الكتاب : مفتاح السعادة المؤلف : السيد العلامة المجتهد علي بن محمد بن يحيى العجري |
مفتاح السعادة
السيد العلامة المجتهد/ علي بن محمد بن يحيى العجري
أعد هذا الكتاب إلكترونيا
قطب الدين بن محمَّد الشَرْوَني الجعفري
للتواصل
viva_intifada@hotmail.com
مقدمة التحقيق
كلمة شكر
أتقدم بخالص الشكر والتقدير والعرفان لكل من تعاون معي في إخراج هذا الكتاب، وأخص بالذكر (مؤسسة الإمام زيد بن علي عليه السلام الثقافية).
وكذلك السيد العلامة ـ نجل المؤلف ـ يحي بن علي بن محمد العجري، الذي أشرف على التصحيح والمقابلة، والسيد العلامة ـ نجل المؤلف ـ محمد بن علي العجري، الذي تحمّل النصيب الأكبر من المراجعة والملاحظة.
وكذلك أحفاد المؤلف ـ رحمه الله تعالى ـ وهم الأخوة الأفاضل، السيد العلامة عبدالرحمن بن يحيى العجري، والسيد العلامة محمد بن يحيى العجري، والسيد الأستاذ عبدالله بن أحمد بن يحيى العجري، والسيد الأستاذ عبدالكريم بن أحمد بن يحيى العجري، ولقد أبرّوا بعملهم هذا والدهم ـ رحمه الله تعالى ـ، فجزاهم الله خير الجزاء، ووفق الله الجميع لما يحبه ويرضاه، إنه على كل شيء قدير..
عبدالله بن حمود العزي
كلمة بقلم نجل المؤلف السيد العلامة
يحيى بن علي العجري حفظه الله تعالى
كتب إلي رسالة قمت باختصارها وإيرادها هنا تلبية لطلبه: جاء فيها: بسم الله الرحمن الرحيم وصلى الله وسلم على سيدنا محمد وآله:
الولد العلامة النجيب، الأديب، الذكي الألمعي عبدالله بن حمود العزي ـ حفظه الله تعالى ـ والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته:
لقد سررنا غاية السرور بما قمتم به من هذا العمل المبرور والسعي المشكور، والإهتمام بنشر مؤلفات أئمتنا وعلمائنا، والانتفاع بعلومهم، ومنها: كتب والدنا العلامة المجتهد الولي علي بن محمد العجري ـ رحمه الله تعالى ـ فلكم في ذلك الفضل الكثير والثناء الحسن، وفقكم الله لما فيه رشدكم من المساعي المرضية والأعمال الخيرية.
ونسأل الله أن يحقق بكم الآمال في الحال والمآل، زادكم الله نوراً وتنويراً وهدايةً وبصيرةً وعلماً وحلماً وفهماً، وفي حفظ الله وحسن رعايته.
والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته،،،
والدكم/ مستمد الدعاء وباذله
الحقير يحيى بن علي العجري
مقدمة التحقيق
الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على أشرف الأنبياء والمرسلين، سيدنا محمد الأمين، وعلى آله الطيبين الطاهرين.
ـ وبعد ـ
فإن القرآن الكريم هو معجزة الإسلام الخالدة، ودستوره المجيد: {لاَ يَأْتِيهِ الْبَاطِلُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَلاَ مِنْ خَلْفِهِ تَنزِيلٌ مِنْ حَكِيمٍ حَمِيدٍ}[فصلت: 42] حمل في طياته عزائم الرسالة، ومعاقد التشريع، ومناهج التربية، والتوجيه، والتبليغ.
ومن المعروف أن الكلام عنه وأهميته وموضوعاته يحتاج إلى مجلدات ضخمة، ودراسات موسعة معمقة، فما من آية من آياته إلا وهي ناطقة بأصالته وفصاحته: {سَنُرِيهِمْ آيَاتِنَا فِي الآفَاقِ وَفِي أَنْفُسِهِمْ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُ الْحَقُّ}[فصلت: 53].
ولقد حدد القرآن الكريم مواصفاته باعتباره كلام الله تعالى، ووحيه الكامل: {وَالَّذِي أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ مِنَ الْكِتَابِ هُوَ الْحَقُّ مُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ إِنَّ اللَّهَ بِعِبَادِهِ لَخَبِيرٌ بَصِيرٌ}[فاطر: 31]. ثم يذكر الذين أورثهم فهمه، ورزقهم تأويله وعلمه، فيقول: {ثُمَّ أَوْرَثْنَا الْكِتَابَ الَّذِينَ اصْطَفَيْنَا مِنْ عِبَادِنَا فَمِنْهُمْ ظَالِمٌ لِنَفْسِهِ وَمِنْهُمْ مُقْتَصِدٌ وَمِنْهُمْ سَابِقٌ بِالْخَيْرَاتِ بِإِذْنِ اللَّهِ ذَلِكَ هُوَ الْفَضْلُ الْكَبِيرُ}[فاطر: 32].
فهو المنهج السليم، والحكم العدل القويم، وصمام الأمان، والمهيمن على الزمان والمكان، يقول الرسول الأعظم صلى الله عليه وآله وسلم : ((فإذا التبست عليكم الفتن كقطع الليل المظلم فعليكم بالقرآن، فإنه شافع مشفع، وماحل مصدق، من جعله أمامه قاده إلى الجنة، ومن جعله خلفه قاده إلى النار، هو الدليل الذي يدل على خير سبيل، وكتاب تفصيل وبيان وتحصيل، والفصل ليس بالهزل، لا تحصى عجائبه، ولا تبلى غرائبه، فيه مصابيح الهدى، ومنارات الحكمة، والدليل على المعرفة لمن عرف الطريقة، فليولج رجل بصره، وليبلغ الطريقة نظره، ينج من عطب، ويتخلص من أشب، فإن التفكر حياة قلب البصير، كما يمشي المستنير في الظلمات بالنور، بحسن تخلص وقلة تربص)).
ومما لا شك فيه أن المسلمين بمختلف اتجاهاتهم قد أولو القرآن العظيم جل اهتمامهم، وخلاصة جهودهم، وخصوه بالدراسات المعمقة والتفاسير المتنوعة، إلا أنها لا تخلو من ملاحظات، ولكل منها خصائص ومميزات، وسلبيات وإيجابيات.
أهل البيت ـ عليهم السلام ـ والتفسير
ولأهل البيت" الجهد الأكبر والإعتناء الأعظم بالقرآن الكريم وتفسيره، ومما يطمئن النفس، ويريح الضمير، هو الإعتماد على تفاسيرهم؛ لأن الرسول الأعظم صلى الله عليه وآله وسلم قرنهم بهذا القرآن الكريم في حديث الثقلين المشهور، الذي أجمعت على روايته جميع الطوائف، وورد في أكثر المجاميع والمسانيد والمعاجم بأسانيد معتمدة، وروايات متعددة تؤكد شهرته وصحته.
ومن أهم كتبهم في التفسير
1- تفسير (الغريب) للإمام زيد بن علي عليه السلام ، المتوفى سنة 122هـ ـ طبع.
2- تفسير الإمام القاسم بن إبراهيم عليه السلام ، المتوفى سنة 246هـ. وقد تضمن كتاب (المصابيح) وهو مجموع تفاسير أهل البيت" جزءاً منه.
3- تفسير الإمام محمد بن القاسم بن إبراهيم عليه السلام ، المتوفى سنة 284هـ، وقد تضمن كتاب (المصابيح) في التفسير جزءاً منه.
4- تفسير الإمام الهادي إلى الحق يحيى بن الحسين"، المتوفى سنة 298هـ، وقد تضمن كتاب (المصابيح) في التفسير كذلك جزءاً منه.
5- تفسير الإمام المرتضى لدين الله محمد بن الهادي عليهما السَّلام المتوفى سنة 310هـ، وقد تضمن كتاب (المصابيح) في التفسير جزءاً منه.
6- تفسير الإمام الناصر لدين الله أحمد بن الإمام الهادي عليهما السَّلام المتوفى سنة 325هـ.
وهذه التفاسير الخمسة الأخيرة توجد في بعض المكتبات الخاصة والعامة، كما أن منها ما هو ملخص في كتاب (المصابيح الساطعة الأنوار) الذي جمعه العلامة عبدالله بن أحمد الشرفي، المتوفى سنة 1062هـ، طبع منه ثلاثة أجزاء ـ والباقي يطبع تباعاً ـ ومنها ما هو مجموع في كتاب جمعه أبو العباس منصور بن موسى الخطاب، ذكره الدكتور عدنان زرزور في كتابه (الحاكم الجشمي) حيث قال: ((ولدينا اليوم من هذه التفاسير الخمسة، أو من كلام هؤلاء الأئمة ـ يعني الإمام القاسم، وابنه الإمام محمد بن القاسم، والإمام الهادي وولديه عليهم السلام جميعاًـ تفسير القرآن بعامه مجموع هام يقع في حوالي أربعمائة ورقة خطية، قام بعمله أبو العباس منصور بن موسى الخطاب ـ رحمه الله)).
ومن الملاحظ على الدكتور عدنان أنه خلط بين تفاسير أهل البيت (الزيدية) وتفاسير (المعتزلة) وجعلها تحت مسمى (تفاسير المعتزلة) وهذا خلط عجيب بلا مستند صحيح، وقد وقع فيه كثير من الكتّاب.
والذي نؤكده أن للزيدية تفاسير خاصة تخالف المعتزلة ومناهج خاصة في الأصول تخالف المعتزلة، يلاحظها القارئ الكريم عند تصفحه لهذا الكتاب الذي بين يديه، وغيره من الكتب الأصولية، كـ(مجموع السيد حميدان) للسيد العلامة الشهير حميدان بن يحيى حميدان، المتوفى في القرن السابع الهجري، وكتاب (اللآلئ الدرية شرح الأبيات الفخرية) للعلامة الكبير محمد بن يحيى بن الحسن القاسمي ـ رحمه الله تعالى ـ المتوفى في القرن الثامن الهجري.
7ـ تفسير المحدث الحبري، المتوفى سنة 286هـ، وقد طبع.
8ـ تفسير (البرهان) لأبي الفتح الديلمي، المتوفى سنة 444هـ.
9ـ تفاسير الحاكم الجشمي، المتوفى سنة 494هـ. وهي عديدة أشهرها (التهذيب) و(تنبيه الغافلين) و(المبسوط) و(الموجز) ولا شك أنه قد كان معتزلياً ثم تزيد ـ أي دخل المذهب الزيدي.
10ـ تفسير (الثمرات) للفقيه يوسف بن أحمد بن عثمان الثلائي، المتوفى سنة (832ه) وهو خاص بآيات الأحكام ـ وقد طبع مؤخراً.
وهنالك غيرها من التفاسير، والغرض الإشارة لا التفصيل.
هذا الكتاب
وهذا الكتاب الذي بين يديك الكريمتين يعد من أهم الكتب في تفسير القرآن الكريم، وقد تميز بأبحاثه الكثيرة، ومسائله العديدة.
وقد سلك فيه مؤلفه ـ رحمه الله تعالى ـ مسلكاً رائعاً، ومنهجاً فريداً، حيث مزجه بتفاسير الأئمة المتقدمين والمتأخرين، وضمنه بحوثاً رائعة احتوت مسائل هامة جداً.
وإذا كان للتفسير طرقه وأنواعه، فإن للمؤلف ـ رحمه الله تعالى ـ طرقاً خاصة وابتكارات رائعة، ففي الوقت الذي نرى فيه أن كل مفسّر سلك نوعاً من أنواع التفسير وطريقة من طرق التأليف والتصنيف، فمنهم من فسر بالمأثور، كـ(ابن كثير) و(الطبراني)، ومنهم من فسر التفسير الكلامي كـ (الرازي) ومنهم من فسر التفسير البياني كـ(الزمخشري) و(البيضاوي)، وغيرهم. ندرك أن مؤلف هذا الكتاب قد جمع بين هذه الأنواع من التفاسير، مع ملاحظة عدم الوقوع فيما وقع فيه بعضهم من الهفوات والفلتات.
ففي التفسير بالمأثور: ذكر الروايات الصحيحة وفنّد الروايات الضعيفة التي تساهل فيها بعض من فسر بالمأثور.
وفي التفسير الكلامي: ناقش المواضيع العقدية والكلامية، وأوضح كيفية فهمها، وفنّد شبهاً وقع فيها بعض من فسَّرَ كلامياً كـ(الرازي).
وأما التفسير البياني: فقد وضع معنى كل آية، ووجه بيانها بعيداً عن التطويل.
ومن الملاحظ أنه جمع بين هذه الأنواع من التفاسير في تفسير واحد، وعلى هذا فقد شارك كل مفسر فيما تميز به ولم يشاركوه فيما تميز به، وتفرد بذكره ومناقشته.
وقد أودعه من الأبحاث العقائدية، والمناقشات الكلامية، والمسائل الفقهية، بما لا نستطيع وصفه، فما من موضوع حارت فيه الأفكار أو مسألة وقف عندها النظار، إلا وذكرها بأكثر مما ذكروها، وشرحها بأحسن مما شرحوها، سالكاً فيها مسالك الإنصاف، متجنباً مزالق التعصب والإعتساف.
ومن كثرة إثرائه للمواضيع، واستقصائه للأدلة، أصبحت كل مسألة أو موضوع جدير بأن يكون كتاباً مستقلاً بذاته.
أهم المواضيع الرئيسة التي ناقشها المؤلف
ومن أهم المواضيع الأصولية التي ناقشها المؤلف ـ رحمه الله تعالى:
1- خلق أفعال العباد.
2- الشفاعة.
3- خلق القرآن الكريم.
4- عذاب القبر.
5- الصفات.
6- التحسين والتقبيح العقليان.
7- رؤية الله تعالى.
8- صفات الذات وصفات الفعل.
9- حدوث العالم.
10- الرد على الملاحدة.
11- الإحباط والموازنة.
وهنالك الكثير والكثير من المواضيع المتنوعة والمسائل المتعددة الرائعة التي أوضحها أيما إيضاح.
طريقة المؤلف
ومن المفيد هنا الإشارة إلى طريقة المؤلف في تأليفه لهذا الكتاب:
أولاً: أنه حدد في كتابه الهدف من التأليف والغرض من التصنيف، فقال: (فإني لما نظرت إلى ما وسعه الناس من الفنون والعلوم، وتشعب ما انطوت عليه من المنطوق والمفهوم، والإختلاف الطويل العريض بين أرباب النهى والحلوم، وتفكرت فإذا هذا العمر القصير لا يتسع لتعلم كل مستحسنها، فضلاً عن فضولها ومستهجنها، رأيت أن الاشتغال بالأهم منها هو الصواب والمتعين فرضه في محكم السنة والكتاب، وذلك ما لا يعذر بجهله أحد من ذوي الألباب، وهو معرفة الله، ومعرفة ما يرضيه وما يسخطه، واتباع ما يرضيه، واجتناب ما يسخطه، وهذه الوجوه شاملة لمسائل الإعتقاد والعبادات والمعاملات والمأمورات والمنهيات، وغيرها من الآداب ومكارم الأخلاق، وكان كتاب الله هو الكفيل بتلك العلوم النافعة، والمطلع لأنوارها النيرة الساطعة، والنهر الجاري المروي لتلك الحدائق المتدلية قطوفها اليانعة، فصرفت همتي ووجهت عزمي وبذلت جهدي في تدبر آياته، والتأمل لدلالته، والغوص في قعور بحوره، والاستبصار بضيائه وأنواره لاستخراج المهم من المسائل الاعتقادية وغيرها من ذلك الكتاب الذي لا ريب فيه، ولا يأتيه الباطل من خلفه ولا من بين يديه، وجعلت الكتاب العزيز أصلاً ومرجحاً لما طابقه من مختلفات الأدلة، قاضياً على ما خالفه بأنه من تمويهات أهل البدع المضلة، مع الاستعانة بأنظار الأئمة وغيرهم من علماء الأمة، وجمعت ما تحصل من الفوائد وما قيدته من الشوارد في هذا الكتاب؛ حفظاً لها من الضياع، وتقريباً لمن يريد الإنتفاع، لا سيما نفسي الموسومة بالملل عن معاودة النظر وقلة التذكر، لمتفرقات الأدلة على الوجه المعتبر.
وسميته: (مفتاح السعادة، في المهم من مسائل الاعتقاد والمعاملات والعبادة) وأنا أسأل الله أن ينفعني به في الدين والدنيا والآخرة، وأن يجعله لي لديه عند لقائه ذخرة نافعة فاخرة، وأن ينفع به عباده، إنه المتفضل علينا بصنوف النعم الباطنة والظاهرة.
واعلم أني أضيف إلى الدلائل القرآنية ما يطابقها من الأدلة العقلية والسنة النبوية، والآثار العلوية، والإجماعات المروية، والأقيسة القوية، وأذكر من قال بمدلولها من العترة وغيرهم، وآتي من شبه المبطلين بما عليه عندهم المعوّل والإعتماد، ثم أبين بطلانها بما لا ينكره إلا من غلب عليه الجهل والعناد، وأنسب ما تضمنه من السنة والآثار العلوية إلى أصولها من كتب أئمتنا وغيرها، مع تبيين ما قيل فيها من تصحيح أو تضعيف، وتوضيح ما فيها من المشكل والغريب، تتميماً للفائدة، وخروجاً عن العهدة، ومعاونة على البر والتقوى، إلا أني أقتصر على ذكر هذه الأمور في أول موضع تقع فيه المسألة غالباً؛ هرباً من التكرار، هذا مع فوائد استطردتها، وفروع ألحقتها تستقر بها خواطر المتأملين، وتذعن لحسن موقعها وإيرادها عقول المنصفين)).
ويستطرد قائلاً ـ رحمه الله تعالى ـ : ((مع أني معترف أن الفضل فيه لغيري، لعلمي بجمود قريحتي، وقصوري وتقصيري، إلا أني أرجو الأجر الوافر على جمع الشتيت، وتقرير الدلالة على وجه يفضي إلى البيان والتثبيت))
وأرى أننا من خلال هذه الكلمات الآنفة الذكر نستلهم صورة كاملة عن الكتاب وأهميته، وطريقة مؤلفه، إلا أننا نستكمل هنا بقية عناصر طرق تأليفه، لتكون الصورة أكثر وضوحاً، والجهود أكثر بياناً فنقول:
ثانياً: عقد فصولاً تمهيدية وضّح فيها أهمية القرآن الكريم وفضائله، والعلوم المستخرجة منه، ووسائل فهمه، وتفسير الكتاب والسنة، وكيفية إعمال الأدلة الشرعية والتعامل معها.
ثالثاً: ابتدأ تفسيره بتفسير الاستعاذة، ومن خلال ذكر طريقته فيها نعرف طريقته في الآيات التي بعدها، ومن عادته ـ رحمه الله تعالى ـ أنه يبدأ بذكر عناصر الآية التي تحتاج إلى شرح أو إيضاح، وعلى سبيل المثال:
قسم الإستعاذة إلى أربعة أقسام:
*…الاستعاذة.
*…المستعاذ به (الله جل ذكره).
*…المستعيذ (الإنسان).
*…المستعاذ منه (الشيطان).
ومن خلال هذه الأربعة الأقسام ذكر الأمور المتعلقة بالله تعالى (كرب تجب عبادته) وما يتعلق بالإنسان (كمكلف في الحياة) وما يتعلق بالشيطان (كعدو يجب الحذر منه).
ثم يردف المؤلف بذكر واستقصاء الأحكام والمسائل الفقهية المتعلقة بالآية المراد تفسيرها، فمثلاً في الاستعاذة ذكر.
*…وقت الاستعاذة، هل قبل الصلاة أم بعدها؟
*…شرعية الاستعاذة وحكمها.
*…صحة الصلاة، هل تتعلق بها أم لا؟
*…هل التعوذ في كل ركعة أم في الأولى منها؟
*…هل هي جهر أم مخافتة؟
*…موضع الاستعاذة عند أهل البيت ـ عليهم السلام ـ .
*…هل الاستعاذة لأجل الصلاة، أم لأجل القراءة؟
*…هل يتحمل الإمام الاستعاذة عن المؤتم؟
*…صفة الاستعاذة.
*…خواص الاستعاذة.
رابعاً: أردف كل دليل قرآني بدليل عقلي، وحديث نبوي، أو أثر علوي.
خامساً: ذكر أقوال أهل البيت" في كل مسألة أوردها، وذكر أقوال غيرهم من علماء المذاهب الأخرى.
سادساً: أورد الشُبه التي يتعلق بها المخالفون في كل آية، وأبطلها بعد المناقشة، وذكر الأدلة.
سابعاً: نسب كل نصٍ إلى مصدره، وإذا كان النص حديثاً أو أثراً، فإنه يبين ما قيل فيه من تصحيح أو تضعيف، وبهذا كفانا مؤنة التخريج والتنصيص.
ثامناً: أوضح المشكل والغريب في أي نص يورده.
تاسعاً: التزم المؤلف، وألزم ـ رحمه الله تعالى ـ بأن تكتب الصلاة على النبي( صلى الله عليه وآله وسلم ) كتابة كاملة، تجنباً للإشارات التي تكتب، ك(صلعم) أو نحو ذلك، وقد أوضح ذلك في المسألة الرابعة من الموضع الثاني المتعلق بالبسملة.
عاشراً: إذا أطلق المؤلف كلمة (علامة العصر) فالمقصود به السيد العلامة المجتهد المطلق عبدالله بن الإمام الهادي الحسن بن يحيى القاسمي ـ رحمه الله تعالى ـ المتوفى سنة (1375هـ) وإذا قال في الرواية: (رواه أئمتنا الثلاثة) فهو يعني ـ رحمه الله تعالى ـ الإمام المؤيد بالله أحمد بن الحسين الهاروني، المتوفى سنة (411هـ)، وأخيه الإمام أبي طالب يحيى بن الحسين الهاروني، المتوفى سنة (424هـ)، والمحدث الكبير محمد بن منصور المرادي، المتوفى سنة (290هـ).
وإذا قال: (الأربعة) فهو يعني ـ رحمه الله تعالى رحمة الأبرار ـ هؤلاء الثلاثة، إضافة إلى الإمام المرشد بالله يحيى بن الحسين الجرجاني، المتوفى سنة (479هـ).
فترة التأليف الزمنية
وبالرغم من حفالة برنامجه اليومي، وزخم أعماله المتجددة، وانشغاله بعدد من القضايا، فإنه قد استطاع ـ رحمه الله تعالى ـ أن يكمل تصنيفه بهذه المجلدات الضخمة في زمن قياسي لا بأس به، مقارنة بمواضيع الكتاب، وتكاثر الأعمال، حيث كان انتهائه من المجلد الأول سنة 1365هـ، ومن المجلد الثاني سنة 1367هـ، ومن المجلد الثالث سنة 1371هـ.
السور التي فسرها المؤلف
قد يعتقد القارئ عند رؤيته لهذه المجلدات أن المؤلف ـ رحمه الله تعالى ـ قد استكمل فيها جميع سور القرآن الكريم، ولكنها اقتصرت على تفسير سورة الفاتحة وحتى الآية (102) من سورة البقرة.
ولكنها في مضمونها قد احتوت على جل مواضيع القرآن، وقد حاول المؤلف استكمال أهم المحاور التي ناقشها القرآن الكريم، خصوصاً في القضايا الأصولية، وأورد عليها الأدلة من أكثر سور القرآن الكريم.
ترجمة المؤلف
نسبه
هو السيد العلامة المجتهد الورع الزاهد علي بن محمد بن يحيى بن أحمد بن الحسين بن محمد -الملقب العجري- بن يحيى بن أحمد بن يحيى-الشهيد- بن محمد بن صلاح بن علي بن الحسين بن أمير المؤمنين عز الدين بن الحسن بن أمير المؤمنين الهادي إلى الحق علي بن المؤيد رضوان الله عليهم أجمعين. سيد العلماء الأعلام، وبدر أبناء الأئمة الكرام.
مولده ونشأته
ولد بهجرة فلله سنة 1320هـ، نشأ وترعرع في ظل أسرة علوية كريمة تحب العلم، وتشغف مكارم الأخلاق، توفي والده رحمه الله وعمره لم يتجاوز الثامنة، ثم كفله عمه السيد العلامة عبدالله بن يحيى العجري، واعتنى به عناية خاصة إذ نقله معه إلى مشهد الإمام أحمد بن سليمان عليه السلام بحيدان، وربّاه فأحسن تربيته، وأفاض عليه من علومه ومعارفه.
حياته العلمية ومشائخه
ثم انتقل إلى هجرة ضحيان، ومكث بها فترة ثم رجع إلى صارة، ومن صارة كان ينتقل مطلع كل أسبوع إلى هجرة فلله طالباً للعلوم، عاكفاً عليها بعزيمة صادقة، وهمّة عالية، محققاً لمنطوقها والمفهوم، وكان من مشائخه آنذاك: السيد العلامة علي بن قاسم شرويد، والسيد العلامة أحمد بن عبدالله بن قاسم حوريه، والسيد العلامة عز الدين بن الحسن عدلان، والقاضي العلامة عبدالله بن عبدالله الشاذلي، والقاضي العلامة محمد بن هادي الفضلي... وغيرهم، إلا إن هؤلاء أكثر من لازمهم.
وقد برع في كثير من فنون العلم وبلغ غاية عظيمة في الاجتهاد، بالرغم من العوائق التي كانت تصاحبه أثناء طلبه للعلم. ولنترك ولده السيد العلامة يحيى بن علي العجري يحدثنا عن بداية طلبه للعلوم. قال: كان يتحمل طعامه في آخر كل أسبوع من محله بوادي صاره، ويصعد به الجبال الشاهقة، والطرق الوعرة، ويقاسي المشاق العظيمة مع صبر حسن، وعفة وزهد، وورع وعبادة، معرضاً عن الدنيا، مشتغلاً بالأعمال المقربة إلى الله، صارفاً همته ورغبته في طلب العلم، وتحصيل الفوائد وتقييد الشوارد.
وقال أيضاً: أخبرني رحمه الله أنه كان في ابتداء طلبه أيام بقائه بالهجرة يعود آخر الأسبوع إلى محله في يومي العطلة المعتادة (الخميس والجمعة)، وكان له في أثناء الطريق موضعان يجلس فيهما لتهدئة الأعصاب من وعثاء السفر، أحدهما للدفء والآخر للاستظلال، على حسب مقتضى الحال، وعند جلوسه في أحد الموضعين يجهد نفسه في دراسة مقروءاته في الأسبوع، ويصابر نفسه على أن لا يبرح حتى يتمها.
(الجد بالجد والحرمان بالكسل). لقد أثمر جهده، وظهر جده، وجمع علوماً غزيرة قلّ حاملها.
انتقاله إلى مدينة ضحيان
ثم انتقل إلى مدينة ضحيان، مدينة العلم والعلماء بعائلته، وأخذ عن أشهر مشائخ العلم بها ومنهم: السيد العلامة عبدالله بن عبدالله العنثري، والسيد العلامة عبدالرحمن عبدالله العنثري، والسيد العلامة أحمد يحيى العجري، والسيد العلامة الحسن بن الحسين الحوثي، والسيد العلامة محمد إبراهيم حوريه، والسيد العلامة يحيى بن صلاح ستين، والقاضي العلامة علي بن محمد الغالبي، والقاضي العلامة سالم بن سالم عمر رحمهم الله جميعاً.
وممن أجازه: السيد العلامة عبدالله بن الإمام الهادي الحسن بن يحيى القاسمي، والقاضي العلامة الحسن بن محمد سهيل.
ولما عرف الناس -بشتى طبقاتهم- فَضْله، وغزارة علمه، قصدوه حسب حاجاتهم، فهذا لطلب العلم، وذاك لحل مشكلاته الاجتماعية، وآخر للفتوى، فكان غوثاً للمساكين، معظماً للعلماء والمتعلمين، حالاً لهم كل الإشكالات العلمية، مصلحاً بين المتخاصمين.
تلاميذه
وله عدد من التلاميذ لا نستطيع حصرهم، وإنما نذكربعضهم معتذرين مقدماً لمن لم يذكر اسمه، منهم: أولاده الأعلام يحيى ومحمد، وإبراهيم وحسين وعبد الرحمن، والسيد العلامة محمد بن حسين شريف، والسيد العلامة أحمد حسن الحوثي، والسيد العلامة أحمد بن محمد شمس الدين وأخوه إبراهيم بن محمد شمس الدين وولده العلامة قاسم إبراهيم، والسيد العلامة حسن قاسم الحوثي وأخوه العلامة أحمد قاسم الحوثي، والسيد العلامة محمد حسن العجري، والسيد العلامة عبداللطيف علي قاسم شرويد، والسيد العلامة علي عبدالله حوريه وأخوه السيد العلامة درهم عبدالله حوريه، والسيد العلامة عبدالله بن عبدالله بن عبدالله العنثري، والسيد العلامة عبدالكريم محمد العجري وولده العلامة أحمد عبدالكريم العجري، والسيد العلامة حسن بن عز الدين عدلان، والسيد العلامة إسماعيل عبد الكريم شرف الدين، والقاضي العلامة عبدالله أحمد جعفر، والقاضي العلامة أحمد أبو دجانة... وغير هؤلاء كثير جداً.
مؤلفاته وتراثه الخالد
خلف لنا تراثاً عظيماً خالداً لا زال العلماء يغترفون منه، وينهلون من معينه الصافي، ومن قرأ مؤلفاته وجد نفسه عاجزاً عن التعبير عنها؛ لما يجده فيها من التحقيق والتدقيق والاستنباط والتخريج، وإمعان النظر في كثير من المسائل التي احتار فيها الكثير، وله مع علماء عصره مباحثات عديدة دلّت على رسوخه، وسعة إطّلاعه، ووقفوا منه موقف إعجاب وإجلال واحترام، ومن أهم مؤلفاته:
1- (مفتاح السعادة الجامع للمهم من مسائل الاعتقاد والمعاملات والعبادة) تفسير موسوعي يقع في ثلاثة مجلدات ضخمة أتى فيه بعلوم غزيرة، وأنظار سديدة كثيرة، ويعتبر موسوعة علمية رائعة حوت فنوناً كثيرة، قرآن وعلومه، وحديث ومصطلحه، وفقه وأصوله، وعقيدة وقواعدها، وهو الذي بين يديك.
2- (المقاصد الصالحة في الفتاوى الواضحة) جمع فيه أهم المسائل الواردة عليه، وضمنه فوائد عديدة، واجتهادات فريدة، وقد اعتنى بتنسيقه وترتيبه ولده السيد العلامة محمد بن علي العجري حفظه الله، وطبع سنة 1991م، وصدر عن دار الحكمة اليمانية.
3- (مختصر في ذكر رجال الزيدية)، وصل فيه إلى حرف العين، سنعمل على إتمامه، وتحقيقه إن شاء الله تعالى.
4- (الأنظار السديدة في الفوائد المفيدة) عبارة عن مذكرات في مسائل متعددة، وأبحاث متنوعة قال في مقدمته: (فإنه مع المطالعة في الكتب الدينية الكلامية والفقهية قد يسمح النظر بتحصيل فائدة، وتقرير قاعدة، وتقييد شاردة، خلا أنها لم تكن مجموعة في كتاب واحد، فرأيت جمعها لحفظها وتقريبها).
5- (السلسلة الذهبية في الآداب الدينية) جمع فيه كثيراً من مواضيع الآداب والأخلاق بطريقة فريدة؛ حيث يذكر الموضوع ويذكر ما يناسبه من الآيات القرآنية والأحاديث النبوية والأخبار العلوية، ويعلق على ذلك، وانفرد بذكر الأحاديث مسندة، مع ذكر مصدرها، لكي لا يتساهل بذلك المطلع، فيقول هذا من أحاديث الترغيب والترهيب التي يتساهل في قبولها، حيث قال: وربما أدى عدم ذكر الإسناد إلى التهاون بما دلّت عليه هذه الآثار من الإرشاد، فقد يقول القائل: هذا مثل غيره من أحاديث الفضائل، وحيث كان الحديث مروياً في أمهات متعددة من هذه الأمهات مع استواء الأسانيد في الصحة، فإني أكتفي منها بطريق، وأنبه على روايته في سائرها بعد تمام الحديث) (طبع بتحقيقنا).
6- (منهل السعادة في ذكر شيء مما كان عليه صفوة السادة من الزهد والورع والعبادة) كتاب وحيد في بابه، قال رحمه الله في مقدمته: (فهذا أنموذج خطير في بعض عبادات أهل التطهير، فلعل الناظر إليها يهتدي بهديهم، وبأقوالهم وأفعالهم {أُوْلَئِكَ الَّذِينَ هَدَى اللَّهُ فَبِهُدَاهُمُ اقْتَدِهِ }[ الأنعام:90]. طبع بتحقيقنا.
7- (رضاء الرحمن في الذكر والدعاء وتلاوة القرآن)، اسمه يدل على فضله وأهميته، وهو من الكتب الهامة التي يحتاجها المؤمن لإحياء نفسه حياة الذاكرين الله كثيراً والذاكرات. تحت الطبع بتحقيقنا.
8- (مختصر البرق اللموع) للجنداري في مسائل العقيدة، اختصره وأضاف إليه فوائد يحتاجها الطالب، ولا يستغني عنها الرائد، المسمى (المنتزع المختار فيما يتعلق بالاعتقادات من الأحاديث والآثار). طبع بتحقيقنا.
9- (السعي المشكور المتنزع من الدر المنثور).
10- (بلوغ الأمل فيما ينجي من الخطأ والزلل) (خ).
11- (الجامع المفيد المنتزع من شرح القاضي زيد) (خ).
12- (المنهل الصافي المنتزع من الجامع الكافي) (خ).
13- (مجموع منتزع من عدة كتب كأمالي الإمام أحمد بن عيسى وأحكام الإمام الهادي عليه السلام ).
14- (الدعاء المأثور) (خ) اختصره من الوسائل العظمى وغير ذلك من الأبحاث المختصرة في مواضيع متعددة.
دوره الإصلاحي
وإلى جانب هذا التراث العظيم الخالد، قام بحل كثير من المشاكل العالقة بين القبائل، وعمل على إصلاح شأنهم على كل الأصعدة، وحل لهم الاشكالات المتعلقة بالأراضي وصبائبها المختلفة.
وله عدد من القضايا التي عمل على حلها وإصلاحها، والحكم فيها لولا خشية التطويل لذكرناها مفصلة، وأما مساعيه في الصدقات الجارية فقد تم بناء جامعين تحت إشرافه الأول في بلاد آل الربيع بمنطقة القصر جوار هجرة مدران بجماعة، والثاني جامع النور بضحيان.
ثناء العلماء عليه
قال السيد العلامة محمد بن محمد المنصو ر:
(رئيس علماء اليمن، وشيخ العلماء المجتهدين في اليمن، الوالد علي بن محمد العجري رضوان الله وسلامه يغشاه ورحمته وبركاته، كان آية من آيات الله في سعة علمه وحفظه وفطنته، وذكراه تذكر بقول بعض السلف من أصحاب النبي صلى الله عليه وآله وسلم ، انتهى العلم إلى ثلاثة: واحد بالشام، وواحد بالعراق، وواحد بالمدينة، فالذي في الشام يسأل الذي في العراق ـ والمراد فيما يشكل عليه ـ والذي في العراق يسأل الذي في المدينة، والذي في المدينة لا يسأل أحداً، والمراد بهذا الإمام علي كرم الله وجهه، وهذا التقييم من الصحابة للثلاثة يؤكد معنى الحديث الشريف: ((أنا مدينة العلم وعلي بابها ..)) الخ.
وهكذا كان الوالد علي العجري إذا حضر مجلسه العلماء فكل ينتظر كلامه ورأيه وإفادته، وهو لا ينتظر من أحد رأياً ولا استفادة، وقد ألف رسائل ومؤلفات قيمة، وأقلام العلماء الهادية تعادل قطرات دماء الشهداء، اللهم ارفعه إلى عليين، وألحقه بالأنبياء والشهداء والصالحين، وحسن أولئك رفيقاً).
ويضيف العلامة المنصور قائلاً: (وقد غص جامع ضحيان بالمصلين عليه بحيث كانوا آلافاًً، وقد بادرت بسرعة إلى شفير القبر لأتمكن من الحثيات على قبره، فلولا الشباب الأقوياء رفعوني ورفعوا الأخ حمود المؤيد وتناولونا من فوق الرؤوس لاندفنا، وكان وهو حبيس منزله للعلة ترد عليه الفتاوى من جميع نواحي بلاد الشام، فيجب عليها وهو مستلق، ويشبع الجواب بأقوال الخلاف وعلماءه ويرجح وجميع البلاد في مدينة أبهى يقولون بلسان الحال: فإن القول ما قالت حذام، وقد أقبلت وفود قبائل الشام تتوافد للعزاء نحو نصف شهر، ويذبحون الذبائح للوافدين ليلاً ونهاراً، فسبحان من رفع منزلته في دنياه إلى مستوى لم يبلغه علامة من اليمنيين).
وقال القاضي العلامة محمد أحمد الجرافي (مفتي اليمن):
(العلامة علي العجري ـ رحمه الله ـ هو العالم الفاضل المحقق المجتهد المتفق على جلالته وقدرته وكفاءته في القضاء والفتوى، وأنا إن لم يتسن لي معرفته شخصياً بل ولا معرفة منطقة إقامته فقد اطلعت على كثير من أحكامه، إذ كنت في المحكمة العليا، فكانت موضع إعجابي وتقديري، فقرأت فتاواه أو أكثرها عندما تفضل بعض الإخوان الأكارم بإهدائها لي فوجدتها تدل على علم واسع وقدرة على الإستنباط والإستدلال والشجاعة على الترجيح وإعلان الآراء القيمة المستقلة، ووصفه لي بعض الفضلاء الأعلام الذين تمكنوا من زيارته مراراً وتكراراً، أنهم وجدوا عنده من حسن الخلق ولطف الطبع وشرف النفس وتواضعها وزهدها ما به يعتبر حسن الزمان وزينة الأيام، فرحم الله مثواه، ورفع درجته في أعلى عليين، وجعل في نسله من يلحق به علماً وعملاً، وفي عالم الفقه والفضل من يقتدي به وينتهج منهجه).
وقال القاضي العلامة محمد يحيى الشهاري (رئيس محكمة استئناف محافظة ذمار):
(إن الفقيد رحمه الله كان موسوعة علمية، وكان مثالاًً للزهد والتقى والورع والخلق، وكان لسانه لا يفتر عن ذكر الله، وقلما أن يجود الزمان بمثله، ومؤلفاته تغني عن التعريف به، ولقد زرته قبل موته لألقي عليه بعض المسائل الخلافية، فوجدت لديه ما يشبع الفؤاد والضمير من الشرح الوافي، واستنباط الأدلة، وعدت من لديه وكنت لا أحب مفارقته؛ لأن أوقاته كلها مليئة بالمذاكرة والإفادة والإجابات على الفتاوى التي ترد إليه من داخل اليمن وخارجها، فهو مرجع من المراجع العلمية، وأعتقد أن الزمان لا يأتي بمثله، كانت وفاته خسارة على الناس جميعاً ـ فرحمة الله عليه حياً وميتاً).
مرضه ووفاته وموضع قبره
وبالرغم من الأمراض المتتابعة على هذا السيد الجليل، فإنه لم يتوان عن ممارسة حياته العلمية والروحية من الإفتاء والتأليف والتدريس، واستقبال من يقصده، وحاول جاهداً ملازمة أوراده وأدعيته التي كان يمارسها قبل مرضه.
وأما عن كيفية مرضه فلنترك الحديث لولده العلامة يحيى علي العجري، حيث قال متحدثاً عن والده: (فقد ابتلاه الله سبحانه ببلاوي كثيرة، واعتورته أمراض منهكة أقعدته مدة خمس سنوات مضطجعاً، لا يستطيع أن يتحول عن موضع اضطجاعه إلا بمعونة غيره، صابراً راضياً محتسباً مفوضاً أمره إلى خالقه، ومع هذه الحالة وطول المدة، وما حل به من الضعف والوهن، فهو لم يفتر عن وظائف عبادته وأذكاره، على حسب عادته، يؤدي فريضة الصلاة في جماعة مع أحد أولاده وأحفاده، الذين كانوا يتناوبون الحضور للصلاة معه عند حلول وقتها في كل يوم، مع ما كان يتحمل من المشاق العظيمة في نشر العلم وإحياء معالم الدين، وإرشاد الناس، وإفتاء المسلمين والسعي في إصلاح ذات البين.
وفي اليوم الثاني من شهر رجب عام 1407هـ اشتكى وجع الصداع، واستمر فيه ثلاثة أيام وتعقّبه فهاق متتابع، وفي بعض الأوقات يعرض له حمى شديدة، واستمر المرض سبعة عشر يوماً، وفي ليلة الخميس التاسع عشر من الشهر أفهمنا بأن المرض قد خف، إلا إنه اشتكى الضعف والوهن، ولكنه بما أودع الله من نور العلم في قلبه عرف أن الدّعوة الربّانية قد وافته، فأدى فريضتي المغرب والعشاء في جماعة بالوضوء الشرعي، ثم رمز إلى حفيده والذي كان يأنس به في حياته، ويعتمد عليه في أكثر أموره، الولد العلامة التقي أحمد بن يحيى العجري حفظه الله، أن يقرأ سورة (يس) عند رأسه، ويرفع بها صوته لما ورد في قراءتها من الآثار، فما لبث بعد أن تمت التلاوة إلاَّ قدر ساعة، ثم فاضت نفسه المطمئنة الزكية راجعة إلى ربها راضية مرضية بدون نزاع ولا حشرجة، وإنما استلت روحه الطاهرة بنهزة خفيفة تشبه التنحنح في قدر دقيقتين، والتحقت بالرفيق الأعلى مع الذين أنعم الله عليهم من النبيين والصدّيقين والشهداء والصالحين وحسن أولئك رفيقا، ذلك الفضل من الله وكفى بالله عليماً.
سلام الله ورحمته ورضوانه على تلك الروح الطاهرة.
ومن عجيب ما اتفق وتحقق وقوعه وصدق مقالته، التي كان يكررها قبل وفاته بأعوام وفي مدة مرضه، أنه متوقع لحادث عظيم في عام سبعة، وأي حادث أعظم من وفاته، وافتقاد قطب من أقطاب الإسلام، وجبل من جبال العلوم الراسخة، وعَلَم من أعلام الهداية الشامخة، وارث علوم آبائه الأخيار، ومحيي شريعة جده المختار صلوات الله وسلامه عليه وعلى آله الأطهار.
إنها رزية وأي رزية، ولكن الله تعالى يقول: {وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ بِشَيْءٍ مِنَ الْخَوْفِ وَالْجُوعِ وَنَقْصٍ مِنَ الأَمْوَالِ وَالأَنفُسِ وَالثَّمَرَاتِ وَبَشِّرِ الصَّابِرِينَ ، الَّذِينَ إِذَا أَصَابَتْهُمْ مُصِيبَةٌ قَالُوا إِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعُونَ }[البقرة: 155،156].
فما من قلب من قلوب المؤمنين باليمن والعالم الإسلامي إلا وتأثر لموته، ولكن لسان حال الجميع يقول: إنا لله وإنا إليه راجعون، ولنتذكر مصيبتنا بالرسول الأعظم صلى الله عليه وآله وسلم وبأهل بيته المطهرين"، وقد دفن رحمة الله تعالى عليه بمقره ضحيان المعروفة، وقبره بها مشهور مزور، وقد رثاه مجموعة من العلماء والأدباء، نقتطف بعضاً من ذلك، قال السيد العلامة الحسن بن محمد الفيشي حفظه الله:
أتبكي معي فيما دها الدين والدنا .... وهدَّ قوى القاصين منا ومن دنا
وألبس ثوب الوجد شرعة أحمد .... وهدى ذويه الغرّ أقطاب ديننا
وزلزل عرش العلم بل هدَّ صرحه .... وقد كان في مجرى السماك تمكنا
وغير وجه الحق بعد انبلاجه .... وضيَّا على رغم الطواغيت بيِّنا
وقوض من نادى الفتاوى مُعَرَّساً .... تبناه من ننعى علاه ودونا
وغيّب عنا شمس حجة دهرنا .... علينا فيا بؤسى لشقوة حظنا
ومن كان سيفاً قاطعاً لعلائق .... سوالب للأرواح تنثال بيننا
ومن كان للإسلام شيخاً ورائداً .... يواكبه عدواً ومشياً ومنثنا
ومن هو روح الروح منا وصفونا .... وترياقنا من نفث سحار عصرنا
يجلّي غياهيب الظلام ويمتطى .... ذرى العاصفات الهوج عبر انشغابنا
يشنف بالمعروف سمعاً بمنطق .... يحف به لطف الفكاهة والجنا
ويصرخ بالإنكار إن ولعت به .... نفوس تَخَذْن الشر خلقاً وديدنا
فيخضع عاتي الغُلْب في جبروته .... ويقنع رأساً صاغراً متمسكنا
وكم ولكم شالت قضاة أشاوس .... على هامها طيبا به وتيمنا
أعود فنيل الحصر في شأو قدسه .... عسير وقد تلقى حديثي مبرهنا
سأبيكه ما دامت دراريه غضة .... بقلبي تدر الدمع حيناً ملوَّنا
ألا فابْك واستبك الدفاتر ما حوت .... ليحيى الإمام الحق مصدر يمننا
على مثله لا قبح عندي في البكا .... دواماً بتذكار المحامد والثنا
وكيف إلام اليوم في ذاك والعلا .... يشاطرني وأسمع صداه مؤبنا
لجبريل أهل الأرض قطب زمانه .... ومصلت سيف الحق إبان وهننا
(علي) إمام العلم نجل (محمد) .... نماه بنو (العجري) سادات ربعنا
سأتبع هذا إن تمكنت غيره .... ولو لم يكن إلا نفاثه مثخناً
وأزكى صلاة الله تغشى محمداً .... وعترته في المنتهى غاية المنى
قال السيد العلامة نجل المؤلف يحيى بن علي العجري: وقد نسج على منوالها الأخ العلامة قاسم بن صلاح عامر هذه الترثية، وأرسلها إلينا بتوقيعه وتوقيعات الإخوان الساكنين بعويره، وعليها إمضاء والدنا العلامة بقية أهل الاستقامة، ضياء الإسلام الولي بن الولي: مجد الدين بن محمد المؤيدي حفظه الله، وأسعد أوقاته، ومتع الإسلام والمسلمين بطول حياته:
سنبكي معاً يا صاح والخطب قد دنا .... وهدّ قوى الإسلام فينا وأوهنا
وأبكي لما قد ناب دين محمد .... فقدنا به ما قد دهى وتمكنا
وأبكي على سادات آل محمد .... هداة البرايا بل وأقطاب ديننا
فقد رحلوا عنا وأبقوا حثالة .... بهم سار ركب الجهل في هذه الدنا
لمثل مصاب اليوم أبكي بعبرة .... بدمع غزير الودق سراً ومعلنا
على موت قطب الدين فينا وركنه .... وشمس الهدى في كل أنحاء قطرنا
إمام به من ظلمة الجهل يهتدى .... ويضحى به وجه الشريعة بينا
ألا أيها الناعي لشرعة أحمد .... ونهج عليّ في نظامك موزنا
فما كنت في نعي الشريعة منصفا .... وما كنت في نعي المعالم محسنا
نعيت علياً من ترى كان نهجه .... كنهج علي قيماً ما به انحنا
نعيت إمام العلم نجل محمد .... على نهج طه ما توانى ولا انثنا
له نسب ينمى إلى سادة الورى .... إلى أسرة (العجري) طابت معادنا
لقد عظم الخطب الذي عم قطرنا الـ .... ــيماني في صقع وسهل ومنحنا
فمن لكتاب الله بعدك موضحاً .... لغامض آيات الكتاب مبينا
وسنة طه مالها من مترجم .... يوضّح منها مجملاً ومبينا
فلا خير في عيش وقد غاب كوكب .... يضيء لنا بيتاً ووهداً وموطنا
ورحمة رب العرش تغشاك راحلاً .... إلى جنة طابت مقيلاً ومسكنا
ويا أسرة المفقود صبراً فإنه .... به ينعت الخلاق من كان مؤمنا
ولا تحسبوا أن المصاب يخصكم .... وقد مات من راض المفاخر والثنا
فموت علي في العوالم ثلمة .... لها أثر باق إلى يوم حشرنا
وما مات من حاز العلوم وراضها .... وأورثنا منها معيناً ومعدنا
عليك صلاة الله بعد محمد .... وعترته ما ماد غصن أو انثنا
مصادر ترجمته
بهجة الصدر في ترجمة علامة العصر (خ) تأليف ولده العلامة يحيى بن علي العجري، مؤلفات الزيدية: 2/96، 3/80،44، أعلام المؤلفين الزيدية: 720ـ722.
عملي في تحقيق الكتاب
مما لا شك فيه أن لهذا الكتاب صداه في أوساط الزيدية وغيرهم، ولكن نظراً لعدم طبعه فإنه لم ينتشر الإنتشار اللائق به، وها هو اليوم يخرج ولأول مرة في أبهى حلة وأزهى صورة، نقدمه خدمة للأمة الإسلامية جميعاً، وقد حاولنا في تحقيقنا له أن نسلك الطريق التي أراد المؤلف ـ رحمه الله تعالى ـ أن يكون كتابه هذا عليها، وهذه خطوات التحقيق:
*…دفعت الكتاب إلى الكمبيوتر للصف، بعد اختيار نسخة المؤلف بأجزائها الثلاثة عمدة في النقل.
*…تم مقابلة ما تم صفه بالكمبيوتر على النسخ المخطوطة، وهو لا زال في جهاز الكمبيوتر، لتقليل الأخطاء المطبعية.
*…سلّمت الملازم المصفوفة بعد إخراجها إلى أحفاد المؤلف للمقابلة الدقيقة، فقاموا مشكورين بالمقابلة والتصحيح.
*…قسّمت النص إلى فقرات، والفقرات إلى جمل، واستخدمت في ذلك علامات الترقيم المتعارف عليها.
*…قمت بمراجعة الآيات المذكورة في الكتاب على المصحف الشريف، وأشرت إلى مواضعها، بذكر اسم السورة ورقم الآية، وجعلت ذلك بعد الآية مباشرة بين معقوفين هكذا [ ].
*…حاولت أن أضع كل مقالة أو حديث في فقرة مستقلة، واستغنيت بذلك عن الأقواس.
*…حاولت وضع أسماء أصحاب المقالات والآراء في بداية كل سطر ـ قدر الإمكان.
*…وضعت الفصول والمسائل والفوائد والتنبيهات في سطور مستقلة، وجعلت لها عناوين تناسبها.
*…وضعت لكل مسألة رئيسية عنواناً يناسبها، وجعلتها في بداية كل صفحة.
* وضعت صفحة مستقلة قبل تفسير كل آية، وذكرت فيها الآية المفسرة، وموقعها في السورة، وأبرزت أهم المواضيع التي تناولها المؤلف أثناء تفسيره لها.
* بالنسبة للأحاديث تعمدت عدم تخريجها؛ لأن المؤلف رحمه الله تعالى قد خرجها من مصادرها، والتزم ذكر تصنيفها، والإشارة إلى صحتها من ضعفها.
* …وأما التراجم للرواة فإن المؤلف ـ رحمه الله تعالى ـ قد كفانا مؤنة الترجمة لهم، حيث ترجم لكل واحد منهم، وقد وضعت في الفهرس اسم المترجم له، وموقع وجود ترجمته.
* وضعت هذه المقدمة التي بين يديك.
وصف المخطوطة
ولقد حصلت ـ والحمد لله تعالى ـ على نسخة المؤلف التي خطها شقيقه السيد العلامة الحسن بن محمد العجري، حيث قام المؤلف بمراجعتها بعد النسخ، وتصحيحها، ووضع بعض الهوامش في جنباتها، وقد وقع الكتاب في ثلاثة مجلدات كبار، وكان عدد صفحات المجلد الأول (375) صفحة، والمجلد الثاني (779) صفحة، والمجلد الثالث (364) صفحة، جميعها من القطع الكبير.
ولا بد من الإشارة إلى أن هذه الثلاثة المجلدات المخطوطة قد أصبحت بعد الطبع كما تراها ماثلة بين يديك، حفاظاً على تناسق صفحاتها، وتناسبها مع حجم المجلد، وقد أشرنا إلى نهاية كل مجلد مخطوط في الموضع الذي انتهى إليه في المجلد المطبوع.
وفي الأخير:
أسأل الله العلي القدير أن يجعل أعمالي خالصة لوجهه الكريم، وأن ينفع بهذا الكتاب جميع المسلمين، وأن يوحد صفوفهم، وينصرهم على أعدائهم، ويرزقهم حب محمد وآل محمد، إنه على ما يشاء قدير.
وصلى الله وسلم على سيدنا محمد الأمين، وعلى آله الطيبين الطاهرين.
عبدالله بن حمود بن درهم العزي
اليمن ـ صعدة
14/ جماد الثاني/1424هـ ـ
مقدمة المؤلف
بسم الله الرحمن الرحيم
وبه نستعين
الحمد لله الذي تفضل علينا بالقرآن، وهدانا به إلى مناهج التقوى والإيمان، بما أودع فيه من التنبيه على دلائل العدل والتوحيد، وأبان فيه من قواطع الوعد والوعيد والزجر والتهديد، وما ضمنه من العلوم التي هي قوام جميع الأنام، وأساس قواعد الإسلام من معرفة الحلال والحرام، وسائر الآداب والأحكام، حتى صار لكل شيء بياناً وحجة، وإلى كل خير مسلكاً ومحجة.
وأشهد أن لا إله إلا الله شهادة ذي علم ويقين، بريء من الظن والتخمين، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، الذي تشرف بشرفه أصوله وفصوله، صلى الله عليه وعلى آله الفرقة الناجية، والعصابة الهادية، صلاة وسلاماً دائمين متلازمين من يومنا هذا إلى يوم الدين. أما بعد:
فإني لما نظرت إلى ما وسعه الناس من الفنون والعلوم، وتشعب ما انطوت عليه من المنطوق والمفهوم، والاختلاف الطويل العريض بين أرباب النهى والحلوم، وتفكرت فإذا هذا العمر القصير لا يتسع لتعلم كل مستحسنها، فضلاً عن فضولها ومستهجنها، رأيت أن الاشتغال بالأهم منها هو الصواب، والمتعين فرضه في محكم السنة والكتاب، وذلك ما لا يعذر بجهله أحد من ذوي الألباب، وهو معرفة الله ومعرفة ما يرضيه وما يسخطه، واتباع ما يرضيه، واجتناب ما يسخطه، وهذه الوجوه شاملة لمسائل الاعتقاد والعبادات، والمعاملات، والمأمورات، والمنهيات، وغيرها من الآداب ومكارم الأخلاق، وكان كتاب الله هو الكفيل بتلك العلوم النافعة، والمطلع لأنوارها النيرة الساطعة، والنهر الجاري المروي لتلك الحدائق المتدلية قطوفها اليانعة، فصرفت همتي، ووجهت عزمي، وبذلت جهدي في تدبر آياته، والتأمل لدلالالته، والغوص في قعور بحوره، والاستبصار بضيائه ونوره، لاستخراج المهم من المسائل الاعتقادية وغيرها من ذلك الكتاب الذي لا ريب فيه، ولا يأتيه الباطل من خلفه ولا من بين يديه، وجعلت الكتاب العزيز أصلاً ومرجحاً لما طابقه من مختلفات الأدلة، قاضياً على ما خالفه بأنه من تمويهات أهل البدع المضلة، مع الاستعانة بأنظار الأئمة وغيرهم من علماء الأمة، وجمعت ما تحصل من الفوائد، وما قيدته من الشوارد في هذا الكتاب حفظاً لها من الضياع، وتقريباً لمن يريد الانتفاع، لا سيما نفسي الموسومة بالملل عن معاودة النظر، وقلة الحفظ والتذكر لمتفرقات الأدلة على الوجه المعتبر، وسميته: (مفتاح السعادة في المهم من مسائل الاعتقاد والمعاملات والعبادة)، وأنا أسأل الله أن ينفعني به في الدين والدنيا والآخرة، وأن يجعله لي لديه عند لقائه ذخرة نافعة فاخرة، وأن ينفع به عباده حتى يكون لي عملاً صالحاً يتبعني إذا صارت عظامي رميماً ناخرة، إنه المتفضل علينا بصنوف النعم الباطنة والظاهرة.
[طريقة المؤلف في الاستدلال]
واعلم أني أضيف إلى الدلائل القرآنية ما يطابقها من الأدلة العقلية والسنة النبوية، والآثار العلوية، والإجماعات المروية، والأقيسة القوية، وأذكر من قال بمدلولها من العترة وغيرهم، وآتي من شبه المبطلين بما عليه عندهم المعول والاعتماد، ثم أبين بطلانها بما لا ينكره إلا من غلب عليه الجهل والعناد، وأنسب ما تظمنه من السنة والآثار العلوية إلى أصولها من كتب أئمتنا وغيرها، مع تبيين ما قيل فيها من تصحيح، أو تضعيف، وتوضيح ما فيها من المشكل والغريب تتميماً للفائدة، وخروجاً عن العهدة، ومعاونة على البر والتقوى، إلا أني أقتصر على ذكر هذه الأمور في أول موضع تقع فيه المسألة غالباً هرباً من التكرار.
هذا مع فوائد استطردتها، وفروع ألحقتها تستقر بها خواطر المتأملين، وتذعن لحسن موقعها وإيرادها عقول المنصفين، حتى جاء والحمد لله كتاباً تنشرح به قلوب أهل التقوى واليقين، ولا يحتاج الناظر فيه إلى غيره في كثير من معالم الدين، مع أني معترف أن الفضل فيه لغيري لعلمي بجمود قريحتي وقصوري وتقصيري، إلا أني أرجو الأجر الوافر على جمع الشتيت، وتقرير الدلالة على وجه يفضي إلى البيان والتثبيت.
اللهم اجعل عملي فيه خالصاً لوجهك الكريم، جارياً على سنن الصراط المستقيم، اللهم اشرح صدري لمعرفة الحق واتباعه، ونصرته وإيضاحه، ودمغ الباطل واجتنابه، وبيان بطلانه وافتضاحه، اللهم اجعل القرآن العظيم ربيع قلبي ونور صدري، وبلغني فيما أريده منه مما يرضيك عني أملي، وصل يا رب وسلم على محمد وآله، وحسبي ربي وكفى.
فضائل القرآن والحث على العمل به
في مسائل متفرقة لها تعلق بالمقصود
المسألة الأولى: في فضائل القرآن والحث على العمل به
للأئمة والعلماء في ذلك مؤلفات كثيرة، فمن أراد الوقوف على الحقيقة فعليه بها، إلا أنا نذكر من ذلك نكتاً على وجه التبرك والتنبيه، والترغيب والتهييج، فنقول: قد تطابق على ذلك العقل والنقل، أما العقل فلأنه لما ثبت أن الله تعالى أعظم الأشياء كان كلامه أعظم الكلام، وأما النقل فقد وصفه الله تعالى بأوصاف لا يشاركه فيها غيره، كما سيأتي ذلك إن شاء الله تعالى مفصلاً، فسماه تعالى نوراً وهدى، وموعظة وشفاءً، ورحمة وذكرى، وبياناً وتبياناً، وبصائر وفرقاناً، إلى غير ذلك من الممادح العظيمة، والأوصاف الكريمة، وعن علي عليه السلام قال: قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم : ((أيها الناس إنكم في دار هدنة وعلى ظهر سفر، وإن السير بكم سريع، وقد رأيتم الليل والنهار كيف يبليان كل جديد، ويقربان كل بعيد، ويأتيان بكل موعود، فأعدوا الجهاز لبعد المقام))، فقام المقداد بن الأسود فقال: يا رسول الله وما دار الهدنة؟ قال صلى الله عليه وآله وسلم : ((دار بلاء وانقطاع، فإذا التبست عليكم الفتن كقطع الليل المظلم فعليكم بالقرآن فإنه شافع مشفع، وصادق مصدق، من جعله أمامه قاده إلى الجنة، ومن جعله خلفه ساقه إلى النار، وهو الدليل على خير سبيل، وكتاب تفصيل وبيان وتحصيل، والفصل ليس بالهزل، لا تحصى عجائبه، ولا تبلى غرائبه، فيه مصابيح الهدى ومنارات الحكمة، والدليل على المعرفة لمن عرف الطريق، فليولج رجل بصره، وليبلغ الطريقة نظره، ينجو من عطب، ويتخلص من نشب، فإن التفكر حياة قلب البصير، كما يمشي المستنير في الظلمات بالنور بحسن تخلص وقلة تربص)). رواه أبو طالب، والإمام أحمد بن سليمان واللفظ له، وأخرج السيلقي نحوه من حديث أبي سعيد.
[شرح اللغويات]
الهدنة في الأصل: الصلح سواء كان على وجه الصحة والسكون، أم على وجه يؤدي إلى الفساد وعدم التمام، وهذا هو المراد هنا، ولهذا فسرت بالبلاء والانقطاع، شبه الاطمئنان إلى الدنيا بالصلح المبني على الغل والخيانة فإنه لا يوثق به، ولا ينبغي الغفلة عن الحزم والتيقض، كما يقال: (هدنة على دخن) أي: سكون على غل، والنشب: ما تعلق بالشيء يقال: نشب الشيء بالشيء بالكسر نشوباً إذا علق به، والرواية في أمالي أبي طالب أشب، وفي الحقائق بالنون، ولعل الأولى لغة أو تصحيف.
وعن الحارث قال: دخلت المسجد فإذا قد وقعوا في الأحاديث فأتيت علياً عليه السلام فقلت: يا أمير المؤمنين ألا ترى أن الناس قد وقعوا في الأحاديث قال: وقد فعلوها ؟ قلت: نعم، قال: أما إني سمعت رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يقول: ((ستكون فتنة . قلت: فما المخرج منها يا رسول الله؟ قال: كتاب الله فيه نبأ من قبلكم، وخبر ما بعدكم، وحكم ما بينكم، وهو الفصل ليس بالهزل، من تركه من جبار قصمه الله، ومن ابتغى الهدى في غيره أضله الله، وهو حبل الله المتين، وهو الذكر الحكيم، والصراط المستقيم، هو الذي لا تزيغ به الأمواء، ولا تلبس به الألسن، ولا تشبع منه العلماء، ولا يخلق عن كثرة الرد، ولا تنقضي عجائبه، هو الذي لم تنته الجن إذ سمعته إلا أن قالوا: إنا سمعنا قرآناً عجباً، من قال به صدق، ومن حكم به عدل، ومن دعا إليه فقد هدى إلى صراط مستقيم، خذها إليك يا أعور)). ورواه المرشد بالله عليه السلام وأخرجه الدارمي، والترمذي، وقد تكلم طائفة في الحارث على عادتهم في وصم شيعة أمير المؤمنين.
[توثيق الحارث ]
قال القاضي عياض: (أسيء الظن بالحارث لما عرف من مذهبه في التشيع ودعوى الوصاية لعلي عليه السلام )، وجرحه القاضي بما لا يجرح بمثله، وكلها ناشئة عن تشيعه.
قال القرطبي: (الحارث رماه الشعبي بالكذب، وليس بشيء، ولم يبن من الحارث كذب، وإنما نقم عليه إفراطه في حب علي وتفضيله له على غيره، ومن هاهنا والله أعلم كذبه الشعبي؛ لأن الشعبي يذهب إلى تفضيل أبي بكر، وإلى أنه أول من أسلم.
قال أبو عمر بن عبد البر: وأظن الشعبي عوقب لقوله في الحارث الهمداني: حدثني الحارث وكان أحد الكذابين).
قلت: والحديث أخرجه أبو طالب عليه السلام عن معاذ بن جبل قال: ذكر رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم الفتنة فعظمها وشددها، فقال علي بن أبي طالب: فما المخرج منها؟ فقال: ((كتاب الله...)) وساقه بنحو حديث علي عليه السلام .
وفي البحر المحيط لأبي حيان قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم : ((من أراد علم الأولين والآخرين فليثوِّر القرآن )).
قال في المختار: ثوَّر القرآن بحث عن علمه.
وعن علي عليه السلام قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم : ((خير الناس من تعلم القرآن، وعلمه ، وفضل القرآن على سائر الكلام كفضل الله على خلقه)). رواه المرشد بالله، وله بطريق أخرى عن علي عليه السلام مرفوعاً: ((خيركم من تعلم القرآن وعلمه )). وأخرجه البخاري والترمذي، وأخرجه المرشد بالله، وأحمد، وأبو داود، عن عثمان، ونسبه القرطبي إلى البخاري من رواية عثمان، وللمرشد بالله إليه طرق، وفي بعضها: ((وفضل كلام الله على سائر الكلام كفضل الله على خلقه)).
وعن أبي أمامة قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم : ((خياركم من تعلم القرآن وعلمه )). رواه المرشد بالله، وأخرجه ابن ماجة، عن سعد بن أبي وقاص. ذكره في الجامع الصغير، وحكى العزيزي عن شيخه تصحيحه.
وفي الجامع عن ابن مسعود مرفوعاً: ((خياركم من قرأ القرآن وأقرأه غيره ))، ونسبه إلى ابن الضريس، وابن مردويه، قال العزيزي: قال الشيخ حديث حسن.
وعن علي عليه السلام قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم : ((كأني قد دعيت فأجبت ، وإني تارك فيكم الثقلين أحدهما أكبر من الآخر كتاب الله عز وجل حبل ممدود من السماء إلى الأرض، وعترتي أهل بيتي، فانظروا كيف تخلفوني فيهما)). رواه علي بن موسى الرضا في الصحيفة.
وعن أبي سعيد عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم أنه قال: ((أيها الناس إني قد تركت فيكم ما إن تمسكتم به لن تضلوا الثقلين وأحدهما أكبر من الآخر كتاب الله حبل ممدود من السماء إلى الأرض، وعترتي أهل بيتي فإنهما لن يفترقا حتى يردا علي الحوض)). رواه المرشد بالله.
وهذا -أعني حديث الثقلين- متواتر لا ينكره إلا معاند، رواه أئمة العترة وشيعتهم ومخالفوهم بطرق متعددة عن جماعة من الصحابة، ومن أراد الحقيقة طالع الأمهات، والمناقب، والمسندات، والمرسلات يجد بغيته، ويبلغ أمنيته.
وذكر الموفق بالله عليه السلام في الإحاطة: تلقي الأمة له بالقبول، وأنه ظهر في الكتب المصنفة في أيام الأموية والعباسية من دون نكير فيما بينهم.
[من كلام الإمام علي في وصف القرآن]
ومن كلام علي عليه السلام بعد أن ذكر بعثة النبي صلى الله عليه وآله وسلم وأحواله: (ثم أنزل عليه الكتاب نوراً لا تطفأ مصابيحه، وسراجاً لا يخبو توقده، وبحراً لا يدرك قعره، ومنهاجاً لا يضل نهجه، وشعاعاً لا يظلم ضوءه، وفرقاناً لا يخمد برهانه، وبنياناً لا تهدم أركانه، وشفاء لا تخشى أسقامه، وعزاً لا تهزم أنصاره، وحقاً لا تخذل أعوانه، فهو معدن الإيمان وبحبوحته، وينابيع العلم وبحوره، ورياض العلم وغدرانه، وأثافي الإسلام وبنيانه، وأودية الحق وغيطانه، وبحر لا ينزفه المستنزفون، وعيون لا ينضبها الماتحون، ومناهل لا يغيضها الواردون، ومنازل لا يضل نهجها المسافرون، وأعلام لا يعمى عنها السائرون، وآكام لا يجوز عنها القاصدون، جعله الله رياً لعطش العلماء، وربيعاً لقلوب الفقهاء، ومحاجَّ لطريق الصلحاء، ودواءً ليس بعده داء، ونوراً ليس معه ظلمة، وحبلاً وثيقاً عروته، ومعقلاً منيعاً ذروته، وعزاً لمن تولاه، وسلماً لمن دخله، وهدى لمن ائتم به، وعذراً لمن انتحله، وبرهاناً لمن تكلم به، وشاهداً لمن خاصم به، وفلجاً لمن حاج به، وحاملاً لمن حمله، ومطية لمن أعمله، وآية لمن توسم، وجنة لمن استلأم، وعلماً لمن وعى، وحديثاً لمن روى، وحكماً لمن قضى). رواه في نهج البلاغة.
وأقول: لو لم يكن في هذا الموضع إلا هذا الفصل العجيب لكان كافياً فيما نريده من الحث على العمل بالكتاب، والترغيب، ولنقتصر من كلام أمير المؤمنين عليه السلام هنا عليه، ففيه ما يكفي من التنبيه.
[شرح اللغويات]
لا يخبو بالخاء المعجمة أي: لا ينطفيء، والأثافي: جمع إثفية الأحجار توضع عليها القدر بشكل مثلث، والغيطان: جمع غايط المطمئن من الأرض، ويغيضها بفتح حرف المضارعة من غاض وروي بالضم من أغضت الماء، والآكام: جمع أكم كجبال جمع جبل، والأكم جمع أكمة كعنبة ما علا من الأرض وهي دون الكثيب، والمحاج: جمع محجة جادة الطريق، وانتحله: دان به، والفلج: الظفر، واستلأم: لبس لامة الحرب وهي الدرع.
[من كلام الإمام زيد في وصف القرآن]
وقال زيد بن علي عليه السلام في كتاب الإيمان: (وأوصيكم أن تتخذوا كتاب الله قائداً وإماماً، وأن تكونوا له تبعاً فيما أحببتم وكرهتم، وأن تنهِمُوْا أنفسكم ورأيكم فيما لا يوافق القرآن، فإن القرآن شفاء لمن استشفى به، ونور لمن اهتدى به، ونور لمن تمسك به، ونجاة لمن تبعه، من عمل به رشد، ومن حكم به عدل، ومن خاصم به فلج، ومن خالفه كفر، فيه نبأ من قبلكم، وخبر معادكم، وإليه منتهى أمركم، فإياكم ومشتبهات الأمور وبدعها؛ فإن كل بدعة ضلالة).
[كلام الإمام القاسم في وصف القرآن]
وقال القاسم بن إبراهيم عليه السلام في كتاب (المديح الكبير للقرآن): (فكتاب الله إمام لكل مهتد من خلق الله ورشيد أعزه من الوهن والتداحض فلا يتصلان به أبداً، ومنعه من أن يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه؛ إذ حفه بالنور والهدى، فنوره وهداه مقيمان أبداً معه، مضيئان مشرقان لمن قبله عن الله وسمعه، ساطع فيه نور شمسهما، بين هداه ونوره لملتمسهما، لا يميلان بمتبع لهما عن قصده، ولا يمنعان من طلب رشدهما عن رشده، بل يدلانه على المراشد، ويقصدان به الأمور المسعدة التي لا شقاء أبداً معها، ولا يضل أبداً من اتبعها، فرحم الله امرأً نظر فيه فرأى سعادته ورشده وهداه، فجانب شقوته وغيه ورداه، قبل أن يقول يوم القيامة مع القائلين: {رَبَّنَا غَلَبَتْ عَلَيْنَا شِقْوَتُنَا وَكُنَّا قَوْماً ضَالِّينَ} [المؤمنون:106] فضلال من ترك كتاب الله لايغبا إلا على من لم يهبه الله عقلاً ولباً، كتاب نزله الله الرحيم الأعلى برحمته من فوق السماوات العلى، فأقر في أرضه قراره، وبث في عباده أنواره، فنوره ظاهر لا يخفى، وضياؤه زاهر لا يطفى).
[كلام الإمام محمد بن القاسم في وصف القرآن]وقال ولده محمد بن القاسم: (وبعد: فإن الله بفضله ورحمته جعل من عظيم ما من به علينا وعليكم من نعمته ما هدانا وهداكم إليه، ودلنا ودلكم عليه من طلب حقائق الحق، حين ضل عن ذلك كثير من الخلق في تنزيل الله سبحانه وكتابه؛ إذ لا يوصل إلى حقيقة حق إلا بأسبابه، ولا يهتدى إلى صواب رشد إلا بمفاتيح أبوابه، فمن فتح الله له أبواب علم الكتاب علم حقائق البر والهدى والصواب).
[كلام الإمام الهادي في وصف القرآن]
وقال الإمام الهادي إلى الحق عليه السلام : (إن الله تبارك وتعالى بعث محمداً إلى الأمة بكتاب ناطق، وأمر صادق، فيه شفاء الصدور، وكمال الفرائض والأمور، والهدى والتقوى، والرجوع عن الردى، والنجاة من المهالك، والسبيل إلى أفضل المسالك، لا يضمأ من ورد شرائعه، ولا يجوع من أكل سائغه، ولا يصم من سمع واعظه، ولا يعمى من أبصر سبيله، ولا يضل من اتبع نوره، ولا يغلط من استشهد ناطقه، ولا يهلك من اتبع بيانه، ولا يندم من استمسك بوثيق عروته، ولا يفلج إلا من احتج بمحكم حججه، نور ساطع، وبرهان لامع، وحق قاطع، كتاباً مفصلاً، ونوراً وهدى، قد ترجمه الرسول، وأحكم فيه وثائق الأصول، وفرع فروعه بأحسن القول).
[كلام الإمام المنصور في وصف القرآن]
وقال المنصور بالله عليه السلام : (الحكمة العلم النافع وهو علم القرآن وتفسير معانيه، وتفصيل مجمله، والمعرفة بأحكام أوامره ونواهيه، ومحكمه ومتشابهه، وخاصه وعامه، ومجمله ومبينه، وناسخه ومنسوخه، والاعتبار بعبرة، والفهم لأمثاله العجيبة، وقصصه الغريبة، فهذا عندنا رأس الحكمة، ومفتاح الرحمة)، وهذا القدر كاف في هذه المسألة؛ إذ تتبع ما ورد في فضل كلام الله والحث على اتباعه يشغلنا عن المقصود، مع أن ذلك أمر معلوم لولا قصد التنبيه والاقتداء بالنبي صلى الله عليه وآله وسلم والوصي عليه السلام ، وأئمة العترة"، وغيرهم من علماء الإسلام، مع ما سيأتي إن شاءالله تعالى في سياق الآيات الدالة على فضله، وعظيم منزلته).
المسألة الثانية: في العلوم المستنبطة من القرآن
اعلم أن الله تعالى جعل من معجزة هذا القرآن أن جعله مع صغر الحجم متضمناً للعلم الجم؛ بحيث أنه يمكن استخراج كل شيء منه كما قال تعالى: {مَا فَرَّطْنَا فِي الْكِتَابِ مِنْ شَيْءٍ}[الأنعام:38]، وقال: {تِبْيَاناً لِكُلِّ شَيْءٍ }[النحل:89] وقال صلى الله عليه وآله وسلم : ((فيه نبأ ما قبلكم وخبر ما بعدكم ...)) الخبر ونحوه.
وقال علي عليه السلام : (فالقرآن آمر زاجر، وصامت ناطق، حجة الله على خلقه، أخذ عليهم ميثاقه، وارتهن عليهم أنفسهم، أتم نوره، وأكرم به دينه، وقبض نبيه صلى الله عليه وآله وسلم وقد فرغ إلى الخلق من أحكام الهدى به). رواه في النهج.
وروي عن ابن عباس أنه قال: (لو ضاع عليّ عقال لوجدته في كتاب الله).
[تنوع العلوم والمعارف القرآنية]
وروى ابن أبي جمرة -بالجيم- عن علي رضي الله عنه أنه قال: (لو شئت أن أوقر سبعين بعيراً من تفسير أم القرآن لفعلت، حتى لقد استنبطوا منه علم الخياطة، والهندسة، والجبر، والمقابلة والغياصة، وغيرها مما لا يحصى كثرة، إلا أن الهمم متفاوتة، والأفهام مختلفة، فكل طالب يدرك منه بقدر اجتهاده وبذل وسعه، ومقدار فهمه، وتأمله وتدبر آياته).
كما روي أنه قيل لموسى عليه السلام : (يا موسى إنما مثل كتاب أحمد في الكتب بمنزلة وعاء فيه لبن كلما مخضته أخرجت زبدته). رواه أبو نعيم وغيره، ومثال تفاوت العلماء في الاستنباط منه مثال قوم لهم معدن يستخرجون منه بقدر الآلة والقدرة، وتوفيق الله وتيسيره.
[ما يجب فهمه من القرآن]
واعلم أن الذي ينبغي لمن قصرت همته، وفترت عزيمته أن يقتصر من علوم القرآن على ما لا يعذر بجهله من علم العدل والتوحيد، ومعرفة الوعد والوعيد، والأوامر والنواهي، وما يوصل إلى معرفة ذلك من علوم القرآن المجيد، فإن سمت به همته إلى مجاوزة ذلك إلى غيره فليقدم الأهم فالأهم كعلم الطريقة، وآداب أهل الحقيقة، وهذا وإن كان داخلاً فيما تقدم فإن بعضه غير داخل إن أريد بما سبق ما تحتم.
[وسائل الإعانة على فهم القرآن الكريم]
ومن أراد أن يبلغ أمله في معرفة الحق والكون مع أهل الاهتداء والصدق، فليلزم أموراً فإن من لزمها فتح الله عليه أبواب الفهم، وأظهر على لسانه ينابيع العلم:
[الإخلاص]
أحدها: أن يخلص في عمله الذي هو تدبر كتاب الله والاستنباط منه خصوصاً، وفي سائر أعماله لله تعالى عموماً قال الله تعالى: {أَلاَ لِلَّهِ الدِّينُ الْخَالِصُ }[الزمر:3].
وعن علي عليه السلام قال: (من أخلص لله أربعين صباحاً يأكل الحلال قائماً ليله صائماً نهاره أجرى الله سبحانه ينابيع الحكمة من قلبه على لسانه). رواه في المجموع.
وعن أبي أيوب مرفوعاً: ((من أخلص لله أربعين يوماً ظهرت ينابيع الحكمة من قلبه على لسانه )). أخرجه أبو نعيم في الحلية.
قال العزيزي بإسناد ضعيف، ورواه ابن عدي وغيره في الضعفاء عن ابن عباس، والمروزي وابن حبان عن مكحول مرسلاً.
وقال القاسم بن إبراهيم عليه السلام : (واعلموا أن البحر لا يجاز يقيناً إلا بمعبر، وأنه يحتاج الشجاع المحارب إلى السلاح في الحرب فكيف بالعي المغتر، فلا يتعاطى أحد سبيل التقوى، وما قرن الله بها من التمحيص والبلوى، إلا وقد تحصن بالعلم والنظر الذي ميز الله به بين أهل الخير والشر، فلا تدعوا رحمكم الله حسن النظر في الأمور، والاستضاء في ظلمها بما جعل الله في العلم من النور، واعلموا أن من أبواب ذلك ومفاتيحه، وأضواء ضياء نوره ومصابيحه إخلاص العمل لله، وصدق التوكل على الله).
[الرجوع إلى الله تعالى]
الثاني: الرجوع إلى الله والاستعانة به، والتضرع إليه، وسؤاله أن يهب له لساناً قؤولاً، وقلباً عقولاً، وفهماً ذكياً، وحفظاً لما سمع، وأن يسهل له طرق العلم النافع، وقد نبه الله على ذلك بقوله: {اسْتَعِينُوا بِاللَّه ِ}[الأعراف:128]، {ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ }[غافر:60]، {اسْأَلُوا اللَّهَ مِنْ فَضْلِهِ }[النساء:32].
وعن جابر قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم : ((سلوا الله علماً نافعاً ، واستعيذوا به من علم لا ينفع)). رواه المرشد بالله، وأخرجه ابن ماجة، والبيهقي في شعب الإيمان، وصححه محمد حجازي الشعراني المشهور بالواعظ شيخ العلامة علي بن أحمد نور الدين محمد بن إبراهيم العزيزي شارح الجامع الصغير.
وعن علي عليه السلام أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم كان يقول: ((اللهم اغنني بالعلم ، وزيني بالحلم، وأكرمني بالتقوى، وحلني بالعافية)). رواه المرشد بالله، وأخرجه ابن النجار من حديث ابن عمر إلا أنه قال: وجملني بالعافية بجيم بعدها ميم من الجمال.
وعن أنس بن مالكل قال: كان النبي صلى الله عليه وآله وسلم يقول: ((اللهم انفعنا بما علمتنا ، وعلمنا ما ينفعنا، وزدنا علماً إلى علمنا)). رواه المرشد بالله.
وقال علي عليه السلام في وصيته لولده الحسن عليهما السلام: (والج نفسك في أمورك كلها إلى إلهك، فإنك تلجئها إلى كهف حريز، ومانع عزيز، وأخلص المسألة لربك فإن بيده العطاء والحرمان). رواه في النهج.
[الاستعانة بأهل البيت عليهم السلام]
الثالث: أن يستعين على ذلك بأنظار أئمة العترة وعلمائهم "، وغيرهم من سائر علماء الأمة، أما آل محمد" فلأنهم عيبة العلم، وموئل الحكم، وقرناء الكتاب، ونفاة الشك والارتياب، سفينة نوح من ركبها نجا، فأين يتاه بكم عن علم تنوسخ من أصلاب أصحاب السفينة حتى صار في عترة نبيكم المصطفى.
وأما غيرهم فلأن العلماء ورثة الأنبياء، وقد جعلهم الله حملة علمهم، والواسطة بيننا وبينهم، مع أنه لا يعتبر في أخذ الحكمة أن يكون عن شخص مخصوص إذا كان معناها صحيحاً، والعقول كما قال القاسم بن إبراهيم" حظوظ منقسمة، والحكمة ضالة المؤمن.
كما روي عن علي عليه السلام قال سمعت رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يقول: ((الحكمة ضالة المؤمن حيث وجدها فهو أحق بها)). رواه الموفق بالله في (سلوة العارفين).
وفي النهج عن علي عليه السلام : (الحكمة ضالة المؤمن فخذ الحكمة ولو من أهل النفاق).
وفيه عنه عليه السلام : (خذ الحكمة أنى كانت فإن الحكمة تكون في صدر المنافق فتلجلج في صدره حتى تخرج فتسكن إلى صواحبها في صدر المؤمن، على أن الحق لا يعرف بالرجال وإنما الرجال يعرفون به).
كما قال علي عليه السلام : (اعرف الحق تعرف أهله). رواه في النهج.
وفيه أن الحارث بن حوط أتى علياً عليه السلام فقال: أتراني أظن أصحاب الجمل كانوا على ضلالة، فقال: يا حار إنك لم تعرف الحق فتعرف من أتاه، ولم تعرف الباطل فتعرف من أتاه) وليس المقصود أن الناظر يقلد من سبقه من الأئمة والعلماء، وإنما المقصود الاستعانة بما فهموه من الأدلة، ونبهوا عليه من مدلولاتها، ثم يميز بعقله بين صحيحها وسقيمها، ويصير كأنه الذي فهمها واستنبطها، ولا يبعد أن هذا أمر مجمع عليه، وإلا فما فائدة تأليف الكتب، وتدوين الأقوال وتقييدها بالكتابة، ويشهد له قول أمير المؤمنين عليه السلام :(من استبد برأيه هلك، ومن شاور الرجال شاركها في عقولها). رواه في النهج.
وقد قبل كثير من العلماء رواية كافر التأويل وفاسقه، بل ادعى بعضهم الإجماع على قبولها مع تحريمه للكذب وهي أعظم من الدراية؛ لأن الحامل يستند إليها، بخلاف الدراية فإنما ينتبه لها ثم تصير دراية له إن ظهر صحة مأخذها واحتمال اللفظ لها، فهو غير مستند إلى صاحبها أصلاً.
[عدم التقيد بمذهب معين]
الأمر الرابع: أن لا يتقيد بمذهب مخصوص، بل يجعل كتاب الله حاكماً على كل مذهب؛ لأن من تقيد بمذهب واعتقد صحته قبل النظر في الأدلة عسر عليه الخروج منه، وأداه ذلك إلى تأويل الأدلة، وردها إلى ما قد اعتقد بجهله صحته، وهذا مشهور معلوم، فعليك بتجنب هذه الخصلة، واجعل نظرك كله لخلاص نفسك، وتحصيل نفعك، ولا تشغلها بتقويم كلام غيرك فتكون كما قال علي عليه السلام :(فمن شغل نفسه بغير نفسه تحير في الظلمات، وارتبك في الهلكات، ومدت به شياطينه في طغيانه، و زينت له سيء أعماله). رواه في النهج.
قال العلامة ابن أبي الحديد رحمه الله: وذلك أن من لا يوفي النظر حقه، ويميل إلى الأهواء، ونصرة الأسلاف والحجاج عما ربى عليه بين الأهل والأستاذينالذين زرعوا في قلبه العقائد يكون قد شغل نفسه بغير نفسه لأنه لم ينظر لها، ولا قصد الحق من حيث هو حق، وإنما قصد نصرة مذهب معين يشق عليه فراقه، ويصعب عنده الانتقال منه، ويسوءه أن يرد عليه حجة تبطله، فيسهر عينه، ويتعب قلبه في تهويس تلك الحجة والقدح فيها بالغث والسمين، لا لأنه يقصد الحق، بل يقصد نصرة المذهب المعين، وتشييد دليله، لا جرم أنه متحير في ظلمات لا نهاية لها، والارتباك: الاختلاط، وارتبك الرجل في الأمرِ: أي نشب فيه ولم يكد يتخلص منه، ومدت له شياطينه أي: طولت، وزينت له سيء أعماله، مأخوذ من قوله تعالى:{ أَفَمَنْ زُيِّنَ لَهُ سُوءُ عَمَلِهِ فَرَآهُ حَسَناً}[فاطر:8].
قلت: ولا تكاد تجد اختلافاً بين المحققين في ذم التمسك بمذهب مخصوص لغير دليل والتعصب له، لكن الأكثر خالفوا في العمل.
[إمعان النظر في الأدلة]
الخامس: أن يؤدي النظر حقه في أدلة المحقين وشبه المبطلين، ويستوفي ما عثر عليه من أقوالهم ومستنداتهم عقلاً وكتاباً وسنة وغيرها، فإنه لا يعرف الحق ويقطع به إلا من عرف الباطل وبطلانه، وإلا فلا يأمن أن ترد عليه شبهة لا يتمكن من حلها لضيق وقت، أو عدم من يراجعه فيها، أو فتور في همته لزمانة ونحوها، أو تعذر كتب البحث عليه فيبقى في حيرته ويضعف يقينه، وقد أرشدنا الله إلى هذا في كتابه العزيز بما حكى فيه عن الدهرية والثنوية، وغيرهم من الملل الكفرية من الأقوال الباطلة، وبما رد عليهم به من الحجج القاطعة على تنوعها، فتارة بالإلزام، وتارة بالقياس، وتارة بمطالبتهم بالبرهان إلى غير ذلك مما اشتمل عليه القرآن.
وبالجملة إنه لا يعرف الحق إلا من عرف الباطل كما نص عليه باب مدينة علم الرسول عليه وعلى آله الصلاة والسلام، وعلى هذا جرى أئمة العترة" وغيرهم، فإن كتبهم مشحونة بأقوال المختلفين أصولاً وفروعاً حتى بكلام الملحدة والفلاسفة وشبههم مع الرد عليهم، وبيان بطلانها.
ومن كلام علي عليه السلام :(واعلموا أنكم لن تعرفوا الرشد حتى تعرفوا الذي تركه، ولن تأخذوا بميثاق الكتاب حتى تعرفوا الذي نقضه، ولن تمسكوا به حتى تعرفوا الذي نبذه). رواه في النهج.
وقال زيد بن علي عليه السلام : (أما بعد يا قارئ القرآن فإنك لن تتلو القرآن حق تلاوته حتى تعرف الذي حرفه، ولن تمسك بالكتاب حتى تعرف الذي نقضه، ولن تعرف الهدى حتى تعرف الضلالة، ولن تعرف التقى حتى تعرف الذي تعدى، فإذا عرفت البدعة في الدين والتكليف، وعرفت الفرية على الله والتحريف رأيت كيف اهتدى من هدي).
وقال القاسم بن إبراهيم عليه السلام : (فاعرف يا بني الحق ومن خالفه فإنك يا بني حينئذٍ تعرف الحق ومن ألفه).
واعلم أن معرفة الحق قسمان معلومان، وجزءان عند المحققين مقسومان:
أحدهما: معرفة الحق في نفسه ونعته، وما أبانه الله من ضياء بينته، والآخر: معرفة ما خالفه من الباطل، والبراءة إلى الله من جهل كل جاهل، فاعرفهما جميعاً تعرف الحق وتوقنه، وتعرف قبيح كل أمر كان أو يكون وحسنه، ولا تغتر بهما جهلاً، ولا تكون لواحد منهما معطلاً، فتجهل بعض الحق أو تعطله، ولا تؤمن أن تركب بعض الباطل أو تفعله، ومتى لا تعرف الباطل لا تتبرأ من أهله، ومن لا يتبرأ من المبطل حل من السخط في محله، ومتى يجهل بعض الحق لا يؤمن على البراءة من المحق، ومن تبرأ من المحقين تبرأ الله منه، ومن أعرض عنه المحقون سخطاً أعرض الله عنه). ذكره في كتاب الدليل الكبير.
المسألة الثالثة: فيما يحتاج إليه الناظر في كتاب الله
اعلم أنه ينبغي له إمعان نظره وفكره، والصبر على التفطن والتفهم لما تضمنته الآيات من الدلالات، والرموز والإشارات؛ حتى يهجم على اليقين مما نبه عليه القرآن من البراهين العقلية، وما دل عليه من الأحكام الشرعية، والآداب المرضية، فلن يعدم الصبور الظفر وإن طال به الزمان، وقد نبه الله على هذا بتكرير الأمر بالنظر والتفكر والتذكر، وذم من لا يعقل ولا يفقه في آيات متعددة، ودل عليه النبي صلى الله عليه وآله وسلم بقوله: ((من أخذ دينه عن التفكر في آلاء الله والتدبر لكتابه والتفهم لسنتي زالت الرواسي ولم يزُل...)) الخبر.
وقوله: ((فليولج بصره وليبلغ الطريقة نظره )).
وقوله: ((فإن التفكر حياة قلب البصير )) ونحو ذلك.
ومن كلام علي عليه السلام بعد أن ذكر أن الإيمان على أربع دعائم: (على الصبر، واليقين، والعدل، والجهاد، ثم قال: واليقين منها على أربع شعب: على تبصرة الفطنة، وتأول الحكمة، وموعظة العبرة، وسنة الأولين، فمن تبصر الفطنة تبينت له الحكمة، ومن تبينت له الحكمة عرف العبرة، ومن عرف العبرة فكأنما كان في الأولين، والعدل منها على أربع شعب: على غائص الفهم، وغور العلم، وزهرة الحكم، ورساخة الحلم، فمن فهم علم غور العلم، ومن علم غور العلم صدر عن شرائع الحلم، ومن حلم لم يفرط في أمره وعاش في الناس حميداً). رواه في النهج.
وقال عليه السلام في وصيته لولده الحسن": (وتفهم وصيتي ولا تذهبن عنك صفحاً). رواه في النهج، و(سلوة العارفين).
وفي هذه الوصية أيضاً ما رواه في النهج وهو قوله عليه السلام : (واعلم يا بني أن أحب ما أنت آخذ به إلي من وصيتي تقوى الله والاقتصار على ما فرضه الله عليك، والأخذ بما مضى عليه الأولون من آبائك والصالحون من أهل بيتك فإنهم لم يدعوا أن نضروا لأنفسهم كما أنت ناظر، وفكروا كما أنت مفكر، ثم ردهم آخر ذلك إلى الأخذ بما عرفوا، والإمساك عما لم يكلفوا، فإن أبت نفسك أن تقبل ذلك دون أن تعلم كما علموا فليكن طلبك ذلك بتفهم وتَعلُّمٍ، لا بتورط الشبهات، وعلق الخصومات، وابدأ قبل نظرك في ذلك بالاستعانة بإلهك، والرغبة إليه في توفيقك، وترك كل شائبة أولجتك في شبهة، أو أسلمتك إلى ضلالة، فإن أيقنت أن قد صفى قلبك فخشع، وتم رأيك فاجتمع، وكان همك في ذلك هماً واحداً فانظر فيما فسرت لك، وإن أنت لم يجتمع لك ما تحب من نفسك، وفراغ نظرك وفكرك، فاعلم أنك إنما تخبط العشواء، وتتورط الظلماء، وليس طالب الدين من خبط أو خلط، والإمساك عن ذلك أمثل).
وفي كلامه عليه السلام التوصية بآداب النظر التي أكثر الناس فيها الكلام، ووسعوا في إيضاحها المقام، ومن أنصف عرف أن القول ما قالت حذام.
قال ابن أبي الحديد رحمه الله: واعلم أنه قد وصاه إذا هم بالشروع في النظر بمحض ما ذكره المتكلمون وذلك أمور: منها: أن يرغب إلى الله في توفيقه وتسديده، ومنها: أن يطلب المطلوب النظري بتفهم وتعلم لا بجدال ومغالبة، ومراء ومخاصمة، ومنها: اطراح العصبية لمذهب بعينه، والتورط في الشبهات التي يحاول بها نصرة ذلك المذهب، ومنها: ترك الإلف والعادة، ونصرة من يطلب به الرئاسة وهو المعني بالشوائب التي تولج في الضلال، ومنها: أن يكون صافي القلب، مجتمع الفكر، غير مشغول السر بأمر من جوع، أو شبق، أو غضب، ولا يكون ذا هموم كثيرة وأفكار موزعة مقسمة، بل يكون فكره وهمه هماً واحداً.
قال: فإذا اجتمع لك كل ذلك فانظر، وإن لم يجتمع لك ذلك ونظرت كنت كالناقة العشواء الخابطة لا تهتدي، وكمن يتورط في الظلماء لا يعلم أين يضع قدمه، وليس طالب الدين من كان خابطاً أو خالطاً، والإمساك عن ذلك أمثل وأفضل.
قلت: وبعض هذه الأمور قد تقدم الكلام عليها، فإن قلت: أليس ظاهر كلامه عليه السلام الأمر بترك النظر، والاكتفاء بما مضى عليه سلفه الصالح، وهو خلاف ما علم من وجوب النظر، وتحريم التقليد.
قلت: ليس النظر مقصوداً لذاته، وإنما المقصود به التوصل إلى معرفة الحق على وجهه، فإذا كان من نقطع بصحة نظره كالنبي صلى الله عليه وآله وسلم ، وأمير المؤمنين عليه السلام ، وفاطمة الزهراء، ومن كان من سلف الحسن عليه السلام مقارباً لهم في حسن النظر قد نظروا، وعُلِمَ ما أداهم إليه نظرهم علماً لا شك فيه إما بالسماع منهم، أو بنقل من لا يشك في صدقه عنهم كأمير المؤمنين عليه السلام فقد حصل المطلوب، وهو معرفة الحق؛ إذ لا يحصل للناظر أكثر مما حصلوه من الحق الذي تجب معرفته، ومن جاوز به نظره إلى تكلف معرفة ما أمسكوا عنه فقد جاوز حد عقله، وخرج من رسوخه في العلم إلى ظلمات جهله، فإن قلت: كيف يأبى قبول ما عليه سلفه المذكورون حتى قال له علي عليه السلام : فإن أبت نفسك أن تقبل ذلك.
قلت: إن كان أبى ذلك فلم يكن لشكه في كونه حقاً، وإنما لم يكتف بنظرهم لما يفوته من فضيلة النظر، والجد في طلب العلم، والفرق جلي بين أخذ العلم تلقيناً، وبين تحصيله بتعب القلب، وجمع الهمة، وإعمال الفكر، ولذا ورد في فضل التفكر ما ورد، والأجر على قدر المشقة.
فإن قلت: فما بال أمير المؤمنين عليه السلام رجح لولده الحسن عليه السلام ترك النظر، والأخذ بما مضى عليه سلفه مع ما في النظر من الفضل.
قلت: لما في النظر من الخطر، فإنه لا يؤمن أن ينظر في مسألة من علم الكلام ولا يؤدي النظر حقه فيؤديه نظره إلى حالة يستحق صاحبها الخلود في النار، فكان ترك الاشتغال بالنظر مع كون العلم بالحق يحصل له من دونه أولى مع هذا الخوف، ولهذا أمره إن اختار النظر بما أمره به من التفهم ونحوه، وحذره من التقصير وعدم النظر على الوجه المعتبر.
فإن قلت: هل في كلامه ما يدل على الأخذ بالجمل دون التفاصيل كما تأوله به ابن أبي الحديد؟
قلت: لا بل دل على وجوب الإمساك عما لم يكلفه الإنسان، وهذا شأن الراسخين في العلم من الأنبياء وغيرهم؛ بدليل قول علي عليه السلام : (واعلم أن الراسخين في العلم هم الذين أغناهم عن اقتحام السدد المضروبة دون الغيوب الإقرار بجملة ما جهلوا تفسيره من الغيب المحجوب، فمدح الله اعترافهم بالعجز عن تناول ما لم يحيطوا به علماً، وسمى تركهم التعمق فيما لم يكلفهم البحث عن كنهه رسوخاً). رواه في النهج.
فإن قلت: فهل يدل على جواز تقليد المحق؟ قلت: إذا قطعنا بأنه محق لقيام المعجز كالنبي، أو إخبار نبي بعصمته، وأن الحق معه كأمير المؤمنين، ونقل عنه الحق على وجه يحصل به اليقين، فلا شك في جواز اتباعه لما مر من أن النظر ليس مقصوداً لذاته، ولا يكون اتباعه، والحال هذه تقليداً لأنه لدليل.
فإن قلت: إن ابن أبي الحديد جعل السلف المذكورين غير النبي صلى الله عليه وآله وسلم وغير أمير المؤمنين، فما وجه عدولك عن قوله؟
قلت: وجهه ما قدمنا من قوله: واعلم أن الراسخين في العلم... إلى آخره، ومن ذا يداني أو يقارب النبي صلى الله عليه وآله وسلم في الرسوخ في العلم، أو يساوي وصيه عليه السلام ، وفي الكلامين كليهما الأمر بالإمساك عما لم يكلف به الإنسان وسماه رسوخاً، ولأن في هذه الوصية بعد الكلام الذي نحن بصدده ما لفظه: (واعلم يا بني أن أحداً لم يُنبئ عن الله سبحانه كما أنبأ عنه نبينا صلى الله عليه وآله وسلم فارض به رائداً، وإلى النجاة قائداً) ثم قال: (وإنك لن تبلغ في النظر لنفسك وإن اجتهدت مبلغ نظري لك...) ثم فصل له ما كان عليه من نفي الشريك لله تعالى ووصفه بما يستحقه.
واعلم أن أمير المؤمنين عليه السلام لم يرد باتباع سلفه إلا في صفات الله، ونفي الشريك ونحو ذلك مما يجوز فيه الخطأ مع النظر القاصر؛ بدليل قوله عليه السلام : (فما دلك القرآن عليه من صفته فأتم به ـ حتى قال ـ وما كلفك الشيطان علمه مما ليس عليك في الكتاب فرضه ولا في سنة النبي صلى الله عليه وآله وسلم وأئمة الهدى أثره، فكل علمه إلى الله سبحانه فإن ذلك منتهى حق الله عليك). رواه في النهج.
فأما إثبات الصانع فليس مقصوداً هنا؛ لأنا لا نعرف المحقين إلا بأخبار الأنبياء، ولا نعرف الأنبياء إلا بالمعجز، ولا نعرف المعجز إلا بعد إثبات الصانع، ولا نثبته إلا بالنظر.
فإن قلت: ظاهر قوله عليه السلام : (فما دلك القرآن عليه)... إلخ يدل على منع النظر فيما ذكر، والاكتفاء بما في القرآن والسنة، وما أثر عن أئمة الهدى وهو يخالف ما تقدم من ترخيصه للحسن عليه السلام .
قلت: كلامه هذا مع القاصرين عن النظر المعتبر؛ لأنه ورد جواباً لسؤال سائل، وقد قدمنا أن النظر مظنته الخطر، ولهذا أمر الحسن معه بما أمر، وكلامه عليه السلام يفسر بعضه بعضاً.
[بقية وسائل فهم القرآن]
رجعنا إلى ما نحن بصدده من ذكر ما يحتاج إليه الناظر في كتاب الله، وينبغي له مع إمعان النظر -أن يكون عالماً بالعربية بجميع أنواعها من المفردات، والقواعد النحوية، والبيانية وغيرها- محققاً في أصول الفقه، وعلم الكلام، ممارساً في الفقه وغيره من الفنون التي يريد استخراجها من القرآن؛ لأن بذلك يسهل عليه إدراك مآخذ المسائل، ولذا قال الغزالي: وإنما يحصل الاجتهاد في زماننا بممارسة الفقه فهو طريق تحصيل الدراية في هذا الزمان، ولم يكن الطريق في زمن الصحابة رضي الله عنهم ذلك.
المسألة الرابعة: تفسير الكتاب بالسنة
المسألة الرابعة: في تبيين الكتاب بالسنة وما صح عن أمير المؤمنين عليه السلام وأئمة العترة وإجماع الأمة والرد على من تعلق بظاهر الكتاب وترك العمل بالسنة
قال الله تعالى: {وَأَنزَلْنَا إِلَيْكَ الذِّكْرَ لِتُبَيِّنَ لِلنَّاس ِ مَا نُزِّلَ إِلَيْهِمْ}[النحل:44]، وقال تعالى: {فَلْيَحْذَرِ الَّذِينَ يُخَالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ أَنْ تُصِيبَهُمْ فِتْنَةٌ أَوْ يُصِيبَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ}[النور:36].
وقال تعالى: {وَإِنَّكَ لَتَهْدِي إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ }[الشورى:52].
وقال تعالى: {وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا}[الحشر:7].
وفرض طاعة نبيه صلى الله عليه وآله وسلم في غير آية من كتابه، وقرن طاعته بطاعته.
وعن علي عليه السلام قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يقول: ((من أخذ دينه عن التفكر في آلاء الله والتدبر لكتابه والتفهم لسنتي زالت الرواسي ولم يزُل، ومن أخذ دينه عن أفواه الرجال وقلدهم فيه ذهبت به الرجال من يمين إلى شمال، وكان من دين الله على أعظم زوال)). رواه أبو طالب وذكره في الثلاثين المسألة.
قال ابن حابس: وإسناده موثوق به، ثم قال: وكفى بذلك زاجراً عن تقليد الرجال، وباعثاً على النظر والاستدلال، فينبغي للعاقل أن يجتهد في خلاص نفسه من عذاب يوم: {يَوَدُّ الْمُجْرِمُ لَوْ يَفْتَدِي مِنْ عَذَابِ يَوْمِئِذٍ بِبَنِيه ِ، وَصَاحِبَتِهِ وَأَخِيهِ، وَفَصِيلَتِهِ الَّتِي تُؤْويهِ، وَمَنْ فِي الأَرْضِ جَمِيعًا ثُمَّ يُنجِيه}[المعارج:11-14].
وعن علي عليه السلام قال: (لما ثقل رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم في مرضه والبيت غاص بمن فيه قال: ((ادعوا لي الحسن والحسين )) فدعوتهما فجعل يلثمهما حتى أغمي عليه قال: فجعل علي عليه السلام يرفعهما عن وجه رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قال: ففتح صلى الله عليه وآله وسلم عينيه وقال: ((دعهما يتمتعان مني وأتمتع منهما فإنه سيصيبهما بعدي أثرة. ثم قال: يا أيها الناس إني خلفت فيكم كتاب الله وسنتي وعترتي أهل بيتي، فالمضيع لكتاب الله كالمضيع لسنتي، والمضيع لسنتي كالمضيع لعترتي، أما إن ذلك لم يفترقا حتى ألقاه على الحوض))، وفي رواية: ((لن يفترقا)). رواه زيد بن علي في المجموع.
[اللغويات]
غاص: بالغين المعجمة والصاد المهملة: أي ممتلئ بهم، واللثم بالثاء المعجمة بثلاث: التقبيل، وبابه فهم، ولثم بالفتح لغة، والأثرة بفتحتين: اسم، والاستئثار: الاستبداد.
وروى أبو داود عن المقدام بن معد يكرب عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أنه قال: ((ألا وإني قد أوتيت الكتاب ومثله معه ، ألا يوشك رجل شبعان على أريكته يقول: عليكم بهذا القرآن فما وجدتم فيه من حلال فأحلوه، وما وجدتم فيه من حرام فحرموه، ألا لا يحل لكم الحمار الأهلي، ولا كل ذي ناب من السباع، ولا لقطة معاهد إلا أن يستغني عنها صاحبها، ومن نزل بقوم فعليهم أن يقروه فإن لم يقروه فله أن يعقبهم بمثل قراه)).
[اللغويات]
يوشك: بكسر الشين أي يسرع والمعنى عن قريب وقد وقع هذا، والأريكة: السرير، والمراد أصحاب الترفه، والدعة الذين لزموا البيوت ولم يطلبوا العلم، وقرى الضيف: يقريه قرى بالكسر وقراءً بالفتح والمد أحسن إليه، والقراء أيضاً، ما يقرى به الضيف.
قال الخطابي: والحديث يحتمل أنه أوتي من الوحي الباطن غير المتلو مثلما أعطي من الظاهر المتلو، ويحتمل أنه أوتي الكتاب وحياً يتلى، وأوتي من البيان مثله، أي أذن له أن يبين ما في الكتاب فيعم ويخص ويزيد عليه. وفي قوله: ((يوشك))... إلخ التحذير من مخالفة السنن التي بينها مما ليس له في القرآن ذكر على ما ذهبت إليه الخوارج والروافض، فإنهم تعلقوا بظاهر القرآن وتركوا السنن التي قد تضمنت بيانه فتحيروا وضلوا.
وقال علي عليه السلام بعد أن ذكر النبي صلى الله عليه وآله وسلم : (فقبضه إليه كريماً صلى الله عليه وآله وسلم ، وخلف فيكم ما خلفت الأنبياء في أممها إذ لم يتركوهم هملاً بغير طريق واضح، ولا علم قائم كتاب ربكم مبيناً حلاله وحرامه، وفرائضه، وفضائله، وناسخه، ومنسوخه، ورخصه، وعزائمه، وخاصه وعامه، وعبره، وأمثاله، ومرسله، ومحدوده، ومحكمه ومتشابهه، مفسراً مجمله، ومبيناً غوامضه، بين مأخوذ ميثاق علمه، وموسع على العباد في جهله، وبين مثبت في الكتاب فرضه، ومعلوم في السنة نسخه، وواجب في السنة أخذه، ومرخص في الكتاب تركه، وبين واجب بوقته، وزائل في مستقبله، ومباين بين محارمه، من كبير أوعد عليه نيرانه، أو صغير أرصد له غفرانه، وبين مقبول في أدناه، موسع في أقصاه). رواه في النهج.
وفيه مع ما نحن بصدده فوائد عظيمة من تقسيم ما اشتمل عليه القرآن إلى المحكم والمتشابه، والخاص، والعام، والمجمل، والمبين، والناسخ والمنسوخ، وتقسيم ما فيه من الأحكام إلى الرخصة، والعزيمة، والواجب، والمحرم، والمضيق، والموسع، وغير ذلك مما لو قيل: إنه قد أشار فيه إلى أصول الفقه ومقدماته لم يبعد، والأمر ما قال النبي صلى الله عليه وآله وسلم : ((فمن أراد المدينة فليأت الباب )).
وقال عليه السلام في عهده للأشتر: (واردد إلى الله ورسوله ما يضلعك من الخطوب، ويشتبه عليك من الأمور فقد قال الله سبحانه وتعالى لقوم أحب إرشادهم: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُوْلِي الأَمْرِ مِنْكُمْ فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ}[النساء:59].
فالرد إلى الله الأخذ بمحكم كتابه، والرد إلى الرسول الأخذ بسنته الجامعة غير المفرقة). رواه في النهج.
وقال عليه السلام في الخطبة الزهراء: (ألا وإني أقول قولي هذا لعلي لا أقول بعد يومي هذا مثل قولي هذا فليسمع المحبون والمبغضون فإنه ما من نبي بعث في الأولين والآخرين إلا كان له هاد من بعده، وإن موسى كليم الله ومحمداً صفي الله وأقام موسى من بعده، هادياً مهدياً هارون بن أُمِهِ، وإن محمداً أقامني هادياً مهدياً فأنا نظيره، ألا إني لست بنبي إلى أن قال: وافترقت هذه الأمة على ثلاث وسبعين فرقة كل فرقة على ثلاث وسبعين ملة فكل ملة ضالة مضلة إلا من أخذ بحجزتي وحجزة أهل بيت رسوله وكتابه وسنته، واتبع الحبل الأكبر، والحبل الأصغر...) إلى آخر كلامه عليه السلام .
وهذه الخطبة هي التي قال فيها الإمام الحسن بن بدر الدين" في شرح أنوار اليقين: (الخطبة الزهراء هي الخطبة الكبرى التي خطب بها أمير المؤمنين عليه السلام قبل موته البعيد، والقريب، وأسمعها البغيض والحبيب ممن كان في عصره ممن يبلغه ذلك عنه، وهي آخر خطبة خطبها ولقي الله عليها، انطوت على علم كثير).
وقال زيد بن علي عليه السلام : (الحجة عند الله عز وجل الطاعة لله ولرسوله وما اجتمعت عليه الأمة بعد الرسول صلى الله عليه وآله وسلم ، وقد بين الله تبارك وتعالى في كتابه فقال: {مَنْ يُطِعِ الرَّسُولَ فَقَدْ أَطَاعَ اللَّهَ وَمَنْ تَوَلَّى فَمَا أَرْسَلْنَاكَ عَلَيْهِمْ حَفِيظاً}[النساء:80].
والآخذون بما جاء الرسول صلى الله عليه وعلى أهل بيته وسلم به من كتاب الله وسنة نبيه، مطيعون لله وللرسول، مستوجبون من الله الكرامة والرضوان، والتاركون لذلك عاصون لله وللرسول، مستوجبون من الله العذاب).
وفي الجامع الكافي: وقال الحسن عليه السلام : (الحجة من الله على الخلق آية محكمة تدل على هدى، أو ترد عن ردى، أو سنة من رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم مشهورة، متسق بها الخبر عن غير تواطي، أو عن علي، أو عن الحسن، أو عن الحسين"، أو عن أبرار العترة العلماء الأتقياء المتمسكين بالكتاب والسنة، دل عليهم رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وأخبر أن الهدى فيهم).
وقال عليه السلام فيما اجتمعت عليه الأمة من الفرائض: (فإجماعهم هو الحجة على اختلافهم؛ لأن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال: ((ما كان الله ليجمع أمتي على ضلال )) وما اختلفوا فيه من حلال، أو حرام، أو حكم، أو سنة فدلالة رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم في ذلك قائمة بقوله: ((إني تارك فيكم الثقلين كتاب الله وعترتي أهل بيتي، ولن يفترقا حتى يردا علي الحوض)).
فهذا موضع الحجة منه عليهم، وهذا خبر مشهور تلقته الأمة من غير تواطي، فأبرار آل رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم رؤساء الأمة وقادتها وسادتها الذين قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم : ((إن الهدى في التمسك بهم )).
وقال الحسن أيضاً: (فمن ادعى ديناً أو تأول تأويلاً، أو ذهب إلى رأي من الآراء من غير الطريق التي دل عليها الكتاب والرسول وأبرار العترة فقد ضل ضلالاً بعيداً، وقال الله عز وجل: {مَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ}[الحشر:7].
وقال عز وجل: {وَمَنْ يُشَاقِقِ الرَّسُولَ مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُ الْهُدَى وَيَتَّبِعْ غَيْرَ سَبِيلِ الْمُؤْمِنِينَ نُوَلِّهِ مَا تَوَلَّى وَنُصْلِهِ جَهَنَّمَ وَسَاءَتْ مَصِيراً}[النساء:115].
وفي الجامع أيضاً قال الحسن عليه السلام : (فكلما أجمع عليه علماء العترة أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قاله فقد لزم أهل الإسلام العمل به، ثم عدد صوراً مما أجمعوا عليه حتى قال: أجمعوا على النهي على الكلام في تفسير القرآن بغير علم، ورووا في ذلك هم والأمة معهم من فسر القرآن برأيه وقال فيه بغير علم قولاً عظيماً، ورووا عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم ومن بعده ممن يجب الأخذ عنه، وأجمعوا هم والأمة معهم على أن في القرآن ناسخاً، ومنسوخاً، ومتشابهاً، وخاصاً وعاماً، وأنه لا يسع أحد يتكلم في القرآن إلا من يعلم ذلك، وأن أحداً لا يكون حجة بالرأي، والاستحسان).
بلغنا عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم أنه قال: ((من فسر آية من كتاب الله برأيه لقي الله وهو عليه ساخط )) ولو أن تأويل القرآن مباح للناس، وأن الله تعبدهم أن يتأولوا برأيهم ومبلغ عقولهم ما احتاجوا إلى أن يبعث الله عليهم الرسل يعلمونهم السنن.
قال عليه السلام : (وإنما التأويل هو الذي نزل به جبريل على محمد صلى الله عليه وآله وسلم ، وأعلمه إياه عن رب العالمين، ليس يوصل إلى ذلك التأويل إلا بالأخبار المشهورة المتسقة من غير تواطئ، أو بنقل صادق عن صادق، وأجمعوا هم وعلماء الأمة على أنه ما كان من فرض من حلال وحرام، أو أمر أو نهي في كتاب الله أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم هو المبين لذلك عن الله، والدال عليه، والحجة على الخلق لله عز وجل؛ لقوله تعالى: {مَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا}[الحشر:7].
وقوله: {قُلْ أَطِيعُوا اللَّهَ وَالرَّسُولَ فَإِنْ تَوَلَّوْا فَإِنَّ اللَّهَ لاَ يُحِبُّ الْكَافِرِينَ}[آل عمران:32].
ونحو ذلك في القرآن كثير، وأجمعوا على أن كل ما فعله النبي صلى الله عليه وآله وسلم أو حرمه مما ليس له أصل في القرآن مثل الرجم للمحصن والمحصنة، ومثل قوله: ((يحرم من الرضاع ما يحرم من النسب ))، ومثل قوله: ((لا تنكح المرأة على عمتها ولا على خالتها)).
وما كان نحو ذلك فإجماع آل رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وعلماء الأمة على أن ذلك لازم العمل به والحكم به لا يسع أحداً تركه ولا خلافه، ولم ينظروا في ذلك إلى رد الخوارج ومن قال بقولهم في رد الأخبار، وقالوا: ليس الخوارج من أهل الإسلام، وليس لهم مع أهل العلم نظر لقول النبي صلى الله عليه وآله وسلم : ((يمرقون من الدين كما يمرق السهم من الرمية ))، وتجرئهم على تأويل القرآن بلا حجة من رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم عند الاختلاف.
وفيه قال محمد في كتاب (الجملة): (تلزم الحجة في الإجماع بآية محكمة لا تحتمل تأويلاً، أو سنة قائمة عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم لا يختلف فيها، أو إجماع الأمة فإن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال: ((لا تجتمع أمتي على ضلالة ))، والإجماع الذي لا اختلاف فيه الذي يقوم مقام القرآن.
وفي الجامع أيضاً قال محمد في كتاب الجملة: (ولا بد لمن تأول القرآن في الأحكام والحلال والحرام من أن يستعمل الآثار واتباع السنن في تأويل القرآن قال الله تعالى: {فَدِيَةٌ مُسَلَّمَةٌ إِلَى أَهْلِهِ }[النساء:92] ففي أي مكان فسر ذلك من القرآن بلا أثر فيه اتباع سنة إن الدية كذا وكذا وفي وقت كذا، يؤخذ كذا من الذهب والورق والإبل والغنم وما أشبه ذلك، وعلى من هي، وذكر أمثلة من نحو هذا، ثم قال: وهل يستخرج حكم الله وسنة رسوله في ذلك إلا بالآثار التي رواها المسلمون بعضهم عن بعض، فمن دفع الآثار في ذلك، وزعم أنه مستغن بالقرآن لقوله عز وجل: {مَا فَرَّطْنَا فِي الْكِتَابِ مِنْ شَيْءٍ }[الأنعام:38] فهذا رجل جاهل متهم على الإسلام بعمد أو جهل ليس له أن يتكلم في دين الله، وإنما قوله عز وجل:{مَا فَرَّطْنَا فِي الْكِتَابِ مِنْ شَيْءٍ }[الأنعام:38] يريد الأصول والأمهات مثل: {أَقِيمُوا الصَّلاَةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ }[الحج:78]، {وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ }[آل عمران:97]، وما أشبه ذلك من الفرائض المسميات التي فسرت بالرواية الصحيحة عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وعن العلماء بعده لا يدرك تفسيرها وشرحها إلا بالرجوع إلى الآثار).
قلت: فهذه الآيات والأخبار والآثار تدل دلالة صريحة قاطعة على أنه لا يستغني من أراد أخذ الحكم عن الكتاب العزيز عن البيان الوارد عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ، وعن المبين لأمته ما اختلفوا فيه من بعده، وعن عترته وعلماء أمته في كثير من المواضع، ولقد أحسن من قال في فضل الكتاب العزيز والسنة الغراء وأنه لا يستغنى بأحدهما عن الآخر شعراً:
إن العلوم وإن جلت محاسنها .... فتاجها ما به الإيمان قد وجبا
هو الكتاب العزيز الله يحفظه .... وبعد ذلك علم فرج الكربا
فذاك فاعلم حديث المصطفى فبه .... نور النبوة سن الشرع والأدبا
وبعد هذا علوم لا انتهاء لها .... فاختر لنفسك يا من آثر الطلبا
والعلم كنز تجده في معادنه .... يا أيها الطالب ابحث وانظر الكتبا
واتل بفهمٍ كتاب الله فيه أتت .... كل العلوم تدبره ترى العجبا
واقرأ هديت حديث المصطفى وسل .... مولاك ما تشتهي يقضي لك الأربا
من ذاق طعماً لعلم الدين سر به .... إذا تزيد منه قال وا طربا
[أوجه إيضاح السنة للكتاب]
والبيان منه صلى الله عليه وآله وسلم على وجهين كما تقدمت الإشارة إلى ذلك:
أحدهما: أن يكون بياناً لمجمل كبيانه للصلوات في مواقيتها، وسجودها، وركوعها، وسائر أحكامها، وكبيانه لمقدار الزكاة ووقتها وغير ذلك.
روى ابن المبارك عن عمران بن الحصين أنه قال لرجل: إنك رجل احمق أتجد الظهر في كتاب الله أربعاً لا يجهر فيها بالقراءة، ثم عدد عليه الصلاة والزكاة ونحو هذا، ثم قال: أتجد في كتاب الله مفسراً إن كتاب الله أبهم هذا، وإن السنة تفسر هذا.
الثاني: أن يكون بياناً لحكم لم يذكر في الكتاب كتحريم نكاح المرأة على عمتها وخالتها، وتحريم الحمر الأهلية، وكل ذي ناب من السباع، والقضاء باليمين مع الشاهد وغير ذلك، وهذا هو المدلول عليه بقوله تعالى: {مَنْ يُطِعِ الرَّسُولَ فَقَدْ أَطَاعَ اللَّهَ }[النساء:80]، وقوله: {أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ }[النساء:59]، وقوله: {وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ ...}[الحشر:7] الآية، ونحوها.
والبيان من غيره صلى الله عليه وآله وسلم راجع في التحقيق إلى بيانه؛ لأن أمير المؤمنين وعلماء العترة والأمة مؤدون عنه ومبلغون شرعه، وقد يكون بيانهم بالتنبيه على مدلولات الكتاب بما فهموا منه كما قال علي عليه السلام : (ليس عندنا إلا ما في هذه الصحيفة أو فهماً أوتيه الرجل) أو كما قال.
[في تفسير القرآن بالرأي]
تنبيه: إن قيل قد تقدم من رواية الجامع الكافي النهي عن تفسير القرآن بالرأي.
وروى الترمذي عن ابن عباس عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال: ((اتقوا الحديث علي إلا ما علمتم ، فمن كذب علي متعمداً فليتبوأ مقعده من النار، ومن قال في القرآن برأيه فليتبوأ مقعده من النار)) وأخرجه أحمد، قال العزيزي: قال الشيخ: حديث حسن. قوله فليتبوأ: معناه فليتخذ له مباءة أي منزلاً في النار.
وعن جندب قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم : ((من قال في القرآن برأيه فأصاب فقد أخطأ )). رواه الترمذي وقال: حديث غريب، وأخرجه أبو داود، قال القرطبي: وتكلم في أحد رواته، وأخرجه النسائي أيضاً، وقال العلقمي: بجانبه علامة الحسن، وزاد رزين: ومن قال برأيه فأخطأ فقد كفر.
وفي الجامع الصغير من حديث ابن عباس: ((من قال في القرآن بغير علم فليتبوأ مقعده من النار )) ونسبه إلى الترمذي، قال الشارح: قال العلقمي: بجانبه علامة الصحة.
وسئل أبو بكر عن قوله تعالى: {وَفَاكِهَةً وَأَبًّا }[عبس:31] فقال: أي سماء تظلني وأي أرض تقلني إذا قلت في كتاب الله بغير علم، فما هو هذا الرأي المنهي عنه؟
قيل: هو الرأي المجرد عن النظر فيما ورد عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم وعن علي وأهل بيته" والعلماء من غيرهم، الخارج عن قوانين العلوم كالنحو والأصول واللغة، وغيرها بحسب ما تحتاج إليه الآية؛ لأن القرآن على درجات فبعضه لا يعرف معناه إلا من جهة السنة وما يلحق بها، وبعضه يعرف بالنظر في اللغة العربية والقواعد النحوية ونحوها، وبعضه يدرك بدقيق النظر وإعمال الفكر، وهذا في حق من يريد استنباط الأحكام والمسائل منه، وبعضه ظاهر لا يحتاج في تفسيره إلى غير تلاوته، وقد دل على هذا ما ورد من أنه بيان لكل شيء، وأن فيه نبأ ما قبلنا وخبر ما بعدنا، وحكم ما بيننا، ووصف بأنه ربيع العلماء، وشبه بالبحر الذي لا ينزف ولا يدرك قعره، إلى غير ذلك مما يدل على أن من أحسن فيه نظره استنبط منه ما لا يحصى من العلم النافع، وقد تقدم شيء من ذلك، وليس المراد أن التفسير والاستنباط موقوف على السماع؛ لأن الصحابة قد فسروا القرآن واستنبطوا منه على وجوه مختلفة، ولو كان تفسيره مسموعاً لما اختلفوا، وقد دل على احتماله للوجوه وكثرة ما يستنبط منه قول علي عليه السلام لما أمر ابن عباس بمجادلة الخوارج: (حاججهم بالسنة فإن القرآن ذو وجوه) أو كما قال.
وأيضاً فإن النبي صلى الله عليه وآله وسلم دعا لابن عباس بعلم التأويل، ولو كان التأويل مسموعاً كالتنزيل لم يكن لتخصيصه بالدعا فائدة.
وقد روى عن عائشة أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم ما كان يفسر من كتاب الله إلا آياً بعدد، علمَّه إياهن جبريل عليه السلام ، وهذا نص صريح فيما ذهبنا إليه وهو أنه ليست كل آية لها تفسير من النبي صلى الله عليه وآله وسلم ، وأنه لا يتوقف تأويله على السماع.
قال ابن عطية: ومعنى هذا الحديث في مغيبات القرآن وتفسير مجمله، ونحو هذا مما لا سبيل إليه إلا بتوقيف من الله تعالى.
وفي البحر المحيط عن ابن عباس أن رجلاً سأل النبي صلى الله عليه وآله وسلم فقال: أي علم القرآن أفضل؟ فقال صلى الله عليه وآله وسلم : ((عربيته فالتمسوها في الشعر ))، فأمر بالرجوع في تفسيره إلى لغة العرب، وجعلها أفضل علومه.
وفي البحر أيضاً قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم : ((لا يفقه الرجل كل الفقه حتى يرى للقرآن وجوهاً كثيرة )).
والمراد أن يولج بصره، ويمعن نظره، ويتدبر آياته حتى يستخرج منه علوماً كثيرة، ومسائل متعددة، وهذا حق فقد تشتمل الآية الواحدة على فنون شتى من العلم أصولاً، وفروعاً، وآداباً، وقواعد عربية، ونكتاً وغير ذلك {أَفَلاَ يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ أَمْ عَلَى قُلُوبٍ أَقْفَالُهَا}[محمد:42].
وقد روي عن علي عليه السلام أنه قال: (ما من شيء إلا وعلمه في القرآن ولكن آراء الرجال تعجز عنه).
وعن علي عليه السلام أنه كان يثني على تفسير ابن عباس ويحض على الأخذ عنه، ولو كان مسموعاً عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم لم يكن له مزية على غيره، وإنما أثنى عليه لحسن فهمه وقوة استنباطه، ولهذا قال فيه ابن عباس كأنما ينظر إلى الغيب من ستر رقيق.
وعلى الجملة إن تفسير كتاب الله تعالى بالرجوع إلى ما تقتضيه قواعد العلم، والرجوع إلى من أمر الله بالرجوع إليهم ومجانبة الهوى ليس من التفسير بالرأي المنهي عنه، بل هو الذي جرى عليه السلف والخلف من أهل البيت" وغيرهم، فانظر التفاسير هل تجدها كلها موقوفة على ما أثر عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم ، ثم إنه لو كان يجب الوقف في التفسير على السنة النبوية لما كان لما ورد في الكتاب والسنة وغيرهما من الحث على الرجوع إلى القرآن والاستنباط منه والعرض عليه فائدة.
وحديث: ((من قال في القرآن بغير علم )) صريح فيما قلنا، وكذلك حديث جندب؛ إذ لا يكون مخطئاً مع الإصابة إلا إذا كانت إصابته للحق تبخيتاً، وقد تكلم العلماء في بيان الرأي المنهي عنه، وحاصل ما قالوه إن ذلك إنما ورد في حق من يتأول القرآن على مراد نفسه وما هو تابع لهواه، وهذا لا يخلو إما أن يكون عن علم أو لا.
فالأول: كمن يحتج ببعض آيات القرآن على تصحيح بدعته وهو يعلم أن المراد من الآية غير ذلك، لكن غرضه أن يلبس على خصمه بما يقوي حجته على بدعته كما يستعمله الباطنية والخوارج، وغيرهم من أهل البدع والمقاصد الفاسدة ليغروا بذلك الناس.
والثاني: نحو أن تكون الآية محتملة لمعان فيفسرها بغير ما تحتمله من تلك المعاني، فهذان القسمان مذمومان، وكلاهما داخلان في النهي والوعيد، فأما التأويل وهو صرف الآية على طريقة الاستنباط إلى معنى يليق بها محتمل لما قبلها، وما بعدها، وغير مخالف للكتاب والسنة فقد رخص فيه أهل العلم؛ لأن الصحابة قد فسروا القرآن واختلفوا في تفسيره على وجوه، وليس كلما قالوه سمعوه من النبي صلى الله عليه وآله وسلم ، ولكن على قدر ما فهموا، وهذا معنى ما تقدم.
المسألة الخامسة: كيفية التعامل مع الأدلة الشرعية وإيضاح شروطها وبيان بطلان بعض قواعد المنطق وشبهات الفلاسفة
المسألة الخامسة: في ذكر الأدلة وشروط الاستدلال بها
اعلم أنه يمتنع ثبوت ما لا دليل عليه، ومن ادعى شيئاً من ذلك وجب نفيه والقطع ببطلانه، إذ لو جوزنا ثبوته مع عدم الدليل لأدى إلى القدح في الضروريات والاستدلاليات، وفتح باب الجهالات وزوال الثقة بالمشاهدات، أما الضروريات فلأنه إذا زالت الثقة بالمشاهد جوزنا كون الخردلة كالجبل، وكون رأس الآدمي المشاهد كرأس الحمار، وكون الحي ميتاً والعكس.
وأما الاستدلاليات فلأنا نجوز حصول شبه قادحة للخصم لا طريق إلى العلم بها فلا يولد النظر العلم بشيء قط إذ النظر يقف في توليده على العلم بالدليل، وتجويزه للقادح يدعو إلى التجويز الذي لا يجامع العلم فيتغير علمه بالدليل ويزول، فلا يولد النظر فيه العلم بالمدلول، وأيضاً يلزم أن لا يصح قياس الغائب على الشاهد لتجويز أن يكون حاجة أفعالنا إلينا لا لحدوثها، بل لغير ذلك فلا يحتاج العالم إلى محدث، ويلزم أن لا نقطع باستناد فعل إلى فاعله لجواز أن يكون الفاعل غيره فتزول أحكام الأفعال من مدح وذم وغيرهما، هذا في العقليات، وأما السمعيات فإن كان المدعي يدعي ثبوت ما يعم التكليف به كصلاة سادسة وثبوت حج بيت آخر وجب القطع ببطلان دعواه؛ إذ لو كان لاشتهر وعلم به المكلفون، وإلا لزم تكليف من لا يعلم والمعاقبة على الإخلال به وذلك قبيح، وإن لم يكن مما يعم به التكليف وجب الوقف فلا يقطع بعدم الدليل عليه فيكون باطلاً، ولا بوجوده فيكون صحيحاً حتى يظهر الدليل وعدمه بعد البحث في مظان وجوده.
فإن قلت: ما الفرق بين العقليات والسمعيات على هذا التفصيل؟
قلت: أما القسم الأول من السمعيات فلا فرق بينه وبين العقليات، وذلك أن المدعي لشيء من ذلك إذا لم يذكر دليله علم بطلان دعواه في الحال، ولا يحتاج إلى بحث عن الدليل؛ لأنه لا يجوز أن يخفى على أحد.
وأما القسم الثاني من السمعيات فلا يقطع ببطلان دعواه إلا بعد البحث والتفتيش فلا يجد عليه دليلاً لأنه يجوز في دليله أن يخفى على بعض المكلفين.
[تعريف الدليل]
فإن قلت: فما حقيقة الدليل؟ قلت: أما في اللغة فهو ما يعرف طرق الأمكنة على وجه يقتدى به أو بقوله، ولا فرق بين أن يكون متقدماً أو متأخراً كابنة شعيب، ولا فرق أيضاً بين أن يكون جماداً أو حيواناً، عاقلاً أو غير عاقل.
والدلالة في اللغة: العلامة، وفي الاصطلاح: الدليل والدلالة سواء وهو ما إذا نظر الناظر فيه نظراً صحيحاً أوصله إلى العلم بالغير.
قال السيد مانكديم: ولا بد أن يزاد فيه إذا كان واضعه وضعه لهذا، قال: لأنه لا يقال في أثر اللص أنه دلالة عليه وإن أمكن الاستدلال به على موضعه؛ لأنه لم يضعه لذلك بل بذل وسعه في إخفاء نفسه.
قلت: وفيه نظر إذ قد حصل الغرض بالنظر في أثره، وعدم قصده لذلك لا يخرجه عن كونه دليلاً، كما أن ترك النظر في الدليل لا يخرجه عن كونه دليلاً.
[أقسام الأدلة]
إذا عرفت هذا فاعلم أن الأدلة خمسة: العقل، والكتاب، والسنة، والإجماع، والقياس، إلا أن من خص اسم الدليل بما يفيد العلم واليقين قيد السنة بالمتواترة، والإجماع، والقياس بالقطعيين، ويسمي الخبر الآحادي والإجماع والقياس الظنيين أمارة، ولا يسميها أدلة إلا على سبيل التجوز، ولأجل هذا اختلفوا في حد الدليل، فمن فصل حد الدليل بنحو ما هنا، ومن أطلق الدليل على ما يفيد العلم والظن حده بما يتناولهما نحو قوله: هو ما يمكن التوصل بصحيح النظر فيه إلى العلم، أو إلى المطلوب على ما هو مذكور في مواضعه.
[شروط الاستدلال بالأدلة]
وأما شروط الاستدلال بالأدلة فهي مبسوطة في كتب أصول الفقه، إلا أنا نشير إليها في هذا الكتاب فنقول: أما العقل فيشترط في الاستدلال به أن تستقرأ طرق الشرع فلا يوجد للحادثة حكم فيها، وهذا إن لم تكن قضية العقل مطلقة، وإلا فلا يشترط هذا الشرط؛ إذ القضية المطلقة لا يرفعها الشرع بحال، وقد زاد بعضهم شرطاً وهو أن يكون في العقل للحادثة حكم.
قيل: وهذا صحيح على قول من يجوز أن لا يكون للعقل في الحادثة حكم، فأما من يقول: لا بد له فيها من حكم فلا حاجة إلى اشتراطه، وأما الكتاب والسنة القولية فشرط الاستدلال بهما نفي الخطاب بالملغز والمهمل، وإلا لم نثق بالظاهر، ومعرفة العدل والمعجز وإلا لم نثق بهما، والعلم بنفي كتمانه صلى الله عليه وآله وسلم شيئاً؛ وإلا لم نثق بالموجود لتجويز استثناء أو نحوه بالفعل عدم الاختصاص به، وبالتقرير أن يتنبه له، وأن لا يكون المقرر كافراً، ولا غائباً، ولا أنكره غيره.
وأما الإجماع فشرطه معرفة كيفيته من كونه قولاً، أو فعلاً، أو تركاً أو سكوتاً، وتواتره حيث يستدل به في قطعي، والتلقي بالقبول كالتواتر على الخلاف، وأما القياس فشرطه معرفة أركانه وشروطها، وكونه قطعياً إن استدل به في قطعي.
فائدة في كيفية الاستدلال بهذه الأدلة عند اجتماع شرائطها
اعلم أن أول قدم يضعه المستدل في الطرق المذكورة قضية العقل، فإن كان له في الحكم قضية مطلقة حكم بذلك ولم يلتفت إلى غيره؛ إذ الشرع لا يرد بخلاف ما يقضي به العقل قضية مبتوتة، وإن كانت قضيته مشروطة وكانت المسألة قطعية انتقل إلى الطرق الشرعية القطعية وتتبعها، فإن عثر على ما يرفع ذلك عمل عليه ولم يعرج على الحكم الأصلي لوجود الناقل، وإن لم يجد المغير رجع إلى قضية العقل، وإن كانت المسألة ظنيَّة انتقل أيضاً إلى طرق الشرع القطعية والظنية واتبعها واحدة واحدة، والأقوى فالأقوى حتى يأتي عليها أجمع، فإن وجد مغيراً عمل عليه وإلا رجع إلى قضية العقل، ولزمه البقاء عليها، وكان ذلك حد الحادثة.
فائدة أخرى لاحقة بشروط صحة الاستدلال
وهي أنه لا بد بين الدليل والمدلول من تعلق، وإلا لم يكن بأن يدل عليه بأولى من أن يدل على غيره، أو من أن لا يدل عليه، وذلك التعلق أن يكون لولا المدلول لما صحت الدلالة كدلالة الفعل على الفاعل، فإنه لولا الفاعل لما صح الفعل، أو لولاه لما وجبت كدلالة المعلول على العلة، والمسبب على السبب، والمقتضَى -بفتح الضاد- على مقتضيه، فإنه لولا المدلول لما وجبت الدلالة، أو لولاه لما اختيرت كدلالة فعل القبيح على الجهل، فإنه لولاه لما اختير، وكدلالة العدو على الشوك والنار على الإلجاء، أو لولاه لما حسنت كدلالة المعجز على صدق المدعي للنبوة، فإنه لولا الصدق لما حسنت المعجزة، ويدخل في هذا الأدلة الشرعية فإنها لولا كونها مصالح لما حسن التكليف بها.
[في الرد على شبه الفلاسفة حول بعض قواعد المنطق]
زعمت الفلاسفة وحكاه القرشي عن المجبرة أنه لا يوصل إلى العلم اليقين إلا حجة العقل الواردة على أشكال أربعة يذكرونها في علم المنطق، فأما السمعيات فهي إنما توصل عندهم إلى الظن، وكذلك قياس التمثيل الذي نسميه قياس الشاهد على الغائب.
واعلم أن هؤلاء الفلاسفة، وأهل الإلحاد قد وضعوا قواعد عظمت بها جنايتهم على المسلمين، وحرفوا بها كثيراً من قواعد الدين، وأدرجوها في علم المنطق، وتبعهم عليها طوائف المجبرة، كما حكاه القرشي وكثير من غيرهم، وكانت السبب في القول بالجبر وكثير من مسائل الخلاف، ولهذا لم يعول قدماء الأئمة " وكثير من المتأخرين على علم المنطق، ولم يذكروه في كتبهم، ولم يبنوا عليه شيئاً من مسائل دينهم وهم القدوة.
وقال ابن الصلاح: لقد تمت الشريعة حيث لا منطق، وحكى شارح مباحث العقول للزركشي عن بعضهم أنه ليس بعلم، وفي بعض المباحث أن كثيراً من الفقهاء ينهى عن تعلمه، وعن بعض العلماء جوازه لمن وثق بصحة ذهنه ومارس الكتاب والسنة.
قال: وهذا الشرط إنما يعتبر في حق من يريد النظر في كتب الفلاسفة ليرد على أهلها، فما ظنك بما تركه صفوة الأمة.
واختلف آخرون هل هو علم أم لا، وهل يجوز تعلمه أم لا؟
وذكر السيد حميدان رحمه الله في مجموعه أن الحد المركب من جنس وفصل لم يتضمن إلا حكاية المذهب، ومجرد الحكاية لا يصح أن يكون دليلاً على صحة المحكي؛ إذ ما من دعوى باطلة إلا ويمكن أن تحد بحد من جنس وفصل، قال: وذلك بين لمن تأمله.
وقال الإمام القاسم بن محمد عليه السلام ما معناه: إن جميع العلوم الإسلامية مستغنية عن المنطق؛ لأنه في معرفة الحد والبرهان، فأما الحد فهو ضرب من التفسير، ونحن نعتمد على ما ورد في الكتاب والسنة ولغة العرب، ونستعمل ألفاظ العموم التي يراد بها الخصوص كاستعمالنا الألفاظ الخاصة اكتفاءً بما يدل على التخصيص من القرائن الحالية والمقالية، ونكتفي في إخراج ما يجب إخراجه من الحد، وإدخال ما يجب إدخاله بما علم من موجبات الإدخال والإخراج.
قال: وبذلك يعرف بطلان اعتبار المنطق في الحدود؛ لأن ما ذكرناه معلوم بالاستقراء، وأما البرهان فهو عندهم أن وسط المقدمتين يستلزم المطلوب وهو قسمان: اقتراني، واستثنائي، وعلوم الإسلام إنما تستمد من أصل عقلي، أو شرعي، أو قياس كذلك، أو استصحاب حال كذلك، أو اجتهاد مطلق إما بالأصل كقضية العقل المبتوتة نحو وجوب شكر المنعم، والنصوص السمعية كقوله تعالى: {أَقِيمُوا الصَّلاَةَ} فلا يحتاج إلى ذلك ضرورة، وإما بالقياس والمعتبر في ثبوته ثبوت الجامع بين الأصل والفرع بدليل أصلي عقلي أو سمعي، فمتى ثبت ذلك استغنى عن المقدمتين وكفى في التعبير عنه بنحو أن يقال: النبيذ حرام كالخمر لمشاركته له في المقتضي للتحريم وهو السكر مثلاً، وكذا في العقلي، ومتى لم يثبت لم يصح بهما ولو أمكن تركيبهما؛ لأنه مع تركيبهما يصير القياس من باب الحكم على العام بحكم النوع المختص به، وذلك معلوم البطلان)، ثم قرر ما ذكره بأمثلة تدل على صحته ذكره في الجواب المختار، ونحن نذكر جملة من كلامهم وقواعدهم، ثم نبين الاستغناء عنها وعدم الفائدة فيها، وما تؤدي إليه من المفاسد التي يجب الحذر منها، وقد جعلنا ذلك في القياس ولواحقه؛ لأنه كما قال بعض شراح الشمسية المقصد الأقصى، والمطلب الأعلى من الفن، والكلام فيه يقع في ثلاثة مواضع:
الموضع الأول: في حده وهو عندهم قول مؤلف من قضايا متى سلمت لزم عنها لذاتها قول آخر كالعالم متغير، وكل متغير حادث يلزم عنه العالم حادث، فيخرج بقيد التأليف من قضايا اللفظ المفرد، والقضية الواحدة المستلزمة لذاتها عكسها المستوي أو عكس نقيضها.
وقوله: (متى سلمت) إشارة إلى أن تلك القضايا لا يجب أن تكون مسلمة في نفسها، بل يجب أن تكون بحيث لو سلمت لزم عنها قول آخر ليندرج في الحد القياس الصادق المقدمات، وكاذبها، كقولنا: كل إنسان حجر، وكل حجر جماد، فإن هاتين القضيتين وإن كذبتا إلا أنهما لو سلمتا لزم عنهما أن كل إنسان جماد.
وقوله: (لزم عنها): يخرج الاستقراء والتمثيل لإمكان تخلف مدلولهما كما سيأتي، ويخرج بقوله لذاتها ما لزم لا لذاتها، بل بواسطة مقدمة غريبة كما في قياس المساواة وهو ما يتركب من قضيتين متعلق محمول الأولى منهما يكون موضوع الأخرى كقولك مثلاً: الإنسان مساوٍ للناطق والناطق مساو للبشر، فالنتيجة وهي الإنسان مساو للبشر ليست لازمة لذات المقدمتين، بل بواسطة مقدمة أجنبيه وهي كون مساوي المساوي لشيء مساو لذلك الشيء؛ إذ لو كانت لذاتهما لكان هذا النوع منتجاً دائماً، وليس كذلك فإنه إذا قيل: الإنسان مباين للفرس، والفرس مباين للناطق لم ينتج كون الإنسان مبايناً للناطق.
وقوله: قول آخر أراد به أن القول اللازم يجب أن يكون مغايراً لكل واحدة من المقدمات، فإنه لو لم يعتبر ذلك في القياس لزم أن يكون كل قضيتين قياساً كيف كانتا، كما لو قيل: كل إنسان ناطق وكل ناطق بشر، فإن النتيجة وهي كل إنسان بشر هي إحدى المقدمتين.
الموضع الثاني: في قسمته وهو ينقسم إلى اقتراني، واستثنائي.
فالأول: ما دل على النتيجة أو نقيضها بالقوة لا بالفعل، والمراد بالقوة المعنى بأن تكون مذكورة فيه بمادتها لا بصورتها كالعالم حادث فيما تقدم، فإنه لم يذكر هو ولا نقيضه في القياس بالفعل بمعنى أنه لم يوجد فيه على هذا التركيب.
واعلم أن الاقتراني يتركب من الحمليات الصرفة، ويسمى حملياً كالمثال السابق، ومن الشرطيات، والعمدة هو الحملي، ولذا قال الحضري في حد الاقتران: هو الذي دل على النتيجة بقوة واختص بالحملية.
[الاقتران الشرطي]
قال شارحه: وقوله اختص بالحملية جري على الغالب، ولم يتعرض ابن الإمام في الغاية ولا ابن الحاجب لتفصيل مسائل الاقتران الشرطي لقلة فائدته، وتشعب مسائله، ونحن نشير إليه على جهة الاختصار فنقول: هو ما تركب من الشرطيات المحضة، أو من الشرطيات والحمليات، وأقسامه خمسة:
أحدها: أن يتركب من شرطيتين متصلتين نحو: إن كانت الشمس طالعة فالنهار موجود، وإن كان النهار موجوداً فالأرض مضيئة، ينتج إن كانت الشمس طالعة فالأرض مضيئة.
الثاني: أن يتركب من شرطيتين منفصلتين كقولنا: العدد إما زوج، وإما فرد، وكل زوج إما زوج الزوج، أو زوج الفرد ينتج كل عدد إما فرد، أو زوج الزوج، أو زوج الفرد.
الثالث: من حملية ومتصلة نحو: كل ما كان هذا إنساناً فهو حيوان وكل حيوان جسم ينتج كل ما كان هذا إنساناً فهو جسم.
الرابع: من حملية ومنفصلة نحو: العدد إما زوج أو فرد، وكل زوج فهو منقسم بمتساويين ينتج كل عدد إما فرد، أو منقسم بمتساويين.
الخامس: من متصله ومنفصله نحو: كلما كان هذا إنساناً فهو حيوان، وكل حيوان فهو إما أبيض أو أسود ينتج كلما كان هذا إنساناً فهو إما أبيض أو أسود.
وأما الحملي فهو ما ليس فيه شرط ولا تقسيم، ويسمى المبتدأ موضوعاً، والخبر محمولاً، والمقدمة الأولى صغرى، والأخرى كبرى، والوسط محمول الأولى موضوع الثانية.
قال بعض العلماء: والمراد بالصغرى المشتملة على الحد الأصغر الذي هو موضوع النتيجة كالعالم متغير في المثال المتقدم، وبالكبرى المشتملة على الحد الأكبر الذي هو محمول النتيجة ككل متغير حادث في المثال، والمتكرر بين الحد الأصغر والأكبر يسمى حداً أوسط، وهو الذي يحذف عند أخذ النتيجة كالمتغير، ووجه التسمية بهذه الاسماء مذكور في كتب الفن، واقتران الصغرى بالكبرى في إيجابهما وسلبهما وكليتهما وجزئيتهما يسمى قرينة وضرباً، والهيئة الحاصلة من وضع الحد الأوسط عند الحدين الأخريين بحسب حمله عليهما أو وضعه لهما، أو حمله على أحدهما، ووضعه للآخر يسمى شكلاً، والأشكال أربعة؛ لأن الحد الأوسط إن كان محمولاً في الصغرى موضوعاً في الكبرى فهو الشكل الأول المسمى بالنظم الكامل؛ لأنه أقواها، وهي ترجع إليه في الحقيقة كقولنا العالم متغير وكل متغير حادث.
وإن كان محمولاً في القضيتين فهو الثاني كقولنا: العالم متغير ولا شيء من القديم بمتغير، وهو قريب من الأول؛ لأنه يوافقه في طرف الحمل الذي هو أقوى من طرف الوضع.
وإن كان موضوعاً فيهما فهو الثالث كقولنا: العالم متغير العالم حادث، وهو أقوى من الرابع لموافقته في طرف الوضع.
وإن كان عكس الأول بأن كان الحد الوسط موضوعاً في الصغرى محمولاً في الكبرى فهو الرابع كقولنا: المتغير حادث العالم متغير، وهو أضعفها لبعده عن الأول لكونه لم يوافقه لا في حمل ولا في وضع، فإن وجد قياس ليس على هيئة من هذه الهيئات الأربع فنظمه فاسد كقولنا: كل إنسان حيوان وكل فرس صهال، ولإنتاج كل شكل شرائط.
فيشترط في الشكل الأول بحسب الكيفية إيجاب الصغرى ليندرج الأصغر تحت الأوسط، وبحسب الكمية كلية الكبرى، وإلا لاحتمل أن يكون البعض المحكوم عليه بالأكبر غير البعض المحكوم به على الأصغر، فلا يلزم اندراج الأصغر تحت الأوسط كقولنا: كل إنسان حيوان وبعض الحيوان فرس، وضروبه المنتجة أربعة:
الأول: موجبتان كليتان ينتج موجبة كلية كقولنا: كل إنسان حيوان وكل حيوان حساس.
الثاني: كليتان والكبرى سالبة ينتج سالب كليه نحو: كل إنسان حيوان ولا شيء من الحيوان بحجر ينتج لا شيء من الإنسان بحجر.
الثالث: موجبتان والكبرى كلية، والنتيجة موجبة جزئية كقولنا: بعض الإنسان حيوان، وكل حيوان حساس ينتج بعض الإنسان حساس.
الرابع: صغرى موجبة جزئية، وكبرى سالبة كلية، والنتيجة سالبة جزئية كقولنا: بعض الإنسان حيوان، ولا شيء من الحيوان بحجر، ينتج بعض الإنسان ليس بحجر.
فقد أنتج هذا الشكل المطالب الأربعة بخلاف بقية الأشكال، ولهذا كان أفضلها، ويشترط لإنتاج الشكل الثاني اختلاف مقدمتيه بالإيجاب والسلب بأن تكون إحداهما موجبة والأخرى سالبة، وهذا بحسب الكيفية، وأما بحسب الكمية، فكلية الكبرى، فالكبرى إن كانت موجبة فالصغرى سالبة كلية أو جزئية، وإن كانت سالبة، فالصغرى موجبة كلية أو جزئية، وضروبه المنتجة أربعة:
الأول: كليتان والكبرى سالبة كقولنا: كل إنسان حيوان ولا شيء من الحجر بحيوان ينتج لا شيء من الإنسان بحجر.
الثاني: كليتان والكبرى موجبة نحو: لا شيء من الحجر بحيوان وكل إنسان حيوان ينتج لا شيء من الحجر بإنسان.
الثالث: موجبة جزئية صغرى وسالبة كلية كبرى نحو: بعض الإنسان حيوان ولا شيء من الحجر بحيوان ينتج بعض الإنسان ليس بحجر.
الرابع: سالبة جزئية صغرى وموجبة كلية كبرى كقولنا: بعض الحجر ليس بحيوان وكل إنسان حيوان ينتج بعض الحجر ليس بإنسان، فلم ينتج هذا الشكل إلا السلب كلياً في الأولين وجزئياً في الآخرين، ولهذا كان دون الأول، ويشترط لإنتاج الشكل الثالث بحسب الكيف إيجاب الصغرى، وبحسب الكم كلية إحدى مقدمتيه، وضروبه الناتجة ستة:
الأول: كليتان موجبتان نحو: كل إنسان حيوان وكل إنسان ناطق ينتج بعض الحيوان ناطق.
الثاني: كليتان والكبرى سالبة ينتج سالبة جزئية كقولنا: كل إنسان حيوان ولا شيء من الإنسان بحجر ينتج بعض الإنسان ليس بحجر.
الثالث: موجبتان جزئية صغرى وكلية كبرى ينتج موجبة جزئية نحو قولنا: بعض الإنسان حيوان وكل إنسان ناطق ينتج بعض الحيوان ناطق.
الرابع: صغرى موجبة جزئية وكبرى سالبة كلية ينتج جزئية سالبة، نحو: بعض الإنسان حيوان ولا شيء من الإنسان بحجر ينتج بعض الحيوان ليس بحجر.
الخامس: من موجبتين كلية صغرى وجزئية كبرى ينتج موجبة جزئية نحو: كل إنسان حيوان وبعض الإنسان ناطق ينتج بعض الحيوان ناطق.
السادس: من كلية موجبة صغرى وجزئية سابلة كبرى ينتج سالبة جزئية نحو: كل إنسان حيوان وبعض الإنسان ليس بحجر ينتج بعض الحيوان ليس بحجر.
ويشترط لإنتاج الشكل الرابع بحسب الكيفية والكمية إما إيجاب المقدمتين مع كلية الصغرى، أو اختلافهما بالكيف مع كلية إحداهما، وضروبه الناتجة خمسة عند المتقدمين:
الأول: من موجبتين كليتين ينتج موجبة جزئية نحو: كل إنسان حيوان وكل ناطق إنسان ينتج بعض الحيوان ناطق.
الثاني: من موجبتين والصغرى كلية نحو: كل إنسان حيوان وبعض الناطق إنسان ينتج موجبة جزئية وهو بعض الحيوان ناطق.
الثالث: من كليتين والصغرى سالبة ينتج سالبة كلية نحو: لا شيء من الإنسان بحجر وكل ناطق إنسان ينتج لا شيء من الحجر بناطق.
الرابع: من كليتين والكبرى سالبة ينتج سالبة جزئية نحو: كل إنسان حيوان ولا شيء من الحجر بإنسان ينتج بعض الحيوان ليس بحجر.
الخامس: من موجبة جزئية صغرى وسالبة كلية كبرى ينتج سالبة جزئية نحو: بعض الإنسان حيوان ولا شيء من الحجر بإنسان ينتج بعض الحيوان ليس بحجر.
القسم الثاني من قسمي القياس
وهو القياس الشرطي ويسمى الاستثنائي لوجود حرف الاستثناء فيه وهو لكن، وعرفوه بأنه ما دل على النتيجة أو ضدها بالفعل، بأن ذكرت فيه النتيجة بمادتها وهيئتها، وهو قسمان: متصل، ومنفصل.
فالمتصل ما يكون بالشرط، وتسمى المقدمة المشتملة على الشرط شرطية، ويسمى الشرط مقدماً والجزاء تالياً، والمقدمة الأخرى استثنائية، والمنتج منه قسمان:
أحدهما: أن يستثنى عين المقدم فينتج عين التالي؛ لأن صدق الملزوم وهو المقدم يستلزم صدق اللازم وهو التالي نحو: إن كان هذا إنساناً فهو حيوان لكنه إنسان فهو حيوان، قالوا: لأنه لو لم ينتج للزم انفكاك اللازم عن الملزوم فيبطل اللزوم.
والثاني: أن يستثنى نقيض التالي فينتج نقيض المقدم، وإلا لزم وجود الملزوم بدون اللازم، فيبطل اللزوم أيضاً مثاله: إن كان هذا إنساناً فهو حيوان لكنه ليس بحيوان فليس بإنسان، وأما ما استثنى فيه عين التالي كقولنا في المثال لكنه حيوان، أو نقيض المقدم نحو: لكنه ليس بإنسان فلا ينتج شيئاً لجواز أن يكون التالي أعم من عين المقدم كما في المثال، فلا يلزم من وجود اللازم وهو التالي وجود الملزوم وهو المقدم كإنسان في المثال، ولا من عدم الملزوم عدم اللازم.
وأما المنفصل فهو ما كان مؤلفاً من قضايا منفصلة وهي المتعاندة، وهي ثلاثة أقسام؛ لأنه إما أن يتركب من مانعة الجمع والخلو، أو من مانعة الجمع فقط، أو من مانعة الخلو فقط، فإن ركب من الأول فأضربه المنتجة أربعة اثنان من جانب الوضع أي العين، واثنان من جانب الرفع أي رفع كل من المقدم والتالي، أي نقيضه مثال ذلك العدد إما زوج، وإما فرد، فاستثناء زوج منتج لنقيض فرد، واستثناء فرد منتج لنقيض زوج، واستثناء نقيض كل منهما منتج لعين الآخر.
وإن كان مركباً من مانعة الجمع فالمنتج منه ضربان وهما استثناء عين كل من الطرفين لتحصيل نقيض الآخر مثال ذلك: إما أن يكون هذا الشيء أبيضاً، وإما أن يكون أسوداً، فاستثناء أبيض منتج لنقيض أسود والعكس، وإما استثناء نقيض كل منهما فلا ينتج شيئاً.
وإن ركب من مانعة الخلو أنتج منه استثناء نقيض كل من الطرفين ليحصل عين الآخر، وإما استثناء العين فلا ينتج شيئاً عكس المركب من مانعة الجمع مثال ذلك: زيد إما في البحر وإما أن لا يغرق، فاستثناء نقيض في البحر منتج لئلا يغرق واستثناء نقيض لا يغرق منتج لفي البحر فيقول: لكنه ليس في البحر فلا يغرق، أو لكنه يغرق فهو في البحر.
الموضع الثالث: في لواحق القياس وهي أنواع:
الأول: في القياس المركب، وذلك أن القياس إن تركب من قضيتين سمي بسيطاً نحو: العالم متغير، وكل متغير حادث، وإن تركب من أكثر سمي مركباً لكونه مركباً من حجج متعددة نحو: النباش آخذ للمال خفية، وكل آخذ للمال خفية سارق، وكل سارق تقطع يده ينتج النباش تقطع يده، وهذا القياس إن صرح فيه بنتائج تلك القياسات سمي متصل النتائج لاتصالها بالمقدمات نحو: النباش سارق، ثم تقول النباش سارق وكل سارق تقطع يده ينتج النباش آخذ للمال خفية، وكل آخذ للمال خفية سارق ينتج النباش تقطع يده، وإن لم يصرح سمي منفصلاً لفصل النتائج عن المقدمات في الذكر وإن كانت مرادة من جهة المعنى كالمثال الذي قبل هذا، وهذا معنى قولهم إن القياس المركب ما تركب من مقدمات ينتج مقدمتان منها نتيجة، وهي مع المقدمة الأخرى تنتج أخرى وهلم جرا إلى أن يحصل المطلوب.
قال قطب الدين الرازي: وذلك إنما يكون إذا كان القياس المنتج للمطلوب تحتاج مقدمتاه أو إحداهما إلى كسب بقياس آخر كذلك إلى أن ينتهي الكسب إلى المبادئ البديهية، فيكون هناك قياسات مترتبة محصلة للمطلوب، ولهذا سمي مركباً.
النوع الثاني: قياس الخلف وهو إثبات المطلوب بإبطال نقيضه ولم يسم خلفاً أي باطلاً لأجل أنه باطل في نفسه، بل لأنه ينتج الباطل على تقدير عدم حقية المطلوب، وهو مركب من قياسين أحدهما: اقتراني من متصلة وحملية، والآخر استثنائي، وقال السعد: هو عبارة عن قياسين أحدهما: اقتراني شرطي، والآخر استثنائي متصل يستثنى فيه نقيض التالي، هكذا لو لم يثبت المطلوب لثبت نقيضه، وكلما ثبت نقيضه ثبت محال ينتج لو لم يثبت المطلوب لثبت محال، لكن المحال ليس بثابت، فيلزم ثبوت المطلوب لكونه نقيض المقدم.
النوع الثالث: الاستقراء وهو تتبع الجزئيات لإثبات حكم كلي كقولنا: كل حيوان يحرك فكه الأسفل عند المضغ؛ بدليل أن الإنسان والفرس والسباع كذلك، وهو لا يفيد اليقين لاحتمال أن يكون هناك فرد لم يستقرئ ويكون حكمه مخالفاً لما استقرئ كالتمساح.
النوع الرابع: التمثيل وهو إثبات حكم في جزئي لوجوده في جزئي آخر لمعنى مشترك بينهما نحو: العالم مؤلف، فهو حادث كالبيت وأثبتوا علية التأليف بالدوران، والتقسيم غير المردد بين النفي والإثبات، أما الدوران وهو اقتران الشئ بغيره وجوداً وعدماً فكما يقال الحدوث دائر مع التأليف وجوداً وعدماً، أما الوجود ففي البيت، وأما العدم ففي الواجب تعالى.
والدوران علامة كون المدار علة للدائر فسكون التأليف علة الحدوث، وأما السبر والتقسيم وهو إيراد أوصاف الأصل وإبطال بعضها ليتعين الباقي للعلية، فكما يقال علة الحدوث في البيت إما التأليف أو الإمكان، والثاني: باطل بالتخلف؛ لأن صفات الواجب ممكنة وليست بحادثة فتعين الأول.
قالوا: والوجهان ضعيفان، أما الدوران فلأن الجزء الأخير من العلة التامة والشرط المساوي مدار للمعلول مع أنه ليس بعلة، وأما التقسيم فلأن حصر العلة في الأوصاف المذكورة ممنوع؛ لأن التقسيم غير مردد بين النفي والإثبات فجاز أن تكون العلة غير ما ذكرت، ثم بعد تسليم صحة الحصر فلا نسلم أن المشترك إذا كان علة في الأصل يلزم أن يكون علة في الفرع لجواز أن تكون خصوصية الأصل شرطاً للعلية، أو خصوصية الفرع مانعة عنها.
النوع الخامس: في مواد الأقيسة وهي قسمان: يقينية، وغير يقينية، فاليقينية ستة أقسام:
أحدها: الأوليات البديهيات وهي ما حكم فيها العقل من غير واسطة كقولنا: السماء فوقنا.
الثاني: المشاهدات وتسمى الوجدانيات، وهي ما تدرك بالحواس الباطنة من غير توقف على عقل كجوع الإنسان وعطشه، ولذته وألمه.
الثالث: التجربيات وهي ما تحصل من العادات كقولنا: الرمان يحبس القيء والنانخا تهضم الشبع، والتبخير ببذر البصل يسقط سوس الأسنان، وقد يعم كعلم العامة بأن الخمر مسكر، وقد يخص كعلم الطبيب بإسهال المسهلات.
الرابع: المتواترات وهي ما يحصل بنفس الأخبار تواتراً كالعلم بمكة ومشاهير السلف.
الخامس: الحدسيات وهي ما يجزم به العقل والحس لترتيب دون ترتيب التجربيات مع القرائن، كالعلم بأن نور القمر مستفاد من نور الشمس لاختلاف تشكلاته النورية بحسب اختلاف أوضاعه من الشمس قرباً وبعداً، وقيل: ليس المراد بالعلم هنا معناه الحقيقي، بل المراد به الظن القوي.
السادس: المحسوسات وهو ما يدرك بإحدى الحواس الخمس الظاهرة التي هي: السمع، والبصر، والشم، والذوق، واللمس، وكلها في الرأس خاصة به إلا اللمس، وبعضهم أدخل المحسوسات في المشاهدات فجعلها شاملة لما يدرك بالحواس الظاهرة، فعلى هذا تكون اليقينيات خمسة.
قيل: والعلم الحاصل من الثلاثة المتأخرة لا يقوم حجة على الغير لجواز أن لا تكون له تجربة، ولا تواتر، ولا حدس لعدم مشاركته في ذلك للمستدل، وأما غير اليقينية فستة أقسام:
أحدها: المشهورات وهي قضايا يعترف بها جميع الناس لاشتمالها على مصلحة عامة لهم نحو: العدل حسن، والظلم قبيح، ولما في طباعهم من الرقة والحمية كمراعاة الضعفاء محمودة، ونصرة الولي حسنة، وخذلانه قبيح، أو لعادات وشرائع، ولكل قوم مشهورات بحسب عاداتهم وآدابهم، ولكل أهل صناعة مشهورات بحسب صناعاتهم.
الثاني: المسلمات وهي قضايا تسلم من الخصم فيبني عليها الكلام لدفعه سواء كانت مسلمة فيما بينهما خاصة، أو بين أهل العلم كتسليم الفقهاء مسائل أصول الفقه نحو أن يستدل الفقيه بخبر الواحد، فيقول خصمه خبر الواحد ليس بحجة، فيجيبه بأن حجيته قد ثبتت في أصول الفقه فلا بد أن يأخذه المناظر له مسلماً، والقياس المؤلف من المشهورات والمسلمات يسمى جدلاً، والغرض منه إلزام الخصم، وإقناع من لا قدرة له على فهم البرهان.
الثالث: المقبولات وهي ما يصدر ممن يعتقد صلاحه.
الرابع: المظنونات وهي ما يحكم بها العقل من القضايا حكماً راجحاً مع تجويز نقيضه نحو: فلان يطوف بالليل وكل من يطوف بالليل سارق، ففلان سارق، والقياس المركب من المقبولات والمظنونات يسمى خطابة، والغرض منها ترغيب الناس فيما ينفعهم في معاشهم ومعادهم كما يفعله الخطباء والوعاظ.
الخامس: المخيلات وهي قضايا متخيلة فتتأثر النفس منها قبضاً وبسطاً فتنفر أو ترغب نحو: الخمر ياقوتة سيالة، والعسل مرة مهوعة، والقياس المؤلف منها يسمى شعراً، والغرض منه تأثر النفس ترغيباً وترهيباً، ويزيد في ذلك أن يكون الشعر على وزن لطيف وينشد بصوت طيب.
السادس: الوهميات وهي قضايا كاذبة يحكم بها الوهم في أمور غير محسوسة كالحكم بأن كل موجود مشار إليه، فإنه لو قال الباري موجود وكل موجود مشار إليه أنتج الباري مشار إليه -تعالى الله عن ذلك علواً كبيرا-، ولولا دفعها العقل والشرع لعدت من الأوليات ويعرف كذبها بمساعدة العقل في المقدمات حتى إذا وصل إلى النتيجة امتنع كالمثال المذكور، ونحو قولك في صورة فرس في جدار: هذا فرس وكل فرس صهال فهذا صهال، والقياس المركب منها يسمى مغالطة، فإن قابل بها الحكيم فهو سوفسطائي، وإن قابل بها الجدلي فهو مشاغبي.
قالوا: والغرض منه تغليط الخصم ودفعه، وأعظم فائدة معرفته اجتنابه.
قال الدمنهوري: واستعمالها حرام بجميع أنواعها، ومن أقبح تلك الأنواع المغالطة الخارجية، وهي أن يشغل المناظر الذي لا فهم له ولا انقياد للحق فهم خصمه بما يشوش عليه ككلام قبيح ليظهر للناس أنه غلبه، ويستر بذلك جهله، قال: وهو كثير في زماننا، بل هو الواقع، فهذا النوع من القياس ينبغي معرفته ليتقى لا ليستعمل إلا لضرورة كدفع كافر معاند، كالسم لا يستعمل إلا في الأمراض الخبيثة. ذكره في شرحه للسلم.
[فائدة في منشأ الغلط للقياس]
منشأ الغلط في القياس إما من جهة الصورة بأن لا يكون على هيئة شكل من الأشكال الأربعة، وإما من جهة المادة بأن يكون المطلوب، وبعض مقدماته شيئاً واحداً، وهو المصادرة على المطلوب كقولنا: كل إنسان بشر وكل بشر ضحاك فكل إنسان ضحاك، وسبب الغلط فيه أن النتيجة عين إحدى المقدمتين لمرادفة الإنسان لبشر، وقد مر في تعريف القياس أن النتيجة يجب أن تكون قولاً آخر، أو بأن تكون بعض المقدمات كاذبة شبيهة بالصادقة، إما من حيث الصورة كما مر في صورة فرس على جدار، أو من حيث المعنى كعدم رعاية وجود الموضوع في الموجبة نحو: كل إنسان وفرس فهو إنسان، وكل إنسان وفرس فهو فرس ينتج أن بعض الإنسان فرس، والغلط فيه أن موضوع المقدمتين غير موجود؛ إذ لا يوجد ما يصدق عليه أنه إنسان وفرس، وكالحكم على الجنس بحكم النوع كقولنا الفرس حيوان وكل حيوان ناطق ينتج الفرس ناطق، والغلط فيه من جهة الحكم على الجنس الذي هو حيوان بحكم النوع الذي هو إنسان، وكجعل الوهمي كالقطعي كقولك في رجل يخبط في البحث وهو بعيد عن الفهم: هذا يتكلم بألفاظ العلم وكل من يتكلم بألفاظ العلم عالم فهذا عالم، والغلط فيه جعل توهم عالميته كالمقطوع بها.
قال في شرح (الشمسية): (وكأخذ الذهنيات مكان الخارجيات نحو: الحدوث حادث وكل حادث له حدوث، فالحدوث له حدوث، وكأخذ الخارجيات مكان الذهنيات كقولنا: الجوهر موجود في الذهن وكل موجود في الذهن قائم بالذهن فهو عرض ينتج أن الجوهر عرض)، وهذا القدر كاف في بيان كلامهم في قياسهم؛ إذ ليس المراد استيفاء قواعدهم والإتيان بعللهم، بل بيان ما ادعينا من عدم الفوائد، وما يلزم منه من المفاسد، لكن لما كان الحكم على هذا الفن بما ذكر من دون بيان شيء من قواعده حكماً على مجهول وهو لا يصح، وربما وقال قائل: لعل الحكم عليه بهذا صادر عن غير تثبت وبصيرة، اتقينا بهذه النبذة لصحة الحكم ودفع الوهم، وإذا تقرر لك هذا فالكلام عليه يقع في موضعين:
الأول: في بيان الاستغناء عنه وعدم فائدته، والثاني: فيما يؤدي إليه من المفاسد.
الموضع الأول: في بيان الاستغناء عنه وعدم الفائدة فيه، وبيانه من وجهين:
أحدهما: ما تقدم عن السيد حميدان والإمام القاسم، وأن جميع ما يذكرونه من الأمثلة في الأشكال الأربعة لا ثمرة له ولا فائدة، علمنا أن كل إنسان حيوان علمنا أنه ليس بحجر من دون تكلف إيراد المقدمتين، وتركيبها في شكل مخصوص، ونحو ذلك من الأمثلة التي تقدمت، ولا يحتاج في العلم بذلك إلى تركيب القياس، ولهذا لو منع أحدنا عن القياس لم يخرج بذلك عن كونه عالماً، بل يعلم بذلك من لم يسمع علم المنطق فضلاً عن أن يحتاج إلى المطالعة فيه، مع أنهم يشترطون في المقدمات أن تنتهي إلى الضرورة قالوا: بحيث لا يحتاج في فهم معناها إلى تأمل، وإذا كان ضرورياً فهو غير واقف على اختيارنا؛ لأن عند حصول العلم الضروري بالمقدمتين تتأهل النفس لأن يفعل الله فيها العلم بالنتيجة فأي فعل يفعله القائس حينئذٍ، فثبت عدم فائدته، والاستغناء عنه.
الوجه الثاني: أن حاصل ما ذكروه من البراهين الحاصلة عن أشكالهم راجع إلى نوع واحد من العلم، وهو إلحاق التفصيل بالجملة، وهو من أقل العلوم كلفة، فما الفائدة في تركيب أشكال وتوسيع مقال، وتعقيد عبارة في أمر يحصل بأدنى تأمل، بيان ذلك أن من علم أن كل ظلم قبيح، ثم علم في فعل معين أنه ظلم فإن هذين العلمين يدعوانه إلى فعل علم ثالث يقبح هذا المعين إلحاقاً للتفصيل بالجملة، وهذا لا يحتاج إلى تلك الأشكال، ولا إلى ترتيب تلك المقدمات، بل يحصل بأدنى تأمل، ولذا حكى القرشي عن بعض العلماء أنه ضروري، وحكاه عن الخصوم أيضاً.
وحكي عن أبي الحسين أنه متولد عن العلم الجملي، وعلى أيهما فقد حصل المطلوب، وهو بيان الاستغناء عن المنطق، وعدم الفائدة فيه. والحمد لله رب العالمين.
الموضع الثاني: فيما يلزم عليه من المفاسد، فمن ذلك أنهم جعلوا الاستقراء والتمثيل من الظنيات، واحترزوا عنهما في حد القياس كما تقدم، وهذا يؤدي إلى أن يكون حدوث العالم ظنياً لا يقينياً، وهذه دسيسة من الفلاسفة؛ إذ القياس بالمعنى الذي ذكروه يرجع إلى قياس التمثيل والاستقراء.
أما الأول: فلأن اليقيني لا يكون قياساً إلا إذا حصل فيه علة جامعة، وحينئذٍ يكون من قياس التمثيل الذي جعلوه ظنياً فيقال: لسنا نعلم أن العالم حادث إلا لحصول معنى وهو التغيير؛ إذ لا معنى لقياس التمثيل إلا إذا كان مبنياً على علة، ويزيده وضوحاً أنهم يمثلون لليقيني بقولهم: كل إنسان حيوان ولا شيء من الحيوان بحجر ينتج لا شيء من الإنسان بحجر، ومن المعلوم أنا لا نعلم أن الإنسان حيوان إلا لأجل كونه حيا بحياة، فإذا علمنا أن الحجر لا يحصل فيه الأمر الذي لأجله كان الإنسان إنساناً علمنا أنه ليس بإنسان، وهم لا يعنون بقياس التمثيل أكثر من هذا.
وأما الاستقراء فروى القرشي إجماع محققيهم على أن المقدمات اليقينية الكلية إنما يتصيدها العقل من استقراء الجزئيات.
قال أبو الحسين: ومثله أرسطاطاليس بأن يتصور صورة زيد ثم صورة شخص آخر حتى ترسم في نفسه صورة الإنسان الكلية الشاملة لجميع أشخاص الناس، وإذا كان كذلك وهم قد صرحوا بأن الاستقراء والتمثيل لا يفيدان إلا الظن، فقد نقضوا قولهم، وظهر أنه لا يقيني قط؛ لأن المقدمات التي يسمونها يقينية قد بنوها على ما لا يفيد عندهم إلا الظن، وبهذا يتبين لك أن غرضهم بذلك المكر والإلحاد لا بيان الأدلة، وأن دعواهم هذه لو تمت لكان حدوث العالم ظنياً، ويلزم منه أن يكون ثبوت الصانع كذلك، فيحصل ما راموه من نفي الصانع، وإبطال الشرائع.
وأما ما شككوا به من تجويز وجود جزئي لم يستقرأ، وقدحهم في طريقتي السبر والدوران بالتجويز أيضاً، فقد قدمنا في أول المسألة أنه يمتنع ثبوت ما لا دليل عليه، وأن من ادعى ذلك وجب نفيه والقطع ببطلانه، فكيف بمن ادعى تجويزه فقط، وبينا أنه لا يجوز خفاؤه مع وجوده إلا فيما يعم به التكليف، ومما يلزم على قواعدهم هذه من المفاسد ألاّ نثق بخبر الله تعالى ولا خبر رسوله صلى الله عليه وآله وسلم ، وأن لا نصدق بنبوة نبي، وذلك لأنهم قسموا الأقيسة إلى يقينية، وغير يقينية، وجعلوا من غير اليقينية معرفة الحسن والقبح، وقالوا: لا طريق إليهما إلا الشهرة بحيث لو خلي الإنسان وعقله لما قضى بهما نحو الحكم بقبح الظلم والكذب والعبث، وحسن العدل، ووجوب رد الوديعة، وشكر المنعم، وجعلوا هذا وأمثاله من الظنيات، وحينئذٍ فلم يبق طريق إلى الشرائع، ولا إلى معرفة الثواب والعقاب؛ لأنه إذا لم يكن الكذب قبيحاً فغير ممتنع خلق المعجز على يد الكاذب، وغير ممتنع أن يوعد الله المطيعين ثم يعذبهم بلا ذنب، وأن يتوعد العصاة ثم يثيبهم لعدم قبح ذلك، وغير ممتنع أن يخبر النبي صلى الله عليه وآله وسلم بوجوب أمر، وهو في الواقع منهي عنه لعدم قبح الكذب وغير ذلك، ومن ذلك أنهم لما حصروا اليقينيات في القياس المركب على ما زعموا صارت السمعيات كلها ظنية، فلزم من ذلك عدم القطع بعقاب العصاة ولو كانوا كفاراً، وقد التزموا ذلك كما سيأتي في سياق قوله تعالى: {خَتَمَ اللَّهُ عَلَى قُلُوبِهِمْ وَعَلَى سَمْعِهِمْ...}[البقرة:7] الآية.
وذلك خلاف ما علم من ضرورة الدين إلى غير ذلك من اللوازم والدسائس كما سيأتي من بيان شبههم المبنية على هذه الأصول الفاسدة، والجواب عنها في مواضعها إن شاء الله تعالى.
وقد رد عليهم أصحابنا بما لا مزيد عليه، ومن جملة ما ردوا عليهم به أن الضروري إنما يكون ضرورياً بأن يكون مفعولاً فينا بغير اختيارنا، ولا بد من الإقرار بهذا، وإذا كان كذلك فإنا نجد أنفسنا مضطرة إلى العلم بقبح الظلم والكذب، وحسن إرشاد الضال، وإنقاذ الغريق، ووجوب رد الوديعة، وشكر المنعم، ونحو ذلك مما سموه مشهوراً، ونجد هذا العلم غير واقف على اختيارنا، ولا نجد فرقاً بينه وبين العلم بالأوليات والمشاهدات في كونه ضرورياً، وكذلك لا نجد فرقاً بين المتواترات التي سموها يقينية، وبين بعض مدلولات الكتاب العزيز والسنة النبوية في إفادتها القطع واليقين، والعجب منهم أنهم قد ذموا المغالطة وحذروا منها، ثم دخلوا فيها.
وأما ما يقوله علماء المجبرة من أنا إنما نحكم بالمشهورات لأحد الأسباب المتقدمة، فهو ظاهر السقوط بدليل أنا لو فرضنا العاقل متعرياً عنها، فإنه يعلم بكمال عقله قبح القبيح، وحسن الحسن، والمنكر لذلك مباهت، ومن تأمل ما أوردناه على صحة القول بالاستغناء عن المنطق، وأنه يؤدي إلى مفاسد عظيمة في الإسلام.
قال السيد العلامة محمد بن إبراهيم الوزير رحمه الله: (وقد اشتملت خطب أمير المؤمنين عليه السلام ومواعظه، وسائر الأئمة على أدلة التوحيد من غير ترتيب أدلة المنطقيين، ولا تقاسيم أساليب المتكلمين، ودرج السلف على ذلك).
المسألة السادسة: في التحسين والتقبيح العقليين
ووجه ذكر هذه المسألة في هذا الموضع أنه يترتب عليها كثير من مسائل الكتاب، كمعرفة عدل الله الذي هو تنزيهه عن الظلم والجور، وتكليف ما لا يطاق، وأنه لا يخلف وعده ولا وعيده، وكمعرفة حكم الأشياء التي لم يرد بيانها في الشرع من حسن وقبح، وتحريم وتحليل وغير ذلك، ولذا قال السيد مانكديم: (هذه مسألة كبيرة اختلف الناس فيها).
قال الإمام المهدي عليه السلام : إنما وصفها بذلك؛ لأنها قاعدة الخلاف بيننا وبين المجبرة في جميع مسائل العدل، فلو وافقونا في هذه المسألة وافقونا في سائر مسائل العدل، ولو وافقناهم هنا لم نخالفهم في سائر مسائله فلأجل ذلك حسن منا تقديم الكلام عليهما، وبيان كيفية استقلال العقل بمعرفتهما ليكون مغنياً عن تكرار الاحتجاج على ثبوتهما عند عروض ما يترتب عليهما، وإذا أردنا تحقيق الكلام في المسألة واستيفاءه على وجه يحصل به اليقين، ويزول معه الشك والتخمين، فلنجعل الكلام فيها في أربعة مواضع:
الأول: في تحقيق بيان حد الحسن والقبيح، والمدح والذم، لأنهما من لوازمهما فلا ينبغي ترك بيانهما.
الثاني: في بيان موضع الخلاف.
الثالث: في حجج العدلية ورد ما يرد عليها، والكلام في شيءٍ مما اختلفوا فيه فيما بينهم.
والرابع: في شبه المخالفين وبيان بطلانها.
الموضع الأول: في حدود هذه الأمور المذكورة
أما الحسن فهو ما كان لفاعله فيه غرض وتعرى عن وجوه القبح ذكر هذا الحد الإمام المهدي عليه السلام قال: (وإن شئت قلت هو ما ليس بقبيح، ولفاعله فيه غرض صحيح).
قال: فخرج بذلك فعل الساهي، والنائم، والصبي، والمجنون، وما لم يقصده الفاعل كانخفاض الرمل وارتفاعه بالمشي، فإن ذلك كله لا يوصف بحسن ولا قبح، ولا يلحقه مدح ولا ذم.
وقال الإمام القاسم بن محمد عليه السلام في الأساس: هو ما لا عقاب عليه أي ما لا يستحق فاعله عليه عقاباً، فيدخل في ذلك الواجب والمندوب والمباح سواءً كانت عقلية أو شرعية، وأما القبيح فقد ذكروا له حدين: أحدهما: حقيقي، والآخر رسمي.
أما الأول: فهو ما ليس للقادر عليه المتمكن منه الإقدام عليه على بعض الوجوه.
قال الإمام عز الدين عليه السلام : (وهذه الأوصاف تجري مجرى الذاتية إذ لا تعقل ما هية القبيح مع كون المتمكن منه الإقدام عليه، وليست ذاتية لأنها أوصاف للقادر عليه لا له).
قال عليه السلام : (والظاهر أيضاً أنها حقيقية رسمية، فإن قيل: الإخلال بالواجب قبيح عقلاً وهو خارج عن الحد فانتقض طرده، قيل: إنما نشأ هذا الاعتراض من توهم أن ما في قوله ما ليس للقادر عليه... إلخ عبارة عن الفعل، ونحن نقول: ما المانع من أن يكون عبارة عما هو أهم من ذلك، ويكون المعنى القبيح أمراً ليس للقادر عليه)... إلخ.
ولفظ أمر يطلق على الفعل والترك، سلمنا فقد قيل: إن الترك فعل بدليل قول الشاعر:
لئن قعدنا والنبي يعمل .... فذاك منا العمل المضلل
سلمنا، فقد أجاب الإمام المهدي عليه السلام بأن القبيح في اللغة إنما هو من صفات الأفعال يقال: فعل قبيح ولا يقال نفي قبيح، وقد يوصف الإخلال بالواجب بالقبح تجوزاً تشبيهاً للترك بالفعل، لا يقال: فيلزم أن لا يستحق المخل بالواجب عقاباً، لأنا نقول: لا نسلم أنه لا عقاب إلا على قبيح، بل لا عقاب إلا على معصية، والإخلال بالواجب معصية قطعاً.
قال عليه السلام : وإنما قلنا إن القبح مختص بالأفعال؛ لأنه مسبب عن وجه يقع عليه كما سيأتي، والنفي لا يعقل فيه اختلاف وجوه وقوعه؛ إذ وقوعه غير متجدد إذ الأصل النفي.
وأما الرسمي فقال القرشي: هو ما إذا فعله القادر عليه استحق الذم على بعض الوجوه إلا في حالة عارضة، وقوله على بعض الوجوه يشمل القبائح الواقعة من الساهي، والنائم، والصغائر، والواقعة من الصبيان، ومن لا يعقل، والواقعة من الملجأ والمكره؛ إذ كل هذه قبائح لا تستحق الذم عليها إلا على بعض الوجوه، على خلاف في قبح بعضها كما سيأتي، وقوله: (إلا في حالة عارضة) احتراز من تناول الخمر والميتة عند الضرورة، فإنه واجب، ومع ذلك فهو يستحق الذم عليه على بعض الوجوه، وقد اعترضه الإمام عز الدين عليه السلام فقال على قوله إلا في حالة عارضة: (اعلم أن ظاهر هذا القيد لا يفيد ما أراد به من الاحتراز، بل يفيد نقيضه؛ لأن تناول الميتة يستحق الذم عليه على بعض الوجوه، ولا يستحق الذم عليه إلا في حالة عارضة، وكما أنه يدخل تناول المضطر للميتة بقولنا على بعض الوجوه، فإنه يدخل بقولنا إلا في حالة عارضة، ولعل الوجه في تمشيته أن لا يجعل استثناء من قوله هو ما إذا فعله القادر عليه استحق الذم، بل يجعل استثناءً من المحدود كأنه قال في جمع هذه القيود فهو قبيح إلا في حالة عارضة فليس بقبيح، قال عليه السلام : وعلى كل حال ففيه ركة).
قلت: أحسن الحدود ما ذكره الإمام القاسم بن محمد عليه السلام في الأساس وهو أنه جعله ضد الحسن فهو ما يعاقب فاعله.
قال بعض شراحه: وقد يزاد فيه على بعض الوجوه ليحترز به عن صغائر القبائح إذا كانت من غير مرتكب الكبيرة والمصر عليها، فإنها قبيحة، ولا يعاقب عليها؛ لأنها مكفرة لقوله تعالى: {إِنْ تَجْتَنِبُوا كَبَائِرَ مَا تُنْهَوْنَ عَنْهُ نُكَفِّرْ عَنْكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ}[النساء:31] وإن كانت من المصر فإنه يعاقب عليها؛ إذ لا صغيرة مع إصرار لقوله تعالى: {وَوُضِعَ الْكِتَابُ فَتَرَى الْمُجْرِمِينَ مُشْفِقِينَ مِمَّا فِيهِ ...}[الكهف:49] الآية.
وليحترز به عن الملجأ إلى فعل القبيح، وعن القبائح الواقعة ممن لا تكليف عليه فإن ذلك كله قبيح ولا عقاب عليه.
قلت: وأما المجبرة فلعلهم يحدون الحسن بأنه ما أمر به الشارع، أو ملائم الطبع وكان صفة كمال، والقبيح ما نهى عنه، أو ما نفر عنه الطبع، أو كان صفة نقص.
وأما المدح والذم فقال أصحابنا: المدح قول ينبي عن ارتفاع قدر من وجه إليه مع القصد، والذم: قول ينبي عن اتضاعه كذلك، واحترزوا بالقصد عن الحكاية كقوله تعالى: {وَقَالَتِ الْيَهُودُ يَدُ اللَّهِ مَغْلُولَةٌ }[المائدة:64].
وعن التعريف كقوله تعالى: {وَعَصَى آدَمُ رَبَّهُ فَغَوَى }[طه:21]، فلم يقصد بذلك الذم.
وقال الرازي: بل المدح هو الإخبار بكون من وجه إليه مستحقاً؛ لأن يفعل به ما يفرح به، والذم الإخبار بأنه يستحق أن يفعل به ما يحزن به، ورد أنه يلزمه أن يكون قولك للفقير أنت تستحق أن أطعمك رغيفاً مدحاً، ولا قائل به، ولا يقتضيه عقل ولا لغة، ويخرج منه قول القائل: فلان ظالم فاسق؛ إذ ليس بإخبار باستحقاق مع كونه ذماً عند جميع العقلاء وأهل اللغة، ثم يستلزم أن يخرج مدح الباري تعالى، وذلك خلاف ما أجمعت عليه هذه الأمة ومن سبقها من الأمم.
الموضع الثاني: في بيان محل الخلاف
اعلم أنه لا نزاع في أن العقل يستقل بمعرفة الله تعالى ووحدانيته.
قال ابن المنير الإسكندري: اللائق بقواعد السنة أن يقال: أما معرفة الله تعالى ومعرفة وحدانيته، واستحالة كون الأصنام آلهة فمستفادة من أدلة العقول، وقد ترد الأدلة العقلية في مضامين السمعيات، وأما وجوب عبادة الله وتحريم عبادة الأصنام فحكم شرعي لا يستفاد إلا من السمع. ذكره في حاشيته على الكشاف، ولا خلاف أيضاً أن العقل يستقل بمعرفة الحسن والقبيح بمعنى ملائمة الطبع ومنافرته، أو كونه صفة كمال أو صفة نقص، وهذان القسمان، قال الرازي: لا شك في معرفتهما بالعقل.
قلت: أما المعنيان الأولان وهو ما كان بمعنى الملائمة للطبع والمنافرة فليسا عقليين عند التحقيق؛ إذ يدركهما من لا عقل له، وبهذا يسقط قول الإمام المهدي أنه يلزمهم قبح بعض المحسنات كالفصد والحجامة لتألم النفس بهما، وهم قد فسروا منافرة الطبع بتألم النفس، ويلزمهم حسن ما يلتذ به من المقبحات كالكذب والظلم، لأنهم قد فسروا الملائمة بالالتذاد النفسي، وبيان سقوطه أنهم يلتزمون ذلك التفسير لأن قولهم مثلاً بقبح الفصد من حيث أن النفس تنفر منه لتألمها به لا من حيث النفع المقتضي لحسنه، فالنفرة من هذه الحيثية أعني من حيث التألم لازمة له ولا يختص بها العقلاء، وكذلك القول في حسن الكذب بالمعنى المذكور، فإن حسنه من حيث أنه التذّ به لا من حيث كونه كذباً، فتأمل.
وأما المعنيان الأخيران أعني التحسين والتقبيح بمعنى الكمال والنقص كما يقال: العلم حسن أي كما لمن اتصف به، والجهل قبيح أي نقصان لمن اتصف به، ولا نزاع في أن هذا المعنى ثابت للصفات يدركه العقل.
وإذا عرفت موضع الاتفاق، فاعلم أن في تحرير محل النزاع اختلافاً، وسببه عدم التأمل عند النقل للأقوال، وعدم البحث في كتب المنقول عنهم، فإنك تجد أصحابنا ربما يتداولون عبارات قد نقلها من لا معرفة له بمقاصد الخصوم على ما فهم عنهم، أو رآها لِوَاحدٍ منهم فنسبها إلى جماعتهم، فتبعه من بعده من دون نظر إلى كتب الخصوم، وربما أوجب هذا التساهل، وكذلك الأشعرية تراهم ينسبون إلى المعتزلة ما لا يقولون به، أوما لا يقل به إلا بعضهم، كما ينسبون إليهم كثيراً القول بوجوب الأصلح ولم يقل به إلا بعضهم كما سيأتي، ونحن نأتي في هذا الموضع بمحل النزاع، وننبه على ما قيل فيه من الأوهام فنقول:
قال الإمام القاسم بن محمد عليه السلام في الأساس: قال أئمتنا" وصفوة الشيعة، والمعتزلة، والحنفية، والحنابلة، وبعض الأشعرية.
قال الشارح: -ولعلهم الغزالي، والرازي، والجويني-: إن العقل يستقل بمعرفة الحسن والقبيح باعتبار كون الشيء متعلقاً للمدح والثواب والذم والعقاب في العاجل فقط، إلا أن العدلية يقولون إن إدراك العقل لهما بهذا الاعتبار بفطرته التي فطره الله عليها ويعلم ذلك بضرورته، ومن عداهم يقولون إنما أدرك ذلك للشهرة بحيث لو خلي العقل وشأنه لما قضى بشيء من ذلك، فالقبح والحسن عندهم بأحد أسباب الشهرة المتقدمة.
قال الإمام القاسم عليه السلام : (ويستقل العقل بمعرفة الحسن والقبح باعتبار كون الشيء متعلقاً للمدح عاجلاً والثواب آجلاً، والذم عاجلاً والعقاب آجلاً، وحكي هذا القول عن أئمتنا" وصفوة الشيعة والمعتزلة وغيرهم)، وأراد بالغير محققي الإمامية. ذكره ابن لقمان في شرحه.
قال عليه السلام : (وقال جمهور الأشعرية: لا مجال للعقل في هذين الاعتبارين، وحكى اتفاقهم جميعاً على منع إدراكه للحسن والقبح باعتبار كونه متعلقاً للثواب والعقاب أجلاً، ووافقهم على هذا الحنفية والحنابلة).
قلت: وفي معنى ما ذكره عليه السلام ما ذكره ولده علامة المتأخرين الحسين بن القاسم" في شرح الغاية فإنه ذكر في تحرير محل النزاع أن الحسن والقبح يقالان لِمعَانٍ ثلاثة ثم قال: الثالث: تعلق المدح والثواب بالفعل عاجلاً وآجلاً، والذم والعقاب كذلك، ثم قال: هذا في أفعال العباد، وإن أريد ما يشمل أفعال الله تعالى اقتصر على المدح والذم.
قال عليه السلام : (وهذا هو محل النزاع فعند الأشاعرة هو شرعي؛ لأن الأفعال كلها عندهم ليس شيء منها يقتضي في نفسه مدح فاعله وثوابه، ولا ذمه وعقابه، وإنما صارت كذلك بسبب أمر الشارع ونهيه، وعند العدلية عقلي لأن للفعل في نفسه جهة محسنة من غير نظر إلى الشرع مقتضية لاستحقاق فاعله مدحاً وثواباً، أو مُقَبِحةٌ مقتضية لاستحقاقه ذماً وعقاباً، إلا إن تلك الجهة قد يدركها العقل بالضرورة، وقد يدركها بالنظر، وقد لا يدركها بأيهما، لكن إذا ورد به الشرع علم أن ثم جهة محسنة كما في صوم آخر يوم من رمضان، أو مقبحة كما في صوم أول يوم من شوال، فإدراك الحسن والقبح في هذا القسم موقوف على كشف الشرع عنهما بأمره ونهيه، وأما كشفه عنهما في القسمين الأولين فهو مؤيد لحكم العقل بهما إما بضرورته، أو بنظره.
هذا تحقيق محل النزاع على ما ذكره الإمام القاسم وولده عليهما السَّلام .
[الجواب على المقبلي وابن الأمير]
وقد اعترض العلامة المقبلي، والسيد محمد بن إسماعيل الأمير على تقييد الحسن والقبح بالثواب والعقاب، وعلى تقييد المدح والذم والثواب والعقاب بالعاجل والآجل، وقالا: (ليس محل النزاع إلا أن العقل يقضي بمدح فاعل الحسن، وذم فاعل القبيح من دون تعرض لثواب ولا عقاب، ولا لعاجل ولا لآجل، وإنما ذلك من التخليط في النقل عن المعتزلة).
قال: وهذه كتب المعتزلة موجودة ليس فيها ذكر شيء من ذلك.
قال المقبلي: (وأما ما نحن فيه فلا يقولون بلزوم الثواب والعقاب فيه إذ هما من لوازم التكليف لا من لوازم التحسين والتقبيح).
وقال ابن الأمير: (الذي رأينا في كتب المعتزلة في تقرير محل النزاع أن العقل يقضي بذم فاعل القبيح ومدح فاعل الحسن، ولم يذكروا ثواباً ولا عقاباً، ولا عاجلاً ولا آجلاً، ولم يذكروا غير هذا المعنى للقبح أصلاً، ثم حكى عن القرشي وقاضي القضاة، والسيد مانكديم من الحدود للحسن والقبح ما يصحح دعواه من عدم ذكر الآجل والعاجل، والثواب والعقاب.
قال: وإنما وقع التخليط بسبب نقل مذاهب المعتزلة من كتب الأشعرية مع الجهل بأصول المعتزلة، ثم أخذ في التشنيع على من نسب التقييد بالآجل والعاجل والثواب والعقاب إلى المعتزلة، وضمه إلى محل النزاع، وقال: إن معرفة الآجل شرعي محض قطعاً، واستدل على ذلك بأن العرب عقلاء وكانوا منكرين للبعث بدليل قوله تعالى: {مَا هِيَ إِلاَّ حَيَاتُنَا الدُّنْيَا نَمُوتُ وَنَحْيَا}[الجاثية:24] ونحوها.
قال: فالعجب كله كيف يروج لفاهم أن يدعي أنه يعرف بالعقل الثواب والعقاب قبل ورود الشرع، ويجعله محل النزاع، ويلطخ به المعتزلة افتراءً... إلى آخر ما ذكره من التشنيع.
وللمقبلي نحوه من التشنيع ونسبة الناقلين إلى التخليط والنقل من كتب الخصوم.
والجواب: أن التخليط وعدم التثبت إنما وقع من السيد محمد بن إسماعيل والمقبلي لعدم تحقيقهما لعلوم العترة الزكية وسائر العدلية، وأما ما ذكره الإمام القاسم وولده -عليهما السلام- فهو الجاري على قواعد العدل، وذلك أن الثواب والعقاب يلازمان المدح والذم، ويستحقان بما يستحقان به من فعل الحسن وارتكاب القبيح، ولذا قالوا في دليل دوام الثواب والعقاب أنهما نظيران للمدح والذم وهما يستحقان دائماً، فكذلك الثواب والعقاب لاتحاد جهة الاستحقاق في الكل.
ولا أظن إلا أن السيد محمداً والمقبلي يريدان التمويه بهذه الدسيسة ليتوصلا بذلك إلى منع كون الثواب والعقاب يستحقان عقلاً، لكنها دسيسة مكشوفة فإن كتب الزيدية والمعتزلة تزيل التمويه، وتدفع التشكيك بلا كلفة، بل ذلك أشهر من نار على علم.
هذا القرشي في (منهاجه) والسيد مانكديم في (شرحه) اللذين حكى عنهما السيد محمد ما تقدم مصرحان في كتبهما عنهما وعن علماء العدل باستحقاق الثواب والعقاب عقلاً، وأنهما يستحقان بما يستحق به المدح والذم، ولهذا أثبت أهل العدل دوام الثواب والعقاب.
وأما قاضي القضاة فمذهبه أن العقاب لا يثبت إلا عقلاً، وسيأتي تحقيق هذا كله في مواضعه، وبهذا يتبين لك أن ابن الأمير والمقبلي لم يشنعا إلا على أنفسهما، ولم يرجع لومهما إلا عليهما.
وللمقبلي في أول (العلم الشامخ) ما يخالف كلامه في مسألة التحسين والتقبيح في تقرير مذهب المعتزلة فيهما، وعند التحقيق فإن السيد محمداً والمقبلي لم يوافقا العدلية في هذه المسألة، وإنما وافقا ابن تيمية وطائفته؛ لأنه ممن يقول بهذا الاعتبار، حتى أن السيد محمد بن إسماعيل قال: إن الحسين بن القاسم وهم في اقتصاره على العدلية، ثم قال: إنه قول جمهور الحنفية وكثير من أصحاب مالك، والشافعي، وأحمد، وحكاه أبو الخطاب عن أكثر أهل العلم، وهو قول أبي علي بن أبي هريرة والقفال وغيرهما من أصحاب الشافعي، وطوائف من أئمة الحديث، وعدوا القول الأول من أقوال أهل البدع.
قلت: يعني بالقول الأول القول بأن العقل لا يدرك الحسن والقبح بمعنى المدح والذم، فأما بمعنى الثواب والعقاب فالسيد محمد قد أخرجه من محل النزاع كما تقدم، وحينئذٍ اتضح الحق وصح النقل، وظهر لك أن الرجلين إنما يحاولان إبطال إدراك العقل لاستحقاق الثواب والعقاب، ولو حاولا ذلك ونسباه إلى أنفسهما لكان أجمل بهما.
وأما نسبة ذلك إلى المعتزلة والتمويه بإطلاقات بعضهم في حد الحسن والقبح مع تقييده بقواعد لا يمكن دفعها، فهو ينادي عليهما بالغباوة، أو عدم معرفة أصول العدلية، أو التمويه، وإذا عرفت هذا فاعلم أن الحدود التي حكاها ابن الأمير عن القرشي وغيره، وأنهم اقتصروا على المدح والذم لا يفيدهما فيما راما إثباته لأن في تلك الحدود اكتفاءً، وبناءً على الاختصار؛ لأن المدح والذم يغنيان عن ذكر الثواب والعقاب للتلازم بينهما كما مر من اتحاد جهة الاستحقاق مع ملاحظة شمول الحد لأفعال الباري تعالى، فتأمل.
وبهذا يسقط قول ابن الأمير أن قول الأشعرية بإدراك العقل للحسن والقبح باعتبار كونه صفة كمال أو صفة نقص موافق للمعتزلة في المعنى المختلف فيه، وهو إدراكه لهما بمعنى المدح والذم، ومثله قول المقبلي أن اعتراف الأشاعرة والاتفاق منهم، ومن سائر الناس أن التحسين والتقبيح بمعنى الكمال والنقص ثابت في نفس الأمر يكاد يلحق الخلاف بالوفاق، وعللا ذلك بأن معنى إدراك العقل لهما استحسانه الرفع من شأن من اتصف بالكمال كالعلم، والوضع من شأن من اتصف بالنقص كالجهل، وهذا هو المدح والذم الذي أرادته المعتزلة.
ووجه سقوطه أنهما بنياه على جعل محل النزاع هو إدراك العقل مدح المحسن وذم المسئ فقط، وقد عرفناك بطلانه، وأن ذلك ليس إلا أحد قسمي محل النزاع، على أن المقبلي بعد أن ذكر ما تقدم رجع إلى التوقف فإنه قال بعد كلام حكاه: وفيه عندي وقفة فإنهم إنما يثبتون الوصفين فيما هو من قبيل الغرائز كالعلم، والجهل، والصدق، والكذب أي كون شأنه الصدق، وشأنه الكذب، وأما في مثل صدق وكذب، وحصل الصدق والكذب، وحصل العلم والجهل المركب مثلاً فيحتاج إلى كونهم يقولون بذلك إلى نقل صحيح عنهم، والمتتبع من كلامهم خلافه، فيسلمون من المناقضة، ويقرون على الخلاف، وإنما التبس على الناظر ما كان بمعنى الثبوت، وما كان بمعنى الحدوث فصادق بمعنى ذي صدق كمال عندهم لا بمعنى حصّل الصدق وأوجده، وكيف وقد أنكروا هذا المعنى الأخير في مطلق الفعل وقالوا: معنى أكِلْ أنه ذو أكل لا أنه أَكَلَ. ذكره في العلم الشامخ.
هذا وقد بقي من محل النزاع الأشياء التي يصح الانتفاع بها، ولا ضرر على أحد فيها متى لم يرد بحكمها الشرع كالتنفس في الأهوية، والمشي في البراري ونحو ذلك، فقال أئمتنا" والمعتزلة وغيرهم: هي مما يحكم العقل بحسنه؛ إذ الحسن ما لا يستحق عليه عقاباً ولا ذماً وهي كذلك، وقالت بعض البغدادية وغيرهم: بل هي مما يحكم بقبحه وهو بناءً على أن الأصل في الأشياء الحظر، وقالت الأشاعرة: لا يحكم العقل فيها بأيهما بناءً على أصلهم، وبهذا تم الكلام على الموضع الثاني والحمد لله.
الموضع الثالث: في ذكر حجج العدلية وما يرد عليها ورده وذكر شيء مما اختلفوا فيه
ولهم على ذلك حجج قاطعة، وبراهين ساطعة:
أحدها: تصويب العقلاء من المسلمين والكفار مَنْ مَدَحَ المحسن أو أحسن إليه، أو ذم المسئ أو عاقبه بلا فرق بين المتراخي وغيره، وليس هذا التصويب إلا لمعرفتهم حسن المدح والثواب للمحسن، والذم والعقاب للمسيء، وحسن الفعل المسبب لذلك أو قبحه، وأنه متعلقه بلا فرق بين تعجيل مدحه والإحسان إليه، أو ذمه وعقابه وتأخيرها، ولو كان بينهما فرق لأنكروا على فاعلها بعد مضي مدة طويلة أو قصيرة، فإن قيل: لا نسلم أن ذلك لما ذكرتم، بل نقول إنما ذلك لتأديب الشرع، لكن لما استمر الناس عليها التبست بالقضايا العقلية.
قيل: لو كان ذلك كذلك لما اشترك فيه جميع العقلاء من الموحدين والملحدين واليهود والنصارى والمجوس وغيرهم.
قال الإمام أحمد بن سليمان عليه السلام : (وكل مكلف من موحد أو ملحد يستحسن فعل الحسن، ويحب أن يذكر به، ويستقبح القبيح ويكره أن يذكر به، ألا ترى أن الملحد لو رأى صبياً يريد أن يتردى في بئر أو في نار أو يمد يده ليلزم حيّةً أنه يمنعه من ذلك ويستحسن منعه، ويستقبح تركه وإن لم يكن له برحم).
وقال السيد مانكديم: (فإن قيل: ما أنكرتم أنه إنما يفعله رجاءً للثواب، أو طلباً للمدح، أو هرباً من الذم، قيل له: إنا نفرض الكلام في رجل قاسي القلب جاشي الفؤاد لا يبالي بهلاك الثقلين، ولا يحتفل بالذم والمدح، ملحد زنديق لا يؤمن بالله واليوم الآخر، ولا يقر بالثواب والعقاب، ومعلوم أنه والحال هذه يستحسن بكمال عقله إرشاد الضال، وأن يقول للأعمى والحال ما ذكرناه يمنة أو يسرة، ولا وجه لذلك إلا حسنه، ولكونه إحساناً).
قلت: وكلامه عليه السلام يقتضي أن معرفة الحسن والقبح ضرورية، فإن قيل: نحن لا ننكر قبح القبيح وحسن الحسن، ولكنا نقول إنها أمور مشهورة، وآراء محمودة عند العقل تنغرس في مبدأ الصبا وأوائل النشوء، وربما تنشأ عن التسالم وطيب المعاشرة، أو غيرها من الأسباب المتقدمة، وليست أموراً بديهية يقتضيها العقل كما يقتضي الأمور البديهية.
[الأدلة على أن معرفة الحسن والقبح ضرورية]
قيل: قد مر شيء من الجواب على ذلك، ونزيده هنا توضيحاً وتأييداً فنقول: قد أبطل الإمام يحيى عليه السلام في (التمهيد) كلامهم من وجهين:
أحدهما: أنه إن كان الغرض بقولهم إن هذه القضايا مشهورة على معنى أن العقول قاضية بحسنها وقبحها فهو المطلوب، وإن كان الغرض بقولهم إن هذه القضايا مشهورة أنها اشتهرت بين العقلاء وألفتها طباعهم، وانغرست في قلوبهم محبتها، والميل إليها من غير علم بحسنها وقبحها، فهذا هو المنكر والشناعة، فإنا على علم ويقين من حال العقلاء في رسوخ هذه القضايا في عقولهم، وتحققها في أفهامهم لا لبس عليهم فيها كسائر الأمور الضرورية من الهداية وغيرها، مع أنا لا ننكر أن العلوم متفاوتة في الظهور والخفاء، ولكنها مستوية في التحقق والثبوت.
وثانيهما: إن كلامنا معهم ليس إلا في بيان أن هذه القضايا مقررة في الأذهان، متحققة في العقول، فإذا ساعدونا على هذا التحقيق فقولهم بعد ذلك أنها قضايا مشهورة، وآراء محمودة، وأنها تنغرس في الصبا وأوائل النشوء لا يضرنا بعد تسليم كونها عقلية.
قال عليه السلام : وعلى الجملة فنحن نقول: إن هذه القضايا مقررة في العقول وهم يزعمون أنها مشهورة، ونحن نقول إن النفرة عن هذه المقبحات نفرة عقلية وهم يقولون إن هذه النفرة طبيعية، مع الاتفاق منا ومنهم على أن موردها العقل ومستندها الضرورة كما ذكره المحققون من متأخريهم، وأنت إذا تحققت هذا منا ومنهم عرفت أن الخلاف بيننا وبينهم في هذه القضايا يقرب أن يكون لفظياً.
وقال الأمير الحسين عليه السلام : (إن العقلاء يعلمون بعقولهم التفرقة بين من قطع يده لا لغرض، وبين من قطعها من خوف أن تسري إليها الجراحة فيؤدي إلى هلاكه، ويفرقون بين الفعلين فرقاً ظاهراً حاصلاً بفطرة العقل، ويعلمون أنه ممدوح على قطع يده لغرض، وغير ممدوح بل مذموم على قطعها لغير غرض مع اشتراك الفعلين في نفور النفس والإلف والعادة، وليس ذلك إلا لعلمهم بالقبح في أحدهما دون الآخر، وهذا أمر لا يمكن دفعه، ولا يرده إلا مكابر).
وقال السيد أحمد بن محمد الشرفي رحمه الله: (وأما من زعم أن هذه القضايا يستند العلم بها إلى الشهرة والإلف والعادة، فنقول: إن أردتم أنها مستفيضة فيما بين العقلاء، وأن أحداً لا ينكرها، فهذا معنى قولنا أنها ضرورية، وإن أردتم أنها ليست علوماً حقيقة وأنهم ليسوا على ثقة منها، فهو باطل؛ لأنا نقطع بقبح الظلم والعبث، والكذب، والسفه، والجهل، وبوجوب القضاء والرد، وشكر النعمة، وحسن التفضل، والإحسان، والجود كما نقطع بسائر العلوم البديهية، كالعلم بأن العشرة أكثر من الخمسة، ونعلم أن من خالفنا في هذه القضايا أنه يعرف بضرورة عقله الفرق بين من أحسن إليه وبين من أساء، وبين الظلم والجور، والإهانة والعدل، ومن أنكر ذلك فهو مكابر منكر للضرورة يلحق بالسوفسطائية).
وقال العلامة المقبلي بعد أن ذكر أن استحقاق المدح على العدل والإحسان، والذم على الظلم والعدوان ضروري، وأن المنازع مباهت ما لفظه: (أما من دفع هذه الضرورة وقال لا نفرق بين تعذيب زيد بأنواع العذاب والتلاعب به بأشنع ما يستهجنه أولوا الألباب، وبين إكرامه بأنواع النعم ومرافق الارتفاق، بل بين سب الله بعد معرفته بصفات الكمال وجلائل النعم، وبين حمده وشكره على ذلك الجود والكرم).
وقال: (إنما الفرق بين هذه الأشياء ونحوها بميل الطبع، ومرون الإنسان عليها للتعارف عليها، أو للتأديبات الشرعية أو غير ذلك).
فالجواب عن هذا أنا نفرق بين تلك الأمور التي ذكرتم، وبين كون الفعل يترتب عليه حسن المدح والذم، فأنتم قد سلمتم لنا هذا الفرق،وسميتم ما سميناه تحسيناً وتقبيحاً كمالاً ونقصاً.
وأما إنكاركم بعد هذا الإقرار وقضاؤكم بأن المدح والذم لا ينشئان عن فعل البتة، وإنما يمدح على الشيء ويذم لأن الشارع أمرنا بذلك، وما بين ذلك الفعل والمدح الذي رتبه عليه الشارع بالنظر إلى ذاتيهما إلا ما بين الضب والنون، ولم يكن أمره أيضاً المرجح، بل محض الاختيار، ولو عكس وأمر بالعكوف على سبه وكفران نعمته وعبادة الشيطان، وأوجب الكفر وحرم الإيمان، وقال أنا أحق باللعن والشيطان أحقَّا بالعبادة- تعالى الله عن ذلك علواً كبيراً- لكان ذلك عندكم كنقيضه لا فرق بينهما، فلعمري ما أنتم أحق بعد ذلك بالمناظرة، ولا ممن يرتجى منه الإنصاف، ولا جئتم بأقرب مما جاء به السوفسطائية، ولا أدليتم بأمتن مما أدلوا به وما نقول لمن أقر على نفسه بذلك ألا قد قلب فؤادك وبصرك كما لم تؤمن بالحق أول مرة، ولم تبال أين يقع قدمك في نظرك أول خطوة، ولو سرنا معه على نمط الجدل لقلنا له قد ادعينا نحن، وأكثر الفرق كما عرفت أنا أدركنا هذا المتنازع فيه بضرورة عقولنا، وفرقنا بينه وبين تلك الأمور التي لم يبلغ فهمك إلى غيرها، فنحن نصادقك على اعترافك على نفسك بالجهل بهذا الأمر الذي هو الهدى كل الهدى، فمن أين سنح لك الحكم علينا بعدم العلم بما ادعينا العلم به ضرورة حتى زعمت أننا ظننا أحد تلك الأمور التي ذكرت أمراً خارجاً عنها، وحكمك إنما هو جهل مركب، فإنك في الحقيقة قد شككت في صحة عقولنا لما ادعينا العلم بما جهلت:
وهبني قلت هذا الصبح ليل .... أيعمى المبصرون عن الضياء
ذكره في العلم الشامخ، وهو كلام نفيس، ولهذا استوفينا لفظه، وبما قررناه يحصل العلم بإدراك العقل التحسين والتقبيح، والحمد لله.
قالوا: لو سلمنا ما ذكرتم، فلا نسلم لكم إدراكه لوجوب شكر المنعم.
قال الرازي في المحصول: أحلف بالله وبالأيمان التي لا مخارج منها أني راجعت عقلي وذهني، وطرحت الهوى والتعصب فلم أجد عقلي قاطعاً بذلك في حق من لا يصح عليه النفع والضرر ولا ظاناً.
قلت: وظاهر كلامهم أنهم إنما ينازعون في وجوب شكر الباري تعالى، وقد استدل لهم في (الأساس) وشرحه بوجهين:
أحدهما: أنه لو وجب عقلاً لوجب لفائدة، وإلا كان عبثاً وهو قبيح عندكم، ولا يجوز أن يكون لفائدة؛ لأنها إما لله تعالى فهو غني عنها، وإما للعبد فهي غير حاصلة له، أما في الدنيا فلأن الشكر مشقة لا حظ للنفس فيه، وأما في الآخرة فلا نعرفها؛ إذ لا مجال للعقل.
قلت: وهذه الحجة أوردها الشرفي، وفي الاحتجاج لهم بها نظر؛ لأنها غير مطابقة لدعواهم لأنهم إنما يدعون عدم معرفتهم لوجوبه، وهذه تقتضي قبحه لانتفاء الفائدة على هذا التقرير، وهم لا ينفون الحسن عنه على معنى كونه صفة كمال، فإن قيل: إنهم لم يريدوا بذلك إلا إلزام العدلية أن القول بوجوبه يؤدي إلى قبحه.
قيل: ما لزم على القول بالوجوب لزم على القول بمطلق الحسن، اللهم إلا أن يقولوا إنه يحسن لغير فائدة.
إذا عرفت هذا فإنا لا نترك الجواب عن هذه الحجة على فرض صحة الاحتجاج بها، فنقول أولاً أنَّا قد عرفنا الوجوب فلا يضرنا جهلكم، وثانياً: أنا لا نسلم عدم الفائدة، ونقول هي للعبد وهي استحقاق المدح والسلامة من الذم والتحلي بصفة الكمال والسلامة من صفة النقص على أصلكم مع الثواب آجلاً، والسلامة من العقاب كذلك، ولا نسلم أن العقل لا يدرك استحقاقهما، وإنما بنيتم هذا على أصلكم الفاسد، والمعلوم عند كل عاقل أن الشكر من أسباب المزيد، والكفران من أسباب الحرمان، ولا شك أن فاعل الإحسان يجد عنده فرقاً جلياً بين من قابل إحسانه بالثناء ونحوه، وبين من قابله بالذم والإساءة إليه.
وفي عهد علي عليه السلام للأشتر: (ولا يكونن المحسن والمسيء عندك بمنزلة سواء، فإن في ذلك تزهيداً لأهل الإحسان في الإحسان، وتدريباً لأهل الإساءة على الإساءة، وألْزِمْ كلاً منهم ما ألزم نفسه). رواه في النهج، وكفى به دليلاً على الفائدة.
وكان يقال: قضاء حق المحسن أدب للمسيء، وعقوبة المسيء جزاء للمحسن، وقال الشاعر:
نبئت عمراً غير شاكر نعمتي .... والكفر مخبثة لنفس المنعم
وقال الصبابي: إذا لم يكن للمحسن ما يرفعه وللمسيء ما يضعه زهد المحسن في الإحسان، واستمر المسيء على الطغيان.
قالوا: لا يؤمن أن يعاقب على الشكر لأنه تصرف في ملك الغير بغير إذنه.
قلنا: بناءً على أصل فاسد وهو منع الحكم العقلي؛ إذ التجويز على إثباته منتف لأن الشاكر محسن، ومعاقبة المحسن قبيحة عقلاً.
وما استندتم إليه من التصرف في ملك الغير مبني على ذلك الأساس المنهار؛ إذ الإذن قد حصل بما ركب في العقول من حسن ما تعرى عن وجوه القبح.
الوجه الثاني: إنه لو وجب لكان كالاستهزاء؛ لأن ما أنعم الله به علينا من النعم حقير بالنظر إلى سعة ملكه، وإنما نسبتها إلى سعة ملكه كنسبة لقمة تصدق بها أحد ملوك الدنيا على محتاج إلى جملة ممالكه.
ومعلوم أن المتحدث بتلك اللقمة لا يعد شاكراً، بل مستهزئاً ساخراً، فكذلك شكر الباري تعالى على نعمه الواصلة إلينا، فثبت أن العقل يقضي بعدم وجوبه.
الجواب: أولاً: أنه يلزمكم قبحه وهو خلاف دعواكم كما تقدم، ولا أظنكم تخالفون في حسنه بالمعنى الذي أثبتموه.
وثانياً: أن قياسكم فاسد لوجود الفارق، فإن اللقمة حقيرة عند الملك والمحتاج والسامع، فلا جرم عد الشاكر عليها ساخراً، بخلاف نعم الله تعالى، فإنها جليلة عند الشاكر والسامع، فلا يعد الذاكر لها ساخراً، وإنما مثال نعمه تعالى مثال من أعطاه أحد ملوك الدنيا بدرة من الذهب، فإن تلك البدرة حقيرة بالنسبة إلى ما يملكه هذا الملك، وهي عظيمة بالنظر إلى المحتاج، والسامع يشكره عليها، فكذلك نعم الله تعالى.
على أنا لا نسلم حقارة نعمه تعالى لقوله تعالى: {وَكَانَ فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكَ عَظِيماً }[النساء:113] ونحوها، وقد ألزمهم الإمام القاسم بن محمد" الكفر بمقالتهم هذه لردهم لهذه الآية، وألزمهم أيضاً أن يجعلوا لله صفة نقص حيث أمر أن يسخر به في قوله: {وَأَمَّا بِنِعْمَةِ رَبِّكَ فَحَدِّثْ }[الضحى:11].
قلت: وفيه نظر لأنهم لا ينفون وجوبه مطلقاً، وإنما نفوا وجوبه العقلي، وقد عرفت أن هذه الحجة غير مطابقة لدعواهم، ولا أظن أنهم يحتجون بها، سيما الرازي، ولعل المتكلف لها بعض أتباعهم على غير بصيرة، وغره أن فيها إبطال دعوى الوجوب بلزوم القبح، ولم يتنبه للزوم القبح على أصلهم. والله الموفق.
واعلم أن القول بأن وجوب شكر المنعم مما يقضي به العقل قضية مبتوتة هو قول أمير المؤمنين عليه السلام .
قال عليه السلام : (لو لم يتوعد الله على معصيته لكان يجب ألاَّ يعصى شكراً لنعمته). رواه في النهج.
وناهيك به إماماً وهادياً، ودالاً على الصدق وداعياً، معدن كل حكمة، ومصباح كل ظلمة، ومفتاح كل مبهمة، ودفاع كل معضلة صلوات الله عليه.
الحجة الثانية: لو لم يكن القبح عقلياً لجاز كذب الصادق وتصديق الكاذب، فلا يوثق بخبر الله تعالى ولا يعلم صدق نبي لجواز الكذب على الله سبحانه، وخلق المعجز على يد الكاذب، وفي ذلك إبطال الشرائع، وبعثة الرسل؛ إذ لا يتميز صدقه تعالى عن كذبه، ولا النبي من المتنبئ، وهذه الحجة إلزامية.
فإن قيل: نحن نسلم امتناع ذلك، لكن لا لما ذكرتم، بل لأنه صفة نقص والنقص على الله محال.
قيل: لا شك أن كل نقص مذموم، وأن أصحاب الكمال محمودون لكمالهم، وأصحاب النقص مذمومون بنقصهم، فجوابكم هذا تسليم للمدعى وهو القبح العقلي، ولهذا قال (ابن تاج الشريعة): إن إنكار (الأشعري) الحسن والقبح بمعنى أنهما صفتان لأجلهما يحمد أو يذم الموصوف بهما في غاية التناقض، يعني مع تسليمه الحسن والقبح بمعنى الكمال والنقصان.
وقال في (المواقف) وشرحه: إنه لم يظهر له فرق بين النقص في الفعل والقبح العقلي فيه، فكيف يصح التمسك في دفع الكذب عن الكلام اللفظي بلزوم النقص في أفعاله تعالى، هذا معنى كلامه.
فإن قيل: نحن نقطع بامتناع ظهور المعجز على يد الكاذب لكن لا للقبح العقلي، ولا لكونه صفة نقص، بل للعادة والتجربة.
قيل: إن أردت أن التجربة أفادتك أن المعجزة لا تظهر إلا على صادق، وأن الله تعالى لا يخبر إلا بالصدق، فهذا لا يفيدك لأن السؤال وارد على نبوة كل نبي، وعلى كل خبر من جهته تعالى، فما دلك على صدق الجزئيات حتى حصل لك العلم بالأمر الكلي الصادر عن التجربة.
وإن أردت أن الله أجرى عادته بخلق العلم بصدق المعجزة عند ظهورها وليس العلم حاصلاً عنها، فهو يؤدي إلى عدم دلالة المعجزة على النبوة، مع أن الذي نعلمه من أنفسنا أن هذا العلم الضروري لم يحصل لنا، وإنما عرفنا أن المعجز من فعل الله، وعرفنا وجه الإعجاز فصدقنا به؛ لأن من صدقه الله فهو صادق لا لغير ذلك، ثم إنا نقول: متى يخلق الله هذا العلم أبعد معرفة وجه دلالة المعجزة، فهو لا يتم حتى نعرف أن من صدقه الله فهو صادق، أم يقول إن الله تعالى يخلقه عند رؤية المعجزة أو سماعها، فهذا كذب ضرورة؛ إذ قد رآها الكفار وسمعوا بها فلم ينقادوا لها، ولم يخبر من أسلم منهم بأنه حصل له العلم عند أول ما رأى أو سمع بها من دون نظر.
فإن قيل: خلق الله لهذا العلم ممكن فلا وجه للقطع بعدمه.
قيل: نحن نقطع بعدم كثير من الممكنات كقطعنا بأنه ليس بحضرتنا فيل أو نحوه، وقد تقدم أنه يجب القطع بنفي ما لا دليل عليه، ولو جوزنا حصول هذا العلم أو نحوه مما لا دليل عليه لصح ما يدعيه السوفسطائية من عدم العلم ونحوه، على أن الباقلاني قد أبطل دعوى العادة بأنه يجوز خرق العادة فيجوز إخلاء المعجز عن الصدق، وحينئذٍ يجوز إظهاره على يد الكاذب.
فإن قيل: لو سلم ما ذكرتم من منع ظهور المعجز على يد الكاذب، وسلم أن العادة لا توجب امتناعه، فلا نسلم أن امتناعه للقبح العقلي بحيث أنه لو انتفى القبح العقلي انتفى الامتناع لجواز أن يمتنع لدليل آخر، إذ لا يلزم من انتفاء دليل معين وهو القبح العقلي مثلاً انتفاء العلم بالمدلول، وهو امتناع الثقة بخبر الله تعالى، والعلم بصدق النبي.
قيل: أما نحن فقد كفانا هذا الدليل، وأما أنتم فأنتم باقون على تجويز الكذب وعدم الوثوق بالشريعة، ولا ينفعكم إلا وجود الدليل لا جوازه، وإنما هذه مغالطة وتلبيس لا يليق مثلها من المتصدين لتمهيد قواعد الشريعة، وكأنَّ المقصود الجدل، وما يدفع عنكم إفحام الخصم وهذه كتبكم لا يوجد فيها إلا تداول هذه العبارات، والأعذار الباردة التي لا اعتماد عليها، ولو كان هذا الدليل موجوداً لكان قد اطلع عليه ولو فرد واحد منكم فالله المستعان، فرحم الله من جعل نظره في العلوم نظراً مطابقاً لمراد الله، قاصداً به خلاص نفسه من ظلمات الجهل وأسر التقليد.
فإن قالوا: الدليل هو العادة فقد عرفناك بطلانه، وإن قالوا: بل هو كونه صادقاً لذاته لأنه متكلم لذاته، فهو مبني على كون كلامه تعالى قديم وهو واضح البطلان، وسيأتي الكلام عليه في موضعه إن شاء الله تعالى، مع أنه يلزمهم أن يكون الله تعالى كاذباً لذاته إذ لا فرق عندهم بين الصدق والكذب بالنظر إليه تعالى، وحينئذٍ يبقى التجويز على أصله، ولا يدفعه إلا إثبات القبح العقلي، وهو المطلوب والحمد لله.
الحجة الثالثة: لو لم يكن الحسن والقبح عقليين بل شرعيين فقط لجاز التعاكس وهو حسن النهي عن الحسن، والأمر بالقبيح، وقبح الأمر بالحسن، والنهي عن القبيح، فيحسن النهي عن التوحيد والعدل والإنصاف، وتكون هذه الأفعال قبيحة، وبطلان ذلك معلوم ضرورة، ويلزم أيضاً خروج الفعل عن الحسن والقبح حيث لم يقع أمر ولا نهي، وفيه خروج من النفي والإثبات.
فإن قيل: لا محذور في خروجه عن أيهما فيكون مباحاً.
قيل: قد تقدم أن الحسن ما للقادر عليه أن يفعله والقبيح عكسه، فكان المباح من جنس الحسن، وسيأتي الدليل عليه إن شاء الله.
فإن قيل: المعلوم بطلانه إنما هو حسن الإساءة وقبح الإحسان بمعنى الملائمة والمنافرة والكمال والنقص.
قيل: قد تقدم الجواب على هذا، مع أن حسن التوحيد بمعنى الملائمة لا يتصور إذ ليس مما تستلذه النفس لذاته، وهذه الحجة إلزامية أيضاً.
الحجة الرابعة: وهي إلزامية لزوم إفحام الرسل لأن المرسل إليهم يقولون لمدعي الرسالة لا يلزمنا إجابتك حتى يثبت الشرع عندنا، ولا يثبت لعدم معرفتنا لصدقك، ولا نتعرف الشرع حتى يجب علينا تعرفه، ولا نعرف الوجوب حتى نعرف الشرع، فقد تمانع الأمران.
فإن قيل: فيلزمكم مثله في النظر لأن وجوبه عندكم نظري فيقولون: لا ننظر حتى يوجبه العقل، ونحن لا نلزم نفوسنا النظر في وجوبه.
قيل: قد تقدم أن العقل يعرف ببديهته وجُوب شكر المنعم وقبح الإخلال به، ولا طريق لنا إلى تفاصيله إلا بواسطة الرسل، فإذا ادعى الرسالة مدع وجب علينا النظر لئلا نخل بما أوجبه العقل ضرورة، فسقط الاعتراض، وصار دليل وجوب النظر ملازم لدعوى الرسالة، وليس متوقفاً على اختيارنا.
وجه آخر: وهو أنه لا بد من باعث على وجوب النظر لئلا يكون من تكليف الغافل، وذلك الباعث إما الخاطر أو التخويف من جهة نفسه، أو من جهة غيره كالرسول، وأيضاً لا ريب أن من عرض له حيرة في شيء يخشى من إغفاله ضرراً فإنه يناله هم وغم يضر به، فإن أزال الحيرة بالنظر حتى تتبين له الحقيقة، أو بالاحتياط وهو نوع من النظر أيضاً، وإلا فلا شك في أنه يستحق اللوم على ترك إزالة ذلك الضرر مع التمكن منه، وهذا خاصية القبح، فكيف من خوفه الرسول بخزي الدنيا وعذاب الآخرة، وفوت كل نفع، وإدراك كل ضرر، لا بد لمثل هذا من أن يجد من نفسه مزعجاً على النظر بحيث يذم على تركه، وهذا معنى قولنا: إن دليل وجوب النظر ملازم، فصح أن النظر واجب يدرك وجوبه بأدنى التفات بحيث يقرب من الضروريات، وقد ضرب له الغزالي مثلاً وهو أنه لو قيل لإنسان: الأسد خلفك مقبل عليك وهو آخذك إن لم تهرب، فإذا قال لا أهرب حتى أعلم صدق خبرك ولا أعلمه حتى ألتفت، ولا ألزم نفسي الالتفات حتى يجب علي.
قال: فهذا معدود من الحمقى لا من العقلاء، هذا معنى المثل، وهو يدل على أن هذه قضية يعلمها العاقل ضرورة.
[الأدلة على أن الانتفاع عقلي]
هذا وأما الحجة لما ذهب إليه أئمتنا" ومن وافقهم من حسن الانتفاع بما لا ضرر فيه مما لم يرد فيه حكم شرعي من الأشياء فمن وجوه:
أحدها: عدم حكم العقلاء بذم من استظل تحت شجرة، أو تنفس في الهواء، أو مشى في الفضاء، وعدم حكمهم أيضاً بمدحه وثوابه وعقابه، فوجب القول بحسنه لما مر من أن الحسن ما لا عقاب عليه ولا ذم.
الثاني: أنا نقطع بأن كل نفع لم تُشِبْه مضرة فإنه يحسن الانتفاع به، كما نقطع بحسن الإحسان، ونعلمه ضرورة من غير فرق.
الثالث: أنه لابد في خلقها من غرض، وإلا كان عبثاً، والغرض لايجوز عوده إلى الباري تعالى لاستحالة الضر والنفع عليه تعالى، فلا بد من عوده علينا، ثم ذلك الغرض إما أن يكون ضرراً، أو نفعاً، الأول باطل لأنا لا نعلم في تناولها ضرراً، بل نفعاً عظيماً، ولأنها لو ضرت لم تضر إلا بتناولها، وفي ذلك إباحتها أيضاً، ولأنه تعالى لا يحصل منه الضرر، ولا القصد إليه لغير المستحق له لتعاليه عن الظلم، فتعين الثاني وهو أن غرضه تعالى انتفاعنا بها للتنعم، ولا يتم الانتفاع إلا بإدراكها وتناولها، وفي ذلك إباحتها.
الرابع: أنه لا خلاف في حسن ما يضطر إليه الإنسان كالتنفس في الهواء، والشرب من الماء الجاري عند عطشه، ونحو ذلك مما تدعو إليه الضرورة، فكذلك سائر المنافع بعلة أنها منفعة لا مضرة فيها على أحد.
قال في (الجوهرة): وبذلك بطل قول الواقفية؛ لأن ذلك قول بالحظر، فإن من لا يعلم حسن الشيء لا يحل له أن يفعله، واعترضه الدواري فقال: ليس ذلك قول بالحظر؛ لأن القول بالحظر النطق بأن هذا محظوراً، أو اعتقاده أو ظنه، والواقفية لا يقولون بذلك، ولا يعتقدونه ولا يظنونه.
الخامس: ما ذكره في الغاية وشرحها، وهو أنه إذا ملك جواد بحراً لا ينزف وأخذ مملوكه قطرة من ذلك البحر، فلا قبح يدرك بالعقل في ذلك ضرورة، وتناول العبد المستلذات التي خلقها الله من دون إضرار بمنزلة تناول مملوك قطرة من بحر ملك بل أقل.
قال عليه السلام : وما قيل: من أنه إن أريد أن لا حكم بالحرج فمسلم، ولكنه لا يستلزم الحكم بعدم الحرج، وإن أريد خطاب الشارع بعدم الحرج فلا شرع، وإن أريد حكم العقل بالتخيير تناقض؛ لأن المفروض أنه لا حكم للعقل فيه، فجوابه اختيار الآخر ومنع التناقض، فإن المفروض أن لا حكم للعقل فيه بخصوصه، ولا ينافيه الحكم العام بالإباحة.
قلت: أراد عليه السلام أنه لا يتصور التناقض إلا لو قيل بالتخيير فيما حكم فيه العقل بخصوصه؛ لأنه والحال هذه يقتضي إثبات حكم العقل فيه، والمفروض أنه محل النزاع، فأما ما لا حكم له فيه باعتبار محل النزاع، وإنما حكمه فيه على جهة الإجمال وهو الحكم العام بالإباحة فلا تناقض، وحاصله أن محل النزاع ما لا يدرك فيه العقل جهة محسنة، أو مقبحة بخصوصه لا على جهة الإجمال فإنه يدركه، والكلام مبني على إيراد وجوابه لسعد الدين، وقد أوردهما سيلان في الحاشية فراجعه.
احتج القائلون بالقبح، وقد تقدم بيانهم بوجهين:
أحدهما: أن ذلك تصرف في ملك الغير بغير إذنه فيقبح.
والجواب: لا نسلم القبح مطلقاً، وإنما يقبح إذا تضرر، ولذا لا يستقبح من أحدنا النظر في مرآة غيره، والاستظلال بشجرته، ونحو ذلك مما لا ضرر فيه على المالك، فكيف بمن لا يجوز عليه التضرر في حال من الأحوال، سلمنا فنقول: التمكين من أملاكه مع العقل المميز لما يؤخذ وما يترك إذن منه تعالى لنا بالتصرف، وطريقة التمييز ما تقدم من أنه لا يجوز خلقها لغير غرض، وأنه لا يجوز أن يكون الغرض عائداً عليه تعالى، ولا إرادة الضرر بنا فتعين أنه نفعنا، فعلمنا بذلك حسن الانتفاع بما فيه نفع، والاجتناب لما فيه ضرر، وصار الحال في ذلك كالممكن من أملاكه الناصب للعلامة فيما يؤخذ منها وما يترك.
الوجه الثاني: أن هذه المنافع تحتمل الإباحة، ويحتمل أن يكون تناولها مفسدة فقبح الإقدام عليها كالخبر الذي يحتمل الصدق والكذب فإن الإقدام عليه يقبح، وأجيب بأن العقل قاض بقبح الإقدام على الخبر المحتمل؛ لكونه على صفة لا يؤمن معها ارتكاب القبيح، وليس ثمة ما يرفعها، بخلاف المنافع فإن كونها على صفة يمكن الانتفاع بها يدعو إلى تناولها ولحسنه، ولم يرد عقل ولا سمع بالمنع فافترقا.
احتج أهل الوقف وهم الأشاعرة بأن كون هذه الأشياء ملك لله يقضي بالمنع من الانتفاع بها إلا بإذنه، وكونها مهيئة للانتفاع، ولم يرد في العقل ولا في السمع ما يمنع من الانتفاع يقضي بالإباحة فوجب الوقف، والجواب يعلم مما تقدم.
تنبيه
قد تقدم في كلام الأمير الحسين والإمام يحيى والشرفي وغيرهم ما يدل على أن معرفة الحسن والقبح ضرورية، وهو قول أبي الحسين وأصحابه، فلا يحتاج إلى الاستدلال.
قال (الإمام عز الدين) عليه السلام : وكل مسألة يدعي فيها نظير (أبي الحسين) في التحقيق الضرورة لا تفتقر إلى إيراد كثير من الأدلة وتطويلها.
وقال (أبو هاشم) وأصحابه: بل هي نظرية ولهم في إثباتها أدلة واضحة وإلزامات راجحة، وقد قدمنا شطراً من ذلك، وقد رد القول بأنها نظرية السيد (أحمد بن محمد الشرفي) رحمه الله، وأجاب على القائلين بذلك بما ذكره الإمام (يحيى) عليه السلام في الشامل، وهو أن الفرق بينما يعد من العلوم النظرية، والعلوم الضرورية واضح بين، فإن العاقل يعلم الضرورية من غير اعتبار نظر، ولا إعمال فكرة، وما كان حاصلاً بطريق النظر، فإنه لا بد فيه من العناية باستحضار مقدماته، وترتيبها على وجه صحيح وحراستها عن الغلط، ونحن نعلم ضرورة من هذه القضايا أنها حاصلة للعقلاء من غير اعتناء ولا نظر.
قلت: وقد قدمنا بحثاً نافعاً في بيان ما يكون به الضروري ضرورياً في آخر المسألة التي قبل هذه، فتأمله فإنه نافع مفيد.
الموضع الرابع: في ذكر شبه المخالفين وبيان بطلانها
أحدها: ما اعتمده (ابن الحاجب) في (مختصر المنتهى)، وهي أنه لو حسن الفعل وقبح لغير الطلب لم يكن تعلق الطلب لذاته، وهي مبنية على أن كلام الله تعالى قديم، وأنه معنى قائم بذاته، وتوضيحها أن الأشاعرة يقولون بقدم كلام الله تعالى، وأنه معنى كما ذكرنا.
قالوا: والمعنى المراد هنا وهو الطلب مغاير للإرادة والعلم والفكر، وسموا هذا المعنى طلباً؛ لأن أحدنا يجد من نفسه إذا أراد أن يأمر غيره بشيء أنها طالبة لذلك الشيء سواءً وجدت الحروف والأصوات أم لا، وذلك الطلب هو الكلام عندهم لا صيغة الأمر والنهي؛ إذ لو كان الطلب هو الصيغة لما اختلف حاله بالمواضعة، ومعلوم أنه يختلف باختلاف المواضعة، فإنه يجوز أن توضع صيغة الطلب للخبر والعكس، بل يجوز أن لا توضع لمعنى، وإذا ثبت وجود الطلب من دون الحروف والأصوات، وأن صيغة الطلب لم يكن لمجردها اقتضاء، ثبت أنها لم تكن أمراً ولا نهياً إلا لدلالتها على الطلب، وذلك الطلب هو الأمر والنهي، قالوا: وماهية الطلب ليست أمراً وضعياً بدليل أنها لا تنقلب ماهية لغيره، قالوا: فثبت أن الكلام النفسي هو هذا الذي لا تنقلب ماهيته، والصيغة دالة عليه، وإذا ثبت هذا فالمعلوم ضرورة أن الطلب متميز عن العلم والإرادة، والفكر، والقدرة، والحياة وغيرها، وإنما يشتبه ببعضها، وذلك نحو اشتباه طلب الفعل بالإرادة، وطلب الترك بالكراهة.
قالوا: وليس ذلك الطلب نفس الإرادة والكراهة بدليل أنه تعالى قد يأمر بما لا يريد وينهى عما يريد، وإذا ثبت هذا ثبت أن الحسن والقبح لا يرجعان إلى نفس الفعل، إذ لو كانا كذلك لبطل كون تعلق الطلب ذاتياً؛ لأنه والحال هذه طلب الفعل والترك لأمر يرجع إلى الفعل، وهو ما له من الصفات والاعتبارات، وتقرير هذه الشبهة إنما هو تبع (للمقبلي) فإنه قال إنها مبنية على أن الطلب صفة ذاتية متميزة عن العلم والإرادة، وفي كلام (السعد) عن بعض الشراح ما يدل على بنائها على هذا، و(للعضد) تقرير آخر لعله يعود إلى ما هنا.
والجواب: أن هذه الشبهة مبنية على أصل فاسد وهو قدم كلامه تعالى، وأنه معنى، ونحن لا نسلم شيئاً من ذلك، وليس هذا موضع بيان فساده، إلا أنا نتكلم هنا على إبطال الطلب الذي أثبتوه مغايراً للإرادة ونحوها، وما يترتب عليه، فنقول: إن هذا المعنى الذي سميتموه طلباً لا يعقل ولا دليل عليه، وإثبات ما لا دليل عليه يفتح باب الجهالات، ويوجب تجويز المحالات، ثم إنه مبني على أن الطلب للفعل يثبت قبل الأمر به والنهي عنه، وبطلانه معلوم ضرورة، فإن المعلوم أن أهل اللغة لا يسمون الساكت آمراً ولا ناهياً، وإنما الطالب عندهم هو الناطق بصيغة الطلب، وأما دعواهم مغايرته للعلم والإرادة، فجوابه أن ذلك الذي يجده أحدنا من نفسه قبل النطق بالصيغة إنما هو إرادة الكلام، أو العزم عليه، أو العلم بترتيب حروفه، أو التفكر في كيفية ترتيبها، فإذا كان الموجود هو أحد هذه الأشياء فكيف يكون مغايراً لها، وأما قولهم: لو كان الطلب هو الصيغة لما اختلف حاله، فجوابه: أن ذلك لا يتم إلا بعد أن يتقرر أن لفظ الطلب يفهم منه معنى غير اللفظ لا يتغير، وقد بينا أن أهل اللغة لا يطلقون الطلب إلا على الصيغة، وإذا كان الطلب هو الصيغة فلا حرج في تغيره بالمواضعة.
نعم قد ذكر الإمام (المهدي) عليه السلام أن الذي لا يتغير عن ماهيته وتعلقه هو الإرادة وليست طلباً، وإنما هي سبب للطلب الذي هو الأمر والنهي، وذكر القرشي أن الطلب هو الإرادة بدليل أنه لا يقال طلبت وما أردت ولا العكس، لكن ليس ذلك الطلب أمراً؛ لأن أحدنا يجد نفسه طالبة للفعل، ولا يوصف بأنه أمر به ما لم يقل افعل، وهو خلاف في العبارة، وذلك أن الإمام المهدي عليه السلام لا يطلق لفظ الطلب إلا على الصيغة ويجعل الإرادة سبباً للطلب، والقرشي يطلقه على الإرادة، ويطلق على الصيغة لفظ أمر ونهي.
وأما استدلالهم على ذلك بأنه قد يأمر بما لا يريد، وينهى عما يريد، فمبني على الجبر، وسيأتي إبطاله.
إذا عرفت هذا وتبين لك بطلان الطلب النفسي بالمعنى الذي زعموه بطل إثبات الكلام النفسي، وببطلانه تبطل شبهتهم هذه؛ لأنها مترتبة عليه، وكيف يقوم الفرع والأصل مختل، فنقول: نحن نلتزم ما ألزمتمونا وهو عدم كون تعلق الطلب ذاتياً.
ومع التسليم لكون تعلق الطلب ذاتياً فالمتعلق بالكسر من حيث أنه متعلق تابع لمتعلقه فلا يتحقق التعلق بدونه، وذلك لا ينافي كون تعلقه لذاته فنقول: تعلق الطلب بالفعل من حيث أنه موصوف بالحسن أو القبح لا بمطلق الفعل، لا ينافي كون تعلقه لذاته.
قيل: وهذه الشبهة موضوعة على نفي الحكمة، ولا خفاء في بطلانه.
الشبهة الثانية: لو لم يكن الباري تعالى إلا مبيناً لما في نفس الأمر من الحسن والقبح لم يكن مختاراً في الحكم، بل يكون كالمفتي والقاضي بين الحكم، ثم ألزم وتوعد، أو وعد على فعله أو تركه.
والجواب: إن أردتم أنه غير مختار، بمعنى أنه لا يقع الحكم بخلاف ما في نفس الأمر فهو مذهبنا، وإن أردتم أنه ليس بمختار بمعنى أنه يصير مضطراً إلى التبيين فلا وجه للزومه، وهو ظاهر البطلان، وأما قولكم إنه يكون كالمفتي والقاضي، فإنما هو تشنيع وإلا فإن الماهيات كلها كالواجب، والقديم، والممكن، والنفي، والإثبات، وغيرها متقرررة بخصوصياتها التي بها تمايزت، وتقررت، وعلمت، ولذا أنكر الله سبحانه على من لم يفرق بين ماهيتين بالاستفهام، والتعجب، والإنكار كقوله: {قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَالَّذِينَ لاَ يَعْلَمُونَ }[الزمر:9]، وقوله: {أَمْ حَسِبَ الَّذِينَ اجْتَرَحُوا السَّيِّئَاتِ ...}[الجاثية:21] الآية.
وقال تعالى: {إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالإِحْسَان ِ...}[النحل:90] الآية. ونحوها مما يدل على أن المنهيات والمأمورات متقررة كتقرر القديم، والحادث، والنفي، والإثبات، فمن قال: إنه لا فرق بين الإحسان والإساءة إلا بحسب اعتبار التعارف، وأنه لا معنى للفاحشة إلا بحسب التعارف، وإلا فهي والإيمان سواء في الخلو عن الحكم، وعند الشارع، وإنما اتفق الأمر بأشياء، والنهي عن أشياء لا لأمر، فلا فائدة في مناظرته، ولا الخوض في الكلام معه لهدايته؛ إذ لا مطمع في إنصافه وانقياده للحق.
والحاصل أن الفرق بين تبيين الله تعالى للأحكام، وتبيين المفتي والقاضي لا يجهله إلا غبي، فإن الله تعالى لما كان عالماً بما في بعض الأفعال من المصالح، وما في بعضها من المفاسد قضت حكمته بالأمر بالمصالح والنهي عن المفاسد باختياره لحكمته، وهذا معنى البيان الحاصل منه سبحانه وتعالى، وليس كذلك بيان المفتي والقاضي.
الشبهة الثالثة: أن القول بثبوت الحسن والقبح عقلاً يؤدي إلى قيام المعنى بالمعنى وتحقيق ذلك على ما ذكره في الغاية وشرحها أن القبح معنى والفعل معنى، فإذا كان القبح صفة ثابتة للفعل لزم قيام المعنى بالمعنى، والدليل على أن القبح معنى أنه ليس ذات الفعل ولا جزءاً منها، فوجب أن يكون زائداً على الفعل، ثم إنه موجود بنفسه؛ لأنه نقيض اللاقبح القائم بالمعدوم والقائم بالمعدوم معدوم، وإذا كان اللاقبح معدوماً فالقبح موجود، وإلا لزم ارتفاع النقيضين، ولا شك في بطلان قيام المعنى بالمعنى؛ إذ العرض لا يحل إلا في جسم، وما أدى إلى الباطل فهو باطل، والجواب من وجهين:
أحدهما: بجريَّه في الشرعي بأن يقال: لو كان قبيحاً شرعياً لقام المعنى بالمعنى إلى آخره، وكذا الحدوث والوجوب والإمكان ونحوها من صفات الأفعال.
الثاني: منع الملازمة إذ لا يلزم من كون اللاقبح أمراً عدمياً أن يكون القبح أمراً وجودياً محققاً، فإن نقيض العدمي لا يجب وجوده، فقد يكون الشيء ونقيضه معدومين معاً، وموجودين معاً، ومنقسمين.
قال في (شرح ابن جحاف): وارتفاع النقيضين إنما يستحيل في الصدق بمعنى أن الشيء الوجودي الصادق في الخارج لا يمكن أن يكون هو ونقيضه مرتفعين فيه، وأما الأمر العدمي الذي لا يصدق في الخارج فإنه يكون هو ونقيضه مرتفعين عن الخارج بلا استحالة في ذلك كالأبوة، واللاأبوة فإنهما مرتفعان في الخارج معاً؛ لأنهما أمر عدمي، والعدمي لا يلزم أن يكون نقيضه موجوداً في الخارج، بل يكون عدمياً مثله فلا يلزم وجود شيء منهما فيه.
قلت: وإذا تقرر أن القبح لا يجب وجوده لم يكن معنى فلا يلزم قيام المعنى بالمعنى سلمنا، فالمراد بقيام المعنى بالمعنى الاختصاص الناعت وهو أن يختص شيء بآخر اختصاصاً يصير به ذلك الشيء نعتاً للآخر والآخر منعوتاً، وهذا لا محذور فيه، ويستوي فيه الجوهر وغيره.
الشبهة الرابعة: أن العبد مجبور في أفعاله، وإذا كان كذلك لم يحكم العقل فيها بحسن ولا قبح، لأن ما ليس فعلاً اختيارياً لا يتصف بهذه الصفات اتفاقاً، ومن أدلتهم على ذلك أن العبد حال إيقاع الفعل إما أن لا يصح منه الترك فهو المطلوب، وإما أن يصح منه الترك فلا يكون الفعل أولى بالوقوع من الترك من دون مرجح وداع، وإلا لزم وقوع أحد الجائزين لا لمرجح، وذلك يقدح في حدوث العالم.
قالوا: وذلك المرجح لا يصح أن يكون من فعل العبد، وإلا احتاج في وجوده إلى مرجح ومرجحه إلى مرجح فيتسلسل، فتعين أن يكون من فعل الله، وإذا كان من فعل الله فإما أن يقع الفعل عنده على سبيل الجواز أو الوجوب، الأول: باطل لأنه يحتاج في وجوده إلى مرجح آخر فيتسلسل، فتعين الثاني وهو المطلوب؛ لأن ذلك المرجح يكون سبباً وفاعل السبب والمسبب واحد، وهذا الدليل هو الذي اعتمده الرازي وعول عليه، وكرر أنه يهدم مذهب المعتزلة في العدل.
والجواب: أن القول بالجبر معلوم البطلان، فيبطل ما ترتب عليه وستأتي مسألة مستقلة في إثبات العدل ونفي الجبر، وأما الدليل الذي استدلوا به هنا، فالكلام عليه يقع في ثلاثة مقامات:
الأول: في اختلاف العلماء في احتياج وقوع فعل القادر إلى مرجح أم لا.
الثاني: في الدلالة على أن القول بالمرجح لا يوجب الجبر.
الثالث: في المرجح ماهو وممن هو.
المقام الأول: [في احتياج وقوع الفعل إلى مرجح]
اختلف المتكلمون في احتياج وقوع الفعل إلى مرجح، فقالت (البهاشمة) وأتباعهم: كل أمرين استوى الداعي إليهما فإنه يصح من القادر اختيار أحدهما لا لمرجح، واختاره المقبلي، وهو ظاهر كلام (الإمام المهدي) عليه السلام واحتجوا على ذلك بأنه يجوز من الهارب أن يسلك أحد الطريقين المستويين من كل وجه فيما يرجع إلى مقصوده من دون مرجح، وكذلك الجائع يتناول أحد الرغيفين المستويين لا لمرجح، وكذلك من دعاه الداعي إلى صرف درهم إلى أحد المسكينين المتساويين وغير ذلك، وادعوا العلم الضروري بذلك، ومن حججهم ما ذكره (الإمام المهدي) عليه السلام في رد قول الفلاسفة بقدم العالم، وهو أن الفاعل ليس له بكونه فاعلاً حال، فيفتقر إلى مؤثر، وإنما المرجع به إلى أنه وجد منه ما كان قادراً عليه، وليس في ذلك شيء يفتقر إلى مؤثر، فيلتزم أنه حصل فاعلاً بعد أن لم يكن أي أوجد فعلاً بعد أن لم يوجد، ولا يلزمنا أن يفتقر إيجاده إلى مؤثر سوى قادريته.
وحاصل كلامه عليه السلام أن القادر من له أن يفعل وأن لا يفعل، وأنه لا يحتاج في الإيجاد إلى مؤثر سوى قادريته، وهو ينفي القول باحتياجه إلى المرجح، وإلا بطل معنىكونه قادراً.
نعم والقول بعدم احتياجه إلى المرجح إنما هو بالنظر إلى ذات الفعل، وأما بالنظر إلى كونه مطابقاً للحكمة والعادة فلا بد منه.
وقال (أبو الحسين البصري)، و(محمود بن الملاحمي) و(المجبرة): بل لا بد من المرجح وإلا لم يصح وجوده حيث لا مخصص، ومن أدلتهم أن العمدة في إثبات الصانع احتياج الممكن إلى المؤثر، فلو جوزنا ممكناً يرجح أحد طرفيه على الآخر من غير مرجح لم يمكنا أن نحكم في شيء من الممكنات في احتياجه إلى المؤثر، وذلك يسد باب إثبات الصانع.
وأجابوا عن مسألة الهارب ونحوه بمنع تساوي غيرين في المقصود منهما من كل وجه، ولو فرض استحال اختيار أحدهما من دون مرجح، ورد بأنكم لا تنكرون أن الله قادر أن يخلق رغيفين مستويين من كل وجه، وأنه يصح منه ذلك، وأنه قادر على أن يخلق للعبد علماً ضرورياً باستوائهما، فإن أنكرتم هذا خرجتم من الدين، وإذا أقررتم به فنقول: هل يقدر سبحانه على أن يخلق له داعياً إليهما على البدل لا على الجمع أم لا، ولا معنى للداعي إلا أنه يوجد له علماً بأن في كل واحد منهما له نفعاً خالصاً، وأن المنفعة بتناول أحدهما حاصلة على الاستواء، لا بد لكم من الإقرار بقدرته تعالى على إيجاد هذين العلمين، وبه يصح ما منعتموه من استواء غيرين من كل وجه، وإذا صح ذلك فنقول: هل قد خلقت فيه القدرة على ذلك الفعل أم لا.
الثاني: خلاف الفرض فإذا كانت قد خلقت فيه صح إيجاده بها، وإلا بطل كونها قدرة عليه، والمرجح ليس جزءاً من القدرة ولا من الباعث، فبطل الاحتياج إليه، وأما قولهم بلزوم سد باب إثبات الصانع، فإنما يلزم لو جوزنا حصول الجائز من غير مؤثر فيه، ولم نقل بذلك أصلاً.
قلت: وفي إطلاق الحكاية عن (المجبرة) بأنه لا بد من المرجح نظر، فإن صاحب المواقف حكى عن الأشعرية أن الفعل لا يحتاج إلى مرجح، وصرح صاحب المقاصد بأن القول بأن الفعل الواقع بلا مرجح اتفاقي، إنما هو إلزام للمعتزلة القائلين بأن قدرة العبد لا تؤثر في فعل إلا إذا انضم إليه مرجح يسمونه الداعي.
قال: ونحن لا نقول به، فإن الترجيح بمجرد الاختيار المعلق بأحد طرفي الفعل لا لداع عندنا جائز، ولبعض محققيهم كلام في إبطال هذا الدليل لما يلزم عليه من اللوازم، وممن ضعفه ابن الحاجب، وأما الرازي فاضطرب كلامه فإنه في رد شبهة الفلاسفة حيث قالوا: القادر لما أمكنه أن يفعل في وقت، وأن يفعل قبله، أو بعده توقفت فاعليته على مرجح، ومرامهم بذلك نفي حدوث العالم؛ لأنه إذا توقفت فاعليته على مرجح احتاج المرجح إلى مرجح فيتسلسل، التزم أن الفاعل لا يحتاج إلى مرجح في إيجاد أحد المستويين، وربما ادعى العلم الضروري بذلك، وصرح بأنه لا مخلص من شبهتهم التي تقتضي قدم العالم إلا بتجويز وقوع أحد المستويين لا لمرجح، وإلا لزم قدم العالم.
وقال في مسألة خلق الأفعال: لا بد من المرجح وجعله عمدة أدلة المجبرة، بل جعل وقوع الممكن من دون مرجح هنا يسد باب إثبات الصانع، وكأنه بنى مباحثه على الجدل والتعصب لأصحابه لا على طلب الحق أينما كان وعند من كان، وهكذا شأن غيره وهي من المغالطة الخارجية التي قد تقدمت الإشارة إلى تحريمها.
المقام الثاني: في أن القول بالمرجح لا يوجب الجبر وبيانه من وجوه:
أحدها: أنه لو أوجب الجبر في فعل العبد لأوجبه في فعل الله.
قال (الإمام يحيى) عليه السلام : فكما أنه يبطل الاختيار في حق العبد فهو بعينه يبطل الاختيار في حق الله تعالى؛ لأن طريق الفاعلية واحدة، وهذه فلسفة محضة، وقول بالموجب وخروج من الدين.
قلت: وبيان جريه في أفعاله تعالى أن يقال: حال ما فعل الله الفعل إما أن يصح منه الترك أو لا، إن قيل: لا، لزم الجبر، وإن قيل: يصح، قيل: فإذا كان لا بد من المرجح، فوقوع فعله تعالى عنده إما على سبيل الوجوب لزم قدم العالم، وأن لا يكون مختاراً إذ الداعي هنا ليس بفعل الله حتى نقول فاعل السبب فاعل المسبب، وإما على سبيل الجواز لزم التسلسل، فما أجبتم به فهو جوابنا، ولا مخلص لهم من هذا إلا بنفي المرجح، أو نفي كونه موجباً؛ إذ لا فارق إلا كونه تعالى قديماً، والعبد محدثاً، وهو لا يقتضي الفرق في الاختيار.
قال (الإمام يحيى) عليه السلام : فإن قالوا إن كون القديم يجب أن يكون فاعلاً لا يخرجه عن حد الاختيار.
قلنا: وكون فاعلية العبد واجبة لا تخرجه عن حد الاختيار.
الوجه الثاني: أنه يلزم نفي الحسن والقبح الشرعيين؛ لأنهما في الشرع من صفات الأفعال الاختيارية، فإن حركة المرتعش والمغمى عليه لا توصف بحسن ولا قبح في الشرع، ويستلزم أيضاً تكليف ما لا يطاق.
الوجه الثالث: أنا نعلم ضرورة حصول الفعل من دون المرجح كفعل الساهي والنائم، ولو كان لا يصح من دونه لما وقع، وإلا كان تأثيراً بلا مؤثر وهو باطل، وهذا يصلح حجة أيضاً لمن لا يشترط المرجح.
الوجه الرابع: أنه لو كان تأثيره على جهة الإيجاب لما تمكن الفاعل من ترك الفعل عند وجوده، والمعلوم ضرورة أن الإنسان قد يترجح له الفعل ولا يفعله.
الوجه الخامس: أن الدواعي والمرجحات من قبيل الاعتقادات والظنون التي لا تأثير لها في الإيجاب، فثبت أن القول بالمرجح لا يستلزم الجبر. فإن قيل: فما تقولون فيما قاله أبو الحسين وغيره حيث قال الداعي موجب، فإن هذا تصريح بمذهب المجبرة، ولذا قال (الرازي): إن (أبا الحسين) يقول بالجبر إلا أنه يتستر من أصحابه، ومثله قول أبي القاسم البلخي: أن من دعاه الداعي إلى الفعل لا بد أن يفعله، وقول الجاحظ: إذا قوي الداعي وقع الفعل بالطبع، وإن تكافأ هو والصارف وقع بالاختيار.
قيل: أما (أبو الحسين) فلم يقصد إلا ما قصده غيره من علماء العدل، وهو أنه إذا توفرت الدواعي، وانتفت الصوارف وجب الفعل عندها، وجوب استمراري عادي لا وجوب تأثير، ومثلوا ذلك بمن حضره طعام شهي وهو شديد الجوع ولا صارف عنه، فإنه إن لم يأكل لم يحكم بقدرته أو كمال عقله، وإنما ألزمه الرازي الجبر لغلطه في فهم مقصده؛ لأنه ظن أنه أراد وجوباً كوجوب المعلول عن العلة.
وأما (أبو القاسم) فقال (الإمام المهدي) عليه السلام : الأقرب أن مقصده كمقصد سائر المعتزلة من أن المراد بالوجوب وجوب استمرار لا بمعنى أنه يستحيل خلافه، قلت: وكذلك كلام الجاحظ فإنه يمكن حمله على هذا.
المقام الثالث: في المرجح ما هو وممن هو عند القائلين به من العدلية
فقال (الحسين بن القاسم) عليه السلام : المرجح الإرادة وهي من العبد، ولزوم التسلسل ممنوع؛ لأن المحتاج إلى الإرادة هو الفعل المتوجه إليه بالقصد لا الإرادة؛ إذ حصولها ليس إلا بتبعية الفعل المراد، وقد ذكر الشريف أن كل عاقل يعلم من نفسه أن إرادته للشيء لا تتوقف على إرادته لتلك الإرادة.
وقال (الإمام يحيى) عليه السلام : إذا قال السائل ما الذي يرجح وجود المقدور على عدمه؟ فمن جوابنا أنه القادر، فإذا قال: فلم وجد في هذا الوقت دون ما قبله وما بعده ولم اختص بالحصول دون ضده؟ قلنا: الفاعل المختار أوجده لقيام داعيه، فمتى قال فلنفرض قيام الداعي في كل واحد من الضدين على سواء، قلنا: من هاهنا يتميز القادر على الموجب، فإنا لو جرينا في هذا الموطن على طلب مخصص لأحد مقدوريه دون الآخر غير كونه فاعلاً مختاراً لألحقناه بباب الموجب، وخرج عن حد الاختيار، وهذا يرفع ما عرفناه ضرورة من الفرق بين القادر والموجب، وحصل من مجموع ما ذكرنا أن الفاعل مفتقر في الأصل إلى الداعي ليبعثه على الفعل، وعند فرض الاستواء في الفعلين من كل الوجوه يفعل أحدهما دون الآخر من غير أمر وراء كونه فاعلاً مختاراً.
قال (الإمام عز الدين) عليه السلام : وفي كلامه عليه السلام ما يشفي في جواب هذه الشبهة التي أوردها الرازي، ويفتح مقفلها، ويحل معضلها.
وقال (القرشي) المرجح الداعي: وعند استواء الدعا إلى الفعلين فالمخصص القادر بقصده واختياره بدليل أنه لو سئل عن المخصص لأحدهما لقال: اخترت، قال: ولسنا نعني بكون تأثير القادر على جهة الاختيار إلا هذا، وبهذا تقع التفرقة بين الموجب والمختار، فالمطالب لنا بمخصص وراء القادر مطالب لنا بإبطال معنى القادر، وإدخاله في حد الموجب، ولسنا نسلمه، ولا بد للرازي من النزول على مثل هذا الجواب، وإلا بطل عليه كون الباري مختاراً وهو قد نزل عليه، ولكنه كثير التخليط.
وأما قولهم بلزوم التسلسل إذا كان وقوع الفعل عند المرجح على سبيل الجواز فقد دفعه القرشي بما مر في الرغيفين ونحوهما فإنه يأخذ أحدهما لا لمرجح مع استواء الداعي إليهما، ومع جواز أن يأخذ الآخر، ومراده رضى الله عنه بقوله: لا لمرجح يعني لا لمرجح سوى الداعي إلى الفعل؛ إذ قد تقدم أنه يثبت المرجح، لكن لا بالمعنى الذي قصدوه.
والحاصل أن المرجح ليس إلا الإرادة أو الداعي، وما ادعوه من أمر سواهما فلا يعقل، ولا دليل عليه، وعلى هذا لا خلاف في المعنى بين من نفى المرجح من العدلية، وبين من أثبته؛ لأن النافين لا ينكرون الداعي، والإرادة، والمثبتين لم يثبتوا أمراً سواهما.
فائدة [في معنى الداعي والمرجح]
كثيراً ما يذكر أصحابنا الداعي والمرجح، وقد يخفى معناهما على كثير، فأحببنا الكشف عن ماهيتهما، وتحقيق معناهما في هذا الموضع؛ إذ هو أخص من غيره لتقدم ذكرهما قريباً فنقول: المرجح ما يرجح الفعل على الترك أو العكس، والداعي هو الباعث على الفعل أو الترك وهو قسمان: داعي حكمة، وداعي حاجة، أما داعي الحكمة فهو العلم أو الاعتقاد أو الظن بأن في الفعل منفعة للغير، أو دفع مضرة عنه، وأما داعي الحاجة فهو علم الفاعل، أو ظنه، أو اعتقاده أن له في الفعل منفعة أو دفع مضرة عنه، أو عمن يحب، وقد يسمى داعي الحاجة إلجاء، وذلك حيث لا يقاومه صارف، والصارف هو العلم، أو الاعتقاد، أو الظن بأن عليه في الفعل مضرة، أو فوت منفعة عنه، أو عن من يحب.
قلت: وعلى هذا فالمرجح يشمل الباعث والإرادة كما لا يخفى.
المسألة السابعة: فيما يعلم بأدلة العقل والشرع
اعلم أنما يعلم بالدليل أنواع:
النوع الأول: ما لا يعلم إلا بالعقل: وهو كل ما كان العلم بصحة الشرع موقوفاً على العلم به، كالعلم بالله سبحانه وبصفاته من كونه قادراً عالماً حياً غنياً، وأنه عدل حكيم لأن ما عدا معرفته تعالى بصفاته وعدله وحكمته فرع عليها، فلو استدللنا بشيء منها على الله تعالى والحال هذه لكنا قد استدللنا بفرع الشيء على أصله، وذلك لا يجوز.
بيان ذلك: أن الكتاب إنما يكون حجة متى ثبت أنه كلام عدل حكيم لا يجوز عليه الكذب، والسنة لا تكون حجة إلا متى ثبت أنها سنة رسول ذلك العدل الحكيم، وأما الإجماع والقياس فهما راجعان إلى الكتاب والسنة، وذلك كله فرع على معرفة الله تعالى، ومعرفة عدله وحكمته، وهذا قول جماعة من المتكلمين منهم (أبو هاشم)، والسيد (مانكديم)، و(القرشي)، و(قاضي القضاة)، و(ابن متويه) وغيرهم.
وقال (أبو هاشم): ولا يصح الاستدلال على شيء من ذلك بالسمع سواء كان قطعياً أم ظنياً، مثيراً أم لا، قال: لأن ذلك فرع على ثبوته تعالى وعلى صدق قوله.
وقال (أئمتنا)" و(الجمهور): بل يصح الاستدلال على ثبوت الباري تعالى بالآيات المثيرة لدفائن العقول ومعنى الاحتجاج بها أن نذكر المذهب الذي نريد إثباته، ثم نأتي بما يدل عليه من هذه الآيات، ثم نذكر وجه دلالتها على المطلوب بما يستخرج منها من الطرق العقلية، واحتجوا على ذلك بأنها أدلة منبهة على أقوى طرق الفكر الموصل إلى العلم بالمطلوب، فهي دليل بالتدريج فإنها دليل على طريق الفكر، والفكر دليل عليه تعالى، ففيها خروج من دليل إلى دليل حتى ينتهي العقل إلى المطلوب كما في الاستدلال على كونه تعالى حياً، فإنه يستدل على ذلك بصحة الفعل، وصحة الفعل لا يخرج منها إلى كونه حياً، وإنما يخرج منها إلى القادرية، ومن القادرية إلى الحيية، فيقال مثلاً: هذا قد صح منه الفعل، ومن صح منه الفعل فهو قادر، والقادر لا يكون إلا حياً، فكما أن صحة الفعل تكون دليلاً مع التدريج المذكور على الحيية كذلك الآيات بالتدريج السابق تكون دليلاً على ثبوت الباري تعالى.
ومن كلام علي عليه السلام : (فبعث فيهم رسله، وواتر إليهم أنبياءه، ليستأدوهم ميثاق فطرته، ويذكروهم منسي نعمته، ويحتجوا عليهم بالتبليغ، ويثيروا لهم دفائن العقول، ويروهم آيات المقدرة من سقف فوقهم مرفوع، ومهاد تحتهم موضوع، ومعايش تحييهم، وآجال تفنيهم، وأوصاب تهرمهم، وأحداث تتابع عليهم). رواه في النهج.
وهو نص في المقصود، وقد استعمل ذلك كثير من (أئمة العترة)"، فإنهم يحتجون بالآيات المثيرة على وجود الله تعالى وعدله، وذلك مشهور عنهم في كتبهم، وقال أبو رشيد ورواه في الأساس عن بعض متأخري الشيعة: بل يصح الاستدلال على ثبوته تعالى بالقطعي مطلقاً.
قلت: لعله أراد ببعض متأخري الشيعة (الشيخ الحسن بن محمد الرصاص)، فإن صاحب الجوهرة ذكر أن كلما لم يكن العلم بصحة الشرع موقوفاً على العلم به، فإنه يصح أن يعلم بالعقل والشرع، قال: وقد مثل ذلك في الكتاب بكونه تعالى موجوداً ونفي التشبيه، والرؤية، وكالعلم بكون القياس، وخبر الواحد طريقاً يجب العمل بهما، ثم قال: فأما كونه تعالى موجوداً فممتنع، وأراد بالكتاب كتاب الشيخ الحسن كما يظهر من كلامه في ديباجة الجوهرة. والله أعلم.
وقالت (الإمامية) و(البكرية) -وهم أصحاب بكر بن عبد الواحد- من المجبرة وبعض المحدثين: بل يصح الاستدلال على ثبوت الباري بالظني من الآيات وغيرها مثيراً، وغير مثير.
والجواب: أن الاستدلال بغير المثير دور؛ لأنه لا يكون دليلاً إلا لكونه من عند الله، ولا يثبت كونه من عنده إلا بعد ثبوته، وثبوت عدله، فيتوقف الدليل على حصول المدلول عليه، وهذا هو الدور.
قال السيد المحقق (أحمد بن محمد بن لقمان) رحمه الله: اللهم إلا أن يقال: إنه يصح الاستدلال بكتابه تعالى على وجوده، لكن لا على طريقة الاستدلال به على الأحكام الشرعية، بل على طريقة أخرى، وهي أن يقال: قد ثبت أن القرآن كلام والكلام لا بد له من متكلم، وليس المتكلم به البشر لما ثبت من عدم قدرتهم على معارضته، وقد تحدوا بها فلم يقدروا، فلم يبق إلا أن يكون المتكلم به غيرهم مخالف لهم في جميع صفاتهم، وليس ذلك إلا الله تعالى، فهذا الاستدلال صحيح كالاستدلال بسائر المخلوقات.
قال رحمه الله: وقد نبه الله على هذا في قوله تعالى: {هَذَا بَلاَغٌ لِلنَّاسِ وَلِيُنذَرُوا بِهِ وَلِيَعْلَمُوا أَنَّمَا هُوَ إِلَهٌ وَاحِدٌ وَلِيَذَّكَّرَ أُوْلُوا الأَلْبَابِ}[إبراهيم:52]، فبين تعالى أن القرآن جميعه بلاغ، ومنذر، وسبب للعلم بوحدانيته تعالى، وللتذكر والتفكر من أهل العقول، وليس ذلك إلا على الطريقة التي ذكرناها، فلتتأمل والله أعلم، ذكره في شرحه على الأساس.
وقال الشيخ (الحسن الرصاص )، وصاحب (الجوهرة) الشيخ (أحمد بن محمد الرصاص): إنه يصح الاستدلال على نفي التشبيه بالسمع نظراً لا إلزاماً، فإنه يلزم عليه نفي السمعيات وما ينبني عليه.
وحكى في (الجوهرة) عن صاحب الكتاب وهو الشيخ (الحسن) أنه يصح الاستدلال بالإجماع على نفي التشبيه، وعلى أنه تعالى موجود دون كونه حياً.
قال: ومنع (المنصور بالله) عليه السلام أن يعلم شيء من ذلك بالسمع كـ(القاضي)، و(أبي الحسين).
وحكى (الإمام عز الدين) عليه السلام في (المعراج) عن الشيخ (أحمد بن الحسن الرصاص)، والفقيه (حميد)، والإمام (يحيى)" أنه يصح الاستدلال على كون أفعال العباد منهم وغيرها من جنسها بالسمع، وأنه يكفي في معرفة صحة السمع ثبوت الدلالة على أنه تعالى عدل حكيم على الجملة، فإذا عرف المستدل عدله تعالى وحكمته، ونبوة نبيه ثبت له صحة السمع.
قال الإمام (يحيى) عليه السلام في التمهيد: اعلم أن التمسك بالآيات، والأحاديث، والإجماع صحيح من جهة النظر، وذلك لأن صحة المسالك السمعية متوقفة على تقرير قواعد الحكمة، والحكمة متوقفة على كونه تعالى عالماً وغنياً، فإذا صح هذان الأصلان صح الاستدلال بالسمع في كل موضع؛ لأن أصوله قد تمهدت.
قال: وأما من حيث الإلزام فممتنع؛ لأنه ما لم يثبت أن الله تعالى لا يفعل القبيح لم يصح الاستدلال بالسمع، فكيف يمكن تصحيح ذلك بالسمع.
قلت: وسيأتي في مسألة خلق الأفعال بحث مفيد في صحة الاستدلال على كون أفعال العباد منهم بالسمع، كنا قد حررناه قبل الاطلاع على ما هنا.
النوع الثاني: ما يصح أن يعلم بالعقل والشرع كمسألة الرؤية، وكون الآحاد حجة، ونحو ذلك على خلاف في بعضه، وقد تقدم ذكر بعض ما اختلف فيه.
النوع الثالث: ما لا يعلم إلا بالشرع كالأحكام الشرعية، وبعض ما له تعلق بها ككون الإجماع والقياس حجة، ونحو ذلك على خلاف في بعضها، وسيأتي الكلام مفصلاً عند الكلام على مفردات المسائل إن شاء الله تعالى.
فرع ويعرف بطلان الدليل إما بإبطاله بقاطع في القطعيات، والظنيات، فالقطعيات نحو ما تقدم من إبطال مذاهب المجبرة في نفي التحسين والتقبيح بأدلتنا القاطعة الدالة على ثبوتهما، والظنيات كإبطال مذهب من يقول إنما الربا في النسيئة بقوله تعالى: {يَمْحَقُ اللَّهُ الرِّبَا }[البقرة:276]، ونحوها من الآيات الصريحة في تحريم الربا مطلقاً، وإما بإبطاله بظني يستلزمه الخصم، أو يدل على صحة الاستدلال به دليل قاطع، وهذا في الظنيات، فالأول كأن يستدل الشافعي على عدم وجوب الصوم في الاعتكاف بقياسه على الوقوف بعرفة بجامع كون كل منهما لبث في موضع مخصوص، فيقال له: فيلزمك أن لا يكون قربة بنفسه كالوقوف بعرفة، فقد عورض قياسه بقياس يلتزمه.
والثاني: نحو أن يستدل من ينفي القياس على جواز أكل القريط بظاهر قوله تعالى: {هُوَ الَّذِي خَلَقَ لَكُمْ مَا فِي الأَرْضِ جَمِيعاً }[البقرة:29]، فيبطل قوله بالقياس على الخمر بجامع الإسكار، والقياس قد دل الدليل القاطع على كونه دليلاً معمولاً به.
قال في (الأساس): ولا يبطل بغيرهما أي بغير الدليل القطعي، أو الظني الذي يلتزمه الخصم، أو يدل على كونه دليلاً دليل قاطع.
وقال (القرشي) في (المنهاج): قال (أبو الهذيل) يعرف انتقاض الدليل بأحد ثلاثة أمور:
إما بترك إجراء العلة في المعلول، وإما بنقض الجملة بالتفسير، وإما بجحد الاضطرار، مثال الأول: أن يقول الرجل: فرسي جواد لأني أجريته عشرة فراسخ فاستمر، فيقال: أو كل فرس أجري عشرة فراسخ، فاستمر فهو جوادٌ، فإن قال نعم، فقد أجرى علته، واعتبرت صحة دعواه وفسادها بحال غيره من الأفراس، وإن قال لا، قيل له: فقد نقضت علتك، فاطلب لصحة دعواك دلالة.
ومثال الثاني: قول القائل: إذا اشتد حر الصيف اشتد برد الشتاء الذي يليه، وإذا اشتد برد الشتاء اشتد حر الصيف الذي يليه، ثم يقول: وقد يفتران جميعاً، فإنه قد نقض الجملة لأنها لو صحت لاشتد الحر والبرد أبداً، فلا يوجد فتور.
ومثال الثالث: سؤالنا للثنوية عن شبح رأيناه قاعداً على هيئة حصان في مكان مخصوص، أتقولون إنه لم يزل كذلك، فإن قالوا: لا بل قد كان على غير هذه الحالة أقروا بالحدوث، وإن قالوا نعم جحدوا الاضطرار.
قال الشيخ (أبو القاسم): وهذا الكلام كان من حقه أن يكتب بماء الذهب، لعظم نفعه لولا أن كلام الله تعالى خير منه، وقد كتب بالمداد.
قال: وأكثر ما يدور بين الخصوم إجراء العلة في المعلول، وبه نستدل على إبطال كثير من مذاهب خصومنا، مثاله: أن نقول لأهل الجبر في جميع مسائلهم: قد أجزتم على الله تعالى كل قبيح من ظلم، وعبث، وهذيان، وتكليف ما لا يطاق، وإرادة كل قبيح، وزعمتم أنه مع ذلك عدل حكيم لا يقبح منه قبيح، وعللتم ذلك بأن الأمر أمره، وأنه لا يُسأل عما يفعل، وأنه ليس يلحقه نقص بصفات الأفعال قط إذا كانت صفات الذات صفات كمال، فهل تجرون علتكم هذه، فتزعمون أنه يصح أن يقول فيما لم يكن أنه قد كان، وفيما كان أنه لم يكن، وأنه يجوز أن يكلف الجماد، ويكلف ما لم يعلم ونحو ذلك أم لا تجرونها، فإن قالوا نعم يجوز ذلك كله ظهر عنادهم، وأبطلوا الرسل، والوعد، والوعيد، والجنة، والنار، وإن قالوا لا يجوز لعلة كذا قيل لهم: قد نقضتم علتكم أن الأمر أمره، وأنه لا يسأل عما يفعل، فاطلبوا لصحة دعواكم علة غيرها.
واعلم أن إبطال دليل الخصم لا يستلزم إثبات خلاف ما ادعاه على كل حال، بل فيه تفصيل، وهو أنه إن تضمن هذا الدليل الذي أبطل به دليل الخصم إثبات خلافه صح الأمران، أعني إبطال دليل الخصم وثبوت خلافه، وإن لم يتضمنه ثبت الإبطال فقط إلا أن يكون مذهب الخصم الذي أبطله المستدل، ومذهب المستدل في طرفي نقيض إذا بطل أحدهما ثبت الآخر كإبطال شبهة من يزعم قدم العالم، فإنه إذا أبطل قدمه ثبت حدوثه؛ إذ لا واسطة بينهما. ذكر معنى هذا في (الأساس).
خاتمة في تفسير بعض ما يكثر تداوله في كتب النظر والاستدلال من الألفاظ وهي العلة والتعليل والمستند والشرط والدور والمناقضة والمعارضة والملازمة والمناظرة
العلة: ما أثر في صفة أو حكم وجوباً حقيقة كالعقلية، أو مجازاً كالشرعية.
التعليل: تعليق الحكم بأمر، المستند: بيان ما لأجله منع التعليل نحو لا نسلم ثبوت كذا لكذا بل لكذا.
الشرط: ما يقف عليه وجود العلة، أو تأثيرها.
الدور: وقوف ثبوت كل واحد من الأمرين على ثبوت الآخر، أو وقوف العلم به على العلم بالآخر.
المناقضة: دعوى تخلف الحكم المعلل عما علل به في بعض المحال.
المعارضة: تعليل حكم المتنازع فيه بغير ما علل به المنازع.
الملازمة: كون الحكم مقتضياً للآخر، فالمقتضي ملزوم، ومقتضاه لازم كالإنسانية تقتضي الحيوانية.
المناظرة: النطق بما أدى إليه نظر كل واحد من المتنازعين في حكم، أو أحكام خطاباً شفاهاً، وبهذا تمت المقدمة، والحمد لله رب العالمين.
تفسير الاستعاذة
الكلام على الاستعاذة
اعلم أن بعض المفسرين يقدمون قبل الأخذ فيما يتعلق بآيات القرآن العظيم الكلام على الاستعاذة؛ لأن تفسير آياته، وتدبر معانيه، واستنباط الأحكام منه هو المقصود الأعظم بتلاوته وقراءته، بل هي القراءة المعتد بها المقصودة بقوله تعالى: {يَتْلُونَهُ حَقَّ تِلاَوَتِهِ }[البقرة:121]، {أَفَلاَ يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ }[النساء:82].
وعنه صلى الله عليه وآله وسلم في قوله تعالى: {يَتْلُونَهُ حَقَّ تِلاَوَتِهِ }[البقرة:121] قال: ((يتبعونه حق اتباعه )).
وعن (الحسن) في الآية قال: يعملون بمحكمه، ويؤمنون بمتشابهه، ويكلون ما أشكل عليهم إلى عالمه، وقد قال تعالى: {فَإِذَا قَرَأْتَ الْقُرْآنَ فَاسْتَعِذْ بالله مِنَ الشَّيْطَانِ الرَّجِيمِ}[النحل:98].
فقفونا آثارهم، واقتدينا بهداهم، وجعلنا الكلام على الاستعاذة في موضعين:
الموضع الأول: في المسائل العقلية، وما يتصل بها، الموضع الثاني: في المسائل الفقهية، وما يتصل بها، ونسأل الله الإعانة والتوفيق.
الموضع الأول: في المسائل العقلية، وما يتصل بها، والبحث فيه يتعلق بأركان خمسة: الاستعاذة، والمستعيذ، والمستعاذ به، والمستعاذ منه، والشيء الذي لأجله تحصل الاستعاذة.
الركن الأول: في الاستعاذة وفيه مسائل
المسألة الأولى: [معنى الاستعاذة]
الاستعاذة: هي الالتجاء والمفزع إلى الله تعالى، والاعتصام به، قال الشاعر:
أعوذ برب الناس من كل طاعنٍ .... علينا بسوءٍ أو ملح بباطل
المسألة الثانية [شروط وقوع الاستعاذة]
اعلم أن الاستعاذة لا تتم إلا إذا علم العبد أنه عاجز عن نفع نفسه، ودفع المضار عنها على جهة الاستقلال، والاستغناء عن لطف الله تعالى به، بما يمده من المعونة، والقوة، والتوفيق، والإرشاد، والهداية بإكمال العقل، وإنزال الكتب، وبعثة الرسل، والتمكين من النظر، فإذا علم العبد أنه لا غناء له عن توفيق الله، ومعونته، فلا بد أن يتولد في قلبه خضوع وانكسار، فيحصل بذلك صفة أخرى في القلب، وهي محبة العبد أن يصونه الله تعالى عن الآفات، ويفيض عليه الخيرات، فحينئذٍ يحصل منه طلب ذلك بلسانه من القادر عليه، وهو الله الذي هو على كل شيء قدير، وذلك الطلب هو قوله: أعوذ بالله، وبهذا يتبين لك أن الاستعاذة لا تتم إلا بعلم وهو علمه بعجز نفسه، وعلمه بأن الله قادر على نفعه، ودفع الضرر عنه، وحالٍ وهو حصول الانكسار، والخضوع في القلب وعمل وهو محبة الصيانة، وطلب ذلك بلسانه، والركن الأعظم في الاستعاذة هو علم العبد بالله، وعلمه بنفسه، أما علمه بالله فأن يعلم أنه عالم بجميع المعلومات، قادر علىجميع الممكنات، جواد على جهة الإطلاق؛ لأنه إذا لم يعلمه بهذه الصفات لم تكن الرغبة في الاستعاذة قوية؛ لأنه لو جوز عدم علمه بحاله، أو عدم قدرته على النفع والدفع، أو جوز بخله لكان مجوزاً عدم الفائدة في الاستعاذة به فلا تقوى رغبته فيها، ويدل على ذلك أن إبراهيم عليه السلام عاب أباه في قوله: {لِمَ تَعْبُدُ مَا لاَ يَسْمَعُ وَلاَ يُبْصِرُ وَلاَ يُغْنِي عَنْكَ شَيْئاً}[مريم:42].
وأما علمه بحال نفسه، فهو أن يعلم أنه لا غناء به عن توفيق الله تعالى ومعونته، وقد نبه الله تعالى على ذلك في كتابه فقال معلماً لعباده: {إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ }[الفاتحة:5]، وقال: {اسْتَعِينُوا بالله }[الأعراف:128].
وعن علي عليه السلام عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال: ((يقول الله عز وجل ما من مخلوق يعتصم بمخلوق دوني إلا قطعت أسباب السموات وأسباب الأرض من دونه، فإن سألني لم أعطه، وإن دعاني لم أجبه، وما من مخلوق يعتصم بي دون خلقي إلا ضمنت السموات والأرض رزقه، فإن دعاني أجبته، وإن سألني أعطيته، وإن استغفرني غفرت له)).
وقال علي عليه السلام في وصيته لولده (الحسن): (وألجئ نفسك في أمورك كلها إلى إلهك، فإنك تلجئها إلى كهف حريز، ومانع عزيز).
وروي أن في بعض الكتب الإلهية أن الله تعالى يقول: ((وعزتي وجلالي لأقطعن أمل كل مؤمل غيري باليأس، ولألبسنه ثوب المذلة عند الناس، ولأخيبنه من قربي، ولأبعدنه من وصلي، ولأجعلنه متفكراً حيران يؤمل غيري في الشدائد والشدائد بيدي وأنا الحي القيوم، ويرجو غيري، ويطرق بالفكر أبواب غيري وبيدي مفاتيح الأبواب وهي مغلقة، وبابي مفتوح لمن دعاني)).
وقال (القاسم بن إبراهيم) عليه السلام : (استعصم الله بعصمته التي لا تهتد، واسترشده إلى السبيل الذي ينجو به من الردى من هلك، واستوهبه التوفيق لهدايته، والحظ الوافر من طاعته، وارغب إليه في إلهام حكمته واجتناب معصيته).
واعلم أنه ليس المطلوب بالاستعاذة منع الشيطان من عمل الوسوسة بالقهر والإلجاء كما يفيده كلام الرازي في هذا الموضع؛ لأن ذلك ينافي التكليف، ولا منعه بالأمر والنهي لأنه قد فعله، وإذا كان قد فعله فلا فائدة في طلبه، بل المطلوب بها فعل الألطاف التي يكون المكلف معها أقرب إلى فعل الحسن وترك القبيح، والمقصود اللطف الذي يكون المكلف معه أقرب إلى مخالفة الشيطان من إرشاد إلى ذكر، أو تنبيه على دليل، أو نحو ذلك من الأعمال والأقوال التي نعتصم بسببها من شر الشيطان، وفعل اللطف لا يمنع اختيار العبد للمعصية أيضاً كما سيأتي تحقيقه إن شاء الله.
المسألة الثالثة [دلالة الاستعاذة على أفعال العباد]
الاستعاذة تدل على أن أفعال العباد منهم لا من الله تعالى، وسيأتي بيان وجه الاستدلال بها.
واعلم أن هذه المسألة من أعظم مسائل الخلاف بين الأمة، حتى أن بعض الأئمة" أفردها بالتأليف كـ(القاسم بن إبراهيم) عليه السلام له كتاب الرد على المجبرة، و(للهادي) عليه السلام كتاب في الرد عليهم، و(للقاضي إسحاق العبدي) كتاب (إبطال العناد في أفعال العباد) ولغيرهم فيها مؤلفات ورسائل، ومسائل مبسوطة ومتوسطة ومختصرة، ولعمري إنها لجديرة بذلك لما وقع فيها من اضطراب أكثر العقول، وتحير العلماء الفحول، وكثرة ما ورد فيها من شبه المعقول، ومتشابه المنقول، بحيث لا يتبين فيها الحق الذي ينجي من الضلال، ويتخلص به مما تورط فيه كثير من الجهال، إلا بنظر صحيح في البراهين القاطعة، واقتباس نور العلم من أنوار الأدلة الساطعة، وذلك لا يتأتى إلا بإيراد زبدة أدلة جميع الفرق على الوفاء والتمام، وتمييز الصحيح من الفاسد عند أولي النُهى والأحلام، ورد ما ورد، وإبطال ما فسد، ونحن بعون الله نذكر في هذا الموضع ما يكون عمدة وأصلاً يرجع إليه في حل المشكل، وبيان المجمل فيما يتعلق بهذه المسألة عند تكرر ذكرها في هذا الكلام، لنجعل الكتام فيها في ثلاثة فصول:
الأول: في ذكر الفعل والفاعل وما يتعلق بهما؛ لأن المسألة في الأفعال والفعل يدل على الفاعل ضرورة، ولا ينبغي التكلم فيها من دون بيان حقيقة الفاعل، وحقيقة الفعل، وذكر صفاته وأقسامه.
الثاني: في ذكر المسألة، والخلاف فيها، وبيان الأدلة، وما يرد عليها ورده، وذكر شبه المخالفين وبيان بطلانها.
الثالث: في ذكر ما روي عن أمير المؤمنين عليه السلام وعن بعض قدماء أهل البيت" مما يوهم القول بالجبر، وبيان تأويله وإبطاله.
مبحث أفعال العباد
الفصل الأول [في ذكر الفعل والفاعل وتعلقاتهما]
قال (قاضي القضاة): الفعل هو ما يحصل من قادر من الحوادث، واعترضة السيد مانكديم بأنه يوهم أن من شرطه أن يكون فاعله قادراً حال وجوده، وليس كذلك، فإن الرامي ربما يرمي ويموت قبل الإصابة.
وقال (الأمير الحسين) و(القرشي): هو ما وجد من جهة من كان قادراً عليه ونحوه للسيد (مانكديم)، وإنما زادوا لفظ كان لأن حال وقوعه يخرج عن تعلقه بالقادر، ولئلا يبطل الحد بالمسبب الذي يوجد بعد خروج فاعله عن كونه قادراً بالعجز، أو الموت كما تقدم في الرامي.
قال الإمام (المهدي) عليه السلام : وأحسن من هذا أن يقال: ما أثر في وجوده قادرية، وأما الفاعل فقال الأمير (الحسين): الفاعل هو الذي وجد من جهته بعض ما كان قادراً عليه.
قال عليه السلام : وقلنا بعض لأن الفاعل يكون فاعلاً وإن لم توجد منه جميع مقدوراته، وقلنا : كان احتراز عما تقدم في الفعل، وقال الإمام المهدي عليه السلام : هو من أثرت قادريته في إيجادٍ.
إذا عرفت هذا فاعلم أن السيد (مانكديم) قد ذكر فرقاً بين الفعل والمحدث، وهو أن المحدث يعلم محدثاً وإن لم يعلم أن له محدثاً، بخلاف الفعل فإنه إذا علم الفعل علم أن له فاعلاً وإن لم يعلم بعينه، ولهذا عاب قاضي القضاة على الأشعري في نقض (اللمع) استدلاله على أن للعالم صانعاً بقوله: العالم صنع فلا بد له من صانع فقال: إن العلم بأن العالم صنع يتضمن العلم بأن له صانعاً، فكيف يصح هذا الاستدلال.
قال السيد (مانكديم): ما حصل من هذه الجملة أنه إذا علم الفعل فعلاً يعلم أن له فاعلاً مّا على الجملة.
وإنما يقع الكلام بعد ذلك في تعيين الفاعل ولك في تعيينه طريقان:
أحدهما: أن تختبر حاله فإذا وجدت الفعل يقع بحسب قصده ودواعيه، وينتفي بحسب كراهته وصارفه حكمت بأنه فعل له على الخصوص.
الثانية: أن تعلم أن هذا المقدور لا يجوز أن يكون مقدوراً للقادر بالقدرة، فيجب أن يكون مقدوراً للقادر للذات وهو الله تعالى.
قلت: وأما قوله إن المحدث يعلم محدثاً وإن لم يعلم أن له محدثاً، ففيه نظر، فإن حاجة المحدث إلى محدثه ودلالته عليه مما لا امتراء فيه، وحينئذٍ لا فرق بينهما من هذه الجهة. والله أعلم.
على أن الاعتراض على الأشعري مشاحة في العبارة ولا طائل تحتها إذا فهم المقصود.
واعلم أن هذا الحد الذي ذكرناه للفاعل، وكذلك حد الفعل إنما هو على مذهب العدلية، فأما من ينفي قدرة العبد كالمجبرة، ومن يقول إن الفعل يقع بطبع المحل كقدماء الفلاسفة فلا يستغنون بهذا الحد إلا أن عدم استغناء المجبرة به ليس إلا في أفعالنا دون أفعال الباري تعالى؛ لأنهم لا ينفون القدرة في حقه، وأما القائلون بالطبع فالقدرة منتفية عندهم، وقد أجيب عليهم بأن الطبع غير معقول، فإن أرادوا به الفاعل المختار، فخطأ في العبارة فقط لأن العرب لا تسمي الفاعل المختار طبعاً، وإن أرادوا به أمراً موجباً فبطلانه معلوم، وأما قسمة الفعل فهو ينقسم أولاً إلى ما له صفة زائدة على حدوثه وصفة جنسه، وإلى ما ليس له صفة زائدة على حدوثه وصفة جنسة أي ليس له صفة زائدة على كونه فعلاً كانخفاض الرمل عند السير، والحركة اليسيرة، والكلام اليسير، ونحو ما يقع من الساهي ولا مدح فيه، وأما ما له صفة زائدة فهو فعل العالم بفعله المميز بينه وبين غيره إذا لم يكن ملجأ، وهو ينقسم إلى ما له فعله وإلى ما ليس له فعله.
الأول: الحسن، وهو ما لفاعله أن يفعله ولا يستحق عليه ذماً بوجه.
والثاني: القبيح، وهو ما ليس لفاعله أن يفعله، وإذا فعله استحق الذم على بعض الوجوه إلا في حالة عارضة، وقلنا على بعض الوجوه، لتدخل الصغائر والقبائح الواقعة من الساهي والنائم عند غير أبي هاشم، فإنه يشترط في القبح القصد، ولتدخل القبائح الواقعة من الصبيان ومن لا عقل له عند غير أبي الحسين، فإنه يشترط في القبح العلم والتمكن منه، وكذلك ما وقع من الملجأ والمكره عند من يقول بقبحها، فإنه لا يستحق الذم عليها إلا على بعض الوجوه، فإن قيل: لم وصفتم فعل الساهي ونحوه بالقبح ولم تصفوه بالحسن؟ قيل: لأن القبح يقبح لوقوعه على وجه، فمتى وقع عليه قبح من أي فاعل كان، بخلاف الحسن فإنه إنما يحسن بحصول غرض فيه، وتعريه عن سائر وجوه القبح، وهذا عند الجمهور، فأما الشيخان فعندهما أن الحسن أيضاً لا يحسن إلا لوقوعه على وجه من كونه جلب نفع، أو دفع ضرر إما للنفس أو للغير، واعترض بأنه يلزم حسن الكذب الذي فيه نفع، أو دفع ضرر.
وأجيب: بأنهما يشترطان تعريه عن وجوه القبح كما يشترطان في قبح القبيح صدوره عن قصد، وقلنا إلا في حالة عارضة احترازاً من تناول الميتة، وشرب الخمر للمضطر فقد يجب، ومع ذلك فإنه يستحق الذم عليه على بعض الوجوه وحالة الوجوب عارضة، والأصل القبح لدخوله في حقيقة القبيح، ولا يخرج من الحد ما يستحق الذم عليه على كل الوجوه؛ لأنه قد استحق على بعض الوجوه وزيادة.
ثم الحسن ينقسم إلى ما له صفة زائدة على حسنه، وإلى ما ليس كذلك.
الثاني: المباح، وهو ما عرف فاعله حسنه أو دل عليه.
قال السيد (مانكديم): ولهذا لا توصف أفعال القديم تعالى بالمباح وإن وجد فيه ما صورته صورة المباح كالعقاب.
وقال الإمام (المهدي) عليه السلام : العقاب في حكم المباح.
قال عليه السلام : (لكنه لا يسمى مباحاً في حقه تعالى؛ لأن المباح هو ما أعلم فاعله حسنه، وينقسم ماله صفة زائدة على حسنه إلى قسمين، لأنه إما أن يستحق بتركه الذم أو لا).
الأول: الواجب، والمراد باستحقاق الذم ولو على بعض الوجوه، لتدخل الواجبات المخيرة، وفرض الكفاية، والموسع والمضيق الذي تركه صغيرة، فإنه إنما يستحق الذم بالإخلال به على بعض الوجوه، وقد دخل في الحد ما استحق الذم على الإخلال به في حال عارضة كتناول بعض المحظورات والمباحات عند الضرورة، فإنه قد يجب ويستحق الذم بتركه في هذه الحالة.
والثاني: إما أن يستحق المدح بفعله أو لا.
الأول: المندوب، وهو شرعي كالنوافل، وعقلي كمكارم الأخلاق، والإحسان إلى الغير.
والثاني: إما أن يستحق بتركه المدح أو لا.
الأول: المكروه، وهو شرعي كقتل القمل في الصلاة، وعقلي كتقطيب الوجه لغير سبب، أو نحو ذلك مما لا يذم بفعله ويمدح بتركه، ثم الواجب ينقسم إلى معين، وهو ما لا بدل له، ومخير: وهو ما له بدل، ومضيق: وهو الذي لا يجوز تأخيره، وموسع: وهو الذي يجوز تأخيره عن أول أوقات وجوبه.
مثال الواجب المعين: الاعتراف بنعمة الله، وكمعرفة الله في العقليات، وكالصلاة في الشرعيات، ومثال المخير عقلاً رد الوديعة بالنفس أو الغلام، وقضاء الدين من هذا الكيس أو من هذا، وشرعاً كالكفارات الثلاث، والمضيق كقضاء الدين عند المطالبة، والصلاة في آخر الوقت، وموسع كالمثالين مع عدم المطالبة وتضييق الوقت، وينقسم الواجب أيضاً إلى ما له سبب موجب، وإلى ما ليس كذلك، فالأول: كقضاء الدين فإن سبب وجوبه الاستقراض، وشكر المنعم فإن سببه النعمة، ورد الوديعة سببه القبض، وحفظها سببه التكفل هذا في العقليات، وأما الشرعيات فكالكفارات فإن سببها اليمين أو الحنث على الخلاف، وكفارة الظهار سببها الظهار، وكفارة القتل سببها فعله، والذي لا سبب لوجوبه من العقليات الإنصاف، فإنه لا سبب له موجب، ومن الشرعيات الصلاة والصيام، ثم ينقسم ما له سبب من الواجبات إلى ما يكون سبب وجوبه من جهتنا، وإلى ما يكون سبب وجوبه من جهة الغير.
فالأول: كالكفارات، فإن سببها الحنث، أو اليمين وذلك من جهتنا.
والثاني: كالدية في قتل الخطأ، فإن سبب وجوبها القتل وهو من جهة الغير، قال السيد مانكديم: ويمكن أن يعد في هذا القسم النظر في طريق معرفة الله لأن سبب وجوبه ربما يكون بدعاءِ داع وتخويف مخوف ونحو ذلك، ويمكن عده من القسم الأول لأنه ربما يكون سببه نظراً في كتاب، أو تنبيهاً من قبل النفس، وهذا هو الظاهر لأن سبب وجوبه هو الخوف من تركه ضرراً، والخوف من فعلنا، وإنما يختلف سببه فتارة يكون من فعلنا، وتارة يكون من فعل غيرنا.
وينقسم الواجب أيضاً إلى ما يضاف إلى سببه كالكفارات، فإنه يقال: كفارة يمين، كفارة ظهار، وإلى ما يضاف إلى وقته كالصلاة، فإنه يقال: صلاة الظهر، صلاة العصر، والفرق بين الإضافتين أن إحداهما إضافة إلى سبب موجب بخلاف الأخرى.
واعلم أن الأفعال الشرعية قد توصف بالصحة والفساد، والمراد به قد يختلف بحسب اختلاف مواضعه، فإذا وصفت العقود بالصحة، فالمراد أن ذلك العقد استوفى شرائطه على ما يقتضيه الشرع فأوجب الملك الذي يحل معه التصرف، وإن وصفت بالفساد، فالمراد أنها لم تستوف الشروط فلم تفد الملك والحل، وأما العبادة إذا وصفت بهما فالمراد أنه يلزمه الإعادة أو لا، وإذا قيل شهادة صحيحة، أو فاسدة فالمراد به أن القاضي يحكم بها أو لا، وليس المراد بذلك كونها صادقة أو كاذبة؛ لأنها قد تكون صادقة ولا يصح الحكم بها كشهادة العبيد، والأب لابنه على قول، وقد تكون كاذبة وتوصف بالصحة، وذلك إذا لزم الحكم بها، وإذا وصف بهما خبر الواحد، فالمراد أنه نقل على وجه يجب العمل به أو لا، ولا يعتبر في ذلك كونه صدقاً أو كذباً في نفس الأمر؛ لأنه قد يوصف بالصحة إذا استوفى شرائط وجوب العمل به وإن كان كذباً في الواقع، ويوصف بالفساد إن لم يستوفها وإن كان صدقاً في نفسه.
نعم وأما القبيح فهو ينقسم إلى صغير وكبير، فالكبير ينقسم إلى ما يكون كفراً، وإلى ما يكون فسقاً، وسيأتي تحقيق هذه الأقسام في مواضعها إن شاء الله تعالى.
وينقسم أيضاً إلى ما يزول حكمه بالإكراه، وإلى ما ليس كذلك.
فالأول: كل ما لا يتعدى إلى الغير كإظهار كلمة الكفر، فإنه يجوز من المكره لا على جهة الاعتقاد والتدين بل على أنكم كلفتموني ذلك، أو على أن النصارى يقولونه.
والثاني: ما يتعدى ضرره إلى الغير كقتل الغير وما شاكله، فإنه لا يتغير بالإكراه، بل يلزم المكره أن يذكر نفسه بأن عقاب الله تعالى أعظم من عقاب هذا المكرِه، فلو أقدمت على ما أكرهني عليه عاقبني الله عقاباً شديداً، وإن صبرت على ما نالني من المكرِه وفاني الله تعالى أجري بغير حساب، وللقبيح قسمة أخرى، وهي أنه ينقسم إلى ما لا يمكن الانفكاك عنه إلا بأن لا يفعله كالجهل، وإلى ما يمكن الانفكاك عنه بأن يفعله على وجه آخر كالكذب، فإنه يمكن الانفكاك عنه بأن يوقعه على وجه الصدق وكالسجدة، فإنه يمكن الانفكاك عنه بأن يوقعها للرحمن لا للشيطان.
وللأفعال قسمة أخرى، وهي أنها تنقسم إلى مبتدئ ومتولد، ذكره في (الأساس) وحكاه عن (الجمهور).
قال الشارح: وسواء كانت من الله تعالى أو من العباد، وفي غيره أنها تنقسم إلى مبتدئ، ومباشر، ومتعدي، وقيل غير ذلك، وسبب الخلاف في تقسيمها ما وقع من الاختلاف بين المتقدمين والمتأخرين في تحديدها، وفيما يجوز على الله منها، وما لا يجوز، ونحن نأتي بأقوالهم فيها ليتضح الحق، ويظهر المراد، ويزول الإشكال، فنقول: قال (أبو علي)، و(أبو هاشم): المتولد من أفعالنا هو المسبب، وهو الفعل الموجود بالقدرة بواسطة فعل في محلها.
قال الإمام (المهدي) عليه السلام : وهو ينقسم عند المتأخرين من أصحابنا إلى مباشر ومتعدي، فالمباشر الفعل الموجود بالقدرة في محلها بواسطة فعل في محلها، والمتعدي الموجود في غير محلها بواسطة فعل في محلها، والمبتدئ هو ما يفعل بالقدرة في محلها لا بواسطة، وعلى هذا المباشر من المتولد، وقيل: بل المباشر الفعل الموجود بالقدرة في محلها لا بواسطة، والمتولد الموجود بالقدرة بواسطة سبب، وهذا قول المتأخرين، وعليه فالمباشر هو المبتدئ.
وقد روى في الدامغ معناه عن (أبي هاشم)، و(قاضي القضاة)، وقيل المتولد: ما يحل في غيرك، وهو معنى قول بعضهم المتولد الفعل الموجود بالقدرة في غير محلها، وعليه فالمباشر من المبتدئ هو الفعل الموجود بالقدرة في محلها سواء كان بواسطة أم لا، ولا يخفى ضعف هذا القول بقصر المتولد على ما يحل في الغير؛ لأن في المتولد ما يحل في الإنسان كالعلم المتولد عن النظر، وكالحركة الثانية وما بعدها، وقيل: هو الذي إذا وجد سببه خرج عن إمكان تركه، ورد بأن في المتولدات ما يمكن فاعله تركه بعد وجود سببه بأن يكون ثمة مانع من توليد السبب، وقيل: بل هو الفعل الثالث الذي يلي الثاني مثل الألم الذي يلي الضربة، ومثل الذهاب الذي يلي الدفع، وما سوى ذلك فمباشر سواء كان في محل القدرة أم في غيره.
وقال (الإسكافي): كل فعل يتهيأ وقوعه على الخطأ دون القصد إليه والإرادة له فمتولد، وكل فعل لا يتهيأ إيقاعه إلا بقصد، وكل جزء منه يحتاج إلى تجديد عزم، وقصد إليه، وإرادة فهو خارج عن حد المتولد، داخل في حد المباشر.
قيل: ولا وجه له.
وقال (القرشي): المتولد هو الفعل الموجود بواسطة موجبة كالعلم الحاصل عن النظر، والألم الحاصل بالتفريق والمبتدئ مقابله.
قال: وهما يفارقان المباشر والمتعدي مفارقة الأعم للأخص؛ لأن المباشر هو الموجود في محل القدرة عليه، والمتعدي هو الموجود في غير محلها بواسطة فعل في محلها، فكل متعد متولد ولا عكس، وكل مباشر مبتدئ بحسب الخلاف بين الشيوخ ولا عكس.
قلت: أراد بالخلاف ما تقدم من أن بعضهم يجعل كل مباشر مبتدئ، وهم الذين يحدون المباشر بأنه الموجود بالقدرة في محلها، لا بواسطة وهم المتقدمون، وبعضهم يحده بأنه الموجود بالقدرة في محلها، ولا يشترطون أن يكون بلا واسطة وهم المتأخرون، وعلى هذا لا يكون كل مباشر مبتدئ؛ إذ في المباشر ما هو متولد كالعلم وكثير من الأكوان والاعتمادات، والحاصل أن بعض المتكلمين يجعل المباشر من المتولد وهم من يعتبر الواسطة في حده، وبعضهم يجعله نفس المبتدئ وهم من لا يعتبرها، وبعضهم يطلقه على المبتدئ، والمتولد كما يفهم مما سبق، وعليه (النجري) و(الشرفي)، فإنهما قسما المتولد إلى مباشر ومتعدي كالعلم وتحريك الغير، ثم قسما المباشر إلى متولد كالعلم، ومبتدئ كالاعتماد.
قال (النجري): والمبتدئ لا يكون إلا مباشراً.
قال الإمام (المهدي) عليه السلام : واتفق المتكلمون على أنه لا بد من فرق بين المباشر والمتولد وإن اختلفوا في الفارق، والوجه المقتضي لوجوب الفرق أن الواحد منا لما وجد من نفسه أنه قد يفعل فعلاً لا يحتاج في إيقاعه إلى فعل يقدمه عليه كالحركة المبتدأة، وكالإرادة والكراهة ونحوهما، ويجد من نفسه أنه قد يفعل ما يحتاج فيه إلى تقديم فعل غيره كالعلم المحتاج إلى النظر، والتأليف المحتاج إلى الكون، والألم المحتاج إلى الضرب، والكون المحتاج إلى الاعتماد احتجنا إلى الفصل بين الفعلين في الاسم، فسمينا المحتاج إلى السبب متولداً تشبيهاً بتولد الحيوان، وافتقار الولد في وجوده إلى الوالد، وسمينا ما لا يحتاج مباشراً تشبيهاً بالمباشر للبدن من اللباس لما لم يكن بينه وبين إيجاده بالقدرة حائل كاللباس المباشر، وكل أهل الأقوال ملاحظون لهذا التشبيه، خلى أنما اخترناه هو الأشبه والأقرب. ذكره في الدامغ، وهذا كله بالنظر إلى أفعالنا، وأما بالنظر إلى أفعال الله تعالى فقد تقدم أنها تنقسم إلى: مبتدئ، ومتولد، ومنع أبو علي الثاني لاستلزامه الحاجة إلى السبب، ورد بأنا نعلم كثيراً من أفعاله تعالى واقعاً بحسب غيره كسير السفينةولا تلزم الحاجة إلا حيث كان تعالى لا يقدر بدون السبب، واختلفوا في إطلاق المباشر على أفعاله تعالى، فمنعه القرشي لأن أفعاله تعالى كلها مخترعة.
قال الإمام (عز الدين) عليه السلام : يعني المبتدئ منها والمتولد إذ لا يفعل بقدرة، ولا يعتبر في أفعاله محل القدرة، وقيل: إن المتولد من فعله تعالى لا يسمى مخترعاً، وإنما يختص باسم المخترع المبتدئ، وهو ظاهر كلام الإمام (المهدي) عليه السلام فإنه قال: اتفق أصحابنا على أن الفعل المخترع ما وجد لا بالقدرة ابتداء.
قال عليه السلام : ويختص به الباري تعالى، ولا يصح من غيره اختراع، وأجاز الشرفي إطلاق المباشر على أفعاله تعالى، وقال: هو المفعول بلا واسطة، وهو المبتدئ والظاهر منعه لما فيه من إيهام التشبيه، وللفعل قسمة أخرى، وهي أنه ينقسم إلى ما يدخل جنسه تحت مقدور العباد، وإلى ما ليس كذلك، وسيأتي إن شاء الله.
الفصل الثاني: في تحقيق مسألة أفعال العباد
والكلام فيها يقع في أربعة مواضع: الأول: في ذكر الخلاف، الثاني: في بيان أدلة أهل العدل ورد ما يرد عليها، والثالث: في ذكر شبه المخالفين وبيان بطلانها، والرابع: فيما يلزم على مذهب المخالف من اللوازم الباطلة، وغير ذلك من الحكايات والمناظرات.
الموضع الأول: [إيضاح الخلاف في مسألة أفعال العباد]
اتفق الناس على أن لأفعالنا بنا تعلقاً والعلم بذلك ضروري، واتفق المسلمون على أن لها بالباري تعلقاً ثم اختلفوا في تفاصيل ذلك، فالذي عليه أهل البيت" وسائر الزيدية، والمعتزلة، والقطعية وهم فرقة من الإمامية والخوارج، وأكثر الفرق: أنا المحدثون لأفعالنا حسنها وقبيحها، وأنها غير مخلوقة فينا، وهذا معنى تعلقها بنا، ومعنى تعلقها بالباري تعالى أنه أقدرنا عليها أي خلق فينا قدرة يصح تأثيرها في إيجاد أفعالنا، أو جعلنا على صفة تؤثر في ذلك على حسب الخلاف بين الأصحاب، وخالف في ذلك المجبرة جميعاً، فقالوا: هي من الله تعالى، ثم اختلفوا فقال (جهم بن صفوان) وأصحابه: لا تعلق لها بنا أصلاً لا كسباً ولا إحداثاً، وإنما نحن كالظروف لها، وليس المحدث لها في العبد إلا الله تعالى كالألوان وحركات الشجر، وجعلوا نسبتها للعبد مجازاً كنسبة الطول والقصر إليه، وسووا في ذلك بين المباشر والمتعدي.
وقال (ضرار بن عمر): بل لها بنا تعلقاً من جهة الكسب وإن كانت مخلوقة فينا من جهة الله تعالى، ولم يفرق بين المباشر والمتعدي، وبه قال (الأشعري) في المباشر، فأما المتعدي فالله متفرد به عنده، ومثل قول ضرار حكاه في القلائد والأساس عن النجارية، والكلابية، والأشعرية وحفص الفرد.
قال الإمام (المهدي) عليه السلام : وقالت قدماء الأشعرية: المباشر خلق لله وكسب للعبد، والمتعدي يتفرد الله تعالى به، وأما متأخروا الأشعرية كـ(الجويني) و(الغزالي) ، و(الرازي) ، و(أبي إسحاق) فقالوا: بل لقادرية العبد تأثير في إيجاد الفعل كما تقوله العدلية، خلا أنهم جعلوا القدرة موجبة للمقدور فلزمهم الجبر.
وقالت (المطرفية): العباد فاعلون لكل ما لا يتعدى من أفعالهم دون المتولدات والمسببات، فإن الله فاعلها ويسمونها انفعالاً، فعلى هذا فعل العبد مقصور عليه لا يتعدى إلى غيره عندهم.
الموضع الثاني: في ذكر حجج أهل العدل
واعلم أنهم اختلفوا هل العلم بأنا الموجدون لأفعالنا ضروري أم استدلالي، فقال (الأمير الحسين) عليه السلام و(أبو الحسين) ، و(ابن الملاحمي) ومن تبعهم واختاره المقبلي: العلم بذلك ضروري بديهي يعلمه حتى الصبيان، وعليه ابتناء المعاملة والمدح والذم والتعجب، وسائر الأمور المتفرعة التي لا تكون إلا مع صدور موجبها عمن مدح وذم وتعجب منه، والعلم بهذه الفروع ضروري فكيف بأصلها.
قال الأمير (الحسين) عليه السلام : اعلم أن كون العبد فاعلاً لتصرفاته أمر معلوم بالاضطرار لا يقدح في ثبوته الإنكار، فمنكره كمنكر كون دجلة في الأنهار، ونافيه كنافي ظلمة الليل وضياء النهار، وما هذا حاله لا يحتاج إلى نصب دلالة.
وقال (المقبلي) بعد أن قرر أن هذا أمر ضروري: وهذا هو الحق الذي لا مرية فيه إلا أن لإدراكه مقدمة، وهي أن تفرد نفسك لله تعالى.
وقال في (الأرواح): وقد شهد الجميع بأن إنكار الفرق ما بين صاعد المنارة والساقط منها ضروري، فتضمن الإقرار والشهادة بإنكار الجبري الضرورة.
قلت: أراد بقوله أن إنكار الفرق ضروري أنه إنكاره إنكارٌ للضرورة. والله أعلم.
وقال (أبو الحسين): العلم بأنا المحدثون لأفعالنا ضروري لا مجال للشك فيه؛ لأن العقلاء يعلمون بعقولهم حسن الأمر بها والنهي عنها والترغيب والترهيب والمدح والذم، ويعللون ذلك بكونه فعله، وكل ذلك فرع على أنهم محدثون لها، ومحال أن يعلم الفرع ضرورة والأصل استدلالاً، يوضحه أنهم يطلبون الفاعل طلب المضطر إلى أنه يفعل، ويجد الطالب من نفسه العلم بأن المطلوب الذي يحدث فعله، ولذلك يتلطف لاستدعاء الفعل منه، ويعظه، ويزجره، ويعده ويتوعده بحسب الحال، ويتعجب من فعله وييستظرفه، ويعجب العقلاء منه، ويعلل ذلك بكونه فعله، ونجد من أنفسنا الفرق الضروري بين أمرنا بالقيام والقعود، وبين أمرنا بإيجاد السماء والكواكب، فلولا أن العلم الضروري حاصل بأنا الموجدون لأفعالنا لما صح ذلك.
قال (أبو الحسين): والمجبرة يعلمون ذلك، ولكن جحده علماؤهم ميلاً إلى الهوى وتعصباً للأسلاف، وطلباً للرئاسة، وتقرباً إلى السلطان، وليست شبههم أكثر ولا أدق من شبه السوفسطائة، ولم يدل ذلك على أنهم غير جاحدين للضرورة على أنه يمكن صرف خلاف الجميع إلى أنهم علموا ولم يعلموا أنهم علموا، فإنه لا يمتنع أن تطرأ شبهة في العلم بالعلم لا في العلم نفسه، يزيده وضوحاً أنك إذا حكيت مذهبهم هذا لعوامهم الذين لا يعرفون كيفية أقوالهم لأنكروه، ولنزهوهم عن هذه المقالة، بل تجد علماءهم معتزلة في المعاملات، فلا يذمون إلا من ظلمهم، ولا يحمدون إلا من أحسن إليهم، حتى لو رميت أحدهم بحجر فشجه لذمك ولم يذم الحجر، ولوثب إليك وثبة مضطر إلى أنك الذي جرحته، ولو أخذت عليه دانقاً لما سهل فيه، ولخصك من بين الناس بطلبه.
وبالجملة فلو جمعت المجبرة في صعيد واحد ثم رأوا رجلاً يقتل آخر، أو يأخذ ماله لشهدوا أنه قاتله ولما خالجتهم شبهة في ذلك، ولو كان الحق ما ذهبوا إليه لكانت شهادتهم بذلك زائرة.
واعلم أن هذا الذي أوردناه عن القائلين بأن العلم بأنا الموجدون لأفعالنا ضروري، إنما هو تنبيه على ما ادعوه من الضرورة وتنفل ببيان الدليل على دعواهم، وتوصل إلى قطع شبه الخصم وبيان فضيحته، وإلا فالضروري لا يفتقر إلى الدليل.
قالوا: والشبه التي تعلق بها المجبرة لا يجب الجواب عنها وإن قدحت؛ لأن ما قدح في الضروريات لا يلتفت إليه، ولا يعرج عليه للقطع بصحة ما قدح فيه.
وللإمام (المهدي) عليه السلام في بيان كون العلم بذلك ضرورياً طريقة أخرى، وذلك أنه قال: التحقيق أن الذي نعلمه ضرورة هو وقوف أفعالنا على دواعينا ووقوعها مطابقة لها، وهذا لا يدخله تشكيك، وأما كوننا الموجدين لها أم الباري تعالى هو الموجد للداعي إليها، والموجد لها مطابقة له، فذلك يقبل التشكيك لأنه يحتاج إلى تأمل، لكن ينظر هل العلم الحاصل بأنا الموجدون لأفعالنا بعد التأمل متولد عن دليل ومقدمات بعضها لا يعلم إلا بالدلالة أم حصوله بعد التأمل ضروري، كما أن بعض الضروريات تحتاج إلى مراجعة النفس والفكر اليسير.
قال عليه السلام : والأقرب أن هذه المسألة إما من هذا القبيل، أو من باب إلحاق التفصيل بالجملة؛ لأن العلم بها يتفرع على مقدمات ضرورية، فهاتان طريقتان:
الطريقة الأولى: أن نقول قد تقدم أن هذا العلم يفتقر إلى أدنى تأمل؛ لأنه يقبل التشكيك، وأما كونه بعد التأمل ضرورياً، فإنا إذا تأملنا وجدنا من أنفسنا أنه كان يمكننا ترك ما قد وقع منا وإن لم نضطر إلى أنه وقع بحسب دواعينا ولا ينازع في ذلك إلا سفسطي، لكن من قد سبق إليه قبل هذا التأمل شبهة دعته إلى اعتقاد كوننا مضطرين غير مختارين لم ينفعه هذا التأمل بعد ذلك؛ لأن من قد قطع بصحة شيء، أو فساده تعذر عليه النظر فيه؛ لأن النظر لا يصح إلا من مجوز غير قاطع، وهذا هو عذر المجبرة.
قلت: فبهذه الطريقة يكون علمنا بإيجادنا لأفعالنا ضرورياً، لكن بعد أدنى تأمل لا بالبديهة كما قاله الأولون.
الطريقة الثانية: جعل هذا العلم من باب إلحاق التفصيل بالجملة، وبيانه أن العقلاء يعلمون حسن الزجر عن القبيح، والتوبيخ عليه ضرورة وإن اختلفوا في تفسير القبيح، ويعلمون ضرورة قبح زجر الرجل عن طوله وسواده، وقبح توبيخه على ذلك، ثم إنا نعلم ضرورة أن وجه استقباحه كونه مضطراً إليه لا يمكنه الانفكاك عنه، لا وجه لاستقباحه سوى ذلك، ويتفرع على هذه المقدمات مقدمتان ضروريتان يتفرع عنهما العلم الثالث، وهو إلحاق التفصيل بالجملة، وبيانه أن كل ما اضطر إليه قبح التوبيخ عليه ضرورة، وفي أفعالنا ما لا يقبح الزجر عنه ضرورة كالظلم والكذب، فتحصل عن هذين العلمين علم ثالث، وهو أن في أفعالنا ما لا نضطر إليه، والخصم لا ينازع في كون العلم بالمقدمتين الأوليين ضرورياً، وإن نازع في تفسير القبح، وقال إنه صفة نقص، فمطلوبنا حاصل من غير لبس، فإن نازع في أي المقدمتين فذلك سفسطة ظاهرة، وكذا إن نازع في كون وجه الاستقباح الاضطرار؛ لأنا نجد العلم الضروري أنه هو العلة، كما نعلم ضرورة أن العلة في تناول البهيمة العلف شهوتها، والمشكك في ذلك كالمشكك في المشاهدات أنها خيالات لا حقيقة لها.
قال عليه السلام : فهذه هي الطريقة المرضية عندنا، ولا أظن أبا الحسين أراد إلا ذلك، فإن قلت: فما هذا العلم الثالث أضروري هو أم استدلالي؟ أم لا أيهما؟
قال عليه السلام : قد اختلفت أقوال مشائخنا في ذلك، لكن قد اتفقوا على الفرق بينه وبين العلم النظري بأن هذا مبتدئ ليس بمتولد عن النظر، واختلفوا في الموجد له هل هو الباري تعالى فهو ضروري أم أحدنا فليس بضروري، لكنه جار مجراه في أنه لا ينتفي عن النفس بشك ولا شبهة، بل هو كالملجأ إلى إيجاده مهما بقي معه العلمان الأولان.
قال عليه السلام : وأي الوجهين ثبت في هذا العلم أعني كونه ضرورياً يحتاج إلى أدنى تأمل أم كان من باب إلحاق التفصيل بالجملة، فلست أقول إن المجبرة فيه جاحدون للضرورة مكابرون، بل أحملهم على ما قدمت تحقيقه، وهو أنه سبق إلى أوهامهم من الشبه ما دعاهم إلى اعتقاد جهل دافع حصول هذا العلم بعد التأمل. والله أعلم.
وقد استوفينا كلام الإمام المهدي عليه السلام على طوله مع بعض تصرف واختصار؛ لأنه بحث مفيد، ومنهج سديد لم أرَ لغيره مثله، والمسألة جديرة بالبسط والتحقيق، انظر عند أول ما تجد كلام أبي الحسين وأتباعه، فإنك تقول هذا هو الحق الذي لا محيص عنه، فإذا رأيت ما قاله الإمام المهدي عليه السلام من أن الذي نعلمه ضرورة إنما هو وقوف أفعالنا على دواعينا دون كوننا الموجدين لها، فلا بد وأن يدخل في نفسك شيءٌ، ولا تبقى على تلك العقيدة الأولى، فإذا استكملت النظر في أدلة المسألة كلها، وظهر لك ما يرد عليها، وما يجاب به تبين لك الحق عن دليله، فأما بغير هذا فليس إلا من باب التقليد، وإلا لما انتفى أو ضعف بالتشكيك، وهذا عذرنا في تطويل بعض الأبحاث. والله الموفق.
هذا وأما القائلون بأن العلم بهذه المسألة استدلالي، فلهم حجج عقلية وسمعية، فالعقلية كثيرة إلا أنا نذكر هنا أجلاها، فنقول:
أحدها: التفرقة الضرورية بين حركة الساقط والصاعد، والمرتعش، والباطش، والحيوان، والجماد، وهذه الحجة اعترف بها الأشاعرة وتعلقوا بالكسب.
الحجة الثانية: تعلق المدح والذم ونحوهما بالفاعل من حيث أنه فاعل دون شكله، ولونه، وسوطه، وسيفه.
قال (المقبلي): وهذا ضروري، ودان له كثير من الأشاعرة، وفروا إلى الكسب، وقد اعترض بعضهم هذه الحجة، فقال: ألستم تحمدون الله على الإيمان، وهو من فعلكم ومتعلق بكم، وتذمون على الإماتة بالغرق أو الحريق أو غير ذلك.
والجواب: أن حمدنا لله تعالى ليس إلا على مقدمات الإيمان من الأقدار والتمكين والألطاف، وذلك موجود من قبله تعالى، وهو تعالى يحمدنا على فعله كما قال تعالى: {فَأُوْلَئِكَ كَانَ سَعْيُهُمْ مَشْكُورا ً}[الإسراء:19]، ولهذا قال بعض أصحابنا، وقد أورد عليه هذا السؤال بحضرة بعض الأكابر، فقال: إنا لا نحمد الله على ذلك، وإنما الله يحمدنا عليه، فانقطع السائل، فقيل للمسؤول: شنعت المسألة فسهلت.
قال (القرشي) : وصار الحال في حمدنا له تعالى على الإيمان كالحال في الوالد إذا اجتهد في تخريج ولده، وحسن تأديبه حتى يبدو صلاحه، فإنه يقال: هذا من أبيه، والمراد أنه تقدم من أبيه من العناية والرعاية ما كان سبباً في ذلك، ومثل هذا يقع الكلام فيمن ذم من وضع غيره في النار فحرق ونحو ذلك، فإن الذم لا يقع على الإماتة، بل على سببها.
الحجة الثالثة: أنه يجب وقوع أفعالنا على مقتضى أحوالنا، فتوجد بحسب قصودنا ودواعينا، وتنتفي بحسب كراهتنا وصارفنا، فلولا أنها من فعلنا لما وجب فيها ذلك، كما لا يجب في ألواننا وقصرنا وطولنا.
قال السيد (مانكديم): وهذه الطريقة هي المعتمدة، واعلم أن كثيراً من أصحابنا يزيد بعد قوله: وتنتفي بحسب كراهتنا وصارفنا مع سلامة الحال تحقيقاً أو تقديراً، وأرادوا بسلامة الحال زوال المانع، وخلوص الداعي من صارف يساويه، أو يزيد عليه، وأرادوا بالتحقيق فعل العالم المميز لفعله، وبالتقدير فعل الساهي والنائم، فإنهما لو كانا في اليقظة والتنبه لما وجد الفعل، ولا انتفى إلا بحسب الداعي والصارف المحقق عند الجمهور، خلافاً (لأبي الحسين)، فعنده أن دواعيهما وصوارفهما محققة؛ لأن الداعي قد يكون ظناً واعتقاداً، وهما صحيحان على النائم والساهي، وأجيب بأن الداعي فعل فإما أن يحتاج إلى داع آخر من فعلنا فيتسلسل، أو ينتهي إلى داع ضروري، وهو لا يصح لأن الله لا يفعل الظن في أحدنا، وكذلك الاعتقاد؛ لأنه لو فعله في النائم لكان علماً ضرورياً، والمعلوم خلافه، وأما القصد فلا يصح منهما فعله لاحتياجه إلى العلم.
قلت: وفي هذا الجواب نظر، فإنه يلزم مثله في كل اعتقاد وكل ظن، فيؤدي إلى وجوب الحكم بانتفائهما مطلقاً، لأنه إذا انتفى كونهما من الباري تعالى تعين كونهما من العبد، والمفروض أن كونهما منه يؤدي إلى التسلسل، وقصر التسلسل على ظن الساهي والنائم واعتقادهما تحكم، فالأولى إما إثبات الداعي لهما كما سيأتي، أو الاستدلال على نسبة الفعل إليهما بدليل آخر، وهو وقوعه بحسب قدرتهما، ولا يحتاج إلى إثبات الداعي المقدر في حقهما. والله أعلم.
إذا ثبت هذا فاعلم أن هذه الحجة قد اشتملت على أصلين لا بد من بيانهما، وإقامة الحجة القاطعة على كل واحد منهما:
الأصل الأول: أن هذه التصرفات يجب حصولها وانتفاؤها بحسب دواعينا وصوارفنا، ودليله أن أحدنا إذا دعاه الداعي إلى القيام حصل منه القيام على طريقة واحدة، ووتيرة مستمرة بحيث لا يختلف الحال فيه، وكذلك لو دعاه الداعي إلى الأكل بأن يكون جائعاً وبين يديه ما يشتهيه، وهذا يدل دلالة واضحة على أنها موقوفة على دواعينا وتقع بحسبها، وكما تقف على دواعينا تقف على قصودنا أيضاً، وعلى آلاتنا، والأسباب الواقعة من جهتنا، ألا ترى أن قولنا محمد رسول الله لا ينصرف إلى محمد بن عبد الله دون غيره من المحمدين إلا بإرادتنا، والكتابة الحسنة تقف على كمال الآلة من الأقلام وغيرها، والألم يقع بحسب الضرب يقل بقلته، ويكثر بكثرته، فصح حاجة هذه التصرفات إلينا، وتعلقها بنا على الحد الذي ادعيناه، وقد قال الإمام (المهدي) عليه السلام : إن العلم بوقوع أفعالنا بحسب دواعينا وصوارفنا ضروري لا يحتاج إلى الاستدلال، وإنما الذي يحتاج إلى الدليل هو معرفة أنا الموجدون لها، قالوا: فعل الملجأ يقع بحسب قصد الملجيء وداعيه، ثم لا يدل عندكم على أنه فعله، وسير الدابة تابع لقصد الراكب، ونعيم أهل الجنة تابع لاختيارهم، واللون الحادث عند الضرب يقل بقلته ويكثر بكثرته، وبياض القبيطا يقع بحسب الضرب من جهتنا، وليس البياض فعلنا، وسواد الحبر يقف على أحوال خلط الزاج بالعفص، والحرارة الحادثة عند حك إحدى الراحتين بالأخرى يقل بقلته ويكثر بكثرته، ولا يدل شيء من ذلك على أنه واقع من جهتنا ومتعلق بنا، فكذا في مسألتنا.
والجواب: أما فعل الملجأ فهو واقع بحسب قصده وداعيه، لكن وافق ذلك قصد الملجئ وداعيه، وكذلك الكلام في الدابة، ولذا لو أراد بها الإقدام على السبع أو الحية لأبت ذلك، وأما نعيم أهل الجنة فليس بحسب قصودهم ودواعيهم، ولهذا لو دعا أحدهم الداعي إلى أن يبلغ درجة الأنبياء لما حصل له ذلك، فصح أنه واقع بحسب إرادة الباري تعالى.
وأما اللون الحادث عند الضرب، فإنما هو لون الدم انزعج بالضرب وليس بحادث، وقد ذهب البغداديون إلى أنه متولد عن الضرب، ويبطله أنه كان يلزم أن يولد الضرب في الجماد؛ لأن المحل محتمل، والسبب حاصل ولا مانع، والمعلوم خلافه، فإن قيل: أليس إن الضرب لا يجب أن يولد الألم في الجماد وإن ولده في الحي، فهلاّ جاز مثله في اللون.
قيل: إنما لم يصح في الألم لأن الضرب إنما يولده بشرط انتفاء الصحة، وهذا إنما يتأتى في بدن الحي، وليس كذلك اللون، فظهر الفرق بينهما، وأيضاً لو كان اللون متولداً عن الضرب للزم أن يتولد من أول ضربة، وأن يتولد في ظاهر البشرة، وكذا بياض القبيطا، فإن ذلك اللون ليس بحادث، بل هو لون كان فيه وظهر بالضرب، ولهذا يستعان في ذلك ببياض البيض، وكذلك الكلام في اللون الحاصل عند خلط الزاج بالعفص، والحرارة الحاصلة عند حك أحد الراحتين بالأخرى.
وأما الأصل الثاني: وهو أنها لو لم تكن من فعلنا لما وجب فيها ذلك، فدليله أنها لو كانت من فعل الله تعالى لجرت مجرى الصور والألوان ونحوها مما علمناه أن العلة في تعذره علينا أنه لا يقف على أحوالنا، بل يوجد وإن كرهناه، ويفقد وإن أردناه، وكذلك أفعال غيرنا لما لم تكن من فعلنا لم تقف على أحوالنا.
فإن قيل: حاصل دليلكم أن أفعال العباد توجد بحسب الدواعي والصوارف، وتنتفي بانتفائها، وأنها لما كانت كذلك وجب كونهم الموجدين لها؛ لأنها قد دارت على الدواعي والصوارف وجوداً وانتفاءً، ونحن وإن سلمنا لكم ذلك فلنا: أن نقول دليل الدوران ظني حتى أن بعضهم لم يتمسك به في الفروع الظنيات، فكيف يتمسك به في قطعيات المسائل، ولا مانع من أن يوجد الله أفعالكم عند قصودكم بمجرى العادة.
