عصره، مؤلف بهجة المحافل يحيى بن أبي بكر العامري في الرياض المستطابة ما لفظه: ثم في زمن المعتمد والمعتضد والمقتدر إلى المستعصم آخر ملوك العباسيين، تحرز أهل البيت إلى بلدان لا يقدر عليهم فيها مثل: جيلان وديلمان وما يواليها من بلاد العجم، ومثل نجد اليمن كصنعاء وصعدة وجهاتها، واستوثق أمرهم وقاموا بالإمامة بشروطها قاهرين ظاهرين، فقام منهم بنجد اليمن نحو بضع وعشرين إماماً أولهم وأولاهم بالذكر الإمام الهادي يحيى بن الحسين بن القاسم بن إبراهيم بن إسماعيل بن إبراهيم بن الحسن المثنى، كان مولده بالمدينة، ومنشؤه بالحجاز، وتعلمه به وبالعراق، وظهور سلطانه باليمن سنة ثمانين ومائتين، وكان جاء إلى اليمن وقد عم بها مذهب القرامطة والباطنية، فجاهدهم جهاداً شديداً، وجرى له معهم نيف وثمانون وقعة لم ينهزم في شيء منها، وكان له علم واسع، وشجاعة مفرطة.
إلى قوله: ثم قام بعد الهادي ولده المرتضى محمد بن يحيى، ثم ولده الناصر أحمد بن يحيى، وكانا ممن جمع خصال الكمال والفضل كأبيهما، ودفنا إلى جنبه بصعدة، ومن ذريتهما أكثر أشراف اليمن.
ثم ساق في تعداد الأئمة فأورد قطعة تاريخية، وبحثاً نفيساً يدل على غزارة علم واطلاع وإنصاف واعتراف بالحق وبعد عن الإنحراف.
حتى قال: وقد ذكر ابن الجوزي وغيره: أن الأئمة المتبوعين في المذاهب بايع كل واحد منهم لإمام من أئمة أهل البيت، بايع أبو حنيفة لإبراهيم بن عبدالله بن الحسن، وبايع مالك لأخيه محمد، وبايع الشافعي لأخيهما يحيى.
وقال ابن حزم صاحب المحلى ـ في ذكر أولاد الإمام الناصر ـ ما لفظه: والحسن المنتخب، والقاسم المختار، ومحمد [المهدي]، بنو أحمد الناصر بن يحيى الهادي بن الحسين بن القاسم الرسي بن إبراهيم طباطبا، وليحيى هذا الملقب بالهادي رأي في أحكام الفقه قد رأيته لم يبعد فيه عن الجماعة كل البعد..إلى آخره [جمهرة أنساب العرب 44].
وقال نشوان الحميري في كتاب الحور العين ص196ما لفظه: وأول من دعا باليمن إلى مذهب الزيدية ونشر مذهب أئمتهم يحيى بن الحسين بن القاسم بن إبراهيم بن إسماعيل بن إبراهيم بن الحسن بن الحسن بن علي بن أبي طالب، ولقبه الهادي إلى الحق، فنزل بين خولان، انتهى.
ولما انتشرت فضائله، وظهرت أنواره وشمائله، وفد إليه وفد أهل اليمن، فسألوه إنقاذهم من الفتن، فساعدهم وخرج الخرجة الأولى، ثم كر راجعاً لما شاهد من بعض الجند أخذ شيء يسير من أموال الناس، فنزل بأهل اليمن من الشدائد والفتن ما لا قبل لهم به، فعاودوا الطلب وتضرعوا إليه، فأجابهم وخرج ثانياً عام أربعة وثمانين.
ومن كلامه المأثور: (يا أهل اليمن لكم علي ثلاث: أن أحكم فيكم بكتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وآله وسلم، وأن أقدمكم عند العطاء، وأتقدمكم عند اللقاء، ولي عليكم: النصح، والطاعة ما أطعت الله). ولقد أقسم في بعض مقاماته أنه لا يغيب عنهم من رسول الله إلا شخصه (إن أطاعوه).
ولقد حكى عالم من علماء الشافعية ـ وصل من العراق لزيارته ـ من علمه وعدله وفضله وسيرته النبوية ما بهر الألباب، وأنه شاهده يتولى بيده الكريمة معالجة الجرحى، ويتولى بنفسه إطعام اليتامى والمساكين، وغير ذلك مما هو مشهور، وعلى صفحات التاريخ مسطور.
إذا كان فضل المرء في الناس ظاهراً .... فليس بمحتاج إلى كثرة الوصف
وما نشر الله في أقطار الدنيا أنواره، وبث في اليمن الميمون بركاته وآثاره ـ منذ أحد عشر قرناً ـ إلا لشأن عظيم، ولقد ملأ اليمن أمناً وإيماناً، وعلماً وعدلاً، ومساجد ومعاهد، وأئمة هدى، وما أصدق قول القائل فيه عليه السلام:
فسائل الشهب عنه في مطالعها .... والفجر حين بدا والصبح حين أضا
سل سنة المصطفى عن نجل صاحبها .... من علم الناس مسنوناً ومفترضا
وكراماته المنيرة، وبركاته المعلومة الشهيرة مشرقة الأنوار، دائمة الاستمرار على مرور الأعصار، وما أحقه بقول القائل في جده الحسين السبط صلوات الله عليه:
أرادوا ليخفوا قبره عن وليه .... فطيب تراب القبر دل على القبر

(1/203)


[ترجيح مذهب الأئمة عليهم على غيره]
وأما المسلك الثالث: وهو في ترجيح مذهب أئمتنا عليهم السلام على غيره، فقد استدعى التنبيه على ذلك قول صاحب المقالة المذكورة: إن المذهب كان مذهب الشافعي، وإنما أحدث الهادي مذهباً لا أصل له، ونحن قبل أن نتكلم على ترجيح مذهب أئمتنا عليهم السلام، نسلك مع صاحب هذه المقالة طريقة الجدل، فنقول: أخبرنا لِمَ كان مذهب الشافعي هو المعتمد عندك ؟ أَلتقدمه ؟ أم لكثرة علمه ؟
فإن كان لمجرد التقدم على مذهب الهادي عليه السلام، فيلزم أن يكون مذهب الشافعي غير جدير بالإيثار والصحة والاعتماد، لتقدم مذهب أبي حنيفة عليه ؛ لأن أباحنيفة في زمن زيد بن علي عليه السلام، والشافعي في وقت قيام الإمام يحيى بن عبد الله عليهما السلام، ووقت أصحاب أبي حنيفة كالشيباني وغيره.
وقد تكلم الدامغاني في رسالته المشهورة، ونقم على الفقهاء أُموراً جمة، وعدّ هذا من جملتها، وهو إعتقاد جَهَلَتِهم أنهم هم الفائزون بالنجاة والصواب، وأن سائر الفرق غيرهم مخالفون للسنة والكتاب، فقال ما لفظه:
ومنها أنهم متهالكون في البدع التي توافق هواهم، كنصبهم المقامات الأربعة في الجوامع الكبار والحرم الشريف، يصلون فيها أربع جماعات بأربعة أئمة في وقت واحد، خاصة في صلاة المغرب، هذا مما أجمع على أنه بدعة مكروهة، -إلى أن قال -: وحملوهم على مذاهب الفقهاء الأربعة، أبوحنيفة، والشافعي، ومالك، وابن حنبل، وهذه بدعة ظاهرة ؛ لأن الله سبحانه يقول: {وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ}[الحج:78]

(1/204)


وقال النبي صلى الله عليه وآله وسلم: ((أمتي كالمطر، لا يدرى أوله خير أم آخره))(1)،
_____________
(1) - قال الإمام الحجة مجدالدين بن محمد بن منصور المؤيدي أيده الله تعالى في كتابه لوامع الأنوار ج/2/397:
وعن ابن مسعود: أن رسول الله ـ صلى الله عليه وآله وسلم ـ، قال: ((خير الناس قرني، ثم الذين يلونهم...إلخ)) أخرجه البخاري، ومسلم، والترمذي؛ ذكر الجميع ابن الأثير في جامع الأصول، وقد عُورض بحديث: ((أمتي كالمطر، لا يدرى أوله خير أم آخره)) أخرجه الترمذي من حديث أنس، وصححه ابن حبان من حديث عمار، وله شواهد، وابن عساكر عن عمرو بن عثمان مرسلاً، بلفظ: ((أمتي مباركة لا يدرى أولها خير أو آخرها)).
وبحديث أبي ثعلبة الخشني لما سئل عن قوله تعالى: {عَلَيْكُمْ أَنْفُسَكُمْ} [المائدة:105]، قال: أما والله، لقد سألت عنها رسول الله ـ صلى الله عليه وآله وسلم ـ، فقال: ((ائتمروا بالمعروف، وانتهوا عن المنكر، حتى إذا رأيتم شحاً مطاعاً، وهوىً متبعاً، ودنياً مُؤثرة، وإعجاب كل ذي رأي برأيه، فعليك بنفسك، ودع العوام؛ فإن من ورائكم أيام الصبر، الصبر فيهن مثل القبض على الجمر، للعامل فيهن مثل أجر خمسين رجلاً، يعملون مثل عملكم))، أخرجه الترمذي، وأبو داود، وزاد: قيل: يارسول الله، أجر خمسين رجلاً منا، أو منهم؟
قال: ((بل أجر خمسين منكم)).
وأخرج البخاري في خلق الأفعال من حديث أبي جمعة، ما لفظه: كنا مع رسول الله ـ صلى الله عليه وآله وسلم ـ ومعنا معاذ بن جبل عاشر عشرة، فقلنا: يارسول الله، هل أحد أعظم أجراً منا، آمنا بك، واتبعناك؟.
قال: ((وما يمنعكم من ذلك، ورسول الله بين أظهركم يأتيكم بالوحي من السماء؛ بل قوم يأتون من بعدكم، يأتيهم كتاب بين لوحين، فيقضون به، ويعملون بما فيه؛ أولئك أعظم منكم أجراً)).
وبحديث عمر يرفعه: ((أفضل الخلق إيماناً قوم في أصلاب الرجال، يؤمنون بي ولم يروني)) أخرجه الطيالسي.
قال الأمير: وهو وإن كان ضعيفاً، فإنه يشهد له ما أخرجه أحمد، والدارمي، والطبراني من حديث أبي جمعة، قال: قال أبو عبيدة: يارسول الله، أحد خير منا، أسلمنا معك، وجاهدنا معك؟ قال: ((قوم يكونون من بعدي يؤمنون بي ولم يروني)) إسناده حسن، وقد صححه الحاكم.
وقد أوردت الاحتجاج في هذا والمعارضة من روايات القوم؛ لكون أصل الكلام معهم في هذا الباب، وإلا ففي مرويات العترة ـ عليهم السلام ـ ما فيه تبصرة وذكرى لأولي الألباب؛ وقد تقدمت الإشارات إلى شيء من ذلك كما لا يخفى على ذوي العرفان بمواضع الخطاب.
هذا، وقد جمع بأن الخيرية مختلفة بالاعتبار:
* فالأولون باعتبار شرف قرب العهد من أنوار النبوة، ومشاهدة أعلامها، ونحو ذلك.
* والآخرون باعتبار الإيمان بالغيب، بعد انقضاء زمن الوحي، وظهور المعجزات؛ ولهذا كان أخيار الصدر الأول أخيار الأخيار، وأشرارهم أشرار الأشرار، ونحو ذلك من أوجه الاعتبار.
وعلى كل حال فجميع ذلك لا يفيد تعديل أفراد الرجال؛ وإنما المراد به الخصوص لما ورد في صريح الكتاب ومتواتر السنة من النصوص الدالة على جرح طوائف منهم غير محصورة كالناكثين، والقاسطين، والمارقين؛ حتى إن في بعضها أنه لا يخلص منهم إلا كهمل النعم، كما في أخبار الحوض المتواترة؛ وعلى جرح أفراد منهم بأعيانهم، كرؤوس تلك الطوائف الخاسرة، وهذه الأدلة المعلومة أصرح مما يتمسكون به.

