الكتاب : نظرات في ملامح المذهب الزيدي وخصائصه المؤلف : السيد العلامة محمد بن عبد الله عوض المؤيدي حفظه الله تعالى |
كتاب نظرات
في ملامح المذهب الزيدي وخصائصه
للسيد العلامة
محمد بن عبد الله عوض المؤيدي حفظه الله تعالى
[المقدمة]
بسم الله الرحمن الرحيم
والحمد لله رب العالمين، وصلى الله على محمد وآله الطاهرين:
فإنه قد قامت الدلالة على أن عِتْرَةَ الرسول صلى الله عليه وآله هم الفرقة الناجية، وأنَّ الحقَّ معهم إلى يوم القيامة.
وذلك كحديث الثقلين المعلوم صحته، والمروي عند جميع طوائف المسلمين([1])، وغيره من الأحاديث التي لا تحصى لكثرتها، بالإضافة إلى آيات كثيرة تدل على ذلك، كآية التطهير والمودة ([2])، والمقام لا يتسع للتفصيل، ومن أراد الإطلاع فعليه بكتب الأئمة وأتباعهم رضوان الله عليهم، مثل الجزء الأول من الإعتصام، والشافي، واللوامع وغيرها.
_______________
([1]) ـ ومن ألفاظه: عن الرسول صلى الله عليه وآله وسلم أنَّه قال ((إنِّي تَارِكٌ فِيْكُم مَا إنْ تَمَسَّكْتُمْ بِهِ لَنْ تَضِلُّوا بَعْدِي أَبَدَاً: كِتَابَ اللَّهِ، وَعِتْرَتِي أَهْلَ بَيْتِي، إنَّ اللطيفَ الْخَبِيْرَ نَبَّأَنِي أنَّهُمَا لَنْ يَفْتَرِقَا حَتَّى يَرِدَا عَلَيَّ الْحَوْضَ)).
([2]) ـ آية التطهير هي قوله تعالى: ((إِنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيُذْهِبَ عَنكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيرًا))، وآية المودة هي قوله تعالى: ((قُل لا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْرًا إِلاَّ الْمَوَدَّةَ فِي الْقُرْبَى وَمَن يَقْتَرِفْ حَسَنَةً نَّزِدْ لَهُ فِيهَا حُسْنًا إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ شَكُورٌ)).
[اختلاف الأمة وتفرقها]
لا شكَّ في حصول التفرق والاختلاف بين الأمة الاسلامية منذ العصر الأول وإلى اليوم، يستحل بعضهم دماء بعض، ويكفر بعضهم بعضاً، وتماماً كما حكى الله عمن قبلهم من أهل الكتاب ((وَقَالَتِ الْيَهُودُ لَيْسَتِ النَّصَارَى عَلَىَ شَيْءٍ وَقَالَتِ النَّصَارَى لَيْسَتِ الْيَهُودُ عَلَى شَيْءٍ)) [البقرة:113]، وكلا التفرق والاختلاف مذموم، لا فرق بين تفرقوا واختلفوا، كما فَرَّقَ بعضُ المتطفلين بجواز الاختلاف دون التفرق، أَوَ لَم يقرأْ هذا المتطفل قوله تعالى: ((وَلَكِنِ اخْتَلَفُواْ فَمِنْهُم مَّنْ آمَنَ وَمِنْهُم مَّن كَفَرَ)) [البقرة: 253]، ((فَهَدَى اللّهُ الَّذِينَ آمَنُواْ لِمَا اخْتَلَفُواْ فِيهِ مِنَ الْحَقِّ)) [البقرة:213]،((وَلاَ تَكُونُواْ كَالَّذِينَ تَفَرَّقُواْ وَاخْتَلَفُواْ مِن بَعْدِ مَا جَاءهُمُ الْبَيِّنَات وَأُوْلَئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ)) [آل عمران: 105].
إذاً فالاختلاف والتفرق معصية كبيرة، بدلالة وعيد القرآن، ولا يتسع المقام لتفصيل أدلة ذلك، وإذ قد قامت الدلالة على أن أهل البيت مع الحق والحق معهم، وأنهم طائفة الحق الظاهرة، وأنَّ الاختلاف والتفرق من كبائر العصيان، فإذاً جماعة أهل البيت جماعة الحق، التي لا يجوز التفرق عنها ومخالفتها، والمسلمون جميعاً متفقون جملة، ومختلفون تفصيلاً، مع العلم أنهم معترفون أنَّ هناك طائفة واحدة على الحق، وكلٌّ يَدَّعِي أنَّه تلك الطائفة، ولهم في دعاويهم شبهٌ واهيةٌ مذكورةٌ في كتب الكلام مع الرد عليها، كينابيع النصيحة والأساس وغيرها، غير أن طائفة الزيدية أثبتت دعواها بالأدلة المتكاثرة، والحجج المتظاهرة المتظافرة، مع أنه يكفي لإثبات دعواها حديث الثقلين الذي روته وصححته تلك الطوائف المختلفة.
[مَنْ هم أهل البيت المذكورون في حديث الثَّقَلين]
هم أهل الكساء وما تناسل منهم، بدليل حديث الكساء المروي عند جميع المسلمين، وإن شئت فانظر تخاريجه في شرح الغاية للحسين بن القاسم، وتفاسير القرآن العظيم عند قوله تعالى ((إِنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيُذْهِبَ عَنكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيرًا)) [الأحزاب: 33].([3])
وأيضاً فإنا لم نعلم أحداً من علماء الأمة قديماً وحديثاً ادَّعى أن المراد بحديث الثقلين نساء النبي صلى الله عليه وآله وسلم ألبتة.
______________
([3]) ـ وانظر أيضاً: الشافي للإمام الحجة المنصور بالله عبدالله بن حمزة عليهما السلام [ط1/ج1/ص 75]، وكتاب الاعتصام بحبل الله المتين للإمام الحجة المنصور بالله القاسم بن محمد عليهما السلام [ج1/ص66]، وكتاب لوامع الأنوار لمولانا الإمام الحجة مجدالدين المؤيدي أيده الله تعالى بتأييده [ط1/ج1/ص54، ط2/ج1/ص 87].
[بيان المقصود]
وليس المقصود هنا أن نبين الأدلة الدالة على أن الحق في جانب العترة وشيعتهم وبيان المراد بأهل البيت، بل الغرض بيان مذهب الزيدية في ما وقع فيه الخلاف من أمهات المسائل الأصولية، ليكون المكلف على بصيرة بعقيدته، وعقيدة أئمته وأهل نحلته، ولم نأت بشيء جديد غير أنَّا اخترنا بعض المسائل المهمة التي كثر حولها النزاع، ولم نتعرض لغيرها إلاَّ ما لا بدَّ منه، أو دعت إليه حاجة.
[السبب أو الداعي للتأليف]
والذي دعاني إلى هذا أن المذهب الزيدي وعقائده تتعرض للتشويه والتحريف، ومحاولة الطمس، وذلك من قبل بعض الشباب المؤمن، فاخترت هذه المسائل لطلبة العلم ليوجهوا إليها عنايتهم، فإنها مميزات المذهب وخصائصة التي يتميز بها.
وقد سلكنا أقرب السبل وأسهلها إلى التوضيح، واقتصرنا على الأدلة القريبة الفهم، ليسهل على القاريء تناولها، ولم نستوعب الأدلة وذلك لأنها موضوعة للطلبة الزيديين، وإنما المقصود هو التعريف لهم بمذهبهم والإشارة إلى دليل المسألة. والحمد لله رب العالمين.
[التوحيد]
[الإيمان بالله تعالى]
الإيمانُ بالله هو أول الواجبات المتعلقة بالمكلَّفِ، ولكن الإيمان بالله لا يحصل إلاَّ عن طريق النظر، وتقليب الفكر فيما أُودع في هذا الكون، فيجب حينئذ النظر والتفكر تبعاً لوجوب الإيمان.وقد أرشد الله سبحانه في كتابه إلى طرق التفكير، ووسائل التصديق العقلية، ولا سيما في السور المكية، وبصفة أخص في الجزء الثلاثين ((أَلَمْ نَجْعَلِ الأَرْضَ مِهَادًا (6) وَالْجِبَالَ أَوْتَادًا (7) وَخَلَقْنَاكُمْ أَزْوَاجًا (8) وَجَعَلْنَا نَوْمَكُمْ سُبَاتًا (9) وَجَعَلْنَا اللَّيْلَ لِبَاسًا (10) وَجَعَلْنَا النَّهَارَ مَعَاشًا (11) وَبَنَيْنَا فَوْقَكُمْ سَبْعًا شِدَادًا (12) وَجَعَلْنَا سِرَاجًا وَهَّاجًا (13) وَأَنزَلْنَا مِنَ الْمُعْصِرَاتِ مَاء ثَجَّاجًا (14) لِنُخْرِجَ بِهِ حَبًّا وَنَبَاتًا (15) وَجَنَّاتٍ أَلْفَافًا)) [النبأ]، ((فَلْيَنظُرِ الإِنسَانُ إِلَى طَعَامِهِ (24) أَنَّا صَبَبْنَا الْمَاء صَبًّا (25) ثُمَّ شَقَقْنَا الأَرْضَ شَقًّا(26) فَأَنبَتْنَا فِيهَا حَبًّا(27) وَعِنَبًا وَقَضْبًا (28) وَزَيْتُونًا وَنَخْلًا (29) وَحَدَائِقَ غُلْبًا (30) وَفَاكِهَةً وَأَبًّا)) [عبس:6-31]، ((فَلْيَنظُرِ الإِنسَانُ مِمَّ خُلِقَ (5) خُلِقَ مِن مَّاء دَافِقٍ (6) يَخْرُجُ مِن بَيْنِ الصُّلْبِ وَالتَّرَائِبِ)) [الطارق:5-7]، ((أَفَلا يَنظُرُونَ إِلَى الإِبِلِ كَيْفَ خُلِقَتْ (17) وَإِلَى السَّمَاء كَيْفَ رُفِعَتْ (18) وَإِلَى الْجِبَالِ كَيْفَ نُصِبَتْ (19) وَإِلَى الأَرْضِ كَيْفَ سُطِحَتْ (20) [الغاشية:17-20]، ((أَأَنتُمْ أَشَدُّ خَلْقًا أَمِ السَّمَاء بَنَاهَا (27) رَفَعَ سَمْكَهَا فَسَوَّاهَا (28) وَأَغْطَشَ لَيْلَهَا وَأَخْرَجَ ضُحَاهَا (29) وَالْأَرْضَ بَعْدَ ذَلِكَ دَحَاهَا (30) أَخْرَجَ مِنْهَا
مَاءهَا وَمَرْعَاهَا (31) وَالْجِبَالَ أَرْسَاهَا (32) مَتَاعًا لَّكُمْ وَلِأَنْعَامِكُمْ [النازعات:27- 33]، ((يَا أَيُّهَا الإِنسَانُ مَا غَرَّكَ بِرَبِّكَ الْكَرِيمِ (6) الَّذِي خَلَقَكَ فَسَوَّاكَ فَعَدَلَكَ (7) فِي أَيِّ صُورَةٍ مَّا شَاء رَكَّبَكَ)) [الإنفطار:6-8]، ((سَبِّحِ اسْمَ رَبِّكَ الأَعْلَى (1) الَّذِي خَلَقَ فَسَوَّى (2) وَالَّذِي قَدَّرَ فَهَدَى (3) وَالَّذِي أَخْرَجَ الْمَرْعَى (4) فَجَعَلَهُ غُثَاء أَحْوَى)) [الأعلى:1_5]، ((فَلا أُقْسِمُ بِالْخُنَّسِ (15) الْجَوَارِ الْكُنَّسِ (16) وَاللَّيْلِ إِذَا عَسْعَسَ (17) وَالصُّبْحِ إِذَا تَنَفَّس)) [التكوير:15-18]، ((فَلا أُقْسِمُ بِالشَّفَقِ (16) وَاللَّيْلِ وَمَا وَسَقَ (17) وَالْقَمَرِ إِذَا اتَّسَقَ)) [الإنشقاق: 16-18]، ((وَالْفَجْرِ (1) وَلَيَالٍ عَشْرٍ (2) وَالشَّفْعِ وَالْوَتْرِ (3) وَاللَّيْلِ إِذَا يَسْرِ)) [الفجر:1-4]، ((وَالشَّمْسِ وَضُحَاهَا (1) وَالْقَمَرِ إِذَا تَلاهَا (2) وَالنَّهَارِ إِذَا جَلَّاهَا (3) وَاللَّيْلِ إِذَا يَغْشَاهَا (4) وَالسَّمَاء وَمَا بَنَاهَا (5) وَالأَرْضِ وَمَا طَحَاهَا (6) وَنَفْسٍ وَمَا سَوَّاهَا)) [الشمس:1-7]، ((وَاللَّيْلِ إِذَا يَغْشَى (1) وَالنَّهَارِ إِذَا تَجَلَّى (2) وَمَا خَلَقَ الذَّكَرَ وَالأُنثَى)) [الليل:1-3]، ((وَالضُّحَى (1) وَاللَّيْلِ إِذَا سَجَى)) [الضحى:1-2]، ((وَالتِّينِ وَالزَّيْتُونِ)) إلخ.
وفي بعض ما تلونا دعوة إلى النظر في مشاهد هذا الكون، وصيحات تنبه الغافلين، وتوقظ النائمين، استيقظوا، انظروا، تلفتوا، تفكروا، تدبروا أنَّ هنالك إلهاً ومُدَبِّرَاً، إنَّ وراء ذلك قدرة عظيمة، ومدبراً حكيماً، فكأنما كانت هذه الآيات في هذا الجزء يد قوية تهز الغافلين، وتوجه أنظارهم وقلوبهم إلى هذه الخلائق العجيبة التي تنادي بما وراءها من التدبير والتقدير.
نعم، مركوز في الفطرة أنَّ المسببات مربوطة بأسبابها، وأن الحوادث ناتجة عن فاعلها، ومن هنا قال تعالى: ((أَفَرَأَيْتُم مَّا تُمْنُونَ (58) أَأَنتُمْ تَخْلُقُونَهُ أَمْ نَحْنُ الْخَالِقُونَ)) [الواقعة:58-59]، ((أَفَرَأَيْتُم مَّا تَحْرُثُونَ (63) أَأَنتُمْ تَزْرَعُونَهُ أَمْ نَحْنُ الزَّارِعُونَ)) [الواقعة:63-64]، ((أَفَرَأَيْتُمُ الْمَاء الَّذِي تَشْرَبُونَ (68) أَأَنتُمْ أَنزَلْتُمُوهُ مِنَ الْمُزْنِ أَمْ نَحْنُ الْمُنْزِلُونَ)) [الواقعة:68-69].
أمَّا وجود الأشياء من غير موجد ألبتة فذلك مرفوض عند العقل، ولا تقبله الفطرة، وعلى هذا أهل الملل بأسرها، وإنما اختلفوا في الذي ترتب عليه الوجود.
فمنهم من قال: طبيعة، ومنهم من قال: عقل، ومنهم من قال: إنه نجم، ومنهم من قال: إنه علة، ومنهم من يقول: إنه فاعل مختار.
أما القائلون بأن العالم قديم لا أول لوجوده فقد انقرضوا ولا وجود لهم، وقد زَيَّفَ فكرتَهُم هذه علمياً علماءُ المادة في هذا القرن، وقولنا: علمياً جَرْيَاً منَّا على اصطلاحٍ جديدٍ عَمَّ البلادَ العربية بعد البلاد الغربية، ولا يقال علمياً في هذا الاصطلاح إلاَّ ما دخل تحت الحس والتجربة.
نعم، هذا الخلق العجيب، والترتيب البديع، والتناسق المحكم، والقانون الدقيق، يدل على أن وراءه قادراً عظيماً، وصانعاً حكيماً، وعليماً خبيراً، لا تخفى عليه خافية.
لنصغ إلى هذه الآيات في تأمل: ((قُلِ الْحَمْدُ لِلَّهِ وَسَلامٌ عَلَى عِبَادِهِ الَّذِينَ اصْطَفَى آللَّهُ خَيْرٌ أَمَّا يُشْرِكُونَ (59) أَمَّنْ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ وَأَنزَلَ لَكُم مِّنَ السَّمَاء مَاء فَأَنبَتْنَا بِهِ حَدَائِقَ ذَاتَ بَهْجَةٍ مَّا كَانَ لَكُمْ أَن تُنبِتُوا شَجَرَهَا أَإِلَهٌ مَّعَ اللَّهِ بَلْ هُمْ قَوْمٌ يَعْدِلُونَ (60) أَمَّن جَعَلَ الأَرْضَ قَرَارًا وَجَعَلَ خِلالَهَا أَنْهَارًا وَجَعَلَ لَهَا رَوَاسِيَ وَجَعَلَ بَيْنَ الْبَحْرَيْنِ حَاجِزًا أَإِلَهٌ مَّعَ اللَّهِ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لا يَعْلَمُونَ (61) أَمَّن يُجِيبُ الْمُضْطَرَّ إِذَا دَعَاهُ وَيَكْشِفُ السُّوءَ وَيَجْعَلُكُمْ خُلَفَاء الأَرْضِ أَإِلَهٌ مَّعَ اللَّهِ قَلِيلا مَّا تَذَكَّرُونَ (62) أَمَّن يَهْدِيكُمْ فِي ظُلُمَاتِ الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَمَن يُرْسِلُ الرِّيَاحَ بُشْرًا بَيْنَ يَدَيْ رَحْمَتِهِ أَإِلَهٌ مَّعَ اللَّهِ تَعَالَى اللَّهُ عَمَّا يُشْرِكُونَ (63) أَمَّن يَبْدَأُ الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ وَمَن يَرْزُقُكُم مِّنَ السَّمَاء وَالأَرْضِ أَإِلَهٌ مَّعَ اللَّهِ قُلْ هَاتُوا بُرْهَانَكُمْ إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ)) [النمل:59-64]، فأي برهان أصدع من هذا البرهان؟!، وأي حجة أبلغ من هذه الحجة؟!، وإذا لم يخضع العقل لهذه الحجة، ويذعن لهذا البرهان، فإنه لا يَخضع لبرهان، ولا يُذْعِنُ لحجة ((وَمَن لَّمْ يَجْعَلِ اللَّهُ لَهُ نُورًا فَمَا لَهُ مِن نُّورٍ)) [النور: 40].
[الإيمان برسول الله محمد صلى الله عليه وآله وسلم]
ادَّعَى مُحَمَّدٌ صلى الله عليه وآله وسلم النبوة، وأنه رسول من عند الله تعالى، وجاء بالقرآن شاهداً على دعواه، ومؤيداً لنبوته قال تعالى: ((وَإِن كُنتُمْ فِي رَيْبٍ مِّمَّا نَزَّلْنَا عَلَى عَبْدِنَا فَأْتُواْ بِسُورَةٍ مِّن مِّثْلِهِ وَادْعُواْ شُهَدَاءكُم مِّن دُونِ اللّهِ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ)) [البقرة: 23]، فأعرض المكذبون عن هذا المطلب، وعدلوا إلى الحرب، فعدولهم إلى الحرب دليل عجزهم عن الإتيان بسورة من مثله.
نعم، إلى الآن لم يأت أحد بسورة من مثله، وقد مضى من ذلك الحين إلى الآن أكثر من أربعة عشر قرناً، ولم يظهر شيء من المعارضة، مع بقاء التحدي ووجود المكذبين، فلو كان في مقدور البشر ذلك لحصل في هذه المدة المديدة.
هذا وفي كتاب الله تعالى بيان واضح على صدق الرسول صلى الله عليه وآله وسلم، وأنه من عند الله تعالى، من ذلك ما ذكره الله تعالى مما لا يمكن لبشر في ذلك الوقت الاطلاع عليه ومعرفته، وذلك كتحدثه عن أسرار البحار التي لم تعرف إلاَّ في عصر الغواصات الحديثة قال تعالى: ((أَوْ كَظُلُمَاتٍ فِي بَحْرٍ لُّجِّيٍّ يَغْشَاهُ مَوْجٌ مِّن فَوْقِهِ مَوْجٌ مِّن فَوْقِهِ سَحَابٌ)) [النور:40]، فإنَّه لَم يُكتشفُ وجود موج تحت الموج السطحي إلاَّ في هذا القَرْنِ، في حين أنَّ القرآن قد تحدث عنه قبل أربعة عشر قرناً، فهذا دليل على أن القرآن من عند الله تعالى، إذ أنَّ محمداً صلى الله عليه وآله وسلم لم يكن من علماء البحار والمحيطات، ولو فرضنا أنه منهم، لما تأتت له معرفة ذلك في ذلك العصر البدائي، لعدم وسائل المعرفة.
فحين جاء بذلك السر وتلك المعارف، ثم صدقها الواقع، علمنا أنه من عند الله تعالى، وفي هذا آية عظيمة لأهل هذا الزمان الذين قلت معرفتهم لأسرار البلاغة المودعة في آيات القرآن.
ومن أسرار البحار التي تحدث عنها القرآن ولَم تعرف بالفعل إلا في هذا القرن، ما جاء في سورة الرحمن قال تعالى: ((مَرَجَ الْبَحْرَيْنِ يَلْتَقِيَانِ (19) بَيْنَهُمَا بَرْزَخٌ لَّا يَبْغِيَانِ (20) فَبِأَيِّ آلاء رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ (21) يَخْرُجُ مِنْهُمَا اللُّؤْلُؤُ وَالْمَرْجَانُ (22) فَبِأَيِّ آلاء رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ)) [الرحمن:19-23]، فقد اكتشف البحارة الغربيون في أوائل هذا القرن أثناء وجودهم في باب المندب والبحر الأحمر أمامهم والمحيط الهندي خلفهم أنَّ لكل من البحرين صفةً ومميزاتٍ تخصه في الملوحة والحيوانات والنباتات إلخ، مع اتصال المائين، وقد كان بعض المفسرين من قبل يفسرون ذلك بالماء العذب والمالح، غير أنَّه يشكل عليهم أنه لا يخرج اللؤلؤ والمرجان من العذب، وأن البرزخ لا يبقى كثيراً ثم يختلط الماءان، والتفسير بما ثبت صحته فعلاً وثبت وجوده حقيقة أولى مع بقاء التفسير على الظاهر، بينما يحتاج الأولون في تفسيرهم إلى التأويل في قوله تعالى: ((مِنْهُمَا))، إذ لا يخرج اللؤلؤ والمرجان من العذب.
هذا وقد تابع علماء البحار البحث عن خصائص البحار فوجدوا لكلِّ بَحْرٍ شخصيةً تُمَيِّزُهُ عن لصيقه، وهذه آية أخرى تدل على صدق النبي محمدٍ صلى الله عليه وآله وسلم، وأنَّ القرآن من عند الله تعالى، وصدق الله سبحانه وتعالى: ((سَنُرِيهِمْ آيَاتِنَا فِي الآفَاقِ وَفِي أَنفُسِهِمْ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُ الْحَقُّ أَوَلَمْ يَكْفِ بِرَبِّكَ أَنَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ)) [فصلت: 53]، وقد وضع كتاب كبير في هذا الموضوع إسمه الإكتشافات العصرية لِمَا أَخبر به سيِّدُ البرية، مؤلفه حسيني من الجزائر فيه أكثر من مائة موضوع ([4]).
_________________
([4]) ـ هذا ومن الاكتشافات العصرية المهمة الجديرة بالاهتمام، والتي قد ذكرها القرآن الكريم قبل أربعة عشر قرناً بدقة متناهية مسألة أطوار خلق الجنين، التي وردت في قوله تعالى {وَلَقَدْ خَلَقْنَا الإِنسَانَ مِن سُلالَةٍ مِّن طِينٍ (12) ثُمَّ جَعَلْنَاهُ نُطْفَةً فِي قَرَارٍ مَّكِينٍ (13) ثُمَّ خَلَقْنَا النُّطْفَةَ عَلَقَةً فَخَلَقْنَا الْعَلَقَةَ مُضْغَةً فَخَلَقْنَا الْمُضْغَةَ عِظَامًا فَكَسَوْنَا الْعِظَامَ لَحْمًا ثُمَّ أَنشَأْنَاهُ خَلْقًا آخَرَ فَتَبَارَكَ اللَّهُ أَحْسَنُ الْخَالِقِينَ} [المؤمنون:12-14]، فإنَّ هذه الآية العظيمة من آيات الإعجاز العلمي في القرآن الكريم من الدلائل القاطعة، والبراهين الساطعة الدَّالة على صدق نبوة رسول الله محمد بن عبدالله صلى الله عليه وآله وسلم، فإنَّ أطوار خلق الجنين لَم تكتشف إلاَّ في القرن العشرين بعد وجود الأشعات والمختبرات والمجاهر وغيرها من الأجهزة الدقيقة؛ فالمتأمل في هذه الآية العظيمة يجدها قد عبَّرت بكلِّ دقة عن التطورات التي تقع في مختلف مراحل التخلق، وليس ذلك فحسب بل إنَّها تصف هذه الأحداث حسب تسلسلها الزمني، وتصف التغيرات التي تطرأ على هيئة الجنين مع التخلق في كل مرحلة وصفاً دقيقاً جداً. أليس هذا أيُّها العقلاء دليلاً واضحاً لا شكَّ فيه ولا لبس أنَّ القرآن الكريم كتابُ صدقٍ من عند الله تعالى؟! أو ليس هذا الاكتشاف المذهل يشهد بأنَّ القرآن الكريم وحي من الله سبحانه وتعالى إلى رسوله الكريم صلى الله عليه وآله وسلم، فسبحان الله تعالى القائل {وَقُلِ الْحَمْدُ لِلَّهِ سَيُرِيكُمْ آيَاتِهِ فَتَعْرِفُونَهَا} [النمل: 93].