قيل: لا نسلم أن الدوران لا يفيد إلا الظن، بل قد يفيد القطع اليقين إذا كَثُرَ تكرره واختباره، بل قد يفيد الضرورة كما في سائر التجربيات.
وأما قولكم: لا مانع من أن يوجد الله أفعالنا عند قصودنا بمجرى العادة.
فالجواب: أنه لو كان ذلكم كما ذكرتم لوجب صحة اختلافه، فكنا نجوز وقوعها وانتفاءها، ولا صارف بأن تختلف العادة كما في الحر والبرد، فإنه لما كان طريقه العادة اختلفت لاختلاف البلدان، وهكذا كل شيء طريقه العادة، فإنه يجوز اختلافه كالإحراق ونحوه.
كما روي أن في الحيوانات حيواناً يقال له السمندل يدخل في النار، ويتمرغ فيها فلا تؤذيه ولا يحترق بها، حتى أنه يتخذ من دبره منديل غمر، فكلما توسخ يلقى في النار فيعود أنظف ما يكون.
وروي أن بكرمان خشبة لا تحرقها النار.
قال في (شرح الأصول): وكذلك في مسألتنا لو كان حدوث هذه التصرفات عند قصودنا بمجرى العادة لجاز أن يختلف الحال فيها حتى يصدق قول من قال إنه شاهد في بعض البلاد النائية عنَّا من كان يقع فعله منه عند صارفه، وينتفي عند داعيه، ويمكنه نقل الأجسام الثقيلة وهو ضعيف، ولا يمكنه نقل الخفيف منها إذا عاد إلى قوته، وتتأتى منه الكتابة البديعة ولما يعلمها ولا عُلِمها، فلما تعلّمها لم يتأت منه ذلك، ومن صدق هذا المخبر فهو متجاهل، أو غير عاقل.
دليل آخر ذكره القرشي: وهو أن أفعالنا لو كانت مخلوقة عند قصودنا بمجرى العادة لكنا نجد أنفسنا مدفوعة إليها، وخلافه معلوم، وأيضاً لو جوزنا أن تكون من فعل غيرنا وإن وجدت بحسب أحوالنا لجوزنا أن تكون من فعل غير الله تعالى، وقد اعترض الإمام المهدي عليه السلام على أصحابنا في قولهم باختلاف ما طريقه العادة، فقال: بِمَ تعلمون وجوب اختلاف العاديات ضرورة أم دلالة؟ الأول ممنوع، والثاني مسلم، لكن لا دليل لكم على ذلك إلا حكمة الباري وعدله؛ لئلا يلتبس الواجب بالجائز، وهذه طريقة غير مرضية لوجوه:
أحدها: أن عدل الباري وحكمته إنما يثبت إذا ثبت أن أفعال العباد غير مخلوقة فيهم، فأما مع تجويز كونها خلقاً فيهم فلا، فاستدلالكم على أنها ليست خلقاً فيهم بما يفتقر إلى العدل والحكمة دور محض لا يخفى عن ذوي نظر.
الوجه الثاني: سلمنا أنه ليس بدور لزمكم أن لا يصح أن يعلم العبد أنه محدث لفعله حتى يعلم الباري وعدله وحكمته، وخلاف ذلك معلوم.
الوجه الثالث: أنا لا نسلم أنه يجب على الله خلف العادات؛ لئلا يلتبس الواجب بالجائز؛ لأن العبد إذا علم أن العادة قد تستمر في بعض العادات لم يكن له القطع بوجوب ما وجده مستمراً، بل يقف على الدليل في الحكم بوجوبه، أو جوازه.
قلت: ويمكن أن يجاب بأنا لم ندع وجوب اختلاف العاديات، وإنما ادعينا جوازه، ودليل الجواز وقوع ذلك كما تقدم، والوقوع فرع الجواز، ويمكن الجواب عن الوجه الأول بأنا لا نسلم توقف عدل الباري على كون أفعال العباد منهم، بل على أنه عالم بالقبيح ووجه قبحه مع غناه عنه وعلمه بغناه، وكيف يتوقف على كون أفعال العباد منهم وفيها ما هو حسن، ولو فعله الباري لم يخرج به عن العدل والحكمة كالإحسان، وغاية الأمر أن بعض أفعالهم من القبائح التي لا يفعلها الباري تعالى لعلمه بقبحها، وهذا لا يتوقف عدله عليه خاصة، وإنما هو بعض القبيح الذي يتوقف العدل على العلم بجملته.
والحاصل أن المانع من فعله سبحانه للقبيح هو علمه به وغناه عنه لا نفس القبيح، فتأمل.
وأما الوجه الثاني: فلم يظهر للملازمة التي ذكرها وجه مع بطلان الوجه الأول وفوق كل ذي علم عليم.
وأما الوجه الثالث: فقد تقدم أنا لا نقول بالوجوب، وقد وقفنا على الدليل فلم نحكم بجواز اختلاف العاديات إلا لوقوعه كثيراً. والله أعلم بالصواب.
فإن قيل: قولكم إن أحدنا محدث لتصرفاته؛ لأنها تقع بحسب قصده وداعيه باطل بالساهي والنائم، فإنهما محدثان لتصرفهما وإن لم يقع بحسب داعيهما وقصدهما، بل لا داعي لهما ولا قصد، فإن قلتم إنهما غير محدثين، وجب أن لا تكون أفعالهما منهما.
فالجواب: أما (أبو الحسين) ومن تبعه فلا يتوجه عليهم هذا السؤال؛ لأنهم يقولون إن الساهي والنائم كاليقظان لا يفعلان الفعل إلا لداع، بناء على أصلهم من استحالة الفعل من دون داع، وأما الجمهور فقد احترزوا عن هذا الاعتراض بقولهم إما محققاً أو مقدراً، ومعلوم أن تصرفهما وإن لم يقع بحسب قصدهما محققاً فقد وقع بحسبه مقدراً؛ لأنا لو قدرنا أن لهما قصداً لكان تصرفهما بحسبه.
وقال السيد (مانكديم): الذي يدل على أن الساهي محدِث كالعالِم هو ما قد ثبت أن فعله يقع بحسب قدرته يقل بقلتها، ويكثر بكثرتها، وعلى هذا فإنه لو كان في منتهى رجله كوز يمكنه أن يحركه، ولو كان بدل الكوز حجر عظيم لم يمكنه نقله ولا تحريكه، وأيضاً فمعلوم أن النائم وهو بالري مثلاً يعتقد أنه ببغداد، وهذا الاعتقاد جهل قبيح، فلا يخلو إما أن يكون من قبل الله تعالى، أو من قبل غيره، أو من جهته، لا يجوز أن يكون من جهة الله تعالى لأنه قبيح، ولا من جهة غيره لأن الغير إنما يعدي الفعل عن محل القدرة بالاعتماد، والاعتماد لا يولد الاعتقاد فلم يبق إلا أنه من جهته.
وقال الإمام (المهدي): الحق عندي أن الساهي والنائم كاليقظان في أن الفعل الكثير والكلام لا يقع عنهما إلا لداع، بخلاف الفعل اليسير الذي يصح صدوره من غير قصد، ألا ترى أن النائم إذا صدر منه كلام فإنما يكون عن رؤيا رآها يدعوه إلى ذلك، وكذلك في أفعاله التي ليست يسيرة، فإن من النيام من يقوم ويريد الخروج لرؤيا رآها تفزعه أو تفرحه، وربما حرك الصبي فكه في نومه لاعتقاده كونه راضعاً، وربما حركت المرأة يدها كما تفعل الطاحنة لاعتقاد ذلك، وأما تحريك الأصبع ونحوه فيجوز أن يصدر لا لداع من النائم واليقظان.
قال عليه السلام : ولست أقول كقول (أبي الحسين) إن الفعل لا يصح إلا لداع، بل أقول لا فرق بين النائم واليقظان في أن الفعل الكثير إذا صدر منهما استلزم الداعي، ولا فرق بينهما في ذلك، والمجنون والنائم يقطع بصحة ذلك منهما -أعني صدور الفعل الكثير- ولا بد من باعث لهما على الفعل، فباعث النائم الرؤيا، وباعث المجنون الخيال، وأما الساهي فمن البعيد أن يصدر منه فعل كثير في حال سهوه، وإنما يصدر منه اليسير الذي يصدر مثله من اليقظان من غير داع، ولا إرادة.
وحكى عليه السلام عن (البهشمية) نحو ما تقدم من منع الداعي المحقق للساهي والنائم لنحو ما مر من امتناع كون الداعي من جهة الله تعالى، ثم قال: وأما إذا كان فاعل الاعتقاد أو الظن هو النائم بنفسه، فمهما فعل فإما أن يفتقر إلى داع، أو لا.
الثاني: قولنا وهو أنه يقع الفعل منهما لا لداع، وإن افتقر إلى داع كان الكلام فيه، فيتسلسل أو ينتهي إلى داع ضروري من جهة الله تعالى، فيكون النائم عالماً، هذا خلف فبطل أن يكون لداع.
قال عليه السلام : هكذا ذكر أصحابنا معناه، ثم قال مجيباً: فأما ما احتج به أصحابنا من أن ذلك الداعي فعل فيفتقر إلى داع، فلنا أن نجيب أن الباعث على الداعي رؤيا، وسبب الرؤيا خواطر.
قلت: وما ذكره عليه السلام هو الحق، وقد تقدم لنا التنظير على معنى ما حكاه الإمام (المهدي) عليه السلام هنا، ولا أدري ما وجه جزمهم بانتفاء الداعي في حق النائم مع إثباتهم الاعتقاد له، والاعتقادات من جملة الدواعي، فقالت البهشمية: الرؤيا اعتقاد يفعله النائم ابتداءً، أو لداع من ملك، أو من شيطان.
وقال (البلخي): بل هي خواطر داعية إلى الاعتقاد من الله، أو من الشيطان، أو من الطبيعة، وقال أبو علي: منها ما يكون فكراً كمن يكثر التفكر في شيء فيعتقده حال النوم، ومنها ما يكون من الله أو من ملك، ومنها ما يكون من الشيطان نحو ما يعتقده من الشر، فهؤلاء كما ترى قد أثبتوا للنائم اعتقاداً، وجعلوا الباعث عليه أحد هذه الأسباب التي بها ينتفي التسلسل، فما المانع من أن يكون هذا الاعتقاد هو الداعي له إلى الفعل؟.
وأما قولهم: إنها لو انتهت إلى داع ضروري من جهة الله تعالى لكانت علماً، فنقول: قد جعلتم الداعي من جهة الله تعالى أحد الأسباب، على أنه لا يلزم إلا لو كان الاعتقاد من فعل الله تعالى، وقد نصت البهشمية على أنه لا يصح أن يكون الاعتقاد من الله، وحينئذٍ فنقول: الاعتقاد من النائم والداعي يجوز أن يكون من الله، وأن يكون من غيره كما قلتم فلا محذور، على أن الإمام (المهدي) عليه السلام قد اعترضهم فقال في إطلاق أصحابنا إنه لا يكون من الله لكونه جهلاً نظر لقوله صلى الله عليه وآله وسلم : ((لم يبق من الوحي إلا الرؤيا ))، وقوله تعالى: {وَمَا جَعَلْنَا الرُّؤْيَا الَّتِي أَرَيْنَاكَ }[الإسراء:60]، وقولهم: إنه قد يكون من الله.
قال عليه السلام : فالأولى أن يقال: الرؤيا تصور يصرف النائم ذهنه إليه إما ابتداء، أو يدعو إليه خاطر من الله، أو من ملك بأمره، أو من شيطان فيفعله الله بمجرى العادة، وذلك التصور علم ضروري فلا يقبح بحال، وأما إيجاده الظن فإن جعلناه من جنس الاعتقاد كما هو رأي أبي هاشم فالكلام فيه كما مر، وإن جعلناه قسماً برأسه منعناه من النائم؛ لأنه لا يكون إلا عن أمارة، إلا عند ابن متويه فإنه أجاز صدوره لا عن أمارة.
قال: لأن من زال عقله بنوم أو جنون وقعت منه ظنون لا أمارة لها، وهو يُؤول إلى أن داعي النائم إذا كان ظناً لا يحتاج إلى داع، فيبطل قولهم إنه يصير علماً أو يتسلسل، على أن الإمام المهدي قد قال: إن التجويز فعل الله قطعاً لأنه علمان ضروريان، وهما أنه ليس في العقل ما يحيل ثبوت الشيء ولا نفيه، وهو لا يكون إلا من الله، فعلى هذا لا مانع من أن يكون داعي الظان ضرورياً، ولا ينقلب ظنه علماً؛ لأن الظن فعله، والداعي الذي هو التجويز فعل الله فلا منافاة، وأما الساهي فقد أجاب عنه الإمام (المهدي) عليه السلام بما يكفي، على أن الاعتراض بهما إنما يرد على عكس الدلالة ولا يجب انعكاس الدليل اتفاقاً، بل اطراده، فلا يصح هذا الاعتراض إلا لو ثبت فعل وقع بحسب قصودنا ودواعينا ولم يتعلق بنا تعلق الفعل بفاعله، فأما ثبوت محدث لم يقع فعله بحسب داعيه، فإن ذلك عكس ما دللنا عليه في المسألة، وذلك لا يقدح لأنه لا يمتنع في حكمين مثلين أن يكونا معلومين بدليلين مختلفين، كما نعرف حدوث الأجسام باستحالة انفكاكها عن الحوادث، وحدوث الأعراض بجواز العدم عليها، فكذلك هنا إذا لم يمكن العلم بأن الساهي محدث لفعله بهذه الطريقة، فلنا أن نعلمه بطريقة أخرى، فنقول: فعله يقف على قدرته يقل بقلتها، ويكثر بكثرتها كما مر، ويقف أيضاً على الأسباب الحاصلة من جهته، ولهذا فإن النائمين يتجاذبان الثوب فيستبد به أكثرهما قدرة.
فإن قيل: قد دللتم على أن فعل الإنسان يقع بحسب قصده ودواعيه، فمن أين لكم أن ذلك يقتضي كونه المؤثر فيه دون غيره، فإن قلتم: لأنه لو كان عادياً لاختلف ففيه ما تقدم، وإن قلتم إن وقوع الشيء بحسب شيء يقتضي أنه المؤثر فيه انتقض عليكم بالعادات المستمرة التي لم تختلف بحال سلمنا، فمن أين لكم أن هذه الطريقة يعلم بها تأثير المؤثرات أعلم ضروري؟ فغير مسلم، أم دلالة؟ فدلوا عليه.
قيل: لنا أن نقول إن العلم بذلك ضروري، وقد مر توضيحه، سلمنا أنه ليس بضروري فقد دللنا عليه بما فيه الكفاية، وما قدحتم به في صحة اختلاف العاديات قد تقدم الجواب عليه، وعدم اختلاف بعض العاديات لا ينقض علينا؛ لأن المانع من تأثيرها كونها عادية، وقد أورد نحو هذا السؤال السيد مانكديم في الشرح، وأجاب بأن الذي يدل على أن جهة حاجة أفعالنا إلينا هو الحدوث أن الذي يقف كونه على أحوالنا نفياً وإثباتاً هو الحدوث، فيجب أن تكون جهة الحاجة هي الحدوث، ولأن حاجتها إلينا لا تخلو إما أن تكون لاستمرار العدم، وهو باطل لأنها كانت مستمرة العدم، وإما لاستمرار الوجود، وهو باطل أيضاً؛ لأنا نخرج عن كوننا أحياء فضلاً عن كوننا قادرين وهي باقية مستمرة الوجود، وأما لتجدد الوجود، وهو الذي دل عليه الدليل، لا يقال: لم لا يجوز أن تكون محتاجة إلينا لأجل الكسب أو لأنها حالة فينا؛ لأنا نقول الكسب غير معقول، على أن الذي دلكم على تعلقها بنا من جهة الكسب هو وقوعها بحسب دواعينا، وانتفاءها بحسب صوارفنا، وهذا ثابت في الحدوث فهلا جعلتم تعلقها بنا من جهته، وأما تعلقها بنا لأجل الحلول فلو صح ذلك لوجب في اللون مثلها؛ لأن الحلول ثابت فيه، والمعلوم خلافه.
وقال الإمام (المهدي) عليه السلام في جواب هذا السؤال: التحقيق أنا لم نستدل على ذلك بمطابقة الفعل للداعي لانتفائه عند الكراهة، وإنما دليلنا في التحقيق هو علمنا ضرورة أنا متى أردنا الفعل ولا مانع وقع لا محالة، ومتى كرهناه لم نواقعه لا محالة، وعلمنا ذلك مستمراً، واستحال خلافه ضرورة، فعرفنا أن وجوده متعلق بنا لا بغيرنا؛ إذ لو جوزنا تعلقه بغيرنا لم يمكنا القطع باستمراره في كل حال لجواز أن لا يختاره ذلك الغير عند أن يدعونا إليه الداعي، فلما علمنا ضرورة استمراره في كل حال، واستحالة تعذره دلنا ذلك على أن وجوده متعلق بنا دون غيرنا، يزيده وضوحاً أنه يستحيل أن يحاول وجودها ولا توجد مع عدم المانع، أو نكره وجودها ثم توجد على حد إيجادها مع الاختيار، فلما علمنا استحالة ذلك في كل حال، وعلمنا أنا لو جوزنا تعلقها بغيرنا استحال ثبوت هذا العلم لتجويز أن لا يختارها ذلك الغير، علمنا أن وجودها إنما يكون بتأثيرنا لا بتأثير غيرنا، وبهذا يبطل القول بأن المعلوم وقوفها على دواعينا دون كوننا الموجدين لها مستنداً إلى أنه يجوز أن يخلق الله فينا علماً ضرورياً بأنه سيقع كذا، وأنه لا يقع كذا وإن لم نعلمه كطلوع الشمس غداً؛ لأنا نقول: يجوز أن لا يخلق الله ذلك العلم في بعض الأحوال.
وهاهنا سؤال حكاه (النجري) وهو أن يقال: الفعل إنما يدور وجوداً وعدماً على الداعي يوجد بوجوده، وينتفي بانتفائه، فيجب أن يكون هو المؤثر دون قدرة العبد، وقد يكون الداعي ضرورياً من الله تعالى، فيجب أن يكون الفعل من الله تعالى؛ لأن فاعل السبب فاعل المسبب.
وأجاب بأنا لا نسلم أنه دار على الداعي كما ذكرتم، فإن الداعي لو حصل في العاجز لم يوجد بوجوده شيء، فيجب أن يكون التأثير لقدرة العبد، وقد يوجد الداعي كما في العالم، وقد لا يوجد كما في الساهي والنائم، وقدرة العبد غير موجبة لمقدورها.
تنبيه [في التعليق على كلام الرازي]
قد تقدم في عبارات أصحابنا أنه يجب وجود الفعل عند توفر الداعي وانتفاؤه عند الكراهة والصوارف، ولا يريدون بذلك الوجوب الذي يستحيل تخلفه، وإنما أرادوا وجوب استمرار، ولما سمع (الرازي) هذا الوجوب من كلام (أبي الحسين) تعجب من قوله به مع قوله بنفي الجبر، بل قال: إن قوله بهذا الوجوب غلو منه في الجبر ومبالغة فيه، وكأنه لم يعلم أن المراد بهذا الوجوب هو الاستمرار على طريقة واحدة كما تقدم، ولنقتصر على هذه الحجج الثلاث العقلية، ففيها كفاية لمن أنصف وترك المكابرة، والأشاعرة لا ينكرونها، ولذا لاذوا بالكسب.
وأما الحجج السمعية فهي كثيرة، ولا تكاد تجد آية ولا خبراً إلا وفيه دلالة بالمطابقة، أو التضمن، أو الالتزام على صحة مذهبنا، وسيأتي الكلام على الآيات في مواضعها إن شاء الله تعالى.
وأما الأخبار فسيأتي في أثناء الكتاب إن شاء الله ما يصدق هذه الدعوى.
ومن جملة الأدلة السمعية ما نحن بصدد الكلام عليه، وهو الاستعاذة، ودلالتها على ذلك ظاهرة، فإن الاستعاذة بالله من الشيطان إنما تحسن إذا كان الإغواءُ والإضلال فعل الشيطان، فأما لو كان ذلك فعل الله تعالى ليس للشيطان فيه أثر فكيف يستعاذ من شره، بل كان الواجب على هذا أن يستعاذ من شر الله -تعالى الله عن ذلك علواً كبيراً-.
وظاهر كلام (الرازي) التزام هذا وأن الاستعاذة لا تكون إلا من الله تعالى عن ذلك كما سيأتي، وفي هذا من سوء الأدب، ومخالفة العقل، والكتاب والسنة ما لا يؤمن عليه الهلاك بسببه، فإن أريد بذلك الحكاية، أو مجرد الجدل فقد لبس وشكك في موضع يجب عليه البيان فيه، فالله المستعان.
فإن قيل: ما المطلوب بالاستعاذة هل منع الشيطان بالنهي ونحوه، فقد فعل وطلب ما قد فعل محال؛ لأنه من تحصيل الحاصل وهو محال، أم منعه بالقسر والجبر، فذلك ينافي التكليف والشيطان مكلف.
قلنا: ليس المطلوب أيهما بل المطلوب اللطف الذي يدعو المكلف إلى فعل الحسن وترك القبيح، فإن قيل: إن الله تعالى لا يخل باللطف فما فائدة طلبه؟
قلنا: إن من الألطاف ما لا يفعله الله تعالى إلا عند الطلب، وقد نبه الله على ذلك بقوله: {وَإِمَّا يَنْزَغَنَّكَ مِنَ الشَّيْطَانِ نَزْغٌ فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ}[فصلت:36] إذ المعنى فإن استعذت به أعاذك.
واعلم أن اللطف لا يمنع الاختبار؛ لأن شرطه أن يكون المكلف معه متردد الدواعي، بحيث لا يخرجه عن كونه مختاراً ويصيره في حكم الملجأ، كما أن من خوف غيره بالقتل إن لم يحضر طعامه لا يوصف تخويفه بأنه لطف في حضور الطعام؛ لأنه حينئذٍ يحضر للإلجاء لا لحسن الفعل ووجوبه.
قال (الرازي) بعد أن أورد شبهاً قد تضمن الجواب عنها ما ذكرناه هنا وفيما تقدم وما سيأتي: واعلم أن هذه المناظرات تدل على أنه لا حقيقه لقوله أعوذ بالله إلا أن ينكشف للعبد أن الكل من الله وبالله، وحاصل الكلام فيه ما قاله الرسول صلى الله عليه وآله وسلم : ((أعوذ برضاك من سخطك ، وأعوذ بعفوك من غضبك، وأعوذ بك منك لا أحصي ثناءً عليك أنت كما أثنيت على نفسك)).
قلت: وهذا هو ما حكيناه من التزامه كون الاستعاذة لا تكون إلا من الله تعالى، وقد حكينا لفظه بذاته، وهو كما ترى قد تضمن من سوء الأدب ما لا مزيد عليه، وصدق بإيراده ما ورد فيه وفي أصحابه من أنهم جند إبليس، وشهود الزور، ولولا خوف ارتكاب المحظور بعدم الجواب عليه لما ذكرته.
إذا عرفت هذا فاعلم أن هذا الرجل من فحول العلماء، وممن لا تخفى عليه دلالات الألفاظ ومعانيها، إلا أنه كثير المغالطة والتعصب لأصحابه وإن كان مخالفاً لهم في كثير من المسائل كما سيأتي بيانه.
والجواب: إنه إن أراد بقوله أن الكل من الله وبالله ما تقدم من أن المطلوب بالاستعاذة اللطف الذي يكون بالمعونة والتسديد ونحوهما فهو حق، وإن أراد أن الشر الواقع من الشيطان من الإغواء ونحوه من الله تعالى لا فعل للشيطان فيه، فهو الجبر، وقد تقدم من الأدلة العقلية على بطلانه ما فيه كفاية، وطابقها على ذلك كتاب الله وسنة نبيه صلى الله عليه وآله وسلم ، وكلمات عترته، وأصحابه، وصالحي أمته.
وأما الحديث الذي أورده فهو حجة عليه لا له، وبيان ذلك أن قوله: أعوذ اعتراف بكون المستعيذ فاعلاً لتلك الاستعاذة، وقوله: برضاك من سخطك أصرح في الدلالة؛ لأن السخط لا يكون إلا على المعصية، فإن كانت المعصية من فعل الله تعالى فكيف يسخط على عبده بسبب فعله، وإن كانت من فعل المستعيذ فهو المطلوب، وكذا القول في قوله: وأعوذ بعفوك من غضبك.
فإن قلت: فما معنى استعاذة النبي صلى الله عليه وآله وسلم من السخط والغضب؟ قلت: ذلك منه صلى الله عليه وآله وسلم مثل طلب المغفرة مع أنه مغفور له ما تقدم من ذنبه وما تأخر، وذلك للتأدب وإظهار العبودية، ويجوز أن يكون المراد الاستعاذة من أسباب المعاصي الموجبة للسخط كالخذلان، وترك اللطف {فَلاَ يَأْمَنُ مَكْرَ اللَّهِ إِلاَّ الْقَوْمُ الْخَاسِرُونَ }.[الأعراف:99]
وأما قوله: وأعوذ بك منك، وهذه الكلمة هي موضع الشبهة فلا دلالة فيها على ما رام الاستدلال بها عليه من الجبر؛ لأنه لم يصرح بالمستعاذ لأجله، وحينئذٍ فهي تحتمل أحد معنيين:
أحدهما: الاستعاذة بالله تعالى من ما يكون وقوعه بالعبد من جهة الله تعالى خاصة كالمرض، والفقر، والعسر، وتقدم موت الأحباب، وغير ذلك، وتكون هذه الاستعاذة كطلب العافية، وهذا واضح.
الثاني: أن يكون معناها كالاستعاذة من السخط والغضب إما إظهاراً للتعبد، وإما لدفع الخذلان ونحوه، ويجوز إرادة كل من المعنيين معاً إذ لا مانع، فأما أن يكون المراد الاستعاذة بالله من أن يخلق فيه المعصية، فيأبى ذلك عدل الله وحكمته، وقد قال في آخر الحديث: أنت كما أثنيت على نفسك، وهل نجد الله أثنى على نفسه بأنه يظلم عباده، أو يأمرهم بالقبائح، أو يخلقها فيهم، بل قال:{ وَلاَ يَظْلِمُ رَبُّكَ أَحَداً }[الكهف:49].
فائدة [في الاستدلال بالسمع على هذه المسألة]
قال بعض أصحابنا: الاستدلال بالسمع على هذه المسألة متعذر؛ لأنا لم نعلم القديم تعالى، وأنه عدل حكيم ولا يظهر المعجز على الكذابين لا يمكننا الاستدلال بالقرآن، وصحة هذه المسائل مبنية على هذه المسألة، فإن إثبات المحدث في الغائب مبنية على إثبات المحدث في الشاهد؛ إذ الطريق إلى ذلك ليس إلا أن يقال: قد ثبت أن هذه التصرفات محتاجة إلينا ومتعلقة بنا، وإنما احتاجت إلينا لحدوثها، فكلما شاركها في الحدوث وجب أن يشاركها في الاحتياج إلى محدث وفاعل، وهذه الأجسام كلها محدثة، فلا بد لها من محدث وفاعل وليس إلا الله تعالى، وأما كون إثبات عدله، وحكمته، وصدقه مبني عليها؛ فلأن في أفعالنا ما هو قبيح، فلو كانت منه للزم تجويز فعل القبيح عليه تعالى، وحينئذٍ لا نثق بخبره ولا بصحة نبوة أنبيائه، فكيف يستدل عليها بالسمع والحال ما ذكرنا، وحيث وقع الاستدلال به فإنما هو لتأكيد أدلة العقل وتقريرها، وبيان أن حجج الله لا تناقض فيها، واستظهار على الخصم، وإلزام له بما يلتزمه لأنه موافق في أن السمع دليل هنا، ولأنهم كانوا يزعمون أنه لا دليل لنا في السمع، فأريناهم أن لنا في السمع من الدلائل المحكمات أكثر مما لهم من المحتملات والمتشابهات.
قلت: ولقائل أن يقول لا نسلم أن معرفة عدل الله وحكمته متوقفة على هذه المسألة، بل على ما هو أعم منها، وهو علمه بالقبيح وقبحه وغناه عنه، ونحن إذا علمناه بهذه الصفة علمنا أنه لا يكذب، ولا يظهر المعجز على الكذابين سواء علمنا كون أفعال العباد منهم أم لا، بل لو قيل: إنا لا نعرف كون أفعالهم منهم إلا إذا عرفنا أن فيها قبيحاً، وأن الله لا يفعل القبيح لم نبعد عن الصواب.
وأما قولهم: إن إثبات المحدث في الغائب مبني على إثبات المحدث في الشاهد، فلا يصح إلا لو لم نجد طريقاً إلى معرفة المحدث في الغائب سوى هذه الطريقة، والمعلوم أنه يمكننا إثباته بغيرها كدليل التمكن ونحو قول بعض الأصحاب إن الجسم حصل في جهة مع جواز أن يحصل في غيرها والحال واحد والشرط واحد، فلا بد من مؤثر، ثم نستدل على أن ذلك المؤثر ليس بموجب، فيلزم أن يكون مختاراً، فيثبت المحدث في الغائب بغير طريقة القياس.
إذا عرفت هذا فنقول: لا دليل على منع صحة الاستدلال بالسمع على هذه المسألة، بل قام الدليل على صحة ذلك، قال تعالى: {مَا فَرَّطْنَا فِي الْكِتَابِ مِنْ شَيْءٍ } [الأنعام:38]{تِبْيَاناً لِكُلِّ شَيْءٍ }[النحل:89]{إِنَّ هَذَا الْقُرْآنَ يَهْدِي لِلَّتِي هِيَ أَقْوَمُ } [الإسراء:9]ونحوها ولم يفصل.
وقال النبي صلى الله عليه وآله وسلم : ((من أخذ دينه عن التفكر في كتاب الله والتدبر لسنتي زالت الرواسي ولم يزل ، ومن أخذ دينه عن أفواه الرجال وقلدهم فيه ذهب به الرجال من يمين إلى شمال وكان من دين الله على أعظم زوال)) ونحو ذلك كثير في كلام قدماء الأئمة " ما يؤيد هذا، وقد شحن القاسم، والهادي -عليهما السلام- كتبهما من الاستدلال على هذه المسألة بعينها بآيات القرآن الكريم.
ومن كلام (القاسم بن إبراهيم) عليه السلام في كتاب (الرد على المجبرة): فزعموا أنه لم يرد منهم أن يطيعوا رسله، وأن الله أمر بما لا يريد، ونهى عما يريد، وخلقهم كفاراً وقال: {وَكَيْفَ تَكْفُرُونَ }[آل عمران:101]ومنعهم من الإيمان وقال: {وَمَاذَا عَلَيْهِمْ لَوْ آمَنُوا بالله }[النساء:39]وقال: {وَمَا مَنَعَ النَّاسَ أَنْ يُؤْمِنُوا إِذْ جَاءَهُمُ الْهُدَى}[الإسراء:94] وأفكهم وقال: {أَنَّى يُؤْفَكُونَ}، وصرفهم عن دينه وقال: {أَنَّى يُصْرَفُونَ}.
فافهموا وفقكم الله ما يتلى عليكم من كتاب الله فإن الله يقول فيه: {شِفَاءٌ لِمَا فِي الصُّدُورِ }[يونس:57]ويقول: {كِتَابٌ عَزِيزٌ، لاَ يَأْتِيهِ الْبَاطِلُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَلاَ مِنْ خَلْفِهِ تَنزِيلٌ مِنْ حَكِيمٍ حَمِيدٍ}[فصلت:41،42] ويقول: {فَبِأَيِّ حَدِيثٍ بَعْدَ اللَّهِ وَآيَاتِهِ يُؤْمِنُونَ }[الجاثية:6]، ويقول: {اتَّبِعُوا أَحْسَنَ مَا أُنْزِلَ إِلَيْكُمْ مِنْ رَبِّكُمْ }[الزمر:55].
وقال عليه السلام : وقد بين الله للخلق واحتج عليهم بما بين لهم في كتابه وأمرهم بالتمسك بما في الكتاب، والاقتداء بما عن نبيه جاءهم: (فإنما هلك من كان قبلهم بإعراضهم عن كتاب ربهم، والترك لمن مضى من أنبيائهم من أهل الكتاب وغيرهم، واتقوا الله وانظروا لأنفسكم قبل نزول الموت، واعلموا أنه لا حجة لمن لم يحتج بقول الله فإن الله سبحانه يقول: {أَوَلَمْ يَكْفِهِمْ أَنَّا أَنْزَلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ يُتْلَى عَلَيْهِمْ }[العنكبوت:51].
وله عليه السلام من جنس هذا الكلام الكثير الطيب، وهو يدل على صحة الاحتجاج على مسألتنا بالقرآن من وجهين:
أحدهما: أنه قد احتج به عليها.
الثاني: أنه قد نص على أن الاحتجاج به أقوى الحجج، ولغيره من الأئمة" نحوه.
الموضع الثالث: في ذكر شبه المخالفين والرد عليها
واعلم أن لهم شبهاً عقلية وسمعية، أما العقلية فهي كثيرة، ونحن نذكر أقواها دون ما يظهر ضعفه للمبتدي والمنتهي:
[الشبهة الأولى في الداعي والمرجح]
أحدها: دليل الداعي والمرجح، وقد تقدم وسيأتي له مزيد تحقيق إن شاء الله في سياق قوله تعالى: {خَتَمَ اللَّهُ عَلَى قُلُوبِهِمْ }[البقرة:7]
الشبهة الثانية [الحركة الاضطرارية والاختيارية]
أنا نفرق بين الحركة الاختيارية والاضطرارية ضرورة في تعلق الأولى بنا دون الثانية، فلو كان تعلق إحداهما بنا من جهة الحدوث لوجب في الأخرى مثله؛ لأن الحدوث ثابت فيهما، والمعلوم خلافه، فلم يبق إلا تعلقها بنا من جهة الكسب والمحدث هو الله تعالى، وربما يؤكدون هذا بأن الحدوث في الذوات متماثل فلو صح منا إحداث الحركة لوجب أن نحدث الأجسام والألوان، والمعلوم خلافه.
والجواب: أن الاشتراك في الحدوث لا يقتضي الاشتراك في الحاجة إلى محدث معين بل إلى محدث ما، وأما تعيين المحدث فموقوف على الدليل، وقد قام الدليل على أنا المحدثون لأفعالنا.
وأما قولهم إن الحدوث متماثل فباطل لأن التماثل والاختلاف إنما يصحان على الذوات دون الصفات، فكيف يصح وصف الحدوث بذلك على أن المتعلق بنا هو ذات الحركة على وجه الحدوث، ولا يلزم من القدرة على اتحاد ذات القدرة على سائر الذوات، ولا من القدرة على إيجاد ذات على وجه القدرة على إيجادها على وجه آخر.
قال السيد (مانكديم): وإنما كان يجب ذلك لو ثبت في الذوات كلها من الجواهر والألوان أنها تقف على قصدنا ودواعينا لا الحدوث، ثم يقال لهم: أليس أن وجه الكسب ثابت في هذه التصرفات على وجه واحد، ولم تجب في القادر على بعضها أن يكون قادراً على جميعها، فهلا جاز مثله في مسألتنا.
الشبهة الثالثة [القدرة على إحداث الفعل]
قالوا لو قدر أحدنا على إحداث أفعاله لوجب أن يقدر على إعادتها كالباري تعالى.
والجواب: ليس العلة في قدرة الله تعالى على الإعادة هي قدرته على الإحداث، ولا دليل على ذلك بل العلة كونه قادراً لذاته وأحدنا قادر بقدرة، والقدرة لا تتعلق على التفصيل إلا بمقدور واحد، مع أنهم أقاسوا الشاهد على الغائب وهو عكس الصواب، وأيضاً يلزمهم في الكسب مثله على أن في أفعال الله تعالى ما تستحيل إعادته، فيبطل قولهم: إن من قدر على إيجاد شيء قدر على إعادته.
فإن قيل: وما الذي تستحيل إعادته من أفعاله تعالى؟
قيل: هو ما فعل بسبب، والأجناس التي لا تبقى كالصوت ونحوه.
أما الأول: فلأنه لو أعيد ابتداء للزم أن يكون له في الوجود وجهان فيحصل على أحدهما بقادر وعلى الآخر بقادر آخر، وفي ذلك صحة مقدور بين قادرين وهو محال، ويلزم أيضاً قلب ذاته لأن احتياجه إلى سببه ذاتي له، وإن أعيد بسبب فإن كان ذلك هو السبب الأول لم يصح، وإلا لزم أن يكون للسبب الواحد في الوقت الواحد مسببان: أحدهما المعاد، والآخر مسبب الوقت، والسبب كالقدرة لا يكون له في الوقت الواحد إلا مسبب لا يتعداه إلى غيره.
قال الإمام (المهدي) عليه السلام : إذ لو صح تعديه في الوقت الواحد إلى أكثر من مسبب واحد لزم أن لا يقتصر على حد فيتعدى، ولا حاصر فيصح أن يولد ما لا نهاية له، فيلزم إذا قدرنا على فعل السبب أن نقدر على ما نهاية له من المسببات، فيلزم ما قدمنا من المحال.
قلت: أراد عليه السلام بما قدمه من المحال أن السبب إذا كان مقدوراً لنا لزم منه والحال هذه ممانعة القديم تعالى؛ لأنا إذا قدرنا أنه أراد تحريك جسم وأردنا تسكينه، فإنه كلما أوجد حركة أوجدنا سكوناً ثم كذلك، فلا يصح منه تحريكه في ذلك الوقت، وممانعة القديم محال فما أدى إليه فهو محال، والذي يؤدي إليه هو تعدي السبب والقدرة، وإن كان غيره فذلك يقتضي اجتماع سببين على توليد مسبب واحد، فيؤدي إلى مقدور بين قادرين.
وأما الثاني: وهو ما لا يبقى فلأنه لو صح أن يعاد للزم أن لا يختص بوقت واحد، بل يكون قد صار له في الوجود وقتان، وهما وقت ابتدائه ووقت إعادته، وإذا جاز وجوده في وقتين مفترقين جاز في متواليين؛ إذ لا فرق بين وجوده في الجواز على جهة التوالي، أو على وجه يتخلل بين الوقتين ثالث، لأن الصفة لا تحيل نفسها وإن أحالت غيرها والوجود في الحالين صفة واحدة، ولو وجد في وقتين أو صح فيه ذلك للزم أن يصير باقياً بعد أن لم يكن باقياً، وعدم اختصاصه بوقت واحد بل يتعداه إلى وقت ثاني، وفي ذلك خروجه عما هو عليه في ذاته قلب حقيقته؛ إذ المعلوم أن اختصاصه بالوقت الواحد صفة ذاتية له لا يخرج عنها، وإذا كان لا يخرج عنها صح أن جواز وجوده في وقتين يقتضي انقلاب الذات، وانقلاب الذات محال، فما أدى إليه وهو صحة إعادة ما لا يبقى فهو محال.
الشبهة الرابعة [العلاقة بين القدرة والعلم]
قالوا لو كان العبد موجداً لأفعاله لعلم تفاصيلها؛ لأن الفعل مشروط بسبق العلم وهو لا يعلمها، ألا ترى أنه يتحرك حركة وهو لا يعلم كمية أجزائها ولا كيفيتها، ومحرك الأصبع يُحرّك جميع أجزائها ولا يعلم بكمية الأجزاء.
والجواب: أن هذا مقابل للضرورة، فإن كل فاعل يعلم تمكنه من فعله من دون العلم التفصيلي، بيانه أن من قصد إلى أن يصلي ركعتين مثلاً فإنه يقصد إلى أن يوجد من الحركات والسكنات القدر الذي تحصل به الركعتان، وإن لم يعلم كمية تلك الحركات والسكنات، وكذلك محرك الأصبع، والقاصد إلى الحج إنما يحدث من الخطأ القدر الذي يصل به إليه وإن لم يعلم كميته، وجميع الأفعال تجري هذا المجرى، وهذا يعلمه كل عاقل، بل الصبي إذا تناول الكوز فإنما يشرب القدر الذي يحصل به الري، ولا يتعرض للعلم بكمية حركات الفم، ولا ما يأخذه من قطرة، ولا بد للخصوم من الاعتراف بهذا، وبهذا يظهر لك بطلان شرطية العلم بالتفصيل وأنها دعوى مجردة عن الدليل.
قال العلامة (المقبلي) في (العلم الشامخ): (ولا نسلم شرطية التفصيل).
قال في (الأرواح): (يعني أنه ممنوع أما أولاً فلأنه تشكيك في الضروريات، وأما ثانياً فلأنه يصدر الفعل ممن لا يتهيأ منه العلم كالنائم، والمجنون، والطفل، والبهائم وسائر الحيوانات غير العاقلة، فلو كان العلم شرطاً لمطلق الفعل لما صدر عنها فعل البتة، وإنما يشترط مطلق الشعور ولو تخيلاً بحيث يصح التوجه والقصد، ثم إنا لو سلمنا لهم شرطيته فمن أين لهم أنه لا يعلم؟ فإنَّا لا نشكُّ في علمه، لكنه ذاهل عن علمه بالعلم لقلة وقت العلم.
قال (القرشي): وقد قال بعض أصحابنا إن أحدنا يعلم تفاصيل ما أحدثه أي يعلم أعيانها وإن لم يعلم كميتها؛ لأن العلم بالكمية أمر زائد على ذلك، ألا ترى أن من دخل جامعاً فإنه يعرف أعيان من فيه وإن لم يعلم كميتهم، ولنا أن ننقل هذه الشبهة في الكسب، فنقول: يلزم أن يكون أحدنا عالماً بتفاصيل ما اكتسبه، وجوابهم جوابنا، ولا محيص لهم عن هذا، وحينئذٍ تكون هذه الشبهة مقتضية لنفي الفعل بالكلية، وفي تصحيحها إثبات مذهب جهم الذي أجمعنا على بطلانه، وأنه مخالف للضرورة، لكنه لما لم يكن لهم همة إلا رد مذهب خصومهم تعلقوا بكل ما وجدوا وإن علموا أنه لا يفيدهم.
ولنقتصر على هذا القدر من شبههم العلقية؛ إذ ليس لهم إلا ما هو أضعف منها وأوضح بطلاناً، ولعله يمر بك شيء منها في أثناء المسائل الآتية في كتابنا هذا إن شاء الله تعالى.
وأما الشبه السمعية فسيأتي الكلام عليها في مواضعها إن شاء الله تعالى.
واعلم أن معظم اشتغالنا برد الشبه التي تمسك بها القائلون بالكسب، ولم نشتغل كثيراً بالكلام مع الجهمية لظهور مخالفة مذهبهم للضرورة، مع أن ما أوردناه وما أورده الأشاعرة متضمن لإبطال مذهبهم. والله الموفق.
[اللوازم الباطلة المترتبة على مذهب المخالفين]
الموضع الرابع: فيما يلزم على مذهب المخالفين من اللوازم الباطلة، وغير ذلك من الحكايات والمناظرات التي يؤيد بها مذهب العدل، ويبطل بها مذهب الجبر.
أما اللوازم فهي كثيرة، ولنورد منها هنا ما سنح فنقول:
أحدها: أنه يلزمهم أن يكون الظلم والكذب والعبث كطول القامة وقصرها في عدم استحقاق المدح والذم عليها البتة، وفي ذلك قبح بعثة الأنبياء" وبطلان الشرائع؛ لأن الله إذا كان هو الموجد للظلم ونحوه فما فائدة النهي عنه والتعبد بتركه، وكذلك سائر الشرائع ما فائدة الدعاء إليها والأمر بها؛ إذ لا معنى لإرسال الرسل على قود مذهبهم ودعائهم إلى الشرائع، كما أنه لا يجوز بعثة الرسل لدعاء الخلق إلى الخروج من صورهم وألوانهم، وهذا ظاهر، بل على مذهبهم يلزم إبطال فائدة كل إمام وواعظ، وداعي إلى الله من أول الدنيا إلىآخرها، ولا شك أن كل مذهب يؤدي إلى الباطل فهو باطل.
اللازم الثاني: قبح مجاهدة الكفار؛ لأن لهم أن يقولوا تجاهدوننا لأن الله خلق فينا الكفر، أو لأجل أنه لم يخلق فينا الإيمان، وكل ذلك بمنزلة مجاهدتنا على صورنا وألواننا.
الثالث: قبح الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر لنحو ما مر، ولأن الآمر إما أن يكون آمراً بالواقع، وذلك قبيح كأمر المرمي به من شاهق بالنزول لأنه عبث، وإما أن يكون أمراً بما لا يقدر عليه المأمور على أصلهم فيكون أمراً بما لا يطاق، وقبحه معلوم، وهكذا الكلام في النهي عن المنكر.
الرابع: أن تكون الحجة للكفار على الأنبياء؛ لأنهم يقولون للمرسل إليهم: تدعونا إلى الإسلام، ومن أرسلك إلينا، أراد منا الكفر وجعلنا بحيث لا يمكننا الانفكاك عنه، ولهم قطع المرسل أيضاً من وجه آخر لأنهم يقولون: إن كنت تدعونا إلى ما خلقه الله فينا فإن ذلك مما لا فائدة فيه، وإن كنت تدعونا إلى ما لم يخلقه الله فينا فذلك مما لا نطيقه.
الخامس: أنه يلزمهم التسوية بين الرسول وإبليس لأن الرسول يدعوهم إلى خلاف ما أراده الله منهم، كما أن إبليس يدعوهم إلى ذلك، بل يلزم أن يكون حال الرسول أسوء من حال إبليس لأن إبليس يدعوهم إلى ما أراده الله بزعمهم والرسول يدعوهم إلى خلافه، وكل مذهب يؤدي إلى هذا فكافيك به فساداً.
السادس: أن يكون الباري تعالى بعث الرسل لتغيير خلقه وتجهيله وليقع خلاف ما أراد، وبيانه أن الله تعالى بعث الرسل إلى الكفار ليتركوا الكفر مع أنه الذي خلقه فيهم وأراده منهم، فطلب الرسل تركه تغيير له وهو خلق الله تعالى فيهم، وأما تجهيله وطلبهم وقوع خلاف ما أراد، فلأنهم طلبوا خلاف ما علم وقوعه وخلاف ما أراد منهم لأنه أراد منهم الكفر، والرسل طلبوا الإيمان. نعوذ بالله من الضلالة، ومن كل مذهب يؤدي إلى مثل هذه الجهالة.
السابع: أن مذهبهم يؤدي إلى الإغراء بالمعاصي وترك التوبة؛ لأن أحد شرائط التوبة الاعتراف وهو قولك: أذنبت أو نحوه، وإذا كانت المعصية من فعل الله فلا يتصور من العبد الاعتراف، وأيضاً يدخل في المعاصي ويقول: إذا أراد الله مني التوبة تبت، أو يقول: أنا لا أقدر عليها. وفي هذا القدر كفاية من ذكر الإلزامات القاضية ببطلان مذهبهم الردي، ومن أراد الزيادة فلا يعدمها.
واعلم أنهم إذا عرفوا أن هذه الإلزامات لازمة لهم قالوا: قال تعالى: {لاَ يُسْأَلُ عَمَّا يَفْعَلُ وَهُمْ يُسْأَلُونَ }[الأنبياء:23].
والجواب: أن الآية الكريمة كلمة صادقة، فإنه تعالى لا يسأل عما يفعل، ولكنه قد بين أن فعله العدل فلا فرح لهم فيها، وأما الحكايات والمناظرات فمنها ما روي أن أبا الهذيل قال لحفص الفرد: يا أبا عثمان هل تعرف غير الله وغير ما خلق؟ فقال: لا، فقال: فعذب الله الكافر على أنه الله أو على أنه خلق؟ فقال: لا على واحد منهما. فقال: فعلام ؟ قال: على أنه عصى. قال: فكونه عصى، قسم ثالث قال: لا، فأعاد السؤال فانقطع وكان النظام حاضراً فلقن حفصاً حجته فقال: قل لأنه اكتسبها فقال: ذلك، فقال: هل الكسب شيء غير الله وغير ما خلق ؟ قال: لا، فأعاد السؤال فانقطع، ولما قيل للنظام: ما بالك ذكرته الكسب؟ قال: لأني قد علمت أنه يذكره عند انفصاله من المجلس، وعلمت أن أبا الهذيل لا ينقطع عن جوابه، فأردت أن ينقطع مرة واحدة.
ومنها ما روي أنه أتي بعض الولاة بطرار أحول العين وعنده عدلي ومجبر، فقال للمجبر: ما ترى نفعل فيه؟ فقال: تضربه خمسة عشر سوطاً، فقال للعدلي: ما تشير؟ فقال: تضربه ثلاثين سوطاً خمسة عشر لكونه طراراً، وخمسة عشر لكونه أحول العين، فقال المجبر: أتضربه على الحول ولا صنع له فيه، فقال: نعم إذا كانا جميعاً من فعل الله تعالى فالحول والطر سواء، فانقطع المجبر.
ومنها ما روي أن عدلياً سأل مجبراً فقال ما تقول: إراداة الله أحسن وأفضل للعباد أم إرادة رسوله صلى الله عليه وآله وسلم ؟ قال: إرادة الله. قال: أليس عندك أنه أراد الكفر والمعاصي، وقتل الأنبياء والمؤمنين، والزنا والسرقة، وشرب الخمر وعبادة الأوثان، وأراد النبي الطاعة والإيمان وترك المعاصي فقد زعمت أن الكفر أحسن من الإيمان؟ قال: أقول إرادة الرسول. قال: زعمت أن إرادة الرسول والأئمة واختيارهم أفضل من إرادة أرحم الراحمين، فبهت.
ومنها ما روى أن أبا محمد المزين وكان ظريفاً قال: إذا أعطيت كتابي يوم القيامة قلت: قد عرفت ما فيه ولكن هل أُسأل عن شيء أتيته باختياري أم عن شيء خلق في؟ إن قالوا: عن شيء أتيته باختيارك قلت: يا رب عبدك الضعيف أخطأ وأساء، وعلى عفوك وفضلك توكل، فإن عفوت فبرحمتك، وإن عذبت فبعدلك، وإن قالوا: خلق فيك وقضى عليك، قلت: يا معشر الخلائق العدل الذي كنا نسمع به في الدنيا ليس هاهنا منه قليل ولا كثير إلى غير ذلك من الحكايات، وما جرى من المناظرات الدالة على بطلان مذهب أهل الجبر، وسيمر بك إن شاء الله شيء منها في المواضع المناسبة لها.
تنبيه [في ترجيح مذهب العدلية]
قد تقدم ذكر الخلاف في أفعال العباد وبيان الأدلة، إلا أن في المتولدات نوعاً آخر من الخلاف لاينبغي إهمال التنبيه عليه وإن كان إبطاله داخلاً فيما تقدم من تصحيح مذهب الفرقة الناجية، فنقول: كل شيء يتولد عن فعل العبد فهو فعله عند جمهور العدلية.
وقال الجاحظ: ليس للعبد إلا الإرادة، فإنها واقعة باختياره دون ما عداها من المعرفة وأفعال الجوارح، فذلك وقع بطبع المحل.
قال (القرشي): وبه قال النظام ومعمر فيما يتعدى محل القدرة، إلا أن النظام يجعله بواسطة طبع المحل، والذي حكاه السيد مانكديم عنهما أن هذه الحوادث التي تحدث في الجمادات فإنما تحصل فيها بطبع المحل، وقال ثمامة: ما عدا الإرادة حدث لا محدث له.
قال السيد (مانكديم): ولعل شبهة الجيمع واحدة، فإنهم لما رأوا تعلقها بالفاعل قالوا: لا بد أن يكون للاختيار مدخل فيه، ولما رأوا وجوب وقوع المراد عند حدوث الإرادة، ووجوب وقوع المسبب عند حصول السبب أخرجوه عن التعلق بالفاعل أصلاً على حسب اختلافهم في تعليقه بالطبع، أو جعله حدثاً لا محدث له كما مر.
قال السيد (مانكديم): ولو أنهم أمعنوا النظر لعلموا أنها مما للاختيار فيه مدخل فيقع مرة بأن يختار الفاعل ما هو كالواسطة فيه، ولا يقع أخرى بأن لا يختار ذلك، يوضحه أن السبب لا يمتنع حصوله ثم لا يحصل المسبب لمانع عن التوليد، ومتى وجب وقوعه عند حصول السبب وزوال المانع فإن حاله كحال المبتدئ عند تكامل الدواعي، فإنه يحصل لا محالة، فأين الفرق بينهما.
قلت: ولنا أيضاً ما تقدم من وقوفها على قصودنا ودواعينا، وتعلق الأمر والنهي والمدح والذم بها وغير ذلك، وأما الطبع فغير معقول، فإن أرادوا به السبب فخلاف في عبارة، وأما ثمامة فقوله ظاهر البطلان، مع أنه يلزمه القول بذلك في جميع الحوادث؛ إذ لا فارق فإن راعى في المبتدءات الجواز واعتبره فهو ثابت في المتولد لما مر من أنه لا يمتنع حصول السبب ثم لا يولد لعارض، ولأنه لو جاز خروج المسبب عن التعلق بالفاعل لوجوب حصوله عند وقوع السبب وزوال المانع، للزم مثله في المبتدئ لوجوب وقوعه عند توفر الداوعي عادة. والله أعلم.
الفصل الثالث: في ذكر شيء مما روي عن أمير المؤمنين علي بن أبي طالب كرم الله وجهه في الجنة وعن بعض قدماء أهل البيت عليهم السلام مما يوهم القول بالجبر وذكر تأويله أو إبطاله
فمن ذلك ما في الجامع الكافي عن أحمد بن عيسى" أنه قال: أفعال العباد مخلوقة، هي من الله خلق، ومن العباد فعل، لا أن خلق الله تقدم فعل العباد، ولا فعل العباد تقدم خلق الله، وقد سئل علي عليه السلام عن ذلك فقال: (هي من الله خلق، ومن العباد فعل، لا تسأل عنها أحداً بعدي).
وفيه قال (محمد)، وحدثني على بن أحمد، عن أبيه قال: سأل رجل أمير المؤمنين عليه السلام عن أعمال العباد أشيء منهم أم من الله؟ فقال: خلقها الله وعملها العباد، ولا تسأل عنها أحداً بعدي.
وفيه قال (الحسن) عليه السلام : (أفعال العباد مخلوقة، أجمع آل رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم على أن الله الخالق لجميع الأشياء لا خالق غيره الأفعال وغير ذلك، والحجة في ذلك كتاب الله، ثم احتج بآيات نحو قوله تعالى: {لَقَدْ جِئْتُمْ شَيْئًا إِدًّا } [مريم:89]إلى قوله: {وَمَا يَنْبَغِي لِلرَّحْمَنِ أَنْ يَتَّخِذَ وَلَداً }[مريم:92]وقوله: {وَكُلُّ شَيْءٍ فَعَلُوهُ فِي الزُّبُرِ }[القمر:52 ] وقوله: {وَاللَّهُ خَلَقَكُمْ وَمَا تَعْمَلُونَ }[الصافات:96].
قال: والنطق والشهوة والحركة من الإنسان مخلوقة، وقال الله تعالى: {لَقَدْ خَلَقْنَا الإِنسَانَ فِي أَحْسَنِ تَقْوِيمٍ }[التين:4].
قال: وكل الخلق يقرون بأن الإنسان مخلوق، وليس منه شيء إلا وهو مخلوق، وهذا القدر كاف فيما يتعلق بهذا الموضع.
والجواب: أن هذا الكلام المروي عن هؤلاء " ليس على ظاهره لوجوه:
أحدها: أن القول بالعدل هو المشهور عند أهل البيت " سيما قدمائهم".
قال القاضي العلامة (عبد الله بن زيد العنسي) رحمه الله: فأما أهل البيت" فإضافة الأفعال إلى العباد معلومة بالتواتر عنهم، وهو دينهم ودين آبائهم وأبنائهم لا يعرفون غيره، وأخذوا ذلك عن أمير المؤمنين عليه السلام .
الثاني: أن (القاسم بن إبراهيم) عليه السلام ممن يقول: بكفر المجبرة، وذلك مشهور عنه، ولم يحك عن أحد من أهله القول به، بل عد جماعة منهم في كتاب الرد على الروافض وقال: إنهم أخيار آل رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ، وذكر منهم الصادق، وأحمد بن عيسى، وعبد الله بن موسى بن عبد الله وغيرهم ممن لا ينعقد الإجماع الذي رواه الحسن بن يحيى عليه السلام بدونهم، ثم قال القاسم عليه السلام في وصفهم: كانوا أزهد الخلق وأعلم الخلق، وكانوا فرجاً للمستضعفين من عباد الله الذين كانت وجوههم كصفائح الفضة ملس يبس من خوف الله، صفر الألوان من سهر الليل، قد انحنت أصلابهم من العبادة، باكية أعيانهم من خوف الله وشفقة من عذاب الله، لم يستحلوا ما استحل غيرهم من قبض أموال الناس، ولا يستأثرون بشيءٍ في المسلمين مثلما استأثر غيرهم، أحدهم إذا وصله المؤمن وصله بمائة ألف فما دونها من صميم أموالهم، وخرجوا من أموالهم زهداً في الدنيا ورغبة فيما عند الله، فلو كانوا يقولون بشيء من الجبر لما مدحهم القاسم عليه السلام بهذه الأوصاف؛ إذ كلامه في ذم المجبرة مشهور غير خاف، وبعضهم من أهل عصره، بل ممن بايع القاسم عليه السلام في بيت محمد بن منصور المرادي .
فقد روي أنه اجتمع القاسم، وأحمد بن عيسى، والحسن بن يحيى، وعبد الله بن موسى في بيته وتشاورا في قيام أحدهم حتى اجتمع رأيهم على القاسم عليه السلام وبايعوه، فلو كان فيهم من يقول بالجبر لما رضى القاسم عليه السلام بعرض البيعة عليه، وهذا وجه قوي.
الثالث: أنه قد روي عمن شملهم الإجماع التصريح بما يدفع ظاهره، بل قد روى عن الحسن بن يحيى وأحمد بن عيسى ذم الجبر وعدم القول به، وكلام أمير المؤمنين عليه السلام للشامي مشهور، وكذا ما رواه عند الأربعة الذين سألهم الحجاج عن القضاء والقدر، فقال: لقد أخذوها من عين صافية.
ومن كلامه عليه السلام في خطبته الغراء: فلم يكلفه ما لا يطيق أنظره بالأمر، ومد له في العمر، ثم كلفه دون الجهد، ووضع عنه ما دون العهد، وقد أطلقه للفكر، وحثه على النظر بعد وصفه له الأدلة، وإزاحته له كل علة.
ومن كلام زين العابدين عليه السلام لما حمل إلى عبيد الله بن زياد بعد أن قُتل أبوه وأخوه، وقال له ابن زياد: ألم يقتل الله علي بن الحسين؟ فقال عليه السلام : قد كان أخي يسمى علياً وكان أكبر مني وإنما قتله الناس لا الله، قال: بل الله، قال: فالله إذن قتل عثمان فانقطع اللعين.
وروي عنه عليه السلام أن سائلاً سأله عن القضاء والقدر فقال:
لم تخل أفعالنا اللاتي نذم بها .... إحدى ثلاث خصال حين نأتيها
أما تفرد مولانا بصنعتها .... فاللوم يسقط عنا حين ننشيها
أو كان شاركنا فاللوم يلحقه .... إن كان يلحقنا من لائم فيها
أولم يكن لإلهي من جنايتها .... فعل فما الذنب إلا ذنب جانيها
سيعلمون إذا الميزان مال بهم .... أهم جنوها أم الرحمن جانيها
وقيل إنه عليه السلام قال ما هذا معناه، فنظمه الشاعر، وبعضهم روى هذه الرواية عن جعفر الصادق عليه السلام .
وروي عن زيد بن علي عليه السلام أنه لما خرج جاءه أبو الخطاب فقال له: عرفنا ما تذهب إليه، فقال: إني أبرأ من القدرية الذين حملوا ذنوبهم على الله.
وسئل الصادق عليه السلام عن القدر، فقال: ما استطعت أن تلوم العبد عليه فهو فعله، وما لم تستطع فهو فعل الله يقول الله للعبد لم عصيت؟ ولا يقول:لم مرضت.
وقال (أحمد بن عيسى ) عليه السلام : والحجة من الله تلزم العباد بما ركب من جوارحهم وسلامتها من الآفات المانعة لهم من الفهم بها والحركات، فمن علم منه الهداية جاءته من الله المعونة والتوفيق، ومن علم منه الضلالة خذله فلم يكن له منه هداية، وذلك من منِّ الله على أوليائه وأهل طاعته بسابق علمه فيهم. ذكره في الجامع الكافي.
وفيه عن (الحسن بن يحيى) عليه السلام ومحمد بن منصور لا تقول إن الله أجبر العباد على معاصيه ولا فوض الأمور إليهم قال: لأن المجبر لا يجبر على ما يحب ويهوى، وإنما يجبر على ما يكره الدخول فيه ويبغضه، وليس أحد يدخل في المعصية إلا وله فيها شهوة ومحبة، ومن زعم أن الأمور مفوضة إليه فقد زعم أن الله أعطاه أعظم مما أعطى الأنبياء، وكيف يكون الأمر مفوضاً إلى عبد، والرزق، والموت، والحياة، والقلب، والسمع، والبصر، والأجزاء مملوكة عليه، والقدرة محيطة به، ولو كان الأمور إلى العباد لم يكن العاقل الشديد البطش، المنطلق اللسان، الثابت الحجة تبعاً للجاهل الضعيف، فتبارك الله أحسن الخالقين الذي لا يكون إلا ما شاء كما شاء على ما شاء.
وقال (الحسن) أيضاً: (لم يجبر الله العباد على الأفعال، ولم يفوض الأمر إليهم، ولم يكلفهم إلا ما طوقهم، وجعل لهم السبيل إلى فعله) إلى غير ذلك مما روى عنه وعن غيره، مما يدل على دفع ظاهر ما حكيناه أولاً عن علي عليه السلام وأحمد بن عيسى، والإجماع الذي رواه الحسن بن يحيى عليه السلام .
فإن قلت: قد ثبت بما قررتم أن أهل البيت" قائلون بالعدل جميعاً فما تأويل هذا المروي عنهم؟ قلت: هو من المجاز العقلي الذي أسند الفعل فيه إلى السبب، وهو في القرآن كثير، وهو أحد الوجوه التي حمل عليها قوله تعالى:{ خَتَمَ اللَّهُ عَلَى قُلُوبِهِمْ }[البقرة:7].
والقرينة: ظهور مذهبهم في العدل، وقد تقدم شيء من ذلك، بل في تفسيرهم لما حكيناه عنهم تصريح بهذا، وذلك أن أحمد بن عيسى عليه السلام ، قال بعد أن روى ما تقدم عن علي عليه السلام ما لفظه: (ومعنى قوله خلقها الله وعملها العباد أن العباد هم العاملون لها والله خالقها عند فعلهم، فالفعل منهم والخلق من الله معاً لا أن خلق الله تقدم فعل العباد، ولا تأخر عن وقت فعلهم، والثواب والعقاب على فعلهم لا خلقه أعمالهم، والحجة تلزمهم بما ركب من جوارحهم وسلامتها من الآفات المانعة لهم من الفهم والحركات، فمن علم منه الهداية جاءته من الله المعونة والتوفيق الزائد، ومن علم منه الضلالة خذله فلم يكن له منه هداية، وذلك مما من الله على أوليائه وأهل طاعته لسابق علمه فيهم، وقد ألزمهم حجته وقطع عذرهم، فما كلفهم من طاعته فهم عاملون ما علم لا محالة، لا أنه يحول بينهم وبين طاعته إلا بالخذلان لهم لسابق علمه فيهم، وقد قطع عذرهم بأن جعل فيهم ما بمثله يفهم، فمن لم يفهم فهو مقطوع العذر، وذلك أنه تعالى ذكره إذا أمرهم بأمر فقد جعل فيهم مابمثله يفهمون ذلك الأمر من الفعل الذي يكسب مما يثاب عليه ويعاقب، لأن معاونة الله إياهم على فعلهم هي غير فعلهم، فعلى فعلهم أثابهم لا على معاونته لهم على الفعل، وإنما أعان من علم أنه فاعل الطاعة، وخذل من علم أنه فاعل المعصية).
وكلامه عليه السلام صريح في أن الفعل الذي يقع عليه الجزاء من العبد لا من الله، وأن نسبتها إلى الباري تعالى ليس إلا لكونه أعان المطيع وخذل من علم منه عدم الاهتداء، وهو وجه صحيح في صحة الإسناد المجازي لا يخفى على من له أدنى مسكة في علم المعاني.
فإن قلت: ففي كلامه عليه السلام ما يدل على أن القدرة مقارنة للمقدور حيث قال: لا أن خلق الله تقدم فعل العباد... إلخ وهو خلاف مذهب العدلية.
قلت: قد تقدم أنه لم يقصد بنسبة خلقها إلى الله تعالى إلا من حيث أنه أعان المطيع وخذل من علم منه الضلالة، وإلاعانة والخذلان مقارنان للفعل، ألا ترى أن من حاول نقل الثقيل ونحوه فإنه إن لم يقدر عليه يطلب المعونة على نقله، ولا تكون تلك المعونة حاصلة إلا إذا قارنت العمل وحيث طلبها من أحد ولم تحصل عند المحاولة للثقيل، فإن تاركها المتمكن منها يسمى خاذلاً، فثبت أن أحمد بن عيسى عليه السلام لم يقصد بالمقارنة إلا من هذه الحيثية، وأما خلق الفهم والجوارح فقد صرح عليه السلام بتقدمها حيث قال: والحجة تلزمهم بما ركب من جوارحهم، وسلامتها من الآفات المانعة لهم، وهذه متقدمة قطعاً، والحاصل أن نسبة خلقها إلى الباري ليس إلا من حيث الإعانة بمزيد الهداية والخذلان لا من حيث التمكين بخلق الجوارح ونحوها، على أنه لا مانع من نسبتها إليه تعالى مجازاً من هذا الوجه إلا أنه غير مقصود هنا، وقد ذكر ذلك العلامة ابن أبي الحديد فإنه نص على أن الله تعالى مؤثر في كل شيء، قال: إما بنفسه أو بأن يكون مؤثراً فيما هو مؤثر في ذلك الشيء كأفعالنا فإنه يؤثر فينا، ونحن نؤثر فيها. ذكره في شرح النهج، بل لو قيل إنه أراد بهذه النسبة الحقيقة لم يبعد ويكون مقوياً لما يأتي من التأويل الآخر لكلام الأئمة".
وأما ما ذكره الحسن بن يحيى عليه السلام من الإجماع فليس المقصود به أيضاً إلا الإسناد المجازي مع نفي استقلال العبد بفعله، حتى لا يحتاج إلى تمكين الله تعالى له، ولا خلق القدرة فيه عليه؛ لأن ذلك يكون شركاً، وهذا حق فإن العدلية لم يقولوا باستقلال العبد بفعله واستغنائه عن الله إذ لو لم يمكنه الله تعالى لما قدر على شيء أصلاً، والدليل على أن هذا مقصودهم أنه احتج على صحته بما يدل على نفي الشريك، فإنه قال والحجة في ذلك كتاب الله عز وجل، قال الله سبحانه: {لَقَدْ جِئْتُمْ شَيْئًا إِدًّا ، تَكَادُ السَّمَاوَاتُ يَتَفَطَّرْنَ مِنْهُ...} [مريم:90] الآية.
فإن قلت: لكنه احتج بعد هذه الآية بقوله تعالى: { وَاللَّهُ خَلَقَكُمْ وَمَا تَعْمَلُونَ }[الصافات:96 ] ونحوها، قلت: لم يقصد بذلك إلا ما تقدم من نسبتها إلى الباري تعالى على جهة المجاز؛ لأنه قال بعدها: فإن زعموا أن أفعال العباد ليست منهم فقد زعموا أن الله عذب العباد على ما ليس منهم وأثابهم على ما ليس منهم، وإن زعموا أن أفعال العباد منهم فقد لزمتهم الحجة أن أفعال العباد مخلوقة، فإن زعموا أنها ليست منهم مخلوقة فقد جحدوا أن الله خلق العباد، وهذا تصريح بأن نسبة خلق أفعال العباد إلى الله تعالى من حيث أنه خلق الفاعلين لها فيكون من الإسناد إلى السبب كما قيل: إن الختم في الحقيقة من الشيطان، وأسند إلى الباري تعالى لأنه الذي خلق الشيطان ومكنه من ذلك.
واعلم أنه لا يجوز حمل كلامهم" على الجبر والتصريح بنسبة أفعال العباد إليهم، وما قالوه في تفسير كلامهم هذا الموهم، وقد تأولنا كلامهم بما دلونا عليه وفسروه به، وبما اهتدت إليه عقولنا وفوق كل ذي علم عليم.
وجه آخر في التأويل: وهو أن هؤلاء الأئمة" لا يجيزون تسمية العبد خالقاً لفعله كما يفهم ذلك من عباراتهم منها ما تقدم، ومنها ما في الجامع الكافي من الكلمات الدالة على ذلك، ذكرها في الكلام في خلق القرآن لأنه لم يرد بتسمية العبد خالقاً إذن شرعي، بل ورد ما ظاهره المنع نحو قوله: {خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ }[الزمر:62]، {هَلْ مِنْ خَالِقٍ غَيْرُ اللَّهِ }[فاطر:3]، {وَاللَّهُ خَلَقَكُمْ وَمَا تَعْمَلُونَ}[الصافات:96].
وهذه الآيات تتناول أفعال العباد بعمومها إلا أنه لما قام الدليل القطعي على أنها منهم، ومنه ما استدلوا به من إثابتهم وعقابهم عليها جمعوا بين الأدلة بأن جعلوا الأفعال مخلوقة لله تعالى من حيث أنه أعان عليها إن كانت حسنة، أو خذل مرتكبها إن كانت سيئة على جهة المجاز كما مر؛ لأن من أمده الله بمزيد المعونة فإنه لا يتخلف منه فعل الطاعة عادة، ومن خذله فلا بد لطموح نفسه واتباع هواه، وأن يرتكب المعصية عادة، وهذا هو الذي وكله الله إلى نفسه، والمعونة والخذلان لا يوجبان الفعل ولا يمنعان الاختيار، فكان هؤلاء الأئمة" يقولون: لا خالق إلا الله ونحوها من العبارات، وينصون على أن أفعال العباد مخلوقة لله لتلك الأدلة السابقة، وينسبون فعل العبد إلى الله تعالى لأجلها على الوجه السابق، وينسبونه إلى العبد حقيقة، وكل هذا مأخوذ من صريح كلامهم ليس فيه تعسف، ولا إخراج لكلامهم عن ظاهره، وقد عملوا فيه بظواهر القرآن وبراهين العقول، وهذه المسألة- أعني مسألة تسمية فعل العبد خلقاً وتسميته خالقاً - قد اختلف فيها المعتزلة، فقال أبو القاسم البلخي، وعباد الصيمري، والبغدادية: لا يجوز تسمية فعل العباد خلقاً ولا تسميتهم خالقين، بل لا يسمى خالقاً إلا الله تعالى، ولا يسمى خلقاً إلا فعله تعالى؛ لأن الخلق هو الاختراع، فكما لا يسمى أحدنا مخترعاً ولا يسمى فعله اختراعاً، فكذا لا يسمى خالقاً ولا يسمى فعله خلقاً؛ لأن الاختراع مختص بالله تعالى، وقال أكثر المعتزلة: بل يجوز لأن الخلق هو الفعل المقدر على حسب الغرض والداعي، ولو كان كما زعم الأولون لم يصح وصف غير الله تعالى به، وقد قال تعالى: {فَتَبَارَكَ اللَّهُ أَحْسَنُ الْخَالِقِينَ }[المؤمنون:14]، وقال: {وَإِذْ تَخْلُقُ مِنَ الطِّينِ }[المائدة:110].
قال (النجري): وليس الخلاف إلا بالنظر إلى أصل اللغة ومقتضى وضعها، وأما بالنظر إلى الشرع فذكر جماعة من أصحابنا أنه ممتنع اتفاقاً فلا يوصف بأنه خالق، أو بأنه يخلق، أو بأن فعله خلق إلا الله تعالى، ألا ترى إلى قوله تعالى: {أَفَمَنْ يَخْلُقُ كَمَنْ لاَ يَخْلُقُ }[النحل:17]فنفى أن يكون غيره خالقاً، وممن نص على وقوع الإجماع على ذلك الشيخ أبو محمد بن متويه.
قلت: وكلام الأئمة السابقين" محمول على هذا، فإنهم كما قدمناه عنهم لما نظروا إلى منع الأدلة الشرعية من إطلاق الخالق على غير الله تعالى قالوا: لا خالق إلا الله، ولما كانت تلك الأدلة متناولة لأفعال العباد نسبوها إلى الباري من حيث الإعانة والخذلان، ولما وجدنا كلماتهم صريحة في نسبة أفعال العباد إليهم على جهة الحقيقة، ورأيناهم مصرحين بنفي الجبر، ومتبرئين ممن يحمل ذنبه على الله تعالى حكمنا بأن نسبتهم أفعالنا إلى الباري تعالى من تلك الحيثية من المجاز العقلي، والحمد لله الذي هدانا لهذا وما كنا لنهتدي لولا أن هدانا الله.
ولهم" كلمات في العلم والإرادة والمشيئة، وسنتكلم عليها في مواضعها إن شاء الله تعالى، وبهذا تم الكلام في الركن الأول من أركان الاستعاذة، والحمد لله.
استكمال تفسير بقية أركان الاستعاذة
وقد تقدم الكلام في تفسير ركنها الأول: (أعوذ) وفي هذه الصفحات يستكمل تفسير بقية أركانها.
الركن الثاني: المستعاذ به
وهو الله تعالى لأنه الذي بيده ملكوت كل شيء، وهو يجير ولا يجار عليه، وقد وردت الاستعاذة بكلمات الله ونحوها، والمقصود التوسل بها إلى الله تعالى لفضلها وكرامتها عليه، وإلا فالاستعاذة الحقيقية لا تكون إلا بالله تعالى.
الركن الثالث: المستعيذ
وهو كل مكلف إذ كل أحد محتاج إلى ربه، وإلى الالتجاء إليه في دفع الشرور كلها، وقد حكى الله مطلق الاستعاذة عن أنبيائه وأوليائه وأمر بها في كتابه، وأرشد إليها على لسان رسوله صلى الله عليه وآله وسلم .
الركن الرابع: المستعاذ منه وهو الشيطان
والمقصود دفع شره من الوسوسة وغيرها من همزه ونفخه وخدعه ونحوها، ويتعلق بهذا الركن مسألتان:
المسألة الأولى: دلت الاستعاذة على وجود الشيطان؛ إذ المعدوم لا يكون منه فعل فيستعاذ منه، والكتاب والسنة ناطقان بوجوده، وذلك معلوم.
المسألة الثانية: في الحكمة في خلق إبليس، وتخليته وتمكينه من إغواء العباد، وإنزال الضرر بهم كما يقتضيه قوله تعالى: {كَمَا يَقُومُ الَّذِي يَتَخَبَّطُهُ الشَّيْطَانُ مِنَ الْمَسِّ }[البقرة:275]، والذي يجري على قواعد العدلية أن وجه الحكمة في ذلك أنه زيادة في التكليف، وذلك أدخل في باب الثواب، إذ الثواب على قدر المشقة، ولا شك أن هذا الوجه يقتضي حسن هذا التمكين كما يقتضي حسن التكليف.
قال الإمام (أحمد بن سليمان) عليه السلام : وقد يمكن أن يكون إضلال الشيطان للإنسان بالإرسال من الله والتخلية عقوبة للإنسان على معصيته، قال الله تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا ثُمَّ كَفَرُوا ثُمَّ آمَنُوا ثُمَّ كَفَرُوا ثُمَّ ازْدَادُوا كُفْرًا لَمْ يَكُنِ اللَّهُ لِيَغْفِرَ لَهُمْ وَلاَ لِيَهْدِيَهُمْ سَبِيلا}[النساء:137].
وقال تعالى: {وَمَنْ يَعْشُ عَنْ ذِكْرِ الرَّحْمَانِ نُقَيِّضْ لَهُ شَيْطَاناً فَهُوَ لَهُ قَرِينٌ}[الزخرف:36].
وأما تمكينه من إنزال الضرر فكسائر وجوه الابتلاء من الأمراض والمصائب، وخلق الحيات والعقارب، ووجه الحكمة في ذلك ما فيه من التعريض على الخير بالصبر على البلوى والمحنة، فإن قلت: إذا كان وجه الحكمة في تمكين إبليس من الإغواء هو ما ذكرتم من زيادة مشقة التكليف التي يعظم معها الثواب، فهل يحسن من الله تمكينه من إضلال من لو لم يدعه إلى الضلال لم يضل؟
قلت: قد اختلف في ذلك أبو هاشم وأبو علي، فقال أبو هاشم: يجوز ذلك كما تجوز زيادة الشهوة لمن لو لم يزدها له لم يعص؛ لأن ذلك زيادة في مشقة التكليف وهي جائزة، كما جاز ابتداء التكليف لمن علم أنه لا ينتفع به تعريضاً للثواب، فكذلك تجوز الزيادة في المشقة تعريضاً للزيادة في الثواب.
وقال (أبو علي): لا يجوز شيء من ذلك إذ تكون تلك الزيادة مفسدة للمكلف حينئذٍ، وأجيب بأن تلك الزيادة لو كانت مفسدة للزم في ابتداء تكليف من علم أنه يكفر أن يكون مفسدة لاستوائهما في كونهما تعريضاً للثواب، والمعلوم خلافه.
قال الإمام (المهدي) عليه السلام : ولقد خالف أبو علي في هذه المسألة ظواهر نصوص كثيرة من القرآن كقوله تعالى: {لاَ يَفْتِنَنَّكُمُ الشَّيْطَانُ كَمَا أَخْرَجَ أَبَوَيْكُمْ مِنَ الْجَنَّةِ يَنزِعُ عَنْهُمَا لِبَاسَهُمَا}[الأعراف:27].
فصرح تعالى بأن خروجهما كان بسبب وسوسته، وقال تعالى: {إِلاَّ مَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ الْغَاوِينَ }[الحجر:42]، ونظائر ذلك كثيرة.
قال عليه السلام : ولا موجب لتأويلات أوردها متعسفة تقريراً لأصله، ولا ملجئ إليه.
الركن الخامس: في المطالب التي لأجلها يستعاذ
اعلم أن ما من شر من الشرور إلا والعبد محتاج إلى دفعه، فقوله: أعوذ بالله متناول لدفع جميع الشرور سواء كانت اعتقادية كالعقائد الباطلة أم عملية دينية كارتكاب ما نهى الله عنه، أو ترك ما أمر به، أو دنيوية كالآلام، والغرق، والفقر، والزمانة، والعمى وغيرها من المكروهات والمخافات التي لا تكاد تنحصر، وينبغي للعاقل إذا قال أعوذ بالله أن يستحضر هذه الأنواع وأقسامها كانقسام العقائد الباطلة إلى التعطيل والتجسيم، وإنكار النبوة، واعتقاد البدع التي أفضت بالأمة إلى الافتراق إلى ثلاث وسبعين فرقة وغير ذلك، وقس الباقي عليها فإنه إذا استحضر تلك الأنواع على كثرتها ثم علم أن قدرة جميع الخلائق لا تفي بدفعها حمله طبعه وعقله على الالتجاء إلى القادر على ذلك، فكأنه قال: أعوذ بالله القادر على كل المقدورات من جميع أقسام المخافات والآفات والمكروهات، هذا إذا كانت الاستعاذة مطلقة، فأما إن كانت مقيدة بالاستعاذة من الشيطان الرجيم فالمراد كلما يدخل تحت مقدور الشيطان من تلك الشرور.
وهاهنا نكتة ذكرها الرازي، وهو أن سر الاستعاذة هو الالتجاء إلى قادر يدفع الآفات عنك، ثم إن أجل الأمور التي يلقي الشيطان وسوسته فيها قراءة القرآن؛ لأن من قرأ القرآن ونوى به عبادة الرحمن، وتفكر في وعده ووعيده، وآياته وبيناته ازدادت رغبته في الطاعات، ورهبته عن المحرمات، فلهذا السبب صارت قراءة القرآن من أعظم الطاعات، فلا جرم كان سعي الشيطان في الصد عنه أبلغ، وكان احتياج العبد إلى من يصونه عن شر الشيطان أشد، فلهذه الحكمة اختصت قراءة القرآن بالاستعاذة، وبهذا تم الكلام على ما يتعلق بالاستعاذة من مهمات المسائل العقلية، وما يتصل بها، وهو الموضع الأول من الموضعين الذين بنى الكلام في الاستعاذة عليهما.
ما يتعلق بالاستعاذة من المسائل الفقهية
الموضع الثاني: فيما يتعلق بالاستعاذة من المسائل الفقهية وما يتصل بذلك وفيه مسائل:
المسألة الأولى [وقت الاستعاذة]
وقت الاستعاذة قبل القراءة عند الجمهور سواء كان في الصلاة أو خارجها، وذهب أبو هريرة، ومالك، وداود، والنخعي، ومن القراء حمزة إلى أنه بعد القراءة، وهو إحدى الروايتين عن ابن سيرين، وحكاه الخازن في تفسيره عن جماعة من الصحابة والتابعين.
قال (أبو حيان): وهو الظاهر لظاهر الآية إذ الفاء للتعقيب، ولأن القراءة في الآية شرط والاستعاذة جزاء والجزاء متأخر عن الشرط، ولأن القارئ يستحق ثواباً عظيماً، وربما داخله عجب أو وساوس، هل يحصل له ذلك الثواب أم لا؟ فإذا استعاذ بعدها اندفع ذلك.
احتج الجمهور بحديث أبي سعيد الخدري، قال: كان النبي صلى الله عليه وآله وسلم إذا قام إلى الصلاة بالليل كبر ثم يقول: ((سبحانك اللهم وبحمدك وتبارك اسمك وتعالى جدك ولا إله غيرك))، ثم يقول: ((الله أكبر كبيرا))، ثم يقول: ((أعوذ بالله السميع العليم من الشيطان الرجيم من همزه ونفخه ونفثه))، الهمز: قيل: الموتة، قيل: وهي الجنون؛ لأن من جن فقد مات عقله، وقيل: همزه: وسوسته، ونفخه: قيل: الكبر، وقيل: ما يلقيه من الشبه في الصلاة ليقطعها، والنفث: الشعر، وقال ابن المنذر: جاء عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم أنه كان يقول قبل القراءة: ((أعوذ بالله من الشيطان الرجيم )).
وعن جبير بن مطعم أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم صلى صلاةً حين افتتح الصلاة قال: ((الله أكبر كبيرا ثلاث مرات ، والحمد لله كثيرا ثلاث مرات، وسبحان الله بكرة وأصيلا ثلاث مرات)) ثم قال: ((أعوذ بالله من الشيطان الرجيم من همزه ونفخه ونفثه)).
وقد روي من دون ذكر التثليث، ومن دون زيادة من همزه وما بعده، ولفظه عن جبير بن مطعم قال: رأيت رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم حين دخل في الصلاة قال: ((الله أكبر كبيرا والحمد لله كثيرا ، وسبحان الله بكرة وأصيلا، اللهم إني أعوذ بك من الشيطان الرجيم)).
وعن علي عليه السلام في الاستفتاح: ((الله أكبر اللهم أنت الملك لا إله إلا أنت ، أنت ربي وأنا عبدك ظلمت نفسي واعترفت بذنبي، فاغفر لي ذنوبي جميعاً إنه لا يغفر الذنوب إلا أنت، لبيك وسعديك والخير في يديك والمهدِي من هديت، ولا ملجأ منك إلا إليك تباركت ربنا وتعاليت، سبحانك رب البيت))، ثم يتعوذ ثم يقرأ.
وعن علي عليه السلام أنه إذا استفتح الصلاة قال: ((الله أكبر وجهت وجهي ...إلى قوله وأنا من المسلمين، أعوذ بالله من الشيطان الرجيم))، ثم يبتدئ ويقرأ.
وعن (الأسود) قال: رأيت عمر حين يفتتح الصلاة يقول: (سبحانك اللهم وبحمدك، وتبارك اسمك وتعالى جدك ولا إله غيرك) ثم يتعوذ.
وفي الباب عن أبي أمامة وغيره. قالوا: وهذه الأخبار والآثار توجب ترك الظاهر، وتأويله بمعنى: فإذا أردت القراءة، عبر عن إرادة الفعل بلفظ الفعل لأنه يوجد عند القصد والإرادة بغير فاصل وعلى حسبه، فكان بسبب قوي وملابسة ظاهرة، وله نظائر: منها قوله تعالى: {إِذَا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلاَةِ }[المائدة:6]، وقولهم: إذا سافرت فتأهب، وإذا أكلت فسم، على أنا لا نسلم ظهورها فيما ذكرتم بل تحتمله وتحتمل ما ذكرنا، والأخبار تعين أحد المحتملين وهو قولنا.
وأما الدليل العقلي الذي أبديتموه فمعارض بأن الوسوسة إنما تعرض في أثناء القراءة بدليل قوله تعالى: {إِلاَّ إِذَا تَمَنَّى أَلْقَى الشَّيْطَانُ فِي أُمْنِيَّتِهِ }[الحج:52 ] فكان تقديم الاستعاذة على القراءة لتذهب تلك الوسوسة أولى من تأخيرها، على أن تقديمها يتناول ما وقع من الوسوسة عند القراءة، وما وقع بعدها من العجب ونحوه، فكان التقديم أكثر فائدة. والله أعلم.
قال (الرازي): وأقول هاهنا قول ثالث، وهو: أنه يقرأ الاستعاذة قبل القراءة بمقتضى الخبر، وبعدها بمقتضى القرآن جمعاً بين الدليلين بقدر الإمكان.
المسألة الثانية [شرعية الاستعاذة وحكمها]
دلت الآية على أن التعوذ مشروع للقارئ سواء كان في الصلاة أم في غيرها، واختلف العلماء في حكمه، فقال الجمهور: هو سنة في الصلاة وغيرها، فلو تركه المصلي لم تبطل صلاته سواء تركه عمداً أو سهواً، وقال عطاء: بل واجب في الصلاة وغيرها، وقال ابن سيرين: إذا تعوذ الرجل في عمره مرة واحدة كفى في إسقاط الوجوب، وظاهر كلام الرازي ترجيح قول عطاء لظاهر الآية؛ ومواظبة النبي صلى الله عليه وآله وسلم على الاستعاذة.
أجاب الجمهور بأن النبي صلى الله عليه وآله وسلم لم يعلم الأعرابي الاستعاذة في جملة أعمال الصلاة وتأخير البيان عن وقت الحاجة لا يجوز، فكان هذا صارفاً لما يفيده ظاهر الآية، والمواظبة من الوجوب إلى الندب، على أنه صلى الله عليه وآله وسلم قد واظب على أشياء كثيرة من أفعال الصلاة ليست واجبة كتكبير النقل والتسبيح، والتعوذ مثلها، مع أنا لا نسلم المواظبة فقد رويت استفتاحات كثيرة لم يذكر فيها التعوذ، ولقائل أن يقول: خبر الأعرابي لا ينفي وجوب الاستعاذة لأن الأمر بها لأجل القراءة لا لأجل الصلاة، والخبر وارد في بيان واجبات الصلاة التي لا تتم إلا بها، وليست الاستعاذة كذلك، ألا ترى أنه لو سقط فرض القراءة عن المصلي لم تشرع في حقه الاستعاذة فاكتفى النبي صلى الله عليه وآله وسلم عن ذكرها بالأمر المتناول للقراءة في الصلاة وغيرها، ولأنها تبع للقراءة، فكان الأمر بالقراءة أمر بها، وكذلك الجواب عن عدم ذكرها في بعض روايات الاستفتاح فإنهم ربما اقتصروا على ما يتعلق بالصلاة بخصوصها، مع أن خبر الأعرابي لم يشمل جميع واجبات الصلاة، فالأولى أن يقال: الصارف للظاهر عن الوجوب الإجماع على أنها سنة. رواه الحاكم.
ولعل انعقاده بعد انقراض عصر المخالف، وأما ابن سيرين فيمكن الاحتجاج له بأن الأمر لا يدل على التكرار إلا أنه يرد عليه أن المواظبة قرينة مفيدة للتكرار. والله أعلم.
فائدة [في إطلاق القرآن]
المراد بالقرآن في قوله تعالى: {فَإِذَا قَرَأْتَ الْقُرْآنَ...} [النحل:98] الآية، الجنس الصادق بالبعض، قال في الثمرات: لا أن المراد جميع القرآن، ولعل هذا إجماع أعني أنه مشروع للبعض كما هو مشروع للكل.
فرع [في صحة صلاة من ترك الاستعاذة]
لو قيل: بوجوب التعوذ فالظاهر أن الصلاة لا تفسد بتركه لما مر من أن وجوبه لأجل القراءة فهو واجب مستقل، وكذا لو سلم وجوبه لأجل الصلاة إذ ليس جزءاً منها ولا شرطاً في صحتها، وإنما شرع لصرف الشيطان عن الوسوسة ونحوها، وذلك أمر خارج عن مسمى الصلاة.
المسألة الثالثة [الاستعاذة في الصلاة]
الاستعاذة مشروعة في الصلاة في كل زمان عند أهل البيت" والأكثر من غيرهم، وقال مالك: لا تشرع إلا في التراويح في قيام رمضان، لنا ما مر، ولا دليل لمالك.
المسألة الرابعة [مشروعية الاستعاذة في صلاة النوافل]
عموم ما تقدم يدل على أنها مشروعة في النفل، بل حديث أبي سعيد نص في ذلك.
المسألة الخامسة [التعوذ في الركعة الأولى أم في كل الركعات]
قال الأكثر: ولا يتعوذ إلا في الركعة الأولى، قال السيد محمد بن الهادي بن تاج الدين عليه السلام : التعوذ في الصلاة مرة واحدة، وهو الظاهر من قول أهل البيت" وقول جمهور العلماء وعامتهم، وذهب ابن سيرين إلى أن التعوذ في كل ركعة من الصلاة، والدليل على قولنا إنه لم ينقل ذلك أحد من الصحابة ولا قال به أحد من عيون العلماء في جميع الأعصار والأمصار، فلا يبعد أن يكون خلاف الإجماع، وقال في (نيل الأوطار): الأحاديث الواردة في التعوذ ليس فيها إلا أنه فعل ذلك في الركعة الأولى، وقد ذهب الحسن، وعطاء، وإبراهيم إلى استحبابه في كل ركعة، واستدلوا بعموم قوله تعالى: {فَإِذَا قَرَأْتَ الْقُرْآنَ فَاسْتَعِذْ بالله }[النحل:98 ]ولا شك أن الآية تدل على مشروعية الاستعاذة قبل قراءة القرآن، وهي أعم من أن يكون القارئ خارج الصلاة أو داخلها، وأحاديث النهي عن الكلام في الصلاة يدل على المنع منه حال الصلاة من غير فرق بين الاستعاذة وغيرها مما لم يرد به دليل يخصه، ولا وقع الإذن بجنسه، فالأحوط الاقتصار على ما وردت به السنة وهو الاستعاذة قبل قراءة الركعة الأولى فقط.
قلت: ولأن الصلاة كالعمل الواحد فالاستعاذة في أولها من شر ما يلقيه الشيطان من الوسوسة في القراءة وغيرها يتناول كل القراءة، وكل ذكر وفعل فيها، واحتج الرازي بأن الأصل هو العدم، وما لأجله أمرنا بالاستعاذة هو قوله تعالى: {فَإِذَا قَرَأْتَ الْقُرْآنَ فَاسْتَعِذْ بالله }[النحل:98 ]وكلمة إذا لا تفيد العموم.
قلت: وهذا الاحتجاج ضعيف؛ لأن لابن سيرين أن يقول: إن هذا الأصل قد قام الدليل على خلافه، وقوله: وما لأجله أمرنا...إلخ، عبارة ركيكة، وأظنه أراد أن الأمر لا يدل على التكرار.
وأما قوله: إن إذا لا تدل على العموم، فمسلم لكنها تدل على طلب الاستعاذة عند كل قراءة كما هو شأن الشرط والجزاء، وقد اعترض الرازي بنفسه على هذه الحجة بأن ترتيب الحكم على الوصف المناسب يدل على العلية، فيلزم أن يتكرر الحكم بتكرر العلة، وأجيب بأن عدم فعل النبي صلى الله عليه وآله وسلم للتكرار كما تقدم، وتبعه على ذلك جماهير علماء الأمصار يدل على أحد أمرين: إما على عدم اعتبار ذلك الوصف، وإما على أن الصلاة عمل واحد كما مر، على أنه قد روي عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم افتتاح الثانية بالقراءة كما في حديث أبي هريرة قال: كان رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم إذا نهض في الركعة الثانية افتتح القراءة بالحمد لله رب العالمين ولم يسكت.
قال في (نيل الأوطار): وقد رجح صاحب الهدي الاقتصار على التعوذ في الأولى لهذا الحديث، واستدل لذلك بأدلة فليراجع.
المسألة السادسة [في الجهر والإسرار بالاستعاذة]
اختلف العلماء في الجهر به والإسرار، فقال الحاكم: عند علمائنا يخفيه، وهو قول الأكثر، وهو مذهب ابن مسعود وابن عمر، وهذا هو المصحح للمذهب إذ لم يؤثر الجهر به وإلا لنقل، وفي (البحر) عن الإمام يحيى للمذهب أنه تابع للصلاة.
وقال (أبو هريرة): وهو أحد قولي الشافعي يجهر به إذ كان صلى الله عليه وآله وسلم يجهر به وإلا لما سمع، وعن الشافعي هو مخير، وفي (الإملاء) إن الجهر عنده أولى، وقال الرازي: إن ألحقناه بالافتتاح أسر، وإن ألحقناه بالفاتحة لزم الجهر.
قلت: لعله أراد فيما يجهر بالفاتحة فيه قال: إلا أن مشابهته للافتتاح أتم لكونهما نافلتين عند الفقهاء، ولأن الجهر صفة وجودية، والإخفاء عبارة عن عدمها، والأصل العدم.
وقال الداني: لا أعلم خلافاً بين أهل الأداء في الجهر بها عند افتتاح القراءة وعند الابتداء برؤوس الآي أو غيرها اتباعاً للنص، واقتداءً بالسنة، وأطلقه غيره أيضاً، وقيده أبو شامة وغيره بما إذا كان بحضرته من يسمع قراءته؛ لأن الجهر إشعار بالقراءة كالجهر بالتلبية وتكبيرات العيد، فإذا سمع الحاضر التعوذ أنصت للقراءة من أولها فلا يفوته شيء، وهذا قيد حسن، ويدل عليه أن الله أمر بالاستعاذة ولم يعين سراً ولا جهراً.
قال في (غيث النفع): ولا أعلم خلافاً أن من تعوذ سراً فقد امتثل أمر الله تعالى، ولأن المطلوب بالاستعاذة يحصل بالسر كما يحصل بالجهر، ولأنها دعاء والسنة إخفاء الدعاء، قيل: وهذا المعنى -أعني كون الحاضر إذا سمع التعوذ أنصت للقراءة من أولها- هو الفارق بين القراءة في الصلاة وخارجها، والمراد بالإسرار الإخفاء عند الجمهور فلا بد من التلفظ، وقيل: بل الكتمان فلا يلفظ بها، بل يذكرها بقلبه، قلنا: خلاف ما وردت به السنة.
المسألة السابعة [في موضع الاستعاذة]
اختلفوا في محله من الصلاة، فقال الهادي عليه السلام ورواه عن جده القاسم: أنه قبل الافتتاح، وهو أن يتعوذ، ثم يتوجه، ثم يكبر ويقرأ، وهو قول ابني الهادي المرتضى والناصر عليهما السلام، وأبي العباس، ورواه عن القاسم أيضاً لأن الاستفتاح من القرآن، وهو: وجهت وجهي ... إلخ، والتعوذ قبل القراءة لما مر، ولقوله صلى الله عليه وآله وسلم : ((إن صلاتنا هذه لا يصلح فيها شيء من كلام الناس )) فلو دخل فيها التعوذ لبطلت للخبر، واحتج في (الجامع الكافي) للقاسم عليه السلام بقوله تعالى: {وَقُلِ الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي لَمْ يَتَّخِذْ وَلَدا }إلى قوله: {وَكَبِّرْهُ تَكْبِيراً }[الإسراء:111 ].
وروى في (الجامع الكافي) عن زيد بن علي، وحسين بن عبد الله أن التعوذ قبل التكبير، وهو قول الناصر، فإنه قال: يستفتح ثم يتعوذ ثم يكبر، واحتج له في (البحر) بقوله تعالى: {فَإِذَا قَرَأْتَ الْقُرْآنَ }[النحل:98] والفاء للتعقيب، ولعل الأولى الاحتجاج له، ولزيد، وحسين بن عبد الله بحديث: ((إن صلاتنا هذه لا يصلح فيها شيء من كلام الناس )) وإطلاق بعض الأحاديث عن تقديم التكبير على التعوذ نحو ما في بعض نسخ (المجموع)عن علي عليه السلام أنه كان إذا استفتح الصلاة قال: ((وجهت وجهي ...)) الخبر، ولم يذكرالتكبير ونحوه، إلا أنه يرد على الأول بأن المراد بكلام الناس ما لم يرد به الشرع؛ إذ ليس على إطلاقه، وعلى الثاني بأنه قد ورد التقييد بتقديم التكبيرعلى الاستفتاح والتعوذ في عدة أحاديث كما تقدم، والواجب حمل المطلق على المقيد إذا وردا في حكم واحد.
وروي عن القاسم عليه السلام أنه يبدأ بالاستفتاح ثم التكبير ثم التعوذ، ثم القراءة لما مر من أدلة الاستعاذة عند القراءة والقراءة بعد التكبير، وأما تقديم الافتتاح على التكبير فلقوله تعالى: {فَإِذَا قَرَأْتَ الْقُرْآنَ }[النحل:98 ] بعد قوله: {الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي لَمْ يَتَّخِذْ وَلَداً ...} [الإسراء:111]الآية، وهو الاستفتاح الصغير، وهذا لا يتم إلا بعد تسليم أن المراد بقوله: {فَإِذَا قَرَأْتَ الْقُرْآنَ }[النحل:98 ] الإحرام، وأن الواو للترتيب، وأن قوله تعالى:{ الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي لَمْ يَتَّخِذْ وَلَداً }[الإسراء:111] من التوجهات.
قيل: وهذه الأمور كلها ممنوعة ودون تصحيحها مفاوز وعقاب.
وقال (داود)، و(النخعي)، وروي عن ابن (سيرين): بل بعد القراءة، فإذا قال آمين بعد الفاتحة استعاذ، وهو بناء على أصلهم، وقد مر إبطاله.
وقال (أحمد بن عيسى) و(الحسن بن يحيى)، و(م) بالله و(محمد بن منصور)، وروي عن الشافعي وبه قال جماعة من العلماء: بل يبدأ بالتكبير، ثم الاستفتاح، ثم التعوذ، ثم القراءة لورود السنة بذلك كما مر.
قال في (الجامع الكافي) قال (محمد): الاستفتاح والتعوذ عندنا بعد التكبير، وكذلك سمعنا عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم ، وعن علي عليه السلام ، وعن غيره من أهل البيت " وغيرهم، وفي (المنار) ألحق التكبير بالافتتاح ثم التعوذ للقراءة، وقد صحت هذه الكيفية من مجموع الأحاديث، ومن كون التعوذ للقراءة بالآية الكريمة.
المسألة الثامنة [الاستعاذة لأجل الصلاة أم القراءة]
ظاهر الآية أن الاستعاذة لأجل القراءة وإن كانت في الصلاة، وقال أبو يوسف: بل هي في الصلاة لأجلها ويستدل له بقوله صلى الله عليه وآله وسلم : ((إذا قام أحدكم إلى الصلاة احتوشته الشياطين كما يحتوش الجراد الزرع، فعليكم بالتعوذ فإنه يصرف الشياطين منكم))، وحديث أبي سعيد أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم : كان يتعوذ إذا أراد الصلاة فيقول: ((أعوذ بالله من الشيطان الرجيم)).
ولقائل أن يقول: لا مانع من أن تكون مشروعة لهما جميعاً فيستعيذ قبل التكبير للصلاة لأجل تتناول الاستعاذة جميع أجزاء الصلاة والتكبير أحد أجزائها، وبعده للقراءة امتثالاً للأمر، وفي هذا جمع بين الدليلين. والله أعلم.
المسألة التاسعة [تحمل الإمام للاستعاذة]
قال (محمد بن منصور) في رواية عنه: ليس على من خلف الإمام استعاذة، وظاهره الإطلاق، وبه قال أبو حنيفة ومحمد لأنه لا يقرأ وهي للقراءة، وقال أبو يوسف: بل يتعوذ إذ هي للصلاة، وإلا لتكررت بتكرر القراءة.
قلنا: وردت السنة بعدم التكرار والصلاة عمل واحد، وقيل: إن فاته شيء من الصلاة استعاذ عند دخوله فيها لأنه يقرأ للفائت وقيل: لا لأن استعاذة الإمام تجزيه.
قال (محمد بن منصور) بعد أن حكى هذا القول: وأرجو أن استعاذة الإمام تجزيه، وعنه أنه قال: التعوذ أحب إلي، ولعل هذا الاختلاف فيمن فاته ركعة أو أكثر، وعن محمد بن منصور أيضاً تعوذ الإمام يجزي المأموم، وإن تعوذ فيتعوذ في ما لا يجهر فيه الظهر والعصر والآخرتين من العشاء والآخرة من المغرب إذا أراد أن يقرأ تعوذ.
قلت: لعله خص السرية بالجواز إما لأن الإمام يتحمل القراءة في الجهرية فتسقط الاستعاذة لأنها لأجلها، وإما للنهي عن منازعة الإمام والقراءة خلفه بغير الفاتحة، والاستعاذة داخلة في إطلاق النهي، وأما في السرية فلا منازعة مع الإسرار. والله أعلم.
والأولى أن يقال: الاستعاذة شرعت للقراءة كما مر، فتثبت بثبوتها، وتسقط بسقوطها، سواء كان المصلي إماماً أم مؤتماً أم منفرداً.
نعم هذا الخلاف إنما هو بين من قال: إنها بعد التكبيرة، وأما من يقدمها على التكبير فلا مقتضي لسقوطها عنده إذ لا تحمل ولا منازعة، فتأمل.
المسألة العاشرة [صفة الاستعاذة]
اختلف العلماء رضي الله عنهم في صفة الاستعاذة، فقال القاسم والهادي، والحسن بن يحيى، والناصر، والحسن بن صالح، والإمام يحيى: أعوذ بالله السميع العليم من الشيطان الرجيم، ورواه الرازي عن بعض أصحابه، وهو قول حمزة من القراء جمعاً بين قوله تعالى: {فَاسْتَعِذْ بالله مِنَ الشَّيْطَانِ الرَّجِيمِ }[النحل:98]، وقوله:{ فَاسْتَعِذْ بالله إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ }[فصلت:36]، وفي آية أخرى: {إِنَّهُ سَمِيعٌ عَلِيم }[الأعراف:200]،ولحديث أبي سعيد الخدري وقد مر.
وعن ابن عباس أن أول ما نزل جبريل على محمد عليه الصلاة والسلام وعلى آله قال: قل يا محمد: أستعيذ بالله السميع العليم من الشيطان الرجيم، ثم قال: قل: {بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ، اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ }.
وعن أبي سعيد الخدري قال: كان رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم إذا قام من الليل كبر ثلاثاً وقال: ((أعوذ بالله السميع العليم من الشيطان الرجيم )).
وقال (م) بالله و(محمد بن منصور)، و(أبو حنيفة) و(الشافعي): بل المختار أعوذ بالله من الشيطان الرجيم، واختاره الخازن، ورواه في (البحر المحيط) عن الجمهور من القراء وغيرهم، وقال في (غيث النفع): المختار عند جميع القراء أعوذ بالله من الشيطان الرجيم، قال: وكلهم يجيز غير هذه الصيغة من الصيغ الواردة.
وقال السيد (محمد بن الهادي) في (الروضة والغدير): لفظ الاستعاذة أحسنه عندنا أعوذ بالله من الشيطان الرجيم، قال: وهي قراءة عاصم وأبي عمرو، وقراءة عاصم مسندة إلى أمير المؤمنين، وهو مذهب الأكثر، وهو المذكور في الآية فيكون هو الأقوى لموافقته للقرآن، قال: وقولنا أيضاً مروي عن ابن مسعود، ووكيع بن الجراح، وسفيان الثوري، ودليل هذا القول ما تقدم من حديث جبير بن مطعم وغيره، ولأنه المروي عن علي عليه السلام ، ولحديث ابن مسعود: قرأت على رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فقلت: أعوذ بالله السميع العليم من الشيطان الرجيم، فقال لي: ((يا بن أم عبد قل أعوذ بالله من الشيطان الرجيم ، هكذا أقرأنيه جبريل عليه السلام عن القلم عن اللوح المحفوظ)).
وعن ابن مسعود أيضاً عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم أنه قال: ((اللهم إني أعوذ بك من الشيطان الرجيم )).
وحكى الرازي عن الثوري والأوزاعي أعوذ بالله من الشيطان الرجيم إن الله هو السميع العليم، جمعاً بين الآيتين.
وقال (أحمد بن حنبل): الأولى أن يقول: أعوذ بالله من الشيطان الرجيم إنه هو السميع العليم للآيتين.
وعن حمزة: أستعيذ، ونستعيذ، واستعذت، واختاره صاحب (الهداية) من الحنفية لمطابقة لفظ القرآن.
وعن حميد بن قيس: أعوذ بالله القادر من الشيطان الرجيم الغادر، وعن أبي السمال: أعوذ بالله القوي من الشيطان الغوي، وعن قوم: أعوذ بالله العظيم من الشيطان الرجيم. إلى غير ذلك من الأقوال.
قال الحلواني في جامعه: ليس للاستعاذة حد تنتهي إليه من شاء زاد، ومن شاء نقص.
المسألة الحادية عشرة: في خواص الاستعاذة من الشيطان الرجيم وفضائلها وذكر شيء مما يستعان به على دفع الشيطان من الأذكار وغيرها
اعلم أن الشيطان لعنه الله قد بذل نفسه وعمره في إفساد أحوال بني آدم، وقد أمر الله بالحذر منه واجتنابه، وأبان لنا شدة عداوته في محكم كتابه، فالواجب على العاقل أن يأخذ منه حذره، ويستدفع شره بكل ما قدر عليه، فإنه لا يحصل الفوز بالنعيم، والنجاة من العذاب الأليم إلا لمن سلم من هذا الشيطان الرجيم، ولهذا قيل: من كان يرجو الجنان، ويخاف النيران، فليستعذ بالله من الشيطان الرجيم، وقد أرشدنا الله في كتابه وعلى لسان نبيه صلى الله عليه وآله وسلم إلى ما ينجينا من شره، فقال تعالى: {وَإِمَّا يَنزَغَنَّكَ مِنَ الشَّيْطَانِ نَزْغٌ فَاسْتَعِذْ بالله}[الأعراف:200]، وأخبر تعالى أنه لا سلطان له على أولياء الله، وورد عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم من الأذكار والأعمال ونحوها شيء كثير، ونحن نذكر بعضاً منها في هذا الموضع إلا ما كان متعلقاً بالسور والآيات فنؤخره إلى مواضعه.
روي عن أنس بن مالك، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم : ((من قال أستعيذ بالله من الشيطان الرجيم في اليوم عشر مرات وكل الله به ملكاً يذود عنه الشيطان كما تذاد غريبة الإبل)).
وعن النبي صلى الله عليه وآله وسلم : ((من قال أعوذ بالله السميع العليم من الشيطان الرجيم عشر مرات في أول النهار أو في أول الليل عصم في ذلك اليوم أو في تلك الليلة من الشيطان الرجيم)).
وعن معاذ قال: استب رجلان عند النبي صلى الله عليه وآله وسلم ، وأغرقا فيه، فقال صلى الله عليه وآله وسلم : ((إني لأعلم كلمة لو قالاها لذهب عنهما ذلك وهي قوله: أعوذ بالله من الشيطان الرجيم)).
وعن عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال: ((إذا فزع أحدكم من النوم فليقل: أعوذ بكلمات الله التامة من غضبه وعقابه وشر عباده ومن همزات الشياطين وأن يحضرون فإنها لا تضره)).
وكان عبد الله بن عمر يعلمها من بلغ من عبيده، ومن لم يبلغ كتبها في صك ثم علقها في عنقه.
وروي أن خالد بن الوليد قال: يا رسول الله إني أروع في منامي، فقال له رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم : ((قل أعوذ بكلمات الله التامات من غضبه وعقابه وشر عباده ومن همزات الشياطين وأن يحضرون)).
وعن أبي الأزهر قال: كان رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم إذا أخذ مضجعه من الليل قال: ((بسم الله وضعت جنبي اللهم اغفر لي ذنبي واخسئ عني شيطاني وفك رهاني، وثقل ميزاني، واجعلني في الندي الأعلى)). اخسئ: أي اطرد، وفك الرهان: كناية عن العفو عن الذنوب أن الإنسان مرتهن بعمله، والندي: بفتح فكسر: القوم المجتمعون في مجلس، والمراد الملأ الأعلى من الملائكة".
وعن معاذ بن جبل، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم : ((من قال حين يصلي صلاة الفجر قبل أن يتكلم بشيء : لا إله إلا الله وحده لا شريك له، له الملك وله الحمد يحيى ويميت بيده الخير وهو على كل شيء قدير عشر مرات أعطي بهن سبعاً: كتب له عشر حسنات، ومحي عنه عشر سيئات، ورفع له عشر درجات، وكن له عدل عشر نسمات، وكن له حرزاً من الشيطان، ويحرز من المكروه، ولم يلحقه في ذلك اليوم ذنب إلا الشرك بالله، ومن قالهن بعد صلاة المغرب كن له مثل ذلك)). ونحوه من حديث أم سلمة أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم أمر بذلك ابنته فاطمة عليها السلام، وعن ابن عباس نحوه، إلا أنه قال بعد قوله: يحيى ويميت: ((وهو حي دائم لا يموت بيده الخير ...)) إلخ، وقال: ((كن له كعتق أربع رقاب)).
وعن أبي هريرة أن أبا بكر قال: يا رسول الله مرني بكلمات أقولهن إذا أصبحت وإذا أمسيت، قال النبي صلى الله عليه وآله وسلم : ((قل: اللهم فاطر السموات والأرض عالم الغيب والشهادة رب كل شيء ومليكه أشهد أن لاإله إلا أنت أعوذ بك من شر نفسي ومن شر الشيطان وشركه، قلها إذا أصبحت وإذا أمسيت وإذا أخذت مضجعك)).
وعن علي عليه السلام قال: شكوت إلى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم تفلت القرآن من صدري، فأدناني منه ثم وضع يده على صدري، ثم قال: ((اللهم أذهب الشيطان من صدره ثلاث مرات ))، ثم قال: ((إذا خفت ذلك فقل: أعوذ بالله السميع العليم من الشيطان الرجيم ومن همزات الشياطين وأعوذ بك ربي أن يحضرون إن الله هو السميع العليم، اللهم نور بكتابك بصري وأطلق به لساني، واشرح به صدري ويسر به أمري وأفرج به عن قلبي، واستعمل به جسدي وقوني لذلك فإنه لا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم تعيد ذلك ثلاث مرات فإنه يزجر عنك)).
ومن الأدعية المأثورة ما رواه أبو اليسر عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم : ((اللهم إني أعوذ بك من التردي والهدم والغرق والحرق ، وأعوذ بك أن يتخبطني الشيطان عند الموت، وأعوذ بك أن أموت في سبيلك مدبراً، وأعوذ بك أن أموت لديغاً)). الهدم: بسكون الدال المهملة سقوط البناء، وروي بالفتح اسم لمن هدم، والغرق: بكسر الراء كفرح الموت بالغرق، وقيل: بفتحها وقيل: هو بالفتح مصدر وهو الذي غلبه الماء وقوي عليه فأشرف على الهلاك ولم يغرق، فإذا غرق فهو غريق، والحرق بفتح المهملتين: الالتهاب بالنار، والتخبط: الصرع، وهو هنا مجاز عن إضلاله.
وعن جعفر الصادق قال: خرج علي بن أبي طالب عليه السلام يعس العسكر ليلة الأحزاب فشعر به النبي صلى الله عليه وآله وسلم فقال: إلى أين يا أبا الحسن؟ فقال: خرجت حارساً لله ورسوله، فهما يتخاطبان إذ نزل عليه جبريل عليه السلام فقال: ((يا محمد إن الله عز وجل وتقدست أسماؤه يقرأ عليك السلام ويقول لك: قد أهديت إلى علي بن أبي طالب كلمات من كنوز عرشي لا يضره معها كيد شيطان، ولا سطوة سلطان، ولا سع حية ولا عقرب، ولا سبع ضار، ولا جبار عات، والكلمات: يا من ستر القبيح وأظهر الجميل ولا يؤاخذ بالجريرة ولم يهتك الستر، ويا من رآني على المعاصي فلم يفضحني أسألك أن تبلغني ما أؤمله من أمر ديني ودنياي وآخرتي وأن تدخلني في حمائك الذي لا يستباح وتحرسني بعينك التي لا تنام، وتكنفني بكنفك الذي لا يرام، وتدخلني في سلطانك الذي لا يضام وفي ذمتك التي لا تخفر عز، جارك ولا إله غيرك ولا معبود سواك صلى الله على محمد وأهل بيته الطيبين الطاهرين وعد على ديني بدنياي، وعلى آخرتي بتقواي، وذلله لي كما ذللت الرياح لسليمان بن داود، وكفه عن أذيتي، واطمس بصره عن مشاهدتي، وأبدلني من غله وداً، ومن حقده عفواً، ومن عداوته سلماً يا أرحم الراحمين)) العس: الطواف بالليل، والكنف: الإحاطة، والصيانة، والروم: الطلب، والذمة: الحرمة، ويطلق على الأمان وهو المراد هنا، والخفر: قد يراد به نقض العهد وهو المراد هنا، والمعنى أدخلني في أمانك الذي لا ينقض.
وعن علي عليه السلام قال: قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم : ((الإشارة بالأصبع المسبحة في الصلاة وفي الدعاء مرضاة للرب ، ومقمعة للشيطان، وهي الإخلاص)).
وعن علي عليه السلام قال رسول صلى الله عليه وآله وسلم : ((كلوا الرمان فليست حبة تقع في المعدة إلا أنارت القلب ، وأخرست الشيطان أربعين يوماً)).
وفي حديث معاذ مرفوعاً: ((فعليك بالصمت فبه تغلب الشيطان )).
وعن علي عليه السلام قيل: يا رسول الله ما الذي يباعد الشيطان منا؟ قال: ((الصوم يسود وجهه ويكسر ظهره والحب في الله والمواظبة على العمل الصالح يقطع دابره والاستغفار يقطع وتينه)).
خاتمة [وسوسى الشيطان وكيفية تجنبها]
ولما كان عظيم مداخل الشيطان وهمته هو الوسوسة في توحيد الباري وعدله الذي هو أصل الدين وعمدته، فإذا أيس من هذه الجهة انتقل إلى الوسوسة في الصلاة التي هي أم العبادات وأصلها، وفيما يتعلق بها من الوضوء ونحوه رأينا أن نختم المسألة بفائدتين فيما تستدفع به الوسوسة في هذين الأصلين.
الفائدة الأولى: في التوحيد ذكرها الإمام عز الدين عليه السلام في المعراج، وهي أنه يليق بكل ذي عقل وافر، وحلم راسخ من أهل الدين المستبين، والمعرفة الحقيقية واليقين عند أن يلقي إليه الشيطان- نعوذ بالله منه- الوسوسة ويبعثه على التفكر في ذات الباري جل وعلى ويقول له: كيف هذه الذات التي أراك تعبدها، وما حقيقتها وصورتها، ألاَّ يصغي إلى ذلك أذناً، ولا يصرف إليه قلباً، ولا يشتغل بما يلقي إليه من ذلك، فإن هذا الوسواس أعظم ما يتوصل به الشيطان إلى ضلال المكلف وكفره وإلحاده.
وقد روي عنه صلى الله عليه وآله وسلم أنه قال: ((إن الشيطان -نعوذ بالله منه- يأتي أحدكم يقول: هذا الله خلق الخلق فمن خلق الله ؟ فمن وسوس له الشيطان بذلك فيقول: آمنت بالله وينظر في ملكوته ومصنوعاته)). وقد كان صلى الله عليه وآله وسلم على ما روي كثير التكرار للإقرار بالله ووحدانيته وصفاته، والنظر في ملكوت الله الدالة على ذلك، وكان صلى الله عليه وآله وسلم كثيراً ما يأمر بالنظر فيها والنهي عن النظر في ذاته تعالى.
فقد روي عنه صلى الله عليه وآله وسلم أن قال: ((تفكروا في الخلق ولا تتفكروا في الخالق فإنكم لن تقدروا قدره)). وقد سلك أمير المؤمنين كرم الله وجهه هذه المحجة في أقواله، فإن من كلامه عليه السلام في ذلك: (من تفكر في خلق الله وحَّد، ومن تفكر في الله ألحد).
وقال عليه السلام في خطبة الأشباح وهي مما ذكر في (نهج البلاغة) مخاطباً لرجل أتاه فقال: يا أمير المؤمنين صف لنا ربنا مثلما نراه عياناً لنزداد له حباً وبه معرفة، فغضب عليه السلام ونادى الصلاة جامعة فاجتمع الناس حتى غص المسجد بأهله، فصعد المنبر وهو مغضب(متغير اللون)، فحمد الله(وأثنى عليه) وصلى على النبي صلى الله عليه وآله وسلم ، واسترسل في الخطبة إلى أن قال: (فانظر أيها السائل، فما دلك القرآن عليه من صفته فأتم به واستظئ بنور هدايته، وما كلفك الشيطان علمه مما ليس في الكتاب عليك فرضه ولا في سنة النبي صلى الله عليه وآله وسلم وأئمة الهدى أثره فكل علمه إلى الله تعالى، فإن ذلك منتهى حق الله عليك، واعلم أن الراسخين في العلم هم الذين أغناهم عن اقتحام السدد المضروبة دون الغيوب الإقرار بجملة ما جهلوا تفسيره من الغيب المحجوب، فمدح الله اعترافهم بالعجز عن تناول ما لم يحيطوا به علماً، وسمى تركهم التعمق فيما لم يكلفهم البحث عن كنهه رسوخاً، فاقتصر على ذلك ولا تقدر عظمة الله على قدر عقلك، فتكون من الهالكين، هو القادر الذي إذا ارتمت الأوهام لتدرك منقطع قدرته وحاول الفكر المبرأ من خطر الوساوس أن يقع عليه في عميقات ملكوته، وتولهت القلوب إليه لتجري في كيفية صفاته، وغمضت مداخل العقول في حيث لا تبلغه الصفات لتناول علم ذاته ردعها وهي تجوب في مهاوي سدف الغيوب متخلصة إليه سبحانه فرجعت إذ جبهت معترفة بأنه لا ينال بجور الاعتساف كنه معرفته، ولا تخطر ببال أولي الرؤيات خاطرة من تقدير جلال عزته إلى أن قال عليه السلام : فصار كل ما خلق حجة له ودليلاً عليه وإن كان خلقاً صامتاً فحجته بالتدبير ناطقة، ودلالته على المبدع قائمة).
ومن كلامه عليه السلام : (إن الله تعالى لا من شيء ولا في شيء ولا على شيء).
ومن كلامه عليه السلام : (لم تحط به الأوهام بل تجلى لها بها وبها امتنع عنها وإليها حاكمها). والأوهام هاهنا العقول، وقد تقدم تفسير كلامه هذا.
ومن كلام الإمام ترجمان الدين نجم آل الرسول القاسم بن إبراهيم عليه السلام : جعل الله في المكلفين شيئين وهما العقل والروح، وهما قوام الإنسان لدينه ودنياه، وقد حواهما جسمه وهو يعجز عن صفتهما وماهيتهما، فكيف يتعدى بجهله إلى عرفان ماهية الخالق الذي ليس كمثله شيء، ومن لم يعرف عقله، وروحه، والملائكة، والجن، والنجوم وهذه مدركة أو في حكمها، فكيف ترمي به نفسه المسكينة إلى عرفان القديم قبل كل موجود، والآخر بعد كل شيء، الذي لا تدركه الأبصار وهو يدرك الأبصار وهو اللطيف الخبير، وهذا تصريح منه عليه السلام بعدم إمكان الوصول إلى معرفة الحقيقة وكنه الذات.
وعن بعض الصالحين أنه قال في الله تعالى: أُوَحِّدُهُ ولا أَحُدُهُ، وأؤمن به ولا أكيفه، وما خطر على قلبي فهو تعالى بخلافه.
وحكي عن الإمام الشافعي أنه قال: من انتهض لطلب مدبره فانتهى إلى موجود ينتهي إليه فكره فهو مشبه، وإن اطمأن إلى العدم الصرف فهو معطل، وإن اطمأن إلى موجود واعترف بالعجز عن إدراكه فهو مصدق.
قيل: وهو معنى قول أمير المؤمنين عليه السلام :(العجز عن درك الإدراك إدراك، والبحث عن فحص كنه الذات إشراك).
وقال (الإمام عز الدين) عليه السلام : فهذه الفائدة تنطوي على كلام سيد البشر، وكلام وصيه الصديق الأكبر، وإمام التوحيد والعدل، وكلام غيرهما من أئمة الإسلام، فجدير بكل عاقل الاعتماد عليها، والرجوع في هذا الشأن إليها، نسأل الله تعالى أن يمدنا بمواد التوفيق، ويهدينا إلى سواء الطريق.
الفائدة الثانية: في دفع الوسوسة في الصلاة، وما يتعلق بها من الطهارة والنجاسة والوضوء ونحو ذلك، وقد روي أن للوضوء شيطاناً يقال له (الولهان) ولغيره من الأعمال شيطاناً يقال له (خنزب)، نعوذ بالله منهما.
وعن عثمان بن أبي العاص الثقفي أنه أتى النبي صلى الله عليه وآله وسلم فقال: يا رسول الله إن الشيطان قد حال بيني وبين صلاتي وقراءتي يلبسها علي، فقال له رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم : ((ذاك شيطان يقال له خنزب فإذا أحسسته فتعوذ بالله منه واتفل عن يسارك ثلاثاً)) قال : ففعلت فأذهبه الله عني. خنزب -بخاء معجمة مفتوحة ثم نون ساكنة ثم زاي معجمة مفتوحة ثم باء بواحدة من أسفل-.
قال (أبو عمرو): وهو لقب له.
والكلام في تحقيق ما أشرنا إليه يتحصل في فروع:
الفرع الأول: إذا شك في الماء أو الثوب أو نحوه هل أصابته نجاسة أم لا؟ بنى على تيقن الطهارة، وإن تيقن نجاسته ثم شك هل زالت أم لا؟ بنى على يقين النجاسة استصحاباً للأصل حتى يرد ناقل، وهذا بناءً على أن الاستصحاب دليل، وفيه خلاف ويؤيده ظواهر الشرع كقوله تعالى: { وَلاَ تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ }[الإسراء:36]، وتصرفات الشارع تدل على هذا.
وعن علي عليه السلام : (لا تجعلوا يقينكم شكاً، وعلمكم جهلاً) يعني به أن من حصل له اليقين بشيء والعلم به، فلا ينتقل عنه لما يعرض من الخواطر والوسوسة حتى يصيره كالمشكوك الذي تعارض فيه التجويزان.
وفي (شرح التجريد) ولا خلاف أن بالشك لا يصير الشيء نجساً، واختلف فيما إذا حصل له ظن بخلاف الأصل، فقال الحسن بن يحيى، وأحمد بن عيسى: لا يعمل بالظن لما مر وهو المصحح للمذهب، واستثنى في شرح القاضي زيد العمل بخبر الثقة وصحح للمذهب، قالوا: ولو لم يفد ظناً ما لم يظن الكذب، أو يعارضه خبر ثقة آخر لقيام الدليل على وجوب العمل بخبر العدل.
وقال (المؤيد بالله ) عليه السلام مذهباً وتخريجاً: بل يعمل بالظن المقارب للعلم، وهو بناء على كون الظن مناطاً شرعياً.
الفرع الثاني: إذا أحدث ثم شك هل توضأ أم لا؟ فإنه يلزمه الوضوء إجماعاً لما مر.
الفرع الثالث: أن الطهارة المتيقنة لا تبطل إلا بحدث متيقن، قال في (الشفاء): وهذا هو مذهب آبائنا القاسم بن إبراهيم وسبطه الهادي إلى الحق، وهو الظاهر عندي من قول الأئمة من أسباطهما " جميعاً، وهو قول أحمد بن عيسى ومحمد بن منصور، وفي (البحر)عن العترة والفريقين: ولا يبطل يقين الطهارة بالشك، وقال النووي: هذا مذهبنا، ومذهب جماهير العلماء من السلف والخلف لما رواه عباد بن تميم عن عمه قال: شكى إلى النبي صلى الله عليه وآله وسلم الرجل يخيل إليه أنه يجد الشيء في الصلاة، فقال: ((لا ينصرف حتى يسمع صوتاً أو يجد ريحاً )).
وعن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال: ((إذا وجد أحدكم في بطنه شيئاً فأشكل عليه أخرج منه شيء أم لا فلا يخرج من المسجد حتى يسمع صوتاً أو يجد ريحاً)).
قال (النووي): معناه يعلم وجود أحدهما، ولا يشترط السماع والشم بإجماع المسلمين، وفي الباب عن ابن عباس، وأبي سعيد، وعن عبد الله: ((إن الشيطان يطيف بأحدكم في الصلاة فإذا أعياه أن ينصرف نفخ في دبره ليريه أنه قد أحدث فلا ينصرفن حتى يجد ريحاً أو يسمع صوتاً)).
وعنه أيضاً: ((إن الشيطان يجري من ابن آدم من العروق مجرى الدم حتى إنه يأتي أحدكم وهو في الصلاة فينفخ في دبره ويبل إحليله ثم يقول: أحدثت، فلا ينصرفن أحدكم حتى يجدن ريحاً أو يسمع صوتاً أو يجد بللاً)). ولما مر من الاستصحاب والظواهر.
وعن مالك أنه يلزمه الوضوء إن كان شكه خارج الصلاة، ولا يلزمه إن كان فيها، وعنه يلزمه بكل حال؛ إذ مع الشك لا يقطع بصحة الصلاة.
قلنا: بل يقطع لبقاء حكم اليقين لما مر، وقد دلت الأحاديث على وجوب نفي هذا الشك العارض إذ لم يرد صلى الله عليه وآله وسلم إلا الإعلام أن هذا من عمل الشيطان لعنه الله تعالى، فمن علم ذلك لم يشك، وليس فيها أنه يعمل مع الشك، ألا تراه في بعضها يقول: فليقل كذبت يعني يكذب الشيطان لعنه الله، ولا شك أن المؤمن إذا علم أن ذلك من الشيطان لعنه الله لم يتغير اعتقاده في الطهارة ولو لم يكن في هذا إلا مخالفة الدليل جزافاً؛ إذ الشاك والحال هذه عامل بغير دليل، والرواية الأولى عن مالك محكية عن الحسن البصري .
قال (النووي): وهو وجه شاذ محكي عن بعض أصحابنا وليس بشيء، وظاهر الأدلة أنه لافرق بين الشك والظن في عدم العمل بهما هنا، وهو قول القاسم، والهادي، وأبي العباس، وأبي طالب" وغيرهم؛ إذ لايعمل بالظن مع إمكان العلم لما مر، ولقوله تعالى: {إِنَّ الظَّنَّ لاَ يُغْنِي مِنَ الْحَقِّ شَيْئاً }[النجم:28 ] ونحوها.
وقال (المؤيد بالله)، و(الإمام يحيى): بل يكفي الظن إذ أكثر الأحكام ظنية، ولقوله صلى الله عليه وآله وسلم : ((وما حك في صدرك فدعه )).
قلنا: لا نسلم جواز العمل بالظن مع إمكان العلم، والحديث عام مخصوص بما مر، على أن الظاهر وروده فيما استوى فيه التجويزان لا فيما نحن فيه لما مر من أن مراد النبي صلى الله عليه وآله وسلم أن الشك الطارئ من عمل الشيطان فلا يعمل به، كيف وفي بعض ألفاظ الحديث: ((حتى يستيقن حدثاً))، كما في (البحر).
وقال أهل المذهب: يعمل بخبر العدل لما مر وأجيب بما مر.
الفرع الرابع: قال أهل المذهب: ومن تيقن الحدث والطهارة وشك في السابق منهما توضأ رجوعاً إلى الأصل، وهذا أحد وجهي أصحاب الشافعي، واعترض بأن الطهارة كالناقلة فهلا حكم بتأخرها، وأجيب بأن الصلاة لا تؤدى إلا بطهارة متيقنة، ولا يقين في هذه الحال.
قلت: يعني لا يقين عارٍ عن معارض مثله.
الفرع الخامس: إذا شك في غسل عضوٍ قطعي، أو تيممه، أو مسحه، أو شك في تعميم بدنه وهو جنب لزمه تطهير ما شك فيه لما مر من وجوب العمل باليقين في الطهارة وغيرها، واختلف في العمل بالظن هنا، فقال أهل المذهب: لا يعمل به لما مر، وقال المؤيد بالله: بل يعمل به لما مر، واختاره المقبلي، قال: ولا فرق بين الظني والقطعي، ألا ترى أنه يكفي الظن في عدد الركعات كما نص عليه حديث ابن مسعود، بل الظن معمول به في كل شيء، ولم يجئ للشرع فرق إنما هذا الفرق من نظرهم، وليس بحجة سواء حصل له الظن أو الشك ببطلان الطهارة قبل الدخول في الصلاة، أو بعده قبل الفراغ منها لما مضى أنه لا يعمل إلا متصفاً بعلم أو ظن، وإن كان بعد الفراغ فلا عبرة بالشك، ولا بالظن ولو في الوقت؛ لأن العمل قد صح أولاً فيبقى على الصحة حتى ينقل عنها دليل كما ذكرنا في قول أمير المؤمنين علي كرم الله وجهه في الجنة: (كانوا إخواننا بالأمس...) إلخ، هكذا في المنار.
قلت: وللمفرعين هنا تفصيل، ونحن نورده ونورد ما أوردوه من التعليل، ليكون الناظر على بصيرة، فنقول: قال أهل المذهب: إذا شك في غسل قطعي بعد الفراغ من الوضوء فكالشك قبله، وفرقوا بينه وبين الصلاة بأن الوساوس في الصلاة كثيرة، وبأنه صلى الله عليه وآله وسلم قال: ((إذا شك أحدكم في صلاته ...)) الخبر، وقال في الوضوء: ((إن الشيطان يأتي أحدكم فينفخ بين إليتيه ...)) الخبر، فأشار إلى أنه لا يعمل فيه إلا باليقين.
قال (الإمام عز الدين) عليه السلام : هكذا ذكره أبو طالب في بعض تعاليقه وليس بالجلي، وأجلى منه ما ذكره في (البحر) وهو أن الشك بعد الفراغ من الوضوء كالشك قبله، لأن عدم كمال المقصود به كعدم كماله، وإلا دخل في الصلاة شاكاً في الوضوء.
قال عليه السلام : لكنه يرد عليه أنه إذا شك بعد الصلاة في الوضوء فلا حكم لشكه؛ لأن المقصود به قد حصل ففيه نظر، وقال الفقيه حسن وحكاه في (البحر) عن الإسفراييني: لا يضر الشك بعده كالصلاة، وأجيب بأنه وصله فكأنه لم يتم، فأما الشك فيه بعد الصلاة فقال الهادي، وأبو طالب ، وأبو العباس: إذا شك بعدها في غسل قطعي.
قال (الإمام المهدي) عليه السلام : أو ظن فعله أعاد كجملة الطهارة إلا للأيام الماضية لشدة الحرج، وقال(م) بالله: بل يعمل بظنه مطلقاً، وعنه إن كان مبتلى لتعذر القطع منه قال بعض العلماء: قياس الشك في غسل القطعي على جملة الطهارة صحيح، وكذا استثناء الأيام الماضية فيه صحيح، وأما حيث ظن فعله ففيه أن الإعادة حينئذٍ لا تستقيم إلا إذا قلنا: إن وجوب القضاء قطعي، فأما إن قلناه أنه ظني كما هو ظاهر كلامهم فالقياس أن لا تجب الإعادة إلا في الوقت، فأما إن حصل له ظن بترك القطع، فقال في البحر: أعاد مطلقاً، وأما الظني ففي الوقت لبقاء الخطاب، وكقبل الدخول فيها لا بعده عند القاسم، والهادي، والناصر، وأبي العباس، وأبي طالب، ومالك لخبر السرية، ولفوات شرط الأداء بعد فعلها كالحكم وكالوقوف بعرفة، وقال أبو يوسف والشافعي: بل يعيد كلو أخل بقطعي وكقبل خروجه، وأجيب بما مر من فوات شرط الأداء فإن شك في الظني أعاد للمستقبلة.
قال (أبو مضر:) لا للتي هو فيها إذ الإحرام للصلاة باجتهاد فلا ينقض بمثله، وقال أبو جعفر: بل ولها، وقال أبو الفضل الناصر: بل وللماضية، وأجيب بأن بعد التمام لا يقتضي الشك بقاء الخطاب، وقوى الإمام المهدي كلام أبي جعفر؛ لأن عدم كمالها كعدم كمال الوضوء.
فإن قلت: فما الحق عندك في هذه المسائل؟ قلت: الحق أن العبد متعبد بالعمل بالدليل، وقد قام الدليل على العمل باليقين في الطهارة، وأن الصلاة لا تؤدى إلا بطهارة كاملة متيقنة فمن لم يحصل له اليقين بتمام الطهارة المعتبرة عنده وجب عليه الإتيان بما لم يتيقنه، ولا فرق بين ما دليله ظني وما دليله قطعي، ولا فرق بين الظن والشك في عدم العمل به هنا، وتأمل كتاب الله وسنة رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم هل تجد لهذه الفروق والتفاصيل أصلاً فيهما يرجع إليه، أو دليلاً يعول عليه؟.
واعلم إن ما ذكرناه من أنه لا يعمل بالشك ولا بالظن في حصول الطهارة، وأن من شك في ترك شيء منها يجب عليه إعادته، ولا يعمل فيه بالظن، إنما هو في حق من يعرض له هذا العارض في بعض الأوقات لا في حق من قد غلبت عليه الوسوسة والشك في اليقينيات والضروريات، فليس ما يعرض له من الشكوك إلا من تلبيس شيطان الوضوء قطعاً، والعمل بما يوسوس به محرم شرعاً؛ لأنه من خطوات الشيطان لعنه الله، وقد قال تعالى: {وَلاَ تَتَّبِعُوا خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ }[البقرة:168].
وعن أبي بن كعب أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال: ((إن للوضوء شيطاناً يقال له الولهان ، فاتقوا وسواس الماء)). والولهان: بفتح الواو من الوله وهو التحير سمي بذلك لأنه يحير المتطهر فلا يدري هل عم عضوه، أو غسل مرة أو غير ذلك، وهذا نص في المقصود إذ ليس المراد باتقائه إلا الإعراض عنه، وعدم العمل به لا عدم الوسوسة؛ إذ ليست من فعله خلا أنه إذا تكرر منه الإعراض وعدم الانقياد تركه الخبيث وشأنه، إذ لا يتعب نفسه فيما لا طائل تحته، ولا يغفل العبد عن دفع الوسوسة وكيد الشيطان بنحو ما تقدم من الأذكار، وصالح الأعمال، ولأئمة الهدى وغيرهم من العلماء رسائل ومسائل في تحريم العمل بهذا الشك، وهو الحق لأنا إذا قد علمنا أنه من عمل الشيطان فلا شك في تحريم العمل به.
قال (الهادي) عليه السلام : الشك وعوارضه وما يدخل منه على الإنسان فوسواس من الشيطان يدخلها على المربوبين ليباعدهم بها من رب العالمين، وذلك أن في الشك من معاصي الله وخلافه ممن أحدثه وألزمه نفسه أموراً تكثر، ثم عدد صوراً، منها: أن يوسوس له أنه قد طلق زوجته وهو في الواقع لم يطلقها فيفارقها فيتزوجها غيره وهي امرأته، فيكون عند الله من الهالكين لإمكانه غيره من امرأته بوسواس الشيطان وخطرات الشك، ثم قال: ولذلك قلنا: إن من ألزم نفسه الشك وعمل به وبما يعارضه الشيطان منه أثم، والذي دخل عليه في قبول الشك أعظم مما يخافه في دفعه، واحتج على ذلك بأن الله تعالى قد فرق بين الشك واليقين، فأوجب العمل باليقين وحرم العمل بالشك، قال تعالى: {اجْتَنِبُوا كَثِيراً مِنَ الظَّنِّ إِنَّ بَعْضَ الظَّنِّ إِثْمٌ}[الحجرات:12 ]وقال: {إِنَّ الظَّنَّ لاَ يُغْنِي مِنَ الْحَقِّ شَيْئا }[النجم:28].
قال: والشك هو التحير، والظن من الإنسان، واليقين فهو الثبات، والحق والصدق، ثم قال عليه السلام : فلذلك -أي للفرق بين الشك واليقين- قلنا: أن الواجب على من داخله من الشك شيء أن ينفيه ويطرحه، ويبعده عن نفسه، ولا يعمل به في شيء من أمره واطراح الشك والمضي عنه، وترك العمل به أحوط وأسلم لمن ابتلي بوسواسه، وأمكن الشيطان من قلبه ونفسه.
وروى عليه السلام عن جده القاسم بن إبراهيم عليه السلام : أنه سئل عن رجل كثير الشك والامتراء في الصلاة وغيرها من الأشياء، فهو يظن أنه قد حلف، ويظن أنه لم يصل بعض صلاته وإن كان قد صلى، ويظن أنه قال فأكثر وإن لم يكن قال قولاً، فقال: هذه كلها شكوك وظنون لا يحكم بها ولا عليها، ولا يلتفت في حكم الحق البريء من الظن إليها، وليس لأحد أن يحكم بعتق ولا غيره في الدين إلا بما لا مرية فيه ولا شك من التثبيت واليقين، ثم احتج بنحو ما تقدم من افتراق حكم الشك واليقين حتى قال: فمن ملكه الله عبداً أو غيره فلا يزول ملكه عنه بيمين، ولا غير يمين إلا بما يزيل به ما ملكه الله إياه من حقائق اليقين، وهذا من الشيطان ووسواسه في هذا الباب، وفي الصلاة وغيرها فإنما هو تشكيك وارتياب حتى يخرجهم فيما كان من ذلك إلى غير مخرج، ويوهمهم أنما هم عليه من الخطأ فيه من الاحتفاظ والتحرج، وفي هذا من الإثم والوزر ما لم يعلم علمه إلا الله. ذكره في الأحكام وفي الجامع الكافي.
وروى محمد بإسناده عن أبي الجارود قال: قلت لأبي جعفر عليه السلام : إن المغيرة يتوضأ بجر أو قريب منه، فقال: ذاك عذاب عذبه الله به، قال: وسألته عن الوضوء، فقال: أسبغ ولم يحده لنا.
وعن إبراهيم قال: كانوا يقولون: كثرة الوضوء من الشيطان، وفيه قال محمد: وإذا شك في مسح رأسه وهو يصلي فلينصرف ويمسح رأسه، وإن كان قد جف الطهور، وإن كثر هذا عليه مضى في صلاته ولم يعبأ به.
قال (الحسني): وعلى هذا القول إذا توضأ فشك في بعض وضوئه غسل ما شك فيه، إن كان ذلك أول ما شك، وإن كان هذا يعرض له كثيراً في صلاته أو بعد الفراغ منها لم يلتفت إليه ومضى في صلاته.
وقال (المنصور بالله) عليه السلام : وإذا شك المتوضئ وكان غير مبتلى بالشك أعاد من الموضع المشكوك فيه، وإن كان مبتلى غلب ظنه، وإن اعتدل بنى على الأقل، ولا حكم للشك فيما مضى، ولا يزول اليقين إلا بيقين. ذكره في المهذب، وللإمام يحيى عليه السلام رسالة إلى بعض أهل الشك والوسوسة في الطهارة بين فيها أن ذلك من تلعب الشيطان، وأن الوسوسة واتباعها مما يبعد عن رضا الرحمن بما فيه من مخالفة منهاجه القويم، والبعد عن سلوك الصراط المستقيم، والعدول إلى متابعة وساوس الشيطان الرجيم، وعدم اقتفاء ما أثر عن الصحابة، وأكابر أهل البيت وعلماء الأمة من التخفيف في الطهارات كلها، ثم قال: فسر سيرتهم، واقتف آثارهم، واترك بدعتك وجهالتك، فما أنت في ارتكاب هذه البدعة والاستمرار على هذه الضلالة، وإنكار القواطع الشرعية، وإبطال حكم القواطع النقدية من النصوص القرآنية، والظواهر الشرعية والإجماعات اليقينية إلا مشبهاً للسوفسطائية من إنكار القضايا العقلية، والمدركات الحسية، وكفى بها فضيحة بين علماء الشريعة مشابهتك لهذه الفرقة فيما أنكرته مما وضح اشتهاره، وصار ليله في الظهور كنهاره.
قال عليه السلام : وقد نصحك صاحب الشريعة صلوات الله عليه وآله وسلم عن الدخول في هذه البدع، وأمرك بالإعراض عنها بقوله صلى الله عليه وآله وسلم : ((إن للوضوء شيطاناً يقال له الولهان فاتقوا وساوس الماء)). ثم ذكر عليه السلام أن من هذا حاله لا تعويل على ظنونه في أحوال العبادات كلها؛ لأنها ظنون سوداوية، ولانحرافه عن قصد الشرع، قال: وكيف يكون عليه تعويل في أمور العبادة في الطهارة وغيرها، وقد خرج عن الحد وصار مُطْرَداً في نظر الشرع والعقل، والله تعالى لم يتعبدنا بالشك أصلاً في حالة من الحالات، فسر على السنة، ودع التعمق والبدعة.
وقال الإمام (محمد بن المطهر) عليه السلام في (المنهاج): ويستحب للمتوضئ أن لا يسرف في الماء مع الإتيان بالوضوء كاملاً.
قال عليه السلام : -يعني زيد بن علي عليه السلام كنا نؤقت في الوضوء للصلاة بمد والمد رطلان.
قال في (المنهاج): والوجه في ذلك ما رويناه أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم كان يتوضأ بمد من الماء، وقد روينا عن أمير المؤمنين عليه السلام أنه قال النبي صلى الله عليه وآله وسلم : ((سيأتي قوم بعدي يستقلون ذلك أولئك على خلاف سنتي والآخذ بها في حظيرة القدس)).
وللإمام عز الدين عليه السلام في هذا الشأن رسالة شنع فيها على أهل الوسوسة بكلام باهر، ومعنى ظاهر، وحاصلها أن الشيطان لما أيس عن إلقاء من رسخ الإيمان في قلبه في الكبائر، وعظيم الجرائر، توصل إلى إغوائه من باب الديانة، فوسوس له بأنه لا كمال لدينه إلا بالدخول في هذه البدعة حتى أوقعه في اللبس، ونال منه من الميل به عن منهج الرشاد ما يريد، وحال من عرض له هذا العارض متفاوتة، فمنهم من يبلغ به إلى إنكار الضرورة فيعتقد ويقطع مع غسله للعضو مراراً كثيرة أنه لم يغسله حتى ترى منهم من يسأل الذي عنده، ومنهم من يقسم بالله أنه لا يزيد على ما قد فعل ليدفع بذلك نفسه والشيطان ثم يعود، ومنهم من يبلغ به الحال إلى ترك الصلاة في وقتها بأن يبالغ في الطهارة حتى يخرج الوقت، ومنهم من لا يبلغ به الحال إلى هذا الحد إلا أنه في عمله قد ارتكب مخالفة المشروع، وفوت على نفسه فضيلة الصلاة في أول وقتها، وصده ذلك عن الاشتغال بما هو أهم من أمر دينه ودنياه مما لا غنى به عنه، والكلام هنا فيمن هذه حاله هو المقصود، فأما من بلغ به الحال إلى ترك الصلاة في وقتها، وإنكار الضرورة، وإبطال حكمها واستعمال الأيمان المغلظة مع استمرار الحنث فيها، فتلك أمور ظاهرة الفحش، معلومة العصيان، مقتضية لغضب الرحمن، وقبحها لا يفتقر إلى بيان.
والذي نوجه إلى من ذكرنا أن نقول: المعلوم من حالك أنك لا تريد بطهارتك هذه إلا رضا الله وامتثال أمره، بحيث أنه لولم يوجب عليك الوضوء لما اشتغلت منه بشيء، فإذا كان الأمر هكذا فما الملجئ لك إلى تعدي المشروع إلى غيره، وتأمل هل يليق منك أن تشغل نفسك وتضيع وقتك في أمر لم يشرعه الله لك، ولا يعود عليك منه نفع في دينك ولا دنياك، وإنما فائدتك منه المقت من الله ومن الناس لمخالفتك ما شرعه الله.
فإن قلت: إن العبرة بغلبة الظن في إزالة النجاسة ولم يحصل لك ظن إلا بالجري على ما تعتاده، ولا يعد تعدياً إلا في حق من زاد بعد غلبة الظن.
قلنا: هذا من تخييل الشيطان، فإن الصحيح عند من يعتبر الظن ما ذكره بعضهم من أنه يعتبر ما لم يفض إلى الزيادة على الثلاث، ثم إن اعتبار الظن عند القائلين به إنما هو بالنظر إلى من يعرض له هذا العارض المخالف لمقتضى العقل والنقل، وكيف يعتبر الظن فيمن أفضى به الشك إلى مخالفة مقتضى العلوم الضرورية، والطرق اليقينية، ولو خطر ببال أبي طالب حال من هذه حاله لقطع بأنه متعد، وأن لا مراعاة لظن مثله، ولا اعتبار له، ولا قائل بأن الظن معتبر فيما يخالف حدود الشرع وينافيها.
فمن المعلوم قطعاً أن الذي يغسل عضوه عشر مرات أو عشرين مرة غير واقف على مقتضى الشرع، وأن ظنه فاسد، وأن هذا الذي عرض له من قبيل الوسواس قد صير ظنه غير معتبر، وقد أخل في حقه بصحيح النظر.
ثم إن كلام أبي طالب هذا إنما هو في إزالة النجاسة فما العذر في غسل الوجه ونحوه مراراً كثيرة، فلا ينبغي أن يعتل الشاك بقول نبي ولا إمام، وإنما الواجب عليه أن يعتقد أنه إنما أتي من قبل الشيطان لعنه الله، فإن وسوس في صدره وألقى في روعه أن يقول ما أردت إلا رضا الله، وتيقن الإتيان بما شرعه الله.
قيل له: رضاء الله لا يكون في ارتكاب البدعة، وحسن النية لا ينفع إلا إذا تعلق بالفعل على الوجه المشروع، وأما الاعتذار بأن اليقين لم يحصل إلا بهذا، فهو اعتذار بالجهل، وسبيله أن يداوي جهله وأن لا يعمل به في دينه، وتخليصه من هذا يحصل بأدنى تأمل، وهو أن يرجع إلى ما كان عليه معلم الشرع صلى الله عليه وآله وسلم فإنه يجد الأمر يسيراً، فيتتبع كتب الآثار، وما نقله عنه العلماء الأخيار، فغرضنا الاقتداء به، والجري على ما كان عليه، وكذلك فليبحث عن حال الصحابة وأئمة العترة فإنه لا يبلغه عن أحد منهم الاعتداء في الوضوء، ولا المبالغة فيه حتى قال بعض الأئمة" فيمن زاد على الغسلات الثلاث فإنه قد أساء وتعدى وظلم...إلى آخر ما ذكره الإمام عليه السلام في هذه الرسالة وهي طويلة.
وغالب ما نقلناه منها بالمعنى ولغير ما ذكرنا من الأئمة والعلماء كلام في هذا الشأن، وجولان في هذا الميدان، يحذرون فيه من اتباع خطوات الشيطان، ويحرضون على الاقتصار والامتثال لما جاء في السنة والقرآن.
فإن قلت: لا شك أنه يجب اجتناب عمل الشيطان، لكن من أين لنا القطع بأن كل عارض يحصل عند الوضوء ونحوه فهو من وساوس الشيطان التي يجب اجتنابها، فما يؤمنك أن يلقي إليك أن هذه وسوسة شيطانية فاترك العمل بها ليتوصل بذلك إلى أن تأتي بصلاتك على غير طهارة كاملة.
قلت: قد علم قطعاً أن الشيطان يتوصل إلى إغواء الإنسان والتلبيس عليه بكل ممكن، وإذا كانت وسوسته ثابتة قطعاً، وتحريم العمل بها معلوم قطعاً فلا بد لنا من طريق إلى معرفتها، وقد أخبر الصادق بأن للوضوء شيطاناً، وأمرنا باتقاء وسوسته، وهذا يدل على أن غالب ما يحدث من الوسوسة فهو من ذلك الشيطان، وكذلك في غير الوضوء، وهذا معنى ما ذكره العلماء من أن من كثر منه الشك تركه كما يفيده كلامهم السابق، فقد جعلوا الكثرة دليلاً على كون ذلك وسوسة فقط، وجعلوا العارض النادر هو الذي تتعلق به تلك الأحكام من وجوب الإعادة والبناء على الأقل؛ لعدم القطع بكون ذلك من الشيطان.
فإن قلت: لا نسلم أن الكثرة تفيد اليقين بكون ذلك من عمل الشيطان حتى يجب اجتنابه.
قلت: بل تفيده مع الاختبار بل قد تفيد الضرورة كما في سائر التجربيات، والإنسان يعلم ذلك من نفسه ويعلمه منه غيره، وإذا ثبت أنه من عمل الشيطان وجب اجتنابه والإعراض عنه، وعدم العمل به، كما تفيده الأدلة السابقة وكلام القاسم بن إبراهيم عليه السلام وغيره.
قال الإمام (عز الدين) عليه السلام في رسالته: وقد ذكر بعض العلماء أنه ينبغي لذي الشك أن يتجنبه بكل ممكن ويطرحه، ولو خيل إليه أن صلاته باطلة واعتقد بذلك فلا يصرفه هذا الاعتقاد عن تخفيف الوضوء، فإنه بعد كسح النفس ومخالفتها، وعدم التعويل على اعتقادها هذا الفاسد يعود إلى صحة الاعتقاد، وطريق الرشاد، وتحصيل المراد.
وقال الشيخ (محمد الحفني) في شرح قوله صلى الله عليه وآله وسلم : ((إن للوضوء شيطانا ...)) إلخ ودواء الشيطان الإعراض عنه والإكثار من تلاوة: {إِنْ يَشَأْ يُذْهِبْكُمْ وَيَأْتِ بِخَلْقٍ جَدِيدٍ ...}[إبراهيم:19]الآية.
وشكى بعض الصحابة له صلى الله عليه وآله وسلم من ذلك، فأمره بأن يطعن أصبعه السبابة في فخذه اليسرى، وأن يقول بسم الله، فإنها سكين الشيطان أو مديته.
قلت: وهذا يقوي ماتقدم من عدم شرعية إعادة المشكوك فيه؛ إذ لم يأمره صلى الله عليه وآله وسلم بها، وإنما أمره صلى الله عليه وآله وسلم بما يدفع شر الشيطان لئلا يشتغل قلبه بالوسوسة. أعاذنا الله والمؤمنين من شره آمين.
الفرع السادس: اختلف العلماء فيمن رأى بللاً ولم يذكر الاحتلام، فقال زيد بن علي، والإمام الحسن بن يحيى القاسمي، وولده فخر الإسلام، وأبو حنيفة، ومالك والثوري: يغتسل؛ إذ سئل صلى الله عليه وآله وسلم عن الرجل يجد البلل ولا يذكر الاحتلام، فقال: ((يغتسل)). وهو مخصص لقوله صلى الله عليه وآله وسلم : ((المني الدافق إذا وقع مع شهوة )).
وقد ادعى ابن رسلان إجماع المسلمين على وجوب الغسل على الرجل والمرأة بخروج المني، وقال الترمذي: وهو قول غير واحد من أهل العلم من أصحاب النبي صلى الله عليه وآله وسلم إذا استيقظ الرجل فرأى بلةً أنه يغتسل، وهو قول سفيان وأحمد.
قلت: ورواه في الروض عن الناصر وغيره، وقال الهادي في الأحكام: ولو وجد في ثوبه منياً ولم يذكر جنابة لوجب عليه الاغتسال؛ لأنه قد رأى في ثوبه ما يجب عليه فيه الغسل، وقد يمكن أن ينسى ما رأى في المنام ولا يمكن أن يمني في ثوبه إلا من احتلام، وتأوله السيد أبو طالب على أن ذلك الثوب لم يلبسه غيره، ولا اغتسل بعد أقرب نومة من جنابة ولم يجوزه في غيره.
وقال أهل المذهب: لا بد مع تيقن المني من ظن الشهوة لخبر علي عليه السلام إذا كان الماء الدافق مع الشهوة، ولا بد من طريق إلى معرفة الشهوة فإذا تعذر العلم فلا بد من الظن، وأولوا حديث: ((ولا يذكر الاحتلام)) بأن معناه لا يتيقنه مع حصول الظن للشهوة.
قال (الإمام عز الدين) عليه السلام : وليس بواضح وإِنما ظاهره حجة لمن لا يشترط الشهوة، والاحتلام عبارة عن الشهوة، وقال في القاموس: الحلم والاحتلام الجماع في النوم.
قلت: والأولى أن يقال لا معارضة بين الأحاديث لأن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قد وصف المني بالدفق والفضخ والخذف، وهذه الأوصاف إنما تكون عند الشهوة واللذة غالباً، بل مطلقاً، وهي أوصاف تقييدية للمني بمعنى أنه لايكون منياً موجباً للغسل إلا إذا كان بهذه الصفة، وقد صرح بذلك في حديث علي عليه السلام وأصرح منه قوله صلى الله عليه وآله وسلم : ((إذا خذفت الماء فاغتسل من الجنابة ، وإذا لم تكن خاذفاً فلا تغتسل)). والخذف يروى بالحاء المهملة والخاء المعجمة بعدها ذال معجمة مفتوحة وهو الرمي.
قال بعض العلماء: وفيه تنبيه على أن ما يخرج لغير شهوة إما لمرض أو بردة لا يوجب الغسل، وفي كلام المقبلي ما يدل على أن الخارج لفتور أو مرض أو أبرده لا يسمى منياً إلا على جهة المشابهة، وهذا يقوي القول بأن الدفق ونحوه خاصة للمني، وإذا ثبت هذا تقرر عدم المعارضة، وأن وجوب الغسل على من وجد البلل ولم يذكر الاحتلام للقطع بوقوع الشهوة حيث قلنا: إنه لا يكون منياً إلا ما صاحبها أوظنها، حيث قلنا: إن الغالب مصاحبتها للمني، والأ حكام مبنية على الغالب، وإطلاق الحديث مبني على الغالب مع أن الرائي قد ينسى ما رآه في نومه كما صرح بذلك الإمام الهادي عليه السلام وقد حمل الإمام محمد بن مطهر قول زيد بن علي عليه السلام في الرجل يجد البلل ولا يذكر الرؤيا إذا كان ماء دافقاً اغتسل على اشتراط مقارنة الشهوة، لروايته حديث تقسيم الخارج إلى أمورثلاثة، وفيه: والمني هو الماء الدافق إذا وقع مع الشهوة.
قال: أما اشتراط الشهوة فقد نص عليه النبي صلى الله عليه وآله وسلم ، وأما هذه المسألة فإنه عليه السلام بنى على ذلك على أن الإنسان كثير النسيان فربما أنه رأى ونسي والجبلة الإنسانية على ذلك، ألا ترى أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم خرج فصلى في أصحابه وهو جنب ثم ذكر فانفتل... الخبر.
تنبيه [في إيضاح البلل الموجب للغسل]
المراد بالبلل الموجب للغسل المني لا مطلق البلل للنص على أن غير المني الدافق مع الشهوة لا يوجب الغسل، وقد صرح بذلك الهادي في الأحكام حيث قال: ولو رأى رجل في منامه أنه يجامع فاستيقظ فلمس فوجد رطوبة فنظر فوجد مذياً، وأيقن أنه لم ينزل من ذلك منياً لم يجب عليه الاغتسال.
فإن قلت: فما الحكم إذا التبس الخارج هل هو مني أم لا؟ قلت: قال محمد بن منصور: الاحتلام إذا كان فليس به خفاء له لزوجة ورائحة، والمذي لا رائحة له، ويفتر له الذكر، والودي: شيء يظهر على الذكر بعد البول، وفي الروض قال بعض العلما: ماء الرجل في حال الصحة أبيض ثخين يتدفق في خروجه دفعة بعد دفعة... إلى آخر ما ذكره، وهو يدل على أن المني يكون كثيراً فبكثرته يرتفع اللبس، وقد ذكروا له علامات أخر منها: الفتور، وكون رائحته كرائحة طلع النخل وهي قريبة من رائحة العجين، وقيل: إذا يبس كان ريحه كريح البول، وأقوى ما يعرف به عندي الكثرة مع اللزوجة.
الفرع السابع: في الشك في الصلاة وفيه صور:
الأولى: أن يشك في كمالها بعد الفراغ منها فهذا لا حكم له عند(م)بالله وأبي طالب، وهو أحد أقوال الشافعي، وهو المصحح للمذهب لمشقة الاحتراز، وفي المنار أن الذي في كتب الحنابلة أنه لا حكم للشك بعد الفراغ، ومثله في بدائع الفوائد، وفي قول (م) للشافعي أنه إن تطاول الزمان فلا حكم له وإلا فكالشك حالها، وفي (الجامع الكافي) عن محمد بن منصور أن عليه الإعادة، وفي شرح الأزهار عن أحمد بن يحيى الهادي عليه السلام مثله كما لو شك في فعل الصلاة جملة.
قلنا: يشق الاحتراز ولا يأمن الشك في الإعادة، وإعادة الإعادة، ولم يرد عن الشارع ما يدل على ما قالوه، مع أنه لم يترك شيئاً من معالم الدين إلا وقد دلنا عليه فلا نتكلف ما سكت لنا عنه، والتعبد مبني علىالتيسير ونفي الحرج: {مَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ }[الحج:78]، ولما تقدم من أن كثرة الوسوسة من الشيطان الرجيم فيجب اجتنابها.
الثانية: أن يشك حالها في ركعة فقال علي عليه السلام وأبو بكر، وعمر، وابن مسعود، وربيعة، ومالك، والشافعي، وأحمد، وحكاه النووي عن الجمهور: يبني على الأقل مطلقاً لما روي عن أبي سعيد الخدري، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم : ((إذا شك أحدكم في صلاته فلم يدر كم صلى ثلاثاً أم أربعاً فليطرح الشك وليبن على ما استيقن ثم يسجد سجدتين قبل أن يسلم، فإن كان صلى خمساً شفعن له صلاته، وإن كان صلى إتماماً لأربع كانت ترغيماً للشيطان)). وفي لفظ له: ((إذا شك أحدكم في صلاته فليلق الشك وليبن على اليقين فإذا استيقن التمام سجد سجدتين، فإن كانت صلاته تامة كانت الركعة من النافلة والسجدتان وإن كانت ناقصة كانت الركعة تماماً لصلاته وكانت السجدتان مرغمتي الشيطان)).
وعن عبد الله بن عمر، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم : ((إذا صلى أحدكم فلم يدر أصلى ثلاثاً أم أربعاً فليركع ركعة يحسن ركوعها وسجودها ثم يسجد سجدتين)).
وعن على عليه السلام : (في الرجل يهم في صلاته فلا يدري أصلى ثلاثاً أم أربعاً فليتم على الثلاث، فإن الله لا يعذب بما زاد من الصلاة). وفي الباب عن عبد الرحمن بن عوف، وعثمان، وعائشة، وأنس قالوا: وهذه الأدلة لم تفصل، وقال أبو حنيفة ومن وافقه من أهل الكوفة وغيرهم من أهل الرأي: بل يتحرى ويبني على غالب ظنه، ولا يلزم الاقتصار والإتيان بالزيادة، واختاره المقبلي، وقواه السياغي في الروض وفي شرح الأزهار، قال (م) بالله أخيراً وهو قول المنصور بالله: أنه يعمل بظنه مطلقاً، قال في الحواشي: واختاره الإمام القاسم في الاعتصام، واحتج له بحجج كثيرة، وقواه المفتي، قال في الشرح بعد قوله مطلقاً: من غير فرق بين الركعة والركن والمبتدئ والمبتلى، وما حكيناه عن أبي حنيفة ومن موافقة رواه النووي في شرح مسلم، ثم قال: واختلف هؤلاء، فقال أبو حنيفة ومالك في طائفة: هذا لمن اعتراه الشك مرة بعد أخرى، وأما غيره فيبني على اليقين، وقال آخرون: هو على عمومه لحديث ابن مسعود مرفوعاً: ((إذا شك أحدكم في صلاته فليتحر الصواب فليتم عليه ويسجد سجدتين)). وفي لفظ: ((فلينظر أقرب ذلك إلى الصواب)).
وعنه أيضاً قال: قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم : ((إذا صلى أحدكم فلم يدر ثلاثاً صلى أم أربعاً فلينظر أحرى ذلك إلى الصواب ويتمه ثم يسلم ثم يسجد سجدتي السهو ويتشهد ويسلم)).
وعن عبد الله أيضاً عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم : ((إذا كنت في صلاة فشككت في ثلاث أو أربع وأكثر ظنك على أربع تشهدت وسلمت وسجدت سجدتي السهو)).
وعن علي عليه السلام : (إذا كنت لا تدري أربعاً صليت أم ثلاثاً فتوخ الصواب ثم تم فاركع ركعة واسجد سجدتين فإن الله لا يعذب على الزيادة).
قالوا: ومعنى التحري غالب الظن، قالوا: وحديث أبي سعيد وما في معناه وارد في الشك وهو ما استوى طرفاه، فمن شك ولم يترجح له أحد الطرفين يبني على الأقل بالإجماع، أجاب الأولون عن ما احتج به هؤلاء بأن التحري هو القصد كما في قوله تعالى: {فَأُوْلَئِكَ تَحَرَّوْا رَشَداً }[الجن:14]، فمعنى الحديث: فليقصد الصواب فيعمل به، وقصد الصواب مبين في حديث أبي سعيد وغيره وهو أنه يبني على اليقين لما فيه من كمال الصلاة والاحتياط لها.
قالو: والتحري قد يكون بمعنى اليقين بدليل الآية، وأما تفسير الشك بما استوى طرفاه فمبني على اصطلاح الأصوليين، فأما في اللغة فالمتردد بين وجود الشيء وعدمه يسمى شكاً سواء المستوي والراجح والمرجوح، والحديث يحمل على اللغة ما لم تكن هناك حقيقة شرعية أو عرفية، ورد بأنا لا نسلم أن التحري قد يكون بمعنى اليقين إذ لم يذكره في المختار، بل قال: التحري في الأشياء ونحوها طلب ما هو أحرى بالاستعمال في غالب الظن أي أجدر وأخلق.
وقال في الآية: أي توخوا واعملوا، وفيه أن التوخي التحري والقصد، فصح أن التحري غير اليقين، سلمنا فما تقدم من رواية: وأكثر ظنك، وقول علي عليه السلام : (فتوخ الصواب)، ونحوه من حديث ابن عمر موقوفاً يمنع من إخراج التحري عن ظاهره، وهو العمل بأقوى الأمارات في ظنه، مع ما يؤيد ذلك من أدلة وجوب العمل بالظن في سائر الأحكام، والعمل بأحاديث الباب كلها بخلاف القول الأول فإن فيه إخراج أحاديث التحري عن ظاهرها.
قلت: فإن لم يحصل له ظن، فقال المنصور بالله في المهذب: استأنف وإن كان ممن لا يمكنه التحري بنى على الأقل، وفي شرح الأزهار بعد أن حكى عنه وعن (م) بالله ما مر، فإن لم يحصل له ظن أعاد المبتدئ وبنى المبتلى على الأقل، قيل: الفقيه علي إلا أن يكون ممن يمكنه التحري ولم يحصل له ظن أعاد كالمبتدأ، وظاهره أنه حكاه عنهما وحجتهما تظهر مما سيأتي، وظاهر الأدلة أنه إذا لم يحصل الظن بنى على اليقين، ولعله قول من عداهما من القائلين بالتحري بلا فرق بين المبتلى والمبتدئ، إلا أن في الروض بعد أن حكى ما تقدم عن أبي حنيفة ومن وافقه ما لفظه: وهذا إذا كان يعتريه الشك مرة بعد أخرى، وإن كان ذلك أول ما سهى فعليه أن يستأنف الصلاة عندهم، وهو يخالف ما تقدم عن النووي إلا أن يحمل الاستئناف على البناء على اليقين، وحكى العراقي في شرح الترمذي عن ابن عمر وسعيد بن جبي،ر ومحمد بن الحنفية، وشريح، وميمون بن مهران، وعبد الكريم الجزري، والشعبي، والأوزاعي أنهم يقولون بوجوب الإعادة مرة بعد أخرى حتى يستيقن، ولم يرو عنهم الفرق بين المبتدئ والمبتلى لحديث عبادة بن الصامت أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم سئل عن رجل سها في صلاته فلم يدر كم صلى فقال: ((ليعد صلاته وليسجد سجدتين قاعداً )). ورد بأن الحديث ضعيف لا يقوى على معارضة ما مر، قال في المنار: لا نسبة له إلى الأحاديث الصحيحة المذكورة أولاً، وليس بمعمول به لضعفه، وعلى فرض ثبوته فقد أراد بالإعادة الإتيان بما زاد على المتيقن، وإلا فكيف يستأنف صلاته ويسجد في الأخرى التي لا سهو فيها، واحتجوا أيضاً بحديث ميمونة بنت سعد قالت: افتنا يا رسول الله في رجل سها في صلاته فلا يدري كم صلى، قال: ((ينصرف ثم يقوم في صلاته حتى يعلم كم صلى فإنما ذلك الوسواس يعرض فيسهيه عن صلاته)).
ورد بضعف الحديث مع احتمال أن المراد بالانصراف والقيام الانصراف عن الوسوسة والدوام على الصلاة مع البناء على اليقين بدليل ما مر، وقوله: ((حتى يعلم كم صلى))، وقد ورد تفسير القيام بالدوام والوقوف.
قال في (المختار): أقام الشيء أدامه ومنه: {وَيُقِيمُونَ الصَّلاَةَ }[البقرة:3]وفيه قامت الدابة: وقفت، فيحمل الحديث على أن المراد يدوم في صلاته ويقف فيها أي لا يخرج منها للوسوسة، وذهب أبو هريرة، والحسن البصري إلى أن الشاك يطرح الشك كأنه لم يكن، ويمضي على وهمه ولا يعتبر البناء على الأقل المتيقن، بل البناء على ما ذكره من حاله، وهذا أحد أقوال الشافعي، وحكاه في نيل الأطار عن طائفة من السلف، قال: وروي ذلك عن أنس، وأبي هريرة، واحتجوا بقوله تعالى: {وَلاَ تُبْطِلُوا أَعْمَالَكُمْ }[محمد:33 ]وفي الاستئناف إبطالها، وبما رواه أبو هريرة عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم أنه قال: ((إن الشيطان يدخل بين ابن آدم وبين نفسه فلا يدري كم صلى فإذا وجد أحدكم ذلك فليسجد سجدتين قبل أن يسلم)).
وعن عبد الله بن جعفر أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال: ((من شك في صلاته فليسجد سجدتين بعدما يسلم )). وأجيب بأن المراد بالإبطال الإحباط سلمنا فالمراد إبطالها بغير دليل، مع أنه لا يرد إلا على من يقول بالاستئناف، وهو ضعيف لما مر، وأما القائلون بالعمل بالظن أو البناء على الأقل فلم يقولوا بإبطال العمل، غايته أنهم يقولون بالزيادة فيه والله لا يعذب على الزيادة، وأما الحديثان فليس فيهما أكثر من أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أمر بسجدتين عند السهو، وليس فيهما بيان ما يصنعه من وقع له ذلك، وسائر الأحاديث قد اشتملت على زيادة، وهي بيان ما هو الواجب عليه عند ذلك من غير السجود فالمصير إليها واجب، وإلا أبطلنا الصريح بالمحتمل.
وقال (الناصر والإمامية): إن شك في الأولتين استأنف إذ الشك في أولها كالشك في جملتها.
قال (الإمام المهدي): لا وجه للفرق، وفي الجامع الكافي قال الحسن بن يحيى: إذا شك في الركعتين الآخرتين بنى على الأقل، وإن شك في الأولتين استقبل الصلاة، وإن كثر به الشك بنى على الأقل حتى لا يكون في شك ويصلي على يقين، وإن كان الشك في الآخرتين، ولعله نظر إلى ما في بعض الروايات من قوله فلا يدري أصلى ثلاثاً أم أربعاً فقصر البناء على اليقين في الآخرتين، وأوجب الاستئناف، وإن كان الشك في الأولتين بسكوت الشارع عنهما مع ما ورد من الأمر بالمحافظة على الصلاة والإتيان بها كاملة، والأمر بالاستئناف مع الشك مطلقاً في بعص الأحاديث، وخص من كثر به الشك لتعسر اليقين في حقه؛ إذ لا يأمن الشك في الإعادة وإعادة الإعادة، لكنه يجاب بأن الأحاديث واردة على جهة التمثيل، مع أنه قد ورد التصريح باستواء الحكم في الأولتين والآخرتين، وذلك فيما رواه عبد الرحمن بن عوف قال سمعت رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يقول: ((إذا شك أحدكم في صلاته فلم يدر أواحدة صلى أم اثنتين فليجعلها واحدة، وإذا لم يدر اثنتين صلى أم ثلاثاً فليجعلها اثنتين، وإذا لم يدر ثلاثاً أم أربعاً فليجعلها ثلاثاً ثم يسجد إذا فرغ من صلاته وهو جالس قبل أن يسلم سجدتين)). وفي رواية سمعت رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يقول: ((من صلى صلاة يشك في النقصان فليصلِّ حتى يشك في الزيادة )).
وقد روى الحسن بن يحيى عليه السلام عن علي عليه السلام فيمن سها في الصلاة يبني على الأقل فإن الله لا يعذب على الزيادة، وأما ما ورد من الأمر بالاستئناف فقد تقدم الكلام عليه، وقال ابن القيم: إن كان منفرداً بنى على اليقين إذا الأصل بقاء الصلاة في ذمته، وإن كان إماماً فعلى غالب ظنه؛ لأن المأموم ينبهه، فقد عارض الأصل هنا ظهور تنبيه المأموم على الصواب؛ إذ سكوتهم وإقرارهم دليل على الصواب.
قال: وهذا ظاهر المذهب عند أحمد وهو في التحقيق راجع إلى قول من اعتبر الظن، وحكى عن مالك أنه يبني على اليقين إلا أن يكون مبتلى بالشك فلا يلتفت إليه ويلهى عنه، فإن لم يمكنه أن يلهى عنه بنى على أنزل خواطره، ومثله ما تقدم عن القاسم بن إبراهيم عليه السلام في كلامه في الوسوسة، إلا أنه يقال: قد فرق النص بين الوضوء والصلاة، وجعل الزيادة في الصلاة نافلة مرغمة للشيطان، وقول مالك يبني على أنزل خواطره راجع إلى اعتبار الظن.
وفي (نيل الأوطار) عن عطاء ومالك أنهما قالا: يعيد مرة، وعن طاووس كذلك، وعن بعضهم يعيد ثلاث مرات، ولم يذكر لأحد منهم حجة، وحكى في البحر عن ابن عباس، وابن عمر، وعبد الله بن عمرو بن العاص، وعطاء، والأوزاعي، والشعبي، وشريح، وأبي طالب، وأبي حنيفة أن من شك حالها في ركعة وهو مبتدئ فعليه الإعادة لخبر عبادة وميمونة بنت سعد، ولقوله صلى الله عليه وآله وسلم : ((دع ما يريبك )). ومن استقبلها فقد دفع الريب، وتيقن أنه أدى فرضه، وأجيب بما مر من ضعف الحديثين وتأويلهما، ومع هذا فهما أعم من الدعوى؛ إذ ظاهرهما عدم الفرق بين المبتدئ والمبتلى، والمدعي اختصاص الإعادة بالمبتدئ، وأما حديث: ((دع ما يريبك )) فقال في المنار: نقول بالموجب، والذي يريب الخروج من الصلاة وإبطال العمل بغير برهان، بل مع قيام الدليل الموجب لصيانة الصلاة بالبناء على المتيقن.
قلت: ومن بنى على الأقل فقد ترك ما يريبه لتيقنه التمام مع النص بأن الزيادة نافلة إن كانت لا يعذب الله عليها، وأما المبتلى الذي يمكنه التحري فحكى في البحر عن أبي هريرة، وابن عمر، وجابر بن زيد، والنخعي، وأبي طالب، وأبي حنيفة وهو المذهب أنه يعمل بتحريه لحديث ابن مسعود وما في معناه، قال أهل المذهب: فإن كان ممن يمكنه التحري ولم يفده في الحال ظناً استأنف؛ إذ صار كالمبتدئ لاشتراكهما في تعذر فرضهما من علم أوظن، وأما المبتلى الذي لا يمكنه التحري، فقال أهل المذهب: يبني على الأقل لحديث أبي سعيد وابن عوف ونحوهما، وقد اعترضهما الإمام عز الدين عليه السلام بأن النبي صلى الله عليه وآله وسلم لم يلمح إلى الفرق بين المبتدئ والمبتلى، ولو كان ثمت فرق لما ألغاه فهو في محل التعليم، ومن المعلوم أنه صلى الله عليه وآله وسلم لم ينقل عنه تنبيه على ذلك لا فيما رواه الفقهاء، ولا فيما رواه أصحابنا، بل ظاهر ما ورد عنه صلى الله عليه وآله وسلم عدم الفرق، ولا موجب للعدول عن الظاهر، والناسي إذا بنى على الأقل فقد تيقن الخروج عن عهدة ما أمر به والإتيان بالركعات كاملات، ولم نقف في كتب الحديث إلا على هذا، وهو البناء على الأقل وعدم ذكر الاستئناف.
وقال المقبلي: ذكر المبتدئ والمبتلى من آرائهم ليس فيه شمه في الأحاديث، وكأنهم أرادوا الجمع بين الروايات وهي غير متنافية.
الصورة الثالثة: أن يشك في ركن فالمذهب أنه كالمبتلى عندهم في جميع مامر.
قال في (البحر): وإن لم يستأنف المبتدئ هنا لحقه حكم الركن، قال أبو طالب: إذ يكون غير مقصود بخلاف الركعة، وعلله الإمام يحيى بأن جزء الشيء لايساوي كله، وفي حواشي الشفاء أن حكم الركن حكم الركعة، يعني ولا فرق بين المبتدئ والمبتلى فبنى على الأقل مالم يحصل له ظن.
قلت: ويدل عليه عموم حديث: ((من صلى صلاة يشك في النقصان فليصل حتى يشك في الزيادة )) وما رواه الحسن بن يحيى عن علي عليه السلام .
وفي الشفاء عن ابن مسعود، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم : ((إذا شك أحدكم في صلاته فليتحر ثم يتم ثم يسجد سجدتي السهو)) فعم ولم يفصل، وفي شرح السيد صلاح بن أحمد -رحمه الله- وقال الناصر: يعمل بالظن إن حصل له من غير فرق بين الركعة والركن والمبتدئ والمبتلى، وإن لم يحصل بنى على الأقل، وقواه الإمام القاسم في الاعتصام، ثم استدل على ذلك بنحو ما تقدم للقائلين بالبناء على الأقل ما لم يحصل له ظن، وتكلم على حديث الاستئناف سنداً ودلالة.
قلت: وإطلاق هذه الرواية عن الناصر يخالف ماتقدم عنه، إلا أن يقال هذه مقيدة بتلك.
فائدة [في صورة التحري عند الوسوسة]
في البحر عن أبي العباس أن التحري فوري، فإن أخره إلى الثانية بطلت؛ إذ لا يبني على الأول حتى تصح، وهذا هو المصحح للمذهب، وقال (م) بالله والإمام يحيى: تصح إذ مجموعهما كالركن، فإذا حصل ظن في أيها أو بعدها عمل به.
قال (الإمام عز الدين) عليه السلام : ولا يخفى على الناظر أن مذهب (م) بالله أقوى؛ لأن المقصود تأدية الصلاة بالتحقق أو غلبة الظن، وهذا حاصل سواء وقع ذلك عقيب الشك أو فيما بعده مع اشتمال الصلاة عليه، ولا دليل على وجوب الفور، وإنما القصد حصوله قبل فراغ الصلاة.
هذا تمام الكلام على ما يتعلق بالاستعاذة بالله تعالى من شر الشيطان، وهي تستدعي أكثر مما ذكرنا لكثرة مداخله وإعماله كل حيلة في إضلال الإنسان، خلا أن من استعمل عقله وتدبر كتاب الله وسنة رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ، واقتدى بمن أمره الله بالاقتداء بهم، فلا بد وأن يحصل له من الألطاف ما يكون سبباً قائداً إلى التوفيق وحسن الخاتمة.
تفسير سورة الفاتحة
مكية على الأصح، وهو قول علي عليه السلام وابن عباس، وعلي بن الحسين، والصادق، وبه قال الأكثر، وقيل: مدنية، وقيل: مكية ومدنية، ولها عدة أسماء، وسيأتي بعضها في فضائلها إن شاء الله تعالى.
أعوذ بالله من الشيطان الرجيم، بسم الله الرحمن الرحيم
{الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ ، الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ ، مَالِكِ يَوْمِ الدِّينِ ، إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ ، اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ ، صِرَاطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ وَلاَ الضَّالِّينَ}
الكلام فيها يكون في بابين: الأول: فيما يتعلق بمفردات آياتها، والثاني: فيما يتعلق بجملتها.
الباب الأول فيما يتعلق بالآيات
وأولها قوله تعالى: {بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ} وفيه موضعان: الأول: في مفردات ألفاظها، والثاني: في جملتها.
الموضع الأول: قوله تعالى: بسم الله، وفيه مسائل:
المسألة الأولى: [تعلق الباء]
الباء إما للاستعانة أو للمصاحبة، وعلى أيهما فهي تدل على ما ذهب إليه أئمة العترة" وسائر العدلية من كون أفعال العباد منهم، وتبطل مذهب طوائف الجبرية، أما الأول فلأن أفعالنا لو كانت من الله تعالى لما كان للاستعانة معنى؛ إذ لا يحتاج الباري تعالى في فعله إلى معين، وأما على الثاني فواضح إذ ليس المقصود إلا التبرك بالاسم الشريف، والتبرك باسمه تعالى لا يصح إلا إذا كنا الموجدين لأفعالنا، إذ لا معنى لتبركنا باسمه على أفعاله، فإن قيل: إنما يصح ما قلتم لوجعلنا الاستعانة أو التبرك بنفس الاسم لكنا لا نسلم ذلك إما لأن الاسم هو المسمى، وإما لأن لفظ اسم صلة زائدة، فيكون معنى بسم الله بالله أي بخلقه وتقديره.
قيل: لا يضرنا عدم تسليمكم مع قيام الدليل عليه، وما استندتم إليه باطل، أما الأول فلما سيأتي من البرهان على أن الاسم غير المسمى، وأما الثاني فلأنه خلاف الظاهر، بل لم نقف عليه لأحد من علماء اللغة إلا عن معمر بن المثنى، وقد نص المحققون على فائدة الإتيان به، وهي إما للفرق بين اليمين والتيمن، أو لتحقيق ما هو المقصود بالاستعانة هاهنا؛ لأنها قد تكون تارة بالله تعالى، وحقيقتها طلب المعونة على إيقاع الفعل وإحداثه بالتمكين واللطف ونحوه، وهذه هي المطلوبة بقوله: {وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ }[الفاتحة:5]، وتارة تكون باسمه تعالى، وحقيقتها طلب المعونة في كون الفعل معتداً به شرعاً، فإنه ما لم يصدر باسمه تعالى يكون بمنزلة المعدوم، ولما كانت كل واحدة من الاستعانتين واقعة وجب تعيين المراد بذكر الاسم، وهذا تصريح بوجوب الإتيان بلفظ إسم، وفيه بطلان القول بزيادته سلمنا، فلا بد من تقدير اتفاقاً بيننا وبينكم، ولستم بأولى منا به، فنقول: معنى قوله بالله أي بتمكينه ومعونته ونحو ذلك، والحق أن نرجع في تصحيح أحد التقديرين إلى دليل صحيح؛ إذ لا تثبت الدعوى إلا ببرهان، وقد تقدم في بحث الاستعاذة ما يفيد العلم بأنا الموجدون لأفعالنا، وفيه تصحيح ما قدرنا وإبطال تقديركم.
المسألة الثانية: [معنى الاسم]
الاسم في اللغة ما صح إطلاقه على ذات سواء كان اسماً نحو: يا كزيد، أو فعلاً كضرب ويضرب، وله في اصطلاح النحاة حدود كثيرة منها ما ذكره ابن الحاجب وهو قوله: الاسم ما دل على معنى في نفسه غير مقترن بأحد الأزمنة الثلاثة، واختلف العلماء هل هو المسمى أم غيره؟ فقال أئمتنا" والمعتزلة، والرازي، والخازن، وأبو حيان، والنيسابوري، وابن القيم وغيرهم: ليس الاسم المسمى بل غيره لقوله تعالى: {بسم الله}، ونحوها بإضافة الاسم إلى الله تعالى، وإضافة الشيء إلى نفسه محال، ولأن الاسم قد يكون موجوداً والمسمى معدوماً كلفظ المعدوم والمنفي؛ إذ معناه سلب لا ثبوت له والألفاظ موجودة، ولأن الاسماء قد تكون كثيرة مع كون المسمى واحداً كالاسماء المترادفة والعكس كالاسماء المشتركة، وذلك يوجب المغايرة، ولأن الأصوات حروف مقطعة وضعت لتعريف المسميات وتلك الأعراض غير باقية، والمسمى قد يكون باقياً، بل قد يكون دائم الوجود كالباري تعالى، ولأنك تقول: سميت هذا الشخص بهذا الاسم، كما تقول: حليته بهذه الحلية، والحلية غير المحلى، فكذلك الاسم غير المسمى، وأيضاً فإنا نصف الاسماء بكونها عربية وفارسية فنقول: الله اسم عربي، وحداي اسم فارسي وذات الله منزهةٌ عن ذلك.
قال الإمام أحمد بن سليمان عليه السلام : ونقول لهم أخبرونا عن أسماء الله هل هي موجودة في الكتب وصدور العارفين أم لا؟ فإن قالوا: لا خالفوا الإجماع والكتاب والسنة والعقل، وإن أقروا صح أنها له وأنها غيره.
قلت: والأدلة على ذلك شهيرة عقلاً ونقلاً، قال تعالى:{وَلِلَّهِ الأَسْمَاءُ الْحُسْنَى }[الأعراف:180 ]ولم يقل هو الاسماء الحسنى ولا المسميات الحسنى، وقال النبي صلى الله عليه وآله وسلم : ((إن لله تسعة وتسعين اسماً ))، وقال: ((تسموا باسمي))، وقال صلى الله عليه وآله وسلم : ((لي خمسة أسماء )). ولا يصح أن يقال في ذلك كله أن المراد بها المسميات، وأيضاً إنا نقول بسم الله ولا نقول بمسمى الله، ومن كلام على عليه السلام في الدرة اليتيمة: (له سبحانه من أسمائه معناها وللحروف مجراها؛ إذ الحروف مبدوعة، والأنفاس مصنوعة) وفيها عنه عليه السلام : (إن قلت متى فقد سبق الوقت، كونه، وإن قلت قبل فالقبل بعده، وإن قلت هو فالهاء والواو خلقه).
وروي عنه عليه السلام أنه قال: (من عبد الاسم دون المعنى فقد كفر، ومن عبد الاسم والمعنى فقد أشرك، ومن عبد المعنى بحقيقة المعرفة فهو مؤمن حقاً). ذكره في حقائق المعرفة.
وقالت (الكرامية) ومتأخروا (الحنفية)، وحكاه (الرازي) عن (الحشوية)، و(الأشعرية): بل هو نفس المسمى، وحكاه القرطبي عن أبي عبيدة وسيبويه، قال: وارتضاه ابن فورك، ونقله القاضي أبو بكر بن الطيب عن أهل الحق، واحتجوا على ذلك بأن أحدنا يقول: طلقت زينب، فلو لم يكن الاسم هو المسمى لم يكن الطلاق واقعاً عليها.
قلنا: معناه الشخص المسمى بزينب، لكن اقتصر على الاسم اختصاراً لقيام القرينة، ولهذا قد لا يقتصرون فيقولون: مررت بالرجل المسمى فلاناً.
قالوا: إذا قيل قام زيد وخرج وضحك ومات، فإنما القائم والخارج والضاحك والميت المسمى، والفعل لم ينسب إلا إليه.
قلنا: جوابه كالأول وتحقيقه أن الألفاظ لم توضع على المسميات إلا توصلاً إلى الأخبار عنها والحكم عليها بما يعرض لها، فإذا قال القائل: قام زيدٌ فالمعنى قام مدلول هذا اللفظ، لكن استغني باللفظ اختصاراً وهذا واضح، ولهذا يفرق بين لفظ الاسم ولفظ المسمى، فيقال: الاسم عبارة عن اللفظ الموضوع على المسمى، والمسمى عبارة عما وضع عليه ذلك اللفظ.
قال (أبو حيان): الاسم هو اللفظ الدال بالوضع على موجود في العيان إن كان محسوساً، وفي الأذهان إن كان معقولاً من غير تعرض ببنيته للزمان، ومدلوله هو المسمى.
قالوا: قال تعالى: {بسم الله} والله تعالى هو الذات المقدسة لا الصوت ولا الحرف.
قلنا: كما يجب علينا تعظيم ذات الله تعالى، يجب علينا تعظيم اسمه وتشريفه بالتبرك به، والابتداء بذكره.
قال (الإمام عز الدين) عليه السلام : ليس لهم فيه حجة؛ لأن مراد المتكلم قطعاً التبرك بالبداية بسم الله لا أنه أراد أن يبتدئ بذات الله.
قلت: مع أن الله قد تعبدنا بالتسمية كما تعبدنا بغيرها من الأقوال لما علمه لنا من المصلحة في ذلك، قالوا: قال لبيد:
إلى الحول ثم اسم السلام عليكما .... ومن يبك حولاً كاملاً فقد اعتذر
وإنما أراد باسم السلام نفس السلام. قلنا: هذا حجة عليكم لأن السلام من أسماء الله، فإن كان الشاعر أراد هذا فلا إشكال إذ المقصود التبرك باسمه تعالى، وإن أراد التحية فيكون المراد بالسلام المعنى المدلول وهو المسمى وباسمه لفظه الدال عليه، والمعنى ثم اسم هذا المسمى عليكما، فيراد بالأول اللفظ، وبالثاني المعنى كما تقول: زيد بطة ونحوهما مما يراد بأحدهما اللفظ، وبالآخر مدلوله، وفيه نكتة كأنه أراد ثم هذا اللفظ باق عليكما جار لا ينقطع مني، بل أنا مراعيه دائماً، وأجاب بعض المحققين بأن لبيداً لم يرد إيقاع السلام لوقته، وإنما أراد بعد الحول، ولو قال السلام عليكما لكان مسلماً لحينه، فلذلك ذكر الاسم الذي هو عبارة عن اللفظ أي إنما اللفظ بالتسليم بعد الحول، وذلك لأن السلام دعاءٌ، والدعاء لا يتقيد بالزمان المستقبل وإنما هو لحينه، ألا ترى أنه لا يقال بعد الجمعة أو بعد الموت: اللهم اغفر لي، وإنما يقال: اللهم اغفر لي بعد الموت أو بعد الجمعة، فيكون بعد ظرفاً للمغفرة، والدعاء واقع لحينه، فإذا أردت أن تجعل الوقت ظرفاً له للدعاء صرحت بلفظ الفعل فقلت بعد الجمعة أدعو بكذا؛ لأن الظروف إنما يراد بها الأحداث الواقعة فيها، وبهذا يتضح لك أن لبيداً لو قال: إلى الحول ثم السلام عليكما لكان مسلماً لحينه، ولكنه لما أراد أن لا يوقع اللفظ بالسلام إلا بعد الحول ذكر الاسم الذي هو بمعنى اللفظ بالتسليم ليكون ما بعد الحول ظرفاً، وهو جواب حسن، وأما أصحابنا فحملوا البيت على مجاز الزيادة، أو على إقحام لفظة اسم لاستيفاء الوزن.
واعلم أن في الرواية عن سيبويه نظر لنصه على أن الاسم غير المسمى، فقال: (الكلم: اسم، وفعل، وحرف)، فقد صرح بأن الاسم كلمة، وكيف تكون الكلمة هي المسمى وهو شخص.
قيل: وفي كتابه قريب من ألف موضع يدل على أن الاسم هو اللفظ الدال على المسمى.
بل قال (ابن القيم): إنه لم يقل نحوي قط ولا عربي أن الاسم هو المسمى.
قلت: وعندي إن الخلاف لفظي، وقد ذكره الإمام المهدي عليه السلام ، وتوضيحه ما ذكره الرازي في تفسيره وهو أن يقال: إن كان المراد بالاسم اللفظ الذي هو أصوات وحروف، وبالمسمى الذوات والحقائق بأعيانها فالعلم ضروري حاصل بأن الاسم غير المسمى، والخوض في المسألة على هذا عبث، وإن كان المراد بالاسم ذات المسمى، وبالمسمى أيضاً تلك الذات كان المعنى أن ذات الشيء غير الشيء، وهذا وإن كان حقاً إلا أنه من توضيح الواضحات.
قلت: وحاصله أن الاسم قد يطلق تارة ويراد به الدال، ويطلق أخرى ويراد به المدلول، لكن إرادة المعنى الثاني تحتاج إلى قرينةٍ، وسيأتي لهذا مزيد تحقيق إن شاء الله تعالى.
فرع [في الخلاف حول ترادف التسمية للمسمى]
اختلف القائلون بأن الاسم غير المسمى، هل التسمية مرادفة للاسم أم لا؟ فقال الرازي، وأبو حيان، والخازن، وابن القيم، وغيرهم وهو الظاهر من كلام الإمام عز الدين عليه السلام : التسمية غير المسمى وغير الاسم؛ لأنها عبارة عن تعيين اللفظ المعين لتعريف الذات المعينة، وذلك التعيين معناه قصد الواضع وإرادته، والاسم عبارة عن ذلك اللفظ المعين، فالفرق بينهما معلوم بالضرورة.
وقال السيد (مانكديم) و(القرشي) و(ابن جرير): لا فرق عند أهل اللغة بين الاسم والتسمية، ولهذا يقولون: سميته اسماً حسناً وتسمية حسنة.
قال (الإمام عز الدين) عليه السلام : وفيه نظر؛ لأن التسمية مصدر سمى فهي في الحقيقة وضع الاسم، وقد تستعمل في اللفظ الذي هو الاسم، وهو مراد الرازي بقوله: إن المعتزلة يذهبون إلى أن الاسم هو التسمية.
قال عليه السلام : ولعل مراد المصنف -يعني القرشي- أن الاسم هو التسمية بهذا المعنى لاعلى الإطلاق.
وذكر ابن جرير أن العرب قد تخرج مصادر الأفعال علىغير بناء أفعالها كثيراً، واستشهد له من كلامهم، وجعل منه لفظ اسم في بسم الله فإنه بمعنى تسمية الله أي أبدأ، أو أقرأ بتسمية الله، قال: فجعل الاسم مكان التسمية، كما جعل الكلام مكان التكليم، والعطاء مكان الإعطاء.
المسألة الثالثة: [أقسام الأسماء الواقعة على المسميات]
أقسام الاسماء الواقعة على المسميات من حيث هي تسعة:
أولها: الاسم الواقع على الذات.
ثانيها: الاسم الواقع على الشيء بحسب جزء من أجزائه كالحيوان على الإنسان.
ثالثها: الواقع عليه بحسب صفة حقيقية قائمة بذاته كالأسود والحار.
رابعها: الواقع عليه بحسب صفة إضافيه كقولنا للشيء: إنه معلوم، ومفهوم، ومالك، ومملوك.
خامسها: الواقع عليه بحسب صفة سلبية كالأعمى والفقير.
سادسها: الواقع عليه بحسب صفة حقيقية مع صفة إضافية كالعالم والقادر عند القائل بأن العلم صفة حقيقية ولها إضافة إلى المعلومات، وكذا القدرة.
سابعها: صفة حقيقية مع صفة سلبية كالمفهوم من مجموع قولنا: قادر لا يعجز عن شيء، وعالم لا يجهل شيئاً.
ثامنها: صفة إضافية مع صفة سلبية كالأول، فإن معناه سابق غير مسبوق.
تاسعها: صفة حقيقية مع صفة إضافية، وصفة سلبية، فهذه أقسام الاسماء لا تكاد تجد اسماً خارجاً عنها سواء كان لله تعالى أو لمخلوقاته. هكذا ذكره الرازي والنيسابوري، وجعلها الموفق بالله عليه السلام ثلاثة أقسام لا غير فقال: ما يجري من الأسامي إما أن يفيد تمييز نوع من نوع كقولنا: لون ولون، وإما أن يفيد تمييز جنس من جنس كقولنا: سواد وبياض، وإما أن يفيد تمييز قبيل من قبيل كقولنا: جوهر وعرض، وكأنه أراد بتمييز قبيل من قبيل بتميز ذات من ذات، وهذا التقسيم شامل للأقسام التسعة السابقة، وسيأتي بيان ما يجوز إجراؤه على الباري منها وما لا يجوز في مواضعه إن شاء الله تعالى.
المسألة الرابعة: [ما يجوز إجراؤه من الأسماء على الله تعالى]
اختلف المسلمون فيما يجوز إجراؤه على الله تعالى من الاسماء، مع إجماعهم على أنه لا يجوز أن يجري عليه تعالى إلا ما تضمن مدحاً لقوله تعالى: {وَلِلَّهِ الأَسْمَاءُ الْحُسْنَى }[الأعراف:180]، فقال الجمهور: كل اسم أو صفة يفيد معنى على جهة الحقيقة وحصل ذلك المعنى في حق الله تعالى فإنه يجوز إطلاقه على الله تعالى وإن لم يرد إذن سمعي؛ إذ لا دليل على منع الحقيقة، ولأن الحقيقة اللفظ المستعمل فيما وضع له، فإذا صح معنى اللفظ صح إطلاقه عليه تعالى؛ إذ هو حقيقة فيه حينئذٍ، ويجب اطراد الحقيقة حيث لا مانع، وإلا أدى إلى المناقضة؛ لأنا إذا قلنا: لا يجوز إجراء اللفظ في الموضع الذي يفيده فقد ناقضنا كونه مفيداً له، ولا تنتفي المناقضة إلا إذا قلنا بإجراء اللفظ حيث صح المعنى، ولأن العبارة إذا لم يكن فيها وجه قبح ولا ضرر على أحد جوز العقل إجراءها كسائر ما أصله الإباحة، ولأن التفاهم بالألفاظ يتبع المواضعة، وإذا جاز للمتواضعين أن يضعوا اسماً يفيد التعظيم على مسميات من دون إذن جاز أن يطلقوا تلك الاسماء إذا أرادوا تعظيم الله وذكره لاحتياجهم إلى ذلك، مع أن الترك ونحوهم من الأعاجم يعبرون عن أسماء الله بلغتهم من دون نكير، والمعلوم أنه لم يرد شيء منها في القرآن ولا في السنة، وليس المقصود بالألفاظ إلا رعاية المعاني، فإذا صح المعنى كان المنع منه عبثاً واحتجوا من السمع بقوله تعالى: {وَلِلَّهِ الأَسْمَاءُ الْحُسْنَى فَادْعُوهُ بِهَا}[الأعراف:180 ]وذلك لأن الاسم لا يحسن إلا لدلالته على صفات المدح، فما دل عليها كان حسناً، فوجب جواز إطلاقه للآية، وجواز الإطلاق مشروط بأن لا يوهم الخطأ، فإن أوهم لم يجز إطلاقه على الباري تعالى إلا مع قيد يزيل ذلك ويرفعه بالكلية كوصفه تعالى بجيد؛ لأنه وإن كان المراد به فاعل الجود وهو سبحانه كذلك، لكن في وصفه بذلك إيهام قلة
جوده؛ لأنه لا يقال كذلك لمن كمل في الجود، بل يقال: هو جواد، وكالاسماء المشتركة بين معان بعضها يصح إطلاقه على الله تعالى، وبعضها لا يصح كالوجه واليد والقضاء والقدر ونحوها، فلا يطلق على الله شيء منها إلا مع قرينة حالية، أو مقالية ترفع الخطأ وتزيل الوهم، ويعرف بها قصد المعنى الصحيح.
قال الموفق بالله عليه السلام في (الإحاطة): اعلم أن الاسم إذا أفاد فائدة وصحت فيه جاز إجراؤه عليه تعالى إلا لمنع، وكذلك إذا أفاد فائدتين وجازتا فيه وصحتا، فأما إذا صح أحد المعنيين دون الآخر كقولنا إنه تعالى يضل ويقضي بالمعاصي فإنه إن لم يوهم جاز إجراؤه عليه تعالى، وإن كان فيه إيهام لبعض الحاضرين فلا يجوز، ألا ترى أنه تعالى يضل الكفار يوم القيامة عن طريق الجنة، ويقضي المعاصي بمعنى أنه يخبر عن كونها وحصولها، وهو دليل بمعنى أنه فاعل للدلالة.
وقال الإمام (المرتضى محمد بن الهادي) عليه السلام ، و(أبو القاسم البلخي) وأتباعه من البغداديين: لا يجوز إلا بإذن سمعي، وإن حصل المعنى، وهذا هو قول الأشعرية وأكثر فرق المجبرة؛ لأن أسماء الله عندهم توقيفية، فلا يطلق عليه إلا ما أطلقه على نفسه حتى لولم يرد السمع بوصفه بقادر ونحوه لم يجز إطلاقه عليه وإن صح المعنى، واحتجوا بأنا وجدنا العالم له أسماء كثيرة منها: المتيقن، والفقيه، والمتبين ونحوها، ومعلوم أنه لا يجوز وصف الله تعالى بأنه متيقن ونحوه، فلو كان إفادة المعنى مصححة للإطلاق لجاز إطلاق هذه الألفاظ عليه تعالى؛ إذ المعنى حاصل في حقه تعالى، وكذلك فإنا نصفه تعالى بقديم ولا نصفه بعتيق مع إفادتهما التقدم في الوجود، وأيضاً فإنا نصفه بأنه حكيم مع أنه مشتق من حكمة اللجام اللتي تمنع الدابة مما تريد، وهو مستحيل عليه المنع.
قالوا: فلما جاز إجراء ما يستحيل عليه معناه بالنظر إلى أصله وهو حكيم لم يصح إجراء ما صح معناه فيه، وهو قولنا عتيق دل على أن مسألة الاسماء إنما تجرى عليه لمكان الإذن منه تعالى، وأجيب بأن ما ذكرتموه مما قام الدليل على امتناعه عليه تعالى إما لعدم صحة المعنى، أو لدليل يمنع فيه خاصة، ونحن إنما قلنا بجواز الإطلاق مع عدم المانع، أما لفظ متيقن فإنما امتنع لأن اليقين هو العلم الحاصل عن كثرة الدلائل والأمارات وترادفها حتى حصل الجزم، وذلك مستحيل في حق الله تعالى، وأما الفقيه فلأن الفقه عبارة عن فهم الشيء بعد غموضه والله لا تخفى عليه خافية، وكذلك التبيين فإنه عبارة عن الظهور بعد الخفاء، وأما منع عتيق وجواز حكيم فقد بينا أنه يشترط في الإطلاق عدم المانع، وهنا قد انعقد الإجماع في حكيم أنه يجوز، وفي عتيق أنه ممتنع، على أنا لا نسلم صحة المعنى في عتيق؛ لأنه يفيد أن الزمان قد أثر فيه، ولذلك يقال: تمر عتيق لأن الزمان قد أثر فيه، ولا يقال في السماء أنها عتيقة إذ لم يؤثر فيها الزمان، فعلى هذا كان المنع لعدم صحة المعنى؛ إذ لا يؤثر الزمان في الباري تعالى شأنه وعز سلطانه، وأما حكيم فالمراد به أنه لا يفعل إلا الصواب والحكمة، أو لا يختار القبيح وإن كان في الأصل كما ذكرتم فالآن قد صار حقيقة فيما ذكر، ولذلك إذا أطلق فقيل: إنه تعالى حكيم، أو قيل: رجل حكيم لم يعقل المعنى الأصلي الذي هو المنع، وإنما يعقل أنما يصدر عنه حكمة وصواب، وهذا المعنى صحيح في الباري تعالى، بل واجب واللفظ حقيقة فيه، فصح وصفه بأنه حكيم، مع أنه يلزمهم أن يمتنع وصف الباري تعالى بما يحق له من أوصاف الكمال ممن عرفه بأدلة العقل ولم تبلغه الرسل والعقل يحكم بحسن ذلك ولا يمنع منه. ذكر هذا في الأساس، وفيه نظر لأنهم يلتزمون هذا إذ هو من محل النزاع، مع أنه مبني على جواز انفراد التكليف العقلي عن الشرعي وفيه نزاع، وإذا كانوا يلتزمونه أو يتنازعون
فيما بني عليه، فلا يصلح للرد عليهم به لأنه كرد مذهبهم من دون مستند، بل لأنه مذهبهم. والله أعلم.
وقال (الغزالي): يجوز إطلاق الصفات عليه تعالى وإن لم يرد بها إذن دون الاسماء فلا يجوز إلا بإذن؛ لأن وضع الاسم في حق الواحد منا سوء أدب وفي حق الباري تعالى أولى، وأما الصفات المختلفة فهي جائزة في حقنا، فكذلك في حق الباري تعالى.
ولقائل أن يقول: إنما يكون سوء أدب مع قيام المانع كتضمن الاسم القبح، أو حصول الضرر كما مر، ثم إنه يلزمه في الصفات مثله إذ لا فارق، فيجب إما توقفها على الإذن جميعاً، أو جوازهما جميعاً من دونه؛ إذ قد أبطلنا الفارق الذي أبداه مع أنه يلزمه عليه قبح وضع الآباء أسماء الأبناء وتركهم بلا أسماء حتى يبلغوا رشدهم، ولا قائل به، بل غالب وضع أسماء المسميات كلها من غيرها، بل لو قيل: إن الاسماء كلها بوضع غير المسمى في حق المخلوقات لم يبعد.
المسألة الخامسة: [لفظة الله سبحانه]
اختلف في لفظ الله: هل هو مشتق أم مرتجل؟ فقال الأكثر: هو مرتجل، ثم اختلفوا هل هو علم أم لا؟ فقال أئمتنا" وأكثر المعتزلة: إنه اسم بإزاء صفة ذات، وتلك الصفة هي صفات الكمال التي لأجلها يحق له العبادة، ومعنى أنه موضوع بإزائها أنه إذا أطلق تفهم تلك الصفات، قالوا: وليس بعلم لأن الأعلام لا تفيد أكثر من تميز مسمياتها، وظاهر كلام الإمام المهدي عليه السلام وما لخص به الإمام عز الدين عليه السلام مذهب الجمهور القائلين بأنه غير علم أنه في الأصل من أسماء الأجناس؛ لأن أصله الإله يطلق على كل معبود بحق أو باطل كالرجل والفرس لمن هو على الشكل المخصوص.
وقال (الزمخشري): الإله من أسماء الأجناس اسم يقع على كل معبود بحق أو باطل، ثم غلب على المعبود بحق كالنجم للثريا، والبيت للكعبة، وأما لله بحذف الهمزة فمختص بالمعبود بحق لم يطلق على غيره، وقال الرازي: المختار عندنا أن هذا اللفظ اسم علم لله تعالى، وهو قول الخليل وسيبويه، وقول أكثر الأصوليين والفقهاء، وحكاه في الأساس عن النحاة، واحتجوا بوجوه:
أحدها: أنه لو كان مشتقاً أو اسم جنس لكان معناه لا يمنع وقوع الشركة فيه بين كثيرين؛ لأن اللفظ المشتق لا يفيد إلا أنه شيء ما مبهم حصل له ذلك المشتق منه، وأما أسماء الأجناس فوقوع الشركة فيها ظاهر، ولو كان كذلك لم يكن لا إله إلا الله توحيداً؛ لأن بتقدير أن يكون لفظ الله مشتقاً أو اسم جنس يكون غير مانع من أن تدخل تحته أشخاص كثيرة، وحينئذ لا يكون قولنا: لاإله إلا الله توحيداً، ولما أجمع العقلاء على أن هذه الكلمة توحيد محضٌ علمنا أن قولنا: (الله) علم موضوع لتلك الذات المعينة، وأنها ليست من الألفاظ المشتقة ولا من أسماء الأجناس، وأيضاً لو لم يكن علماً لما صح الاستثناء إذ لا يسثنى الشيء من نفسه.
والجواب أنا قد بينا أن أسماء الأعلام لاتفيد المدح، وقد تقدم أنه لايطلق عليه من الاسماء إلا ما تضمن مدحاً فكيف يجوز إخراج اخص أسمائه تعالى عن تضمنه المدح، وأما قولهم إنه يلزم أن لا يكون لا إله إلا الله توحيداً، فإنما يلزم ذلك لو قلنا: بجواز إطلاق لفظ الجلالة على غيره تعالى ونحن لانقول به، إما لما ذكره الزمخشري من اختصاص الاسم الشريف بالباري وأنه لم يطلق على غيره، وإما لأنه قد صار بالغلبة اسماً له تعالى كالإله، والإجماع المذكور محمول على أحد هذين الأمرين.
وقال الإمام المهدي عليه السلام : لا نسلم أن عدم علميته يستلزم عدم التصريح بالتوحيد إلا إذا كانت لام التعريف التي في الله للجنس لا للعهد لكنها للعهد، وتعريف العهد جار مجرى العلمية لمنعه وقوع الشركة فيما دخل عليه، ونظير ذلك أن يكون بينك وبين مخاطبك عهد في رجل معين فتقول له لا رجل في الدار إلا الرجل تعني به المعهود، فإن ذلك يفيد التصريح باختصاصه بكونه في الدار كما يفيده قولك: لارجل في الدار إلا زيد سواءً سواء، فكذلك نقول: معنى لاإله إلا الله: لاحقيق بالعبادة إلا الإله المعهود بيننا وبين المشركين، فإنهم يعرفونه كما نعرفه.
قلت: وهذا يقوي ما قدمنا من أن ظاهر كلامه عليه السلام أن لفظ الله في الأصل اسم جنس، وأما قولهم: إنه لولم يكن علماً لما صح الاستثناء، فإنا نقول: إنه لما تضمن صفة مدح له تعالى وكانت تفهم منه كما تفهم منه الذات المسماة به صح استثناؤه مما ليس كذلك وهو لفظ إله، إذ لا يتضمن مدحاً قطعاً، فقد حصلت المغايرة بين المستثنى والمستثنى منه، كما يقال: لا سيف إلا ماقطع، ولا علم إلا ما نفع.
الوجه الثاني: أنك تصفه ولا تصف به لا تقول: شيء إله كما لا تقول شيء زيد، وتقول: الله واحد صمد، وذلك يدل على علميته، فإن قيل: أليس قد وقع صفة في قوله تعالى: {الْعَزِيزِ الْحَمِيد ِ ، اللَّهِ...}[إبراهيم:1،2] الآية.
قيل: أما على قراءة الرفع فالسؤال ساقط لأنه يكون مبتدأ فيخرج عن الوصفية، وأما على قراءة الجر فهو وارد على جهة البيان، ونظيره أن تقول: هذه الدار للعالم الفاضل زيد، فإن زيداً ليس بصفة هنا بلا إشكال، وإنما ورد بياناً لأن في قولك: العالم الفاضل اشتباه فذكر زيد بعده لرفع ذلك الاشتباه، ولا يخرج به زيد عن العلمية، فكذلك في الآية.
فإن قيل: ليست الآية نظيرة للمثال إذ لا اشتباه في أوصاف الله تعالى.
قيل: إن الله خاطب العرب بلغتهم، وفي لغتهم التوكيد، والتقرير، وتنزيل المقر منزلة المنكر، وغير ذلك.
فنقول: إن الله تعالى نزل المخاطبين بالآية منزلة من يشتبه عليه الأمر في نحو المثال المذكور فوصف نفسه بأنه عزيز حكيم، ثم بين وأكد بأن ذلكم العزيز الحكيم هو الله المتفرد بصفات الكمال المستحق للعبادة في جميع الأحوال، وفيه من التسجيل عليهم والتعريض بغباوتهم ما لا يخفى.
الوجه الثالث: قوله تعالى: {هَلْ تَعْلَمُ لَهُ سَمِيًّا }[مريم:65 ]ومعناه أنه لا يقال لغيره: الله.
الوجه الرابع: أن صفاته تعالى لا بد لها من موصوف تجري عليه، فلو جعلت كلها صفات لبقيت صفات غير جارية على اسم موصوف بها، وذلك لا يجوز.
والجواب: أن هذه الوجوه كلها إنما تدل على الاسمية ومنع الوصفية، وأما دلالتها على خصوص العلمية فهي لاتقتضيه، فكيف وقد قام المانع من صحة وضع الأعلام عليه تعالى وهو عدم دلالتها على المدح كما مر، ومما يبطل كون هذا الاسم الشريف علماً اتفاق المسلمين على منع إجراء اللقب عليه تعالى والأعلام كالألقاب، وأيضاً لو كان علماً لم تدخل عليه الألف واللام، فإن دخولها على الأعلام نادر، وإنما تدخل فيما أصله صفة ثم صار علماً كالصعق ونحوه، وفيه نظر فإن القائل بعلميته يقول: إن الألف واللام لازمتان لا يجوز حذفهما منه.
قال (الخطابي): والدليل على أن الألف واللام من بنية هذا الاسم وأنهما لم يدخلا للتعريف دخول حرف النداء عليه، وحروف النداء لا تجتمع مع الألف واللام للتعريف، ثم إن لهم أن يقولوا: نحن نلتزم أنه صار علماً بالغلبة، وأن أصله إله بمعنى مألوه أي معبود، والألف واللام بدل من الهمزة، فهو من الاسماء التي صارت أعلاماً بغلبة استعمالها في شيء معين بعد أن كانت عامة في أشياء كثيرة؛ إذ قد كان عاماً في كل معبود بحق أو باطل، ثم اختص بالمعبود بحق كالصعق فإنه كان في الأصل صفة عامة لكل من أصابته الصاعقة، ثم اختص بمعين وهو خويلد بن نفيل، وكالنجم فإنه كان عاماً لكل نجم ثم اختص بالثرياء.
وأجيب: بأنه لا يصح ما ذكرتم إلا لو ثبت أنه لم يسم جل وعلا بهذا الاسم الشريف إلا وقت الشرك، وذلك مما لادليل عليه، والظاهر أنه اسم له تعالى قبل ذلك يدعوه به الملائكة وغيرهم ممن خلقه الله بإلهامه إياهم، وتعليمه لهم، ثم إنا لا نسلم أن أصله إله.
قال الإمام عز الدين عليه السلام : ذهب بعض أهل العربية إلى أن الإله ليس بأصل له، والمشهور عند جميعهم، والمنصوص عليه فيما بينهم أن الله والإله مختلفان في المعنى، أما الإله فمعناه من يحق له العبادة، ولهذا تسمي العرب الأصنام آلهة لاعتقاد الاستحقاق فيها، وأما الله فإنه لم يطلق في جاهلية ولا إسلام إلا على الله تعالى فهو علم للقديم.
قال ابن مالك: هو علم دال على الإله الحق دلالة جامعة لمعاني الاسماء الحسنى كلها ما علم منها وما لم يعلم. ذكره في المعراج.
وأما قولهم: إنه كالنجم ونحوه، فقال (أبو حيان): قد رد عليه بأنه ليس كالنجم؛ لأنه بعد الحذف والنقل أو الإدغام لم يطلق على كل إله، ثم غلب على المعبود بحق.
قلت: أراد أنه بعد التصرف فيه بما ذكر مختص بالباري تعالى، ولم يستعمل في غيره حتى يقال إنه صار علماً بالغلبة.
واعلم أن النجري قد جمع بين أقوال أصحابنا وقول من يدعي العلمية بأنه يمكن أن يقال: إن أصحابنا إنما يمنعون كون الله موضوعاً على العلمية من أصل وضعه كزيد ونحوه من الألقاب التي لا يجوز عليه تعالى، وأما كونه صار علماً بالغلبة بعد أن كان في الأصل غير علم بل موضوعاً بإزاء صفة ذات، فهذا مما لا سبيل إلى منعه، قال: فعلى هذا يكون قولهم: الله من يحق له العبادة أي في الأصل قبل الإدغام والتفخيم، ثم بقي ذلك المعنى ملحوظاً إليه بعد الغلبة كما هو حكم الأعلام الغالبة.
قال: وبهذا صرح كثير من أهل العربية الخلاف إلى الوفاق.
قلت: وهذا مبني على أن المتصرف فيه والمستعمل له في الباري تعالى العرب، وأما على ما تقدم من أنه اسم له تعالى قبل ذلك فلا يتم هذا الجمع.
ولقائل أن يقول: إن أعظم ما دفع به أصحابنا علميته كون الأعلام لا تفيد المدح، وهذا غير مسلم لهم، فإن العرب وغيرهم يلاحظون عند التسمية بالألقاب معان يقصدونها إما على جهة التفاؤل بها كتسميتهم فاضل وصالح ونحوهما، وإما على جهة التبرك كتسميتهم بمحمد وغير ذلك، ويقصدون الرفع من شأن المسمى بذلك الاسم، ولا معنى للمدح إلا ذلك، وقد يسمون بالاسماء القبيحة لقصد الضعة من المسمى بها، فما المانع من أن يكون الاسم الشريف موضوعاً لربنا جل وعلى ملاحظاً فيه ما يقتضيه لفظة (الله) من اختصاصه بصفات الكمال التي يحق له لأجلها العبادة، لا سيما وهذه الصفات متحققة فيه عند وضع الاسم وقبله، ونحن قد بينا أنا نلاحظ في وضع أسمائنا معانياً ليست بمعلومة ولا مظنونة، بل مقدرة مرجوة.
واحتج القائلون باشتقاقه بما ذكره الزمخشري، وهو أن معنى الاشتقاق أن تنتظم الصيغتان فصاعداً معنى واحداً، وصيغة هذا الاسم وصيغة قولهم (إله) إذا تحير بتنظمهما معنى التحير والدهشة، وذلك أن الأوهام تتحير في معرفة المعبود وتدهش الفطن، ولذا كثر الضلال وفشا الباطل، وقل النظر الصحيح، ثم اختلفوا مما اشتق منه فقيل: من إله إذا تحير كما مر.
وقال (أبو القاسم البلخي) وغيره: من وله العباد إليه: أي فزعوا عند الشدائد، والهمزة مبدلة عن واو كوشاح وإشاح، ورد بأنه لو كان كذلك لجاز أن يقال: ولاه كما قيل: في إشاح وشاح.
قال (النجري): ومعلوم أنه لم يقل الولاه أصلاً، وأيضاً يلزم أن لا نسمي القديم تعالى إلهاً فيما لم يزل وإنما يسمى به بعد وله العباد إليه فقط، وهو ظاهر البطلان، وقيل: من لاه إذا احتجب أو ارتفع، وقيل غير ذلك.
قال بعض العلماء: ومجموع الأقاويل هو المعبود للخواص والعوام، المفزوع إليه في الأمور العظام، المرتفع عن الأوهام، المحتجب عن الأفهام، الظاهر بصفاته العظام، الذي سكنت إلى عبادته الأجسام، وولعت به نفوس الأنام، وطربت إليه قلوب الكرام.
واعلم أن القول بالاشتقاق لا ينافي الاسمية كما يدل عليه كلام الزمخشري رحمه الله فإنه نفى الوصفية، وأثبت الاسمية والاشتقاق كما ترى، وقال أبو السعود: واشتقاقه من الآلهة والألوهة والألوهية بمعنى العبادة حسبما نص عليه الجوهري على أنه اسم منها بمعنى المألوه كالكتاب بمعنى المكتوب لا على أنه صفة منها، بدليل أنه يوصف ولا يوصف به حيث يقال: إله واحد، ولا يقال: شيء إله، كما يقال: كتاب مرقوم ولا يقال: شيء كتاب، والفرق بينهما أن الموضوع له في الصفة هو الذات المبهمة باعتبار اتصافها بمعنى معين وقيامه بها، فمدلولها مركب من ذات مبهمة لم يلاحظ لها خصوصية أصلاً، ومن معنى معين قائم بها على أن ملاك الأمر تلك الخصوصية، فبأي ذات يقوم ذلك المعنى يصح إطلاق الصفة عليها كما في الأفعال، ولذلك تعمل عملها كاسمي الفعل والمفعول، والموضوع له في الاسم المذكور هو الذات المعينة والمعنى الخاص، فمدلوله مركب من ذينك المعنيين من غير رجحان للمعنى على الذات كما في الصفة، ولذلك لم يعمل عملها. ذكره في تفسيره.
وظاهركلام الرازي أن القائلين بأنه صفة قدماء الفلاسفة، وقال أبو حيان: ومن غريب ما قيل في الله أنه صفة وليس باسم ذات ولم يعين قائله، واحتجوا بأن اسم العلم قائم مقام الإشارة الحسية، وهي ممتنعة في حق الله فكذلك العلم، وأنه إنما يضاف إليه لتمييز شخص عن شخص يشبهه، ولا مشابهة في حق الباري تعالى، وإذا كان كذلك كان إثبات اسم العلم محالاً في حقه تعالى.
والجواب: أن الاسم هو الذي وضع لتعيين الذات من دون اعتبار كون المسمى مشاراً إليه أو مشابهاً لغيره، واحتجوا أيضاً بأن المعقول للحق سبحانه ليس إلا الصفات مثل كونه حياً قادراً عالماً موجوداً، ولا يعرف إلا بها، فأما معرفة حقيقة ذاته كمعرفة ما للسواد من كونه سواداً، وللجوهر من كونه جوهراً فذلك غير معلوم للبشر، فإذا جعلنا هذه اللفظة بإزاء معنى معقول للبشر لم يكن بد من أن نجعلها صفة؛ إذ لا يعقل منه تعالى إلا الصفات، ولأن اسم الذات لا فائدة له إلا معرفة المسمى، والله تعالى لا يدرك حساً ولا بديهة، ولا تعرف ذاته باسمه، وحينئذٍ يكون وضع الاسم له عبثاً لا فائدة فيه، فتعين أن يكون صفة كما قلنا.
والجواب: أنا لا نسلم أن خصوصية ذاته غير معلومة للبشر؛ لأنا إذا عقلنا أن الباري ذات لا متحيز ولا محتاج إلى المتحيز واجبة الوجود، وعلمناه بصفاته من كونه قادراً عالماً حياً فقد علمنا تلك الذات على الحد الذي علمنا به ماهية السواد والجوهر، ولا فرق بينهما إلا من حيث أن ذاته تعالى لا يتعلق بها إدراك العالم بها، فلفظ الله في دلالته على خصوصية ذات الباري تعالى كلفظ السواد في دلالته على خصوصية ذات السواد، لا فرق بينهما إلا ما ذكرناه من عدم الإدراك في ذاته تعالى وصحته في ذات السواد.
وأما قولهم: لا فائدة لاسم الذات إلا معرفة المسمى، وتعليلهم ذلك بعدم إدراكه حساً ولا بديهة، فلا يصح إلا لو كان وضع الاسماء لإدراك المسمى حساً أو بديهة، ونحن لا نسلم ذلك، ولا نعلم قائلاً به، وإنما وضعت لتمييز المسمى سواء كان مدركاً حساً أم لا، معلوم ضرورة أم لا، ولو كان ذلك كذلك لما صح وضع الاسماء على المسميات الغائبة التي لاتعلم بالبديهة، والمعلوم خلافه.
والحاصل أنا إذا قد علمنا ذات الباري تعالى على الوجه الذي يصح، فما المانع من إجراء ما يجوز في حقه من الاسماء عليه، كما أنه يجوز منا إجراء الاسماء على ما غاب عنا من الذوات وإن لم ندركها حساً ولا بديهة، كيف وعلمنا بالباري تعالى ضروري لأنه وإن كان في الأصل نظرياً فهو يؤول إلى الضرورة؛ إذ هو المعلوم بدلائله، المعروف بصفاته، فلا عقل من لم يره ينكره لوضوح الآيات الدالة عليه وكثرتها كما قال تعالى: {سَنُرِيهِمْ آيَاتِنَا فِي الآفَاقِ وَفِي أَنْفُسِهِمْ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُ الْحَقُّ}[فصلت:53].
تنبيه [في اسم الله هل هو للذات أم للمفهوم]
اختلف القائلون بإسمية هذا الاسم الشريف، هل هو اسم للذات أم للمفهوم وهو المعبود بحق.
فالذي عليه الجمهور: أنه اسم للذات المخصوصة على اختلافهم في كونه علماً أم لا، ووجهه أن الذات المخصوصة هي المشهورة بصفات الكمال فما يكون اسماً لها دالاً عليها بخصوصها يدل على هذه الصفات لا ما يكون موضوعاً لمفهوم كلي، وإن اختص في الاستعمال بها فإنه لا يدل على صفات الكمال كالرحمن، فلما وجدنا لفظ الجلالة دالاً على صفات الكمال علمنا أنه اسم للذات لا للمفهوم، وسواءً جعلناه علماً أم لا.
وقيل: بل هو اسم للمفهوم الكلي ثم انحصر في الفرد المعين. ذكره الجلال، ولعله نظر إلى الأصل.
قال القاضي (علي بن صلاح الطبري): أصله (الإله) وهو اسم جنس لكل معبود ثم غلب في المعبود بحق، وعليه فمفهوم الجلالة بالنظر إلى الأصل كلي، وبالنظر إليه جزئي، ومن ثم كان من الأعلام الخاصة إذ لم يطلق على غيره تعالى.
وقال (سعد الدين): هو علم للذات المعينة ومثله كلام الشريف.
واختلف في(الإله) قبل حذف الهمزة، فقال السعد: هو في الأصل لكل معبود ثم صار بالغلبة اسماً لمفهوم كلي وهو المعبود بحق، لكن لا إلى حد العلمية، وقال الشريف: بل صار بالغلبة اسماً للذات المعينة، وإنما زاده التغيير بحذف الهمزة تأكيداً فهو قبل الحذف وبعده علم لذات الباري تعالى، إلا أنه قبل الحذف قد أطلق على غيره إطلاق النجم على الثريا فتكون الغلبة تحقيقية، وبعده لم يطلق على غيره أصلاً فتكون الغلبة تقديرية بمعنى أن مقتضى القياس صحة إطلاق لفظ (الله) على المعبود بحق مطلقاً كالإله، إلا أنه لايطلق إلا على الواحد الواجب تعالى.
المسألة السادسة: في بعض خواص الاسم الشريف
ذهب بعضهم إلى أنه الاسم الأعظم؛ لأنه دال على الذات الجامعة لصفات الإلهية كلها كما مر، بخلاف سائر الاسماء فإن كلاً منها لا يدل إلا على بعض المعاني من علم، أو فعل، أو قدرة، أو غيرها ولأنه أخص الاسماء إذ لا يطلق على غيره لا حقيقة ولا مجازاً، بخلاف غيره فإنه قد يسمى به غيره كالقدير والعليم وغيرهما، واستقر به الرازي، ونسبه العزيزي إلى المحققين.
وعن ابن عباس قال: اسم الله الأعظم هو(الله)، وعن علي بن موسى الرضا عليه السلام أنه سئل عن اسم الله الأعظم، فقال: هو أن تقول: الله يا الله بصدق اللجأ، فقيل: وما صدق اللجأ؟ فقال: هو أن تمثل نفسك غريقاً في لجج البحار فلا يسمعك سواه، ولا ينظر إليك غيره، ولا ينجيك إلا هو فحينئذ تقول: يا الله. رواه في الوسائل العظمى.
وعن جابر بن زيد قال: اسم الله الأعظم هو الله، ألا ترى أنه في جميع القرآن يبدأ به قبل كل إسم.
وعن الشعبي قال: اسم الله الأعظم يا الله.
وفي حديث أسماء قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم : ((هل في البيت إلا أنتم يا بني عبد المطلب؟ قلنا: لا رسول الله، قال: إذا نزل بأحدكم هم أو غم أو سقم أوأزل أو لأواء-وذكر السادسةفنسيتها - فليقل: الله الله ربي لا أشرك به شيئاً)). رواه المرشد بالله عليه السلام ، وأخرجه الطبراني في الأوسط من حديث عائشة ولفظه: ((إذا أصاب أحدكم هم أو لأواء فليقل: الله الله ربي لا أشرك به شيئاً)) قال شيخ العزيزي: حديث صحيح، وفي رواية: ((لا شريك له)) ذكرها المناوي، وكأنه أراد مكان قوله لا أشرك به شيئاً.
الأزل: بهمزة مفتوحة وزاي ساكنة- الضيق، وقوله: لأواء بفتح اللام وسكون الهمزة والمد، قال العلقمي: اللأواء: الشدة وضيق المعيشة.
المسألة السابعة:
قوله: بسم الله يدل على وجود الباري إذ التبرك والاستعانة باسمه تعالى إنما هو لشرف ذلك الاسم، وليس شرفه إلا لشرف المسمى، ولا شرف للمعدوم، ولا خلاف بين أهل الإسلام وكثير من الفرق الكفرية وهم المُقِرُّوْنَ بالصانع كاليهود، والنصارى، والبراهمة، وبعض عباد الأصنام في أنه تعالى موجود، وتحقيق هذه المسألة يستدعي ذكر أبحاث:
البحث الأول: في حقيقة الموجود
وقد اختلف في ذلك، فقال أبو عبدالله البصري، والبغداديون: هو الكائن الثابت، واختاره الموفق بالله عليه السلام .
قلت: وتقييد الكائن بالثابت؛ لئلا يوهم الحدوث في حق الله تعالى لأن (كان) وما تصرف منها يفيد الحدوث والحصول والوجود، لكنه يقال: إذا احتملت معان يصح بعضها في حق الباري تعالى، ويمتنع بعضها بدلائل قطعية فلا مانع من الإطلاق؛ إذ لا يبقى للوهم مذهب إلى المعنى الممتنع مع قيام الدليل القطعي، وقد أطلقها الله تعالى بصيغة الفعل في مواضع: {وَكَانَ اللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ مُقْتَدِراً }[الكهف:45 ]وغير ذلك، فكذلك فيما تصرف من لفظ (كان) إذ لا فرق بالنظر إلى المعنى، اللهم إلا أن يقال بالفرق لأجل الصيغة والمعتبر الإذن، ويؤيده أنا لم نقف في كلام أمير المؤمنين عليه السلام إلا على تقييده بما يرفع الوهم كقوله: الحمد لله الكائن قبل أن يكون كرسي... إلخ، وقوله: (كائن لاعن حدث). رواه في النهج.
وقد روي عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم أنه قال في بعض أدعيته: ((يا كائناً قبل كل كون ، وحاضراً مع كل كون، ويا باقياً بعد انقضاء كل كون)). رواه الرازي في تفسيره، ثم قال: أو لفظٌ يقرب معناه مما ذكرنا، وقد اعترض على هذا الحد بأن لفظ موجود أصرح منه ومن حق الحد أن يكون أظهر من المحدود، وبأن الكائن والثابت كالمترادفين فذكرهما معاً تكرار وهو معيب في الحدود، وبأن الكائن إنما يستعمل في الجوهر الذي حصل في حيز فكيف يصح تحديد الموجود به، والفرض أنه متناول للباري تعالى إما بخصوصه، وإما بعمومه، وفيه نظر فقد تقدم وصف الباري به عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم ، وعن وصيه عليه السلام ، وقيل: الموجود ما يصح تعلقه بغيره. ذكره الموفق بالله عليه السلام ، قال: والجوهر يصح تعلقه على وجه، وهو أن يصادف فناً فينافيه، وقيل: هو ماله صفة مقتضاة عن صفة الذات، وهو مبني على أن الوجود صفة زائدة على الذات.
وقال قاضي القضاة: هو المختص بصفة تظهر عندها الصفات والأحكام، ويعني بالصفة كونه موجوداً إذ ظهور الصفات والأحكام مترتبة على الوجود.
وقال السيد (مانكديم): الأولى أن لا نحد الموجود لأن كل ما نذكره في حده، فقولنا: موجود أكشف منه وأوضح، فلو سألنا عن حقيقته فالواجب أن نشير إلى هذه الموجودات.
البحث الثاني: في الخلاف في معنى الوجود
فالذي عليه جمهور أئمة العترة" وأبو الحسين البصري، وأبو القاسم البلخي، وابن الإخشيذ، والملاحمية، وسائر شيوخ البغدادية والرازي على ما رواه عنه في الأساس: أنه غير زائد على ذات الموجود، وحكاه الإمام المهدي عليه السلام عن أكثر المجبرة، وظاهر حكاية السيد حميدان عن أئمة العترة" وحكاية الإمام المهدي عليه السلام عن أبي الحسين وابن الملاحمي والمجبرة: أنه لافرق بين وجود الباري ووجود غيره، وأن الوجود غير زائد على الذات شاهداً وغائباً، بل وجود كل موجود نفس ماهيته.
قال الإمام المهدي عليه السلام : فلفظ الوجود عند هؤلاء ليس بمشترك اشتراكا معنوياً، بل لفظياً فقط كاشتراك لفظ العلم بين مسميات. ذكره الرازي، ولأهل هذا القول حجج بعضها يخص الباري تعالى، وبعضها يعم كل موجود:
الحجة الأولى: أن الزيادة والمزيد لا يجوزان على الله تعالى لأن الزيادة والنقصان من أدلة الحدوث، وذلك لا يجوز على القديم تعالى.
الحجة الثانية: أن القول بالزيادة مبني على ثبوت ذوات العالم في الأزل فيلزم قدمها، وهو معلوم البطلان، فما أدى إليه يكون باطلاً.
الحجة الثالثة: أن الوجود لوكان صفة لكان ثبوته للماهية متوقفاً على ثبوت الماهية في الخارج فإن حصول شيء لشيءٍ فرع على حصول ذلك الشيء في نفسه؛ لأن ما لا ثبوت له في الخارج لا يثبت له شيء، فيلزم أن يكون حصول الوجود للماهية موقوفاً على وجود الماهية، فيكون الشيء سابقاً على نفسه.
فإن قيل: إن ثبوت الشيء للشيء لا يستلزم وجوده، وإنما يستلزم ثبوته وتعقل ماهيته، وذلك كاف في قابليته لثبوت الشيء.
قيل: هذا مبني على أصل فاسد، وهو ثبوت الذوات في الأزل، والفرق بين الثبوت والوجود، ونحن لا نسلمه، ثم إنه يلزمكم قدم العالم لأنكم قد شاركتم بين ذات الباري وذوات العالم في الأزل.
الحجة الرابعة: أنه لو كان زائداً لكان إما موجوداً، أو معدوماً، الأول يوجب التسلسل وحدوث الباري تعالى لحدوث صفته الوجودية، والثاني يقتضي أن يكون وجود الموجودات معدوماً لعدم صفة الوجود، والمتصف بالمعدوم معدوم فيلزم عدم كل موجود.
فإن قيل: الوجود صفة والصفة لا توصف، وإنما ثبوتها لموصوفها نفس ماهيتها.
قيل: لا نسلم بل توصف فإن قولنا في صفات الباري أنها ذاته، وفي صفات العالم أنها محدثة، وقولكم أن الوجود صفة زائدة على الذات وصف لها، وإنما لذتم بهذا فراراً لما قيل لكم: الوجود إما أن يكون موجوداً أو معدوماً، وعلمتم أنه لا محيص لكم على أصلكم من لزوم حدوث الباري تعالى أوعدم الموجودات، وسيأتي لهذا مزيد تحقيق من الجانبين إن شاء الله.
الحجة الخامسة: قالوا لو كان زائداً على الذات لصح أن تعقل الذات محصلة في الأعيان مع الذهول عن كونها موجودة والعكس، فلما لم يصح ذلك علمنا أن وجود الشيء هو نفس ذلك الشيء، ذكر هذه الحجة الإمام المهدي عليه السلام وأجاب عنها بأن قولكم يلزم أن يصح تعقل الماهية محصلة في الأعيان مع الذهول عن كونها موجودة، مناقضة لأنه لا معنى لكونها محصلة في الأعيان إلا وجودها، فكيف يستقيم أن نعقلها موجودة غير موجودة، وأما صحة تعقلها غير موجودة فملتزم، وأما تعقل الوجود من دون الماهية، فمحال لأنه كيفية لها فلا يستقل بالمعلومية.
ولقائل أن يقول: لا مناقضة لأن الوجود على مقتضى مذهبكم غير الموجود، ولا شك في صحة تعقل أحد الغيرين مع الذهول عن الآخر، فالمناقضة إنما هي في كلامه عليه السلام حيث جعل الوجود صفة زائدة ثم جعله نفس الموجود، فتأمل عبارته عليه السلام يتضح لك ما قلنا، وأما التزامه تعقلها غير موجودة، فمبني على إثبات الذوات في العدم وخصمه لا يسلمه.
وأما قوله: أن تعقل الوجود من دون الماهية محال لأنه كيفية لها، فمنقوض بصحة تعقل الذات من دون كيفيتها كسوادها وطولها وقصرها على التعيين، ألا ترى أنا نتعقل بعض من مضى من السلف ولا نعقل الكيفية التي كان عليها من الشكل واللون، فإذا صح ذلك ثبت أن الوجود لو كان زائداً علىالذات لصح تعقل الذات من دونه والعكس، فلما لم يصح ذلك تعين أنه نفس الموجود.
وقال جمهور المعتزلة-منهم أبو علي وأبو هاشم وأصحابه وقاضي القضاة وأصحابه -والإمام المهدي عليه السلام : إن الوجود زائد على ذات الموجود شاهداً وغائباً، وعليه المتأخرون من أصحابنا إلا الإمام يحيى عليه السلام ، وهو قول مثبتي الذوات في العدم من المجبرة.
قال الإمام المهدي عليه السلام : فلفظ الوجود مشترك عند هؤلاء بين ممكن الوجود وواجب الوجود اشتراكاً معنويا. ذكره الرازي.
[مناقشة الأدلة الدالة على أن الوجود زائد الذات]
قال عليه السلام : والأولى أنه من الألفاظ المشككة لاختلافه في الجواز والوجوب فهو كأحمر للقاني وغيره، ولهم على ذلك حجج بعضها يختص الباري تعالى، وبعضها يختص العالم، وبعضها يعم.
الحجة الأولى: على أن وجود الباري تعالى أمر زائد على ذاته أن له تعلقاً بمقدوره ومعلومه، كما أن للإرادة تعلقاً بالمراد، فإذا كشف لنا تعلق الإرادة عن اتصافها بصفة زائدة على ماهيتها تلك الصفة هي الوجود لزم مثله في الباري تعالى، بيان ذلك أن عدمها يحيل تعلقها، ومعنى عدمها أنه لم يثبت لها صفة الوجود، ومثل ذلك يلزم في تعلق القديم بالمقدور، والمعلوم أعني أن فرض عدمه يحيل تعلقه، فإذا كان معنى عدمه زوال صفة الوجود عنه كان معنى وجوده ثبوت تلك الصفة له، فحصل المقصود وهو أن وجوده تعالى أمر زائد على ذاته، ولو كان معنى عدمه غير معنى عدم الإرادة لم يصح القياس لاختلاف العلة في الأصل والفرع، لكن اختلاف العدم لا يعقل.
وأجيب: بأن معنى عدم الإرادة الذي يحيل تعلقها هو انتفاء ماهيتها، فزوال التعلق لانتفاء الماهية لا لأمر زائد وهو انتفاء صفة الوجود بزعمكم، وبالجملة أن هذه الحجة لا تصح إلا لوكان ا لخصم يسلم حكم الأصل، أو قام الدليل عليه، وكل هذا منتف.
الحجة الثانية: أنه لو كان وجوده تعالى نفس ماهيته ووجود المحدثات زائد على ماهيتها، ومعنى العدم في الشاهد هو انتفاء صفة الوجود لصدق علىالباري تعالى أن يقال: هو معدوم أي ذات لم يثبت لها صفة الوجود، والإجماع يمنع من ذلك، وهذا الدليل سمعي والاستدلال به على أن وجوده زائد على ذاته جائز.
والجواب: أنا لانسلم أن وجود المحدثات زائد على ماهيتها، سلمنا فوجوده تعالى مخالف لوجودها؛ إذ هو موجود لا عن عدم ولا مشاركة بين الله تعالى وبين غيره في الذاتية؛ إذ لاجنس له تعالى، ولو فرضنا صحة ما يذهب إليه الخصم من المشاركة في الذاتية فإطلاق المعدوم على الله تعالى محال؛ لأن العدم الانتفاء، والانتفاء محال في حق الله عز وجل.
الحجة الثالثة: أن وجوده تعالى لو كان نفس ماهيته لم يصح أن يكون العدم نقيض الوجود، فلا يكون قولنا: الشيء لا يخلو إما أن يكون موجوداً أو معدوماً قسمة حاصرة، والمعلوم خلافه، فثبت أن الوجود زائد.
والجواب: أنه لا يلزم ذلك إلا لو كان العدم نقيضاً لوصف ثابت زائد عليها، وليس كذلك وإنما هو نقيض الثبوت، والثبوت أمر اعتباري وليس بزائد على الماهية كما أن عدمها كذلك، فلا تبطل القسمة الحاصرة؛ لأن معنى قولنا: إما أن يكون موجوداً أو معدوماً: إما أيكون ثابتاً أو منفياً، وهذان الطرفان ليس أمراً زائداً على الماهية، وإنما هما اعتباريان، والأمور الاعتبارية غير ثابتة في الخارج حتى يقال: إن القسمة غير حاصرة.
وبعد فإن هذه الحجة مبنية على كون الوجود زائداً في المحدثات وهو غير مسلم.
الحجة الرابعة: أنه إذا ثبت أن وجود الممكنات زائد على ماهيتها، ونحن لانعقل من وجود الباري تعالى إلا كما نعقل من وجودها، كما لا نعقل من الحيية في الغائب إلا كما نعقل من الحيية في الشاهد، وهو كون له مزية لأجلها يصح أن يقدر ويعلم، فإذا كانت الحيية متماثلة فكذلك الوجود، ولا يمنع اختلاف الصفتين في الوجوب والجواز من تماثلهما، فإذا كان الوجود في الذوات متماثلاً لزم أن يكون وجوده زائداً على ذاته كوجود الممكنات.
قلت: حاصل هذه الحجة أن الوجود متماثل وإن اختلفت الذوات، فما ثبت لوجود بعضها ثبت للآخر كما هو شأن المتماثلين.
والجواب: أنا لانسلم أن وجود الممكنات أمراً زائداً على وجودها، وسيأتي إبطال ما تمسكوا به، سلمنا فلا نسلم المماثلة إذ وجوده تعالى ليس زمانياً، بل هو كما قال علي عليه السلام في ذكر صفاته تعالى: (الأول الذي لم يكن له قبل فيكون شيء قبله، والآخر الذي ليس له بعد فيكون شيء بعده). رواه في النهج.
وقال ابن أبي الحديد رحمه الله: وإنما لم يكن وجوده تعالى زمانياً لأنه لا يقبل الحركة، والزمان من لواحق الحركة، ومما يدل على عدم المماثلة أنه تعالى موجود لا في مكان ولا بمشاهدة، وأنه قديم لا موجود بعد عدم كما قال علي عليه السلام : (الحمد لله الكائن لا عن حدث، الموجود لا عن عدم)، وقال علي عليه السلام : (ليس لذاته تكييف، ولا لصفاته تجنيس). ذكره في الدرة اليتيمة، وهو نص في نفي المماثلة في الذات والصفات.
ثم إن إثبات المماثلة مذهب حادث لم يرد به دليل؛ إذ لا يخلو إما أن يثبتوه بالسمع فأين هو، أو بالعقل فإما أن يكون عن التفكر في ذات الله، أو عن التفكر في غيرها، أو في التفكر لا في ذاته ولا في غيرها، إن كان الأول فهو محرم إذ من تفكر في الذات ألحد، وإن كان الثاني فلا يفيد؛ إذ التفكر في غيره لا يدل على كيفية استحقاقه لصفاته، وإن كان الثالث فهو تفكر لا في شيء.
الحجة الخامسة: اتفاق الناس على القول بأن ذات الباري تعالى واجبة الوجود، ولو كان الوجود هو الذات لكان بمنزلة قولهم: أن ذات الباري واجبة الذات.
والجواب: أنه قد ثبت أنه يصح إطلاق موجود علىالله تعالى، وثبت أن وجوده تعالى مخالف لوجود غيره، ومن جملة ما وقعت فيه المخالفة الوجوب والجواز في الوجود، فإذا أردنا التعبير عن هذا قلنا: إن ذاته تعالى واجبة الوجود من غير نظر إلى كون الوجود هو الذات، وإن كان هو هي في المعنى، والتوصل بالعبارات إلى المعاني المقصودة لا مشاححة فيها، وأيضاً فإن أهل العربية يمنعون إضافة الشيء إلى نفسه وعطف الشيء على نفسه، فإذا وقعت المغايرة اللفظية جوزوا ذلك، فكذلك هنا فإنه يجوز مع اختلاف اللفظين التعبير بقولنا: أن ذات الباري واجبة الوجود، ولا يحسن أن نجعل الذات موضع الوجود لما فيه من التكرير المستهجن. والله اعلم.
الحجة السادسة: وهي أول الحجج العامة والخاصة بالمحدثات، وتحريرها أنه يمكننا أن نعقل ماهية الجسم والعرض حال مانشك في وجوده، والمعلوم غير المشكوك فيه، فوجوده زائد على ماهيته.
الجواب: إن أرتم بقولكم أنا نعقل ماهية الجسم... إلخ أنا نعلمها أي نتصورها، فلا نسلم مكان تصورها مع الشك في وجودها؛ إذ التصور أحد قسمي العلم، ومعناه أنه يحصل في ذهن الإنسان صورة مطابقة لما في الخارج.
قال (القرشي): ومنه قولهم: تصورت هذا الشيء أي علمت صورته، ثم إن التصور إما ضروري كالعلم بزيد، وإما نظري كالعلم بما هية العالم ونحوه مما لا يعلم إلا بالحد، إن كان الأول فتصور زيد أي العلم به مع الشك في وجوده محال، وأما الثاني فطرقه ثلاث: وهي الحد إن كان المطلوب العلم بالماهية مفصلاً، والرسم إن كان المطلوب مجرد تمييزها عن غيرها، والشرح وهو الحد اللفظي إن كان المطلوب العلم بها مجملاً، وكل هذه الطرق يمتنمع العلم بما أوصلت إليه مع الشك في وجوده، وإن أردتم بالتعقل معنى غير التصور كالتوهم والتخيل، فلا نسلم انفكاكها عن الصفة الوجودية بمعنى أنا لانتصورها إلا بصورة الموجود؛ إذ يستحيل تعقل الذات خالية عن صفتها الوجودية كما يستحيل تعقل الصفة خالية عن الموصوف، وإن أردتم أنه يمكن كون تلك الصورة موجودة في الخارج وكونها معدومة، فهو راجع إلى انتفاء الماهية وثبوتها لا إلى انتفاء صفة زائدة أو ثبوتها، فيبطل مطلوبكم ويصح قولنا، مع أنه لو كان تعقل الماهية يدل على أن الوجود أمر زائد للزم في العدم أن يكون مثله؛ لأنا نتعقل الماهية ونشك في عدمها.
الحجة السابعة: أن الموجودات اشتركت في الوجود واختلفت في الماهيات، فمنها جسم، ومنها عرض، ومنها أسود، ومنها أبيض وغير ذلك، فلا بد أن يكون ما اشتركت فيه غير ما اختلفت فيه، فيلزم أن يكون وجودها مغايراً لماهيتها.
وأجيب: بأنه يلزمكم على هذا أن يكون كون الذات ذاتاً أمراً زائداً على ماهيتها والمعلوم خلافه، وبيان اللزوم أن الذوات اشتركت في كونها ذواتاً ثم افترقت في الماهيات، فلا بد فيما اشتركت فيه وهو كونها ذواتاً أن تكون زائداً على ما اختلفت فيه وهو الماهيات، وإلا كانت مشتركة مختلفة من وجه واحد، فلما كان اشتراكها في الذاتية لا يقتضي أن يكون كون الذات ذاتاً أمراً زائداً، كذلك الاشتراك في الوجود لا يقتضي كونه أمراً زائداً إذ لا فارق.
الحجة الثامنة: أن الموجودات منقسمة إلى واجب الوجود، وإلى جائز الوجود، فمورد القسمة لا بد أن يكون مشتركاً بين المنقسمات، فيكون المشترك أمراً زائداً على المنقسم، فيلزم أن يكون الوجود الذي هو مورد القسمة أمراً زائداً على المنقسمات.
وأجيب: بأنه معارض بالذات فإنها تنقسم إلى جوهر وعرض، فمورد القسمة هي الذات، فيلزم أن يكون أمراً زائداً على الجوهر والعرض، والمعلوم خلافه.
الحجة التاسعة: أن السواد يضاد البياض وإنما يتنافيان بشرط الحلول في محل واحد والحلول كيفية في الوجود، فلا بد أن يكون الوجود زائداً على الماهية، وإلا كان تضادهما لمجرد ماهيتهما فلا يصح وجودهما في محلين، والمعلوم خلافه.
وأجيب: بأنا لا نسلم أن الحلول كيفية في أمر زائد على الماهية، فما المانع من أن تكون هذه الكيفية التي هي الحلول مزيداً للماهية غير الوجود، والوجود نفس الماهية، ويكون التضاد مشروطاً بحصول تلك الكيفية التي هي الحلول في محل واحد.
الحجة العاشرة: أنا ندرك بالبديهة الفرق بين قولنا: الجوهر جوهر، وبين قولنا: الجوهر موجود، فلو كان قولنا: إنه موجود بمنزلة قولنا: إنه جوهر لنزل أحد القولين منزلة الآخر، والمعلوم خلافه.
والجواب: أنه قد تقدم لهم نظير هذا فيما يختص بالباري، وتقدم الجواب عنه، وأنه توصل إلى المعنى بالعبارة، ثم إنه يلزمهم مثله في قولنا: الجوهر معدوم؛ إذ لا فرق، فلما لم يدل هنا على أن العدم أمر زائد كذلك فيما نحن فيه.
الحجة الحادية عشرة: أنه قد ثبت وجوب ثبوت ذوات العالم في الأزل ليصح تعلق العلم والقدرة بها، فلزم أن يكون تأثير الباري تعالى في أمر زائد على ماهياتها وهو الوجود.
والجواب: أن هذه الحجة مبنية على أصل فاسد وهو ثبوت ذوات العالم في الأزل، وسيأتي الكلام عليه إن شاء الله، وإذا بطل الأصل بطل ما ترتب عليه.
وللفلاسفة تفصيل وهو: أن وجود الممكنات أمر زائد، ووجود واجب الوجود نفس ماهيته لاستحالة تكثره، وفي حكاية للإمام المهدي عليه السلام لكلام الرازي ما يدل على أنه متوقف لأنه حكى عنه أنه في النهاية تارة يوافق أهل القول الأول، وتارة يوافق أهل القول الثاني، وتارة يقوي القول الأول، وتارة الثاني، وتارة الثالث، فلم يستقر له مذهب.
قال عليه السلام : والأقرب أنه متوقف كتوقفه في إثبات الذوات في العدم فإنه قال: إنها من مجازات العقول.
فهذه جملة أقوال الناس في المسألة وأدلتهم، ولقائل أن يقول: إن جميع ما أوردوه من التكلف والتعمق فيما لم يكلفوا البحث عن كنهه، وكان يكفيهم الإقرار بجملة ماجهلوا تفسيره في حق الشاهد والغائب كما هو شأن الراسخين في العلم، سيما في حق الباري تعالى إذ لا هداية للعقول إلى معرفة كنه صفاته تعالى، كما لا هداية لها إلى معرفة كنه ذاته سبحانه وتعالى.
قال أمير المؤمنين عليه السلام : لا تقع الأوهام له على صفة، ولا تعقد القلوب منه على كيفية.
وقال عليه السلام : (هو القادر الذي إذا ارتمت الأوهام لتدرك منقطع قدرته، وحاول الفكر المبرأ خطرات الوساوس أن يقع عليه في عميقات غيوب ملكوته، وتولهت القلوب إليه لتجري في كيفية صفاته، وغمضت مداخل العقول في حيث لاتبلغه الصفات لتناول علم ذاته ردعها فهي تجوب مهاوي سدف الغيوب متخلصة إليه سبحانه فرجعت إذ جبهت معترفة بأنه لاينال بجور الاعتساف كنه معرفته، ولا تخطر ببال أولي الرويات خاطرة من تقدير جلال عزته).
ارتمت: أي ترامت، شبه جولان الأوهام وتعارضها بالترامي بالنبل ونحوه، وتولهت القلوب: اشتد عشقها حتى أصابها الوله وهو التحير، ولتجري أي لتصادف مسلكاً في ذلك، وغمضت مداخل العقول: أي غمض دخولها ودق في النظر الذي لا تبلغ الصفات كنهه لدقته وغموضه، وردعها: كفها، وتجوب: تقطع، والمهاوي: المالك، والسدف: جمع سدفة وهي القطعة من الليل المظلم، وجبهت: ردت، والجور: العدول عن الطريق، والاعتساف: قطع المسافة على غير جادة معلومة.
وقال عليه السلام : (ردع خطرات هماهم النفوس عن عرفان كنه صفته). هماهم النفوس: أفكارها، روي جميع ذلك عنه عليه السلام في النهج وفيه غير ما ذكرنا مما يدل على أن العقول عاجزة عن إدراك كنه الذات والصفات. والله أعلم .
البحث الثالث: في الدليل على أن الله تعالى موجود
اعلم أن من لم يجعل الوجود صفة زائدة على الوجود لا يحتاج إلى الاستدلال على هذه المسألة، بل يكفيه دليل إثبات الصانع، وهو الذي يدل عليه ما في النهج عن علي عليه السلام وهو قوله عليه السلام :(الحمد لله الدال على وجوده بخلقه، وبمحدث خلقه على أزليته) ، فإنه لم يزد في الاستدلال على الوجود على دليل إثبات الصانع، وهو الاستدلال بالصنع كما ترى.
وقال الفقيه العلامة عبدالله بن زيد العنسي رحمه الله: اعلم أنا إذا دللنا على إثبات صانع مختارٍ كفانا ذلك الدليل في أن الله تعالى موجود قديم قادر عليم حي، بحيث لا دليل لنا على هذه الأوصاف التي هي أوصاف الكمال سوى حدوث العالم وحاجته إلى محدث فاعل مختار؛ لأنه لا يصح أن يكون فاعلاً مختاراً إلا وهو قادر على ما خلق وعالم بذلك لما في حدوث العالم من الأحكام، وحيٌ بحيث لا يعقل أن يكون مواتاً، وهو قادر عالم فاعل مختار، وموجود لأن المعدوم لا يكون فاعلاً مختاراً، ويعلم ذلك ضرورة.
هذا وأما القائلون بأن الوجود زائد على الذات شاهداً وغائباً فاحتاجوا إلى الاستدلال؛ لأن ما دل على ثبوت الذات لا يدل على ثبوت جميع صفاتها، وإلا لزم حصول العلم بالصفات عند حصول العلم بالذات، إلا أنهم لم يستدلوا على وجود الموجودات المشاهدة.
قال السيد (مانكديم): لأنا نشاهدها ونعلم وجودها بالاضطرار، وليس كذلك القديم تعالى.
إذا عرفت هذا فلهم على أن الله تعالى موجود أدلة مبنية على قواعد غير مسلمة لهم كما ستعرف الكلام على تلك القواعد في مواضعها إن شاء الله.
الدليل الأول: دليل التعلق، وتحريره: أنه قد ثبت أن الله تعالى قادر عالم، والقادر العالم له تعلق بمقدوره ومعلومه، والعدم يحيل التعلق فيثبت بذلك وجوده تعالى، فهذه أربعة أصول أما كونه قادراً عالماً فواضح، وأما أن القادر العالم له تعلق بمقدوره ومعلومه فلأن معنى ذلك أن القادر يصح منه إيجاد الفعل، والعالم يصح منه إيجاده محكماً مع عدم المانع فيهما، وذلك ثابت لكل قادر وعالم، وأما أن العدم يحيل التعلق فلأنا وجدنا معاني متعلقة كالإرادة وغيرها ووجدناها متى وجدت تعلقت، ومتى عدمت زال تعلقها، وإنما زال تعلقها لعدمها، فكل ما شاركها في العدم وجب أن يشاركها في زوال التعلق، ومعنى تعلق الإرادة بالمراد صحة إيقاعه لأجلها على وجه دون وجه، فإن قيل: ما الدليل على أنها إذا عدمت زال تعلقها؟ قيل: لأنه لو لم يزل لكان تعلقها إما بنفس ما كانت متعلقة به، وهو باطل لأنه ما من مراد إلا ويصح مضيه وانقضاؤه، والإرادة لا يصح تعلقها بالماضي، وإما أن يكون تعلقها بغير ما كانت متعلقة به، وذلك لا يجوز لما في ذلك من انقلاب ذاتها واتصافها بصفة مخالفها الذاتية.
قال الإمام عز الدين عليه السلام : وتحقيق هذا الوجه أن الإرادات تختلف بتعدد المتعلق واختلافه، فالإرادة هذه إذا تعلقت بالمتعلق ثم عدمت وتعلقت بمتعلق آخر قد تعلقت به إرادة أخرى، فتلك الإرداة قد خالفتها لتعلقها بذلك المتعلق فصارت صفتها الذاتية والمقتضاة مخالفتين لصفتها الذاتية والمقتضاة، فإذا تعلقت بهذا المتعلق الآخر لزم أن تكون بصفة مخالفها لأنها لا تتعلق به إلا إذا ثبت لها صفة مقتضاة توجب تعلقها به تماثل صفة مخالفتها التي أوجبت لها التعلق به، وإذا ثبت لها تلك الصفة كشفت لها عن مثل صفة مخالفتها الذاتية، فحينئذٍ تصير بصفة مخالفتها، ويلزم أن تكون مماثلة لها ومخالفة وهو محال. ذكره في المعراج، وإذا اتصفت بصفة مخالفتها فقد خرجت عما هي عليه في ذاتها. والله أعلم.
فتعين ما قلنا وهو أنها إذا عدمت زال تعلقها، ويدل على ذلك أيضاً أن أحدنا يخرج عن كونه مريداً وعالماً حال النوم، فلو لم يزل تعلق الإرادة والعلم وإيجابهما عند العدم لما خرج بأن توجب له الإرادة والعلم المعدومان، والمعلوم خروجه فإن قيل: وما الذي يدل على أن علة زوال تعلقها عدمها؟ قيل: هو أنا وجدنا زوال التعلق دائراً على العدم نفياً وإثباتاً، وليس ثم ما هو بالتأثير في زوال التعلق أولى من العدم فيجب أن يكون هو العلة، وإذا تقرر أن الله تعالى قادر عال،م وأن القادر العالم له تعلق بمقدوره ومعلومه، وأن العدم يحيل التعلق ثبت أن الله سبحانه وتعالى موجود لأنه لو كان معدوماً لم يكن له تعلق بمقدوره ومعلومه كالإرادة المعدومة؛ إذ كل ما يشاركها في العدم يجب أن يشاركها في زوال التعلق لأن الاشتراك في العلة يوجب الاشتراك في الحكم، فلو كان القديم تعالى معدوماً لكان قد شارك الإرادة المعدومة في العلة وهي العدم، فيجب أن يشاركها في الحكم وهو زوال التعلق، وقد علمنا أنه تعالى له تعلق بمقدوره ومعلومه، فيجب أن لا يكون معدوماً، وهذا الدليل مبني على كون الإرادة معنى، وسيأتي الخلاف فيه، وهو أقوى ما استدلوا به في المسألة، وقد أورد عليه سؤالات:
[سؤالات تتعلق بالإرادة والوجود]
السؤال الأول: هلاَّ كانت العلة في زوال تعلق الإرادة خروجها عن أن توجب صفة للمريد؟ وأجيب بأن خروجها عن الإيجاب المذكور إنما هو للعدم فقد عاد الأمر إلى ما قلنا ولكن بواسطة، وذلك أنا إذا جعلنا العلة ما ذكرتم فليس العلة في الخروج عن الإيجاب إلا عدمها، فالعدم علة العلة، وعلة العلة علة، وأيضاً ليس قولكم بأن علة زوال التعلق خروجها عن ذلكم الإيجاب بأولى من أن يقال: إن خروجها عن إيجاب صفة للمريد إنما هو لزوال التعلق فلا تتميز العلة من المعلل.
السؤال الثاني: لم لا تقولون إن العلة في زوال التعلق تقضي مرادها أو خروجها عن الصفة المقتضاة عن صفة الذات، أو لأن الوجود شرط فيه، وأجيب عن الأول بأن الإرداة قد تخرج عن التعلق وإن لم يقتض مرادها كما لو أردنا قدوم زيد ثم بدا لنا أن لا نريد قدومه قبل أن يقدم، ولو قيل: بتعلقها حينئذٍ للزم أن تتعلق حال عدمها، وهو باطل.
قال الإمام عز الدين عليه السلام : ويدل على أن زوال تعلقها ليس لتقضي مرادها إن الإراداة قد ينقضي مرادها ولا يزول تعلقها كأن يريد أحدنا قدوم زيد ثم يقدم مع عدم علمه بقدومه، فإن الإراداة تبقى متعلقة بقدومه مع تقضي مرادها وهو القدوم، ذكره أصحابنا.
قال عليه السلام : وفيه نظر لأن ذلك ليس بتعلق حقيقي على أصلهموأجيب عن الثاني: بأنه لولا العدم لما خرجت الإرادة عن هذه الصفة المقتضاة، فقد عاد الأمر إلى العدم لكن بواسطة خروجها عن الصفة المقتضاة.
قيل: وليس جعل خروجها عن هذه الصفة علة في زوال التعلق بأولى من العكس؛ لأن خروجها كزوال تعلقها، واعترضه الإمام عز الدين عليه السلام ، فقال: أما خروجها عن الصفة المقتضاة فهو أولى بأن يجعل علة في زوال التعلق من العكس؛ لأن التعلق حكم صدر عنها فزواله فرع على زوالها، إلا أنه لما كان خروجها عن الصفة المقتضاة تابع لعدمها كان العدم أولى بأن يكون علة، هذا ما يقتضيه كلامه عليه السلام .
قال: ولا كلام في تبعية الموجب للموجب ثبوتاً وانتفاءً، ولهذا فلو قدرنا ثبوت صفة الإرادة المقتضاة مع عدمها لم يكن بد من القول بثبوت تعلقها مع عدمها.
وأجيب عن الثالث: وهو أن زوال تعلقها لعدمها لأن الوجود شرط فيه أي في التعلق بأنه قد عاد الأمر إلى العدم أيضاً؛ لأنه لو لم يكن العدم محيلاً للتعلق لم يكن الوجود موجباً له.
السؤال الثالث: أن زوال التعلق نفي والعدم نفي، وتعليل النفي بالنفي محال، ألا ترى أنه لا يقال: أن الجسم لم يتحرك لعدم الحركة.
وأجيب بأنه إنما يمتنع ذلك في العلل الموجبة لا الكاشفة، ولهذا يعلل انتفاء صحة الفعل بانتفاء القادرية، وهذه من العلل الكاشفة أي قام الدليل على أن الحكم يثبت بثبوتها وينتفي بانتفائها، فاستلزم ذلك كون الوجود شرطاً في التعلق.
السؤال الرابع: لو كان العدم محيلاً للتعلق لوجب في الوجود أن يكون موجباً له فتكون جميع الموجودات متعلقة، والمعلوم خلافه، فإن السواد والحلاوة والطعم وغيرها من المدركات ونحوها مما لا تعلق لها.
وأجيب: بأنا لا نسلم أن نقيض الاستحالة الوجوب بل نقيضها الصحة، ثم إنه لا يلزم في كل أمر أحال حكماً من الأحكام أن يكون نقيضه موجباً لنقيض ذلك الحكم، فإن عدم المحل يحيل حلول السواد فيه، وليس وجوده موجباً لحلول السواد فيه، هكذا أجاب السيد مانكديم.
قال الإمام المهدي عليه السلام : والأولى في الجواب أن يقال: التعلق حكم واجب للمتعلق والعدم أحال تعلق ما صفته المقتضاة يقتضي له التعلق، فالواجب في نقيض العدم وهو الوجود أن يصحح تعلق ما صفة ذاته تقتضي له التعلق لا كل موجود.
قال عليه السلام : وإنما كان هذا أولى لأنه يلزم من جوابهم -يعني جواب الأصحاب وهو ما ذكره السيد مانكديم- لأن يكون الوجود مصححاً لتعلق جميع الموجودات وليس كذلك، وجوابهم ثانياً يوهم أن النقيضين لا يجب تناقض أحكامهما، وذلك يخرجهما عن كونهما نقيضين، وما ذكروه من أن وجود المحل لم يقتض وجوب الحلول فهو مسلم، لكن قد اقتضى صحة حلول السواد فيه وهي نقيض الاستحالة.
السؤال الخامس: إن هذه القضية إنما وجبت في الإرادة لكونها علة، والقديم تعالى ليس بعلة، فلا يصح القياس.
وأجاب الإمام المهدي عليه السلام : بأنا لا نسلم أن ذلك إنما وجب فيها لكونها علة، بل لكون الوجود شرطاً في التعلق؛ لأنا نريد ما يزول تعلقه لأجل عدمه، وليس بعلة وهو التحيز فإن التحيز يقتضي صحة حلول الأعراض في المتحيز حال الوجود، ويزول هذا التعلق وهو صحة الحلول بعدمه فإذن لم يجب ذلك في الإراداة لكونها علة، بل لكون التعلق من شرطه الوجود في أي متعلق كان.
قال عليه السلام : وهذا أولى مما أجاب به السيد مانكديم وغيره من أصحابنا من أن مخالفة الباري للإرادة ليس بأكثر من مخالفة العلل بعضها لبعض، والقدرة والشهوة والعلم مشاركة للإرادة في زوال تعلقها لأجل عدمها، فكذلك يلزم في الباري تعالى، لأن لقائل أن يقول: إن تلك قد شاركت الإرادة في كونها عللاً فكان حكمها كحكمها، بخلاف الباري تعالى فلم يشاركها في ذلك فيجوز أن يخالفها في الحكم.
قال عليه السلام : فكان اعتماد ما ذكرناه أولى، وقد اعتمده بعض متأخري أصحابنا.
الدليل الثاني: أنه قد ثبت أن الله تعالى أوجد العالم والمحدث محتاج في وجوده إلى المحدث، فيجب أن يكون ذلك المحدث موجوداً؛ إذ لا يجوز وجود المحتاج مع عدم المحتاج إليه إذ الحاجة إلى المعدوم محال للزوم وجوده، فإن قيل: لا نسلم استحالة الحاجة إلى المعدوم مع تجويز قادريته.
قيل: لا نسلم التجويز فإن إحالة قادرية المعدوم معلوم ضرورة.
قلت: وهذا الدليل لا يفيد أكثر من إثبات الصانع المختار كما هو مذهب الأئمة"، وليس فيه ما يدل على أمر زائد كما يدعيه الخصم.
الدليل الثالث: ذكره بعض المشائخ وهذبه الشيخ الحسن الرصاص رحمه الله وهو المعروف بالقطقطاني لتكرير لفظ قط فيه، وتحريره: أنه قد ثبت أن الله تعالى قادر عالم حي، وأن هذه الصفات مقتضاة زائدة على الوجود، فيجب أن تكون مشروطة بالوجود، وكصفات الأجناس المقتضاة كالتحيز في الجوهر والهيئة في اللون، فإنها لما كانت مقتضاة عن الذاتية زائدة على الوجود وجب أن تكون مشروطة بالوجود، وإنما كان الوجود شرطاً فيها لكونها صفات مقتضاة زائدة على الوجود، فيجب فيما يشاركها في العلة أن يشاركها في الحكم، والذي يدل على أن صفات الأجناس إنما كانت مشروطة بالوجود لكونها صفات مقتضاة أنه لا بد من أمر لأجله كان الوجود شرطاً، وإلا لم يكن بذلك أولى من ألا يكون، وذلك الأمر إما أن يكون كونها صفات فقط، أو كونها مقتضاة فقط، أو كونها صفات مقتضاة فقط، أو كونها صفات مقتضاة زائدة على الوجود، الأول باطل وإلا لزم في الصفة الذاتية أن تكون مشروطة بالوجود، والمعلوم ثبوتها في حال العدم، والثاني باطل أيضاً وإلا لزم في الأحكام المقتضاة عن الذاتية كالمماثلة والمخالفة أن تكون مشروطة بالوجود وهي ثابتة في العدم.
بقي أن تكون العلة أحد الأمرين الآخرين وأيهما كان ففيه غرضنا، وذلك أنا إن جعلنا العلة كونها صفات مقتضاة فقد ثبت للباري تعالى صفات مقتضاة ككونه عالماً قادراً وغيرهما، فلتكن مشروطة بالوجود كصفات الأجناس، ويجب حينئذٍ أن يكون الله تعالى موجوداً؛ إذ لا يصح حصول المشروط دون الشرط، وإلا بطل كونه شرطاً، وإن جعلنا العلة كونها صفات مقتضاة زائدة على الوجود فكذلك إذ قد ثبت للباري تعالى صفات مقتضاة، إلا أن بعضهم زاد قوله زائدة على الوجود لئلا تبطل العلة بوجوده تعالى، فإنه صفة مقتضاة وليست مشروطة بنفسها وإلا لزم التسلسل، فوجب التقييد بكونها زائدة على الوجود لدفع التسلسل.
واعلم أن هذا الدليل مبني على ستة أصول:
الأول: أن للأجناس صفات مقتضاة ثابتة لها كالتحيز للجوهر، وفي ذلك خلاف أبي الحسين وأصحابه، فإنهم لم يثبتوها. ذكره في المنهاج، وهو الظاهر من كلام أئمة العترة" كما يفيده كلام السيد حميدان وغيره.
الأصل الثاني: أنها زائدة على الوجود وفيه خلاف، ومن المخالفين في ذلك أئمة العترة".
قال السيد حميدان رحمه الله -بعد أن حكى مذهب العترة"- ما لفظه: ومذهب المعتزلة المقدم ذكرهم أن ذوات العالم جواهر وأعراض يصح العلم بكل واحد منها على انفراده، وأن صفاتها أمور زائدة عليها لا توصف بأنها هي ولا غيرها، ولا شيء، ولا لا شيء.
قال: والذي يدل على صحة مذهب العترة وفساد مذهب المعتزلة هو أن تسمية الجوهر جوهراً والعرض عرضاً فرع على معرفة الفرق بينهما، لأنه لو لم يكن بينهما فرق لم يكن أحدهما بكونه جوهراً أو عرضاً أولى من الثاني.
وحكى القرشي عن أبي إسحاق النصيبيني أن التحيز هو الوجود يعني ليس زائداً على الوجود.
الأصل الثالث: أنها مشروطة بالوجود، قالوا: ويدل عليه أنها لو لم تكن مشروطة به لوجب ثبوتها يعني الصفات في حال العدم لوجود مقتضياتها وهي الصفة الذاتية.
قلت: وهذا مبني على ثبوت الذوات في العدم، والخلاف فيه مشهور.
الأصل الرابع: أنها إنما كانت مشروطة بالوجود لكونها صفات مقتضاة كما مر، وهو مبني على ثبوت الصفة الأخص، وثبوت ذوات العالم في الأزل، وفيهما خلاف قدماء الأئمة" وغيرهم.
الخامس: أن القديم تعالى قد شارك الأجناس في ثبوت صفات مقتضاة، وفي ذلك خلاف قدماء العترة على ظاهر كلام السيد حميدان رحمه الله، ومن جملة ما أبطل به المشاركة أن المشاركة في الجنس والنوع من خصائص أنواع المحدثات، وأن الله سبحانه وتعالى ليس بجنس فيوصف بأنه مشارك لغيره، هذا على فرض ثبوت الصفات المقتضاة في الأجناس.
السادس: أنه تعالى إذا شارك الأجناس في ثبوت صفات مقتضاة له وجب أن يشاركها في أن الوجود شرط في ثبوتها له؛ إذ من حق كل مشتركين إذا اشتركا في علة أن يشتركا في ذلك الأمر، وإلا عاد على التعليل بذلك بالنقض، وهذا الأصل هو نتيجة الخمسة السابقة، وقد عرفت ما فيها، وبعدم صحتها لا يصح ما ترتب عليها، وقد عرفناك أول البحث أن أدلتهم مبنية على قواعد غير مسلمة لهم، ولا بد من الكلام على ما أشرنا إليه في هذه الأصول من المذاهب، مع بيان ما تمسكت به كل طائفة في محله إن شاء الله تعالى.
على أن الإمام المهدي عليه السلام قد استضعف هذا الدليل ونفى إفادته الظن فضلاً عن المدلول، وتعجب ممن استدل به، وأبطله من ثلاثة أوجه، ولا حاجة بنا إلى إيرادها لأنا لم نوافقهم في المدلول حتى نشتغل بما يرد على أدلتهم.
قال الإمام عز الدين عليه السلام : وقد نقل عن بعض المحققين الالتجاء في هذه المسألة إلى دليل السمع، وهو كون الباري تعالى موجوداً بضرورة الدين، وهو بناء على أن هذه المسألة مما يصح الاستدلال بالسمع عليه لعدم توقف الحكمة عليه.
قال عليه السلام : وهو لا يستغني عن تأملٍ.
البحث الرابع: في إطلاق لفظ موجود على الباري تعالى
حكى الرازي إجماع المسلمين على صحة إطلاق هذا الاسم عليه تعالى، وقد أطلقه أمير المؤمنين عليه السلام فقال في صفة الباري تعالى: (كائن لا عن حدث، موجود لا عن عدم).
وقال: (الحمد لله الكائن لا عن حدث، الموجود لا عن عدم). رواه في النهج.
فإن قيل: إنكم تشترطون فيما يجري عليه تعالى أن يفيد المدح وهذا الاسم لا يفيده إذ لا يفيد أكثر من تحققه وثبوته.
قيل: ذلك كاف في إفادته المدح فقد أجاز الإمام المهدي وغيره إطلاق لفظ(شيء) عليه لأنه يفيد كونه معلوماً، بل دلالة لفظ موجود على المدح أبلغ من لفظ شيء لصحة إطلاق لفظ شيء على المعدوم عند قوم دون موجود فلا يطلق على المعدوم اتفاقاً، ثم إن إطلاقه بالمعنى الذي يليق بالباري وهو كون وجوده مخالفاً لوجود غيره يفيد أكمل المدح وأبلغه.
قلت: وظاهركلام الوصي وما قرره بعض المتأخرين على مقتضى كلام القاسم والهادي عليهما السلام من أنه لا يطلق عليه لفظ(شيء) إلا مقيداً بلا كالأشياء أنه لا يطلق عليه موجود إلا مقيداً بما قيده به الوصي عليه السلام ، أو نحوه مما يفيد معه المدح؛ إذ دلالة الاسم على كون مسماه معلوماً لا يقتضي المدح كالأعلام، وإلا لزم أن يكون لفظ إبليس مدحاً لأنه علم للذات المخصوصة الملعونة، ودال على كونها معلومة.
البحث الخامس: فيما يجري على الله تعالى من الاسماء بمعنى كونه موجوداً وما يتبعه
الأول: القديم: لا خلاف بين المسلمين في أنه يجوز أن يوصف الباري تعالى بأنه قديم، وإنما وقع الخلاف في أنه هل يصح وصف غيره تعالى بذلك أم لا؟ فقال أئمتنا" وروي عن أبي هاشم: لا يختص به الباري تعالى، بل يوصف به كل ما تقدم على غيره إذ معنى القديم في اللغة المتقدم على غيره في الوجود كما يقال: بناء قديم ورسم قديم، ومنه قوله تعالى: {كَالْعُرْجُونِ الْقَدِيمِ }[يس:39].
وقال أبو علي: بل يختص بالباري تعالى فلا يوصف به غيره؛ لأن القديم هو الموجود في الأزل وليس غيره تعالى كذلك، وظاهر كلام الموفق بالله عليه السلام أن هذا محكي عن أبي هاشم.
قال أبو علي: والآية ونحوها من قبيل التوسع والمجاز لا من قبيل الحقيقة، وأجيب بأنه مخالف لما ثبت بين المسلمين من التخاطب بلا قرينة.
قالوا: لو كان حقيقياً في بناء قديم ونحوه مقصوداً به المبالغة في تقدم وجوده لجاز أن يقال: بأنه قديم محدث؛ لأن مبالغته في تقدم وجوده لا يمنع من كونه محدثاً، وأجيب بالتزام ذلك لأن ما يقصد بالقديم إذا كان بمعنى المبالغة لا يمنع من كونه محدثاً، وإنما يمنع منه إذا كان بمعنى أنه لا ابتداء لوجوده، قالوا: لو كان بمعنى المبالغة للزم التزايد في صفة الوجود؛ لأن تقادم أحد الموجودين في الوجود جائز، وقد ثبت أن التزايد في صفة الوجود لا يجوز.
والجواب: أما من لا يجعل الوجود أمراً زائداً على الذات فلا يرد عليه هذا إذ لم يثبت صفة فيلزم تزايدها، وأما من يجعله زائداً فقد أجابوا بأنه لا يفيد التزايد في صفة الوجود، بل التزايد في مرور الأوقات عليه وصفة الوجود واحدة.
قالوا: يقال هذا أقدم من هذا، كما يقال: أعلم، فلو كان حقيقة لدل على تزايد صفة الوجود كالعلم، ويجاب بأنه لا يدل إلا على تزايد مرور الأوقات كما مر.
قال قاضي القضاة: قول أبي هاشم هو الأصح في اللغة فإن القديم لغة: ما تقدم على غيره، أو ما تقادم وجوده، فحينئذٍ يجوز إطلاقه على غيره تعالى، وقول أبي علي هو الأصح في عرف المتكلمين، فإن القديم عندهم هو الموجود فيما لم يزل، ولهذا سبق إلى أفهامهم عند إطلاقه هذا المعنى، ومثله ذكره الموفق بالله.
فإن قيل: كيف يصح القول: بأن أهل اللغة وضعوه لما لا ابتداء لوجوده وهم جاحدون للباري تعالى، ولا شيء في الشاهد لا ابتداء لوجوده حتى يضعوه باعتباره.
قيل: إن قلنا بأن الواضع الله تعالى فلا إشكال، وإن جعلنا الواضع البشر فلا يمتنع أن يكون فيهم موحدون عارفون بالله تعالى فوضعوا له ذلك وإن لم يكن له في الشاهد مثل، وفي معنى قديم قولنا: أقدم ومتقدم، فيجوز وصفه تعالى بهما، ذكره الإمام عز الدين عليه السلام قال: والمراد أنه موجود قبل كل موجود.
وحكي عن أبي علي أنه يجوز وصفه تعالى بهما في الأزل، ومنعه أبو هاشم لإيهامه الخطأ، وهو أن في الأزل موجوداً سواه مشاركاً له تعالى في الوجود في الأزل لكنه تعالى متقدم وأقدم، وليس كذلك الآخر مع حصوله في الأزل، وذلك محال كما إذا قلت: زيد أفضل من عمرو، فإنه يفيد اشتراكهما في الفضل مع اختصاص زيد بزيادة.
واختلف الشيخان أيضاً في لفظ سابق وأسبق وأول، فجوز أبو علي إطلاقها عليه في الأزل بمعنى أنه يقال: هو أسبق في الأزل، ومنعه أبو هاشم لما مر، وأجاب أبو علي بأن قولنا أسبق ونحوه لا يقتضي جواز المشاركة في الوجود في الأزل بدليل أنا نصف القدرة بأنها متقدمة على الفعل مع استحالة وجود الفعل معها، فكذلك نصف الباري تعالى بما ذكر لاستحالة ثبوت غيره في الأزل.
فإن قيل: فإذا قيد بما يرفع الإيهام ويقضي بأن المشاركة غير مقصودة، فهل يصح الإطلاق على مذهب أبي هاشم؟
قيل: إذا لم تقصد المشاركة كان اللفظ مجازاً لاستعماله في غير ما وضع له والمجاز لا يطلق عليه تعالى إلا بإذن كما مر، وقد أشار أبو هاشم إلى ذلك، ذكر هذا السؤال وجوابه الإمام عز الدين عليه السلام في المعراج.
قلت: ومقتضى كلام أبي هاشم منع وصفه تعالى بأقدم الأقدمين، وقد صرح بمنعه الموفق بالله لنحو ما مر.
قال عليه السلام : فإن تكلم به متكلم ويريد المبالغة في التقدم في الوجودفإنه يقيده بما يزيل ما يوهم.
قلت: أما على ما تقدم عن الإمام عز الدين عليه السلام ففي جواز الإطلاق مع التقييد نظر.
قال الموفق بالله عليه السلام : ولا يصح وصفه تعالى بأنه عتيق، ولا بأنه عادي لأنه يفيد تقدم عاد عليه حتى ينسب إليه، كما أن آدمي يفيد تقدم آدم عليه السلام عليه، فأما منع وصفه بأنه عتيق فلأن أبا علي ذكر أنه يفيد مرور الزمان عليه مع حدوث مثله، ولذلك لا يصفون التمر بأنه عتيق ولما تغير ولا حدث مثله، وحدوث مثله تعالى محال فلا يجوز وصفه به، وعلل أبو هاشم امتناعه بأنه يفيد مرور الزمان عليه مع التأثير فيه، ولذلك يقال: دينار عتيق إذا كان الزمان قد أثر فيه، وقيل: لا يشترط التأثير إذ توصف السماء بأنها عتيقة وإن لم يكن الزمان قد أثر فيها.
وقال الموفق بالله عليه السلام : لا يبعد أن يكون في الأصل موضوعاًلما مر عليه الزمان وأثر فيه، بدليل أن الدينار المضروب في الحال مع حدوث مثله لايوصف بأنه عتيق، وإذا كان الزمان قد مر عليه وأثر فيه وصف بذلك، فدل على أنه يفيد مرور الزمان عليه مع التأثير فيه، قال: فإن وصف شيء آخر بأنه عتيق وجب أن يكون مجازاً لأنه لا يطرد في كل شيء إلا بعد ما ذكرناه من مرور الزمان عليه.
قال عليه السلام : وقد كان الحدث الوراق تلميذ أبي الحسين الخياط يلزم أبا علي بأنه لو جاز أن يوصف تعالى بأنه قديم لصحة المعنى فيه لا أن السمع قد ورد به لجاز وصفه بأنه عتيق وعادي.
قال عليه السلام : وقد بينا أن معناه فيه تعالى لا يجوز؛ إذ محال تأثير شيء فيه ولا تقدم عاد عليه.
الاسم الثاني: ثابت في الأزل، ومعناه كمعنى موجود في الأزل، ويختص به الباري تعالى عند أئمتنا" خلافاً لمثبتي الذوات في العدم، وأما لفظ أزلي، فقال الرازي: هذا لفظ يفيد النسبة إلى الأزل فيوهم أن الأزل شيء حصلت ذات الله فيه وهذا باطل؛ إذ لو كان الأمر كذلك لكانت ذاته تعالى محتاجة إلى ذلك الشيء وهو محال، بل المراد وجود لا أول له البتة.
قلت: أما على ماذكره من الإيهام فالقياس منعه، لكن قد تقدم عن علي عليه السلام ما يدل على صحة وصفه بذلك، وفي بعض الأدعية المنسوبة إلى الحسين بن علي عليه السلام : الحمدلله السميع العليم الأزلي القديم. ذكره في الوسائل العظمى.
الاسم الثالث: (لا أول له) ومعناه أنه قديم لا أول لوجوده، فإن قيل: لا نسلم أن معناه ما ذكرتم، بل فيه إيهام خلافه وهو أنه غير قديم بأن يكون محدثاً وليس قبله شيء، لأنه محدث عن عدم والعدم ليس بشيء.
قيل: لقائل أن يقول: لا نسلم أن العدم ليس بشيء وحينئذ يسقط السؤال، سلمنا، فنقول إذا كان محدثاً فلا بد له من محدث والمحدث متقدم على ما أحدثه ضرورة، فثبت أنه متى صدق أنه ليس شيء قبله صدق كونه قديماً، واختلفوا في هذا الاسم هل هو صفة ثبوتية أو عدمية، فقيل: بالأول لأنه إشارة إلى نفي العدم السابق ونفي النفي إثبات، وقيل: بالثاني لأنه نفي لكونه مسبوقاً بالعدم لا للعدم نفسه وكونه مسبوقاً بالعدم صفة ثبوتية، فقولنا: لا أول له سلب لتلك الكيفية، ورد بأن كونه مسبوقاً بالعدم لو كان كيفية وجودية زائدة على ذاته لكانت تلك الكيفية حادثة، فكانت مسبقوة بالعدم وكونها كذلك صفة أخرى ولزم التسلسل وهو محال، ومما يدل على جواز إطلاق هذا الاسم على الباري تعالى قول أمير المؤمنين عليه السلام الأول لا شيء قبله، وقوله: الأول الذي لم يكن له قبل فيكون شيء قبله. رواه في النهج.
فإن قلت: هل يؤخذ من كلامه عليه السلام أنه لا يجوز أن يطلق عليه تعالى لفظ أول إلا مقيداً بنحو ما ذكره عليه السلام ونحو قولنا: لا أول له.
قلت: لو لم يرد قوله تعالى: {هُوَ الأَوَّلُ وَالآخِرُ }[الحديد:3]، لتوهم ما ذكره، لكن لما ورد بالإطلاق القرآن وجب حمل كلامه عليه السلام على زيادة التوضيح، وقد أفادت الآية الكريمة الرد على منع إطلاق (أول) عليه تعالى، وصحة قول أبي علي.
الاسم الرابع: (الباقي) نص على جواز إطلاقه عليه تعالى الموفق بالله والإمام عز الدين عليهما السَّلام ، وغيرهما، وقد دل عليه القرآن، قال تعالى: {وَيَبْقَى وَجْهُ رَبِّك َ}[الرحمن:27 ]إلا أن ظاهر كلام الإمام عز الدين عليه السلام أنه لا يصح الوصف به إلا مقيداً؛ لأنه قال أنه لا يفيد المدح بنفسه بل بما ينظم إليه كقولنا: باق لنفسه ولم يزل، وظاهر كلام الموفق بالله عليه السلام أنه يصح إطلاقه من دون قيد لأنه قال: ويوصف بأنه تعالى باق، وذلك متظاهر في الأدعية يا باقي.
قال عليه السلام : ونريد به موجوداً لم يتجدد وجوده في حال الإخبار عنه بأنه موجود، قال: ويمكن أن يقال: كل موجود له وقتان متواليان بالوجود والله تعالى بهذه الصفة؛ لأن له وقتين وأكثر بالوجود ولم يتجدد وجوده في حال الإخبار عنه بأنه موجود، بل تجدد وجوده محال، وقال أبو علي: أنه يقيد الموجود بغير حدوث لأنه إما أن يفيد أنه باق لنفسه، أو لما هو عليه في نفسه، أو لمعنى قديم، فإذا استحال ذلك عليه وجب أن يفيد الموجود بغير حدوث، ورده الموفق بالله عليه السلام بأن أهل اللغة وصفوا الأجسام بأنها باقية وإن كانت محدثة، فدل على أن الباقي عندهم لا يفيد ما ذكره أبو علي خصوصاً مع اعتقادهم حدوث الأجسام.
وقال الرازي: اعلم أن كل ما كان أزلياً كان باقياً، ولا ينعكس فقد يكون باقياً ولا يكون أزلياً ولا أبدياً كما في الأجسام والأعراض الباقية، ومن الناس من قال: لفظ الباقي يفيد الدوام، وعلى هذا فلا يصح وصف الأجسام به، وليس الأمر على ذلك لإطباق أهل العرف على قول بعضهم لبعض أبقاك الله.
الاسم الخامس: (الدائم)، قال الموفق بالله عليه السلام : ويوصف بأنه دائم بمعنى أنه لم يزل دائماً فيقيد بالماضي تارة، وبالاستقبال أخرى فيقال: دائم فيما لم يزل ودائم فيما لا يزال، واستدل في المعراج على جواز إطلاقه بأنه يفيد استمرار الوجود أكثر من وقتين، وبأنه لا يفنى، وكل واحد من المعنيين ثابت في حقه تعالى، وقد ورد في كلام الوصي عليه السلام ، فقال في وصفه تعالى: الذي لم يزل قائماً دائماً إذا لا سماء ذات أبراج. رواه في النهج، وفيه دلالة على صحة تقييده بالماضي.
الاسم السادس: (الآخر) وقد نطق به القرآن، والمراد به أنه موجود بعد كل موجود.
الاسم السابع: (القيوم) قال تعالى: {الْحَيُّ الْقَيُّومُ }[البقرة:255].
قال الإمام عز الدين عليه السلام : والمراد به المبالغة في قائم، ومعناه دوام الوجود، وقد يفيد أنه قائم بمصالح العباد، وقال ابن أبي الحديد: القائم والقيوم بمعنى وهو الثابت الذي لا يزول، ويعبر عنه في الاصطلاح النظري بالواجب الوجود، وقد يفسر القائم على معنى قولهم: فلان قائم بأمر كذا أي ممسك له أن يضطرب.
قال الإمام عليه السلام : ولا يطلق عليه قائم لإيهامه نقيض القعود إلا مقيداً كقائم بالقسط وقائم على كل نفس، وبه قال الموفق بالله عليه السلام ، قال: ومعناه أنه موجود.
قلت: قول علي عليه السلام الذي لم يزل قائماً دائماً يدل على جواز الإطلاق من دون تقييد.
الاسم الثامن: (الكائن) وقد تقدم ما يدل على جواز إطلاقه عليه تعالى، وظاهر تلك الأدلة أنه لا يطلق إلا مقيداً، وهو الذي نص عليه الموفق بالله عليه السلام في الإحاطة فإنه قال في حد الموجود وهو الكائن الثابت، قال: ويقيد الكائن لئلا يوهم لأنه إذا أطلق فقيل: إنه كائن فقد يوهم.
قلت: وقد تقدم بيان الوهم الحاصل بالإطلاق، وقال ابن أبي الحديد رحمه الله في شرح قول أمير المؤمنين عليه السلام كائناً لا عن حدث موجود لا عن عدم ما لفظه: قوله عليه السلام : كائن وإن كان في الاصطلاح العرفي مقولاً على ما ينتزه الباري عنه فمراده به المفهوم اللغوي وهو اسم فاعل من كان بمعنى وجد كأنه قال موجود وغير محدث، قال: فإن قيل فقد قال بعده موجود لا عن عدم فلا يبقى بين الكلمتين فرق، قيل: بينهما فرق ومراده بالموجود لا عن عدم هاهنا وجوب وجوده ونفي إمكانه؛ لأن من أثبت قديماً ممكناً فإنه وإن نفى حدثه الزماني فلم ينف حدثه الذاتي، وأمير المؤمنين عليه السلام نفى عن الباري تعالى في الكلمة الأولى الحدوث الزماني، ونفى عنه في الكلمة الثانية الحدوث الذاتي، وقولنا في الممكن أنه موجود عن عدم صحيح عند التأمل لا بمعنى أن عدمه سابق له زماناً، بل سابق لوجوده ذاتاً؛ لأن الممكن يستحق من ذاته أنه لا يستحق الوجود من ذاته.
الاسم التاسع: (واجب الوجود) وبعضهم يزيد فيه لذاته فيقول: واجب الوجود لذاته، وحكى الرازي اتفاق المسلمين على جواز إطلاقه عليه تعالى، ومعناه أنه يستحيل تطرق العدم إليه أزلاً وأبداً كما قال أمير المؤمنين عليه السلام سبق الأوقات كونه والعدم وجوده، والابتداء أزله). رواه في النهج.
هذا وبقية أسمائه تفيد معنى دوام الوجود، وصحة إجرائها على الله تعالى موقوفة على قيام الدليل وعدم المانع، وفي بعضها ما يمنع من جواز إجرائها عليه تعالى منها الأبدي وهو يفيد الداوم بحسب الزمان المستقبل، ومنها السرمدي وهو مأخوذ من السرد وهو التتابع والتوالي.
قال الرازي: ولما كان الزمان إنما يبقى بسبب تعاقب أجزائه وتلاحق أبعاضه وكان ذلك التلاحق، والتعاقب مسمى بالسرد أدخلوا فيه الميم الزائدة للمبالغة، ولما كان التلاحق والتعاقب في حق الله تعالى محالاً إذ ليس بذي أجزاء ولا أبعاض كان إطلاق هذا اللفظ عليه مجازاً، فإن ورد به السمع أطلقناه وإلا فلا، وفي بعض أشعار ابن أبي الحديد ما يدل على جواز إطلاقه، وهي قوله:
والله ما موسى ولا عي .... سسى المسيح ولا محمد
علموا ولا جبريل وهو .... إلى محل القدس يصعد
كلا ولا النفس البسيطة .... لا ولا العقل المجرد
من كنه ذاتك غير .... أنك أوحدي الذات سرمد
ومنها المستمر، وأصله المرور والذهاب وبقاء الزمان بحسب مرور أجزائه بعضها بعد بعض، ولذا أطلق عليه هذا اللفظ، وعلى هذا فيتمنع إطلاقه على الباري تعالى إذ ليس بقاؤه لتلاحق أبعاضه وأجزائه تعالى الله عن ذلك، ومنها الممتد وسميت المدة مدة لأنها ممتدة بسبب تلاحق أجزائها، وهذا المعنى ممتنع في الباري تعالى، ومنها لم يزل من غير شيء.
حكى الموفق بالله عن بعضهم منعه، وعن بعضهم جوازه، واختار أنه لا بد من أن يقرن بأمر، قال: وكذلك لا يجوز وصفه بأنه لا يزال غير متكلم لأن النفي إذا دخل في النفي يفيد الإثبات فيقتضي ذلك كونه متكلماً فيما لم يزل، وذلك محال.
قال عليه السلام : ولقائل أن يقول: يقال ليس زيد غير قائم، ويريد به أنه قائم، وقال ابن أبي الحديد: لو سمي متكلماً قبل خلق الكلام على معنى أنه متكلم بالقوة لا بالفعل لم أستبعده وإن كان أصحابنا يأبونه.
قوله تعالى: {الرحمن الرحيم}
فيه مسائل:
المسألة الأولى [معنى الرحمة وهل هي في حقه تعالى مجاز أم حقيقة]
ذهب الجمهور إلى أنهما مجازٌ في حقه تعالى لأن الرحمة رقة في القلب تقتضي التفضل والإحسان، وهي مستحيلة عليه تعالى فيراد لازمها وهو الإحسان والتفضل؛ لأن الملك إذا رق على رعيته أصابهم بمعروفه وإحسانه، فهو مجاز مرسل تبعي لأن التجوز فيهما تابع للتجوز في أصلهما وقيل: هي إرادة الخير لمن أراد الله به ذلك.
قال أبو السعود: الرحمة في اللغة: رقة القلب والانعطاف، ومنه الرحم لانعطافها على ما فيها، والمراد هاهنا التفضل والإحسان، أو إرادتهما بطريق إطلاق اسم المسبب بالنسبة إلينا على مسببه البعيد أو القريب، فإن أسماء الله تعالى تؤخذ باعتبار الغايات التي هي أفعال دون المبادئ التي هي انفعالات.
وقال الإمام القاسم بن محمد عليه السلام : بل هما حقيقتان دينيتان وضعهما الشارع اسمين له تعالى كما في مؤمن وكافر إذ لو كانا مجازين لافتقرا إلى القرينة عند إطلاقهما عليه تعالى، والمعلوم أنهما لا يفتقران، فلما لم يفتقرا ثبت كونهما حقيقة فيه تعالى إما لغوية أو دينية، واللغوية ممنوعة لاستلزامها التشبيه فتعين كونهما حقيقة دينية، وأجيب بأن القرينة الصارفة عن المعنى الحقيقي حاصلة وهي العقل والسمع، أما العقل فلقيام الدليل على أنه تعالى لا تحله الأعراض والرقة عرض، وأما السمع فقوله تعالى: {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ }[الشورى:11].
المسألة الثانية [اختصاص الرحمانية بالله تعالى وحده)
قال العلماء: الرحمن مختص بالله تعالى لا يجوز أن يسمى به غيره، ولا أطلق في لغة العرب على غيره، والدليل على اختصاصه تعالى به قوله تعالى: {قُلِ ادْعُوا اللَّهَ أَوِ ادْعُوا الرَّحْمَنَ }[الإسراء:110 ]فعادل الاسم الذي لا يشاركه فيه غيره، فأما قولهم في مسيلمة رحمن اليمامة فباب من تعنتهم في الكفر، مع أنهم لم يضعوه له إلا بعد أن قد تسمى به الباري تعالى، وهم معترفون بذلك فيمكن أنهم لم يسموه بذلك إلا على ضرب من المجاز، وهو أنهم لما اعتقدوا أنه رسول الرحمن سموه باسم مرسله.
قلت: في كلام بعضهم أنه الذي تسمى بذلك فألزمه الله تعالى نعت الكذاب حتى صار علماً يعرف به، وهذا يدفع حمله على المجاز ويصحح أنه من باب التعنت، وما قلناه من اختصاص الباري تعالى به هو الذي حكاه القرطبي عن أكثر العلماء، وحكايته توهم أن ثمة خلافاً ولم أقف عليه.
فإن قلت: هل هو صفة أم علم؟، قلت: بل من الصفات الغالبة عند الأكثر كالنجم والصعق.
وحكى أبو حيان عن الأعلم أنه علم وإن كان مشتقاً من الرحمة لكنه ليس بمنزلة الرحيم ولا الراحم، بل هو مثل الدبران، وإن كان مشتقاً من دبر صيغ للعلمية، فجاء على بناء لا يكون في النعوت.
قال: ويدل على علميته وروده غير تابع لاسم قبله، قال تعالى: {الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى }[طه:5]، {الرَّحْمَنُ، عَلَّمَ الْقُرْآنَ }[الرحمن:1،2].
وأما رحيم فقال في الأساس: أنه يختص به الباري تعالى مع الإطلاق، وأما مع الإضافة فيجوز (زيد رحيم بأهله) لأن الرحمة إذ علقت بشيء مخصوص فقد خرج لفظ رحيم عن إفادته عموم الرحمة المختص بالله تعالى، وكذا إن جعل صفة لشخص معلوم نحو زيد رحيم؛ لأن جريه على زيد تقييد.
فرع [في ترادف الرحمن الرحيم]
واختلفوا هل هما بمعنى واحد أم لا؟ فقيل: هما بمعنى واحد كندمان ونديم قاله أبو عبيدة، وقيل:بل معناهما مختلف، فالرحمن أعم ولذا قالوا: رحمن الدنيا والآخرة، ورحيم الدنيا، واختاره الزمخشري إذ زيادة البناء تدل على زيادة المعنى.
قال الزجاج في الغضبان: هو الممتلي غضباً، ويدل على ذلك ما رواه أبو سعيد الخدري، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم : ((إن عيسى ابن مريم أسلمته أمه إلى الكتاب ليعلمه فقال له المعلم: اكتب بسم الله الرحمن الرحيم، قال له عيسى: وما بسم الله؟ قال المعلم: لا أدري، فقال له عيسى: الباء بهاء الله، والسين سناؤه، والميم مملكته، والله إله الإلاهية، والرحمن رحمن الدنيا والآخرة، والرحيم رحيم الآخرة)). قال في الدر المنثور: أخرجه ابن جرير، وابن عدي في الكامل، وابن مردويه، وأبو نعيم في الحلية، وابن عساكر في تاريخ دمشق، والثعلبي بسند ضعيف جداً.
وفي تفسير القرطبي عن عثمان أنه سأل رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم عن تفسير بسم الله الرحمن الرحيم فقال: ((أما الباء فبلاء الله وروحه ومغفرته وبهاؤه ، وأما السين فسناء الله، وأما الميم فملك الله، وأما الله فلا إله غيره، وأما الرحمن فالعاطف على البر والفاجر من خلقه، وأما الرحيم فالرفيق بالمؤمنين خاصة)). وهذان الحديثان إن صحا نص في المقصود من إثبات عموم الرحمن وإن اختلفت جهة التعميم والتخصيص، فإن الأول يدل باعتبار الأزمان، والثاني: يدل باعتبار الأشخاص، وقيل: الرحيم أكثر مبالغة ويدل عليه ما روي عن ابن عباس أنه قال: هما اسمان رقيقان أحدهما أرق من الآخر.
قال القرطبي: أي أكثر رحمة، وأرقهما الرحيم كما أخرجه البيهقي من حديث ابن عباس مرفوعاً.
قيل: وقوله رقيقان بقافين تصحيف وإنما هو رفيقان بفاء ثم قاف، والرفيق من اسماء الله تعالى.
وقال (أبو حيان): الذي يظهر أن جهة المبالغة مختلفة فلذلك جمع بينهما فلا يكون من باب التوكيد، فمبالغة فعلان مثل غضبان وسكران من باب الامتلاء والغلبة، ومبالغة فعيل من حيث التكرار والوقوع بمحال الرحمة، ولذلك لا يتعدى فعلان ويتعدى فعيل تقول: زيد رحيم المساكين كما تعدي فاعلاً تقول: زيد حافظ علمك وعلم غيرك، حكاه ابن سيده عن العرب قال: ومن رأى أنهما بمعنى واحد ولم يذهب إلى توكيد أحدهما بالآخر احتاج إلى أنه يخص كل واحد منهما بشيء وإن كان أصل الموضوع عنده واحداً ليخرج بذلك عن التأكيد.
قال (مجاهد): رحمن الدنيا ورحيم الآخرة، وروى ابن مسعود، وأبو سعيد الخدري عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قال: ((الرحمن رحمن الدنيا ، والرحيم رحيم الآخرة)). قال : وإذا صح هذا التفسير وجب المصير إليه، ثم حكى أقوالاً عن السلف ولم يذكر لها أدلة.
قلت: وسيأتي في حديث عائشة وعبد الرحمن بن سابط ما يدل على أن معناهما واحد، وهو الدلالة على شمول رحمته في الدنيا والآخرة، والعموم على هذا باعتبار الأزمان لا الأشخاص.
المسألة الثالثة [إنزال الآلام والنقائص]
أن ما ينزله الله تعالى بخلقه من الآلام والنقائص ونحوها لا ينافي وصفه تعالى بأنه الرحمن الرحيم وأرحم الراحمين، ونحوها من الأوصاف الدالة على كونه في أعلى درجات الرحمة بخلقه، وذلك أن الألم إن كان لغير المكلفين فهو من الرحمة لهم؛ لأنه لا يفعله إلا لمصلحة لذلك المؤلم، وإن اختلف أصحابنا في ماهيتها، فقال أبو علي: وأصحاب اللطف إنما يحسن من الله تعالى للعوض فقط.
وقال السيد (مانكديم)، والإمام (المهدي) و(جمهور البصرية): بل لا بد في حسنها من العوض والاعتبار للمكلفين لتخرج بالأول عن الظلم، وبالثاني عن العبث.
وقال الإمام القاسم بن محمد عليه السلام : بل ذلك لمصلحة يعلمها الله تعالى وإن جهلناها؛ لأنه قد ثبت أنه عدل حكيم، ومن حكمته أنه لا ينزل الألم بغير العاصي إلا لمصلحة.
قلت: وعلى أي وجه أنزله عليه من هذه الوجوه فهو تفضل ورحمة، فثبت عدم المنافاة وإن كان إنزال الألم بالمكلف فهو إما مؤمنٌ أو عاص، فإن كان مؤمناً فلا شك في كونه رحمة له لأنه إما للاعتبار أو للتأديب، أو للتعريض على الصبر والرضا اللذين يستحق عليهما الثواب الكثير، وإما لتكفير الذنوب، وإما لمصلحة له يعلمها الله تعالى، وإنزال الألم على أحد هذه الوجوه ثابت كتاباً وسنة، وسيأتي الاستدلال عليه في موضعه إن شاء الله، ومن الأدلة العقلية على ذلك أن الوالد إذا أمر بقطع يد ولده المتآكلة لا يوصف بعدم الرحمة لولده، بل نقطع أن أمره بقطع يده ليس إلا لرحمته وشفقته على ولده، فإذا لم يخرج عن الرحمة بإنزاله الضرر بولده لهذه المصلحة كذلك لا يخرج الباري عن الوصف بالرحمة لأجل ما ينزله بعبده لأحد هذه الوجوه، بل هو أرأف بعبده المؤمن من أمه وأبيه، وإن كان عاصياً فهو تعجيل عقوبة لقوله تعالى: {وَمَا أَصَابَكُمْ مِنْ مُصِيبَةٍ فَبِمَا كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ }[الشورى:30].
وقيل: بل له عوض إذ لا عقاب قبل الموافاة، وسيأتي استيفاء الكلام على المسألة في موضعها إن شاء الله.
المسألة الرابعة [الجواب على شبه المرجئة في الرحمن الرحيم]
تعلقت المرجئة بقوله تعالى: {الرَّحْمَنُ الرَّحِيمُ} ونحوها على القطع بخروج أهل الصلاة من النار عند بعضهم، وعلى تجويزه عند آخرين؛ لأنها وردت مطلقة غير مقيدة بشيء، وأجيب بأن هذا جهل أو تجاهل، فأين أنتم من التقييد الصريح الوارد في قوله تعالى بعد ذكر المؤمنين بصفاتهم: {أُوْلَئِكَ سَيَرْحَمُهُمُ اللَّهُ }[التوبة:71]، وقوله: {وَرَحْمَتِي وَسِعَتْ كُلَّ شَيْءٍ فَسَأَكْتُبُهَا لِلَّذِينَ يَتَّقُونَ...} [الأعراف:156 ]الآية على أنه يمكن إجراء الإطلاق على ظاهره، ويكون متناولاً لجميع الحيوانات من المكلفين وغيرهم باعتبار نعم الله تعالى في الدنيا من الإيجاد والعافية، والرزق، والتعريض على النعيم الذي لا ينقطع، وهذه رحمة شاملة للمؤمن والكافر، والبر والفاجر، والعاقل وغيره، ويكون تخصيص الرحمة في الآخرة بغير العاصي للأدلة الدالة على التخصيص، وفي هذا جمع بين الأدلة.
المسألة الخامسة [خواص الرحمن الرحيم]
في خواص هذين الاسمين الشريفين وبيان فضلهما، فمن ذلك أنه قيل في اسمه تعالى (الرحمن) أنه الاسم الأعظم.
وعن الحسن قال: (الرحيم) اسم لا يستطيع الناس أن ينتحلوه، وأخرج البيهقي في شعب الإيمان من طريق مقاتل بن سليمان، عن الضحاك، عن ابن عباس عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال: ((إن الله قد أنزل علي سورة لم ينزلها على أحد من الأنبياء والرسل قبلي ))، قال النبي صلى الله عليه وآله وسلم ، قال الله تعالى ((قسمت هذه السورة بيني وبين عبادي فاتحة الكتاب جعلت نصفها لي ونصفها لهم وآية بيني وبينهم فإذا قال العبد: بسم الله الرحمن الرحيم، قال الله: عبدي دعاني باسمين رقيقين أحدهما أرق من الآخر فالرحيم أرق من الرحمن وكلاهما رقيقان...)) الحديث.
قال (البيهقي): قوله رقيقان قيل: هذا تصحيف وإنما هما رفيقان، والرفيق من أسماء الله تعالى.
قلت: يعني أن الحرف الأول فاء لا قاف، وأخرج البزار والحاكم والبيهقي في الدلائل بسند ضعيف عن عائشة قالت: قال لي أبي: ألا أعلمك دعاء علمنيه رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ، قال: وكان عيسى عليه السلام يعلمه للحوارين لو كان عليك مثل أحد ذهباً لقضاه الله عنك، قلت: بلى، قال: قولي اللهم فارج الهم كاشف الغم، وفي لفظ البزار وكاشف الكرب مجيب دعوة المضطرين رحمان الدنيا والآخرة ورحيمهما أنت ترحمني فارحمني رحمة تغنيني بها عمن سواك.
وأخرج ابن أبي شيبة عن عبد الرحمن بن سابط، قال: كان رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يدعو بهؤلاء الكلمات ويعلمهن: ((اللهم فارج الهم وكاشف الكرب ومجيب المضطرين ورحمن الدنيا والآخرة ورحيمهما ارحمني اليوم رحمة تغنيني بها عن رحمة من سواك)).
الباب الثاني:المسائل الفقهية المتعلقة بالبسملة
الموضع الثاني: فيما يتعلق بجملة البسملة وفيه مسائل
المسألة الأولى [في حكم التسمية]
اختلفت الأمة في شأن التسمية في أوائل السور الكريمة، فقال أهل البيت": هي آية كاملة من الفاتحة، ومن كل سورة صدرت بها، وبه قال قالون من قراء المدينة، وقراء الكوفة ومكة وفقهاؤها، وهو القول الجديد للشافعي، وحكاه الخازن عن الزهري، والثوري، ومحمد بن كعب، ورواه شارح الغاية عن جمهور السلف، وسيأتي ذكر بعضهم.
وقال (مالك)، و(الأوزاعي)، و(أبو حنيفة): ليست من القرآن أصلاً إلا في قوله تعالى:{ إِنَّهُ مِنْ سُلَيْمَانَ ...} [النمل:30 ] الآية، وإنما كتبت للفصل والتبرك، وعليه قراء المدينة والبصرة، والشام وفقهاؤها، ورواه في شرح الغاية عن الثوري، وقال أبو السعود: هو المشهور من مذهب قدماء الحنفية، ورواه عن ابن مسعود، ورواه غيره عن أبي، وأنس وغيرهما، وقيل: أنها آية فذة من القرآن أنزلت للفصل والتبرك بها، وهذا مروي عن أحمد بن حنبل، وداود، وأبو بكر الرازي من الحنفية، وعزاه في شرح الغاية إلى جمهور المتأخرين من الحنفية، وقال أبو السعود: هو الصحيح من مذهب الحنفية، وقيل: إنها آية من الفاتحة مع كونها قرآناً في سائر السور أيضاً من غير تعرض لكونها جزءاً منها أو لا، ولا لكونها آية تامة أو لا، وهذا مروي عن ابن عباس وأبي هريرة.
وقيل: إنها آية تامة في الفاتحة وبعض في البواقي، وهذا أحد احتمالين للشافعية وسيأتي بيانهما، وقيل: بعض آية في الفاتحة، وآية تامة في البواقي، وقيل: بعض آية في الكل، وقيل: أنها آيات متعددة بعدد السور المصدرة بها من غير أن تكون جزءاً منها.
حكى هذا القول أبو السعود وقال: إنه غير معزي في الكتب إلى أحد.
قلت: حكى في حواشي الهداية عن التلويح أنه قول أحمد بن حنبل ومن ذكر معه، وقيل: أنها آية تامة في الفاتحة وليست بقرآن في غيرها، وهذا مروي عن ابن المسيب، ومحمد بن كعب والشافعي، وقيل: إن للشافعي في باقي السور قولين، فمنهم من حمل القولين على أنها هل هي من القرآن في أوائل السور أو لا، ومنهم من حملهما على أنها هل هي آية مستقلة أو هي مع ما يليها من كل سورة آية.
قال (التفتازاني): وهذا هو الأصح ليكون نظره واجتهاده في بيان آخر الآية ومقدارها لا في كونها قرآناً.
وقال (أبو السعود): نقل عن الشافعي أنها بعض آية في الفاتحة، وأما في غيرها فقوله فيها متردد فقيل: بين أن تكون قرآناً أو لا، وقيل: بين أن تكون آية تامة أو لا.
قال الغزالي: والصحيح منه التردد الثاني، وعن أحمد بن حنبل في كونها آية كاملة وفي كونها من الفاتحة روايتان.
فهذا ما عثرنا عليه من أقوال العلماء في التسمية، وإذ قد أتينا على أقوالهم فلنأخذ في تقرير أدلتهم على ما ذكرناه من ترتيب أقوالهم فنقول: احتج أهل القول الأول بحجج:
أحدها: إجماع أهل البيت"، قال الإمام الناصر أبو الفتح الديلمي عليه السلام في تفسيره: عندنا وعند علماء العترة" أنها آية من فاتحة الكتاب، ومن كل سورة أثبتت فيها، وأن تاركها تارك لآية من كتاب الله، والدليل على ذلك ما ثبت عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم من قراءته لها مع ما كان يقرأ من السور، فلولا أنها من القرآن لما جاز لرسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أن يدخل في كلام الله ما ليس منه، كما أنه لا يجوز أن يخلط به كلاماً سواه ولا بيتاً من الشعر.
قال الشرفي: وكذلك حكى الطوسي في تفسيره إجماع أهل البيت" على أنها آية من القرآن في كل سورة، قال: وهي آية مستقلة وليست من السور التي كتبت في أولها إلا فاتحة الكتاب فإنها منها عند كثير من العلماء.
قلت: هذا هو القول الذي قال أبو السعود أنه غير معزي في الكتب إلى أحد أو قريب منه وفي حواشي شرح الغاية ما لفظه، وفي شرح الفصول للشيخ لطف الله والسيد صلاح إجماع العترة" على أنها آية.
قال القاضي (محمد بن حمزة) في أول تفسيره: وذلك إجماع العترة"، وكذا في تفسير عطية النجراني.
الحجة الثانية: إجماع المسلمين على إثباتها في أول كل سورة غير براءة فلو لم تكن قرآنا لما أجمع المسلمون على إثباتها في المصاحف؛ إذ لو جوزنا كونها غير قرآن مع هذا الإجماع وعدم الدليل الناهض على نفي كونها قرآناً لجوزنا في غيرها من الآيات أن لا تكون قرآناً، وهذا يؤدي إلى الطعن في القرآن والتشكيك في آي كثيرة منه، هذا مع تشديد السلف في أن لا يدخل في المصحف ما ليس منه حتى أنهم منعوا من كتبة أسامي السور في المصحف، ومنعوا من العلامات على الأعشار والأخماس كيلا يختلط بالقرآن ما ليس منه، فلو لم تكن التسمية من القرآن لما أجمعوا على كتابتها بخطه، وفي تفسير الخازن قال البيهقي: أحسن ما احتج به أصحابنا في أن بسم الله الرحمن الرحيم من القرآن، وأنها من فواتح السور سوى سورة براءة ما رويناه في جمع الصحابة كتاب الله عز وجل في المصاحف، وأنهم كتبوا فيها بسم الله الرحمن الرحيم على رأس كل سورة سوى سورة براءة، فكيف يتوهم متوهم أنهم كتبوا فيها مائة وثلاثة عشر آية ليست من القرآن.
وفي (تفسير الخازن) أيضاً ما لفظه: وأيضاً فأجمع الصحابة على إثباتها في المصاحف، وأنهم طلبوا بكتابة المصاحف تجريد كلام الله عز وجل المنزل على محمد صلى الله عليه وآله وسلم قرآناً وتدوينه مخافة من أن يزيدوا فيه، أو ينقصوا منه، ولهذا لم يكتبوا فيه لفظة (آمين)، وإن كان قد ورد أنه كان يقولها بعد الفاتحة فلو لم تكن البسملة من القرآن في أوائل السور لما كتبوها، وكان حكمها حكم آمين.
الحجة الثالثة: ما ورد من الأخبار والآثار الدالة على إثباتها قرآناً فمن ذلك ما سيأتي في مسألة الجهر بها.
ومنه ما رواه المؤيد بالله عليه السلام في (شرح التجريد) عن علي عليه السلام أنه قال: (آية من كتاب الله تركها الناس بسم الله الرحمن الرحيم).
وأخرج أبو عبيد، وابن سعد في (الطبقات)، وابن أبي شيبة، وأحمد، وأبو داود، وابن خزيمة، وابن الأنباري في المصاحف، والدارقطني، والحاكم وصححه، والبيهقي، والخطيب وابن عبد البر كلاهما في كتاب البسملة عن أم سلمة أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم كان يقرأ: ((بسم الله الرحمن الرحيم الحمد لله رب العالمين الرحمن الرحيم مالك يوم الدين إياك نعبد وإياك نستعين إهدنا الصراط المستقيم صراط الذين أنعمت عليهم غير المغضوب عليهم ولا الضالين)) قطعها آية آية، وعددها عد الإعراب، وعد بسم الله الرحمن الرحيم آية ولم يعد عليهم. ورواه أبو طالب في الأمالي من دون قوله: ولم يعد عليهم.
قلت: حديث أم سلمة ذكره الرازي في تفسيره وعزاه إلى تفسير الثعلبي، وذكره في شرح الغاية ونسبه إلى الشافعي.
وقال الخازن: قد صح عن أم سلمة أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قرأ البسملة في أول الفاتحة في الصلاة وعدها آية منها.
وقال في (نيل الأوطار): الحديث أخرجه الترمذي في القراءة ولم يذكر التسمية وقال غريب وليس بمتصل، ثم ذكر أن الطحاوي أعله بالانقطاع لأن ابن أبي مليكة لم يسمعه من أم سلمة بدليل رواية الليث له عن ابن أبي مليكة عن يعلى ابن مملك عنها، ورده الحافظ بأن ما أعله به ليس بعلة لرواية الترمذي له من دون واسطة يعلى، وصححه ورجحه على الإسناد الذي فيه يعلى بن مملك، ورد بأن تصحيح الترمذي له إنما وقع في باب الفضائل لا في باب القراءة، وذلك بعد أن رواه عن ابن أبي مليكة عن يعلى بن مملك عن أم سلمة، فلعل التصحيح لأجل الاتصال.
قال في (النيل): وأخرجه الدارقطني عن ابن أبي مليكة عن أم سلمة.
قال (اليعمري): ورواته موثقون، قال: وكذلك رواه من هذا الوجه ابن خزيمة والحاكم وفي إسناده عمر بن هارون البلخي ، قال الحافظ: وهو ضعيف.
قال (الشوكاني): ولكنه قد وثق فقول اليعمري رواته موثقون صحيح.
وأخرج (ابن أبي حاتم)، و(الطبراني) في (الأوسط)، و(الدارقطني)، و(البيهقي) في سننه بسند ضعيف عن بريدة، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم : ((لا أخرج من المسجد حتى أخبرك بآية أو سورة لم تنزل على نبي بعد سليمان غيري، قال: فمشى وتبعته حتى انتهى إلى باب المسجد فأخرج إحدى رجليه من أسكفة المسجد وبقيت الأخرى في المسجد فقلت بيني وبين نفسي نسي ذلك فأقبل علي بوجهه فقال: بأي شيء تفتتح القرآن إذا افتتحت الصلاة؟ قلت: بسم الله الرحمن الرحيم، فقال: هي هي ثم خرج)).
وفي (الشفاء) عن أبي بن كعب أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال: ((إذا قمت تصلي كيف تقرأ ؟ قال: بسم الله الرحمن الرحيم، قال: هي هي وهي السبع المثاني)).
وأخرج ابن الضريس عن ابن عباس قال: بسم الله الرحمن الرحيم آية، وأخرج أبو عبيد، والبيهقي في الشعب، وابن مردويه بسند حسن من طريق مجاهد، عن ابن عباس قال: أغفل الناس آية من كتاب الله لم تنزل على أحد سوى النبي صلى الله عليه وآله وسلم إلا أن يكون سليمان بن داود بسم الله الرحمن الرحيم.
وأخرج (الدارقطني)، و(أبو نعيم)، و(الحاكم) في تاريخه بسند ضعيف عن ابن عمر أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قال: ((كان جبريل إذا جاءني بالوحي أول ما يلقي علي بسم الله الرحمن الرحيم )).
وأخرج (الواحدي) عن (ابن عمر) قال: نزلت بسم الله الرحمن الرحيم في كل سورة.
وأخرج أبو داود، والبزار، والطبراني، والحاكم وصححه، والبيهقي في المعرفة عن ابن عباس قال: كان النبي صلى الله عليه وآله وسلم لا يعرف فصل السورة، وفي لفظ خاتمة السورة حتى ينزل عليه بسم الله الرحمن الرحيم. زاد البزار والطبراني: فإذا نزلت عرف أن السورة قد ختمت واستقبلت، أو ابتدأت سورة أخرى.
وأخرج الحاكم وصححه، والبيهقي في سننه عن ابن عباس قال: كان المسلمون لا يعرفون انقضاء السورة حتى تنزل بسم الله الرحمن الرحيم فإذا نزلت عرفوا أن السورة قد انقضت. وأخرج أبو عبيد نحوه عن سعيد بن جبير .
وأخرج الحاكم وصححه، والطبراني، والبيهقي في الشعب عن ابن عباس أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم : ((كان إذا جاء جبريل فقرأ بسم الله الرحمن الرحيم علم أنها سورة )).
وأخرج البيهقي في (شعب الإيمان)، و(الواحدي) عن (ابن مسعود) قال: كنا لا نعلم فصل ما بين السورتين حتى تنزل بسم الله الرحمن الرحيم.
وأخرج البيهقي في الشعب عن ابن عمر أنه كان يقرأ في الصلاة بسم الله الرحمن الرحيم، فإذا ختم السورة قرأها ويقول: ما كتبت في الصلاة إلا لتقرأ.
وفي أمالي أحمد بن عيسى عليه السلام عن نافع قال: كان ابن عمر يصلي بنا فيقرأ في الركعة السورة والسورتين والثلاث فيفتح في كل سورة ببسم الله الرحمن الرحيم.
وأخرج الطبراني في الأوسط، والدارقطني، والبيهقي عن نافع أن ابن عمر كان إذا افتتح الصلاة يقرأ ببسم الله الرحمن الرحيم في أم القرآن وفي السورة التي تليها، ويذكر أنه سمع ذلك من رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم .
وفي (زوائد الإبانة) لـ(محمد بن صالح الجيلاني الناصري) عن عل عليه السلام عنه صلى الله عليه وآله وسلم أنه قال: ((كل صلاة لا يقرأ فيها مع فاتحة الكتاب بسم الله الرحمن الرحيم فهي خداج وهي آية منها قد اختلسها الشيطان)).
وأخرج الثعلبي عن علي عليه السلام : أنه كان إذا استفتح السورة في الصلاة يقرأ بسم الله الرحمن الرحيم، وكان يقول: (من ترك قراءتها فقد نقص)، وكان يقول: (هي تمام السبع المثاني).
وفي أمالي أحمد بن عيسى عليه السلام عن أبي عبد الله الجذلي، قال: صليت خلف علي عليه السلام الفجر فقرأ بسم الله الرحمن الرحيم، فلما أن قال: غير المغضوب عليهم ولا الضالين، قال: آمين، كفى بربنا هادياً ونصيراً،{ بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ ، اقْتَرَبَ لِلنَّاسِ حِسَابُهُمْ }[الأنبياء:1].
وأخرج الدارقطني عن علي عليه السلام ، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم : ((كيف تقرأ إذا قمت إلى الصلاة ؟ قلت: الحمد لله رب العالمين، قال: قل بسم الله الرحمن الرحيم)).
وفي تفسير الثعلبي، و(شرح التجريد) عن جابر نحوه، وأخرجه البيهقي في الشعب، والدارقطني وفي إسناده الجهم بن عثمان، قال أبو حاتم: مجهول.
وأخرج الثعلبي عن أبي هريرة قال: كنت مع النبي صلى الله عليه وآله وسلم في المسجد إذ دخل رجل يصلي فافتتح الصلاة وتعوذ، ثم قال: الحمد لله رب العالمين فسمع النبي صلى الله عليه وآله وسلم فقال له: ((يا رجل قطعت على نفسك الصلاة أما علمت أن بسم الله الرحمن الرحيم من الحمد فمن تركها فقد ترك آية، ومن ترك آية فقد أفسد عليه صلاته)).
وأخرج الثعلبي عن طلحة بن عبيد الله، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم : ((من ترك بسم الله الرحمن الرحيم فقد ترك آية من كتاب الله )).
وأخرج الشافعي في الأم، والدارقطني، والبيهقي، والحاكم وقال صحيح على شرط مسلم: أن معاوية قدم المدينة فصلى بهم ولم يقرأ بسم الله الرحمن الرحيم ولم يكبر إذا خفض وإذا رفع، فناداه المهاجرون والأنصار حين سلم: يا معاوية أسرقت صلاتك أين بسم الله الرحمن الرحيم ؟ وأين التكبير؟ فلما صلى بعد ذلك قرأ بسم الله الرحمن الرحيم لأم القرآن وللسورة التي بعدها، وكبر حين يهوي ساجداً.
وأخرج أبو داود، والترمذي، والدارقطني، والبيهقي عن ابن عباس قال: كان النبي صلى الله عليه وآله وسلم يفتتح صلاته بسم الله الرحمن الرحيم.
وأخرج الدارقطني، والحاكم والبيهقي وصححاه عن نعيم المجمر قال: كنت وراء أبي هريرة فقرأ بسم الله الرحمن الرحيم ثم قرأ بأم القرآن الحديث، وفيه: ويقول إذا سلم: والذي نفسي بيده إني لأشبهكم صلاة برسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ، ورواه النسائي وغيره، وصححه أيضاً ابن خزيمة وابن حبان وأبو بكر الخطيب .
وأخرج الدارقطني عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم أنه كان إذا قرأ وهو يؤم الناس افتتح ببسم الله الرحمن الرحيم، قال أبو هريرة: وهي آية من كتاب الله تعالى اقرءوا إن شئتم فاتحة الكتاب فإنها الآية السابعة، وفي رواية أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم كان إذا أم الناس قرأ بسم الله الرحمن الرحيم، قال الدارقطني: رجال إسناده كلهم ثقات.
وفي أمالي أحمد بن عيسى عن أبي ميسرة أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم نودي في بدء أمره: ((يا محمد قل بسم الله الرحمن الرحيم الحمد لله رب العالمين حتى بلغ ولا الضالين)). وأخرجه من حديثه مطولاً ابن أبي شيبة في المصنف، وأبو نعيم والبيهقي، كلاهما في دلائل النبوة، والواحدي، والثعلبي ذكره في أول الدر المنثور، واسم أبي ميسرة عمرو بن شرحبيل، وفي الأمالي عن عبد خير عن علي عليه السلام : {وَلَقَدْ آتَيْنَاكَ سَبْعًا مِنَ الْمَثَانِي }[الحجر:87]، قال : فاتحة الكتاب، قلت: إنما هي ست آيات، قال: أول آية منها بسم الله الرحمن الرحيم. وأخرجه الدارقطني، والبيهقي في السنن بسند صحيح.
وأخرج الدارقطني وصححه، والبيهقي في السنن عن أبي هريرة، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم : ((إذا قرأتم الحمد فاقرءوا بسم الله الرحمن الرحيم إنها أم القرآن والسبع المثاني، وبسم الله الرحمن الرحيم أحد آياتها)).
وفي أمالي أحمد بن عيسى عن ابن عباس، قال: غلب الشيطان الناس على بسم الله الرحمن الرحيم وهي من المثاني، وفيه عن سعيد بن جبير قال: قلت لابن عباس: كم الحمد آية؟ قال: سبع آيات، قلت : وأين السابعة؟ قال: بسم الله الرحمن الرحيم. وأخرج الثعلبي نحوه.
وأخرج الدارقطني، والبيهقي في السنن بسند ضعيف عن أبي هريرة، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم : ((يقول الله تعالى: قسمت هذه الصلاة بيني وبين عبدي نصفين ، فإذا قال العبد: بسم الله الرحمن الرحيم، يقول الله: ذكرني عبدي، فإذا قال: الحمد لله رب العالمين يقول الله: حمدني عبدي، فإذا قال: الرحمن الرحيم يقول الله: أثنى علي عبدي، فإذا قال: مالك يوم الدين، يقول الله: مجدني عبدي، فإذا قال: إياك نعبد وإياك نستعين، قال: هذه الآية بيني وبين عبدي نصفين وآخر السورة لعبدي ولعبدي ما سأل)). وروى الثعلبي نحوه.
وأخرج البيهقي في الشعب من طريق مقاتل بن سليمان، عن الضحاك، عن ابن عباس عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال: ((إن الله قد أنزل علي سورة لم ينزلها على أحد من الأنبياء والرسل قبلي )) قال النبي صلى الله عليه وآله وسلم : ((قال الله تعالى: قسمت هذه السورة بيني وبين عبادي فاتحة الكتاب جعلت نصفها لي ونصفها لهم وآية بيني وبينهم، فإذا قال العبد: بسم الله الرحمن الرحيم قال الله: عبدي دعاني باسمين رقيقين أحدهما أرق من الآخر فالرحيم أرق من الرحمن وكلاهما رقيقان...)) الخبر بطوله ذكره في الدر المنثور، ثم قال: قال البيهقي: قوله: (رقيقان) قيل: هذا تصحيف وقع في الأصل وإنما هو رفيقان، والرفيق من أسماء الله، قلت: يعني أن الحرف الأول فاء لا قاف.
وأخرج مسلم عن أنس قال: بينا رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ذات يوم بين أظهرنا إذ أغفيَ إغفاءة ثم رفع رأسه مبتسماً فقال: ((أنزلت علي آنفاً سورة فقرأ بسم الله الرحمن الرحيم . إنا أعطيناك الكوثر...)) الحديث، وأخرجه أحمد والنسائي.
فهذه الأحاديث والآثار مع ما سيأتي من ثبوت الجهر بها يفيد التواتر المعنوي بكونها قرآناً وما في بعضها من الدلالة على كونها آية من أول كل سورة، مع ما تقدم من إجماع العترة، ونقل الأمة لها لفظاً وخطاً على حد نقل القرآن العظيم بلا فرق بينها وبين سائر الآيات، حتى أن الذي لم يسمع بالخلاف لم يجد فرقاً البتة يفيد خبر القطع بثبوتها قرآناً في أول كل سورة، وإنما يبقى النظر في كونها آية أو بعض آية، لكن ما تقدم من إجماع أهل البيت"، وما تقدم من الأخبار والآثار من تسميتها آية إما من الفاتحة أو مطلقاً يفيد العلم بكونها آية كاملة من كل سورة؛ إذ تسميتها آية يفيد أنها آية أينما ثبتت، وتقييدها بالفاتحة في بعض الروايات لا ينفي كونها آية في غيرها، بل لنا أن نقول: إذا ثبت كونها قرآناً في أول كل سورة، وثبت أنها آية تامة في الفاتحة وجب أن تكون كذلك في سائر السور إذ لا فارق.
فإن قيل: غاية ما في ذلك إفادة الظن بتمامها قيل: لا نسلم بل تفيد القطع مع التأمل سلمنا، فالظن كاف إذ لا يشترط القطع في تحديد الآيات.
احتج أهل القول الثاني بعدم تواترها قرآناً، والقرآن لا يثبت بالنظر والاستدلال، وإنما يثبت بالنقل المتواتر الاضطراري لتوفر الدواعي إلى نقل مثله.
وأجيب بمنع كونها لم تتواتر فرب متواتر عند قوم غير متواتر عند آخرين، وقد قدمنا ما يحصل به التواتر.