(1/205)


وقال: ((اختلاف العلماء رحمة، وكل مجتهد مصيب)) إلى غير ذلك، ولا خلاف أن المخالف [لهؤلاء] الأئمة الأربعة من العلماء مصيب، مالم يخالف الاجماع، ولا خلاف أن أفاضل الأمة وخيرها قد سبقوا قبل هؤلاء الأئمة الأربعة، ولم يكن أحد منهم محمولاً على أن يعتمد على قول فلان دون فلان، وقد كان الصحابة أفضل من هذه الأربعة، فلم يُقل فيهم: هؤلاء على مذهب فلان دون مذهب فلان، ثم التابعين أيضاً كانوا أفضل من هذه الأئمة الأربعة، وكان فيهم الأئمة السبعة، الذين قال فيهم الشاعر:
ألا كل من لا يقتدي بأئمة .... فقسمته ضيزا عن الحق خارجة
فخذهم عبيد الله عروة قاسم .... سعيد سليمان أبو بكر خارجة

(1/206)


إلى أن قال: ثم في تابعي التابعين من هو أفضل من هؤلاء الأئمة الأربعة، كالثوري(1)، وأبي ثور، _____________
(1) - قال الإمام الحجة / مجدالدين بن محمد بن منصور المؤيدي أيده الله تعالى في لوامع الأنوار ج/1/350:
عالم الشيعة الزيدية، ورباني الأمة المحمدية، سفيان بن سعيد الثوري أبو عبدالله، المتوفى سنة إحدى وستين ومائة .
لما قُتِل الإمام إبراهيم بن عبدالله عليهما السلام قال : ما أظن الصلاة تقبل إلا أن فعلها خير من تركها.
وكان يقول : حب بني فاطمة والجزع لهم مما هم عليه من الخوف والقتل يُبكي مَنْ في قلبه شيء من الإيمان .
وكونه من خلصان الزيدية معلوم بين علماء البرية، وكان من خواص الإمام عيسى بن زيد بن علي عليهم السلام .
قال السيد صارم الدين عليه السلام : وتشدد سفيان على أئمة الجور، وكلامه في حقهم معروف، لا تستطيع الناصبية إنكاره، ولاتحتاج الشيعة دليلاً على إظهاره .
روى له الجماعة انتهى .
وقال في مطلع البدور : وانتسابه على جلالته إلى الزيدية غير هين على من يكاثر بالرجال، ولم نقتنع بهذه النسبة إلا بعد رواية الإمام الناطق بالحق مع شهرته بهذه الطريقة التي هي طريقة الزيدية.
وقد أجمع الناس على تشيعه وحبه لإمام الزيدية علي بن أبي طالب كرم الله وجهه انتهى .
قلت : وأهل بيت النبوة، صلوات الله عليهم، في غنية بما جعله الله لهم عن جميع الأمة، ولهم إلى العصر مايزيد على مائة إمام سابق، مفترض الطاعة على جميع الخلائق، دع من سواهم من المقتصدين لولا وجوب بيان الحق، وتمييز المشاقق من الموافق .
هذا، ولهذا العالم العامل كرامة عظمى، وهي أن المنصور الدوانيقي لما حج أراد قتله، فلما وصل بئر ميمون أرسل أعوانه فجاءوا ونصبوا الخُشُب، وكان سفيان جالساً بفناء الكعبة ورأسه في حجر فضيل بن عياض ورجلاه في حجر سفيان بن عيينه، فقالا له: يا أباعبدالله قم واختف، ولا تشمت بنا الأعداء فتقدم إلى أستار الكعبة ثم قال : كلمة معناها القسم أنه لا يدخلها أبوجعفر، فركب المنصور من بئر ميمون فسقط عن فرسه فاندقت عنقه فمات لوقته، وبر الله قسم عبده سفيان، وأذن بانتهاء مدة عدوه ذي الطغيان .

(1/207)


وابن أبي ليلى(1)، وابن شبرمة، إلى أن قال:
______________
(1) - قال الإمام الحجة / مجدالدين بن محمد بن منصور المؤيدي أيده الله تعالى في لوامع الأنوار ج/1/385:
* عبد الرحمن بن أبي ليلى، أبو عيسى، المتوفى سنة ثلاث وثمانين، معدود في ثقات الشيعة الأكرمين، روى عن الوصي رضوان الله عليه وأم هاني رضي الله عنها، وناصر الإمام الرضى الحسن بن الحسن السبط عليهم السلام ، وضربه الحجاج ليسب سيد الوصيين صلوات الله عليه فلم يفعل، وخرج عليه مع الإمام الحسن بن الحسن بن علي (ع) .
خرج له الإمام الناصر للحق، وأئمتنا الأربعة عليهم السلام والجماعة .
* وولده محمد بن عبد الرحمن المتوفى سنة ثمان وأربعين ومائة، أحد الأعلام المبايعين للإمام الأعظم (ع)، وصاحب رسالته، معدود في ثقات محدثي الشيعة رضي الله عنهم.
قالوا : إذا قال المحدثون : ابن أبي ليلى فمرادهم عبد الرحمن، وإذا قال الفقهاء : ابن أبي ليلى فمرادهم ولده محمد، [والدامغاني من المحدثين] خرّج له من خرّج لأبيه، وأربعة العامة .

(1/208)


ثم لا خلاف أنه لا يُنْقم على أحدٍ من الأُمة يوم القيامة كونه لم يعتمد على أحد هذه المذاهب الأربعة، إذ لا خلاف أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم لم يقل خذوا في القرن الثالث والرابع بأقوال الفقهاء الأربعة الذين يظهرون في أمتي، ولا يقال له يوم القيامة: لم تمسكت بغير مذهب الشافعي؟ أو مالك أو أبي حنيفة أو الحنبلي ؟
إلى هاهنا كلام الدامغاني، وقد أطال في تهجين أمر الفقهاء، وإبطال زعمهم في أن الحق ما قالوه، والباطل ما خالفوه، بكلام لايسعه هذا المختصر.
ثم إنا نقول:
إذا كان الفضل والترجيح لمذهب على غيره بمجرد التقدم عليه، فمذهب الزيدية أولى بالترجيح، وهو لأجل ذلك المذهب الصحيح ؛ ولأنه لا خلاف أن زيد بن علي عليهما السلام متقدم على الفقهاء الأربعة، ونحن أتباعه وأشياعه، فنحن أولى بالصواب في المذهب من كل وجه، تارة بالسبق، وتارة بلزوم منهاج الحق، على ما سنذكره في ترجيح مذهبنا على غيره.
قالوا: إنما قلنا: إن مذهب الشافعي أولى بالتقليد من غيره، لكثرة علمه، وانتشاره في الأفاق، وانبساطه في الأمصار.

(1/209)


قلنا: هذان خيالان:
* الأول إدعاؤكم كثرة علمه.
* والثاني ما ترون من كثرة الأتباع، ونحن نجيب عن الخيالين بما يزيل التشبيه، ويبطل التمويه.
أما الجواب الأول: فنقول: من أين لكم أن علم الشافعي أكثر من علم غيره من الأئمة الأربعة والفقهاء ؟
والمعلوم أن فقه الحنفية أوسع من فقه الشافعية، ولهذا قيل: الفقه للحنفية، والتزين للشافعية.
ثم إنا نقول: ما هذه الكثرة التي تدعونها بمعنى أن علم الشافعية كمل أديانكم، وأتم إيمانكم، وأن غيركم منقوص في دينه، غير كامل في إيمانه ويقينه، والمعلوم فساد هذه الدعوى، وكيف وقد قال تعالى: {الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الْإِسْلَامَ دِينًا}[المائدة:3] وهذه الآية نزلت قبل وجود مذهب الشافعي، ويلزمكم أن يكون الصحابة والتابعون منقوصين في أديانهم، غير كاملي الإيمان ؛ لأنه فاتهم مذهب الشافعي، ولم يدركه أحد منهم، ومن بلغ معه الإلزام إلى هذه الغاية، أُضْرِب عنه صفحاً وأُطْوي عنه كشحاً.

(1/210)


وإن قلتم: إن المعنى بكثرة علم الشافعي، أَن مسائل فقهه في الفروع أكثر وأوفر، فله مثلاً في كتاب الصلاة ألف مسألة، ولغيره خمسمائة، وعلى هذا من الزيادة والنقصان في كل كتاب من كتب الفقه، في الصيام، والزكاة، والحج، والنكاح، والطلاق، والبيوع، إلى أخر أبواب كتب الفقه.
قلنا: هذه الزيادات التي تدعونها لم تبلغ حداً يوجب متابعته، إذ كان غيره من أصحابه أوسع وأبسط في التفريع من الشافعي، كالغزالي وأمثاله.
وقد روي عن محمد بن الحسن رحمه الله تعالى أن المزني خرّج على مذهب الشافعي قدر ثلث فقهه، قال: لأن الشافعي رحمه الله تعالى توفي في عنفوان شبابه، وريعان أيامه، وإنما تولى تهذيب مذهبه تلامذته، وهم أهل التوسعة في مسائل مذهب الشافعي، والمفرعون على أصوله، فيجب أن يكونوا بالمتابعة أولى ؛ ولأن هذه الزيادة إن تم دونها دين مخالفِهِ لم تكن موجبة لمتابعته.
ـــــــــــــــ

(1/211)


وجه آخر: إن الذي يوجب في الشريعة ليس إلا الكتاب، أوالسنة، أوالإجماع، وشيء من هذه لا يوجب متابعة الشافعية، كانوا على زيادة في العلم أو نقصان.
لنا: إن متابعة هذا الجيل لو وجبت، لم يمكن اتباع أحد من العلماء ؛ لأنه لا يسوغ إلاّ بعد العلم بأنه أوسع علماً من سواه، وطريق هذه مفسدة لاتساع علم العلماء، وكثرتهم، وانتشار أقاويلهم، وضبط تحاصيلهم في الفروع متعذر، لا يمكن عرفانه، ولا يتأتى إتقانه.
لنا أيضاً على إبطال قولهم: "إن الشافعية أكثر فقهاً من الزيدية"؛ الكتاب والسنة.
* أما الكتاب فقوله تعالى: {ثُمَّ أَوْرَثْنَا الْكِتَابَ الَّذِينَ اصْطَفَيْنَا مِنْ عِبَادِنَا}[فاطر:32]؛ وهم أهل البيت عليهم السلام، والمرجع بوراثة الكتاب إلى العلم بما حواه من الأحكام.
* وأما السنة فقوله صلى الله عليه وآله وسلم: ((اللهم اجعل الفقه والعلم في عقبي وعقب عقبي، زرعي وزرع زرعي))، وعلومهم قد طبقت المشارق والمغارب، وانتشرت عند الأعاجم والأعارب، وأمثال ذلك مما لايمكن إثباته هاهنا لمراعاة الاختصار.