[الإيمان برسل الله وملائكته وكتبه]
من الفرائض الحتمية الإيمان برسل الله صلوات الله وسلامه عليهم أجمعين، وقد جاء ذكر بعضهم في القرآن، وبعضهم لم يذكروا: ((مِنْهُم مَّن قَصَصْنَا عَلَيْكَ وَمِنْهُم مَّن لَّمْ نَقْصُصْ عَلَيْكَ)) [غافر:78]، فالواجب الإيمان بهم جميعاً، من ذُكِرَ وَمَنْ لَمْ يُذْكَرْ صلوات الله عليهم أجمعين، أولهم آدم أبو البشر صلوات الله عليه، وآخرهم محمد صلى الله عليه وآله وسلم.
ويجب الإيمان بما أنزل على كل منهم على الإجمال، وإن لم نعلم تفصيل ذلك قال تعالى: ((قُولُواْ آمَنَّا بِاللّهِ وَمَا أُنزِلَ إِلَيْنَا وَمَا أُنزِلَ إِلَى إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ وَالأسْبَاطِ وَمَا أُوتِيَ مُوسَى وَعِيسَى وَمَا أُوتِيَ النَّبِيُّونَ مِن رَّبِّهِمْ لاَ نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِّنْهُمْ وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ)) [البقرة:136].
وكذلك يجب الإيمان بملائكة الله، قال تعالى: ((آمَنَ الرَّسُولُ بِمَا أُنزِلَ إِلَيْهِ مِن رَّبِّهِ وَالْمُؤْمِنُونَ كُلٌّ آمَنَ بِاللّهِ وَمَلآئِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ لاَ نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِّن رُّسُلِهِ)) [البقرة:285]، وقد أخبرنا الله تعالى عنهم جملة فقال تعالى: ((بَلْ عِبَادٌ مُّكْرَمُونَ (26) لا يَسْبِقُونَهُ بِالْقَوْلِ وَهُم بِأَمْرِهِ يَعْمَلُونَ)) [الأنبياء:27]، وقال تعالى: ((يُسَبِّحُونَ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ لا يَفْتُرُونَ)) [الأنبياء: 20]، وقال تعالى: ((لاَ يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِهِ وَيُسَبِّحُونَهُ وَلَهُ يَسْجُدُونَ)) [الأعراف:206]، وذكر سبحانه منهم جبريل وميكال، وقال: ((وَإِنَّ عَلَيْكُمْ لَحَافِظِينَ)) [الإنفطار: 10]، وقال تعالى في جبريل: ((نَزَلَ بِهِ الرُّوحُ الأَمِينُ)) [الشعراء: 193]، وأخبرنا سبحانه أنَّ منهم خزنة لجهنم، ومنهم حملةَ العرش، ومنهم الموكل بانتزاع الأرواح، ((حَتَّىَ إِذَا جَاء أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ تَوَفَّتْهُ رُسُلُنَا)) [الأنعام: 61]، وقال سبحانه: ((الْحَمْدُ لِلَّهِ فَاطِرِ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ جَاعِلِ الْمَلائِكَةِ رُسُلا أُولِي أَجْنِحَةٍ مَّثْنَى وَثُلاثَ وَرُبَاعَ يَزِيدُ فِي الْخَلْقِ مَا يَشَاء)) [فاطر: 1].
[الإيمان باليوم الآخر]
هو من أركان الإيمان الذي إذا لَم يقم إنهار بناؤه، ومعنى الإيمان باليوم الآخر: التصديق بالبعث بعد الموت، بعث الروح والجسد، ثم الحساب، فمن كان شقياً فإلى النار خالداً فيها أبداً، ومن سعد فإلي الجنة خالداً فيها أبداً.
[الأجسام والأعراض]
الجسم: هو أعرف من أن يُعَرَّفَ، كالإنسان، والشجر، والحجر، والماء، والهواء.
والْعَرَضُ: هو ما يعرض للجسم من الأشكال والألوان، والإجتماع والإفتراق، وما يعرض له من الحرارة والبرودة، والرطوبة واليبوسة، والحركة والسكون، وخواطر النفس ووساوسها، والهم والغم، والفرح والحزن، والرضا والغضب، والرحمة والشفقة، والشهوة والنفرة، والإرادة والكراهة، والعزم، وكعلم الإنسان وحياته، وقدرته وسمعه، وبصره وجهله وموته وعجزه، وكالحلاوة والمرارة ونحوهما في المطعومات.
فالْعَرَضُ عند المتكلمين: هو من توابع الجسم وصفاته، إذاً فالأعراض هي صفات الأجسام، ولا يمكن أن يوجد العرض بمفرده، بل لا بد من جسم يحل فيه العرض، وكذلك الجسم فإنه لا يصح أن يوجد بمفرده خالياً عن الأعراض، فإذا وجد الجسم فلا بد له من صفات يوجد عليها، كالطول، والقصر، واللون، والحركة، والسكون، والإجتماع، إلخ.
وكذلك القدرة، والعلم، والحياة، والعجز، والإرادة، والعزم، والرضا والغضب، والكراهة والرحمة، والصعود والهبوط والانتقال.
فكل هذه الأعراض المشاهدة تختص بالأجسام، ولا يتصورها العقل إلاَّ في جسم.
إذا عرفت ذلك فاعلم أنَّه لا يعقل جسم إلاَّ في مكان، ويستحيل أن يوجد جسم لا في محل.
ولا خلاف بين المسلمين أن السموات والأرض وما بينهما مُحْدَث، وأنَّ مُحْدِثَ ذلك هو الله سبحانه وتعالى، وأنه موجود عالم، قادر، حي، سميع بصير، عدل حكيم، ليس كمثله شيء.
ثم اختلفوا في تفاصيل بعض تلك الجمليات، ولنذكر هنا مذهبنا نحن الزيدية.
[تنزيه الباري عن صفات الأجسام على الجملة]
فمذهب الزيدية على العموم: تَنْزيه الله سبحانه وتعالى عن كل خصائص الأجسام، وصفاتها من دون استثناء.
فلا يجوز أن نصف الله سبحانه وتعالى بأيِّ صفة من صفات الأجسام المحدثة وذلك لقوله تعالى: ((لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْء))، ولقوله تعالى: ((وَلَمْ يَكُن لَّهُ كُفُوًا أَحَدٌ))، ومن هنا لَمَّا أثبت المشركون لله صفة من صفات المخلوقين رد عليهم أشد الرد وأعظمه في سورة طه فقال تعالى: ((وَقَالُوا اتَّخَذَ الرَّحْمَنُ وَلَدًا (88) لَقَدْ جِئْتُمْ شَيْئًا إِدًّا (89) تَكَادُ السَّمَاوَاتُ يَتَفَطَّرْنَ مِنْهُ وَتَنشَقُّ الأَرْضُ وَتَخِرُّ الْجِبَالُ هَدًّا (90) أَن دَعَوْا لِلرَّحْمَنِ وَلَدًا (91) وَمَا يَنبَغِي لِلرَّحْمَنِ أَن يَتَّخِذَ وَلَدًا)) [مريم: 92]، وذلك لأن نسبة الولد إليه تعالى حطٌّ له من منزلة الألهية، وحين سأل بنو اسرائيل رؤية الله أخذهم الله بالصاعقة فأماتهم بظلمهم، قال الله سبحانه حاكياً هذه القصة: ((يَسْأَلُكَ أَهْلُ الْكِتَابِ أَن تُنَزِّلَ عَلَيْهِمْ كِتَابًا مِّنَ السَّمَاء فَقَدْ سَأَلُواْ مُوسَى أَكْبَرَ مِن ذَلِكَ فَقَالُواْ أَرِنَا اللّهِ جَهْرَةً فَأَخَذَتْهُمُ الصَّاعِقَةُ بِظُلْمِهِمْ)) [النساء:135]، فلما كان سؤال الرؤية حطاً لله جل جلاله من منزلة الربوبية إلى منزلة المرئيات التي هي مربوبة ومخلوقة استحقوا أن يصيبهم الله بالصاعقة، كما حكا الله ذلك.
ومن الأدلة على ذلك قوله تعالى: ((لاَّ تُدْرِكُهُ الأَبْصَارُ وَهُوَ يُدْرِكُ الأَبْصَارَ وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ))، فمن هنا نزهت الزيدية الباري جل وعلا مِنْ كُلِّ عَرَضٍ.
[انتفاء الجسمية عن الله تعالى]
الذي يدل على انتفاء الجسمية عن الله تعالى على الجملة قوله تعالى: ((لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْء))، ((وَلَمْ يَكُن لَّهُ كُفُوًا أَحَدٌ))، فلو كان تعالى جسماً لكان كلُّ جسم مُمَاثلاً لله تعالى، ومما يؤكد ذلك من الوجهة النظرية أنه لا خلاف بين المسلمين أنَّ الله سبحانه وتعالى كان ولا شيء، وانَّه سبحانه هو الذي خلق السموات والأرض وما بينهما، وأنه سبحانه خالق العرش وخالق الأمكنة والأزمنة، كان الله ولا مكان ولا زمان ولا عرش ولا كرسي، فهو غني عن المكان، فلو كان جسماً تعالى عن ذلك لكان محتاجاً في الأزل إلى مكان، ولا يتصور جسم لا في مكان، لأن التمكن صفة ذاتية للجسم.
بيان ذلك، أنَّ الجسم هو ذو الأبعاد التي هي الطول والعرض والعمق، فما بين طرفي كل هو بعد، فمن بداية الطول مثلاً إلى نهايته هو مكان الطول، فقد دخل المكان في تحقق ماهية الجسم، فثبت بهذا الدليل القاطع، أن الله تعالى ليس بذي مكان، ويترتب على ذلك أنه تعالى ليس بجسم ولا عرض لإستحالة وجود جسم لا في مكان ضرورة، والعرض من توابع الجسم.
فإذا ثبت أن الله سبحانه ليس بجسم بالأدلة النقلية والنظرية الصحيحة انتفى عنه سبحانه وتعالى جميع صفات الأجسام.
فلا يجوز عليه سبحانه وتعالى الصعود والهبوط، والذهاب والمجيء؛ لأن ذلك صفات للأجسام، وعوارض لها، وكذلك الحركة والسكون لأنهما من صفات الأجسام وخصائصها، وكذا سائر صفات الأجسام وأعراضها، نحو التجزؤ والإنقسام، والكلية والبعضية، والألوان، والفرح والضجر، والهم والغضب والرضا، والعزم، والإرادة والكراهة، والغضب، والرقة والسهو والغفلة.
وبهذا الدليل يبطل قول من أثبت لله تعالى وجهاً، وعينين، ويدين، وأصابع، وجنباً، وقدمين وإلى آخره على الحقيقة.
[الاشتراك في الاسم لا يوجب الاشتراك في المعنى]
وهناك صفات أُطلقت على الله سبحانه وتعالى، وأطلقت أيضاً على المخلوقين، والإشتراك في الاسم لا يوجب الاشتراك في المعنى، فمعناها: حينما تطلق على الإنسان غير معناها بالنسبة إلى الله تعالى، وسنفصلها كلمة كلمة:
صفة الوجود بالنسبة للإنسان ونحوه من المحدثات معناها: الوجود المحدود بأن له ابتداءاً وانتهاءاً، قال تعالى: ((هَلْ أَتَى عَلَى الإِنسَانِ حِينٌ مِّنَ الدَّهْرِ لَمْ يَكُن شَيْئًا مَّذْكُورًا)) [الإنسان: 1]، وفي التحقيق الإنسان ونحوه موجود على صيغة المفعول وُجِدَ بقدرة قادر.
ومعناها في الخالق سبحانه مغائر لمعناها في المخلوق: فلا أولية لوجوده ولا آخرية ((هُوَ الأَوَّلُ وَالآخِرُ وَالظَّاهِرُ وَالْبَاطِنُ وَهُوَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ)) [الحديد:3]، وهو سبحانه الْمُوجِدُ لكلِّ الموجودات على صيغة الفاعل، وقد اشتهر عند المتكلمين هذه العبارة: واجب الوجود، وذلك للتفرقة بين الخالق والمخلوق، فقالوا في المخلوقات إنَّها: جائزة الوجود، وقالوا أيضاً في المستحيل وجوده كالجمع بين النقيضين: مستحيل الوجود.
[مفارقات قرآنية]
الإنسان خلق ضعيفا....والله قوي عزيز
والإنسان خلق فقيرا....والله غني حميد
والإنسان والد ومولود....والله لم يلد ولم يولد
والإنسان محل النسيان....والله لا يضل ولا ينسى
والإنسان محل النقائص....والله هو الملك القدوس ذو الجلال والاكرام
والإنسان محكوم عليه بالموت....والله حي لا يموت
والإنسان تأخذه السنة والنوم....والله لا تأخذه سنة ولا نوم
والإنسان مملوك....والله المالك للكون وما فيه
وغير ذلك كثير في الكتاب الكريم، فلا مشاركة، ولا مشابهة بين الله وخلقه في شيء، وما وقع من ذلك نحو موجود فإنما هو من قبيل التسمية لا من حيث الحقيقة، وكذلك قارد، وعالم، وحي.
[عالم وقادر وحي وسميع وبصير]
أُطلقت هذه الأسماء على الخالق جل وعلا وعلى المخلوق الضعيف، فالمماثلة كذلك إنما هي من حيث التسمية لا الحقيقة والمعنى، كيف يتشابه المعنى في الخالق والمخلوق، والله جل جلاله يقول: ((وَلِلّهِ الْمَثَلُ الأَعْلَىَ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ)) [النحل: 60]، ((لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ البَصِيرُ)).
نعم، إذا اطلقت لفظة عالم وقصد بها الإنسان كان معناها غير المعنى إذا أُطلقت وقصد بها الخالق تعالى، وذلك أن العلم بالنسبة للإنسان: عَرَضٌ وَصِفَةٌ غَيْرُ الإنسان، والإنسان شيء آخر غير تلك الصفة العلم، وبالضرورة فإنَّ الصفةَ غيرُ الموصوف، والدليل على ذلك: أنَّ الإنسانَ عندما يَخرج من بطن أمه يكون صفراً من المعلومات الضرورية والاكتسابية، قال تعالى: ((وَاللّهُ أَخْرَجَكُم مِّن بُطُونِ أُمَّهَاتِكُمْ لاَ تَعْلَمُونَ شَيْئًا)) [النحل: 78]، ثُمَّ بعد ذلك يتصف بالعلم.
[علم الإنسان]
وحاصل ذلك أن العلم عند الإنسان: عَرَضٌ، وأنَّه غيرُ الإنسان، إذاً فالإنسان عالِمٌ بعلمٍ حاصل له بعد أن لم يكن، ثم إنَّ علم الإنسان ضرورياً كان أم استدلالياً يحصل له عن طريقٍ هي كالآلة لتحصيله كالخبرة والتجربة والنظر والاستدلال..إلخ.
نعم، وعلم الإنسان لا يتسع لأكثر من شيء واحد يجال فيه النظر ويسرح فيه التفكير.
[علم الله سبحانه]
وعلم الله سبحانه: يجب أن يكون بخلاف ذلك قضاءاً بنفي المماثلة المعلوم من قوله تعالى: ((لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ البَصِيرُ))، ((وَلَمْ يَكُن لَّهُ كُفُوًا أَحَدٌ)).
فعلم الله سبحانه ليس بعرض، وليس شيئاً آخر غير الله سبحانه، وهذا هو معنى قول أئمتنا عليهم السلام: إنَّ علم الله سبحانه هو ذاته، وليس لله سبحانه آلة أو كالآلة من خلالها يحصل له العلم، فلا نظر، ولا استدلال، ولا خبرة أو تجربة إلخ، تعالى الله عن ذلك علواً كبيراً.
وعلم الله سبحانه شاملٌ لكلِّ شيء، فلا تخفى عليه خافية في السموات ولا في الأرض، ((وَعِندَهُ مَفَاتِحُ الْغَيْبِ لاَ يَعْلَمُهَا إِلاَّ هُوَ وَيَعْلَمُ مَا فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَمَا تَسْقُطُ مِن وَرَقَةٍ إِلاَّ يَعْلَمُهَا وَلاَ حَبَّةٍ فِي ظُلُمَاتِ الأَرْضِ وَلاَ رَطْبٍ وَلاَ يَابِسٍ إِلاَّ فِي كِتَابٍ مُّبِينٍ)) [الأنعام: 59].
نعم، النظر والتفكير من جملة الأعراض المختصة بالأجسام، فلا يجوزان على الله تعالى، وأيضاً النظر والتفكير يحتاج إليهما الجاهل بالأمر ليتوصل عن طريقهما لمعرفته وللعلم به، والله سبحانه وتعالى عالِمُ الغيب والشهادة، فلا مشابهة بين الخالق والمخلوق.
[القدرة]
القدرة في الإنسان: عَرَضٌ هي غيره، فهو قادر بهذه القدرة التي هي عرض، وكما قلنا وشرحنا في مسألة العلم نقول هنا، فقدرة الله هي ذاته، فهو سبحانه قادر لا بقدرة لقوله تعالى: ((لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْء)).
[الحياة]
الحياة في الإنسان وسائر الحيوان: عرض، وصفة هي غير الإنسان، إذا ذهبت هذه الصفة والعرض من الحيوان صار كالجماد، فهو حي بهذه الحياة التي هي عرض غيره، والقول هنا كالقول في العلم سواءاً سواءاً.
فهو سبحانه حي لا بحياة، ومعنى هذا أن الله تعالى يوصف بأنه حي ويسمى بذلك، ولكن ليس له تعالى صفة يقال لها الحياة كما في الإنسان الضعيف، فإنه فيه أي ـ في الإنسان ـ صفة زائدة على ذاته، إذا ذهبت منه هذه الصفة (الحياة) صار جماداً.
إذاً فالإنسان شيء والحياة شيء آخر، الإنسان: موصوف، والحياة: صفة، والله سبحانه وتعالى ليس كذلك، فليس له حياة هي شيء آخر غيره، كما في الحيوان، وهذا معنى قول أئمتنا عليهم السلام: إن صفاته تعالى ذاته كما قدمنا.
[سميع وبصير في حق المخلوق]
سميع بالنسبة للإنسان: هو الْمُدْرِكُ للمسوعات بمعنى محله الصماخ.
وبصير: هو المدرك للمبصرات بمعنى محله الحدق.
[سميع وبصير في حق الخالق]
وإذا أريد بهما الخالق جل وعلى فهما بمعنى عالم المسموعات وعالم المبصرات، فلا يجوز أن تثبت لله تعالى عرضاً يحل في الحدق، ولا عرضاً يحل في الصماخ تعالى الله عن الأعراض والآلآت، وعن مشابهة المخلوق الضعيف.
وما قلنا هنا في تفسير هذه الصفات هو اللائق بجلال الله وعظمته وقدسه عن مشابهة المخلوقين، فلا يجوز أن نشبه الله تعالى بالمخلوقين في شيء من الصفات لقوله تعالى: ((لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ))، ((وَلَمْ يَكُن لَّهُ كُفُوًا أَحَدٌ)).
[معنى الرحمة في حق المخلوق]
الرحمة بمعناها اللغوي: عرض يجده الحيوان في قلبه كما يجده الوالد لولده ونحوه، وهي بهذا المعنى من خصائص المخلوقات.
فإذا أطلقت على الخالق جل وعلا كان المعنى غير الذي أطلقت عليه في المخلوقات قضاءاً بنفي المماثلة المعلوم من قوله تعالى: ((لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ))، ((وَلَمْ يَكُن لَّهُ كُفُوًا أَحَدٌ)).
[معنى الرحمة في الخالق]
فيكون معناها إذا أطلقت على الله تعالى أنه ذو الإنعام بجلائل النعم ودقائقها، فهي من صفات الفعل التي أطلقت باعتبار أفعال الله تعالى، فالرحمن الرحيم ذو الرحمة صفات لله تعالى باعتبار أنه أنعم على خلقه بأصول النعم وفروعها، وقد سمى الله تعالى بعض تلك النعم رحمة قال تعالى: ((قُلْ بِفَضْلِ اللّهِ وَبِرَحْمَتِهِ فَبِذَلِكَ فَلْيَفْرَحُواْ هُوَ خَيْرٌ مِّمَّا يَجْمَعُونَ)) [يونس: 58]، وقال تعالى: ((وَهُوَ الَّذِي أَرْسَلَ الرِّيَاحَ بُشْرًا بَيْنَ يَدَيْ رَحْمَتِهِ)) [الفرقان: 48].
فرحمة الله تعالى هي أفعاله التي أنعم بها على خلقه كما وصف جل وعلا بخالق ورازق لفعله الخلق والرزق.
قال أمير المؤمنين عليه السلام فيما رواه عنه السيد حميدان: "يقول ولا يلفظ، ويريد ولا يضمر، ويبغض ويغضب من غير مشقة".
[الكلام في حقِّ المخلوق والخالق]
الكلام إذا نسب إلى المخلوقين من البشر، مباين للكلام الصادر عن ذي العزة والجلال، إذ لا مشابهة بين الخالق والمخلوق، بدليل: ((لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْء))، ((وَلَمْ يَكُن لَّهُ كُفُوًا أَحَدٌ)).
فكلام الله سبحانه بغير آله فلا حلق، ولا لسان، ولا حنك، ولا خيشوم، ولا شفة تعالى سبحانه عن ذلك، إذ لا يحتاج إلى هذا إلاَّ المخلوق الضعيف.
إذا عرفت ذلك فقد يكون كلامه كما كلم موسى من الشجرة بخلقه فيها، كخلقه للرعد والمطر والرياح، وقد يكون كلامه بأن يلقيه في قلب مَلَكٍ، فيلقيه إلى مَلَكٍ تحته إلى آخر ما جاءت به الرواية عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم.
أما التلفظ عن آلة كما في المخلوقين، فذلك مستحيل في الخالق تعالى وتشبيه له جل وعلا بخلقه.
[الوجه]
نعم، قد جاء في القرآن ألفاظ توهم التشبيه، ونحن ذاكروها مع ذكر تفسيرها عند علماء أهل البيت عليهم السلام فمن ذلك:
الوجه في قوله تعالى: ((كُلُّ مَنْ عَلَيْهَا فَانٍ (26) وَيَبْقَى وَجْهُ رَبِّكَ ذُو الْجَلالِ وَالإِكْرَامِ)) [الرحمن: 27].
فنقول: قد ثبت بالدلائل العقلية، والبراهين القرآنية أن الله تعالى ليس بجسم، وهذه الآية وما شاكلها من الآيات التي يوهم ظاهرها التجسيم، فإذا حملناها على ظواهرها كما يقوله المشبهة: اصطدمنا بالآيات النافية للتشبيه والمماثلة كقوله تعالى: ((لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْء))، ((وَلَمْ يَكُن لَّهُ كُفُوًا أَحَدٌ))، وصدمتنا أيضاً حجة العقل التي تقول: لو كان الخالق تعالى جسماً لكان مُحْدَثاً كسائر الأجسام.
ولا يجوز أن تتصادم آيات القرآن وتتخالف وتتناقض بلا خلاف بين المسلمين لقوله تعالى: ((وَإِنَّهُ لَكِتَابٌ عَزِيزٌ (41) لا يَأْتِيهِ الْبَاطِلُ مِن بَيْنِ يَدَيْهِ وَلا مِنْ خَلْفِهِ تَنْزِيلٌ مِّنْ حَكِيمٍ حَمِيدٍ)) [فصلت: 42] ونحوها.