قال العلامة المقبلي: وما أظن أصل الخلاف إلا أنه وقع في خلد أفراد حين رأوها في أول كل سورة، أنها كسائر الكلام وغيره مما يبدأ فيه ذكر الله جل وعلى حين رأوها في أول كل سورة آية واحدة متكررة، ثم تكلموا في ذلك بناءً على ذلك التوهم إلى أن صار جدالاً كغيره يقود إليه المغالط والأوهام، ثم جاء المتكلمون بقولهم: ما توفرت الدواعي عليه لزم تواتر نقله، ولو تواترت البسملة لما اختلف فيها، فليست بمتواترة فليست بقرآن، كما سلكوا هذه الطريقة في قسمتهم ما صح نقله إلى ما سموه شاذاً ومتواتراً، وقد نازعناهم في هذه المقدمات في غير هذا الموضع، بل اللازم تواتر الجملة، وجمهور التفاصيل، وقد تواترت بحمد الله أكثر مما قضت به العادة، فكل سورة متواترة، وكذلك الآيات المتداولة لا وجوه القراءات، وكل ما صح لفظه فهو قرآن، والبسملة من جملة المتواتر، ووصف كونها قرآناً مثل سائر الآيات فإنه لم ينقل وينص على وصف كل آية بذلك.
وعلى الجملة فالفرق بينها وبين غيرها تحكم، أما الخلاف فلا يلزم منه ظنية أي مسألة. ذكره في المنار وهو بحث نفيس، وقد صرح جماعة من العلماء بأن تواترها في مصاحف الصحابة فمن بعدهم بخط المصحف، مع منعهم أن يكتبوا فيه ما ليس من القرآن كاف في كونها قرآناً؛ إذ لو لم تكن قرآناً لم استجازوا إثباتها بخطه من غير تمييز لأن ذلك يحمل على اعتقادها قرآناً، فيكونون مغررين بالمسلمين حاملين لهم على اعتقاد ما ليس بقرآن قرآناً، وهذا مما لا يجوز اعتقاده في الصحابة، وقد صرح عضد الدين بأن الرسم طريق علمي، احتجوا ثانياً بأن الأخبار الصحاح التي لا مطعن فيها دالة على أن البسملة ليست بآية لا من الفاتحة، ولا من غيرها إلا في النمل، وهي ما روي عن أنس بن مالك، قال: صليت مع النبي صلى الله عليه وآله وسلم وأبي بكر وعمر وعثمان فلم أسمع أحداً منهم يقرأ بسم الله الرحمن الرحيم. رواه أحمد ومسلم، وفي لفظ: صليت خلف النبي صلى الله عليه وآله وسلم وخلف أبي بكر وعمر وعثمان فكانوا لا يجهرون ببسم الله الرحمن الرحيم. رواه أحمد والنسائي بإسناد على شرط الصحيح، ولأحمد ومسلم : صليت خلف النبي صلى الله عليه وآله وسلم وأبي بكر وعمر وعثمان وكانوا يستفتحون بالحمد لله رب العالمين لا يذكرون بسم الله الرحمن الرحيم في أول قراءة ولا في آخرها، ولعبد الله بن أحمد في مسند أبيه، عن شعبة، عن قتادة، عن أنس قال: صليت خلف رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وخلف أبي بكر وعمر وعثمان فلم يكونوا يستفتحون القراءة ببسم الله الرحمن الرحيم.
قال شعبة : فقلت لقتادة: أنت سمعته من أنس؟ قال: نعم، نحن سألناه عنه.
وللنسائي عن منصور بن زاذان، عن أنس، قال: صلى بنا رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فلم يسمعنا قراءة بسم الله الرحمن الرحيم، وصلى بنا أبو بكر وعمر فلم نسمعها منهما. هكذا ساق هذه الألفاظ في منتقى الأخبار.
قال (الشوكاني) بعد أن ذكر أن صاحب المنتقى قد استوفى أكثر ألفاظه ما لفظه: ورواية وكانوا لا يجهرون أخرجها أيضاً ابن حبان، والدارقطني، والطحاوي والطبراني، وفي لفظ لابن خزيمة: كانوا يسرون. ثم ذكر أن بعضهم قد أعل قوله ولا يذكرون بسم الله الرحمن الرحيم بالاضطراب لأن جماعة من أصحاب شعبة رووه عنه بهذا، وجماعة رووه عنه بلفظ: فلم أسمع أحداً منهم قرأ بسم الله الرحمن الرحيم. ثم حكى عن الحافظ أنه قد رواه جماعة من أصحاب قتادة عنه باللفظين، ثم ذكر عن جماعة من المحدثين تخريجه باللفظين.
وأخرج مالك في الموطأ، وسفيان ابن عيينة في تفسيره، وأبو عبيد في فضائله، وابن أبي شيبة، وأحمد في مسنده، والبخاري في جزء القراءة، ومسلم في صحيحه وأبو داود، والترمذي، والنسائي، وابن ماجة، وابن جرير، وابن الأنباري في المصاحف، وابن حبان، والدارقطني، والبيهقي في السنن عن أبي هريرة، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم : ((من صلى صلاة لم يقرأ فيها بأم القرآن فهي خداج فهي خداج فهي خداج ثلاث مرات غير تام)).
قال (أبو السائب): فقلت: يا أبا هريرة إني أحياناً أكون وراء الإمام فغمز ذراعي وقال: اقرأ بها يا فارسي في نفسك فإني سمعت رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يقول: ((قال الله عز وجل: قسمت الصلاة بيني وبين عبدي نصفين فنصفها لي ونصفها لعبدي ولعبدي ما سأل، قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم : اقرأوا يقول العبد: الحمد لله رب العالمين فيقول الله: حمدني عبدي ويقول العبد الرحمن الرحيم فيقول الله: أثنى عليَّ عبدي ويقول العبد: مالك يوم الدين فيقول الله: مجدني عبدي، ويقول العبد: إياك نعبد وإياك نستعين فيقول الله: هذا بيني وبين عبدي أولها لي وآخرها لعبدي وله ما سأل، ويقول العبد: اهدنا الصراط المستقيم صراط الذين أنعمت عليهم غير المغضوب عليهم ولا الضالين، فيقول الله: هذا لعبدي ولعبدي ما سأل)). هكذا في الدر المنثور للسيوطي، ورواه في المنتقى وقال: رواه الجماعة إلا البخاري وابن ماجة، فينظر في عد السيوطي ابن ماجة من المخرجين للحديث وقد عده منهم أيضاً في الجامع الصغير، وأما البخاري فلعل جزء القراءة في غير الصحيح. والله أعلم.
وأخرج ابن أبي شيبة، والترمذي وحسنه، والنسائي، وابن ماجة، والبيهقي عن ابن عبد الله بن مغفل قال: سمعني أبي وأنا أقرأ بسم الله الرحمن الرحيم فقال: أي بني محدث صليت خلف رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وأبي بكر وعمر وعثمان فلم أسمع أحداً منهم جهر ببسم الله الرحمن الرحيم، وفي رواية ذكرها في المنتقى: فإني صليت مع رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ومع أبي بكر ومع عمر ومع عثمان فلم أسمع أحداً منهم يقولها فلا تقلها إذا أنت قرأت فقل: الحمد لله رب العالمين. قال: رواه الجماعة إلا أبا داود.
قال في (نيل الأوطار): تفرد به الجريري، وقد قيل: إنه اختلط بآخره وهو أيضاً من أفراد ابن عبد الله بن مغفل ذكر أن اسمه يزيد وهو مجهول لا يعرف روى عنه إلا أبو نعامة، وقد رواه معمر عن الجريري، ورواه إسماعيل بن مسعود عن خالد بن عبد الله الواسطي، عن عثمان بن غياث، عن أبي نعامة، عن ابن عبد الله بن مغفل، وإسماعيل هو الجحدري روى عنه النسائي، وقال أبو حاتم: صدوق، فعثمان متابع للجريري وقد وثق عثمان أحمد ويحيى، وروى له البخاري ومسلم، والحديث قد ضعفه الخطيب، قيل: وسبب ذلك جهالة ابن عبد الله بن مغفل والمجهول لا تقوم به حجة، وقال اليعمري: هي جهالة حالية لا عينية للعلم بوجوده فقد كان لعبد الله بن مغفل سبعة أولاد سمى هذا منهم يزيد، وما رمي بأكثر من أنه لم يرو عنه إلا أبو نعامة فحكمه حكم المستور.
قال: وليس في رواة هذا الخبر من يتهم بكذب فهو جار على رسم الحسن عنده، وأما تعليله بجهالة المذكور، فما أراه يخرجه عن رسم الحسن عند الترمذي ولا غيره.
وعن عائشة قالت: كان رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يستفتح الصلاة بالتكبير، والقراءة بالحمد لله رب العالمين. أخرجه مسلم.
وعن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم أنه قال: ((إن سورة من القرآن ثلاثون آية شفعت في رجل حتى غفر له وهي: تبارك الذي بيده الملك)). رواه أحمد، وأبو داود، والترمذي، وأخرجه أيضاً النسائي وابن ماجة، والحاكم، وابن حبان وصححه، وحسنه الترمذي، وأعله البخاري في التاريخ الكبير بأن عباساً الجشمي لا يعرف سماعه من أبي هريرة، ولكن ذكره ابن حبان في الثقات، وأخرجه أيضاً ابن الضريس، وابن مردويه، والبيهقي في شعب الإيمان، وأخرج نحوه الديلمي عن ابن عباس مرفوعاً بسند واه.
وأخرج ابن مردويه من طريق ابن الصباح، عن عبد العزيز، عن أبيه، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم : ((دخل الجنة رجل بشفاعة سورة من القرآن وما هي إلا ثلاثون آية تنجيه من عذاب القبر تبارك الذي بيده الملك)).
والجواب عما أوردوه من وجهين: جملي، وتفصيلي:
الوجه الأول: أنا لا نشك أنه مهما وقع التعارض بين ما رواه أنس وابن مغفل وأبو هريرة وأضرابهم، وبينما رواه علي بن أبي طالب كرم الله وجهه في الجنة، وما قاله فإنه يجب الحكم ببطلان ما عارض ما صح عن الوصي، بل لو اجتمع الصحابة كلهم على أمر وخالفهم أمير المؤمنين عليه السلام فإنا نحكم بالخطأ عليهم دونه، فكيف والمعارض له من ذكرنا، ولعمري لو كان ثمة إنصاف وانقياد تام لكتاب الله وسنة رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم لما احتفل القوم بذكر هذه الروايات مع معارضتها لما صح عن الوصي المعصوم فضلاً عن ترجيحها، هذا مع ما انضم إلى رواية الوصي ومذهبه من مرويات أكابر الصحابة كابن عباس، وجابر، وابن عمر، وأضرابهم الذين لا يعادلهم المذكورون في شيء من الصفات الموجبة للترجيح من كثرة الملازمة لمجلس رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم والقرب منه، وزيادة الفهم والحفظ، وقوة الضبط، والتحرج في الدين وغير ذلك، ثم إنا لو فرضنا تساويهم في العدالة والضبط وغيرهما لكان ترجيح ما يدل على مذهب العترة" بكثرة رواته ومخرجيه، وما اشتملت عليه كتب المحدثين من تصحيح كثير منها ومشاركة أئمة العترة" في رواية بعضها متعيناً، هذا مع ما فيها من الدلالة على الإثبات والتصريح بذلك، ولا شك في ترجيح المثبت على النافي، والصريح على المحتمل، والمشهود له بالتطهير على غيره.
[التعليق على حديث أنس في البسملة]
الوجه الثاني: وهو التفصيلي فنقول: أما حديث أنس فالجواب عنه من وجوه:
أحدها: أن فيه اضطراباً وتلوناً، واختلاف ألفاظ مع اختلاف معانيها، وقد قدمنا أكثر ذلك، ومنه ما روي أنه سئل عن ذلك فقال: كبرت ونسيت، ولذا قال ابن عبد البر: إنه لا يجوز الاحتجاج به.
وقال (زين الدين العراقي) بعد أن حكى عن ابن الجوزي اتفاق أئمة الحديث على صحته: أنه قد أعله الشافعي والدارقطني، وابن عبد البر، والبيهقي، قال: فأين الاتفاق مع مخالفة هؤلاء الحفاظ.
الوجه الثاني: أنه قد عارضه ما تقدم من روايته لحديث صلاة معاوية، وحديث نزول الكوثر، وهما حديثان صحيحان أخرج الثاني منهما مسلم، ويعارضه أيضاً ما سيأتي عنه في ثبوت الجهر بالبسملة، وما أخرجه البخاري عن قتادة، قال: سئل أنس: كيف كان قراءة النبي صلى الله عليه وآله وسلم ؟ فقال: كانت مداً، ثم قرأ بسم الله الرحمن الرحيم يمد بسم الله، ويمد الرحمن، ويمد الرحيم، والحديث وإن كان قد أخرجه أبو داود، والترمذي، والنسائي، وابن ماجة بدون ذكر البسملة فرواية البخاري مقدمة عند المحدثين، وإذا كانت هذه الرواية مع تلونها واضطرابها معارضة بما ذكرنا مع كونها تقتضي النفي، وما عارضها يقتضي الإثبات، فلا شك في وجوب تقديم ما سلم من العلة على المعلول، والمثبت على النافي.
الوجه الثالث: أن الحديث ليس صريحاً في عدم ثبوت البسملة، بل غايته أن أنساً لم يسمعها، وعدم سماعه لا يدل على عدم ثبوتها؛ إذ من سمع حجة على من لم يسمع، مع أن أنساً وأمثاله لم يكن لهم من المنزلة ما يستحقون به الحكم بالقرب من موقف النبي صلى الله عليه وآله وسلم في الصلاة، وهذا في التحقيق راجع إلى ترجيح المثبت على النافي، وما ورد في بعض ألفاظه من أنهم كانوا يستفتحون بالحمد لله رب العالمين فمحمول على عدم السماع أيضاً، أو على أحد التأويلات الآتية، على أن ما في بعض ألفاظه من قوله: كانوا لا يجهرون كانوا يسرون صريح في أن المنفي الجهر بها لا قراءتها، وهو غير محل النزاع.
وأما حديث أبي هريرة في تنصيف الصلاة فجوابه من وجهين:
أحدهما: أنه معارض بما تقدم عنه من وجوه صحيحة من إثبات البسملة قرآناً، وعند التعارض فالترجيح لما تقدم من حيث الإثبات والصراحة في هذا؛ إذ في هذا من الاحتمال ما سيأتي، ويعارضه أيضاً ما تقدم عنه من ثبوت البسملة في حديث التنصيف والمثبت أرجح، وما قيل فيه من التضعيف فهو منجبر لما يعضده من أدلة الإثبات.
الوجه الثاني: أن التنصيف عائد إلى ما يختص بالفاتحة من الآيات، فإن قيل: قد ثبت بالإجماع أن الفاتحة سبع آيات، والتنصيف لا يكون إلا إذا كان للرب ثلاث آيات ونصف وللعبد مثلها، وقد نص في الخبر على أن قوله: {إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ }[الفاتحة: 5] مشترك فوجب أن نعد أنعمت عليهم آية لتكمل بعد الآية المشتركة ثلاث آيات؛ إذ لو عددنا البسملة وجعلنا التنصيف باعتبار ما يخص الفاتحة لخالفنا الحديث في إثبات الآية المشتركة.
قيل: عد البسملة آية أولى من عد أنعمت عليهم رعاية لتشابه المقاطع، ولأن (غير) صفة، أو بدل لا يجوز قطعه عما قبله لأن طلب الاهتداء بصراط المنعم عليهم مشروط بكونهم لا مغضوباً عليهم ولا ضالين، بدليل قوله تعالى: {أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ بَدَّلُوا نِعْمَةَ اللَّهِ كُفْراً }[إبراهيم:28]، وحينئذٍ يكون التنصيف باعتبار ما يختص الفاتحة من الآيات بالنظر إلى المعنى، فيكون معنى قوله: نصفها لي ونصفها لعبدي أي بعضها لي وهو ما اشتمل على الثناء، وبعضها لعبدي وهو ما اشتمل على الطلب.
وإطلاق النصف على البعض شائع كما في قول شريح: أصبحت ونصف الناس علي غضبان، ويدل على ذلك ما أخرجه ابن جرير، وابن أبي حاتم في تفسيريهما عن جابر بن عبد الله، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم : ((قال الله قسمت الصلاة بيني وبين عبدي نصفين وله ما سأل، فإذا قال العبد: الحمد لله رب العالمين، قال: مدحني عبدي، وإذا قال: الرحمن الرحيم، قال: أثنى علي عبدي ثم قال: هذا لي وله ما بقي)). وهذا نص في أن التنصيف باعتبار المعنى إذ لم يكن للباري تعالى إلا آيتان، لكنه يعارضه ما أخرجه الطبراني في الأوسط عن أبي بن كعب قال: قرأ رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فاتحة الكتاب، ثم قال: ((قال ربكم: ابن آدم أنزلت عليك سبع آيات ثلاث لي وثلاث لك وواحدة بيني وبينك، فأما التي لي: فـ(الحمد لله رب العالمين الرحمن الرحيم مالك يوم الدين، وأما التي بيني وبينك: إياك نعبد وإياك نستعين منك العبادة وعلي العون لك، وأما التي لك: إهدنا الصراط المستقيم صراط الذين أنعمت عليهم غير المغضوب عليهم ولا الضالين)).
هذا وقد تأولوا حديث أبي هريرة بتأويلات أُخر منها أن التنصيف عائد إلى جملة الصلاة لا إلى الفاتحة عملاً بظاهر اللفظ، لكنه يرده حديث أبي، ومنها أن المراد فإذا انتهى العبد في قراءته إلى الحمد لله رب العالمين، فحينئذٍ تكون القسمة.
والحق أن أحاديث القسمة متعارضة، فمنها ما صرح فيه بعدِّ البسملة آية في كحديث ابن عباس وبعض الروايات عن أبي هريرة، ومنها ما لم يصرح فيه بعدها من الفاتحة، مع احتمال دلالته للتأويل، ومنها ما هو ظاهر في نفيها، ومنها ما ضعفت طريقه، ومنها ما قويت، ومنها ما سكتوا عنه، ومع هذا التعارض والاحتمالات فالواجب الرجوع إلى غيرها، ولا ريب أن دلائل إثباتها أكثر وأصح وأصرح، مع أنها مسوقة لإثباتها بخلاف هذه الأحاديث فإنها لم يقصد بها بيان كون البسملة من الفاتحة أم لا، وإنما قصد بها بيان فضيلة الصلاة، ووجوب قراءة الفاتحة فيها.
وأما حديث عبد الله بن مغفل فلا تقوم به حجة لما تقدم، ولا التفات إلى تحسين الترمذي له فقد نسبه الحفاظ إلى التساهل في ذلك.
قال (ابن حجر المكي): وهو تساهل شديد جداً فقد ضعفه الحفاظ كابن خزيمة وابن عبد البر والبيهقي بجهالة الابن الناقل عن أبيه، وعلى تسليم صحته فرواية الإثبات مقدمة عليه، مع أنه ليس بصريح، بل غايته عدم السماع، وذلك غير مفيد لنفيها كما مر في حديث أنس.
وأما حديث عائشة فيحتمل عدم سماعها للبسملة، ويحتمل أنها أرادت السورة بكمالها، كما يقال: قرأت {البقرة}، و{ق}، و{ن}.. ونحو ذلك، والمقصود السورة التي ذكر فيها ذلك، وقد روي أن الحمد من أسماء هذه السورة وقد مر.
وأما حديث أبي هريرة في فضل سورة تبارك وما طابقه، فجوابه من وجوه:
أحدها: القدح في صحتها لما تقدم من الكلام على أسانيدها.
الثاني: ما ذكره العلامة المقبلي من احتمال دخول البسملة في العدد المذكور ولفظه: وحديث سورة الملك، وسورة الفاتحة في العدد من الجانبين ليس بالواضح لاحتمال إدخالها في العدد؛ إذ لا قطع بتحديد كل آية. ذكره في المنار.
فإن قيل: يدفع هذا الاحتمال ما روي من الإجماع على أن سورة الملك ثلاثون آية بدون التسمية.
قيل: ليس إلا إجماع أهل العدد كما صرح به ابن تيمية في المنتقى، وإجماعهم ليس بحجة.
الوجه الثالث: أن المراد عدد ماهو خاصة السورة؛ لأن البسملة كالشيء المشترك فيه، وكذا الجواب عما روي عن أبي هريرة أن سورة الكوثر ثلاث آيات.
احتجوا ثالثاً بما ذكره القرطبي في تفسيره، وهو أن مسجد النبي صلى الله عليه وآله وسلم بالمدينة انقضت عليه العصور، ومرت عليه الأزمنة والدهور من لدن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم إلى زمان مالك، ولم يقرأ أحد فيه قط بسم الله الرحمن الرحيم اتباعاً للسنة.
والجواب: أن ما تقدم عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم ، وعن وصيه، وعن الصحابة من المهاجرين والأنصار، وما تقدم من إنكارهم على معاوية تركها يدفع هذه الحجة، وينادي على موردها بالجهل، أو عدم الإنصاف والقصد إلى الحق من أينما ورد، والذي يظهر أن كثيراً من أتباع الفقهاء يتشبث في تقويم مذهب إمامه بالحجر والمدر، ولا يبالي إذا قد تزخرفت له العبارة، واستقامت له الكلمة عند أغمار الناس وجهالهم ظهر من عيبه ونقصه عند علماء الدين من أهل البحث والنظر. فلا قوة إلا بالله.
احتج أهل القول الثالث وهم القائلون بأنها آية فذة مستقلة لا مائة وثلاثة عشر آية بأن إثباتها في المصحف من غير إنكار يدل على كونها قرآناً، قالوا ولم تقم حجة على كونها آية من أول كل سورة، واحتجوا أيضاً بما في بعض الروايات من نزولها للفصل بين السور.
والجواب: أن الحجة قد قامت على كونها آية من أول كل سورة، وقد بيناها بياناً شافياً.
حجة القول الرابع: تظاهر الأخبار بكونها من الفاتحة، وقيام الدليل على كونها قرآناً في سائر السور، وهو إثباتها في المصحف، ولم يقم دليل على كونها جزءاً من السور أولا، ولا على كونها آية تامة أم لا.
وحجة القول الخامس: كهذه الحجة إلا أنهم أثبتوها بعض آية في سائر السور لعدم الدليل على تمامها، ومثلهاحجة القول السادس إذ لم ينتهض عندهم الدليل على تمامها في الفاتحة كسائر السور.
وأما حجة القول السابع: فهي أنه قد قام الدليل على كونها آية أنزلت مع كل سورة فوجب تعددها بتعدد السور التي أنزلت معها، ولم يقم دليل على كونها جزءاً من تلك السور.
وحجة القول الثامن: ما ورد من تكثر الأخبار بكونها من الفاتحة، ولا دليل في غيرها يجب العمل به.
وأما حجة القول التاسع والقول العاشر فمأخوذة مما ذكرنا.
والجواب عليهم جميعاً ما تقدم من قيام الحجة على ثبوتها آ ية كاملة من أول كل سورة أثبتت فيها، وأنها آية منها.
فرع [في ذكر خلاف العلماء في هذه المسألة]
واختلاف العلماء في كون هذه المسألة قطعية أم لا، فظاهر كلام أئمتنا" أنها قطعية؛ لأنهم يشترطون التواتر في ثبوت القرآن العظيم، ولذا منعوا من القراءة بالشواذ، وحجتهم على ذلك أن القرآن مما تتوفر الدواعي إلى نقله، ولأن الظني لا ينفى عنه الريب، وقد قال تعالى: {لاَ رَيْبَ فِيهِ }[لبقرة: 1] وهذا أحد وجهي أصحاب الشافعي، وهو قول القاضي أبي بكر.
قال: والخطأ فيها إن لم يبلغ الكفر فلا أقل من الفسق.
وقيل: بل هي ظنية بمعنى أن ثبوت قرآنيتها ليس إلا على سبيل الحكم.
قالوا: والتواتر إنما يشترط فيما كان قرآناً على سبيل القطع، فأما ما ثبت قرآناً على سبيل الحكم فلا كالبسملة، وهذا أحد وجهين لأصحاب الشافعي حكاهما المازري وغيره، ومعنى سبيل الحكم أنه لا تصح الصلاة إلا بها في أول الفاتحة، ولا يكون قارئاً لسورة كاملة إلا إذا أتى بها في أولها، ولعل هذا قول جمهور الشافعية، بل قال بعضهم في الوجه الأول هو غباوة من قائله لأن ادعاء العلم حيث لا قاطع محال.
وقال الرازي: الذي عندي أن النقل المتواتر ثابت بأن بسم الله الرحمن الرحيم كلام أنزله الله على محمد صلى الله عليه وآله وسلم ، وأنه مثبت في المصحف بخط القرآن، وعند هذا ظهر أنه لم يبق لقولنا إنه من القرآن أو ليس من القرآن فائدة، إلا أنه حصل فيها أحكام شرعية هي من خواص القرآن، مثل أنه هل يجب قراءتها في الصلاة أم لا، وهل يجوز للجنب قراءتها أم لا، وهل يجوز للمحدث مسها أم لا، ومعلوم أن هذه الأحكام اجتهادية، فلما رجع حاصل قولنا إن التسمية هل هي من القرآن إلى ثبوت هذه الأحكام، وثبت أن ثبوت هذه الأحكام وعدمها أمورٌ اجتهادية ظهر أن البحث اجتهادي لا قطعي.
قلت: وكلام الرازي هذا ساقط؛ إذ يلزم منه صحة كون جميع القرآن أحادياً؛ لأن هذه الأحكام كما قال خواص للقرآن كله، ثم إنه لا يلزم من ثبوت الأحكام الاجتهادية لبعض ما يشترط فيه القطع وتوقفها على ثبوته أن تصير تلك القطعيات ظنية؛ إذ علة قطعيتها كونها مما تتوفر الدواعي إلى نقلها، وليس كذلك الأحكام الثابتة لها، مع أن قوله إنه لم يبق لقولنا إنها من القرآن أو لا فائدة إلا ثبوت تلك الأحكام غير مسلم، فإن له فائدة غير ذلك لا تصح إلا مع القطع، وهي اعتقاد القرآنية.
فرع [الخلاف في هذه المسألة لا يستلزم كفراً]
وعلى القول بأنها قطعية فلا يكفر من أثبتها، ولا من نفاها لأجل اختلاف العلماء فيها، وقوة الشبهة من الجانبين، وقد روى غير واحد إجماع الأمة على ذلك، وظاهر ما تقدم أن الخلاف فيها كان في أيام الصحابة، ولم ينقل تكفير بعضهم بعضاً بخلاف ما لو نُفيَ حرفاً مجمعاً عليه، أو أثبت ما لم يقل به أحد فإنه يكفر بالإجماع.
فائدة [في أنه لا خلاف بين الفقهاء في قراءتها في أول كل سورة]
لا خلاف بين القراء السبعة في تلاوتها في أول فاتحة الكتاب، وفي أول كل سورة إذا ابتدأ بها القارئ ما خلا سورة التوبة، وأما في أوائل السور مع الوصل بسورة قبلها فأثبتها ابن كثير، وقالون، وعاصم، والكسائي من القراء في أول كل سورة غير براءة، وحذفها منهم أبو عمرو، وحمزة، وورش، وابن عامر، ولا خلاف بينهم في جواز البسملة في الابتداء بأواسط السور، وإنما اختلفوا في المختار فاختارها جمهورالعراقيين، واختار تركها جمهور المغاربة، وقيل: إن قرأ بقراءة من يأتي بها بين السورتين كقالون أتى بها وإلا فلا.
وفي (البحر) و(الانتصار) عن القراء أنهم لا يسمون لأوساط السور، واختاره الإمام يحيى للفرق بين أوائل السور وغيرها، ولقول الصحابة: ما كنا نفرق بين أوائل السور إلا بالبسملة، ونسب في البحر القول باختيار التسمية إلى المرتضى وهو المصحح للمذهب، ونسبه في الانتصار إلى العترة والفقهاء، والأصح أن القراء مختلفون كما حققناه عن الكتب الموضوعة لقواعدهم.
نعم أما لو قرأ من وسط السورة في الصلاة، فقال (المقبلي): التصرف في الصلاة وغيرها من العبادات يحتاج إلى دليل وإلا منع، وليس لك إدخاله تحت حديث: ((كل أمر ذي بال )) لأنه يلزم في كل نوع من الأذكار، والأدعية في الصلاة، والشيء المركب من أنواع إنما البداية لأوله، على أن بعض روايات هذا الحديث بذكر الله عز وجل، والقرآن ذكر، ويجري ما ذكرنا في الاستعاذة، نعم ابتداء القراءة الخارجة عن الصلاة يصدق فيها: {فَإِذَا قَرَأْتَ الْقُرْآنَ فَاسْتَعِذْ ...} [النحل:98] إلخ.
قلت: و(أهل المذهب) ومن قال بقولهم لا يفرقون بين القراءة في الصلاة وغيرها، ولذا رد عليهم المقبلي فيما يتعلق بالصلاة.
واختلف في أوساط براءة، فقال (السخاوي): هي كسائر السور، ومنعه الجعبري اعتباراً ببقاء أثر العلة التي من أجلها حذفت البسملة من أولها، وهي نزولها بالسيف، واختاره الشاطبي.
قال (الشوكاني): ولا خلاف في إثباتها خطاً في أوائل السور في المصحف إلا في سورة التوبة.
وحكى (الرازي) في تفسيره أن القائلين بأنها ليست من القرآن وإنما كتبت للفصل اختلفوا، فمنهم من قال: هذا الفصل قد صار الآن معلوماً فلا حاجة إلى إثباتها، قال: فعلى هذا لو لم تكتب لجاز، ومنهم من قال: لا يجوز تركها.
المسألة الثانية: في قراءة البسملة في الصلاة
ذهب الأكثر إلى وجوب قراءتها مع الفاتحة لما تقدم من أنها آية منها، ولما سيأتي من الأحاديث القاضية بثبوت قراءتها معها، وسيأتي أيضاً أن قراءة الفاتحة شرط في صحة الصلاة، وذهبت طائفة إلى أنه لا يقرأ بها سراً ولا جهراً منهم الأوزاعي، وعبد الله بن معبد الزماني ونسبه في (نيل الأوطار) إلى القائلين بأنها ليست من القرآن، ورواه فيه عن عمر، وروى القرطبي عن مالك أنه لا يقرأ بها في المكتوبة ولا في غيرها سراً ولا جهراً، ويجوز أن يقرأ بها في النوافل، قال: هذا هو المشهور من مذهبه عند أصحابه، وعنه رواية أخرى أنها تقرأ أول السورة في النوافل، ولا تقرأ أول أم القرآن، وعنه ابتدأ القراءة بها في الفرض والنفل ولا تترك بحال، وفي (الروض النظير) عن مالك أن المصلي إذا قام في شهر رمضان استفتح السورة بالبسملة ولا يستفتح بها في أم القرآن، احتج هؤلاء على نفي قراءتها بحديث أنس، وعائشة، وابن المغفل، وما أخرجه مسلم عن أبي هريرة قال: كان رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم إذا نهض في الركعة الثانية استفتح الصلاة بالحمد لله رب العالمين.
والجواب: أن هذه الأحاديث قد تقدم الجواب عنها بالمعارضة لما هو أقوى منها وأصرح، وحديث أبي هريرة يؤخذ تأويله مما تقدم من احتمال عدم السماع، أو أنه جعل قوله: الحمد لله رب العالمين اسماً للسورة، وأما ما ذكر عن مالك من التفاصيل فلعلها تؤخذ أدلتها والجواب عنها من أدلة سائر الأقوال، وما أجيب عنها وإلا فعدم الدليل كاف في إبطالها.
وأما القائلون بوجوب قراءتها فاختلفوا في الجهر والإسرار بها على أقوال، وبعضهم اختلفت الرواية عنه، فذهب إلى شرعية الجهر بها في الصلاة الجهرية والسرية الإمام القاسم بن محمد، والشرفي، والإمام الحسن بن يحيى القاسمي وولده علامة العصر عبد الله بن الإمام، ورواه عن زيد بن علي، وعلي بن موسى، وحكاه في نيل الأوطار عن جماعة من أهل البيت"، وهو الظاهر من مذهب بعض علماء العصر، وقواه الرازي، ورواه عن علي عليه السلام .
قلت: وهو المشهور عنه عليه السلام لما سيأتي من الروايات الكثيرة عنه بذلك، ويؤيد شهرته عنه أن القول بالجهر بها مطلقاً مذهب الشيعة حكاه عنهم البيهقي.
وقال السيد (عماد الدين): هو مذهب الأئمة: زيد، والهادي، ومحمد بن منصور، وقد روي الجهر بها مطلقاً عن التقييد بجهرية أو سرية عن جماعة من سلف العترة" وغيرهم، فرواه في الجامع الكافي عن علي عليه السلام والحسن بن علي، وابن عباس، وعلي بن الحسين، ومحمد بن علي، وزيد بن علي، وعبد الله بن الحسن، وولديه محمد وإبراهيم وجعفر بن محمد، وعمر بن علي بن الحسين، وأحمد بن عيسى، وعبد الله بن موسى بن عبد الله"، وعن أبي بكر، وعمر، وعمار، وابن عمر، وجابر بن عبد الله، وعبد الله بن الزبير، وأبي عبد الله الجزلي، وابن معقل، وسعيد بن جبير، وعطاء، وطاووس، ومجاهد والزهري، وأبي عاصم النبيل، وروى ذلك في العلوم عن أكثر المذكورين بأسانيده، ورواه عن أصحاب علي عليه السلام ، وقال في الروض، ونيل الأوطار: وذكره الخطيب أي الجهر عن أبي بكر وعثمان، وأبي بن كعب، وأبي قتادة، وأبي سعيد، وأنس، وعبد الله بن أبي أوفى، وشداد بن أوس، وعبد الله بن جعفر، والحسين بن علي، ومعاوية.
قال الخطيب: وأما التابعون ومن بعدهم ممن قال بالجهر بها فهم أكثر من أن يذكروا، وأوسع من أن يحصروا، منهم: سعيد بن المسيب، وطاووس، وعطاء، ومجاهد، وأبو وائل، وسعيد بن جبير، وابن سيرين، وعكرمة، وعلي بن الحسين وابنه محمد، وسالم بن عبد الله بن عمر، ومحمد بن المنكدر، وأبو بكر بن محمد بن عمر وابن حزم، ومحمد بن كعب، ونافع مولى ابن عمر، وأبو الشعثاء، وعمر بن عبد العزيز، ومكحول وحبيب بن أبي ثابت، والزهري وأبو قلابة، وعلي بن عبد الله بن العباس وابنه، والأزرق بن قيس، وعبد الله بن معقل بن مقرن.
وممن بعد التابعين: عبيد الله العمري، والحسن بن زيد، وزيد بن علي، ومحمد بن عمر بن علي، وابن أبي ذؤيب، والليث بن سعد، وإسحاق بن راهويه، وزاد البيهقي من التابعين: عبد الله بن صفوان، ومحمد بن الحنفية، وسليمان التيمي، ومن تابعيهم المعتمر بن سليمان، وفي الروض أن أبا عمر زاد عمرة وابن دينار، وابن جريج، ومسلم بن خالد الزنجي، وسائر أهل مكة، وفي النيل أنه محكي عن ابن المبارك وأبي ثور، وفيه أن ابن وهب كان يقول بالجهر ثم رجع عنه إلى الإسرار، وزاد الخازن من القائلين بالجهر زيد بن أسلم، قال: وهو أحد قولي ابن وهب صاحب مالك.
وذهب جمع إلى الإسرار بها مع الفاتحة، وظاهر الرواية عنهم الإطلاق أعني في السرية والجهرية، وممن ذهب إلى ذلك من الفقهاء أحمد، وأبو حنيفة رواه عنهما الرازي وغيره، ورواه بعضهم عن الحكم وحماد، وإسحاق، والثوري، وأبي عبيد والحسن، والنخعي، والشعبي، وقتادة، والأعمش والأوزاعي، وحكاه في البحر وتفسير الخازن عن مالك، وهو مروي عن علي عليه السلام والباقر، وأبي بكر وعمر وعثمان، وابن عباس، وابن مسعود، وعمار، وابن الزبير، وابن مغفل، وابن سيرين، وحكاه في الروض عن أكثر أصحاب الحديث، وفي النيل: أن ابن سيد الناس حكاه في شرح الترمذي عن علماء الكوفة ومن شايعهم، ورواه الترمذي والحازمي عن أكثر أهل العلم.
وذهبت طائفة إلى التفصيل، فقالو: يجهر بها في الجهرية ويسر بها في السرية، وهذا قول (أهل المذهب)، وهو قول (الهادي) عليه السلام على ما تقتضيه عبارة التجريد، وهو ظاهر ما في البحر عن علي عليه السلام وابن عباس، وابن عمر وعطاء، وطاووس، وسعيد بن جبير، ومجاهد، وروي أنه إجماع العترة" ولفظه بعد أن ذكر هؤلاء: ويجهر بالبسملة في الجهرية.
وفي (الشفاء) أن القاضي زيد روى إجماع العترة" على كون الجهر بها مشروع في الصلاة التي يجهر فيها بالقراءة، ومثله في الروضة والغدير للسيد محمد بن الهادي.
قال: وإن اختلفوا في كونه واجباً أو مسنوناً، وهذا قول الشافعي، واختاره المقبلي، وقال: إن له مرجحاً خاصاً، وهو أنه رأى النبي صلى الله عليه وآله وسلم وقال له ما معناه أو لفظه: إن البسملة تبع للسورة في الجهر والإسرار.
قال: فلم يبق معي ريبة، وقد حمل السياغي ما تقدم عن السلف القائلين بالجهر على هذا، يعني أنه يجهر بها في الجهرية ويسر بها في السرية، ولفظه بعد أن حكى هذا المذهب: وهو ظاهر ما نقل عن من تقدم ذكره فإن شراح الحديث وغيرهم من العلماء منهم أبو الفتح والحازمي في الاعتبار، والمؤيد بالله في شرح التجريد، والسيد أبو عبد الله في الجامع الكافي يطلقون القول بالجهر بها إلى من ذهب إليه على معنى أنها ثابتة آية من آيات الفاتحة، وإثبات الجهر بها في الصلاة التي يجهر بها فيها.
قال: ويدل عليه احتجاجهم بالأدلة التي مر ذكرها، فإنه يؤخذ منها ثبوت البسملة في آيات الفاتحة، وكونها مجهوراً بها في موضعه. ذكره في الروض، واختار ما ذكر من التفصيل الإمام المهدي عليه السلام في المنهاج، وحكاه مذهباً لزيد بن علي عليه السلام كما حكاه عنه غيره.
فهذه الأقوال المشهورة في المسألة، وقد روي عن ابن أبي ليلى، والحكم أن الجهر والإسرار بها سواء، احتج أهل القول الأول بحجج:
[أدلة من قال بوجوب الجهر بالبسملة]
[الأحاديث]
أحدها: الأخبار الكثيرة البالغة حد التواتر المعنوي في ثبوت الجهر بها عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم ، وعن أمير المؤمنين، وعن جماعة من الصحابة.
فروى الهادي عليه السلام بإسناده إلى علي عليه السلام ، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم : ((يا علي من لم يجهر في صلاته ببسم الله الرحمن الرحيم فقد أخدج صلاته )). وهو في أمالي أحمد بن عيسى بسند الهادي عليه السلام من كلام علي عليه السلام ولم يرفعه، ووجدته في بعض نسخ الأحكام موقوفاً كرواية الأمالي، ورفعه في الاعتصام والروض النضير. والخداج: النقصان.
قال الهادي عليه السلام : وما لم يتم فهو باطل، وفي إسناد الحديث أبو بكر بن أبي أويس، عن الحسين بن عبد الله بن ضميرة، عن أبيه عن جده، وقد تكلم فيهم جميعاً.
فأما أبو بكر واسمه عبد الحميد بن عبد الله بن عبيد الله بن أبي أويس الأصبحي المدني فقد وثقه ابن معين وغيره، وقال الدارقطني: قدمه أبو داود على أخيه، وقال الذهبي في رمي الأزدي له بالوضع: هذه منه زلة قبيحة.
وأما الحسين بن عبد الله فقد تكلموا عليه بلا حجة، ورموه بالكذب، وعده الأصحاب من الشيعة الثقات.
قال السيد (أحمد بن عبد الله الوزير): الحسين بن عبد الله من شيعة أهل البيت وموالي النبي صلى الله عليه وآله وسلم ، وقد روى عنه الأئمة: القاسم وأحمد والهادي، وروايتهم عنه تنزهه عن الكذب، وأما أبوه عبد الله فقال في الطبقات: وثقه العجلي.
وأما ضميرة ويقال: ضمرة فهو من موالي النبي صلى الله عليه وآله وسلم وهو فارسي، وقيل: حميري صار في سهم الرسول صلى الله عليه وآله وسلم في بعض وقائعه فأعتقه، وكتب له كتاباً بالوصية فيه، وبقي الكتاب في يد ولده وقدم به الحسين بن عبد الله على المهدي العباسي فوصله بثلاثمائة دينار.
وعن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أنه قال: ((كل صلاة لا يجهر فيها ببسم الله الرحمن الرحيم فهي آية اختلسها الشيطان )) رواه الهادي إلى الحق في الأحكام، وهو في الأمالي عن جعفر بن محمد، عن أبيه، عن جده مرفوعاً.
وعن علي عليه السلام : أنه كان يجهر ببسم الله الرحمن الرحيم. رواه في المجموع، ورواه في أمالي أحمد بن عيسى من طريق إبراهيم بن محمد، عن محمد بن الحسين بن علي بن الحسين، عن أبيه عن جده عن علي عليه السلام وله في الأمالي طريق أخرى عن علي بن حكيم الأودي، عن عمرو بن ثابت، عن أبي إسحاق، عن الحارث، عن علي عليه السلام ، وله طريق ثالثة عن محمد بن جميل عن ابن أبي يحيى، عن الحسين بن عبد الله بن ضميرة، عن أبيه عن جده، عن علي عليه السلام ثلاثتها بلفظ المجموع، وقد تكلم في عمرو بن ثابت في الطبقات عن أبي داود أنه قال: ليس تشبه أحاديثه أحاديث الشيعة بمعنى أنها مستقيمة، وأخرجه في الأمالي أيضاً بطريق أخرى عن الحارث أنه سمع علياً عليه السلام يجهر ببسم االله الرحمن الرحيم، وقد تقدم توثيق الحارث.
وأخرج البيهقي في سننه عن الشعبي قال: رأيت علي بن أبي طالب وصليت وراءَهُ يجهر ببسم الله الرحمن الرحيم.
وفي الأمالي عن أبي جعفر بطريقين أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم كان يجهر ببسم الله الرحمن الرحيم.
وعن علي عليه السلام وعمار أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم : كان يجهر في المكتوبات ببسم الله الرحمن الرحيم. أخرجه الدارقطني، قالوا: وفي إسناده جابر الجعفي ، وإبراهيم بن الحكم بن طهير.
قال في النيل: وغيرهما ممن لا يعول عليه، قال في التلخيص: وفي لفظ له يعني الدارقطني مثله ولم يذكر المكتوبات.
قلت: وأخرج الحديث من دون ذكر المكتوبات الطبراني في الكبير رواه في مجمع الزوائد، وقال: إنه من رواية جابر الجعفي.
قلت: جابر هو: ابن يزيد الجعفي بضم الجيم وسكون المهملة روى عن ابن الطفيل والشعبي، والباقر، وله عنه سبعون ألف حديث، وهو من كبار علماء الشيعة روى عنه السفيانان، وأبو حنيفة ووثقه، وقال سفيان: ما رأيت أورع منه في الحديث، وفي الاعتصام وثقه شعبة، والثوري، وزهير بن معاوية، وعده السيد صارم الدين في ثقات محدثي الشيعة، قالوا: وقدح فيه بعض الخصوم بالتشيع.
وأما إبراهيم بن الحكم فقال الذهبي: شيعي جلد، وتكلم فيه أبو حاتم والدارقطني، قال في الطبقات: هو راوي كثيراً في فضائل الأئمة فجرح بسببها، على أن الحديث قد روى من غير طريق جابر فأخرجه في تحفة المحتاج للشيخ سراج الدين عن سعيد بن عثمان الخزاز، بمعجمات.
حدثنا عبد الرحمن بن سعيد المؤذن، حدثنا فطر بن خليفة، عن أبي الطفيل، عن علي وعمار أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم : كان يجهر في المكتوبات ببسم الله الرحمن الرحيم... الحديث، ثم قال: رواه الحاكم في مستدركه، ثم قال:هذا حديث صحيح الإسناد ولا أعلم في رواته منسوباً إلى الجرح، قال: فأقره على هذا القول البيهقي في الخلافيات، وفي التلخيص وله يعني لما رواه الدارقطني عن علي وعمار طريق أخرى عن علي أخرجها الحاكم في المستدرك، قال: ورواه الدارقطني من وجهين من طريق أهل البيت، والحديث ذكره السيوطي في الدر المنثور ولفظه: وأخرج البزار، والدارقطني، والبيهقي في شعب الإيمان من طريق أبي الطفيل، قال: سمعت علي بن أبي طالب وعماراً يقولان: إن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم كان يجهر في المكتوبات ببسم الله الرحمن الرحيم في فاتحة الكتاب.
وفي (الاعتصام) عن (أمالي أحمد بن عيسى) عليه السلام قال محمد: حدثنا عباد، عن إسماعيل بن أبان، عن عمرو بن شمر، عن جابر، عن أبي الطفيل، عن على عليه السلام وعمار قالا: صلينا خلف رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فجهر ببسم الله الرحمن الرحيم. هكذا ساقه في الاعتصام، ونسبه إلى الأمالي ولم أجده في النسخة التي بيدي، وفي هذا الموضع من الاعتصام رواية منسوبة إلى الأمالي ولم أجدها فيه.
قلت: والعجب من الشوكاني مع دعواه أنه لا يريد إلا طلب الحق كيف اقتصر على رواية الدارقطني للحديث من الطريق التي يمكنه القدح فيها على زعمه، ولم يلتفت إلى الطرق التي خلت من جابر وإبراهيم وتصحيح الحاكم لها، مع أن هذه الطريق التي ذكرها كافية عند من يعتبر الظن؛ إذ قد وثق جابراً من قدمنا ذكره، ولم يقدحوا في الراوي الآخر إلا بالتشيع الذي هو علامة الإيمان فالله المستعان.
وفي (الدر المنثور): وأخرج الدارقطني عن علي بن أبي طالب عليه السلام قال: كان رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يجهر ببسم الله الرحمن الرحيم في السورتين جميعاً.
وفي (الاعتصام) عن محمد بن منصور حدثنا عباد، عن ابن أبي يحيى، عن حسين بن عبد الله بن ضميرة، عن أبيه عن جده، عن علي عليه السلام أنه كان يجهر ببسم الله الرحمن الرحيم في الصلاة، ونسبه إلى أمالي أحمد بن عيسى.
وفيه منسوباً إلى (الأمالي) عن محمد بسنده إلى الحكم بن عيينة أن علياً عليه السلام كان يجهر ببسم الله الرحمن الرحيم.
وفيه منسوباً إلى (الأمالي) أيضاً بسنده إلى الأصبغ بن نباتة عن علي عليه السلام مثله، وهذه الثلاثة الآثار لم أجدها بهذه الأسانيد في النسخة التي بيدي من الأمالي، وقد تقدم الأول منها عن الأمالي من طريق محمد بن جميل عن ابن أبي يحيى.. إلى آخر السند والمتن.
وفي (أمالي) أحمد بن عيسى عن ابن عباس أنه كان يجهر ببسم الله الرحمن الرحيم رواه عنه سعيد بن جبير وعكرمة، وفي رواية عن سعيد بن جبير أن ابن عباس كان يجهر مرتين، وفي تفسير الخازن عن ابن عباس قال: كان رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يجهر ببسم الله الرحمن الرحيم. قال: أخرجه الدارقطني وقال: ليس في روايته مجروح، وأخرجه الحاكم أبو عبد الله وقال : إسناده صحيح وليس له علة.
وفي (نيل الأوطار) أن لفظ الحاكم: كان يجهر في الصلاة ببسم الله الرحمن الرحيم، قال: وصحح الحاكم هذه الطريق، وخطأه الحافظ في ذلك؛ لأن في إسنادها عبد الله بن عمرو بن حسان وقد نسبه ابن المديني إلى الوضع للحديث، قال: وقد رواه إسحاق ابن راهويه في مسنده عن يحيى بن آدم عن شريك ولم يذكر ابن عباس في إسناده بل أرسله، وهو الصواب من هذا الوجه، قاله الحافظ.
وفي (الروض النضير) بعد ذكر روايات ساقها عن علي عليه السلام ، ومنها حديث ابن عباس مرفوعاً، قال ابن عبد البر: الصحيح أنه موقوف عليه.
روى وكيع عن سفيان، عن عاصم بن أبي النجود، عن سعيد بن جبير، عن ابن عباس أنه كان يجهر ببسم الله الرحمن الرحيم، ورواه عمرو بن دينار، وعكرمة عن ابن عباس كذلك، قال الحاكم: هذا الإسناد صحيح ليس له علة.
وأخرج الدارقطني عن ابن عباس أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم : لم يزل يجهر ببسم الله الرحمن الرحيم في السورتين قالوا: وفي إسناده عمر بن حفص المكي وهو ضعيف، وأخرجه أيضاً عنه من طريق أخرى فيها أحمد بن رشيد بن خثيم عن عمه سعيد بن خثيم وهما ضعيفان.
قلت: سعيد بن خثيم هو الهلالي الكوفي أخذ عن زيد بن علي وغيره، وجاهد مع زيد وأدرك الفخي وخرج معه، وبايع يحيى بن عبد الله، ومن هنا تعلم مستند تضعيفه، وقد عده السيد صارم الدين وابن حميد وابن حابس في ثقات محدثي الشيعة، ووثقه ابن معين ، ولعل ذنب ابن أخيه مثل ذنبه، وفي الاعتصام عن تلخيص ابن حجر، قال: وروى الدار قطني والطبراني من طريق أحمد بن محمد بن حمزة حدثني أبي عن أبيه، قال: صلى بنا أمير المؤمنين المهدي المغرب فجهر بالبسملة، فقلت: ما هذا؟ فقال: حدثني أبي عن أبيه عن جده عن ابن عباس أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم جهر ببسم الله الرحمن الرحيم.
وفي شرح التجريد: وروى محمد بن منصور عن عباد عن سليمان بن مفضل، عن معتمر بن سليمان التيمي، عن أبي عبيدة، عن مسلم بن حبان وجابر بن زيد قالا: دخلنا على ابن عمر في داره فصلى بنا الظهر والعصر ثم صلى بنا المغرب، فجهر ببسم الله الرحمن الرحيم في كلتا السورتين، فقلنا له: لقد صليت بنا صلاة لا تعرف بالبصرة، فقال ابن عمر: صليت خلف رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فجهر ببسم الله الرحمن الرحيم في كلتا السورتين حتى قبض، وصليت خلف أبي بكر فلم يزل يجهر بها في كلتا السورتين حتى هلك، وصليت خلف أبي عمر فلم يزل يجهر بها في كلتا السورتين حتى هلك، وأنا أجهر به ولن أدعه حتى أموت. وهو في الاعتصام بهذا الإسناد منسوباً إلى الأمالي ولم أجده فيه.
قالوا: وفيه مسلم بن حبان وهو مجهول، قلت: إن صحت الجهالة فقد تابعه جابر بن زيد.
وأخرج الدارقطني عن ابن عمر قال: صليت خلف رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وأبي بكر وعمر فكانوا يجهرون ببسم الله الرحمن الرحيم، وفي إسناده عمر بن الحسن الشيباني يعرف بالأشناني القاضي شيخ الدارقطني.
قال (أبو الفتح): وثقه بعضهم وتكلم عليه آخرون، وجعفر بن محمد بن مروان لا أدري من هو.
وأبو الطاهر أحمد بن عيسى بن عبد الله ذكره ابن أبي حاتم روى عن ابن أبي فديك وأبيه، وروى عنه أبو أويس المدني، وبقية من في الإسناد معروفون.
قلت: أبو الطاهر هو أحمد بن عيسى بن عبد الله بن محمد بن عمر بن علي بن أبي طالب عليه السلام وهو أجل من أن يدخل أدنى ريب في صحة روايته فضلاً عن أن يوصم بالكذب، كما رواه الشوكاني عن أبي حاتم وغيره.
قال في (الطبقات): أخذ عن جماعة: منهم أبوه ومحمد بن جعفر، وحسين بن علي بن زيد بن علي، والنفس الزكية، وأخذ عنه محمد بن منصور، والحسن بن يحيى بن الحسين بن زيد عالم الكوفة، وأحمد بن منذر وغيرهم، كان عالماً زاهداً يلقب بالفنفنة لتفننه في العلوم.
وفي الأمالي عن عبد الرحمن بن أبزى أنه صلى خلف عمر فسمعه يجهر ببسم الله الرحمن الرحيم، وروى الجهر بها عن عمر البيهقي، وأبو الفتح اليعمري وغيرهما.
وفي الأمالي عن نافع عن ابن عمر أنه كان يجهر ببسم الله الرحمن الرحيم.
وأخرج الثعلبي عن علي بن زيد بن جدعان أن العبادلة كانوا يستفتحون القراءة ببسم الله الرحمن الرحيم يجهرون بها: عبد الله بن عباس ، وعبد الله بن عمر، وعبد الله بن الزبير.
وفي الأمالي عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال: ((أمني جبريل عند البيت فجهر ببسم الله الرحمن الرحيم )). وأخرجه الدارقطني من حديث النعمان بن بشير، وأخرج الدارقطني، والحاكم، والبيهقي عن أبي هريرة قال: كان رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يجهر ببسم الله الرحمن الرحيم في الصلاة، وعن أنس قال: كان النبي صلى الله عليه وآله وسلم يجهر بالقراءة ببسم الله الرحمن الرحيم أخرجه الدارقطني، وقال: إسناده صحيح، وأخرج الحاكم من حديث شريك عن أنس سمعت رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يجهر ببسم الله الرحمن الرحيم، قال: رواته كلهم ثقات، وعن عائشة أن رسول الله كان يجهر ببسم الله الرحمن الرحيم، أخرجه الدارقطني وذكره ابن سيد الناس في شرح الترمذي، وفي إسناده الحكم بن عبد الله بن سعد وقد تكلم فيه غير واحد، روى له من أئمتنا المرشد بالله، وقال في الجداول: تكلموا فيه بلا حجة، احتج به البزار.
وروى الحازمي في كتاب الاعتبار عن سعيد بن جبير أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم كان يجهر ببسم الله الرحمن الرحيم بمكة قال: فكان أهل مكة يدعون مسيلمة الرحمن فقالوا: إن محمداً يدعو إلى إله اليمامة. قال: وهذا مرسل وهو غريب من حديث شريك عن سالم.
وفي الأمالي عن الحكم أن أصحاب علي عليه السلام كانوا يجهرون، وقال في شرح التجريد: إنه مروي عن عامة الصحابة.
وأخرج البيهقي عن الزهري قال: من سنة الصلاة أن يقرأ ببسم الله الرحمن الرحيم، وإن أول من أسر ببسم الله الرحمن الرحيم عمرو بن سعيد بن العاص وكان رجلاً حيياً، وأخرج نحوه عنه في تذكرة الحفاظ.
وعن سمرة قال: كان للنبي صلى الله عليه وآله وسلم سكتتان: سكتة إذا قرأ بسم الله الرحمن الرحيم، وسكتة إذا فرغ من القراءة، فأنكر ذلك عمران بن الحصين فكتبوا إلى أبي بن كعب فكتب أن صدق سمرة. أخرجه الدارقطني وإسناده جيد، والحجة في تصديق أبي له، ووجه الاحتجاج بالحديث ظاهر فإنهم لا يعرفون كون السكتة بعد البسملة إلا إذا كان يجهر بها، وما قيل: إن الترمذي وأبا داود وغيرهما أخرجوا الحديث بلفظ سكتة حين يفتتح، وسكتة إذا فرغ، فالجواب أن هذه الرواية محتملة لكون المراد أنه يسكت حين يفتتح الصلاة وحين يفتتح القراءة، والرواية الأولى معينة لأحد الاحتمالين، وإطلاق الافتتاح على وقت الفراغ من البسملة جائز، إذ المقصود به أوائل الصلاة، ولا شك أن وقت الفراغ من البسملة من أوائل الصلاة، والإطلاقات اللغوية والعرفية مبنية على عدم المشاححة.
إذا عرفت هذا فهذه الأحاديث والآثار تدل دلالة ظاهرة على ثبوت الجهر بالبسملة في جميع الصلوات، بل في بعضها ذكر المكتوبات، وهذا نص صريح، ومن ادعى التخصيص فعليه بيانه، وفي بعضها ذكر الجهر في الصلاة، وبعضها ذكر الجهر مطلقاً، وذلك ظاهر في ثبوت الجهر بها إما مطلقاً، أو في الصلاة من باب حمل المطلق على المقيد.
الحجة الثانية: [قراءة النبي صلى الله عليه]
ما تقدم من قراءته صلى الله عليه وآله وسلم لها في الصلاة مع الفاتحة وغيرها، وهو يستلزم الجهر؛ لأن الطريق إلى نقله هو السماع وما يسمع فهو مجهور به.
الحجة الثالثة: [إجماع أهل البيت]
ما رواه في الجامع الكافي من إجماع العترة" على الجهر بها في السورتين، ولم يقيده بالجهرية.
الحجة الرابعة: [الاعلان بها]
أن البسملة ثناء على الله تعالى وذكر له بالتعظيم، فوجب أن يكون الإعلان به مشروعاً لقوله تعالى: {فَاذْكُرُوا اللَّهَ كَذِكْرِكُمْ آبَاءَكُمْ أَوْ أَشَدَّ ذِكْراً}[البقرة:200]، ومعلوم أن المفتخر بأبيه والمعظم له يعلن بذكره والثناء عليه، فوجب أن يكون الإعلان بذكر الله أولى عملاً بالآية، ذكر معنى هذا الرازي.
[أدلة القائلين بالإسرار بالبسملة]
احتج القائلون بالإسرار مطلقاً بما في بعض ألفاظ حديث أنس: فلم أسمع أحداً منهم يقرأ بسم الله الرحمن الرحيم، وفي بعضها: فكانوا لا يجهرون، وفي بعضها: كانوا يسرون، وبحديث ابن المغفل وقد مر، وبما روي عن علي عليه السلام من الإسرار بها مطلقاً، ومثله عن ابن عباس وابن الزبير، وروي عن عمر.
قال (ابن عبد البر) من وجوه ليست بالقائمة- أنه قال: يخفي الإمام أربعاً: التعوذ، وبسم الله الرحمن الرحيم، وآمين، وربنا لك الحمد.
وروى علقمة، عن الأسود، عن عبد الله بن مسعود قال: ثلاث يخفيهن الإمام: الاستعاذة، وبسم الله الرحمن الرحيم، وآمين .
وعن الأسود صليت خلف عمر سبعين صلاة فلم يجهر فيها ببسم الله الرحمن الرحيم.
وأخرج ابن أبي شيبة عن ابن عباس قال: الجهر ببسم الله الرحمن الرحيم قراءة الأعراب.
وأخرج أبو داود في مراسيله عن سعيد بن جبير قال: كان رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يجهر ببسم الله الرحمن الرحيم بمكة وكان أهل مكة يدعون مسيلمة الرحمن فقالوا: إن محمداً يدعو إلى إله اليمامة، فأمر رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم بإخفائها فما جهر بها حتى مات.
وأخرج الطبراني من طريق سعيد بن جبير عن ابن عباس قال: كان رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم إذا قرأ بسم الله الرحمن الرحيم هزئ منه المشركون وقالوا: محمد يذكر إله اليمامة وكان مسيلمة يتسمى الرحمن، فلما نزلت هذه الآية أمر رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أن لا يجهر بها. ذكره في الدر المنثور، والآية المشار إليها قوله تعالى: {وَلاَ تَجْهَرْ بِصَلاَتِكَ وَلاَ تُخَافِتْ بِهَا }[الإسراء:110 ]كما في رواية القرطبي.
قال: وقد روي عن سعيد بن جبير قال: كان المشركون يحضرون المسجد فإذا قرأ رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم بسم الله الرحمن الرحيم قالوا: هذا محمد يذكر إله اليمامة -يعنون مسيلمة- فأمر أن يخافت ببسم الله الرحمن الرحيم، ونزل: {وَلاَ تَجْهَرْ بِصَلاَتِكَ وَلاَ تُخَافِتْ بِهَا }[الإسراء:110].
قال الترمذي الحكيم أبو عبد الله: فبقي ذلك إلى يومنا هذا على ذلك الرسم وإن زالت العلة، كما بقي الرمل في الطواف وإن زالت العلة، وبقيت المخافتة في صلاة النهار وإن زالت العلة.
ومن حججهم ما استنبطه بعض الفقهاء من قوله تعالى: {وَاذْكُرْ رَبَّكَ فِي نَفْسِكَ تَضَرُّعاً وَخِيفَةً}[الأعراف:205]، وقوله: {ادْعُوا رَبَّكُمْ تَضَرُّعاً وَخُفْيَةً }[الأعراف:55]، والبسملة من ذكر الله فوجب إخفاؤها، وأجابوا عما ورد في ثبوت الجهر بها أنه ينقسم إلى ما قيد بكونه في الصلاة، وإلى ما ورد مطلقاً عن التقييد بها، فالأول لا ينتهض الاحتجاج به، ولذا قال الدارقطني: إنه لم يصح في الجهر بها حديث، والثاني لا يفيد المطلوب لأنه لا نزاع في الجهر بها خارج الصلاة، وأما الأحاديث الواردة في قراءته صلى الله عليه وآله وسلم لها في الصلاة فلا نسلم أنها تستلزم الجهر بها لجواز أن تكون الطريق إلى ذلك إخباره صلى الله عليه وآله وسلم أنه قرأ بها في الصلاة فلا ملازمة، وأما ما ذكر من إجماع العترة" فلعلهم ينفون حجيته، أو ينفون صحته، إما لكون رواته من الشيعة، أو لتشتتهم في الأقطار بحيث لا يمكن الاطلاع على قول كل واحد منهم، أو نحو ذلك.
وأما الحجة الرابعة، فمعارضة بقوله: {وَاذْكُرْ رَبَّكَ فِي نَفْسِكَ }[الأعراف:205].
والجواب: أما ما رواه أنس وابن المغفل فقد تقدم الكلام عليه، وأن أنساً تلون في روايته واضطرب فيها اضطراباً يسقط معه الاحتجاج بحديثه، وقال الخازن: لم يرد في صريح الإسرار بها عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم إلا روايتان، إحداهما: ضعيفة، وهي رواية عبد الله بن مغفل، والأخرى عن أنس وهي في الصحيح، وهي معللة بما يوجب سقوط الاحتجاج بها.
قلت: ولعله أراد بالصراحة باعتبار ما ورد في بعض روايات أنس من إثبات الإسرار بها ونفي الجهر، وما في قول ابن المغفل لابنه فلا تقلها، وإلا فالصراحة في بعض ألفاظ حديث أنس منتفية لاحتمال عدم السماع، وكذلك ابن المغفل فإنه لم يصرح إلا بعدم السماع، فتأمل.
ومما يدل على اضطراب أنس في روايته وتلونه ما رواه الدارقطني وصححه عن أبي سلمة قال: سألت أنس بن مالك أكان رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يستفتح بالحمد لله رب العالمين أو ببسم الله الرحمن الرحيم؟ فقال: إنك سألتني عن شيء ما أحفظه وما سألني عنه أحد قبلك، فقلت: أكان رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يصلي في النعلين؟ قال: نعم مع أن ما تقدم عنه من ثبوت الجهر بها يعارض ما روي عنه من نفيها، والإثبات مقدم على النفي، لا سيما مع ما في رواية النفي من الاحتمال، سلمنا عدم ترجيح رواية الإثبات فحينئذٍ يبقى التعارض بين ما رواه، ويتعين الرجوع إلى غيره من الأدلة.
قال (الرازي) بعد أن ذكر اختلاف الروايات عن أنس ما لفظه: فثبت أن الرواية عن أنس في هذه المسألة قد عظم فيها الخبط والاضطراب فبقيت متعارضة، فوجب الرجوع إلى سائر الدلائل قال: وأيضاً ففيها تهمة أخرى، وهي أن علياً عليه السلام كان يبالغ في الجهر بالتسمية، فلما وصلت الدولة إلى بني أمية بالغوا في المنع من الجهر سعياً في إبطال آثار علي عليه السلام ، فلعل أنساً خاف منهم، فلهذا السبب اضطربت أقواله فيه.
قال (سعد الدين التفتازاني): أما حديث الجهر بالبسملة فهو عندهم من قبيل المشهور، حتى أن أهل المدينة احتجوا على مثل معاوية وردوه على ترك الجهر بالبسملة، وهو مروي عن أبي هريرة، وعن أنس إلا أنه -يعني أنساً- اضطربت رواياته فيه بسبب أن علياً عليه السلام كان يبالغ في الجهر، وحاول معاوية وبنو أمية محو آثاره فبالغوا على الترك فخاف أنس. ذكره في التلويح.
قال (الرازي): ونحن وإن شككنا في شيء فإنا لا نشك أنه مهما وقع التعارض بين قول أنس وابن المغفل وبين قول علي بن أبي طالب عليه السلام الذي بقي عليه طول عمره، فإن الأخذ بقول علي عليه السلام أولى، قال: وهذا جواب قاطع في المسألة، ثم قال: هب أنه وقع التعارض بين دلائلكم ودلائلنا إلا أن الترجيح معنا، ثم ذكر وجوهاً من الترجيح: منها أن أمير المؤمنين عليه السلام وابن عباس وابن عمر وأبا هريرة كانوا أكثر علماً وقرباً من رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم من أنس وابن المغفل، ومنها أن من المعلوم بالضرورة أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم كان يقدم الأكابر والعلماء والأشراف على غيرهم، ولا شك أن علياً عليه السلام وابن عباس وابن عمر كانوا أعلى حالاً من أنس وابن المغفل، قال: والغالب على الظن أن علياً، وابن عباس، وابن عمر كانوا يقفون بالقرب من رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ، وكان أنس وابن المغفل يقفان بالبعد منه، وأيضاً أنه صلى الله عليه وآله وسلم ما كان يبالغ في الجهر امتثالاً لقوله تعالى: {وَلاَ تَجْهَرْ بِصَلاَتِكَ وَلاَ تُخَافِتْ بِهَا }[الإسراء:110] وأيضاً فإن الإنسان أول ما يشرع في القراءة إنما يشرع فيها بصوت ضعيف، ثم لا يزال يقوى صوته ساعة فساعة، قال: فهذه أسباب ظاهرة في أن يكون علي وابن عباس، وابن عمر، وأبو هريرة سمعوا الجهر بالتسمية من رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ، وأن أنساً وابن المغفل ما سمعاه.
قلت: ولعل ما ذكره هو السبب في الاختلاف في الجهر بها فإن من لم يسمعها لبعد أو ضعف صوت، أو رجة أصوات الناس بالتكبير ظن عدم ثبوت الجهر بها، أو عدم قراءتها، لا سيما من لم يكن له رتبة تقتضي تقديمه ولو في بعض الأحوال، فإنه استمر على ذلك، ولذا لا تجد أكثر رواة النفي والإسرار إلا من أصاغر الصحابة الذين لا مقام لهم إلا في مواضع البعد التي ينتفي فيها السماع لأحد تلك الأسباب، ولعل ظهور هذا المذهب من الأصاغر هو الحامل لأمير المؤمنين على المبالغة في الجهر بها حتى اشتهر عنه، وما رواه هؤلاء النافون جعله بنو أمية ذريعة إلى محو ما اشتهر عن علي عليه السلام من الجهر بها؛ لأنه لما جعل المبالغة لأجل الرد على النافين، فكأنها منقبة له خاصة، وهم قد صرفوا هممهم إلى إخفاء مناقبه وإطفاء أنواره، لا جرم بالغوا في تشييد أقوال أولئك الأصاغر وتقويتها {وَيَأْبَى اللَّهُ إِلاَّ أَنْ يُتِمَّ نُورَهُ وَلَوْ كَرِهَ الْكَافِرُونَ}[التوبة:32].
وقد ذكر الأمير الحسين في الشفاء، وأبو الحسين في (المعتمد) أن السبب في عدم نقل الجهر بالبسملة على حد نقل الفاتحة أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم كان يقرؤها في حال رجة الناس بتكبيرة الإحرام، وهذا أمر مشاهد.
حكى الحازمي عن نفسه أنه حضر جامعاً وحضره جماعة من أهل التمييز المواظبين في ذلك الجامع، فسألهم عن حال إمامهم في الجهر والإخفات قال: وكان صيتاً يملأ صوته الجامع، فاختلفوا في ذلك فقال بعضهم: يجهر، وقال بعضهم: يخفت، هذا وقد تأول الرزاي نفي الجهر في حديث أنس وابن مغفل على نفي المبالغة في رفع الصوت كما قال تعالى: {وَلاَ تَجْهَرْ بِصَلاَتِكَ وَلاَ تُخَافِتْ بِهَا ...} [الإسراء:110]الآية.
وأما ما رووه عن علي عليه السلام من الإسرار بها فما تقدم عنه من رواية الموالف والمخالف يدفعها، على أنها ليست صريحة، وإنما روي عنه عليه السلام أنه كان لا يجهر بها كما أخرجه عبد الرزاق والمحاربي، وقد ذكر روايتهما ابن عبد البر، وهي محمولة على أن الراوي لم يسمع لبعد أو نحوه، وقد نص على تواتر الجهر عنه عليه السلام البيهقي.
وأما ما روي عن ابن عباس وابن الزبير فقد تقدم عنهما ما هو أرجح سنداً، وأكثر طرقاً مما يدل على قولهما بالجهر، على أن قول ابن عباس إن الجهر قراءة الأعراب ليس صريحاً في ترجيح الإسرار بها لاحتمال أنه أراد أن الجهر بها قراءة من بقي على الفطرة، ولم تلابسه الأهواء، والتقرب إلى السلاطين، وأكثر من بقي على هذه الصفة في دولة الأموية الأعراب الذين لا جاه لهم عند السلطان ولا منزلة لهم لديه، ولا تحدثهم نفوسهم بطلب ذلك منه، فيتقربون إليه بما يطابق غرضه من وصم البريء، وتنقيص الكامل، ولا معرفة لهم بمذاهب الناس واختلاف أهوائهم فيكون تعريضاً بغيرهم، وأما ما روي عن عمر فقد عرفت ضعفه وعدم مقاومته لما روي عنه من الجهر، على أن أقوال الصحابة ومذاهبهم ليست حجة إلا أمير المؤمنين عليه السلام ، وبهذا يجاب عما روي عن ابن مسعود وغيره.
وأما حديث سعيد بن جبير وابن عباس في الأمر بترك الجهر بها عند استهزاء المشركين، وأنه استمر ذلك إلى أن مات صلى الله عليه وآله وسلم ، فمعارض بما روي عنهما من شرعية الجهر بها، ومن البعيد مخالفتهما لما روياه مرفوعاً، وبهذا يظهر لك أن زيادة ولم يجهر بها حتى مات غير صحيحة.
وقد تقدم الحديث من رواية الحازمي ولم يذكر النهي عن الجهر بها، ورواه في الاعتصام عن مجمع الزوائد ولم يذكره أيضاً، ولفظه: عن ابن عباس قال: كان رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم إذا قرأ بسم الله الرحمن الرحيم هزئ منه المشركون وقالوا: محمد يذكر إله اليمامة. قال: رواه الطبراني في الكبير والأوسط، ولو سلم صحت الرواية التي ذكرها الخصم فليست صريحة في المقصود لاحتمال عدم السماع لأحد الأسباب السابقة، أو أن المراد بالآية النهي عن المبالغة في الجهر بها، وهذا هو الذي تقتضيه الآية إذ نهي عن الجهر والمخافتة وأمر بالتوسط، ولا توسط يقدر إلا عدم المبالغة، وإلا لم يكن لقوله: {وَلاَ تُخَافِتْ بِهَا }[الإسراء:110].
[فائدة] بل يلزم على كلامهم المناقضة بين أول الآية وآخرها، ويدل على صحة هذا التأويل رواية النيسابوري للحديث ولفظه: عن سعيد بن جبير قال: كان رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يجهر ببسم الله الرحمن الرحيم وكان المشركون يهزأون بمكاء وتصدية ويقولون: يذكر إله اليمامة، وكان مسيلمة الكذاب يسمى رحمن، فأنزل الله تعالى: {وَلاَ تَجْهَرْ بِصَلاَتِكَ } فيسمع المشركون فيهزأون به {وَلاَ تُخَافِتْ بِهَا }[الإسراء:110] عن أصحابك فلا تسمعهم أي: بل يسمعهم، وهذا نص فيما ذهبنا إليه، وبه تصير الآية حجة في الجهر.
وأما قول الترمذي الحكيم، فمبني على صحة تلك الرواية، وقد عرفت ما فيها، ولو سلمنا صحتها فلا نسلم له الاستمرار، مع ما تقدم عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم ، وعن أمير المؤمنين، وعن أكابر الصحابة والتابعين وغيرهم، ولو لم يكن إلا عمل أمير المؤمنين الذي قد أخبر النبي بأنه المبين للأمة ما اختلفوا فيه من بعده، وأنه مع الحق والحق معه، وأمر بالأخذ بحجزته.
وبالجملة أنه أعلم بآخر الأمرين من رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ، وقوله عندنا حجة، وأما قوله تعالى: {وَاذْكُرْ رَبَّكَ فِي نَفْسِكَ }[الأعراف:205 ] فهي مثل قوله تعالى: {وَلاَ تَجْهَرْ بِصَلاَتِكَ وَلاَ تُخَافِتْ بِهَا }[الإسراء:110 ] أعني أن المراد بها النهي عن المبالغة في رفع الصوت بالذكر بدليل قوله: {وَدُونَ الْجَهْرِ مِنَ الْقَوْلِ }[الأعراف:205 ] مع التخيير بينه وبين الذكر الخفي، وكذلك الكلام في قوله تعالى: {ادْعُوا رَبَّكُمْ تَضَرُّعاً وَخُفْيَةً }[الأعراف:55 ] فإن المراد به التخيير بين الجهر والإسرار مع النهي عن المبالغة في رفع الصوت، وهذا على ما ورد من تفسير التضرع بالعلانية والاعتداء برفع الصوت، وأما على غيره فالآية واردة في الدعاء وللإسرار به سر كما أن للجهر بالبسملة سراً.
فإن قيل: إذا جعلتم الآية الأولى واردة في التخيير بين الجهر والإسرار على ما قررتم، وكذلك الآية الثانية على التأويل الذي حكيتم، فلم لا تقولون بالتخيير في البسلمة إذ هي من جملة ذكر الرب عز وعلا؟
قيل: الأحكام تختلف باختلاف المصالح، والأسرار المتعلقة بمحالها والمكلفين بها، وقد نعرف تلك المصالح والأسرار وقد لا نعرفها، لكن يجب علينا الإقرار بها جملة لما تقرر من عدل الله وحكمته، وأنه لا يفعل شيئاً ولا يشرع حكماً إلا لمصلحة.
[علل الجهر بالبسملة]
إذا عرفت هذا فنقول: لما قامت الأدلة الصحيحة الصريحة على وجوب الجهر بالبسملة خصصنا بها ما ورد من التخيير في تلك الآيتين، وقطعنا أن في الجهر بها لنا مصلحة وسر، كما خصصنا غيرها من الأذكار بوجوب الجهر بها لذلك السر، وتلك المصلحة المعلومة جملة أو تفصيلاً، وقد ذكر العلماء رحمهم الله في بيان السر في الجهر بالبسملة وجوهاً:
أحدها: ما ذكره الإمام القاسم بن محمد عليه السلام في الاعتصام، وهو أن الأصول من الكتاب والسنة شهدت بإغاضة الكافرين ومراغمتهم، قال الله سبحانه وتعالى:{ وَلاَ يَطَئُونَ مَوْطِئاً يَغِيظُ الْكُفَّارَ وَلاَ يَنَالُونَ مِنْ عَدُوٍّ نَيْلاً...} [التوبة:120 ]الآية.
وقال سبحانه: {وَمَنْ يُهَاجِرْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ يَجِدْ فِي الأَرْضِ مُرَاغَماً كَثِيراً وَسَعَةً}[النساء:100 ]وما سيأتي إن شاء الله من شرعية الرمل في طواف القدوم، والسعي بين الميلين لإغاضة المشركين وإرغاماً لأنوفهم، وقد ثبت بالنص الجلي أنهم كانوا يكرهون الجهر ببسم الله الرحمن الرحيم كما حكى الله عنهم حيث قال: {قَالُوا وَمَا الرَّحْمَانُ أَنَسْجُدُ لِمَا تَأْمُرُنَا وَزَادَهُمْ نُفُوراً}[الفرقان:60 ] ولما تقدم ذكره أنهم كرهوا أن يكتب النبي صلى الله عليه وآله وسلم في عام الحديبية في كتاب الصلح بينه صلى الله عليه وآله وسلم وبينهم بسم الله الرحمن الرحيم، فألزم الله سبحانه المؤمنين كلمة التقوى وكانوا أحق بها وأهلها، وهي بسم الله الرحمن الرحيم، وشرع الله سبحانه وتعالى الجهر بها كما قدمناه من الأدلة إغاضة للمشركين وإرغاماً لأنوفهم.
قلت: وكان على الإمام عليه السلام أن يزيد: وبقي ذلك الحكم مستمراً كما بقي الرمل في الطواف والسعي.
الوجه الثاني: ما ذكره الرازي من كونها ثناءً على الله بالتعظيم، وقد مر تقريره.
الوجه الثالث: ما في الجهر بها من الافتخار والشرف للذاكر كما قال علي عليه السلام : (يا من ذكره شرف للذاكرين) مع ما فيه من الدلالة على عدم المبالاة بمن أنكره، ولا شك أن الجهر لأجل هذه الوجوه مستحسن عقلاً وشرعاً.
فإن قيل: فما تقولون فيما ورد في الحث على إخفاء الأعمال من الأقوال والأفعال مع ما فيها من الشرف والفخر؟
قيل: لم يرد الحث على إخفائها لذاتها، بل لدفع ما يحبطها من العجب والرياء.
فإن قيل: فلم لا تقولون بذلك في البسملة فيسن إخفاؤها لما ذكرتم؟
قيل: لأن الرياء ونحوه لا يصحب إلا الأعمال الذي يختص بها أفراد من الناس بحيث ينسب صاحبها إلى العبادة والتأله، وأما الأعمال العامة التي يستوي الناس فيها وربما ينسب المخل بها إلى التقصير كالفرائض ورواتبها، وتلاوة القرآن، وذكر الله في أوقات معتادة فلا يدخلها الرياء، والبسملة من هذا القبيل، وليس الجهر بها إلا كالجهر بسائر آيات الفاتحة في موضعه مع اشتمالها على الذكر والدعاء.
وعلى الجملة فربنا أعلم بالمصالح، وإليه يرجع الأمر كله فاعبده وتوكل عليه.
وأما قولهم: إن أدلة القائلين لا تنتهض للاحتجاج بها، فقد ذكرنا تصحيحها عن المحدثين مع أن بعضها مروي من طريق الأئمة الهادين كزيد بن علي، والهادي إلى الحق، والمؤيد بالله وغيرهم.
وأما ما حكوه عن الدار قطني فمعارض بما تقدم من تصحيحه لبعض أدلة الجهر، وأما قولهم: إن ما ورد في الجهر بها مطلقاً لا يفيد المطلوب وهو الجهر بها في الصلاة، فنقول: دفع إفادته للمطلوب عناد ومكابرة، فإن المطلوب من جملة الأفراد التي يصدق عليها المطلق لا يخرج عنه إلا بدليل ولم يوجد، بل قام الدليل على دفع احتمال خروجه بالنص عليه، بل لو قيل: إن المراد بذلك المطلق هو المقيد من باب حمل المطلق على المقيد لكان صواباً، وأما قولهم لا ملازمة بين ما ورد في قراءته صلى الله عليه وآله وسلم إياها وبين الجهر لاحتمال إخباره بذلك، فهذا الاحتمال خلاف الظاهر، ولا يجوز العدول عن الظاهر إلا لموجب، سلمنا فأحاديث الجهر بها تدفع هذا الاحتمال وتوجب البقاء على الظاهر، وأما إجماع العترة" فقد قام الدليل على حجيته، ورواه العدل العارف بهم وبأقوالهم، وأما معارضتهم للحجة الرابعة بقوله تعالى: {وَاذْكُرْ رَبَّكَ فِي نَفْسِكَ }[الأعراف:205 ]فقد مر الكلام على هذه الآية الكريمة قريباً.
[أدلة القائلين بالتفصيل]
احتج القائلون بالتفصيل بأدلة:
أحدها: ما ذكره الخازن، وهو أنه إذا ثبت بما تقدم أن البسملة آية من الفاتحة وغيرها حيث كتبت كان حكمها في الجهر والإسرار حكم الفاتحة، وهذه الحجة هي التي اعتمدها المقبلي فإنه قال: العمدة في ذلك أنها آية من عرض آيات السور، فمن ادعى صفة مخالفة فعليه الدليل الناقل عن هذا الأصل.
الدليل الثاني: ماروي من ملازمة النبي صلى الله عليه وآله وسلم للإ سرار بالقراءة في الصلاة السريةولم يفصل، ومثله ما روي عن علي عليه السلام .
وروى أبو هريرة عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم أنه قال: ((صلاة النهار عجماء )). وما ورد في بعض روايات الجهر بالبسملة من تقييده بالجهرية نحو ما رواه في الاعتصام عن الحكم بن عمير وكان بدرياً قال: صليت مع النبي صلى الله عليه وآله وسلم فجهر ببسم الله الرحمن الرحيم في صلاة المغرب، وفي العشاء الآخرة، وفي الفجر، وفي يوم الجمعة. ونسبه إلى أمالي أحمد بن عيسى ولم أجده فيه، ونسبه في الدر المنثور إلى الدار قطني، وفي تفسير الخازن عن محمد بن أبي السري العسقلاني قال: صليت خلف المعتمربن سليمان ما لا أحصي صلاة الصبح والمغرب فكان يجهر ببسم الله الرحمن الرحيم قبل فاتحة الكتاب وبعدها، وسمعت المعتمر يقول: ما آلو أن أقتدي بصلاة أنس بن مالك، وقال أنس بن مالك: ما آلو أن أقتدي بصلاة رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم .
قال: أخرجه الدارقطني وقال كلهم ثقات، وأخرجه الحاكم أبو عبدالله وقال: رواة هذا الحديث كلهم ثقات.
الدليل الثالث: الإجماع على شرعية المخافتة في العجماوين ذكره الأمير الحسين وظاهره الإطلاق.
الدليل الرابع: إن في القول بالتفصيل خروجاً عن موضع الخلاف، فيكون العمل به أحوط، وقد قال تعالى: {فَبَشِّرْ عِبَادِي ، الَّذِينَ يَسْتَمِعُونَ الْقَوْلَ فَيَتَّبِعُونَ أَحْسَنَهُ}[الزمر:18]، ولا شك أن الأخذ بالأحوط من اتباع الأحسن، وبيان كونه أحوط أن القائلين بالإسرار مطلقاً أو الترك يقولون لاتفسد صلاة من جهر بها، والقائلين بالتفصيل يقولون لا يصح صلاة من لم يجهر بها في الجهرية، ويسر بها في السرية، وأجابوا عن حجج القائلين بالإسرار مطلقاً بمثل ما أجاب به عليهم القائلون بالجهر مطلقاً، وأجابوا عما أستدل به القائلون بعموم الجهر بها من الأحاديث والآثار بما تقدم عن صاحب الروض، وهو أن ذلك محمول على أن المراد بالجهر بها ثبوتها قرآناً فقط، وقد مر حكاية كلامه، وتحقيق جوابه أنه إذا لم يكن مرادهم إلا ثبوت قرءانيتها فصفة قراءتها تابعة لما هي فيه، أما الحجة الثانية وهي استلزام قراءته صلى الله عليه وآله وسلم للجهر بها، ففيه ما مر عن القائلين بالإسرار مع احتمال أنهم فهموا ذلك من ثبوتها آية من الفاتحة، مع كون قراءة الفاتحة فرضاً، فأخبروا أنه كان يقرؤها لإخباره صلى الله عليه وآله وسلم أنه لاصلاة إلا بفاتحة الكتاب، وهذا الاسم يتناول جميع آياتها، ومع هذا فلا يثبت ما ادعيتموه من استلزام الجهر إذلم يزد ذلك على كونه يقرؤها في الصلاة، وصفة قراءته لها تحتاج إلى دليل، وقد ثبت الإسرار في العصرين بمطلق القراءة والجهر في غيرهما، والبسملة من جملة ما يُقرأ في الصلاة، فيكون حكمها حكم الفاتحة، وأما مارووه في الجامع الكافي من الإجماع فمطلق مقيد بما رواه في الشفاء والروضة، وغيرهما من الإجماع على شرعية الجهر في الجهرية، وأين الإجماع مع خلاف الهادي عليه السلام كما يفيده شرح التجريد، بل أين الإجماع وبعض آل محمد لم يوجب الجهر والإسرار بالقراءة في جميع الصلوات، وأما الحجة الرابعة التي ذكرها الرازي، فالمراد
بالآية المبالغة في كثرة ذكر الله من دون نظر إلى الجهر والإسرار، مع أن القول بالتفصيل مذهب أمير المؤمنين عليه السلام كما في البحر.
[جواب القائلين بالجهر بالبسلمة على القائلين بالتفصيل]
والجواب من جهة القائلين بالجهر مطلقاً إن ما ذكره أهل التفصيل من الأدلة مرجوحة بالنظر إلى أدلة التعميم، ونحن نوضح ذلك مفصلاً فنقول:
أما الدليل الأول فقد قام الدليل الناقل عن الأصل، وقد بينا السر في تخصيصها بالجهر، وأما الثاني وهو ملازمة النبي صلى الله عليه وآله وسلم للإسرار في العصرين فمحمول على غير البسملة جمعاً بين الأدلة، وأما حديث صلاة النهار عجماء فقد أجيب عنه من وجوه:
أحدها: أنه باطل لا أصل له قاله النووي، وقال الدارقطني: هو من كلام بعض العلماء.
الثاني: أن راويه كان عاملاً لمعاوية على المدينة ذكره في الاعتصام، وقال الإمام الحسن بن يحيى القاسمي عليه السلام في بعض فتاويه، وهو القائل: لقد سمعت رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يقول: ((إن لكل نبي حرماً ، وإن حرمي بالمدينة ما بين عير إلى ثور، فمن أحدث فيه فعليه لعنة الله والملائكة والناس أجمعين، وأشهد بالله أن علياً أحدث فيها)).
وذكر عليه السلام في هذا الجواب قوادح أخر في راوي الحديث -أعني أبا هريرة- منها تصريح أمير المؤمنين عليه السلام بتكذيبه، ومنها قدح عمر، وابن عباس، وعائشة في روايته.
وحكى عن أبي جعفر الإسكافي في أنه كان مدخولاً عند شيوخ العدلية غير مرضي الرواية، وكان أبو حنيفة لا يقبل روايته إلى غير ذلك من القوادح، ودون ما ذكر يوجب رد روايته.
الوجه الثالث: أنا إذا فرضنا قبول روايته، وأنه رواه مرفوعاً فإن القواعد الأصولية تقتضي ترجيح أخبار الجهر؛ لأن رواتها أعدل واظبط، وفيهم المعصوم وهم أكثر عدداً، وقد روي أن رواية الجهر عنه صلى الله عليه وآله وسلم رواها فوق عشرين صحابياً.
الوجه الرابع: أنه معارض لما رواه أبو قتادة أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم كان يقرأ في الظهر في الأوليين بأم الكتاب وسورتين، وفي الركعتين الأخريين بفاتحة الكتاب، ويسمعنا الآية أحياناً.. الحديث وفيه: (وهكذا في العصر) متفق عليه، ولأبي داود والنسائي نحوه.
وروى في الاعتصام نحوه من حديث أبي قتادة وعزاه إلى أمالي أحمد بن عيسى ولم أجده فيه، قال بعض العلماء: وقوله: (أحياناً) يدل على أنه تكرر ذلك منه، وهذا نص في جواز الجهر ببعض الآيات في العجماوين فما ظنك بالبسملة التي قد ورد في الجهر بها ما ورد، بل قد قيل: بجواز حمل الآية المسموعة عليها.
قال الإمام (القاسم بن محمد) عليه السلام : لام التعريف في لفظ الآية إن كانت للعهد فدلالتها على بسم الله الرحمن الرحيم أرجح من دلالتها على غيره لما تقدم، وإن كانت للجنس فبسم الله الرحمن الرحيم من الآيات.
الوجه الخامس: أنا وإن تنزلنا لكم على صحة الحديث سنداً ومتناً، وأنه متناول للبسملة بعمومه، فإنا نقول القاعدة الأصولية أن العمومين إذا كان يصلح تخصيص كل منهما بالآخر، وذلك فيما كان بينهما عموم وخصوص من وجه فإنه يسلك في تخصيص كل منهما مسلك الترجيح، وهذا الحديث وحديث: ((من لم يجهر في صلاته...)) إلخ وما في معناه من هذا القبيل، فإنه يصلح تخصيص كل منهما بالآخر، فنقول: تخصيص حديث صلاة النهار عجماء بحديث الجهر بالبسملة أرجح لأمور:
أحدها: أن حديث صلاة النهار... إلخ قد تواردت عليه المخصصات؛ إذ قد أخرج منه الفجر، والجمعة، والكسوف، وصلاة العيدين وغير ذلك، وما تواردت عليه المخصصات كان أولى بالتخصيص.
الثاني: أن بعض أحاديث الجهر مؤكد بما يدل على فساد صلاة من لم يجهر كذكر الخداج والنقصان، وحديث أبي هريرة إنما يدل على شرعية الإسرار من دون تعرض لصحة ولا فساد؛ إذ ليس في الخبر ما يقتضي ذلك.
فإن قيل: بل قد ورد في رواية الشفاء وغيره ما يدل على الفساد، وهو قوله صلى الله عليه وآله وسلم : ((إذا رأيتم من يجهر في صلاة النهار فارموه بالبعر )).
قيل: لعله أمر برميه بالبعر لمبالغته في الجهر وقد نهي عنه بقوله تعالى: {وَلاَ تَجْهَرْ بِصَلاَتِكَ ...} [الإسراء:110 ]إلخ.
ويدل على هذا ما في الجامع الكافي عنه صلى الله عليه وآله وسلم أنه رأى رجلاً يصلي بالنهار رافعاً صوته بالقرآن فأمر النبي صلى الله عليه وآله وسلم أن يرمى بالبعر، على أن أمره برميه بالبعر لا يدل إلا على أن ترك الجهر أولى، وإلا لكان يمكنه أن يقول: لا تجهر أو نحوه مما يدل على الفساد.
وعلى الجملة فليس صريحاً في الفساد بخلاف حديث الجهر بالبسملة، فثبت أن حديث صلاة النهار أولى بالتخصيص.
الأمر الثالث: أنا لو أجرينا هذا الحديث على ظاهره لخلت أحاديث الجهر بالبسملة عن الفائدة؛ لأنه لو كان حكمها حكم الفاتحة في الجهر والإسرار لكفى أن يقول: هي آية منها، وإذا كان بقاء ذلك الحديث على ظاهره يؤدي إلى مثل هذا المحذور وجب القول بأنه أولى بالتخصيص صوناً لكلام الحكيم عن العبث.
فإن قيل: قد ذكر الأصوليون من المرجحات للتخصيص في مثل ما نحن فيه عمل الأكثر، والأمة مطبقة وجمهور الآل على إسرارها في النهارية، فيكون تخصيص حديث: ((كل صلاة لا يجهر فيها ...)) إلخ بحديث: ((صلاة النهار عجماء)) أولى.
قيل: لا نسلم أن عمل الأكثر يفيد الترجيح؛ إذ ليس بحجة والقرآن مملوء بمدح القلة، سلمنا فالظاهر عن جمهور مشاهير السلف القول بالجهر بها مطلقاً، وقد مر تعداد كثير منهم، ثم إن هذا المرجح معارض بمرجح أقوى منه وهو عمل أمير المؤمنين عليه السلام ، وقد تقدم تحقيقه عنه، وتصريح الرازي بأن مذهبه عليه السلام الجهر بها في جميع الصلوات.
نعم أما من يقول: بأن قوله عليه السلام حجة كما هو المختار فإنه يحكم ببطلان ما عارضه، وأما قولكم: إن جمهور الآل على القول بالإسرار بها في النهارية، فيدفعه ما تقدم من إجماع قدمائهم على الجهر من دون تقييد كما في الجامع الكافي، وما رواه في الجامع والأمالي عن أعيانهم من القول به، وبهذا يندفع ما رجحتم به تخصيص حديث: ((صلاة النهار عجماء ...)) إلخ، ولعمري إن الاشتغال بالجمع بين هذا الحديث مع ما قد قيل فيه من القوادح وبين ما ورد في الجهر من ضياع الوقت لولا أن بعض الأصحاب قد جعله عمدة في ما ذهبوا إليه، أما أهل الحديث وعلماء النظر فلم يرفعوا إليه رأساً، ولا شغل كثير منهم به قرطاساً، وأما حديث الحكم بن عمير ومحمد بن السري العسقلاني فمن النص على بعض أفراد العام وهو لا يفيد التخصيص، ولعلهما لم يحضرا إلا فيما ذكراه من الصلوات لاشتغالهما بالزراعة ونحوها، ويدل على أنهما لم يكونا ملازمين وإنما نصا على ما كانا ملازمين لحضوره من الصلوات ذكر العسقلاني للصبح والمغرب دون العشاء وغيرها من المجهورات، على أن دلالتهما على نفي الجهر بها في العجماوين من باب المفهوم، وهو لا يقاوم المنطوق، وأما الإجماع الذي ذكره الأمير الحسين فمعارض بما في الجامع الكافي عن أهل البيت"، مع أن الخلاف في المسألة مشهور، والصواب مع ناقل الخلاف، مع أنه يمكن أنه أراد بالإجماع في ما عدا البسملة، وأما الدليل الرابع وهو أن التفصيل أحوط فطريقة الأحوطية إنما يصار إليها عند عدم المرجح وتعارض الأدلة، أما مع رجحان بعضها فالواجب المصير إليه والآية وهو: {فَبَشِّرْ عِبَادِ ...} [الزمر:18 ]إلخ، تدل عليه؛ إذ اتباع الراجح والأقوى من الأحسن، مع أن الأحوطية منتفية على مذهب القائلين بالجهر مطلقاً لما تقدم من أن في أدلتهم ما يدل على فساد صلاة من لم يجهر بها في السرية.
نعم قد سلك بعض المتأخرين طريقة أخرى في الاحتياط، وهي أنه يجهر بها في ركعة ويسر في أخرى، وهو مبني على أن قراءة الفاتحة وما يقرأ معها لا تجب إلا مرة واحدة في جملة الصلاة، فيكون قد أتى بالقدر الواجب على الوجه المشروع؛ لأنا إن فرضنا وجوب الجهر بها فقد أتى به، وإن فرضنا وجوب الإسرار فقد أتى به، وهذا هو الظاهر من عمل من يذهب إلى الجهر من علماء عصرنا، وأما ما ذكره صاحب الروض من حمل ما ورد في الجهر على إرادة إثباتها قرآناً، فجوابه أنه لا مستند له إلا فهمه من كلام المؤيد بالله ومن ذكر معه، وكونهم يوردونها في مقام الاحتجاج على كونها قرآناً، وهذا لا يفيده لأمرين:
أحدهما: أن فهمهم ليس بحجة، لا سيما مع مخالفته للظاهر.
الثاني: أن احتجاجهم بأحاديث الجهر على كونها آية لا ينافي ثبوت الجهر بها في السرية، بل تلك الأحاديث تدل على الأمرين، وقد نبهنا على أن أحاديث الجهر تدل على ثبوت قرآنيتها في المسألة الأولى، والمعتمد ظاهر الدليل، ومن ادعى خلاف الظاهر ولم يأت عليه بدليل وجب رد دعواه كائناً من كان، ولو جوزنا له دليلاً فلا تكليف علينا إلا بما علمنا، خلا أن الواجب إبلاغ الوسع في البحث عن مستندات أقوال العلماء؛ لأن مخالفتهم للظواهر تفيد أن له مستنداً ما، وبعد البحث الشديد فلم نجده، أو وجدناه وظهر لنا ضعفه يسقط عنا لوم المخالفة لأفراد منهم، إذ كل أحد مكلف بما علم، ومن الجائز أن يطلع بعض العلماء على ما يطلع عليه الآخرون، بل ذلك معلوم، واعلم أني قد بحثت أشد البحث فلم أجد عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم ولا عن أمير المؤمنين نصاً صريحاً يدل على هذا التفصيل.
وأما ما قيل من نفي الملازمة بين قراءته لها صلى الله عليه وآله وسلم وبين الجهر فقد مر الجواب عنه، واحتمال كونهم فهموا ذلك من ثبوتها آية ممنوع لما في بعض الروايات من استنادهم إلى سماعها مع أنه خلاف الظاهر، وأما تقييد ما في الجامع الكافي من الإجماع بما في الشفاء والروضة، والقدح في صحته بخلاف الهادي عليه السلام وما روي عن بعض الآل من عدم وجوب الجهر والإسرار، فجوابه من وجهين:
أحدهما: أن الذي في الشفاء والروضة إنما دل على إجماعهم على شرعية الجهر بها في الجهرية مع السكوت عن السرية، ومن الجائز أن لا يعلم الأميران عليهما السلام بالإجماع في السرية.
الثاني: أن الإجماع الذي روياه متأخر عما في الجامع، ومن المعلوم أن الخلاف انتشر في الأزمنة المتأخرة في المسألة، فذكرا المجمع عليه في زمانهما وصاحب الجامع الكافي متقدم، والإجماعات المروية فيه مختصة بالقدماء، لا يقال: لو كان الإجماع على ظاهره لما خالفه بعض المتأخرين؛ لأنا نقول من الجائز أن لا يبلغهم، ويؤيد هذا أن الجامع كان في الزمن الأول غير مشهور في جهات الزيدية من أرض اليمن وغيرها، وإنما كان ظهوره بالعراق، وبين العراق وسائر جهات الزيدية موانع من الاتصال من البعد، وخوف السلاطين والأمراء وغيرهم، ويجوز أن يبلغهم من طريق غير صحيحة، ويجوز أيضاً أن يفهموا منه مثلما فهمه صاحب الروض، وأما ما ذكر من خلاف الهادي عليه السلام ففيه نظر مع روايته لما تقدم من العموم، وقد سلف حكاية السيد عماد الدين عليه السلام موافقة الهادي لما روي، وأما من لا يوجب الجهر والإسرار في القراءة من العترة" فيمكن حمله على غير البسملة، أو أن خلافهم متأخر، وعذرهم في المخالفة ما تقدم، وكذا إن صح خلاف الهادي عليه السلام فهو متأخر، والعذر ما ذكرنا.
قلت: ويدل على صحة ما في الجامع الكافي من إجماع أهل البيت"، وأنه على ظاهره في تناول جميع الصلوات أن البيهقي قد روى إجماع أهل البيت" على الجهر بالبسملة حكاه عن أبي جعفر الهاشمي، ثم حكى عن الشيعة الجهر بها في السرية والجهرية، واسم التشيع عندهم يتناول كل من قدم الوصي على الثلاثة في الفضيلة والإمامة، ولا شك أن أهل البيت يقدمونه فيهما، فيستفاد من مجموع كلامه أن آل الرسول صلى الله عليه وآله وسلم مجمعون على الجهر بها مطلقاً، وبه يتضح أن ما في الجامع على ظاهره، وأما حمل الآية التي ذكرها الرازي على مطلق الذكر، فيدفعه ما ذكر في تفسيرها من أنهم كانوا يجتمعون بعد الموسم فيذكرون مفاخر آبائهم بالأشعار وغيرها، ومعلوم أنهم لا يجتمعون لهذا من دون إظهاره على رؤوس الأشهاد، وإعلانه للحاضر والباد، وقد أمر الله بأن يكون ذكره كذكر آبائهم، وهو يفيد الافتخار به وإعلانه، على أن الاحتجاج بالآية غير معتمد، إلا أنه يفيد ظهور النكتة والسر في تخصيصها بالجهر كما مر، وأما ما في البحر عن علي عليه السلام من القول بالتفصيل فلم أجده في كتب الحديث بعد البحث، ولعل أحد العلماء استنبطه له. والله أعلم.
وبقي الكلام على ما روي عن الحكم، وابن أبي ليلى من استواء الجهر والإسرار، وهذا القول قد حكاه في الروض عن إسحاق، وفي هامشه عن السيد محمد بن إسماعيل الأمير، واحتج لهم في الروض بأنه قد صح عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فعل هذا وهذا، ولا تعارض في الفعل كما علم في الأصول فيحصل الاقتداء بكل من الفعلين، ولهذا اختلفت أفعال السلف فيهما.
قال (ابن حبان): وهذا عندي من الاختلاف المباح والجهر أحب إلي، وقال ابن القيم في الهدي: إن النبي صلى الله عليه وآله وسلم كان يجهر ببسم الله الرحمن الرحيم تارة، ويخفيها أكثر مما جهر بها، ولا ريب أنه لم يكن يجهر بها دائماً في كل يوم وليلة خمس مرات أبداً حضراً وسفراً ويخفى ذلك على خلفائه الراشدين، وعلى جمهور أصحابه وأهل بلده في الأعصار الفاضلة، هذا من أمحل المحال حتى يحتاج إلى التشبث فيه بألفاظ مجملة وأحاديث واهية، فصحيح تلك الأحاديث غير صريح، وصريحها غير صحيح.
والجواب: أما قولهم: قد صح عنه صلى الله عليه وآله وسلم فعل هذا وهذا، فغير مسلم، فإنه لا مستند لثبوت الإسرار إلا حديث أنس، وابن المغفل وقد عرفت ما فيهما، وأما قولهم لا تعارض في الفعل، فمسلم لكنا نقول: قد صح الجهر بها قولاً وفعلاً، لكنهم لا يعدون ما رواه أهل بيت التطهير شيئاً مذكوراً، وأما قول صاحب الهدي أن الإخفاء كان أكثر، فممنوع لما مر مما يفيد ملازمة الجهر، وما استند إليه من استبعاد ملازمة الجهر بها مع خفائها على من ذكر، فنقول: لم تخف عليهم، وقد صح عنهم روايتها مرفوعة وموقوفة، مبينة لا إجمال فيها، وإن كان في شيء منها إجمال فقد زال إجماله بما روي من البيان، وقد استوفينا ذلك أو أكثره، فلا يغرك بزخرف قوله، وأما قوله إن الصريح غير صحيح، فمبني على قاعدتهم في تضعيف ما رواه آل محمد وشيعتهم"، وإلا فذلك الصريح صحيح رواه أئمة الهدى القاسم بن إبراهيم، والهادي إلى الحق، ومحمد بن منصور وغيرهم، وقد أسلفنا لك تصحيح حديث علي وعمار وغيره من غير طريق أهل البيت"، لكنهم يبالغون في رد أدلة ما اشتهر عن أهل البيت ولو طابق قواعد التصحيح عندهم، ولا عجب فإنهم نشأوا على النصب والمجانبة لمن أمروا باتباعهم وتلقاه خلفهم عن سلفهم، إنما العجب كل العجب ممن نشأ بين أئمة أهل البيت"، وعرف علماءهم، وقرأ كتبهم، وتربى على أيديهم، ثم أخذ في عيب علمائهم، وتضعيف أدلتهم، وتشييد أقوال معانديهم، واتباع ما يزخرفه ابن القيم وأضرابه مما يفيد الغض في جانب آل محمد، مع أنهم لو نظروا في كلامه وكلام أضرابه لوجدوه أوهن من نسج العنكبوت، انظر إلى ما حكينا عنه وعن غيره في هذا الموضع كيف اشتمل على دعوى أن كون الخلفاء، وجمهور الصحابة كانوا يسرون بالبسملة أمر معلوم مسلم عند الخصوم؛ ليبني عليه ذلك الاستبعاد الموهوم، فلما بحثنا ونظرنا وجدنا هذه الدعوى لا أصل لها ولا مستند، بل الأمر المعلوم بخلافها كما تقدم ذلك عن جمهور السلف برواية
الموالف والمخالف، ولا أدري أين ابن القيم وأتباعه عن ما تقدم من أن رواة الجهر فوق عشرين صحابياً، وقد ذكر الإمام القاسم بن محمد عليه السلام أنه لم يرو الإسرار إلا أنس وابن المغفل.
وحكى في الروض عن بعضهم أنه لم يرو أحاديث النفي إلا سبعة من الصحابة، قال: وقد تقدم عدم صحة الاستدلال بكل منها.
قلت: وبهذا يظهر لك بطلان قوله إنه كان يخفيها أكثر مما يجهر بها، وأن الاستبعاد المتضمن لإطباق الخلفاء وجمهور الصحابة على الإسرار دعوى كاذبة.
واعلم أن صاحب شرح منظومة الهدي قد تبع ابن القيم في المجازفة في الدعوى، فإنه قال: والأظهر والله أعلم ضعف هذا القول يعني القول بالجهر مطلقاً لضعف دليله؛ إذ العموم غير منتهض فقد صح تخصيصه ببعض الصلاة بما لا يمكن دفعه، وفعل علي عليه السلام ومن ذكر معه إن صح فهو محمول على وقوع ذلك منهم نادراً، كما ورد من أنه صلى الله عليه وآله وسلم كان يسمعهم بعض الآيات في الصلاة السرية أحياناً، وبيان المجازفة أنه ادعى صحة تخصيص الجهر ببعض الصلوات بما لا يمكن دفعه، وقد بحثنا وأتينا على أدلة المختلفين في المسألة أجمع إلا ما لعله شذ عنا ولا أظنه ولم نجد هذا المخصص الذي ادعاه لا من طريق صحيحة، ولا من طريق ضعيفة، فإن أراد به ما ذكره أهل القول بالتفصيل فقد عرفت ضعفه وإمكان دفعه، وإن أراد غيره فهلا بينه فلا عطر بعد عروس، وعند التحقيق أنه لا مخصص كما ادعاه، لكن قد تبع في التهويل وتنميق العبارة ابن القيم، لكن لا ينبغي إرسال اللسان في مثل هذه المواضع التي هي موضوعة لبيان أحكام الله تعالى لئلا يؤدي ذلك إلى التقول على الله بما لا يعلمه القائل.
وأما تأويله لكلام علي عليه السلام فلا وجه له، لا سيما وذلك مشهور عنه، ولذا صار الجهر بها شعار الشيعة.
قال (البيهقي): ذهبت الشيعة إلى أن السنة هي الجهر بالتسمية سواء كانت في الصلاة الجهرية أو السرية، وجمهور الفقهاء يخالفونهم فيه.
قلت: نسبة الخلاف إلى جمهور الفقهاء يفيد أن منهم من يوافق الشيعة، وقد صرح الرازي بأن هذا مذهب علي عليه السلام فقال بعد كلام ذكره: ولهذا السبب نقل أن علياً رضى الله عنه كان مذهبه الجهر ببسم الله الرحمن الرحيم في جميع الصلوات قال: وأقول إن هذه الحجة قوية في نفسي، راسخة في عقلي، لا تزول البتة بسبب كلمات المخالفين، أقول: لله العلماء الفحول الذين لا تستخفهم زخارف الأقوال، ولا تستهوي عقولهم الرجال، وقال الرازي بعد أن ذكر ترجيح هذا المذهب بموافقته للدلائل العقلية، وكونه مذهب علي عليه السلام ما لفظه: ومن اتخذ علياً إماماً لدينه فقد استمسك بالعروة الوثقى في دينه ونفسه.
تنبيه [تفسير مقتضى قول القائلين بالجهر بالبسملة]
في عبارات بعض القائلين بالجهر تصريح بوجوبه، وفي عبارات بعضهم ما يقتضي عدم الوجوب وأنه مشروع على جهة السنة، وبعضهم كلامه محتمل للأمرين، فممن صرح بالوجوب القاسم بن محمد، والإمام الهادي الحسن بن يحيى القاسمي، وولده فخر الإسلام، ورواه عن علي عليه السلام وزيد بن علي وعلي بن موسى، وهو ظاهر ما في الجامع الكافي عن السلف؛ لأنه ترجم المسألة بمسألة وجوب الجهر ببسم الله الرحمن الرحيم.
وعن عكرمة أنه كان لا يصلي خلف من لم يجهر بها، وعن أبي جعفر الهاشمي مثله.
قلت: والقول بالوجوب هو الظاهر لحديث: ((من لم يجهر في صلاته ببسم الله الرحمن الرحيم فقد أخدج صلاته )) إذ وصفها بالخداج يدل على فسادها بترك الجهر وهو معنى الوجوب، وقد نص الهادي عليه السلام على أن الخداج النقصان قال: وما لم يتم فهو باطل، وكلام أهل اللغة في تفسير الخداج يقتضي ذلك، وظاهر كلام الرازي وما حكاه البيهقي عن الشيعة أنه سنة، فعلى هذا لا تفسد بتركه.
قلت: والذي يظهر أن لفظ السنة غير صريح في نفي الوجوب؛ إذ يحتمل أن المراد بالسنة سنة الرسول صلى الله عليه وآله وسلم والخلفاء لا المعنى المصطلح عليه، وهو ما قابل الواجب، هذا وأما سائر من نقل عنه الجهر فهو يحتمل الوجوب وعدمه لعدم التصريح، وأما القائلون بالإسرار فحكى في الروض النضير عنهم أنهم لا يقولون بفساد صلاة من جهر بها، وهذا يقتضي عدم وجوب الإسرار عندهم، وكذلك القائلون بعدم وجوب الجهر والإسرار في القراءة من أئمة العترة، فإن ظاهر كلامهم عدم الوجوب في الكل وإن كان يحتمل تخصيص البسملة، وأما القائلون بالتفصيل فقد نص على وجوب الجهر بها فيما يجهر فيه بالقراءة الأمير الحسين في الشفاء، وحكاه عن آبائه أئمة الحجاز".
وفي البحر عن الهادي والمرتضى أن الصلاة تفسد بترك الجهر والمخافتة حيث يجب، وفي الروض أن القائل بالتفصيل يقول: لا تصح صلاة من لا يجهر بها في الجهرية ويسر بها في السرية، ووجهه أنها من الفاتحة والجهر بالفاتحة في موضعه واجب، وتفسد الصلاة بتركه، وكذلك الإسرار كما سيأتي إن شاء الله.
المسألة الثالثة [الاقتداء بالقرآن]
يؤخذ من افتتاح كتاب الله تعالى بالتسمية أنه ينبغي لكل شارع في عمل من الأعمال من الأكل، والشرب، والطهارة، والذبح، والرسائل، والكتب وغير ذلك مما له شأن يهتم به شرعاً ليس بحرام ولا مكروه، ولم يجعل الشارع له مبدأ غير البسملة أن يفتتح عمله باسمه تعالى؛ إذ لافتتاحه كتابه بها سر وشأن عظيم، ومصلحة علمها الحكيم، وقد ورد الحث على اتباع الكتاب بما يتناول جميع ما يمكن فيه الاقتداء، وللابتداء بها في أعمالنا سر في حصول البركة والمعونة بالاستعانة باسمه تعالى، وقد قدمنا أن الباء فيها إما للمصاحبة المفيدة للتبرك، أو للاستعانة المتضمنة للدلالة على أن الفعل لا يكون معتداً به شرعاً واقعاً على السنة حتى يصدر بذكر اسم الله تعالى.
وقد ذكر في الكشاف وغيره أن البسملة مقولة على ألسنة العباد هي وما شابهها كقوله تعالى: {الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِين َ}[الزمر:75 ]وكثير من ألفاظ القرآن المجيد.
قال (الزمخشري): ومعناه تعليم العباد كيف يتبركون باسمه، وكيف يحمدونه، ويمجدونه، ويعظمونه.
قال بعض المحققين: وهذا إلى آخر السورة الكريمة مقول على ألسنة العباد تلقيناً لهم وإرشاداً إلى كيفية التبرك باسمه تعالى، وهداية إلى منهاج الحمد وسؤال الفضل، ولذلك سميت السورة الكريمة بما ذكر من تعليم المسألة، يعني أنه قد ذكر أن من أسمائها تعليم المسألة لاشتمالها عليها.
وقال الإمام زيد بن علي عليه السلام : أما قوله تعالى: {بسم الله} فإن الله عز وجل دل عباده على أن إذا أرادوا قولاً أو عملاً افتتحوا بسم الله كما افتتح الله تعالى كلامه، وليجعلوا ذكر اسم الله تعالى استعانة منهم بالله، وتبركاً بالافتتاح باسمه.
واعلم أنه قد تطابق على حسن الابتداء باسمه تعالى العقل والنقل، أما العقل فلأنه لما كان الباري تعالى منعماً بجميع النعم على عباده، وشكر المنعم واجب عقلاً حسن الابتداء باسمه تعالى، أداءً لبعض ما يجب له تعالى من الشكر؛ إذ من شكره تعظيمه بالتبرك، والاستعانة باسمه تعالى في مبادئ أعمالنا التي تمكيننا منها من جلائل نعمه، ومن شكره أيضاً ذكر اسمه تعالى باللسان الذي هو شعبة من الشكر، مع ما في ذلك من الاقتداء بفعله حيث افتتح باسمه كتابه، وامتثال ما ورد على لسان أنبيائه، فهذه ثلاثة وجوه مقررة لحسن الابتداء به عقلاً.
وأما النقل فيدل على ذلك الكتاب، والسنة، والإجماع، أما الكتاب فمنه ما أرشد إليه تعالى في افتتاح كتابه وقد عرفت تقريره، ومنه ما حكاه عن نوح عليه السلام من قوله: {ارْكَبُوا فِيهَا بِاِسْمِ اللَّهِ مَجْرَاهَا وَمُرْسَاهَا }[هود:41 ]فإنه قرن التسمية بالشروع في ركوب السفينة، ومنه ما حكاه في سورة النمل عن سليمان عليه السلام وقد مر من حديث أبي ميسرة أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم نودي في بدء أمره: ((يا محمد قل بسم الله الرحمن الرحيم الحمد لله رب العالمين ...)) الحديث.
وروي من طرق متعددة ستأتي إن شاء الله أن أول ما نزل: {اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ }[العلق:1]، وأيهما كان ففيه دلالة على المقصود من حسن الابتداء بها، مع أنه لا تنافي بين الروايتين؛ إذ يجوز أن يكون اقرأ أول ما نزل للأمر بالقراءة، وأول ما أمر بقراءته فاتحة الكتاب.
وقد روي أن البسملة مفتاح كل كتاب نزل من السماء، فأخرج الحافظ أبو بكر الخطيب البغدادي في الجامع عن أبي جعفر محمد بن علي عليه السلام ، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم : ((بسم الله الرحمن الرحيم مفتاح كل كتاب )) -يعني كل كتاب نزل من السماء- ذكره العزيزي، وقد صرح به في أمالي أحمد بن عيسى عن الباقر عليه السلام موقوفاً عليه، وسيأتي.
وفي شرح الجامع الصغير قال صاحب الاستغناء في شرح الاسماء الحسنى عن شيخه التونسي: أجمع علماء كل ملة أن الله عز وجل افتتح كل كتاب بالبسملة.
وأما السنة فقد ورد الندب إلى الابتداء بالتسمية والأمر بها في أخبار كثيرة، وأعمال متعددة، وبعضها عام لكل ما له شأن، فمن ذلك ما ورد في الطهور، وعند الأكل والشرب، ودخول الخلا ونحوها، وسيأتي الكلام عليها في مواضعها إن شاء الله.
ومنه ما رواه جابر أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال: ((أوك سقاك واذكر اسم الله وخمر إناءك واذكر اسم الله ولو أن تعرض عليه عوداً)). متفق عليه، وأخرجه أبو داود، والترمذي، والنسائي، ولفظ أبي داود: ((اغلق بابك واذكر اسم الله فإن الشيطان لا يفتح باباً مغلقاً ، واطف مصباحك واذكر اسم الله، وخمر إناءك ولو بعود تعرضه عليه واذكر اسم الله، وأوك سقاك واذكر اسم الله)).
الوكاء: ككساء رباط القربة، وقد وكاها وأوكاها ربطها، والتخمير بالخاء المعجمة: التغطية، ومعنى تعرض عوداً: أن تضعه على العرض وهو الجانب من الإناء من عرض العود على الإناء، والسيف على الفخذ يعرضه ويعرضه فيهما -يعني بضم الراء وكسرها- في عرض العود والسيف.
وعن ابن عباس، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم : ((أما إن أحدكم لو قال إذا أراد أن يأتي أهله : بسم الله اللهم جنبنا الشيطان وجنب الشيطان ما رزقتنا ثم قدر بينهما في ذلك ولد لم يضره الشيطان أبداً)). نسبه في تتمة الاعتصام إلى شرح الأحكام، والبخاري، ومسلم، إلى غير ذلك من الأحاديث الدالة على شرعيتها في كثير من الأعمال حتى في حالة وضع الميت في لحده بحيث يدل مجموع ذلك على صحة العموم المستفاد من حديث أبي هريرة، وهو ما أخرجه الحافظ عبد القادر الرهاوي في الأربعين بسند حسن عن أبي هريرة، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم : ((كل أمر ذي بال لا يبدأ فيه ببسم الله الرحمن الرحيم أقطع )). والمراد من قوله: أقطع: أنه ناقص من حيث ترك الإتيان بالمأمور به، وهو الابتداء بذلك.
وفي الحديث نكتة نبه عليها بعض العلماء، وهي أنه أتى فيه بلفظ(في) إشارة إلى أنه لا بد أن يكون البدء بالبسملة لأجل ما شرع فيه، فيخرج ما لو بدأ في أكل مثلاً مبسملاً لأجله، ووافق التأليف مثلاً عقب هذه البسملة فلا يكفي له.
وفي شرح ابن حابس على الثلاثين المسألة عن عائشة أنه أتي إليها بقميص مخيط فقالت: هل ذكر اسم الله عليه؟ قيل: لا، قالت: ردوه فافتقوه، ثم سموا عليه وخيطوه، فإني سمعت رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يقول: ((كل أمر ذي بال لا يذكر اسم الله عليه فهو أجذ ، وقيل: أبتر، وقيل: أقطع، وقيل: خداج)). والمعنى أنه منزوع البركة.
قال (الدواري): والشك يحتمل أن يكون في الرواية عن عائشة وأن يكون منها، ومعنى ذي بال: أي خطر بالبال، وقيل: له خطر وشأن، وأما الإجماع فلا خلاف في حسن الابتداء بها.
قال (الرازي): أجمع العلماء على أنه يستحب أن لا يشرع في عمل من الأعمال إلا ويقول: بسم الله، فإذا نام قال بسم الله، وإذا قام من مقامه قال بسم الله، وإذا قصد العبادة قال: بسم الله، وإذا دخل الدار قال: بسم الله، أو خرج منها قال: بسم الله، وإذا أكل أو شرب أو أخذ أو أعطى قال: بسم الله، ويستحب للقابلة إذا أخذت الولد من الأم أن تقول: بسم الله، وهذا أول أحواله من الدنيا، وإذا مات وأدخل القبر قيل: بسم الله، وهذا آخر أحواله من الدنيا، قال: وإذا قام من القبر قال أيضاً: بسم الله، وإذا حضر الموقف قال: بسم الله فتتباعد عنه النار ببركة بسم الله.
وقال القاضي العلامة (أحمد بن يحيى حابس ) رحمه الله: لا خلاف بين العلماء أن من ألف باباً، أوصنف كتاباً، أو قام خطيباً إلى غير ذلك ولم يذكر اسم الله تعالى فإنه معترض عليه ما لم يكن فعل قلب أو كلاماً أوله ذكر الله كالآداب والخطبة وإن لم يرد على جهة التسمية، أو كتاب غضب، أو يكون للكاتب على المكتوب إليه سطوة كسورة براءة فإنها نزلت على المشركين بوعد ووعيد، وزجر وتهديد.
وروي أن علياً عليه السلام كان يكاتب معاوية بن أبي سفيان بكتب محذوفة التسمية، وفيه يقول الشاعر:
يدل على وجد الهمام كتابه .... وتخليفه للصدر عمن يكاتبه
قلت: وما ذكره رحمه الله من عدم شرعيتها في أفعال القلوب وما بدئ بذكر الله، فهو الظاهر إذ لم يرد عن الشارع ولا عن أحد من السلف الابتداء فيه بالتسمية في شيء من أفعال القلوب، بل من تتبع الجزئيات التي وردت التسمية في ابتدائها عن الشارع لم يجدها إلا من الأعمال الظاهرة، وكذلك الأذان فإنه لم يسمع الابتداء فيه بالتسمية مع أنه مبتدأ باسم الله تعالى فهو داخل في عموم ما تقدم، وأما الخطب فلم نجد فيما وقفنا عليه من خطب النبي صلى الله عليه وآله وسلم ، وخطب باب مدينة العلم عليه السلام في نهج البلاغة إلا الابتداء بالحمدلة، لكن الظاهر أن المراد بالابتداء باسمه تعالى أن يذكر في أول الأمر اسم من أسمائه تعالى لا خصوصية البسملة، كما يدل عليه حديث عائشة، وظواهر نحو قوله تعالى: {وَلاَ تَأْكُلُوا مِمَّا لَمْ يُذْكَرِ اسْمُ اللَّهِ عَلَيْهِ }[الأنعام:121 ]وحديث: ((لا وضوء لمن لم يذكر اسم الله عليه ))، وما ورد في بعض أحاديث أذكار النوم : ((باسمك اللهم وضعت جنبي )) إلى غير ذلك.
وعلى هذا فالابتداء بالحمدلة ابتداء باسمه تعالى، وبه تعرف أنه لا تعارض بين الأحاديث الواردة في الأمر بالابتداء بالحمد لله وبين ما هنا، وإن كان قد جمع بينها بعضهم بجمع آخر، وسيأتي إن شاء الله في سياق قوله تعالى: {الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ }[الزمر:75 ] هذا مع أنا نقول إن للبسملة أرجحية اقتداء بالكتاب العزيز.
قال (ابن حابس): ولا يبعد دعوى الإجماع على ذلك، وكذلك للجمع بينها وبين الحمد كما لا يخفى، وأما ما ذكره من عدم الابتداء بها في كتب الغضب فقد أوضح الحجة عليه بما ذكره من سورة براءة وفعل الوصي عليه السلام ، لكنه ينبغي أن يقيد الغضب بكونه لله تعالى كما يفيده دليله.
تنبيه [العلة في عدم ذكر التسمية في سورة التوبة]
روي أن ترك التسمية في سورة براءة لكون اسمه تعالى سلام وأمان فلا يكتب في النبذ والمحاربة، فيؤخذ من ذلك خطر التسمية في ذلك؛ لأن اسمه تعالى إذا كان سلاماً وأماناً كان في ذكره مع النبذ تناف وتناقض، وقد نص على أخذ الحظر من ذلك الإمام الحسن بن عز الدين عليه السلام قال: ولهذا جرى على ذلك القرون فيما نعلم في كل زمان ومكان.
قلت: ويؤيده فعل الوصي عليه السلام مع معاوية.
تنبيه ثان
قد ذكرنا في صدر المسألة أن المشروع فيه التسمية هو ما ليس بمحرم شرعاً، ولا مكروه، ولم يجعل له الشارع مبدأ غير البسملة، فأما ما جعل له الشارع مبدأ غيرها كالأذان فقد تكلمنا عليه، وأما المحرم والمكروه فوجهه أن الواجب تعظيم اسمه تعالى، ومن تعظيمه أن لا يذكر إلا على حق كما قال علي عليه السلام عظم اسم الله أن تذكره إلا على حق. رواه في النهج، والمحرم والمكروه خارجان عن مسمى الحق.
تنبيه ثالث [اتفاق الأمة على جواز كتابة البسملة في أول كل كتاب]
قال القرطبي: اتفقت الأمة على جواز كتبها في أول كل كتاب من كتب العلم والرسائل، فإن كان الكتاب ديوان شعر فروى مجالد عن الشعبي، قال: أجمعوا أن لا يكتبوا أمام الشعر بسم الله الرحمن الرحيم، وقال الزهري: مضت السنة أن لا يكتبوا في الشعر بسم الله الرحمن الرحيم، وذهب إلى رسم التسمية في أول كتب الشعر سعيد بن جبير، وتابعه على ذلك أكثر المتأخرين، قال أبو بكر الخطيب: وهو الذي نختاره، ونستحبه.
قلت: قد ذكر هذه الرواية عن الشعبي في الدر المنثور وعزاها هي وما روي عن الزهري إلى الخطيب، وفيه وأخرج ابن أبي شيبة، وأبو بكر بن أبي داود، والخطيب في الجامع عن الشعبي قال: كانوا يكرهون أن يكتبوا أمام الشعر بسم الله الرحمن الرحيم.
وفيه وأخرج الخطيب في الجامع عن سعيد بن جبير، قال: لا يصلح كتاب إلا أوله: بسم الله الرحمن الرحيم وإن كان شعراً، والمختار أن الشعر كلام حسنه حسن وقبيحه قبيح، وقد ورد هذا مرفوعاً فيكون حكمه فيما تستحب فيه التسمية وما لا تستحب حكم غيره، لا سيما ولم أقف على ما يقتضي المنع والكراهة عن أحد من أهل البيت، ومشاهير السلف الصالح، بل ظاهر كلامهم الإطلاق، وقول الشعبي: أجمعوا، وقول الزهري: من السنة لا يقوى على تخصيص تلك الأدلة لعدم مساواتها في الصحة، واحتمال أن الإجماع المذكور إنما فهمه الراوي من قول الشعبي في الرواية الأخرى كانوا يكرهون، وهذا ليس بصريح في الإجماع، وأين الإجماع مع خلاف سعيد بن جبير، وقول الزهري محتمل، فصح بقاء تلك الأدلة على ظاهرها.
المسألة الرابعة: في كتابة البسملة
ينبغي التأنق في كتابتها لما أخرجه البيهقي في شعب الإيمان عن علي بن أبي طالب عليه السلام قال: تنوق رجل في بسم الله الرحمن الرحيم فغفر له. تنوق بمثناة فوق ثم نون مفتوحتين بعدهما واو مشددة: أي بالغ في تجويدها.
وفي تفسير القرطبي عن سعيد بن أبي سكينة بلغني أن علي بن أبي طالب رضى الله عنه نظر إلى رجل يكتب بسم الله الرحمن الرحيم فقال له: جودها فإن رجلاً جودها فغفر له.
وفي أمالي المرشد بالله عليه السلام عن أنس قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم : ((من كتب بسم الله الرحمن الرحيم فجوده تعظيماً لله غفر له )) وعزاه في الدر المنثور إلى أبي نعيم في تاريخ أصبهان، وابن أشتة في المصاحف قال بسند ضعيف.
قلت: وسنده في الأمالي هكذا: أخبرنا الذكواني، نا ابن حبان، ثنا محمد بن عبد الرحيم، ثنا أبو سالم، ثنا أبو العلاء، ثنا أبو حفص العبدي، عن أبان، عن أنس، وأخرج السلفي في جزء له عن ابن عباس، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم : ((لا تمد الباء إلى الميم حتى ترفع السين )) وأخرج الخطيب في الجامع عن الزهري قال: نهى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أن تمد بسم الله الرحمن الرحيم.
وأخرج الديلمي في مسند الفردوس وابن عساكر في تاريخ دمشق عن زيد بن ثابت، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم : ((إذا كتبت بسم الله الرحمن الرحيم فبين السين فيه )).
وأخرج الخطيب في الجامع والديلمي عن أنس عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال: ((إذا كتب أحدكم بسم الله الرحمن الرحيم فليمد الرحمن )).
وأخرج الخطيب عن مطر الوراق قال كان معاوية بن أبي سفيان كاتب رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ، فأمره أن يجمع بين حروف الباء والسين ثم يمده إلى الميم، ثم يجمع حروف: الله، الرحمن، الرحيم، ولا يمد شيئاً من أسماء الله في كتابه ولا قراءته.
قلت: قد تضمنت رواية ابن عباس وما بعدها بيان كيفية التجويد؛ إذ لا ينبغي العدول عما أرشد إليه معلم الشرع صلى الله عليه وآله وسلم إلا أن ظاهر حديث أنس الذي فيه فليمد الرحمن يعارض حديث مطر الوراق؛ إذ ظاهر حديث أنس أن الرحمن يكتب بالألف، لكن قد ذكر الإمام الناصر بن إبراهيم بن محمد المؤيدي عليه السلام أن الرحمن تكتب بحذف الألف حيث وقع، وذكر أبو حيان نحوه وعلله بكثرة الاستعمال، وفي حديث الزهري ومطر دلالة على ما ذكره العلماء من حذف ألف الوصل في التسمية، وقد عللوه بكثرة الاستعمال، وقد ذكر الإمام إبراهيم بن محمد الاتفاق على ذلك.
قال (أبو حيان): فلو كتبت باسم القاهر، أو باسم القادر فقال الكسائي، والأخفش: تحذف الألف، وقال الفراء: لا تحذف إلا مع بسم الله الرحمن الرحيم؛ لأن الاستعمال إنما كثر فيه، فأما في غيره من أسماء الله فلا خلاف في ثبوت الألف.
قلت: يعني لا خلاف في ثبوت الألف من بسم إذا كان مع سائر أسماء الله، وقد ورد عن السلف آثار في كيفية كتابتها تؤيد ما ورد في الأخبار، ولا بأس بذكرها.
فروي عن ابن سيرين أنه كان يكره أن يمد الباء إلى الميم حتى يكتب السين، وعن مسلم بن يسار أنه كان يكره أن يكتب بم حين يبدأ فيسقط السين.
وعن ابن عون أنه كتب لابن سيرين بم فقال: مه اكتب سيناً اتقوا أن يأثم أحدكم وهو لا يشعر.
وروي أن عمر بن عبد العزيز ضرب كاتباً كتب الميم قبل السين، فقيل له: فيم ضربك أمير المؤمنين؟ فقال: في سين.
وعنه أيضاً أنه عزل كاتباً له كتب بم ولم يجعل السين.
وعن محمد بن سيرين أنه كان يكره أن يكتب الباء ثم يمدها إلى الميم حتى يكتب السين ويقول فيه قولاً شديداً.
وعن (معاذ بن معاذ) قال: كتبت عند سوّار بسم الله الرحمن الرحيم فمددت الباء ولم أكتب السين فأمسك يدي، وقال: كان محمد والحسن يكرهان هذا.
وعن (عبد الله بن صالح)، قال: كتبت بسم الله الرحمن الرحيم، ورفعت الباء فطالت فأنكر ذلك الليث وكرهه، وقال: غيرت المعنى يعني لأنها تصير لاماً.
قلت: الذي في الكشاف وغيره أن الباء تكتب مطولة، واختلفوا في علة ذلك فقيل: لما حذفت الألف من اسم خطاً طولت الباء عوضاً عنها، وقيل: إنما طولت لأنهم أرادوا أن يستفتحوا كتاب الله بحرف معظم، وقيل: إن عمر بن عبد العزيز كان يقول لكتابه طولوا الباء من بسم الله، وأظهروا السين، ودوروا الميم تعظيماً لكتاب الله عز وجل، وقيل: غير ذلك.
فائدة [في كراهة اختصار البسملة والصلاة على النبي صلى الله عليه وآله]
قول بعضهم أنه كان يكتب (بم) أعني بالباء الموحدة والميم هو نوع من النحت وهو أن يختصر من كلمتين فأكثر كلمة واحدة كالبسملة بسم الله الرحمن الرحيم ونحو ذلك، وظاهر كلام بعض العلماء أن ذلك مختص بالقول.
قال: وقد استعمل كثير لا سيما الأعاجم النحت في الخط فقط والنطق به على أصله ككتابة حينئذٍ حاءً مفردة، و صلى الله عليه وآله وسلم (صلعم) و عليه السلام (عم) إلى غير ذلك، قال: لكن الأولى ترك الأخيرين وإن أكثرت منه الأعاجم.
قلت: ومنه ما نحن فيه في كونه نحتاً، ولعله مأخوذ من الأعاجم، وقد عرفت ما فيه عن السلف، ويدل على منعه أيضاً أمره صلى الله عليه وآله وسلم بتبيين السين.
ويستفاد مما تقدم أن العلة في ذلك تعظيم الآية الشريفة، فيلحق في ذلك منع النحت في الصلاة على النبي صلى الله عليه وآله وسلم ، والترحم والسلام على من يستحق ذلك بجامع التعظيم. والله أعلم.
فائدة أخرى [تدل على الفائدة الأولى]
أخرج أبو داود في مراسيله عن عمر بن عبد العزيز أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم مر على كتاب في الأرض فقال لفتى معه: ((ما في هذا؟ قال: بسم الله، قال: لعن من فعل هذا لا تضعوا بسم الله إلا في موضعه )).
المسألة الخامسة: في فضل التسمية وخواصها
عن علي عليه السلام ، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم : ((ألا أعلمك كلمة إذا وقعت في ورطة فقلها ، قلت: بلى جعلني الله فداك فرب خير علمتنيه، قال: إذا وقعت في ورطة فقل: بسم الله الرحمن الرحيم لا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم فإن الله يصرف بها ما شاء من أنواع البلاء)). رواه أبو طالب، وأخرجه ابن السني في عمل اليوم والليلة، والديلمي. ذكره في الدر المنثور ولم يأت بواو العطف كما هنا بين البسملة والحوقلة، وأثبتها في الجامع الصغير.
الورطة: الهلاك، والمراد هنا البلية التي يعسر الخلاص منها التي ربما وأفضت بالواقع فيها إلى الهلاك، قال بعض العلماء: وحصول الدفع بها إنما يكون إذا كان قائلها حاضر القلب، صادق الإخلاص، قوي الإيقان.
وفي أمالي أحمد بن عيسى عليه السلام عن علي عليه السلام قال: بسم الله الرحمن الرحيم أقرب من اسم الله الأعظم من سواد العين إلى بياضها.
وأخرج ابن أبي حاتم في تفسيره، والحاكم في المستدرك وصححه، والبيهقي في شعب الإيمان، وأبو ذر الهروي في فضائله، والخطيب البغدادي في تاريخه عن ابن عباس أن عثمان بن عفان سأل النبي صلى الله عليه وآله وسلم عن بسم الله الرحمن الرحيم فقال: ((هو اسم من أسماء الله تعالى وما بينه وبين اسم الله الأكبر إلا كما بين سواد العين وبياضها من القرب)).
وأخرج ابن مردويه والثعلبي عن جابر بن عبد الله قال: لما نزلت بسم الله الرحمن الرحيم هرب الغيم إلى المشرق، وسكنت الريح، وهاج البحر، وأصغت البهائم بآذانها، ورجمت الشياطين من السماء، وحلف الله بعزته وجلاله أن لا يسمى على شيء إلا بارك فيه.
وأخرج أبو نعيم والديلمي عن عائشة قالت: لما نزلت: {بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ} ضجت الجبال حتى سمع أهل مكة دويها فقالوا: سحر محمد الجبال، فبعث الله دخاناً حتى أظل على أهل مكة، فقال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم : ((من قرأ بسم الله الرحمن الرحيم موقناً سبحت معه الجبال إلاأنه لا يسمع ذلك منها)).
وأخرج الديلمي عن ابن مسعود، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم : ((من قرأ بسم الله الرحمن الرحيم كتب له بكل حرف أربعة آلاف حسنة ومحي عنه أربعة آلاف سيئة، ورفع له أربعة آلاف درجة)).
وأخرج الديلمي في مسند الفردوس عن ابن عباس مرفوعاً: ((إن المعلم إذا قال للصبي قل: بسم الله الرحمن الرحيم فقال، كتب للمعلم وللصبي ولأبويه براءة من النار)).
وأخرج وكيع الثعلبي عن ابن مسعود قال: من أراد أن ينجيه الله من الزبانية التسعة عشر فليقرأ بسم الله الرحمن الرحيم ليجعل الله له بكل حرف منها جنة من كل واحد، وهذا الأثر ذكره القرطبي أيضاً في تفسيره عن وكيع، عن الأعمش، عن أبي وائل، عن عبد الله بن مسعود.
وفي أمالي المرشد بالله عليه السلام عن أنس قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم : ((من رفع قرطاساً من الأرض فيه بسم الله الرحمن الرحيم إجلالاً لله تعالى أن يداس كتب عند الله من الصديقين وخفف عن والديه وإن كانا مشركين)). وسنده وسند حديث تجويد كتابتها واحد وقد مر، وأخرجه الخطيب.
وروى الرازي في تفسيره عن أبي هريرة أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال: ((يا أبا هريرة إذا توضأت فقل: بسم الله فإن حفظتك لا تبرح أن تكتب لك الحسنات حتى تفرغ، وإذا غشيت أهلك فقل: بسم الله فإن حفظتك يكتبون لك الحسنات حتى تغتسل من الجنابة فإن حصل لك من تلك الواقعة ولد كتب لك من الحسنات بعدد نفس ذلك الولد، وبعدد أنفاس أعقابه إن كان له عقب حتى لا يبقى منهم أحد، يا أبا هريرة إذا ركبت دابة فقل: بسم الله والحمد لله يكتب لك الحسنات بعدد كل خطوة، وإذا ركبت السفينة فقل: بسم الله والحمد لله يكتب لك الحسنات حتى تخرج منها)).
وفيه عن أنس بن مالك أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قال: ((ستر ما بين أعين الجن وعورات بني آدم إذا نزعوا ثيابهم أن يقولوا: بسم الله الرحمن الرحيم )).
قلت: الحديث ذكره في الجامع الصغير ولم يذكر الرحمن الرحيم، ولفظه: ((ستر ما بين أعين الجن وعورات بني آدم إذا وضع أحدهم ثوبه أن يقول: بسم الله ))، وعزاه إلى الطبراني في الأوسط، قال الشارح: بإسناد حسن.
وفي (الجامع) أيضاً من حديث علي عليه السلام : ((ستر ما بين أعين الجن وعورات بني آدم إذا دخل أحدهم الخلا أن يقول: بسم الله ))، ونسبه إلى أحمد والترمذي وابن ماجة، قال العزيزي: بإسناد صحيح، وهذا يدل على أن الرازي وهم في زيادة الرحمن الرحيم، ويؤيده أن العزيزي حكى عن بعض أئمة الشافعية أنه لا يزاد الرحمن الرحيم، قال: لأن المحل ليس محل ذكر، ووقوفاً مع ظاهر هذا الخبر.
وقال في الحواشي: ولا يزيد الرحمن الرحيم اقتصاراً على الوارد، فلو كانت الزيادة التي زادها الرازي مروية لوقع التنبيه عليها كما لا يخفى، سيما والمقام يقتضيه.
وبهذا يظهر لك أن لكل فن رجالاً يجب الاعتماد عليهم فيما يرجع إلى فنهم، والرازي ليس من رجال الحديث ولا اشتهر به، بل هو من أبطال العلوم العقلية وما يتعلق بها، وفحول علماء العربية، ومن أهل الفهم والدراية، فتنبه.
وأخرج أبو الشيخ في العظمة عن صفوان ابن سليم قال: الجن يستمتعون بمتاع الإنس وثيابهم، فمن أخذ منكم ثوباً أو وضعه فليقل: بسم الله فإن اسم الله طابع.
وفي أمالي أحمد بن عيسى عن أبي جعفر عليه السلام موقوفاً قال: مفتاح كل كتاب نزل من السماء بسم الله الرحمن الرحيم، فإذا قرأ الرجل بسم الله الرحمن الرحيم ستر ما بين يديه من السماء إلى الأرض.
وأخرج النسائي عن أبي المليح ردف رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قال: إن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قال: ((إذا عثرت بك الدابة فلا تقل تعس الشيطان فإنه يتعاظم حتى يصير مثل البيت ويقول: بقوتي صنعته، ولكن قل: بسم الله الرحمن الرحيم فإنه يتصاغر حتى يصير مثل الذباب)).
وعن عطاء إذا تناهقت الحمر من الليل فقولوا: بسم الله الرحمن الرحيم أعوذ بالله من الشيطان الرجيم.
روي أن عثمان بن أبي العاص الثقفي شكا إلى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وجعاً يجده في جسده فقال له رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم : ((ضع يدك على الذي تألم من جسدك وقل: بسم الله ثلاثاً وقل سبع مرات: أعوذ بالله وقدرته من شر ما أجد وأحاذر))أخرجه أحمد ومسلم، وابن ماجة، وهو في أمالي المرشد بالله بنحوه، وأخرج نحو رواية الأمالي الطبراني في الكبير والحاكم ولم يذكر في هذه الرواية بسم الله، والحديث رواه الهادي في الأحكام بمعنى هذه الرواية، وقوله تألم - بتشديد اللام- أي تتألم به من جسدك فهو بحذف إحدى التاءين كما أفاده العزيزي.
وروي أنه خرج في عنق أسماء بنت أبي بكر خراج، فتمرضت منه فسألت النبي صلى الله عليه وآله وسلم فقال: ((ضعي يدك عليه ثم قولي ثلاث مرات: بسم الله اللهم اذهب عني شر ما أجد بدعوة نبيك الطيب المبارك المكين عندك بسم الله)) أخرجه الخرائطي في كتاب مكارم الأخلاق، وابن عساكر في تاريخه.
قال الشيخ (محمد حجازي): حديث حسن عن أسماء رضي الله عنها، المكين: عظيم المنزلة.
وروي أن امرأة غيراء قالت: يا عائشة أغيثيني بدعوة من رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ، فقال صلى الله عليه وآله وسلم : ((ضعي يدك اليمنى على فؤادك وقولي: بسم الله اللهم داوني بدوائك ، واشفني بشفائك، واغنني بفضلك عمن سواك، وأحدر عني أذاك)) أخرجه الطبراني في الكبير عن ميمونة بنت أبي عسيب وقيل: بنت أبي عتبة.
غيراء: بالغين المعجمة فعلاء من الغيرة وهي الحمية والأنفة. وأحدر بضم الدال المهملة مع الوصل أو بكسرها مع القطع أي أزل، وعسيب: بفتح العين وكسر السين المهملتين، وحكى العلقمي أن في الكبير زيادة بعد قوله على فؤادك فامسحيه.
وفي تفسير الرازي أن موسى عليه السلام مرض واشتد وجع بطنه فشكا إلى الله تعالى، فدله على عشب في المفازة فأكل منه فعوفي بإذن الله تعالى، ثم عاوده ذلك المرض في وقت آخر فأكل ذلك العشب فازداد مرضه، فقال: يا رب أكلته أولاً فانتفعت به، وأكلته ثانياً فازداد مرضي، فقال: لأنك في المرة الأولى ذهبت مني إلى الكلأ فحصل فيه شفاء، وفي المرة الثانية ذهبت منك إلى الكلأ فازداد المرض، أما علمت أن الدنيا كلها سم قاتل وترياقها اسمي. العشب: الكلأ الرطب، والمفازة: المهلكة أي موضع الهلاك من فوز تفويزاً أي هلك، والمفازة أيضاً المنجاة قال تعالى: {بِمَفَازَةٍ مِنَ الْعَذَابِ }[آل عمران:188] أي: بمنجاة منه.
قيل: وإنما سمي موضع الهلاك مفازة تفاؤلاً بالسلامة والفوز، والترياق بكسر التاء والسموم فارسي معرب.
وروى الرازي أن فرعون قبل أن يدعي الإلهية بنى قصراً وأمر أن يكتب بسم الله على بابه الخارج، فلما ادعى الإلهية وأرسل إليه موسى عليه السلام ودعاه فلم ير به أثر الرشد قال: إلهي كم أدعوه ولا أرى به خيراً، فقال تعالى: يا موسى لعلك تريد إهلاكه أنت تنظر إلى كفره وأنا أنظر إلى ما كتبه على بابه.
قال (الرازي): والنكتة أن من كتب هذه الكلمة على بابه الخارج صار آمناً من الهلاك وإن كان كافراً، وفي تفسيره أن قيصر كتب إلى عمر: إن بي صداعاً لا يسكن فابعث إلي دواءً، فبعث إليه عمر قلنسوة فكان إذا وضعها على رأسه يسكن صداعه، وإذا رفعها عن رأسه عاوده الصداع، فعجب منه ففتش القلنسوة فإذا فيها كاغد مكتوب فيه: بسم الله الرحمن الرحيم.
وروي أن بعضهم طلب آية من خالد بن الوليد فقال: إنك تدعي الإسلام فأرنا آية لنسلم، فقال: ائتوني بالسم القاتل فأتي بطاس من السم فأخذها بيده وقال: بسم الله الرحمن الرحيم وأكل الكل وقام سالماً بإذن الله تعالى، فقال المجوس: هذا دين حق.
قلت: إن صح هذا فهو من معجزات نبينا الدالة على صدقه وصدق ما جاء به فلا يستبعد.
والطاس: الذي يشرب فيه، وروي أنه كتب عارف بسم الله الرحمن الرحيم وأوصى أن يجعل في كفنه، فقيل له: أي فائدة لك فيه؟ فقال: أقول يوم القيامة: إلهي بعثت كتابك وجعلت عنوانه بسم الله الرحمن الرحيم فعاملني بعنوان كتابك.
قوله تعالى: {الحمد لله رب العالمين}
اعلم أن هذه الآية الكريمة بحر لا ساحل له، ولا يطيق أحد من البشر الوصول إلى عشر العشر ولا إلى أقل من ذلك مما اشتملت عليه تفاصيلها من العلوم العقلية والنقلية، وذلك أنها قد تضمنت الدلالة على وجود الصانع المختار، وأنه يستحق الشكر على نعمه على عباده، فإذا أخذت في تفصيل دلائل إثبات الصانع وكيفية الاستدلال بها، ووجه دلالتها، وما أشار إليه الاسم الشريف من صفات العظمة والكمال رجع طرفك حسيراً، وعقلك مبهوتاً، ثم إذا نظرت إلى ما وصل إلى الخلق من النعم من ابتداء وجودهم إلى وقت فنائهم وتفاصيلها لم تجد نسبة ما عرفته منها إلى ما جهلته إلا كنسبة قطرة من بحر لجي إلى بقية ماء البحر، كما قال تعالى: {وَإِنْ تَعُدُّوا نِعْمَةَ اللَّهِ لاَ تُحْصُوهَا }[إبراهيم:34]، ثم إذا أخذت في تفاصيل شكر هذا المنعم الكريم العظيم استلزم ذلك معرفة ما يرضيه وما يسخطه، فيدخل في ذلك معرفة مسائل العبادات، والمعاملات، والآداب، ومكارم الأخلاق، وما يحتاج إليه في معرفتها من الفنون، كمفردات اللغة والنحو، والصرف وغير ذلك.
وبالجملة إن ذلك يستدعي معرفة العلوم الشرعية وما يتعلق بها، ولا يكون ذلك إلا بعد معرفة النبوة بمعجزاتها إلى غير ذلك مما لا أطيق التعبير عن جملته، ثم إذا انتقلت إلى قوله: {رَبِّ الْعَالَمِينَ }[الشعراء:109] تضاءلت قوتك، واضمحلت همتك، ونكص عقلك، ومن ذا الذي يطيق معرفة وجوه التربية لأصناف العالم من الجن، والإنس، والملائكة، والدواب، والحشرات، والشجر وغير ذلك، ومن ذا الذي تحدثه نفسه بالوصول إلى العلم بأجناس العالم وأنواعه التي لو كتب الكاتب في شرحها ألف ألف مجلد لما وصل إلا إلى أبعاض أبعاض الأجناس الظاهرة، فكيف وما تغيب عنا أعظم، ولكنا نأتي في كتابنا هذا ببعض ما يتعلق بهذه الآية الكريمة مما لا نعذر بتركه حسبما بلغته قوانا، وانتهت إليه عقولنا، ونكل بعضه إلى مواضعه إن شاء الله تعالى، وما عجزنا عنه ولم يبلغه علمنا، ولا دخل تحت استطاعتنا وطاقتنا اعترفنا بالعجز عنه، والقصور عن معرفته، وسألنا الله العفو عن التقصير فيما يجب، والمعونة على ما كلفنا به وقلنا: {رَبَّنَا وَلاَ تُحَمِّلْنَا مَا لاَ طَاقَةَ لَنَا بِهِ وَاعْفُ عَنَّا وَاغْفِرْ لَنَا وَارْحَمْنَا أَنْتَ مَوْلاَنَا فَانصُرْنَا عَلَى الْقَوْمِ الْكَافِرِينَ}[البقرة:286].
إذا عرفت هذا فاعلم أنا نذكر مما يتعلق بالآية مسائل، ولا نألو جهداً في تحقيقها وتوضيحها، وبيان الخلاف فيها، وما تمسكت به كل طائفة من الأدلة والشبه حتى يتضح الحق بدليله، ونسأل الله المعونة والتثبيت والسداد، والهداية والإرشاد، {رَبَّنَا آتِنَا مِنْ لَدُنْكَ رَحْمَةً وَهَيِّئْ لَنَا مِنْ أَمْرِنَا رَشَدًا}[الكهف:10 ] {رَبَّنَا لاَ تُزِغْ قُلُوبَنَا بَعْدَ إِذْ هَدَيْتَنَا وَهَبْ لَنَا مِنْ لَدُنْكَ رَحْمَةً إِنَّكَ أَنْتَ الْوَهَّابُ}[آل عمران:8 ] {رَبِّ اشْرَحْ لِي صَدْرِي ، وَيَسِّرْ لِي أَمْرِي}[طه:26 ] {رَبِّ زِدْنِي عِلْمًا }[طه:114 ]{رب احكم بالحق وأنت خير الحاكمين}وصلِّ يا رب على محمد وآل محمد الطاهرين، وعلى الأنبياء والمرسلين، وآخر دعونا أن الحمد لله رب العالمين.
المسألة الأولى [ثبوت الحمد]
قد ثبت حمد العباد على أفعالهم لغة وشرعاً، بل ثبت حمد من لا فعل له قال الله تعالى: {عَسَى أَنْ يَبْعَثَكَ رَبُّكَ مَقَاماً مَحْمُوداً }[الإسراء:79].
قال ابن عباس: أي يحمدك فيه الأولون والآخرون، وقال علي عليه السلام : (فاحذر يوماً يغتبط فيه من أحمد عاقبة عمله). رواه في النهج.
الغبطة: السرور، وأحمد عاقبة عمله: وجدها محمودة.
وقال عليه السلام في جوابه عن القضاء والقدر: (ويحك لعلك ظننت قضاء لازماً، وقدراً حتماً، لو كان ذلك كذلك لبطل الثواب والعقاب، والوعد والوعيد، والأمر والنهي، ولم تأت لائمة من الله لمذنب، ولا محمدة لمحسن، ولم يكن المحسن أولى بالمدح من المسيء، ولا المسيء أولى بالذم من المحسن). رواه أبو الحسين في الغرر عن الأصبغ بن نباتة.
ويح: كلمة رحمة، وويل: كلمة عذاب، وقيل: معناهما واحد، وهي هنا منصوبة بفعل مضمر أي ألزمك الله ويحك.
وقال الحسن بن علي" في كتاب له إلى معاوية: (فاليوم فليتعجب المتعجب من توثبك يا معاوية على أمر لست من أهله لا بفضل في الدين معروف، ولا أثر في الإسلام محمود). رواه في شرح النهج.
وقال الشاعر:
ومن يلق خيراً يحمد الناس أمره .... ومن يغولا يعدم على الغي لائما
وقال آخر:
أيها الماتح دلوي دونكا .... إني سمعت الناس يحمدونكا
وقال آخر أيضاً:
مكانك تحمدي أو تستريحي
إلى غير ذلك مما يشغلنا استقراؤه عن المقصود، وإذا ثبت إطلاقه لغير الله تعالى فيستنبط من إطلاق الحد في الآية الكريمة أن اسم الجنس المعرف باللام لا يفيد العموم، وفي ذلك خلاف، والمسألة مهمة إذ يبنى عليها كثير من مسائل الأصول والفروع، وتحقيق محل النزاع يحتاج إلى تحرير أقسام لام التعريف، ونحن نأتي في تحقيقها بما يتضح به الحق، ويزول معه اللبس إن شاء الله، فنقول:
آلة التعريف تنقسم إلى: عهدية وجنسية كما يفيده (المغني) و(التلخيص) وغيرهما، فالعهدية ثلاثة أقسام:
الأول: أن يتقدم ذكر معهودها إما صريحاً نحو: {كَمَا أَرْسَلْنَا إِلَى فِرْعَوْنَ رَسُولا ً، فَعَصَى فِرْعَوْنُ الرَّسُولَ}[المزمل:16]، وإما كناية نحو: {وَلَيْسَ الذَّكَرُ كَالأُنْثَى }[آل عمران:36] لتقدم الذكر مكنياً عنه بما في قوله: {إِنِّي نَذَرْتُ لَكَ مَا فِي بَطْنِي } [آل عمران:35] لأن التحرير أي الوقف لخدمة البيت المقدس كان عندهم خاصاً بالذكور.
قال ابن هشام: وعبرة هذه أن يسد الضمير مسدها مع مصحوبها.
الثاني: أن لا يتقدم ذكر معهودها لكنه معلوم عند المتكلم والمخاطب نحو: {إِذْ هُمَا فِي الْغَارِ }[التوبة:40]، وهذا الذي تسميه النحاة بالعهد الذهني.
الثالث: أن يكون مدخولها معلوماً حاضراً نحو: {الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ }[المائدة:3 ] أي الزمن الحاضر وقت نزول الآية، وهذا القسم والذي قبله يسميهما أهل المعاني عهداً علمياً لكونه معلوماً عند المخاطب، والعهد في الثلاثة خارجي عندهم، والنحاة يخالفونهم في الثالث كما ترى.
وأما الجنسية ويقال لها: لام الحقيقة فتحتها أربعة أقسام عند أهل المعاني؛ لأنها إما أن يشار بها إلى الحقيقة من حيث هي وتسمى بلام الحقيقة، ولام الجنس ويشار بها إلى الحقيقة في ضمن فرد مبهم وتسمى بلام العهد الذهني، والنحاة يجعلون هذا القسم داخلاً في الأول، أو يشار بها للحقيقة في ضمن جميع الأفراد وتسمى بلام الاستغراق، وهو قسمان: حقيقي، وعرفي؛ لأنه إن أشير بها للحقيقة في ضمن جميع الأفراد التي يتناولها اللفظ بحسب اللغة فهي للاستغراق الحقيقي، وإن أشير بها للحقيقة في ضمن جميع الأفراد التي يتناولها اللفظ بحسب العرف فهي للاستغراق العرفي، فهذه أربعة أقسام:
القسم الأول: أن يشار بها إلى الحقيقة أي الماهية باعتبار حضورها في الذهن مع قطع النظر عن الأفراد كقولك: الرجل خير من المرأة أي حقيقة الرجل من حيث هي هي خير من حقيقة المرأة من حيث هي هي، ومعنى من حيث هي هي أن المراد بلفظ الرجل مفهومه الذهني، وهو الذكر الإنساني من غير ملاحظة لما صدق عليه ذلك المفهوم من الأفراد، ومن ذلك اللام الداخلة على المعرفات بفتح الراء نحو: الكلمة قول مفرد، والإنسان حيوان ناطق، والكليات كالإنسان نوع لأن التعريف للماهية، وعلامتها أن لا تخلفها كل لا حقيقة ولا مجازاً.
القسم الثاني: أن يشار بها إلى الحقيقة باعتبار وجودها في بعض الأفراد غير معين، وذلك عند قيام قرينة دالة على أنه ليس القصد إلا نفس الحقيقة من حيث هي هي بل من حيث وجودها، لكن لا في ضمن جميع الأفراد، بل في البعض كقولك: ادخل السوق، فقولك: ادخل قرينة على أنه ليس المراد حقيقة السوق من حيث هي لاستحالة الدخول في الحقيقة، ولا الحقيقة في ضمن جميع الأفراد لاستحالة دخول الشخص الواحد جميع أفراد السوق، فعلم من هذا أن المراد الحقيقة في ضمن بعض الأفراد، ثم هذا البعض غير معين؛ لأن الفرض أن لا معهود في الخارج، ومنه قوله تعالى: {وَأَخَافُ أَنْ يَأْكُلَهُ الذِّئْبُ }[يوسف:13] إذ الأكل قرينة على أنه ليس المراد الحقيقة، وهذه اللام تسمى عند أهل المعاني بلام العهد الذهني، وقد اعترض بأن الفرد هنا غير متعين، وحينئذٍ فلا عهد فيه لا ذهناً ولا خارجاً فكيف يقال: لام العهد الذهني.
وأجيب: بأن نسبة العهدية إليه إنما هي باعتبار التبعية لعهدية الحقيقة أي تعينها واستحضارها في الذهن، فالمعهود ابتداءً هو الحقيقة، لكن لما كان استحضار الماهية يتضمن استحضار أفرادها كان كل واحد من الأفراد معهوداً ذهناً بهذا الاعتبار، وإلا فهو في نفسه مبهم.
نعم وإنما جازت الإشارة بلام الحقيقة إلى هذا الفرد؛ لأنه قد تقرر أن الكلي الطبيعي أي المجرد من اللام وهو اللفظ الموضوع للطبيعة أي نفس الحقيقة المشتركة بين الأفراد، وقد يطلق على فرد من تلك الأفراد لوجودها فيه، فيكون استعماله حقيقياً لا مجازياً، فإذا صح هذا في الكل الغير المعرف فالمعرف باللام المذكورة كذلك يصح فيه الإطلاق على فرد توجد فيه تلك الحقيقة؛ لأن تعيينها باللام ذهناً لا يمنع وجودها في الأفراد، فيتبع وجودها في الفرد صحة الإطلاق كالكلي الغير المعرف، وقد علم بهذا أن صحة الإطلاق لكون عهديته ذهناً أي تعيينه في الذهن تابعاً لعهدية الحقيقة، وكونه جزئياً من جزئياتها مطابقاً لها لا لخصوص ذلك الفرد، ولذلك كان الإطلاق حقيقاً لا مجازياً، ولو كان لخصوصه لكان مجازياً من باب إطلاق المطلق على المقيد من حيث أنه مقيد.
قال أهل المعاني: وهذا المعرف في المعنى كالنكرة بعد اعتبار القرينة؛ لأن المراد به حينئذٍ فرد مبهم، وأما قبل اعتبارها فليس كالنكرة إذ هو موضوع للحقيقة المعينة في الذهن، ولأجل كونه في المعنى كالنكرة عومل معاملتها في وصفه بالجملة في قوله:
ولقد أمر على اللئيم يسبني .... فمضيت ثمت قلت لا يعنيني
ومثله في القرآن كثير كقوله تعالى: {وَآيَةٌ لَهُمُ اللَّيْلُ نَسْلَخُ مِنْهُ النَّهَار َ}[يس:37]، وليس نكرة حقيقة لما بينهما من تفاوتٍ ما، وهو أن النكرة معناها الوضعي بعض غير معين من جملة أفراد الحقيقة، وهذا معناه الوضعي نفس الحقيقة، وإنما تستفاد البعضية من القرينة كالدخول والأكل فيما مر؛ إذ لا يتصوران في الحقيقة فالمجرد نحو: سوقاً وذو اللام نحو السوق، بالنظر إلى القرينة سواء، وبالنظر إلى أنفسهما مختلفان كما عرفت، ولكونه ليس نكرة حقيقة أجريت عليه أحكام المعارف من وقوعه مبتدأ، وذا حال، ووصفاً للمعرفة، ونحو ذلك مراعاة لما تفيده اللام من التعريف اللفظي.
القسم الثالث: أن يشار بها إلى الحقيقة في ضمن جميع الأفراد التي يتناولها اللفظ بحسب اللغة، وهذا هو الاستغراق الحقيقي نحو: {وَخُلِقَ الإِنسَانُ ضَعِيفاً }[النساء:28].
القسم الرابع: أن يشار بها إلى الحقيقة في ضمن جميع الأفراد التي يتناولها اللفظ بحسب العرف نحو: جمع الأمير الصاغة، أي صاغة بلده أو مملكته؛ لأنه المفهوم عرفاً لا صاغة الدنيا، ودليل الاستغراق فيهما صحة الاستثناء الذي هو معيار العموم، وبهذا تم الكلام على السبعة الأقسام.
وإذا عرفتها فاعلم أنه قد اختلف في الأصل والحقيقة منها، وعلى هذا الخلاف يتفرع الخلاف في اقتضاء اسم الجنس المعرف العموم أم لا، فقيل: لام الحقيقة أصل للثلاثة الأقسام التي بعدها، ولام العهد الخارجي أصل للقسمين الذين بعده، وهذا هو ظاهر كلام القزويني والسعد، فإن السعد قد صرح في شرح التلخيص بأن الإشارة باللام إلى الفرد المبهم إنما يكون عند قيام القرينة على عدم القصد إلى الحقيقة من حيث هي، بل من حيث الوجود في بعض الأفراد، وقال أيضاً: فاللام لتعريف العهد الذهني، أو للاستغراق هي لام الحيقية حمل على ما ذكرنا بحسب المقام والقرينة.
وأما القزويني فأخذ له ذلك من رده الضمير من قوله: وقد يأتي لواحد باعتبار عهديته في الذهن، وقوله: وقد يفيد الاستغراق إلى لام الحقيقة.
نعم وأما أصالة لام العهد الخارجي للمعلوم عند المتكلم والمخاطب وللحاضر فظاهر، وقيل: الأصل لام العهد الخارجي، وهو الذي صرح به في التلويح فإنه قال: الأصل الراجح هو العهد الخارجي لأنه حقيقة التعيين، وكمال التمييز، ثم الاستغراق؛ لأن الحكم على نفس الحقيقة بدون اعتبار الأفراد قليل جداً، والعهد الذهني موقوف على وجود قرينة البعضية، فالاستغراق هو المفهوم من الإطلاق حيث لا عهد في الخارج خصوصاً في الجمع فإن الجمعية قرينة القصد إلى الأفراد دون نفس الحقيقة من حيث هي هي.
قال: هذا ما عليه المحققون، وقد دل كلامه على أنها ليست موضوعة للاستغراق، وإنما حملت عليه عند عدم العهد الخارجي لقرينة وهي ما ذكره من كون الحكم على نفس الحقيقة قليلاً، وقيل: الأصل لام الاستغراق، وقيل: إنها للحقيقة من حيث هي مطلقاً، ثم يتشعب منها العهد وغيره، وقيل: الجميع أصول.
قلت: فعلى هذا لا يحمل على واحد منها إلا بقرينة، واعلم أنها إذا قامت قرينة معينة لأحد الأقسام المذكورة من عهد، أو عموم، أو اشتراك فلا إشكال في أنه يجب العمل بما أفادته القرينة، وإنما النزاع فيما إذا لم تقم قرينة على تعيين أحدها فهل يحمل على العموم أم لا، فالذي عليه الجمهور أنه للاستغراق من غير فرق بينما ميز واحده بالوحدة أو بالتاء، وما لم يكن كذلك، ولهم على ذلك أدلة:
أحدها: تبادر العموم عند الإطلاق، ولهذا وقع الاتفاق على أن المعهود الذهني مفتقر إلى القرينة بخلاف الاستغراق، وفي دعوى الاتفاق على عدم افتقار الاستغراق إلى القرينة نظر لما تقدم عن السعد، ولما ذكره بعضهم من أنها حقيقة في الجميع، وكذلك دعوى الاتفاق على افتقار المعهود الذهني إلى القرينة، فإن مقتضى قول أبي هاشم ومن معه أنها حقيقة فيه.
الدليل الثاني: استدلال العلماء بنحو: {وَأَحَلَّ اللَّهُ الْبَيْعَ }[البقرة:275 ]على حل كل بيع إلا ما خصه دليل، وبنحو قوله صلى الله عليه وآله وسلم : ((الذهب بالذهب ...)) الخبر على تحريم الربا في جميع أنواع الأجناس المذكورة، وشاع ذلك فيما بينهم ولم ينكر، ولقائل أن يقول: إجماعهم على الاستدلال بذلك على جهة العموم في بعض الصور قرينة معينة للاستغراق فيها، والمخالف لا ينازع فيما قامت فيه القرينة، وإنما ينازع في الوضع.
الدليل الثالث: صحة الاستثناء من هذه الصيغة ووقوعه، قال الله تعالى: {إِنَّ الإِنسَانَ لَفِي خُسْر ، إِلاَّ الَّذِينَ آمَنُوا}[العصر:3]، وهذا الدليل هو المعتمد في هذا الموضع، وبعضهم اقتصر عليه، وبيان دلالته أنه لو لم يكن للشمول لما صح ذلك حقيقة؛ لأن الاستثناء الحقيقي يخرج من الكلام ما لولاه لوجب دخوله تحته كالاستثناء من أسماء الأعداد، ولا شبهة أن الاستثناء منها يخرج من الكلام ما يجب دخوله تحت أول الكلام.
فإن قيل: لا نسلم أن من حق الاستثناء أن يخرج من الكلام ما يجب دخوله تحته، بل يكفي في صحة الاستثناء صحة دخوله تحته، وإذا كان كذلك لم نقطع باستغراق المستثنى منه، والجواب من وجهين:
أحدهما: أن المعلوم من حال أهل اللغة أنهم يوردون الاستثناء على جهة الاستدراك لما فرط من الكلام، واستخراج بعض المستثنى منه من الحكم المذكور، وهذا يدل على أنه يخرج ما يجب دخوله.
الثاني: أن الحاجة إلى الاستثناء لا تتحقق إلا بتحقق الدخول؛ لأنه إن أريد البعض مبهماً لم يتحقق دخول المستثنى في المستثنى منه فلا تتحقق الحاجة إلى الاستثناء، وإن أريد بعض معين فغيره لا يدخل فلا معنى لاستثنائه، وإن أريد نفس الحقيقة لم يصح استثناء الأفراد لعدم تناول اللفظ لها، فتعين أن الاستثنا يخرج ما يجب دخوله سلمنا، فقد ذكر الشيخ لطف الله رحمه الله أن جواز الدخول كاف في ظهور اندراج المستثنى في المستثنى منه وهو معنى العموم، واحتج على ظهور دخوله بأنه لو قيل: جاءني أهل هذا البلد لبلدة معينة إلا فلان مريداً به من ليس من أهلها لعد لغواً إن لم تظهر نكتة لأجلها يحسن التجوز في استثنائه عنهموقال فيما جوزه بعض النحاة من الاستثناء من الجمع المنكر كجاءني رجال إلا زيداً أنه لا نزاع في ظهور دخوله، وأن الاستثناء لا يحسن إلا إذا كان زيداً داخلاً في رجال بأن يكون المراد بهم رجالاً مخصوصين فيهم زيد بقرينة، وإلا كان لغواً، أو كان منقطعاً على معنى لكن زيداً لم يجئ، ولكن هذا يحتاج إلى القرينة أيضاً، فثبت أن الاستثناء من الجمع المنكر باقياً على حقيقته أعني جماعة مطلقة لا يصح، وأنه لا يصح فيه ذلك إلا إذا صار جماعة مخصوصة، ويكون استعماله فيها مجازاً، وبهذا يظهر لك ظهور دخول المستثنى في المستثنى منه.
هذا حاصل ما ذكره رحمه الله، ولا يخفى أنه يقتضي وجوب دخول المستثنى في المستثنى منه لا جوازه فقط، فتأمل.
وللغزالي تفصيل فقال: إن ميز واحده بالتاء كالتمر، أو كان لا يوصف بالوحدة كالماء والذهب فهو عام، وإن لم يميز واحده بالتاء لكنه يوصف بالوحدة كالرجل والدينار فإنه يقال: رجل واحد، ودينار واحد، فليس بعام، بل هو للجنس الصادق ببعض الأفراد ما لم تقم قرينة على العموم نحو الدينار خير من الدرهم، فإن التسعير قرينة العموم.
قيل: وهذا اختيار الشيخ تقي الدين القشيري والمريسي، ودليلهم على إفادة ما يميز واحده بالتاء العموم أنه لو لم يكن للعموم مع تجرده عنها لما كان للإتيان بها معنى، وعلى عموم ما لا يوصف بالوحدة أن عدم تمييزه قرينة عمومه، وعلى ما لا يفيد العموم أن التميز بالوحدة كرجل واحد دليل على صحة إرادتها.
وقال (الجويني): هو للعموم إن ميز واحده بالتاء لما مر، وإلا فلا.
والجواب: أن الأدلة السابقة متناولة لجيمع الصور المذكورة، وما ذكروه غير واضح في منع العموم من تلك الصور. والله أعلم.
وقال (أبو الحسين) و(الرازي): اسم الجنس المعرف لا يفيد العموم، بل هو للجنس الصادق ببعض الأفراد، واختاره ابن أبي الحديد، وهو مقتضى كلام أبي هاشم وقيل: قد رجع عنه، واحتجوا على ذلك بأمور:
أحدها: أن القائل إذا قال: لبست الثوب، أو شربت الماء لا يفيد العموم.
الثاني: أنه لا يجوز تأكيده بما يؤكد به الجمع، ولا نعته بما ينعت به الجمع فلا يقال: جاءني الرجل أجمعون أو العالمون.
الثالث: أنه يقال: الإنسان هو الضحاك، فلو كان بمعنى كل إنسان هو الضحاك لأدى إلى التناقض؛ لأن المقصود بالكلام هذا حصر الإنسانية في الضحاك، فإذا حمل على العموم كان معناه حصر الإنسانية في كل واحد من الناس؛ لأن معنى الحصر هو أن يثبت فيه لا في غيره، فيلزم أن يصدق على كل فرد من أشخاص الناس أنه هو الضحاك لا غيره فيتناقض.
الرابع: أن البعض هو المتيقن والجميع مشكوك فيه، فوجب الحمل على المتيقن ما لم تقم قرينة على إرادة العموم كالاستثناء في قوله تعالى: {إِنَّ الإِنسَانَ لَفِي خُسْرٍ، إِلاَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ}[العصر:3].
والجواب عن الأول: بأن استفادة البعضية من القرينة إذ اللبس والشرب لا يتصوران في الحقيقة نفسها، والعموم متعذر لاستحالة لبس جميع الأثواب وشرب جميع المياه، فتعين أن المراد حصة من جنس الثياب والمياه غير متعينة، وهذا حيث لا عهد في الخارج وإلا حمل عليه.
والجواب عن الثاني من وجهين:
أحدهما: أن الملاحظ في التابع ظاهر اللفظ دون المعنى، ولهذا مثل النحاة لتوكيد المفرد المذكر بنحو جاء الجيش كله أجمع مع أنه متعدد من جهة المعنى، مع ما في ذلك من المشاكلة اللفظية.
الثاني: أن معنى الأفراد باق، وأداة العموم تتبعت أشخاص ذلك المفرد، فمعنى قولنا: أكرم الرجل مثلاً أكرم كل رجل لا كل الأفراد أي: لا مجموعها؛ لأن دلالة العموم كلية أي محكوم فيها على كل فرد، فالمثال في قوة قولكم أكرم فلاناً وفلاناً إلى آخره، وكل منهم محكوم عليه منفرداً فما هو في قوة التعدد يكون الحكم فيه على كل فرد فرد لا على الكل، أي مجموع الأفراد من حيث هو مجموع، ولا على الكلي أي الماهية لأن النظر في العام إلى الأفراد، وهذا الوجه يفيد امتناع اتباعه بتوكيد الجمع ونعته مع اقتضائه العموم، فثبت أن امتناع التوكيد والنعت المذكورين لا يدل على عدم العموم، على أنه قد نقل الأخفش عن بعضهم أهلك الناس الدينار الحمر والدرهم البيض، وجوزه ابن مالك وغيره.
وقال المرادي في التوكيد: إنه يجوز: جاء الرجال كلهم، نظراً إلى اللفظ والمعنى، وكلها على معنى الجماعة، وكله على معنى الجمع.
قلت: وهذا يقتضي جواز تأكيد المفرد المعرف بما يؤكد به الجمع نظراً إلى المعنى، وهو الذي يقتضيه قولهم في المشاكلة اللفظية: أنه يجوز فيها مراعاة اللفظ ومراعاة المعنى. والله أعلم.
وعلى هذا فلا معنى لما احتجوا به من امتناع الاتباع بتأكيد الجمع ونعته، وقد ذكر الرازي ما حكاه الأخفش وحمله على المجاز لعدم اطراده، لكنه يقال: عدم الاطراد لأجل المشاكلة اللفظية، وقد بينا أنه يجوز مراعاة المشاكلة اللفظية ومراعاة المعنى، بل قيل: مراعاة المعنى أولى بمقتضى القياس.
وعلى هذا فلا يكون عدم الاطراد دليل المجاز، بل دليل المشاكلة اللفظية، ويكون المراد بقولهم: إنه غير مطرد نفي كثرته وإلا فهو قياسي، فتأمل.
والجواب عن الثالث: بأن تأديته إلى التناقض المذكور قرينة على عدم الاستغراق، والقائلون به إنما يحملونه عليه عند عدم المانع، على أنه لا يدل على ما ذكره أهل هذا القول من أنه موضوع للجنس الصادق بالبعض لأنه في المثال المذكور للماهية، وقد مر أنه في التعريفات للحقيقة من حيث هي.
والجواب عن الرابع: بأنه ترجيح في اللغة وهي لا تثبت بالترجيح.
هذا وأما القائلون بأنها موضوعة للحقيقة ثم تشعب منها العهد وغيره فلعلهم يحتجون بأن سائر المعاني المذكورة لا تفهم إلا بقرينة كتقدم ذكر، أو صحة الاستثناء، أو نحو ذلك فلأجل ذلك وجب القول بأنها موضوعة للحقيقة، ويمكن أن يجاب بأن ما تقدم من كون الحكم على الحقيقة من دون اعتبار الأفراد قليل الاستعمال مانع من الحمل عليها؛ إذ القليل النادر كالمعدوم، فإن قالوا: الغرض من الحقيقة ما تتحقق به، وأقله ما يتبادر من الاستعمال وهو فرد واحد فتحمل عليه، وبه يصح الحكم عليها.
قيل: استعمالها في الفرد قليل، فإن قيل: بل هو المتيقن ولا دليل على غيره، قيل: بل قام الدليل على غيره وقد مر، ثم إن الاقتصار عليه لأنه المتيقن ترجيح في اللغة.
وأما القائلون بأنها أصل في الجميع فلعدم انتهاض أدلة كل قول على تعيينه للأصالة وقصرها عليه مع عدم المانع من أصالتها كلها، وجوابه يعرف مما مر مع التأمل للأدلة، وبه يظهر الرجحان إن شاء الله.
تنبيه [شروط عموم الاسم الداخلة عليه الأداة]
يشترط في عموم الاسم الذي تدخل عليه هذه الأداة أن تكون مادته غير صارفة عن العموم كالبعض، والجزء، والنصف، والثلث بالنسبة إلى الباقي، فإذا قلت: أخذت البعض من الدراهم، وأكلت الثلث من الرغيف فلا يعم الأبعاض والأثلاث، لأن هذه إنما تستعمل غالباً لإرادة عدم الاستيعاب، وهذا ما لم يرد بها الاسماء كقولك الثلث أكثر من الربع، والبعض لا يطلق على الكل، فإن أريد بها ذلك فتعم كغيرها من الاسماء، وكذا إن قامت قرينة على إرادة العموم كما في قولك: البعض من هؤلاء يحب البعض أي كل واحد منهم يحب الآخر، ومثل قوله صلى الله عليه وآله وسلم : ((الثلث كثير )) أي كل مال فثلثه في الإيصاء كثير، والقرينة مفهومة من السياق فإن الحديث وارد لبيان عموم الحكم.
تنبيه [في تعريف الجنس]
اعلم أن اسم الجنس يطلق عند الأصوليين على ما ميز واحده بالتاء وليس مصدراً ولا مشتقاً منه كتمر وشجر، وعلى الاسم الدال على الحقيقة، كرجل ونحوه مما تميزت أفراده وليس له مؤنث بالتاء، وعلى الدال على الحقيقة من حيث هي هي ولا يتميز بعضها عن بعض وليس لها مؤنث كالماء والعسل في الأعيان، وكالضرب والنوم في المصادر سواء كانت موضوعة بالتاء مثل الرحمة أم لا، وعلى غير ذلك مما يدل على الشركة ما عدا المثنى والجمع، والنحاة لا يطلقونه إلا على ما الفرق بينه وبين واحده بتاء التأنيث، أو ياء النسب على تفاصيل لهم، واختلاف في بعض المواضع، والسبب أن الأصوليين ينظرون إلى المعاني فيطلقون الجنس على الكليات، ويعنون به ما يمنع تصور معناه من وقوع الشركة فيه جنساً كان أم نوعاً أم فصلاً أم خاصة أم عرضاً عاماً أم صنفاً، والنحاة ينظرون في الألفاظ، ولذا قال بعضهم في نحو تمر إنه جمع، وقال بعضهم: اسم جمع.
قال بعض العلماء: وقد توسع الأصوليون في ذلك فإن حقيقة الجنس في الاصطلاح المقول على كثيرين مختلفين بالنوع في جواب ماهو قال: وما اصطلحوا عليه يقع أيضاً في كلام النحاة، ألا تراهم يقولون الألف واللام الجنسية يعنون جميع ذلك.
قلت: وهذا بحث نفيس يجب التنبه له؛ إذ يترتب عليه معرفة ما يقتضي عموم الآحاد من أسماء الأجناس، وما يقتضي عموم كل جماعة عند القائلين بأن استغراق الجمع إنما يتناول كل جماعة جماعة.
ولنختم المسألة بفوائد تشتمل على تحقيق موضع الخلاف، وزيادة التوضيح لما اشتملت عليه المسألة من أدلة المختلفين، وعلى غير ذلك مما له تعلق بما نحن فيه.
الفائدة الأولى: [الاختلال في مدلول اسم الجنس]
اختلف في مدلول اسم الجنس الذي يفرق بينه وبين واحده بالتاء، فقال السبكي: هو صالح للواحد، والمثنى، والجمع؛ لأنه للجنس والجنس موجود مع كل واحد من الثلاثة، وبه قال الكوفيون، وقد حكى الكسائي عن العرب إطلاقه على الواحد، وقال الراغب: النحل يطلق على الواحد والجمع.
قال السبكي: ولا ينبغي أن يقال: صالح للواحد والجمع، بل يقال: موضوعه الحقيقة ليصدق اسم التمر على بعض تمرة واحدة لأن الجنس موجود فيه، وقال ابن جني، وابن مالك ومن اتبعهما: لا يطلق على أقل من ثلاثة، ولذا يسمونه اسم جنس جمعي، وقيل: لا يطلق إلا على جمع الكثرة وهذا محكي عن الشلوبين وابن عصفور، ويدل عليه أن سيبويه لما قال: باب علم ما الكلم العربية أورد عليه إنما هي ثلاثة: اسم وفعل وحرف، فأجاب شراح كلامه بأن تحت كل واحد منها أنواع كثيرة.
قال السبكي: ولا يدل لمن قال: إنه لا يطلق إلا على الجمع أن سيبويه إنما ذكر ذلك في باب الواحد الذي يقع على الجمع؛ لأنه لم يقل لا يقع إلاَّ على الجمع، ولا يدل له أنهم عند إرادة الواحد يأتون بالتاء لأن التاء يؤتى بها للتنصيص على الوحدة، وإزالة احتمال التعدد، كما يؤتى عند إرادة جمع القلة بالألف والتاء، ولا دلالة في قوله تعالى: {وَالنَّجْمُ وَالشَّجَرُ يَسْجُدَانِ }[الرحمن:6 ] على إرادة الواحد، بل قد يراد الجنس، وعاد ضمير التثنية باعتبار لفظهما ومعناها، وقد يراد الجمع وهو رعاية لفظهما.
قلت: وتظهر فائدة الخلاف فيما إذا حلف رجل لا آكل التمر مثلاً، فعلى القول الأول يحنث ولو ببعض تمرة، وعلى الثاني لا يحنث بأقل من ثلاث، وعلى الثالث لا يحنث إلا بالكثير.
الفائدة الثانية [الاسم المجرد عن أداة التعريف]
الاسم المجرد عن أداة التعريف الدال على الحقيقة وأفراده متميزة، وليس له مؤنث بالتاء كرجل، وفرس يحتمل أنه قصد فيه الجنس مع الوحدة ما لم يقترن بما يزيلها من تثنية أو جمع، أو عموم، وبه جزم الغزالي في المستصفى والقرافي، ورجحه السبكي والكاشي، واستدلوا بصحة تثنيته وجمعه، وصحة ما عندي رجل بل رجلان، وقولهم: إن واحداً من جاء رجل واحد تأكيد، وأنه لا يقال: رجل عاقلون أو كثير، ويحتمل أن يقال: إنه لأعم من الواحد وغيره بدليل صحة قولك رجل خير من امرأة لا تريد إلا الجنس، ولقول النحاة (لا) التي لنفي الجنس في نحو لا رجل ويقولون إنه لنفي الحقيقة، ولذلك لا يصح أن تقول بل رجلين؛ ولأنه كلي والكلي لا تعرض فيه لوحدة ولا تعدد، وهذا هو المفهوم من قول الزمخشري وغيره في قوله: {ثُمَّ نُخْرِجُكُمْ طِفْلاً }[الحج:5 ]أنه وحده لأن الغرض الدلالة على الجنس مع احتمال كون المعنى نخرج كل واحد منكم طفلاً كقولك: الرجال يشبعهم رغيف أي يشبع كل واحد، وهذا كالتصريح منهم بأن اسم الجنس المنكر لا يختص به الواحد، وأما طفل، فلا يصلح للاحتجاج به هنا لأنه يوصف به المفرد والمثنى والجمع، والمذكر والمؤنث بلفظ واحد لغة.
وقال (المبرد) و(الطبري): إنما وحد لأنه في الأصل مصدر كالرضا والعدل يقع على الواحد والجمع، وأحسن منه في الدلالة قولهم في قوله تعالى: {وَإِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ }[البقرة:163 ] أنه لا يجوز الاقتصار على (إله)لأنه يوهم أنك تثبت الإلهية ولم تثبت الوحدانية، بل يجوز الاستغناء عن إله والاقتصار على واحد فيقال: وإلهكم واحد، فلو كان اسم الجنس مختصاً بالواحد لصح الاقتصار على إله، ويتمحض ذكر الواحد للتأكيد.
فإن قيل: فما تقول في قولهم: إن ذكر الواحد تأكيد... إلى آخر ما مر.
قيل: إنما أطلقوا التأكيد نظراً إلى الغالب في الاستعمال، وذلك أن المتحقق هو الجنس ولكن استعماله في المفرد فصار الذهن يتبادر إليه، فصح القول بأن الواحد تأكيد لأنه أزال احتمالاً مرجوحاً، وأما منع وصفه بصفة الجمع، فيؤخذ جوابه مما مر، وأما صحة ما عندي رجل بل رجلان، فخارج عن محل النزاع؛ إذ لا نزاع فيما قامت فيه قرينة معينة للوحدة، وتظهر فائدة الخلاف فيما لو قلت: اعتقت عبداً ولك جماعة من العبيد ولم تقصد الوحدة ولا التعدد، فعلى الأول لا يعتق إلا واحد، وعلى الثاني يحتمل الواحد وما فوقه. والله أعلم.
الفائدة الثالثة [المفرد المعرف ودلالته]
في دفع الإشكال الوارد على كون المفرد المعرف يدل على الاستغراق، وحاصله أن إفراد الاسم ينافي أن تكون الأداة الداخلة عليه للاستغراق؛ لأن الإفراد يدل على الوحدة، والاستغراق يدل على التعدد، وجوابه من وجوه:
أحدها: أن المراد به في حال تجرده الجنس كما مر عن الزمخشري وغيره.
الثاني: أنه وإن كان دالاً على الوحدة كما هو رأي الغزالي وغيره، فالتنافي ممنوع لأن الحرف الدال على الاستغراق إنما دخل عليه مجرداً عن معنى الوحدة التي وضع لها، فصار محتملاً للوحدة والتعدد لأنه قصد به الجنس حينئذٍ، وبدخول حرف الاستغراق تعين للتعدد.
الوجه الثالث: أن معنى الإفراد باق وأداة العموم تتبعت إفراد ذلك المفرد، فيكون معناه كل فرد لا كل الأفراد، وقد تقدم التعرض لمعنى هذا، ونزيده هنا توضيحاً وهو أن نقول: لا تنافي بين الوحدة والتعدد لأن معنى الوحدة عدم اعتبار اجتماع آخر معه، والمفرد المعرف معناه كل فرد فرد بحيث لا يخرج فرد من الأفراد الذي يصدق عليها اللفظ، وهذا لا ينافي الوحدة لاتصاف كل فرد بها؛ إذ كل فرد لم يعتبر فيه ضم شيء آخر معه، وليس معنى ذلك المفرد مجموع الأفراد حتى يحصل التنافي.
وقال بعض المحققين: الدال على الوحدة كالضربة وكالرجل إن قلنا إنه موضوع بقيد الوحدة، وكالتمرة والبقرة يعم الوحدات ولا ينافي ذلك العموم، فإذا قلنا: الضربة تؤلم كان معناه كل ضربة واحدة تؤلم، وإنما ينافي العموم لو كان معناه واحدة من الضربات تؤلم، وليس كذلك، وإذا اتضح لك ذلك فيما هو صريح في الوحدة فانقله فيما هو ظاهر فيها يكون أوضح كقولك: الرجل يشبعه رغيف.
المسألة الثانية [الاختلاف في حقيقة الحمد]
اختلف في حقيقة الحمد لغة، فقال الزمخشري وأبو حيان: هو الثناء باللسان على الجميل من نعمة وغيرها تقول: حمدت الرجل على إنعامه، وحمدته على شجاعته وحسبه، واختار نحو هذا الحد سعد الدين إلاأنه زاد كونه على وجه التعظيم، ولم يقيدوا الثناء بالجميل، إما لما ذكره الجمهور من أن الثناء هو الذكر بخير، ويقال في ضده النثاء بتقديم النون، وإما لأن قوله على الجميل قرينة دالة على أن المراد بالثناء هنا الوصف بالجميل؛ إذ لا يثنى على الجميل بالقبيح، وبهذا يسقط ما قيل من أن قولهم الثناء باللسان غير مفيد لكون المحمود به جميلاً لأن الثناء يستعمل في الخير والشر كما اختاره ابن عبد السلام، وذكر اللسان لإخراج ثناء الله على نفسه، وعلى عباده عند من لا يسميه حمداً، وللدلالة على مقابلة الحمد للشكر من حيث اختصاص الحمد باللسان دون الشكر، ولدفع احتمال التجوز بإطلاق الثناء على ما ليس باللسان كالجنان والأركان، أما زيادة كونه على وجه التعظيم، فقد اعترض عليها بأنه يلزم منها اعتبار فعل الجنان والأركان في الحمد، والمعلوم عن أهل اللغة خلافه فإنهم يسمون من قال: زيد عالم حامداً وإن لم يعظمه بقلب ولا جارحة، بل قد حمدوا من لا يستحق التعظيم ولا فعل له كقولهم في المثل: عند الصباح يحمد القوم السرى، وقد تكلم به أمير المؤمنين عليه السلام كما في النهج.
قال ابن أبي الحديد: اشتراط مطابقة القلب للسان لا يساعده عليه الاستعمال؛ لأن أهل الاصطلاح يقولون لمن مدح غيره أو شكره رياءً وسمعة أنه قد مدحه وشكره وإن كان منافقاً عندهم، وأيضاً فإن أهل اللغة قد نصوا على أن الحمد يطلق على معان وهي الشكر، والرضا، والجزاء، وقضاء الحق كما في القاموس وغيره، وهذه المعاني ما عدا الشكر لا تستلزم التعظيم، وأجيب من وجهين:
أحدهما: أن المقصود بزيادتها إخراج ما كان على جهة الاستهزاء، أو السخرية إذ لا يسمى حمداً، وقول ابن أبي الحديد: أنهم يسمون ثناء المنافق حمداً مع علمهم بنفاقه غير مسلم، فإن السامع له العالم بنفاقه ينفي كونه حمداً، ويقول لمن ظن ذلك إنما قصد به الرياء، ونظيره إيمان المنافق، فإن العالم بنفاقه لا يسميه إيماناً بدليل قوله تعالى: {وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَقُولُ آمَنَّا بالله وَبِالْيَوْمِ الآخِرِ وَمَا هُمْ بِمُؤْمِنِينَ}[البقرة:8].
الثاني: أن من زادها نظر إلى أن الكلام في حمد الله تعالى بحسب ما يقتضيه المقام، ولا يليق في حقه تعالى إلا ما وقع على وجه التعظيم؛ لأن حمده تعالى متضمن للشكر إذ لا يخلو أحد عن نعمته طرفة عين، فلا ينبغي أن تقابل نعمه إلا بالحمد الأكمل المعتد به، ولا يكون كذلك إلا ما قصد به التعظيم.
فأما سائر المعاني المذكورة للحمد التي لا تفيد التعظيم، فليس في إثباتها لله تعالى فائدة يعتد بها، وقد أشار إلى هذا المعنى بعض المحققين منهم أبو السعود فإنه قال بعد أن حد الحمد بما يشعر باعتبار هذه الزيادة ما لفظه: ثم إن ما ذكر من التفسير هو المشهور من معنى الحمد واللائق بالإرادة في مقام التعظيم، وأما ما ذكر في كتب اللغة من معنى الرضا مطلقاً كما في قوله تعالى: {عَسَى أَنْ يَبْعَثَكَ رَبُّكَ مَقَاماً مَحْمُوداً }[الإسراء:79]، وفي قولهم لهذا الأمر عاقبة حميدة، وفي قول الأطباء بحران محمود مما لا يختص بالفاعل فضلاً عن الاختيار، فبمعزل عن استحقاق في الإرادة هاهنا استقلالاً أو استتباعاً بحمل الحمد على ما يعم المعنيين؛ إذ ليس في إثباته له تعالى فائدة يعتد بها، فإن قيل: المشهور أن الجميل المحمود عليه يجب أن يكون اختيارياً ولم يذكر ذلك في التعريف فالحد غير مانع لشموله لما ليس باختياري.
فالجواب من وجوه:
أحدها: أنه تعريف بالأعم وهوجائز عند الأدباء، بل جوزه قدماء المناطقة في التعريف الناقص.
الثاني: أنه ترك اعتماداً على الأمثلة فإنها اختيارية.
الثالث: أن الزمخشري وغيره قد نصوا على ترادف الحمل والمدح، والمعلوم بالضرورة أنه لا يحسن مدح أحد على ما ليس من فعله، وبه ألزم أصحابنا المجبرة في مسألة خلق الأفعال فقالوا: لو كانت أفعالنا من فعل الله للزم سقوط حسن المدح، أو الذم فلا يعلم حسن مدح المحسن ولا ذم المسيء لأن الإحسان والإساءة على قولهم كالخلق والألوان في كونهم مضطرين إليهما.
قالوا: ونحن نعلم بالضرورة قبح الذم واللوم على الخلق والألوان، وأن علة القبح الاضطرار إليها لا غير، فلزم مثله في الإحسان والإساءة، وفي ذلك مدافعة ماعلمناه ضرورة من الفرق، وكل قول أدى إلى القدح في الضرورة وجب الحكم ببطلانه، وأيضاً فإن أصحابنا قالوا إن الثواب والعقاب يستحقان لما يستحق به المدح والذم، وقرروا ذلك بما يفيد القطع، وبنوا عليه استحقاق دوامهما -أعني الثواب والعقاب- وكل ذلك يدل على أن المدح لا يكون إلا على الأفعال الاختيارية، ولا تضرنا مشاغبة الخصم في ذلك مع ظهور مخالفته لما علم ضرورة على أن الزمخشري قد حقق في تفسير سورة الحجرات بطلان مدح الإنسان بغير فعله وهو من أئمة اللغة، وإذا ثبت هذا فنقول: إذا ثبت الترادف كان ذكر الحمد مغنياً عن التصريح بكون المحمود عليه اختيارياً؛ لأنه لا يكون إلا كذلك، فإن قيل: فما فائدة التصريح به فيما حده به جماعة منهم الحسين بن القاسم، وابن لقمان، والعزيزي، وأبو السعود فقالوا: في حده ما حاصله إن الوصف بالجميل على الجميل الاختياري للتعظيم، زاد بعضهم سواء تعلق بالفضائل أي صفات الكمال كقولنا: فلان شجاعٌ كريم، أم بالفواضل كإقراء الضيف وإغاثة اللهيف، وغير ذلك من النعم.
قيل: أما من لا يقول بترادف الحمد والمدح منهم وأن المدح يكون على ما ليس باختياري ففائدة ذكره إخراج المدح، وأما من يقول بالترادف ففائدته تحقيق الماهية، أو دفع توهم إرادة الجمع بين الحقيقة والمجاز عند من يجوزه، والظاهر من كلام هؤلاء عدم الترادف إلا ابن لقمان فلم يتعرض لذكر المدح، وينبغي التعرض لما ورد على هذا الحد، وتحقيق مقاصده إذ لا يخلو ذلك عن فائدة يتنبه لها، أو يستدعي المقام ذكرها فنقول: إن قيل: لم عدل عن قولهم الثناء باللسان إلى الوصف، فجوابه من وجوه:
أحدها: أن ذكر الوصف يدل على كونه باللسان بالتضمن، فإنك إذا قلت: وصفت فلاناً لم يتبادر منه إلا فعل اللسان، وإذا كان اللسان مفهوماً من الوصف كان العدول إليه أولى للإيجاز، ويدل على هذا أن العزيزي قد صرح به فقال: هو الثناء باللسان، ثم ذكر معنى الحد المذكور.
الثاني: أنه عدل عنه لشمول حمد الباري تعالى لنفسه ولصالحي عباده عند من يسميه حمداً؛ لأنه لا يكون باللسان، وأما الوصف فهو يتناوله لأن الذي في كتب اللغة أن الوصف النعت، والنعت لا يتبادر منه عند الإطلاق إلا القول وإن استعمل في غيره كما في قولهم عبدك أو أمتك نعتة بالضم أي غاية في الرفعة فمجاز أي فيه من الصفات ما ينعت به، لكنه بالغ في بيان استحقاقه للنعت حتى جعله نعتة في نفسه.
قلت: وتسمية ثنائه تعالى على نفسه وعلى أوليائه حمداً قد ورد ما يدل عليه، فمن ذلك ما أخرجه ابن جرير عن الأسود بن سريع أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال: ((ليس شيء أحب إليه الحمد من الله ، ولذلك أثنى على نفسه فقال: الحمد لله))، وقال صلى الله عليه وآله وسلم في جملة دعاء: ((لا أحصي ثناءً عليك أنت كما أثنيت على نفسك...)) الحديث، أخرجه مسلم، وأبو داود، والترمذي، والنسائي، وابن ماجة من حديث عائشة، وقد تقدم بكماله في الاستعاذة، وفي الذهن أنه في الهدي النبوي من حديث علي عليه السلام ، وقد أجيب بأن الحديث محمول على المشاكلة بين ثناء وأثنيت؛ إذ معنى أثنيت على نفسك دللت أو نحوه فعدل إلى أثنيت للمشاكلة، ورد بأنه خلاف الظاهر ولا ملجئ إليه، والحديث الأول يدفعه، وعن علي عليه السلام في كلامه للشامي ولم تأت لائمة من الله لمذنب ولا محمدة لمحسن وقد مر، وهو صريح أن ثناء الله على عباده يسمى حمداً.
الوجه الثالث: أن العدول لعدم الجزم بالقول باختصاص الثناء باللسان كما هو رأي الدسوقي في حاشية الشرح الصغير، فإنه صرح بأن الثناء غير مختص باللسان قال والراجح أنه يشمل اعتقاد القلب، وعمل الجوارح، وحينئذٍ فيفسر بأنه الإتيان بما يدل على اتصاف المحمود بالصفة الجميلة قال: وعلى هذا فقوله باللسان لا بد منه لإخراج الثناء بغيره كالجنان والأركان.
قلت: فيكون ذكر الوصف أولى؛ لأنه أخصر وأشمل، واعلم أن الذي تدل عليه كتب اللغة أن الحمد لا يختص بالقول، وأن الذي بالقلب والجوارح يسمى حمداً كما مر عن القاموس من أنه يكون بمعنى الشكر والرضا، وفسر الشكر بأنه عرفان الإحسان ونشره، ولا يكون إلا عن يد، ومن الله المجازاة والثناء الجميل، وهذا نص في عدم اختصاص الحمد بالقول.
وفي حواشي شرح الغاية عن بعض العلماء أن الحمد إظهار الصفات الكمالية، وذلك قد يكون بالقول وقد يكون بالفعل، قال: وحمد الله تعالى وثناؤه من قبيل إظهار الصفات بالفعل فإنه حين بسط الوجود على ممكنات لا تحصى، ووضع عليه فوائد لا تتناهى كشف عن صفات الكمال، وأظهرها بدلالة قطعية تفصيلية غير متناهية، ومن ثم قال صلى الله عليه وآله وسلم : ((لا أحصي ثناء عليك أنت كما أثنيت على نفسك )) فإن قيل: لم قيد الوصف بالجميل؟ قيل: لإخراج ما ليس بجميل، لأن الوصف يطلق على الجميل وغيره ولو ذماً، فإن قيل: لم أطلق الجميل الأول وقيد الثاني بالاختياري؟ قيل: أما تقييد الثاني فقد مر الكلام عليه قريباً، وأما إطلاق الأول فليتناول وصفه تعالى بصفاته الذاتية فإنها تسمى حمداً نحو أن يقول الله قادر عالم حي في مقابلة إنعامه عليك إذ المحمود به لا يجب أن يكون اختيارياً، فإن قيل: تقييد الثاني بالاختياري يقتضي خروج حمد الله على صفاته الذاتية إذ ليست اختيارية، سواء كانت عين ذاته أو زائدة عليها، وإلا لزم حدوثها، قيل: قد أجاب العلماء عن هذا السؤال بجوابات:
أحدها: ما ذكره الشريف وهو أن يجعل الصفات لكون الذات كافية فيها بمنزلة أفعال اختيارية يستقل بها فاعلها على جهة المجاز، ورد بأنه يلزم منه الجمع بين الحقيقة والمجاز بإطلاق الاختياري في حد الحمد على المعنى الحقيقي، وما في حكمه.
الثاني: أن المراد بالاختياري ما ليس باضطراري، فتدخل ذات الله سبحانه وتعالى وصفاته، ورد بما مر.
الثالث: أن المراد به ما كان منسوباً للفاعل المختار سواء كان مختاراً فيه أي مؤثراً فيه بالاختيار أم لا، وتكون فائدته إخراج ما تعلق بالجمادات فقط، ورد بأنه يلزم منه إطلاق الاختياري على نحو الطول والقصر، والصحة والسقم، لتعلقها بذي الاختيار.
قلت: ولعل القائل بهذا يلتزمه.
الرابع: أن الحمد فيها مجاز على المدح، ويجاب بأن الظاهر في الإطلاق الحقيقة، فلا يعدل عنها إلا لقرينة.
قلت: لقائل أن يقول: القرينة موجودة وهي ما علم من وجوب كون المحمود عليه اختيارياً، وأن صفاته تعالى ليست اختيارية.
الخامس: أن المراد بالاختياري ما يشمل الاختياري حقيقة أو حكماً فصفاته تعالى وكذا ذاته لما كانت مبدأ للأفعال الاختيارية عدت اختيارية حكماً، أما الذات فبلا واسطة، وأما الصفات فإن جعلناها نفس الذات فكذلك، وإن قيل بأنها زائدة فلأنها لما كانت لا تنفك عن الذات وليست غيراً عدت اختيارية حكماً، لكن بواسطة ملازمتها للذات، وقد صرح أبو السعود في حده للحمد بأن منشأ الاختياري ينزل منزلته، فقال: الحمد هو النعت بالجميل على الجميل اختيارياً كان أو مبدأ له على وجه يشعر بتوجيهه إلى المنعوت.
وأما قولهم: للتعظيم فقد تقدم بيان الفائدة في زيادتها في الكلام على الحد الأول، فإن قيل: ذكر الثناء والجميل وأنهما لا يقعان إلا على الجميل يغني عن التصريح به؛ إذ الثناء بالجميل على الجميل يستلزم قصد التعظيم، وأجيب بأن دلالة الالتزام مهجورة في التعاريف، وكذا يجاب عما يقال أن اعتبار قصد التعظيم يستلزم أن يكون المحمود عليه جميلاً فلا يكون للتصريح بقوله على الجميل فائدة. فإن قيل: تمثيلهم للفضائل بالشجاعة ونحوها مما ليس من فعل الإنسان ينافي اشتراط الاختيار في المحمود عليه.
قيل: ليس المحمود عليه منها إلا ما كان من فعل المحمود؛ لأن الفضائل تنقسم إلى غريزي ومكتسب، فالأول من فعل الله لا يتعلق به أمر ولا نهي، ولا مدح ولا ذم، وهو المعنى الذي لا يقدر المكلف على دفعه ولا على تحصيله، وإنما هو أمر قلبي غريزي يحدثه الله تعالى، لكنه سبب باعث على المكتسب أي الفعل الاختياري الممكن للعبد فعله وتركه كالإقدام ونحوه، وهذا هو الذي يتعلق به الحمد والذم، والأمر والنهي، وبهذا يظهر لك عدم المنافاة والحمد لله.
وبهذا تم الكلام على ما ورد على هذا الحد من الأسئلة، وللحمد حدود كثيرة غير ما ذكرنا منها: ما ذكره القرطبي وهو أنه في كلام العرب الثناء الكامل، وقال النسفي: هو الوصف بالجميل على جهة التفضيل، وقال الرازي: هو القول الدال على كونه مختصاً بفضيلة معينة، وهي فضيلة الإنعام والإحسان.
وقال السبكي: هو الثناء بالقول على جميع الصفات والأفعال، وكلها تنبني عن قصد التعظيم المشعر بأن المراد بالحمد الفرد الكامل المعتد به لا مطلق الحمد، ويعرف وجه اختيار الثناء في الأول والعدول عنه إلى الوصف في الثاني، واختيار القول عليهما في الأخيرين مما سبق، إلا أنه يرد على الرازي أنه سيأتي له عدم اختصاص الحمد بالقول، ولعله أراد هنا بيان الحمد اللغوي وهو لا يكون إلا بالقول كما ذكره بعضهم حيث قال: اختصاص الحمد باللسان هو العرف العام المشهور عند أهل اللغة، ولعله عبر بالقول عن اللسان مجازاً مرسلاً من إطلاق المسبب على السبب؛ إذ لا يصح أن يقال أنه أراد شمول ثناء الله على نفسه وعلى صالحي عباده لتخصيصه بفضيلة الإنعام والإحسان، اللهم إلا أن يقال إنه أثنى على نفسه لأجل إنعامه على عباده، وأثنى عليهم لإحسانهم بالطاعة والامتثال، وهذا بخلاف القول في حد السبكي، فإنه يحتمل الأمرين بلا إشكال.
فائدة [في ذكر أركان الحمد]
اعلم أن أركان الحمد خمسة:حامد، وهو من صدر منه الثناء، ومحمود وهو من أثني عليه، ومحمود عليه وهو الصفات والأفعال الجميلة، ومحمود به وهو مدلول الصيغة كالكرم، وصيغة وهي اللفظ الدال على الثناء وكقولك زيد كريم، وقد جمعها قوله تعالى: {الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ }[الصافات:182]، ثم إن المحمود عليه وبه قد يختلفان ذاتاً واعتباراً كما إذا قلت: زيد عالم في مقابلة إكرامه لك، وتارة يتحدان ذاتاً ويختلفان اعتباراً كما إذا قلت: زيد كريم في مقابلة إكرامه لك فالكرم من حيث أنه باعث على الحمد محمود عليه، ومن حيث أنه مدلول للصيغة محمود به، وقد علم مما مر أن المحمود به لا يجب أن يكون اختيارياً بخلاف المحمود عليه.
تنبيه [في الحمد بالقول وغيره]
قد سبق أن الذي تدل عليه كتب اللغة أن الحمد لا يختص بالقول، وقد اختلف العلماء في ذلك فظاهر ما ذكره الزمخشري وغيره ممن اعتبر في حده القول أنه لا يكون بغيره.
وقال زيد بن علي عليه السلام ، والرازي وحكاه ابن أبي الحديد عن الراوندي: أنه يكون بالقول وغيره.
قال زيد بن علي عليه السلام في قوله تعالى: {الحمد}: يقول الشكر لله على عباده بما أنعم عليهم، وشكرهم إياه وحمدهم إياه طاعتهم إياه فيما أمرهم به ونهاهم عنه، والكلمة جامعة لكل طاعة ونعمة؛ لأن الحمد شكر على النعم والنعم كلها من الله تعالى، والشكر واجب على الطاعة كلها؛ لأنها بالله كانت فهو أهل أن لا يعصى ولا ينسى.
وقال (الرازي) بعد أن ذكر أنه يجب علينا أن نبحث عن حقيقة الحمد وماهيته: حمد المنعم عبارة عن كل فعل يشعر بتعظيم المنعم بسبب كونه منعماً، وذلك الفعل إما أن يكون فعل القلب، أو فعل اللسان، أو فعل الجوارح، أما فعل القلب فهو أن يعتقد فيه كونه موصوفاً بصفات الكمال والإجلال، وأما فعل اللسان فهو أن يذكر ألفاظاً دالة على كونه موصوفاً بصفات الكمال، وأما فعل الجوارح فهو أن يأتي بأفعال دالة على كون ذلك المنعم موصوفاً بصفات الكمال والإجلال، قال: فهذا هو المراد من الحمد.
وقال (الراوندي): الحمد والمدح يكونان بالقول والفعل، واعترضه ابن أبي الحديد فقال: لقائل أن يقول: الذي سمعناه أن التعظيم يكون بالقول والفعل، وبترك القول والفعل، قالوا: فمن قال لغيره: يا عالم فقد عظمه، ومن قام لغيره فقد عظمه، ومن ترك مد رجله بحضرة غيره فقد عظمه، ومن كف غرب لسانه عن غيره فقد عظمه، وكذلك الاستخفاف والإهانة تكون بالقول والفعل وبتركهما حسب ما قدمنا ذكره في التعظيم.
قال: فأما الحمد والمدح فلا وجه لكونهما بالفعل.
قلت: بل ولهم أن يجيبوا بأنه لا وجه لنفي كون الحمد بالفعل، وكذا المدح إن قيل بالترادف مع نقل أئمة اللغة بذلك كمامر عن القاموس، ونص زيد بن علي عليه السلام على ذلك وهو من أئمة اللغة، وقد استشهد بشعره سيبويه، والمعلوم أن الواجب إجراء ألفاظ الكتاب والسنة على معانيها اللغوية ما لم يرد ناقل شرعي كما في الإيمان ونحوه، وما ذكره من التعظيم لا ينافي تسميته حمداً، بل قد جعله بعضهم شرطاً في الاعتداد بالحمد كما مر، وفي كلام بعضهم ما يدل على أنه جزءٌ، فتأمل.
فإن قيل: ما ذكر من عدم اختصاصه بالقول إنما هو بحسب العرف والكلام في المعنى اللغوي، وقد نص على ذلك العزيزي وفرق بينهما فقال: الحمد لغة الثناء باللسان على الجميل الاختياري على جهة التبجيل سواء تعلق بالفضائل أم بالفواضل، وعرفاً فعل ينبي عن تعظيم المنعم من حيث أنه منعم على الحامد أو غيره، قال: والشكر اللغوي مساو للحمد العرفي.
وفي حواشي الغاية بعد أن ذكر عن بعض العلماء عدم اختصاص الحمد بالقول وقد قدمنا كلامه ما لفظه قالوا: وهذا هو العرف الخاص أي المستعمل بين أرباب العلوم العقلية، واختصاص الحمد باللسان هو العرف العام المشهور عند أهل اللغة.
قيل: ما تقدم عن زيد بن علي عليه السلام وصاحب القاموس يدفع هذا، بل لو قيل: أن كلامهما يدل على أن اختصاص الحمد بالقول إنما هو بحسب العرف الخاص لم يكن بعيداً، ولا يضر عدم ذكر غيرهما لهذا المعنى أعني عدم الاختصاص، لأن من علم حجة على من لا يعلم.
تنبيه [وقوع الحمد على الاختيار]
آخر ما تقدم من أن الحمد لا يكون إلا على الفعل الاختياري إنما هو فيما عدا ما دل على مطلق الرضا، فأما ما كان بمعنى الرضا فقد يستعمل في الأفعال الاختيارية وغيرها، بل قد يستعمل فيما لا فعل له كما مر.
وفي القاموس وأحمد صار أمره إلى الحمد أو فعل ما يحمد عليه والأرض صادفها حميدة كحمدها وفلاناً رضي فعله ومذهبه ولم ينشره للناس.
تنبيه ثالث [استحقاق الله للحمد بالقوة]
قد علم من قولهم إن المحمود عليه يجب أن يكون اختيارياً أن الله تعالى لا يستحق الحمد في الأزل بالفعل وإنما يستحقه بالقوة؛ إذ لا فعل له فيحمد عليه، ولا منعم عليه فيشكره، وقد نبه على هذا بعض المحققين، لا يقال: قد قالوا إنه يستحق الحمد على ذاته وصفاته لأنها مبادئ أفعال اختيارية، وتقدم أيضاً أن ثناءه على نفسه يسمى حمداً، وحينئذٍ لا يمتنع أن نقول بوقوع حمده تعالى لنفسه في الأزل، ولأن ذاته وصفاته مبادئ لما أحدثه تعالى من الأفعال وهو سبحانه لا يفعل غير المستحق لأنه حكيم، فيثبت أنه مستحق للحمد في الأزل بالفعل؛ لأنا نقول ما أردت بقولك في الأزل هل أردت به القدم الذي لا أول له، أم أردت ما تقادم عهده، إن أردت الأول لزمك إثبات قديم مع الله تعالى لأنك قد أثبت الحمد بالفعل في الأزل الذي لا أول له، وإن أردت الثاني فحمد الله تعالى لنفسه من جملة أفعاله وهي محدثة، ولا مانع من حمده لنفسه قبل وجود العالم بهذا الاعتبار عند من أثبت حمد الله تعالى لنفسه، لكن لا ينبغي إطلاق كونه في الأزل لإيهامه القدم الذي لاأول له.
هذا وأما استحقاقه للحمد من غيره في الأزل بالفعل فلا أظن أحداً يقول به؛ إذ الحمد من جملة العبادة ولا مخلوق في الأزل يستحق عليه العبادة، ولما قال القطب الراوندي في شرح قول أمير المؤمنين عليه السلام في نهج البلاغة: (الحمد لله الذي لا يبلغ مدحته القائلون)، ما لفظه: المعنى أن الحمد كل الحمد ثابت للمعبود الذي حقت العبادة له في الأزل، واستحقها حين خلق الخلق، وأنعم بأصول النعم التي يستحق بها العبادة، اعترضه ابن أبي الحديد بأن ظاهر كلامه متناقض لأنه إذا كان إنما استحقها حين خلق الخلق فكيف يقال: إنه استحقها في الأزل، وهل يكون في الأزل مخلوق يستحق عليه العبادة.
قال: واعلم أن المتكلمين لا يطلقون على الباري سبحانه أنه معبود في الأزل ومستحق للعبادة في الأزل إلا بالقوة لا بالفعل؛ لأنه ليس في الأزل مكلف يعبده تعالى، ولا أنعم على أحد في الأزل بنعمة يستحق بها العبادة حتى أنهم قالوا في الأثر الوارد: يا قديم الإحسان أن معناه أن إحسانه متقادم العهد لا أنه قديم حقيقة كما جاء في الكتاب العزيز: {حَتَّى عَادَ كَالْعُرْجُونِ الْقَدِيمِ }[يس:39 ] أي الذي قد توالت عليه الأزمنة المتطاولة.
قلت: وعلى هذا فلا وجه لاعتراضه على الراوندي؛ لأنه يمكن حمل كلامه على ما قاله المتكلمون، فيقال: أراد بقوله الذي حقت العبادة له في الأزل أي بالقوة وبقوله واستحقها حين خلق الخلق أي بالفعل، إلا أنه يعترض عليه في إطلاقه للاستحقاق في الأزل لإيهامه كما مر، ويمكن أن يجاب بأن قوله: واستحقها حين خلق الخلق قرينة تدفع الوهم؛ إذ جعله للاستحقاق الثاني مغايراً للأول قرينة دالة على أن الاستحقاق الأول بالقوة لا غير، مع ما يعضدها من القرينة العقلية.
نعم أما المجبرة فيأتي على مذهبهم في قدم كلامه تعالى، وأنه صفة ذاتية له أنه يستحق الحمد في الأزل بالفعل، وقد صرح بذلك بعضهم.
فقال الرازي: هو تعالى محمود في الأزل إلى الأبد بحمده القديم، وكلامه القديم، وقال القرطبي في معنى {الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ }[الصافات:182]: أي سبق الحمد مني لنفسي قبل أن يحمدني أحد من العالمين، وحمدي نفسي لنفسي في الأزل لم يكن بعلة، وحمدي الخلق مشوب بالعلل.
قلت: وبطلان قدم كلامه تعالى معلوم، وببطلانه يبطل ما فرعوا عليه، ويكفي في بطلانه أنه يلزم أن يكون مع الله تعالى قديم غيره تعالى عن ذلك علواً كبيرا، وظاهر كلام القرطبي أن الله يستحق الحمد لذاته، وقد عرفت ما فيه.
المسألة الثالثة: في اختلاف العلماء في الفرق بين الحمد والمدح والشكر
ذهب الزمخشري إلى أن الحمد والمدح مترادفان، قال في الفائق: الحمد هو المدح، وقال في الكشاف: الحمد والمدح أخوان، وهو ظاهر كلام سعد الدين؛ لأنه عرف الحمد والشكر ولم يذكر المدح، وبه صرح الشيخ عز الدين بن عبد السلام، وابن أبي الحديد، وحكاه عن أكثر الأدباء والمتكلمين، ولفظه: الذي عليه أكثر الأدباء والمتكلمين أن الحمد والمدح أخوان لا فرق بينهما تقول: حمدت زيداً على إنعامه، ومدحته على إنعامه، وحمدته على شجاعته، ومدحته على شجاعته، فهما سواء يدخلان فيما كان من فعل الإنسان، وفيما ليس من فعله كما ذكرناه من المثالين. ذكره في شرح النهج.
وحجتهم على ذلك أن أهل اللغة جعلوا الذم الذي هو نقيض المدح نقيضاً للحمد.
قال في المختار: الحمد ضد الذم، فإن قيل: ليس الذم نقيضاً للمدح، وإنما نقيضه الهجو، قيل: بل هو نقيضه، وقد صرح به في القاموس فقال: ذمه ضد مدحه، وليس الهجو غير الذم، وإنما هو نوع منه خاص وهو عد المثالب بالشعر.
قال في القاموس: هجاه هجواً وهجاء شتمه بالشعر، وقال الشريف: المدح يطلق على الثناء الخاص أي الوصف بالجميل، ويقابله الذم، وقد يخص بعد المآثر ويقابله حينئذٍ الهجو أي عد المثالب، والكلام في المعنى الأول، وذهب إلى الفرق بينهما جماعة منهم: الحسين بن القاسم عليه السلام ، والرازي، وأبو حيان، وأبو السعود وغيرهم، ثم اختلفوا في وجه الفرق على أقوال:
القول الأول: أن المدح أعم من الحمد لأن المدح قد يكون للحي والجماد، ألا ترى أنه كما يحسن مدح العاقل على أنواع فضائله، فكذلك قد يمدح اللؤلؤ لحسن شكله ولطافة خلقته، ويمدح الإنسان على حسن وجهه ورشاقة قده، بخلاف الحمد، فإنه لا يكون إلا للفاعل المختار.
قال في (شرح الغاية) بعد أن ذكر أن الحمد: لا يكون إلا على الجميل الاختياري أن التقييد بالاختياري لأنه لم يسمع، حمدت اللؤلؤة على صفائها بل مدحتها، وهذا الفرق ذكره الحسين بن القاسم، والرازي وغيرهما.
وأجيب من وجوه:
أحدها: أن ما تقدم من إلزام أصحابنا للمجبرة بسقوط المدح والذم يدل على بطلان ثبوت المدح لغير الفاعل المختار، وقد ألزمهم بذلك أمير المؤمنين عليه السلام في كلامه للشامي فقال: لو كان ذلك كذلك لبطل الثواب والعقاب إلى أن قال: ولم يكن المحسن أولى بالمدح من المسيء ولا المسيء أولى بالذم من المحسن وقد مر، فهذا نص في المقصود من إمام المعقول والمسموع والشرع واللغة، وفيه دلالة من وجه آخر وهو أنه ألزمهم بطلان الثواب والعقاب، وقد ثبت أنهما يستحقان بما يستحق به المدح والذم، ومن المعلوم أن الثواب والعقاب لا يستحقان إلا على الأفعال الاختيارية، وفيه دلالة من وجه آخر أيضاً وهو أنه قال فيه: ولم تأت لائمة من الله لمذنب ولا محمدة لمحسن، وفي رواية: ولما كان محمدة لمحسن ولا مذمة لمسيء، وفي هذا أيضاً دلالة على الترادف لأنه قابل الحمد بالذم.
الثاني: أن الزمخشري وهو من أئمة اللغة قال في تفسير سورة الحجرات ما لفظه: إن كل ذي لب وراجع إلى بصيرة وذهن لا يغبى عليه أن الرجل لا يمدح بغير فعله، ثم قال: فإن قلت: فإنَّ العرب تمدح بالجمال وحسن الوجوه، وذلك فعل الله وهو مدح مقبول عند الناس غير مردود.
قلت: الذي سوغ ذلك لهم أنهم رأوا حسن الرؤى ووسامة المنظر في الغالب يسفر عن مخبر مرضي وأخلاق محمودة، ومن ثم قالوا: أحسن ما في الذميم وجهه، فلم يجعلوه من صفات المدح لذاته، ولكن لدلالته على غيره، على أن من محققة الثقات وعلماء المعاني من دفع صحة ذلك، وخطأ المادح به، وقصر المدح على النعت بأمهات الخير، وهي الفصاحة، والشجاعة، والعدل، والعفة، وما يتشعب منها ويرجع إليها، وجعل الوصف بالجمال، والثروة، وكثرة الحفدة والأعضاد، وغير ذلك مما ليس للإنسان فيه عمل غلطاً ومخالفة عن المعقول، لا يقال إنما حمل الزمخشري رحمه الله على ذلك اعتقاده في أفعال العباد؛ لأنا نقول: المعلوم عند الجميع أنه عارف بالأوضاع اللغوية، وأنه ثقة يعتمد عليه في نقلها، ولو فتحنا مثل هذا الباب لأدى إلى رد كثير من الأخبار النبوية والأوضاع اللغوية لكثرة الاختلاف بين الأمة أصولاً وفروعاً، فإن قيل: يرد على القول بالترادف قول علي عليه السلام بعد أن أثنى على الله تعالى بصفاته الذاتية والاختيارية: (اللهم وهذا مقام من أفردك بالتوحيد الذي هو لك ولم ير مستحقاً لهذه المحامد والممادح غيرك). رواه في النهج.
فعطف المدح على الحمد، والعطف يقتضي المغايرة، ويرد على القول باختصاص المدح بالأفعال الاختيارية ثناء الله تعالى على أنبيائه ورسله باصطفائه واختياره إياهم؛ إذ هو فعله تعالى لا اختيار لهم فيه.
قيل: أما كلام أمير المؤمنين عليه السلام فنقول: مع قيام الدليل الترادف فالواجب حمله على التوسع في الكلام بعطف الشيء على نفسه بلفظين مختلفين؛ لأن المقام مقام خطابة وهي تقتضي التوسع والإطناب، ويؤيد هذا التأويل ما مر من حديث جابر: ((فإذا قال العبد الحمد لله رب العالمين قال: مدحني عبدي )) وأما ثناء الله على أنبيائه باصطفائهم فلم نعثر على مدحهم بذلك، وإنما أخبر بأنه اصطفاهم واختارهم للرسالة، وربما خرج ذلك مخرج التمنن كما في قوله تعالى لموسى عليه السلام : {إِنِّي اصْطَفَيْتُكَ عَلَى النَّاسِ بِرِسَالاَتِي وَبِكَلاَمِي فَخُذْ مَا آتَيْتُكَ وَكُنْ مِنَ الشَّاكِرِينَ}[الأعراف:144 ]وقوله لمريم عليها السلام: {يَامَرْيَمُ إِنَّ اللَّهَ اصْطَفَاكِ وَطَهَّرَكِ وَاصْطَفَاكِ عَلَى نِسَاءِ الْعَالَمِينَ ، يَامَرْيَمُ اقْنُتِي لِرَبِّكِ...} [آل عمران:43] الآية إلى غير ذلك مما امتن الله به على عباده من كونه اصطفاهم واصطفى دينهم، ولو كان مدحاً لم يمتن به عليهم ولم يطلب منهم الشكر عليه، سلمنا فالمدح ليس على الاصطفاء نفسه، بل على أسبابه، وهي تواضعهم، ورحمتهم للخلق، وسلامة قلوبهم من الأخلاق القبيحة، ونحو ذلك وهذه منهم، ويدل على ذلك أعني كون المدح على السبب ما أخرجه أبوالشيخ عن ابن شوذب قال: أوحى الله إلى موسى أتدري لم اصطفيتك على الناس برسالاتي وبكلامي؟ قال: لا يارب، قال : إنه لم يتواضع لي تواضعك أحد، وفي الدر المنثور نحوه من طريق ابن أبي حاتم وغيره.
الفرق الثاني: أن المدح يكون قبل الإحسان وبعده، والحمد لا يكون إلا بعده، ويرد عليه أنه قد ثبت الحمد على ما ليس بإحسان إلى الحامد كالشجاعة ونحوها كما مر.
الفرق الثالث: أن المدح قد ورد ما يقتضي قبحه، وهو ما أخرجه الترمذي عن أبي هريرة، وابن عدي في الكامل، وأبو نعيم في الحلية عن ابن عمر عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم أنه قال: ((احثوا التراب في وجوه المداحين )). قال العزيزي: هو حديث حسن.
وأخرج ابن ماجة عن المقداد بن عمرو الكندي، والبيهقي في الشعب عن ابن عمر، وابن عساكر في تاريخه عن عبادة بن الصامت عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم أنه قال: ((احثوا في أفواه المداحين التراب )). قال العزيزي: وهذا الحديث صحيح المتن.
وأما الحمد فورد ما يدل على الأمر به مطلقاً، وهو ما رواه الرازي مرفوعاً: ((من لم يحمد الناس لم يحمد الله ))، وأجيب بأن النهي عن المدح ليس لذاته، بل لما يؤدي إليه من العجب والكبر ونحوهما، أو لتأديته إلى فتنة الممدوح بمحبته المدح بما لم يفعله، فيكون من الذين يحبون أن يحمدوا بما لم يفعلوا، ويدل على ذلك قول علي عليه السلام في عهده للأشتر: (ثم رضهم على أن لا يطروك ولا يبجحوك بباطل لم تفعله، فإن كثرة الإطراء تحدث الزهو وتدني من العزة). رواه في النهج.
معنى رضهم: عودهم، والإطراء: المبالغة في المدح، ويبجحوك: أي يفرحوك.
وقال عليه السلام : (رب مفتون بحسن القول فيه). رواه في النهج مع ما في ذلك من الكذب بمدح الإنسان بما ليس فيه، وقد ذكر بعض العلماء أن المداح بصيغة المبالغة من يذكر أوصافاً جميلةً في شخص وليس متصفاً بها، وعلى هذا فيكون قبحه لما فيه من الكذب، وإذا ثبت أن قبحه ليس إلا لأحد هذه الأمور، فلا يثبت ما ادعوه من الفرق؛ إذ الحمد مثله قد ورد ما يدل على قبحه في بعض الأحوال وهو قوله تعالى: {وَيُحِبُّونَ أَنْ يُحْمَدُوا بِمَا لَمْ يَفْعَلُوا }[آل عمران:188]، وما رواه أبو طالب عليه السلام في الأمالي أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال لعلي عليه السلام : ((يا علي إن من اليقين أن لا ترضي أحداً بسخط الله ، ولا تحمد أحداً على ما آتاك الله، ولا تذم أحداً على ما لم يؤتك الله فإن الرزق لا يجره حرص حريص، ولا ترده كراهة كاره...)) الخبر.
وقد سمى أمير المؤمنين عليه السلام حمد من أعطاه من البشر ابتلاء ولذا سأل الله اليسار، لئلا يبتلى بحمد من أعطاه، ويفتن بذم من منعه كما في النهج، وتبعه على ذلك زين العابدين عليه السلام في الصحيفة.
وأما الحديث الذي رواه الرازي فلم أجده بهذا اللفظ، وقد ذكره في الجامع الصغير بلفظ: ((من لم يشكر الناس لم يشكر الله)) ونسبه إلى أحمد، والترمذي، والضياء من حديث أبي سعيد وإسناده حسن، وعلى هذا فهو في غير محل النزاع، ولو ثبتت هذه الرواية فالمقصود بالحمد فيها الشكر، ولا شك في حسن الشكر مطلقاً، وإذا ثبت أن الحمد ليس مأموراً به مطلقاً انتفى الفرق بينهما من هذه الحيثية؛ إذ كل منهما قد يكون مطلوباً، وقد يكون منهياً عنه، ومما يدل على حسن المدح في بعض الأحوال أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قد مدح بالشعر وغيره في وجهه ولم ينه عن ذلك، ومدح أكابر من الأئمة والعلماء ولم ينكروه، بل ربما أجازوا المادح بجائزة عظيمة مع حكمهم بحسنها، بل في كلام بعضهم ما يدل على قبح الإخلال بها، وكما في قول علي عليه السلام : (اللهم ولكل مثن على من أثنى عليه مثوبة من جزاء أو عارفة من عطاء). رواه في النهج، فدل على أن الجائزة حق ثابت للمادح.
ومن كلامه عليه السلام في حسن المدح في موضعه قوله في توصية الأشتر بالجنود:(وأوصل في حسن الثناء عليهم، وتعديد ما أبلى ذووا البلاء منهم، فإن كثرة الذكر لحسن أفعالهم تهز الشجاع وتحرض الناكل إن شاء الله تعالى). رواه في النهج.
وهذا الفرق والذي قبله ذكرهما الرازي وحكاهما الخازن ولم ينسبهما إلى أحد.
الفرق الرابع: أن المدح يكون على نوع من أنواع الفضائل، والحمد مختص بفضيلة الإنعام والإحسان، وأجيب بأن كتب اللغة تدل على عدم اختصاص الحمد بالنعمة كما في القاموس وغيره.
الفرق الخامس: ذكره أبو السعود وهو أن الفرق بينهما من جهة التعلق بالمفعول، فإن تعلق الحمد بمفعوله على معنى الإنهاء والتبليغ كما في قولك: كلمته فإنه معرب عما يفيده لام التبليغ في قولك: قلت له، بخلاف المدح فإن تعلقه بمفعوله كتعلق عامة الأفعال بمفعولاتها واختلافهما في كيفية التعلق ليس إلا لاختلافهما في المعنى قطعاً.
والجواب: أنا لا نسلم أن افتراقهما في التعلق يقتضي القطع باختلافهما في المعنى، إذ اختلافهما في التعلق إنما هو من حيث الصناعة اللفظية فقط، ثم إنه يلزم من استنباط اختلافهما في المعنى من ذلك إثبات الأوضاع اللغوية بالاستنباط، وهي لا تثبت إلا بالنقل.
الفرق السادس: ذكره السهيلي وهو أن الحمد يشترط صدوره عن علم لا ظن، وأن تكون الصفات المحمودة صفات كمال، والمدح قد يكون عن ظن وبصفة مستحسنة وإن كان فيها نقص ما.
قال: ولهذين الشرطين لا يوجد الحمد لغير الله تعالى.
وأجيب بأن ثبوت الحمد لغير الله تعالى شائع ذائع، ويدل عليه قوله: {عَسَى أَنْ يَبْعَثَكَ رَبُّكَ مَقَاماً مَحْمُوداً}[الإسراء:79].
قال ابن عباس: يحمده فيه أهل السموات وأهل الأرض، وقالت عائشة في قصة الإفك: لا أحمد إلا الله، وقالت: أحمد الله لا أحمدك، وحمد النبي صلى الله عليه وآله وسلم على ما فيه من صفات الكمال معلوم عند كل أحد، وذلك الحمد صادر كثير منه عن علم لا ظن، فمن أين له اختصاص الحمد بالله تعالى، ثم إن قوله: إن الحمد لا يكون إلا عن علم وأنه مختص بأهل الكمال، مردود بثبوت الحمد لكل من فعل خيراً سواء علم صدوره منه أو ظن، وسواءً كان من أهل الكمال أم من غيرهم، والشواهد عليه كثيرة منها قوله:
ومن يلق خيراً يحمد الناس أمره
وقد تقدم بعضها، بل قد حمد غير الفاعل كما في قولهم عند الصباح يحمد القوم السرا، وفي كلام الأئمة والعلماء من الحث على اكتساب الحمد بفعل ما يوجبه من الخصال الحميدة ما يفيد القطع بأنه يستحقه كل من فعل خيراً كائناً من كان.
وفي (نهج البلاغة) وكتب القاسم بن إبراهيم عليه السلام كثير من ذلك.
الفرق السابع: ذكره عبد اللطيف البغدادي وهو أن في الحمد تعظيماً وفخامة ليست في المدح والشكر، وهو أخص بالعقلاء والعظماء منهما، فلذلك كان إطلاقه على الله أكثر، وقد يطلق عليه المدح، قال صلى الله عليه وآله وسلم : ((إن الله يحب المدح ولذلك مدح نفسه )). ويقال: مدح الإنسان نفسه ولا يقال: حمدها إلا إذا طلب منها فضيلة فطاوعته.
قلت: الحديث لم أجده بهذا اللفظ، وقد مر من رواية الأسود بن سريع بلفظ: ((ليس شيء أحب إليه الحمد من الله ))، وهو في الجامع الصغير من حديثه بلفظ: ((إن الله يحب أن يحمد ))، ونسبه إلى الطبراني في الكبير ولم أقف عليه بلفظ: ((المدح)) إلا في كلام للسبكي استدرك فيه على عبد اللطيف لفظ الحديث، فقال إن لفظه: ((لا أحد أحب إليه المدح من الله ولذلك مدح نفسه )).
وقال الحفني في حاشية الجامع: وفي لفظ أن يمدح موضع أن يحمد.
قلت: وهذا عند التحقيق ليس فرقاً بيناً، وقد ذكره عبد اللطيف أن معناهما متقارب، لكن سيأتي أن اللغة تقتضي الفرق بينهما.
الفرق الثامن: حكاه النسفي وهوأن المدح ثناء على ما هو له من أوصاف الكمال ككونه باقياً قادراً عالماً، والشكر ثناء على ما هو له من أوصاف الإفضال والحمد يشملهما، وهذا أقرب الأقوال من معانيها اللغوية، وقد استفيد منه أن الفرق بين الحمد والشكر من حيث العموم والخصوص، وهو أن الحمد يكون في مقابلة الفضائل والفواضل، والشكر يختص بالفواضل، وأما الزمخشري فجعل كل واحد أعم من وجه وأخص من وجه، فعموم العبد الحمد باعتبار متعلقه فإنه النعمة وغيرها، وخصوصه باعتبار مورده فإنه باللسان وحده، والشكر بالعكس فإن مورده القلب، واللسان، والأركان، ومتعلقه النعمة وحدها، وتبعه على ذلك السعد وغيره، واستدلوا بقول الشاعر:
أفادتكم النعماء مني ثلاثة .... يدي ولساني والضمير المحجبا
فإن قيل: ظاهر هذا البيت، وقول الزمخشري: وهو بالقلب واللسان والجوارح أن الشكر لا يطلق إلا على مجموع الثلاثة، وأما
إطلاقه على كل واحد منها فلا، وهذا يخالف ما ورد في الأحاديث من تسمية الحمد شكراً.
وما روي عن جماعة من الصحابة وأخرجه عدة من المحدثين أنه لما نزل قوله تعالى: {إِنَّا فَتَحْنَا لَكَ فَتْحاً مُبِيناً ...}[الفتح:1 ]الآية اجتهد النبي صلى الله عليه وآله وسلم في العبادة وقام حتى تفطر قدماه، فقيل له في ذلك فقال: أفلا أكون عبداً شكورا مع قوله تعالى: {اعْمَلُوا آلَ دَاوُودَ شُكْراً }[سبأ:13].
وحكى الشريف الاتفاق على أن فعل اللسان يسمى شكراً.
قيل: أما البيت فالمراد به بيان استحقاقهم على الشاعر جميع أنواع الشكر فكأنه قال: كثرت نعمتكم عندي فوجب استيفاء أنواع الشكر لكم، وبالغ في ذلك حتى جعل مواردها ملكاً لهم بحيث لا يكون في قلبه إلا محبتهم، ولا في لسانه إلا الثناء عليهم، ولا في يده وجوارحه إلا مكافأتهم وخدمتهم.
وأما الزمخشري فإنما أراد التنويع لا أن الشكر لا يكون إلا بمجموع الثلاثة، ذكره بعضهم، وما ذكره الشريف من الاتفاق يوجب حمل كلامه على هذا.
وقد اعترض السبكي على الاستشهاد بالبيت بأنه لا تعرض فيه بأن شيئاً من ذلك يسمى شكراً، ويجاب بوجهين:
أحدهما: ما ذكره الشريف وهو أنه استشهاد معنوي على أن الشكر يطلق على أفعال الموارد الثلاثة، وبيانه أنه جعلها جزاءً للنعمة، وكل ما هو جزاء للنعمة عرفاً يطلق عليه الشكر لغة.
الثاني: أنه قد دل على أن المقصود بها الشكر ذكر الشكر في البيت الذي قبله وهو قوله:
وما كان شكري وافياً بنوالكم .... ولكنني حاولت بالجهد مذهبا
قيل: ورواية هذا البيت بعد الأول أحسن موقعاً، وأظهر استشهاداً، وعلى هذا التفسير للشكر فيقال: في حده لغة: هو فعل ينبي عن تعظيم المنعم لكونه منعماً سواءً كان باللسان، أو بالجنان، أو بالأركان.
قيل: والمراد بالفعل الأمر والشأن على اصطلاح أهل اللغة لا ما قابل القول والاعتقاد، أو المراد به ما قابل الانفعال، ولا شك أن كلاً من القول والاعتقاد ليس انفعالاً، فإن قيل: هذا التعريف غير جامع لخروج الشكر الجناني من قوله ينبي إذ لا يصح إنباء الاعتقاد عن التعظيم، أما بالنسبة إلى الشاكر فإنه لا معنى لإنبائه له؛ لأنه من تحصيل الحاصل، وأما بالنسبة إلى غيره، فلعدم اطلاعه عليه لكونه خفياً، وعلى فرض أن يطلعه عليه الشاكر بقول أو فعل، فالمنبي هو ذلك القول أو الفعل، وعلى هذا فلا يصح قولهم أو بالجنان.
أجيب بأن المراد بالإنباء الدلالة لا الإخبار، والدليل ما يلزم من العلم به العلم بشيء آخر، ولا شك أن اعتقاد الشاكر أن المنعم متصف بصفات الكمال دال على التعظيم بالنسبة للشاكر وغيره، أما الشاكر فظاهر، وأما غيره فلأنه لو علم به لعلم مدلوله وهو تعظيم المنعم، ولا يقدح في دلالته على التعظيم مع كونه بواسطة القول أو الفعل؛ إذ معنى الدليل حاصل فيه حينئذٍ.
فإن قيل: أنباء الاعتقاد عن تعظيم المنعم لا يصح لأن تعظيمه هو اعتقاد عظمته، والشكر بالقلب هو اعتقاد العظمة والشيء لا ينبي عن نفسه.
قيل: المراد بالشكر القلبي: اعتقاد اتصاف المنعم بصفات العظمة وهو مغاير لاعتقادها لأنه أعم منه والعام يدل على الخاص، فإن قيل: قوله لكونه منعماً مستغنى عن ذكره؛ لأن قوله ينبي عن تعظيم المنعم يدل عليه.
أجيب: بأنه صرح بما علم التزاماً لكون دلالة الالتزام مهجورة في التعاريف، واعلم أن إطلاق كونه منعماً يتناول ما إذا كانت النعمة على الشاكر أو غيره، وفي ذلك خلاف، فذهب العزيزي وهو ظاهر إطلاق السعد وغيره إلى أنه لا يشترط اختصاص النعمة بالشاكر.
قلت: ويدل عليه قول علي عليه السلام : (لا يزهدنك في المعروف من لا يشكره لك فقد يشكرك عليه من لا يستمتع منه بشيء). رواه في النهج.
وقال الرازي: بل يشترط ذلك، واختاره ابن أبي الحديد، وحكاه عن أكثر الأدباء والمتكلمين، وقال: لا يجوز عندهم شكر زيد عمراً لنعمة أنعهما عمرو على إنسان غير زيد، وأجاب عما يقال أن فلاناً يشكر الأمير على معروفه عند زيد بأن ذلك لا يصح إلا إذا كان إنعام الأمير على زيد يوجب سرور فلان، فيكون الشكر في الحقيقة على السرور الداخل على قلبه بسبب الإنعام على زيد، فإن قيل ما تقدم من أن قوله: فعل يتناول الموارد الثلاثة يغني عن قوله: سواء كان باللسان... إلخ، فما فائدة الإتيان به؟ قيل: فائدته تحقيق الماهية بعبارة صريحة.
قلت: والحد الواضح للشكر السالم من هذه الاعتراضات ما ذكره أبو السعود وهو أنه مقابلة النعمة بالثناء، وآداب الجوارح، وعقد القلب على وصف المنعم بصفات الكمال.
واعلم أن بعض العلماء قد فرق بين الحمد والشكر بغير ما تقدم، فمن ذلك ما ذكره الرازي وهو أن الحمد يعم ما إذا أوصل إليك الإنعام أو إلى غيرك، والشكر يختص بالواصل إليك، وفرق بينهما ابن أبي الحديد بأن الحمد يكون على النعمة وغيرها، والشكر لا يكون إلا على النعمة، وقيل: لا فرق بينهما، وهذا قول زيد بن علي وأبي جعفر الطبري، وروي عن الصادق وابن عطاء، وحجتهم صحة قولك: الحمد لله شكراً، وقد ورد مرفوعاً: ((اللهم لك الحمد شكراً )) من حديث كعب بن عجرة، وفي معناه أحاديث وستأتي إن شاء الله تعالى.
وعن ابن عباس الحمد: هو الشكر والاستخذاء لله، والإقرار بنعمته، وهدايته وابتدائه، وغير ذلك. الاستخذاء: بالخاء المعجمة- الخضوع.
وأجيب بأن ذلك لا يدل إلا على تخصيص هذا الحمد بكونه شكراً لأنه على نعمة كما يفيده سبب حديث كعب وغيره.
وعلى هذا فهو حجة عليهم لا لهم؛ لأنه يستفاد منه أن الحمد قد يكون شكراً وغير شكر، ولا شك أن الحمد أحد شعب الشكر، وقد ورد مرفوعاً أنه رأس الشكر، وذلك فيما أخرجه عبد الرزاق، والبيهقي في الشعب عن عبد الله بن عمرو بن العاص عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم : ((الحمد رأس الشكر ما شكر الله عبد لم يحمده)) قال: ورجاله ثقات لكنه منقطع.
وفي تخريج الكشاف أن البغوي روى عن ابن عباس مثله، ورأس الشيء بعضه، إلا أنه قد دل على أن الحمد أعلى خصال الشكر وأشرفها، كما أن الرأس أعلى أجزاء البدن وأشرفها، ووجه تشرف الحمد أنه باللسان، وعمل اللسان ظاهر بخلاف عمل الأركان والجنان، ولذا استعار له لفظ الرأس.
فهذه جملة أقوال الناس في بيان معاني الحمد والمدح والشكر، وقد كثر اختلافهم كما ترى، والحق أن يرجع في تحقيق معاني كلمات الله كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وآله وسلم ، وما ورد عن السلف إلى أهل اللغة الذين نزل القرآن بلغتهم، وتكلم النبي صلى الله عليه وآله وسلم وأصحابه بلسانهم ما لم يرد ناقل شرعي عن تلك المعاني اللغوية.
والذي يظهر من كتب اللغة أن الحمد أعم الثلاثة لأنه يطلق على الشكر وغيره، ويحمد الفاعل المختار وغيره، ثم الشكر لأنه مدح وزيادة، ثم المدح لأنه لا يكون إلا باللسان، ولا يكون إلا على الفعل الاختياري، وما ورد مما يوهم المدح على غير الأفعال الاختيارية فليس بمدح وإنما هو وصف مستحسن يفيد بيان حال الموصوف في الجودة، لكن ربما ظن من لا تمييز له بين الأوضاع اللغوية أن ذلك مدح، وأنا آتيك في هذ الموضع بما يزيل عنك اللبس، ويتبين به الحق، ويتضح به صحة ما قلنا، فنقول: هاهنا ألفاظ ربما يلتبس بعض معانيها ببعض فيطلق أحدها على الآخر لعدم معرفة الفرق بينها وهي الوصف، والثناء، والحمد، والشكر، والمدح، فأما الوصف فيطلق على النعت، وعلى الإخبار عن الشيء بما يميزه يقال: تواصفوا الشيء إذا وصفه بعضهم لبعض، واستوصفه لدائه سأله أن يصف له ما يعالج به، وبيع المواصفة: بيع الشيء بصفة من غير رؤية، وتطلق الصفة على الأعراض كالعلم والسواد، وأما الثناء فهو الوصف بمدح أو ذم أوخاص بالمدح، وأما الحمد فهو الشكر، والرضا، والجزاء، وقضاء الحق يقال: أحمد الأرض وحمدها أي صادفها حميدة، وفلاناً رضي فعله ومذهبه ولم ينشره للناس، وحمد أمره صار عنده محموداً ومنزل حمداي محمود، والحمد ضد الذم، وأما الشكر فهو عرفان الإحسان ونشره، ولا يكون إلا عن يد، ومن الله المجازاة والثناء الجميل، ونقيضه الكفران، وأما المدح فهو الثناء الحسن وضده الذم.
قلت: ومرادهم أنه الثناء الحسن على الجميل الاختياري، وإنما حذفت هذه الزيادة للعلم بها، ويدل على لزومها وأنها مقصودة لأهل اللغة ما تقدم في كلام أمير المؤمنين عليه السلام للشامي من الدلالة على أنه لا يكون إلا على الأفعال الاختيارية مع نقل الزمخشري عن المحققين تخطئة من مدح على غير الفعل الاختياري، وقضاء العقل بعدم حسن ذلك، وهذه المعاني التي حكيناها لهذه الألفاظ مأخوذة من الكتب المعتبرة في اللغة كالقاموس، والصحاح، ومختار الصحاح وغيرها.
إذا عرفت هذا فاعلم أن الغرض بالوصف ويرادفه الصفة والنعت هو إبانة الموصوف عن غيره بما يفيده الوصف في حكم الموصوف من ثبوت حكم، أو نفيه، أو وجود معنى أو عدمه، أو ما أشبه ذلك.
وعلى الجملة فإن أصل وضعه لتكميل الموصوف ببيان صفة من صفاته سواء تضمن مدحاً أو ذماً أم لا، ولذا قال النحاة: إنه يكون للتخصيص والتوضيح، والمدح، والذم، والتوكيد، وإعلام المخاطب بأن المتكلم عالم بحال المذكور نحو رأيت قاضيكم الكريم الفقيه في جواب من قال: رأيت قاضي بلدنا.
قالوا: وليس المراد به هنا الإيضاح لعدم الحاجة إليه ولا المدح؛ لأن غرض المتكلم إعلام السامع بأنه عالم بحال الموصوف لا الثناء عليه، وقد نص بعضهم على أن أصل وضعه للتكميل ببيان الصفة للإيضاح بها، أو التخصيص، وأما كونه للمدح فمجاز.
وقيل: المراد بالتكميل إفادة ما يطلبه المنعوت بحسب المقام من تخصيص ومدح وغيرهما، فعلى هذا يقال في حده هو كل قول أفاد في حق الموصوف ما به يتميز عن غيره مما يرجع إلى ذاته أو فعله، لكن إن رجع إلى الذات سمي وصفاً مطلقاً أو موضحاً أو مبيناً، وإن تعلق بالفعل الاختياري سمي مدحاً أو ذماً بحسب المقام، ويرادفهما الثناء على قول، وبهذا يظهر لك أن تسمية وصف اللؤلؤة بالصفاء ونحوه مدحاً غلط وإنما هو وصف يميزها عن غيرها، لكنه لما كان وصفاً مستحسناً تتبين به جودتها توهم أنه مدح وليس كذلك، وسببه الغفلة، وعدم البحث، وإمعان النظر في مفردات الألفاظ اللغوية، ولله در الزمخشري حيث تنبه لهذه النكتة، وقد نبهناك على صحة قوله بما نقلناه عن أهل اللغة، ولعل بعض أهل النظر من علماء الأشاعرة قد تنبه لهذا، لكنه أراد التعمية بإطلاق المدح على ما ليس باختياري ليتم لهم دفع ما ألزمهم به أمير المؤمنين وأتباعه أئمة العدل من سقوط المدح والذم على مقتضى مذهبهم، وقد دل كلام أمير المؤمنين عليه السلام وما حكاه الزمخشري عن الثقات على أن الوصف برشاقة القد وصباحة الخد ونحوه ليس مدحاً، وما قيل: بتسميته مدحاً لأنه يدل على أفعال جميلة وأخلاق مرضية، مدفوع بما هو معلوم من حصول الخير والأفعال الجميلة من كثير من قباح الوجوه، وحرمان الخير وشكاسة الخلق من كثير من حسان الوجوه، ويدل على هذا حديث: ((إن الله لا ينظر إلى صوركم ولا إلى ألوانكم ولكن ينظر إلى قلوبكم )).
فإن قيل: فما تقولون فيما روي عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم أنه قال: ((اطلبوا الخير عند حسان الوجه ))، قيل: المراد بحسن الوجه البشر عند الطلب، وقد فسره بهذا ابن عباس فقد روي أنه قيل له: كم من رجل قبيح الوجه قضاء للحاجة، فقال: إنما يعني حسن الوجه عن طلب الحاجة، والحديث ذكره السيوطي في الجامع الصغير، وعزاه إلى البخاري في التاريخ، وابن أبي الدنيا في كتاب قضاء الحوائج، وأبي داود والترمذي، والنسائي، وابن ماجة، والطبراني في الكبير كلهم عن عائشة، وإلى الطبراني في الكبير، والبيهقي في الشعب عن ابن عباس، وابن عدي عن ابن عمر، وابن عساكر عن أنس، والطبراني في الأوسط عن جابر، وتمام في فوائده، والخطيب في رواة مالك عن أبي هريرة، وأخرجه تمام أيضاً عن أبي بكرة.
قال (العزيزي): يؤخذ من كلام المناوي أنه حسن لغيره، وقال الحفني: أكثر من مخرجي هذا الحديث للرد على من فرط، وقال بوضعه بل هو ضعيف، ومن قال إنه صحيح فقد أفرط، فالحق أنه ضعيف.
هذا وقد دل كلام أهل اللغة على أن الحمد قد يكون بمنعى المدح وهو ما تضمن الثناء، وقد لا يكون بمعناه وهو حيث لم يتضمن ثناءً، والظاهر أن جميع معانيه المذكورة لائقة بالباري تعالى، أما ما كان بمعنى الشكر والجزاء وقضاء الحق فواضح إذ هي في الحقيقة كلها راجعة إلى معنى الشكر، والعبادة لله تعالى والجزاء بمعنى المكافأة، وقضاء حقه تعالى بمعنى أداء ما يجب له، ولا شك أن مكافأة الله تعالى على نعمه بالشكر، وأداء ما يجب له مما يقضي به العقل والشرع، وقد ورد: ((الحمد لله حمداً يكافئ نعمه ويوافي مزيده )) أو ما هذا معناه، وورد مرفوعاً: ((فدين الله أحق أن يقضى)).
وقال علي عليه السلام : (نحمده على عظيم إحسانه إلى أن قال: حمداً يكون لحقه قضاءً، ولشكره أداءً). رواه في النهج، وكلها دالة على التعظيم، وكذلك ما كان بمعنى الرضا، ولا التفات إلى قول أبي السعود إنه لا يليق به تعالى، لأن الله تعالى قد مدح المؤمنين بالرضا عنه فقال: {رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ }[المجادلة:22].
المسألة الرابعة [اختصاص الحمد]
ما تقدم من ثبوت الحمد لغير الله تعالى يدل على عدم اختصاص الباري تعالى بالحمد وفي ذلك خلاف، فظاهر كلام جمهور الأشاعرة اختصاصه بالله تعالى، وهو بناء على مذهبهم في نسبة أفعال العباد إلى الله تعالى، وظاهر كلام العدلية عدم الاختصاص وهو الذي يقتضيه كلام أمير المؤمنين عليه السلام وأئمة اللغة، وأدلة العقل والشرع.
احتج الأولون بأن الألف واللام في الحمد إما للاستغراق، أو للماهية، إن كان الأول فواضح إذ يفيد أن كل حمد فهو لله حقاً وملكاً، وإن كان الثاني فلأن اختصاص الجنس به تعالى يستلزم اختصاص أفراده؛ إذ لو وجد فرد منه لغيره لثبت الجنس له في ضمنه.
والجواب أولاً: أنا لا نسلم حصر الألف واللام في الحمد على هذين الأمرين إذ يحتمل العهد، ويكون المراد الحمد الكامل حق لله تعالى وحده، وهو ما لا يليق بغيره من المحامد، ويشهد لهذا قول علي عليه السلام : (ولم أر مستحقاً لهذه المحامد والممادح غيرك)، قاله عليه السلام بعد أن أثنى على الله تعالى بما لا يكون إلا له، سلمنا أنها ليست للعهد فلا نسلم العموم إذ هي للجنس الصادق كما مر، سلمنا فلا تكون للعموم إلا مع عدم القرينة الدالة على عدم إرادته وهنا قد قامت القرينة على عدم الاستغراق.
قال (ابن أبي الحديد): يبين ذلك أنها لو كانت للاستغراق يعني في الحمد لما جاز أن يحمد رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ولا غيره من الناس، وهذا باطل.
احتجوا ثانياً أن الله تعالى لا يطلب بإنعامه عوضاً ولا كمالاً لأنه كامل لذاته، والكامل لذاته لا يطلب الكمال لأنه من تحصيل الحاصل وهو محال، فكانت عطاياه جوداً محضاً، وإحساناً محضاً، فلا يكون مستحقاً للحمد غيره، بخلاف غيره من المنعمين فإنه قد يطلب بإنعامه عوضاً إما ثواباً أو ثناءً، أو تخلصاً من نسبته إلى البخل، وطالب العوض لا يستحق حمداً إذ ليس بمنعم.
الجواب: أن هذه الحجة لا تصح إلا لو ثبت أن غير الباري تعالى لا يحسن إلى أحد إلا لأحد هذه الأسباب، والمعلوم خلافه فإنه قد يوجد الإنعام على من لا يحصل منه عوض البتة، وممن لا يطلب بإحسانه عوضاً، ألا ترى أن الملحد قد يستحسن إنقاذ الدابة من الغرق وإن كانت في فلاة لا مالك لها يقدر منه الثناء والمجازاة وهو مع إلحاده لا يحتسب ثواب الآخرة، ثم إن إرادة العوض لا تمنع تسميته محسناً ومنعماً لحصول حقيقة الإحسان والنعمة في فعله كما سيأتي تحقيقه إن شاء الله تعالى.
احتجوا ثالثاً بقوله تعالى: {وَمَا بِكُمْ مِنْ نِعْمَةٍ فَمِنَ اللَّهِ }[النحل:53]، والحمد لا معنى له إلا الثناء على الإنعام فإذا كان لا إنعام إلا من الله ثبت أنه لا يستحق الحمد إلا الله.
والجواب: لا نسلم أن الحمد لا يكون إلا على الإنعام لما مر سلمنا، فالآية واردة مورد المبالغة والمجاز لأنه لما كانت الأسباب التي يتوصل بها إلى إنعام العبد على غيره من الله صارت النعمة كأنها من الله، ونقول: إن الله يستحق الحمد عليها من هذه الجهة، وأما الاختصاص فلا يصح إلا لو لم يكن من الغير إنعام البتة، وليس كذلك.
احتجوا رابعاً بأن النعمة لا تكون كاملة إلا بأمرين:
أحدهما: أن تكون منفعة، والانتفاع مشروط بكون المنتفع حياً مدركاً، وذلك لا يحصل إلا بإيجاد الله.
الثاني: أن المنفعة لا تكون نعمة كاملة إلا إذا خلت عن شوائب الضرر، وخوف الانقطاع، وذلك لا يحصل إلا من الله.
والجواب أولاً: أنه لا يتم احتجاجكم إلا لو لم يجب الحمد إلا على النعمة الكاملة، وهذا غير مسلم، بل يجب شكر كل نعمة بحسبها إذ لم تفصل أدلة وجوب شكر المنعم.
ثانياً: أن كون الانتفاع لا يحصل إلا للحي لا يخرج المنفعة عن كونها نعمة؛ إذ المراد بالمنفعة السرور واللذة، أو ما يؤدي إليهما، أو إلى أحدهما، ولا شك في كونها بهذا المعنى نعمة ممن كانت، وأما الأمر الثاني فلا نسلم أنه لا يقدر على تخليصها من شوائب الضرر إلا الله تعالى إذ فعل ما يوجب السرور مقدور للعبد، وإنما هذا مبني على الجبر، وأما اشتراط خلوها من خوف الانقطاع، فدعوى بلا برهان، ومما يبطله أنه يلزم عليه خروج كثير من نعم الله عن كونها نعمة؛ إذ لا تخلو عن هذا الخوف.
احتجوا خامساً بأن العبد وإن أنعم على غيره فإنا نقول: إن الله الذي خلق الداعية في قلبه بحيث لو لم يخلقها لم ينعç فالمنعم حقيقة هو الله فلا يستحق الحمد سواه.
والجواب: أن هذا مبني على نفي كون أفعال العباد منهم© وأن الداعي إلى الفعل موجب له، وقد مر إبطال ذلك كله.
وأما أهل العدل فاحتجوا بما قد شاع وذاع من حمد العباد على أفعالهم، بل حمد الجماد وما لا يعقل، وثبت ذلك عقلاً وشرعاً ولغة، وقد تقدم بعض ذلك، وقد التزم بعضهم العموم في الحمد، ويكون استحقاقه تعالى للحمد على أفعالنا من حيث التمكين منها وخلق القدرة عليها، ويدل عليه قول علي عليه السلام :(فإن أحسنت حمدت الله). رواه في النهج.
وقول زيد بن علي عليه السلام : والشكر واجب على الطاعة كلها لأنها بالله كانت، وقد قدمنا في الاستعاذة ما يؤيد هذا.
قالوا: ولا يلزم رجوع الذم إليه تعالى بالتمكين والإقدار على القبائح؛ لأن ذلك ليس بقبيح، بل هو حسن إذ لا يتم التكليف إلا به، والتكليف من أحسن أفعال الله لكونه تعريضاً على السعادة.
قلت: ويجوز أن يقصد بالعموم المبالغة والادعاء بأن ينزل حمد غيره تعالى منزلة العدم، وعلى هذا الوجه والذي قبله أعني استحقاقه للحمد على أفعالنا باعتبار التمكين يحمل ما ورد في بعض الأحاديث مما يقتضي الاستغراق نحو: ((اللهم لك الحمد كله ))، وقد تقدم عن السهيلي أن الحمد لا يكون إلا لله، لكنه بناه على كون الحمد لا يصدر إلا عن علم لا ظن، وقد رد عليه السبكي بقول عائشة: أحمد الله لا أحمدك، وقول ابن عباس في تفسير المقام المحمود، وقد مر قال: ولا أدري كيف استخرج السهيلي من الشرطين الذين ذكرهما كون الحمد لا يستعمل لغير الله، فإن صفات النبي صلى الله عليه وآله وسلم صفات كمال يصدر كثير من ذكرها عن علم لا ظن، ثم إن السبكي حكى عن سيبويه أنه قال في باب ما ينتصب على المدح: إن الحمد لا يطلق تعظيماً لغير الله، وذكر في باب آخر أنه يقال: حمدته إذا جزيته على حقه.
قال السبكي: وهذا الكلام هو التحقيق قال: فتلخص أن الحمد إن أريد به التعظيم اختص بالله سبحانه وتعالى، وإن أريد به المجازاة لا يكون خاصاً، ولا يرد شيء مما سبق على هذا القول فإن الحمد فيه على المعنى الجائز، وهو المجازاة، والثناء جنس للجميع، بل لأعم فإنه قد يكون في الشر، وفي الحديث: ((مر بجنازة فأثنى عليها شراً )). بل ربما يأتي الشكر في الشر، وكما ذكره الشيخ عز الدين بن عبد السلام في بعض كلامه.
قلت: وفي كلامه نظر إذ لا يصح إلا لو كان التعظيم يختص بالله تعالى، وليس كذلك لما في كتب اللغة من أن التعظيم خلاف التصغير.
قال في (القاموس): العظم بكسر العين خلاف الصغر عظم كصغر عظماً وعظامة فهو عظيم، وفي المختار: أعظم الأمر وعظمه تعظيماً أي فخمه، والتعظيم: التبجيل، واستعظمه: عده عظيماً، وهذا نص في عدم الاختصاص.
وأما قوله: وإن أريد به المجازاة... إلخ فقد أشرنا فيما تقدم إلى أن ما أريد به المجازاة راجع إلى معنى الشكر، ثم إنه لو لم يرجع إليه فلا نسلم خلوه من تعظيم ما، على أن القول بأنَّ ما قصد به التعظيم يختص بالله تعالى يؤدي إلى أن يكون الشكر مختصاً بالله تعالى؛ لأن الشكر فعل ينبي عن تعظيم المنعم، والحمد رأس الشكر، وما أدى إلى هذا يجب أن يكون باطلاً لما تقرر من وجوب شكر المنعم كائناً من كان، ولحديث: ((من لم يشكر الناس لم يشكر الله )).
وقول علي عليه السلام : (لا يزهدنك في المعروف من لا يشكره لك فقد يشكرك عليه من لا يستمتع بشيء منه، وقد تدرك من شكر الشاكر أكثر مما أضاع الكافر والله يحب المحسنين).رواه في النهج، وبهذا تعرف أن قوله إن الثناء جنس للجميع لا يفيد اختصاص ما كان بمعنى الشكر بالله تعالى كما يفيده كلامه، على أن ظاهر كلامه إنما كان بمعنى المجازاة لا يطلق على الباري؛ إذ لا تعظيم فيه على ما قرره، وقد عرفناك سابقاً جوازه في حقه تعالى، وما حكاه عن ابن عبد السلام لا يضر ثبوت استعمالهما في الشر لا يمنع كونهما بمعنى التعظيم في الخير، وهو يسلم هذا فيما كان بمعنى الشكر، على أني لم أجد استعمال الشكر بمعنى الشر في القاموس ولا في المختار، ولعله أخذه من جعلهم الثناء من أنواع الشكر مع استعماله في الخير والشر، لكن أخذه من ذلك غلط فإنهم قيدوا الثناء المذكور بكونه حسناً بعد إحسان.
تنبيه [معنى اللام في لفظة الله]
اللام في لله لا يجوز كونها للملك لأن التي للمك هي الواقعة بين ذاتين يصلح أن تكون الواقعة منهما بعد اللام مالكة للأخرى كالمال لزيد، وكقوله تعالى: {لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ }[النحل:52 ]ولا للاختصاص لأن التي للاختصاص هي الداخلة بين ذاتين لا يصح أن تكون الداخلة عليها اللام منهما مالكة للأخرى نحو: الجنة للمؤمنين، والحصير للمسجد، واللام في لله لم تقع بين ذاتين بل بين معنى وذات فهي لام الاستحقاق، وقد عرفوها بأنها الواقعة بين معنى وذات، وبهذا يسقط قول الرازي وغيره أنها في الله للاستحقاق، أو للملك، أو للاختصاص إلا أن يحمل الاختصاص على ما يشمل الملك والاستحاق كما ذكره بعضهم، فلا بأس بإطلاق الاختصاص عليها بهذا الاعتبار.
تنبيه [خصوصية الحمد لرب العالمين]
قد تقدم أن الذي تقتضيه اللغة أن الحمد يكون على النعمة وغيرها، لكن وصف الله تعالى برب العالمين وما بعده يشعر بأن الحمد في الآية لأجل تلك الأوصاف، أعني التربية والرحمة والجزاء على الأعمال، وهذا من أجل النعم وأعظمها، فعلى هذا يكون الحمد في الآية الكريمة بمعنى الشكر على تلك النعم؛ إذ ترتيب الحكم على الوصف يشعر بالعلية. والله أعلم.
المسألة الخامسة [استحقاق الله تعالى للحمد]
استحقاقه تعالى للحمد يستلزم كونه محموداً، وقد تقدم أن المحمود أحد أركان الحمد، وهذا يدل على جواز وصفه تعالى بمحمود، وقد نص على جوازه الموفق بالله عليه السلام في الإحاطة فقال: ويوصف بأنه حميد ومحمود لما فعل بالعبد من النعم ما يستحق به الحمد والشكر لمكانها.
قال: ويوصف بأنه حميد على وجه المبالغة، وبأنه محمود أي المقصود بالحمد، وقد أطلقه غيره من الأئمة"، وقيل: إن حميد في قوله تعالى:{ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ حَمِيدٌ }[البقرة:267أنه ]بمعنى محمود، وقد ورد وصفه بمحمود في حديث الخمسة الأشباح بلفظ: ((أنا الله المحمود وهذا محمد ...)) الخبر بطوله، وهو في أنوار اليقين ومحاسن الأزهار، والحدائق الوردية للفقيه حميد، والسفينة للحاكم.
قال الإمام الحسن بن علي بن داود"، وقد سئل عن قصة الأشباح الخمسة ما لفظه: ورد ذلك عن الشارع في الكتب المعتبرة من كتب أهل البيت"، وشيعتهم، وغيرهم بطرق مختلفة، وروايات متكاثرة معمول بها في هذا الشأن، ثم ساق رواية الأنوار وغيرها، وقال الشاعر في وصف النبي صلى الله عليه وآله وسلم :
فشق له من اسمه ليجله .... فذوا العرش محمود وهذا محمد
المسألة السادسة [الجواب على الرازي في قوله عدم وجوب الحمد]
اعلم أن الرازي قد أورد في هذا الموضع كلاماً حاصله أنه يجب القول بعدم وجوب الحمد، أو التزام القول بتكليف ما لا يطاق، وقرره بوجوه، ونحن نأتي بالوجوه التي ذكرها، ونستعين بالله على الهداية إلى الحق، فنقول: قال قد عرفت أن الحمد عبارة عن مدح الغير بسبب كونه منعماً، وما لم يعلم الإنسان بالنعمة يمتنع تكليفه بالحمد والشكر؛ إذ لا يدخل تحت طاقته لوجوه:
أحدها: أن نعم الله لا تحصى، وما لا يحصى لا يقف الإنسان عليه، وما لا يقف عليه يمتنع الشكر عليه.
الثاني: أنه لا يمكنه الحمد والشكر إلا بأقدار الله، وخلق الداعية في قلبه، وإزالة الموانع، وكل ذلك إنعام من الله تعالى، فعلى هذا لا يمكنه الشكر إلا بواسطة نعم عظيمة من الله، وتلك النعم يجب الشكر عليها، وعلى هذا التقدير فالعبد لا يمكنه القيام بالشكر إلا عند الإتيان به مراراً لا نهاية لها، وذلك محال، والموقوف على المحال محال، فثبت امتناع الإتيان بحمد الله وشكره على ما يليق به.
الثالث: أن الحمد والشكر ليس مجرد قولك: الحمد لله بل هو علم المنعم عليه بأن المنعم متصف بصفات الجلال والكمال، وجلال الله وكماله أعلا وأجل من أن يحيط به العباد علماً، وإذا كان كذلك امتنع كون الإنسان شاكراً.
الرابع: أن هذا الشكر لا ينبغي أن تقابل به النعم الجسيمة، ولذا قيل: من اعتقد أن حمده يساوي نعم الله فقد أشرك، ولهذه الوجوه ثبت أن الحمد غير مأمور به؛ إذ لو كان مأموراً به مع عجز العبد عن الإتيان به على ما يليق بالله تعالى لكان تكليفاً لما لا يطاق، قال: فلهذه الدقيقة لم يقل: احمدوا الله بل قال الحمد لله لأنه لو قال: احمدوا الله فقد كلفهم ما لا يطاق، أما لما قال الحمد لله كان المعنى أن كمال الحمد حقه وملكه، سواء قدر الخلق على الإتيان به، أو لم يقدروا عليه.
والجواب: أما وجوب شكر المنعم فقد ثبت عقلاً وشرعاً، أما ثبوته عقلاً فالأدلة عليه كثيرة وقد تقدم بعضها، ومقتضى كلام أصحابنا أن العقل يعرفه ضرورة، وفي القرآن آيات دالة على استقلال العقل بمعرفة وجوب شكر المنعم، ومنها هذه الآية أعني قوله: {الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ }[الأنعام:45]، وبيان الاستدلال بها من وجهين:
أحدهما: أنه قد ثبت أن اللام في لله للاستحقاق، وذلك يفيد أن الحمد حقه على الإطلاق أي قبل مجيء الشرع وبعده.
الثاني: أنه لما أثبت الحمد لله اتبعه بالوصف برب العالمين وما بعده، وترتيب الحكم على الوصف المناسب يدل على كون ذلك الحكم معللاً به، وهذا يدل على أنه استحق الحمد لكونه رباً رحماناً رحيماً مالكاً لجزائهم، وهذه الأوصاف ثابتة له في جميع الأوقات، فثبت أنه يستحق الحمد قبل مجيء الشرع وبعده، فأما قوله: إن ما لم يعلم الإنسان بالنعمة يمتنع الشكر عليها، فمسلم إذ لا يجوز التكليف بما لا يعلم، لكن من أين له تقدير إمكان عدم علم العاقل بالنعمة وهو لا يخلو عنها طرفة عين، فإن أراد أنه لا يعلم كل نعمة كما يفيده كلامه في الوجه الأول مستنداً إلى قوله تعالى: {وَإِنْ تَعُدُّوا نِعْمَةَ اللَّهِ لاَ تُحْصُوهَا }[إبراهيم:34].
فالجواب: أن الآية إنما تدل على عدم القدرة على إحصائها لا على عدم العلم بها جملة، والعلم الجملي كاف في وجوب الشكر بدليل أن الله تعالى وصف من لم يشكر على تلك النعم التي لا تحصى بأنه ظلوم كفار.
والجواب عن الوجه الثاني: أنا لا نسلم أن الداعية من فعل الله، ولا أنها موجبة للفعل، وقد مر الكلام على ذلك في المقدمة، وأما قوله إنه لا يمكنه الشكر إلا بواسطة إنعام من الله فيؤدي إلى استحالة الشكر.
فالجواب: أنا قد بينا فيما مضى أن الشكر عرفان الإحسان ونشره، وزاد بعضهم الطاعة لله في أمره ونهيه، وهو بهذا المعنى من المممكنات قطعاً، فمن عرف أن ما به من نعمة فمن الله وأقر بها بلسانه، واتبع أمره، واجتنب مناهيه، فقد أدى ما يجب عليه من الشكر، وبطل قوله أن يكون محالاً إذ لا يكون محالاً إلا لو كان معنى الشكر أن يحدث لكل نعمة من نعم الله من ابتداء وجوده إلى انتهاء أجله شكراً خاصاً بها، مفعولاً لأجلها لأن ذلك يؤدي إلى التكليف بما لا يطاق بأنه فرع على إحصائها، وقد أخبر الله بامتناعه، فإن أراد أن المنفي إمكانه هو الشكر اللائق بجلال الله سبحانه، فمسلم أنا لا نقدر على ذلك ولم يقدر عليه النبي صلى الله عليه وآله وسلم بدليل حديث: ((لا أحصي ثناء عليك )) ونحوه.
وقال علي عليه السلام : (الحمد لله الذي لا يبلغ مدحته القائلون، ولا يحصي نعماءه العادون، ولا يؤدي حقه المجتهدون).
وقال: (الحمد لله غير مفقود الإنعام، ولا مكافأ الإفضال). رواه في النهج، لكن لا تكليف علينا إلا بما يبلغه وسعنا كما قال تعالى: {لاَ يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْساً إِلاَّ وُسْعَهَا }[البقرة:286]، {اتَّقُوا اللَّهَ مَا اسْتَطَعْتُم ْ}[التغابن:16].
والجواب عن الوجه الثالث: أنه قصر الحمد هنا على العلم بالله وصفاته، وهو يخالف ما مر له من حمله على القول، والاعتقاد، وعمل الجوارح، ثم إن منعه كون مجرد الحمد لله حمداً باطل بما سيأتي.
والجواب عن الرابع: إن الله قد رضي بشكرنا هذا مقابلاً لنعمه، ولو كان لا ينبغي لما رضي به؛ لأنه والحال هذه يكون قبيحاً، والله لا يرضى بالقبيح إلا على مذهب هؤلاء المجبرة، ومما يدل على أن الله قد رضي شكرنا هذا على نعمه علينا ما روي عن علي عليه السلام قال سمعت رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يقول: ((التوحيد ثمن الجنة ، والحمد لله وفاء شكر كل نعمة، وخشية الله مفتاح كل حكمة، والإخلاص ملاك كل طاعة)). رواه المرشد بالله.
وعن علي عليه السلام عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم أنه قال: ((يقول الله تبارك وتعالى: أيما عبد من عبيدي أنعمت عليه بنعمة علم أنها مني فقد شكرني، ومن أنعمت عليه بنعمة فقال الحمد لله رب العالمين فقد أدى شكرها وإن عظمت النعمة)). رواه في شمس الأخبار.
وأخرج الخطيب في تالي التلخيص من طريق ثابت عن أنس مرفوعاً: ((التوحيد ثمن الجنة ، والحمد وفاء شكر كل نعمة)) والأحاديث في ذلك كثيرة، وسيأتي كثير منها في فضائل الحمد إن شاء الله.
وأما الآيات فقد ورد الأمر بالشكر في غير آية، وكلها دالة على رضاء الله بشكرنا مقابلاً لنعمه علينا وإن عظمت، والحاصل أن الله تعالى أنعم علينا على قدر عظمته وملكه وجوده وكرمه، وكلفنا من الشكر على قدر قوتنا وطاقتنا، وهذا هو محض العدل والكرم، فنكون مكلفين بشكره الواجب علينا لا بما تقتضيه عظمته وكثرة نعمه.
وعلى هذا يحمل ما تقدم من قول علي عليه السلام : حمداً يكون لحقه قضاءً ولشكره أداءً، فإنه إنما أراد به القضاء لحقه، والأداء لشكره الواجبين علينا وهما ما نستطيعه، وكذلك الأحاديث الدالة على أن الحمد وفاء لشكر نعمه، فليس المراد إلا أنه وفاء بالشكر الواجب علينا، على أنه قد روي ما يدل على أن الشكر يكون أفضل من النعمة، فعلى هذا يكون وفاءً بالشكر على قدر النعمة وزيادة، وهو ما أخرجه البيهقي بسند حسن عن أنس قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم : ((ما أنعم الله على عبده نعمة فقال الحمد لله إلا كان الذي أعطاه أفضل مما أخذه))، ونسبه في الجامع الصغير إلى ابن ماجة.
وأخرج البيهقي في الشعب عن جابر، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم : ((ما من عبد ينعم الله عليه بنعمة إلا كان الحمد أفضل منها)).
وأخرج البيهقي في الشعب، وعبد الرزاق عن الحسن، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم : ((ما أنعم الله على عبد نعمة يحمد الله عليها إلا كان حمد الله أعظم منها كائنة ما كانت)).
وأخرج الحكيم الترمذي في نوادر الأصول عن أنس، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم : ((لو أن الدنيا كلها بحذافيرها في يد رجل من أمتي ثم قال: الحمد لله لكان الحمد أفضل من ذلك)).
وأخرج الطبراني في الكبير عن أبي أمامة مرفوعاً: ((ما أنعم الله على عبده بنعمة فحمد الله عليها إلا كان ذلك الحمد أفضل من تلك النعمة وإن عظمت )).
قلت: وفضل الله واسع، ولا أدري ما الحامل للرازي على جلالته وغزارة علمه على مثل هذه الخرافات المخالفة للعقل، والشرع، واللغة، ولا سبب لذلك إلا ما قد نبهنا عليه مراراً من عدم إخلاص العمل لله، وتجريد النظر لمعرفة الحق، وبما قررنا ثبت أن الحمد مما يجوز الأمر به، وأن التكليف به ليس مما لا يطاق، وأما عدوله عن قوله: احمدوا الله إلى لفظ الحمد لله، فقد ذكر علماء المعاني أن العدول إلى الجملة الاسمية للدلالة على الثبوت والدوام، على أنه مقول على ألسنة العباد كما مر، ولهذا قيل: إن التقدير قولوا الحمد لله كما سيأتي تقريره، وعلى هذا فيكون وجه العدول إلى الجملة الاسمية للدلالة على الثبوت والدوام مع الاكتفاء بالأمر المقدر.
فإن قيل: ما تقدم من الأخبار يدل على أنه يمكن الوفاء بشكر نعم الله تعالى، وهو خلاف ما هو مشهور بين العلماء من أن العبد لا يقدر على الوفاء بشكر الله تعالى على إنعامه، ولا يبعد الإجماع على هذا، ويدل عليه كلام أمير المؤمنين السابق وغيره، وعن بعضهم شعراً:
سبحان من لو سجدنا بالجباه له .... على شبا الشوك والمحمي من الأبر
لم نبلغ العشر من معشار نعمته .... ولا العشير ولا عشر من العشر
وقال الإمام أحمد بن سليمان عليه السلام : اعلم أن العبد لا يقدر أن يبلغ غاية شكر الله كما لا يحصي عد نعم الله، ولا يتم ذلك لبشر كائناً من كان.
والجواب: إن الأخبار خارجة مخرج الفرض والتقدير، والفائدة في ذلك بيان فضيلة الحمد، والمراد أنه لو قدر أن أحداً قابل جزئيات النعم بالحمد لله بأن تقول عند كل نعمة تحدث على انفرادها لكان قد أدى شكرها ولا شك أن هذا غير ممكن من البشر فإن النعم متكررة وقتاً بعد وقت لا يخلف عنها أحد طرفة عين، والمعلوم أن الإنسان قد لا يتذكر النمعة فضلاً عن الإتيان بالحمد عليها، مع أنه لو استمر هذا الذكر على لسانه لا يفتر لم يكن إلا وفاء بشكر نعمة القدرة على النطق به، ولعله لم يفِ بذلك وتبقى سائر النعم المتجددة خالية عن مقابلة كل نعمة منها بحمد خاص بها انظر إلى تجدد نعمة لحظات البصر، وصحة البدن، وسلامة سائر الحواس وغير ذلك مما لا يمكن الإنسان مقابلة كل نعمة متجددة منه بحمد خاص لو دأب في ذلك ليله ونهاره.
وقد قيل: إن الإنسان يتنفس في كل يوم وليلة أربعة وعشرين ألف نفس، فعلى هذا تكون نعم النفس في كل يوم وليلة أربعة وعشرين ألف نعمة، ولا شك أن الإنسان لا يقدر على مقابلة كل نفس بحمد، وإن فرض إمكان ذلك فالاشتغال به يكون مخلاً لمقابلة كل نعمة من سائر النعم بحمد.
وعلى الجملة أن النعم لا تحصى، وإذا كنا غير قادرين على إحصائها فلا شك أنا لا نقدر على شكر كل نعمة بشكر يخصها، وبهذا يظهر لك أنه لا معارضة بين هذه الأحاديث، وكلام العلماء رضي الله عنهم، ومما يدل على أنه لا يمكن الوفاء بالشكر أنه قد قيل: إن الطاعات كلها شكر، وفي جملتها أن لا يعصى الله، والمعلوم من حال البشر أن أحداً منهم لا يخلو عن معصية على اختلاف أنواعها ومن عصى الله أي معصية فقد أخل بالشكر حال تلبسه بالمعصية قطعاً، وقد أخبر الله تلبس البشر بالمعاصي في قوله تعالى: {وَلَوْ يُؤَاخِذُ اللَّهُ النَّاسَ بِمَا كَسَبُوا مَا تَرَكَ عَلَى ظَهْرِهَا مِنْ دَابَّةٍ}[فاطر:45] ولفظ الناس عام يدخل فيه كل إنسان حتى الأنبياء، ويؤكد دخولهم في العموم الآيات الدالة على وقوع المعاصي منهم، فصح أن الإتيان بالشكر التام غير واقع. والله أعلم.
تنبيه [معنى نفي المجبرة للحمد عقلاًً]
اعلم أن ظاهر ما حكاه القرشي وغيره من أصحابنا أن المجبرة إنما ينفون وجوب شكر المنعم عقلاً أي أن العقل لا يدرك وجوبه، فأما وجوبه شرعاً فهم لا يخالفون فيه، وظاهر كلام الرازي السابق أن الشرع لا يوجبه فقد خلط في المسألة فتارة يقول:إن الأمر به يؤدي إلى التكليف بما لا يطاق كما مر، وقال تارة أخرى: إن الناس اختلفوا في أن وجوب شكر المنعم ثابت بالعقل أو بالسمع، وهذا هو الصواب في نقل الخلاف، وقال بعد هذا أن أهل العلم افترقوا فريقين:
الفريق الأول قالوا: لا يجوز من الله أن يأمر عبيده بأن يحمدوه، ثم احتج لهم بوجوه:
أحدها: أن ذلك الحمد إما أن يكون لأجل إنعامه عليهم أو لا، الثاني باطل لأنه إتعاب للغير بلا فائدة وذلك ظلم، والأول باطل أيضاً لأنه يقتضي طلب المكافأة، وذلك يقدح في كمال الكرم فإن الكريم لايطلب المكافأة.
الوجه الثاني: أن الاشتغال بالحمد عبث لأنه إتعاب للحامد بلا فائدة للمحمود لأنه كامل لذاته، والكامل لذاته يستحيل أن يستكمل بغيره.
الثالث: أن الأمر به يقتضي المعاقبة على تركه لأنه ترك الواجب، وقد ثبت عدم النفع فيه لا للحامد ولا للمحمود، والحكيم الكريم لا يليق منه الأمر بما يؤدي إلى العقاب الأليم، فثبت بهذه الوجوه أن الحمد لا يكون مشروعاً.
الفريق الثاني: قالوا الاشتغال بالحمد سوء أدب لحقارة حمدهم بالنظر إلى نعم الله، ولأنه لا يتأتى إلا مع استحضار نعم الله بالقلب، وذلك يمنع من الاستغراق بمعرفة المنعم مع ما في ذلك من عدم الإخلاص إذ كون الشكر لأجل النعمة يدل على أن المقصود بالشكر الفوز بها، فيكون معبوده ومطلوبه في الحقيقة هو النعمة التي فيها حظ نفسه.
والجواب: أنه قد ثبت وجوب شكر المنعم عقلاً، وقد مر تقريره في المقدمة.
وقال الإمام (أحمد بن سليمان) عليه السلام : اعلم أن العقل الضروري يحكم بوجوب شكر المنعم، وأن شكر المنعم حسن، وأن كفر النعمة قبيح.
وفي الشاهد: أن إنساناً لو أنعم على ملحد وأحسن إليه أن الملحد يشكره ويثني عليه، فثبت أن شكر المنعم في العقل واجب، فكيف يقول هؤلاء أنه لا يجوز من الله الأمر بالحمد وقد ثبت حسنه، هل يقولون إنه لا يجوز الأمر بالحسن؟ ثم إن الله تعالى قد أمر بالشكر في غير آية، ووردت بذلك السنة النبوية، وأمر الله تعالى بالحمد في قوله: {وَقُلِ الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي لَمْ يَتَّخِذْ وَلَداً }[الإسراء:111 ]وقد عد الإمام أحمد بن سليمان عليه السلام النطق بالحمد من واجبات اللسان، واستدل بهذه الآية وبافتتاح الله كتابه بالحمد، فعلى ما ذكره هؤلاء فقد أمر الله بما لا يجوز، ولا يخفى أن القول بهذى يقتضي كفر قائله، والعجب من الرازي حيث عد أهل هذه المقالة من أهل العلم، وهل يعد من أهل العلم من نسب إلى الله تعالى الأمر بالقبيح صريحاً، لكنه لما رأى مقالتهم هذه مما يتأيد بها مذهبه من نفي وجوب شكر المنعم عقلاً لم يبال بما يلزم عليها من نفي الوجوب الشرعي، ورد صريح الكتاب والسنة كما هي عادته في التشبث بما وجد، وهكذا كل من كان نظره لنصرة أسلافه وتأييد ما نشأ عليه، وتلقفه عن مشائخه.
وأما قول الفريق الأول أن الحمد إما لأجل الإنعام أولا.. إلى آخر ما ذكروه، وقولهم: إنه عبث، فجوابه أن الأمر به لأجل الإنعام وليس الأمر به لطلب المكافأة، بل لطلب الحق الثابت وهو استحقاق المنعم الشكر من المنعم عليه، وطلب الحق حسن عند العقل، والفائدة فيه للحامد، وقد تقدم بيانها، وحاصله أن الفائدة خروج الشاكر من دائرة الكفران، وتميزه بذلك فيعامل معاملة الشاكر.
وأما قولهم: إنه يؤدي إلى العقاب، فجوابه: أنه قد ثبت أن الشكر حق لله، وثبت أن لصاحب الحق المطالبة به والمعاقبة على الإخلال به، وأن ذلك كله حسن، ثم إنه من جملة ما كلفنا به، وسيأتي تحقيق حسن التكليف في موضعه إن شاء الله.
وأما قول الفريق الثاني أن الاشتغال به سوء أدب... إلى آخر ما ذكروه، فجوابه ما مر من ثبوت حسنه والاشتغال بالحسن خارج عن دائرة سوء الأدب والشكر وإن كان حقيراً بالنسبة إلى نعم الله تعالى علينا، لكن الله عدل حكيم بعباده لا يكلفهم فوق الطاقة، وقد رضي منا بذلك، فله الحمد والشكر، وهذا شأن الكريم فإنه يعطي عباده الجزيل، ويرضى منهم بالقليل، ثم إن كلامهم مبني على أن شكرنا لله تعالى مكافأة على إنعامه، وليس كذلك كما مر.
وأما قولهم: إنه لا يتأتى إلا مع استحضار النعم بالقلب، فقد مر أنه لا يلزم استحضار كل نعمة، وأن العلم الجملي كاف، وبهذا الاعتبار لا يكون مانعاً من الاستغراق بمعرفة المنعم، ثم إن معرفة المنعم من جملة الشكر لأن معرفته تعالى أحد أقسام العبادة كما نص على ذلك القاسم بن إبراهيم عليه السلام والعبادات كلها شكر، فمن اشتغل بعبادة من العبادات فهو في الشكر.
وبعد: فإن الاستغراق الذي ذكروه غير مراد من العباد، بل المراد منهم المعرفة الواجبة في حق الله تعالى، ويدل على هذا أن الله قد كلفنا بمعرفته وطاعته، فلو كان الاستغراق في المعرفة واجباً كما وقع التكليف بغيره، ثم إن الاستغراق بالمعرفة من أعظم البواعث على الطاعة كما قال تعالى: {إِنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاءُ }[فاطر:28 ] ومع أن العلوم لا تضاد فيها، فيجوز أن يجتمع في القلب العلم بالله وصفاته، ونعمه، والتفكر في كثرتها، وما يجب له من الشكر لأجلها.
وأما قولهم: إنه يمنع من الإخلاص، فجوابه: أن الشكر للمنعم، والنعمة إنما هي سبب وذلك لا يمنع الإخلاص، وقولهم: إنه يدل على أن المقصود الفوز بها كلام من لا ينظر في كلامه قبل النطق به، فإن الشكر لا يجب إلا بعد النعمة لا قبلها، فإن أرادوا الفوز بغيرها فذلك لا ينافي الإخلاص إلا لو كانت النعمة مشاركة للمنعم في الشكر، وليس كذلك، وإنما تضمن الشكر طلب ما وعد به الكريم من الزيادة مع الشكر في قوله: {لَئِنْ شَكَرْتُمْ لاََزِيدَنَّكُمْ }[إبراهيم:7 ]وذلك تفضل منه تعالى، وطلب الفضل الموعود به لا ينافي الإخلاص في الشكر، بل الشكر حينئذٍ أداء لحق المنعم على نعمه السابقة، وسبب في غيرها، وبهذا تعرف أن الأمر به لأداء الحق الثابت لا غير.
واعلم أني إلى الآن لم أقف على تعيين أهل هذه المقالة، والذي يظهر أنها من كلام بعض جهال الصوفية. والله أعلم.
تنبيه [استطراد في الجواب على الرازي]
قد تقدم أن البسملة وما بعدها إلى آخر هذه السورة الكريمة مقول على ألسنة العباد تلقيناً لهم وإرشاداً إلى كيفية حمده والتبرك باسمه، وهذا يدل على أن الحمد مأمور به، وأن التقدير: قولوا الحمد لله، وقد حكى الرازي هذا القول في تفسير سورة الفاتحة عن بعض الناس، وضعفه بأن الحمد لله إخبار عن استحقاق الحمد بحسب ذاته وبحسب أفعاله، سواء حمدوه أم لم يحمدوه، وهو كلام تام لا يحتاج إلى الإضمار، وأن الأمر يقتضي الوجوب فيأثم تاركه.
والجواب: أنه قد مر له أن حمد المنعم عبارة عن القول والاعتقاد وعمل الجوارح، والمعلوم أن الأخيرين لا يكونان إلا من المكلفين، وقد ثبت أن الشكر واجب، وأن الحمد من أنواع الشكر، ولا طريق إلى معرفة الواجب إلا العقل والشرع، ولا شك أن كل ما قضى به العقل قضية مبتوتة فإن الشرع يؤكد وجوبه والأمر به، فعلى هذا لا بد من التقدير المذكور، ويؤكده الأمر به في قوله تعالى: {قُلِ الْحَمْدُ لِلَّهِ }[الإسراء:111]، ونحوها من الآيات والأخبار.
وأما قوله إن الأمر به يقتضي الإثم، فالكلام فيه كالكلام في سائر التكاليف.
واعلم أن كلامه في تفسير سورة الأنعام يقتضي ترجيح هذا التقدير فإنه قال هنالك إن في قوله الحمد لله قولان:
أحدهما: أن المراد به احمدوا الله، وإنما عدل عنه إلى صيغة الخبر ليفيد تعليم اللفظ والمعنى، وللإخبار بالاستحقاق سواء حمدوه أم لا، والثاني: وهو قول أكثر المفسرين أن معناه قولوا الحمد لله، قالوا: والدليل على أن المراد منه تعليم العباد أنه قال في أثناء السورة: {إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ }[الفاتحة: 5]، وهذا الكلام لا يليق ذكره إلا بالعباد، والمقصود أنه سبحانه لما أمر بالحمد، وقد تقرر في العقول أن الحمد لا يحسن إلا على الإنعام كان الأمر بالحمد حاملاً للمكلف على التفكر في أقسام النعم، فيؤديه ذلك إلى الاستدلال بها على إثبات الصانع وحبه، أما الأول فلأن تفكره يؤديه إلى العلم بأن هذه النعم محدثة فلا بد لها من محدث، وليس العبد المحدث لها، وإلا لحصل لنفسه جميع أقسام النعم، وتعين أن المحدث لها هو الله القادر على كل شيء، وأما الثاني فلأن القلوب مجبولة على حب من أحسن إليها، فإذا كان الأمر بالتحميد مما يحمل العبد على تذكر أنواع النعم التي لا تحصى صار تذكرها موجباً لرسوخ حب الله في قلب عبده.
هذا معنى ما ذكره في الأنعام، وبهذا التقرير تعرف رجحان هذا التقدير أعني قولوا لتأديته إلى هاتين الفائدتين. والله أعلم.
المسألة السابعة [استطراد لذكر الحسن والقبح العقليين]
استدل الرازي بقوله تعالى: {الْحَمْدُ لِلَّهِ} على أنه يحسن من الله ما يقبح من العبد، ووجه الاستدلال به أن قوله: الحمد لله مدح منه لنفسه، ومدح النفس مستقبح فيما بين الخلق، فلما بدأ كتابه بمدح نفسه دل على أنه يحسن منه تعالى ما يقبح من الخلق، وذلك يدل على أن أفعال الله تعالى لا تقاس على أفعال خلقه، قال: وهذا يهدم أصول الاعتزال بالكلية، واعلم أن هذه المسألة مبنية على إثبات الحسن والقبح العقليين، وقد بسطنا القول في ذلك في المقدمة بما لا مزيد عليه، ولنتكلم في هذا الموضع في الدلالة على أنه يقبح من الله تعالى ما يقبح من غيره لو فعله، ونذكر شبه الخصوم في دفع ذلك ونجيب عنها، وتحقيق المسألة يكون في ثلاثة مواضع:
الأول: في ذكر الخلاف، الثاني: في أدلة أهل العدل وما ورد عليها ورده.
الثالث: في ذكر شبه الخصوم وإبطالها.
ولما كانت هذه المسألة من أمهات مسائل العدل، بل هي أصله كما مر حسن منا أن نقدم قبل الاشتغال بهذه المواضع ثلاثة أبحاث:
الأول: في الكلام على حقيقة العدل.
والثاني: في بيان كون الله تعالى عدلاً.
والثالث: في ذكر علوم العدل.
البحث الأول [في حقيقة العدل]
البحث الأول: العدل، وله معنيان لغوي، واصطلاحي.
أما اللغوي: فيقال على المثل يقال: هذا عدل هذا أي مساو له في القدر، قال تعالى: {أَوْ عَدْلُ ذَلِكَ صِيَاماً }[المائدة:95 ]ويقال: على الإنصاف والجور وقد يوصف به الفاعل مبالغة إذا أكثر من فعل العدل.
وأما الاصطلاحي: فهو عندالفقهاء ما كان ظاهره السلامة في فعل الطاعات واجتناب المقبحات، وأما المتكلمون فاختلفوا في حده، فقالوا: إنه قد يراد به الفعل، وقد يراد به الفاعل، وقد يراد به هذا العلم المخصوص الذي باين به أهل الحق من سواهم، فإذا أريد به الفعل فقال قاضي القضاة: هو كل فعل حسن يفعله الفاعل لينتفع به الغير أو ليضره، واعترض بترك الظلم فإنه عدل، وليس بفعل فليس بجامع، ويمكن أن يجاب بأن الترك فعل عنده، واعترض أيضاً بأنه يلزم أن يكون خلق العالم عدلاً لأن هذا المعنى فيه، وليس كذلك فليس بمانع.
وأجيب بأنه بناه على أصله في أن ابتداء خلق العالم عدل، وأن العدل غير مقصور على الحقوق، ورد بأنه أصل غير صحيح؛ لأن العدل في عرف اللغة إنما يطلق على إنصاف الغير والانتصاف منه.
وقال السيد (مانكديم): هو توفير حق الغير، أو استيفاء الحق منه، قيل: وليس بجامع لخروج ترك الظلم منه.
قال الإمام المهدي عليه السلام : هو كل فعل أو ترك حسن، ويرد عليه ما أورده هو وغيره على قاضي القضاة من لزوم كون ابتداء الخلق عدل؛ لأن أفعال الله كلها موصوفة بالحسن.
وقال الجمهور: هو إنصاف الغير بفعل ما يجب له أو يستحق عليه، وبترك ما لا يستحق عليه مع القدرة، حكى هذا الحد عنهم القرشي، قال: واحترزوا بقولهم: مع القدرة عن الضعيف إذا ترك ظلم السلطان فإنه لا يسمى عدلاً، وأرادوا بالقدرة الاختيار، ولم يريدوا كونه قادراً لأن غير القادر قد خرج عن الحد بذكر الترك؛ إذ لا يسمى العاجز عن الشيء تاركاً له، وهذا الحد مبني على وجوب بعض الأفعال على الله تعالى.
قلت: والأحسن أن يقال: هو توفير حق الغير، أو استيفاء الحق منه وترك ما لا يستحق عليه، وهذا الحد سالم مما ورد على غيره لجمعه ومنعه، وأما إذا أريد به الفاعل، فقال الإمام المهدي عليه السلام قال أصحابنا: هو من لا يفعل القبيح، ولا يخل بالواجب، وأفعاله كلها حسنة.
قال عليه السلام : والأولى الاقتصار على القيدين الأولين ليعم الباري وغيره.
قلت: قد اقتصر صاحب الخلاصة على هذين القيدين، فقال: هو عند المتكلمين الذي لا يفعل القبيح كالظلم والعبث، ولا يخل بالواجب كالتمكين لمن كلفه، والبيان لمن خاطبه، قال: وهذه حقيقة لا يندرج تحتها إلا محقق واحد وهو الباري تعالى.
قلت: وهذه غفلة منه فإنه لا يشترط في الوصف بالعدالة أن لا يفعل قبيحاً قط، وإنما المراد بالعدل من لا يستمر على فعل القبيح والإخلال بالواجب، ولم يصر على ذلك، وإلا لم يوصف أحد من البشر بالعدالة، إذ لا يخلو بشر من ارتكاب القبيح مع أنه يلزمه ألا يوصف الملائكة" بالعدالة؛ لأنه قد قصر الحد على الباري تعالى، ولعله قال ذلك على جهة الادعاء والمبالغة. والله أعلم.
وقال القرشي: إن استعمل في الفاعل فهو الذي لا يفعل القبيح ولا يخل بالواجب مع العلم والاختيار، وإنما زاد قوله مع العلم والاختيار ليخرج غير المكلفين والساهي، والنائم، فإنهم وإن لم يفعلوا قبيحاً ولم يخلوا بواجب فليسوا عدولاً لفقد العلم، وكذلك الممنوع من فعل القبيح والإخلال بالواجب، فإنه لا يكون عدلاً لعدم الاختيار، قال: وهذا أحسن من قولهم في الحد وأفعاله كلها حسنة؛ لأن ذلك يبطل فائدة قولهم لا يفعل القبيح وهي أم المسائل.
قلت: وهذا مبني على ما تقدم من اشتراط العلم والقصد في قبح الفعل وحسنه، وأما على ظاهر حد الإمام القاسم بن محمد عليه السلام للحسن بأنه ما لا عقاب عليه، فلا حاجة إلى هذه الزيادة، مع أن ما ذكروه من الحدود مبنية على إثبات الوجوب على الله تعالى، وإذا أريد الاحتراز عن إثبات الوجوب فالأولى أن يقال: هو الموفر لحق غيره، أو المستوفي للحق منه، التارك ما لا يستحق عليه، وهذا أصرح في نفي الوجوب وأحصر مما ذكره صاحب شرح الأبيات الفخرية، وهو قوله: هو الذي لايفعل القبيح كالظلم، والكذب، والعبث، ولا يخل بما يجب من حكمته كالتمكين للمكلفين، والبيان للمخاطبين، وقبول توبة التائبين، والبعثة للمستحقين، وإثابة المطيعين، واللطف للمتعبدين، والانتصاف للمظلومين من الظالمين، وأفعاله كلها حسنة، مع أن هذا الحد على طوله لا يتناول غير الباري تعالى لإخراج ما عداه بقوله وأفعاله كلها حسنة. والله أعلم.
فائدة [اطلاق عدل حكيم على الله تعالى]
قال الإمام المهدي عليه السلام : أما إذا قيل: عدل حكيم، فمجموع هذين الوصفين في الاصطلاح لا يطلقان إلا على القديم تعالى دون غيره، فيقال: العدل الحكيم في الاصطلاح هو من لا يفعل القبيح، ولا يخل بالواجب، وأفعاله كلها حسنة ليخرج الواحد منا، فإن بعض أفعاله لا توصف بحسن ولا قبح، وهو ما كان مجرد فعل لا يفتقر إلى الإرادة.
البحث الثاني: في بيان كونه تعالى عدلاً حكيماً
اعلم أن أئمة العترة" وسائر العدلية يذهبون إلى أن الله تعالى عدل حكيم.
قال القرشي: ولم يسمع عن أحد من أهل الجبر هذا القول، ولا ذكرت هذه المسألة في شيء من كتبهم الكلامية، وإن كانوا لو سئلوا عن ذلك لما وسعهم إنكاره، إلا أنهم قد وافقوا في المنع من إطلاق القول بأنه ظالم فاعل للقبيح، وأثبتوا المعنى فأضافوا إليه كل قبيح، وجعلوا يحتالون للمنع من إطلاق العبارة بما لا محصول له ولا طائل فيه، هكذا في المنهاج، والذي ذكره الإمام يحيى والإمام المهدي عليهما السلام أنه لا خلاف بين الأمة في أنه يوصف الباري تعالى بأنه عدل حكيم.
قال الإمام المهدي عليه السلام : لكن اختلفوا في معنى وصفه بذلك، فالعدلية يفسرونه بما تقدم من أنه لا يفعل القبيح... إلى آخره، وأما المجبرة فإنما يريدون أن أفعاله تعالى لا توصف بالقبح لأن القبيح إنما يقبح للنهي، أو لكون فاعله مملوكاً، والباري تعالى ليس كذلك، بل له أن يتصرف في ملكه كيف شاء.
وقال الإمام يحيى: إنهم وإن وافقونا لفظاً في وصف الله بالحكمة والعدل فهم يخالفون في المعنى فيقولون بأن جميع القبائح من فعل الله تعالى عما يقولون علواً كبيراً.
قال الإمام عز الدين عليه السلام : لكنهم وإن أضافوها إلى الله تعالى فإنهم لا يطلقون القول بأنه يفعل القبيح؛ لأنها غير قبيحة عندهم بناءً على أصلهم في نفي القبح العقلي. ذكره في المعراج.
إذا عرفت هذا فاعلم أن القائل بأنه تعالى يفعل القبيح لا يكون قائلاً بالعدل عند التحقيق، ولا ينفعه القول به لفظاً، ولا المنع من إطلاق ظالم ونحوه عليه تعالى؛ لأنا متعبدون بالعلم بالعدل ونفي القبح لا بالنطق بهما فقط، وكذلك القائل بأن فعله تعالى ليس بحسن ولا قبيح لما مر في تحقيق العدل، وإذا تقرر لك محل النزاع ومعناه فلنأخذ في احتجاج أئمتنا" ومن وافقهم وهم المعتزلة على أنه لا يفعل القبيح ولا يرضى به، وهذا القول حكاه ابن حابس عن الإمامية وكثير من أهل القبلة، فنقول لهم: على ذلك حجج عقلية وسمعية، أما العقلية فأحدها: ما ذكره أبو الحسين، وهو أن القادر لا يفعل الفعل إلا لداع، والداعي إلى فعل القبيح ليس إلا جهل الفاعل بقبحه، أو جهله بغنائه عنه، أو حاجته إليه، أو شهوته له، وهذه الأمور كلها مستحيلة في حق الله تعالى، فلا جرم استحال منه فعل القبيح.
قال الإمام يحيى عليه السلام : وحاصله أنه تعالى قد فقد داعيه وخلص صارفه عن الفعل، وكل من فقد داعيه وخلص صارفه عن الفعل فإنه لا يفعله، قال: وإنما قلنا إنه تعالى قد فقد داعيه إلى القبيح وخلص صارفه عنه؛ لأنه إما أن يكون داعي حاجة أو داعي حكمة، الأول باطل لاستحالة المضار والمنافع عليه، والثاني أيضاً باطل لأن ذلك مترتب على كون الفعل حسناً، وأما خلوص صارفه فظاهر لأنه تعالى إذا كان عالماً بقبحه وعالماً بأنه غني لا يحتاج إلى شيء فقد خلص صارفه، وإنما قلنا إن كل من فقد داعيه وخلص صارفه عن الفعل فإنه لا يفعله، فلأنه لو وقع والحال هذه لبطل وقوعه على حسب الداعية، وخرج عن كونه مقدوراً له لأن حقيقة الفعل ليس إلا وقوعه على حسب الداعية.
قلت: وقد استدل بهذا الدليل على التقرير الذي قرره الإمام يحيى عليه السلام من فقد الداعي أبو الهذيل، وأبو إسحاق ابن عياش، وأورده الإمام أحمد بن سليمان عليه السلام بنحو ما ذكره أبو الحسين، ولفظه: والعقل يحكم ويشهد على أنه لا يفعل القبيح إلا من جهل قبحه، أو احتاج إلى فعل القبيح لشهوة داعية، أو غضب مؤذٍ، أو طمع فيما لا يجوز، أو سفاهة أو سخف رأي، أو استماع مشورة مضل أو جاهل، فمن كان فيه بعض هذه الصفات لم يؤمن منه فعل القبيح، أو الرضا به، أو الأمر به.
قلت: وإذا لم يفعل القبيح إلا لأحد هذه الأسباب، فالمعلوم استحالتها على الباري تعالى فثبت أنه لا يفعل القبيح. والحمد لله.
الحجة الثانية: أنه تعالى قد تمدح بنفي الظلم عن نفسه، فلو فعله لم يكن للتمدح بنفيه عن نفسه وجه، وفي هذه الحجة رد على المجبرة أيضاً لأنه إذا كان وقوعه منه لا يوجب القبح كان كالعدل سواء، والعدل لا يحسن التمدح بنفيه.
الحجة الثالثة: أن العقول مفطورة على تنزيه من اختص بصفة كمال على الجواز، فكيف من اختص بصفات الكمال على الوجوب.
الحجة الرابعة: أن الله تعالى عالم بقبح القبيح وغني عنه وعالم بغناه عنه، وإذا كان كذلك فإنه لا يفعل القبيح قياساً على الشاهد، فإن المعلوم ضرورة في الشاهد أن من كان عالماً بقبح القبيح، وغنياً عن فعله، وعالماً باستغنائه فإنه لا يفعله، ولا علة لكونه لا يفعله إلا اجتماع هذه الأوصاف.
قال الإمام (أحمد بن سليمان) عليه السلام في تحقيق معنى هذه الحجة: الدليل على أنه تعالى منزه عن هذه الصفات التي توجب النقص من طريق العقل أنه قد ثبت أن الله تعالى عالم لنفسه قادر حكيم غني، وثبت أن العالم القادر الحكيم الغني لا يفعل القبيح ولا يرضاه ولا يأمر به، والعقل يشهد أن فعل القبيح قبيح، وأن من أمر به أو رضي بفعله يكون كمن فعل القبيح، ثم قال عليه السلام : فإذا كان فعل القبيح يقبح بالعبد الجاهل المحتاج الضعيف، فكيف لا يقبح من العالم الحكيم القادر، فوجب أن يكون القديم تعالى منزهاً متعالياً عن فعل القبيح؛ لأنه تعالى عالم بقبح القبيح، ولأنه غير محتاج إليه لا لجر نفع إليه، ولا لدفع ضرر عنه تعالى، ولا لسخف رأي ولا لطمع فيما ليس له، ولا لمشورة مضل أو جاهل، فلما كان منزهاً عن فعل القبيح وكان الظلم، والجور، والكذب، وخلف الوعد، والوعيد، وفعل الفواحش وجميع المنكرات قبيحاً، والرضى بذلك، والأمر به صح أن الله تعالى لا يفعل شيئاً من ذلك، ولا يرضى به، ولا يأمر به، ولو فعل ذلك لدخل عليه من النقص والذم أكثر مما يدخل على العبد لأنه عالم لذاته قادر لذاته، والعبد جاهل محتاج، فكان ذم العبد أقل لجهله وحاجته، ألا ترى أن العالم الغني من الناس إذا فعل قبيحاً كان ذمه عند الناس ولومه أكثر من ذم الجاهل الفقير إذا فعل مثل ما فعل العالم.
قال عليه السلام : فصح أن الله تعالى لا يفعل جوراً، ولا ظلماً، ولا يجبر الخلق على فعل، ولا يكلف أحداً فوق طاقته، ولا يفعل قبيحاً، ولايريده، ولا يحبه، ولا يرضاه، ولا يأمر به، ولا يكذب، ولا يخلف وعداً، ولا وعيداً.
قلت: وقد نبه عليه السلام على أن هذا الدليل من قياس الأولى كما لا يخفى، وقد صرح بذلك الإمام عز الدين عليه السلام فقال: اعلم أن هذا الدليل هو المعتمد في كتب الأصحاب، والمتداول في ألسنتهم، وهو بطريقة القياس، لكن هذا يسمى قياس الأولى لوجود العلة في الغائب أقوى مما في الشاهد فيكون قطعياً. ذكره في المعراج.
واعلم أن هذه الحجة هي لما كانت شجاً في حلوق المجبرة، وقذى في عيونهم شنوا عليها الغارات، وأوردوا عليها ما أمكنهم من الاعتراضات، ونحن نذكر ما وقفنا عليه منها، وجوابه، إذ في ذلك تحقيق للدليل، وتوضيح للسبيل، ولا أظنه يفوتنا شيء مما أوردوه إن شاء الله، وقد عبرنا عن إيرادهم بالاعتراض الأول والثاني إلى آخرها، وأتبعنا كل اعتراض بجوابه.
الاعتراض الأول: أن هذا من قياس الغائب على الشاهد، وهو قياس فاسد لوجوه:
أحدها: أن من شرط صحة القياس وجود العلة الرابطة بين الأصل والفرع، وأين الرابطة التي يصح الجمع بها بين الله وخلقه.
الثاني: أنه لو جاز قياس أفعال الله تعالى على أفعال خلقه لجاز أن تقاس ذاته على ذواتهم؛ لأن الأفعال صفات الذات.
الثالث: أنه قد ضل كثير من الفرق حين قاسوا الخالق على المخلوق، فقال قوم: إن الله تعالى جسم ذو جوارح، قالوا لأنه فاعل قادر، ولم نجد الفاعل القادر إلا وهو جسم ذو جوارح، وقال آخرون: ما من حادث إلا وقبله حادث؛ لأنا ما وجدنا بيضة إلا من دجاجة، ولا دجاجة إلا من بيضة، فأثبتوا حوادث لا أصل لها حين قاسوا ما لم يروه علىما رأوه، قالوا وكذلك علماء المعتزلة ومن وافقهم فإنهم ضلوا وأضلوا كثيراً حين قاسوا أفعال الله تعالى على أفعال خلقه، فقالوا لو فعل القبيح، أو أراده لكان سفيهاً، كما أن الواحد منا لو فعله يكون كذلك، فأثبتوا لله شركاء من خلقه، قالوا: ومما يزيد بيان هذا القياس وضوحاً أنه لو نشأ إنسان في بلاد الزنج لم يخرج إلى غيرها، ولم ير إنساناً إلا أسود، ثم أنكر وجود الإنسان الأبيض وقال إنما قضيت بذلك قياساً على ما رأيت وشاهدت، فلا يشك عاقل في فساد قياسه، وضعف أساسه، وليس ذلك إلا لأنه أقاس الغائب على الشاهد.
والجواب: أن قياس الغائب على الشاهد صحيح إذا وقع على وجهه، بل قد قيل: إنه لا طريق إلى إثبات الصانع وصفاته إلا القياس على الفاعل في الشاهد.
وقال السيد (حميدان): إن المخالف في صحة القياس العقلي يوصف بالغلط والجهل، ومما يدل على صحته أنا لو وجدنا بناء في فلاة فإنا نعلم أن له بانياً، وليس ذلك إلا بالقياس على ما نشاهد من المبنيات في حضرتنا، والجامع عدم الفارق بينهما، ولم يضل من ضل من الملحدة والمجسمة إلا لتركيبهم القياس على الوجوه الفاسدة.
واعلم أن الوجوه الصحيحة التي يصح معها قياس الغائب على الشاهد أربعة:
أحدها: الاشتراك في العلة، كما نقول في الاستدلال على إثبات الصانع أنا نعلم ضرورة أن كل صناعة في الشاهد محتاجة إلى صانع لأجل كونها محدثة، ووجدنا العالم محدثاً فيحتاج إلى صانع لأجل كونه محدثاً، فهذا جمع بين الشاهد والغائب بالاشتراك في العلة، ومعنى الجمع بينهما أنا أ ثبتنا صانع العالم كما ثبت الصانع في الشاهد.
الوجه الثاني: الجمع بينهما بما يجري مجرى العلة كالاستدلال على أنه تعالى مريد لوجود أفعاله على الوجوه المختلفة، كما في الشاهد، وبيان الجمع بينهما من هذا الوجه أنا نستدل على كون أحدنا مريداً بوقوع أفعاله على الوجوه المختلفة، نحو كون صيغة افعل أمراً وتهديداً، فإنه لايفرق بينهما إلا بكونه مريداً لما تنا ولته في الأمر، وكارهاً له في التهديد؛ إذ الصيغة واحدة وهي افعل، ولما وجدنا من أفعال الله ما يقع على وجوه مختلفة نحو جعل بعض المضار من قبله تعالى امتحاناً، وبعضها انتقاماً ونحو ذلك، وجب القول بأنه تعالى مريد لوقوع أفعاله على وجوه مختلفة كما في الشاهد للاشتراك فيما يجري مجرى العلة، وهو حصول الأفعال على وجوه مختلفة مع اتفاقها في الصورة.
الوجه الثالث: الجمع بينهما بطريق الحكم كما يستدل على أنه تعالى قادر لصحة الفعل منه، وتعذره على سواه كما في الشاهد، وكذلك كونه عالماً وحياً وموجوداً، فإنا لما علمنا أن من صح منه الفعل في الشاهد يجب أن يتميز على من تعذر عليه، وأن يكون قادراً لأجل ما صح منه وتعذر على غيره، وعلمنا أن هذا الوجه قد وجد في أفعال الله تعالى، فإنه قد صح منه من الفعل ما يتعذر على غيره حكمنا بأنه تعالى قادر، وكذلك إحكام الأفعال يدل على كونه عالماً، وصحة هذين الوصفين يدل على كونه حياً موجوداً كما في الشاهد لاشتراك الجميع في طريقة الفعل، والطريقة هي صحة الفعل، وإحكامه، والحكم هو كونه قادراً ونحوه.
الوجه الرابع: أن يكون ثبوت الحكم في الشاهد لوجه، ويكون ثبوته في الغائب لأجل ذلك الوجه أولى، ومنه هذا القياس الذي نحن بصدد الذب عنه.
واعلم أن الله قد نبه على صحة القياس العقلي الواقع على أحد هذه الوجوه في كتابه، كما في قياس النشأة الأخرى على الأولى وغيره، وبما قررنا تعرف بطلان الوجوه التي قرروا بها اعتراضهم، أما الوجه الأول فلأنا قد بينا الرابطة، وأما الوجه الثاني فلأنه إنما جاز قياس أفعاله تعالى دون ذاته لوجود الرابطة في الأفعال دون الذات؛ إذ ليس كمثله شيء، ولا مشاركة بينه وبين خلقه فيما يرجع إلى الذات لا في الجنسية، ولا في غيرها تعالى الله عن ذلك، وبهذا تعرف بطلان الملازمة التي ذكروها، وما ذكروه في بيانها من أن الأفعال صفات الذات، فنقول صادر عن غير روية ولا نظر؛ إذ المعلوم أن الأفعال ذوات مستقلة بأنفسها، وأن ذات الفاعل تعلم من دونها في الشاهد والغائب، وإنما هي أدلة على ثبوت الفاعلين، والدليل غير المدلول، ثم إن دعوى الملازمة يؤدي إلى القول بحلول العالم في ذات الله تعالى الله عن ذلك علواً كبيراً لأنه لا معنى للملازمة إلا إذا كانت صفة ذاتية، ويؤدي إلى القول بأن الكلاب والخنازير وغيرها من الأشياء النجسة صفات لله تعالى عن ذلك، وحسبك في إبطال هذه الدعوى تأديتها إلى مثل هذه الأباطيل، والخرافات.
وأما الوجه الثالث: فلأنه إنما وقع الضلال؛ لأنهم لم يجمعوا بين الشاهد والغائب إلا بمجرد الوجدان لا بوجه من الوجوه الجامعة، ألا ترى أن المجسمة إنما استندوا إلى أنهم لم يجدوا فاعلاً إلا وهو جسم، والملحد قال: لم أجد فرعاً إلا من أصل، فوجب أن لا يكون للعالم صانعاً أصلاً، فعولوا على ما عرفوا من أنفسهم فقط من غير جهة جامعة، وعدم علمهم لا يكون حجة على من قد علم ما جهلوا إما بمشاهدة، أو دلالة، كما أن قول الزنجي لم أجد إلا أسوداً لا يكون حجة على من قد وجد الأبيض؛ إذ لا يجب أن يكون ما لم يره مثل ما قد رأى إلا بوجه جامع، فثبت أن سبب ضلالهم هو أنهم جمعوا بين الشاهد والغائب بلا رابطة، وأما قولهم إن المعتزلة ضلوا بقياسهم أفعال الله على أفعال خلقه.
فالجواب: أنهم لا يضلون إلا لو قاسوا من دون علة جامعة، وأما مع وجود العلة فهو قياس صحيح، وتحقيقه أنهم إنما حكموا بقبح إرادة القبيح في الشاهد مثلاً لكونها إرادة له، فلو وجدت هذه العلة في الغائب كانت قبيحة؛ لأن العلة أينما وجدت وجب حكمها، وإلا خرجت عن كونها علة، ألا ترى أن الطبيب لو قال للعليل: اترك العسل لحلاوته، لفهمنا أن علة أمره بتركه هي الحلاوة، فلو أباح له السكر لكان مناقضاً في التعليل لأن الحلاوة ثابتة فيهما، وأما نسبتهم المعتزلة إلى الشرك بقولهم إنه لو فعله لكان سفيهاً، فجوابه: أن السفيه صفة يوصف بها من فعل السفاهة، وكذلك الظالم صفة لمن فعل الظلم، ولهذا لا يسمى من لا يفعل السفاهة سفيهاً، ولا العدل ظالماً، وهذا في اللغة العربية مشهور، فلو كان تعالى فاعلاً للسفاهة أو للظلم لوصف بأنه سفيه ظالم تعالى عن ذلك، كما يوصف بأنه عادل خالق لمّا فعل العدل والخلق ومن أجرى أدلة العقل، والشرع، واللغة على ما ينبغي إجراؤها عليه، ولم يخالفها، ولا ناقض بينها، فليس بمشرك، بل هو المسلم الجاري على سنن الفطرة التي فطر الله الناس عليها.
الاعتراض الثاني: أنكم لم تجعلوا العلة في ذلك إلا أنه يثبت الحكم وهو ترك القبيح بثبوت هذه العلة، وهي العلم بالقبيح، والاستغناء عنه مع العلم بالاستغناء، وهذه هي طريقة الدوران وهي لا تفيد العلم لعدم اطرادها، وبيانه أن احتراك المحترك يدور على كونه متحيزاً وجوداً وعدماً، والتحيز ليس بعلة الاحتراك.
والجوب: أنا إذا علمنا أن الحكم لا بد له من علة، ووجدناه يثبت بثبات أمر، وينتفي بانتفائه، ولم يكن هناك ما تعليق الحكم به أولى، فإنا نقطع بأن ذلك الأمر هو المؤثر في ثبوت الحكم، ومنه ما نحن فيه، فإنا نعلم أن أحدنا إذا اجتمعت فيه هذه الأوصاف فإنه لا يختار القبيح، وإن عدم ما عدم وإن انخرم وصف منها جاز أن يختاره وإن وجد ما وجد، فصح أن هذا الحكم موقوف على هذه العلة؛ إذ ليس هاهنا ما تعليق الحكم به أولى، وبهذا تعلم أن تحقيق الاعتراض باحتراك المتحرك لا يصح؛ لأنه وإن كان يثبت بثبوت التحيز، وينتفي بانتفائه، فثمة ما تعليق الحكم به أولى بدليل أنا نعلمه متحيزاً، ولا نعلمه متحركاً، فلم يدر العلم بالاحتراك علىالعلم بالتحيز.
الاعتراض الثالث: أن هذه العلة مركبة، والعلل لا يصح فيها التركيب.
والجواب: أنا إنما نمنع من تركيب العلل حيث هي موجبة، فأما حيث هي كاشفة فلا مانع من تركيبها، ولهذا عرفنا الظلم بكونه ضرراً لا نفع فيه إلى آخره.
قال الإمام المهدي عليه السلام : وقد صرح الله بالتعليل بالمركبة الباعثة حيث قال: {فَبِظُلْمٍ مِنَ الَّذِينَ هَادُوا حَرَّمْنَا عَلَيْهِمْ طَيِّبَاتٍ أُحِلَّتْ لَهُمْ ...} [النساء:160 ]الآية.
ولا شك أن الظلم أنواع، وأنه سبحانه لم يرد نوعاً معيناً، وذلك كثير في القرآن.
قال عليه السلام : وعلى الجملة فنحن مضطرون إلى جواز كون الباعثة، والأمارة مركبة من وصف، أو وصفين.
قال الإمام (عز الدين) عليه السلام : وقد ذكر في جواب هذا الاعتراض أنا لم نعلل عدم فعل القبيح إلا بأمر واحد، وهو كون الأوصاف التي ذكرنا مجتمعة.
الاعتراض الرابع: أن هذا القياس لا يصح؛ لأنه يلزم منه أن الله لا يختار الحسن إلا لجر منفعة، أو دفع مضرة، وذلك مستحيل في حقه، وبيانه أنكم قلتم إن أحدنا لا يختار القبيح إلا لجهله، أو حاجته إليه، ولا يختار الحسن إلا لجلب نفع، أو دفع ضرر، فإذا لم يصح الجمع بين الشاهد والغائب في الوجه الذي لأجله نختار الحسن لم يصح الجمع بينهما في الوجه الذي لأجله يترك القبيح، والجواب من وجوه:
أحدها: أنه دل دليل على اشتراكهما في الوجه الذي لأجله يترك القبيح، ولم يدل على اشتراكهما في الوجه الذي لأجله يختار الحسن.
الثاني: أن أحدنا كما يختار الحسن لجلب نفع أو دفع ضرر، فقد يختاره لحسنه ولكونه إحساناً، ألا ترى أنه لو خير إنسان بين الصدق والكذب، وكان النفع فيهما مستوياً فإنه يختار الصدق، وما ذاك إلا لحسنه، وكذلك الملحد الدنيء الذي لا يخاف ذماً ولا عقاباً، ولا يبالي بالمدح والثواب، فإنه يستحسن إنقاذ الغريق وإرشاد الضال، لا يقال: إنما يختار الصدق ويستحسن الانقاذ ونحوه لما مر في المقدمة من انغراس استحسان الصدق ونحوه في زمن الصبا، وأنه يستحسن الإنقاذ ونحوه لرقة الطبع ونحوه؛ لأنا نفرض الكلام في أول المتواطئين لم حكموا بحسن الصدق وقبح الكذب، وبدفع كون وجه استحسان الإنقاذ رقة الطبع بأنه يستحسنه وإن لم يكن هناك غرق.
الوجه الثالث: ما ذكره قاضي القضاة وهو أنه لو لم يفعل الحسن إلا لنفع، أو دفع لم يوجد في عالم الله منعم على غيره؛ لأن المنعم لا يكون منعماً إلا إذا قصد الإحسان إلى الغير، ولهذا فإن البزاز إذا قدم إلى المشتري الثياب الفاخرة ليأخذ الثمن منه لم يكن منعماً عليه؛ لما كان غرضه نفع نفسه لا نفع المشتري، فثبت أن اختيارنا للحسن قد يكون للإحسان، وبه تبطل الملازمة التي ذكروها، وثبت أن الله تعالى يفعل الحسن لحسنه، ولكونه إحساناً.
الاعتراض الخامس: أن كلامكم في هذا القياس مبني على أنه لا يوجد الفعل إلا لداع، ولا وجه لذلك إلا أن الفاعل عدل حكيم لا يفعل إلا لداع، وإلا كان عبثاً، هذا دور.
والجواب: أنه غير مبني على ذلك، بل على علمه بالقبيح واستغنائه عنه، وإنما قيل: بأن الفعل لا يوجد إلا لداع لما علم ضرورة من أن العالم المميز لفعله لا يفعل إلا لداع وإن كان قادراً عليه من دونه، وذلك الداعي هو علم الحي، أو ظنه بأن له في الفعل نفع أو دفع ضرر، أو كونه إحساناً، أو داعياً إلى إحسان، والعلة في الاحتياج إلى الداعي إن ترجح الفعل على تركه أمر حادث على سبيل الجواز، فلا بد من مؤثر في ذلك الترجيح، والقادرية لا تؤثر إلا في الوجود، والترجح أمر اعتباري لا وجود له في الخارج، وهو أولوية إيجاد الفعل وليس الترجح الإرادة، بل هو باعث عليها، وليس هو الداعي لأن العلم، أو الظن ليس نفس الترجح، بل هو المؤثر في ترجح الفعل أي المقتضي له، فثبت أن العالم المميز لفعله لا يفعل إلا بعد ترجح الفعل على الترك، وأنه لا ترجح إلا عن داع، فلما كان الباري تعالى عالماً مميزاً لفعله، قيل: إنه لا يفعل إلا عن ترجح، ولا ترجح إلا لداع، ولا داع له إلى القبيح، وإنما قيل بهذا في حقه تعالى رداً إلى ما علم في الشاهد ضرورة، وبهذا يظهر لك أن القول بالداعي ليس مبنياً على القول بالعدل، وإنما هو مبني على أن الفعل لا يقع إلا لمرجح، سواء كان الفعل حسناً أو قبيحاً، لكن لما كان لا داعي للباري تعالى إلى فعل القبيح لما مر، قيل: إنه لا يفعله على معنى أنها لا تحصل في حقه تعالى أولوية فعله على تركه التي هي مقتضاة عن الداعي، فتأمل.
فإن قيل: فهل تقولون باعتبار المرجح مع الداعي كما قال أبو الحسين؟ قيل: لا بل يعتبر الداعي دون المرجح، فلو دعا الداعي إلى أحد المستويين فقد حصل ترجح أحدهما لا بعينه، فيفعل أحدهما لأجل الترجح الأصلي، ولا يفتقر إلى مرجح للذي اختاره بعينه كما مر في مسألة الرغيفين.
فإن قيل: إذا كان الله تعالى قادراً على فعل القبيح لغير داعي، فلا سبيل إلى القطع بأنه لا يفعله، فإن قلتم: الحكمة تصرفه فأنتم الآن في الاستدلال عليها فيلزمكم الدور.
قيل: هذا السؤال غير لازم؛ لأنه وإن كان قادراً على فعله فنحن نقطع بأنه لا يفعله لغير داع رداً إلى ما علمناه ضرورة في الشاهد.
فائدة
في كلام بعض قدماء الأئمة" ما يقتضي المنع من إثبات الداعي في حق الله تعالى.
الاعتراض السادس: إذا كان من اجتمعت فيه هذه الأوصاف لا يفعل القبيح، فهو يقتضي أن العاقل لا يفعل العبث لعلمه بقبحه، واستغنائه عنه؛ لأن الفرض أنه عبث لا فائدة فيه، فيلزم أن لا يتصور وقوعه من مكلف، وحينئذٍ لا يكون لعده من القبائح وجه؛ لأن الفرض أنه مستحيل الوقوع إذ لا داع إليه على أصلكم.
الجواب: إن كلام أصحابنا في ذلك على سبيل الفرض والتقدير، أي لو قدرنا وقوعه من المكلف، وأما وقوعه تحقيقاً فلا ثبوت له، ذكر هذا بعضهم.
قال الإمام (عز الدين) عليه السلام : ويمكن أن يقال والله أعلم يمكن وقوعه ممن جهل استغنائه عنه، وإن كان في نفس الأمر لا حاجة إليه، ولا فائدة تحته.
قلت: وما قاله عليه السلام هو القوي المستقيم.
الاعتراض السابع: أن هذا الدليل مبني على أن العباد الفاعلون لأفعالهم، ونحن لا نسلم ذلك.
والجواب: أنا لم نبن الدليل على مذهبكم الفاسد، وإنما بنيناه على ما علمناه ضرورة، وبهذا انتهى الكلام على الأدلة العقلية على كون الباري تعالى عدلاً حكيماً.
وأما الأدلة السمعية فالقرآن الكريم مشحون بها، وكذلك السنة النبوية، وكلام الوصي، وغيره من السلف الصالح، ومن ذلك هذه الآية التي نحن بصدد الكلام عليها، ووجه دلالتها أن قد دلت على استحقاقه تعالى للحمد على الإطلاق، ولا يجوز ذلك إلا إذا كان عدلاً حكيماً على الإطلاق، وقد أكد ذلك بوصفه برب العالمين وما بعده؛ إذ الوصف برب الدال على التربية التي لا يفهم منها إلا كمال الإحسان، ثم إردافه بالوصف بكمال الرحمة، ثم إتباعه بأنه المالك ليوم الجزاء، الدال على أن ما يوصله إلى المكلفين في ذلك اليوم من ثواب أو عقاب إنما يكون جزاء على أعمالهم، دال على كمال العدل والحكمة، وغاية الإحسان والرحمة.
البحث الثالث: في ذكر علوم العدل
قال الإمام أحمد بن سليمان عليه السلام : اعلم أن معنى قولنا إن الله عدل هو أنه منزه عن صفات النقص في أفعاله، أنه لايفعل القبيح، ولا يرضاه، ولا يحبه، ولا يريده، ولا يجبر العبد عليه، ولا يكلف أحداً فوق طاقته، وأنه لا يمنع أحداً الاستطاعة، وأنه لا يجور، ولا يظلم أحداً، ولا يكذب، ولا يخلف الوعد والوعيد. ذكره في الحقائق، وقد أشار عليه السلام في هذه الجملة إلى جملة علوم العدل، وللإمام عز الدين عليه السلام في حصرها بحث مفيد، وقول باهر سديد، ونحن نورده في هذا الموضع، فنقول: ذكر عليه السلام لحصر علوم العدل وضبطها طريقين: جملي، وتفصيلي.
قال عليه السلام : فالجملي حاصله أنها تنقسم إلى إثبات ونفي، فالأول أن أفعاله تعالى حكمة، وأن أقواله صدق، وأنه يأمر بالمصلحة، وينهى عن المفسدة، ويريد الطاعات ويكره المعاصي، ويثيب المطيعين ونحو ذلك، والثاني أنه تعالى لا يفعل القبيح، ولا يخل بالواجب، ولا يريد القبائح، ولا يرضى الكفر، ولا يحب الفساد، ولا يكره الطاعات، ولا يكلف ما لا يطاق، ولا يعذب بلا ذنب، ولا يظلم، ولا يأمر بالفحشاء، وغير ذلك.
والتفصيلي: أن نقول هي بالنظر إلى اختلاف الناس فيها تنقسم إلى ستة أقسام:
الأول: نثبته فعلاً لله تعالى وغيرنا ينفيه، كإنزال الأمراض والأسقام، والآفات في النفوس، والزروع، وأن القرآن من قبل أفعاله تعالى.
الثاني: ما ننفيه عنه تعالى وغيرنا يثبته فعلاً له تعالى، كأفعال العباد، وتكليف ما لا يطاق، وإضلال الخلق وإغوائهم، وصدهم عن السبيل، ونحو ذلك.
الثالث: ما نقضي عليه بالحسن وغيرنا يقضي بقبحه، كما نقوله في تكليف من المعلوم من حاله أنه يكفر، وتبقية من المعلوم من حاله أنه يضل مع كونه في الحال مهتدياً، واخترام من المعلوم من حاله أنه سيهتدي وهو ضال في الحال، والبعثة للأنبياء".