(1/212)


وأما جواب الخيال الثاني: فقد أشار صاحب المقالة الفاسدة إلى كثرة أتباع الشافعي رحمه الله، وزعم أن الكثرة دليل على الحق، ولم يعلم أن الكثرة غير محمودة، ولا يختدع لها إلاّ غلف القلوب، عمي البصائر، صم الأسماع، وفي كلام الله تعالى ما يدل على ما قلناه، قال تعالى: {وَمَا ءَامَنَ مَعَهُ إِلَّا قَلِيلٌ(40)}[هود]، و{وَقَلِيلٌ مَا هُمْ}[ص:24]، و{وَقَلِيلٌ مِنْ عِبَادِيَ الشَّكُورُ(13)}[سبأ:31].
وروى الفقيه محمد الديلمي رحمه الله تعالى: أن للإمام زيد بن علي عليهما السلام رسالة في مدح القلة وذم الكثرة احتج بها على أهل الشام حين وردوا عليه، ذكر فيها أدلة القرآن الكريم، من أوله إلى آخره، على ترتيب سور القرآن، حتى قال أهل الشام لعالمهم لم لا تجيبه ؟
فقال: كيف أجيب عن هذا ؟ أرد نصوص القرآن؟!.
لنا أيضاً أن مذهب أهل البيت عليهم السلام أُسِّس على المحن، وولد أهله في طالع الهزاهز والفتن، والأيام عليهم متحاملة، والدنيا عنهم مائلة. وحكي عن أصحاب أبي حنيفة أنهم كانوا إذا تكلموا في المسائل عند أبي حنيفة وأرادوا ذكر قول علي عليه السلام قالوا: قال الشيخ ؛ ولم يفصحوا باسمه، خوفاً من السلطان، وكان إذا سمى أحدٌ ولده علياً قتلوه، فكيف يَظْهر علم أهل البيت عليهم السلام مع طول المدة من دولة بني أمية إلى أخر دولة بني العباس، وإلى يومنا هذا ؟!.

(1/213)


فصل [في ذكر بعض مقاساة أهل البيت عليهم السلام]
نذكر فيه طرفاً مما لاقاه أهل البيت عليهم السلام
ما أُلحد لرسول الله صلى الله عليه وآله وسلم حتى زحزح علي عليه السلام عن مرتبته، وأُخِّر عن الخلافة، ثم غُصِبَت فاطمة عليها السلام ميراثها يوم السقيفة، وسُمَّ الحسن عليه السلام سراً، وقُتِل الحسين جهراً، وصُلِب زيد بن علي بالكناسة، وقُطع رأس ولده يحيى بالمعركة، وخُنق عبد الله بن الحسن عليهما السلام في حبس الدوانيقي، وبُنيت الأساطين على الديباج الأصفر عليه السلام،

(1/214)


وقُتل محمد وإبراهيم أبنا عبدالله بن الحسن، ومات موسى بن جعفر شهيداً في حبس هارون، وسُم ابنه علي بن موسى(1) على يدي المأمون، وهزم إدريس بفتح الأندلس فريداً، ومات عيسى بن زيد في الهند طريداً، وقُتل يحيى بن عبد الله عليه السلام بعد الأمان والأَيمان، وقُتل محمد بن زيد، والحسن بن القاسم، وفعل أبو السّاج بعلوية الحجاز ما شاع في الدنيا من القتل والتشريد من هجرة المصطفى، وما فعل مزاحم بن خاقان بعلوية الكوفة؛ ما يُبكي مَنْ في قلبه إيمان.
_____________
(1) - قال الإمام الحجة / مجدالدين بن محمد بن منصور المؤيدي أيده الله تعالى في التحف ط/3/150:
الإمام أبو الحسن علي الرضا بن موسى الكاظم بن جعفر الصادق بن محمد الباقر بن علي سيد العابدين بن الحسين السبط بن علي الوصي صلوات الله وسلامه عليهم ، ولَقَب الإمام الرضا وصف بالمصدر مبالغة كعَدْل ، وليس برضيٍّ صفة على فعيل خلاف ما في القاموس .
بيعته : قال في الشافي : وكان المأمون وأولاده وأهل بيته وبنو هاشم أول من بايعه ، ثم الناس على مراتبهم ، والأمراء والقواد ، وجميع الأجناد ، وأعطى الناسَ المأمونُ عطاء واسعاً للبيعة ، وضرب اسمه في السكة والطراز ، وجعل له في الخطبة موضعاً ، فكان إذا بلغه الخطيب قال : اللهم صل على الإمام الرضا علي بن موسى الكاظم بن جعفر الصادق بن محمد الباقر بن علي زين العابدين بن الحسين سيد شباب أهل الجنة بن علي بن أبي طالب أمير المؤمنين ، ثم يقول :
ستة آباءٍ همُ ما همُ .... همْ خير من يشرب صوب الغمام
وكلام الإمام يشير إلى أن البيعة كانت بالإمامة ، وكلام غيره أنها بولاية العهد .
قال عليه السلام : وكانت بيعة المأمون لعلي بن موسى الرضا لليلتين خلتا من شهر رمضان سنة إحدى ومائتين ، قال : وقلبوا السواد إلى الخضرة ، ومن لبس السواد مزق عليه في جميع الآفاق ، وكذلك كسوة البيت الحرام .
إلى أن قال : ثم دس عليه السم فقتله ، ولم يُخْتلف في قتله بالسم ، ثم قال : كما قال أبو فراس بن حمدان :
باؤوا بقتل الرضا من بعد بيعته .... وأبصروا بعض يومٍ رشدهم وعموا
وأجمع على إمامته أهل البيت وغيرهم ، قال الإمام المنصور بالله في الجزء الثاني من الشافي في سياق كلام : وعلى أنا قد أجمعنا نحن وبنو العباس على إمامة علي بن موسى الرضا عليه السلام ، ولم نختلف في ذلك نحن ولا هم ، انتهى .
قال المنصور بالله عليه السلام : ولما مات أظهر جزعاً عظيماً ، وقَبَره إلى جنب أبيه تودداً وإظهاراً للإنصاف ، فَغَبِيَ قبر هارون حتى كأنه لم يكن هناك ، ونسب المشهد إلى علي بن موسى الرضى ، فلا يَعْرِف أن هناك هارون إلا أهل المعرفة ، وهكذا ينبغي أن يكون الحق والباطل، انتهى .
وفاته عليه السلام : سنة ثلاث ومائتين وله من العمر خمس وخمسون سنة .

(1/215)


وعلى الجملة ليس في بيضة الإسلام بلدة إلاّ وفيها لطالبيِّ تربة، تشارك في قتلهم الأموي والعباسي، وتطابق عليهم القحطاني والعدناني، ولله من قال:-
فليس حي من الأحياء نعلمه .... من ذي يمان ولا بكر ولا مضر
إلاّ وهم شركاء في دمائهمُ .... كما تشارك أنسار على جزر
قتلاً وأسراً وتشريداً ومنهبةً .... فعل الطغاة بأهل الروم والخزر
هذا الملقب بالرشيد، مات وقد حصد شجرة النبوة، واقتلع غرس الإمامة، وما من أهل البيت عليهم السلام إلاّ من جُرّ عن معركة قتيلاً، أو كُبّل أسيراً، أو طرد عن عقر داره.
هذا القاسم بن إبراهيم عليه السلام، كان يطوف في الآفاق جائعاً، وبينا هو في بيت أسكاف إذ سمع الصائح يطوف في الأسواق، وهو يقول: برئَت الذمة ممن آوى القاسم بن إبراهيم، ومن دلّ عليه فله كذا وكذا من المال، وذلك الأسكاف مطرق في عمله، فقيل له في ذلك، فقال: والله لو كان تحت قدمي هذه ما رفعتها، أو كما قال.

(1/216)


ولما خرج بآل الحسن من المدينة، موثّقين بالقيود على الهوادج، فيهم عبد الله بن الحسن الشيبة الطاهرة، في عصابة من أهل بيته وأعمامه وبني أعمامه، وأمر جعفر الصادق بعض غلمانه، وقال له: اذهب فإذا حملوا آل الحسن فأخبرني، فجاء، فأخبره، فوقف من وراء ستر ينظر من ورائه ولا ينظره أحد، فرأى عبد الله بن الحسن في محمل، وجميع أهل بيته كذلك، فلما نظر إليهم جعفر عليه السلام، هملت عيناه، حتى جرت دموعه على لحيته، وقال: والله لا تحفظ حرمة بعد هؤلاء.
ولما حملوهم في المحامل وأخرجوهم من المدينة، قال بعض أهل الولاية:
من لنفس كثيرة الإشفاق .... ولعين كثيرة الإطراق
جمدت للذي دهاها زمانا .... ثم جادت بدمعها المهراق
لفراق الذين راحوا إلى المو .... ت عياناً والموت مُرّ المذاق
ثم راحوا يسلّمون علينا .... بأكفٍ مشدودة بالوثاق
ما رأينا في البرية طراً .... مثلهم لَوْ وَقاهم الموتَ واق

(1/217)


هذا مع ما كانوا عليه من القشف والشظف، وضيق المعاش، وعدم [الرياش]، يشتهي العلوي الأكلة فيحرمها، وخراج مصر والأهواز، والحرمين والحجاز، تصرف إلى زلزل الطارب، وبرطم الزامر، وخارق المغني، ومائِق اللاعب، وفلان وفلان، والمتوكل على الشيطان؛ لا على الرحمن- فيما زعموا - يشتري إثني عشر ألف سُرِّية، وسيد من سادات العترة يتكفف بسندية وهندية، ومال الخراج مقصور على الصفاعنه والسفلة، ويبخلون على الفاطمي بأكلة أو شربة، ويضايقونه بدانق وحبة، ويشترون البَغِيَّة بالبُدَر، ويجيزون لها ما يفي برزق عسكر، والقوم الذين أحل الله لهم الخمس، وحرم عليهم الصدقات، وفرضت لهم الكرامة والمحبة، يتكففون صبراً، ويهلكون فقراً، ويرهن أحدهم سيفه أو درعه، ويبيع ثوبه، وليس له ذنب إلاّ أن جده رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، وأباه علي عليه السلام، وأمه فاطمة عليها السلام، وجدته خديجة رضي الله عنها، ومذهبه الإيمان، ودينه القرآن، شعراً:
ومالي جرم غير لم أقرب الخنا .... ولم أشرب الصهبا ولم أدع بالغدر
ونحن فقد تمسكنا بالعروة الوثقى، وآثرنا الدين على الدنيا، فإن الإسلام بدأ غريباً، وسيعود غريباً، كلمة من الله، ووصية من رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، والعاقبة للمتقين، وعندنا بحمد الله لكل حالة آلة، ولكل مقام مقالة، فعند المحن الصبر، وعند النعماء الشكر، ولقد كُذِّبَ محمد صلى الله عليه وآله وسلم بضع عشرة سنة، فما أتهمناه بنبوته، وشُتِمَ أمير المؤمنين عليه السلام على فروع المنابر ألف شهر، فما شككنا في إمامته، وأنظر الله إبليس المدة الطويلة، فلم نرتاب في لعنته، وقد قال شاعرنا يفتخر بما نحن فيه من الأحوال، شعراً:

(1/218)