فمن هنا عرفنا أن هذه الآيات الكريمة التي ظاهرها يوهم التناقض غير متناقضة وأن معانيها غير متخالفة.
نعم، إذا استقرينا كلام علماء المسلمين حول هذه الآيات وجدنا كلامهم متحداً حول قوله تعالى: ((لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْء))، فلم يفسرها أحد فيما نعلم بخلاف ظاهرها، فقد أجمع المسلمون على أن المقصود بها ظاهرها، وأن لا تأويل فيها.
ثم وجدناهم اختلفوا في تفسير آيات التشبيه كقوله تعالى: ((وَيَبْقَى وَجْهُ رَبِّكَ ذُو الْجَلالِ وَالإِكْرَامِ))، فمنهم من أبقاه على ظاهره، وهم الظاهرية، ومنهم من حملها على معانٍ أُخر غير المعنى المتبادر عند الإطلاق، وهم الزيدية والمعتزلة وغيرهم.
[المحكم والمتشابه وكيفة رد المتشابه إلى المحكم]
والله سبحانه وتعالى قد أخبرنا جملة أن في القرآن:
مُحْكَمَاً، وأن هذا المحكم: هو أم الكتاب، وأن فيه متشابهاً.
ثم أشار سبحانه وتعالى عند ذكر المتشابه إلى أنه سيقع الاختلاف في تأويله، وهذه الآية في المحكم والمتشابه، والإشارة إلى ما قلناه قال تعالى في أوائل سورة آل عمران: ((هُوَ الَّذِيَ أَنزَلَ عَلَيْكَ الْكِتَابَ مِنْهُ آيَاتٌ مُّحْكَمَاتٌ هُنَّ أُمُّ الْكِتَابِ وَأُخَرُ مُتَشَابِهَاتٌ فَأَمَّا الَّذِينَ في قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ فَيَتَّبِعُونَ مَا تَشَابَهَ مِنْهُ ابْتِغَاء الْفِتْنَةِ وَابْتِغَاء تَأْوِيلِهِ وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلاَّ اللّهُ وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ يَقُولُونَ آمَنَّا بِهِ كُلٌّ مِّنْ عِندِ رَبِّنَا وَمَا يَذَّكَّرُ إِلاَّ أُوْلُواْ الألْبَابِ)) [آل عمران: 7].
إذاً فالواجب أن نرد معاني تلك الآيات التي وقع فيها النزاع إلى معاني تلك الآيات التي أجمعوا على معانيها، ولم يختلفوا في تفسيرها، لأنها محكمات يرد إليها المتشابه، والدليل على أنها محكمات: أن الأمة لم تختلف في تفسيرها، ولم تتنازع في تأويلها، فيرد ما اختلفوا فيه إلى ما أجمعوا عليه، وهذه هي الطريقة التي جرى عليها أئمتنا عليهم السلام ومن وافقهم، وهي طريقة عقلية سليمة يطمئن إليها العقل، وترتظيها الفطرة، مع العلم أنهم لم يخرجوا في تفسيرهم لهذه الآيات المتشابهة عن حدود اللغة العربية، ولم يتجاوزا به استعمالات العرب، بل قد تكون تلك التفاسير أدخل في البلاغة وأعرق في الفصاحة، وذلك أنهم يحملون تلك الألفاظ على معانيها المجازية، والمجاز أبلغ من الحقيقة على ما ذكره علماء البيان، ويشهد له الذوق السليم.
فالوجه في استعمال العرب: يطلق على نفس الشيء كما ذكره في القاموس، فأئمتنا عليهم السلام وموافقوهم فسروا الوجه في قوله تعالى: ((وَيَبْقَى وَجْهُ رَبِّكَ ذُو الْجَلالِ وَالإِكْرَامِ))، بأن المعنى: ويبقى ربك، فلفظ الوجه يطلق ويراد به معنى المضاف إليه كما ذكره في القاموس، ومما يشهد لذلك من كلام العرب قولهم: هذا هو وجه الرأي، ووجه الصواب، والمعنى: هذا هو الرأي والصواب.
وأنت إذا أردت أن تفسر الآية على ما يريد أهل الظاهر حصل فساد في المعنى، إذ يكون المعنى: أن كل شيء هالك سوى وجه الله، أما ما عدى الوجه فإنه هالك، فلا بد لهؤلاء الظاهرية من الرجوع إلى تفسيرنا، من أن كل شيء هالك سوى الله تعالى هو المقصود من الآية.
فإذا كان هذا هو المقصود، فلا يصح التعلق بهذه الآية على إثبات الوجه الحقيقي لله تعالى.
[الأيدي واليدان]
الآيات التي تتعلق بها المشبهة قوله تعالى: ((وَالسَّمَاء بَنَيْنَاهَا بِأَيْدٍ)) [الذاريات:47]، ((لِمَا خَلَقْتُ بِيَدَيَّ)) [ص: 73]، ((بَلْ يَدَاهُ مَبْسُوطَتَانِ يُنفِقُ كَيْفَ يَشَاء)) [المائدة:64]، ((وَالأَرْضُ جَمِيعًا قَبْضَتُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَالسَّماوَاتُ مَطْوِيَّاتٌ بِيَمِينِهِ)) [الزمر:67]، ونحو هذه الآيات، وأحاديث يستدلون بها نحو ما يذكر في تفسير هذه الآية الأخيرة في سورة الزمر، فقد تعلق أهل الظاهر وكثير من المخالفين للزيدية بما ذكرنا وبنحوه، فأثبتوا لله تعالى يدين وأصابع وقبضة.
ونقول لهم: إن كان الأمر كما ذكرتم من أن الواجب حمل القرآن على الظاهر على الإطلاق، فكيف تفسرون قوله تعالى في وصف القرآن: ((لا يَأْتِيهِ الْبَاطِلُ مِن بَيْنِ يَدَيْهِ وَلا مِنْ خَلْفِهِ))، فأين اليدان؟، وفي صفة القرية الْمُهْلَكَةِ في قوله تعالى: ((فَجَعَلْنَاهَا نَكَالاً لِّمَا بَيْنَ يَدَيْهَا وَمَا خَلْفَهَا وَمَوْعِظَةً لِّلْمُتَّقِينَ)) [البقرة: 66]، وقوله تعالى في ذكر العذاب: ((بَيْنَ يَدَيْ عَذَابٍ شَدِيدٍ)) [سبأ: 46]، وقوله تعالى: ((وَمَن يُرْسِلُ الرِّيَاحَ بُشْرًا بَيْنَ يَدَيْ رَحْمَتِهِ أَإِلَهٌ مَّعَ اللَّهِ تَعَالَى اللَّهُ عَمَّا يُشْرِكُونَ)) [النمل: 63]، فأين يدا القرآن، ويدا القرية، ويدا العذاب، ويدا المطر (الرحمة) يا أهل الظاهر؟! أو جدونا يدين اثنتين، ثم ميزوا الشمال من اليمين، وبينوا لنا كذلك الأصابع: الخنصر والبنصر والوسطى والمسبحة والإبهام؟!، فاليدان لا بد أن تكون كذلك ولا مخرج لكم من ذلك.
فإن لم تفعلوا ذلك فقد عطلتم كلام الله تعالى من الصفة التي ثبتت له بنص القرآن، وإنكار شيء من ألفاظ القرآن القطعية كفر، والتفسير عندكم بخلاف الظاهر ضلال وبدعة وتحريف.
هذا ولا سبيل لكم أيها الظاهرية إلى الخروج من هذه المضايق، وكل ما أوردتموه من السؤال والجواب على أئمتنا وموافقيهم سيرد عليكم مثله.
نعم، إنما أوردنا هذه الآيات والإلزامات للظاهرية، لنبطل مذهبهم من أن الواجب حمل الألفاظ الشرعية على ظاهرها مطلقاً، وفي ما ذكرنا إبطال لمذهبهم على الجملة.
قوله تعالى: ((وَقَالَتِ الْيَهُودُ يَدُ اللّهِ مَغْلُولَةٌ غُلَّتْ أَيْدِيهِمْ وَلُعِنُواْ بِمَا قَالُواْ بَلْ يَدَاهُ مَبْسُوطَتَانِ يُنفِقُ كَيْفَ يَشاءُ))، فقد تعلق أهل الظاهر بهذه الآية واثبتوا لله يدين اثنتين، وأئمتنا عليهم السلام وموافقوهم قالوا في تفسير ذلك: إن اليهود عليهم اللعائن وصفوا الله جل جلاله بالبخل وعبروا عن ذلك على طريق الكناية التي هي أبلغ من التصريح بقولهم يد الله مغلولة، ورد الله سبحانه عليهم بطريق الكناية أيضاً بأبلغ من كنايتهم حيث ثنى اليدين.
هذا وغل اليد وبسطها كنايتان عن الإمساك والإنفاق في الاستعمال العربي، وقد جاءت في القرآن قال تعالى: ((وَلاَ تَجْعَلْ يَدَكَ مَغْلُولَةً إِلَى عُنُقِكَ وَلاَ تَبْسُطْهَا كُلَّ الْبَسْطِ فَتَقْعُدَ مَلُومًا مَّحْسُورًا)) [الإسراء: 29]، معنى هذه الآية هو معنى قوله تعالى: ((وَالَّذِينَ إِذَا أَنفَقُوا لَمْ يُسْرِفُوا وَلَمْ يَقْتُرُوا وَكَانَ بَيْنَ ذَلِكَ قَوَامًا)) [الفرقان: 67].
[بحث في الكناية والمجاز]
والكناية كثيرة عند العرب، وفي استعمالها والقرآن نزل على لغتها، ومن كنايات العرب: هو عفيف الإزار، تكني بذلك عن الفرج.
ما وضعت موسه عنده قناعاً، تكني بذلك عن العفيف.
لعق أصبعه، كناية عن الموت.
وكذا أصفرت أنامله بمعنى مات.
زلت نعله كناية عن الخطأ والغلط، وتارة عن اختلال الحال بالفقر.
ويقولون للمقتول: ركب الأشقر، الأشقر الدم.
وللمقيد حمل على الأدهم.
ومن مجازات القرآن قوله تعالى: ((فَلَمَّا جَاءتْهُمْ آيَاتُنَا مُبْصِرَةً)) [النمل:13]، إذ لا بصر للآيات، وقوله تعالى: ((قَدْ جَاءكُم بَصَآئِرُ مِن رَّبِّكُمْ)) [الأنعام:104]، وقوله تعالى: ((أُوْلِي الأَيْدِي وَالأَبْصَارِ)) [ص: 45]، فمدحهم الله تعالى، والمدح لا يتعلق بالجوارح إنما يتعلق بالصفات.
ومن مجازات القرآن قوله تعالى: ((وَكَأَيِّن مِّن قَرْيَةٍ عَتَتْ عَنْ أَمْرِ رَبِّهَا وَرُسُلِهِ فَحَاسَبْنَاهَا حِسَابًا شَدِيدًا وَعَذَّبْنَاهَا عَذَابًا نُّكْرًا)) [الطلاق: 8].
[تتمة للبحث في اليد]
وقالت المشبهة: إن لله تعالى يداً تليق بجلاله، زادوا قولهم تليق بجلاله فراراً من التشبيه، ولا مهرب لهم في ذلك ما داموا واصفين ربهم بحقيقة اليد، والقبضة، والأصابع، وهذا عظم اليد وكبرها لا ينفي التشبيه، فإنهم مهما بالغوا في وصف اليد والأصابع حتى جعلوا السموات على إصبع، والأرضين على إصبع إلخ ما جاءوا به من التفصيل، فإنهم لم يخرجوا من التشبيه والتجسيم، وكبر الأصابع زيادة في تحقيق التجسيم، ومبالغة في التشبيه، تعالى الله عما يقول الجاهلون علواً كبيراً.
والحق الذي عليه علماء الزيدية في قوله تعالى: ((وَالأَرْضُ جَمِيعًا قَبْضَتُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَالسَّماوَاتُ مَطْوِيَّاتٌ بِيَمِينِهِ)) [97الزمر]، أنها تصوير لقدرة الله تعالى العظيمة تقريباً إلى تفهيم البشر بعض عظمة الله وقدرته التي لا تحيط بها فهمهم، وذلك عن طريق الكناية التي هي أبلغ من التصريح، وليس ثمة قبضة، ولا يمين، ولا أصابع، هذا كقولنا: فلان في يد فلان.
أما الأحاديث التي رويت في تفسير قوله تعالى: ((وَالأَرْضُ جَمِيعًا قَبْضَتُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَالسَّماوَاتُ مَطْوِيَّاتٌ بِيَمِينِهِِ))، فيجب أن تفسر بالتفسير الذي فسرت به الآية القرآنية، وإلا وجب طرحها، وذلك لأنها من الأخبار الآحادية، وأخبار الآحاد لا تفيد إلا الظن، والمطلوب فيما نحن فيه هو العلم.
والذي يدل على صحة هذا التفسير هو ما ثبت من أن الله تعالى ليس بجسم كما قدمنا من بيان الدلالة على ذلك عقلاً وسمعاً كقوله تعالى: ((لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْء)) [الشورى:11]، ((وَلَمْ يَكُن لَّهُ كُفُوًا أَحَدٌ))، فحين تعذر المعنى الحقيقي فسرنا ذلك بالمعنى المجازي الذي جاء في غاية الحسن وغاية الكمال، في التعبير عن قدرة الله العظيمة، وتصويره لذلك بالصورة المحسوسة تقريباً إلى الفهم البشري القاصر.
[معنى الاستواء والكيف]
قوله تعالى: ((الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى)) [طه:5]، بهذه الآية أثبت بعضهم لله تعالى حقيقة الاستواء من غير تكييف، ولا تمثيل بزعمهم، ولهم في ذلك مقولة رووها عن الإمام مالك: الاستواء معلوم، والكيف مجهول، والإيمان به واجب، والسؤال عنه بدعة.
ونقول: الكيف الذي يذكره المتكلمون على حسب ما فهمته كقول حفيد محمد بن عبد الوهاب: إن له يدين بلا كيف، وعينين بلا كيف، هو الصفة كالطول والقصر والألوان والأشكال والحركة والسكون والقيام والقعود والإضطجاع والكبر والصغر إلخ، فالمعنى بأن له يدين بلا صفة إلخ.
وقولهم: هذا فرار من التجسيم والتشبيه، لأن الكيف من خصائص الأجسام، والتشبيه عندهم كفر، ففروا من الكفر بقولهم: بلا كيف، فلا بد على قولهم هذا من أحد أمرين: التجسيم، والقول بالمحال، لأن حصول حقيقة الإستواء مع عدم الكيف محال بحكم العقل، ومع الكيف تجسيم، ولا يصح الإيمان بالمحال.
وقولهم: الاستواء معلوم، فإن أرادوا اللفظ فلا خلاف في معلوميته، وإن أرادوا معناه الحقيقي فيلزم منه التجسيم والتشبيه، والتشبيه عندهم كفر.
وقولهم: الإيمان به واجب، إن أرادوا حقيقة الاستواء ففاسد، لاستحالة ذلك على الله بحكم العقل، وإن أرادوا ذلك مع عدم الكيف فلا يصح التصديق بالمحال.
وإن أرادوا أنَّا نؤمن به على حسب المعنى الذي أراده الله تعالى، وإن لم نعلمه تفصيلاً، فإن إثباتهم لحقيقة الاستواء ينافي هذا الفرض والتقدير، وهكذا إثبات اليدين، والعينين والوجه بدون الكيف.
فإن كانت بمعانيها الحقيقية لزم اعتقاد المحال لاستحالة المعاني الحقيقة بدون الكيف، ومع الكيف يلزم التجسيم.
نعم، عندنا أن الإيمان بالشيء متفرع على معرفته، فيلزمنا أولاً: أن نعرف ما أريد بهذا اللفظ، هل معناه الحقيقي أو المعنى المجازي، فإذا كان المعنى الحقيقي مستحيلاً فلا يكون جحوده تعطيلاً وكفراً كما يقوله الوهابيون.
[الأعين]
إذا كانت الأعين في قوله تعالى: ((تَجْرِي بِأَعْيُنِنَا)) [القمر:14]، بالمعنى الحقيقي محالاً، لاستلزامها التجسيم والتشبيه، وكان قولهم: له جل وعلا أعينٌ حقيقة بلا كيف، محالاً بمقتضى العقل والفطرة.
إذاً يتعين المجاز، والقرينة: العقل، والمعنى: بحفظنا وكلائتنا من المجاز المرسل، ويشهد لهذا المعنى: السياقُ، والذوقُ السليم.
أمَّا إذا حملناها على الظاهر اختل المعنى وبطل، وانظر معي في قوله تعالى: ((تَجْرِي بِأَعْيُنِنَا))، في وصف سفينة نوح عليه السلام إذا حملت على الظاهر كما يقوله الوهابيون أفادت الآية أن لله تعالى أكثر من عينين، وأن السفينة تجري في هذه الأعين، والواقع ليس كذلك، إذ أنها تجري بهم في موج كالجبال، وكذلك قوله تعالى: ((وَاصْنَعِ الْفُلْكَ بِأَعْيُنِنَا)) [هود:37]، الواقع أنَّ نوحاً عليه السلام صنع الفلك على وجه الأرض من الألواح والدُّسُرِ ([5])، ولم يصعد إلى العرش الذي يستقر عليه الرحمن بزعمهم، فيصنعها في عيونه، أَبْعَدَ اللَّهُ الجهلَ إلى أيِّ مدًى يصل بصاحبه، وتعالى ذو العزة والجلال عما يقولون علواً كبيراً.
_________________
([5]) ـ الدِّسار ـ بالكسر ـ واحد الدُّسُرِ، وهي خيوط تشدُّ بها ألواح السفينة، وقيل: هي المسامير، قال الله تعالى ((عَلَى ذَاتِ أَلْوَاحٍ وَدُسُرٍ))، انتهى من مختار الصحاح، وانظر أيضاً القاموس المحيط.
[حول رؤية الله في الآخرة، وبيان الحقِّ في ذلك]
قد ثبت أنَّ الله سبحانه وتعالى ليس بجسم، كما تقدم من أنَّه غني عن المكان، لأنه كان الله ولا مكان، فلو كان جسماً لاحتاج إلى مكان، وقد اتفق المسلمون على أنَّ الله تعالى هو خالق الأمكنة والسموات والأرض والعرش والكرسي والماء، والرؤية لا تصح إلاَّ للجسم وتوابعه من الأعراض.
وقولهم يُرى بلا كيف لا يقبلها العقل، فلا يصح أن يُرى سبحانه يوم القيامة لا في جهة فلا يراه الرائي أمامه ولا خلفه، ولا عن يمينه أو يساره، أو فوقه أو تحته. هذا من المحالات الفطرية التي فطر الله العقول عليها، وقد قال تعالى: ((لاَّ تُدْرِكُهُ الأَبْصَارُ وَهُوَ يُدْرِكُ الأَبْصَارَ)) [الأنعام:103]، وقال تعالى: ((لَن تَرَانِيِ))، ((لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْء)).
فما ورد مخالفاً في الظاهر لهذه الأدلة القرآنية والعقلية، فيجب تفسيره بما يوافقها، فيرد المختلف فيه إلى المتفق عليه كما قدمنا.
ومما يؤيد أن المراد بقوله تعالى: ((لاَّ تُدْرِكُهُ الأَبْصَارُ))، عموم أوقات الدنيا والآخرة، أنها وردت في ضمن مدائحَ سردها الله سبحانه وتعالى، قبلها وبعدها، ولا يتمدح الله سبحانه وتعالى إلاَّ بما يختص به جلاله وعظمته، ويخالف به مخلوقاته.
فلو أنه سبحانه وتعالى سيراه المؤمنون يوم القيامة، لما صح ذلك التمدح، ولم يكن مختصاً بتلك الصفة، بل قد يشاركه كثير من المخلوقات المحدثات المدفونة تحت أطباق الثرى، والمحجوبة في غيابات الفضاء، قال تعالى: ((وَيَخْلُقُ مَا لاَ تَعْلَمُونَ)) [النحل:8]، وقال تعالى: ((سُبْحَانَ الَّذِي خَلَقَ الأَزْوَاجَ كُلَّهَا مِمَّا تُنبِتُ الأَرْضُ وَمِنْ أَنفُسِهِم وَمِمَّا لا يَعْلَمُونَ)) [يس:36].
إذاً فلا يتم التمدح إلا إذا كان المعنى على أنه تعالى مفارق لجميع المخلوقات مفارقة ذاتية لا تمكن معها الرؤية، ولا يجوز الإدراك.
فلو قلنا مثلاً: إنه سبحانه وتعالى لا يرى في الدنيا ولا في الآخرة، وقلنا تعقيباً على ذلك: ولكنه يجوز أن يرى، ويمكن أن تدركه الأبصار، فإنه أيضاً لا يصح التمدح وسرد ذلك بين صفات الإلهية والجلال.
نعم، لما كان معنى قوله تعالى: ((لاَّ تُدْرِكُهُ الأَبْصَارُ وَهُوَ يُدْرِكُ الأَبْصَارَ))، نفي المشابهة بين الخالق والمخلوق كانت مدحاً، وكان معنى هذا التمدح كمعناه في قوله تعالى: ((لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْء))، ((وَلَمْ يَكُن لَّهُ كُفُوًا أَحَدٌ)).
فلو لم يتضمن ذلك معنى هذا لم يكن مدحاً ولم يكن من صفات الله التي يختص بها.
[شبهة وجوابها حول قوله تعالى {وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ نَّاضِرَةٌ () إِلَى رَبِّهَا نَاظِرَةٌ]
قوله تعالى ((وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ نَّاضِرَةٌ (22) إِلَى رَبِّهَا نَاظِرَةٌ)) [القيامة:22-23]، تَعَلَّقَ بعضُ طوائف المسلمين بهذه الآية وبمفهوم قوله تعالى: ((كَلَّا إِنَّهُمْ عَن رَّبِّهِمْ يَوْمَئِذٍ لَّمَحْجُوبُونَ))، [المطففين:15] وبنحو قوله تعالى: ((فَمَن كَانَ يَرْجُولِقَاء رَبِّهِ فَلْيَعْمَلْ عَمَلًا صَالِحًا وَلا يُشْرِكْ بِعِبَادَةِ رَبِّهِ أَحَدًا)) [الكهف:110]، وبما رووه عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم: (سترون ربكم يوم القيامة كالقمر ليلة البدر) الحديث.
ونقول: في الجواب تعارضت الأدلة القرآنية في الظاهر، وتناقضت مدلولاتها، ولا يصح ذلك في الكتاب العزيز الذي لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه تنزيل من حكيم حميد، والنسخ لا يصح هنا في سائر المسائل الإلهية، وكذلك لا يصح تخصيص العام بعد فترة من الزمن، والدليل على هاتين المسألتين النَّسخ والتخصيص.
[امتناع النسخ والتخصيص]
أما الأولى: فلأن صفات الله سبحانه وتعالى لا تتغير، فلا يصح أن يخبرنا ثانياً بأنه قد تغير عن حالته الأولى إلى حالة أخرى، لأن صفاته ذاتيه، فلا يصح أن يخبرنا أولاً أنه لا يُرى، ثم بعد فترة من الزمن يخبرنا أنه سوف يُرى، وكذلك سائر صفات الذات نحو أن يخبرنا أولاً أنه يعلم الغيب ثم بعد فترة ـ على سبيل الفرض ـ يخبرنا أنه لا يعلم الغيب.
أما الثانية: وهي التخصيص بعد فترة من الزمن، فالدليل على أنه لا يجوز في تلك المسائل التي تقدمت أنه نسخ في الحقيقة لبعض ما تناوله العام، فما دام أنه نَسْخٌ فقد أبطلنا النسخ، فبطل هذا.
وزيادة على ما قدمنا، فإن العام قبل مجيء التخصيص مُوْقِعٌ للمكلَّفين في اعتقاد الجهل والخطأ، فهو إذاً تلبيس وتغرير للمكلفين، وذلك لا يقع من الحكيم تعالى، وقد قال تعالى: ((وَمَنْ أَصْدَقُ مِنَ اللّهِ حَدِيثًا)) [النساء: 87]، ((وَمَنْ أَصْدَقُ مِنَ اللّهِ قِيلاً)) [النساء:122]
، وقال في صفة القرآن: ((لا يَأْتِيهِ الْبَاطِلُ مِن بَيْنِ يَدَيْهِ وَلا مِنْ خَلْفِهِ تَنْزِيلٌ مِّنْ حَكِيمٍ حَمِيدٍ)) [فصلت:42].