الرابع: ما نقضي عليه بالقبح وغيرنا يذهب إلى حسنه منه تعالى، كما نقوله من قبح تكليف ما لا يطاق، وقبح الإضلال والإغواء، وتعذيب من لا ذنب له كتعذيب الأطفال بذنوب آبائهم.
الخامس: ما نقضي عليه بالوجوب وغيرنا يمنع وجوبه كالتمكين للمكلفين، والإثابة للمطيعين، والتعويض للمؤلمين، واللطف في حق من يلتطف، وغير ذلك.
السادس: عكسه وهو ما لا نعده واجباً وغيرنا يقضى بوجوبه، كنفينا وجوب الأصلح في الأمور الدنيوية، ووجوب العقاب.
قال عليه السلام : فهذه علوم العدل، ومدارها على هذه الأقسام.
قلت: وقد تقدم الكلام على بعض مسائل العدل في كتابنا هذا، وبعضها سيأتي في مواضعه إن شاء الله، وفي مسائل العدل ما يجب معرفته على كل مكلف، وفيها ما هو من فروض الكفاية، ولا بد إن شاء الله من التنبيه بعد تمام الكلام على كل مسألة على هذا الحكم.
وإذ قد أتينا على تحقيق هذه الأبحاث فلنأخذ في الكلام على المسألة التي نحن بصددها، وهي القول بأنه يقبح من الله ما يقبح من غيره، وقد ذكرنا أن الكلام فيها يقع في ثلاثة مواضع، وهذا أوان الشروع في تلك المواضع.
الموضع الأول: في ذكر الخلاف.
فالذي عليه العدلية جميعاً أنه يقبح من الله تعالى ما يقبح من غيره لو فعله، وإنما اختلفوا في علة قبحه، فقال أئمتنا"، ومن وافقهم من الزيدية، والبصرية من المعتزلة: إنما يقبح الفعل لوقوعه على وجه من كونه ظلماً، أو كذباً، أو مفسدة، وقالت البغدادية، وهم أبو القاسم البلخي وأتباعه: بل يقبح لعينه، وهذا محكي في الأساس عن بعض الإمامية، وبعض الفقهاء، والمراد بالفقهاء إذا أطلقوا الشافعية، والحنفية، والمالكية، والحنبلية، وقالت الإخشيذية وهم أبو بكر محمد بن الإخشيذ وأتباعه: علة قبح القبيح الإرادة له من فاعله، فهذه أقوال أهل العدل، وقالت المجبرة جميعاً: لا يقبح من الله تعالى قبيح فيجوز منه أن يفعل نحو الكذب ولا يقبح منه، ثم اختلفوا في العلة، فقالت الأشعرية: إنما لم يقبح منه تعالى قبح لأنه ليس بمنهي، والفعل لا يقبح إلا لنهي الشارع عنه، وقد حكى في الأساس وشرحه كون الفعل لا يقبح إلا للنهي عن بعض الشافعية، والكرامية، والكلابية من المجبرة، وقالت الجهمية: بل لكونه رباً والفعل لا يقبح إلا لكون فاعله مربوباً.
وقالت الفلاسفة وبعض المجبرة: لا قبيح، ولا حسن إلا من جهة الاستحلاء والنفرة.
الموضع الثاني: في أدلة العدلية.
وقد عرفت أنهم افترقوا على ثلاثة أقوال:
الأول: قول أئمتنا" ومن وافقهم، وهو أن الفعل يقبح لوقوعه على وجه، واحتجوا على ذلك بطريقين: الأولى: طريقة السبر والتقسيم، وهي أنه لا يخلو ما ليس لنا فعله من الظلم ونحوه، إما أن يكون ذلك لحسنه، وهذا باطل؛ لأنه قد يماثله ما يكون لنا فعله، وإما لوجود علة، أو لارتفاعها، أو لوقوعه على وجه سوى كونه ظلماً، وكل ذلك باطل، وإلا لصح أن يقع الظلم منا ويكون لنا فعله بأن لا توجد تلك العلة، أو لا تعدم، أو لا يقع على ذلك الوجه، فلما فسد ذلك صح أنه ليس لنا فعل الظلم لكونه ظلماً فحسب، فإذا تقرر ذلك لم يختلف حال الفاعلين فيه.
الثانية: طريقة الدوران وهي أنا نعلم ضرورة أن الظلم قبيح، وإنما قبح لكونه ظلماً بدليل أنا متى عرفناه ظلماً عرفنا قبحه، ونعرفه ظلماً إذا كان ضرراً خالصاً ليس فيه نفع يجبره، ولا دفع ضرر أوفى منه، ولا هو من باب المستحق على فعل مقدم يستوجبه به، فمتى عرفناه بهذه الصفات عرفنا قبحه وإن لم نعرف أمراً آخر، ومتى لم نعرفه بهذه الصفات لم نعرف قبحه وإن عرفنا ما عرفنا، فصح أن الظلم إنما يقبح لوقوعه على وجه، وهو كونه ظلماً؛ لأن العلم بالقبح فرع على العلم بوجه القبح جملة أو تفصيلاً، فيجب متى وقع على ذلك الوجه أن يقبح، سواء وقع من الله تعالى، أو من العباد؛ لأن الحال فيه كالحال في الحركة وإيجابها كون الجسم محتركاً، فكما لا يختلف ذلك باختلاف الفاعلين لما كانت هي العلة كذلك في مسألتنا، وهو حكم سائر القبائح العقلية حكم الظلم في كون العلم بقبحها يدور على العلم بالوجوه التي وقعت عليها وجوداً وعدماً، وذلك معلوم بالاستقراء، فإن قيل: إن قلتم بثبوت الحسن والقبح للفعل قبل وجوده لم يكن قبحه للوجه الذي وقع عليه؛ لأنه يكون حينئذٍ كالمعلول المتقدم على علته، وإن قلتم بثبوتهما له بعد الوجود أو حاله بطل قولكم إن القبيح ما ليس له أن يفعله، فيكون له فعله، وبأيهما قلتم فقد لزمكم أحد محذورين إما إبطال القبيح، وإما إبطال وجهه.
قيل: قد أجاب عن هذا الإمام المهدي عليه السلام ، وحاصل جوابه أن للقبيح ماهية، ولازم لكل منهما مقتضى غير مقتضى الآخر، فالماهية كون ليس لنا فعله، ومقتضى هذا الحكم كونه إذا وجد كان ظلماً، فهو ومقتضيه ثابتان قبل وجود الفعل، وأما اللازم فهو استحقاق الذم، وإنما يلزمه إذا وجد، ومقتضيه وجود ذلك الفعل الذي كان القبح حكماً له.
قال عليه السلام : وعليه يحمل كلام أصحابنا أن القبح تابع لحدوث الفعل؛ إذ لو بقيناه على ظاهره لزم أن لا يعلم فاعل القبيح أنه ليس له أن يفعله قبل إيقاعه، فإن قيل: قبح الكذب إما لذات الحروف لزم قبح النطق بها، وإن كانت صدقاً، أو لكونه غير مطابق للواقع فهو نفي، فكيف يؤثر في ثبوتي وهو القبح، أو لمجموعهما لزم أن يكون بعض المؤثر في الثبوتي نفياً، أو لأمر رابع، فإما لازم لمخالفته الخبر فلا بد من مؤثر فيعود التقسيم، وإما غير لازم فيلزم صحة كونه كذباً، ولا يقبح لعدم المؤثر في قبحه.
قيل: نختار أن المؤثر في قبحه كونه غير مطابق لدوران الحكم معه وجوداً وعدماً، وهي علة ثبوتيه لأن معناها كونه كذباً سلمنا كونها نفياً فلا يضر عند الجمهور لصحة تعليل الضرب بانتفاء الامتثال، والمعتبر تعقل كون أحد الأمرين علة في الآخر، ولا شك أن كون العلة في قبح الكذب ما ذكرنا أمر معقول، فإن قيل: لو كان علة قبح الكذب كونه كذباً لما حسن أحد الكذبين في قولك: لأكذبن غداً؛ إذ يلزم إما حسن الكذب غداً ليصدق قولك لأكذبن غداً، أو حسن تركه فيلزم كذب هذا الخبر، وإذا حسن الملزوم حسن اللازم.
قيل: لا يخلو هذا القائل إما أن يخبر عن عزمه على الكذب غداً، أو عن الحقيقة أعني أنه سيقع منه الكذب لا محالة، إن كان الأول فهو صادق، وإنما عرض له ما يقتضي تغيير العزم، وإن كان الثاني فالأحسن ترك الكذب الآخر، ولا نسلم أنه يستلزم حسن الكذب الأول، بل هو باق على قبحه، لا يقال: فترك الكذب غداً يلزم قبحه لاستلزامه القبيح، وهو كذب الخبر الأول؛ لأنا نقول استلزام الترك لقبح الخبر الأول لا يوجب قبح الترك؛ إذ ليس إلا كاشفاً عن كذب الأول، والكاشف عن الكذب ليس بقبيح، فإن قيل: لو كان القبيح وصفاً حقيقياً لما اختلف بالوضع، والمعلوم اختلافه بالوضع، فإنا لو قدرنا أن لفظ قام زيد وضع لغير الخبر به، فإنه يحسن النطق به وإن لم يكن زيد قائماً.
قيل: القبح حكم اعتباري يقتضيه كون الفعل إذا وقع وقع كذباً، أو نحوه، وذلك لا يختلف، وإذا غير لفظ قام زيد فقد خرج عن كونه لفظاً إذا وقع وقع خبراً، وإذا لم يقع خبراً لم يكن كذباً فإن قيل: لو قبح الكذب لكونه كذباً لقبح ولو تضمن سلامة نبي من القتل، والمعلوم حسنه حينئذ، بل وجوبه، فبطل كون العلة ما ذكرتم.
قيل: قد ثبت بدوران الحكم وهو القبح على هذه الوجوه التي ذكرنا من الكذب ونحوه أنها هي العلل الموجبة للقبح، إلا أن منها ما هو ضروري كالظلم والكذب الذي لا منفعة فيه، ومنها ما هو نظري كالكذب الذي فيه منفعة، فإنه يعلم قبحه بالرد إلى ما لا منفعة فيه.
إذا عرفت هذا فنقول: لا نسلم حسن الكذب في هذه الصورة مع إمكان التعريض، وقد قال صلى الله عليه وآله وسلم : ((إن في المعاريض لمندوحة عن الكذب ))، والتعريض ممكن في كلام ظاهره الكذب، وما قيل: من أنه يلزم أن لا نقطع بكذب خبر قط حتى لا يحسن ذم أحد على الكذب لاحتمال التعريض، فمدفوع بأنه قد يظهر من القرائن المفيدة لكون المراد من الخبر ظاهره ما يحصل عنده العلم الضروري أنه لم يقصد بالخبر خلاف ظاهره.
واعلم أنا لو قدرنا عدم تمكن المخبر من التعريض لخجل أو نحوه، فلأصحابنا في جواب هذا السؤال وجوه:
أحدها: أن الكذب لم يخرج عن القبح إلا أنه عرضه أقبح منه، وهو هلاك النبي فرجح ارتكاب الكذب لكون قبحه أهون.
الثاني: أنه في حكم الملجأ إلى الكذب لما يجد من نفسه من الخوف على النبي، فيكون كمن سبقه لسانه إلى كلام من غير قصد إفادة المخاطب.
الثالث: ذكره الإمام المهدي عليه السلام ، وهو أن قبح الكذب الذي فيه منفعة إنما هو بالشرع؛ لأن العلة في قبح الكذب الذي يعلم بضرورة العقل قبحه مركبة من إثبات ونفي، وهي كونه كذباً لا نفع فيه، ولا دفع ضرر.
ثم استدل عليه السلام على قبحه الذي فيه منفعة بإجماع الأمة على قبحه، وبقوله تعالى: {إِنَّمَا يَفْتَرِي الْكَذِبَ ...} [النحل:105 ]الآية، ونحوها مما يفيد بعمومه قبح كل كذب إلا ما خصه دليل سمعي كخبر سويد بن غفلة ما رخص صلى الله عليه وآله وسلم في الكذب إلا في ثلاث: ((الرجل يحدث أهله، والرجل يقول في الجهاد ، والرجل يصلح بين اثنين)) أو كما قال، وكخبر نعيم بن مسعود في صرف قريش يوم الخندق ونحوه، وقول فتيان يوسف عن أمره: {إِنَّكُمْ لَسَارِقُون َ}[يوسف:70 ]وما حكاه تعالى عن عيسى: {فَقُولِي إِنِّي نَذَرْتُ لِلرَّحْمَانِ صَوْماً }[مريم:26]، وظاهر قول إبراهيم عليه السلام : {إِنِّي سَقِيمٌ }[الصافات:89]، {بَلْ فَعَلَهُ كَبِيرُهُمْ هَذَا }[الأنبياء:63].
قال عليه السلام : فالجواب على هذا القول واضح، وهو أنه لا قبح في الكذب الذي تضمن إحراز النبي من القتل؛ إذ لم تحصل فيه علة قبح الكذب الذي علم بضرورة العقل قبحه؛ إذ قد حصل فيه دفع ما يتألم به فلا قبح، ومن ادعى هنا أنه يعلم قبحه بضرورة العقل أو دلالته، فمكابرة ظاهرة لا يلتفت إلى قوله.
فإن قيل: لو كان العلم بقبح الظلم ضرورياً لكانت أنواعه كذلك كأخذ مال الغير، ولا شك أن معرفة كونه ظلماً متفرعاً على كونه ملكاً للغير بأي الوجوه المقتضية للملك، وذلك لا يعلم إلا بالشرع؛ إذ لا ملك عقلي فيلزم أن لا نعرف كون أخذ مال الغير ظلماً قبل ورود الشرع.
قيل: إذا ثبت للمأخوذ عليه أخصية باكتساب، أو احتطاب، أو نحوهما فإنا نعلم أنه أولى به وهو معنى الملك، فأخذه منه على جهة الإكراه إضرار، وهو الذي نريد بالظلم، فصح أنا نعرف أنواع الظلم ضرورة، على أنا قد قدمنا في المقدمة أن الشرع قد يكشف عن بعض الأحكام العقلية، فلا يمتنع كون بعض موجبات التمليك لا تعرف إلا بالشرع، فإن قيل: الأمور البديهية لا تختلف فيها العقول، ونحن لا نجد من بداية عقولنا العلم باستحقاق فاعل القبيح الذم، ولو كان ضرورياً كما قلتم لشاركناكم.
قيل: إنما لم تدركوا ذلك لتدنس عقولكم بالعقائد الفاسدة، وقد قيل إن هذا أحد الأسباب المؤدية إلى التوقف في اليقينيات، مع أنكم لا تخالفون عند التحقيق إلا في القول دون الاعتقاد؛ لأنكم تعترفون أن الظلم ونحوه صفة نقص، ولا معنى للنقص إلا أنه يستحق الإهانة والاستخفاف، والذم أحد أنواع الاستخفاف لأنه يكون بالقول، والفعل، والترك، وحينئذٍ فقد أقررتم بأنكم تعلمون استحقاق فاعل القبيح للذم، ولكن لم تشعروا بذلك، ومع هذا الاعتراف فلا يحصل منكم إنكار للضرورة.
فإن قلتم: نحن منكرون كون الظلم ونحوه صفات نقص، بل نقول لا فرق في العقل بين فاعل الظلم والكذب، وبين فاعل العدل والصدق، ألحقناكم بالبهائم التي لا تعقل، وعددنا مراجعتكم كمراجعة المجانين.
قلت: وقد مر في المقدمة عن كثير من الأشاعرة القول بأن العقل يستقل بمعرفة الحسن والقبح، بمعنى استحقاق المدح والذم.
وحكى الإمام المهدي عليه السلام عن الرازي أنه قال ما لفظه: إنا لا ننازع أن الناس يستحسنون أموراً، ويستقبحون أموراً أخرى قبل ورود الشرع، حتى قال: إنا إذا رجعنا إلى أنفسنا وجدناها جازمة بحسن الصدق، والعدل، والإنصاف، وقبح الكذب، والجهل، والظلم.
قال: لكن ذلك الاستحسان والاستقباح مغايران للاستحسان والاستقباح اللذين وقع النزاع فيهما.
قال الإمام المهدي عليه السلام : فنقول قد شهد عليكم إمامكم الأعظم أنكم تعلمون ضرورة قبح الظلم ونحوه، وحسن العدل ونحوه قبل ورود الشرع، وإنما نازعتم في ماهيتهما فقلتم: القبح إما نفرة الطبع، أو صفة نقص، وقلنا: بل هو كون ليس لنا فعله، وأبطلنا ما زعمتم بما لا تستطيعون دفعه.
قال عليه السلام : ثم إن خلافكم في التحقيق راجع إلى وجه القبح والحسن لا في ثبوت القبح والحسن، فقد اعترفتم بأنه ضروري، وتعيين الوجه مما يعلم بالدليل وليس بضروري، فلم تنكروا الضرورة، فإن أنكرتم ما حكاه إمامكم عنكم، قلنا لكم: فهل تجد العقلاء قبل ورود الشرع فرقاً بين الظلم والعدل أم لا؟ إن قلتم: نعم يجدون فرقاً فهو الذي اعترف به إمامكم، وهو قولنا، وإن قلتم لا ناديتم على أنفسكم بالسفسطة، بل بأبلغ منها وهو الالتحاق بالبهائم، فإن الأطفال يفرقون بين ذلك فرقاً ظاهراً، بل تكونون شراً من البهائم، فإنا نجدها تفرق بين المحسن وغيره، وحينئذٍ لا تستحقون أن يراجعكم عاقل، كما لا تراجع الوحوش، وشرار البهائم.
هذا حاصل ما ذكر الإمام المهدي عليه السلام ، ثم حكى عليه السلام عن الرازي كلاماً يدفع قولنا في وجه القبح، وأجاب عنه، ونحن نأتي بحاصل كلام الرازي، وجواب الإمام عليه السلام فنقول: قال الرازي: إنا نعلم أن القادر منا لا يفعل إلا لغرض، وأن المطلوب للحيوان ليس إلا اللذة، والمهروب منه ليس إلا الألم، فكلما تحصل به اللذة حالاً أو مآلاً فهو مستحسن عنده كالعدل، وبر الوالدين، والوفاء بالعهد، فإن هذه لو أتى بها غيره لأجله فإنه يلتذ بها، فلا جرم تواضعوا على تحسينها، وكذلك النفع المتوقع، وكلما يؤدي إلى الألم حالاً أو مآلاً كالظلم فهو مستقبح عنده، فتواضعوا على قبحه دفعاً للضرر المتوقع، وأما الكذب والجهل والعبث فليس النفرة عنها كالنفرة من الظلم، بل دونه وما وجد من النفرة عنها فهو لأجل ما يحصل عند الفاعل لها من المضار بفعلها.
أجاب الإمام المهدي عليه السلام بما حاصله: أنه لا يخلو إما أن يقولوا إن الحسن والقبح مجرد تواضع العقلاء على الفعل، سواء لائم الطبع أم نافره، أم هما ملائمة الطبع ومنافرته تحقيقاً أو تقديراً من دون نظر إلى مواضعه، أم مجموع الأمرين ولا قسم رابع، إن أرادوا الأول لزم فيمن انفرد عن الناس قبل كمال عقله أن لا يجد مزية للعدل على الظلم، فلا يجد فرقاً بين أن يؤلم حيواناً لغير منفعة ولا دفع مضرة وبين أن يحسن إليه، ومن بلغ إلى مثل هذه الدعوى فهو مكابر، ويلزمهم أيضاً أنا لو فرضنا تواضع العقلاء على الظلم، وعدم الصدق، والوفاء بالعهد أن نجد في عقولنا من حسن هذه الأمور، وثبوت مزية لها على العدل والصدق والوفاء، كما نجده الآن للعدل ونحوه على أضدادها، ومن بلغ إلى تجويز ذلك، فهو إما زائل العقل، أو منكر للضرورة، ثم إنا لو سلمنا أن الحسن والقبح هو المواضعة، فهل علموا حسن المواضعة وقبحها أم لا، الثاني: يقتضي أن لا تأثير للمواضعة في الحسن والقبح، وإن كان الأول فلا يكون ذلك الحسن والقبح إلا لمواضعة أخرى، فيعود السؤال ويتسلسل، أو لمجرد العقل لزم أن يكون استحسان العدل واستقباح الظلم بمجرد العقل؛ إذ لا فرق بين الإستحسانين والاستقباحين في العقل، وإن أرادوا أن الحسن والقبح مجرد ملاءمة الطبع ومنافرته، فقد مر ما فيه مقنع.
قلت: ونحن قد حققنا ذلك في المقدمة قال عليه السلام : لكنا نزيد هنا فنقول: إن أريد بالملاءمة عدم التألم مع مزية، فهو قولنا؛ إذ لا يعقل منها إلا ما ذكرناه، وإن أريد بها مجرد كونه لا يتألم لزم كون الإحسان غير حسن لما يصحبه من ألم إنفاق المال، سلمنا أنه لا تألم مع الإحسان لزم أن لا يقبح إلا ما وقع به التألم؛ لأن القبح نقيض الحسن، فيجب أن يكون القبح ثبوت التألم من دون مزيَّة، وهذا ينقض قول الرازي أن الطبع قد ينفر عما لا يألم به، كالأبرص فإنه قد ينفر طبعه، وطبع من رآه عن البرص من دون أن يكونا مؤلمين، وينتقض بالعبث والكذب فقد أقررتم بقبحهما ولا تألم.
فإن قالوا: العبث لا يصح وقوعه إذ لا داعي إليه، والكذب إنما ينفر عنه الطبع لتقدير توجهه إلى فاعله من غيره.
قلنا: قد ثبت صحة الفعل بلا داع، وأما الكذب فتألمه به إذا خوطب به إما لمجرد حروفه لزم تألمه به وإن كان صدقاً، أو لأجل مخبره، فهل لمجرد إفادته من دون نظر إلى مطابقة وعدمها لزم مثله، وإن كان صدقاً أيضاً؛ لأن إفادته واحدة في الحالين وإن كان لعدم المطابقة، فإما أن يكون تألمه لعدم تخلف المخبر، فالمعلوم أنه قد يسره تخلفه نحو أن يخبر بموت ولده فيتخلف مخبره، أو لأنه يحمله على اعتقاد جهل، فتألمه بالجهل إما لكونه قبيحاً في نفسه، فقد عاد إلى قولنا، وإما لأنه ربما لحقه بالجهل ضرر، فقد يلحقه ضرر بالصدق، فيلزم استواء حالتي الصدق والكذب في القبح، والمعلوم خلافه، ولا قسم يعلم تألمه بالكذب لأجله سوى ما ذكرناه، وإذا بطلت الأقسام كلها فلا وجه يدعيه سوى التألم بطل ما زعمه من أن قبح الكذب لنفرة طبعه عنه، وإما أن يحكم بالقبح بمجموع نفرة الطبع والمواضعة، فباطل بما مر فيمن انفرد عن الناس، ولزوم حسن الظلم على فرض المواضعة عليه، وإن لم نجد له مزية كمزية العدل؛ لأنه وإن نفر عنه طبع المظلوم فالظالم يلتذ به، وإذا بطل كون الاستقباح لنفرة طبيعية لم يبق إلا الاستقباح العقلي، وقد أبطلنا كونها طبيعية بما لا مدفع له، فصح ما قررناه من أن ذلك المعلوم بالاتفاق بيننا وبينهم هو الاستقباح العقلي، إلا ما زعموه من مخالفة المواضعة ومنافرة الطبيعة.
واعلم أن حاصل كلام الرازي أن العلة في الحسن والقبح مواضعة العقلاء لأجل ملاءمة الطبع ونفرته، لكن لا لمطلق الملاءمة والمنافرة، بل الملاءمة والمنافرة لأجل اللذة والألم، وقد أبطله الإمام عليه السلام بما عرفت.
وإلى هنا انتهى الكلام على ما احتج به أهل القول الأول من العدلية، وبما ذكرنا من تصحيحها، ورد ما ورد عليها يتبين لك أن القبيح يقبح من كل من فعله، وأنه لا يختلف باختلاف الفاعلين.
وأما أهل القول الثاني وهم البغدادية ومن وافقهم القائلين بأن الفعل يقبح لعينه أي لصورته، فاحتجوا من وجهين:
أحدها: أن الأصل في ملطق الأفعال الحظر ولا الحظر إلا القبيح، فدل على أن قبح ذات القبيح معلل بالذات نفسها لا بوقوعها على وجه.
وأجيب بأنا لا نسلم أن الأصل الحظر، بل الأصل الإباحة بدليل أن العقلاء لا يذمون من تناول شربة من ماء غير محاز، أو استظل تحت شجرة لا مالك لها، أو نحو ذلك، ولا يصوبون من عاقبه على ذلك قبل ورود الشرع، فلو كان الأصل الحظر لذموا من فعل شيئاً من ذلك، وصوبوا من عاقبه؛ إذ من أقدم على محظور فإنهم يذمونه قطعاً، فثبت أن الأصل في مطلق الأفعال الإباحة، فلا يخرجها عن هذا الأصل إلا لوقوعها على وجه غير كونها فعلاً لفاعلها.
الوجه الثاني: أن الجهل لا يقع غير جهل، وأجيب بأنا لا نسلم، بل يقع غير جهل، فإنه لو اعتقد أن زيداً في الدار وليس فيها كان جهلاً، ولو اعتقد هذا الاعتقاد بعينه وهو فيها مع سكون النفس لكان علماً.
واعلم أن هذا الجواب مبني على أمور، وهي كون العلم من جنس الاعتقاد، وأن الاعتقاد يصير علماً بوقوعه على وجه، وأن الجهل إنما يقبح لوقوعه على وجه، وفي كل منها خلاف، أما الأمر الأول: وهو أن العلم من جنس الاعتقاد، فهو قول أكثر البصرية؛ لأنهما لو كانا جنسين مختلفين لصح حصول العلم دون الاعتقاد، والمعلوم أن ذلك لا يصح لأن الاعتقاد يقتضي الجزم بمتعلقه، والعالم جازم، ولا يصح أن يعلم أحدنا شيئاً ولا يجزم به، وإن صح أن يعتقده ويجزم به ولا يكون عالماً، فصح أن الاعتقاد يعم العلم وغيره، وأيضاً لو كانا جنسين لكانا ضدين، وهو باطل لصحة اجتماعهما كما بينا، وإما مختلفين، وهو باطل وإلا لزم أن يبقى أحدهما مع طرو الجهل، فتعين كونهما مثلين.
وقال أبو الهذيل: بل العلم جنس غير الاعتقاد حكاه عنه أبو القاسم وغيره، وحكى عنه أبو علي غير ذلك.
احتج أبو الهذيل بأن الاعتقاد يوجد ولا يكون علماً، فدل على أنه غيره، وأجيب بأنه جنس يعم العلم وغيره كما مر، وأيضاً لو كان من جنس الاعتقاد لصح وصف الباري بأنه معتقد كما يوصف بأنه عالم، وذلك لا يجوز بالإجماع.
أجاب أبو علي، وأبو هاشم بأن المعتقد اسم لذي القلب، والضمير مأخوذ من الاعتقاد، والاعتقاد اسم لما عقد عليه القلب من الجزم بأمر، فلهذا لم يجز إجراؤه على الله تعالى، وأجاب أبو عبد الله البصري بأنه مجاز؛ لأنه مشبه بعقد الخيط على شيء، فكأن المعتقد عقد قلبه على عقيدته، والمجاز لا يطلق على الله إلا بإذن سمعي.
وأما الأمر الثاني وهو أن الاعتقاد يصير علماً بوقوعه على وجه، فالخلاف فيه بين البهشمية وأبي القاسم البلخي، فقالت البهشمية: إنما يصير علماً لوقوعه على وجه.
وقال أبو القاسم: بل يصير علماً لعينه، قال الحاكم: إن أراد لذاته فخلافه معنوي، وإن أراد أنه يصير علماً لا لمعنى فلفظي، قال: والأرجح أنه لفظي؛ إذ لو جعله علماً لذاته لزم كون العلم جنساً برأسه غير الاعتقاد، أو مخالفة العلم للاعتقاد وإن اتحد متعلقهما، وأيضاً لو صح كونه لذاته لزم تماثل العلوم وإن تغايرت متعلقاتها لاشتراكها في الصفة الذاتية، فيجوز أن تنتفي كلها بطرو جهل على أحدها، والمعلوم خلافه.
إذا عرفت هذا فنقول: قد ثبت أن العلم من جنس الاعتقاد، وثبت أن الاعتقاد يقع علماً وغير علم، وإذا كان كذلك فلا يخلو إما أن يكون علماً لذاته، أو لما هو عليه في ذاته، وهو باطل لما ذكرنا، أو لغيره، وذلك الغير إما أن يكون معنى، أو فاعل، أو لا أيهما، الثاني باطل؛ إذ لا يعقل مؤثراً لا موجباً، أو مختاراً، الأول باطل أيضاً لأن المعنى لا يختص المعنى، وهو لا يوجب لذات من دون اختصاص بها، وأما الفاعل فلأنه لو صار علماً بالفاعل لأوجدنا لأنفسنا ما نشاء من العلوم، والمعلوم تعذره، فبطل كونه علماً لأي هذه الأمور، ولا يصح أن يكون علماً لوجوده، وإلا لزم أن يكون كل معنى علماً، ولا بحلوله كذلك، ولا لعدمه، ولا لعدم معنى؛ إذ العدم يحيل التعلق والاختصاص له به، فلم يبق إلا أنه صار علماً لوقوعه على وجه، والوجوه التي يصير بها الاعتقاد علماً ستة ليس هذا موضع ذكرها.
وأما الأمر الثالث وهو أن الجهل إنما يقبح لوقوعه على وجه، فالخلاف فيه بين أبي هاشم، وأبي علي، فقال أبو هاشم: إنما يقبح لوقوعه على وجه وهو كونه جهلاً، كما أن سائر القبائح كذلك، فإذا تعلق الاعتقاد لا على ما هو به فهو جهل وقبح لوقوعه على هذا الوجه، سواء كان جهلاً بالله أو بغيره، قال ابن متويه: والجهل بالله يصح وقوعه غير جهل؛ إذ الجهل من جنس العلم يوضحه أنه لو اعتقد معتقدٌ أن الله قد أراد أمراً وهو غير مريد له، لكان يصح أن يوجد هذا الاعتقاد وليس بجهل بأن يكون الله تعالى قد أراده، وقال أبو علي: بل هو قبيح لنفسه أي جهل كان، وعنه أن الذي يقبح لنفسه إنما هو الجهل بالله خاصة؛ إذ لا يصح وجوده غير قبيح. قال ابن متويه: ربما أثبته قبيحاً في العدم.
قلت: وقد أبطل الإمام المهدي عليه السلام كلام أبي علي بأن الجهل اعتقاد يحسن إذا طابق الحق، ويقبح إذا خالفه، وهما وجهان يقع الاعتقاد عليهما، فيقبح لوقوعه على أحدهما، مع أنه يلزم على قوله تماثل الجهالات لاتفاقها في صفة ذاتية، والمعلوم أن الجهل بكونه قادراً يخالف الجهل بكونه عالماً، وأما إثباته في العدم فباطل لأن من حق القبيح وجوده على وجه يستحق فاعله الذم، وهذا لا يتم مع العدم.
وأما قوله في الجهل بالله فلو صح لصح في غيره من الجهالات لاتفاقها في عدم تغير حالها في كونها جهلاً، فيلزم أن يكون كل جهل قبيح لنفسه، وأن يقبح في العدم.
قال عليه السلام : وبعد فإنا متى عرفناه جهلاً عرفناه قبيحاً، وإن لم نعلم أمراً سواه، ومتى لا فلا وإن عرفنا ما عرفنا، فصح أن العلة كونه جهلاً كما تقدم في الظلم وغيره.
قلت: قد ظهر بما حررنا أن هذا الوجه الذي احتجوا به، وجوابه مبنيات على هذه الثلاثة الأمور، فإذا أمعنت النظر فيها فلا بد وأن تعرف الحق إن شاء الله، مع أنه لو صح أن الجهل يقبح لعينه، وأنه لا يكون غيره جهل، فلا نسلم لهم في سائر القبائح أنها تقبح لعينها، ولذا وافقهم أبو علي في الجهل، وخالفهم في غيره.
واعلم أن الأئمة وأتباعهم قد أبطلوا قول البغدادية بوجوه، ولوازم ربما ظهر بعضها من تأمل هذه الأمور، لكنا نأتي بها للتوضيح منها: أنا وجدنا كثيراً من الأفعال يقبح في حالة دون حالة، ولو قبح لعينه لقبح في كل حال؛ لأنه عين واحدة كالسجدة تحسن إذا كانت لله، وتقبح إذا كانت للصنم، ومنها أن صفة الذات ترجع إلى أفراد الذوات، فيلزم قبح كل حرف من حروف الكذب وإن لم ينضم إلى غيره، ومنها: أنه لو قبح لذاته لقبح في حال العدم بناءً على مذهبهم في ثبوت الذوات، وصفتها الذاتية في العدم، ومنها: لزوم تماثل القبائح كما مر، ولا شك في اختلافها.
قلت: وهذه الإلزامات مؤاخذة لهم بظاهر كلامهم، ومجاراة لهم بحسبه، وإلا فقد تأول كلامهم بأن معنى كون القبح ذاتياً للظلم مثلاً أنه لا يقع ظلم إلا وهو قبيح، وكذلك سائر القبائح فهو ذاتي لحصول وجه القبح فيه لا لمجرد ذات الفعل، فتكون تسميته ذاتياً حينئذٍ مجازاً، ويكون كلامهم موافقاً للأئمة والبصرية، وهذا هو اللائق بعلمهم، وقوة أنظارهم؛ إذ من البعيد أن يقولوا بقبح الظلم لكونه أكواناً، فإن العدل مثله، ومن البعيد أن يعللوا بكونه هذه العين؛ إذ معنى ذلك أنه ليس غيره، فيلزم قبح الحسن لأنه ليس غيره.
وقال الإمام المهدي عليه السلام في تأويل كلامهم ما لفظه: إنما أرادوا ما أردنا من أن الظلم إنما قبح لكونه ظلماً، فكأنا عللناه بعينه لما قبح الظلم لكونه ظلماً، وظاهر اللفظ يقتضي أن قبحه معلل بعينه، ولهذا قالوا: قبح لعينه وهم يريدون ما أردنا حيث قلنا لكونه ظلماً، أي لكونه ضرراً عارياً عن نفع، ودفع، واستحقاق.
قال عليه السلام : هذا الذي يتلخص لي من مذهب البغدادية. والله أعلم.
وحكى الإمام عز الدين عليه السلام عن الرازي أنه حمل كلام أبي القاسم في هذه المسألة وغيرها كقوله في الواجب، والحسن، والأمر، والنهي، والخبر، وجميع الأوصاف التي تجري على الأفعال على أنه مراده بقوله فيها لذاته، وعينه أن عين الضرر الذي فيه حقيقة الظلم يكون ظلماً، وكذلك الكذب، والعبث، ونحو ذلك لا يختلف الحال فيه، ولا يحتاج في كونه كذلك إلى إرادة، وكذلك قوله في أنواع الكلام كالأمر فإنه بالوضع اللغوي موضوع للأمر من غير اعتبار إرادة كالأسد والحمار، وكذلك غيره من ضروب الكلام.
قلت: وممن جعله خلافاً في العبارة فقط العلامة المقبلي، قال: وبيانه أن مراد الجبائية بالوجه الذي وقع عليه الفعل الوجه الذي له دخل في تحسين الفعل، وتقبيحه، ولأجله سمي حسناً، أو قبيحاً؛ إذ مطلق الفعل وحده، أو مع ألف وجه لا يصير يسمى لأجله حسناً، أو قبيحاً لا يعتبره عاقل قطعاً؛ لكونه حركة مثلاً إلى جهة اليمين في وقت الضحى في قعر المنزل، وغير ذلك، وإلا للزم كون كل فعل حسناً وكونه قبيحاً، وهو معلوم البطلان، والبغدادية لا يقولون إن مطلق الفعل قبيح، ولا هو مع وجه ملغي كذلك لما ذكر، فتبين أنه مطلق الفعل مركباً مع وجه، أو وجوه لها دخل في صيرورته، وتسميته حسناً وقبحاً، وأنا أنبهك على وجه غلطهم، وهو أنهم يأخذون الفعل متركباً مع وصف ملغي، أو غير تام كالسجدة مثلاً، ثم يقولون لو كانت السجدة حسنة، أو قبيحة لنفسها لما كانت طاعة للرحمن، وكفراً إن كانت للشيطان.
والجواب: أن مراد البغدادية بالفعل ليس السجدة مطلقة، ولا هو مع القيود التي صارت بها سجدة، بل ذلك كله مع قيود أخر صار بها عبادة للرحمن، ومتى كان كذلك لم يخرج عن كونه عبادة إلى كونه كفراً إلا بنقصان قيد، وزيادة آخر، والمقيد بقيد غير المقيد بالآخر، وكذلك القول في لطم اليتيم تأديباً، وظلماً، وغير ذلك، وحاصله أن الظلم مثلاً بعد تمام كونه ظلماً لا يخرج عن كونه قبيحاً ما دام كذلك؛ فلذا قالوا: إنه ذاتي، أي ما دام الظلم مستجمعاً لما صار به الفعل ظلماً فلا يخرج عن القبح، قال: فتأمل هذا فإنه بحث نفيس بديع، وهو مما ترك الأول للآخر.
قلت: ويدل على صحة ما ذكره هؤلاء الجهابذة من تأويل كلام البغدادية الاحتجاج لهم بكون الأصل في مطلق الأفعال الحظر، وذلك أنهم لم يقولوا بأن الأصل فيها الحظر إلا بكونها تصرف في ملك الغير بغير إذنه، وهذا تصريح منهم بأنه لم يقبح التصرف إلا لوقوعه على وجه.
واعلم أن القول بأن الأصل في مطلق الأفعال الحظر ليس قول البغدادية جميعاً، وإنما قاله بعضهم كما في (الجوهرة)، ولم يقولوا به إلا فيما لا يدرك العقل فيه جهة محسنة، ولا مقبحة، لا في مطلق الفعل، مع أنه لم يبن مذهبهم على هذا الأصل إلا الإمام القاسم عليه السلام في (الأساس) فيما اطلعت عليه، وأما غيره فاحتجوا لهم بالوجه الثاني، وهو أولى كما عرفت.
وأما أهل القول الثالث وهم الإخشيذية، فاحتجوا بأن الكذب إنما يكون كذباً بإرادة الإخبار عن الشيء، لا على ما هو به.
وأجيب بأنا لا نسلمه، بل يكون كذباً إذا لم يطابق سواء أراد أم لا، بل يكون كاذباً وإن اعتقد المطابقة وأراد الإخبار عنها، ولو سلمنا ذلك في الكذب فلا نسلمه في غيره من القبائح، فإن قيل: إن سائر القبائح كالكذب لا يؤثر فيها إلا الإرادة؛ إذ هي المؤثرة في وقوع الفعل على وجه دون وجه، والقبح فرع على وقوع الفعل على وجه مخصوص، فإذا لم يقع على ذلك الوجه إلا بالإرادة كانت هي المؤثرة في قبحه؛ لأن المؤثر في سبب الشيء هو المؤثر في ذلك الشيء.
فالجواب: أنا نعلم ضرورة أنه يقبح الظلم وإن لم يرد اتفاقاً، وذلك فيما لو سلب الله فاعله الإرادة، وكذلك فعل الساهي، والنائم فإنه قبيح عند من لم يعتبر القصد، مع أنه لم يرد.
قال القرشي: ومما يبطل قولهم إنه قد يعلم القبيح من لا يعلم الإرادة، بل من لا يثبتها، وأيضاً فإن الإرادة مما يقبح ويحسن، فتكون هذه الإرادة قبيحة؛ إذ إرادة القبيح قبيحة، فيجب أن تحتاج إلى إرادة، فيلزم التسلسل، أو التحكم لو اقتصر على البعض.
قال النجري: وأما ما قيل إنه يلزمهم الدور لأنه إنما قبحت الإرادة لقبح المراد، فإنما يلزمهم لو قالوا: قبح المراد لقبح الإرادة، وأما حيث قالوا: القبح الإرادة نفسها فلا دور.
واعلم أن الإمام المهدي عليه السلام قد ذكر أنه لا طائل تحت هذا الخلاف، وقال: إن التحقيق أنهم لا ينازعون في أن القبح متفرع على الوجه المخصوص، وعلى الإرادة؛ لأنه لا يقع على ذلك الوجه إلا بها، فالقبح مترتب عليهما، إلا أن الإخشيذية رجحوا التعليل بالإرادة، ونحن رجحنا التعليل بالوجه؛ لأن كون الفعل جامعاً لقيود الظلم مثلاً هو الذي يناسب التأثير في القبح لا مجرد كونه مراداً، ولأن التعليل بالإرادة غير مطرد ولا منعكس، أما الطرد فلأنها قد تثبت الإرادة ولا قبح، وذلك حيث يراد الحسن، وانتقاض طرد العلة يبطلها بالإجماع، وأما عدم عكسها فلثبوت القبح من دونها كما مر، فثبت أن العلة في القبح هو وقوعه على وجه لمناسبته للحكم، ولكونه مطرداً منعكساً.
وإلى هنا انتهى ما احتج به أهل العدل من الحجج العقلية القاضية بأنه يقبح من الله تعالى ما يقبح من غيره.
وأما أدلتهم السمعية فستأتي في مواضعها إن شاء الله.
فائدة [في ذكر الوجوه والاعتبارات التي يحصل بها الحكم]
قال المقبلي: الوجوه والاعتبارات التي يتحصل بها الحكم هو شيء مقدور، وضابطه ما حكم، وأدرك العقل عنده الحسن والقبح، ثم قد يزيد على تلك الوجوه المعينة وجه أو وجوه، فإذا اعتبر المجموع فتارة يتأكد الحكم الأول فقط مثل الزنا في المسجد في رمضان مثلاً، وقد يتصف المجموع بحكم مخالف لحكم المزيد عليه، والمزيد عليه باق على ما هو عليه، فإنه مع الزيادة مغاير له مع عدمها، فلا بعد ولا إحالة في اتصاف كل منهما بغير ما اتصف به الآخر، فإذا حكم العقل مثلاً بحسن الصدق وقبح الكذب، ثم فرضنا أنه جاء دليل شرعي بأن الكذب الذي فيه عصمة نبي واجب، والصدق الذي به هلاكه حرام لم ينقض علينا قاعدة الحسن والقبح، بل ولا هذه الصورة التي أدرك حكمها العقل؛ لأنه إنما أدرك حسن صدق غير مقيد بكونه يهلك به نبي، وقبح كذب غير مقيد بكونه ينجو به نبي.
يحكى عن بعض أهل البوادي أنهم يبيتون الضيف مع أزاوجهم ومحارمهم، ويقولون: هم إكرام الناس للضيف، فهؤلاء ضموا إلى إكرام الضيف هذه الخسة، وسموا المجموع بإكرام الضيف، والذي يفعل ذلك إنما يسمى ديوثاً ونحوه، وإكرام الضيف إنما هو جزء فعلهم هذا، وهو إكرام الضيف فيما عدا هذه الخسة، ومع تناهي فعلهم هذا في القبح لا يخرج إكرام الضيف من كونه من أشرف الخصال، وأفضلها، ولا يكاد فعل يخلو عن مفسدة ولو مجرد المشقة، وفوات الدعة، ولا عن مصلحة ولو اللذة، وإطلاق عنان النفس فإنها ما منعت من شيء إلا اشتاقت إليه، ولكن يعتبر الأرجح، ويضمحل عنده المرجوح، وهذا يحتاج إلى معاودة التأمل، وعدم الاستعجال مع نقاوة غريزة، وذهن صاف سيال.
قال: فإن قلت هذا يخالف قولهم قبح الكذب لكونه كذباً، والظلم لكونه ظلماً، والعلة موجودة بتمامها مع كل عارض مقدر في الكذب؛ لأن حقيقته مقررة لا تزول إلا بزواله بخلاف الظن.
قلت: إنما حكمنا بقبح ما أدرك العقل قبحه بضرورته، وأما تصيدكم العلة، ثم إلحاق ما لم تدركه الضرورة العقلية، فلا يفيد اليقين لعدم القطع بعدم الفارق، وإنما غايته الظن الذي الأصل منعه ما لم يدل على الاستغناء به دليل، فدعه {وَلاَ تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْم ٌ}[الإسراء:36]، {إِنَّ الظَّنَّ لاَ يُغْنِي مِنَ الْحَقِّ }[النجم:شَيْئاً28] {إِنَّ بَعْضَ الظَّنِّ إِثْمٌ }[الحجرات:12 ]فما يؤمننا أن يكون هذا منه، وما لم تلجئنا الضرروة العقلية فلا علينا أن نكل أمره إلى خبر الشرع، ونذعن له بالطاعة والسمع، فكل ما لم تضطرنا إليه الضرورة العقيلة، فنحن فيه سمعية، يقال: وهذا أوسط الأمرين بين تفريط الأشاعرة، وإفراط المعتزلة.
قلت: وهو بحث نفيس، إلا أن ظاهر قوله إنه إنما يحكم بقبح ما أدرك العقل قبحه بضرورته إلى آخره يقتضي أن القبح يكون لا لعلة، وهو يناقض قوله فيما نقلناه عنه في تأويل كلام البغدادية من أن الفعل لا يقبح إلا لوقوعه على وجه مخصوص، ولو قرر كلامه هذا الباهر في عدم إدراك العقل قبح الكذب المتضمن لسلامة نبي بما ذكره الإمام المهدي عليه السلام من أن علة قبح الكذب الذي يعلم بضرورة العقل مركبة من إثبات، ونفي وأن ما عداه شرعي، لكان أولى ليسلم من إيهام المناقضة، ولا لوم عليه بموافقة إمام من أئمة الهدى.
الموضع الثالث: في شبه المخالف
وقد عرفت مما سبق أنهم متفقون على أنه لا يقبح من الله تعالى ما يقبح من غيره، ثم اختلفوا في علة ذلك على ثلاثة أقوال: القول الأول للأشعرية ومن وافقهم، وهو أن الفعل لا يقبح إلا لنهي الشارع والباري تعالى ليس بمنهي فلا يقبح منه ما يقبح من غيره، ولهم على ذلك شبه عقلية، وسمعية، أما العقلية فأحدها أنه قد وقع من الباري تعالى أفعالاً لو وقعت من الواحد منا لأنكرها العقلاء، ولحكموا بقبحها وسفه فاعلها، ومع ذلك فهي مستحسنة من الله تعالى، فصح أنه لا يقبح من الله ما يقبح من غيره، وأنها إنما قبحت منا للنهي، وضربوا لذلك أمثلة:
المثال الأول: إن الله تعالى كلف من علم أنه سيكفر، ولو أنه تركهم كالبهائم يأكلون، ويشربون، ويتلذذون لكان أحسن عند العقلاء من تكليفهم بما يوجب مخالفتهم لأمره، والاعراض عن ذكره والثناء عليه، بل ربما يوجب سبه ومنازعته في ربوبيته، ألا ترى أنه لو كان في الشاهد حكيماً يحب الثناء عليه والطاعة له، ويكره الذم والعصيان لأمره، وكان له عبيد يعلم من حالهم أنه إذا تركهم مهملين اشتغلوا بلذاتهم، ولم يتفرغوا للثناء على سيدهم، فإن إهمالهم لا يحسن ولا يقبح، ثم إنه إن كان يعلم من حالهم أنه إذا كلفهم بالثناء والطاعة خالفوه، وشتموه، ونسبوه إلى كل رذيلة، ثم كلفهم والحال هذه، فإن العقلاء يذمونه على هذا التكليف، ويشيرون عليه بتركه، ويقولون إن كنت تكره سماع القبيح فاتركهم مهملين، فإذا لم يقبل ما أشاروا به عليه نسبوه إلى السفه والجهل، فثبت أنه لا يقبح من الله ما يقبح من أحدنا.
المثال الثاني: أن الواحد منا لو قال لآخر: إني أريد أن أنفعك بتعلم الكتابة لتصل بها إلى منافع عظيمة، ودرجات رفيعة، ولا غرض لي إلا نفعك وصلاحك؛ إذ لا نفع لي إن فعلت، ولا ضرر علي إن تركت، فعليك بتعلمها، ثم إن المأمور لم يفعل شيئاً، فأمر ذلك الآمر بحبسه، وضربه، وتحريقه بالنار لعدم امتثال أمره الذي قد عرضه لأجله على تلك المنافع، فإن كل عاقل يستقبح تعذيب الآمر للمأمور لعدم نفع نفسه، والله تعالى قد كلف عباده بالطاعة التي يتوصلون بها إلى النعيم الدائم، ثم أخبر أنهم إن لم ينفعوا أنفسهم عاقبهم أشد العقاب ولم يقبح منه.
المثال الثالث: أن الحكيم الغني المالك لما لا يحصى من أنواع الملاذ من المطاعم وغيرها، وهو لا يمنعها من كثير من الحيوانات، ولا ينقصها ما أخذته منها لو كان له عبد محتاج، فسأل سيده أن يعطيه من ذلك ما يسد فاقته، فقال: لا أعطيك حتى تنقل كل يوم حجراً من هذا الجبل إلى هذا الجبل، فقال: ألك في هذا نفع؟ قال: لا، ولكني أريد أن أجعل ما أعطيك عوضاً عن هذا الفعل، فقال العبد: هذا يضرني، ولا ينفعك، وأنت قد تفضلت على غيري بأضعاف ما تعطيني، فقال: لا أعطيك حتى تفعل ما قلته، فإن المعلوم أن العقلاء يذمون هذا السيد، وينسبونه إلى العبث، والمعلوم أن الله تعالى قد كلف عباده بما لا نفع له فيه، ولا دفع ضرر عنه، بل هو ضرر محض على المكلفين، وقال: إنه لا يدخلهم الجنة حتى يؤدوا ما قد كلفهم مع أنواع المشاق، مع أنه قد تفضل بها على الأطفال والمجانين، ولم يقبح منه هذا التكليف.
المثال الرابع: أن من قتل رجلاً له أطفال، فإنه يقبح منه، وكم يميت الله من الآباء الذين لهم من الأطفال ما تسكب لرحمتهم العبرات، وترق لرؤيتهم القلوب القاسية، ولم يقبح.
المثال الخامس: إن الله خلى بين عبيده يقتل بعضهم بعضاً، ويأخذ ماله، ويزني بعضهم ببعض مع علمه وقدرته على التفريق بينهم، بل أمدهم بأموال ومنافع تهيج شهواتهم، وتشد من قواهم، ولم يقبح منه، ولو فعل مثله الواحد منا لقبح منه، قالوا: فلو كان القبح لأمر يرجع إلى ذات الفعل لما وقعت من الله تعالى؛ إذ ما كان ذاتياً فلا يختلف باختلاف الفاعلين، ولما وجدنا هذه الأفعال تقبح منا، ولا تقبح من الله تعالى تعين أنه لا وجه للفرق إلا كوننا منهيين بخلاف الباري تعالى، والجواب من وجهين: جملي، وتفصيلي.
أما الجملي فنقول: لو كان العلة في القبح النهي للزم إذا نهى الله عن عبادته، وعن العدل، والإنصاف أن تقبح هذه الأمور، ولعلهم يلتزمون قبحها لأنها لأجل النهي تنافر الطبع، وفي التزامه من الشناعة ما لا يخفى، ويلزم على علتهم هذه إبطال الشرائع؛ لأن معرفة الشرائع متوقفة على معرفة النبوة، ونحن لا نعرف النبوة إلا إذا علمنا أنا مأمورون منهيون، ولا طريق لنا إلى معرفة الأمر والنهي إلا من جهة النبي، وهذا محض الدور الذي يلزم منه عدم إمكان معرفة الشرائع؛ لأنه إذا لم يمكن العلم بالنبوة لم يمكن العلم بشيء مما يتوقف عليها، وهو معنى إبطال الشرائع، وأيضاً لو قبح الفعل للنهي لكان يجب أن يحسن الحسن للأمر؛ لأنه نقيض القبيح، والواجب في النقيضين أن يكون مقتضي -بالكسر- كل واحد نقيض مقتضي الآخر، وهذا بالكسر أيضاً، وإذا حسن الفعل لأجل الأمر وجب أن لا يحسن من الله حسن لفقد الأمر، كما أنه لا يقبح منه قبيح لفقد النهي.
ومن قال: إن أفعال الله غير حسنة فقد خلع ربقة الإسلام من عنقه، فإن قيل: لا نسلم أن نقيض القبح الحسن، بل نقيضه لا قبح، وأما الحسن فهو ما لا يرد النهي عنه ممن له النهي وهو المالك، وعلى هذا فأفعال الله كلها حسنة، فلا يلزم ما ذكرتم.
قيل: لو كان الحسن ما ذكرتم لوجب حسن الظلم، والكذب قبل ورود الشرع؛ إذ لا نهي، وأنتم موافقون لنا في إثبات الحسن والقبح العقليين، وإنما خالفتم في تفسيرهما، وقد أوضحنا فيما مر أنه لا محيد لكم عن التفسير الذي ذكرناه، ولذا قلنا: إنكم موافقون لنا في المعنى، وقد بينا فيما مر أن من أنكر قبح الظلم ونحوه قبل ورود الشرع، ولم يفرق بينه وبين العدل، فإنه لا يستحق المناظرة.
وبعد فلو كان علة القبح النهي لما عرف القبح من لا يعرف الناهي والنهي، كالملحدة، ومن لا يعرف الشرائع كالبراهمة، والجاهلية؛ لأن العلم بالقبح يتفرع على معرفة وجه القبح جملة، أو تفصيلاً، والمعلوم من حال هؤلاء أنهم يستقبحون الظلم والكذب، ويستحسنون ذم فاعلهما، وأنتم تعترفون بذلك، لأنكم قد أقررتم أن العقلاء يعدونهما صفة نقص، وقد قدمنا أنه لا معنى للنقص إلا كون الفاعل يستحق الاستخفاف، والذم أحد أنواع الاستخفاف، وأيضاً لو أثر أمره ونهيه تعالى في القبح لأثر أمرنا ونهينا؛ لأن صيغ الأمر والنهي تتماثل، وهي العلة بزعمكم، والعلل في إيجاب الحكم لا تختلف باختلاف الفاعلين، ألا ترى أن الحركة لما كانت علة في كون الذات متحركة لم يفترق الحال بين أن تكون من قبلنا، أو من قبل الله تعالى، فكذلك هاهنا، والمعلوم خلافه، مع أنه يلزم لو كان لأمرنا ونهينا تأثيرٌ أن يكون الشيء الواحد حسناً وقبيحا دفعة واحدة بأن يأمر به شخص، وينهى عنه آخر، وفي هذا جمع بين المتناقضين.
فإن قيل: إنما أثر أمر الباري ونهيه لوجوب طاعته دوننا.
قيل: قد أجاب عن هذا القرشي، فقال: بالعقل علمتم وجوب طاعة الخالق، فقد أبطلتم مذهبكم في أن العقل لا يقضي بالوجوب، أم بالأمر، فيعود الإلزام لأنكم إنما نوزعتم في الفرق بين أمره وبين أمر عباده، فما لم تجعلوا الفرق عقلياً فالإلزام باق، ولا ينقلب علينا هذا لأنا نجعل أمره تعالى دليلاً على الوجوب لا مؤثراً فيه، وصح ذلك في أمره دون أمرنا؛ لأنه تعالى حكيم لا يأمر إلا بحسن، فلذلك لم يدل أمرنا على الوجوب، ولا نهينا على القبح.
فإن قيل: نحن نلتزم تأثير نهينا في القبح، فإن من نهى عن دخول داره أو نحوه، فإن الدخول يقبح، ولا علة له إلا النهي.
قيل: قد أجيب بوجهين:
أحدهما: ذكره القرشي، وهو أن النهي لم يكن علة للقبح، بل كاشفاً عن عدم الرضا، والدخول مع عدم الرضا ظلم؛ لأنه ضرر لا نفع فيه، ولا دفع، ولا استحقاق، وكونه ظلماً هو الوجه في قبحه.
الثاني: ذكره الإمام عز الدين عليه السلام وهو أنه لم يقبح لمجرد نهي صاحب الدار، بل لأن الشارع نهى عن التصرف في ملكه بغير رضاه، ونهيه قد كشف عن عدم الرضا، فيكون ذلك مما نهى عنه الشرع.
قلت: وإنما رجح الإمام عليه السلام هذا الوجه على الأول؛ لأنه يقبح دخول الدار، وإن فرض عدم الضرر فيه.
واعلم أن لنا أصلاً قد تقرر، وهو أن الله تعالى عدل حكيم لا يفعل شيئاً من القبائح فما لم يظهر لنا وجه الحكمة فيه من أفعاله تعالى رددناه إلى هذا الأصل، وذلك كاف إذ لا نحتاج إلى معرفة وجه الحكمة على التفصيل، وقد ذكر نحو هذا القاسم بن إبراهيم، والسيد مانكديم، والمنصور بالله" وغيرهم من أصحابنا.
وأما الوجه التفصيلي وهو الجواب عن كل واحد من هذه الأمثلة على انفراده، واعلم أنها مما ينبغي إمعان النظر في تحقيق الجواب عنه، وذلك لا يكون إلا بذكر ما يتوقف صحة الجواب عليه من إثبات كونه تعالى حكيماً، وأنه لا يفعل إلا لحكمة؛ لأن هذه الأمثلة وما شابهها قد يتسارع العقل في الظاهر، وبادي الرأي إلى إنكار مثل هذه الأفعال، واستشكال وجه الحكمة فيها، أما تكليف من علم منه الاستمرار علىالكفر فظاهر، وأما أصل التكليف فلما فيه من إلزام المشاق مع إمكان النفع، ودفع الضرر من دونه، ولما فيه من بعث دواعي القبيح، والصرف عن الواجب، وذلك قد يتخيل أنه كالإغراء بالقبيح وترك الواجب، إلى غير ذلك مما لا يتجلى إلا ببحث وتدقيق، ونحن نستعين بالله تعالى على حل هذه الشبه، ونأتي في إبطالها بما يتضح به الحق، ويزول عنده الشك بمعونة الله سبحانه.
إذا عرفت هذا فنقول: الجواب عن المثال الأول يكون في ثلاثة أبحاث:
البحث الأول: في أن الله تعالى لا يفعل الفعل إلا لغرض وحكمة
وفي ذلك خلاف، فقالت العدلية: لا يفعل الله الفعل إلا لغرض، وقالت المجبرة: لا يجوز أن يفعل لغرض، هكذا أطلقه عنهم القرشي.
قال الإما م عز الدين عليه السلام : هذا هو الظاهر من مذهبهم، والذي تقضي به نصوصهم وكلامهم في كتب علم الكلام، وصرح به الرازي في نهايته.
قلت: الظاهر أنه لا ينفي الغرض منهم إلا الرازي كما يفيده كلام المنصور بالله في الشافي، والإمام القاسم في الأساس وغيرهما فإنهم يحكون عن المجبرة ما يدل على أنه خلقهم لغرض، وهو أنه خلقهم للجنة والنار، فقد وافقونا في أنه لا يفعل إلا لغرض، إلا أنهم بنوا الغرض على ذلك الأصل الفاسد، وهو أنه لا يقبح منه تعالى قبيح، وأنه يجوز منه عقاب الأنبياء، وإثابة الأشقياء، وكذلك الإمام المهدي عليه السلام فإنه حكى عن المجبرة أن الله خلق للجنة والنار، أي يدخل من يشاء الجنة ومن يشاء النار، ثم حكى عن برغوث والرازي القول بنفي الغرض.
وإذا عرفت الخلاف فنقول: احتج أصحابنا بأن كل فعل عار عن الغرض، فهو عبث؛ إذ لامعنى للعبث إلا ذلك، وقبح العبث معلوم ضرورة، والله لا يفعل القبيح فتعين أن يكون لغرض، وذلك الغرض لا يخلو إما أن يعود نفعه إلى الله تعالى، أو إلى المخلوقين، الأول باطل لأن المصالح والمنافع لا تجوز إلا على من جازت عليه الحاجة، والباري تعالى لا تجوز عليه الحاجة، فتعين أن الغرض نفع المخلوقين بمنافع عاجلة أو آجلة.
احتج الرازي على استحالة الغرض على الله تعالى بوجوه ثلاثة:
أحدها: أن يقال لو أوجد العالم لغرض لكان ذلك الغرض إما قديم، أو محدث، والأول باطل، وإلا لزم قدم العالم لوجوب حصول الفعل لأجل الغرض، والثاني: باطل أيضاً، وإلا احتاج الغرض إلى غرض فيتسلسل ويدور، وأجيب بأنه أوجده لما يعلمه في الأزل من أنه إذا أوجده انتفع بإحسانه، وليس الداعي موجباً، فيلزم قدم العالم، هذا معنى جواب الإمام المهدي عليه السلام وهو يقتضي التزام قدم الغرض، بل قد صرح به في جوابه، فإنه قال قلنا أوجده لغرض أزلي، وهو علمه بأنه إذا أوجده...إلخ ما ذكرنا، وفي هذا الجواب نظر؛ لأنه يقتضي إثبات الغرض قديماً، ولا قديم مع الله تعالى، والأولى في الجواب ما ذكره النجري، وهو أن الغرض محدث وهو انتفاعهم، ويدفع التسلسل والدور أن الانتفاع من فعلهم، وإنما الذي من فعل الله هو خلق العين المنتفع بها.
الوجه الثاني: قال الرازي: الغرض في فعل الله إما أن يكون له في انتفاع ذلك الغير غرض يعود عليه فيلزم صحة الحاجة عليه تعالى، وهو محال، أو لا غرض فيه يعود عليه لزم كون وجود الفعل بالنظر إليه تعالى وعدمه على سواء، وإذا كان وجوده وعدمه على سواء فلا معنى لكونه غرضاً مرجحاً للإيجاد، بل يستحيل كونه غرضاً.
قال الإمام (عز الدين) عليه السلام : ويمكن الجواب بأن حاصل دليلك هذا إنكار أن يكون النفع العائد إلى الغير غرضاً، وهو نفس المتنازع فيه، فإنا نقول إنه غرض صحيح، وإنه يعلم بالعقل حسن إرشاد الضال عن الطريق، وإطعام جائع قد أشرف على الهلاك، وإن فرضنا عدم حصول نفع في ذلك يعود إلى المرشد والمطعم بأن لا يخطر بباله ثناء ولا ثواب، أو بأن يكون ممن يجهل ذلك.
وقال (النجري) في جواب هذا الوجه: وقولهم لا بد أن يعود الغرض على الفاعل قلنا: هو عائد عليه من حيث كونه غرضاً باعثاً لا من حيث كونه نفعاً، وليس يلزم أن يعود عليه من كل وجه.
واعلم أن الإمام المهدي عليه السلام قد أورد هذا الوجه، وقال: إنه شبهة واقعة يدق المسلك إلى التخلص منها إلا بتوفيق الله وهدايته، ثم أجاب عنه، وحاصل جوابه أنا نختلف نحن والمجبرة في الإحسان المجرد عن كل غرض يعود إلى فاعله سوى كونه إحساناً، هل يكفي في البعث على الفعل أم لا، فعندنا أنه يكفي، وعندهم لا يكفي؛ لأنه مع استواء العدم والوجود فيما يعود إلى الفاعل من النفع يستحيل أن يكون باعثاً له على الإيجاد.
قال عليه السلام : وهذه قاعدة عظيمة ينبغي إمعان النظر فيها، وإمعان النظر فيها لا يكون بالمقدمات والنتائج، بل بمراجعة النفس، ونحن إذا راجعنا أنفسنا، وعلمنا أن العقل يستحسن إرشاد الضال، وإطعام الجائع وإن انتفى العلم بالثواب والعقاب، وكان المرشد لا يرجو مدحاً ولا نفعاً بأن يكون إحسانه إلى أخرس، أو أعمى، أو بهيمة لا مالك لها، وأن يكون الإحسان في مكان خال عن الناس حتى لا يرجو ذلك من الغير، فمن راجع نفسه في هذه الأمور فإنه يحصل له العلم الضروري بأن فعل ذلك عنده أرجح من تركه، وأن مجرد الأولوية انتفاع ذلك الغير، وإذا ثبت هذا في الشاهد ثبت مثله في الغائب، فإن قيل: إنما كان ذلك باعثاً على الإحسان؛ لأن المحسن يتصور أنه لو فعل به مثل ذلك لالتذ به وانتفع، فيصير لهذا التصور ملتذاً بالفعل فيكون باعثاً، ونظير ذلك أن العاشق يلتذ بتصور معشوقه ومواصلته حتى ربما حرك شهوته، فلولا هذا التصور في الشاهد لما رجح فعل الإحسان، قيل: إنا نراجع النفس مراجعة أخرى.
فنقول: لو قدرنا ذهول الخاطر عن هذا التصور عند الفعل، فإنا نعلم ضرورة أن فعل الإرشاد ونحوه أرجح من تركه، ولا مرجح له إلاكونه إحساناً مجرداً، ومن نازع في ذلك، وأنكر رجحانه عند هذا التقدير حكمنا عليه بالعناد، وعلى رويته بالفساد، فثبت ما قلنا.
الوجه الثالث: قال: لو فعل لغرض لم يخل إما أن يمكن حصوله بغير الفعل فيكون الفعل غنياً عن الغرض أولى، كان حصول الغرض مشروطاً بالفعل، وذلك باطل؛ لأن أكثر الأغراض لا تحصل إلا بعد انقضاء الأفعال التي تفعل لأجلها، وحصول الغرض بعد عدم الفعل يمنع كونه شرطاً.
وأجيب بأنا لا نسلم أن تأخر الغرض عن الفعل يمنع كونه شرطاً؛ إذ لا يمتنع ترتب حصول الغرض على أمر معدوم حال حصول الغرض، ألا ترى أن الغرض بالرمي الإصابة، وحال الإصابة قد عدمت الوسائط وهي الاعتمادات مع كونها شرطاً في الإصابة.
واعلم أن ظاهر كلام الرازي أن الفعل لا يقع إلا لمرجح شاهداً وغائباً، وهو يوافق أن قادرية القديم تعالى غير موجبة للفعل، وعلى هذا فلا يصح أن يختار الفعل في وقت دون وقت إلا لمرجح غير المؤثر في الإيجاد وهو القادرية، وذلك المرجح هو الذي أردناه بالغرض، فصح أنه لا يفعل إلا لغرض عندنا وعنده، فكيف يحكم باستحالته عليه تعالى، اللهم إلا أن يخرج عن هذا المذهب في هذا الموضع كما خرج عنه حيث ألجأته الضرورة بشبهة الفلاسفة في قدم العالم إلى الخروج عنه، فالتزم صحة وقوع الفعل لا لمرجح، وهذا دأبه بينما تراه يقرر أدلة بعض المسائل، ويهذبها، ويقويها، ويبطل ما خالفها، فإذا أعيته شبهة للفلاسفة أو غيرهم أبطل ما قرر، وصحح ما أبطل، شأن من لم يجعل نظره لمجرد معرفة الحق.
فائدة [العلم بعلل فعل الله]
قال الإمام (المهدي) عليه السلام : العلم بهذه المسألة -أعني مسألة أن الله لا يفعل إلا لغرض- من فروض الأعيان؛ إذ هي من تتمة العلم بعدله، وحكمته.
البحث الثاني: في بيان حسن التكليف، وتحقيق وجه الحكمة، والغرض به
إما حسنه فلأنه فعل الله تعالى، وقد تقدم أنه لا يفعل القبيح، وأما وجه الحكمة فهو كونه تعريضاً للمكلف إلى درجات لا تنال إلا به، ومعنى كون الله تعالى عرضنا لذلك هو أنه أعلمنا ما نستحق به الثواب فعلاً وتركاً، ومكننا من ذلك، وأزاح عللنا لنستحق الثواب، ومما يدل على أنه وجه الحكمة ما ذكرنا هو أن الله تعالى إذا خلقنا وأحيانا، وأقدرنا، وأكمل عقولنا، وخلق فينا شهوة القبيح، والنفرة عن الحسن، فلا بد من أن يكون له فيه غرض لما مر من أنه لا يفعل إلا لغرض، وذلك الغرض إما أن يريد به الإغراء بالقبيح، وهو باطل لأنه قبيح والله لا يفعل القبيح، وإما أن يريد به التكليف إذ لا غيرهما، فإذا تعين أن المراد به التكليف فلا يجوز عود الانتفاع به إلى الباري لغنائه، ولا أن يريد به الإضرار بنا لقبحه، فتعين أن المراد به نفعنا، وهو ما ذكرنا من الدرجات التي لا تنال إلا به، فصح أن الله متفضل علينا بالتكليف، وأنه حسن.
البحث الثالث: في بيان حسن تكليف من لا يقبل
وهو الذي تضمنه المثال، وبيان الفرق بين تكليف الله لمن يعلم منه عدم القبول، وبين ما ذكره في المثال أن الواحد منا إذا أمر عبده بأمر، وهو يعلم أنه يعصيه ويستخف به، فإنه يقبح منه، أما بيان حسن التكليف ممن يعلم منه عدم القبول فلأن الوجه الذي حسن لأجله تكليف من يقبل حاصل في هذا، وهو التعريض على الخير، ولا فرق بين المكلفين إلا أن المؤمن أحسن الاختيار، والعاصي أساء الاختيار لنفسه، وسيأتي لهذه المسألة تحقيق يستوفي جميع أدلتها، والجواب عما يرد عليها، وأما بيان الفرق بين تكليف من علم أنه لا يؤمن، وبين ما ذكره في المثال، فنقول: إذا ثبت حسن هذا التكليف، وتقرر أنه يقبح من الله ما يقبح من غيره، وأنه لا يفعل القبيح لعلمه وغناه، وأنه لا يفعل إلا لغرض وحكمة مع ظهور وجه في تكليف من يقبل ومن لا يقبل ظهر الفرق، وبطل قولهم في المثال أن الله يفعل أفعالاً لو وقعت من أحدنا لقبحت، بل نقول: لو قدرنا وقوعها من أحدنا على الوجه الذي وقعت من الله تعالى عليه لحسنت، وأما ما ذكروه من قياس فعل الحكيم في الشاهد على فعل الله تعالى الذي ذكروه في هذا المثال، فهو قياس فاسد لوجود الفارق، وهو أن الحكيم ينتفع بالطاعة والثناء؛ لأنه يحصل له لذة وسرور بهما، ويتضرر بالمعصية والشتم؛ لأنه يلحقه غم بسببهما، والمعلوم أن العقلاء يذمون من دفع ماله فيما يعود عليه وباله، وليس كذلك الباري تعالى، إذ لا يجوز عليه النفع والضرر، ولا اللذة والألم، واعلم أن في كلامهم أنه لو كان يقبح من الله ما يقبح من العباد لقبح منه التكليف، ولكان الإهمال أحسن.
وجوابه: أنا قد بينا فيما مضى أن الله تعالى لا يفعل إلا لحكمة، وأوضحنا وجه الحكمة في التكليف بما يحصل به القطع بحسنه، وأيضاً لا نسلم حسن الإهمال فضلاً عن كونه أحسن، بل نقول بقبحه؛ لأنه إذا خلقهم لا لنفعهم ولا لنفعه، ولا لنفع غيرهم كان خلقهم عبثاً كما قال تعالى: {أفحسبتم أنما خلقناكم عبثاً }[المؤمنون:115 ]وقد بطل أن يكون خلقهم لنفعه بما مر، ولم يقم دليل على أنه خلقهم لنفع غيرهم، فتعين أنه خلقهم لنفعهم، فمن فاته النفع فمن نفسه أتي، وقد أجاب بمعنى هذا القاسم بن إبراهيم عليه السلام على الملحد، فقال: وأما قولك لم امتحن امتحانات عطب أكثرهم عندها؟ فإنا نقول في ذلك ولا قوة إلا بالله: إن الله سبحانه إنما امتحانه وأمره ونهيه داعية له إلى الحكمة، فالمأمور من قبل نفسه عطب؛ لأنه لم يأتمر بما أمره الله به سبحانه، ولا انتهى عما نهي عنه، ولو كان انتهى عما نهي عنه، وركب ما أمر به لكان يؤديه ذلك إلى الفوز العظيم، فهو من قبل نفسه عطب لا من قبل الله عز وجل، مثال ذلك فيما نعرفه أن حكيماً من حكمائنا لو أعطى عبيداً له دراهم، وقال لهم: اتجروا فإن ربحتم ولم تفسدوا فأنا معطيكم ما يكفيكم، وإن لم تفعلوا عاقبتكم فأطاعه منهم قوم، وعصاه آخرون لم ترجع اللائمة عليه بعصيانهم إياه، ولكنها لاحقة بهم حين عصوه، ولم يخرج دعاء سيدهم إياهم، وعطيتهم من الحكمة؛ إذ لم يدعهم به إلا إلى الإحسان، فلما كان ذلك كذلك كان الله حكيماً بأمره ونهيه.
قال الملحد: إن الله يعلم ما هم صائرون إليه، ونحن لا نعلم ذلك.
قال (القاسم) عليه السلام : إن الجهل والعلم لا يحسن الحسن، ولا يقبح القبيح، وذلك أنه لو كان حسناً لأن الآمر به يعلم أنه يفعله لكان قبيحاً إذا كان الأمر منا بما يصير إليه المأمور جاهلاً، ولما لم يكن ذلك قبيحاً لجهل الآمر؛ لأنه أمر بالحسن، ودعا إلى الحسن، وإن كان جاهلاً بما يصير إليه المأمور، أو عالماً، وشيء آخر وهو أنه لو كان الامتحان قبيحاً إذا علم أنه يعصي لكان لا شيء أقبح من إعطاء العقل؛ لأنه إنما يعصي عند وجوده، ويستحق الذم والمدح به، فلما كان إعطاء العقل عند الأمم كلها موحدها وملحدها حسناً دل ذلك على أن الامتحان والخلق والأمر بالحسن كله حسن علم أنه يعصي أم يطيع.
وقال (المنصور بالله): لم يختلف أحد من العقلاء أن خلق الإنسان حياً سوياً عاقلاً من أكمل النعم، وما اختلف في ذلك مسلم يقر بالصانع، ولا كافر ناف له أن خلق العقل من أجل النعم، قال: وقد ثبت أن بعد كمال العقل لا بد من واجبات عقلية يجمع على وجوبها المسلم والكافر، كقبح الظلم، ورد الوديعة، وقضاء الدين، وشكر المنعم إلى غير ذلك، والواجبات الشرعية لطف فيها، واللطف يجب فعله لأن تركه ينقض غرض الآمر والناهي، وذلك لا يجوز فلا بد من التعبد، ويدفع عنه القبح التمكن، وما في مقابله من الزجر والترغيب. ذكره في الشافي.
قلت: وكلامه عليه السلام يقتضي وجوب التكليف المستلزم لما قلناه من قبح الإهمال، لكن الخصوم ما داموا على إنكارهم لحكم العقل فلا يرتدعون عن باطل، ولا ينقادون لحق؛ لأنهم وإن عرفتهم عقولهم الحق والباطل لا يعولون على ذلك التعريف لاعتقادهم عدم الفائدة فيه، وعدم وجوب الانقياد له.
نسأل الله أن يلهمنا الرشد، ويدلنا على ما أراده منا، وأن يجعل نظرنا لمعرفة الحق أين كان، وعند من كان. آمين.
والجواب عن المثال الثاني أنه غير وارد على مسألة التحسين والتقبيح، ولا على مسألة حسن التكليف لوجوه:
أحدها: أنهم قالوا: لو أن الواحد منا قال لآخر... إلخ وظاهره أن الآمر لم يكن له تعلق بالمأمور لا بملك ولا بنعمة، ولا شك في قبح هذه المعاقبة، لكن ليس التكليف من هذا الباب؛ لأن الله كلف عبيده، وهو مع ذلك محسن إليهم بصنوف الإحسان، وأراد بذلك التكليف نفعهم فكان إحساناً من جملة الإحسان، ولا شك في وجوب امتثال أمر المالك المنعم، ولأن الامتثال شكر للمنعم، وقد ثبت وجوب شكر المنعم، وأن تركه إساءة إلى المنعم، ومعاقبة المسيء حسنة عند العقلاء، فصح أن هذا المثال غير وارد.
الوجه الثاني: أنا لو فرضنا صورة المثال فيمن له تعلق بالآمر، فإنه يقبح من هذا الآمر العقاب؛ لأنه لم يتقدم نهي عن المخالفة، ولا توعد عليها، والتكليف لا يحسن إلا مع الزجر عنها، فلو فرضنا زجر السيد لعبيده لقلنا بحسن عقابه على المخالفة، وأن ذلك لا يقدح في حسن التكليف كما تقدم في كلام القاسم عليه السلام .
الوجه الثالث: أن هذا الآمر إنما عاقب المأمور لمجرد تفويته نفع نفسه، والعقاب على مثل هذ قبيح، وأما عقاب الله تعالى للعاصي فليس على هذا الوجه، بل لمخالفته لأمر المالك المنعم بترك الواجب، وارتكاب القبائح، والمعلوم عند العقلاء أن من خالف أمر المالك المنعم فترك ما أمر به، وارتكب ما نهى عنه مع أنه قد حذره عاقبة المخالفة، وقدم إليه بالوعيد، فإنه يستحق العقاب، وإذا كان العقاب مستحقاً فلا إشكال في حسن استيفاء المستحق، وأيضاً فإن العاصي لسيده المنعم عليه يستحق الذم، وسيأتي أن العقاب يستحق بما يستحق به الذم، ويسقط بما يسقطه.
وبعد: فإنا قد قدمنا عن المنصور بالله عليه السلام أن إكمال العقل حسن، وأن كماله يقتضي وجوب واجبات عقلية، وأن في الأفعال ما يقرب من هذه الواجبات، وأن هذه المقربات تجب لوجوب الواجبات العقلية، وثبت أن هذه الواجبات الشرعية لطف في العقلية، فوجب في حكمة الحكيم التعبد بها.
قلت: وبما قررنا ثبت الفرق بين المثال ومسألة التكليف، وما يترتب عليها، وثبت حسن التكليف، وحسن العقاب المرتب عليه عقلاً، بحيث لو فرضنا وقوع مثله من أحدنا على هذا الوجه لم يقبح منا، كما لم يقبح من الله تعالى، ولو اختل قيد مما نبهنا عليه لقبح من الله تعالى كما يقبح منا.
والجواب عن المثال الثالث: أنه قد تقدم أن الله إنما كلف عباده ليعرضهم على خير لا ينال إلا بالتكليف، وهو الثواب والثواب لا يجوز التفضل به؛ لتضمنه تعظيم من لا يستحق التعظيم وهو قبيح، وإنما قلنا: إن التفضل به متضمن لذلك؛ لأن حقيقة الثواب المنافع المستحقة على جهة الإجلال والتعظيم، وأما قبح تعظيم من لا يستحق التعظيم فهو معلوم، فإنه يقبح منا تعظيم الصبي، والمجنون، وأسافل الناس، والأجانب منهم كتعظيم الأنبياء والعلماء، والأئمة، والوالدين، والرؤساء، وأن من فعل ذلك فإنه يستهزأ به، ويسخر منه، وليس ذلك بمواضعة ولا غيرها؛ لأنا لو قدرنا ذلك فيمن لا يعرف مواضعة الناس، ولا عاداتهم، فإنه يعرف بعقله قبح تعظيم الأجنبي الذي لا يرجو نفعه، ولا يخشى ضره كتعظيم من ذكرنا ضرورة.
نعم والمجبرة يخالفون في هذه المسألة، ويحكمون بحسن التفضل بالثواب بناء على أصلهم الفاسد.
واعلم أن النعم على مراتب، فمنها ما يحسن التفضل به ابتداء، وذلك ما لا يكون على جهة التعظيم كخلق الحي، وخلق حياته، ورزقه، وعقله ونحو ذلك، وهذا لا يحسن توقفه على المشقة؛ لأنه لا غرض في المشقة سوى الانتفاع، وهو ممكن من دونها، ولا قبح يلزم من التفضل به، فعلى هذا تقبح المشقة لكونها عبثاً، ومنها ما يكون عوضاً على ما يصيب المرء من الآلام، والنقائص وغير ذلك، وهذه الآلام ونحوها لا بد وأن يكون فيها غرض يتعلق بالتكليف، وهو اللطف، والاعتبار له، أو لغيره من المكلفين، ويعوضه الله من المنافع بما لو خير بينها وبين الألم لاختار الألم لأجل تلك المنافع العظيمة، ويكون المقصود هو اللطف، والاعتبار، وأما العوض فعلى وجه التبعية، ولكنه يكون مستحقاً، ولا يجوز الإيلام بمجرد العوض؛ لأنه كان يمكن الابتداء بمثله، ومنها ما لا يحسن الابتداء به، وهو الثواب المستحق على فعل الطاعات، واجتناب المعاصي، وقد مر الكلام عليه قريباً.
ومما يدل على قبح تعظيم من لا يستحق التعظيم أن قبح السجود للأصنام إنما قبح لكونه تعظيم من لا يستحقه، وبهذا تعرف الفرق بين التكليف، وبين ما أوردوه في المثال من تكليف السيد عبده نقل الحجارة، وذلك أن التكليف تعريض على التعظيم الذي لا يجوز الابتداء به، وما في المثال من المنافع التي منعها السيد عبده إلا مع تحمل تلك المشقة ليس فيه ذلك التعريض، وإنما هو مجرد مشقة خالصة، فقبحت؛ لأنا قد بينا في المرتبة الأولى أن مثل هذا مما يحسن الابتداء به، وأن تحميل المشقة في مثله عبث، بل ظلم فتأمل، وأما ما ذكروه من التفضل على الأطفال ونحوهم فهو من المرتبة الثانية، أعني أنه على جهة العوض لا على جهة التعظيم، ولا تبلغ مبلغ الثواب في القدر، ونعني بالغرض أنه عوض على ما نالهم من الألم، ونقص العقل في المجنون، ولو لم يكن عوضهم إلا على مقاسات ألم الموت، وقد مر أن وجه حسن إنزال الألم بهم اللطف والاعتبار لغيرهم، فتأمل يظهر لك عدم ورود هذا المثال على مسألة التحسين والتقبيح.
والجواب عن المثال الرابع أنه قد تقدم أن ابتداء الخلق تفضل، والمتفضل بأمر لا يجب عليه دوامه، وكذلك هو متفضل على الأطفال بتبقية أبيهم إلى وقت موته، ولا يجب عليه دوام ذلك التفضل، وإلا خرج عن كونه تفضلاً، وليس كذلك الواحد منا، فإنه لا تفضل له على أبيهم ولا عليهم، ولا له في قتله حق فكان ظلماً، وأيضاً قد مر حسن التكليف، أو وجوبه، وقبح الإهمال، وقد ثبت أن الله وعد المكلفين بالجنة إن أطاعوا، وتوعدهم بالنار إن عصوا فلا بد من انقطاع التكليف بالموت والفناء؛ إذ لو اتصل الجزاء بالتكليف لكان المكلف ملجأ، والإلجاء ينافي التكليف.
والجواب عن المثال الخامس من وجهين:
أحدهما: أن هذا المثال قد أوردوا معناه في مسألة تكليف من علم الله أنه يكفر ويموت عليه، وأنكروا أن يكون ذلك نعمة وإحساناً، وسيأتي الكلام مستوفى في بيان حسن هذا التكليف، ومنه يؤخذ جواب هذا المثال.
الثاني: أنه مباين للتكليف؛ لأن الواحد منا إنما قبح منه ذلك؛ لأن تخليته بين عبيده وإمائه مجردة عن الصارف عن القبيح من الوعد بالنعيم الدائم، والوعيد بالعقاب الشديد، فكأنه جمع بينهم ليفعلوا القبيح وقواهم عليه، وأما الباري تعالى فقد نهى وأمر، ورغب وزجر، ووعد وتوعد، وجعل من الترغيب الداعي إلى الطاعة، والترهيب الصارف عن المعصية، بحيث يكون ذلك الترغيب والترهيب صارفاً عن القبيح مساوياً للداعي إليه، ولو أنه تعالى منعهم من التمكين من المعصية على وجه لا يدخل فعلها تحت إمكانهم، لكانوا ملجئين، والالجاء ينافي التكليف؛ إذ من شرط التكليف التمكين من الفعل وضده، فإن قيل: لا نسلم أن الترغيب والترهيب الذي ذكرتم يدفع القبح، فإنا لو قدرنا في المثال المذكور أنه جمع بينهم، وقوى دواعي فعل القبيح، ووعد من تركه بالإثابة، ومن ارتكبه بالعقاب فإنه يقبح منه، وهذا شأن فعل الله بخلقه، وتكليفه لهم مع أنه لم يقبح منه.
قيل: إنما قبح ذلك منا؛ لأنا لا نعلم قدر المشقة التي تلحقهم بمغالبة الشهوة حتى نعلم أنما أعطيناهم على الترك يكون قائماً مقام تلك المشقة؛ إذ لا سبيل لنا إلى ذلك، وإذا لم نعرف قدر الجزاء ومقابله فلا يؤمن أن نظلم المغالب جزاءه، فلم يحسن منا التخلية المذكورة ونحوها، بخلاف الباري تعالى فإنه لا يخفى عليه شيء، ولو قدرنا علم أحدنا كعلمه تعالى، وكان لنا من المنافع ما لا يحسن الابتداء به لم يقبح منا، كما لم يقبح منه تعالى لأنه تعريض على منافع لا تنال إلا بذلك، فكان إحساناً، فتأمل.
واعلم أن هذا المثال وما شابهه إنما بني على ما يفيده ظاهر أحوالنا وأفعالنا من أنا لا نعرض الغير على المنفعة إلا لإرادة وقوع الانتفاع، وأَنا إذا علمنا أنه لا يقع الانتفاع يعد ذلك الفعل عبثاً لخلوه عن الغرض؛ لأن المتعارف بيننا والمشهور أن الغرض وقوع الانتفاع لا التمكين منه، ولا شك أن التعريض والحال هذه يقبح لعدم الغرض، لكنا نقول: المعلوم أن أحدنا قد يعرض الغير على النفع لهذا الغرض، ولمجرد التمكين من النفع لكونه إحساناً، وهذا وجه صحيح للحسن، وأنا آتيك بمثال يمكن إجراء هذين الوجهين فيه، ويعلم بهما حسنه، وذلك أن الرجل الكريم قد يكرم الوافد إليه، وهو يريد وقوع الانتفاع منه بما أكرمه به، ويعلم أنه يقع الانتفاع، فهذا لا شك في حسنه، وقد يكرمه مع علمه بأنه لا ينتفع لغنائه، وعدم الداعي إلى الانتفاع، وإنما أراد عرض الطعام عليه مثلاً وتمكينه منه، والإحسان إليه بإظهار إكرامه، وهذا لا ينكر أحد حسنه، وهو مشاهد معلوم، وقد يكرمه لمجرد الإحسان، وحسن إظهار الإكرام مع علمه بأنه لا يقبل، ولا ينتفع، بل ربما فعل بذلك الطعام أفعال السفهاء، وربما ضر نفسه به كأن يلطم وجهه، أو نحو ذلك، ومع ذلك أن هذا المكرم يعلم بما يفعله الوافد بسبب الإكرام من السفاهة، وضر نفسه، لكنه لم يقصد ذلك، وإنما قصد أن يفعل ما يفعله المتكرمون من الإحسان لحسن الكرم، فإنه إذا قيل له: لم فعلت مع علمك بما يفعله هذا الوافد، فقال: قصدت فعل الإحسان، والتكرم، ولا حرج علي فيما فعل بنفسه مع كمال عقله، ومعرفته للحسن، والقبح، ففعلي حسن لسلامته من وجوه القبح، وإنما القبيح فعله لقبلنا ذلك منه.
فإن قيل له: إنك عرضته لمضرة لولا إحسانك لم تحصل مع علمك بذلك، فقال: بل عرضته لمنفعة، ومكنته من الاحتراز عن الضرر الذي فعله بنفسه غاية التمكين، وانظروا لفعلي، والحال هذه فإنكم لا تجدونه إلا حسناً؛ إذ لا ينكر حسن التكرم والإحسان، لا سيما مع تمكنه من الاحتراز عن الضرر، فإنا نقبل ذلك منه، والحاصل أن إكرامه مع تمكنه من الاحتراز عن الضرر يصير المنفعة كالخالصة؛ لأن الضرر الذي يمكن دفعه، ولا يتعذر بوجه يصير في منزلة عدم الضرر، وإنما أتي من سوء اختياره، وبقي الإحسان إحساناً على وجهه.
وعلى الجملة فإنه لا يجوز القول بقبح ما ظاهره الإحسان إلا إذا عري عن الغرض، أو قصد به حصول القبيح، فأما إذا عري عن هذين الوجهين فإنه لا وجه يقتضي قبحه، ولكنه قد يخفى وجه الحسن مع عدم التأمل كما بينا، فتأمل ترشد.
وبما حررنا في جواب هذه الأمثلة تنجلي الشبهة الأولى.
وأما قولهم بعد إيراد الأمثلة: فلو كان القبح يرجع إلى ذات الفعل... إلخ فجوابه: أنا قد بينا بالأدلة القاطعة أن القبح يرجع إلى ذات الفعل، وأوضحنا الفرق بين أفعال الله، وأفعالنا التي أوردوها في هذه الأمثلة، وقررنا وجه حسن أفعال الباري، وقبح ما زعموا أنه نظير لها من أفعالنا بما يعلم معه أن اختلافها في الحسن، والقبح ليس بالنظر إلى الفاعلين، وإنما هو لاختلاف الوجوه التي وقعت عليها، فصح قولنا إن القبح يقبح لوجه يقع عليه من أي فاعل كان، والحمد لله رب العالمين.
الشبهة الثانية
أنه يحسن من الله تعالى تكليف من المعلوم من حاله أنه يؤمن، ويقبح من أحدنا طلب التكليف مع علمه بأنه لا يؤمن، والجواب: أنهما أمران متغايران، فالذي حسن منه تعالى هو التكليف، والذي قبح منا هو طلبه، ثم إن قبح الطلب لأنه يستجلب به الضرر على نفسه.
قال الإمام (عز الدين) عليه السلام : ونظير هذه الشبهة قولهم إنه يحسن من الله عقاب العاصي وإرادة عقابه، ويقبح من العاصي أن ينزل بنفسه ذلك، أو يريده، والجواب كالجواب، وهو أنه قبح من الواحد منا لكون ذلك ضرراً، ولو أمكنه دفعه لوجب عليه، فكيف يحسن منه إرادته ولم يقبح من جهته تعالى؛ لأنه لا ضرر عليه فيه مع استحقاق العاصي.
الشبهة الثالثة
أنه يقبح من الله فعل الظن، ولا يقبح منا، والجواب:لم تكن العلة في قبحه منه تعالى كونه ظناً حتى يقبح منا، بل قبح منه لأنه يكون عبثاً؛ لأنه لا حكم للظن إلا إذا صدر عن أمارة ينظر فيها فاعل الظن، والنظر في الأمارة يستحيل منه تعالى؛ إذ من حق الناظر الشك والتجويز، وهو تعالى عالم لذاته، فلو فعل الظن لفعله لا عن أمارة، والظن الصادر لا عن أمارة قبيح؛ إذ لا فائدة فيه، ولا ثمرة تحته، سواء أوجده تعالى لنفسه، أو أوجده فينا، أما الأول فلأنه لا بد من التجويز في الظن، وقد بينا أنه لا يجوز على الله التجويز؛ إذ لا ينتفي عنه العلم بحال، فصح أنه لا يجوز على الله الظن لانتفاء الأمارة، وأنه لو أوجده لنفسه من دونها لكان عبثاً فيقبح.
وأما الثاني: وهو أنه يقبح إيجاده فينا، فلأنه إما أن يكون عن أمارة فقد مر أنه لا يجوز على الله التجويز، أو من دونها كان عبثاً.
قال الإمام (عز الدين) عليه السلام : كيف يتصور احتجاجهم هذا وهم يقولون أنه لا يقبح من الله شيء لعدم نهيه، وأي دلالة في هذا على أن القبيح يقبح للنهي عنه، وهذا إشكال ظاهر.
قال عليه السلام : ولعلهم أتوا بهذه الشبهة توصلاً إلى بطلان قولنا، كأنهم قالوا: إذا كان القبيح يقبح لوجه يقع عليه، فلم قضيتم بقبح الظن من الله تعالى دوننا مع أن الوجه قد حصل في الموضعين؟
قلت: هذا هو الظاهر في هذه الشبهة وغيرها من الشبه والإلزامات، فإنهم إنما يوردونها على جهة الإلزام لنا، والنقض لعللنا.
هذا وأما شبههم السمعية، فمنها ما سيأتي في موضعه، ومنها قوله: الحمد لله، وقد مر وجه الاستدلال بها عندهم في صدر المسألة، والجواب من وجهين:
أحدهما: أنا قد بينا فيما مر أن هذا مقول على ألسنة العباد، وأقمنا الدليل على ذلك، ويدل عليه أيضاً حديث أبي ميسرة، وقد مر في البسملة وفيه: ((فلما خلا ناداه يا محمد قل: بسم الله الرحمن الرحيم الحمد لله رب العالمين حتى بلغ ولا الضالين...)) الخبر.
وأخرج ابن جرير عن ابن عباس، قال: قال جبريل لمحمد: ((قل يا محمد الحمد لله )) وإذا كان مقولاً على ألسنتهم فالأمر به لكونه شكراً، والشكر حق لله تعالى، فيحسن طلبه، وعلى هذا فلا حجة لهم في الآية.
الوجه الثاني: أنا وإن سلمنا أن الله مدح به نفسه، فهو لا يدل على أنه يحسن من الله ما يقبح من غيره؛ لأن نهينا عن تزكية نفوسنا بالتقوى؛ لكونها أمراً باطناً لا يعلمه على حقيقته إلا الله تعالى، فربما وارتكب المزكي لنفسه قبيحاً لا يعلمه، فيكون حكمه لنفسه بالطهارة من كل ذنب حكماً على خلاف الواقع، وقد مر ما يدل على أنه لا يخلو بشر عن معصية ما حتى الأنبياء، فالمزكي لنفسه على الإطلاق، والحال هذه لا يأمن من ارتكاب القبيح بنفس التزكية فقبحت مطلقة في حقنا، وأما الباري تعالى فيجوز منه إطلاق مدح نفسه، ومدح غيره؛ لأنه عالم لذاته لا يكون المدح منه إلا على ما في نفس الأمر، وقد مر أنه لا يفعل القبيح لعلمه وغناه، فثبت أن وجه حسن مدحه لنفسه لتعريه عن وجوه القبح، وأن وجه القبح في حقنا هو أنه لا يؤمن الإقدام على القبيح، وهو الحكم بالطهارة من كل ذنب مع تجويز خلافه، بل مع العلم بخلافه على الجملة، والإقدام على ما لا يؤمن قبحه قبيح، ويؤيد هذا أن مدح الإنسان نفسه على بعض الجزئيات التي يقطع بها لا يقبح، فقد مدح النبي صلى الله عليه وآله وسلم نفسه بالأمانة لما قال له المنافقون إعدل في القسمة، ومدح أمير المؤمنين عليه السلام نفسه في مواضع مذكورة في نهج البلاغة وغيره، ويكفيك حديث المناشدة، وكذلك الأئمة والعلماء.
وعلى الجملة أن مدح الإنسان نفسه ليس منهياً عنه على الإطلاق، بل لوقوعه على وجه، وسيأتي الكلام على ما يجوز منه، وما لا يجوز في موضعه إن شاء الله، فليس هذا موضع ذكره، وإنما غرضنا هنا رد الشبهة، فهذه شبهة أهل القول الأول من المجبرة.
القول الثاني للجهمية، والشبه التي استندوا إليها كشبه الأشاعرة، إلا أنهم يجعلون كوننا مملوكين مربوبين، موضع كوننا مأمورين منهيين، والجواب الجواب، ويزيده توضيحاً أنه يعلم القبح من لا يعلم كوننا مربوبين كالملاحدة، وأيضاً فإن حالنا مع الظلم ونحوه كحالنا مع العدل ونحوه، فيجب أن لا يحسن منا فعل البتة لاستمرار علة القبح.
واعلم أن أصحابنا يجعلون هذا قولاً مستقلاً منفرداً عن الأول، ويفردونه حكاية، واستدلالاً، ورداً.
قال الإمام (المهدي) عليه السلام : والأقرب أنه من تمام القول الأول، وليس مستقلاً؛ لأن الأولين لا يقولون بأن الفعل يقبح لمجرد النهي، بل مع صدوره من مالك رب، فكأنهم قالوا إنما قبح لكوننا منهيين مملوكين، فلا بد من مجموعهما، وإلا لزم قبح ما نهى عنه أحدنا وهم لا يقولون به، وكذلك أهل هذا القول لا يدعون أن القبح لمجرد كوننا مربوبين، بل مع النهي، فظهر أن هذا ليس قولاً مستقلاً.
قلت: فعلى ما ذكره عليه السلام ، فلا يلزمهم ما ألزمهم أصحابنا من أنه يلزم أن لا يحسن منا فعل؛ لأنهم يقولون في رد هذا الإلزام إذا لم ينه المالك فلا قبح، وظاهر إلزامهم بهذا أنهم لا يقيدون علتهم بالنهي، ولذا أطبق الأصحاب على إلزامهم به، فينظر في تأويل الإمام المهدي عليه السلام لكلامهم.
القول الثالث: ما ذكره الفلاسفة، وبعض المجبرة من أنه إنما قبح الفعل وحسن للاستحلاء والنفرة، ومستندهم ما مر من الشبهة في مسألة الحسن والقبح، وهي أن الحسن والقبح لميل النفس ونفرتها ونحو ذلك، وقد مر الجواب ثمة، وحاصله أنا نعلم قبح الظلم ونحوه وإن استحلته النفوس، ونعلم حسن العدل وإن نفرت عنه النفوس، وبهذا تم الكلام في المسألة، وبما قررنا يتبين لك أن الحق فيها ما ذهب إليه أئمة العدل، والحمد لله.
قال الإمام (المهدي) عليه السلام : والعلم بهذه المسألة من فروض الأعيان؛ لأنه يبتني عليها العلم بعدل الله وحكمته.
تنبيه
قد تقدم في أثناء المسألة ما يعلم به وجه حسن الحسن، لكنه غير مستوفى ولم يتحرر نقل الخلاف فيه، ولهذا حسن منا أن نأتي له ببحث خاص يتبين به وجهه، واختلاف الناس فيه، فنقول: قد دل قوله: الحمد الله على أن أفعال الله تعالى كلها حسنة؛ إذ لا يحمد فاعل القبيح، وقد مر أن الحمد لا يكون إلا على الحسن، ولا خلاف في أن أفعال الله تعالى كلها حسنة، وإنما اختلفوا في وجه حسنها، فقالت العدلية: يحسن الفعل منا ومن الله تعالى لوقوعه على وجه، ثم اختلفوا في تعيين الوجه، فقال أئمتنا"، وأبو عبد الله البصري وغيرهم: هو تعريه عن وجوه القبح؛ إذ لا واسطة بين القبيح والحسن، هذه حكاية الأساس عن من ذكر، والذي حكاه النجري عن أبي عبد الله البصري أنه إنما يحسن للتعري المذكور، ولحصول غرض فيه، قال: واختاره أكثر المتأخرين.
قلت: ورواه القرشي عن الجمهور، وأقره الإمام عز الدين عليه السلام ، وقال أبو علي، وأبو هاشم: بل وجهه كون فيه جلب نفع، أو دفع ضرر، إما للنفس، أو للغير.
قال الإمام (عز الدين) عليه السلام : هذا هو الوجه عندهما فيما عرف فيه ذلك، وأما نحو الصدق الذي لا نفع فيه ولا دفع، فحسن عندهما لكونه صدقاً، وكذلك الأمر بالحسن والنهي عن القبيح، فحسن لكونه أمراً بالحسن، ونهي عن القبيح.
وحكى في (الأساس) عن البغدادية والمجبرة جميعاً أنه إنما يحسن منا لإباحة الشارع، أما البغدادية فلأن الأصل في الأفعال الحظر، وأما المجبرة فلأنه تصرف في ملك الغير بغير إذنه، فيحتمل رضاه فيحسن، ويحتمل عدمه فيقبح، ولذا توقفوا، وقد مر الجواب عليهم في المقدمة.
وأما البغدادية فلم يحك هذا عنهم إلا في الأساس، وقد عرفت مما مر أنه لا يقول إن الأصل في مطلق الأفعال الحظر إلا بعضهم، وأن ذلك ليس إلا فيما ليس له جهة محسنة، ولا مقبحة ظاهرة لا في مطلق الفعل.
قال (الشرفي): لأنهم لا يخالفون في أن ابتداء الإحسان، وصنائع المعروف حسنة بحكم العقل من غير نظر إلى إذن الشرع وإباحته.
قلت: وظاهر حكاية الإمام القاسم عليه السلام عنهم هنا، وفيما سبق أنهم يقولون بما حكاه عنهم مطلقاً وهو وهم، فتأمل.
نعم وأما في أفعال الله تعالى فهم موافقون في أن وجه حسنها تعريها عن وجوه القبح.
إذا عرفت هذا فاعلم أنه قد قيل: إن الخلاف بين الجمهور والشيخين لفظي.
قال الإمام (عز الدين) عليه السلام : قيل وكلامهم جميعاً متقارب، مع اتفاقهم على أنه متى حصل وجه قبح مع وجه الحسن أن الحكم يكون له ويقبح، ولا يعتبر حصول وجه الحسن فيه.
قلت: وبما ذكره عليه السلام من الاتفاق يبطل ما اعترض به الجمهور على الشيخين من أنه يلزم حسن الكذب الذي فيه نفع أو دفع، وكذا إلزامهما كو ن الفعل حسناً قبيحاً عند اجتماع وجهي الحسن والقبح، كالكذب النافع.
قلت: ويؤيد القول بأن الخلاف لفظي أن الإمام المهدي عليه السلام أطلق القول بأنه يحسن الفعل منا ومن الله تعالى لوقوعه على وجه من كون فيه غرض صحيح مع تعريه عن وجوه القبح عن المعتزلة، ولم يذكر بينهم خلافاً.
قال عليه السلام : ومعنى حسنه أن له أن يفعله، كما أن معنى القبح أن ليس له أن يفعله، ثم احتج لهم بأنا نعلم بضرورة العقل حسن إرشاد الضال، وإنقاذ الغريق، والإحسان إلى الغير، والملحدة يعلمون ذلك، ومتى علمنا الإحسان علمنا حسنه، وإن جهلنا ما جهلنا، ومتى لا فلا، فكان ذلك هو المقتضي لحسنه؛ لأن وقوعه عليه وجوداً وعدماً يقتضي تأثيره فيه؛ لأن ذلك هو الطريق إلى العلل، والأسباب، والشروط.
قال (النجري): فإن قيل: ذبح البهائم قبيح عقلاً لأنه إضرار بها خالص، وقد صار حسناً شرعاً، ولم يتعر عن وجه القبح الأول.
فالجواب: أنه لما أذن الشارع بذبحها علمنا أنه قد تدرك لها بعوض في مقابلة هذا الضرر، فلم يكن خالصاً عن جلب نفع لها، فزال وجه القبح العقلي.
قال (ابن لقمان): وذلك لأن العقل لم يقض بقبح إيلامها قضية مبتوتة، بل مشروطة بأن لا يكون لها في إيلامها نفع يزيد على الألم، فإذا أذن الشارع بإيلامها علمنا أن قد حصل شرط حسن إيلامها، وانتفى وجه قبحه، أعني كونه عارياً عن نفع لها. والله أعلم.
هذا وأما المجبرة فقد عرفت كلامهم في وجه حسن أفعالنا، وأما أفعال الله تعالى فاختلفوا، فقالت الأشعرية: إنما تحسن منه تعالى لانتفاء النهي عنه ممن إليه الأمر، وقال بعض المجبرة: بل لكونه رباً، وكلهم بنوا على أصلهم السابق، وهو أن وجه قبح أفعالنا النهي، أو كوننا مملوكين وهما منتفيان في حقه تعالى، وقد عرفت بطلان ذلك.
واعلم أن الإمام المهدي عليه السلام لم يحك إلا كلام الأشعرية هنا، وهو بناء على ما مرله من أن قول الجهمية من تمام قول الأشعرية، وقد أجاب أصحابنا عن قولهم بأنه يلزم منه حسن الكذب، وبعثة الكذابين لحصول موجب الحسن فيهما، وهو انتفاء النهي، وكونه مملوكاً، وإذا جوزنا فعله جوزنا في النبي أن يكون كاذباً فيما أخبر به، وفي القرآن أن يكون كذباً فلا نثق بما تضمنه من وعد، ووعيد، وتحليل، وتحريم وغير ذلك، ويجوز أنه يريد بالوعد والتحليل عكسهما، وفي تجويز ذلك الانسلاخ من الدين.
قالوا: هو مالك للعالم، وللمالك أن يتصرف في ملكه كيف شاء، قلنا: لا نسلم أن العقل يستحسن أن المالمك يفعل في ملكه ما لا غرض فيه، بل ربما كان ظلماً كذبح عبده، أو عبثاً كإتلاف ماله لا لغرض وهما قبيحان.
واعلم أن الإمام القاسم عليه السلام حكى في الأساس عن المجبرة جميعاً أن الله يفعل الكذب ونحوه من القبائح لانتفاء علة القبح عندهم، وأجاب بأنه تعالى لا يفعل ذلك لكونه صفة نقص في حق غيره، فكيف في حقه تعالى عن ذلك علواً كبيراً، ثم ألزمهم أن لا يوثق بخبره، وذلك تكذيب لقوله تعالى: {لاَ رَيْبَ فِيه ِ}[السجدة:2 ]{لاَ يَأْتِيهِ الْبَاطِل ُ}[فصلت:42 ] ومن سب الله تعالى، أو كذبه، أو رد آية من كتابه كفر إجماعاً، وفي إطلاقه عليه السلام الرواية عنهم بأن الله يفعله نظر، فإنهم إنما يقولون إنه يجوز فعل القبيح لانتفاء العلة، لكنه لا يفعل الكذب، ولا يظهر المعجز على يد الكاذب؛ لأن حكمته تمنع من ذلك، والجواب من وجهين:
أحدهما: أن الحكمة إنما تمنع من فعل القبيح وهو حسن من الله عندكم، فجوزوا عليه الكذب، وبعثة الكذاب في تجويزهما ما ألزمناكم من إبطال الشرائع.
الثاني: أن نقول بم عرفتم أن الحكمة تمنع من وقوع الكذب؟ فإن قالوا: بالشاهد، قلنا: لا فعل للشاهد عندكم حتى تعرفون به ذلك، وإن قالوا بالعقل، قلنا: أنتم الآن في إبطال حكمه، وإن قالوا بالسمع، قلنا: هذا دور محض؛ لأنا لا نعلم أن الحكمة تمنع من الكذب ونحوه من الله إلا بالسمع، والسمع لا يعلم خلوه من ذلك إلا بأن الحكمة تمنع منه، فإن قالوا: لنا حجة أخرى تمنع تجويز الكذب عليه تعالى، فلا يلزمنا ما ألزمتمونا من إبطال الشرائع، وهي أنه صادق لذاته، فلا يدخل الكذب في مقدوره، ولا يلزمنا جواز بعثة الكذابين؛ لأن المعجز وضع ليدل على الصدق فتستحيل دلالته على صدق الكذاب، ولو قدر على إظهاره على الكذاب لزم قدرته على تعجيز نفسه؛ إذ لا طريق إلى تعريفنا بالصادق إلا المعجز، فلو قدر على إظهاره على الكذاب لكان عاجزاً عن تصديق الصادق، وقدرته على تعجيز نفسه محال، فصح أنه تعالى لا يجوز عليه الكذب، فبطل الإلزام.
قلنا: أما قولكم إنه صادق لذاته، فمبني على أن كلامه ذاتي أزلي كسائر صفاته تعالى، وسنبطله، ثم إنه يلزم أن يكون كاذباً لذاته، وأما قولكم إنه يلزم تعجيز نفسه إذ لا طريق إلى معرفة الصادق غير المعجز، فباطل لأنه يمكنه أن يعرفنا صدقهم بغير المعجز، وهو خلق العلم الضروري، فإن قالوا: إذا أبطلتم هذه الحجة فإنا نعدل إلى طريقة أخرى تمنع من تجويز إظهار المعجز على الكاذب لا تستطيعون دفعها، قد حررها الإمامان: الجويني، والرازي، وهي أن المعجزة تفيد العلم الضروري بصدق مدعي النبوة، بدليل أن من قدح فيها من الأمم فإنه إنما يقدح فيها لاعتقاده أنها ليست من الله تعالى، وإنما هي من باب الحيل، والطلسمات؛ إذ لم ينقل أن أحداً سلم أنها من فعل الله، ثم نازع في دلالتها على الصدق، ويستحيل ممن قطع بأنها من الله أن يبقى شاكاً في صدق المدعي، وإذا ثبت أنها تفيد العلم الضروري، فتجويز إظهار الله لها على يد الكاذب لا يقدح في الضروي، بدليل أن من غمض عينيه لحظة، ثم فتحهما فإنه يعلم أن الله قادر على أن يقلب ما بين يديه ذهباً في تلك الحال، ثم كلما فتح عينيه يجعلها كما كانت، وهذا التجويز لا يزيل عمن غمض عينيه بأنه لا يوجد ذلك، وهكذا القول في جميع العاديات.
قالوا: فثبت أن تجويز انقلاب الأشياء عن مجاريها العادية لا يقدح في العلم الضروري ببقائها على مجاريها، وإذا صح ذلك بطل ما زعمتوه من أن عدم القول بالحسن والقبح العقلي يستلزم سد باب معرفة صدق الأنبياء، فالجواب أنه قد تقدم لنا في المقدمة بحث في إبطال الاستناد في هذا إلى العادة، فارجع إليه، ثم إنا نقول: إنا لم نعرف الله تعالى إلا دلالة لا ضرورة، فكيف نعلم قصده بأفعاله ضرورة، فإن من المستحيل أن نعرف أصل الشيء دلالة، وفرعه ضرورة.
إذا عرفت هذا فنقول: إن أردتم أنا نعلم عند ظهور المعجز أن الله قصد به التصديق، فذلك محال لما ذكرنا، وإن أردتم أنه خلق فينا علماً ضرورياً بصدق المدعي عند ظهور المعجز من دون نظر إلى قصد فاعله، لزم أن نعلم أنه صادق فيما جاء به، وأخبر به ضرورة، فيكون علمنا بالجنة والنار، والقيامة، ووجوب الصلاة ضرورياً، والمعلوم خلافه ضرورة، وأما قولهم إنه لم ينقل عن الأمم الماضية المنازعة بعد تسليم كونها من الله تعالى، فمجرد دعوى لا دليل عليها، ثم إن عدم نقل ما ينافي الشيء لا يفيد تواتر ثبوت ذلك الشيء بلا خلاف، وأما ما ذكروه فيمن غمض عينيه، فإنما لم يقدح في الضروري لعدم الدليل على الانقلاب الذي جوزوه، وقد مر في المقدمة أنه يجب القطع بنفي ما لا دليل عليه في مثل هذا، فكيف يجعلونه من باب العاديات وأين المناسبة، فتأمل ترشد.
واعلم أن العلم بهذه المسألة من فروض الأعيان؛ إذ لا يكمل العلم بالعدل إلا بها؛ إذ لو جوزنا أن حسن المحسنات لا لوقوعها على وجه، بل لانتفاء النهي لزم تجويز ما قدمناه، وهو يقدح في العدل بلا شك.
المسألة الثامنة [دلالة الحمد على القدرة]
قوله تعالى: {الْحَمْدُ لِلَّهِ} يدل على أن الله تعالى قادر على فعل القبيح؛ لأنه قد دل على أنه محمود على الإطلاق، أي على الفعل والترك، والحمد على ترك القبيح إنما يصح إذا تركه لقبحه مع القدرة عليه؛ إذ لا يحمد العاجز على ترك القبيح إن لم يتركه إلا لعدم القدرة على فعله، وفي المسألة خلاف، فقال الجمهور: هو تعالى قادر على ما لو فعله لكان قبيحاً، ويصح أن يقع منه لولا العدل والحكمة، هكذا نسبه القرشي إلى الجمهور.
قال الإمام (عز الدين) عليه السلام : أراد بالجمهور الزيدية، وأكثر المعتزلة منهم الشيخان، والقاضي، والبغدادية، وبالغت البغدادية في ذلك حتى قالوا: إن منكره كافر، وقال أبو الحسين، وابن الملاحمي، وأبو الهذيل: يقدر عليه، ويستحيل منه لفقد الداعي، وقال النظام، والجاحظ، وأبو علي الأسواري: لا يوصف بالقدرة عليه فلا يقال: إنه قادر عليه، وقالت المجبرة: لا يقدر عليه منفرداً، بل يوجده والعبد يكتسبه، هكذا أطلق الحكاية عن المجبرة القرشي وغيره، واستدرك عليه الإمام عز الدين عليه السلام فقال: إنه قد نسب هذا القول إلى النجارية فقط، وقال في العيون: عند الحشوية، والرافضة، والمجبرة إنه تعالى يقدر على القبيح، فنسبه إلى المجبرة على الإطلاق.
قال الإمام عليه السلام : وهذه الحكاية توافق مذهبهم؛ لأنهم يقولون إنه لا يقبح منه تعالى قبيح، ولا قبيح يمكن وقوعه من جهته تعالى، إلا النجارية فهم يذهبون إلى أن القبيح يقبح لعينه كالبغدادية.
قلت: أما الإمام المهدي عليه السلام فإنما جعل في المسألة قولين:
الأول: أنه قادر على فعل القبيح، وعزاه إلى أكثر المعتزلة، والثاني: أنه لا يوصف بذلك، وعزاه إلى النظام، والأسواري، والجاحظ، والمجبرة، ولم يفرق بين مذهب المجبرة والنظام ومن معه، ولم يتعرض في القلائد وشرحها لمذهب أبي الحسين ومن معه.
قال في الشرح: أما المجبرة فذلك موافق لأصولهم؛ إذ لا نهي في حقه تعالى، وأما النجارية فيحقق الخلاف معهم لأنهم يقولون إن القبيح يقبح لعينه، فحكمهم حكم من خالف من أصحابنا، وأما النظام ومن معه فخالفوا أصل أشياخهم؛ لأن الجهل ونحوه من جملة أجناس المقدورات، والباري تعالى قادر لذاته فلا يختص به جنس دون آخر، هذا معنى كلامه، ولا يخفى أن الذي تقتضيه أصول المجبرة أنهم إنما ينفون وقوعه من الباري على معنى أن ما فعله فليس بقبيح، فعلى هذا لا يصح نسبة القول بأنه لا يقدر على القبيح إليهم؛ لأنه يقدر عليه عندهم، ولا يقبح منه، وإنما الذي يصح نسبته إليهم هو القول بأنه لا يوصف بأنه فاعل القبيح؛ إذ لا قبيح منه حتى يقال: إنه فاعله، وهذا هو الذي تفيده عبارة صاحب العيون، وإما أنهم يقولون بعدم القدرة عليه، ففيه نظر لما عرفت، اللهم إلا أن يحمل ذلك على ما يفعله العباد من القبائح فقط كما يفيده ظاهر كلام القرشي.
واعلم أن النجري قد جعل الأكثر في رواية القلائد فريقين، فجمهورهم قالوا: إنما منعت منه الحكمة، وأبو الحسين ومن معه قالوا: بل لعدم الداعي، ولكن جواب المهدي بقوله: قلنا إنما منعت منه الحكمة يدل على أن المقصود بالأكثر من عدا أبي الحسين، أو أن كلام أبي الحسين راجع إلى هذا القول.
هذا ما أمكن تحريره في نقل الخلاف، وعليك بالتثبت في نقل الخلاف، فربما نسب إلى بعض العلماء ما يقتضي كفره وهو بريءٌ منه، فإذا عرفت هذا فلنأخذ في أدلة هذه الأقوال فنقول: احتج القائلون بأنه يقدر عليه لولا منع الحكمة بأدلة:
أحدها: أنه من جنس المقدورات، وقد ثبت أنه قادر لذاته فيقدر على جميع أجناس المقدورات؛ إذ لا اختصاص لذاته بمقدور دون مقدور، فيصح منه فعل القبيح من حيث القدرة، ويستحيل منه من حيث الحكمة، ولا تناقض لاختلاف الجهتين.
الدليل الثاني: أنه قد ثبت أن الله تعالى قادر على أن يخلق فينا العلم الضروري، فيجب أن يكون قادراً أن يخلق بدله الجهل؛ لأن من حق القادر على الشيء أن يكون قادراً على جنس ضده إذا كان له ضد، والجهل قبيح.
الدليل الثالث: أن ما من فعل إلا وكما يصح أن يقع على وجه فيحسن يصح أن يقع على وجه آخر فيقبح، فإذا قدر القادر على إيقاعه على أحدهما قدر على إيقاعه على الآخر؛ لأن القدرة إنما تعلق بالإيجاد والإحداث دون وجوه الأفعال، وأيضاً لا تأثير لاختلاف وجود الأفعال في قدرة القادر، يبين ذلك أن أحدنا كما يقدر أن يقول: زيد في الدار وهو فيها يقدر على أن يقول ذلك وليس فيها، فكذلك الباري تعالى إذا قدر على الصدق وجب أن يقدر على الكذب؛ لأنهما شيء واحد لا يختلفان إلا بحسب اختلاف حال المخبر عنه، وذلك مما لا يوجب تغيير حال القدرة عليه، وهاهنا اعتراض ذكره أبو الحسين، وهو أن قدرة القادر لا تتعلق باختصاص الفعل بوقت معين، مع أنه إذا انقضى الوقت خرج الفعل عن تعلقه بالقادر، فكذلك لا تتعلق قدرة القادر بالقبح، ومع ذلك إذا اختص الفعل بوجه دون وجه خرج عن تعلقه بالقادر.
قال (القرشي): ويمكن الجواب بأن الوجه الذي لأجله خرج الفعل عن تعلقه بالقادر إذا انقضى وقته غير حاصل في الفعل إذا اختلف وجهه، وإذا لم يكن جامع بطلت المقايسة، على أنا إنما أوجبنا اختصاص الفعل بوقته في حق القادر بقدرة، ونحن فرضنا المسألة في القادر لذاته وهو تعالى كما يصح أن يوقع الفعل في وقته يصح أن يوقعه في غير وقته، لا سيما المبتدئ الباقي، فكذلك إذا صلح أن يوقعه على وجه صح أن يوقعه على وجه غيره، وإنما قال لا سيما المبتدئ الباقي لما في غيره من الإشكال، فإن المسبب وغير الباقي لو صح منه تعالى إيجاده في وقت غير الوقت الذي يختص به لزم ما مر من صحة انقلاب غير الباقي باقياً، ووجود مسببين في وقت واحد عن سبب واحد.
الدليل الرابع: لو لم يقدر على فعل القبيح للزم أن يكون أضعف القادرين منا أقوى من الله تعالى عن ذلك علواً كبيرا، فإن الطفل الذي لا يقدر على حمل رطلين أو نحوها يقدر على أن يدفع غيره في النار وهو على شفيرها، وهو غير مستحق لذلك، والباري غير قادر على ذلك لقبحه عند الخصم، وهذا إلزامي.
وأما الأدلة السمعية هنا فكثير منها قوله: {الْحَمْدُ لِلَّهِ} وقد مر وجه الاستدلال بها، ومنها تمدحه بنفي الظلم ونحوه، ولا يتم التمدح بتركه إلا مع القدرة، وإلا لصح تمدحه بأنه لا يجمع بين الضدين، وليس هذا موضع استيفاء الكلام على الآيات لأنه سيأتي الكلام عليها في مواضعها إن شاء الله تعالى، وهو أخص بها، وقد استبعد السيد مانكديم الاستدلال بالسمع هنا.
قال الإمام (المهدي) عليه السلام : لا وجه لاستبعاد ذلك، قلت: وقد مر لنا صحة الاستدلال بالسمع في كثير من مسائل العدل.
احتج أبو الحسين بأنه قد قام الدليل على اختصاص الفعل بوجه دون وجه، وهو استحالة الفعل من دون داع، والجواب أنا لا نسلم توقف الفعل على الداعي، وإنما يتوقف على القدرة وزوال المانع، ولذا يقع من الساهي والنائم، ولا داعي لهما، سلمنا فعدم الداعي إنما يدل على استمرار الوقوع لا على استحالة الوقوع، كما أن ثبوت الداعي إنما يدل على استمرار الوقوع لا على وجوبه.
قال (القرشي): والأقرب أن خلاف أبي الحسين لفظي؛ لأنه إنما يقول باستحالة الوقوع من حيث الدواعي لا من حيث القدرة، والجمهور لا بد أن يقولوا بالاستحالة من حيث الحكمة لا من حيث القدرة؛ إذ لو جوزوا الوقوع مع العدل لم يبق دليل على أن الله لم يفعله.
قلت: ولهذا أدرجه الإمام المهدي عليه السلام في قول الأكثر. والله أعلم.
احتج النظام ومن معه بوجوه:
أحدها: أنه لو قدر على القبيح لوجب أن يوقعه، وأجيب بمنع الملازمة، فإن أحدنا يقدر على القيام ولا يفعله، والباري تعالى يقدر على إقامة القيامة الآن، ولا يفعله.
الثاني: قالوا اتصافه بالقدرة على القبيح نقص، قلنا: النقص وقوعه، وأما القدرة فصفة كمال ومدح؛ لأن التارك مع القدرة خير من التارك للعجز، ولهذا يصح التمدح، ثم إنه يلزم أن يكون الملائكة والأنبياء" على صفة نقص لاتصافهم بالقدرة على القبيح آنفاً.
قال الإمام (عز الدين) عليه السلام : ولعلهم يلتزمون جواز هذا النقص عليهم كغيره من النقائص الجائزة عليهم من الجهل والحاجة، ويقولون ليس المنتزه من صفات النقص المختص بصفات الكمال إلا الواحد المتعال، قال عليه السلام : والتحقيق أن الأمر بالعكس مما قالوه فإنه تعالى لو لم يقدر على القبيح لقدح في كونه قادراً لذاته، من حيث أن القبائح داخلة في أجناس المقدورات، وإنما يقع النقص بفعل القبيح لا بالقدرة عليه؛ إذ لا يستحق بالقدرة عليه ذماً.
الثالث: لو صح القول بقدرته علىالقبيح، وإن استحال أن يكون عدلاً حكيماً للزم القول بأنه قادر على المستحيل لو لم يكن مستحيلاً.
والجواب: إن أردتم المعنى فملتزم فإنه لا بد من القول بأن المستحيل لولم يكن مستحيلاً لكان الله قادراً عليه، وإن أردتم التسمية فلا ملازمة؛ إذ لا يقال إنه قادر على ما لم تثبت القدرة عليه، بخلاف القبيح فإن القدرة عليه ثابتة، وإنما منعته الحكمة، وفقد الداعي إليه.
الوجه الرابع: أنه لو قدر على القبيح لجوزنا وقوعه منه، وتجويز وقوعه منه إما أن يدل على الجهل والحاجة، وهو محال لأنه يقدح في كونه عالماً غنياً لذاته، وإما أن لا يدل وهو محال لأن طرق الأدلة لا تختلف شاهداً وغائباً، وهذا الوجه أشف أدلتهم كما ترى.
والجواب: أن الجواز له معنيان:
أحدهما: نقيض الاستحالة، فيقال جائز، أي ليس بمستحيل وإن كان لا يقع قطعاً.
والثاني: التجويز أي يجوز وقوعه وعدمه، وإطلاق جواز القبيح من جهة الله تعالى إنما يجوز بالمعنى الأول، أي ليس بمستحيل فعله، وإن كنا نقطع أنه لا يقع، وعلى هذا فيقال: يصح أن يوقعه من جهة القدرة بمعنى أنه لو كان غير حكيم أو كان له داع إليه لوقع منه، ويستحيل وقوعه للحكمة عند الجمهور، ولفقد الداعي عند أبي الحسين، وأما قولهم لو قدَّرنا وقوعه فإما أن يدل، وإما أن لا يدل، فجوابه من ثلاث جهات:
أحدها: ما اختاره القرشي، وهو أن هذا التقدير لا يصح لأن الجهل والحاجة على الله تعالى مستحيلان، وتقدير وقوع الظلم يتبعه صحة وقوع الجهل والحاجة، وما أدى تقديره إلى تقدير المحال لم يصح تقديره، والضابط في مثل هذا أن تقدير الموجب المصحح وهو وقوع الظلم مع إحالة المصحح له وهو الجهل، والحاجة لا تجوز، ولولا هذا لصح تقدير ثبوت المعلول مع إحالة العلة، ولجاز صحة الفعل مع إحالة القادرية، وهذا يؤدي إلى كل جهالة.
الجهة الثانية: للجمهور وهي أنهم التزموا صحة تقديره، وامتنعوا من الجواب بنعم، أو بلا إذ بأيهما أجيب نقض أصلاً قد تقرر كما قالوا: فيما لو قدرنا وقوع ما علم الله أنه لا يقع هل كان يكشف عن الجهل ويدل عليه، وسيأتي الكلام على تقدير وقوع ما علم الله أنه لا يقع، فيؤخذ جواب هذا من هناك، فإن المسألتين من واد واحد، إلا أنا نذكر هنا ما ذكره أبو علي من علة الامتناع من الجواب؛ لأن كلامه هذا أصل فيما يجب الجواب عنه من الكلامين المتعلق أحدهما بالآخر، وما لا يجب، وحاصله أن كل كلامين تعلق الثاني بالأول على تقدير وجود الأول لا يخلو إما أن يكون أحدهما هو الآخر نحو: إن كان زيد فاعلاً للظلم فهو ظالم، أو موجباً له سواء كان الأول موجباً للثاني نحو: إن كان في قلبه علم فهو عالم، أو الثاني موجباً للأول نحو: إن كان عالماً، ففي قلبه علم، أو يكون أحدهما مصححاً للآخر نحو إن كان الجوهر متحيزاً احتمل العرض، وإن كان عالماً كان حياً، وإما أن لا يكون أحدهما هو الآخر لا موجباً له ولا مصححاً، إن كان الأول وجب الجواب بلا أو نعم، وإن كان الثاني صح الامتناع من الجواب بأيهما إذا دل الدليل على فسادهما بهذه المسألة، لأنا إن قدرنا وقوع الظلم من جهته تعالى لم تصح دلالته على الجهل والحاجة؛ لأنه عالم غني لذاته، ولا يصح أن لا يدل لأنه يعود بالنقض على دلالته في الشاهد، فكان لنا الامتناع؛ لأن الظلم ليس هو الجهل والحاجة، ولا يوجبهما ولا يوجبانه، ولا يصححهما، ولا يصححانه في حق الله تعالى لأن المصحح للظلم في حقه تعالى هو القدرة فقط، واعترضه أبو الحسين بأن الخصم لم يلزمكم العبارة حتى تمنعوا إطلاقها، وإنما ألزمكم المعنى وهو أن تقدير وقوع الظلم منه تعالى هو يولد ذلك الظلم العلم بالجهل والحاجة أم لا، وليس يخرج النظر عن كونه مولداً لهذا العلم، أو لا.
قلت: يعني أنه لا يخلو من أن يكون مولداً أم لا؛ إذ لا واسطة بين النفي والإثبات، ويجاب بأنا لا نسلم أنه لا واسطة، وليس الامتناع من الجواب لأجل أن ثمة واسطة، بل لأن السؤال وقع عن حكم يتفرع على أمر مقدر ليس الحكم هو ذلك الأمر، ولا موجباً له، ولا مصححاً له، والإجابة تستلزم أحد محالين، مع أن ذلك المقدر غير واقع، فلأجل هذا قلنا لا تلزمنا الإجابة إذ إجابة ما لا ثبوت له إذا أدت إلى المحال يحسن الامتناع منها مع ما في الإجابة من التكلف المنهي عنه.
وقال (القرشي): الأقرب التفصيل، وهو أن السائل إن كان يقدر الوقوع من أي فاعل كان فنقول: هل يدل وقوع الظلم على الجهل والحاجة أم لا، فلا يصح الامتناع من الجواب لما ذكره أبو الحسين، وإن قيد سؤاله بما يحيل الأمرين عند ذلك التقدير صح الامتناع لفظاً ومعنى؛ لأنه يعود على ذلك التقدير، والقيد بالنقض كأن يقال: لو وقع الظلم من حكيم هل كان يدل على الجهل والحاجة أم لا، فيكون لنا أن نقول لا يدل، ولا لا يدل، لأن قولك يحيل الجهل والحاجة؛ لأن معهما لا يكون حكيماً، وأنت فرضته حكيماً، وقولك وقوع الظلم يمنع قولنا لا يدل لأن الظلم يدل عليهما، وصار الحال في هذا كما لو قيل: لو قدرنا اجتماع الضدين في محل هل يتنافيان أم لا؟ فإنه يقال: لا يصح القول بتنافيهما؛ لأنه يعود على تقدير اجتماعهما بالنقض، وأنت فرضت اجتماعهما، ولا يصح القول بعدم تنافيهما، لأنه يعود على كونهما ضدين بالنقض وأنت فرضتهما ضدين، فكل سؤال هذا حاله فإنه يعود على التقدير والقيد بالنقض، وإذا زال التقدير والقيد زال الإشكال من أصله.
الجهة الثالثة: ما ذكره بعضهم وهو أن وقوع الظلم من جهته تعالى لا يدل علىالجهل والحاجة؛ لأن شرط دلالته على ذلك أن يصح الجهل والحاجة على فاعله، والباري تعالى عالم غني لذاته، واعترض بأنه يلزمه أن لا يجد دليلاً على أن الله لا يفعل القبيح؛ لأنه لا دليل على ذلك إلا أنه لو فعله لكان جاهلاً لقبحه ومحتاجاً إليه، وإذا كان قد زعم أنه تعالى لو فعل القبيح لم يدل على جهله وحاجته انتقض الدليل، وبطل التعليل، فإن قيل: إنه حكيم والصوارف متوفرة، قيل: إذا كانت الحكمة والصوارف تصرف عن القبيح لا محالة كان وقوعه دليلاً على زوال تلك الصوارف، فتلزم دلالته على الجهل والحاجة.
الوجه الخامس: للنظام وأتباعه وهو أن الظلم دليل على الجهل والحاجة، كما أن الخبر الصدق بهما دليل عليهما، فإذا قدر على الظلم وجب أن يقدر على خبر صادق بأنه جاهل محتاج.
والجواب: بالفرق فإنه معنى كون الخبر صدقاً أن مخبره على ما هو به، فالقائل بأن الله تعالى قادر على خبر صادق بأنه جاهل محتاج قائل بأنه يقدر على أن يجعل ذاته جاهلة محتاجة، وذلك مستحيل، فكذلك ما في معناه بخلاف الظلم، فليس معناه أنه جاهل محتاج حتى تكون القدرة على أحدهما قدرة على الآخر، وحاصل الجواب أنه يوصف بأنه قادر على الظلم، ولا يوصف بأنه قادر على خبر صادق بأنه جاهل محتاج، والفرق ما قد عرفت.
فإن قيل: إن سلمنا الفرق فيما ذكر، فيلزمكم القول بأن الله قادر على أن يدلنا على جهله وحاجته؛ لأنكم قد جعلتم الظلم دليلاً على الجهل والحاجة، وقلتم إنه تعالى قادر عليه.
قيل: إن أردتم أن الظلم دليل على الجهل والحاجة عند زوال الحكمة والصوارف، فملتزم فإنه تعالى قادر على ما لو زالت حكمته وصوارفه عنه لدل على جهله وحاجته، وذلك مستحيل، وإن أردتم أن الظلم يدل مع ثبوت الحكمة والصوارف فغير لازم أن يدل؛ لأنه يصير المعنى أنه قادر على ما لو قدرنا وقوعه على الوجه المستحيل، وهو صدوره من العدل الحكيم لكان دليلاً غير دليل، وذلك محال؛ لأنه جمع بين النفي والإثبات.
وأما المجبرة فكلامهم مبني على أصولهم الفاسدة؛ لأن ما فعله تعالى منفرداً فلم يحصل فيه علة القبح وهي النهي، أو كونه مملوكاً فلا يتصور قدرته على فعله، وأما ما أوجده واكتسبه العبد فهو قبيح؛ لأن العبد منهي ومملوك، فكان قادراً عليه من هذا الوجه، وقد عرفناك بطلان أصولهم، فيبطل ما ترتب عليها؛ إذ ما ترتب على الباطل فهو باطل.
قال الإمام (المهدي) عليه السلام : والعلم بهذه المسألة ليس بفرض عين بعد اعتقاد كونه قادراً لذاته إلا من باب معرفة خطاب الله تعالى، وإعداد حل الشبه.
فائدة [في أن أفعال الله تعالى حسنة]
قد ثبت بما مر أن أفعال الله تعالى كلها حسنة، ولا خلاف في ذلك على الجملة، وإنما اختلفوا في صحة وصفها لها بالعدل، فقال أبو هاشم، وقواه الإمام المهدي عليه السلام : إن أفعاله كلها توصف بالعدل سواء تعلقت بالحقوق كالإثابة ونحوها أم لا، كخلق العالم وسائر التفضلات؛ لأن العدل كل فعل حسن فعله الفاعل لينفع غيره، أو ليضره.
وقال (أبو علي): لا يوصف به منها إلا ما تعلق بحق الغير كالإثابة ونحوها دون خلق العالم ونحوه؛ إذ العدل توفير حق الغير، واستيفاء الحق منه، فخرج خلق العالم ونحوه.
قال (الإمام المهدي) عليه السلام : بل هو شرعاً كل فعل حسن بدليل أنا نصف من أتى بالواجب، واجتنب القبيح بأنه عدل، ومن أخل بواجب كالصلاة قلنا: ليس عدلاً، وإنما صح نفيه عنه لأنه ترك ما به يسمى عدلاً، والصلاة والصوم ليسا من حقوق الآدميين، وقد حكمنا أن تاركهما تارك عدل لقولنا: ليس بعدل.
قال عليه السلام : وعلى الجملة فالمسألة لفظية قال: والأقرب عندي أن كلام أبي هاشم أقرب إلى عرف الشرع، وكلام أبي علي أقرب إلى الوضع اللغوي.
فائدة أخرى فيما يجري على الله تعالى من الاسماء بمعنى أنه لا يفعل ما يقدر عليه
اعلم أنا قد ذكرنا في مباحث البسملة أن أقسام الاسماء الواقعة على المسميات تسعة، وعدنا بذكر ما يجوز إجراؤه على الله منها، وقد ذكرنا ذلك إجمالاً في مسألة ما يجوز أن يجري على الله تعالى وما لا يجوز، وذكرنا اختلاف العلماء في توقف ذلك على إذن السمع وعدمه، وأما بيان ما يجوز إجراؤه من الأقسام التسعة، وما لا يجوز، وإنما يذكر كل قسم منها في موضعه اللائق به، وقد مر أن الاسم الذي يجري عليه باعتبار ذاته المخصوصة، أي الجامعة لصفات الكمال هو لفظ (الله) لاختصاصه به، ودلالته على أنه المستجمع لصفات الكمال، ونحن نذكر في هذا الموضع ما يجري عليه، وما لا يجري عليه من الاسماء الواقعة عليه بحسب السلب العائد إلى الأفعال؛ لأن الأسماء الجارية عليه بحسب السلب إما أن تكون عائدة إلى الذات كقولنا ليس بجسم، أو إلى الصفات كقولنا ليس بجاهل ولا محتاج، وإما إلى الفعل وهو أنه لا يفعل كذا وهو المراد هنا، فنقول: الذي يجري عليه من ذلك سبوح قدوس، فإن من فائدته تنزيهه تعالى عن فعل القبيح الذي يقدر عليه.
قال (الموفق بالله) عليه السلام : ويقصد به التنزيه من كل سوء، على ما روي أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال: ((سبحانك)) تنزيهاً من كل سوء، ومثلهما قولنا: طاهر.
قال (القرشي): ولا خلاف أنه مجاز في حقه تعالى؛ لأنه في الأصل من طهارة البدن، ثم استعمل في المتنزه عن فعل القبيح، ومنها (تارك)، ومعناه لغة الذي لا يفعل مع القدرة. ذكره القرشي.
قال الإمام (عز الدين) عليه السلام : لكن يشترط تقييده بما يصير مدحاً كتارك للظلم أو للقبيح، ومكفر لأنه يفيد ترك العقوبة لأجل الثواب، ونقيضه محبط، أي لا يفعل الثواب لأجل المعصية المحبطة له، نص على جواز إطلاق هذين الاسمين القرشي، والموفق بالله عليه السلام ، وظاهر كلامه أنه لا بد من تقييدهما بما يصيران به مدحاً؛ لأنه قال: ويوصف بأنه مكفر للعقاب كما يوصف بأنه محبط للثواب، وممن اشترط التقييد الإمام عز الدين عليه السلام ، قال: فيقال مكفر للعقاب، أي لا يفعله للتوبة، أو لصغر الذنب، ومكفر للذنوب بمعنى لا يعاقب عليها، ومحبط للثواب أي لا يفعله بسبب المعصية الكبيرة، أو الندم على الطاعة، ومحبط للطاعات بمعنى لا يثيب عليها لمثل ذلك، يعني لمثل ما تقدم في تارك من أنه لا يطلق إلا مقيداً، ومنها غافر، وغفور، وغفار، وحليم، وسيأتي الكلام على معانيها، وقد نطق بها القرآن، وكذلك يوصف بأنه عفوٌ وعافٍ، وساتر وستار.
قال (الموفق بالله) عليه السلام : وذلك بمعنى الغافر والغفور، واختلف في إطلاق صبور، فمنعه القرشي، والحاكم.
وقال (الموفق بالله) عليه السلام : لا يوصف به ولا بصابر؛ لأنه يفيد أنه لا يظهر الجزع فيما يلحقه من المكاره، ولذلك لا يوصف به في غير احتمال المكاره، فلا يقال: زيد صبور على أكل الحلوى، وشم الرائحة الطيبة، وأجازه بعضهم بمعنى حليم.
قال (القرشي): وليس يصح، لأن استعماله في الحليم مجاز، فإن ورد به سمع أقر حيث ورد، وإلا منع رأساً.
قال الإمام (عز الدين) عليه السلام : قد ورد في تعداد أسمائه الحسنى مرفوعاً في بعض كتب الحديث، وفسره الغزالي في المقصد بأنه الذي لا تحمله العجلة على المسارعة إلى الفعل قبل أوانه، بل ينزل الأمور بقدر معلوم، ويجريها على سنن محدود، لا يؤخرها عن آجالها المقدرة لها تأخير متكاسل، ولا يقدمها على أوقاتها تقديم مستعجل.
قلت: قد ذكر سليمان الجمل في الفتوحات أنه مجمع عليه، وذكر في معناه نحو ما ذكره الغزالي، وذكر أقوالاً أخر تؤول إليه قال: والفرق بينه وبين الحليم أن الصبور يشعر بأنه يعاقب في الآخرة دون الحليم.
قلت: هو من جلمة الاسماء المذكورة في حديث أبي هريرة عند الترمذي، وقد رواه محمد بن منصور في كتاب الذكر، وأما وصفه بنظيف ونقي، فمنعه القرشي لأنهما من صفات الأجسام.
وقال (الموفق بالله): لا يوصف بنظيف لأنه يفيد جواز الوسخ عليه، وقيل: لا فرق بينه وبين طاهر؛ لأنه إنما يستعمل فيمن يجوز عليه القذر بمعنى فلا يطلق عليه طاهر، ولا يوصف بأنه وقور، قاله الموفق بالله لأنه يفيد ملازمة المكان، وقلة الطيش والخفة، ومثله رزين. ذكره القرشي.
المسألة التاسعة [تمسك العدلية بالحمد على صحة العدل]
تمسكت العدلية بقوله تعالى: {الْحَمْدُ لِلَّهِ} على صحة العدل، وعلى أن أفعال العباد منهم، وتمسكت بها المجبرة على نفي أفعال العباد، أما العدلية فقالوا قوله: الحمد لله لا يتم إلا على قولنا لأن المستحق للحمد على الإطلاق هو الذي لا قبح في فعله، ولا جور في قضائه، وعندنا أن الله تعالى كذلك فكان مستحقاً لأعظم المحامد والمدائح، وأما على مذهب المجبرة لا قبح إلا وهو فعله، ولا جور ولا عبث إلا منه لأنه يخلق الكفر في الكافر ثم يعذبه، وغيرذلك، فكيف يستحق الحمد، وأيضاً ذلك الحمد الذي يستحقه الله تعالى إما أن يستحقه على العبد، أو على نفسه، إن كان الأول وجب كون العبد قادراً على الفعل، وإن كان الثاني كان معناه أن الله يجب عليه أن يحمد نفسه، وذلك باطل أما على مذهبكم فلأنه لا يصح القول بأنه يجب على الله واجب، وأما على مذهبنا فلأنه لا وجه لوجوبه عليه؛ لأنه ليس بمنعم على نفسه حتى يجب عليه شكرها، وإنعامه على الغير لا يوجب الشكر لنفسه على نفسه غايته أنه يحسن منه. والله أعلم.
وأما المجبرة فقد ذكر الرازي لتمسكهم بالآية وجوهاً:
الأول: أن كل من كان فعله أشرف وأكمل، وكانت النعمة الصادرة منه أعلى وأفضل كان استحقاقه للحمد أكثر، والإيمان أفضل الأفعال، فلو كان فعلاً للعبد لكان العبد أولى بالحمد من الله، والمعلوم أنه ليس بأولى، فصح أن الإيمان حصل بخلق الله لا بخلق العبد.
والجواب: أنا نقول ما أردت بكونه أشرف الأفعال، هل أردت أنه أشرفها بالنظر إلى كونه فعلاً مجرداً، فذلك دعوى مجردة عن الدليل، بل هو مخالف للضرورة، فإن في أفعال الله تعالى وأفعال العباد ما هو أشرف من الإيمان من حيث أنه مجرد فعل، ألا ترى أن الجنة أشرف منه، والشمس، والكواكب بالنظر إلىكونها أفعالاً مجردة أشرف منه لأنها أفعال مضيئة مشرقة دونه، وكذلك في أفعال العباد ما هو أشرف منه من حيث كونها أفعالاً، فإن لبس الثياب الفاخرة، والتطيب بالروائح الطيبة أشرف منه، أم أردت أنه أشرف منها لما فيه من النفع، فإن أردت نفع المؤمن به وهو الله تعالى فذلك باطل؛ إذ لا يجوز عليه النفع، وإن أردت نفع فاعله فذلك لا يقتضي أنه أفضل الأفعال كلها، وإلا لزم في كل فعل فيه نفع لفاعله أن يكون أفضل الأفعال، والمعلوم خلافه، فثبت أن الإيمان ليس أشرف الأفعال كلها، وغايته أنه أشرف أفعال العبد؛ لأن انتفاعه به أعظم من سائر أفعاله لما يفضي به إليه من السعادة الدائمة، ثم إنا لا نسلم أنه أشرف أفعال العبد؛ لأنه أعظم نفعاً له، بل نقول: إنما كان أشرف أفعاله لما فيه من المطابقة لمراد الله تعالى منه الذي يستحق به رضوانه، ولكونه أشرف الوسائل إلى الله كما قال علي عليه السلام : (إن أفضل ما توسل به المتوسلون إلى الله الإيمان). رواه في النهج، وإذا لم يكن أشرف الأفعال كلها، وإنما هو أشرف أفعال العبد، ولم يكن أشرفها إلا لأنه وسيلة إلى الله تعالى وقربة إليه لم يكن استحقاق فاعله للحمد أكثر ولا أولى، بل المستحق لذلك من شرف الإيمان لكونه وسيلة إليه، فلا يغرك زخرفة الرازي وتنميقه للألفاظ التي هي أجسام بلا أرواح، وإنما يستميل بها الأغمار، ويلبس بها على الجهال، ألا ترى أنه هنا أتى بعبارة يستعظم الجاهل القول بخلافها، وهي دعواه أن الإيمان أشرف الأفعال، ومع ذلك أنه أردف هذه العبارة بأعظم منها، وهي قوله: إن من كانت النعمة الصادرة منه... إلخ،
وهذه عبارة إنما أريد بها التلبيس والتشنيع، وإلا فلا طائل تحتها في هذا الموضع، فإن أراد أن الإيمان نعمة وهو أكمل النعم، فلو كان من العبد لكان استحقاقه للحمد أكثر وأولى.
فجوابه: أن نقول إن أردت أنه لو كان من العبد لكان نعمة منه، فهذا باطل لأنك إن قلت: إن العبد يكون منعماً به على الله، فقد قدمنا أنه لا يجوز عليه النفع والإنعام نفع، وإن أردت أن العبد أنعم به على نفسه، فذلك باطل؛ لأن المنفعة لا تسمى نعمة إلا إذا أريد بها الغير، فثبت أن كون الإيمان من فعل العبد لا يستلزم أن يكون العبد مستحقاً لأكثر الحمد ولا أولى به؛ لأن إيمانه لا يكون نعمة منه، وإنما هو نعمة من الله عليه من حيث أنه الذي هداه إليه، ومكنه، وأعانه، وقواه، وإذا كان الأمر كذلك فالله تعالى هو المستحق لأكثر الحمد وهو أولى به، ولا يلزم منه أن يكون تعالى هو الفاعل للإيمان.
الوجه الثاني: قالوا: أجمعت الأمة على حمد الله تعالى وشكره على نعمة الإيمان، فلو لم يكن الإيمان من فعله لما جاز أن يحمد ويشكر عليه؛ إذ حمد الغير على ما ليس من فعله محال باطل بدليل قوله تعالى: {وَيُحِبُّونَ أَنْ يُحْمَدُوا بِمَا لَمْ يَفْعَلُوا}[آل عمران:188].
والجواب من جهتين:
الأولى: ما تقدم في الاستعاذة من أن الحمد ليس إلا على مقدمات الإيمان، ويدل عليه قوله تعالى : { بَلِ اللَّهُ يَمُنُّ عَلَيْكُمْ أَنْ هَدَاكُمْ لِلإِْيمَانِ}[الحجرات:17 ]وقول علي عليه السلام : (نحمده على ما وفق له من الطاعة وذاد عنه من المعصية). رواه في النهج، فجعل الحمد على المقدمات لا على فعل الطاعة وترك المعصية، وهاهنا حكاية في ذلك، وقد تقدمت الإشارة إليها، لكنا نأتي بها هنا على وجهها، فقد تضمنت جواباً مقنعاً، وهي ما روي عن أبي معن ثمامة بن أشرس رحمه الله أنه دخل إلى أبي الفضل جعفر بن حرب الهمداني رحمه الله ورجل من المخالفين يكلم بعض أصحاب جعفر، ويقول: إذا كنت تحمد الله على إيمانك فما أنكرت أن يكون إيمانك فعله؛ لأنك إذا حمدته على غير فعله كنت كاذباً في حمدك إياه، وشكرك عنه.
فقال المجيب: أنا إنما أحمده على إيماني على ما رزقنيه من ألطافه، ومعونته بما لولاه لما وصلت إلى الإيمان، فقال السائل: فيجب أن يكون حمدك إياه على تلك الأسباب لا على الإيمان، فقال ثمامة: أما تعرف جوابي في هذه المسألة وغيرها من أمثالها، فقال: لا، فقال ثمامة: فإني أقول إنما أشكر الله تعالى على ما وصلت به إلى الإيمان، فأما نفس الإيمان فإن الله تعالى يشكرني عليه، ويحمدني من أجله، قال تعالى: {فَأُوْلَئِكَ كَانَ سَعْيُهُمْ مَشْكُوراً}[الإسراء:19]، وقال تعالى: {وَمَا يَفْعَلُوا مِنْ خَيْرٍ فَلَنْ يُكْفَرُوهُ}[آل عمران:115] فأنا في الحقيقة أحمده على تمكيني منه، وإعانتي عليه، وإيصالي إليه بالقدرة والتأييد.
قال: فتبسم أبو الفضل وقال: لما شنعت المسألة سهلت.
قال بعض المحققين: وأقول إن قول الخصم محال أن يشكر الغير على ما ليس بفعله، إن كان ذلك محالاً فالمحال إنما يفعله الله تعالى لأنه فاعل الشكر بزعمهم كما أنه فاعل الإيمان، وبعد: فعلى مذهبهم ما يفعله الله تعالى أمحل من ذلك؛ لأنه يشكر نفسه على ما ينعم به على العبد، ثم يثيب العبد ويعاقبه على فعل نفسه، ويثيبه على ذلك الشكر الذي يفعله، وعلى الإيمان الذي هو يحدثه، فجميع ذلك بزعمهم فعله وخلقه.
قلت: المراد بشكر الله تعالى للعبيد المدح والجزاء، لا الشكر الذي يكون مكافأة على النعم؛ إذ لا نعمة للعبد على ربه تعالى، وقد مر أن الشكر من الله تعالى الثناء الجميل، والجزاء الجليل عند أهل اللغة.
الجهة الثانية: ما رواه الإمام عز الدين عليه السلام عن قاضي القضاة، وابن الملاحمي، والفقيه حميد، وغيرهم من المتكلمين، وهو الذي يقتضيه كلام المجيب السابق، وهو أنا نحمد الله على الإيمان نفسه وإن كان من فعلنا؛ لأنه في الحكم كأنه من جهته تعالى من حيث أنه أقدرنا عليه، ومكننا منه، وأعلمنا به، ولطف لنا فيه، فصار الحال فيه كالحال فيمن يكسب مالاً في جاه غيره لاختصاصه به، فإنه يحمد صاحب الجاه على ذلك وإن لم يكن وصول ذلك المال إليه منه، وكذلك الحكم فيمن أحسن إلى غيره بماله فاتجر فيه وربح، وتوصل إلى ملاذ ومسار، فإنه يحمد ذلك المحسن على هذه الأمور المتفرعة على إحسانه وإن لم تكن منه لما كانت في الحكم كأنها من جهته.
قلت: وعلى هذا تجوز نسبة الإيمان إلى الله تعالى على جهة المجاز العقلي. والله أعلم.
الوجه الثالث: أن ظاهر قوله الحمد لله يدل على اختصاصه تعالى بالحمد، ولا يكون كذلك إلا إذا كانت كل النعم من الله والإيمان أفضل النعم، فوجب أن تكون من الله تعالى.
والجواب: أنا قد حققنا فيما مضى عدم اختصاصه تعالى بالحمد، مع أن الرازي لا يقول بأن الجنس المعرف للعموم، لكن عادته أنه يورد على خصومه ما ليس بصحيح عنده، وحينئذٍ يبطل هذا الوجه، ثم إنا لا نسلم أن الإيمان نعمة؛ لأنه من فعل العبد، ولا يجوز أن ينعم به على الله تعالى ولا على نفسه لما مر، فوجب أن لا يكون نعمة فلا يشكر عليه، سلمنا أنه نعمة فنقول: هي من الله، وإنما كان نعمة منه تعالى لأنه أقدر عليه، وهدى إليه، فكان في الحكم كأنه من جهته كما مر، فشكر وحمد عليه من هذا الوجه.
المسألة العاشرة [استدلال المجبرة بالحمد لله]
قالت (المجبرة): قوله تعالى: {الْحَمْدُ لِلَّهِ} يدل على أنه لا يجب على الله تعالى واجب، وأنه لا يفعل التفضل، وقد قرر الرازي احتجاجهم بهذه الآية في تفسيره، أما دلالتها على أنه لا يجب على الله واجب فلأن الآية قد دلت على استحقاقه للحمد، فلو كان يجب عليه واجب لما كان مستحقاً للحمد؛ لأن من أدى ما يجب عليه فلا يستحق عليه حمداً كمن عليه دين فقضاه فإنه لا يستوجب بذلك حمداً، ووجه آخر وهو أنه إما أن يكون الحمد والمدح ثابتاً له لذاته، أو لا لذاته، إن كان الأول امتنع أن توجب له الأفعال استحقاق المدح؛ لأن ما ثبت لذاته امتنع ثبوته لغيره، وإذا لم يوجب له الفعل مدحاً فلا يوجب له ذماً؛ لأن ما ثبت لذاته لا يرتفع بغيره، وإذا كان كذلك لم يتقرر في حقه تعالى وجوب شيء عليه، وإن كان الثاني لزم أن يكون ناقصاً لذاته مستكملاً بغيره، وذلك محال، وما أدى إليه يكون محالاً، وأما دلالتها على أنه لا يفعل التفضل، فلأنه عند الخصم يستفيد بذلك مزيد حمد؛ لأنه لو لم يصدر منه ذلك الفعل لما حصل له ذلك الحمد، وإذا كان كذلك كان ناقصاً لذاته مستكملاً بغيره، وذلك يمنع من كونه تعالى مستحقاً للحمد والمدح.
والجواب: أن مذهبهم في نفي الوجوب عليه تعالى مؤسس على شفا جرف هار، وهو نفي الحسن والقبح العقلي، وذلك أنهم لما نفوهما أجازوا على الله تعالى أن يكلف بلا تمكين للمكلف ولا لطف، بل يكلفه ما لا يطاق، وأجازوا عليه تعذيب الأولياء، وإثابة الأشقياء، وإخلاف الوعد والوعيد، وغير ذلك من القبائح، ولا يقبح منه شيء عندهم لانتفاء علة القبح وهي كونه منهياً أو مملوكاً، فإذا عرفت بطلان الأصل الذي بنوا عليه عرفت ما رتبوه على ذلك الأصل في هذه المسألة وغيرها، ولذلك قلنا: إن معرفة الحسن والقبح أصل مسائل العدل والوعد والوعيد فتنبه، وقد جمعنا لك في كتابنا هذا من أدلة أصحابنا على ثبوتهما ما لم يجتمع في غيره، وإذا ثبت أن هذه المسألة مبنية على ذلك الأصل الفاسد، فيكفينا ما تقدم من إبطاله عن الجواب هنا، لكنا لا نترك ذلك لما فيه من زيادة التوضيح، ودفع هذه الشبهة على وجه صريح، فنقول:
أولاً: مهما بقيتم على نفي الحسن والقبح العقلي، فلا يصح لكم الاستدلال بالقرآن ونحوه من السمعيات لأنه يجوز من الله الكذب على مقتضى علتكم إذا جاز منه ذلك، فما يؤمنكم أن يكون كاذباً في إخباره في استحقاقه تعالى للحمد، وإذا جاز أن لا يكون مستحقاً للحمد، فلا تدل الآية على ما ذكرتم -تعالى الله عما يقولون علواً كبيراً-.
وثانياً: إن القائلين بأنه يجب على الله واجب حصروا ما يجب عليه في ثمانية أمور، وهي التمكين، واللطف، والإثابة، والعوض، وقبول التوبة، والانتصاف للمظلومين، والبعثة للمستحقين، والبيان للمخاطبين، وهذه الثمانية نعم عظيمة، وإذا كانت نعماً فلا شك في وجوب الشكر عليها والحمد رأس الشكر، هذا وسنبين لك كونها نعماً عند الكلام على ذكر النعمة وحدودها.
وثالثاً: إن وصفها بالوجوب لا يمنع وجوب الشكر والمدح عليها، ألا ترى أن الوالد يستحق الشكر على ولده في تربيته وإن كانت واجبة عليه، ولأن الوجوب لا يخرج الفعل عن كونه نعمة إذا كان منفعة حسنة قصد بها وجه الإحسان، هذا إذا قصد بالحمد الشكر.
وأما إذا قصد به المدح كما يفهم من كلامه، فقد ثبت أن المدح يكون على الأفعال الحسنة الاختيارية، والرازي يوافق في أنه يمدح على الاختيار إذا كان حسناً، وكونها واجبة لا يخرجها عن الحسن ولا عن الاختيار، فوجب أن لا يكون القول بوجوبها عليه يؤدي إلى عدم استحقاقه للمدح.
والحاصل أن استحقاق المدح على الفعل ليس لكونه واجباً ولا لعدم وجوبه، بل لأمر آخر وهو حسنه، فإذا كان حسناً استحق فاعله المدح، سواء كان واجباً أم لا، على أن بعضهم قد حد الواجب بأنه ما يمدح فاعله ويذم تاركه، فجعلوا المدح خاصة للواجب يعرف بها، فكيف نجعله دليلاً على عدم الوجوب.
وأما الوجه الآخر وهو قوله: إما أن يكون مستحقاً للمدح لذاته إلى آخره، فجوابه: أنا قد أوضحنا فيما مر أن المدح لا يكون إلا على الأفعال الاختيارية، ولا يلزم ما ذكره من أنه يكون ناقصاً لذاته مستكملاً بغيره، لأنا نقول معنى الأكملية أنه لو لم يفعل الواجب لم يكن ممدوحاً على فعله، ونحن نلتزم ذلك ولا نقص يرجع إلى ذاته، وصفاته الذاتية فلا مجال، مع أن الحمد كسائر العبادات والأذكار في أنه إنما يؤتي بها لتحقيق نسبة العبودية لا لكونه تعالى مستكملاً، ولا مجازى بها.
نعم يجوز أن يقال الحمد ثابت له لذاته على معنى الرضا على ما اخترناه فيما مر، ويؤيده قوله تعالى: {وَالَّذِينَ آمَنُوا أَشَدُّ حُبًّا لِلَّهِ}[البقرة:165] ونحوها، وذلك لا يمنع من كون الأفعال توجب له استحقاق المدح؛ لأن الثابت للذات غير الثابت للفعل.
والجواب عن قولهم: إنه لو فعل التفضل لكان ناقصاً... إلخ كالجواب عن الوجه الآخر، وهو أن معنى الأكملية أنه لو لم يوجد التفضل لم يكن متفضلاً فلا يستحق عليه حمداً، ونحن نلتزمه، ولا محذور كما مر.
واعلم أن الذي يظهر أنهم لم يقولوا إنه لو فعل التفضل للزم أن لا يستحق الحمد إلا ليتم لهم دعواهم أن الله غير متفضل بإلحاد المكلفين، وإنما خلقهم للجنة والنار، وليتم للرازي في قوله: إن الله يفعل الفعل لا لغرض، وهاهنا دقيقة، وهي أن أصحابنا قالوا: إن الثواب والعقاب يستحقان بما يستحق به المدح والذم، فجاء الرازي بهذه الشبهة ليدفع بها كلام الأصحاب، وذلك أنه قد دس في هذه الدسية أن الوجوب يستلزم استحقاق المدح على الفعل الواجب، وإذا لم يستحق المدح عليه فلا يستحق ذماً على تركه، ليتحصل من ذلك أن العباد لا يستحقون مدحاً على الواجب ولا ذماً على تركه، فلا يستحقون عليه ثواباً ولا عقاباً، بل لله أن يعاقب المطيع ويثيب العاصي، وهذا هو مذهبهم المبني على ذلك الأساس الفاسد، وقد عرفنا أن المدح والذم يستحقان على الفعل لحسنه ولقبحه من دون نظر إلى الوجوب أو عدمه، وأن الوجوب لا يمنع استحقاق المدح، بل يؤكده ويزيده قوة؛ لأن الوجوب كان لتناهي الفعل في الحسن الذي هو علة في المدح فتنبه لهذا فإنه مفيد.
ثم اعلم أن مقتضى كلامهم هذا إن أفعال الله كلها عبث أو ظلم وجور؛ لأنهم قد نفوا أن تكون واجبة، وأن تكون من باب التفضل الذي معناه الإحسان، فلم يبق إلا أن تكون جوراً أو عبثاً، فنعوذ بالله من حجة تخرج صاحبها عن الحجة.
واعلم أن مسألة اطلاق الوجوب على الله تعالى لم يختص بالخلاف فيها المجبرة، بل قد خالف فيها بعض العدلية، إلا أن خلاف المجبرة مبني على ما بيناه من نفي الحكم العقلي، وكونه لا يقبح من الله قبيح، وأما ا لعدلية فهم متفقون على أنه تعالى لا يخل بما تقتضيه الحكمة لقبح ذلك الإخلال، ثم إنهم اختلفوا هل يوصف ذلك الفعل الذي نقطع أنه لا يخل به بالوجوب أم لا؟
قال الإمام (المهدي) عليه السلام : اتفقت المعتزلة على أن الإخلال بالواجب قبيح كفعل القبيح.
قال: وهي مبنية على التحسين والتقبيح العقليين.
قال: ثم اختلفوا هل يوصف الله سبحانه بأنه يجب عليه واجب أم لا؟
فقال أكثر المعتزلة: يوصف بذلك كما يوصف بأنه يقبح منه القبيح لو فعله، تعالى عن ذلك.
وقال أبو (القاسم البلخي): لا يوصف بأنه يجب عليه على الحتم، بل من جهة الجود فقط.
قال عليه السلام : وأما المجبرة فأحالوا وجوب واجب عليه كما قالوا لا يقبح منه قبيح.
وقال الإمام (يحيى) عليه السلام : اتفقت العدلية من الزيدية والمعتزلة على القول بوجوب اللطف والعوض والثواب على الله تعالى، وغير ذلك من الأمور الواجبة عليه تعالى، من أجل التكليف، فأما ما يتعلق بالتكليف كالأفعال المبتدأة فلا يوصف بكونه واجباً، وإنما يوصف بكونه نعمة وإحساناً، وتفضلاً كأصل التكليف نفسه.
قال: وذهب محققوا الأشعرية كالجويني والغزالي وصاحب (النهاية) إلى أنه لا يجب على الله واجب أصلاً، لا ابتداءً ولا لأجل سبب آخر.
قال (الشرفي): وفي إطلاق الرواية عن ا لعدلية كافة نظر لما.............لكم عنهم، وحكى العنسي وغيره عنهم أنه لا يجب على الله شيء.
قلت: الحق أن العدلية مختلفون إلا أن القول بالوجوب للأكثر، ولم أقف على خلاف لأحد من المتقدمين في نفي الوجوب من أصله إلا ما مر عن أبي القاسم، وإنما الخلاف فيما هو الواجب فبعضهم أوجب الثمانية المتقدمة وبعضهم لم يوجب إلا بعضها، وسيأتي ذكر الخلاف يما اختلفوا فيه في موضعه، وكذلك الحجة على وجوب كل واحدٍ منها سيأتي في موضعه، ولا نذكر في هذا الموضع إلا الحجة على صحة إطلاق الوجوب على الله في الجملة فقط، وممن قال بنفي إطلاق الوجوب على الله من المتأخرين: الإمام القاسم بن محمد عليه السلام وأتباعه.
قال في (الأساس): وما يفعله الله قطعياً يعني من غير شك في فعله؛ لأنه قد أخبرنا به وقضت به حكمة العدل، وهي الثمانية المتقدمة، فلا يقال إنه واجب علينا.
احتج القائلون بصحة إطلاق الواجب عليه تعالى بأن ا لواجب إنما يبين عما ليس بواجب بأنه ليس للقادر عليه الإخلال به، فإذا حصلت هذه الحقيقة في حق الباري تعالى وجب إجراء العبادة المفيدة عليه تعالى إذ لا مانع.
احتج المانعون أنه قد ثبت أنه لا يجوز أن يجري عليه من الألفاظ ما يوهم الخطأ، وإطلاق الوجوب يوهم ذلك؛ لأنه يوهم التكليف له تعالى ذلك الواجب؛ لأن الجوب فيه تحميل المشقة، ولقائل أن يقول: ما أردتم بأنه يوهم هل من حيث الوضع أم من حيث العرف العام؟ أم من حيث العرف الخاص؟ إن كان الأول فلا إيهام؛ لأن الذي يصح من المعاني اللغوية للواجب هنا الثابت، والثابت لا يعتبر في كونه ثابتاُ مشقة ولا عدمها، فيقال لما ليس للقادر الإخلال به أنه ثابت، أي لا يجوز تركه ولا إيهام في ذلك، وإن كان ا لثاني فلا اعتبار بعرف العامة وإلا لزم منع إطلاق الصفات الذاتية كعالم وقادر لإيهامها بالنظر إليهم، ويلزم قبح الخطاب بالمشابه لذلك، نحو: يد الله ووجهه، على أنه قد ذكر الموفق بالله عليه السلام ما يفيد أنه لا يجب الاحتراز مما فيه إيهام لبعض دون بعض، إلا عند حضور ذلك الذي يحصل له الوهم، وذلك أنه قال فيما يجوز إطلاقه وما لا يجوز ما لفظه: فأما إذا صح أحمد ا لمعنيين دون الآخر كقولنا: إنه تعالى يضل ويقضي بالمعاصي فإنه لم يوهم جاز إجراؤه عليه تعالى، وإن كان فيه إيهام لبعض الحاضرين فلا يجوز، ألا ترى أنه تعالى يضل الكفار يوم القيامة عن طريق الجنة، ويقضي بالمعاصي، بمعنى أنه يخبر عن كونها وحصولها، ذكره في (الإحاطة) فهذا نص في أنه لا يجب الاحتراز مطلقاً، بل حالة الإيهام فعائد ما هنا أنه يجب الاحتراز عن إطلاق الوجب على الله تعالى، عند حضور من يتوهم التكليف إن لم يمكن التعريفق، وإن كان الثالث وهو أنه يوهم من حيث العرف الخاص وهو عرف العلماء فلا إيهام من هذه الحيثية قطعاً، وكيف يقال أنهم يتوهمون ومعهم القرائن القطعية التي لا يبقا معها مسلك ليتوهم.
قالوا: سلمنا لكم أن إطلاق الوجوب لا يوهم فلا نسلم أن هذه الأمور واجبةٍ؛ لأن الطاعات شكر لله تعالى على نعمه، وسيأتي الدليل على ذلك، وإذا كانت شكراً فالثواب تفضل.
والجواب: أن يقال لا نسلم أن الطاعات شكر لما سيأتي سلمنا فذلك لا يمنع الوجوب عليه تعالى؛ لأنهم مكلفون بشكره، ولا قدرة لهم على القيام بما كلفوا إلا بالتميكن ونحوه، وإلا كان تكليفاً بما لا يطاق، وإذا كان لابد من التمكين وأنه لو كلفهم مع عدمه لقبح فهو معنة الوجوب، وغاية الأمر أنه يمنع وجوب الثواب والبعث على الله تعالى؛ لأنهم قد استوحوا ما هو في مقابلة طاعاتهم وهو مالك النعم، فيكون الثواب والبعث لأجله تفضل محضاً، ولقائل أن يقول: إنا وإن سلمنا أن الثواب تفضل وأنه لا يجب عليه من حيث أنه جزاء على العمل فإنا نقول إنه وجب عليه؛ لأنه قد أخبرنا ووعدنا به وهو أصدق القائلين ولا يخلف الميعاد، فلو أخل بفعله والحال هذه القبح منه وهو معنى الوجوب، وعلى الجملة إنه لم يظهر لكون الشكر يمنع وجوب الجزاء عليه، وجه بل الظاهر أنه سبب في الوجوب، وذلك أن الله تعالى قد وعد الشاكرين بالزيادة في النعمة، وما وعد به فلا يجوز تخلفه لقبح الخلف، وما قبح الإخلال به فهو واجب، فعلى هذا يكون الشكر سبباً في الوجوب على الله تعالى، ودليلاً عليه لا مانعاً له.
وفي كلام علي عليه السلام ما يدل على ما قلنا، وهو قوله عليه السلام : في الحمد حمداً يكون لحقه قضاءً... إلى قوله: ولحسن مزيده موجباً، فجعل الشكر على وجوب الزيادة.
وأما الأدلة السمعية التي تفيد الوجوب فسيأتي الكلام عليها في مواضعها.
ومن كلام أمير المؤمنين عليه السلام : لا يجري لأحدٍ إلا جرى عليه، ولا تجري عليه إلا جرى له، ولو كان لأحدٍ أن يجري له ولا يجري عليه لكان ذلك خالصاً لله سبحانه دون خلقه، لقدرته على عباده، ولعدله في كل ما جرت عليه صروف قضائه، ولكنه بحانه فعل حقه على العباد أن تطيعوه وجعل جزاؤهم عليه مضاعفة الثواب تفضلاً منه وتوسعاً بما هو من المزيد أهله، رواه في النهج، وكلامه عليه السلام يدل على أن كون الطاعات شكراً لا يمنع وجوب الجزء الذي قد أخبر به ووعد به، فإن قيل كلامه عليه السلام ليس صريحاً في الوجوب بل فيه ما يقتضي عدم الوجوب وهو قوله: وجعل جزاهم عليه مضاعفة الثواب.
قيل: قد أجاب عن هذا العلامة ابن أبي الحديد رحمه الله، وحاصل ما قاله: إن معناه ليس أخذ من الموجودين بمرتفع عن أن يجري عليه الحق، ولو كان أحد كذلك لكان أحقهم بذلك الباري تعالى؛ لأنه السيد المالك، لكنه سبحانه يستحق عليه أمور فهو في هذا الحكم كأحدنا يستحق ويستحق عليه، وإنما حذف أمير المؤمنين تأدباً من إطلاق الوجوب علىاستحقاق عليه تعالى، ولا يقال: فما بال المتكلمين لا يتأدبون بادبه؛ لأنا نقول هم أرباب صناعة وعلم يحتاج إلى ألفاظ واصطلاح لابد من استعماله للإفهام والجدل بينهم، وأمير المؤمنين لا يحتاج إلى ذلك هنا؛ لأنه لم يرد تعليم هذا العلم، وإنما أراد بيان ما يجب له على رعيته وما يجب لهم عليه، فصح أنه على القول بالوجوب.
قلت: ويؤيده أن الكلام مسوق لبيان الواجب لأمير المؤمنين وعليه، وأنه لما وجب له عليهم واجب وجب لهم عليه واجب، وأن هذه قضية معلومة وهي أنه لا يجب لأحدٍ حق إلا ويجب عليه عليه مقابلة حتى الباري تعالى، ودلالة السياق تبين المجملات وتدفع الاحتمالات، وأما قوله وجعل جزاؤه...إلخ فلا يدل على عدم وجوب الثواب.
قال الشارح: لأنه جعل المتفضل به مضاعفة الثواب لا أصل الثواب.
قال: وليس ذلك بمستنكر عندنا.
فإن قيل: كيف يتفضل بمضاعفة الثواب وعندكم أنه لا يصح الابتداء بالثواب.
قيل: قد أجاب ابن أبي الحديد بأن المراد بالمضاعفة هنا زيادة غير مستحقة من النعم واللذة الجسمانية خاصة في الجنة، فسمى تلك اللذة الجسمانية ثواباً؛ لأنها جزء من الثواب، فأما اللذة العقلية فلا يجوزو مضاعفتها.
قلت: ولعله أراد اللذة العقلية اللذة الحاصلة بالتعظيم والتبجيل.
قلت: وقد صرح أمير المؤمنين عليه السلام بالوجوب على الله تعالى في قوله: أوصيكم بتقوى الله فإنها حق الله عليكم، والموجبة علىالله حقكم، رواه في النهج.
قال الشارح: هذا تصريح بمذهب المعتزلة في العدل، وأن من الأشياء ما يجب على الله تعالى من باب الحكمة.
وأقول: يدفع قوله: إن أمير المؤمنين عليه السلام لم يصرح بالوجوب في الكلام السابق تأدباً، والظاهر أنه مما تركه لتعبيره بما يؤدي معناه إذ لا يشترط في الدلالة علىالقول بالوجوب الإتيان بمادة مخصوصة. والله أعلم.
المسألة الحادية عشرة [معنى الرب]
الرب في اللغة: السيد، والمالك، والثابت، والمعبود، والمصلح.
قال (أبو حيان): وزاد بعضهم بمعنى الصاحب، وبعضهم بمعنىالخالق، ولا يطلق على غير الله تعالى إلا مقيداً كرب الدار، ورب الدابة، فلا يقال: زيد الرب أو رب خلافاً لأبي القاسم البلخي فيما رواه عنه في الأساس فقال: يجوز إطلاقه على غير الباري تعالى، وإن لم يتقيد بالإضافة؛ لأنه عنده صفة فعل مأخوذ من التربية كما سيأتي له فهو اسم لكل مرب، فكما لا يختص تعالى بقادر ومالك ونحوهما من الاسماء المشتقة كذلك لا يختص برب.
وأجيب: بأنا لا نسلم أخذه من التربية لما سيأتي، وبأن السامع لا يحمله عند الإطلاق على غير الله تعالى، فدل على أنه مختص به تعالى.
قلت: وفي الرواية هذه عن أبي القاسم نظر، فإني لم أقف عليها في القلائد وشرحها، ولا في غيرها من الكتب المعتبرة، بل فيها ما يدل على أنه يمنع من إطلاقه مع عدم التقييد، وذلك أنه لما قال: إنه مأخوذ من التربية ألزموه بأنه لو كان كذلك لما اختص به الباري مع الإطلاق، فلو كان يقول بعدم الاختصاص لما كان لإلزامه بمذهبه فائدة، وقد استشكل الشرفي هذه الرواية عنه فقال: ينظر هل صرح أبو القاسم بذلك، أو أخذ له من قوله في رب أنها صفة فعل مأخوذة من التربية؛ لأنه لا يمتنع اختصاصها بالله سبحانه مع الإطلاق إما بالغلبة، وكثرة الاستعمال، أو بتربية مخصوصة لا يقدر عليها إلا الله تعالى وإن كانت صفة فعل. والله أعلم.
قلت: والظاهر أن قوله لا يمتنع... إلخ علة في عدم صحة المأخذ، فكأنه قال: فإن كان إنما أخذ له هذا القول من قوله إنه صفة فعل، فهو مأخذ ضعيف؛ لأنه لا يمتنع.. إلخ يعني أن قوله إنها صفة فعل لا يمنع اختصاص الباري تعالى بها مع الإطلاق لأحد الأمرين المذكورين عند أبي القاسم. والله أعلم.
نعم قال (القرطبي) في (الصحاح): إن الرب اسم من أسماء الله تعالى، ولا يقال في غيره إلا بالإضافة، وقد قالوه في الجاهلية للملك.
قال الحارث بن حلزة:
وهو الرب والشهيد على يـ ـوم الخيارين والبلاء بلاء
ثم قال: إن رب إذا دخلت عليه الألف واللام اختص الله تعالى به؛ لأنها للعهد، وإن حذفتا صار مشتركاً بين الله وبين عباده، فيقال: الله رب العباد وزيد رب الدار، وكلامه يقتضي جواز الإطلاق مع عدم التعريف مطلقاً ولا يدفعه تمثيله بالمضاف، وفيما حكاه عن الحارث دليل على أن تخصيصه بالله مع التعريف شرعي فقط. والله أعلم.
وفي (تفسير الخازن): أنه لا يقال الرب للمخلوق معرفاً، بل يقال: رب الشيء مضافاً، فإن قيل: ظاهر حديث الصحيحين يمنع من استعماله في غير الله تعالى، ولو مقيداً، وهو قوله صلى الله عليه وآله وسلم : ((لا يقل أحدكم أطعم ربك وضئ ربك ولا يقل أحدكم ربي، وليقل سيدي ومولاي)).
قيل: هذا الحديث مخالف لكتاب الله، فقد أخبر الله عن يوسف أنه قال: {إِنَّهُ رَبِّي أَحْسَنَ مَثْوَايَ}[يوسف:23]، وقال: {أَمَّا أَحَدُكُمَا فَيَسْقِي رَبَّهُ خَمْراً}[يوسف:41]، وقال: {ارْجِعْ إِلَى رَبِّكَ}[يوسف:50].
وبهذا يظهر لك أنه لا اعتبار بتصحيح أهل الحديث، وما قيل: من أنه محمول على التنزيه فلا وجه له مع ورود القرآن بجوازه.
هذا ولا يخفى أن اشتراط التقييد بالإضافة إنما هو في المفرد، فأما الجمع فيجوز إطلاقه من غير قيد؛ إذ لا يستعمل في الباري تعالى، قال الله تعال: {أَأَرْبَابٌ مُتَفَرِّقُونَ خَيْرٌ أَمِ اللَّهُ الْوَاحِدُ الْقَهَّارُ}[يوسف:39].
المسألة الثانية عشرة [هل اسم الرب من صفات الذات أم الفعل]
اختلفوا في هذا الاسم الشريف هل هو من صفات الذات أم من صفات الفعل، ولنقدم قبل ذلك الكلام على الفرق بين صفة الذات، وصفة الفعل على الجملة، ليكون أصلاً يرجع إليه عند اللبس فنقول:
اعلم أن صفات الله تعالى تنقسم إلى ما يرجع إلى ذاته، وإلى ما يرجع إلى فعله، فالصفات الراجعة إلى ذاته هي ما يستحق الوصف بها أزلاً وأبداً، ولا يجوز خروجه عنها في حال من الأحوال، وهي منقسمة إلى أقسام، وهي أن منها ما يرجع إلى القادرية كالجبار، والقهار، والعزيز ونحوها، ومنها ما يرجع إلى العالمية كالحفيظ، والرقيب ونحوهما، ومنها ما يرجع إلى الحيية كالغني، والسميع، والبصير على قول، ومنها ما يرجع إلى الوجود وهو القديم ونحوه، وقد تقدم الكلام على ما يستحقه من الاسماء الراجعة إلى الوجود في قوله بسم الله، وضابط الصفات الذاتية أنه لا يصح نفيها، ولا يدخلها التضاد، فلا يقال: عالم وغير عالم، وأما الصفات الراجعة إلى الفعل، فقال المرتضى، والإمام أحمد بن سليمان: هي ما يدخلها التضاد بأن يصح إثباتها ونفيها نحو خالق ورازق، فإنك تقول: يخلق ولا يخلق، ويرزق ولا يرزق.
وقال الإمام (المهدي) عليه السلام : بل منها ما لا يصح وصفه بنقيضه كالأمانة والذمة والعهد، وهذه ألفاظ مترادفة لمعنى واحد، وهو الوفاء وعدم الخيانة، فذمة الله وعهده مثل أمانته وهو وفاؤه وصدقه، ومنها ما يجوز عليه نقيضه، وهو الكرم والإحسان فإن عقاب أهل النار ليس بكرم ولا إحسان، ومنها ما يرجع إلى الترك كالغفور ونحوه.
قلت: وكلامه عليه السلام لا يخالف كلام الإمامين لأن مرادهما بدخول التضاد من حيث الإمكان والعهد، ونحوه مما يقدر الله تعالى على نقيضه لما مر من أنه قادر على ما لو فعله لكان قبيحاً، وإنما منعت منه الحكمة، ومراد الإمام المهدي عليه السلام بقوله ما لا يصح وصفه بنقيضه أنه يمتنع منه وقوع نقيضه من حيث الحكمة لا من حيث القدرة، وما امتنع وقوعه منه فلا يصح وصفه به، وما كان من صفاته راجعاً إلى الفعل فلا يوصف به في الأزل.
قال الإمام عز الدين عليه السلام : اعلم أن الاسماء المشتقة من الأفعال لا يصح إجراؤها عليه في الأزل فلا يقال: هو خالق في الأزل ونحو ذلك، وقد أجازت النجارية وصفه تعالى بأنه جواد في الأزل قالوا: إذ لو لم يكن جواداً في الأزل لكان بخيلاً.
قال عليه السلام : وقولهم باطل لأن الجواد فاعل الجود، وهو تعالى غير فاعل في الأزل، ولو كان معنى الجواد نفي البخل لصح وصف الجمادات، وكثير من الحيوانات التي لا يتصور فيها البخل بالجود، وهو معلوم الاستحالة، وقد ذهبت الكرامية إلى أن صفات الله تعالى كلها أزلية سواء تعلقت بالفعل كخالق، ورازق، ومنعم ونحوها، أو لم تتعلق به، وهو مذهب كثير من فرق المجبرة. ذكره في المعراج.
قلت: ما تقدم من رواية ابن أبي الحديد عن المتكلمين في مباحث استحقاقه تعالى للحمد يقضي بأنه يصح القول باستحقاقه تعالى لهذه الصفات في الأزل بالقوة، وقد أشار إلى هذا الإمام محمد بن علي الفوط عليه السلام في كتابه(البدر المنير) إلا أنه شرط أن يكون ذلك معرفاً بالألف واللام، ونحن نأتي بكلامه عليه السلام على وجهه، فنقول: قال في الكتاب المذكور يقال: إن الله تعالى الخالق الأزلي، ولا يقال: خالق فيما لم يزل لإيهام اجتماع النقيضين من كون لفظ الخلق يقتضي حدوث المخلوق، وقولك خالق فيما لا يزل يقتضي التقدم من غير تحديد، فيؤدي إلى كون الشيء محدثاً قديماً، وذلك محال، ولأنه يوهم أن مع الله تعالى قديماً غيره، وذلك محال، وكذلك صفات الله تعالى التي اتصف بها لأجل أفعاله تعالى فهو يوصف بها أزلية، باعتبار إمكان ما اتصف تعالى بها لأجله من حدوث ما سيكون من أفعاله تعالى فيقال: لا يزال الخالق الباري، المصور، المحمود الرب، الغفار، الشكور، الصمد، أي المتمكن من فعل هذه الأشياء، ولا يزال متمكناً منها عالماً بكيفية فعلها، أو فعل ما يستحق تعالى منها لأجله كخلق ما يستحق عليه الشكر وإيجاده تعالى الحامد له تعالى من خلقه، ليس أنه تعالى لم يزل فاعلاً للأفعال التي اتصف بهذه الأفعال لأجلها؛ لأن كونها مفعولة يوجب أنها كانت معدومة، وكونها لم يزل متصف بها على جهة وجودها يوجب كونها قديمة، وأصل الكلام للهادي عليه السلام وله فيه بحث بسيط حاصله أن هذه الصفات لا يصح وصف الباري تعالى بها في الأزل مجردة من الألف واللام، فلا يقال: لم يزل محسناً لما في ذلك من إيهام قدم المحسن إليه، بل يقال: لم يزل المحسن التواب، ووجهه والله أعلم أن الألف واللام في هذه الصفات بمعنى الذي، وهو عبارة عن الذات المتصفة بهذه الصفات المتجددة، ولذا قالوا: إن معنى الضارب الذي ضرب أي الذي فعل الضرب وأحدثه، فكذلك إذا قيل: لم يزل المحسن فمعناه لم يزل
الذي أحسن، أي الذي فعل الإحسان وأوجده، أي لم تزل الذات التي فعلت الإحسان، بخلاف ما لو قيل: لم يزل متفضلاً محسناً فإنه يوهم أنه على هذه الصفة في الأزل، وذلك يوهم قدم من وقع عليه الإحسان، إلا أنه عليه السلام ذكر أنه لا يقال: إنه كان غير تواب ونحوه لإيهامه الفضاضة وضد الإحسان، وكذلك يقال: لم يزل المحمود المشكور ولا تجرد من (أل) لما مر، ولا يقال: إنه كان غير محمود ولا مشكور لما فيه من إيهام الذم، وللإمام المهدي محمد بن القاسم الحوثي عليه السلام في هذا بحث مفيد لا بأس بإيراده، وذلك أنه سئل عن صفات الفعل كالمتفضل ونحوه، فقال السائل: إن قلنا إنه لم يزل متفضلاً لزم قدم المتفضل عليه، وإن قلنا إنه كان غير متفضل، فهذا لفظ يوجب الذم، والظاهر أن السؤال مأخوذ من البحث الذي ذكره الهادي عليه السلام .
قال عليه السلام : الجواب أن صفات الله انقسمت إلى قسمين: صفة الذات، وصفة الفعل، وانقسامها باعتبار معانيها، فإن صفة الذات هي الذات من غير اعتبار شيءٍ آخر، يعني أنه لم يكن هناك شيء زائد على ذاته تعالى، وإنما سمي بها من حيث وجوده وحياته وقدرته ونحو ذلك، وصفة الفعل ما ثبت له تعالى من الصفات باعتبار التعلق بشيء آخر كالخالق، والرازق، والصمد، والمتفضل، فإنها باعتبار المخلوق والمرزوق ونحوهما، ولا يمتنع اتصافه تعالى بها في الأزل حقيقة كما هو اختيار الإمام القاسم بن محمد عادت بركاته ومن معه على معنى أنها حاصلة بالقوة وإن لم تحصل بالفعل، وكلا الأمرين حقيقة كما هو المعروف من الوضع العربي في مثل اسم الفاعل فإنه بمعنى الحال، أو الماضي، أوالاستقبال من باب المشترك، فحينئذ فالقرينة إذا نصبت فإنما هي لتمييز أحد المعاني عما سواه، وإن لم تنصب حمل على الإطلاق، وإن كان قد اختار الجمهور في خالق ما سيكون أنه مجاز لعدم حصول المعنى المشتق منه ولافتقاره إلى القرينة، فقد أجيب عنه بأن حصول المعنى المشتق منه ليس بشرط في الوضع، بل من الجائز الوضع باعتبار معنى مستقبل كتسمية السيف صارماً أخذاً من الصرم وهو القطع وإن لم يكن قد حصل، وفي القرينة أنها نصبت للتمييز بين معاني المشترك لا أنها قرينة المجاز، وثمرة الخلاف في كون الوصف قبل وجود المتعلق حقيقة أو مجازاً أن من قال هو حقيقة لم يفتقر إلى السمع، ومن قال: هو مجاز افتقر إلى السمع؛ إذ لا يطلق على الله تعالى من الاسماء إلا ما كان حقيقة، أو ورد به إذن سمعي، والصحيح الأول، ومن هاهنا ارتفع إشكال ما يلزم من إيهام الذم، ويمكن التلفيق بين القولين بأنها إن كانت بالقوة فهي ثابتة في الأزل؛ لأنها بمعنى القدرة مثلاً وهي من صفات الذات، وإن كانت بمعنى الفعل فهي ثابتة بعد أن لم تكن، وقد استوفينا كلامه عليه السلام لما اشتمل عليه من الفوائد، وقد استفدنا منه أنه يقول بجواز
إطلاق صفات الفعل على الله تعالى في الأزل بالقوة، كما حكاه ابن أبي الحديد عن المتكلمين، وقرره الإمام محمد الفوطي عليه السلام إلا أنه شرط التعريف كما مر، وظاهر كلام الإمام القاسم بن محمد والمتكلمين عدم اشتراطه. والله أعلم.
قلت: ظاهر ما في الأساس وشرحه والغاية وشرحها أنه لا نزاع في جواز اشتقاق اسم الفاعل باعتبار ما سيوجد، وإنما الخلاف هل يكون ذلك حقيقة أم لا، وسيأتي الكلام في ذلك، وغرضنا هنا تحقيق جواز إطلاق صفات الفعل على الباري تعالى في الأزل باعتبار القدرة عليها، والتمكن منها إما حقيقة كما حققه الإمام محمد بن القاسم عليه السلام ، وإما مجازاً، فقد ورد بها السمع ولم يقيد إطلاقها باعتبار أنه قد فعل أو أنه فاعل الآن، بل قرنها بصفات الذات، قال تعالى: {قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ، اللَّهُ الصَّمَدُ}[الإخلاص:2 ]فقرن الصمد بالأحد وهو تعالى متصف بالوحدانية في الأزل، فكذلك الصمد، والقرينة عقلية، ولو قيل: إنه متصف بالوحدانية أزلاً دون الصمدية لكان في الكلام إلغاز، وتلبيس لا يجوز من الباري تعالى فعله.
إذا عرفت هذا وتبين لك الفرق بين صفات الذات وصفات الأفعال على الجملة فنقول: قد اختلف في رب هل هو صفة ذات أم صفة فعل؟ فقال الإمام المهدي عليه السلام : قال أصحابنا: الرب صفة ذات أي مالك يقال: رب الدار أي مالكها، وإذا كان بمعنى المالك والمالك بمعنى القادر فهو صفة ذات.
قال (النجري): وحينئذٍ فتكون الربوبية ثابتة في الأزل؛ إذ المرجع بها إلى القادرية وليست بصفة فعل.
وقال الإمام القاسم بن محمد عليه السلام : هو صفة ذات، لكن لا بمعنى قادر، بل باعتبار كون المربوب له تعالى وهو حقيقة عنده عليه السلام لما مر، وقال المرتضى، وأبو القاسم، البلخي واختاره الشرفي: بل هو صفة فعل، وهو ظاهر كلام الرازي وأبي السعود.
احتج الأولون بأنه قد ثبت أنه بمعنى مالك، ومالك سيأتي أنه بمعنى قادر، والدليل على أنه بمعنى مالك أنه لا يسمى به على الإطلاق إلا الله تعالى، فيقال: قال الرب، ولا يقال لمالك العبد هذا الرب اتفاقاً، ولو كان مشتقاً من التربية لجاز إطلاقه في غيره تعالى؛ لأن التربية تعم صحة الوصف بها كل من ربا غيره، وأيضاً لو كان مشتقاً منها لكان وصف الوالد بأنه رب الولد أولى من وصفه بأنه رب العبد، والمعلوم خلافه، فصح أنه ليس بمشتق من التربية، وإنما هو بمعنى مالك، ورد بأنا لا نسلم أن مالكاً بمعنى قادر لما سيأتي.
احتج الإمام القاسم أما على أنه ليس بمعنى قادر، فلما سيأتي في مالك، وأما على أنه ليس بصفة فعل فلثبوته لمن لم يفعل التربية يقال: فلان رب الدار إذا كان مالكًا لها وإن لم يفعل فيها فعلاً، فصح أنه صفة ذات باعتبار كون المربوب له تعالى فقط لا لغيره، قال: وهو حقيقة قبل وجود المربوب، وهو بناء على أصله في أن خالق ما سيكون حقيقة، وسيأتي الخلاف في ذلك.
احتج المرتضى عليه السلام ومن معه بأن التربية لا تكون إلا بعد وجود المربى، فكانت هذه الصفة متجددة له تعالى، بعد أن لم تكن، والذي يتجدد إنما هو صفات الأفعال لا صفات الذات، ويدل على تجددها أنك تقول: ربيت الصبي إذا قمت بجميع منافعه وتحملت مؤنته، ومنه قول صفوان يوم هوازن: لأن يربني رجل من قريش أحب إليَّ من أن يربني رجل من هوازن، أي يصير لي رباً بمعنى مربياً، فلما كان الباري تعالى يربي خلقه وينشئه وصف بذلك.
وأجاب الشرفي عما ذكره الإمام القاسم بن محمد عليه السلام من قولهم: فلان رب الدار وإن لم يصنعها بأنه لا بد له من عمل في الدار قليل أو كثير إما بالشراء، أو الغنيمة، أو نحو ذلك.
وأجاب الأولون عن هذه الحجة بما مر من أنه لو كان مشتقاً من التربية لجاز إطلاقه في غير الباري تعالى، وأما كلام صفوان، فقال الإمام المهدي عليه السلام : هو بمعنى التربية حقاً، لكن لا يلزم منه أن يكون الرب مشتقاً منها وإن اتفقت الحروف.
وقال (النجري): بل هو بمعنى مالك أي لا يكون لي مالكاً وسيداً كما يقال رب الدار، قالوا: فبطل قول من يقول إنه مأخوذ من التربية، وصح أنه بمعنى مالك، فإن قيل لهم: أن يبطلوا كون الرب بمعنى مالك بما أبطلتم به كونه من التربية فيقولون لو كان بمعنى مالك لصح إطلاقه على غير الله تعالى كما يصح في مالك لأن الملك يعم.
قيل: قد أجيب بأنه المالك المدبر، ومنه رب العالمين، أي المتولي لتدبير أمورهم، فلذلك لم يطلق على غيره تعالى، وقد ذكر بعضهم أنه ليس بمعنى مالك على الإطلاق، بل الربوبية ملك كامل لا يشبهه ملك في الشاهد، فلذا اختص به الباري تعالى.
قلت: قد ذكر الفقيه حميد في العمدة أن مالكاً وملكاً كرب في عدم جواز إطلاقهما على غيره واشتراط التقييد، قال: إلا أن الحال فيه أظهر، فعلى هذا لا سؤال. روى هذا عنه الإمام عز الدين عليه السلام في المعراج.
فائدة
استعمال الرب على مذهب أبي القاسم أنه من التربية بالنظر إلى الحيوانات حقيقة، لأنها تحتاج إلى مؤنة، وتنتفع، وإلى الجماد مجاز، أشار إلى هذا في الدرر.
المسألة الثالثة عشرة [في وجوه تربية الله للعالمين]
في بعض وجوه تربية الله تعالى للعالمين على القول بأن الرب مأخوذ منها، ومعنى التربية تبليغ الشيء إلى كماله شيئاً فشيئاً.
اعلم أن من تفكر في وجوه تربية الله تعالى لخلقه علم علماً قطعياً لا شك فيه ولا شبهة أن هذا التدبير العظيم، والتربية اللطيفة لا تكون إلا لقادر عالم رحيم كريم مخالف لجميع أجناس المخلوقات، لأن كل من دبر تدبيراً، أو ربى تربية فإنه لا يقدر على أكثر أنواع التدبير والتربية، فلو كان مدبر العالم، ومربيه من جنس المدبرين والمربين لم يقدر على أكثر هذا التدبير، انظر إلى تدبير خلق الحيوان من أول ما يقع نطفة في رحم أمه كيف صارت تلك النطفة علقة، ثم مضغة، ثم عظاماً، ثم كسيت العظام لحماً، واتصلت بها رباطات وغيرها إلى غير ذلك من تركيب قوة السمع والبصر، وغيرهما مما لو اشتغل إنسان بالتفكر في نفسه لذهل وتحير من هذا الإحكام والتدبير، وقد نبه الله على ذلك في سورة (المؤمنون)، وفي قوله: {يَاأَيُّهَا الإِنسَانُ مَا غَرَّكَ بِرَبِّكَ الْكَرِيمِ}[الإنفطار:6].
وفي كلام علي عليه السلام : (عجباً لهذا الإنسان كيف يأكل بعظم، وينظر بشحم) أو كما قال، وله عليه السلام من التنبيه على ما قلنا كلام كثير في نهج البلاغة يدل به على عظيم القدرة، ولطف التدبير، ككلامه في إمساك السموات بغير عمد، وكلامه في خلق النحلة والنملة وغير ذلك، وسيمر بك شيء من ذلك إن شاء الله.
المسألة الرابعة عشرة [اسم الله الأعظم]
قال بعض العلماء: إن هذا الاسم هو اسم الله الأعظم لكثرة دعوة الداعين به، وتأمل ذلك في القرآن كما في آخر سورة آل عمران، وسورة إبراهيم، وغيرهما ولما يشعر به هذا الوصف من الصلة بين الرب والمربوب، مع ما يتضمنه من العطف والرحمة، والافتقار في كل حال، ولذا ورد في أحاديث الدعاء في صلاة الليل كحديث: ((من أذنب ذنباً فذكره فأفزعه فقام في جوف الليل...))، وفيه: ((ثم وضع جبهته على الأرض ثم قال: رب إني ظلمت نفسي ...)) الخبر.
وفي (أمالي المرشد بالله) عليه السلام عن الفضل بن عباس قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم : ((صلاة الليل مثنى مثنى تتشهد في كل ركعتين ثم تضرع وتخشع وتمسكن وتقنع بيديك ترفعهما إلى ربك تقول: يا رب يارب فمن لم يفعل ذلك فهي خداج)).
المسألة الخامسة عشرة [معنى العالمين]
{الْعَالَمِينَ}جمع عالم، وقد تقدم الكلام على أقسام (أل)وذكرنا ثمة أنهم اختلفوا هل هي حقيقة في الاستغراق أم في غيره، وحققنا اختلاف العلماء في اسم الجنس المعرف باللام مع عدم القرينة المعينة لأحد الأقسام هل يحمل على العموم أم لا، وكما اختلفوا في المفرد فقد اختلفوا في الجمع المعرف باللام المذكورة كالمؤمنين والعالمي،ن وكذلك الجمع المعرف بالإضافة نحو: {يُوصِيكُمُ اللَّهُ فِي أَوْلاَدِكُمْ}[النساء:11 ]ومثله اسم الجمع كالناس، والقوم، والنساء، فقال الجمهور: هي للعموم ما لم يتحقق عهد أو نحوه، واحتجوا بوجوه:
أحدها: التبادر عند الإطلاق فإن المتبادر من الآية الكريمة ونحوها العموم، فإنه تعالى رب العالمين كلهم ومالكهم، وكذلك من قوله تعالى: {يُوصِيكُمُ اللَّهُ فِي أَوْلاَدِكُمْ}[النساء:11]، {يَاأَيُّهَا النَّاسُ اعْبُدُوا رَبَّكُمُ}[البقرة:21 ]وأيضاً فإن الصحابة فهموا العموم من حديث: ((الأئمة من قريش)) لما احتج به أبو بكر على الأنصار؛ إذ لو لم يكن للعموم لم تقم الحجة على الأنصار بكون بعض الأئمة من قريش، ومن تتبع استدلال العلماء بعموم الآيات والأخبار علم أنهم لم يستندوا في عمومها إلا إلى ما فهموه من الصيغة، لا إلى أمر آخر.
الوجه الثاني: صحة الاستثناء كما في المفرد.
الوجه الثالث: صحة التأكيد بأجمعين، فلولا أنه للعموم لما صح ذلك؛ إذ فائدة التأكيد فائدة المؤكد.
الوجه الرابع: أن الجمع ونحوه إذا عرف بلام العهد شمل المعهودين لفقد المخصص، فيجب مثله في تعريف الجنس لهذه العلة مثال لام العهد قول القائل بعد أن ذكر رجالاً مخصوصين، ووصفهم بأوصاف حسنة: أكرم الرجال، فإنه ينصرف إلى المتقدم ذكرهم جميعاً إلا لمانع، وقال أبو هاشم: بل هو للجنس الصادق ببعض الأفراد من الجماعات كما في تزوجت النساء، وملكت العبيد، لما مر له في المفرد من أنه المتيقن ما لم تقم قرينة على العموم كما في هذه الآية: {يُوصِيكُمُ اللَّهُ...} [النساء:11 ]الآية، والجواب: يؤخذ مما مر.
وقال الجويني: هو للعموم ما لم يحتمل العهد؛ لأنه مع احتماله يكون متردداً بينه وبين العموم فلا يحمل على أحدهما إلا بقرينة، وأجيب بمنع التردد، بل المتبادر العموم كما مر.
فرع
قال الأكثر من القائلين بالعموم الجمع المعرف باللام أو الإضافة، وكذلك اسم الجمع المعرف كالمفرد في شمول الآحاد، وعليه أئمة التفسير في نحو: {وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ }[المائدة:93] فإن المراد كل فرد، وكذا: {إِنَّ الْمُسْلِمِينَ وَالْمُسْلِمَاتِ}[الأحزاب:35]، {وَمَا اللَّهُ يُرِيدُ ظُلْمًا لِلْعالَمِينَ}[آل عمران:108 ]وغيرها ولصحة استثناء المفرد بلا خلاف في نحو: جاءني العلماء إلا زيداً مع امتناع جاءني كل جماعة من العلماء إلا زيداً على الاستثناء المتصل.
قال في (شرح الجمع): وقد تقدم قرينة على إرداة الجموع نحو رجال البلد يحملون الشجرة أي مجموعهم.
المسألة السادسة عشرة [في تعريف العالم]
في العالم ما هو والخلاف فيه بين أهل الإسلام والملاحدة، فأما أهل الإسلام فاختلفوا هل هو اسم لكل موجود سوى الله تعالى، أم لصنف من الأصناف؟ فقال الإمام أحمد بن سليمان عليه السلام ، والإمام عز الدين عليه السلام : العالم اسم لكل موجود سوى الله، وهذا مروي عن ابن عباس، وقتادة، واختاره أبو حيان في النهر، والقرطبي، وأبو السعود وغيرهم، واحتجوا بأنه مأخوذ من العلم والعلامة لأنه يدل على موجده.
قال (الخليل): العلم بفتح الفاء والعين والعلامة والمعلم ما دل على الشيء، والعالم دال على خالقه.
وقال (الجوهري): العالم الخلق، قلت وفيما ذكرناه عن أهل اللغة رد على الإمام المهدي عليه السلام حيث خص إطلاق العالم على السماوات والأرض، وما بينهما من الحيوانات والجمادات بالاصطلاح دون اللغة، وقال ابن جرير: هو اسم لأصناف الأمم كل صنف منها عالم، وأهل كل قرن وزمان من أصنافها عالم قرنه وزمانه، واستشهد بقول العجاج:
فخندف هامة هذا العالم .... فجعلهم عالم الزمان خندف
ويدل عليه أيضاً قوله تعالى: {أَتَأْتُونَ الذُّكْرَانَ مِنَ الْعَالَمِينَ}[الشعراء:165] أي من الناس فجعل الصنف عالم.
وقال جرير بن الخطفي:
تنصفه البرية وهو سام .... ويضحى العالمون له عيالا
ويدل عليه أيضاً قول زيد بن علي عليه السلام لله تعالى أربعة عشر ألف عالم، الجن والإنس منها عالم واحد، فجعل كل صنف عالم، ومثله قول أبي العالية: الإنس عالم، والجن عالم، وما سوى ذلك ثمانية عشر ألف عالم من الملائكة وللأرض أربع زوايا، في كل زاوية ثلاثة آلاف عالم وخمسمائة عالم، خلقهم لعبادته.
قلت: وهذا له حكم الرفع، وقد روى روايات مختلفة عن السلف يتحصل منها الدلالة على أن كل صنف عالم، وقال سعيد بن جبير، ومجاهد، وابن جريج: العالمون الجن والإنس لقوله تعالى: {لِيَكُونَ لِلْعَالَمِينَ نَذِيراً}[الفرقان:1]، ولم يكن نذيراً للبهائم، وهذا مروي عن ابن عباس.
وقيل: هم المكلفون، واختاره أبو حيان في البحر لقوله تعالى: {إِنَّ فِي ذَلِكَ لاَيَاتٍ لِلْعَالِمِينَ}[الروم:22 ]والقراءة بكسر اللام توضح ذلك، ويؤيده قول الفراء، وأبي عبيدة، وهما من أئمة اللغة، العالم عبارة عمن يعقل وهم الجن، والإنس، والملائكة، والشياطين، ولا يقال للبهائم عالم لأن هذا الجمع إنما هو لمن يعقل خاصة.
وقيل: إنه اسم لأولي العلم، وتناوله لما سواهم بطريق الإستتباع.
وقيل: أريد به الناس فقط لقوله تعالى: {أَتَأْتُونَ الذُّكْرَانَ مِنَ الْعَالَمِينَ}[الشعراء:165 ]أي: من الناس ولاشتمال كل واحد منهم على نظائر ما في العالم الكبير من الجواهر والأعراض الدالة على الصانع، ولذلك أمر بالنظر في الأنفس، كما أمر بالنظر في الآفاق.
قلت: الآية لا تدل إلا على أن كل صنف عالم، واشتمال كل واحد على ما ذكر إنما يدل على جواز تسميته عالماً مبالغة.
وقال الإمام المهدي عليه السلام : الصحيح أن المراد به كل ذي روح لأن لفظ الرب في قوله تعالى: {رب العالمين} يدل عليه، لأن الرب مشتق من التربية.
قلت: هذا يخالف ما تقدم عنه عليه السلام مما ظاهره أنه ليس من التربية.
قال عليه السلام : وقد يطلق على أهل كل زمان عالم وعالمين، ومنه قوله تعال: {وَاصْطَفَاكِ عَلَى نِسَاءِ الْعَالَمِينَ}[آل عمران:42]، وقال صلى الله عليه وآله وسلم : ((أنت سيدة نساء العالمين)) فقالت: تلك مريم بنت عمران فقال صلى الله عليه وآله وسلم : ((إنما هي سيدة نساء عالمها وأنت سيدة نساء العالمين)).
قال عليه السلام : وقد يطلق عالم على جماعة من الناس يقال: جاءني عالم من الناس ونحو ذلك.
قلت: وقد روي من أخباره عليه السلام عن ابن عباس، ففي تفسير القرطبي عنه أنه كل ذي روح دب على وجه الأرض.
وقال السيد (حميدان) رحمه الله: إذا أريد به جملة من يعقل وما لا يعقل فهو السموات والأرض وما بينهما، وإن أريد به من يعقل فالعالمون هم الملائكة والجن والإنس وواحدهم عالم، ويقال لأهل كل عصر عالم.
قلت: والظاهر مما تقدم من الأدلة والشواهد أن العالم قد يطلق ويراد به ما سوى الله تعالى، وهذا هو الذي يريده المتكلمون في الكلام على العالم، وقد يطلق ويراد به جنس أو صنف من أجناس المصنوعات، كما يقال: عالم الإنس، عالم الملائكة، عالم الأفلاك، عالم العناصر، عالم النباتات، إلى غير ذلك، وكل واحد منها يقال له: عالم لأنه مما يستدل به على الصانع المختار، أو لأنه ممن يعقل ويعلم كالمكلفين.
قال (الطبري): والعالمون جمع عالم، والعالم جمع لا واحد له من لفظه كالجيش ونحوه.
وقيل: ليس العالمون جمع عالم لاختصاصه بمن يعقل، والعالم عام فيه وفي غيره، والجمع لايكون أخص من مفرده فهو أسم جمع له، ومحل ذلك كتب النحو فإن قيل: لم جمع قيل: قال الزمخشري: ليشمل كل جنس مما سمي به، قيل: وفيه نظر لما مر من أن استغراق المفرد أشمل، ذكر معنى هذا ابن المنير قال: والتحقيق في هذا وفي كل ما يجمع من أسماء الأجناس ثم يعرف تعريف الجنس أنه يفيد أمرين:
أحدهما: أن ذلك الجنس تحته أنواع مختلفة، والآخر أنه مستغرق لجميع ما تحته منها، لكن المفيد لاختلاف الأنواع الجمع والمفيد لاستغراق جميعها التعريف، ألا ترى أنه إذا جمع مجرداً من التعريف دل على اختلاف الأنواع، ثم إذا عرف أفاد استغراق غير موقوف على الجمعية، إذ هذا حكم المفرد، ثم ذكر أن العالم جمع ليفيد اختلاف الأنواع المندرجة تحته من الجن والإنس والملائكة، وعرف ليفيد عموم الربوبية لله تعالى في كل أنواعه.
قلت: وقد أوضح هذا الشريف وحققه في حاشيته، وحاصل ما ذكره: أن العالم كالخاتم والطابع، فإنهما مع اشتقاقهما من الختم والطبع اسمان لم يختم به ويطبع، فكذلك العالم مع اشتقاقه من العلم اسم لذوي العلم، أي: يطلق على كل جنس منهم لا على فرد، فيقال: عالم الملك، وعالم الإنس مثلاً، ولا يقال: عالم زيد، وقيل: إنه يطلق على كل جنس مما يعلم به الخالق فيقال: عالم الأفلاك، ونحوها.
قال: فهو اسم للقدر المشترك بين أجناس ذوي العلم وأجناس ما يعلم به الخالق، على معنى أنه كما يطلق على كل جنس منها فيقال: عالم النبات، عالم الإنس مثلاً، فإنه يطلق على مجموعها كما في قولنا: العالم بجميع أجزائه محدث وليس اسماً للمجموع، من حيث هو مجموع وإلا لاستحال جمعه إذ لا تعدد في شيء من المجموعين، ثم استدل على أن الزمخشري أراد هذا بأنه سأل عن فائدة الجمع لا عن صحته، ولو قصد أنه اسم للمجموع لسأل عن صحة الجمع وبأنه أسند الشمول في الجواب إلى الجمع، فلو كان العالم اسماً للمجموع لما كان للجمع مدخل في الشمول.
قال: وحاصل جوابه أنه لو أفرد لربما توهم أن القصد إلى استغراق أفراد جنس واحد أو إلى الحقيقة فدل على تعدد الأجناس بالجمع، وعلى استغراق أفرادها بالتعريف، وهذا معنى ما ذكره ابن المنير.
فإن قيل: العالم لا يطلق على الفرد الواحد من الجنس كزيد، فإذا عرف امتنع استغراقه لإفراد جنس واحد، فإن اللفظ المفرد لا يستغرق إلا أفراداً يطلق على كل واحد منها، وكذا إذا جمع وعرف لم يتناول إلا الأجناس التي يطلق عليها دون أفرادها.
قيل: لما كان العالم يطلق على الجنس بأسره نزل منزلة الجمع حتى قيل: إنه جمع لا واحد له من لفظه كما مر، وقد مر أن الجمع يستغرق آحاد مفرده وإن لم يصدق عليها كما في: {وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ}[آل عمران:134 ] أي: كل محسن، فكذلك العالم يشمل أفراد الجنس وإن لم ينطلق عليها كأنها آحاد مفرده المقدر، وعلى هذا فالعالمون بمنزلة جمع الجمع، فكأن الأقاويل تتناول آحاد الأقوال، كذلك لفظ العالمين يتناول كل واحد من آحاد الأجناس التي لا تحصى، على أن عدم إطلاق اسم العالم على آحاد الجنس إنما هو بحسب الغلبة والاصطلاح، وأما باعتبار الأصل فقال أبو السعود: لا ريب في صحة الإطلاق قطعاً لتحقق المصداق حتماً، فإنه كما يستدل على الله سبحانه بمجموع ما سواه، وبكل جنس من أجناسه يستدل عليه تعالى بكل جزء من أجزاء ذلك المجموع، وبكل فرد من أفراد تلك الأجناس لتحقق الحاجة إلى المؤثر الواجب لذاته في الكل.
وبهذا تم الكلام على ما اختلف فيه أهل الإسلام، مما يتعلق بتحقيق العالم بحسب ما يقتضيه الحال والمقام، وقد تركنا بعض ما ينسب إلى أفراد منهم، إما لعدم الدليل عليه، أو لأنه راجع في التحقيق إلى ما قد حكيناه.
وأما الملاحدة ومن قال بمثل قولهم من الفلاسفة والباطنية وأشباههم فقال السيد حميدان رحمه الله: إنهم يزعمون أن العوالم كثيرة منها عالم العقول التي يزعمون أنها قبل الزمان والمكان، ومنهم من يعبر عن تلك العقول بأنهم الملائكة الروحانيون المقربون، ومنها عالم الأفلاك والأملاك، ومنهم من يعبر عنها بأنها الملائكة الكروبيون، ومنها عالم الطبائع الأربع التي يسمونها العناصر، والأمهات، والإستقصاءات، والأركان، ومنها عالم الكون والفساد وهو الأرض وما فيها مما يحدث ويفنى، ويزيد وينقص، ويحيى ويموت.
قلت: أما ما تضمن من أقوالهم هذه إثبات قديم مع الله تعالى فلا شك في بطلانه، وأما إطلاق العالم على الملائكة والعناصر والأرض وما فيها ونحو ذلك مما علم به الصانع فلم يختص به هؤلاء، بل قد مر أنه قول بعض أئمة الدين.
تنبيه
قد استفيد مما تقدم أن الظاهر في العالمين المذكور في الآية، أن المراد به ما سوى الله تعالى من الموجودات، فتأمل ما حكيناه عن أهل اللغة وغيرهم.
فإن قيل: أليس إضافة الرب إليه تمنع من تناوله لغير ذي الروح، إن قلنا: إنه مشتق من التربية، قيل: لا لما مر أن الرب قد يستعمل لغة بمعنى المصلح، ولا شك أنه لا شيء مما أحدق به نظام الإمكان والوجود من العلويات والسفليات، والحيوان والجمادات، إلا وهو بحيث لو فرض انقطاع التربية عنه إناء واحد لما استقر به القرار، ولا انتظم في سلك الهلاك والبوار.
وقد ذكر العلماء رحمهم الله: من وجوه التربية لأصناف العالم ما يرشدك إلى القطع بشمول الربوبية لكل صنف ولكل جزء من أجزاء العالم، وإذا أردت الوقوف على شيء من ذلك فعليك بتفسير الرازي، وكتاب الجواهر لبعض علماء العصر الحاضر.
المسألة السابعة عشرة المتعلقة بقول الله تعالى: {الحمد لله رب العالمين}
أنواع العلم
أنواع العالم
قد اختلف في ذلك، فمنهم من قسمه إلى جسم وعرض فقط، ومنهم من زاد الجوهر الفرد، وهم بعض المعتزلة ومن تبعهم من الأئمة وغيرهم من الزيدية، وهؤلاء يقولون: العالم إما أن يكون متحيزاً أو صفة للمتحيز، والمتحيز إما أن يقبل القسمة أو لا.
الثاني: الجوهر الفرد، والأول إما أن يقبلها من جهة الطول فهو الخط، أو من جهة الطول والعرض فهو السطح، أو من جهة الطول والعرض والعمق فهو الجسم، وأما ما كان من صفة للمتحيز فهو العرض.
فهذه ثلاثة أقسام، ولنفرد لكل واحد منها فصلاً نأتي فيه بما لا ينبغي جهله مما يتعلق به.
الفصل الأول: في الجسم، والثاني: في الجوهر، والثالث: في العرض، وقد أثبت الرازي قسماً رابعاً لا يكون متحيزاً ولا صفة لمتحيز وهي الأرواح، ومقصوده بها الأجسام اللطيفة كالملائكة، والجن، والشياطين، وسيأتي إبطال كون هذه خارجة عن الأقسام السابقة عند الكلام على ماهية هذه الأجناس، والظاهر أنه إنما أورده على جهة الحكاية عن حكماء الفلاسفة، لأنه قسم هذا القسم إلى سفلي كالجن والشياطين، وإلى علوي، ثم قسم العلوي إلى ما لا يتعلق بالأجسام كالأرواح المطهرة، يعني الملائكة، وإلى ما يتعلق بها وهي الأرواح الفلكية، وهذا لا يقول به مسلم إن أراد بالأرواح الفلكية الأرواح المتعلقة بالنجوم على، رأي من يزعم أنها حية ناطقة عالمة قادرة، وسيأتي توضيح بطلانه، وقد أشار القرشي إلى أن الفلاسفة يثبتون قسماً ليس بمتحيز ولا صفة للمتحيز، وقد شرح ذلك الإمام عز الدين عليه السلام ووضحه فقال: إنهم قسموا الأشياء إلى حال لا يقوم بنفسه وهي الأعراض، وإلى قائم بنفسه تحله الأعراض وهي الأجسام، وإلى قائم بنفسه يؤثر في الأجسام وهي النفوس، وإلى قائم بنفسه يؤثر في النفوس وهي العقول، وإلى قائم بنفسه يؤثر في العقول وهي العلة الأولى، فأثبتوا قسمين زائدين على الأجسام والأعراض والعلة التي هي عندهم الإله.
قلت: وهذه الأشياء غير محدثة عندهم، وقد مر أنهم يطلقون على العقول ونحوها لفظ عالم، فيقولون: عالم العقول، فدل على أنهم قد أثبتوا في العالم قسماً ليس بالمتحيز ولا صفة له، فيصح حملنا لكلام الرازي على الحكاية عنهم والله أعلم.
إذا عرفت هذا فلنرجع إلى ما نحن بصدده فنقول:
الفصل الأول في الجسم
والكلام فيه يقع في ثلاثة مواضع: الأول: في حقيقته، الثاني: في تماثل الأجسام، الثالث: في كونه غير مقدور للعباد.
الموضع الأول: في حقيقته
قال الإمام (أحمد بن سليمان) عليه السلام : الجسم سمي جسماً لطوله وعرضه وعمقه، والعرب تسمي ما زاد في الطول والعرض والعمق جسيماً، فيقولون: فرسي جسيم، وأجسم من فرس فلان، أي: أنه بالغ في ما له سمي جسماً، وهو هذه الثلاثة، واستدل على ذلك بقوله تعالى: {وَزَادَهُ بَسْطَةً فِي الْعِلْمِ وَالْجِسْمِ}[البقرة:247]، وقول الشاعر:
وقد علم الحي من عامر .... بأن لنا ذروة الأجسم
ثم ذكر أن علامات الجسم أن يكون طويلاً، عريضاً، عميقاً، محدوداً بالجهات الست التي هي فوق، وتحت، وقدام، وخلف ويمين وشمال.
قال عليه السلام : فما كان بهذه الصفات فهو جسم، وما لم يكن بهذه الصفات فهو عرض، ولا واسطة،وهذا هو ظاهر مذهب القدماء من آل محمد"، كما تفيده حكاية السيد حميدان، والشرفي عن أئمة العترة".
قال (الشرفي): اعلم أن مذهب أئمة العترة"، أن جميع ما يشاهد من العالم لا يخلو من أن يكون محلاً لغيره، أو حالاً في غيره، فالمحل هو الجسم، والحال هو العرض، والعرض صفة، والجسم موصوف.
قلت: والمراد من أئمة العترة" قدماؤهم، إذ خلاف بعض المتأخرين معلوم.
واعلم أنه يقرب من قول الأئمة في حقيقة الجسم، قول الكرامية أنه ما يقوم بذاته، وهو قول النظام والصالحي.
قال في (المعراج): فالجوهر الواحد عندهم جسم، وقال الإمام المهدي، وبعض المعتزلة: الجوهر ما يصح تحيزه عند وجوده ويستحيل تجزؤه، فإن انظم إليه جوهر آخر، أو جواهر في سمت الناظر فخط تشبيهاً بالخط في أصل اللغة، وهو في أصلها أن يفعل مثل صورة الألف من دون ضم متحيز إلى متحيز له جرم ناشز على ما وضع عليه، نحو: أن يخط في التراب أو بالمداد، لا أن يضم حجراً على حجر أو نحوه حتى يصير بصورة الألف، فإنه لا يسمى خطاً.
قال الإمام المهدي عليه السلام : وهذا معلوم عن أهل اللغة بالنقل المتواتر، ولا فرق بين أن يكون في سمت الناظر، أو عن يمينه، أو شماله، أو عرضاً فإنه في كل ذلك يسمى خطاً، يعني عند أهل اللغة، والخط في عرف اللغة: الخط بالقلم على الوجه المخصوص المتعارف.
قال الإمام (عز الدين) عليه السلام : قيل ولا يحتاج أن يقال في سمت الناظر بل يكون طولاً، وإن لم يكن في سمته وهو الأولى، وإلا لزم إذا لم يكن في سمته أن يخرج عن كونه طولاً، فإذا تحول عن مكانه فسامته أن يصير طولاً، ولأنه يلزم أن يخرج ذلك الإئتلاف عن كونه طولاً، وعرضاً، وعمقاً، فماذا يكون فإنه لا قسم زائد.
قال الإمام (المهدي) عليه السلام : فإن اجتمعت أربعة جواهر مربعة، فالمتكلمون يسمونه سطحاً، تشبيهاً بالسطح اللغوي، وهو سقف المنزل، لأن الأغلب تربيعه وأنه طبقة رقيقة فشبهوا به لتربيعه ورقته ما لا عمق فيه، قالوا: فإن ارتحل هذه الأربعة المربعة مثلها، صارت الثمانية جسماً لغة واصطلاحاً، وقد عرفت مما سبق أن تسميتهم لما ذكر بالخط والسطح مجرد اصطلاح، وقد ذكر ذلك الإمام المهدي عليه السلام .
واعلم أن هذه الثمانية هي أقل ما يسمى جسماً عند الإمام المهدي، وأكثر البصرية.
وقال (أبو الهذيل): بل أقله ستة جواهر متراحلة.
وقال (أبو القاسم البلخي): بل أقله أربعة أحدها فوق أحد الثلاثة، ليكون عمقاً.
وقالت (الأشعرية): بل أقله اثنان إذ الجسم هو المؤلف وقد حصل التأليف باثنين.
احتج الأولون بأن الجسم في اللغة ما اجتمع فيه الطول، والعرض، والعمق، فالطول الخط، والعرض السطح، ويسمى صفيحة تشبيهاً بصفيحة السيف للرقة، والعرض والعمق وائتلاف الجوهرين أو الجواهر من أعلى إلى أسفل مع حصول الصفيحة.
قالوا: ومجموع هذه الثلاثة إنما يحصل بالثمانية إذا ركبت على الهيئة التي ذكرنا، ليكون اثنان طولاً، واثنان عرضاً، وأربعة عمقاً، ومن ثم إن العرب يقولون: هذا أجسم من هذا لما زاد في ذلك.
واعلم أن هذه الدلالة مبنية على ثلاثة أصول، الأول: أن الجسم يتألف من جواهر لا من غيرها، وهو مذهب الأكثر، وخالف ضرار بن عمرو، والنجار فقالا: بل هو مركب من أعراض ألفت فصارت جسماً يحتمل الأعراض، وإنما يتركب من الأعراض التي لا تخلو الأجسام منها، كالألوان، والطعوم، ونحوها.
قال (ابن متويه): وكأنهم خصوا بذلك الأعراض الباقية عندهم، وقد أجيب بوجهين:
أحدهما: أن هذه الأعراض متضادة، فكيف يتركب منها ما هو متماثل.
الثاني: أَنكم إن أردتم باجتماعها تجاورها لزم تحيزها إذ لا يعقل التجاور إلا في متحيز، فيبطل كونها أعراضاً، وإن أردتم حلولها في محل واحد، لزم تحيزها أيضاً وإلا لما تعاظم بها ذلك المحل، لأن التعاظم فرع التحيز، وإن أردتم حلول بعضها في بعض فأبعد، إذ لا يحل المعنى في المعنى.
الأصل الثاني: أن ما تركب من دون الثمانية فأهل اللغة لا يسمونه جسماً، فالذي يدل على ذلك أنهم وضعوا لفظ الطول، والعرض، والعمق، لمعان غير المعنى الذي وضعوا له لفظ الجسم، فيقولون: جسم طويل، جسم غليظ، وهو معنى العمق، والصفة غير الموصوف، أو جار به مجرى الغير، ألا ترى أن الكرم غير المتصف به في قولنا: زيد كريم، ولو اتحد المعنى لكان معنى قولنا: زيد كريم، وجسم طويل، معنى قولنا: زيد زيد وجسم جسمن والمعلوم خلافه فإنه يدل على معنى زائد على معنى الموصوف، ولما علمنا أن الطويل في لسانهم عبارة عن التحيز الممتد في سمت الناظر امتداداً زائداً على غيره، لم يكن بد من تمييز أقله إذ لا حد لأكثره، فنظرنا فوجدناه ما إذا نقص في تركيبه بطل امتداده في الجهة وخرج عن كونه طويلاً إذ تقديره بفوق ذلك، تحكم صرف لا يدل عليه عقل ولا سمع، وكذلك نقول في العرض، وهو الإمتداد عن يمين الناظر وشماله فأقله ما إذا نقص منه بطل ذلك الإمتداد لما مر، وكذلك العمق، وهو الإمتداد إلى أعلى جهة فأقله ما إذا نقص بطل ذلك الإمتداد والوجه واحد، ولا حد لأكثرهما كالطول.
الأصل الثالث: في كون ذلك يبطل أقوال المخالفين، فأما قول أبي الهذيل فلأنه قد أخل بالعرض؛ لأنه لم يثبته إلا من أحد الجانبي،ن وما هذا حاله لا يسمى عريضاً في اللغة.
وأما (أبو القاسم): فلأنه أخل بالعمق إذ لا يسمى عميقاً إلا ما كان عمقه من جميع جهاته، وإنما بطل قولهما بما ذكر لأنهما يوافقان في أنه لا يسمى جسماً إلا ما جمع الثلاثة الأوصاف.
وأما (الأشعرية): فيبطل قولهم بما مر من أن العرب لا تسمي جسماً إلا ما ذكرنا، والمسألة لغوية وبأنه يلزمهم أن يستوي لفظ جسم، وطويل. ونحوه لوجود التأليف، فلا يصح الوصف بها والمعلوم خلافه.
وأما (الكرامية): فيبطل قولهم دخول أفعل التفضيل فيقال: هذا أجسم من هذا، ولو كان كما قالوا: لم يصح وصفه بالتزايد؛ لأن معنى جسميته ترجع إلى النفي، لأن معنى قولهم قائم بذاته أنه لا يفتقر إلى محل، والنفي لا يتزايد فلا يدخله التفضيل، والمعلوم أن العرب تستعمله فيه، والمسألة لغوية لا مجال للعقل فيها.
والجواب من وجهين:
أحدهما: أن هذه الأسامي أعني السطح ونحوه مجرد اصطلاح لا دليل عليها، وقد أقروا بذلك.
الثاني: أنهم جعلوا أول أصل من أدلتهم أن الجسم يتألف من جواهر، ونحن لا نسلم ثبوت الجواهر بالمعنى الذي ذكروه كما سيأتي، ودعواهم أن أهل اللغة لا يسمون جسماً إلا ما اجتمع من الجواهر التي ذكروها على اختلافهم، فمبني على ثبوت الجوهر، ونحن لا نثبته لا عقلاً ولا لغة.
وأما قولهم إن الطويل ونحوه موضوعة لمعان غير المعنى الذي وضع له الجسم إلى آخر ما ذكروه في الأصل الثاني، فجوابه: أن هذا التقرير صادر عن غير تأمل، ولا نظر صحيح في معنى الصفة عند علماء العربية، مع إقرارهم بأن المسألة لغوية، وأنت إذا تأملت علمت أن ذكر الطويل، والعريض، والعميق أسماء موضوعة للاحتراز بها عما قابلها، ومقابل الطول العرض والقصر، وقد ذكر علماء العربية أن فائدة الوصف إما التخصيص في النكرات، أو التوضيح في المعارف، فإذا قال القائل هذا جسم طويل أفادك تقليل الاشتراك في لفظ جسم؛ لأنه مشتركٌ اشتراكاً معنوياً بين الطويل وضده، فإذا وصفته تعين أحد المعنيين وكذلك البواقي، وبهذا تعرف أن لفظ جسم، ولفظ طويل ليس معناهما واحد من كل وجه إلا في المعارف؛ لأنه لم يقصد فيها إلا زيادة التوضيح، فعلى هذا إذا قيل جسم كان مشتركاً بين ما يشغل الحيز، فإن امتد قيل: جسم طويل، وإن لم قيل قصير أو عريض، فصح أن الجسم في اللغة ما يشغل الحيز، ولفظه مشترك اشتراكاً معنوياً، فإن قيل: كلامك هذا يدل على أنه لا يشترط في الجسم أن يكون طويلاً عريضاً عميقاً.
قيل: بل لا بد فيه من الطول والعرض إلا أنا لا نقول إنه لا يكون طويلاً عريضاً إلا بما ذكرتم، بل يكون طوله وعرضه في كل شيء بحسبه، فكل ما شغل الحيز فهو طويل عريض، وأما العمق فإذا أريد به السمك وهو الارتفاع فكذلك، وإن أريد به معناه اللغوي وهو قعر البير، والفج، والوادي كما في المختار فلا معنى له هنا. والله أعلم.
وأما قولهم: إنه لو كان اسماً للقائم بذاته لما دخله التفضيل... إلى آخر ما ذكروه.
فجوابه: أنهم بنوا ذلك على دعواهم أنه راجع إلى النفي، ونحن لا نسلم ذلك، بل هو راجع إلى الإثبات، وهو أنه يقال لما زاد في طوله وعرضه وعمقه هذا أجسم من هذا كما مر، والمعتبر في مثل هذا ما صح عن أهل اللغة، فعليك ببسائطها.
الموضع الثاني: في ثماثل الأجسام.
وفي ذلك خلاف، فقال جمهور البهاشمة: هي كلها متماثلة، وقال أبو القاسم: بل فيها مختلف، وقال النظام: كلها مختلفة.
احتج الأولون: بأن التماثل في اصطلاح المتكلمين سد أحد الذاتين مسد الآخر فيما يجب لها، ويجوز، ويستحيل عليها، فمتى كان الذاتان كذلك وصفوهما بالتماثل وإن اختلفتا في العوارض كالسواد، والبياض، والطول والقصر ونحوها، قالوا والتماثل بهذا المعنى حاصل في الأجسام مقتضى عن صفة الذات، فقصروا التماثل على الأمور المقتضاة عن الصفة الذاتية عندهم، قالوا وهذه الأمور، أعني ما يجب للذات ويجوز ويستحيل أحكام واجبة للذات في العدم والوجود، ولا يصح حصولها بفاعل ولا علة، وأبطلوا كونها بالفاعل بكونها ثابتة للذاوات في العدم، والفاعل لا يؤثر في المعدوم إلا الإيجاد، وبأنها لو ثبتت بالفاعل لزم إمكان جعل العرض جوهراً وذلك محال، وأبطلوا كونها بالعلة بأن التماثل والاختلاف حاصل في العلة الموجبة لهما؛ لأنها إما مماثلة لغيرها، أو مخالفة فتحتاج إلى علة فيتسلسل.
قلت: وما ذكره في نفي كونها بالفاعل مبني على أمور غير مسلمة لهم، وسيأتي الكلام عليها.
احتج أبو القاسم بأن التماثل لغة، سد إحدى الذاتين مسد الأخرى في جميع الصفات الذاتية والعارضة الملازمة إلا الزمان والمكان فإن التغاير فيهما لا يقتضي الاختلاف، ولا شك في أن في الأجسام مختلفاً بهذا المعنى، كالأسود والأبيض وغيرهما.
قيل: والخلاف على هذا مرتفع؛ لأن الأولين لا ينكرون المعنى اللغوي، وأبو القاسم لا ينكر المعنى الاصطلاحي، وأما النظام فلا حجة له إذ لم يصب المعنى اللغوي ولا الاصطلاحي، ولا أتى بما يدفعهما؛ إذ لا وجه يقتضي في المماثلة المساواة من كل وجه حتى في الزمان والمكان حتى يتم له دعوى اختلافها كلها لعدم اتفاق المساواة من كل وجه.
الموضع الثالث: في كونها غير مقدورة للعباد، ولا خلاف في ذلك إلا للمفوضة والباطنية، لنا ما سيأتي من أن قدرة العبد لا تتعلق بالجسم، ولا حجة لهم إلا أن الغارس إذا سقى الشجرة أثمرت، ويبطله أن ثمرها لو كان من فعله لوقف في وقته وجودته على اختياره، والمعلوم خلافه.
الفصل الثاني في الجوهر الفرد
الجوهر في اللغة: أصل الشيء يقال: جوهر هذا الثوب جيد أي أصله من القطن، وفي العرف: أحجار مخصوصة لها صفاء ونور، وفي اصطلاح المتكلمين هو المتحيز الذي لا يمكن تجزؤه، وقد اختلف في ثبوته، وقد عرفت ما رواه الشرفي من إجماع العترة المتضمن لنفيه، وأثبته المعتزلة ولم أقف على خلاف بينهم في إثباته، وتبعهم على ذلك الإمام المهدي عليه السلام وغيره من أصحابنا، وظاهر كلام الإمام أحمد بن سليمان عليه السلام أنه لم يثبته إلا بعض المعتزلة، وقد أبطل أئمتنا" دعوى المعتزلة لثبوت الجوهر من وجوه:
أحدها: أنه لا يعقل، وبيان ذلك أنهم قالوا: الشيء إذا كان له أربع جهات فهو جسم، وإن كان له ثلاثاً فهو سطح، وإن كان له جهتان فهو خط، وإن كان له جهة واحدة فهو الجوهر الفرد، ونحن نقول هذه الجهة لا بد أن تكون أحد هذه الأربع الجهات، وما ثبت له أحدها ثبت له باقيها، فما ثبت له فوق ثبت له تحت، وما ثبت له تحت ثبت له قدام، وما ثبت له قدام ثبت له خلف، ولا يعقل شيء يكون له فوق مثلاً ولا يكون له تحت ولا قدام ولا خلف.
قلت: في هذا الإيراد نظر فإنهم لا ينفون ثبوت الجهات له، وإنما اختلفوا في كونها راجعة إليه أو إلى غيره.
فقال (أبو علي) و(أبو القاسم البلخي) و(القاضي): هي راجعة إلى غيره، على معنى أنه لا يحكم بأن له جهة حتى ينضم إليه غيره لتكون جهة يساره أو يمينه مثلاً طرف ذلك المنضم إليه وهو غيره، فلم يعقل له جهة إلا بذلك الغير، فصح أن ثبوتها له كان بذلك المنضم، وإنما قالو بهذا فراراً من صحة تجزئه، وذلك أنهم قالوا: إنه لو فرض ثبوت الجهات له في نفسه استلزم تجزؤه؛ لأن اليمين غير الشمال، وكذلك سائرها.
وقال (أبو هاشم): هي راجعة إليه في نفسه ولم يقل: ليس له إلا جهة واحدة، بل أثبت له ست جهات كما في رياض الأفهام، وكذلك أبو علي ومن معه فإنهم يثبتون له ست جهات، لكنهم يقولون هي راجعة إلى غيره، وإنما تتصور لنا بالانضمام إلى غيره فانظر(دامغ الأوهام) ولم أقف على القول بأنه ليس له إلا جهة واحدة لأحد من العلماء، فتنبه.
وقد تنبه لما في هذا الوجه من الوهم في تفسير مقاصد القائلين بالجوهر السيد العلامة المحقق أحمد بن محمد لقمان رحمه الله، فإنه قال بعد أن حكى الوجه الذي ذكرناه في الرد لكلام المعتزلة ما حاصله أنهم إنما يريدون بقولهم إن له جهة واحدة أن تلك الجهة باعتبار ما يكون فيه من الجسم؛ لأنه عندهم جزء من الجسم لطيف لا ينقسم، فدل على أنه ليس في جهتين من الفراغ، وإلا لقبل القسمة، وكان في جهة واحدة لئلا يكون عدماً محضاً، وأما أن له أربع جهات منفصلة عنه ممتازة عنه على حد امتيازها من الجسم، فذلك مما لا ينكر، فظهر لك أن معنى قولهم غير شاغل للحيز من ثلاث جهات أنه إذا كان في جهة فوق مثلاً كان في جهة تحت ويمنة ويسرة فراغاً؛ إذ لا جزء معه فيها، وإلا لقبل القسمة إليه، والمعروف خلاف ذلك، قال: وكون في الأجسام ما لا يقبل القسمة لا ينكره العقل، وهو الذي يريدونه بالجوهر الفرد، فتأمل. والله أعلم.
قلت: وقوله إن له أربع جهات تبع فيه إثباتها في قول الإمام القاسم بن محمد عليه السلام في الأساس إنهم أثبتوا ما لا يعقل، وهو قولهم بالجوهر غير مانع للحيز من ثلاث جهات دون الرابعة، وقد عرفت مما سبق أنهم يثبتون له ست جهات، وإنما اختلفوا هل ثبوها له لنفسه أو بانضمامه إلى غيره، مع أنهم لم يحدوه بأنه ما يشغل الحيز من جهة واحدة فقط، وإنما حدوه بما مر.
الوجه الثاني: من الوجوه التي يبطل بها ثبوت الجوهر أنه لم يرد به عقل ولا سمع، بل القول به بدعة في الدين، ولا طريق إليه إلا التوهم لأقل ما يمكن أن ينقسم إليه الجسم؛ إذ العقل يقصر عن إدراك أجسام الملائكة وغيرهم من الخلق فضلاً عن إدراك جزء لا يقبل القسمة.
قلت: هذا الوجه مبني على أنه لا دليل عليه، وللخصم أن يقول: أما من السمع فمسلم أنه لا دليل عليه، ونحن نسلم أنا لا ندركه بالمشاهدة للطافته، لكنا لا نسلم أن العقل لا يدركه، بل هو يدركه كما ذكره ابن لقمان.
الوجه الثالث: أن أقوالهم متناقضة فإنهم يقولون: الجوهر أقل الجسم وليس بجسم، وقالوا: إنه يحله العرض وليس بجسم، ونحن لا نعلم الجسم جسماً إلا بجواز حلول العرض فيه، ويجوز أن يقال: كل شيء يحله العرض فهو جسم، ولأنه يستحيل ثبوت طويل لا عرض ولا عمق له وإن قل، ومن المناقضة قولهم: إنه يشغل الحيز وليس بجسم؛ لأن كل شيء يشغل جهة فقد أحاطت بجوانبه الجهة، وما كان له جوانب فهو جسم.
قلت: لهم أن يقولوا: لا مناقضة في كلامنا، أما قولكم إنا قلنا: الجوهر أقل الجسم، فغلط علينا وإنما أقل الجسم عندنا ثمانية جواهر، أو ستة، أو أربعة على حسب الخلاف السابق.
وأما قولكم: إنا ناقضنا بقولنا إنه يحله العرض وليس بجسم، فلا مناقضة إلا لو ثبت أن كل ما حله العرض فهو جسم، ولم يثبت ذلك، وإنما الثابت أن كل ما حله العرض فهو متحيز، فإن قبل القسمة فهو جسم، وإلا فهو جوهر، وإنما ألزمتمونا بمذهبكم وما استندتم إليه من أنا لا نعلم الجسم جسماً إلا بحلول العرض فغلط، فإن الذي يتوقف على حلول العرض حدوث الجسم لا كونه جسماً، وإن كان العرض صفة لازمة للجسم، لكنا نعلمه جسماً على تقدير عدم علمنا بالعرض.
وأما قولكم: إنه يجوز أن يقال: كل شيء يحله العرض... إلخ فدعوى، وأما قولكم إنه يستحيل ثبوت طويل لا عرض له ولا عمق، فإنما توهمتم ذلك من عدم معرفتكم لقصدنا بهذه الأوصاف، فارجع إلى الفصل الأول.
وأما قولكم إنا ناقضنا بقولنا إنه يشغل الحيز وليس بجسم، فإنما ناقضنا لو التزمنا مذهبكم في نفيه.
وعلى الجملة إن هذه المناقضات إنما هي مبنية على دعاوي تدعونها، ونحن لا نسلمها لكم، ومن العجب أنكم تحكون مذهبكم مجرداً عن الدليل، ثم تقولون إنا قد ناقضنا حيث خالفناه، وفي الاحتجاج بمجرد المذهب ما لا يخفى عند أهل النظر. والله الموفق.
الفصل الثالث في الأعراض
والكلام فيها يكون في أربعة مواضع، الأول: في إثباتها، الثاني: في ماهيتها، الثالث: في أجناسها، الرابع: في ذكر ما لا ينبغي جهله من تقاسيمها.
الموضع الأول: في إثباتها
قال الإمام (أحمد بن سليمان) عليه السلام : أما أهل البيت" فلا خلاف بينهم في العرض وثبوته، وأنه مدرك إلا الحركات.
وقال (القرشي): ذهب الجمهور من الناس إلى أن ثم أموراً زائدة على الجسم، وخالف في ذلك بعض الفلاسفة، والأصم، وحفص، وهشام بن الحكم، قال النجري: وهؤلاء المعروفون بنفاة الأعراض، ثم اختلف المثبتون لها في كون العلم بها ضرورياً أم استدلالياً، فقال القاسم بن إبراهيم عليه السلام : وحدث الحركة والزمان، وقرائنهما من الجسم، والصورة، والمكان مما لا ينكره إلا مكابر لعقله.
وقال (الشرفي): العلم بها ضروري؛ لأن كل عاقل يفرق بين المجتمع والمفترق، والمتحرك والساكن تفرقة ضرورية لا تندفع بشك ولا شبهة، قال: والمراد بالعرض الصفة اللازمة للجسم كالاحتراك، والسكون، والاجتماع، والافتراق ونحو ذلك لا الكون الذي هو المعنى الذي يزعمه بعض المعتزلة.
وقال الإمام (عز الدين) عليه السلام ما معناه: إن إبطال مذهب نفاة الأعراض لا يحتاج إلى بسط دلالة لضعفه، وقال الإمام المهدي عليه السلام : إن خلاف النافين لها إن كان في نفي أمر زائد على الجسم لا معنى، ولا صفة، ولا أمر اعتباري، وأنما ثم إلا مجرد الجسم، فقد خالفوا الضرورة قطعاً، فإن الجسم إذا كان ساكناً ثم احترك فإنا نعلم ضرورة التفرقة بين الحالين، فلو لم يكن ثم شيء سوى الجسم لم يفترق الحال، وإن خالفوا في كونه يسمى غير الجسم مع تسليم زيادته، فإن جعلوا له حكم الذات فخلافهم لفظي يعني مع أهل المعاني، وإن جعلوا له حكم الصفة فكقول أبي الحسين ومن معه، وإن أثبتوه أمراً اعتبارياً لا ثبوت له في الخارج، بل كالأمور المعقولة التي هي منفية في الخارج، فهذا مذهب مستقل، ولنا في الاحتجاج على إثباته أمراً له ثبوت في الخارج طريقان:
أحدهما: أن ندعي الضرورة كما مر في حركة الجسم بعد السكون.
الثاني: ما ذكره الرازي من أن الجسم إذا لم يكن متحركاً ثم احترك، فتبدل الحالين عليه مع بقائه معلوم بالحس، فالمتبدل غير المستمر الذي هو ذات الجسم وليس بنفي لأن المرجع به إن كان إلى نفي أمر ثبوتي كان الجسم علته، وفي ذلك غرضنا من أن في الجسم أمراً ثبوتياً زائداً عليه، وإن كان المرجع به إلى نفي أمر غير ثبوتي لم يصح؛ لأن ما لا ثبوت له لا يعقل نفيه، ثم إن نفي النفي إثبات فيلزم أن في الجسم أمراً ثبوتياً زائداً عليه، هذا حاصل ما ذكره الإمام عليه السلام .
ثم قال: إن الرازي جعل ذلك استدلالاً، وليس كذلك، بل هو من باب إلحاق التفصيل بالجملة؛ لأن مقدمتيه ضروريتان، فالعلم الحاصل عنهما غير متولد عن النظر، بيانه أنا نعلم ضرورة أنه إذا احترك الجسم أنه حدث أمر لم يكن، ونعلم ضرورة أن ذلك الحادث ليس الجسم لأنه كان موجوداً ضرورة، فحصل من هذين العلمين العلم بأن ذلك الحادث زائد على الجسم، وهذا ليس بضروري، بل دعا العلمان الأولان إلى إيجاب اعتقاده فصار علماً لحصوله عقيبهما، فثبت أن إثبات العرض أمراً زائداً ثبوتياً إما ضرورياً، أو من باب إلحاق التفصيل بالجملة.
قلت: وقد استدل الذاهبون إلى أنه استدلالي بأدلة:
منها: أن الأجسام اتفقت في الجوهرية والتحيز والوجود، ثم افترقت في الحركة، والسكون، والاجتماع، والافتراق، فلا بد أن يكون ما افترقت فيه أمراً زائداً على ما اتفقت عليه، وإلا كانت متفقة مختلفة في أمر واحد وهو محال.
ومنها: أن الأجسام متماثلة، وحصولها في الجهات متضاد؛ إذ لا يمكن أن يكون الجسم الواحد في وقت واحد في جهتين، ولا يمكن صرف تلك الاستحالة إلا إلى التضاد، ولا شك أن المتضاد غير المتماثل.
ومنها: أنا إذا حركنا الجسم بعد سكونه علمنا ضرورة أنه قد حصل أمر لم يكن، ومحال أن يكون هو الجسم؛ لأنه غير مقدور لنا لما مر ولأن هذا الجسم الذي حركناه موجود قبل التحريك، وإيجاد ما هو موجود وحاصل محال، فلا بد أن يكون هذا الأمر الحاصل غير الجسم.
ومنها: اتفاق العقلاء على حسن أمر السيد عبده بمناولة الكوز، ونهيه عن ذلك، وعلقوا مدحه وذمه بالامتثال وعدمه، وكل ذلك إما أن يتعلق بنفس الكوز، وهو باطل لما مر، أو بأمر زائد وهو المطلوب.
ومنها ما ناظر به أبو الهذيل حفصاً.
قال الإمام (أحمد بن سليمان) عليه السلام : ذكر الإمام الناصر لدين الله أحمد بن يحيى عليه السلام في كتاب النجاة أن أبا الهذيل ناظر حفصاً من أصحاب بشر بن المعتمر وقد نفى الحركات، فقال له أبو الهذيل: أخبرني كم حد الزاني؟ قال حفص: مائة جلدة، قال: قال أبو الهذيل: فكم حد القاذف؟ قال حفص: ثمانون، قال أبو الهذيل: فأخبرني هل الجلد هو الجلاد؟ قال حفص: لا، قال أبو الهذيل: فهل هو جنب المجلود؟ قال حفص: لا، قال: فهل هو السوط؟ قال: لا، قال أبو الهذيل: فأرني لا شيء زاد على لا شيء عشرين، قال: فانقطع حفص ولم يجد جواباً، وقد روى هذه المناظرة القرشي وذكر أنها مع الأصم، ولفظه أنه قال: كم يزيد حد الزاني على حد القاذف؟ قال: عشرون جلدة، قال: فهل هذه العشرون هي الجالد أم المجلود، أو السوط، أو الهواء، أو الأرض؟ قال: لا واحد من ذلك، قال: فما هي؟ قال: لا شيء، قال: فكأنك تقول: لا شيء يزيد على لا شيء بعشرين لا شيء فانقطع، ولعل المناظرة وقعت مع كل واحد منهما.
واعلم أن الذي يظهر أن من الأعراض ما يعلم ضرورة، ومنها ما يعلم دلالة كما ستعرفه عند الكلام على أجناسها، وقد نبه على هذا القرشي، فإنه قال: إن فيها ما يعلم ضرورة على الجملة نحو تصرفاتنا، وتصرفات ما نشاهده، وذلك لأنا نعلم قبح كثير منها، وحسن كثير بالضرورة، وإذا علمنا أحكامها بالضرورة، فكذلك هي؛ لأن أحكامها فرع عليها، وإنما يرجع الاستدلال إلى التفصيل.
هذا وأما النافون للأعراض فلم أقف لهم على حجة إلا قولهم إنه لا يعقل إلا الجسم الطويل العريض الشاغل للمكان، قالوا: ومحال أن يكون ليس بشاغل.
والجواب: مما مر من إنكار الأمور الزائدة على الجسم إنكار للضرورة، مع ما قررناه من الدلالة على إثباتها. والله أعلم.
الموضع الثاني: في ماهية العرض
وقد اختلف في ذلك، فالذي يقضي به كلام الهادي، والحسين بن قاسم العياني، والإمام أحمد بن سليمان"، وهو ظاهر ما قرره السيد حميدان لمذهب أئمة العترة" أنه ما كان حالاً في غيره، وكان لا ينفرد بنفسه، ولا يحله سواه.
قال الإمام (أحمد بن سليمان) عليه السلام : العرض سمي عرضاً لاعتراضه في الأوهام، ولأنه لا يوجد منفرداً من الأجسام، ولأنه يضعف عن القيام بنفسه ويزول، وقد سمى الله تعالى متاع الحياة الدنيا عرضاً لضعفه وزواله، قال تعالى: { تَبْتَغُونَ عَرَضَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا}[النساء:94]، قال: فلذلك سمي العرض عرضاً.
قلت: وظاهر كلام الكرامية في ماهية العرض كقول الأئمة "؛ لأنهم قالوا: إنه ما لا يقوم بنفسه، أي ما يحتاج في وجوده إلى غيره، واعترض بأنهم إن أرادوا بحاجته إلى غيره أنه محتاج إلى فاعل كان غير مانع لشموله للأجسام، وإن أريد أنه محتاج إلى محل، فهو غير جامع لخروج إرادة القديم تعالى وكراهته والفناء، فإنها أعراض لا محل لها، والظاهر أنهم أرادوا هذا الأخير، فيكون الاعتراض عليهم، وعلى الأئمة".
وجوابه: أنكم بنيتم اعتراضكم على مذهبكم، ونحن لا نسلم كون ما ذكرتم أعراضاً؛ إذ لا يعقل عرض لا في محل كما سيأتي إن شاء الله تعالى.
وقال (أبو علي)، و(أبو هاشم): هو ما يعرض في الجسم ولا يبقى كبقائه، واعترض بسكون العالم، فإنه يبقى كبقاء الجسم، فكان الأولى أن يقال: ولا يبقى جنسه ليسلم من هذا الاعتراض.
وقال (أبو القاسم البلخي)، و(الأشعرية): بل هو ما لا يبقى وقتين فصاعداً، واعترض بأن في الأعراض ما يبقى كما سيأتي.
وقال الإمام (عز الدين) عليه السلام : حقيقته في أصل اللغة ما يعرض في الوجود ويقل لبثه جسماً كان أو غيره، وفي الاصطلاح ما لا يشغل الحيز موجوداً كان أو معدوماً مع صحة العدم عليه.
قلنا: مع صحة العدم عليه احترازاً من الباري، فإنه وإن كان لا يشغل الحيز فإنه لا يصح العدم عليه، وقوله: موجوداً كان أو معدوماً، مبني على ثبوت ذوات العالم في العدم، سواء كانت أجساماً أم أعراضاً، وأنه يصح العلم بالعرض منفرداً، والخلاف في الأمرين مشهو.
قال السيد حميدان رحمه الله: ما معناه إنه لا سبيل إلى تسمية الجوهر جوهراً، والعرض عرضاً إلا بعد معرفة الفرق بينهما، وإلا لم يكن أحدهما بكونه جوهراً، أو عرضاً أولى من الثاني، ولا سبيل إلى معرفة الفرق إلا بعد وجودهما، ولا فرق بينهما بعد وجودهما إلا بكون الجوهر محلاً، والعرض حالاً عارضاً حال وجوده في غيره، ولذلك سمي عرضاً، ولا يعقل وجوده إلا حالاً في غيره، وما لم يعقل إلا في غيره لم يصح دعوى العلم به منفرداً، بدليل أن أحداً لو ادعى مشاهدة ذلك لعلم كذبه ضرورة.
واعلم أن للعرض حدوداً غير ما ذكر كما نبه على ذلك في الدامغ، قال: وكلها مطعون فيها بما يقدح فلا حاجة إلى ذكرها، وفيه أن الحاكي لها الحاكم.
الموضع الثالث: في أجناس الأعراض
وقد اختلف في ذلك اختلافاً كثيراً حتى لم يثبت بعضهم إلا عرضاً واحداً، وبعضهم بالغ في تعدادها حتى بلغت نحو أربعين.
قال (الرزاي): المتكلمون ذكروا ما يقرب من أربعين جنساً من أجناس الأعراض.
قلت: ونحن نأتي هنا بما اطلعنا عليه من المتفق عليه والمختلف فيه، فنقول: قال النظام: لا عرض إلا الحركة، وشبهته ما سيأتي من أن الصوت واللون جسمان، والارادة ونحوها طبع عنده، فلم يبق عرض إلا الحركة، وسيأتي إبطال شبهته.
وفي الحقائق عن بشر بن المعتمر ومن قال بقوله إن الحركة ليست بجسم، ولا عرض؛ لأن الأعراض تبقى زمنين، والحركة لا تبقى زمنين، ورد عليه بمناظرة أبي الهذيل لحفص.
وقال الإمام (المهدي) عليه السلام : اتفق أصحابنا على أن اللون، والطعم، والرائحة، والحرارة، والبرودة، والرطوبة، واليبوسة، والأصوات، والآلام، والأكوان، والحياة، والقدرة، والاعتقاد، والنظر، والإرادة، والكراهة، والشهوة والنفار معاني، أي ذوات لها صفات وأحكام، وأراد بصفاتها وأحكامها كونها قائمة بغيرها ومنتقلة، وغير ذلك، ولم يرد بالمعاني الموجبة لأن أصحابنا لم يتفقوا على ذلك، فإن الذي حكاه السيد حميدان عن أئمة العترة، وقال به أبو الحسين وغيره أن الأعراض صفات للأجسام بالفاعل، وليست بموجبة لصفة ولا حكم، وإنما أراد بها الأعراض ليصح دعوى الاتفاق، ولأن الكلام في إثبات الأعراض جملة لا في تفاصيلها، أعني من كونها ذواتاً توجب، أو كونها في نفسها صفات للأجسام، وقد ذكر الإمام عز الدين عليه السلام أن الأعراض كلها تسمى معاني، قال: والمعنى في اللغة المراد من عنيت كذا أي أردته، وفي الاصطلاح: الذات استعمل أولاً في كل ذات ثم قصروه على الأعراض، قال: وقد يقصر في اصطلاح خاص على المعاني الموجبة، فدل على أن أصل استعمال المعنى في الاصطلاح في العرض سواء أوجب أم لا.
إذا عرفت هذا فليحمل ما أوردناه في هذا الموضع من ذكر المعاني على مطلق العرض لا على الاصطلاح الخاص، وسيأتي الكلام على ما يوجب، وما لا يوجب إن شاء الله تعالى، وبعد الإتيان بالمتفق عليه بين الأصحاب فلنأت بالمختلف فيه، فنقول: أثبت البصرية التأليف معنى، وخالفهم أبو القاسم فقال: هو حركة أو سكون، وكأنه أراد أن المرجع به إلى الاجتماع لا إلى معنى سواه، وأثبت البهشمية الاعتماد، ونفاه أبو القاسم، وأثبت أبو علي الموت، والعجز، والغم، والسرور، والعزم، والحاجة، وقال: هي أجناس مستقلة، وكذلك الشبع، والري، ووافقه فيهما أبو هاشم، وأبو القاسم، وخالفهم القاضي والمتأخرون، وأثبت أبو علي الظن والندم، وقال: هما جنسان غير الاعتقاد، وقال أبو هاشم: بل هما من الاعتقاد، وأثبت أبو علي الشك، وأثبت هو وأبو هاشم السهو ونفيا اللطافة فقالا: ليست بمعنى، وتردد القاضي، واتفق الأكثر على أن الطرو ليس بمعنى وإنما هو تجدد وجود، أو انتقال، وخالفهم الأجدب والخياط، وقالت البصرية: البقاء ليس بمعنى، وخالفهم أبو القاسم، وقال أبو علي وأبو هاشم: الفناء معنى، وقال الجاحظ والخياط وأبو القاسم: لا وهو ظاهر ما حكاه السيد حميدان رحمه الله لمذهب أئمة العترة".
وقال (أبو علي): الكلام جنس غير الصوت، وقال أبو الهذيل: المباعدة معنى غير الافتراق، وقال الإمام أحمد بن سليمان عليه السلام : اللين والخشونة من الأعراض ووافقه أبو القاسم، وقال: هما غير التأليف وزاد الخفة، وقال: هي معنى مقابل للثقل، وأثبت أبو علي الإدراك معنى، ونفاه أبو هاشم، وقال الإمام المهدي وأبو علي والقاضي: التمني ليس بمعنى، وخالفهم أبو هاشم.
قال (الشرفي): وعد الإمام أحمد بن سليمان عليه السلام الضياء والظلمة من جملة الأعراض، وعد السمرقندي المرارة والحرافة والحموضة والملوحة والحلاوة.
قال الإمام (المهدي) عليه السلام : وهذا يوافقه أصحابنا على إثباتها، قلت: هي مما شمله المتفق عليه؛ لأنها داخلة تحت الطعم، وعد السمرقندي أيضاً العفوصة والقبض والدسومة والتفاهة.
قال الإمام (المهدي) عليه السلام : وأصحابنا ينكرون كون هذه أعراضاً وجوديه طعمية.
فهذا ما وقفنا عليه حال تحرير هذا من الخلاف في أجناس الأعراض وتعدادها.
الموضع الرابع: في ذكر بعض تقاسيم الأعراض
اعلم أنها تنقسم إلى قسم كثيرة، وقد بسط القول في ذلك الإمام المهدي عليه السلام في (رياض الأفهام) وشرحه الدامغ، ونحن نأتي من تلك القسم بما لا ينبغي جهله، فنقول:
منها أنها تنقسم إلى ما يدرك بإحدى الحواس الخمس وإلى ما لا يدرك، فالمدرك الألوان والطعوم والأرائح والحرارة والبرودة والأصوات والآلام.
وحكى الإمام المهدي عليه السلام الاتفاق بين الشيوخ على ذلك، واختلف في الأكوان والتأليف والرطوبة واليبوسة، فقال أبو علي في قديم قوليه: كلها مدركة.
وقال الإمام (المهدي) و(أبو هاشم): لا، قال أبو هاشم: والاعتماد مدرك لمساً، وقال الإمام المهدي، وأبو علي والقاضي: لا.
قال الإمام (المهدي) عليه السلام : وما عدا هذه من الأعراض فغير مدرك كالظن والاعتقاد والشهوة والنفرة والحياة والقدرة والنظر اتفاقاً.
قلت: الذي حكاه الإمام أحمد بن سليمان عليه السلام عن أهل البيت" أن الأعراض كلها مدركة إلا الحركات، وقال: لا خلاف بينهم في ذلك، وفي أن المدرك بالحواس تسعة، ذكر السبعة المتفق عليها وزاد الرطوبة واليبوسة، ورد الشرفي قوله: إن الحركات غير مدركة بأنها مدركة بحاسة البصر؛ لأن الحركة مرور الجسم في الهواء، والسكون ضده وهو استقراره وقتاً فصاعداً، والاجتماع عدم تفرقه، والافتراق ضده وهو مدرك.
قال: ولعله عليه السلام يريد بالحركات المعاني التي زعموها مؤثرة فإنها غير مدركة، وقالت الكرامية: الأعراض كلها مدركة، ورده الإمام المهدي بأنا لا ندرك العلم والحياة بأي الحواس على طريقة واحدة، فلو جاز مع هذا أنه مدرك لوجوده لجاز أن يقال لكونه معلوماً حتى يدرك المعدوم.
قلت: وهذا مبني على ثبوت الذوات في العدم، وقيل: لا يدرك عرض قط.
قال (الإمام المهدي): لعل القائل بذلك النظام.
قلت: هذا القول حكاه الإمام أحمد بن سليمان عليه السلام عن المطرفية فإنه حكى أنهم يقولون: إن الأعراض كلها تعلم ولا تدرك، وجعل السمرقندي من المحسوسات بالذوق التسعة التي حكيناها عنه أعني المرارة والعفوصة وما عده معهما، وقد مر أن بعضها ليست أعراضاً عند الأصحاب، وعد من المدرك باللمس الرطوبة واليبوسة.
ومنها أنها تنقسم إلى ما يبقى وإلى ما لا يبقى، فالباقي اللون والطعم والرائحة والحرارة والبرودة والرطوبة واليبوسة والاعتماد والتأليف والكون والحياة والقدرة، فهذه باقية عند البصرية جميعاً.
قالوا: وغير الباقي الصوت والألم والنظر والشهوة والنفرة اتفاقاً بينهم.
قال (أبو الهذيل): وكذلك لا تبقى الحركة والإرادة وسكون الحي، وقال الإمام المهدي والقاضي: لا يبقى الاعتقاد خلافاً لأبي هاشم.
قال الإمام (المهدي) و(أبو علي): ولا تبقى الحركة وخالفهما أبو هاشم، وقال الإمام المهدي والقاضي: الإرادة والظن لا يبقيان خلافاً لأبي هاشم، وقال أبو علي: يبقى الإدراك وهو بناءً على ما مر له من أنه معنى.
قال الإمام (المهدي) عليه السلام : قال أكثر أصحابنا: والندم لا يبقى لأنه من قبيل الاعتقاد وليس جنساً برأسه، فهذا كلام المفصلين في بقاء الأعراض، وبقي في المسألة إطلاقان:
أحدهما: لأبي القاسم والنظام والأشعرية، وهو أنه لا يبقى شيء من الأعراض.
والثاني: للكرامية، وهو أنها كلها باقية.
ومنها: ما يختص بالقدرة عليه الباري تعالى، ومنها ما يقدر عليه العباد، فالذي يختص بالقدرة عليه الباري تعالى اثنا عشر عند السيد مانكديم والقرشي والجبائية وهي: اللون، والطعم، والرائحة، والحرارة، والبرودة، والرطوبة، واليبوسة، والحياة، والقدرة، والشهوة، والنفرة، والفناء.
قال السيد (مانكديم): وما من شيء منها إلا ويمكن الاستدلال به على الله تعالى ما عدا الفناء، فإن طريق معرفته السمع، وذلك يترتب على معرفة الله تعالى، والذي يقدر عليه العباد عشرة أنواع، وتلك العشرة خمسة منها من أفعال الجوارح وهي: الكون، والاعتماد، والتأليف، والصوت، والألم، وخمسة من أفعال القلوب وهي: الاعتقاد، والإرادة، والكراهة، والظن، والنظر.
قال السيد (مانكديم): ولا يمكن الاستدلال بشيء منها على الله تعالى؛ لأن من حق الدليل أن يكون بينه وبين المدلول عليه تعلق ليكون بأن يدل عليه أولى من أن يدل على غيره إلا أن تكون واقعة على وجه لا يصح وقوعها عليه من القادر بقدرة فيصح، وذلك كالعقل فإنه من جنس الاعتقاد، وهو من مقدورات العباد، لكنه وقع على وجه لا يمكن وقوعه عليه من القادر بقدرة، وذلك أنه لا يخلو إما أن يفلعه فينا نحن وذلك باطل؛ لأنه يقع فينا أردنا أم كرهنا، وإما أن يفعله أمثالنا فينا، وهو باطل أيضاً لأن القادر بقدرة لا يفعل إلا باعتماد، والاعتماد لا يولد الاعتقاد، وإلا لوجب إذا اعتمد أحدنا على صدر غيره أن يتغير حاله في الاعتقاد والمعلوم خلافه، فتعين أنه ليس من فعل القادر بقدرة، فلم يبق إلا أنه فعل الله.
واختلف في الإدراك، فقال أبو علي: هو غير مقدور لنا، وقال أبو القاسم: بل مقدور لنا بأن يفتح العبد عينيه فيدرك، وقال القاضي: اللطافة يختص بالقدرة عليها القديم تعالى.
قال الإمام المهدي عليه السلام : ولو ثبت الإدراك واللطافة معنيين لم يخالف أصحابنا في أن القديم يختص بالقدرة عليهما، وقالت البغدادية: إن اللون مقدور للعباد.
قلت: وحكى الإمام عز الدين عليه السلام عن أبي القاسم وغيره من أصحابه أن اللون والحرارة والبرودة والشهوة والنفرة من مقدورات العباد، قال: وحكي عن أبي الهذيل مثل ذلك في الحرارة والبرودة، والمراد من كون العرض مقدوراً للعبد أنه يقدر عليه، وليس المراد أنه يختص بالقدرة عليه، فإن الباري تعالى يقدر في الوقت الواحد والمحل الواحد على ما لا نهاية له من أجناس مقدورات العباد.
ومنها أنها تنقسم إلى ما يحتاج إلى محل وإلى مالا يحتاج إلى محل، فالذي لايحتاج إلى المحل إرادة القديم تعالى وكراهته والفناء عند بعض المعتزلة، ولا يخفى أن الظاهر من حكاية السيد حميدان -رحمه الله- لمذهب أئمة العترة يقضي بأن الثلاثة المذكورة ليست من جملة الأعراض، وأنه يستحيل عرض لا في محل، وسيأتي تحقيق مذهب الأئمة" في هذه الثلاثة في موضعه إن شاء الله، ثم المفتقر إلى المحل منه ما يفتقر إلى محلين كالتأليف، ومنه ما يفتقر إلى محل ااخمتنمنختختتتتأمر سوى المحل، وذلك الحياة والقدرة والظن والعلم ونحوها فإنها تفتقر إلى بنية مخصوصة، ومنه ما يوجب صفة لمحله كالأكوان، ومنه ما يوجب صفة للجملة لا للمحل وحده كالحياة ونحوها من المعاني الراجعة إلى الجملة، ومنه ما لا يوجب إلا للحي، أي لمن الحياة حاصلة فيه، وذلك كالعلم والقدرة ونحوهما، ومن الأعراض ما يختص القلب فلا يوجد إلا فيه، أو فيما بني كبنيته، وذلك كالعلم والإرادة والشهوة ونحوها، ومنها ما لا يختص كالقدرة والحياة ونحوهما، ومنها ما لا يوجب رأساً كالمدركات، ومنها أنها تنقسم إلى ما يجوز اجتماعه في محل واحد اتفاقاً بين المشائخ، وذلك المختلف كالطعم واللون والكون، وإلى ما لا يجوز اجتماعه اتفاقاً بينهم وهو المتضاد، واختلفوا في المتماثل.
قال الإمام (المهدي) عليه السلام : فعندنا يجوز اجتماعه كالسوادين في جوهر واحد؛ إذ لا مانع من ذلك والمحل يحتمله، ولا تضاد.
وقال (أبو القاسم) و(الأشعرية) و(الرازي): لا يجوز إذ لو طرأ الضد وجب أن يبقى أحدهما فيكون المحل على هيئتين، وأجيب بأن الطارئ ينفيهما جميعاً لوجوده على حد وجودهما، هذا وللأعراض تقسيمات كثيرة لا يضر الجهل بكثير منها، وسيأتي ما يحتاج إليه منها، ومن أدلة ما اشتملت عليه الأقسام التي قد ذكرناها في المواضع الخاصة بكل جنس إن شاء الله تعالى، وصلى الله وسلم على محمد وآله.آمين.
المسألة الثامنة عشرة [حدوث العالم]
في الآية الكريمة تنبيه على حدوث العالم، وبيان ذلك أنه قد مر أنه إنما سمي العالم عالماً لأنه علامة على صانعه، وما كان له صانع فهو محدث، ولأن إضافة الرب إلى العالمين تشعر بافتقار العالم إلى الرب وحاجته إليه، والقديم غير محتاج إلى غيره لا في وجوده ولا في بقائه، فتعين حدوثه إذ لا واسطة والحدوث وجود الشيء عقيب عدمه، ولم نقل بعد عدمه لأن الحدوث يختص بأول أوقات الوجود دون ما بعده من الأوقات.
واعلم أن تحقيق الكلام في المسألة يكون في فصلين:
الأول: في بيان حدوث الأعراض، والثاني: في حدوث الأجسام.
الفصل الأول[في بيان حدوث الأعراض]
اتفق الموحدون من المسلمين وغيرهم على حدوث الأعراض، وقال بعض الفلاسفة: بل هي قديمة، والحجة لنا على حدوثها الضرورة فإن المعلوم أن الأكوان التي هي الحركة والسكون والاجتماع والافتراق متضادة، فمتى وجدت الحركة عدم السكون والعكس، وهكذا في سائر الأعراض فإنا نعلم حدوثها بعد أن لم تكن كاللون والصوت والحرارة والبرودة وغير ذلك، وإذا ثبت عدمها ثم وجودها علم ضرورة أنها محدثة؛ إذ لا معنى للمحدث إلا ذلك، ومن الناس من قال: إن حدوثها استدلالي، واستدل على ذلك بأنه يجوز عليها العدم، والقديم لا يجوز عليه العدم، أما أنه يجوز عليها العدم فلأنه قد ثبت أن المجتمع إذا افترق بطل اجتماعه، وأن المحترك إذا سكن بطلت حركته.
قال (القرشي): وقد ادعى كثير من الناس أن العلم بجواز العدم عليها ضروري.
قال الإمام عز الدين عليه السلام : والأكثر على أنه يعلم دلالة، ولا يتأتي على كلام مثبتي المعاني إلا أنه يعلم دلالة؛ إذ ذواتها معلومة بالاستدلال فلا يعلم الفرع ضرورة.
قلت: وأراد بالمعاني الذوات الموجبة وهو المعنى الخاص للمعاني كما مر، ونحن نأتي بالاستدلال على طريقتهم فنقول: الدليل على أنها تعدم أنه متى سكن الجسم عدمت الحركة والعكس، وإنما قلنا إن ذلك عدم لأنه لا يخلو إما أن يكون باقياً في الجسم مع وجود ضده، أو منتقلاً عنه إلى محل أو إلى غير محل، أو معدوماً لا يصح أن يكون باقياً، وإلا لأوجب صفة الكائنية لذلك الجسم فيكون متحركاً ساكناً في حالة واحدة وهو محال، بيان ذلك أن المعنى إنما يوجب الصفة لما هو عليه في ذاته وهو صفته المقتضاة، فيلزم أن يوجبها في كل أوقات وجوده؛ إذ لا اختصاص لذلك بوقت دون وقت، ولا يصح أن يكون منتقلاً لأنه إن أريد بالانتقال ما هو المعقول من تفريغ جهة وشغل أخرى، فهو إنما يثبت في المتحيزات، وإن أريد به أنها تحل غير محلها الأول لم يصح؛ لأن حلول العرض في المحل المعين كيفية في وجوده وكيفية الوجود لا تفارقه، وإن أريد أنها تنتقل إلى غير محل فهو واضح البطلان؛ إذ يستحيل مصيره غير حال بعد أن قد كان حالاً لأن حلوله لما هو عليه في ذاته وهو حاصل في كل وقت، فلا يصح أن يكون حالاً في وقت دون وقت، وأيضاً انتقال العرض سواء كان إلى محل أو إلى غير محل لا يخلو إما أن يكون مع الوجوب، أو مع الجواز، والأول باطل وإلا لزم أن ينتقل أبداً فلا يزال منتقلاً، وأن لا يختص بمحل دون محل فيلزم أن لا يشاهد جسم قاراً في جهة أصلاً، والثاني أيضاً باطل وإلا لكان منتقلاً لمعنى.
قال (القرشي): ولا يجوز أن يكون بالمعنى؛ لأن المعنى لا يختص المعنى، ولأن الكلام في ذلك المعنى كالكلام في هذا، ولأنه ليس بأن يوجب حلوله في محل أولى من غيره، وأراد بقوله إن الكلام في ذلك المعنى... إلخ أنه يكون الكلام في انتقال ذلك المعنى كالكلام في انتقال هذا، فيلزم التسلسل أو التحكم، وإذا بطل أن يكون باقياً وأن يكون منتقلاً تعين أن يكون معدوماً عند حصول ضده، وفي ذلك ثبوت حدوثه.
فإن قيل: إنما يكون جواز العدم عليه دليلاً على حدوثه إذا ثبت بالدليل أن القديم لا يعدم.
قيل: لنا على ذلك أدلة:
أحدها: أن القديم قديم لذاته، والموصوف بالصفة الذاتية لا يجوز خروجه عنها بحال، والذي يدل على أنه قديم لذاته أنه لا يجوز أن يكون قديماً بالفاعل؛ لأن من حق الفاعل أن يتقدم على فعله، وما تقدمه غيره لا يكون قديماً، ولا يجوز أن يكون قديماً لمعنى؛ لأن ذلك المعنى إما معدوماً فلا تأثير للمعدوم، وإما موجوداً فلا يخلو إما أن يكون قديماً أو محدثاً، الأول باطل لأنه ليس كونه قديماً لهذا المعنى بأولى من العكس، وهذا يؤدي إلى أن لا تتميز العلة عن المعلول، وعدم تميز العلة دليل على فسادها، وأيضاً ذلك المعنى إذا شارك القديم فيما لأجله احتاج إلى معنى، وهو القدم وجب احتياجه إلى معنى فيتسلسل، والثاني أيضاً باطل لأن العلة لا تتراخى عن المعلول.
الدليل الثاني: أن جواز العدم ينافي وجوب الوجود ويقتضي تساويهما في الجواز، وإذا كان كذلك فلا يكون الوجود أولى من العدم إلا لمخصص من فاعل أو علة، وكلاهما باطل لما مر.
الدليل الثالث: أن القديم باق لأنه قد وجد أكثر من وقت، والباقي لا ينتفي إلا بضد أو ما يجري مجرى الضد؛ لأنه إذا انتفى مع جواز بقائه فلا بد من أمر، ولا اختيار للفاعل في ذلك لأن أحدنا إذا أوجد كوناً ثم أراد انتفاءه ودعاه الداعي إلى ذلك فإنه لا يقع انتفاؤه إلا بفعل ضده، والباقي لا ضد له لأنه لو كان له ضد لكانت صفته بالعكس من صفة القديم، فيجب إذا كان القديم موجوداً لذاته أن يكون ضده معدوماً لذاته، وفي ذلك بطلان تأثيره على أنه يستحيل كونه معدوماً لذاته؛ لأن المعدوم ليس له بكونه معدوماً حال فضلاً عن أن يكون معدوماً لذاته أو لغيره، وفي هذا بطلان الضد من أصله، وكذلك ليس للباقي ما يجري مجرى الضد؛ لأن ذلك يقتضي أن يحتاج القديم في وجوده إلى شيء ولذلك الشيء ضد، فيقال فيه: إنه جار مجرى الضد له، والمعلوم أن القديم لا يحتاج في وجوده إلى شيء؛ لأن ذلك يقدح في قدمه كما مر في إبطال تقدم الفاعل والعلة عليه.
فإن قيل: ومن أين لكم أن خروج الموصوف عن صفته الذاتية لا يجوز؟
قيل: لأن بصفته الذاتية يكون ذاتاً، ويدخل في صحة كونه معلوماً، وخروجه عن كونه ذاتاً محال؛ ولأن الصفة الذاتية ثابتة لا لأمر، وما ثبت لا لأمر لا يصح اختصاص حصوله بوقت دون وقت إذ التخصيص من غير المخصص محال، فيجب ثبوتها واستمرارها في جميع الأوقات، وقد قيل إن هذا أقوى ما يستدل به هنا، وما لم يرجع إليه من الأدلة فهو منظور فيه، وللقدح فيه مجال.
واعلم أنه قد استدل على حدوث الأعراض بأدلة غير ما تقدم مذكورة في شرح الأصول وغيره منها: أن الأعراض مشتملة على المختلف والمتماثل والتضاد، ولو كانت قديمة لتماثلت كلها لما مر أن القدم صفة ذاتية، والاشتراك في الصفة الذاتية يوجب التماثل، والمعلوم أنها غير متماثلة، فتعين أنها محدثة إذ لا يجوز في المتماثل أن يكون بعضه محدثاً وبعضه قديماً؛ لأن الطريق في الجميع واحدة فلو جاز في بعضها جاز في كلها.
فإن قيل: ومن أين لكم أن الاشتراك في صفة ذاتية يوجب الاشتراك في سائر الصفات؟ قيل: لأنه لو لم يجب لما امتنع أن يشترك ذاتان في صفة ذاتية ويفترقان في أخرى ذاتية، فتكونان من حيث الاشتراك متماثلتين ومن حيث الافتراق مختلفتين، وذلك يوجب لو قدر طرو ضد عليهما أن تكونا منفيتين من وجه وغير منفيتين من وجه آخر، وذلك محال.
ومنها: أن الصفات الصادرة عن المعاني متجددة، فيجب في المؤثر فيها والموجب لها أن يكون متجدداً وهو معنى الحدوث، وهذا يخص الأعراض الموجبة لمحالها حالاً أو حكماً.
ومنها: أنها محتاجة في وجودها إلى محال محدثة، وما احتاج في وجوده إلى المحدث بحيث لا يوجد من دونه وجب أن يكون محدثاً، وهذا مبني على أن العلم بحدوث الأجسام لا يحتاج إلى العلم بحدوث الأعراض إلى غير ذلك من الأدلة، وفيما ذكرناه كفاية.
وإذا تقرر لك بما تقدم كون الأعراض كلها غير قديمة وجب أن تكون محدثة لأنه لا واسطة، وبيان ذلك أنا نقول هذه الأعراض إما أن يكون لوجودها أول أو لا، إن لم يكن لوجودها أول فهي قديمة، وإن كان له أول فهي محدثة، وهذه قسمةٌ صحيحةٌ دائرةٌ بين نفي وإثبات، فلا يجوز دخول متوسط بينها كما تقول هذا العدد إما أن يكون أقل من هذا العدد، أو أكثر، أو مساوياً، فإن قيل: فما تقول فيما ذهبت إليه المطرفية من أن الأكوان وغيرها لا توصف بأنها محدثة وإن وجدت بعد أن لم تكن.
قالوا: لأنها لا فاعل لها، وإنما حدثت بالفطرة التي فطرت الأجسام عليها، قالوا: ولكنها تسمى حادثة وحدوثاً.
قيل: قد عرفناك فيما تقدم أنها غير قديمة، فلم يبق إلا أنها محدثة؛ إذ لا واسطة كما مر، وكل قول يؤدي إلى إثبات ما لا يعقل ثبوته وجب القطع ببطلانه، مع أنهم قد أبطلوا قولهم، وناقضوه بتسليمهم حصولها بعد أن لم تكن إذ لا معنى للحدوث إلا ذلك، وكذلك وصفهم لها بأنها حادثة غير محدثة إذ معناهما واحد.
الفصل الثاني في حدوث الأجسام
والكلام فيه يكون في ثلاثة مواضع، الأول: في ذكر الخلاف، الثاني: في إقامة البرهان على حدوثها، الثالث: في شبه المخالف وإبطالها.
الموضع الأول: في ذكر الخلاف في حدوث الأجسام
فالذي عليه أهل الإسلام وغيرهم من سائر الملل من اليهود والنصارى وغيرهم ممن أثبت الصانع المختار والفلاسفة الأبرقلس القطع بحدوثها، والخلاف في ذلك للدهرية -بفتح الدال- فإنهم يقولون بقدم الأجسام كلها، وأما تراكيبها فلا خلاف في حدوث أكثرها، وممن قال بقدم الأجسام ابن الراوندي، وظاهر كلام القرشي أن من لم يثبت الصانع المختار من الفلاسفة وغيرهم يخالفون في حدوثها، قال: فإنهم اتفقوا جميعاً على أنها حاصلة في الأزل، وهذا هو معنى القدم وإن أطلقوا لفظ الحدوث بمعنى أنها حصلت من غيرها.
الموضع الثاني : في حجج أهل الإسلام ومن وافقهم
اعلم أن حدوث كثير من الأجسام معلوم بالضرورة كأصناف الحيوان، والأشجار، والسحاب، والأمطار، وغير ذلك مما لا ينكره إلا من ينكر ظلمة الليل وضوء النهار، وتحقيق ذلك أن معنى الحدوث وجود الشيء عقيب عدمه كما مر، ونحن نعلم ضرورة أن هذه الأشياء تكون معدومة ثم تحدث وتوجد، وإذا ثبت حدوث هذه الأشياء فلنا أن نلحق بها ما لا نشاهد حدوثه من الأجسام كالسماء والأرض ونحوهما؛ لأن الأجسام كلها متماثلة كما مر، فما ثبت لبعضها ثبت للكل وهذه طريق قطعية.
واعلم أن الطرق الموصلة إلى القطع بحدوث الأجسام كثيرة، ونحن نذكر منها ما به يتحصل العلم بالحدوث فنقول:
أحدها: الضرورة إما في البعض كما مر وإلحاق الباقي بالجامع المتقدم، وإما في الكل، وذلك أنه لا خلاف أن الأجسام تسمى صنعاً، والصنع ضرورة لا يكون إلا من صانع؛ لأنه فعل والفعل لا يكون إلا من فاعل، وما احتاج إلى الفاعل فهو محدث لتقدم فاعله عليه ضرورة، وهذه الطريقة كما تجري في الأجسام تجري في الأعراض.
الثانية: طريقة القياس العقلي، وذلك أنا وجدنا الأجسام مركبة مؤلفة كالمبنيات من الدور وغيرها، والمعلوم ضرورة أنه لم يثبت التركيب والتأليف في المبنيات إلا لكونها محدثة مقدورة لقادر متقدم على تركيبها، فيجب في الأجسام أن تكون محدثة مثلها لمشاركتها لها في التركيب مع عدم الفارق، وقد أشار إلى هذه الطريقة أمير المؤمنين صلوات الله عليه حيث قال: (وهل يكون بناء من غير بانٍ أو جناية من غير جان). رواه في النهج.
وذكر العلامة ابن أبي الحديد أن هذه الطريقة تفيد الضرورة قال: وقد اعتمد عليها كثير من المتكلمين فقال: نعلم ضرورة أن البناء لا بد له من بان، ثم قال في قوله: والجناية لا بد لها من جان أنها كلمة ساقت إليها القرينة، والمراد عموم الفعلية لا خصوص الجناية، أي مستحيل أن يكون الفعل من غير فاعل.
قلت: وهذا يقوي قولنا في الطريق الأولى أنها ضرورية، أعني قولنا إن الفعل لا يكون إلا من فاعل.
الثالثة: طريقة إمكان الأجسام واختلاف الأعراض فيها، وقد نبه عليها أمير المؤمنين عليه السلام في قوله: (فانظر إلى الشمس والقمر والنبات والشجر والماء والحجر، واختلاف هذا الليل والنهار، وتفجر هذه الأنهار، وكثرة هذه الجبال، وطول هذه القلال، وتفرق هذه اللغات، والألسن المختلفات، فالويل لمن أنكر المقدر، وجحد المدبر). رواه في النهج.
وقد أوضح العلامة ابن أبي الحديد ما في كلامه عليه السلام من التنبيه على هذه الطريقة، فقال: إن كل جسم يقبل لأجل الجسمية المشتركة بينه وبين سائر الأجسام ما يقبله غيره من الأجسام، فإذا اختلف الأجسام في الأعراض فلا بد من مخصص خصص هذا الجسم بهذا العرض دون أن يكون لجسم آخر، ويكون لهذا الجسم عرض غير هذا؛ لأن الممكنات لا بد لها من مرجح يرجح أحد طرفيها على الآخر، قال: فهذا هو معنى قوله: فانظر إلى الشمس والقمر... إلى آخره.
أي أنه يمكن أن تكون هيئة الشمس وضوءها ومقدارها حاصلاً لجرم القمر، ويمكن أن يكون النبات الذي لا ساق له شجراً، والشجر ذو الساق نباتاً، ويمكن أن يكون الماء صلباً والحجر مائعاً، ويمكن أن يكون زمان الليل مضيئاً والنهار مظلماً، ويمكن أن لا تكون هذه البحار متفجرة بل تكون جبالاً، ويمكن أن لا تكون الجبال الكبيرة كبيرة، وأن لا تكون القلال طويلة، وكذلك القول في اللغات واختلافها.
قال: وإذا كان كل هذا ممكناً فاختصاص الجسم المخصوص بالصفات، والأعراض والصور المخصوصة لا يمكن أن يكون لمجرد الجسمية لتماثل الأجسام فيها فلا بد من أمر زائد، وذلك الأمر الزائد هو المعني بقولنا: صانع العالم.
قلت: وإذا كان لا بد من الأمر الزائد الذي هو الصانع، فلا بد من تقدم الفاعل على فعله ضرورة، وفي ذلك ثبوت حدوث الأجسام قطعاً.
الطريقة الرابعة: دليل الدعاوي.
واعلم أن هذا الدليل هو المعتمد عند كثير من أصحابنا في حدوث الأجسام، وأول من حرره أبو الهذيل، وقال أحمد بن محمد بن الحسن الرصاص: بل إبراهيم الخليل عليه السلام كما في آيات الأفول.
وقال المؤيد بالله عليه السلام : كان الصحابة والتابعون يستدلون بالتأليف فيقولون العالم مؤلف وكل مؤلف فله مؤلف، حتى جاء أبو الهذيل فحرر هذا الدليل، وسمي دليل الدعاوي لبنائه على أربعة أصول مع وجود المنازع في كل واحد منها، وحقيقة الدعوى هو الخبر الذي لا تعلم صحته ولا فساده إلا بدليل مع خصم منازع، والأصول الأربعة:
أحدها: أن في الجسم عرضاً غيره، والثاني: أن تلك الأعراض محدثة، والثالث: أن الجسم لم يخل من الأعراض ولم يتقدمها، والرابع: أن ملازمته إياها يستلزم حدوثه، فالأولان قد تقدم الكلام عليهما.
وأما الأصل الثالث: وهو أن الجسم لم يخل من الأعراض ولم يتقدمها فلا خلاف فيه بين الموحدين، ووافقهم كثير من الفلاسفة، وخالفهم أفلاطون وأتباعه فقالوا: لو كان الجسم خالياً من الأعراض فالجسم قديم والعرض محدث؛ لأن الجسم عندهم أصله جوهران بسيطان غير متحيزين لا عرض فيهما، أحدهما: يسمى هيولا، ويعنون به أصل الشيء المتنزل منه منزلة الطين من اللبن، ويقال له: مادة الجسم، والآخر يسمى صورة، ويعنون به ما يحصل من التركيب المتنزل منزلة التربيع.
قالوا: فلما حل أحدهما وهو الصورة في الآخر وهو الهيولا تحيزا أو تكاتفا وتركب منهما جميع الأجسام، فحلتهما الأعراض بعد ذلك.
والدليل لما يقوله الموحدون من وجوه:
أحدها: أن الجسم لو جاز خلوه من الأعراض فيما مضى لصح الآن؛ لأنه لم يتغير عليه الأمر والزمان، وهو مما لا تأثير له فيما يصح على الجسم أو يجب أو يستحيل، ألا ترى أنه لما صح عليه الاجتماع والافتراق الآن جاز أن يكون مجتمعاً أو مفترقاً في كل زمان، ولما استحال عليه أن يكون مجتمعاً ومفترقاً دفعة واحدة استحال في كل وقت وأوان، ولما وجب كونه على أحدهما الآن وجب في كل وقت، فثبت أنه لو جاز خلوه عنها في حال من الأحوال لجاز الآن، والمعلوم أنه يستحيل خلوه عنها الآن؛ إذ لو جاز ذلك لجاز تصديق من أخبر بوجود جسم ليس بمتحرك ولا ساكن، أو جسمين لا مجتمعين ولا مفترقين.
والمعلوم أن العقلاء يكذبون من أخبر بوجود ذلك، فإن قيل: هذا كله مبني على أن الجسم لا يوجد إلا متحيزاً، وأن تحيزه غير متجدد، والمخالف لا يسلمه، وعلى هذا فله أن يقول: إنه قد تغير عليه غير مرور الزمان وهو التحيز فإنه قد كان غير متحيز عنده فلم يصح حلول الأكوان فيه، وبعد تحيزه حلته كما هو مذهبه، فما الدليل على أن الجسم لا يوجد إلا متحيزاً حتى يصح ما بنيتم عليه؟
قيل: الدليل على ذلك أنه لا يجوز تحيزه لمعنى؛ لأنه لا يوجب تحيزه إلا إذا اختص به، ولا يختص به إلا إذا حله، ولا يحله إلا وهو متحيز، فلو لم يتحيز إلا لأجله لوقف كل واحد منهما على الآخر، وهو محال، ولا يصح أن يكون متحيزاً بالفاعل وإلا لصح أن يوجده غير متحيز؛ لأنه يتصرف بالاختيار، بل يصح منه أن يجعله سواداً بدلاً من التحيز، وأن يجمع بين كونه سواداً ومتحيزاً، وذلك يقتضي أنه لو طرأ عليه ضد أن ينفيه من وجه دون وجه.
الوجه الثاني: أن كل جسمين إما أن يكون بينهما بعد ومسافة أولى، إن كان الأول كانا مفترقين، وإن كان الثاني كانا مجتمعين، ولا يخلو جسم عن كونه مفارقاً لغيره أو مجتمعاً بغيره، والاجتماع والافتراق عرضان فصح أنه لا يخلو الجسم عن العرض.
الوجه الثالث: أنه لو خلا عن الاجتماع والافتراق ثم حدثا فيه لكان السابق أحدهما لا محالة، فإن قالوا: السابق الاجتماع، قلنا: كيف يجتمع ما لم يكن مفترقاً من قبل، وإن قالوا: السابق الافتراق، قلنا: كيف يفترق ما لم يكن مجتمعاً، فصح أنه لا يخلو من أحدهما، وأما ما زعمه المخالف من الهيولى والصورة فبطلانه واضح، ولا بأس بزيادة الإيضاح الذي يظهر به بطلان قولهم كظهور الإصباح، فنقول:
اعلم أن القوم قد ضربوا للهيولى والصورة مثلاً وهو الحديد وما يعمل منه من الآلات كالسيف والقيد وغيرهما مما هو مختلف الصورة والاسم، فقالوا: الهيولى هو الحديد لأنه أصل هذه الأشياء، والصورة هي هيئة ما يعمل منه كالسيف مثلاً وكانت كامنة في الهيولى قبل ظهورها.
قالوا: وكذلك صورة الحديد كانت كامنة في المعدن وكذلك المعدن حتى انتهوا إلى علة العلل التي زعموا أن صور جميع الأشياء كامنة فيها وموجودة فيها بالقوة، قالوا: وكذلك القول في جميع صور الحيوانات والنباتات قالوا: وكل من الهيولى والصورة محتاج إلى الآخر بالفعل، فحاجة الصورة إلى الهيولى حاجة المشروط إلى شرطه، والحال إلى محله، ومعنى حاجتها إليه بالفعل أنها تحتاج عند وجودها بالفعل إلى أن تحله فتحيز بعد ذلك، وحاجة الهيولى إلى الصورة حاجة المعلول إلى العلة، ومعنى ذلك أنه لا يتحيز إلا بحلولها فيه، ولا يحتاج إليها في وجوده، ومنهم من يقول: إن أصل العالم جوهر بسيط وهو غير متحيز ثم تحيز فركبت منه الأجسام، ومنهم من يقول: هو جواهر بسيطة.
واعلم أن المسلمين قد أبطلوا هذا المذهب الخبيث الذي لا غرض لهم فيه إلا ما ذكره السيد حميدان رحمه الله من إرادة إبطال القول بالصانع المختار، وإثبات تأثير العلل التي يزعمونها مؤثرة، والوجوه التي أبطله بها المسلمون كثيرة.
منها ما تقدم من ثبوت حدوث الأجسام قطعاً، وإذا ثبت حدوثها بطل قدمها الذي يزعمونه؛ لأن القولين في طرفي نقيض إذا ثبت أحدهما انتفى الآخر، وإلا لصح كون الشيء الواحد قديماً محدثاً، وهو محال، ومنها: أن القول بالهيولى والصورة دعوى مجردة عن الدليل؛ إذ هما غير معقولين ولا طريق إليهما، ومنها: أن الصورة لا يعقل كونها صورة إلا إذا كانت فعلاً لمصور مختار، كما أن الصورة المعمولة من الحديد وغيره لا تكون صورة إلا بمصور صورها، فيجب في كل صورة من العالم أن يكون لها صانع مختار.
ومنها: أن كل عاقل يعلم ضرورة استحالة كمون الإنسان بما اشتمل عليه من الأجسام والأعراض في نطفة قليلة ضعيفة.
ومنها: أن كثيراً من أجزاء الحيوانات تتولد من الغذاء، ومنه ما يكون من حيوان آخر، ومنه ما يكون من أنواع النبات، فكيف يتصور كمون الصورة الواحدة في مواضع كثيرة مختلفة جنساً ونوعاً وشخصاً.
ومنها: أنهما إذا كانا قديمين غير متحيزين لم يكن أحدهما بكونه هيولى والآخر صورة، ولا بكونه حالاً والآخر محلاً بأولى من العكس؛ لاشتراكهما في القدم.
ومنها: أن من أصولهم أن الجزء يتجزأ، أي لا ينتهي إلى حالة إلا ويصح تجزؤه إلى ما لا نهاية له، فكيف يصح وصفهم لما زعموه أصلاً في جوهر أو أكثر بأنه بسيط إذ البسيط الفرد، ومع التجزء لا يصح الإفراد ولا يكون بد من اجتماع فيه، والقول بالتجزؤ حكاه عنهم الإمام عز الدين عليه السلام .
قال: وإن كان من أصحابنا من يظن أن من الفلاسفة من لا يقول بتجزئه أخذاً من مقالاتهم من دون تصريح.
قال: والمصرحون منهم بالتجزء منهم من يقول: هو بالفعل بمعنى أنه في ذاته غير متناهي العدد، ومنهم من يقول: إنه يتجزأ بالقوة، بمعنى أنه وإن كان شيئاً واحداً فإنه يصح من الفاعل أن يجعله أشياء كثيرة.
قيل: ولا فرق بينه وبين القول الأول؛ لأنه لا يصح من الفاعل أن يجعله أشياء كثيرة إلا إذا كان الجزء كذلك في ذاته.
ومنها: أن الحلول كيفية في الوجود، وكيفية الوجود تلازمه كما أن كيفية كل صفة تلازمها، فكيف يثبت وجودهما في الأزل ويتأخر الحلول.
تنبيه [في إيضاح المراد بالأعراض]
المراد بالأعراض في قولنا في هذا الأصل أن الجسم لا يخلو من الأعراض الأكوان -أعني الحركة والسكون والاجتماع والافتراق- إذ بعض الأعراض قد يخلو الجسم منها، وفي المعراج ما يشعر بأن ثمة من يقول إنه لا يجوز خلو الجسم من الأعراض كلها، وأنها موجودة فيه، فما ظهر أوجب وما كمن لم يوجب.
قال: وذهب أبو علي وأبو القاسم والأشعرية إلى أنه لا يخلو الجوهر مما يحتمله أو من ضده، فإن لم يكن له ضد لم يخل منه أصلاً، ثم أبطله بأنا نعلم خلو كثير من المحال من الصوت، مع أن مذهبهم يقتضي أنه لا يخلو المحل عنه وقتاً واحداً، وكذلك نعلم خلو المحال عن كثير من المتضادات.
قلت: والظاهر ما قدمنا وهو أن الأعراض التي لا يصح خلو الجسم عنها بحال إنما هي الأكوان فقط، والدليل على ذلك أن الأعراض على ثلاثة أقسام: قسم يجوز خلو الجسم عنه بكل حال وهو ما لا يبقى كالإرادة والصوت والاعتماد ونحوها، أو يبقى ولا ضد له كالقدرة والحياة والتأليف، وقسم يجوز خلوه عنه قبل وجوده، فإن وجد لم يجز خلوه عنه وهو الباقي الذي لا ينتفي إلا بضد كالألوان والطعوم والحرارة ونحوها.
قال الإمام (عز الدين) عليه السلام : فإنه يجوز أن لا يوجد الله تعالى في الجسم لوناً، وإذا أوجد فيه سواداً مثلاً لم يخل ذلك الجسم عن جنس من أجناس اللون، وإن جاز خلوه من السواد وذلك لأن اللون الذي وجد فيه باق والباقي لا ينتفي إلا بضد أو ما يجري مجراه، وضد السواد إما بياض أو حمرة أو نحوهما، وذلك من جنس اللون، وقسم لا يجوز خلو الجسم عنه بحال وهو الأكوان.
قال (القرشي): ثم إذا حققنا فالذي لا يخلو عنه الجسم هو الكون المطلق الحاصل حال حدوثه، وما عداه فقد تقدم الجسم عليه، وإن أمكن الاستدلال به على حدوث الجسم؛ لأن الجسم لم يسبقه إلا بوقت واحد.
قال الإمام (عز الدين) عليه السلام : الضمير في به عائد إلى ما عدا الكون المطلق، وذلك الكون الواقع في الوقت الثاني وهو إما حركة بأن ينتقل الجوهر في الوقت الثاني من وجوده، أو سكون بأن يبقى في تلك الجهة، وهو نفس الكون المطلق إلا أنه في الوقت الثاني يسمى سكوناً.
وقال عليه السلام في شرح قوله: بأنه لم يسبقه إلا بوقت واحد، يعني فلو كان الجسم قديماً لوجب أن يتقدم على هذا الكون المحدث الحاصل في ثاني حال وجوده بما لو كان هناك أوقات لكانت بلا نهاية، ولأنه إذا لم يسبقه إلا بوقت فقد صار يمكن الإشارة إلى وقت وجد فيه وحدث، وذلك يبطل قدمه.
قلت: وما ذكرناه من انقسام هذه الأعراض إلى هذه الثلاثة الأقسام هو الذي حكاه ابن حابس عن الزيدية والمعتزلة جميعاً وأكثر الفرق، فإن قيل: كيف تصح الحكاية عن المعتزلة جميعاً، وهذا أبو علي وأبو الهذيل يقولان: إن الحركة لا تبقى، وكذلك المباشر من السكون، وأبو القاسم يقول: لا يبقى شيء من الأكوان.
قيل: إنما أرادوا بعدم بقائها أنها تجدد حالاً فحالاً، فالسكون مثلاً ليس سكوناً واحداً مستمراً، بل يتجدد سكون بعد سكون حتى يحصل ما يوجب نفيه، وهذا لا يخرجهم عن القول بالصورة المتفق عليها، وهي أنه لا يجوز خلو الجسم عن الكون.
وأما الأصل الرابع: وهو أن ملازمة الجسم للعرض تستلزم حدوثه فالخلاف فيه من ثلاث جهات:
الأولى: قال أبو الحسين: هذا الأصل هو الثالث بعينه؛ لأن العلم بأن الجسم لم يتقدم المحدث بالفتح هو العلم بأن لوجوده أول، وذلك هو معنى الحدوث، والأدلة لا تنصب لأجل التسمية فيستدل هنا على أن الجسم يسمى محدثاً قال: ومثله الاستدلال بأن لأحد التوأمين عشر سنين، والاستدلال بالحد على المحدود كالاستدلال على أن الإنسان حيوانٌ بأنه جسم حساس منتصب كل هذا من الاستدلال بالشيء على نفسه، قال القرشي: وهذا قوي.
الثانية: اختلفوا هل العلم بهذا الأصل ضروري أم مكتسب، فقال أبو رشيد: هو ضروري سواء قيل ما لم يخل من حادث معين ولم يتقدمه فهو محدث، أم قيل: ما لم يخل من المحدث فهو محدث على سبيل الجملة من غير إشارة إلى الأكوان ولا الصفات الصادرة عنها، وتدخل في ذلك لأن الأجسام لا تخلو عنها، وهذا محكي عن أبي علي بن خلاد والفقيه حميد، وابن الملاحمي، وصاحب الإكليل. ذكره في المعراج.
والذي رواه النجري عن أبي رشيد وابن خلاد من دعوى الضرورة إنما هو فيما جيء بالدعوى كلية نحو كل ما لم يخل من المحدث ولم يتقدمه فهو محدث مثله فقالا: هي ضرورية، وقال كثير من العلماء: بل استدلالية، وأما إذا لم تكن كلية وكانت صورتها أن ملازمة الجسم للعرض تستلزم حدوثه فهي استدلالية اتفاقاً.
وقال القاضي وتلامذته: إن كانت صورة الدعوى أن ما لم يخل من حادث معين ولم يتقدمه، فهو محدث مثله، فهي ضرورية، وإن كانت صورتها أن الجسم إذا لم يخل من المحدث ولم يتقدمه وجب أن يكون محدثاً، فهي استدلالية وإلا لما خالف فيها ابن الراوندي ومن تبعه، وأجيب بأنه لا بد وأن يعتقدوا في واحد منها أنه قديم وإلا لم يتصور خلافهم، هكذا لخص مذهب القاضي في المعراج، وقد قيل: إن الدعوى إذا كانت بالصورة الأولى فإنه ينبغي الاتفاق على أنها ضرورية، ورواية النجري عن كثير من العلماء تدفع الاتفاق، وفي المعراج أن في المحيط ما يقضي بأنها استدلالية إلا إذا علم ثبوت ذلك المعين وحدوثه وعدم الخلو منه ضرورة، فهي حينئذٍ ضرورية.
وفي المنهاج عن بعضهم أن الضروري هو العلم بحدوث ما لم يخل من المحدث على الجملة، كالعلم بأن كل ظلم قبيح، والعبرة في التفصيل بالمقدمات، فإن كان علمنا بحدوث الأعراض، وأن الجسم لا يخلو منها ضرورياً، فالعلم بحدوث الجسم ضروري، وإن كان العلم بالأولين اكتسابياً، فالثالث اكتسابي.
قلت: وهذا هو الحق، والاختلاف السابق في التحقيق راجع إليه فإن القائلين بالضرورة مطلقاً أو في بعض الصور إنما بنوا كلامهم على أن العلم بالمقدمات ضروري وهو العلم بالأعراض وحدوثها وعدم خلو الجسم منها، وعدم تقدمه عليها، والقائلين بأنها استدلالية لم تثبت عندهم هذه الأمور أو بعضها إلا دلالة، وأما أهل التفصيل فنظروا إلى أن العلم ببعض الصور كحدوث ما لم يخل من المحدث على الجملة ضروري، فلذا قالوا في الصورة الكلية: إنها ضرورية وبعضها استدلالي لتوقفه على غيره، كما في صورة ملازمة الجسم للعرض فإن العلم بحدوث الأجسام لأجل الملازمة متوقف على ثبوت الأعراض وحدوثها وملازمتها، وعدم تقدم الجسم عليها، وذلك لا يعلم إلا دلالة، ولذا قال الإمام عز الدين عليه السلام : وها هنا صورة لهذه الدعوى وهو أن يقال: الأجسام لم تخل من هذه الأكوان ولم تتقدمها، فيجب أن تكون محدثة.
قيل: فهذه تكون استدلالية اتفاقاً لتوقفها على ثبوت الأكوان وحدوثها وأن الجسم لم يخل منها، وكلها استدلالية، وما توقف على الاستدلالي فهو مثله.
الجهة الثالثة: في ذكر الخلاف في هذا الأصل، فالذي عليه أكثر الناس من أهل الإسلام وغيرهم أن ملازمة الجسم للحوادث يستلزم حدوثه، وخالف ابن الراوندي وحكاه في المنهاج عن الفلاسفة، وفي غيره عن بعضهم فقالوا بقدم الجسم مع أنه لا يخلو من الأعراض المحدثة قالوا: لكنها تتداول عليه ويحدث منها حادث قبله حادث إلى ما لا نهاية له من قبل أوله، فالجسم عندهم قديم والأعراض محدثة.
قال (النجري): ومعنى أنها محدثة أن كل واحد من آحادها محدث، وإلا فجملتها قديمة عندهم.
لنا أن الجسم إذا لم يخل من الحوادث ولم يتقدمها وجب أن يكون وجوده كوجودها، وقد ثبت بما مر أنه لم يخل منها ولم يتقدمها وأنها محدثة، فوجب في الجسم مثلها كالتوأمين إذا ولدا معاً فإنه إذا كان لأحدهما عشر سنين وجب أن يكون للآخر مثله.
فإن قيل: الجسم لا يخلو من العرض ولا يجب أن يكون عرضاً مثله، فكذلك لا يجب أن يكون محدثاً مثله، قيل: إنما وجب أن يكون محدثاً مثله ولم يجب أن يكون عرضاً؛ لأن ما ذكرناه إنما اقتضى اشتراكهما في الحدوث لا في الجنس، ألا ترى أن السواد والبياض إذا وجدا فإنما يجب اشتراكهما في الوجود دون الجنسية، وكذلك فإن التوأمين إنما يشتركان في الحدوث دون الجنسية لجواز كون أحدهما عربياً والآخر عجمياً، فكذلك الجسم إذا لم يخل من المحدث فقد شاركه في حقيقة الحدوث ولم يشاركه في حقيقة العرضية، فلزم الأول دون الثاني، وإنما يلزم أن يكون الجسم عرضاً لملازمته للعرض لو كانت العلة في كون العرض عرضاً حدوثه؛ إذ لا تصح الملازمة بين أمرين إلا برابط وجامع بينهما، والمعلوم خلافه.
وأما قولهم: بحوادث لا أول لها، فمناقضة ظاهرة؛ لأن المحدث لا بد له من محدث وفاعل واجب التقدم عليه، وما تقدمه غيره لا يجوز أن يكون مما لا أول له، وأيضاً لو كان الجسم قديماً لوجب تقدمه على هذه الأعراض المحدثة؛ لأن من حق القديم أن يتقدم على كل محدث، كما أن من حق ما وجد منذ يومين أن يتقدم على ما وجد منذ يوم، وقد ثبت أن الجسم لا يتقدم الأكوان، فوجب أن لا يكون قديماً فيجب كونه محدثاً إذ لا واسطة، وأيضاً إذا لم يخل منها فقد صار وجوده معها أو بعدها، وصار لوجوده أول كما أن لوجودها أول، وهو معنى الحدوث.
وأما قولهم بحدوث الآحاد دون الجملة، فبطلانه ظاهر؛ لأن صفتي القدم والحدوث ترجعان إلى الآحاد، فإذا كانت محدثة كانت الجملة كذلك.
قالوا: قد جاز حوادث لا آخر لها وهو حركات أهل الجنة في اللذة وأهل النار في العذاب، فليجز حوادث لا أول لها.
والجواب: إن كونها لا آخر لها لا يخرجها عن الحدوث، بخلاف كونها لا أول لها فهو يخرجها عنه، على أن أبا الهذيل قد كان التزم امتناع حوادث لا آخر لها.
وروي عن النظام وغيره وقالوا: تنتهي حركات أهل الجنة إلى سكون دائم يلتذون به، وحركات أهل النار إلى سكون يتألمون به، وقد روي عن أبي الهذيل الرجوع.
قال الإمام عز الدين عليه السلام : ومما يجاب به عن هذه الشبهة أنا لم نرد بقولنا حوادث أهل الآخرة لا تتناهى وجود ما لا يتناهى، فذلك مما لا نجيزه، وإنما أردنا أن محدثيها يجددونها شيئاً بعد شيء.
تنبيه [في الأكوان وحقيقتها]
قد عرفت مما تقدم أن دليل الدعاوي مؤسس على الأكوان، لأنها التي لا يخلو الجسم عنها بحال، وبين المتكلمين في تحقيقها خلاف، فبعضهم يجعلها معاني موجبة كما أشرنا إلى ذلك في تقسيم الأعراض، وبعضهم يجعلها أحوالاً أي صفات للجسم بالفاعل وتحقيق الكلام عليها وبيان ما يترتب على الخلاف فيها يستدعي ذكر أبحاث.
البحث الأول: في حقيقة الكون
وهو في اللغة: الثبوت سواء كان بعد انتفاء أم لا كما يقال: كان الله ولا شيء، وفي الاصطلاح له معنيان:
أحدهما: بمعنى الصلاح، وهذا تستعمله الفلاسفة ولهذا يقولون عالم الكون والفساد، لما كان العالم يصلح تارة ويفسد أخرى، ومعنى صلاحه ثبوت تركيبه على وفق الغرض والداعي، وفساده خروجه عن ذلك التركيب.
والثاني: يستعمله المتكلمون إما مضافاً كقولهم: قد علمنا كون المتحيز في جهة يريدون به حصوله فيها، وهذا بمعنى الكائنية، وإما مفرداً كقولهم: الجوهر مضمن بالكون أو نحو ذلك، وهذا هو الذي اختلف المتكلمون في مسماه، فقال الإمام يحيى، وأبو الحسين وابن الملاحمي، ورواه السيد حميدان عن أئمة العترة": المراد به الصفة التي الجسم عليها وهي حصوله في الجهة أو نحو ذلك، وهؤلاء يسمون نفاة المعاني؛ لأنهم يجعلون الأعراض كلها الأكوان وغيرها صفات للجسم بالفاعل.
قال (ابن حابس): وبه قال ابن الخطيب الرازي وكثير من الأشاعرة والمجبرة، قال ابن زيد: وهو مذهب القاسم والهادي عليهما السَّلام ، ومعنى ذلك أن الحركة والسكون ونحوهما هي التي يعبر بها عن كونه متحركاً وساكناً ومجتمعاً ومفترقاً، وهذه الصفات إنما تثبت بالفاعل عندهم.
وقال السيد (مانكديم) والإمام (المهدي) و(القرشي) وغيرهم من أصحابنا: بل هو اسم لمعنى موجب لحصول الجسم في جهة وهذا قول البهاشمة وغيرهم.
قال (القرشي): ذهب الجمهور من أهل العدل وأهل الجبر إلى إثبات المعاني، وأن هذه الصفات موجبة عنها.
البحث الثاني: في أنواع الكون وحقائق تلك الأنواع
فأما أنواعه فهي خمسة: حركة وسكون واجتماع وافتراق وكون مطلق، وأما حقائق هذه الأنواع فالأئمة " ومن وافقهم يقولون: الحركة هي نفس الكائنة وهي نفس حصول الجسم في جهة عقيب كونه في أخرى، والسكون لبث المتحيز في الجهة وقتين، ذكر هذا الحد للسكون أبو الحسين، وهكذا سائرها، فإنهم يحذفون لفظ معنى الذي يثبته مخالفهم في حدود هذه الأنواع، وأما مخالفوهم فيثبتونه على خلاف بينهم في التفاصيل وبعض الحدود، والمقصود هنا بيان حدودها باعتبار كونها معاني، فنقول: الحركة هي المعنىالموجب حصول المتحيز في جهة عقيب كونه في أخرى بلا فصل، واحترزوا بقولهم بلا فصل عن الجوهر إذا أعدمه الله في جهة ثم أوجده في أخرى فلا يكون الكون الذي في الجهة الأخرى حركة للفصل بين كونه في الجهتين، وكذلك إذا كان الجوهر في جهة ثم انتقل إلى أخرى ولبث فيها وقتين، فإن الكون في الوقت الثاني لا يسمى حركة لتخلل الوقت الأول بين كونه في الجهتين، والسكون المعنى الموجب للبث المتحيز في جهة وقتين فصاعداً، والاجتماع المعنيان الموجبان حصول المتحيز في جهتين متقاربتين على جهة المماسة والافتراق المعنيان الموجبان حصول المتحيزين في جهتين على جهة البعد والمباينة، والكون المطلق هو المعنى الموجب كون الجوهر الفرد في جهة عند ابتداء حدوثه، والكائنية حصول الجسم في جهة ما، والكائن المتحيز الحاصل في جهة ما، زاد الإمام عز الدين عليه السلام على وجه الاستقلال ليخرج العرض فإنه عند المتقدمين في جهة، وقد عرف مما ذكرنا أن الاجتماع كونان، وكذلك الافتراق وهو الذي يذكر الأصحاب في كتبهم.
وقيل: الأجود كون كل منهما كوناً واحداً لكن يشترط في تسميته اجتماعاً أن يماس محله جوهر آخر، وفي الافتراق أن يباين محله جوهر آخر، فعلى هذا يكون في الجوهرين المتماسين اجتماعان وفي المتباينين افتراقان والمعنى واحد، وإنما الخلاف هل يسمى كل واحد من الكونين اجتماعاً أم لفظ الاجتماع يشملهما، وكذلك الافتراق فهو خلاف في العبارة.
البحث الثالث: في ذكر دليل القائلين بأن هذه الأكوان معاني وبيان ما استند إليه الأئمة وموافقوهم في إثبات كونها صفات للجسم بالفاعل وما أجابوا به على دليل هؤلاء
فأما دليل أهل المعاني فقد اعتمدوا في ذلك على تجدد الكائنية فقالوا: تجددت الكائنية على الجسم مع جواز أن لا تتجدد والحال واحد والشرط واحد، فلا بد من أمر لأجله حصل كذلك، وذلك الأمر ليس إلا وجود معنى، فهذه أربعة أصول:
الأول: أنها تجددت الكائنية وتبدلت على الجسم مع جواز أن لا تجدد عليه ولا تحصل، قالوا: وذلك معلوم ضرورة، فإن الجسم يسكن ثم يحترك والعكس، ويجتمع ثم يفترق والعكس، ولا يمكن أحد إنكار هذا التجدد والحصول، قالوا: والمعلوم ضرورة أن ذلك التجدد ليس بواجب؛ إذ ما من جسم نراه احترك إلا ونعلم ضرورة أنه كان يجوز بقاؤه ساكناً، وأن حركته ليس لذاته، وكذلك القول في السكون والاجتماع والافتراق.
قال السيد مانكديم وغيره: هذا الحكم ثابت ضرورة فيما نشاهده من الأجسام، وأما الغائبة فتعلم بالرد إلى المشاهدة بأن نقول: إنما ثبت الجواز في الحاضرة لتحيزها والتحيز ثابت في الغائبة، فيجب أن يكون هذا الحكم ثابتاً فيها، وقال الإمام المهدي: بل نعلم الكل ضرورة لأن تصورها متحيزة كإدراكنا المتحيز الحاضر، فما علمنا ضروة أنه يجوز على الحاضر علمنا ضرورة أنه يجوز مثله في الغائب لا نجد في ذلك شكاً، وحكى في المعراج إطلاق العلم بذلك ضرورة عن أبي علي وابن الملاحمي.
فإن قيل: وما الدليل على أن علة الجواز في الحاضرة التحيز حتى يصح الإلحاق والمساواة بينها وبين الغائبة؟
قيل: قد حقق الدليل على ذلك الإمام عز الدين عليه السلام وحاصل كلامه أن الجواز في الحاضرة لابد أن يكون لأمر وإلا لم يكن بأن يثبت أولى من أن لايثبت، ولأن عدم الأمر حاصل في الغائبة، فيحصل الجواز، وإذا كان لابد من أمر فلا يصح أن يكون لذات الجسم؛ لأن الجواز حكم ولا ذاتي في الأحكام، مع أنه لو صح لحصل الغرض لاشتراك الأجسام في الذات فلتشترك فيما يجب لها، ولا يصح أن يكون لذات أخرى لأنها إما فاعل، وهو باطل وإلا لصح أن يجعل الجائز غير جائز والعكس لأنه يفعل باختياره؛ ولأن تأثيره على سبيل الصحة والجواز، وهذا الحكم جواز، والجواز لا جواز له، ولأن الجواز حكم ثابت للجسم في حال بقائه، والفاعل لا يؤثر إلا في حالة الحدوث، وتأثيره في الحدوث وتوابعه فقط، وإما علة وهو باطل أيضاً لصحة عدمها فيلزم عدم الجواز عند عدمها، وأيضاً فتأثيرها إنما يكون فيما قد ثبت جوازه والجواز لا جواز له، فبقي أن ذلك الجواز لصفة للجسم، وباطل أن يكون لصفة من صفات الجملة لثبوته في الجماد، وباطل أن يكون لصفته الذاتية وإلا لزم ثبوته في حال العدم، ولا لصفة الوجود، وإلا لزم ثبوته لكل موجود، ومن المعلوم عدم ثبوته للأعراض، وباطل أن يكون المؤثر فيه الكائنية لحصوله قبل ثبوتها والأثر لا يتقدم على المؤثر، ثم كيف تؤثر في حكم لنفسها، فلم يبق إلا أن يكون المؤثر فيه التحيز وهو حاصل في الأجسام الغائبة، فثبت كونها كائنة مع الجواز. ذكره في المعراج.
واعلم أن من أصحابنا من يستدل على أن التجدد ليس بواجب وهم فريقان:
فريق يجعل ذلك الاستدلال على جهة الاستظهار والتأكيد، وإلا فالعلم بذلك عندهم ضروري، وفريق يقول: إن ذلك لا يعلم إلا دلالة بلا فرق بين الحاضرة والغائبة وهم بعض المتأخرين حكاه عنهم الإمام المهدي عليه السلام ، وقد حكى في المعراج وأصله والإمام المهدي عليه السلام وغيره للفريقين أدلة منها أنه لو حصل في جهة مع الوجوب لاستحال خروجه عنها، ومعلوم أن ما من متحرك إلا ويجوز عليه السكون، ولا مجتمع إلا ويجوز عليه الافتراق والعكس.
فإن قيل: ولم قلتم إنه لو حصل في جهة مع الوجوب لاستحال خروجه عنها قيل: لأن حصوله حينئذٍ إما أن يكون صفة ذاتية أو مقتضاة؛ إذ الصفة الواجبة لا تنفك عن ذلك، والمقتضاة هاهنا لا تتصور إلا أن تكون مقتضاة عن الذاتية، ومع كونها كذلك يلزم استحالة خروج الجسم عنها حال بقائه؛ لأن الذاتية والمقتضاة لا يخرج عنهما المتصف بهما حال بقائه، ويلزم أيضاً مشاركة جميع الأجسام في ذلك؛ لأن حصوله فيها يكون لأمر يرجع إلى ذاته وذاتية الأجسام واحدة، فصح أن حصوله في الجهة مع الجواز وإلا لاستحال خروجه عنها.
ولقائل أن يقول: إذا كان جواز احتراك الساكن واجتماع المفترق والعكس معلوماً ضرورة، فجواز الكائنية ضروري لا يحتاج إلى دليل؛ إذ الدليل إما للاستظهار فليس بأظهر من الضرورة، وإما لإثبات المطلوب بناءً على أنه ليس بضروري، فإنكار كونه ضرورياً جهل أو تجاهل، وهكذا يقال في سائر الأدلة الآتية.
ومنها: أنها لو كانت واجبة لما توقفت على قصودنا ودواعينا، ومنها: أن الجسم لو حصل مجتمعاً أو نحوه مع الوجوب لاستغنى عمن يجمعه كما أن الصوت في الحالة الثانية لما وجب عدمه استغنى عمن يعدمه، وكذلك وجود القديم تعالى لما كان واجباً استغنى عن الموجب، والمعلوم أن الجسم يستغني عن جامع يجمعه.
ومنها: أنها لو كانت واجبة لتأتى من بعض القادرين من تحريك جبل أو الجمع بين جبلين بأن يصادف وقت وجوب الاحتراك أو الاجتماع، ولتعذر عليه تحريك ريشة أو التفريق بين ريشتين بأن يصادف وقت وجوب السكون والاجتماع، إلى غير ذلك من الأدلة التي لا يحتاج إليها مع ثبوت التجدد ضرورة. والله أعلم.
الأصل الثاني: قولهم والحال واحدة والشرط واحد، ومرادهم بالحال هنا ما يصحح الصفة المعنوية ونقيضها إذا كان لها نقيض وهو هنا التحيز، فإنه المصحح لكونه متحركاً وساكناً ومجتمعاً ومفترقاً، ومرادهم بالشرط هنا ما كان شرطاً في صحة هذه الحال، وهو وجود المتحيز؛ إذ لو لم يوجد لم تثبت كائنيته في جهة أبداً إذ لا تعقل كائنية في معدوم، ومعنى كون الحال واحدة والشرط واحد أنهما مستمران حال ثبوت الواحدة من هذه الصفات وحال انتفائها وحال ثبوت ضدها، فلما علمنا استمرارهما مع خروج الجسم من كائنية إلى أخرى ولم يتغيرا مع ذلك قطعنا أنه لا تأثير لهما في هذه الصفات وإنما هما مصححان كما ذكرنا.
الأصل الثالث: قولهم فلا بد من أمر، ومعناه أنا إذا علمنا تجدد الكائنية على الجسم مع جواز أن لا يتجدد وعلمنا هاتين المقدمتين ضرورة وقد ثبت أنه لا تأثير للحال والشرط، فإنا نقطع أنه لا بد من أمر مؤثر في تجدد المتجدد مع الجواز، وقد قيل: إن ذلك يعلم ضرورة، فإنه لا بد بالضرورة من أمر يخصص أحد الجائزين بالوقوع دون الآخر.
قال (القرشي)، وقال أصحابنا: يعلم ذلك بأدنى تأمل، وهو أنه لو لم يكن هنا مخصص لما كان أحدهما بأن يقع أولى من أن يقع ضده.
قال السيد (مانكديم): وليس للخصم أن يطالب بعد ذلك بلم لأنا أوردنا عليه طريقة النظر فإن شاء أن يعلم فلينظر.
قلت: يريد أنه من الضروريات الذي يحتاج إلى أدنى تأمل، وليس المراد بقوله: فلينظر أنه ينظر في دليل وإلا لوجب التنبيه عليه وبيان كيفية الاستدلال به، وإنما المراد أنه يرجع إلى نفسه ويفكر هل يجد منها العلم الضروري بذلك، فإنه إذا راجعها وجد منها العلم الضروري بأنه لا بد من مؤثر فيما حدث مع الجواز وإلا لم يكن بالتجدد أولى.
قال الإمام (المهدي) عليه السلام : وذلك موجود من النفس حتى من الأطفال، ألا ترى أنه متى تحيز على بعضهم ما يلعب فيه من حرث أو بناء أو غير ذلك، وكان التغيير في حال غيبته فإنه عند حضوره إنما يسأل عن تعيين من غيره، ولا يسأل هل غيره مغير أم لا لأنه قاطع بأن ذلك التغيير إنما حدث لمؤثر لا يتردد في ذلك بل يعلمه ضرورة، وإذا قيل له: إنه لم يغيره أحد ولم يشك في كونه من فعل الرياح أو نحوها بادر إلى تكذيبه من غير توقف ما ذاك إلا لأنه يعلم ضرورة أن المتجدد مع الجواز لا بد له من مؤثر ما.
الأصل الرابع: قولهم إن ذلك الأمر ليس إلا وجود معنى، والذي يدل على ذلك أنا نفرض الكلام في واحدة من هذه الصفات، وهي كونه مجتمعاً فنقول: لا يخلو إما أن يكون مجتمعاً لذاته، أو لما هو عليه في ذاته، والمراد بذلك الصفة المقتضاة أو لوجوده أو لحدوثه أي لكونه محدثاً أو لحدوثه على وجه أو لعدمه أو لعدم معنى أو بالفاعل أو لوجود معنى، وهذه الأقسام هي التي يشتبه الحال فيها وكلها باطلة إلا الأخير.
أما الأولان فلما مر من أن الكائنية حاصلة مع الجواز، ولو كانت صفة ذاتية أو مقتضاة لم يجز ذلك بل تكون حاصلة مع الوجوب؛ لأن الوجوب كيفية لهما وكيفية الصفة لا تفارقها.
وفي (القلائد) و(شرحها) (للنجري) ليس الجسم هو المؤثر في الكائنية المتجددة؛ إذ قد كان ذلك الجسم موجوداً قبل تجددها، فلو كان مؤثراً فيها لكان تأثيره على سبيل الوجوب لعدم الاختيار، وحينئذٍ لا اختصاص بتأثيره بوقت دون وقت.
وفي شرح الأصول ما حاصله إنه لا يجوز أن يكون مجتمعاً لذاته أو لما هو عليه في ذاته؛ لأن ذلك يوجب أن يكون مجتمعاً أبداً، وأن يكون كل جزء منه مجتمعاً لأن صفة الذات ترجع إلى الآحاد دون الجمل، ويوجب أنه إذا افترق أن يكون مفترقاً لذاته، وذلك يؤدي إلى أن يكون مجتمعاً مفترقاً دفعة وذلك محال، ويوجب ألا يقف كونه مجتمعاً على قصودنا ودواعينا والمعلوم خلافه، وأن تكون الأجسام كلها مجتمعة لتماثلها، والاشتراك في صفة ذاتية يوجب الاشتراك في سائر الصفات.
وأما الثالث فوجه بطلانه أن الوجود مع الاجتماع وعدمه ومع وجود ضده على سواء، فلو كان له تأثير في كونه مجتمعاً لأثر في كونه مفترقاً، وذلك يؤدي إلى كون الجسم مجتمعاً مفترقاً في حالة واحدة، وهو محال لتضادهما، ويلزم أيضاً في جميع الأجسام أن تكون مجتمعة لاشتراكها في الوجود، وأن تستمر هذه الصفة ما استمر الوجود والمعلوم خلافه، وأن يكون كل جزء منه مجتمعاً لأن الوجود ثابت فيه.
وأما الرابع: فإن أريد بالحدوث وجوده بعد أن لم يكن فقد بينا بطلان تأثيره، وإن أريد به حالة الحدوث فيبطله أنه يلزم منه أن لا يكون الجسم مجتمعاً حالة البقاء لفقد العلة فيه، ويلزم ما مر من وجوب اجتماع كل جزء وكونه إذا افترق كان مفترقاً لذاته، فيلزم الجمع بين الضدين، ويلزم أيضاً أن لا يكون مفترقاً حالة الحدوث والمعلوم خلافه.
وأما الخامس فلأنه لا وجه هاهنا معقول فيقال: إن الجسم اجتمع لحدوثه على ذلك الوجه، ويلزم ما مر من كونه لا يحصل مجتمعاً حالة البقاء.
وأما السادس فلأن العدم يحيل كونه مجتمعاً، وما أحال حكماً فكيف يؤثر فيه، ولأنه لا يحصل مجتمعاً إلا بعد الوجود، فكيف يجعل عدمه مؤثراً فيه، ولأن عدمه ليس بأن يؤثر في كونه مجتمعاً بأولى من تأثيره في ضده، بل ليس بأن يوجب الكائنية بأولى من غيرها من الصفات، لأنها معها على سواء.
وأما السابع: وهو أنه لا يجوز أن يكون مجتمعاً لعدم معنى، فقد خالف فيه بعض الفلاسفة، فذهبوا إلى أن المؤثر في الكائنية عدم معنى، حكاه عنهم النجري، قال حيث قالوا: العالم ساكن لعدم الحركة، والوجه في بطلان ما ذهبوا إليه أن عدم المعنى لا اختصاص له بجسم دون آخر، بل هو مع الأجسام كلها على سواء فلا يوجب لبعض دون بعض، فيلزم من ذلك أن تكون مجتمعة والمعلوم خلافه، ويلزم أن يكون الجسم مجتمعاً لعدم الافتراق، ومفترقاً لعدم الاجتماع دفعة واحدة؛ لأن عدمهما حاصل وقد فرضناه مؤثراً.
فإن قيل: نحن لا نقول بعدم المعنيين معاً، بل نقول بوجود أحدهما، قيل: فقد اعترفتم بإثبات المعاني، وكفيتمونا مؤنة المناظرة في إثباتها، ثم إنا نبين صحة عدم المعنيين عن الجسم فنقول: لو جمع زيد بين جسمين فقد عدم عنه الافتراق، وإذا فرق عمرو بينهما فقد عدم عنه الاجتماع، ففي الحالة الثالثة يجب أن يكون الجسم مجتمعاً مفترقاً في حالة واحدة لعدم المعنيين، فإن قيل: الافتراق الأول يعود، قيل: العود على مقدورات العباد لا يصح لما مر.
قال الإمام المهدي عليه السلام : ثم إن في ذلك إقراراً بوجود معنى فيه وهو الذي نروم، فإن قيل: إذا جاز أن يكون مجتمعاً لوجود الاجتماع ومفترقاً لوجود الافتراق ولم يلزم منه أن يكون مجتمعاً ومفترقاً دفعة، فهلا جاز أن يكون مجتمعاً لعدم الافتراق ومفترقاً لعدم الاجتماع ولا يلزم ذلك، قيل: لأن هذين المعنيين يتضادان في الوجود ولا يتضادان في العدم، فلا يمتنع عدمهما معاً وإن امتنع وجودهما جميعاً لوجود الفارق، فإن قيل: لم لا يجوز أن يكون مجتمعاً لوجود الاجتماع ومفترقاً لعدم الاجتماع؟
قيل: لأنه يوجب إذا أوجد زيد فيه الاجتماع وأعدمه عمرو أن يكون مجتمعاً مفترقاً دفعة وهو محال، سلمنا فليس ذلك بأولى من أن يقال: إنه مفترق لوجود الافتراق مجتمع لعدم الافتراق، سلمنا فقد حصل غرضنا، وهو إثبات معنى موجود.
قال (النجري): واعلم أن ما يبطل إيجاب عدم المعنى يبطل إيجاب المعنى المعدوم وهما متقاربان وإن كانا متغايرين.
وأما الثامن: وهو أنه لا يكون مجتمعاً بالفاعل فقد قرروه بوجوه:
أحدها: أنه لو قدر أحدنا أن يجعل الجسم على صفة من دون معنى لقدر على إيجاد الجسم؛ لأن من قدر على أن يجعل ذاتاً على صفة من دون معنى قدر على تلك الذات، دليله الكلام فإن أحدنا لما قدر على جعله أمراً ونهياً وخبراً قدر عليه.
واعلم أن للعلماء في تحرير هذا الوجه طرقاً أحدها: ما ذكرنا، وهي جعل القدرة على الصفة علة في القدرة على الذات، وهي طريقة السيد مانكديم وغيره من المتقدمين، فإن قيل: الكلام كسائر الأجسام لا نقدر عليه، فلا يصح الرد إليه قيل: لا نسلم أنه جسم، بل هو من جملة الأعراض الداخلة تحت مقدورنا بدليل أنا نذم ونمدح عليه، ولو كان جسماً لم نقدر عليه، فإن قيل: هذا مبني على أن الكلام ذات ونحن لا نسلم ذلك، سلمنا فلا نسلم أن القدرة على الصفة علة في القدرة على الذات، سلمنا فلا نسلم أن للكلام بكونه خبراً أو أمراً أو نحوهما من أنواع الكلام صفة، فإن صلى الله عليه وآله وسلم بالله وأبا الحسين وابن الملاحمي وأصحابهما والأشاعرة يذهبون إلى أنه لا صفة للكلام بكونه خبراً ولا غيره من أقسامه، وذهب الشيخ الحسن الرصاص إلى إثبات صفة له بكونه خبراً فقط دون سائر أنواعه، سلمنا فهذا القياس من قياس التمثيل وهو لا يفيد القطع إلا إذا كانت علية العلة، وحصولها في الفرع بتمامها من دون مانع قطعيين.
وأجيب بأن هذه الأمور قد ثبتت كلها بالدليل، أما الأول فلأنه يعلم على انفراده، وذلك هو معنى الذات، وأما الثاني فلأن القدرة على إيجاد الذات تبع للقدرة على جعلها على صفة من دون معنى ثبوتاً وانتفاء مع زوال ما هو أولى من ذلك بتعليق الحكم.