نحن بنوا المصطفى أولو محن .... تجرعها في الحياة كاظمنا
عظيمة في الأنام محنتنا .... أولنا مبتلىً وآخرنا
ولكن مع اليوم غد، ومع السبت أحد، ونرجو أن يكون قد عاد المعصم إلى سواره، ورجع الحق إلى قراره، واستقر الملك في معدن الرسالة، ومختلف الملائكة، لما أظهر الله لإمام عصرنا وحجة دهرنا مولانا أمير المؤمنين الناصر لدين الله رب العالمين محمد بن أمير المؤمنين صلوات الله عليه بالكرامات، وأيده به من الآيات، وفتح له من الثغور، ونظم به من الأمور، وجلى به من الديجور، وساس برعايته هذا الجمهور، أوضح الله به المشكلات، وفتح به المقفلات، وأصلح به الفاسد، وقمع به الحاسد، وشيد به الإسلام، ودوّخ به ذوي الكفر والإجرام، فالرجاء في جود الله وفضله انتشار كلمة الحق في الآفاق، وعلو كلمة الملك الخلاق، وانبساط عدله في الأمصار، وخفوق بنود راياته في الأقطار، ويجعل الله على يديه إعزاز جنده، وإنجاز وعده، فيفتح له الأرض، ذات الطول والعرض، وقد لاحت تباشير صبح هذا الأمل، وظهرت لنا آيات هذا العمل إن شاء الله تعالى، وما ذلك على الله بعزيز.
هذه نبذة في أحوال العترة الطاهرة، وقد ظهر بها لمن كان له عقل فضل أهل البيت عليهم السلام، فإنهم على هذه الأحوال، لم ينطفِ لعلومهم مصباح، ولم يخْفَ له صباح، علومهم في كل فن ضاحكة الرياض، عذبة الحياض، أنيقة الأزهار، طيبة الأنهار، ليس فن من فنون العلم إلاّ وقد بلغوا أطوريه، واستولوا على سماه ونجومه وقمريه.
لنا قمراها والنجوم الطوالع

(1/219)


وانظر إلى تصانيفهم الفائقة، وعلومهم الرائقة، كيف ملأت أقاليم الزيدية، واستقلت في هداية أهل الملة المحمدية، وما أجدر مذهبنا بقول القائل:
وإنك شمس والملوك كواكبٌ .... إذا طلعَتْ لم يبقَ منهن كوكب
وأما كون الزيدية موصوفين بالقلة فهذه خصلة مدح، وهي من مزاياهم الحسان، وصفاتهم الحائزة للبر والإحسان.
وفي كلام علي عليه السلام للحارث بن حوط حين قال: أترى يا أمير المؤمنين أن أهل العراق (يعني أصحاب علي) مع قلتهم على الحق، وأن أهل الشام (يعني أصحاب معاوية -لعنه الله تعالى-) مع كثرتهم على الباطل؟
فقال علي عليه السلام: (يا حار إنه لملبوس عليك، إعرف الحق تعرف أهله قلوا أم كثروا، واعرف الباطل تعرف أهله قلوا أم كثروا، فإن الحق لا يُعرف بالرجال، وإنما الرجال يعرفون بالحق).
وبعد فلو كانت الكثرة دليلاً على إصابة الحق، لذهب به الخارجون عن الإسلام، فإن المسلمين في جنب الكفار كالشعرة البيضاء في جلد الثور الأسود، فماذا يراه صاحب المقالة ؟
لقد أُتِيَتْ من حيث لم تك ظنَّت

(1/220)


[عودة إلى ترجيح مذهب الأئمة عليهم السلام على غيره]
وأما المسلك الثالث: وهو في ترجيح مذهب العترة المطهرة على غيره من المذاهب، فمعتمد أهل الأمصار المذاهب الأربعة، حنفية، وشافعية، ومالكية، وحنبلية، ونحن نتكلم في هذا المسلك في ثلاثة مواضع:
الأول: أن هؤلاء الفقهاء مشهورون بمحبة العترة، قائلون بإمامة أئمتهم.
والثاني: في ترجيح مذهب العترة الزكية.
والثالث: في التنبيه على فضل الهادي، وأن المتمسك بمذهب واحد من أئمة الهدى متمسك بالصواب.
الموضع الأول: فالمشهور موالاة أبي حنيفة رضي اللَّه عنه لزيد بن علي عليه السلام، وقيل إِن أباحنيفة اعتذر من الخروج مع زيد بن علي عليه السلام، وطلبه الإذن بذلك، وكان يدعو إليه سراً، مخافة سلطان بني أمية، وكان يُعِين زيد بن علي باللسان والإحسان، بعث إليه مرة بثلاثين ألف درهم، وقيل دينار، وكان اعتذاره عن الخروج أنه مشغول بتفسير العلوم، وجهاد العلماء باللسان، وعاش أبو حنيفة إلى زمن المهدي وإبراهيم ابني عبد الله بن الحسن عليهما السلام، فكان يدعو إليهما على طاعتهما.

(1/221)


وكتب إلى ابراهيم بن عبدالله بن الحسن عليهم السلام، أما بعد:
إذا أظهرك الله على آل عيسى بن موسى، القصة؛ حيث قال: فَسِرْ فيهم بسيرة أبيك في صفين، ولا تَسِرْ بهم سيرة أبيك في يوم الجمل، فظفر أبو جعفر الدوانيقي بكتابه، فدس إليه شربة من السم، فمات، فهو شهيد في حبنا أهل البيت.
وسُئل أبو حنيفة أيهما أفضل الحج أو الخروج إلى إبراهيم بن عبد الله؟
فقال: غزوة بعد حجة الإسلام خير من خمسين حجة.
وجاء رجل فقال: يا أبا حنيفة ما اتقيت الله في فتواك أخي بالخروج مع إبراهيم بن عبد الله حتى قتل؟
فقال: قَتْل أخيك معه خيرٌ له من الحياة.
فقال: ما يمنعك من الخروج ؟
فقال: ودائع الناس عندي.
ومن أراد صدق ما قلنا فليطالع كتاب مقاتل الطالبيين.
والشافعي رضي الله عنه، كان في وقت يحيى بن عبد الله، وكان له من التابعين، ومدائحه في أهل البيت أكثر من أن تحصى، منها قوله رضي الله عنه شعراً:
يا راكباً قف بالمحصب من منى .... واهتف بقاطن أهلها والناهض
سَحَراً إذا سار الحجيج إلى منى .... سيراً كملتطم الفرات الفائض
قفْ ثم ناد بأنني لمحمد .... ووصيه وابنيه لست بباغض
إنْ كان رفضاً حب آل محمد .... فليشهد الثقلان أني رافضي

(1/222)


ومدائح الشافعي في العترة جمة العدد، وممن كان في وقت يحيى بن عبدالله عليه السلام من عيون الفقهاء، الفقيه المشهور محمد بن الحسن الشيباني، وهو الذي شجه هارون بالدواة حين قال له هذا أمان لا سبيل إلى نقضه، وكان محمد بن الحسن يقول أنا زيدي إذا أمنت على نفسي، حنفي إذا خفت.
ومن عيون الفقهاء؛ سفيان الثوري رحمه الله، ولما قتل إبراهيم بن عبد الله عليه السلام، قال سفيان: أخاف أن لا تقبل الصلاة، إلا أن فعل الصلاة خير من تركها، وروي عنه أنه كان يقول: حب بني فاطمة، والجزع لهم مما هم عليه من القتل والخوف والتطريد يُبْكي مَنْ في قلبه شيء من الإيمان، ومما يؤكد ذلك ما رواه الغزالي في إحياء علوم الدين؛ أنه كتب في جواب هارون: من سفيان إلى الظالم الغشوم.
وأما مالك بن أنس الأصبحي رحمه الله تعالى، فكان في وقت محمد بن عبد الله عليه السلام، وأتى إلى مالك جماعة ممن قد بايع الدوانيقي، فسألوه عن بيعتهم.
فقال: انفروا إلى النفس الزكية، فليس على مكره يمين.
وسئل عن السدل في الصلاة، فقال: قد رأينا من يُعْتمد على فعله عبد الله بن الحسن بن الحسن عليهم السلام.
قال محمد الديلمي رحمه الله: وسمعت ممن أثق به أنه سمع من بعض المالكية أن مالكاً كان من دعاة محمد بن عبد الله النفس الزكية.
والمالكية يعظمون الزيدية لهذا السبب.

(1/223)


وأما ابن حنبل فإنه كان كثير الرواية في فضل أهل البيت عليهم السلام.
قال الفقيه محمد الديلمي رحمه الله: كان عيون الفقهاء والمعتزلة زيدية في الأصول، ومتابعين لأئمة العترة عليهم السلام، واحتج لذلك، وأطال الكلام مما لا يتسع له هذا المختصر.
قال فخر الدين الرازي: كان الشافعي عظيم القدر والمحل، واسع العلم والفضل، كل كان يحب أن يكون منهم.
قالت الشيعة: هو شيعي.
وقالت المعتزلة: هو معتزلي.
قلنا: هذا لامعنى له.
إن الزيدية أجل من أن يفتخروا بعد أئمتهم بأحد، وكيف وأئمتهم قريب من مائة إمام، ينسبون إلى الرسول الله صلى الله عليه وآله وسلم والوصي والبتول عليهم السلام، فضائلهم ظاهرة، ومناقبهم باهرة، شعراً:
إليكم كل مكرمة تؤول .... إذا ما قيل جدكم الرسول
أليس أبوكم الهادي عليٌ .... وأمكم المطهرة البتول
فليس لنا حاجة إلى الافتخار بغير أبناء النبي المختار.
من كان في الحشر له شافع .... فليس لي في الحشر من شافع
غير النبي المرسل المصطفى .... ومذهب الصادق لا الشافعي

(1/224)


وإنما ذكرنا ما قدمنا محبة للفقهاء، وكونهم أدركوا الحظية السنية، بمتابعة العترة الزكية، ومحبة السلالة النبوية، لا أنَّا في ذلك نريد الإفتخار بموالاتهم، ولا التبجح بمتابعتهم، إنما يحق لهم أن يفتخروا بذلك، ويتبجحوا بما هدوا إليه من سلوك هذه المسالك، {ذَلِكَ مِنْ فَضْلِ اللَّهِ عَلَيْنَا وَعَلَى النَّاسِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَشْكُرُونَ(38)}[يوسف].
الموضع الثاني: في الترجيح لمذهب العترة، فلاشك أن معتمد أهل الأمصار المذاهب الأربعة، وقد ذكر الإمام المؤيد بالله يحيى بن حمزة عليه السلام في كتاب "الإنتصار" ترجيح مذهب العترة النبوية، وبالغ في صدر هذا الكتاب في الإنتصار للترجيح، واستوفى أعاريض الكلام، ومدَّ روَاق ترجيح مذهب الأئمة الكرام.
قال عليه السلام في كتاب "مشكاة الأنوار": زبدةً مختصرةً في هذا المقصد، جامعة لفوائد تلك الأكاليم الغزيرة، والأدلة الكثيرة، وهي أن قال: "المعتمد لنا في تقرير ما اخترناه من رجحان تقليد أهل البيت عليهم السلام على غيرهم من سائر الفقهاء مسالك، نوضحها بمشيئة اللَّه تعالى.
ــــــــــــــــــ

(1/225)


[النصوص النبوية الدَّالة على ترجيح مذهبهم]
المسلك الأول: ما ورد من جهة الرسول صلى الله عليه وآله وسلم من الثناءِ عليهم، كقوله صلى الله عليه وآله وسلم الخبر المشهور: ((إني تارك فيكم ما إن تمسكتم به لن تضلوا من بعدي أبداً، كتاب الله وعترتي أهل بيتي، إن اللطيف الخبير نبأني أنهما لن يفترقا حتى يردا علي الحوض))، فهذا الخبر دال على أن العترة متمسك كالكتاب.
الخبر الثاني: قوله صلى الله عليه وآله وسلم: ((أهل بيتي كسفينة نوح، من ركبها نجا، ومن تخلف عنها غرق وهوى))، فهذا الخبر دال على أنهم كالسفينة، فكما أن السفينة منجاة للأبدان من الغرق، فكذا أهل البيت منجاة للأبدان من الهلكة.
الخبر الثالث: قوله صلى الله عليه وآله وسلم: ((أهل بيتي كالنجوم، كلما أفل نجم طلع نجم)) فكما أن النجوم يقتدى بها في ظلمات البر والبحر، فكذا حال العترة يهتدى بهم في ظلم الشبه والحيرة.
الخبر الرابع: قوله صلىالله عليه وآله وسلم: ((أهل بيتي كنجوم السماء، فإذا ذهب أهل بيتي من الأرض أتى أهل الأرض ما يوعدون)).