أما التخصيص المتصل فلا مانع، إذ لا تغرير ولا تلبيس.
إذا عرفت ذلك وأن النسخ والتخصيص ممتنع، والترجيح بين القطعيات لا يصح، وإنما هو بين الظنيات، لأنها التي تقبل القوة والضعف ويزيد الظن فيها وينقص، أما القطعيات فلا تقبل ذلك فتدبر.
[نتيجة البحث]
إذا عرفت ذلك كله، فاعلم أن هناك أصولاً اتفق عليه المسلمون منها قوله تعالى: ((لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْء))، ((وَلَمْ يَكُن لَّهُ كُفُوًا أَحَدٌ)). ومن هنا اتفقوا على أن الله تعالى ليس له شبيه ولا مثيل، فهذا الأصل المتفق عليه يرد إليه كل ما اختلف فيه.
فلما رأينا طوائف المسلمين اختلفت في تفسير قوله تعالى: ((إِلَى رَبِّهَا نَاظِرَةٌ)).
فمنهم من قال: إن المعنى إلى رحمة ربها ناظرة.
ومنهم من قال: إن المعنى إلى ربها منتظرة.
فإن النظر يستعمل لغة بمعنى: الإنتظار، كقوله تعالى: ((فَنَاظِرَةٌ بِمَ يَرْجِعُ الْمُرْسَلُونَ)) [النمل:35]، وكقوله تعالى: ((لاَ تَقُولُواْ رَاعِنَا وَقُولُواْ انظُرْنَا)) [البقرة:104]، وقوله تعالى: ((انظُرُونَا نَقْتَبِسْ مِن نُّورِكُمْ)) [الحديد:1].
ومنهم من قال: إن المعنى المراد نظر العين إلى الله تعالى جل جلاله.
ومع الاختلاف فإنما اتفقوا عليه حاكم على ما اختلفوا فيه، وقد قال الله تعالى: ((مِنْهُ آيَاتٌ مُّحْكَمَاتٌ هُنَّ أُمُّ الْكِتَابِ)), ومعنى أنه أم الكتاب، أنه أصل الكتاب الذي يرد إليه ما اشتبه معناه.
ونحن إذا نظرنا إلى تفاسير الطوائف المختلفة حول هذه الآية، رأينا التفسير الثالث يدل بالالتزام دلالة عقلية واضحة لا شك فيها، أن الله سبحانه وتعالى جسم، لأن الرؤية لا تكون إلا للأجسام وتوابعها من الأعراض.
وقولهم: إن الله سبحانه يُرى بلا كيف، بزيادة بلا كيف، هروب منهم إلى غير مهرب، فإن من لازم الرؤية الكيف، ومحال أن تَرى شيئاً وهو في غير جهة من الجهات، فيلزمهم بالضرورة إما التجسيم أوالقول بالمحال وكلاهما باطل، أما الأول فبالإجماع، وأما الثاني فبضرورة العقل.
أما التفسيران الأولان فلا يلزم منهما ما لزم من التفسير الثالث، بل أكثر ما نقدا به هو أنهما خلاف ظاهر الآية، ولا يجوز التفسير بغير ظاهر المعنى لأنه تحريف، فكان الواجب من أهل التفسيرين أن التفسير بغير الظاهر لا يجوز كما قلتم، ولكن التفسير بالظاهر هنا مناقض لتلك الأصول المتفق عليها، ولا يصح ولا يجوز تناقض القرآن، وضرب بعضه لبعض، وإبطال بعضه ببعض، فعدلنا إلى خلاف الظاهر للضرورة، مع أنا لَم نخرج في تفسيرنا عن لغة القرآن فقد فسرنا النظر بمعنى الإنتظار وهو شائع في اللغة وفي القرآن كقوله تعالى: ((فَنَاظِرَةٌ بِمَ يَرْجِعُ الْمُرْسَلُونَ)) [النمل:35]، ((انظُرُونَا نَقْتَبِسْ مِن نُورِكُم))، ((وَقُولُواْ انظُرْنَا واسمعوا)). بل إن كثيراً مما ورد في القرآن من النظر ومشتقاته بمعنى الإنتظار، وقد روي من شعر حسان قولُهُ:
وجوهٌ يومَ بدرٍ ناظراتٌ .... إلى الرحمن يأتي بالخلاصِ
وحذف المضاف وإبقاء المضاف إليه غير قليل في اللغة وفي القرآن، وقد وضع له في علم النحو فصل مستقل كما في مغنى اللبيب، وذكره علماء البيان وسموه إيجاز القصر، هذا في باب الإيجاز والإطناب والمساواه، وذكروه ثانياً في باب المجاز، وسموه مجاز الحذف، والقرينة على الحذف عقلية وهي استحالة الرؤية.
ويؤيد ذلك من سياق الآية: أنَّ الله ذكر في الآية التي تليها صفتين للأشقياء فقال: ((وَوُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ بَاسِرَةٌ (24) تَظُنُّ أَن يُفْعَلَ بِهَا فَاقِرَةٌ (25))) [القيامة:24-25]. فقابل بين باسرة وناظرة، وعلى ما قلنا قابل أيضاً بين ((تَظُنُّ أَن يُفْعَلَ بِهَا فَاقِرَةٌ))، وبين انتظار الثواب، وعلى قول أهل التفسير الثالث لا يتم التقابل إلاَّ بين الوصفين الأولين، والمناسب لجمال البلاغة هو الأول.
وقوله تعالى: ((كَلَّا إِنَّهُمْ عَن رَّبِّهِمْ يَوْمَئِذٍ لَّمَحْجُوبُونَ))، وقوله تعالى: ((فَمَن كَانَ يَرْجُولِقَاء رَبِّهِ فَلْيَعْمَلْ عَمَلًا صَالِحًا وَلا يُشْرِكْ بِعِبَادَةِ رَبِّهِ أَحَدًا)) ونحوهما من الآيات.
فسبيلها سبيل ما تقدم فيقدر عن ثواب ربهم يومئذ لمحجوبون، فمن كان يرجو لقاء ثواب ربه، والملجأ إلى تقدير ذلك استحالة رؤية الله.
وهكذا يفسر نحو قوله تعالى: ((وَجَاء رَبُّكَ وَالْمَلَكُ صَفًّا صَفًّا)) [الفجر:22]، بأنَّ المعنى على تقدير: وجاء أمر ربك أو وعد ربك ووعيده أو نحوهما، وهكذا كلما جاء فيه ذكر مجيء الله أو نزوله كما جاء في بعض الأحاديث، فنقدر نزول أمره أو رحمته، وذلك للسلامة كما قدمنا من لزوم التشبيه والتجسيم المتفق على نفيهما عند جميع طوائف المسلمين، فما جاء في الكتاب أو السنة مما يوهم ذلك فإن الواجب تفسيره بما لا يتنافى مع ما أجمع عليه أهل الملة.
أما تفسير ما جاء من ذلك بما يلزم منه التجسيم والتشبيه، فذلك تخبط وجهالة، تعالى الله عما يقولون علواً كبيراً.
[بحث في اللازم]
وقال بعض الوهابيون: إن لازم المذهب ليس بمذهب، وذلك فراراً من لصوق التشبيه والتجسيم بهم حين ألزمهم خصومهم بذلك.
ولكن الوهابيين أنفسهم لم يلتزموا بهذا بل نراهم يكفرون خصومهم بلوازم وهمية أو ظنية كبناء القباب أو مجرد وجود القباب بين ظهراني قوم، وليس ذلك لازماً عقلاً ولا عادة، وكتعليق قرطاس في الرقب أو ما شابه ذلك كالتمسح بالتراب أو تقبيل القبر أو الطواف عليه إن فرض صحة ذلك كما ادعوا، فألزموا فاعلي ذلك بالشرك وأجروا عليهم أحكام المشركين فقتلوهم وتغنموا أموالهم وحرموا مناكحتهم إلى آخر أحكام المشركين.
فأفرطوا في استعمال اللوازم حتى عملوا بالموهومة والمظنونة، حتى إذا ألزمناهم باللوازم الضرورية التي تحكم بها فطر العقول قالوا: لازم المذهب ليس بمذهب، ((رَبِّ احْكُم بِالْحَقِّ وَرَبُّنَا الرَّحْمَنُ الْمُسْتَعَانُ عَلَى مَا تَصِفُونَ)) [الأنبياء:112].
[معنى الرضا والغضب في حقِّ الله تعالى]
الرضا من الله سبحانه وتعالى: ليس بِرقَّةٍ كما هو في المخلوق، لأنَّ الله تعالى لا تحله الأعراض التي هي من توابع الأجسام، تعالى سبحانه عن مشابهة المخلوق، ((لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْء))، ((وَلَمْ يَكُن لَّهُ كُفُوًا أَحَدٌ)).
إذاً فالرضا من الله سبحانه وتعالى هو: الحكم باستحقاق الثواب وزيادة الهدى والتنوير والألطاف.
والغضب: هو الحكم باستحقاق العقاب، وسلب الهدى والتنوير، والألطاف الزائدة على الهداية العامة التي لا يصح التكليف للمكلف إلاَّ بوجودها.
والدليل على ما قلنا: أن الرضا والغضب بمعناهما الحقيقي لا يجوزان على الله تعالى، لأن العرض من خصائص الأجسام كما قدمنا بيان ذلك، فإذا أُطلقا على الخالق تعالى فإنما هما كناية عمَّا ذكرنا، والكناية أبلغ من التصريح بإجماع أئمة البيان، والكناية باب عريض عند العرب، فلم نخرج في تفسيرنا عن لغة العرب واستعمالاتها.
[الإرادة والكراهة]
الله سبحانه وتعالى مريد لا بإرادة، كما أنه سبحانه وتعالى فاعل لا بحركة، والإرادة قد ذكرها أئمتنا عليهم السلام وحققوا معناها، إذا أُطلقت على الباري تعالى، والمذكور في تفسيرها عنهم قولان ذكرهما المنصور بالله في الأساس:
الأول: أنها نفس المراد، وذلك لاستحالة المعنى الحقيقي في حقه تعالى، لأنها بمعناها الحقيقي عرض، وقد عرفت أن الأعراض من خصائص الأجسام.
الثاني: أنها علم الله سبحانه باشتمال الفعل على الحكمة والمصلحة، فإذا علم سبحانه باشتمال الفعل على ذلك في وقت خلقه.
والكراهة: هي خلاف الإرادة، وهي بمعناها الحقيقي مستحيلة في حق الله تعالى، وهي علمه سبحانه بإشتمال ذلك الفعل أو الترك على المفسدة، وعن أمير المؤمنين عليه السلام: ((وَيُرِيدُ وَلا يُضْمِرُ، يُحِبُّ وَ يَرْضَى مِنْ غَيْرِ رِقَّةٍ، وَيُبْغِضُ وَيَغْضَبُ مِنْ غَيْرِ مَشَقَّةٍ))، وقوله: ((وَمَشِيئتُهُ الإنْفَاذُ لِحُكْمِهِ، وَإرَادَتُهُ الإمْضَاءُ لأُمُورِهِ))، ذكرها في مجموع السيد حميدان.
وفي كتاب الإتقان قال الرازي: جميع الأعراض النفسانية أعني الرحمة والفرح، والسرور والغضب، والحياء والمكر، والاستهزاء لها أوائل ولها غايات، مثاله: الغضب فإن أوله غليان دم القلب، وغايته إيصال الضرر إلى المغضوب عليه، فلفظ الغضب في حقِّ الله لا يُحمل على أوله الذي هو غليان دم القلب، بل على غايته الذي هو إرادة الإضرار.
وكذلك الحياء أوله إنكسار يحصل في النفس، وله غاية وغرض، وهو ترك الفعل، فلفظ الحياء في حقِّ الله يحمل على ترك الفعل لا على إنكسار النفس
[بحث في الجهل والتعطيل]
واعلم أن الذين يفسرون ما قدمنا في حق الله سبحانه وتعالى بما تفسر به في المخلوق فقد شبهوا الله تعالى وجهلوا خالقهم وذلك كفر نعوذ بالله منه، والسبب في ذلك هو إعراضهم عن أهل بيت نبيهم صلوات الله عليهم.
ثم اعلم أنَّ التعطيل هو إنكار الصفات رأساً ونفيها عن الباري تعالى.
أما نفي صفات المخلوقين عن الخالق جل وعلا فهو عين التوحيد، وليس بتعطيل كما يقوله الوهابيون.وقد فسروا صفات الله تعالى كلها على حسب ما يعهدون ويشاهدون، فصوروا الله تعالى بصورة المخلوقين، فأثبتوا له وجهاً وعيناً وجنباً ويدين ورجلين، ووصفوه بالصعود والنزول، والمجيء والاستقرار على العرش، والحلول في الغمام والمجيء فيه، وجعلوا كلَّ ذلك ثابتاً له تعالى حقيقة.
فحين ألزموهم بالتشبيه والتجسيم، هربوا من ذلك بقولهم: بلا كيف، مفارقة بزعمهم بين الخالق والمخلوق.
ومذهبهم هذا قد جمع بين التشبيه والتعطيل، وبيان ذلك: أنهم أثبتوا لله تعالى ما أثبتوه على الحقيقة، فلزمهم التشبيه والتجسيم.
وعطَّلُوا خالقهم عن صفات الإلهية، وذلك معنى قوله تعالى: ((لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْء))، ((وَلَمْ يَكُن لَّهُ كُفُوًا أَحَدٌ)) ((لاَّ تُدْرِكُهُ الأَبْصَارُ)).
..
[العدل]
اتفقت الأمة الإسلامية على أنَّ الله سبحانه وتعالى عدل حكيم، لا يظلم مثقال ذرة، وأن أفعاله تعالى كلها حسنة، وأنه لا قبيح في أفعاله، فهذه الجملة لا خلاف فيها، وهناك تفاصيل لهذه الجملة عندها نشأ الخلاف.
فمِّما حصل فيه اختلاف حكم العقل بالحسن والقبح، بمعنى: هل يحكم العقل بمفرده بحسن شيءٍ أو قبحه، نحو حسن العدل أي أنَّ فاعله يستحق المدح والثواب؟، وقبح الظلم أي أنَّ فاعله يستحق الذم والعقاب؟.
فالذي عليه الزيدية وطوائف من المسلمين بأنَّ العقل يستقل بمعرفة ذلك ابتداءاً أي قبل ورود الشرائع.
وقال قوم: إنَّ العقل لا حُكْمَ له ولا يُدْرِكُ ذلك، وإنما جاء التحسين والتقبيح من قِبَلِ الشرائع السماوية، فما ورد الأمر به فهو حسن بسبب الأمر، فالأمر هو الذي حَسَّنَهُ، والقبيح يقبح بسبب النهي، لا دخل للعقل في ذلك الحكم ولا طريق له إلى معرفة شيء من ذلك، فإن حكم العقل بمجرده فلا وثوق بحكمه.
والجواب: أنَّ حكم العقل يحسن نحو العدل، ويقبح نحو الظلم من الضروريات العقلية التي لا تحتاج إلى نظر واستدلال كالعلم بالجوع والعطش والآلام والفرح والسرور، وكالعلم بأني موجود، وماذا هذا حاله فلا يحتاج إلى التدليل، وكثرة القال والقيل، غير أنه لَمَّا صار لأهل هذه المقالة الشاذة كيان وكثرة أتباع دعت الحاجة إلى بيان الحقِّ ونصب الأدلة، كما دعت الحكمة من قبل إلى نصب الأدلة وتوضيح البراهين، لرد مذاهب المشركين الوثنية، ومزاعم السوفسطائية، وهي عند العقل باطلة بضرورته وبديهته.
فإن قلت: وكيف راجت هذه المذاهب عند المشركين وفيهم ذووا العقول الراجحة ولا سيما قريش.
قلت: للمجتمع والنشأة والتربية دور في تربية الخرافات ونموها مع ما يصحب ذلك من التخيلات والتوهمات المدعاة للأوثان، ومن الأمثلة على أن الخيال قد يسيطر على العقل:..
ما يجده بعض من الناس من الخوف من الظلام وإن كان المكان خالياً من أي مخوف، فالعقل يحكم ضرورة بحكمه وهو بطلان الوهم والخيال، والخيال والوهم يحكم بحكمه وهو الأشباح المفجعة والدواهي الموحشة. فإذا ما سيطر الخيال على الإنسان فإن العقل يضيع ويضعف حكمه، هذا مع ما في ذلك من الموافقة لرغبات النفس وميل غريزتها، وتماماً كما قال تعالى: ((إِن يَتَّبِعُونَ إِلاَّ الظَّنَّ وَمَا تَهْوَى الأَنفُسُ))[النجم:23].
فنقول وبالله التوفيق: الاستدلال هنا بالعقل مصادرة في الظاهر، وبما أن المخالفين لنا في حكم العقل هم من المنتمين إلى القرآن فنكتفي في الاستدلال على بطلان مذهبم به.
قال تعالى: ((إِنَّ اللّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالإِحْسَانِ وَإِيتَاء ذِي الْقُرْبَى وَيَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاء وَالْمُنكَرِ)) [النحل:90]، ففي هذه الآية دليل على أن الله سبحانه وتعالى لم يأمر ولم ينه إلا بما يتوافق مع الفطرة، ويتمشى مع العقل السليم، فهو يأمر بكذا وكذا ينهى عن كذا وكذا فلأي شيء يهربون من الدين، ويكفي للعلم بأنه حق أن يتذكر الإنسان يراجع عقله، وينظر في الأوامر القرآنية، فما أمرت إلاَّ بما ترغب فيه النفس وتميل إليه الفطرة، ولم ينه إلاَّ عن ما يتفاحش في العقل، وتستنكره الفطرة.
والرسول صلى الله عليه وآله وسلم لم يأمرهم إلاَّ بالمعروف ولم ينههم إلاَّ عن المنكر، فالمعروف والمنكر مرتكزان في الفطرة، ومعلومان عند العقل، فيكفي في صدق الرسول صلى الله عليه وآله وسلم أنه صلى الله عليه وآله وسلم لم يأمرهم إلا بما تعرفه عقولهم، ولم ينههم إلا عن ما تنكره قلوبهم.
فهو إذاً معروف منكر من قبل الأمر والنهي، والمعروف حسن، والمنكر قبيح، قال تعالى: ((إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَاخْتِلاَفِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ لآيَاتٍ لِّأُوْلِي الألْبَابِ () الَّذِينَ يَذْكُرُونَ اللّهَ قِيَامًا وَقُعُودًا وَعَلَىَ جُنُوبِهِمْ وَيَتَفَكَّرُونَ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ)) [آل عمران:190-191]، ففي هذه الآية ونحوها دليل على أن خلق السموات والأرض واختلاف الليل والنهار مليء بالآيات، وأن هذه الآيات مجال ومسرح لأهل العقول يتفكرون في آياتها ويعرفون من خلالها حكمة الخلق والتكوين وتنزيه الخالق سبحانه وتعالى عما نسب إليه الجاهلون.
وقال تعالى: ((أَفَلا يَنظُرُونَ إِلَى الإِبِلِ كَيْفَ خُلِقَتْ)) [الغاشية:17]، ((وَلَقَدْ عَلِمْتُمُ النَّشْأَةَ الأُولَى)) [الواقعة:62]، ((قُلْ يُحْيِيهَا الَّذِي أَنشَأَهَا أَوَّلَ مَرَّةٍ)) [يس:79]، ((لَوْ كَانَ فِيهِمَا آلِهَةٌ إِلاَّ اللَّهُ لَفَسَدَتَا)) [الأنبياء:22]، وكان المشركون يسمون نكاح زوجة الأب نكاح المقت: ((وَمَا يَسْتَوِي الأَعْمَى وَالْبَصِيرُ (19) وَلا الظُّلُمَاتُ وَلا النُّورُ (20) وَلا الظِّلُّ وَلا الْحَرُورُ (21) وَمَا يَسْتَوِي الأَحْيَاء وَلا الأَمْوَاتُ)) [فاطر:19-22]. وآية الشورى: ((وَمَا يَسْتَوِي الأَعْمَى وَالْبَصِيرُ وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَلا الْمُسِيءُ قَلِيلاً مَّا تَتَذَكَّرُونَ)) [غافر:58].
ومن قبل الشرائع كانت الأمم تذم الكاذب والخائن والغادر، وتمدح الصادق والأمين والوفي، جاءت بذلك تواريخ الأمم والملوك وأشعار الجاهلية، ومن تتبع اليوم أخبار العالم في الصحف والمجلات أو عبر الأثير وجد تصديق ما قلنا.
هذه دول الشيوعية المنكرة للأديان كالصين والروس ينددون بإسرائيل ويذمونها، ويمدحون داعي السلام والأمن بل ربما يقدمون له الجوائز.
ومما يمكن الاستدلال به قوله تعالى: ((فَأَلْهَمَهَا فُجُورَهَا وَتَقْوَاهَا)) [الشمس:8]، ((وَهَدَيْنَاهُ النَّجْدَيْنِ)) [البلد:10]، ((وَلَكِنَّ اللَّهَ حَبَّبَ إِلَيْكُمُ الإِيمَانَ وَزَيَّنَهُ فِي قُلُوبِكُمْ وَكَرَّهَ إِلَيْكُمُ الْكُفْرَ وَالْفُسُوقَ وَالْعِصْيَانَ)) ((إِنَّا هَدَيْنَاهُ السَّبِيلَ إِمَّا شَاكِرًا وَإِمَّا كَفُورًا)) [الإنسان:3].
والمخالفون لما أنكروا حكم العقل قالوا: لا يقبح من الله قبيح، فلو فعل تعالى كل قبيح تعالى عن ذلك لكان حسناً، لأنه رَبٌّ، وقالوا: إنما قبحت منا القبائح لأنا عبيد مربوبون أو مأمورون ومنهيون، فما قبح من الظلم إلاَّ لورود النهي وكذا الكذب والعبث، وكذا لم يحسن الصدق والوفاء والعدل إلاَّ لورود الأمر بذلك، وقالوا: لا سبيل للعقل إلى معرفة حسن الأفعال أو قبحها ألبتة.
[من مسائل العدل التي حصل فيها اختلاف]
ومنها: اختيار المكلف، وأنه ليس بمضطر، ولا بمجبر على الفعل أو الترك، فهو قادر على الفعل وعلى تركه بقدرة متقدمة ليس بموجبة للمقدور.
وهذه المسألة هي إحدى المسائل الخلافية الكبيرة التي يتفرع عليه لزوماً مسائل عظيمة هي:
تكليف ما لا يطاق، ومن هنا قال الرازي في المحصول: إن التكاليف بأسرها تكليف ما لا يطاق.
تخليد أهل النار وتعذيبهم بغير ذنب، وهذا عين الظلم، تعالى الله عن ذلك.
إبطال الفائدة في إنزال الكتب، وبعث الرسل، وفي هذا هدم حكمة الحكيم.
قيام الحجة للفاجرين، ودحض حجة أحكم الحاكمين.
الرد والتكذيب لآيات الكتاب الكريم.
نسبة القبائح والفواحش إلى الملك القدوس، وهو ما يسميه الوهابيون توحيد الأفعال. فعندهم أن كل حركة في الكون من طاعة أو معصية أو حسن أو قبيح أو نكاح أو زنا أو لواط أو صلاة وصيام أو عدل وإحسان أو كفر وكذب وطغيان أو صدق وكذب فهو من الله، والله خالقه.
فإذا قلت: إن المعصية من الإنسان. قالوا: أنت مشرك، لأن تمام التوحيد عندهم أن كل فعل هو من الله لا يشركه في أي فعل شريك.
نعم، الاستدلال على أن الإنسان مختار في تصرفاته كالاستدلال في المسألة السابقة، من أن الواحد نصف الإثنين، فالقول بالجبر والإضطرار مذهب خرافي لا يليق بأهل العقول الإشتغال به، ولا تحرير القال والقيل، فالعقل بفطرته يسفهه ويرذله جملة وتفصيلاً، وفي الحقيقة هو مذهب وثني قال تعالى: ((سَيَقُولُ الَّذِينَ أَشْرَكُواْ لَوْ شَاء اللّهُ مَا أَشْرَكْنَا)) [الأنعام:148] إلى آخر الآية، تسرب إلى أفكار ضعيفة الإيمان، كما تسرب حب عبادة العجل في بني إسرائيل.