وأما الثالث: فلأن الواحد منا إذا قال: زيد في الدار لم يكن خبراً عن زيد بن خالد دون زيد بن بكر إلا بإرادة المخبر كونه خبراً عن فلان دون فلان، ومتعلق الإرادة لا يصح أن يكون مجرد إيجاد الحروف؛ إذ هي معها على سواء، ولا المخبر عنه إذ قد يخبر عما لا تصح إرادته كالباقي والماضي، ولا أمر خارج عن الصيغة غير المخبر عنه إذ لا تعلق لها به فلم يبق إلا أنها متعلقة بإيجادها خبراً عن فلان دون غيره، وكونها خبراً عنه هو المراد بقولنا صفة، وأيضاً فإن لفظ زيد في الدار قد يقع من الساهي والنائم ولا يكون خبراً، ولا يستحق عليه مدحاً ولا ذماً، ويقع من المنتبه فينعكس الحكمان فلا بد من أمر يميز به عن صدوره من المنتبه، وليس ذلك إلا الإرادة لما بينا، وهكذا سائر أنواع الكلام لا بد من أمر يميز الطلب عن التهديد ونحوه.
وأما الرابع: فما ذكرناه من أن القدرة على إيجاد الذات تبع للقدرة على الصفة... إلخ مع زوال ما تعليق الحكم به أولى يفيد القطع، وقد مر في المقدمة التنبيه على نحو هذا.
الطريقة الثانية: أن تجعل القدرة على الذات علة في القدرة على الصفة فنقول: أحدنا لا يقدر على ذات الجسم فلا يقدر على صفاته قياساً على الكلام، فإنا لما قدرنا عليه قدرنا على صفاته إلا أن هذا من قياس العكس، وهذه الطريقة اختارها صاعد من المتأخرين كما يفهم من المعراج ولفظه: واختار صاعد جعل القدرة على الذات أصلاً في القدرة على الصفة، قال: لأن القدرة على الذات أصل متبوع، والقدرة على الصفة فرع تابع.
الطريقة الثالثة: لأبي علي بن خلاد قيل: واستجادها المتأخرون، وقال الفقيه قاسم: هي أحسن الطرق، وهي أن يجعل عدم القدرة على الذات علة في عدم القدرة على الصفة، فمن لم يقدر على الذات لم يقدر على الصفة، فنقول: نحن لا نقدر على الجسم فلا نقدر على صفاته قياساً على كلام الغير، فإنا لما لم نقدر على ذاته لم نقدر على صفاته.
قال الإمام عز الدين عليه السلام : وتنبني على أصل وفرع وعلة وحكم، ويتأتى فيها قياس الطرد.
الطريقة الرابعة: طريقة الشرط وهي طريقة أكثر المتأخرين فيقال: القدرة على الذات شرط في القدرة على الصفات، ومعلوم أن أحدنا لا يقدر على الذات، فلا يقدر على الصفات لانتفاء المشروط عند انتفاء الشرط، ويجعل القياس على الكلام دليلاً على الشرطية.
الطريقة الخامسة: اختارها الإمام المهدي عليه السلام وتسمى طريقة التابع والمتبوع، وهي جعل القدرة على الصفة تابعة للقدرة على الذات، فإذا انتفى المتبوع انتفى التابع، إذ التابع لا يوجد بدون متبوعه، فيقال: القدرة على صفة الذات تابعة للقدرة على الذات، فمتى قدر على الذات قدر على صفاتها، ومتى لم يقدر على الذات لم يقدر على الصفات قياساً على الكلام فإنا حيث قدرنا عليه قدرنا على صفاته، وحيث لا فلا، ككلام الغير فيجعل القياس دليلاً على التبعية وجوداً وانتفاءً، ومعلوم أن أحدنا لا يقدر على ذات الجسم فلا يقدر على صفاته، وكل هذه الطرق يحصل بها الغرض من أن القدرة على الصفة ملازمة للقدرة على الذات، وبها يبطل كون الجسم مجتمعاً بالفاعل.
الوجه الثاني: أنه لو كان مجتمعاً بالفاعل لوجب أن لا يتأتى منه الجمع بين الجسمين في حالة البقاء؛ لأن ما يتعلق بالفاعل يتبع حالة الحدوث كالكلام، فإن صفاته لما تعلقت بالفاعل تبعت حالة الحدوث حتى لم يجز خلافه إذ لا يصح وجود التابع من دون المتبوع، وهكذا كل وجه يقع عليه الشيء بالفاعل فإنه يتبع حالة الحدوث نحو كون الفعل طاعة، أو معصية، أو ظلماً.
قال (القرشي): فلو كان الجسم مجتمعاً بالفاعل لما صح اجتماعه حال البقاء كما لا يصح حال العدم لاشتراك الحالين في فقد الحدوث، وقد أورد ابن الملاحمي اعتراضاً على هذا الوجه، وهو أن يقال: ما أنكرتم أن وجوه الأفعال تنقسم إلى ما هو كيفية في الحدوث، ككون الكلام خبراً، فلا يصح إلا في حال الحدوث، وإلى ما ليس كذلك ككونه كامناً فيصح حال البقاء.
قلت: ويكون كونه مجتمعاً ونحوه من القسم الثاني فيصح تعلقه بالفاعل عنده.
وأجيب بأن هذه الوجوه ليست كيفية في الحدوث؛ لأن الحدوث كيفية في الوجود وليس للكيفية كيفية، وأيضاً لو كان كون الصوت خبراً كنفيه فيه لما صح وجوده إلا خبراً؛ لأن الكيفية لا تفارق ما هي كيفية فيه، ومعلوم أنه يصح أن يوجد ولا يكون كلاماً فضلاً عن أن يكون خبراً أو أمراً أو نحوهما سلمنا، فقد ألزمناك كون الاجتماع كذلك ولم تفرق إلا بمذهبك.
فائدة [في كيفية الوجود]
قال الإمام عز الدين عليه السلام : اعلم أن كيفيات الوجود كثيرة، فمنها الحدوث والقدم؛ لأن الوجود لا يكون إلا حدوثاً أو قدماً، ومنها الحلول فيما يستحيل وجوده لا في محل كالسواد فإن حلوله كيفية في وجوده فلا يوجد غير حال، وكعدم الحلول في الفناء فإنه لا يوجد إلا غير حال لما كان وجوده لا في محل كيفية في وجوده، وسميت الكيفية كيفية؛ لأنها يوصف بها المعين الذي يسأل عنه بكيف.
الوجه الثالث: أنه لو قدر أحدنا على جعل الجسم مجتمعاً من دون معنى لقدر على أن يجعله على سائر صفاته التي يكون عليها بالفاعلين نحو كونه أسود وأبيض وحلواً ومراً، كالكلام فإنه لما قدر على جعله خبراً قدر على سائر صفاته من كونه أمراً أو نهياً أو استفهاماً، وكذلك سائر وجوه الأفعال، فإنا لما قدرنا على جعلها طاعة قدرنا على سائر وجوهها، ولا علة للقدرة على سائر الوجوه إلا القدرة على وجه منها لدوران الحكم بدوران هذه العلة ثبوتاً وانتفاء، ألا ترى أنا لما لم نقدر على وجه من وجوه أفعال الغير لم نقدر على جميعها.
فإن قيل: فليزمكم أن من قدر على ذات أن يقدر على سائر الذوات كالصفات.
قيل: الفرق ظاهر فإنا نعلم بالاستقراء أن القدرة على صفة من صفات الذات تلازمها القدرة على سائر صفاتها، وعلمنا بطريقة الدوران أن العلة هي القدرة على واحدة من الصفات، بخلاف القدرة على ذات، فلم نجدها علة في القدرة على سائر الذوات، ولأوجدنا القدرة على ذات تلازمها القدرة على سائر الذوات، بل علمنا ضرورة الفرق بين ما يتعلق بنا من الذوات وما لا يتعلق بنا.
الوجه الرابع: أن الكائنية يصح فيها التزايد، بخلاف التي بالفاعل فلو كانت بالفاعل لم يصح تزايدها، أما أن الكائنية يصح فيها التزايد فلأن القوي إذا سكن الساكن تعذر على الضعيف نقله، وإذا لم يسكنه لم يتعذر، فلولا تزايد الصفة لم يفترق الحال، واعترضه ابن الملاحمي بأن التزايد إنما هو في كثرة مدافعة القوي لا في الكائنية؛ لأن المرجع بها إلى شغل الجهة ولا يعقل فيه التزايد، وأجيب ببطلان رجوع التزايد إلى ما ذكره؛ لأن كثرة المدافعة تحتاج إلى كثرة الجهات؛ إذ لا يعقل كثرة المدافعة في جهة واحدة، والكلام مفروض في تسكين الساكن، وأما أن الصفة التي بالفاعل لا يصح فيها التزايد فدليله صفة الوجود التابعة له، فإن تعذر التزايد فيها معلوم عند الجمهور، فإنهم قالوا: الموجود لا يستحق من الوجود أكثر من وصفه.
قال (القرشي): ولا وجه له إلا كونها بالفاعل، هذا وقد ذكروا وجوهاً غير ما ذكر في نفي كون الكائنية بالفاعل، وهي لا تخلو عن مناقشة وضعف، وقد اعترضها بعض من ينفي كون الكائنية بالفاعل، وقد قيل: إن أقوى ما يستدل به على أبي الحسين وأصحابه أن يقال إذا كنت تجعل الكون صفة فهو قبل حصوله لا شيء، فإن الصفة قبل حصولها لا شيء بلا كلام، فتعلق قدرة الفاعل بها يكون إذا تعلق شيء بلا شيء، ومن المحال تعلق شيء بلا شيء.
فإن قيل: له أن يقول إن جعلتم القدرة متعلقة بالذات فهو باطل؛ إذ هي عندكم غير مقدورة، أو بمجرد الصفة فباطل أيضاً للزوم ما ألزمتم من تعلق شيء بلا شيء، أو بالذات على الصفة فباطل كذلك؛ لأن الصفة لم يثبت لها بعد.
قلنا: بل يتعلق بالذات، وقولكم إنها غير مقدورة لا نسلم إذ المقدور المعدوم الذي يصح إيجاده وهذا حال هذه الذات.
واعلم أن القوم لما أبطلوا الأقسام التي يشتبه الحال في كونها مؤثرة في تجدد الكائنية إلا وجود معنى تعين أنه المؤثر وهو مطلوبهم، وقد اعترضه بعضهم فقال: إبطالهم لكل واحد من الأقسام إلا وجود معنى لا يكفي في تعيينه ما لم يؤت على ذلك بدليل، إذ أكثر ما يحصل من الاستدلال المذكور بطلان سائر الأقسام.
وأجيب بأن ذلك كاف؛ لأنا إذا قد علمنا وثبت لنا أن الحكم معلل، وذكرنا ما يمكن تعليل الحكم به، وأبطلنا تلك الأقسام إلا واحداً، فإنه يجب تعليل الحكم به مع عدم الدليل على بطلانه وإلا اقتضى انقلاب ما علم ضرورة بأدنى تأمل من أنه لا بد من أمر لأجله كان الجسم مجتمعاً أو نحوه جهلاً وهو محال.
فإن قيل: أليس من الجائز أن يكون المؤثر اثنان من الأقسام التي أبطلتموها أو ثلاثة أو مجموعها، أجيب: بأنا قد أبطلنا تأثير كل واحد منها، وما أبطل تأثير أحدها مستقلاً أبطل أن يكون جزءاً لموثر.
وأجاب الإمام عز الدين عليه السلام : [طأأ[منمنبأنه لا يجتمع مؤثران على مؤثر واحد، وبأن قولنا: حصل للفاعل يقتضي أنه مقصور عليه، وكذلك قولنا حصل للعلة يقتضي قصر التأثير فيه عليها فإذا قلنا: حصل للعلة والفاعل أدى إلى أن يكون مقصوراً على العلة غير مقصور، وأن يكون مقصوراً على الفاعل غير مقصور، وعلى هذا فقس.
فإن قيل: هذه القسمة التي بنيتم تصحيح هذه العلة المدعاة عليها تسمى طريقة السبر والتقسيم وهي غير مفيدة للقطع، أجيب: بأن بعض أصحابنا قد جعلها حاصرة مفيدة للقطع كالقسمة الدائرة بين النفي والإثبات.
قال (النجري): والصحيح أنها إن كانت في الشرعيات أفادت القطع مطلقاً إذ عدم الدليل ثم دليل على عدم المدلول، وإن كانت في العقليات لم تفده إلا أن تكون راجعة إلى الدائرة بين النفي والإثبات كقسمة الأقل والأكثر والمساوي والفوق والتحت والمحاذي، وكهذه القسمة في مسألتنا إذ نقول فيها: إذا ثبت أنه لا بد من أمر فإما أن يكون هو الجسم أو غيره، وغيره إما على سبيل الصحة والاختيار وهو الفاعل أو لا، وهو العلة، وهي إما أن تثبت لها صفة الوجود وهي الموجودة أو لا، وهي المعدومة.
قلت: قد أورد السيد مانكديم هذه القسمة وجعلها من الدائرة، ولفظه مع تصرف: فإن قيل: ولم قلتم إن الأمر ليس إلا وجود معنى؟ قيل: لأنه لا يخلو الأمر إما أن يكون راجعاً إلى الجسم أو إلى صفاته أو إلى غيره، لا يجوز أن يكون راجعاً إليه ولا إلى صفاته، وإذا كان راجعاً إلى غيره فلا يخلو إما إن يكون تأثيره على طريقة التصحيح كتأثير الفاعل أو على طريقة الوجوب، لا يجوز الأول، والثاني لا يخلو إما أن يكون معدوماً وهو باطل، أو موجوداً وهو الذي نقول.
قال: وهذه القسمة مترددة بين النفي والإثبات، كذا أوردها قاضي القضاة في المحيط وهي أولى من التقاسيم التي أوردها المشائخ في الكتب؛ لأن القسمة إذا لم تردد بين النفي والإثبات احتملت الزيادة، وكان للخصم أن يشغب فيها.
قلت: هذه القسمة في التحقيق غير دائرة بين النفي والإثبات، وإنما هي راجعة إلى الدائرة كما تقدم فتأمل. والله أعلم.
[الجواب على من قال الأكوان معاني]
وإلى هنا انتهى بنا الكلام على ما تمسك به القائلون بأن الأكوان معاني، ولنذكر ما أجاب به قدماء أئمة العترة وأبو الحسين ومن وافقهم على هذه الأدلة، وبعض ما استدلوا به على كون الأكوان صفات للجسم بالفاعل، وذلك يتحصل في وجوه:
أحدها: أن هذا المعنى الذي زعموه مؤثراً لا يعقل، وهذه الأدلة التي ذكروها لا يشهد لها عقل ولا نقل، ويكفي في بطلانها عدم تعقلها.
وحكى السيد حميدان عن العترة" أن ذوات العالم أجسام وصفاتها هي أعراضها، وأنه لا يصح العلم بانفراد ذوات العالم عن الأعراض، ولا العلم بانفراد الأعراض عن ذوات العالم، وأنه لا دليل في العقل ولا في السمع يدل على أن شيئاً سوى الله ليس بجسم ولا صفة للجسم، وكفى بكلام أئمة العترة" شاهداً بصحة القول بعدم تعقل الأدلة التي ذكروها، ويؤيد ذلك ما ذكره الشرفي في شرحه حيث قال: إنا لا نجد طريقاً إلى العلم بالكون الذي زعموه مؤثراً في الحركة والسكون ونحوهما، وإنما المؤثر فيها الفاعل؛ لأن الطرق التي توصل إلى العلم بالأشياء إما العقل أو الحواس الظاهرة أو إدراك النفوس أو دليل الشرع، فمن ادعى علم شيء من غير هذه الطرق فقد أحال، وهذا الكون الذي زعموه لا يدرك بأيها، فبطل وجوده فضلاً عن تأثيره، ثم نقول يستحيل أن يفعل العاقل فعلاً، ولا يدرك بحس ولا غيره، وإلا فأوجدنا ذلك حتى يكون هذا الكون مثله.
قلت: وممن قد نص على أن الأعراض صفات للأجسام من قدماء الأئمة" القاسم بن إبراهيم في كتاب الرد على الملحد.
وقال الهادي عليه السلام بعد أن ذكر أن أفعال العباد ليست بأجسام، وساق كلاماً حتى قال: وهي أعراض ليست بأجسام؛ إذ لا يقوم إلا بالأجسام، وإنما هي صفات ودلالات وحركات تتفرع من الأجسام غير متلاحقات.
الوجه الثاني: أن كلامهم مبني على ثبوت التأثير لغير الفاعل المختار من العلة والسبب وغيرهما، وسيأتي إبطاله في موضعه.
الوجه الثالث: أن معتمدهم في الدلالة ما ذكروه من الملازمة بين القدرة على الصفة والقدرة على الذات، وجعلوا الأصل في ذلك الكلام على اختلافهم في تركيب القياس كما مر في الطرق الخمس، وذلك كله مبني على أن الكلام ذات موصوفة لا صفة للذات، ونحن لا نسلم ذلك، بل نقول: هو صفة للمتكلم وليس بذات موصوفة، وما قالوه باطل لأمرين:
أحدهما: ذكره الإمام يحيى عليه السلام وغيره، وهو أن هذه الصفة إما أن تكون ثابتة لمجموع الحروف أو لكل حرف من حروف الصيغة، الأول باطل لأن مجموعها لا وجود له في وقت واحد، وإنما الموجود منها حرف واحد، فإن جملة حروف الخبر لا تجتمع في وقت واحد، فيلزم أن تكون الصفة ثابتة لمعدوم وهو محال، ويلزم منه قدرتنا على صفة الذات، ونحن لا نقدر على تلك الذات، وهي ما قد عدم من حروف الخبر إذ قد خرجت بعدمها عن كونها مقدورة فينتقض الدليل بنفسه، والثاني باطل أيضاً لأنه يلزم أن يكون كل واحد من تلك الحروف خبراً، فيؤدي إلى ثبوت أخبار كثيرة وصفات كثيرة.
قال الإمام عز الدين عليه السلام : وهذا السؤال وارد ولا جواب عنه، وقد تكلف بعض المتأخرين الجواب عنه بأن تلك الصفة تثبت عند وجود آخر حرف من الخبر، وتثبت له ولما سبق من الحروف وعدم، لأن وجود ما لا يتم الخبر خبراً إلا به وهو الحرف الأخير كاف في لحوق الصفة به وبما سبق، وتزول الصفة بعدم ذلك الحرف الأخير ويصير المتصف بها كله عدماً، ولا يخفى ما فيه.
قلت: المجيب المشار إليه هو الإمام المهدي عليه السلام ، وذكر أن الوجه في تخصيص الحرف الأخير أنها لو ثبتت لما قبله لزم تمام الخبر به وإن لم يوجد ما بعده وهو باطل، قال: فيثبت أن الصفة لا تعم من الأمور المعدومة إلا ما قد ثبت له وجود مع وجود بعض ما لا يتم إلا به، وأدانا إلى ذلك ثبوت الصفة قطعاً واستحالة وجودها على غير الوجه المذكور، ولا يلزم من ذلك محال إذ وجود ما لا يتم الكلام إلا به مع تقدم وجودها قد عدم كوجود جميعه لا مانع من ذلك من بديهة العقل ولا دلالته.
قلت: قد اعترف عليه السلام بالتكلف إلا أنه أداه إلى ذلك ما ذكره.
الأمر الثاني: ذكره السيد أحمد بن محمد الشرفي ولفظه: وأما قولكم إنه لا يقدر على صفة الذات إلا من يقدر على الذات قياساً على الكلام، فإنه باطل؛ لأن الكلام صفة للمتكلم وليس بموصوف كما زعمتم، وهو من جملة الأعراض القائمة بالأجسام، وكونه أمراً أو نهياً أو خبراً لا يخرجه عن كونه صفة للمتكلم كلون البياض والسواد والصفرة، ونحوها وكالطول والقصر، فإن جميع ذلك أعراض صفات للأجسام وهي معلومة معقولة لا يعقل الجسم إلا عليها، وكذلك الاحتراك والسكون والاجتماع والافتراق صفات للجسم المتحرك والساكن والمجتمع والمفترق وهي معلومة مدركة بالحس لا تقوم إلا بالجسم، ولا ينفك الجسم عنها وهي غير الجسم والمؤثر فيها الفاعل.
واعلم أن الكلام في هذين الأمرين قد تضمن إبطال الوجه الثاني والوجه الثالث من الوجوه التي ذكروها؛ لأنهما مبنيان على ما ذكروه في الوجه الأول من أن الكلام ذات موصوفة، وإذا بطل الأصل بطل ما ترتب عليه.
وأما الوجه الرابع: وهو أن الكائنية يصح فيها التزايد... إلخ فقد كفانا الجواب عنه ابن الملاحمي وما ذكروه في إبطال جوابه، فقال الإمام عز الدين عليه السلام : فيه نظر لأن ابن الملاحمي قصد إن تعذر نقله بكثرة الاعتمادات ولا كلام في كثرتها عند أن يسكنه الواحد منا لأنه يسكنه باعتمادات يوجدها فيما يسكنه به من يده أو غيرها فتوجد فيه اعتمادات بعدة ما أوجد في يده؛ لأن الاعتماد يولد الاعتماد، ويوجد فيه سكوناً متولداً عن الاعتماد لأن الاعتماد يولده إذا منع مانع من توليده للحركة. ذكره في المعراج.
وأما قولهم: إن الصفة التي بالفاعل لا يصح فيها التزايد بدليل صفة الوجود ...إلخ فجوابه أنهم لم يجعلوا الوجه في عدم تزايد صفة الوجود كونها بالفاعل فقط كما ادعوه هنا، بل ذكروا وجوهاً كثيرة مانعة من تزايده منها: أنه يلزم من ذلك أن يصح ثبوت وجهين للسواد في الوجود فيقابلان وجهي البياض، ثم كان يصح حصوله على أحدهما فلا يبقى البياض على الإطلاق، ومنها: أنه يلزم منه صحة مقدور بين قادرين لأنه يصح أن يكون على بعض صفات الوجود بقادر، وعلى البعض الآخر بقادر آخر إلى غير ذلك، وكثرة الوجوه تدفع قولهم هنا أنه لا وجه لعدم التزايد في الوجود إلا كونه بالفاعل فيلزم منه أن الكائنية لو كانت بالفاعل لما تزايدت عندهم، والوجه في أن كثرة الوجوه تدفع قولهم إنه لا يخلو إما أن يكون المانع من التزايد مجموع تلك الوجوه أو اثنين منها أو ثلاثة فهي غير موجودة في الكائنية أو كل واحد منها يحتمل أن يكون هو العلة، فلا وجه لقولهم هنا ولا وجه له إلا كونها بالفاعل، ثم إن المانع من تزايدها على هذا الوجه ما يلزم من صحة مقدور بين قادرين، وأنت خبير بأن من الأئمة" من يجيز ذلك، فلا يصح إلزامه بما يلتزمه، ثم لو فرضنا أن الوجه في عدم التزايد في صفة الوجود كونها بالفاعل فقط، فقد نفى التزايد في الكائنية ابن الملاحمي، وانتفى الفارق وثبت الحكم.
وأما ما قيل: من أن أقوى ما يستدل به على أبي الحسين وأصحابه أنه يلزمهم أن تتعلق قدرة الفاعل بلا شيء، فهو مبني على ثبوت ذوات العالم في الأزل، وأن القدرة لا تتعلق بها إلا إذا كانت ثابتة، وأبو الحسين وغيره من الأئمة والمعتزلة لا يحيلون ذلك بل يقولون بأن تعلق قدرة القادر بالمعدوم لا يحتاج إلى ثبوت تلك الذات في الأزل، وذلك مشهور عنهم فلم يلزمهم خصمهم إلا بمذهبه، مع أنه قد ادعى أنه أقوى ما يستدل به عليهم فما ظنك بغيره.
الوجه الرابع: احتج أبو الحسين على نفي المعنى بأن حصول الجسم في الجهة لو كان كائناً يكون موجباً لتلك الكائنية لكان الجهة المعينة أو لا، الثاني باطل وإلا لم يكن بإيجاب الحصول فيها أولى من إيجابه في غيرها لعدم الاختصاص، والأول يلزم منه الدور لأن حصوله فيها إنما يكون تبعاً لحصول محله لافتقار وجوده إليه، وذلك دور محض لأنه لا يحصل الكائن في الجهة إلا بعد حصول الكون فيها، ولا يحصل الكون فيها إلا تبعاً لحصول الكائن.
وأجاب الإمام المهدي عليه السلام بالتزام التوقف المذكور، ولا يلزم الدور لأنه توقف معية لا توقف زمان، أي لا يحصل الجسم في الجهة المعينة إلا عند حصول الكون فيها، وحصول الكون فيها غير متقدم على حصول محله، بل يثبت وجود الكون وحلوله وإيجابه في حالة واحدة من دون ترتب، ويمكن أن يقال: إن كلام الإمام عليه السلام وإن كان ظاهره الصحة في نفي الدور لكنه قد لزم منه محذور آخر وهو عدم تقدم المؤثر على الأثر، وذلك لا يعقل، ويصح أن يجعل هذا وجهاً في إبطال المعنى بأن يقال: لو كان حصول الجسم في الجهة كائناً بكون للزم مقارنة المؤثر للأثر في الوجود على التقدير الذي ذكره الإمام عليه السلام وحينئذٍ فما جعل الكون مؤثراً والكائنية أثراً بأولى من العكس، وهذا وجه ظاهر في إبطال هذا المعنى.
الوجه الخامس: في نفي كون هذه الأكوان معاني ما ذكره الدواري واستحسنه ابن حابس، وهو أن الحاصل في الجسم لا يخلو إما أن يكون جسماً أو معنى أو صفة، لا يجوز أن يكون جسماً لوجهين:
أحدهما: أن الواحد منا ليس بقادر على الجسم ولا يقف على اختياره، وكون الجسم متحركاً يقف على اختيارنا.
الثاني: أن كون الجسم متحركاً يتجدد ثبوته في حال بقاء الجسم والجسم لا يتجدد ثبوته في حال بقائه، ولا يجوز أن يكون معنى؛ لأن المعنى يعلم على انفراده، وكون المتحرك متحركاً لا يعلم على انفراده، وإنما يعلم تبعاً للعلم بذي الاحتراك فلم يبق إلا أنه صفة، وهذه الوجوه كافية في إبطال المعنى وتصحيح تأثير الفاعل في الكائنية، فإن قيل: هذه الوجوه إنما تفيد نفي المعنى، وأما تعيين الفاعل فلا فما الدليل على ذلك؟
قيل: يجاب بنحو ما تقدم عن القائلين بتعيين المعنى بأنه قد ثبت أنه لا بد من أمر، وقد بطلت الأقسام التي يشتبه الحال فيها إلا الفاعل إلى آخر التقرير السابق، وأيضاً فإن تأثير الفاعل متفق عليه في الجملة وغيره مختلف فيه، فإذا لم ينتهض على غيره دليل تعين.
تنبيه
قد مر أن المعتمد في حدوث الأجسام دليل الدعاوي، وأنه مؤسس على الأكوان، وغالب ما يحرر هذا الدليل على طريقة المعاني، بل قال أبو هاشم إنه لا يصح الاستدلال على حدوث الأجسام إلا بهذه الطريقة، ومنع من غيرها حتى قال: لا يصح العلم بحدوث الأجسام إلا على تقدير إثبات الأكوان.
قال ابن متويه: والأقرب خلافه يعني أنه يصح الاستدلال على حدوثها بطريقة الأحوال، وممن نص على ذلك القرشي وقال: سواء كانت بالفاعل كما يقوله أبو الحسين أو معنوية كما يقوله الجمهور، واحتج على ذلك بأن الاستدلال بالمعاني إنما هو من حيث كان لوجودها أول، ولم يخل منها الجسم، وذلك حاصل في الأحوال، بل ربما إن طريقة الأحوال أولى لأنها معلومة على الجملة ضرورة، وأنها هي الطريق إلى المعاني، ورجح القاضي طريقة المعاني لأنه يرد على طريقة الأحوال شبه لا يمكن حلها إلا بإثبات المعاني منها: أن يقال لمن ينفي المعاني إذا جاز أن يحترك الجسم يمنة دون يسرة لا لأمر، فهلا جاز في الأزل أن يكون الجسم في جهة لا لأمر.
وأجيب بأنا نقول: إنه لأمر وهو الفاعل، ولا يمكن إثبات المعاني إلا بعد إبطال كونه الصفة بالفاعل، ومنها أن الاستدلال بالأحوال ينبني على صحة خروج الموصوف عنها إلى غيرها، وإنما يعلم ذلك بإثبات المعاني الموجبة لذواتها، فيستحيل بقاء موجبها مع زوالها والعكس.
وأجيب: بأنه يمكن الاستدلال على صحة خروج الموصوف من دون إثبات المعاني بأن يقال: لو لم يصح خروج الموصوف عنها لكانت واجبة، فتكون ذاتية، ولو كانت ذاتية لاستحال خروج الجوهر عن الجهة التي هو فيها، ولوجب أن يكون في جميع الجهات إذ لا اختصاص لذاته ببعض دون بعض، ولزم في جميع الجواهر مثل ذلك، وكل ذلك باطل، ولا يحتاج في إبطاله إلى إثبات المعاني.
قيل: ابن الملاحمي وما ذكره القاضي دور لأنه جعل العلم باستحالة كون هذه الصفة ذاتية متوقفاً على العلم بإثبات المعاني، ومعلوم أن المعاني إنما تثبت بعد بطلان كونها ذاتية.
قلت: وكيفية الاستدلال بهذه الطريقة أن يقال: الجسم لم يخل من الكائنية الحاصلة بعد أن لم تكن ولم يتقدمها، وما لم يخل من الحاصل بعد أن لم يكن ولم يتقدمه كان حاصلاً مثله بعد أن لم تكن، وإذا كان كذلك كان محدثاً فهذه أربعة أصول، ويؤخذ تقرير كل أصل منها مما سبق.
الموضع الثالث: في شبه القائلين بقدم الأجسام
وهي في التحقيق شبه تفيد القول بقدم العالم كله كما يفهم من إيرادها، واعلم أن الشبهة هي ما التبس بالدليل وليس به وهي تنقسم إلى ما يكون العلم بحله من فروض الأعيان وإلى ما يكون من فروض الكفاية، فالأول ما ورد على أركان الدليل وقدح فيه، ومثاله هنا أن ترد شبهة على إحدى الدعاوي الأربع.
قال ابن متويه: وهي في الحقيقة لا تقدح، وإنما الغرض أن معها لا يسلم العلم بذلك المدلول، ومعنى قوله: إنه لا يسلم العلم معها أن صحة الدليل مترتبة على صحة مقدماته، ومع قدحها فيه يقع القدح في العلم بالمدلول لأن طريق العلم به هو الدليل، فإذا حصل لبس أو شك فيه انتفى العلم.
قال القرشي: ولسنا نشترط في العلم بحله أن يعلم كيفية التعبير عن حل الشبهة.
قلت: لعله يريد أن العلم بحله من فروض الأعيان، فإما أن نفس حله من فروض الأعيان، وأما التعبير فمن فروض الكفايات، وهذا الذي يظهر من كلام الإمام عز الدين عليه السلام ، فإنه قال: إنه لا كلام إن العلم بحله من فروض الأعيان، فأما أن نفس حله من فروض الأعيان فليس كذلك بل فرض كفاية، وهذا مع حصول الشك في الدليل فأما إذا وردت شبهة على ركن من أركان الدليل ولم يحصل لأجلها شك ولا قدح فلا يجب حلها إلا كفاية.
وقال الإمام عليه السلام : وقد قيل إن معارضة الدليل مما يقدح في العلم فينزل منزلة ما يرد على أركانه مثاله استدلال المجسمة على ذلك بأنه قادر عالم والقادر العالم لا يكون إلا جسماً معارضة لقولنا: قد ثبت أنه عالم قادر والعالم القادر لا يكون إلا حياً، فيكون العلم بحل هذه المعارضة فرض عين لحصول الشك معها.
قلت: وقد حلها أصحابنا بأنه من الغلط في تركيب القياس لأنهم اعتمدوا في ذلك على مجرد الوجود والاعتماد عليه في مثل هذه المسائل لا يصح وقد تقدم التنبيه على هذا.
وأما القسم الثاني: وهو ما يكون العلم بحله من فروض الكفاية فهو ما لا يقدح فيما ذكر بل يكون وارداً على المذهب فقط منفصلاً عن الدليل لا يخلو بشيء من أركانه ولا في العلم بمدلوله والوجه في ذلك أن الدليل باق على صحته وإفادته للعلم، وإنما وجب كفاية تحرزاً عن أن يدعو إلى اختيار الجهل إذ لا يؤمن ذلك فيكون حلها صارفاً عما تدعو إليه، وظاهر كلام السيد مانكديم والإمام المهدي عليهما السَّلام أن الجواب عن هذا القسم لا يجب أصلاً لأنها شبه منفصلة عن الدليل لا يقدح فيه ولا في العلم الحاصل عنه، ومنه هذه الشبه التي نحكيها في هذا الموضع إذ لا يقدح في علمنا بحدوث العالم لكمال العلم بدليله وإيصاله إلى العلم وإن لم يعلم جواب الشبهة بمصيرها كالتشكيك فيما علم ضرورة.
قال السيد (مانكديم): فإن عرف الجواب عنها حسن وإن لم يعرف لم يقدح في العلم بحدوث الأجسام.
إذا عرفت هذا فاعلم أن لهم شبهاً كثيرة، وقد أوردنا منها هنا سبع شبه:
الشبهة الأولى
قالوا: لو كان العالم محدثاً لاحتاج إلى فاعل، وفاعله إذا حصل فاعلاً بعد أن لم يكن فاعلاً، فلا بد من أمر له صار فاعلاً كطريقتكم في إثبات الأعراضوذلك الأمر محدث فيتسلسل إلى ما لا يتناهى، وذلك محال فما أدى إليه فهو محال.
والجواب أن الفاعل ليس له بكونه فاعلاً حال فيحتاج إلى مؤثر بل المرجع به إلى أنه وجد من جهته ما كان قادراً عليه وليس يجب إذا وجد من جهته ذلك أن يكون هناك معنى حتى يحتاج ذلك المعنى إلى محدث، ومحدثه إلى محدث فيتسلسل، فنحن نلتزم أنه حصل فاعلاً بعد أن لم يكن فاعلاً أي أوجد فعلاً لم يكن موجوداً، ولا يلزمنا افتقار إيجاده إلى مؤثر سوى قادريته دليله الواحد منا، فإنه يحصل فاعلاً بعد أن لم يكن وإن لم يكن هناك معنى فإن قيل: فالذي لأجله أوجد هل كان حاصلاً بكماله في الأزل لزم أن لا يتخلف عنه الإيجاد ضرورة أم لم يكمل في الأزل، فالذي كمله حادث يحتاج إلى مؤثر وينتقل الكلام إلى مؤثره فيتسلسل فيلزم المحال.
قيل: بل كان كاملاً في الأزل وهو القادرية والداعي ولا يلزم أن يقارن وجود الفعل وجود الفاعل وألا يخرج عن كونه فاعلاً لعدم وقوفه على اختياره والقادرية والداعي وإن أثرا في إيجاد الفعل فهما غير موجبين بل يؤثران على سبيل الصحة وذلك يوجب تقدمهما تقدماً حقيقياً.
نعم وكلاهما غير محدث، في حق صانع العالم أما القادرية فظاهر وأما الداعي فلأنه من قبيل عالميته، ولهذا انتفى التسلسل.
قال الإمام عز الدين عليه السلام : فإن قيل فقد حصل مؤثر لأجلهما بعد أن لم يكن مؤثراً لأجلهما فلا بد من أمر.
قلنا: ليس كونه مؤثراً مما يعلل إذ ليس له بكونه مؤثراً حال، وأورد الإمام المهدي عليه السلام هنا إشكالاً، وأجاب عنه ولفظه: فإن قيل إذا استحال وجود العالم في الأزل فقد حدثت له الصحة فيما لا يزال، فتكون حادثة تفتقر إلى مؤثر وصحة تأثيره فيها كذلك فيتسلسل أو يدور.
قلنا: لا نسلم حدوث الصحة بل هي ثابتة له في الأزل أي تثبت له في الأزل صحة وقوعه فيما لا يزال وحينئذٍ لا تفتقر الصحة إلى مؤثر إذ هي أزلية كذا في الدرر.
قلت: والذي يظهر أن غالب هذه الشبه والإشكالات لا ترد إلا على من يثبت التأثير لغير الفاعل.
الشبهة الثانية
أوردها ابن زكريا المتطيب الرازي، وهي أنه لو كان العالم محدثاً لكان له فاعل والفاعل الحكيم لا يفعل إلا لداعي وداعي الحاجة مستحيل عليه فتعين داعي الحكمة وهو علمه بحسنه، وانتفاع الغير به وذلك حاصل فيما لم يزل، فيقارنه الفعل وهو وجود العالم فيكون العالم قديماً.
فالجواب من وجوه:
أحدها: ما اعتمده الجمهور وهو أن داعي الحكمة لا يوجب الفعل ألا ترى أن أحدنا مع كونه عالماً بحسن الصدقة قد يتصدق في وقت دون آخر وبدرهم دون درهم، هذا مع حصول الداعي، فكذلك هاهنا فما ذكره ابن زكريا جهل.
الثاني: ذكره القرشي، وهو أنه الداعي إنما يدعو إلى ما يصح ووجود العالم في الأزل مستحيل فلا يدعو إليه الداعي، وتحقيقه أنه لا يكفي العلم بحسن الشيء وحصول النفع للغير أو لنفسه في كونه داعياً بل لا بد من أن يعلم أو يعتقد إمكانه ولهذا لا يقال: دعا أحدنا الداعي إلى أن يوجد لنفسه أو لغيره مالاً وبنين لما كان مستحيلاً من جهته وإن دعاه الداعي إلى أن يوجد ذلك من جهة الله تعالى صح لعلمه واعتقاده إمكانه فثبت أن علم الباري بحسن الفعل ليس بداع إليه إلا في حال إمكانه، ومتى أمكن فإنما يفعل فعلاً دون فعل وقدراً دون آخر وفي وقت دون وقت، وهذا سبيل داعي الحكمة كما مر في تصدق الواحد منا.
قال الإمام عز الدين عليه السلام : وهو جواب جيد ولم يذكره أصحابنا وفيه ما لا يجري في كلامهم من اشتراط الإمكان في الداعي بل قد صرح ابن متويه بأن أحدنا قد يدعوه الداعي إلى أمر مستحيل، وهو الذي تقتضيه حقيقة الداعي.
الوجه الثالث: ذكره أبو الحسين، وهو أن له داعياً إلى إحسانٍ ما، فأي وقت خلق الأحياء فيه فقد فعل ما دعى إليه الداعي، وظاهره أنه يقول بوجوب الفعل للداعي إلا أنه لا يوجب مقارنته بناءً على أصله وهو أنه يجب الفعل عند حصول الداعي وانتفاء الصارف وقد ذكرنا تأويل كلامه فيما مر، وإما أنه لا يوجب المقارنة فلما علم ضرورة من وجوب تقدم الفاعل على فعله وإلا بطل كونه فاعلاً.
الرابع: لابن الملاحمي وهو أنَّ له تعالى صارفاً فيما لم يزل عن خلق العالم وهو علمه باستحالة وجوده في الأزل.
الشبهة الثالثة
أنه لو استحال وجوده في الأزل كانت الاستحالة ذاتية وفي صحته فيما لا يزال خروج عن الذاتية وهو محال، فوجب أن لا يستحيل وجوده في الأزل فيصح لذاته وجوده فيه، وإذا صح وجب وقوعه وإلا صار بعد تراخيه مستحيل الوجود في الأزل، فيخرج عن الصفة الذاتية، هكذا أورد هذه الشبهة الإمام المهدي عليه السلام وأوردها السيد مانكديم على وجه آخر، وهو أنه لو كان العالم محدثاً لاستحال وجوده فيما لم يزل فلا بد من وجه للإستحالة وهو إما راجع إلى المقدور وهو باطل وإلا استحال وجوده فيما لا يزال أو إلى القادر وهو باطل أيضاً لهذا الوجه فوجب وجوده فيما لم يزل.
قلت: وإنما قال وإلا استحال وجوده فيما لا يزال لأن الوجه إذا كان أحد الأمرين كانت الاستحالة راجعة إلى أمر يرجع إلى ذات القادر أو المقدور وهما ثابتان في كل حال، أما القادر تعالى فظاهر وأما المقدور فالقول بثبوته في كل حال مبني على ثبوت ذوات العالم في العدم، وإذا كان الوجه راجعاً إلى أمر ذاتي وجب استمرار الاستحالة فيستحيل وجوده فيما لا يزال للوجه الذي استحال لأجله ووجوده في الأزل لأن ما يرجع إلى الذات لا يتخلف بل يستمر، والمعلوم أنه قد وجد ولا وجه يقتضي استحالة وجوده في الأزل فوجب وجوده فيه لما ذكره الإمام المهدي عليه السلام لهم هذا الذي ظهر لي في توجيه كلام السيد وتوضيحه وفوق كل ذي علم عليم.
وفي كلام القرشي في تقرير هذه الشبهة ما يقتضي ما فهمناه من توجيه كلام السيد ولفظه: قالوا لو استحال وجوده فيما لم يزل لم يخل وجه الاستحالة إما أن يرجع إلى القادر أو إلى المقدور أو إليهما وكله ثابت في كل حال، فيلزم استمرار الاستحالة وإذا عرفت المراد من هذه الشبهة على ما قرره الإمامان والقرشي، فلنأخذ في حلها فنقول:
الجواب: أن صحة وجوده فيما لا يزال ثابتة له في الأزل واستحالة وجوده في الأزل ثابتة له فيه، وفيما لا يزال فلم نجد عليه صحة ولا استحالة، وأما صحة وقوعه في الأزل فلم يثبت له في الأزل ولا فيما لا يزال، وأما ما حكاه السيد عنهم من أنه لا بد من وجه فجوابه من وجوه:
أحدها: أن يقال إن هذا الحكم لا يعلل إما لكون الاستحالة نفياً وإما لمانع آخر من التعليل كما في الحلول وغيره.
الثاني: أن نقول هو معلل بوجه لا نعلمه وليس الجهل بوجه الشيء يقدح في العلم به إذا ثبت بدليل.
الثالث: أنه معلل بوجه معلوم يرجع إلى المقدور وهو أنه لو وجد الجسم في الأزل انقلب جنسه، وصار المحدث قديماً وذلك محال أو إلى القادر فيقال: لو وجد الجسم في الأزل قدح في كونه قادراً لأن من حق القادر أن يكون متقدماً على ما فعله، ولو وجد في الأزل لم يصح هذا أو إليهما.
قال (القرشي): وهو وجوب تقدم القادر وتأخر المقدور من حيث يؤثر على جهة الصحة وإلا لم يكن قادراً ولا المقدور مقدوراً.
قال الإمام عز الدين عليه السلام : ثم إنا نعارضكم بالحادث اليومي فإنه كان مستحيلاً في الأزل ثم صار صحيحاً فيما لا يزال ولا محيد لكم عن مثل جوابنا.
قلت: وهو ما صدرنا به الجواب هنا قال: إلا أن يقولوا استحالة وجوده في الأزل إنما هي لزوال شرط وجوده وهو تقدم حوادث عليه لا لذاته فلم يخرج حين صح عن ذاتي لكنا نقول: إن ذلك يلزم في كل حادث فلا يتناهى ما يقف عليه كل حادث، وقد التزمت الفلاسفة ذلك لكنه يلزمهم أن لا يصح وجود الحادث لوقوفه على ما لا يتناهى.
الشبهة الرابعة
قالوا: حدوثه يستلزم أن يكون قبله عدم وهذا الحدوث حاصل بعده والقبلية والبعدية صفتان وجوديتان وليستا عبارة عن مجرد العدم والوجود، وإذا كانتا وجوديتين استلزمتا موصوفاً بهما لذاته ولا يتصف بكونه قبلاً أو بعداً لذاته إلا الزمان، فالزمان قديم ويلزم من قدمه قدم الحركة وقدمها يستلزم قدم المتحرك وربما قرروا هذه الشبهة على وجه آخر فيقولون: لو كان العالم محدثاً فلا بد له من محدث متقدم عليه بزمان لاستحالة التقدم بغيره وذلك الزمان إما قديم وإما محدث فيعود السؤال في محدثه فيتسلسل.
والجواب: أنا لا نسلم كون القبلية والبعدية صفتين للزمان كما ذكرتم فإنه ليس من ضرورة المتقدم أن يتقدم الزمان بدليل أنا نعقل تقدم الشيء على الشيء وإن لم يكن بينهما زمان كتقدم الليل على النهار والوقت على الوقت، فثبت أن القبلية والبعدية لا يستلزمان زماناً تكونان صفتين له وإنما الموصوف بهما المتقدم والمتأخر فمعنى وجد هذا قبل هذا أن وجود هذا وقع، ولما يثبت للمتأخر وجود وهذا بعد هذا، بمعنى أنه وجد وقد وقع وجود المتقدم فهما وصفان اعتباريان للمتقدم والمتأخر.
وأما قولهم: فلا بد من محدث متقدم عليه بزمان... إلخ، فقال القرشي في جوابه: وأما التقديم فتقدمه على المحدث بما لو كان زمان لكان بلا أول قال: ثم نقلب عليهم السؤال في الحوادث اليومية.
الشبهة الخامسة
قالوا: لا بد أن يكون القادر تعالى قادراً على إيجاد العالم قبل الوقت الذي أوجده فيه بمقدار عشرة أيام وإلا جاز عليه العجز أو على الممكن الاستحالة وكلاهما محالان، وإذا لزم قدرته على ذلك، فلمثله يلزم أن يكون قادراً على تقديمه بمقدار عشرين يوماً، فنقول: هل الحوادث التي لم يتسع لها إلا عشرون يوماً مثلاً يصح وجودها في العشر أولاً، الأول معلوم البطلان بالضرورة، والثاني يستلزم أن يكون قبل وجود العالم أمور وجودية بعضها أوسع من بعض وهو الزمان فلزم قدمه وهو يستلزم قدم العالم.
والجواب: أنه لا يلزم من تقدير شيء وقتين بعضهما أوسع من بعض حصول ذينك الوقتين في الوجود، فإن التقديرات ممكنة في المحالات فضلاً عن الجائزات ولا يلزم من تقدير شيء وجوده، ونحن إنما قلنا: إنه يصح تقدير تقدم العالم بما يقدر بأوقات بعضها أوسع من بعض وذلك لا يستلزم ما ذكرتم، وبنحو هذا يجاب بقولهم: إذا وجد العالم في وقت صح أن يتوهم وجوده قبله بوقت وقبل الوقت بوقت إلى ما لا أول له مع أن هذا كله مبني على أن الزمان ليس من العالم الذي هو محل النزاع، وقد مر أنه اسم لكل ما سوى الله تعالى فيتناول الزمان ويكون استدلالاً بمحل النزاع ومبني أيضاً على أن الزمان موجود فيما لم يزل، ونحن لا نسلمه، ولقد عارضهم أبو الهذيل فقال: يجب إذا رأينا شخصاً قاعداً على كرسي فلا وقت يشار إليه إلا ويصح كونه على هذه الحالة قبله، ولا يجب لأجل هذا أن نعتقد أنه كذلك لم يزل وفي هذا نقض لشبههم من أصلها، فإن أجازوا ذلك كابروا ومن العجب أن هذه الشبهة مبنية على التوهم ومع ذلك إن ابن الراوندي قال: إن أصح العلوم ما تكرر في الوهم وكيف يكون أصح العلوم وهو مبني على الوهم والوهم ظن مخصوص فكأنه قال: أصح العلوم ما يظن وكيف يجب من حيث يصح ظن قدم الأجسام أن تكون قديمة على أنه قد أثبت التفاضل في العلوم وهو باطل لاشتراك الكل في اقتضاء سكون النفس، وفي التعلق بالشيء على ما هو به.
الشبهة السادسة
أنه لو كان العالم محدثاً لكان القديم تعالى غير عالم بوجوده فيما لم يزل ثم حصل عالم بعد أن لم يكن عالماً، وفي ذلك تغيره وهو محال.
والجواب: أن العلم بأنه سيوجد علم بوجوده إذا وجد، ولهذا بحث آخر يخصه.
قال (القرشي): ثم يقال لهم أتريدون أن في ذلك تغير ذاته بمعنى أنها صارت غير ما كانت فهو لا يلزم، وإلا لزم في كون أحدنا عالماً بعد أن لم يكن، أو تريدون تغير صفته بمعنى أنها كانت متعلقة بأنه سيوجد ثم تعلقت بوجوده فصحيح، لكننا لا نسميه تغيراً.
الشبهة السابعة
تعلقت بها عوام الملحدة، وهي أنا لم نجد شيئاً إلا من شيء، فما رأينا بيضة إلا من دجاجة ولا دجاجة إلا من بيضة، فيجب أن يكون هكذا أبداً، وهذا يؤذن بقدم العالم إذ لو جوزنا خلاف ما شاهدنا وهو حدوث شيء لا من شيء لزم تجويز خلاف القضايا المطردة حتى يجوز أن يدرك الأعمى الذي بالصين في الليلة المظلمة بقة في الأندلس، وأن لا يبصر الصحيح البصر في النهار خيلاً عظيماً بحضرته، وحدوث العالم لا من شيء يستلزم ذلك فبطل.
والجواب: أنهم بنوا هذه الشبهة على غير أساس، وعدلوا بها عن سنن القياس كما قد نبهنا على ذلك في المسألة السابعة، فإنهم إنما أقاسوا على مجرد الوجود، وذلك لا يصح كما لا يصح أن يقول الزنجي إن العالم كله أسود لأني لم أجد إلا أسوداً، ثم إنا نقول: لا يخلو إما أن تكون الدجاجة والبيضة قديمتين معاً ففيه بطلان قولهم إذ لا يصح كون إحداهما من الأخرى، أو محدثتين فهو قولنا، أو إحداهما قديمة والأخرى محدثة بطل قولكم البيضة من الدجاجة والدجاجة من البيضة؛ إذ لا يكون القديم من المحدث، وفيه بطلان قولهم لأنهم يقولون: إنه لا يوجد شيء إلا من شيء.
قال (الإمام عز الدين) عليه السلام : وقد أجيب بجواب آخر هو أقطع للجاجهم، وهو أن يعكس كلامهم ويقال: بل بديهة العقل تحكم بأن حدوث شيء من شيء غير مقصور؛ لأن معنى ذلك أن يصير بعض الشيء شيئاً آخر وذلك لا يعقل، لأن ذلك الشيء إن بقي على حاله فلم يصر بعضه شيئاً آخر، وإن لم يبق على حاله فقد عدم وهو حدوث شيء آخر.
واعلم أن للقوم شبهاً غير ما ذكرنا، لكنها ظاهرة الضعف فلا نطيل البحث بما لا طائل تحته، وربما نأتي ببعضها في أثناء الكتاب حيث اقتضى المقام ذلك، وقد نبهناك على أنها شبه لا تقدح في شيء من أركان دليل حدوث العالم، بل هو دليل صحيح صريح، ولا شك أنه إذا صح الدليل لزم منه العلم بالمدلول فلا تقدح فيه الشبه المشككة في المدلول مع قضاء الدليل القطعي به وإن عسر التعبير عن حلها، فاجعل هذا أصلاً يرجع إليه، وفقنا الله وإياك لما يرضيه آمين.
المسألة التاسعة عشرة [في بيان أنه لا بد للمحدث من محدث مختار]
اعلم أن الآية كما قد تضمنت دليل حدوث العالم فقد تضمنت الدلالة على أنه لا بد له من محدث فاعل مختار، وذلك أن العالم اسم لما سوى الله، وإضافة الرب إليه تدل على افتقاره إلى غيره في وجوده وبقائه، وقد قيل: إن العلم بأن المحدث لا بد له من محدث ضروري لا يحتاج إلى نظر، رواه السيد محمد بن إبراهيم الوزير عن كثير من العقلاء.
وفي المعراج عن المؤيد بالله والإمام يحيى أن المعرفة قد تحصل ضرورة في الدنيا لبعض المكلفين كالأنبياء والأولياء فلا يجب عليهم النظر، وهذا محكي عن السيد حميدان وهو قول أبي علي الأسواري والجاحظ، إلا أنه يقول: إن النظر شرط اعتيادي، أي أجرى الله العادة أنه لا يخلق العلم في القلب إلا بعد أن يوجد العبد النظر، وفيما حكيناه عن أمير المؤمنين عليه السلام في الدليل على حدوث الأجسام من قوله: (وهل يوجد بناء من غير بان)، ما يدل على أن العلم بذلك ضروري، وكذلك قوله عليه السلام : (الذي تشهد له أعلام الوجود على إقرار قلب ذي الجحود). رواه في النهج.
قال (ابن أبي الحديد) في (شرحه): لا شبهة في أن العلم بافتقار المتغير إلى المغير ضروري، والعلم بأن المتغير ليس هو المغير إما أن يكون ضرورياً، أو قريباً من الضرورة.
قلت: وما قاله الشارح يدل على أن المعلوم ضرورة إنما هو كون المحدث لا بد له من مؤثرٍ مَّا، لا تعيين كونه الباري تعالى.
وقد حكى القرشي اتفاق العقلاء على ذلك، والجمهور على أن العلم بذلك استدلالي ولهم على ذلك أدلة:
أحدها: أن الجسم قد ثبت حدوثه، وإذا ثبت حدوثه احتاج إلى محدث كاحتياج أفعالنا إلينا، والعلة في احتياجها إلينا حدوثها وهو موجود في الجسم، فإذا كان الجسم قد شارك أفعالنا في العلة وجب أن يشاركها في الحكم وهو الاحتياج.
فإن قيل: ما الذي يدل على أن علة حاجة أفعالنا إلينا هو الحدوث؟
قيل: قد مر الدليل على ذلك في الاستعاذة، فإن قيل: إن حالة الحدوث هي حالة الاستغناء عن المحدث فكيف يجعل علة في الاحتياج إليه، بيان ذلك أن الاحتياج إنما هو في حالة العدم، والحدوث هو أول أحوال الوجود فلا يصح علة إذ من حقها المقارنة.
قيل: الحدوث علة كاشفة بمعنى أن الحدوث كشف عن الاحتياج إلى محدث، فهو كجعل صحة الفعل علة في كونه قادراً، ولا تشترط المقارنة إلا في العلة الموجبة، وقد أجيب بجواب آخر وهو أن العلة في الحقيقة كون هذا الشيء مما إذا وجد كان محدثاً، ويكون هذا هو المراد بالحدوث، وذلك سابق على الحدوث ومقارن لحالة الاحتياج إلى المحدث وهي حالة العدم، فإن قيل: هلا كانت هذه الحاجة من الأحكام التي لا تعلل فلا يصح القياس، قيل: قد ثبت أنها محتاجة إلينا وأن وجودها على سبيل الجواز فلا بد من أمر احتاجت إلينا لأجله، وإلا جاز وجود الجائز لا لمرجح وهو باطل، فإن قيل: تعليل الحاجة بالحدوث لا يصح لأنها إنما احتاجت في الحدوث، وإذا كان هو العلة فقد عللتم الشيء بنفسه.
قيل: إنما يكون كذلك لو عللنا الحدوث بالحدوث أو الحاجة بالحاجة وليس كذلك، وإنما قلنا: إن أفعالنا احتاجت إلينا لأجل حدوثها والحاجة غير الحدوث.
فإن قيل: مجرد الحدوث لا يوجب الحاجة إلى المحدث لجواز أن يكون واجباً، وهو أنه حدث لا لأمر كوجود واجب الوجود.
قيل: قد ثبت أن الحدوث عبارة عن الوجود مع الجواز لا مع الوجوب؛ لأنه وجد بعد وعدم كما مر، ولو كان وجوده واجباً لما تقدمه عدم إذ وجود الشيء لا لأمر يستلزم أزليته، وما قيل من احتمال وقوفه على شرط كالصفة المقتضاة فمدفوع بأنه لو وقف على شرط لكان ذلك الشرط لا يخلو إما أن يكون حادثاً لزم التسلسل؛ إذ الحدوث متماثل أو أزلياً لزم قدم العالم، وقد ثبت حدوثه فصح أن كل وجود بعد عدم لا يكون واجباً.
فإن قيل: هلا كانت العلة في الاحتياج هي الحدوث مع الجواز، وإذا حدث مع الوجوب لم يحتج.
قيل: قد مر أن الحدوث عبارة عن الوجود مع الجواز فكيف يصح أن يقال: حدث مع الوجوب، ثم إن بالحدوث فقط يعلم الاحتياج إلى محدث ولا يعتبر قيداً آخر، كما أن كون الفعل ظلماً يعلم قبحه ولا يعتبر حصوله مع الجواز، ولا غير ذلك من القيود.
وقد أجيب بأنه وإن كان حدوثها مع الجواز هو العلة في الحاجة، ولولا الجواز لما كان الحدوث علة، لكن ليس الجواز جزء علة وإن كان معتبراً على وجه الشرط، كما أنا عند العلم بالمتحركية نعلم الحركة وإن لم نعلم حصول المتحريكة على سبيل الجواز مع أنه هو الدليل الموصل إلى العلم بالحركة، وفي هذا الجواب تسليم أن الجواز من تمام وجه الحاجة.
فإن قيل: هذا الدليل كله مبني على القياس على أفعالنا وهي أعراض وأفعال الله تعالى أجسام وأعراض، فكيف يصح قياس الجسم على العرض مع أنه المقصود الأصلي في الاستدلال به على الباري تعالى؛ لأن من الأعراض ما لا يختص بالقدرة عليها الباري تعالى.
قيل: إذا ثبت اشتراكهما في علة الحكم لم يمتنع اشتراكهما في الحكم، وقد ثبت مشاركة الأجسام لتصرفاتنا في علة الاحتياج إلى محدث وهو الحدوث، فلم يمتنع القياس.
الدليل الثاني: ذكره الإمام المهدي عليه السلام تلخيصاً للدليل الأول على غير طريقة القياس، وهو أن يقال: إذا ثبت حدوث العالم والحدوث وجود مع الجواز لزم احتياجه إلى محدث كحدوث أفعالنا؛ إذ الحدوث متماثل في الذوات ولا يحتاج إلى ذكر علة للاحتياج؛ لأن ذلك ليس بقياس، بل من باب إلحاق التفصيل بالجملة استدلالاً، بيانه أن كل وجود على سبيل الجواز معلوم افتقاره إلى مؤثر وحدوث العالم وجود مع الجواز فافتقر إلى مؤثر، والشاهد وجود أفعالنا.
الدليل الثالث: ذكره بعض المعتزلة وبعض الأشاعرة، وهو أن العالم حدث مع الجواز، فلا بد من مؤثر وإلا لم يكن بأن يحدث أولى من أن لا يحدث كما تقدم في إثبات الأكوان، واستدلوا على أنه حدث مع الجواز بأنه لو كان حدوثه مع الوجوب لم يكن بأن يحدث في وقت أولى من وقت فيلزم قدمه والمفروض حدوثه، وبأنه لو حدث مع الوجوب لكان جنساً واحداً غير مختلف في صفاته والمعلوم خلافه، فإن بعضه حيوان وبعضه جماد وبعضه سماء وبعضه أرض وبعضه إنسان وبعضه فرس، ونحو ذلك فعلم أنه لا بد من أمر لأجله حدث في وقت دون وقت، وعلى صفة دون صفة وهو المطلوب.
قال (النجري): وهذا الدليل قوي لا يرد عليه شيء مما ورد على ما قبله.
قلت: وآخر هذا الدليل، وهو قوله وبأنه لو حدث مع الوجوب لكان جنساً... إلخ، مأخوذ من كلام أبي الحسين، وقد جعله دليلاً مستقلاً، وقد نبه عليه أمير المؤمنين عليه السلام كما مر في أدلة حدوث الأجسام، فإن قيل: قد ثبت حدوث العالم لكن ما الدليل على أن محدثه هو الله تعالى؟ قيل: لنا على ذلك أدلة كثيرة شهيرة منيرة، ونكتفي منها في هذا الموضع بدليلين:
أحدهما: ما دلت عليه الآية الكريمة، وهو أنها قد دلت على استحقاق رب العالمين للحمد، وقد مر أن الحمد فيها على الفعل الاختياري، فلو كان علة موجبه أو طبعًا أو نحو ذلك مما لا اختيار له لم يستحق حمدًا، إذ ما فعل بغير اختيار لا يعد نعمة، وما لا يكون نعمة فلا يستحق المؤثر فيه الشكر عليه، ألا ترى أن المنتفع بسخونة النار أو برد الماء لا يحمد النار ولا الماء؛ لما كان تأثيرهما بغير اختيار بل بالطبع.
الدليل الثاني: أن هذه الأجسام لا تخلو: إما أن تحدث نفسها حال عدمها وهو باطل؛ لأن المعدوم لا قدرة له فكيف يؤثر في نفسه، أو تحدثها حالة الوجود فهي مستغنية عن المؤثر.
والثاني وهو: أن يكون محدثها غيرها لا يخلو: إما أن يكون موجبًا أو مختارًا، الأول باطل؛ لأن ذلك الموجب إما أن يكون موجودًا أو معدومًا، الثاني باطل؛ لأن المعدوم لاحظ له في الإيجاب...سلمنا؛ لزم قِدم العالم؛ لأن العدم مع الموجودات على سواء، والمفروض أنه موجب، والأول: إن كان محدثًا عاد الكلام فيه وفي محدثه حتى ينتهي إلى المختار أو يتسلسل، وإن كان قديمًا لزم حصول الأجسام لم تزل؛ لأن من حق المعلول أن لا يتراخى عن علته، ولزم أن تحصل دفعة، بل في كل الجهات إذ لا يخصصها بوقت دون وقت، ولا جهة دون أخرى إلا المختار، ولزم أن يكون بصفة واحدة، إذ ليس الموجب بتخصيص بعض الأجسام بكونه ماءً، والآخر ترابًا ونحو ذلك بأولى من العكس كما مر في كلام الوصي عليه السلام ، وأيضًا لو كان المؤثر موجبًا لما تغيرت آثاره، والمعلوم تغيرها.
قال (الرازي): إنما عرفنا كونه فاعلاً مختارًا؛ لأنه لو كان موجبًا لدامت الآثار والمعلولات بدوام المؤثر الموجب ولأَمتنع وقوع التغير فيها، وحيث شاهدنا حصول التغيرات علمنا أن المؤثر فيها قادر بالاختيار لا موجب بالذات.
والثاني وهو: أن يكون ذلك الغير مختارًا لا يخلو: إما أن يكون ذلك المختار من القادرين بقدرة أو مخالفًا لهم، الأول باطل، إذ لا يصح من جسم إحداث جسم، وإلا لصح منا أن نخلق لأنفسنا ما نشاء من المال والبنين، والمعلوم خلافه؛ لأنه لو صح منا لكان إما على جهة المباشرة أو التعدي أو الاختراع، والكل مستحيل.
أما الأول: فلأن المباشر ما وجد بالقدرة في محلها، والمتعدي ما وجد بالقدرة في غير محلها بواسطة فعل في محلها، والجسم لا يصح حلوله في جسم آخر، وإلا لزم التداخل.
وأما الثالث: فمعلوم الاستحالة أيضًا، وإلا لم يكن جهة أولى به من جهة، ولا وقت أولى من وقت لعدم المخصص فيلزم صحة وجوده في جهات في وقت واحد، ويلزم وجود الأجسام الكثيرة في جهة واحدة في وقت واحد، وذلك محال.
فإن قيل: اختيار الفاعل يخصص وجوده بجهة دون جهة ووقت دون آخر كما في صدور الأجسام عن القديم تعالى فلا يلزم المحال المذكور؟ قيل: المعلوم أنه قد يصدر عن أحدنا الفعل وهو غير عالم به كالساهي والنائم ولا اختيار لهما فيلزم هذا المحال، وتعين أنه لا فاعل لهذه الأجسام إلا الله الواحد القهار الذي لا تأخذه سنة ولا نوم، ولا يعزب عنه مثقال ذرة في السماوات ولا في الأرض العليم الحكيم.
وقد استدل بعض أصحابنا على أنه لا يصح أن يكون ذلك المختار من القادرين بغير قدرة بدليل آخر وهو: أن القدر وإن اختلفت فمقدوراتها متجانسة حتى لا جنس يصح أن يفعل بقدرة إلا ويصح أن يفعل مثله بقدرة أخرى، وإلا لجوزنا أن يقدر أحدنا على حركة يمنة فرسخًا ولا يقدر على حركة يسرة ذراعًا لفقد قدرته، والمعلوم ضرورة امتناع ذلك، وإن كانت متجانسة، فلو جوزنا قدرة على الأجسام لجاز من أحدنا إيجاد جسم بما فيه من القدرة؛ لأن مقدوراتها إنما تجانست لكونها قدرًا وهي مشتركة في كونها قدرًا فاشتركت في تجانس المقدور، ولما علمنا بالضرورة عدم قدرة أحدنا على إيجاد جسم، قطعنا بأن صانع العالم ليس بجسم، وهاهنا سؤال وهو أن يقال: يجوز أن يكون تعذر الفعل منا إنما هو لفقد أمر فينا نحو: أن نجوز أن ثم قدرة على الفعل لم يخلقها الله لنا بحيث لو قدرنا وقوع ذلك الأمر لصح منا فعل الأجسام، ومع هذا التجويز لا نقطع بعدم الصحة، فضلاً عن كونه ضروريًا.
أجاب الإمام المهدي عليه السلام : بأنا نعلم تعذر فعل الأجسام منا على حد علمنا بتعذر الجمع بين الضدين وجعل القديم محدثًا، فلو جوزنا أن تعذر الأجسام لما ذكرتم لجوزنا تعذر الجمع بين الضدين وجعل القديم محدثاً لذلك، وذلك يستلزم تجويز المحالات كجعل الجسم أسود أبيض في حالة واحدة.
فإن قيل: وجود الجسم جائز واجتماع الضدين محال، فلا يصح القياس، قيل: قد استويا في العلم باستحالتهما كما بينا، فلو جوزنا وجود قدرة فينا تؤثر في إيجاد الجسم لجوزنا مثل ذلك في الجمع بين الضدين لاتفاقهما في العلم باستحالتهما.
واعلم أن الأدلة على أن الله تعالى هو الذي أوجد العالم واخترعه كثيرة متنوعة، وقد اكتفينا في هذا الموضع بهذين الدليلين؛ لأنهما لا شك موصلان إلى المطلوب، ومع ذلك إنا في الاهتمام بالنظر في كتاب الله وأخذ الهدى منه والاقتفاء لما نبه عليه فيه من الدلائل، ونحن نرجوا الله أن يبلغنا الأمل في ذلك، ولا شك أن القرآن قد تضمن من الطرق الموصلة إلى معرفة الله سبحانه ما لا يوجد قط في غيره، ولا نهتدي نحن ولا غيرنا إلى أحسن مما دلنا الله عليه في كتابه، وقد حث الله على ذلك في آيات كثيرة، ولو لم يكن إلا قوله تعالى: {إِنَّ هَذَا الْقُرْآنَ يَهْدِي لِلَّتِي هِيَ أَقْوَمُ}[الإسراء:9]، وفي كلام النبي صلى الله عليه وآله وسلم ووصيه وعترته كثير من الحث على الاكتفاء بالقرآن، وقد تضمن كتابنا هذا شطرًا من كلامهم، وفي كلام بعضهم أنه لا دليل على الله أعظم من كتابه، وقال بعض العلماء لما أخذ في الاستدلال على وجود الباري تعالى: إن أول ما يستضاء به من الأنوار، ويسلك من طريق الاعتبار ما أرشد إليه القرآن، فليس بعد بيان الله سبحانه بيان، ثم أخذ في الاستدلال بالآيات القرآنية المنبهة على كيفية الاستدلال على إثبات الصانع، ثم أعقب ذلك بدليل الدعاوى المتقدم، ولأجل ما ذكرنا اكتفينا بهذين الدليلين في هذا الموضع، وإن كان فيهما إجمالاً من حيث إنهما تضمنا الاستدلال بالعالم جملة، وأخرنا الاستدلال بما اشتمل عليه العالم من التفاصيل إلى مواضعه من كتاب الله.
تنبيه [في الاستدلال على ثبوت الصامع]
اعلم أن المعتمد في الاستدلال به على ثبوت الصانع المختار جل وعلا هو الأجسام لوجوه:
أحدها: أنه قد مر أن من الأعراض ما لا يختص بالقدرة عليه الباري تعالى.
الثاني: أن الأجسام معلومة ضرورة جملة وتفصيلاً، وليس كذلك الأعراض.
الثالث: أن الاستدلال بالأجسام يتضمن ثبوت الأعراض وحدوثها.
المسألة العشرون [في الدلالة على قدرة الله تعالى]
اعلم أن هذه الآية كما دلت على إثبات الصانع المختار تعالى فقد تضمنت الدلالة على أنه قادر؛ لأنه قد ثبت أنه تعالى الذي أوجد العالم وصنعه، وصحة هذا الفعل منه توجب كونه قادرًا؛ إذ العاجز الضعيف لا يمكنه إيجاد الفعل ضرورة، وقد بينا إبطال القول بأن المؤثر في العالم موجب من علة وغيرها، ويؤكد ذلك أن العالم كثير التغير والتقلب من حالة إلى أخرى، وكل أحد يعلم ذلك من نفسه ضرورة، فإنه تارة في الصحة وتارة في الألم، وتارة في الصغر، وتارة في الكبر إلى غير ذلك من التغيرات، وهذه التغيرات كما تدل على وجود الآلة لحدوثها بعد عدمها، والفطرة السليمة تشهد بذلك بدليل أنا لو سمعنا أن بيتًا حدث بعد أن لم يكن، فإن صريح العقل يشهد بأنه لا بد له من بانٍ أوجده وبناه، ولو أن إنسانًا شككنا فيه لم نشك، فكذلك تدل على أن فاعلها قادر كفاعل البيت، فصح أن دلالة الآية على أن الله تعالى الذي أوجد العالم يتضمن الدلالة على كونه قادرًا، وكما تضمنت الدلالة على ذلك فقد تضمنت الدلالة أيضًا على أنه عالم لما في العالم من الإحكام والإتقان والتدبير العجيب، وتضمنت أيضًا الدلالة على أنه تعالى حي؛ إذ القادر العالم لا يكون إلا حيًا على كونه قديمًا، وإلا لاحتاج إلى محدث، ومحدثه إلى محدث إلى ما لا نهاية له، وذلك محال.
وفي الآية أيضًا دلالة على تنزيه ذات الله عن المكان والزمان، والحلول في أي محل كان؛ لأنا قد بينا أن العالم اسم لكل موجود سوى الله تعالى، وقد ثبت أنه رب العالمين ومحدثه وخالقه، والخالق سابق على وجود المخلوق ضرورة، ومتى كان الأمر كذلك كانت ذاته موجودة قبل حصول الفضاء والفراغ الذي هو عبارة عن الجهة، وقبل الزمان الذي هو عبارة عن المدة التي يحصل بسببها القبلية والبعدية، وقبل كل محل؛ إذ لو حل بعد وجود المحل في جهة منه لانقلبت حقيقة ذاته، وذلك محال.
وفي هذا رد لقول المجسمة؛ لأن قولهم يستلزم الحاجة إلى المحل، وقول النصارى: باتحاده بالمسيح عليه السلام ، وقول الحلولية.
ومما تدل عليه الآية ما تذهب إليه العدلية من نسبة الأفعال إليهم؛ لأن التربية المشار إليها في الآية الإحسان إلى العالمين، ولذا جعلها كالعلة في استحقاق الحمد، فلو خلق الكفر في الكافر ثم عذبه عليه، وطلب منه الإيمان ثم منعه منه لم يكن محسنًا، وبما قررنا في هذه المسائل المتعلقة بهذه الآية الكريمة تعرف صحة القول بأنها بحر لا ساحل له.
وهكذا شأن كتاب الله عز وجل، فإنه قد اشتمل على العلوم بأسرها دقيقها وجليلها مع اختصار وإيجاز، اللهم ارزقنا فهم معانيه، ويسر لنا العمل بما فيه، آمين، وصل يا رب وسلم على محمد وآله.
المسألة الحادية والعشرون [خواص آية الحمد لله رب العالمين]
في شيء من فضائل هذه الآية وخواصها وفضائل الحمد، قد مر من ذلك حديث علي عليه السلام ، وأحاديث أخر في المسألة السادسة، ويكفي في فضلها أنها مفتاح كتاب الله، وآخر دعوى أهل الجنة، وفي كتاب الذكر عن جابر بن عبدالله قال: قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم : ((من قال الحمد لله رب العالمين ملأ نورها الأرض، فإذا قالها الثانية الحمد لله رب العالمين ملأ نورها السماء والأرض، فإذا قالها الثالثة الحمد لله رب العالمين ملأ نورها السموات، فإذا قالها الرابعة الحمد لله رب العالمين نظر الله إليه، وما نظر إلى عبد إلا رحمه)). وأخرج البخاري في الأدب المفرد عن ابن عباس قال: إذا عطس أحدكم فقال: الحمد لله قال الملك: رب العالمين، فإذا قال: رب العالمين، قال الملك : يرحمك الله. وأخرجه الطبراني في الكبير والأوسط من حديثه مرفوعًا، وحسنه العزيزي إلا أنه قال: الملائكة بدل الملك.
واعلم أنها تنبغي المحافظة على هذا الذكر عند العطاس للفوز بدعوة الملك، وفي الجامع الصغير عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم : ((إذا عطس أحدكم فليقل: الحمد لله رب العالمين، وليقل له: يرحمك الله، وليقل هو: يغفر الله لنا ولكم)) ونسبه إلى الطبراني في الكبير، والحاكم والبيهقي في الشعب من حديث ابن مسعود، وإلى أحمد وأبي داود والترمذي والنسائي والحاكم والبيهقي في الشعب من حديث سالم بن عبيد الأشجعي من أهل الصفة.
قال (العزيزي): وهو حديث صحيح، وأخرج البخاري في الأدب وابن السني وأبو نعيم كلاهما في الطب النبوي عن علي عليه السلام قال: من قال عند كل عطسة سمعها الحمد لله رب العالمين على كل حال ما كان لم يجد وجع الضرس والأذن أبدًا.
وأخرج الحكيم الترمذي عن واثلة بن الأسقع قال: قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم : ((من بادر العاطس بالحمد لم يضره شيء من داء البطن)) وأخرج ابن جرير والحاكم في تاريخ نيسابور، والديلمي بسند ضعيف عن الحكم بن عمير وكانت له صحبة، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم : ((إذا قلت الحمدلله رب العالمين فقد شكرت الله فزادك)) وأخرج ابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم من طرق عن ابن عباس قال: الحمدلله كلمة الشكر، إذا قال العبد: الحمدلله، قال الله: شكرني عبدي.
وأخرج الترمذي وحسنه، والنسائي وابن ماجة وابن حبان والبيهقي في الشعب عن جابر بن عبدالله، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم :((أفضل الذكر: لا إله إلا الله، وأفضل الدعاء: الحمدلله)) وأخرجه أيضًا الحاكم وصححه، ويستفاد من الحديث أن قول العبد: لا إله إلا الله أفضل من قوله: الحمدلله؛ لأن الحمد ذكر، وإنما سماه دعاءً مجازًا، لأن الدعاء عبارة عن طلب الحاجة من الله تعالى، ولما كان الحمد إذا وقع في مقابلة نعمة وحمد الباري لا يكون إلا كذلك كان شكرًا، والشكر يتضمن الطلب للزيادة الموعود بها في قوله تعالى: {لَئِنْ شَكَرْتُمْ لاََزِيدَنَّكُمْ}[إبراهيم:7 ]وقد اختلف العلماء في تفضيل إحدى الكلمتين على الأخرى، فذهب بعضهم إلى ما ذكرنا لهذا الخبر، ولقوله صلى الله عليه وآله وسلم : ((أفضل ما قلته أنا والنبيون من قبلي: لا إله إلا الله وحده لا شريك له))، ولأنها كلمة التوحيد، وعليها يقاتل الخلق، ولأن الإيمان لا يصح إلا بها، وذهبت طائفة إلى تفضيل قوله: الحمدلله رب العالمين؛ لأن في ضمنه التوحيد الذي هو: لا إله إلا الله، ففيه توحيد وحمد، وأخرج البيهقي عن أنس عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قال: ((التأني من الله والعجلة من الشيطان، وما شيء أكثر معاذير من الله، وما شيء أحب إلى الله من الحمد)) وذكر في الجامع صدره إلى قوله: والعجلة من الشيطان، ونسبه إلى البيهقي.
قال (العزيزي): وفيه ضعف وانقطاع، التأني: التثبت في الأمور، والعجلة: خفة وطيش تجلب الشر وتمنع الخير، والمعاذير: جمع معذرة، وهي إزالة العذر.
وأخرج البيهقي عن علي عليه السلام قال: بعث رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم سرية من أهله، فقال: ((اللهم لك علي إن رددتهم سالمين أن أشكرك حق شكرك)) فما لبثوا أن جاءوا سالمين، فقال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم : ((الحمدلله على سابغ نعم الله)) فقلت: يا رسول الله، ألم تقل إن ردهم الله: أن أشكره حق شكره؟! فقال: ((أولم أفعل؟)).
وأخرج ابن أبي الدنيا في كتاب الشكر، وابن مردويه والبيهقي من طريق سعد بن إسحاق بن كعب بن عجرة عن أبيه عن جده قال: بعث رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم بعثًا من الأنصار، وقال: ((إن سلمهم الله وغنمهم فإن لله عليّ في ذلك شكرًا)) فلم يلبثوا أن غنموا وسلموا، فقال بعض أصحابه: سمعناك تقول: إن سلمهم الله وغنمهم فإن لله عليّ في ذلك شكرًا ؟! فقال: قد فعلت، قلت: ((اللهم لك الحمد شكرًا، ولك المن فضلاً)).
وأخرج الطبراني في الأوسط بسند ضعيف عن النواس بن سمعان قال: سرقت ناقة رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فقال: ((لئن ردها الله لأشكرن ربي))، فوقعت في حي من أحياء العرب فيهم امرأة مسلمة، فوقع في خلدها أن تهرب عليها، فرأت من القوم غفلة فقعدت عليها ثم حركتها فصبحت بها المدينة، فلما رآها المسلمون فرحوا بها وفشوا بمجيئها حتى أتوا رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ، فلما رآها قال: الحمدلله، فانتظروا هل يحدث رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم صومًا أو صلاة، فظنوا أنه نسي، فقالوا: يا رسول الله، قد كنت قلت: لئن ردها الله لأشكرن ربي ؟! قال: ألم أقل: الحمدلله. الخلد: بفتحتين: البال، يقال: وقع ذلك في خلدي أي: في قلبي.
وأخرج البيهقي وأبو نعيم في الحلية عن جعفر بن محمد قال: فقدَ أبي بغلته، فقال: لئن ردها الله عليّ لأحمدنه بمحامد يرضاها، فما لبث أن أتي بها بسرجها ولجامها فركبها، فلما استوى عليها رفع رأسه إلى السماء فقال: الحمدلله، لم يزد عليها، فقيل له في ذلك؟ فقال: وهل تركت شيئًا أو أبقيت شيئًا، جعلت الحمد كله لله عزوجل.
والأحاديث والآثار في المسألة كثيرة قد اشتملت عليها كتب الحديث وغيرها.
وهاهنا سؤال وهو: أن جملة الحمد خبرية، والإخبار: بثبوت شيء لشيء لا يستلزم حصول ذلك الشيء من المخبر، فالإخبار بأن الحمد لله لا يستلزم حصول الحمد من المخبر، كما أن الإخبار بقيام زيد لا يستلزم حصول القيام؟ وأجيب بأجوبة منها: أن هذه الصيغة قد نقلت شرعًا من الخبر إلى الإنشاء كما في صيغ العقود.
ومنها: أن الإخبار بثبوت جميع المحامد لله تعالى عين الحمد كما أن قول القائل: الله واحد عين التوحيد، ومنها: أن المراد بها: الإنشاء على جهة التجوز لاستعمالها في غير ما وضعت له، فهي خبر واقع موقع الإنشاء بدليل: أن المتكلم بها لم يقصد الإخبار بل قصد تعظيم الله وشكره. ومنها: أنها باقية على معناها الأصلي وهو: الإخبار، لكن ذلك الإخبار مفيد للمدح إما على القول بأن أل: للعموم فظاهر؛ لأن الإخبار باستحقاقه تعالى لجميع المحامد وصف له بجميل، فيكون حمدًا. قيل:وعلى هذا فيكون محل كون المخبر بالشيء ليس آتيًا بذلك الشيء ما لم يكن الإخبار فردًا من أفراد المخبر عنه كما هنا، وإما على القول بأنها موضوعة للإخبار بوقوع الحمد لله من الغير من دون نظر إلى الاستغراق، فلأن الإخبار بذلك يستلزم اتصافه تعالى بالكمال، فيكون حمدًا بهذا الاعتبار. والله أعلم.
تفسير الآية الثالثة من سورة الفاتحة{الرحمن الرحيم}
قوله تعالى: {الرحمن الرحيم}
قد تقدم الكلام على هذين الاسمين، ويتعلق بهما هنا ثلاث مسائل:
المسألة الأولى
قال أهل العدل في وصف الله تعالى بهما دليل على ما نذهب إليه من نسبة أفعال العباد إليهم، إذ لا يكون رحمانًا رحيمًا من خلق الكفر في الكافر ثم عذبه عليه، ومن أمر بالإيمان ثم منع منه، وأجابت الجبرية: بأن الإيمان أعظم أنواع النعمة والرحمة، فلو كان من العبد لكان أحق بهذين الاسمين، وهذا الجواب واضح البطلان؛ لأنا قد بينا أن الإيمان ليس بنعمة؛ لأنه فعل العبد، وإنما يستحق الباري الحمد عليه لدعائه إليه وتمكينه منه، وإذا كان فعلاً للعبد، فالنعمة لا تكون نعمة إلا إذا كانت منفعة، واصلة إلى غير فاعلها، فبطل أن يكون الإيمان بالنظر إلى ذاته نعمة فضلاً عن أن يكون أفضل النعم، وأيضًا قد ثبت أن الله تعالى متفضل بإيجاد الخلق وكيف يكون متفضلاً، والمفروض أنه خلقهم للنار تعالى الله عن ذلك.
المسألة الثانية
قد مر أن ما ينزله الله تعالى بخلقه من الآلام والنقائص لا ينافي وصفه بالرحمة، وقد ذكر الرازي وتبعه النيسابوري في هذا الموضع ما يؤيد ذلك، ويدل على إقرارهما بأن أفعال الله تعالى مبنية على الحكمة كما هو مذهب أهل العدل، وحاصل كلامهما: أن من الأفعال ما يظن أنه رحمة، وليس كذلك، وذلك كالوالد إذا أهمل ولده عن التعليم والتأديب فإن ظاهره رحمة وباطنه عذاب ونقمة، ومنها: ما ظاهره العذاب والنقمة وهو في الباطن رحمة كقطع اليد المتآكلة، وضرب الولد لتعليم حرفة أو تأديب، فالأبله ينظر في الظواهر، والعاقل ينظر في السرائر، إذا عرفت هذا فكل ما في العالم من محنة وبلية فهو وإن كان في الظاهر عذاباً ونقمة فهو في الحقيقة حكمة ورحمة.
قال (الرازي): فالمقصود من التكاليف تطهير الأرواح عن العلائق الجسدانية كما قال تعالى: {إِنْ أَحْسَنتُمْ أَحْسَنتُمْ لِأَنفُسِكُمْ}[الإسراء:7] والمقصود من خلق النار صرف الأشرار إلى أعمال الأبرار، وجذبها من دار الفرار إلى دار القرار كما قال تعالى: {فَفِرُّوا إِلَى اللَّهِ}[الذاريات:50 ]وأقرب شاهد لهذا قصة موسى والخضر، فإن موسى بنى على الظاهر، فأنكر ما فعله الخضر، والخضر بنى على الحقيقة فظهر بهذا: أن الحكيم المحقق هو الذي يبني على الحقائق لا على الظواهر، فإن ترك الخير الكثير لأجل الشر القليل شر كثير، فإذا رأيت ما تكرهه فاعلم أن تحته أسراراً خفية وحكمًا بالغة، وأن حكمته ورحمته اقتضت ذلك.
المسألة الثالثة
استدل ابن جرير بتكرير هذين الاسمين على أن البسملة ليست بآية من الفاتحة؛ لأنه لا يوجد في القرآن تكرير آية بلا فصل، وأجاب عما قيل: بأن الفاصل قوله الحمد لله رب العالمين بأنه من التقديم والتأخير، وأن الأصل: الحمد لله الرحمن الرحيم رب العالمين ملك يوم الدين، إذ الأولى مجاورة وصفه بأنه ملك أو مالك ليوم الدين ما هو نظير له وهو قوله: رب العالمين الذي هو خبر عن ملكه لجميع الخلق، والمناسب للثناء عليه بالحمد ما يدل على الثناء وهو الرحمن الرحيم، قالوا: والتقديم والتأخير كثير في كلام العرب ؟ والجواب: إن هذا عدول عن الظاهر لغير موجب، وما ذكره من المناسبة معارض بنكتة مبنية على ما يقتضيه الظاهر تزيد السورة قوة في جزالة اللفظ والمعنى، وهي: أنه لما كان في وصفه برب العالمين ترهيب أتبعه بالترغيب في عموم رحمته ليجمع بين الترغيب والترهيب فيكون أدعى إلى الطاعة، وأمنعَ لمواقعة المعصية، ولها نظائر في القرآن كثير، فإنه يقرن الوعد بالوعيد، والترغيب بالترهيب كما قال تعالى:{ نَبِّئْ عِبَادِي أَنِّي أَنَا الْغَفُورُ الرَّحِيمُ، وَأَنَّ عَذَابِي هُوَ الْعَذَابُ الأَلِيمُ}[الحجر:50] ثم إنه لو سلم لهم ما ادعوه من التقديم والتأخير فلا نسلم أن عدم الفاصل دليل على أن البسملة ليست بآية إذ لا مستند لهم في ذلك، إلا أنه لا نظير لها في القرآن، وذلك لا يدل على عدم الجواز، بل الدليل قائم على جواز التأكيد والتكرير وحسنهما، إذ الكلام إذا تكرر تقرر، والتأكيد عند العرب معلوم، مع أن هذه الآية نفسها دليل على ذلك؛ لأنه قد قيل: إن معنى الاسمين واحد، وإنما جمع بينهما للتأكيد، ولا فرق بين تكرير الآية وتكرير الكلمة، ولا بين اللفظي والمعنوي.
قال بعضهم: وفي التوكيد أعظم الفائدة، وهو كثير في كلام العرب، ويستغنى عن الاستشهاد، والفائدة في ذلك ما قاله بعضهم: من أنه تفضل بعد تفضل، وإنعام بعد إنعام، وتقوية لمطامع الراغبين، ووعد لا يخيب آمله.
تفسير الآية الرابعة من سورة الفاتحة
{مالك يوم الدين}
قوله تعالى: {ملك يوم الدين}
قرأ السبعة: ملك، ومالك، والفرق بينهما من جهة اللغة: أن الملِك بكسر اللام مأخوذ من الْمُلْك بضم الميم وسكون اللام، والمالك مأخوذ من الْمِلك بكسر الميم، والْمُلك بالضم أعم؛ لأنه يقال في كل من يقدر على التصرف المطلق: أنه ملك، ولا يقال: مالك إلا في القدرة على تصرف مخصوص، ولذا يقال: مالك الدرهم والدينار، ولا يقال: ملكهما، ولأن أمر الملك نافذ على المالك في ملكه، ويوم الدين: يوم الجزاء، واليوم في الأصل: عبارة عن وقت طلوع الفجر إلى وقت غروب الشمس، فاستعير فيما بين مبتدأ القيامة إلى وقت استقرار أهل الدارين فيهما، وفي الآية مسائل:
المسألة الأولى [الدلالة على ملك الله تعالى]
دلت الآية على صحة وصفه تعالى بأنه مالك، ولا خلاف في ذلك، وإنما الخلاف: هل هو من صفات الذات أو من صفات الفعل؟
فقال (الإمام المهدي)، وحكاه عن أصحابنا: أنه صفة ذات بمعنى: قادر.
وقال الإمام (القاسم بن محمد) عليه السلام : هو صفة ذات، لكن لا بمعنى قادر، بل باعتبار كون المملوك له تعالى، وقال المرتضى وأبو القاسم البلخي ومن وافقهما : بل صفة فعل، احتج الأولون بوجوه:
أحدها: أن المالك في اللغة هو من يملك التصرف التام من غير عجز ولا منع، وهذا هو معنى القادر، واستدلوا على أن معناه في اللغة: ما ذكر بقوله تعالى:{ لاَ أَمْلِكُ لِنَفْسِي نَفْعاً وَلاَ ضَرًّا}[الأعراف:188 ]ونحوها... والمراد بالملك هنا: القدرة بلا إشكال.
الثاني: أنه قد وصف نفسه بأنه مالك يوم الدين، ويوم الدين معدوم لا يمكن التصرف فيه، فلم يبق إلا أن المراد أنه قادر على إيجاده، فإن قيل: المريض المدنف يسمى مالكًا وإن لم يكن قادرًا، وهذا يدل على أن معناه المستحق للتصرف؟ قيل: أما أصل وضعه فهو كما ذكرنا، وحيث استعمل بمعنى استحقاق التصرف فهو على جهة الاستعارة، فوصف المريض بأنه مالك لأجل كون غيره ممنوعًا من التصرف في ماله، فكأنه غير قادر عليه، وذلك يستلزم أن ينزل المريض منزلة القادر؛ لأنه غير ممنوع، كما أن الصبي لما كان غير ممنوع من الانتفاع بماله كان كأنه قادر عليه دون غيره.
احتج الإمام القاسم عليه السلام : أما على أنه صفة ذات فبالآية كما قال الأولون، وأما على أنه ليس بمعنى قادر فلأنه لا يدل على معنى قادر بالمطابقة؛ لأن معناهما مختلف، إذ معنى مالك: من يملك الأشياء ولا يمنع منها، ومعنى قادر: من يصح منه إيجاد الفعل.
وأما قولهم: إنه من يملك التصرف التام من غير عجز فلا نسلم أن ذلك معنى قادر المطابق، وإنما معناه ما ذكرنا، فإذا كان لا يدل عليه بالمطابقة فغاية الأمر أنه يدل عليه بالالتزام، فيقال: إن من لازم المالك أن يكون قادرًا غير عاجز، وذلك يدل على مطلوبهم، كما أن وصفه بعالم يدل على معنى قادر التزامًا، ولم يقل أحد: إنه بمعنى قادر لأجل هذه الدلالة، فبطل أن يكون مالك بمعنى قادر، وتعين أنه صفة ذاتية لله تعالى باعتبار كون المملوك له لا لغيره، فمعنى: { مَالِكِ يَوْمِ الدِّينِ}[الفاتحة :4]:أن ذلك اليوم له لا لغيره، ولذا تمدح به.
احتج القائلون بأنه صفة فعل: بأن الملك لا يكون إلا في الأشياء الموجودة، فلا يوصف الله بأنه مالك في الأزل؛ إذ لا موجود معه في الأزل فيملكه، وأما الآية فمحمولة على المجاز، ومعناها: سيملك، نُزِّل ما سيقع منزلة الواقع لتحقق وقوعه، ونظائره كثيرة في القرآن.
وأجيب: بأن هذه الحجة مبنية على أن معنى الملك: استحقاق التصرف، وقد ثبت أنه بمعنى: القدرة التامة، أو كونه له، وأن استعماله في استحقاق التصرف مجاز، ومع ثبوت هذا تبطل هذه الحجة.
وأما حمل الآية على المجاز فعدول عن الأصل بلا موجب إلا ما قد بينا بطلانه.
قالوا: لو كان بمعنى: قادر لم يوصف القديم تعالى بأنه مالك للموجود، لعدم تعلق القدرة به وذلك باطل، وأجيب بأنه لما كان قادراً على إعدام الموجود وإبطال الانتفاع به على وجه يحسن منه حسن وصفه بأنه مالك له؛ لأجل هذه القادرية، وكذلك هو قادر على نقل الموجود من صفة إلى صفة، فيصح وصفه بالقادرية عليه من هذا الوجه، وعلى هذا فيقال: هو مالك يوم الدين؛ لأن القدرة على إحياء الخلق بعد موتهم لا تكون إلا لله تعالى.
قالوا: إذا أطلق ولا قرينة لم يتبادر إلى الفهم إلا استحقاق التصرف، وذلك يدل على أنه حقيقة فيه ؟ وأجيب: بأن أصل وضعه بمعنى: قادر إذ من البعيد أن تريد بمثل قولك: {لاَ أَمْلِكُ لِنَفْسِي نَفْعاً وَلاَ ضَرًّا}[الأعراف:188] أنك لا تستحق التصرف على نفسك بجلب نفع أو دفع ضرر، وإنما تريد أنك لا تقدر على أيهما، لكن لما استعير لمن يستحق التصرف في الشيء وكثر فيه صار حقيقة عرفية، وقد أبطل في الأساس كونه صفة فعل بثبوته لغةً لمن لم يفعل، كما يقال: فلان مالك لما خلّف أبوه، وإن لم يحدث فعلاً، وأجاب الشرفي: بأنه نزل حكم الله بتمليكه الميراث منزلة فعله.
تنبيه [في ترادف ملك ومالك]
قال (القرشي): ملك ومالك عند الشيخين على سواء، ولهذا قريء بهما، وقال غيرهما: أما من طريق اللغة فملك أبلغ لما مر، ولهذا يقال: مالك الدار، ولا يقال: ملك الدار، قال: واتفقوا على أن مليك مبالغة فيهما مثل: قدير.
وقال القرطبي: إن وصف الله تعالى بأنه ملك كان ذلك من صفات ذاته، وإن وصف بمالك كان من صفات فعله.
المسألة الثانية [في تقييد لفظة مالك وملك]
قد مر عن الفقيه حميد: أن مالكًا وملكًا كرب في عدم جواز إطلاقهما على غير الباري، واشتراط التقييد، وظاهر كلام غيره: أنه لا يشترط التقييد فيهما لقوله تعالى: {إِنَّ اللَّهَ قَدْ بَعَثَ لَكُمْ طَالُوتَ مَلِكا }[البقرة: ً247 ]}.
وفي تفسير القرطبي: قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم : ((ناس من أمتي عرضوا عليَّ غزاة في سبيل الله يركبون ثبج هذا البحر ملوكًا على الأسرة)) أو مثل الملوك على الأسرة. وثَبَجَ: بثا مثلثة ثم باء بواحدة من أسفل مفتوحتين ثم جيم، أي: وسط البحر، ولقائل أن يقول: لا حجة في الخبر لتقييده بقوله على الأسرة.
نعم الذي ذكر العلماء أنه لا ينبغي الاختلاف في تحريم إطلاقه على غير الباري تعالى هو ملك يوم الدين ومالك الملك؛ لأن الباري تعالى أوردهما مورد التمدح الذي لا يصح إلا مع الاختصاص، وكذا غيرهما مما يفيد ذلك كملك الملوك، وملك الأملاك.
وقد أخرج البخاري ومسلم عن أبي هريرة قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم : ((يقبض الله الأرض يوم القيامة ويطوي السماء بيمينه ثم يقول: أنا الملك، أين ملوك الأرض)) وعنه أيضًا مرفوعًا: ((إنَّ أخنع اسم عند الله رجل تسمى ملك الأملاك)) زاد مسلم: لا مالك إلا الله عزوجل. أَخْنَعَ: بخاء معجمة ثم نون بعدها عين مهملة أي: أوضع.
وعنه صلى الله عليه وآله وسلم : ((أغيظ رجل على الله يوم القيامة وأخبثه رجل كان يسمى ملك الأملاك لا ملك إلا الله سبحانه)).
المسألة الثالثة [دلالة هذه الآية على فساد مذهب المجبرة]
قالت (العدلية): في هذه الآية رد لمذهب المجبرة؛ لأنه قد دل فيها على ثبوت الجزاء على الأعمال، ولو كان هو الخالق لأعمال العباد والفاعل لها لامتنع الجزاء؛ لأن إثابتهم على غير أعمالهم عبث، وعقابهم بغير ذنوبهم ظلم، وكلاهما قبيح لا يجوز من الله فعله، أجابت المجبرة بوجهين:
أحدهما: لو لم تكن أعمالهم بتقدير الله وترجيحه لم يكن مالكًا لها، ولما أجمع المسلمون على كونه مالكًا للعباد وأعمالهم علمنا أنه خالق لها ومقدر.
الثاني: أنه خلق الجنة والنار، وخلق لكل واحدة منهما أهلاً ؛ لأن له صفة لطف وصفة قهر كما ينبغي لكل ملك، فخلق لكل صفة مظهر ولا يُسئل عما يفعل.
والجواب عن الأول أن نقول: لا نسلم أنه الخالق للداعية التي هي المرجح عندكم كما مر في المقدمة، ولا نسلم أن عدم خلقه للمرجح يستلزم كونه غير مالك للعباد وأعمالهم؛ لأن معنى ملكه للشيء: أنه قادر عليه إنْ قلنا إن مالكًا صفة ذات، أو مستحق للتصرف فيه إنْ قلنا إنه صفة فعل، فعلى الأول يقال: معنى ملكه للعباد أنه قادر على التصرف فيهم بالإيجاد والإعدام والبعث ونحو ذلك، ومعنى ملكه لأعمالهم أنه قادر على جزائهم عليها على حسب ما يقتضيه العدل والحكمة، وإنما قلنا هذا؛ لقيام الدليل القاطع على أنهم الفاعلون لها، وعلى قبح الإثابة والمعاقبة لمن ليس له فعل.
وعلى الثاني يقال: معنى كونه مالكًا لهم إنه مستحق للتصرف فيهم بعد وجودهم بالإعدام والإيلام ونحوهما، ومعنى كونه مالك أعمالهم أنه مستحق للتصرف فيها بالجزاء والمحاسبة عليها، وكل ذلك بحسب ما تقتضيه حكمته وعدله.
وهذا كله لا يتوقف على كونه الخالق للداعية، والجواب عن الثاني: أنه مبني على أصل فاسد وهو: أنه خلق الخلق للجنة والنار، وبطلانه لا يحتاج إلى بيان، فقد ثبت بالدلالة والبرهان أن الله تعالى متفضل بإيجاد الخلق ومحسن إليهم بتكليفهم، وأنه إنما خلق المكلفين لعبادته، وكل ذلك مبسوط في غير هذا الموضع.
وأما قولهم: إن له صفة لطف...إلخ فمسلم، لكن لطفه ورحمته للمؤمنين، وقهره ونقمته على المذنبين كما أخبر بذلك في الذكر المبين، فلا نطيل بما قد تكرر ذكره وبما سيأتي في مواضع تحقيقه.
وأما قولهم: كما ينبغي لكل ملك فلعمري لقد دخلوا فيما يعيبون علينا من قياس أفعال الباري تعالى على أفعالنا مع أنهم عابوا علينا ولم نرتكب ما يوجب العيب لأنا لا نقيس إلا لعلة جامعة، وأما قياسهم فنطالبهم بتعيين الرابطة.
ثم إنا نقول: إن صح فهو حجة عليكم؛ لأن من المعلوم أن ملوك الدنيا إذا استعملوا اللطف في غير محله والقهر لغير أهله فإنهم يلامون ويذمون، وينسبون إلى الظلم والسفه وسوء التدبير، فلم لا تنزهون ملك الملوك وأغنى الأغنياء عن هذه الرذائل والقبائح!!
وأما قولهم: إنه خلق لكل صفة مظهرًا، فجوابه: أن يقال: هل خلق ذلك المظهر للصفة، وكلفه على ما تقتضيه حكمته وعدله بأن أقدره وأعلمه ودعاه أم لا ؟ إن كان الأول فهو قولنا، وإن كان الثاني فقد تكرر بيان قبح عقاب من لا قدرة له ولا فعل، وهل هو إلا مثل قولهم: خلقهم للجنة والنار.
وأما قوله تعالى: {لاَ يُسْأَلُ عَمَّا يَفْعَلُ}[الأنبياء:23] فلا حجة لهم في ظاهرها إذ ليس المعنى إلا أن أفعاله كلها جارية على العدل والحكمة لا يكون فيها خطأ ولا قبيح حتى يسأل عنه، بخلاف العباد، فإنهم خطاؤون جديرون بأن يسألوا عن أفعالهم، يدل على صحة هذا المعنى أن الآية مسوقة للفرق بين أفعال الله تعالى وأفعال خلقه، وفيها أيضًا دليل على صحة مذهب العدلية، إذ لو كان هو الفاعل لأعمال العباد لكانت غير مسؤول عنها كسائر أفعاله، وفيها أيضًا دليل على ثبوت الجزاء على الأعمال وإلا فما فائدة السؤال!
المسألة الرابعة [دلالة الآية على البعث]
هذه الآية من جملة الأدلة السمعية المفيدة لثبوت البعث، قال زيد بن علي عليهما السَّلام في قوله تعالى: {مَالِكِ يَوْمِ الدِّينِ}[الفاتحة: 4]: أي هو يملك يوم الدين كما هو اليوم رب العالمين، يخبر أن الدنيا والآخرة له وهو مليكهما لا غيره.
والدين: الجزاء يوم يدان الناس بعضهم من بعض، ويجازيهم بما كانوا يعملون، وإنما أخبرنا أنه يدين بعض الخلائق من بعض يخوفهم بذلك ويحذرهم ليزدجروا ويحذروا، وقد يقال في الأمثال: كما تدين تدان، وقد ورد تفسير يوم الدين بيوم القيامة والحساب عن جماعة من الصحابة منهم: ابن عباس وابن مسعود، ولا خلاف بين أهل الإسلام في وقوع البعث والنشور.
قال (الإمام عز الدين) عليه السلام : اعلم أنه لا مخالف من المسلمين وأهل الملة في وقوع المعاد وهو معلوم من ضرورة الدين وإجماع المسلمين، ومن خالف فيه فليس بمسلم ولا خلافه يعتد به، قال: والخلاف في أمر المعاد محكي عن بعض الفلاسفة.
قال (الإمام يحيى) عليه السلام : أظنه جالينوس، فقد حكي عنه أنه كان متوقفًا في صحة أمر المعاد، قلت: أما الأدلة السمعية فهي أكثر من أن تذكر، وسيأتي ومنها هذه الآية.
وأما الدليل العقلي، فقال الهادي عليه السلام في بيانه: فلما تصرمت أعمال المطيعين ولم يثابوا، وانقضت آجال العاصين ولم يعاقبوا وجب على قود التوحيد واطراد الحكمة أن دارًا بعد هذه الدار يثاب فيها المطيعون ويعاقب فيها المسيؤون، وهذه أمور أوجبتها الفطرة، وللقاسم بن إبراهيم والإمام أحمد بن سليمان عليهما السَّلام نحوه.
وروي أن عبد المطلب وكان مقرًا بالله وبالبعث كان يقول: إنه لن يخرج من الدنيا ضلول حتى ينتقم الله منه، فقيل له: إن فلانًا مات حتف أنفه؟ فأطرق ساعة، فقال: لا بد من دار غير هذه الدار يجزى فيها المحسن بإحسانه والمسيء بإساءته.
وقال (الرازي) قوله: {مَالِكِ يَوْمِ الدِّينِ} [الفاتحة: 4] أي: مالك يوم البعث والجزاء، وتقريره: أنه لا بد من الفرق بين المحسن والمسيء، والمطيع والعاصي، والموافق والمخالف، وذلك لا يظهر إلا في يوم الجزاء كما قال تعالى:{ لِيَجْزِيَ الَّذِينَ أَسَاءُوا بِمَا عَمِلُوا...} [النجم:31] الآية، ثم قال: واعلم أن من سلط الظالم على المظلوم ثم إنه لا ينتقم منه فذاك إما للعجز أو للجهل، أو لكونه راضيًا بذلك الظلم، وهذه الصفات الثلاث على الله محال فوجب أن ينتقم للمظلومين من الظالمين، ولما لم يحصل هذا الانتقام في دار الدنيا وجب أن يحصل في دار أخرى بعد دار الدنيا، وذلك هو المراد بقوله: {مَالِكِ يَوْمِ الدِّينِ}[الفاتحة: 4 ]وبقوله: {فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْرًا يَرَه...} [الزلزلة:7] الآية.
قلت: وقد تضمن كلامه هذا الإقرار بمذاهب العدلية والاعتماد عليها، وهو اللائق بمثله، وهذا الدليل العقلي كما دل على ثبوت البعث فقد اشتمل على بيان وجه حسنه، فإن قيل: لِمَ لم يحصل الفرق بين المطيع والعاصي في الدنيا من دون فناء العالم وتوسط الموت؟ قيل: قد أجيب بوجوه:
أحدها: أنه لو وقع الثواب والعقاب في الدنيا لم يحسن التكليف لأن العبد يكون ملجأ إلى فعل الطاعة وترك المعصية ضرورة، وتوسط الموت أقوى من مجرد التراخي بالجزاء في منع الإلجاء، وهذا قول أبي هاشم.
الوجه الثاني: ذكره أبو علي، وهو أن في العلم بالفناء لطفًا لأن المكلف إذا علم أن جزاء عمله فعلاً كان أو تركًا يتراخى أبلغ ما يكون من التراخي، وذلك بتوسط الفناء، فإنه يكون أقرب إلى أن يعمله للوجه الذي لأجله يحسن ويجب، ومع عدم التراخي يفعله للثواب ويتركه للعقاب فلا يأتي بهما على الوجه الذي كلف به، وإذا كان لطفًا في ذلك فتوسط الفناء أقوى في تحصيل الغرض، ومن حق اللطف إيقاعه على أبلغ الوجوه التي يحصل معها الغرض به، وهذا كلامه في وجوب الفناء، وأما توسط الموت فلأنه لا بد لمحل الحياة منه أو من الحياة عنده، والشيء الذي يفتقر المحل إليه لا يقال لفاعله: لم فعله.
قال (الإمام عزالدين) عليه السلام : وتعليل الشيخين متفق في المعنى، وإن اختلف في العبارة، وتلخيصه ومعناه مجموع أمرين:
أحدهما: أن الفناء لطف للمكلف في أن يفعل ما كلف للوجه الذي كلف لا للثواب، وتعليله أن المكلف إذا علم تأخير الثواب وتراخيه وتقدم الفناء عليه دعاه ذلك إلى أن يفعل الواجب لوجوبه لا للثواب، وإذا كان الثواب معجلاً متقدمًا ولا فناء، يكون فعل المكلف الواجب للثواب لا للوجوب.
الأمر الثاني: أن الثواب والعقاب إذا كانا موعودًا بهما عقيب ذات التكليف ولا فناء يكون، كان المكلف ملجأ مدفوعًا إلى فعل ما كلف ولا اختيار له في الترك لقوة الداعي إلى ترك المقبحات وجوبًا، ويكون كالممنوع من الفعل لقوة الصارف فيبطل التكليف لعدم الاختيار، وعدم تردد الداعي، ويصير الحال في ذلك كمن وعد على عمل أمر به يسير المشقة بأموال عظيمة، وممالك جمة في غد، وتوعد على تركه بعقوبة لا يحاط بوصفها في عذابها، والواعد والمتوعد ممن يعلم صدقه وقدرته، فإن المأمور يكون ملجأً إلى الفعل لا محالة.
قال عليه السلام : هذا تلخيص كلام الشيخين، ثم قال: فإن قال السائل: وطول المدة وتراخيها بالموت وسقوط التكليف يقوم مقام الفناء؟ قلنا: من حق اللطف أن يفعل، ويكون على أبلغ الوجوه وأقصاها الفناء، والإعدام أبلغ وأقطع للرجاء، وأبعد من الإلجاء، والفناء مقدور لله تعالى فيفعله ويجب عليه على هذا الحد. ذكره في الفتاوى.
الوجه الثالث: ذكره الإمام القاسم بن محمد عليه السلام وهو مجموع ثلاثة أمور:
أحدها: أن الله تعالى قد علم أن أكثر العصاة لا يعلمون الله تعالى في الدنيا لأن معرفته تعالى فيها استدلالية، وهم لم ينظروا في أدلة ثبوت الصانع المختار نظراً صحيحاً، بل اتبعوا الشبهة فقدحت في نفوسهم وضلت لأجل ذلك عقولهم، فلم يعلموا وجوده بل نفوه، فلو عاقبهم على ذلك في الدنيا من دون خلق شيء فيهم يعلمون به ضرورة أن ذلك العقاب جزاء على عصيانهم لم يعرفوا كونه عقوبة، بل يعدونه من نكبات الدهر كما يزعمون أن الذي يهلك ويمرض هو الدهر، وحينئذ لا يحصل لهم العلم بقبح عصيانهم وكفرهم لعدم علمهم بأن العقوبة كانت عليه، فيكون ذلك إغراءً لهم بالزيادة في المعاصي والتمادي فيها، وذلك قبيح فما أدى إليه يكون قبيحًا.
ثانيها: أنه تعالى قد علم أن أكثر الممتحنين لو جوزوا في الدنيا مع عدم مثل ذلك لم يعلموا ضرورة أن الواصل إليهم جزاء على أعمالهم الصالحة لتجويز أنه من سائر التفضلات.
ثالثها: أنه لو وقع الجزاء مع عدم خلق العلم الضروري بما ذكر لكان في ذلك إثبات الحجة للأشقياء على الله تعالى؛ لأن مع عدمه لا يكون عندهم فرق بين من يخاف الله مع عدم علمه الضروري به وبعقابه، وبين من لا يخافه إلا عند مشاهدة العذاب التي هي حالة إلجاء، وإذا لم يكن فرق عندهم فإنهم يقولون حين يشاهدون العذاب: تبنا كالتائبين وأطعنا كالطائعين فلم تعذبنا ولم تقبل منا كما قبلت منهم وهم أحياء مثلنا، ونحن وهم في دار واحدة، ومع الفناء ثم البعث يعلمون الله ضرورة، ويعلمون أن الواصل إليهم جزاء على أعمالهم قطعًا لتقدم إخبار الله تعالى لهم بذلك في الدنيا على ألسنة الرسل، ولإخبارهم في الآخرة بذلك، فيكون أعظم حسرة على العاصين، وأتم سرورًا للمثابين، وتنتفي حجة الأشقياء على الله فلا يمكنهم المساواة بين فعل الطاعة والتوبة في دار التكليف، وبين فعلهما في دار الجزاء. والله أعلم.
فإن قيل: ما المانع من خلق العلم الضروري في الدنيا؟ قيل: كونها دار تكليف، وخلق العلم الضروري فيها ينافي التكليف؛ لأنه يصير ملجأً إلى الفعل والترك كما مر.
قلت: وكل هذه الوجوه تفيد وجوب الفناء على الله تعالى، إلا أن الإمام القاسم عليه السلام لا يطلق الوجوب على الله سبحانه، وفي الدامغ أن أبا هاشم ذكر في بعض المواضع: أن تبقيتهم أحياء وقد زال التكليف كإفنائهم وموتهم، فإذا حسن ذلك لينفصل حال التكليف من حال الإثابة كذلك الفناء.
قال الإمام المهدي عليه السلام : فعلى هذا لا يكون الفناء واجبًا على الله تعالى بعينه؛ إذ تبقيتهم أحياء غير مكلفين يقوم مقامه في الغرض المقصود بفعله، وقد دل السمع أنه لا بد من الفناء، فاقتضى أنه أرجح في حصول المقصود من تبقيتهم غير مكلفين.
قال عليه السلام : وقد اتفق المسلمون على أنه لا بد من الفناء إن لم تصح رواية القول باستحالته عن الجاحظ ومن وافقه، فالعدلية يعللون وقوعه بما ذكرنا، والمجبرة لا يحتاجون إلى تعليله؛ لأن الله تعالى لا يفعل لغرض.
فائدة
قال في (الدر المنثور): أخرج أبو داود والحاكم وصححه، والبيهقي عن عائشة قالت: شكا الناس إلى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قحوط المطر فأمر بمنبر فوضعه في المصلى ووعد الناس يومًا يخرجون فيه، فخرج حين بدا حاجب الشمس فقعد على المنبر فكبر وحمد الله ثم قال: ((إنكم شكوتم جدب دياركم واستيخار المطر عن إبان زمنه عنكم، وقد أمركم الله أن تدعوه ووعدكم أن يستجيب لكم، ثم قال: الحمدلله رب العالمين الرحمن الرحيم ملك يوم الدين، لا إله إلا الله يفعل ما يريد، اللهم لا إله إلا أنت الغني ونحن الفقراء أنزل علينا الغيث، واجعل ما أنزلت قوة وبلاغًا إلى حين)) قال أبو داود: حديث غريب إسناده، جيد. إبان الشيء - بكسر الهمزة وتشديد الباء الموحدة: وقته.
تفسير قوله تعالى: {إياك نعبد}من سورة الفاتحة
قوله تعالى: { إياك نعبد}
فيه مسائل:
المسألة الأولى [معنى العبادة]
العبادة أقصى غاية الخضوع والتذلل، ويسمى العبد عبدًا لذلته مأخوذ من قولهم: طريق معبد أي: مذلل، إذا كان قد وطئته الأقدام، وذللته السابلة، ومن ذلك قولهم: للبعير المذلل بالركوب معبّد.
قال (ابن جرير): والشواهد من أشعار العرب وكلامها على ذلك أكثر من أن تحصى.
قال (الزمخشري): ولذلك لم تستعمل إلا في الخضوع لله تعالى لأنه مولي أعظم النعم، فكان حقيقًا بأقصى غاية الخضوع، وكلامه لبيان وجه استعمال العبادة في الخضوع لله تعالى لا لحصر استعمالها فيه.
قاله (الشريف)، وقال (الرازي): هي عبارة عن الفعل الذي يؤتى به لغرض تعظيم الغير فاشترط في معناها قصد التعظيم، وقيل: بل هي عبارة عن الفعل الذي يؤدى به الغرض لتعظيم الله تعالى، حكاه الخازن، وظاهر كلامه ترجيحه؛ لأنه قال: والعبادة: غاية التذلل من العبد ونهاية التعظيم للرب سبحانه؛ لأنه العظيم المستحق للعبادة، ولا تستعمل العبادة إلا في الخضوع لله تعالى؛ لأنه مولي أعظم النعم، وهي: إيجاد العبد من العدم إلى الوجود، ثم هداه إلى دينه، فكان العبد حقيقًا بالخضوع والتذلل له.
قلت: وما ذكره لا يصح إلا بالنظر إلى الحقيقة الشرعية كما أن قول من قال: هي فعل ما يرضي الله تعالى لا يتخرج إلا على ذلك، وقال العلامة المقبلي: اعلم أنك إذا تأملت معنى العبادة فإنما هي الاعتراف بما هو حق، والاعتراف بالحق واجب من دون نظر إلى شيء أصلاً مثلاً: كلمة التوحيد والتسبيح والتحميد، وسائر ما هو من قبيل الأقوال اعتراف بمدلولاتها، وإخبار عن الشهادة بذلك، ومع ذلك هو يتضمن الرفع من شأن المتصف بمدلولات هذه الألفاظ وهو معنى الحمد، وإذا لحظ في خلال هذا الاعتراف وتأكد انبعاثه عليه بكونه غريق نعم الله وأسير الاحتياج إليه كان شكرًا وضراعة إليه تعالى، ومعنى هذه الدلالة متضمن للاعتراف بما هو حق أعني معانيها، وهذا في الأقوال، ولما كان شأن الله أعظم من أن يقتصر على دون ممكن من تأدية حقه وكان نعمه لجميع العبيد أصلاً ومددًا، أوجب أن يقترن هذا الاعتراف المعنوي بشيء مما هو من حظ سائر الجوارح، وكانت الصلاة والحج والصيام، فالصلاة والحج غاية الضراعة والاعتراف بأن شأن العبد أن يكون مع العظيم المنعم هكذا، ولما كان شأن النفس اتباع الهوى، وهو نقيض الهدى كانت المنازعة فشرع حبسها بالصيام، ولم يكتف بالاعتراف القولي بأنه ينبغي مخالفتها، وكذلك سائر الشريعة تدرج على هذا، فكل شيء معناه ينبغي أن يكون الأمر هكذا، فهذا كله متضمن للاعتراف بحق، وكان له لازم بين قوي هو غاية التذلل والضراعة فغلب معناه حتى سميت: عبادة.
قال: إذا تأملت هذا فمعناه: الاعتراف بما ينبغي بالقول والفعل، ولما لم يجعل العقل محيطًا بالتفاصيل جاء بها علام الغيوب مفصلة على ألسنة الرسل صلوات الله وسلامه عليهم أجمعين، ذكره في العلم الشامخ، وحاصله: أن العبادة: هي الاعتراف بالحق، ومن لازمه التذلل والضراعة، فسمي اللازم عبادة تجويزًا، ودلالتها على ما اشترطه بعضهم من التعظيم بالتضمن.
قلت: ويدل على أنه لا بد من استشعار العظمة ما أخرجه ابن جرير عن ابن عباس قال: قال جبريل عليه السلام لمحمد صلى الله عليه وآله وسلم : قل يا محمد: إياك نعبد، إياك نوحد ونخاف ونرجوا، ربنا لا غيرك، ولابن أبي حاتم نحوه: وفي التوحيد غاية التعظيم.
وقال (زيد بن علي) عليهما السَّلام : معنى نعبد: نطيع ونتعبد، ونصلي ونوحد.
المسألة الثانية [اختصاص الله تعالى بالعبادة]
قال أئمة المعاني: الاختصاص لازم لتقديم المفعول لا ينفك عنه في أكثر الصور بشهادة الاستقراء والذوق السليم، فمعنى الآية لا نعبد أحدًا سواك، قال زيد بن علي عليهما السَّلام : إياك نعبد لا نعبد غيرك، وقد نازع بعضهم في كون التقديم مفيدًا للاختصاص هنا لقوله تعالى: {فَاعْبُدِ اللَّهَ مُخْلِصًا لَهُ الدِّينَ}[الزمر:2 ] وأجيب بأن مخلصًا له الدين أغنى عن إرادة الحصر في الآية، قالوا: قال تعالى: {أفغير دين الله تأمروني أعبد}[الزمر:64 ] مع أنهم لم يخصوا الغير بالعبادة؟ قلنا: لما كان من أشرك فكأنه لم يعبد الله كان الأمر بالشرك كالأمر بتخصيص غير الله بالعبادة، قالوا قال تعالى: {كُلاًّ هَدَيْنَا وَنُوحاً هَدَيْنَا مِنْ قَبْلُ}[الأنعام:84]؟ قلنا: لم ندع اللزوم، وإنما ادعينا الغلبة، فإذا قام الدليل على خلافها عمل به وقد يخرج الشيء عن الحقيقة، سلمنا فقد قام دليل الاختصاص هنا وهو من وجوه:
أحدها: ما مر عن ابن عباس وزيد بن علي عليهما السَّلام من النص على ذلك.
الثاني: ما مر من أخذ نهاية التعظيم في معنى العبادة وذلك لا يليق إلا لمن صدر منه غاية الإنعام وهو الله تعالى، ولا شك أن الله تعالى هو المنعم بأصول النعم وفروعها، أما أصولها فهي ست: خلق الحي وخلق حياته، وخلق قدرته وخلق شهوته، وتمكينه من المشتهيات، السادس إكمال عقله، فالخمسة الأول تكون نعمة بغير السادس، والسادس لا يكون نعمة إلا معها.
وأما فروع النعم فلا تحصى إلا أنها قد تكون ابتداء بلا واسطة بشر، وقد تكون بواسطته وذلك لا يخرجها عن كونها نعمة من الله كما مر في الحمد، فإذا كانت النعمة كلها من الله وجب ألاَّ تحسن العبادة إلا له.
الثالث: أنه قد وصف نفسه بكونه إلهًا ربًا رحمانًا رحيمًا مالكًا لجزاء العبد على عمله، وهذه الأوصاف تدل على حاجة العبد إلى ربه في الدنيا والآخرة، ومع ذلك أنه قد ثبت بالدليل القاطع أنه قادر عالم محسن كريم حليم إلى غير ذلك، ولم يثبت من ذلك شيء للطبع والنجوم والأصنام وغيرها مما يعبده الكفار، ولا شك أن العقل يحكم بأن المتصف بالصفات المذكورة على جهة القطع والمحتاج إليه في الماضي والحال والاستقبال هو المستحق للعبادة، والمختص بها دون ما لا يسمع ولا يبصر ولا يغني عنا شيئًا.
المسألة الثالثة [قراءة الآية يدل على التوحيد]
النطق بالآية يدل على التوحيد لتضمنها الإقرار بالربوبية، واختصاص الباري بالعبادة دون ما سواه، وفيها أيضًا دليل لمذهبنا في أفعال العباد.
المسألة الرابعة [ضرورة الاخلاص في العبادة]
في الآية دليل واضح على أنه يجب في العبادة أن تؤدى لله خالصة لما قدمناه من معنى الاختصاص، فيؤخذ من ذلك أن من نوى بعبادته الرياء والسمعة لم تجزه ولزمته التوبة والأدلة طافحة بذلك، فأما لو نوى بها استحقاق الثواب والسلامة من العقاب، فقال أهل المذهب: إن لم ينوها لوجوبها لم تجزه.
وقال (المنصور بالله) عليه السلام : تجزيه، وقال الإمام المهدي عليه السلام : إن فعلها امتثالاً لأمر الله ليستحق ثوابه وينجو من عقابه فلا إشكال أنها تجزيه، فإن لم يخطر بباله الامتثال وهو يعلم أنه لا ثواب له إلا بالامتثال ولا عقاب إلا بالعصيان أجزأته أيضًا.
وفي (شرح النهج) عن بعض المتكلمين: أنه ينبغي أن يفعل الإنسان الواجب لوجه وجوبه، ويترك القبيح لوجه قبحه، وربما قالوا يفعل الواجب؛ لأنه واجب ويترك القبيح؛ لأنه قبيح، وظاهر قولهم: إنه ينبغي... إلخ أن ذلك لا يجب، لكن في العلم الشامخ عن المعتزلة: أن العبادة لا تصلح لطلب النفع ولا لدفع الضرر فلا تصح رجاء للجنة ولا خوفًا من النار.
وقال (ابن أبي الحديد): العبادة لرجاء الثواب تجارة ومعاوضة، ولخوف العقاب بمنزلة من يستخذي لسلطان قاهر يخاف سطوته وتلك ليست عبادة نافعة، وهي كمن يعتذر إلى إنسان خوف أذاه ونقمته، لا لأن ما يعتذر منه قبيح لا ينبغي فعله، فأما العبادة لله شكرًا لأنعمه فهي عبادة نافعة؛ لأن العبادة شكر مخصوص، فإذا أوقعها على هذا الوجه فقد أوقعها الموقع الذي وضعت عليه.
قلت: الذي يدل عليه ما في القرآن من الترغيب في العمل الصالح بالثواب والزجر عن المعاصي بالتوعد بالعقاب أنه يجزئ فعل العبادة امتثالاً للآمر مع طلب الثواب والسلامة من العقاب، وإلا لم يكن لذلك الترغيب والترهيب فائدة، إلا أن هذه العبادة ليست كالعبادة المفعولة لمجرد الشكر والامتثال، وقد جعل بعض العلماء العبادة على ثلاث درجات:
أحدها: أن يعبد الله رغبة في ثوابه وهرباً من عقابه، وهذه مرتبة نازلة عند المحققين لأنه لم يقصد بها عند التحقيق إلا التوصل إلى المطلوب.
الثانية: أن يعبده تشرفًا بعبادته أو بقبول تكاليفه أو بالانتساب إليه، وهذه الدرجة متوسطة وليست كاملة لأن المقصود بالذات غير الله.
الثالثة: أن يعبده لكونه إلَهًا، والعابد عبداً له، والإلَهِية تقتضي الهيبة والعزة، والعبودية توجب الخضوع والذلة وهذه أعلى الدرجات.
قلت: ولا بد من قصد الشكر لهذا الإله العزيز.
وفي كلام أمير المؤمنين عليه السلام قريب من هذا التقسيم وهو قوله: إن قومًا عبدوا الله رغبة فتلك عبادة التجار، وإن قومًا عبدوا الله رهبة فتلك عبادة العبيد، وإن قوماً عبدوا الله شكرًا فتلك عبادة الأحرار. رواه في النهج.
ولزين العابدين عليه السلام نحوه، وهو يدل على ما قلناه من أن العبادة لطلب الثواب والسلامة من العقاب تجزئ إلا أنها دون ما تمحضت للشكر.
فإن قلت: أليس ما تقدم من إفادة الآية الاختصاص يمنع من الإجزاء إن لم تكن العبادة لله تعالى خالصة من كل شائب وحظ للنفس؟ قلت: إن كان طلب الحظ من غير الله تعالى فلا شك في عدم الإجزاء وقد مر الكلام عليه، وإن كان طلب الحظ من الله تعالى فذلك لا ينافي الإخلاص والاختصاص، إذ التوسل إليه بعبادته عبادة كالتوسل إليه بالدعاء والشكر، بل قد حث أمير المؤمنين عليه السلام على التوسل إلى الله تعالى بأنواع الطاعات والعبادات في قوله: (إن أفضل ما توسل به المتوسلون إلى الله الإيمان بالله وبرسوله...)إلخ وذكر فيه الجهاد والصلاة وغيرهما... وورد الأمر بالتوجه إلى الله بحب القرآن وسؤاله به، والأدلة على أن التوسل إلى الله بالعبادة لا ينافي الإخلاص والاختصاص كثيرة مشهورة، وهذا كله مع قصد امتثال أمر المالك المنعم؛ إذ لا يتصور كونها عبادة مع عدمه.
المسألة الخامسة [مقام العبادة]
اعلم أن مقام العبادة شريف، وقد جاء الأمر به في مواضع والكناية به عن خاتم النبئين محمد صلى الله عليه وآله وسلم في موضع يقتضي تشريفه والرفع من شأنه، قال تعالى: {سُبْحَانَ الَّذِي أَسْرَى بِعَبْدِهِ لَيْلاً...} [الإسراء:1 ]الآية {وَمَا أَنزَلْنَا عَلَى عَبْدِنَا}[الأنفال:41].
وقال عيسى عليه السلام في مقام الافتخار: { إِنِّي عَبْدُ اللَّهِ}[مريم:30].
ومن كلام علي عليه السلام : (اللهم كفاني عزًا أن تكون لي ربًا، وكفا بي فخرًا أن أكون لك عبدًا، أنت كما أحب فاجعلني كما تحب). رواه في سلوة العارفين.، وقرن الله تعالى العبادة بالتوحيد فقال: {لاَ إِلَهَ إِلاَّ أَنَا فَاعْبُدْنِي}[طه:14] ومن كلام بعض الصالحين: العبادة ثمرة العلم، وفائدة العمر، وحاصل العبيد الأقوياء وبضاعة الأولياء، وطريق الأتقياء، وقسمة الأعزة ومقصد ذوي الهمة، وشعار الكرام وحرفة الرجال، واختيار أولي الأبصار، وهي سبيل السعادة، ومنهاج الجنة.، قال الله تعالى: {وَأَنَا رَبُّكُمْ فَاعْبُدُونِ}[الأنبياء:92] وقال تعالى: {إِنَّ هَذَا كَانَ لَكُمْ جَزَاءً وَكَانَ سَعْيُكُمْ مَشْكُوراً }[الإنسان:22].
واعلم أن في عبارات بعضهم ما يدل على عدم الفرق بين العبادة والعبودية، ومنهم من فرق بينهما، فقيل: العبادة غاية الخضوع دون العبودية، فالعبادة على هذا أشرف، وقيل: العبادة فعل يرضى به الله تعالى، والعبودية الرضا بما فعل الله تعالى، وعلى هذا تكون العبودية أفضل.
وقد نص على تفضيلها ابن أبي الحديد وقال: هي أمر وراء العبادة معناها: التعبد والتذلل، وقالوا: العبادة لعوام المؤمنين، والعبودية للخواص من السالكين، وقال أبو علي الدقاق: العبادة لمن له علم اليقين، والعبودية لمن له عين القين، وقيل في الفرق بينهما غير ذلك، وقد فضل بعضهم العبودية على الرسالة؛ لأن بالعبودية ينصرف من الخلق إلى الحق، وبالرسالة ينصرف من الحق إلى الخلق، وبالعبودية ينصرف عن التصرفات، وبالرسالة يقبل على التصرفات إلى غير ذلك من العلل الباردة وهو غلو وتمويه، وإلا فانصراف الرسول وتصرفاته صادرة عن أمر الله فهي من أعظم العبادات، وكيف تكون العبودية التي يكون غالب نفعها عائد على صاحبها فقط أشرف من الرسالة التي يعم نفعها عالَم من الخلق! ولو لم يكن في تفضيل الرسالة إلا قوله تعالى: {اللَّهُ أَعْلَمُ حَيْثُ يَجْعَلُ رِسَالَتَهُ}[الأنعام:124] لكان كافيًا في إبطال قولهم ورد لجاجهم. والله الموفق.
المسألة السادسة [ترادف الاطلاق بين العبادة والمعبود)
استحقاقه تعالى للعبادة وفعلها له يستلزم صحة إطلاق وصفه تعالى بالمعبود، إذ لا تكون عبادة إلا لمعبود، وقد ورد إطلاقه عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم في خطبته عند تزويج علي عليه السلام بفاطمة+، فإنه ابتدأ الخطبة بقوله: ((الحمدلله المحمود بنعمته المعبود لقدرته)) رواها أبو طالب وأخرجها الحسن بن عبدالله العسكري في كتاب الأوائل، وهذا هو الظاهر من كلام المتكلمين وغيرهم، فإنهم يقولون في لفظ الجلالة: إنه اسم للمعبود بحق، وقالوا في الإله: إنه في الأصل اسم لكل معبود ثم غلب على المعبود بحق، ومعناه: أن تذلل العبيد وخضوعهم له وتعظيمهم إياه حق ثابت له ومفعول لأجله.
قوله تعالى: {وإياك نستعين}
من سورة الفاتحة
قوله تعالى: {وإياك نستعين}
[معنى الاستعانة]
الاستعانة: طلب المعونة، وهي عند أصحابنا: تمكين الغير من الفعل مع الإرادة له، قاله السيد مانكديم، وأحسن منه ما ذكره الموفق بالله عليه السلام ، وهو: أنها الفعل الذي يفعله المعين ليتوصل المعان على ما يعينه عليه مع إرادته لذلك، قالوا: ولا بد من اعتبار الإرادة لأن من دفع إلى غيره سكينًا ليذبح به شاة فلا يوصف بأنه أعانه إلا إذا أراد منه الفعل، ولذلك قالوا: لا يجوز إطلاق القول بأن الله تعالى أعان العاصي على معصيته؛ لأنه لا يريد منه ذلك ولا يرضاه، بخلاف قولنا: إنه يجوز إطلاق القول بأنه أعان على الطاعة لأنه يريدها ويرضاها، وأما المجبرة فظاهر كلامهم أن المعونة بمعنى القدرة؛ لأنهم استدلوا بالآية على مذهبهم في نفي أفعال العباد، فقالوا: لو كان العبد مستقلاً بفعله لما كان للاستعانة على الفعل فائدة، وقال الرازي: الإعانة عبارة عن خلق الداعية الجازمة، وإزالة الداعية الصارفة بناء على أصله في الجبر، وهو أن القدرة لا تؤثر إلا مع الداعية، والداعية من فعل الله كما قد كرر ذلك في مواضع، فيلزم الجبر من هذا الوجه عنده.
والجواب على (المجبرة): أنه لا خلاف أن القرآن عربي، وأن الواجب الرجوع في تفسيره إلى ظاهر اللغة العربية إلا لدليل يوجب العدول عن الظاهر ولم نجد في اللغة ما يدل على تفسير المعونة بالقدرة فانظر القاموس وغيره، ولا موجب للعدول عن الظاهر وهو ما ذكره الأصحاب، بل قام الدليل على أنه لا يجوز أن تكون المعونة هي القدرة، وهو أن أحدنا قد يعين الغير على الفعل مع استحالة إقداره عليه، وكذلك الجمل، يقال: إنه معونة على كذا، وإن استحال أن يكون قدره، وكذلك السكين وغيره من الآلات.
قال (الموفق بالله) عليه السلام : القدرة لا تسمى حقيقة معونة، ولذلك يقال لفلان قوة وقدرة على تحريك هذا الجسم، ولا يقال له معونة على تحريكه، وأما الرازي فكلامه مبني على أن الفعل لا يقع إلا لمرجح وداع وذلك من فعل الله، وقد مر كلامنا على ذلك، وقد استدل بالآية هنا على طريقة أخرى أيضًا وهي: أن الخلق يطلبون الدين الحق والاعتقاد الصدق مع استوائهم في القدرة والعقل والجد والطلب، ففوز البعض ليس إلا بإعانة معين وليس ذلك إلا الله؛ لأن المعين لوكان بشرًا أو ملكًا لعاد الطلب فيه.
والجواب أولاً: أَنَّه قد نقض قوله هنا باستوائهم فيما ذكر في البقرة فإنه جعل الاستواء في هذه الأمور ونحوها من المستحيل، وقد عرّفناك مرارًا أنه لا يبالي في مقام الجدل بمناقضة الكلام ومعاكسة الأحكام.
وثانيًا: أن نقول ما أردت بقولك ليس إلا بإعانة معين، هل أردت بالإعانة الداعية فقد أبطلناها بالمعنى الذي بنيت عليه مذهبك؟ أم أردت التمكين من معرفة الحق فهو قولنا وهو لهم على سواء فيما نحتاج إليه، وإلا كان تكليفًا بما لا يطاق إلا أن الفائز أحسن النظر لنفسه دون الآخر؟ أم أردت أنها غير هذين المعنيين فما هو؟ ثم إنا لا نسلم حصر المعين على الباري تعالى، فإنا نعلم أن للأنبياء والعلماء والصالحين تأثيرًا في الإعانة على معرفة الحق، ولذا أمر الله بالتعاون على البر والتقوى، وبعث الرسل وأوجب الجهاد والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، إذ لو لم يكن لذلك تأثيرٌ لكان عبثًا.
وأما قوله: لو كان المعين بشرًا...إلخ فمقصوده بعود الطلب فيه أنه يقال: هل فعل لمرجح أم لا؟ إلى آخر ما يذكره في مثل هذا. وقد نبهنا على تقدم الجواب عليه.
وبما قررنا يظهر لك أنه لا حجة لهم في الآية على الجبر، وقد استدل بها بعض العدلية على صحة مذهبنا في أفعال العباد؛ لأن الاستعانة لا تكون إلا إذا كان العبد متمكنًا من أصل الفعل فيطلب الإعانة من الغير، وأما مع عدم القدرة عليه فلا فائدة للاستعانة، ألا ترى أنه لا يحسن من أحدنا طلب الإعانة على نتق الجبل وإحياء الميت، ولو فعل ذلك لقطعنا بجنونه.
واعلم أن الله تعالى قد حث على الاستعانة في كتابه، وورد في السنة وخطب أمير المؤمنين عليه السلام وكلام الأئمة والعلماء والصالحين وخطبهم ما يدل على الحث عليها قولاً وفعلاً.
ومعنى إعانة الله للعبد: هو اللطف والتوفيق وزيادة الهدى وحفظ الصحة ودفع الآفة عن الجوارح ونحو ذلك مما تحصل به المعونة.
وعن (ابن مسعود) قال: علّمنا رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم التشهد في الصلاة إلى قوله: والتشهد في الحاجة إن الحمد لله نستعينه ونستغفره... الخبر رواه الترمذي وصححه، وأخرجه جماعة من المحدثين.
ومن كلام علي عليه السلام : (اجعلوا ما افترض الله عليكم من طلبكم، واسألوه من أداء حقه ما سألكم). رواه في النهج.
وقال زيد بن علي عليه السلام في الآية: {وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ}[ الفاتحة:5 ] على عبادتك، فأمرهم تبارك وتعالى أن يستعينوا به فيما يتعبدهم في كل أمورهم؛ لأنهم لا ينالون خيرًا إلا بالله تعالى، وقد كان الكفار يستعينون بآلهتهم التي كانوا يعبدون من دون الله تعالى فأمر الله المؤمنين أن يخلصوا ذلك له.
وقال الهادي عليه السلام بعد أن ذكر أصنافًا من رياضة النفس ما لفظه: وأصل ذلك كله وفرعه والذي هو عون لصاحبه على نفسه فهو إخلاص النية إلى ربه، والاستعانة به على نفسه، فإن من خلصت له نيته وصلحت له علانيته أصلح الله سريرته وقواه على إرادته بالتوفيق والتسديد والمعونة والتأييد؛ لأنه إذا كان منه ما ذكرنا من إخلاص النية والإرادة والإقبال إلى الله تعالى والتوبة فقد اهتدى، وإذا اهتدى فقد قبله الله تعالى فزاده هدى، ومن زاده هدى فقد أعانه على طاعته وتقواه، وقد تضمن كلامه عليه السلام بيان السبب الذي تستحق معه المعونة وبيان معناها.
تنبيه [في جواز وصف الباري بالمستعان]
يؤخذ من الآية جواز وصف الباري بمستعان وقد نطق به القرآن، وكذلك بمعين بشرط التقييد بكونه معينًا على الطاعة، قال في الإحاطة: ويوصف بأنه معين على الطاعات ومعين للمؤمنين إذا فعل ما يزيد عنده فعل من يعينه، ولا يوصف بأنه معين للكفار على كفرهم لأنه لا يجوز أن يريده.
فائدة [في اطلاق الاستعانة]
قيل: أطلقت الاستعانة لتتناول كل مستعان فيه، ويؤيده ما في الدر المنثور عن ابن عباس في {وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ}[الفاتحة:5] قال: على طاعتك، وعلى أمورنا كلها.
وقال (الزمخشري): الأحسن أن تراد الاستعانة به وبتوفيقه على أداء العبادة، ويكون قوله: {اهْدِنَا}بياناً للمطلوب من المعونة كأنه قيل: كيف أعينكم؟ فقالوا: {اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ}[الفاتحة:6] قال: وإنما كان أحسن لتلاؤم الكلام وأخذ بعضه بحجزة بعض.
قال (الشريف): أي لتناسب الجمل الواقعة فيه، وانتظام بعضها مع بعض، حيث دل {وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ}[الفاتحة: 5] على طلب الإعانة على العبادة فصار {اهْدِنَا}بيانًا للإعانة المطلوبة، فانتظمت الجمل الثلاث انتظامًا لمزيد ارتباط بينها.
فائدة أخرى [في فضل الاستعانة]
في (الدر المنثور) أخرج أبو القاسم البغوي والماوردي معًا في معرفة الصحابة والطبراني في الأوسط، وأبو نعيم في الدلائل عن أنس بن مالك عن أبي طلحة قال: كنا مع رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم في غزاة فلقي العدو فسمعته يقول: ((يا مالك يوم الدين إياك نعبد وإياك نستعين)) قال: فلقد رأيت الرجال تصدع تضربها الملائكة من بين يديها ومن خلفها.
وفي (شرح النهج) عن نصر بن مزاحم قال: حدثنا عمرو بن شمر عن جابر الجعفي قال: كان علي عليه السلام إذا سار إلى قتال ذكر اسم الله قبل أن يركب، كان يقول: (الحمدلله على نعمه علينا وفضله، سبحان الذي سخر لنا هذا وما كنا له مقرنين وإنا إلى ربنا لمنقلبون، ثم يستقبل القبلة ويرفع يديه إلى السماء ويقول: اللهم إليك نقلت الأقدام، وأتعبت الأبدان، وأفضت القلوب، ورفعت الأيدي، وشخصت الأبصار، ربنا افتح بيننا وبين قومنا بالحق وأنت خير الفاتحين، ثم يقول: سيروا على بركة الله، ثم يقول: الله أكبر ألله أكبر لا إله إلا الله، الله أكبر، يا ألله يا أحد يا صمد، يا رب محمد، اكفف عنا بأس الظالمين، الحمدلله رب العالمين الرحمن الرحيم مالك يوم الدين إياك نعبد وإياك نستعين، بسم الله الرحمن الرحيم، لا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم)، قال: وكانت هذه الكلمات شعاره بصفين.
قوله تعالى: {اهدنا الصراط المستقيم}
من سورة الفاتحة
قوله تعالى: {اهدنا الصراط المستقيم}
فيه مسائل:
المسألة الأولى [معاني الهدى]
الهدى في اللغة على وجوه:
أحدها: بمعنى الدلالة والإرشاد، وقيده الراغب باللطف، ومنه قوله تعالى: {إِنَّ عَلَيْنَا لَلْهُدَى}[الليل:12]، وهذا النوع قد عم الله به عباده البر والفاجر، والمسلم والكافر، وذلك بإكمال العقل والفطنة وغيرهما، وهذا هو الهدى الذي يتفضل الله به ابتداء.
قال (الهادي) عليه السلام : أما الهدى المبتدئ فقد هدى الله به البر والفاجر وهو العقل والرسول والكتاب، ومثله في البساط للناصر عليه السلام ، وفي الحقائق، ومفردات الراغب، ويدل عليه قوله تعالى: {إِنَّا هَدَيْنَاهُ السَّبِيلَ إِمَّا شَاكِراً وَإِمَّا كَفُوراً}[الإنسان:3 ] وقوله في القرآن: {هُدًى لِلنَّاسِ}[البقرة:185 ] وفي الرسول: {هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدَى}[التوبة:33].
الثاني: بمعنى الدعاء إلى الخير، ومنه: {وَجَعَلْنَا مِنْهُمْ أَئِمَّةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنَا}[السجدة:24] وهو راجع إلى الوجه الأول، وإن كان الراغب قد جعله نوعًا آخر.
الثالث: التوفيق الذي يختص به الباري تعالى من اهتدى، قال الناصر عليه السلام ما معناه: وقد يزيد الله تعالى من أطاعه واتبع ما دل عليه وهداه له للطفه من شرح صدره، وفتح سمعه وبصره، وتذكية قلبه حتى يزداد بصيرة في دينه ومعرفته ويقينه كما قال تعالى: {فَهَدَى اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا لِمَا اخْتَلَفُوا فِيهِ مِنَ الْحَقِّ}[البقرة:213 ]وقال: {وَمَنْ يُؤْمِنْ بالله يَهْدِ قَلْبَهُ}[التغابن:11 ]وقال: {وَالَّذِينَ اهْتَدَوْا زَادَهُمْ هُدىً}[محمد:17].
ومثله للهادي عليه السلام والإمام أحمد بن سليمان عليه السلام ، وهو قول العدلية جميعًا، فإني لا أعلم بينهم خلافًا في صحة إطلاق الهدى بمعنى التوفيق والتسديد.
قال (الهادي) و(الناصر) عليهما السَّلام : وذلك من الله جزاء للمطيعين على أعمالهم الصالحة، ومكافأة على فعلهم، وفي كلام الإمام أحمد بن سليمان عليه السلام ما يدل على أن ما كان بمعنى التوفيق والتسديد لا يسمى جزاء، وإنما هو تفضل كما في قوله: {وَلَكِنَّ اللَّهَ حَبَّبَ إِلَيْكُمُ الإِيمَانَ}[الحجرات:7] إلى قوله: {فَضْلاً مِنَ اللَّهِ وَنِعْمَةً}[الحجرات:8] قال: فبين أنه فضل والفضل غير الجزاء.
الرابع: بمعنى الهداية في الآخرة إلى الجنة والتقديم إليها قوله تعالى:{ سَيَهْدِيهِمْ وَيُصْلِحُ بَالَهُمْ}[محمد:5]. ذكره الراغب.
وقال القرشي: هي في الآية بمعنى الثواب كما في قوله تعالى: {يَهْدِيهِمْ رَبُّهُمْ بِإِيمَانِهِمْ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهِمُ الأَنْهَارُ}[يونس:9] قال الراغب: وهذه الهدايات الأربع مترتبة، فإن من لم يتحصل له الأولى لا تحصل له الثانية، بل لا يصح تكليفه ومن لم تحصل له الثانية لا تحصل له الثالثة والرابعة، ومن حصل له الرابع فقد حصل له الثلاث التي قبلها، ومن حصل له الثالث فقد حصل له اللذان قبله ثم تنعكس فقد تحصل الأولى ولا يحصل له الثاني ولا الثالث.
قلت: إنما قال قد يحصل الأول دون الثاني لأنه قصر الوجه الأول على حصول العقل والفطنة، وجعل الكتاب والرسول من الثاني، وقد نبهنا عليه، وإنما جعلناه قسمًا مستقلاً مع أنا قد ضمناه الوجه الأول لنرتب عليه كلام الراغب الذي حكيناه في ترتب الهدايات الأربع، ثم أنه لا يصح انفراد الأولى عن الثانية إلا على القول بجواز انفراد التكليف العقلي عن الشرعي.
الوجه الخامس: بمعنى الثواب يهديهم ربهم بإِيمانهم تجري من تحتهم الأنهار.
السادس: الفوز والنجاة قال تعالى: {لَوْ هَدَانَا اللَّهُ لَهَدَيْنَاكُمْ} [إبراهيم:21] أي: لو أنجانا.
السابع: بمعنى الحكم والتسمية، ذكره الناصر والقرشي وغيرهما، قال تعالى: {مَنْ يَهْدِ اللَّهُ فَهُوَ الْمُهْتَدِي}[الإسراء:97 ]ومن المعلوم أن الله قد هدى الناس جميعًا بالدلالة والإرشاد، فلا بد وأن يكون للآية هنا معنى غير ذلك، ولا يصح أن يكون بمعنى التوفيق لأنه مترتب على قبول الهدى وحصول الاهتداء، والآية قد دلت على أنه لا يوصف بالاهتداء إلا من يهديه الله فلم يبق إلا أن يكون معناها أن من حكم الله له بالهداية ووصفه بها فهو المهتدي حقًا؛ لأنه لا يحكم له بذلك إلا عن علم.
هذا هو الظاهر من تقرير الاحتجاج بالآية لأن الناصر عليه السلام احتج بها ولم يحرر الاحتجاج بها على ما ينبغي، لكن هذا هو الظاهر من كلامه. والله أعلم.
ومن الأدلة على ذلك قوله تعالى: {فَمَا لَكُمْ فِي الْمُنَافِقِينَ فِئَتَيْنِ}[النساء:88 ]إلى قوله: {أَتُرِيدُونَ أَنْ تَهْدُوا مَنْ أَضَلَّ اللَّهُ}[النساء:88 ]المعنى: أتريدون أن تسموا مهتديًا من سماه الله ضالاً وحكم عليه بذلك، وقول الشاعر:
ما زال يهدي قومه ويضلنا .... جهلاً وينسبنا إلى الكفار
فإن قيل: هل الهدى مشترك بين هذه المعاني فيكون حقيقة في الكل أم هو حقيقة في بعض مجاز في البواقي؟ قيل: قد قال بعضهم: إنه حقيقة في الدلالة والبيان لتبادر الفهم إليها عند الإطلاق، مجازٌ في البواقي.
قال الإمام (المهدي) عليه السلام وهو الأقرب: والظاهر أنه حقيقة في الكل؛ لأن أئمة العترة وعلماء الأمة نقلوا هذه المعاني عن أهل اللغة ولم يفرقوا بينها بالحقيقة والمجاز، بل رووها عن العرب، وقد اعتمدنا في النقل على الكتب الموضوعة في مفردات اللغة وعلى ما ذكره أئمة العترة عن العرب.
قال (الناصر) عليه السلام : الهدى منه سبحانه له وجوه ومعان بينة واضحة موصوفة في لغة العرب وعند أهل الفصاحة والبيان، ثم ذكر ما حكيناه عنه من المعاني.
وقال (زيد بن علي) عليهما السَّلام في (تفسير الغريب): الهداية التثبيت، والهداية العون، والهداية البيان.
وقال ابن جرير: الهداية في كلام العرب بمعنى التوفيق أكثر وأظهر من أن يحصى، عدد ما جاء عنهم من الشواهد في ذلك ثم استدل على ذلك، ومن جملة أدلته قوله:
ولا تعجلني هداك المليك .... فإن لكل مقام مقالاً
قال: فمعلوم أنه إنما أراد وفقك الله لإصابة الحق في أمري، ومنها: قوله تعالى: {وَاللَّهُ لاَ يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ}[التوبة:19 ]إذ المعلوم أنه لم يرد أنه لا يبين لهم الواجب عليهم، وكيف يجوز ذلك وقد عم بالبيان المكلفين فلم يبق إلا أن المراد بالآية أنه لا يوفقهم ولا يشرح صدورهم.
ونص (أبو السعود): على أن الهدى بمعنى الزيادة حقيقة؛ لأن الهداية الزائدة هداية كما أن العبادة الزائدة عبادة، وعلى الجملة فإن كل من حكى معنى من هذه المعاني لم يلمح إلى كونه مجازًا، بل يطلقون استعمالها في تلك المعاني، والإطلاق دليل الحقيقة، إذ لو كانت مجازًا في شيء منها لوجب نصب القرينة، إذا عرفت هذا فاعلم أنه قد تكرر في كتاب الله تعالى ذكر الهدى، وظاهر الآيات التعارض لأنه تارة يثبت الهداية لعموم المكلفين، وتارة ينفيها عن بعضهم كما في قوله: {وَاللَّهُ لاَ يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ}[التوبة:19 ]وقد ثبت قطعًا أن القرآن أفصح الكلام وأنه لا تناقض فيه، وسبيل التخلص من هذا الظاهر أن ترجع كل آية إلى أحد المعاني المذكورة التي يمكن حملها عليه مع ملاحظة دليل العقل، وما يجوز أن يضاف إلى الباري وما لا يجوز كما فعل ابن جرير في قوله تعالى: {وَاللَّهُ لاَ يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ}[التوبة:19 ]فإنه لما علم أن حمل الهدى على الدلالة يؤدي إلى خلاف المعلوم عدل عنه، وهكذا في كل آية بحسبها، وقد جمعنا لك المعاني التي ترجع إليها، وصححناها عن أهل اللغة لعدالة ناقليها والحمدلله.
فإن قلت: فما معنى الهداية المطلوبة بقوله: {اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ}[الفاتحة: 6]؟ قلت: قد اختلفوا في ذلك على أقوال أحدها: أن المراد بها الثبات، وهذا مروي عن علي عليه السلام وأبي، رواه عنهما في الكشاف، وهو ظاهر قول زيد بن علي عليهما السَّلام فإنه قال في تفسير الآية: أمرهم أن يسألوه الهدى والاستقامة وهما الصواب في كل قول وعمل، وعليه بعض المفسرين، وقالوا: هو كما تقول للقائم: قم حتى أعود إليك، أي: اثبت ودم على ما أنت عليه، ونظيره: قوله تعالى: {رَبَّنَا لاَ تُزِغْ قُلُوبَنَا...}[آل عمران:8 ]الآية.
وهذا وجه حسن فكم من عالم زل بسبب الشبهة وانحرف عن الصراط المستقيم، وهو عند التحقيق راجع إلى معنى التوفيق إذ معناه: الدعاء بالحفظ عن استغواء الغواية، واستهواء الشهوات، والانقياد للشبهات.
الثاني: أن المراد طلب التوفيق بمنح الألطاف وزيادة الهدى الموعود به في قوله تعالى: {وَالَّذِينَ اهْتَدَوْا زَادَهُمْ هُدًىَّ}[محمد:17] وعليه يحمل تفسير ابن عباس لها بالإلهام، وهذا اختيار جماعة منهم: ابن جرير والزمخشري؛ إذ لا يجوز أن يكون المقصود طلب الدلالة والبيان، فإن من خص الله تعالى بالحمد والثناء وحصر العبادة والاستعانة فيه لا يكون إلا مهتديًا، فلو كان طالبًا لذلك لكان من طلب تحصيل الحاصل، وأيضًا فإنه تعالى عدل لا يكلفنا إلا بعد الهداية التي بمعنى البيان والدلالة، وإلا كان تكليفًا بما لا يعلم وهو قبيح، فتعين أن المراد به التوفيق المذكور والمعونة، ولا يجوز أن يكون طلبًا للزيادة في المعونة على ما قد مضى من علمه؛ لأن ما قد مضى وانقضى لا يحتاج إلى المعونة فيه قطعًا، وإنما يحتاج إلى المعونة في العمل المستقبل، ذكر معناه ابن جرير.
الثالث: أن المعنى هو سؤال الهداية إلى الجنة في الآخرة أي: أسلكنا طريق الجنة في المعاد، وقدمنا له وامض بنا إليه كما في قوله: {فَاهْدُوهُمْ إِلَى صِرَاطِ الْجَحِيمِ}[الصافات:23 ] وكما تهدى المرأة إلى زوجها أي: تدخل إليه، والهدية إلى الرجل أي: توصل وتقدم إليه، ورد بأن قوله: {إِيَّاكَ نَسْتَعِينُ}[الفاتحة:5 ]طلب للمعونة على العبادة، فكذلك يجب أن يكون قوله: {اهْدِنَا} طلبًا للثبات والمعونة عليها حفظًا لنظم القرآن عن عدم التلاؤم، وأيضًا فإن المفسرين من الصحابة وغيرهم كالمجمعين على أن معنى الصراط هنا غير طريق الجنة.
الرابع: أن المراد طلب الهداية التي بمعنى الدلالة والإرشاد، وقد ورد مرفوعًا في حديث أخرجه البيهقي عن ابن عباس من طريق مقاتل بن سليمان وفيه تفسير اهدنا بـ: أرشدنا، وقال الإمام المهدي عليه السلام : الهدى في الآية بمعنى الانسلاك، أي أقدرنا على سلوكه، وليس المعنى الدلالة إذا حملنا الصراط على الصراط الأخروي، إذ كل أحد يمر عليه لكن الصالح يجاوزه إلى الجنة، والطالح ينهفت في النار. ومن حمله على طريق الحق، فالهدى بمعنى الدلالة والبيان، أي عرفنا الحق وألهمناه، ثم اختلفوا فيما به يتخلّص من الإشكال المتقدم، وهو أن طلب ذلك يكون من تحصيل الحاصل إلى آخر ما مر على وجوه:
أحدها: أنا أمرنا أن نقوله تعبداً لنثاب عليه، كما أمرنا بسؤال الصلاة على النبي صلى الله عليه وآله وسلم ، وإن كان قد صلى الله عليه في قوله: {إِنَّ اللَّهَ وَمَلاَئِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ}[الأحزاب:56].
الثاني: أن المطلوب الهداية إلى صراط الأولين من الأنبياء والصالحين في تحمل ما يشق لأجل مرضاة الله تعالى.
الثالث: أن العلم النظري يقبل الزيادة بزيادة الأدلة، وربما صح دين الإنسان بدليل واحد وبقي غافلاً عن سائر الأدلة إذ لا موجود من الممكنات إلا وفيه دلالة على وجود الله وقدرته وعلمه وحكمته، فكأنه قال: عرفنا ما في كل شيء من الدلالة على ذاتك وصفاتك، وهذا وجه غير مخلص لأنه راجع إلى طلب الزيادة، وقد ذكر الرازي وغيره وجوهًا غير مخلصة ولا دليل عليها، وأقرب الوجوه المذكورة الأول ولم يذكره الرازي، وقال المقبلي: المطلوب مستقبل أبدًا وما عليه المطلوب منه في الحال غير منظور فلا يخل بالكلام إنصافه في الحال بما طلب منه في المستقبل فهو مثل قوله: {وَلاَ تَمُوتُنَّ إِلاَّ وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ}[آل عمران:102 ]وصل غدًا ومثل ما صليت اليوم، وليجرى على هذا لقوم يؤمنون يوقنون يعلمون يتفكرون، وسائر التراكيب ذكره في الأبحاث.
المسألة الثانية [حاجة العبد إلى ربه]
في قوله: {إِيَّاكَ نَسْتَعِينُ}[الفاتحة:5وقوله]: {اهْدِنَا}دليل واضح وبرهان صريح على أنه لا غناء للعبد عن ربه في أمر دينه ودنياه، وإلا لما كان للاستعانة وطلب الهدى معنى، وذلك واضح، وقال ابن جرير: في الآية رد على القدرية الزاعمين أن كل مأمور بأمر قد أعطي من المعونة عليه ما قد ارتفعت معه في ذلك للمأمور به حاجته إلى ربه، ولو كان الأمر كذلك لبطل معنى قوله تعالى: {اهْدِنَا}، أقول: ولا أدري من أراد بالقدرية؟ هل ثمة فرقة تقول بهذا القول فقد أصاب في الرد عليهم، أم أراد به أئمة العدل لأنهم يرمونهم بهذا الاسم، فلعله قد توهم ذلك من إثباتهم الاختيار للعبد والتصرف بحسب قصده وداعيه، ولا وجه له لأن إثبات اختيار العبد لا يستلزم ما توهمه، ولأنهم قد صرحوا بخلافه، وقد مر بعض كلامهم في أول الاستعاذة وفيما بعدها من المباحث، وهذا إمامهم زيد بن علي عليهما السَّلام قد تقدم عنه قريبًا أن العباد لا ينالون خيرًا إلا بالله.
وقال الناصر عليه السلام : فتبارك الله أحسن الخالقين المنعم الموفق للدين، والواهب المعرفة به وحسن اليقين، ولو تتبعت كلام أئمة العترة وغيرهم من العدلية لوجدتهم كلهم مجمعين على أنه لا غناء للعبد عن ربه وعن ألطافه ومعونته، وقال السيد مانكديم- في الرد على المجبرة لما استدلوا على عدم تقدم القدرة لمقدورها بأنها لو تقدمت لوجب انقطاع الرغبات عن الله، وذلك بخلاف ما عليه المسلمون، فإن رغباتهم لا تنقطع فأجاب: بأنه يلزم ذلك لو لم يجوّز انتفاء القدرة بعد وجودها، فأما مع جواز انتفائها بأدنى تعب فلا، فلو كان مذهب العدلية ما ذكره ابن جرير لم يكن لإلزامهم بعين مذهبهم فائدة، ولكان جواب السيد بالتزامه، ولكنه كما ترى إنما أجاب بعدم اللزوم، وأن العبد مفتقر إلى ربه في حفظ ما أعطاه من القوة، وهذا افتقار لا ينفك عنه العبد، وعلى الجملة فإن العدلية إنما ينفون إيجاب ما يعطيه الله العبد من القدرة واللطف والمعونة، ويثبتون اختيار العبد مع اعترافهم بعدم استقلاله بفعله على وجه يستغني به عن ربه.
المسألة الثالثة: { اهْدِنَا} صورته صورة الأمر
ومعناه: الدعاء والرغبة، وقد ذكر الأصوليون وغيرهم لصيغة: (افعل) وما يقوم مقامها معاني كثيرة:
أحدها: الوجوب وهو طلب الفعل على جهة الاستعلاء والجزم كـ:{أَقِيمُوا الصَّلاَةَ}[البقرة:43].
الثاني: الندب وهو ما لم يكن فيه جزم من الطلب نحو: {فَكَاتِبُوهُمْ إِنْ عَلِمْتُمْ فِيهِمْ خَيْراً}[النور:33]، قيل: ومنه التأديب والإرشاد، أما التأديب فكقوله صلى الله عليه وآله وسلم لعمر بن أبي سلمة وهو دون البلوغ ويده تطيش في الصحفة: ((كل مما يليك)). رواه الشيخان من حديثه، ووجه عده من المندوب، أن الأدب مندوب إليه إلا أنه متعلق بمحاسن الأخلاق فهو أخص من المندوب، وأما الإرشاد فكقوله تعالى: {فَاكْتُبُوهُ} ولا يكون بمعنى الندب إلا إذا قصد به العمل بما أرشد إليه الشارع سواء قصد مع ذلك غرض نفسه أم لا، إلا أن ثوابه ينقص مع مشاركة الغرض، فأما إذا لم يأت به إلا لمجرد غرضه فلا يدخل في الندب ولا يستحق عليه ثوابًا، وهو إذا دخل في الندب أخص منه لأنه يختص بمنافع الدنيا، والندب يعمه ويعم التأديب.
وقال (الغزالي): وصاحب جمع (الجوامع): هما مغايران للندب، ووافقهما الرازي وصاحب الفصول في الإرشاد، قال في شرح الغاية: ومنهم من فرق بين التأديب والندب بأن بينهما عمومًا وخصوصًا من وجه؛ لأن الأدب يتعلق بمحاسن الأخلاق أعم من أن يكون المكلف وغيره، ويدل عليه أن عمر بن أبي سلمة كان إذ ذاك صغيرًا، ولهذا جاء في بعض الروايات: يا غلام سم الله... إلى آخره، والندب يختص بالمكلفين، وهو أعم لشموله لمحاسن الأخلاق وغيرها وبين الإرشاد والندب بأن الأول لا ثواب فيه، والثاني فيه الثواب، قال المحشي: فهما متباينان، قال الشارح: ويمكن الدفع بأن الخطاب وإن كان لعمر بن أبي سلمة فالمراد به التأديب لكل الأمة فلا يضر مع ذلك صغره، ولا يخرج الأدب عن أن يكون مندوبًا، ثم ذكر أن الظاهر أن من قصد الاقتداء والعمل بإرشاد الكتاب والسنة لا يحرم الثواب؟
قلت: يعني وهذا هو معنى الندب.
فائدة [فيما يستثنى من جولان اليد في الأكل]
قد استثنى من أمره صلى الله عليه وآله وسلم لعمر بن أبي سلمة بالأكل مما يليه الفاكهة لما في الشفاء عنه صلى الله عليه وآله وسلم كان إذا قرب إليه الطعام أكل من بين يديه ولم يعده إلى غيره، وإذا وضع التمر جالت يده في الإناء.
قال (الأمير الحسين): دل على أنه يستحب له أن يأكل من بين يديه إلا التمر فإنه يجوز تناوله على سبيل التخيير ولا يكره، وكذلك سائر الفواكه قياسًا عليه.
نعم ظاهر كلام العلماء أن الأمر هنا ليس للوجوب، وروي عن الشافعي النص على تحريم الأكل مما يلي غيره أو من رأس الطعام لظاهر النهي، وهذا البحث عارض، وقد استفدنا منه دخول التأديب في الندب على ما تقتضيه عبارات أئمة الفقه. والله أعلم.
والعلاقة بين الندب والوجوب إطلاق اسم المقيد على المطلق؛ لأن المعنى الحقيقي للصيغة هو طلب الفعل مع المنع من الترك فاستعملت في مطلق الطلب.
الثالث: الإباحة نحو: {كُلُوا مِنَ الطَّيِّبَاتِ}[المؤمنون:51 ]ونحو: جالس الحسن أو ابن سيرين، أي يباح لك أن تجالس أحدهما أو كليهما وأن لا تجالس أحدهما، وتفارق التخيير الذي له نحو هذا التركيب بأنه لا يجوز الجمع بين الأمرين في التخيير دون الإباحة، وكلها ظاهرة أن الإباحة غير مستفادة من (أو) بل من الصيغة (واو) كأنها قرينة (و) عند النحويين أنها مستفادة من (أو) قيل: والتحقيق أن المستفاد من الصيغة مطلق الإذن، ومن(أو) الإذن في أحد الشيئين مثلاً، وما وراء ذلك من جواز الجمع بينهما وتركهما فبالقرائن.
وقال (السبكي): إن الأصوليين قاطبة فسروا الإباحة بالتخيير وإن كان التحقيق خلافه، فإن الإباحة هي إذن في الفعل وإذن في الترك ينظم إذنين معاً، والتخيير إذن في أحدهما لا بعينه، ومن الإباحة الإذن كقولك لمن طرق الباب: أدخل، وقوله تعالى: {وَإِذَا حَلَلْتُمْ فَاصْطَادُوا}[المائدة:2 ]وجعله صاحب الجمع قسمًا مستقلاً، ولعل الفرق: أن الإذن فيما تقدمه حظر، فعلى هذا يكون أخص وليس بمباين، ومنها: الامتنان نحو: {كُلُوا مِمَّا رَزَقَكُمُ اللَّهُ}[المائدة:88 ]وبعضهم يسميه: الإنعام، وبعضهم فرق بينهما وجعل الأول ما أريد به الامتنان كالمثال، والثاني ما قصد به تذكير النعمة نحو: {كُلُوا مِنْ طَيِّبَاتِ مَا رَزَقْنَاكُمْ}[الأعراف:160 ]ولم يظهر بينهما فرق، ومنهم من فرق بينهما وبين الإباحة، ولعله بكونها أعم.
ومنها: الإكرام نحو: {ادْخُلُوهَا بِسَلاَمٍ}[الحجر:46 ]وبعضهم جعله مستقلاً والعلاقة بين الطلب والإباحة، قيل: هي التضاد لأن إباحة كل من الفعل والترك تضاد إيجاب أحدهما، وقيل: مطلق الإذن العام فهو من استعمال الأخص في الأعم مجازًا مرسلاً؛ لأن صيغة الأمر موضوعة للمأذون فيه المطلوب طلبًا حازمًا فاستعملت في المأذون فيه من غير قيد بطلب.
الرابع: التهديد أي: التخويف، وذلك إذا استعملت صيغة الأمر في مقام عدم الرضاء بالمأمور به نحو: {اعْمَلُوا مَا شِئْتُمْ} [فصلت:40]: ومنه الإنذار إلا أن التهديد أعم لأن الإنذار تخويف مع إبلاغ كما في قوله تعالى: {قُلْ تَمَتَّعُوا فَإِنَّ مَصِيرَكُمْ إِلَى النَّارِ}[إبراهيم:30 ]فصيغة تمتعوا مع ما بعده تخويف بأمر مع إبلاغه عن الغير، والتهديد تخويف مطلقًا سواء كان مصحوبًا بإبلاغ أو لا، بأن كان من عند نفسه فيكون أعم من الإنذار لتقييد الإنذار وإطلاقه، وقد دل ما ذكرنا على أنه يشترط في المنذر أن يكون مرسلاً من الغير، وقيل في وجه العموم أن الإنذار يجب أن يكون مقرونًا بالوعيد، والتهديد لا يجب فيه ذلك، وقيل: الإنذار أعم؛ إذ لا يشترط الإرسال، واختاره ابن يعقوب لأنه يقال لمن أعلم قومًا بأن جيشًا يصبحهم: أنه أنذرهم وإن لم يرسل بذلك، فعلى هذا التهديد تخويف الغير مما يكون من قبل المتكلم، والإنذار تخويف بما يكون من قبله أو من قبل غيره، وقيل: بل وجه عمومه أن التهديد عرفًا أبلغ في الوعيد والغضب من الإنذار، وقيل: هما متباينان لأن الجوهري فسر التهديد بالتخويف، والإنذار بإبلاغ المخوف، ذكره في شرح الغاية.
والذي حكاه (سعد الدين عن الجوهري): أن الإنذار تخويف مع دعوة، وعلى هذا فلا مباينة، بل التهديد أعم. قال الدسوقي: لأن الإنذار تخويف مع دعوة لما ينجي من المخوف، وأما التهديد فهو تخويف مطلقًا، فالإنذار أخص من التهديد على ما في الصحاح.
قلت: وفي كلام الصحاح دليل على اشتراط الرسول لأنه اعتبر في مفهومه الدعوة، والعلاقة في التهديد بنوعية التضاد باعتبار المتعلق، وذلك لأن المأمور به إما واجب أو مندوب، والمهدد عليه إما حرام أو مكروه، ولهذا يقال: التهديد لا يصدق إلا مع الحرام والمكروه، وقيل: بل العلاقة السببية لأن إيجاب الشيء يتسبب عنه التخويف على مخالفته أو المشابهة بجامع ترتب العذاب على كل من الأمر والتهديد عند الترك.
الخامس: التسخير أي: جعل الشيء مسخرًا منقادًا لما أمر به، ولا يستعمل ذلك إلا في مقام يكون المأمور منقادًا للآمر لا يقع منه تخلف، وقال ابن يعقوب وغيره: هو التبديل من حالة إلى أخرى فيها مهانة ومذلة كقوله تعالى: {كُونُوا قِرَدَةً خَاسِئِينَ}[البقرة:65 ]أي: صاغرين مطرودين عن ساحة القرب والبعد، قال ابن يعقوب: والفرق بينه وبين التكوين: أن التسخير تبديل من حالة إلى أخرى أخس منها، والتكوين إنشاء من عدم لوجود، ويوجد استعمال الأمر فيه كقوله تعالى: {كُنْ فَيَكُونُ}[البقرة:117 ]والتعبير عن الإيجاد بـ:كن إيماء إلى أنه يكون في أسرع لحظة وأنه طائع لما يراد، فكأنه إذا أمر ائتمر، قال: ويحتمل أن يكون التكوين أعم بأن يراد به مطلق التبديل إلى حالة لم تكن، ويراد بالتسخير ما تقدم، وظاهر قوله: ويوجد استعمال الأمر فيه: أن التسخير قد لا يصدر فيه قول، وقد ذكره السبكي فإنه قال: فإما أن يكون المراد أنه لم يصدر قول ولكن حالهم حال من قيل لهم ذلك، ويكون المراد: أنه قيل لهم ذلك قولاً لم يقصد به طلب، بل قصد به الإخبار عن هوائهم، قال: وعلى التقديرين يكون خبرًا.
وفي الإتقان: أنه عبر به -أي بكونوا- عن نقلهم من حالة إلى حالة، إذلالهم، وما ذكره السبكي من كونه خبرًا هو أحد احتمالين ذكرهما الدسوقي ولفظه: واعلم أن صيغة الأمر إذا استعملت في التسخير أو في الإهانة يحتمل أن تكون إنشاء أي: إظهارًا لمعناها وهو الذلة والحقارة، ويحتمل أن تكون إخبارًا بالحقارة والمذلة فكأنه قيل: على هذا هم بحيث يقال فيهم أنهم أذلاء محتقرون ممسوخون، قال: وكونها للإخبار في الإهانة أظهر منه في التسخير، والعلاقة على القول الأول أعني: المصدرية السببية لأن إيجاب شيء لا قدرة للمخاطب عليه بحيث يحصل بسرعة من غير توقف يتسبب عنه التسخير لذلك على قول ابن يعقوب المشابهة في مطلق الإلزام، فإن الوجوب إلزام المأمور، والتسخير إلزام الذل والهوان، وجعل السبكي العلاقة تحتم مقتضاه لتحتم مقتضى الخبر عن الماضي، وفي شرح الغاية: أن العلاقة فيه وفي التكوين إما مجرد الطلب، وإما مشابهتهما للواجب في التحتم.
السادس: الإهانة وهي إظهار ما فيه تصغير المهان وقلة المبالاة به كقوله تعالى: {كُونُوا حِجَارَةً أَوْ حَدِيداً}[الإسراء:50]: ومنه التهكم، قال في شرح الغاية: وضابطه: أن يؤتى بلفظ ظاهره الخير والكرامة والمراد ضده، وقريب من الإهانة التحقير كقوله تعالى-حاكيًا عن موسى: {أَلْقُوا مَا أَنْتُمْ مُلْقُونَ}[الشعراء:43 ]أي: ما جئتم به من السحر حقير بالنسبة إلى المعجزة، وإنما قيل إِنه قريب منها لأن كل محتقر في الاعتقاد أو في الظاهر فهو مهان في ذلك الاعتقاد أو الظاهر، وإن كانت الإهانة إنما تكون بالقول أو الفعل، والاحتقار كثيرًا ما يقع في الاعتقاد.
والحاصل أنه إن شرط في الإهانة إظهار ذلك قولاً أو فعلاً كانت أخص من التحقير، وإلا فهما شيء واحد.
قلت: ظاهر ما في القاموس في تفسير الإهانة والاستحقار أنهما بمعنى واحد لأنه فسرهما بالذل، وفي المختار: ما يدل على الفرق لأنه فسر الإهانة بالذل، والاستهانة بالاستحقار، والاستحقار بالتصغير، فعلى هذا تكون الإهانة أعم لإطلاقها على الذل والتحقير، وقد عده صاحب الجمع وغيره قسمًا مستقلاً والفرق بين الإهانة والتسخير: أن التسخير يحصل فيه الفعل حال إيجاد الصيغة فإن مسخهم وتبديلهم بحال القردة واقع حال إيجاد الصيغة، والإهانة لا يحصل فيها الفعل أصلاً لحصوله قبل، بل المراد إظهار تحقيرهم وقلة المبالاة بهم، وظاهره: أن الإهانة أعم لأنها تلازم التسخير، وقد صرح به السبكي والسيوطي، والعلاقة.
قيل: مطلق الإلزام كما مر، وقيل: المضادة لأن في الإيجاب تشريف بالتأهيل والخدمة لله تعالى.
السابع: التسوية، وذلك في مقام يتوهم أن أحد الشيئين أرجح من الآخر لقوله تعالى: {فَاصْبِرُوا أَوْ لاَ تَصْبِرُوا}[الطور:16 ]فإنه ربما يتوهم أن الصبر نافع، فدفع ذلك بالتسوية بين الصبر وعدمه، فالصيغة ليس المراد بها الأمر بالصبر اتفاقًا، والفرق بين التسوية والإباحة: أن الإباحة يخاطب بها من يتوهم المنع فيخاطب بالإذن، والتسوية: يخاطب بها من يتوهم أن أحد الطرفين المذكورين في محلهما من الفعل ومقابله أرجح من الآخر وأنفع، فيرفع ذلك ويسوي بينهما.
قال (ابن يعقوب): والأقرب أن الصيغة في التسوية إخبار دون الإباحة، ويحتمل أنها لإنشاء التسوية والإخبار بالإباحة على بعد.
وقال (السبكي) في (التسوية): هي خروج من الإنشاء إلى الخبر، والعلاقة التضاد لأن التسوية بين الفعل والترك تضاد الوجوب.
الثامن: الدعاء، قيل: وهو الطلب على سبيل التضرع والخضوع سواء كان الطالب أدنى أم أعلى أم مساويًا في الرتبة، ولذلك لو قال العبد لسيده: اعتقني على وجه الغلظة كان أمرًا، ويعد ذلك من سوء أدبه، وقيل: بل هو الطلب من السافل للعالي، وهو ظاهر الإتقان وغيره.
وقال (السبكي): هو الطلب من الأعلى على سبيل التضرع، ومثاله: قوله تعالى:{ اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ}[الفاتحة: 6].
التاسع: الالتماس، ويقال له: السؤال وهو الطلب من المساوي في الرتبة، كقوله: بلا استعلاء ولا تضرع: اسقني، والعلاقة فيه وفي الدعاء الإطلاق والتقييد.
فائدة [في الفرق بين العلو والاستعلاء]
قال (ابن يعقوب): ولا يرد أن يقال المساواة تنافي الاستعلاء لأنا نقول: المنافي للمساواة هو العلو لا الاستعلاء، فإن الاستعلاء هو عد الآمر نفسه عاليًا بكون الطلب الصادر منه على وجه الغلظة كما هو شأن العلي، وهذا المعنى أعني جعل الآمر نفسه عاليًا يصح من المساوي، بل يصح من الأدنى، فإن دعاوي النفس أكثر من أن تحصى، قال: وظاهر ما تقرر أن مناط الآمرية في الطلب هو الاستعلاء ولو من الأدنى، ومناط الدعاء فيه التضرع والخضوع ولو من الأعلى كالسيد مع عبده، ولا يكاد يتصور على حقيقته، ومناط الالتماس فيه التساوي مع نفي التضرع والاستعلاء، لكن ذكر في المطول أن الالتماس يكون معه تضرع وتخضع لا يبلغ إلى حده في الدعاء، وعلى ما تقرر إذا صدر الطلب من الأعلى إلى الأدنى كالسيد مع عبده من غير استعلاء ولا تحضع لم يسم بواحد منها وهو بعيد.
العاشر: التمني، وهو طلب الأمر المحبوب الذي لا طماعية فيه، والعلاقة الإطلاق والتقييد لأن الأمر طلب على وجه الاستعلاء فأطلق عن قيده ثم قيد بالمحبوب الذي لا طمع فيه، أو السببية لأن طلب وجود الشيء الذي لا إمكان له سبب في تمنيه، وذلك كقول امرئ القيس:
ألا أيها الليل الطويل ألا انجلي .... بصبحٍ و ما الإصباح منك بأمثل
وحمل على التمني لأن الليل لا يقبل أن يطلب منه الانجلاء، وإنما هذه الصيغة كناية عن تمني أمنية فيكون باقياً على إنشائيته، وجعلوه تمنيًا لا ترجيًا لأن التمني لما بعد، ومن شأن المحب أن يستبعد انجلاء الليل.
الحادي عشر: التكوين، وقد مر ذكره في التسخير.
الثاني عشر: الخبر، ذكره في الغاية ومثله بقوله تعالى: {فَلْيَضْحَكُوا قَلِيلاً وَلْيَبْكُوا كَثِيراً}[التوبة:82 ]أي: هم يضحكون في الدنيا قليلاً ويبكون في الآخرة كثيرًا، وقوله صلى الله عليه وآله وسلم : ((إن مما أدرك الناس من كلام النبوة الأولى: إذا لم تستح فاصنع ما شئت)) أي: صنعت ما شئت، أخرجه البخاري من حديث أبي مسعود عقبة بن عمرو الأنصاري البدري، وأخرجه الطبراني في الكبير بنحوه، والعلاقة المشابهة بين الأمر والخبر في الدلالة على وجود الفعل.
الثالث عشر: التعجيز أي: إظهار عجز من يدعي أن في وسعه وطاقته أن يفعل مثل الأمر الفلاني نحو قوله تعالى: {فَأْتُوا بِسُورَةٍ مِنْ مِثْلِهِ}[البقرة:23 ] إذ ليس المراد به أمرهم على الحقيقة على وجه التكليف، وإنما المراد إظهار عجزهم عن الإتيان بمثله؛ لأنهم لو طاولوا بعد سماع الصيغة ذلك الإتيان ولم يمكنهم ظهر عجزهم، والعلاقة فيه التضاد لأنه إنما يكون في الممتنعات، والطلب في الممكنات، أو السببية لأن طلب ما لا قدرة عليه سبب في التعجيز، قيل: وهو خبر بعجزهم دلت عليه القرينة.
الرابع عشر: التفويض نحو قوله تعالى: {فَاقْضِ مَا أَنْتَ قَاضٍ}[طه:72 ]ذكره الجويني وصاحب الجمع، وسماه بعضهم بالتحكيم، وبعض: بالتسليم، وبعض بالاستبسال، ولعل علاقته كالإباحة.
الخامس عشر: التعجيب أي: تعجيب المخاطب كقوله تعالى: {انظُرْ كَيْفَ ضَرَبُوا لَكَ الأَمْثَالَ}[الفرقان:9] وقيل: هو في الآية للإيجاب معه تعجب، والعلاقة الإطلاق والتقييد أي: إطلاق الطلب المجرد على المقيد بالتعجيب.
السادس عشر: المشاورة، كقول إبراهيم: {فَانظُرْ مَاذَا تَرَى}[الصافات:102].
السابع عشر: الاعتبار، كقوله تعالى:{ انظُرُوا إِلَى ثَمَرِهِ إِذَا أَثْمَرَ} [الأنعام:99].
الثامن عشر: التكذيب، كقوله تعالى:{ قُلْ فَأْتُوا بِالتَّوْرَاةِ}[آل عمران:93] وهو قريب من التعجيز.
التاسع عشر: التحيير والتلهيف، كقوله تعالى: {مُوتُوا بِغَيْظِكُمْ}[آل عمران:119].
العشرون: التصبير من الصبر كقوله تعالى:{ ذَرْهُمْ يَأْكُلُوا} [الحجر:3]،{فَمَهِّلِ الْكَافِرِينَ}[الطارق:17 ] إلى غير ذلك من المعاني وهي متداخلة، والعلاقة في المعاني الأخيرة تظهر بالرد إلى ما سبق، فإن التحيير يرجع إلى الإهانة، والمشاورة والاعتبار والتصبير يرجع إلى الندب، إذ فيها معنى التأديب والإرشاد.
إذا عرفت هذا فقد اختلف فيما هو حقيقة فيه من هذه المعاني على أقوال:
القول الأول: أنه حقيقة في الوجوب وهو قول الجمهور من أئمتنا" وغيرهم، ثم اختلفوا، فقال أكثرهم: هو للوجوب لغة وشرعًا، وقال أبو طالب والبلخي والحاكم وأبو عبدالله البصري والجويني، ونصره القاضي شمس الدين في البيان: بل شرعًا فقط.
القول الثاني: إنه حقيقة في الندب لا غير، وهذا قول أبي هاشم وقاضي القضاة، وأحد قولي أبي علي، وإحدى الروايتين عن المنصور بالله، والرواية الأخرى عنهما كالجمهور، وروي القول بالندب أيضًا عن بعض الفقهاء وهو إحدى الروايتين عن الشافعي قيل: والرواية الأخرى عنه أنها مشتركة بين الوجوب والندب والإباحة، وقيل: كالجمهور.
القول الثالث: للمرتضى الموسوي، وهو أنه مشترك بين الوجوب والندب.
القول الرابع: الوقف في الثلاثة بمعنى لا ندري هل وضعت للوجوب أو للندب أو لهما بالاشتراك، وهذا قول الغزالي والآمدي والباقلاني، وروي عن أبي الحسن الأشعري، وروي عنه التوقف بين الوجوب والندب والإرشاد والإباحة والتهديد، وعن الآمدي التوقف في الثلاثة الأول.
القول الخامس: أنها موضوعة للقدر المشترك بين الوجوب والندب، وهو الطلب وهذا قول أبي منصور الماتريدي من الحنفية، ويقرب منه ما روي عن القاضي عبد الجبار: أنها موضوعة لإرادة الامتثال لصدقه مع الوجوب والندب.
قلت: وإرادة الامتثال هو من المعاني التي ذكر، واستعمال صيغة الأمر فيها، ولم نذكره فيما مر لدخوله في الطلب، ومثاله: قولك عند العطش: اسقني ماءً.
القول السادس: إنها حقيقة في الإباحة.
السابع: إنها حقيقة في الوجوب والندب والإباحة، موضوعة لها بالاشتراك اللفظي، حكى هذين القولين الرازي في المحصول.
القول الثامن: إنها للقدر المشترك بين هذه الثلاثة المتقدمة وهو الإذن.
التاسع: إنها موضوعة بالاشتراك اللفظي للثلاثة وللتهديد، وهذا محكي عن الإمامية.
العاشر: إنه مشترك بين هذه الأربعة والإرشاد.
الحادي عشر: إنها مشتركة بين الأحكام الخمسة التي هي: الوجوب والندب والإباحة والتحريم والكراهة، قلت: ولعل استعمالها في التحريم والكراهة راجع إلى معنى التهديد، وقد ذكر السبكي من معاني هذه الصيغة التي تستعمل فيها مجازاً التحريم، وقال: إن جماعة ذهبوا إلى أن الأمر مشترك بين معان:
أحدها: التحريم كما نقله الأصوليون، قال: فإذا كنا نذكر الاستعمالات لغير الأمر مجازًا فذكر هذا أولى لأنه استعمال حقيقي عند القائل به، ولا يدع في استعماله عند غيره في التحريم مجازًا بعلاقة المضادة، قال: ويمكن أن يمثل له بقوله تعالى:{ قُلْ تَمَتَّعُوا فَإِنَّ مَصِيرَكُمْ إِلَى النَّارِ}[إبراهيم:30] لكنه يبعده فإن مصيركم إلى النار فإنه لا يناسب التحريم، وكذلك: {تَمَتَّعْ بِكُفْرِكَ قَلِيلاً إِنَّكَ مِنْ أَصْحَابِ النَّارِ}[الزمر:8].
قلت: أما على ما قلناه من رجوعه إلى معنى التهديد فالتمثيل مناسب، بل لا يظهر استعمال هذه الصيغة في التحريم إلا مع رجوعه إلى التهديد. والله أعلم.
القول الثاني عشر: حكاه في جمع الجوامع عن أبي بكر الأبهري، وهو أن أمر الله تعالى للوجوب وأمر النبي صلى الله عليه وآله وسلم المبتدأ منه للندب.
القول الثالث عشر: حكاه في الجمع أيضًا عن الإسفراييني وإمام الحرمين واختاره، وهو: أنه حقيقة لغوية في الطلب الجازم فلا يحتمل تقييده بالمشيئة فإن صدر من الشارع أوجب صدور الفعل منه، بخلاف صدوره من غيره إلا من أوجب هو طاعته، قال: وهذا غير القول الأول، أعني: أنه للوجوب شرعًا لأن جزم الطلب على هذا لغوي، وعلى ذاك شرعي، فهذا ما عثرنا عليه من الأقوال في المسألة، وقد ذكر في الغاية وشرحها الاتفاق على أنه مجاز في سائر المعاني التي ذكرها ما خلا الخمسة التي ذكرتها الإمامية، فأما فيها فعلى الخلاف، وفي دعوى الاتفاق نظر لما عرفته من القول باشتراكه بين الأحكام الخمسة، ولأنه قد حكى بعضهم أنه حقيقة في التعجيز والتكوين، وقال السبكي في شرح التخليص: إن استعمال (إفعل) للدعاء والالتماس حقيقة فلا ينبغي أن يعدا مما خرجت فيه صيغة الأمر عن حقيقته، وإذ قد أتينا على هذه الأقوال فلنأخذ في الاحتجاج لها فنقول:
احتج القائلون بالوجوب لغة وشرعًا: أما من جهة اللغة فمن وجوه:
أحدها: أن أهل اللغة يذمون العبد إذا لم يمتثل أمر سيده، والولد إن خالف أمر والده ويصفونهما بالعصيان، فلولا أنه للوجوب لما ذموه ونسبوه إلى العصيان؛ إذ هذا الاسم إنما يجري على من فعل قبيحًا أو ترك واجبًا، قال الشاعر:
أمرتك أمرًا جازمًا فعصيتني... البيت
فإن قيل: طاعة العبد لسيده أمر شرعي، وذمه لدليل الشرع لا لأجل اللغة، وطاعة الولد لوالده أمر عقلي لا لغوي.
قيل: إن ذلك وإن صار الآن شرعيًا فإن أهل اللغة كانوا يستخدمون السودان ويتملكونهم ويذمون العبد عند المخالفة، وكذلك الولد، وهذا أمر لغوي، فإن قيل: ذم أهل اللغة لا يقضي بالوجوب إذ لا حكمة فيهم ولا عصمة فقد يذم أحدهم غيره على ترك القبيح كما يفعلون عند كف أحدهم عن مصاولة الأقران، وإن كان ذلك قبيحًا، وغير ذلك من أفعالهم، قيل: إنا لم نصوبهم في اعتقادهم الوجوب، ولا نقول أن ما قالوا بوجوبه فهو واجب في نفس الأمر، وإنما استدللنا بأنهم وضعوا صيغة (إفعل) للوجوب واعتادوا ذلك، فإذا خاطبنا الله بلغتهم كان قد وضع هذه الصيغة للوجوب، وهو تعالى عدل حكيم لا يوجب إلا ماله وجه وجوب يخصه.
والحاصل أن استدلالنا بوصفهم لا باعتقادهم، فإن قيل: المعصية في اللغة: هي المخالفة والعدول عن الرأي لا ما يقتضي الذم والعقاب، وإذا كان كذلك فالوصف بالعصيان لا يدل على الوجوب كالمخالفة، قيل: ومن أين لكم أن المخالفة لا تقتضي الذم والعقاب، وقد قدمنا في كتابنا هذا أن العقلاء كافة يستحسنون ذم عبد لم يمتثل أمر سيده وعقابه، وهذا واضح.
الوجه الثاني: إن قول القائل (إفعل) يقتضي إيقاع الفعل وليس لجواز تركه لفظ، فيجب المنع من تركه، وإذا لم يجز تركه فقد وجب.
الوجه الثالث: أن الحمل على الوجوب أحوط لأنه إذا كان واجبًا فقد أمنا الضرر بفعلنا له، وإذا كان مندوبًا أو مباحًا لم يضرنا فعله، ولقائل أن يقول: إن الدليل اللغوي إذا أول على وضعه للندب فلا أحوطية في الحمل على الوجوب لأنه قد أمن الضرر، ثم إنَّ القول بالأحوطية يؤدي إلى محذور أعظم وهو الإقدام على ما لا يؤمن قبحه من اعتقاد وجوب ما ليس بواجب، اللهم إلا أن تحمل الأحوطية على الفعل دون الاعتقاد.
الوجه الرابع: أن الوجوب معنى عقله أهل اللغة، فلو لم تكن صيغة للوجوب لم يكن على الوجوب دلالة، فإن قيل: والمخالف يعارضكم بالندب فيقول: هو معقول فلو لم تكن الصيغة له لم تكن عليه دلالة. قيل: بل عليه دلالة وهي قول القائل: ندبت أو نحوه، فإن قيل: وعلى الوجوب كذلك وهي قوله: أوجبت أو ألزمت، قيل: وجدناهم يستعملون الصيغة في الوجوب ويفهمونه منها، ولا يحتاجون إلى نصب قرينة بخلاف الندب.
الوجه الخامس: أن الأمر مقابل للنهي، والنهي يقتضي الكف عن الفعل لا محالة واستحقاق الذم بالفعل، فيجب في الأمر أن يقتضي الإيجاب والذم على الترك.
وأما الأدلة الشرعية فهي كثيرة منها: ما اشتمل عليه القرآن العظيم من الآيات الدالة على ذلك، وسيأتي بيان كيفية الاستدلال بها في مواضعها.
ومنها: قوله صلى الله عليه وآله وسلم : ((لولا أن أشق على أمتي لأمرتهم بالسواك عند كل صلاة)) أخرجه الشيخان وأحمد والترمذي والنسائي وابن ماجة من حديث أبي هريرة، وأحمد وأبو داود والنسائي والترمذي والضياء بن زيد بن خالد الجهني وصححه مع زيادة للترمذي، والضياء شيخ العزيزي، والزيادة هي: ((ولأخرت العشاء إلى ثلث الليل)).
وأخرج الطبراني في الأوسط عن عليه عليه السلام ، ومالك والشافعي والبيهقي في السنن عن أبي هريرة مرفوعًا: ((لولا أن أشق على أمتي لأمرتهم بالسواك مع كل وضوء)) قال العزيزي: وإسناده حسن، وأخرج أحمد والنسائي بإسناد صحيح عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم : ((لولا أن أشق على أمتي لأمرتهم عند كل صلاة بوضوء، ومع كل وضوء سواك))وعن النبي صلى الله عليه وآله وسلم : ((لولا أن أشق على أمتي لأمرتهم بالسواك والطيب عند كل صلاة)) أخرجه سعيد بن منصور في سننه عن مكحول مرسلاً، قال شيخ العزيزي: وإسناده صحيح.
وعن عبدالله بن عمرو بن العاص يرفعه: ((لولا أن أشق على أمتي لأمرتهم بالسواك بالأسحار)) أخرجه أبو نعيم في كتاب السواك، ووجه دلالة هذه الأخبار أن الأمر لو لم يكن للوجوب لم يكن فيها مزيد فائدة إذ السواك قد كان مندوبًا إليه ومأمورًا به، وذلك فيما رواه المؤيد بالله عليه السلام في شرح التجريد قال: أخبرنا أبو العباس الحسني رضي الله عنه، قال أخبرنا أبو أحمد الفرايضي، قال: حدثنا محمد بن سليمان بن الحارث الواسطي، قال: حدثنا مسلم بن إبراهيم، قال: حدثنا يحيى بن أبي كثير، عن عثمان بن ساج، عن سعيد بن جبير، عن علي عليه السلام قال: قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم : ((إن أفواهكم طرق القرآن فطهروها بالسواك)) وهو في أصول الأحكام وشمس الأخبار.
أبو العباس الحسني من أفاضل علماء العترة مشهور.
ومحمد بن سليمان هو الباغندي قال في الميزان: لا بأس به، واختلف قول الدارقطني فيه، وله رواية في المناقب وأمالي المرشد بالله عليه السلام .
وعثمان بن ساج هو: عثمان بن عمر بن ساج الجزري الأموي مولاهم، وثقه ابن حبان، واحتج به النسائي.
وفي (الجامع الكافي) عن ابن عباس لم يزل رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يأمرنا بالسواك حتى ظننا أنه سينزل عليه فيه، وفي أمالي أحمد بن عيسى وغيره: ((فمن أطاق السواك فلا يدعه)) ولقائل أن يقول: ليس في الأحاديث السابقة ما يدل على أن الأمر للوجوب لوجهين:
أحدهما: أن في بعض ألفاظ الحديث: ((لولا أن أشق على أمتي لفرضت عليهم السواك)) كما في مجموع زيد بن علي عليهما السَّلام وأمالي أحمد بن عيسى وأحكام الهادي عليهما السَّلام من حديث علي عليه السلام وهو في الجامع الكافي أيضًا بلفظ: لفرضت، أيضًا في الجامع الصغير من حديث العباس بن عبد المطلب منسوبًا إلى الحاكم وصححه شيخ العزيزي، ومن حديث أبي هريرة منسوبًا إلى الحاكم والبيهقي في السنن قال العزيزي: وإسناده صحيح، وإذا تعارضت ألفاظ الحديث في موضع الحجة بطل الاستدلال به.
الثاني: أن هذه الرواية ترجح بكونها في كتب الأئمة، وحينئذ تكون حجة للقائلين بالندب لأن الأمر به قد وقع كما بينا، وإنما المنفي الوجوب لعدم ما يدل عليه من خارج كلفظ: أوجبت أو فرضت، كما يدل عليه لفظ: لفرضت، إذ المعنى: لقلت إنه فرض أو نحوه مما يؤدي معناه، واستدلوا أيضًا بما رواه المرشد بالله عليه السلام ، قال أخبرنا محمد بن علي، ثنا ابن لبوة، ثنا أبو خليفة، ثنا مسدد، ثنا يحيى بن سعيد، حدثني حبيب بن عبد الرحمن، عن حفص، عن عاصم، عن أبي سعيد بن المعلى قال: كنت أصلي في المسجد فدعاني رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فلم أجبه، فقلت: يا رسول الله إني كنت أصلي، فقال: ((ألم يقل الله تعالى: {اسْتَجِيبُوا لِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ}[الأنفال:24 ]ثم قال: ألا أعلمك سورة هي أعظم سورة من القرآن، فقال: الحمدلله رب العالمين هي السبع المثاني، والقرآن العظيم الذي أوتيته)) وأخرجه أحمد والبخاري والدارمي وأبو داود والنسائي وابن جرير وابن حبان وابن مردويه والبيهقي.
قلت: في أمالي المرشد بالله هكذا: حفص عن عاصم، وفي القرطبي: أنه حفص بن عاصم فينظر.
وأما أبو سعيد بن المعلى فلم أقف له على ترجمة في الجداول وفي تفسير القرطبي: أنه رجل من الصحابة لا يوقف على اسمه، وفيه: أن الذي روى الحديث عنه حفص بن عاصم وعبيد بن حنين، قال كذا قال ابن عبد البر وغيره وأبو سعيد بن المعلى من جلة الأنصار وسادات الأنصار تفرد به البخاري واسمه: رافع، ويقال الحارث بن نفيع بن المعلى، ويقال: أوس بن المعلى، ويقال: ابن سعيد بن أوس بن المعلى، توفي سنة أربع وسبعين وهو ابن أربع وستين سنة، وهو أول من صلى إلى القبلة حين حولت.
وأخرج جماعة من المحدثين عن أبي هريرة نحو هذا الحديث إلا أن القصة مع أبي بن كعب وسيأتي.
والدلالة على الوجوب من هذا ظاهرة، وهي أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم لامه على ترك الإجابة من حيث أن الله قد أمر بها، ومنها أنه قد ثبت عن السلف من الصحابة والتابعين ومن بعدهم: أنهم كانوا يأخذون الظواهر وأوامر الله وأوامر رسوله، ويستدلون بها على الوجوب مجردة عن القرائن وهم القدوة في الدين، فإن قيل: ومن أين لكم أنهم حملوه على الوجوب بلا قرينة؟ قيل: لم ينقل عن أحد منهم نصب القرينة ولا المطالبة بها ولو كان لنقل؛ لأن مثل هذا مما يشتهر لعموم التكليف به.
قالوا: لعل الاستدلال قد وقع بغير الأوامر المحكية أو بها، لكنها أوامر مخصوصة علموا كونها للوجوب، قلنا: خلاف الظاهر، بل المعلوم استنادهم إليها واستدلالهم بها لظهورها في الوجوب لا لخصوصياتها، قالوا: قد حملوا بعض الأوامر على الندب وغيره كما حملوا بعضها على الوجوب فلستم بأن تقولوا: هي موضوعة للوجوب لأنهم قد حملوها عليه في مواضع بأولى منا بالحمل على الندب أو نحوه؛ لذلك قلنا: الظاهر حملهم لذلك على الوجوب في جميع موارده ولا يعدلون عنه إلا لقرينة، قالوا: هذا الدليل إنما يفيد الظن، ولو أفاد القطع لكونه قد شاع استدلالهم بذلك على الوجوب فدلالة ذلك الثابت قطعًا على المراد ظنية، إذلم ينصوا على أنه موضوع للوجوب كما قد اعترفتم بذلك، قلنا: بل يفيد القطع لحصول العلم باستنادهم إلى ظاهر الأمر في الاستدلال على الوجوب، والمقصود حصول العلم سواء كان بنص أو بغيره.
وقد ذكر الإمام الحسن بن يحيى القاسمي عليه السلام في جواب سؤال أن الظاهر وما حمل على خلاف ظاهره يفيدان القطع إذا حصلت معهما قرائن كثيرة حتى أوصلت إلى العلم.
وأما قولهم: لو أفاد القطع...إلخ فجوابه: أنا لا نسلم أن دلالته ظنية بل قطعية لما مر من أن المقصود حصول العلم ولو بالقرائن، ولا شك أن إطباقهم على الاستدلال بالصيغة المجردة على الوجوب وتكرر ذلك وشيوعه يفيد القطع بوضعها للوجوب كما لو نصوا على ذلك، ولا يشترط في القطع طريقة مخصوصة، ولهذا قيل: إنا نقطع أن السيد إذا قال لعبده: خط هذا الثوب ولو بكتابة أو إشارة فلم يفعل عُد عاصيًا، ولو سلم فإنه يكفي الظهور ونقل الآحاد في مدلولات الألفاظ، وإلا تعذر العمل بأكثر الظواهر إذ المقدور فيها إنما هو تحصيل الظن بها، وأما القطع فلا سبيل إليه، لا يقال فقد عرفوا أصول الفقه بأنه علم بقواعد...إلخ وتسليم كون الأمر يفيد الوجوب ظنًا ينفي العلم بأنه للوجوب؛ لأنا نقول لا نسلم بأن مسائل أصول الفقه كلها قطعية، بل بعضها ظني كما يعرفه من تتبع مؤلفات هذا الفن، فإنه يجدهم مطبقين على الاحتجاج على كثير من مسائله بأدلة ظنية، وقد صرح صاحب الجوهرة وصاحب الفصول بانقسام مسائله إلى قطعية وظنية، وهو الظاهر من عدول الحسين بن القاسم وغيره في حد أصول الفقه عن لفظه علم إلى قولهم هو طرق الفقه، أو كيفية الاستدلال بطرق الفقه، أو القواعد التي يتوصل بها ...إلخ.
على أن تعريفه بالعلم بالقواعد لا ينافي كون بعضها ظنيًا لأن العلم قد يطلق على الظن كما في: {فَإِنْ عَلِمْتُمُوهُنَّ مُؤْمِنَاتٍ}[الممتحنة:10] ويؤيده أن من عرفه بالعلم حذا حذو غيره في الاحتجاج على بعض مسائله بالأدلة الظنية، ثم إنا لو سلمنا أن المراد بالعلم معناه الحقيقي فالمعتبر العلم بثبوت القاعدة وهي كون الأمر يفيد الوجوب ظاهرًا، وهذه القاعدة معلومة بالدليل لا ريب فيها.
وأما كون دلالته على الوجوب قطعية فلا يشترط ولذلك نظائر منها: الشهادة فإن وجوب العمل بها قطعي مع أن دلالتها على المقصود ظنية، والحاصل أن المعتبر العلم بدليل كون الأمر ظاهرًا في الدلالة على الوجوب لا العلم بالحكم وهو الدلالة فيكفي الظن في حصوله، ولا شك أن الحكم غير دليله، والكلام في أدلة الأحكام لا في نفس الأحكام.
احتج أهل القول الثاني وهم القائلون بالندب بأن المتيقن الطلب، وأقل أحوال ما يطلب أن يكون مندوبًا، قلنا: هذا لا ينفع مع قيام دليل الوجوب، قالوا: لا فرق بين قول السيد لعبده: اسقني، وندبتك إلى أن تسقيني في أنه يفهم من أحدهما عند أهل اللغة ما يفهم من الآخر، ويستعمل كل منها مكان صاحبه، قلنا: بل الفرق بينهما من وجهين معلومين عند أهل اللغة:
أحدهما: أن أحدهما خبر والآخر إنشاء، ولا شك في مفارقة الخبر للإنشاء من حيث أن الخبر يحتمل الصدق والكذب دون الإنشاء، ومن حيث أنه لا يستدعي الفعل بوضعه بخلاف قولك: (إفعل).
الوجه الثاني: استحقاق الذم على مخالفة قوله: اسقني دون قوله: ندبتك أن تسقيني، ولو كان نصًا في الندب لم يكن بينهما فرق في عدم استحقاق الذم، قالوا: أخرج البخاري ومسلم عن أبي هريرة قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يقول: ((ما نهيتكم عنه فاجتنبوه، وما أمرتكم به فأتوا منه ما استطعتم، فإنما أهلك من كان قبلكم كثرةُ مسائلهم واختلافهم على أنبيائهم)) فرده إلى مشيئتنا وهو معنى الندب؟ قلنا: بل إلى استطاعتنا، وهو لا ينافي الوجوب.
احتج القائلون بالاشتراك اللفظي وهم أهل القول الثالث، القائل: بأنها حقيقة في الوجوب والندب، وأهل القول السابع القائل: بأنها حقيقة فيهما وهي: الإباحة، وأهل القول التاسع، والقول العاشر والقول الحادي عشر وهم القائلون: بالاشتراك بين الثلاثة والتهديد، والقائلون به بين الأربعة والإرشاد، والقائلون بأنها مشتركة بين الأحكام الخمسة بأنه ثبت الإطلاق من أهل اللغة للصيغة في الوجوب والندب، أو في الثلاثة أو الأربعة أو في الخمسة، والأصل في الإطلاق الحقيقة فيكون حقيقة مشتركة.
والجواب: أن الإطلاق فيما عدا الواجب مجاز لا حقيقة كما بينا، ولأنه قد ثبت أنه إذا دار اللفظ بين كونه مجازًا أو مشتركًا فإن حمله على المجاز أولى، وأيضًا يلزم أن يكون حقيقة في جميع المعاني المتقدمة لوقوع الإطلاق ولا قائل به.
احتج القائلون بأن الصيغة موضوعة بالتواصل للوجوب والندب وهم أهل القول الخامس بأنه ثبت الرجحان بالضرورة من اللغة، وجعله لأحدهما بخصوصه تقييد من غير دليل فلا يصار إليه، فوجب جعله للقدر المشترك بينهما دفعًا للاشتراك والمجاز.
واحتج القائلون بوضعها للإباحة وهو القول السادس بأنه ثبت الجواز في المأمور به ضرورة، وزيادة الوجوب أو الندب لا دليل عليها فوجب الوقف عنده وهو معنى الإباحة.
واحتج القائلون بالتواطئ بين الثلاثة بأنه ثبت الإذن بالضرورة من اللغة، والزيادة المفيدة لتخصيص أحدهما لا دليل عليها، فوجب جعلها للقدر المشترك بينها وهو الإذن.
والجواب من وجهين:
أحدهما: لا نسلم أن زيادة الوجوب لا دليل عليها بل ثبتت بأدلتنا.
الثاني: أنكم أثبتم اللغة بلوازم الماهيات، وذلك أنهم جعلوا الجواز لازمًا للإباحة، والرحجان لازمًا للوجوب، والندب والإذن لازمًا للثلاثة، فجعلوا باعتبار هذه اللوازم صيغة الأمر لملزوماتها مع احتمال أن يكون للمقيد بواحد منها بخصوصه أو مشتركًا أو للقدر المشترك، وذلك باطل لأن اللغة لا تثبت إلا بالنقل وتتبع موارد الاستعمال.
قال (الحسين بن القاسم) عليه السلام : لا يقال الجواز هو عين الإباحة فلا يكون من إثبات اللغة بلوازم الماهيات؛ لأنا نقول معنى الإباحة جواز الفعل والترك، والجواز أعم من أن يكون مع جواز الترك، ومع جواز المنع منه.
احتج القائلون بالوقف وهم أهل القول الرابع: بأنه لا دليل على شيء مما ذكره أهل الأقوال الأخر يفيد القطع، والمسألة قطعية فوجب الوقف.
والجواب: أن أدلة أهل القول الأول اللغوية والشرعية تفيد القطع بما ذكروه من اقتضاء الأوامر المطلقة الوجوب، وذلك ظاهر لمن بحث.
وأما القول الثاني عشر: فلا وجه لما ذكره من الفرق، وأما القول الثالث عشر فلعله يحتج على اقتضائه الوجوب لغة بما مر، وعلى عدم اقتضائه إياه شرعًا بنحو ما مر من كثرة وروده في لسان الشارع لغير الوجوب، وجوابه يعرف مما سبق.
فائدة
في جمع الجوامع وغيره أن الخلاف في وجوب اعتقاد الوجوب على القول بوضع الصيغة له قبل البحث عن الصارف كالخلاف في العام: هل يجب اعتقاد عمومه قبل البحث عن المخصص أم لا؟
المسألة الرابعة [في معاني الصراط، والمستقيم، والاستقامة]
الصراط: الطريق، والمستقيم: الواضح البين الذي لا اعوجاج فيه.
قال (ابن جرير): ثم تستعير العرب الصراط فتستعمله في كل قول وعمل وصف باستقامة أو اعوجاج، فتصف المستقيم باستقامته والمعوج باعوجاجه.
قلت: والاستقامة عبارة عن الصواب، والاعوجاج عبارة عن الخطأ، وقد اختلف في المراد بالصراط المستقيم هنا، فقيل: هو القرآن، وهذا مروي عن جماعة من السلف منهم أمير المؤمنين عليه السلام وابن عباس وابن مسعود، وقد ورد ذلك مرفوعًا من حديث علي عليه السلام ، وفي تفسير ابن جرير بعد أن ذكر أن تراجمة القرآن اختلفت في المراد بالصراط المستقيم ما لفظه: ومما قالته في ذلك ما روي عن علي بن أبي طالب عليه السلام عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم أنه قال وذكر القرآن فقال: ((هو الصراط المستقيم)) حدثنا بذلك موسى بن عبد الرحمن المسروقي، قال: حدثنا حسين الجعفي، عن حمزة الزيات، عن أبي المختار الطائي، عن ابن أخي الحارث، عن الحارث، عن علي عليه السلام عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم ، وحدثنا إسماعيل بن أبي كريمة، قال: حدثنا محمد بن سلمة، عن أبي سنان، عن عمرو بن مرة، عن أبي البحتري، عن الحارث، عن علي عليه السلام عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم ، مثله، وحدثنا أحمد بن إسحاق الأهوازي، قال: حدثنا أبو أحمد الزبيري، قال: حدثنا حمزة الزيات، عن أبي المختار الطائي، عن ابن أخي الحارث الأعور، عن الحارث، عن علي عليه السلام قال: الصراط المستقيم كتاب الله، ثم ذكر أسانيد إلى عبد الله بنحوه.
حسين الجعفي قال في الجداول: الحسين بن علي بن الوليد الجعفي مولاهم الكوفي ثم قال: وثقه ابن معين وأثنى عليه غيره. توفي سنة ثلاث ومائتين، احتج به الجماعة.
قلت: وروى له من أئمتنا المؤيد بالله وأبو طالب والمرشد بالله ومحمد بن منصور.
وحمزة الزيات هو: ابن حبيب بن عمارة مولى تيم الله أبو عمارة الزيات الكوفي أحد القراء، وثقه ابن معين والنسائي، وقال الذهبي: إليه المنتهى في الصدق والورع. توفي سنة ثمان وخمسين ومائة، احتج به مسلم والأربعة، وروى له المؤيد بالله ومحمد بن منصور.
وإسماعيل هو: إسماعيل بن عبيد بن أبي كريمة الحراني لأنه الذي ذكر في الجداول روايته عن محمد بن مسلمة فقال: وثقه الدارقطني وغيره، توفي سنة أربعين ومائتين، روى له المرشد بالله والترمذي وابن ماجة، وليس بإسماعيل بن عبد الرحمن بن أبي كريمة السدي المفسر المشهور لأن وفاة السدي سنة سبع وعشرين ومائة ووفاة محمد بن مسلمة سنة إحدى وتسعين ومائة مع ما صرح به من رواية الأول عن أبي مسلمة.
ومحمد هذا هو: ابن مسلمة بن عبيدالله الباهلي الحراني، قال ابن سعد: كان ثقة فاضلاً عالمًا، روى له أبو طالب والمرشد بالله، واحتج به مسلم والأربعة.
وعمرو بن مرة قال في الجداول: عمرو بن مرة بن عبدالله بن طارق بن الحارث الهمداني الجملي المرادي أبو عبدالله الأعمى الكوفي ثم قال: وثقه ابن معين والحاكم وأبو حاتم، وقال: يرى الإرجاء، وقال في الكاشف: كان من الأئمة العاملين، توفي سنة ست عشرة ومائة، احتج به الجماعة، قال: وعداده في رواة العدلية ذكره المنصور بالله.
قلت: وروى له أبو طالب والمرشد بالله.
وأحمد بن إسحاق الأهوازي، قال النسائي: صالح الحديث، وقال في الكاشف: صدوق، توفي سنة خمسين ومائتين، روى له من أئمتنا الموفق بالله والمرشد بالله.
وأبو أحمد الزبيري هو: محمد بن عبدالله بن الزبير بن درهم الأسدي الزبيري مولاهم أبو أحمد الكوفي الحبال وثقه ابن معين والعجلي وقال: يتشيع، وقال ابن بندار: ما رأيت رجلاً أحفظ من أبي أحمد، توفي سنة ثلاث ومائتين، عداده في ثقات محدثي الشيعة، روى له السيدان المؤيد بالله وأبو طالب والمرشد بالله، واحتج به الجماعة.
وقيل: دين الإسلام، وهذا مروي عن جماعة من السلف بألفاظ مختلفة تؤدي هذا المعنى منهم: ابن عباس وابن مسعود وجابر بن عبدالله ومحمد بن الحنفية وعليه جماعة من المفسرين منهم: الزمخشري، ويحتج لهم بما أخرجه أحمد والترمذي وحسنه، والنسائي وابن جرير وابن المنذر وأبو الشيخ والحاكم وصححه، وابن مردويه والبيهقي في الشعب عن النواس بن سمعان عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قال: ((ضرب الله صراطًا مستقمياً، وعلى جنبتي الصراط سوران فيهما أبواب مفتحة وعلى الأبواب ستور مرخاة وعلى باب الصراط داع يقول: يا أيها الناس ادخلوا الصراط جميعًا ولا تتفرقوا، وداع يدعو من فوق الصراط فإذا أراد الإنسان أن يفتح شيئًا من تلك الأبواب قال: ويحك لا تفتحه فإنك إن تفتحه تلجه)) فالصراط: الإسلام، والسوران: حدود الله، والأبواب المفتحة: محارم الله، وذلك الداعي على رأس الصراط: كتاب الله، والداعي من فوق: واعظ الله في قلب كل مسلم، وفي تفسير ابن جرير: حدثنا المثنى، قال: حدثنا أبو صالح، قال: حدثني معاوية بن صالح أن عبد الرحمن بن جبير حدثه عن أبيه عن نواس بن سمعان الأنصاري عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قال: ((ضرب الله مثلاً صراطًا مستقيمًا والصراط الإسلام))، حدثنا المثنى، حدثنا آدم العسقلاني، قال: حدثنا الليث، عن معاوية بن صالح، عن عبد الرحمن بن جبير بن نضير عن أبيه، عن نواس بن سمعان الأنصاري عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم بمثله.
ابن جرير صاحب التفسير هو محمد بن جرير بن يزيد وفي بقية نسبه بعد يزيد اختلاف فقيل: يزيد بن كثير بن غالب، وقيل: يزيد بن خالد، وقيل: يزيد بن هارون، وهو أشهر من أن يذكر، كان إمامًا في فنون كثيرة، أثنى عليه الذهبي ووثقه هو وغيره، وعداده في ثقات محدثي الشيعة، وقد نالوا منه لذلك، توفي سنة ست عشرة وثلاثمائة كذا في الجداول وفي غيرها سنة عشر.
وأما آدم العسقلاني فوثقه أبو حاتم، وقال النسائي: لا بأس به، وقال ابن معين: ثقة ربما حدث عن قوم ضعفاء، قال أبو حاتم: مأمون متعبد من خيار خلق الله، وفي الجامع الوجيز: أن الأئمة رووا له، توفي سنة عشرين أو إحدى وعشرين ومائتين.
وأما عبد الرحمن بن جبير فهو: الحضرمي أبو حميد الشامي، وثقه أبو زرعة والنسائي وابن سعد، توفي سنة ثماني عشرة ومائة، روى له محمد بن منصور وأبو طالب، واحتج به الجماعة لكن البخاري في الأدب.
وأما والده جبير فوثقه أبو حاتم، وروى له أبو طالب، واحتج به مسلم والأربعة، توفي سنة خمس وسبعين، وقيل: الصراط المستقيم: ما تركنا عليه رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ، وهذا مروي عن ابن مسعود، وقال أبو العالية: هو رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وأبو بكر وعمر، وهذا مروي عن ابن عباس والحسن البصري، وقال الفضيل بن عياض: طريق الحج.
قال (القرطبي): وهذا خاص والعموم أولى، وعن عثمان: السنن، وعن سعيد بن جبير: طريق الجنة، وقيل: طريق السنة والجماعة قاله القشيري، وقال الترمذي طريق الخوف والرجاء، وقال عمرو بن عبيد: جسر جهنم، وعن أبي العالية: الصراط المستقيم: آل رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وأبو بكر وعمر، وعن شهر بن حوشب: هم أصحاب رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وأهل بيته، وعن عبد الرحمن بن زيد: هم رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وأهل بيته، وفي شواهد التنزيل عن أبي بريدة في قوله تعالى: {اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ}[الفاتحة:6] قال: صراط محمد وآله، وفيه بإسناده عن جابر بن عبدالله، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم :((إن الله جعل عليًا وزوجته وابناه حجج الله على خلقه وهم أبواب العلم في أمتي من اهتدى بهم هدي إلى صراط مستقيم)) وبإسناده إلى سعد عن ابن أبي جعفر قال: آل محمد الصراط الذي دل الله عليه.
وهذه الأقوال أكثرها متقارب المعنى، إذ المرجع بها إلى كون الصراط المستقيم هو الحق، فمن فسره بالقرآن فلأن الحق لا يعرف إلا به فهو حق في نفسه، ومن فسره بالإسلام فلأنه حق، ومن فسره بطائفة مخصوصة أو شخص مخصوص أو طريقة مخصوصة فلقيام الدليل عنده على أن الحق مع تلك الطائفة أو ذلك الشخص.
قال (ابن جرير): والأولى في تأويل الآية أن المراد وفقنا للثبات على ما ارتضيته ووفقت له من أنعمت عليه من عبادك من قول وعمل؛ لأن من وفق لما وفق له من أنعم الله عليه من النبيئين والصديقين والشهداء فقد وفق للإسلام وتصديق الرسل والتمسك بالكتاب، والعمل بما أمر الله به والإنزجار عما زجر عنه، واتباع منهج النبي صلى الله عليه وآله وسلم ومنهاج أبي بكر وعمر وعثمان وعلي، وكل عبد صالح، وكل ذلك من الصراط المستقيم. ذكره في تفسيره.
وقد رد الرازي على من قال هو: القرآن أو الإسلام وشرائعه بأن قوله: {صِرَاطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ}[الفاتحة: 7 ]بدل من الصراط المستقيم، وإذا كان كذلك كان المراد صراط المتقدمين من الأمم، ولم يكن لهم القرآن والإسلام، قال: وإذا بطل ذلك ثبت أن المراد: اهدنا صراط المحقين المستحقين للجنة، واعترضه أبو حيان بأنه لا يتأتى هذا الرد إلا إذا صح أن الذين أنعم الله عليهم هم المتقدمون، وستأتي الأقوال في ذلك.
قوله تعالى: {صِرَاطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ}
من سورة الفاتحة
قوله تعالى: {صِرَاطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ}
[العلاقة بين الصراط الأول والثاني]
بدل من الأول وفائدته التأكيد، قال الزمخشري: لما فيه من التثنية والتكرير والإشعار بأن الصراط المستقيم بيانه، وتفسيره صراط المسلمين ليكون ذلك شهادة لصراط المسلمين بالاستقامة على أبلغ وجه وآكده، كما يقول: هل أدلك على أكرم الناس وأفضلهم فلان، فيكون ذلك أبلغ في وصفه بالكرم والفضل من قولك: هل أدلك على فلان الأكرم الأفضل، لأنك ثنيت ذكره مجملاً أولاً ومفصلاً ثانيًا، وأوقعت فلانًا تفسيرًا وإيضاحًا للأكرم الأفضل فجعلته علمًا في الكرم والفضل، فكأنك قلت: من أراد رجلاً جامعًا للخصلتين فعليه بفلان فهو الشخص المعين لاجتماعهما فيه غير مدافع ولا منازع.
واختلف في المراد بالمنعم عليهم، فقال زيد بن علي، وروي عن ابن عباس هم: النبيئون والصديقون والشهداء والصالحون، وهو محكي عن جمهور المفسرين انتزعوا ذلك من آية النساء، ويشهد له قوله قبلها:{ وَلَهَدَيْنَاهُمْ صِرَاطاً مُسْتَقِيماً}[النساء:68]، وقال الزمخشري وأتباعه: هم المؤمنون.
وروي عن ابن عباس: وإطلاق الإنعام لقصد الشمول فإن نعمة الإسلام عنوان النعم كلها، فمن فاز بها فقد حاز النعم بحذافيرها، وقال الحسن: أصحاب محمد صلى الله عليه وآله وسلم ، وقيل: مؤمنو بني إسرائيل، وعن ابن عباس: أصحاب موسى قبل أن يغيروا، وقال قتادة والربيع بن أنس: الأنبياء خاصة، وقال أبو العالية: النبي صلى الله عليه وآله وسلم وأبو بكر وعمر، وقيل: أصحاب موسى وعيسى قبل النسخ والتحريف، وعن أبي زيد: النبي صلى الله عليه وآله وسلم ومن معه، وقال وكيع: المسلمون.
ومعنى هذه الأقوال واحد كما مر نظيره، ويتعلق بالآية مسائل:
المسألة الأولى [معنى النعمة]
النعمة في اللغة: هي اليد والصنيعة وخفض العيش والدعة والمال والعطية.
قال في (القاموس): ونعيم الله عطيته، وقال الراغب: النعمة: الحالة الحسنة، والإنعام إيصال الإحسان إلى الغير، ولا يقال إلا إذا كان الموصل إليه من جنس الناطقين، فإنه لا يقال: أنعم على فرسه، وقال: تنعم تناول ما فيه النعمة وطيب العيش يقال: نعمه تنعيمًا فتنعم أي جعله في نعمة أي: لين عيش وخصب، وفي النهاية معنى قولهم: أنعمت على فلان أي: أصرت إليه نعمة، فهذا كلام أئمة اللغة في تحقيق معنى النعمة.
وأما أهل الاصطلاح فقد اختلفوا على قولين:
أحدهما: أن النعمة هي المنفعة الحسنة الواصلة إلى الغير التي قصد بها فاعلها وجه الإحسان إليه، وهذا قول السيد مانكديم والإمام المهدي وأبي علي وغيرهم.
الثاني: أنها المنفعة الواصلة إلى الغير... إلى آخر ما مر، وهذا قول الرازي وهو ظاهر حكاية السيد مانكديم عن أبي هاشم، ولم يقيدا المنفعة بكونها حسنة لأنهما يجوزان في النعمة أن تكون قبيحة، واستدل أبو هاشم على ذلك بأن الله لو أثاب من لم يستحق الثواب لكان منعمًا عليه مع أن ذلك قبيح لعدم انفكاكه عن التعظيم، وقد ثبت قبح الابتداء بالتعظيم.
دليل آخر: وهو أن أحدنا لو ملك غيره جميع ما يملكه حتى افتقر لكان منعمًا مستحقًا للشكر من جهته مع أن فعله قبيح لإطباق العقلاء على ذم من أخرج جميع ماله حتى لا يبقى له ما يسد جوعته ويواري عورته؛ ولقوله تعالى: {وَلاَ تَجْعَلْ يَدَكَ مَغْلُولَةً إِلَى عُنُقِكَ وَلاَ تَبْسُطْهَا كُلَّ الْبَسْطِ...} [الإسراء:29] الآية.
وقال (الرازي): الحق أن هذا القيد غير معتبر لأنه يجوز أن يستحق الشكر بالإحسان وإن كان فعله محظورًا لأن جهة استحقاق الشكر غير جهة استحقاق الذم والعقاب، فأي امتناع في اجتماعهما، ألا ترى أن الفاسق يستحق بإنعامه الشكر والذم بمعصية الله، فلم لا يجوز أن يكون الأمر هنا كذلك، وسيأتي الجواب عليهما قريبًا، وإنما قالوا في النعمة هي المنفعة لأنها لو كانت مضرة محضة لما كانت نعمة، واحترزوا بالمحضة عن الألآم ونحوها التي يوصلها الله إلى الحيوانات فإنها لم تكن مضرة لما يقابلها من الأعواض الموفية لها، وقيد الأولون المنفعة بالحسنة لأنها لو قبحت لما استحق عليها الشكر ومن حق النعمة الشكر، وقول أبي هاشم غير مسلم إذ لو كان ما ذكره نعمة لاستحق عليها الشكر، فإن قيل: هو يستحق الشكر كما قال الرازي، قلنا: لو سلم ذلك فإنما يستحقه على الثواب الذي ذكره أبو هاشم لأن المثاب توصل بذلك الثواب إلى منافع لولا الثواب لما وصل إليها فاستحق المثيب الشكر على تلك المنافع التي توصل المثاب إليها بالثواب؛ لأن الثواب والمنفعة المتوصل إليها كليهما من جهة المثيب، وكذلك الدليل الآخر فإن استحقاق الشكر على إعطاء المال إنما كان لأجل المنافع التي توصل به إليها ولا يجب في المنعم أن يكون قد فعل فعلاً يستحق به الشكر لا محالة، بل لا يمتنع أن يستحق الشكر على حصول المنفعة وإن لم يكن منه فعل أصلاً، كمن اكتسب مالاً في جنب غيره، فإن ذلك الغير يستحق الشكر وإن لم يكن منه إليه فعل ينصرف الشكر إليه، بل مجرد النسبة إليه أو التعلق به أو نحو ذلك، وكذلك الساكت عن المطالبة بالدين فإنه يستحق الشكر وإن لم يكن له فعل، كما أن المخل بالواجب يستحق الذم وإن لم يكن له فعل.
والحاصل أن الشكر يستحق على المنفعة الحسنة الواصلة إلى الغير بسبب غيره سواء كان ذلك السبب فعلاً حسنًا أو قبيحًا أم لم يكن فعلاً كما مثلنا، وأما قول الرازي بعدم اتحاد الجهة هنا فباطل لأن النعمة هي عين المحظور، فكيف يسمى ذلك نعمة وإحسانًا يستحق عليه الشكر، والفرق ظاهر بين هذا وبين ما ذكره في الفاسق، فلم يبق إلا أنه يستحق الشكر على المنفعة الحسنة التي توصل إليها بذلك المحظور على ما سبق تقريره، وكلاهما حاصلان من جهة المنعم. والله أعلم.
ولا يخفى أن ظاهر إطلاق ما سبق عن أهل اللغة يقضي بترجيح قول أبي هاشم والرازي، وقول الأولين أن الشكر يستحق على حصول المنفعة وإن لم يكن ثمة فعل، محل نظر لأن الشكر كما مر عرفان الإحسان ونشره، والإحسان مصدر أحسن، كالإكرام مصدر أكرم، والمصدر هو نفس الحدث فلا يتصور شكر إلا على إحسان والإحسان فعل، فتأمل.
وأما اعتبار قصد الإحسان إلى الغير فلأن القاصد لنفع نفسه لا يسمى منعمًا وإن أوصل إنعامه إلى الغير كمن أحسن إلى جاريته بأنواع الحلي والحلل ليزينها في عين المشتري، وكذلك البزاز إذا أخرج للمشتري أنواع البز لم يكن منعمًا عليه، لأنه قصد نفع نفسه، وهذا أمر معلوم فإن التاجر إذا امتن على المشتري بأنه أخرج له الثياب الفاخرة فإنه يجيب بأنه لا منة لك عليّ ولا نعمة لأنك لم ترد إلا نفع نفسك، أو ما يؤدي هذا المعنى، فإن قيل قد فسرتم النعمة بالمنفعة فما معنى المنفعة؟ قيل: معناها: اللذة والسرور أو ما يؤدي إليهما أو إلى أحدهما، فأما اللذة والسرور فنحو حك جلد الأجرب ووضع اللقمة الشهية في فم الغير وخلع الخلعة النفيسة عليه، وأما ما يؤدي إليهما فنحو: أن يدفع إليه دراهم يشتري بها ما شاء، وأما ما يؤدي إلى أحدهما فكأن يدله على كنز فإنه يؤدي إلى السرور ولأجل هذا قيل: إن دفع الضرر معدود من المنافع وإن لم يكن نفعًا بنفسه لما كان مؤديًا إلى النفع، وذلك كمن استوهب إنسانًا قد قدم للقتل وخلصه منه فإنه يكون منعمًا عليه بذلك، وكذلك قيل في الحياة: إنها نفع وإن لم تكن نفعًا في نفسها لكنها أصل في المنافع ومؤدية إليها فكانت نعمة، فإن قيل: قد أوضحتم حقيقة النعمة فما حقيقة المنعم؟ قيل: هو فاعل النعمة ولا يزاد في تفسيره على هذا لأنه اسم مشتق من النعمة، والأسماء المشتقة لا يرجع في بيانها إلا إلى المشتق منه، فيقال: المحسن هو فاعل الإحسان، والضارب فاعل الضرب، وهكذا سائرها.
واعلم أن نعم الله تعالى لا تحصى كما قال تعالى: {وَإِنْ تَعُدُّوا نِعْمَةَ اللَّهِ لاَ تُحْصُوهَا}[إبراهيم:34] ولا طريق لنا إلى معرفتها على التفصيل وإنما نعلمها جملة، وذلك بأن نعلم أن ما بنا من النعم أصولها وفروعها مبتدؤها ومسببها فهو من الله تعالى كما قال تعالى: {وَمَا بِكُمْ مِنْ نِعْمَةٍ فَمِنَ اللَّهِ}[النحل:53 ]فإن قيل: إذا كانت النعم كلها من الله فلا يستحق العبد شكرًا على ما أوصله إلى غيره من المنافع وهو خلاف ما قد قررتموه في مواضع من كتابكم هذا لأئمة العدل من وجوب شكر المنعم كائنًا من كان، وسميتم تلك المنافع نعمة؟ قيل: لما كانت النعم الواصلة من جهة غير الله تعالى لم تحصل لذلك الغير إلا بخلق الله إياها له أو إقداره على تحصيلها ولم يوصلها إلى الغير إلا بالقدرة التي خلقها الله له واهتداء العقل الذي فطره الله عليه إلى حسنها كانت تلك النعم في التحقيق من الله فاستحق عليها الشكر، وهي أيضاً نعم من العبد على من أوصلها إليه لتوقف ذلك على إرادته واختياره فاستحق الشكر كذلك، ولا مانع من استحقاق الباري تعالى للشكر واستحقاق العبد له من هاتين الجهتين كما لو تعدد المنعمون فإن كل واحد منهم يستحق شكرًا وإن اتحدت النعمة، وقد تقدم قريبًا أن بعض أصحابنا لا يشترطون في كون المنعم منعمًا مباشرة الفعل، بل قالوا: إنه يكون منعمًا بمجرد السببية وإن لم يكن منه فعل كما مر، وفي شرح الأصول ما لفظه: اعلم أن المنعم قد يكون منعمًا بفعله النعمة ومباشرته لها، وذلك بأن يطعم جائعًا أو يكسو عاريًا أو يفعل ما يؤدي إلى ذلك، وقد يكون منعمًا وإن لم يصدر منه فعلٌ أصلاً كأن لا يطالب غريمه باليد إما إبراء له أو ترفيهًا عليه، ونظير ذلك في الغائب عفو الله عن العصاة وأن لا يعاقبهم فإنه عز وجل لو عفا عنهم ولم يعاقبهم لكان منعمًا عليهم بذلك وإن لم يصدر منه فعلٌ البتة.
قلت: وقد مر ما فيه من النظر، على أنا لا نسلم خلو تلك المطالبة بالدين وترك المعاقبة للعاصي من فعل لأن قصد الإحسان معتبر في حد النعمة وهو فعل وغايته أنه لا يشترط في النعمة نفسها أن تكون فعلاً لكن مصاحبة الفعل المذكور لها كاف، هذا مع أن النعمة في الحقيقة هي الإحسان سواء كان إحسانًا بفعل أو ترك بدليل أن الشكر ليس إلا على الإحسان وهو عرفانه ونشره والإحسان فعل.
نعم أما من يقول إن الترك فعل فلا إشكال.
تنبيه [في ذكر نعم الله]
قد ثبت أن نعم الله لا تحصى، والقول الجامع فيها أن الله تعالى لم يخلق خلقًا إلا وفيه نعمة، قال الإمام أحمد بن سليمان عليه السلام : اعلم أنه لا يوجد شيء من خلق الله إلا وفيه نعمة لبعض خلق الله تفضل الله بها عليه، وكذلك لا يفطر العبد على فطرة إلا وفيها له نعمة من الله، ولا يؤمر بأمر إلا وله فيه نعمة، ولا ينهى عن فعل شيء إلا وفي تركه له نعمة معجلة أو مؤجلة.
وفي شرح الأصول أن المنافع التي خلقها الله للحي ليعرضه لها ثلاثة: التفضل وهو النفع الذي لفاعله أن يوصله إلى الغير وأن لا يوصله، والعوض وهو النفع المستحق لا على سبيل التعظيم والإجلال، والثواب وهو النفع المستحق على سبيل التعظيم والإجلال، ولك أن تورد هذه القسمة على وجه يتردد بين النفع والإثبات ويتضمن معاني هذه الألفاظ فتقول: إن المنافع الواصلة إلى الغير إما أن تكون متسحقة أو لا، فإن لم تكن مستحقة فهو التفضل، وإن كانت مستحقة فلا تخلو: إما أن تكون مستحقة على سبيل التعظيم والإجلال أو لا، الأول الثواب، والثاني: العوض، ثم قال ما لفظه: أما التفضل فما من حي خلقه الله تعالى إلا وقد تفضل عليه وأحسن إليه بضروب من المنافع، والإحسان والعوض يوصله الله تعالى إلى المكلف وغير المكلف، وأما الثواب فمما لا حظ لغير المكلف فيه، والمكلف مختص باستحقاقه.
وأما الرازي فقسم النعم إلى ثلاثة أقسام:
أحدها: ما تفرد الله بإيجاده نحو أن يخلق ويرزق، وهذا هو التفضل الذي ذكرناه آنفًا.
الثاني: ما وصل إلينا من جهة غير الله في ظاهر الأمر، فهذا في الحقيقة إنما هو من الله لأنه الخالق للنعمة والمنعم والخالق للداعية إلى الإنعام في قلب المنعم، قال: إلا أنه تعالى لما أجرى النعمة على يد العبد كان ذلك العبد مشكورًا، ولكن المشكور في الحقيقة هو الله تعالى.
الثالث: ما وصل إلينا بسبب الطاعة وهو أيضًا من الله لأنه الذي وفقنا للطاعة وهدانا إليها وأزاح الأعذار عنا.
قلت: وهذا هو الثواب ولم يذكر العوض بناء على أصل المجبرة من أنه لا يقبح من الله قبيح فعندهم أنه يجوز منه تعالى الإيلام لغير استحقاق، ولا اعتبار ولا عوض؛ إذ ليس بمنهي، وقد قدمنا إبطال مذهبهم، وقوله: وخلق الداعية، مبني على أن الداعية موجبة وقد أبطلنا ذلك قريبًا، وأما قوله في القسم الثالث: أنه من الله لأنه الذي وفقنا للطاعة ففيه ركة لأن تعليله يشعر بأن الثواب وصل إلينا من جهة الغير وهو الطاعة، لكن لما كانت بتوفيق الله تعالى كان في الحقيقة منه كما في القسم الأول، وليس كذلك فإنه واصل إلينا من جهة الله تعالى جزاء على الطاعة، فتأمل.
فرع [استطراد في ذكر نعم الله تعالى]
وأول نعمة أنعم الله بها على العبيد خلقه إياهم أحياء لينفعهم بذلك، أما اعتبار الخلق فإنه لو لم يخلقه لم يكن منعمًا عليه كسائر المعدومات، وأما اعتبار الحياة فلأن الشيء لا يكون نعمة إلا مع إمكان الانتفاع به ولا انتفاع بدون الحياة؛ إذ الجماد والميت لا يمكنه الانتفاع بشيء، وأما قولنا: لينفعه فلأنه لو خلقه لا لينفعه بل ليضره لم يكن منعمًا عليه كما في الكفار والفساق إذا أعادهم في الآخرة للنار فإنه لا يكون منعمًا عليهم؛ لأنه وإن خلقهم أحياء فلم يخلقهم لينفعهم بل ليضرهم، فلا بد من اعتبار هذه القيود الثلاثة عند أصحابنا.
وأما المجبرة فلم يعتبروا القيد الثالث لتجويزهم أن يخلق الله لا لغرض وأن يخلق بعض المكلفين ليضرهم -تعالى الله عن ذلك.
فإن قيل: حاصل دليلكم على أن الحياة نعمة أنها مصححة للانتفاع وأنه لا يمكن من دونها، ولقائل أن يقول: ليس تصحيحها للانتفاع بالدلالة على كونها نعمة بأولى من دلالة تصحيحها للاستضرار على كونها مضرة ونقمة، قيل: بل هاهنا مخصص خصصها بالدلالة على قولنا: وهو قصد الباري تعالى بها الانتفاع ولهذا قلنا: إن إعادة حياة العاصي لا تكون نعمة، فإن قيل: فما الذي يدل على أنها أول النعم؟ قيل: هو أن سائر المنافع تترتب على الحياة إما في وجودها أو في صحة الانتفاع بها، فإن قيل: هلا كان أول النعم الجملة التي لا يصير الحي حيًا إلا بها فإن الحياة مترتبة في الوجود عليها، قيل: لأن الجملة لا تأثير لها في صحة الانتفاع وإنما المؤثر في ذلك الحياة، وأيضًا فإنه لا بد من تمييز النعمة من المنعم عليه، والجملة هي نفس المنعم عليه فلا يجوز أن تكون نعمة فضلاً عن أن تكون أول النعم.
قلت: هكذا ذكر بعض أصحابنا أن الجملة لا يجوز أن تكون نعمة وفيه نظر لما مر في تفسير المنفعة، ولأن خلق الحي أحد أصول النعم كما ذلك معروف. فإن قيل: هلا كانت الشهوة أول النعم لترتب المنافع عليها حتى لولا وجودها لما صح الانتفاع؟ قيل: لأنها مترتبة في الوجود على الحياة.
فائدة [في أسماء النعمة]
للنعمة أسماء كثيرة : منة ومنحة وهبة وموهبة وحباء وعطية وعطاء ونوال وإلى، وتجمع على آلاء.
المسألة الثانية [نعمة الله على الكافر]
اختلفوا في أنه هل لله نعمة على الكافر أم لا؟ فقالت العدلية: إن الله تعالى قد أنعم على المكلفين أجمعين بنعمة الدنيا ونعمة الدين، وقالت المجبرة: لا نعمة لله على الكافر في باب الدين أصلاً.
قال (الرازي)، قال أهل السنة: إن الله خلق الكافر للنار ولعذاب الآخرة، وأما النعم الدنيوية فاختلفوا فيها، فمنهم: من قال لا نعمة لله على الكافر في الدنيا، ومنهم من قال إنه وإن لم ينعم عليه بنعم الدين فقد أنعم عليه بنعم الدنيا وهذا قول الباقلاني والرازي.
احتج أهل العدل على إثبات النعم الدنيوية بأن من المعلوم ضرورة أن نعم الله شاملة للبر والفاجر، والمسلم والكافر، ولا ينكر ذلك إلا مكابر، فمن ذلك: خلق الحي وخلق حياته، وقدرته وشهوته ولذته، وتمكينه من المنافع والملاذ وغير ذلك، ومن ذلك ما أنعم الله به على العبد في نفسه وذاته بأن جعل له عينين ولسانًا وشفتين وأنفًا وأذنين ويدين ورجلين، انظر إلى ما اشتملت عليه هذه الأعضاء من المنافع التي لا يقادر قدرها ولا يستطاع الوفاء بشكرها، ومن ذلك ما خول الله الإنسان من الأرزاق والغذاء التي لا بقاء له ولا نما إلا بها، ثم سهل له الطريق إلى دخول غذائه ويسر خروج ما يضره بقاؤه، ومن ذلك ما جعل له من النفس الذي يستنشق به الهواء الذي هو سبب الحياة، والهواء في نفسه نعمة عظيمة لما جعل الله فيه لعباده من المنافع والمصالح الجسيمة، ويكفيك من ذلك أن الحي إذا فارق الهواء مات، ومن ذلك خلق السماء والأرض وما جعل الله فيهما من المنافع التي لا تحصى، فمن منافع السماء: ما جعل الله فيها من الشمس والقمر والنجوم، أما الشمس فلولا طلوعها وغروبها لبطل أمر العالم واختل نظامه، فمن منافع طلوعها: سعي الناس إلى معائشهم وبلوغهم أقصى مآربهم، وصلاح زروعهم وثمارهم فإن الموضع الذي لا تطلع عليه الشمس لا يزكو فيه زرع ولا ثمر، ومن منافع غروبها: أنها لو لم تغرب لم يكن للناس سكون ولا راحة مع حاجتهم إلى ذلك لأن في هدوئهم تحصيل للراحة وانبعاث للقوة الهاضمة، وتنفيذ الغذاء إلى الأعضاء، ومن منافعه: أنه لولاه لاحترق كل ما على وجه الأرض بحر الشمس، ولهلك به كل حيوان.
وأما القمر فمن منافعه معرفة السنين والحساب، ومنها: أنه ينتفع بطلوعه الساري ومن ضل عنه شيء فأخفاه الظلام، وينتفع بغروبه الخائف الهارب من العدو، إذ ظلمة الليل تستره فلا يلحقه العدو، وكما قال المتنبي:
وكم لظلام الليل عندي من يدٍ .... تخبر أن المانوية تكذب
وأما النجوم فمن منافعها: معرفة القبلة واهتداء المسافر في البر والبحر، وكونها رجومًا لأعظم الأعداء للمكلّف وهم الشياطين.
وأما منافع الأرض فهي كثيرة: من ذلك ما جعل الله فيها من الجبال المانعة لها من الميدان بأهلها، وما جعل للإنسان فيها من الأنعام والزينة والزرع والنخيل والأعناب وغير ذلك من الفواكه وصنوف المعائش والأرزاق، وذلك كله نعمة للإنسان.
وعلى الجملة إن إنكار النعم الدنيوية الشاملة للكفار كإنكار ظلمة الليل وضوء النهار، وخروج عن زمرة ذوي العقول والأفكار، ودخول في مذهب السوفسطائية الأغمار، هذا مع ما ورد في كتاب الله تعالى وسنة نبيه صلى الله عليه وآله وسلم من التمنن بالنعم على الناس كافة.
والإخبار بها والتحذير من كفرانها والجحود لها ونسبتهم إلى الظلم والكفر عند ترك الشكر، ويكفي ما ذكره الله تعالى في سورة إبراهيم في قوله تعالى: {أَلَمْ تَرَى إِلَى الَّذِينَ بَدَّلُوا نِعْمَةَ اللَّهِ كُفْراً}[إبراهيم:28] إلى قوله: {إِنَّ الإِنسَانَ لَظَلُومٌ كَفَّارٌ}[إبراهيم:34 ]وفي سورة النحل من أولها إلى قوله: {وَإِنْ تَعُدُّوا نِعْمَةَ اللَّهِ لاَ تُحْصُوهَا}[إبراهيم:34 ]من تعداد النعم العامة ما لا ينكره إلا معاند.
ومن الدلالة على ذلك ما في هذه السورة من قوله تعالى: {وَاللَّهُ أَخْرَجَكُمْ مِنْ بُطُونِ أُمَّهَاتِكُمْ لاَ تَعْلَمُونَ شَيْئًا}[النحل:78 ]إلى قوله:{ يَعْرِفُونَ نِعْمَةَ اللَّهِ ثُمَّ يُنكِرُونَهَا وَأَكْثَرُهُمُ الْكَافِرُونَ}[النحل:83 ]وكتاب الله مشحون بالتذكير بالنعم والتحذير من إنكارها والحث على شكرها على تنوع الدلالة فمنها: ما يدل بالمطابقة، ومنها: ما يدل بالتضمن أوالالتزام أو التنبيه أو الإشارة، وأول آية منه البسملة فإنها متضمنة للاسم الشريف الدال على استجماع صفات الكمال التي منها: الإحسان إلى الخاص والعام، وإطلاق الرحمن الرحيم الدال على شمول الرحمة وعمومها، والرحمة من أعظم النعم وأجلها، ثم ثنى بقوله: {الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ}[الصافات:182 ]وقد مر أن الحمد فيها على نعمة التربية، وما دلت عليه الأوصاف التي بعدها من النعم، وسيأتي مزيد بسط في الدلالة في مواضعه من كتابنا هذا إن شاء الله.
وأما الحجة على إثبات النعم الدينية، فلنا في ذلك مسلكان: عقلي، ونقلي.
أما العقلي: فنقول: قد ثبت أن الله تعالى عدل حكيم لا يفعل القبيح ولا يرضى به، وإذا كان كذلك لم يجز منه تعذيب الكافر من دون استحقاق، وإذا لم يجز تعذيبه من دون استحقاق فلا بد من دلالته وهدايته وإرشاده إلى ما ينفعه وتحذيره مما يؤدي إلى عقابه وإهانته، وإلا كان تكليفًا بما لا يعلم ولا يطاق وذلك قبيح لا يجوز منه تعالى وقد هداه ودله بما ركب فيه من العقل الذي يميز به بين الحسن والقبيح، ويفهم به معنى خطاب الله وخطاب رسله، وقواه على الطاعة ومكنه منها، ودعاه إليها، ورغب بالثواب وزجر بالعقاب، وكل ذلك نعم عظيمة.
فإن قيل: وأي نعمة على الكافر بالتكليف ولولاه لما هلك واستوجب العذاب الدائم؟ قيل: قد مر الكلام على بيان حسنه بما لا مزيد عليه، وسيأتي في سورة البقرة زيادة تحقيق وما حسن فعله للغير فهو نعمة.
وأما النقلي: فاعلم أن الله تعالى قد امتن علينا بالكتاب وسماه {هُدًى لِلنَّاسِ}[البقرة:185] وبالرسول وسماه: {مُبَشِّراً وَنَذِيراً}[الإسراء:105] والامتنان لا يكون إلا بنعمة، وقال تعالى: {وَأَمَّا ثَمُودُ فَهَدَيْنَاهُمْ فَاسْتَحَبُّوا الْعَمَى عَلَى الْهُدَى}[فصلت:17] وقال: {وَلِكُلِّ قَوْمٍ هَادٍ}[الرعد:7] وقال: {وَمَا كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولاً}[الإسراء:15 ]والآيات في ذلك كثيرة وكلها دالة على أن الله قد أنعم على كل مكلف بالهداية والدعاء على ألسنة الرسل، والترغيب والترهيب حتى لا تكون للكافر على الله حجة يوم القيامة كما قال تعالى: {أَنْ تَقُولُوا مَا جَاءَنَا مِنْ بَشِيرٍ وَلاَ نَذِيرٍ فَقَدْ جَاءَكُمْ بَشِيرٌ وَنَذِيرٌ}[المائدة:19 ]ولذا لا يمكنهم الإنكار عند سؤال خزنة جهنم {أَلَمْ يَأْتِكُمْ نَذِيرٌ، قَالُوا بَلَى قَدْ جَاءَنَا نَذِيرٌ فَكَذَّبْنَا وَقُلْنَا مَا نَزَّلَ اللَّهُ مِنْ شَيْءٍ...} [الملك:9]..الآية، فثبت بما ذكرنا أن الله منعم على كل مكلف بنعم لا تحصى دينية ودنيوية، وما أحسن ما قاله العلامة أبو السعود في تفسير هذه الآية أعني: {أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمَّْ}[الفاتحة: 7] وهو من فحول الخصوم ونصه: ونعم الله تعالى مع استحالة إحصائها تنحصر أصولها في دنيوي وأخروي، والأول قسمان: وهبي وكسبي، والوهبي أيضًا قسمان: روحاني كنفخ الروح فيه وإمداده بالعقل وما يتبعه من القوى المدركة فإنها مع كونها من قبيل الهدايات نعم جليلة في أنفسها، وجسماني كتخليق البدن والقوة الحالة فيه والهيئات العارضة له من الصحة وسلامة الأعضاء، والكسبي تخليةالنفس عن الرذائل وتحليتها بالأخلاق السنية، والملكات البهية، وتزيين البدن بالهيئات المطبوعة والحلي المرضية وحصول الجاه والمال.
والثاني: مغفرة ما فرط منه والرضا عنه وتبوئته في أعلى عليين مع المقربين. والمطلوب هو القسم الأخير وما هو ذريعة إلى نيله من القسم الأول.
قلت: وفي قوله: وما هو ذريعة...إلخ اعتراف بالنعمة الدينية على كل مكلف، لا سيما وقد قال: إنها من قبيل الهدايات، وأما جعل التخلية عن الرذائل والتحلية بالفضائل نعمة من الله فنقول: ذلك من فعل العبد إلا أنه يصح تسميته نعمة من الله تعالى لهدايته ودلالته عليها وتمكينه منها، وأما تزيين البدن وما بعده فهو نعمة من الله لأنها فعله حقيقة.
احتجت المجبرة على نفي النعمة الدينية بالعقل والنقل، أما العقل فلأنه قد ثبت أن الله تعالى لا يجوز أن يفعل الفعل لغرض لما مر تقريره في السابعة من مسائل الحمد، وإذا ثبت أنه لا يفعل لغرض صح أنه لم يخلق الكافر إلا للنار، وحينئذ فأي نعمة لله عليه في باب الدين، إذ لو أنعم عليه بالهداية لكان مع المقربين في جنات النعيم، وأما النقل فآيات منها: قوله تعالى :{ صِرَاطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ}[الفاتحة: 7 ] فإنه بدل من الصراط المستقيم المطلوب بقوله: {اهْدِنَا} فلو كان على الكفار نعمة لزم طلب صراط الكفار، ومنها: قوله تعالى: {وَلاَ يَحْسَبَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنَّمَا نُمْلِي لَهُمْ خَيْرٌ لأَِنْفُسِهِمْ إِنَّمَا نُمْلِي لَهُمْ لِيَزْدَادُوا إِثْماً}[آل عمران: 178].
والجواب: أما الحجة العقلية فهي مبنية على أصل فاسد وهو نفي الحسن والقبح العقلي وعلى كونه تعالى يفعل الظلم وغيره من القبائح ويفعل لا لغرض، وكل ذلك باطل وقد مر إبطاله، ولأجل بنائهم على تلك الأصول الباطلة:
قال السيد (مانكديم): إن المجبرة مع تمسكهم بالجبر لا يمكنهم أن يعرفوا لله تعالى نعمة على أحد لا نعمة الدنيا ولا نعمة الدين، لتجويزهم أن يكون الله تعالى خلق الخلق لا لغرض أصلاً لا النفع ولا الضرر بل خلقهم عبثًا تعالى عن ذلك، قال: وهذا يوجب عليهم أن لا يعرفوا الله تعالى إلهاً، وأنه تحق له العبادة لأن العبادة هي النهاية في الخضوع والغاية في الشكر، والشكر إنما يستحق على النعمة، فإذا لم يمكن القوم أن يعرفوا كونه منعمًا أصلاً كيف يمكنهم معرفة إلهيته واستحقاقه العبادة التي هي النهاية في الشكر؟! وأما قولهم: أنه لم يخلق الكافر إلا للنار فباطل بل خلقهم لعبادته، وقد بينا حسن التكليف فيما سبق.
وقال الإمام (أحمد بن سليمان): اعلم أنه لما ثبت أن المنعم حكيم وثبت أنه لا يفعل قبيحًا ثبت أن إظهار الحسن وإيجاده حسن، وإذا ثبت أن إيجاد الحسن حسن وثبت أن الله لا يفعل قبيحًا ثبت أن إيجاد الله للعالم حسن، ولما ثبت أن الله غني عن العالم ثبت أنه لم يخلقه لنفسه بل خلقه لعبادته نعمة منه وتفضلاً. وقوله تعالى: {وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالإِنسَ إِلاَّ لِيَعْبُدُونِ...} [الذاريات:56] الآية، فبين أنه لم يخلقهم له، وأخبر أنه غني عنهم، وكذلك هو غني عن عبادتهم ونفعها لهم لا له، قال: فلما أمرهم بالعبادة وأعطاهم الاستطاعة عليها قبل وجوب الأمر ثم أثابهم عليها وضاعف لهم الثواب، صح أن التعبد نعمة وتفضل منه ابتدأ به عباده المكلفين.
قلت: وقد سوى بين المؤمن والكافر في طلب العبادة التي يستحق بها الثواب وفي إعطاء الاستطاعة عليها والدعاء إليها بالترغيب والترهيب في الكتب المنزلة وعلى ألسنة الرسل، وكل هذه نعم دينية يستوي فيها المطيع والعاصي، وإنما اختلفوا في الجزاء لاختلافهم في القبول وعدمه، والقبول وعدمه أمر راجع إلى اختيارهم، فمن اختار الطاعة استحق جزاءها، ومن اختار المعصية استحق جزاءها، ولو سلبهم الاختيار لم يصح تكليفهم، وأما ما ذكروه من الاحتجاج بقوله تعالى: {صِرَاطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ}[الفاتحة: 7 ]فجوابه: أن دلالة السياق تمنع من حملها على صراط الكفار؛ لأنه قد تقدمها طلب المعونة على العبادة، ولو جعلنا المطلوب هنا صراط الكفار لتنافر الكلام وتناقض، والواجب صيانة أفصح الكلام عن الوجوه التي تنافي الفصاحة والبلاغة، ولأنه وصف الصراط بالمستقيم وصراط الكفار لا يوصف بالاستقامة، ثم إنا لو سلمنا تناول الآية للكفار بظاهرها فقد أخرجهم بقوله: {غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ وَلاَ الضَّالِّينَ}[الفاتحة: 7].
إذا عرفت هذا فنقول: المراد بالنعمة هنا النعمة الدينية وهي نعمة الإسلام والإيمان، وذلك لا يستلزم نفي النعمة الدينية على الكافر لأنا قد بينا أن الهداية المطلوبة في الآية محمولة إما على الثبات أو التوفيق أو الهداية إلى الجنة في الآخرة، وكل ذلك لا يمنع الإنعام على الكافر بالهداية بمعنى الدلالة على الخير، فإن قيل: فقد جوزتم حملها في الآية على الدلالة؟ قيل: ذلك لا ينافي ثبوتها للكافر ولذا تخلصنا عن لزوم كونها من طلب تحصيل الحاصل بتلك الوجوه التي هي الحمل على التعبد أو صراط الأولين في تحمل المشاق أو زيادة الأدلة أو الهداية في المستقبل، وكل ذلك لا ينافي ثبوت أصل هذه النعمة للعصاة، فتأمل ترشد.
وأما قوله تعالى: {وَلاَ يَحْسَبَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا..} [آل عمران:178 ]الآية، فإنما نفى كون الإملاء نعمة، ولا يلزم منه نفي سائر النعم الدينية والدنيوية، وحينئذٍ فنقول: يجوز أن يكون ذلك الإملاء الذي يزدادون به إثمًا عقوبة لهم على تماديهم في المعاصي وعدم قبولهم الهداية وعملهم بالدلالة لما علم الله منهم عدم القبول كما قيل في الطبع والختم.
احتج الذين نفوا النعم الدنيوية بأن هذه النعم القليلة في الدنيا لما كانت مؤدية إلى الضرر الدائم في الآخرة لم تكن نعمة في الدنيا، بدليل أن من جعل السم في الحلوى لم يعد النفع الحاصل به نعمة لأجل ما يؤدي إليه من الضرر.
والجواب: أن هذه النعم ليست هي المؤدية إلى الضرر الدائم، وإنما المؤدي إليه الكفر الذي فعله المكلف بسوء اختياره، فإن قيل: فقد قواه بها على الكفر، قيل: بل قواه بها على الطاعة، ولذا وقع في الشرع التحذير من الاستعانة بنعم الله على معاصيه، وإنما لم يسلبه القدرة على الكفر لئلا يحصل الإلجاء المنافي للتكليف، وقد أجاب بعض أهل الجبر عن تشبيه نعم الدنيا بالحلوى المسموم، فقال: ليس هذا كمن جعل السم في الحلوى على ما ظن، وإنما هو كمن ناول شخصًا حلوى لذيذة غير مسمومة ولكن ذلك الشخص لفساد مزاجه أو لاستعماله الحلوى لا كما ينبغي أفسد مزاج الحلوى أيضًا وصيره كالسم القاتل بالنسبة إليه.
ولا يخفى أن هذه الحجة قد تضمنت الإقرار بالنعمة، وإنما ادعوا حقارتها، وعلى هذا فلا حجة لهم، وأما دعوى الحقارة فمخالفة لأدلة العقل والنقل، أما العقل فقد أوضحنا أنها عظيمة عند العقلاء في مسألة التحسين والتقبيح، وأما النقل فلأن الله تعالى قد وصف نعمه علينا بأوصاف تدل على عظمها وجلالتها.
المسألة الثالثة [احتجاج المجبرة بهذه الآية]
احتجت المجبرة بهذه الآية على كون أفعال العباد مخلوقة لله تعالى، ووجه الاحتجاج بها أن المراد بالإنعام في الآية نعمة الإيمان، ولفظ الآية صريح في أن الله هو المنعم بهذه النعمة، فثبت أن الله تعالى هو الخالق للإيمان والمعطي له، وأيضًا الإيمان أعظم النعم، فلو كان فاعله هو العبد لكان إنعام العبد أشرف وأعلى من إنعام الله، ولو كان كذلك لما حسن ذكر إنعام الله في معرض التعظيم.
والجواب: أنه قد تقدم لهم نظير هذه الشبهة في الاستعاذة في التاسعة من مسائل الحمد، وأجبنا ثمة بما فيه كفاية، ونقول هنا: من أين لكم أن المراد بالنعمة هنا نعمة الإيمان؟ لم لا يجوز أن يكون التوفيق واللطف أو النصر وحسن الثناء الذي أنعم الله به على النبيئين وغيرهم ممن تقدمنا على القول بأنهم المرادون ونحو ذلك مما يفهم مما سبق، سلمنا أن المراد الإيمان فالمراد مقدماته أو الإيمان نفسه، وسمي نعمة من الله لأنه لما أقدرنا ودلنا عليه صار كأنه من جهته كما مر عن جماعة من المتكلمين، ويكون من المجاز، وقد التزم السيد مانكديم معنى هذا وهو صحة القول بأن القديم تعالى منعم علينا بالإيمان وأنه يستحق الشكر عليه، وعلله بأنه لما خلقنا أحياء وقوانا وأكمل عقولنا وخلق فينا شهوة القبيح والنفرة عن الحسن، وكلفنا ومكننا من اختيار الإيمان والكفر وعرضنا بذلك على الثواب فكأنه هو الذي خلق فينا الإيمان وأنعم علينا به قال: إلا أنه لا يجوز إطلاق القول في ذلك لإيهامه الخطأ، أعني: لإيهامه أن الله خالق أفعال العباد قال: حتى أنه لو لم يوهم ذلك وعرف من حالنا أنا لا نعني به أنه الذي خلق فينا الإيمان وأنه لا يستحق الشكر عليه نفسه، وأنه إنما استحق الشكر على مقدماته لجوزنا إطلاق القول في ذلك.
قلت: والحاصل أن تسمية الإيمان نعمة إنما هو على جهة المجاز، وأما على جهة الحقيقة فلا يسمى نعمة؛ لأنه فعل العبد ونفعه له، والمنفعة لا تسمى نعمة إلا إذا قصد بها الغير، وقد مر توضيح هذا في التاسعة من مسائل الحمد.
وأما قوله: إن الإيمان أفضل النعم... إلخ فجوابه: أنا لا نسلم أنه نعمة، سلمنا، فلا نسلم أنه أفضل النعم لأنه ليس إلا وسيلة إلى ما هو أفضل منه على ما مر تقريره في التاسعة أيضًا.
المسألة الرابعة [في الاستدلال على الاضلال]
استدل الخصوم بهذه الآية على أنه يجوز من الله أن يضل، وإلا لما صح أن يسألوه الهداية، قلنا: لم يطلبوا إلا منح الألطاف أو نحوه مما سبق، وذلك لا يستلزم جواز إضلال الله العبد وعدم هدايته أصلاً.
المسألة الخامسة [في اللطف]
قال (الرازي): في الآية دلالة على أنه لا يجب على الله رعاية الصلاح، والأصلح في الدين لأنه لو كان الإرشاد واجبًا عليه تعالى لم يكن إنعامًا لأن أداء الواجب لا يكون إنعامًا، والجواب: أن الوجوب لا ينافي الإنعام إذ لا يمنع كون الفعل منفعة ولا قصد الإحسان به إلى الغير، وذلك هو معنى النعمة، وأما الصلاح والأصلح فالمراد بهما الألطاف، والمجبرة لا يناظرون في اللطف لا في إثباته ولا في وجوبه لأنه إذا كان المرجع به إلى ما يختار المكلف عنده الفعل والترك وهم لا يجعلون للعبد فعلاً ولا تركًا فلا معنى للطف في حقه، وأيضًا فإن وجه وجوب اللطف كونه زيادة في التمكين وإزاحة العلة، والقوم يجوزون تكليف ما لا يطاق، وحينئذ فلا معنى للخوض معهم في الألطاف، وإنما الكلام فيها بين العدلية: هل تجب أم لا؟ والبحث في المسألة يكون في مواضع:
الموضع الأول: في حقيقة اللطف
وهو في اللغة مشتق من اللطافة وهي هيئة للمتحيز مخصوصة مقابلة للكثافة، ولما كان اللطيف من الأجسام يمكن دخوله المداخل الضيقة دون الكثيف شبهوا به ما يقرب الإنسان من إدراك غرضه ولذا ورد عن العرب: ألطف بالصبي وتلطف به، ومعنى التشبيه أن الإنسان يكون في احتياله في تحصيل مقصوده كالجسم اللطيف الذي يداخل الجسم بسهولة من دون إخلال بالمدخول فيه، وعليه قول الشاعر:
لو سار ألف مدجج في حاجة .... ما نالها إلا الذي يتلطف
أي الذي يحتال في تحصيلها بسهولة كالجسم اللطيف الذي دخل في قلب من الحاجة إليه بلا مشقة، والمدجج بجيمين: لابس عدة الحرب كاملة، وفي القاموس، والمدجج: الشاك في سلاحه.
ولما كثر استعماله في هذا المجاز أعني: ما قرب من نيل الغرض وكان بعض الحوادث مما يقرب من فعل ما كلف به أو تركه بسهولة سمى المتكلمون ذلك الحادث: لطفًا مطابقة للمعنى اللغوي، وقد يسمونه صلاحًا ومصلحة لأنه يحصل به صلاح الدين، ويسمى أصلح أي: أصلح من مصالح الدنيا لأن مصلحته دينية لتأديته إلى النعيم الأبدي، وعلى هذا فالمراد منه المفاضلة، وقيل: ليس المراد المفاضلة بل المعنى أنه لا يقوم مقامه شيء في باب الصلاح كما في قولهم: الله أكبر، وقد يسمى استصلاحًا لما فيه من طلب صلاح المكلف، وإذا عرفت المعنى اللغوي فلنتكلم في المعنى الاصطلاحي فنقول: قد اختلف أصحابنا في حده، فقال السيد مانكديم: هو ما يختار المرء عنده الواجب ويتجنب عنده القبيح أو ما يكون عنده أقرب إلى اختيار الواجب أو ترك القبيح، وليس بجامع لخروج اللطف في فعل المندوب وترك المكروه.
وقال (القرشي): هو ما يختار المكلف عنده الطاعة لأجله بعد التمكين أو يقرب من اختيارها كذلك، والمفسدة ما يقابله، وقيل: هو ما يدعو المكلف إلى فعل ما كلف فعله أو ترك ما كلف تركه أو إلى مجموعهما لأجل أنه كلف بذلك ما لم يبلغ به حد الإلجاء، واختار هذا الحد الإمام المهدي عليه السلام ، وقد اعترضه بعض المحققين بأنهم قد جعلوا اللطف من قبيل الدواعي، وليس كذلك لأن الدواعي هي الاعتقاد أو الظن بأن في الفعل جلب نفع ودفع ضرر، وهذه الدواعي تثبت مع الألطاف وعدمها، ألا ترى: أنا نعلم أن لنا في الطاعة جلب نفع ودفع ضرر وإن لم تقع الألطاف التي هي الأمراض وسماع المواعظ وفعل الشرعيات، وكذلك معرفة الله تعالى فإنها لطف وليست هي الداعي، وإنما الداعي هو العلم بأن هذا الفعل مما يستحق عليه الثواب والعقاب، وأيضًا فإن الداعي لا بد منه في كل ما كلفناه، ولهذا قالوا: لا بد وأن يكون المكلف متردد الدواعي بخلاف اللطف فإنه يختص ببعض الأفعال، فثبت أن اللطف هو ما يختار عنده سواء كان داعيًا أم ألماً أم كلامًا أم صلاة أم غير ذلك مما لا يدعو.
وأجيب: بأن هذا مؤاخذة لهم بظاهر العبارة؛ لأن المعلوم قطعًا أنهم لا يقولون بأن الألطاف لا تكون إلا من قبيل الدواعي التي هي الاعتقادات والظنون فقط فإنهم لا يزالون ينصون على أن وجه حسن الآلام وغيرها كونها لطفًا، وإنما أرادوا بقولهم: أن الألطاف تدعو أن الدواعي تنبعث معها وتحصل لأجلها، ويقع اختيار الفعل الملطوف فيه عندها.
قلت: فعلى هذا معنى الحدين واحد، وتفسير ألفاظ الحد ظاهرة، وقولهم: ما يختار عنده الطاعة شامل للطف التوفيق وهو الذي يختار عنده الفعل، ولطف العصمة وهو الذي يختار عنده الترك، إذ الفعل والترك طاعة.
الموضع الثاني: في قسمته
وله قسمتان: الأولى: إلى لطف توفيق، ولطف عصمة، ولطف مطلق وقد عرفتها.
قال (القرشي): ويسمى توفيقًا وعصمة إذا كان يختار عنده لا محالة، إلا أنه لا يقال فلان معصوم أو موفق إلا إذا كان يستحق المدح لأن هذه الأسماء قد صارت مدحًا بالعرف، وكذلك لا يقال: أصلح الله فلانًا إلا إذا كان مؤمنًا لافادته المدح، فأما مع التقييد فيجوز ذلك وقوله: لا يقال أصلح الله فلانًا...إلخ.
قال الإمام عز الدين: هذا نسبه في المحيط إلى قاضي القضاة، فإن أراد حيث ورد للدعاء فغير صحيح لأن الدعاء بالإصلاح والهداية تصح للكافر والفاسق، وإن أراد حيث ورد بمعنى الإخبار فكلامه ليس ببعيد، وقيل الصحيح خلافه لأن الله قد أصلح جميع خلقه بفعل اللطف لهم، وإن كان منهم من لم يلتطف، قلت: ويؤيده ما مر من تسمية اللطف صلاحًا وأصلح.
القسمة الثانية: إلى ما هو من فعل الله كالآلام وإلى ما هو من فعل المكلف نفسه كالصلاة عند من قال إنها لطف، وإلى ما هو من فعل غيره وغير الله من صبي أو مكلف آخر أو بهيمة.
الموضع الثالث: في ذكر الخلاف والحجج
فنقول: ما كان من فعل الله فهو على ضربين:
أحدهما: أن يتقدم على التكليف أو يقارنه فهذا لا يجب لأن التكليف تفضل، فكذلك ما تقدمه أو قارنه، قال الإمام عز الدين: أما ما تقدمه فظاهر، وأما ما قارنه فلأنه إذا كان التكليف هو المقتضي لوجوب اللطف لم يقتض وجوبه إلا في الحالة الثانية من حصوله.
الثاني: أن يتأخر عنه فهذا موضع الخلاف، فقال الجمهور من أهل العدل: اللطف واجب على الله في كل ما كلفنا فعله أو تركه سواء كان الملطوف فيه حتمًا كالواجب والمحرم أم لا كالمندوب والمكروه، وخالف في ذلك المجبرة، وقد مر أنه لا معنى للكلام معهم في هذه المسألة، وإنما ينبغي الكلام مع من خالف من أهل العدل وهم: بشر بن المعتمر وأتباعه من أصحاب اللطف، فهؤلاء قالوا: لا يجب على الله بعد التكليف إلا التمكين، وأما اللطف فهو تفضل منه تعالى إذا فعله، وليس بواجب، قال أبو الحسين الخياط: وقد رجع بشر عن ذلك إلى مقالة الجمهور، وقيل: يفعله الله لا محالة وإن لم يجب لأن التكليف يقتضيه، وقال جعفر بن حرب: وإحدى الروايتين عن أبي هاشم: إن استحق من الثواب مع عدم اللطف أكثر مما يستحقه إذا آمن معه لم يجب وإلا وجب، وعن قاضي القضاة: أنه لا يجب إلا ما كان توفيقًا أو عصمة، وقواه الإمام عز الدين، وللجمهور حجج:
الحجة الأولى: أن الغرض بالتكليف تعريض المكلف لمنافع الثواب، فإذا كان في مقدوره تعالى ما لو فعله به لاختار الواجب واجتنب القبيح فلا بد من أن يفعل به ذلك، وإلا عاد على غرضه بالنقض، وصار الحال فيه كالحال في أحدنا إذا أراد من بعض أصدقائه أن يجيب إلى طعام قد اتخذه له فإنه يجب عليه أن يدعوه إذا علم من حاله أنه لا يجيب إلا بدعائه، وإلا عاد على غرضه الذي هو الإجابة بالطعام بالنقض ويصير اصطناعه للطعام عبثًا فكذلك هاهنا، فإن قيل: إنما وجب في الشاهد لأنه يتضرر بالإنفاق مع عدم حصول الغرض بخلاف الباري تعالى؟ قيل: إنا نفرض الكلام فيمن لا يبالي ولا يتضرر، ثم إنه لو وجد الفرق من هذا الوجه فلا فارق بينهما في مصير الفعل عبثًا والقديم تعالى لا يفعل العبث لقبحه، فإن قيل: إن أحدنا قد يصنع للغير طعامًا ثم يبدو له في إرادة تناوله فلا يجب عليه الدعاء؟ قيل: إنا نفرض الكلام مع استمرار الحال في الإرادة لتناول الطعام كما يستمر الحال في إرادة الله تعالى للطاعة، وأن غرضه بالتكليف باق، إذ لا يجوز عليه البدا والخواطر، فإن قيل: لو وجب ذلك لوجب أن يشاطره ماله إن علم أنه لا يجيب إلا بذلك، وكذلك يلزم في السيد إذا قال لعبده: اسقني ماء، وعلم من حاله أنه لا يمتثل إلا بعتقه أن يجب؟ قيل: أما الأول ففيه تفصيل وهو أن نقول: إن كان الغرض بإحضاره نفعه أي: المدعو بدعائه إلى الطعام فلا تجب المشاطرة لأنه يلحقه ضرر بذلك وهو ينقض الغرض وتركه لا ينقضه، وإن كان الغرض نفع نفسه أعني فاعل الطعام بما يحصل له من سرور أو ثناء أو جزاء فإن كان الضرر الذي يلحقه بالمشاطرة يساوي النفع أو يزيد عليه فالقول ما تقدم من أن ذلك يبطل الغرض، والمسألة مفروضة مع بقاء الغرض، وإنما قلنا: إنه ينقض الغرض لما تقرر من أن المصلحة إذا لزم منها مفسدة راجحة أو مساوية صارت مفسدة، ولا شك أن الغرض هنا النفع، فإذا لزم منه ما ذكر لم يكن نفعًا بل ضررًا وهو معنى
نقض الغرض، وإن كان دون ذلك النفع كأن يكون المدعو ملكًا يحصل له من ضيافته نفعٌ زايد على ضرر المشاطرة من مال عظيم أو جاه عريض أو ثناء كثير فإنها تجب المشاطرة حينئذ، وإلا عاد على غرضه بالنقض، لا سيما إذا كان صنع الطعام بعد العلم بأنه لا يأتيه إلا بالمشاطرة، ولا شك أن الباري تعالى لا غرض له في التكليف إلا نفع المكلف، ولا يلحقه في فعل اللطف ضرر فيجب.
وأما الإمام المهدي عليه السلام فقال في جواب هذا السؤال: نحن نلتزم أنه إذا عرف من حاله أنه لا يأتي الطعام إلا بذلك واشتغل بالطعام له وهو يعلم ذلك فإنه إن لم يشاطره انتقض غرضه بفعل الطعام وكان في حكم العابث بفعل الطعام، ولا نقول بوجوب المشاطرة لكن ينكشف لنا أن اشتغاله كان عبثًا، ولما علمنا أن العبث لا يجوز على الله تعالى علمنا أنه لا يخل باللطف، هذا حاصل كلامه عليه السلام ولم يعتبر التفصيل السابق، بل عدل إلى لزوم العبث الذي يتنزه الباري جل وعلى عنه، نعم. وفي كلام السيد مانكديم ما يدل على أن النفع المساوي كالراجح في وجوب المشاطرة لأنه قال: إذا كان مريدًا ضيافة الملك وعلم أن له في ضيافته نفعًا يوازي ذلك الضرر فإنه يحسن بل يجب.
وجواب السؤال الثاني: كهذا لأن السيد إذا علم من حاله أنه يموت عطشًا إن لم يشرب أو يلحقه ضرر يزيد على ضرر العتق وعلم من حال العبد أنه لا يسقيه إلا بذلك، فإنه يجب وإلا عاد على غرضه بالنقض.
وللإمام عز الدين اعتراض على هذه الحجة وهو: أنها لا تقتضي وجوب اللطف ولا استحقاق الذم على تركه، وإنما يكشف عدم فعله عن كون المكلِّف بصيغة اسم الفاعل كالعابث بالتكليف، وأنه لم يرد تعريض المكلَّف للثواب؛ إذ لو أراد ذلك لفعل ما يفعل المكلف عنده ما يستحق به الثواب أو يقربه منه، قال عليه السلام : ولهذا ذهب قوم إلى أن اللطف غير واجب في نفسه ولكن لا بد أن يفعل ويستحق الذم مع عدم فعله لا على الإخلال به، بل على أمر آخر وهو كونه كلف لغرض ثم لم يفعل ما يقع عنده ذلك الغرض أو يقرب من الوقوع فيصير عابثًا بالتكليف.
قلت: قد اعترف عليه السلام باستحقاقه الذم بترك اللطف، وقوله: ليس على الإخلال به...إلخ مجرد دعوى، مع أن قوله: ثم لم يفعل ما يقع عنده...إلخ هو معنى الإخلال فلم يظهر أمر يستحق عليه الذم مغاير للإخلال حتى يتم قوله: ليس على الإخلال به، سلمنا فنقول: استلزام الإخلال باللطف كونه عابثًا بالتكليف كاف في استحقاق الذم على تركه؛ لأن مستلزم القبح قبيح، وإذا استحق الذم على تركه كان واجبًا؛ إذ لا معنى للواجب إلا قبح الإخلال به واستحقاق الذم بتركه. والله أعلم.
الحجة الثانية: أن اللطف جار مجرى التمكين في إزاحة علة المكلف لاستوائهما في أن المكلف لا يختار الفعل إلا عندهما، فكما أن التمكين واجب لأجل التكليف فكذلك اللطف.
قال القرشي: وصار الحال فيه كمن يصنع للغير طعامًا ويعلم أنه لا يأتي إلا برسول فإن الإرسال إليه يجري مجرى فتح الباب وتقديم الطعام في إزاحة علة المدعو حتى أنه إن لم يرسل فقد عاد على غرضه الذي لأجله صنع الطعام بالنقض، والفرق بين هذه الحجة والأولى أنهم في الأولى أقاسوا الغرض بالتكليف المستلزم لوجوب اللطف على الغرض بإجابة الغير إلى الطعام، وهنا أقاسوا اللطف نفسه على التمكين، ولذا مثل له القرشي بالرسول الذي هو بمنزلة اللطف للمكلف وبفتح الباب وتقديم الطعام الذي هو بمنزلة تمكين المكلف، ويرد على هذه الحجة ما ورد على الأولى، والجواب الجواب.
وأما الإمام عز الدين فقد ضعف هذه الحجة غاية التضعيف، وذلك أنه قرر مساواته للتمكين في إزاحة العلة بأنه إذا كلفه ولم يمكنه كان له أن يقول: يا رب كلفتني ولم تمكني، فأنا معذور في ترك ما كلفتني فلأي شيء تعاقبني، وكذلك إذا لم يلطف به فإنه يقول: كلفتني وأردت مني الوصول إلى الثواب ولو فعلت بي كذا لوصلت، فأنا معذور فلأي شيء تعاقبني على معصيتك.
قال عليه السلام : ولا يخفى ما فيه من تكلف القياس وبنائه على غير أساس، فإن لله أن يجيب على المعتل بعدم اللطف بأن يقول كلفتك وعرضتك للثواب العظيم ودللتك على طريقه، وأوضحت لك أنك إن تنكبتها وقعت في العقاب العظيم بعد أن أكملت لك العقل ونصبت لك الدلالة، وأقمت عليك الحجة، ولا جواب إن لم يمكنه فالفرق واضح، وليس مثل هذا التأويل يؤتى به في الفروع الظنية فكيف بالمسائل الأصولية القطعية.
وحاصل كلامه عليه السلام عدم الاستواء في إزاحة العلة لأن المكلف لا يمكنه الفعل مع عدم التمكين ويمكنه مع عدم اللطف، قلت: وأيضًا لو كلفه مع عدم التمكين لكان تكليفًا بما لا يطاق، وقد رد العلامة المقبلي قولهم بنقض الغرض : بأنه غير مسلم مع حصول التمكين.
الحجة الثالثة: ذكرها أبو علي بأنه لو لم يجب اللطف لدل على أن الله لم يرد الطاعة من المكلف أو أراد منه المعصية، واعترضه أبو هاشم بأن الإرادة متقدمة على وقت اللطف ومقارنة للتكليف فلا يدل عدم اللطف على زوال شيء قد ثبت وهو الإرادة، ولا يقدح أيضًا في حسنها، ولا يقتضي حصول ضدها بدلاً منها، وصار كما نقول في أن الله تعالى لو لم يثب المطيع لما توجه إلى الله تعالى الذم لأجل التكليف حسن لتكامل شرائط حسنه، فما تأخر عنه لا يؤثر في حسنه ولا قبحه.
قال الإمام عز الدين عليه السلام : واعلم أن الذي أورد على دليل أبي علي يرد مثله على دليل الجمهور في قولهم: لو لم يلطف لكان ناقضًا للغرض بالتكليف؛ لأن معنى نقض الغرض انكشاف عدم الإرادة للفعل المكلف به ولتعريض المكلف إلى درجات لا تنال إلا به، وإن كان يظهر أن الجمهور جعلوا وجه وجوبه ألا ينتقض الغرض، وأبو علي جعل وجهه ألا ينكشف عدم الإرادة.
قال عليه السلام : وكلامهم في الظاهر أقوم وإن كان في الحقيقة أن المعنى واحد.
قلت: وفي قوله عليه السلام إن معنى نقض الغرض انكشاف عدم الإرادة نظر لما مر من أنهم أرادوا بالغرض تعريض المكلف لمنافع، وأن الكلام مفروض مع استمرار الحال في الإرادة وبقاء الغرض بالتكليف، أي أنهم إنما أوجبوا اللطف لئلا ينتقض الغرض مع بقائه، وبقاء الإرادة، فلا يرد عليهم ما ورد على أبي علي.
احتج بشر بن المعتمر وأتباعه بوجوه:
أحدها: أن اللطف لو وجب على الله لما وجد عاص، إذ ما من مكلف إلا وفي مقدور الله تعالى من الألطاف ما لو فعل به لاختار الواجب وترك القبيح، فلما وجدنا في المكلفين المطيع والعاصي ظهر لنا أن اللطف لا يجب؛ إذ لو وجب لوقع لمنع حكمة الباري تعالى وعدله من الإخلال بالواجب.
قلت: وهؤلاء يسمون أصحاب اللطف، وإنما سموا بذلك لقولهم: إنه ما من مكلف إلا والله قادر على اللطف به لا لنفيهم وجوب اللطف لأن الأسماء إنما تشتق من الإثبات لا من النفي، أجاب الأصحاب بأجوبة، منها: أنا لا نسلم أنه لا مكلف إلا وفي مقدور الله تعالى من الإلطاف ما لو فعل به لاختار الواجب وترك القبيح فإنا نقول: إنه لا يجب أن يكون لكل ما كلفناه لطف، بل يجوز أن يكون فيما كلفناه ما لا لطف فيه، بأن يعلم الله أنه لا شيء يختار عنده المكلف الفعل، ولا يقرب من اختياره، وذلك ظاهر في الشاهد، فإن أحدنا قد يعلم من حال ولده أنه يختار التعليم في حالة الشدة والرخاء والمنع والإعطاء، أو لا يختاره وإن فعل ما فعل.
ومنها: ما ذكره السيد مانكديم وهو أن الألطاف ليست من جنس المقدورات لأن اللطف ما يختار عنده الفعل والترك، وهذا ليس جنسًا مخصوصًا حتى يجب في القادر للذات أن يقدر عليه لا محالة، ومعناه أن كون الفعل لطفًا ليس بفعل فاعل حتى يلزم كونه مقدورًا للباري تعالى، وقد أوضح كونه ليس بفعل فاعل الإمام المهدي عليه السلام وحاصل كلامه: أن كون الفعل داعيًا لبعض المكلفين إلى فعل الواجب ليس واقفًا على اختيار مختار، بل يجوز أن يكون لوقوعه على وجه مخصوص، فالدعاء إلى فعل الواجب بمنزلة الحسن والقبح في كونهما غير واقفين على اختيار مختار، بل هما كالوصف المقتضى عن الذات، بيانه: أنا نعلم ضرورة أن من عرف أن له صانعًا صنعه كان أقرب إلى فعل الواجب وترك القبيح ممن لم يعرف ذلك مطيعًا كان أم عاصيًا، ونعلم أيضًا أن معرفة الله داعية، وأن هذا الحكم ثابت لها وليس بتأثير الله لأنا نعلم ذلك وإن لم نعرف الله، بل الملحد يعلم أن من عرف أن له صانعًا إن أطاعه أثابه وإن عصاه عاقبه كان أقرب إلى الفعل والترك ممن لم يعرف ذلك، ولا شك أن هذا الحكم يعرف ثبوته للمعرفة قبل وجودها كما يعرف وصفها الذاتي، فإذا ثبت للمعرفة أن تكون لطفًا غير واقف على اختيار مختار جاز أن يكون غيرها كذلك؛ إذ لا مانع، لكن لا طريق لنا إلى معرفة اللطف إلا بالسمع إلا المعرفة فقد دلنا العقل على كونها لطفًا، وعلى أن لطفيتها غير واقفة على تأثير مؤثر، ثم ذكر عليه السلام أن السمع قد دلنا على أن في الحوادث ما هو لطف وما هو مفسدة، وأن اللطفية والمفسدية لا اختيار للباري فيهما، أما الذي دل على ثبوت اللطف فمنه ما دل على ما هو من فعل الله، ومنه ما دل على ما هو من فعلنا، فالأول قوله تعالى: {أَوَلاَ يَرَوْنَ أَنَّهُمْ يُفْتَنُونَ فِي كُلِّ عَامٍ مَرَّةً أَوْ مَرَّتَيْنِ...} [التوبة:126]الآية، فأخبر تعالى أن غرضه بما يفتن به عباده من الامتحان بالخوف والجوع ونقص
الأموال والأنفس هو دعاؤهم إلى التوبة.
والثاني قوله تعالى: {أَقِمِ الصَّلاَةَ إِنَّ الصَّلاَةَ تَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ}[العنكبوت:45 ]فأخبر أن سبب وجوب الصلاة ما فيها من اللطف وهو الصرف عن الفحشاء والمنكر، وأما دلالة هاتين الآيتين على أن اللطفية ليست بتأثير الله فلأنها لو كانت بتأثيره لم يجز منه أن يجعل لطفنا فيما يشق علينا مع إمكان حصوله في الملاذ، بل يجب عليه أن يجعل الألطاف كلها في الملاذ لا في المؤلمات، وأما الذي دل على أن في المحدثات ما هو مفسدة للعباد فآيات منها: قوله تعالى: {وَلَوْ بَسَطَ اللَّهُ الرِّزْقَ لِعِبَادِهِ لَبَغَوْا فِي الأَرْضِ}[الشورى:27 ]فأخبر أن في بسط الرزق لعباده مفسدة، ودلت أيضًا على أن كون الفعل مفسدة لا يقف على اختيار المختار، بل هو كالذاتي إذ لو وقف على اختياره سبحانه وتعالى لجاز أن يبسط الرزق لكل العباد، ويجعل ذلك غير مفسدة فلا يصرفه عن بسطه صارف حينئذ، ثم قال عليه السلام : فهذه أدلة واضحة على ثبوت الألطاف والمفاسد، وعلى أن اللطفية والمفسدية كالحسن والقبح غير واقفين على اختيار مختار، وكل ذلك يبطل به ما زعم الخصم من أن في مقدور الله من الألطاف ما يصير به كل كافر مؤمنًا، وهو واضح.
واعترضه السيد العلامة محمد بن عز الدين المفتي رحمه الله: بأن قدرة الله شاملة عامة، ولكنه ناط الأحكام بالأسباب لحكم علمها من علم وجهلها من جهل، واستدل على ذلك بقوله تعالى: {وَلَوْ جَعَلْنَاهُ مَلَكًا لَجَعَلْنَاهُ رَجُلاً وَلَلَبَسْنَا عَلَيْهِمْ مَا يَلْبِسُونَ}[الأنعام:9].
قلت: والذي يظهر أن السيد رحمه الله لم يفهم مقصود الإمام المهدي عليه السلام فتوهم أن مراده نفي القدرة على الفعل بدليل أن من جملة أدلته التي اعترض بها قوله تعالى: {وَلَوْ نَشَاءُ لَجَعَلْنَا مِنْكُمْ مَلاَئِكَةً فِي الأَرْضِ يَخْلُفُونَ}[الزخرف:60 ] وبقوله صلى الله عليه وآله وسلم في الدعاء: ((يا مقلب القلوب ثبت قلبي على طاعتك)) وليس كما توهم، وإنما أراد الإمام عليه السلام أن اللطفية والمفسدية وهما أمران اعتباريان لا وجود لهما في الخارج لازمان للفعل بحيث إذا وجد الفعل كان فيه لطف أو مفسدة لا محالة، وإذا كان هذا لازمًا فلا يتوقف على اختيار مختار، وذلك أمر غير الفعل الذي تتعلق به القدرة، كما أن الحسن والقبح لازمان لوجود الفعل لا يتوقف كون الفعل الواقع على وجه حسنًا أو قبيحًا على الاختيار، وإنما المتوقف على الاختيار وجود الفعل وحصوله، وهذا هو الذي تدل عليه الآيات المذكورة، إلا أن لقائل أن يقول: إذا كان اللطف غير مقدور للباري تعالى فما معنى إيجابه عليه، فليتأمل. ومن أجوبة الأصحاب ما ذكره القرشي وهو أن فقد الطاعة إنما يدل على فقد اللطف الذي هو التوفيق والعصمة، فما المانع من أن يكون قد فعل الله به اللطف المطلق؟
قال الإمام عز الدين عليه السلام : وفيه نظر لأن المخالف يدعي أن في مقدور الله من الألطاف ما يفعل المكلف عنده ما كلفه لأنه قادر للذات، ومن حق القادر للذات أن يكون قادرًا على جميع أجناس المقدورات، ومن كل جنس على ما يتناهى، وما من مكلف إلا وله لطف في كل أمر كلف بفعله أو تركه، ثم قال: إن كلام القرشي يقضي بوجوب اللطف المطلق على الله تعالى لإزاحة العلة.
قال عليه السلام : ولا معنى لإيجابه كما روي عن قاضي القضاة، قلت: وستأتي الحجة لذلك، وحاصل اعتراضه أن الجواب غير مطابق لأن الخصم يدعي عموم القدرة على اللطف الذي يحصل عنده الفعل لا محالة وهو لطف التوفيق والعصمة، ولو كان واجبًا لما وجد عاص كما مر.
الوجه الثاني لبشر وأتباعه: أن اللطف يسمى أصلح، وهذه العبارة تقتضي التزايد، وأن ثم ما هو دونه لم يفعله الله تعالى لأن كل شيء يفعله الله تعالى فهو أصلح، والجواب: أنا لا نسلم المفاضلة كما مر سلمنا، فهي بين المصالح في الدين والمصالح في الدنيا، ولا شك في ذلك ولا فرج لهم في ذلك، ثم إنا لو سلمنا أن المفاضلة بين المصالح في الدين فنقول: لا حجة لهم في ذلك لأن الله تعالى إذا فعل الأعلى لم يجب الأدني، قال القرشي: فهو موضع وفاق، على أن هذا توصل إلى المعنى بالعبارة.
الوجه الثالث: قالوا لو وجب الأصلح في باب الدين لوجب في باب الدنيا. أجاب الإمام المهدي عليه السلام : بالفرق وهو: أن منافع الدنيا كلها تفضل لا وجه لوجوبها بخلاف مصالح الدين، فإن وجه وجوبها أن الإخلال بها ينقض الغرض بالتكليف، لا يقال وكذلك الإخلال بمصالح الدنيا ينتقض الغرض بخلق الحي لأنه إنما خلقه لينفعه؛ لأنا نقول: إذا قد أوصل إليه أدنى منفعة يلتذ بها فقد تفضل عليه، وخرج عن أن يكون خلقه عبثاً ولا يلزمه بعد ذلك شيء، بخلاف مصالح الدين فإنه يجب الإتيان بها أجمع ليزيح علة المكلف، ويخرج عن أن يكون عابثًا بالتكليف.
قلت: ولقائل أن يقول: إذا كان يجب الإتيان بالألطاف أجمع، وقد مر أن منها التوفيق والعصمة، وأن الفعل والترك يحصلان عندهما لا محالة لزم أن لا يوجد عاص أبداً فينظر.
الوجه الرابع: أنه يلزم فيمن علم الله من حاله أنه لا يلتطف إلا بأن تعليمه بأنه يبلغه في الثواب درجة الأنبياء" أن يجب ذلك، والمعلوم خلافه، أجيب: بأن هذا اللطف يكون قبيحًا لأنه لا يستحق رتبة الأنبياء فتبليغه إياها قبيح لأنه تعظيم لمن لا يستحقه، واللطف إذا كان قبيحًا فلا يصح التكليف بالملطوف فيه على الصحيح.
الوجه الخامس: لو وجب على الله تعالى لوجب على أحدنا إذا دعا غيره إلى الإسلام وعلم أنه إذا شاطره في ماله أسلم أن يجب، والجواب: أن في هذا نحو التفصيل السابق في إيراد نحو هذا على الحجة الأولى للجمهور، وهو أن يقال: إن أراد بدعائه نفع المدعو فلا تجب المشاطرة، وإن أراد نفع نفسه بما يحصل له من الثناء والذكر نظر، فإن كان ضرر المشاطرة مساو أو زائد على النفع لم يجب، وإن كان النفع أعظم كأن يكون المدعو إلى الإسلام ممن له رئاسة وأتباع يعظم أمر داعيه وتفخم شأنه بإسلامه فإنها تجب، وإلا عاد على غرضه بالنقض، وقال الإمام المهدي عليه السلام في جواب هذا الوجه: أن المشاطرة لا تجب لأنه إنما دعاه إلى الإسلام رغبة في الثواب وجذبًا لنفع نفسه، وقد حصل له الثواب بدعائه فلم ينتقض غرضه بامتناعه من المشاطرة.
الوجه السادس: قالوا: إذا كان يعلم الله أن نريد أيعصى عند الفقر وهو قادر على غنائه فلم يفعل فإنه يدل على أن اللطف غير واجب؟
والجواب: لا نسلم لكم أن الله لا يغنيه، والحال هذه، وما أنكرتم أن يكون هذا الفقير أقرب إلى اختيار الطاعة مع الفقر حتى لو أغناه لازداد طغياناً، وليست المعصية عند الفقر دليلاً على أنه يطيع عند الغنى.
الوجه السابع: قياسهم بالمصلحة على المفسدة، وهو أن يقال: لا شك أن الله تعالى قادر على أن يفعل من المفاسد ما يفسد به كل أحد فيجب أن يكون قادرًا على أن يفعل من المصالح ما يصلح به كل أحد، ولو كان فعله المصلحة واجبًا لما وجد عاص، فثبت بهذا أن الألطاف مقدورة لله تعالى وأنها غير واجبة.
والجواب: أنا لو خلينا وقضية العقل، لكنا لا نعلم أنه تعالى قادر على ما لو فعله لكان مفسدة كما في اللطف لما مر من أن اللطفية والمفسدية غير داخلين في المقدور، لكنه قد دل السمع على أن في الحوادث ما يفسد به كل أحد كما في قوله: {وَلَوْ بَسَطَ اللَّهُ الرِّزْقَ لِعِبَادِهِ..} [الشورى:27 ]الآية، إذ لم يفصل بين عبد وعبد ونحوها، ومثل هذا الدليل لم يوجد في المصلحة فتبقى على حكم العقل، وبه يبطل القياس لوجود الفارق المذكور.
الوجه الثامن: إجماع المسلمين على دعاء الله وطلب اللطف والتوفيق والعافية منه، فلو لم يكن ذلك مقدورًا لم يصح طلبه، وكذلك لو كان واجبًا إذ هو من طلب تحصيل الحاصل، مع أن سؤال العافية يتضمن السؤال ترك الواجب الأصلح وهو المرض، لأنه من الألطاف عندكم، وأيضًا فإنه يجوز من أحدنا أن يسأل الله أن يجعله أفضل من غيره وهو تعالى قادر على ذلك إجماعًا، فيجب أن يقدر على ما لا يتم إلا به وهو اللطف؟
والجواب من وجوه:
أحدها: أن ذلك مشروط بكونه مقدروًا وإن لم يلفظ به فهو في حكم الملفوظ، وكذلك سؤال العافية مشروط بالصلاح.
قال (القرشي): ولولا أن السمع منع من سؤال المرض إذا تعلق به صلاح لسألناه، واعترضه الإمام عز الدين عليه السلام فقال: لا أعلم دليلاً من السمع يمنع من ذلك إلا أن يدعي الإجماع ولا يثبت بهذه المسألة، ولكن يعرف ذلك من وجوب دفع الضرر، فيقال: إذا كان الواجب على العاقل دفع الضرر عن نفسه كالمرض بالأدوية وغيرها، فبالأولى أن لا يسأل الضرر.
قيل: وقد اختلف في الدعاء على النفس بمضار الدنيا، فقيل: لا يحسن مطلقًا، وقيل: عدم حسنه مشروط بأن لا يكون فيه صلاح.
ثانيها: أن طلب اللطف تعبدًا كما تعبدت الملائكة بالاستغفار لمن تاب، وهذا جواب عن قولهم: لو كان واجبًا لما حسن طلبه.
وأما طلب العافية فقال الإمام المهدي عليه السلام : يجوز أن يكون كالتداوي الذي أمرنا به، ووجهه أنه ربما يحصل به من اللطف ما يقوم مقام الألم فيه، فإن صح ذلك وإلا كان تعبدًا.
ثالثها: أنه لا يمتنع أن يكون لنا في هذا الدعاء صلاح لمستقبل كغيره من الأدعية.
قال الإمام عز الدين عليه السلام : هذا الوجه قوي جدًا، وتحقيقه أنا قد تعبدنا بالدعاء بالعافية، قال النبي صلى الله عليه وآله وسلم لعمه العباس: ((سل الله العافية))، وكان كثيرًا ما يدعو صلى الله عليه وآله وسلم بها، فنقطع بأن في الدعاء مصلحة، وأنه في نفسه طاعة، والله سبحانه يفعل في استمرار الألم وإنزاله ورفعه بحسب ما يعلم من الصلاح في ذلك.
قلت: وحديث الأمر بسؤال العافية رواه في كتاب الذكر، وأخرجه الترمذي وابن ماجة والحاكم والبخاري في التأريخ، وصححه في شرح الجامع الصغير.
وأما جواز سؤال التفضيل على الغير فقال القرشي: إن كان المرجع بالتفضيل إلى اللطف فلا نسلمه على الإطلاق، بل لا بد من كونه مشروطًا كما سلف، وإن كان المرجح به إلى كثرة المدح والتعظيم والثواب فجائز أن يسأل الله ذلك، وأن يكون قادرًا عليه، وإن كان لا يحسن إلا مستحقًا.
قلت: وهو جواب غير مفيد لأنهم استدلوا بالجواز على كونه مقدورًا وذلك يستلزم وجوب اللطف، ومقصودهم: أنه لو وجب لما وقع العصيان وهو كما ترى.
أجاب بأنه لا يسلم الجواز على الإطلاق، وذلك لا يبطل مرادهم وهو أنه مقدور، ولقائل أن يقول: ظاهر كلام القرشي في هذه الأبحاث تسليم كون اللطف مقدورًا إلا أن كونه مقدورًا لا يوجب أن لا يعصى أحد لجواز أن لا يوقعه له؛ لأنه ممن يقول: أنه لا يحب أن يكون لكل ما كلفناه لطف، ولو سلم أن لكل مكلف لطفاً فعنده أنه لا يتعين ما يحصل عنده الفعل والترك لا محالة، بل يكفي اللطف المطلق أعني: المقرب، وإنما يرد هذا على السيد مانكديم والإمام المهدي عليهما السَّلام ، ولعلهما يجيبان بما قد قرره الإمام المهدي من عدم دخول اللطف تحت المقدور على ما مر.
وبهذا انتهى الكلام على ما احتج به بشر وأتباعه، وفي الجامع الكافي عن أحمد بن عيسى عليه السلام : ما يدل على عدم وجوب الألطاف وأنها تفضل، وهو قوله: فمن علم الله منه الهداية جاءته من الله المعونة والتوفيق الزائد، ومن علم منه الضلالة خذله فلم يكن منه هداية، وذلك من منّ الله على أوليائه وأهل طاعته، وقد مر كلامه هذا في الاستعاذة.
وفي الجامع أيضًا: قال محمد يعني بن منصور: فمن قبل أمر الله وآثر طاعته وعلم منه صدق النية كان له من الله العون والمن الزائد والتوفيق، وبذلك سعد، ومن علم الله منه المعصية وركوب ما نهي عنه وآثر هواه على طاعة الله استوجب من الله الخذلان والترك، وبذلك شقي، ولم يكن له على الله هداية ولا من ولا توفيق.
وفيه عن محمد أيضاً: ولله أن يمن على من يشاء من عباده ويتفضل عليه بتوفيق ويهديه، قال الله تعالى: {يَخْتَصُّ بِرَحْمَتِهِ مَنْ يَشَاءُ}[البقرة:105]، وقال: {وَلَوْلاَ فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ مَا زَكَا مِنْكُمْ مِنْ أَحَدٍ..} [النور:21 ]إلخ، ولا يخفى أن أول كلامه يقتضي وجوب اللطف الزائد، وآخره يقتضي عدم وجوبه.
قلت: ولقائل أن يقول: لا تعارض في كلامه فإن أوله يقتضي وجوب لطف زائد وهو ما يحصل به مطلق المعونة والتوفيق، والآخر يدل على أن ما زاد على ذلك فهو تفضل.
احتج القائلون: بأنه يفعله لا محالة وإن لم يجب بأنه لو لم يفعله لانتقض غرضه بالتكليف، وليس للطف وجه يقتضي وجوبه، وإنما يستلزم الذم على التكليف مع عدمه، ولا عليه، وإذا كان لا يستحق الذم إلا على فعل غيره فلا وجه لوصفه بالوجوب وإن كان يقع لا محالة، قيل: وهذا يشبه ما يقوله أبو القاسم: أنه لا يجب كما يجب قضاء الدين على المدين، بل من طريق الجود، قال الحاكم: وصاحب هذا القول خلافه لفظي.
قال الإمام المهدي عليه السلام : كأنه يجنب إطلاق الوجوب على الله وإن كانت حكمته تقتضي لا يخل به.
قلت: وهذا هو الظاهر من مذهب الإمام القاسم بن محمد عليه السلام ، وقد نظر الإمام عز الدين عليه السلام كون الخلاف لفظيًا وقال: الحق أنه معنوي بأنهم لا يجعلون فعل اللطف واجبًا في نفسه، والجواب عما احتجوا به أن الله تعالى لما جعل فعل الواجب وترك القبيح شاقين علينا تعريضًا على النفع العظيم وجب عليه أن يكمل التعريض بإزاحة عللنا، وإلا جرت تلك المشقة مجرى الضرر العاري عن النفع، فصارت إزالة العلل كالحق لنا عليه تعالى حينئذ، ولا شك أن إيفاء الغير حقه واجب، فصح وصف الألطاف بالوجوب تجوزًا والمقصود أنه تعالى يفعلها لا محالة، وأنه لا يجوز الإخلال بها، ولا مشاحة في العبارات.
احتج جعفر بن حرب ومن وافقه إما على عدم وجوب اللطف الذي يستحق من الثواب مع عدمه أكثر مما يستحقه معه، فلأن الغرض التعريض لمنافع الثواب، وقد عرضه مع عدم اللطف لمنافع لا تنال مع حصوله، وإنما أتى المكلف من جهة نفسه، وتكون هذه الصورة كزيادة التكليف بأنواع من التكاليف إذا علم الله أنه بسبب تلك الزيادة يخل بفعل ما يكلفه فيستحق العقاب، ولا شك أن وجه حسن هذه الزيادة كونها تعريضًا لمنافع لا تنال إلا بها، فلذلك يحسن التكليف مع عدم اللطف لمثل ذلك، واحتجوا على وجوبه أنه لم يستحق من الثواب مع عدمه أكثر مما يستحقه مع وجوده بأنه لا وجه يقتضي حسن الإخلال به حينئذ، بل يكون ناقضًا للغرض بالتكليف.
والجواب من وجوه:
أحدها: ما ذكره قاضي القضاة من أن ذلك يؤدي إلى أن لا يجب على الله لطف، لأنه ما من فعل إلا وهو مع اللطف أسهل، ومع عدمه أشق، والثواب يزداد بكثرة المشقة، قال الإمام عز الدين: وفيه نظر، فليس بمسلم على الإطلاق.
الثاني: أنه يلزم أن يكون ثواب الأنبياء" والملائكة أقل من ثواب غيرهم لتحقق أنواع اللطف فيهم دون غيرهم، والثواب على قدر المشقة.
الثالث: ما مر من أن منع اللطف في نقض الغرض كالمنع من الفعل، فإذا علم من حال المكلف أنه لا يؤمن إلا مع اللطف وجب فعله، ولو كان إيمانه مع عدمه أكثر ثوابًا؛ لأن وصول بعض النفع حيث أمكن أولى من فوات جميعه، وإلا عاد علىالغرض بالنقض، وهذا بخلاف تكليف من علم من حاله أنه يكفر إذ لم يمكن وجه يصل به إلى بعض النفع كما أمكن هنا، فحسن تكليفه لأن فيه تعريضًا تامًا لتحصيل المنفعة ولم يكن فوتها إلا من جهته؛ لأن المكلف له لم يبق في مقدوره أمر يحسن منه فعله فيصل به إلى ذلك النفع أو بعضه، فافترق الصورتان.
ذكر هذا الإمام المهدي عليه السلام . فإن قيل في منع اللطف غرض آخر وهو التعريض إلى زيادة الثواب، قيل: ذلك المنع جار مجرى المفسدة لاستحقاق المكلف معه أليم العذاب، فذلك الغرض غير معتد به إذ لا يكون الشيء حسنًا حتى يخلو عن سائر وجوه القبح كما عرف في موضعه، وأما زيادة التكليف التي قاسوا عليها.
فقال النجري: جوابه أن التكاليف إما عقلية أو سمعية، فالأولى لا تصح الزيادة عليها ولا النقصان منها بوجه من الوجوه، والثانية: إما واجب أو قبيح أو غيرهما، فالأولان لا تصح بهما زيادة ولا نقصان أيضًا؛ لأنهما متى حسن التكليف بهما وجب على الله تعالى وإلا فهو قبيح.
وأما غيرهما وهو المندوب والمكروه فقد يمكن فيهما الزيادة والنقصان؛ لأن التكليف بهما لا يجب، لكنا نقول: لا يحسن من الله تعالى الزيادة فيهما إلا حيث لم تكن فيها مفسدة في شيء من تلك التكاليف التي هي غيرها، ومتى كانت مفسدة في شيء منها قبحت، كما قلنا في منع اللطف من غير فرق أصلاً.
قال: فإن قيل: لو خلق الله لنا علمًا ضروريًا بالأحكام الشرعية لكنا نعلمها كما نعلم سائر التكاليف العقلية، فقد جاز الزيادة في التكاليف العقلية، قلنا: لا يصح أن يكون العلم بشيء من الأحكام الشرعية ضروريًا إلا إذا كان العلم بالله كذلك، لأن وجوبها متعلق بالقديم فلا يمكن أداؤها من دون العلم به بخلاف الواجب العقلي.
والحجة لما روي عن قاضي القضاة ما ذكره الإمام عز الدين عليه السلام وهو أن ما كان من الألطاف لا يحصل به إلا مجرد التقريب ولا يقع الفعل عنده، فتركه لا يعد نقضًا للغرض.
وقال عليه السلام : إنه لا معنى لإيجاب اللطف المطلق ولا تقتضيه القواعد، وحكى عليه السلام عن بعض المتأخرين من أن الله تعالى لا يفعل الألطاف إلا التوفيق والعصمة، وأن المقرر إنما يجب علينا لا عليه، وإذا قيل: أليس الآيات التسع التي أنزلها الله تعالى لتدعو آل فرعون إلى الطاعة لم يحصل بها فعل ما كلفوه بل مجرد التقريب.
أجيب: بأنه لا يجب فيما أنز ل بالمكلف أن يكون لطفًا له، بل يصح أن يكون لطفاً لغيره، وقد دل الدليل على أن اللطف المقرب لا يجب فلا يفعله الله، فنقطع بأن تلك الآيات قد انتفع بها غير من نزلت به، كما في ما ينزل بالأطفال والبهائم ونحوه.
قال عليه السلام : هكذا قرر وفيه ما يقضي بأن ما لم يجب فعله من الألطاف لم يجز، وفيه نظر، فإن عدم الوجوب لا يمنع الجواز ولا يقتضي عدمه، فليتأمل.
قلت: وظاهر مذهب الهادي عليه السلام في اللطف كمذهب قاضي القضاة لأنه قال: الهدى من الله هدايان: هدى مبتدأ، وهدى مكافأة، فأما الهدى المبتدأ فقد هدى الله به البر والفاجر وهو العقل والرسول والكتاب، فمن أنصف عقله وصدق رسوله، وآمن بكتابه، وحلل حلاله، وحرم حرامه استوجب من الله الزيادة بالهدى.
الثاني: جزاء على عمله ومكافأة على فعله، كما قال عز وجل: {وَالَّذِينَ اهْتَدَوْا زَادَهُمْ هُدىً وَآتَاهُمْ تَقْواهُمْ}[محمد:17 ]وقال: {وَيَزِيدُ اللَّهُ الَّذِينَ اهْتَدَوْا هُدىً}[مريم:76 ]ومن كابر عقله وكذب رسوله، ورد كتابه استوجب من الله الخذلان وتركه من التوفيق والتسديد، وأضله {وَخَتَمَ عَلَى سَمْعِهِ وَقَلْبِهِ وَجَعَلَ عَلَى بَصَرِهِ غِشَاوَةً}[الجاثية:23 ] وذلك قوله تعالى: {فَمَنْ يُرِدِ اللَّهُ أَنْ يَهدِيَهُ يَشْرَحْ صَدْرَهُ لِلإِْسْلاَمِ}[الأنعام:125 ] عن الهدى.
الثاني: ومن يرد أن يضله يقول: ومن يرد أن يوقع عليه اسم الضلال بعد أن استوجب بفعله القبيح: {يَجْعَلْ صَدْرَهُ ضَيِّقًا حَرَجًا كَأَنَّمَا يَصَّعَّدُ فِي السَّمَاءِ}[الأنعام:125]، {كَذَلِكَ يَجْعَلُ اللَّهُ الرِّجْسَ عَلَى الَّذِينَ لاَ يُؤْمِنُونَ}[الأنعام:125]، ولم يقل أنه جعل الرجس على الذين آمنوا، واختار السيد محمد بن عز الدين المفتي رحمه الله عكس هذا وهو: أن اللطف المطلق واجب وما عداه تفضل؛ لأنه قال: أما الألطاف فالعام منها وهو الدلالة والبيان بخلق العقول والآلات، والقدر لا بد منه لمقام عدل الله عزوجل وهو المعبر عنه بالتمكين للمكلفين، وإلا لزم القول بالتكليف بالمحال، واستدل من السمع بقوله تعالى: {وَمَا كَانَ رَبُّكَ لِيُهْلِكَ الْقُرَى بِظُلْمٍ وَأَهْلُهَا مُصْلِحُونَ}[هود:117 ]وقوله: {لأَِلاَّ يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَى اللَّهِ حُجَّةٌ بَعْدَ الرُّسُلِ}[النساء:165 ]وقوله: {أَنْ تَقُولُوا يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِنَّا كُنَّا عَنْ هَذَا غَافِلِينَ}[الأعراف:172 ].
قال: فلا يقال: إن الإخلال بذلك حسن مع بقاء التكليف، قال: وأما الخاص توقيفًا وعصمة فقد جوز الرد عليهم في ذلك الإمام يحيى في التمهيد في النبوءات، والسيد محمد بن إبراهيم في العواصم ونقله عمن عاصره من الأئمة، ثم حكى عن محمد بن منصور نحو ما تقدم من ذكر المن بالتوفيق، وجعله دليلاً على عدم القول بوجوبه، ولم يصرح السيد بلفظ الوجوب في العام لأن الأولىعنده تجنب إطلاق ذلك لإيهامه التكليف وتأدبًا في حق الله، وإلا فقد حكى إطلاق الوجوب على الله بالثواب عن علي عليه السلام وعن الهادي عليه السلام .
وروي فيه حديث معاذ: إن حق الله على العباد أن يعبدوه ولا يشركوا به شيئًا: ((يا معاذ هل تدري ما حق العباد على الله إذا فعلوا ذلك؟ قال الله ورسوله أعلم، قال: أن لا يعذبهم)) رواه البخاري ومسلم، مع أنه قد ذكر أن ذلك يحتمل المجاز.
قلت: ولا وجه للعدول عن الظاهر، واعلم أن لقائل أن يقول: إن الأدلة التي مرت وإن لم تقتض وجوب الألطاف أو بعضها من تلك الوجوه التي ذكروها، فلنا دليل آخر وهو أن الله قد وعدنا بها، قال تعالى: {إِنَّ عَلَيْنَا لَلْهُدَى}[الليل:12 ]وهذا عام، وقال: {وَيَزِيدُ اللَّهُ الَّذِينَ اهْتَدَوْا هُدًى}[مريم:76 ]ولا شك في قبح خلف الوعد، ولا معنى للوجوب إلا قبح الإخلال به، وأما إطلاق الوجوب فلا وجه لمنعه مع ما تقدم في الحمد من الإطلاقات السمعية، ولا معنى لتأويلهم ذلك بالمجاز إذ لا يرفع الإيهام، ولا أظن إلا أن المتأولين من المائلين إلى الإرجاء أو الجبر الذين يجوزون على الله خلف الوعد وفعل القبيح، أو من اغتر بكلامهم من غيرهم ممن يمنعوا إطلاق الوجوب ولم ينتبه لهذا، أعني: أنه لا يرفع الإيهام وأن تحته دسيسة الجبر والإرجاء. والله الموفق.
تنبيه [في كيفية وجوب اللطف على الله]
ظاهر كلام من أوجب اللطف على الله تعالى أنه يجب أن يكون على أبلغ الوجوه، وقد ناقشهم القرشي وأجاب عن تلك المناقشة، ورد الجواب، ونحن نأتي بحاصل تلك المعارضة فنقول: قال القرشي: الذي دل على وجوب اللطف في الشاهد أن اللطف لا يجب أن يكون على أبلغ الوجوه بدليل أن أحدنا لو دعا غيره إلى طعام، وعلم أنه لا يأتيه إلا إذا توجه إليه بالناس والقرآن، فإنه لا يجب عليه ذلك إذا كان قد أعذر إليه بالإرسال؛ لأن الغرض إزاحة العلة، فمن أين يجب أن تكون الإزاحة على أبلغ الوجوه حتى يلزم ذلك في الباري تعالى، والجواب بالفرق وهو أنه إنما لم يجب ذلك في الشاهد لما يلحقه في ذلك من المشقة والغضاضة التي يزول معها الغرض رأسًا حتى لو قدر بقاء الغرض كأن يكون الضيف عظيمًا يحصل بضيافته نفع عظيم لوجب عليه، بخلاف الباري فلا مشقة تلحقه، فلو لم يفعل الأبلغ لنقض الغرض، واعترضه القرشي بإجماع الشيوخ: على أنه يجوز من الله تعالى سلب الألطاف والتوفيق عن بعض المكلفين جزاء على عصيانهم وتجري مجرى العقوبة، كما قيل بذلك في قوله تعالى: {وَنُقَلِّبُ أَفْئِدَتَهُمْ وَأَبْصَارَهُمْ...} [الأنعام:110 ]الآية، ونحوها.
وكذلك وقع الإجماع على أنه تعالى يزيد بعض المكلفين توفيقًا وتسديدًا، ولو وجب الأبلغ لفعل بغيرهم مثلهم، ولما سلب أولئك اللطف والتوفيق، ويجاب: بأن الذين قد سلبهم الألطاف قد فعلها بهم على أبلغ الوجوه، فلما لم ينتفعوا بها سلبهم إياها عقوبة وخذلانًا بعد إزاحة العلة على أبلغ وجه، فلا يشبه هذا ما لم يفعله أصلاً، وأما زيادة التوفيق فلا يمتنع أن تكون بعض الألطاف مشروطة ببعض الطاعات بأن يعلم الله من حاله أنه إذا أطاع صار له في المقدور ألطاف كثيرة.
قال (القرشي): ولقائل أن يقول: أصل المسألة مبني على إزاحة العلة، وذلك يحصل ببعض الألطاف فمن أين يكون ترك البعض الآخر نقضًا للغرض؟ وما المانع من أن يختص الله به من يشاء، وقد أجزتم سلب الألطاف؟ وإذا جازا لا تستمر على أبلغ الوجوه جاز أن لا يبتدأ بها على أبلغ الوجوه.
وأما الإمام عز الدين عليه السلام فقال: إن كلام الجمهور لا يتصور إلا إذا كان اللطف على أحد الوجهين يحصل عنده الآخر، وعلى الآخر يقرب فقط، ولا شك على القول بالوجوب أنه يجب فعل ما يحصل عنده الفعل لا ما يقرب إذ لا غرض في التقريب مع عدم الفعل، ومع هذه الكيفية فقد علم ذلك بما تقدم؛ لأن اللطف في الحقيقة هو ما يفعل عنده لا ما لا يفعل، وأما على تقدير أن الفعل يقع مع كل من الوجهين لكنه مع أحدهما أبلغ، فالأصح أن الله مخير في أيهما لأن الغرض وقوع الفعل المكلف به لا غير.
قال عليه السلام : إذا عرفت هذا مع تذكرك لما قدمناه من أنه لا معنى لفعل الله اللطف المقرب، ولا لوجوبه عرفت أنه لا معنى لما ذكر من وجوب اللطف على أبلغ الوجوه، قال: ويمكن أن يقال بل المقصود الوجه الثاني وهو أنه يأتي بالفعل مع كل من الوجهين، لكن مع أحدهما يكون فعله له أكمل من زيادة إخلاص أو رغبة أو نحو ذلك مما يكثر به ثوابه، وفيه تكلف.
خاتمة في شرائط اللطف
وقد ذكروا له شروطًا:
أحدها: أن يكون ثابتًا لأن الزائل لا يثبت عنده حظ التقريب ولا يقع عنده اختيار، وقال الإمام عز الدين عليه السلام : لا مانع من أن تحصل اللطفية لوجود أمر وإن كان قد زال كمرض يشفى منه الإنسان، وفقر يتعقبه الغنى.
الثاني: أن يكون بينه وبين الملطوف فيه مناسبة، وإلا لم يكن لطفًا فيه أولى من غيره، أو من ألا يكون، ولا كان أحدهما بأن يكون لطفًا في الآخر أولى من العكس.
ومعنى المناسبة: أن يكون وجه بعثه على الملطوف فيه معلومًا ثم هي تختلف، فقد نعلمها جملة بأن نعلم أن الله تعالى لا يفعل إلا ما هو صلاح، قال الإمام عز الدين عليه السلام : وهذا غير مستقيم لأنه يوهم ثبوت اللطفية، وعلمنا بها جملة في جميع أفعال الله وليس كذلك، والمثال المستقيم التكاليف الشرعية كالصلاة والحج، فإنا لا نعلم وجه بعثها على ما هي لطف فيه وهي التكاليف العقلية مفصلاً بل على سبيل الجملة، وقد نعلمها تفصيلاً كما يقال في وجه كون المرض لطفًا: أنه يتذكر به آلام الآخرة، ويعرف به قدر نعم الله بالعافية والثواب وقلة الصبر على الآلام اليسيرة فنختار عند ذلك الطاعة، ومثله: الغم والخوف ونحوهما.
قال (القرشي): وكذلك الصلاة فإن الله تعالى عرفنا أنها تنهى عن الفحشاء والمنكر ونحوهما مما يمكن الإشارة إلى كونه لطفًا، وقيل: بل هي كغيرها في عدم العلم بالمناسبة تفصيلاً، وليس في الآية إلا ذكر أنها لطف، وأنه يحصل بها الانتهاء عن الفحشاء، ولم يذكر ما وجه ذلك.
الثالث: أن يكون المكلف معه متردد الدواعي فلا يخرجه عن كونه مختارًا، ويصير في حكم الملجأ؛ لأن الغرض به أن يأتي بالطاعة على الوجه الذي يستحق به الثواب، والإلجاء ينافي ذلك، وقد مر ذكر هذا الشرط.
الرابع: أن يكون المكلف عالِمًا أو ظانًا باللطف وبالملطوف فيه، وبالمناسبة بينهما جملة وتفصيلاً، أو متمكنًا من العلم والظن، وإنما اشترط ذلك ليثبت له حظ الدعاء والتقريب.
وقال الإمام عز الدين عليه السلام : الأولى التفصيل، فيقال إن كان اللطف من فعل المكلف وكلف بتحصيله فإنه يكفي تمكنه من العلم والظن مع إمكان فعله، وإن كان من فعل غيره فلا بد أن يعلمه أو يظنه ليثبت له حظ الدعاء والصرف، لكن إن علمه فالمعلوم هو اللطف، وإن ظنه فالظن هو اللطف، وفي الحقيقة أنه لا بد أن يكون معلومًا لأن اللطف في المظنون هو الظن وهو معلوم فيه.
الخامس: أن يتقدم اللطف على الملطوف فيه بوقت واحد ليتأتى له حظ الدعاء ويمكن عنده الاختيار، هكذا ذكره القرشي وهو يقتضي وجوب التقدم، وقد صرح به النجري وحكاه عن الشيخين، والذي حكاه الإمام المهدي عنهما جواز تقدمه وهو وهم، والظاهر الوجوب لما مر، فأما تقديمه بأكثر من وقت إذا كان من فعل الله فمنعه أبو علي لأنه يصير في حكم المنسي في ضعف دعائه، دليله: أن المريض يكون عقيب مرضه أرق قلبًا وأكثر ميلاً إلى الطاعة منه مع تقادم عهده، واللطف يجب أن يكون على أبلغ الوجوه، وقال أبو هاشم: بل يجوز تقدمه بأوقات ولو كثرت سواء كان من فعلنا أو من فعل الله ما لم يصر في حكم المنسي، واختاره الإمام القاسم بن محمد عليه السلام وأتباعه لحصول الالتطاف بأموات القرون الماضية وتهدم مساكنهم وهي متقدمة قطعًا، وأما ما ذكره أبو علي، فجوابه: أنا لا نسلم ضعف دعائه بالتقدم لأنا نعلم في الشاهد أن التقدم قد يكون أدعى إلى فعل الملطوف فيه، وذلك أنا نعلم من حال كثير من العقلاء أنه إذا قدم دعاءه للحضور للطعام كان أقرب إلى الإجابة لما فيه من الإعظام، فإذا علمنا ذلك في الشاهد جاز أن يكون بعض الألطاف التي من الله تعالى إذا تقدمت بأوقات أدعى منها لو تأخرت، وحينئذ لا نقطع بمصيره بالتقدم المذكور في حكم المنسي.
نعم زاد القرشي لأبي هاشم شرطًا في جواز التقدم وهو: أن يكون في تقديمه فائدة زائدة كما قال مثله في تقديم الأمر بأزيد من وقت واحد.
قلت: والتمثيل بما مر في الشاهد يقتضيه، قال: وهذا الخلاف إنما هو فيما يثبت وينتفي، فأما ما يستمر فالكلام في جواز تقديمه أظهر، قال: ولا فرق على الصحيح بين أن يتقدم على التكليف أو يتأخر إذا بقي إلى حال كونه لطفًا.
السادس: أن يكون مدركًا كالآلام النازلة بالمكلفين أو بغيرهم إذا حصل لهم بها الالتطاف أو في حكم المدرك وذلك المعلوم ضرورة، ولم يشترط هذا إلا أبو هاشم قيل: قاضي القضاة وإنما يعتبر ذلك عند أبي هاشم إذا كان من فعل الله لأنه يعترف بكون المعرفة لطفًا وليست بمدركة ولا في حكم المدركة، والذي عليه جمهور المتكلمين أنه لا يشترط ذلك مطلقًا لأن المعتبر في اللطف هو علم المكلف باللطف واختياره عنده سواء كان مدركًا أم لا بدليل أنه لو أدركه ولم يعلمه لم يكن لطفًا.
فائدة [في أن العلم باللطف كفاية]
والعلم بمسألة وجوب الألطاف أو عدمها من فروض الكفايات؛ لأنه يخشى من الجهل بها أن يأتي الخصم بشبهة تؤدي إلى عقيدة فاسدة.
المسألة السادسة [استدلال الرازي بالآية في عدم الخلود]
قال الرازي: في الآية دليل على عدم خلود المؤمن في النار لأن قوله: {أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ}[الفاتحة: 7 ]مذكور في معرض التعظيم لهم بهذا الإنعام والعقاب ينافي التعظيم فلو لم يكن له أثر في دفع العقاب لم يحسن ذكره.
والجواب أن هذا مبني على أن المراد بالإنعام الإيمان، وفيه خلاف كما مر سلمنا، فنقول بالموجب، بل نقول إن الله لا يدخل المؤمن النار فضلاً عن تخليده فيها، فإن أراد بالإيمان ما يزعمونه من أنه مجرد التصديق وإن زنى وإن سرق، فباطل بما سيأتي إن شاء الله في حقيقة الإيمان الشرعي.
المسألة السابعة [استدلال الرازي بالآية على إمامة أبي بكر]
استدل الرازي بهذه الآية على إمامة أبي بكر؛ لأن الله قد أمرنا بطلب الهداية لصراط المنعم عليهم، وقد بين المنعم عليهم بقوله: {فَأُوْلَئِكَ مَعَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ مِنَ النَّبِيِّينَ وَالصِّدِّيقِينَ}[النساء:69 ]الآية، وأبو بكر رأس الصديقين ورئيسهم فكأنه تعالى أمرنا بطلب الهداية التي كان عليها أبو بكر وسائر الصديقين، ولو كان ظالمًا لما جاز الاقتداء به، فثبت بما ذكر دلالة الآية على إمامته.
والجواب من وجوه:
أحدها: لا نسلم أن المراد بالمنعم عليه في آية الفاتحة من في آية النساء كما مر عن ابن عباس وغيره.
الثاني: أنا وإن سلمنا ذلك فلا نسلم أنه يقتضي تفضيل أبي بكر لأن الصديق في اللغة: الكثير الصدق ودائم التصديق، والذي يصدق قوله بالعمل، وهذه الأمور لا يختص بها أبو بكر؛ إذ المعلوم اشتراك كثير من الصحابة فمن بعدهم فيها، وقد نص النبي صلى الله عليه وآله وسلم على أن أبا ذر أصدق لهجة، وهذا يقتضي تفضيله على أبي بكر في الصدق، فإن قيل: ويقتضي تفضيله على علي عليه السلام ؟ قيل: لولا قيام الدليل المانع من ذلك لقلنا بموجبه، لكن قام الدليل على أن عليًا عليه السلام نفس الرسول، وأن حكمه كحكمه في كل شيء إلا النبوة، ومن المعلوم أن أحداً لا يداني فضل الرسول صلى الله عليه وآله وسلم فضلاً عن أن يكون أفضل منه، فكذلك من كانت نفسُهُ نَفْسَهُ وحكمه حكمه، هذا مع ما ورد من تفضيله على الأمة، والدلالة على عصمته من كل وصمة.
وأيضًا فقد ورد مرفوعًا تفسير الصديقين بالمصدقين أخرجه ابن جرير من حديث المقداد، فثبت أنه لا دلالة فيه على تفضيل أبي بكر، فمن أين تدل على إمامته غاية الأمر دلالتها على أنه من جملة المصدقين، فإن قيل: لم نستدل بها على إمامته من الجهة التي ذكرتموها، وإنما استدللنا بها على ذلك من حيث أنه قد صار لقبًا له شرعًا لتقدم إسلامه على أمير المؤمنين عليه السلام وغيره؟ قيل: لا نسلم تقدم إسلامه على إسلام أمير المؤمنين عليه السلام ، وقد روي الاتفاق على إسلامه عليه السلام ثاني البعثة، وليس هذا موضع استيفاء الكلام على المسألة إلا أنا نذكر حجة واحدة كافية وهي إجماع العترة" على ذلك، فإن قيل: فقد لقبه النبي صلى الله عليه وآله وسلم بذلك، وهو يدل على تفضيله بالتصديق لأن اللقب ما يشعر برفعة المسمى أو ضعته وهذا يشعر بالرفعة؟ قيل: لنا في الجواب عن هذا وجوه:
أحدها: أنا نطالبكم بتصحيح هذه الدعوى وهي أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم لقبه بذلك.
الثاني: أنكم وإن صححتموها فهي لا تدل على تفضيله إذ يلقب بذلك كل مؤمن بدليل قوله تعالى: {وَالَّذِينَ آمَنُوا بالله وَرُسُلِهِ أُوْلَئِكَ هُمُ الصِّدِّيقُونَ}[الحديد:19].
الثالث: أنه لو سلم لكم ما تدعون من الدلالة على تفضيله فهي لا تدل على تفضيله على أمير المؤمنين وسيد المسلمين علي بن [أبي] طالب عليه السلام لقيام الدليل بأنه كرم الله وجهه الصديق الأكبر، وقد ثبت تسميته بذلك من ثلاث جهات:
الجهة الأولى: أن الله تعالى سماه بذلك، فمن ذلك ما روي عنه عليه السلام قال: قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم : «قال لي ربي ليلة أسري بي: من خلفت على أمتك؟ قال: قلت: أنت أعلم يا رب، قال: يا محمد إني انتخبتك لرسالتي واصطفيتك لنفسي فأنت نبيي وخيرتي من خلقي، ثم الصديق الأكبر الطاهر المطهر الذي خلقته من طينتك وجعلته وزيرك وأبا سبطيك السيدين الشهيدين الطاهرين المطهرين سيدي شباب أهل الجنة وزجته خير نساء العالمين، أنت شجرة وعلي أغصانها، وفاطمة ورقها، والحسن والحسين ثمارها، خلقتكم من طينة عليين، وخلقت شيعتكم منكم، إنهم لو ضربوا على أعناقهم بالسيوف ما ازدادوا لكم إلا حبًا، قلت: يا رب ومن الصديق الأكبر؟ قال: أخوك علي بن أبي طالب» قال: بشرني بها رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وابناي الحسن والحسين منها، وذلك قبل الهجرة بثلاثة أحوال، رواه زيد بن علي عليه السلام وأخرجه محمد بن سليمان الكوفي في المناقب.
الجهة الثانية: أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم سماه بذلك، قال المرشد بالله عليه السلام : أخبرنا أبو القاسم الأزجي، أنا الحسن بن اسحاق، أنا محمد بن عبد الله، ثنا عمران بن عبد الرحيم، ثنا ابن عائشة، ثنا حسين الأشقر، عن علي بن هاشم، عن محمد بن عبيدالله بن أبي رافع، عن أبيه عن جده، عن أبي ذر أنه سمع النبي صلى الله عليه وآله وسلم يقول لعلي: ((أنت أول من آمن بي وأول من تصافحني يوم القيامة، وأنت الصديق الأكبر، وأنت الفاروق الذي تفرق بين الحق والباطل، وأنت يعسوب المؤمنين والمال يعسوب الكافرين)).
عمران بن عبد الرحيم هو الأصفهاني قال: السليماني فيه نظر.
وحسين الأشقر هو: الحسين بن الحسن الأشقر الفزاري أبو عبد الله الكوفي تكلم عليه النواصب كالجوزجاني والذهبي كعادتهم في الشيعة، وعداده في ثقات محدثي الشيعة، توفي سنة ثمان ومائتين، روى له من أئمتنا: الناصر ومحمد بن منصور والمرشد بالله وصاحب المحيط وابن المغازلي، واحتج به: النسائي، وعلي بن هاشم، قال في الجداول: علي بن هاشم الرقى عن محمد بن عبدالله بن أبي رافع الظاهر أنه البريدي.
قلت: البريدي هو علي بن هاشم من البريد العابدي مولاهم، قال أبو زرعة وابن المدايني: صدوق، وقال أحمد: ما أرى به بأسًا، وقال أبو داود: ثبت يتشيع، وقال النسائي: ليس به بأس، ووثقه ابن معين قال في التهذيب: والنسائي وأبو حاتم، توفي سنة إحدى وثمانين ومائة، عداده في ثقات محدثي الشيعة، وخرج مع الإمام الحسين بن علي الفخي، روى له من أئمتنا المؤيد بالله وأبو طالب والمرشد بالله ومحمد بن منصور.
ومحمد بن عبيدالله، أحد ثقات الشيعة توفي في عشر الخمسين والمائة، روى له الهادي والمؤيد بالله والمرشد بالله والترمذي، ووثقه ابن حبان والحاكم ووالده عبيدالله هو كاتب الوصي ثم كاتب الحسن السبط وثقه أبو حاتم، واحتج به الجماعة، وروى له أئمتنا الأربعة.