(1/226)


الحديث الخامس: قوله صلى الله علي وآله وسلم: ((الأئمة من قريش))(80)، فإذا كان الرسول صلى الله عليه وآله وسلم صرح لهم بالإمامة، كانوا أحق بالقدوة، هذه الأخبار كلها دالة على أولوية الاتباع لأقوالهم، والاعتماد على مذاهبهم.
______________
([80]) - للمولى الإمام/ مجدالدين المؤيدي أيده الله تعالى بحث نفيس حول هذا الحديث في كتابه مجمع الفوائد ط1/ 277.
وهذا الحديث في : سنن البيهقي الكبرى 8/143 برقم 16317، مسند أحمد 4/421 برقم 19792، المستدرك على الصحيحين 4/85 برقم 6962، مسند أبي يعلى 6/321 برقم 3644، مسند أبي داود الطيالسي 0/125 برقم 962.

(1/227)


[ترجيح مذهب العترة بالدليل النظري]
المسلك الثاني: أنه قد قام البرهان الشرعي على أن إجماعهم حجة قاطعة، وإذا كان الأمر كما قلناه فلا يأمن مَنْ قلّد غيرهم أن يكون مخالفاً لإجماعهم، فلا يكون آمناً للخطأ، بخلاف غيرهم من سائر علماء الأمة، فهذا الأمر غير حاصل في حقهم، فلأجل هذا كان اتِّباعهم أرجح من الإقتداء بغيرهم، وفي هذا ما نريده.
المسلك الثالث: ما خصّهم الله به من الخصال الشريفة في العلم والورع والتقوى، فأما مذاهبهم في الإلاهيات فمستقيمة على قانون الحق في وجود الله تعالى، وصفاته الذاتية، ومستقيمون على الطريقة الصحيحة في حكم الله تعالى، وهكذا القول في (مصطَّراتهم) الشرعية الاجتهادية، وأنظارهم في المسائل الشرعية، لا تخالف فروعهم أصولهم، ويعدلون عن المذاهب الغريبة، ويستقيمون على مألوف الشرع، لم يسقط أحد في نظره عن القضايا العقلية، ولا أتى أحد منهم بنظر غريب في المسائل الخلافية، بل هداهم اللَّه إلى أوضح الطريق، وأيمن المسالك وأعدلها، وأقومها على الحق وأوضحها، ومن مارس شيئاً من علومهم العقلية، ومصطراتهم الإجتهادية، عَرَفَ أنها مستقيمة على المنهج الواضح، من غير زيغ ولا ميل، وهذا المسلك إنما يستقيم كل الاستقامة، ويتضح كل الاتضاح، إذا ذكرنا حال غيرهم من علماء الأمة، ممن اقتعد دست الإفتاء، وحاز منصب الاجتهاد.

(1/228)


[تأمّل في بعض المذاهب للإيضاح]
فنقول: لم يشتهر بالفتوى، ولا انتحل من العلوم بالنظر الحسن، والقريحة المتقدة، والإجتهاد القوي، من علماء الأمة وفضلائها، إلاّ هؤلاء الثلاثة، أبوحنيفة، والشافعي، ومالك رضي الله عنهم، فإن هؤلاء الذين دونوا الدواوين، ونخلوا العلوم، واتسعوا في الفنون، حتى طبَّقت مذاهبهم الأرضَ، ذات الطول والعرض.
فأما أبوحنيفة: فهو البارع المتقن، المحرز لعلوم الإجتهاد، والحائز لقصب السبق فيه، ولا يجحد فضله، وهو أول من سئل وأجاب في المسائل الأصولية، حكي أنه حكي عنه: إيجاب القدرة، وهو لعمري يوهي طريق الحكمة، ويهدم قواعدها، وقد أنكرها فريق من أصحابه لعظم موقعها، وشناعة القول بها، وحكي عنه أيضاً التعويل على القياس، واطراح الأخبار، وهذا نظر لا يليق أن يساوي منصب الشارع منصب القياس، وحكي عنه بطلان القصاص بالمثقّل وهذا نظر فيه ما ترى من إهدار الدماء وبطلان صيانتها، وهو معلوم من جهة الشرع تحريمها، وإليه الإشارة بقوله تعالى: {كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِصَاصُ}[البقرة:178] والمثقّل يهدم هذه القاعدة.
فهذه الأمور الثلاثة لا يخفى عليك انحرافها عن المنهج القوي، والصراط السوي، فهذا ما أردنا التنبيه عليه من طريقة أبي حنيفة النعمان رضي الله عنه.

(1/229)


وأما الشافعي رضي الله عنه فلا يشق غباره، ولا تخفى في العلم والفضل محامده وآثاره، استولى من العلوم على أسرارها، وأحاط بالمكنون من عيونها وأبكارها، خلا أن البويطي حكى عنه الرؤية، فإن كانت غير معقولة كما تزعمه الأشعرية، فحاشا فكْرَه الصافي عن المناقضة، وإن كانت رؤية معقولة، فحاشاه عن التشبيه، وأما الجبر فلم يُسْمع منه في مصنفاته، ولا بلغنا عن أصحابه أنه ذهب إليه.
وأما مالك رضي الله عنه: فلا يجحد فضله، وله اليد الطولى في ضبط الأحاديث وإحرازها، والتحرز في الرواية، خلا أنه ربما استرسل في المصالح استرسالاً كلياً، وعوّل عليها تعويلاً عظيماً، حتى أن نظره أداه إلى القول بقتل ثلث الأمة في إستصلاح ثُلثيْها، ونحن نعلم ضرورة من الشرع صون الدماء وحياطتها، ونعلم من حال الصدر الأول من الصحابة رضي الله عنهم أنهم كانوا لا يتجاسرون على إراقة محجمة من دم إلاّ عن تحقيق وبصيرة بنص قاطع.
فهذا ما أردنا ذكره من سيرة هؤلاء العيون، وأنظار هؤلاء الفضلا، وليس ما ذكرناه خطاً من أقدارهم، ولا تقصيراً فيما رفع الله من منارهم، ومصداق ذلك ما روي عنه صلى الله عليه وآله وسلم حيث قال: ((لا تسترذلوا العلم، فإن الله لم يسترذله حيث آتاه من آتاه))، وفي حديث آخر: ((ما استرذل الله عبداً إلا حظر عليه العلم)).

(1/230)


فهم فضلاء الأمة، والمخصوصون بعلم الشريعة، خلا أن التنبيه على أن كل واحد منهم قد مال عن السنن الواضح بعض الميل، وصغى إلى الخروج بعض الصغو، وأئمة العترة لا يكاد يوجد لهم مثل ذلك.
فتحصَّل من مجموع ما ذكرناه رجحان مذهبهم على غيرهم من المذاهب، وأنهم أحق بالتقليد، لما ذكرناه من هذه البراهين التي لا توجد في غيرهم، وفيما ذكرناه كفاية لمن أراد البصيرة وعزل عن نفسه جانب الحمية".
هذا كلام الإمام المؤيد بالله يحيى بن حمزة بن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، وسكت عن ابن حنبل، والمشهور عنه القول بالتشبيه، وأظن أن قد أشار إلى ذلك في "الانتصار".
قلت: وقد ذكر الفقيه محمد الديلمي في ترجيح مذهب العترة المطهرة وجوهاً كثيرة، لا يسعها إلاّ تأليف مستقل بذاته، ثم إنه ذكر الفقهاء الثلاثة، أبا حنيفة، والشافعي، ومالك، ونزههم عن القول بالجبر، وقال: ثبت عند من عرف الأخبار، واتبع السير والآثار، أنه ما كان لأبي حنيفة ومالك والشافعي كتاب موضوع في أُصول الدين حتى أخذ هؤلاء اعتقادهم منه، بل هذه الكتب كلها محدثة، ومذهبهم ومذهب كل السلف كان ذم الكلام، حتى روي عن الشافعي أنه قال: من عرف الله بالكلام تزندق، وقد حمله الرازي في مناقبه على أن المراد به كلام أهل البدعة.

(1/231)


قال الديلمي: ومن أصحاب الشافعي المعروفين بالنزاهة عن القول بالجبر، والقائلين بالتوحيد والعدل، على القانون المرضي، المزني، والبويطي، والربيع، وحرملة، وأبو بكر الصيرفي، وأبو بكر الدقاق، وأبو بكر الشاسي، وغيرهم.
قال: وأيضاً قد ذكرنا أن مذهب الأشعري حدث بعد الشافعي، فكيف يكون الشافعي عليه ؟! وهذه مناقضة ظاهرة، فإذا تعارضا تساقطا.
واحتج على أن الشافعي كان زيدياً في الأصول لوجوه خمسة، ليس هذا موضع ذكرها، لبسطة الكلام في شجونها، والذي يدلك على ما قلناه من سلامة عقائد الفقهاء المذكورين، هو ما علم أن مذهب الحنفية في الزمان القديم مذهب المعتزلة، ومذهب المعتزلة قاطبة في الفروع مذهب أبي حنيفة، قال: وحنفيّة زماننا على الجبر المحض، وكذا الشافعية في زماننا، بعضهم على مذهب الأشعرية، وبعضهم على مذهب المشبهة الظاهرية، ولا شك أن المشبهة كفار عند الأشعرية.
قلت: فحصل من مجموع هذه الأشياء أن الأئمة المذكورين لم يعلم من عقائدهم الكلامية ما يخالف أصول الزيدية.

(1/232)


وحكى الديلمي رحمه الله تعالى في كتابه رواية عن أبي حنيفة أنه يقول: إن الله يُرَى بحاسة سادسة، كما ذهب إليه ضرار بن عمرو، ثم رجح الاعتماد على أئمة الزيدية، وأوسع براهين الترجيح، وقال: ويدل على فضل مذاهبهم في الفروع أيضاً، أن كل فرقة أحدثوا بدعة في مذهبهم غير أئمة الزيدية، وذلك ما روي عن الشافعية جواز اللعب بالشطرنج وغيره، وعن الحنفية جواز شرب الخمر المثلث، وهو خمر عند العلماء، وعند المالكية عموم الأخذ بقوله تعالى: {وَالَّذِينَ هُمْ لِفُرُوجِهِمْ حَافِظُونَ(5) إِلَّا عَلَى أَزْوَاجِهِمْ أوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُمْ فَإِنَّهُمْ غَيْرُ مَلُومِينَ(6)}[المؤمنون].
قلت: صرح الديلمي رحمه الله تعالى عن المالكية بلفظ كرهت إثباته، وأشرت إليه بإيراد الآية الشريفة.
قال: وعن الإمامية جواز المتعة، وهي نوع من الزنا عند العلماء.
ثم إن الديلمي رحمه الله أورد أبيات المعري، التي ذكرها نشوان بن سعيد في رسالة "حور العين"، التي قال في أولها:
الشافعي من الأئمة واحد .... ولديهم الشطرنج غير حرام
ولم أرَ ذكرها لما فيها من الشناعة.
وقد قال الديلمي رحمه الله تعالى بعد أن سردها:
وكان محبوبنا أن لا نذكر شيئاً من هذه الأشياء الموحشة ؛ لأن ذكر الوحشة وحشة، إلاّ أن يُقْصَد بها تبيين الأشياء.