ولكن العلماء رحمهم الله زيفوا هذا المذهب بكل ما آتاهم الله من البينات والحجج، وبَيَّنُوا شناعتَهُ لِمَا يترتب عليه من هدم قواعد الإسلام من أساسه، ولِمَا أوجب الله عليهم من البيان للناس، ومن أدلتهم على بطلان الجبر والاضطرار ما يجده العاقل من نفسه بالضرورة من الفرق بين حركة المرتعش من البرد وبين حركته الطبيعية، وما هو إلا أن الأخرى متوقفة على إرادته وإختياره دون الأولى، وكذلك حركة الحيوان وحركة الجماد، ومن هنا لم يحسن أن نقول للطويل: لِمَ طالتْ قامتُكَ؟، وللقصير: لِمَ قَصُرَتْ قامتُكَ؟، كما يَحْسُنُ أن نقول للظالم: لِمَ ظلمتَ؟، وللكاذب: لِمَ كذبتَ؟.
وهناك آيات من الكتاب العزيز يستدلون بها على أن الإنسان غير مختار في أفعاله، وهذه الآيات لها وجوه متعددة يمكن أن تفسر بأكثر من تفسير واحد.
فأئمتنا عليهم السلام فسروا كل آية بالتفسير المناسب لفطرة العقل، واللائق بعدل الله وحكمته، والموافق لنصوص القرآن، والذي ينبغي معرفته أن آيات القرآن بعضها محكم وهو الأصل وعليه الاعتماد في بناء العقائد الاسلامية، وبعضها متشابه لا يجوز الأخذ بظواهر معانيها ولا الاعتماد عليها في تأسيس العقائد. ومن هنا يقول الله سبحانه وتعالى: ((مِنْهُ آيَاتٌ مُّحْكَمَاتٌ هُنَّ أُمُّ الْكِتَابِ وَأُخَرُ مُتَشَابِهَاتٌ فَأَمَّا الَّذِينَ في قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ فَيَتَّبِعُونَ مَا تَشَابَهَ مِنْهُ ابْتِغَاء الْفِتْنَةِ وَابْتِغَاء تَأْوِيلِهِ وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلاَّ اللّهُ وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ يَقُولُونَ آمَنَّا بِهِ كُلٌّ مِّنْ عِندِ رَبِّنَا وَمَا يَذَّكَّرُإِلاَّ أُوْلُواْ الألْبَاب)) [آل عمران:7]، وللإمام الهادي عليه السلام في أجوبته على ابن الحنفية تفسير لأكثر الآيات في هذا الباب، فمن أرادها فهي موجودة في المجموعة الفاخرة.
نعم، والمتشابه هو الذي يمكن أن يفسر بأكثر من تفسير، فأئمتنا عليهم السلام يفسرونه بالتفسير المتوافق مع المحكم، صيانةً للكتاب من التناقض والاختلاف لو فُسِّرَ بغيره.
[شبهة وجوابها]
ومما استدل به المخالفون على نفي الاختيار قولهم، سبق في علم الله ما سيفعله الإنسان، فلا يقدر على الخروج مما علمه الله تعالى.
وأجيب: بأنَّ العلم تابع للمعلوم، وبأنه يلزم أن لا يكون الله تعالى مختاراً، إذ سبق علمه في الأزل بما سيفعله تعالى، فلا يقدر على الخروج من علمه وإلاَّ انقلب العلم جهلاً، وقد حصل الاتفاق على أنه تعالى مختار.
[بطلان تكليف ما لا يطاق]
هذا والقول بتكليف ما لا يطاق مترتب على هذه المسألة، فبطلانها يبطل القول به، ومما يدل على بطلانه قوله تعالى: ((لاَ يُكَلِّفُ اللّهُ نَفْسًا إِلاَّ وُسْعَهَا)) [البقرة:286]، ((يُرِيدُ اللّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلاَ يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ)) [البقرة:185]، وأيُّ عُسْرٍ أعظم من تكليف ما لا يطاق، وقوله تعالى في سورة التوبة: ((وَسَيَحْلِفُونَ بِاللّهِ لَوِ اسْتَطَعْنَا لَخَرَجْنَامَعَكُمْ يُهْلِكُونَ أَنفُسَهُمْ وَاللّهُ يَعْلَمُ إِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ)) [التوبة:42]، فكَذَّبَهُم سبحانه في دعواهم نفي الاستطاعة، ودلت الآية أن للإنسان قدرةً متقدمة.
وقوله صلى الله عليه وآله وسلم ((إذا أُمرتم بأمر فأتوا منه ما استطعتم)).
وقوله تعالى: ((وَلا يَظْلِمُ رَبُّكَ أَحَدًا)) [الكهف49]، ويلزم القول به نفي العدل والحكمة عن الحكيم سبحانه وتعالى، وقد كثر القيل والقال في هذه المسألة بين الجبرية والعدلية، وطال النزاع والجدال عبر قرون كثيرة، وامتلأت صفحات الكتب الأصولية ـ علم الكلام ـ والتفاسير ووضعت لذلك كتب خاصة.
وبعد فهو مذهب لا ينبغي أن يُعَدَّ أهلُهُ من المسلمين، كيف وقد نسبوا إلى ربهم كلَّ فاحشةٍ وكلَّ قبيح وكلَّ معصية، ونزَّهُوا أنفسَهُم من ذلك، ونزَّهُوا الشيطان، وقالوا: كلُّ زنا وكلُّ معصية وقعت فالله تعالى هو الذي فعله وخلقه وشاءه وقدَّرَهُ ليس لأحد فعل، لم يلتفتوا إلى آيات القرآن التي ترد عليهم وتكذبهم، وكما في القرآن من أمثال قوله تعالى: ((تصنعون))، ((تفعلون))، ((تعملون))، ((تتخذون))، ((تكذبون))، ((وتخلقون إفكاً))، ((تدعون)).
[الشفاعة]
ومنها الشفاعة، فعند أئمتنا عليهم السلام أنها خاصة بالمؤمنين، واستدلوا لذلك بقوله تعالى: ((مَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ حَمِيمٍ وَلا شَفِيعٍ يُطَاعُ)) [غافر:18]، ((وَمَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ أَنصَارٍ)) [البقرة:270]، وقوله تعالى:
((لَّيْسَ بِأَمَانِيِّكُمْ وَلا أَمَانِيِّ أَهْلِ الْكِتَابِ مَن يَعْمَلْ سُوءًا يُجْزَ بِهِ وَلاَ يَجِدْ لَهُ مِن دُونِ اللّهِ وَلِيًّا وَلاَ نَصِيرًا)) [البقرة:123]، وغيرها من الآيات.
وما يلزم القائلين بأنها لأهل الكبائر من الإغراء بالمعاصي والكبائر، وهذا معناه هدم الدين والتكذيب بمعنى نحو قوله تعالى: ((إِنَّ اللّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالإِحْسَانِ وَإِيتَاء ذِي الْقُرْبَى وَيَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاء وَالْمُنكَرِ)) [النحل:90]، وهذا في الواقع فكرة شيطانية، فهو الذي يُهّوِّنُ الجرائمَ، ويُصَغِّرُ العظائمَ.
أما الأحاديث التي رووها في الشفاعة، فلا يجوز قَبُولُهَا لأنَّها من الآحاد، والآحادُ لا تُفيد العلمَ، فلا يُعمل بها في الأصول، هذا على فرض صحتها، ولكنها لَم تصح لمصادمتها قطعي القرآن، وإن كان قد صححها بعضُ أئمة الحديث، فليس تصحيحهم حجة ولا دليلاً، فلا يجوز الركون إليهم ولا الاعتماد عليهم، إنما الحجة اللازمة كتاب الله تعالى وسنة نبيه صلى الله عليه وآله وسلم التي حكم بصحتها أهل بيته عليهم السلام، إذ تصحيحهم حجة ودليل يلزم العمل بها بشهادة حديث الثقلين، المشهور عند علماء الأمة الثابت عن الرسول بلا شك ولا امتراء، أو ما كان من السنة ثابتاً عن الرسول باتفاق الأمة سواء بالتواتر أو بغيره.
[الخروج من النار]
من دخل النار فإنه لا يخرج منها، سواءاً كان من المسلمين أم من غيرهم، والقول بأن الموحدين لا يخلدون في النار ليس من دين الإسلام، بل هو مبدأ يهودي حكاه الله سبحانه في القرآن ورد على قائليه ((وَقَالُواْ لَن تَمَسَّنَا النَّارُ إِلاَّ أَيَّاماً مَّعْدُودَةً قُلْ أَتَّخَذْتُمْ عِندَ اللّهِ عَهْدًا فَلَن يُخْلِفَ اللّهُ عَهْدَهُ أَمْ تَقُولُونَ عَلَى اللّهِ مَا لاَ تَعْلَمُونَ () بَلَى مَن كَسَبَ سَيِّئَةً وَأَحَاطَتْ بِهِ خَطِيئَتُهُ فَأُوْلَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ)) [البقرة:81،80]، وفي هذه الآية دليلٌ واضحٌ، وحجةٌ قائمةٌ على من يدَّعي خروجَ الموحدين من النار، وأن ما رووه عن النبي ليس بصحيح، فالرسول صلى الله عليه وآله وسلم لا يخالف القرآن، ولا يأتي بغير ما حكم به الرحمن، وليس بينه وبين أحد من خلقه هوادة، فحكمه في الأولين والآخرين واحد، مبني على العدل والحكمة والرحمة ((سُنَّةَ اللَّهِ فِي الَّذِينَ خَلَوْا مِن قَبْلُ وَلَن تَجِدَ لِسُنَّةِ اللَّهِ تَبْدِيلاً)) [الأحزاب:62].
هذا رسول الله الخاتم صلى الله عليه وآله وسم يقول الله تعالى عنه ((وَلَوْ تَقَوَّلَ عَلَيْنَا بَعْضَ الأَقَاوِيلِ () لأَخَذْنَا مِنْهُ بِالْيَمِينِ () ثُمَّ لَقَطَعْنَا مِنْهُ الْوَتِينَ)) [الحاقة:44ـ 46]، ويقول سبحانه: ((لَئِنْ أَشْرَكْتَ لَيَحْبَطَنَّ عَمَلُكَ وَلَتَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِينَ)) [الزمر:65]، ويقول سبحانه: ((لَقَدْ كِدتَّ تَرْكَنُ إِلَيْهِمْ شَيْئًا قَلِيلاً () إِذاً لأَذَقْنَاكَ ضِعْفَ الْحَيَاةِ وَضِعْفَ الْمَمَاتِ)) [الإسراء:75]، ولم يقل تبارك وتعالى له: اعمل ما شئت فقد غفرتُ لك ما تقدم من ذنبك وما تأخر، ويقول سبحانه مخاطباً لأمهات المؤمنين: ((يَا نِسَاء النَّبِيِّ مَن يَأْتِ مِنكُنَّ بِفَاحِشَةٍ مُّبَيِّنَةٍ يُضَاعَفْ لَهَا الْعَذَابُ ضِعْفَيْنِ)) [الأحزاب:30]، ((ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلاً لِّلَّذِينَ كَفَرُوا اِمْرَأَةَ نُوحٍ وَاِمْرَأَةَ لُوطٍ كَانَتَا تَحْتَ عَبْدَيْنِ مِنْ عِبَادِنَا صَالِحَيْنِ فَخَانَتَاهُمَا فَلَمْ يُغْنِيَا عَنْهُمَا مِنَ اللَّهِ شَيْئًا وَقِيلَ ادْخُلا النَّارَ مَعَ الدَّاخِلِينَ)) [التحريم:10]، ويقول سبحانه قطعاً للأماني: ((لَّيْسَ بِأَمَانِيِّكُمْ وَلا أَمَانِيِّ أَهْلِ الْكِتَابِ مَن يَعْمَلْ سُوءًا يُجْزَ بِهِ وَلاَ يَجِدْ لَهُ مِن دُونِ اللّهِ وَلِيًّا وَلاَ نَصِيرًا)).
وكم في القرآن من الوعيد بالخلود للعصاة على العموم، وللقاتل وللزاني والعائد إلى الربا على الخصوص، هذا وقد أخرج الله سبحانه آدم من الجنة وهو المخصوص من الله بالكرامة العظيمة بمعصية، وطرد إبليس من الجنة ولعنه بمعصيته، وكان قد عبد الله ستة آلاف سنة.
[الكلام على الصحابة]
ومنها: أنَّ الصحابة كغيرهم فيهم المؤمن والمنافق كما قال سبحانه: ((وَمِمَّنْ حَوْلَكُم مِّنَ الأَعْرَابِ مُنَافِقُونَ وَمِنْ أَهْلِ الْمَدِينَةِ مَرَدُواْ عَلَى النِّفَاقِ لاَ تَعْلَمُهُمْ نَحْنُ نَعْلَمُهُمْ)) [التوبة:101]، وقال سبحانه: ((مِنكُم مَّن يُرِيدُ الدُّنْيَا وَمِنكُم مَّن يُرِيدُ الآخِرَةَ)) [آل عمران:152].
وفي الحديث المشهور عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم الذي فيه: ((فأقول أصحابي أصحابي فيقال له: إنك لا تدري ما أحدثوا بعدك إنهم ارتدوا على أدبارهم، فيقول صلى الله عليه وآله وسلم: سحقاً سحقاً))، ومن أراد البحث عن معرفة هذا الحديث فعليه بمقدمة الاعتصام للإمام القاسم بن محمد عليه السلام ([6]).
وقال الله سبحانه مخاطباً للصحابة أولاً وغيرهم ثانياً ((لَّيْسَ بِأَمَانِيِّكُمْ وَلا أَمَانِيِّ أَهْلِ الْكِتَابِ مَن يَعْمَلْ سُوءًا يُجْزَ بِهِ وَلاَ يَجِدْ لَهُ مِن دُونِ اللّهِ وَلِيًّا وَلاَ نَصِيرًا))، بل ربما تكون المعصية منهم أقبح وأشنع فيكونون أولى بمضاعفة العذاب، كما قال سبحانه في أزواج النبي صلى الله عليه وآله وسلم: ((يُضَاعَفْ لَهَا الْعَذَابُ ضِعْفَيْنِ)).
_________________
([6]) ـ انظر الاعتصام للإمام الحجة المنصور بالله رب العالمين القاسم بن محمد عليهما السلام [ج1/ص 36].
[الإمامة]
هذا والإمامة عند أهل البيت عليهم السلام ومن معهم أصل من أصول الدين جملة وتفصيلاً.
أما جملةً: فللأدلة القاطعة المتكاثرة على وجوب إتباعهم ومودتهم، وحرمة معاداتهم ومخالفتهم.
وأما تفصيلاً: فقد نص الدليل القاطع على إمامة أمير المؤمنين والحسنين عليهم السلام.
وأمَّا الأئمة من ذريتهما: فقد وقع الإجماع الفعلي المستمر من الأئمة والخلفاء والسلاطين من هذه الأمة على محاربة الخارج عن الإمام الممتنع عن تأدية الحقوق إليه.
وأيضاً فالإمام العادل خليفة للرسول صلى الله عليه وآله وسلم ونائبٌ منابه، فإذا وجبت معرفة الرسول صلى الله عليه وآله وسلم وجبت معرفة خليفته لتأدية حقه من السمع والطاعة.
وأيضاً فإن كثيراً من فرائض الإسلام مترتب عليه كالجهاد والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وأخذ الصدقات والخراج، وتوزيع ذلك، وإقامة الحدود والإنصاف بين الناس، وتأمين السبل، وضم الشمل للمسلمين، وجمع الكلمة إلى غير ذلك مما لا يتم إلا به.
قال الإمام يحيى بن حمزة عليه السلام راوياً عن العترة سلام الله عليهم: معرفة إمامة علي عليه السلام فرض عين فتارك النظر فيها مخطٍ، إذ معرفة إمام الزمان فرع على معرفته. انتهى من تتمة الاعتصام.
[الخلافة]
ومنها: أنَّ علي بن أبي طالب عليه السلام خليفة الرسول صلى الله عليه وآله وسلم حكماً من الله تعالى، والقائم مقامه، وأن الواجب على الأمة اعتقاد خلافته، وطاعته، وأنه أفضل الأمة بعد نبيها صلى الله عليه وآله وسلم، ثم الحسن بن علي، ثم الحسين بن علي عليهم السلام كذلك، ثم من قام ودعا من أولادهما مستجمعاً لشرائط الخلافة والزعامة من العلم الوافر، والورع، والزهد والسخاء، والشجاعة إلى آخر الشروط المذكورة في كتب الأئمة عليهم السلام.
وأدلتهم على ذلك أكثر من أن تحصى، كخبر المنزلة، والغدير، وخبر الدار يوم الإنذار، والحسن والحسين إمامان الخ، وإني تارك فيكم، ومن سمع واعيتنا...الخ.
وإجماع الأمة على جوازها فيهم بخلاف غيرهم فلم يحصل إجماع على الجواز، وإجماع أهل البيت على تقديم أمير المؤمنين ثم الحسن ثم الحسين ثم من...الخ.
وهم أهل الحق بما تقدم من الدليل، ومن أراد المزيد من الأدلة فعليه بكتب الكلام كينابيع النصيحة، وشرح الأساس، والمجموعة الفاخرة وغيرها من الكتب المشهورة المعروفة عند الناس.
[عودة لرأي الزيدية في الصحابة]
وعند أهل البيت أنَّ الصحابة كغيرهم من أحسن فلنفسه ومن أساء فعليها، بل ربما تكون المعصية منهم أقبح وأفحش، وذلك لأنَّهم رأوا النبيَّ صلى الله عليه وآله وسلم وشرفوا بمشافهته والسماع لآيات الله على لسانه فكانت المنة عليهم أكمل، والنعمة أتم.ولذلك قيل: حسنات الجاهلين سيئات للعارفين، وحكموا أي الأئمة على من تقدم أمير المؤمنين بالعصيان من غير أن يقطعوا بالكبر أو بالصغر، فعلى هذا عصيانهم محتمل للكبر والصغر، وقطعوا بفسق القاسطين والناكثين والمارقين، وكذلك الروافض والنواصب.
[بيان من هم الروافض والنواصب والمشبهة والقدرية والمرجئة]
والروافض: هم الذين رفضوا الجهاد مع الأئمة العادلين من أهل البيت، كالذين رفضوا الجهاد مع الإمام زيد عليه السلام.
والنواصب: هم كل من نَصَبَ الحربَ لأهل البيت النبوي عليهم السلام بالقول والفعل أو بأحدهما.
وحكموا كذلك بضلال المشبهة والمجسمة، وهم كل من أثبت لله أعضاء، وجهاً ويداً أو عيناً أو قدماً، أو قال إنه يُرى أو إنه في مكان أو أنه جسم أو نحو ذلك.
وحكموا كذلك بضلال القدرية والمجبرة وهم الذين يعملون المعاصي، ويقولون إنها بقضاء من الله وقدر، وأن الله هو الذي خلقها وقدرها وشاءها. وكذلك المرجئة وهم الذين يقولون: الإيمان قول بلا عمل، وكذلك يحكمون بضلال كل من خالف بعقيدته عقيدة آل محمد وأتباعهم رضوان الله عليهم.
[الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر]
ومنها: وجوب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر عند تكامل شروطه، لقوله تعالى: ((وَلْتَكُن مِّنكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنكَرِ وَأُوْلَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ)) [آل عمران:104]، أو الإنتقال أو الابتعاد عن المنكر وأهله إن لم يفعلوا ولم ينتهوا، ولم توجد حيلة لإزالته لقوله صلى الله عليه وآله وسلم: ((لا يحل لعين ترى الله يعصى فتطرف حتى تغير أو تنتقل))، وقوله تعالى: ((فَلاَ تَقْعُدْ بَعْدَ الذِّكْرَى مَعَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ)) [الأنعام:68]، ((فَلاَ تَقْعُدُواْ مَعَهُمْ حَتَّى يَخُوضُواْ فِي حَدِيثٍ غَيْرِهِ إِنَّكُمْ إِذًا مِّثْلُهُمْ)) [النساء:140]، ((لُعِنَ الَّذِينَ كَفَرُواْ مِن بَنِي إِسْرَائِيلَ عَلَى لِسَانِ دَاوُودَ وَعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ ذَلِكَ بِمَا عَصَوا وَّكَانُواْ يَعْتَدُونَ () كَانُواْ لاَ يَتَنَاهَوْنَ عَن مُّنكَرٍ فَعَلُوهُ)) [المائدة:79،78] إلخ.
وقد اتسم الزيدية بهاتين الصفتين أعني الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر منذ العهد الأول وإلى اليوم، وصار الخروج على الظلمة شعاراً يتميزون به بين طوائف المسلمين لا يفرطون في القيام بهذه الفريضة اللازمة، فصدق الله العليم ((اللّهُ أَعْلَمُ حَيْثُ يَجْعَلُ رِسَالَتَهُ)) [الأنعام:124].
[بيان من هو المؤمن]
ومنها أنَّ المؤمن: من أتى بالواجبات واجتنب المقبحات، والإيمان: قول باللسان واعتقاد بالجنان وعمل بالأركان، وقوله أتى بالواجبات يشمل واجبات اللسان والجنان والأركان، وكان معناه في اللغة: التصديق والمصدق، فنقله الشارع إلى ذلك المعنى، والدليل على النقل قوله تعالى: ((إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ إِذَا ذُكِرَ اللّهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ وَإِذَا تُلِيَتْ عَلَيْهِمْ آيَاتُهُ زَادَتْهُمْ إِيمَانًا وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ () الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلاَةَ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنفِقُونَ () أُوْلَئِكَ هُمُ الْمُؤْمِنُونَ حَقًّا)) [الأنفال:2-4]، إلى غير ذلك من الآيات والأحاديث كقوله صلى الله عليه وآله وسلم: ((لا يزني الزاني حين يزني وهو مؤمن)) الحديث.
[المنزلة بين المنزلتين]
فمن هنا قال أئمتنا: إن لصاحب الكبيرة الغير مخرجة من الملة منزلة بين المنزلتين، أعني بين منزلة الإيمان والكفر، فلا يسمى مؤمناً ولا كافراً.
أما أنه لا يسمى كافراً على الإطلاق فبالإتفاق إلاَّ ما يُحْكى عن الخوارج وهم فرقة مارقة لا يعتد بقولهم، وأما إنه لا يسمى مؤمناً، فلأن المؤمن صفة مدح وصاحب الكبيرة مذموم بارتكابه القبيح فيسمى عندهم فاسقاً وظالماً...إلخ.
ولا يسمى كافراً ولا مؤمناً، والأدلة مبسوطة في كتب الكلام كالأساس وشرحه، وللإمام الهادي عليه السلام كتاب المنزلة بين المنزلتين، وهو موجود من ضمن المجموعة الفاخرة.
[الزيارة والتبرك والتوسل]
ومنها: استحباب الزيارة لرسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وللصالحين، ولا سيما آل النبي صلوات الله عليه وعليهم، والتماس البركة بزيارتهم، واستنجاح المطالب بحقهم.
أما الصلاة على القبور فلا تجوز عند أهل البيت عليهم السلام، ويكرهون الصلاة إليها وبين المقابر، ولا يرون بأساً ببناء القباب ونحوها على القبور ولا بتسريج القباب وفرشها.
والدليل على كل ذلك، أما الزيارة لقبر الرسول صلى الله عليه وآله وسلم: فما روي عنه صلى الله عليه وآله وسلم: ((من زار قبري وجبت له شفاعتي))، وقوله صلى الله عليه وآله وسلم: ((من حج فزار قبري بعد وفاتي كان كمن زارني في حياتي))، وغير ذلك من الروايات الكثيرة عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم، ومن أراد المزيد فعليه بكتاب الغدير الجزء الخامس فقد ذكر فيه أكثر من عشرين رواية، وذكر من خرجها من صفحة 93إلى صفحة 207، وفيها ذكر التبرك والاستشفاع والتوسل، وفي أنوار التمام تتمة الاعتصام الجزء الثالث في صفحة 165إلى آخر الباب بحث مفيد في الزيارة ([7]).
أما زيارة قبور الصالحين: فقد ورد في زيارة قبور أهل البيت عليهم السلام خصوصاً روايات صحيحة رواها الهادي عليه السلام وغيره من أهل البيت عليهم السلام.
_________________
([7]) ـ ولمولانا الإمام الحجة مجدالدين المؤيدي أيده الله تعالى بتأييده رسالةٌ عظيمةٌ في هذا الموضوع اسمها: الرسالة الصادعة بالدليل في الرد على ما أورده صاحب التبديع والتضليل، مطبوعة في رسالة مستقلة، وهي أيضاً في ضمن مجمع الفوائد.