وأما أبو رافع فهو أحد الصحابة مولى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم زوجه مولاته سلمى، أسلم قبل بدر وتوفي في خلافة الوصي عليه السلام ، روى له أئمتنا الأربعة، والحديث أخرجه الكنجي بهذا السند والمتن، وأخرجه محمد بن سليمان الكوفي عن أبي ذر، وله طريق أخرى عن أبي ذر وسلمان، ورواه أبو جعفر الإسكافي من طريق ابن أبي رافع عن أبي رافع قال: أتيت أبا ذر بالربذة أودعه فلما أردت الانصراف قال لي ولأناس معي: ستكون فتنة فاتقوا الله وعليكم بالشيخ علي بن أبي طالب فاتبعوه فإني سمعت رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يقول له، وذكر الحديث بلفظه وزاد بعد قوله«والمال يعسوب الكافرين: وأنت أخي ووزيري وخير من أترك بعدي تقضي ديني وتنجز موعودي» اليعسوب، قال في القاموس وشرحه: هو أمير النحل وذكرها، واستعمل بعد ذلك في الرئيس الكبير والسيد المقدم، وفي تتمة الروض النضير: أخرج الطبراني في الكبير عن سلمان وأبي ذر معًا، والبيهقي وابن عدي عن حذيفة عنه صلى الله عليه وآله وسلم : ((إن هذا أول من آمن وأول من يصافحني يوم القيامة، وهذا الصديق الأكبر، وهذا فارق هذه الأمة يفرق بين الحق والباطل، وهذا يعسوب المؤمنين والمال يعسوب الظالمين)) قاله لعلي عليه السلام وأخرجه ابن عدي في الكامل والعقيلي والبيهقي من حديث ابن عباس، وقد روي حديث أبي ذر في كتاب أنوار اليقين وغيره من كتب أصحابنا، وفي مناقب محمد بن يوسف الكنجي، قال: أخبرنا العلامة مفتي الشام أبو نصر محمد بن هبة الله القاضي، أخبرنا أبو القاسم السمرقندي، أخبرنا أبو القاسم بن مسعدة، أخبرنا عبد الرحمن بن عمرو الفارسي، أخبرنا أبو أحمد بن عدي، حدثنا علي بن سعيد بن بشير، حدثنا عبد الله بن داهر الدارمي، حدثنا أبي عن الأعمش، عن عباية، عن ابن عباس قال: تكون فتنة فمن أدركها منكم فعليه بخصلة من كتاب الله وعلي بن أبي طالب، فإني سمعت رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وهو آخذ بيد
علي عليه السلام وهو يقول: ((هذا أول من آمن بي وأول من يصافحني، وهو فاروق هذه الأمة يفرق بين الحق والباطل، وهو يعسوب المؤمنين والمال يعسوب الظلمة، وهو الصديق الأكبر وهو بابي الذي أوتى منه، وهو خليفتي من بعدي)) قال ابن يوسف: هكذا أخرجه محدث الشام في فضائل عليه السلام في الجزء التاسع والأربعين من كتابه بطرق شتى، وأخرجه أبو نعيم وأحمد بهذا السياق، وكذا العقيلي، وأعله العقيلي بعبد الله بن داهر وزعم أنه كذاب، وهو تعصب عظيم من العقيلي وأهل نحلته.
قلت: قد تضمن كلام العقيلي تسليمه لعدالة سائر الرواة إذ لم يقدح فيه إلا بابن داهر، ونحن لا نسلم له ذلك ولا نقبله منه لمعرفتنا بعدالة عبد الله ابن داهر وتمسكه بمن حبه علامة الإيمان وبغضه علامة النفاق، ولا ذنب له إلا ذلك، وروايته لفضائله وفضائل أهل بيته، والرجل من ثقات محدثي الشيعة وخيارهم، روى له الناصر وأبو طالب والمرشد بالله ومحمد بن منصور، وروايته في كتب الأئمة متكررة وأكثرها في فضائل الوصي عليه السلام ولا بأس بالتكلم على سائر رجال السند فنقول: أما من الكنجي إلى عبد الرحمن الفارسي فلم أظفر لهم بترجمة حال تحرير هذا، لكن الظاهر أنهم من مشاهير العلماء لمن بحث.
وأما ابن عدي فهو: عبدالله بن عدي بن عبدالله بن محمد المبارك الجرجاني أبو أحمد الإمام الحافظ المشهور.
قال في الجداول: ويعرف بابن القطان أيضًا صاحب (الكامل) و(الجرح والتعديل) قيل: كان عديم النظير حفظًا وعدالة، وقال الساجي: حافظ لا بأس به، ووثقه ابن عساكر، وقال حمزة السهمي: كان حافظًا متقنًا لم يكن في زمانه أحد مثله، توفي سنة خمس وستين وثلاث مائة، أخذ عنه الإمام أبو طالب ووصفه بالحافظ، وممن أخذ عنه ابن عقدة، قيل: ومشائخه أعني ابن عدي فوق الألف، والآخذون عنه خلق، وشيخه لم أقف على ترجمته.
وداهر الدارمي هو: ابن يحيى الرازي ولعل الدارمي بتصحيف، وصمه الذهبي كعادته فيمن روى لعلي وأهل بيته فضيلة، وذلك في الحقيقة عين التعديل.
وأما الأعمش فهو مشهور الفضل والعلم، وهو سليمان بن مهران الأعمش الكاهلي الأسدي مولى بني كاهل، وثقه جماعة، وقال علامة العصر في الجداول: هو أحد أعلام الزيدية، وعداده في ثقات محدثي الشيعة، وقصته مع المنصور مشهورة، رواها ابن المغازلي وفي الشافي وأنوار اليقين، توفي سنة ثمان وأربعين ومائة، احتج به الجماعة.
قلت: وروى له من أئمتنا: الناصر والمؤيد بالله وأبو طالب ومحمد بن منصور. وعناية هو: ابن زبعي أخذ عن علي وابن عباس وأبي أيوب، روى قول علي عليه السلام : (أنا قسيم النار) فأغاظ النواصب فأنكروه، عداده في ثقات محدثي الشيعة.
وأخرج الحاكم في الكنى عن أبي العباس محمد بن يعقوب بن يوسف، عن إبراهيم بن سليمان الحرار الفهمي، عن إسحاق بن بشر الأسدي، عن خالد بن الحارث، عن الحسن، عن أبي ليلى الغفاري، قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يقول: «ستكون من بعدي فتنة فإذا كان ذلك فالزموا علي بن أبي طالب، فإنه أول من يراني وأول من يصافحني يوم القيامة، وهو الصديق الأكبر، وهو فاروق هذه الأمة يفرق بين الحق والباطل، وهو يعسوب المؤمنين والمال يعسوب المنافقين» وأعله الذهبي وغيره بإسحاق كعادتهم فيمن روى في فضائل الآل، وفي اقتصارهم على القدح به إقرار بعدالة باقي رواته.
قال علامة العصر: وإسحاق من رجال المرشد بالله ترجم له في الطبقات، وعن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أنه قال لعلي عليه السلام : «يا علي أنت أخي ووصيي ونصيحي وصاحبي وخالص أمتي إلى أن قال: وأنت أمين النبيين وخاتم الوصيين، وقائد الشهداء والصديقين، وإمام الغر المحجلين» رواه محمد بن سليمان الكوفي في المناقب بإسناده إلى جعفر بن محمد عن أبيه، وفي المصابيح لأبي العباس الحسني في خبر طويل في المعجزات عن علي عليه السلام وفيه أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال لعلي عليه السلام : ((أنت الصديق ويعسوب المؤمنين وإمامهم، وأول المؤمنين إيمانًا...)) الخبر.
وفي (أمالي المرشد) بالله أخبرنا محمد بن علي العلاف، أنا أبو بكر القطيع كتب إلينا ابن غنام أن الحسن بن عبدالرحمن قال: أنا عمرو بن جميح، عن محمد بن أبي ليلى، عن عيسى بن عبدالرحمن، عن عبدالرحمن بن أبي ليلى، عن أبيه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم : ((الصديقون ثلاثة: حبيب النجار مؤمن آل موسى الذي قال: يا قوم اتبعوا المرسلين، وحزبيل مؤمن آل فرعون الذي قال: أتقتلون رجلاً أن يقول ربي الله، وعلي بن أبي طالب وهو أفضلهم)) وأخرجه أبو نعيم في الحلية وابن عساكر، وأخرجه ابن النجار من حديث ابن عباس، وقد روي بلفظ السباقون إلى الإسلام، من طرق عند أئمتنا وغيرهم، وستأتي في موضعها إن شاء الله، وفي أنوار اليقين بعد أن روى حديث ابن أبي ليلى وقد روي هذا الحديث من كتاب الفردوس، ومن تفسير الثعلبي، ومناقب ابن المغازلي، ومن مسند ابن ابن حنبل وجه دلالة هذا الخبر على أنه الأكبر، أن قد حصر هذا الوصف على هؤلاء الثلاثة؛ لأن تعريف المسند إليه يفيد الحصر، ولما كان الحصر غير حقيقي لوجود التصديق من غيرهم، ووصف المؤمنين أجمعين بأنهم صديقون تعين أن المراد به أنهم الكاملون في التصديق، والسابقون إليه كما تدل عليه روايات السبق، وذلك هو معنى التفضيل، وقد دل الحديث على أن عليًا عليه السلام أفضلهم، وهو معنى كونه أكبر.
الجهة الثالثة: أنه عليه السلام قد ادعى ذلك وافتخر به، وهو عليه السلام لا يدعي إلا الحق، ولا يخبر إلا بالصدق، ولا يفتخر إلا بما له الافتخار به شرعاً لثبوت عصمته، وزهده فيما تنافس فيه المتنافسون من حب الرئاسة والشرف، بل من باب التحدث بالنعمة، والتعريف بما يجب على الناس اعتقاده في جانبه عليه السلام فمن ذلك ما رواه الإمام الموفق بالله عليه السلام في سلوة العارفين، قال: حدثني الحسن بن علي الحلواني، حدثنا يزيد بن هارون، حدثنا نوح بن قيس، حدثنا سليمان بن عبدالله أبو فاطمة عن معاذة العدوية قالت: سمعت عليًا عليه السلام على المنبر وهو يقول: (أنا الصديق الأكبر أسلمت قبل أن يسلم أبو بكر).
الحلواني قال: يعقوب بن شيبة كان ثقة ثبتًا متقنًا، ووثقه النسائي والخطيب، توفي سنة اثنتين وأربعين ومائتين، احتج به الجماعة إلا النسائي، وروى له من الأئمة الموفق وولده المرشد عليهما السَّلام ، والحديث رواه أيضًا الموفق بالله في الإحاطة قال: حدثني الثقة رفعه إلى معاذة العدوية قالت: سمعت عليًا عليه السلام يقول على منبر البصرة: (آمنت بالله قبل أن يؤمن أبو بكر، وأسلمت قبل أن يسلم)، ورواه أبو جعفر الإسكافي، وقال أبو جعفر أيضًا: وقد روى ابن أبي شيبة عن عبدالله بن نمير، عن العلاء بن صالح، عن المنهال ابن عمرو، عن عباد بن عبدالله الأسدي قال: سمعت علي بن أبي طالب يقول: (أنا عبدالله وأخو رسوله، وأنا الصديق الأكبر لا يقولها غيري إلا كذاب، ولقد صليت قبل الناس سبع سنين)، وأخرجه أيضًا النسائي في خصائص علي عليه السلام ، قال: حدثنا أحمد بن سليمان الرهاوي، قال: حدثنا عبدالله بن موسى، قال: حدثنا العلاء فذكره بسنده ومتنه إلا أنه قال: (لا يقولها بعدي إلا كاذب)، وقال: (آمنت قبل الناس سبع سنين). وأخرجه الطبري في تأريخه قال: حدثنا أحمد بن الحسين الترمذي، قال: حدثنا عبدالله بن موسى إلى آخر السند والمتن إلا أنه قال في آخره: لا يقولها بعدي إلا كاذب مفتر، صليت قبل الناس سبع سنين.
وقال عن عبدالله بن عبدالله موضع عباد بن عبدالله، قال ابن أبي الحديد: وفي غير رواية الطبري: (أنا الصديق الأكبر وأنا الفاروق الأول، أسلمت قبل إسلام أبي بكر، وصليت قبل صلاته سبع سنين)، قال: كأنه عليه السلام لم يرتض أن يذكر عمر، ولا رآه أهلاً للمقايسة بينه وبينه، وذلك لأن إسلام عمر كان متأخرًا، قلت: وحديث عباد قد ذكره في تتمة الروض وقال: أخرجه ابن أبي شيبة والنسائي في الخصائص وابن أبي عاصم في السنة، والعقيلي والحاكم وأبو نعيم في المعرفة.
نعم وأما الكلام على رجال هذا الحديث، فأما ابن جرير وابن أبي شيبة والنسائي وغيرهم من علماء الحديث المشهورين فلا حاجة إلى التكلم عليهم لشهرة عدالتهم وضبطهم.
وأما غيرهم فأحمد بن الحسين الترمذي شيخ ابن جرير لم أقف على ترجمته.
وأما أحمد بن سليمان الرهاوي شيخ النسائي فذكره في الجداول من رجال المرشد بالله.
وأما عبدالله بن موسى فالظاهر أن الصواب عبيدالله بن موسى وهو عبيدالله بن موسى بن باذام العبسي وثقه ابن معين والعجلي وأبو حاتم والذهبي، وقال: لكنه شيعي منحرف، وقال كذلك أبو داود، وعداده في الزيدية وثقات محدثي الشيعة، توفي سنة ثلاث عشرة ومائتين، احتج به الجماعة، وروى له من أئمتنا الناصر والخمسة والحاكم في المحيط والمناقب، قال في الجداول: وأينما ورد عبيدالله بن موسى هكذا في كتب أئمتنا الثلاثة فهو العبسي.
وإنما قلنا: إن الصواب عبيد الله بن موسى؛ لأن في الجداول في من اسمه عبد الله مكبراً عبد الله بن موسى العبسي، قال: والصواب عبيد الله، وذكر في ترجمة العلاء أن من الآخذين عنه عبيدالله بن موسى.
وأما عبدالله بن نمير شيخ ابن أبي شيبة فهو: أبو هشام الخارفي، وثقه ابن معين، توفي سنة تسع وتسعين ومائة، روي عنه أنه قال: والله لا أصلي على رجل في قلبه شيء على علي بن أبي طالب، احتج به الجماعة، وروى له محمد بن منصور.
والعلاء بن صالح هو الكوفي، وثقه أبو داود وابن معين، وقال أبو حاتم وأبو زرعة: لا بأس به، توفي سنة أربع وأربعين ومائة، عداده في ثقات محدثي الشيعة، احتج به الأربعة إلا ابن ماجة، وروى له محمد بن منصور والمنهال من رجال البخاري.
وعباد هو: الأسدي الكوفي، أخذ عن الوصي، وهو أحد ثقات الشيعة، وثقه ابن حبان، وروى له محمد بن منصور، وأما ما في سند ابن جرير من جعل عبدالله بن عبدالله موضع عباد بن عبدالله فما أظنه إلا وهمًا.
وقال علي عليه السلام في خطبة الفخار: (أنا الصديق الأكبر والفاروق الأجهر، أنا ذو النورين الأزهرين)، ولما سأله عامر بن الكوى البيان على ما ذكره في هذه الخطبة، قال في بيان ما ذكرناه هنا: أما قولي أنا الصديق الأكبر فلقول رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم : صلتْ عليّ وعلى عَلِيٍّ الملائكةُ سبع سنين، وأما قولي: أنا الفاروق الأجهر فما جاهر أحد في التفريق بين الحق والباطل مثلي حتى بددت من عانده، وقاتلت من كايده، وأما قولي: أنا ذو النورين، فأنا ذو النورين الأزهرين لم يكن لفاطمة شبه في النساء ولا يكون مثلها أبدًا، ثم تزوجت أمامة ابنة ابنة رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ، وهي ابنة أبي العاص.
روى هذه الخطبة وسؤال ابن الكوى وجواب علي عليه السلام الإمام الحسن بن بدر الدين في أنوار اليقين، وفي الباب غير ما ذكرنا، وإذا تقرر لك هذا علمت أنه لو صح وصف أبي بكر بالصديق لم يكن في ذلك دليل على إمامته ولا على تفضيله على الوصي عليه السلام لثبوت كون أمير المؤمنين عليه السلام أحق منه بذلك الوصف وأكبر، ولا يخفى ما في ما أوردناه من التعريض بمن يدعي هذه الأسماء، أو يدعيها له غيره.
وهاهنا نكتة وهي: أن الرازي قد جعل الآية دليلاً على إمامة أبي بكر لأنه رأس الصديقين بزعمه، وقد ثبت بما قررنا أن رأس الصديقين علي بن أبي طالب عليه السلام فتكون الآية دليلاً على إمامته على ما قرره الرازي؛ لأنه رأس الصديقين نصًا، وذلك أيضًا يتضمن نفي استحقاق أبي بكر لها؛ لأنه لا مزية له على سائر الصديقين كما بينا.
تفسير قوله تعالى: {غير المغضوب عليهم}
من سورة الفاتحة
قوله تعالى: {غير المغضوب عليهم}
فيه مسائل:
المسألة الأولى
الغضب في اللغة: الشدة يقال: رجل غضوب أي شديد الخلق.
وفي (القاموس): إن الغضب ضد الرضا، فعلى هذا هو الكراهة، ويرادفه السخط كما يفيده القاموس.
وقال (الإمام المهدي) عليه السلام : الأقرب أن الغضب يستعمل بمعنى الغيظ يقال: غضب من فعل ولده أي: أغاظه فعله وإن لم يحصل في قلبه بغض له؛ إذ قد يتغيظ من فعل شخص ولا يرضى بنزول مضرة به، ويستعمل بمعنى البغض، ومن ذلك وصف الله تعالى بأنه غضب على الكفار والعصاة.
قال: ويرادفه في الاستعمالين: السخط، وعلى الاستعمال الثاني، فيقال في حده: هو إرادة ضرر الغير، وإذ قد ذكرنا الغيظ هنا فلنذكر حده فنقول: هو عند ابن متويه فوران النفس لكراهة ما وقع، وقال الإمام المهدي عليه السلام : الأقرب أنه في الأصل التغير إلى نقصان كما يقال: غاض الماء إذا ذهب في الأرض ونقص عن حده الذي كان يبلغه، واستعمل في صفة الشخص لأنه يتغير حاله إذا غضب إلى نقصان لأن الرضا كالزيادة والغيظ يذهب به كما يذهب الماء في الأرض، قال: وقد يفترق هو والغضب من جهة أن الإنسان قد يتغيظ من فعل نفسه ولا يوصف بالغضب من ذلك، وبعض أصحابنا يفرق بين الثلاثة فقالوا: الغضب إذا تعلق بالغير كالبغض والبغض نقيض المحبة يعني: أنه كراهة وصول النفع إلى الغير، والسخط نقيض الرضا وهو كراهة تعلق بفعل الغير متقدمة؛ لأن الرضا بالفعل هو إرادته، تقول: رضيت خروج زيد، أي: أردته هكذا في كتب الأصحاب.
وقال (الرازي): الغضب تغير يحصل عند غليان دم القلب لشهوة الانتقام، وقال أبو السعود: هو هيجان النفس لإرادة الانتقام وهو في معنى الأول، وعلى هذا فمجرد البغض لا يكون غضبًا، وكذلك السخط على تفسير بعض الأصحاب له.
تنبيه [في معاني البغض والغضب والسخط والرضا]
وقد عرف مما مر أن البغض والغضب والسخط والغيض والرضا، وكذا المحبة وهي: إرادة نفع المحبوب وكراهة ضره أسماء لإرادة وكراهة واقعتين على وجوه مختلفة، وهذا قول أكثر أصحابنا. وقال أبو علي في قديم قوليه: بل هي معان مختلفة لأنه جعل الرضا والسخط معنيين غير الإرادة والكراهة، احتج الأكثر بما مر من أخذ الكراهة والإرادة في حدودها، فلو كانت هذه الأسماء مغايرة للإرادة والكراهة لما صح أخذهما في حدودها، ولصح أن يريد الشيء ولا يحبه، ويكرهه ولا يبغضه، واحتجوا أيضًا بامتناع نفي أحدهما وإثبات الآخر، إذ لا يقال: أنا أحب هذا الشخص ولا أريد نفعه، أو أنا غاضب عليه أو مبغض له ولا أكرهه، فإن قيل: إنهم يقولون أحب زيدًا ولا يقولون: أريده، فنجد المحبة تتعلق بالباقي والإرادة لا تتعلق به وذلك يقتضي اختلافهما، قيل: ذلك لغلبة عرف الاستعمال في أحد اللفظين دون الآخر، وإن استويا في المعنى فيصير حقيقة عرفية.
المسألة الثانية [معنى الغضب]
اختلف العلماء في معنى الغضب إذا أسند إلى الله تعالى، فقال الإمام القاسم بن محمد عليه السلام وأتباعه: هو الحكم باستحقاق العذاب قبل وقته وإيصاله إليه في وقته؛ إذ لا يصح في حقه تعالى معناه الحقيقي لأنه عرض والله تعالى لا تحله الأعراض فيكون مجازًا علاقته السببية، إذ الغضب سبب في الحكم والإيصال.
وقالت (المعتزلة) ومن تبعهم من (الزيدية): بل هو بمعنى كراهة نفعه وإرادة مضرته هكذا ذكره الإمام المهدي عليه السلام ، وقال النجري: هذا إنما هو في الشاهد، وأما في القديم تعالى فليس معناه إلا الإرادة؛ إذ لا يكره الله عقاب الأنبياء ولا ثواب الكفار، إذ لا يكره القبيح من فعله لعدم الفائدة فيها، هذا حاصل ما ذكره.
قلت: وأراد بقوله: إذ لا يكره القبيح...إلخ أنه لا يقع منه القبيح لعدله، فلا تقع كراهته لعدم الفائدة في كراهة ما علم انتفاؤه.
قلت: والظاهر بقاء هذه الإرادة والكراهة على معناهما الحقيقي في حقه تعالى، وهو الذي حكاه النجري عن الزيدية وأكثر المعتزلة، وهو الذي يأتي على أصول المجبرة في الإرادة، وقد حكاه عنهم الإمام المهدي عليه السلام أعني أنهم يوافقون في كونه مريدًا على الحقيقة؛ لأن إرادته تعالى عندهم من جملة المعاني القائمة بالذات.
قلت: وفي حكاية النجري عن الزيدية نظر لظهور خلاف بعضهم، والصواب: أنه قول أكثرهم كما حكاه المهدي عليه السلام ، وظاهر كلام الهادي عليه السلام أن الله تعالى يوصف بكونه مريدًا وكارهًا على جهة الحقيقة؛ لأنه ذكر أن السخط اسم لكراهية الفعل، ثم قال بعد أن ذكر المحبة والعداوة وغيرهما: واعلم أن هذه الصفات إرادة إلى أن قال: والإرادة فقد صح أنها من صفات الفعل، وإنما يجب أن لا يجيز هذه الأوصاف على الله تعالى من لا يثبته مريدًا على الحقيقة ولا كارهًا.
هذا وأما الأشعرية فقد عرفت مما ذكره الرازي وأبو السعود أن الغضب عندهم أمر غير الإرادة والكراهة، ولما كان ذلك المعنى عندهم محال في حق الباري تعالى احتاجوا إلى تأويل الغضب في حقه تعالى على وجه يليق به، ولهم في ذلك مسالك:
المسلك الأول
أن جميع الأعراض النفسانية كالرحمة والفرح والسرور والغضب والحياء والغيرة والمكر والخداع والاستهزاء والتكبر لها أوائل وغايات تنتهي إليها، فإذا وردت في حق الله تعالى وجب حملها على الغايات، فعلى هذا يقال في الغضب: له أول وهو غليان دم القلب، أو هيجان النفس، وغاية وهي إرادة إيصال الضرر إلى المغضوب عليه، فإذا أسند إلى الله تعالى وجب حمله على الغاية لاستحالة حمله على غليان الدم ونحوه من الأعراض، وهذا المسلك سلكه جماعة منهم: الرازي وقال: إن هذه القاعدة شريفة.
قلت: فعلى هذا هو عندهم من باب المجاز في حقه تعالى لما ذكرناه عنهم من مغايرته للإرادة والكراهة والعلاقة السببية، أعني: إطلاق اسم السبب بالنسبة إلينا على المسبب القريب، وهو إرادة الانتقام وإيصال الضرر.
قيل: وإذا كان في حقه تعالى بمعنى الإرادة فهو من صفات الذات، وهو بناء على أصل فاسد وهو أن الإرادة صفة ذات لا صفة فعل، وسنبطله في موضعه إن شاء الله.
المسلك الثاني
أن يراد به نفس العقوبة والضرر، وهو مجاز كالأول؛ إذ العقوبة غاية لغليان دم القلب في حقنا والعلاقة السببية إلا أنه من باب إطلاق اسم السبب على مسببه البعيد كما لا يخفى، وعلى هذا فهو صفة فعل.
المسلك الثالث
حكاه ابن جرير عن بعضهم أنه جار مجرى الذم والشتم فيقال: غضب الله على فلان بمعنى ذمه وشتمه بسوء فعله، قلت: وعلى هذا يكون مجازًا علاقته السببية أو اللزوم؛ إذ الغضب في حقنا يستلزم ذلك أو يكون سببًا فيه.
المسلك الرابع
ذكره أبو السعود وهو: أنه يجوز حمله على التمثيل بأن يشبه الهيئة المنتزعة من سخطه تعالى للعصاة، وإرادة الانتقام منهم لمعاصيهم بما ينتزع من حال الملك إذا غضب على الذين عصوه وأراد أن ينتقم منهم ويعاقبهم.
وقال السيد (محمد بن عز الدين) المفتي رحمه الله: الواجب في الغضب ونحوه من صفات الأفعال اعتقاد معناها على المعنى الذي يليق بالباري تعالى، واحتج بقول علي عليه السلام : (يريد ولا يضمر، ويحب ويرضى من غير رقة، ويغضب ويبغض من غير مشقة) قال وإنما اخترنا ذلك للاختلاف في معناها.
قلت: أما ابن أبي الحديد فقد حمل كلام أمير المؤمنين عليه السلام على محمل يوافق بينه وبين كلام الجمهور، فقال في تعليل كونه يحب ويرضى من غير رقة...إلخ، وذلك أن محبته للعبد إرادته أن يثيبه، ورضاه عنه أن يحمد فعله، وهذا يصح ويطلق على الباري لا كإطلاقه علينا؛ لأن هذه الأوصاف يقتضي إطلاقها علينا رقة القلب والباري تعالى ليس بجسم، وأما بغضه للعبد فإرادة عقابه وغضبه كراهية فعله ووعيده بإنزال العقاب به، وفي الأغلب إنما يطلق ذلك علينا ويصح منا مع مشقة تنالنا من إزعاج القلب وغليان دمه، والباري تعالى ليس بجسم، وقريب مما فسر به ابن أبي الحديد كلام علي عليه السلام ما ذكره ابن جرير عن بعضهم، وهو أن الغضب من الله تعالى له معنى مفهوم كغضب غيره تعالى، إلا أنهما وإن اتفقا في إثبات المعنى لكل منهما، فالمعنيان مختلفان لأن غضب الآدمي يزعجه ويشق عليه بخلاف الباري تعالى إذ لا تحله الآفات، قال: ولكنه له صفة كالعلم والقدرة على ما يعقل من جهة الإثبات، وإن خالفت معاني ذلك معاني علوم العباد التي هي معارف القلوب وقواهم التي توجد مع الأفعال وتعدم بعدمها.
قلت: إن أراد بقوله: ولكنه له صفة كالعلم...إلخ إثبات المعاني التي أثبتها الأشاعرة للباري تعالى فقول باطل، وسنبين بطلانه في موضعه إن شاء الله، وكذلك قوله في القدرة إنها مقارنة للفعل هو معلوم البطلان كما سيأتي إن شاء الله.
تنبيه [تعلق الرضا والغضب بالفاعل]
اعلم أن الرضا والغضب قد يتعلقان بالفاعل، فيقال: رضي الله عن فلان، أي: أراد تعظيمه في الدنيا وإثابته في الآخرة، والغضب بالعكس.
قال (أبو هاشم): وقد يكون راضيًا عن الفاعل ساخطًا لفعله، واختاره الإمام المهدي عليه السلام ، وذلك كأصحاب الصغائر. وقال أبو علي: بل الرضا بأحدهما هو الرضا بالآخر فلا يقال: رضي عن فلان وهو يكره فعله ولا رضي فعله وهو غير راض عنه، فلا يصح إطلاق الرضا عن الفاعل إلا إذا أكمل مراد الله منه، وأجيب بأنه لا يمتنع أن يريد بعض أفعاله ويكره بعضها، وقد يكون ساخطًا للفاعل راضيًا بعض أفعاله كقضاء الدين ورد الوديعة، قال الإمام المهدي عليه السلام : وفي كلام علي عليه السلام ما يصحح قول أبي هاشم وذلك قوله عليه السلام : الله يحب عمل العبد ويبغض بدنه ويحب العبد ويبغض عمله، وقال الهادي عليه السلام : لا يجوز الرضا عن الفاعل حتى يرضى فعله، ولا يصح السخط عليه إلا وقد سخط فعله إذ هما متلازمان، فإذا وقع منه ما يوجب الغضب مع فعله ما يستلزم الرضا لم يصح أن يقال: إن الله راض عنه؛ إذ لا يصح وصف الله تعالى بالرضا عمن هو ساخط عليه، أما إذا علق الرضا والسخط بالفعل نحو أن يكون العبد مسخطًا لله تعالى من وجه ومرضيًا له من وجه فإنه يجوز أن يقال: أن الله تعالى ساخط لبعض فعله راض ببعضه، ولا يجوز إذا كان راضيًا ببعض أفعال المكلف أن يرضى عنه لأن الرضا بالفعل غير الرضا عن الفاعل، هذا تلخيص كلامه عليه السلام .
فائدة [في أن العلم بهذه المسألة من الكفايات]
العلم بهذه المسألة فرض كفاية لأجل فهم معاني كتاب الله تعالى.
المسألة الثالثة [في الدلالة على أن العاصي فاعل للمعصية]
غضب الله على العصاة دليل على كونهم الفاعلين للمعصية وإلا لقبح الغضب عليهم، وقالت المجبرة: بل هو دليل على كونه خالق المعصية فيهم، قال الرازي في تقرير احتجاجهم بالآية قال أصحابنا: لما ذكر غضب الله عليهم وأتبعه بكونهم ضالين دل ذلك على أن غضب الله عليهم علة لكونهم ضالين، وحينئذ تكون صفة الله تعالى مؤثرة في صفة العبد، أما لو قلنا: إن كونهم ضالين يوجب غضب الله عليهم لزم أن تكون صفة العبد مؤثرة في صفة الله تعالى وذلك محال.
والجواب من وجوه:
أحدها: أن المعلوم بالضرورة أن معاقبة العبد على فعل غيره ظلم لا يجوز من الله فعله، وقد قال الله تعالى: {وَلاَ يَظْلِمُ رَبُّكَ أَحَداً}[الكهف:49]، وقال: {وَلاَ تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى}[فاطر:18 ]وكل مذهب يؤدي إلى مخالفة ضرورة العقل والنقل وجب كونه باطلاً.
الثاني: أن هذا التقرير الذي ذكروه لا يصدر من عاقل فضلاً عمن يدعي التقدم في العلم، وذلك أن الروايات قد تكاثرت عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم وعن جمهور السلف من آل محمد وغيرهم أن المراد بالمغضوب عليهم اليهود، وبالضالين: النصارى، وادعى ابن أبي حاتم: إجماع المفسرين على ذلك، وقال الرازي: إنه المشهور، وحكى احتمالين آخرين:
أحدهما: أن المغضوب عليهم كل من أخطأ في الأعمال الظاهرة وهم الفساق، والضالين: كل من أخطأ في الاعتقاد وقال: هو الأولى.
والثاني: أن المغضوب عليهم الكفار، والضالين المنافقون، وعلى كل حال فلا يصح أن يكون ضلال النصارى علة في الغضب على اليهود، وكذلك في الاحتمالين الذين ذكرهما هذا لا يقول به عاقل.
الثالث: أن الرازي قد استدل بقوله: {أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ...} [الفاتحة: 7 ]إلخ على تقسيم المكلفين إلى ثلاث فرق: أهل الطاعة وهم المنعم عليهم، وأهل المعصية وهم المغضوب عليهم، وأهل الكفر وهم الضالون، فكيف يصح جعل كفر الكافر علة في الغضب على العاصي بغير الكفر، ثم إنه لو جاز ذلك لجاز أن نقول: الغضب على العصاة علة في الإنعام على أهل الطاعة وهو معلوم البطلان.
وأما قولهم: وحينئذ تكون صفة الله مؤثرة في صفة العبد...إلخ فجوابه: أنهم قد ذكروا للغضب في حقه تعالى احتمالات كما مر، وقد جعلناها أربعة مسالك، والمعلوم أن تلك المسالك لا يجوز أن يقال في واحد منها أنه يؤثر في ضلال العبد.
أما الثاني: وما بعده فظاهر، وأما الأول فلأن إرادة الانتقام لا تؤثر في حصول سبب الانتقام وهو الضلال ضرورة، وأما ما ألزمونا به من أنه يلزم من قولنا: إن الضلال سبب للغضب تأثير صفة العبد في صفة الرب، فملتزم أنه لولا المعاصي والضلال لما وقع الغضب، ولا نقول أن صفة الضلال تؤثر الإرادة على معنى أنها توجدها وتحصلها، بل المراد تأثير سبب وهو أن المعصية سبب لإرادة الانتقام، أو الانتقام نفسه أو نحو ذلك من المعاني السابقة للغضب، وهذا لا محذور فيه، بل لا يجوز غيره، فكيف يقال: إنه محال؟ وكيف يجعل الغضب الذي هو الانتقام أو إرادته علة في حصول المعصية مع أنه لا يكون إلا بعد حصولها؛ إذ لا يكون إلا جزاء عليها، فإن قيل: أما إذا فسر بإرادة الانتقام فإنه يجوز تقدمها على المعصية، قيل: الانتقام قبل حصول سببه قبيح، وإرادة القبيح قبيحة والله لا يفعل القبيح، فإن قيل: هي إرادة مشروطة بفعل المعصية، قيل: فقد خرجنا إذاً عن محل النزاع؛ إذ المعلوم قطعًا أن المشروط لا يؤثر في وجود شرطه، وعند التحقيق أن ما ذكروه من الاحتجاج بهذه الآية لا يستحق جوابًا لظهور بطلانه عند جميع العقلاء فضلاً عن العلماء، إلا أن ذلك لا يخلو عن فائدة، مع ما فيه من التنبيه على أنهم يتمسكون في تقويم مذهبهم بما علم بطلانه ضرورة حتى على مقتضى أصولهم وقواعدهم، فلا يغتر مغتر بزخرفة عباراتهم وتحسين ألفاظهم في بعض المواضع، وقد نبهنا على هذا مرارًا.
المسألة الرابعة
أورد الرازي هنا سؤالاً وأجاب عنه، وحاصله: أن غضب الله تعالى متولد عن علمه بصدور القبيح، فهذا العلم إما قديم فلم خلق المكلف مع علمه بأنه لا يستفيد إلا العذاب الدائم ولأن من كان غضبان على شيء كيف يعقل منه إيجاده، وإما محدث لزم أن يكون الباري محلاً للحوادث تعالى عن ذلك، وأن يفتقر إحداث ذلك العلم إلى سبق علم آخر فيتسلسل وهو محال، وأجاب بقوله: يفعل الله ما يشاء ويحكم ما يريد.
قلت: ونحن نجيب عن السؤال بغير جوابه، ثم نجيب عن جوابه، ونبين ما بناه عليه فنقول:
أما وصف علم الباري تعالى بالقدم والحدوث فهو باطل، أما الحدوث فظاهر، وأما القدم فلأنه يلزم قديم مع الله تعالى وكونه تعالى محلاً لغيره، وأما قوله: فلم خلق المكلف ...إلخ فعندنا أنه خلق المكلف ليعرضه على الخير، فإن صار إلى العذاب الدائم فمن نفسه أُتي وذلك لسوء اختياره، وقد أوضحنا الدليل على حسن تكليف من علم الله أنه لا يؤمن في سياق قوله تعالى: {الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ}[الفاتحة: 2 ] وسيأتي بسط الكلام عليه في سورة البقرة إن شاء الله.
وأما جوابه بقوله:{ يَفْعَلُ اللَّهُ مَا يَشَاءُ...} [إبراهيم:27 ]الآية، فمراده أنه لا يقبح من الله ما يقبح من غيره؛ لأنهم قد أبطلوا ا لحسن والقبح العقلي، وقد استوفينا الاحتجاج على مسألة التحسين والتقبيح في المقدمة، وعلى أنه يقبح من الله ما يقبح من غيره في هذه السورة في سياق قوله تعالى: {الحمدلله} وأما قوله تعالى: {يَفْعَلُ اللَّهُ مَا يَشَاءُ...}[إبراهيم:27 ]الآية فنقول بموجبها: وهو أن الله يفعل ما يشاء ويحكم ما يريد، لكنه قد ثبت أنه لا يشاء ولا يريد إلا الحسن، وأنه منزه عن القبائح كلها لا يظلم ولا يأمر بالفحشاء، فأي دلالة لهم في الآية على أنه يفعل القبيح ولا يقبح منه؟ وأنه يجوز أن يخلق المكلف ويكلفه لأجل يدخله النار تعالى الله عن ذلك.
هذا وأما قوله: ولأن من كان غضبان على الشيء كيف يعقل منه إيجاده، فلا يتأتى إلا على مذهب سليمان بن جرير وهو أن الله تعالى ساخط فيما لم يزل على من علم أنه سيعصي.
قال (الإمام المهدي) عليه السلام : وهو مبني على أنه تعالى مريد فيما لم يزل لأنه من الصفاتية -يعني: الذين يقولون إن الله تعالى مريد بإرادة قديمة كما يقولون في سائر الصفات التي لله تعالى، وهؤلاء هم الكلابية والأشعرية، وسنبطل ما ذهبوا إليه في موضعه إن شاء الله، وبه يتبين بطلان كلام الرازي ومذهب ابن جرير، إلا أنا نذكر في هذا الموضع ما أجاب به الهادي عليه السلام على ابن جرير فنقول:
قال (الهادي) عليه السلام بعد أن ذكر كلامًا كثيرًا في أن الإرادة من صفات الفعل ما لفظه: والإرادة فقد صح أنها من صفات الفعل، ثم قال: فإذا صح أنها من صفات الفعل وجب القضاء بأنه إنما يسخط ويرضى بعد وجود ما يوجب ذلك، وذلك لا يجوز إلا بعد التكليف وبعد تصرف المكلفين بالطاعة والمعصية؛ لأن جميع ذلك منه تعالى جزاء على الأعمال، ولا تحسن مجازاة الفاعل قبل إقدامه على الفعل، وذلك أبين ومما لا يحتاج إلى إطناب.
فأما ما ذكر عن سليمان بن جرير فإنما أُتي فيه من قبل قوله: إنه يقول: إن الله تعالى لم يزل مريدًا، ويثبت ذلك من صفات الذات وقال ما قاله، وقد دللنا على بطلان ذلك ببطلان أصله الذي يتعلق به في أن الإرادة من صفات الذات، ومما يبين فساد ذلك أن الساخط إنما يحسن منه أن يسخط على من فعل قبيحًا من عمله فاعلاً لذلك القبيح لا لعلمه بأن الفعل المسخط له سيقع، ألا ترى أن ذلك يقبح منه قبل وقوع القبيح كما يقبح منا أن نعاقب بالضرب والإيلام من لم يأت ما استحق ذلك منه، ثم ذكر عليه السلام أنه إذا لم يحسن ذلك منا لم يجز من الله تعالى أن يسخط على المؤمن الذي يعلم أنه سيكفر، وأنه لو حسن منه ذلك لحسن منه أن يعاقبه حال إيمانه لعلمه بما سيقع منه، ولحسن أن يعاقبه مع منعه من الطاعة.
قال عليه السلام : وهذه طريقة ما سلكها أحد من الأئمة ولا من العلماء من غيرهم سوى هذه المجبرة.
قلت: قد أفاد عليه السلام أن ما ذهب إليه ابن جرير قول سائر المجبرة وهو الذي يجري على أصولهم في الإرادة، ويدل عليه ما حكيناه عن الرازي، واعلم أن هذه الشبهة إنما تأتي على ما ذهب إليه الرازي من حمل غضب الله على الإرادة، وأما على قول من فسره بالعقوبة نفسها فالعقوبة فعل الله تعالى حادث اتفاقًا، فلا يصح وصفه بالغضب في الأزل بهذا المعنى على أصولهم.
المسألة الخامسة
قوله تعالى:{ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ}[الفاتحة:7 ]وقوله: {غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ}[الفاتحة: 7 ]يستلزم صحة وصف الله تعالى بمنعم وغضبان، فأما منعم فقد نص عليه الموفق بالله عليه السلام في الإحاطة والقرشي في المنهاج، ومعناه: فاعل النعمة، ولا أعلم خلافًا في صحة إطلاقه، وأما وصفه بغضبان فلم أقف على نص لأحد المتكلمين على جوازه، وإنما نصوا على جواز وصفه بالغضب من دون تعرض لصيغة الوصف، بل ظاهر عبارة الموفق بالله عليه السلام يدل على أنه لا يسند إلى الباري تعالى إلا بصيغة الفعل؛ لأنه قال: ويوصف بأنه يغضب على الكفار بمعنى أنه يريد لعنهم وعقابهم، وليس المراد به التغيير لأن الحكيم الوقور قد يوصف بأنه غضب على عبده وإن لم يتغير ولم يحصل له إلا إرادة الانتقام، ولقائل أن يقول: قد صح المعنى ولا مانع فيجوز وصفه بغضبان، وقد ورد في عدة أحاديث عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم : ((من فعل كذا وترك كذا لقي الله وهو عليه غضبان)) منها: حديث ابن عباس مرفوعًا: ((من ترك صلاة لقي الله تعالى وهو عليه غضبان)) أخرجه الطبراني في الكبير.
قال (العزيزي): وإسناده حسن، وأما غاضب فلم يرد ما يدل على جوازه على أن اسم الفاعل من غضب لم يأت على غاضب كما في كتب اللغة، وإنما يأتي على غضب كحذر وغضوب وغضب بضم الغين وتشديد الباء وغضبة مثله في البنية وغضبة بفتحهما وتشديد الباء وغضبان، والمرأة غضبى وغضوب وغضبانة قليل، والأولى الاقتصار في حق الباري تعال على ما ورد به السمع، مع أن في بعضها ما يمنع إطلاقه في حقه تعالى وهو ما دل على سرعة الغضب؛ لأنه ينافي وصفه بالحليم، فإن قيل: قد مر عن بعضهم أن الغضب قد يكون بمعنى الغيظ فهل يصح وصفه بمتغيظ؟ قيل: لا لدلالته على التغير وفوران النفس، والغضب وإن استعمل بمعناه ففي غير الباري تعالى، وهو الذي يدل عليه كلام القائلين باستعمال الغضب بمعنى الغيظ.
تفسير قوله تعالى:{ولا الضالين}
من سورة الفاتحة
قوله تعالى: {ولا الضالين}
فيه مسائل:
المسألة الأولى [معنى الضلال]
الضلال يستعمل في لغة العرب على معان، وله لفظتان ضل وأضل.
فأما ضل فتستعمل لازمة بمنى ضاع وهلك نحو: {ضَلَّ مَنْ تَدْعُونَ إِلاَّ إِيَّاهُ}[الإسراء:67 ] أي ضاع وبطل، وقوله: {أَئِذَا ضَلَلْنَا فِي الأَرْضِ}[السجدة:10 ]أي: هلكنا، وبمعنى العدول عن الصراط المستقيم، ويضاده الهداية، ومنه قوله: {وَلاَ الضَّالِّينَ}[الفاتحة: 7 ] قال الهادي عليه السلام : يقول إنهم ضلوا عن سواء السبيل وهم النصارى، ومنه: {وَوَجَدَكَ ضَالاًّ فَهَدَى}[الضحى:7] إذ الجهل عدول عن الاستقامة، وبمعنى النسيان كقوله تعالى: {أَنْ تَضِلَّ إِحْدَاهُمَا فَتُذَكِّرَ إِحْدَاهُمَا الأُخْرَى}[البقرة:282 ].
قال الراغب: ويقال الضلال لكل عدول عن المنهج عمدًا كان أو سهوًا، يسيرًا كان أو كثيرًا، فإن الصراط المستقيم الذي هو المرتضى صعب جدًا.
قلت: وإذا كان الضلال ما ذكر صح أن يستعمل في كل من وقع منه خطأ ما ولذا نسب إلى الأنبياء" كما في: {وَوَجَدَكَ ضَالاًّ فَهَدَى}[الضحى:7 ] وحكي عن موسى قوله: {فَعَلْتُهَا إِذاً وَأَنَا مِنَ الضَّالِّينَ}[الشعراء:20 ]وتستعمل ضل متعدية نحو: ضل فلان الطريق إذا جهل مكانها، ومنه قوله تعالى: {فَقَدْ ضَلَّ سَوَاءَ السَّبِيلِ}[الممتحنة:1].
وأما لفظة: أضل، فتأتي على وجوه:
أحدها: أن تكون بمعى ضل المتعدية وإنما جيء بالهمزة للفرق بين ما يفارق مكانه وما لا يفارقه، قال أبو زيد: يقال: ضل الطريق ولا يقال: أضلها إذ لا تفارق مكانها، ويقال: أضل زيد بعيره بالهمزة لما كان البعير يفارق مكانه، ولا يقال ضل عن بعيره إلا أن يكون البعير لا يفارق مكانه بأن يكون مربوطًا أو محبوسًا.
قلت: وفيه نظر، لما في القاموس من عدم الفرق فإنه قال: ضل فلان البعير والفرس: ذهبا عنه كأضلهما.
الثاني: أن تكون من ضل اللازمة التي بمعنى ضاع وبطل، فتكون الهمزة للتعدية فيقال: أضله أي: أضاعه وأبطله، ومنه قوله تعالى: {أَضَلَّ أَعْمَالَهُمْ}[محمد:1] أي: أبطلها.
الثالث: بمعنى الحكم والتسمية يقال: أضل فلان فلانًا أي: حكم عليه بذلك وسماه به كقوله:
ما زال يهدي قومه ويضلنا .... جهراً وينسبنا إلى الكفار
وحكى الإمام أحمد بن سليمان عليه السلام عن المعتزلة أن الإضلال من الله حكم، واستشهد لهم بقول الكميت:
وطائفة قد أكفروني بحبكم .... وطائفة قالوا مسيء ومذنب
وهذا اختيار الناصر عليه السلام فإنه قال: إضلال الله لعباده حكمه عليهم إذا عصوه وخرجوا من أمره بالضلال، واستدل بقوله تعالى: {أَضَلَّ أَعْمَالَهُمْ}[محمد:1 ] وغيرها من الآيات.
الرابع: بمعنى الوجدان والمصادفة يقال: أضللت فلانًا أي: وجدته وصادفته ضالاً كأجبنته وأبخلته.
الخامس: بمعنى الصيرورة، قال في القاموس: وضلله تضليلاً وتضلالاً صيره إلى الضلال.
السادس: بمعنى ترك اللطف والتوفيق، وهذا المعنى حكاه الناصر عليه السلام عن بعض العلماء ولفظه: وقال بعض أهل النظر إن ترك الله عباده العصاة له من لطفه وتوفيقه وتخليتهم من يديه ويداه فهما نعمتاه في الدنيا والآخرة، وخذلانه إياهم عقوبة لهم على معاصيهم إياه، واستخفافهم بحقه وجراءتهم عليه حتى يزدادوا إثمًا.
جائز في اللغة يقال: قد أضلهم حين تركهم في طغيانهم يعمهون ولو لم يمنعهم من ذلك إجبارًا لهم فقد تقول العرب لمن ترك عبده ولا يحجر عليه ولا يأخذ على يديه حتى يضل وإن لم يكن الولي أراد أن يضل ولا أحب من عبده: أنت أضللت عبدك بتركك إياه، وتخليتك له.
قال عليه السلام : وهذا بين في اللغة ووجه يحتمل التأويل.
السابع: بمعنى الجزاء على المعصية، ذكره الإمام أحمد بن سليمان عليه السلام ، وقال: إن الإضلال من الله تعالى لا يكون إلا بهذا المعنى كما في الطبع والختم عنده، واستدل على كونه بمعنى الجزاء بقوله تعالى: {إِنَّ الْمُجْرِمِينَ فِي ضَلاَلٍ وَسُعُرٍ}[القمر:47 ] والضلال هنا العذاب، وعلى أنه لا يكون من الله إلا كذلك بقوله تعالى: {كَيْفَ يَهْدِي اللَّهُ قَوْماً كَفَرُوا بَعْدَ إِيمَانِهِمْ...} [آل عمران:86 ]الآية، وقوله: {كَلاَّ بَلْ رَانَ عَلَى قُلُوبِهِمْ مَا كَانُوا يَكْسِبُونَ}[المطففين:14 ]وغيرهما من الآيات، وظاهر استدلاله عليه السلام أنه قد يكون إضلال الله لهم بهذا المعنى في الدنيا والآخرة، أما في الدنيا فبترك الهداية لهم، والمراد الهداية التي بمعنى التوفيق ونحوه لا التي بمعنى الدلالة لقبح التكليف من دونها، وأما في الآخرة فبالعذاب الدائم، وقد ذكر في موضع آخر أنه يكون بمعنى التسمية والجزاء.
الثامن: أن ينسب الإضلال إلى الشيء لكونه سببًا فيه بأن يفعل ما عنده يضل، وتكون نسبته إلى ذلك الشيء مجازًا، ومنه قوله تعالى: {يُضِلُّ بِهِ كَثِيراً وَيَهْدِي بِهِ كَثِيراً}[البقرة:26 ]أي: يضل عنده كثير في أحد التأويلات، وذكر الراغب أن الإضلال قد يكون سببه الضلال وذلك فيما كان بمعنى الحكم، وفي أضل التي بمعنى ضل كأضل فلان بعيره؛ إذ الضلال في هذين سبب الإضلال، وقد يكون الإضلال نفسه سببًا في الضلال، وهو أن يزين للإنسان الباطل ليضل كقوله تعالى: {أَنْ يُضِلُّوكَ وَمَا يُضِلُّونَ إِلاَّ أَنفُسَهُمْ}[النساء:113 ]أي: يتحرون أفعالاً يقصدون بها إضلالك فلا يحصل من فعلهم إلا ما فيه ضلال أنفسهم، وقال تعالى حاكيًا عن الشيطان: {وَلاَُضِلَّنَّهُمْ}[النساء:119].
قال: وإضلال الله تعالى على أحد وجهين:
أحدهما: أن يكون سببه الضلال وهو أن يضل الإنسان فيحكم الله عليه بذلك في الدنيا ويعدل به عن طريق الجنة إلى النار في الآخرة، وذلك إضلال هو حق وعدل، فالحكم على الضال بضلاله والعدول به عن طريق الجنة إلى النار عدل وحق.
والثاني: أن الله تعالى وضع جبلة الإنسان على هيئة إذا راعى طريقًا محمودًا كان أو مذمومًا ألفه واستطابه ولزمه، وتعذر صرفه وانصرافه عنه، ويصير ذلك كالطبع الذي يأبى على الناقل، ولذلك قيل: العادة طبع ثان، وهذه القوة في الإنسان فعل إلهي، وإذا كان كذلك وقد ذكر في غير هذا الموضع أن كل شيء يكون سببًا في وقوع فعل صح نسبة ذلك الفعل إليه صح أن ينسب الضلال البعيد إلى الله تعالى على هذا الوجه، فيقال: أضله الله لا على الوجه الذي يتصوره الجهلة.
قال: ولما قلناه جعل الإضلال المنسوب إلى نفسه للكافر والفاسق دون المؤمن، بل نفى عن نفسه إضلاله فقال: {وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُضِلَّ قَوْمًا بَعْدَ إِذْ هَدَاهُمْ}[التوبة:115 ]فلن يضل أعمالهم.
قلت: وهو كلام نفيس يفيد جواز نسبة الإضلال إلى الله تعالى بمعنى الحكم والعدول بالضال إلى النار، وبمعنى السببية والرجل من أئمة اللغة.
التاسع: أن يكون من ضل المتعدية وتزاد الهمزة للتعدية إلى الثاني نحو:{ فَأَضَلُّونَا السَّبِيلَ}[الأحزاب:67].
قال (القرشي): وهذا هو الإضلال بمعنى الإغواء. قلت: وفيه نظر فإن أضل المتعدي لواحد قد يكون بمعنى الإغواء كقوله تعالى: {وَأَضَلَّ فِرْعَوْنُ قَوْمَهُ وَمَا هَدَى}[طه:79 ] وهذا هو محل الخلاف بيننا وبين المجبرة، قال القرشي: وليس في الكتاب ولا في السنة شيء مضاف إلى الله بهذا المعنى، فلا يكون للخصوم في السمع شبهة قط.
أقول: وإذا عرفت معاني الضلال والإضلال فلا يعزب عنك رد الآيات القرآنية المشتملة على ذلك إلى المعنى اللائق بها من المعاني المذكورة، وسنتكلم على كل آية بما تحتمله من المعاني الصحيحة في موضعها إن شاء الله، وقد نبهناك هنا على ما يجوز نسبته إلى الله تعالى وما لا يجوز، وفي كلام الراغب من التنبيه على صحة النسبة على جهة المجاز ما يغنيك عن كثير من التكلفات.
المسألة الثانية
في الآية الكريمة دليل على صحة مذهبنا في أفعالنا؛ لأنه نسب الضلال إلى العبيد فلو لم يكن فعلهم لم يصح إطلاق النسبة، وقد اعترضه ابن جرير بأنه لو كان كذلك لوجب في كل موصوف بصفة أو مضاف إليه فعل أن لا يجوز أن يكون فيه سبب لغيره، ولوجب في كل ما كان لغيره فيه سبب أن لا يضاف إلا إلى مسببه، ولو وجب ذلك لما صح قولنا: تحركت الشجرة إذا حركتها الرياح، والمعلوم خلافه، والقرآن عربي ومن شأن العرب أن ينسب الفعل تارة إلى من وجد منه، وإن كان مسببه غيره، وتارة إلى المسبب وإن كان الموجد غيره، فكيف بالفعل الذي يكتسبه العبد ويوجده الله، بل ذلك أحرى أن يضاف إلى مكتسب بالقوة عليه والاختيار له، وإلى الله تعالى بإيجاد عينه وإنشائه تدبيرًا؟
والجواب: أنا لم ننكر المجاز حتى يلزمنا ما ذكرت إلا أنا نقول: إن الأصل في الإطلاق الحقيقة، وأنه لو كان المراد هنا المجاز لما صح الإطلاق ولوجب نصب القرينة لما في تركها والحال ما ذكرتم من الألغاز والتعمية، والحمل على الاعتقاد الفاسد، فإن قيل: القرينة معلومة وهو ما ثبت من أن الله تعالى هو الموجد لأفعال العباد؟ قيل: لو ثبت ذلك لكان قرينة كافية، لكنه لم يثبت بل قام الدليل على بطلانه واستقام السبيل على خلافه كما مر في مواضع وسيأتي، وأما ما ذكره من الكسب فلم يعقل معناه حتى يصح جعله قرينة موجبة للعدول عن الأصل.
المسألة الثالثة
اعلم أن الملاحدة وغيرهم يوردون وجوهًا من المطاعن في القرآن العظيم، منها: ما يرجع إلى القدح في حفظه من الزيادة والنقصان والتغيير والتبديل، وهذا معلوم البطلان لثبوت تواتر آيات القرآن وحفظه من الزيادة والنقصان، ويكفي في إبطاله أنه لم يخل زمان من الأزمان من عهد رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم إلى يومنا هذا من جماعة لا يمكن حصرهم يحفظون القرآن، ويدرسونه، ويعلمونه الناس لا تخفى عليهم زيادة حركة ولا نقصها، فكيف يصح أن تزيد فيه آية أو أكثر أو ينقص منه ذلك ولا يشعرون به؟ ومن المعلوم أنه لو زيد في هذه الكتب المؤلفة في فنون العلم المتداولة بين الناس فصل أو باب لعلمه أهل ذلك الفن وأنكروه في الحال، فكيف بكتاب الله الذي يتعلق به الخاص العام والعالم والجاهل؟! والأمر في هذا واضح لا يحتاج إلى كثير بيان، ومنها: ما يرجع إلى القدح في فصاحته وبلاغته ومطابقته للغة العرب وغير ذلك مما يتوصلون به إلى القدح في إعجازه وصحته، وهذا النوع قد تعلقوا فيه بشبه أخذوها من ظواهر بعض الآيات، وسنجيب عن كل شبهة في مواضعها إن شاء الله، ومن جملة ما يقال في هذه السورة الكريمة: أنها مشتملة على الحشو وهو تطويل الكلام لا لفائدة، وذلك أن الله تعالى قد ذكر المنعم عليهم بالهداية إلى الصراط المستقيم، ولا شك أن من أنعم الله عليه بذلك لا يكون مغضوبًا عليه ولا ضالاً فلا تكون زيادة قوله: {غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ}[الفاتحة: 7 ]إلا تطويلاً خاليًا عن الفائدة، وربما قالوا أن أكثر آيات الفاتحة تطويل وحشو، وذلك أن جميع ما فيها من المعاني قد اشتملت عليها آيتان منها وهما قوله: {مَالِكِ يَوْمِ الدِّينِ، إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ}[الفاتحة: 4-5 ]لأن من عرف ملك يوم الدين فقد عرفه بأسمائه الحسنى وصفاته المثلى، ومن عبد الله فهو متبع لسبيل المنعم عليهم عادل عن سبيل المغضوب عليهم ولا الضالين.
والجواب: أن هذا الطعن يدل على جهلهم باللغة العربية وما فيها من النكت والأسرار، وإلا فلا يخفى على من له أدنى مسكة في أسرار هذه اللغة أن هذه السورة في غاية الإيجاز ونهاية الإعجاز، ومن تأمل ما استنبطناه منها من المسائل عرف صحة ذلك فكيف يقال باشتمالها على الحشو والتطويل بلا فائدة ولو وجد كفار العرب قطعنا في هذا الوجه لسارعوا إليه؛ لأنه أنزل ليتحداهم به وهم أمراء الفصاحة وفرسان البلاغة.
وأما قولهم إنه يكفي عن سائر آياتها الآيتان المذكورتان، فجهل ظاهر وعناد فاحش، فإن من المعلوم أن ما اشتملت عليه البسملة وقوله تعالى: {الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ}[الفاتحة: 2] من مسائل العدل والتوحيد وغيرهما لا يغني عنه ما ذكروا، وكذلك القول في سائر الآيات، فإن قالوا يغني عنه التزاماً، قلنا: فيلزمكم أن يغني لفظ الجلالة عن الكتاب والسنة لأنها تدل على الاتصاف بصفات الكمال واستحقاق نهاية الامتثال، والمعلوم عند كل أحد أن ذلك غير كاف؛ لأن المقصود بإنزال الكتب وبعثة الرسل إقامة الحجة وإبلاغ المعذرة، وذلك لا يكون إلا ببيان الدليل وتوضيح السبيل على وجه يعرفه كل مكلف، وبعد:
فإنا لا نسلم أن الآيتين تدلاّن على ذلك لأ بالالتزام ولا غيره فإن وصفه بأنه مالك يوم الدين لا يدل على ما اشتملت عليه البسملة وما بعدها من إثبات الصانع بدليله، والأمر بالتبرك والاستعانة باسمه، والدلالة على وجوب شكره على نعمه كما يفهم ذلك من ترتيب الحمد على الوصف بالربوبية وعموم رحمته إلى غير ذلك، ولا يدل ذكر العبادة والاستعانة على ذلك أيضاً.
ألا ترى أن النطق بالاستعانة لا يتبادر منه الاستعانة باسمه، وأما الإتيان بذكر المغضوب عليهم بعد ذكر المنعم عليهم فله فائدة عظيمة قد ذكرها ابن جرير وستأتي، ووجه آخر وهو أن غير لا تخلو إما أن تكون صفة للموصول أو بدلاً منه، وعلى أيهما ينتفي هذا السؤال لأن للإتيان بالصفة فوائد عند علماء العربية ظاهرة، وهذا الوصف لا يخلو عن واحدة من تلك الفوائد، وقد قيل إن المراد به التكميل لما قبله والإيذان بأن السلامة مما ابتلي به أولئك نعمة جليلة في نفسها، وأما إن كانت بدلاً فالفائدة في ذلك معلومة، وهي إفادة التوكيد بتكرير الكلام وتقريره وبما قررنا لا يكون في ذكر الآية حشو ولا تطويل، لا سيما على القول بأنها صفة إذ مكمل الشيء كالجزء منه ولا يتم الكل إلا بجزئه، ثم إنا لو سلمنا أن في هذه السورة تطويلاً وإطناباً فالمستهجن عند العرب وأرباب المعاني الإطناب الذي لا فائدة فيه، وأما ما تضمن فائدة فهو عندهم مستحسن بل واجب وقد عقدوا وللإيجاز والإطناب بابً في علم المعاني.
وقال بعضهم: البلاغة هي الإيجاز والإطناب.
وقال الزمخشري رحمه الله: كما أنه يجب على التبليغ في مظان الإجمال أن يحمل ويوجز، فكذلك الواجب عليه في موارد التفصيل أن يفصل ويشبع، وقد أورد ابن جرير في بيان حسن الإطناب في هذه السورة كلاماً حسناً حاصله أن القرآن لما كان في أعلى طبقات الفصاحة والبلاغة مع ما يحوي من المعاني التي هي ترهيب وترغيب وزجر وقصص وغير ذلك كان ما فيه من الإطناب كالذي في هذه السورة لإرادة أن يجمع بما فيها من الوصف العجيب والتظلم الغريب الدلالة على نبوة نبينا محمد صلى الله عليه وآله وسلم ، وبما فيها من الحمد والثناء.
تنبيه [في فائدة العياذ]
العياذ على عظمته وقوة سلطانه ليذكروه بآلائه، ويحمدوه على إنعامه، فيستحقون به المزيد والثواب الجزيل، وبما فيها من نعت المنعم عليهم بمعرفته وتوفيقهم لطاعته، تعريف عباده أن ما بهم من النعم الدينية والدنيوية كلها منه تعالى ليصرفوا رغبتهم إليه، ويطلبوا حاجتهم من لديه، دون ما سواه من الأنداد والآلهة، وبما فيها من ذكر ما حل بمن عصاه من العقوبات ترهيب عباده عن العصيان والتعرض بما لا قبل لهم به من غضب الله وسخطه.
قال: فهذا وجه إطالة البيان في سورة أم القرآن، وفيما كان نظيراً لها من سائر الفرقان، وذلك هو الحكمة البالغة، والحجة الكاملة.
قلت: ويدل على أنه لا يكتفي بالآيتين المذكورتين عن سائر آيات الفاتحة ما مر في البسملة من أحاديث (قسمت الصلاة بيني وبين عبدي) فإنها تدل على أن لكل آية معنى وفائدة غير الآية الأخرى، ومن ذلك حديث جابر وهو ما رواه ابن جرير قال: حدثني صالح بن مسمار المروزي، قال: حدثنا زيد بن الحباب، قال: حدثنا عنبسة بن سعيد، عن مطرف بن طريف، عن سعد بن إسحاق بن كعب بن عجرة، عن جابر بن عبد الله الأنصاري، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم : ((قال الله عز وجل قسمت الصلاة بيني وبين عبدي نصفين وله ما سأل، فإذا قال العبد: الحمد لله رب العالمين قال: حمدني عبدي وإذا قال: الرحمن الرحيم قال: أثنى علي عبدي، وإذا قال: مالك يوم الدين قال: مجدني عبدي قال: هذا لي وله ما بقي)).
صالح بن مسمار هو: السلمي أبو الفضل أخذ عنه مسلم والترمذي، قال أبو حاتم: صدوق ووثقه في الكاشف، توفي سنة ست وأربعين ومائتين، روى له من الأئمة أبو طالب.
وزيد بن الحباب وهو العلكي أبو الحسين الكوفي الجوال، وثقه ابن المديني وأبو حاتم، توفي سنة ثلاث ومائتين.
احتج به مسلم والأربعة ومن أئمتنا الأخوان ومحمد بن منصور، وله رواية في المناقب.
وعنبسة هو: الأسدي أبو بكر الكوفي ثم الرازي، وثقه أحمد وابن معين، واحتج به الترمذي والنسائي، ومن الأئمة أبو طالب.
ومطرف بن طريف الحارثي وقيل: بالجيم والفاء الكوفي، وثقه أبو حاتم وأحمد، وفي الكاشف ثقة إمام عابد، توفي سنة ثلاث وأربعين ومائة، روى له أئمتنا الأربعة والناصر.
وسعد بن إسحاق وثقه النسائي وابن معين والدارقطني، توفي بعد الأربعين ومائة، احتج به الأربعة ومن الأئمة أبو طالب، والحديث رواه أبو طالب قال: أخبرنا ابن بندار، ثنا الحسن بن سفيان، ثني صالح بن مسمار... إلى آخر السند. محمد بن بندار لا أعرفه.
والحسن بن سفيان بن عامر شيخ خراسان حافظ، وثقه الذهبي، وأثنى عليه غير واحد.
وهذا آخر الكلام في الباب الأول والذي جعلناه فيما يتعلق بكل واحدة من آيات هذه السورة على التفصيل والحمد لله رب العالمين.
الباب الثاني فيما يتعلق بجملة الفاتحة
وفيه مسائل:
المسألة الأولى: [إجماع المسلمين على أنها من القرآن بل أم القرآن]
لا خلاف بين المسلمين في أن الفاتحة من القرآن إلا ما يروي عن ابن مسعود من إنكار كونها قرآناً، لنا ما ثبت في الأحاديث المتواترة من إطلاق السورة والآيات عليها، وذلك يختص القرآن، وما ورد من أنها القرآن العظيم المذكور في قوله تعالى: {وَلَقَدْ آتَيْنَاكَ سَبْعاً مِنَ الْمَثَانِي وَالْقُرْآنَ الْعَظِيمَ}[الحجر:87 ]وغير ذلك من الأحاديث الدالة على قرءانيتها وقد تضمنها أول كتابنا هذا.
وحكى النووي إجماع المسلمين على أن الفاتحة والمعوذتين من القرآن ومن جحد شيئاً منها كفر، وأما ما روي عن ابن مسعود فقد أجيب عنه بوجهين:
أحدهما: أنه غير صحيح عنه؛ لأنا إن قلنا أن النقل كان متواتراً في زمن الصحابة لزم تكفير ابن مسعود، وإن قلنا إنه لم يكن متواتراً لزم كون بعض القرآن غير متواتر فلا تصح دعوى كون القرآن كله حجة قاطعة ولا قائل به، فلم يبق إلا الحكم ببطلان هذه الرواية، وممن نص على بطلانها النووي، واحتج إليه الرازي.
قلت: ويؤيده أني لم أقف على نقل من وجه معتبر عن ابن مسعود في إنكار الفاتحة، وإنما يذكره الفقهاء في كتبهم، ونسبه الرازي إلى الكتب القديمة، وقد أجاب بعضهم عن اللازم بالتزام التواتر لغير ابن مسعود، وفيه بعد إذ من البعيد عدم تواتر كونها قرآناً لمثل ابن مسعود على جلالته.
الوجه الثاني: أن تلك الرواية محمولة على إنكار كتابتها في المصحف لا على إنكار كونها قرآناً؛ لأنه كان يرى أن لا يكتب في المصحف إلا ما أذن الشارع في كتابته فيه، ويؤيده ما روي عن أبي بن كعب من إنكار إثباتها في المصحف، على أنه قد روي عنهما إثباتها في المصحف فلم يبق إلا عدم صحة إنكارها.
المسألة الثانية [حكم قراءة الفاتحة في الصلاة]
القراءة مشروعة في الصلاة إجماعاً، وإنما اختلفوا في وجوبها، فذهب الأكثر إلى وجوبها وأنها لا تصح الصلاة إلا بها، وقال الأصم وابن علية والحسن بن صالح: أنها لا تجب، وهو مروي عن مالك، وحكاه القاضي عياض عن علي بن أبي طالب وربيعة ومحمد بن أبي صفرة من أصحاب مالك، وروي عن ابن عباس، وأخرج الشافعي وغيره من حديث زيد بن أسلم، ومن حديث أبي سلمة أن عمر صلى بالناس المغرب فلم يقرأ فقيل له: إنك لم تقرأ، فقال: فكيف الركوع والسجود؟ فقالوا: حسنان، فقال لا بأس إذاً، ولعل هذا هو مستند ما روي عن الشافعي من القول بعدم الوجوب على من تركها نسياناً، وهذا القول قاله بالعراق ثم رجع عنه بمصر وقال بوجوب الإعادة على الناسي.
احتج الأكثر بوجوه:
أحدها: أن كل ما يدل على وجوب قراءة الفاتحة فهو يدل على أن أصل القراءة واجب.
الثاني قوله تعالى: {أَقِمِ الصَّلاَةَ لِدُلُوكِ الشَّمْسِ...} [الإسراء:78] إلى قوله: {وَقُرْآنَ الْفَجْرِ}[الإسراء:78 ]والمراد صلاة الفجر والأمر للوجوب، قال الرازي: أجمعوا على أن المراد منه صلاة الصبح، وكذلك قوله تعالى: {فَاقْرَءُوا مَا تَيَسَّرَ مِنَ الْقُرْآنِ}[المزمل:20 ]وقوله:{ فَاقْرَءُوا مَا تَيَسَّرَ مِنْهُ}[المزمل:20].
قال في (الشفاء): ولا خلاف أنها لا تجب في غير الصلاة فثبت وجوبها فيها.
قلت: وفي الاحتجاج بالآيتين نظر؛ لأنه قد روي أن الأمر فيها للندب، وروي أنهما نزلتا في صلاة الليل ثم نسختا بالصلوات الخمس، وقيل: إن المراد بما تيسر تلاوة القرآن على خلاف في المتيسر منه كما سيأتي، وبه يسقط دعوى الإجماع على نفي الوجوب في غير الصلاة، ويؤيده أن القرآن حجة الله على خلقه، وقد كلفهم العمل بما فيه ولا يمكن ذلك إلا بقراءته، وقراءة المحتاج إليه منه غايته إن ذلك يكون من فروض الكفاية. والله أعلم.
الوجه الثالث: ماورد عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم وعن وصيه عليه السلام من الأخبار الدالة على ذلك، ففي الجامع الكافي عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال: ((كل صلاة بغير قراءة فهي خداج)). وفي أمالي أحمد بن عيسى عليه السلام : قال محمد: حدثني أحمد بن عيسى عليه السلام عن حسين، عن أبي خالد، عن زيد، عن آبائه، عن علي عليه السلام قال: (كل صلاة بغير قراءة فهي خداج) ورواه زيد في مجموعه والهادي إلى الحق في أحكامه، ووجه الاحتجاج بالخبرين أن الصلاة إذا لم تكن فيها قراءة قد وصفت بالخداج -بكسر الخاء المعجمة- والخداج: هو النقص والفساد، قال الهادي عليه السلام : والخداج فهي الناقصة التي لم تتم وما لا يتم فهو باطل، قال الأمير الحسين: وهذا المعنى مروي عن أهل اللغة وهو أحدهم لأنه حجازي اللغة.
قلت: قد روي تفسير الخداج بالنقصان عن جماعة من أئمة اللغة منهم: الخليل والأصمعي والهروي.
قال (الأخفش): خدجت الناقة إذا ألقت ولدها لغير تمام، وأخدجت إذا قذفت به قبل وقت الولادة وإن كان تام الخلق، إذا عرفت هذه فنقول: الحكم على الصلاة بالنقصان يوجب عدم صحتها فمن لم تتم صلاته وجب عليه إعادتها، ومن ادعى صحتها مع إقراره بنقصها فعليه الدليل، وفي المجموع من حديث علي عليه السلام مرفوعاً ولا تقبل صلاة إلا بقرآن.
وعن أبي الدرداء أن رجلاً سأل النبي صلى الله عليه وآله وسلم فقال: أفي الصلاة قراءة؟ فقال: نعم، فقال السائل: وجبت، والحجة في تقرير قول السائل وجبت. وعن ابن مسعود أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم سئل أيقرأ في الصلاة؟ فقال صلى الله عليه وآله وسلم : ((أتكون صلاة بغير قراءة)) وهذان الخبران رواهما الرازي وقال: إنه نقلهما من تعليق الشيخ أبي حامد الإسفراييني، وورد الأمر بالقراءة في حديث المسيء صلاته وسيأتي.
الوجه الرابع: إجماع أهل البيت" على وجوب القراءة وإجماعهم حجة، والحجة للقائلين بعدم الوجوب من وجوه:
أحدها: أن الله تعالى أمر بالصلاة في آيات متعددة ولم يذكر القراءة، وقد ذكر الركوع والسجود والقيام فلو كانت واجبة وجزءاً من ماهية الصلاة لذكرها.
والجواب: أنا لا نسلم عدم ذكرها كما في الآيات السابقة، سلمنا فليست كل تفاصيل الأحكام ثابتة في القرآن وإنما بينها النبي صلى الله عليه وآله وسلم بأقواله وأفعاله، وقد قال تعالى: {مَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ}[الحشر:7 ] وقال: {لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إِلَيْهِمْ}[النحل:44].
الوجه الثاني: قوله صلى الله عليه وآله وسلم : ((صلوا كما رأيتموني أصلي)) رواه في الشفاء وأصول الأحكام، وأخرجه البخاري من حديث مالك بن الحويرث وأخرجه أحمد أيضاً، ووجه دلالته أنه جعل الصلاة مرئية والقراءة غير مرئية، فوجب أن تكون غير واجبة، والجواب: أن الرؤية هنا بمعنى العلم لأنها إذا تعدت إلى مفعولين كانت بمعنى العلم، ولأن الصلاة حركات وسكون وقد مر عن بعض المتكلمين أنهما لا يدركان بإحدى الحواس فتعين كون الرؤية بمعنى العلم.
الوجه الثالث: أنه قول أمير المؤمنين عليه السلام وقول عمر وابن عباس فتبعهم على ذلك من مشاهير علماء الإسلام من قد ذكرنا، وأيضاً فإن الصحابة قرروا عمر على قوله فصار إجماعاً منهم، وإذا ضممت إلى هذا قول أمير المؤمنين عليه السلام كان صارفاً لما ظاهره الوجوب من الأدلة إلى الندب عند من يقول إن قوله حجة.
والجواب: أما الرواية عن أمير المؤمنين عليه السلام فهي غير صحيحة لثبوت ما يقتضي الوجوب عنه، ولإجماع أهل بيته عليه ولو ثبت عنه عدم الوجوب لما أجمعوا على خلاف قوله.
وأما ما روي عن عمر فقال القرطبي إنه منكر اللفظ منقطع الإسناد لأنه رواه إبراهيم بن الحارث التيمي تارة عن عمر وتارة عن أبي سلمة بن عبد الرحمن عن عمر وكلاهما منقطع، وقد ذكره مالك في الموطأ وهو عند بعض الرواة، وليس عند يحيى وطائفة معه لأنه رماه مالك بآخرة وقال: ليس عليه العمل لأن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال: ((كل صلاة لا يقرأ فيها بأم القرآن فهي خداج)).
قلت: وما تقدم من رواية زيد بن أسلم لهذا الأثر عن عمر فالظاهر أنه منقطع أيضاً؛ لأن عمر قتل سنة ثلاث وعشرين وزيد توفي سنة ثلاث وثلاثين ومائة، ثم إنه لو صح ذلك عن عمر فليس بحجة، وكذا يجاب عما روي عن ابن عباس إن صح وسيأتي عنه ما يعارض هذه الرواية.
نعم أما صاحب نهاية المجتهد فقصر خلاف ابن عباس على السرية لأن النبي صلى الله عليه وآله وسلم لم يقرأ فيها، لنا ما سيأتي من ثبوت القراءة فيها، وأما قولهم: إن الحجة في تقرير الصحابة لعمر فذلك متوقف على صحة هذه الرواية، وعلى ثبوت حصول جماعة الصحابة لتلك الصلاة وأنه لم ينكر أحد منهم، وكل ذلك غير ثابت، بل قد روي عن عمر أنه أعاد تلك الصلاة.
قال (القرطبي): وهو الصحيح عنه روى يحيى بن يحيى النيسابوري قال: حدثنا أبومعاوية، عن الأعمش، عن إبراهيم النخعي، عن همام بن الحارث أن عمر نسي القراءة في المغرب فأعاد بهم الصلاة.
قال (ابن عبد البر): وهذا حديث متصل شهده همام من عمر روى ذلك من وجوه، وروى أشهب عن مالك قال: سئل مالك عن الذي نسي القراءة أيعجبك ما قال عمر؟ فقال: أنا أنكر أن يكون عمر فعله، وأنكر الحديث وقال يرى الناس عمر يفعل هذا فلا يسبحون به، أرى أن يعيد الصلاة من فعل هذا، وفي ضوء النهار أن البيهقي روى من طريقين موصولتين عن عمر أنه أعاد المغرب، وأما ما روي عن أفراد من العلماء فليس بحجة، وقد عرفت رجوع مالك والشافعي، وإذا ثبت بما قررنا وجوب القراءة في الصلاة فاعلم أنه قد اختلف القائلون بذلك في تعيين ما يجزي منها، فذهب أهل البيت" إلى تعيين الفاتحة وأن قراءتها فرض في الصلاة لا تجزي بدونها، وهو مروي عن عمر وابن عباس وأبي بن كعب وأبي أيوب الأنصاري وأبي سعيد الخدري وعبادة بن الصامت وعثمان بن أبي العاص وخوات بن جبير وابن عمر وعبد الله بن عمرو بن العاص وأبي هريرة، وإليه ذهب مالك والشافعي.
وعلى الجملة أنه قول جمهور العلماء من الصحابة والتابعين فمن بعدهم، وقال أبو حنيفة وأصحابه: لا تتعين، ورواه النووي عن طائفة قليلة، ثم اختلفوا فيما به يخرج عن عهدة الواجب، فقال أبو حنيفة: آية كافية كقوله: الم، حم، ومدهامتان، وعنه ما يتناوله الاسم، وعنه ثلاث آيات قصار أو آية طويلة، وهو قول أبي يوسف ومحمد.
احتج الجمهور بوجوه:
أحدها: ورود الأخبار الكثيرة بذلك من رواية المؤالف والمخالف منها: ما رواه الهادي إلى الحق في الأحكام عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم أنه قال: ((كل صلاة لا يقرأ فيها بفاتحة الكتاب فهي خداج)) وهو في العلوم من حديث عبد الله بن موسى قال: حدثني أبي عن أبيه، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم الحديث بلفظه.
عبد الله هو: عبد الله بن موسى بن عبد الله بن الحسن الكامل وشهرتهم تغني عن بيان عدالتهم، والحديث رواه في الشفاء وأصول الأحكام، وأخرج البيهقي عن علي عليه السلام مرفوعاً: ((كل صلاة لم يقرأ فيها بأم الكتاب فهي خداج)).
وعن أبي هريرة، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم : ((من صلى صلاة لم يقرأ فيها بأم القرآن فهي خداج فهي خداج فهي خداج)) ثلاث مرات غير تام الحديث، وقد مر.
وأخرج أحمد والبيهقي من حديث أبي هريرة مرفوعاً: ((كل صلاة لا يقرأ فيها بفاتحة الكتاب فهي خداج)).
وعن عائشة سمعت رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يقول: ((كل صلاة لم يقرأ فيها بأم الكتاب فهي خداج)) أخرجه ابن ماجة من طريق محمد بن إسحاق، عن يحيى بن عباد بن عبد الله بن الزبير، عن أبيه عن عائشة.
ومحمد بن إسحاق هو صاحب السيرة قد تكلم فيه بعضهم ولا التفات إلى ذلك فقد نص على عدالته وصحة روايته جماعة.
قال (ابن المديني): حديثه عندي صحيح، وقال أحمد: حسن الحديث، وأثنى عليه ابن عدي وقال: ربما أخطأ أو وهم كما يخطئ غيره، ووثقه الطبري والعجلي وابن سعد.
وقال (الذهبي): الذي تقرر عليه العمل أن ابن إسحاق إليه المرجع في المغازي والأيام السرية، وأنه حسن الحديث صالح الحال صدوق إلى أن قال: وقد احتج به أئمة، وقال في الجداول: وأما كلام المتأخرين فيه فإنما هو لنسبته إلى القول بالعدل والتوحيد ولروايته لما يغيظهم في المغازي، توفي سنة إحدى وخمسين ومائة.
احتج به الجماعة لكن البخاري بين تعليقاً، وروى له أئمتنا الأربعة، وله رواية في المناقب.
ويحيى بن عباد وثقه ابن معين وغيره، توفي بعد المائة، احتج به الأربعة وأبو طالب.
وعباد بن عبد الله وثقه ابن حبان والنسائي، واحتج به الجماعة، وروى له من الأئمة السيدان المؤيد بالله وأبو طالب ومحمد بن منصور، والحديث أخرجه أحمد.
وعن عبد الله بن عمرو بن العاص أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قال: ((كل صلاة لا يقرأ فيها بفاتحة الكتاب فهي خداج)) أخرجه ابن ماجة، وروى الهادي في المنتخب عنه صلى الله عليه وآله وسلم : ((أقل ما يجزي في الصلاة أم الكتاب وثلاث آيات معها)).
وعنه صلى الله عليه وآله وسلم أنه قال: ((لا تجزي صلاة لا يقرأ فيها بفاتحة الكتاب وثلاث آيات)). رواه في الشفاء.
وفي الأحكام عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم : ((مفتاح الصلاة الطهور، وتحريمها التكبير، وتحليلها التسليم، ولا تجزي صلاة لا يقرأ فيها بفاتحة الكتاب وقرآن معها)) وهو في العلوم من حديث أبي سعيد قال محمد: حدثنا جبارة بن المغلس، قال: حدّثنا مندل عن أبي سفيان نصر بن طريق، عن أبي نصرة، عن أبي سعيد، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ، فذكره بلفظه، وأخرجه الترمذي إلا أنه قال: ((ولا صلاة لمن لم يقرأ بالحمد وسورة في فريضة أو غيرها)) وفيه طريف بن شهاب السعدي، وعن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم : ((لا تجزي صلاة لا يقرأ فيها بفاتحة الكتاب)) أخرجه ابن خزيمة وابن حبان بإسناد صحيح، وأخرجه غيرهما كما في النيل.
قال: ولأ حمد: ((لا تقبل صلاة لا يقرأ فيها بأم القرآن)) وعن عبادة أن النبي أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال: ((لا تجزي الصلاة لا يقرأ الرجل فيها فاتحة الكتاب)) رواه الدارقطني، قال في المنتقى: وقال إسناده صحيح، وفي الروض أنه قال: وإسناده حسن، وقال في مواهب الغفار وفي رواية ابن عمر: ((لا تجزي المكتوبة إلا بفاتحة الكتاب وثلاث آيات فصاعداً)) أخرجه ابن عدي في الكامل.
وفي صحيح البخاري حدثنا علي بن عبد الله، حدثنا سفيان، قال: حدثنا الزهري، عن محمود بن الربيع، عن عبادة بن الصامت أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قال: ((لا صلاة لمن لم يقرأ بفاتحة الكتاب)).
علي بن عبد الله هو: المديني أجمع النقاد على توثيقه وحفظه حتى قال النسائي: كأن الله خلقه لهذا الشأن، خرج مع النفس الزكية ثم توارى أيام أبي جعفر، توفي سنة أربع وثلاثين ومائتين، عداده في ثقات محدثي الشيعة.
وسفيان هو: ابن عيينة أبو محمد الهلالي الكوفي، كان إماماً ثبتاً حجة عدلي المذهب، ذكره في الجداول وأثنى عليه أئمة الحديث، توفي سنة ثمان وتسعين، احتج به الجماعة، وروى له أئمتنا الأربعة والسيلقي في الأربعين والعلوي في كتاب حي على خير العمل، وله رواية في المناقب.
والزهري هو: محمد بن مسلم بن عبيد الله بن شهاب الزهري، احتج به الجماعة وأثنى عليه كثير من علماء الحديث، وأما المؤيد بالله عليه السلام فقال: هو في غاية السقوط لأنه كان أحد حرس خشبة زيد بن علي عليه السلام ، وجرى بينه وبين زين العابدين كلام أثنى فيه الزهري على معاوية، فقال له زين العابدين: كذبت يا زهري، وكان ملازماً لسلاطين بني أمية متزيئاً بزي جندهم.
وعنه حديث أخرجه عبد الرزاق إن صح أنه قاله لا على جهة الحكاية بل على جهة الرواية مع تجويزه لصحته، فلا شك في سقوط عدالته ولا أظن تلك الرواية تصح عنه، ولئن صحت فلعله حكاها مع جزمه ببطلانها، هذا وأما الإمام عز الدين عليه السلام فقال:على الزهري مدار كثير من رواية أصحابنا فلا ينبغي القدح في عدالته وإن كان مواصلاً للظلمة ومخالطاً لهم.
قال السيد العلامة (عبد الله بن الإمام الحسن) أبقاه الله: وهو قريب إلا إذا انفرد فاختار التوقف ما لم يكن له شاهد.
قلت: المعتبر صحة هذه القوادح، فإن صحت فلا ينبغي قبول روايته لأنها شاهدة على عدم إيمانه، لكن أهل التواريخ يزيدون وينقصون والإنصاف البحث والتفتيش عن حاله لكثرة مروياته، توفي سنة أربع وعشرين ومائة، روى له أئمتنا الأربعة والهادي في المنتخب والحاكم.
ومحمود بن الربيع بفتح الرا وكسر الباء الموحدة ابن سراقة الأنصاري الخزرجي المدني، عدوه في الصحابة لأنه أدرك النبي صلى الله عليه وآله وسلم وهو ابن خمس سنين، توفي سنة تسع وتسعين عن ثلاث وتسعين سنة، والحديث أخرجه مسلم بطرق مدارها على الزهري، وأخرجه أيضاً من حديث عبادة جماعة من المحدثين.
قال في (الدر المنثور): أخرج الشافعي في الأم وابن أبي شيبة في المصنف وأحمد في مسنده والبخاري ومسلم وأبو داود والترمذي والنسائي وابن ماجة والبيهقي في السنن عن عبادة بن الصامت أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قال: ((لا صلاة لمن لم يقرأ بفاتحة الكتاب)) ونسبه في المنتقى إلى الجماعة.
قال في (النيل): وزاد فيه مسلم وابن حبان لفظاً فصاعداً، لكن قال ابن حبان تفرد بها معمر عن الزهري، وأعلها البخاري في جزء القراءة.
وعن أبي هريرة أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم أمره أن يخرج فينادي: ((لا صلاة إلا بفاتحة الكتاب)) فما زاد. رواه أحمد وأبو داود، وفي إسناد أبي داود، جعفر بن ميمون.
قال (النسائي): ليس بثقة، وقال أحمد: ليس بالقوي، وقال ابن عدي: يكتب حديثه في الضعفاء وعن أبي سعيد الخدري قال: أمرنا رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أن نقرأ بفاتحة الكتاب وما تيسر. رواه في شرح التجريد مرسلاً، وأخرجه أبو داود، وصححه الحافظ في التلخيص وابن سيد الناس وقال: رجاله ثقات، وفي شرح التجريد قال: رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم في حديث رفاعة بن رافع للأعرابي: ((ثم اقرأ فاتحة الكتاب وما تيسر)) وفي النيل: أنه قد ورد في حديث المسيء عند أحمد وأبي داود وابن حبان بلفظ: ((ثم اقرأ بأم القرآن)).
وعن عبد الله بن عمر أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم خطب الناس فقال: ((من صلى صلاة مكتوبة أو سبحة فليقرأ بأم القرآن وقرآن معها فإن انتهى إلى أم القرآن فقد أجزأت عنه، ومن كان مع الإمام فليقرأ بأم القرآن قبله إذا سكت، ومن صلى صلاة لم يقرأ فيها بأم القرآن فهى خداج)) أخرجه البيهقي وصححه السيوطي، والأخبار في هذا المعنى كثيرة منها عن أنس عند مسلم والترمذي، وعن أبي قتادة عند أبي داود والنسائي، وعن عبد الله بن عمر عند ابن ماجة، وعن أبي سعيد عند أحمد وأبي داود وابن ماجة، وعن أبي الدرداء عند النسائي وابن ماجة، وعن جابر عند ابن ماجة ذكره في النيل، وقال في المنار: أحاديث لا صلاة إلا بفاتحة الكتاب لا يمنع ادعاء تواترها معنى لكثرة مواردها.
قلت: ومن أدلة وجوبها أحاديث قسمت الصلاة بيني وبين عبدي، واعلم أن دلالة هذه الأدلة على وجوب قراءة الفاتحة في الصلاة وتعيينها واضحة، وهي في وجه الاستدلال بها على أنواع:
أحدها: ما حكم فيه على الصلاة بالخداج إن لم يقرأ فيها بأم الكتاب، وقد عرفت أن الحكم عليها بذلك يقتضي فسادها وذلك هو معنى الوجوب.
الثاني: ما صرح فيه بنفي الإجزاء، والإجزاء لا يستعمل حقيقة إلا في الواجب ولا صارف له فما لم يجزئ فهو باطل.
الثالث: ما صرح فيه بنفي الحقيقة وأحكامها، وهو أحاديث: ((لا صلاة إلا بفاتحة الكتاب)) وبيان ذلك أن نقول النفي هنا متوجه إلى الذات إن أمكن انتفاؤها، وإلا توجه إلى ما هو أقرب إلى الذات وهو الصحة والإجزاء لا إلى الكمال للإجماع على أنه متى تعذر الحمل على الحقيقة وحصل مجازان أحدهما أقرب إلى الحقيقة فإنه يجب الحمل عليه، ولا شك أن نفي الصحة والإجزاء أقرب إلى نفي الحقيقة من نفي الكمال؛ لأن ما لا يصح كالعدم في عدم الفائدة بخلاف ما لا كمال فيه، فثبت أن الحمل على نفي الصحة متعين، ويؤيده حديث نفي الإجزاء، وبه يحصل المطلوب وينتفي ما قيل في الحديث من الإجمال، فإن قيل الصحة والإجزاء عرف متجدد لأهل الشرع فلا يحمل عليه خطاب الشارع.
قلنا: لانسلم بل هو عرف للشارع وقد صرح به في أحاديث نفي الإجزاء، قالوا: أثبتم اللغة بالترجيح، قلنا: ممنوع بل حملناه على ما هو المتعارف في الاستعمال لمثل هذا التركيب فهو من إلحاق المفرد المجهول بالأعم الغالب المعلوم، على أن أحاديث نفي الإجزاء تدفع هذا السؤال.
قالو: المخرج إلى التقدير تصحيح الكلام ونفي الكمال كاف فيه، وما قدر للحاجة وجب بقدرها؛ لأن الذات لم تنتف، ولأن الفساد إنما يكون لفوات شرط أو ركن معلومة شرطيته أو ركنيته، ولا كذلك ما نحن فيه للنزاع في كون القراءة ركناً.
قلنا: قد مر الإجماع على وجوب الحمل على أقرب المجازين، وهذا الإجماع رواه الرازي فبطل كون نفي الكمال كافياً سلمنا، فأحاديث نفي الإجزاء تعين ما ذكرنا، وأما قولهم: إن الفساد.. إلخ فجوابه: أن ركنية الفاتحة قد ثبتت بما مر وبما سيأتي، وهي مفيدة للعلم عند الإنصاف، والخلاف لا يصيرها ظنية، سلمنا فلا دليل على اشتراط القطع، وهذا كله على فرض عدم إمكان توجه النفي إلى الذات، وأما عند من يرى ذلك فلا حاجة إلى هذه التقديرات وهو قول جماعة من المحققين؛ إذ لا امتناع في نفي الذات وهي الحقيقه الشرعية، لأن ألفاظ الشارع محمولة على عرفه، لأنه بعث لتعريف الشرعيات لا لبيان الموضوعات اللغوية، والصلاة في الشرع اسم للصحيحة، ولا يستعمل في غيرها إلا مجازاً، فإذا فقد شرط صحتها انتفت، ولذا قالوا لا إجمال في مثل هذا التركيب إذا ورد فيما نقله عرف الشرع عن معناه الأصلي؛ لأنه وارد فيه، إما لبيان شرط كحديث: ((لا صلاة إلا بوضوء))، أو شطر كحديث: ((لا صلاة إلا بفاتحة الكتاب))، ومن المعلوم أن الماهية يمتنع حصولها مع عدم بعض أجزائها، وحينئذ فلا يحتاج إلى إضمار الصحة ولا الكمال، إذا لاضرورة تلجئ إلى ذلك.
وأجيب: بأنا لا نسلم أن الشرعي ليس إلا الصحيح، وأن إطلاق الصلاة على الفاسدة مجاز، فإن الشرعي هو الصورة المعينة والحالة المخصوصة صحت أم لا، لأنه يقال صلاة صحيحة، وصلاة فاسدة، وصلاة الجنب، وصلاة الحائض باطلة، والأصل في الاستعمال الحقيقة، فالقول بأنه مجاز في غير الصحيح يحتاج إلى دليل.
ورد بأن الدليل موجود وهو قوله صلى الله عليه وآله وسلم للمسيء صلاته: ((قم فصل فإنك لم تصل))، وما تقدم من أنه بعث لبيان الشرعيات، ولأن الأوامر في الصلاة وردت مطلقة، فلو كانت في عرفه تطلق على الفاسدة لقيد الأمر بالصحيحة، وأيضاً لوكانت حقيقة في الفاسدة للزم الاشتراك، والمجاز أولى منه، وعلاقته المشابهة في الصورة، وإلا لزم الخروج عن عهدة الأمر، لكونه قد أتى بحقيقة ماطلب منه، ولا قائل به، ولذا قيل يحمل على نفي الصحة، لأنه أقرب إلى نفي الذات الذي هو الحقيقي.
واعلم أنه قد مر في بعض ألفاظ الحديث: ((لا صلاة لمن لم يقرأ بفاتحة الكتاب)).
قال (الرازي): وعلى هذه الرواية فالنفي مادخل على الصلاة؛ وإنما دخل على حصولها لرجل؛ وهو عبارة عن انتفاعه بها وخروجه عن عهدة التكليف بها.
قال: وعلى هذا فيمكن إجراء حرف النفي على ظاهره.
قلت: وتحقيقه أن النفي متوجه إلى النسبة؛ لا إلى المفرد والخبر الذي هو متعلق الجار والمجرور؛ لايكون إلا إستقراراً عاماً تقديره هنا: حاصلة أوموجودة أو كائنة، وحينئذ يمكن إجراء النفي على ظاهره؛ لأن مالا يوجد فهو معدوم.
النوع الرابع: من أنواع الاستدلال بهذه الأخبار ما تضمنته من الأمر بقراءتها في الصلاة والأمر يقتضي الوجوب.
النوع الخامس: أن الله تعالى قد سماها صلاة كما في أحاديث التنصيف وذلك يقتضي تأكد وجوبها، وأنها أعظم أركان الصلاة كما في حديث: ((الحج عرفة)).
الوجه الثاني: مما احتج به الجمهور مواظبة النبي صلى الله عليه وآله وسلم على قراءة الفاتحة في الصلاة طول عمره.
قال (الرازي): وتواتر عنه ذلك، قالوا: الفعل بمجرده لا يفيد الوجوب.
قلنا: بل يفيده فيما واظب عليه، لا سيما ومن شأنه صلى الله عليه وآله وسلم أن يفعل الخلاف لبيان الجواز، فلما لم يروَ عنه الترك فيما نحن فيه وهو مما تعم به البلوى، بحيث لو ترك لنقل وجب الحكم بالوجوب اقتداءً برسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ولنا به أسوة حسنة، وقد قال اتبعوه ونحوها، ولأن أفعاله في الصلاة بيان لمجمل واجب فلا يخرج منها شيء عن الوجوب إلا بدليل، وقد قال صلى الله عليه وآله وسلم : ((صلوا كما رأيتموني أصلي))، وأيضاً قد تكرر الأمر بإقامة الصلاة في كتاب الله، واللام فيها للعهد إذ المراد للمعهود والسابق، وهي الصلاة التي أتى بها رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم والصلاة التي أتى بها مشتملة على الفاتحة، فيكون الأمر بإقامة الصلاة أمراً بقراءة الفاتحة.
الوجه الثالث: أن الخلفاء وسائر الصحابة واظبوا على قراءتها، وذلك معلوم عنهم، وقد مر في البسملة ما يدل على ذلك، ويؤيده ما رواه الرازي في تفسيره، وهو أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال: ((ألا أخبركم بسورة ليس في التوراة ولا في الإنجيل ولا في الزبورمثلها قالوا: نعم، قال: فما تقرأون في صلاتكم؟ قالوا: {الحمد لله رب العالمين}، قال: هي، هي))، وسيأتي له شاهد في الفضائل، وهو صريح في أن قراءة الفاتحة في الصلاة كانت مشهورة فيما بينهم، وهم قدوة الأمة والمعرفون بما جاء به معلم الشرع صلى الله عليه وآله وسلم ، وفي الحديث دلالة من وجه آخر وهو التقرير.
الوجه الرابع: أن ذلك مذهب أمير المؤمنين وإجماع أهل بيته من بعده، وذلك حجة كافية، احتجت الحنفية بقوله تعالى: {فَاقْرَأوا مَا تَيَسَّرَ}[المزمل:20] فأوجب القراءة على سبيل التخيير، ولو تعينت الفاتحة لكان من نسخ القطعي بالظني، وهو لا يجوز، ولذا تأولوا أحاديث: ((لاصلاة إلا بفاتحة الكتاب))، كما مر، وبمارواه البخاري قال: حدثنا محمد بن بشار، قال: حدثنا يحيى عن عبيد الله، قال: حدثني سعيد بن أبي سعيد، عن أبيه، عن أبي هريرة أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم دخل المسجد، فدخل رجل فصلى فسلم على النبي صلى الله عليه وآله وسلم فرد وقال: ((ارجع فصل فإنك لم تصل))، فرجع يصلي كما صلى، ثم جاء فسلم على النبي صلى الله عليه وآله وسلم فقال: ((ارجع فصل فإنك لم تصل ثلاثاً))، فقال: والذي بعثك بالحق ما أحسن غيره فعلمني، فقال: ((إذا قمت إلى الصلاة فكبر، ثم اقرأ ماتيسر معك من القرآن، ثم اركع حتى تطمئن راكعاً، ثم ارفع حتى تعتدل قائماً، ثم اسجد حتى تطمئن ساجداً، ثم ارفع حتى تطمئن جالساً، وافعل ذلك في صلاتك كلها)).
محمد بن بشار العبدي مولاهم، أخذ عنه الجماعة، قال العجلي: ثقة، كثير الحديث، توفي سنة اثنين وخمسين ومائة، روى له المرشد بالله.
ويحيى هو: ابن سعيد القطان، عالم مشهور.
وعبيد الله هو: ابن عمر بن حفص بن عاصم بن عمر بن الخطاب العمري المدني أبو عثمان، وثقه يحيى وأبو زرعة والنسائي، توفي سنة سبع وأربعين ومائة. احتج به الجماعة، وروى له أئمتنا الخمسة.
وسعيد بن أبي سعيد هو: المقبري.
والحديث أخرجه مسلم عن محمد بن المثنى، عن يحيى بن سعيد بسنده ومتنه، وله طريق أخرى عند مسلم، وللحديث طرق سنشير إلى بعضها عند الكلام على الاستدلال به.
واحتجوا أيضاً بحديث أبي سعيد مرفوعاً: ((لاصلاة إلا بفاتحة الكتاب))، وغيرها، وحديث أبي هريرة عند أبي داود: ((لاصلاة إلا بقرآن ولو بفاتحة الكتاب))، ومن جهة النظر أن الفاتحة لو كانت واجبة لوجب تعلمها، واللازم باطل فالملزوم مثله، دليله ما في حديث المسيء صلاته بلفظ: ((فإن كان معك قرآن وإلا فاحمد الله وكبره وهلله)). عند النسائي، وأبي داود، والترمذي.
والجواب: أما الآية فالجواب عنها من وجوه:
أحدها: أنها ليست نصاً في القراءة في الصلاة، كما تقدمت الإشارة إلى ذلك، ولذا اختلفوا هل الأمر فيها للندب أم للوجوب، وهل أراد الصلاة أم التلاوة، وعلى القول بأنه أراد التلاوة.
اختلفوا في المتيسر، فقيل: القرآن كله لأنه يسير لقوله تعالى: {وَلَقَدْ يَسَّرْنَا الْقُرْآنَ لِلذِّكْرِ}[القمر:17]، وقيل: ثلثه، وقيل غير ذلك كما سيأتي في محله، وعلى القول بأنه أراد الصلاة، فالمقصود بها صلاة الليل.
قال (جار الله): وهذا ناسخ للأول يعني قوله: {قُمِ اللَّيْلَ إِلاَّ قَلِيلاً}[المزمل:2]، قال: ثم نسخا جميعاً بالصلوات الخمس.
قلت: ومنه تعلم أن الأمر فيها وإن كان للوجوب فقد نسخ، وعلى هذه الاحتمالات والخلاف فلا تنتهض للاحتجاج بها، ولا تصلح لمعارضة تلك الأدلة الصريحة.
الوجه الثاني: أنا وإن سلمنا أنها واردة في القراءة في المكتوبة، كما هو ظاهر كلام الهادي عليه السلام في الأحكام، فلا نسلم أن المراد منها ما ذكرتم من التخيير بين قراءة الفاتحة أو غيرها، بل في الآية احتمالات كلها يصح معها قولنا، وتسلم الأدلة من التنافي والتعارض.
منها: ما ذكره المؤيد بالله وغيره من أن التخيير في الآية عام للفاتحة وغيرها، خصصنا الفاتحة بالتعيين لتلك الأحاديث، وبقي التخيير فيما زاد عليها، ويشهد لصحة هذا التأويل قوله في بعض الأحاديث وما تيسر بعد الأمر بقراءة الفاتحة، وعلى هذا يكون معنى الآية والخبر اقرأوا ما تيسر من القرآن وفاتحة الكتاب، ومنها: أن الآية مجملة مبينة بالسنة، وسميت قراءة الفاتحة متيسرة؛ لأن هذه السورة محفوظة ومتيسرة للمكلفين، ويشهد له أنه قد ورد في حديث المسيء: ((ثم اقرأ بما تيسر))، وفي بعض ألفاظه: ((ثم اقرأ بأم القرآن))، فأطلق المتيسر على الفاتحة، ومنها: أنها واردة فيمن لا يحسن قراءة الفاتحة كما قيل في حديث المسيء، وفي هذه الاحتمالات جمع بين الأدلة، ودفع لدعوى لزوم نسخ القطعي بالظني.
الثالث: أنه لو فرض ثبوت دعوى النسخ فلا نسلم أنه من نسخ القطعي بالظني، فإن أحاديث الفاتحة متواترة معنى لمن بحث سلمنا، فالآحاد إذا اعتضد بقرينة تصدقه أفاد القطع، كما قيل في استدارة من كان في قباء إلى الكعبة بخبر الواحد، وهذا قد اعتضد بإجماع العترة وغيره، سلمنا فالمسألة صحيحة على أصل متأخري الحنفية، لأنهم يجوزون نسخ الكتاب بالخبر المشهور، وهذه الأخبار مشهورة، ولذا عدلوا إلى تأويلها، وأما حديث المسيء فمحمول على أحد الاحتمالات في الوجه الثاني من جواب الآية، والظاهر أنه وارد فيمن لا يحسن القراءة، لقوله في بعض رواياته: ((فإن كان معك قرآن...)) الخبر، وقرينة الحال والمقام تقوي ذلك.
قال في (الروض): فإذا جمع بين ألفاظ الحديث كان تعيين الفاتحة هو الأصل لمن معه قرآن، فإن عجز عن تعلمها وكان معه شيء من القرآن، قرأ ما تيسر وإلا انتقل إلى غيره من الذكر.
وقيل: إن ذلك منسوخ بأحاديث تعيين الفاتحة.
نعم وما ذكرناه من أن الحديث يحتمل الاحتمالات السابقة فإنما هو على القول بأن حديث المسيء يصرف ما ورد في غيره من الأدلة المقتضية لفرضية شيء مما تشتمل عليه الصلاة، وأما على القول بوجوب الأخذ بالزائد فالزائد فلا إشكال في تحتم المصير إلى وجوب ما اقتضى الدليل وجوبه، وإن لم يذكر في حديث المسيء.
وأما حديث أبي سعيد فقال ابن سيد الناس: لا يدري بهذا اللفظ من أين جاء، والذي صح من طريقه خلافه وقد مر، وأما حديث أبي هريرة ففي إسناده جعفر بن ميمون، وقد مر أنه ليس بثقة، وقد رواه سفيان بن سعيد الثوري وهو إمام، فقال في متنه: إلا بفاتحة الكتاب فما زاد.
قال (ابن معين): وليس أحد يخالف سفيان الثوري -يعني في الحديث- إلا كان القول قول سفيان.
قلت: والحديث قد مر من رواية جعفر بلفظ: ((إلا بفاتحة الكتاب فما زاد)).
قال في (الروض): قد رواه يحيى بن سعيد القطان وهو من الحفظ والإتقان بالمكان الذي لا يخفى على أهل العلم، عن جعفر بن ميمون، عن أبي عثمان النهدي، عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم : ((بقراءة فاتحة الكتاب فما زاد)).
قال (الشوكاني): وليست الرواية الأولى بأولى من هذه، وأيضاً أين تقع هذه الرواية على فرض صحتها بجنب الأحاديث المصرحة بفرضية فاتحة الكتاب وعدم إجزاء الصلاة بدونها، وأما قولهم لو وجبت لوجب تعلمها.
فقال (الشوكاني): هذا ملتزم فإن أحاديث فرضيتها يستلزم وجوب تعلمها، لأن ما لايتم الواجب إلا به واجب كما تقرر في الأصول، وما في حديث المسيء لايدل على بطلان اللازم؛ لأن ذلك فرضه حين لا قرآن معه، على أنه يمكن تقييده بعدم الاستطاعة لتعلم القرآن كما في حديث ابن أبي أوفى عند أبي داود والنسائي وأحمد وابن الجارود وابن حبان والحاكم والدار قطني: أن رجلاً جاء إلى النبي صلى الله عليه وآله وسلم فقال: إني لا أستطيع أن آخذ من القرآن شيئاً فعلمني ما يجزيني في صلاتي، فقال: ((قل سبحان الله والحمدلله ولا إله إلا الله والله أكبر ولا حول ولا قوة إلا بالله)).
ولا شك أن غير المستطيع لا يكلف لأن الاستطاعة شرط في التكليف، فالعدول هاهنا إلى البدل عند تعذر المبدل غير قادح في فرضيته أو شرطيته.
قلت: وهو جواب حسن، وسيأتي زيادة تحقيق في وجوب تعلم مالا تتم الصلاة إلا به.
ومن أدلة الحنفية ما في حديث ابن عباس عند ابن ماجة في ذكر إمامة أبي بكر ومجيء النبي صلى الله عليه وآله وسلم ، قال: وأخذ رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم في القراءة من حيث بلغ أبو بكر، قالوا: فلو تعينت الفاتحة لابتدأ بها النبي صلى الله عليه وآله وسلم .
وأجيب بأنه لا مانع من قراءته للفاتحة بكمالها في غير هذه الركعة التي أدرك أبابكر فيها؛ لأن النزاع إنما هو في وجوب الفاتحة في جملة الصلاة لا في وجوبها في كل ركعة، نعم، يصلح هذا الاحتجاج به على عدم وجوبها في كل ركعة.
فائدة [في ذكر الصحيح من مذهب الحنفية في قراءة الفاتحة]
ما ذكرناه عن الحنفية من عدم وجوب الفاتحة هو المشهور عنهم.
قال (الشوكاني): والصواب ما قاله الحافظ أن الحنفية يقولون بوجوب قراءة الفاتحة، لكن بنوا على قاعدتهم أنها مع الوجوب ليست شرطاً في صحة الصلاة لأن وجوبها إنما يثبت بالسنة، والذي لا تتم الصلاة إلا به فرض، والفرض لا يثبت عندهم بما يزيد على القرآن، وقد قال [الله] تعالى: {فَاقْرَءُوا مَا تَيَسَّرَ مِنْهُ}[المزمل:20].
فالفرض قراءة ما تيسر، وتعيين الفاتحة إنما يثبت بالحديث فيكون واجباً يأثم من يتركه وتجزي الصلاة بدونه.
قال: وهذا تعويل على رأي فاسد، حاصله رد كثير من السنة المطهرة بلا برهان ولاحجة نيرة، فكم موطن من المواطن يقول فيه الشارع: لا يجزي كذا، لا يقبل كذا، لايصح كذا.
ويقول المتمسكون: بهذا الرأي يجزي ويقبل ويصح، ولمثل هذا حذر السلف من أهل الرأي، ذكره في النيل.
قلت: وقد حكى الرازي: إجماع الأمة على أن قراءة الفاتحة أولى من غيرها وإن اختلفوا في الوجوب، وحكى تسليم أبي حنيفة أن الصلاة بدون الفاتحة (خداج) ناقص، وجعل هذا أحد الوجوه المقتضية للوجوب؛ لأن الآية على ما يزعمه الحنفية يقتضي التخيير وهو باطل إذ لا تخيير بين الكامل والناقص، فتعين أن يكون المراد بالمتيسر الفاتحة.
واحتج الرازي علىالوجوب بأن قراءة الفاتحة أحوط للإجماع على صحة قراءتها، وقد قال تعالى: {فَبَشِّرْ عِبَاد، الَّذِينَ يَسْتَمِعُونَ الْقَوْلَ فَيَتَّبِعُونَ أَحْسَنَهُ}[الزمر:18].
واحتج أيضاً بأن الأمة مجمعة على العمل، وهي أنك لا ترى مسلماً إلا وهو يقرأ الفاتحة في الصلاة، فالتارك لها تارك لسبيل المؤمنين فيدخل تحت قوله تعالى:{ وَيَتَّبِعْ غَيْرَ سَبِيلِ الْمُؤْمِنِينَ...} [النساء:115 ]الآية، فإن قيل إنهم لم يجمعوا على اعتقاد وجوبها، قلنا: عمل القلب غير عمل الجوارح فمن لم يأت بها فهو تارك لسبيل المؤمنين فيدخل تحت الوعيد، وهو احتجاج ضعيف فالحق إثبات وجوب الفاتحة بالأدلة السابقة وهي صحيحة صريحة.
تنبيه [في ذكر الزيادة من القرآن على الفاتحة في الصلاة]
في بعض الأحاديث السابقة ما يدل على وجوب الزيادة على الفاتحة، وفي ذلك خلاف، فذهب إلى الوجوب القاسم والهادي والمؤيد بالله، وهو مروي عن عمر وابنه عبدالله وعثمان بن أبي العاص، واختاره السيد هاشم والشوكاني.
وقال (القرطبي): قد أبى كثير من أهل العلم ترك السورة لضرورة أو لغير ضرورة منهم: عمران بن الحصين وأبو سعيد الخدري وخوات بن جبير ومجاهد وأبو وائل وابن عمر وابن عباس وغيرهم، قالوا: لا صلاة لمن لم يقرأ فيها بفاتحة الكتاب وشيء معها من القرآن.
وفي (شرح صحيح مسلم) (للنووي): أن القاضي عياض حكى عن بعض أصحاب مالك وجوب السورة، وحكى القرطبي لمذهب مالك في قراءة السورة ثلاثة أقوال: سنة، فضيلة، واجبة، وذهب الشافعي وغيره إلى عدم الوجوب، ورواه القرطبي عن الجمهور.
احتج الأولون بما مر وهي صريحة في وجوب الزيادة وبما علم من ملازمة النبي صلى الله عليه وآله وسلم لقراءة شيء من القرآن عقيب الفاتحة في ركعتي الفجر والأوليين مما عداهما، ونحن نأتي ببعض ما روي من ذلك، فنقول: روى الأمير الحسين في الشفاء عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم ((أنه كان يقرأ في الصلاة بفاتحة الكتاب وسورة)).
وفي (صحيح مسلم): حدثنا شيبان بن فروخ، حدثنا أبو عوانة، عن منصور، عن الوليد بن مسلم أبي بشر، عن أبي الصديق الناجي، عن أبي سعيد الخدري أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم كان يقرأ في صلاة الظهر في الركعتين الأوليين في كل ركعة قدر ثلاثين آية، وفي الأخريين قدر خمس عشرة آية، وقال: نصف ذلك، وفي العصر في الركعتين الأوليين في كل ركعة قدر قراءة خمس عشرة آية، وفي الأخريين قدر نصف ذلك.
شيبان بن فروخ: أبو محمد الحنظلي، وثقه أحمد، توفي سنة خمس أوست وثلاثين ومائتين، روى له جماعة منهم: مسلم، وأبوداود، ومن الأئمة: أبو طالب، والمرشد بالله.
وأبو عوانة هو: الوضاح بن عبدالله اليشكري الواسطي. قال أحمد وعفان: صحيح الكتاب، وتكلم فيه بعضهم، توفي سنة ست وسبعين ومائة، احتج به الجماعة، وروى له أئمتنا الأربعة.
ومنصور هو: ابن المعتمر.
والوليد فليس هو الوليد بن مسلم الدمشقي أبو العباس الأموي صاحب الأوزاعي بل هو الوليد بن مسلم العنبري المصري، أبو بشر التابعي.
ذكره النووي ولم يذكره في الجداول فيبحث عنه، وأبو الصديق الناجي اسمه بكر بن عمرو، وقيل: ابن قيس منسوب إلى ناجيه قبيل البصري، وثقه ابن معين وأبو زرعة، توفي سنة ثمان ومائة، احتج به الجماعة وروى له أبو طالب، والسمان.
والحديث أخرجه أحمد، وفي صحيح البخاري: حدثنا المكي بن إبراهيم، عن هشام الدستوائي، عن يحيى بن أبي كثير، عن عبدالله بن أبي قتادة، عن أبيه قال: كان النبي صلى الله عليه وآله وسلم يقرأ في الركعتين من الظهر والعصر بفاتحة الكتاب وسورة سورة ويسمعنا الآية أحياناً.
مكي هو: ابن إبراهيم بن بشير بن فرقد التيمي الحنظلي البلخي أبو السكن، وثقه الدارقطني وابن سعد، توفي سنة خمس وعشرين ومائتين، روى له من الأئمة: الموفق بالله.
وهشام هو: ابن عبدالله الدستوائي. قال الطيالسي: أمير المؤمنين في الحديث، وبالغ في الثناء عليه العجلي وابن سعد وأحمد وعده في الشافي من العدلية، احتج به الجماعة، وروى له المؤيد بالله.
ويحيى بن أبي كثير بالمثلثة، أبو نصر الطائي مولاهم اليامي، وثقه أبو حاتم، وقال شعبة: هو أحسن حديثاً من الزهري، وقال أحمد: إذا خالفه الزهري فالقول قول يحيى، توفي سنة عشرين ومائة، احتج به الجماعة، وروى له أئمتنا الخمسة.
وعبد الله بن أبي قتادة من مشاهير التابعين وثقاتهم، وثقه النسائي، توفي سنة خمس وتسعين. احتج به الجماعة وروى له أئمتنا الثلاثة، والحديث رواه مسلم.
قال: حدثنا: أبو بكر بن أبي شيبة، حدثنا يزيد بن هارون، أخبرنا همام وأبان بن يزيد، عن يحيى بن أبي كثير، فذكره بسنده ومتنه إلا أنه قال: في الركعتين الأوليين من الظهر والعصر، وزاد فيه: ويقرأ في الركعتين الأخريين بفاتحة الكتاب.
وأبان هو: ابن يزيد العطار أحد الأثبات المشاهير، عده في الشافي من رجال العدلية.
وقال (أحمد): ثبت في جميع المشائخ، وقال ابن معين والنسائي: ثقة، احتج به الستة إلا ابن ماجة، توفي بعد الستين، وروى له محمد بن منصور والمؤيد بالله.
وفي صحيح البخاري: حدثنا أبو نعيم، قال: حدثنا شيبان، عن يحيى، عن عبدالله بن أبي قتادة، عن أبيه قال: كان النبي صلى الله عليه وآله وسلم يقرأ في الركعتين الأوليين من صلاة الظهر بفاتحة الكتاب وسورتين، يطول في الأولى ويقصر في الثانية، ويسمع الآية أحياناً، وكان يقرأ في العصر بفاتحة الكتاب وسورتين، وكان يطول في الأولى، وكان يطول في قراءة الركعة الأولى من صلاة الصبح ويقصر في الثانية.
أبو نعيم هو: الفضل بن دكين الكوفي، الأحول، الحافظ، أثنى عليه غير واحد، ووثقوه، توفي سنة سبع عشرة ومائة، عداده في الزيدية وثقات محدثي الشيعة، احتج به الجماعة، وروى له أئمتنا الأربعة، وصاحب المحيط.
وشيبان هو: ابن عبد الرحمن النحوي المؤدب.
قال (أحمد): ثبت في كل المشائخ، ووثقه ابن سعد، توفي سنة أربع وستين ومائة، احتج به الجماعة، وروى له الثلاثة، وما في أمالي المرشد بالله شيبان عن أشعث، وكذلك عن منصور فهو بهذا، وما عند السيدين (م) و(ط) شيبان عن الحسن وقتادة فهو هذا، نبه عليه في الجداول.
ويحيى هو: ابن أبي كثير، والحديث رواه مسلم.
قال: حدثنا محمد بن المثنى العنزي، حدثنا ابن أبي عدي، عن الحجاج، عن الصواف، عن يحيى... فذكره.
ابن المثنى هو: محمد بن المثنى بن عبيد بن قيس العنزي -بفتح العين والنون- أبو حسين الزمن المصري الحافظ، أخذ عنه البخاري والجماعة، قال محمد بن يحيى: حجة، وقال أبو حاتم: صالح الحديث صدوق، توفي سنة اثنتين وخمسين ومائتين، روى له المرشد الله وابن أبي عدي.
قال في (الجداول) هو: محمد بن إبراهيم بن أبي عدي المسلمي مولاهم، ثم قال وثقه أبو حاتم والنسائي، توفي سنة اثنتين وثمانين ومائة، احتج به النسائي.
قلت: ومن أصحابنا السيلقي والحجاج، قال في الجداول: حجاج الصواف هو: ابن أبي عثمان الكندي مولاهم أبو الصلت إلى أن قال: وثقه أحمد وابن معين. توفي سنة ثلاث وأربعين ومائة. احتج به الجماعة.
قلت: وروى له محمد بن منصور أخرجه أبو داود، وزاد قال: فظننا أنه يريد بذلك أن يدرك الناس الركعة الأولى، وأخرجه النسائي وابن ماجة، وعن سليمان بن يسارعن أبي هريرة أنه قال: ما رأيت رجلاً أشبه صلاة برسول الله صلى الله عليه وآله وسلم من فلان لإمام كان بالمدينة.
قال (سليمان): فصليت خلفه فكان يطيل الأوليين من الظهر ويخفف الأخريين ويخفف العصر ويقرأ في الأوليين من المغرب بقصار المفصل، ويقرأ في الأوليين من العشاء من وسط المفصل ويقرأ في الغداة بطوال المفصل، أخرجه أحمد والنسائي.
قال في (الفتح): صححه ابن خزيمة وغيره، وقال في بلوغ المرام: إسناده صحيح، والحديث محمول على ما مر من أنه كان يطول في الأولىمن الظهر أكثر من تطويله في الثانية، وإنما وصفت الثانية بالتطويل بالنسبة إلى غيرها، وأما تخفيف العصر فبالنسبة إلى الظهر، وأما الجزم بالمواظبة من النبي صلى الله عليه وآله وسلم المستفاد من تشبيه صلاة هذا الإمام بصلاته صلى الله عليه وآله وسلم فيعارضه ما سيأتي من التطويل فيها، وقد حمل بعضهم العموم المستفاد من لفظ كان على الغالب لثبوت قراءته للسور الطوال والقصار في الصلوات كلها.
قلت: ويمكن أن يكون الإمام المذكور مروان بن الحكم فإنه الذي كان يواظب على قراءة قصارالمفصل بالمغرب.
وأبو هريرة كان من المتصنعين إلى بني أمية، وقد تولى من جهتهم المدينة، وقد أنكر زيد بن ثابت على مروان.
وفي (صحيح البخاري): حدثنا أبو النعمان، قال حدثنا: أبو عوانة عن عبد الملك بن عمير، عن جابر بن سمرة، قال: قال سعد: كنت أصلي بهم صلاة رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم صلاتي العشي لا أخرم عنها كنت أركد في الأوليين وأحذف في الأخريين، فقال عمر: ذلك الظن بك. قوله صلاتي العشي تنثية صلاة، والعشي بفتح العين وكسر الشين المعجمة: الظهر والعصر.
وفي رواية للبخاري من طريق موسى بن إسماعيل المنقري أي التبوذكي عن أبي عوانة بالسند المذكور صلى صلاة العشاء وهي هكذا عند ابن عساكر، وأخرم بهمزة مفتوحة ثم خاء معجمة ثم راء مهملة مكسورة أي: لا أنقص، وأركد بضم الكاف أي: أطول القيام حتى تنقضي القراءة، قوله وأحذف في الأخريين: المراد به التخفيف بترك ما زاد على الفاتحة أو كونه دون ما في الأوليين، وليس المراد به ترك القراءة لما في رواية موسى من قوله وأخف موضع وأحذف.
أبو النعمان هو: محمد بن الفضل السدوسي البصري الملقب بعارم، وثقه الدارقطني، وقيل: تغير بآخر عمره. توفي سنة أربع وعشرين ومائتين، احتج به الجماعة، وروى له المرشد بالله.
وعبد الملك بن عمير هو: عبد الملك بن عمير مصغراً ابن سويد أبو عمرو الكوفي الفرسي بفتح الفاء والراء ثم مهملة نسبة إلى فرس له سابق.
قال (النسائي): ليس به بأس، وقال أحمد: مضطرب الحديث، وقال ابن خراش: كان شعبة لايرضاه.
وقال الباقر عليه السلام : كان شرطياً على رأس الحجاج عاملاً لبني أمية.
وروى المرشد بالله عليه السلام أنه جهز على عبد الله بن بقطر بالباء الموحدة والقاف رضيع الحسين بن علي عليه السلام واحتز رأسه بالكوفة، وحكى أيضاًِأنه كان يمر بأصحاب علي عليه السلام وهم جرحى فيقتلهم، فعوتب في ذلك، فقال: إنما أردت أريحهم، وقال بعضهم: هو مجهول عند أهل الحديث.
وقال (أبو طالب): كان من أعوان بني أمية رأى الوصي، وعاش مائة وثلاثين سنة، توفي سنة ست وثلاثين ومائة أونحوها.
قال (علامة العصر): هو راوي حديث: ((اقتدوا باللذين من بعدي أبي بكر وعمر))، احتج به الجماعة، وذب عنه الذهبي، وروى له من الأئمة أبو طالب والمرشد بالله، والحديث أخرجه أبو داود والنسائي وهو في صحيح مسلم.
قال: حدثنا يحيى بن يحيى، أخبرنا هشيم، عن عبد الملك بن عمير، عن جابر بن سمرة أن أهل الكوفة شكوا سعداً إلى عمر بن الخطاب، فذكروا من صلاته فأرسل إليه عمر فقدم عليه، فذكر له ما عابوه به من أمر الصلاة، فقال: إني لأصلي بهم صلاة رسوالله صلى الله عليه وآله وسلم ما أخرم عنها، إني لأركد بهم في الأوليين وأحذف في الأخريين، فقال: ذلك الظن بك يا أبا إسحاق.
وله طريق أخرى عن قتيبة بن سعيد، وإسحاق بن إبراهيم، عن جرير، عن عبد الملك، وقتيبة: هو ابن سعيد الثقفي مولاهم أبو رجاء العطاري البعلي البلخي، أخذ عن جماعة منهم النفس الزكية، وعنه الجماعة، لكن ابن ماجة بواسطة، وثقه ابن معين وأبو حاتم والحاكم، توفي سنة أربعين ومائتين.
روى له من الأئمة محمد بن منصور وأبو طالب والمرشد والسيلقي في الأربعين وأبو الغنائم النرسي في الأربعين الفقهية، ورواه مسلم من غير طريق عبد الملك فقال: حدثنا محمد بن مثنى، حدثنا عبد الرحمن بن مهدي، حدثنا شعبة، عن ابن عون قال: سمعت جابر بن سمرة، قال: قال عمر لسعد: قد شكوك في كل شيء حتى في الصلاة، قال: أما أنا فأمد في الأوليين وأحذف في الأخريين، وما آلوا ما اقتديت به من صلاة رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فقال: ذاك الظن بك أو ذاك ظني بك.
وحدثنا أبو كريب، حدثنا ابن بشر، عن مسعر، عن عبد الملك وأبي عون، عن جابر بن سمرة بمعنى حديثهم وزاد: فقال تعلمني الأعراب بالصلاة.
عبد الرحمن: هو ابن مهدي بن غسان الأزدي مولاهم أبو سعيد البصري اللؤلوئي، وثقه ابن المديني وأحمد وأبو حاتم والنسائي، وابن سعد وعده في الشافي من العدلية، توفي سنة ثمان وتسعين ومائة. احتج به الجماعة، وروى له أئمتنا الخمسة.
وشعبة بن الحجاج بن الورد العتكي الأزدي مولاهم أبو بسطام الواسطي، وثقه العجلي وابن سعد.
وقال (ابن معين): إمام المتقين، وقال الحاكم: إمام الأئمة، وقال الثوري: أمير المؤمنين في الحديث، عداده في ثقات محدثي الشيعة.
قال (شعبة) وقد سئل عن الخروج مع النفس الرضية: أتسألني عن الخروج مع ابن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم والله لهي بدر الصغرى.
توفي سنة ست وستين ومائة، روى له أئمتنا الخمسة والسيلقي ومن المحدثين جماعة.
وأبو عون الثقفي محمد بن عبد الله بن سعيد الكوفي، توفي أيام خالد القسري.
احتج به جماعة إلا ابن ماجة، وروى له محمد بن منصور، وفي صحيح مسلم أيضاً: حدثنا داود بن رشيد، حدثنا الوليد يعني بن مسلم عن سعيد وهو ابن عبد العزيز، عن عطية بن قيس، عن قزعة، عن أبي سعيد الخدري قال: لقد كانت صلاة الظهر تقام فيذهب الذاهب إلى البقيع فيقضي حاجته ثم يتوضأ ثم يأتي رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم بالركعة الأولى مما يطولها.
وحدثني محمد بن حاتم، قال: حدثنا عبد الرحمن بن مهدي، عن معاوية بن صالح، عن ربيعة، قال: حدثني قزعة، قال: أتيت أبا سعيد الخدري وهو مكثور عليه فلما تفرق الناس عنه قلت: إني لأسألك عما سألك هؤلاء عنه، قلت: أسألك عن صلاة رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ، فقال: مالك في ذلك من خير فأعادها عليه، فقال: كانت صلاة الظهر تقام فينطلق أحدنا إلى البقيع فيقضي حاجته ثم يأتي أهله فيتوضأ ثم يرجع إلى المسجد ورسول الله صلى الله عليه وآله وسلم في الركعة الأولى.
قال (النووي): قوله مكثور عليه أي: عنده ناس كثيرون للاستفادة منه، وقوله مالك في ذلك من خير معناه: أنك لا تستطيع الإتيان بمثلها لطولها وكمال خشوعها، وإن تكلفت ذلك شق عليك ولم تحصله فتكون قد علمت السنة وتركتها.
داود: هو ابن رشيد مصغراً الهاشمي بالولاء الخوارزمي، وثقه الدارقطني، توفي سنة تسع وثلاثين ومائتين.
احتج به الجماعة إلا الترمذي، وروى له أبو طالب والمرشد بالله ووالده الموفق.
والوليد هو صاحب الأوزاعي قاله النووي، وهو الوليد بن مسلم الأموي مولاهم أبو العباس الدمشقي، وثقه ابن سعد وابن عدي والعجلي ويعقوب، وأثنى عليه أحمد وابن المديني.
وقال في (التذكرة): لا نزاع في علمه وحفظه، وإنما الرجل يدلس فلا يحتج به إلا إذا صرح بالسماع، توفي سنة خمس وتسعين ومائة، احتج به الجماعة، وروى له أئمتنا الخمسة وسعيد.
قال في الجداول: سعيد بن عبد العزيز بن يحيى التنوخي أبو محمد الدمشقي، وثقه ابن معين وأبو حاتم والنسائي، توفي سنة سبع وستين ومائة، احتج به مسلم والأربعة، وروى له أبو طالب.
وعطية بن قيس لم يترجم له في الجداول.
وقزعة بفتح الزاي وإسكانها، قال في الجداول: قزعة بن يحيى البصري، ويقال ابن الأسود عن ابن عمر وأبي سعيد وثقه العجلي، وقال ابن خراش: صدوق.
احتج به الجماعة، وروى له أبو طالب والمرشد، فهذه الأخبار وما في معناها تفيد ثبوت ملازمته صلى الله عليه وآله وسلم لقراءة شيء من القرآن عقيب الفاتحة في المكتوبة، وقد روي عنه صلى الله عليه وآله وسلم قراءة سورة مخصوصة في المكتوبات، وسيأتي ذكر ذلك في فضائل السور، وبيان من رواه من أئمتنا والمحدثين بحيث يتحصل من مجموع ذلك العلم بأنه كان لا يكتفي بقراءة الفاتحة في مكتوبة، لا سيما وفي بعض الروايات لفظ كان الذي يستفاد منه الدوام والاستمرار، وأنت خبير بأنه يجب حمل ماصدر عنه صلى الله عليه وآله وسلم من الأفعال وغيرها في الصلاة على الوجوب ما لم يصرفه عنه صارف صحيح؛ لأن أفعاله فيها بيان لمجمل واجب كقوله تعالى: {أَقِيمُوا الصَّلاَةَ}[النساء:77]، ولقوله صلى الله عليه وآله وسلم : ((صلوا كما رأيتموني أصلي))، ولا خلاف أنما كان بياناً لمجمل، فإن حكمه حكم المبين في الوجوب وغيره، وأيضاً فإن أدلة وجوب الاتباع والتأسي لم تفصل في وجوب التأسي به صلى الله عليه وآله وسلم بين فعل وفعل، على أن العلامة المقبلي قد نص على أن قولهم لا يحتج بمطلق الفعل لا يصدق على ما حوفظ عليه، سيما وقد كان من شأنه صلى الله عليه وآله وسلم أن يفعل الخلاف لبيان الجواز، ذكره في المنار.
ولنتبرك هنا بتعداد ما وقفنا عليه حال تحرير هذا من ذكر السور التي كان يقرأ بها في الفرائض تقريباً لمن أراد الاقتداء بنبيه صلى الله عليه وآله وسلم فيها، وتحقيقاً لما ادعيناه من ثبوت العلم بزيادته صلى الله عليه وآله وسلم قرآناً مع الفاتحة، ولنأت بها مجردة عن ذكر الرواة والمخرجين اكتفاء بما سيأتي في مواضعة إن شاء الله تعالى، فمن ذلك ما روي أنه صلى الله عليه وآله وسلم كان يقرأ في صلاة الفجر بسورة {ق}، وسورة الروم، وإذا الشمس كورت، وإذا زلزلت والمعوذتين، وبالمؤمنين حتى بلغ ذكر موسى وهارون في الركعة الأولى، وكان يصليها يوم الجمعة بـ الم السجدة وسورة هل أتى، وقرأ في صلاة الظهر سبح اسم ربك الأعلى والليل إذا يغشى، والسماء ذات البروج، والسماء والطارق، وقرأ في المغرب الأعراف في الركعتين، وقرأ فيها الطور والمرسلات والصافات، وحم الدخان، وسبح اسم ربك الأعلى، والتين والزيتون والمعوذتين وقصار المفصل، وقرأ في العشاء الآخرة بالتين، ووقت لمعاذ بالشمس وسبح اسم ربك الأعلى والليل إذا يغشى ونحوها، وكان يقرأ في الجمعة بسورة الجمعة والمنافقين، وسبح والغاشية، وفي الأعياد بسورة ق واقتربت، وسبح والغاشية.
فهذا ما وقفنا عليه في الحال والمراد بقولنا: كان يقرأ في صلاة كذا بسورة كذا وكذا، أنه تارة يقرأ هذه، وتارة هذه لا أنه يجمع بينهما في ركعة.
احتج القائلون بعدم وجوب الزيادة على الفاتحة بما في صحيح البخاري قال حدثنا: مسدد، قال: حدثنا إسماعيل بن إبراهيم، قال: أخبرنا ابن جريج، قال: أخبرني عطاء أنه سمع أباهريرة يقول في كل صلاة يقرأ: فما أسمعنا رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أسمعناكم، وما أخفاه عنا أخفيناه عنكم، وإن لم تزد على أم القرآن أجزأت وإن زدت فهو خير.
وأخرجه مسلم من هذه الطريق، قال: حدثنا عمرو الناقد وزهير بن حرب واللفظ لعمرو، قالا: حدثنا إسماعيل بن إبراهيم فذكره بسنده، إلا أنه قال بعد قوله وما أخفى منا أخفينا منكم، فقال له رجل: إن لم أزد على أم القرآن، فقال: إن زدت عليها فهو خير وإن انتهيت إليها أجزأت عنك.
مسدد هو: ابن مسرهد أبو الحسن البصري، وثقه ابن معين، وعده المنصور بالله من العدلية، توفي سنة ثمان وعشرين ومائتين.
احتج به الترمذي والنسائي، وروى له من الأئمة الأخوان، والمرشد بالله.
وعمرو الناقد هو: عمرو بن محمد بن بكر بن بكير بن سابور الناقد أبو عثمان البغدادي، نزيل الرقة، وثقه أبوحاتم وغيره. واحتج به الشيخان وأبو دواد وغيرهم، وروى له أبو طالب، توفي سنة اثنتين وثلاثين ومائة.
وزهير هو: ابن حرب بن شداد الجرشي أبو خيثمة النسائي، وثقه الخطيب والنسائي، توفي سنة أربع وثلاثين ومائتين.
احتج به الجماعة إلا أبا داود، وروى له أبو طالب والمرشد، وله رواية في المناقب.
وإسماعيل هو: ابن إبراهيم الأسدي المعروف بابن علية.
قال (ابن معين): كان ثقة مأموناً ورعاً تقياً، وأثنى عليه غيره إلا أن يحيى بن معين تكلم في حديثه عن ابن جريج خاصة.
قال (القسطلاني): لكن قد تابعه عليه غيره فقوي يعني حديث الباب، توفي إسماعيل سنة ثلاث وقيل أربع وتسعين بـ(بغداد)، روى له محمد بن منصور والمؤيد بالله والسيلقي وفي المناقب.
وابن جريج هو عبد الملك بن عبد العزيز بن جريج أبو الوليد، قال أحمد: ثبت صحيح الحديث لم يحدث بشيء إلا أتقنه، وقال أبو زرعة: هو من الأئمة، وقال ابن معين: ثقة إذا روى من الكتاب، توفي سنة خمسين ومائة أو إحدى وخمسين أو تسع وأربعين وقد جاوز المائة، احتج به الجماعة، وروى له أئمتنا الأربعة، والهادي في المنتخب.
وعطاء هو: ابن أبي رباح القرشي واسمه أسلم المكي أبو محمد القرشي مولاهم الجندي اليماني.
قال الباقر عليه السلام : خذوا من حديث عطاء ما استطعتم، وثقه ابن معين وأبو زرعة وابن سعد، توفي سنة سبع أوخمس عشرة ومائة، احتج به الجماعة، وروى له أئمتنا الأربعة، وأخرجه مسلم من طريق أخرى.
قال: أخبرنا يحيى بن يحيى أخبرنا يزيد يعني ابن زريع عن حبيب المعلم عن عطاء قال: قال أبو هريرة في كل صلاة قراءة فما أسمعنا النبي صلى الله عليه وآله وسلم أسمعناكم وما أخفاه منا أخفيناه منكم، ومن قرأ بأم الكتاب فقد أجزأت عنه ومن زاد فهو أفضل.
يزيد بن زريع هو: التميمي العيشى أبو معاوية البصري، وثقه ابن معين وأبو حاتم، وأثنى عليه أحمد وقال: ما أثبته، توفي سنة اثنتين وثمانين ومائة، احتج به الجماعة، وروى له الأخوان والمرشد.
ومن حججهم ما مر في حديث ابن عمر، ومن قوله فإن انتهى إلى أم القرآن فقد أجزأت عنه.
وفي أمالي المرشد بالله عليه السلام : أخبرنا الكسائي، نا محمد بن أحمد، نا الفرقدي، ثنا إسماعيل، حدثنا يوسف بن عطية، عن شيبان، عن زاهر الأودي، عن أبي سلمة، عن أبي الدرداء قلت: يارسول الله بأبي أنت وأمي ربما صليت من الليل ركعات لا أقرأ فيهن إلا فاتحة الكتاب، فقال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم : ((بخ بخ إن فاتحة الكتاب لتجزي ما لا تجزي البقرة وآل عمران والنساء والمائدة إذا لم يقرأ معهن بفاتحة القرآن، وإن فاتحة القرآن لتجزي ما لا يجزي شيء من القرآن، ولو أن فاتحة الكتاب جعلت في كفة الميزان وجعل القرآن في الكفة الأخرى فضلت فاتحة الكتاب على القرآن سبع مرات)).
الفرقدي قال في الجداول هو: محمد بن علي بن مخلد عن إسماعيل بن عمرو البجلي، روى له في المناقب والمرشد بالله.
وقال في ترجمة إسماعيل بن عمرو إنه ابن عمرو بن نجيح الكوفي الأصبهاني، ثم قال: عده ابن حبان في الثقات، وقال الذهبي: إليه انتهى علو الإسناد بأصبهان، وأحسن الثناء عليه إبراهيم بن أرومة، توفي سنة سبع وعشرين ومائتين، روى له في المناقب، وأبو طالب والمرشد.
وفي الدرالنثور: أخرج أبو نعيم الديلمي عن أبي الدرداء، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم : ((فاتحة الكتاب تجزي ما لا يجزي شيء من القرآن ولو أن فاتحة الكتاب جعلت في كفة الميزان وجعل القرآن في الكفة الأخرى لفضلت فاتحة الكتاب على القرآن سبع مرات)) وهو في الجامع الصغير، وسكت عليه الشارح، والكفة بكسر الكاف وفتحها.
وأخرج الدارقطني والحاكم عن عبادة بن الصامت مرفوعاً: ((أم القرآن عوض عن غيرها وليس غيرها عوضاً منها)).
وعن ابن عباس أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم : قام فصلى ركعتين لم يقرأ فيها إلا بفاتحة الكتاب. أخرجه ابن خزيمة.
قالوا: فهذه الأدلة تصرف ما ظاهره الدلالة على الوجوب من الأخبار السابقة وما في معناها إلى الندب، وقد قيل إن المراد بقوله فصاعداً فما زاد فما تيسر ونحوها دفع توهم منع الزيادة على الفاتحة.
والجواب: أما حديث أبي الدرداء وابن عباس فوارد في النافلة، وهي مبنية على التخفيف، وما في حديث أبي الدرداء من قوله إن فاتحة الكتاب لتجزي ما لا يجزي شيء من القرآن فمحمول على أنه لا يقوم مقامها شيء في موضعها كما في حديث: ((لا تجزي صلاة لا يقرأ فيها بأم القرآن))، فيكون دليلاً على تعيينها، وتبقى أدلة وجوب الزيادة على أصلها، ومثله حديث عبادة، وأما حديث ابن عمر فقد تقدم عنه ما يعارضه، على أنه يصح حمل قوله فإن انتهى إلى أم القرآن... إلخ، على النافلة لتقييده في الحديث الأول بالمكتوبة، وأما حديث أبي هريرة فلا حجة فيه؛ لأنه من كلامه، فإن قيل: قوله فما أسمعناه أسمعناكم ....إلخ، يشعر بأن جميع ما ذكر متلقى عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم فيكون للجميع حكم الرفع، قيل تصريح مسلم، بأن قوله إن زدت عليها فهو خير...إلخ، جواب عن سوأل سائل يدفع هذا الإشعار.
وقد قال (الشوكاني): إن هذا الإشعار في غاية الخفاء باعتبار جميع الحديث.
قلت: ويدل على خفائه أن مسلماً قد أخرج الحديث مرفوعاً ولم يذكر هذه الزيادة، فقال: حدثنا محمد بن عبد الله بن نمير، حدثنا أبو أسامة، عن حبيب بن الشهيد قال: سمعت عطاء يحدث عن أبي هريرة أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قال: ((لاصلاة إلا بقراءة))، قال أبو هريرة: فما أعلن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أعلناه لكم، وما أخفاه أخفيناه لكم.
محمد بن عبد الله بن نمير الهمداني الخارفي أبوعبد الرحمن الكوفي الحافظ، أحد الأعلام، قال النسائي: ثقة، مأمون، وقال أبو حات:م ثقة حجة، وكان أحمد يعظمه تعظيماً عجيباً، توفي في رمضان سنة أربع وثلاثين ومائتين. روى له الأخوان والمرشد بالله، والنرسي.
وأبوأسامة هو: حماد بن أسامة بن زيد القرشي الهاشمي مولاهم الكوفي.
قال (النووي): الحافظ الضابط المتقن العابد. وفي التذكرة تلقت الأمة حديثه بالقبول لحفظه ودينه. وقال أحمد: ثقة. توفي سنة إحدى ومائتين.
احتج به الشيخان، وروى له أئمتنا الخمسة والحاكم وفي الجامع (الكافي).
وحبيب هو: ابن الشهيد الأزدي. قال أحمد: ثقة مأمون.
وقال في (الكاشف): ثبت، توفي سنة خمس وأربعين ومائتين.
احتج به الجماعة، وروى له الأخوان والمرشد، وقد أنكر الدارقطني على مسلم رفعه، وقال: إن المحفوظ عن أبي أسامة وقفه كما رواه أصحاب ابن جريج، وكذا رواه أحمد عن يحيى القطان وأبي عبيد الحداد كلاهما عن ابن حبيب موقوفاً، وقد أخرج أبو عوانة هذا الحديث كرواية الشيخين، إلا أنه زاد في آخره: وسمعته يقول: لاصلاة إلا بفاتحة الكتاب.
قال (الحافظ) في (الفتح): وظاهر سياقه أن ضمير سمعته للنبي صلى الله عليه وآله وسلم فيكون مرفوعاً بخلاف رواية الجماعة، إذا عرفت هذا فقد تبين لك أن قول أبي هريرة وإن لم تزد....إلخ من كلامه، ولا يحتمل شيء من الطرق رفعه، وحينئذ فلا حجة فيه، فإن قيل: فقد رفع جواب السؤال في رواية رزين فإنه روى الحديث بنحو رواية الشيخين، ثم قال: فقال له رجل: أرأيت يا أبا هريرة إن لم أزد على أم القرآن، فقال: قد سئل عنها رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فقال: ((إن انتهيت إليها أجزأتك، وإن زدت عليها فهو خير وأفضل)).
قيل: قد عرفت أن أكثر المحدثين وأئمتهم وحفاظهم على عدم رفع هذا الجواب، وحينئذ يجب الحكم على هذه الرواية بأنها منكرة مردودة.
قال (مسلم) رحمه الله: علامة المنكر في حديث المحدث إذا ما عرضت روايته للحديث على رواية غيره من أهل الحفظ والرضا خالفت روايته روايتهم.
قال (النووي): هذا الذي ذكره هو معنى المنكر عند المحدثين يعني به المنكر المردود، فإنهم قد يطلقون المنكر على انفراد الثقة وهذا ليس بمنكر مردود، إذا كان الثقة ضابطاً متقناً.
وأما قولهم إن المراد بقوله فصاعداً ونحوه دفع توهم منع الزيادة، فيرده أن ذلك معطوف على الفاتحة والعطف يقتضي الاشتراك في الحكم، وتلك الأدلة صريحة في نفي إجزاء الصلاة بدون الفاتحة فيجب أن يكون حكم ما عطف عليها حكمها في عدم الإجزاء من دونه كما هو شأن العطف وفائدته، ولو أرادوا ما ذكروا لقال: فإن زدتم فلا حرج أو فهو خير، أو يجوز ذلك مما لايلزم منه الاشتراك في الحكم.
واعلم أن الجمع بين الأدلة هو الواجب مهما أمكن على فرض صحتها جميعاً، وهو يمكن حمل ما ظاهره إجزاء الصلاة من دون الزيادة على الفاتحة على النافلة كما قد أشرنا إليه سابقاً، ويؤيده تقييد الزيادة بالمكتوبة والتصريح بنفي الزيادة في النافلة، فإن قيل: لا يخلو هذا الجمع من تكلف؛ لأن أحاديث وجوب الزيادة صريحة في الإجزاء من دونها، وفيما احتج به النافون للوجوب ما هو صريح في نفي الإجزاء من دونها ولم يخص نافلة من فريضة، بل ظاهر حديث ابن عمر التسوية بينهما.
وهل هذا إلا محض التعارض الذي لا يصح معه الجمع على وجه مقبول، كيف وقد مر التصريح في حديث أبي سعيد بما يدل على عدم صحة الصلاة من دون الزيادة على الفاتحة في الفريضة والنافلة.
قيل: لا تكلف في ذلك مع ما ذكرناه من التقييد بالمكتوبة في الزيادة والتصريح بالصحة من دونها في النافلة، وكلام الشارع يبين بعضه بعضاً ويفسره.
وحديث ابن عمر لا يرفع ذلك، بل يجب حمل مطلق روايته على مقيدها، وحديث أبي سعيد لم يصرح فيه بنفي الإجزاء، وإنما قال لا صلاة ...إلخ.
فهو محمول على نفي الكمال في النافلة لهذه الأدلة، على أن تلك الزيادة لم يروها الهادي والمرادي كما عرفت، وقد ضعفوا تلك الطريق بطريق ابن شهاب السعدي، ويجوز أن يراد بالاجتزاء بالفاتحة فقط في حديث رزين في القراءة خلف الإمام لما سياتي من حديث أبي هريرة عند الحاكم.
وبعد: فلو فرضنا التعارض الذي لا يمكن معه الجمع لكان الواجب طلب الترجيح والعمل بالراجح، وإذا رجع إلى هذا وجب العمل بأدلة الوجوب لرجحانها سنداً ومتناً وحكماً وغير ذلك.
أما السند وهو الطريق إلى ثبوت المتن فمن وجوه منها كثرة الرواة حتى لو ادعى مدع إفادة ذلك العلم، لم يبعد مع انضمام طرق الأفعال إلى الأقوال.
قالوا: لا نسلم أن الكثرة تفيد الرجحان، وإلا لزم في زيادة الشهود مثله ولا قائل به.
قلنا: بل تفيده إذ بها يقوى الظن؛ لأن العدد الأكثر أبعد عن الخطأ من الأقل، ولأن كل واحد من الرواة يفيد الظن فإذا انضم إلى غيره يزداد الظن قوة حتى ينتهي إلى التواتر، ولا يلزم مثله في الشهادة بوجود الفارق، وهو أن باب الشهادة أضيق، فليس كل ما ترجح به الرواية ترجح به الشهادة. والذي اعتبر لفظها حتى لوأتي العدد الكثير بلفظ الأخبار لم يقبلوا.
وردت شهادة النساء في كثير من المواضع، ومنها أن في رواة الأولين من هو أعلم وأورع واظبط وأفطن وأحسن اعتقاداً و عدالة إذ فيهم من أئمة العترة وشيعتهم كالهادي والمرادي وغيرهما، وهم جامعون لهذه الأوصاف بلا شك.
وإذا رجعت إلى أحوال الصحابة فإن أبا سعيد وعبادة أجمع لهذه ممن خذل الوصي وتقرب إلى أئمة الضلال بسبه، وقد رمي أبو هريرة بالكذب والغفلة، ومن كان جامعاً لهذه الأوصاف أو أكثرها فهو راجح في الرواية على مقابله لغلبة الظن بصدقه، ومنها أنه قد مر أن ابن عمر وأبا سعيد ممن يقول بوجوب الزيادة، وكذا غيرهما ممن روى تلك الأخبار من الأئمة وغيرهم.
وقد ذكر الأصوليون أن خبر من عمل برواية نفسه أرجح ممن لم يعمل بروايته أو لم يعلم أنه عمل بها؛ لأن العمل بالرواية يضعف وهم الكذب، ولم ينقل لنا عمن روى حجة الآخرين أنه عمل بموجبها.
ومنها: أن في رواية الأولين من هو من كبار الصحابة والمتقدمين في الإسلام، ومن كان كذلك فهو أرجح لقربه من مجلس الرسول صلى الله عليه وآله وسلم فيكون أعرف بحاله، ولأنه أشد صوناً لمنصبه فيبعده عن الكذب، وقد عكس بعض فقهاء العامة في متأخر الإسلام فقضوا بتقديم روايته على متقدمه لحفظه لآخر الأمرين، وهو ضعيف لما مر، ولأن في المتقدمين أمير المؤمنين، وسيأتي عنه أنه كان يزيد مع أم القرآن غيرها.
ومنها: أن الأصولين اختلفوا في الراجح من المسند والمرسل، فبعضهم رجح المسند لأن المرسل لا يقطع بصحة ماروى وإنما يظنها، ففي الإرسال مجرد ظنه، وفي الإسناد ظنون جميع الرواة، ولأن عدالة من أغفله المرسل لا يعرفها غيره، والمذكور في السند يعرف عدالة جميع من تحته في السند، وبعضهم رجح المرسل لأن الثقة لا يقول قال النبي صلى الله عليه وآله وسلم إلا مع القطع بقوله، وهو قوي إن عرف أنه لا يرسل إلا عن عدل، وعن بعضهم قال: هما مستويان، وعلى أي هذه الأقوال فقد ثبت في أدلة الموجبين الإسناد والإرسال.
ومنها: أن ما استدل به الأولون متفق على رفعه، وحديث أبي هريرة مختلف في وقفه ورفعه، والمتفق عليه أولى من المختلف فيه.
ومنها: أن أحاديث وجوب الزيادة ثابتة في كتب الأئمة والشيعة، وأخرجها مسلم وغيره من مشاهير المحدثين، ولا شك في ترجيح مافي كتب الأئمة وشيعتهم، وما رواه الشيخان أو أحدهما أو غيرهما من المشاهير على مقابله.
وأما الترجيح بحسب المتن وهو نفس الدليل من أمر ونهي أو عموم أو خصوص أو غير ذلك، فلأن أدلة الوجوب أقل احتمالاً إذ غاية ما فيها أن بعضها يحتمل الندب لو صحت القرينة، ولم يثبت ما يعارضها من أحاديث نفي الإجزاء، وأدلة الآخرين يحتمل كونها واردة في النافلة، أو في القراءة خلف الإمام، والأقل احتمالاً أرجح لقربه من المطلوب.
وأما الترجيح بحسب الحكم المدلول عليه من وجوب أو غيره فلأن أدلة الأولين تقتضي الوجوب والوجوب أرجح من الندب للاحتياط، ولأنه قد حصل الندب وزيادة، وأيضاً فإن أدلة الوجوب تفيد الثبوت وهو مقدم على النفي لاحتمال غفلة النافي، ولاشتمال المثبت على زيادة علم ولإفادة التأسيس، فإن قيل النفي معتضد بالأصل وبأن العمل به حكم بتأخره وعن الناقل لحكم الأصل فيكونان للتأسيس، بخلاف العكس فإنه يقتضي الحكم بتأخر الناقل فيكون المقرر لحكم الأصل للتأكيد، وحملهما على التأسيس أولى من حمل أحدهما على التأكيد.
قيل: أما الاعتضاد بالأصل، فيبطله أن التأسيس أولى من التأكيد، وأما الحكم بتأخره عن الناقل فذلك نسخ للناقل والنسخ لا يثبت إلا بالنقل، فيكون الإثبات أرجح، وأما الترجيح بغير ذلك من الأمور الخارجية فلأن القول بالوجوب موافق لعمل الوصي وغيره من الصحابة فمن بعدهم فإنهم لا يقتصرون على الفاتحة في المكتوبات، بل لايبعد الإجماع على العمل بذلك وإن اختلفوا في الوجوب وعدمه، وقد مر أن الرازي جعل هذه الطريقة من أدلة وجوب قراءة الفاتحة، فكذلك ما زاد عليها. والله الموفق.
فرع [تحديد الزيادة الواجب قراءتها مع الفاتحة]
واختلف القائلون بوجوب الزيادة في تحديدها، فقيل: آيتين، وقيل: آية، وقال القاسم والمؤيد بالله: ثلاث آيات أو آية طويلة، وقال الهادي عليه السلام : يقرأ بفاتحة الكتاب وبما تيسر من سور المفصل، أو ما أحب من القرآن كما قال الله تعالى: {فَاقْرَءُوا مَا تَيَسَّرَ مِنَ الْقُرْآنِ}[المزمل:20].
قال عليه السلام : وقد قيل إنه يجزي مع الحمد أن يقرأ المصلي ثلاث آيات من أي القرآن شاء، وقال من قرأ ثلاث آيات أنه قاس على ذلك سورة {إِنَّا أَعْطَيْنَاكَ الْكَوْثَرَ}[الكوثر:1]، فقال ثلاث آيات.
قال عليه السلام : وأحب ما في ذلك إلينا نحن أن يقرأ مع فاتحة الكتاب سورة كاملة. ذكره في الأحكام.
قلت: ظاهر كلامه عليه السلام أن القول بالثلاث الآيات ليس بمذهبه عليه السلام لكن قد روى المؤيد بالله عنه القول بأن الثلاث مجزئة مع الفاتحة ونسبه إلى المنتخب، وقال إنه قاسها على أصغر السور، واستدل له في البحر بأن دون الثلاث لا يسمى قرآناً؛ إذ ليس بمعجز، وهوضعيف؛ لأن القرآن جنس فيطلق على القليل والكثير، والشرط ما يسمى قرآناً لا ما يسمى معجزاً، ولو كان لا يسمى قرآناً لجازت تلاوته ومسه للجنب، وهم قد منعوه ولو بعض آية.
قلت: والأولى في الاستدلال بما مر في الأحاديث من النص على السورة تارة وعلى الثلاث أخرى، فتكون مفسرة لما أبهم في الأحاديث من قوله فما زاد، وقوله فصاعداً ونحوهما من المبهمات، وبهذا يبطل قول من قال لا تحديد للزيادة، بل الواجب معها شيء من القرآن، وهو الذي مال إليه الشوكاني لعدم صحة الأحاديث التي فيها ذكر التحديد بالسورة أو الثلاث عنده كما يفهم ذلك من قوله: وأما التحديد بثلاث آيات فلا دليل عليه، وقوله لوكان حديث أبي سعيد المصرح فيه بذكر السورة صحيحاً لكان مفسراً للمبهم في الأحاديث من قوله: فما زاد، وقوله فصاعداً وقوله وما تيسر، ولكان دالاً على وجوب الفاتحة وسورة في كل ركعة، ولكنه ضعيف.
قلت: وحديث أبي سعيد سيأتي من رواية ابن ماجة بلفظ: ((لاصلاة لمن لم يقرأ في كل ركعة بالحمد وسورة...))، الخبر، وقد مر من رواية الترمذي من دون قوله في كل ركعة.
وذكر الحافظ في الفتح: أن ابن حبان والقرطبي وغيرهما ادعوا الإجماع على عدم وجوب قدر زائد على الفاتحة.
واعلم أنه لا وجه للعدول عن القول بتحديد الزائد بسورة أوثلاث آيات فصاعداً مع قيام الدليل عليها من رواية أئمة العترة" كالهادي والأمير الحسين الذي قد نص في أول كتابه شفاء الأوام على أنه قد جمع فيه من عيون ما حفظه ونفيس مارواه زُبَدَاً مما صحت له أسانيدها ومتونها... إلى آخر ما ذكره، وهل اعتمد كثير من المحدثين وأتباعهم إلا على تصحيح مشاهير علمائهم.
هذا الشوكاني نفسه أكثر معتمده في التصحيح على الحافظ ابن حجر وأضرابه، فهلا نقول بقبول ما نص على صحته الأمير الحسين وأخذ به من أئمة آل الرسول صلى الله عليه وآله وسلم وشيعتهم الأمجاد العدول ما هذا إلا محض التحامل والنصب، هذا ولست أقول بأنه لا يجوز العدول عن مارواه مثل الأمير الحسين عليه السلام لمرجح أو وجود قادح، فقد نص العلماء على جواز العمل بخلاف ما رواه العدل لقادح أو مرجح، ولا يكون ذلك قدحاً في عدالته، ولا وصماً في جملة روايته، بل لوجوب العمل بالراجح عند الناظر، ومن الجائز أن يطلع أحدنا على قادح في صحة بعض ما رواه الأمير الحسين وأمثاله مع عدم اطلاعهم عليه، وإنما نقول بوجوب الاعتماد على مارووا حيث لا أرجح منه ولا اطلعنا على قادح يبطل العمل به، وأنه لا يجوز اطراح مروياتهم ونظمها في سلك الموضوعات حتى يقال كما قال الشوكاني في هذه المسألة لا دليل على التحديد بثلاث إلا توهم أنه لا يسمى ما دون ذلك قرآناً لعدم إعجازه، وكأن تلك الروايات لا تستحق الذكر ولو لمجرد بيان ضعفها فضلاً عن الاعتماد عليها، وليس ذلك لجهله بها فإنه بها عارف كما تشهد بذلك حاشيته على الشفاء، بل لأنه لم يكن النص على صحتها ممن يعتمد على تصحيحه عنده، فتنبه لهذا فإنه مهم.
وعليك بآل محمد فإنهم السفينة المنجية، والعصابة الهادية، هذا مع أن التحديد بالسورة أو ثلاث آيات معتضد بفعله صلى الله عليه وآله وسلم كما مر، ولم يرو عنه الاقتصار على ما دون الثلاث.
وأما الإجماع الذي ادعاه ابن حبان وغيره فقد قال الحافظ: فيه نظر لثبوته يعني القدر الزائد عن بعض الصحابة وغيرهم.
قلت: وفي كون القرطبي ممن ادعى الإجماع نظر، فإنه قد حكى في تفسيره وجوب الزيادة عمن قدمنا ذكره من السلف وهم: عمران بن الحصين ومن ذكر بعدهم، ثم حكى اختلافهم في قدر الزائد فقال: منهم من حد بآية، ومنهم من حد بآيتين، ومنهم من لم يحده بشيء لحديث عبادة وأبي سعيد، ولعل القرطبي الحاكي للإجماع غير صاحب التفسير، لكن ما في التفسير يدفع صحة الإجماع، كيف وخلاف ما ذكرناه من أئمة الهدى مشهور، بل روى في البحر عن المؤيد بالله أن فاتحة الكتاب وسورة معها من فروض الصلاة القطعية التي تجب معرفتها على كل مكلف، ويؤيده ما مر من قول النبي صلى الله عليه وآله وسلم وفعله وعمل الأمة، وإن كان الإمام المهدي عليه السلام قد قال فيه نظر للخلاف، لكنه يقال: الخلاف في المسائل لا يصيرها ظنية مع اقتضاء دليلها القطعي، وقد نبهنا على هذا فيما مر.
المسألة الثالثة [في تحديد قراءة الفاتحة هل هي في كل ركعة]
اختلفوا هل تجب القراءة في كل ركعة أم لا، والكلام فيها في موضعين:
الأول في ذكر الخلاف، والثاني في بيان الحجج.
الموضع الأول:
قال الهادي عليه السلام وأتباعه والمؤيد بالله: الواجب هذا القدر في الصلاة مرة واحدة فقط، ورواه الأمير الحسين عن علماء العترة، ورواه في البحر وغيره عن الحسن البصري، وداود، وزاد في النيل إسحق، واختاره محمد بن إسماعيل الأمير أعني أن القراءة لا تجب إلا مرة واحدة، والذي رواه القرطبي عن الحسن البصري أنه قال: إذا قرأ بأم القرآن مرة واحدة في الصلاة أجزأه ولم يذكر ما زاد عليها، فلعل الحسن ممن لا يقول بوجوب الزيادة، وقد روى القرطبي قول الحسن هذا عن أكثر أهل البصرة، والمغيرة بن عبد الرحمن المخزومي المدني.
وقال (زيد بن علي)، و(أحمد بن عيسى) و(الحسن بن يحيى) و(الناصر) و(محمد بن منصور): بل الفرض القراءة في الأوليين، وبه قال أبو حنيفة لكن من دون تعيين كما سلف عنه.
وحكى (النووي) عن (الثوري) و(الأوزاعي): أن القراءة تجب في الأخريين، ونقل الصباغ عن سفيان أنه قال: تجب القراءة في الأوليين وتكره في الأخريين.
وقال (مالك): تجب في أكثرها ثلاث من الرباعية واثنتين من المغرب وكل الثنائية، وقال الشافعي: بل تجب الفاتحة في كل ركعة، وحكاه النووي عن جمهور العلماء من السلف والخلف وكذا الحافظ في الفتح، ورواه ابن سيد الناس في شرح الترمذي عن على عليه السلام ، وجابر وعن ابن عون، والأوزاعي، وأبي ثور، قال: وإليه ذهب أحمد وداود، وبه قال مالك إلا في الناسي كما حققه عنه أصحابه، ففي تفسير القرطبي قال مالك وأصحابه هي -يعني الفاتحة-: متعينة للإمام والمنفرد في كل ركعة.
قال (ابن خويز منداد البصري المالكي): لم يختلف قول مالك أنه من نسيها في صلاة ركعة من صلاة ركعتين أن صلاته تبطل ولا تجزيه، واختلف قوله: من تركها ناسياً في ركعة من صلاة رباعية أو ثلاثية، فقال مرة يعيد الصلاة وقال مرة أخرى يسجد سجدتي السهو، وهي رواية ابن عبد الحكم وغيره عن مالك، قال ابن خويز منداد: وقد قيل إنه يعيد تلك الركعة ويسجد للسهو بعد السلام.
قال (ابن عبد البر): الصحيح من القول إلغاء تلك الركعة ويأتي بركعة بدلاً منها كمن أسقط سجدةً سهواً وهو اختيار ابن القاسم.
قلت: وممن ذهب إلى وجوب الفاتحة في كل ركعة من الأئمة": الإمام شرف الدين عليه السلام ، وقال الإمام المهدي عليه السلام : هو الظاهر، ورواه القرطبي عن عمر وابن عباس وأبي هريرة وأُبي بن كعب وأبي أيوب الأنصاري وعبد الله بن عمرو بن العاص، وعبادة بن الصامت، وأبي سعيد الخدري، وعثمان بن أبي العاص، وخوات بن جبير، وابن عمر.
قال: وهو المشهور من مذهب الأوزاعي قال: فهولاء الصحابة بهم القدوة وفيهم الأسوة كلهم يوجبون الفاتحة في كل ركعة.
وحكي عن الطبري أن الواجب هي أو عدد آياتها وحروفها من القرآن.
الموضع الثاني: في ذكر الحجج
احتج القائلون بأنه يكفي قراءة الفاتحة ومازاد عليها مرة واحدة أو الفاتحة فقط عند من لا يوجب الزيادة بأن الصلاة اسم لجملة الركعات بدليل أنه لا يقال صلى فلان الظهر إذا لم يكملها أربعاً، والركعة الواحدة لا تسمى صلاة إلا على جهة المجاز، ويدل على ذلك قوله صلى الله عليه وآله وسلم : ((خمس صلوات كتبهن الله على العباد))، فسمى مجموع كل واحدة من الخمس صلاة، وإذا ثبت ذلك فظاهر أحاديث: ((لاصلاة إلا بفاتحة الكتاب))، والأحاديث التي فيها ذكر الزيادة يدل على أن من قرأ ذلك مرة واحدة فقد خرج عن عهدة الواجب؛ إذ الأصل عدم الزيادة، وإطلاق الكل على الجزء مجاز لا يصار إليه إلا بدليل، ويستدل لهم أيضاً بإجماع العترة الذي رواه الأمير الحسين ولفظه: ولا خلاف بين علماء العترة أنه إذا قرأ في ركعة واحدة الفاتحة وثلاث آيات مرة واحدة فقد خرج بذلك عن عهدة وجوب القراءة، وأجزأه قراءة مرة واحدة.
قلت: في أي ركعة أو مفرقاً كما في البحر وغيره، وهو الذي تقضي به ظواهر أدلتهم إذ لم يعين فيها محلاً لها، ومن أدلتهم: ماذكره في شرح التجريد وهو أنه لاخلاف في أن من أدرك الإمام راكعاً فقد أدرك الركعة.
قال: فلو كانت القراءة فرضاً في جميع الركعات لكان المدرك للركوع غير مدرك للركعة إذ لم يدرك القراءة.
احتج القائلون بوجوبها في الأوليين فقط بمواظبة النبي صلى الله عليه وآله وسلم ، وأميرالمؤمنين على القراءة فيهما، وفعلهما بيان لمجمل واجب، وبأنه قد ورد ما يدل على وجوب القراءة في كل ركعة من ذلك حديث المسيء صلاته وسيأتي، ومنه ما أخرجه ابن ماجة قال حدثنا: أبو كريب، حدثنا محمد بن فضيل (ح) وحدثنا سويد بن سعيد حدثنا علي بن مسهر جميعاً، عن أبي سفيان السعدي، عن أبي نضرة عن أبي سعيد الخدري، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم : ((لاصلاة لمن لم يقرأ في كل ركعة بالحمد لله وسورة في فريضة أوغيرها)).
ابن ماجة هو: أبو عبد الله محمد بن يزيد بن ماجة القزويني الحافظ الكبير صاحب السنن.
قال أبو يحيى الخليلي: ثقة متفق عليه يحتج به، توفي سنة ثلاث وسبعين ومائتين، روى له أبو طالب.
وأما أبوكريب فهو: محمد بن العلاء الهمداني الكوفي، قال النسائي: لابأس به وفي موضع ثقة، وقال أبو حاتم: صدوق أخذ عنه الستة، توفي سنة ثمان وأربعين ومائتن، روى له أئمتنا الأربعة والناصر.
وأما محمد بن فضيل فهو: ابن غزوان الضبي الكوفي، أبو عبد الرحمن الحافظ. قال النسائي: لابأس به، وقال أبو زرعة: صدوق، ووثقه ابن معين وابن حبان، توفي سنة خمس وتسعين ومائة، عداده في ثقات الشيعة.
احتج به الجماعة، وروى له أئمتنا الخمسة والناصر والنيروسي.
وأما سويد فهو: ابن سعيد بن سهل أبو محمد الهروي الحدثاني، وثقه الدارقطني، وقال أحمد: لابأس به، وضعفه بعضهم بعدما عمي لما ربما أنه كان يلقن، وأما كتبه فصحاح، وكذبه بعضهم لروايته في فضائل الآل.
قال علامة العصر: عداده في ثقات محدثي الشيعة، توفي سنة أربعين ومائتين، روى له أئمتنا الأربعة.
وأما على فهو: ابن مسهر القرشي أبو الحسن الكوفي الحافظ، وثقه يحيى، وأبو زرعة، توفي سنة تسع وثمانين ومائة، روى له محمد بن منصور.
وأما أبوسفيان السعدي فهو: طريف بن شهاب البصري الأشل، قال ابن عدي: ليس به بأس، احتج به الترمذي وابن ماجة، وضعفه يحيى، وقد مر تضعيف رواية الترمذي به، روى له المؤيد بالله وناهيك به.
وأما أبو نضرة بفتح النون ثم معجمة فهو: المنذر بن مالك بن قطعة العبدي العوفي البصري، وثقه ابن معين والنسائي وغيرهما.
قال (ابن عدي): كان عريفاً لقومه، ذكره ابن حبان في الثقات، وقال: كان ممن يخطئ.
قال (علامة العصر): عداده في شيعة الوصي، وذكر أن روايته عن علي وأبي ذر مرسلة، توفي سنة ثمان ومائة.
احتج به مسلم والأربعة، وروى له أئمتنا الخمسة.
قلت: وبما ذكرنا لا يصح حكم الحافظ على الحديث بالضعف، لاسيما وهو معتضد بغيره كحديث المسيء، وحديث أبي سعيد بلفظ أمرنا رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ، أن نقرأ بفاتحة الكتاب في كل ركعة، رواه إسماعيل بن سعيد الشاكنجي.
قال (ابن عبد الهادي في التنقيح): رواه إسماعيل هذا وهو صاحب الإمام أحمد من حديث عبادة وأبي سعيد بهذا اللفظ.
قلت: ورواه في حواشي الأزهار، ومن حديث عبادة ومن جملة المؤيدات ما أخرجه مالك في الموطأ، والترمذي وصححه عن جابر أنه قال: من صلى ركعة لم يقرأ بأم القرآن فلم يصل إلا وراء الإمام.
قالوا: ومجموع هذه الأدلة يفيد بظاهره وجوب القراءة في كل ركعة، لكن ثبوت شرعية التسبيح في الأخريين من الرباعية وثالثة المغرب أوجب العدول عن الظاهر في ما ذكر، وبقي حكم القراءة في الأوليين على ما يقتضيه الظاهر من الوجوب إذ لا صارف له، وما ذكرناه من الأحاديث وثبوت القراءة في الأوليين من فعل النبي صلى الله عليه وآله وسلم والوصي عليه السلام مبين لإجمال أحاديث لا صلاة لا تجزئ ومقيد لإطلاقها، وأما الإجماع الذي رواه الأمير الحسين فلا يثبت مع خلاف من ذكرنا.
فإن قيل: ومن أين ثبت لكم شرعية التسبيح فيما ذكرتم؟
قلنا: ثبت لنا من وجوه: أحدها: أنه قد صح أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم فعله كما سيأتي من رواية الهادي عليه السلام ، وفي حديث إمامة جبريل بالنبي صلى الله عليه وآله وسلم في اليوم الذي يلي ليلة الإسراء من حديث قتادة عن الحسن وفيه: فلما غابت الشمس نودي الصلاة جامعة، ففزع الناس واجتمعوا إلى نبيهم فصلى بهم ثلاث ركعات أسمعهم القراءة في الركعتين وسبح في الثالثة الحديث، وفيه فلما بدت النجوم نودي الصلاة جامعة ففزع الناس إلى نبيهم فصلّى بهم أربع ركعات أسمعهم القراءة في الركعتين الأوليين وسبح في الأخريين. الخبر أخرجه ابن خيثمة بإسناده إلى قتادة.
قال (السياغي): ورجاله ثقات إلا أن فيه إرسالاً يعني أن الحسن أرسله.
قال (علامة العصر): ذكر المزي في التهذيب عن يونس بن عبيد أن الحسن قال له: كل شيء سمعتني أقول قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فهو عن علي بن أبي طالب غير أني في زمن لا أستطيع أن أذكرعلياً.
وفيه عن ابن المديني مرسلات الحسن البصري التي رواها عن الثقات صحاح ما أقل ما يسقط منها.
وعن أبي زرعة: كل شيء قال الحسن: قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وجدته ثابتاً سوى أربعة أحاديث.
قلت: هو اللائق بدينه القويم، وعلمه الغزير، أن لا يروي إلا عن عدل، وأن لا يعتمد في دينه على من لا يرتضي طريقته، وأدلة وجوب حسن الظن بالمؤمنين توجب علينا حمله على ذلك، بل الوجوب فيه وفي من كان مثله في العلم والزهد والورع أوكد.
الوجه الثاني: أنه قد صح عن أمير المؤمنين عليه السلام ، قال الهادي عليه السلام : الذي صح لنا عن أمير المؤمنين عليه السلام عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم أنه كان يسبح في الأخريين، يقول: ((سبحان الله والحمدلله ولا إله إلا الله والله أكبر))، يقولها ثلاث مرات ثم يركع، وعلى ذلك رأينا مشائخ آل رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ، وبذلك سمعنا عمن لم نر منهم ولسنا نضيق على من قرأ فيها بالحمد ولكنا نختار ما روي لنا عن أمير المؤمنين، وذلك أنا نعلم أنه لم يختر ولم يفعل إلا ما اختاره رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وفعله، ورسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فلم يفعل إلا ما أمره الله عز وجل بفعله واختاره له في دينه.
حدثني أبي عن أبيه أنه قال: يسبح في الركعتين الأخريين، قال: وعلى ذلك رأينا مشائخ آل رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ، وكذلك روي لنا عن أمير المؤمنين عليه السلام أنه قال: يسبح في الأخريين يسبح في كل ركعة ثلاثاً: سبحان الله والحمدلله ولاإله إلاالله والله أكبر. ذكره في الأحكام، وقال في موضع آخر منه: وأفضل الذكربعد القراءة ما اختاره من التسبيح الواحد الرحمن وهو ماروي عن أمير المؤمنين علي بن أبي طالب عليه السلام أنه كان يسبح به في الأخريين وهو سبحان الله والحمدلله ولاإله إلا الله والله أكبر، يقول ذلك ثلاث مرات.
قال عليه السلام : فكل ذلك تصح لنا به الرواية عن سلفنا، ويصحح لنا التسبيح من الأخريين من صلاتنا.
وقال في (المنتخب): وصح عن علي عليه السلام عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم أنه كان يقرأ في الأوليين من الظهر والعصر والمغرب والعتمة، ويسبح في الأخريين، وقد روى التسبيح عن علي عليه السلام في المجموع وفي العلوم.
قال (أحمد بن عيسى) عليه السلام : قد روي التسبيح عن علي عليه السلام ، وفيه عن القاسم عليه السلام بنحو رواية الأحكام عنه، وفيه: حدثني علي بن أحمد بن عيسى عن أبيه أن علياً صلى الله عليه كان يسبح في الركعتين الآخرتين من صلاته.
قلت: فكم التسبيح؟ قال عشر تسبيحات: سبحان الله سبحان الله.
وفي (أصول الأحكام): وعن علي عليه السلام أنه كان يقول في الركعتين الأخريين من الظهر والعصر والعشاء والركعة الأخيرة من المغرب: سبحان الله والحمد لله ولا إله إلا الله والله أكبر.
وروى في (المنهاج): إجماع قدماء آل محمد صلى الله عليه وآله وسلم على صحة الخبر عن علي عليه السلام في التسبيح.
وقال في كتاب اللباب للحنفية: لا تجب القراءة إلا في الركعتين من الفرائض.
قال: وإلى هذا ذهب سفيان الثوري، وإبراهيم النخعي واقتداء بعلي عليه السلام . قال ابن المنذر: فقد روينا عن علي عليه السلام أنه قرأ في الركعتين الأوليين وسبح في الأخريين، قال وكفى به قدوة، ذكره في الاعتصام، والروض النظير.
وقال (القرطبي): قال الثوري يقرأ في الركعتين الأوليين بفاتحة الكتاب وسورة ويسبح في الأخريين إن شاء، وإن شاء قرأ، وإن لم يقرأ ولم يسبح جازت صلاته، وهو قول أبي حنيفة وسائر الكوفيين.
قال (ابن المنذر): وقد روينا عن علي بن أبي طالب رضي الله عنه أنه قال: قرأ في الأوليين وسبح في الأخريين، وبه قال النخعي.
قلت: وقد استفيد مما ذكره القرطبي أن التسبيح مذهب من ذكر من الفقهاء، وأنه ثابت عن علي عليه السلام قولاً كما ثبت عنه فعلاً، وقد مر ثبوته من قوله عليه السلام من رواية القاسم عليه السلام ، وفي معالم السنن، وقال أصحاب الرأي: إن شاء أن يقرأ في الركعتين الأخريين قرأ، وإن شاء أن يسبح سبح، وإن لم يقرأ شيئاً فيهما أجزأه، ورووا فيه عن علي بن أبي طالب أنه قال: يقرأ في الأوليين ويسبح في الأخريين، من طريق الحارث عنه ثم ضعف الرواية بالحارث، وقد مر توثيقه، وبما ذكرنا يثبت ما ادعيناه من صحة التسبيح في الأخريين وثالثة المغرب عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم وعن المبين للأمة ما اخلتفوا فيه من بعده، ولا التفات إلى قول أحد بعد رواية أئمة الهدى وتصحيحهم لذلك ممن غلب عليه سوء الاعتقاد فيهم حتى أن المقبلي جزم بإطلاق القول بأنه لم يروه أحد من فعل النبي صلى الله عليه وآله وسلم ، ولا أعلم هل ذلك لجهله بمرويات الأئمة وعدم الالتفات إلى كتبهم، أم لتنزيله لرواياتهم منزلة العدم، وعلى أيهما فقد أساء النظر وقصر فيما يجب، وأما ثبوت ذلك عن علي عليه السلام فكأنهم لا ينازعون فيه إلا أنه عندهم كسائر الصحابة بل كسائر الناس في عدم الحجة في ما صدر عنه، لكنه يقال فماذا يحمل عليه ما ورد فيه من الأحاديث المصرحة بوجوب اتباعه والأخذ عنه والرجوع إلى قوله، وأن الحق والقرآن معه، وأي فائدة تظهر في إيرادها إن لم تحمل على ما ذكرنا، ولعمري إن القوم لم يعطوا أمير المؤمنين حقه ولم ينزلوه المنزلة التي أنزله الله بها ولم يعملوا في جانبه بالسنة التي ظواهر أحوالهم تقضي بحرصهم على العمل بها.
الوجه الثالث: أن أهل البيت" مجمعون على شرعية التسبيح، وإنما اختلفوا في الأفضل منه ومن الفاتحة وإجماعهم حجة، وقد تقدم من كلام القدماء" ما يدل على ثبوت الإجماع عنهم، ورواه من المتأخرين الإمام المهدي عليه السلام وغيره والحجة لما ذهب إليه مالك بأنه قد ورد ما يدل على وجوب القرآن في كل ركعة، وما يدل على أن القارئ في ركعة قد خرج عن العهدة، والجمع بين الأخبار هو الواجب مهما أمكن، وهنا إذا قرأ في الأكثر من الرباعية والثلاثية صار عاملاً بالقراءة في ركعة، وبما ورد في القراءة في أكثر منها، هكذا قيل في الاحتجاج له وهو ضعيف؛ لأنه لايكون عاملاً بما ورد في القراءة في كل ركعة، والأولى أن يقال إنه قد يحكم للأكثر بحكم الكل في كثير من المواضع فكذا هنا، هذا على فرض صحة الرواية هذه عنه، وإلا فقد مر أنه لا يقول بذلك إلا مع النسيان، وأن الصحيح عنه مع النسيان إلغاء الركعة فيكون كقول الشافعي احتج من أوجب الفاتحة في كل ركعة بوجوه:
أحدها: أحاديث ((لا صلاة إلا بفاتحة الكتاب))، والركعة قد تسمى صلاة، فكما لا ينوب سجود ركعة ولا ركوعها عن أخرى، فكذلك لا تنوب قراءة ركعة عن أخرى.
قلنا: إطلاق الصلاة علىالركعة مجاز ولا دليل عليه، قالوا: بل دليله الأحاديث السابقة وفعل النبي صلى الله عليه وآله وسلم على أنه يمكن الاستدلال بتلك الأحاديث على وجه آخر، وهو أن نقول معنى الحديث: ((لاصلاة إلا بفاتحة الكتاب في كل ركعة وكذا لا صلاة لمن لم يقرأ بها في كل ركعة))، والمصحح لهذا التقدير ما ثبت في السنة قولاً وفعلاً.
قلنا: ما مر من ثبوت التسبيح في الأخريين يمنع ذلك.
الوجه الثاني: ما مر في حجة القائلين بوجوبها في الأوليين من حديث أبي سعيد.
قلنا: قد مر ما يوجب العدول عن ظاهره، على أنكم لم تجروه على ظاهره إذ لم توجب الشافعية وغيرهم الزيا دة على الفاتحة في شيء من الركعات، وكذلك لم يوجب أحد فيما أعلم الزيادة على الفاتحة في الأخريين فإذا لم تعملوا بالظاهر في الزائد على الفاتحة، فكذلك لا يجب العمل به في الفاتحة، فيما قام الدليل على خلافه.
الوجه الثالث: أنه قد ثبت الأمر بالقراءة في كل ركعة في حديث المسيء صلاته، وقد مر من رواية البخاري ومسلم وفيه بعد أن أمره بقراءة ما تيسر وعلمه بسائر الأركان: (وافعل ذلك في صلاتك كلها) وهو من حديث سعيد بن أبي سعيد المقبري عن أبيه عن أبي هريرة، وقد أخرجه البخاري في مواضع منها ما مر، ومنها عن مسدد عن يحيى بن سعيد بالسند السابق، وأخرجه في الاستئذان من طريق عبدالله بن نمير، وفي الأيمان والنذور من طريق أبي أسامة كلاهما عن عبيد الله، وأخرجه مسلم أيضاً فقال حدثنا: أبوبكر بن أبي شيبة، حدثنا أبو أسامة وعبدالله بن نمير(ح) وحدثنا ابن نمير، حدثنا أبي قال: حدثنا عبيد الله، عن سعيد بن أبي سعيد، عن أبي هريرة أن رجلاً دخل المسجد فصلى ورسول الله صلى الله عليه وآله وسلم جالس في ناحية، فساقا الحديث بمثل هذه القصة يعني ما مر، وزادا فيه: ((إذا قمت إلى الصلاة فأسبغ الوضوء ثم استقبل القبلة فكبر)).
أبو بكر بن أبي شيبة هو: عبدالله بن محمد أحد أعلام الشيعة، بايع الإمام محمد بن إبراهيم عليه السلام ، وخرج معه للجهاد، وهذا الحديث قد خالف الشيخان في الطريق الأولى، فيه جميع أصحاب عبيد الله فكلهم رووه عن عبيد الله عن سعيد عن أ بي هريرة ولم يذكروا أباه، لكن قد قال الدارقطني: يحيى حافظ فيعتمد ما رواه، فيشبه أن يكون عبيد الله رواه على الوجهين.
قال (الحافظ): ولكل من الوجهين مرجح، أما رواية يحيى فالزيادة من الحافظ، وأما الأخرى فللكثرة؛ لأن سعيداً لم يوصف بالتدليس، وقد ثبت سماعه من أبي هريرة، ومن ثم أخرج الشيخان الطريقين، والحديث أخرجه أبو داود والنسائي والترمذي وابن ماجة، وأخرجه من حديث رفاعة أبو داود وفي آخره فوصف الصلاة هكذا أربع ركعات حتى فرغ: ((لاتتم صلاة أحدكم حتى يفعل ذلك)). وأخرجه النسائي بلفظ: ((فإذا صنعت ذلك فقد قضيت صلاتك وما انتقصت من ذلك فإنما نقصته من صلاتك)).
قال في (النيل): ولا مطعن في إسناده، وفي رواية لأبي داود من حديث رفاعة: ((ثم اقرأ بأم القرآن وبما شاء الله)).
وفي رواية لأحمد وابن حبان: ((ثم اقرأ بأم القرآن، ثم اقرأ بما شئت))، وهذا مبين لما أجمل في سائر الروايات.
قال في (النيل): وفي رواية لأحمد وابن حبان والبيهقي في قصة المسيء صلاته أنه قال في آخره: ((ثم افعل ذلك في كل ركعة)).
وفي (البدر المنير): منسوباً إلى أحمد وابن حبان أنه قال: ((ثم اصنع ذلك في كل ركعة))، ووجه الاستدلال به أنه قد وصف له ما يفعل في كل ركعة، وقد أمره بقراءة الفاتحة كما يفيده الروايات المصرحة بها، فكانت من جملة ما يحب في كل ركعة، كما أنه يحب فعل ما اقترن بها من الركوع والسجود وغيرهما في كل ركعة.
وأجيب: بأن هذه الحجة غير صحيحة ولنا في إبطالها طرق:
أحدها: أن حديث المسيء قد رواه المؤيد بالله عليه السلام ولم يذكر فيه: ((ثم افعل ذلك في صلاتك كلها أو في كل ركعة))، ورواية الأئمة" مقدمة على غيرهم عند التعارض، ولفظه في شرح التجريد: أخبرنا أبو بكر المقري، قال: حدثنا الطحاوي، قال: حدثنا ابن أبي داود، قال: حدثنا يحيى بن صالح، قال: حدثنا سليمان بن بلال، قال: حدثني شريك بن أبي نمر عن علي بن يحيى عن عمه رفاعة بن رافع أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم كان جالساً في المسجد، فدخل رجل فصلى ورسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ينظر إليه فقال: ((إذا قمت في صلاتك فكبر، ثم اقرأ إن كان معك قرآن، وإن لم يكن معك قرآن فاحمد الله وكبر وهلل، ثم اركع حتى تطمئن راكعاً، ثم قم حتى تعتدل قائماً، ثم اسجد حتى تطمئن ساجداً، ثم اجلس حتى تطمئن جالساً، فإذا فعلت ذلك فقد تمت صلاتك وما تنقص من ذلك فإنما تنقص من صلاتك)).
الطريقة الثانية: ما ذكره بعضهم وهو أن قوله: ((ثم افعل ذلك في صلاتك كلها)) لا يعود إلى كل ما ذكر في أول الكلام اتفاقاً لأن منه تكبيرة الافتتاح، وإذا لم يعد إلى الكل صار مجملاً لتردده بين ما بقي واحتمال عوده إلى كله والمجمل لا يحتج به حتى يبين.
الطريقة الثالثة: أنه ظاهر في الأفعال إذ هي التي أنكرها منه وقال له: ((صل فإنك لم تصل))، وإنما ذكر القراءة زيادة في الإفادة كما ذكر الوضوء، مع أنه لم ينكره عليه.
قلت وفي إبطال هذه الحجة بهذه الطرق نظر، أما الأولى فلأن زيادة: ((ثم افعل ذلك في صلاتك كلها))، وقوله في كل ركعة زيادة من عدل ضابط، فيجب قبولها إذ لا تنافي ما رواه المؤيد بالله حتى ترجح رواية الأئمة إلا لو صرح فيه ما يدل على أن القراءة لا تجب إلا في ركعة واحدة، ولم يصرح في ذلك بل لهم أن يستدلوا بروايته عليه السلام على قولهم، وذلك بأن يقولوا أنه وإن لم يصرح فيها بفعل ذلك في كل ركعة، فدلالة السياق تقتضيه لأنه علمه ما يجب في كل ركعة إذ لولم نقل بذلك لزم عدم دلالته على وجوب الركوع ونحوه في كل ركعة، والمعلوم أن هذا الحديث أحد الأدلة المعتمدة في وجوب ذلك، فإذا كان المراد به تعليم ما يجب في كل ركعة فكأنه قال: ((فإذا فعلت ذلك في كل ركعة فقد تمت صلاتك...))إلخ، والإشارة تعود إلى جميع ما قد ذكر إلا ما خصه دليل، ويؤيد الوجوب وصفها بالنقصان، وقد مر أن معناه الفساد، وأيضاً فإن الأمر بالقراءة معلق على شرط متكرر وهو القيام، والأمر المعلق على شرط يتكرر بتكرره إلا بدليل.
وأما الطريقة الثانية: فيقال لا إجمال بل هو ظاهر في العود إلى كل ما ذكر إلا ما خصه دليل كتكبيرة الافتتاح على أن بعضهم لم يجعلها من الصلاة فيبقى الظاهر على إطلاقه، سلمنا فقد بينه فعله صلى الله عليه وآله وسلم كما سيأتي.
وأما الطريقة الثالثة: فلا نسلم ظهوره في الأفعال، بل الظاهر أنه أراد تعليمه ما لا تصح الصلاة من دونه من شرط وفرض، وخرج الوضوء من قوله: ((ثم افعل ذلك في كل ركعة)) بما علم من عدم وجوب تجديده لكل ركعة كما خرجت تكبيرة الافتتاح.
إذا عرفت هذا فالأولى في الجواب أن يقال قد صح عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم وعن علي عليه السلام عدم المواظبة على القراءة في كل ركعة، وأجمع أهل البيت" على ذلك، فكان قرينة تصرف ما يفيده الظاهر من الوجوب. والله أعلم.
كما أن الخصم لم يوجب الزيادة على الفاتحة مع ذكرها في حديث المسيء لدليل اقتضى ذلك عنده، وكذلك لم يوجب أحد فيما أعلم الزيادة في الأخريين مع ذكرها في حديث المسيء وغيره لما كان النبي صلى الله عليه وآله وسلم قد تركها فيهما.
الوجه الرابع: أنه قد ثبت مواظبة النبي صلى الله عليه وآله وسلم على قراءتها في كل ركعة، وثبت عن أمير المؤمنين عليه السلام قراءتها في الأربع، وعن جماعة من أكابر الصحابة وقد مر ذكرهم.
قال في (العلوم): قال محمد: وروي عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم القراءة في الآخرتين بالحمد في كل ركعة.
وفي (صحيح البخاري): حدثنا موسى بن إسماعيل، قال: حدثنا همام عن يحيى عن عبدالله ابن أبي قتادة، عن أبيه أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم : كان يقرأ في الظهر في الأوليين بأم الكتاب وسورتين، وفي الركعتين الأخريين بأم الكتاب يسمعنا الآية ويطول في الركعة الأولى ما لايطول في الركعة الثانية، وهكذا في العصر، وهكذا في الصبح.
موسى: هو ابن إسماعيل المنقري، مولاهم البصري أبو سلمة التبوذكي، أخذ عنه محمد بن منصور وخلقٌ، وثقه يحيى وقال مأمون، وأبو حاتم وابن سعد والذهبي: توفي سنة ثلاث وعشرين ومائة.
احتج به الجماعة، وروى له أئمتنا الأربعة، وله رواية في المناقب.
وهمام هو: ابن يحيى الأزدي العودي الصنعاني ثم البصري، أبوعبد الله، قال أحمد: ثبت في كل مشائخه، وقال في التذكرة: وثقه غير واحد، وقال أبو زرعة: لا بأس به، توفي سنة أربع وستين ومائة.
احتج به الجماعة، وروى له أئمتنا الأربعة ويحيى هو: ابن كثير، وقد مر.
والحديث أخرجه مسلم وقد مر، ورواه أبو داود وزاد: فظننا أنه يريد بذلك أن يدرك الناس الركعة الأولى.
وقال في (الروض النضير): أخرج الطحاوي في معاني الآثار في باب القراءة: في الظهر والعصرما لفظه: وأن ابن أبي داود حدثنا، قال: نا خطاب بن عثمان، قال: نا إسماعيل بن عياش، عن مسلم بن خالد، عن جعفر بن محمد، عن الزهري عن عبيد الله بن أبي رافع عن علي بن أبي طالب أنه كان يقرأ في الركعتين الأوليين من الظهر بأم القرآن وقرآن، وفي العصرمثل ذلك، وفي الأخريين منهما بأم القرآن، وفي المغرب في الأوليين بأم القرآن وقرآن، وفي الثالثة بأم القرآن.
قال (عبيد الله): وأراه قد رفعه.
أما الطحاوي فهو: أحمد بن محمد بن سلامة الطحاوي الحافظ العلامة، قال ابن يونس: كان ثبتاً ثقه، توفي سنة إحدى وعشرين وثلاثمائة، روى له المؤيد والمرشد، وصاحب المحيط.
وابن أبي داود هو: إبراهيم بن أبي داود الأسدي، عن أحمد بن خالد الوهبي وجماعة، وعنه الطحاوي، كذا في الجداول، روى له المؤيد بالله، وخطاب أهمله في الجداول.
وإسماعيل هو: ابن عياش عالم الشام، قال الثوري: تكلم فيه وهو ثقه عدل أعلم الناس بحديث أهل الشام.
قال (علامة العصر): هو أول من حدث بفضائل الوصي بالشام، وأرى ذلك عن غير مشائخه الشاميين، فلذلك وثقه أحمد والبخاري وابن معين ودحيم وابن عدي في الشاميين، وضعفوه في الحجازيين، توفي سنة إحدى وثمانين ومائة.
احتج به الأربعة، وروى له أئمتنا الخمسة والسمان، وفي المناقب.
ومسلم بن خالد هو: المخزومي مولاهم، أبو خالد المكي، المشهور بالزنجي، شيخ الحرم، ذكر في الجداول، من مشائخه الصادق، وابن شهاب.
قال (ابن معين): ليس به بأس، وفي رواية ثقة، وقال ابن عدي: حسن الحديث، قال الحاكم: اجتمع للشافعي شيخا أهل الحق-يعني مسلماً- وابن أبي يحيى توفي سنة ثمانين ومائة، وعداده في رجال العدل والتوحيد والتشييع، روى له أبو طالب والموفق والمرشد ومحمد بن منصور.
وجعفر هو: الصادق شهرته تغني عن بيان جلالته، والزهري قد مر الكلام عليه.
وعبيد الله ابن أبي رافع كاتب الوصي، وروى عنه، وقد مر في أثناء المباحث ما يدل على أنه صلى الله عليه وآله وسلم كان يقرأها في كل ركعة، وهذا مع قوله صلى الله عليه وآله وسلم : ((صلوا كما رأيتموني أصلي))، يفيد الوجوب.
قال (المقبلي): وليس المراد القطع والبت في هذه المسألة ونظائرها، ولا شك في ظهور استمرار النبي صلى الله عليه وآله وسلم على قراءة الفاتحة في كل ركعة، ولو اتفق له خلاف ذلك لم يسكت عنه فقد نقلت أمور هي أدق من ذلك، وهذا مما تعم به البلوى، ولم يرو أحد اقتصاره علىقراءتها في بعض الركعات، وأقل من هذا يظن أنه أمر لا يعذر أحد في تركه ثم ذكر ما حكيناه عنه.
أولاً: من أن قولهم لا يحتج بمطلق الفعل لا يصدق على ما حوفظ عليه، وأطال البحث بما لاطائل تحته إلا دعوى أنه لم يرو أحد اقتصاره على قراءتها في الركعات وأن ذلك يفيد الوجوب.
والجواب: أنا لا ننكر وقوع قراءة النبي صلى الله عليه وآله وسلم لها في كل ركعة، ولكنا لا نسلم الاستمرار حتى يتم لهم الاستدلال على الوجوب لما قدمنا من رواية أئمة العترة وغيرهم، والعجب من جزم المقبلي بأنه لم يرو أحد اقتصاره على قراءتها في بعض الركعات، وقوله أن من شأنه أن يفعل الخلاف لبيان الجواز مع ما تقدم من اقتصاره وفعله للخلاف، وليته قال لم يصح عنه الاقتصار إذا كانت رواية الآل غير معتمدة عنده، وإن كانت هي المتعينة لأمر الشارع بالاقتداء بهم وحكمه بنجاة متبعهم وهلاك من خالفهم.
وأما ماحكاه القرطبي عن الطبري من أن الواجب هي أو عدد آياتها أو حروفها.
فقال (ابن عبد البر): هذا لا معنى له لأن التعيين لها والنص عليها قد خصها بهذا الحكم دون غيرها، ومحال أن يجيء بالبدل منها من وجبت عليه فتركها وهو قادر عليها، وإنما عليه أن يجيء بها ويعود إليها كسائر المفروضات المتعينات في العبادات.
تنبيه [مقتضى أدلة من أوجب القراءة في الأوليين]
مقتضى أدلة القائلين بوجوب القراءة في الأوليين فقط أن الواجب في الأخريين: إما الفاتحة وإما التسبيح؛ لأنهم استدلوا على وجوب القراءة في الأوليين بالأمر بذلك، وفعل النبي صلى الله عليه وآله وسلم ووصيه عليه السلام .
ولا شك أن الأمر في حديث أبي سعيد بالفاتحة في كل ركعة، وأمرالوصي بالقراءة أو التسبيح في الأخريين من رواية ابن المنذر، وصحة فعل النبي صلى الله عليه وآله وسلم للقراءة فيهما، وكذلك الوصي في رواية الطحاوي وإجماع أهل البيت على جواز قراءة الفاتحة مع صحة وقوع التسبيح كما مر يدل على أن الواجب فيهما إما قراءة الفاتحة أو التسبيح ثلاثاً.
وقد عرفت نص الحنفية على أنه لا يجب شيء في الأخريين، ويؤخذ من كلام أحمد بن عيسى والحسن بن يحيى ومحمد بن منصور عدم الوجوب فإنه روي عنهم في الجامع الكافي أنهم كانوا يرون فرض القراءة في الأوليين من الخمس صلوات.
قالوا: فإن نسي القراءة في الأوليين قرأ في الأخريين فإن نسي فلم يقرأ إلا في ركعة واحدة من أي صلاة كانت أعاد الصلاة، فقولهم إذا نسي القراءة في الأوليين قرأ في الأخريين دليلاً لعدم وجوب القراءة أو التسبيح في الأخريين عندهم، وإلا لما جعلوهما محلاً لقضاء فرض القراءة، اللهم إلا أن يحمل كلامهم على أنه يقضي فيهما قراءة الأوليين مع الإتيان بالمشروع فيهما من قراءة أو تسبيح، كما قيل في تأويل ما روي عن زين العابدين أنه نسي فاتحة الكتاب في الأولى فقرأها في الثانية وسجد سجدتي السهو أن المراد أنه قرأها في الثانية مع قراءة تلك الركعة، ولا أعلم ما الذي يصرف وجوب القراءة أو التسبيح في الأخريين، فإن قيل: الصارف أنه لم يأمر في حديث المسيء إلا بالقراءة وقد علم من مواظبة النبي صلى الله عليه وآله وسلم عليها في الأوليين وعدوله إلى التسبيح في الأخريين أن محل الوجوب الأوليان فقط؛ إذ هو بيان للأمر المجمل.
قيل: حديث المسيء قد وقع فيه الأمر بالقراءة في كل ركعة كما مر تقريره، وثبت الأمر في غيره بالتسبيح أو القراءة في الأخريين وصح فعلهما، فيجب حمل الوجوب فيه في الأخريين على التخيير.
وكذلك حديث أبي سعيد فيكون كأنه قال الواجب في الأخريين: إما الفاتحة، أو التسبيح؛ إذ الواجب الجمع بين الأدلة مهما أمكن، وأيضاً فإن أفعاله صلى الله عليه وآله وسلم وأفعال وصيه عليه السلام في الصلاة محمولة على الوجوب لأنها مبينة للأوامر المجملة فلا يخرج عن الوجوب إلا ما خصه دليل، وأيضاً فإن الله تعالى قد كرر الأمر بإقامة الصلاة، والمراد الصلاة التي كان يصليها رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم إذ التعريف فيها للعهد، فكل ما فعله الرسول صلى الله عليه وآله وسلم فيها كان داخلاً تحت الأمر بالإقامة فيكون واجباً إلا بدليل.
وقد صح عنه في الأخريين القراءة تارة والتسبيح أخرى، فلا محيص عن القول بوجوبها على البدل ما لم يظهر ما يدفع الوجوب من كتاب أو سنة أو إجماع، وما في حديث سعد من ذكر الحذف في الأخريين، فالمراد به تخفيف القراءة بترك الزيادة على الفاتحة كما مر.
تنبيه [وجوب القراءة في صلاتي الظهرين]
قد ثبت بما مر وجوب القراءة في صلاتي الظهر والعصر، وفي ذلك إبطال لما مر عن ابن عباس من عدم وجوبها فيهما، والظاهر أنه لم يعتمد في ذلك إلا على عدم العلم، فقد روى عنه النسائي أنه سئل أكان رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يقرأ في الظهروالعصر؟ فقال: لا لا، فقيل له: فلعله كان يقرأ في نفسه، فقال خمساً هذه أشد من الأولى، فكان عبداً مأموراً بلغ ما أرسل به.
فقوله فكان عبداً مأموراً..إلخ، يدل على أنه لم يبلغه التبليغ بوجوب القرءاة، وإنما سمعها منه في الجهرية، فقصر الوجوب عليها؛ إذ معنى كلامه هذا أن القراءة لو كانت واجبة فيهما لبلغها النبي صلى الله عليه وآله وسلم ، وإذا كان معتمداً على عدم علمه فمن علم حجة على من لم يعلم.
وقد روى عنه أبو داود أنه كان متردداً وأنه قال: لا أدري أكان رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يقرأ في الظهر والعصر أم لا، وهذا يقوي ما قلنا من اعتماده على عدم العلم، ويلحق بهذه المسألة فروع:
الفرع الأول: ظاهر حديث أنه كان يقرأ في الأوليين من الظهر قدر ثلاثين آية، وفي الأخريين قدر خمس عشرة آية.
وأحاديث الفاتحة وسورة في كل ركعة يدل على أن الزيادة في الأخريين مشروعة، ويؤيده ما أخرجه مسلم قال: حدثنا يحيى بن يحيى وأبو بكر بن أبي شيبة جميعاً عن هشيم، قال يحيى: أخبرنا هشيم، عن منصور، عن الوليد بن مسلم، عن أبي الصديق، عن أبي سعيد الخدري، قال: كنا نحزر قيام رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم في الظهر والعصر فحزرنا قيامه في الركعتين الأوليين من الظهر قدر قراءة الم تنزيل السجدة، وحزرنا قيامه في الأخريين قدر النصف من ذلك، وحزرنا قيامه في الركعتين الأوليين من العصر على قدر قيامه من الأخريين من الظهر، وفي الأخريين من العصر على النصف من ذلك.
قال (مسلم): ولم يذكر أبو بكر في روايته الم تنزيل وقال قدر ثلاثين آية.
قوله: كنا نحزر بزاي معجمة بين حاء وراء مهملتين والحزر: التقدير، ويجوز ضم الزاي من المضارع وكسرها لغتان.
هشيم هو: ابن بشير السلمي أبو معاوية نزيل بغداد الحافظ، قال أبو حاتم: لا يسأل عنه في صدقه وأمانته وصلاحه، وقال في التذكرة: لانزاع أنه كان من الحفاظ الثقات، إلا أنه كثير التدليس.
وقال (حماد بن زيد): ما رأيت في المحدثين أمثل من هشيم، وقال ابن سعد: ثقة حجة، إذا قال أخبرنا، قال علامة العصر: الرجل ثقة خرج مع النفس الرضية واستشهد في المعركة ولده معاوية بن هشيم وأخوه الحجاج بن بشير، توفي هشيم في شعبان سنة ثلاث وثمانين ومائة.
احتج به الجماعة روى له أئمتنا الخمسة، قال في الجداول: أينما ورد هشيم مطلقاً فهو المترجم له.
وأما منصور فهو: ابن المعتمر السلمي، أبو عتاب، علامة الشيعة ومفخرهم الكوفي، صام أربعين سنة، وقام ليلها وكان يبكي الليل كله، فإذا أصبح كحل عينيه وبرق شفتيه ودهن رأسه، بايع لزيد بن علي عليه السلام وكان أحد دعاته، اتفق الناس على حجيته، توفي سنة اثنتين وثلاثين ومائة.
احتج به الجماعة، وروى له النيروسي وأئمتنا الخمسة وفي المناقب.
قال (علامة العصر): ولم يحضر الوقعة مع الإمام فخرج مع عبدالله بن معاوية يقاتل بني أمية.
وأما الوليد فهو: أبو بشر العنبري، وأبو الصديق هو الناجي، وقد مر ذكرهما، وعن أنس قال: كان رجل من الأنصار يؤمهم في مسجد قباء، فكان كلما افتتح سورة يقرأ بها لهم في الصلاة مما يقرأ به افتتح بـ{قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ}[الإخلاص:1 ] حتى يفرغ منها، ثم يقرأ سورة أخرى معها، فكان يصنع ذلك في كل ركعة، فلما أتاهم النيي صلى الله عليه وآله وسلم أخبروه الخبر فقال: ((وما يحملك على لزوم هذه السورة في كل ركعة؟ قال: إني أحبها، قال: حبك إياها أدخلك الجنة)).
رواه الترمذي وقال: حسن صحيح غريب، وأخرجه البخاري تعليقاً، وأخرجه أيضاً البزار، والبيهقي، والطبراني، والحجة منه أن تبشير النبي صلى الله عليه وآله وسلم بالجنة يدل على الرضا بفعله وهودليل الاستحباب، وفي استحباب ذلك خلاف، فحكي في النيل: عن مالك الكراهة، وهو مقتضى مذهب الثوري، وبه قال أهل المذهب فإنهم قد نصوا على أن الزيادة غير مشروعة، وهو الأظهر عند الشافعية، لما في حديث أبي قتادة وغيره من الاقتصار على الفاتحة.
قال أهل المذهب: فإن زاد وجب عليه سجود السهو إذ هو زيادة ذكر جنسه مشروع في الصلاة فيجبر بالسجود، ولعموم حديث: ((لكل سهو سجدتان))، والعامد كالساهي عندهم في وجوب السجود، ولا تفسد الصلاة لأن الزيادة إذا كانت من القرآن أو من أذكار الصلاة لا توجب الفساد إذا كانت في موضعها ولم تكن خطاباً؛ إذ لم يرد النهي إلا عن كلام الناس كما في حديث معاوية بن الحكم: ((إن صلاتنا هذه لا يصلح فيها شيء من كلام الناس إنما الصلاة التسبيح، والتحميد وقراءة القرآن))، فدل على أن فعل هذه الأذكار لا تفسد بها الصلاة في أي موضع كانت إلا أنا خصصنا ما فعل في غير موضعه بالنهي عن القراءة في الركوع والسجود ونحوه، وبقي ما فعل منها في موضعه داخلاً تحت العموم، إلا أنه لما ثبت هنا اقتصار الشارع على الفاتحة في الأخيرتين كانت الزيادة موجبة لسجود السهو لحديث: ((سجدتا السهو تجبان من الزيادة والنقصان))، وحديث معاوية بن الحكم أخرجه المؤيد بالله والإمام أحمد بن سليمان والأمير الحسين ومسلم وأبو داود والنسائي وغيرهم. وقال بعض العلماء: بل الزيادة مستحبة لما مر، وهو قول الشافعي وهو ظاهر كلام الإمام المهدي عليه السلام في البحر فإنه قال: ويؤثر المفصل والطيال منه في الفجر إلى أن قال: وفي أوليي الظهر كالفجر أخرييه كنصف ذلك، وفي أوليي العصر كأخريي الظهر، وفي أخرييه نصف ذلك، لقول الخدري حزرنا صلاة رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ... الخبر.
وأما حديث أبي قتاده فليس صريحاً في الاقتصار لاحتمال أن يراد به أنه كان يقتصر على الفاتحة وأن يراد أنه كان لا يخل بها، بل كان يقرؤها في كل ركعة من دون تعرض منه لكونه يزيد عليها في الآخرتين أم لا، سلمنا فترجيحه على حديث أبي سعيد وما في معناه من ترجيح النافي على المثبت وهو عكس ما ذكره أهل الأصول.
فإن قيل: إنما رجح حديث أبي قتادة لاتفاق البخاري ومسلم على روايته، وحديث أبي سعيد إنما رواه مسلم وحديث: ((لا صلاة إلا بفاتحة الكتاب وسورة في كل ركعة))، لم يروه الشيخان، قيل: فقد روى حديث أنس البخاري وهو نص في المقصود، ثم إن ترجيح رواية البخاري على ما ثبت سنده من طرق تحكم وأيضاً الترجيح لا يصار إليه إلا عند التعارض وهنا لا تعارض إذ ليس في رواية أبي قتادة ما يمنع الزيادة، فيمكن أنه كان تارة يزيد، وتارة يقتصر على الفاتحة أو التسبيح، ولفظ كان في حديث أبي قتادة وحديث التسبيح يفيدان ذلك أعني أن الاقتصار على الفاتحة أو التسبيح هو الأكثر من فعله.
وأما ما قيل من أن حديث أبي سعيد ليس نصاً وإنما هو تقدير وتخمين، فجوابه: أنه قد أفاد أنه كان يقرأ ذلك القدر أو قريب منه إذ عدالة الراوي توجب ذلك، وأيهما وقع فقد حصلت الزيادة سلمنا، فالأحاديث الأخر ظاهرة في المطلوب. والله أعلم.
الفرع الثاني [في ذكر أهمية تطويل القراءة في الصلاة]
قال الإمام (المهدي) عليه السلام : يكره جمع سورتين بعد الفاتحة للتطويل، وقال في الهدي النبوي: إنما كان يفعله النبي صلى الله عليه وآله وسلم في النافلة، وأما في الفرض فلم يحفظ عنه، وقيل: لا كراهة، لحديث أنس ولما في العلوم: قال حدثنا محمد، قال: حدثني أحمد بن عيسى، عن حسين بن علوان، عن أبي خالد، عن أبي جعفر قال: كان رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم لا يقرأ المعوذتين في مكتوبة ولا تطوع إلا ومعهما غيرهما.
قلت: ففي قراءته معهما غيرهما دليل على عدم الكراهة؛ إذ لا يجوز أن يكون لعدم الاجتزاء بهما وحدهما؛ لأنه قد صح أنهما من القرآن، وظاهر أدلة وجوب الزيادة على الفاتحة الإطلاق الصادق على المعوذتين، مع أنه لا يبعد دعوى الإجماع على الاجتزاء بواحدة منهما مع الفاتحة.
وفي (العلوم) أيضاً: عن علي ومحمد ابني أحمد بن عيسى عن أبيهما أن علياً عليه السلام قرأ سورة النجم في صلاة الفجر، فلما قرأ السجدة في آخر السورة سجد، ثم قام فقرأ إذا زلزلت الأرض، ثم كبر وركع، وقياساً على النافلة إذ لافارق، وربما أنه كان الغالب الترك في الفريضة تخفيفاً على المؤتمين.
وعلى الجملة فمن صلى لنفسه فريضة أو نافلة طول ماشاء وقرأ ماشاء، ومن صلى إماماً فقد ندب الشارع إلى التخفيف، وسيأتي الكلام على تطويل الإمام مستوفى إن شاء الله تعالى.
الفرع الثالث [جواز تكرير سورة أو آية بعد الفاتحة]
لا بأس بتكرير سورة أو آية أو أكثر بعد الفاتحة في ركعة إذ لامانع، وعموم أدلة قراءة القرآن في الصلاة يشمله، وروى النسائي وغيره عن أبي ذر أن النبي( صلى الله عليه وآله وسلم ) قام بآية يرددها حتى أصبح {إِنْ تُعَذِّبْهُمْ فَإِنَّهُمْ عِبَادُكَ...} [المائدة:118 ]الآية، وقد كان في السلف من يقوم ليلة بآية يرددها، وأما تكرير الفاتحة في الركعة، فقال في البحر: فيه تردد تفسد إذا زاد ركناً عمداً ولا كتكرير الآيات بعدها، واختاره الإمام يحيى والإمام الحسن بن يحيى القاسمي وولده علامة العصر، والجامع أنه زيادة ذكر، ولعموم أدلة قراءة القرآن في الصلاة، ولأن ما ورد في قراءة الفاتحة لم يفصل بين المرة وما زاد عليها، ويمكن أن يقال: استمرار النبي صلى الله عليه وآله وسلم على عدم تكرارها في الركعة دليل على عدم شرعيَّته؛ إذ لو كان مشروعاً لبينه، لا سيما والمقام مقام تعليم وبيان، وقد قال: ((صلوا كما رأيتموني أصلي))، وأيضاً من كرر فقد خالف هدي النبي صلى الله عليه وآله وسلم وسننه التي واظب عليها طول عمره.
وقد قال تعالى: {اتبعوه}، وقال صلى الله عليه وآله وسلم : ((ما كان على غير أمرنا فهُوَ رَدٌّ))، وقال: لا قول ولاعمل ولا نية إلا بمطابقة السنة، ويجاب بأنه لا يشترط البيان بالفعل ولا بالقول الخاص، بل يكفي الدليل العام مالم يظهر معارض واستمراره على عدم التكرار لا يصلح لمعارضة ذلك الدليل؛ إذ لا تتوقف صحة دلالة الدليل على وقوع الفعل في غير الواجب في حقنا وحقه معاً، فمن الجائز أن لا يفعل النبي صلى الله عليه وآله وسلم بعض المباحات طول عمره مع قيام دليل الإباحة، ونحن لم ندع إلا إباحة ذلك وجوازه، فمن كرر لم يكن مخالف للسنة، والقول بعدم الفساد وهو المصحح للمذهب.
قالوا: لأنها ليست ركناً وحدها بل هي مع الآيات، ولكن يجب بتكريرها سجود السهو عندهم؛ إذ هو زيادة ذكر جنسه مشروع فيها، وكذا يجب في تكريرالسورة، نص عليه في البحر ولفظه: فإن كرر الفاتحة أو السورة أو التشهد سجد له إذ زاد على المشروع، وقال محمد بن الحسن: إن كرر الفاتحة في الأخريين لم يسجد إذ هي كالدعاء لقيام التسبيح مقامها.
الفرع الرابع [الاكتفاء بقراء بعض سورة أو آية مع الفاتحة]
لو قرأ مع الفاتحة بعض سورة أو آيات من سور متعددة أجزأه ذلك عند أهل المذهب، وقال النووي: يجوز قطع القراءة، والقراءة ببعض السورة بلا خلاف ولا كراهة فيه إن كان القطع لعذر، وإن لم يكن له عذر فلا كراهة فيه أيضاً ولكنه خلاف الأولى.
قال: هذا مذهبنا ومذهب الجمهور، وبه قال مالك في رواية عنه والمشهور عنه كراهته.
قلت: والقول بأنه خلاف الأولى هو مذهب الهادي عليه السلام فإنه نص في الأحكام على أن الأحب إليه قراءة سورة كاملة.
قال في (شرح التجريد): لأن في بعض الأخبار: ((لا صلاة إلا بفاتحة الكتاب وسورة)).
وفي الشفاء أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم كان يتم السورة التي يقرؤها مع أم القرآن.
قال: ولاخلاف أن إتمامها غير واجب، فدل على استحبابه، وقال الغزالي: لابأس بأن يقرأ في الثانية بآواخر السور نحو الثلاثين أو العشرين إلى أن يختمها؛ لأن ذلك لا يتكرر على الأسماع كثيراً، فيكون أبلغ في الوعظ، وأدعى إلى التفكر، وإنما كره بعض العلماء قراءة بعض أول السورة وقطعها.
وقال (ابن القيم): أما قراءة آواخر السورة وأوساطها فلم يحفظ عنه، لنا عموم قوله في الأحاديث السابقة: ((وما تيسر)) وإطلاق قوله: ((وقرآن معها)) ونحوه.
وما أخرجه مسلم في صحيحه قال: حدثني هارون بن عبد الله، حدثنا حجاج بن محمد، عن ابن جريج (ح) وحدثني محمد بن رافع وتقاربا في اللفظ، حدثنا عبد الرزاق، أخبرنا ابن جريج، قال: سمعت محمد بن عباد بن جعفر يقول: أخبرني أبو سلمة بن سفيان وعبد لله بن عمرو بن العاص وعبد الله بن المسيب العابدي، عن عبد الله بن السائب قال: صلى لنا رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم الصبح بمكة فاستفتح سورة المؤمنين حتى جاء ذكر موسى وهارون أو ذكر عيسى عليه السلام ـ محمد بن عباد يشك أو اختلفوا عليه ـ أخذت النبي صلى الله عليه وآله وسلم سعلة فركع وعبد الله بن السائب حاضر ذلك.
وفي حديث عبد الرزاق: فحذف فركع، وفي حديثه وعبد الله بن عمرو ولم يقل ابن العاص.
حجاج، قال في (الجداول): حجاج بن محمد مولى سليمان بن مجالد المصيصي، عن ابن جريج وشعبة وغيرهما، وثقه ابن المديني ورفع أحمد من أمره جداً، توفي سنة ست وثمانين ومائة، وقيل: مائتين، روى له أبو طالب وفي المناقب، وابن جريج قد مر ذكره.
وعبد الرزاق هو: ابن همام بن نافع الصنعاني الحميري مولاهم، قال ابن معين: لو ارتد عبد الرزاق ما تركنا حديثه، عداده في ثقات الشيعة.
قال (ابن معين): كان أغلا في التشيع من عباد بن يعقوب بمائة ضعف، توفي سنة إحدى عشرة ومائتين.
احتج به الجماعة، وروى له الهادي في المنتخب والأخوان والمرشد بالله، وفي كتاب حي على خير العمل والمحيط والكامل المنير والمناقب.
وابن عباد هو: المخزومي المكي، وثقه ابن معين، روى له المرشد بالله، واحتج به الجماعة.
وأبو سلمة هو: أبو سلمة بن سفيان بن عبد الأشهل المخزومي، ذكره الحاكم أبو أحمد ممن لا يعرف اسمه.
وعبد الله بن عمرو قال (النووي)، قال الحفاظ قوله: ابن العاص غلط والصواب حذفه، وليس هذا عبد الله بن عمرو بن العاص الصحابي، بل هو عبد الله بن عمرو الحجازي، كذا ذكره البخاري في تاريخه، وابن أبي حاتم، وخلائق من الحفاظ المتقدمين والمتأخرين، والعابدي بالباء الموحدة، والحديث أخرجه البخاري تعليقاً، وذكره في الدر المنثور، ونسبه إلى عبد الرزاق والشافعي وسعيد بن منصور وابن سعد وابن أبي شيبة وأحمد، والبخاري في تاريخه، ومسلم وأبي داود وابن ماجة وابن خزيمة والطحاوي وابن حبان والبيهقي في السنن، وأخرج ابن أبي شيبة في المصنف وابن خزيمة وابن حبان والحاكم عن أبي أيوب وزيد بن ثابت أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قرأ في المغرب بالأعراف في الركعتين جميعاً، ونحوه عن عائشة.
قال (القسطلاني): وأدلة الجواز كثيرة.
قلت: وسيأتي ذكرها في مواضعها من الآيات والسور، وكثير منها ورد في النوافل لكن الفرق يحتاج إلى دليل، على أن فيما ذكرناه هنا كفاية، وقد قرأ عمر في الركعة الأولى بمائة وعشرين آية من البقرة يعني في الصبح، وقرأ ابن مسعود بأربعين آية من الأنفال.
أخرج هذين الأثرين البخاري تعليقاً، وفي الإحياء أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم سمع بلالاً يقرأ من هاهنا وهاهنا، فسأله عن ذلك فقال: أخلط الطيب بالطيب، فقال: أحسنت.
وذكر في التخريج أن أبا داود أخرج بإسناد صحيح عن أبي هريرة نحوه.
الفرع الخامس [رفع الصوت يقصد الإعلام يبطل الصلاة]
لو رفع صوته بالقراءة إعلاماً لغير المار والمؤتمين بأنه في الصلاة فسدت صلاته عند الهادي وأبي حنيفة ومحمد بن الحسن، وهو المصحح للمذهب كالكلام.
وقال (الناصر) و(الشافعي) و(أبو يوسف): لا كإطالة الركوع انتظاراً، ولما روي أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم كان يتنحنح لعلي عليه السلام إذا قرع عليه الباب وهو في الصلاة، رواه النسائي وابن ماجة وصححه ابن السكن، ورواه الترمذي بلفظ: سبح وهو أصرح، وإذا جاز ذلك إعلاماً فلا فارق بينه وبين القراءة.
وقال (م) بالله و(القاضي زيد): إن قصد مجرد الإعلام أفسد لا إن قصدهما معاً.
وأجيب بأن التشريك في العبادة يبطلها لقوله تعالى: {وَلاَ يُشْرِكْ بِعِبَادَةِ رَبِّهِ أَحَدًا}[الكهف:110]، ورد بأن الآية واردة في الرياء والسمعة، كما في كتب التفسير، والخلاف في سائر الأذكار كالقراءة، وكذلك لو قصد بالقراءة خطاب الغير أوالجواب عليه فسدت على المذهب، ونسب القول بفسادها بالخطاب في البحر إلى القاسمية وأبي حنيفة، ثم قال: والخلاف فيه كرفع الصوت بالتسبيح.
قلت: ويستدل للجواز بما في شرح ابن أبي الحديد عن علي عليه السلام أنه كان يقرأ في صلاة الصبح وخلفه جماعة من أصحابه، فقرأ واحدٌ منهم رافعاً صوته معارضاً قراءة أمير المؤمنين عليه السلام : {إِنِ الْحُكْمُ إِلاَّ لِلَّهِ يَقُصُّ الْحَقَّ وَهُوَ خَيْرُ الْفَاصِلِينَ}[الأنعام:57]، فلم يضطرب عليه السلام ولم يقطع صلاته ولم يلتفت وراءه، ولكنه قرأ معارضاً له على البديهة: {فَاصْبِرْ إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ وَلاَ يَسْتَخِفَّنَّكَ الَّذِينَ لاَ يُوقِنُونَ}[الروم:60 ]وفيه وروى أنس بن عياض المدني، قال: حدثني جعفر بن محمد الصادق عليه السلام عن أبيه عن جده أن علياً عليه السلام كان يوماً يؤم الناس وهو يجهر بالقراءة فجهر ابن الكواء من خلفه: {وَلَقَدْ أُوحِيَ إِلَيْكَ وَإِلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكَ لَئِنْ أَشْرَكْتَ لَيَحْبَطَنَّ عَمَلُكَ وَلَتَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِينَ}[الزمر:65]، فلما جهر ابن الكواء وهو خلفه بها سكت علي عليه السلام ، فلما أنهاها ابن الكواء أعاد علي عليه السلام فأتم قراءته، فلما شرع علي عليه السلام في القراءة أعاد ابن الكواء الجهر بتلك الآية فسكت علي عليه السلام ، فلم يزالا كذلك يسكت هذا ويقرأ ذاك مراراً حتى قرأ علي عليه السلام : {فَاصْبِرْ إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ وَلاَ يَسْتَخِفَّنَّكَ الَّذِينَ لاَ يُوقِنُونَ}[الروم:60]، فسكت ابن الكواء وعاد عليه السلام إلى قراءته، والظاهر أن الشارح نقله من كتاب صفين لإبراهيم بن الحسن بن ديزيل المحدث كما يقتضيه سياق الكلام، ودلالته على ما ذكرناه واضحة فإن أمير المؤمنين عليه السلام لم يقصد بتلاوة الآية إلا الرد والجواب، وفيه أن السكوت لا يبطل الصلاة، وفي البحر: أن السكوت الطويل بحيث يظن أنه غير مصل مفسد، وقيل لا هب إذ لا فعل، وأجاب بأنه مقيس.
قال (الإمام عز الدين) عليه السلام : لعله أراد على الفعل الكثير إذ هو ما ظن أن فاعله غير مصل.
قال عليه السلام : والأقرب أنه لا وجه لإفساده، وأن العلة في الفعل الكثير أنه فعل يظن المشتغل به أنه غير مصل، وهنا لا فعل فاختل بعض الوصف.
الفرع السادس [جواز القراءة في الصلاة للاستحفاظ أو الاستشفاء]
ذكر في حواشي الأزهار ونسبه إلى اللمع وصححه للمذهب: أن من قرأ في الصلاة قاصداً للاستحفاظ أوالاستشفاء أجزأ للصلاة إذا لم تغير القراءة، غايته أنه لم يعتقد كونه للصلاة، ولا تجب هذه النية، وجعله للاستحفاظ لا يخرجه عن كونه قرآناً بعد فعل ما أشار إليه الشارع بقوله: {فَاقْرَءُوا مَا تَيَسَّرَ مِنَ الْقُرْآنِ}[المزمل:20].
قلت: ومن الأدلة على ذلك أن الفاتحة قد اشتملت على الذكر والدعاء.
وقد ذكر العلماء أنه ينبغي استحضار معانيها، ومن جملة ذلك قصد الشكر من المصلي وطلب الهداية والاستعانة، وأيضاً فإن القنوت بالقرآن من جملة أذكار الصلاة، ومن المعلوم أن المقصود به أن المصلي يدعو لنفسه بما اشتملت عليه تلك الدعوات القرآنية، وهي مشتملة على سؤال خير الدنيا والآخرة، الذي من جملته الاستحفاظ والشفاء، ولم يقل أحد بأنه ليس المراد بها إلا التلاوة وأنه لا يجوز للمصلي قصد الطلب لنفسه، بل عباراتهم في الحث على حضور القلب يدل على أنه ينبغي قصد الدعاء وطلب ما اشتملت عليه من الخيرات، على أن أدلة القراءة لم تفصل كما أشار إليه صاحب اللمع، وليس قصد الاستشفاء ونحوه مناف للعبادة لأنه في نفسه عبادة، وحديث: ((قراءة القرآن في الصلاة خيرمن قراءة القرآن في غير صلاة)) يدل على ذلك إذ المراد أن قراءة القرآن فيها خير لما أريدت له القراءة إذ لم يفصل. والله أعلم.
هذا وأما من يجيز الدعاء في الصلاة بالقرآن وغيره فلا إشكال بجواز ذلك على مذهبه، فإن قلت: فهل يلحق بهذه السورة قراءة من استؤجر على التلاوة فقصد بقراءته في الصلاة أن تكون عما استؤجر عليه؟
قلت: قد ذكر الإمام القاسم بن محمد عليه السلام أن ذلك لا يجزئ، أما الفريضة فلوجوب تأديتها لله تعالى خالصة كما قال: {وَلاَ يُشْرِكْ بِعِبَادَةِ رَبِّهِ أَحَدًا}[الكهف:110]، وأما النافلة فإن استؤجر عليها وعلى القراءة فيها أجزأه إن صح قياسها على الحج في الاستئجار عليها، وإن لم يستأجر إلا على التلاوة فلا تصح؛ لأن أذكارها منوية لغير فاعل أركانها، ولابد أن تكون كلها عن فاعلها علم ذلك من ضرورة الدين، أو عن المستأجر إن صح القياس.
قلت: أما أهل المذهب فلم أقف لهم على نص، والذي تقضى به أصولهم عدم الفساد إذا لم تكن القراءة عن الغير محظورة؛ لأنهم لا يشترطون نية كون القراءة في الصلاة، ولذا أجازوا أن ينوي بالقراءة النافلة وإن كانت في الفريضة، ولما مر لهم من جواز جعل القراءة للاستشفاء، وظاهره سواء كان للنفس أو الغير، وسواء كان بأجرة أم لا، ولكن إذا كان المنوي عما استؤجر عليه هو القدر الواجب فالظاهر من قواعدهم عدم وقوعه عنها لعدم صحة الإجارة على الواجب. والله أعلم.
ولقائل أن يقول: إذا قد ثبت شرعاً جواز الاستئجار على قراءة القرآن فلا مانع من جواز القراءة عن الغير في الصلاة سواء كانت في فريضة أو نافلة، وفعل الوصي مع الخارجي يدل على ذلك، فإنه يؤخذ منه أنه إذا قصد بالقراءة في الصلاة أمراً آخر لم تفسد به ما لم يكن ذلك الأمر منافياً للصلاة، فإن قيل: تشريك الغير في القراءة تشريك في العبادة والواجب إخلاصها، قيل: قد مر تحقيق معنى العبادة وأنها الخضوع لله، وهذا لم يخضع للمستأجر له وإنما توسل إلى الله تعالى بتلك العبادة في دفع ضرر أوجلب نفع للمستأجر، والتوسل إلى الله تعالى عبادة في نفسه كتشريك المؤتمين وغيرهم في الأدعية القرآنية إذا تليت في الصلاة، وكذا غيرها من الدعوات عند من يجيز الدعاء في الصلاة، وهذا كله ليس بتشريك، ولا ينافي الإخلاص؛ لأن أركان الصلاة كلها من التلاوة وغيرها خالصة لله تعالى، وإنما يكون تشريكاً لو قصد الخضوع للغير والتقرب إليه وطلب الرضا منه كعباد الأصنام والمرائين، فإن قيل: الصلاة مجموع أذكار وأركان مخصوصة لا تتم إلا بها، ومن نوى بقراءته عما استؤجر عليه فقد أخل ببعض أجزاء الصلاة؛ لأنه لم يقصد بقراءته تلك تأدية التلاوة التي هي جزء من الصلاة فلا تصح صلاته لعدم كمالها.
قيل: الشرط في صحة الصلاة هو حصول القراءة فيها، وقد حصلت فمن أدعى أمراً زائداً على ذلك فعليه الدليل، على أنا لا نسلم أنه لم يقصد تأدية التلاوة التي هي جزء من الصلاة، بل قصد ذلك، وإنما قصد معه التوسل إلى الله تعالى ببركة تلك التلاوة، والتوسل إلى الله تعالى بالعبادة لا يبطلها كمن قصد بالحج أداء الفرض والتوسل به إلى الله تعالى في دفع الفقر، وبالصيام جلب الصحة، وبالصلاة الاستشفاء من المرض والاستعانة بها على الحوائج، وقد نبه الشارع على ذلك كله، وهو يدل على أنه لا ينافي الطاعة إلاما شغل عنها ومنع من فعلها، وأنه لا يمنع الإخلاص إلا ما قصد به مشاركة الغير في معنى العبادة، فتنبه لهذا فإنه قد يغلط كثير في جعل بعض الأمور منافية للعبادة والإخلاص، وليس كذلك وإنما أُتوا من عدم التأمل لحقيقة العبادة ومعنى الإخلاص.
الفرع السابع [استحباب ترتيب قراءة السورة في الركعات]
قال أهل المذهب: يستحب ترتيب السور في الركعات فلا يقرأ في الثانية سورة قد قرأها في الأولى، ورواه أبو مضر عن جماهير العلماء، وقال في الغيث: ويكره أن يقرأ في الركعة الثانية السورة التي قبل ما قرأه في الأولى.
قال في (حواشي الأزهار): إلا الفرقان فإنه بدأ فيه بالعالم العلوي وثنى بالعالم السفلي كما ورد.
وقال (ابن الباقلاني): لا خلاف أنه يجوز للمصلي أن يقرأ في الركعة الثانية سورة قبل التي قرأها في الأولى، وإنما يكره ذلك في ركعة، ولمن يتلو في غير الصلاة.
قلت: بل الخلاف في غير الركعة كما مر، وروى القسطلاني عن الحنفية الكراهة ولو في ركعتين، وقيل: مكروه في الفرائض دون النوافل.
وقال (النووي): ويقرأ على ترتيب المصحف، ويكره عكسه ولا تبطل به الصلاة، والوجه في الكراهة في الصورتين أن قراءة سورة في ركعتين قليل من فعله صلى الله عليه وآله وسلم ، وكون مراعاة ترتيب المصحف العثماني مستحبة، والوجه لمن قال لا كراهة في النوافل حديث حذيفة، وظاهر كلام البخاري وقتادة أنه لا كراهة؛ إذ الكراهة حكم شرعي يحتاج إلى دليل، وما ذكروه لا يثبت به هذا الحكم، وعموم الأدلة قاضية بأن المطلوب مطلق القراءة، كما قال قتادة: كل كتاب الله، ويؤيد ما قضى به العموم ما أخرجه أبو داود والبيهقي في سننه عن رجل من جهينة أنه سمع النبي صلى الله عليه وآله وسلم يقرأ في الصبح: {إِذَا زُلْزِلَتِ الأَرْضُ}[الزلزلة:1 ]في الركعتين كلتيهما، قال: فلا أدري أنسي أم قرأ ذلك عمداً، والظاهر أنه فعل لبيان الجواز؛ إذ لو كان سهواً لم يقر عليه إذ لا يقر على سهو، ولا سكت عنه فيما يتلعق بالتبليغ.
وأخرج سعيد بن منصور عن سعيد بن المسيب أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم صلى بأصحابه الفجر فقرأ بهم في الركعة الأولى: {إِذَا زُلْزِلَتِ الأَرْضُ}[الزلزلة: 1]ثم أعادها في الثانية.
وفي حديث حذيفة أنه صلى مع النبي صلى الله عليه وآله وسلم ذات ليلة فافتتح بالبقرة، ثم النساء، ثم آل عمران في ركعة.
والحديث رواه جماعة، وأخرج البخاري تعليقاً: أن الأحنف قرأ بالكهف في الأولى وفي الثانية بيوسف أو يونس، وذكر أنه صلى مع عمر الصبح بهما.
الفرع الثامن [في الترتيب بين الفاتحة والسورة التي بعدها]
في الترتيب بين الفاتحة والسورة، نص أهل المذهب علىأنه سنة وليس بواجب، وأن من قدم السورة على الفاتحة أجزأته صلاته وإنما يلزمه سجود السهو، فإن قيل: ظاهر الأدلة الوجوب لأن في بعضها عطف الزيادة بالفاء لقوله فصاعداً وهي للترتيب، وفي بعضها بالواو وهي أيضاً للترتيب عند أهل المذهب، هذا مع مواظبته صلى الله عليه وآله وسلم طول عمره على تقديم الفاتحة فما هو الصارف للظاهر؟
قيل: الصارف ما مر من حديث حذيفة؛ إذ لا فارق بين الفاتحة وغيرها، ولأن ترتيب السور ليس بتوقيف من الشارع عند الجمهور، ولذلك اختلفت مصاحف السلف قبل مصحف عثمان، فروي أنه كان أول مصحف علي عليه السلام : {اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ}[العلق:1]، وكان أول مصحف أبي الفاتحة ثم النساء إلى غير ذلك من الاختلاف، وإذا لم يكن الترتيب بتوقيف الشارع لم يكن في مخالفة هذا الترتيب الموجود الآن مخالفة للسنة في الترتيب، على أن القائلين بأنه عن توقيف لا يقولون بعدم جواز مخالفته في التلاوة، وحينئذ يكون جواز تقديم السورة على الفاتحة مجمع عليه.
قال (أبو الحسن بن بطال): ومن قال بهذا القول -يعني أن الترتيب بتوقيف الشارع- لا يقول أن تلاوة القرآن في الصلاة والدرس يجب أن تكون مرتبة على حسب الترتيب الموقف عليه في المصحف، بل إنما يجب تأليف سورة في الرسم والخط خاصة، ولا يعلم أن أحداً منهم قال: إن ترتيب ذلك واجب في الصلاة وفي قراءة القرآن ودرسه، وأنه لا يحل لأحد أن يتلقن الكهف قبل البقرة، ولا الحج قبل الكهف، ألا ترى قول عائشة للذي سألها: لا يضرك أية قرأت قبل، وقد كان النبي صلى الله عليه وآله وسلم يقرأ في الصلاة السورة في ركعة ثم يقرأ في ركعة أخرى بغير السورة التي تليها.
قال: وأما ما روي عن ابن مسعود وابن عمر أنهما كرها أن يقرأ القرآن منكوساً، وقالا: ذلك منكوس القلب، فإنما عنيا بذلك من يقرأ السورة منكوسة ويبتدئ من آخرها إلى أولها لأن ذلك حرام محظور، ومن الناس من يتعاطى هذا في القرآن والشعر ليذلل لسانه بذلك ويقدر على الحفظ، وهذا حظره الله تعالى ومنعه في القرآن؛ لأنه إفساد للسورة ومخالفة لما قصد بها، هذا وأما ترتيب الآيات في السور فهو توقيف من الله تعالى على ما بنى عليه الآن في المصحف، وهكذا نقلته الأمة عن نبيها صلى الله عليه وآله وسلم .
وقال في (الإتقان): الإجماع والنصوص المترادفة على أن ترتيب الآيات توقيفي لا شبهة في ذلك، أما الإجماع فنقله غير واحد.
قلت: وأما النصوص فمنها ما أخرجه أحمد بإسناد حسن عن عثمان بن أبي العاص قال: كنت جالساً عند رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم إذ شخص ببصره ثم صوبه، ثم قال: ((أتاني جبريل فأمرني أن أضع هذه الآية هذا الموضع من هذه السورة: {إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالإِحْسَانِ وَإِيتَاءِ ذِي الْقُرْبَى...}[النحل:90 ] إلى آخرها))، وفي معناه أحاديث قد ذكرها في الإتقان.
إذا عرفت هذا فمن عكس في التلاوة في الصلاة أو غيرها فلا يخلو تعكيسه إما أن يكون في الحروف أو في الآيات، إن كان الأول فلا إشكال في فساد صلاته وعدم جوازه لإفساده نظم القرآن ومعناه، وإن كان الثاني فقال النووي: يجب ترتيب آيات الفاتحة، وبه قال الرازي قال: فلو قرأ النصف الأخير ثم الأول يحسب له الأول دون الأخير، وهذا هو الظاهر للمذهب.
قال (ابن مفتاح): تعكيس الآي إن كان في القدر الواجب واجتزئ به أفسد وإلا فلا.
قال (السحولي): أو حصل بالتعكيس فساد المعنى، يعني ولو لم يكن في القدر الواجب.
وفي (شرح الأزهار): أنه إذا قدم النصف الأخير من الفاتحة كاملاً على النصف الأول فسدت صلاته، قال في حاشية: إن اعتد به، وحجتهم على الفساد أنه يغير نظم القرآن ويبطل إعجازه.
واحتج في البحر بقوله: اقرءوا كما علمتم، وظاهركلامهم أنه لافرق بين الفاتحة وغيرها.
وفي شرح المهذب مالفظه: وأما قراءة السورة من آخرها إلى أولها فمتفق على منعه؛ لأنه يذهب بعض أنواع الإعجاز، ويزيل حكمة الترتيب.
وقد مر من كلام ابن بطال أنه محظور، واستدل له السيوطي بقول ابن مسعود وقد سئل عمن يقرأ القرآن منكوساً: ذاك منكوس القلب. أخرجه الطبراني بسند جيد.
وفي (شرح الأزهار): عن أحد قولي المؤيد بالله أنه لا يشترط الترتيب بين آي الفاتحة، قال في ضوء النهار: إلا أنه ينبغي أن يقيد بما إذا لم يختل المعنى المتعلق بالضمائر والعطف ونحوها، وجعل الخلاف مترتباً على الخلاف في كون ترتيب الآيات توقيفياً أم لا.
قلت: وقد مر أنه توقيفي بالإجماع، وأما خلط سورة بسورة فقد مر جوازه عند أهل المذهب، وهو الظاهر من كلام الغزالي وغيره وإن كان خلاف الأولى.
قال (السيوطي): وأما خلط سورة بسورة فعد الحليمي تركه من الآداب لما أخرجه أبو عبيد عن سعيد بن المسيب أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم مر ببلال وهو يقرأ من هذه السورة ومن هذه السورة، فقال: ((يا بلال مررت بك وأنت تقرأ من هذه السورة ومن هذه اسورة، قال: خلطت الطيب بالطيب، قال: اقرأ السورة على وجهها)) أو قال على نحوها.
قال في (الإتقان): مرسل صحيح، وهو عند أبي داود موصول عن أبي هريرة بدون آخره، وأخرجه أبو عبيد من وجه آخر عن عمر مولى عفرة أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال لبلال: ((إذا قرأت السورة فانفذها)).
وقال: حدثنا معاذ عن ابن عوف قال: سألت ابن سيرين عن الرجل يقرأ من السورة آيتين ثم يدعها ويأخذ في غيرها؟ قال: ليتق أحدكم أن يأثم إثماً كبيراً وهو لا يشعر.
وأخرج عن ابن مسعود قال: إذا ابتدأت في سورة فأردت أن تتحول منها إلى غيرها فتحول إلى: {قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ}[الإخلاص:1]، فإذا ابتدأت فيها فلا تتحول منها حتى تختمها.
وأخرج عن ابن أبي الهذيل قال: كانوا يكرهون أن يقرءوا بعض الآية ويدعوا بعضها. قال أبوعبيد: الأمر عندنا على كراهة قراءة الآيات المختلفة كما أنكر رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم على بلال، وكما أنكره ابن سيرين قال: وأما حديث عبد الله فوجهه عنده أنه يبتديء الرجل في السورة يريد إتمامها ثم يبدو له في أخرى، فأما من ابتدأ القراءة وهو يريد التنقل من آية إلى آية وترك التأليف لآي القرآن فإنما يفعله من لا علم له؛ لأن الله لو شاء لأنزله على ذلك.
وقال (السيوطي): قد نقل القاضي أبوبكر الإجماع على عدم جواز قراءة آية آية من كل سورة.
قال (البيهقي): وأحسن ما يحتج به أن يقال أن هذا التأليف لكتاب الله مأخوذ من جهة النبي صلى الله عليه وآله وسلم وأخذه عن جبريل، فالأولى للقاريء أن يقرأ على التأليف المنقول، وقد قال ابن سيرين: تأليف الله تعالى خير من تأليفكم.
وقال بعض العلماء: من أفسد نظم القرآن فقد كفر به ورد على محمد صلى الله عليه وآله وسلم ما حكاه عن ربه تعالى.
قلت: ظاهر هذه الآية المنع من خلط سورة بسورة وليس الأمر كذلك، أما حديث بلال فقد مر أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال له: ((أحسنت)) ولعله نبهه بالأمر على الأولى، وأماقول ابن مسعود وغيره فليس بحجة، وأما الإجماع فممنوع لثبوت الخلاف، والذي ينبغي أن يقال أن التالي لا يخلو إما أن يكون له غرض صحيح في الخلط أو لا، إن كان الأول فلا بأس به كأن يريد التوسل ببركة الآيات المخصوصة إلى نيل نفع أو دفع ضرر، ويدل على هذا أنه قد ورد في خواص القرآن الإرشاد إلى الجمع بين آيات متفرقة لهذا المعنى، وسيأتي في مواضعها وهي كثيرة، أو قصد الوعظ والزجرللنفس أو للغير، ولا يبعد الإجماع على هذا كما يفعل في الخطب والرسائل، وكذلك إن لم يكن قاصداً بالتلاوة إلا الخروج عن عهدة المشروع في الصلاة، ودليله إطلاق وقرآن معها وثلاث آيات وما تيسر ونحوها وإن كان خلاف الأولى، وإن كان الثاني وهو أن يقصد مجرد التلاوة والدرس فلا ينبغي مخالفة الترتيب الذي رتبه الشارع عليه لعدم الإذن، ولما مر من الآثار والاجماع، وما فيه من تفويت الغرض بالترتيب الذي رتبه الله تعالى عليه لغير فائدة.
نعم أما لو قصد الإعراض عن النصوص الدالة على أن الترتيب عن توقيف، ومخالفة الإجماع على ذلك، وإفساد نظم القرآن فلا يبعد كفره.
الفرع التاسع [من مسنونات الصلاة الموالاة بين الفاتحة وما بعدها]
قال أهل المذهب: من مسنونات الصلاة الموالاة بين الفاتحة والآيات التي بعدها فلا يتخلل سكوت يطول لفعله صلى الله عليه وآله وسلم ، وكذلك الموالاة بين آي الفاتحة ولا تجب لجواز تفريق الواجب في الركعات.
قال (الإمام المهدي): وذكر بعض معاصرينا أن الموالاة واجبة، وأخذه من قول القاضي زيد في الشرح أن السكوت بين الآي مبطل قال ولم يحده، قال: وذكر بعض أصحاب الشافعي أنه يبطل إذا طال.
قلت: ما مر من سكوت أمير المؤمنين عليه السلام وفصله بالجواب وما سيأتي من فصل النبي صلى الله عليه وآله وسلم بالدعاء صريح في عدم وجوب الموالاة، بل قال الجلال: إن فصله صلى الله عليه وآله وسلم بالدعاء صريح في عدم سنيتها، قال: إلا أنه ينبغي تقييده بالفصل بالدعاء وما يناسبه من الاشتغال بجناب الحق تعالى.
قلت: وأما ما ذكره القاضي زيد من أن السكوت مبطل فقد مر الكلام عليه، وأن أهل المذهب لا يقولون إنه يبطل الصلاة ولو طال، إلا أنهم قالوا إذا طال بأن يزيد على قدر النفس أوجب سجود السهو.
فائدة ذكر في الروضة أن أصحاب الشافعي إنما يقولون إن السكوت الطويل يبطل القراءة لا الصلاة، يعني فيجب عليه استئناف القراءة فقط. والله أعلم.
المسألة الرابعة [عدم جواز قراءة القرآن بالعجمية]
ذهب العترة والشافعي ومالك إلى عدم جواز قراءة القرآن بالعجمية مطلقاً سواء أحسن العربية أم لا في الصلاة أم خارجها، وحكاه القرطبي عن الجمهور، وذهب أبو حنيفة إلى الجواز مطلقاً، وقال المنصور بالله وأبو يوسف ومحمد: تجوز لمن لم يحسن العربية.
روى السيوطي أن أبا حنيفة قد رجع عن قوله، وكذلك الخلاف لو قرأه بالعربية بغير لفظه بل بمعناه كما تفيده عبارة البحر.
احتج الجمهور بأن الله تعالى وصف القرآن بأنه عربي غيرذي عوج، واعترض بأن المراد أنه عربي في نزوله لا في تلاوته، وغير ذي عوج في معانيه لا في مبانيه، والمعنى باق مع العجمية كالعربية.
وأجيب بأنه خلاف الظاهر، ولأن من أعظم فوائد القرآن معرفة إعجازه ولا شك في فوات ذلك، وكيف يجوِّز عاقل قيام الترجمة بأي لغة كانت وهي من كلام البشر مقام كلام خالق القُوى والقدر.
واحتجوا ثانياً بأنا مأمورون بقراءة القرآن، ومن قرأ بالفارسية لم يقرأ القرآن، ويدل عليه قوله تعالى: {وَلَوْ جَعَلْنَاهُ قُرْآناً أَعْجَمِيًّا}[فصلت:44]، فهو نص في أن الله لم يجعله أعجمياً، وهو يستلزم أن كل ما كان أعجمياً فليس بقرآن، ولذا قال القفال: إن القراءة بالفارسية لا تتصور، هذا مع أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم ما قرأ في الصلاة إلا هذا القرآن العربي وكذلك الخلفاء والصحابة وسائر أئمة الدين، والواجب علينا اتباعهم وإلا خالفنا قوله تعالى: {اتبعوه}، واتبعنا غير سبيل المؤمنين.
قال (ابن المنذر): في الرد على أبي حنيفة ما لفظه: ولا يجزئه ذلك يعني القراءة بالفارسية؛ لأنه خلاف ما أمر الله به، وخلاف ما علم النبي صلى الله عليه وآله وسلم ، وخلاف جماعات المسلمين، ولا نعلم أحداً وافقه على ما قال.
ومن أدلة المنع مارواه في الجامع الصغير مرفوعاً: ((اقرأوا القرآن بلحون العرب وأصواتها، وإياكم ولحون أهل الكتابين وأهل الفسق...)) الخبر ونسبه إلى الطبراني في الأوسط والبيهقي في الشعب من حديث حذيفة وصححه الشارح، والقاريء بالعجمية غير قار بلحون العرب.
احتج أبوحنيفة بأن المقصود المعنى لقوله تعالى: {وَإِنَّهُ لَفِي زُبُرِ الأَوَّلِينَ}[الشعراء:196]، {إِنَّ هَذَا لَفِي الصُّحُفِ الأُولَى}[الأعلى:18]، ولم يكن فيها بهذا اللفظ إجماعاً، بل بالعبرية والسريانية، وأيضاً قال الله تعالى: {لأُِنذِرَكُمْ بِهِ} والعجم لايفهمونه إلا إذا ترجم بلسانهم وقد سماه قرآناً.
وروي أن ابن مسعود علم رجلاً فقال: {إِنَّ شَجَرَةَ الزَّقُّومِ، طَعَامُ الأَثِيمِ}[الدخان:44]، والرجل لا يحسنه، فقال قل طعام الفاجر، ثم قال عبد الله: ليس الخطأ في القرآن أن تقرأ مكان العليم الحكيم، إنما الخطأ بأن تضع مكان آية الرحمة آية العذاب.
والجواب: أنا لانسلم قصر المقصود على المعنى إذ تتعلق بالألفاظ نكت وفوائد لا تبقى مع عدمها، وكون المعنى موجوداً في زبرالأولين مسلم، لكن لا يلزم من ذلك أن يكون الموجود فيها قرآناً فإن النظم المعجز جزء من ماهية القرآن والكل بدون الجزء مستحيل، وعلى هذا فالضمير لم يعد على القرآن بل على ما تضمنه من القصص والمواعظ من حيث أن معناها ثابت في زبر الأولين، وكذلك اسم الإشارة، وأما قوله تعالى: {لأُِنذِرَكُمْ بِهِ} فالمقصود المعنى فيما يتعلق بالإنذار، وإطلاق لفظ القرآن عليه تجوز، وارتكاب مثل هذا المجاز جائز مع تلك الدلائل الواضحة لكن المصلي مأمور بقراءة ما يسمى قرآناً حقيقة إذهو المتبادر من الإطلاق.
وأما ما روي عن ابن مسعود فالظن يقضي بعدم صحته عنه؛ لأنه يؤدي إلى جواز تحريف كلمات القرآن كلها على الوجه الذي ذكره، ولا ينبغي لمسلم أن يجوز هذا، وقد ذم الله الذين يحرفون الكلم عن مواضعه، وأيضاً لو جاز ذلك لما عجز الكفار عن معارضته ولو عارضوه من حيث المعنى لنقل، والمعلوم خلافه، فثبت أنه لا يسمى قرآناً إلا هذه الألفاظ المخصوصة.
احتج المفصلون بقوله تعالى: {اتَّقُوا اللَّهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ}[التغابن:16]، وحديث: ((إذا أمرتم بأمر فأتوا منه ما استطعتم)).
وأجيب بما مر أنه يبطل الإعجاز، قال بعض العلماء: لأنه متعلق بألفاظه ومعانيه جميعاً يتحصل من الألفاظ الفصاحة ومن المعاني البلاغة.
قلت: ولأنه لا يستطيع منه شيئاً فإن مع فوت الألفاظ والتراكيب المخصوصة لا يصدق عليه أنه قرآن لما مر، فلا يقال: قد أتى منه بمايستطيع.
المسألة الخامسة: [عدم جواز القراءة بالقراءات الشاذة]
في القراءة بالشاذة ذهب الأكثر إلى أن القراءة بالشواذ لا تجوز، وادعى ابن عبد البر الإجماع على ذلك.
وقال (الرازي): اتفقوا على أنه لا يجوز في الصلاة قراءة القرآن بالوجوه الشاذة. وقال في البحر: أبو مضر عن القاسم والمؤيد بالله وقاضي القضاة: والقراءة الشاذة مفسدة.
وروى فيه عن الإمام يحيى والحقيني والزمخشري عدم الإفساد، واختاره الوالد العلامة علي بن يحيى العجري رحمه الله وقال: لعله مذهب جماعة من المتأخرين، وهو اختيار المقبلي وابن تيمية والشوكاني.
ورواه في حواشي الأزهار: عن زيد والناصر والغزالي.
وقال في (حواشي شرح الغاية): جمهورالسلف وأهل الحديث يشترطون صحة السند والاستفاظة في البلد سواء تواترت أم لا، وهو مذهب زيد بن على وأخيه الباقر، والناصر الأطروش والحقيني والإمام يحيى بن حمزة ونجم الدين الرضي والزمخشري وغيرهم.
قلت: وروى ذلك الجزري عن جمهورالسلف والخلف.
قال في (النشر): كل قراءة وافقت العربية ولو بوجه ووافقت أحد المصاحف العثمانية ولو احتمالاً وصح سندها، فهي القراءة الصحيحة التي لا يجوز ردها ولا يحل إنكارها، بل هي من الأحرف السبعة التي نزل بها القرآن ووجب على الناس قبولها سواء كانت عن الأئمة السبعة أم عن العشرة أم عن غيرهم من الأئمة المقبولين، ومتى اختل ركن من هذه الأركان الثلاثة أطلق عليها ضعيفة أو شاذة أو باطلة سواء كانت عن السبعة أم عمن هو أكبر منهم.
هذا هو الصحيح عند أئمة التحقيق من السلف والخلف، صرح بذلك الداني ومكي والمهدوي وأبو شامة، وهو مذهب السلف الذي لا يعرف عن أحد منهم خلافه.
قلت: والجزري من أئمة القراء المعتمد عليهم في نقل القراءت وكلام الأئمة فيها، وحكى في النيل عنه أنه قال: زعم بعض المتأخرين أن القرآن لا يثبت إلا بالتواتر، ولا يخفى ما فيه؛ لأنا إذا اشترطنا التواتر في كل حرف من حروف الخلاف انتفىكثير من أحرف الخلاف الثابتة عن هؤلاء السبعة وغيرهم.
قال: ولقد كنت أجنح إلى هذا القول ثم ظهر فساده وموافقة أئمة السلف والخلف على خلافه، وقال: القراءة المنسوبة إلى كل قاريء من السبعة وغيرهم منقسمة إلى المجمع عليه والشاذ، غير أن هؤلاء السبعة لشهرتهم وكثرة الصحيح المجمع عليه في قراءتهم تركن النفس إلى ما نقل عنهم فوق ما نقل عن غيرهم، فانظر كيف جعل اشتراط التواتر قولاً لبعض المتأخرين فقط.
وفي (الإتقان) قال (أبو شامة) في (المرشد الوجيز): لا ينبغي أن يغتر بكل قراءة تعزى إلى أحد السبعة ويطلق عليها لفظ الصحة وأنها أنزلت هكذا إلا إذا دخلت في ذلك الضابط.
إذا عرفت هذا فاعلم أن أصل الخلاف هو اشتراط التواتر في القراءة وعدمه، فمن اشترطه قال لا تجزي الصلاة بالشاذة لعدم تحقق كونها قرآناً، بل تفسد بها لأنها والحال هذه من كلام الناس، وهولاء أو أكثرهم قالوا: لم يتواتر إلا السبع وما عداها شاذ، واعترض بأنه لا دليل على اشتراط التواتر، وبعدم تسليم تواتر السبع إذ لم يرو عن كل واحد منهم إلا اثنان، وكذلك من بعدهم فإن غالب أخذ القرآن العظيم إنما يكون عن واحد أو نحوه، ثم إنها لو تواترت عن السبعة فهم آحاد وشرط التواتر استواء الوسط والطرفين في العدد الذي يحصل بخبرهم العلم، وهذا منتف في السبع.
وقد عرفت كلام الجزري وغيره في أن فيها ماهو شاذ، وهذا الهادي قد نص على أنه لم يتواتر إلا قراءة أهل المدينة وهي قراءة نافع، وأيضاً فإن المشهور أن الحافظين للقرآن بعد موت النبي صلى الله عليه وآله وسلم نفر يسير من الصحابة، وقصة اجتماعهم واهتمامهم بجمعه من الأكتاف والألواح وصدور الرجال، وطلبهم البينة ممن روى آية لا يحفظونها صريح في ذلك.
وأجيب بأن دليل اشتراط التواتر قائم وهو توفر الدواعي على إشاعة القرآن لما تضمنه من التحدي والإعجاز والتكاليف الشاقة، والعادة تقضي بالتواتر في تفاصيل ما هو كذلك، ومن تفاصيله ما يتعلق بألفاظه من الهيئات والقراءات.
قال (الإمام المهدي): لأنا إذا علمنا تواتر الألفاظ التي نقلوها على التفصيل لزم تواتركيفية تأديتهم تلك الألفاظ؛ لأن الحركات ونحوها بمنزلة الهيئات للألفاظ فلا يصح تواتر اللفظة دون هيئاتها ما لم يحصل من الناقل أمارة تقتضي أنه متيقن للفظ دون هيئاته.
وقال في (شرح الغاية): كل واحد من ملك ومالك من القرآن فيجب تواتره، وتخصيص أحدهما بالتواتر وكونه من القرآن تحكم باطل.
وأما قولهم إن الرواة عن السبعة لم يبلغوا حد التواتر، فغير مسلم، بل قد بلغوه إلا أن معرفته تحتاج إلى بحث وتفتيش؛ إذ ليس من شرط التواتر أن يأتي بلا كلفة ولا مشقة، فكم من متواتر لقوم غير متواتر لآخرين، ولذا قالوا إن العلم الحاصل بالتواتر لا يكون حجة على الغير لجواز أن لا يحصل له التواتر كما مر في المقدمة، ولكن الواجب على المكلف إبلاغ وسعه في البحث والتطلع، ثم يجزم بعد ذلك بما حصل عنده.
قال بعض الأئمة": الصحيح أن القراءات السبع متواترة؛ لأنها يقرأ بها في سائر الأمصار والقرى والمدن الكبار بالقرب والبعد من الديار في جميع الأعصار من غير اختلاف ولا إنكار، ومن هنا تعرف بطلان القول باختصاص السبعة بروايتها، وأما اختصاصهم بنسبتها إليهم فلمزيد عناية.
وأما قول الجزري أن فيها ما هو شاذ، فإن أراد أن في المتواتر منها ما هو شاذ، فلا نسلم شذوذها وإن خالفت قواعد النحو كما قال نافع: سمعتها من سبعين بدرياً فلا أبالي بنحوتكم هذه.
والقرآن سماعي لا قياسي، وإن أراد أن في المروي عنهم ما لا يتواتر ولا يصح عنهم، فمسلم لكنها غير معدودة في السبع المشهورة، فلا يقدح بها في المتواتر، وأما كلام الهادي فلعله لم يتواتر له غير قراءة أهل المدينة، ولا يلزم من عدم التواتر له عدمه لغيره.
وأما القول بأن حفاظ القرآن من الصحابة نفر يسير فواضح الفساد لتأديته إلى التشكيك في جملة القرآن فضلاً عن هيئاته، وكل قول يؤدي إلى مثل ذلك فإنه يجب القطع ببطلانه، وكيف يقال ذلك، والمعلوم أنهم في الكثرة والوفرة أضعاف أضعاف من يحتاج إليه في التواتر وذلك أشهر من نار على علم، وقد قيل إن الصحابة الذين توفي رسول صلى الله عليه وآله وسلم وهم في الحرمين الشريفين زهاء مائة ألف سوى من في غيرهما، وأكثر عنايتهم في ما جاء عن الله على لسان رسوله صلى الله عليه وآله وسلم ، وقد قال تعالى: {وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ}[يوسف:12]، ومما يوضح ما ادعيناه من كثرة الحفاظ وعنايتهم بالقرآن ما رواه أحمد والطبراني من حديث أبي أمامة مرفوعاً: ((خذوا العلم قبل أن يقبض أو يرفع، فقال أعرابي: وكيف يرفع؟ فقال: ألا إن ذهاب العلم ذهاب حملته)) ثلاث مرات.
وفي رواية من حديثه: فسأله أعرابي فقال: يارسول الله كيف يرفع العلم منا وبين أظهرنا المصاحف، وقد تعلمنا ما فيها وعلمناها أبناءنا ونساءنا وخدمنا؟ فرفع رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم رأسه وهو مغضب فقال: ((وهذه اليهود والنصارى بين أظهرهم المصاحف لم يتعلقوا منها بحرف فيما جاءهم به أنبياؤهم)).
قال (الحافظ): ولهذه الزيادة شواهد من حديث عوف بن مالك وابن عمرو وصفوان بن عسال، وغيرهم، وهي عند الترمذي والطبراني والدارمي بألفاظ مختلفة وفي جميعها هذا المعنى، فإن أريد بقلة الحفظ فيما يرجع إلى القراءات والوجوه التي نزل عليها القرآن فكذلك، أعني أنه يجاب عنه بما مر من كثرتهم واعتنائهم بالقرآن وما يتعلق به، ويدل عليه كلام نافع.
وأما طلبهم للبينة فمحمول إن صح على ما يرجع إلى ما خالف المشهور بينهم من وجوه القراءات لا إلى نفس جوهرالقرآن وألفاظه، وإلا لزم أن يكون بعض القرآن آحادياً وهو باطل، ويجوز أن يراد بالبينة ما يحصل بها العلم، بأن يأتي الراوي معه بجماعة يحصل بخبرهم العلم بأن تلك الآية من كتاب الله تعالى، وهذا لا محذور فيه إذ لم ندع أن كل واحد من الصحابة حافظ لكل آية من القرآن.
أجاب من لا يشترط التواتر بأنا لانسلم أنه لا يتواتراللفظ إلا بهيئته، بل يصح تواتره من دونها، دليله اختلاف القراء والعلماء فيها، بحيث لا ينكر اختلافهم إلا جاهل أو مكابر، وكل مسألة يكون فيها هذا الاختلاف فإنه يبعد اشتراط التواتر فيها ووقوعه.
وأما قولهم: إن الرواة عن السبعة قد بلغوا حد التواتر لمن بحث، فهذه كتب الإسناد لم يوجد فيها نصاب التواتر عن كل واحد منهم، وإنما اشتهرت في الأزمنة المتأخرة وذلك لا يكفي لما مر سلمنا، فلا نسلم تواترها عنهم إلى النبي صلى الله عليه وآله وسلم .
وما روي عن نافع فلا يفيد إلا التواتر له، وما قيل من أنها قراءة أهل بلده فمجرد دعوى، وإلا لما اختص إسنادها إليه ولشاركه بعض مشاهير بلده في الإسناد إليهم، وأيضاً لو كانت كلها متواترة عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم لما جاز لكل واحد من السبعة ترجيح قراءته على غيرها وحمل الناس عليها؛ لأنه يكون والحال هذه من التحكم المحض؛ لأن التواتر يقتضي تخيير القارئ في القراءة بأيها.
وإذا تقرر لك هذا علمت أن القراءة الصحيحة ما صح سندها تواتراً أو آحاداً، ولا يلزم من ذلك خروج بعض القرآن عن كونه قطعياً؛ لأن القرآن هو جوهر اللفظ والقراءة صفة له، ولا محذور في عدم تواترها إذ يحصل المقصود منها والفائدة المترتبة عليها مع كونها آحادية.
هذا ولسنا نقول بأن كل قراءة آحادية، بل بعضها متواتر، ولا خلاف فيه بين الأمة، وبعضها آحادي وتصح صلاة من قرأ بها، والإجماع الذي رواه ابن عبد البر والرازي غير صحيح، مع خلاف من تقدم.
وما رواه الجزري عن السلف والخلف، ولقائل أن يقول: الإجماع صحيح معمول به على ظاهره، وكل على أصله في تفسير الشاذة، فمن قال: هي ما عدا السبع والعشر فلا يصحح الصلاة ولا التلاوة إلا بإحدى هذه القراءات، ومن فسر الشاذة بما لم يصح سندها قال بجواز القراءة بما شمله الضابط الذي ذكره الجزري؛ إذ ليس ذلك بشاذ عنده، وعند التحقيق أن أهل هذا القول لا يثبتون قراءة شاذة ولا قرآناً شاذاً؛ لأن ما لا يصح لا يوصف بأنه قرآن ولا قراءة، وقد صرح بذلك المقبلي فقال: ما صح نقله فهو قرآن وما لا فلا، وليس لنا قرآن شاذ وليس لهم دليل على ما زعموا، وعلى هذا فيجوز دعوى الإجماع وإطلاق القول بأن القراءة بالشاذة لا تجوز في الصلاة ولا في غيرها إن قرأها على أنها قرآن، وقد نص على ذلك أبو القاسم العقيلي فقال: اعلم أن الذي استقرت عليه المذاهب وآراء العلماء أنه إن قرأ بالشواذ غير معتقد كونه قرآناً ولا يوهم أحداً ذلك، بل لما فيها من الأحكام الشرعية عند من يحتج بها أو الأدبية، فلا كلام في جواز قراءتها، وعلى هذا يحمل حال كل من قرأ بها من المتقدمين، وكذلك أيضاً يجوز تدوينها في الكتب والتكلم على ما فيها، وإن قرأها باعتقاد قرآنيتها أو بإيهام قرآنيتها حرم ذلك، ونقل ابن عبد البر في تمهيده إجماع المسلمين على ذلك.
فائدة [تعداد القراءات الشاذة]
اعلم أن من جملة القراءة المخالفة للسبع التي يسميها الجمهور شاذة بعض القراءات المنسوبة إلى ابن مسعود وغيره من الصحابة، وقد استدل على جواز الصلاة بقراءتهم بأن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قد أثنى على قراءتهم وأمر بالأخذ عنهم، من ذلك ما رواه المرشد بالله عن عبد الله أنه قال: لو أعلم أن أحداً تبلغنيه الإبل أعلم بما أنزل الله على محمد صلى الله عليه وآله وسلم مني لطلبته حتى أزداد علمه إلى علمي، قد علمت أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم كان يعرض عليه القرآن كل عام مرة فعرض عليه عام قبض مرتين، كنت إذا قرأت القرآن أخبرني أني محسن، فمن قرأ على قراءتي فلا يدعها رغبة عنها وإنه من جحد بحرف منه جحد به كله.
وفيه عن عبد الله: سمعت من في رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم سبعين سورة.
وفيه أخبرنا الجوزداني، أنا ابن شهدل، أنا ابن عقدة، أنا أحمد بن الحسن، ثنا أبي، ثنا حصين، عن أبي حمزة، عن الأعمش، عن أبي إسحاق، عن أصحاب عبد الله أنه قيل له: حين قال: لو أعلم أن أحداً أعلم بكتاب الله مني تبلغنيه الإبل لأتيته. قيل: علي، قال: عليه قرأت وبه بدأت.
وأخرج أحمد عن أبي هريرة أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال: ((من أحب أن يقرأ القرآن غضاً كما أنزل فليقرأه على قراءة ابن أم عبد)).
قال في (النيل): وأخرجه أبو يعلى والبزار، وفيه جرير بن أيوب البجلي وهو متروك، ولكنه أخرجه بهذا اللفظ البزار، والطبراني في الكبير والأوسط من حديث عمار بن ياسر.
قال في (مجمع الزوائد): ورجال البزار ثقات.
قلت: جرير بن أيوب روى له المرشد بالله، وقال في الجداول: تكلموا فيه بغير حجة، قوله غضاً: بمعجمتين أي طرياً كما أنزل، وابن أم عبد هو: ابن مسعود.
وعن عبد الله بن عمر، قال: قال رسول صلى الله عليه وآله وسلم : ((خذوا القرآن من أربعة: من ابن أم عبد، ومعاذ بن جبل، وأبي بن كعب، وسالم مولى أبي حذيفة)). رواه أحمد والبخاري، والترمذي وصححه، وفي أمالي المرشد بالله عن أبي أمامة عن أبي بن كعب: أن جبريل أتى النبي صلى الله عليه وآله وسلم فقال: يا محمد ائت أبياً فاقرئه مني السلام، واقرأ عليه القرآن، فأتى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أبياً فقال: ((يا أبي إن جبريل يقرئك السلام، فقال أبي: وعليه السلام، وعلى رسول الله، فقال رسول صلى الله عليه وآله وسلم : إن جبريل أمرني أن أقرأ عليك القرآن))، فقرأ عليه في تلك الليلة التي قبض فيها.
وعن أنس: قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم لأبي: ((إن الله أمرني أن أقرأ عليك {لَمْ يَكُنِ الَّذِينَ كَفَرُوا}[البينة:1])) وفي رواية: ((أن أقرأ عليك قرآناً، قال: وسماني لك ؟ قال: نعم، قال: فبكى)). متفق عليه.
وهذا يدل على أنه كان حاذقاً بالقرآن، وإلا لما خص بقراءة النبي صلى الله عليه وآله وسلم ، وقد أخذوا منه استحباب قراءة القرآن على الحذاق فيه، وأهل العلم به والفضل، وإن كان القارئ أفضل.
قلت: وفي هذه الأخبار دلالة لمذهب من قال بصحة الصلاة بما صح من القراءة وإن خالفت السبع أو العشر؛ لأن ثناء النبي صلى الله عليه وآله وسلم على قراءة هؤلاء وأمره بالأخذ عنهم وقراءته على أبي المفيدة لكونه عالماً بالقرآن، يدل على صحة الصلاة بما صح عنهم وإن خالف ما قاله الجمهور، ومن صحح الصلاة بقراءتهم صححها بما صح عن غيرهم من علماء الدين المعتبرين؛ إذ لا فارق مع استوائهم في التحرز في الدين، وقوة الحفظ والتثبت في النقل، إذ لم يكن الثناء على هؤلاء إلا لكونهم على هذه الصفات لا لذواتهم وأعيانهم، فمن شاركهم في هذه الصفات شاركهم في هذا الحكم. والله أعلم.
المسألة السادسة في اللحن في القراءة
اللحن في الأصل: الانتقال، قال في المصباح: لحن في كلامه لحناً من باب نفع أخطأ في العربية، وفي المختار: اللحن: الخطأ في الإعراب، وبابه قطع، وقد اختلف العلماء في اللحن الذي تفسد به الصلاة، فقال زيد بن علي: اللحن يقطع الصلاة، وظاهره العموم، ويستدل له بما رواه في العلوم: قال حدثنا: أبو كريب، عن أبي زائدة، عن عبدالله بن سعيد، عن أبيه، عن أبي هريرة يرفعه قال: ((اعربوا القرآن والتمسوا غرائبه)).
أبو زائدة: ذكره في الجداول وقال: روى عنه أبو كريب ولم يبين حاله، ولعله ابن أبي زائدة وهو يحيى بن زكريا ابن أبي زائدة الكوفي، أبوسعيد، وثقه ابن معين وأبو حاتم والعجلي والنسائي وغيرهم، توفي سنة ثلاث وثمانين ومائة.
احتج به الجماعة، وروى له أئمتنا الأربعة.
وعبد الله هو: ابن سعيد بن أبي سعيد المقبري أبو عباد المدني.
قال (البخاري): تركوه، واحتج به الترمذي وابن ماجة، وروى له أبو طالب، والمرشد ووالده.
وأما سعيد المقبري: فقال في الجداول: سعيد بن سعيد بن كيسان المقبري، أبو سعيد المدني، عن أبيه وأبي سعيد وأنس وأم سلمة وعائشة وآخرين، وعنه ولده، وأبو معشر والليث وخلق، وثقه ابن المديني وأبو زرعة والنسائي وابن سعد والذهبي، لكنه اختلط في آخر عمره، قيل: أربع سنين قبل موته.
قال (الذهبي): وما أحسب أحداً أخذ عنه في الاختلاط، توفي سنة ثلاث أو خمس وعشرين ومائة.
احتج به الجماعة، وروى له أئمتنا الخمسة والنيروسي، والحديث رواه في الجامع الصغير ونسبه إلى ابن أبي شيبة والحاكم في المستدرك، والبيهقي في الشعب، وأخرجه ابن الأنباري.
وفي الجامع الصغير: من حديث أبي جعفر الأنصاري، التابعي معضلاً: ((اعربوا الكلام كي تعربوا القرآن))، ونسبه إلى ابن الأنباري في كتاب الوقف والابتداء، والمرهبي في كتاب فضل العلم.
قلت: هكذا قال العزيزي من حديث أبي جعفر الأنصاري، ووجدته منسوباً إلى الباقر عليه السلام من طريق المرهبي، ولفظه بعد أن ذكر ما يدل على الحث على تعلم العربية: ومن ذلك ما أخرجه المرهبي: عن أبي جعفر محمد بن علي الباقر بن علي بن حسين بن علي بن أبي طالب" أنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم : ((اعربوا الكلام...)) الخبر، ويؤيد ما ذهب إليه الإمام زيد بن علي عليه السلام اهتمام أمير المؤمنين عليه السلام بتدوين علم العربية وحفظه وحث السلف على تعلمه، وكذلك من بعدهم فإنهم لم يزالوا في الحث على تعلمه، والاهتمام بتحرير قواعده وتهذيبها إلى يومنا هذا، فلو لم يكن إعراب القرآن واجباً لم يكن لذلك فائدة، وقد نبه الشارع علىأن علة وجوب تعلم الإعراب هي إعراب القرآن، ولذا قيل: إن القراءة مع فقد الإعراب ليست قراءة ولا ثواب فيها، وقد وصف الله القرآن بأنه: عربي غير ذي عوج، وقراءة اللاحن ليست عربية ولا خالية عن العوج قطعاً.
ومن كلام السلف: ما روي عن أبي بكر أنه قال: لأن أقرأ وأسقط أحب إلي من أن أقرأ وألحن، أخرجه أبو طاهر عن الشعبي، وأخرج البيهقي: أن ابن عباس وابن عمر كانا يضربان أولادهما على اللحن، وأخرج عن عمر أنه قال: (تعلموا السنة والفرائض واللحن كما تعلمون القرآن).
وأخرج (المرهبي): عن جابر قال: مر عمر بقوم قد رموا رشقاً فأخطأوا، فقال: ما أسوأ رميكم، فقالوا: نحن متعلمين، فقال: لحنكم أشد علي من رميكم، سمعت رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يقول: ((رحم الله امرأً أصلح من لسانه)).
وأخرج ابن الأنباري: عن عباد المهلبي قال: سمع أبو الأسود الدؤلي رجلاً يقرأ: {أَنَّ اللَّهَ بَرِيءٌ مِنَ الْمُشْرِكِينَ وَرَسُولُهُ}[التوبة:3 ] بالجر، فقال: لا أظنني يسعني إلا أن أضع شيئاً يصلح به لحن هذا الكلام أو كلاماً هذا معناه، والآثار في ذلك كثيرة وكلها تدل على قبح اللحن مطلقاً، فكيف باللحن في قراءة الصلاة التي هي أم العبادات، والمراد باللحن المفسد هو اللحن في إعراب الكلمة، وتغيير بنيتها لا ترك التجويد الذي لا يعرفه إلا علماء القراءة، وإن كانوا قد عدوه لحناً لأنهم قسموا اللحن إلى جلي وخفي.
قال في (الإتقان): فاللحن خلل يطرأ على الألفاظ فيخل، إلا أن الجلي يخل إخلالاً ظاهراً يشترك في معرفته علماء القراءة وغيرهم، وهو الخطأ في الإعراب، والخفي يخل إخلالاً يختص بمعرفته علماء القراءة وأئمة الأداء الذين تلقوه من أفواه العلماء، وضبطوه من ألفاظ أهل الأداء.
قلت: والقول بوجوب مراعاة هذا على كل قارئ ومصل ينافي التيسير الذي أراده الله بنا، ويمنع رفع الحرج الذي رفعه الله عنا؛ إذ لا يهتدي لذلك إلا خواص من الناس بعد رياضة وتعب، ولذا قال الجزري: لا أعلم لبلوغ الغاية في التجويد مثل رياضة الألسن والتكرار على اللفظ المتلقى من فم المحسن، وقد كان العجم يتعلمون القرآن في زمن الرسول صلى الله عليه وآله وسلم ، ومن المعلوم أن ألسنتهم لا تواتيهم علىالنطق به على مقتضى قواعد التجويد، ولم يأمرهم بتعلمها، يدل على ذلك ما أخرجه أبو داود عن جابر قال: خرج علينا رسو الله صلى الله عليه وآله وسلم ونحن نقرأ القرآن، وفينا الأعرابي والعجمي، فقال: ((اقرءوا فكل حسن، وسيجيء أقوام يقيمونه كما يقام القدح يتعجلونه ولا يتأجلونه)).
هذا وأما أئمة الفقه فلهم في المسألة أبحاث وتفاصيل فيما بينهم، واختلاف لا يخلو بعضه عن التحكم بلا دليل، ولا بأس بذكر أقوالهم.
فنقول: قال الإمام يحيى بن حمزة عليه السلام : اللحن المفسد ما كان راجعاً إلى تحريف اللفظ كالحمدلله بالخاء المعجمة، أو فساد المعنى كجر ورسوله من قوله: {أَنَّ اللَّهَ بَرِيءٌ مِنَ الْمُشْرِكِينَ وَرَسُولُهُ}[التوبة:3]، وضم التاء من: {أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ}[الفاتحة: 7 ]أوإلى فساد النظم كالتقديم والتأخير، أو إلى مفردات الكلمات كترك بعض تشديدات الفاتحة أو ما بعدها، وما عدا ذلك فليس بمفسد، ولو زاد في المد أو نقص حرفاً زائداً كلام التعريف أو التنوين لكنه يجب عليه التعليم لذلك، ولا تفسد به الصلاة؛ لأن الإخلال بواجب التعليم أمر خارج عن الصلاة، واستدل له في الروض بحديث جابر، ويجاب بأن النقص المذكور يوجب خللاً في النظم، ونقصاً في الإعجاز، وهو الفائدة العظمى في تنزيله، وربما فسد به المعنى.
وأما حديث جابر فمحمول على أن بعضهم وقع منه نقصان في محسنات التلاوة التي لا تضر كقواعد التجويد، ويؤيده قوله: ((يقيمونه كما يقام القدح)).
وقال (النووي): لا يفسد منه إلا ما كان في الفاتحة، وأخل بالمعنى كضم تاء: {أَنْعَمْتَ}، وكسر كاف: {إِيَّاكَ} وإلا فلا، بل يكره كفتح الباء من: {غَيْرِ الْمَغْضُوبِ}.
لنا ما مر مع ما في ذلك من التحكم ومخالفة هديه صلى الله عليه وآله وسلم وهدي أصحابه إذ لم تؤثر عن أحد منهم القراءة الملحونة مطلقاً.
وحكى في (الروض): عن المقبلي أنه أشار في المنار إلى أن الذي لا يتمكن من إقامة الإعراب أو من سبقه لسانه معذور في ذلك؛ إذ قد فعل ما يمكنه ولا دليل على الفساد في حقه، وأما العامد إلى اللحن مع تمكنه من الإعراب فهو مخل بما يجب عليه من صيانة الكتاب العزيز من التغيير عن وضعه فتفسد لذلك صلاته، ولكونه مخلاً ببلاغته مخرجاً له إلى حيز الابتذال، ولو كان في الظاهر قرآناً.
وأجيب: أما من سبقه لسانه ولم يعلم فلا شك في كونه معذوراً، وأما الذي لا يتمكن من الإعراب فقد أرشده الشارع إلى التسبيح.
وقوله: لا دليل على الفساد في حقه ممنوع، بل دليله ما ذكره من الإخلال بصيانة الكتاب العزيز، وإخراجه إلى حيز الابتذال، فالأولى أن يقال: لا دليل على كونه معذوراً.
قلت: والظاهر من كلامه في المنار أن اللحن غير مفسد مطلقاً، ذكره في شرح قوله واللحن الذي لا مثل له فيهما، وإنما فهم صاحب الروض التفصيل من إلزامه لأهل المذهب الفساد مطلقاً أو عدمه مطلقاً، وقد وهم بعض الناظرين، فقال: إن كلامه متدافع فإن أوله يقتضي أن القرآن لا يكون قرآناً إلا بجوهر لفظه وتركيبه وصفاته، وآخره يقتضي أن اللحن لا يضر، ولا تدافع فيه فإن أوله إلزام، وآخره التزام، وقد استدل على عدم الإفساد بحديث جابر وقد مر تأويله، وممن قال بعدم الإفساد مطلقاً: الحسن الجلال، واستدل بأن الإعراب هيئة للفظ ليست من جوهره، ولا مما قام دليل عقلي ولا نقلي على وجوبه، وهو مجازفة لما قدمنا من الأدلة على ذلك، وكيف يقول: لا دليل على وجوب الإعراب مع اهتمام السلف والخلف بحفظ قواعده، وتقييد شوارده، وعدم اعتدادهم بعلم من لا يعرفه، بل منع بعضهم رواية الحديث ملحوناً وقال إن الراوي له كذلك داخل في عموم حديث: ((من كذب علي متعمداً))، لأن النبي صلى الله عليه وآله وسلم لم ينطق به ملحوناً فكيف بكلام الله تعالى، فإن قيل: قد ورد ما يدل على عدم وجوب إعراب القرآن، وهو ما أخرجه البيهقي من حديث ابن عمر مرفوعاً: ((من قرأ القرآن فأعربه كان له بكل حرف عشرون حسنة، ومن قرأه بغير إعراب كان له بكل حرف عشر حسنات)).
وفي (تفسير القرطبي): عن أبي بكر بن الأنباري قال: حدثني أبي، قال: حدثنا إبراهيم بن الهيثم، قال: حدثنا آدم يعني ابن أبي إياس، قال: حدثنا أبو الطيب المروزي، قال: حدثنا عبدالعزيز ابن أبي رواد، عن نافع، عن ابن عمر، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم : ((من قرأ القرآن فلم يعربه وكل به ملك يكتب له كما أنزل بكل حرف عشر حسنات، فإن أعرب بعضه وكل به ملكان يكتبان له بكل حرف عشرين حسنة، فإن أعربه كله وكل به أربعة أملاك يكتبون له بكل حرف سبعين حسنة)).
أما ابن الأنباري فهو: محمد بن القاسم بن محمد بن بشار النحوي، أبو بكر المعروف بابن الأنباري.
قال (ابن خلكان): كان صدوقاً ثقة ديناً خيراً من أهل السنة، وأثنى عليه غيره، توفي سنة ثمان وعشرين وثلاثمائة، روى له أبو طالب والمرشد بالله والسيلقي.
وأما أبوه فقال ابن خلكان: كان موافقاً في الرواية صدوقاً أميناً، توفي سنة أربع أو خمس وثلاثمائة، روى له أبو طالب والسيلقي.
وأما ابن الهيثم فهو: البلدي، وثقه الدارقطني، وروى له المرشد بالله.
وأما أبو الطيب فذكره الذهبي في الميزان، وقال: أبو الطيب الحربي، وذكر من مروياته هذا الحديث بالسند المذكور، ورماه بالكذب جرحاً مطلقاً.
وأما عبد العزيز بن أبي رواد فهو: المكي الأزدي، روى عن الباقر وغيره، وثقه ابن معين، وأبوحاتم، وقال يحيى بن سليم: كان يرى الإرجاء، وقال يحيى القطان: ثقة لا يترك لرأي أخطأ فيه، توفي سنة تسع وخمسين ومائة.
احتج به الأربعة، وروى له أبوطالب، والمرشد بالله.
قيل: قد أجيب بأن المراد بالإعراب في الحديث معرفة معاني ألفاظه، وليس المراد به ما قابل اللحن، والموجب للتأويل ما مر من قبح القراءة الملحونة والقبيح لا يثاب عليه، لكنه يمنع هذا التأويل ما في رواية المرشد بالله من الدلالة على أن المراد بالإعراب ما قابل اللحن، ولفظه في أماليه عليه السلام :
أخبرنا ابن عبد الرحيم، أنا ابن حبان، أنا حمزة البغدادي، ثنا نعيم بن حماد، ثنا نوح بن أبي مريم، حدثنا زيد العمي، عن ابن المسيب، عن عمر، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم : ((من قرأ القرآن فأعربه كان له بكل حرف أربعون حسنة، ومن أعرب بعضها ولحن في بعض، كان له بكل حرف عشرون حسنة، ومن لم يعرب منها شيئاً كان له بكل حرف عشر حسنات)).
ابن حبان هو: عبد الله بن محمد بن حبّان الأصفهاني، حافظ أصفهان، وسيد زمانه، صاحب الطبقات السائرة، ويعرف بأبي الشيخ، لقي الكبار، قال ابن مردويه: ثقة مأمون، وقال الخطيب: حافظ متقن، توفي سنة تسع وستين وثلاثمائة، روى له المرشد بالله فأكثر.
وأما حمزة: فذكره في الجداول من رجال المرشد بالله، وقال هو: حمزة بن محمد البغدادي، الكاتب عن نعيم بن حماد، وعنه أبو الشيخ.
وأما نعيم فهو: نعيم بن حماد بن معاوية بن الحارث الخزاعي، أبو عبد الله المروزي، صاحب التصانيف، وثقه أحمد ويحيى، وأخذ عنه العجلي، وقال ابن عدي: له أحاديث منكرة ثم ذكرها، قال: وأرجو أن تكون باقي أحاديثه مستقيمة، توفي في السجن سنة ثمان وعشرين ومائة.
وأما نوح بن أبي مريم فهو: أبو عصمة، وصف بالعلم الكثير حتى قيل في وصفه: الجامع للعلوم، أخذ الفقه عن أبي حنيفة، واستقضاه الدوانيقي على(مرو)، وطالت أيامه.
قال في (الجداول): تكلموا عليه، توفي سنة ثلاث وسبعين ومائة، احتج به الترمذي، ووثقه المنصور بالله.
وزيد العمي هو: زيد بن الحواري أبو الحواري البصري.
قال (أحمد) و(الدارقطني): صالحٌ احتج به الأربعة، وروى له المرادي، وأبو طالب، والسيلقي، والسمان، والحديث ذكره في الميزان، وهو نص في أن القراءة الملحونة تسمى قراءة، والمقروء بها يسمى قرآناً، وذلك يستلزم صحة الصلاة بها وإجزاءها لحصول شرط الصحة، وهو قراءة القرآن في الصلاة، ويؤيده ظاهر حديث جابر وما في الجامع الصغير: ((إذا قرأ القاريء فأخطأ أو لحن أو كان أعجمياً كتبه الملك كما أنزل))، ونسبه إلى مسند الفردوس عن ابن عباس، وضعفه في الشرح.
فإن قيل: الخلل في الإعراب يزيل فصاحة اللفظ التي هي أحد نوعي الإعجاز، قيل: المعتبر أن يكون معجزاً في نفس الأمر، وأن يعرف إعجازه جماعة وافرة يحصل بخبرهم العلم به وإلا لما كان حجة على العجم، ولذا جعلوا تعلم علوم العربية من فروض الكفاية، وإنما أوجبوه لأجل معرفة إعجاز القرآن، وما دل عليه من المواعظ والأحكام وغيرها، وهذا كالتصريح بأن معرفة وجوه الإعجاز ومدلولات الألفاظ لا تجب في حق كل مكلف، بل قد صرحوا بذلك، وهو يدل على أن تعلم الإعراب لا يجب على كل أحد؛ إذ لا وجه لوجوبه سوى هذين الأمرين، وبه ينتفي قبح الخلل الحاصل باللحن من بعض المكلفين. والله أعلم.
وأما أهل المذهب فقالوا: اللحن في أذكار الصلاة في قرآن وغيره لا يفسد إلا في حالين:
الأول: أن لا يكون له نظير في سائر أذكار الصلاة، ومثلوه بكسر الباء الموحدة من النجم الثاقب إذ هو كالكلام، فإن كان له نظير لم يفسد نحو:{ وَنَادَى نُوحٌ}[هود:42 ]إذ لنصب نوح نظير في: {أَرْسَلْنَا نُوحاً}[هود:25].
الثاني: أن يكون له نظير لكنه وقع في القدر الواجب ولم يعده صحيحاً لنقص القراءة فإن أعاده صحيحاً صحت إن كان سهواً لا عمداً فتبطل، لأنه من الجمع بين لفظتين متباينتين إلا في أحد قولي(م) بالله، وقد اعترضهم المقبلي، وحاصل اعتراضه أن كون تلك اللفظة من أذكار الصلاة بجوهرها فقط دون صفاتها، أومع بعض الصفات لا يصيرها قرآناً إذ لم يكن القرآن قرآناً بجوهر اللفظ، بل القرآن وكل كلام متركب من جوهر لفظ وصفاته كالإعراب والمد والقصر، وكذلك ما يحصل من اجتماع بعض الكلمات مع بعض، ومن هيئة التركيب والعوارض الحاصلة بالمقام، فاللفظ الذي يوجد جوهره دون صفاته يلزمهم أن يفسد أو يلزمهم أن كل كلام لا يضر لأن الجوهر موجود فيه، أعني الحروف، وكذلك مفردات الكلام كثير منها موجود في القرآن كيحيى والحجر والغنم وغير ذلك، فتجويزهم لبعض دون بعض تحكم، ثم قال: وهؤلاء أهل الإسلام لا يكاد يتم صحة اللفظ منهم إلا في أفراد أهل العناية بذلك بل وسهولة الأداء والقراءة بلحون العرب بخلاف المتكلفة والمتشبهين بالمغنين، فقلما تصح صلاة على أصلكم ولم يصح عن السلف شيء تتأسون به.
وقد كان العجم يدخلون في دين الله أفواجاً ولم يروا التفات السلف إلى معاناتهم وتهويل أمر اللحن، ثم احتج بحديث جابر.
قلت: كلامه يوهم أنهم يشترطون مراعاة قواعد أهل الأداء من المد والقصر ونحوهما، وليس كذلك فإنهم قد نصوا على أنه لو نون حال الوقف أوترك التنوين حال الوصل أولم يشبع الحروف فإن ذلك لا يضر، وكذا لو قصر الممدود والعكس سواء أعاد أم لا، وكذا لو قطع همزة الوصل بل يفسدها وصل همزة القطع للنقص، نعم أما لو جعل الضاد ظاء أو العكس فتفسد عند أهل المذهب لنقص القراءة إذ هو كإبدال الحاء المهملة بالخاء المعجمة إلا أن يكون له نظير كظنين.
وقال (الإمام يحيى) و(الإمام عز الدين) و(الرازي): لا لشدة المشابهة بينهما من حيث أنهما معاً من الحروف المجهورة والرخوة والمطبقة، ولأن الضاد يحصل فيه انبساط لرخاوته حتى يقرب من مخرج الظاء.
قالوا: فلأجل هذه المشابهة يعسر الفرق بينهما حتى لا يدركه إلا خواص المميزين والقراء، وقد قال تعالى: {مَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ}[الحج:78]، وقال صلى الله عليه وآله وسلم : ((بعثت بالحنيفية السمحة)). ويؤيده حديث: ((أنا أفصح من نطق بالضاد))، فإنه يدل على تفاوت الناس في النطق به من مخرجه وذلك يكون إما لاختلافهم في التمييز التام بين مخرجه ومخرج الظاء، أو لاختلاف فصاحة ألسنتهم عند النطق بالحرف، وعلى أيهما فقد حصل الغرض، إذ لو كان يجب النطق بالحرف على وجهه لما وقع التفضيل ولبينه النبي صلى الله عليه وآله وسلم .
قال (الرازي): لو كان هذا الفرق معتبراً لوقع السؤال عنه في زمان رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ، وفي أزمنة الصحابة، لاسيما عند دخول العجم في الإسلام، فلما لم ينقل وقوع السؤال علمنا أن التمييز بين هذين الحرفين ليسا في محل التكليف.
فائدة حديث: ((أنا أفصح من نطق بالضاد)) لم أقف على تخريجه.
وحكى في المقاصد الحسنة عن ابن كثير أنه لا أصل له، قال ومعناه صحيح.
تنبيه قد مرت الإشارة إلى أن الجمع بين لفظتين متباينتين نحو: يا عيسى ابن موسى مما تفسد به الصلاة؛ لأن هذه الكلمات وإن كانت آحادها في القرآن فتركيبها ليس فيه فهو من كلام الناس، لكن إنما يفسد إذا كان عمداً على المذهب، وهو أحد قولي المؤيد بالله وعنه لا تفسد فإن كان سهواً لم تفسد قولاً واحداً.
المسألة السابعة في حكم من لم يكن معه شيء من القرآن
ذهب زيد بن علي والأمير الحسين والإمام الحسن بن يحيى القاسمي وولده علامة العصر والشافعي والقرطبي والشوكاني وغيرهم من العلماء، وهو المصحح للمذهب: إلى أن من لم يكن معه شيء من القرآن فإنه يجب عليه الذكر لما مر في حديث المسيء صلاته من الأمر بذلك، ولحديث ابن أبي أوفى وقد مر، ورواه المؤيد بالله والإمام أحمد بن سليمان والأمير الحسين، وفيه بيان الذكر المأمور به، وزيادة: ولاحول ولاقوة إلا بالله العلي العظيم من رواية المؤيد بالله والأمير الحسين وغيرهما، وفي بعض الروايات: حذف قوله العلي العظيم، وفي بعضها حذف الحوقلة كلها.
قال (علامة العصر): الزيادة مقبولة، وفي الروض عن جمهور الأئمة إسقاط الحوقلة.
قال (أهل المذهب): فإن أتى بها فسدت صلاته، وقيل: بل توجب سجود السهو، وقال أبو حنيفة: لا يجب التسبيح، بل يقوم بقدر القراءة، ولعله يستدل بحديث: ((لاصلاة إلا بقرآن))، وقد تعذرت منه كما استدل لبعضهم في البحر على منع وجوبه بحديث: ((لاصلاة إلا بفاتحة الكتاب))، وقال مالك: يسقط فرض القيام لأنه للقراءة، وقد تعذرت.
وفي (مهذب الشافعي): عن بعض أصحاب الشافعي: يسبح بعدد حروف الفاتحة، لنا ما مر.
فرعٌ وظاهرالحديث أن المرة تكفي.
وبه قال جماعة من العلماء، واختاره علامة العصر، وذهب بعضهم إلى أنه يقوله ثلاثاً، وهو المصحح للمذهب، ورواه في الروض عن جمهور الأئمة لتقييده بذلك في الأخريين.
فرع [في الصلاة آخر الوقت للمسبح]
ومن كان فرضه التسبيح فلا يصلي إلا آخر الوقت عند أهل المذهب لأنه ناقص صلاة، إذ صلاته بدل عن الصلاة التامة وهي المشتملة على الواجب من القراءة فلا يجوز فعلها إلا عند الإياس، وهذا مذهب الهادي، وخرجه أبو العباس للقاسم.
وقال (الدواري): لا يجب عليه التأخير إلإ ذا كان يمكنه التعلم، وقال الأميرالحسين: بل تصح صلاته أول الوقت لظاهرحديث المسيء، وابن أبي أوفى إذ لم يأمر فيهما بالتأخير، وهو في مقام التعليم، وقال الجلال: حديث المسيء يدفع وجوب التلوم؛ لأن النبي صلى الله عليه وآله وسلم أمره بالصلاة مع سعة الوقت بلفظ: ((ارجع فصل))، ذكره في ضوء النهار، وكذلك لم يأمر المرضى في تعليمهم ما يجب عليهم بتأخير صلاتهم إلى آخر الوقت وهم ناقصون صلاة، وظواهر الأمر بالصلاة تدل على ذلك، كقوله تعالى: {أَقِيمُوا الصَّلاَةَ}[الحج:78]، وفي السنة: ((صل الصلاة لوقتها)) ونحوه، إذ لم تفصل بين مصل ومصل.
فرع [في تعذر قراءة القرآن]
وإنما يعدل إلى التسبيح إن تعذر عليه القرآن جميعه، وإلا قرأ قدر الفاتحة والآيات من القرآن، ذكره في البحر للمذهب لقوله تعالى: {فَاقْرَءُوا مَا تَيَسَّرَ مِنَ الْقُرْآنِ}[المزمل:20]، ولما في حديث المسيء من قوله: ((ثم اقرأ إن كان معك قرآن))، قال في البحر: فإن أمكن البعض ذكر مكان البعض الآخر مرتباً، وقد فصل ذلك في حواشي الأزهار فقال: إن تعذرت الفاتحة والآيات سبح عوض الجميع ثلاثاً، وإن تعذرت الفاتحة فقط سبح عوضها ثلاثاً، وإن تعذر الآيات فقط سبح عوضها ثلاثاً، وإن تعذر النصف الأخير من الفاتحة والآيات سبح عوض ذلك ثلاثاً، وإن تعذر النصف الأول والآيات سبح عوض نصف الفاتحة مرتين وعوض الآيات ثلاثاً بعد قراءة النصف الأخير لأجل الترتيب، وإن تعذر النصف الأول من الفاتحة دون الآيات سبح عوضه مرتين، وكذا إن تعذر الأخير دون الأول والآيات سبح عوضه مرتين، ولقائل أن يقول: ظاهر الآية، وحديث المسيء قاض بأنه لا يعدل إلى التسبيح إلا إذا لم يكن معه شيء من القرآن، فإن كان معه شيء ولو آية فهي فرضه، واختاره علامة العصر، ولا يشرع التسبيح في حقه حينئذ، وقريب منه قول الرازي، فإنه قال: إن حفظ من الفاتحة آية أضاف إليها ست آيات، وإن لم يحفظ منها شيئاً وحفظ قرآناً غيرها لزمه قراءة ذلك المحفوظ للآية، وإن لم يحفظ شيئاً من القرآن لزمه الذكر.
فرع [في حكم من لم يستطع التسبيح]
فإن لم يحفظ هذا التسبيح لزمه ما أمكنه من ذكر غيره بأي لسان كان وهذا هو المصحح للمذهب.
وبه قال الرازي، والقرطبي لقوله تعالى: {اتَّقُوا اللَّهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ}[التغابن:16]، وحديث:((إذا أمرتم بأمر فأتوا منه ما استطعتم)).
قال (القرطبي): فإن عجز عن إصابة شيء من هذا اللفظ فلا يدع الصلاة مع الإمام جهده، فالإمام يحمل ذلك عنه إن شاء الله.
وفي (شرح الفتح للمذهب): أن الإمام لا يتحمل عن الأمي في الجهرية؛ لأنه غير مأمور بالقراءة، فلايصح فيها التحمل، وعن المفتي: أنه يتحمل عنه ويجب عليه الدخول في الجماعة لحديث: ((إذا أمرتم بأمر...)) الخبر.
فرع [في عدم جواز التسبيح لمن أمكنه الاستملاء]
ولا يعدل إلى التسبيح من كان يمكنه الاستملاء من المصحف في صلاته، ذكره القاسم عليه السلام ، وصحح للمذهب إن لم يحتج إلى فعل غير النظر.
وقال الشافعي، وأبو يوسف ومحمد: بل ولو احتاج إذ هو لإصلاح الصلاة، وقال أبو طالب والبرذعي: بل والنظر مفسد، كذا في البحر، ووجهه أن تقليب الحدقة فعل كثير.
قلنا: بل قليل ولأنه معفو عنه إذ لا يتمكن من تركه غيرالمستملي، قالوا: عمل القلب وهو: الانتظار كثير.
قلنا: ليس بفعل سلمنا فمعفو عنه، على أنه قد نص أبو طالب على أن الانتظار لا يفسد، والتحقيق أنه لا مانع منه مطلقاً، ويؤيده استملاء ذكوان حال إمامته بعائشة عند ابن أبي شيبة، وأخرجه البخاري في ترجمة باب، وأدلة تفضيل التلاوة في المصحف متناولة هذه الحالة، والأفعال التي لا تتم الصلاة إلا بها لا يفسدها كالحركات للركوع والسجود، ولا يبعد وجوبه إن لم تمكنه القراءة بدونه، لقوله تعالى: {اتَّقُوا اللَّهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ}[التغابن:16 ]ونحوه.
وأما التلقين وهو: أن يلقنه غيره فلا يجزيه على المذهب للمتابعة؛ إذ يستلزم الانتظار وهو فعل.
وعن (أبي طالب): إن كان لغير عذر لم يجز ولعذر كالمرض والتعليم يجزي، ووجهه أنه مكلف بما يستطيع وهذا مستطاع، ولا مانع وقواه المفتي، وأما لو قرأ في صلاته قاصداً مع الإتيان بالفرض تعليم آخر.
فقال في (الياقوتة): يجزي المتعلم لا المعلم، قال الإمام المهدي: وهو القياس، وقيل لا فرق بينهما في عدم الإجزاء وهوالمذهب، وقد عرفت أنه لا علة لذلك إلا الانتظار، وهو تعليل ضعيف، وقد انتظر علي عليه السلام لابن الكواء حتى أتم الآية ولم يعده مفسداً، ولعموم ما ورد في فضل تعليم الناس، وحديث: ((صلوا كما رأيتموني أصلي))، ولأنه قد ورد من رواية المجموع والعلوم: عن علي عليه السلام مرفوعاً في صلاة المريض: ((فإن كان لا يستطيع أن يقرأ فاقرأوا عنده)).
قال في (المنهاج): والمراد من قوله صلى الله عليه وآله وسلم : ((فاقرأوا عنده)) ليستذكر بقراءتهم قراءته، لا أن قراءة غيره تجزي عن قراءته؛ إذ لو كان كذلك لكان يثبت ذلك في الأمي والمعلوم خلافه.
فرع [سقوط القراءة عن الأخرس]
ويسقط فرض القراءة عن الأخرس وهو الذي منع الكلام خِلْقَه.
قال في (المنهاج): يجزيه ما في قلبه من قصده لله تعالى وتضرعه إليه مع عدم القدرة على القراءة أو التسبيح، إذ قد أتى بالمستطاع، وقال أهل المذهب: إن كان الخرس عارضاً فالواجب عليه أن يثبت قائماً قدر القراءة الواجبة سواء كان يحسنها من قبل أم لا، لأن القيام فرض مستقل، وفي وجوب إمرار القراءة على قلبه احتمالان لأبي طالب أصحهما لا يلزم، وإن كان أصلياً فلا صلاة عليه إذ لم يكلف إلا بالعقليات، وقال محمد بن منصور: يجزيه ما يستطيع من الهمهمة بما وعاه من قرآن أو ذكر، وإلا أضمر ما يجب ويكون قيامه قدر الفاتحة وثلاث آيات إلا في الأخريين فبقدر الفاتحة، ويلزمه ما يلزم غيره من ركوع وسجود وغيرهما، ويقف في ركوعه وسجوده قدر ثلاث تسبيحات أو أكثر إن أحب الزيادة، وهكذا يهمهم أو يضمر بسائر أذكارالصلاة المفروضة والمسنونة أو يضمرها.
فائده [في تعريف الأخرس والأصم]
قال (الإمام يحيى): الأخرس الذي لا يسمع ومختوم على لسانه فلا ينطق، والأصم: الذي لا يسمع وهو ينطق بلسانه، والأمي الذي لا يحسن القراءة وهو ينطق ويسمع، هذا وأما الألثغ بالمثلثة وهو: من يجعل الراء لاماً والسين ثاء مثلثة ونحوه، ممن يتعذر عليه إخراج الحرف من مخرجه ويتردد في بعض الحروف فلا يسقط عنه فرض القراءة وإن غير اللفظ، ولا تفسد صلاته إذ لا يستطيع غير ذلك: {لاَ يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْساً إِلاَّ مَا آتَاهَا}[الطلاق:7]، وليس ثمة ما يخرجه عن عموم أدلة الوجوب. قالوا: والفرق بينه وبين العجمي أن تغييره لا يخرج القرآن عن كونه عربياً وإنما تعذر عليه النطق على جهة لغة العرب، بخلاف العجمي فإن قراءته تخرجه عن العربية.
واعلم: أنهم اختلفوا في اللفظة الذي يتعثر فيها الألثغ ونحوه، هل يتركها أم لا؟ فالمذهب وأحد قولي المؤيد بالله أنه يجب عليه التلفظ بها ولو غيرها.
وقال (القاضي زيد): بل يجب تركها، وقواه الفقيه يحيى بن أحمد. وقال أبو مضر: هو مخير.
قلت: الصحيح أنها إن كانت في الفاتحة أو في الزائد وليس يحفظ ما يتمم به الواجب غيرها، فالواجب عليه التلفظ بها للخروج عن عهدة الواجب وهو معذور في التغيير لما مر، وإلا فالأولى العدول إلى ما لا يتعثر فيه إذ هو من اتباع الأحسن.
وقد نص أهل المذهب: أنه إذا قرأ في الزائد على الواجب ما يتعثر فيه فسدت صلاته، ويمكن أن يقال: لا وجه للفساد إذ قراءة القرآن مباحة له بلسانه فلا تفسد كقراءة الصحيح، قيل: وهو ظاهر الأزهار.
تنبيه [وجوب تعلم القراءة]
قد مر أن الأحاديث القاضية بفرضية القراءة تستلزم وجوب تعلمها، واختلفوا في كيفية طلبه للتعليم، فقال القرطبي: عليه أبداً أن يجهد نفسه في تعلم الفاتحة فما زاد إلى أن يحول الموت دون ذلك، وهو بحال الاجتهاد فيعذره الله.
وقال شارح (المصابيح): في شرح قوله إني لا أستطيع، اعلم أن هذه الواقعة لا يجوز أن تكون في جميع الأزمان؛ لأن من يقدر على تعلم هذه الكلمات لا محالة يقدر على تعلم الفاتحة، بل تأويله لا أستطيع أن أتعلم شيئاً من القرآن في هذه الساعة، وقد دخل علي وقت الصلاة، فإذا فرغ من تلك الصلاة لزمه أن يتعلمه.
وفي (شرح الأثمار): أن التعلم يجب ولو بالإرتحال إلى بلد لأنه يبقى بخلاف طلب الماء، ولأنه يتعلم ما يكفيه العمر، ولأن ما لا يتم الواجب إلا به يجب كوجوبه، وعن المفتي: لا يجب إلا في الميل كسائر الواجبات، وصحح للمذهب.
المسألة الثامنة في الجهر والإسرار بالواجب من القراءة في الصلاة
اعلم أنه لا خلاف في شرعية الإسرار في العصرين والجهر في غيرهما، وإنما اختلفوا في حكمه، فقال القاسم والهادي والمرتضى وأبو العباس وأبو طالب: الجهر والمخافتة فرضان، وهو قول ابن أبي ليلى، ونسبه في الشفاء إلى القاسم والهادي، وأسباطهما الأوائل، وصحح للمذهب، وهو ظاهر كلام المقبلي، وذهب إلى عدم الوجوب: زيد بن علي، وأحمد بن عيسى، والناصر، وأبو عبدالله الداعي، والمؤيد بالله وهو الأصح من قولي المنصور بالله، واختاره السيد محمد بن الهادي في الروضة والغدير، والإمام يحيى، ونسبه في البحر إلى الفريقين، وفي الروض إلى الفقهاء الأربعة، واختاره علامة العصر ورواه عن عامة أهل البيت.
قال السيد (محمد بن الهادي): إلا الجمعة فالجهر فيها واجب بلا خلاف، ومثله في التقرير، وقيل: بل فيه خلاف بعض التابعين، احتج الأولون بوجوه:
أحدها: قوله تعالى: {وَلاَ تَجْهَرْ بِصَلاَتِكَ وَلاَ تُخَافِتْ بِهَا وَابْتَغِ بَيْنَ ذَلِكَ سَبِيلاً}[الإسراء:110].
قالوا: المراد إجعل بعضها سراً، وبعضها جهراً.
وأجيب: بأن ما روي في سبب نزولها على اختلاف الروايات فيه وكثرتها لا يدل على ما قالوه لا بالمطابقة ولا بغيرها، وقد مر في البسملة شيء مما روي فيها، وذكرنا احتمال أنها نزلت في النهي عن المبالغة في رفع الصوت والمخافتة، بحيث لا يسمع المسلمون، وقد وردت بذلك روايات نستوفيها في محلها إن شاء الله، وقد ذكر هذا الاحتمال الهادي في الأحكام، قال: وقد يحتمل أن يكون معنى ذلك نهياً من الله لرسوله صلى الله عليه وآله وسلم عن الجهر الشديد الفظيع الذي ينكره السامعون وعن المخافتة التي لا يسمعها المستمعون.
الوجه الثاني: ما رواه أبو هريرة عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم أنه قال: ((إذارأيتم من يجهر في صلاة النهار فارموه بالبعر))، ويقول: ((صلاة النهار عجماء)).
وأجيب بأن الحديث لم يثبت، وقد استوفينا الكلام عليه تضعيفاً وتأويلاً في البسملة، وقال الظفاري: فيه الوازع بن نافع متروك.
قلت: الوازع هو العقيلي، الجزري، قال في الجداول: تكلموا عليه بغير حجة.
واحتج به الطبراني في الكبير، وروى له أبوطالب والمرشد بالله.
الوجه الثالث: ما أخرجه البيهقي عن أبي نضرة قال: كنا عند عمران بن حصين فكنا نتذاكر العلم، فقال رجل: لا تتحدثوا إلا بما في القرآن، فقال عمران: إنك لأحمق أوجدت في القرآن صلاة الظهر أربع ركعات والعصر أربعاً ولا تجهر بالقراءة في شيء منها والمغرب ثلاثاً تجهر في ركعتين منها، ولا تجهر بالقراءة في ركعة، والعشاء أربع ركعات، تجهر بالقراءة في ركعتين منها ولا تجهر بالقراءة في ركعتين، والفجر ركعتين تجهر بالقراءة فيهما.
وأجيب: بأن في إسناده علي بن زيد بن جدعان، وفيه مقال.
قلت: علي بن زيد ثقة مأمون وثقه غير وأحد، وروى له أئمتنا وغيرهم، وهو أحد ثقات محدثي الشيعة، والأولى في الجواب أن يقال: كلام عمران لاحجة فيه، ولعله فهم المنع من الجهر بالقراءة في العصرين من فعل النبي صلى الله عليه وآله وسلم ، وسائر عباراته إنما تدل على مشروعية الجهر ولا نزاع فيه، وإنما النزاع في الوجوب.
الوجه الرابع: ملازمته صلى الله عليه وآله وسلم للجهر فيما ذكر من الصلوات والإسرار فيما ذكر منها، وتواتر ذلك عنه، وصح عن وصيه عليه السلام .
وفي الشفاء أن الأمة نقلت نقلاً لا اختلاف فيه، نقله خلف عن سلف أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم كان يخافت بالقراءة في العجماوين ويجهر في القراءة في الفجر وفي الركعتين الأوليين من العشاءين.
قلت: من ذلك مارواه البخاري قال: حدثنا عمر بن حفص، قال: حدثنا أبي، قال: حدثنا الأعمش، قال: حدثني عمارة، عن أبي معمر قال: سألنا خباباً أكان النبي صلى الله عليه وآله وسلم يقرأ في الظهر والعصر؟ قال: نعم، قلنا بأي شيء كنتم تعرفون قراءته؟ قال: باضطراب لحيته. وأخرجه بطريق أخرى إلى الأعمش قال: حدثنا محمد بن يوسف، قال: حدثنا سفيان، عن الأعمش بالسند المذكور.
عمر بن حفص لم أقف على ترجمته في الجداول.
وحفص هو ابن غياث وثقه غير واحد وبعضهم قيده بما إذا حدث من كتابه، احتج به الجماعة وروى له أئمتنا الخمسة.
وأما الأعمش فقد مر ذكره.
وأما عمارة فهو ابن عمير التيمي الكوفي، وثقه النسائي، توفي بعد المائة وقيل قبلها بسنتين.
احتج به الجماعة وروى له المرادي والنيروسي.
وأما أبو معمر بميمين مفتوحتين فهو عبد الله بن سخبرة الأسدي الكوفي لم أجده في الجداول.
وخباب -بتشديد الموحدة الأولى- هو ابن الأرت بالمثناة الفوقية بعد الراء- التميمي، أحد الصحابة، توفي سنة سبع وثلاثين، وصلى عليه الوصي عليه السلام .
وأما محمد بن يوسف فهو البيكندي -بكسر الموحدة وسكون المثناة التحتية وفتح الكاف، وسكون النون- ولم يذكره في الجداول.
وسفيان هو ابن عيينة، ومن ذلك ما مر من حديث أبي هريرة فما أعلن لنا رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أعلناه لكم... الخبر.
وأما رواية الجهر في العشاءين ونحوها فهي كثيرة وستأتي في مواضعها من السور، فإن في كثير منها النص على سماعهم لقراءة سور مخصوصة في صلاة الفجر والمغرب والعشاء، وأما فعل الوصي عليه السلام فروى عنه زيد بن علي عليه السلام أنه كان يعلن القراءة في الأوليين من الغرب والعشاء والفجر، ويسر القراءة في الأوليين من الظهر والعصر، وكان يسبح في الأخريين من الظهر والعصر والعشاء، والركعة الأخيرة من المغرب. رواه في المجموع.
قالوا: فثبوت فعله صلى الله عليه وآله وسلم للجهر والإسرار فيما ذكر، يقتضي وجوب ذلك لأنه بيان لمجمل الواجب من قوله تعالى: {أَقِيمُوا الصَّلاَةَ}[الحج:78]، وقوله صلى الله عليه وآله وسلم : ((صلوا كما رأيتموني أصلي))، لا سيما مع استمراره صلى الله عليه وآله وسلم على ذلك طول عمره واستمرار أمير المؤمنين من بعده، وهذا أقوى دليل على الوجوب.
قال (المقبلي): إذ المراد بالدليل ما يحصل منه الظن وهو يحصل بما ذكرنا، فلو ذممت رجلاً يعدل عما واظب عليه صلى الله عليه وآله وسلم عمره منذ شرعت الصلاة إلى أن مات ما حفظ عنه خلافه مع فرقه بين الظهر والعصر وغيرهما وبين الركعتين الأوليين والأخريين على وتيرة واحدة، وفي الفرض خاصة دون النوافل، بل اختلف حاله في النوافل، لو فعلت ذلك لم يمنع ذمك إلا ألد وهو خاصة الوجوب، أعني كون الذم شائعاً. ذكره في المنار.
أجيب بأن هذا مبني على أنه لم يقع منه الخلاف وهو ممنوع فإنه كان يسمعهم الآية أحياناً في الظهر والعصر كما مر في حديث أبي قتادة، وهذا كاف في بيان كون الإسرار غير شرط في صحة الصلاة، ويقاس عليه الجهر إذ لا فارق.
قالوا: هو مما يرجع إلى الجبلة أو سبق اللسان للاستغراق في التدبر ولا تأسي فيهما.
وأجيب: أن الواجب حمل أفعاله صلى الله عليه وآله وسلم على ما يحصل به فائدة، وبيان حكم شرعي ولا يليق حملها على السهو والغفلة، سيما في الصلاة التي هي أم العبادات وأساس الطاعات، وأما قول المقبلي أنه لو ذم من ترك هذه السنة لم يمنع ذمه إلا ألد.
فجوابه:أنه بناه على تقدير استمرار ذلك وقد منعناه، ثم إن القائلين بعدم الوجوب وهم الأكثر يمنعون من الذم الكائن على حد ذم تارك الواجب، وأما الذم بمعنى التوبيخ على ترك هذه السنة فمسلم به لكنه لا يفيده.
الوجه الخامس: روى المؤيد بالله أن المنع من المخافتة في صلاة الليل والجهر في صلاة النهار مما لاخلاف فيه بين الأمة، قال هو: نقل الخلف عن السلف فعلاً وروايةً، وروى الإجماع أيضاً النووي وغيره.
وأجيب: بأنه لا نزاع في شرعية ذلك وأنه سنة، وإنما النزاع في الوجوب ولم ينقل أحد الإجماع عليه بل المؤيد بالله ممن ينفيه.
وقال (النووي) بعد أن روى الإجماع: وحيث قلنا يجهر أو يسر فهو سنة فلو تركه صحت صلاته، ولا يسجد للسهو عندنا.
احتج القائلون بعدم الوجوب لكثرة الرواية بالأمر بالقراءة وبيان كونها جزءاً من ماهية الصلاة لا تتم إلا بها، ولم تذكر هذه الهيئة في شيء من تلك الأحاديث، وبعدم تعليمه صلى الله عليه وآله وسلم للمسيء صلاته وهو في مقام التعليم، وليس لهم أن يقولوا إن الجهر والإسرار إنما كانا بعد تعليم المسيء ولا مانع من زيادة التشريع لأنه يقال: هما مستمران من أول الإسلام بدليل حديث الحسن البصري في إمامة جبريل عليه السلام للنبي صلى الله عليه وآله وسلم وتعليمه للصلاة وأوقاتها، وما يقال من أنه إنما سكت عنه لأن الجهر والإسرار كانا معلومين عنده من قبل، فمدفوع بأن ظاهر الحال أن هذا الرجل من جفاة الأعراب الذين لا يعرفون تفاصيل الواجبات، ولذا علمه ما لا تتم الصلاة من دونه وإن كان خارجاً عنها كالوضوء، مع أنه لم ير منه إلا إساءة الصلاة، لكنه قد ظهر له من حاله الجهالة وعدم المعرفة لأحكام الصلاة، فلو كان الجهل والإسرار واجبين لما سكت عن تعليمه.
ومن حججهم ما مر في حديث أبي قتادة، وما أخرجه النسائي عن البراء قال: كنا نصلي خلف رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم الظهر فنسمع منه الآية بعد الآيات من لقمان والذاريات، واحتج السيد محمد بن الهادي في الروضة: بأن الجهر والمخافتة هيئتان للقراءة فلا يكونان واجبين كهيئتي الركوع والسجود.
قلت: معناه أنهما إذا كانا هيئة فلا يتناولهما دليل التأسي: ((أعني أقيموا الصلاة وصلوا كما رأيتموني أصلي))، كما لا يتناول هيئة الركوع والسجود، ولذا قال الجلال في الجواب على الاستدلال بالحديث الأمر للندب، وإلا لوجب جميع هيئات صلاته ولا تقولون به.
فرع
قال في (البحر): وتفسد الصلاة بترك الجهر والمخافتة حيث يجب، ونسبه إلى الهادي والمرتضى، وابن أبي ليلى.
قلت: ووجهه أن القراءة بدون صفتها الواجبة كلا قراءة، وفيه عن المؤيد بالله أنه يعصي ولا تفسد كتعمد الرفع قبل الإمام، ولعله ذكره تخريجاً للمذهب.
وأما القائلون بعدم الوجوب فاختلفوا هل يسجد للسهو من تركهما أم لا؟ فقال الناصر والمؤيد بالله والشافعي: لا إذ هما هيئة.
وقال زيد بن على، وأبوعبد الله والحنفية: بل هما سنة فيسجد.
فائدة: في تحقيق معنى الإعلان، والإسرار، والجهر، والمخافتة وبيان القدر المشروع منها في الصلاة
الإعلان: عائد إلى معنى الظهور والمجاهرة كما يفيده القاموس، وفي المختار العلانية ضد السر، وأما السر فقال في القاموس هو: ما يكتم، والجهر: رفع الصوت كما في المختار، وقد يكون بمعنى الإعلان كما في القاموس، والمخافتة: إسرار المنطق، ذكره في القاموس، وفي البحر المحيط خافت بالكلام أسره بحيث لا يكاد يسمعه المتكلم، إذا عرفت هذا فقد اختلف أئمة الفقه في تحقيق القدر المشروع في الصلاة، من الإعلان والإسرار، فقال المنصور بالله والإمام يحيى: أقل الجهر هو أقل المخافتة وهو أن يسمع من بجنبه لقوله تعالى: {وَهُمْ يَتَخَافَتُونَ}[القلم:23]، فوصف كلامهم بالمخافتة مع كونه مسموعاً للغير.
قلت: ويسمَّى جهراً لما مر عن أهل اللغة من أن الجهر قد يكون بمعنى الإعلان، وأن الإعلان عائد إلى معنى الظهور وهذا ظاهر لمن بجنبه، وقال أهل المذهب: بل أقل المخافتة أن يسمع نفسه فقط إذ هو المطابق للمعنى اللغوي، وأما أكثر المخافتة فقال في البحر وهو المذهب: هي أن لا يسمع بل تحريك اللسان والتثبت بالحروف، ومقصوده أن لا تسمع نفسك ولا غيرك، والظاهر أنه قول المنصور بالله والإمام يحيى كما تفيده عبارة البحر، وقال زيد بن علي: لا يكون مخافتاً إلا بذلك، قال في مجموعه: من أسمع أذنيه فلم يخافت.
واحتجوا بما مر من أنهم كانوا يعرفون قراءة النبي صلى الله عليه وآله وسلم في العصرين باضطراب لحيته، ولأنه قد عبر بتحريك اللسان عن القراءة في قوله تعالى: {لاَ تُحَرِّكْ بِهِ لِسَانَكَ}[القيامة:16 ]إذ معناه النهي عن القراءة قبل فراغ جبريل عن إلقاء الوحي فسمي تحريك اللسان قراءة، واعترضهم الإمام الحسن بن عز الدين عليه السلام بأن من لم يسمع نفسه فهو غير متكلم لغة ولاشرعاً ولا عرفاً وشرط القراءة أن يكون ذلك كلاماً.
وأجاب عن الحديث بأجوبة أحسنها أنه لا يدل على مطلوبهم إلا لو ثبت أن الراوي كان لاصقاً به ولم يسمع قراءته حتى يكون ما لم يسمع قراءة.
قلت: ولو فرضنا لصوق الراوي وعدم سماعه فمن أين لهم أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم لم يسمع نفسه، وأما الآية فأجاب عنها بأنها من قبيل إطلاق اللازم لإرادة الملزوم تجوزاً؛ لأن من لازم القراءة تحريك اللسان. قالوا: لا يشترط في الكلام أن يكون مسموعاً، ذكره الإمام المهدي.
وأجيب بأنه خلاف ظاهر اللغة فإن ظاهرها أن الكلام هو المسموع فقط كما قال النحويون، الكلام هو اللفظ واللفظ هو الصوت المسموع إلى آخر ما ذكروه، قالوا: لعله مبني على عرف الشرع.
وأجيب إن أردتم عرف الشارع فأوضحوه فإنا لانعلم له عرفاً في هذا على خلاف ما تقتضيه اللغة ولم نجده بعد البحث، وإن أردتم عرف بعض فقهاء الشرع فلا يفيدكم، ولقائل أن يقول: قد ثبت في الشرع وجوب القراءة في الصلاة وأنها لا تتم إلا بها فكل إسرار ومخافتة يوصف فاعله بأنه قارئ مع الإتيان به، فهو مما تناولته أدلة شرعية المخافتة والإسرار؛ لأن ذلك وإن كان من كلام الرواة من الصحابة فهم عرب ومعبرون عن الشارع على مقتضى لغته؛ إذ لو كان له في الجهر والإسرار عرف على خلاف اللغة العربية لبينه لهم.
إذا عرفت هذا فلا طريق إلى معرفة المخافتة التي لا يخرج فاعلها عن كونه قارئاً إلا بالرجوع إلى اللغة العربية، والذي تدل عليه كتب اللغة أن التالي إذا نطق بالحروف على الوجه الذي يفهم به المعنى فإنه يسمى قارئاً، سواء سمعت تلاوته أم لا، وتحقيق ذلك أن القراءة في اللغة هي التلاوة والتلاوة لا تكون إلا بالنطق بالحروف لأنها مأخوذة من التتابع لما كان التالي يتابع بين الحروف والكلمات والنطق كما في القاموس هو التكلم بصوت وحروف تعرف بها المعاني، ولم يشترط أن يكون مسموعاً، وإطلاقات أهل اللغة يجب استعمالها كما يجب في إطلاقات الشارع، وإذا ضممت هذا إلى ما تقدم عن أهل اللغة في معنى المخافتة علمت أن لها معنيين:
أحدهما: أن يخافت بحيث لا يسمع كلامه.
والثاني: أن يسمع نفسه أو من بجنبه وكلاهما قد تناولت الأدلة جوازهما لإطلاق المخافتة على كل منهما ولا مانع لأحدهما.
وأما الإسرار إذا وصف به القول فهو بمعنى المخافتة؛ إذ لا يوصف من أمرَّ القرآن على قلبه بأنه قارئ، ولذا قالوا: لا تصح صلاته حينئذ.
وقال (النووي): لا يجوز حمل الإسرار على حقيقته لأنه هو الكلام النفسي بحيث لو استغنى به المصلي لما صحت صلاته.
وقال (الجلال): السر هو ما لا يطلع عليه قال: وإنما سمي أقل الجهر الذي جعلوه أقل الإسرار إسراراً تجوزاً، وإلا فهو مخافتة كما صرح به في قوله تعالى:{ وَلاَ تُخَافِتْ بِهَا}[الإسراء:110]، وكان الواجب هو التعبير بالمخافتة اتباعاً لعبارة القرآن.
قلت: يجوز أن يطلق بالاشتراك على ما ذكره وعلى المخافتة، ويشهد له قوله تعالى: {وَأَسِرُّوا قَوْلَكُمْ أَوِ اجْهَرُوا بِهِ}[الملك:13 ]فأطلق الإسرار على القول والقول لا يكون إلا كلاماً منطوقاً به، ويؤيده أنه جعله قسيماً للجهر الذي هو قسيم المخافتة، وعندي أن الكلام لا يمكن النطق به على الوجه الذي ذكرناه من دون أن يكون مسموعاً للمتكلم، وحينئذ يكون الخلاف راجع إلى تحقق هذا الإمكان وعدمه، ولعل الألسن مختلفة في ذلك فمن عرف عدم تمكنه بدون إسماع نفسه، قال: إنه إذا لم يسمع نفسه فليس بمتكلِّم كما قاله النووي، وقواه الإمام عز الدين عليه السلام ، ومن عرف من نفسه التمكن جعل غير المسموع كلاماً، ولا يخفى أنه لو قدر إمكان ذلك فلا يكون إلا بتكلف لإخفاء الحروف ومشقة وحرج، والدين مبني على نفي الحرج فلا يصح القول بقصر الإسرار المشروع على عدم إسماع النفس كما روي عن بعضهم.
وفي كلام المقبلي ما يدل على ما قلناه فإنه قال الكلام نوع من الصوت وكل صوت مسموع، فالشرط أن يعلم أو يظن حصول الصوت المخصوص وإن لم يسمع المتكلم نفسه؛ إذ كل حقيقة شيء لا يشترط فيها الإضافة إلى متعلق خاص، فإن الشرط في مسمى النار هو مطلق الإحراق لا إحراق السعف مثلاً، ثم قال: نعم إنما يحصل العلم أو الظن بنوع قوة في حركة المخارج لا بالوضع وذلك ظاهر.
تنبيه
قال (المنصور بالله): الواجب على المرأة الجهر في موضعه أخف من جهر الرجل بحيث تسمع من يليها إن كانت إماماً أو تسمع نفسها إن انفردت، ذكره في المهذب، وبه قال الفقيه وهو المذهب، إلا قوله أو تسمع نفسها إن انفردت فالمذهب أنه غير مجزي، وأن عليها أقل الجهر وإن انفردت لأن إسماع النفس فقط لا يسمى جهراً، والوجه في أنها لا تجاوز أقل الجهر، أنها مأمورة بخفض الصوت فتقتصر منه على ما يحصل به القدر المشروع فلو جهرت كجهر الرجل فالمذهب الإجزاء مع الإثم، وقال المفتي: الأرجح عدم الإجزاء على أصول المذهب.
المسألة التاسعة: في القراءة خلف الإمام
وفيها أربعة مذاهب:
أحدها: أن المؤتم يقرأ في السرية لا في الجهرية، وهذا مذهب زيد بن علي، والقاسم، وموسى بن عبد الله وأحمد بن عيسى، والهادي، ورواه في الروضة عن أكثر أهل البيت وهو قول أحمد وإسحق ومالك والعنبري وابن المبارك والزهري وهو القول القديم للشافعي، وروي عن ابن عمر وعروة بن الزبير والقاسم بن محمد رواه عنهم الخازن.
الثاني: أنه لا يقرأ في جميع الصلوات والإمام يكفيه في المخافتة والجهر وهو قول أبي حنيفة وأصحابه والثوري، وروي عن جابر، ورواه القرطبي عن ابن وهب وأشهب وابن عبد الحكم، وابن حبيب، والكوفيين، ورواه في الروضة عن المنصور بالله، وحكى عن أبي حنيفة أنه إذا قرأ لم تبطل صلاته، وحكى الرازي عنه الكراهة.
الثالث: أنه يقرأ الفاتحة وهذا هو مذهب الشافعي في الجديد، وروى عن الناصر بلا فرق بين السرية والجهرية وسواء سمع الإمام أم لا، وروي ذلك عن علي عليه السلام ، وعمر وعثمان وابن مسعود ومعاذ، ذكره الخازن وهو قول الأوزاعي واختاره القرطبي وقال: هو مذهب مالك في أخير قوليه، ونسبه إلى أحمد واختاره المقبلي والشوكاني.
الرابع: أنه يقرأ الفاتحة وثلاث آيات وهذا مروي عن الناصر، احتج أهل القول الأول بقوله تعالى: {وَإِذَا قُرِئَ الْقُرْآنُ فَاسْتَمِعُوا لَهُ وَأَنصِتُوا}[الأعراف:204]، وظاهرها وجوب الإنصات عند سماع القرآن في الصلاة وغيرها، خرج الوجوب في غير الصلاة بالإجماع وبقيت الصلاة، والإنصات: السكوت.
وقد أخرج في الدر المنثور من طرق كثيرة أنها نزلت في القراءة في الصلاة خلف الإمام، لكن ظاهر تلك الروايات الإطلاق في السرية والجهرية، إلا أنه قد روي التقييد بالجهرية عن ابن عباس.
قال في (الدر): أخرج ابن أبي حاتم وأبو الشيخ وابن مردويه والبيهقي في سننه عن ابن عباس في قوله تعالى: {وَإِذَا قُرِئَ الْقُرْآنُ فَاسْتَمِعُوا لَهُ}[الأعراف:204]، قال: نزلت في صلاة الجمعة وفي صلاة العيدين، وفيما جهر به من القراءة في الصلاة.