(1/233)


قال: وعند الضرورات تباح المحظورات.
قلت: حصل مما ذكره المؤيد بالله يحيى بن حمزة رحمه الله، والفقيه محمد الديلمي رحمه الله، ترجيح مذهب الزيدية، والاعتماد عليه في الفروع، فأما أصول الدين، فالتقليد لا يصح، ولا يجوز فيها على الصحيح.
[بعض فضائل الهادي عليه السلام]
وأما الموضع الثالث: في التنبيه على فضائل يحيى عليه السلام، فقد أفرد لها أصحابنا كتباً مجلدة، ومن أجمعها لفضائله الكتاب المعروف بكتاب "الفضائل اليحيوية" وأمثاله، وهاهنا القصد نفحة من تلك النوافح المسكية، والروائح الطيبة الزكية. وروى الفقيه حميد رضي الله عنه عن بعض علمائنا رحمهم الله عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال: ((يخرج في هذا النهج - وأشار بيده إلى اليمن - رجل من ولدي، اسمه الهادي، يأمر بالمعروف وينهى عن المنكر، يحيي الله به الحق ويميت به الباطل))، فكان عليه السلام هو الذي أحيا الحق في اليمن، وأمات الباطل، وروي أخبار رفعت إلى علي عليه السلام أنه قال: (سلوني قبل أن تفقدوني، أيها الناس ما من فتنة إلاّ وأنا أعرف سائقها وقائدها، ثم ذكر فتنة بين الثمانين ومائتين، فيخرج رجل من عترتي اسمه اسم نبي، يملأ الأرض عدلاً كما ملئت جوراً، يميز بين الحق والباطل، ويؤلف الله قلوب المؤمنين على يديه، كما تتألف قزع الخريف، انتظروه في الأربع والثمانين ومائتين، في أول سنة واردة وأخرى صادرة).

(1/234)


قال الفقيه حميد: ومن نظر في الأمور، علم أنه عليه السلام المراد بالخبر، لأنه وصل اليمن سنة أربع وثمانين ومائتين، وكانت الفتنة قد ثارت(89) في اليمن، فأطفأها الله بوصوله عليه السلام.
قالوا: إن هذا الخبر المروي عن علي عليه السلام صرح أن هذا القائم المشار إليه يملأ الأرض عدلاً كما ملئت جوراً، والهادي لم يملأ من الأرض عدلاً إلاّ أرض اليمن دون سائر الأرض، فليس الخبر على ظاهره.
____________
([89]) - قوله:وكانت الفتنة قد ثارت في اليمن من خط علامة الشيعة علي بن حسن بن حسين جميل رحمه الله، ما لفظه:
الفتنة الثائرة باليمن عند وصوله عليه السلام هي كانت بين قبيلتين من قبائل صعدة المقدسة قد ذكرها صاحب سيرته عليه السلام، فوصل في ذلك اليوم وقد كادت الحرب بينهم أن تنشب ومراجلهم تغلي فأصلح عليه السلام بينهم بعد ما وعظهم وخطب فيهم فاصطلحوا، ولم يرجع إلى رحله إلاّ وقد إختلطوا وطابت نفوسهم وبايعوه جميعاً، وهذا فائدة الخبر المروي فيه عليه السلام، يؤلف بين قلوب المؤمنين على يديه، من هامش(أ).

(1/235)


قلنا(90): إن الأرض قد يطلق ذكرها ويراد بعض الأرض، كما قال تعالى: {ادْخُلُوا الْأَرْضَ الْمُقَدَّسَةَ}[المائدة:21] وأراد بها أرض بيت المقدس دون غيرها، مع أن الأرض كلها مقدسة ؛ لأنها جعلت مسجداً وطهوراً، كما ورد به الحديث، وقد نبه على ذلك ابن الجوزي في كتاب المدهش، وجعل الأرض أقساماً كثيرة، واستشهد على ذلك بالقرآن الكريم، وإذا ثبت ما أشرنا إليه فالمراد بالأرض في الخبر أرض اليمن دون ما عداها، مع أن الله تعالى قد أحيا بالهادي عليه السلام أرض اليمن والحجاز، وأكثر بلاد الديلم، فإن علومه عليه السلام مصابيح هذه البلاد، والشموس المنيرة في أغوارها والأنجاد.
______________
([90]) - من كتاب تفسير الشريعة لورّاد الشريعة تأليف القاضي العلامة أحمد بن صالح بن أبي الرجال رحمه الله، ما لفظه ولعلك:
تقول أرشدك الله: أن يحيى عليه السلام لم يملأ الأرض جميعها، وتتوهم أن معنى إمتلاء الأرض بالعدل أن لا يوجد جَوْر.
وهذا أبقاك الله ما قد اتفق للأنبياء فإن الله تعالى يقول: {وَمَا أَكْثَرُ النَّاسِ وَلَوْ حَرَصْتَ بِمُؤْمِنِينَ}[يوسف:103] وإنما أراد بالامتلاء أن يشيع عدله ويكون له ظهور وغلبة، بحيث لا يكون العدل خاملاً، مع أن الأرض لا يراد بها مسماها حقيقة باتفاق أين ما جاء ذكرها إلاّ في الخلق؛ ونحوه في قولك: {خَلْقُ السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضِ}[الشورى:29]، فالمراد حقيقتها، وأما عمارة الأرض وما ذكر من الأحكام فلا يتهيأ في كل جزء من أجزائها، وإنما هذا من قبيل: {اجْعَلْنِي عَلَى خَزَائِنِ الْأَرْضِ} [يوسف:55] ، على أنه قد طار علم يحيى في العراق والحجاز واليمن، وهذه هي الأرض في الحقيقة....إلخ كلامه، من هامش(أ).

(1/236)


وأما قول صاحب المقالة الفاسدة: إن مذهب الهادي لا أصل له، فقد قال باطلاً، ونطق إثماً، كيف وعلومه عليه السلام في الشريعة ظاهرة، وتصانيفه في هذه الأمة باهرة، وهذه أوادي علومه زاخرة، ومحققوا مذهبه سادات الدنيا وملوك الآخرة، الهارونيون، والحقينيون، والجُرجَانيون، والأزارقة، أيدوا بعلومه الإيمان، وملأوا بها جيلان وديلمان، وجعلوا كلامه كالقرآن، واستولوا في تهذيبه على قصبات الرهان.
ولما بلغ الناصر الكبير علم وفاة الهادي عليه السلام، بكى بنحيب ونشيج، وقال: اليوم انهد ركن الإسلام.
وعرض ذكر الهادي عليه السلام في مجلس الناصر عليه السلام، فقال بعض الحاضرين: كان والله فقيهاً، فضحك الناصر وقال: ذاك والله من أئمة الهدى.
وفضائله عليه السلام ظاهرة الأعلام، وظهورها في محالها من الكتب المفردة لها تغني عن الإستظهار، فليطالعها من لم يرضَ بالاختصار والاقتصار.
فكيف يقال لا أصل لمذهبه؟! وهل يتجاسر على هذه المقالة إلاّ مَارق أو منافق ؟ نعوذ بالله من الحور بعد الكور، والعجب ممن يدعي البصيرة ويطلق لسانه بالكذب، والبصائر نور وهدىً، وهذه المقالة ضلالة وعمى، وصاحبها ذو عمى لا ذو بصيرة.
وقد قال الإمام يحيى بن حمزة: البصيرة العمياء خير من البصيرة الحولى.
قلت: لأن العمى الخالص يتحرز معه صاحبه عن الوقوع في المهاوي، ولا يسير في الغالب إلاّ ومعه قائد يرشده إلى السلامة من المهالك، ويدله على السهل من المسالك.

(1/237)


وصاحب العين الحولى ناقص البصر، فهو يُدِلُّ باسمية البصرية حتى يتهور، ويُظْهر الغنية عن المرشد والقائد حتى يتكور، وهذه صفة صاحب البصيرة الحولى، يُخيل له الشيطان أنه نادرة الفلك، ونكتة الدنيا، وحجة العصر، ومفزع العلماء، وعميد الفضلاء، وأنه إليه يرجع الغالي، وبه يلحق التالي، فهو بزعمه سوي البصيرة، ملكي السريرة، يرشِدُ ولا يُرشَد، ويجل أن يَنْشد بل يُنشَد، فما قاله بزعمه فهو الصواب، وما رآه فهو ثمرة ما جاء في السنة والكتاب، ولم يدرِ أن مسيره مع أوتاد الحلوم، وأقمار العلوم، مسير السها مع النجوم، بل هو في العلقة بسفر هذه العير نازل منزلة القراد بمنسم البعير:
متى كان حكم الله في كرب النحل
وهذه صفة صاحب هذه المقالة، العادم يوم التناد للإقالة، الطالي لوجهه بقار سوء القالة.
اللهم إنا نعوذ بك من شقائه، أو أن تصيبنا بنجاسة أعقابه.
فائدة: قال الجاحظ: الناس على أربعة أضرب:
· منهم من يدري، ويدري أنه يدري.
· ومنهم من لا يدري، ولا يدري أنه لا يدري.
· ومنهم من يدري، ولا يدري أنه يدري.
· ومنهم من لا يدري، و يدري أنه لا يدري.
وصاحب هذه المقالة من الضرب الذي لا يدري، ولا يدري أنه لا يدري.