وأما زيارة غيرهم فكفى بزيارة الرسول صلى الله عليه وآله وسلم لأهل البقيع المأثورة في كتب القوم، وكفى به صلى الله عليه وآله وسلم إماماً، وقوله صلى الله عليه وآله وسلم: ((كنت نهيتكم عن زيارة القبور ألا فزوروها فإنه تذكر بالآخرة)) وهذا حديث مشهور بين أهل الملة، وفي المجموع بسنده عن علي عليه السلام قال: قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: ((عودوا مرضاكم واشهدوا جنائزكم وزوروا قبور موتاكم فإن ذلك يذكركم بالآخرة)).
وأما التسقيف والتقبيب: فقد قبر صلى الله عليه وآله وسلم في بيته وتحت سقفه ولم يستنكر أحد ذلك البناء الموجودة على قبر الرسول صلى الله عليه وآله وسلم لا من الصحابة ولا من بعدهم من أهل القرون، حتى ظهر إمام الوهابيين.
وبعد، فهو ظل للزائرين وكِنَانٌ من المطر، وحرزٌ من الحر والبرد، وكذلك فرشها وتسريجها تعود منفعة ذلك للزائر، وليس في شيء من ذلك ما يخل بالإيمان وبعقائد الإسلام.
هذا وقد جاء في الرواية التبرك بوضوء النبي صلى الله عليه وآله وسلم وببصاقه وبشعره في البخاري ومسلم.
[القرآن]
ومنها: أن هذا الكتاب الموجود بين المسلمين يتلى في المحاريب وفي غيرها هو كتاب الله وكلامه وإنشاؤه ووحيه وتنزيله، أنزله الله على رسوله للإعجاز والتحدي، لتعليم شرائع الإسلام، وفرائض الأحكام، والترغيب والترهيب والاعتبار إلخ، وأنه لا نقص فيه ولا تحريف ولا زيادة، وأنه ليس بقديم ـ تعالى الله أن يشاركه في الْقِدَمِ شريكٌ ـ ((هُوَ الأَوَّلُ وَالآخِرُ))، ((لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْء))، ويدل على ذلك قوله تعالى: ((مَا يَأْتِيهِم مِّن ذِكْرٍ مَّن رَّبِّهِم مُّحْدَثٍ)) [الأنبياء:2]، والذكر: هو القرآن بدليل قوله تعالى: ((إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ)) [الحجر:9]، ويدل أيضاً قوله تعالى: ((الَر كِتَابٌ أُحْكِمَتْ آيَاتُهُ ثُمَّ فُصِّلَتْ)) [هود: 1]، فقد وصفه بأنَّه مُحْكَمٌ ومُفَصَّلٌ وذلك معنى أنه مفعولٌ لفاعل، وكذلك قوله تعالى: ((اللَّهُ نَزَّلَ أَحْسَنَ الْحَدِيثِ كِتَابًا مُّتَشَابِهًا مَّثَانِيَ)) [الزمر:23].
[مصادر التشريع]
المصدر الأساسي عند أهل البيت وأتباعهم كتاب الله، وسنة رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، والإجماع، والقياس.
فكتاب الله تعالى: أصل الأدلة وأولها عند الجميع، وما صدر منها عن الرسول صلى الله عليه وآله وسلم لا خلاف في حجته، إنما الخلاف في الطريق الموصل إلى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم.
فالمستند والطريق عند أهل البيت وأتباعهم رضوان الله عليهم جميعاً ما رواه أئمة أهل البيت وثقاتهم وما رواه ثقات الزيدية، وللعمل به عندهم شروط مذكورة في كتب الأصول.
أما ما رواه أهل الحديث فلا يعتمدون عليه، ولا يلتفتون إليه إلا على جهة الاستظهار على الخصم وإقناعه.
والأجماع حجة عندهم بقسميه، وكذلك القياس، ومن أراد الاطلاع على تفاصيل ذلك ودليل حجية كل منهما فعليه بكتب الأصول.
وعند أئمتنا عليهم السلام وأتباعهم رضوان الله عليهم أن ما ثبت عن أمير المؤمنين عليه السلام فهو حجة ودليل لقول النبي صلى الله عليه وآله وسلم: ((علي مع الحق))، ونحوه مما كثر واشتهر عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم، وفي شرح الغاية للحسين بن القاسم طرف من ذلك، فيرجع إليه من أراد المزيد ([8]).
_______________
([8]) ـ وكذلك انظر لوامع الأنوار [ط2/ج1/ص 205]، ومجمع الفوائد [ط1/ص395]، وهما لمولانا الإمام الحجة مجدالدين المؤيدي ـ أيده الله تعالى بتأييده ـ.
[تنبيهات]
ما رواه أهل البيت عليهم السلام وأتباعهم رضي الله عنهم هو قليل بالنسبة لما رواه غيرهم من المحدثين.
فلعلَّ قائلاً يقول: إنهم لا يهتمون بعلم الحديث، ولا يشتغلون بالنظر فيه، وجل اهتمامهم في الجهاد والأصول.
فنقول: إنهم عليهم السلام مهتمون بالشريعة كلها جملة وتفصيلاً قياماً بحق الخلافة والوراثة، بما في ذلك نقل السنة الثابتة عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم، ولا حاجة إلى نقل ما لم يصح، فهذه رواية الإمام زيد بن علي، وحفيده، وروايات محمد بن منصور عن سادات عصره، وروايات الهادي، والسادة الهارونيين، والعلوي، والموفق، والمرشد، وصحيفة علي بن موسى وغير ذلك كثير في كتب أئمة الزيدية وعلمائها رضوان الله عليهم، فلا يعدل عن علمهم إلا مخذول ([9]).
_______________
([9]) ـ قال مولانا الإمام الحجة مجدالدين المؤيدي أيده الله تعالى في لوامع الأنوار تحت بحث [كون آل محمد وأتباعهم حملة الكتاب والسنة وأن أهل الحديث عالة عليهم] ما لفظه:
وإنَّما اضطُروا إلى النقل عنهم؛ لأنَّ آلَ محمد عليهم السلام وأتباعَهُم هم حملة الكتاب، وأعلام السنن، وحماة الدين، وحفظة شريعة سيد المرسلين، ورواة الأخبار، وَنَقَلَةُ الآثار، وأرباب الحديث، في القديم والحديث؛ ومن له عناية واطلاع، علم أنهم هم الناس، وأن غيرهم عالة عليهم؛ وإنما أضاع متأخريهم، عدم عنايتهم بآثار سلفهم وسابقيهم. انتهى.
وقال السيد صارم الدين الوزير عليه السلام في الفلك الدوار نقلاً عن لوامع الأنوار:
ولم يزل العلماء الأعلام، من فضلاء أمة محمد صَلَّى الله عَليْه وآله وسلَّم مقبلين على علمي الكتاب والسنة، ومعملين في نصرهما لسيوف الاحتجاج ومواضي الأسنة؛ والمتقون منهم البررة، معترفون في ذلك لعلماء العترة المطهرة، مغترفون من علومهم الزاخرة، مقتبسون من أنوار معارفهم الزاهرة، مقدّمون لهم في الدراية، ومستكثرون في النقل عنهم وصارفون إلى محفوظاتهم العناية. ولقد حكي عن جابر الجعفي أنه كان يحفظ عن الباقر عليه السلام ثمانين ألف حديث، وعن الحافظ ابن عقدة أنه كان يجيب في ثلاثمائة ألف حديث من حديث أهل البيت وبني هاشم، إلى غير ذلك مما يطول الكلام بذكره. انتهى.
[عصمة الأنبياء عليهم الصلاة والسلام]
ومنها: أنَّ أنبياء الله صلوات الله عليهم منزهون عن إرتكاب الكبائر وما فيه خسة وضعة من الصغائر، وما يروى في بعض كتب التفسير ليس بصحيح، أما ما ذكر الله سبحانه في القرآن من عصيان بعضهم فقد كان منهم على جهة الخطأ والتأويل، وليس على جهة التجري والعصيان، كما قال الله عن آدم ومعصيته حاكياً: ((وَقَالَ مَا نَهَاكُمَا رَبُّكُمَا عَنْ هَذِهِ الشَّجَرَةِ إِلاَّ أَن تَكُونَا مَلَكَيْنِ أَوْ تَكُونَا مِنَ الْخَالِدِينَ)) [الأعراف:20]، فآدم صلوات الله عليه ظن صدق وسوسة الشيطان، وطمع في ما أطمعه الشيطان، فما أكل إلاَّ على طمع نيل درجة الملائكة أو الخلود.
وهكذا ذو النون إذ ذهب مغاضباً فظن أن الله لن يؤاخذه كما حكى الله سبحانه وتعالى: ((فَظَنَّ أَن لَّن نَّقْدِرَ عَلَيْهِ)) [الأنبياء:87] إلخ، وهكذا سائر الأنبياء صلوات الله عليهم.
[بحث في عصمة أهل البيت عليهم السلام]
ومنها: أنَّ العصمة ثابتة لأمير المؤمنين، وفاطمة، والحسن، والحسين، بدليل آية التطهير، وحديث الكساء، و((علي مع الحق))، و((فاطمة بضعة مني))، إلى غير ذلك من الآيات والأحاديث المتكاثرة.
وكذلك هي ثابتة لأهل البيت عليهم السلام جملة في أي عصر بدليل ما تقدم، و((إني تارك فيكم))، وحديث السفينة، و((لا تزال طائفة من أمتي))، إلى غير ذلك مما لا يحصى كثرة، أما آحادهم فلم تثبت عصمتهم.
ولا يبعد عصمة بعض منهم، ولكن لم يدل دليل على ذلك، إذاً فالأئمة بعد أهل الكساء لم يدل دليل على عصمتهم، وإن كان غير بعيد عصمة بعضهم فلا يشترط في الإمام أن يكون معصوماً عند أهل البيت عليهم السلام وشيعتهم رضوان الله عليهم.
لكن إذا أحدث الإمام حدثاً يوجب الفسق فإنها تبطل إمامته، هذا على سبيل الفرض، وإلا فإنا لَم نعلم من أئمة الهدى [فعل] ما يوجب كفراً أو فسقاً صلوات الله ورحمته عليهم أجمعين، وذلك لقوله تعالى: ((وَلاَ تَرْكَنُواْ إِلَى الَّذِينَ ظَلَمُواْ فَتَمَسَّكُمُ النَّارُ)) [هود:113]، وقوله تعالى: ((قَالَ إِنِّي جَاعِلُكَ لِلنَّاسِ إِمَامًا قَالَ وَمِن ذُرِّيَّتِي قَالَ لاَ يَنَالُ عَهْدِي الظَّالِمِينَ)) [البقرة: 124]، وقوله تعالى: ((وَمَا كُنتُ مُتَّخِذَ الْمُضِلِّينَ عَضُدًا)) [الكهف: 51].
ومنها: أنه لا يجوز طاعة الإمام الظالم، ولا نصرته، ولا تصح جمعته ولا جماعته، ولا يجوز إيناسه، ولا إعانته، وكذا كل ظالم إلاَّ مع الخوف على النفس فيجوز ما ليس فيه ضرر على المؤمنين كالصلاة ونحوها، ولا يسقط بها الفرض، وذلك لقوله تعالى: ((وَتَعَاوَنُواْ عَلَى الْبرِّ وَالتَّقْوَى وَلاَ تَعَاوَنُواْ عَلَى الإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ)) [المائدة:2]، وقوله تعالى: ((وَلاَ تَرْكَنُواْ إِلَى الَّذِينَ ظَلَمُواْ فَتَمَسَّكُمُ النَّارُ))، إلى ما لا يحصى من الأدلة في هذا الباب، ومن أراد المزيد فعليه برسالة التحذير للإمام القاسم بن محمد عليه السلام.
[الكبائر]
قال يحيى بن الحسين عليهما السلام:
الكبائر: هي كل ما أوجب الله على فاعله النار إن لقيه عليه لم يتب منه ولم يخرج إليه منه. انتهى كلام الهادي، فمن أراد فعليه بكتاب الله للتعرف على ما يوجب النار.
[الصغائر]
أما الصغائر فلا تتعين عند أئمتنا عليهم السلام، لأنها لو عينت لكان ذلك كالإغراء بها، والإغراء بالمعاصي لا يليق بالحكيم، فليس من الحكمة تعيينها، وهذا هو المهم في هذه المسألة الذي ينبغي التنبيه عليه، لأن الله تعالى لا يريد شيئاً من العصيان على الإطلاق صغيراً كان أو كبيراً، فكل ما نهى عنه في كتابه أو على لسان رسوله فلا يريده، ولا يرضاه، ولا يشاؤه، وكل ما أمر به تعالى في كتابه أو على لسان رسوله فإنه يريده، ويرضاه، ولا يحب الإخلال به.
فلو عَيَّنَ شيئاً من ذلك وقال إنه صغير لكان كالإغراء لنا به ورجع على حكمته من النهي والأمر بالنقض والإبطال، وهذا ما يجب تنزيه الحكيم تعالى وتقدس عنه.
[حكم مرتكب الكبيرة]
وعند أئمتنا أن من ما ت غير تائب من الكبيرة فإنه من أهل النار خالداً مخلداً سواءاً كان من المسلمين أم من غيرهم، والدليل على ذلك آية القتل في سورة النساء: ((وَمَن يَقْتُلْ مُؤْمِنًا مُّتَعَمِّدًا فَجَزَآؤُهُ جَهَنَّمُ خَالِدًا فِيهَا))..الآية، وآية الفرقان: ((وَالَّذِينَ لا يَدْعُونَ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آخَرَ وَلا يَقْتُلُونَ النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إِلَّا بِالْحَقِّ وَلا يَزْنُونَ وَمَن يَفْعَلْ ذَلِكَ يَلْقَ أَثَامًا (68) يُضَاعَفْ لَهُ الْعَذَابُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَيَخْلُدْ فِيهِ مُهَانًا (69) إِلَّا مَن تَابَ)) [الفرقان:68-70] الآية، وفي سورة النساء بعد ذكر المواريث قال: ((وَتِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ)) ثم قال سبحانه: ((وَمَن يَعْصِ اللّهَ وَرَسُولَهُ وَيَتَعَدَّ حُدُودَهُ يُدْخِلْهُ نَارًا خَالِدًا فِيهَا)) [النساء:14]، وكآية الزنى: ((وَمَنْ عَادَ فَأُوْلَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ)) [البقرة: 275]، وقال: ((وَإِنَّ الْفُجَّارَ لَفِي جَحِيمٍ (14) يَصْلَوْنَهَا يَوْمَ الدِّينِ (15) وَمَا هُمْ عَنْهَا بِغَائِبِينَ)) [الإنفطار: 14-16]، إلى غير ذلك من الآيات، والأحاديث كحديث: ((من قتل نفسه بحديدة فحديدته في يده يجأ بها بطنه في نار جهنم خالداً فيها مخلداً، ومن قتل نفسه بسم فسمه في يده يتحساه في جهنم خالداً فيها مخلداً، ومن قتل نفسه بتردي من جبل فهو في جهنم يتردى فهيا خالداً مخلداً))، رواه في الجامع الكافي، عن أبي هريرة، وأخرجه البخاري ومسلم والترمذي والنسائي، أفاد هذا في تتمة الاعتصام ([10]).
_________________
([10]) ـ ولفظ البخاري: ((مَنْ تَرَدَّى مِنْ جَبَلٍ فَقَتَلَ نَفْسَهُ فَهُوَ فِي نَارِ جَهَنَّمَ يَتَرَدَّى فِيهِ خَالِدًا مُخَلَّدًا فِيهَا أَبَدًا، وَمَنْ تَحَسَّى سُمًّا فَقَتَلَ نَفْسَهُ فَسُمُّهُ فِي يَدِهِ يَتَحَسَّاهُ فِي نَارِ جَهَنَّمَ خَالِدًا مُخَلَّدًا فِيهَا أَبَدًا، وَمَنْ قَتَلَ نَفْسَهُ بِحَدِيدَةٍ فَحَدِيدَتُهُ فِي يَدِهِ يَجَأُ بِهَا فِي بَطْنِهِ فِي نَارِ جَهَنَّمَ خَالِدًا مُخَلَّدًا فِيهَا أَبَدًا)).
[الكلام على إبطال حديث ((شفاعتي لأهل الكبائر من أمتي))]
أما الحديث الذي يقول: ((شفاعتي لأهل الكبائر من أمتي))، فليس له في علم أهل البيت أصل، بل ينكرونه أشد الإنكار، وينكرون أن يكون النبي صلى الله عليه وآله وسلم قاله أو تكلم به، وكيف يصح وقد خالف القرآن الذي لا يأتيه الباطل الآية، وحاشا رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم من مخالفة كتاب ربه، مع ما في ذلك من الإغراء بالكبائر والحث عليها، فلا حرج من إرتكاب العظائم، ولا خوف من إتيانها فشفاعة محمد صلى الله عليه وآله وسلم من ورائها، فلتنعم أمتي بالسفاح واللواط وسفك الدماء وشرب الخمر، ولا بأس عليها في عقوق الوالدين، وقطيعة الأرحام، وأكل مال اليتيم، ونكث العهد، والتطفيف، والخيانة، وقول الزور، وأكل الربا فإن شفاعتي لهؤلاء خاصة.
نعم، هذا هو معنى الحديث، وانظر هل هو معنى ما وصف الله تعالى نبيه صلى الله عليه وآله حينما قال في وصفة صلى الله عليه وآله: ((يَأْمُرُهُم بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَاهُمْ عَنِ الْمُنكَرِ وَيُحِلُّ لَهُمُ الطَّيِّبَاتِ وَيُحَرِّمُ عَلَيْهِمُ الْخَبَآئِثَ)) [الأعراف:157]، أم أنه لا يقول ذلك إلاَّ شيطان، فهو الذي يأمر بالمنكر وينهى عن المعروف ويعدهم ويمنيهم وما يعدهم الشيطان إلا غرورا، ثم انظر كيف يكون معنى الدعاء المأثور: "واجعلنا من أهل شفاعته" فإن المعنى اجعلنا من أهل الكبائر حاشا النبي الأمين صلى الله عليه وآله من التقول على الله تعالى والتكذيب بآياته، والتسهيل لمعصيته، والتأمين من عذابه، وقد قدمنا شيئاً من الكتاب يشهد لِما قلنا كقوله تعالى: ((مَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ حَمِيمٍ وَلا شَفِيعٍ يُطَاعُ)) [غافر: 18] ونحوها من آيات الوعيد في بحث الكبائر.
[أهمية هذه المسائل]
لهذه المسائل أهمية عظيمة عند الزيدية، والخطأ فيها عندهم غير مغتفر، ولا سيما في التوحيد والعدل كالتشبيه والجبر، فإن معناه عندهم هو الجهل بالله، والجهل به تعالى كفر، ولذا تراهم يسمونهم كفار تأويل.
ومن هنا فإن الزيدية لا يجوزون التقليد في هذه المسائل وما شابهها، بل يوجبون النظر في الأدلة الموصلة إلى العلم، والاختلاف والتفرق عندهم في ذلك ذنب عظيم، وما روي عن بعضهم عن النبي صلى الله عليه وآله من قوله: ((اختلاف أمتي رحمة))، ليس بصحيح عن النبي صلى الله عليه وآله، لأنه صلى الله عليه وآله لا يخالف كتاب ربه، ولا يأتي بغير ما أمره ربه تبارك وتعالى، كيف والله يقول في كتابه: ((وَلاَ تَكُونُواْ كَالَّذِينَ تَفَرَّقُواْ وَاخْتَلَفُواْ مِن بَعْدِ مَا جَاءهُمُ الْبَيِّنَاتُ وَأُوْلَئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ)) [آل عمران: 105].
[حكم الحديث إذا خالف كتاب الله تعالى]
وعند أئمتنا عليهم السلام أنَّ ما جاء من الحديث عن النبي صلى الله عليه وآله وهو مخالف لكتاب الله تعالى فإنه يرد ولا يقبل ولا يجوز العمل به من دون تأويل، وأحسن السبل لتحصيل المسائل الإلآهية وما يلحق بها سبيل الزيدية وأئمتها فإنها السبيل الآمنة التي لا يضل سالكها أبداً بشهادة نبي الرحمة ورسول هذه الأمة صلى الله عليه وآله حين قال: ((إني تارك فيكم ما إن تمسكتم به لن تضلوا من بعدي أبداً كتاب الله وعترتي أهل بيتي إن اللطيف الخبير نبأني أنهما لن يفترقا حتى يردا عليَّ الحوض))، وقال صلى الله عليه وآله: ((أهل بيتي فيكم كسفينة نوح من ركبها نجا، ومن تخلف عنها غرق وهوى)).
وبعد، فإنه ليس لطائفة من طوائف الإسلام ما تثبت به دعواها من أن الحق معها وفي جانبها، غير أن بعضهم يقول إن رسول الله صلى الله عليه وآله قال في بيان أن الحق معهم ((ما كانت عليه أنا وأصحابي))، أو كما قال صلى الله عليه وآله، ولكن ما في هذا الحديث ما يدل على أن الأشعرية أو الوهابية أو الحنبلية أو الزيدية على الحق، وأن الحق معهم وفي جانبهم، لا بالمنطوق ولا المفهوم، ولا بالتصريح ولا بالإشارة.
أمَّا الزيدية فقد نصت الأدلة وصرحت بأن الحق مع عترة الرسول صلى الله عليه وآله، وكثرت الأحاديث واشتهرت بين الأمة وخرجت عن حد الحصر وروتها تلك الطوائف في كتبها وقالوا إنها صحيحة، فبذلك قامت لله سبحانه وتعالى الحجة على جميع الخلق ((لِّيَهْلِكَ مَنْ هَلَكَ عَن بَيِّنَةٍ وَيَحْيَى مَنْ حَيَّ عَن بَيِّنَةٍ وَإِنَّ اللّهَ لَسَمِيعٌ عَلِيمٌ)) [الأنفال: 42]، فمن أخذ دينه عن عترة الرسول صلى الله عليه وعليهم فقد استمسك بالعروة الوثقى لا انفصام لها، ومن دان بغير دين آل الرسول صلى الله عليه وآله فقد ضل عن السبيل، وظلم نفسه وغرق وهوى في ظلم الضلال، بدليل قوله تعالى: ((فَمَاذَا بَعْدَ الْحَقِّ إِلاَّ الضَّلاَلُ فَأَنَّى تُصْرَفُونَ)) [يونس: 32].
فالحمد لله على ما بين لنا كيف المخرج عند الاختلاف، وأرشدنا إلى معرفة أهل الحق حمداً كثيراً طيباً مباركاً فيه، لا نحصي ثناء عليه هو كما أثنى على نفسه.
[الصراط والميزان]
الصراط الموصوف في بعض الروايات بأنه أحد من السيف، وأنه منصوب على جهنم يمر عليه أهل الموقف فمن كان من أهل الإيمان مر بسلام مع استشعار الخوف والخشية من الوقوع حتى أن أمثلهم يقول: سلم سلم، وأما من كان غير مؤمن فإنه يتردى في جهنم، فهذا الصراط الموصوف لا أصل له في عقيدة الزيدية وأئمتنا رضوان الله عليهم، ولا ذكر له في كتاب الله تعالى وقد قال تعالى: ((مَّا فَرَّطْنَا فِي الكِتَابِ مِن شَيْءٍ)) [الأنعام:38]، ولا وثوق برواية الحشوية من أهل الحديث، مع العلم أنها إن صحت فلا تفيد إلا الظن وقد قال تعالى: ((وَلاَ تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ إِنَّ السَّمْعَ وَالْبَصَرَ وَالْفُؤَادَ كُلُّ أُولئِكَ كَانَ عَنْهُ مَسْؤُولاً)) [الإسراء: 36]، وقد قال تعالى: ((إَنَّ الظَّنَّ لاَ يُغْنِي مِنَ الْحَقِّ شَيْئًا)) [يونس:36].
وكذلك الميزان، فقد وصف في بعض الروايات بأن كفة في المشرق وكفة في المغرب، ولا وثوق بتلك الروايات، وكلما ذكر الوزن في القرآن يوم القيامة فالغرض به العدل، وقد قال تعالى: ((وَالْوَزْنُ يَوْمَئِذٍ الْحَقُّ)) [الأعراف: 8]، فأخبر عن الوزن بأنَّه الحقُّ.