وأخرج ابن أبي حاتم وأبو الشيخ عنه قال: المؤمن في سعة من الاستماع إليه إلا في صلاة الجمعة وفي صلاة العيدين، وفيما جهر به من القراءة في الصلاة.
قلت: ولأن الاستماع لا يكون إلا مع السماع، ولا سماع في غير الجهرية فتعين أن المراد بالآية وجوب الاستماع والإنصات فيما يجهر فيه بالقراءة كما قال ابن عباس.
وقد روى البيهقي عن أحمد أنه قال: أجمع الناس على أن هذه الآية نزلت في الصلاة، وقد ورد في السنة ما يؤيد ذلك، ففي شرح التجريد أخبرنا أبوبكر المقري، قال: حدثنا الطحاوي، قال: حدثنا يونس، قال: أخبرنا ابن وهب أن مالكاً حدثه عن ابن شهاب عن ابن أكيمة الليثي عن أبي هريرة أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم انصرف عن صلاة جهر فيها بالقراءة فقال: ((هل قرأ منكم معي أحد آنفاً؟ فقال رجل: نعم يارسول الله، فقال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم : إني أقول مالي أنازع القرآن))، قال فانتهى الناس من القراءة خلف رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فيما جهر فيه حين سمعوا ذلك عنه.
وأخبرنا أبو بكر المقري، قال: حدثنا الطحاوي، قال: حدثنا حسين بن نصر، قال: حدثنا الفريابي، عن الأوزاعي، قال: حدثني الزهري، عن سعيد، عن أبي هريرة نحوه غير أنه قال: فاتعظ المسلمون بذلك ولم يكونوا يقرءون.
قال (المؤيد بالله): وهذا تصريح لما نذهب إليه، والحديث رواه في الشفاء، وأشار إلى الروايتين، وقال في الأخرى: ولم يكونوا يقرءون فيما جهر به.
أما يونس فهو: ابن بكير ذكره في الجداول فقال: يونس بن بكير عن ابن وهب، وعنه الطحاوي.
وأما ابن وهب فهو: من أصحاب مالك، له ذكر في كتب الفقه.
ومالك بن أنس أحد مشاهير علماء الإسلام وأئمتهم.
وابن أكيمة بالتصغير هو: عمارة بضم أوله والتخفيف، أبو الوليد المدني، وقيل: اسمه عمار أو عمر أو عامر أو سليمان، قال أبو حاتم: صحيح الحديث، وذكره ابن حبان في الثقات، وقال غيره: ثقة من الثالثة.
احتج به البخاري في جزء القراءة والأربعة، وروى له المؤيد بالله، توفي سنة إحدى ومائة عن تسع وسبعين سنة.
وحسين بن نصر، قال في الجداول: الحسين بن نصر عن يزيد بن هارون، وعنه الطحاوي، قال مولانا: الظاهر أنه الحسن مكبراً ابن نصر بن عثمان بن زيد، قال في طبقات الحنفية: ولد بأصبهان وكتب عن أبي حنيفة.
وأما الفريابي فهو: محمد بن يوسف بن واقد بن عثمان الظبي، مولاهم أبو عبد الله الفريابي أحد مشائخ البخاري، قال ابن عدي: صدوق، ووثقه أبو حاتم والنسائي والذهبي، توفي سنة اثنتي عشرة ومائتين، احتج به الجماعة وروى له الأخوان والمرشد بالله.
والحديث أخرجه أبو داود والنسائي والترمذي وقال حديث حسن، ومالك في الموطأ والشافعي وأحمد وابن ماجة وابن حبان، وقوله فانتهى الناس... إلخ، مدرج في الخبر، قال النووي: ولا خلاف فيه بينهم وقوله: ((أنازع)) بضم الهمزة للمتكلم وفتح الزاي والمنازعة المجاذبة قال في النهاية: أنازع أي أجاذب كأنهم جهروا بالقراءة خلفه فشغلوه فالتبست عليه القراءة، وأصل النزع: الجذب، ومنه نزع الميت بروحه أي جذبه، وفي مجمع الزوائد عن ابن يحينة أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم صلى صلاة يجهر فيها فلما انصرف قال: ((أتقرءون خلفي))، فقال بعضهم: إنا لنفعل، قال: ((لا تفعلوا إني أقول مالي أنازع القرآن))، قال فانتهى الناس عن القراءة فيما جهر فيه رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم رواه البزار بتمامه وأحمد والطبراني في الكبير والأوسط باختصار ورجاله رجال الصحيح إلا أن البزار قال أخطأ فيه ابن أخي ابن شهاب حيث قال: عن بحينة.
وأما وجوب القراءة فيما لا يجهر فيه الإمام فلعموم أدلة وجوب القراءة في الصلاة إذ عمومها يقتضي الوجوب في جميع الصلوات، خصصنا الصلاة التي يجهر فيها الإمام بما مر وبقي ما عداها داخلاً تحت ذلك العموم، وقال بعضهم: الآية تدل على الأمر بالاستماع لقراءة القرآن، ودلت السنة على وجوب القراءة خلف الإمام، فحملنا مدلول الآية على صلاة الجهرية، وحملنا مدلول السنة على صلاة السرية جمعاً بين دلائل الكتاب والسنة.
قلت: وهو ضعيف وما ذكرناه أولى، احتج أهل القول الثاني بقوله تعالى: {وَإِذَا قُرِئَ الْقُرْآنُ فَاسْتَمِعُوا لَهُ وَأَنصِتُوا}[الأعراف:204]، ولم يفصل بين سرية وجهرية، وقد ثبت أنها نزلت في شأن الصلاة، وقد مر أن الأكثر من الروايات مطلقة، واحتجوا أيضاً بما في مسند علي عليه السلام من الجامع الكبير عن الحارث عن علي عليه السلام قال: (سأل رجل النبي صلى الله عليه وآله وسلم أأقرأ خلف الإمام أم أنصت؟ قال: ((بل أنصت فإنه يكفيك))، قال في الروض: رواه البيهقي.
وعن علي عليه السلام قال: كانوا يقرءون خلف رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ، فقال النبي صلى الله عليه وآله وسلم : ((خلطتم علي فلا تفعلوا)). رواه في المجموع والشفاء.
وفي شرح التجريد أخبرنا أبو الحسين البروجردي، قال: حدثنا أبو بكر الدينوري، قال: حدثنا عباد بن عمر التيمي ومحمد بن عبد العزيز قالا: حدثنا أسد بن روبة، قال: حدثنا محمد بن الفضل، عن عطية عن أبيه، عن سالم، عن ابن عمر، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم : ((من كان له إمام فقراءته له قراءة)).
البروجردي هو: عبد الله بن سعيد بن عبد الله بن عبد الواحد، وثقه الذهبي، توفي سنة ثمان وثمانين وثلاثمائة.
والدينوري هو: محمد بن عمر -بفتح الميم وقيل سكونها- ابن محمد أبو بكر الدينوري، روى له الأخوان.
وأما محمد بن عبد العزيز فوثقه الدارمي وضعفه غيره.
وأما عطية فهو: الطفاوي البصري روى فضيلة لأهل البيت ذكره في الأكمال، وروى له الناصر والحديث رواه في أصول الأحكام، وقال في شرح التجريد: أخبرنا أبو بكر المقري، قال: حدثنا الطحاوي، عن أحمد بن عبد الرحمن، قال: حدثني عمي عبد الله بن وهب بن الليث عن يعقوب، عن النعمان، عن موسى بن أبي عائشة، عن عبد الله بن شداد عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم : ((من كان له إمام فقراءة الإمام له قراءة)).
أحمد بن عبد الرحمن بن وهب القرشي الفهري عن عمه عبدالله والشافعي وعدة، وعنه الطحاوي ومسلم وغيرهما، وثقه محمد بن عبد الله بن عبد الحكم، وعبد الملك بن شعيب وقال بن أبي حاتم: صدوق، توفي سنة أربع وستين ومائتين، روى له الأخوان.
وأما عمه عبدالله فهو: ابن وهب بن مسلم البصري الفهري القرشي مولاهم، وثقه ابن أبي حاتم، وأبو زرعة وابن عدي وابن معين، وقال أحمد: ما أصح حديثه، توفي سنة سبع وتسعين ومائة.
احتج به الجماعة، وروى له أئمتنا الخمسة، والناصر، والسمان، وغيرهم.
وأما يعقوب والنعمان فسيأتي ذكرهما.
وأما موسى بن أبي عائشة فهو: المخزومي، مولاهم الهمداني أبو الحسن. وثقه ابن معين، واحتج به الجماعة، وروى له المؤيد بالله والمرشد بالله والمرادي.
وأما عبدالله فهو: ابن شداد بن الهاد، واسم الهاد أسامة بن عمر، ويقال خالد بن بشر أبو الوليد، روى عن علي وعمر وابن عباس، ومعاذ وطائفة، وثقه العجلي والخطيب وأبو زرعة، وابن سعد وقال: كان عثمانياً، وقال محمد بن عمر وغيره: خرج على الحجاج مع القراء فقتل يوم دجيل، وكان ثقة كثير الحديث.
وقال (ابن المديني): كان مع الوصي يوم النهروان، هلك يوم دجيل سنة اثنتين وثمانين.
احتج به الجماعة وروى له أئمتنا الثلاثة، والحديث مرسل، أخرجه الدارقطني من حديث عبد الله بن شداد، وقال في المنتقى: قد روي مسنداً من طرق كلها ضعاف، والصحيح أنه مرسل.
وقال في النيل: قال الدارقطني: لم يسنده عن موسى بن أبي عائشة غير أبي حنيفة والحسن بن عمارة وهما ضعيفان، قال: وروى هذا الحديث سفيان الثوري وشعبة وإسرائيل وشريك وأبو خالد الدالاني وأبو الأحوص وسفيان بن عيينة وحريث بن عبد الحميد، وغيرهم عن موسى بن أبي عائشة عن عبد الله بن شداد مرسلاً عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم وهو الصواب.
قلت: قد استفيد من كلام الدارقطني أن النعمان المذكور في سند شرح التجريد هو أبو حنيفة ولا يضره تضعيفهم له، فهو في العلم والعدالة بالمحل الذي لا يخفى حتى صار أحد أئمة الإسلام المعتمد عليهم والمقتدى بهم، فإذا كانوا قد جرحوا مثل هذا الإمام فما ظنك بغيره، فلا يغتر الطالب للحق بجرحهم، ولعل ذنبه حبه ومناصرته لأهل بيت رسول صلى الله عليه وآله وسلم ، ولعل يعقوب الراوي عنه هو صاحبه يعقوب بن إبراهيم الأنصاري القاضي أبو يوسف الكوفي، أخذ عنه خلق منهم أحمد وقال: كان مصنفاً في الحديث، وأثنى عليه غيره، توفي سنة اثنتين وثمانين ومائة، روى له المؤيد بالله والمرادي.
وأما الحسن بن عمارة فهو: البجلي مولاهم، أبو محمد الكوفي، قال في الجداول: كان من كبار الفقهاء في زمانه، تكلموا عليه بلا حجة.
احتج به أبو داود وابن ماجة والبخاري تعليقاً، وروى له الأخوان.
قلت: والحديث قد روي مسنداً من طرق فلا التفات إلى الحكم بإرساله، وقد أشار إلى ذلك الحافظ إلا أنه قال: إن تلك الطرق كلها ضعيفة، ولفظه هو مشهور من حديث جابر، وله طرق عن جماعة من الصحابة كلها معلولة.
وقال في (الفتح): إنه ضعيف عند جميع الحفاظ، وقد استوعب طرقه وعلله الدارقطني.
قلت: قد صحح حديث جابر من يعتمد على تصحيحه، وقد ذكر بعض تلك الطرق في الروض النضير فقال: منها ما أورده ابن الهمام عن أبي حنيفة بسند صحيح قال: حدثنا أبو الحسن موسى بن أبي عائشة، عن عبد الله بن شداد، عن جابر مرفوعاً: ((من كان له إمام فقراءة الإمام له قراءة)) وأخرجه أحمد بن منيع، قال حدثنا إسحق الأزرق، نا سفيان وشريك عن موسى بن أبي عائشة، عن عبد الله بن شداد، عن جابر فذكره، وأخرجه عبد بن حميد نا أبو نعيم، نا الحسن بن صالح، عن أبي الزبير، عن جابر عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم . وإسناد حديث جابر الأول صحيح على شرط الشيخين، والثاني على شرط مسلم، وأخرجه أبو عبد الله الحاكم مع قصة فقال: حدثنا محمد بن بكر بن محمد الصيرفي، حدثنا عبد الصمد بن الفضل البلخي، ثنا مكي بن إبراهيم، عن أبي حنيفة، عن موسى بن أبي عائشة، عن عبد الله بن شداد بن الهاد، عن جابر بن عبدالله أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم : صلى ورجل خلفه يقرأ فجعل رجل من أصحاب النبي صلى الله عليه وآله وسلم ينهاه عن القراءة في الصلاة، فلما انصرف أقبل عليه الرجل وقال: أتنهاني عن القراءة خلف رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ، فتنازعا حتى ذكر ذاك للنبي صلى الله عليه وآله وسلم ، فقال: ((من صلى خلف إمام فقراءة الإمام له قراءة)).
وفي رواية لأبي حنيفة أن ذلك كان في الظهر أو العصر هكذا أن رجلاً قرأ خلف رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم في الظهررأو العصر، فأومأ إليه رجل فلما انصرف قال أتنهاني... الحديث، هكذا ساق هذه الروايات.
وما ذكر من التصحيح في الروض وبه يندفع كلام الدارقطني وغيره في تضعيف الحديث، وممن أخرجه عن جابر مرفوعاً ابن أبي شيبة ذكره في الدر المنثور.
وعن أبي هريرة أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قال: ((إنما جعل الإمام ليؤتم به، فإذا كبر فكبروا وإذا قرأ فأنصتوا)). رواه الخمسة إلا الترمذي، وقال مسلم: هو صحيح، ورواه في شرح التجريد، ولم يذكر التكبير.
وأخرج عبد الرزاق عن علي عليه السلام قال: (ليس من الفطرة القراءة مع الإمام)، وأخرج عنه عليه السلام : (من قرأ خلف الإمام فلا صلاة له).
وقال (الطحاوي): حدثنا فهد، أنا أبو نعيم، سمعت محمد بن عبد الرحمن بن أبي ليلى ومر على دار ابن الأصبهاني، قال: حدثني صاحب هذه الدار وكان قد قرأ على أبي عبد الرحمن عن المختار بن عبد الله بن أبي ليلى قال: قال علي عليه السلام : (من قرأ خلف الإمام فليس على الفطرة).
فهد بن سليمان المصري شيخ الطحاوي، وثقه الذهبي، وروى له المؤيد بالله.
ومحمد بن عبد الرحمن بن أبي ليلى هو الأنصاري الكوفي، قاضي الكوفة، أحد الأعلام.
قال في (التذكرة): مناقبه كثيرة، وقال أبو يوسف: ما ولي القضاء أحد أفقه في دين الله ولا أقرأ لكتاب الله ولا أقوم حقاً ولا أعف عن الأموال من ابن أبي ليلى.
وقال (القاسم بن عبد العزيز): هو ممن اشتهر بالأخذ عن زيد بن علي وكان صاحب رسالته، وفي المقاتل أنه من المبايعين، توفي سنة ثمان وأربعين ومائة.
احتج به الجماعة، وروى له أئمتنا الأربعة والناصر، عداده في ثقات محدثي الشيعة، وأخرج البيهقي في الشعب وابن أبي شيبة والعقيلي في الضعفاء والدارقطني وابن الأعرابي في معجمه عن علي عليه السلام : (من قرأ خلف الإمام فقد أخطأ الفطرة).
وأخرجه البيهقي أيضاً في كتاب القراءة في الصلاة وضعفه.
وقال (الطحاوي): حدثنا أبو بكرة، أنا أبو أحمد محمد بن عبد الله، نا يونس بن أبي إسحق، عن أبي الأحوص، عن عبد ا لله بن مسعود قال: كانوا يقرءون خلف الإمام فقال: ((خلطتم علي)).
قال في (تخريج المجموع): ورجاله رجال الصحيح ما عدا أبا أبكرة شيخ الطحاوي، وهو أبو بكرة بكار بن قتيبة القاضي وهو ثقة، ذكره ابن خلكان وغيره.
وفي (الدر المنثور) أخرج عبد بن حميد وابن جرير وابن أبي حاتم وأبو الشيخ عن ابن مسعود أنه صلى بأصحابه فسمع ناساً يقرءون خلفه، فلما انصرف قال: أما آن لكم أن تفهموا، أما آن لكم أن تعقلوا: {وَإِذَا قُرِئَ الْقُرْآنُ فَاسْتَمِعُوا لَهُ وَأَنصِتُوا}[الأعراف:204 ]كما أمركم الله.
وأخرج ابن أبي شيبة والطبراني في الأوسط وابن مردويه عن أبي وائل عن ابن مسعود أنه قال في القراءة خلف الإمام: أنصت للقرآن كما أمرت فإن في الصلاة شغلاً وسيكفيك ذاك الإمام.
قالوا: فالآية والأخبار وما في معناها من الآثار ظاهرة فيما ذهبوا إليه، وفي بعضها ما هو كالنص وهي مخصصة لعموم أدلة وجوب القراءة في الصلاة، ويزيدها بياناً ووضوحاً ما رواه المؤيد بالله في شرح التجريد مرسلاً عن ابن عباس عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم أنه قال: ((يكفيك قراءة الإمام خافت أو جهر)).
وفيه أخبرنا أبو بكر المقري، قال: حدثنا الطحاوي، قال: حدثنا يحيى بن نصر، قال: حدثني يحيى بن سليمان، قال: حدثنا مالك، عن وهب بن كيسان، عن جابر عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم أنه قال: ((من صلى ركعة فلم يقرأ فيها بأم القرآن فلم يصل إلا أن يكون وراء الإمام)).
يحيى بن نصر بن سابق الخولاني، قال في الجداول الصواب: بحر بن نصر أبو عبد الله المصري، وثقه ابن أبي حاتم، توفي سنة سبع وستين ومائتين، روى له الأخوان، والمرشد بالله.
وأما يحيى بن سليمان فيبحث عنه.
ومالك هو: ابن أنس أحد أعلام الأمة.
وابن كيسان هو: أبو نعيم المؤذن الأسدي، مولاهم المكي، وثقه النسائي، توفي سنة سبع وعشرين ومائة.
احتج به الجماعة، وروى له المؤيد بالله والمرادي، والحديث أخرجه الترمذي ومالك في الموطأ، ذكره في الروض وصرح برفعه، ونسبه في النيل إليهما إلا أنه جعله موقوفاً وقال إن الترمذي صححه، ولعله وهم في وقفه. والله أعلم.
ومن أدلتهم ما ذكره الجلال وهو القياس على من غفل عن السماع حتى لا يدري ما قرأ الإمام، قال فإنه لا يقرأ اتفاقاً، وعلى الخطبة في عدم اعتبارسماعها.
احتج أهل القول الثالث بما رواه عبادة بن الصامت قال: صلى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم الصبح فثقلت عليه القراءة فلما انصرف قال: ((إني أراكم تقرءون وراء إمامكم))، قال: قلنا يارسول الله إي والله، قال: ((لاتفعلوا إلا بأم القرآن، فإنه لاصلاة لمن لا يقرأ بها)). رواه أبو داود والترمذي، وفي لفظ: ((فلا تقرءوا بشيء من القرآن إذا جهرت به إلا بأم القرآن)). رواه أبو داود والنسائي والدارقطني وقال كلهم ثقات، ورواه المؤيد بالله بمعناه في شرح التجريد مرسلاً، ورواه أحمد والبخاري في جزء القراءة، وصححه ابن حبان والحاكم والبيهقي من طريق ابن إسحق عن مكحول وتابعه زيد بن واقد وغيره عن مكحول.
وقال (الهيثمي): رواه الطبراني في الكبير ورجاله موثقون.
وعن عبادة أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال: ((لا يقرأن أحد منكم شيئاً من القرآن إذا جهرت بالقراءة إلا بأم القرآن)). رواه الدارقطني وقال: رجاله كلهم ثقات.
ومن شواهده ما رواه أحمد من طريق خالد الحذاء عن أبي قلابة عن محمد بن أبي عائشة عن رجل من أصحاب النبي صلى الله عليه وآله وسلم ، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم : ((لعلكم تقرءون والإمام يقرأ، قالوا: إنا لنفعل، قال: لا، إلا بأن يقرأ أحدكم بفاتحة الكتاب)). قال الحافظ: إسناده حسن، ورواه ابن حبان من طريق أيوب عن أبي قلابة عن أنس وزعم أن الطريقتين محفوظتان، وخالفه البيهقي فقال: إن طريق أبي قلابة عن أنس ليست بمحفوظة.
وقال في (الروض): ذكر عن أنس أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم صلى بأصحابه فلما قضى صلاته أقبل عليهم فقال: ((أتقرءون في صلاتكم خلف الإمام والإمام يقرأ فسكتوا، قالها ثلاث مرات، فقال قائل أو قال قائلون: إنا لنفعل، قال: فلا تفعلوا ليقرأ أحدكم بفاتحة الكتاب في نفسه)). رواه أبو يعلى والطبراني في الأوسط ورجاله ثقات، وأخرجه أيضاً ابن حبان والبيهقي، ذكره في النيل قال: وأخرجه عبد الرزاق عن أبي قلابة مرسلاً، قالوا: فهذه الأخبار صريحة فيما ذهبنا إليه وهي مخصصة لعموم ما استدل به أهل القولين الأولين إذ قوله تعالى: {وَإِذَا قُرِئَ الْقُرْآنُ}[الأعراف:204 ]عام للفاتحة وغيرها، وهذه الأخبار مخصصة للفاتحة. وكذلك ما احتجوا به من الأخبار فإنها عامة مخصوصة بالفاتحة، على أن الآية ليست نصاً في القراءة خلف الإمام للاختلاف في سبب نزولها، ولو سلم ثبوت ذلك فقد روي أنها نزلت في رفع الصوت بالقراءة خلف الإمام وهو غير محل النزاع، إذ محله في القراءة خلف الإمام سراً، وكذلك بعض الأخبار التي احتجوا بها، كحديث: ((مالي أنازع القرآن))، فإن المنازعة المجاذبة كما مر، وذلك لا يكون إلا مع الجهر، وكحديث: ((خلطتم علي فلا تفعلوا))، إذ السياق مشعر بأن النهي كان لأجل التخليط وذلك لا يكون إلا مع الجهر فكأنه نهى عن الجهر الذي يكون سبباً للتخليط.
وأما ما ذكره في الاعتصام من أن قوله: ((إلا بفاتحة الكتاب)) زيادة مصادمة لصريح قوله: {وَإِذَا قُرِئَ الْقُرْآنُ فَاسْتَمِعُوا لَهُ وَأَنصِتُوا}[الأعراف:204].
فجوابه: أنا قد ذكرنا أن الآية ليست نصاً في القراءة خلف الإمام.
سلمنا فقد حكى الرازي عن بعض أهل اللغة أن المراد بالإنصات ترك الجهر، ولئن لم يصح هذا فتخصيص الكتاب والسنة المتواترة بالآحاد جائز، على أنه قد ادعى المقبلي أن الأحاديث الدالة لمذهب الشافعي متعددة صريحة بحيث لا يبعد ادعاء التواتر فيها، ذكره في المنار، وقد قواها هو وغيره بعموم أحاديث: ((لاصلاة إلا بفاتحة الكتاب)) للمؤتم وغيره، والبراءة من عهدتها إنما تحصل بناقل صحيح لا بمثل هذه العمومات التي اقترنت بما يجب تقديمه عليها، وقد استدل الرازي على المسألة بعموم حديث المسيء، وبحديث: ((قسمت الصلاة...)) إلخ فجعل التنصيف من لوازم الصلاة، وهو لا يحصل إلا بقراءة الفاتحة، فوجب أن تكون قراءتها من لوازم الصلاة.
قال: وهذا التنصيف قائم في صلاة المنفرد وفي صلاة المقتدي.
وأما القول الرابع وهو ما ذهب إليه الناصر من أنه يقرأ الفاتحة وثلاث آيات فمبني على ما روي عنه من وجوب الزيادة على الفاتحة، لكنه يدفع شرعية الزيادة هنا حديث عبادة.
نعم قد ورد ما يدل على الزيادة في الأوليين، ولعله مراد الناصر عليه السلام وذلك ما أخرجه الحاكم في المستدرك وصححه عن علي عليه السلام أنه كان يأمر أن يقرأ خلف الإمام في الركعتين الأوليين بفاتحة الكتاب وسورة وفي الأخريين بفاتحة الكتاب، وهذه الرواية عن علي عليه السلام تقوي حمل ما مر عنه من النهي عن القراءة مطلقاً على غير الفاتحة، وعلى ما وقع به التخليط على الإمام، وقد سلك بعض المتأخرين طريقاً أخرى بها يحصل الجمع بين الأدلة وهي أن يحمل ما يقتضي النهي عن القراءة والأمر بها على جواز الأمرين.
أما أحاديث النهي فلأنه قد ورد ما يدل على عدم قبح قراءة الفاتحة خلف الإمام وهو حديث جابر؛ إذ لم يدل إلا على تحمل الإمام والتحمل لا ينافي الجواز.
وأما ما يقتضي كونها مأموراً بها كحديث: ((لا تفعلوا إلا بفاتحة الكتاب))، -الفاتحة- فغاية ما يدل عليه جواز قراءة الفاتحة لأن الاستثناء من النهي إباحة نحو لا تجالس من القوم إلا زيداً. وما ورد من قوله فإنه لا صلاة لمن لا يقرأ بها، فمحمول على أنها عمدة الصلاة في غير حالة التحمل، ويؤيد هذه الطريقة خلو مقامات التعليم عن ذكر قراءة المؤتم مع اشتمالها على تعليم المندوبات التي لا تساوي هذه القراءة في الاهتمام نحو ما شمله حديث أبي هريرة في الصحيحين: ((إنما جعل الإمام ليؤتم به فإذا كبر فكبروا وإذا ركع فاركعوا وإذا قال سمع الله لمن حمده فقولوا ربنا لك الحمد...)) الخبر.
وتقدم من روايته: ((وإذا قرأ فأنصتوا))، فلو كانت القراءة خلف الإمام واجبة لما ترك بيانه في هذه المواضع، والبيان للواجب يكون بأول ما يصدر من النبي صلى الله عليه وآله وسلم من قول أو فعل، ويزيده وضوحاً ما ورد في بعض الروايات: ((هل تقرءون إذا جهرت))، فإنه يدل أنه لم يكن لهم عادة لازمة بالقراءة وعدمها لا بالفاتحة ولا بغيرها، ولو كانت واجبة علىا لمؤتمين لما وقع استفهامه إياهم عن الفعل والترك، ولما جاز إقرارهم على ذلك فيما تقدم من الصلوات، وهذا حاصل ما قاله سالك هذه الطريقة، ثم قال: فذلك دليل على أن الأمر واسع مما ضيق به أهل المذاهب على نفوسهم من إيجاب البعض للقراءة وإيجاب الآخرين للإنصات، ثم إن في بعض الروايات تصريح بانفراد بعض المؤتمين بالقراءة التي أنكرها النبي صلى الله عليه وآله وسلم وهو قوله: ((هل قرأ معي أحد منكم آنفاً))، فإنه يدل على سكوت الباقين، ثم لم يقل هل قرأ معي أحد غير الفاتحة، وكل ذلك يدل على اختلاف حالهم بالفاتحة وغيرها.
قال: فهذه قرائن قوية في صرف الوجوب المدعى إلى الندب، واعترضه في الروض بأن حمله لحديث عبادة، على أن المراد بأن قراءة الفاتحة عمدة الصلاة في غير حالة التحمل، يرد عليه منافاته للسياق فإنه وارد في القراءة خلف الإمام وهو منطوق يجب تقديمه على المفهوم المأخوذ منه عدم الوجوب.
قلت: أراد بالمأخوذ منه عدم الوجوب ما في حديث جابر من قوله: ((إلا وراء الإمام))، ويجاب بأن هذا ليس بمفهوم، بل هو منطوق غايته أن فيه حذف دل عليه السياق، إذ الاستثناء من المنفي وهو الصلاة، إذ التقدير من لم يقرأ الفاتحة فلم يفعل الصلاة إلا وراء الإمام فإنه يكون فاعلاً لها وإن لم يقرأ الفاتحة ومادل عليه السياق واقتضاه اللفظ بحيث لا تقم الفائدة من دونه كان منطوقاً، فينتفي ترجيح حديث عبادة، ويجب إما الجمع بينهما بما ذكر أو بغيره مما يمكن، أو الرجوع إلى غيرهما.
واعلم أن المؤيد بالله وغيره من أصحابنا قد جمعوا بين الأدلة بحمل أدلة التحمل والنهي عن القراءة على حالة الجهر، وأدلة وجوب الفاتحة على حالة الإسرار وأوجبوا قرآناً معها لما مر، وأما الهادي فاقتصر في الاستدلال على المسألة بالآية. ورواه عن جده القاسم، وتقرير كلامهما في الاحتجاج بها على نحو ما مر من أن الاستماع والإنصات إنما يكون مع الجهر، وأن من قرأ فلم يستمع ولم ينصت، وأنه إذا لم يجهر الإمام فقد بطل وجوب الإنصات ووجبت القراءة، وظاهر كلام الهادي أن الآية نزلت في القراءة خلف الإمام لأنه قال فأمر تبارك وتعالى بالإنصات والاستماع لقراءة الإمام وفي اقتصارهما على الاحتجاج بها دليل على أنه يجب الرجوع إلى ظواهر القرآن عند تعارض الأخبار فعلى الناظر التأمل، فإن لم يحصل له ما يدفع التعارض من ترجيح صحيح أو جمع لايوجب التعسف تعين عليه الرجوع إلى ظاهر الآية وترجيح ما طابقها، والأمر في ذلك واضح.
نعم رواية الأ حكام عن القاسم صريحة في كراهة القراءة خلف الإمام فيما جهر فيه، ومثله في شرح التجريد عن ابن طاهرالعلوي فإذا حملنا الكراهة خلف الإمام في الجهرية على حقيقتها كانت نصاً في جواب القراءة وإن كانت خلاف الأولى فيكون وجه الجمع بين الأدلة في حالة الجهر. والله أعلم.
تنبيه [هل تفسد صلاة المختلفين]
لو خالف المصلي بعض هذه الأربعة المذاهب فهل تفسد صلاته عند من خالفه؟
قيل: أما أهل القول الأول فروى في البحر عن القاسمية أنه إذا قرأ وهو يسمع قراءة الإمام فسدت صلاته، قال المرتضى: ولو ناسياً وهو المصحح للمذهب إذ النهي للفساد.
وقال (المؤيد بالله): لا تفسد، قال في الثمرات: وحكاه أبو جعفر عن أكثر العلماء والوجه أنه صلى الله عليه وآله وسلم لم يأمر من جهر حال جهره بالإعادة.
وأما أهل القول الثاني فلم أقف لهم على نص إلا ما روي عن أبي حنيفة من أنه إذا قرأ لم تفسد صلاته، ولعل وجهه حديث جابر.
وأما أهل القول الثالث فالظاهر من قولهم فسادها بترك قراءة الفاتحة إذ هي فرض عندهم، وممن نص على فسادها الرازي، ومقتضى دليل وجوب الفاتحة والزيادة عليها يقضي بالفساد على مذهب الناصر إن تركت القراءة، ولم أقف له على نص.
تنبيه [في وجوب الإنصات]
قال أهل المذهب: وإنما يجب الإنصات عند جهر الإمام إذا سمع قراءته، فأما إذا لم يسمع لبعد أوصمم وجبت عليه القراءة وإلا فسدت؛ لأنه إذا لم يسمع القراءة من الإمام لا يحصل له العلم بأنه قد قرأ فلا يمكنه أن يجعل قراءته بدل قراءة نفسه، هكذا في شرح التجريد، واستدل لهم في الثمرات بأنه لا دليل على سقوطها -يعني مع عدم السماع-.
وقال (النووي): ولو كان بعيداً عن الإمام لا يسمع قراءته فالصحيح أنه يقرأ السورة لما ذكرنا من أن المأموم يقرأ السورة في السرية؛ لأنه لا يسمع فلا معنى لسكوته، ولقائل أن يقول: العلة في النهي عن القراءة وقوع المنازعة والتخليط وذلك حاصل مع جهر الإمام بالقراءة، فيجب أن يقرأ سراً أو يسكت ويتحمل عنه الإمام، فإن قيل: الآية لم توجب الإنصات إلا للاستماع لقراءة الإمام.
قيل: بل لئلا ينازعه أو يخلط عليه كما تفيده رواية ابن عباس أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قرأ في الصلاة المكتوبة وقرأ أصحابه رافعين أصواتهم فخلطوا عليه فنزلت الآية: {وَإِذَا قُرِئَ الْقُرْآنُ فَاسْتَمِعُوا لَهُ وَأَنصِتُوا} [الأعراف:204]. رواه في منتهىالمرام وفي معناه روايات.
وقال (الشوكاني): ظاهر الأحاديث المنع من قراءة ما عدا الفاتحة من القرآن من غير فرق بين أن يسمع المؤتم الإمام أو لا يسمعه؛ لأن قوله صلى الله عليه وآله وسلم : ((فلا تقرءوا بشيء من القرآن إذا جهرت))، يدل على النهي عن القراءة عند مجرد وقوع الجهرمن الإمام، وليس فيه ولا في غيره ما يشعر باعتبار السماع، ذكره في النيل، ويؤيد ما ذكرناه من أن العلة منازعة الإمام والتخليط عليه حديث عمران بن الحصين: أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم صلى الظهر فجعل رجل يقرأ خلفه سبح اسم ربك الأعلى، فلما انصرف، قال: ((أيكم قرأ أو أيكم القارئ؟ فقال رجل: أنا، فقال: لقد ظننت أن بعضكم خالجنيها)). متفق عليه.
ومعنى خالجني: نازعني وشكك عليَّ، قال في النيل: ومعنى هذا الكلام الإنكار عليه في جهره أو رفع صوته بحيث أسمع غيره لا عن أصل القراءة، بل فيه أنهم كانوا يقرءون بالسورة في الصلاة السرية، وفيه إثبات قراءة السورة في الظهر للإمام والمأموم.
قلت: وفيه رد على من منع من قراءة المؤتم في السرية.
تنبيه [في الاختلاف في القراءة بعد الإمام في الجهرية]
اختلف القائلون بشرعية قراءة الفاتحة خلف الإمام فيما جهر فيه في أمرين:
أحدهما: في الموضع الذي يقرأ فيه خلف الإمام، فقال بعضهم: حديث عبادة وما في معناه يدل على الإذن بقراءة الفاتحة من غير قيد، وبه قال الحافظ واختاره الشوكاني، إلا أنه قال: فعلها عند سكتات الإمام أحوط؛ لأنه يجوز عند أهل القول الأول فيكون فاعل ذلك آخذاً بالإجماع.
وقال بعضهم: بل يتبع بها سكتات الإمام لاجتماع الآثار على أن القراءة حال جهر الإمام مكروهة كراهة شديدة، وأن الفاتحة تجب قراءتها على المأموم.
قال (النووي): ينبغي أن يطول الإمام السكتة التي عقيب الفاتحة بقدر ما يقرؤها المأموم فيها، قال وصار عليه عمل من عرفنا من الشافعية، وفي شر ح القسطلاني أن منهم من يقول بتعيين السكوت على الإمام في الجهرية ولم يعين موضعه، قال ليقرأ المأموم لئلا يوقعه في ارتكاب النهي حيث لا ينصت إذا قرأ الإمام.
وقد روي ما يدل على أن محل القراءة بعد التكبيرة الأولى قبل قراءة الإمام وذلك في حديث ابن عمر، وقد مر في المسألة الثانية وأخرجه ابن ماجة.
قال في (الروض): وفي رواية من صلى مع الإمام فجهر فليقرأ بأم القرآن في بعض سكتاته. قيل: وما في الرواية الأولى من قوله قبله مبين لهذه الرواية.
قال (السياغي): وفيه نظر لأنه يؤدي إلى ترك دعاء الاستفتاح عند من جعله مسنوناً في حقه خلف الإمام، وإلى ترك القراءة في الركعة الثانية، إذ لا سكوت للإمام فيها قبل قراءة الفاتحة، وقد روى الحاكم في مستدركه ما يفيد الإطلاق في السكتات فقال: حدثنا علي بن حمشاد العدل، نا محمد بن موسى الزبيري، نا أيوب بن محمد الوزان، ثنا فيض بن إسحاق الرقي، ثنا محمد بن عبدالله بن عبيد بن عمير الليثي، عن عطاء، عن أبي هريرة قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم : ((من صلى صلاة مكتوبة مع الإمام فليقرأ فاتحة الكتاب في سكتاته، ومن انتهى إلى أم القرآن فقد أجزأه)).
قال: ولا ينافيه ما في رواية ابن ماجة السابقة إذ هو ذكر لأحد صور المطلق وهو لا يفيد تقييداً.
قلت: وينبغي للإمام أن يجعل سكتاته مطابقة لسكتات الرسول صلى الله عليه وآله وسلم .
وقد روي في ذلك روايات ففي العلوم: حدثنا أبو كريب، عن جعفر بن غياث، عن عمرو، عن الحسن قال: كان لرسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ثلاث سكتات إذا افتتح الصلاة، وإذا فرغ من فاتحة الكتاب، وإذا فرغ من القراءة قبل أن يركع.
وفي المنتقى عن الحسن، عن سمرة، عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم أنه كان يسكت سكتتين إذا استفتح الصلاة، وإذا فرغ من القراءة كلها، وفي رواية سكتة إذا كبر وسكتة إذا فرغ من قراءة: {غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ وَلاَ الضَّالِّينَ}[الفاتحة: 7]. روى ذلك أبو داود، وكذلك أحمد والترمذي وابن ماجة بمعناه.
قال في (الشرح): وحسنه الترمذي، وفي سماع الحسن عن سمرة لغير حديث العقيقة كلام.
قال في (النيل): وقد صحح الترمذي سماع الحسن عن سمرة في مواضع من سننه، فكان هذا الحديث على مقتضى تصرفه جديراً بالتصحيح.
وقال (الدارقطني): رواة الحديث كلهم ثقات، فإن قيل: كيف يكون منكم الاعتماد على رواية سمرة وهو المشهور ببغض الوصي وانتهاك المحرمات؟ قيل: لم نعتمد على روايته في ثبوت السكتات لثبوتها بالجملة من رواية غيره وقد مر بعضها.
وأما تعيين مواضعها فمعتمدنا رواية العلوم ولم يصرح فيها بالرواية عن سمرة، ومن الجائز أن يكون الحسن قد رواها عن غيره غايته احتمال ذلك، وما تقدم من تصحيح مرسلات الحسن وأنها عن الوصي يضعف ذلك الاحتمال، على أنه قد صدقه أبي بن كعب كما في الهدي النبوي.
وقال فيه أيضاً: وقد صح حديث السكتتين من رواية سمرة وأبي بن كعب وعمران بن حصين. ذكر ذلك أبو حاتم في صحيحه.
وفي (النيل): عن أبي هريرة أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم كانت له سكتة إذا افتتح الصلاة، رواه أبو دواد والنسائي، وقد ذكر في الهدي اختلاف العلماء في مواضع السكتات.
والمعتمد في ذلك ما صح عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم ، وقد عرفت ما دلت عليه رواية العلوم، ولا يعارضها الاقتصارعلى السكتتين، رواية أبي وعمران؛ لأنه قد قيل: إن السكتة الثالثة لطيفة جداً لأجل تراد النفس، فمن لم يذكرها فلقصرها، ومن اعتبرها جعلها سكتة ثالثة.
وقد روي أنه صلى الله عليه وآله وسلم كان يسكت عند كل آية من آي الفاتحة، رواه أبو طالب من حديث أم سلمة.
واعلم أنه قد اختلف في استحباب السكتات الثلاث التي تضمنها حديث العلوم، فذهب إلى استحبابها أهل المذ هب والأوزاعي والشافعي وأحمد وإسحق، لكن مقتضى ما مر لأهل المذهب أن المشروع منها قدر النفس، وعند الشافعية قدر ما يقرأ المأموم الفاتحة على اختلاف في عباراتهم، فمنها ما يقضي بتطويل الأولى قدر قراءة الفاتحة، ومنها ما يقضي بأن المشروع منها ما يمكن الإتيان فيه بالفاتحة، وقد مرالكلام على هذا.
وقال أصحاب الرأي و(مالك): السكتة مكروهة وما مر يحجهم، قال في النيل: واستحب أصحاب الشافعي سكتة رابعة بين: {وَلاَ الضَّالِّينَ}[الفاتحة: 7 ]وبين آمين، ليعلم المأموم أن لفظة آمين ليست من القرآن.
فرع [في ذكر ضرورة الأسرار بالقراءة خلف الإمام]
وعلى القول بشرعية القراءة خلف الإمام فلا يجهر بها وإلا كان منازعاً، ولحديث أنس وقد مر، ويؤيده قول أبي هريرة: اقرأ بها في نفسك.
وما في الشفاء عن علي عليه السلام : في صلاة اللاحق فإنه أمره أن يقرأ في نفسه، وهو يدل على أنه لا يجهر خلف الإمام بحال، الأمرالثاني مما اختلفوا فيه التوجه عند من يرى شرعيته بعد التكبيرة، فمنهم من قال: هو مشروع في حقه، وكذا في حق من صلى خلف من يقدم التوجه على التكبير، أو دخل في أثناء الصلاة والإمام يقرأ؛ لأن أدلة شرعيته مخصصة لعموم النهي كما خصصته أدلة قراءة الفاتحة، وإنما افترقا من حيث أن مخصص التوجه منفصل، ومخصص الفاتحة متصل كما في حديث عبادة، وهذا الفرق غير معتبر لاستوائهما في إفادة الحكم، فإن قيل: المقرر أن الدليلين إذا كان بينهما عموم وخصوص من وجه لم يخص أحدهما بالآخر إلاَّ بمرجح، وهنا دليل شرعية التوجه عام يتناول حال جهر الإمام، وعموم أدلة النهي يدل على النهي عنه في هذه الحالة، فما هو المرجح لما ذهبتم إليه؟
قيل: لا نسلم أن في أدلة التوجه صيغة عموم بل هو خاص، سلمنا أن فيها ما يجري مجرى العموم فقد تقرر أن العام الذي خص أولى بالتخصيص، وإذا كان كذلك فعموم النهي قد خص منه الفاتحة، وعموم دليل التوجه لم يخص منه شيء فيكون إبقاء دلالته والعمل بها في جميع الأحوال أرجح، على أن مع الإسرار به تزول علة النهي المشار إليها في الأخبار وهي التخليط والمنازعة، فلا يكون فيه منافاة للنهي بالكلية.
قال بعض المحققين: فيه شبه الجمع بين الأدلة بخلاف ترك الاستفتاح فإنه إبطال للدليل بالكلية، واستدل بعضهم بما في بعض الروايات من تقييد النهي بقوله من القرآن، وهو يدل على أن ما ليس بقرآن لا يتناوله النهي كالدعاء والتعوذ والتوجه بغير القرآن، ومنهم من منع منه وهو اختيار ابن حزم وهو ظاهر كلام السياغي والشوكاني؛ لأن عمومات الكتاب والسنة دالة على وجوب الإنصات والاستماع، والمتوجه غير منصت ولا مستمع وإن لم يكن تالياً للقرآن ولا منازعاً للإمام بسبب الإسرار، ولم يرد الإذن إلا بفاتحة الكتاب كما يفيده الحصر، فما عداها داخل تحت النهي.
وأما إطلاق الأمر بالتوجه فهو كإطلاق الأمر بالقراءة فإن كلاً منهما مقيد بحال جهر الإمام.
قال (السياغي): وقياسه على القراءة من قياس الأولى لأنه إذا نهي عن القراءة وهي فرض من فروض الصلاة لظهور الحكمة في الإنصات من الاستماع والتدبر الذي يحصل به مقصود الصلاة من الخشوع والإقبال، فالمسنون داخل تحت مطلق النهي بالأولى، ذكره في الروض، وأما تقييد النهي بقراءة شيء من القرآن فيقال: هذا المفهوم الضعيف لا يصلح لتخصيص تلك العمومات، ولا تقييد تلك الإطلاقات، على أنه يقاس على القرآن غيره من باب الأولى كما مر تقريره. والله أعلم.
قلت: أما التعوذ فالظاهر شرعيته هنا، وقد بسطنا القول فيه في الاستعاذة.
المسألة العاشرة: في قراءة اللاحق للإمام
اعلم أن الكلام في المسألة في موضعين:
الأول: في حكم القراءة في حق من أدرك الإمام راكعاً.
الثاني: في حكمها في حق من فاتته ركعة فصاعداً.
الموضع الأول: ذهب الجمهور إلى من أدرك الإمام راكعاً دخل معه واعتد بتلك الركعة، وتسقط عنه القراءة، وادعى جماعة الإجماع على ذلك، منهم المؤيد بالله، ومنهم القرطبي فإنه قال: وأما المأموم فإن أدرك الإمام راكعاً فالإمام يحمل عنه القراءة لإجماعهم على أنه إذا أدركه راكعاً أنه يكبر ويركع ولا يقرأ شيئاً، وإن أدركه قائماً فإنه يقرأ، وفي البحر عن المنصور بالله والإمام يحيى أنه يعتد بها إذا ركع بعد رفع الإمام وأدركه معتدلاً.
وقال جماعة من العلماء: بل لا يعتد بها إلا إذا أمكنه أن يأتي بما يجب فيها من القيام والقراءة، وإليه ذهب بعض أهل الظاهر وابن خزيمة وأبو بكر الضبعي وابن السبكي، وقواه والده تقي الدين وغيره من محدثي الشافعية، وحكاه ابن حجر المكي.
وفي الفتح عن جماعة من الشافعية، وقال في فتح الباري: وهو قول أبي هريرة وجماعة، بل حكاه البخاري في القراءة خلف الإمام عن كل من ذهب إلى وجوب القراءة خلف الإمام، واختاره المقبلي والشوكاني.
احتج الجمهور بما في الشفاء عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم : أنه سمع خفق نعل وهو يصلي وهو ساجد، فلما فرغ قال: ((من هذا الذي سمعت خفق نعله؟ قال: أنا يارسول الله، قال: فما صنعت؟ قال: وجدتك ساجداً فسجدت، قال: هكذا فاصنعوا ولا تعتدوا بها ومن وجدني قائماً أو راكعاً فليكن معي على حالتي وليعتد بها))، والحديث ذكره في شرح التجريد، وقال: رواه ابن أبي شيبة قال: حدثنا جرير، عن عبد العزيز بن رفيع، عن رجل من أهل المدينة عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم فذكره إلا قوله: ((فليعتد بها))، فلم يذكره، ولعله إنما حذفه لأنه لم يذكر الحديث إلا للاستدلال به على استحباب السجود مع الإمام إذا لحقه ساجداً.
وجرير: هو ابن عبد الحميد بن قرط الظبي الكوفي ثم الرازي، قال في معالم ابن قتيبة: هو من الشيعة، وقال الذهبي: صدوق، محتج به.
قال (علامة العصر): هو أحد عيون الزيدية ومسلسل مذهب العترة الزكية، توفي سنة ثمان وثمانين ومائة.
احتج به الجماعة، وروى له أئمتنا الخمسة والنرسي والحاكم، قال في الجداول: كلما ورد جرير مطلقاً غالباً فهو ابن عبد الحميد.
وأما عبد العزيز فهو: ابن رفيع الأسدي أبو عبد الله المكي روى عن ابن عباس وأنس وابن الطفيل وغيرهم، وثقه أحمد وأبو حاتم وابن معين، توفي سنة ثلاثين ومائة.
احتج به الجماعة، وروى له المرادي والمؤيد بالله، وأخرج المرادي عن أبي بكرة أنه دخل المسجد والنبي صلى الله عليه وآله وسلم راكع فركع قبل أن يصل الصف فقال النبي صلى الله عليه وآله وسلم : ((زادك الله حرصاً ولا تعد)).
ووجه دلالته أنه لم يأمره بالإعادة، بل دعا له بزيادة الحرص والنهي عن الإبطاء في المجيء لا عن اللحوق في الصف بدليل ما سيأتي.
وروى أبو داود عن أبي هريرة، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم : ((إذا جئتم إلى الصلاة ونحن سجود فاسجدوا ولا تعتدوها شيئاً، ومن أدرك الركعة فقد أدرك الصلاة)).
وأخرجه البيهقي أيضاً كلاهما من طريق يحيى بن أبي سليمان وضعفه به.
قال البخاري فيه: منكر الحديث، وقال أبو حاتم: مضطرب الحديث ليس بالقوي، وذكره ابن حبان في الثقات، وروى له البخاري في الأدب وأبو داود والنسائي، ذكره المزي، والحديث أخرجه ابن خزيمة في صحيحه، وذكر الدارقطني في العلل نحوه عن معاذ مرسلاً.
وأخرج ابن خزيمة عن أبي هريرة مرفوعاً: ((من أدرك ركعة من الصلاة فقد أدركها قبل أن يقيم الإمام صلبه)).
وأخرج البيهقي نحوه من طريق ابن عدي الحافظ، وقال ابن عدي: قال إن زيادة: ((قبل أن يقيم الإمام صلبه))، من رواية يحيى بن حميد وهو مصري.
قال البخاري: لا يتابع على حديثه، وزاد بعضهم تضعيف قوة شيخ يحيى، وقال في الاعتصام: إن في رواية لمالك: ((من أدرك الركعة فقد أدرك السجدة ومن فاتته أم الكتاب فقد فاته خير كثير)).
وفي المجموع عن علي عليه السلام قال: إذا أدركت الإمام وهو راكع فركعت معه فاعتد بتلك الركعة، وإن أدركته وهو ساجد فسجدت معه فلا تعتد بتلك الركعة. ونحوه في الشفاء.
وأخرج الطبراني في الكبير عن علي عليه السلام وابن مسعود قالا: من لم يدرك الركعة لا يعتد بالسجدة، قال في مجمع الزوائد: ورجاله موثقون، وهو في الجامع الكبير للسيوطي، وقال: أخرجه عبد الرزاق.
وفي مجمع الزوائد عن زيد بن وهب قال: دخلت أنا وابن مسعود المسجد والإمام راكع فركعنا ثم مضينا حتى استوينا في الصف، فلما فرغ الإمام قمت أقضي قال: قد أدركته، رواه الطبراني في الكبير ورجاله ثقات.
وعن ابن مسعود قال: إذا ركع أحدكم فمشى إلى الصف فإن دخل في الصف قبل أن يرفعوا رؤوسهم فإنه يعتد بها، وإن رفعوا رؤوسهم قبل أن يصل إلى الصف فلا يعتد بها، رواه الطبراني في الكبير قال: وفيه زيد بن أحمر ولم أجد من ذكره.
قال (السياغي): وروى البيهقي نحو ما في المجمع عن ابن مسعود وأخرج عن ابن عمر أنه كان يقول: من أدرك الإمام راكعاً فركع قبل أن يرفع الإمام رأسه فقد أدرك تلك الركعة، وأخرج عنه أيضاً أنه كان يقول: إذا فاتتك الركعة فقد فاتتك السجدة.
وعن مالك بلاغاً أن عبد الله بن عمر وزيد بن ثابت كانا يقولان: من أدرك الركعة قبل أن يرفع الإمام رأسه فقد أدرك السجدة.
وأخرج البيهقي أيضاً أن أبا بكر وزيد بن ثابت دخلا المسجد والإمام راكع فركعا ثم دبّا وهما راكعان حتى لحقا بالصف.
وأخرج الطبرني في الأوسط: عن ابن وهب، عن ابن جريج، عن عطاء أنه سمع ابن الزبير على المنبر يقول: إذا دخل أحدكم المسجد والناس ركوع فليركع حتى يدخل ثم يدب راكعاً حتى يدخل في الصف فإن ذلك السنة، قال عطاء: وقد رأيته يصنع ذلك.
قال في (التلخيص): تفرد به ابن وهب ولم يروه عنه غير حرملة، ولا يروى عن ابن الزبير إلا بهذا الإسناد.
قلت: ذكر في (مجمع الزوائد) أن رجاله رجال الصحيح، قالوا: فهذه الأخبار وما في معناها من الآثار صريحة في أن من أدرك الإمام راكعاً فقد أدرك الركعة بتمامها، وذلك يستلزم سقوط القراءة عن المؤتم وتحمل الإمام لها؛ إذ لا يجوز أن يقال المراد بإدراكه راكعاً مع الإتيان بما يجب من القراءة بأن يلبث الإمام في ركوعه وقتاً يتسع لذلك لوجهين:
أحدهما: أن ذلك يذهب فائدة التقييد بقبل إقامة صلبه، إذ من المعلوم أن القبلية قد أفادت إدراك من لحقه منحنياً، ومن أدركه كذلك وقرأ الفاتحة فإنه لا ينحني للركوع إلا وقد رفع رأسه؛ لأنه صلى الله عليه وآله وسلم قد حد لتسبيح الركوع بثلاث، وأمر الأئمة بالتخفيف فلا يبقى للتقييد فائدة إلا في صلاة يطول فيها وهي نادرة، وكلام الشارع مبني على الغالب.
الوجه الثاني: ما مر عن أبي بكرة وابن مسعود من دخول المسجد والإمام راكع وركوعهم قبل أن يصلوا إلى الصف، فإنه صريح في المقصود ودافع للاحتمال، وأما ما ذهب إليه المنصور بالله والإمام يحيى فوجه قولهما ما ذكره في المهذب وهو أن المؤتم إذا أدرك الإمام في آخر الركن الأول أو في الركن الثاني قبل أن يأتي منه بأقل ما يلزمه فهو في حكم من لم يخرج من الركن الأول فيصح إتمامه، وعلى هذا فيكون اللاحق حال الاعتدال في حكم اللاحق حال الركوع، وهذا وإن كان وجهاً فهو مصادم للنصوص، فإن احتج لهما بما في رواية الشفاء من قوله: فمن وجدني قائماً أو راكعاً بأن يحمل القيام على القيام من الركوع أو على ما هو أعم منه رد بمخالفته صريح ما مر، نعم ما في المهذب يدل على تقييد كلام المنصور بالله بأن يلحقه في الاعتدال قبل أن يأتي بالقدر الواجب منه.
فائدة
استدل الأمير الحسين بقوله: ((من وجدني قائماً)) على أنه إذا أدرك الإمام قائماً فنوى وكبر للافتتاح حال قيام الإمام ثم سبقه الإمام بالركوع ورفع رأسه فإن صلاته صحيحة؛ لأن إدراكه له قائماً يجبر ما فات من سبقه له بالركوع، فإذا ركع وأدركه ساجداً صحت صلاته، ونحوه في حواشي الأزهار عن المنصور بالله وغيره، وادعى في الكافي الإجماع على ذلك، ورد بأنه لا دلالة في الخبر على ذلك فتأمل، والإجماع فيه نظر، فقد نص بعض الأئمة على عدم الإجزاء وصحح للمذهب.
احتج أهل القول الثالث بما سيأتي من قوله صلى الله عليه وآله وسلم : ((فما أدركتم فصلوا وما فاتكم فأتموا))، فهذا أمر بإتمام ما فات وقد فات القيام والقراءة، وبما تقرر من وجوب قراءة الفاتحة على الإمام والمأموم وأنها شرط في صحة الصلاة، فمن زعم أنها تصح صلاة من الصلوات أو ركعة من الركعات من دونها فهو محتاج إلى دليل.
وأجابوا عما احتج به الأولون فقالوا: أما حديث: ((من أدرك ركعة فقد أدرك الصلاة))، فالمراد بالركعة فيه الركعة الكاملة، وهي ما اشتملت على القيام والقراءة والركوع والسجود وغير ذلك مما تضمنه مجموع مسمى ركعة إذ هو المعنى الحقيقي لها، وإطلاقها على الركوع مجاز لا يصار إليه إلا لقرينة، وعلى هذا فيكون الحديث حجة لنا لا علينا، وقولكم: إنه يذهب فائدة التقييد بقبل إقامة الصلب، غير مسلم إذ فائدته دفع توهم أن من دخل مع الإمام ثم قرأ الفاتحة وركع الإمام قبل فراغه منها غير مدرك.
وأما حديث أبي بكرة فليس فيه الاجتزاء بتلك الركعة، بل نهاه عن العود إلى مثل ذلك، والاحتجاج بما قد نهي عنه لا يصح، والدعاء له بزيادة الحرص ل ايستلزم الاعتداد بها؛ لأن الكون مع الإمام مأمور به، وإن لم يعتد بما أدرك كما في السجود، وأما الآثار فلا حجة في قول أحد غير معلم الشرع صلى الله عليه وآله وسلم ، على أنه يمكن حملها على ما ذكرنا وهو أن يدركه راكعاً مع الإتيان بالقراءة حال ركوع الإمام.
والجواب: أما حديث: ((وما فاتكم فأتموا))، فنقول بموجبه، لكن هذه الركعة التي أدرك ركوعها لم تفت بنص الشارع، ونص وصيه والمبين لأمته ما اختلفوا فيه من بعده، وعمل أكابر صحابته وإجماع الأمة، قبل وجود المخالف منهم وأقل أحوال رواية الإجماع أن يتحصل منها ثبوت إجماع أهل البيت" إذ لم ينقل عن أحد منهم خلاف، وأما احتجاجهم بوجوب قراءة الفاتحة في كل ركعة فغير مسلم، سلمنا فمخصوص بهذه الحالة لما ذكرنا.
وأما حملهم لحديث: ((من أدرك ركعة)) على المعنى الحقيقي لها وقولهم إنه لا دليل على المعنى المجازي، فجوابه: أن هذا مجازفة في الرد، ولو تأملتم وأنصفتم لعلمتم الدليل الواضح وهو ما في الشفاء، والمجموع، لكنكم لم تنصفوا أهل بيت نبيكم، ومن أمركم الله بالرد إليهم والأخذ عنهم، مع ما رواه غيرهم عن الوصي ومشاهير الصحابة وجمهور الأمة أو كلهم مما يكتفى بأقل منه بالصرف عن الحقيقة التي ادعيتم، وبه يعلم أنه لايصح ما ذكرتموه من الفائدة للتقييد بقبل إقامة الصلب؛ إذ هو مبني على ذلك الأصل الفاسد، على أن مقابلة الركعة بالسجود في رواية أبي داود ورواية مالك قرينة قوية على إرادة المعنى المجازي، ويؤيده أيضاً ما أخرجه الدارقطني عن أبي هريرة مرفوعاً: ((من أدرك الركوع من الركعة الأخيرة يوم الجمعة فليضف إليها ركعة أخرى، ومن لم يدرك الركوع فليضف إليها أربعاً)).
وهذا وإن كان ضعيفاً فهو يصلح في الشواهد والتبيين، وأما قولهم ليس في حديث أبي بكرة ذكر الاجتزاء بالركعة، فنقول: عدم الأمر بالإعادة في مثل ذلك المقام كاف، لا سيما مع اقترانه بالدعاء.
وقولهم إن الدعاء لا يستلزم الاعتداد فنقول: بل يستلزمه هنا لأنه لو دعا له مع فرض عدم الاجتزاء بها ولم يبينه لأوقعه في محظور واعتقاد جهل، وذلك لا يجوز، ولذا صرح بعدم الاعتداد بالسجدة.
وأما النهي فقد مر أنه متوجه إلى الإبطاء عن اللحوق جمعاً بين الأدلة؛ إذ لا يجوز حمله على النهي عن الاعتداد بالركعة ولا عن الدخول إلى الصف راكعاً لما مر، وقيل هو مثل قوله: ((لا تأتوا الصلاة وأنتم تسعون)) أي ليس عليك أن تركع حتى تصل إلى موقفك لما في ذلك من التعب.
وأما قولهم لا حجة في الآثار المروية عن الصحابة فلا نسلمه فيما روي عن أمير المؤمنين عليه السلام لقيام الدليل على ذلك، وأما غيره فمسلم لكن ذلك عنهم كالتفسير للأحاديث والبيان لها، وتفسيرهم أقدم من تفسير غيرهم وأصح؛ إذ الظاهر استنادهم إلى ما علموه من النبي صلى الله عليه وآله وسلم من قول أوفعل أو تقرير.
وأما تأويلهم لها فهو خلاف الظاهر ولا ملجيء إليه، وقد مر أن قراءة المؤتم حال ركوع الإمام غير ممكنه إلا في النادر. والله أعلم.
تنبيه [تحمل الإمام للقراءة في الجهرية]
ما ذكرناه من تحمل الإمام للقراءة في هذه الحالة إنما هو على قول من يوجب القراءة في كل ركعة، فإن من قال بالتحمل منهم هنا يجعل هذه الصورة مخصصة لعموم أدلة الوجوب.
وأما من يقول لا قراءة خلف الإمام مطلقاً فلا إشكال عليه في المسألة.
وأما أصحابنا فالمصحح للمذهب أنه لا يتحمل عنه إلا مسنونات تلك الركعة من قراءة وغيرها، وأما الواجب فلا بد أن يسمعه كاملاً في الجهرية بعد دخوله في الصلاة أو يأتي به في السرية.
وكذا قالوا في المسافر إذا أدرك الإمام في ركوع الثالثة من الظهر أو العصر ثم ركع الإمام في الرابعة قبل أن يقرأ المؤتم الواجب عليه، فإنه يعزل عنه ويقرأ لنفسه، وكذلك إذا أدركه في الأولى من الفجر راكعاً فدخل معه ثم قام إلى الثانية فركع الإمام قبل أن يقرأ فإنه يعزل صلاته عن إمامه للعذر ويقرأ لنفسه، وقال الإمام يحيى: بل يتابعه ويتحمل عنه القراءة.
قال في (حواشي الأزهار): على قوله ويتحمله الإمام عن السامع يعني الجهر ما لفظه: ((من أدرك الإمام في الأولى تحمل عنه الإمام المسنون من القراءة ولا يجب عليه سجود السهو)).
وأما إذا أدرك الإمام في الثانية تحمل عنه الواجب وإن كانت مسنونة للإمام وقرره للمذهب، قالوا: وإنما يتحمل الإمام إذا قرأ في الأخيرتين إذا لم يكن قد قرأ في الأوليين؛ إذ لا يتحمل إلا حيث يشرع الجهر ولو كان مسنوناً.
نعم أما السرية فظاهر كلامهم أن الإمام لا يتحمل مسنوناتها، بل يجب على المؤتم سجود السهو.
فائدة [الاعتداد بإدراك الركوع]
قال في (البحر): وإنما يعتد اللاحق بما أدرك ركوعه وهو أن يبلغ يعني اللاحق حد الإجزاء قبل خروج الإمام عنه، وهذا هو ظاهر الأدلة إذ قد علق الإجزاء بإدراك ما يسمى ركوعاً، وحد الإجزاء أن يطمئن راكعاً لحديث:((ثم اركع حتى تطمئن راكعاً))، وقدره في حواشي الأزهار بقدر تسبيحة.
الموضع الثاني: في حكم القراءة في حق من فاتته ركعة فصاعداً، والخلاف فيها مبني على كون ما أدركه أول صلاته أم لا، فالمذهب أن ما أدركه المسبوق مع الإمام فهو أول صلاته وما يأتي به بعد سلامه فهو آخرها، وهو قول زين العابدين وزيد بن علي والباقر وأحمد بن عيسى والحسن بن يحيى والقاسم والهادي والناصر والحسن البصري والشافعي ومحمد والأوزاعي وإسحق، ورواه في الشفاء عن ابن عمر وأبي الدرداء، وفي الروض عن جمهور السلف والخلف.
وقال (أبو حنيفة) و(مالك) و(أبو يوسف) و(الثوري): عكسه، ورواه في الكافي عن زيد بن علي وفي الروض عن أحمد ومجاهد وابن سيرين.
وفي (شرح مسلم) عن مالك وأصحابه روايتان كالمذهبين، وفي البحر عن أبي حنيفة أنها آخر صلاته حكماً لا فعلاً.
وحكي عن زيد ومالك وأبي يوسف والثوري أنها آخرها حكماً وفعلاً، إذا عرفت هذا فنقول معنى كونها أول صلاته أنه يجهر ويقرأ السورة، ولا يعتد بقنوت الإمام في الفجر، ويكبر خمساً في ثانية العيد لا سبعاً، ولا يسبح لو أدركه في ثالثة المغرب أو أي الأخريين من الرباعية، وعلى القول بأنها آخر صلاته حكماً وفعلاً تنعكس هذه الأحكام، وكذلك على القول بأنها آخرها حكماً فقط وإنما سماها أولها فعلاً لأنه لم يسبقها شيء فهي أول ما فعله مع الإمام.
احتج الأولون بما أخرجه البخاري، قال: حدثنا آدم، قال: حدثنا ابن أبي ذئب، قال: حدثنا الزهري، عن سعيد بن المسيب، عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم ، وعن الزهري، عن أبي سلمة، عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال:((إذا سمعتم الإقامة فامشوا إلى الصلاة وعليكم السكينة والوقار فما أدركتم فصلوا وما فاتكم فأتموا)).
أما آدم فهو: ابن أبي إياس وقد مر.
وابن أبي ذئب هو: محمد بن عبد الرحمن، قال النووي: اتفقوا على جلالته، وقال ابن معين: يرى القدر، قال علامة العصر: يعني العدل والتوحيد، وعده المنصور بالله من رجال العدل، وبايع النفس الزكية وكان من أتباعه من أهل الورع والعبادة، توفي سنة تسع وخمسين.
احتج به الجماعة وأئمتنا الأربعة والسيلقي والنرسي، وقوله وعن الزهري عن أبي سلمة يريد بالسند السابق إلى الزهري، نبه به على أن الزهري رواه عن شيخين له، والحديث أشار إليه في الشفاء، وأخرجه مسلم وأبو داود وابن ماجة.
قال (أبو داود) وكذا قال الزبيدي وابن أبي ذئب وإبراهيم بن سعد ومعمر وشعيب بن أبي حمزة عن الزهري: ((وما فاتكم فأتموا))، وقال ابن عيينة عن الزهري: ((فاقضوا))، وقال محمد بن عمرو عن أبي سلمة وجعفر بن ربيعة عن الأعرج عن أبي هريرة:((فأتموا))، وكذلك روي عن ابن مسعود عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم وأبو قتادة وأنس بن مالك كلهم: ((فأتموا)).
وفي صحيح البخاري حدثنا أبو نعيم، حدثنا شيبان، عن يحيى، عن عبد الله بن أبي قتادة، عن أبيه قال: بينما نحن نصلي مع النبي صلى الله عليه وآله وسلم إذ سمع جلبة الرجال فلما صلى قال: ((ما شأنكم؟ قالوا: استعجلنا إلى الصلاة، قال: فلا تفعلوا إذا أتيتم الصلاة فعليكم السكينة فما أدركتم فصلوا وما فاتكم فأتموا)).
شيبان هو: ابن عبد الرحمن النحوي، ويحيى هو: ابن أبي كثير، وقوله: جلبة بفتح الجيم وتالييها أي أصواتهم حال حركاتهم، وسمي منهم الطبراني أبا بكرة فيكون مقوياً لما مر في الموضع الأول من تأويل نهيه عن العود بالحمل على قوله:((لاتأتوا الصلاة وأنتم تسعون)).
والسكينة: التأني في الحركة واجتناب العبث، والوقار في الهيئة كغض البصر وخفض الصوت، وعدم الالتفات، وقيل: هو بمعنى السكينة وإنما ذكر تأكيداً.
وفي المجموع عن علي عليه السلام قال: اجعل ما أدركت مع الإمام أول صلاتك.
قال (أبو خالد): سألت زيد بن علي عليه السلام عن تفسير ذلك، فقال: إذا أدركت مع الإمام ركعة من الصلاة وهو في الظهر أو العصر أو المغرب أو العشاء فأضف إليها أخرى ثم تشهد وهي الثانية لك واقرأ فيها ما فاتك كما كان يجب على الإمام أن يقرأ.
وأخرج البيهقي عن الحارث عن علي عليه السلام قال: ما أدركت فهو أول صلاتك.
وفي شرح التجريد أخبرنا أبو العباس الحسني رحمه الله قال: أخبرنا عيسى بن محمد العلوي، قال: حدثنا الحسين بن الحكم الجيري، قال: حدثنا الحسين بن الحسن العرني، عن علي بن القاسم الكندي، عن بن أبي رافع، عن أبيه عن جده عن علي عليه السلام قال: إذا سبق أحدكم الإمام بشيء فليجعل ما يدرك مع الإمام أول صلاته وليقرأ فيما بينه وبين نفسه وإن لم يمكنه قرأ فيما يقضي.
عيسى بن محمد: هو شيخ العترة وعالمها أبو زيد كان من آكابر علماء العلوية ومتكلميهم وفقهائهم، ارتحل إليه أبو العباس إلى الري، وبها توفي سنة ست وعشرين وثلاثمائة، روى له السيد أبو العباس والأخوان والمرشد بالله.
وأما شيخه فهو الحسين بن الحكم بن مسلم أبو عبد الله القرشي الكوفي الرازي الجيري، أخذ عن جماعة منهم: إسماعيل بن أبان وحسين بن نصر، وعنه شيخ الزيدية المذكور والحسين بن علي المصري صنو الناصر وابن ماتي وغيرهم، وقد سلم من السنة النواصب، توفي سنة ست وثمانين ومائتين، وروى له الأخوان والمرشد بالله، وفي كتاب حي على خير العمل والمحيط.
وأما الحسين بن الحسن العرني، فقال في الجداول: كان أحد ثقات الشيعة.
وأما علي بن القاسم فهو: الكندي الكوفي، روى عن محمد بن عبد الله بن أبي رافع عن أبيه عن جده وعن جعفر بن زياد، وعنه العرني والحكم بن سليمان، روى له الهادي في المنتخب والمرادي والمؤيد بالله.
قال في (الطبقات): وثقه المؤيد بالله وناهيك برجل، روى عنه أئمة الهدى الهادي والمؤيد بالله وكفى بهما.
والحديث رواه في الشفاء وأصول الأحكام، وهذه الأدلة نص في أن ما لحقه مع الإمام أول صلاته.
أما ما روي عن علي عليه السلام فواضح، وأما المروي عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم فلأن لفظ الإتمام واقع على بعض باق من شيء قد تقدم سائره.
ومن الأدلة على ذلك: الإجماع على أن تكبيرة الافتتاح لا تكون إلا في الركعة الأولى، ولم يقل أحد بتأخير تكبيرة الافتتاح إلى غير تلك الركعة التي لحق الإمام فيها، وإذا ثبت أنها أول صلاته كان الواجب عليه أن يفعل ما يجب فيها من قراءة وغيرها، ويستحب له أن يفعل مسنوناتها إلا ما خصه دليل فيهما ولم يخص القراءة دليل، بل ورد ما يدل على وجوب قضائها إن لم يمكن الإتيان بها كما في رواية شرح التجريد ونحوه عند البيهقي، وما ورد في بعض الروايات من قوله:((فاقضوا)) بدلاً عن قوله:((فأتموا))، فليس المراد بالقضاء معناه المصطلح عليه وهو تدارك الفائت، بل المراد به الأداء أو إتمام الفعل كما في قوله تعالى:{ فَقَضَاهُنَّ سَبْعَ سَمَاوَاتٍ}[فصلت:12]، {فَإِذَا قَضَيْتُمْ مَنَاسِكَكُمْ}[البقرة:200].
قال (السياغي): استعمال القضاء هنا يعني في الحديث بمعنى الإتمام متعين لأن الاختلاف فيه وقع على الزهري في حديث واحد فأحد اللفظين مفسر للآخر، ذكره في الروض.
وقال بعض العلماء قد عمل بمقتضى اللفظين الجمهور فإنهم قالوا: إن ما أدرك مع الإمام هو أول صلاته إلا أنه يقضي مثل الذي فاته من قراءة السورة مع أم القرآن في الرباعية، لكن لم يستحبوا له إعادة الجهر في الركعتين الباقيتين، وكان الحجة فيه قول علي عليه السلام : ما أدركت مع الإمام فهو أول صلاتك واقض ما سبقك به من القرآن. أخرجه البيهقي.
قلت: فعلى هذا فلا يحتاج إلى تأويل القضاء بالإتمام، وما ذكره عن الجمهور من أنه يقضي القراءة هو صريح قول الوصي عليه السلام مع عدم إمكان القراءة بأن لا يلحق من الركعة ما يتسع لها كاملة، وظاهره أنه يقضي الفائت مع الإتيان بما شرع في الركعة التي يقضي فيها، وهو ظاهر ما حكى عن الجمهور، ويؤخذ منه أن الإمام لا يتحمل القراءة عن المؤتم فيما لحق ركوعه، بل يجب عليه قضاؤها إن أمكن فيكون ما مر في الموضع الأول مما يدل على التحمل محمول على الحالة التي لا يمكن المؤتم القضاء فيها وهي أن يلحقه في ركوع الأولى مع عدم تطويل الإمام، وما حكي عن الجمهور من عدم استحباب الجهر في الأخريين فهو الذي يدل عليه كلام علي عليه السلام ، ويدل عليه أيضاً عموم أدلة منع الجهر خلف الإمام.
وفي العلوم عن أحمد بن عيسى أن من لحق الأوليين جعلهما أول صلاته ويقرأ فيهما بالفاتحة وسورة في نفسه، فإذا سلم الإمام قضى الأخريين يقرأ فيهما بالفاتحة أو يسبح، وأهل المذهب يوجبون الجهر على المؤتم فيهما في القدر الواجب حيث لم يدركه مع الإمام، وظاهر إطلاقهم أنه يستحب له الجهر بما فاته مما يسن فيه الجهر، ويستدل لهم بظاهر قوله: ((وما فاتكم فأتموا))، إذ الجهر من جملة الفائت، لكنه يقال المقصود بالحكم هو الموصوف وهو القراءة دون الصفة التي هي الجهر والإسرار، فتعيين أحدهما يحتاج إلى دليل، وقد قام الدليل على تعيين الإسرار خلف الإمام. والله أعلم.
احتج القائلون: بأن ما أدركه فهو آخر صلاته بما ورد من الأمر بقضاء الفائت، وقد روي ذلك من طرق ففي الاعتصام ما لفظه، وفي أمالي أحمد بن عيسى قال: محمد بن منصور، قال: حدثنا جبارة بن المغلس، قال: حدثنا مندل بن علي، قال: حدثنا حميد الطويل عن أنس، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم : ((إذا مشى أحدكم إلى الصلاة فليمش على هنئة فليصل ما أدرك وليقض ما سبق به))، وهو في الجامع الكافي جبارة صدوق، ذكره ابن نمير.
وأما مندل فهو: ابن علي العنزي، أبو عبد الله الكوفي، قال العجلي: جائز الحديث، وكان يتشيع، وقال ابن معين: لا بأس به، وقال أبو حاتم: تحول من كتاب الضعفاء للبخاري، وقال السيد أحمد بن يوسف: هو موثق، توفي سنة ثمان وستين ومائة، احتج به أبو داود، وروى له أئمتنا الأربعة.
وأما حميد فهو: أبو عبيدة ابن أبي حميد الحافظ الثقة، توفي وهو قائم يصلي سنة ثلاث أو اثنتين وأربعين ومائة، وثقه ابن معين والعجلي، احتج به الجماعة، وروى له أئمتنا الأربعة والسيلقي.
وفي (صحيح مسلم): حدثنا قتيبة بن سعيد، قال: حدثنا الفضيل -يعني ابن عياض- عن هشام (ح) وحدثني زهير بن حرب واللفظ له قال: حدثنا إسماعيل بن إبراهيم، قال: حدثنا هشام بن حسان، عن محمد بن سيرين، عن أبي هريرة، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم : ((إذا ثوب بالصلاة فلا يسعى إليها أحدكم ولكن ليمش وعليه السكينة والوقار صل ما أدركت واقض ما سبقك)).
الفضيل بن عياض هو: شيخ الحرم الزاهد إمام الهدى والسنة.
قال (الذهبي): مجمع على ثقته وجلالته، توفي سنة سبع وثمانين ومائة، عداده في ثقات محدثي الشيعة.
احتج به الجماعة إلا ابن ماجة، وروى له أبو طالب والمرشد بالله ووالده والنرسي.
وأما زهير بن حرب: فوثقه الخطيب والنسائي، وروى له بعض أئمتنا.
وأما إسماعيل فلعله: ابن علية وقد مر.
وأما هشام بن حسان: فأثنى عليه غير واحد، وكان ممن أجاب إبراهيم بن عبد الله عليه السلام ، وفي رواية النسائي ورواية لأحمد لحديث أبي هريرة السابق: ((فاقضوا)) موضع: ((فأتموا))، وقد أشار إلى هذه الرواية في شرح التجريد والشفاء، وقال في النيل: قد اختلف في هذه اللفظة في حديث أبي قتادة.
فرواية الجمهور: ((فأتموا)) ورواية معاوية بن هشام: ((فاقضوا))،كذا ذكره ابن أبي شيبة عنه، ومثله رواه أبوداود.
وكذلك وقع الخلاف في حديث أبي هريرة قالوا: فهذه الأخبار تدل على أن ما أدركه مع الإمام فهو آخر صلاته إذ القضاء لا يكون إلا لفائت.
والجواب: أن لفظ القضاء محمول على أحد الوجهين السابقين.
المسألة الحادية عشرة [الاستدلال على جواز الدعاء في الصلاة]
استدل بعض أئمتنا بما اشتملت عليه الفاتحة من الدعاء على جواز الدعاء في الصلاة، وفي جوازه خلاف.
فقال أحمد بن عيسى والقاسم والناصر والمنصوربالله والإمام يحيى والشافعي ومالك: يجوز بخير الدنيا والآخرة، وقال زيد بن علي: يجوز بما كان مثله في القرآن، وقال المؤيد بالله: يجوز بخير الآخرة فقط، وقالت الحنفية: يجوز بالمأثور فقط، وقال الهادي: لا يجوز بحال.
قال (المؤيد بالله): ولا أعرف أحداً غير الهادي عليه السلام منع الدعاء بخير الآخرة.
احتج الأولون بما مر من اشتمال الفاتحة على الدعاء، وبما في آخر حديث ابن مسعود في التشهد: ((ثم يتخير من الدعاء أعجبه)). رواه جماعة من أصحابنا والمحدثين، وسيأتي في التشهد إن شاء الله.
وبما في العلوم قال: حدثنا أحمد بن صبيح، عن حسين بن علوان، عن جعفر، عن أبيه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم : ((من كانت له حاجة إلى الله فليدع بها في صلاة العشاء الأخيرة فإنها صلاة لم يصلها أحد من الأمم قبلكم)).
أحمد بن صبيح هو: اليشكري، قال في الجداول: توفي قريباً من المائتين، اعتمد عليه الأئمة، لا يقبل ما قاله فيه النواصب.
وعن عبيد بن القعقاع، قال: رمق رجل رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وهو يصلي فجعل يقول في صلاته: ((اللهم اغفر ذنبي ووسع لي في داري وبارك لي فيما رزقتني)). أخرجه أحمد لكن عبيد، ويقال حميد لا يعرف حاله والراوي عنه أبو مسعود الجريري، قال الحافظ: هو سعيد بن إياس، ثقة. أخرج له الجماعة، قال: وللحديث شاهد من حديث أبي موسى في الدعاء للطبراني، وقوله: رمق الرمق: اللحظ الخفيف.
وعن شداد بن أوس أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم كان يقول في صلاته:((اللهم إني أسألك الثبات في الأمر والعزيمة علىالرشد، وأسألك شكر نعمتك وحسن عبادتك، وأسألك قلباً سليماً ولساناً صادقاً، وأسألك من خير ما تعلم وأعوذ بك من شر ما تعلم وأستغفرك لما تعلم)). أخرجه النسائي.
قال في (النيل): ورجال إسناده ثقات، قالوا فهذه الأخبار تدل على جواز الدعاء بخيرالدنيا والآخرة.
وفي خبر ابن مسعود وخبرالعلوم رد لما ذهب إليه الحنفية، وأما ما ذهب إليه زيد بن علي فلم أقف له على حجة، ولعله يريد بمماثلته لما في القرآن أن يكون من الدعاء بما يحسن طلبه ولا إثم فيه إذ أدعية القرآن ليست إلا كذلك فلا يكون مخالفاً للقول الأول، ويحتمل أنه قصره على ذلك لما لا يؤمن معه من ارتكاب المحذور وسوء الأدب، وإذا كان الدعاء مطابقاً لما في القرآن فلا يقدر فيه ذلك، وعلى هذا فلا ينبغي للداعي أن يدعو إلا بما معناه المطابقي في القرآن كأن يقول: اللهم اعطني في الأولى حسنة وفي الأخرى رحمة ونجني من النار ونحو ذلك، وقد قال ابن المنير: الدعاء بأمور الدنيا في الصلاة خطر وذلك أنه قد يلتبس عليه الأمور الجائزة بالمحظورة، فيدعو بالمحظورة فيكون عاصياً متكلماً في الصلاة فتبطل صلاته وهو لا يشعر، ألا ترى أن العامة يلتبس عليها الحق بالباطل، فلو حكم حاكم على عامي بحق فظنه باطلاً فدعا على الحاكم بطلت صلاته.
قال: وتمييز الحظوظ الجائزة من المحرمة عسر جداً، فالصواب ألا يدعو بدنيا إلا على تثبت من الجواز، واستثنى بعض الشافعية من مصالح الدنيا ما فيه سوء أدب كقوله: اللهم اعطني امرأة جميلة هنها كذا، ثم يذكر أوصاف أعضائها، ولعل المؤيد بالله قصر الدعاء على خير الآخرة لنحو ما ذكر من الخطر، لكنه لا ينبغي التعميم حتى يتناول ما طابق القرآن أو ورد به الأثر، وكذا ما طابقه وما أمن معه الوقوع في المحظور وسوء الأدب لما مر، وأما اقتصار الحنفية على المأثور فلحديث: ((إن صلاتنا هذه لا يصلح فيها شيء من كلام الناس))، ويحتج لهم أيضاً بما مر من خوف ارتكاب المحظور، وأجيب بأنما في حديث ابن مسعود وخبر العلوم من العموم يفيد مطلق الإذن، وأما حديث ((إن صلاتنا هذه...)) إلخ فقد أجيب عنه بأنه قال فيه: إنما هي التسبيح والتكبير وقراءة القرآن، وهم لم يعملوا بظاهر الحصر المستفاد من إنما بل أجازوا ما ورد به الشرع من المأثور لقيام الدليل عليه، فإذا جاز المأثور جاز غيره لورود ما يدل عليه وهو العموم، وبالقياس على المأثور إذ لا فارق، وأما التعليل بخوف ارتكاب المحظور، فجوابه: أن الدعاء بما لا يجوز محظور في الصلاة وغيرها، فلو منع الدعاء في الصلاة لهذه العلة للزم منعه في غيرها، وإنما على الداعي تجنب ما علمه محظوراً أو ظنه، على أن كثيراً من الأدعية التي يتخيرها الناس لا يتطرق إليها احتمال الحظر ولا سوء الأدب، فغايته أنه يجب اجتناب ما يظن فيه احتمال ذلك فقط، وأما ما ذهب إليه الهادي عليه السلام من المنع بكل حال إلا بالقرآن فقد احتج له في البحر وغيره بما في شرح التجريد.
قال: أخبرنا أبو العباس الحسني رحمه الله، قال: حدثنا عبد الرحمن بن أبي حاتم، قال: حدثنا يونس بن حبيب، قال: حدثنا أبو داود الطيالسي، قال: حدثنا حرب بن شداد وأبان بن يزيد، عن يحيى بن أبي كثير، عن هلال بن أبي ميمونة، عن عطاء بن يسار، عن معاوية بن الحكم السلمي قال: صليت مع رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فعطس رجل فقلت: يرحمك الله، فرماني القوم بأبصارهم فقلت: واثكل أماه ما لي أراكم تنظرون إلي وأنا أصلي، فجعلوا يضربون بأيديهم على أفخاذهم يصمتونني، فلما قضى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم صلاته بأبي وأمي ما رأيت أحداً قبله ولا بعده أحسن تعليماً منه والله ما كهرني ولا سبني ولا ضربني ولكنه قال: ((إن صلاتنا هذه لا يصلح فيها شيء من كلام الناس إنما الصلاة التسبيح والتحميد وقراءة القرآن)).
ابن أبي حاتم هو: عبد الرحمن بن محمد بن أبي حاتم الإمام الحافظ، له مصنفات تدل على تقدمه وحفظه، أثنى عليه العلماء، توفي في محرم سنة سبع وعشرين وثلاثمائة، وذكره أبو الفضل السليماني في الشيعة المحدثين، روى له الأخوان.
وأما يونس فذكره في الجداول ساكتاً عن بيان حاله.
أما أبو داود الطيالسي فهو: سليمان بن داود الجارود البصري الطيالسي الحافظ، وثقه أحمد وغيره، وقال وكيع: جبل العلم، توفي سنة أربع ومائتين، احتج به مسلم والأربعة، وروى له الأخوان.
وأما حرب فهو: ابن شداد اليشكري، أبو الخطاب البصري، وثقه أحمد، توفي سنة إحدى وستين ومائة، احتج به الجماعة إلا ابن ماجة، وروى له المؤيد بالله.
وأما أبان فهو: ابن يزيد العطار، أحد رجال العدل، ووثقه غير واحد.
أما هلال فقال في الجداول: هو ابن أسامة أو ابن علي بن أسامة، وقال في ترجمة هلال بن أسامة أنه القرشي العامري مولاهم المدني عن أنس.
وعطاء بن يسار. قال (النسائي): ليس به بأس، ووثقه الذهبي، توفي في إمارة هشام، احتج به الجماعة، وروى له المؤيد بالله والمرادي، وأما عطاء فكان من رجال العدل، أخذ عنه الباقر، ووثقه ابن معين وغيره، توفي سنة ثلاث أو سبع وتسعين، احتج به الجماعة، وروى له أئمتنا الأربعة، وفي المناقب، والحديث رواه في الشفاء وأصول الأحكام، وأخرجه مسلم من طريق محمد بن الصباح وأبي بكر بن أبي شيبة عن إسماعيل بن إبراهيم عن حجاج الصواف عن يحيى بن أبي كثير بسنده إلا أنه قال: إنما هي التسبيح والتكبير وقراءة القرآن، ثم قال: أو كما قال صلى الله عليه وآله وسلم .
ومحمد بن الصباح هو: الدولابي أبو جعفر الرازي ثم البغدادي البزار صاحب السنن، أخذ عنه الشيخان وغيرهما، وثقه أحمد ويحيى وأبو حاتم ويعقوب والعجلي والذهبي، توفي سنة سبع وعشرين ومائتين.
احتج به الجماعة، وروى له أبو طالب والمرشد بالله.
وأخرجه أيضاً أحمد والنسائي وابن حبان والبيهقي وأبو داود وقال: لا يحل مكان لا يصلح.
وفي رواية لأحمد: إنما هي التكبير والتسبيح والتحميد وقراءة القرآن.
قوله: وآثكل أماه، وفي رواية مسلم أمياه بكسر الميم بعدها ياء مثناة من أسفل، والثكل بضم الثاء وإسكان الكاف وبفتحهما لغتان وهو: فقدان المرأة ولدها وحزنها عليه، وقوله بأبي وأمي متعلق بمحذوف تقديره أفديه. والكهر: النهر، وقيل: العبوس في وجه من تلقاه. والسب: الشتم، وهو في صحيح مسلم بلفظ شتمني، وفي معناه أحاديث في النهي عن الكلام في الصلاة، منها ما في الاعتصام منسوباً إلى الجامع الصغير للسيوطي عن ابن مسعود عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم ، قال: نهينا عن الكلام في الصلاة إلا بالقرآن والذكر.
قال: أخرجه الطبراني، ووجه الاحتجاج بذلك أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم أنكر التشميت، ونهى عن الكلام، وقصر ما يجوز في الصلاة على ما ذكر في الحديث.
قالوا: وإذا فرض التعارض بين هذا وبين ما مر، فدليلنا أرجح للحظر ولاعتضاده بإجماع العترة على منع آمين مع كونه دعاء.
وأجيب: عن إنكارالتشميت بأنه تكليم للغير وليس بدعاء، ومحل النزاع تكلم هو دعاء.
قلت: وفي هذا الجواب نظر إذ التشميت دعاء، ولعل الأولى أن يقال: لم ينكر النبي صلى الله عليه وآله وسلم التشميت وإنما أعلمه أن الكلام في الصلاة لا يصلح، وليس في تعليمه إنكار، ولو سلم فالإنكار لقوله وآثكل أماه ...إلخ، وأما النهي عن الكلام فلا حجة فيه على منع الدعاء إذ نقول بموجبه وهو متوجه إلى مخاطبتهم ومحاورتهم وما جرى مجرى ذلك وإن كان في أصل وضعه للدعاء كرد السلام إذ لا يقصد به في الغالب إلا مجرد الخطاب والخروج عما يوهم الوحشة ونحوها، ولعله يقال في التشميت مثله، وأما الحظر فيما ذكر فغاية ما فيه أنه يدل على منع الدعاء بمفهومه وهو لايقاوم المنطوق، على أنه لا قائل بالحظر في الأمور المذكورة فإن التشهد خارج عنها، وكذا التسليم وهما مشروعان، وعلى هذا فمعنىالحديث إنما هي هذه المذكورة وما هو في معناها من الدعاء والتشهد والتسليم وغير ذلك مما ورد به الشرع، وحديث ابن مسعود عام فيتناول كل ذكر، دل مفهوم حديث ابن الحكم على خروجه.
وقال بعض المحققين: إن الأحاديث المثبتة لأذكار وأدعية مخصوصة في الصلاة مخصصة لعموم مفهوم الحصر، وبناء العام على الخاص واجب سيما بعد ما تقرر أن تحريم الكلام كان بمكة وأكثر الأدعية والأذكار في الصلاة كان بالمدينة، وقد خصصوا هذا العموم بالتشهد فما وجه امتناعهم من التخصيص بغيره، وأما الترجيح بالحظر فالترجيح فرع التعارض ولا تعارض مع ما ذكرنا، ولو سلم فترجح أدلة الجواز لأنها مثبتة، وأما دعوى إجماع العترة على منع آمين فلا نسلم، سلمنا فلم يمنعوه لكونه دعاء وإلا لما أجاز بعضهم الدعاء.
واعلم أن أدلة جواز الدعاء في الصلاة كثيرة فمنها ما هو مطلق في جملة الصلاة، ومنها ما هو مقيد بموضع مخصوص، فما كان مقيداً بالركوع والسجود ونحوهما فلا نستوفي الكلام عليه إلا في مواضعه إذ هي أخص به، ولأن في شرعية بعضها اختلافاً بين من يجيز الدعاء في الصلاة فكان تأخيرها إلى مواضعها أولى لأجل ذكر ما يتعلق بها من الخلاف، وأما ما كان مطلقاً أو متعلقاً بالقراءة بأن يفعل قبلها أو حالها فإنا نأتي به في هذا الموضع فنقول: أما الأدلة المطلقة فقد مر بعضها، ومنها ما رواه المرشد بالله عن عبد الله بن عمرو بن العاص أن أبا بكر قال لرسول الله صلى الله عليه وآله وسلم : علمني دعاءً أدعو به في صلاتي، قال: ((قل اللهم إني ظلمت نفسي ظلماً كثيراً ولا يغفر الذنوب إلا أنت، فاغفر لي مغفرةً من عندك وارحمني إنك أنت الغفور الرحيم))، وأخرجه الشيخان.
وعن فضالة بن عبيد قال: سمع النبي صلى الله عليه وآله وسلم رجلاً يدعو في صلاته فلم يصل على النبي صلى الله عليه وآله وسلم ، فقال النبي صلى الله عليه وآله وسلم : ((عجل هذا))، ثم دعاه، فقال له أو لغيره: ((إذا صلى أحدكم فليبدأ بتحميد الله والثناء عليه ثم ليصل على النبي صلى الله عليه وآله وسلم ثم ليدع بعد بما شاء)) رواه الترمذي وصححه، وأخرجه أيضاً أبوداود والنسائي وابن خزيمة وابن حبان والحاكم، وفيه رد لمذهب الحنفية، وكذلك زيد بن علي والمؤيد بالله.
وفي أمالي المرشد بالله عليه السلام أخبرنا ابن ريذة، أنا الطبراني، حدثنا الحسين بن إسحق، ثنا الحماني، ثنا أبو بكر بن عياش، عن أبي المهلب، عن عبيد الله بن زحر، عن علي بن يزيد، عن القاسم، عن أبي أمامة: ما دنوت من نبيكم صلى الله عليه في صلاة مكتوبة ولا تطوع إلا سمعته يدعو بهولاء الكلمات لا يزيد فيهن ولا ينقص، منهن: ((اللهم اغفر لي ذنوبي وخطاياي كلها، اللهم أنعشني واجبرني واهدني لصالح الأعمال والأخلاق فإنه لايهدي لصالحها ولا يصرف سيئها إلا أنت)).
قال في (الجداول): الحسين بن إسحق التستري عن عباد بن يعقوب وغيره، وعنه الطبراني.
وأما الحماني فهو: يحيى بن عبد الحميد، أحد ثقات الشيعة، وقد وثقه ابن معين.
وأما أبو بكر بن عياش فهو: الأسدي، مولاهم الخياط المقري، وثقه ابن معين وأحمد، وقال ربما غلط، وقال ابن عدي: لم أجد له حديثاً منكراً إذا روى عنه ثقة، توفي سنة ثلاث وتسعين ومائة.
احتج به البخاري والأربعة، وروى له أئمتنا الخمسة والناصر وفي كتاب حي على خير العمل.
وأما أبو المهلب فهو: مطرج -بالجيم- ابن يزيد الأسدي، أبو المهلب الشامي الكوفي، قال في الجداول: ضعِّف.
احتج به ابن ماجة، وروى له المرادي وأبو طالب والمرشد بالله.
وأما عبيد الله فهو: ابن زحرالضمري الأفريقي مولى أبي كنانة، قال أبو زرعة: صدوق، وقال النسائي: لابأس به، توفي بعد المائتين، احتج به الأربعة، وروى له المرادي وأبو طالب والمرشد.
وأما علي بن يزيد فهو: ابن أبي هلال الألهاني، قال الذهبي: صالح، ووثقه أحمد وابن حبان، توفي سنة عشر ومائة.
احتج به الترمذي وابن ماجة، وروى له المرادي وأبو طالب والمرشد بالله والسمان.
وأما القاسم فهو: ابن عبد الرحمن الدمشقي أبو عبد الرحمن مولى بني أمية، أرسل عن علي وسلمان والكبار، وقيل إنه لم يسمع إلا من أبي أمامة، وثقه ابن معين والعجلي والترمذي، قال يعقوب: ومنهم من يضعف روايته.
قال في (تخريج المجموع): يعني أن الضعف من قبل رواية الضعفاء عنه لا من قبل روايته فإنه ثقة، توفي سنة اثنتي عشرة ومائة.
احتج به الأربعة، وروى له المرادي وأبو طالب والمرشد بالله والسيلقي والنيروسي.
وعن رفاعة بن رافع قال: صليت خلف رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فعطست، فقلت: الحمد لله حمداً كثيراً طيباً مباركاً فيه كما يحب ربنا ويرضى، فلما صلى النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال: ((من المتكلم في الصلاة))، فلم يتكلم أحد، ثم قالها الثانية، فلم يتكلم أحد، ثم قالها الثالثة، فقال رفاعة: أنا يارسول الله، فقال: ((والذي نفسي بيده لقد ابتدرها بضع وثلاثون ملكاً أيهم يصعد بها))، أخرجه النسائي والترمذي، والبضع: ما بين الثلاث إلى التسع، أو إلى الخمس أو ما بين الواحد إلى الأربعة أو من أربع إلى تسع أو سبع، كذا في القاموس.
قال (الفراء): ولا يذكر البضع مع العشرين إلى التسعين، وكذا قال الجوهري.
والحديث يرد ذلك، وفيه دلالة على جواز الذكر بغيرالمأثور، وعلى جواز رفع الصوت بالذكر، وعلى مشروعية الحمد في الصلاة لمن عطس، ويؤيده عموم الأحاديث الواردة في ذلك فإنها لم تفصل.
وفي صحيح مسلم حدثني: محمد بن سلمة المرادي، حدثنا عبد الله بن وهب عن معاوية بن صالح يقول: حدثني ربيعة بن يزيد، عن أبي إدريس الخولاني، عن أبي الدرداء قال: قام رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فسمعناه يقول: ((أعوذ بالله منك)) ثم قال: ((ألعنك بلعنة الله))، ثلاثاً وبسط يده كأنه يتناول شيئاً، فلما فرغ من الصلاة قلنا: يا رسول الله قد سمعناك تقول في الصلاة شيئاً لم نسمعك تقوله قبل ذلك، ورأيناك بسطت يدك، فقال: ((إن عدو الله إبليس جاء بشهاب من نار ليجعله في وجهي فقلت أعوذ بالله منك ثلاث مرات، ثم قلت: ألعنك بلعنة الله التامة فلم يستأخر ثلاث مرات، ثم أردت أخذه والله لولا دعوة أخينا سليمان عليه السلام لأصبح موثقاً يلعب به ولدان أهل المدينة)).
معاوية بن صالح هو: الحضرمي أحد الأعلام، وثقه جماعة، وروى له أئمتنا الخمسة.
وأما ربيعة فهو: ابن زيد الدمشقي، وثقه النسائي، واحتج به الجماعة، وروى له أبو طالب والمرشد والمرادي.
وأما أبو إدريس فهو: الخولاني الشامي، وثقه النسائي، وأثنى عليه غيره، توفي عام ثمانين.
احتج به الجماعة، وروى له الثلاثة المذكورون، وفي الجداول أنه كان قاضياً لمعاوية بدمشق، وذكر ابن الأثير وفاته سنة ستين.
والحديث كما قال بعض شراح صحيح مسلم: دليل لجواز الدعاء لغيره وعلى غيره بصيغة المخاطبة خلافاً لابن شعبان من أصحاب مالك في قوله: إن الصلاة تبطل بذلك.
قال (النووي): وكذا قال أصحابنا تبطل الصلاة بالدعاء لغيره بصيغة المخاطبة كقوله للعاطس: رحمك الله أو يرحمك الله، ولمن سلم عليه وعليك السلام وأشباهه.
قال: والأحاديث في السلام على المصلي تؤيد ما قاله أصحابنا فيتناول هذا الحديث، أو يحمل على أنه كان قبل تحريم الكلام في الصلاة أوغير ذلك.
قلت: أما منع الدعاء على الغير مطلقاً فيرده أنه قد ثبت عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم وعن أمير المؤمنين عليه السلام الدعاء على أعدائهم وتسمية بعضهم بأسمائهم، وأما منعه بصيغة الخطاب فهذا الحديث وعموم أدلة جواز الدعاء ترده ولا موجب للتأويل، ودعوى النسخ لا يثبت إلا بدليل، بل الظاهر عدم احتمال النسخ لأن تحريم الكلام كان بمكة كما تدل عليه رواية ابن مسعود، وهذا الدعاء كان في المدينة لأن أبا الدرداء أنصاري ولم يسلم إلا بعد بدر.
وأما حديث رد السلام فقد مر أن السلام قد خرج في الاستعمال عن الدعاء، وكذلك تشميت العاطس أن جعل النهي متوجهاً إليه.
وعن أبي هريرة قال: قام رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم إلى الصلاة وقمنا معه، فقال أعرابي وهو في الصلاة: اللهم ارحمني ومحمداً ولا ترحم معنا أحداً، فلما سلم النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال للأعرابي: ((لقد تحجرت واسعاً -يريد رحمة الله))، رواه أحمد والبخاري ومسلم وأبو داود والنسائي.
قيل: وفي عدم أمره بالإعادة دليل على أنها لا تبطل صلاة من دعا بما لا يجوز جاهلاً.
فهذه نبذة مما يدل على جواز الدعاء في الصلاة من غير تقييد بركن أوموضع مخصوص، وأما ما ورد مقيداً بكونه بين التكبير والقراءة فهو ما ورد في الاستفتاح على اختلاف أنواعه.
وقد روى أئمتنا" عن على عليه السلام الاستفتاح بقوله: {وَجَّهْتُ وَجْهِي}[الأنعام:79 ]إلى قوله: {وَأَنَا مِنَ الْمُسْلِمِينَ}[يونس:90]، وليس هذا موضع الكلام عليه، وإنما نذكر في هذا الموضع ما تضمن الدعاء بغير القرآن فمنه التعوذ قبل القراءة، وقد مر بدليله في الاستعاذة، وتقدم أيضاً استفتاح علي عليه السلام بعد التكبير بقوله: (اللهم أنت الملك...) إلى آخره.
وعن علي عليه السلام قال: (كان النبي صلى الله عليه وآله وسلم إذا قام إلى الصلاة قال: ((وجهت وجهي للذي فطر السماوات والأرض حنيفاً مسلماً وما أنا من المشركين، إن صلاتي ونسكي ومحياي ومماتي لله رب العالمين، لاشريك له وبذلك أمرت وأنا من المسلمين، اللهم أنت الملك لا إله إلا أنت، أنت ربي وأنا عبدك ظلمت نفسي واعترفت بذنبي فاغفر لي ذنوبي جميعاً لا يغفر الذنوب إلا أنت، واهدني لأحسن الأخلاق لا يهدي لأحسنها إلا أنت، واصرف عني سيئها لايصرف عني سيئها إلا أنت، لبيك وسعديك والخير كله في يديك والشر ليس إليك أنا بك وإليك تباركت وتعاليت أستغفرك وأتوب إليك))، وإذا ركع قال: ((اللهم لك ركعت، وبك آمنت، ولك أسلمت، خشع لك سمعي وبصري ومخي وعظمي وعصبي))، وإذا رفع رأسه قال: ((اللهم ربنا لك الحمد ملء السماوات وملء والأرض وملء ما بينهما وملء ما شئت من شيء بعد))، وإذا سجد قال: ((اللهم لك سجدت وبك آمنت ولك أ سلمت، سجد وجهي للذي خلقه وصوره وشق سمعه وبصره فتبارك الله أحسن الخالقين))، ثم يكون من آخر ما يقول بين التشهد والتسليم: ((اللهم اغفر لي ما قدمت وما أخرت وما أسررت وما أعلنت وما أسرفت وما أنت أعلم به مني، أنت المقدم وأنت المؤخر لا إله إلا أنت))، أخرجه أحمد ومسلم والترمذي وصححه وأبو داود وزاد: كبر ثم قال: وأخرجه أيضاً النسائي مطولاً وابن ماجة مختصراً وابن حبان والشافعي وقيداه بالمكتوبة وكذا غيرهما، وأما مسلم فقيده بصلاة الليل، وزاد في جوف الليل، ولا مانع من وقوع الروايتين وأنه كان يفعله في المكتوبة وصلاة الليل.
وفي (الاعتصام) عن (تحفة المحتاج) أن في رواية لمسلم: كان إذا افتتح الصلاة كبر ثم قال: ((وجهت وجهي...))إلخ.
وفي (أمالي المرشد بالله): أخبرنا الصالحاني، ثنا ابن حبان، ثنا البزار، ثنا عباد بن أحمد، ثنا عمي محمد عن أبيه، عن جابر، عن عبد الله بن بريدة عن أبيه قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم : ((يابريدة إذا كان حين تفتح الصلاة فقل: سبحانك اللهم وبحمدك لا حول ولا قوة إلا بك ولا إله إلا أنت وحدك لاشريك لك تبارك أسمك وتعالى جدك ولا إله غيرك ظلمت نفسي فاغفر لي فإنه لا يغفر الذنوب إلا أنت، وتقرأ ما تيسر من القرآن وتركع فتقول: سبحان ربي العظيم ثلاث مرات فإذا رفعت من الركوع فقل: سمع الله لمن حمده، اللهم لك الحمد ملء السماوات وملء الأرض وملء ما شئت من شيء بعد، فإذا سجدت فقل: سبحان ربي الأعلى ثلاثاً، سجد وجهي لمن خلقه وشق سمعه وبصره تبارك الله أحسن الخالقين، فإذا رفعت من السجدة فقل: ربي اغفرلي وارحمني واهدني وارزقني إني لما أنزلت إلي من خير فقير، فإذا جلست في صلاتك فتبركت في التشهد فقل: لا إله إلا أنت وأني رسول الله والصلاة على وعلى جميع أنبياء الله وسلم عليَّ عباده الصالحين)).
أما ابن حبان فهو: أبو الشيخ وقد مر.
وأما البزار فهو: أحمد بن عمرو بن عبد الخالق أبو بكر البزار، صاحب المسند، قال الذهبي: صدوق مشهور، وقال النسائي: ثقة يخطئ، توفي سنة اثنتين وتسعين، وقيل تسع وأربعين ومائتين.
وأما عباد فهو: ابن أحمد العرزمي احتج به الطبراني في الكبير.
وأما عمه فهو: محمد بن عبد الرحمن العرزمي، ذكره في الجداوال ولم يبين حاله.
وأما أبوه فهو: عبد الرحمن بن محمد العرزمي، روى عن أبيه، وجابر وجعفر بن محمد وجابر الجعفي، زعم الذهبي أن الدارقطني: ضعفه وهو مردود عليه، روى له المرشد والمرادي.
وأما جابر فهو: ابن يزيد الجعفي أحد ثقات الشيعة ومحدثيهم.
وأما عبد الله فهو: ابن بريدة بن حصيب الأسلمي قاضي مرو روى عن أبيه وغيره، وثقه يحيى وأبو حاتم والعجلي، توفي سنة خمس عشرة ومائة، احتج به الجماعة، وروى له المؤيد بالله والمرشد بالله والمرادي.
وفي (أمالي المرشد بالله): أخبرنا ابن غسان، أنا الأسفاطي، ثنا محمد بن هارون، ثنا عمر بن عثمان، ثنا شريح الحضرمي، ثنا شعيب بن أبي حمزة، ثنا ابن المنكدر عن جابر أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم كان إذا استفتح الصلاة كبر ثم قال: ((إن صلاتي ونسكي ومحياي ومماتي لله رب العالمين... إلى آخر الآية، اللهم اهدني لأيسر الأعمال وأحسن الأخلاق فإنه لا يهدي لأحسنها إلا أنت وقني شر الأخلاق فإنه لا يقي شرها إلا أنت)).
قال في (الجداول): شريح عن شعيب بن أبي حمزة، وعنه محمد بن هارون هو: شريح بن يزيد بن حيوة، وثقه ابن معين، احتج به أبو داود والنسائي.
قلت: وظاهر الترجمة عدم ثبوت الواسطة بينه وبين محمد بن هارون وهوكذلك في ترجمة محمد بن هارون فإنه ذكر روايته عن شريح ولم يبين حال محمد.
وأما شعيب بن أبي حمزة فهو: الأموي مولاهم أبو بشر الحمصي، وثقه ابن معين وسيار بن إسحق، توفي سنة ثلاث وستين ومائة.
احتج به الجماعة، وروى له أبو طالب والمرشد والسيلقي.
وأما ابن المنكدر فهو: محمد بن المنكدر، وثقه جماعة، وقال في التذكرة: مجمع على ثقته وتقدمه.
احتج به الجماعة، وروى له الناصر والخمسة، وصاحب المحيط، وفي المناقب، والحديث أخرجه النسائي.
وعن أبي هريرة قال: كان رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم إذا كبر في الصلاة سكت هنيهة قبل القراءة، فقلت: يارسول الله بأبي أنت وأمي أرأيت سكوتك بين التكبير والقراءة ما تقول؟ قال: ((أقول: اللهم باعد بيني وبين خطاياي كما باعدت بين المشرق والمغرب، اللهم نقني من خطاياي كما ينقى الثوب الأبيض من الدنس، اللهم اغسلني من خطاياي بالثلج والماء والبرد))، رواه الجماعة إلا الترمذي.
وأخرج النسائي عن محمد بن مسلمة أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم كان إذا قام يصلي تطوعاً قال: ((الله أكبر وجهت وجهي... إلى وأنا من المسلمين، اللهم أنت الملك لاإله إلا أنت سبحانك وبحمدك))، ثم يقرأ، والأحاديث في الباب كثيرة.
وفي ما ذكرناه كفاية في إثبات الدعاء فيما بين التكبير والقراءة، وتنوعه يدل على التوسع فيه، وأن المقصود الدعاء والثناء على الله تعالى في هذا الموضع.
وقد روي في العلوم: عن أحمد بن عيسى أنه قال: يستفتح باستفتاح علي بن أبي طالب وهو قوله: (وجهت وجهي فذكره إلى وأنا من المسلمين)، ثم يتعوذ بالله من الشيطان الرجيم ثم يقول: بسم الله الرحمن الرحيم، قال: وإن شاء استفتح باستفتاح عبد الله بن مسعود وهو قوله: سبحانك اللهم وبحمدك... إلى آخر الكلمات وهن كلمات معروفة، وإن شاء جمعها كلها وإن شاء بعضها.
وقد جاء عن أبي جعفر محمد بن علي غير ذلك، وعن زيد بن علي عليه السلام خلاف ما قال أبو جعفر قال: وكل ذلك يدل على السعة فيه.
وفي العلوم أيضاً عن القاسم بن إبراهيم عليه السلام أنه قال: روي عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم في استفتاح الصلاة وجوه مختلفة كلها حسنه، روى حذيفة أنه سمعه يقول: حين افتتح الصلاة: ((الله أكبر ذو الملك والملكوت والكبرياء والعظمة))، وذكر عن غيره قال: كان النبي صلى الله عليه وآله وسلم يقول: ((سبحانك اللهم وبحمدك وتبارك اسمك وتعالى جدك ولا إله غير)).
وروي عن علي بن أبي طالب صلى الله عليه في حديث ابن أبي رافع افتتاح طويل هكذا في العلوم.
وأما الدعاء المقيد بحال القراءة فهو ما رواه حذيفة قال: صليت مع النبي صلى الله عليه وآله وسلم ذات ليلة فافتتح البقرة فقلت: يركع عند المائة ثم مضى فقلت: يصلي بها في ركعة، فمضى، فقلت: يركع بها، فمضى ثم افتتح النساء فقرأها، ثم افتتح آل عمران فقرأها مترسلاً إذا مر بآية فيها تسبيح سبح، وإذا مر بسؤأل سأل، وإذا مر بتعوذ تعوذ، ثم ركع)، الخبر أخرجه أحمد ومسلم والنسائي، وأخرجه المرشد بالله ولم يذكر التسبيح ولا السؤال ولا التعوذ.
وقوله: يصلي بها في ركعة معناه ظننت أنه يسلم بها فيقسمها في ركعتين، وأراد بالركعة الصلاة بكمالها وهي ركعتان. ذكره النووي.
قال: ولا بد من هذا التأويل لينتظم الكلام بعده. والحديث يدل على استحباب التسبيح والسؤال والتعوذ عند المرور بما فيه ذلك.
قال في (نيل الأوطار): والظاهر استحباب هذه الأمور لكل قارئ من غير فرق بين المصلي وغيره وبين الإمام والمنفرد والمأموم، وإلى ذلك ذهبت الشافعية.
وعن عبد الرحمن بن أبي ليلى: عن أبيه قال: سمعت نبي الله صلى الله عليه وآله وسلم يقرأ في صلاة ليست بفريضة، فمر بذكر الجنة والنار، فقال: ((أعوذ بالله من النار ويل لأهل النار)). أخرجه أحمد وابن ماجة بمعناه.
وعن عائشة قالت: (كنت أقوم مع رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ليلة التمام فكان يقرأ سورة البقرة وآل عمران والنساء فلا يمر بآية فيها تخويف إلا دعا الله عز وجل واستعاذ، ولا يمر بآية فيها استبشار إلا دعا الله عز وجل ورغب إليه). أخرجه أحمد. قوله: ليلة التمام أي ليلة تمام البدر.
وعن موسى بن أبي عائشة قال: كان رجل يصلي فوق بيته وكان إذا قرأ: {أَلَيْسَ ذَلِكَ بِقَادِرٍ عَلَى أَنْ يُحْيِيَ الْمَوْتَى}[القيامة:40]، قال: سبحانك فبكى، فسألوه عن ذلك فقال: سمعته من رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم . أخرجه أبو داود وسكت عنه هو والمنذري.
وعن عوف بن مالك قال: قمت مع النبي صلى الله عليه وآله وسلم فبدأ فاستاك وتوضأ، ثم قام فصلى فبدأ فاستفتح البقرة، لايمر بآية رحمة إلا وقف فسأل، قال: ولا يمر بآية عذاب إلا وقف فتعوذ، ثم ركع. الخبرأخرجه النسائي وابو داود ولم يذكر الوضوء ولا السواك، وأخرجه الترمذي، ورجال إسناده ثقات.
فإن قيل: هذه الأخبار واردة في النقل، فمن أين لكم جاوز مثل هذه الأمور المكتوبة فضلاً عن استحبابها؟ قيل: إذا ثبت في النفل ثبت مثله في الفرض إذ لافارق بينهما فيما ذكر، على أن العمومات السابقة تدل استوائهما فيه.
تنبيه [الاختلاف في جواز الدعاء في الصلاة]
اختلف بعض المتأخرين في جواز الدعاء بالشعر في الصلاة، فأجازه الفقيه إبراهيم بن خالد العلفي تمسكاً بما تقرر من شرعية الدعاء على الإطلاق وأن الإنسان مفوض في الدعاء بما شاء، ومنعه السيد هاشم بن يحيى الشامي والسيد صلاح بن حسين الأخفش، لأن آثار الدعاء في الصلاة لم يرد فيها شيء موزون وزن الشعر، ولأن النهي عن الكلام في الصلاة يتناول ما عدا ما ورد به الأثر ولم يرد الأثر بشيء مما يكون بصفة الشعر، ولا أثر عن السلف الدعاء فيها بالشعر.
وفي كلام الناصر ما يدل على المنع وهو قوله: لو جاز أن يقرأ شيء من الشعر في الصلاة لكان شعر القاسم عليه السلام هذا مع ما في صناعته من التكلف الممقوت، سيما في مناجاة الله تعالى، وإنما استحسن في مخاطبة البشر لما فيه من التأثير في النفس وميل الطبع ونحو ذلك.
أجاب (العلفي): بأن كونه لم يؤثر الدعاء بالشعر ليس دليلاً على عدم شرعيته لأن عموم الأدلة قاض بجوازه.
وفعل النبي صلى الله عليه وآله وسلم لبعض أفراد العام لا يقتضي التخصيص وليس الدعاء المأمور به مجملاً حتى يكون فعله بياناً له فيقتصر عليه كما لا يخفى.
فإن قيل: حديث: ((صلوا كما رأيتموني أصلي)) يمنع الجواز.
قيل: الحديث ليس على ظاهره بالنسبة إلى الدعاء لأنه ليس بواجب من أصله.
قلت: ولو تناوله الأمر لم يكن منافياً للدعاء بالشعر، إذ المراد أن يفعلوا جنس فعله من الدعاء وغيره، والدعاء بالشعر من جنسه ولو لم نقل بهذا لما جاز الدعاء بغير المأثور ولا القراءة بسورة لم يقرأ بها، فإن قالوا: قد ثبت جواز ذلك بدليل آخر، قيل: وهذا ثبت بدليل آخر وهو: التفويض للمصلي.
وأما ما ذكره من التكلف في الشعر فيقال: المسألة مفروضة فيما لا تكلف فيه من الشعر المحفوظ أو من تساعده سليقته، فإن قيل: قد روي عن ابن عباس: انظر إلى السجع من الدعاء فاجتنبه فإني عهدت رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وأصحابه لا يفعلون ذلك، أخرجه البخاري.
قيل: أما الأمر بالاجتناب فهو من كلام ابن عباس ولاحجة فيه، وأما أنه عهدهم لا يفعلون ذلك فهو لا يقتضي المنع كما يؤخذ مما مر لحصول التفويض، ويجوز أن يراد بكلامه ما كان يحصل به التكلف، فأما المحفوظ أو المتيسر لمساعدة السليقة فلا بأس به.
وقد حكى النووي عن العلماء: أن السجع المذموم في الدعاء هو المتكلف، فأما ما حصل بلى كلفة ولا إعمال فكر لكمال الفصاحة ونحوها، أوكان محفوظاً فلا بأس به بل هو حسن.
واحتج بقوله صلى الله عليه وآله وسلم : ((آت نفسي تقواها وزكها أنت خير من زكاها، أنت وليها وأنت مولاها، اللهم إني أعوذ بك من علم لاينفع...)) الحديث.
قلت: وقد ورد الدعاء بالشعر عن السلف وكبار الأئمة كما لا يخفى، ومنه قول ابن حجر بن عدي يوم الجمل:
يا ربنا سلم لنا علياً
المؤمن الموحد التقيا
سلم لنا المبارك المضيا
لا خطل الرأي ولا غويا
إلى آخره، ذكره في شرح نهج البلاغة.
قال (العلفي): فلو لم نقل بالجمع المذكور بين الأدلة وفرضنا أن حديث ابن عباس يقوي على معارضة أحاديث ما فيها سجع لوجب الرجوع إلى الأصل وهو الجواز، فالأولى عدم القطع بالتحريم فإنه كلام حسنه حسن، وقبيحه قبيح، وإن كان ينبغي اجتنابه لكن لا على جهة اعتقاد التحريم، فإن قيل: إذا لم ينقل الدعاء بالشعر عن الشارع فهو بدعة.
قيل: لا يجوز أن يقال فيما دل عليه الدليل أنه بدعة ولو لم يتناوله ذلك الدليل إلا بعمومه أو كان قياساً أو إجماعاً، ثم إنه يلزم أن يكون كل ما لم يؤثر عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم من الدعاء المنثور بدعة ولو لم يكن في الصلاة، فما هو جوابكم فهو جوابنا، وقد أتينا على حاصل ما ذكره السيدان والعلفي في المسألة ثم إن العلفي مال في آخرها إلى التوقف فقال: التوقف في طرفي المسألة أسلم من اعتقاد الجواز أو التحريم وإن كنت إلى الجواز أقرب.
المسألة الثانية عشرة: في فضائل هذه السورة وخواصها
أخرج الثعلبي في تفسيره والواحدي في أسباب النزول: عن علي عليه السلام قال: (نزلت فاتحة الكتاب بمكة من كنز تحت العرش)، وأخرجه إسحاق بن راهويه في مسنده بلفظ: حدثنا نبي الله صلى الله عليه وآله وسلم : أنها أنزلت من كنز تحت العرش، وأخرج ابن أبي شيبة في المصنف وأبو سعيد بن الأعرابي في معجمه والطبراني في الأوسط من طريق مجاهد، عن أبي هريرة: أن إبليس رن حين أنزلت فاتحة الكتاب وأنزلت بالمدينة.
وروى أبو بكر بن الأنباري في كتاب الرد: عن مجاهد قال: إن إبليس لعنه الله رن أربع رنات حين لعن وحين أهبط من الجنة وحين بعث محمد صلى الله عليه وآله وسلم وحين نزلت فاتحة الكتاب، وأنزلت بالمدينة، وأخرجه وكيع في تفسيره وأبو الشيخ في العظمة وأبو نعيم في الحلية، ذكره في الدر المنثور من دون قوله: وأنزلت بالمدينة.
وقال (الهادي): فهل في القرآن فيما نزل الله من النور والبرهان شيء هو أعظم من سورة الحمد لأنها أم الكتاب، ولما فيها من أسماء رب الأرباب، وتوحيده جل جلاله، وتقدست أسماؤه، وفيما عظم الله من قدرها، وشرف سبحانه من أمرها ما يروى عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم فيها أنه قال: ((والذي بعثني بالحق نبياً ما في التوراة ولا في الإنجيل الكريم ولا في الزبور ولا في القرآن العظيم مثلها، وإنها للسبع من المثاني والقرآن العظيم الذي أوتيته)).
ذكره في الأحكام، وفي معناه حديث أبي سعيد بن المعلى وقد مر من رواية المرشد بالله والبخاري وغيرهما، وأخرج البيهقي في الشعب: عن الحسن قال: أنزل الله مائة وأربعة كتب أودع علومها أربعة منها: التوراة، والإنجيل، والزبور، والفرقان، ثم أودع علوم التوراة والإنجيل والزبور الفرقان، ثم أودع علوم القرآن المفصل، ثم أودع المفصل فاتحة الكتاب، فمن علم تفسيرها كان كمن علم تفسير جميع الكتب المنزلة.
وأخرج أبو عبيد في فضائله: عن الحسن، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم : ((من قرأ فاتحة الكتاب فكأنما قرأ التوراة والإنجيل والزبور والفرقان)).
وأخرج أبو عبيد وأحمد والدارمي والترمذي وصححه والنسائي وابن خزيمة وابن المنذر والحاكم وصححه وابن مردويه وأبو ذر الهروي في فضائل القرآن، والبيهقي في سننه عن أبي هريرة أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم : خرج على أبي بن كعب فقال: ((يا أبي)) وهو يصلي فالتفت أبي فلم يجبه فصلى أبي فخفف ثم انصرف إلى رسولله صلى الله عليه وآله وسلم فقال: السلام عليك يارسول الله، فقال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم : ((ما منعك أن تجيبني إذ دعوتك؟ فقال: يارسول الله كنت في الصلاة، فقال: أفلم تجد فيما أوحى الله إليَّ أن: {اسْتَجِيبُوا لِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ إِذَا دَعَاكُمْ لِمَا يُحْيِيكُمْ}[الأنفال:24]، قال: بلى، ولا أعود إن شاء الله، قال: أتحب أن أعلمك سورة لم ينزل في التوراة ولافي الإنجيل ولا في الزبور ولا في الفرقان مثلها، قال: نعم يارسول الله، فقال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم : كيف تقرأ في الصلاة؟ فقرأ بأم القرآن، فقال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم : والذي نفسي بيده ما أنزل في التوراة ولا في الإنجيل ولا في الزبور ولا في الفرقان مثلها، وإنها السبع من المثاني أو قال: السبع المثاني والقرآن العظيم الذي أعطيته)).
وأخرج الدارمي والترمذي وحسنه والنسائي وعبد الله بن أحمد بن حنبل في زوائد المسند وابن الضريس في فضائل القرآن وابن جرير وابن خزيمة والحاكم وصححه من طريق العلاء عن أبيه، عن أبي هريرة عن أبي بن كعب، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم : ((ما أنزل الله في التوراة ولا في الإنجيل ولا في الزبور ولا في الفرقان مثل أم القرآن، وهي السبع المثاني والقرآن العظيم الذي أوتيت وهي مقسومة بيني وبين عبدي ولعبدي ما سأل)).
وأخرج ابن الضريس في فضائل القرآن والبيهقي في الشعب: عن أنس عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال: ((إن الله أعطاني فيما من به علي: إني أعطيتك فاتحة الكتاب وهي من كنوز عرشي ثم قسمتها بيني وبينك نصفين)).
وأخرج مسلم والنسائي وابن حبان والطبراني والحاكم عن ابن عباس قال: بينما رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم جالس وعنده جبريل، إذ سمع نقيضاً من السماء من فوق، فرفع جبريل بصره إلى السماء فقال: يا محمد هذا ملك قد نزل لم ينزل إلى الأرض قط، قال: فأتى النبي صلى الله عليه وآله وسلم فسلم عليه فقال: أبشر بنورين قد أوتيتهما لم يؤتهما نبي قبلك، فاتحة الكتاب وخواتيم سورة البقرة لن تقرأ حرفاً منها إلا أوتيته.
وأخرج الحاكم وصححه ابن مردويه وأبو ذرالهروي والبيهقي في الشعب عن معقل بن يسار قال: قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم : ((أعطيت سورة البقرة من الذكر الأول، وأعطيت فاتحة الكتاب وخواتيم سورة البقرة من تحت العرش والمفصل نافلة)).
وفي تفسير القرطبي عن علي عليه السلام ، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم : ((فاتحة الكتاب وآية الكرسي و {شَهِدَ اللَّهُ أَنَّهُ لاَ إِلَهَ إِلاَّ هُوَ}[آل عمران:18 ]و {قُلِ اللَّهُمَّ مَالِكَ الْمُلْكِ}[آل عمران:26]، هذه الآيات معلقات بالعرش ليس بينهن وبين الله حجاب)). وقال أسنده أبو عمرو الداني في كتاب البيان له.
قلت: ورواه السيد العلامة عبد الله بن أحمد الشرفي في تفسيره المسمى بالمصابيح في تفاسير أهل البيت"، ونسبه إلى النجم الزاهر إلا أنه قال: مشفعات موضع معلقات ولم يذكر قوله بالعرش، ورواه أيضاً في الدر المنثور من حديث علي عليه السلام بأبسط من هذا، وسيأتي في سورة آل عمران إن شاء الله.
وعن أبي أمامة، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم : ((أربع أنزلن من كنز تحت العرش لم ينزل منه شيء غير هذا، أم الكتاب، فإنه يقول: {وَإِنَّهُ فِي أُمِّ الْكِتَابِ لَدَيْنَا لَعَلِيٌّ حَكِيمٌ}[الزخرف:4]،وآية الكرسي وخواتيم سورة البقرة والكوثر)) ذكره في الدر المنثور وقال: أخرجه أبو الشيخ في الثواب والطبراني وابن مردويه والديلمي والضياء المقدسي في المختارة، وهو في أمالي المرشد بالله قوله من كنز، الكنز: النفائس المدخرة.
قيل: وفيه إشارة إلى أنها ادخرت للنبي صلى الله عليه وآله وسلم ولم تنزل على من قبله والقرآن كله كذلك، وخص ما ذكر لشرفه. والحديث أخرجه ابن الضريس عن أبي أمامة موقوفاً.
وأخرج البخاري والدارمي في مسنده وأبو داود والترمذي وابن المنذر وابن أبي حاتم وابن مردويه في تفاسيرهم: عن أبي هريرة، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم : ((الحمد لله رب العالمين أم القرآن وأم الكتاب والسبع المثاني)).
وأخرج أحمد وابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم وابن مردويه: عن أبي هريرة عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أنه قال: ((لأم القرآن هي أم القرآن وفاتحة الكتاب وهي السبع المثاني وهي القرآن العظيم)).
وأخرج الطبراني في الأوسط بسند ضعيف: عن ابن عباس، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم : ((من قرأ أم القرآن و {قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ}[الإخلاص:1]فكأنما قرأ ثلث القرآن)).
وأخرج عبد بن حميد والفريابي عن ابن عباس قال: فاتحة الكتاب ثلث القرآن.
وأخرج عبد بن حميد بسند ضعيف عن: ابن عباس يرفعه إلىالنبي صلى الله عليه وآله وسلم : ((فاتحة الكتاب تعدل بثلثي القرآن)).
وأخرج الحاكم وصححه، وأبو ذر الهروي في فضائله والبيهقي في الشعب عن: أنس قال: كان النبي صلى الله عليه وآله وسلم في مسير له فنزل فمشى رجل من أصحابه إلى جنبه، فالتفت إليه النبي صلى الله عليه وآله وسلم فقال: ((ألا أخبرك بأفضل القرآن)) فتلا عليه: {الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ}[الفاتحة: 2].
وفي (أمالي المرشد بالله): أخبرنا ابن السواق، أنا الفرقدي، أخبرنا إبراهيم بن شريك، حدثنا أحمد بن عبد الله، حدثني سلام بن سليم، حدثني هارون بن كثير عن زيد بن أسلم، عن أبي أمامة، عن أبي بن كعب، قال: قال لي رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم : ((يا أبي إن جبريل عليه السلام أمرني أن أقرأ عليك القرآن، وهو يقرئك السلام))، قلت: يارسول الله إنه كما كانت لي منك خاصة بقراءة القرآن خصني بثواب القرآن مما علمك الله وأطلعك عليه قال: ((نعم يا أبي أيما مسلم قرأ فاتحة الكتاب فكأنما قرأ ثلثي القرآن وكأنما تصدق على كل مؤمن ومؤمنة)).
وفي رواية قال صلى الله عليه وآله وسلم : ((أيما مسلم قرأ فاتحة الكتاب أعطي من الأجر كأنما تصدق على كل مؤمن ومؤمنة)).
أما الفرقدي فقد مر ذكره.
وأما إبراهيم بن شريك: فهو الأسدي روى عن أحمد بن عبد الله اليربوعي، قال في الطبقات: مقبول.
وأما أحمد بن عبد الله فذكر في الجداول من جملة الآخذين عن سلام بن مسلم أحمد بن عبد الله بن يونس وقال في ترجمته: أحمد بن عبد الله بن يونس الغدراني وذكر مشائخه، قال وعنه الشيخان وأبو داود، توفي سنة سبع وعشرين ومائتين، قال أبو حاتم: ثقة متقناً، احتج به الجماعة وروى له الأخوان والمرشد بالله والسيلقي.
وأما سلام: فقال في الجداول: سلام بن سلم، ويقال ابن سليمان أخذ عن الصادق وحمزة الزيات، ثم قال تكلموا فيه وكذبه بعضهم، وصحح روايته الإمام أحمد بن هاشم ويحيى الداني.
وأما هارون بن كثير فذكر في الجداول تصحيح الإمام أحمد بن هاشم لروايته لحديث فضائل القرآن وقال: إن الذهبي زعم أن هارون هذا مجهول، وأجاب بأن تعريف المرشد بالله كاف.
وأما زيد بن أسلم فهو ثقة مشهور وكان زين العابدين يجلس إليه، واعلم أن هذا الإسناد هو أحد الطريقين للحديث الطويل المتصل بأبي بن كعب في فضائل سور القرآن، وقد أورده الزمخشري وغيره في تفاسيرهم، وقد ادعى جماعة من المحدثين أنه موضوع.
قال في (تخريج الكشاف) (لابن حجر): حديث أبي بن كعب في فضائل القرآن سورة سورة.
أخرجه الثعلبي من طرق عن أبي بن كعب كلها ساقطة، وأخرجه ابن مردويه من طريقين، وأخرجه الواحدي في الوسيط وله قصة ذكرها الخطيب، ثم ابن الصلاح عمن اعترف بوضعه ولهذه روي عن أبي عصمة أنه اعترف بوضعه.
قلت: ولعل القصة المشار إليها هي ما روي أن المدعي لوضعه أراد ترغيب الناس في تلاوة القرآن وسيأتي الجواب عنها.
وأما أبو عصمة المذكور فهو: نوح بن أبي مريم وقد تقدم توثيق المنصور بالله له، وقال في الإتقان وغيره:
أخرج الحاكم في المدخل بسنده إلى أبي عمار المروزي أنه قيل لأبي عصمة الجامع من أين لك عن عكرمة عن ابن عباس في فضائل القرآن سورة سورة وليس عند أصحاب عكرمة هذا؟ فقال: إني رأيت الناس قد أعرضوا عن القرآن واشتغلوا بفقه أبي حنيفة، ومغازي ابن إسحاق فوضعت هذا الحديث حسبة، وكان يقال لنوح هذا الجامع لما جمعه من العلوم فقيل: جمع كل شيء إلا الصدق.
وقال (أبو عمر بن عبد البر) و(عثمان بن الصلاح): وهكذا الحديث الطويل الذي يروى عن أبي بن كعب عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم في فضل القرآن سورة سورة وقد بحث باحث عن مخرجه حتى انتهى إلى من اعترف بأنه وجماعة وضعوه وإن أثر الوضع عليه لبين، وقد أخطأ الواحدي المفسر ومن ذكره من المفسرين في إيداعه كتبهم، قال: في تنقيح الأنظار: لكن من أبرز إسناده منهم فهو أبسط لعذره إذ قد أحال نظره على الكشف عن سنده.
قلت: وقد ذكر الباحث عنه ابن حبان في مقدمة تاريخ الضعفاء، فقال: روى ابن مهدوي قال: قلت لميسرة بن عبد ربه: من أين جئت بهذه الأحاديث من قرأ كذا وكذا فله كذا؟ قال: وضعتها أرغب الناس فيها، وروينا عن المؤمل بن إسماعيل قال: حدثني شيخ بحديث أبي بن كعب في فضائل سور القرآن سورة سورة فقال: حدثني رجل بالمدائن وهو حي فصرت إليه فقلت له: من حدثك؟ قال: حدثني شيخ بواسط وهو حي فصرت إليه فقلت له: من حدثك؟ فقال: حدثني شيخ بالبصرة فصرت إليه فقلت له: من حدثك؟ فقال: حدثني شيخ بعبادان فصرت إليه فأخذ بيدي فأدخلني بيتاً فإذا فيه من المتصوفة وبينهم شيخ فقال: هذا الشيخ حدثني فقلت: يا شيخ من حدثك؟ فقال: لم يحدثني أحد ولكنا رأينا الناس قد رغبوا في القرآن فوضعنا لهم هذا الحديث ليصرفوا قلوبهم إلى القرآن، وقد ذكر نحو هذا النووي، وقد أجاب عن ذلك الإمام أحمد بن هاشم عليه السلام في السفينة فقال: ما حاصله هذا باطل يجب طرحه لأربعة وجوه:
الأول: أن قوله وضعه رجل من عبادان غير مصدق لجواز أن يكون فاسقاً أو ملحداً، قاله تنقيصاً لقدر القرآن وتزهيداً في فضله، وأي فائدة في فضيلة باطنها الفساد وتلبيس الحق بالباطل، هذا مع الجهل بحال الرجل يعني المدعي للوضع.
الثاني: أنه لو كان معلوماً فلا يجوز تصديقه لتصريحه بأنه قد كذب على رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ، وحينئذ يجب تكذيبه وإطراح قوله - يعني فيما قاله من وضع الحديث-، فإن قيل: فما يؤمننا أن يكون صادقاً في قوله فنكون قد عملنا بما هو كذب في نفس الأمر.
قيل: هذا من منازعة النفس وملاحظتها لقوله وقد وجب طرحه، ويرجع النظر إلى طريق توصلنا إلى صحة الحديث وقد وجدت.
الثالث: أن الحديث قد رواه المرشد بالله في أماليه الكبرى، الذي قال فيها الشيخ محيي الدين القرشي رحمه الله: أن مؤلفها قد جمع فيها محاسن أخبار رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وعيونها، ورواها بأسانيد صحيحة عند علماء هذا الشأن، وقيد المواضع المشتبهة بتقييدات لا تكاد توجد في موضع.
وذكر الحكم عليها بالصحة في مقدمتها، ويكفي ذلك الكتاب شرفاً تلقي العترة له بالقبول واعتمادهم عليه، ورجوعهم إليه، قال: فروى الإمام الحديث من طريقتين صحيحتين متصلتين بأبي بن كعب اجتماعهما في هارون بن كثير فكيف يكذب إمام من أئمة المسلمين بتصديق كذاب، قال: كذبت على رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم .
الرابع: قال الإمام عليه السلام أنه قد ذكر في السفينة أذكاراً قرآنية بطرق مختلفة وجميعها شاهدة لصحة حديث أبي، فإن المروج لقبول رجل من عبادان استبعاد تلك الفضائل أو توهم الاتكال عليه، ونحن نقطع أن في بعض تلك الروايات ما هو أعظم أجراً مما تضمنه حديث أبي، فإن كان المرجع الصحة فهذه طرقها، وإن كان المرجع قبول الأذهان وحب تكذيب هذه كما كذب حديث أبي، والفرق تحكم، ولا يستبعد كثرة الثواب، فقد قال صلى الله عليه وآله وسلم لمن استبعد بعض الفضائل: ((خير الله أكثر وأطيب)).
هذا حاصل ما أجاب به الإمام في الوجه الرابع.
ونحن نقول: قد أتينا في هذه المسألة بما يشهد لصحة حديث أبي في الجملة، وبما يدفع الاستبعاد كما ذكره الإمام عليه السلام ، ثم إنا نقول ما ذكروه من رواية أبي عصمة عن ابن عباس شاهدة لرواية المرشد بالله لما مر من توثيق أبي عصمة وجلالته في العلم، ولا نسلم ما رووه عنه من وضع الحديث.
وأما أبو ميسرة فلو سلم أنه وضاع فلا نسلم وضعه لهذا الحديث الذي رواه المرشد بالله إذ ليس من رجال إسناده.
فإن قيل: قد نص على وضعه مؤمل بن إسماعيل العدوي وهو ثقة، وثقه ابن معين. وقال أبو حاتم: صدوق سديد، وهو ممن خرج مع إبراهيم بن عبد الله، وكان من أصحاب الثوري.
قيل: إن كان الذي ذكره ابن حبان هو هذا فلا يبعد أن يكون هؤلاء الذين رووا عنهم حتى وصل إلى شيخ المتصوفة من أعداء الإسلام هم وشيخهم، وأن شيخهم ادعى الوضع ليزهد الناس في فضائل القرآن كما مر.
وأما المؤمل فهو معذور؛ لأن الظاهر من حاله أنه لم يسمع الحديث إلا من تلك الطريقة، وبعد فإن المنصف إذا تأمل ما ذكره المرشد بالله من الإسناد ووجده سالماً عن ميسرة وأبي عصمة الذين قد جرحوهما، وعن شيخ الصوفية المجهول لم يجز منه أن يحكم على الحديث الثابت من هذه الطريقة الخالية عن هولاء المجروحين بالوضع لأجل أن قد رواه آخرون من غيرها، فتأمل واعلم أن ليس في رجال المرشد بالله عليه السلام أحد من هؤلاء الثلاثة المجروحين.
فالواجب على المنصف إن لم يكتف بتصحيح الإمام أحمد بن هاشم وغيره أن لا يجزم بوضع الحديث حتى يبحث عن رجال المرشد بالله، ثم: يحكم بعد ذلك بما ظهر له من صحة أو ضعف أو وضع أو غيرذلك بحسب ما يتحصل من البحث، وها هنا قاعدة فيما يجب على من سمع حديثاً أن يفعل، ذكرها العلامة المقبلي وهي أن الواجب على من سمع حديثاً أن يجعله في محل الاحتمال، ثم ينظر في أمارات الثبوت والانتفاء، فإن حصل ظن أو علم بالثبوت عمل به بلا شك في مثل ذلك الحكم إن قطعاً وإن ظناً، وينظر أيضاً في أمارات الانتفاء، فإن دل دليل على عدم صحته يوجب العلم وجب البيان، وإن كان ظنياً حكى ما وقع ولا يجوز نفيه إلا مع العلم حتى قال بعض المصنفين في علم الحديث: لوقال الكذوب كذبت في هذا الحديث لم يصدق في تكذيبه نفسه لجواز أن التكذيب كذب، ونعم ما قال إذا حققت هذا فانظر ما عليه المحدثون على اختلافهم في الجرأة والورع من الحكم بالوضع، تجد الكثير لتوهم معارضة بين الحديث وما هو أصح منه، أو لتأدية الحديث إلى عقيدة قد اعتقد خلافها أو نحو ذلك مع ضعف الملازمة أيضاً بينه وبين ما استدل به، ولو تتبع هذا لجاء منه المصنف أو التصانيف.
أما ما لم يبينوا وجه الحكم بوضعه فبالأولى أن يتوقف فيه، لاسيما بعد معرفة الأساليب عند البيان، بلى قد يوجب ريبة بحسب وجه الحكم بالوضع معرفة للآثار وفطنة للاستدلال وورعاً ونحو ذلك، غاية ما في الباب أن يقال: من مارس الشيء حدثت فيه قوة تنفع في المقصود حتى أن الممارسين للآداب إذا سمعوا البيت أو الفقرة من النثر قالوا: هذا نفس فلان، وهو أمر لاشك فيه في الجملة، فكيف كلام أفصح من نطق بالضاد وأوتي جوامع الكلم صلى الله عليه وآله وسلم .
فنقول: هذا مسلم لكن هذا مرجح فقط، ولا يحكم به مستقلاً وقد يورث ريبة فيما ظاهره القوة أو قوة فيما هو أقرب إلى الضعف، كما قال ابن الصلاح: عند ذكر أنه لا يعمل إلا بالجرح المعين، أن جرح الأئمة غير المعين لا يؤخذ به، إنما ذكره لأنه قد يورث ريبة فيتوقف فقط، رجعنا إلى ما نحن بصدده.
وأخرج الطبراني في الأوسط بسند ضعيف، عن أبي زيد وكانت له صحبة. قال: كنت مع النبي صلى الله عليه وآله وسلم في بعض فجاج المدينة، فسمع رجلاً يتهجد ويقرأ بأم القرآن، فقام النبي صلى الله عليه وآله وسلم فاستمع حتى ختمها، فقال: ((ما في الأرض مثلها)).
وأخرج ابن الضريس عن أبي قلابة مرفوعاً: ((من شهد فاتحة الكتاب حين تستفتح كان كمن شهد فتحاً في سبيل الله، ومن شهد حتى تختم كان كمن شهد الغنائم حتى تقسم)).
وعن علي عليه السلام : (من قرأ فاتحة الكتاب، فقال الحمد لله رب العالمين، حمداً كثيراً طيباً مباركاً فيه صرف الله عنه سبعين نوعاً من البلاء أهونها الهم). رواه زيد بن علي في المجموع.
وقال (الهادي) عليه السلام : يُروى أنها لم تقرأ على مريض إلا شفي، ولم يقرأها مكروب إلا كفي ونجي، ولا توسل بها أحد إلى الله سبحانه إلا أعطي. ذكره في الأحكام.
وأخرج أحمد والبيهقي في الشعب بسند جيد عن عبد الله بن جابر أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قال له: ((ألا أخبرك بأخير سورة نزلت في القرآن، قلت: بلى يا رسول الله، قال: فاتحة الكتاب)) وأحسبه قال: ((فيها شفاء من كل داء)).
وأخرج الطبراني في الأوسط والدارقطني في الإفراد وابن عساكر بسند ضعيف، عن: السائب بن يزيد قال: عوذني رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم بفاتحة الكتاب نقلاً.
وأخرج الدارمي والبيهقي في شعب الإيمان بسند رجاله ثقات، عن عبد الملك بن عمير قال: قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم : ((فاتحة الكتاب شفاء من كل داء)).
وأخرج ابن قانع في معجم الصحابة عن رجاء الغنوي، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم : ((استشفوا بما حمد الله به نفسه قبل أن يحمده خلقه، وبما مدح الله به نفسه، قلنا: وماذاك يا نبي الله؟ قال: الحمد لله، وقل هو الله أحد، فمن لم يشفه القرآن فلا شفاه الله)).
وأخرج سعيد بن منصور في سننه والبيهقي في الشعب عن أبي سعيد الخدري أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قال: ((فاتحة الكتاب شفاء من السم)).
وأخرجه أبو الشيخ عن سعيد وأبي هريرة معاً، وعن أبي سعيد الخدري أن سرية لرسول الله صلى الله عليه وآله وسلم خرجت فمرت بحي من العرب، فنزلت بهم فلدغ سيدهم، فقالوا: هل فيكم من يرقي؟ فرقاه بعضهم بفاتحة الكتاب فعوفي، فأعطوه ثلاثين شاة، فلما قدموا على رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ، أخبروه الخبر، فقال: ((اضربوا لي معكم بسهم)) رواه الأمير الحسين في الشفاء والقاضي زيد في الشرح.
قال في (تتمة الاعتصام): وهذا الخبر قد رواه الهادي عليه السلام في الأحكام عن جده القاسم عليه السلام عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم . وكذا نسبه إلى الأحكام في الشفاء.
وفي (الشفاء) عن أبي سعيد أن ناساً من أصحاب النبي صلى الله عليه وآله وسلم أتوا حياً من أحياء العرب فلم يقرؤهم، فبينما هم كذلك إذ لدغ سيد أولئك، فقالوا: هل فيكم من راق؟ فقالوا: لم تقرونا فلا نفعل أو تجعلوا لنا جعلاً، فجعلوا لهم قطيع شا فجعل رجل يقرأ بأم القرآن ويجمع ريقه فيتفل فبرأ الرجل، فأتوهم بالشا فقالوا: لا نأخذها حتى نسأل عنه رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ، فسألوا النبي صلى الله عليه وآله وسلم فضحك، فقال: ((ماأدراك أنها رقية خذوها واضربوا لي فيها بسهم))، والحديث أخرجه البخاري ومسلم وأبو عبيدة وأحمد وأبو داود والترمذي والنسائي وابن ماجة والحاكم والبيهقي بألفاظ تؤدي هذا المعنى.
وفي بعضها: أن سيدهم لدغه العقرب وأن الفاتحة قرئت عليه سبع مرات فبرئ.
وأخرج أحمد والبخاري والبيهقي في السنن عن ابن عباس أن نفراً من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم مروا بماء فيه لديغ أو سليم، فعرض لهم رجل من أهل الحي فقال: هل فيكم من راق؟ إن في الماء رجلاً لديغاً أو سليماً، فانطلق رجل منهم فقرأ بفاتحة الكتاب على شاء فبرأ، فجاء بالشا إلى أصحابه، فكرهوا ذلك وقالوا: أخذت على كتاب الله أجراً، حتى قدموا المدينة، فقالوا: يارسول الله أخذ على كتاب الله أجراً، فقال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم : ((إن أحق ما أخذتم عليه أجراً كتاب الله)).
وروى الأميرالحسين في الشفاء عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم أنه لما سأله عم خارجة بن الصلت عن رجل أتى به إليه فرقاه ثلاثة أيام غدوة وعشية يقرأ عليه فاتحة الكتاب ويجمع بزاقه، ثم يتفل، فأعطوه جعلاً، فسأل رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم عنه، فقال: رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم : ((كل فلعمري من أكل برقية باطل لقد أكلت برقية حق)).
وأخرج أحمد وأبو داود والنسائي وابن السني: في عمل اليوم والليلة، والحاكم وصححه البيهقي في الدلائل عن خارجة بن الصلت التميمي عن عمه: أنه أتى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ، ثم أقبل راجعاً من عنده فمر على قوم عندهم رجل مجنون موثق بالحديد، فقال أهله: أعندك ما تداوي به هذا؟ فإن صاحبكم قد جاء بخير، قال: فقرأت عليه فاتحة الكتاب ثلاثة أيام في كل يوم مرتين غدوة وعشية، أجمع بزاقي، ثم أتفل فبرئ، فأعطوني مائة شاة فأتيت النبي صلى الله عليه وآله وسلم فذكرت ذلك له فقال: ((كل فمن أكل برقية باطل فقد أكلت برقية حق))، والحديث سكت عنه أبو داود والمنذري ورجاله رجال الصحيح، إلا خارجة المذكور وقد وثقه ابن حبان.
وأخرج الحديث أيضاً وصححه، ذكره في نيل الأوطار، وأخرج الثعلبي من طريق معاوية بن صالح عن أبي سليمان قال: مر أصحاب رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم في بعض غزوهم على رجل قد صرع فقرأ بعضهم في أذنه بأم القرآن فبرئ فقال: رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم : ((هي أم القرآن وهي شفاء من كل داء)).
وأخرج البزار في مسنده بسند ضعيف عن أنس، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم :((إذا وضعت جنبك على الفراش وقرأت فاتحة الكتاب وقل هو الله أحد فقد أمنت من كل شيء إلا الموت))، قلت: كذا قال في الدر المنثور بسند ضعيف.
وقال (العزيزي): هو حديث حسن، وأخرج ابن عساكر في تاريخ دمشق عن شداد بن أوس قال: قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم : ((إذا أخذ أحدكم مضجعه ليرقد فليقرأ بأم القرآن وسورة، فإن الله وكل بها ملكاً يهب معه إذا هب)).
وأخرج الديلمي في مسند الفردوس عن عمران بن حصين مرفوعاً: ((فاتحة الكتاب وآية الكرسي لا يقرأهما عبد في دار فيصيبهم ذلك اليوم عين إنس أو جن)).
وفي الكشاف وغيره عن حذيفة أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال: ((إن القوم ليبعث الله عليهم العذاب حتماً مقضياً فيقرأ صبي من صبيانهم في المكتب الحمد الله رب العالمين فيسمعه الله تعالى فيرفع عنهم بسببه العذاب أربعين سنة)).
قال (ابن حجر): أخرجه الثعلبي من رواية أبي معاوية عن أبي مالك الأشجعي عن ريقي عنه إلا أن دون معاوية من لا يحتج به وله شاهد في مسند الدارمي.
وأخرج الثعلبي عن الشعبي أن رجلاً شكا إليه وجع الخاصرة فقال: عليك بأساس القرآن، قال: وما أساس القرآن؟ قال: فاتحة الكتاب.
ورواه القرطبي في تفسيره قال: شكا رجل إلى الشعبي وجع الخاصرة فقال: عليك بأساس القرآن فاتحة الكتاب، سمعت ابن عباس يقول: لكل شيء أساس وأساس الدنيا مكة؛ لأنها منها دحيت إلى أن قال: وأساس الكتب القرآن، وأساس القرآن الفاتحة وأساس الفاتحة بسم الله الرحمن الرحيم فإذا اعتللت أو اشتكيت فعليك بالفاتحة تشفى.
وفي صحيفة علي بن موسى الرضا، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم : ((إذا أراد أحدكم حاجة فليباكر في طلبها يوم الخميس وليقرأ إذا خرج من منزله آخر آل عمران وآية الكرسي وإنا أنزلناه في ليلة القدر، وأم الكتاب فإن فيها قضاء حوائج الدنيا والآخرة)).
وأخرج أبو الشيخ في الثواب عن عطاء قال: إذا أردت حاجة فاقرأ بفاتحة الكتاب حتى تختمها تقضى إن شاء الله.
تنبيه
ما اشتملت عليه هذه النصوص من تفضيل الفاتحة على غيرها وما سيأتي في آية الكرسي وغيرها نص في تفضيل بعض السور والآيات على بعض، وقد منعه بعضهم ولا وجه له مع هذه النصوص، وسيأتي للمسألة مزيد بسط وتحقيق إن شاء الله.
تنبيه آخر
قد تضمنت هذه الأحاديث والآثار أسماء هذه السورة وجملتها اثنى عشر اسماً الصلاة، والحمد، وفاتحة الكتاب، وأم الكتاب، وأم القرآن، والمثاني، والقرآن العظيم، والشفاء، والرقية، والأساس، والوافية، والكافية.
سماها بالوافية ابن عيينة، وسماها عبد الله بن يحيى بن أبي كثير الكافية لأنها تكفي عن سواها ولا يكفي سواها عنها، كما في حديث:((أم القرآن عوض عن غيرها...)) الخبر، وقد منع بعضهم تسميتها بأم الكتاب، وأما القرآن لنا صريح السنة.
بحث في مسألة التأمين
خاتمة في آمين
والكلام فيه يكون في ثلاث مسائل:
المسألة الأولى: في معناه
فقال الجمهور: معناه اللهم استجب، ويدل عليه ما أخرجه جويبر في تفسيره عن الضحاك عن ابن عباس، قال: قلت يارسول الله ما معنى آمين؟ قال: ((رب افعل))، ذكره في الدرالمنثور، وفيه: وأخرج الثعلبي من طريق الكلبي عن أبي صالح عن ابن عباس مثله، ورواه في الكشاف ونسبه في التخريج إلىالثعلبي من رواية أبي صالح، وقال بإسناد واهٍ.
وقيل: هو اسم من أسماء الله تعالى، وهذا مروي عن جعفر بن محمد ومجاهد وهلال بن يساف.
قال (القرطبي): ورواه ابن عباس عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم ولم يصح، قاله ابن العربي.
وقال (القسطلاني): رواه عبد الرزاق عن أبي هريرة بإسناد ضعيف، وأنكره جماعة منهم النووي، وعبارته في تهذيبه: هذا لايصح لأنه ليس في أسماء الله، اسم مبني ولا غير معرب، وأسماء الله تعالى لا تثبت إلا بالقرآن أو السنة، وقد عدم الطريقان.
قلت: وقد حكى الراغب عن بعضهم أن صاحب هذا القول أراد أن فيه ضمير الله تعالى لأن معناه استجب.
وقيل: معناه كذلك فليكن، ذكره الجوهري وصاحب القاموس، وقال مقاتل: هو قوة للدعاء واستنزال للبركة، وقال الترمذي: معناه لا تخيب رجاءنا، وفي لغتان، المد على وزن فاعيل، وكياسين والقصر على وزن يمين، وقد روى فيه الإمالة مع المد عن حمزة والكسائي للكسرة بعد الألف وهذه لغة ثالثة، وفيه لغة رابعة وهي آمين بالمد وتشديد الميم، وهي مروية عن الصادق والحسن والحسين بن الفضل من أم إذا قصد أي: نحن قاصدون نحوك، وحكى هذه اللغة الداودي.
قال صاحب (الإكمال): هي لغة شاذة لم يعرفها غيره.
وفي شرح الشذور عن الجوهري وثعلب إنكار كونها لغة، وكذا أنكرها غيرهما، وقالوا: لا يعرف آمين إلا جمعاً بمعنى قاصدين كقوله تعالى: {وَلاَ آمِّينَ الْبَيْتَ الْحَرَامَ }[المائدة:2]، وفيه لغة خامسة وهي التشديد مع القصر، وقيل: هي خطأ.
وفي الجامع الكافي عن القاسم بن إبراهيم أن آمين ليست من معروف كلام العرب.
واعترضه الشوكاني فقال: وأما ما رواه في الجامع الكافي عن القاسم بن إبراهيم أن آمين ليست من لغة العرب، فهذه كتب اللغة بأجمعها على ظهر البسيطة.
قلت: نقل كلام الإمام على غير وجهه ليتم له التشنيع عليه فإن القاسم عليه السلام إنما أنكر كونها معروفة من كلام العرب، والظاهر أن مراده أنها غير جارية على قياس العربية باعتبار ما هو المشهور من استعمالها وهو المدمع بتخفيف الميم وهو كما قال، فإن وزن فاعيل إنما يكون في الأسماء العجمية.
وقد قيل: إن هذا الاسم عجمي.
قال (ابن هشام) في (شرح الشذور): وهذه اللغة أكثر اللغات استعمالاً، ولكن فيها بعد في القياس إذ ليس في اللغة العربية فاعيل، وإنما ذلك في الأسماء الأعجمية كقابيل، ومن ثم زعم بعضهم أنه أعجمي، فهذا كلام من لاريب في تقدمه في العربية، يشهد للقاسم بكمال المعرفة والتطلع إلى اللغات، وعلى الشوكاني بالنقص والاكتفاء بظواهر العبارات، وأما سائر اللغات المحكية فيها فقد عرفت إنكار جماعة من العلماء لها وتخطئتهم لناقلها.
وقال صاحب (الإكمال): حكى ثعلب القصر وأنكره غيره إلا في الشعر، ذكره في شرح الشذور، وقد حكى الشوكاني نحوه، وعند التأمل لما حكينا تعرف أن القول بأن هذه الكلمة ليست عربية أو ليست من مشهور كلامهم هو الصواب دون ما عداه.
المسألة الثانية: في حكمه بعد الفاتحة في الصلاة وذكرالخلاف فيه
فالذي عليه أهل البيت" ومن تابعهم أنه بدعة لقوله صلى الله عليه وآله وسلم : ((لا يصلح فيها شيءٌ من كلام الناس )) وقد مر تخريجه.
وقد روي في البحر وغيره إجماع أهل البيت" على ذلك وإجماعهم حجة، ثم اختلفوا في كون الإتيان به يفسد الصلاة أم لا؟
فقال أحمد بن عيسى والناصر والإمام يحيى: لا يفسدها لأنه دعاء، وهذا مروي عن المؤيد بالله واختاره علامة العصر.
وذهب الفريقان إلى استحبابه عقيب الفاتحة، هكذا في البحر، وظاهره أنه لا فرق بين الإمام والمأموم والمنفرد عندهم، ولا بين الصلاة الجهرية والسرية.
وروى النووي في شرح مسلم إجماع الأمة على أن المنفرد يؤمن، قال: وكذلك الإمام والمأموم في الصلاة السرية، وكذلك قال الجمهور: في الجهرية، وقال مالك: في رواية عنه لا يؤمن الإمام في الجهرية.
وفي تفسير القرطبي أن ابن القاسم روى عن مالك أن الإمام لا يقول آمين وإنما يقولها من خلفه، قال وهو قول ابن القاسم والمصريين من أصحاب مالك.
والحجة على شرعيته حديث وائل بن حجر قال: سمعت النبي صلى الله عليه وآله وسلم : قرأ {غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ وَلاَ الضَّالِّينَ }[الفاتحة: 7 ]فقال: ((آمين) يمد بها صوته، أخرجه أحمد وأبو داود والترمذي، وحسنه والدارقطني وابن حبان.
قال (الحافظ): وسنده صحيح، وصححه الدارقطني وأعله بن القطان بحجر بن عنبس ، وقال: لا يعرف، ورده الحافظ بأنه ثقة معروف.
وفي (النيل): أن في رواية أبي داود زيادة ورفع بها صوته، ورواه أحمد وابن ماجة والدارقطني من طريق أخرى بلفظ وخفض بها صوته، وقد أعلت باضطراب شعبة في إسنادها ومتنها، ورواها سفيان من دون اضطراب في الإسناد ولا المتن.
قال (ابن القطان): اختلف شعبة وسفيان فقال شعبة: خفض، وقال الثوري: رفع، وقال شعبة: حجر أبو عنبس، وقال الثوري: ابن عنبس، وصوبه البخاري وأبو زرعة.
قلت: قد ضعف المؤيد بالله وغيره هذا الحديث؛ لأن رواية وائل غير مقبولة عندهم لأنه كان يكتب بأسرار علي عليه السلام إلى معاوية.
قال (المؤيد بالله): وفي دون ذلك تسقط العدالة.
وفي الجامع الكافي عن القاسم عليه السلام أنه قال: ليس يعجبنا قول آمين يعني في الصلاة وليست من معروف كلام العرب، والحديث الذي جاء فيها إنما هو عن وائل بن حجر وهو الذي فعل ما فعل.
وأجيب بأنه لو سلم أن قد وقع من وائل ما يوجب فسقه، فالمعتبر في قبول الرواية الحفظ والتحرز عن الكذب وأنتم تقبلون فساق التأويل وكفارهم كما عرف ذلك من نقل مذاهب مشاهير الأئمة في كتب أصول الفقه والحديث مع تحريمهم للكذب، على أنا لو سلمنا لكم القدح في وائل وعدم قبول روايته فقد ثبت عن غيره بطرق كثيرة، ففي أمالي أحمد بن عيسى: حدثنا عباد بن يعقوب، عن إبراهيم بن العلاء، عن أبيه، عن عدي بن ثابت، عن أبي عبد الله الجزلي قال: صليت خلف علي عليه السلام الفجر فقرأ: {بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ}، فلما أن قال: {غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ وَلاَ الضَّالِّين َ}[الفاتحة: 7 ]قال: آمين كفى بربي هادياً ونصيرا، {بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ، اقْتَرَبَ لِلنَّاسِ حِسَابُهُمْ }[الأنبياء:1].
عباد بن يعقوب أحد مشائخ الشيعة وثقاتهم.
وإبراهيم هو: إبراهيم بن عبد الله أو ابن عبيد الله بن العلاء بن زير الربعي ، أحد رواة فضائل الآل، روى له المرادي وأبو طالب والمرشد بالله وفي المحيط.
وأما أبوه عبد الله فوثقه دحيم وابن معين وابن أبي حاتم، ومعاوية بن صالح وهشام بن عمار ويعقوب بن أبي شيبة، قال ولده إبراهيم: توفي سنة أربع أو خمس وستين ومائة.
احتج به البخاري والأربعة، وروى له المرادي، وأبو طالب والمرشد بالله.
وأما عدي بن ثابت فقال في الجداول: عدي بن ثابت الأنصاري الكوفي، عن أبيه وجده لأمه عبد الله بن يزيد الحطمي والبراء وسليمان بن صرد وابن جبير، وعنه الأعمش وابن حي وابن جدعان، وثقه أحمد والعجلي والنسائي والدارقطني، توفي سنة ست عشرة ومائة، عداده في ثقات محدثي الشيعة، واحتج به الجماعة، وروى له أئمتنا الأربعة.
وأما أبو عبد الله الجذلي فوثقه أحمد وابن معين وصحح الترمذي حديثه، وعداده في ثقات محدثي الشيعة، قال الذهبي: شيعي بغيض.
وأخرج ابن ماجة عن علي عليه السلام سمعت رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم إذا قال: (({وَلاَ الضَّالِّينَ} قال: آمين)).
وأخرج الطبراني في الأوسط عن معاذ بن جبل أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال: ((إن اليهود قوم حسد ولم يحسدوا المسلمين على أفضل من ثلاث ، رد السلام، وإقامة الصفوف، وقولهم خلف إمامهم في المكتوبة آمين)).
وأخرج ابن عدي في الكامل عن: أبي هريرة مرفوعاً: ((إن اليهود قوم حسد حسدوكم على ثلاثة ، إفشاء السلام، وإقامة الصف، وآمين)).
وأخرج مسلم وأبو داود وابن ماجة، والنسائي وابن أبي شيبة عن أبي موسى الأشعري، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم : ((إذا قرأ ـ يعني الإمام ـ {غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ وَلاَ الضَّالِّينَ }[الفاتحة: 7 ]فقولوا: آمين يجيبكم الله )).
وأخرج مالك والشافعي وابن أبي شيبة وأحمد والبخاري ومسلم وأبو داود والترمذي والنسائي وابن ماجة والبيهقي عن أبي هريرة أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قال: ((إذا أمن الإمام فأمنوا فإنه من وافق تأمينه تأمين الملائكة غفر له ما تقدم من ذنبه )).
وأخرج أبو يعلى في مسنده وابن مردويه بسند جيد عن أبي هريرة، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم : ((إذا قال الإمام {غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ وَلاَ الضَّالِّينََّ }[الفاتحة: 7 ] قال الذين خلفه آمين التقت من أهل السماء وأهل الأرض، ومن لم يقل آمين كمثل رجل غزا مع قوم فاقترعوا سهامهم ولم يخرج سهمه، فقال: ما لسهمي لم يخرج، قال: إنك لم تقل آمين)).
والأحاديث في الباب كثيرة منها عن بلال عند أبي داود وعن أبي موسى عند أبي عوانة وعن سلمان عند الطبراني في الكبير، قال في النيل: وفيه سعيد بن بشير.
قلت: لعل الرجل ضعف لمخالفته لأصول الخصوم.
قال في (الجداول): سعيد بن بشير الأزدي أبو عبد الرحمن البصري نزيل دمشق عن قتادة وابن الزبير والزهري، وثقه دحيم، وابن عيينة وشعبة.
وقال (المنصور بالله): كان عدلياً، وقال أبو حاتم: محله الصدق، وأثنى عليه غيرهم، وضعفه آخرون، احتج به الأربعة، توفي سنة ثمان وستين ومائة، روى له المرشد بالله والنيروسي، وفي الباب أيضاً عن أم الحصين عند الطبراني في الكبير وفيه إسماعيل بن مسلم المكي ، قال في النيل: وهو ضعيف.
قلت: ذكره في الجداول وقال: روى في فضائل الوصي عليه السلام ولعله ضعف لذلك، احتج به الترمذي وابن ماجة، وروى له المرادي وأبو طالب.
قال في (النيل): وذكرالحافظ محمد بن إبراهيم الوزير أن في الباب أيضاً عن أم سلمة وسمرة، وفي النيل أيضاً أنه رواه ابن أبي حاتم عن علي عليه السلام موقوفاً عليه من فعله، وقال -يعني ابن أبي حاتم- هذا عندي خطأ.
وقال في (المنار): أحاديث التأمين صحيحة صريحة في كتب الحديث بل وفي كتب أهل البيت".
قال السيد الإمام (محمد بن إبراهيم الوزير) رحمه الله: روى عن علي عليه السلام مرفوعاً في باب الجهر ببسم الله الرحمن الرحيم من كتاب الأمالي وموقوفاً في مجموع زيد بن علي عليه السلام ذكره في القنوت في الوتر قبل الركوع، ولذلك قال الإمام المهدي محمد بن المطهر عليه السلام في كتابه الرياض الندية: أن رواة التأمين جم غفير، قال وهو مذهب زيد بن علي وأحمد بن عيسى.
قلت: أما نسبة ما في العلوم إلى الرفع فوهم وقد ذكرناه موقوفاً كما مر، إذا عرفت هذا فاعلم أن القائلين بشرعية التأمين عقيب الفاتحة في الصلاة قد أجابوا عن حديث النهي عن الكلام في الصلاة بأنه مخصوص بأحاديث التأمين.
قال (الشوكاني): فإن كانت أحاديثه الواردة عن جمع من الصحابة لا يقوى بعضها على تخصيص حديث واحد من الصحابة مع أنها مندرجة تحت العمومات القاضية بمشروعية مطلق الدعاء في الصلاة لأن التأمين دعاء فليس في الصلاة تشهد وقد أثبته العترة، فما هو جوابهم في إثباته فهو الجواب في إثبات ذلك، على أن المراد بكلام الناس في الحديث هو تكليمهم لأنه اسم مصدر كلم لا تكلم، ويدل على ذلك السبب المذكور في الحديث، وقال المقبلي: حديث السلمي ليس مما نحن فيه في شيء والدعاء في الصلاة لو ادعى مدع تواتره معنى بما شاء المصلي بلا تقييد بنقل خاص لما ساغ للمنصف أن يرده، والتأمين من الدعاء وهو خاتمته كما ورد آمين خاتمة رب العالمين، وقد خصته الأدلة الخاصة زيادة على مطلق الدعاء، وأما دعوى إجماع العترة على أنه بدعة فقال الإمام عزالدين: فيه نظر لما مر من نقل خلاف بعض كبارهم.
وفي (الجامع الكافي) عن أحمد بن عيسى أن المصلي مخير إن شاء قال آمين وإن شاء تركه، وهذا يدفع القول بأنه موافق في كونه بدعة وإنما خالف في الفساد.
وقال في (المنار): أما دعوى إجماع أهل البيت" هنا فكسائر دعاوى الإجماع يبحث أحدهم أصولهم وفروعهم فلا يجد خلافاً فيظن الإجماع أحسن أحواله.
قلت: ومما يضعف صحة الإجماع أن الخلاف مروي في الكتب المشهورة كالعلوم والجامع الكافي فإن فيهما رواية التخيير عن أحمد بن عيسى وهو في الجامع عن محمد بن منصور، وقال الإمام عز الدين نص في الزهور على أن أحد قولي الناصر، وكلام المؤيد بالله في الزيادات أنه غير مفسد، ومثله ذكره أبو مضر في شرحه عن المؤيد بالله وذكره غيره، وأحمد بن عيسى ذهب إلى أنه سنة، فأين الإجماع هذا.
وأما ما ذكره المؤيد بالله من أن حديث وائل إن صح فهو منسوخ بحديث السلمي ففيه نظر إذ لو كان منسوخاً لما فعله أمير المؤمنين بعد وفاة الرسول صلى الله عليه وآله وسلم فهو كان أعلم الناس بالناسخ والمنسوخ، وكذلك فعله غيره من الصحابة ولم ينكر.
كذلك يجاب عما يدعى من نسخ سائر أحاديث التأمين، وأما ما قيل من أن الناسخ قوله صلى الله عليه وآله وسلم : ((إذا قال الإمام غير المغضوب عليهم ولا الضالين فأنصتوا )) رواه أبو هريرة وقد مرّ، فمدفوع بأن النسخ لا يثبت إلا بدليل وهذا لم ينص فيه على النسخ، بل هو مطلق يتناول الإنصات عن قول آمين وغيره، وما مركالقيد المخرج لآمين عن ذلك الإطلاق، ويجوز أن يراد به الأمر بالإنصات حتى يأتي الإمام بالتأمين فلا يشاركه المأموم فيه، بل لايؤمن إلا بعد تأمين الإمام كما قيل إن ما في بعض الروايات من قوله: ((فإذا أمّن فأمنوا)) يدل على ذلك أعني تأخير تأمين المأموم عن تأمين الإمام لترتيبه عليه بالفاء.
وأما قول الأمير الحسين أن هذه الأخبار متعارضة لأن في بعضها كان يرفع بها صوته، ووفي بعضها: ((إذا قال الإمام {ولا الضالين} فقولوا: آمين ))، وفي بعضها: ((إذا أمن الإمام فأمنوا))، وفي بعضها: ((من وافق قوله قول الملائكة غفر له)).
قال: فهذه أخبار متعارضة فلم يصح فيها القول بالتخيير، ولا اختص بعضها بضرب من الترجيح، فيجاب عنه بأنه لا تعارض فيها أصلاً بل هي أخبارمتواردة على معنى واحد وإن اختلف اللفظ، وفي بعضها زيادة بيان رفع الصوت وبيان المغفرة المترتبة علىالتأمين، ولا شك مثل هذا لا يكون من التعارض في شيء.
وأما قول المؤيد بالله في حديث وائل اضطراب لأن في بعض الروايات أنه رفع بها صوته، وفي بعضها أنه خفض بها صوته، فيجاب عنه بأنه مثل هذا الاضطراب لا يوجب رد الحديث وضعفه لجواز أنه وقع الأمران معاً في وقتين، ثم إنه قد مر ترجيح رواية رفع الصوت، وإن سلم فالأحاديث الأخر لا اضظراب فيها.
واعلم أن القائلين بشرعيته اختلفوا في مواضع:
أحدهما: في الوجوب وعدمه، فقال الحافظ: الأمر فيه للندب عند الجمهور.
وروي عن بعض أهل العلم وجوبه على المأموم عملاً بظاهر الأمر، وأوجبته الظاهرية على كل من يصلي.
وقال (الشوكاني): الظاهر من الحديث وجوبه على المأموم إن أمن الإمام، وأما الإمام والمنفرد فمندوب فقط.
الثاني: في الجهر به والإسرار، فقال النووي: يجهر به عند الأكثر ونسبه القرطبي إلى الشافعي ومالك في رواية عنه لحديث: ((كان يرفع بها صوته)) ولما في الروايات الأخيرة من ذكر سماع الرواة له وذلك لا يكون إلا مع الجهر.
ولما رواه أبو هريرة قال: كان رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم إذا تلا: {غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ وَلاَ الضَّالِّينَ }[الفاتحة: 7 ] قال: ((آمين)) حتى يسمع من يليه من الصف الأول، رواه أبو داود وابن ماجة، وقال: حتى يسمعها أهل الصف الأول فيرتج بها المسجد.
قال في (النيل): والحديث أخرجه أيضاً الدارقطني وقال إسناده حسن، والحاكم وقال: صحيح على شرطهما، والبيهقي وقال: حسن صحيح، وأشارإليه الترمذي، وترجم له البخاري باب جهر الإمام بالتأمين، وقال فيه: قال عطاء: آمين دعاء أمن ابن الزبير ومن وراءه حتى أن للمسجد للجة، بلامين وجيم مشددة أي صوت مرتفع.
قال (الترمذي): وبه يقول غير واحد من أهل العلم من أصحاب النبي صلى الله عليه وآله وسلم ، ومن بعدهم يرون أن يرفع الرجل صوته بالتأمين لا يخفيها، وبه يقول الشافعي وأحمد وإسحق.
وقال (البخاري): باب جهر المأموم بالتأمين، وأورد فيه حديث أبي هريرة:((إذا قال الإمام: {غير المغضوب عليهم ولا الضالين} فقولوا: آمين... )) الحديث.
قال (القسطلاني): ووجه المناسبة للترجمة أنه أمر بقول آمين، والقول إذا وقع الخطاب به مطلقاً حمل على الجهر، ومتى ما أريد به الإسرار، وحديث النفس قيد بذلك.
قلت: وفيه نظر فإن الظاهر من إطلاق القول تناول الجهر والإسرار، فالأولى الاحتجاج بما مر.
وقال (أبو حنيفة) و(الكوفيون) و(مالك) في رواية وبعض المدنيين: لا يجهر بها، وهو قول الطبري وابن حبيب من المالكية، ورواه في الجامع الكافي عن محمد بن منصور ولفظه: قال محمد: ثلاثة أشياء تخفى في الصلاة الاستعاذة، وربنا لك الحمد، وآمين لمن قالها، وقولها عندنا جائز وإن شاء فلا يقلها، واحتجوا بأنه دعاء، وقد قال الله تعالى: {ادْعُوا رَبَّكُمْ تَضَرُّعاً وَخُفْيَةً }[الأعراف:55].
وأجيب بأن إخفاء الدعاء إنما كان أفضل لخوف الرياء، وأما ما يتعلق بصلاة الجماعة فشهودها إشهار شعار ظاهر، وإظهار حق يندب العباد إلى إظهاره، وقد ندب الإمام إلى إظهار قراءة الفاتحة المشتملة على الدعاء والتأمين في آخرها، فإذا كان الدعاء مما يسن الجهر فيه فالتأمين على الدعاء تابع له وجار مجراه.
وفي تفسيرالقرطبي عن ابن بكير أنه مخير -يعني بين الجهر والإسرار- ولعله يحتج بإطلاق الأمر بقول آمين.
وفي البحر بعد أن حكى مذهب الفريقين في استحبابه أنه يكون تابع للقراءة في الجهر والإسرار؛ لأنه تابع لها إلا عند أبي حنيفة فيسره.
الأمر الثالث: مما اختلفوا فيه في تأمين المأموم هل يوقعه عند تأمين الإمام أم لا؟ فذهب الجمهور إلى أنه يقارن به تأمين الإمام، لحديث: ((إذا قال الإمام: غير المغضوب عليهم ...))الخبر.
وقيل بعده لظاهر قوله: ((إذا أمن الإمام فأمنوا ))، ولما مر من قوله: ((فأنصتوا)).
وأجيب: بأن فيما قاله الجمهور جمع بين رواية: ((إذا أمن فأمنوا)) وبين قوله: ((إذا قال: غير المغضوب عليهم ولا الضالين فقولوا آمين ))، فإنه يدل على أنه يقوله عند تلاوة الإمام للآية، ووجه الجمع أنه يحمل قوله: ((إذا أمن)) على أن المراد به إذا أراد التأمين ليقع تأمينهما معاً، وقد قيل في الجمع غير ما ذكر، فقيل المراد بقوله: ((ولا الضالين فقولوا آمين)) أي إذا لم يقل الإمام آمين، وقيل الأول وهو المقارنة لمن قرب من الإمام، والثاني لمن تباعد عنه لأن جهر الإمام بالتأمين أخفض من جهره بالقراءة.
وقال (الطبري): يؤخذ من الروايتين تخيير المأموم في قولها مع الإمام أو بعده، قال الخطابي: وهذه الوجوه كلها محتملة وليست بدون الوجه الذي ذكروه يعني الجمهور.
قلت: الظاهر مع الجمهورالتصريح بأن المأموم يقولها إذا قال الإمام: {غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ وَلاَ الضَّالِّينَ }[الفاتحة: 7]، وهو صريح، وما عداه محتمل.
الأمر الرابع: إذا لم يسمع المأموم قول الإمام: {وَلاَ الضَّالِّينَ }[الفاتحة: 7 ] فلا يقولها عند ابن نافع، وقيل: بل يتحرى قدر القراءة ويقول آمين، ذكر هذا الخلاف القرطبي.
الأمر الخامس: ظاهر الأحاديث أن المصلي إذا أخره فإنه لا يأتي به بعد السورة، وهو قول الشافعي، ولم أقف على خلافه.
تنبيه
في إطلاق بعض الروايات السابقة أنه يستحب التأمين بعد قراءة الفاتحة ولو في غير صلاة، وسيأتي زيادة في الدلالة على ذلك.
المسألة الثالثة: في فضائل هذه الكلمة وخواصها
عن أبي زهير النميري وكان صحابياً أنه كان إذا دعا الرجل بدعاء قال: اختمه بآمين فإن آمين مثل الطابع علىالصحيفة، وقال أخبركم عن ذلك: خرجنا مع رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ذات ليلة فأتينا على رجل قد ألح في المسألة فوقف النبي صلى الله عليه وآله وسلم ، فقال النبي صلى الله عليه وآله: ((أوجب إن ختم))، فقال رجل من القوم: بأي شيء يختم؟ قال: ((بآمين، فإنه إن ختم بآمين فقد أوجب)).
قال في (الدر المنثور): أخرجه أبو داود بسند حسن وصححه في شرح الجامع الصغير للعزيزي.
وأخرج أحمد وابن ماجة والبيهقي في سننه عن عائشة عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال: ((ما حسدتكم اليهود على شيء ما حسدتكم على التأمين))، وهو في الجامع الصغير بزيادة السلام فقال: ((ما حسدتكم على السلام والتأمين))، ونسبه إلىالبخاري في الأدب، وابن ماجة.
قال الشارح: بإسناد صحيح وعن ابن عباس، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم : ((ما حسدتكم اليهود على شيء ما حسدتكم على آمين ، فأكثروا من قول آمين))، أخرجه ابن ماجة.
قال في (الدر): بسند ضعيف، وقال العزيزي: هو حسن لغيره.
وأخرج ابن عدي في الكامل عن أبي هريرة، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم : ((إن اليهود قوم حسدٌ حسدوكم على ثلاثة أشياء السلام، وإقامة الصف،وآمين)).
وأخرج الحارث بن أبي أسامة في مسنده، والحكيم الترمذي في نوادر الأصول وابن مردويه عن أنس قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم :((أعطيت ثلاث خصال، أعطيت صلاة في الصفوف، وأعطيت السلام وهو تحية أهل الجنة، وأعطيت آمين ولم يعطها أحد ممن كان قبلكم، إلا أن يكون الله أعطاها هارون فإن موسى كان يدعو وهارون يؤمن)).
ولفظ الحكيم: ((إن الله أعطى أمتي ثلاثاً لم يُعطها أحدٌ قبلهم، السلام وهو تحية أهل الجنة، وصفوف الملائكة، وآمين، إلا ما كان من موسى وهارون، وكان عليه السلام يختم به دعاء يقنت به في الوتر، وهو قوله اللهم إليك رفعت الأبصار إلى آخره، وختمه بقوله إله الخلق آمين رب العالمين))، رواه زيد بن علي في مجموعه ونحوه في الجامع الكافي.
وأخرج الطبراني في ا لدعاء وابن عدي وابن مردويه عن أبي هريرة، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم : ((آمين خاتم رب العالمين على لسان عباده المؤمنين )).
قال (السيوطي) و(العزيزي): وهو ضعيف، ومعنى كونه خاتم رب العالمين أنه يمنع الدعاء من الخيبة والرد؛ لأن العاهات والبلايا تندفع به كما يمنع الطابع على الكتاب من فساده، وإظهار ما فيه على الغير، وقيده بلسان المؤمنين؛ لأن الكافر إذا قال: آمين عقيب دعائه لم تكن مانعة من خيبة دعائه.
وقال (القرطبي) في تفسيره وفي الخبر: ((لقنني جبريل آمين عند فراغي من قراءة فاتحة الكتاب ، وقال: إنه كالخاتم علىالكتاب))، وفي حديث آخر: ((آمين درجة في الجنة)).
وأخرج الديلمي عن أنس، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم : ((من قرأ بسم الله الرحمن الرحيم ثم قرأ فاتحة الكتاب ، ثم قال: آمين لم يبق في السماء ملك مقرب إلا استغفر له)).
وإلى هنا انتهى الجزء الأول من كتاب مفتاح السعادة،
جعله الله سبباً موصلاً إلى نيل الحسنى وزيادة، وقد بسطنا المقال ووسعنا المجال في مسائل الفاتحة وما تقدمها من المقدمة والاستعاذة، لأنا قد جعلنا ذلك كالمقدمة لما سيأتي من مسائل الكتاب، والحمد لله المنعم الوهاب.
[قال المؤلف أبقاه الله]: وكان الابتداء والتمام بهجرة ضحيان حرسها الله بأهل التقوى والإيمان، وكان تمام تأليفه ضحى يوم السبت سلخ صفر الظفر أحد شهور سنة خمس وستين وثلاثمائة وألف من الهجرة النبوية، على صاحبها أفضل الصلاة والتحية، وعلى آله سادات البرية.
[قال الكاتب]: بقلك أفقر العباد إلى الله حسن محمد العجري غفر الله له ولوالديه، بعناية أخي العلامة جمال الإسلام علي بن محمد العجري أبقاه الله.
[قال أحفاد المؤلف]: الحمد لله وحده وصلى الله وسلم على سيدنا محمد وآله تم لنا بعون الله قصاصة ومقابلة الجزء الأول من مفتاح السعادة على الأصل التي بقلم الوالد العلامة شرف الإسلام الحسن بن محمد بن يحيى بن أحمد العجري المؤيدي رحمه الله رحمة الأبرار حسب الطاقة والإمكان والكمال لله وحده، وقد بذلنا وسعنا فلله الحمد والمنة، ولله القائل:
وإن تجد عيباً فسد الخللا .... فجلَّ من لا عيب فيه وعلا
عبد الرحمن يحيى العجري --- محمد يحيى العجري
عبد الله أحمد يحيى العجري --- عبد الكريم أحمد يحيى العجري
[قال المحقق] جزا الله الجميع خيراً، وكتب لهم الأجر الجزيل والثواب العظيم، إنه على كل شيء قدير، وصلى الله وسلم على سيدنا محمد الأمين وعلى آله الطاهرين.
تفسير سورة البقرة
الآيات 1-5
سورة البقرة
مدنية وهي مائتان وست وثمانون آية
بسم الله الرحمن الرحيم
{الم، ذَلِكَ الْكِتَابُ لاَ رَيْبَ فِيهِ هُدًى لِلْمُتَّقِينَ، الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ وَيُقِيمُونَ الصَّلاَةَ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنفِقُونَ، وَالَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِمَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ وَمَا أُنْزِلَ مِنْ قَبْلِكَ وَبِالآخِرَةِ هُمْ يُوقِنُونَ، أُوْلَئِكَ عَلَى هُدًى مِنْ رَبِّهِمْ وَأُوْلَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ}.
اعلم: أنه يتعلق بهذه الجملة مسائل:
المسألة الأولى [ما يتعلق بأوائل السور]
قال أئمتنا" والجمهور: ليس في القرآن ما لا معنى له، وخالفت الحشوية قالوا: بدليل هذه الحروف التي في أوائل السور.
والجواب: أنه لو كان فيه ما لا معنى له لكان هذراً.
قال الإمام المهدي عليه السلام : والأقرب أن الحشوية لا يقطِعون بِعُرُوِّ هذه الفواتح عن معنى مقصود بها من المعاني التي ذكرها المفسرون؛ إذ لا دليل لهم على ذلك، ولا شبهة في عقل، ولا سمع، ولا لغة، وإنما أرادوا أنه يجوز أن تكون أُنزلت لا لمعنى مقصود، بل لتتلى فقط مع عدم إنكارهم لاحتمالها المعاني المذكورة، ومن ثم لم يذكر العلماء لهم شبهة تفيد القطع عندهم بعُرُوِّها عن معنى مقصود، واختلف القائلون بأن لها معنى مقصوداً في تعيينه فقال أبو بكر والشعبي، وروي عن ابن عباس، ورواه في تفسير الشرفي عن القاسم والهادي": أن هذا علم مستور، وسر محجوب استأثر الله بعلمه.
قال أبو حيان: وعلى هذا حَوَّمَ جماعة من القائلين بعلم الحرف، ويستدل لهم بأنه قد قام الدليل على إثبات سر الله تعالى نحو ما روي في الخبر عنه صلى الله عليه وآله وسلم : ((للعلماء سر، وللخلفاء سر، وللأنبياء سر، وللملائكة سر، ولله من بعد ذلك كله سر، فلو اطلع الجهال على سر العلماء لأبادوهم، ولو اطلع العلماء على سر الخلفاء لنابذوهم، ولو اطلع الخلفاء على سر الأنبياء لخالفوهم، ولو اطلع الأنبياء على سر الملائكة لاتهموهم، ولو اطلع الملائكة على سر الله تعالى لطاحوا حائرين، وبادوا بائرين)) ويشهد لهذا الخبر في إثبات سر الله تعالى وغيره ما روي عن على عليه السلام أنه سئل عن القدر، فقال: (سر الله فلا تتكلفوه).
وما روي عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم أنه قال لعلي عليه السلام : ((لولا أن تقول فيك طوائف من أمتي ما قالت النصارى في المسيح لقلت فيك مقالاً لا تمر بملأ إلا أخذوا التراب من تحت قدميك يتبركون به)) أو كما قال.
وعن زين العابدين عليه السلام أنه قال:
إْني لا أكتم من علمي جواهره ... الأبيات
فإذا ثبت أن لله سراً ولم نجد دليلاً قاطعاً على تعيين معنى مفهوم لهذه الفواتح مع القطع بأن لها معنى في الجملة؛ وجب أن نقول: أن ذلك المعنى مما استأثر الله بعلمه، ويؤيد هذا قول علي عليه السلام : (إن لكل كتاب صفوة، وصفوة هذا الكتاب حروف التهجي).
وسئل محمد بن الحنفية عن كهيعص، فقال للسائل: لو أخبرت بتفسيرها لمشيت على الماء لا يواري قدميك. أجاب الأكثر بأن المقصد بالكلام كله إما التكرار له للحفظ كالدرس، أو تفهم معناه، أو إفهام الغير لذلك، فلو تكلم الله بذلك ولم يقصد إفهام الغير لكان عبثاً وسفهاً، وإنه لا يجوز على الحكيم؛ إذ الوجهان الأولان غير جائزين في حقه تعالى، وإفهام الغير لا يكون إلا بما له معنى معقول، وإلا انتقض الغرض بالخطاب، وسار كخطاب العربي بالزنجية، وأيضاً القرآن نزل للتحدي، وما لا يكون معلوماً لا يجوز التحدي به، ولأن الله تعالى قد أمر بتدبر القرآن فقال: {لِيَدَّبَّرُوا آيَاتِهِ...}[ص:29] {أَفَلاَ يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ}[محمد:24] والتدبر لما لا يفهم ولا يعلم معناه غير داخل في المقدور، ولأن الله تعالى قد وصف كتابه بكونه مفصلاً، وبياناً وتبياناً، وهدى، وموعظة، وفرقاناً ونحو ذلك ، ولو كان الأمر كما ذكروه لبطلت هذه الأوصاف.
وقال صلى الله عليه وآله وسلم : ((إني تارك فيكم ما إن تمسكتم به لن تضلوا من بعدي أبداً كتاب الله وعترتي أهل بيتي...)) الخبر ونحوه، وكيف يمكن التمسك به وهو غير معلوم؟.
وقال علي عليه السلام : (ما أنزل الله في القرآن آية إلا أحب أن يعلم العباد منها ما يُعْنَى بها).
وقال عليه السلام : (نزل القرآن على أربعة أرباع: ربع حلال، وربع حرام، وربع مواعظ وأمثال، وربع قصص وأخبار) رواه زيد بن علي في المجموع.
وهذا لا يكون ولا يصح إلا إذا كانت معانيه مفهومة، وأما ما ذكرتموه من إثبات سر الله تعالى فمسلم، لكن فيما لم يرد به خطاب، ولا يجب تبليغه، فأما القرآن فخارج عن ذلك؛ لأن الله خاطبنا به، وأوجب على النبي صلى الله عليه وآله وسلم تبليغه، ويمكن أن يقال: ما المانع من القول بأنه يكفينا في صحة الخطاب بها أن نعلم أن لها معنى على الجملة وإن لم نعلم تفصيله لعدم التكليف علينا فيها لا علماً ولا عملاً، كما لا نعلم معنى الروح ولا وجه الحكمة في كثير من الأشياء التي وجبت علينا، نحو اختلاف أعداد الركعات، ورمي الجمار، واختلاف أعداد المواشي في وجوب الزكاة، وقد ذكر نحو هذا القاسم بن إبراهيم عليه السلام في كتاب الرد على ابن المقفع بعد أن ذكر أن لها معانٍ معلومة عند أولي العلم، ثم قال: مع أن لهذه الوجوه في التفاسير ما لو سقط عنا علمها في التنزيل لكان علينا أن نعلم أن لها مخارج عند الحكيم، ووجوهاً صحاحاً في علم التعليم، ولو كان جهلنا بها يزيل صحتها أو يبطل عن الحكيم حكمتها لما ثبت للحكماء حكمة، ولا في علم العلماء معلمة.
قلت: ويدل على ذلك قول علي عليه السلام في وصف الكتاب: (مفسراً جمله، ومبيناً غوامضه بين مأخوذ ميثاق علمه وموسع على العباد في جهله). رواه في نهج البلاغة.
وقال عليه السلام : (ثم أنزل عليه الكتاب نوراً لا تطفأ مصابيحه، وسراجاً لا يخبو توقده، وبحراً لا يدرك قعره) وفي هذا ونحوه رد على الإمام المهدي عليه السلام حيث قال: إنه لا يجوز أن يكون لبعض الجمل معنيان يمكن معرفة أحدهما دون الآخر، معللاً ذلك بأن دلالة الألفاظ على معانيها وضعية، فلا معنى للفظ إلا ويمكن معرفته بمعرفة المواضعة؛ لأنه صريح في أن المقصود فهم المعاني التي يحتاج إليها المخاطب ودلالة الألفاظ على معانيها، وإن كانت وضعية فإنه لا يجب معرفة جميعها، وما الدليل على ذلك؟. والله أعلم.
وقد قال القاسم بن إبراهيم عليه السلام : إن معاني ظاهر القرآن لا تدرك إلا بمعونة الله تعالى.
قال%: فكيف بما فيه من الأسرار والخفايا، وما خبأ فيه لأولياء الله من الخبايا، كيف بما في حواميمه من غرائب حكمه، وما في طواسينه من عجائب مكنونه، وما في: ق، وطه، ويس من علم جَمٍّ للمتعلمين، وفي كهيعص، والم، والر آيات من أسرار العلوم الخافيات، وما في المرسلات، والنازعات من حزم أنباء جامعات، لا يحيط بعلمها المكنون، إلا كل مخصوص به مأمون، فَسِرُّ ما نزل الله سبحانه من الكتاب، فخفى على كل مستهزئ لعاب، وأسراره برحمة الله لأوليائه فعلانية، وأموره لهم فظاهرة بادية.
قلت: ويستدل على هذا بما روي عن علي عليه السلام أنه قال: (لو شئت لأوقرت سبعين بعيراً من تفسير فاتحة الكتاب)، وقال أبو حيان: هو من المتشابه، وحكاه عن جماعة وهو راجع إلى القول الأول؛ لأن هؤلاء فسروا المتشابه بما استأثر الله بعلمه.
وأجيب بأن قوله تعالى: {فَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ فَيَتَّبِعُونَ مَا تَشَابَهَ مِنْهُ}[آل عمران: 7] يدل على أن له ظاهراً يدل على خلاف ما أريد به، يتبعه الذين في قلوبهم زيغ، اللهم إلا أن يقولوا: إن هذه الفواتح سلم لأهل الزيغ إلى الطعن في القرآن كما فعل ابن المقفع، لكن لو سلمنا أنها من المتشابه فلا نسلم أنه مما استأثر الله بعلمه، بل يعلمه الراسخون في العلم؛ إذ الواو ظاهرةٌٍ في العطف، والوقف لا يمنعه بدليل صحة الوقف على أوساط الآي إجماعاً، ولا يلزم منه أن يقول تعالى:{آمَنَّا بِهِ}[آل عمران: ] لقرينة العقل، وعدم لزوم اشتراك المتعاطفين في جميع الأحكام كما في: {وَيَعْقُوبَ نَافِلَةً}[الأنبياء:72].
وتمام الكلام على الآية يأتي في محله إن شاء الله تعالى، وقيل: هي حروف يتألف منها اسم الله الأعظم، إلا أنا لا نعرف تأليفه منها، وهذا مروي عن علي عليه السلام وابن عباس، وقال ابن مسعود: هي اسم الله الأعظم، وقال سعيد بن جبير: هي أسماء الله تعالى مقطعة، لو أحسن الناس تأليفها تعلموا اسم الله الأعظم، وقال أبو العالية: ليس منها حرف إلا وهو مفتاح اسم من أسماء الله تعالى، وقيل: بعضها يدل على أسماء الذات، وبعضها يدل على أسماء الصفات.
قال ابن عباس في {الم}: أنا الله أعلم، وفي {المص}: أنا الله أفضل، وعنه في الم: الألف إشارة إلى أنه تعالى أحد أول آخر أزلي أبدي، واللام: إشارة إلى أنه لطيف، والميم: إلى أنه ملك مجيد منان، وقال في {كهيعص}: أنه ثناء من الله تعالى على نفسه، والكاف يدل على كونه كافياً، والهاء على كونه هادياً، والعين على العالم، والصاد على الصادق.
وعنه أنه حمل الكاف على الكبير والكريم، والياء على أنه يجير، والعين على العزيز والعدل، ويمكن الاستدلال لهذه الأقوال بأنه قد ورد بعضها عن علي عليه السلام ، وورد عنه أنها صفوة هذا الكتاب، وهذا يمكن الاستدلال به لكل قول منها.
وروي عنه (كرم الله وجهه) أنه كان يقول:( يا كهيعص يا حم عسق)، وهذا يدل على أنها من أسماء الله تعالى، أومبادئ أسمائه، وقول الإمام المهدي عليه السلام : أنه يحتمل أن المراد يا منزل كهيعص خلاف الظاهر، ويؤيد ما قيل من أنها مبادئ أسمائه تعالى أن العرب تذكرحرفاً من كلمة تريد كلها.
قال الراجز:
لا تحسبي أنا نسينا الإيجاف .... قلت لها قفي فقالت قاف
أراد قالت: وقفت، وقال آخر:
ولا أريد الشر إلا إن تا .... بالخير خيرات وإن شرفا
يريد إن شراً فشر وإلا إن تشا.
قال ابن عطية: والشواهد في هذا كثيرة فليس كونه في القرآن مما تنكره العرب في لغتها.
قلت: ويرد على هذه الأدلة أنها لا تفيد القطع، ويجاب بأنه لا دليل على اشتراط القطع في المسألة، ولو كانت قطعية لما اختلفت الأمة هذا الاختلاف الذي بلغ إلى نحو سبعين قولاً.
وقال الإمام الناصر لدين الله أبو الفتح الديلمي عليه السلام ، والمبرد، واختاره جماعة من المحققين: إنها أنزلت إعلاماً من الله تعالى للعرب حين تحداهم بالقرآن أنه مؤتلف من الحروف التي منها يركبون كلامهم وهم عارفون لها قادرون عليها، فإذا عجزوا عن معارضته دل ذلك على أنه من كلام الله تعالى لا من كلام البشر، فتكون الحجة لهم لازمة.
قال الزمخشري: وهذا القول من القوة والخلاقة بالقبول بمنزل، وقال قطرب، وابن روق: إنهم لما أعرضوا عن سماع القرآن أراد الله تعالى لما أحب من صلاحهم ونفعهم أن يورد عليهم ما لا يعرفونه، فأنزل عليهم هذه الأحرف؛ ليكون ذلك سبباً لاستماعهم، وكانوا إذا سمعوها قالوا كالمتعجبين: اسمعوا إلى ما يجيء به محمد، فإذا أصغوا هجم عليهم القرآن، فكان ذلك سبباً لاستماعهم، وطريقاً إلى انتفاعهم، وقيل: إن الله أقسم بها لسر فيها من حيث أنها أصول اللغة، ومبادئ كتبه المنزلة، ومباني أسمائه الكريمة، وهذا قول الأخفش، وروي عن ابن عباس، وحكاه شارح الأساس عن الإمام الحسين بن القاسم العياني عليه السلام ، قال: وحكاه الطوسي في البلغة عن علي عليه السلام واختاره الإمام القاسم بن محمد عليه السلام ، واحتج على ذلك بصحة العطف على كثير منها بِمُقْسَمٍ به نحو: {ق وَالْقُرْآنِ الْمَجِيدِ}[ق:1 ] فهذا قسم بالقرآن بلا شك، فيكون المعطوف عليه وهو قوله: ق قسماً مثله لوجوب مشاركة المعطوف للمعطوف عليه في الحكم، وجواباتها إما مذكورة نحو قوله تعالى: {ن وَالْقَلَمِ وَمَا يَسْطُرُونَ، مَا أَنْتَ بِنِعْمَةِ رَبِّكَ بِمَجْنُونٍ}[القلم: 1،2 ] أو مقدرة لدلالة سياق الكلام عليها نحو قوله تعالى: {الم، ذَلِكَ الْكِتَابُ لاَ رَيْبَ فِيهِ هُدًى لِلْمُتَّقِينَ}[البقرة:1-2] تقديره: أقسم بـ(الم) أن القرآن لحق لا ريب فيه.
قلت: وذكر الزمخشري في توجيه هذا القول: أنها مجرورة بإضمار الباء القسمية لا بحذفها، وقد جاء عنهم: اللهِ لأفعلن مجروراً، ونظيره قولهم: لاه أبوك غير أنها فتحت في موضع الجر لكونها غير مصروفة، وقيل: هي للدلالة على انقطاع الكلام واستئناف آخر، والعرب إذا استأنفت كلاماً أتوا بكلام غير الذي يريدون استئنافه تنبيهاً للمخاطب على قطع الكلام الأول، واستئناف غيره، وقيل: إن كل حرف منها في مدة أقوام، وآجال آخرين كما في حديث حيي بن أخطب إلى غير ذلك من الأقوال التي لم يظهر عليها دليل، وللصوفية كلمات في بيان معانيها لا يدل عليها دليل منقول، ولا يدركها ذووا العقول، وقد رد الرازي كثيراً من الأقوال الواردة بأن العرب لم تستعمل هذه الألفاظ لتلك المعاني، والقرآن نزل بلغتهم، وبأنه لا يمكن حملها على جميعها، ولم يقل به أحد، وتخصيص بعضها دون بعض بلا دليل تحكم، والذي عليه المحققون، وأطبق عليه الأكثر، قال الإمام المهدي عليه السلام : وهو الأقرب أنها أسماء للسور، وإليه ذهب الخليل، وسيبويه قالوا: سميت بها إيذاناً بأنها كلمات عربية معروفة التركيب من مسميات هذه الألفاظ؛ كما قال تعالى: {قُرْآنًا عَرَبِيًّا}[يوسف:2] فيكون فيه إيماء إلى الإعجاز والتحدي على سبيل الإيقاظ، فلولا أنه وحي من الله عز وجل لما عجزوا عن معارضته، ويقرب منه ما قاله الكلبي، والسدي، وقتادة من أنها اسماً للقرآن.
قال القفال: وقد سمت العرب بهذه الحروف أشياء فسموا بلام: والد حارثة بن لام الطائي، وقولهم للنحاس: صلى الله عليه وآله وسلم وللنقد: عليه السلام وللسحاب: (غ) وقالوا: جبل قاف، وسموا الحوت نوناً.
فإن قيل: المقصود من الاسم العلم إزالة الاشتباه، وهو هاهنا حاصل لاتفاق كثير من السور في: (الم، وحم).
قلنا: كسائر أسماء الأعلام التي لم يقصد بها إلا التعيين، ويزول الاشتباه بالقرائن.
فإن قيل: لو كانت أسماءً للسور لتواترت لغرابتها بخروجها عن قوانين أسماء العرب، وكل غريب فهو مما تتوفر الدواعي إلى نقله.
قلنا: ليست التسمية بها من الأمور العظام حتى تتوفر الدواعي إلى نقلها.
فإن قيل: التسمية بثلاثة أسماء فصاعداً مستنكرة عند العرب.
قلنا: إنما تستنكر إذا ركبت وجعلت اسماً واحداً كما في حضرموت، فأما إذا كانت منثورة فلا استنكار فيها.
فإن قيل: الاسم بعض السورة فيلزم اتحاد الاسم والمسمى.
قلنا: المسمى هو المجموع، غاية الأمر دخول الاسم في المسمى ولا محذور فيه.
فإن قيل: إن هذه السور اشتهرت بسائر أسمائها كسورة البقرة ولم تشتهر بهذه.
قلنا: لا يبعد أن يكون اللقب أكثر شهرة من الاسم الأصلي فكذا هاهنا.والله أعلم.
المسألة الثانية [في الريب]
طعن بعض الملحدة فقال: إن الله تعالى قد نفى الريب عن القرآن، فإن أراد عنده تعالى فلا فائدة فيه، وإن أراد عند غيره فكم من مرتاب، وقد حكى تعالى ذلك عنهم في القرآن كما قال سبحانه: {وَإِنْ كُنتُمْ فِي رَيْبٍ مِمَّا نَزَّلْنَا عَلَى عَبْدِنَا}[البقرة:23] ونحوها.
والجواب: أنه ما نفى أن أحداً لا يرتاب فيه، وإنما المنفي كونه متعلقاً للريب ومظنة له؛ لأنه من وضوح الدلالة وسطوع البرهان بحيث لا ينبغي لمرتاب أن يقع فيه تنزيلاً لوجود الشيء منزلة عدمه عند وجود ما يزيله.
قال الإمام القاسم بن محمد عليه السلام : وفي الآية دليل على كفر من راب في كتاب الله؛ لأنه أكذب الله في خبره.
المسألة الثالثة [الهدى]
الهدى هنا عبارة عن الدلالة التي من شأنها أن توصل إلى البغية، ولا شك في أن القرآن كذلك فإن من اتبعه وتدبره أوصله إلى معرفة ما به السعادة الدائمة، والنجاة من الشقاوة اللازمة؛ لاشتماله على جميع ما يلزم المكلف معرفته من إثبات الصانع، وبيان الشرائع، والترغيب والترهيب، والوعد والوعيد، والزجر والتهديد، وهذا واضح لا يحتاج إلى إطناب.
فإن قيل: كيف يكون القرآن هدىً في معرفة الله تعالى وصفاته ونحو ذلك مما تتوقف صحة القرآن على معرفته؟
قلنا: لأنه مشتمل على الآيات المثيرة لما هو مدفون في العقل من الطرق الموصلة إلى العلم اليقين بالمطلوب، والاستدلال بالآيات المثيرة لدفائن العقول على إثبات الصانع هو قول أئمتنا"، والجمهور من غيرهم، قالوا: ولم نستدل به لكونه سمعاً، بل لأنه دليل منبه للعقلاء على أقوى طرق الفكر التي يريد العقل أن يسلكها في الاحتجاج، فإن للفكر طرقاً شتى يمكن سلوكها، ولكن ما نبه الله عليه وأشار إلى سلوكه هو أقواها قطعاً، فيكون ذلك حينئذٍ سلوكاً في الطريق الموصل إلى العلم واليقين بالمطلوب، ويؤيد ذلك قول علي عليه السلام : (فبعث فيهم رسله، وواتر عليهم أنبيائه ليستهدوهم ميثاق فطرته، ويذكروهم منسي نعمته، ويحتج عليهم بالتبليغ، ويثيروا لهم دفائن العقول، ويروهم آيات المقدرة من سقف فوقهم مرفوع، ومهاد تحتهم موضوع، ومعايش تحييهم، وآجال تفنيهم، وأوصاب تهرمهم، وأحداث تتابع عليهم) وقوله عليه السلام : (فانظر أيها السائل بعقلك فما دلك القرآن عليه من صفته فأتم به واستغن بنور هدايته، وما كلفك الشيطان علمه مما ليس عليك في الكتاب فرضه، ولا في سنة النبي صلى الله عليه وآله وسلم وأئمة الهدى أثره، فكل علمه إلى الله سبحانه؛ فإن ذلك منتهى حق الله تعالى عليك، واعلم: أن الراسخين في العلم هم الذين أغناهم عن اقتحام السدد المضروبة دون الغيوب، الإقرار بما جهلوا تفسيره من الغيب المحجوب، فمدح الله اعترافهم بالعجز عن تناول ما لم يحيطوا به علماً، وسمى تركهم التعمق فيما لم يكلفهم البحث عن كنهه رسوخاً، فاقتصر على ذلك، ولا تقدر عظمة الله على قدر عقلك فتكون من الهالكين).
وقوله عليه السلام : (واعلموا أنه ليس على أحد بعد القرآن من فاقة، ولا لأحد قبل القرآن من غنى، فاستشفوه من أدوائكم، واستعينوا به على لأوائكم، فإن فيه شفاء من أكبر الداء. وهو الكفر والنفاق والغي والضلال).
وقال القاسم بن إبراهيم عليه السلام : فالويل كل الويل لمن لم يكتف في أموره وأمور غيره بتنزيل الله رب العالمين، كيف عظم ضلاله وغيه، وضلت أعماله وسعيه، فتحسبه محسناً وهو مسيء، ورشيداً في أمره وهو غوي.
وقال القاسم بن علي العياني عليه السلام : ولا بد من معارض لنا في علم القرآن يقول: إن القرآن لا يغني علمه عن النظر فإذا قال ذلك قائل.
قلنا: فالنظر دلك عليه نفسك أم دلك عليه خالقك في منزل كتابه؟ فإن قال: إن نفسه دلته على ذلك من قبل دلالة خالقه أحال ووجد الله تعالى يأمره بذلك أمراً في كتابه ويندبه إليه ندباً، ووجد في جميع ما أمر به دليلاً يغني عن كل دليل، ويهدي إلى كل سبيل.
وقال الإمام القاسم بن محمد عليه السلام : اعلم أنه لا دليل على الله سبحانه أبين من كتابه، وذلك أن كونه معجزاً دليل على صحة خبره عن الله تعالى، وعن صفاته، ومن أنكر ذلك فقد رد قوله تعالى: {هَذَا بَلاَغٌ لِلنَّاسِ وَلِيُنذَرُوا بِهِ وَلِيَعْلَمُوا أَنَّمَا هُوَ إِلَهٌ وَاحِدٌ وَلِيَذَّكَّرَ أُوْلُوا الأَلْبَاب}[فصلت:2].
فإن قيل: كيف يكون هدى وفيه المجمل والمتشابه؟
قلنا: لم ينفكا عن البيان بدلالة العقل والسمع.
فإن قيل: قوله هدى مطلق، فكيف صح حمله على الهدى في كل شيء والمطلق لا عموم له؟
قيل: هو هنا أبلغ من العموم لدلالته على غاية الكمال في الهدى كما يأتي قريباً، ولا يبلغ الغاية إلا إذا كان هدى في كل شيء، على أن بعض العلماء قال: إن المطلق كالعموم حتى يقوم دليل التعيين.
المسألة الرابعة [العلمة في تنكير الهدى]
اعلم: أن الله تعالى لما نفى عن القرآن أن يتشبث به الريب، ووضع المصدر الذي هو هدى موضع الوصف الذي هو هاد، وأورده منكراً؛ دل ذلك على غاية كماله في الهدى، ونجاة من اتبعه من الردى، ولعمري إنه لكذلك وإنه الذي {لاَ يَأْتِيهِ الْبَاطِلُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَلاَ مِنْ خَلْفِهِ تَنزِيلٌ مِنْ حَكِيمٍ حَمِيدٍ}[فصلت:4] {هُدًى لِلنَّاسِ وَبَيِّنَاتٍ مِنَ الْهُدَى وَالْفُرْقَانِ}[البقرة:185] {إِنَّ هَذَا الْقُرْآنَ يَهْدِي لِلَّتِي هِيَ أَقْوَمُ}[الإسراء:9] { وَهَذَا ذِكْرٌ مُبَارَكٌ أَنزَلْنَاهُ}[الأنبياء:50] {وَنُنَزِّلُ مِنَ الْقُرْآنِ مَا هُوَ شِفَاءٌ وَرَحْمَةٌ لِلْمُؤْمِنِينَ}[الإسراء:82] وأي رحمة فوق التخليص من الجهالات والضلالات، وقد مر في المقدمة شطر من فضائل القرآن، والحث على العمل به.
وعن أبي أمامة: حثنا رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم على تعليم القرآن وحدثنا من فضله وقال: ((تعلموا القرآن واتلوه فإن القرآن يأتي صاحبه يوم القيامة أحوج ما كان إليه فيأتيه في صورة حسنة فيقول: هل تعرفني؟ فيقول: من أنت؟ فيقول: أنا الذي كنت تكرمه وتحبه، وكان يسهر ليلك، ويدأب نهارك، ويشخصك وينصبك، فيقول: لعلك القرآن، فيقول: أنا القرآن، فيتقدم بين يدي ربه فيعطيه الملك بيمينه والخلد بشماله، ويوضع تاج السكينة على رأسه، ويكسى والداه حلتين لا تقوم لهما الدنيا أضعافاً مضاعفة، فيقولان: إن هذا لم تبلغه أعمالنا، فيقال لهما: بفضل ولدكما الذي قرأ القرآن )) رواه المرشد بالله.
وقال القاسم بن إبراهيم عليه السلام : وإذا أردت أن ترى عجائب الدنيا والأنبياء، وتعلم فضل عدل حكم الله في الأشياء، فاستمع من الكتاب ولا تسمع عليه، واكتف بحكم الله على العباد فيه فإنك إن تسمع عنه بأذن واعية، ثم تقبل عليه بنفس منك لحكمته راعية، تسمع صوتاً منه بالهدى صيتاً، وتعرف من جعله الله حياً ممن جعله ميتاً، فلعلك حينئذٍ عند معرفتك به تهرب من الميتين، وتلحق بالأحياء، فتجد طيب طعم الحياة، وتثق بالقرار في محل النجاة، فتنزل يومئذٍ منازل العابدين، وتأمن الموت حينئذٍ من الخالدين، ففي مثل ذلك فارغب، وله ما بقيت فانصب.
المسألة الخامسة [صفات المتقين]
المتقي في اللغة: اسم فاعل من قولهم: وقاه فاتقى، والوقاية: فرط الصيانة، وفي الشرع: اسم مدح كالمؤمن والعدل، وهو الذي يقي نفسه ما يستحق به العقوبة من فعل أو ترك، وقيل: الذي يجتنب المعاصي، والظاهر الأول؛ لأن الله نعتهم ووصفهم بقوله تعالى: {الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ...} الآيات[البقرة:3] ونحوها.
فإن قيل: يحتمل أن تكون مقتطعة من المتقين مرفوعة على الابتداء.
قلنا: خلاف الظاهر؛ ولأنه قد روي ما يدل على أن المتقي من أتى بالواجب واجتنب المحرم، من ذلك ما روي عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم أنه قال: ((لا يبلغ العبد المؤمن أن يكون من المتقين حتى يدع ما لا بأس به حذراً مما به البأس)).
وما روي عن علي عليه السلام أن صاحباً له يقال له همام كان رجلاً عابداً فقال له: يا أمير المؤمنين، صف لي المتقين كأني أنظر إليهم، فتثاقل عن جوابه ثم قال: (يا همام اتق الله وأحسن فإن الله مع الذين اتقوا والذين هم محسنون) فلم يقتنع همام بذلك حتى عزم عليه قال: فحمد الله وأثنى عليه، وصلى على النبي صلى الله عليه وآله وسلم ثم قال: (أما بعد، فإن الله سبحانه وتعالى خلق الخلق حين خلقهم غنياً عن طاعتهم، آمناً من معصيتهم؛ لأنه لا تضره معصية من عصاه، ولا تنفعه طاعة من أطاعه، فقسم بينهم معايشهم، ووضعهم من الدنيا مواضعهم، فالمتقون فيها هم أهل الفضائل، منطقهم الصواب، وملبسهم الاقتصاد، ومشيهم التواضع، غضوا أبصارهم عما حرم الله عليهم، ووقفوا أسماعهم على العلم النافع لهم، بذلت أنفسهم منهم في البلاء كالذي بذلت في الرخاء، ولولا الأجل الذي كتب الله لهم لم تستقر أرواحهم في أجسادهم طرفة عين شوقاً إلى الثواب، وخوفاً من العقاب، عظم الخالق في أنفسهم فصغر ما دونه في أعينهم، فهم والجنة كمن قد رآها فهم فيها منعمون، وهم والنار كمن قد رآها فهم فيها معذبون، قلوبهم محزونة، وشرورهم مأمونة، وأجسادهم نحيفة، وحاجتهم خفيفة، وأنفسهم عفيفة، صبروا أياماً قصيرة أعقبتهم راحة طويلة، تجارة مربحة يسرها لهم ربهم، أرادتهم الدنيا ولم يريدوها، وأسرتهم ففدوا أنفسهم منها، أما الليل فصافون أقدامهم تالين لأجزاء القرآن يرتلونها ترتيلاً، يحزنون به أنفسهم، ويستثيرون به دواء دائهم، فإذا مروا بآية فيها تشويق ركنوا إليها طمعاً، وتطلعت نفوسهم إليها شوقاً، وظنوا أنها نصب أعينهم، وإذا مروا بآية فيها تخويف أصغوا إليها مسامع قلوبهم، وظنوا أن زفير جهنم وشهيقها في أصول آذانهم، فهم حانون على أنفسهم، مفترشون لجباههم وأكفهم، وركبهم وأطراف أقدامهم، يطلبون إلى الله في فكاك رقابهم، وأما النهار فحلماء علماء، أبرار أتقياء، قد براهم الخوف بري
القداح، ينظر إليهم الناظر فيحسبهم مرضى وما بالقوم من مرض، ويقول: قد خولطوا، ولقد خالطهم أمر عظيم، لا يرضون من أعمالهم القليل، ولا يستكثرون الكثير، فهم لأنفسهم متهمون، ومن أعمالهم مشفقون، إذا زكي أحد منهم خاف مما يقال له فيقول: أنا أعلم بنفسي من غيري، وربي أعلم مني بنفسي، اللهم لا تؤاخذني بما يقولون، واجعلني أفضل مما يظنون، واغفر لي ما لا يعلمون، فمن علامة أحدهم أنك ترى له قوة في دين، وحزماً في لين، وإيماناً في يقين، وحرصاً في علم، وعلماً في حلم، وقصداً في غنى، وخشوعاً في عبادة، وتجملاً في فاقة، وصبراً في شدة، وطلباً في حلال، ونشاطاً في هدى، وتحرجاً عن طمع، يعمل الأعمال الصالحة وهو على وجل، يمسي وهمه الشكر، ويصبح وهمه الذكر، يبيت حذراً، ويصبح فرحاً، حذراً لما حُذِّرَ من الغفلة، وفرحاً بما أصاب من الفضل والرحمة، إن استصعبت عليه نفسه فيما تكره لم يعطها سؤلها فيما تحب، قرة عينه فيما لا يزول، وزهادته فيما لا يبقى، يمزج الحلم بالعلم، والقول بالعمل، تراه قريباً أمله، قليلاً زلله، خاشعاً قلبه، قانعة نفسه، منزوراً أكله، سهلاً أمره، حريزاً دينه، ميتة شهوته، مكضوماً غيظه، الخير منه مأمول، والشر منه مأمون، إن كان في الغافلين كتب في الذاكرين، وإن كان في الذاكرين لم يكتب من الغافلين، يعفو عمن ظلمه، ويعطي من حرمه، ويصل من قطعه، بعيداً فحشه، ليناً قوله، غائباً منكره، حاضراً معروفه، مقبلاً خيره، مدبراً شره، في الزلازل وقور، وفي المكاره صبور، وفي الرخاء شكور، لا يحيف على من يبغض، ولا يأثم فيمن يحب، يعترف بالحق قبل أن يشهد عليه، لا يضيع ما استحفظ، ولا ينسى ما ذكر، ولا ينابز بالألقاب، ولا يضار بالجار، ولا يشمت بالمصائب، ولا يدخل في الباطل، ولا يخرج من الحق، إن صمت لم يغمه صمته، وإن ضحك لم يعل صوته، وإن بغي عليه صبر حتى يكون الله هو الذي ينتقم له، نفسه منه في عناء والناس منه في راحة، أتعب
نفسه لآخرته، وأراح الناس من نفسه، بُعُدُه عمن تباعد عنه زهد ونزاهة، ودنُوّه ممن دنا منه لين ورحمة، ليس تباعده بكبر وعظمة).
قال: فصعق همام صعقة كانت نفسه فيها، فقال أمير المؤمنين عليه السلام : (أما والله لقد كنت أخافها عليه، ثم قال: هكذا تصنع المواعظ البالغة بأهلها) فقال له قائل: فما بالك أنت يا أمير المؤمنين، فقال: (ويحك إن لكل أجل وقتاً لا يعدوه، وسبباً لا يتجاوزه، فمهلاً لا تعد لمثلها فإنما نفث الشيطان على لسانك). رواه في (النهج)، و(سلوة العارفين).
وعن ابن مسعود في قوله: {هُدىً} قال: نور للمتقين.
قال: هم المؤمنون، وعن ابن عباس في قوله: {هُدىً لِلْمُتَّقِينَ}[البقرة:2] أي الذين يحذرون من أمر الله عقوبته في ترك ما يعرفون من الهدى، ويرجون رحمته في التصديق بما جاء منه، وعنه أنه قال: للمؤمنين الذين يتقون الشرك ويعملون بطاعتي، وقيل لمعاذ: من المتقون؟ قال: قوم اتقوا الشرك وعبادة الأوثان، وأخلصوا لله العبادة.
وعن أبي الدرداء قال: تمام التقوى أن يتقي الله العبد حتى يتقيه من مثقال ذرة، وحتى يترك بعض ما يرى أنه حلال خشية أن يكون حراماً حجاباً بينه وبين الحرام.
وعن ابن المبارك قال: قال داود عليه السلام لابنه سليمان عليه السلام : يا بني إنما يستدل على تقوى الرجل بثلاثة أشياء: بحسن توكله على الله فيما نابه، وبحسن رضاه فيما آتاه، وبحسن زهده فيما فاته.
وعن سعيد بن أبي سعيد المقبري قال: بلغنا أن رجلاً جاء إلى عيسى عليه السلام فقال: يا معلم الخير كيف أكون تقياً لله كما ينبغي له؟ قال: بيسير من الأمر تحب الله بقلبك كله، وتعمل بكدحك وقوتك ما استطعت، وترحم ابن جنسك كما ترحم نفسك، قال: من ابن جنسي يا معلم الخير؟ قال: ولد آدم كلهم، وما لا تحب أن يؤتى إليك فلا تأته إلى أحد فأنت تقي لله حقاً.
وروى القاسم بن إبراهيم عليه السلام ، عن عيسى بن مريم عليه السلام أنه قال: وليس كل من يقول ربي ربي (بإقراره) والدعاء يدخل يوم القيامة بكرامة ملكوت السماء إلا أن يكون ممن عمل في دار الدنيا بما حكم الله عليه من التقوى (ولكثير) في ذلك اليوم من يقول: ربنا باسمك هدينا وسعينا، وباسمك أخرجنا من الشياطين ما أخرجنا، وباسمك أموراً كثيرة من العجائب صنعنا، ثم يقول الله لهم في ذلك اليوم: تأخروا عني يا عمال الزور.
وقال الناصر عليه السلام في البساط: واعلم: هداك الله أن التقوى والإحسان والإسلام والإصلاح من أوصاف الإيمان ومعانيه، التي يؤمن العبد بها نفسه من سخط الله وعقابه إذا أتى مع ذلك بجميع ما فرض الله، فيكون قد أمن نفسه، ألا تسمع لقول الحكيم العليم: {قَالَتِ الأَعْرَابُ آمَنَّا قُلْ لَمْ تُؤْمِنُوا وَلَكِنْ قُولُوا أَسْلَمْنَا وَلَمَّا يَدْخُلِ الإِيمَانُ فِي قُلُوبِكُمْ...} الآية[الحجرات:14].
فأعلمهم أنه لم يكن منهم ما يستوجبون به إيمان نفوسهم، ولكن كان منهم التسليم، وإظهار قبول الحق الذي لا ينفع في الآخرة، وينفع في الدنيا إذا قارنته معصية لله كبيرة، وقد يكون العبد متقياً لله في بعض الأمور، ومسلماً، وبراً، ومحسناً ويكون مع ذلك غير متوقي في شيء آخر، ولا بر ولا محسن في غير ما أحسن فيه، فيجوز أن يسمى فيما اتقى وأسلم وأحسن باسم ما فعل، ويكون ذلك نافعاً له مع إصراره على معاصي الله، ولا يكون مستحقاً اسم الإيمان الممدوح أهله، الموجب رضوان الله، بأنه قد كان منه مع تقواه وبره وإحسانه ما لم يؤمن به نفسه من سخط الله ووعيده، ولم يكن فيه تقوى الله، ولا بر ولا إحسان فيه، ولا يكون متقياً لله غير متق له، ومسخط لله غير مسخط له، ولا محسناً عند الله غير محسن عنده، مستوجباً للجنه غير مستوجب لها، ومستوجباً للنار غير مستوجب لها في حال واحدة، وقد يجوز أن يقال لهؤلاء جميعاً: أنهم متقون، ومحسنون، ومقرون ومؤمنون، فيما كان منهم من تقوى، وإقرار، وإحسان [تقوى وإقراراً وإحساناً] لا ينفعهم مع ما قارنه من كبائر معاصيهم لله المحبطة كل عمل صالح إذا أصر عليها فاعلها، ولو لم يكن في هذه إلا شهادة الله بنص كتابه أن المؤمن لا يستوي هو والفاسق لكفى، وأغنى، وذلك قوله جل ذكره: {أَفَمَنْ كَانَ مُؤْمِناً كَمَنْ كَانَ فَاسِقاً لاَ يَسْتَوُونَ}[السجدة:18].
قلت: وكلام الناصر عليه السلام : لا يخالف المعنى الأول، وهو أن المتقي من يقي نفسه العقوبة من فعل أو ترك؛ لأنه جعل التقوى من أوصاف الإيمان، والإيمان هذا معناه، ثم قال عليه السلام : ولا يكون متقياً لله غير متقٍ.
وأما قوله: وقد يجوز أن يقال لهؤلاء جميعاً... إلخ، فهو نظر إلى المعنى اللغوي وما يقتضيه الاشتقاق بدليل ما بعده، والكلام في المعاني الشرعية. والله أعلم.
وقال الإمام أبو الفتح عليه السلام : المتقون هم الذين اتقوا ما حرم عليهم، وأدوا ما افترض عليهم.
وقال طلق ابن حبيب: التقوى: العمل بطاعة الله، على نور من الله، رجاء رحمة الله، والتقوى ترك معاصي الله، على نور من الله، مخافة عذاب الله، وقال الحسن: ما زالت التقوى بالمتقين حتى تركوا كثيراً من الحلال مخافة الحرام، وقال سفيان الثوري: إنما سموا المتقين؛ لأنهم اتقوا ما لا يتقى.
وقال ابن المبارك: لو أن رجلاً اتقى مائة شيء، ولم يتق شيئاً واحداً، لم يكن من المتقين.
وقال آخر: تمام التقوى أن تبتغي علم ما لم تعلم منها إلى ما قد علمت منها، وقيل: من سره أن يكون من المتقين، فليكن أذل من قعود إبل، كل من أتى عليه أرغاه، وكتب رجل إلى عبد الله بن الزبير بموعظة أما بعد: فإن لأهل التقوى علامات يعرفون بها، ويعرفونها من أنفسهم: من صبر على البلاء، ورضي بالقضاء، وشكر النعماء، وذل لحكم القرآن.
ووصف حكيم المتقي فقال: رجل آثر الله على خلقه، وآثر الآخرة على الدنيا، ولم تكربه المطالب، ولم تمنعه المطامع، نظر ببصر قلبه إلى معالي إرادته، فسما لها ملتمساً لها، فزهده مخزون، يبيت إذا نام الناس ذا شجون، ويصبح مغموماً في الدنيا مسجون، قد انقطعت من همته الراحة دون منيته، فشفاؤه القرآن، ودواؤه الكلمة من الحكمة والموعظة الحسنة، لا يرى منها الدنيا عوضاً، ولا يستريح إلى لذة سواها.
وقال آخر: لا يكون الرجل من المتقين، حتى يحاسب نفسه أشد من محاسبة شريكه، حتى يعلم من أين مطعمه، ومن أين ملبسه، ومن أين مشربه، أمن حل ذلك أو من حرام، وقيل: التقوى: أن لا يراك الله حيث نهاك، ولا يفقدك حيث أمرك، وقال آخر: بين يدي التقوى خمس عقبات لا يناله من لا يجاوزهن: إيثار الشدة على النعمة، وإيثار الضعف على القوة، وإيثار الذل على العزة، وإيثار الجهد على الراحة، وإيثار الموت على الحياة.
وعن بعض الحكماء أنه لا يبلغ الرجل سنام التقوى، إلا أن يكون بحيث لو جعل ما في قلبه في طبق فطيف به في السوق لم يستح ممن ينظر إليه.
وقال إبراهيم بن أدهم: التقوى: أن لا يجد الخلق من لسانك عيباً، ولا الملائكة في أفعالك عيباً، ولا ملك العرش في سرك عيباً، ويقال: المتقي من سلك سبيل المصطفى، ونبذ الدنيا وراء القفاء، وكلف نفسه الإخلاص والوفاء، واجتنب الحرام والجفاء، وكل هذا يدل على ما قلناه من أن المتقي من أتى بالواجبات، واجتنب المقبحات، على أن كونها مقتطعة عما قبلها، مرفوعة على أنها مبتدأ، وخبر المبتدأ محذوف لا يمنع من كونها مفيدة لاتصاف المتقين بالصفات المذكورة، كما حققه أبو السعود.
فإن قيل: إذا لم يتوق الصغائر هل يستحق هذا الاسم؟
قيل: نعم لأنها مكفرات باجتناب الكبائر، ولأن الأنبياء " أتقى البشر لله، وأكرمهم عنده، وهم مع ذلك قد وقعت منهم الصغائر، والتحقيق أن التقوى على ثلاث مراتب:
الأولى: التوقي من العذاب بفعل الواجب، وترك المحظور، وعليه قوله صلى الله عليه وآله وسلم : ((جماع التقوى في قوله تعالى: {إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالإِحْسَانِ} الآية)) [النحل:90].
وما روي عن ابن عمر أن أعرابياً أقبل على راحلته، ورسول الله صلى الله عليه وآله وسلم في منزله فقال: يا رسول الله، إن الله الذي له ملك السموات والأرض أرسلك إلى عباده، فبشرهم بحياة لا موت فيها، وشباب لا كبر فيه، وفرح لا حزن فيه، ومطاعم ومشارب، ولباسهم فيها حرير، وأنذرهم ناراً موقدة، يصب من فوق رؤوسهم الحميم، وتقطع لهم ثياب من نار، فأخبرني بخلال أعمل بها تبلغني هذا وتنجيني من هذا، فقال: ((بأن تعبد الله وحده لا شريك له، وبإقامة الصلوات المكتوبة، وإيتاء الزكاة المفروضة، وصيام رمضان كما كتبه الله على الأمم من قبلكم، وبحجة البيت إتمامهن، وما كرهت أن يأتيه الناس إليك فلا تأته إليهم)) فقال الأعرابي: إذاً أرفض ما بين المشرق والمغرب وراء ظهري، وأعمل ما يبلغني هذا وينجيني من هذا.
وعن علي عليه السلام :( التقوى ترك الإصرار على المعصية، وترك الاغترار بالطاعة).
الثانيه: ترك ما لا بأس به خوفاً مما به البأس، وإليه الإشارة فيما تقدم.
الثالثه: أن يتنزه عن كل ما يشغل سره عن الحق عز وجل، ويتبتل إليه بكليته، وهو التقوى الحقيقي الذي ذكره أميرالمؤمنين عليه السلام لهمام.
واعلم: أن مقام التقوى مقام شريف قال الله تعالى: {إِنَّ اللَّهَ مَعَ الَّذِينَ اتَّقَوْا وَالَّذِينَ هُمْ مُحْسِنُونَ}[النحل:128]وقال :{إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ}[الحجرات:13].
قال الرازي: ولولم يكن للمتقي فضيله إلا مافي قوله تعالى: {هُدًى لِلْمُتَّقِينَ}[البقرة:2] لكفاه؛ لأنه تعالى بين أن القرآن هدى للناس، ثم قال هنا: إنه هدى للمتقين.
قال: فهذا يدل على أن المتقين هم كل الناس، فمن لا يكون متقياً كأنه ليس بإنسان.
قلت: هذا معنى جواب السؤال الوارد عن تخصيص الهدى بالمتقين، وأجيب عنه بأن ذلك لما أنهم المقتبسون من أنواره، المنتفعون بآثاره، كقوله تعالى: {وَذَكّرْ فَإِنَّ الذّكْرَى تَنفَعُ الْمُؤْمِنِينَ}[الذاريات:55] وإن كان ذلك شاملاً لكل ناظر، من مؤمن وفاجر، كما قال جل ذكره: {هَذَا بَلاَغٌ لِلنَّاسِ وَلِيُنذَرُوا بِهِ وَلِيَعْلَمُوا أَنَّمَا هُوَ إِلَهٌ وَاحِدٌ وَلِيَذَّكَّرَ أُوْلُوا الأَلْبَابِ}[إبراهيم:52].
وعن ابن عباس قال: رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم : ((من أحب أن يكون أكرم الناس فليتق الله، ومن أحب أن يكون أقوى الناس فليتوكل على الله، ومن أحب أن يكون أغنى الناس فليكن بما في يد الله أوثق مما في يده)).
وقال أمير المؤمنين (كرم الله وجهه): (أوصيكم عباد الله بتقوى الله فإنها الزمام والقوام، فتمسكوا بوثائقها، واعتصموا بحقائقها، تؤول بكم إلىكنان الدعة، وأوطان السعة، ومعاقل الحرز، ومنازل العز، في يوم تشخص فيه الأبصار، وتظلم له الأقطار، وتعطل فيه صروم العشار، وينفخ في الصور فتزهق كل مهجة، وتبكم كل لهجة، وتذل الشم الشوامخ، والصم الرواسخ، فيصير صلدها سراباً رقرقاً، ومعهدها قاعاً سملقاً، فلا شفيع يشفع، ولا حميم يدفع، ولا معذرة تنفع).
وقال زيد بن علي عليه السلام : إن تقوى الله عز وجل حمت المتقين معصيته حتى حاسبوا نفوسهم في صغائر الأعمال، وإن تقوى الله بعثت المتقين على طاعته، وخففت على أبدانهم طول النصب، فاستلذوا مناجاة الله وذكره، وحمدوه على السراء والضراء، أولئك الذين عملوا بالصالحات، واجتنبوا المنكرات، ومهدوا لأنفسهم، فطوبى لهم وحسن مآب.
قلت: وكلام زيد عليه السلام على ما ذكرناه في معنى المتقي، وقال قتادة: لما خلق الله الجنة قال لها: تكلمي، قالت: طوبى للمتقين، وقال مالك بن دينار: القيامة عرس المتقين، وقيل لأبي الدرداء: إنه ليس أحد له بيت في الأنصار إلا قال شعراً فمالك لا تقول؟ قال: وأنا قلت فاسمعوه:
يريد المرء أن يعطى مناه .... ويأبى الله إلا ما أرادا
يقول المرء فائدتي وذخري .... وتقوى الله أفضل ما استفادا
تنبيه: [في مفتاح التقوى]
اعلم: أن مفتاح التقوى مراقبة الله في السر والنجوى، وخشيته في السخط والرضا، والتفكر في سرعة الزوال عن الدنيا، والزهد في ما لا يدوم ولا يبقى.
وعن عون بن عبد الله قال: فواتح التقوى حسن النية، وخواتمها التوفيق، والعبد فيما بين ذلك بين هلكات وشبهات، ونفس يخطب على سلوها، وعدو مكيد غير غافل ولا عاجز.
وقال آخر: كيف يرجو مفاتيح التقوى من يؤثر على الآخرة الدنيا، وقال القاسم بن إبراهيم عليه السلام : واعلموا وَلِيَكُمُ الله أن من أبواب التقوى ومفاتحها، وأقوى ما يقوى به من رشد بإذن الله على قبول نصائحها: حسن الفكر في الدنيا وفنائها، وتقلب سرائها وضرائها، وفي حال جميع من فيها من ملوك الأمم خاصة، ومن دونهم من الخلق جميعاً عامة.
ثم قال عليه السلام : وقد ينبغي لمن سلك سبيل مرضاة الله وآثرها وعظمها بما عظمها الله به من رضوانه فوقرها أن يتحفظ من نفسه فيها، ويجمع كل أشغاله، ولا قوة إلا بالله إليها، فإنه لو تفرغ لخدمة بعض ملوك الدنيا لحق عليه الاجتهاد في بلوغ الغاية القصوى، فكيف بمالك الملوك إذ برز لعبادته، ونابذ في الله عدوه من الجن والإنس بمحاربته، فليحترز من سبيل ولاية الله ومرضاته، ومن يريد القيام بما أوجب الله عليه من فرض حقه وطاعته، من السقط والخلل، وليستيقظ من الغفلة والزلل.
المسألة السادسة [في الإيمان]
اتفق الناس على أن الإيمان في اللغة بمعنى التصديق، وأن المؤمن بمعنى المصدق مشتقاً من الإيمان، ثم اختلفوا هل قد نقل في الشرع إلى معنى آخر؟
فقالت الزيدية، والمعتزلة، والخوارج وأهل الحديث: الإيمان أن يعتقد الحق بقلبه، ويعترف بلسانه، ويصدقه بعمله، ثم اختلفوا فقال الإمام الموفق بالله، وواصل بن عطاء، وأبو الهذيل، والقاضي عبد الجبار بن أحمد: هو أداء الطاعات، واجتناب الكبائر، وحكاه الموفق بالله عن أبي القاسم وهو الذي ذكره الإمام المهدي عليه السلام عن أكثر المعتزلة، قال: ومنهم أبو علي، وأبو هاشم وأتباعهما، ولفظه: والإيمان في الشرع اسم لجميع الطاعات واجتناب المعاصي، وفي الأساس أنه الإتيان بالواجبات، واجتناب المقبحات، وحكاه عن أئمتنا"، وجمهور المعتزلة، والشافعي، وبعض الخوارج.
وعن أبي علي، وأبي هاشم: أنه أداء الواجبات، واجتناب الكبائر، ورده الإمام الموفق بالله بأنه لا خلاف بين الأمة أن ركعتي الفجر من جملة الإيمان، والدين، والإسلام وإن كانت نفلاً، فدل على أن الإيمان ما ذكرناه.
قال عليه السلام : فإن قيل: لو كان كذلك لوجب أن يصح وصف الرسول صلى الله عليه وآله وسلم بأنه منتقص الإيمان إذ لم يزد على ما فعله من النوافل، وقد علمنا بالإجماع أنه لا يجوز وصف إيمان الرسول عليه السلام بالانتقاص، قيل له: إنما لم يوصف به؛ لأنه يوهم الخطأ، وإلا فمن جهة اللغة إذا أريد به أنه عليه السلام لم يفعل أزيد من ما قد فعل من النوافل، فإنه صحيح، كما لا يوصف بأنه منتقص الطاعة، وإن كانت الزيادة في النوافل طاعة تجنباً عن الإيهام، وتحرزاً عنه.
قلت: قال الناصر عليه السلام : وجدت القرآن يدل على زيادة الإيمان، ولم أجده يدل على النقصان؛ لأن الإيمان عنده عليه السلام : أن يؤمن الإنسان نفسه من سخط الله ووعيده، ويوجب لها رضوانه، وما وعد من النعيم في الجنة وتخليده بفعل جميع ما أمر الله، واجتناب كل ما زجر ونهى عنه.
قال عليه السلام : وقد وصف الحكيم في كتابه المبين أن الإيمان يزيد، ولم يصف أنه ينقص، فقال: {وَإِذَا مَا أُنزِلَتْ سُورَةٌ فَمِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ أَيُّكُمْ زَادَتْهُ هَذِهِ إِيمَانا...} الآية [التوبة:124].
فاعلم: جل ذكره أن المؤمن لنفسه من سخطه ووعيده من عباده بفعله طاعاته إذا أنزلت سورة ازداد بفعل ما فرض الله فيها وأحدثه من فرض عليه، وإقرار به إيماناً لنفسه من سخطه وعذابه، وإن مريض القلب المصر على معاصيه يزداد رجساً على رجسه.
قال عليه السلام : فنحن نقول: الإيمان يزيد ولا ينقص؛ إذ لم يصف الحكيم العليم أنه ينقص، ولا يجوز أن يقال أنه ينقص إلا عندما يرتكب معصية لله سبحانه تسخطه عليه، وتوجب وعيده له، وهذه حال قد أعلمنا الله فيها أن عمل عبده يبطل كله ويحبط، فليس لذكر البعض معنى مع بطلان الكل، وكلامه عليه السلام يدل على أنه لا يوصف إيمان النبي صلى الله عليه وآله وسلم بالنقص، وأنه ليس المانع من ذلك إيهام الخطأ كما ذكره الموفق بالله عليه السلام .
وقال القاسم بن إبراهيم عليه السلام : والمؤمنون فمن أمن من الكفر وكبائر العصيان، وأعمال الموقنين من البر فدليل على إيقانهم، وترك المؤمنين الكبائر والعصيان فحقيقة إيمانهم.
واعلم: أن الذي يتحصل من كلام أئمة العترة" ومن وافقهم من المعتزلة: أن من أتى بالواجبات، واجتنب الكبائر فهو مؤمن مستحق للثواب، ناج من العقاب، واقتضاء عبارات بعضهم عدم دخول النوافل في مسمى الإيمان، أو دخولها لا يضر، مع اتفاقهم على أنه يستحق الثواب بفعلها، ولا يعاقب على تركها، فلنرجع إلى إقامة دليل مذهبهم (رضي الله عنهم).
فنقول: الدليل على ذلك أن الإيمان اسم مدح في الشرع، وقد ذكر الله المؤمنين في كتابه، وأحسن الثناء عليهم، ومدحهم مدحاً جليلاً، وسماهم بأسماء حسنة، وحكم لهم بأحكام شريفة، وبين أنه لا يستحق هذا الاسم الحسن إلا من قال بقولهم، وعمل بعملهم، فقال عز وجل: {إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ إِذَا ذُكِرَ اللَّهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ وَإِذَا تُلِيَتْ عَلَيْهِمْ آياتُهُ زَادَتْهُمْ إِيمَانَاً وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ، الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلاَةَ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنفِقُونَ، أُوْلَئِكَ هُمُ الْمُؤْمِنُونَ حَقّاً لَهُمْ دَرَجَاتٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ وَمَغْفِرَةٌ وَرِزْقٌ كَرِيم}[الأنفال:2-4].
ويقول سبحانه: {إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَإِذَا كَانُوا مَعَهُ عَلَى أَمْرٍ جَامِعٍ لَمْ يَذْهَبُوا حَتَّى يَسْتَأْذِنُوهُ إِنَّ الَّذِينَ يَسْتَأْذِنُونَكَ أُوْلَئِكَ الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ فَإِذَا اسْتَأْذَنُوكَ لِبَعْضِ شَأْنِهِمْ فَأْذَنْ لِمَنْ شِئْتَ مِنْهُمْ وَاسْتَغْفِرْ لَهُمُ اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ}[النور:62].
ويقول سبحانه: {إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ ثُمَّ لَمْ يَرْتَابُوا وَجَاهَدُوا بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنفُسِهِمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ أُوْلَئِكَ هُمُ الصَّادِقُون}[الحجرات:15].
وقال سبحانه: {إِنَّمَا يُؤْمِنُ بِآيَاتِنَا الَّذِينَ إِذَا ذُكّرُوا بِهَا خَرُّوا سُجَّداً وَسَبَّحُوا بِحَمْدِ رَبِّهِمْ وَهُمْ لاَ يَسْتَكْبِرُونَ، تَتَجَافَى جُنُوبُهُمْ عَنِ الْمَضَاجِعِ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ خَوْفاً وَطَمَعاً وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنفِقُون}[السجدة:15،16].
وقال تعالى: {بَشِّرِ الْمُؤْمِنِينَ بِأَنَّ لَهُمْ مِنَ اللَّهِ فَضْلاً كَبِيراً}[الأحزاب:47]، وقال تعالى: {لَقَدْ جَاءَكُمْ رَسُولٌ مِنْ أَنفُسِكُمْ عَزِيزٌ عَلَيْهِ مَا عَنِتُّمْ حَرِيصٌ عَلَيْكُمْ بِالْمُؤْمِنِينَ رَءُوفٌ رَحِيمٌ}[التوبة:128] مع قوله تعالى في الزاني والزانية: {وَلاَ تَأْخُذْكُمْ بِهِمَا رَأْفَةٌ فِي دِينِ اللَّهِ إِنْ كُنتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ}[النور:2].
وقال تعالى: {يَوْمَ لاَ يُخْزِي اللَّهُ النَّبِيَّ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ...} الآية[التحريم:8].
والمعلوم أن الفاسق يخزى لقوله تعالى في المحاربين: {ذَلِكَ لَهُمْ خِزْيٌ فِي الدُّنيَا وَلَهُمْ فِي الآخِرَةِ عَذَابٌ عَظِيمٌ}[المائدة:33] ومن دخل النار فقد أخزي لقوله تعالى: {إِنَّكَ مَنْ تُدْخِلِ النَّارَ فَقَدْ أَخْزَيْتَهُ}[آل عمران:192].
وإذا كان الفاسق يخزى بإدخاله النار، وقد أخبر الله سبحانه أن المؤمن لا يخزى؛ انتج ذلك أن الفاسق ليس بمؤمن، وهذا واضح كما ترى، وقال تعالى: {إِلاَّ الَّذِينَ تَابُوا وَأَصْلَحُوا وَاعْتَصَمُوا بِاللَّهِ وَأَخْلَصُوا دِينَهُمْ لِلَّهِ فَأُوْلَئِكَ مَعَ الْمُؤْمِنِينَ وَسَوْفَ يُؤْتِ اللَّهُ الْمُؤْمِنِينَ أَجْراً عَظِيما}[النساء:146].
وقال سبحانه: {وَاللَّهُ وَلِيُّ الْمُؤْمِنِينَ}[النساء:68] وقال: {أَلاَ إِنَّ أَوْلِيَاءَ اللَّهِ لاَ خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلاَ هُمْ يَحْزَنُونَ}[يونس:62] والفاسق يخاف ويحزن، وقال: {وَكَانَ بِالْمُؤْمِنِينَ رَحِيماً، تَحِيَّتُهُمْ يَوْمَ يَلْقَوْنَهُ سَلاَمٌ وَأَعَدَّ لَهُمْ أَجْراً كَرِيما}[الأحزاب:43،44] إلى غير ذلك من الآيات، ولم يقل شيئاً من ذلك للفسقة العجزة، ولا للعتاة الكفرة.
قال الهادي عليه السلام : فبهذه الآيات ونحوها علمنا أن اسم الإيمان فاضل شريف حسن، وأن من سماه الله مؤمناً مسلماً فقد مدحه الله مدحاً شريفاً، وأثنى عليه ثناء جميلاً، وسماه بالفاضل من الأسماء التي جعلها الله أسماءً لدينه، وصفاتٍ لأوليائه، وأن من استحق هذا الاسم عند الله فهو ولي لله من أهل الجنة، وأن هذه الأسماء الحسنة الشريفة لا يستحقها الفجرة الفسقة، العتاة الظلمة، أصحاب الزنى وشرب الخمور، وشهادات الزور، وقذف المحصنات، وترك الصلوات، وقطع الطرق على الحجاج، وهدم المساجد، وتحريف المصاحف، وهدم الكعبة، وانتهاك حرم المسلمين، وفعل قوم لوط، ونحو ذلك من الأفعال الشنيعة، القبيحة الفظيعة.
فإن قيل: قد أقمت الأدلة على أن أركان الإيمان ثلاثة لكنها متداخلة، فأنا أطلب منك إقامة الدليل على كل واحد على انفراده.
فالجواب أن الدليل على أن الاعتقاد بالقلب ركن من أركان الإيمان:
قوله تعالى: {وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَقُولُ آمَنَّا بِاللَّهِ وَبِالْيَوْمِ الآخِرِ وَمَا هُمْ بِمُؤْمِنِينَ}[البقرة:8] وقوله: {إِلاَّ مَنْ أُكْرِهَ وَقَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ بِالإِيمَانِ}[النحل:106] وقوله تعالى: {يَقُولُونَ بِأَفْواهِهِمْ مَا لَيْسَ فِي قُلُوبِهِمْ}[آل عمران:167] وقوله تعالى: {وَلَمَّا يَدْخُلِ الإِيمَانُ فِي قُلُوبِكُمْ}[الحجرات:14] والدليل على اعتبار القول باللسان: قوله تعالى: {قُولُوا آمَنَّا بِاللَّهِ...}[ البقرة:136] الآية.
وقوله: {الذين يقولون {رَبَّنَا آمَنَّا بِمَا أَنْزَلْتَ وَاتَّبَعْنَا الرَّسُولَ}[آل عمران:53].
والدليل على القيد الثالث وهو العمل بالجوارح والأركان: قوله تعالى: {وَمَا أُمِرُوا إِلاَّ لِيَعْبُدُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ}[البينة:5]. والدين عند الله الإسلام، وسمى أهل الإسلام مؤمنين بدليل قوله تعالى: {فَأَخْرَجْنَا مَنْ كَانَ فِيهَا مِنَ الْمُؤْمِنِينَ ، فَمَا وَجَدْنَا فِيهَا غَيْرَ بَيْتٍ مِنَ الْمُسْلِمِين}[الذاريات:35،36] وهم أهل بيت واحد.
وقال تعالى: {قُلْ لاَ تَمُنُّوا عَلَيَّ إِسْلاَمَكُمْ بَلِ اللَّهُ يَمُنُّ عَلَيْكُمْ أَنْ هَدَاكُمْ للإِيمَانِ}[الحجرات:17] فسمى الإسلام إيماناً.
قال الهادي عليه السلام : فلما سمى الله عز وجل الصلاة والزكاة ديناً، وسمى الدين إسلاماً، وسمى الإسلام إيماناً؛ علمنا أن الصلاة والزكاة من الإيمان والإسلام والدين، ومما يطابق هذه الآيات الدالة على حقيقة الإيمان من السنة: ما رواه باب مدينة العلم أمير المؤمنين علي بن أبي طالب كرم الله وجهه، عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أنه قال: ((الإيمان: معرفة بالقلب، وإقرارٌ باللسان، وعمل بالأركان)) ، وعن أبي هريرة قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم : ((الإيمان بضع وسبعون باباً، أعلاها شهادة أن لا إله إلا الله، وأدناها رفع الأذى من الطريق)).
وعن ابن عباس في قوله تعالى: {لِيَزْدَادُوا إِيمَاناً مَعَ إِيمَانِهِمْ}[الفتح:4] قال: بعث الله محمداً صلى الله عليه وآله وسلم بشهادة أن لا إله إلا الله، فلما صدق به المؤمنون زادهم الصلاة، فلما صدقوا بها زادهم الزكاة، فلما صدقوا بها زادهم الحج، فلما صدقوا به زادهم الجهاد، ثم أكمل لهم دينهم فقال: {الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ}[المائدة:3].
وعن عثمان بن حنيف كان رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قبل أن يقدم من مكة يدعو الناس إلى الإيمان بالله وتصديقاً به قولاً بلا عمل، والقبلة إلى بيت المقدس، فلما هاجر إلينا نزلت الفرائض، ونسخت المدينة مكة والقول فيها، ونسخ البيت الحرام بيت المقدس، فصار الإيمان قولاً وعملاً.
وعن أبي سعيد قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم : ((لا يزني الزاني وهو مؤمن ولا يشرب الخمر وهو مؤمن)) قيل: يا رسول الله كيف يصنع إذا وقع شيء من ذلك؟ قال: ((إن راجع التوبة راجعه الإيمان، ومن لم يتب لم يكن مؤمناً)).
وعن ابن عباس قال: إذا زنى العبد نزع منه الإيمان، وعن أبي هريرة قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم : ((لا يزني الزاني حين يزني وهو مؤمن، ولا يسرق السارق حين يسرق وهو مؤمن، ولا ينتهب نهبة ذات شرف يرفع المسلمون إليه رؤوسهم وهو مؤمن)).
قال الناصر عليه السلام في البساط: ما ذكر من الحديث المشهور عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم : ((لا يزني الزاني حين يزني وهو مؤمن)) لايحتاج إلىذكر أسانيده وطرقه، ولكن تفسير معناه قد يكون أكثر المقرين بالشهادتين المصدقين برسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يزنون مع إقرارهم الذي هو في اللغة إيمان، ومحال أن يقول عليه السلام : لا يكون لما قد يكون، ولكنه أراد أنه لا يؤمن الزاني نفسه من سخط الله وأليم عقابه إن شاء الله تعالى.
وعن أنس قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم : ((إن الرجل لا يكون مؤمناً حتى يأمن جاره بوائقه يبيت وهو آمن من شره، إنما المؤمن الذي نفسه منه في عناء والناس منه في راحة)).
وفي حديث أبي هريرة يرفعه: ((والإيمان قول وعمل، ولا قول إلا بعمل، ولا قول ولا عمل إلا بنية، ولا قول ولا عمل ولا نية إلا باتباع السنة)). وفي حديث الحسن: ((لا إيمان لمن لا أمانة له)). وعن ابن عمر قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم : ((لا دين لمن لا أمانة له، ولا صلاة لمن لا طهور له، ولا دين لمن لا صلاة له، إنما موضع الصلاة من الدين كموضع الرأس من الجسد )). وقال صلى الله عليه وآله وسلم : ((الحياء من الإيمان)).
وعن عبد الله بن مسعود قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم : ((إن الصدق من البر، وإن البر من الإيمان، وإن الإيمان في الجنة، وما يزال العبد يصدق حتى يكتب عند الله صديقاً، وإن الكذب من الفجور، وإن الفجور من الكفر، وإن الكفر في النار، وما يزال العبد يكذب حتى يكتب عند الله كذاباً)). وفي البساط بإسناده قال: جاء رجل إلى أبي ذر فسأله عن الإيمان، فقرأ عليه أبو ذر: {لَيْسَ الْبِرَّ أَنْ تُوَلُّوا وُجُوهَكُمْ قِبَلَ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ وَلَكِنَّ الْبِرَّ مَنْ آمَنَ بِاللَّه...}[البقرة:177] الآية.
فقال: ليس عن البر سألتك، فقال أبو ذر: جاء رجل إلى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فسأله عما سألت، فقرأ عليه كما قرأت عليك، فأبى أن يرضى كما أبي ت أن ترضى، فقال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم : ((المؤمن الذي إذا عمل حسنة سرته ورجا ثوابها، وإذا عمل سيئة ساءته وخاف عقابها)).
وعن جعفر بن محمد عليه السلام قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم : ((من أسبغ وضوءه، وأحسن صلاته، وأدى زكاة ماله، وخزن لسانه، وكف غضبه، وأدى النصيحة لأهل بيت نبيه صلى الله عليه وآله وسلم فقد استكمل حقائق الإيمان، وأبواب الجنة مفتحة له)).
وفي (البساط) بإسناده قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم : ((لا يؤمن عبد حتى أكون أحب إليه من نفسه، وأهلي أحب إليه من أهله، وعترتي أحب إليه من عترته، وذاتي أحب إليه من ذاته)). وعن حذيفة: كنا نتعلم الإيمان قبل أن نتعلم القرآن، وإنكم اليوم تعلمون القرآن قبل أن تعلموا الإيمان.
وعن جندب بن عبد الله البجلي قال: كنا مع رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ونحن فتيان جزاورة فتعلمنا الإيمان قبل أن نتعلم القرآن، فازددنا إيماناً.
قال الناصر عليه السلام : أراد تعلمنا شرائع الإيمان من الصلاة والصيام وغيرهما التي بها يؤمن الإنسان نفسه من سخطه وعذابه، فأما الإقرار فإنه لا يحتاج أن يطول تعلمه، ومما يطابق ذلك قول أمير المؤمنين عليه السلام : (الإيمان: معرفة بالقلب، وإقرار باللسان، وعمل بالأركان). رواه في النهج.
ومن كلامه عليه السلام : (المؤمن بشره في وجهه، وحزنه في قلبه، أوسع شيء صدراً، وأذل شيء نفساً، يكره الرفعة، ويشنأ السمعة، طويل غمه، بعيد همه، كثير صمته، مشغول وقته، شكور صبور، مغمور بفكرته، ضنين بخلته، سهل الخليقة، لين العريكة، نفسه أصلب من الصلب، وهو أذل من العبد)، فهذه الأخبار والآثار ونحوها شاهدة شهادة صريحة بأن الإيمان هو فعل الطاعات، واجتناب المقبحات، وأن المؤمن في الشرع غير مشتق من الإيمان الذي بمعنى التصديق، بل هو اسم ارتجله الشرع لمن يستحق الثواب والإجلال والتعظيم من دون اشتقاق فيه.
قال الإمام الموفق بالله عليه السلام : ولم يكن من قبل معلوماً لأهل اللغة أنه يستحق بفعل هذه الشرائع ضرباً من المدح والإجلال.
قال الإمام المهدي عليه السلام : ومن أوضح ما يستدل به على صحة نقل الشرع عن المعنى اللغوي: اتفاقنا نحن والخصم على أن الفسق في أصل وضعه اسم للظهور بعد الاستتار، كما يقال: فسقت الرطبة إذا أظهرت عما كان ساتراً لها، وللخروج عن الساتر على وجه يضر، كما سمت العرب الفأرة فويسقة أي خارجة عن ساترها للإضرار بالغير، وبالاتفاق بيننا وبين الخصم أن الزنى فسق، وشرب الخمر فسق، وأن الشرع هو الذي وضع عليهما هذا الاسم لا اللغة، فصح أن الشرع قد ينقل المعنى اللغوي عما وضع له إلى معنى آخر غير ما وضع له في الأصل، وإذا صح ذلك في الفاسق صح مثله في المؤمن؛ إذ لا قائل بالفرق بينهما، لا يقال أن المعنى اللغوي في تسمية الزنى فسقاً باق، وهو أنه خرج به عن كونه مطيعاً إلى كونه عاصياً، فلهذا سمي فاسقاً؛ لأنا نقول أن أهل اللغةلم يضعوا الفسق في الأصل إلا اسماً للظهور الحقيقي عن الاستتار الحقيقي، وذلك ليس حاصلاً في الزانى والشارب إلا مجازاً، ونحن لا ننازع في صحة المجاز، لكن نقول لك: هل لفظ الفسق حيث أطلق على الزنى باق على حقيقته اللغوية أو غير باق،؟ إن قلت: بأنه باق أكذبتك الضرورة؛ لأنه ليس بظهور عن الاستتار لاضرار ولا لغيره.
وإن قلت: إنه مستعمل في غير ذلك الوضع.
قلنا: فهل المستعمل له في الوضع الآخر اللغة أم الشرع؟ إن قلت: اللغة، أكذبتك الضرورة فإن أهل اللغة لم يكونوا يسمون الزنى والقتل فسقاً، وإن قلت: بل الشرع، فقد اعترفت بصحة مذهبنا وهو أن الشرع قد نقل بعض الألفاظ عن مجازاتها اللغوية، وإذا أقررت بذلك في الفسق لزمك الإقرار به في الإيمان؛ إذ لا فارق بينهما عند علماء الأمة أصلاً، ولا شك أن الفسق لو كان باقياً على وضعه لسمينا النبي صلى الله عليه وآله وسلم إذا خرج للجهاد بعد استتاره في بيته فاسقاً، وَلَمَّا علمنا بطلان ذلك تَيَقَّنَا إن هذا الاسم قد نقله الشرع عن وضعه اللغوي إلى معنى آخر، ومن الأدلة العقلية على ما ذهبنا إليه: أنا قد علمنا بعد استقرار الشرع أن لفظ مؤمن مدح على الإطلاق، ولفظ فاسق اسم ذم على الإطلاق، فلا يجوز أن يوصف بهما شخص واحد لتنافيهما، كما لا يحكم له باستحقاق المدح والذم، ولأنه يؤدي إلى اجتماع التعظيم والاستخفاف وهما نقيضان.
فإن قيل: وما الدليل على أن لفظ مؤمن اسم مدح؟
قيل: جميع ما تقدم يدل على ذلك، واستحسان العقلاء توسيطه بين أوصاف المدح فلولم يكن مدحاً لما استحسنوا ذلك، ألا ترى أنهم يقدحون في كلام من قال: (فلان شجاع جسم موجود كريم) ويعدونه مهجناً للكلام، مخرجاً له عن الفصاحة، ملحقاً له بأصوات ما لا يَعقل.
واعلم: أن الخصوم قد أوردوا شبهاً على ما ذكره الأصحاب من معنى الإيمان، ونحن نذكرها ونذكر جواب أصحابنا عنها تتميماً للفائدة.
قالوا: لو كان الإيمان أداء الواجب لوجب إذا فعل الله اللطف أن يوصف فعله بأنه إيمان لأنه فعل الواجب، وما يفيد اللفظ لا يختلف شاهداً وغايباً.
والجواب: أما من لا يقول بوجوب واجب على الله تعالى فالسؤال ساقط عنه، وأما من أثبته فقد أجابوا بأن الإيمان هو أداء الطاعات: واجتناب الكبائر، وواحد منهما لا يوصف بأنه إيمان؛ لأنه بعضه.
فإن قيل: أنتم تقولون: إن الله تعالى لا يفعل القبيح، وحينئذٍ يصح وصف فعله بأنه إيمان لأنه فعل الواجب ولم يفعل القبيح.
قلنا: لا يجوز عليه تعالى اجتناب الكبائر، فإذا كان معنى اللفظ فيه محالاً فلا يجوز وصف فعله بأنه إيمان، ذكر هذا الموفق بالله عليه السلام في الإحاطة.
وأجاب الإمام المهدي عليه السلام بأنا قد حكمنا بأن المؤمن هو من يستحق الثواب بفعل الواجبات، واجتناب المقبحات، والإيمان فعل الواجبات، واجتناب المقبحات على وجه الطاعة لله ورسوله، فلا يلزمنا ما ذكرتم، ثم إنا نعارضكم بأن الصالح والتقي من يفعل الواجب، ويترك القبيح اتفاقاً بيننا وبينكم، ولا يوصف بهما الباري تعالى اتفاقاً، فما أجبتم به فهو جوابنا.
قالوا: إن أحدنا يفعل أفعالاً كثيرة واجبة، فيجب أن تصفوها بأنها أديان مختلفة، وإيمان مختلف.
الجواب: أنه اسم يتناول جملة من الأفعال مخصوصة إذا اجتنبت الكبائر، فكل فعل لا يتناوله الاسم على انفراده حتى يصح ما ذكرتم من وصفه بأنه أديان مختلفة، مع أنه لو كان كذلك وصح إجراؤه من جهة اللفظ لامتنعنا من إجرائه؛ لما فيه من الإيهام وهو أن هناك أديان مختلفة تخالف دين الإسلام.
قال الإمام الموفق بالله عليه السلام : وقد كان الشيخ أبو عبد الله يقول: إن الدين مصدر وهو لا يجمع. قال عليه السلام : والأصح ما ذكرته.
قالوا: الواجبات مختلفة الآن وتختلف باختلاف الشرائع، والإيمان لا يجوز اختلافه، وكذلك الدين والإسلام، فلو كان الإيمان هو هذه الأفعال لوجب أن يوصف بالاختلاف، وبالنسخ، وذلك لا يجوز بالاتفاق.
الجواب: أنا نعارضهم بالبر والتقوى فإنهما فعل الواجب وترك القبيح كالإيمان، مع أن البر والتقوى لا يختلفان، ولا ينسخان، فما أجابوا به فهو جوابنا.
قال الإمام المهدي عليه السلام : والتحقيق أن الإيمان، والبر، والتقوى: أسماء موضوعة على فعل الطاعة لله تعالى على سبيل الجملة، واجتناب معاصيه على سبيل الجملة، وهذا شيء لا يختلف ولا ينسخ، فارتفع الإشكال.
قالوا: لو كان الإيمان كما ذكرتم لصح وصفه بالزيادة والنقصان.
الجواب: ملتزم فإن من كانت طاعاته أكثر فإيمانه أكثر بدليل قوله تعالى: {زَادَتْهُمْ إِيمَانَاً}[الأنفال:2] وإنما لم نقل فيمن لم يفعل بعض النوافل أنه ناقص الإيمان؛ لأنه يوهم الخطأ وهو الذم له والخطأ منه حتى لو قيد لصح.
قالوا: لو كانت الصلاة من الإيمان لوجب أن يقال لمن تركها أنه ترك الملة؛ لأن الملة، والإيمان، والإسلام واحد عندكم.
الجواب: لا نسلم لزوم ذلك، قال الإمام المهدي عليه السلام : لأنه إنما ترك بعض الإيمان فلا يوصف بأنه ترك الإيمان والملة لإيهامه الكفر، وإنما يقال: ترك بعض الملة، وبعض الإيمان، ونظير ذلك أن من فسدت صلاته فإنه لا يقال: فسد دينه أو بطل لإيهامه، وإنما يقال: فسدت صلاته، أو بطلت.
قال عليه السلام : وحاصل الكلام أن العبارات الموهمة لا يجوز إطلاقها، يوضحه أن الخشبة الثابتة في الأرض من آيات الله، وحجته على عباده، فإذا انكسرت أو ضعفت لم يحسن أن يقال: انكسرت حجة الله على عباده، ولا ضعفت؛ لإيهامه.
واعلم: أنه قد تقدم أن الأئمة"، والمعتزلة، والخوارج أو بعضهم وأهل الحديث يتفقون على أن الإيمان اسم لأفعال القلوب والجوارح، والإقرار باللسان، وقد تقدم تقرير مذهب الأئمة" والمعتزلة، وأما الخوارج فحكى الرازي اتفاقهم على أن الإيمان يتناول المعرفة بالله، وبكل ما وضع الله عليه دليلاً عقلياً، أو نقلياً من الكتاب والسنة، ويتناول طاعة الله في جميع ما أمر به من الأفعال والتروك، صغيراً كان أو كبيراً، فقالوا: مجموع هذه الأشياء هي الإيمان، وترك كل خصلة من هذه الخصال كفر، وأما الإمام المهدي عليه السلام فحكى عنهم اختلافاً فيما به يكفر من المعاصي، فقالت الفضيلية والبكرية: من ترك الطاعة لله تعالى فيما أمر به أو نهى عنه كفر، وقالت الأزارقة والصفرية: بعض المعاصي ليس بكفر، وإنما الكفر ما ورد فيه وعيد، وقالت النجدات: بل الإيمان الإقرار، والعلم، وترك القبائح العقلية دون الشرعية، قالوا: فإن ارتكب شيئاً من القبائح العقلية كالظلم والكذب كفر، والجواب عليهم جميعاً سيأتي إن شاء الله تعالى عند ذكر ما يصير به الإنسان كافراً.
وأما أهل الحديث فحكى عنهم الرازي وجهين:
الأول: أن المعرفة إيمان كامل وهو الأصل، ثم بعد ذلك كل طاعة إيمان على حدة، وهذه الطاعات لا يكون شيء منها إيماناً إلا إذا كانت مرتبة على الأصل الذي هو المعرفة، وزعموا أن الجحود وإنكار القلب كفر، ثم كل معصية بعده كفر على حدة، ولم يجعلوا شيئاً من الطاعات إيماناً مالم توجد المعرفة والإقرار، ولا شيء من المعاصي كفراً كما لم يوجد الجحود والإنكار؛ لأن الفرع لا يحصل بدون ما هو أصله، وهو قول عبد الله بن سعيد بن كلاب.
الثاني: زعموا أن الإيمان اسم للطاعات كلها وهو إيمان واحد، وجعلوا الفرائض والنوافل كلها من جملة الإيمان، ومن ترك شيئاً من الفرائض فقد ينقص إيمانه، ومن ترك النوافل لا ينقص إيمانه، ومنهم من قال: الإيمان اسم للفرائض.
قلت: وحجتهم فيما وافقوا فيه كحجة أصحابنا، والجواب عليهم فيما خالفوا داخل في ضمن الجواب على غيرهم، فهذه أقوال الفرق المتفقة على أن الإيمان اسم لأفعال القلوب، والجوارح، والإقرار.
وأما غيرهم فقد اختلفوا فقالت الحنفية، وحكاه الرازي عن عامة الفقهاء: الإيمان إقرار باللسان، ومعرفة بالقلب لما أقر به، قالوا: وهو بهذا التفسير يزيد ولا ينقص، وروي عنهم أنه لا يزيد ولا ينقص.
قال الإمام المهدي عليه السلام : وإنما تدخله الزيادة والنقصان من جهة المعرفة لا من جهة الإقرار فهو شيء واحد لا يتعدد، وأما المعرفة فزيادتها بزيادة المعلوم، فكلما اطلع على علم من العلوم الدينية زاد إيمانه، ولا ينقص بنقصانه مهما قد عرف ما يجب الإقرار به وهو الشهادتان، وأركان الإسلام الخمسة، وعلى الرواية الثانية الإيمان: هو الإقرار بالشهادتين، ومعرفة ما أقر به يقيناً، وما عدا ذلك فلا يسمى إيماناً، فهو حينئذٍ لا يزيد ولا ينقص، وحجتهم أن أصل وضع الإيمان للتصديق ولا دليل على نقله، والتصديق إنما يتم بالقول والاعتقاد لما تقدم فلزم ما قالوا.
قلنا: إذا كانت الأعمال الصالحة من الإيمان لما قدمنا زاد ونقص بحسب زيادة الأعمال ونقصانها.
قال الرازي: ثم هؤلاء اختلفوا في هذه المعرفة فمنهم من فسرها بالعلم الصادر عن الاستدلال، ومنهم من فسرها بالاعتقاد الجازم ولو عن تقليد، قال: وهم أكثر الذين يحكمون بإسلام المقلد، قال: واختلفوا في العلم المعتبر في تحقق الإيمان، فقال بعض المتكلمين: هو العلم بالله، وصفاته على سبيل الكمال، ولهذا أقدم كل فريق على تكفير من خالفه في الصفات، وقال أهل الانصاف: بل المعتبر العلم بكل ما علم بالضرورة كونه من دين محمد صلى الله عليه وآله وسلم .
قال: فعلى هذا القول العلم بكونه تعالى عالماً بالعلم أو عالماً لذاته، وبكونه مرئياً أو غير مرئي لا يكون داخلاً في مسمى الإيمان.
قلت: ويناسب هذا ما ذكره الإمام الأعظم الأواه، المقتفي لآثار الأئمة الهداة، الهادي إلى الحق المبين الحسن بن يحيى القاسمي المؤيدي عليه السلام حيث قال في (البحث السديد): إن المسائل المدونة في علم الكلام غالب أدلتها متعارضة، ومبنية في الغالب على أدلة عقلية هي في التحقيق غير عقلية، وإلا لما كانت كل طائفة تزعم أن العقل يقضي بما دبت عليه ودرجت، وحاشا العقل السليم عن تغير ما فطره الله عليه أن يتعقل الشيء ونقيضه، فإن اجتماع النقيضين محال عند جميع العقلاء، فالأسلم من الوقوع في الخطر ترك الخوض في تفصيل الصفات، والكلام في حقائق تلك المسميات؛ لأن ما استحال تصوره استحال أن يعرف إلاعلى جهة الإجمال، فيكفي الموحد الرجوع إلى محكم المسموع، والإقرار بجملة ما جهل تفسيره.
وقال بشر بن عتاب المريسي، وأبو الحسن الأشعري: الإيمان التصديق بالقلب واللسان معاً حكاه عنهما الرازي.
قال: والمراد من التصديق بالقلب الكلام القائم بالنفس، وهو باطل لما تقدم من أن من ارتكب الكبائر، وأخل بالواجبات، وصدق بقوله وقلبه لم يوصف بأنه مؤمن دَيّن كامل الدين، كما لا يوصف بأنه صالح عفيف زاهد، وبهذا يجاب على من قال أنه إقرار باللسان، وإخلاص بالقلب.
وقال جهم بن صفوان: بل هو عبارة عن معرفة الله بالقلب حتى أن من عرف الله بقلبه ثم جحد بلسانه ومات قبل أن يُقِرَّ بِهِ فهو مؤمن كامل الإيمان، والمراد بالمعرفة العلم.
قال الرازي: أما معرفة الكتب، والرسل، واليوم الآخر فقد زعم أنها غير داخلة في حد الإيمان، وحكى الكعبي عنه أن الإيمان معرفة الله مع معرفة كل ما علم بالضرورة كونه من دين محمد صلى الله عليه وآله وسلم ، وحكى الإمام المهدي عليه السلام عن جهم، وبشر المريسي: أن الإيمان المعرفة بالله ورسوله، وصدقه فيما جاء به، وإن لم يعمل بما كلف لم يخرج عن الإيمان، وحجتهم أن الإيمان هو التصديق، وليس المراد التصديق باللسان، بل معرفة صدق المخبر واعتقاده على جهة القطع؛ إذ لو كان التصديق مجرد التلفظ بقول: صدقت أو نحوه من دون اعتقاد معناه لزم لو تكلم بها من لا يعرف معناها من العجم أن يكون ذلك تصديقاً منه لمخاطبه، والعقلاء يعلمون ببديهة عقولهم أن ذلك ليس بتصديق، فعلمنا أن التصديق إنما حصل بما صدر عنهم من الاعتقاد لا بلفظه، قالوا: ولقوله تعالى: {قَالَتِ الأَعْرَابُ آمَنَّا قُلْ لَمْ تُؤْمِنُوا}[الحجرات:14] فاقتضى أن التصديق باللسان ليس بإيمان، ويؤيده قوله تعالى: {وَلَمَّا يَدْخُلِ الإِيمَانُ فِي قُلُوبِكُمْ}[الحجرات:14] والداخل في القلب إنما هو المعرفة فقط فصح أنها هي الإيمان.
والجواب: أنا لا نقول أن الإيمان مجرد التلفظ، بل نعتبر معه الاعتقاد والعمل، وقد تقدم ما يكفي من الدلالة على اعتبار الثلاثة، ثم إنه يلزمكم أنه يجوز فيمن عرف الله وصدق رسله بقلبه ولم يقر بذلك بل أنكره أن يوصف بأنه مؤمن، ولا قائل به من الأمة.
قال في (الإحاطة): ولا يجوز أن يكون تصديقاً بالقلب فقط؛ لأن من صدق بقلبه، ولم يظهره عند التهمة من غير منع لم يوصف بأنه مؤمن، وقارب ذلك الكفر.
قال الإمام (المهدي) عليه السلام : فإن شرطتم أن ينضم إلى المعرفة الإقرار فهو كقول النجدات، وقال غيلان بن مسلم الدمشقي، والفضل الرقاشي: إنه الإقرار باللسان فقط، لكن شرط كونه إيماناً حصول المعرفة في القلب، قالوا: وليست المعرفة داخلة في مسمى الإيمان، والذي حكاه الإمام المهدي عن الغيلانية أن الإيمان هو الإقرار والمعرفة بما جاء عن الله مما أجمع عليه دون ما اختلف فيه، قالوا: فلا يكون مؤمناً حيث اختل فيه خصلة من خصال الإيمان نحو أن يجهل شيئاً مما أجمعت عليه الأمة أنه من الدين أو نحو ذلك، وحجتهم، أنه لا يحكم بنقل اللفظ عن معناه اللغوي إلا لدليل، ولا دليل يقضي بنقل الإيمان، بخلاف الصلاة والزكاة فإن المعلوم أنها قد نقلت، والجواب ما مر، ويلزمهم أن يكون من أقر بلسانه، وعرف بقلبه، وعاند بالتكبر والحسد، وقتل الأنبياء" مؤمناً، وقال محمد بن شبيب من المعتزلة: بل هو الإقرار بالله ورسوله، والمعرفة بذلك، وما نص عليه أو أجمع عليه، لا ما استخرج من مفهومات النصوص كالأسماء والأحكام المختلف فيها كلفظ الإيمان والفسق، فالراد لذلك لا يكفر عنده، وهذا كقول أبي حنيفة، سوى أن ابن شبيب جعل المسائل المجمع عليها من الإيمان بحيث لا إيمان لمنكرها، وأبو حنيفة لم يصرح بذلك، وحجته كحجة من قبله، والجواب ما تقدم.
وقالت الكرامية: بل هو الإقرار باللسان فقط وإن لم يعرف، فالمنافق عندهم مؤمن لإقراره بالله ورسوله وإن كان غير معتقد، وحجتهم أن الرسول صلى الله عليه وآله وسلم أمر بجهاد الناس حتى يؤمنوا، وفسر إيمانهم الذي به يحقنون دماءهم بأن يقولوا لا إله إلا الله، فدل على أن الإيمان هو مجرد النطق بالشهادتين، يؤيده قوله صلى الله عليه وآله وسلم لأسامة لما قتل من نطق بالشهادتين: ((هلا شققت على قلبه)) يريد أنا غير مأمورين بأن نؤاخذ بما في القلوب، بل من نطق بالشهادتين حكمنا بإيمانه، فصح أن الإيمان هو التصديق باللسان، وإن لم يطابقه الجنان.
والجواب: أن هذه المقالة باطلة لمخالفتها لقوله تعالى: {قُلْ لَمْ تُؤْمِنُوا..} ونحوها، وقد صرح الله تعالى بعدم إيمان المنافق في قوله تعالى: {مِنَ الَّذِينَ قَالُوا آمَنَّا بِأَفْوَاهِهِمْ وَلَمْ تُؤْمِنْ قُلُوبُهُمْ}[المائدة:41] ويلزمهم أن لا يصح وصف الأخرس الأبكم بأنه مؤمن لأنه لم ينطق.
قال في الإحاطة: ولأن المجنون والطفل قد يصدقان بالقول ولا يوصفان بأنهما مؤمنان، وأما الخبر فوارد في حقن الدماء، وأحكام الدنيا، والكلام فيما به يستحق الثواب والتعظيم، ويأمن به من العذاب الأليم، والمنافق في الدرك الأسفل من النار وهم يقرون بهذا.
قال الرازي: وزعموا أن المنافق مؤمن الظاهر كافر السريرة، فثبت له حكم المؤمنين في الدنيا، وحكم الكافرين في الآخرة.
قال الرازي: والذي نذهب إليه أن الإيمان عبارة عن التصديق بالقلب، وهو التصديق النفسي المعبر عنه بالحكم الذهني وهو غير العلم وغير النطق، وبيانه أن قولنا: العالم محدث ليس مدلوله كون العالم موصوفاً بالحدوث، بل حكم القائل بذلك، والحكم بثبوت الحدوث للعالم مغاير لثبوت الحدوث له، وهذا الحكم الذهني يعبر عنه في كل لغة بلفظ خاص مع اختلاف صيغها، ووحدة الحكم الذهني، وهذا يدل على أنه مغاير لهذه الصيغ والعبارات، ولأن هذه الصيغ دالة على ذلك الحكم، والدال غير المدلول.
قال: وهذا الحكم الذهني غير العلم؛ لأن الجاهل بالشيء قد يحكم به، فالمراد من التصديق بالقلب هو هذا الحكم الذهني، قال: وبقي هاهنا بحث لفظي، وهو أن المسمى بالتصديق في اللغة هو ذلك الحكم الذهني أم الصيغة الدالة عليه.
قلت: والظاهر أن هذا الذي يعبر عنه الرازي تارة بالحكم الذهني وتارة بالتصديق النفسي لا يعقل، ولا دليل عليه كالكلام النفسي، وأن العلم غير مغاير للتصديق، بل هو قسم منه لأنهم قسموا التصديق إلى علم، وجهل، وظن، وشك ووهم، ويعبر عنه بألفاظ مختلفة، ولا أعلم قائلاً بأن التصديق هو الألفاظ.
إذا عرفت هذا فاعلم: أنهم لا يريدون أن الإيمان مطلق التصديق، بل التصديق بكل ما عرف بالضرورة كونه من دين محمد صلى الله عليه وآله وسلم مع الاعتقاد. ذكره الرازي.
قالوا: والحجة على ذلك أنه في اللغة للتصديق، فلو صار في عرف الشرع لغير التصديق للزم أن يكون في القرآن ما ليس بعربي، وقد قال تعالى: {وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ رَسُولٍ إِلاَّ بِلِسَانِ قَوْمِهِ}[إبراهيم:4] وقال:{ قُرْآنًا عَرَبِيًّا}[يوسف:2].
قلنا: هذه الأسماء الشرعية بلسان قومه، وبيانه أَنما هو بلسانهم على ضربين: أحدهما: حقيقة، والثاني: بينهما مشابهة فيجري عليه كما يجري الأسد على القوي الباسل، وهو بلسان العرب لما بينهما من المشابهة، وهي القوة، والجراءة التي لهما، وكذلك الصلاة لما كانت مشتملة على دعاء، وفي الأصل هي الدعاء جاز أن تُجرى على هذه الأفعال، وقيل: أنها من صلي الفرس، وهو عظم في وركه، وقيل: المصلي الفرس الذي يتلو صاحبه، فلما كان بعض المصلين يلي بعضاً شبه به، وكذلك الصوم هو الإمساك في الأصل، والآن فإنه إمساك مخصوص بينهما هذه المشابهة إلى ما شاكل هذه الألفاظ، فلا يكون ذلك خروجاً عن لغتهم ولسانهم.
قال الإمام (الموفق) بالله عليه السلام : ولذلك قال المحصلون من أصحابنا: لا يجوز أن يكون لفظ شرعي إلا وبينه وبين ما هو موضوع له في الأصل مناسبة.
قالوا: لو نقل لاشتهر وتواتر؛ إذ هو مما تتوفر الدواعي إلى نقله.
قلنا: قد بينا شهرته وتواتره بما لا مزيد عليه وأنتم لا تنكرون هذا، بل قد صرح الرازي بأن عرف الشرع استقر على أن الإيمان تصديق مخصوص، وبهذا أجبتم على من ألزمكم أنه لو كان الإيمان هو التصديق فقط للزم أن يوصف به كل مصدق لأمر من الأمور حتى بالجبت والطاغوت، ومن هاهنا قال الإمام المهدي: إن هذا رجوع من الرازي إلى مذهب المعتزلة لأنه قد صرح بأن الشرع الذي قصر هذا الاسم على التصديق المخصوص، وهذا عين مذهبنا وحينئذٍ صار النقل مجمعاً عليه والحمد لله.
قالوا: المعدى بالباء باق على الأصل اتفاقاً فوجب في غير المعدى أن يكون كذلك.
قلنا: لا نسلم الاتفاق بل المعتبر القرينة، ثم إنه قد فرق الدليل.
قالوا: كلما ذكر الله الإيمان أضافه إلى القلب كقوله: {مِنَ الَّذِينَ قَالُوا آمَنَّا بِأَفْوَاهِهِمْ وَلَمْ تُؤْمِنْ قُلُوبُهُمْ...}[المائدة:41] ونحوها.
قلنا: إنما دلت على أن القول بمجرده ليس بإيمان حتى ينضم إليه العمل والاعتقاد كما مر.
قالوا: وردت آيات كثيرة بعطف الأعمال الصالحة على الإيمان كقوله تعالى: {وَمَنْ يُؤْمِنْ بِاللَّهِ وَيَعْمَلْ صَالِحاً...}[ التغابن:9] وأقرب شاهد عليه قوله تعالى: {وَيُقِيمُونَ الصَّلاَةَ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنفِقُونَ}[البقرة:3] والعطف يقتضي التغاير، وإلا كان تكراراً.
قلنا: هو في الآية الأولى حقيقة لغوية، ونحن لا نمنع استعمال المنقول في معناه الأول لقرينة، وهي هنا العطف، وأما الآية الثانية فيجوز أن يكون الإيمان فيها مستعملاً في معناه اللغوي كهذه، ويؤيده أن الرازي قد حكى الإجماع على أن الإيمان المُعدّى بالباء باق على أصل اللغة، ويجوز أن يكون من عطف الخاص على العام، أفرد الصلاة والزكاة بالذكر لفضلهما كأنهما من جنس آخر؛ لأنهما أُمَّا العبادات البدينة والمالية، وهما العيار على غيرهما، ألا ترى كيف سمى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم الصلاة عماد الدين، وجعل الفاصل بين الإسلام والكفر ترك الصلاة، وسمى الزكاة قنطرة الإسلام، وقال الله تعالى: {وَوَيْلٌ لِلْمُشْرِكِينَ ، الَّذِينَ لاَ يُؤْتُونَ الزَّكَاةَ}[فصلت:6،7] وقد ذكر أرباب المعاني أن التغاير في الوصف ينزل منزلة التغاير في الذات.
قالوا: قال تعالى: {وَإِنْ طَائِفَتَانِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ اقْتَتَلُوا فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا}[الحجرات:9] فسماهم مؤمنين مع أن فيهم من هو مستحق للعقاب.
قلنا: هما عند الخطاب مؤمنتان؛ لأنه أراد إذا اقتتلا في مستقبل وقت الخطاب،وأراد اللغوي،هذا وقد احتجوا بظواهر آيات كثيرة، وهي محمولة على المعنى اللغوي أو مؤولة، وستأتي في مواضعها إن شاء الله تعالى.
المسألة السابعة [استطراد في ذكر الإيمان]
قال الرازي: ليس من شروط الإيمان التصديق بجميع صفات الله عز وجل؛ لأن الرسول صلى الله عليه وآله وسلم كان يحكم بإيمان من لم يخطر بباله كونه تعالى عالماً لذاته أو بالعلم، ولو كان هذا وأمثاله شرطاً معتبراً في تحقق الإيمان لما جاز أن يحكم الرسول صلى الله عليه وآله وسلم بإيمانه قبل أن يجربه في أنه هل يعرف ذلك أم لا.
قلت: لعله أراد أنه ليس من شروط الإيمان معرفة ما يذكره المتكلمون في تفاصيل الصفات كما يفيده قوله: إن الرسول كان يحكم بإيمان من لا يعرف كونه عالماً بعلم أو لذاته، وقد تقدم له نظير هذا.
ويؤيده ما في الجامع الكافي عن محمد بن منصور المرادي (رحمه الله) حيث قال: وإنما أجابت الرسل صلى الله عليهم، وعلى نبينا أفضل الصلاة والسلام عند ما سئلت عن الله بالدلالة عليه، فشهدت له بالوحدانية، ووصفته بالقدرة والتدبير، وأوجبت بذلك على من أرسلها الله إليه معرفة الله، وتوحيده، والإيمان به أنه إله، واحد، خالق، ليس كمثله شيء، وإنما أجابت الرسل" بغاية الحجة على من سألها بما بين الله لها، وأنزل في كتبه إليها، لم تعد ذلك إلى غيره، ولن تكون حجة أبلغ على الله من حجج أنبياء الله التي أبلغتها عن الله خلقه، ولا أهدى لهم إن قبلوها، قال الله تبارك وتعالى: {قَالَتْ رُسُلُهُمْ أَفِي اللَّهِ شَكٌّ فَاطِرِ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ}[إبراهيم:10].
وقال إبراهيم عليه السلام في محاجته قومه، ودعائه إياهم إلى الله عز وجل، وتعريفه إياهم رب العالمين: {أَفَرَأَيْتُمْ مَا كُنْتُمْ تَعْبُدُونَ، أَنْتُمْ وَآبَاؤُكُمُ الأَقْدَمُونَ، فَإِنَّهُمْ عَدُوٌّ لِي إِلاَّ رَبَّ الْعَالَمِينَ، الَّذِي خَلَقَنِي فَهُوَ يَهْدِينِ...}[الشعراء:75-78] إلى قوله: {والذي يميتني ثم يحينِ}[الشعراء:81] فدلهم عليه لا شريك له بالقدرة والتدبير.
وقال موسى عليه السلام عند مسألة فرعون إياه: إذ يقول: {فَمَنْ رَبُّكُمَا يَامُوسَى، قَالَ رَبُّنَا الَّذِي أَعْطَى كُلَّ شَيْءٍ خَلْقَهُ ثُمَّ هَدَى، قَالَ فَمَا بَالُ الْقُرُونِ الأُولَى، قَالَ عِلْمُهَا عِنْدَ رَبِّي فِي كِتَابٍ لاَ يَضِلُّ رَبِّي وَلاَ يَنسَى}[طه:49-52].
وقال فرعون أيضاً: {وَمَا رَبُّ الْعَالَمِينَ، قَالَ رَبُّ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا إنْ كُنتُمْ مُوقِنِين}[الشعراء:23،24]. {قَالَ رَبُّ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ وَمَا بَيْنَهُمَا إِنْ كُنْتُمْ تَعْقِلُونَ}[الشعراء:28]، فلم يتعد موسى من الجواب عند مسألة فرعون إياه غير ما أنبأه الله في الكتاب، وفرعون اللعين أعمى العمين، وأعتى العاتين، وأخبث المتعنتين، أجابه موسى عن الله عز وجل بالدلالة من خلق الله عليه، وكذلك نبيئنا محمد صلى الله عليه وآله وسلم حين سأله قومه عن الله سبحانه وتعالى إذ يقولون: {مَنْ يُعِيدُنَا قُلِ الَّذِي فَطَرَكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ}[الإسراء:51] وقال: لا شريك له: {أَوَلَمْ يَرَ الإِنسَانُ أَنَّا خَلَقْنَاهُ مِنْ نُطْفَةٍ فَإِذَا هُوَ خَصِيمٌ مُبِينٌ، وَضَرَبَ لَنَا مَثَلاً وَنَسِيَ خَلْقَهُ قَالَ مَنْ يُحْيِ الْعِظَامَ وَهِيَ رَمِيمٌ، قُلْ يُحْيِيهَا الَّذِي أَنشَأَهَا أَوَّلَ مَرَّةٍ وَهُوَ بِكُلِّ خَلْقٍ عَلِيمٌ ، الَّذِي جَعَلَ لَكُمْ مِنَ الشَّجَرِ الأَخْضَرِ نَاراً فَإِذَا أَنْتُمْ مِنْهُ تُوقِدُونَ}[يس:77-80] فلم يكلف الله نبينا صلى الله عليه وآله وسلم من الحجة والجواب غير ما قاله في الكتاب، وبلغنا أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال له قومه: انسب لنا ربك فنزل عليه جبريل عليه السلام بسورة: {قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ، اللَّهُ الصَّمَدُ}[الإخلاص:1،2] ونحو هذا ذكره الإمام الحسن بن يحيى عليه السلام في البحث السديد ثم قال: والمذكورون " في مقام البيان عن الله ذي
الجلال.
قلت: وقد ورد في السنة ما يؤيد هذا قال صلى الله عليه وآله وسلم : ((تفكروا في الخلق ولا تفكروا في الخالق فإنكم لم تقدروا قدره)).
وعن ابن عباس جاء رجل إلى نبي الله صلى الله عليه وآله وسلم فقال: يا نبي الله، علمني من غرائب العلم، فقال له: ((وما صنعت في رأس العلم حتى تسألني عن غرائبه؟)) فقال الرجل: وما رأس العلم يا رسول الله؟ قال: ((معرفة الله حق معرفته)) فقال: يارسول الله، وما معرفة الله حق معرفته؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم : ((أن تعرفه بلا مثل ولا شبيه، وتعرفه إلهاً، واحداً، صمداً، أولاً، آخراً، ظاهراً، باطناً، لا كفؤاً له ولا مثل)).
وعن ابن عباس قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم : ((خمس لا يعذر بجهلن أحد: معرفة الله أن تعرف الله ولا تشبهه بشيء ومن شبه الله بشيء أو زعم أن الله يشبهه شيء فهو من المشركين، والحب في الله والبغض في الله، والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، واجتناب الظلم)) فلم يزد صلى الله عليه وآله وسلم على هذا، وهو في مقام التعليم وبيان الواجب.
وروي أن رجلاً قام إلى علي فقال: يا أمير المؤمنين، كيف كان ربنا؟ فقال: (كيف لم يكن وربنا لم يزل تبارك وتعالى، وإنما يقال لشيء لم يكن كيف كان، فأما ربنا فهو قبل القبل، وقبل كل غاية، انقطعت الغايات عنده، فهو غاية كل غاية)، فقال: كيف عرفته؟ فقال: (أعرفه بما عرف به نفسه {لَمْ يَلِدْ وَلَمْ يُولَدْ ، وَلَمْ يَكُنْ لَهُ كُفُواً أَحَدٌ}[الإخلاص:2،4] لا يدرك بالحواس، ولا يقاس بالناس، متدانٍ في علوه، عال في دنوه: {مَا يَكُونُ مِنْ نَجْوَى ثَلاَثَةٍ إِلاَّ هُوَ رَابِعُهُمْ وَلاَ خَمْسَةٍ إِلاَّ هُوَ سَادِسُهُمْ وَلاَ أَدْنَى مِنْ ذَلِكَ وَلاَ أَكْثَرَ إِلاَّ هُوَ مَعَهُمْ أَيْنَ مَا كَانُوا}[المجادلة:7] قريب غير ملتصق، وبعيد غير متقصٍ، يعرف بالعلامات، ويثبت بالآيات، يوحد ولا يبعض، ويحقق ولا يمثل، لا إله إلا هو الكبير المتعال).
وروي أنه قام إليه عليه السلام رجل وهو في جامع الكوفة فقال: يا أمير المؤمنين، انعته لنا حتى كأنا نراه، وننظر إليه، فسبح عليه السلام ربه عز وجل وعظمه، وقال: (الحمد لله الذي هو أول، ولا بُدِئ منماء، ولا ممازج مع ما، ولا حال بما، ليس بشبح فيرى، ولا بجسم فيتجزى، ولا بذي غاية فيتناهى، ولا بمحدث فيتصرف، ولا بمستتر فيتكشف، ولا كان بعد أن لم يكن، بل حارت الأوهام أن تكيف المكيف للأشياء، من لم يزل لا بمكان، ولا يزول لاختلاف الأزمان، ولا يغلبه شأن بعد شأن، البعيد من تخييل القلوب، المتعالي عن الأشباه والضروب، علام الغيوب، فمعاني الخلق عنه منفية، وسرائرهم عليه غير خفية، المعروف بغير كيفية، لا يدرك بالحواس، ولا يقاس بالناس، لا تدركه الأبصار، وهو يدرك الأبصار، ولا تحيط به الأقدار، ولا تقدره العقول، ولا تقع عليه الأوهام).
فانظر إلى كلام أمير المؤمنين عليه السلام الصريح الدلالة في أن المعرفة الإجمالية كافية، وبالمراد من النجاة وافية، وكم له عليه السلام من هذا القبيل مما يورده مورد البيان، وتعليم الجاهل الحيران.
وفي الجامع الكافي عن الحسن بن يحيى عليه السلام أن سائلاً سأل علياً عليه السلام فقال: صف لنا ربك حتى نزداد به معرفة وله حباً، فقال عليه السلام : (عليك يا عبد الله بما دل عليه القرآن من صفته، وقدمك فيه لترسل بينك وبين معرفته، فأتم به واستغن بنور هدايته، فإنما هي نعمة وحكمة أوتيتها، فخذ ما أوتيت وكن من الشاكرين).
وقد تقدم قوله عليه السلام : (فما دلك القرآن عليه من صفته فأتم به...) إلى آخره.
وقال عليه السلام : (ومن تفكر في غير الذات وحد، ومن تفكر في الذات ألحد).
وقال عليه السلام : (العقل آلة أعطيها العبد لاستعمال العبودية، لا لإدراك الربوبية).
وقال عليه السلام : (كل ما خطر ببالك فهو على خلاف ما خطر ببالك).
وقال عليه السلام : (التوحيد أن لا تتوهمه).
فانظر إلى هذه الكلمات القصيرة، الجامعة النافعة، التي يوردها أمير المؤمنين عليه السلام تعليماً لأهل الحيرة والريب، أتظن أنه قصر في التعريف، أو أوقعهم في التلبيس، كيف وهو باب مدينة العلم، والمبين للأمة ما اختلفوا فيه من الحكم.
وقال زين العابدين عليه السلام : أسماؤه تعبير، وأفعاله تفهيم، وذاته حقيقة، وكنهه تفريق بينه وبين خلقه، وقال القاسم بن إبراهيم عليه السلام : إن سئل عن اسمه: فهو الله الرحمن الرحيم، وإن سئل عن صفته: فهو الله العليم القدير، وإن سئل عن ذاته: فهو الله الذي ليس كمثله شيء.
وقال (الناصر) عليه السلام : فلم يعرف الله سبحانه من وصف ذاته بغير ما وصف به نفسه، وسئل الإمام المطهر بن يحيى عليه السلام عن العامي الذي يعرف كون الله تعالى خالقاً رازقاً، وهو غير عالم بسائر الصفات، ومع ذلك أنه ناطق بالشهادتين آتٍ بالواجب، مجتنب للقبيح.
فأجاب عليه السلام : بأن هذا من خيار أهل الإيمان، وأن الإيمان الجملي كاف في حقهم، وأنه الذي كلفوا به، وهذا بحث نفيس فشد به يديك، وعض عليه بناجذيك تنج من عطب، وتتخلص من نشب، والحمد لله رب العالمين.
المسألة الثامنة [أقسام المعرفة]
من عرف الله تعالى بالدليل ولما تمت المعرفة مات، ولم يجد من الوقت ما يتلفظ فيه بكلمة الإيمان، ولا يأتي فيه بالعمل بالأركان، فهو مؤمن؛ لأن التمكين من تمام التكليف فلا يصح مع عدمه: {لاَ يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْساً إِلاَّ مَا آتَاهَا}[الطلاق:7].
قال القاسم بن إبراهيم عليه السلام : العبادة تنقسم على ثلاثة أوجه:
أولها: معرفة الله.
والثاني: معرفة ما يرضيه وما يسخطه. والثالث: اتباع ما يرضيه، واجتناب ما يسخطه، فهذه الوجوه كلها هي كمال العبادة، وجميع العبادات غير خارجة منها، فمعرفة الله عبادة كاملة لمن ضاق عليه الوقت، وهي منفصلة عن العبادة الثانية لمن تراخت به الأيام إلى وصول التعبد، وهو الأمر والنهي الذي فيه رضى المعبود وسخطه، ثم العمل بما يرضيه، واجتناب ما يسخطه عبادة منفصلة من الوجهين الأولين لمن تراخى به الوقت إلى استماع كيفية العبادة على لسان الرسول الذي جاءت الشريعة على يديه. وكلامه عليه السلام نص في المقصود، وقد حكى بعض العلماء الاتفاق على أن من آمن بالله ورسوله ثم اخترم قبل أن يتعين عليه عمل من أعمال الجوارح فهو مؤمن، وإن لم يعمل.
المسألة التاسعة [الإيمان بالغيب]
اعلم: أن الله تعالى قد جعل من صفات المتقين الإيمان بالغيب، فينبغي إمعان النظر في معرفة المعنى المراد بالغيب المذكور، فقيل: المراد أنهم يؤمنون بالله حال الغيب كما يؤمنون به حال الحضور، لا كالمنافقين الذين {إِذَا لَقُوا الَّذِينَ آمَنُوا قَالُوا آمَنَّا وَإِذَا خَلَوْا إِلَى شَيَاطِينِهِمْ قَالُوا إِنَّا مَعَكُمْ}[البقرة:14] وهذا قول أبي مسلم، ونظيره قوله تعالى: {ذَلِكَ لِيَعْلَمَ أَنّي لَمْ أَخُنْهُ بِالْغَيْبِ}[يوسف:52] فيكون المراد مدح المؤمنين بأن ظاهرهم موافق لباطنهم.
وقال عاصم بن أبي النجود: الغيب القرآن، وقال الضحاك كلمة التوحيد وما جاء به محمدٌ صلى الله عليه وآله وسلم ، وقال الكلبي ما لم ينزل من القرآن، وقال زر بن حبيش، وابن جريج، وروي عن ابن عباس أنه: علم الوحي، وقال عبد الله بن هاني: ما غاب من علوم القرآن، وقال الحسن: أمر الآخرة، وقال عطاء، وابن جبير وهو ظاهر كلام القاسم بن إبراهيم عليه السلام : أنه الله تعالى، وقيل: ما أظهره الله على أوليائه من الكرامات، وقيل: القضا والقدر، وقال جماعة من المحققين: الغيب ماغاب عن الحس والعقل غيبة كاملة بحيث لا يدرك بواحد منهما ابتداء بطريق البداهة، وهو قسمان:
قسم لا دليل عليه وهو الذي أريد بقوله تعالى: {وَعِنْدَهُ مَفَاتِحُ الْغَيْبِ لاَ يَعْلَمُهَا إِلاَّ هُوَ}[الأنعام:59]، وقسم نصب لنا عليه دليلاً، وعلى هذا فالمراد من الآية مدح المتقين بأنهم يؤمنون بالغيب الذي عليه دليل بأن يتفكروا ويستدلوا فيؤمنوا به، فيدخل فيه العلم بالله وصفاته، والإيمان بالملائكة، والأنبياء، والعلم بالأحكام والشرائع، والبعث والحساب، والوعد والوعيد، وغير ذلك.
قال الرازي: فإن في تحصيل هذه العلوم بالاستدلال مشقة فيصلح أن يكون سبباً لاستحقاق الثناء العظيم .
قلت: وقد دخل في هذا كثير مما ذكره المفسرون في الأقوال السابقة، قال القاسم بن إبراهيم عليه السلام : واليقين بالغيب فإنما يكون بما يدركه الفكر لا بما تدركه العيون، فمن لم يفكر بقلبه فيما غاب عنه لم يوقن أبداً بشئ منه، والآية في كل ما كانت من الأشياء فيه، فهي الدلالة البينة المستدل بها عليه، ومن استدل بآيات الله على ما غاب صح يقينه وإن لم يره ولم تبصره عينه، وكان أصح عنده صحة، وأوضح له ضحة من كل وضيح من الأمور كلها فاستنار، وأيقن به كما يوقن بالليل والنهار، بل كان أصح عنده في الإيقان، من كل ما أدركه برؤية وعيان، لفضل درك اليقين، على درك الرؤية والعين، ومن لم يفكر لم يوقن ولم يبصر، وإنما يوقن من فكر، ويبصر من نظر كما قال الله سبحانه: {أَوَلَمْ يَتَفَكَّرُوا}[الأعراف:184] {أَوَلَمْ يَنظُرُوا}[الأعراف:185] {أَوَلَمْ يَرَوْا}[الرعد:41] تنبيهاً من الله بذلك كله لهم على أن يوقنوا فلا يمتروا فيما عرفهم الله سبحانه من نفسه بآياته، ودلهم على معرفته من غيب أموره بدلالاته، فليس يوصل إلى معرفته، واليقين به، وما احتجب عن العباد من غيبه إلا بما جعل الله من الدلالات، وأبان من الآيات، كما قال سبحانه: {سَنُرِيهِمْ آيَاتِنَا فِي الآفَاقِ وَفِي أَنْفُسِهِمْ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُ الْحَقُّ أَوَلَمْ يَكْفِ بِرَبِّكَ أَنَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ، أَلاَ إِنَّهُمْ فِي مِرْيَةٍ مِنْ لِقَاءِ رَبِّهِمْ أَلاَ إِنَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ مُحِيط}[فصلت:53،54].
وقال عليه السلام وفي مدحة الله سبحانه للأبرار لما آمنوا به مما غاب عن الأبصار، واستدلوا عليها بالنظر والأفكار، من غيب المعرفة بالله سبحانه وإيقانه، وما لا يدرك أبداً من الله برؤيته جهرة ولا عيانه، ولا ما يصاب فيه أبداً حقيقة العلم واليقين، إلا بما جعل الله عليه من الشواهد والدليل المبين، الذي هو أحق حقيقة، وأوثق وثيقة، وأثبت يقيناً، وأنور تبييناً، من كل معاينة كانت أو تكون أورؤية، أو درك حاسة ضعيفة أو قوية، ما يقول الله سبحانه: {الم، ذَلِكَ الْكِتَابُ لاَ رَيْبَ فِيهِ هُدًى لِلْمُتَّقِينَ ، الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ}[البقرة:1-3] تبرية من لله لهم فيما غاب عنهم في جميع أموره من كل شك وريب.
وقال في البحر المحيط: الغيب متعلق بما أخبر به الرسول صلى الله عليه وآله وسلم من تفسير الإيمان حين سئل عنه، وهو الله، وملائكته، وكتبه، ورسله، واليوم الآخر، والقدر خيره وشره.
فإن قيل: لو كان المراد بالغيب الأشياء الغائبة كما ذكرتم لكان قوله تعالى: {وَالَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِمَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ...}[البقرة:4] الآية تكراراً.
قلنا: قوله تعالى: {الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ}[البقرة:3] يتناول الإيمان بالغائبات على الإجمال، وقوله: {وَالَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِمَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ}[البقرة:4] يتناول بعضها فكان من عطف التفصيل على الجملة، وهو جائز كما في قوله تعالى: {وَمَلاَئِكَتِهِ وَرُسُلِهِ وَجِبْرِيلَ وَمِيكَالَ}[البقرة:98].
فإن قيل: فيلزمكم أن يصح الإطلاق بأن الإنسان يعلم الغيب.
قلنا: قد بينا أن الغيب ينقسم إلى ما عليه دليل، وإلى ما ليس عليه دليل، ويختص الباري تعالى بالثاني، وأما الذي عليه دليل فلا يمتنع أن نقول: نعلم من الغيب ما لنا عليه دليل ويفيد الكلام ولا يلتبس، وعلى هذا الوجه قال العلماء: الاستدلال بالشاهد على الغائب أحد أقسام الأدلة.
فإن قيل: لفظ الغيب إنما يجوز إطلاقه على من يجوز عليه الحضور، فعلى هذا لا يجوز إطلاق لفظ الغيب على ذات الله تعالى وصفاته.
قلنا: أطلقه المتكلمون على من لا يجوز عليه الحضور فإنهم يقولون: هذا من باب إلحاق الغائب بالشاهد، ويريدون بالغائب ذات الله تعالى وصفاته وهم أعرف بما يجوز إطلاقه على الباري تعالى وما لا يجوز، وقيل: يجوز أن يكون قوله بالغيب في موضع الحال كما في قوله تعالى: {الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ بِالْغَيْبِ}[الأنبياء:49] أي: يؤمنون غائبين عن المؤمن به، وهو النبي صلى الله عليه وآله وسلم ، ويدل على هذا القول ما رواه أبو سعيد الخدري عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أن رجلاً قال: يا رسول الله طوبى لمن رآك وآمن بك، قال: ((طوبى لمن رآني وآمن بي، وطوبى ثم طوبى ثم طوبى لمن آمن بي ولم يرني)).
وعن أنس قال: قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم : ((ليتني قد لقيت إخواني فقال له رجل من أصحابه: أولسنا إخوانك؟)) قال: ((بلى أنتم أصحابي، وإخواني قوم يأتون من بعدي يؤمنون بي ولم يروني، ثم قرأ: الذين يؤمنون بالغيب ويقيمون الصلاة)) وقيل: في إسناده أبو هدبة وهو كذاب.
قلت: للحديث شواهد ذكرها في الدر المنثور، وروي أن أصحاب ابن مسعود (رضي الله عنه) ذكروا أصحاب رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وإيمانهم، فقال ابن مسعود: إن أمر محمد كان بيناً لمن رآه، والذي لا إله غيره ما آمن مؤمن أفضل من إيمان بغيب، ثم قرأ هذه الآية، وقيل: المراد بالغيب القلب لأنه مستور، والمعنى يؤمنون بقلوبهم لا كالذين يقولون بأفواههم ما ليس في قلوبهم.
قلت: ويجوز أن يراد به ماغاب عنا من سلطان الله وملكوته، كما قال علي عليه السلام : (سبحانك ما أعظم ما نرى من خلقك، وما أصغر عِظَمهِ في جنب قدرتك، وما أهول ما نرى من ملكوتك، وما أحقر ذلك فيما غاب عنا من سلطانك)، وقال عليه السلام : (وما الذي نرى من خلقك، ونعجب له من قدرتك، ونصفه من عظيم سلطانك، وما يغيب عنا منه، وقصرت أبصارنا عنه، وانتهت عقولنا دونه، وحالت ستور الغيب بيننا وبينه أعظم). ويجوز أن يكون الغيب ما جهلنا تفسيره من صفات الباري التي لم يدلنا عليها القرآن، كما قال علي عليه السلام : (واعلم أن الراسخين في العلم هم الذين أغناهم عن اقتحام السدد المضروبة دون الغيوب، الإقرار بجملة ما جهلوا تفسيره من الغيب المحجوب...) إلى آخره، وقد مر.
وقال بعض الشيعة: المراد بالغيب المهدي المنتظر.
قلت: هو مما غاب عن الحاسة، وقد قام عليه الدليل، فهو داخل في جملة ما تقدم، ولا وجه لقصر الآية عليه.
المسألة العاشرة [المراد بإقامة الصلاة]
إقامة الصلاة عبارة عن أدائها، عبر عنه بالإقامة لأن القيام بعض أركانها كما عبر عنها بالقنوت، وهو القيام، وبالركوع والسجود والتسبيح لوجودها فيها، وقيل: أراد تعديل أركانها، وحفظها من أن يقع في شيء من فرائضها وسننها وآدابها خلل، من أقام العود إذا قومه وعدله، وقيل: الدوام عليها والمحافظة عليها كما قال تعالى: {الَّذِينَ هُمْ عَلَى صَلاَتِهِمْ دَائِمُونَ}[المعارج:23] {وَالَّذِينَ هُمْ عَلَى صَلاَتِهِمْ يُحَافِظُونَ}[المعارج:34] من قامت السوق إذا نفقت، وأقمتها إذا جعلتها نافقة؛ لأنه إذا حوفظ عليها كانت كالشيء النافق الذي تتوجه إليه الرغبات، ويتنافس فيه المحصلون، وإذا عطلت وأضيعت كانت كالشيء الكاسد الذي لا يرغب فيه، وقيل: بل عبارة عن التجلد والتشمير لأدائها من غير فتور ولا توان، من قولهم: قام بالأمر وأقامه إذا جد فيه واجتهد.
قال الرازي: والأولى حمل الكلام على ما يحصل معه الثناء العظيم، وذلك لا يحصل إلا إذا حملنا الإقامة على إدامة فعل من غير خلل في شرائطها، ولذلك فإن القيم بأرازق الجند إنما يوصف بكونه قيماً إذا أعطى الحقوق من دون بخس ونقص، ولهذا يوصف الله تعالى بأنه قائم وقيوم؛ لأنه يجب دوام وجوده، ولأنه يديم إدرار الرزق على عباده.
قلت: ويؤيد هذا قول ابن عباس: يقيمونها بفروضها؛ ولأن إقامتها من صفات المتقين، وقد تقدم أنهم الذين يأتون بالواجب، ويجتنبون القبيح، وهي أم الواجبات، بل والناهية عن المقبحات، فلا يكون متقياً من لم يؤدها كاملة الأركان، تامة الشروط، سالمة من الخلل، وقد قال صلى الله عليه وآله وسلم : ((الصلاة قربان كل تقي)) رواه علي عليه السلام .
وعن ابن عباس إقامة الصلاة: إتمام الركوع والسجود، والصلاة والخشوع، والإقبال عليها فيها.
وعن قتادة إقامة الصلاة: المحافظة على مواقيتها ووضوئها، وركوعها وسجودها، والصلاة في الشرع: عبارة عن أفعال وأذكار مخصوصة مع النية.
قال الجمهور: والمراد هنا الفرض والنفل؛ إذ الاسم يتناولهما، وقال ابن عباس: بل المراد الصلوات الخمس، ورجحه الرازي قال: لأنه الذي يقف عليه الفلاح؛ لأنه صلى الله عليه وآله وسلم لما بين للأعرابي صفة الصلاة المفروضة قال: والله لا أزيد عليها ولا أنقص منها، فقال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم : ((أفلح إن صدق)).
المسألة الحادية عشرة [الآثار الدالة على أهمية الصلاة]
في شيء من الآثار التي وردت في تأكيد أمر الصلاة وإعظامها.
اعلم: أنه قد جاء في فضلها الكثير الذي يعجزنا حصره، لو لم يكن إلا ما ورد في الكتاب العزيز من تكرار ذكرها، وتأكيد الوصاة بها، والمحافظة عليها لكان بعضه كافياً، وقال النبي صلى الله عليه وآله وسلم : ((الصلاة عمود الدين فمن تركها فقد هدم الدين)).
وقال صلى الله عليه وآله وسلم : ((علم الإيمان الصلاة، فمن فرغ لها قلبه، وقام بحدودها فهو المؤمن))، وقالت أم سلمة: كان رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يحدثنا ونحدثه، فإذا حضرت الصلاة فكأنه لم يعرفنا ولم نعرفه.
وروي عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم أنه قال: ((الصلاة إلى الصلاة كفارة لما بينهما ما اجتنبت الكبائر)).
وقال علي عليه السلام : (تعاهدوا أمر الصلاة، وحافظوا عليها، واستكثروا منها، وتقربوا بها فإنها كانت على المؤمنين كتاباً موقوتا، ألا تسمعوا إلى جواب أهل النار حين سئلوا: {مَا سَلَكَكُمْ فِي سَقَرَ، قَالُوا لَمْ نَكُ مِنَ الْمُصَلِّينَ}[المدثر:42،43]، وإنها لتحت الذنوب حت الورق، وتطلقها إطلاق الرِّبَق، وشبهها رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم بالحمة تكون على باب الرجل، فهو يغتسل منها في اليوم والليلة خمس مرات، فما عسى أن يبقى عليه من الدرن، وقد عرف حقها رجال من المؤمنين الذين لا تشغلهم عنها زينة متاع، ولا قرة عين من ولد ولا مال، يقول الله سبحانه: {رِجَالٌ لاَ تُلْهِيهِمْ تِجَارَةٌ وَلاَ بَيْعٌ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ وَإِقَامِ الصَّلاَةِ وَإِيتَاءِ الزَّكَاةِ}[النور:37] وكان رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم نصباً بالصلاة بعد التبشير له بالجنة لقول الله سبحانه: {وَأْمُرْ أَهْلَكَ بِالصَّلاَةِ وَاصْطَبِرْ عَلَيْهَا}[طه:132] فكان يأمر أهله ويصبر عليها نفسه).
وقال عمر: إن الرجل ليشيب عارضاه في الإسلام ما أكمل الله له صلاة، قيل له: وكيف ذلك؟ قال: لا يتم خشوعها وتواضعها، وإقباله على ربه فيها.
وقيل للحسن (رحمه الله): ما بال المتهجدين من أحسن الناس وجوهاً؟ قال: لأنهم خلوا بالرحمن، فألبسهم نوراً من نوره.
وقال بعض الصالحين: إن العبد ليسجد السجدة عنده أنه متقرب بها إلى الله، ولو قسم ذنبه في تلك السجدة على أهل مدينة لهلكوا، قيل: وكيف ذلك؟ قال: يكون ساجداً وقلبه عند غير الله، إنما هو مصغ إلى هواء أو دنيا.
وقال ابن مسعود: الصلاة مكيال فمن وفى وفي له، ومن طفف فويل للمطففين.
المسألة الثانية عشرة [في الرزق]
الرزق في اللغة: الحظ والنصيب، وأما في عرف الشرع فقد اختلفوا فيه.
فقالت العدلية: هو كل ما له الانتفاع به وليس لأحد منعه عنه، ومن ثم قالوا: الحرام ليس برزق، وقالت المجبرة: هو ما ينتفع به مطلقاً، وقيل: بل هو ما يؤكل أو يستعمل، ورد بأن الله تعالى قد أمرنا بالإنفاق من الرزق، فلو كان كما ذكرتم لما أمكن إنفاقه، وقيل: بل هو ما يملك، ورد بأن العالم ملك لله تعالى ولا يوصف بأنه رزقه، والكلأ رزق للبهيمة ولا يوصف بأنه ملكها، ويقول الإنسان: اللهم ارزقني ولداً صالحاً، وزوجة صالحة، وعقلاً أعيش به، ولا يوصف واحد منها بالملك.
قال الإمام المهدي عليه السلام : واعلم أن الرزق يفارق الملك بأن الرزق اسم للملك وغير الملك كالماء والكلاء، ولهذا قال ابن عباس في تفسير قوله تعالى: {وَفِي السَّمَاءِ رِزْقُكُمْ وَمَا تُوعَدُونَ}[الذاريات:22] والله ما علمت لكم رزقاً في السماء إلا المطر، ومن ثم يقال: رزق البهيمة، ولا يقال: ملكها، وكذلك يفترق الحال بين الرزق والمال بأن الرزق قد يطلق على ما لا يسمى مالاً كالماء والكلأ، بخلاف المال، حجة العدلية أنه يجب الشكر على الرزق، ومن أخذ مال الغير فأعطاه آخر لم يحسن أن يشكر؛ لأنه ظلم وقبيح، فثبت أن الله لا يرزقنا مال الغير على وجه الظلم، وإذا ثبت في مال الغير ثبت في غيره مما منع الشرع من تناوله أنه لا يسمى رزقاً، ولو كان رزقاً لما عوقب أحد على تناول رزقه، ولذلك عبنا على من حد الرزق بما يغتذى به، ويتمكن من الإغتذاء به؛ لأن مال الغير يمكن الإغتذاء به، وليس برزق للغاصب ونحوه، ولأن الحرام لو كان رزقاً لجاز أن ينفق الغاصب منه لقوله تعالى: {أَنفِقُوا مِمَّا رَزَقْنَاكُمْ}[البقرة:254] وأجمع المسلمون على أن الغاصب لا يجوز له أن ينفق مما أخذه، بل يجب رده، فدل على أن الحرام لا يكون رزقاً، ولأن الله تعالى مدح المنفقين من أرزاقهم قال تعالى: {وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنفِقُونَ}[البقرة:3] وهو سبحانه لا يأمر بإنفاق مال الغير لأنه قبيح والله تعالى لا يفعل القبيح، فلو كان الحرام رزقاً لكان قد أمر بالإنفاق منه؛ لأن المدح على الفعل يتضمن البعث عليه، وقد اعترض الإمام المهدي عليه السلام هذا الاحتجاج بأنه إنما يلزم الخصم لو قال إنه لا يسمى رزقاً إلا الحرام، فأما مع قوله بأن الحلال يسمى رزقاً أيضاً، فهذا الاحتجاج لا ينتهض عليه لأنه في الآية لم يأت بلفظ يعم كل ما يسمى رزقاً، وإنما قال: {وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنفِقُونَ}[البقرة:3] ويحتمل أن البعض الذي تعلق المدح بإنفاقه هو الحلال دون الحرام فلا
يلزم ما ذكروا من أنه يقال: إنما مدح على إنفاق ما كان رزقاً منه لا من غيره؛ لأنه قال: {وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنفِقُونَ} والحرام وإن سمي رزقاً فليس رزقاً منه، بل الغاصب هو المرتزق له الذي صيره رزقاً لنفسه، سيما على القول بالعدل، فلا يستقيم هذا الاحتجاج كما ترى، وكذلك احتجاجهم بقوله تعالى: {أَنفِقُوا مِمَّا رَزَقْنَاكُمْ}[البقرة:254] وهو سبحانه لا يأمر بإنفاق الحرام، يعترض بمثل ما ذكرنا.
والجواب: أنه إذا ثبت أن الله تعالى لا يفعل القبيح، ولا يأمر به، لزم أن الله تعالى لايرزقنا إلا الحلال؛ لأنه قد نهانا عن تناول الحرام والانتفاع به، فكيف يجعله لنا رزقاً وهو ينهانا عنه هل هذا إلا خلف، ومناقضة؟ وبيانه أن جعله رزقاً يقتضي جواز الانتفاع به وتناوله؛ لأن الخصم يقول: الرزق ماينتفع به والنهي يقتضي المنع من تناوله والانتفاع به، وهذا هو معنى التناقض والاختلاف، وحاشا أحكام الله من ذلك.
وأما قوله: يحتمل أن البعض الذي تعلق المدح بإنفاقه هو الحلال دون الحرام.فجوابه: أن المراد بالتبعيض الدلالة على أن الممدوح عليه إنفاق بعض الحلال لا كله، كما سيأتي إن شاء الله.
ومن حجج أصحابنا: أن الأشياء التي لا ينتفع بها كالسموم لا تسمى رزقاً اتفاقاً، فكذلك ما نهينا عن تناوله والانتفاع به كمال الغير، والجامع عدم جواز الانتفاع، ومنها: أن الله تعالى لم يسم رزقاً إلا ما أباحه دون ما حرمه، قال تعالى:{ وَمِنْ ثَمَرَاتِ النَّخِيلِ وَالأَعْنَابِ تَتَّخِذُونَ مِنْهُ سَكَراً وَرِزْقاً حَسَناً}[النحل:67] فسمى ما أباح الانتفاع به من ثمرات النخيل والأعناب رزقاً، ولم يسم المسكر رزقاً، ومنها: أن العرب لا تسمي ما تعتقد تحريمه رزقاً كالبحيرة، والسائبة، والوصيلة، والحام؛ لأن الرزق عندهم ما ينتفع به، وهذه لا ينتفع بها عندهم فلا تسمى رزقاً لهم، والقرآن نزل بلسانهم، ويقاس عليها ما أخذ ظلماً بجامع المنع من كل.
واعلم: أنا قد اتفقنا نحن والخصم على أن الحلال يسمى رزقاً، واختلفنا في الحرام فإن أتى بدليل صحيح صريح غير محتمل ولا مجازي من كتاب الله، أو من سنة رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ، أو من لغة العرب يدل على أن الحرام يسمى رزقاً سمعنا وأطعنا، وإلا اقتصرنا على ما قد علمنا، واتفقنا عليه، وقضت به قواعد العدل من أنه اسم للحلال دون غيره؛ إذ هو الذي صح نقله ولم يصح غيره.
فإن قالوا: حجتنا قوله تعالى: {وَمَا مِنْ دَابَّةٍ فِي الأَرْضِ إِلاَّ عَلَى اللَّهِ رِزْقُهَا}[هود:6] وقد يعيش الرجل طول عمره لا يأكل إلاَّ من الحرام، فلو لم يكن رزقاً للزم أن يقال: إن الله لم يرزقه طول عمره، ومن السنة ما روي عنه صلى الله عليه وآله وسلم في حديث عمرو بن قرة حين أتاه فقال: يا رسول الله إن الله كتب علي الشقوة فلا أرى أرزق إلا من دفي بكفي فأذن لي في الغناء من غير فاحشة، فقال صلى الله عليه وآله وسلم : ((لا آذن لك ولا كرامة ولا نعمة، كذبت أي عدو الله، والله لقد رزقك الله حلالاً طيباً فاخترت ما حرم الله عليك من رزقه مكان ما أحل الله لك من حلاله)).
وهذا صريح في أن الرزق قد يكون حراماً، وأما اللغة: فلأن الرزق في لسانهم هو الحظ والنصيب كما تقدم، فمن انتفع بالحرام فقد صار حظاً ونصيباً له فوجب أن يكون رزقاً له.
فالجواب: أما الآية الكريمة فمعناها أن الله تعالى مكن كل دابة من تناول رزقها وهداها إليه، وهذا التمكين لا يمنع اختيار الترك والعدول إلى الحرام، كما في قوله تعالى: {إِنَّ عَلَيْنَا لَلْهُدَى}[الليل:12] وللحديث المذكور، وحينئذٍ فلا يلزم فيمن أكل الحرام طول عمره أن يكون غير مرزوق لتمكنه من رزقه، والحاصل أن الله تعالى لم يضمن تناوله للحلال الذي هو الرزق وانتفاعه به، بل وكله إلى اختياره، وإنما ضمن حصول الرزق وتمكينه منه. والله أعلم.
وأما الخبر فهو مع كونه أحادياً حجة لأصحابنا، وقد احتج به بعضهم لمذهبنا لأنه صلى الله عليه وآله وسلم قال: ((والله لقد رزقك الله حلالاً طيباً)) والمراد مكنك منه، فاخترت ما حرم الله عليك من رزقه، وهذا موضع شبهة الخصوم، ولا حجة لهم في ذلك، فإنه لا مانع من أن يكون بعض رزق الله حراماً على قوم، فلا يكون رزقاً لهم، حلالاً لآخرين نحو مال الغير فإنه حلال لمالكه ورزق، وهو حرام على غاصبه، فيكون معنى الحديث أنك اخترت ما هو حرام عليك، وهو أخذ ما رزقه الله غيرك عوضاً عن ضربك وغناك، وهذا واضح.
وأما ما ذكروه عن أهل اللغة من أن الرزق هو الحظ والنصيب، فقد تقدم عنهم أنهم لا يسمون ما يعتقدون تحريمه رزقاً، ثم إن الرازي قد فسر الحظ بأنه نصيب الرجل وما هو خاص له دون غيره، وهذا يدل على أن مال الغير لا يسمى رزقاً عند أهل اللغة.
المسألة الثالثة عشرة [تفسير الانفاق المذكور في الآية]
النفقة التي في الآية قيل: هي الزكاة الواجبة، وهذا مروي عن ابن عباس لاقترانها بأختها وشقيقتها وهي الصلاة، ولتشابه أوائل هذه السورة بأوائل سورة النمل، وسورة لقمان، ولأن الصلاة طهرة للبدن، والزكاة طهرة للمال والبدن، ولأن الصلاة أعظم ما لله على الأبدان من الحقوق، والزكاة أعظم ما لله في الأموال، وقيل: بل المراد الصرف إلى سبيل الخير فرضاً كان أو نفلاً؛ لأن كل ذلك سبب لاستحقاق المدح، وقد جاء في فضل الزكاة الواجبة، والحث عليها، والوعيد على عدم إخراجها، وفضل صدقة التطوع كثير جداً، ولولم يكن إلا أن الله تعالى قرنها بالصلاة في أكثر المواضع التي ذكر فيها الصلاة لكفى.
وعن علي عليه السلام : (لا صلاة إلا بزكاة، ولا تقبل صدقة من غلول).
وعن أبي أيوب قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم : ((من جاء الله يعبده ولا يشرك به شيئاً، وأقام الصلاة، وآتى الزكاة، وصام رمضان، واجتنب الكبائر فإن له الجنة)).
وعن بريدة الأسلمي أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قال: ((ما حبس قوم الزكاة إلا حبس الله عنهم القطر)).
ومن كلام علي عليه السلام : (ثم إن الزكاة جعلت مع الصلاة قرباناً لأهل الإسلام، فمن أعطاها طيب النفس بها فإنها تجعل له كفارة، ومن النار حجازاً ووقاية، فلا يتبعنها أحد نفسه، ولا يكثرن عليها لهفه، فإن من أعطاها غير طيب النفس بها يرجو بها ما هو أفضل منها فهو جاهل بالسنة، مغبون الأجر، ضال العمل، طويل الندم).
وعن أنس قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم : ((تصدقوا فإن الصدقة فكاككم من النار)).
وعن علي عليه السلام قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم : ((صدقة السر تطفئ غضب الرب، وإن الصدقة لتطفئ الخطيئة كما يطفئ الماء النار)).
وعن علي عليه السلام قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم : ((بادروا بالصدقة فإن البلاء لا ينحط إليها)).
وعن عمرو بن عوف الأنصاري قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم : ((صدقة المرء المسلم تزيد في العمر، وتمنع ميتة السوء، ويذهب الله بها الفخر والكبر)) وعن النبي صلى الله عليه وآله وسلم : ((الصدقة تسد سبعين باباً من الشر)).
وعنه صلى الله عليه وآله وسلم : ((ما أحسن عبد الصدقة إلا أحسن الله إليه في مخلفيه)). وقال بعض الصالحين: الصلاة تبلغك نصف الطريق، والصوم يبلغك باب الملك، والصدقة تدخلك عليه بغير إذن، وقال الشعبي: من لم ير نفسه أحوج إلى ثواب الصدقة من الفقير إلى صدقته، فقد أبطل صدقته، وضرب بها وجهه.
المسألة الرابعة عشرة [في الاسراف والتقتير]
قيل: أدخل (من) التي للتبعيض صيانة لهم، وكفّاً عن الإسراف والتبذير المنهي عنه.
قال القاضي زيد: وقد ثبت أن إخراج الرجل جميع ما يملكه لا يكون قربة، بل يكون محظوراً؛ لأنا نعلم من دين المسلمين أنهم لا يختلفون فيمن تصدق بجميع ماله حتى لا يبقى ما يكسو به عورته، ويسد جوعته، ويكفي عيلته أنه لا يحمد على ذلك بل يذم، وقد نبه الله على ذلك بقوله: {وَلاَ تَجْعَلْ يَدَكَ مَغْلُولَةً إِلَى عُنُقِكَ وَلاَ تَبْسُطْهَا كُلَّ الْبَسْطِ فَتَقْعُدَ مَلُوماً مَحْسُوراً}[الإسراء:29] فنهى نبيه عن الإمساك حتى لا ينفق، وعن الإنفاق حتى لا يبقى، وقد مدح الله تعالى من وقف بين ذلك فقال: {وَالَّذِينَ إِذَا أَنفَقُوا لَمْ يُسْرِفُوا وَلَمْ يَقْتُرُوا وَكَانَ بَيْنَ ذَلِكَ قَوَاماً}[الفرقان:67] ولا يجوز أن يمدح الله أحداً إلا على فعل القرب.
فعلم أن الإفراط في إخراج ما يملكه لا يكون قربة، وعن مجاهد قال: كنت جالساً عند النبي صلى الله عليه وآله وسلم فجاء رجل بمثل بيضة من ذهب فقال: يا رسول الله أصبت هذه من معدن فخذها فهي صدقة ما أملك غيرها، فأعرض رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ، ثم أتاه من قبل يمينه فقال مثل ذلك، ثم أتاه من خلفه فأخذها صلى الله عليه وآله وسلم فحذفه بها، فلو أصابته أوجعته أو عقرته، ثم قال: ((يأتي أحدكم بما يملك فيقول هذه صدقة، ثم يقعد يتكفف الناس، خير الصدقة ما كان عن ظهر غنى)).
وعن جابر قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم : ((ابدأ بنفسك فتصدق عليها، فإن فضل شيء فلأهلك، فإن فضل عن أهلك شيء فلذي قرابتك، فإن فضل عن ذي قرابتك شيء فهكذا وهكذا)).
وعن حكيم بن حزام قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم : ((ابدأ بمن تعول)).
وعن كعب بن مالك أنه قال: يا رسول الله إن من توبتي أن أنخلع من مالي صدقة إلى الله ورسوله، فقال النبي صلى الله عليه وآله وسلم : ((امسك عليك بعض مالك فهو خير لك)) قال: قلت: إني أمسك سهمي الذي بخيبر، وفي لفظ قال: قلت: يا رسول إن من توبتي إلى الله أن أخرج من مالي كله إلى الله ورسوله صدقة، قال: ((لا)) قلت: فنصفه، قال: ((لا)) قلت: فثلثه، قال: ((نعم)) قلت: فإني سأمسك سهمي الذي من خيبر.
وعن الحسين بن السائب بن أبي لبابة أن أبا لبابة بن عبد المنذر لما تاب الله عليه قال: يا رسول الله إن من توبتي أن أهجر دار قومي وأساكنك، وأن أنخلع من مالي صدقة لله عز وجل ولرسوله، فقال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم : ((يجزي عنك الثلث)).
وفي الجامع الكافي قال محمد: فإذا جعل الرجل ماله صدقة على لمسكين يريد به وجه الله على جهة القربة والشكر، فقد بلغنا عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم أنه قال لأبي لبابة في مثل هذا: ((تصدق بثلث مالك)) ولم يأذن له النبي صلى الله عليه وآله وسلم أن يتصدق بماله كله ويدع نفسه وعياله عالة على الناس.
وقال علي عليه السلام : (كن سمحاً ولا تكن مبذراً، وكن مقدراً ولا تكن مقتراً).
وقال عليه السلام في وصيته للحسن: (وحفظ ما في يديك أحب لي مما في يدي غيرك).
قال العلامة ابن أبي الحديد: ليس مراد أمير المؤمنين عليه السلام وصايته بالإمساك والبخل، بل نهيه عن التفريط والتبذير، قال الله تعالى: {وَلاَ تَبْسُطْهَا كُلَّ الْبَسْطِ فَتَقْعُدَ مَلُوماً مَحْسُوراً}[الإسراء:29] وأحمق الناس من أضاع ماله اتكالاً على مال الناس، وظناً أنه يقدر على الاستخلاف، قال الشاعر:
إذا حدثتك النفس أنك قادر .... على ما حوت أيدي الرجال فكذب
وما أحسن قول أمير المؤمنين لولده الحسن عليهما السَّلام : (ومن الفساد إضاعة الزاد).