(1/238)


ولله القائل:
يصيب ولا يدري ويخطي وما درى .... وليس يكون الجهل إلاّ كذلك
وهل يَنْسب التلبيس إلى من نفاه، والجهل إلى من اختاره الله لهداية خليقته واصطفاه، إلاّ من عدم دواة شفاه، {كَبَاسِطِ كَفَّيْهِ إِلَى الْمَاءِ لِيَبْلُغَ فَاهُ}[الرعد:14]،
ما ضرّ تغلب وايل أهجوتها .... أم بلت حيث تناطح البحران
نعم: قد قدمنا الإشارة إلى ترجيح مذهب العترة المطهرة، وأما الأئمة في ذات بينها، فالمتمسك بمذهب أحدهم ناجٍ ؛ لأنهم أسباط الرسول صلى الله عليه وآله وسلم، وأولاد البتول، وحجج ذوي العقول، وأبواب مدينة العلم المعقول منه والمنقول، وقد وردت الأحاديث الجمة في سلامة من اتبع أئمة الهدى، واقتدى بمصابيح الدجا، وحسبك بالحديث المشهور: ((أهل بيتي كسفينة نوح، من ركبها نجا، ومن تخلف عنها غرق وهوى))، وأمثاله من الأحاديث النبوية، والآيات المصطفوية، التي قضت لمتابعيهم بالنجاة، ولمشايعهم بطيب الحياة.
من تلقَ منهم تقل لاقيت سيدهم .... مثل النجوم التي يسري بها الساري

(1/239)


وقد سُئل الإمام المؤيد بالله يحيى بن حمزة عليه السلام عن اختلاف أئمة العترة في أشياء من مسائل الفروع، وسأله السائل أن يرجح له في التقليد واحداً من الأئمة، فكان في جوابه: أن الأخلق بلجام التكليف، التزام واحد من الأئمة في رخصه وعزائمه.
ثم قال الإمام ما معناه: إنهم على سواء في الفضل، فإذا كان لا بد من تعيين واحد منهم بالتقليد، فالإمام المؤيد بالله أحمد بن الحسين الهاروني، لبعده عن الإِكفار.
قلت: كلام الإمام يحيى في ترجيح مذهب المؤيد بالله عليه السلام لعدم تكفيره المجبرة، فيه نظر من وجوه:
الأول: أن المشهور من مذهب المؤيد بالله تكفير المجبرة في قوله الشهير، رواه الفقيه محمد الديلمي رحمه الله، وروى الأمير صلاح بن أمير المؤمنين عن الأمير الحسين بن محمد قدس الله روحه، وأظنها رواية عن المنصور بالله عليه السلام أيضاً، وروى الديلمي رحمه الله تعالى عن السيد أبي عبد الله: إجماع أهل البيت عليهم السلام على تكفير المجبرة، وقال: ما روي عن المؤيد بالله من خلاف ذلك محال عنه.
وقيل: بل روايتان في ذلك، والرواية الصحيحة ما يوافق غيره من الأئمة، وهو قوله الأخير.
النظر الثاني: سلمنا أن المؤيد بالله ذهب إلى أن المجبرة ليسوا كفاراً، فهذا ليس بوجه ترجيح ؛ لأن إجماع العترة منعقد على كفرهم، فقد سبق إجماع العترة قول المؤيد بالله قدس الله روحه.
ونرجع إلى ترجيح الإمام المؤيد بالله يحيى بن حمزة عليه السلام لمذهب العترة، وأن مخالفة إجماع العترة لا تجوز، فإن قيل إنما رجح الإمام مذهب المؤيد بالله لأن التكفير بالقياس غير صحيح عنده.

(1/240)


قلنا: التكفير والتفسيق به مذهب جماعة قد أحكموا الأدلة والبراهين على صحته، ومن سلك منهاجهم وكان من أهل النظر لم يلزمه الخروج عنه بمجرد كلام عالم من جملة العلماء ذهبَ إلى خلاف مذهبهم.
وقد روي أن رجلاً سأل علياً عليه السلام عن الخوارج فقال: أكفارهم يا أمير المؤمنين؟
فقال: من الكفر هربوا.
فقال: أمؤمنون هم ؟
فقال: لو كانوا مؤمنين ما قاتلناهم.
فقال: ففيم القتال ؟
فقال عليه السلام: إخواننا بالأمس بغوا علينا.
ولأن تكفير أهل القبلة ليس بأبلغ من قتلهم وقتالهم، وإذا ساغ القتل ساغت التسمية.
النظر الثالث: أن مذهب الهادي عليه السلام لا يُعاب إلا بما فيه من المشقة والتحرز في العبادات والبياعات، والأنكحة، وما شاكلها، والتكليف وارد بالمشقة، ومخالفة الدعة، وهذا معروف من مذهبه عليه السلام، لا يستطيع أحد إنكاره، فهذا العيب من جنس قوله:
ولا عيب فيهم غير أن سيوفهم .... بهن فلول من قراع الكتائب
إذا ثبت هذا، بقَّيْنَا أئمة العترة على سواء في الاقتداء بمنارهم، والاهتداء بأنوارهم، وقد اختار أئمتنا المتأخرون مذهب الهادي عليه السلام، وقرروه واعتمدوه وهذبوه وشيدوه، وعليه مضى علماء اليمن، وفرسان الفرائض والسنن.

(1/241)


فإن قيل: فمن الأولى بالترجيح من الأئمة ؟ وهل إلى هذا الترجيح طريق أم لا ؟
قلنا: إذا كان لا بد من الالتزام لمذهب إمام من الأئمة الكرام، كان مذهب إمام الزمان؛ لأن تقليد الحي أولى من الميت، وقد ذكر هذه المسألة المهدي أحمد بن الحسين عليه السلام، قال سائله:
مسألة فيمن كان على مذهب المنصور بالله عليه السلام، والتزم مذهب المهدي عليه السلام اختياراً، ولم يكن من أهل الترجيح، هل يكفيه ذلك ؟ أو لابد من الترجيح، أو التزام إمام الزمن؟
قال عليه السلام: كونه إمام زمانه وجه ترجيح ؛ لأن طاعته واجبة عليه، ولا يكمل دينه إلا بذلك، ولا فائدة في الخبر عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: ((من مات ولم يعرف إمام زمانه مات ميتة جاهلية)) إلا وجوب طاعته، والأخذ بقوله، فأما معرفة شخصه فلم يقل أحد بوجوب ذلك.
ثم سئل: هل تقليد الحي أولى من تقليد الميت ؟
فقال عليه السلام: الجواب: أن تقليد الحي أولى، والوجه في ذلك ما ذكرناه في المسألة الأولى.
ووجه أخر، وهو أن الله تعالى أمر بسؤال أهل الذكر، والسؤال الذي يعقل منه هو سؤال الحي، لا سؤال الميت.
هذا كلام الإمام المهدي عليه السلام، وبه تم الكلام في الموضع الثالث.
فأما المسلك الرابع: وهو فيما يلزم من الإنكار على صاحب هذه المقالة المتقدمة، فقد تقدم الجواب وبيانه في جواب المسألة الأولى وأمثالها.

(1/242)


المسألة التاسعة:
ما تقول العترة الزكية فيمن ضعّف أسانيد الأئمة المطهرين، وكان في كلامه فيما روي عنه أنه قال: ما رواه الهادي عليه السلام، والقاسم وأبناؤهما من أكابر الأئمة وسادات الأمة، فلا ينبغي الاعتماد عليه، مالم يكن في الصحاح الستة، ما حكم صاحب هذه المقالة ؟ وما جوابها؟
الجواب والله الهادي إلى الصواب: ينحصر في مقامين:
الأول: في حكم صاحب هذه المقالة.
والثاني: في جوابها.
[الجواب على من ضعّف رواية الأئمة عليهم السلام]
أما جوابها وقدّم لأنه الأهم والعمدة، فقد كفى في الجواب في هذه المسألة الإمام المؤيد بالله يحيى بن حمزة في كتاب "مشكاة الأنوار"، وقد سأله بعض الشافعية عن مثل ذلك، فقال عليه السلام ما لفظه:
اعلم يا فقيه - هداك الله - أن أئمة الزيدية ومن تابعهم من أعظم فرق الإسلام، وأحسنها عقيدة، وأنفذهم بصيرة، وأئمتهم هم الدعاة إلى الدين، وهم أئمة المسلمين، متميزون عن سائر الفرق بخصال كثيرة، لا يمكن عدها، ولهم في ذلك كتب، وأقاويل وأنظار، وإجتهادات، وعلوم قد أتقنوها، وفتاوى قد حصلوها، وهذا الخبر قد نقلوه في كتبهم، وهو من أحاديث الوعظ والتذكير والترغيب، وظاهره الصحة، فليس ينبغي رده بالوهم والاستبعاد، وليت شعري من أين وجه الضعف ؟ من جهة كونه لم يدوّن في الصحاح السبعة، فالذي في الصحاح السبعة محصور مضبوط، والمنقول عنه صلى الله عليه وآله وسلم ألف ألف حديث، فلعل هذا الحديث مما لم يعد في الصحاح، بل هو من جملة هذه المعدودة.

(1/243)


أو تعني أنه ضعيف في الرواية، فللأحاديث روايات كثيرة وطرقٌ، السماعُ والإجازةُ والمناولةُ، فلعل هذا الحديث مبني على أحد هذه الطرق، ولو تفاوتت في القوة والضعف.
أو تعني أنا نكذبه ونرده، مع كونه مسطوراً في كتبهم، فهذا خطأ، فليس ينبغي رد الأحاديث بالوهم.
ثم ما يتطرق إلى أحاديثهم يتطرق إلى أحاديثكم، فما جاز في تلك، جاز في هذه.
ثم إن هذا الحديث دال على فضل علي عليه السلام وشيعته، ولهم أخبار كثيرة اشتملت عليها كتبهم، فلا وجه للتخصيص بالانكار لهذا الحديث، تم كلامه عليه السلام... فائدة، الخبر المشار إليه: ما روي عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم: ((يدخل الجنة من أمتي سبعون ألفاً لا حساب عليهم، ثم التفت إلى علي عليه السلام وقال: هم شيعتك، وأنت إمامهم))(100) رواه في شمس الأخبار، وكان السؤال عنه وعن شمس الأخبار، وقد استوفيت كلام الإمام المؤيد بالله يحيى بن حمزة لمزيد فوائد، دخلت في ضمن الجواب لا تخفى على الناظر.

(1/244)


لنا أيضاً: قد تقرر ترجيح مذهب العترة المطهرة على غيره من المذاهب، ومن جملة مذهبهم الرجوع إلى أسانيدهم ورواياتهم، بل هم بالرجوع إليها أولى، ولهم خصيصتين ليست لغيرهم بما هداهم الله إليه من سلامة العقائد الإلاهية، التوحيدية، والعدلية، وما لهم من الورع العظيم، وصدق اللهجة.
____________
([100]) - قال الإمام الحجة / مجدالدين بن محمد بن منصور المؤيدي في لوامع الأنوار ج/1/140:
وقال صلى الله عليه وآله وسلم: ((يدخل الجنة من أمتي سبعون ألفاً بغير حساب)).
قال علي عليه السلام: من هم يارسول اللَّه ؟.
قال: ((هم شيعتك، وأنت إمامهم))، رواه الإمام الناصر الأطروش عليه السلام، بإسناده عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم، ورواه حسام الدين الشهيد في الحدائق.
قال أيده اللَّه تعالى في التخريج: رواه الناصر للحق، بإسناده عن داود بن شريك السلمي، من محيط علي بن الحسين رحمه اللَّه، ورواه ابن المغازلي، بإسناده إلى أنس بن مالك، عنه صلى الله عليه وآله وسلم. انتهى.
قلت: وأخرجه الحافظ الكنجي، عن أنس بلفظ: ثم التفت إلى علي، وقال: ((إنهم من شيعتك، وأنت إمامهم))، أفاده في الدلائل.
وروى الباقر عليه السلام أن نبي اللَّه صلى الله عليه وآله وسلم قال: ((إن عن يمين العرش رجالاً، وجوههم من نور، عليهم ثياب من نور، ما هم بنبيين ولا شهداء، يغبطهم النبيون والشهداء)).
قيل: من هم ؟
قال: ((أولئك أشياعنا، وأنت إمامهم ياعلي)) أخرجه حسام الدين في الحدائق، ورواه غيره. انتهى...