[العرش والكرسي]
والعرش عند أئمتنا هو: الملك، في قوله تعالى: ((ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ)) [الأعراف: 54]، وفي قوله تعالى: ((وَيَحْمِلُ عَرْشَ رَبِّكَ فَوْقَهُمْ يَوْمَئِذٍ ثَمَانِيَةٌ)) [الحاقة: 17]، ونحوهما. نطقت بهذا الاستعمال العرب العرباء والقرآن نزل بلغتهم قال الشاعر العربي:
إن يقتلوك فقد ثللت عروشهم .... بعتيبة بن الحارث ابن شهاب
والكرسي المذكور في قوله تعالى: ((وَسِعَ كُرْسِيُّهُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ)) [البقرة:255]، معناه العلم كما يدل عليه السياق، فإنه في ذكر العلم أو الملك وكلاهما استعمال عربي عريق، قال الشاعر العربي يصف قوماً ويمدحهم:
كراسي بالأحداث حين تنوب
ومنه سميت الصحيفة التي يكتب فيها العلم كراسة، وذكر ابن كثير في تفسيره معنيين أولهما: أنه العلم، رواه ابن أبي حاتم عن ابن عباس، وكذا رواه ابن جرير، قال ابن أبي حاتم: وروي عن سعيد بن جبير مثله، وليس هناك في مذهب الزيدية وعلمائها: سرير له قوائم، والكرسي أصغر منه كما ذكره أهل الحشو والظاهر، وأهل البيت عليهم السلام أخذوا علمهم ورواياتهم للأحاديث عن آبائهم عن أمير المؤمنين عن النبي صلى الله عليه وآله عن جبريل عن الله تبارك وتعالى، وصاحب البيت أدرى بالذي فيه.
[الصور]
والصور المذكور في قوله تعالى: ((وَنُفِخَ فِي الصُّورِ)) [الكهف: 99]، هو جمع صورة، كما أن الصوف جمع صوفة جمعاً قياسياً بالاتفاق، فيما لم يكن من صنع المخلوقين، أفادة في الأساس للمنصور بالله، وإعادة الضمير إليه مفرداً هو من خصائص هذا الجمع، ألا ترى أنهم يقولون: الصوف نفشته، وليس هناك بوق قد التقمه إسرافيل كما يقول أهل الحشو، والناقور مجاز.
[معنى الإيمان بالقدر خيره وشره]
معنى القدر في الحديث المروي عن النبي صلى الله عليه وآله: ((الإيمان أن تؤمن بالله وملائكته وكتبه ورسله واليوم الآخر، وتؤمن بالقدر خيره وشره)).
قدر الخير: مثل الصحة والعافية في النفس والأهل والولد وطول العمر وسعة الرزق والأمطار والخصب وصلاح الثمار والأمن والراحة وسكون النفس إلى غير ذلك مما شاكلها.
وقدر الشر: نحو الموت والمرض والخوف والفقر ونقص الثمرات وقلة الأمطار وقلة الخصب وفساد الثمار وقلة ذات اليد والقلق والنكد وما جانس ذلك.
وليس معنى القدر خيره وشره من الله: أن الظلم والزنا واللواط والغش والكذب وخلف الوعد ونكث العهد والكفر والشرك وجميع المعاصي كلها من الله، فهذا ليس من القدر الذي يجب الإيمان به، تعالى الله عن ذلك علواً كبيراً.
فلا يجوز أن نرتكب الفواحش ثم نقول: إنها من الله وبقدره، بل نحن الذي عصينا باختيارنا، وفعلنا وأتينا من قبل أنفسنا، نحن المسؤلون عن العصيان، والله تعالى منزه عن فعلنا، لا يرضى لعباده الكفر، ولا يحب الفساد، ((إِنَّ اللّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالإِحْسَانِ وَإِيتَاء ذِي الْقُرْبَى وَيَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاء وَالْمُنكَرِ وَالْبَغي)) الآية. ((إِنَّ اللّهَ يَأْمُرُكُمْ أَن تُؤدُّواْ الأَمَانَاتِ إِلَى أَهْلِهَا وَإِذَا حَكَمْتُم بَيْنَ النَّاسِ أَن تَحْكُمُواْ بِالْعَدْلِ)) [النساء:58].
وبعد، فإنه ليس في كتاب الله تعالى أن فعل المعاصي بقدر من الله تعالى، بل فيه قوله تعالى: ((قُل لَّن يُصِيبَنَا إِلاَّ مَا كَتَبَ اللّهُ لَنَا)) [التوبة:51]، وليس فيه: لن تصيبوا إلا ما كتب الله عليكم، ولله در من قال: ما استغفرت الله منه فهو منك، وما حمدت الله عليه فهو منه، وفرق واضح بين يصيبنا وتصيبوا، وفي حديث رواه الإمام أبو طالب عليه السلام، ورواه مسلم في صحيحه عن النبي صلى الله عليه وآله، وفي آخر الحديث ((فمن وجد خيراً فليحمد الله، ومن وجد غير ذلك فلا يلومنَّ إلاَّ نفسه)).
فعلى هذا المسؤول عن فعل المعاصي هو الإنسان، وليس لقدر الله وقضاؤه دخل في ذلك، وفي حديث عن النبي صلى الله عليه وآله: ((والشر ليس إليك)) رواه مسلم، فلا يجوز إضافة الشر إلى الباري تعالى.
فنعوذ بالله من قوم استحوذ عليهم الشيطان فصاروا من جنده يدعون بدعوة الشيطان، ويزينون عصيان الرحمن، ويسهلون لهم طاعة الشيطان الرجيم، فتراهم تارة يقولون: إن الشفاعة لأهل الكبائر الموبقة ينسبون ذلك إلى النبي صلى الله عليه وآله وحاشاه، وتارة أخرى تراهم يحدثون عن النبي بأن من قال لا إله إلا الله دخل الجنة وإن سرق وإن زنى، وإن أهل هذه الكلمة لا يخلدون في النار، وتراهم ينزهون أنفسهم والشيطان من معاصيهم ثم يقولون: إنها من فعل ربهم خلقها وشاءها وقضاها وقدَّرَهَا.
[الإجتهاد والتقليد]
باب الاجتهاد ما زال مفتوحاً والمراد به: استنباط الأحكام الشرعية الفرعية من أدلتها التفصيلية، والمجتهد هو من عنده ملكة يقدر بها على ذلك، ومن كان بهذه المنزلة فإنه يجب عليه النظر، والإجتهاد في تحصيل ما كلف به من الأحكام والعمل به، ولا ينبغي له التقليد.
أمَّا مَنْ كان لا يقدر على النظر والاجتهاد فإنه يجب عليه التقليد والنظر في كمال من يقلده وأهليته، ولتفصيل ذلك موضع آخر في كتب الأصول.
[بيان أنَّ الحق لا يخرج عن أهل البيت عليهم السلام، والكلام على المذاهب]
والذي قضت به الأدلة أنه لا يجوز الخروج من مذهب أهل البيت عليهم السلام لأنهم أهل الهدى وسفينة نوح وقرناء القرآن.
المذاهب الإسلامية الذي اشتهر من المذاهب الإسلامية وصار له كيان وإتباع ثلاثة:
الشيعة.
المعتزلة.
أهل السنة والجماعة أو إن شئت فسمهم المجبرة.
والشيعة: فرق شتى أهمها الجعفرية والزيدية وما سواهما من فرق الشيعة ليس لهم كيان معروف أو مؤلفات منتشرة بشكل واسع يعرف من خلالها هويتهم الفكرية.
أما الجعفرية: فأهم ما تميزت به عن الزيدية القول بالنص على إثني عشر إماماً آخرهم المهدي محمد بن الحسن العسكري، وأنه ما زال حياً حتى الآن.
والمعتزلة: فرق شتى يجمعها مخالفة الزيدية في الإمامة من أولها إلى آخرها، ولهم مذاهب كلامية تفلسفوا فيها، وتجاوزوا حدود المعقول، وقد كان لهم كيان كبير ولكنه تضاءل مع مرور الزمان وذاب كيانه في المذاهب الإسلامية، ولم يبق إلا شبحه في أسفارهم التي خلفوها أو من تعجبه تحقيقاتهم وتوضيحاتهم من غير أن ينتمي إليهم.
أهل السنة والجماعة: وهم فرق شتى يجمعهم القول:
بأنه لا حكم للعقل في معرفة حسن ولا قبيح، وأنه لا هداية له إلى أن يفرق بين المحسن والمسيء، وأنما جاءت التفرقة من الشرائع السماوية.
والقول بأن ما حدث في الكون من خير وشر وطاعة وعصيان وحركة وسكون فإن الله هو فاعلها وخالقها دون غيره.
وأنه يشاء المعاصي ويريدها.
وأن ما حدث من خير وشر فهو بقضاء من الله وقدر سواءً كان ذلك طاعة أو عصياناً أو غيرهما.
وأنه ليس للإنسان قدرة على ما كلفه ربه به، وليس له إختيار في طاعة أو عصيان، وأن ما أحدثه الإنسان من ذلك فإن الله تعالى خلقه فيه وقدره وأراده وشاءه، وإنما الإنسان كالشجرة التي تحركها الرياح أو السيارة التي يحركها غيرها.
وأن الله سبحانه إذ كلف الإنسان فقد كلفه ما لا يطاق، إذ كلفه بما لا يقدر عليه، صرح بذلك الغزالي في المحصول.
وأن الله سبحانه وتعالى ذو جوارح وأعضاء، فله أعين ويدان وقدم وجنب وأصابع وقبضة وساق وأنه على العرش.
وأنه سبحانه سوف يُرى يوم القيامة، ويكشف عن ساقه، ويضع قدمه في جنهم فتقول: قط قط، فيشفع الرسول صلى الله عليه وآله لأهل الكبائر من أمته، وكل من قال لا إله إلا الله أدخله الله الجنة وإن سرق وإن زنى أو قتل أو كان صاحب ربا، ولهم كلام في اسماء الله الحسنى وفي كلامه صادر عن جهل عظيم، ولهم أيضاً كلام في الصحابة والتفضيل والتشيع والخلافة دفعوا به حجج القرآن وعاندوا به حكم الرحمن.
[الزيدية]
والزيدية ما تميزت به قد احتوت هذه الصفحات على أصولها التي خولفت فيها، وبيان تلك الأصول بصورة موجزة، وبيان طرف من الدلالة على كل أصل.
إذاً فالخلاف الكبير هو بين الزيدية وأهل السنة والجماعة كما سموا أنفسهم، على اختلاف فرقهم من الوهابية وغيرهم، فقد اتسعت هوته، وتعفنت كلومه، واتسع نطاقه، فمن حاول المقاربة بين المذهبين فقد حاول ما لا يكون، وكيف يكون تقارب بين حق وباطل، وهدى وضلال؟!، مع العلم أنه لم يحصل في تاريخ البشر الطويل توافق وإئتلاف لمن كان كذلك.
نعم، قد يحصل تقارب بين أهل المذاهب وبين الزيدية مثلاً، ولكن بشرط أن تتخلى الزيدية عن معتقداتها وتدخل في عقائد غيرها أو تتنازل تلك المذاهب عن أصولها وتدين بأصول الزيدية، فحينئذ يتم التقارب والإئتلاف، فوحدة العقيدة ضرورة حتمية لتوحيد الصف وضم الشمل.
[شبهة والرد عليها في الفرقة الناجية]
في مختصر العقيدة الواسطية أن الفرقة الناجية هم أهل السنة والجماعة، ثم بين من أين أخذ أنها ناجية، فأجاب من قوله صلى الله عليه وآله: ((ستفترق هذه الأمة إلى ثلاث وسبعين فرقة كلهم في النار إلا واحدة)) ومن قوله صلى الله عليه وآله: ((لا تزال طائفة من أمتي على الحق منصورة لا يضرهم من خذلهم ولا من خالفهم حتى تقوم الساعة)).
ونقول في الجواب على دعواهم: إنهم ما زالوا في حَيِّزِ الدعوى، وما استدلوا به ليس بدليل على ما ادعوا، فقوله صلى الله عليه وآله: ((إلاَّ واحدة))، فيه إبهام للواحدة، وكذلك الحديث الثاني الطائفة مبهمة.
فإن استدلوا بغير ما استدلوا به هنا نحو قول بعضهم: إنه ورد في الحديث: ((ما كان عليه أنا وأصحابي)).
فالأمر مبهم كذلك إذ أن كل فرقة من فرق المسلمين تدعي أنها على ما كان عليه الرسول صلى الله عليه وآله وأصحابه، لهم كتب في السنة مروية بأسانيد رجال موثقين عندهم كفرق الشيعة وفرق الفقهاء الحنفية والشافعية والحنبلية والمالكية وفرق الحشوية وإلى آخره.
ولم يقم أحد الدلالة الواضحة على أن فرقته هم الفرقة الناجية سوى الزيدية، فقد روت جميع الطوائف المختلفة حديث الثقلين، وحديث السفينة وغيرهما، مما يدل دلالة واضحة أن متبع أهل البيت هم الناجون.
فإن قيل: هناك فرق من الإمامية ينبغي أن تكون في ضمن الفرقة الناجية، إذ هم متبعون لأهل البيت، فلماذا حصرتم النجاة لطائفة الزيدية؟
والجواب والله الموفق: أن الأمة بما فيهم الإمامية والزيدية قد رووا حديث الثقلين، وحديث السفينة وغيرهما مما يدل على نجاة أهل البيت والمتمسك بهم نحو: ((قدموهم ولا تقدموهم، ولا تقصروا عنهم فتهلكوا، ولا تعلموهم فإنهم أعلم منكم))، وهي تدل على نجاة أهل البيت، ونجاة المتمسك بهم، وأنهم لا يفارقون الكتاب حتى الورود على الحوض.
ثم انفردت الإمامية بطوائفها إلى القول بأن المقصود بأهل البيت إثنا عشر إماماً مسميين بأسمائهم، ولم نجد شاهداً يصدق دعواهم سوى روايات رووها وحدهم، فالزيدية أخذت بما روته الأمة بما فيهم الإمامية والسنية، لأنها رواية صحيحة أجمعت عليها الأمة، أما ما روته الإمامية من التعيين فلم يخرج من حيز الدعوى وشهادتها لنفسها لا تقبل.
إذاً فالدليل الواضح المجمع عليه دل على أن المتمسك بأهل البيت عموماً ونعني بقولنا عموماً علماء أهل البيت وأئمتهم دون عوامهم أو ظالميهم أو من شذَّ إلى مذاهب غيرهم، فالشاذون إلى مذاهب غيرهم لا يجوز متابعتهم إذ لا يَدْعُونَ إلى مذهب أهل البيت، فالدعوة إلى معينين كما تقول الإمامية هو خلاف ما دل عليه الدليل المجمع عليه، فلا ينبغي أن يدخلوا ضمن الفرقة الناجية.
[شبهة في خلق الأفعال وجوابها]
في مختصر العقيدة الواسيطة [ص23] قوله: وأنه خالق أفعال العباد، والطاعات والمعاصي، ومع ذلك فقد أمر العباد ونهاهم، وجعلهم مختارين لأفعالهم غير مجبورين عليها، بل هي واقعة بحسب قدرتهم وإرادتهم.
والجواب: أن هذا القول قد جمع بين أمرين متنافيين لا تقبله الفطرة، ولا يُصَدِّقُ به العقل، خلق الله فعل العبد معناه أوجده، وفعله العبد بإرادته واختياره معناه أوجده.
فإن كان الله تعالى هو الذي فعله وأوجده في الخارج فما معنى فعله العبد بإختياره؟ وهل هذا إلا من تحصيل الحاصل، فلا يحتاج الفعل الذي قد أوجده الباري تعالى إلى أن يفعله العبد، وكيف يفعل العبد ما قد فُعِلَ.
وإن كان العبد قد أوجد الفعل حقيقة بإختياره وإرادته فأين فعل الله وخلقه؟ وهل هذا إلا من تحصيل الحاصل.
نعم، وهذا المذهب لم يذهب إليه عاقل قبل الوهابية، وكأنهم أرادوا أن يجمعوا بين مدلول أدلة المختلفين وشبههم.
[شبهة وجوابها حول معنى نزول الله تعالى]
فائدة: حول ما يقوله البعض من نزول الله تعالى في الثلث الآخر من الليل، وأنه نزول حقيقي كما في مختصر العقيدة الواسطية.
فنقول في الجواب:
أولاً: أن النزول الحقيقي لا يتأتى إلا في الأجسام، والله تعالى ليس بجسم.
ثانياً: قد ثبت واشتهر عند علماء الفلك، واستقر عليه رأي الأمم أن الشمس في دوران دائم، وأن الأرض كروية تدور عليها الشمس، فالليل والنهار يدوران على الأرض، فالنهار دائم على الأرض، والليل دائم على الأرض، وكذلك الثلث الأخير من الليل في دوران دائم على الأرض، فلا ينتهي الثلث من جزء إلا وقد أخذ في جزء من الأرض، وهكذا منذ أن خلق الله الكون على هذه الصفة الذي هو عليها اليوم.
وفي مقدور أحدنا أن يتأكد من صحة ما قلنا بالتلفون، فعلى هذا يكون الباري تعالى مشغولاً بالنزول ومتابعة الثلث الأخير فيخلى العرش من الإستواء عليه، ويخلى الكرسي من القدمين.
ومن هنا تبين لنا صحة تفسير الزيدية لنزوله تعالى بنزول رحمته، وأنه لا وثوق بعلم صاحب العقيدة الواسطية وأتباعه، وأن الحق ما عند الزيدية في هذا ونحوه من تفسير المجيء والذهاب، والصعود والنزول.
وبهذا الاستدلال نفسه يتبين لنا بطلان قول صاحب العقيدة الواسطية أن صفة العلو حقيقة لله تعالى، مستدلاً بقوله تعالى: ((إِلَيْهِ يَصْعَدُ الْكَلِمُ الطَّيِّبُ)) [فاطر:10] ونحوها، فجهة العلو نسبية، إذ أن الأرض كروية، فعلو قوم هو تحت بالنسبة لقوم آخرين فمثلاً: تكن الشمس فوق النصف المشرق من الأرض، بينما هو في الوقت نفسه تحت النصف المظلم منها، فأين العلو المقصود المضاف إلى الباري تعالى مع أن تحتنا سماء وفوقنا سماء وعن أيماننا وقدامنا وخلفنا كذلك سماء، وكل ذلك علو بالنسبة لما واجهه من الأرض.
فالحمد لله على ما عرفنا، ولا دليل بعد تبيين الواقع ووضوحه، وبحمد الله تعالى تبين لنا أن اسم أهل السنة والجماعة الذي كثيراً ما يكرره في العقيدة الواسطية لا حقيقة لمدلوله، ولا مصداقية لمفهومه، والحمد لله رب العالمين، وصلى الله على محمد وآله.
[فوائد حول منصب الإمامة]
قال أمير المؤمنين علي بن أبي طالب عليه السلام في نهج البلاغة: (أَيْنَ الَّذِينَ زَعَمُوا أَنَّهُمُ الرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ دُونَنَا كَذِباً وَ بَغْياً عَلَيْنَا، أَنْ رَفَعَنَا اللَّهُ وَوَضَعَهُمْ، وَأَعْطَانَا وَحَرَمَهُمْ، وَأَدْخَلَنَا وَأَخْرَجَهُمْ، بِنَا يُسْتَعْطَى الْهُدَى، وَيُسْتَجْلَى الْعَمَى، إِنَّ الأَئِمَّةَ مِنْ قُرَيْشٍ غُرِسُوا فِي هَذَا الْبَطْنِ مِنْ هَاشِمٍ، لا تَصْلُحُ عَلَى سِوَاهُمْ، وَلا تَصْلُحُ الْوُلاةُ مِنْ غَيْرِهِمْ).
وفي الصواعق لابن حجر وغيرها: عن النبي صلى الله عليه وآله في أهل بيته: ((لا تتقدموهم فتهلكوا، ولا تقصروا عنهم فتهلكوا، ولا تعلموهم فإنهم أعلم منكم)).
نعم، كلام أمير المؤمنين عليه السلام نص واضح في تعيين بيت الخلافة، وحصرها على ذلك البيت، والحديث يدل على أن أهل البيت عليهم السلام هم أهل الخلافة والزعامة، ولكن بدلالة الإلتزام، فمجموع تلك الجمل الثلاث بما دلت عليه من المعاني يعطي معنى الإمامة والزعامة.
فمعنى ((لا تتقدموهم فتهلكوا)): النهي عن الاستبداد بالأمور.
ومعنى ((لا تقصروا عنهم فتهلكوا)): النهي عن التخلف عن متابعتهم، ومعناه وجوب الاقتداء والمتابعة.
ومعنى ((لا تعلموهم فإنهم أعلم منكم)): النهي عن مخالفتهم ووجوب متابعتهم في شرائع الإسلام، وذلك بدلالة الإلتزام، فقد أعلمنا الرسول صلى الله عليه وآله بأن الاستبداد بالأمر دونهم والتخلف عن متابعتهم محرم، مع تقدمهم في العلم على غيرهم، وهذا هو معنى اختصاصهم بالخلافة والإمامة.
ومن الأدلة على ذلك قوله صلى الله عليه وآله المشهور: ((إني تارك فيكم الثقلين كتاب الله وعترتي أهل بيتي...الخ))، وهذا أيضاً يعطينا معنى استخلاف الرسول صلى الله عليه وآله لكتاب الله، ولأهل بيته، ومعنى ذلك هو سد الفراغ بعد غيابه عن أمته صلى الله عليه وآله، وذلك هو معنى الخلافة والزعامة والإمامة.
[الولاية]
الولاية على الناس، والرئاسة عليهم تعني التصرف المطلق فيهم، بما في ذلك أخذ الأموال، وسفك الدماء، والحبس، والتقييد وإلى آخره، وهذا التصرف المطلق لا بد فيه من إذن من الله ورسوله، وإلاَّ لَمْ يَجُزْ.
والدليل على ذلك: أن تلك التصرفات في عهد الرسول صلى الله عليه وآله كانت إليه وحده، ومن المعلوم أنَّ واحداً من المسلمين لا يحق له أن يستبد في عهده صلى الله عليه وآله بشيء من تلك التصرفات إلا بإذن.
فبان بهذا أن تلك الأوامر التي وردت نحو قوله تعالى: ((الزَّانِيَةُ وَالزَّانِي فَاجْلِدُوا كُلَّ وَاحِدٍ مِّنْهُمَا مِئَةَ جَلْدَةٍ)) [النور:2]، وقوله صلى الله عليه وآله: ((من بدل دينه فاقتلوه))، لم يرد بها آحاد المسلمين، وإلاَّ لجاز لأيِّ مسلم في عصر الرسول وبعده أن يَجْلِدَ الزاني، ويقطعَ السارق، ويقتلَ المرتد، ونحو ذلك، وذلك خلاف المعلوم من سيرة الرسول فمن بعده.
إذا عرفت ذلك فلا بد من إذن يخص الخليفة من بين المسلمين توجه إليه تلك الأوامر، ويقلد تنفيذها، أما بدون ذلك فالمسلمون على سواء، وقد علم أن ذلك ليس إلى آحادهم فلا يخص أحدهم بدون تخصيص من الشارع بالإذن.
هذا ونحن إذا استعرضنا نصوص الشارع وخصوصاً فيما يتعلق بهذا الأمر وجدنا نصوص الشارع تشير إلى أهل البيت خصوصاً وعموماً، ولا سيما نصوص السنة التي لا تحصى كثرة، ولم نجد لسواهم ذكراً لا من قريب ولا من بعيد، بل غاية ما يستندون إليه في صحة خلافة الأول: وإمامته إجماع الصحابة، وهذا الإجماع المزعوم لم يخرج من دائرة الدعوى، ولم تُقَمْ عليه برهنة، بل إن الحقائق التاريخية تنادى عليه بالزيف، وخلافة الثاني استندوا إلى صحتها على وصية الأول وتعيينه، وخلافة الثالث على وصية الثاني، وأما معاوية فقد ابتز الخلافة والسلطان ابتزازاً على المسلمين، وفيهم بقايا المهاجرين والأنصار، ويزيد بن معاوية مُسْتَنَدُ وَلايتِهِ وصيةُ أبيه، وهكذا جرت السلطنة الأموية والعباسية ثم الخلافة العثمانية.
من ما يستدل عليه أنصار الخليفة الأول في صحة خلافته قولهم: أن رسول الله صلى الله عليه وآله عندما ناداه بلال للصلاة في مرض موته قال: يا بلال مر أبا بكر فليصل بالناس، ثم قاسوا الخلافة على إمامة الصلاة، فإذا جعله الرسول إماماً للصلاة فنقيس الخلافة على الصلاة ونجعله نحن خليفة قياساً على الصلاة، وقالوا: رضيه لديننا أفلا نرضاه لدنيانا أو كما قالوا.
والجواب والله الموفق: أن الذي قال يا بلال مر أبا بكر فليصل بالناس هو عائشة زوجة الرسول صلى الله عليه وآله، لا رسول الله صلى الله عليه وآله، كما في الرواية عن أهل البيت عليهم السلام بأسانيدهم الصحيحة الموثوقة وكفى بإجماعهم حجة.