(1/245)


لنا أيضاً: ما ذكره المنصور بالله في كتاب "شرح الرسالة الناصحة بالأدلة الواضحة"، وهو ما لفظه:
أمر النبي صلى الله عليه وآله وسلم باتباع عترته المطهرة، فخالفوه في ذلك، ولهم أتباع في كل وقت يقتفون آثارهم في خلاف العترة المطهرة حذو النعل بالنعل، بل قد تعدوا على ذلك أن قالوا هم أولى بالحق، واتباعهم أوجب من اتباع هداتهم، فردوا بذلك قول النبي صلى الله عليه وآله وسلم: ((قدموهم، ولا تَقَدَّموهم، وتعلموا منهم، ولا تعلموهم، ولا تخالفوهم، فتضلوا، ولا تشتموهم، فتكفروا))، وهذا نص في موضع الخلاف، لا يجهل معناه إلاّ من خُذِل.
تم كلامه عليه السلام.
وقد ظهر الجواب على صاحب هذه المقالة بما فيه كفاية، والزيادة على هذا لا تفيد أكثرمما تفيد، ولا حاجة بنا إلى الإسهاب، وإن كانت الأدلة بحمد الله متناصرة، والبراهين على ذلك متظاهرة.
[حكم من ضعّف روايتهم]
وأما المقام الثاني: وهو في حكم صاحب هذه المقالة، ولا شك أنه أوهم إلى أن العترة غير عدول، ولا إتقان فيما اختصوا به من الرواية، وعلموه من الهداية، وهذه ضلالة وعماية وجهالة، وقد سبق كلام المنصور بالله عليه السلام آنفاً، فخذه من مكان قريب، والله المؤمل لإرشاد السبيل، وهو حسبنا وكفى ونعم الوكيل.

(1/246)


المسألة العاشرة:
ما تراه العترة الطاهرة فيمن صوّب نشوان بن سعيد في هذيانه، وما أطلق به أسلّة لسانه، من الأكاليم المعوجة، السالك بها في غير محجة، المدلي بها من دون دلالة ولا حجة، وكان من كلام هذا المنتصر لمذهب نشوان: هذا هو الصحيح الذي لا ينبغي خلافه - يعني مساواة نشوان بأهل البيت غيرهم - ما يكون حكم صاحب هذه المقالة ؟
الجواب والله الهادي إلى نهج الصواب:
أن حكم المائل إلى مذهب نشوان حكم نشوان، وقد حكم عليه المنصور بالله بقطع لسانه وقتله.
قال عليه السلام في أرجوزته المعروفة:
أما الذي نصت جدودي فيه .... فيقطعون لسنَه من فيه
ويؤتمون ضحوةً بنيه .... إذ صار حق الغير يدعيه
وهذه رواية المنصور بالله عليه السلام عن آبائه عليهم السلام، ولا أصدق منه راوياً، ولا أفضل هادياً، رضينا بحكمه وروايته، واكتفينا بهديه وهدايته.
وقد مرّ شيء من الكلام على خراريف نشوان بن سعيد، وكشف ما أوهم به العامة، ورجف به على من لا نباهة له، ولسنا بحمد الله ممن يفزع بالأراجيف، ولا ممن يخدع بالخراريف، وقد قلت مرتجلاً:
بقِّ على نفسك يا نشوَان .... أنت بما قلت لنا نشوَان
زعمت أن الآل أتباع النبي .... وملت فيما قلته عن النبي
إن الذين للنبي آلُ .... أسباطه وغير هذا آلُ
نص الرسول في النصوص المبرمة .... على الزكاة أنها محرمة
قال على محمدٍ وآله .... قولاً جلياً فاض من مقاله

(1/247)


وجازت الزكاة للأتباع .... بلا خلاف وبلا نزاع
فصح أن آله أولاده .... من لم يوافق ساءه ميلاده
وإن أتى في الذكر ذي الإعجاز .... خلاف ذا فهو من المجاز
كما أتى في يده والجنب .... والعين والوجه الذي للرب
ما الآل إلاّ الأهل والقرابة .... في منطق سائل به إعرابه
وكل قول غير هذا خطل .... ينكره رؤبتهم والأخطل
وافتح متى شئْت صحاح الجوهري .... أقواله مثل صحاح الجوهر
وعزز القول بديوان الأدب .... وكل منهاج إلى لفظ العرب
تلق كلامي غير ذي اعوجاج .... بل مشيه في واضح المنهاج
وإن نشوان بهذا عَارف .... لكنه بما أتاه هارف
أُتِيتَه من حدة المزاج .... في شمسه وهي الظلام الداج
ليس مصيباً كل سهمِ رامي .... يرمي الفتى ويخطي المرامي
مسكين نشوان أراد الفضلا .... وأن يكون للنبي أهلا
ليس له من أمره ما رامه .... ومن عجيب أمره الإمَامَة
قد ادعاها وهو منها عُطْل .... أحلامه في الوعد منها مطل
لوتم هذا لادعتها التركُ .... ولم يسعهم عن قيام تركُ
إن كثيراً أن يسمى قاضي .... وقد أرى وصفيه في انتقاض
لم يك خلفاً لا ولا أَماما .... لا قاضياً كان ولا إمَاما
بل كان من جملة أبنا حمير .... وكان ذا علم بكل دفتر
لكن إذا لم يكُ في العلم عمل .... فما لمولاه لدى الله أمل

(1/248)


عجبت منه وهو يأتي بالعجب .... إذ أنكر الآل بنيَّ المنتخب
ما ضره أن بني الزهراءِ .... آلُ النبي خاتمِ الأنباءِ
وأن يكون من أحب صاحب .... للسادة الأفاضل الأطايب
لكن أحب أن يكون داخلا .... في جملة الآل مقالاً باطلاً
من دون ما رام علوم زاخرة .... وحجج مثل السيوف الباترة
وساده في كل عصر نجْمُ .... تعنو له العُرْب معاً والعجْمُ
اليوم فينا الناصر المنصورُ .... محمد الخليفة المشهورُ
أقواله مثل سيوف الهند .... وعلمه كالزاخر الممتد
ووجهه كالبدر وسط الهالة .... في حسنه والنور والجلالة
وهيبة تختطف الأرواحا .... لولاه يجلو مبسماً وضاحا
ورحمة يوسعها الأبرارا .... وسطوة تنتقم الأشرارا
وراحة كأنها الغمطمط .... منها اللآلئ دائماً تلتقط
ومقول كأنه حِسام .... لكل قول بدعة حسَّام
يا ابن الإمام والإمام الناصر .... ومن له الفضل العظيم الباهر
ومن به تفتخر الأئمة .... ومن تراه في الكمال أُمَّة
إليك قولاً عن هموم واصبة .... لقول أصناف العداة الناصبة
هم أنكروا نصاً من الله العلي .... على علي يا بن مولانا علي

(1/249)


وحرفوا ظاهره بالإفك .... وجعلوه موضعاً للشك
وانظر إلى مالهم من زعم .... قد أنكروا يوم غدير خمّ
أَن النبي لم يرد بالمولى .... إلاّ النصير كذبوه قولاً
ولم يرد قالوا به الإمامة .... يا ويحهم من هذه الظلامة
وأنكروا من بعد فضل عترته .... وفضّلوا زوجته على ابنته
وصغّروا من حقهم جليلاً .... وأنكروا إجماعهم دليلا
وأنكروا لا بَرِحُوا في الهاوية .... لعن ابن هند ذا الشقا معاوية
ثمة قالوا في يزيد نوقف .... لأنه استبهم ذاك الموقف
لم يعلموا من كان رب المقتل .... قد جَهِلوا قتل الحسين بن علي
عقولهم بما ادعوه مسقطة .... وهذه من الدعاوي سفسطه
وجهلوا قاسمنا الرسيا .... وصار نسياً عندهم منسيا
ونسبوا التلبيس في العباد .... إلى الإمام بن الإمام الهادي
وأنكروا مذهبه المرضيا .... وأصبح الأمر به مقضيا
ثمة لم يرضوا بهذا كله .... حتى أتوا من إفكهم بكَلِّه
لَذَّ لهم ما قاله نشوان .... وهو كلام كله عدوان
وراقهم زخرفه وصوَّبوا .... وصعّدوا في أمره وصوبوا
وهو كلام بالدليل فاسد .... ما قاله إلاَّ عدو حاسد
وقد مضى افتضاحه في زوره .... ونفحة المسك على تزويره

(1/250)


جرى على طريقة ابن الحائك .... ولم يكن لسخفه بتارك
تابعه في قاله وقيله .... وكذبٌ أَوْدَع في إكليله
وهذيانات له كثيرة .... أودعها الحائك في الجزيرة
بها غدى العبدي عبداً أسودا .... في حبس صنعا موثقاً مقيداً
حتى عفا عنه الإمام الناصر .... وجاء في إطلاقه الأوامر
فامتثل الأمر المليك أسعد .... وحل مَنْ في أسره مقيدُ
أخرجه من ظلمات الحبس .... بعد إهانات وضيق نفس
وفي إمام الحق طوَّلت الرجا .... يملأ ما بين الرجا إلى الرجا
في محوه ماذا يرى من البدع .... ونكسه في ديننا من ابتدع
يفيض من علومه سجالاً .... يعرف من جادلنا جدالا
قد نصر الدين وذا ناموسه .... وعلمه غمطمط قاموسه
وهو الذي عزّت به الزيدية .... وتوج الحدائق الوردية
بسيرة سار بها مرضية .... كسيرة المختار في البرية
ودولةٌ قاهرة للدول .... فتَّح فيها مقفلات القلل..
..

(1/251)


محى رسوم البغي والفساد .... وهد ركن الكفر والإلحاد
وكم له في مذهب القرامطة .... من وقعة فيها الرؤوس ساقطة
يسمع في الرؤوس منها الضربا .... مثل الحريق وافق القصبا
كيومه في قتلة المنقّب .... يوماً عبوساً قمطرير النقب
أبادهم بالمشرفي أجمعا .... بما استهانوا داعياً قد أسمعا
ويومه في فتح بيت أنعم .... شنشنة أعرفها من أخزم
ويوم فتحهِ لحصن القلعة .... قلوبهم مفطورة مقلعة
من فتحها أمسوا بغير أفئدة .... وهكذا عقولهم على قده
طاشت كما قد طاش حلم حاتم .... بأحمد يوم الصدام القاتم
وإن منه النصر للإسلام .... مشيد الأركان والأعلام
صلى عليه ذو الجلال أبدا .... وأنزل النصر له مؤبّدا
ثم الصلاة دائم الزمان .... على النبي خيرة الرحمن
ثم على حسامه المسلول .... وصيه ثم على البتول
ثم على المسموم والمقتول .... وسادة الخلق بني البتول

(1/252)


[خاتمة]
وهذا آخر الكلام على الخيالات السامجة لا السؤالات الفادحة، والشبه المزبقة لا الزبد المحققة، ولا غرو من ملك الشيطان قياده خالف رشاده، وخرج عن مذهب السادة، حتى يتقحّم المهالك، ويتنكّب أيمن المسالك، فلا لعاً له إذا كبا، ولا دعدعاً له إذا خر مُنَكّباً، عدل عن المنهج القويم، وتبدل السموم بالنسيم {أَفَمَنْ يَمْشِي مُكِبًّا عَلَى وَجْهِهِ أَهْدَى أَمَّنْ يَمْشِي سَوِيًّا عَلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ(22)}[الملك]، اللهم أعذنا من الشيطان ومزالقه، واصرفنا بلطفك عن مخائله وبوائقه، حتى نأمن الخروج من السفينة، ونكفى غوائل الروافض للعترة المطهرة الأمينة، بفضلك يا ذا الجلال والإكرام، وصل يارب على سيدنا محمد وآله البررة الكرام(138).
---

(1/253)