ومما يؤيد ما قلنا هو ما اشتهر وذكره أهل السير ونقله الأثر أن الرسول صلى الله عليه وآله حين علم بصلاة أبي بكر خرج على الفور معتمداً على الفضل بن العباس وعلي بن أبي طالب ورجلاه تخطان في الأرض ورأسه معصوب ونحا أبا بكر أو تنحى له، وصلى هو صلى الله عليه وآله بالناس، ثم قام بعد الصلاة خطيباً وحذر من الفتن وبالغ في التحذير، هذا ما اشتهر.
وفي رواية من روايات أهل البيت وغيرهم أنه قال صلى الله عليه وآله بعد ذلك: ((إني تارك فيكم...الخ)) حديث الثقلين.
فهذا يدل على أن الرسول صلى الله عليه وآله لم يكن هو الآمر لأبي بكر بالصلاة وإلا لم يخرج صلى الله عليه وآله وسلم وهو في تلك الحالة الشديدية وينحي أبا بكر ويصلي هو بالناس ثم يحذر من الفتنة ويذكرهم بالثقلين كتاب الله وعترته صلى الله عليه وآله، ولم يكن من عادته صلى الله عليه وآله أن يأمر بالشيء أو يستعد لشيء ثم يتراجع إلى غيره، وشاهد ذلك قوله صلى الله عليه وآله في يوم أحد: ((ما كان لنبي إذا لبس لامته أن يضعها حتى يقاتل))، وقد كان صلى الله عليه وآله أكمل الناس عقلاً، فيبعد غاية البعد منه صلى الله عليه وآله مثل ذلك، إن ذلك الصنيع لا يفعله إلا ضعاف العقول أهل البدا وتقلب الآراء وتضاربها، ولم يكن صلى الله عليه وآله من هذا الطراز المتقلب.
الإجماع المدعى على خلافة الأول كما قلنا سابقاً لم يخرج من دائرة الدعوى، بل إن الحقائق التاريخية تزيف ذلك.
والدليل على ما قلنا: أن سعد بن عبادة الأنصاري وكان سيد قومه ومن ذوي الوجاهة عند الرسول صلى الله عليه وآله لم يبايع لأبي بكر قط بالاتفاق حتى قتل غيلة، وذكر أن الجن قتلوه لبوله قائما، فقال شاعر من شعراء العرب:
وَمَا ذَنْبُ سَعْدٍ أَنَّهُ بَالَ قَائمَاً....وَلَكِنَّ سَعْدَاً لَمْ يُبَايِعْ أَبَا بَكْرِ
وكذلك أمير المؤمنين علي عليه السلام لم يبايع لأبي بكر وامتنع وتأبى هو ونفر من المسلمين، فإذا طلبوا للبيعة التجأوا إلى بيت فاطمة رضوان الله عليها، وأخيراً تشجعت السلطة وأسطرت أوامرها بالهجوم على المتخلفين عن البيعة واقتحام بيت فاطمة وإرغامهم على البيعة، وهذه القصة مشهورة.
ومما قال معاوية في بعض كتبه إلى أمير المؤمنين يعيبه به: وكرهت بيعة الأول ثم ذكر أنه عليه السلام قِيْدَ إلى البيعة كما يُقَادُ الجمل المخشوش.
وفي خطبته الشقشقية المعروفة: (وَاللَّهِ لَقَدْ تَقَمَّصَهَا ابْنُ أَبِي قُحَافَةَ، إلى أن قال: (فَصَبَرْتُ وَفِي الْعَيْنِ قَذًى، وَفِي الْحَلْقِ شَجًا، أَرَى تُرَاثِي نَهْباً).
وكم في كلامه عليه السلام مما يدل على عدم الرضا، وقد أجمع أئمة أهل البيت عليهم السلام على أنه عليه السلام لَم يَرْضَ بخلافة الأول فَمَنْ بَعْدَهُ.
[شيءٌ من يوم السقيفة]
اجتمعت الأنصار في السقيفة يوم مات الرسول صلى الله عليه وآله للتشاور، ثم وفد إليهم في أثناء ذلك أبو بكر وعمر وأبو عبيدة، وجرى بين الفريقين مقاولات حول الخليفة، وبعد الأخذ والرد احتج أبو بكر على الأنصار بالقرابة، واستحقاق قريش لمنصب الخلافة بها، قال: نحن بيضة رسول الله التي تفقأت عنه، فاستسلم الأنصار لذلك بعد اضطراب جرى بينهم وخصام، وامتنع سعد بن عبادة سيد قومه، والقصة مشهورة، وحين سمع أمير المؤمنين الخبر قال شعراً:
فَإنْ كُنْتَ بالْقُرْبَى حَجَجْتَ خَصِيْمَهُمْ .... فَغَيْرُكَ أَوْلَى بالْنَّبِيِّ وَأَقْرَبُ
وَإنْ كُنْتَ بالْشُّورَى مَلَكْتَ أُمُورَهُمْ .... فَكَيْفَ بِهَذَا؟! وَالْمُشِيْرُونَ غُيَّبُ
وصدق أمير المؤمنين فإن كانت حجة أبي بكر على استحقاق الخلافة حين احتج على الأنصار هو أنه من قرابة الرسول صلى الله عليه وآله فإن غيره أقرب إلى الرسول صلى الله عليه وآله، وإن احتج على خلافته بالشورى فأين الشورى ولم يحضر ذلك الموقف سوى اثنين من المهاجرين عمر وأبو عبيدة وثالثهم أبو بكر كما ذلك معروف.
نعم، كل هذه الحجج التي يستدل بها على خلافة أبي بكر من إمامة الصلاة، وإجماع الصحابة، والقرابة، والشورى، توضح لنا أن الخلافة لا يستحقها أحد، ولا تنبغي لأحد إلا بدليل شرعي.
وعلى ذلك بنيت خلافة أبي بكر عندهم، فإذا بطلت أدلتهم على خلافته كما أوضحنا بطل ما بني عليها وبقي استحقاق الخلافة بعد الرسول صلى الله عليه وآله لمن قامت الدلالة الصحيحة على استحقاقه.
الذي يذهب إليه أئمة العترة عليهم السلام أن حكم من خالفهم في المسائل التي يجب العلم بها كحكم من شاق الله ورسوله واتبع غير سبيل المؤمنين، وقطع ما أمر الله به أن يوصل، وهذا هو الذي تقتضيه الأدلة الشهيرة نحو حديث الثقلين، وحديث السفينة وغيرهما من الأحاديث التي لا تدخل تحت الحصر لكثرتها.
وذكر السيد حميدان في مجموعه بعد التدليل على هذه المسألة أقوال الأئمة التي تدل على هذه المسألة من عند أمير المؤمنين إلى زمانه، وتركنا ذكرها اختصاراً، ومن أرادها فعليه بهذا الكتاب.
[شبهة وجوابها حول كلام الله تعالى]
قال في مختصر العقيدة الواسطية: إن الله متكلم بكلام قديم النوع، حادث الآحاد، وأنه لم يزل يتكلم بحرف وصوت...إلخ.
والجواب: أن قولهم هذا مناقضة، إذ أن النوع الموجود في الخارج هو عبارة عن جمع آحاده، فإذا كانت الآحاد مُحْدَثَةً، فإنَّ جُمْلَتَهَا مُحْدَثَةٌ.
والكلام المشتمل على الحروف والأصوات مُحْدَثٌ، بدليل ترتب بعضه على بعض، توجد الكلمة بعد الكلمة، والحرف بعد الحرف، وهذا لا يشك عاقل في حدوثه.
وقولهم: إن الله تعالى لم يزل يتكلم بحرف وصوت، رجم بالغيب ولا فائدة في التكلم في الأزل، إذ فائدة الكلام إفادة المخاطب وإعلامه، ولا مخاطب في الأزل، والله تعالى حكيم لا يفعل العبث.
[شبهة أخرى وجوابها في كلام الله تعالى]
وفي المختصر أيضاً قوله: والكلام صفة ذات من حيث تعلقها بذاته، وصفة فعل من حيث كانت متعلقه بالمشيئة والقدرة.
والجواب: أن هذه مناقضة أيضاً، فمعنى أنه صفة ذات: أنه قديم، ومعنى صفة فعل: أنه محدث، إذ أفعاله تعالى محدثة.
نعم، الذي تدل عليه الأدلة أن القرآن فعل فعله الله تعالى كسائر أفعاله، قال تعالى: ((وَكَلَّمَ اللّهُ مُوسَى تَكْلِيمًا)) [النساء: 164]، فالكلام فعل، والله سبحانه هو فاعله.
وقول صاحب المختصر: إنه صفة ذات باطل:
أولاً: بما أورده هو نفسه من أن الكلام صفة فعل من حيث تعلقه بالمشيئة.
ثانياً: عدم دليل يدل على ذلك، بل قد قام الدليل على بطلانه، وهو ما قدمنا أنَّ الكلام فعل من أفعال الله تعالى.
ثالثاً: وهو دليل إلزامي: وهو أنه يلزم في سائر أفعال الله تعالى أنها صفات ذات من حيث تعلقها بذاته، وصفات فعل من حيث تعليقها بالقدرة والمشيئة.
وكما قال في المختصر أن النزول والذهاب والمجيء صفات لله قائمة بذاته تكون هذه الصفات صفات فعل وصفات ذات، فيلزم أن تكون هذه الصفات قديمة ومحدثة.
نعم، أكبر الظن أنَّ هذا الوهابي لا يعرف معنى صفة الذات ولا صفة الفعل، وأنه بليد الفطرة، منكوس الفؤاد، يتناقض في أقواله، يُثْبِتُ الأَمرَ من جهة ثم ينفيه من جهة أخرى، كما رأيتَ أولاً في إختيار العبد لفعله بقدرته، ثم مناقضته لذلك بأنَّ الله خلق فعل العبد، وإثباته لِمَا لَم يقل به أحدٌ من الأمة قبله في صفات الله تعالى.
[شبهة أُخرى وجوابها في كلام الله تعالى]
هذا ومما يستدلون به على أن الكلام صفة ذات، وأن الله تعالى لم يزل متكلماً بالحروف والأصوات قوله تعالى: ((قُل لَّوْ كَانَ الْبَحْرُ مِدَادًا لِّكَلِمَاتِ رَبِّي لَنَفِدَ الْبَحْرُ قَبْلَ أَن تَنفَدَ كَلِمَاتُ رَبِّي وَلَوْ جِئْنَا بِمِثْلِهِ مَدَدًا)) [الكهف: 109].
والجواب: أن المقصود بهذه الآية سعة علم الله فلا نفاذ له، وليس المقصود كثرة الحروف والأصوات، فلا مدح في ذلك، بل من المتعارف عند الناس أن كثرة الكلام منقصة فلا يمتدح الله تعالى بما فيه نقص عند المخاطبين، بل إن الكلام يعد عبثاً إذا لم يكن موجهاً لأحد، أو لَم يكن ثَمَّ مخاطب يتلقى الكلام تعالى الله عما يقولون علواً كبيراً.
[شبهة وجوابها]
في مختصر العقيدة الواسطية تحت عنوان: توسط أهل السنة بين فرق أهل الضلال: إنَّ الْمُعَطِّلَ هو من ينفي الصفات الإلهية أو بعضها، ويُنْكِرُ قيامَهَا بذاته، وأمَّا المشبه فهو من يشبهها أو بعضها بصفات المخلوقين، وأمَّا أهل السنة والجماعة فيثبتون الصفات إثباتاً بلا تمثيل، وينزهون الله عن مشابهة المخلوقين تنزيهاً بلا تعطيل.
الجواب: أن المعطل هو من ينفي الصفات الإلهية أو بعضها، أما قوله وينكر قيامها بذاته، فليس من التعطيل في شيء بل إنَّ إنكار ذلك هو عين التوحيد، إذ أنَّ صفات الله تعالى ذاته، وقد قدمنا ذلك وأدلته فيما سبق، وهو دين أهل البيت عليهم السلام أولهم علي بن أبي طالب عليه السلام، وله كلام في نهج البلاغة حول هذه المسألة.
[شبهة وجوابها]
وقال في المختصر أيضاً: ومن أتى كبيرة فهو عندهم -أي عند أهل السنة- مؤمن ناقص الإيمان، وبعبارة أخرى مؤمن بإيمانه فاسق بكبيرته، وفي الآخرة تحت مشيئة الله إن شاء غفر له وأدخله الجنة لأول مرة، وإن شاء عذبه بقدر ذنوبه وبعد تطهيره من الذنوب مآله إلى الجنة، قال بعضهم:
ولا يَبْقَ في نارِ الجحيمِ موحدٌ .... ولو قَتَلَ النَّفْسَ الْحَرَامَ تَعمدا
الجواب والله الموفق: أن قولهم: إن صاحب الكبيرة مؤمن بإيمانه، فاسق بكبيرته، قول مضاد للأدلة القرآنية الدالة على خلاف ما قالوا، قال سبحانه وتعالى: ((أَفَمَن كَانَ مُؤْمِنًا كَمَن كَانَ فَاسِقًا لَّا يَسْتَوُونَ (18) أَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ فَلَهُمْ جَنَّاتُ الْمَأْوَى نُزُلًا بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ (19) وَأَمَّا الَّذِينَ فَسَقُوا فَمَأْوَاهُمُ النَّارُ كُلَّمَا أَرَادُوا أَن يَخْرُجُوا مِنْهَا أُعِيدُوا فِيهَا وَقِيلَ لَهُمْ ذُوقُوا عَذَابَ النَّارِ الَّذِي كُنتُم بِهِ تُكَذِّبُونَ)) [السجدة: 20]، وكأن هذه الآية نزلت للرد على أهل تلك المقالة، الذين ادَّعَوا أنَّ الفسقة مؤمنون، وأنَّ فسقهم بإرتكاب الكبائر غيرُ مُزيلٍ لاسم الإيمان فهم مؤمنون وإن فسقوا، ثم ادعاؤهم ثانياً دخولهم الجنة إما ابتداءً وإما بعدَ تطهيرهم بقدر ذنوبهم، وقد رَدَّ الله سبحانه عليهم وعلى أشباههم من الأولين والآخرين بقرآن يتلى إلى يوم القيامة: ((لِّيَهْلِكَ مَنْ هَلَكَ عَن بَيِّنَةٍ وَيَحْيَى مَنْ حَيَّ عَن بَيِّنَةٍ وَإِنَّ اللّهَ لَسَمِيعٌ عَلِيمٌ))، فهذه الآية التي تلوناها قاطعة لدابر الباطل، وحاسمة لأماني المتمنين، ودالة على أنه لا تساوي بين المؤمنين والفاسقين، لا في الدنيا ولا في الآخرة، وقد سمعت في الآية ذكر ما لكلٍّ في يوم الجزاء.
وقال الله سبحانه: ((إِن جَاءكُمْ فَاسِقٌ بِنَبَأٍ فَتَبَيَّنُوا أَن تُصِيبُوا قَوْمًا بِجَهَالَةٍ فَتُصْبِحُوا عَلَى مَا فَعَلْتُمْ نَادِمِينَ)) [الحجرات: 6]، وهذه الآية تبين لنا عدم تساوي المؤمن والفاسق في الدنيا، وقال سبحانه: ((بِئْسَ الاِسْمُ الْفُسُوقُ بَعْدَ الإِيمَانِ)) [الحجرات:11]، وفي هذه الآية دليل على ما قلنا، وشاهد لما قدمنا، فتأمل ذلك.
وقال سبحانه في القاذف: ((ثُمَّ لَمْ يَأْتُوا بِأَرْبَعَةِ شُهَدَاء فَاجْلِدُوهُمْ ثَمَانِينَ جَلْدَةً وَلا تَقْبَلُوا لَهُمْ شَهَادَةً أَبَدًا وَأُوْلَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ)) [النور: 4]، وقذف المحصنات من الكبائر، وفي هذه الآية بيان حكم صاحب هذه الكبيرة في الدنيا، فتبين بما ذكرنا إنتفاء تساوي صاحب الكبيرة والمؤمن في أحكام الدنيا، وقد جاء عن الرسول صلى الله عليه وآله في الخبر المشهور((لا يزني الزاني حين يزني وهو مؤمن، ولا يشرب الخمر وهو مؤمن)) وهذا نص في محل النزاع.
وقولهم: إن مآل صاحب الكبيرة إلى الجنة، مجرد أماني يردها الكتاب الكريم، وكفى به، قال تعالى: ((لَّيْسَ بِأَمَانِيِّكُمْ وَلا أَمَانِيِّ أَهْلِ الْكِتَابِ مَن يَعْمَلْ سُوءًا يُجْزَ بِهِ وَلاَ يَجِدْ لَهُ مِن دُونِ اللّهِ وَلِيًّا وَلاَ نَصِيرًا))، وقال تعالى في الرد على مزاعم اليهود: ((وَقَالُواْ لَن تَمَسَّنَا النَّارُ إِلاَّ أَيَّاماً مَّعْدُودَةً قُلْ أَتَّخَذْتُمْ عِندَ اللّهِ عَهْدًا فَلَن يُخْلِفَ اللّهُ عَهْدَهُ أَمْ تَقُولُونَ عَلَى اللّهِ مَا لاَ تَعْلَمُونَ (80) بَلَى مَن كَسَبَ سَيِّئَةً وَأَحَاطَتْ بِهِ خَطِيئَتُهُ فَأُوْلَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ)) [البقرة:81]، وكفى بهذه الآية والتي قبلها لحسم الأماني، ورد الدعاوى.
فإن قيل: قد جاء في الحديث بروايات صحيحة أنه سيخرج من النار جميع العصاة من الموحدين، وروايات أيضاً أنهم لا يدخلون النار بشفاعة محمد صلى الله عليه وآله.
الجواب: أن الحديث وإن صح سنده إذا عارض القرآن يرد، ولا يجوز التعويل عليه، وترك القرآن الذي لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه، وحاشا رسول الله صلى الله عليه وآله أن يخالف بحديثه القرآن، فالواجب ترك ما خالف القرآن وتكذيبه إن لم يمكن تفسيره بما يوافق القرآن، وهذه النصوص واضحة وصريحة في رد تلك الدعاوي والأماني الكاذبة.
((لَّيْسَ بِأَمَانِيِّكُمْ وَلا أَمَانِيِّ أَهْلِ الْكِتَابِ مَن يَعْمَلْ سُوءًا يُجْزَ بِهِ وَلاَ يَجِدْ لَهُ مِن دُونِ اللّهِ وَلِيًّا وَلاَ نَصِيرًا))، فالآية قد اشتملت على ثلاث جمل:
الجملة الأولى: في تسمية مزاعم اليهود والمسلمين آنذاك بالأماني، والأماني كما هو معروف بضاعة النوكى _ أي الحمقى _، ومعناها: التسلية بالوعد الكاذب، والتخيلات البعيدة، وقد كان في صدر الإسلام بين المسلمين واليهود مجادلة حول الخروج من النار، والأولوية بذلك فنزلت هذه الآية، وسمي ذلك بالأماني ونفاها وردها أبلغ الرد.
الجملة الثانية: البت بالحكم وقطع الأماني فقال تعالى: ((مَن يَعْمَلْ سُوءًا يُجْزَ بِهِ))، فحكم حكماً عاماً لليهود وللمسلمين ولغيرهم من المتمنين من الأولين والآخرين، فجاء بلفظ }مَنْ{ ومعناها أي أحد يعمل سوءاً يجز به، فشملت الأمة المحمدية وغيرهم، وهذا هو المناسب لعدل الله وحكمته، فليس بين الله وبين أحد من خلقه هوادة، فحكمه في الأولين والآخرين واحد، فهذه الجملة تحذير من التساهل بالمعاصي، وتحذير من الركون إلى الأماني الكاذبة.
الجملة الثالثة: ((وَلاَ يَجِدْ لَهُ مِن دُونِ اللّهِ وَلِيًّا وَلاَ نَصِيرًا))، تحذير أيضاً وتفنيد لمزاعم من يدعي أن الشفاعة لأهل الكبائر من هذه الأمة، ونفي عام لأيِّ وليٍّ أو نصيرٍ يدفع عنه بشفاعته، سبحانك اللهم ما أوضح آياتك وأبينها، وفي الآية الأخرى رد واضح على من يقول بالخروج من النار.
هذا وتمسكهم بالأحاديث المعارضة للقرآن تمسك في غير محله، فالحديث إذا خالف القرآن يجب تركه، لأن السنة لم تحفظ كما حفظ القرآن، فألفاظ القرآن ثابتة عن الرسول صلى الله عليه وآله باليقين القاطع بإجماع المسلمين، ومصاحف القرآن مالئة للخافقين منذ العصر الأول وإلى اليوم، لم يختلف مصحفان في الزيادة أو النقصان أو غيرهما، وما زالت بعض المصاحف منذ عهد الصحابة باقية إلى اليوم، وكذا مصاحف من بعدهم، وصدق الله العظيم ((إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ)) [الحجر: 9]، فمخالفة القرآن أكبر دليل على بطلان ما خالفه، قال تعالى: ((مَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ حَمِيمٍ وَلا شَفِيعٍ يُطَاعُ)).
وقولهم: لا يبق في نار جهنم موحد ولو قتل النفس الحرام تعمدا
فمخالف لنص القرآن في القاتل عمداً قال تعالى: ((وَمَن يَقْتُلْ مُؤْمِنًا مُّتَعَمِّدًا فَجَزَآؤُهُ جَهَنَّمُ خَالِدًا فِيهَا وَغَضِبَ اللّهُ عَلَيْهِ وَلَعَنَهُ وَأَعَدَّ لَهُ عَذَابًا عَظِيمًا)) [النساء: 93]، ((وَلَيُسْأَلُنَّ يَوْمَ الْقِيَامَةِ عَمَّا كَانُوا يَفْتَرُونَ)) [العنكبوت: 13].
[فائدة]
قوله تعالى: ((وَمَا مِنْ غَائِبَةٍ فِي السَّمَاء وَالأَرْضِ إِلاَّ فِي كِتَابٍ مُّبِينٍ)) [النمل: 75]، وقوله تعالى: ((وَكُلَّ شَيْءٍ أحْصَيْنَاهُ فِي إِمَامٍ مُبِينٍ)) [يس: 12] ونحوهما من الآيات، من المعروف أن الأمر إذا سجل في كتاب كان أبعد من النسيان والضياع، وهذا أمر متقرر عند الناس، ومن هنا دونت كتب العلم، ولولا ذلك لضاع كثير من العلم أو أكثره، ومن قبل جمع القرآن في المصحف، هذا والله سبحانه وتعالى لا يحتاج إلى التسجيل وتقييد معلوماته في كتاب، لأنه سبحانه مُحيطٌ بكلِّ شيءٍ عِلْمَاً، لا تخفى عليه خافية في الأرض ولا في السماء، ولاتأخذه سبحانه غفلةٌ أو نسيان ولا سنة ولا نوم يعلم السر وأخفى.
إذا عرفت ذلك تبين لك صحة قول أئمتنا عليهم السلام: إن الكتاب المذكور: المراد به العلم، وذلك على طريقة الكناية التي هي أبلغ من الحقيقة، كما ذلك معروف عند أهل البلاغة والبيان.
والحمد لله رب العالمين، وصلى الله على محمد وآله وسلم.
تم صف هذا الكتاب العظيم، الممتليء بعلم أصول الدين، الذاب عن مذهب ومنهج رسول رب العالمين، محمد المحمود صلى الله عليه وعلى آله وسلم، والمؤيد لما عليه أئمة وعلماء الزيدية الكرام رضوان الله عليهم أجمعين في التوحيد والعدل والوعد والوعيد والنبوة والإمامة وغيرها من المسائل الهامة، والفوائد التامة، والردود على الشبهة الكاذبة، يوم الجمعة الثامن من شهر ربيع الأول عام 1424هجرية بعد صلاة المغرب، ونسأل الله أن يجعل هذا العمل خالصاً لوجهه الكريم، مثبتاً لنا يوم القيامة من الزلل والفزع العظيم، وأن يختم لنا بخير الدنيا والآخرة بالعمل الصالح والخاتمة المرضية، الحمد لله الذي هدانا لهذا وما كنا لنهتدي لولا أن هدانا الله.
((سُبْحَانَ رَبِّكَ رَبِّ الْعِزَّةِ عَمَّا يَصِفُونَ () وَسَلامٌ عَلَى الْمُرْسَلِينَ () وَالْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ))، وصلى الله وسلم على محمد خاتم النبيين، وعلى أخيه عليٍّ أمير المؤمنين، وعلى آلهم الطيبين الطاهرين.