إذا عرفت هذا فقد دلت الآية، وما في معناها من الأخبار والآثار على أنه يشرع لمن أراد التصدق بجميع ماله أن يمسك بعضه، قيل: ولا يلزم من ذلك أنه لو نجزه لم ينفذ.
قلت: سيأتي في الأبحاث ما يتبين به الحق في هذا، وقيل: إن التصدق بجميع المال يختلف باختلاف الأحوال، فمن كان قوياً على ذلك يعلم من نفسه الصبر لم يمنع، وعليه يتنزل ما روي أن الحسن بن علي عليه السلام خرج من ماله مرتين، ولقوله تعالى: {وَيُؤْثِرُونَ عَلَى أَنْفُسِهِمْ وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ}[الحشر:9] ومن لم يكن كذلك فلا لما مر، ويمكن أن يقال: ظاهر أدلة المنع الإطلاق، وما روي عن الحسن بن علي فهو من أخبار الآحاد التي لا تصلح لمعارضة ما تقدم حتى يحتاج إلى الجمع بينها، مع ما فيه من احتمال المبالغة وتوهم الراوي، واحتمال كون ذلك فيما عدا الأراضي ونحوها من المستغلات، وأما آية الإيثار فمحمولة على الوجبة والوجبتين، كما في حديث ابن عمر وأبي هريرة، مع أن الذي في كتب التفسير المعتمدة أنها نزلت مدحاً للأنصار لما آثروا المهاجرين بالغنيمة.
قال في (مفاتيح الغيب): والصحيح أنها نزلت بسبب إيثارهم المهاجرين بالفيء، ويتعلق بهذه الجملة ثلاثة مباحث:
(البحث الأول): دلت الآية الكريمة وما طابقها على أنه لا ينبغي للإنسان أن يهب ماله كله؛ لأنه تعالى أمر بإنفاق بعض المال ومدح عليه، ونهى عن بسط اليد كل البسط وحذر منه، واختلفوا فيما إذا وهب جميع ماله هل ينفذ أم لا؟ فقال الهادي عليه السلام في المنتخب وهو ظاهر قول القاسم بن إبراهيم ومحمد بن منصور: لا يجوز للرجل أن يهب في دفعة واحدة أكثر من ثلث ماله.
قال في الجامع الكافي في تقرير مذهب القاسم عليه السلام : فإن وهب أكثر من الثلث كان له أن يرجع فيه، والحجة لهم ما تقدم من الآيات والأخبار فإنها دالة على النهي عن إنفاق جميع المال، وفي حديث كعب بن مالك، وأبي لبابة النهي عن مجاوزة الثلث، والنهي يدل على فساد المنهي عنه، فمن وهب أو تصدق بأكثر من الثلث لم تنفذ هبته ولا صدقته، وقد قال تعالى: {وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا}[الحشر:7] وقال صلى الله عليه وآله وسلم : ((ما كان على غير أمرنا فهو رد))، وقال صلى الله عليه وآله وسلم : ((لا قول ولا عمل ولا نية إلا بمطابقة السنة))، وقال الهادي عليه السلام في الأحكام، والمؤيد بالله، وأبو طالب، والفريقان: بل له أن يتصدق ويهب في حال صحته ما شاء.
قال القاضي زيد: وهو قول العلماء لآية الإيثار، وقوله صلى الله عليه وآله وسلم : ((لايحل مال امرء مسلم إلا بطيبة من نفسه)) والمفهوم من هذا أنه إذا طابت به نفسه حل، ولأنه لا خلاف بين المسلمين أن المرء أولى بأن يتصرف في جميع ماله، وأن يخرجه عن ملكه بالأعواض وغيرها إذا لم يكن محظوراً، ذكر هذا في المنهاج وشرح القاضي زيد، قال القاضي زيد: وقد ثبت أن خياراً من السلف قد آثروا التخلي من أموالهم فلم ينكر عليهم منكر، قالوا: وأما حديث البيضة فلا يقدح فيما قلناه؛ لأنا لا نقول إن إخراج الإنسان جميع ماله مستحب وأنه يكون قربة إذا فعله على الإطلاق، وإنما نقول: أنه إذا فعله يملك عليه.
قلت: لقائل أن يقول: قد تقدم أن أدلة المانعين صريحة في النهي عن إنفاق الجميع، وعن مجاوزة الثلث، وحديث: ((لا يحل مال امرئ...)) إلخ، مطلق مقيد بأدلة المانعين، وآية الإيثار قد تقدم الكلام عليها، والإجماع غير مسلم مع خلاف القاسم والهادي" وقول الأحكام لعله يمكن تأويله، وقد صرح فيها في كتاب الحج بأن من جعل ماله في سبيل الله أو هدايا إلى الكعبة أنه يخرج الثلث من ماله، ويمسك الثلثين، وقد جمع بعض العلماء بين الأدلة بأنه يجوز له هبة جميع ماله حيث وثق من نفسه بعدم التكفف وإلا فلا، وهو قول الإمام الحسن بن يحيى القاسمي عليه السلام ، وولده علامة العصر عبد الله بن الإمام.
تنبيه [في الوهبية بأكثر من الثلث]
قال الهادي عليه السلام في المنتخب: وإن وهب أكثر من ثلث ماله كان له الرجوع فيه، فإن لم يرجع حتى هلك كان لورثته الرجوع إلا أن يكون وهب ما وهبه على عوض معلوم فليس له ولا لورثته إلا العوض، ووجهه أن هذه الهبة لم تكن صحيحة فجاز له ولورثته الرجوع فيها.
قال القاضي زيد: يعني فيما زاد على الثلث، قال القاضي أيضاً: ولكن هذا إذا كان الموهوب قائماً بعينه، فأما إذا صار مستهلكاً فليس له أن يرجع؛ لأنه سَلَّطَهُ على استهلاكه، وأقل ذلك أن يكون قد أباحه.
قلت: وفيه نظر، فإن الإباحة نوع من الإنفاق، وقد ثبت أن إنفاق ما زاد على الثلث منهي عنه، فتكون إباحة ما زاد على الثلث كهبته، أما أن الاستهلاك بمعنى الرجوع فمبني على صحة هذه الإباحة، وهي في الزائد على الثلث غير صحيحة.والله أعلم.
وما قاله الهادي عليه السلام من أنه ليس للواهب ولا لورثته الرجوع إذا كانت الهبة على عوض معلوم؛ فلأن الهبة على العوض المعلوم تجري مجرى البيع.
(البحث الثاني): اختلف العلماء فيمن نذر بجميع ماله، فقال أهل المذهب: إنما ينفذ من الثلث.
قال في (شرح الأزهار): وهو الصحيح من روايتين عن القاسم، والهادي، وهو قول مالك. قال في الثمرات: لأن الاستغراق منهي عنه؛ لإجماع العقلاء على أن من تصدق بجميع ماله حتى لا يبقى له ما يسد جوعته، ويواري عورته، أنه لا يحمد بل يذم، وخصوا الثلث لما مر، ولأنه في أصل شرعه قربة تعلقت بالمال فأشبه الوصية، وقال المؤيد بالله وهو إحدى الروايتين عن القاسم والهادي: يلزمه جميعه.
قال في (الثمرات): لكن يبقي ما يسد جوعته، ويستر عورته، ومتى استغنى أخرجه لما مر من آية الإيثار ونحوها.
وعن ابن عباس: عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم : ((ومن نذر نذراً أطاقه فليف به)).
وعن النبي صلى الله عليه وآله وسلم أنه قال: ((من نذر نذراً سماه فعليه الوفاء به)) ولقائل أن يقول: أما آية الأيثار فقد تقدم الكلام عليها، وأما الحديثان فمطلقان مقيدان بما سبق من الآيات والأخبار.
وروي عن سحنون من المالكية: أنه يلزمه أن يخرج ما لا يضر به، وللإمام الحسن بن يحيى، وولده التفصيل السابق في الهبة.
(البحث الثالث): ما تقدم من النهي عن إنفاق جميع المال يدل على أنه ليس للرجل أن يوصي بجميع ماله، قيل: وقد استقر الإجماع على منع الوصية بأزيد من الثلث، لكن اختلف فيمن ليس له وارث خاص، فقال أحمد بن عيسى، والحسين بن زيد، ومحمد بن منصور، والحنفية، وإسحاق، وشريك، وأحمد في رواية وهو المصحح للمذهب: إن له أن يوصي بماله كله، وحكاه في البحر عن العترة، واحتجوا بأن الوصية مطلقة في الآية، فقيدته السنة بمن له وارث، فبقي من لا وارث له على الإطلاق.
قال في (الجامع الكافي): وهو قول علي عليه السلام ، وابن مسعود، بلغنا عنهما أنهما سئلا عن رجل لا وارث له أوصى بماله كله لأجنبي فأجازا ذلك، وقالا: هو ماله يضعه حيث يشاء، وقال المنصور بالله، وقديم قولي الشافعي، وهو قول زيد بن ثابت، ونسبه في فتح الباري إلى الجمهور: ليس له الزيادة على الثلث؛ لأن بيت المال وارث حقيقة؛ لقوله صلى الله عليه وآله وسلم : ((إن الله تصدق عليكم بثلث أموالكم عند وفاتكم زيادة في حسناتكم ليجعلها لكم زيادة في أعمالكم)) وقوله صلى الله عليه وآله وسلم : ((الثلث والثلث كثير))، ولم يفصل، وأجيب: بأن بيت المال غير وارث حقيقة، والأحاديث مقيدة كما مر، ثم إن هذا قول الوصي عليه السلام وهو حجة.
قلت: فإن كان له وارث وأوصى بأكثر من الثلث وأجازه الوارث.
فقال محمد بن منصور: إن أجازه الوارث جاز، وفي نجوم الأنظار: ولا خلاف أن الوصية لا تصح إلا في الثلث، إلا أن يجيزها الورثة، والمسألة محل نظر.
المسألة الخامسة عشرة [في لوازم الإيمان]
في قوله تعالى: {وَالَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِمَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ وَمَا أُنْزِلَ مِنْ قَبْلِكَ}[البقرة:4].
قال ابن عباس: أي يصدقونك بما جئت به من الله، وما جاء به من قبلك من المرسلين لا يفرقون بينهم، ولا يجحدون ما جاؤوهم به من ربهم.
قال السيد حميدان: أما القرآن فيجب الإيمان به قولاً، وعملاً، واعتقاداً، لأجل كونه حجة الله بعد العقل باقية لا يجوز مخالفته، وكونه معجزاً لا يقدر أحد على الإتيان بمثله لا في الفصاحة، ولا في ما تضمن من الإخبار بالغيوب الماضية والمستقبلة، ولا في كونه محفوظاً لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه، ولا في ما وصفه الله سبحانه، نحو كونه تبياناً لكل شيء، ونوراً، وروحاً، وشفاء، وبصائر وهدى، وبشرى للمؤمنين.
قلت: وبالجملة أن الإيمان به لا يتم إلا مع العمل به، وتحليل حلاله، وتحريم حرامه، كما قال صلى الله عليه وآله وسلم : ((ما آمن بالقران من لم يحل حلاله ويحرم حرامه)).
قال الرازي: وهذا الإيمان واجب؛ لأنه قال في آخره: {وَأُوْلَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ}[البقرة:5] فثبت أن من لم يكن له هذا الإيمان وجب أن لا يكون مفلحاً، وإذا ثبت أنه واجب وجب تحصيل العلم بما نزل على محمد صلى الله عليه وآله وسلم على سبيل التفصيل؛ لأن المرء لا يمكنه أن يقوم بما أوجبه الله عليه علماً وعملاً، إلا إذا علمه على سبيل التفصيل؛ لأنه إن لم يعلمه كذلك امتنع عليه القيام به، إلا أن تحصيل هذا العلم واجب على سبيل الكفاية.
قلت: لأن في وجوبه على الكل عيناً حرجاً بيناً، وإخلالاً بأمر المعاش، وأما ما قبل القرآن من كتب الأنبياء" فيجب على الجملة التصديق بكونها قول الله صدقاً، وديناً حقاً، وإن كانت لا يجب التعلم فيها، ولا معرفة تفاصيلها؛ لأن الله تعالى ما تعبدنا الآن بها حتى يلزمنا معرفتها على التفصيل، بل إن عرفنا شيئاً من تفاصيلها، فحينئذٍ يجب علينا الإيمان بتلك التفاصيل.
المسألة السادسة عشرة [في الإيمان بالآخرة]
في الإيمان بالآخرة، والمراد الدار الآخرة لتصريحه بذلك في غير هذا الموضع.
واعلم: أن الله تعالى مدحهم على إيقانهم بالآخرة، ولا يكون موقناً بها إلا من عرفها بالدليل، وقد نبه الله على ذلك، والحاصل أن الطرق الموصلة إلى اليقين بالآخرة أربع، وكلها تدل على البعث، ويترتب على ذلك معرفة الجزاء والحساب، وغير ذلك مما أخبر الله تعالى به، وإلا كان البعث عبثاً:
الطريق الأولى: قياس المعاد على المبدأ كما قال تعالى: {قُلْ يُحْيِيهَا الَّذِي أَنشَأَهَا أَوَّلَ مَرَّةٍ}[يس:79].
الطريق الثانية: قياس بعض الصيغ على بعض كما قال تعالى: {إِنَّ الَّذِي أَحْيَاهَا لَمُحْيِي الْمَوْتَى}[فصلت:39] وما أشبه ذلك مما نبه به سبحانه على أنه لا فرق بين إحياء الأرض بعد موتها، وإحياء الناس بعد موتهم.
والطريق الثالثة: المشاهدة نحو ما شاهده إبراهيم عليه السلام من إحياء الطير، والذي مر على القرية من إحياء حماره، وما شاهده بنو إسرائيل من إحياء المضروب ببعض البقرة، قال تعالى: {كَذَلِكَ يُحْيِ اللَّهُ الْمَوْتَى وَيُرِيكُمْ آيَاتِهِ لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُون}[البقرة:73].
والطريق الرابعة: خبر الحكيم الذي يجب تصديقه وهو الله تعالى، وقد أخبرنا بالنشر والحشر، والحساب والشفاعة، وأن الجنة للمطيع، والنار للعصاة، وغير ذلك، ومعرفة وجوب تصديقه فرع على معرفة حكمته، وفي الحديث عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم : ((يا عجباً كل العجب من الشاك في الله وهو يرى خلقه، وعجباً ممن يعرف النشأة الأولى ثم ينكر النشأة الأخرى، وعجباً ممن ينكر البعث والنشور وهو في كل يوم وليلة يموت ويحيا -يعني النوم واليقظة- وعجباً ممن يؤمن بالجنة وما فيها من النعيم ثم يسعى لدار الغرور، وعجباً من المتكبر الفخور وهو يعلم أن أوله نطفة مذرة، وآخره جيفة قذرة، وهو فيما بين ذلك يحمل البول والعذرة)).
المسألة السابعة عشرة [في اليقين]
اليقين: هو العلم بالشيء بعد أن كان شاكاً فيه، ولذلك لا يقال: تيقنت وجود نفسي، ولا أن السماء فوقي؛ لأن العلم بذلك غير مستدرك، وإنما يقال ذلك في العلم الحادث بالأمور، سواء كان ضرورياً أو استدلالياً، ولذلك لا يوصف الله تعالى بأنه يتيقن الأشياء؛ لأنه يفيد حصول العلم بعد الشك.
واعلم: أن اليقين مقام جليل ولو لم يكن فيه إلا هذه الآية الكريمة، ألا ترى أنه جعله من صفات المتقين، ورتب على ذلك الفلاح.
وقال علي عليه السلام : (ألا وبالتقوى تقطع حُمَة الخطايا، وباليقين تدرك الغاية القصوى) وفي الحديث أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال: ((ياعلي إن من اليقين أن لا ترضي أحداً بسخط الله، ولا تحمد أحداً على ما آتاك الله، ولا تذم أحداً على ما لم يؤتك الله، فإن الرزق لا يجره حرص حريص، ولا تصرفه كراهة كاره، إن الله بحكمته وفضله جعل الروح والفرح في الرضا واليقين، وجعل الهم والحزن في الشك والسخط)) رواه علي عليه السلام ، وروي أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال لابن مسعود نحوه.
وعن ابن مسعود قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم : ((الصبر نصف الإيمان، واليقين الإيمان كله)) وروي موقوفاً، وذكر للنبي صلى الله عليه وآله وسلم ما يقال عن عيسى بن مريم أنه مشى على الماء، فقال: ((لو ازداد يقيناً لمشى على الهواء)).
واليقين إحدى دعائم الإيمان، قال علي عليه السلام : (الإيمان على أربع دعائم: على الصبر، واليقين، والعدل، والجهاد).
فإن قلت: فما الطريق إلى تحصيل اليقين وما حقيقته عند أهله؟
قلت: أما الطريق إلى تحصيله فقد بينها أمير المؤمنين عليه السلام في قوله: (واليقين منها -أي من دعائم الإيمان السابقة- على أربع شعب: على تبصرة الفطنة، وتأول الحكمة، وموعظة العبرة، وسنة الأولين، فمن تبصر في الفطنة تبينت له الحكمة، ومن تبينت له الحكمة عرف العبرة، ومن عرف العبرة فكأنما كان في الأولين).
وقال سهل بن عبد الله: حرام على قلب أن يشم رائحة اليقين، وفيه شكوى إلى غير الله.
وأما حقيقته: فقال سيد الموقنين: (اليقين هو التصديق، والتصديق هو الإقرار، والإقرار هو الأداء، والأداء هو العمل). رواه في النهج.
المسألة الثامنة عشرة
معنى الاستعلاء في قوله: {عَلَى هُدًى مِنْ رَبِّهِمْ}[البقرة:5] بيان تمكنهم من الهدى واستقرارهم عليه؛ حيث شبهت حالهم بحال من اعتلى الشيء وركبه.
قال الرازي: وتحقيق القول في كونهم على الهدى تمسكهم بموجب الدليل؛ لأن الواجب على المتمسك بالدليل أن يدوم على ذلك، ويحرسه عن المطاعن والشبه، فكأنه تعالى مدحهم بالإيمان بما نزل عليه أولاً، ومدحهم بالإقامة على ذلك والمواضبة على حراسته عن الشبه ثانياً، وذلك واجب على المكلف؛ لأنه إذا كان متشدداً في الدين خائفاً وجلاً فلا بد من أن يحاسب نفسه في علمه وعمله، ويتأمل حاله فيهما، فإذا حرس نفسه كان ممدوحاً بأنه على هدىً وبصيرة، وإنما نكر هذا ليفيد ضرباً مبهماً لا يبلغ كنهه، ولا يقدر قدره، كما يقال: لو أبصرت فلاناً لأبصرت رجلاً.
قال عون بن عبد الله: الهدى من الله كثير، ولا يبصره إلا بصير، ولا يعمل به إلا يسير، ألا ترى أن نجوم السماء يبصرها البصراء، ولا يهتدي بها إلا العلماء.
قال في الكشاف: ومعنى هدىً من ربهم أي منحوه من عنده، وأتوه من قبله، وهو اللطف والتوفيق الذي اعتضدوا به على أعمال الخير، والترقي إلى الأفضل فالأفضل.
المسألة التاسعة عشرة [في حقيقة المفلح]
المفلح هو الفائز بالبغية من السعادة الأبدية، والنجاة من الشقوة السرمدية، ولن يكون كذلك إلا من اتصف بهذه الصفات الكريمة، ورقى ذروة العمل بما دلت عليه هذه الآيات العظيمة، فقد جمعت لك الطاعات بأسرها، وحذرتك عن المعاصي جميعها، انظر ماذا تحت قوله تعالى: {وَالَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِمَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ}[البقرة:4] من المعاني والأحكام، وبيان العقائد، ومسائل الحلال والحرام، فإن من آمن بالقرآن على ما تقدم من بيان كيفية الإيمان به، وأنه لا يؤمن به إلا من أحل حلاله، وحرم حرامه، فهو لا شك من المفلحين لقيامه بأحكام رب العالمين، وتأسيس عقائده على قواعد اليقين.
واعلم:أنه لا يحصل الإيمان بالقرآن على وجهه إلا بالرجوع إلى مشكلاته، وبيان غامض علومه إلى من أمر الله بالرجوع إليهم، وهم علي بن أبي طالب وَوَلده عترة النبي صلى الله عليه وآله وسلم فإنه لا فلاح لمن خالفهم، ولا نجاة لمن عاندهم، كما نطقت بذلك الآثار، وتواترت به الأخبار، وفي الحديث عن علي عليه السلام قال لي سلمان: قلما اطلعت على رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وعنده علي عليه السلام إلا ضرب بين كتفيه فقال: ((يا سليمان هذا وحزبه هم المفلحون)).
وقال صلى الله عليه وآله وسلم : ((إني تارك فيكم ما إن تمسكتم به لن تضلوا من بعدي...)) الخبر، وقال علي عليه السلام : (نحن آل محمد نجاة كل مؤمن).
المسألة العشرون
قال في الكشاف: انظر كيف كرر الله عز وجل التنبيه على اختصاص المتقين بنيل ما لا يناله أحد على طرق شتى، وهي ذكر اسم الإشارة وتكريره، وتعريف المفلحين، وتوسط الفصل بينه وبين أولئك؛ ليبصرك مراتبهم، ويرغبك في طلب ما طلبوا، وينشطك لتقديم ما قدموا، ويثبطك عن الطمع الفارغ، والرجاء الكاذب، والتمني على الله ما لا تقتضيه حكمته، ولم تسبق به كلمته.
المسألة الحادية والعشرون [الوعيد على ترك الصلاة]
هذه الآيات تدل على وعيد تارك الصلاة والزكاة ونحوهما؛ لأن الله تعالى رتب الفلاح على الاتصاف بتلك الأوصاف، وترتيب الحكم على الوصف يشعر بالعلية، فوجب عدم فلاح من لم يتصف بهذه الصفات مع ما في تعريف المفلحون من إفادة الحصر.
فإن قيل: إن الله حكم بالفلاح لمن اتصف بهذه الصفات وإن زنى وإن سرق.
قيل: إن من جملة هذه الصفات الإيمان بالقرآن، وقد قدمنا أنه لا يؤمن بالقرآن إلا من امتثل أمره، واجتنب نواهيه، والسرق والزنى مما نهى عنه في القرآن، ولأن الله تعالى وصفهم بالتقوى، وقد حققنا أنها الإتيان بالواجب، واجتناب المحرم.
فإن قيل: لا نسلم الحصر المستفاد من الألف واللام، وإنما تدل الآية على أنهم الكاملون في الفلاح، وذلك لا يوجب الوعيد لتجويز العفو عنهم.
قلنا: خلاف الظاهر، ولأن الله تعالى قابل الفلاح بالخسران في عدة آيات، والخاسر في النار بدليل قوله تعالى: {فَمَنْ ثَقُلَتْ مَوَازِينُهُ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ ، وَمَنْ خَفَّتْ مَوَازِينُهُ فَأُوْلَئِكَ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنفُسَهُمْ فِي جَهَنَّمَ خَالِدُونَ}[المؤمنون:102،103].
المسألة الثانية والعشرون [في خواص تلك الآيات]
في خواص هذه الآيات الشريفة عن أبي بن كعب قال: كنت عند النبي صلى الله عليه وآله وسلم فجاء أعرابي فقال: يا نبي الله إن لي أخاً وبه وجع، قال: ((وما وجعه؟)) قال: به لمم، قال: ((فائتني به)) فوضعه بين يديه، فعوذه النبي صلى الله عليه وآله وسلم بفاتحة الكتاب، وأربع آيات من أول سورة البقرة، وهاتين الآيتين: {وَإِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ}[البقرة:163] وآية الكرسي، وثلاث آيات من آخر سورة البقرة، وآية من آل عمران: {شَهِدَ اللَّهُ أَنَّهُ لاَ إِلَهَ إِلاَّ هُوَ}[آل عمران:18] وآية من الأعراف: {إِنَّ رَبَّكُمُ اللَّهُ}[الأعراف:54] وآخر سورة المؤمنين {فَتَعَالَى اللَّهُ الْمَلِكُ الْحَقُّ}[المؤمنون:116] وآية من سورة الجن:{ وَأَنَّهُ تَعَالَى جَدُّ رَبِّنَا}[الجن:3] وعشر آيات من أول سورة الصافات، وثلاث آيات من آخر سورة الحشر، وقل هو الله أحد، والمعوذتين، فقام الرجل كأنه لم يشك قط)).
وعن محمد بن علي المطلبي، عن خطاب بن سنان، عن قيس بن الربيع، عن ثابت بن ميمون، عن محمد بن سيرين قال: نزلنا بهم بسيرى، فأتانا أهل ذلك المنزل فقالوا: ارحلوا فإنه لم ينزل عندنا هذا المنزل أحد إلا أخذ متاعه، فرحل أصحابي، وتخلفت للحديث الذي حدثني ابن عمر، عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قال: ((من قرأ في ليلة ثلاثاً وثلاثين آية لم يضره في تلك الليلة سبع ضار، ولا لص طارئ، وعوفي في نفسه وأهله وماله حتى يصبح)). فلما أمسينا لم أنم حتى رأيتهم قد جاءوا أكثر من ثلاثين مرة مخترطين سيوفهم فما يصلون إلي، فلما أصبحت رحلت، فلقيني شيخ منهم فقال: يا هذا إنسي أم جني؟ قلت: بل إنسي، قال: فما بالك لقد أتيناك أكثر من سبعين مرة كل ذلك يحال بيننا وبينك بسور من حديد، فذكرت له الحديث، والثلاث وثلاثون آيةً: أربع آيات من أول البقرة إلى قوله: {المفلحون}، وآية الكرسي، وآيتان بعدها إلى قوله: {خالدون} والثلاث آيات من آخر البقرة: {لِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ...}[ البقرة:284] إلى آخرها، وثلاث آيات من الأعراف: {إِنَّ رَبَّكُمُ اللَّهُ الَّذِي}[الأعراف:54] إلى قوله: {من المحسنين}[الأعراف:56] وآخر بني إسرائيل: {قُلِ ادْعُوا اللَّهَ أَوِ ادْعُوا الرَّحْمَنَ...}[ الإسراء:110] إلى آخرها وعشر آيات من آخر الحشر: {لَوْ أَنْزَلْنَا هَذَا الْقُرْآنَ عَلَى جَبَلٍ...}[ الحشر:21] إلى آخر السورة وآيتان من: {قُلْ أُوحِيَ إِلَيَّ}[الجن:1] {وَأَنَّهُ تَعَالَى جَدُّ رَبِّنَاّ مَا اتَّخَذَ صَاحِبَةً}[الجن:3] إلى قوله: {شططا} فذكرت هذا الحديث لشعيب بن حرب فقال لي: كنا نسميها آيات الحرب، ويقال: إن فيها شفاء من كل داء، فعد علي الجنون، والجذام، والبرص، وغير ذلك.
قال محمد بن علي: فقرأتها على شيخ لنا قد فلج حتى أذهب الله عنه ذلك.
وفي (الوسائل العظمى) للسيد العلامة العابد يحيى بن المهدي عليه السلام ، عن جعفر بن محمد بإسناده إلى آبائه، عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم أنه قال: ((من قرأ في صباحه أو مسائه ثلاثين آية من كتاب الله لم يضره لص طارئ، ولاسبع ضاري، وعوفي في نفسه وأهله وماله حتى يصبح، ولا في نومه حتى يمسي)) والثلاثون الآية:
الأولى: الفاتحة.
الثانية: أول البقرة إلى {المفلحون}.
الثالثة: آية الكرسي إلى قوله: {خالدون}.
الرابعة: أول سورة آل عمران إلى: {العزيز الحكيم}.
الخامسة: آيات من الأعراف من قوله: {إِنَّ رَبَّكُمُ اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ...} إلى قوله:{قَرِيبٌ مِنَ الْمُحْسِنِينَ}[الأعراف:54-56].
السادسة: آخر سورة بني إسرائيل: {قُلِ ادْعُوا اللَّهَ أَوِ ادْعُوا الرَّحْمَنَ أَيّاً مَا تَدْعُوا فَلَهُ الأَسْمَاءُ الْحُسْنَى...}[ الإسراء:110] إلى آخرها.
السابعة: من أول الصافات: إلى قوله: {مِنْ طِينٍ لاَزِبٍ}[الصافات:11].
الثامنة: آيتان من الرحمن:{ يُرْسَلُ عَلَيْكُمَا شُوَاظٌ مِنْ نَارٍ وَنُحَاسٌ فَلاَ تَنتَصِرَانِ، فَبِأَيِّ آلاَءِ رَبِّكُمَا تُكَذّبَانِ}[الرحمن:35،36].
التاسعة: آخر سورة الحشر: {لَوْ أَنْزَلْنَا هَذَا الْقُرْآنَ عَلَى جَبَلٍ}[الحشر:21].
العاشرة: آيتان من: قل أوحي إلى قوله: {شططا}.
قال عليه السلام : فمن قرأها وأراد أن يؤمنه الله من اللصوص، ويشفيه من الجذام والبرص وكل عاهة أمنه الله بها مما يخاف، وبلغه بها ما يطلب، هكذا في الوسائل، ونسبه إلى كتاب المكنون والسر المصون.
وعن ابن مسعود قال: من قرأ أربع آيات من أول سورة البقرة، وآية الكرسي، وآيتين بعد آية الكرسي، وثلاثاً من آخر سورة البقرة لم يقربه ولا أهله يومئذٍ شيطان، ولا شيء يكرهه في أهله ولا ماله، ولا يقرءان على مجنون إلا أفاق.
وعن ابن مسعود قال: من قرأ عشر آيات من سورة البقرة في ليلة لم يدخل ذلك البيت شيطان تلك الليلة حتى يصبح: أربع من أولها، وآية الكرسي، وآيتين بعدها، وثلاث خواتمها أولها: لله ما في السموات.
وعنه أيضاً قال: من قرأ عشر آيات من سورة البقرة أول النهار لم يقربه شيطان حتى يمسي، وإن قرأها حين يمسي لم يقربه حتى يصبح، ولا يرى شيئاً يكرهه في أهله وماله، وإن قرأها على مجنون أفاق، أربع آيات من أولها، وآية الكرسي، وآيتين بعدها، وثلاث آيات من آخرها.
وعن المغيرة بن سبيع، وكان من أصحاب عبد الله قال: من قرأ عشر آيات من البقرة عند منامه لم ينس القرآن: أربع آيات من أولها، وآية الكرسي، وآيتان بعدها، وثلاث من آخرها.
وعن ابن عمر قال سمعت رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يقول: ((إذا مات أحدكم فلا تحبسوه وأسرعوا به إلى قبره، وليقرأ عند رأسه بفاتحة البقرة، وعند رجليه بخاتمة سورة البقرة في قبره)).
وعن عبد الرحمن بن العلا بن اللحلاح قال: قال لي أبي : يا بني إذا وضعتني في لحدي فقل: بسم الله وعلى ملة رسول الله، ثم سن علي التراب سناً، ثم اقرأ عند رأسي بفاتحة البقرة وخاتمتها فإني سمعت رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يقول ذلك.
البقرة: 6، 7.
المسألة الأولى [في ألفاظ العموم ودلالتها]
(الذين) من ألفاظ العموم وهي ظاهرة في الاستغراق، قال الرازي: والظاهر غير مراد؛ لأن كثيراً من الكفار أسلموا، وهذا يدل على أن الله تعالى قد يتكلم بالعام ويكون مراده الخاص، إما لقرينة، وإما لأن التكلم بالعام بإرادة الخاص جائز وإن لم يكن البيان مقروناً به عند من يجوز تأخير بيان التخصيص عن وقت الخطاب.
قال: وإذا ثبت ذلك ظهر أنه لا يمكن التمسك بشيء من صيغ العموم على القطع بالاستغراق لاحتمال أن المراد منها هو الخاص، وكانت القرينة الدالة على ذلك في زمان الرسول صلى الله عليه وآله وسلم ، ولا تلبيس في ذلك مع ظهور المقصود حينئذٍ، وإذا ثبت ذلك ظهر أن استدلال المعتزلة بعمومات الوعيد على القطع بالوعيد في غاية الضعف.
والجواب من وجوه:
أحدها: أنها إذا قد قامت القرينة على إرادة الخاص فلا حجة لكم في الآية على ما ادعيتم من ضعف استدلال المعتزلة بعمومات الوعيد؛ إذ لا نزاع في أن الخطاب بالعام الذي أريد به الخصوص مع نصب القرينة جائز، ولا يكون قدحاً في الدلالة.
الثاني: إنا لا نسلم أن تأخير التخصيص عن وقت الخطاب جائز، سيما في الأخبار لما في ذلك من التلبيس والإغراء بالقبيح؛ إذ السامع إذا أخبر بعموم اعتقد شموله، فيكون إغراء بالجهل فيقبح.
فإن قيل: المخاطب بالعام ممنوع عن اعتقاد شموله حتى يبحث عن المخصص فلا يجده.
قيل: هذا مسلم بعد شيوع ذلك ووقوعه، ولكنا لا نسلم منع التلبيس عند وقوع أول فرد وعند الجاهل لذلك، والتكليف في حق الجميع على سواء، وتخصيص البعض دون البعض يمنع الاعتقاد بحكم، نعم لا يمنع القول بهذا في الفرعيات لكثرة المخصص فيها وشيوعه، وهي غير محل النزاع.
الثالث: أنه قد حكى ابن بهران وغيره الإجماع على أنه لا يجوز، ولا يقع من الباري تعالى، ومن الرسول صلى الله عليه وآله وسلم تأخير البيان للمجمل، ولا التخصيص للعام عن وقت الحاجة لما في ذلك من التكليف بما لا يعلم، وهو قبيح لا يجوز من الباري تعالى.
قلت: لعله أراد إجماع من يعتد به؛ إذ خلاف بعض أهل الجبر مشهور فإنهم يجوزون تكليف ما لا يعلم، فيجوز عندهم ذلك، وهم الذين قصدهم الرازي بقوله: عند من يجوز تأخير بيان التخصيص عن وقت الخطاب.
إذا عرفت هذا فنقول: وقت الحاجة فيما ليس المطلوب فيه إلا الاعتقاد هو وقت الخطاب، فلا يجوز تأخير بيان التخصيص عنه.
الرابع: ذكره بعض المحققين، وهو أنه لوجاز أن يخاطبنا الله بما أريد به غير ظاهره ولا يبين، لجاز أن يخاطب العربي بالزنجية، والزنجي بالعربية؛ لأن الإفهام لا يجب ولا يشترط في الحسن عند المخالف، بل يجوز مخاطبة الجماد.
الخامس: إن الخطاب إذا لم يقصد به ما يفيد ظاهره ولم يبين ذلك يكون عبثاً.
قلت: وفي كلام بعض العلماء ما يقضي بأنه يكفي في حسن الخطاب وإن تأخر البيان التفصيلي الإشعار الذي هو البيان الجملي، وهو جيد.
فإن قيل: الخطاب مع عدم البيان التفصيلي يكون عبثاً؛ لأنه لم يقع المقصود به وهو الإفهام.
قيل: لا عبث مع البيان الإجمالي المانع من اعتقاد ظاهره، فلسنا مدفوعين إلى اعتقاد جهل.
فإن قيل: وأي فائدة في الخطاب به ولا يعقل معناه مفصلاً؟
قيل: غير ممتنع أن يكون فيه مصلحة لا من حيث فهم المعنى، ولأن المكلف يوطن نفسه على العمل بحسب ما يرد عليه من البيان. والله أعلم.
المسألة الثانية [في الكفر]
اعلم أن الشرع ورد بأحكام تعبدنا الله بها في حق المؤمن، والفاسق، والكافر من وجوب الموالاة، والمعاداة، والدفن، والتوارث، والمناكحة، والصلاة، ونحو ذلك من الأحكام الشرعية، فيجب على كل من التزم الشريعة المطهرة معرفة الإيمان والفسق والكفر، ليمكنه القيام بما كلف من الأحكام المتعلقة بها؛ إذ ما لا يتم الواجب إلا به يكون واجباً كوجوبه.
فإن قيل: لا يلزمنا إجراء أحكامه عليهم إلا بعد معرفتهم، وتحصيل شرط الواجب ليجب لا يجب.
فالجواب: أن الله تعالى قد عرفنا أن في أفعالنا ما هو طاعة، وما هو معصية، وأن في المعصية ما هوكفر، وما هو فسق، وأن لكل واحد منهما أحكاماً يجب علينا العمل بها، وقد عرفنا وقوع الطاعات والمعاصي من العباد، ومكننا من تمييز بعضها من بعض، وأمرنا في المطيع بأحكام، وفي العاصي بأحكام، أمراً مطلقاً من غير شرط كما في قوله تعالى: {لاَ تَتَّخِذُوا عَدُوِّي وَعَدُوَّكُمْ أَوْلِيَاءَ}[الممتحنة:1] وقوله: {وَمَنْ يَتَوَلَّهُمْ مِنْكُمْ فَإِنَّهُ مِنْهُمْ}[المائدة:51].
وقال في المؤمنين والمؤمنات: {بَعْضُهُمْ أَوْلَى بِبَعْضٍ}[الأحزاب:6] ونحوها، وفي السنة الشريفة في بيان الأحكام الواجبة في المؤمنين والفجار ما لا يسعه المقام، وسيأتي في محله إن شاء الله.
وأيضاً فقد قال تعالى في قصة إبراهيم عليه السلام {فَلَمَّا تَبَيَّنَ لَهُ أَنَّهُ عَدُوٌّ لِلَّهِ تَبَرَّأَ مِنْهُ}[التوبة:114] وقال: {وَمَنْ يُشَاقِقِ الرَّسُولَ مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُ الْهُدَى}[النساء:115] والتبيين لا يقع إلا بعد طلب البيان، وذلك بالنظر في أدلة العقل والنقل.
وإذا كان التبيين يستلزم الطلب كان ذلك دليلاً على أنه يجب علينا معرفة ما يصير به المؤمن مؤمناً، لنتبع سبيله، ونواليه، وما يصير به كافراً أو فاسقاً، لنتبرأ منه ونعاديه، وإلا فلا نأمن موالاة أعداء الله، ومعاداة أوليائه فنقع في المعصية، وأيضاً فإنا قد نعلم المعصية ولا نعلم حكمها هل هي مخرجة لمرتكبها من الإيمان أم لا؟ وهل هي فسق أم كفر؟ وحينئذٍ لا بد من النظر في شأنها ليمكنا أجراء حكمها الذي أمرنا بإجرائه على صاحبها أمراً مطلقاً، فوجب معرفة ذلك لأجل الأمر المطلق.
تنبيه [الخلاف في أسباب الكفر]
اعلم: أنه قد كثر اختلاف العلماء فيما به يصير الإنسان كافراً، وتوسع بعضهم في ذلك وعد جملاً مستكثرة جداً، وقد ثبت أن الكفر يترتب عليه الإحباط وفسخ النكاح حيث ارتكبه أحد الزوجين المسلمين، وقضاء ما فعل من الواجب حال التلبس به عند جماعة من العلماء منهم أبو حنيفة، وغير ذلك من الأحكام.
قالوا: فالواجب على كل من له مسكة في دينه أن يعرف اختلاف العلماء في ذلك حتى يجتنب ما عده بعضهم كفراً وإن خالفه الجمهور، احتياطاً لنفسه من إحباط العمل من حيث لا يشعر.
هذا وإن كان بعض الأقوال ضعيفة، لكن الاستبراء للدين والنفس المأمور به يوجب الاحتياط، ومراعاة الخروج من مسائل الخلاف هو الواجب مهما أمكن، كما حقق ذلك الإمام القاسم بن محمد عليه السلام في الإرشاد، سيما في مثل هذا الباب الضيق، الشديد الحرج في الدنيا والآخرة.
واعلم: أن غرضنا بهذا الحث على الاحتياط دون الاعتقاد، فإنه لا يجوز اعتقاد كفر أحد إلا بدليل قاطع، كما سيأتي إن شاء الله.
إذا عرفت هذا، فاعلم: أنا بعون الله تعالى نذكر فصولاً نبين فيها معنى الكفر لغة وشرعاً، وقسمته، وحصر فرقه، وبيان الدليل الذي يثبت به ليكون ذلك أقرب إلى تحصيل المسألة، وتوضيح الدلالة، ونسأل الله التثبيت والإعانة والتسديد.آمين.
الفصل الأول: في حقيقة الكفر
الكفر في اللغة: مشتق من التغطية يقال: كفر الرجل إذا لبس فوق درعه ثوباً، ويوصف عنده بأنه كافر، وكذلك الزراع يوصف به لأنه يستر البذر تحت الأرض، وهو في عرفها الإخلال بالشكر، قال الشاعر:
نبئت عمراً غير شاكر نعمتي .... والكفر مخبثة لنفس المنعم
وأما في الشرع فاعلم: أنه صعب على المتكلمين ذكر حد الكفر على وجه يسلم من المطاعن، ونحن نأتي من حدودهم بما عثرنا عليه.
قال الناصر الحسن بن علي عليه السلام : هو الجحد لنعم الله تعالى، والستر لها التي غمرت جيمع خلقه، واستدل على صحة هذا الحد بآيات من كتاب الله تعالى، وأحاديث عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ، وأشعار العرب، ذكرها في البساط.
قلت: وهو مبني على ما ذهب إليه جماعة من الأئمة" من أن الفاسق يسمى كافر نعمة.
وقال الإمام (يحيى بن حمزة) عليه السلام : هو تكذيب الرسول صلى الله عليه وآله وسلم في شيء مما جاء به مما يعلم ضرورة من دينه، وما يكون فيه دلالةٌ على تكذيبه، قال الإمام عز الدين عليه السلام : قوله تكذيب الرسول يعني به نفس التكذيب فإنه كفر لا محالة، وقوله: مما يعلم ضرورة من دينه يحترز به عن إنكار ما ليس من ضرورة الدين، كجحود من يجحد أنه ما كان يفضل عائشة على نسائه، ولا يحب أزواجه، وغير ذلك مما لا يكون من الدين في ورد، ولا صدر، وقوله: وما يكون فيه دلالة على تكذيبه يندرج فيه عدم تصديقه، ونحو سب الأنبياء، وتمزيق المصاحف، وإحراقها، ولبس الغيار، وشد الزنار، وغير ذلك من الأمور الكفرية، فإنها وإن كانت غير معدودة في صريح التكذيب لكنها دالة على التكذيب؛ لأن هذه الأشياء كلها لا تصدر إلا عن مكذب بالرسول.
وقال الإمام القاسم بن محمد عليه السلام : هو عصيان مخرج لمرتكبه من ملة الإسلام.
قلت: وفيه إبهام، وقال الباقلاني: هو الجحد بالله تعالى مع الجهل به.
قال الإمام المهدي: وهذا الحد ضعيف جداً؛ إذ يخرج منه عباد الأوثان واليهود والنصارى حيث لم يجحدوا الله تعالى، ولا يجهلونه.
وقال الغزالي: هو تكذيب النبي في شيء مما جاء به، واختاره الرازي.
قال الإمام المهدي: وهو عندي ضعيف؛ لأن التكذيب حقيقة في النطق بلفظ كذبت ونحوه، فيخرج أكثر أنواع الكفر كالسجود لغير الله.
فإن قال: إن مرادي ما يحصل به التكذيب من قول أو فعل.
قلنا: ذلك إضمار في الحد وهو معيب؛ إذ المراد بالحدود الكشف، وقالت المعتزلة: هو القبيح الذي يستحق به أعظم أنواع العقاب، وتعلق به أحكام مخصوصة كمنع المناكحة والموارثة، وإباحة القتل إلى غير ذلك.
قال الإمام المهدي: وهذا الحد مبهم لا يعرف به الكفر على جهة التفصيل، بل يقف على معرفة الأنواع التي يستحق عليها أعظم أنواع العقاب، وهي لا تعرف إلا حيث يقوم الدليل على أنها كفر، فيلزم الدور إذ لايعرف الكفر إلا بمعرفتها، وهي لاتعرف إلا حيث توصف بأنها كفر إذ لم يرد في الكتاب والسنة في شيء من المعاصي أنه يستحق عليها أعظم أنواع العقاب، وإنما يعرف ذلك في المعاصي حيث توصف بأنها كفر.
قال الإمام المهدي: ونحن نأتي له بحد يكشف عن تفاصيله، ولا يلزم منه دور، فنقول: الكفر هو الخلو عن معرفة الله تعالى، أو نبوة نبيه، أو الاستخفاف بالله، أو بنبيه، أو بشيء مما جاء به، أو تكذيبه بشيء مما علم ضرورة أنه جاء به بقول، أو فعل، أو اعتقاد، أو تعظيم غير الله كتعظيمه، أو الدخول في الشعار المختص بمن هو كذلك جرأة وتمرداً.
قال عليه السلام : فقولنا هو الخلو عن معرفة الله تعالى دخل فيه كفر من لم يعرف أن له صانعاً صنعه، ولم يصدر منه تكذيب للنبي صلى الله عليه وآله وسلم ولا تصديق، وقولنا: أو نبوة نَبيِّه دخل فيه كفر من عرف الله تعالى ولم ينظر في صدق النبي ولا كذبه بل أعرض عن ذلك، فإنه لا يدخل إلا بهذا القيد وقولنا: أو الإستخفاف بالله تعالى دخل فيه كفر من عرف الله، ونبوة نَبيِّه، ولكن وصفه بأنه بخيل أو فقير أو ظالم أو نحو ذلك تمرداً لا اعتقاداً بل تهاوناً بعظمته تعالى فإنه لا يدخل إلا بهذا القيد، وقولنا: أو نَبيِّه دخل فيه كفر من سب النبي صلى الله عليه وآله وسلم أولطمه أو نحو ذلك مع اعترافه بنبوته فإنه لا يدخل إلا بهذا القيد وقولنا أو بشيء مما جاء به دخل فيه كفر من استخف بالقرآن بأن أحرقه أو نحو ذلك وكفر من استخف بسنة الرسول صلى الله عليه وآله وسلم أو تهاون بالثواب أو العقاب، فإنه لا يدخل إلا بهذا القيد، وقولنا: أوتكذيبه في شيء مما علم ضرورة أنه جاء به يدخل فيه كفر الملاحدة في إنكارهم المعاد الجسماني، وكفر من أضاف الأجسام إلى موجب من علة أو طبع، أو إلى نجم، أو نحو ذلك، وكفر البراهمة لأنهم يكذبونه في كونه رسولاً، وإن أثبتوا الفاعل المختار، وكفر اليهود، والنصارى، والمجوس، وكل من كذبه صلى الله عليه وآله وسلم .
وقولنا: بقول أي سواء كان التكذيب بقول نحو أن يقول: إنه صلى الله عليه وآله وسلم كاذب، أو يقول: إن الموتى لا يحشرون، أو إن الصلاة غير واجبة ونحو ذلك.
وقولنا: أو فعل ليدخل كفر من شرب الخمر وإن لم ينطق بأنها حلال، ولا اعتقد تحريمها، أو قتل النفس المحرمة وإن لم ينطق بأن ذلك حلال، ولا اعتقد التحريم أو نحو ذلك.
وقولنا: أو اعتقاد ليدخل فيه كفر من اعتقد تحليل الخمر والزنى وأن الصلاة غير واجبة، وأن القيامة غير واقعة وإن لم ينطق بذلك، فإن هذه الصور كلها تضمن تكذيبه صلى الله عليه وآله وسلم فكانت كفراً.
وقولنا: أو تعظيم غير الله كتعظيمه ليدخل فيه السجود لغير الله تمرداً مع اعتقاده أنه لا يستحق ذلك غيره، وأن فعله قبيح، فإنه لا يدخل إلا بهذا القيد.
وقولنا: أو الدخول في الشعار المختص بأي أهل هذه الأمور جرأة وتمرداً ليدخل فيه كفر من لبس الزنار، أو دخل في التزام السبت فعلاً لا اعتقاداً، فإنه لا يدخل إلا بهذا القيد، وإنما يدخل إذا فعل ذلك جرأة وتمرداً، لا لو فعله مكرهاً، أوفي حكم المكره، ويلحق بهذه الجملة الموالاة لمن هذه صفته، فإنه في حكم من التزم شعاره بدليل قوله تعالى: {فإنه منهم} فهذا هو حد الكفر الجامع لأنواعه على سبيل التفصيل.
الفصل الثاني: في قسمة الكفر
وهو ينقسم إلى قسمتين:
القسمة الأولى: إلى تصريح، وتأويل، فكفر التصريح: هو ارتكاب شيء مما تقدم في حقيقته، ومثاله: من أنكر وجود الصانع، أوكونه واحداً، عالماً، قادراً، مختاراً، أو كونه منزهاً عن النقائص والآفات، أو أنكر نبوة محمد صلى الله عليه وآله وسلم ، أو ما علم ضرورة أنه من شرعه كالصلاة، والزكاة ونحوهما، أو أنكر صحة القرآن، إلى غير ذلك مما شمله حد الإمام المهدي عليه السلام .
وكفر التأويل: هو ارتكاب شيء مما يماثل تلك الأمور مع إنكار مرتكبه المماثلة لشبه يدعيها، ومثاله قول المجسمة أن الله جسم ذو أعضاء وجوارح، فإن المعلوم ضرورة من دين النبي صلى الله عليه وآله وسلم أن الله تعالى لا يشبه خلقه، وأَنه دان بذلك، فلو قال المجسم: أن الله سبحانه شبيه بخلقه كان بذلك كافر تصريح لتكذيبه للنبي صلى الله عليه وآله وسلم حيث أثبت ما نفاه، لكنه قال: إن الله تعالى ذو أعضاء وجوارح، ويزعم أن هذا ليس من التشبيه الذي جاء الرسول الله صلى الله عليه وآله وسلم بنفيه، وأن الرسول صلى الله عليه وآله وسلم إنما حرم تشبيه الله تعالى بعباده بصفات النقص والحدوث، وتوابعه، كالموت، والتألم، ونحوها، وذلك لشبه وهي الظواهر التي في القرآن والسنة، فهذا كافر تأويل؛ لأنه لم يثبت لله تعالى من الوصف عين ما جاء الرسول صلى الله عليه وآله وسلم بنفيه، فيكون مكذباً، وإنما أثبت مثل ما نفاه صلى الله عليه وآله وسلم ، وزعم أنه غير مثل له، وكذلك قول المجبرة أن الله تعالى فاعل الظلم، والكذب، والعبث، فإن المعلوم ضرورة من دين محمد صلى الله عليه وآله وسلم أنه لا يجوز وصف الله تعالى بأنه ظالم، أو كاذب، وأن من وصفه بذلك أو اعتقده فيه فقد كفر، وهؤلاء لم يصفوه بذلك، ولا اعتقدوه فيه، لكنهم وصفوه واعتقدوا فيه ما هومثله من كونه فاعل الظلم والكذب والعبث، وقالوا: ليس وصفه بأنه فاعل لذلك كوصفه بأنه ظالم ونحوه لشبهة اقتضت عندهم اختلاف الوصفين، وامتناع مماثلتهما.
القسمة الثانية: إلى مجمع عليه، ومختلف فيه، أما المجمع عليه: فهوكل كفر صريح فعل تمرداً أو عناداً مع معرفة الحق، فهذا لا خلاف بين المسلمين في كفر صاحبه، وتأبيد عقابه، وأنه مستحق أعظم أنواع العقاب.
وأما المختلف فيه فنوعان: كفر تصريح: وكفر تأويل.
أما كفر التصريح: فهو ما كان منه واقعاً لا على جهة التمرد والعناد، بل قد اجتهد في طلب الحق، وبلغ الغاية القصوى في النظر، فلم يوصله نظره إلا إلى ما استقر عليه اعتقاده من تهود، أو تنصر، أو تمجس أو نحو ذلك، فإن هذا النوع مختلف فيه بين الأمة، فالذي عليه الأكثر أنه كفر، وأنه لا فرق بينه وبين المعاند للحق.
وقال (الجاحظ)، و(عبيد الله بن الحسن العنبري): لا عقاب على أهل هذا النوع، بل صاحبه معذور.
قال (الرازي): وهو معنى قوله: إن كل مجتهد مصيب، فإنه لم يعن أنه محق، فإن ذلك تكذبه الضرورة، وإنما أراد أن المخطئ معذور.
قلت: أي عذر بقي لهؤلاء مع قيام المعجز على صدق محمد صلى الله عليه وآله وسلم ، ومع العلم الضروي بدعائه إياهم إلى الإسلام، وبيانه أوضح بيان، واشتهاره في كل زمان، بحيث لم يبق لهم ولا لغيرهم شبهة إلا العناد والتمرد، وأين الجاحظ والعنبري من أوصاف القرآن بأنه بيان، وتبيان، ومبين، وهدى، وتفصيل، ومفصل، لمن هذا البيان والتبيين. والهدى والتفصيل {هَذَا بَلاَغٌ لِلنَّاسِ وَلِيُنذَرُوا بِه}[إبراهيم:52] قل {يَاأَيُّهَا النَّاسُ قَدْ جَاءَتْكُمْ مَوْعِظَةٌ مِنْ رَبِّكُمْ وَشِفَاءٌ لِمَا فِي الصُّدُورِ وَهُدًى وَرَحْمَةٌ لِلْمُؤْمِنِينَ}[يونس:57] {الَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ يَعْرِفُونَهُ كَمَا يَعْرِفُونَ أَبْنَاءَهُمْ وَإِنَّ فَرِيقاً مِنْهُمْ لَيَكْتُمُونَ الْحَقَّ وَهُمْ يَعْلَمُون}[البقرة:146].
وأما كفر التأويل فسيأتي الكلام عليه إن شاء الله تعالى.
الفصل الثالث في حصر فرق الكفر
وهي سبع: تجاهليه، ودهرية، وثانوية، وصابئة، ومنجمية، ووثنية، وكتابية، وهؤلاء يجمعهم إنكار نبوة نبينا محمد صلى الله عليه وآله وسلم ، وهم بعد ذلك مختلفون في إثبات الصانع، فمنهم من أنكره، ومنهم من أثبته، وتحقيق مقالة كل فرقة سيأتي في موضعه إن شاء الله تعالى.
قال الإمام المهدي عليه السلام : وأما المعترفون بنبوة نبينا صلى الله عليه فهم كفار التأويل، ولا يخلو كفرهم إما أن يكون لعدم العلم اليقين بالله ورسوله، أو لأجل اعتقاد جهل، الأول المقلد في معرفة الله وصدق رسوله، والثاني: هو المشبه والمجبر عند المكفر .
الفصل الرابع في الدليل الذي يثبت به الكفر
اعلم أنه لا يجوز إكفار أحد إلا بثبوت كفره، إما بضرورةٍ من الدين كما يعلم كفر الدهرية، واليهود، والنصارى ونحوهم، وإما دلالة، ولا يكون حينئذٍ إلا بدليل سمعي قطعي.
أما كونه سمعياً: فهو إجماع، قال الإمام المهدي عليه السلام : اتفق الناس على أن العقل لا يهتدي إلى كون المعصية كفراً؛ إذ لا طريق له إلى مقدار العقاب، والمرجع بالكفر إلى ذلك.
قلت: وتوضيحه أن الكافر اسم شرعي يقصد به المبالغة في الذم؛ إذ هو اسم لمن يستحق أعظم أنواع العقاب، ولادليل عليه إلا السمع، وذلك معلوم ضرورة، وأماكونه قطعياً فلأن الإكفار إضرار بالغير، ولا يجوز الإضرار به إلا مع تيقن الاستحقاق، والمفيد لليقين هو الدليل القطعي، ولأن اعتقاد كفر الغير لايجوز إلا إذا كان ذلك الاعتقاد علمًا؛ لاستلزامه المعاداة، والذم، والقطع بالخلود في النار إذا لم يتب، وجميع ذلك لا يجوز إلا بقاطع إجماعاً؛ ولقو له تعالى: {إِنَّ الظَّنَّ لاَ يُغْنِي مِنَ الْحَقِّ شَيْئاً}[يونس:36]. {إِنَّ بَعْضَ الظَّنِّ إِثْمٌ}[الحجرات:12].
قال النجري: فإن قيل: من قامت شهادة على كفره، أوكان مقيماً في دار الكفر غير مميز نفسه بعلامة فإنه يحكم بكفره، ويجب اعتقاد كونه كافراً، والمعلوم أن الشهادة والإقامة لايفيدان إلا الظن، فكيف جاز الإكفارمن غير دليل قطعي؟
قلنا: لانسلم عدم الدليل، بل قام الدليل وهو الإجماع على أنه يجب الإكفار عند الشهادة والإقامة المذكورين، فالإكفار عندهما لم يكن إلا عن قاطع، لكن لا يجوز اعتقاد كونه كافراً في نفس الأمر، بل بالنسبة إلينا، وفي ظاهر الشرع، ومن ثم قيل: لا يجوز لعنه إلا مشروطاً، كما إذا أقامت شهادة على إسلامه، أوكان ظاهره ذلك فإنه يجب إجراء أحكام المؤمنين عليه، واعتقاد أنه مؤمن في الظاهر فقط لا في نفس الأمر.
قلت: ويدل على هذا قوله صلى الله عليه وآله وسلم : ((أمرت أن أقاتل الناس حتى يقولوا لا إله إلا الله، فإذا قالوها حقنوا مني دماءهم وأموالهم إلا بحقها وحسابهم على الله)).
فإن قيل: فما تفاصيل ذلك القاطع الذي قد قررتم أنه لا يصح التكفير إلابه؟
قيل: الكتاب والسنة القاطعة، والإجماع المعلوم، المتيقن من الأمة، أوالعترة"، وقول المعصوم كعلي، وولديه الحسن، والحسين، وأمهما بضعة الرسول صلوات الله عليهم أجمعين عند من جعل أقوالهم حججاً قاطعة، والقياس والاستدلال المفضي إلى اليقين، وثلج الصدر والطمأنينة، فالأولان متفق على ثبوت التكفير بهما، وما بعدهما مختلف فيه.
أما الإجماع فالخلاف فيه لمن جعل الدليل على كونه حجة ظنياً، وقول المعصوم الخلاف فيه لمن لا يجعله حجة قاطعة، وأما القياس والاستدلال فنوعان:
أحدهما: يصح الاستدلال به على الإكفار بلا خلاف، وذلك حيث علمنا ذنبين أحدهما أصغر من الآخر، وعلمنا أن الأصغر كفر، فإنا نعلم الأعظم كذلك أيضاً، وهذه دلالة الفحوى، وكذلك حيث علمنا استواء الذنبين في العقاب، وعلمنا أن أحدهما كفر، فإنا نعلم أن الآخر كفر، فهذا النوع لا خلاف فيه.
النوع الثاني: مختلف فيه وذلك حيث نعلم في ذنب أنه كفر أو فسق، ثم نستنبط العلة الموجبة لكونه كفراً أوفسقاً استنباطاً لا بنص ولا إجماع، ثم نعمد إلى ذنب لا نعلم قدر عقابه فنلحقه بذلك لحصول العلة.
مثاله: أنا نعلم أن من وصف الله بأنه ظالم فقد كفر لإجماع الأمة، ثم نظرنا بطريقة السبر والتقسيم فلم نجد علة كفره إلا إضافة الظلم إلى الله تعالى، فقسنا عليه من وصفه بكونه موجداً للظلم لحصول تلك العلة، وهذا النوع قد اختلف العلماء في صحة الاستدلال به على الإكفار والتفسيق، فالذي عليه أكثر قدماء أهل البيت " وأكثر المعتزلة -كأبي علي، وأبي هاشم، والقاضي وغيرهم- أنه يصح الاستدلال به، والخلاف في ذلك لمن منع من تكفير أهل القبلة، وقالوا: الكفر لا يعلل.
وأجيب: بأنه يصح تعليل كل حكم إلاَّ لمانع نحو أن يعود على الحكم بالنقض، أو تكون العلة لا تنفصل عن المعلول، والمعلول لا ينفصل عنها، أويؤدي إلى إثبات ما لا يتناهى، وذلك كله مفقود في تعليل الكفر فيجب أن يصح تعليله.هكذا ذكره الإمام الموفق بالله في الإحاطة.
قالوا: المرجع بالكفر إلى تزايد العقاب، والعلة في استحقاق العقاب إنما هي القبح، ومن ثم قيل: إن أقل جزء من أجزاء القبيح إذا قبح بوجه واحد لم يستحق عليه إلا جزءاً واحداً من العقاب، وأن تزايد العقاب إنما هو لتزايد وجوه القبح، وإذا ثبت هذا فمن الجائز أن يعلم كون الفعل كفراً، ولا نعلم وجه تزايد عقابه حتى صار كفراً، وإنما نعلم أنه إنما عظم عقابه لوجه اقتضى ذلك، ولا يمتنع كون المصلحة في عدم علمنا بتلك الوجوه على التفصيل، كما لا يمتنع كون المصلحة في العلم بها تفصيلاً، ألا ترى أن السمع إذا ورد بقبح أمرٍ أو وجوبه، فإنا نعلم في الجملة أن ثم وجهاً اقتضى ذلك وهو كونه داعياً إلى واجب أو قبيح، ثم من الجائز أن بعض الأفعال في الدعاء أبلغ من بعض بأن يدعو إلى واجبات كثيرة، والآخر إلى قليلة، أو يدعو إلى قبيح واحد، أو قبائح كثيرة.
قالوا: فكما أن تفاصيل ذلك لا تعلم إلا سمعاً، ولا يمكن معرفتها بالقياس، فكذلك نقول في كون الفعل كفراً أو فسقاً؛ لأن العلة لا يمكن معرفتها مع تلك الأمور المجوزة.
والجواب: أنا إذا علمنا بدليل سمعي في أمر أنه كفر، وعلمنا أن لا بد له من وجه لأجله كان كفراً، ثم حصرنا الوجوه التي يمكن كونها علة بطريقة تفيد العلم ضرورة، وهي الدائرة بين النفي والإثبات، وأبطلنا صحة تعليق الحكم بها بدليل قاطع حتى لم يبق إلا واحدٌ، فإنا نقطع أنه هو الموجب لكون ذلك الأمر كفراً، وإذا علمنا من حاله ذلك، ووجدناه في محل آخر، قطعنا بكونه كفراً لحصول موجب ذلك كما تقدم مثاله فيمن وصف الله تعالى بأنه ظالم، فإنا نعلم أنه لابد من وجه لأجله كان كفراً؛ إذ لا يجوز أن يتزايد عقابه لغير موجب، وحصرنا الوجوه التي يمكن كونها علة، بأن قلنا: لا يخلو إمَّا أن يكون كفراً لأمر أولا، الثاني باطل، وإلا كان تزايد عقابه ظلماً، والأول لا يخلو إمَّا أن يكون مجرد اللفظ أولا، والثاني لا يخلو، إما أن يكون لأجل معناه فقط، أو لأجل مجموع اللفظ والمعنى، أو لأمر آخر، فهذه قسمة حاصرة لا تحتمل قمساً آخر، فإذا بطلت الأقسام بدليل قاطع إلا واحداً، ووجدنا الحكم يثبت بثبوته، وينتفي بانتفائه تعين كونه العلة قطعاً، وإذا تعينت وجب اطرادها فحيث تحصل يحصل الحكم فيصح القياس.
قال الإمام المهدي عليه السلام : والخصم لاينازع في ذلك، وإنما ينازع في إمكان إبطال كل قسم، فإنه إذا ادعا في هذه الصورة أن العلة أمر آخر غير اللفظ والمعنى، أواللفظ والمعنى مع أمر آخر لا نعلمه، فإنه لا سبيل لنا إلى إبطال ذلك الأمر المجوز إلا بأنه لا طريق إليه، وما لا طريق إليه يجب نفيه، وهذه الطريقة غير صحيحة عندهم؛ لأن عدم العلم ليس علماً بالعدم، ورد بأن الأوصاف العقلية والشرعية مما لا يخفى على الباحث، وأما قولهم أنه يجوز تعلق المصلحة بأن لا يعلم وجه المفسدة كما جاز ذلك في وجه المصلحة، فقال الإمام المهدي عليه السلام : بل يمتنع ذلك؛ لأن في تجويز ثبوت أمر لا طريق لنا إليه قدحاً في كل علم مكتسب، بل في الضروريات، لكن قد لا يجب العلم بتفاصيله؛ لقيام العلم بجملته مقام العلم بالتفاصيل، كما قلنا إن وجه وجوب الصلاة كونها داعية إلى الواجبات العقلية، أو بعضها، وإن لم يعلم الواجب الذي تدعو إليه بعينه ولاكميته، فالعلم الجملي ناب مناب ذلك.
قلت: هذا بناءٌ على أصله عليه السلام في وجه وجوب الواجبات الشرعية، ومن حجج المانعين من التكفير بالقياس ما ذكره الموفق بالله عليه السلام من أنه يلزم إثبات اسم الكافر بالقياس، وأجاب عليه السلام بأنه ليس في ذلك ما ينكر إذا كان القياس دليلاً معلوماً، قاطعاً للعذر، مفضياً إلى اليقين.
قلت: أراد عليه السلام أن إثبات اسم الكافر بالقياس جائز؛ لأنه شرعي، وليس النزاع إلا في إثبات الأسماء اللغوية به قالوا: يلزم إثبات مقادير العقاب بالقياس وهي لا تثبت قياساً.
وأجاب الموفق بالله عليه السلام بأن هذا تحكم ودعوى، بل لا تثبت مقاديره إلا بالقياس، وإذا جاز القياس في إثبات الصانع وكونه عدلاً، فلأن يجوز في إثبات مقادير العقاب الذي يستند ثبوته إليه أولى.
قلت: وفي قوله بل لا تثبت مقاديره إلا بالقياس نظر، اللهم إلا أن يريد ما ذكره بعضهم من أنه لا طريق إلى إثبات الصانع إلا القياس العقلي، وثبوت مقاليد الثواب والعقاب متوقف على إثبات الصانع، فيصح الإطلاق بأنها لا تثبت إلا قياساً بهذا الاعتبار. والله أعلم.
ومن أدلة أصحابنا أنا إذا علمنا أنه يستحق هذا المقدار من العقاب أجري عليه اسم الكافر والفاسق، للإجماع الحاصل على أن المستحق لهذا القدر من العقاب كافر أو فاسق. ذكره في الإحاطة.
إذا عرفت هذا فاعلم: أنه قد تقدم أنه لا يجوز التكفير والتفسيق إلا بقاطع، وقد جعل أصحابنا من الدليل القاطع القياس الثابث بعلة مستنبطة بطريقة السبر، والتقسيم، وقد أطلعناك على عيون أدلتهم على ذلك، وأنت إذا أمعنت النظر وأرجعت البصر تجد بينها وبين إفادة القطع مراحل، كيف وقد قال بعض المحققين: إن في كون هذه الطريق تفيد ظن العلية نظر، ولم يعده صاحب التنقيح طريقاً، وكذلك تنقيح المناط، وقال علماؤنا لم يعتبروها، فأين إفادة القطع وهؤلاء الجهابذة لم يحصل لهم الظن؟.
تنبيه [في أنه لا كفر بلا دليل]
ولما كان منكرو التكفير بالقياس يجوزون ثبوت كفر لا دليل عليه، فكان الكلام عليه كالتتمة لما سبق، حسن منا ذكر الخلاف في ذلك فنقول:
قال الإمام الموفق بالله، والإمام المهدي"، وجمهور المعتزلة: لا يجوز ثبوت كفر لا دليل عليه في الخارج بأن تكون المعصية محتملة لأن تكون كفراً، وألا تكون، وذلك لأن الله قد تعبدنا بإجراء أحكام على الكافر، ولا يصح منا إجراؤها إلا بعد أن يعرف الكفر، وإلا كان تكليفاً بما لا يمكن العلم به وهو محال.
قال الموفق بالله عليه السلام : ألا ترى أن الله تعالى لما تعبدنا بإجراء حكم على السرقة، فلا بد من أن يكون على كل سرقة دليل تعلم أنها مما تعلق بها ذلك الحكم، وإلا أدى إلى ما يجري مجرى تكليف ما لا يطاق، ولأن المعلوم من دين النبي صلى الله عليه وآله وسلم أن الكفر أعظم أنواع المعاصي، وأن أعظمها الجهل بالله والنبوة، والتكذيب، أو الاستخفاف حسبما تقدم في حد كفر التصريح، ومعنى كونه أعظم أنواع المعاصي أن عقابه أعظم أنواع العقاب، فثبت أن الكفر ما استحق عليه أعظم أنواع العقاب.
قال الإمام المهدي عليه السلام : فقطعنا أنه لاذنب يستحق عليه أعظم أنواع العقاب إلا ما تضمنته حقيقة الكفر التي قدمنا، فلا كفر حينئذٍ غيرها؛ إذ علمنا بالتتبع أنه لا معصية إلا وهي دونها، فلا كفر إلا ما دخل فيها.
قال عليه السلام : وبذلك يبطل إثبات كفر لا دليل عليه.
فإن قيل: أليس يجوز من الكافر أن يبطن كفره حتى لا نعلمه، ولا يمكننا إجراء الأحكام عليه، فكذلك لم لا يجوز أن يكون كفر لا دليل عليه أصلاً؟
فالجواب: أنا لو جوزنا كفراً لا دليل عليه، وقد أوجب الشرع إجراء تلك الأحكام على مرتكبه لكان تكليفاً بما ليس في الوسع، فلا يجوز إثباته بحال، فثبت أن هذا التكليف موقوف على ما يظهر لنا، وبهذا يتبين أنه ليس مراد أصحابنا إلا أنه يجب أن يكون على جنس كل كفر دليل بحيث يمكننا إجراء الأحكام عند ظهوره، وأنه لا يجوز أن نعلم ذنباً وهو في علم الله كفر ولا ينصب لنا عليه دليلاً، لا أنه يجب أن يعلم كل كفر ويظهر كالسرقة فإنه لا بد من أن يكون عليها دليل بحيث إذا علمنا وقوعها أمكننا إجراء الحكم على فاعلها، وإن كان يجوز منه أن يبطنها ولا يظهرها، وبهذا يظهر أن الفرق بين كفر يكتمه فاعله، وبين كفر لا دليل عليه. والله أعلم.
فإن قيل: الخطاب الوارد عن الله، وعن رسوله صلى الله عليه وآله وسلم في إجراء الأحكام على الكفار غير عام، وإنما هو متعلق بالكفر المعهود الذي قد عرفوه كقوله تعالى: {اقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ}[التوبة:5] والمعهود هو تكذيب النبي صلى الله عليه وآله وسلم ، والاستخفاف به، أو بما جاء به، فأمرنا بإجراء الأحكام على من كان كفره بذلك دون من بلغ عقابه في ذنب درجة عقاب ذلك فإنه يكون كفراً؛ لاستحقاقه أعظم أنواع العقاب، ولا وجه لإجراء تلك الأحكام عليه؛ إذ لا دليل يقتضيه لانصراف الظواهر التي احتججتم بها إلى الكفر المعهود دون غيره، فصح تجويز ثبوت كفر لا دليل عليه؛ إذ لا مانع من كون ترك الصلاة يستحق عليه من العقاب كما يستحق على تكذيبه صلى الله عليه وآله وسلم ونحو ذلك، وإن لم يجب علينا إجراء أحكام المكذبين عليه لعلمه تعالى أنه لا مصلحة لنا في ذلك، هكذا أورده الإمام المهدي عليه السلام في (درر الفرائد).
قال عليه السلام : والجواب أن هذا سؤال واقع في هذا المقام لا خلاص لأصحابنا عنه إلا بتقرير ثلاث قواعد:
الأولى: كون الكفر صار اسماً لكل قبيح يستحق عليه أعظم العقاب.
قلت: قد تقررت هذه القاعدة بما تقدم، وقد روى الموفق بالله عليه السلام الإجماع على ذلك.
الثانية: تقرير كون هذه الأحكام التي أمرنا بإجرائها في حق الكافر متعلقة بكل أنواع الكفر.
قلت: وقد تقدم تقرير ذلك.
الثالثة: أنه لا يجوز من الله تعالى أن يعلم أن لنا لطفاً في فعل ولا يأمرنا به، ويعلمنا بوجوبه.
قلت: قد تقررت هذه القاعدة فيما تقدم بما لا مزيد عليه، وهي مبنية على القول بوجوب اللطف على الله تعالى، ومن لا يوجبه فإنه يقول: قد تقرر أن الخطاب بإجراء تلك الأحكام عام لجميع أنواع الكفر فلو لم ينصب لنا على كل نوع دليلاً لكان تكليفاً بما لا يعلم.
قال الإمام المهدي عليه السلام : فإذا تقررت هذه القواعد أمكنهم القطع حينئذٍ على أنه لا يجوز أن يكون في المعاصي ما هو كفر ولا يلعمنا الله تعالى أنه كفر، وإذا ثبت أنه لا يجوز كفر لا دليل عليه، فاعلم: أن الفسق يخالفه في ذلك.
قال الإمام المهدي عليه السلام : اتفق شيوخ المعتزلة مثبت كفر التأويل ونافيه على أنه يجوز فسق لا دليل عليه في الخارج، كما يجوز في المعاصي المحتملة أن تكون فسقاً، وأن يكون صغائر، ولا سبيل إلى العلم بأحدهما أصلاً، وإنما يعلم كونها معصية، وإلا لتعينت الصغائر؛ لأنه إذا كان كل فسق فعليه قطعنا أن ما لا دليل عليه فليس بفسق، وما قطعنا أنه ليس بفسق فهو صغير، وتعيين الصغائر قبيح إذ هو إغراء بها، والإغراء بالقبيح قبيح لا يجوز من الله، وهذا يستلزم القطع بجواز فسق لا دليل عليه.
قال الإمام المهدي عليه السلام : وهو موضع اتفاق، وإنما اختلفوا في الكفر فالمانعون من كفر لا دليل عليه قد تقدم ذكرهم، وبيان حججهم، وقال السيد(م) بالله أحمد بن الحسين، والإمام يحيى بن حمزة عليه السلام ، وأبوالقاسم البستي، وأبو رشيد: بل يجوز كفر لا دليل عليه، ولهم على ذلك دليلان:
أحدهما: أن الأحكام التي تعبدنا بها في حق الكافر والفاسق لا يلزمنا إلا حيث نعلم الفعل كفراً أوفسقاً، وإذا كان كذلك جاز ثبوت كفر لا دليل عليه، فيجوز أن يكون في العاصين من عقابه عقاب الكافر لأجل معصية فعلها وهي كفر، لكن ذلك الكفر لا مصلحة لنا في إجراء أحكام الكفر عليه، كما يجوز أن يبطن المسلم في الظاهر الكفر فيجري عليه في الدنيا حكم المسلمين، وله في الآخرة حكم الكفار.
وإذا ثبت هذا ثبت أنه لا يجب على الله أن يدلنا على كل كفر وفسق إذ لا مصلحة لنا متعلقة بما لا نعلمه كفراً أو فسقاً، ولا طريق إلى أن المصالح في تلك الأحكام ثابتة في كل كفر وفسق.
والجواب: أن هذا الدليل قد دخل فيما تقدم من الأسئلة الواردة على دليل الجمهور، فخذ جوابه من هنالك، والمعتمد في جوابه أن التعبد ورد بإجراء تلك الأحكام في كل أنواع الكفر، فلو جوزنا كفراً لا دليل عليه للزم التكليف بما لا يعلم.
الدليل الثاني: قالوا قد ثبت فسق لا دليل عليه، فيجب في الكفر مثله؛ إذ قد تعبدنا في الفساق بأحكام كالذم، واللعن، ووجوب التبري منهم، ورد الشهادة.
والجواب: أما التبري ونحوه فإنما يجب على التفصيل لمن علم فسقه، فمن لم يقطع بفسقه لم تجب معاداته، بل لم تجز، وأما رد الشهادة فقد أجاب القاضي عبد الجبار: بأنه ليس مما يختص الفسق، فقد ترد شهادة الصبي، والمجنون، والشريك، والعبد على مذهب الأكثر، ومن له فيه نفع أو دفع مضرة وإن كان صالحاً فاضلاً.
قال الموفق بالله عليه السلام : ولقائل أن يقول: أنه وإن رد في موضع لعلة، ففي هذا الموضع ردت شهادته لأمر يختص الفسق، وهو كونه فسقاً، فهذا حكم يختصه، ولا يمكن إجراؤه عليه إلا بعد معرفته، فيجب أن نعرفه حتى يكون على كل فسق دليل.
قال عليه السلام : ولي فيه نظر، وقال الإمام المهدي عليه السلام بعد ما أورد كلام القاضي: هذا الجواب غير مخلص؛ لأنه وإن ثبت له ذلك في الشهادة لم يستقم له في بقية الأحكام فإنها تختص به من غير تردد ولا نزاع، فبقي الإلزام كما هو، لكنا وإن سلمنا أن للفسق أحكاماً مخصوصة كالكفر وهي بوجوب تعيينهما معاً، لكن منع من تعيين كل فسق مانع، وهو استلزام تعيين الصغائر، وهو لا يجوز بخلاف الكفر فإنه لا يمنع من تعيينه مانع؛ لأنه لو التبس بغيره لما التبس إلا بالفسق لقربه منه، فيلزم من تعيينه تعيين بعض الفسق وهو جائز كالكبائر، وكان الدليل المقتضي لوجوب تعيين الكفر غير معارض، بل باق على إطلاقه، فوجب العمل بمقتضاه، وهو القول بالتعيين، بخلاف الدليل المقتضي لتعيين الفسق، فإنه معارض بما في تعيين الصغائر من المفسدة، فوجب العدول عما يقتضيه من وجوب تعيين الفسق إلى القول بجواز فسق لا دليل عليه.
(تتمة) لهذا الفصل في التكفير بالإلزام.
اعلم: أن من أثبت كفر التأويل فإنه يجوز التكفير بالإلزام وإن لم يلتزمه خصمه، واحتجوا بوجهين:
أحدهما: أن لزوم الكفر حينئذٍ ليس معلوماً ضرورة، بل دلالة، وإذا كان كذلك جاز أن لا يعلمه الخصم فينكر اللزوم، ولكن إنكاره لا يسقط الكفر عنه، كمن أنكر وجوب الصلاة فإنه يكفر اتفاقاً؛ إذ لزمه تكذيب النبي صلى الله عليه وآله وسلم وإن لم يلتزمه، بل ادعى أن الرسول صلى الله عليه وآله وسلم لم يتحملها وليست من شرعه، فكما أن هذه الدعوى لا تسقط عنه الكفر إذ لزومها معلوم، فكذلك فيما علم لزوم التكذيب ونحوه فيه استدلالاً.
الوجه الثاني: إن سقوط الكفر عنه لا يخلو، إما أن يكون لأجل الشبهة التي تعلق بها، أو لأجل إنكار اللزوم لا غير الأول باطل وإلا لزم عدم كفر الفلاسفة واليهود والنصارى لأجل شبههم، والثاني باطل أيضاً وإلا لزم أن لا يكفر من أنكر ما علم من الدين ضرورة كالصلاة؛ حيث لم يلتزم كون قوله تكذيباً له صلى الله عليه وآله وسلم ، وأما من نفى كفر التأويل فقالوا: لا إكفار بإلزام إلا حيث الخصم يلتزم ما ألزم، ويعلم بدليل قاطع أن ذلك كفر.
قال الرازي: فأما الذي يعرف بالدليل أنه من دينه صلى الله عليه وآله وسلم مثل كونه عالماً بعلم أو لذاته، وأنه مرئي أو غير مرئي، وأنه خالق أعمال العباد أم لا، فلم ينقل بالتواتر القاطع للعذر مجيئه عليه السلام بأحد القولين دون الثاني، بل إنما تعلم صحة أحد القولين وبطلان الثاني بالاستدلال، فلا جرم لم يكن إنكاره ولا الإقرار به داخلاً في ماهية الإيمان، فلا يكون موجباً للكفر.
والدليل عليه: أنه لو كان ذلك جزء ماهية الإيمان لكان يجب على الرسول صلى الله عليه وآله وسلم أن لا يحكم بإيمان أحد إلا بعد أن يعرف أنه نظر فعرف الحق في تلك المسألة، ولو كان الأمر كذلك لاشتهر في تلك المسألة بين جميع الأمة، ولنقل ذلك على سبيل التواتر، فلما لم ينقل ذلك دل على أنه عليه السلام ما وقف الإيمان عليها، وإذا كان كذلك وجب أن لا تكون معرفتها من الإيمان، ولا إنكارها موجباًللكفر.
قال: ولأجل هذه القاعدة لا يكفر أحد من هذه الأمة، ولا تكفر أرباب التأويل.
قلت: وكلامه هذا صريح؛ في أنه لا يصح الإكفار بالإلزام، وما احتج به الأولون فيجاب عنه: بأن قياس ما لزم فيه الكفر دلالة على ما لزم فيه ضرورة قياس مع وجود الفارق لما ورد من الآيات، والأخبار الدالة على رفع الخطاب ولم تفصل، وأما ما ذكر في الوجه الثاني من أنه يلزم عدم كفر من أنكر حدوث العالم كالفلاسفة، أو عدم كفر من أنكر ما علم من الدين ضرورة كالصلاة، فهو خارج عن محل النزاع؛ إذ النزاع فيمن لم ينكر ما علم ضرورة، وحدوث العالم وكون الصلاة من الدين أبي ن من الشمس، لا سيما بعد انتشار الأنبياء، والعلماء المنبهين على كيفية الاستدلال، وتعريف الشرائع.
واعلم: أن للإمام المهدي عليه السلام كلاماً هو أقرب إلى العدل وأسلم من الخطر، وهو أنه يصح التكفير بالإلزام إذا علم لزوم الكفر ضرورة وإن أنكره الخصم؛ لأن ما كان معلوم اللزوم ضرورة فالحكم في حق الملتزم له إنه وإن أنكر بلسانه فليس منكراً بجنانه لوجوب اشتراك العقلاء في الضروريات، فيجب صحة التكفير بالإلزام، وعدم التزام الخصم لا يدفع عنه الكفر حيث علم لزومه له ضرورة.
قال عليه السلام : وليس كذلك فيما علم لزوم التكذيب فيه استدلالاً، لا يعني تكذيب النبي صلى الله عليه وآله وسلم لتجويز كونه لم ينظر فلم يعلم أن مذهبه تكذيب، فليس بمكذب؛ إذ المكذب إنما هو من قال لغيره: كذبت، أو اعتقد كونه كاذباً، وهذا ليس كذلك.
قال عليه السلام : فلزم ثبوت التكفير بالإلزام الذي علم لزومه ضرورة وإن أنكره الخصم، وهذا القدر كاف هنا فيما يتعلق بالكفر وبيانه، وسيأتي الكلام إن شاء الله على أنواع الكفر المتفق عليه، والمختلف فيه مفصلاً في مواضعه.
المسألة الثالثة [في أن القرآن كلام الله]
احتجت المعتزلة بقوله تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا...} ونحوها مما أخبرنا الله به عن شيء ماض كقوله تعالى: {إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذّكْرَ}[الحجر:9] {إنَا أَرْسَلْنَا نُوحاً}[نوح:1] على أن كلام الله محدث، سواء كان الكلام هذه الحروف والأصوات، أو كان شيئاً آخر، وينبغي قبل تحرير الدليل أن نذكر أقوال العلماء في المسألة، واختلافهم ليكون هذ الموضع مغنياً عن ذكر أقوال المخالفين في غيره من مواضع الاستدلال فنقول:
الذي حكاه السيد حميدان عليه السلام عن أئمة العترة"، ومن وافقهم، ورواه القاسم بن محمد عن العدلية وغيرهم، وذكره الإمام الحسين عن العدلية جميعاً، والإمام المهدي عليه السلام عن أكثر المعتزلة: أن القرآن محدث مخلوق، أوجده الله تعالى كما أوجد غيره من مخلوقاته.
وقال محمد بن شجاع البلخي البغدادي من علماء المعتزلة: بل يجوز أن يوصف بأنه محدث، ولا يجوز أن يوصف بأنه مخلوق.
قلت: ونحوه في الجامع الكافي عن جماعة من قدماء أهل البيت".
قال محمد: ذاكرت عبد الله بن موسى في قول من يقول: القرآن مخلوق فقد أدركت أحداً من آبائك يقول به؟ قال: لا، وفيه عن علي بن الحسين عليه السلام أنه سئل عن القرآن، فقال: كلام الله وكتابه لا أقول غير ذلك.
وعن أحمد بن سلام قال: سألت القاسم بن إبراهيم عليه السلام عن القرآن وأخبرته بما روي عن زيد بن علي عليه السلام : أنا لا نشبه بالله أحداً، ولا نقول لكلام الله مخلوق، فقال: هكذا أقول.
وعن جعفر بن محمد وسئل عن القرآن خالق أو مخلوق، فقال: لا خالق ولا مخلوق، ولكنه كلام الخالق، وقال عبد الله بن موسى بن عبد الله: القرآن كلام الله ليس بمخلوق، وقال محمد: سألت القاسم بن إبراهيم عن القرآن، فقال: كلام الله، ووحيه وتنزيله، لا يجاوز هذا إلى غيره، وهكذا كان أسلافنا. قال محمد: وكان يقول بخلق القرآن يضمر ذلك.
وعن يحيى بن أبي عطاء البزار أنه سمع الحسن بن يحيى يقول: ليس بمخلوق يعني القرآن، وقال الحسن أيضاً: وهو قول محمد، وسئلا عمن يقول القرآن مخلوق أو غير مخلوق، فقال: القرآن كلام الله ووحيه وتنزيله، نقول في ذلك ما قال الله، ولا نتعدى ذلك إلى غيره {خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ}[الأنعام:102] الأول قبل كل شيء، والباقي بعد كل شيء ووارثه، وكلما كان دون الله فهو مخلوق.
قلت: كلام الحسن هذا يدل على أنه يصح أن يقال: القرآن من جملة مخلوقات الله تعالى، ولا يقال القرآن مخلوق بهذا الإطلاق. والله أعلم.
وقالت الحشوية: بل القرآن قديم وهو هذا الذي نقرؤه في المصاحف، ونتلوه في المحاريب، وقالت الأشعرية والكرامية:أما هذا المتلو فيما بيننا المركب من الأصوات والحروف فهو محدث، وإنما القديم الكلام النفساني القائم بذات القديم تعالى.
وقالت المطرفية: إن هذا القرآن لا يوصف بقدم ولا حدوث، وقالوا: إنا لا نسمع القرآن وإنما نسمع القارئ، وقال بعضهم: ليس القرآن بحروف وإنما هو معنى في النفس.
وقالوا: لم يفارق قلب الملك، وقالوا: هذا القرآن إنما هو حكاية عنه ودليل عليه، فهذه خلاصة ما عثرنا عليه من أقوال الناس في حدوث القرآن وعدمه، وقد أتى كل فريق بحجج وشبه على دعواه، ونحن بعون الله تعالى نذكر في هذا الموضع ما سنح ليتبين الحق من الباطل، والمستقيم من المائل، فنقول: قال الأولون: أما الذي يدل على أنه محدث فهو أن هذا القرآن المتلو في المحاريب، والمعروف بين المسلمين قد وجد ونزل على النبي صلى الله عليه وآله وسلم ، وهذا معلوم ضرورة، فلا يخلو إما أن يكون لوجوده أول أو لا، إن كان لوجوده أول فهو محدث، وإن لم يكن لوجوده أول فهو قديم، ولا يجوز أن يكون قديماً؛ إذ لا قديم إلا الله، فتعين حدوثه إذ لا واسطة، ولأن الله تعالى أخبر عن الذين كفروا بصيغة الماضي كما مر، وهذا يقتضي كون المخبر عنه متقدماً على الخبر، وإلا كان كذباً، والقديم يستحيل أن يكون مسبوقاً بغيره، فهذا الخبر يستحيل أن يكون قديماً، فيجب أن يكون محدثاً، ولأنه سبحانه قد ذكر حدوثه ونزوله فقال: {إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ}[الحجر:9] والمنزل محدث بدليل: {وَأَنْزَلَ لَكُمْ مِنَ الأَنْعَامِ ثَمَانِيَةَ أَزْوَاجٍ}[الزمر:6] ، ونحوها، ولأن الله تعالى قد أشار إليه فقال: {لَوْ أَنْزَلْنَا هَذَا الْقُرْآنَ عَلَى جَبَلٍ}[الحشر:21] ولا إشكال في حدوث هذا المشار إليه؛ لأنه فعل من أفعال الله تعالى، والفعل محدث؛ لأنه لا بد من تقدم فاعله عليه، وما تقدم غيره عليه فهو محدث بالضرورة، وأيضاً هو مرتب بعضه بعد بعض، منظوم من حروف مؤتلفة، وما تقدم من الأشياء على غيره دل على حدوث ما بعده؛ لأن المحدث ماسبقه في الوجود غيره.
قال في (شرح الأصول): يبين ذلك أن الهمزة في قوله تعالى: {الحمد لله} متقدم على اللام، واللام على الحاء، وذلك مما لا يثبت معه قدم، وهكذا الحال في جميع القرآن، ولأنه سور مفصلة، وآيات مقطعة، له أول، وآخر، ونصف، وربع، وسدس، وسبع، وما يكون بهذا الوصف كيف يجوز أن يكون قديماً، وقد دل الله على ذلك في محكم كتابه فقال: {مَا يَأْتِيهِمْ مِنْ ذِكْرٍ مِنْ رَبِّهِمْ مُحْدَثٍ}[الأنبياء:2] والذكر هو القرآن بدليل قوله تعالى: {إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ}[الحجر:9] فقد وصفه بأنه محدث، ووصفه أيضاً بأنه منزل، والمنزل لا يكون إلا محدثاً، وفيه دلالة على حدوثه من وجه آخر؛ لأنه قال: {وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ}[الحجر:9] فلو كان قديماً لما احتاج إلى حافظ يحفظه، ويدل على ذلك أيضاً قوله تعالى: {الر كِتَابٌ أُحْكِمَتْ آيَاتُهُ ثُمَّ فُصِّلَتْ}[هود:1] بين كونه مركباً من هذه الحروف، وذلك دلالة على حدوثه، ثم وصفه بأنه كتاب أي مجتمع من كتب، ومنه سميت الكتيبة كتيبة لاجتماعها، وما كان مجتمعاً لا يجوز أن يكون قديماً، ووصفه بأنه محكم والمحكم من صفات الأفعال، وقد قال بعد ذلك: { ثُمَّ فُصِّلَتْ} وما كان مفصلاً كيف يجوز أن يكون قديماً، وأظهر من هذا قوله تعالى: {اللَّهُ نَزَّلَ أَحْسَنَ الْحَدِيثِ كِتَاباً مُتَشَابِهاً مَثَانِيَ}[الزمر:23] وصفه بأنه منزل أولاً، والقديم لا يجوز عليه النزول، ثم قال: {أَحْسَنَ الْحَدِيثِ}، والحسن من صفات الأفعال، ووصفه بأنه حديث وهو والمحدث واحد، في أنه مناقض للقديم فهو صريح ما ادعينا، وسماه كتاباً وذلك يدل على حدوثه كما تقدم، وقال متشابهاً أي يشبه بعضه بعضاً في الإعجاز والدلالة على صدق من ظهر عليه، وما هذا حاله فلا بد من أن يكون محدثاً.
قال العلامة ابن أبي الحديد: وليس للمخالف أن يقول: ليس المراد بقوله أحسن الحديث ما ذكرتم، بل المراد أحسن القول، وأحسن الكلام؛ لأن العرب تسمي الكلام والقول حديثاً؛ لأنا نقول لعمري أنه هكذا، ولكن العرب ما سمت القول والكلام حديثاً إلا أنه مستحدث متجدد حالاً فحالاً، ألا ترى إلى قول عمرو لمعاوية: قد مللت كل شيء إلا الحديث، فقال: إنما يمل العتيق، فدل ذلك على أنه فهم معنى تسميتهم الكلام والقول حديثاً، وفطن لمغزاهم ومقصدهم في هذه التسمية، وإذا كنا قد كلفنا أن نجري على ذاته وصفاته وأفعاله ما أجرى سبحانه في كتابه، ونطلق ما أطلقه على سبيل الوضع والكيفية التي أطلقها، وكان قد وصف كلامه بأنه حديث، وكان القرآن في عرف اللغة إنما سمي حديثاً لحدوثه وتجدده فقد ساغ لنا أن نطلق على كلامه أنه محدث ومتجدد، وهذا هو المقصود، وبقي الكلام في صحة إطلاق لفظ مخلوق على القرآن، فنقول: إذا قد صح حدوثه فلا يمتنع وصفه بأنه مخلوق؛ لأن الخلق في اللغة هو التقدير، والمخلوق هو المقدر بالغرض، والداعي المطابق له على وجه مخصوص لا يزيد عليه ولا ينقص منه يقال: خلقت الأديم هل يجي منه مطهرة أم لا.
وقال الحجاج مفتخراً على غيره: إني إذا وعدت وفيت، وإذا خلقت فريت أي إني إذا قدرت قطعت، وقال زهير:
ولأنت تفري ما خلقت .... وبعض القوم يخلق ثم لا يفري
وقال غيره:
ولا ببط بأيدي الخالقين ولا .... أيدي الخوالق إلا جيد الأدم
وهذه الجملة تدل على أن الخلق إنما هو التقدير، ومثله قوله تعالى: {وَإِذْ تَخْلُقُ مِنَ الطّينِ}[المائدة:110].
وقوله: {فَتَبَارَكَ اللَّهُ أَحْسَنُ الْخَالِقِينَ}[المؤمنون:14] أي المقدرين، وإذا كان الخلق بمعنى التقدير كان المخلوق بمعنى المقدر وأنه مشتق منه، وإذا كان هكذا صح وصف القرآن بأنه مخلوق؛ لأنه مقدر مرتب، منزل على مقدار معلوم، مطابق لمصالح العباد، وقد دل الكتاب والسنة على ذلك.
قال الله تعالى: {اللَّهُ خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ}[الرعد:16].
وقال: {خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا}[الفرقان:59].
قال الهادي عليه السلام : وكذلك القرآن لأنه شيء وهو بين السماوات والأرض، وليس من أعمال العباد التي أضافها الله إليهم في كتابه، ولا من صنعهم الذي نسبه الله إليهم، فهو داخل في الآيتين؛ لأن الله تعالى وصفه بالإنزال كما وصف الماء والحديد وغيرهما بالإنزال، وكل ذلك مخلوق، فيجب في القرآن مثله.
وقال تعالى: {وَلَكِنْ جَعَلْنَاهُ نُوراً}[الشورى:52] وقال: {وَجَعَلَ الظُّلُمَاتِ وَالنُّورَ}[الأنعام:1] فأخبر أنه نور، والنور مخلوق، وقال: وجعلناه، وقال: {جَعَلْنَاهُ قُرْآناً عَرَبِيّاً}[الزخرف:3] وقال: {خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَجَعَلَ مِنْهَا زَوْجَهَا}[الأعراف:189].
قال الهادي عليه السلام : وكذلك خلق القرآن إذ جعله قرآناً كما جعل الشمس ضياء والقمر نوراً بأنه خلقهما، وأيضاً قد أخبر تعالى أنه محدث، وإذا كان محدثاً فالله أحدثه، وهو مخلوق والله خلقه، وقد سماه الله روحاً، وسمى عيسى عليه السلام روحاً.
قال في آدم: {فَإِذَا سَوَّيْتُهُ وَنَفَخْتُ فِيهِ مِنْ رُوحِي}[الحجر:29] وفي مريم: {فَنَفَخْنَا فِيهِ مِنْ رُوحِنَا}[التحريم:12].
قال الهادي عليه السلام : فأخبر أن القرآن كلامه، وروح من أمره، وأن عيسى كلمته، وروح منه، وأنه نفخ في آدم من روحه، وكذلك في مريم، ثم أجمل ذلك كله فقال: {إِنَّ مَثَلَ عِيسَى عِنْدَ اللَّهِ كَمَثَلِ آدَمَ خَلَقَهُ مِنْ تُرَابٍ}[آل عمران:59] فأخبر أن معنى الكلمة والروح خلق من خلقه، وتدبير أمره، وأما السنة فقول النبي صلى الله عليه وآله وسلم : ((ما خلق الله من سماء ولا أرض، ولا سهل ولا جبل أعظم من سورة البقرة، وأعظم ما فيها آية الكرسي)).
وقال صلى الله عليه وآله وسلم : ((كان الله ولا شيء ثم خلق الذكر)).
وروى أنس عن عمر بن الخطاب أنه قال: ((اقرأوا القرآن ما أتلفتم فإذا اختلفتم فكلوه إلى خالقه)).
قال الأمير الحسين عليه السلام : ولأن هذا القرآن لايخلو إما أن يكون خالقاً أو لا، بل هو مخلوق، وهذه قسمة صحيحة لترددها بين النفي والإثبات، ومعلوم أنه ليس بخالق، فلم يبق إلا أنه مخلوق، ومن قال: بأنه مخلوق بمعنى مكذوب فهو كافر برب العالمين، وحجة أهل القول الثاني أما على حدوثه فلما تقدم،وأما على أنه لا يوصف بأنه مخلوق وإن كان معنى الخلق حاصلاً فيه فلإيهامه أنه مكذوب؛ لأن الخلق قد استعمل في اللغة بمعنى الكذب نحو: {وَتَخْلُقُونَ إِفْكاًً}[العنكبوت:17] ونحو: {إِنْ هَذَا إِلاَّ اخْتِلاَقٌ}[ص:7].
وقال تعالى حاكياً: {إِنْ هَذَا إِلاَّ خُلُقُ الأَوَّلِينَ}[الشعراء:137] ويقال: قصيدة مخلوقة ومختلقة إذا كانت مشتملة على أكاذيب وأباطيل، ولأنه يوهم جواز الموت عليه كما في سائر المخلوقات وذلك محال، ولأن هذا اسم مبتدع، وقد سمى الله القرآن بأسماء، ووصفه بأوصاف لم يكن هذا منها، ومن سماه باسم لم يسمه الله به فلا يبعد أن يتناوله قوله تعالى: {إِنْ هِيَ إِلاَّ أَسْمَاءٌ سَمَّيْتُمُوهَا أَنْتُمْ وَآبَاؤُكُمْ مَا أَنزَلَ اللَّهُ بِهَا مِنْ سُلْطَانٍ}[النجم:23].
قال في (الجامع الكافي) بإسناده عن الحسين بن الحكم بن مسلم أن القاسم كتب إلى عبد الله بن موسى بن عبد الله بن الحسن يسأله عن القرآن، فكتب إليه عبد الله: نحن نرى أن الكلام في القرآن بدعة، يشترك فيها السائل والمجيب، فتعاطى السائل ما ليس له، وتكلف المجيب ما ليس عليه، فانته بنفسك، والمختلفون في القرآن إلى أسمائه التي سماه الله بها تكن في المهتدين، فلا تسم القرآن بأسماء من عندك فتكون من الذين يلحدون في أسمائه، سيجزون ما كانوا يعملون، وفيه قال محمد: قال لي القاسم: يقال للذين يقولون القرآن مخلوق: أليس قد علم الله أنه مخلوق؟ وإذا قال: نعم، قيل له: أليس قد علم الله أنه مخلوق، واجتزأ من الخليقة أن قال لهم مجعول؟ فإذا قالوا: نعم، قيل لهم: فلم لا تجتزون من خلق الله بما اجتزى الله به لخلقه.
وعن قاسم بن عبيد عن بنين بن إبراهيم قال: قلت لقاسم بن إبراهيم: قال لي ابن منصور عنك أنك قلت: من زعم أن القرآن مخلوق فقد ابتدع، فقال: نعم هما بدعتان لم يبلغنا أنهم قالوا مخلوق أو غير مخلوق، ولكنا نقول: كلام الله ووحيه، وقال الحسن بن يحيى عليه السلام : أجمع آل رسول صلى الله عليه وآله وسلم أن الله خالق كل شيء، والقرآن كلام الله ووحيه وتنزيله يسمى بما سماه الله في كتابه لا يجاوز ذلك إلى غيره، وقال الحسن وسئل عن القرآن: قد وجدنا الله سبحانه سمى القرآن بأسماء في كتابه لم يرد من خلقه أن يتكلفوا للقرآن اسماً غير ما سماه الله به، وقبل ذلك من أهل الإسلام في عصر نبينا صلى الله عليه وآله وسلم ، ومن القرون التي كانت من بعده حتى تكلم المتكلمون بالرأي، وتراقو في دينهم رجماً بالغيب إلى صفة ما لا يدركونه من نعت خالقهم، وحتى نحلو القرآن اسماً برأيهم لم يجدوه منصوصاً في آية محكمة يستغنى بها في التأويل، واحتجوا بأنهم لم يجدوا للمجعول معنى يصرفونه إليه إلا مخلوقاً،فسموا القرآن برأيهم مخلوقاً، ولم يسموه مجعولاً كما قال الله تعالى، ومنزلاً ومحدثاً كما قال الله، ولم يتراقوا رجماً بالغيب إلى تحديد القرآن من ذات الله تبارك وتعالى عن أن يدركه الواصفون إلا بما وصف به نفسه في كتابه بلا تحديد، ولا تشبيه، ولا تناهي ومعنى قوله: {إِنَّا جَعَلْنَاهُ قُرْآناً عَرَبِيّاً}[الزخرف:3] صيرناه، وقال تبارك وتعالى: {يَادَاوُودُ إِنَّا جَعَلْنَاكَ خَلِيفَةً فِي الأَرْضِ}[ص:26] يعني إنا صيرناك خليفة في الأرض، ولسنا نقول أن القرآن خالق ولا مخلوق، ولكنا نسميه بالأسماء التي سماه الله بها في محكم كتابه قال الله تعالى: {وَكَلَّمَ اللَّهُ مُوسَى تَكْلِيماً}[النساء:164] وقال: {وَمَا كَانَ لِبَشَرٍ أَنْ يُكَلّمَهُ اللَّهُ إِلاَّ وَحْياً أَوْ مِنْ وَرَاءِ حِجَابٍ أَوْ يُرْسِلَ رَسُولاً فَيُوحِيَ بِإِذْنِهِ مَا
يَشَاءُ}[الشورى:51]، وقال: {إِنَّنِي أَنَا اللَّهُ لاَ إِلَهَ إِلاَّ أَنَا فَاعْبُدْنِي وَأَقِمِ الصَّلاَةَ لِذِكْرِي}[طه:14] فمن زعم أن الداعي لموسى إلىعبادته غير الله فقد ضل، وقال الله تعالى: {وَمَا كَانَ لِبَشَرٍ أَنْ يُكَلّمَهُ اللَّهُ إِلاَّ وَحْياً أَوْ مِنْ وَرَاءِ حِجَابٍ أَوْ يُرْسِلَ رَسُولاً فَيُوحِيَ بِإِذْنِهِ مَا يَشَاءُ}[الشورى:51] فقد بين الله لنا كيف جهة كلامه، فكلامه من كلامه أرسل به جبريل إلى الرسول صلى الله عليه وآله وسلم ، ومن كلامه وحي بلا رسول، وقوله: {وَأَوْحَيْنَا إِلَى أُمِّ مُوسَى أَنْ أَرْضِعِيهِ}[القصص:7] {وَأَوْحَى رَبُّكَ إِلَى النَّحْلِ}[النحل:68] فقد أوحى بلا رسول، ومنه الوحي إلى الرسل في النوم، ومن كلامه لموسى بلا كيفية، فليس لنا أن نكيف ما لم يكفيه الله، ولا نحد ما لم يحده الله، فمن حد ما لم يحدد الله فقد اجترأ على تأويل علم الغيب بلا حجة، والقرآن كلام الله ووحيه وتنزيله وكتابه، وقال: {قُرْآنٌ مَجِيدٌ، فِي لَوْحٍ مَحْفُوظ}[البروج:21،22] وقال: {إِنَّهُ لَقُرْآنٌ كَرِيمٌ، فِي كِتَابٍ مَكْنُونٍ}[الواقعة:77،78] وقال: {كتاب عزيز {وَإِنَّهُ لَكِتَابٌ عَزِيزٌ، لاَ يَأْتِيهِ الْبَاطِلُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَلاَ مِنْ خَلْفِهِ تَنزِيلٌ مِنْ حَكِيمٍ حَمِيد}[فصلت:41،42] وقال: {ومَا يَأْتِيهِمْ مِنْ ذِكْرٍ مِنَ الرَّحْمَنِ مُحْدَثٍ إِلاَّ كَانُوا عَنْهُ مُعْرِضِينَ}[الشعراء:5] فأحدث في قلوب العباد بالرسل من تنزيل الكتاب ما لم يكونوا يعملون، وإنا وجدنا الله يقول في كتابه: {قُلْ لَوْ كَانَ الْبَحْرُ مِدَاداً لِكَلِمَاتِ رَبِّي لَنَفِدَ الْبَحْرُ قَبْلَ أَنْ تَنفَدَ كَلِمَاتُ رَبِّي وَلَوْ جِئْنَا بِمِثْلِهِ مَدَد}[الكهف:109] وقال: {وَلَوْ أَنَّمَا فِي الأَرْضِ مِنْ شَجَرَةٍ أَقْلاَمٌ وَالْبَحْرُ يَمُدُّهُ مِنْ بَعْدِهِ سَبْعَةُ أَبْحُرٍ مَا نَفِدَتْ
كَلِمَاتُ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ}[لقمان:27] وقال {إِنَّمَا قَوْلُنَا لِشَيْءٍ إِذَا أَرَدْنَاهُ أَنْ نَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ}[النحل:40] فإذا كان القرآن يكون بكن، ويكون كن بكن، فمتى يتناهى علم من رجم بالغيب في معرفة كينونة القرآن من ذات الله تعالى.
وقد قال علي صلى الله عليه: (يا بردها على الكبد إذا سئل المرء عمالم يعلم أن يقول الله أعلم) هكذا حكاه في الجامع الكافي عن الحسن عليه السلام ، ومن أدلتهم ما روي عنه صلى الله عليه وآله وسلم أنه قال: ((من قال أنه مخلوق كفر)).
وأجيب بأنه قد ثبت بما تقدم أن الخلق هو التقدير، والمخلوق هو المحدث المقدر، وأما استعماله بمعنى الكذب فهو مجاز، وذلك لا يمنع من وصف القرآن بأنه مخلوق على الوجه الذي يصح ويسلم.
وأما قوله تعالى: {إِنْ هَذَا إِلاَّ خُلُقُ الأَوَّلِينَ}[الشعراء:137] فليس المراد به المكذوب، وإنما هو قول منكري البعث الذين قالوا: إن نحن إلا كالأولين ممن مضى.
وأما قولهم: قصيدة مخلوقة، فليس الغرض به أنها مكذوبة، بل المراد أنها منسوبة إلى غير قائلها، كما يقال: قصيدة منحولة ومصنوعة، أي منسوبة إلى غير قائلها، ألا ترى أنها لو اشتملت على الأوامر والنواهي لصح وصفها بأنها مخلوقة، كما يصح وصفها بأنها مصنوعة ومنحولة، مع أن الوصف بالصدق والكذب لا يتعلق بالإنشاء، وإما أنه يوهم جواز الموت عليه.
فالجواب: أنه لا يجب في كل مخلوق أن يموت، بل فيها ما يستحيل موته كالجمادات، وأما أنه اسم مبتدع، فغير مسلم، بل قد قام الدليل على جوازه من وجوه كما تقدم:
أحدها: عموم قوله تعالى: {اللَّهُ خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ}[الزمر:62].
والثاني: إطلاق كونه منزلاً محدثاً مجعولاً، ولا فرق بين المجعول والمخلوق.
والثالث: ما تقدم من الحديث والأثر، ولم يرد ما يمنع منه، وأما الآيات التي أوردها الحسن بن يحيى عليه السلام فهي حجة لنا، كما قرره الهادي عليه السلام من عدم الفرق بين المجعول، والمحدث، والمخلوق، وأما الحديث فمعارض بما مر، ثم إنه مؤول ومحمول على من قال أنه مخلوق يعني مكذوب، وهذا صحيح.
احتج أهل القول الثالث: وهم الحشوية بوجهين:
أحدهما: أن لكل واحد من هذه الحروف ماهية مخصوصة باعتبارها تمتاز عما سواها،والماهيات لا تقبل الزوال والعدم، فيجب أن تكون قديمة.
قلنا: فيلزمكم قدم جميع الماهيات، وهو معلوم البطلان.
الثاني: أنه قد ثبت أن القرآن كلام الله، والكلام صفة كمال فلو لم يكن قديماً لزم أن يقال: أنه تعالى كان في الأزل ناقصاً، وذلك باطل بإجماع المسلمين.
قالوا: وإنما قلنا: أنه ليس إلا هذه الحروف؛ لقوله تعالى: {وَإِنْ أَحَدٌ مِنَ الْمُشْرِكِينَ اسْتَجَارَكَ فَأَجِرْهُ حَتَّى يَسْمَعَ كَلاَمَ اللَّهِ}[التوبة:6] وللنقل المتواتر أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم كان يقول: ((إن هذا القرآن المسموع المتلو هو كلام الله)) فمنكره منكر لما عرف بالتواتر من دين محمد صلى الله عليه وآله وسلم ، فيلزمه الكفر؛ لأن من حلف على سماع كلام الله فإنه يتعلق البر والحنث بسماع هذه الحروف.
والجواب: أما قولهم بقدمه فهو باطل لما مر، وأما قولهم بلزوم النقص في حق الباري تعالى.
فجوابه: أنه قد ثبت بما تقدم أن الكلام من جملة أفعال الله، وأفعاله تعالى كلها محدثة بالإجماع، فإذا قالوا: بلزوم النقص بعدم إيجاد الكلام في الأزل لزم مثله في سائر الأفعال، وإنما يكون صفة نقص لو لم يكن قادراً ثم قدر، ويكفي في بطلان مذهبهم مخالفته للضرورة. بس بس
وأما أهل القول الرابع وهم الأشعرية، فمذهبهم مبني على أن الكلام معنى في نفس المتكلم، وذلك مما لا دليل عليه، ويلزمهم أن يسمى الساكت متكلماً لحصول الكلام من جهته، والمعلوم ضرورة أن أهل اللغة لا يسمونه متكلماً، بل يكذبون من وصفه بذلك في حال سكوته اتفاقاً، وقد رد عليهم السيد أبو طالب عليه السلام بأن كلامه تعالى لا يخلو من أن يكون من جنس الكلام المعقول فيما بيننا، وهو أن يتركب من جنس الأصوات والحروف أومخالفاً لذلك، فإن كان من جنس الأصوات والحروف فلا شبهة في حدوثه، وإن كان مخالفاً لذلك لم يصح أن يكون كلاماً، وأن يفهم به شيء، فالمثبت لكلام مخالف للكلام المعقول فيما بيننا فإنه في حكم من يثبت جسماً مخالفاً للأجسام المعقولة فيما بيننا، ويثبت مع الله تعالى جسماً قديماً مخالفاً لسائر الأجسام، ومن يزعم أن الكلام معنى في النفس، وأن الحروف المسموعة دلالة عليه فهو في التجاهل بمنزلة من يزعم أن الصوت معنى في النفس، وأن المسموع منه دلالة عليه، وأن اللون معنى في النفس، وأن المرئي دلالة عليه، ولنا عليهم ما مر في تقرير مذهب الحشوية من أن القرآن هو المسموع.
وقول علي عليه السلام : (وهذا القرآن إنما هو خط مخطوط مستور بين الدفتين، وإنما ينطق بحكمه الرجال) ويلزمهم هم والحشوية أن كلام الله لو كان قديماً لوجب أن يكون مثلاً لله تعالى؛ لأن القديم صفة من صفات الذات، والاشتراك في صفة من صفات الذات يوجب التماثل ولا مثل لله تعالى، وأيضاً فإن العدم مستحيل على القديم فلو كان قديماً لما جاز أن يعدم، ومعلوم أنه لا يمكن وقوعه على حد تحصل به الإفادة إلا إذا وجد عند عدم حرف.
يوضح ذلك أن أحدنا إذا قال: الحمد لله فإنه لا بد أن يعدم حال وجود اللام الهمزة، وحال وجود الحاء اللام، وحال وجود الميم والدال اللام والحاء حتى لا يلتبس بالمدح، ومعلوم أنما هذا سبيله لا يجوز أن يكون قديماً.
واعلم: أن الرازي قد أورد سؤالاً على ما احتج به أصحابنا من الآية التي نحن بصدد شرحها ونحوها مما أخبر الله به عن شيء ما ضٍ حاصله: أن الله عالم في الأزل بأن العالم سيوجد، فلما أوجده انقلب العلم بأنه سيوجد علماً بأنه قد وجد، ولم يلزم حدوث علم الله تعالى، فلم لا يجوز في الخبر مثله.
والجواب: أنا لا نسلم أن علم الله بأنه سيوجد انقلب بعد وجوده علماً بأنه قد وجد لقيام الدليل على أن علم الله لا يتغير، وأن علمه بوجود الشيء في المستقبل هو علمه بوجوده إذا وُجِد.
وإنما تختلف العبارة عنه فقط كما تختلف عن الوقت الواحد نحو: غداً إذا كان بعد يومك، واليوم إذا صار نفس يومك، وأمس إذا صار قبله، وكما نقول للسطح: أنه فوق إذا كنت تحته، وتحت إذا كنت فوقه، وكذلك يمين وشمال، وخلف وأمام، ونحو ذلك.
والدليل على ذلك أن علمه ذاته على مذهب قدماء العترة" أو هو عالم لذاته على مذهب المعتزلة، وعلى المذهبين فلا يمكن تغييره، بخلاف الخبر فإنه يتغير، وبيانه أن الخبر الموضوع للدلالة على الماضي غير الخبر الموضوع للدلالة على الاستقبال، كما أن صيغة الخبر في الجملة مخالفة لصيغة الأمر، وحينئذٍ لا يصح القياس، ثم إن السؤال مبني على قدم كلام الله، وأنه صفة ذاتية كالعلم، وقد عرفت بطلان ذلك كله مما مر.
فإن قيل: إن الرازي وأصحابه لم يقولوا بتغير العلم؛ لأنهم ذكروا في جواب السؤال الذي أوردوه أن أبا الحسين البصري وأصحابه يقولون: إن العلم يتغير عند تغيير المعلومات، ثم ردوه بأنا لو قلنا إن العلم يتغير بتغير المعلوم، لكنا إما أن نقول: أن العلم بأن العالم سيوجد كان حاصلاً في الأزل أو لا، إن كان الثاني فهو تصريح بالجهل وذلك كفر، وإن كان الأول فزواله يقتضي زوال القديم، وذلك سد باب إثبات جذور العالم.
والجواب: أما التغير فقد أثبتوه بقولهم: انقلب العلم بأنه سيوجد علماً بأنه قد وجد؛ إذ لا معنى للتغير إلاَّ هذا، وأما ما أوردوه في الرد على أبي الحسين فهو مبني على ما حكوه عنه من القول بتغير العلم، وهو غلط فإن أبا الحسين لم يقل بذلك، وإنما قال: إن العلم تبع للمعلوم على معنى البدلية، فإنك إذا فرضت مثلاً لعبد فعلاً عرفت أن الحاصل في علم الله هو ذلك الفعل، ومتى فرضت ضده بدلاً عنه عرفت أن الحاصل في علم الله هو ذلك الضد، فهذا فرض علم بدلاً عن علم آخر، لا أنه تغير العلم. والله أعلم.
وأما أهل القول الخامس، وهم المطرفية فقالوا: القرآن عرض، والعرض لا يجوز عليه البقاء، وأنه إجالة الألسن، ولا يقوم بنفسه، ولا يقطع المسافة، وإن الحروف كانت قد حصلت مع الناس قبل نزوله، قالوا: فصح أن الحروف هي الحكاية دون المحكي، واستدلوا على أنه لا يسمع الكلام، ويسمع المتكلم بقوله تعالى: {رَبَّنَا إِنَّنَا سَمِعْنَا مُنَادِياً يُنَادِي لِلْإِيمَان}[آل عمران:193] وبقوله تعالى: {سَمِعْنَا فَتًى يَذْكُرُهُمْ يُقَالُ لَهُ إِبْرَاهِيمُ}[الأنبياء:60].
قال الإمام أحمد بن سليمان عليه السلام : والحجة عليهم من العقل أنهم مجمعون معنا على أن حجج الله على خلقه ثلاث وهي:
العقل، والكتاب، والرسول.
وهم أيضاً مجمعون معنا على أن الله تعبد المكلفين بمعقول ومسموع، فنقول: لا يخلو الكتاب والمسموع كله أن يكون الكلام أوالمتكلم، فإن قالوا: هو المتكلم نفسه أوجبوا أن كل متكلم بالمسموع حجة في ذاته فيصير كل إنسان ممن يتكلم بالمسموع حجة لله بذاته، وهذا ما لا يتكلم به عاقل، وإن قالوا: الحجة الملك الذي لم يفارق القرآن قلبه، أو القرآن الذي في قلبه لم يفارقه.
قلنا: فليس هو بمسموع لأنا لم نسمع الملك، وإذا لم ينزل القرآن ولم يفارقه فليس بحجة، فبطل أن يكون المتكلم حجة إلا الرسول، ونحن فلم نسمعه بذاته، لكنا سمعنا كلامه وما جاء به إذ لم نشاهده.
فصح أن الحجة هو الكلام المسموع، ومن الكتاب قوله تعالى: {وَإِذَا قُرِئَ الْقُرْآنُ فَاسْتَمِعُوا لَهُ}[الأعراف:204] وأمثالها، فإن قالوا: ذلك المسموع مجاز عن الحقيقة وهي ما قلنا.
فالجواب: أن هذا خلاف المجمع عليه عند أهل اللسان العربي، فإنهم لا يطلقون لفظ متكلم إلا على من أوجد الكلام وفعله، ولأن المتبادر عند الإطلاق هو المسموع فلو كان مجازاً فيه لاحتاج إلى قرينة، ولكان المتبادر المعنى الذي ذكرتموه.
قال الإمام القاسم بن محمد عليه السلام : ولو سلم أن الكلام المسموع مجاز لزم أن يثبت للتفاسير ما له من تحريم اللمس والقراءة على الجنب؛ لأنها عبارة عن كلام الله الذي هو بزعمهم قائم بذاته، فكما أن المتلو عبارة عنه كذلك التفاسير فيستويان في الحكم ولا قائل به.
ويؤيد ما ذكرنا من أن كلام الله هو المسموع قوله صلى الله عليه وآله وسلم : ((إني تارك فيكم ما إن تمسكتم به لن تضلوا من بعدي أبداً كتاب الله وعترتي أهل بيتي، إن اللطيف الخبير نبأني أنهما لن يفترقا حتى يردا علي الحوض)) ونحوه في السنة كثير.
ومعلوم عند كل عاقل أن المتروك ليس إلا هذا المسموع المكتوب في المصاحف، المتلو في المحاريب.
فائدة:
قال الإمام المهدي عليه السلام والعلم بهذه المسألة -أعني حدوث القرآن من فروض الأعيان- وإلا نقض التوحيد لتجويز قديم مع الله، وأما مجرد إجراء لفظ الخلق عليه فمن فروض الكفايات لفهم معاني خطاب الله تعالى.
المسألة الرابعة [في مسألة تكليف ما لا يطاق]
هذه الآية الكريمة مما استدل به على جواز تكليف ما لا يطاق، وكذلك ما أشبهها كقوله تعالى: {لَقَدْ حَقَّ الْقَوْلُ عَلَى أَكْثَرِهِمْ فَهُمْ لاَ يُؤْمِنُونَ}[يس:7] وقوله: {تَبَّتْ يَدَا أَبِي لَهَبٍ وَتَبَّ}[المسد:1] ومحل النزاع ينقسم إلى ثلاثة أقسام:
القسم الأول: المستحيل لذاته كالجمع بين الضدين والنقيضين، وإعدام القديم والحصول في آن واحد في حيزين.
القسم الثاني: ما يمكن تعلق قدرة المكلف به، ولكن علم الله أنه لا يقع كتكليف الكافر والعاصي بالإيمان والطاعة.
القسم الثالث: مالا يستحيل لذاته ولا أمكن تعلق قدرة المكلف به، بل امتنع تعلق القدرة به، إما لذاتها كخلق الأجسام أو عادةً، وإن أمكن تصوره كالطيران، أو نظرو مانع كتكليف الأعمى بنقط المصحف، والزمن بالمشي.
إذا عرفت هذا فالعدلية جميعاً، وحكاه في شرح الغاية عن الغزالي، وابن الحاجب والشافعي، يمنعون من تكليف ما لا يطاق، ويحكمون بقبحه مطلقاً، قالوا: وتكليف من علم الله عدم إيمانه ليس مما لا يطاق لما سيأتي، وجمهور الأشاعرة يجوزونه مطلقاً، وعدوا منه القسم الثاني، ومنعه الآمدي في الممتنع لذاته، وجوزه في غيره.
قال الإمام المهدي: وكانت المجبرة لا تلتزم القول بجواز تكليف ما لا يطاق وإن أنكروا القبح العقلي، بل يقضون بمنعه، ويعللون ذلك بعلل غير القبح العقلي حتى صرح أبو الحسن الأشعري بجوازه.
قال عليه السلام : وهو مطابق لقياس مذهبهم لأنهم إذا لم يحكموا بقبح إلا من جهة السمع لزمهم أن لا يستقبحوه قبل ورود السمع به، قال عليه السلام : والأقرب أنهم لا ينكرون استقباح العقل إياه، لكنهم يفسرون القبح بنفرة الطبع عنه، وأما الغزالي فعلل قبحه بأن طلبه فرع على تصوره، وتصوره من العاجز محال فطلبه منه محال، ولهذا يستحيل طلب الحركة من الشجرة.
واختلف أصحابنا في العلم بقبحه هل هو ضروري أم استدلالي؟
فقال أبو الحسين ومن تابعه: هو معلوم بالضرورة، في الشاهد والغائب فلا يحتاج إلى الاستدلال إلا على جهة البيان والتوضيح، لما حصل بالعلم الضروري نحو ما في شرح الأصول وغيره، وهو أن كل عاقل يعلم بكمال عقله قبح تكليف الزمن بالمشي، وتكليف الأعمى بنقط المصحف على وجه الصواب، قال: والدافع له مكابر جاحد للضرورة، ومن هذا سبيله لا يناظر، ولهذا فإن النظام لما ناظر مجبرياً فانتهى بهما الكلام إلى أن قال له المجبري: ما الدلالة على قبح تكليف ما لا يطاق سكت النظام، وقال: إن الكلام إذا بلغ إلى هذا الحد فإن الوجه أن يضرب عنه رأساً فإذاً لا كلام في ذلك، وإنما الكلام في وجه قبحه، فعندنا أنه إنما يقبح لكونه تكليفاً لما لا يطاق بدليل أنا متى عرفناه على هذه الصفة عرفنا قبحه، وإن لم نعلم شيئاً آخر، ومتى لم نعرفه بهذه الصفة لم نعرف قبحه، وإن عرفنا ما عرفنا فيجب قبحه أيضاً في حق الله تعالى لحصول العلة الموجبة لقبحه، لا يقال: لوكان ضرورياً لم يخالف فيه عاقل؛ لأنا نقول لا يمتنع في ما لم يعلم ضرورة بالجملة أن يشتبه حاله على بعض العقلاء في بعض الأعيان لعارض، وقال قاضي القضاة والبصرية: أما في الشاهد فهو ضروري، وأما في الغائب فبالرد إلى ما علم ضرورة.
قال الإمام المهدي عليه السلام : وهو الصحيح، وظاهر شرح الغاية أن ثمة قائل باحتياجه إلى الاستدلال مطلقاً، ثم بين أدلتهم فقال: منها أن المحال لا يمكن وجوده في الخارج من المكلف، وكل ما لا يمكن وجوده في الخارج من المكلف لا يطلب فالمحال لا يطلب، أما الصغرى فضرورية، وأما الكبرى فلأن الطلب عبث قبيح لايجوز على الله تعالى كما تقرر في مسألة الحسن والقبح، ومنها ما احتج به ابن الحاجب في مختصر المنتهى.
قال سيلان: وهو قوله لنا لوصح التكليف في المستحيل لكان المستحيل مستدعى الحصول، واللازم باطل... إلخ.
قال الحسين بن القاسم عليه السلام : لكنه لا يوافق عموم الدعوى كما لا يخفى، وقد استدل هنا بالسمع.
قيل: وفي الاستدلال به نظر؛ لأنه إنما ينفي الوقوع لا الجواز العقلي، ولأن الاستدلال به في المسائل التي تقف صحة السمع عليها لا يصح، وهذه منها؛ لأن نفي تكليف ما لا يطاق مبني على كون الله تعالى عدلاً حكيماً لا يكذب، وذلك يتوقف على الحسن والقبح العقلي، ولكن الأصحاب قد يوردون ذلك على سبيل المعارضة، ونحن نذكر هنا ما حكاه الرازي عن الصاحب بن عباد أنه قال: كيف يأمره بالإيمان وقد منعه منه، وينهاه عن الكفر وقد حمله عليه، وكيف يصرفه عن الإيمان، ثم يقول: {أَنَّى يُصْرَفُونَ}[غافر:69] ويخلق فيهم الإفك، ثم يقول: {أنى تؤفكون} وأنشأ فيهم الكفر، ثم يقول: لم تكفرون، وخلق فيهم لبس الحق بالباطل، ثم يقول: {لِمَ تَلْبِسُونَ الْحَقَّ بِالْبَاطِلِ}[آل عمران:71] وصدهم عن السبيل، ثم يقول: {لِمَ تَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ}[آل عمران:99] وحال بينهم وبين الإيمان، ثم قال: {وَمَاذَا عَلَيْهِمْ لَوْ آمَنُوا}[النساء:39] وذهب بهم عن الرشد، ثم قال: {فَأَيْنَ تَذْهَبُونَ}[التكوير:26] وأضلهم عن الدين حتى أعرضوا ثم قال: {فَمَا لَهُمْ عَنِ التَّذْكِرَةِ مُعْرِضِينَ}[المدثر:49].
وأما القائلون بالجواز مطلقاً فمن حججهم هذه الآية وهي قوله تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا سَوَاءٌ عَلَيْهِمْ...}إلخ[البقرة:6]، وما في معناها، وقد قرر الرازي الاستدلال بها من خمس طرق:
الطريق الأولى: أن الله تعالى أخبر بأنهم لا يؤمنون فظهر استحالة إيمانهم لاستلزامه المستحيل الذي هو عدم مطابقة إخباره تعالى للواقع، مع كونهم مأمورين بالإيمان، باقين على التكليف.
والجواب: أن الإخبار بوقوع الشيء أو عدمه لا ينفي القدرة عليه كإخباره تعالى عما يفعله هو أو العبد باختياره فإخباره تعالى أنهم لا يؤمنون حق مطابق للواقع؛ لأنه عالم الغيب، وقد علم أنهم يختارون عدم الإيمان، ولكن القدرة على الإيمان قائمة بالمأمور، فأمره بالإيمان بعد الإخبار باختياره عدمه ليس من باب تكليفه بالمحال؛ لأن القدرة على فعله حاصلة، وإنما هو من باب قوله عز وجل: {وَأَمَّا ثَمُودُ فَهَدَيْنَاهُمْ فَاسْتَحَبُّوا الْعَمَى عَلَى الْهُدَى}[فصلت:17].
الطريقة الثانية: أنه تعالى لما علم منه أنه لا يؤمن كان صدور الإيمان منه يستلزم انقلاب علم الله جهلاً، وذلك محال، ومستلزم المحال محال، ومع هذا فقد أمره بالإيمان فثبت أنه أمره بالمحال.
والجواب: أن انقلاب العلم جهلاً في نفسه محال وصحة الفعل من القادر ممكنة والكلام فيها، ولا يلزم من وجود الممكن في نفسه وجود المستحيل، وبيان كون الإيمان ممكناً، وعدم الملازمة من وجوه:
أحدها: أن الكافر أمر بالإيمان، والأدلة منصوبة، والعقل حاضر، والقدرة عليه موجودة، لكن علم الله أنه يترك ما يقدر عليه جحداً وعناداً، ولهذا فإن الآية نزلت ذماً للكافرين، وزجراً لهم، وتقبيحاً لفعلهم، فلوكانوا ممنوعين عن الإيمان غير قادرين عليه لما استحقوا الذم البتة، بل كانوا معذورين كما يعذر الأعمى عن الكتابة المفهومة.
إذا عرفت هذا فعلم الله بأنهم لا يؤمنون لا يوجب استحالة الإيمان في نفسه، ولا في القدرة عليه؛ لأنه سبحانه إذا علم كون الشيء مقدوراً لشخص وعلم تمكنه منه، وأنه متروك من جهته مع القدرة عليه لم يكن ذلك الشيء مستحيلاً في نفسه؛ إذ لو انقلب محالاً لانقلب العلم بأنه ممكن جهلاً، ولخرج عن كونه ممكناً ومقدوراً.
الوجه الثاني: أنه إنما يلزم ما ذكرتم لو كان علم الله تعالى بأن الكافر لا يؤمن سائقاً له إلى الكفر ومؤثراً في وقوعه، وليس كذلك، وإنما هو سابق للفعل غير سائق إليه، ولا مؤثر فيه، فما اختاره العبد من طاعة أو معصية علمه الله سبحانه منه قبل حصوله، بل قبل حصول العبد وحدوثه فلا تأثير لعلمه تعالى في حدوث الفعل أوتركه البتة، وإنما مثل علم الله تعالى في إحاطته بالمعلومات وأنه لا يمكن الخروج عن علمه كمثل السماء والأرض، فإنا نعلم أنه لا يمكن أحدنا الخروج عنهما كما قال تعالى: {يَامَعْشَرَ الْجِنِّ وَالإِنسِ إِنِ اسْتَطَعْتُمْ أَنْ تَنفُذُوا مِنْ أَقْطَارِ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ فَانفُذُوا..} الآية[الرحمن:33].
وهما لا يحملان أحداً على فعل طاعة أو معصية، كذلك علمه تعالى لا يمكن الخروج منه، ولا يحمل على شيء، ونظيره في الشاهد أن أحدنا لو علم قيام شخص أو قعوده فإنا نعلم ضرورة أن علمه غير مؤثر في ذلك القيام أو القعود، والفرق تحكم، وأيضاً لو كان العلم يؤثر في المعلوم للزم أن يؤثر علم الله تعالى في ذاته تبارك وتقدس؛ إذ هو يعلم ذاته، وهذا مما لا يقول به قائل، فنعوذ بالله من قول يؤدي إلى مثل هذه المحالات، ويدخل في هذه الضلالات.
الوجه الثالث: أن العلم يتعلق بالمعلوم على ما هو عليه، فإن كان ممكناً علمه ممكناً، وإن كان واجباً علمه واجباً، ولا شك أن كل واحد من الإيمان والكفر بالنظر إلى ذاته ممكن الوجود.
قال سعد الدين في شرح العقائد: وأما ما يمتنع بناء على أن الله علم خلافه كإيمان الكافر وطاعة العاصي فلا نزاع في وقوع التكليف به؛ لكونه مقدوراً للمكلف بالنظر إلى نفسه، فلو صار واجب الوجود أو العدم بسبب العلم كان العلم مؤثراً في المعلوم، وقد بينا بطلانه فيما تقدم، ويلزم أيضاً أن نجمع على الشيء الواحد كونه من الممكنات وليس من الممكنات، وهو محال.
الطريقة الثالثة: إن وجود الإيمان يستحيل مع العلم بعدمه؛ لأنه لا يكون علماً إلا إذا طابق المعلوم، ولا يطابق إلا إذا عدم الإيمان؛ إذ لو وجد مع العلم بعدمه لزم أن يكون الإيمان موجوداً معدوماً، وهو محال فالأمر به والحال هذه أمر بالجمع بين الضدين، بل بين الوجود والعدم، وقد وقع الأمر به، فثبت ما قلنا وهو التكليف بما لا يطاق، وأنتم توافقون على أن الجمع بين الضدين مستحيل لذاته.
والجواب من وجوه:
أحدها: أن التكليف بالشيء فرع على تصوره؛ لأنه مطلوب الحصول، وكل مطلوب حصوله لا بد من تصوره، والجمع بين الضدين مما يستحيل تصوره؛ لأنه لا يتصور إلا مثبتاً، ويلزم منه تصور الأمر على خلاف ماهيته، فإن ماهيته وهي كونه جمعاً بين الضدين تنافي ثبوته، وإلالم يكن ممتنعاً لذاته فما يكون ثابتاً متصوراً فهو غير ماهيته، وحاصله أن تصور ذاته مع عدم ما يلزم ذاته لذاته وهو عدم تصوره فإنه لازم للمستحيل لذاته، يقتضي أن تكون ذاته غير ذاته، ويلزم قلب الحقائق.
قال في شرح الغاية: وتوضيحه أنا لوتصورنا أربعة ليست بزوج وكلما ليس بزوج ليس بأربعة، هذا خلف.
قلت: وتكليف الكافر بالإيمان ليس مما يستحيل تصوره فوجب أن يصح التكليف به، ويبطل قول الرازي: أن التكليف به من التكليف بالجمع بين الضدين.
الوجه الثاني: إن العلم بعدم الإيمان لوكان موجباً لعدم الإيمان لوجب أن لا يكون الله تعالى قادراً على شيء؛ لأن الذي علم وقوعه يكون واجب الوقوع، والذي علم عدمه يكون ممتنع الوقوع، والواجب لا تتعلق به القدرة بأنه إذا كان واجب الوقوع فسواء حصلت القدرة أم لا إذ ليس للقدرة فيه أثر، وأما الممتنع فلا قدرة عليه، وعلى هذا فيلزم أن لا يكون الله تعالى قادراً على شيء أصلاً وذلك كفر بالاتفاق، ويلزم أيضاً أن لا يكون العبد قادراً على شيء لهذا التقرير فتكون حركات العبد وسكناته كحركات الأشجار وسكناتها، وهذا هو الجبر المحض، والأشاعرة يفرون منه، وكل ما أدى إلى هذه اللوازم الباطلة وجب أن يكون باطلاً.
الوجه الثالث: أن العلم بالعدم لوكان مانعاً للوجود لكان أمر الله تعالى للكافر بالإيمان أمراً بإعدام علمه تعالى، واللازم باطل؛ لأنه سفه، ولأن إعدام ذات الله تعالى وصفاته -تعالى عن ذلك علواً كبيراً- محال، وببطلان اللازم يبطل الملزوم.
الطريق الرابعة: أن الله تعالى أخبر عن هؤلاء أنهم لا يؤمنون، وكلفهم بالإيمان البتة، والإيمان يعتبر فيه تصديق الله تعالى في جميع ما أخبر به، ومما أخبر به أنهم لا يؤمنون قط فقد صاروا مكلفين بأن يؤمنوا بأنهم لا يؤمنون قط، وهذا جمع بين النفي والإثبات.
والجواب من وجوه:
أحدها: أنهم لم يكلفوا بالإيمان بتفاصيل ما نطق به القرآن حتى يلزم أن يكلفوا بالإيمان بعدم إيمانهم المستمر، بل بالإيمان بجميع ما جاء به النبي صلى الله عليه وآله وسلم إجمالاً، على أن كون الموصول عبارة عنهم ليس معلوماً لهم.
الوجه الثاني: ذكره الإمام المهدي عليه السلام وهو أن هذا خطاب للرسول صلى الله عليه وآله وسلم لا لهم، فلا يكونون مكلفين باعتقاد مضمون هذا الخطاب؛ لأنه خطاب لغيرهم.
قال عليه السلام : وهذا الجواب أولى من جواب أصحابنا بالتسليم أنه أخبرهم بأنهم لا يؤمنون ولم يكلفهم العلم بذلك؛ لأن من البعيد أن يخاطب الله العبد بما لا يريد منه اعتقاد مضمونه. ذكر معنى هذا في درر الفرائد.
الوجه الثالث: أن السبب في الإخبار بعدم إيمانهم هو كفرهم؛ إذ لو لم يكونوا كفاراً لما أخبر به، وذلك معلوم ضرورة، فإن كل عاقل يعلم بضرورة عقله أن كل من كان على حالة، وأخبر مخبر أنه عليها أن سبب الإخبار بذلك كونه عليها، لا كما زعمتم من أن الإخبار المذكور سبب للكفر، وإذا لم يكن سبباً للكفر لم يلزم التكليف له بالكفر مع الإيمان حتى يلزم ما ذكرتم من الجمع بين النفي والإثبات، بل غايته أنه كلفهم بالعلم بحالتهم التي اقتضت الإخبار بأنهم عليها، وقبحها وزجرهم عنها، وهي كفرهم الحاصل منهم المتقدم على الأخبار، وبالإيمان بالله والإيمان يحصل بأن يخرج من هذه الحالة إلى غيرها، وذلك داخل تحت مقدوره لا استحالة فيه كما مر، فبطل بذلك ما زخرفه والحمد لله.
الوجه الرابع: أن تكليفهم بالعلم بأنهم كفار باطل لحصوله عندهم بسبب كفرهم فإنهم يعلمون بأنهم جاحدون لما جاء به النبي صلى الله عليه وآله وسلم ، وإذا كان حاصلاً فتكليفهم به عبث لا فائدة فيه؛ إذ هو أمر بتحصيل الحاصل، وهو محال، والحكيم لا يأمر بالمحال؛ لأنه ينافي الحكمة، والآية إنما وردت للإخبار بحالهم التي كانوا عليها من التمادي في الكفر والإصرار عليه، والتكليف إنما هو بالإيمان الذي يخرجون به من ذلك الكفر الذي أخبرهم به هم وغيرهم. والله أعلم.
الطريقة الخامسة: أن الله تعالى أخبر عن الكفار بأنهم يحاولون فعل شيء على خلاف ما أخبر الله عنه، وعابهم على ذلك في قوله تعالى: {يَامَعْشَرَ الْجِنِّ وَالإِنسِ إِنِ اسْتَطَعْتُمْ أَنْ تَنفُذُوا مِنْ أَقْطَارِ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ فَانفُذُوا}[الرحمن:33] فثبت أن القصد إلى تكوين ما أخبر الله تعالى عن عدم تكوينه قصد لتبديل كلام الله تعالى، وذلك منهي عنه.
ثم هاهنا أخبر بأنهم لا يؤمنون البتة فمحاولة الإيمان منهم تكون قصداً إلى تبديل كلام الله، وذلك منهي عنه، وترك محاولة الإيمان تكون أيضاً مخالفة لأمر الله تعالى، فيكون الذم حاصلاً على الفعل والترك.
والجواب: أن الآية واردة فيمن حاول تغيير حكم الله ورده، وهو جعله غنائم خيبر لأهل الحديبية خاصة، وسياق الآية يدل على ذلك كما نوضحه في محله إن شاء الله.
فإنهم أنكروا أن يكون ذلك من حكم الله بدليل: {بَلْ تَحْسُدُونَنَا}[الفتح:15] ورد أحكام الله معيب على الإطلاق، بخلاف الإيمان فإنه مطلوب ومأمور به في جميع الأحوال، ولا يكون محاولته قصداً إلى تبديل كلام الله في حال من الأحوال، ولا يعيب الله من حاوله قط، ثم إنك قد قررت أن محاولة الإيمان منهي عنها، وهذه هفوة عظيمة منك لا يقولها عاقل، وحسبك الله والله المستعان، وأكدت النهي عن الإيمان بالذم عليه، فرحم الله من تدبر كلامه قبل النطق به، فلسان العاقل وراء قلبه.
[مناقشة مسألة القضاء والقدر]
واعلم: أن هؤلاء القوم يحتجون بأحاديث يروونها في تأييد مذهبهم، ونحن نعارضهم بروايات من كتبنا وكتبهم في إبطال ما ذهبوا إليه، ونتأول ما رووه على فرض صحته، ونرده إلى دليل العقل، ومحكم الكتاب والسنة كما هو الواجب في ذلك، والتأويل أولى من التعطيل.
قال الرازي: واعلم أن في الأخبار التي يرويها الجبرية والقدرية كثرة.
قلت: هي مع كثرتها لا تخلو إما أن تكون متناقضة لا يمكن الجمع بينها أولا، بل يمكن رد بعضها إلى بعض، إن كان الأول وجب إطراحها والرجوع إلى غيرها من الأدلة الصحيحة عقلاً ونقلاً، وإن كان الثاني فلم نجدها إلا حجة لنا؛ لأنها إما صريحة في ما ذهبنا إليه أو محتملة للتأويل، فتأويلها بما يؤدي إلى تصحيحها من الرد إلى الكتاب والسنة الصحيحة أولى، بل هو الواجب، وأنت لا تجد في الكتاب الكريم والسنة الشريفة دليلاً صريحاً على أن علم الله تعالى يؤثر في المعلوم، أو يرفع القدرة، أو يدفع الإمكان، وقد أورد الرازي حديثين في هذا الموضع يؤيد بهما مذهبه:
أحدهما: ما روي عن ابن مسعود قال: قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وهوالصادق المصدوق: ((إن أحدكم يجمع خلقه في بطن أمه أربعين يوماً نطفة، ثم يكون علقة مثل ذلك، ثم يكون مضغة مثل ذلك، ثم يرسل الله إليه ملكاً فينفخ فيه الروح فيؤمر بأربع كلمات: فيكتب رزقه، وأجله، وعمله، وشقي، أو سعيد، فوالله الذي لا إله غيره إن أحدكم ليعمل بعمل أهل الجنة حتى ما يكون بينه وبينها إلا ذراع فيسبق عليه الكتاب فيعمل بعمل أهل النار فيدخلها، وإن أحدكم ليعمل بعمل أهل النار حتى ما يكون بينه وبينها إلا ذراع فيسبق عليه الكتاب فيعمل بعمل أهل الجنة فيدخلها)).
قلت: ولعل وجه دلالته على تكليف ما لا يطاق أن الله قد كلف المكلفين بالتكاليف مع أنه لا يتخلف المقضي عليهم به في الكتاب.
قال بعض شراح هذا الحديث: وفي الحديث أن الذي سبق في علم الله لا يتغير ولا يتبدل، وإن الذي يجوز عليه التغيير والتبديل ما يبدو للناس من عمل العامل، ولا يبعد أن يتعلق ذلك بما في علم الحفظة والموكلين بالآدمي، فيقع فيه المحو والإثبات كالزيادة في العمر والنقص منه، وأما ما في علم الله فلا يتغير ولا يتبدل.
قلت: وهذا الحديث قد أورده فقيه الخارقة في مسألة القضاء والقدر، وأجاب عنه الإمام المنصور بالله عليه السلام ، ونحن نذكر جوابه عليه السلام لأنه مبني على فرض صحة الحديث، وإن كان عمرو بن عبيد قد نفى صحته لمخالفته الأصول الصحيحة، فنقول: قد جعل المنصور بالله عليه السلام الكلام على الحديث في موضعين:
قال عليه السلام : أحدهما: ما ذكر صلى الله عليه وآله وسلم من ترتيب الخلقة وذكر أوقاتها، وهذا كلام حق، وقول صدق لا يخالف فيه مسلم، وإن وقع النزاع من الطبائعية في إضافة ذلك إلى تركيب الأرحام، وطبائع الأجسام وقوالبها، وخروج النطفة من الحي من سائر أطرافِهِ مشاكلة لمن خرجت منه، أو من تراكيب الأغذية والأهوية، وغير ذلك من الأقاويل الباطلة التي خالفت العقل والسمع.
الموضع الثاني: في إرسال الله تعالى الملك فينفخ فيه الروح، وهذا صحيح عند من عرف عدل الله وحكمته، وعلم أن مصلحة الملائكة" وتكليفهم العلم بما فعله سبحانه على ذلك الوجه الذي وقع عليه من ترتيب وتدريج، فأما على مذهب الجبرية فإن اعتقادهم بأن كل قبيح، وكذب، وعبث، وزور ففعله تعالى واحداثه وحده لا شريك له، فلا تتم لهم الكلمة بحكمته تعالى، فيقال لهم: ما الوجه في خلق ابن آدم على وجه الترتيب والتدريج، ولِمَ أمر الله تعالى الملك ينفخ فيه الروح وهو تعالى المحيي المميت ولم يتولَّ الله سبحانه جميع ذلك، وما فائدة إرسال الملك؟ والملك لا يفعل فعلاً أصلاً لا حسناً ولا قبيحاً عند المجبرة القدرية، فلا يمكنهم جواب إلاَّ تسليم حكمته عز وجل، وأنه فعل ذلك لمصلحة المكلفين.
أما الملائكة فبالمشاهدة والخبر، وإما لسائر المكلفين فبالخبر لهم بذلك، وحكمته تعالى لا تعلم مع اعتقاده أنه تعالى خالق لكل قبيح من كذب، وظلم، وزور، وفجور في الدنيا من أولها إلى آخرها.
قلت: كلام الإمام عليه السلام من باب الإلزام للمجبرة بنفي الحكمة على قول مذهبهم، وإلا فهم لا ينفونها، وقد تكلم بعضهم في شرحه لهذا الحديث وبين وجه الحكمة في التدريج، فقال: وفيه التنبيه على أن الله تعالى قادر على البعث بعد الموت؛ لأن من قدر على خلق الشخص من ماء مهين، ثم نقله إلى العلقة، ثم المضغة، ثم نفخ فيه الروح قادر على أن يخلقه دفعة واحدة، ولكن اقتضت الحكمة الإلهية نقله في الأطوار رفقاً بالأم؛ لأنها لم تكن معتادة، فكانت المشقة تعظم عليها فهيأه في بطنها بالتدريج إلى أن تكامل، ومن تأمل أصل تخلقه من نطفة، وتنقله في تلك الأطوار إلى أن صار إنساناً جميل الصورة، مفضلاً بالعقل والفهم والنطق كان عليه أن يشكر من أنشأه وهيأه، ويعبده حق عبادته، ويطيعه ولا يعصيه.
قلت: وهذا كلام صحيح باهر، جار على قواعد العدل والحكمة.
قال المنصور بالله عليه السلام : وأما قوله صلى الله عليه وآله وسلم : ((ويؤمر بأربع كلمات يكتب أجله ورزقه وعمله وشقي أو سعيد)) فالكلام منه أن هذا قول حق وقول صدق، لكن يلزم عليه مثل ما تقدم من أن الله تعالى حكيم في جميع أفعاله، وأنه المتولي للبقاء كما هو المتولي للإحداث، وأنه تعالى يقسم الأرزاق على الضيق والسعة، ويعدل فيها بحسب المصالح، وأنه سبحانه يكتب الأعمال ويأمر الملك بكتبها، وكذلك الشقا والسعادة؛ لأنه سبحانه عالم بجميع المعلومات المعدوم منها والموجود، والحسن منها والقبيح، والطاعة منها والمعصية؛ لأنه سبحانه عالم لذاته، فيجب أن يعلم جميع المعلومات؛ لأن ذاته مع المعلومات على سواء بخلاف العبيد فإنهم عالمون بعلوم محصورة، والمعلومات تحصر بانحصار العلوم، ولهذا لا يجوز أن يكون تعالى عالماً بعلم يعلم به لهذه العلة وهي انحصار معلوماته، أو يعلم بعلوم لا نهاية لها، وذلك باطل عند الجميع لأنها إن كانت قديمة كانت أمثالاً له سبحانه، وإن كانت محدثة فذلك باطل؛ لأن حدوث ما لا يتناهى في أوقات متناهية محال ولأن العلم لا يحدثه إلا من هو عالم فيقف كل واحد منهما على الآخر وهو باطل، فصح لك بما ذكرنا أن الله تعالى عالم بكل شيء على الوجه الذي هو عليه دون أن يعلم الشيء على غير ما هو عليه؛ لأن ذلك يكون جهلاً تعالى الله عنه، ولعل المخالف يريد أن علم الله والكتابة وما في معناها هو الذي أوجب حصول المعلومات على ما هي عليه، ولهذا عقبه بما في آخر الخبر على ما سنذكره إن شاء الله تعالى.
قلت: هذا الذي أراده الرازي من الخبر بعينه فخذ جوابه من أهله ومحله.
قال عليه السلام : فإن أراد ذلك، فهو باطل لما قدمنا من أن العلم لا يؤثر في المعلوم، وإنما يتعلق به على ما هو به، والدليل على ذلك وجوه:
منها: أن العلم كالرؤية في هذا الباب، فإن الرائي إذا رأى الشيء يرى الشيء على ما هو به، وكذلك العالم فكما أن الرؤية لا توجب المرئي ولا يسوق الرائي إلى حصول الشيء لأجل الرؤية، فكذلك العلم، ولهذا فإن النبي صلى الله عليه وآله وسلم لو علم بأن زيداً يدخل الدار غداً، أو علم غيره بذلك لم يصح وصف علمه بأنه سائق لزيد إلى الدخول، ولا ينسب دخوله إلى من علم وقوعه بوجه من الوجوه؛ لأن العلم يتعلق بالمعلوم على ما هو به، وفي هذا المعنى ما روي عن عبد الله بن عمر أنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم : ((مثل علم الله فيكم كمثل السماء التي تظلكم والأرض التي تقلكم)) فكما لا تخرجون مما بين السماء والأرض لا تخرجون من علم الله، وكما لا تحملكم السماء والأرض على الذنوب لا يحملكم علم الله عليها.
ومما يبين لك أن العلم ليس بموجب للمعلوم أنه لو كان موجباً للمعلوم للزم أحد محالين:
أحدهما: أن الله لما كان عالماً فيما لم يزل بعلم قديم على مذهبك وجب أنه يوجد العالم فيما لم يزل، ويكون العالم قديماً وذلك محال، وإما أن يكون تعالى عالماً بعلم محدث وجب حدوث العالم عند وجوده، وذلك محال آخر، ولا مخلص من هذين المحالين إلا القول بأن العلم غير موجب للمعلوم، وأيضاً فلو كان العلم موجباً للمعلوم، وقد يشترك العالمون في العلوم فتكون علومهم موجبة لوجوده، ويكون مضافاً إلى جميعهم؛ لأن الموجبات لا تختلف في إيجابها بالفاعلين، وإلا جاز أن يتحرك الجسم بحركة وسكون من زيد وعمرو، ولأن إيجاب العلل مما يرجع إلى ذواتها، فلو وجدت غير موجبة لخرجت عن صفة ذاتها، وذلك لا يجوز كما لا يخرج القديم عن كونه قديماً، ويلزم على هذه القاعدة أن توجب علومنا حصول المعلومات ويبطل اختصاصها بالباري تعالى دوننا، بل يبطل اختصاصها بمن قدر عليها؛ إذ لو كانت مختصة بالقادر عليها لبطلت فائدة إيجاب العلم للمعلوم وإن كان المقدور مختصاً بمن قدر عليه، ومختصاً بمن علمه كان تأثيراً لمؤثرين كثيرين، وذلك محال إلى غير ذلك من الوجوه التي تلزم على قول من يجعل العلم مؤثراً في المعلوم، فلنقتصر على ما ذكرنا ففيه كفاية وتنبيه لمن كان له قلب أو ألقى السمع وهو شهيد.
قال عليه السلام : وأما قوله صلى الله عليه وآله وسلم : ((فوالذي لا إله غيره إن أحدكم ليعمل بعمل أهل الجنة..)) إلخ، فالكلام منه أنه كلام حق وقول صدق، صدر من الحكيم الذي لا يكذب، وفيه فائدتان:
اأحداهما: أن العبد هو الذي يعمل أعماله الحسن الذي ينتهي به إلى الجنة ويستحقها به، والقبيح الذي ينتهي به إلى النار ويستحقها به، ويبطل بذلك مذهب المجبرة القدرية المجورة لرب البرية؛ من أنه تعالى الخالق للأعمال، وإن أحداً لا يستحق على عمله ثواباً، ولا عقاباً، وقد صرح صلى الله عليه وآله وسلم بأن العبد هو الذي يعمل العمل الذي به يدخل الجنة أو النار، وفي ذلك بيان صحة ما ذهبنا إليه.
والفائدة الثانية: أن علم الله تعالى لا يتبدل ولا يتغير، وهذا هو مذهبنا، وإليه دعونا؛ لأنه سبحانه عالم لذاته فلا يجوز تغير علمه لأنه يقتضي خروجه عما هو عليه في ذاته، ولو صح ذلك للزم أن يكون محدثاً تعالى الله عن ذلك علواً كبيراً، فإن رام المخالف الاستدلال بالخبر على أن العلم هو الموجب للفعل والملجئ إلى فعل الحسن والقبيح، فقد بينا بطلان قوله هذا بما لا سبيل له إلى دفعه، فإنما هو تعالى يعلم ما يكون على الوجه الذي يكون عليه.
قبل كونه والوجه الذي وقع عليه هو سوء اختيار العاصي لفعل المعصية وحسن اختيار المطيع بإيثار الطاعة، فقد علمه الله من المتعبدين ما علم، فلينظر في ذلك فهو أصل كبير في هذا الباب. والله الموفق للصواب.
وقد استوفينا كلام المنصور بالله عليه السلام وإن كان فيه ما لا يتعلق بالمسألة وبعضه قد تقدم معناه في الردعلى الطرق الخمس لما فيه من شرح معنى الحديث، وتقرير ما سبق وتوكيده.
الحديث الثاني: ما روي عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم : ((احتج آدم وموسى فقال موسى: يا آدم أنت أبونا أخرجتنا من الجنة، فقال آدم: أنت يا موسى اصطفاك الله بكلامه وخط لك التواراة بيده أتلومني على أمر قدره الله علي قبل أن يخلقني بأربعين عاماً، فحج آدم موسى)).
وفي رواية لمسلم: ((قال آدم: بكم وجدت الله كتب التوراة قبل أن أخلق، قال موسى: بأبعين سنة، قال: فهل وجدت فيها فعصى آدم ربه فغوى، قال له: نعم، قال: فهل تلومني على أن عملت عملاً كتب الله علي أن أعمله قبل أن يخلقني بأربعين سنة، قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم : فحج آدم موسى)) قوله: احتج المحاجة: المجادلة والمخاصمة يقال: حاججته فحججته أي جادلته فغلبته.
والجواب أن هذا الخبر مخالف لدليل العقل، ومحكم الكتاب والسنة، وقد تقدم من ذلك ما فيه الكفاية.
ومن الأدلة الصحيحه والبراهين الصريحة في إبطال مذهب هؤلاء، وبيان بطلان هذا الخبر ما روي عن أمير المؤمنين عليه السلام أنه لما قفل من صفين قال له شيخ ممن كان معه: أترى يا أمير المؤمنين أن مسيرنا إلى الشام كان بقضاء الله وقدره؟
فقال عليه السلام : ( والذي فلق الحبة وبرأ النسمة ما علونا تلعة ولا هبطنا وادياً إلا بقضاء الله وقدره) فقال الشيخ: عند الله أحتسب عنائي ما أرى لي من الأجر شيئاً، فقال علي عليه السلام : مه أيها الشيخ لعلك ظننت قضاء لازماً، وقدراً حتماً لو كان كذلك لبطل الثواب والعقاب، وسقط الأمر والنهي، ولما كان محمدة لمحسن، ولا مذمة لمسيء، ولما كان المحسن بثواب الإحسان أولى من المسيء، ولما كان المسيء بعقوبة الذنب أولى من المحسن، تلك مقالة عبدة الأوثان، وجنود الشيطان، وخصماء الرحمن، وشهود الزور، وأهل العمى في الأمور قدرية هذه الأمة ومجوسها إن الله تعالى أمر تخييراً، ونهي تحذيراً، وكلف يسيراً، لم يعص مغلوباً، ولم يطع مكرهاً، ولم يرسل الرسل عبثاً {ذَلِكَ ظَنُّ الَّذِينَ كَفَرُوا فَوَيْلٌ لِلَّذِينَ كَفَرُوا مِنَ النَّارِ}[ص:27].
قال الشيخ: فما القضاء والقدر اللذان ما سرنا بهما، فقال علي عليه السلام : الأمر من الله والحكم، وتلا: {وَقَضَى رَبُّكَ أَلاَّ تَعْبُدُوا إِلاَّ إِيَّاهُ}[الإسراء:23] فنهض الشيخ مسروراً، وأنشأ يقول شعراً:
أنت الإمام الذي نرجوا بطاعته .... يوم النشور إلى الرحمن رضوانا
الأبيات، العناء: التعب والنصب، والتلعة هنا: ما ارتفع من الأرض، وهذا الأثر نص صريح فيما ذهبنا إليه، وفيه أن المجبرة هم القدرية وغير ذلك من الفوائد، ثم إني أنشدكم الله هل أمرنا رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم بالرجوع عند الاختلاف إلى علي بن أبي طالب أو إلى أبي هريرة الدوسي؟ إن كان قال هذه الرواية؟ ومن الذي أخبر النبي صلى الله عليه وآله وسلم بأنه باب مدينة علمه وعيبته، وأن الحق معه، وأمرنا بالأخذ بحجزته، والسلوك في واديه، وقال فيه: ((هذا وحزبه هم المفلحون)) ؟ الحمد لله الذي جعلني من ولده، ونظمني في حزبه، ورزقني حبه، وهداني إلى معرفة حقه، حمداً كثيراً طيباً مباركاً فيه.
وبعد: فهذا الخبر معارض لما حكاه الله عن آدم من اعتذاره، ونسبة الظلم إلى نفسه وإلى زوجه: {قَالاَ رَبَّنَا ظَلَمْنَا أَنفُسَنَا وَإِنْ لَمْ تَغْفِرْ لَنَا وَتَرْحَمْنَا لَنَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِينَ}[الأعراف:23] هذا دين أبي البشر آدم عليه السلام ، ودين الأنبياء والصالحين من ولده عليه السلام ، قال الله حاكياً عن موسى عليه السلام : {رَبِّ إِنِّي ظَلَمْتُ نَفْسِي}[النمل:44] وقال لما وكز القبطي: {هَذَا مِنْ عَمَلِ الشَّيْطَانِ}[القصص:15] وقال يعقوب: {بَلْ سَوَّلَتْ لَكُمْ أَنفُسُكُمْ أَمْراً}[يوسف:18] وقال يوسف: {مِنْ بَعْدِ أَنْ نَزَغَ الشَّيْطَانُ بَيْنِي وَبَيْنَ إِخْوَتِي}[يوسف:100] وقال يونس: {لاَ إِلَهَ إِلاَّ أَنْتَ سُبْحَانَكَ إِنِّي كُنتُ مِنَ الظَّالِمِينَ}[الأنبياء:87]، وقال نبينا صلى الله عليه وآله وسلم : {إِنْ ضَلَلْتُ فَإِنَّمَا أَضِلُّ عَلَى نَفْسِي}[سبأ:50] إلى غير ذلك مما حكاه الله عن أنبيائة وأوليائه، من إضافة المعاصي إلى أنفسهم وإلى الشيطان الرجيم، ولا يتخرج مذهب هؤلاء القدرية وخبرهم هذا إلا على مذهب إبليس اللعين الذي قال: {رَبِّ بِمَا أَغْوَيْتَنِي}[الحجر:39].
قال القاسم بن إبراهيم عليه السلام : خالفت القدرية المجبرة كتاب الله تعالى ووافقت الشيطان قلة معرفة منهم بعدل لله في خلقه، ورحمته لهم، وانتفائه من ظلمهم في كتاب الله {إِنَّ اللَّهَ لاَ يَظْلِمُ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ وَإِنْ تَكُنْ حَسَنَةً يُضَاعِفْهَا وَيُؤْتِ مِنْ لَدُنْهُ أَجْراً عَظِيماً}[النساء:40] وما أدري ما تقول القدرية فيما أورده الله من العتاب لآدم وحوى في قوله: {أَلَمْ أَنْهَكُمَا عَنْ تِلْكُمَا الشَّجَرَةِ وَأَقُلْ لَكُمَا إِنَّ الشَّيْطَانَ لَكُمَا عَدُوٌّ مُبِينٌ}[الأعراف:22] وهلا أجاب بمثل ما أجاب به على موسى عليه السلام بل أقر بالخطيئة {قَالاَ رَبَّنَا ظَلَمْنَا أَنفُسَنَا}[الأعراف:23]ومن العجب أنهم يعتقدون أنه لا يؤمن من لا يؤمن بالقدر الذي يزعمونه، وقد حكوا عن موسى أنه لم يؤمن به لأنه إما عالم به فلم وبخ آدم وعاتبه على ما لم يستطع مخالفته، وهذا يستلزم عدم الإيمان به، وإما جاهل، والإيمان بالشيء فرع على العلم به، مع ما فيه من تجهيل نبي الله صلوات الله عليه في مسألة هي مما لا يعذر أحد بجهلها.
وبعد: فإن معاصي الأنبياء" صغائر، فكيف يوبخه موسى هذا التوبيخ على ارتكاب صغيرة، وفي هذا تجهيل موسى عليه السلام .
واعلم: أنا قد بينا بطلان هذا الخبر بما لا مزيد عليه، وبقيت أمور مما يدل على بطلانه منها أن موسى قال: أنت الذي أشقيت الناس، وأخرجتهم من الجنة، فعلى مذهبكم إما إن يكون موسى عالماً بأن الله الذي أخرجهم وأشقاهم، فيكون كاذباً، أو جاهلاً لذلك، وهو غير جائز في حقه، وما أدى إلى الباطل فهو باطل؛ إذ الكذب والجهل غير جائزين في حق الأنبياء"، ومنها: أنه لو صح احتجاج آدم بما ذكر لكانت الحجة لسائر الكفار والعصاة على الله، وعلى من نهاهم عن كفرهم ومعصيتهم؛ إذ لا مخصص لآدم بهذه الحجة، ومنها: أن هذا الحديث يدل على مقتضى مذهبهم أن العاصي إذا قال في دار التكليف: هذه المعصية قدرها الله عليه أنه سقط عنه اللوم، وهم لا يقولون بهذا. ذكره النووي في شرح مسلم.
وفرق بأن العاصي في دار التكليف جار عليه أحكام المكلفين من العقوبة، واللوم والتوبيخ، وغيرها وفي لومه، وعقوبته زجر له ولغيره عن مثل هذا الفعل، وهو محتاج إلى الزجر ما لم يمت، وأما آدم فميت خارج عن دار التكليف، وعن الحاجة إلى الزجر، فلم يكن في القول المذكور له فائدة، بل فيه إيذاء وتخجيل.
قلت: ولقائل أن يقول: إذا كانت المعصية مقدرة عليه فما فائدة العقوبة والزجر، وكيف يزجر عن الأمر الذي لا يمكن دفعه، وما هو إلا كما لو زجرت المتردي وهو في الهواء عن السقوط، ولمته وتوعدته.
وأما قوله: وأما آدم فميت إلخ فيلزمه أن تكون الحجة للأموات من سائر العصاة على من أراد عقابهم أو ذمهم؛ إذ لا فارق بينهم وبين آدم، ويلزمه أن يكون عاصياً بأذيته لآدم، فإن قال: لا معصية في غير دار التكليف لزمه أن يكون جاهلاً؛ لأنه جهل عدم الفائدة في التوبيخ سوى الأذية، ويلزم أيضاً تجهيل آدم عليه السلام لأنه ما اهتدى إلى ما اهتدى إليه النووي من عدم الفائدة والنهي عن الأذية، بل اعتذر بالقدر.
واعلم: أن بعض المعتزلة قد تأول الخبر على أحد ثلاثة وجوه:
أحدها: أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم حكى ذلك عن اليهود فتوهم الراوي أنه حكاه عن نفسه.
الثاني: أن آدم المفعول وموسى الفاعل، وهذا يدل على أن ما أتى به آدم ليس بحجة، وهذا ضعيف؛ لأنه يلزم منه تجهيل آدم عليه السلام .
الثالث: أنه ليس المراد من المناظرة الذم ولا الاعتذار بعلم الله وإنما سأله عن السبب الذي حمله على الزلة حتى خرج من الجنة، فأجاب بأن الزلة ليست سبب الخروج من الجنة، وإن السبب أن الله قد كان كتب علي الخروج من الجنة إلى الدنيا، وأكون خليفة فيها، وهذا المعنى كان مكتوباً في التوراة، وحينئذٍ صارت حجة آدم قوية.
قلت: ويدل على هذه قوله تعالى: {إِنِّي جَاعِلٌ فِي الأَرْضِ خَلِيفَةً}[البقرة:30].والله أعلم.
تنبيه: [في مناقشة المجبرة لمسألة القضاء والقدر]
قد تقدم للمجبرة أنه لو صح إيمان من علم الله أنه لا يؤمن لانقلب علمه جهلاً، وتقدم الجواب عليهم، ولكنه يورد على أصحابنا سؤالاً وهو أنا لو قدرنا وقوع ما علم الله أنه لا يقع، هل كان يكشف عن الجهل ويدل عليه؟ واختلفوا في جوابه، فقالت: البهشمية وحكاه الرازي عن أبي علي، والقاضي عبد الجبار، وقواه الإمام المهدي عليه السلام إذا سئل عن هذا السؤال وجب الإمساك عن جوابه، فلا يجاب بلا ولا بنعم؛ إذ بأيهما أجيب نقض أصل قد تقرر؛ لأنا إن قلنا يكشف نقض ما قد تقرر من أنه عالم لذاته لا يجوز عليه الجهل، وإن قلنا لا يكشف نقض ما قد تقرر من أن وقوع خلاف المعلوم يكشف عن الجهل وإذا كان الجواب بنعم أو لا يستلزم المحال لم يجب بأيهما، بل بإحالة السؤال، فيقال: هذا السؤال لا يقدر لما فيه من نقض الأصول المقررة بالبراهين القطعية.
قال النجري: وهذا الجواب هو الذي أجاب به الشيخان، قال أبو علي: ومثاله أن يقال: لو كذب النبي أكان يدل على أنه ليس بنبي أم لا؟ فكما أنا نقول هذا محال كذلك ما نحن فيه، فإن قيل: هذا الجواب ليس مطابقاً، قيل: بل مطابق؛ لأن السائل فرض فرضاً لا يستحق عليه جواباً، فلم يكن الجواب على خلاف ما فرض، ولأنه غاية ما يمكن أن يقال في جواب مثل هذا السؤال.
فإن قيل: إنكم إذا قلتم بوجوب الإمساك فلا يخلو إما أن يكون قصدكم أن أحد الطرفين حق، لكن لا يتلفظ به، فهذا لا ينفعكم، وإما أن تريدوا أن الطرفين كليهما باطلان خرجتم عن القسمة الدائرة بين النفي والإثبات، والخروج عنها محال، فلا يستقيم جوابكم.
قيل: ليس المحال إلا إثبات قسم ثالث بين النفي والإثبات، وأما الامتناع عن الجواب فليس بمحال، وليس الامتناع لأجل أن ثم قسماً ثالثاً، بل لأن السؤال ورد عن حكم المتفرع على أمر مقدر، والإجابة عليه تستلزم أحد محالين، ولما كان ذلك المقدر غير محقق ولا واقع،لم يلزمنا الإجابة عليه إذ إجابة ما لا ثبوت له إذا أدت إلى المحال حسن الامتناع منها، ولأن تكلف الجواب عن مثل ذلك من المنهي عنه، وقد تقدم ما يدل على ذلك من قول علي عليه السلام ، وليس الامتناع حكماً بأمر غير النفي والإثبات، بل هو بيان أن الإجابة عن فرع الأمر المقدر الذي لا ثبوت له تستلزم محالاً. والله أعلم.
وقد أورد الإمام المهدي عليه السلام إشكالاً على مذهب البهشمية، هذا وأجاب عنه، وحاصله أنكم إذا لم تجعلوا وقوع ما علم أنه لا يقع مستحيل، فقد جعلتم ما يدل على جهله سبحانه وتعالى ممكناً، ويلزم منه أن يكون جهله ممكناً وذلك ينقض الأصل المقرر، وهو أنه عالم لذاته.
والجواب: أنه لا يلزم ذلك؛ لأن العلم بالإمكان لا ينفك عن العلم بأن ذلك الممكن لا يقع أبداً وإن كان يصح وقوعه من جهة القدرة، وإذا كان لا ينفك عن العلم بأنه لا يقع، فلا يلزم من إمكان وقوع ما علم الله، عدم وقوعه كون جهله تعالى ممكناً؛ لأن العلم بأنه لا يقع يدفع العلم بإمكان الجهل، مثاله أن يقول: إذا علم الله أنه لا يقيم القيامة غداً، وعلمنا أنه يمكن إقامتها غداً، فإنه لا يلزم من ذلك إمكان مصير علمه جهلاً لما تقدم من أن العلم بذلك الإمكان لا ينفك عن العلم بأن إقامتها لا تقع أبداً، وحاصل الجواب: أن الملازمة بين الأمرين إذا كانت بطريقة الاقتضاء استحال انفكاك أحدهما عن الآخر؛ لأن المقتضى الذي يتميز به المقتضي كالوصف الذاتي له، ألا ترى أن الحيية تقتضي صحة العلم والقدرة، ويستحيل انفكاك صحة القادرية عن ثبوت الحيية، ويستحيل انفكاك ثبوت الحيية عن صحة القادرية، وأما إذا لم يكن بطريقة الاقتضاء فإن انفكاك أحدهما عن الآخر لا يستحيل كملازمة وقوع القبيح لجهل فاعله أو حاجته، إليه فليس بين الأمرين طريقة اقتضاء، فيقال: إن وقوع القبيح يقتضي الجهل أو الحاجة، وإنما هي ملازمة عادية فلا يستحيل وقوع القبيح ممن ليس بجاهل ولا محتاج إليه، ويمكن أن يكون جاهلاً لا يقع منه قبيح، وكذلك وقوع المعلوم مطابقاً للعلم ليس مقتضي عن العالمية، بل وقوعه باختيار الفاعل، ولا وقوعه كذلك يقتضي كون العلم علماً، لكن لما هو عليه في ذاته لا يكون إلا مطابقاً، وإذا كان كذلك لم يلزم من إمكان وقوع الفعل غير مطابق للعلم مع القطع بأنه لا يقع كذلك إمكان جاهيلة العالم؛ لأن طريقة الاقتضاء غير ثابتة بين هذين المتلازمين، فلا يلزم من إمكان أحدهما إمكان الآخر.
قال الإمام المهدي عليه السلام :وهذه طريقة إغراء رافعة للإشكال من أصله.
قلت: لعمري إنها كما وصفها الإمام عليه السلام ، فلله دره عالماً، ولله فهمه غايصاً، وللإمام المتوكل على الله إسماعيل بن القاسم عليه السلام جواب نحو هذا، وهو أن ما علم الله أنه لا يقع لا ينفي قدرة الفاعل على إيقاعه، لا في أفعال الله تعالى، ولا في أفعال خلقه.
قال عليه السلام : فتجويز وقوع القدرة على إيقاعه لا ينفي علم الله؛ بأنه لا يقع، ولا ينافي القدرة على إيقاعه.
وروي عن أبي هاشم أنه قال: إن هذا التقدير من باب تعليق الجائز بالمحال، وتعليق الجائز بالمحال محال، والجائز هو وقوع ما علم الله أنه لا يقع، والمحال كشفه عن جهله تعالى، فكأنا قلنا إذا وقع كان الله جاهلاً -تعالى الله عن ذلك علواً كبيرا- فهو نظير قولنا: إذا دخل زيد الدار انقلب السواد بياضاً، فكما أن هذا لا يصح كذلك هذا التقدير، واعترض هذا الجواب بأنه لا تلازم بين دخول الدار وانقلاب السواد، بخلاف مسألتنا فإن وقوع خلاف المعلوم لازم للجهل، فلا يقاس أحدهما على الآخر.
قلت: هكذا ذكره الإمام المهدي عليه السلام ، وإنما كان تعليق الجائز بالمحال محالاً؛ لأنه يخرج عن كونه جائزاً، وأما غير الإمام المهدي عليه السلام فقال في تقرير هذا الجواب: أنه من باب تعليق المحال بالجائز، وهو غير جائز، لأنه يؤذن بخروج المحال عن كونه محالاً، قال: وهذا لا يمكن ولا يتصور، ألا ترى في المثال السابق أن انقلاب السواد بياضاً محال، والممكن لا يلزم عليه المحال.
قلت: والممكن هنا هو دخول الدار، والمحال انقلاب السواد بياضاً، وفي المسألة الممكن وقوع ما علم الله أنه لا يقع، والمحال جهل الله تعالى، ومعنى تعليق المحال بالجائز أنا علقنا جهله تعالى الذي هو محال بالجائز، وهو إمكان ما علم أنه لا يقع، وذلك غير جائز، فلا ينبغي أن يجاب بواحدة منهما-أعني أنه لا يقال لا يمكن وقوع ما علم الله أنه لا يقع لئلا يخرج عن كونه جائزاً، ولا يقال بوقوعه لاستلزامه المحال وهو جهل الله تعالى، بل يحال الجوابان معاً، وقال أبو الهذيل فيما حكاه عنه الشيخ أبو القاسم: أنه قادر على ذلك ولا يفعل لحكمته، وجوز أن نقول الله تعالى قادر على ما يستحيل وقوعه.
قال الإمام المهدي عليه السلام : وهذا القول يقتضي أن يكون جواب أبي الهذيل مثل جواب بشرٍ، أو مثل جواب البهشمية، أو مثل جواب أبي الحسين وسيأتي.
وقالت البغدادية: إذا قدرنا وقوع ما علم الله أنه لايقع فإنا نتبع هذا التقدير تقديراً آخر، وهو أن نقدر أنه علم أنه سيوجد، قال النجري: وبهذا أجاب بشر بن المعتمر منهم، وقد قيل له: هل يقدر الله أن يعذب طفلاً؟ قيل: نعم.
قيل: فلو عذبه، قال: كان بالغاً مستحقاً للعقاب قال: وكذا غيره من علماء البغدادية كأبي موسى والإسكافي.
قال الإمام المهدي عليه السلام :والتحقيق أنهم يقولون إذا صح أن نقدر وقوعه، وإن علمنا أنه لا يقع قدرنا أنه سبحانه لم يعلم أنه لا يقع وإن كان قد علمه، بل نقدر أنه علم أنه سيوجد.
وأجيب: بأنه هذا الجواب خلاف الفرض، ومن حق الجواب أن يكون مطابقاً للسؤال، والسائل هنا إنما فرض وقوع أمر قد علم الله أنه لا يقع، فقلتم أنتم تفرضون أنه لم يعلم، وهذا غير مطابق؛ فإن للسائل أن يقول: إني أسألك عن وقوعه مع حصول ذلك العلم ما حكمه فلم تجبني عما فرضت.
قال النجري: ولأنه يؤدي إلى أن يكون الجواب جواباً بالمحال، وذلك أن السؤال فيه تقدير أنه علم أنه لا يوجد، وفي الجواب أنه علم أنه سيوجد، فيلزم اجتماع تقدير أنه علم أنه لا يوجد، وأنه علم أنه سيوجد في حالة واحدة وقد روي عن بشر بن المعتمر أنه قال: هذا السؤال لا يجاب عنه بشيء سوى أن يقال: إطلاق هذا في الله قبيح، ولا يحسن إطلاق ذلك في رجل من صالحي المسلمين لا يقال: لو كفر زيد كيف كان يكون، فيكون إطلاقه في حق الله تعالى قبيح.
قال النجري: وهذا ليس بجواب؛ لأن السائل يقول: هب أن إطلاقه قبيح فما جوابه؟
قال: وقد روي عن أبي القاسم البلخي ما يدل على أنه يقول: يكشف عن الجهل، فإن قلتم: يلزم أن ينقض أصلاً قد تقرر.
قلنا: إن تقرر ذلك الأصل إنما هو مع عدم هذا التقدير؛ إذ لم يثبت أنه لا يجوز عليه الجهل إلا مع ثبوت أنه لا يوجد خلاف معلومه، ولم يثبت ثبوتاً مطلقاً، سواء ثبت أنه لا يوجد خلاف معلومه أو أنه يوجد، وهذا الجواب قد صرح به أبو الحسين في هذه المسألة بعينها وهو الجاري على القواعد المنطقية، وبه يجيبون في مثله فيقولون: إذا فرض فرض محال جاز في لازمه أن يكون محالاً؛ إذ المحال قد يستلزم المحال.
قال الإمام المهدي عليه السلام : وقد أجاب أبو الحسين عن هذا السؤال بأن وقوع خلاف المعلوم محال من حيث العالمية، فلو قدرنا وقوعه أتبعنا التقدير تقديراً آخر، وهو أنه يدل على الجهل.
قال: ولزوم المحال للمحال ليس ببعيد، وإنما البعيد لزوم المحال للجائز، قال عليه السلام : وهذا ضعيف جداً؛ لأن وصف الشيء بأنه محال من وجه، ممكن من وجه، فيه تناقض وإن اختلف المقتضي للإحالة والإمكان؛ لأنهما كالصفتين المتضادتين، فلا يصح إجتماعهما لذات واحدة وإن اختلف المؤثر، كما لا يصح أن يقال إن هذا الشيء موجود من وجه معدوم من وجه، بل إذا ثبت له الوجود استحال أن يكون معدوماً بأي وجه، فكذلك لا يقال هذا الشيء ممكن الثبوت، ثم يقال: أنه مستحيل الثبوت بأي وجه؛ لأنهما كالوجود والعدم سواء، سواء.
قلت: المعروف عن أبي الحسين أنه يقول: إن تقدير وقوعه يتبعه تقدير العلم بوقوعه، رواه عنه غير واحد منهم القرشي واختاره، قال: وقد اعترض كلام أبي الحسين المتأخرون من أصحابنا، وقالوا: قد ناقض حيث قال: يصح ويستحيل، قال: والاعتراض غير سديد؛ لأنه إنما يكون مناقضاً إذا قال بالاستحالة والصحة من وجه واحد، فأما مع اختلاف الوجه فلا مناقضة، بل لا بد من الرجوع إلى ما قاله، ورده البكري في شرحه بمثل ما رده به الإمام المهدي عليه السلام .
وقال القاضي العلامة أحمد بن يحيى حابس (رحمه الله): قد عرفنا أن الله سبحانه وتعالى قد علم أنه لو حصل ضد تلك الأسباب لحصل ضد المسببات، ألا ترى أن الله تعالى علم أنه صلى الله عليه وآله وسلم يُولّي فراراً من أهل الكهف ويملئ رعباً، لو حصل منه سبب ذلك وهو الاطلاع عليهم، فلما لم يحصل منه السبب لم يحصل المسبب، وحصل ضد هذا السبب فحصل ضد المسبب، فإذا فرضنا أن المطيع يعصي، وأن العاصي يطيع، وأن من تنزل به المصيبة يدعو، وانقلبت الحال لم يكشف عن جهل في حقه تعالى بعد علمه بالكل، كما قررنا ونحوه في الأساس. والله أعلم.
المسألة الخامسة
قال بعض المفسرين: في الآية الكريمة إخبار بالغيب على ما هو به، إن أريد بالموصول أشخاص بأعيانهم، فهي من المعجزات الباهرة.
المسألة السادسة [في الدعوة إلى الله]
دلت الآية الكريمة على حسن الدعاء إلى الدين، وإن ظن عدم التأثير أو علمه، والدلالة دلالة الإشارة؛ لأن الله أعلمه أنهم لا يؤمنون، وأمره بدعائهم في قوله تعالى: {لِتُنذِرَ قَوْماً مَا أُنذِرَ آبَاؤُهُمْ..} الآية[يس:6]، وإذا ثبت الحسن فهل يكون واجباً أم لا؟ أما في حق الأنبياء" فيجب؛ لأنهم مبلغون، فيجب عليهم القدر الذي يحصل به التبليغ، والقرآن مشحون بالأمر بالإبلاغ، والإنذار للأسود والأحمر.
فإن قيل: قوله تعالى: {وَأَنذِرْ بِهِ الَّذِينَ يَخَافُونَ أَنْ يُحْشَرُوا إِلَى رَبِّهِمْ}[الأنعام:51] يدل على أنه لا يجب عليه صلى الله عليه وآله وسلم إلا إنذار من اتصف بالخوف المذكور، قيل المفهوم لا يعمل به إذا عارضه منطوق، وقد علم أن إنذاره وإعلامه عام، وإنما خص المذكورين لأنهم الذين ينتفعون به، كما في قوله: {هُدًى لِلْمُتَّقِينَ}[البقرة:2]، وأما في حق غيرهم فقال قاضي القضاة: يبقى الحسن؛ لأنه كالإعلام وإزاحة العلة، وكتمكين من علم الله أنه لا يؤمن من الإيمان فإنه يحسن، وإن علم عدم إيمانه، وأما سائر المناكير فشرط الوجوب أن يحصل له علم أو ظن بالتأثير، وهذا قول الأكثر، وحكى الإمام المهدي عليه السلام الاتفاق عليه، فإن لم يحصل له علم بالتأثير، ولا ظن فلا وجوب قطعاً. ذكره النجري، وفي الثمرات: فإذا ظن عدم التأثير سقط الوجوب بلا إشكال ولا خلاف، وأما الحسن فاختلف في بقائه فقال الإمام الموفق بالله عليه السلام ، وقاضي القضاة (رحمه الله): أنه يزول الحسن لأنه يكون عبثاً.
قال الموفق بالله في الإحاطة: فإن قيل: لم قلتم أنه يجب أن يعلم أو يظن أنه يؤثر فيه ذلك؟
قيل له: لأنه إذا لم يؤثر بوجه من الوجوه كان عبثاً، وجوده وعدمه على سواء، فلا يحسن منه فعل العبث.
فإن قيل: إذا كان فيه إعزاز للدين، وإن لم يؤثر في المنكر عليه فيجب أن يحسن.
قيل له: هذا بعض وجوه التأثير إذ التأثير كله ليس في المنكر.
فإن قيل: أليس الله تعالى نهى عن القبيح من يعلم أنه لا ينتهي كذلك لِمَ لا يجوز لأحدنا أن ينهاه مع علمه أو ظنه أنه لا ينتهي؟
قيل له: لأن الغرض بنهى الله تعالى إزاحة علة المكلف وتقرير تكليفه، والغرض بنهينا إزالته، فإذا غلب في ظنه أنه لا فائدة فيه كان عبثاً.
وقال الإمام يحيى بن حمزة: بل يحسن؛ إذ الأمر والنهي عمل مقصود للشرع وإن لم يحصل متعلقه ولقوله تعالى: {لِمَ تَعِظُونَ قَوْماً اللَّهُ مُهْلِكُهُمْ}[الأعراف:164] إلى قوله: {معذرة} ومعناها لئلا نكون ممن قصر ولرجاء تقواهم.
قال أبو علي:لم يكن قولهم لم تعظون إنكاراً، وهكذا حكاه النووي في شرح صحيح مسلم عن العلماء، قال: لأن الذي عليه الأمر والنهي لا القبول، وكما قال تعالى: {مَا عَلَى الرَّسُولِ إِلاَّ الْبَلاَغُ}[المائدة:99] ولأنه بمنزلة استدعاء الغير إلى الدين لإقامة الحجة عليه وإزاحة علته، وكما فعلت الأنبياء" في دعائهم لمن أخبر الله تعالى أنه لايؤمن، وأجيب: بأن الأمر والنهي ليس مقصوداً للشرع إلا مع تكامل شروطه، وعدم استلزامه للقبيح، وقد ثبت أن الخوض فيما لا فائدة فيه قبيح؛ لأنه عبث، وأما الآية فهم راجون تقواهم بدليل قولهم: ولعلهم يتقون، فإذاً يقال: دلالة الآية على أن من أيس فلا وجوب عليه، ولهذا ورد في الأثر أن الكافين بعد الإياس ناجون ومن يرجو،فالوجوب باق، ولهذا قالوا: معذرة أي لئلا ننسب إلى التقصير، والاستدلال بالآية مبني على أن شرع من قبلنا يلزمنا ما لم ينسخ، وفيه خلاف، وأما الاستدلال بفعل الأنبياء" فقد تقدم أنه يجب عليهم التبيلغ والدعاء إلى الدين وإن علموا عدم التأثير، بخلاف الأمر والنهي فإن الغرض بهما فعل المعروف وترك المنكر، فإذا علم أو ظن أن هذا الغرض لا يحصل صار عبثاً فيقبح، عند اختلال هذا الشرط، كما يقبح الأمر والنهي ممن لا يعلم كون الذي يأمر به معروفاً والذي ينهى عنه منكراً.
قال الإمام المهدي عليه السلام : فإن لم يعلم أو يظن التأثير ولاعدمه، بل يجوز الأمرين فهاهنا يجب لظاهر الدليل، وقيل: يحسن فقط.
وقال الإمام القاسم بن محمد عليه السلام : يشترط ظن التأثير حيث كان المأمور والمنهي عارفين بأن المأمور به معروف والمنهي عنه منكر، وإلا وجب التعريف، وإن لم يظن التأثير لأن إبلاغ الشرائع واجب إجماعاً، والأصل في ذلك قوله تعال: {إِنَّ الَّذِينَ يَكْتُمُونَ مَا أَنزَلْنَا مِنَ الْبَيِّنَاتِ...}[البقرة:159] الآية، ونحوها، وقوله صلى الله عليه وآله وسلم : ((من كتم علماً مما ينتفع به الناس ألجمه الله بلجام من نار)).
قال عليه السلام : ويجب أيضاً أمر العارف بالمعروف، ونهي العارف عن المنكر، وإن لم يحصل الظن بالتأثير؛ لقوله تعالى: {وَإِذْ قَالَتْ أُمَّةٌ مِنْهُمْ لِمَ تَعِظُونَ قَوْماً اللَّهُ مُهْلِكُهُمْ أَوْ مُعَذّبُهُمْ عَذَاباً شَدِيداً قَالُوا مَعْذِرَةً إِلَى رَبِّكُمْ وَلَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ}[الأعراف:164] والمعذرة لا تكون عما لا يجب.
قال عليه السلام : وإنما يجب ذلك ريثما يتحول المتمكن من الهجرة لقوله صلى الله عليه وآله وسلم : ((لا يحل لعين ترى الله يعصى فتطرف حتى تغير أو تنتقل)) ولأنه إن كان لا تأثير لأمره ونهيه ولم يكن في بقائه مصلحة عامة، ولا كان من المستضعفين الذين استثناهم الله تعالى، وجبت عليه الهجرة من دار العصيان إلى غيرها، ويمكن أن يقال: أما الآية فهي ظاهرة فيمن يظن التأثير بدلالة قوله: {لَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ}، وأما الحديث فلا يدل إلا على أنه إذا لم يحصل التأثير وهي تغيير المعصية وجب الإنتقال، وهذا يقتضي أنه لا يجب النهي عن المنكر إن لم يحصل التأثير، بل يجب أمر آخر، وهو الانتقال، فهو حجة للقائلين بعدم الوجوب إن لم يظن التأثير. والله أعلم.
المسألة السابعة [في الختم الذي استدل به المجبرة]
احتجت المجبرة بقوله تعالى: {خَتَمَ اللَّهُ عَلَى قُلُوبِهِمْ}[البقرة:7] على أن أفعال العباد مخلوقة لله تعالى، ثم اختلفوا، فمنهم من قال: الختم هو خلق الكفر في قلوب الكفار، ومنهم من قال: هو خلق الداعية التي إذا انضمت إلى القدرة صار مجموع القدرة معها موجباً للكفر، هكذا حكاه الرازي عنهم، وقرر القول الأول بأن القدرة موجبة للمقدور، والثاني بمسألة الداعي والمرجح، وحاصل ما قاله أن القادر على الكفر إمَّا إن يكون قادراً على تركه أو لا، إن كان الثاني كانت القدرة موجبة للكفر، فخلق القدرة على الكفر يقتضي خلق الكفر، وإن كان الأول كانت نسبة القدرة إلى فعل الكفر وتركه على سواء، فإما أن يكون صدور الفعل يتوقف على مرجح أو لا، إن لم يتوقف فقد وقع الممكن لا عن مرجح، ويكون حينئذٍ اتفاقياً صادراً بلا سبب يقتضيه، فلا يكون اختيارياً؛ لأن الفعل الاختياري لا بد له من إرادة جازمة ترجح وجوده على تركه، وتجويز وقوعه بلا مرجح يبطل القول بالصانع؛ إذ يقتضي القدح في الاستدلال بالممكن على المؤثر، وذلك يقتضي نفي الصانع وهو محال.
وإن توقف على مرجح، فذلك المرجح إما من فعل الله أو من فعل العبد، أو لا من فعل الله ولا من فعل العبد، لا جائز أن يكون من فعل العبد، وإلا لزم التسلسل لأنه ينقل الكلام إلى صدور ذلك المرجح عنده ولا جائز، أن يكون لا بفعل الله ولا بفعل العبد؛ لأنه يلزم حدوث شيء لا لمؤثر، وذلك يبطل القول بالصانع، فتعين أن يكون من فعل الله تعالى، فنقول: إذا انضم ذلك المرجح إلى القدرة فإما أن يجب عنده الفعل أو يجوز أو يمتنع.
الثاني: باطل لأنه إذا لم يجب، بل جاز تراخيه كان وقوعه بعد التراخي لا لمرجح إذ لا وقت أولى من وقت فيلزم المحال، وهو حصول أحد المستويين لا لمرجح، فثبت أن عند حصول ذلك المرجح يستحيل أن يكون صدور ذلك الأثر جائزاً، وإما أنه لا يكون ممتنعاً فظاهر، وإلا لكان مرجح الوجود مرجحاً للعدم وهو محال، وإذا بطل القسمان ثبت أن عند حصول مرجح الوجود يكون الأثر واجب الوجود عن المجموع الحاصل من القدرة ومن ذلك المرجح.
وإذا ثبت هذا كان القول بالجبر لازماً؛ لأن قبل حصول ذلك المرجح كان صدور الفعل ممتنعاً وبعد حصوله يكون واجباً؛ وإذا عرفت هذا كان خلق الداعية الموجبة للكفر في القلب ختماً على القلب، ومنعاً له عن قبول الإيمان، فإنه سبحانه لما ذكر أنهم لا يؤمنون ذكر عقيبه ما يجري مجرى السبب الموجب له؛ لأن العلم بالعلة يفيد العلم بالمعلول، والعلم بالمعلول لا يكمل إلا إذا استفيد من العلم بالعلة.
واعلم: أن الرازي قد جعل هذا صدر أدلتهم وأقواها عنده حتى روي عنه أنه قال: لو اجتمع الأولون والآخرون لما تخلصوا عنه إلا بالتزام وقوع الممكن لا عن مرجح، وحينئذٍ يسد باب إثبات الصانع أو بالتزام أن الله يفعل ما يشاء، يعني أنه لا فعل للعبد، وأنه لا يقبح من الله قبيح، أجابت العدلية عن هذا من وجوه:
أحدها: أن مذهب المجبرة مخالف للأدلة القاطعة، وإذا كان المذهب معلوم البطلان لم يمكن إقامة الدليل على إثباته فيكون الدليل باطلاً، وقد استوفى أصحابنا الأدلة الناهضة القاطعة الدالة على كون أفعال العباد واقعة باختيارهم، وعلى حسب دواعيهم وإرادتهم في بسائط كتبهم بما لا يبقى معه شك ولا ريب، ونحن نذكر هنا ما يليق بالموضع تحقيقاً للدعوى، وإزاحة للعلة فنقول:
قال القاسم بن إبراهيم عليه السلام : الدليل على أن ما فعلوا من طاعة الله ومعصيته فعلهم، وأن الله جل ثناؤه لم يخلق ذلك إقبال الله تبارك وتعالى عليهم بالموعظة، والمدح، والذم، والمخاطبة، والوعد، والوعيد، وهو قوله: {فَمَا لَهُمْ لاَ يُؤْمِنُونَ}[الإنشقاق:20] وقوله: {وَمَاذَا عَلَيْهِمْ لَوْ آمَنُوا بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ}[النساء:39] ولو كان هو الفاعل لأفعالهم الخالق لها لم يخاطبهم ولم يعظهم، ولم يلمهم على ما كان منهم من تقصير، ولم يمدحهم على ما كان منهم من جميل وحسن، كما لم يخاطب المرضى فيقول: لم مرضت، ولم يخاطب العميان فيقول: لم عميتم، ولم يخاطب الموتى فيقول: لم متم، ولم يخاطبهم على خلقهم فيقول: لم طلتم ولم قصرتم، وكما لم يمدح ويحمد الشمس والقمر، والنجوم والرياح، والسحاب في مجراهن ومسيرهن، وإنما لم يمدحهن ويحمدهن؛ لأنه جل ثناؤه هو الفاعل ذلك بهم، وهو مصرفهن ومجريهن وهو منشؤهن وكان في ذلك دليل أنه لم يخاطب هؤلاء وخاطب الآخرين، فعلمنا أنه خاطب من يعقل ويفهم ويكسب، وإنما خاطبهم إذ هم مخيرون وترك مخاطبة الآخرين إذ هم غير مخيرين، ولا مختارين.
قال عليه السلام : فهذه الحجة، وهذا الدليل على فعله من فعل خلقه.
وقال الإمام المهدي عليه السلام : وأنا آتي في إبطال مذهبهم بطريقة غراء سهلة المسلك فأقول: لا إشكال أن الظاهر الذي تسبق إليه البدائه من العقلاء والصبيان أنهم المحدثون لأفعالهم يعتقدون ذلك، وينطقون، فلا ننصرف عن هذا الظاهر إلا لأمر يوجب الانصراف عنه من دلالة قاطعة واضحة البرهان؛ لأنهم مساعدون لنا أَنما ذكروه ليس معلوماً بالضرورة، بل بعض أصحابنا يدعي العلم الضروري بأنا الموجدون لأفعالنا.
وإذا كان كذلك فسبيلنا أن نتصفح أدلتهم العقلية والسمعية، فإذا أبطلنا كل ما أوردوه لم ننصرف عن ذلك الظاهر؛ إذ لا موجب حينئذٍ للانصراف عنه، ثم إنا ننظر في هذا الأمر الذي تسبق إليه البدايه، هل هو في نفس الأمر على ما سبقت إليه أم لا؟.
وإذا تأملنا أدنى تأمل أفادنا العلم الضروري بحسن المدح والذم، والأمر والنهي على أفعالنا، والعلم الضروري يقبحها في الخلق والألوان، والعلم الضروي بأنه لا فارق إلا كون الخلق والألوان اضطرارية.
قلت: ومن تأمل ما ذكره الإمامان( عليهما السَّلام ) علم بطلان ما أورده الرازي من المذهب ودليله، ونحن قد قفونا ما قاله الإمام المهدي عليه السلام من تصفح أدلتهم وإبطالها، وقد أبطلناها بحمد الله بما ذكرنا من تصحيح مذهبنا؛ لأنهما في طرفي نقيض إذا صح أحدهما بطل الآخر.
ولنعد إلى تمام الوجوه التي ذكرها العدلية في جوابهم فنقول:
الوجه الثاني: أن الرازي بنى تفسير بعض أصحابه للختم بخلق الكفر على أصل فاسد، وهو أن القدرة موجبة للمقدور، وبيان فساده من وجهين:
أحدهما: أن القدرة توجد ولا يوجد الفعل، ولو كانت موجبة لما تخلف ما توجبه عنها.
الثاني: أن كل عاقل يعلم ثبوت الاختيار للفاعل المختار في أفعاله وتروكه، فما شاء فعل وما شاء ترك، وذلك معلوم ضرورة والإيجاب ينافيهن وكلما نافى الضرورة وحكم بخلاف ما حكمت به فهو باطل قطعاً.
الوجه الثالث: أن الرازي بنى مسألة الداعي والمرجح على قاعدة قد أقر بأنها منهارة البنيان، متضعضعة الأركان، وأنها لو استقامت للزم قدم العالم، وذلك أنه قال في الجواب على شبهة الفلاسفة: أن الفاعل لا يفتقر إلى المرجح في إيجاد أحد المستويين عنده وصرح بذلك، وأنه يصح من الجائع أن يبتدئي بأي جوانب الرغيف لا لمرجح، وكذلك الملجأ إلى الهرب يسلك أحد الطريقين المستويين لمرجح، واحتج لذلك، وادعى أنا نعلم ضرورة أن شديد الجوع يتناول أحد الرغيفين لا المرجح، فكيف يبني مذهبه هنا على امتناع ما قد ادعى الضرورة على جوازه، ثم نقول: هب إنك قد رجعت عن ما قلته في جواب شبهة الفلاسفة لكنك قد صرحت بأنه لا محيص عما ذكرته الفلاسفة في قدم العالم إلا بتجويز أن الفاعل يصح منه فعل أحد المستويين عنده لا لمرجح، وإلا لزم قدم العالم.
فإما أن تكون قد التزمت ما قالوه، وهو قدم العالم فهذا هو الكفر الصريح؛ لأنك قد أنكرت الصانع المختار وحاشاك، وإما أنه قد حصل لك دفع شبهتهم بغير هذه الطريقة فكان عليك بيانها صيانة لكلامك من التناقض الظاهر الذي لا يمكن الخروج عن ظاهره، فإنك ادعيت هنا العلم الضروري باستحالة وجود أحد المستويين لا لمرجح، وثمة ادعيت العلم الضروري بأن شديد الجوع يتناول أحد الرغيفين المستويين لا لمرجح، ورفعاً لما قد ذكرته من اللبس، وهو أنه لا مخلص عنها إلا بما ذكرت، وإلا فقد أخللت بواجب قطعاً لأنك أوقعت الناظر في كلامك في اللبس، والفرض أنه قد ظهر لك دفعه بغير ما أظهرت وأنت أنت، وإما أنك قد رجعت عن حل شبهتم بما ذكرت مع بقائك عن العجز عن حلها، فهذا أكبر الجهلين، وأشنع القولين، فإن جهلك بحدوث العالم أعظم من جهلك بأنا المحدثون لأفعالنا.
الوجه الرابع: أن هذا الدليل قد ذكره ابن الحاجب، وابن القيم، وأبطلاه بأمور:
أحدها: أنا نفرق ضرورة بين الأفعال الاختيارية والاضطرارية، كالصعود والسقوط وحركتي الاختيار والرعشة، فيكون باطلاً لمقابلته الضرورة.
فإن قيل: الضروري هو أن للعبد قدرة في مثل الصعود دون السقوط، فإما أن تكون قدرته مؤثرة فيه فيكون اختيارياً فلا.
قيل: جعل الضرورة وجود القدرة لا تأثيرها ممنوع، فإنه لا طريق إلى العلم بوجودها إلا مع العلم الضروري باختيارنا في أفعالنا، وعدم توقفها على شيء سوى إرادتنا، ثم أنا إذا وجدنا مختاراً يتمكن من فعل دون آخر علمنا وجودها في الأول دون الثاني، ولولا تعلقها بأفعالنا وثأثيرها فيها لم نعلم وجودها أصلاً، على أن نفي تأثيرها في وقوع الفعل يرفع فائدة خلقها؛ إذ وجودها ولا أثر لها كعدمها.
ثانيها: أنه يلزمكم أن لا يكون الباري مختاراً في أفعاله، وذلك كفر، وبيانه أن يقال: إن لم يتمكن من الترك فهو الجبر، وإلا فإن لم يتوقف على مرجح فاتفاقي إلى آخر ما مر.
فإن قيل: ليس هذا بعينه جارياً في أفعال الباري تعالى؛ لأنا نختار أنه متمكن من الترك، وأن فعله يتوقف على مرجح،لكن ذلك المرجح قد تم وهو إرادته، فلا يحتاج إلى مرجح آخر حتى يلزم التسلسل في المرجحات، كما في فعل العبد إذا كان مرجحه صادراً عنه، إذ لا بد أن يكون الصادر عنه حادثاً محتاجاً إلى محدث آخر، فالمقدمة القائلة بأن مرجح الفعل إذا كان صادراً عن فاعله لزم التسلسل غير صادقة في حقه تعالى، بل في حق العبد.
قيل: هذا بناء على أصل فاسد، وهو أن إرادته تعالى من صفات الذات، وأنها معنى قديم، كما قالوا في القدرة والعلم، وسيأتي بطلانه في محله، وعندنا: أن إرادته تعالى من جملة أفعاله، إلا أن أصحابنا اختلفوا، فقال بعضهم: هي نفس المراد، وقال بعضهم: بل هي غيره مع اتفاقهم على حدوثها، وببطلان الأصل يبطل ما يتفرع عليه.
(سلّمنا) فنقول: ذلك المرجح القديم إن وجب معه الفعل انتفى الاختيار، وإلا جاز أن يصدر منه الفعل تارة، ولا يصدر أخرى، فيكون اتفاقياً كما مر، وهذا جواب لا مخلص لهم منه إلا بنفي الاختيار للباري تعالى، أو بالرجوع إلى الحق في معنى الإرادة، وقد التزم بعضهم نفي الاختيار في أفعاله تعالى حيث قال: في جواب هذا الإلزام لنا أن نختار الوجوب ولا محذور؛ لأن المرجح إرادته المستندة إلى ذاته، بخلاف إرادة العبد فإنها مستندة إلى غيره، فإذا كانت موجبة لزم الجبر منه قطعاً.
قلت: كيف تقول لا محذور وقد التزمت نفي اختيار الباري، فإذا لم يكن هذا مخذوراً فأي محذور سواه، وقد قال العضد: إن القول به كفر، وقال بعض المحققين من أهل حواشي شرح المختصر: الحق أن القول يتحقق بشوب من الإيجاب في حقه تعالى مما لا يجري عليه المؤمن، بل لا يبعد أن يقال: إنه كفر.
وقال في نجاح الطالب: إن القوم –يعني الأشعرية- معطلون لمعنى الاختيار في الباري تعالى وفي المخلوق.
أما في الباري تعالى، فلأن المرجح قديم كما ذكره العضد وغيره، مع قولهم: يجب الفعل عند حصول المرجح دفعاً للتسلسل، فصار مضطراً – أي ليس له أن لا يفعل- فلا يكون مختاراً، وأَما في حق العبد فلأن الاختيار بزعمهم مخلوق فيصير العبد عند خلقه مضطراً إذ يوجد الله فيه الفعل، وليس له دفعه، فقد عاد الوجود كله إلى الإيجاب والاضطرار وهو الفلسفة المحضة.
قلت: لعل هذا على سبيل الإلزام لهم وإلا فهم، لا سيما المحققين منهم لا ينفون الاختيار في أفعال الباري تعالى، وسيأتي أنهم إنما أوردوا هذا إلزاماً للمعتزلة، وإلا فهم يقولون بصحة صدور الفعل لا لمرجح، لكنا قد جرينا في إبطال ما أوردوه على ظاهر إيرادهم، سواء أوردوه إلزاماً أم التزاماً، وقد قال ابن القيم: يكفي في بطلان هذا الدليل أنه يستلزم كون الرب غير مختار.
ثالثها: أنهم إنما أوردوه ليبطلوا به مسألة التحسين والتقبيح العقلي، ورده أصحابنا، بل وبعض محققيهم كابن القيم بأنه لو صح الدليل المذكور لزم بطلان الحسن والقبح الشرعيين؛ لأن فعل العبد ضروري واتفاقي، وما كان كذلك فإن الشرع لا يحسنه ولا يقبحه؛ لأنه لا يرد التكليف به فضلاً عن جعله متعلق الحسن والقبح.
قلت: فما ظنك بدليل قد شهد بعض من يقول بمدلوله على بطلانه، والحق ما شهدت به الأعداء.
الوجه الخامس: ذكره الإمام المهدي عليه السلام وهو أن هذا الدليل مبني على أمرين باطلين:
أحدهما: أنه لا يصح الفعل إلا لداع، ومرجح، وقد ثبت أن يصح فعل أحد المستويين لا لمرجح كما مر.
الثاني: أنهم زعموا أن ذلك المرجح لا بد أن يكون موجباً، واستدلوا على ذلك بأنه إذا تراخى وقوعه عن وقوع المرجح كان وقوع الفعل عند وقوعه لا لمرجح؛ لأنه لا وقت أولى من وقت، ووقوع أحد المستويين لا لمرجح محال، فظهر لك أن دليلهم على خلق الأفعال مبني على استحالة الفعل من دون مرجح.
قال عليه السلام : وإذا كانت هذه القاعدة قد انهدمت بما قدمنا من الأدلة واعترافهم عند الرد على الفلاسفة بطل الدليل من أصله، وفي بطلانه بطلان المدلول.
قلت: أراد عليه السلام ما قدمنا من التزام الرازي في رد شبهة الفلاسفة وقوع أحد المستويين لا لمرجح، ولقد صرح شارح المقاصد بأن المقدمة القائلة بأن الفعل الواقع لا لمرجح اتفاقي لا اختياري، إنما هي مقدمة إلزامية بالنسبة إلى المعتزلة القائلين بأن قدرة العبد لا تؤثر في فعل إلا إذا انضم إليه مرجح يسمونه الداعي، ونحن لا نقول بها، فإن الترجيح بمجرد الاختيار المعلق بأحد طرفي الفعل لا لداع عندنا جائز.
ولا يخرج ذلك الفعل عن كونه اختيارياً كما تقدم في مسألة الهارب من السبع والعطشان الواجد للقدحين المتساويين.
قال: وإذا لم نقل بهذه المقدمة لم يرد علينا النقض بفعل الله تعالى.
وفي حواشي شرح الغاية عن المواقف ما حاصله: إن الأصل عند الأشعرية أن الفعل لا يحتاج إلى الداعي، وأن الترجيح للفعل أو الترك يقع بلا مرجح، فلا يلزمهم ما ذكر هنا من تطرق الإيجاب إلى فعل الله، وإنما لزمهم لما اعترفوا بلزوم المرجح ليتم لهم الزام المعتزلة بالجبر.
فانظر كيف اعترفوا ببطلان صدر أدلتهم، وأنهم لا يقولون به، وإنما أوردوه إلزاماً للمعتزلة، وإذا لما يقولوا به، فما بالهم ركبوا الاستدلال على صحته، وادعوا العلم الضروري على امتناع وقوع الممكن من دون مرجح، والحال أنهم يعتقدون خلاف ما اقتضته الضرورة، ولعمري إن هذا يكشف عن سوء اعتقادهم،وخبث سرائرهم،وأنهم لا يبالون بما ارتكبوا في تقويم مذهبهم، ورد خصومهم فالله المستعان.
وأما المعتزلة فهم لا يقولون بما حكوه عنهم، وإنما قال ذلك منهم أبو الحسين البصري، وقد عاب عليه الرازي، وألزمه القول بالجبر حيث قال: وأنا شديد العجب من أبي الحسين، وغلوه في الإعتزال مع غلوه في الجبر، فإنه ذهب إلى أن العباد محدثون لأفعالهم ضرورة، مع قوله: بأن الداعي موجب للفعل، ولا يفعل إلا لداع، والداعي ضروري من جهة الله تعالى.
وإذا كان كذلك فالفعل من جهة الله تعالى؛ لأنه فعل ما يوجبه .
قال: وعندي أنه يذهب إلى الجبر لكنه يتستر من أصحابه، ورد عليه الإمام المهدي عليه السلام ، فقال: الأقرب أن أبا الحسين إنما يجعل الداعي موجباً وجوب استمرار عادي، لا وجوب توليد.
كما أن المعتزلة كافة يقولون: إذا توفرت الدواعي، وانتفت الصوارف، والموانع وجب الفعل،ولا يعنون بالوجوب استحالة أن لا يفعل، بل إنه يصير ملجأ إلى الفعل،وقد علمنا أن الملجأ إلى الفعل لا يتخلف عن الفعل، وإن كان قادراً على تركه، فهذا هو مقصد أبي الحسين في كون الداعي موجباً، أعني كمقصد أصحابنا في وجوب الفعل من الملجأ. والله أعلم.
فلا يلزم ما ذكره الرازي من كونه يلزم أبا الحسين القول بالجبر، وفي حواشي شرح الغاية: وأما قول أبي هاشم أنه إذا وجد الداعي وانتفى الصارف وجب الفعل وصولة الرازي بهذا على المعتزلة، وإلزام أبي هاشم الجبر، فالتحقيق أن الداعي إلى الفعل لا ينفك عن الصارف عنه الذي هو داعي الترك، فإنه ما من فعل إلا وهو مشتمل على مصلحة ومفسدة، فالداعي والصارف متمانعان على الفعل والترك، ولا يترجح أحدهما إلا باختيار العبد.
قلت: وهذا يقوي قول الإمام المهدي عليه السلام أن قول أبي الحسين كقول سائر المعتزلة.
الوجه السادس: وهو التحقيق أنا نختار أن الفعل مفتقر إلى مرجح غير موجب وهو الإرادة والاختيار فلا يلزم كون العبد مجبوراً في أفعاله، والإرادة من فعل العبد ولا يلزم التسلسل؛ لأن الإرادة لا تحتاج إلى إرادة؛ لأن المحتاج إليها هو المتوجه إليه وهو المراد لا الإرادة.
قال الشريف: إن كل سليم العقل إذا اعتبر حال نفسه علم أن إرادته للشئ لا تتوقف على إرادته لتلك الإرادة، بل تحصل له تلك الإرادة، سواء أرادها أم لم يردها.
قلت: وكلامه يدل على أن إرادة الإرادة تصح، وهو مذهب البصرية، من المعتزلة كغيرها من الأفعال فإنها فعل حادث ، فصحت إرادتها.
وقال أبو القاسم البلخي وغيره: لا تصح إرادة الإرادة وكان أبو علي يقول بذلك ثم رجع عنه، وقال: بل تصح، واتفقت المعتزلة على عدم وجوبها؛ لأنها جنس فعل أي ليست فعلاً واقعاً على وجه بحيث يفتقر موجدها إذا أراد وقوعها على ذلك الوجه إلى الإرادة، وإنما هي مجرد فعل ولم يحك الإمام المهدي عليه السلام القول بوجوبها إلا عن العطوي من المجبرة، قال: كالأفعال الواقعة على وجوه، فيجب أن تراد كل إرادة حادثة حتى تنتهي إلى إرادة ضرورية يخلقها الله تعالى فينا.
ورده الإمام المهدي عليه السلام بأن الداعي إلى الفعل داعٍ إليها، ولا داعٍ إلى إرادة الإرادة فلا تجب إرادتها.
قال: لو جاز وقوع إرادة لا تراد لجاز وجود فعل لايراد؟
أجاب الإمام عليه السلام : بأن ذلك جائز من جهة الصحة مستحيل من جهة الداعي فإن من البعيد أن يدعو إلى الفعل داع ولا يدعو إلى إرادته، بل ما دعا إليه فهو بعينه داع إلى إرادته قطعاً، فالدعاء إليها إنما يثبت تبعاً للدعاء إلى الفعل، وحينئذٍ لا وجه يوجب إرادتها.
قال عليه السلام : ثم إن الواحد منا يجد نفسه مريدة للفعل ولا يجدها مريدة لإرادته، ثم إنها لو كانت ضرورية لم يمكنه الخروج عنها باختياره، ولوجب أن يجدها من نفسه، والمعلوم خلاف ذلك كله، وإذا ثبت بطلان هذا الدليل الذي جعله الرازي صدراً ورأساً، والآن بحمد الله لم يصلح أن يجعل عقباً ولا ذنباً، تبين لك بطلان قول الرازي: أن الختم على القلب هو خلق الداعية الموجبة للكفر مع أنه لا يعرف في اللغة كون الختم بمعنى الخلق والمنع، بل معناه سد الخرق قال تعالى: {يُسْقَوْنَ مِنْ رَحِيقٍ مَخْتُومٍ، خِتَامُهُ مِسْكٌ}[المطففين:25،26] أي مختوم الخرق الذي يخرج منه، ومنه ختم الكتاب أي سد الصدع الذي يخرج منه.
وبالجملة أن معناه الاستيثاق من الشيء بضرب الخاتم عليه لئلا يتوصل إليه، ولا يطلع عليه.
قال الناصر عليه السلام في البساط: ولا نعرف في اللغة أن الختم المنع من الشيء.
وأما قوله:إنه لما ذكر أنهم لا يؤمنون ذكر عقيبه ما يجري مجرى السبب وهو الختم، فالجواب أنا نقول: بل جعل كفرهم علة باعثة على الختم وسبباً فيه، ونقول: إن العلم بالعلة وهي الكفر تفيد العلم بالمعلول وهو الختم، والدليل على ذلك نظائرها من كتاب الله تعالى، قال الله تعالى: {بَلْ طَبَعَ اللَّهُ عَلَيْهَا بِكُفْرِهِمْ}[النساء:155]، فجعل الكفر علة باعثة على الطبع، ومثلها قوله تعالى:{ وَنُقَلِبُ أَفْئِدَتَهُمْ وَأَبْصَارَهُمْ كَمَا لَمْ يُؤْمِنُوا بِهِ أَوَّلَ مَرَّةٍ وَنَذَرُهُمْ فِي طُغْيَانِهِمْ يَعْمَهُون}[الأنعام:110].
وقوله تعالى: {كَلاَّ بَلْ رَانَ عَلَى قُلُوبِهِمْ مَا كَانُوا يَكْسِبُون}[المطففين:14] إلى غير ذلك من الآيات، وكتاب الله يفسر بعضه بعضاً.
فإن قيل: فما تأويل الختم عند علماء العدل والتوحيد؟
قيل: قد ذكروا فيه وجوهاً كلها مقبولة جارية على قوانين اللغة، ومقتضى الفصاحة، ومطابقة ما تقرر من عدل الله تعالى، وتنزيهه من الظلم، وسائر القبائح.
قال الناصر عليه السلام في البساط: معنى الختم وما كان مثله الشهادة من الله تعالى عليهم لما علم منهم، ومن قلوبهم، ويدل على ذلك أول الآية وآخرها فإنه سبحانه قال: {إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا سَوَاءٌ عَلَيْهِمْ أَأَنذَرْتَهُمْ} إلى قوله:{ وَلَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ}[البقرة:6،7].
فشهد بهذا القول على قلوبهم أنها لا تؤمن أبداً، وعلى أبصارهم أنها لا تبصر أبداً، وعلى أسماعهم بمثل ذلك، لما عرفه جل ذكره من سوء نياتهم، واستكبارهم وذلك نحو ما شهد به مما علمه من قوم نوح فقال: {أَنَّهُ لَنْ يُؤْمِنَ مِنْ قَوْمِكَ إِلاَّ مَنْ قَدْ آمَنَ}[هود:36]ولم يقل: إني أنا الذي منعتهم من الإيمان.
قال عليه السلام : ووجه آخر، وهو أنه لما علم سبحانه أنهم لا يؤمنون أبداً جعل خاتمة أعمال قلوبهم، وحكم عليها بأنها لا تفلح، ولا تصلح، وجعل لهم العذاب الأليم {كَمَا لَمْ يُؤْمِنُوا بِهِ أَوَّلَ مَرَّةٍ}[الأنعام:110].
وإنما أخبر سبحانه وشهد عليهم بما عرف من أعمالهم، وإصرارهم على معاصيه، كما أخبر عن علمه بقوله تعالى: {وَلَوْ تَرَى إِذْ وُقِفُوا عَلَى النَّارِ}إلى قوله: {وَإِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ}[الأنعام:27،28] فبأعمالهم الرديئة ختم على قلوبهم، وعلى سمعهم أنها لا تؤمن أبداً كما قال: {كَلاَّ بَلْ رَانَ عَلَى قُلُوبِهِمْ مَا كَانُوا يَكْسِبُونَ}[المطففين:14] فشهد وحكم على قلوبهم أن سوء كسبهم قد، ران، والرين: هو ما يحيط بها من شد أو غشاء، أو ذهل فلا تعقل ولا تسمع.
وذكر الإمام أحمد بن سليمان عليه السلام أن الختم جزاء على أعمالهم السيئة.
قال في حقائق المعرفة: وكذلك الطبع والختم يكون أيضاً بعد الكفر والفسق جزاء لهم على كفرهم وفسقهم.
قلت: ويؤيد ذلك أن كثيراً مما تعلقت به المجبرة مسوق مساق السبب والمسبب، كقوله تعالى: {طَبَعَ اللَّهُ عَلَيْهَا بِكُفْرِهِمْ}[النساء:155] {فَلَمَّا زَاغُوا أَزَاغَ اللَّهُ قُلُوبَهُمْ}[الصف:5] {كَذَلِكَ نَطْبَعُ عَلَى قُلُوبِ الْمُعْتَدِينَ}[يونس:74] {وَاللَّهُ أَرْكَسَهُمْ بِمَا كَسَبُوا}[النساء:88] {فَأَعْقَبَهُمْ نِفَاقاً فِي قُلُوبِهِمْ إِلَى يَوْمِ يَلْقَوْنَهُ بِمَا أَخْلَفُوا اللَّهَ مَا وَعَدُوهُ}[التوبة:77] {صَرَفَ اللَّهُ قُلُوبَهُمْ بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لاَ يَفْقَهُونَ}[التوبة:127].
وهذا كل ما ورد من الختم والطبع، وكل ما في معناهما لا تجده إلا مسبباً عن فعل العبد ومرتباً عليه، وقد تقدمت الإشارة إلى ذلك.
وقال الإمام الناصر لدين الله: أبو الفتح الديلمي عليه السلام : معناه الحكم من الله على قلوبهم أنها لا تعي الذكر، ولا تقبل الحق وعلى أسماعهم بأنها لا تصغي إليه، والغشاوة تعاميهم عن الحق كالذي يغشى الناظرين من قتام، أو ظلام، أو نحوه.
وقال جار الله الزمخشري (رحمه الله): القصد إلى صفة القلوب بأنها كالمختوم عليها، وأسند الختم إلى الله تعالى للدلالة على أن هذه الصفة في فرط تمكنها وثباتها كالشيء الخلقي الجبلي، كما يقال: فلان مجبول على كذا، أو مفطور عليه، يريدون أنه بليغ الثبات عليه.
قال (رحمه الله): ويجوز أن تضرب الجملة مثلاً كقولهم: سال به الوادي إذا هلك، وطارت به العنقاء إذا أطال الغيبة، وليس للوادي ولا للعنقاء عمل في هلاكه، ولا في طول غيبته، وإنما هو تمثيل مثلت حاله في هلاكه بحال من سال به الوادي، وفي طول غيبته بحال من طارت به العنقاء، وكذلك مثلت حال قلوبهم عليهم فيما كانت عليه من التجافي عن الحق بحال قلوب ختم الله عليها نحو قلوب الإغتام التي هي في خلوها عن الفطن كقلوب البهائم، أو بحال قلوب البهائم أنفسها، أو بحال قلوب مقدر ختم الله عليها حتى لا تعي شيئاً ولا تفقه، وليس له تعالى فعل في تجافيها عن الحق ونبوها عن قبوله وهو متعال عن ذلك.
وذكر (رحمه الله) هو وغيره وجوهاً من التأويل غير هذا منها: أن ذلك من الإسناد المجازي فالشيطان هو الخاتم في الحقيقة أو الكافر، وإسناده إليه تعالى باعتبار كونه هو الذي أقدره ومكنه من باب إسناد الفعل إلى السبب.
ومنها: أن أعراقهم لما استحكمت في الكفر ورسخت بحيث لم يبق إلى تحصيل إيمانهم طريق سوى الإلجاء والقسر، ثم لم يفعل ذلك بهم محافظة على حكمة التكليف، عبر عن ترك ذلك بالختم، إشعاراً بأنهم الذين بلغوا الغاية القصوى في الغي والعناد، وأنهم لا ينتهون عن ذلك إلا بالقسر والإلجاء.
ومنها: أن ذلك حكاية لما كان الكفرة يقولونه مثل قولهم: {قُلُوبُنَا فِي أَكِنَّةٍ} الآية[فصلت:5] تهكماً بهم.
وقيل: يجوز أن يفعل هذا الختم بهم في الآخرة، كما قال تعالى: {الْيَوْمَ نَخْتِمُ عَلَى أَفْوَاهِهِمْ} [يس:65] وقال: {لَهُمْ فِيهَا زَفِيرٌ وَهُمْ فِيهَا لاَ يَسْمَعُونَ}[الأنبياء:100]، وقال: {وَنَحْشُرُهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ عَلَى وَجُوهِهِمْ عُمْياً وَبُكْماً وَصُمّاً}[الإسراء:97].
وقال أبو علي، وقاضي القضاة، وهو مروي عن الحسن البصري، وجوزه الإمام المهدي عليه السلام : بل المراد بذلك سمة وعلامة يجعلها الله على قلب كل كافر وسمعه، يستدل بها الملائكة على كفرهم، وأنهم لا يؤمنون أبداً، ولا يبعد أن يكون في قلوب المؤمنين علامة تعرف بها الملائكة إبمانهم، كما قال تعالى: {أُوْلَئِكَ كَتَبَ فِي قُلُوبِهِمُ الإِيمَانَ}[المجادلة:22].
فإن قيل: لا فائدة في تلك العلامة فتكون عبثاً؛ لأنها إن كانت للحفظة فأعمال الكفار أوضح منها، مع أنهم لا يرون ما واراه اللباس من العورة، كما ورد أنهم يصرفون أبصارهم عند قضاء الحاجة، فبالأولى أنهم لا يرون القلب، وإن كانت لله تعالى فهو غني عنها؛ لأنه عالم الغيب والشهادة.
فالجواب: أنه لا عبث بل فيها فائدة؛ لأنه تعالى حكيم لا يفعل إلا لغرض وحكمة، فلا بد أن يكون في وضع تلك العلامة نوع لطف لنا أو للملائكة".
أما العلامة التي في قلب المؤمن فلأنهم إذا عرفوا بها إيمانه أحبوه فاستغفروا له، وأما التي على قلب الكافر فلأنهم إذا علموا بها كفره، وعلموا أنه ملعون عند الله تعالى كان ذلك منفراً لهم، وزاجراً عن الكفر، ثم إن في ذلك لطف للمكلف لأنه إذا علم أنه إذا آمن أحبته الملائكة واستغفروا له كان ذلك مرغباً له في الإيمان، وأنه إذا كفر لعنته الملائكة كان ذلك زاجراً له عن الكفر، وقد روي عن علي عليه السلام ما يدل على هذه العلامة وهو قوله عليه السلام : (إن الإيمان يبدو لمظة في القلب كلما ازداد الإيمان ازدادت اللمظة). رواه في النهج.
اللمظة: بضم اللام في الأصح وهي النكتة أو نحوها من البياض، وإما أن الملائكة لا يرون ما واراه اللباس فلعدم الفائدة بخلاف القلب فإنه محل الاعتقادات، ولا مانع من أن يجعل الله لهم إليه سبيلاً، وليست الأعمال بأوضح من العلامات بالنظر إلى أعمال القلوب.
قلت: لكن يرد على هذا ما روي: أن الله تعالى يقول للملائكة: أنتم حفظة على عمل عبدي، وأنا رقيب على ما في قلبه الخبر.
إذا عرفت هذا فالختم بهذا المعنى لا يمنع كما لا يمنع ختم الكتاب من فكه، وكما لو كتب على عضو من أعضائه أنه كافر فإنه لا يمنعه من الإيمان.
وقال الإمام القاسم بن محمد عليه السلام : التحقيق أنه عبارة عن سلب الله تعالى إياهم تنوير القلب الزائد على العقل الكافي في التكليف، لأن من أطاع الله نور الله قلبه كما قال الله تعالى: {وَمَنْ يُؤْمِنْ بِاللَّهِ يَهْدِ قَلْبَهُ}[التغابن:11] {وَالَّذِينَ اهْتَدَوْا زَادَهُمْ هُدًى}[محمد:17] ومن عصى الله لم يمده بشيء من ذلك ما دام مصراً على عصيانه، فشبه الله سلبهم ذلك التنوير بالختم، والطبع على الحقيقة، والجامع عدم الانتفاع بالقلوب وكذلك الختم على الأسماع؛ لأن من سلبه الله التنوير المذكور لم ينتفع بما علم، وسمعه من البينات والهدى فكأنه لا يعلم ولا يسمع.
قلت: وهذا كقول الهادي عليه السلام أن معناه الخذلان وهو ترك التوفيق والتسديد، وأما الغشاوة فحقيقتها في اللغة: الغطاء المانع من الإبصار، ومعلوم من حال الكفار خلاف ذلك، فلا بد من حمله على المجاز، وهو تشبيه حالهم بحال من لا ينتفع ببصره في باب الهداية.
فائدة: [في ذكر الختم، والصلع، والرين، والوقر]
قال الرازي: الآيات التي فيها الختم، والطبع، والرين، والوقر، والغشاوة، والأكنة تدل على حصول هذه الأشياء، وقوله تعالى: {فَمَا لَهُمْ لاَ يُؤْمِنُونَ}[الإنشقاق:20] {وَمَا مَنَعَ النَّاسَ أَنْ يُؤْمِنُوا}[الإسراء:94] {كَيْفَ تَكْفُرُونَ بِاللَّهِ}[البقرة:28] ونحوها يدل على أنه لا مانع البتة، قال: وقد تمسكت كل طائفة بقسم حتى صارت الدلائل السمعية في حيز التعارض، وأما الأدلة العقلية فقد سبقت الإشارة إليها.
قال: وبالجملة فهذه المسألة من أعظم المسائل الإسلامية، وأكثرها شعباً، وأشدها شغباً.
ويحكى أن أبا القاسم الأنصاري سئل عن تكفير المعتزلة في هذه المسألة، فقال: لا؛ لأنهم نزهوه، وسئل عن أهل السنة، فقال: لا؛ لأنهم عظموه، والمعنى أن كلا الفريقين ما طلب إلا إثبات جلال الله وعلو كبريائه، إلا أن أهل السنة وقع نظرهم على العظمة، فقالوا: ينبغي أن يكون هو الموجد لا موجد سواه، والمعتزلة وقع نظرهم على الحكمة فقالوا: لا تليق بجلال حضرته هذه القبائح.
قال الرازي: وأقول هاهنا سر آخر، وهو أن إثبات الإله يلجي إلى القول بالجبر؛ لأن الفاعلية لو لم تتوقف على الداعية لزم وقوع الممكن من غير مرجح، وهو نفي الصانع، ولو توقفت لزم الجبر، وإثبات الرسل يلجي إلى القول بالقدرة؛ لأنه لو لم يقدر العبد على الفعل فأي فائدة في بعثة الرسل، وإنزال الكتب، وهاهنا سر آخر وهو فوق الكل وهو أنا لما رجعنا إلى الفطرة السليمة والعقل الأول، وجدنا أن ما استوى الوجود والعدم بالنسبة إليه لا يترجح أحدهما على الآخر إلا لمرجح، وهذا يقتضي الجبر، ونجد أيضاً تفرقة بديهية بين الحركات الاختيارية والحركات الاضطرارية وجزماً بديهياً بحسن المدح وقبح الذم، والأمر والنهي، وذلك يقتضي مذهب المعتزلة فكأن هذه المسألة وقعت في حيز التعارض بحسب العلوم الضرورية وبحسب العلوم النظرية، وبحسب تعظيم الله بالنظر إلى قدرته، وحكمته، وبحسب التوحيد والتنزيه، وبحسب الدلائل السمعية، فلهذه المآخذ التي شرحناها والأسرار التي كشفنا عن حقائقها صعبت المسألة وغمضت فنسأل الله العظيم أن يوفقنا للحق وأن يختم عاقبتنا بالخير آمين يا رب العالمين.
قلت: وهذا يدل على أنه متوقف في المسألة وفي توقفه إبطال لما يدعيه من البراهين القطعية في المسألة إذ لا وجه للتوقف فيما ثبت قطعاً فلا يغرك تهويله في تركيبه لأدلة أصحابه والحمد لله رب العالمين، والعجب من قولهم: أنهم نظروا إلى تعظيم الله فقالوا: لا موجد سواه وكيف يعظم الله من نسب إليه القبائح بأسرها من الظلم والفجور والكذب والزور وغيرها.
وأما قوله: أن إثبات الإله يلجئ إلى القول بالجبر واستدلاله على ذلك بمسألة الداعي فقد تقدم بطلانه، وأما الآيات التي فيها ذكر الختم ونحوه فهي محتملة، والآيات الدالة على أنه لا مانع صريحة، والواجب رد المحتمل بالتأويل إلى المحكم الصريح، وقد تقدم ما يرشد إلى ذلك. والله أعلم.
المسألة الثامنة [القلب]
القلب: هو اللحمة الصنوبرية المعروفة وهي الفؤاد، ومن الناس من فرق بينهما فقال: القلب هو العلقة السوداء في جوف الفؤاد دون ما يكتنفها من اللحم والشحم، ومجموع ذلك هو الفؤاد، وقال بعض العلماء: وحيث أطلق القلب في لسان الشرع فليس المراد به الجسم الصنوبري الشكل فإنه للبهائم وللأموات، بل المراد به جسم آخر يسمى بالقلب أيضاً، وهو جسم لطيف قائم بالقلب اللحماني قيام العرض بمحله، أو قيام الحرارة بالفحم، وهذا القلب هو الذي يحصل منه الإدراك، وترتسم فيه العلوم والمعارف.
قلت: وهذا يدل أنه غير العلقة؛ إذ العلقة للبهائم، ولكن جعله قائماً بالقلب قيام الحرارة بالفحم يقتضي أنه غير جسم؛ إذ الحرارة عرض قائم بالفحم. والله أعلم.
المسألة التاسعة[في أن القلب محل الاعتقاد]
دلت الآية على أن القلب محل الاعتقاد؛ لأن الإيمان منه الاعتقاد، وقد أخبر الله تعالى بالختم على قلوبهم، سواء كان ذلك حقيقة أم مجازاً.
قال الإمام المهدي عليه السلام : اعلم أن الاعتقاد لا يصح وجوده إلا في محل مخصوص، وقرره بوجوه:
أحدها: أن وجوده لا في محل محال بدليل أنا نجد من أنفسنا تعذر فعله منا لا في محله، سواء فعلناه بسبب أو ابتداء، وكذلك ما يفعله الله تعالى من العلوم؛ لأنه إذا أوجده تعالى لا في محل فقد اختص به على أبلغ الوجوه؛ لأنه صار موجوداً على حد وجوده كالإرادة، فيجب أن توجب له العالمية، ولو صح ذلك عليه لصح عليه الجهل؛ لأن ما صححه صحح ضده؛ إذ لا يفتقر أحد الضدين إلى أزيد مما افتقر إليه الآخر في التصحيح، وصحة الجهل عليه تؤدي إلى انقلاب ذاته؛ لأنه عالم لذاته، فلما كان وجود العلم لا في محل يؤدي إلى هذا المحال وجب أن يحكم بإحالته.
قلت: أراد عليه السلام أنه لو جاز أن يوجد الله تعالى علماً لا في محل لاختص بالباري تعالى؛ لأن وجود ذلك العلم على حد وجود الله تعالى لا في جهة، كما أن إرادة الله تعالى اختصت به لوجودها لا في جهة كوجوده تعالى، ولو كان كذلك لكان هذا العلم موجباً للعالمية، كما أن الإرادة لما اختصت به على هذا الوجه أوجبت له صفة المريدية، ولو جوزنا وجود العلم لا في محل وأنه يوجب صفة للقديم تعالى لجاز وجود جهل كذلك؛ لأن تصحيح علم لا في محل يصحح جهلاً لا في محل لما ذكره عليه السلام ، وصحة الجهل تؤدي إلى ما ذكره عليه السلام من المحال.
هذا تحقيق كلام الإمام المهدي عليه السلام . والله أعلم.
وهو مبني على مذهبه في الإرادة، وأما غيره فيستدلون بما تقرر من استحالة وجود عرض لا في محل.
الوجه الثاني: أن ذلك المحل لا بد وأن يكون فيه حياة؛ إذ وجوده في الجماد محال أيضاً؛ لأنه إذا وجد فيه لم يخل إما أن يوجب أولا، الثاني باطل؛ لأن العلل لا يصح وجودها غير موجبة، ولا تقف في إيجابها على شرط، وإذا وجب لم يخل إما أن يوجب لمحله، وهو محال لعدم الحياة فيه، أو لغيره فلا اختصاص به، والمعنى لا يوجب إلا لما اختص به، فبطل بذلك صحة وجوده في محل لا حياة فيه.
الوجه الثالث: أنه لا يصح وجوده في كل محل فيه حياه بأنا نجد من أنفسنا تعذر إيجاده في أيدينا، وفي كل عضو غير القلب، فعلمنا أنه يحتاج إلى أمر زائد على بنية الحياة؛ إذ لو كفت لصح منا إيجاده في كل عضو، ولما صح منا إيجاده في القلب دون غيره، علمنا أن بنيته هي التي احتاج إليها مع الحياة.
الوجه الرابع: في الدليل على أن ذلك المحل المخصوص هو القلب فلأنا نعلم وجوده من ناحية الصدر، ولا قائل بأنه يوجد في غير القلب مما يحويه الصدر.
قلت: وهذه الآية ونحوها مما نبه الله به على أن القلب محل لجميع أنواع الاعتقادات، بل ذلك في حكم التصريح.
قال الحاكم: وكل ما يتركب على بنية القلب صح وجود العلم فيه، ولا عبرة بالمخالفة في الصورة، ولذلك اشتركت الملائكة والجن والإنس في العقل وإن اختلفت صورهم.
المسألة العاشرة [في السمع والبصر]
اختلف العلماء في السمع والبصر هل هما معنيان أم لا؟
فقال الإمام القاسم بن محمد عليه السلام : السمع معنى محله الصماخ، والبصر معنى محله الحدق، وهو قول أبي الحسين، وأبي علي، وأبي الهذيل، وصالح قبة، وأبو القاسم البلخي، والصالحي، وبشر بن المعتمر، والأشعرية، وهو ظاهر كلام الزمخشري (رحمه الله).
وقالت البهشمية: بل المدركية: صفة مقتضاة عن كونه حياً بشرط وجود المدرك وارتفاع الموانع، وصحة الحاسة، وقال الجاحظ: بل الإدراك يحصل بطبع المحل، وهو قريب من قول البهشمية؛ إذ لا يعقل من طبع المحل إلا وجوب حصول التأثير في المدركية لمجرد حصوله على صفة، وقال النظام: بل الإدراك فعل الله يخلقه في الحواس ، وهذا قريب من كلام الأولين؛ إذ لا فعل يعقل أن الله يفعله في الحاسة بعد كمال صحته إلا معنى تدرك به المدركات، وحجة أهل القول الأول أن الإنسان إذا نام لم تحس جوارحه شيئاً، وهذا يدل على أن الحس عرض، ولأن الأعمى والأصم حيان ولا يدركان المسموع والمبصر.
فإن قيل: إنما لم يدركا لفوات شرط الإدراك وهو صحة الحاسة.
قيل: تلك الآفة إنما هي سلب المعنى الذي ركبه الله في الحدق والصماخين.
قلت: ويجاب بأن هذا احتجاج بمحل النزاع، واحتج أهل القول الثاني بأن هذه الصفة يعني المدركية متى صحت وجبت أي تصح وتجب في وقت واحد، وهو عند حصول الحيية والشروط، فمتى حصلت صح الإدراك ووجب بكل حال، ومتى لم تحصل لم يجب ولم يصح بل يستحيل.
واعلم: أن الاستدلال على أن المدركية ليست بمعنى، وأن الحيية والشروط كافية في حصولها مبني على ما اختاره الجمهور من أنا إنما نعلم أن الحيية، والشروط كافية في حصول هذه الصفة دلالة، وأما أبو الحسين فقد قال: علمنا بأنها كافية ضروري.
قال الإمام يحيى: ثم تارة يقول: إن العلم بوجوب حصول كونه مدركاً عند هذه الأمور ضروري، والعلم بكونه ضرورياً ضروري، وتارة يقول: العلم بكونه ضرورياً نظري، واستدل على كونه ضرورياً بأن كل عاقل خَبَرَ الأمورَ، وتكرر إدراكه للمرئيات فإنه لا يشك أنه إذا شخص ببصره إلى السماء من غير مانع فإنه يستحيل أن لا يرى قرص الشمس، وأن يصب الحديد المحمى على صدره فلا يدرك حرارته، وأن تقطع أوصاله فلا يدرك الألم ونحو ذلك.
فإن قيل: ما دليل الجمهور على أنها ليست معنوية، وأنها متى صحت وجبت؟
قيل: لهم على ذلك أدلة:
أحدها: أن الإدراك لو كان معنى لوجب أن ندرك الرقيق والمحجوب؛ لأنه يبطل، والحال هذه أن تكون الموانع موانعاً، وأن تتوقف المدركية على زوالها وإنما يتوقف على حصول المعنى الذي هو علة في وجوب الإدراك؛ إذ العلل الموجبة لا تقف في إيجابها لمعلولها على شرط منفصل إذ لو وقفت عليه لجوزنا أن يكون في الجسم علل كثيرة يتوقف الإدراك على حصولها، ولا طريق إليها، وإنما تقدم الطريق إليها لوقوفها على شرط منفصل، وإثبات ما لا طريق إليه محال، فما أدى إليه يجب أن يكون محالاً.
فإن قالوا: إدراك المحجوب ونحوه ملتزم، فقد كان النبي صلى الله عليه وآله وسلم يرى ما وراء ظهره، ومن الموانع أن يكون المرئي في خلاف جهة الرائي.
قلنا: يحتمل أن المراد بإدراكه صلى الله عليه وآله وسلم العلم، أو جعل له حاسة سادسة في قفاه، أو أن الله تعالى يقلب بعض شعاع عينيه صلى الله عليه وآله وسلم عند إدراكه لذلك إلى خلفه، ويدرك بالبعض ما هو أمامه.
الثاني: أنه لو كان معنى لجاز أن ندرك الذرة على الجبل، ولا ندركه بأن يخلق فينا إدراكها دونه لجواز انفصال أحد الإدراكين عن الآخر.
الثالث: أن المدركية لو صحت ولم تجب بل كانت معنوية لجوزنا أن يكون في حضرتنا فيلة وبعراناً ونيراناً مؤججة، ونحن لا نراها لعدم الموجب للمدركية، فلا نثق بالمشاهدات، بل نجوز إذا رأينا زيداً في حضرتنا وحده أن معه أخاه وأباه، ونحن نعلم انتفاء ذلك ضرورة، وما أدى إلى رفع العلوم الضرورية وجب القطع ببطلانه.
فإن قيل: لا نسلم أنها لو كانت معنوية ارتفعت الثقة بالمشاهدات لأن الله سبحانه يخلق فينا علماً مبتدأً بأن لا شيء بحضرتنا،كما خلق فينا علماً بأن زيداً الذي شاهدناه اليوم هو الذي شاهدناه أمس،مع جواز أن يكون غيره بأن خلق الله مثله، ومع العلم بذلك تحصل الثقة.
فالجواب: أنها لو وقعت المساعدة لذلك فإنا نجوز ألاَّ يخلق الله ذلك العلم في بعض الحالات فيجوز أن يكون لنا حالة الحواس فيها سليمة والموانع مرتفعة، وفي حضرتنا في تلك الحالة رواعد وصواعق، وجبال، وأنهار، ونحن لا ندركها لعدم العلم، ونحن نجد من أنفسنا العلم الضروري بأن ذلك لا يجوز في حال من الحالات أبداً.
فإن كان هذا السؤال يؤدي إلى هذا المحال بطل ما قالوه، ولزم كون المدركية مقتضاة عن كونه حياً، ولا يخفى أن هذه المعارضات الواقعة بين المعتزلة مترتبة على ثبوت تأثير العلة. والله أعلم.
فرع: اختلف القائلون بأن الإدراك معنى، فقال أبو علي، وأبو الهذيل: لا يقدر عليه إلا الله تعالى، وقالت البغدادية: بل يقدر عليه الله تعالى والعباد؛ إذ يتولد عن فتح الحدقة ونحوه.
قلت: يرده قوله تعالى: {قُلْ هُوَ الَّذِي أَنشَأَكُمْ وَجَعَلَ لَكُمُ السَّمْعَ وَالأَبْصَارَ وَالأَفْئِدَةَ قَلِيلاً مَا تَشْكُرُونَ}[الملك:23] وفتح الحدقة لا يولد معنى، وإنما هو ارتفاع مانع. والله أعلم.
فرع آخر لهم: وهو أنهم اختلفوا في صحة خلو الحاسة منه، فقال أبو علي: إذا كانت الحاسة صحيحة لم يصح خلوها منه، وهو بناء على أصله من أن المحل لا يصح خلوه عن الشيء وضده، وقال أبو الهذيل، وصالح قبة، والصالحي: بل يجوز وجوزوا كون في الحضرة فيلاً أو نحوه لا نراه مع سلامة الحاسة،وارتفاع الموانع، ولما قيل لصالح:فيجوز أنك بمكة في قبة التزم فسمي صالح قبة.
وأجيب عليهم بما مر من أن ذلك يرفع الثقة بالمشاهدات، ويؤدي إلى التشكيك في الضروريات.
فرع ثالث لهم: وهو أن ذلك المعنى يوجد عند فتح الحدقة، وقيل: بل قبله، وقيل: بل بعده .
وأجيب: بأنه لو تقدم ذلك قبل الفتح ولو تأخر لم يدرك عند الفتح، والمعلوم خلافه.
فرع رابع لهم: وهو أن محله الحواس، وقيل: بل محله القلب.
قلنا: لو كان فيه لصح الإدراك مع فساد الحاسة أو إطباقها؛ لأن إطباقها في حكم فسادها.
قلت: ويجاب بأن سلامة الحاسة شرط في صحة الإدراك، فلا يلزم من عدم الإدراك لفوات شرطه بطلان القول بأن محله القلب، والأولى رده بأنه خلاف الظاهر، ولا دليل عليه. والله أعلم.
المسألة الحادية عشرة [في سر تقديم السمع على البصر]
قال الرازي: من الناس من فضل السمع على البصر؛ لأن الله تعالى حيث ذكرهما قدم السمع، والتقديم دليل على التفضيل؛ ولأن السمع شرط النبوة بخلاف البصر فقد كان في الأنبياء" من ابتلي بالعمى، ولأن بالسمع تصل نتائج عقول البعض إلى البعض، فكأنه سبب لاستكمال العقل بالمعارف، والبصر لا يوقفك إلا على المحسوسات، ولأن السمع متصرف في الجهات الست بخلاف البصر، ولأن السمع متى بطل بطل النطق بخلاف البصر، ومنهم من قدم البصر؛ لأن آلة القوة الباصرة أشرف؛ ولأن متعلق القوة الباصرة هو النور، ومتعلق القوة السامعة الريح.
قلت: ولأن المشاهدة تفيد العلم القطعي بخلاف الخبر فقد لا يفيده وإن أفاده كالخبر المقطوع بصدقه فليس كالمشاهدة، ولذا قال صلى الله عليه وآله وسلم : ((ليس الخبر كالمعاينة)) وعن ابن عباس مرفوعاً: ((ليس الخبر كالمعاينة إن الله أخبر موسى بما صنع قومه في العجل فلم يلق الألواح، فلما عاين ما صنعوا ألقى الألواح فانكسرت)).
وقال علي عليه السلام : (الباطل أن تقول سمعت، والحق أن تقول رأيت).
وأما قوله: إن التقديم دليل التفضيل، فليس على إطلاقه فإن من التقديم ما هو جار مجرى التثنية لا يترجح فيه جانب على جانب كما في قوله: {تِلْكَ آيَاتُ الْكِتَابِ وَقُرْآنٍ مُبِينٍ}[الحجر:1] وفي أخرى: {تِلْكَ آيَاتُ الْكِتَابِ وَقُرْآنٍ مُبِينٍ}[الحجر:1].
وأما قوله: بأنه كان في الأنبياء" من هو أعمى، ففيه نظر فإن الذي عليه المعتزلة الاتفاق على أنه لا يجوز من الله تعالى أن يبعث نبياً إلا معصوماً عن المنفرات من القبول منه، وجعل منها الإمام المهدي عليه السلام ذهاب البصر أو السمع، وأما ابتلاء بعضهم بالعمى، فقال عليه السلام : إن امتناع هذه العلل في حق النبي إنما يكون في أوائل بعثته، فأما بعد أن بلغ الرسالة، وأظهر المعجز على يده، واستقر في قلوب أمته صدقه فلا يبعد جواز أنواع البلاوي على النبي بعد ذلك.
قلت: والظاهر أن وقوع العمى بمن وقع به منهم ليس إلا بعد البعثة، وثبوت النبوة كما في يعقوب عليه السلام ، وظاهر كلام الإمام المهدي عليه السلام جواز الصمم عليهم بعد ذلك، فلا يكون استمرار السلامة منه شرطاً في النبوة، فلا يدل على التفضيل. والله أعلم.
المسألة الثانية عشرة [استطراد في السمع والبصر]
اعلم أن تشبيه قلوب الكفار، وأسماعهم في عدم قبول الحق، والإصغاء إليه بالأشياء المختوم عليها، وأبصارهم لعدم الانتفاع بها في باب الهداية بالأبصارالتي عليها غشاوة، يدل على أنه لا يتوصل إلى معرفة الفرق بين الحق والباطل، والصحيح والفاسد على وجه الكمال إلا بكمال العقل، وسلامة السمع والبصر، وإلالم يكن للتشبيه فائدة، فيستنبط من ذلك أحكام منها:
أنه يشترط في الإمام أن يكون عاقلاً سليماً من العمى والصمم.
قال في المنهاج: والوجه في ذلك الإجماع، ولأن هذه تنافي القصد بالإمامة؛ إذ ليس المراد بها إلا إصلاح أمور المسلمين، ولن يكمل من كان ذا عاهة ممن ذكرناه لإصلاح حال نفسه، فكيف حال الأمة؟
قلت: فأما النقصان الذي لا يختل معه القيام بثمرة الإمامة فإنه لا يضر، ولا يقدح فيها كالعور وثقل السمع، وقد كان في الناصر للحق الحسن بن علي الأطروش (رحمه الله) طرش في أذنيه، حدث به قبل دعوته من ضرب المأمون له، ومنها: أنه يجب في القاضي أن يكو وثيق العقل جيد التمييز غير طائش؛ إذ لا يميز الحق من الباطل إلا بذلك.
وفي (الجامع الكافي) قال محمد: ينبغي للإمام أن لا يولّي على القضاء إلا رجلاً ورعاً فقيهاً، عفيفاً عن أموال المسلمين، حليماً إذا استجهل، عاقلاً فطناً، وينبغي أن يكون عالماً بما نطق به الكتاب، وحرزته السنة من رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ، وبما أجمع عليه المسلمون، ولا ينبغي أن يستقضى من كان في علمه مقصراً.
قلت: وللوصي عليه السلام في عهده للأشر كلام يدل على ما قلناه من اشتراط العقل الكامل، والفهم الثاقب، ويؤيد ذلك ما روي علي عليه السلام أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال: ((يا علي لا تقض بين اثنين وأنت غضبان)).
وعن أبي بكرة قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يقول: ((لا يقض حاكم بين اثنين وهو غضبان)).
قال بعض العلماء: سبب هذا النهي أن الحكم حالة الغضب قد يتجاوز بالحاكم إلى غير الحق فمنع، وبذلك قال فقهاء الأمصار، وقيل: إنما منع من ذلك لما هو مظنة لحصوله، وهو تشويش الفكر، وشغلة القلب عن استيفاء ما يجب من النظر، فلا يحصل استيفاء الحكم على وجهه، وهذا ظاهر كلام أصحابنا، ولهذا قاسوا عليه كلما يحصل به تغير الفكر، كالجوع، والعطش، والبول، والنعاس المفرط، وغير ذلك بجامع ما يحصل بسببها من تشويش الفكر، وهو قياس مظنة على مظنة، على أنه قد روي عن أبي سعيد مرفوعاً: ((لا يقض القاضي إلا وهو شبعان ريان)).
وروي أن شريحاً كان إذا جاع أو غضب قام ولم يقض، وعلى الجملة أنه يجب أن يتوقى في قضائه كلما يوجب شغل الفكر، أو اختلاط الأمر، ولذا قال أصحابنا: إذا كان حضور العلماء يورثه الضجر، أو استشغال الفكر نحاهم عن نفسه.
تنبيه: [في القضاء حال الغضب]
اختلف العلماء في القضاء حال الغضب ونحوه، فقال في البحر: وهو المذهب بتحريمه، وهو قول بعض الحنابلة لظاهر النهي، ولا موجب لصرفه عن معناه الحقيقي، وظاهر كلام الجمهور حمله علىالكراهة نظراً إلى العلة المستنبطة لذلك وهي ما تقدم، قالوا: ومثل ذلك قد يؤدي إلى الخطأ في الحكم، ولكنه ليس بمطرد مع كل غضب، ومع كل إنسان.
قال في (الروض النضير):فإن أفضى الغضب إلى عدم تميز الحق من الباطل فلا كلام في تحريمه، وجعل بعضهم دليل الكراهة قضاؤه صلى الله عليه وآله وسلم للزبير بعد أن أغضبه الأنصاري، وفتواه في لقطة الإبل حال غضبه، وقال: ((مالك ولها دعها)).
قال: وفي هذا جمع بين الأدلة، ورد بأنه لا يصح إلحاق غيره صلى الله عليه وآله وسلم به في مثل ذلك؛ لأنه معصوم عن الحكم بالباطل في رضاه وغضبه، بخلاف غيره فلا عصمة تمنعه عن الخطأ، وقيد إمام الحرمين، والبغوي الكراهة بما إذا كان الغضب لغير الله، وفيه بعد لمخالفته لظاهر الحديث، ولأن العلة التي لأجلها وقع النهي حاصلة في الجميع.
وقال في (البدر التمام): الأولى أن يقال:إنه يختص النهي بما إذا
أدى الغضب إلى عدم تميز الحق من الباطل، فهو سبب النهي وإن كان الغضب دون ذلك.
فإن قلنا:بتحريم الحكم مع هذا كان اعتبار الغضب المطلق؛ لأنه منضبط وهذا غير منضبط فتعلق الحكم بالمظنة، وسواء وجد معها المئنة أم لا، فلا فرق بين مراتب الغضب، كالسفر المعتبر للقصر وإن لم توجد المشقة، واعترضه في الروض بأن حكمه صلى الله عليه وآله وسلم في فتواه في حال الغضب وإن كان خاصاً به، فإنما هو لأجل عصمته عن الخطأ، فلو كان النهي معلقاً بالمظنة لما كان للخصوصية وجه كما في السفر المعتبر للقصر في أنه يشترك فيه جميع المكلفين.
قلت:الأولى الجمع بين الأدلة بما ذكره صاحب البدر من اختصاص النهي بما إذا أدى الغضب إلى عدم تميز الحق من الباطل، وهو ظاهر كلام صاحب المنتقى فإنه قال في ترجمة الباب باب النهي عن الحكم في حال الغضب إلا أن يكون يسيراً لا يشغل.
وأما القول بالخصوصية لأجل العصمة، فغير مسلم لنهيه صلى الله عليه وآله وسلم علياً كرم الله وجهه عن القضاء حالة الغضب وهو معصوم.
واعلم: أنهم قد اتفقوا على أنه إذا حكم في حال غضبه وصادف الحق نفذ حكمه وصح، سواء كان النهي للتحريم أو للتنزيه، إلا أنه إذا أقدم عليه جرأة بطل حكمه على القول بالتحريم لاختلال عدالته فقط، ولم يخالف في نفوذ حكمه إلا بعض الحنابلة، قالوا: لأن النهي يقتضي الفساد، وفصل بعضهم بين أن يكون الغضب طرأ عليه بعد أن استبان له الحكم فلا يؤثر، وإلا فهو محل الخلاف، قال ابن حجر: وهو تفصيل معتبر.
قال في (نيل الأوطار): وقد تعقب القول بالتحريم وعدم انعقاد الحكم بأن النهي المفيد لفساد المنهي عنه هو ما كان لذات المنهي عنه، أو لجزئه أو لوصفه الملازم له، لا المفارق كما هنا، وكما في البيع حال النداء للجمعة، وهذه قاعدة مقررة في الأصول مع اضطراب فيها، وطول نزاع، وعدم اطراد.
قلت: وكما دلت الآية على عدم صحة قضاء ناقص العقل، أعني النقصان الذي لا يحصل معه تميز الحق من الباطل، كذلك تدل على عدم صحة قضاء الأعمى والأصم لعدم كمالهما في استيفاء الحكم.
وقد روى (م) بالله، وأبو طالب عليهما السَّلام الإجماع على أنه لا يجوز قضاء الأعمى.
قال في البحر: وأما العور وثقل السمع، وتغيير اللسان كالفأفاة ونحوها فغير مانع إذ لا دليل.
ومنها: أن شهادة ذي السهو الكثير والغفلة لا تصح؛ إذ هما دليل عدم كمال العقل الذي به يقع التمييز والمعرفة على وجهها، والشهادة لا تصح إلا عن علم ويقين عند عامة أهل البيت"، والحنفية؛ لقوله تعالى: {وَلاَ تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ}[الإسراء:36] وقوله تعالى: {إِلاَّ مَنْ شَهِدَ بِالْحَقِّ وَهُمْ يَعْلَمُونَ}[الزخرف:86]وقوله صلى الله عليه وآله وسلم : ((إن عرفت مثل هذه الشمس فاشهد وإلا فدع)).
وعن ابن عباس قال: سئل رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم عن الشهادة، فقال: ((هل ترى الشمس؟)) قال: نعم، قال: ((على مثلها فاشهد أو دع)) وناقص العقل المعتبر لا يهتدي إلى العلم واليقين، وحفظ الشيء على وجهه، وقد قال صلى الله عليه وآله وسلم : ((لا تقبل شهادة خصم ولا ظنين)) ونحوه عن علي عليه السلام .
وروى أبو جعفر الاتفاق على أنها لا تقبل شهادة من عرف بكثرة السهو والنسيان والغفلة، ويستنبط من الآية أيضاً عدم صحة شهادة الأصم والأعمى فيما يفتقر إلى السماع والرؤية.
قال في (البحر): ولا تصح من الأعمى فيما يفتقر إلى الرؤية عند الأداء إجماعاً.
وعن علي عليه السلام : أنه رد شهادة الأعمى في سرق. رواه في الجامع الكافي.
فأما ما لا يفتقر إلى الرؤية، فقال القاسم، والناصر، والمرتضى، وأبو العباس، وأبو طالب، وأبو يوسف: والشافعي: تصح إذ لا مانع، وإذ المعتبر حصول العلم.
قال القاسم عليه السلام : تجوز شهادة الأعمى فيما يعلم مثله من محسة أو سماع، وقال (م) بالله، ومحمد بن الحسن، وروي عن أبي حنيفة: لا تصح مطلقاً كالفاسق، وقال زفر، ومحمد بن منصور، ورواه عن أبي حنيفة: لا تصح إلا في النسب فقط إذ ليس طريقه الإدراك، وقال عطاء، والزهري، ومالك: يقبل في الإقرار والعقود؛ إذ معرفة الصوت كالإدراك، وقال ابن المسيب: يقبل فيما طريقه الاستفاضة، أو حيث تشبث بالمشهود على عقده أو إقراره حتى أداء الشهادة أو ترجمته، نحو: أن يسأله الحاكم عن معنى كلام أعجمي تكلم به في حضرة الحاكم، فيعمل بتفسيره له لاستناده إلى اليقين.
قلت: وهذا هو المذهب فإنهم قد نصوا على أن ما كان طريقه الاستفاضة كالموت، والنسب، والنكاح، والوقف، والولاء فإنها تقبل شهادته فيه، سواء أثبته قبل ذهاب بصره أو بعده، وأما ما لم تكن طريقه الاستفاضة فإن كان قد تحمل الشهادة قبل ذهاب بصره قبلت شهادته فيه، كالدين، والإقرار، والوصية، وإن لم يتحملها إلا بعد ذهاب بصره، فقيل: لا تقبل؛ لأن الشهادة على الصوت لا تصح لاحتمال المشابهة في الأصوات، وقيل وهو المذهب: بل تقبل إذا عرف الصوت وأفاد العلم؛ إذ المعتبر حصول اليقين وهو ممكن فيما لا يفتقر إلى الرؤية، وأما قياس الأعمى على الفاسق فقياس فاسد لعدم وجود علة الأصل في الفرع، فإن العلة في ردَّ شهادة الفاسق هي الفسق، وهي غير موجودة في الأعمى، بل العلة فيه هي عدم العلم فحيث حصل العلم في بعض الصور وجب قبول شهادته لعموم الأدلة، وعدم ما يوجب الرد، وقصر القبول على النسب مع مشاركة غيره له في عدم افتقاره إلى الرؤية تحكم.
وأما الأصم: فلا تصح شهادته على لفظ إلا عن مشاهدة وسماع؛ إذ لا يقين إلا عنهما، فإن لم يشاهده وإنما شهد على مجرد الصوت، فإن حصل العلم جازت الشهادة اتفاقاً، وإن لم يحصل إلا الظن، فقال الهادي عليه السلام في الأحكام وهو أحد قوليه في المنتخب وهو المذهب: أن الشهادة لا تصح، وهذا قول جمهور العلماء.
وقال مالك: وهو أحد قولي الهادي عليه السلام في المنتخب:إنها تجوز لنا ما مر من اشتراط اليقين في الشهادة.
قال أهل المذهب: وإذا حصل للشاهد تعريف عدلين مشاهدين للمشهود عليه أو عدلتين يعرفانه باسم المشهود عليه ونسبه إذا كان الشاهد لا يعرف ذلك بأنه فلان بن فلان، فحينئذٍ يجوز له أن يشهد بأن فلان بن فلان قال ما هو كيت وكيت وإن لم ير شخصه، ولو لم يكن معه إلا الظن.
قالوا: ويكون أصلاً لا فرعاً، خلاف (م) بالله، قالوا: ولا يعتبر كمال الشهادة إذ التعريف خبر لا شهادة، واعتبر بالعدد احتياطاً لابتناء الشهادة عليه فاعتبرنا شائبة الخبر والشهادة، وقيل (ح): بل تعتبر الشهادة الكاملة في حق المعرف، وقال الإمام يحيى: لا يكتفى بالتعريف لوجوب اليقين، ولا دليل يخص هذه الصورة.
المسألة الثالثة عشرة [قطعية وعيد الكفار]
دلت الآية الكريمة على أن وعيد الكفار مقطوع به بمعنى أنه يوصل إليهم ما يتسحقونه، وبيان دلالتها من وجهين:
أحدهما: أن الله تعالى قد أخبر بذلك وتوعدهم به، فلو لم يقع لكان خلفاً وإخباراً بالشيء على خلاف ما هو عليه، وذلك كذب لا يجوز عليه تعالى.
الثاني: أنه أتى باللام التي تفيد الملك والاستحقاق، فقال: {وَلَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ}[البقرة:7] مبالغة في عدم تخلفه عنهم ومفارقته إياهم حتى كأنه ملك لهم لازم، ولا خلاف بين المسلمين في حسن تعذيب الكافر واستحقاقه، إلا ما يحكى عن مقاتل بن سليمان وبعض الخراسانية، وبعض الكرامية فذهبوا إلى أن المشرك لا يعاقب، وأنه لا معنى للشرك، غير أنهم يسترون هذا المذهب.
وحكى الرازي في تفسيره اتفاق المسلمين على أنه يحسن من الله تعالى تعذيب الكفار، قال: وقال بعضهم: لا يحسن، وفسروا قوله تعالى: {وَلَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ}[البقرة:7] بأنهم يستحقون ذلك، لكن كرمه يوجب عليه العفو، ثم ذكر لهم شبهاً أرعد فيها وأبرق،لكن بعض تلك الشبه يقتضي قبح العقاب،والقبح ينافي ما ذكره هنا من الاستحقاق لولا أن كرمه يوجب العفو فأين الدليل من الدعوى،والذي يظهر أنه إنما أوردها لأمرين:
أحدهما:إبطال مسألة التحسين والتقبيح العقليين.
الثاني:إثبات العفو عن فساق الأمة كما يظهر من تقرير تلك الشبه، ولأنه قال في الجواب عنها: وأما الذين أثبتوا وقوع العذاب، فقالوا: إنه نقل على سبيل التواتر من رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وقوع العذاب، فإنكاره يكون تكذيباً للرسول صلى الله عليه وآله وسلم ، وأما الشبه التي تمسكتم بها في نفي العذاب فهي مبنية على مسألة الحسن والقبح، وذلك مما لا نقول به.
واعلم: أنا نورد تلك الشبه ونستعين بالله تعالى على حَلِّهَاْ،والتخلص من ظلماتها،إلا أنا قبل ذلك نقدم كلاماً نافعاً في بيان استحقاق العذاب ليكون جواباً جملياً عن تلك الشبه،ثم نتبعه بالجواب عنها مفصلاً إن شاء الله فنقول:
اختلف العلماء في استحقاق العقاب هل هو ثابت عقلاً وسمعاً أم عقلاً فقط؟ أم سمعاً فقط؟
فقالت العترة"، وأكثر المعتزلة، وكثير من المجبرة: بل هو ثابت عقلاً وسمعاً، وقال القاضي عبد الجبار: بل عقلاً فقط والشرع مؤكد، وقال أبو رشيد: بل تجوز دلالة الشرع عليه دلالة مستقلة عن العقل.
وقالت الكرامية، وابن الراوندي: بل سمعاً فقط، ووافقهم على ذلك السيد أبو القاسم المرتضى الموسوي من العدلية.
قلت: أما الأدلة السمعية فهي كثيرة وستأتي في مواضعها إن شاء الله، ومنها هذه الآية، وقد بينا وجه دلالتها، وأما الأدلة العقلية فنذكر منها ما يليق بهذا الموضع وهي كثيرة:
أحدها: تصويب العقلاء من عاقب المسيء على الإساءة، فلولا أن العقل يحكم بهذا الاستحقاق لما صوبوه.
الدليل الثاني: ذكره الموفق بالله عليه السلام في الإحاطة، وهو أنه قد ثبت أن الاعتقاد باستحقاق الثواب والعقاب على فعل الطاعات وتركها، وفعل المعصية وتركها لطف لأحدنا في أدائها، واجتناب المعاصي، ومعلوم ضرورة أن من اعتقد استحقاق الثواب والعقاب كان أقرب إلى أداء الطاعات، واجتناب المعاصي منه إذا جوز أو شك فيجب علينا فعله، ولا يجب علينا فعل ذلك الاعتقاد إلا والعقاب مستحق؛ لأنه لو لم يكن مستحقاً لكان قد وجب علينا فعل القبيح، وذلك لا يجوز.
فإن قيل: إنه إنما يكون لطفاً إذا ثبت أنه مستحق، فأما وليس بمستحق فلا يكون لطفاً.
قيل: إذا ثبت أنه لطف ولا بد من فعل اللطف، فلا بد من القول باستحقاقه فيتوصل به إلى ثبوت الاستحقاق.
قلت: وهذا مبني على القول بوجوب اللطف.
الدليل الثالث: ذكره أبو هاشم وهو أن القديم تعالى خلق فينا شهوة القبيح مع الإعلام بقبحه والتمكين منه، وخلق فينا أيضاً النفرة من الحسن مع الإعلام بحسنه والتمكين منه، فلو لم يكن العقاب مستحقاً بالإقدام على القبيح والإخلال بالواجب لكان مغرياً بالقبيح الذي هو الإقدام والإخلال؛ إذ ليس الإغراء بأكثر من أن تقوى دواعيه إلى أمر من الأمور على وجه يأمن الضرر عاجلاً وآجلاً، والإغراء بالقبيح لا يجوز على الله تعالى، فوجب أن يكون في مقابلة خلق الشهوة والنفرة صارف يزجرنا عن الإقدام على المقبحات، ويرغبنا في الإتيان بالواجبات يساوي ذلك الداعي حتى لا يكون بفعله إياه داعياً لنا إلى القبيح، ولا يقدر في عقولنا صارفاً عنه إلا كوننا نستحق من جهته عقاباً عليه.
فإن قيل: هَلاَّ كفى العلم باستحقاق الذم، أو حصول الغم في خروجه عن الإغراء فإن النفوس تنفر عن الذم كما تنفر عن الألم، ألا ترى أن في الناس من يعرض نفسه للتلف عند القتال لأن لا يوصف بالجبن.
قيل: إن الألم المجرد عن ضرر يتبعه لا يكاد يحتفل به المذموم إلا على جهة الندرة، ونحن نجد من أنفسنا ضرورة أنا لو لم نخش عقاب الله في الإقدام على بعض ما تتعلق به شهواتنا تعلقاً غالباً لم يمنعنا معرفة استحقاق الذم من الإقدام عليه،والذم قد يكون صارفاً حيث لا تكون الشهوة غالبة عظيمة،والحاصل أن الذم لا يكون صارفاً إلاحيث يكون التضرر به أعظم من ترك المشتهى وهو يختلف باختلاف الأحوال والأشخاص، ألا ترى أنا لا نبالي بذم هؤلاء المخالفين لنا في العقائد، ونجد كثيراً من الفساق وأهل السفاهة لا يمنعه الذم عن اسيتفاء شهوات نفسه وراحتها، ولا يعتد به، فثبت أن العلم باستحقاق الذم لا يصرف عن كل قبيح، بخلاف استحقاق عذاب النار العظيم الذي لا انقطاع له فإنا نقطع أنه لا يقابله داع أبداً، ولا نجد قبيحاً تكون مشقة تركه مساوية لمشقة هذا العذاب، ولا مدانية له، فقطعنا بأنه صارف عن كل مشتهى يقبح تناوله معادل للداعي إليه بخلاف الذم، وأما الغم فالمرجع به إلى اعتقاد الضرر أو ظنه، فلا يصح أن يجعل في مقابلة المعصية.
فإن قيل:تجويز الاستحقاق أو ظنه كافٍ في الزجر، ويخرج به عن كونه مغرياً،فمن أين قطعتم على حصول العقاب من جهة الله تعالى؟
قيل:إن تجويز العقاب أو ظنه إنما يؤثر في الزجر وفي زوال الإغراء متى كان استحقاق العقاب معلوماً، ثم يجوز أو يظن أنه يفعل به ما يستحقه، كما لو أخبر أحدنا بأن في الطريق سبعاً فإنه لا يخاف سلوك تلك الطريق إلا متى علم مضرة السبع قطعاً وأنَّه من الأجناس المؤذية، ثم يظن أنه إن سلك تلك الطريق ربما يناله ضرر، فأما إذا لم يكن ذلك الحيوان مؤذياً ولا يكون هناك مضرة معلومة فإنه لا يصرفه عن سلوكها فكذلك هنا.
فإن قيل: لا نسلم أنه لا يصرفه عن تلك الطريق إلا الضرر المعلوم، بل قد يصرفه المظنون،كما إذا أخبر بسبع في الطريق، ولا يعلم هل هو من المؤذية أو غيرها فإنه لا يسلكه حتى يظهر له أمر ذلك السبع،فكذلك هنا إذا كان استحقاق العقاب مظنوناً فإنه لا يرتكب القبيح لتجويز العقاب عليه،فيكون تجويز العقاب كافياً في الزجر،وزوال الإغراء.
فالجواب:أنا وإن سلمنا لكم أن الضرر المظنون قد يصرفه كالمعلوم، لكنه إذا صرفه تجويز العقاب عما يشتهيه حملته غلبة الشهوة على النظر في الاستحقاق حتى يتيقن ثبوته أو انتفاءه، فإذا نظر ولم يجد إلى استحقاقه طريقاً فيقطع بانتفائه فصار بعد النظر مغرياً بالقبيح إغراء ظاهراً، كأحدنا إذا شاهد بهيمة فخافها فإذا اختبرها وعلم أنها مما لا تضرّ لم يخف منها، فثبت أن التجويز غير كاف في إخراجه عن الإغراء،وتعين أنه لا يخرج عنه إلا بثبوت الاستحقاق وهو المطلوب.
فإن قيل: هلاّ كان الثواب والمدح المستحق على ترك القبائح كافياً في الزجر عنها حتى يخرج به عن الإغراء، لأن المعلوم أن البشر يتحملون المشاق العظيمة في طلب المنافع من الأسفار وخدمة السلاطين، وتحمل مشقة ترك القبيح لنيل الثواب العظيم الدائم أهون من تحمل مشقة الأفعال المؤدية للمنافع العاجلة،وإذا كانت أهون كان استحقاق المنافع العظيمة على ترك القبيح صارفاً عن فعل القبيح، فيخرج الباري تعالى بوعده من ترك القبائح بالمنافع التي لذتها لا تعادلها لذة فعل القبيح، ولا تقاربها عن كونه مغرياً بالقبيح،كما يخرج بالوعيد بالعقاب،وبذلك يبطل هذا الدليل.
قيل: لا نسلم أن المنافع الآجلة الموعود بها على ترك لذة عاجلة كافية في الصرف عن اللذة العاجلة؛ لأن العاجلة معلومة ضرورة، والآجلة لا تعلم إلا دلالة يقدح فيها الشك والشبهة، والنفس إلى تحصيل ما لا شك فيه أميل منها إلى تحصيل ما العلم بحصوله أضعف، وهذا معلوم.
ومن أمثال العرب:(إذا أعطيت دُرَّة منقودة ودُرَّة موعودة، فخذ الدُرَّة المنقودة،وذر الدُرَّة الموعودة). وقد نبه الله تعالى على ذلك بقوله: {إِنَّ هَؤُلاَءِ يُحِبُّونَ الْعَاجِلَةَ}[الإنسان:27] ونحوها، سلمنا استواء العلم بحصول المنافع العاجلة والآجلة، لكنا نعلم جواز انحباط الآجلة، ومع هذا التجويز يصير الوصول إلى منفعة الثواب مظنوناً بل مشكوكاً فيه، واللذة العاجلة غير مشكوك في حصولها، وحينئذٍ لا يكون الوعد بالمنفعة الآجلة كافياً في الصرف عن الآجلة، لا سيما مع قوة الشهوة والباعث عليها.
قال بعض أئمتنا": إن المعلوم ضرورة، والموجود من النفس أنه لولا خشية العقاب العظيم على فعل القبيح الذي عظمت شهوته لما تركه العبد لما يرجو على تركه من الثواب مع الأمن من العقاب، فأما تحمل المشاق في طلب المنافع العاجلة وترك لذة الدعة والسكون، فليس إلا لأن الشهوة للمنافع المرجوة بالحركة غالبة على شهوة الدعة والسكون.
قال الإمام المهدي عليه السلام : وذلك غير مستمر في جميع المعجلات، بل نعلم ضرورة أن شهوة المعجلة قد تغلب المؤجلة، وإن كانت المؤجلة تعلم عند حصولها أنها ألذ، وأكمل وأدوم من المؤجلة، وما ذاك إلا لأن الرغبة فيها مع تأخرها تهون مع ما يحصل من مشقة ترك الالتذاذ بالمعجلة، ولهذا يكون تَهَوُّنُ أمرها بالتأخر بحسب طول مدة تأخيرها يقل بقلته ويكثر بكثرته، وذلك يظهر بمراجعة النفس والرجوع إلى ما نجده من ذلك، فصح أن استحقاق الثواب لا يكفي في الصرف عن القبائح التي شهوتها غالبة، وإذا لم تصرف عنها لم تخرج عن الإغراء، وهو المطلوب.
فإن قيل: المعلوم من حال أكثر الناس أن علمه باستحقاق الثواب لم يصرفه عن ارتكاب القبائح، بل غلبته شهوته، فاقتضى أن الداعي أغلب من الصارف، وحينئذٍ يكون خالق الداعي مغرياً له بها، ولا يكفي استحقاق العقاب في خروجه عن كونه مغرياً، بل يصير استحقاق العقاب كاستحقاق الثواب على الترك في كونه غير مقابل للداعي إلى القبيح في الكل، وفي حق بعض الناس.
فالجواب أن المعلوم ضرورة أن لذة شهوة القبيح وإن بلغت ما بلغت لا تغلب هذا الصارف الذي هو استحقاق العذاب العظيم الدائم.
فإن قلت: كيف لا يكون داعي الشهوة غالباً وهو ضروري وهذا الصارف إنما هو استدلالي، والضروري أقوى من الاستدلالي.
قلت: لا نسلم أن الضروري أقوى من الاستدلالي بعد حصوله؛ لأن الاستدلالي قد ينقلب ضرورياً، ثم إن الصرف إنما يحصل بقدر الضرر النازل لا باختلاف قوة طريقه، مهما كان اليقين حاصلاً وهاهنا قد علمنا علماً يقينياً عن دلالة بينة استحقاق العقاب على المعصية الكبيرة، حتى أنا إذا رجعنا إلى ما نجده من أنفسنا نقطع بأن علمنا الضروري بلذة المعصية لا يغلب ذلك العلم الاستدلالي باستحقاق العقاب الدائم عليها.
فإن قلت: فما بال العاصين آثروا المعصية مع هذا الصارف؟
قلت: لأن حكمة الله تعالى لما قضت بالتكليف، والتكليف لا يحصل إلا مع المشقة قضت حكمته تعالى بخلق المكلف قادراً على خلاف ما كلف به، مشتهياً لما منع منه، نافراً عما أمر بفعله لتحصيل تلك المشقة التي لا يتم التكليف بدونها، ولئلا يكون المكلف ملجأً إلى ترك القبيح وفعل الواجب، بل يكون متردداً بين الإقدام والإحجام، وذلك لا يكون إلا حيث كان الداعي والصارف متساويان بالنظر إلى الصرف عن المعصية والدعاء إليها، وحينئذٍ لا يكون إقدام العاصي عليها لغلبة الداعي، بل لسوء اختياره عند تردده.
قال الإمام المهدي عليه السلام : فأما مع تيقن وصول العقاب على المعصية إلى فاعلها فإنه يصير بذلك ملجأً إلى ترك المعصية فيبطل تكليفه.
قلت: أراد عليه السلام أنه يكون ملجأً مع تيقن وصول العقاب حيث كان اليقين غالباً للداعي لا مع تساويهما؛ لأنه عليه السلام قد نص هو وغيره من أصحابنا على أن تجويز العقاب،أو ظنه لا يكفي في الزجر،ولا يخرج عن الإغراء، وقد تقدم قريباً اشتراط تساوي الصارف والداعي، وأما قول السائل أنه يصير العلم باستحقاق العقاب كالعلم باستحقاق الثواب في أنه غير مقابل للداعي، فقد تقدم أن الثواب الموعود به على ترك المعصية المشتهاة وإن كان عظيماً إلا أن تراخيه مع شهوة تعجيل اللذة الحاضرة، والأمان من العقاب عليها يُهَوِّنُ فوات تلك المنفعة المتأخرة.
واعلم: أن الإمام المهدي عليه السلام ذكر أن اختيار العاصي للمعصية لا يكون إلا لأحد أمرين:
أحدهما: عدم العلم باستحقاق العقاب، إما لأجل إنكار الصانع، أو لغلبة الجهل، وهؤلاء ليس الصارف في حقهم مقاوماً للداعي،لكن لم يؤتوا في انتفاء الصارف أو ضعفه من جهة الله تعالى،بل من جهة أنفسهم؛إذ لم ينظروا على الوجه الصحيح،وإنما مثلهم مثل من غمض عينيه وسار على الشوك فاشتاك،فإنا نعلم أن خالق الشوك غير مغرٍ له مع خلقه البصر الذي لو استعمله لسلم، وإنما أتي من جهة نفسه.
الأمر الثاني: تجويز العفو والتسويف بالتوبة.
قال عليه السلام : إذ لو لم يجوز ذلك، بل قطع بوصول العقاب، فإنا نقطع بأنه ينصرف عنها فلا يفعلها من غير شك في ذلك كما نعلمه في الشاهد.
قلت: وتجويز العفو أو التوبة لا يضعف به الصارف حتى يلزم أن يكون الباري تعالى مغرياً لما تقدم من أن المعتبر في زوال الإغراء مساواة الصارف للداعي لا غلبة الصارف حتى ينتفي معه التجويز، وإلا كان ملجأ إلى فعل الواجب، وترك القبيح.
واعلم: أن في قصر الإمام عليه السلام اختيار العاصي للمعصية على أحد هذين الأمرين نظر، فإن كثيراً من العصاة يرتكب المعصية مع علمه بالصانع، ويقينه بأنه يعاقبه عليها لا محالة كإبليس اللعين، وكثير من أحبار اليهود، ورهبان النصارى الذين خالفوا نبينا صلى الله عليه وآله وسلم ، وجحدوا بنبوته {وَاسْتَيْقَنَتْهَا أَنْفُسُهُمْ ظُلْماً وَعُلُوّاً}[النمل:14] واستكباراً وعتواً، ومن تأمل ما روي في كتب التفسير والتواريخ وغيرها علم تجاري كثير من علماء السوء من هذه الأمة وغيرهم على المعاصي، مع انتفاء هذين الأمرين اللذين ذكرهما الإمام عليه السلام ، والذي يظهر أن سبب هذا كله حب الشهرة، وانتشار الصيت وخوف فوت الجاه، ومحبة الترأس على الناس، وحب المال والشرف، أعاذنا الله من ذلك كله، وقد نبه الله على ذلك بقوله: {بَلْ تُؤْثِرُونَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا}[الأعلى:16] {إِلاَّ إِبْلِيسَ أَبَى وَاسْتَكْبَرَ}[البقرة:34] {أَمْ يَحْسُدُونَ النَّاسَ...} الآية[النساء:54].
وفي كلام علي عليه السلام ما معناه: (إن الناس منعونا حقنا بغياً وعدواناً علينا) وهو في النهج.
تنبيه: [في التعقيب على كلام الإمام ا لمهدي حول الإيحاء]
اعلم: أنه قد تقدم منا تأويل كلام الإمام المهدي عليه السلام -أعني قوله: (إن مع تيقن وصول عقاب المعصية يصير المكلف ملجأ إلى تركها)- ثم رأيت له في موضع آخر التصريح بما يضعف التأويل، وهو قوله: (إن تيقن وصول العقاب العظيم الدائم إلى فاعل المعصية من غير تجويز لسقوطه يحصل به إلجاء محض إلى ترك المعصية، وإن تراخى أيما تراخ، ولا يخرج عن كونه إلجاء إلا بتجويز سقوطه بوجه).
قلت: وكلامه عليه السلام هذا يهدم جميع ما تقدم من أنه لا يخرج عن الإغراء إلا بالعلم باستحقاق العقاب ليكون الصارف مقاوماً للداعي؛ لأنه يقتضي أنه يكفي في الخروج على الإغراء تجويز العقاب أو ظنه، مع أنه قد أبطله،والصحيح أنه يخرجه عن الإلجاء قوة الداعي، لكن لا على جهة الغلبة للصارف،بل على جهة المساواة كما تقدم، ولا يبعد أن الداعي وإن لم يساو الصارف يكون كافياً في الخروج عن الإلجاء.
ولو قيل: إن خلق قدرة المكلف على خلاف ما كلف به ومنعه منه بالنهي والزجر كاف في دفع الإلجاء لكان صواباً،فإن الملائكة" مكلفون مع عدم هذا الداعي،ويكون في حَقِّنا زيادة تكليف فقط كتخلية إبليس،اللهم إلا أن يظهر فارق بين شرط تكليفنا وتكليف الملائكة". والله أعلم.
ولعل الإمام عليه السلام بنى كلامه هذا على ما قرره من قصر اختيار المعاصي على أحد الأمرين، أو على أن هذا الدليل ضعيف عنده، ويكون اختياره في الدلالة على استحقاق العقاب غيره. والله أعلم.
فإن قيل: قد قررتم أنه لولا العلم باستحقاق العقاب على القبيح لكان الباري تعالى مغرياً به بخلقه الشهوة له، فيلزمكم أن يكون تعالى مغرياً بالمكروه بخلق الشهوة له مع الأمان من العقاب على فعله، والإغراء بالمكروه قبيح، كما أن اللطف الداعي إلى تركه واجب؛ إذ لو لم نقل بقبح الداعي إلى فعله لبطل وجوب الداعي إلى تركه؛ إذ لا يصح أن يقال: يجب عليه فعل الداعي إلى ترك المكروه، ويحسن منه فعل الداعي إلى فعله؛ لأن ذلك مناقضة.
والجواب: من وجهين:
أحدهما:أنا لم نوجب اللطف الداعي إلى ترك المكروه إلا لأن الإخلال به يعود على التكليف به بالنقض، وهو التعريض للثواب على تركه، فإنه إذا أعلم المكلف بأن له في تركه ثواباً، وعلمنا أن في مقدوره ما يدعو المكلف إلى تركه ليحصل له الثواب الذي عرضه له، ولم يفعل ذلك الداعي كان تعريضه كلا تعريض يلحق بالعبث، فهذا وجه الوجوب،وأما خلق الشهوة فهو نفس التعريض؛لأنه لا يستحق الثواب على تركه إلا معها،وإلا انتفت المشقة،وحينئذٍ يحسن منه فعل الشهوة وليست إغراء بقبيح؛ لأن المكروه ليس بقبيح.
وأما قولكم: إنه لا يصح أن يقال: يجب عليه فعل الداعي إلى الترك، ويحسن منه فعل الداعي إلى الفعل.
فجوابه: أن القول بذلك صحيح لاختلاف وجهي الدعاء؛إذ الدعاء إلى تركه يخرج به عن العبث بالتكليف بتركه،والدعاء إلى فعله تمكين من وصول منافع لاطريق إلى وصولها إلا بخلق الداعي إلى فعله، وهو الشهوة.
الوجه الثاني: أنا لو فرضنا المناقضة التي ذكرتموها، فإنا نقول:إن العلم باستحقاق الثواب على الترك في من الصرف عن فعل المكروه لنقصان شهوة المكروهات عن شهوة المقبحات، فيستوي الداعي إلى الفعل وهو الشهوة الناقصة والصارف، وهو رجاء الثواب على الترك، ونقصان شهوة المكروه معلوم.
ألا ترى أن أحدنا لا يجد من شهوة الأكل بالشمال كما يجد من رؤية شهوة الوجه الحسن المحرم، ونحو ذلك كثير، لا يقال فيلزمكم مثله فيما نقصت شهوته من القبائح كالكذب الذي لا ينفع ولا يضر، وهو أنه يكفي في الخروج عن الإغراء به العلم باستحقاق الثواب؛لأنا نقول إنه وإن نقصت شهوته في حال فإن توطين النفس على منعها منه مما يشق ويصعب، وحينئذٍ لا يكفي في تحمل مشقة منع النفس منه معرفة استحقاق الثواب، وكذلك في كل قبيح يهون على النفس تركه فإنه لا بد وأن يقترن به ما تصعب ملازمتة،وتشق حتى لا يحمل على ملازمته إلا خوف العقاب الشديد، فثبت أن المكروه يخالف القبيح في مشقة التكليف بتركه.
قلت: وهذا السؤال مبني على القول بأن المكروه مكلف به، وعلى القول بوجوب اللطف.
فإن قيل: لا نزاع في أن العلم باستحقاق العقاب نظري، وأن شهوة القبيح والنفرة عن الحسن ملازمان للتكليف من أول أحواله،وهذا يلزم منه أن يكون المكلف حال النظر في استحقاق الثواب والعقاب مغرى بالقبيح لخلق الداعي وعدم الصارف؛ إذ لا يقين بالاستحقاق قبل تمام النظر.
قيل: لا نزاع فيما ذكرتم، لكن الوصول إلى العلم بالاستحقاق يحصل في مهلة يسيرة، فيلتزم أن الله يهون الشهوة والنفرة في تلك المهلة حتى يكون تجويز استحقاق العقاب مقاوماً لتلك الشهوة، فلا يكون الباري تعالى مغرياً في قدر مضي تلك المهلة اليسيرة لوجود ما يقاوم الداعي، فإن مضت تلك المهلة التي يمكن فيها الوصول إلى العلم باستحقاق العقاب ولم يحصل العلم فإنما أتي من جهة نفسه، إما لتركه النظر، أو تقصيره فيه، وصار كالبصير الذي غمض عينيه حتى اشتاك.
فإن قلت: ومن أين لكم الفرق بين الشهوات الحاصلة في أول أحوال التكليف والحاصلة من بعده؟
قلت: لا شك في اختلاف الحال في قوة الشهوة وضعفها في كثير من الحالات، ومن المعلوم أن المكلف في أول تكليفه لا يكون منهمكاً في المعاصي كانهماكه من بعد، وغاية الأمر أنه لم يقع تنبه للفرق بين الشهوات الحاصلة في أول أحوال التكليف والشهوات المتأخرة عنها، وسبب ذلك قصر المدة، وإنما هي قدر مهلة النظر.
قال الإمام المهدي عليه السلام : وبين ابتداء النظر في مقدمات الدليل وإنتاجه هينهة قليلة جداً، لا كما يزعم كثيرٌ من المغفلين أن النظر لا يولد العلم إلا بعد أيام وشهور وأعوام، فإن ذلك مما لا يقول أحد ممن له أدنى بصيرة في علم الكلام؛ إذ يؤدي إلى الاقتحام على التعطيل عن كثير من الأحكام، بل إلى الخروج عن الإسلام.
تنبيه:[عواقب من لم يعمل]
من ترك النظر في معرفة الله تعالى، واستحقاق العقاب بعد تنبيه الله له بالخاطر أو نحوه في أول أحوال التكليف على وجوب النظر جاز تزايد الشهوة في حقه، ولا يكون إغراء بالقبيح؛ لأنه قد صار مع الخاطر كالعالم بالاستحقاق؛ إذ أقل أحوال الخاطر أن يصير العقاب موهوماً، ولا فرق في العقل بين الضرر المعلوم، والضرر الموهوم في وجوب التحرز منهما، والحاصل أن حصول التجويز باستحقاق العقاب على اتباع الشهوة كالعلم به بعد تمكينه من هذا العلم، والبعث عليه، وإن لم يفعله -أعني العلم- ويبطل الإغراء بالتمكين من الصارف عن القبيح، كما يبطل بحصول العلم، وتكون غلبة الشهوة كأنها من جهة المكلف لما أخل بدفع تلك الغلبة بعد التمكين من ذلك. والله أعلم.
وبهذا تم الكلام على تقرير الدليل الذي اعتمده أبو هاشم، ودفع ما ورد عليه، والحمد لله رب العالمين.
الدليل الرابع: ذكره الموفق بالله عليه السلام ، والسيد مانكديم، وقاضي القضاة، والحاكم وغيرهم، وتحريره أن القديم تعالى أوجب علينا الواجبات، واجتناب المقبحات، وعرفنا وجوب ما يجب، وقبح ما يقبح، فلا بد لهذا الإيجاب والتعريف من وجه، ولا وجه له إلا أَنا إذا أخللنا به أو أقدمنا على خلافه من قبيح ونحوه استحققنا من جهته تعالى ضرراَ عظيماً؛إذ لا نجوز أن يجب لمكان الثواب والنفع؛ لأن الشيء لا يجب علينا لمكان نفع،ولذلك لا يحسن منا ذم التجار الذين يقدرون على اكتساب الأرباح إن تركوا ذلك، وأيضاً لو وجب لمكان النفع للزم حسن إيجاب النوافل؛ لأن بها يستحق الثواب.
قال السيد مانكديم: ومعلوم خلافه، ولا يجوز أن يجب لكونه واجباً، ويقبح لكونه قبيحاً؛ لأن وجوب الشيء في نفسه أو قبحه لا يقتضي حسن الإلزام بفعله أو النهي عنه لوجوه:
أحدها: أنه قد يجب على الله الشيء عند بعض أصحابنا ولا يحسن منا إلزامه به.
الثاني: أنه لا يحسن منا الإلزام لما علمنا وجوبه قبل ورود السمع بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، ولو كان وجه وجوبه كونه واجباً لحسن منا ذلك كما يحسن من الباري تعالى، وإن تضرر الغير بأوامرنا ونواهينا، ولو وجب أن نعلم حسنه ضرورة كما نعلم حسن الإحسان لكونه إحساناً، وإنما قلنا بلزوم حسنه لحصول الوجه الذي لأجله حسن من الباري تعالى، وهو كونه إلزاماً لواجب ولما علمنا أنه لا يحسن منا كما يحسن من الباري تعالى علمنا أنه لم يحسن منه تعالى لمجرد كونه إلزاماً لواجب في نفسه أو نهياً عن قبيح في نفسه، بل لأمر زائد، ولا وجه يمكن تقديره سوى أن وجه حسن إعلامه بوجوبه كونه تعريضاً للثواب المستحق بفعله، وأما إلزامه فعله وحتمه، فليس لأجل تحصيل الثواب؛ إذ تحصيل النفع لا يجب كما مر، بل لأن عليه في الإخلال به بعد العلم بوجوبه مضرة عظيمة فألزمه دفع الضرر عن نفسه، فظهر لك أن حسن الحتم والإلزام غير وجه الإعلام، وهاهنا نكتة ذكرها الإمام المهدي عليه السلام وهي: أن أصحابنا قد ذكروا أن وجه حسن التكليف على سبيل الجملة كونه تعريضاً لمنافع لا تنال إلا به، ومرادهم بالتكليف هنا مجرد خلق العلم العاشر من علوم العقل، وهو العلم بوجوب الواجبات، وقبح المقبحات، وإنما يستحق عليها تلك المنافع لجعلها شاقة عليه وفعلها باختياره لا بإلجائه، ولو فرضناها غير شاقة لم يستحق عليها ثواباً.
قال عليه السلام : ثم إن أصحابنا قد قالوا: إن التكليف للثواب لا يحسن، وإنما يحسن لدفع الضرر.
قال عليه السلام : فظاهر الكلامين التناقض، وليس كذلك فإنما مرادهم هنا بالتكليف الحتم والإلزام لا مجرد الإعلام، وقد ظهر مما قررنا أن الحتم والإلزام للفعل لا يكفي في حسنه كونه واجباً في نفسه، بل لا بد من أمر زائد وهو دفع الضرر المستحق عليه.
فإن قيل: لِمَ لا يحصل منا إلزام الغير دفع الضرر عن نفسه؟
قيل: ورود الشرع وقد حصل وجه الحسن وهو إلزامه دفع الضرر عن نفسه كما قلتم إن ذلك وجه حسن الإلزام من الباري تعالى ونحن قد علمنا استحقاقه للعقاب عقلاً.
فالجواب: أنا وإن علمنا استحقاقه من جهة العقل فنحن لا نعلم القدر المستحق إلا بالسمع، وحينئذٍ لا يؤمن أن يكون الضرر الذي يلحقه بإلزامنا وهو تألمه بذلك أكثر من العقاب المستحق على الإخلال والإقدام فيكون ظلماً، والإقدام على ما لا يؤمن قبحه قبيح، بخلاف الباري تعالى لعلمه بالقدر المستحق. والله أعلم.
الوجه الثالث: أن في الأفعال ما يجب ولا يحسن إيجابه، كمن خوفه السلطان بضرر عظيم إن لم يشاطره على ماله فإنه تجب عليه المشاطرة، وإن كان لا يحسن من السلطان الإيجاب والأخذ.
قال القرشي: ولقائل أن يقول: لا معنى لكون الله أوجب إلا أنه عرف بالوجوب.
قلت: إما بإقامة الدلالة،أو خلق العلم فيه بوجوبه.
قال القرشي: وهذا يكفي فيه وجوب الفعل،ولا جرم يحسن من الله ومن غيره أن يعرفه وجوب مشاطرة السلطان، وليس السلطان بموجب للمشاطرة فضلاً عن أن يحسن منه الإيجاب أو يقبح، وإنما فعل سبب الوجوب، فالمعتمد ما تقدم.
قلت: لعله أراد بالمعتمد دليل أبي هاشم؛ لأنه صدره ولم يورد عليه اعتراضاً. والله أعلم.
فإن قيل: إذا لم يكن الوجه في حسن الإيجاب كون الشيء واجباً في نفسه لزم صحة أن يوجب الله ما ليس بواجب، بل إيجاب القبيح وتقبيح الواجب لأمر عارض غير كونها واجبة أو قبيحة، فإن منعتم ذلك فليس إلا لأن الإيجاب إنما يكون لوجوب الشيء في نفسه، والتقبيح إنما يكون لقبح الشيء في نفسه.
قيل: إنما يلزمنا ذلك لو قلنا لا يجب فيما أوجبه الله تعالى أن يكون واجباً، بل يجوز أن يكون غير واجب، ونحن لم نقل بذلك، وإنما قلنا: إن وجوبه لا يكفي في حسن الإيجاب، بل لا بد من اعتبار أمر آخر وهو استحقاق الضرر إن أخللنا به، وإلا لزم أن يحسن منا الإيجاب كما يحسن من الباري تعالى، وقد تقدم إبطاله.
فإن قيل: لِمَ لا يجوز أن يكون الوجه في حسن الإيجاب كونه يستحق الذم من جهة الله تعالى، ومن جهة العقلاء.
قيل: قد مر أن الذم إذا تعرى عن ضرر يتبعه قد لا يحتفل به.
قال الإمام المهدي عليه السلام : وهذا الجواب ليس بالجيد عندي هنا بخلافه في جواب هذا السؤال حيث ورد على دليل أبي هاشم فإنه قوي جيد، وأما هنا فلا يبعد حسن الإيجاب للتحرز من الذم، كما يحسن للتحرز من المضار؛ لأن التألم بالذم ربما كان أبلغ من التألم بالضرر.
قلت: وفيما قاله عليه السلام نظر، فإن التألم بالذم لا يساوي ضررالعقاب الدائم، فإن أراد بالضرر غير العقاب فليس مما نحن فيه، وعلى هذين فلا فرق في حسن الجواب هنا، وفي دليل أبي هاشم، وبهذا تم الكلام علىالدليل الرابع. والحمد الله.
واعلم: أن الإمام المهدي عليه السلام قال: إن هذا الدليل ليس بعقلي محض، بل مركب من العقل والسمع؛ لأن إيجاب الله وإلزامه وتوعده على الترك سمعي، وكون الإيجاب لمجرد النفع لا يحسن عقلي، وتقريره أن الله تعالى عدل حكيم، فلا يجوز منه تعالى أن يوجب ما ليس بواجب، وهو طلب النفع؛ لأنه يجري مجرى الإخبار بوجوبه، والإخبار بوجوب ما ليس بواجب قبيح؛ لأنه كذب، وإذا ثبت أن الإيجاب لمجرد النفع لا يحسن عقلاً كان حسن العقاب متوقفاً على السمع لتوقفه على الجنبة السمعية.
فإن قيل: إذا لم يقع الاستغناء في تركيب هذا الدليل عن السمع كان سمعياً، وفي ذلك إبطال الدليل العقلي.
قيل: أما على الوجه الذي قررناه من جهة العقل فلا يصح قولكم أنه صار سمعياً، بل مركب منهما، ولا مانع من ذلك، ولا يخرج به الدليل عن كونه عقلياً إلى كونه سمعياً.
قلت: هذا على تسليم أن المراد بالإيجاب هو الإيجاب الشرعي وهو الأمر والإلزام، فأما إذا حمل على الإيجاب العقلي فلا يرد الاعتراض، بل يكون الدليل عقلياً محضاً.
قال النجري: وتحريره أن يقال: قد أوجب الله علينا واجبات عقلية أي أعلمنا بوجوبها، ومكننا من تركها، وخلق لنا نفرة عنها، فلا بد من زاجر يزجرنا عنها، وليس هو فوات النفع المستحق على فعلها للتسامح بالنفع الآجل عادة، فيجب أن يكون ضرراً يحسن إنزاله بنا عند تركها.
قال (رحمه الله): وبهذا يندفع التناقض في كلامهم حيث يقولون مرة: إن وجه الإيجاب التعريض لمنافع الثواب، وتارة إن وجهه التحرز من المضار.
فيقال: إن أصل الإيجاب للتعريض، لكن لما لم يتم إلا بما يزجر عن الترك حسن العقاب، فصار وجوب فعله علينا للتحرز من المضار، وكذا إذا قيل: إن وجوبه لوقوعه على وجه لا للتحرز.
فالجواب هو بمراعاة جهتي الاعتبار يدرك ذلك بالتأمل وإمعان النظر.
الدليل الخامس: ذكره أئمة الهدى القاسم بن إبراهيم في كتاب الرد على الملحد، والهادي إلى الحق في البالغ المدرك، والإمام أحمد بن سليمان في حقائق المعرفة، وهو: أن الله تعالى أمر عباده بالطاعة، ونهاهم عن المعصية، فمنهم من أطاع، ومنهم من عصى، والعقل يحكم بالتفرقة بين المطيع والعاصي، وفي ذلك إيجاب الثواب والعقاب،ووجدنا المطيع والعاصي أحوالهم مستوية في دار الدانيا،فكما أن في الأولياء الموسع عليه،والمضيق عليه،والصحيح،والسقيم،فكذلك الأعداء، ولما تصرمت الأعمار، وتقضت الآجال على ذلك من دون إثابة لمطيع، ولا عقوبة لعاصٍ، ولا إنصاف لمظلوم حكم العقل حكماً جازماً ضرورياً بأنه لا بد من دار بعد هذه الدار يثاب فيها المطيعون، ويعاقب فيها العاصون، وينتصف للمظلومين من الظالمين؛ إذ العدل العالم الحكيم لا يترك عباده هملاً، ولا يضيع لعامل عملاً، ولا عدل والحال هذه إلا بالجزاء، وإلا كان خلق المكلفين عبثاً، بل ظلماً وجوراً؛ لأنه إذا لم يكن للمطيع جزاء على طاعته، ولا للعاصي عقوبة على معصيته، ولا للمظلوم انتصاف من ظالمه فقد ظلم المطيع بتحمله المشاق العظيمة لغير فائدة، وأهمل العاصي بفعل ما يشاهء، ويكون تعريفه بالمعصية عبثاً، وكان تمكين الظالم مع عدم الانتصاف منه ظلماً وجوراً على المظلوم -تعالى الله عن ذلك علواً كبيراً- وبهذا تم الكلام على الأدلة العقلية الدالة على استحقاق العقاب، وهي كما ترى أدلة صحيحة قطعية، ولأجلها قال القاضي عبد الجبار وغيره من المعتزلة، واختاره الإمام المهدي عليه السلام : إن استحقاق العقاب لا يمكن أن يعلم إلا عقلاً فقط، وليس الشرع إلا مؤكداً، وخالف في ذلك أبو رشيد، فقال: بل تجوز دلالة الشرع عليه مستقلاً عن دليل العقل كما تقدم، وتحقيق ذلك أن يقال: قد توعد الله العصاة بالعقاب فلا بد أن يكون مستحقاً، وإلا لما حسن منه ذلك، وهذا هو دليل الموسوي، ومن ذكر معه في صدر المسألة إلا أنهم
يقولون: لا دلالة للعقل عليه أصلاً.
قلت: أما الموسوي فهو من العدلية وهم لا ينفون حكم العقل إلا أنه لما ورد على بعض الأدلة العقلية ما ورد من الإشكالات لم تنتهض عنده على الاستدلال بها على الاستحقاق.
فقال: لا طريق للعقل إلى معرفة الاستحقاق للعقاب، وقد وافقه على ذلك كثير من أصحابنا المتأخرين، ذكره الإمام المهدي عليه السلام ، بخلاف الكرامية، وابن الراوندي، فالظاهر أنهم إنما نفوه لنفيهم الحكم العقلي من حيث هو. والله أعلم.
واعلم أن الإمام المهدي عليه السلام قد أوضح الاحتجاج على ما ذكره قاضي القضاة، فقال: لنا في الاحتجاج على أن استحقاق العقاب لا يعلم إلا عقلاً فقط أن نقول: قد ثبت وجوب معرفة الله تعالى، وإنما وجبت المعرفة لكونها لطفاً في أداء الواجبات، واجتناب المقبحات، فيجب تحصيلها ليحصل بها اجتناب المعاصي كما هو شأن اللطف، وفائدة ذلك وثمرته هي التحرز من العقاب، فتكون المعرفة جارية مجرى دفع الضرر عن النفس فتجب، ومعلوم أن هذا متوقف على العلم بالاستحقاق للعقاب؛ لأنا إذا لم نعلم استحقاق العقاب على المعصية لم يصح القطع بوجوب معرفة الله تعالى، فيلزم أن لا يكون إلى وجوبها طريق، وقد علم بطلانه فثبت أن العلم باستحقاق العقاب عقليٌ محضٌ.
قال الإمام المهدي عليه السلام : ولأبي رشيد أن يقول: إنما يلزم ذلك لولم تمكن معرفة الله إلا بعد العلم باستحقاق العقاب، والمعلوم أنه يمكن النظر فيها وتحصيلها وإن لم يعلم استحقاق العقاب، وإذا أمكن ذلك أمكن العلم بصحة السمع،وحينئذٍ يصح الاستدلال به على استحقاق العقاب، وإنما الذي يقف على العلم بالاستحقاق هو وجوب المعرفة لا إمكانها، وحينئذٍ يصح قول أبي رشيد إنه يمكن الاستدلال بالسمع على الاستحقاق مستقلاً، خلا أن القاضي بنى على الغالب، وهو أن المكلف لا يتحمل مشقة النظر في معرفة الله إلا عند المخافة من الإخلال بها، فمهما لم يخف لم ينظر، وإذا لم ينظر لم يعلم الله، وإذا لم يعلمه لم يعلم استحقاق العقاب.
قال عليه السلام : وذلك قريب، ومن ثم اخترنا كلام القاضي، وهو محمول على ما أوضحناه.
فإن قيل: هلا كفى في وجوب المعرفة تجويز استحقاق العقاب، وإن لم نقطع باستحقاقه، كما يكفي ذلك في وجوب النظر في أول أحوال التكليف.
قيل: قد أجاب عن هذا الإمام المهدي عليه السلام فقال: إن تجويز الاستحقاق كاف في وجوب النظر والمعرفة؛ لأن الضرر الموهوم كالمعلوم في وجوب التحرز منه حيث استوى طرفا التجويز ما لم يعلم أو يظن السلامة، ولا تجويز إلا حيث لم يكن في العقل ما يقضي بقبح عقاب العاصي، وذلك هو معنى الاستحقاق.
وقال النجري في جواب هذا السؤال: تجويز الاستحقاق لا يتصور؛ لأنه إذا علم وجه قبح العقاب قطع بعدم الاستحقاق، وإن لم يعلم وجه القبح فهو منتف قطعاً؛ لأنا لو جوزنا فعله حينئذٍ كان حسناً لعدم المقتضي للقبح وهو معنى الاستحقاق.
تنبيه:[شروط الاستحقاق العقاب]
قد ثبت بما تقدم استحقاق العقاب، خلا أن ذلك متوقف على شروط، وهي أربعة:
أحدها: أن يكون الفعل قبيحاً؛ لأنه إذا كان حسناً فملعوم أنه لا يحسن عقابه.
الثاني: أن يكون فاعله عالماً بقبحه، أو متمكناً من العلم بقبحه ليمكنه الاحتراز عنه؛ لأنه إذا لم يكن كذلك فلا يمكنه الاحتراز، ولهذا قلنا: إن الصبي لا يستحق ذماً ولا عقاباً على فعل القبيح، وقلنا: باستحقاق الخارجي ذلك على قتل المسلم، وإن كان معتقداً حسنه؛ لما كان متمكناً من العلم بقبحه.
الثالث: أن لا يكون إلجاء، ولا إكراهاً؛ لأنا نعلم ضرورة أنه لا يحسن ذم الملجأ ولا عقابه.
الرابع: أن يكون له شهوة أو شبهة؛ لأنا لو قدرنا وقوع القبيح من الله تعالى لم يستحق عقاباً، وإن كان عالماً بقبحه، ولا إلجاء ولا إكراه له، وإنما لم يستحق ذلك لعدم الشهوة والشبهة في حقه تعالى؛ إذ الشهوة من صفات الأجسام، والشبهة مختصة بالعالم بعلم، والله متعال عن ذلك كله، وقد كان بعض أصحابنا يقول: يجب أن يكون عالماً بقبحه أو متمكناً، ويصح عقابه حتى يستحق العقاب، وكأنه أراد بقوله: ويصح عقابه إخراج الباري في هذه الصورة المقدرة تعالى الله عنها، وما ذكرناه في الشرط الرابع يغني عنه على أن بعض أصحابنا قد ذكر صورة يصح فيها العقاب ولا يستحق ، وهي: أن من أغناه الله بالحسن عن القبيح لو فعل قبيحاً لكان لا يستحق عقاباً، وإن كان يصح عقابه؛ لأنه لا يكون مكلفاً بترك القبيح؛ إذ لا مشقة عليه في امتناعه حتى إذا امتنع استحق الثواب، ومن لا مشقة عليه في امتناعه لم يصح أن يكلف الامتناع عنه، وبهذا يظهر لك أنه لا يصح الإخراج إلا بما ذكرنا.
فإن قيل: فما المؤثر في استحقاق العقاب من هذه الشروط؟
قيل: الأول فقط، وما بعده شروط في صحة الاستحقاق؛ لأن علمه بقبحه أو تمكنه من العلم بقبحه يكون من فعل الله تعالى، وفعل الله لا يجوز أن تستحق عليه العقوبة، وإنما يستحق العقاب على ما يفعله لا غير.
إذا عرفت جميع ما تقدم، وثبت لك أن العذاب مستحق عقلاً فلنورد بعد ذلك الشبه التي أوردها الرازي، ونأتي في الجواب عنها بما يحتمله الحال والمقام، مع أن المعول عليه في جوابها هو ما قدمناه من ثبوت الاستحقاق، وأنه إذا ثبت الاستحقاق ثبت الحسن، وانتفى القبح الذي بنى عليه تلك الشبه، فنقول:
الشبهة الأولى: أن العقاب ضرر خال عن المنفعة فوجب قبحه؛ إذ لا يصح أن يعود نفعه إلى الله؛ لأنه متعال عن النفع والضر بخلاف الواحد منا فإنه يستلذ بعقاب عبده وتأديبه إن عصاه، ولا يصح عود نفعه إلى المعاقب؛ لأن الضرر لا يكون عين المنفعة ولا إلى غيره؛ لأن ايصال الضرر إلى شخص لنفع آخر لا يصح؛ لأن دفع الضرر أولى بالرعاية من جلب النفع، مع أنه يمكن إيصال المنفعة من غير توسيط الإضرار بالغير، فيكون التوسيط عديم الفائدة، فثبت أن العقاب ضرر محض، فوجب قبحه، وذلك معلوم، وإذا ثبت قبحه امتنع وقوعه من الله تعالى؛ لأنه حكيم لا يفعل القبيح.
قلت: وهذه الشبه محكية عن الملحدة، والجواب من وجهين:
أحدهما:أنه قد ثبت استحقاقه، وإذا ثبت استحقاقه ثبت حسنه، وإن لم يكن فيه نفع لأحد إذ الاستحقاق أحد وجوه الحسن، والدليل على ذلك أن معنى الاستحقاق مصير الشيء حقاً للغير، ومتى علمنا مصير إيلام زيد حقاً لعمرو حكمنا أنه يحسن من عمرو استيفاء حقه ضرورة.
الثاني: أنا لم نقل أنه يحسن من الله تعالى عقاب المكلف لنفع يعود عليه كتشفي الغيظ أو نحوه، ولا على المعاقب ولا على الغير؛ لأن هذه الوجوه كلها لا تأثير لها في حسن العقاب، وإنما قلنا: إنه يحسن من الله عقاب المكلف لاستحقاقه إياه بإقدامه على القبائح وإخلاله بالواجبات، ثم إنا نقول لهم: ما تقولون في الذم فإنه ضرر، فيجب أن لا يحسن إلا للتشفي والالتذاذ أو للنفع على ما ذكرتموه، والمعلوم خلافه.
فإن قلتم: لا يحسن إلاَّ للاستحقاق.
قلنا: فارضوا منا بمثله في العقاب.
الشبهة الثانية: أَن الله تعالى كلف الكافر مع علمه بأنه لايؤمن، وأنه لا يظهر منه إلا العصيان فيكون التكليف حينئذٍ سبباً للعقاب، والعقاب ضرر خال عن النفع، فوجب قبح التكليف للكافر والحكيم لا يفعل القبيح، فلم يبق إلا القول بقبح التكليف، أو سقوط العقاب.
قلت: وهذه الشبهة قد ضل بها كثير من الناس، فالملحدة توصلوا بها إلى نفي الصانع، وقالوا: لو كان هاهنا صانع حكيم لما صدر منه مثل هذا التكليف، والمجبرة جعلوها أعظم شبههم في إبطال التحسين والتقبيح العقليين، فإنا إذا حكمنا بأن القبيح يقبح منه تعالى كما يقبح منا، قالوا: إن هذا التكليف قبيح لا محالة لو فعله الواحد منا، وقد حسن من الله تعالى.
قال القرشي: وقد جعلها قوم شبهة في إثبات ثان.
قلت: لعله أراد من ينسب الخير إلى النور، والشر إلى الظلمة.
والجواب والله الموفق: أما من ينكر الصانع فلا يحسن الجواب عليه في هذه المسألة إلا على جهة التبع،كما لا يحسن الكلام مع اليهود والنصارى في مسألة المسح على الخفين مع إنكارهم النبوة، وكذلك من يثبت الثاني؛ إذ هو جاهل للصانع.
وأما المجبرة فالجواب عليهم من وجوه:
أحدها:أنه لا نزاع بين العقلاء في أن الإحسان إلى الغير حسن، وإذا ثبت حسنه بالاتفاق، فينبغي النظر في ثلاثة أمور:
أحدها: في حقيقة الإحسان.
والثاني: في وجه حسنه.
والثالث: في هذا التكليف هل حصلت فيه تلك الحقيقة أم لا؟
فأما الأمر الأول وهو حقيقة الإحسان: فهو تمكين الغير من منفعة لا على وجه يقبح أو دفع مضرة عنه كذلك مع القصد، ذكر هذا الحد الإمام المهدي عليه السلام ، وقد خرج بقوله: تمكين الغير تمكين النفس من الانتفاع فإنه لا يسمى إحساناً،بل حسناً؛لأن المعلوم من اللغة أن من أكل ما يتلذذ به فإن أكله لا يسمى إحساناً بل حسناً،وخرج بقوله: من منفعة التمكين مما لا منفعة فيه، وبقوله: لا على وجه يقبح إعطاء الحرام من ينتفع به فإنه لا يكون إحساناً؛إذ المعلوم من اللغة أن الإحسان فعل حسن وهذا قبيح،وقال:أو دفع مضرة كذلك أي لا على وجه يقبح؛ لأن دفع المضرة عن الغير إحسان بلا ريب،وخرج بقوله:لا على وجه يقبح دفع المضرة عن الغير بمضرة أخرى راجحة أو مساوية فإنه لا يكون محسناً بذلك قطعاً،وقال مع القصد لأنه لو صدر منه النفع أو الدفع لا على قصد التمكين أو الدفع لم يكن محسناً.
قال عليه السلام : ولم نرد أنه قصد أنه ينتفع به ذلك المحسن إليه، وإنما أردنا قصد التمكين والدفع فقط فذلك كاف في كونه إحساناً، فهذه حقيقة الإحسان لغة، وعرفاً، واصطلاحاً؛ لأن هذه القيود إذا اجتمعت في فعل سمي إحساناً، ومتى اختلت أو أحدها لم يسم إحساناً، وهذا الحد صحيح لاطراده وانعكاسه مع الإبانة عن المحدود.
فإن قيل: بل هو غير صحيح لأنكم تركتم قيدين لا بد من اعتبارهما، وإلا فسد الحد، وخرج الفعل عن كونه إحساناً.
أحدهما:علم فاعل الإحسان بالانتفاع، وإلا كان عبثاً.
الثاني:أن يريد انتفاع المحسن إليه بذلك الإحسان، وإلا عاد على غرضه بالنقض والإبطال فيقبح.
والجواب عن القيد الأول: أنا لا نسلم أن المحسن إذا لم يعلم بالانتفاع يكون عبثاً؛ لأن فعل الإحسان إنما يحسن لكونه تمكيناً من الانتفاع لا لحصول الانتفاع فإنه قد يحسن وإن لم يحصل الانتفاع اتفاقاً،وذلك حيث يعطي الغير مالاً لينتفع به فيهلك المال،أو يموت المحسن إليه قبل الانتفاع، أو يترك الانتفاع للزهد أو لغيره،فإن المعلوم ضرورة من اللغة أنه يسمى المعطي محسناً ولو كان العلم بوقوع الانتفاع شرطاً في كونه إحساناً لزم خروج ذلك المحسن عن كونه محسناً ولا قائل به.
والجواب عن القيد الثاني:أنا لو اعتبرناه للزم فيما أباحه الله تعالى لنا أن لا يكون إحساناً منه إلينا،لأنه تعالى لا يريد منا فعل المباح، وإلا لزم أن نثاب عليه،ثم إنه لا وجه لاشتراط ذلك إلا لو كان وقوع الانتفاع شرطاً في الإحسانية،وإلا فلا وجه له؛لأن وقوع الانتفاع فعل غير المحسن فهو أجنبي عنه،ولا فرق بين إرادته وإرادة طلوع الشمس أوغروبها في أنه لا علقة بينها وبين الإحسان ولا تأثير لها فيه،وقد تقدم أنه لا يعتبر إلا التمكين لا الوقوع.
فإن قيل: إن منكم من أوجب على الله اللطف، وهذا الجواب ينقض ذلك عليكم، وبيانه: أنكم قلتم لو لم يلطف الله بالمكلفين، لكان تكليفه إياهم بمنزلة من اصطنع طعاماً للغير، وعلم أنه لا يتناوله إلا إذا دعاه إليه، فإنه إذا لم يدعه إليه عاد على غرضه بفعل الطعام، وهو إرادة تناوله بالنقض، فكان عابثاً بفعل الطعام والعبث قبيح، فكذلك إن لم يعتبر في كمال الإحسان إرادة انتفاع المحسن إليه كان قبيحاً، كما يقبح فعل الطعام إن لم يدعه إليه.
والجواب: أنا لم نوجب اللطف في كل تكليف، وذلك أن التكليف له معنيان كما تقدمت الإشارة إلى ذلك:
أحدهما: بمعنى إكمال علوم العقل، وهو بهذا المعنى لا يجب اللطف لأجله؛ لأن إخلاله باللطف حينئذٍ لا يعود على غرضه الذي هو إكمال التعريض للمنافع والتمكين منها بالنقض؛ إذ قد حصلت من دون اللطف، وذلك بمجرد إكمال العقل.
والثاني: بمعنى إرادته منهم فعل الواجبات، واجتناب المقبحات، وأمره، ونهيه بذلك، وهذا هو الذي وجب لأجله اللطف؛ لأن من أراد من غيره أمراً وهو يعلم أنه لا يفعله إلا إذا دعاه، ولا مانع له من الدعاء فإنه إذا لم يدعه عاد على غرضه الذي هو إرادة فعله بالنقض، كما في المثال الذي ذكره السائل؛ لأن المفروض أنه لم يصنع ذلك الطعام إلا وهو يريد من الغير تناوله، ومسألتنا لا توازن التكليف بهذا المعنى، بل بالمعنى الأول، فكما أن إكمال علوم العقل لا ينتقض الغرض بها لإخلاله باللطف، كذلك لا ينتقض كون التمكين إحساناً بالإخلال بإرادة الانتفاع؛ إذ لا يتنقض غرضه وهو فعل الإحسان بذلك، وتحقيق ذلك أن الغرض بإكمال العلوم أن يحصل بعده التعريض للثواب بإرادة فعل الواجبات العقلية، فإذا أراد فعل الواجبات فقد حصل الغرض بإكمال علوم العقل، وإن لم يفعل الألطاف ولا يكمل الغرض بالإرادة إلا بفعل الألطاف، فالتمكين من المنافع وإن لم يرد منه الانتفاع بها نظير خلق العلوم مع الإرادة في كمال الغرض بفعلها.
فإن قيل: هلا قلتم بكمال الغرض بالتكليف وهو التعريض للمنافع بإكمال علوم العقل من دون إرادة فعل الواجبات، واجتناب المقبحات.
قيل: لا لأن الثواب لا يستحق على الله تعالى إلا لأجل مطابقة مراده؛ لأنه مجازاة، وإذا لم يستحق إلا بالإرادة فالإرادة والأمر كمال التعريض، وإذا أراده ولم يدع إليه عاد على إرادته بالنقض، وبهذا تظهر لك فائدة الإرادة. والله الموفق.
فإن قيل: قد أقمتم الدلالة على عدم اعتبار القيدين المذكورين، لكن بقي قيد لا بد من اعتباره وهو تجويز انتفاع المحسن إليه بذلك الفعل، لأنه إذا فعله وهو قاطع أنه لا ينتفع به أحد جرى مجرى العبث؛ إذ لا فائدة فيه حينئذٍ للمحسن، ولا للمحسن إليه، وإذا كان عبثاً لم يكن إحساناً ولا نعمة.
فالجواب: أنا لو جعلنا ذلك شرطاً في مصير الإحسان إحساناً لم يكن له وجه إلا أن تمام كونه إحساناً وقوع الانتفاع به، وإلا فلا وجه لاشتراط تجويز وقوعه إذا لم يكن لوقوعه تأثير في مصير التمكين إحساناً؛ لأنه يكون أجنبياً مع عدم تأثيره في الإحسانية، فلا فرق بين أن نشترطه، أو نشترط طلوع الشمس من مشرقها إذ هما على سواء في الأجنبية كما تقدم، وقد ثبت أن الإحسان يكمل إحساناً بمجرد التمكين، وإن لم يقع الانتفاع به كما حققناه، وحينئذٍ لم يبق وجه لاشتراط تجويز الانتفاع به، وهذا وجه واضح جلي لا ينازع فيه إلا معاند، ثم إنا لو اعتبرناه لخرج من الإحسان ما هو منه بالاتفاق، وذلك إعطاء الله الأموال العظيمة الجسيمة من يعلم أنه لا ينتفع بها حتى يأتيه الموت فإنه إحسان بلا خلاف.
فإن قلتم: إنه ينتفع بالإلتذاذ بها وذلك كاف.
قلنا:فَقَدِّرُوا ذلك الإعطاء لطفل أو مجنون لا يعقل الالتذاذ بها.
فإن قلتم: ليس ذلك إحساناً خالفتم ما المعلوم خلافه، وإن قلتم: بل هو إحسان ونعمة بطل سؤالكم، وثبت كون الإحسان إحساناً باجتماع القيود التي ذكرنا، وأيضاً فإنا نسألكم عن قوله تعالى: {وَأَمَّا ثَمُودُ فَهَدَيْنَاهُمْ...} الآية[ فصلت:17].
فإن قلتم: إن هذا الهدى إحسان بطل قولكم، وإن قلتم: ليس بإحسان خالفتم الأمة؛ إذ لا خلاف في أن هذا الهدى إحسان إليهم مع أنه تعالى عالم أنهم لا ينتفعون به، وإنما اختلفت الأمة في تكليف من علم أنه سيكفر لما يحصل بسبب التكليف من المضرة، وأما الهدى فلا يحصل بسببه مضرة، فلا خلاف في كونه إحساناً، وأما النظر في الأمر الثاني وهو في وجه حسن الإحسان فهو كونه إحساناً لأنا متى علمناه إحساناً عرفنا حسنه، وإذا لم نعلمه إحساناً لم نعرف حسنه، كما أنا متى علمنا الفعل ظلماً علمنا قبحه، ومتى لم نعلمه ظلماً لم نعلم قبحه، وهذا معلوم.
وأما النظر في الأمر الثالث وهو في تكليف من علم الله أنه يموت كافراً هل قد حصلت فيه حقيقة الإحسان ووجه حسنه أم لا؟
فاعلم: أنه إذا قد ثبت بما تقدم بيان حقيقة الإحسان ووجه حسنه، فإنا إذا نظرنا في هذه المسألة وأنصفنا علمنا علماً يقيناً لا شك فيه أن تلك الحقيقة شاملة لها، وأن وجه الحسن حاصل فيها، وإذا شملتها هذه الحقيقة وحصل الوجه، وجب القول بحسن تكليف من علم الله أنه يموت على الكفر، وأن ذلك نعمة من الله تعالى على ذلك المكلف، وتوضيحه أن الله تعالى قد أقدر الكافر على الإيمان، وأعلمه أن له فيه منافع أبدية لا يعدل بها منفعة، وأقدره على دفع مضرة الكفر بأن مكنه من الإيمان تمكيناً تاماً بخلق القدرة عليه والعلم به، وبما له فيه من المنافع العظيمة، وبما عليه من المضرة بالإخلال به، فقد حصلت فيه حقيقة الإحسان.
ألا ترى أنه مكنه من منفعة لا على وجه يقبح مع القصد إلى ذلك، وإذا ثبت حصول الحقيقة علم حصول وجه الحسن، وهو كونه تمكيناً كذلك، فثبت حسن هذا التكليف كما ثبت حسن الإحسان، وانتفى الإشكال، والحمد لله ذي المن والإفضال.
الوجه الثاني من أوجه الجواب: أن هذا التكليف صدر من جهة الله تعالى بلا شك، فقد ثبت عدل الله وحكمته، وأنه لا يختار القبيح ولا يفعله، ولا بد أن يكون حسناً؛ إذ لو كان قبيحاً لم يفعله تعالى.
قال السيد مانكديم: وبهذا الوجه تحل شبهة العامي من أصحابنا، ونجيبه بهذه الطريقة، ونقول له: إن هذا القدر كافيك، ولست بمحتاج إلى معرفة وجه الحكمة على جهة التفصيل.
قلت: وقد ذكر هذا الوجه القاسم بن إبراهيم في كتاب الرد على الملحد، ثم قال عليه السلام : ومثال ذلك من الشاهد أنا لو هجمنا على آلات من آلات الصانع فرأينا اعوجاج المعوجات، واستواء المستويات، وصغر بعضها، وكبر بعضها وغلظ بعضها، ورقة بعضها، فحكمنا على أن صانعها غير حكيم لكنا جاهلين بالحكمة نضع الحكمة في غير موضعها، بل حينئذٍ الواجب علينا أن نسلم للحكماء حكمتهم، ونعرف أنهم لا يفلعون شيئاً من ذلك إلا لضرب من الحكمة يعرفونه، ونعلم بأن المعوج والمستوي وكل زوج منها يصلح لعمل لا يصلح له الآخر، فحينئذٍ وضعنا الحكمة في موضعها، فاعرف ذلك وتبينه تجده كما قلنا إن شاء الله.
قال عليه السلام : ولما كانت أفعال الله تعالى كلها إحساناً أوداعية إلى الإحسان كان تبارك وتعالى بفعلها كلها حكيماً؛ إذ كل ذلك حسن في العقل.
قلت: ولعمري إن هذا الذي أورده القاسم عليه السلام حجة واضحة قوية، ولقد انقاد لها ذلك الملحد فأسلم، وحسن إسلامه {فَمَالِ هَؤُلاَءِ الْقَوْمِ لاَ يَكَادُونَ يَفْقَهُونَ حَدِيثا}[النساء:78].
الوجه الثالث: أن الوجه الذي لأجله حسن تكليف من المعلوم أنه يؤمن حاصل في تكليف من المعلوم أنه يكفر وهو ما قدمنا من أنه تعالى أقدره على الإيمان، وأعلمه بما له فيه من المنافع، وأزاح علله.
وبالجملة إنه قد عرضه للثواب تعريضاً تاماً، ولا فرق بين التكليفين إلا أن المؤمن أحسن الاختيار لنفسه، والكافر أساء الاختيار لنفسه، وذلك لا يخرج القديم تعالى عن كونه متفضلاً عليهما جميعاً بالتكليف، كما أن من قدم طعاماً إلى جائعين ليدفعا به ضرر الجوع فتناول أحدهما دون الآخر لا يخرج عن كونه منعماً، بل المعلوم ضرورة أنه منعم عليهما، ومحسن إليهما جميعاً، ولا يقال إنه إنما يكون منعماً على الذي قبل فقط.
فإن قيل: المؤمن اختار الإيمان وهو غير ثابت في الكافر.
قيل: ليس وجه حسن التكليف اختيار المؤمن للإيمان؛ إذ اختياره متأخر عن التكليف، فكيف يصير وجهاً في حسنه، والمعلوم أن وجه الحسن لا بد وأن يقارن على أن ذلك لو قدح في حسن التكليف لوجب مثله في الشاهد حتى لا يحسن من أحدنا أن يقدم الطعام إلى من لا يقبل.
قال السيد مانكديم: ومعلوم خلافه.
قال الإمام المهدي عليه السلام : بل للخصم أن ينازع في حسن تقديم الطعام إلى من يجوز أن الجائع يتناوله، فأَما مع تيقن عدم قبوله فإنه يصير عبثاً لا فائدة تحته، فلا تنقطع حجة الخصم إلا بالنظر في الأمور الثلاثة التي ذكرناها في الوجه الأول، ثم ننظر في تقديم الطعام إلى الجائع الذي لا يقبل هل قد شملته حقيقة الإحسان، ووجه حسنه أم لا؟ إلا أن هذا يصير تقديم الطعام في هذه الصور استدلالياً ضرورياً، وحينئذٍ لم يكن الاستدلال بهذه الصورة على حسن ذلك التكليف بأولى من العكس؛ لأنهما سواء بالنظر إلى الوجه الأول فيستدل به عليهما جميعاً، اللهم إلا أن نقيس هذه الصورة على ما يوافق الخصم على حسنه، وذلك حيث يكون مقدم الطعام مجوزاً للانتفاع به، والعلة الجامعة حصول حقيقة الإحسان ووجه حسنه في الصورتين، فحينئذٍ يصح الاستدلال بها، وقد أشار إلى ذلك السيد مانكديم في شرح الأصول حيث قال: فإن قيل: ما أنكرتم إنه إنما قبح تكليف الكافر؛ لأنه تعالى علم من حاله أنه يكفر، فجوابنا عن ذلك: لو قبح من الله تعالى تكليف الكافر للعلم بأنه يكفر لقبح من الواحد منا تقديم الطعام إلى الغير للعلم بأنه لايتناوله، ولا ينتفع به، وكذلك يقبح إدلاء الحبل إلى الغريق للعلم بأنه لا يتثبت به.
فإن قال: وكذا أقول.
قلنا: لو قبح مع العلم لقبح مع غلبة الظن؛ لأن العلم والظن سيان فيما طريقه طريق المنافع والمضار، ألا ترى أن أحدنا لو غلب في ظنه أنه يربح من سفره فإنه يحسن منه السفر كما يحسن منه مع العلم، وبالعكس من ذلك لو غلب في ظنه أنه يخسر في سفره فإنه لا يحسن منه أن يسافر كما لا يحسن منه مع العلم فكان يجب أن يقبح من الواحد منا إدلاء الحبل إلى الغريق؛ إذا غلب في ظنه أنه لا يتشبث به، وأن يقبح منه تقديم الطعام إلى الجائع إذا غلب في ظنه أنه لا ينتفع به ولا يتناوله، ومعلوم خلافه.
قلت: ونحو كلام السيد هذا ذكره القرشي في المنهاج وهو يشير إلى ما تقدم من القياس ولا علة نقدرها جامعة بين الصورتين إلا ما تقدم، وإذا ثبت حسن تقديم الطعام إلى من يعلم أنه لا يقبل ثبت حسن تكليف من المعلوم من حاله عدم القبول إذ لا فارق، وأيضاً لوكان العلم بالقبول شرطاً في حسن التكليف لقبح كل أمر ونهي في الشاهد؛ لأن أحدنا لا يمكنه القطع على ما يكون في المستقبل، ومعلوم حسن ذلك مع الشك، بل مع الظن لعدم القبول، ذكر هذا القرشي، وأيضاً قد تقدم أن النعمة تكون نعمة وإحساناً، وإن لم يقع الانتفاع بها، وحينئذٍ فلا وجه لاشتراط العلم بالقبول؛ إذ لا وجه لاشتراطه إلا لو كان تمام النعمة والإحسان وقوع الانتفاع لأنه مترتب على القبول، وقد ثبت خلافه فبطل هذا الشرط.
الوجه الرابع: ذكره قاضي القضاة (رحمه الله) وهو أنه لو لم يكلف الله إلا من المعلوم أنه يؤمن لكان ذلك إغراء بالقبيح؛ لأن المرء إذا علم أن الله لا يكلفه إلا وقد علم من حاله أنه يؤمن لا محالة، وأنه يصل إلى الثواب كان مغرى بالقبيح، وذلك قبيح، وفي قبحه دليل على أنه تعالى كما يكلف من يعلم من حاله أنه يؤمن فإنه يكلف من يعلم من حاله أنه يكفر، ولا بد من ذالك ليعلم المكلف أن الأمر فيما ينفعه أو يضره موكول إلى اختياره، ومفوض إليه، فإن أحسن الاختيار لنفسه واختار الإيمان تخلص من العقاب وظفر بالثواب، وإلا استوجب من الله العقوبة، فثبت بهذه الوجوه حسن تكليف من علم الله أنه يكفر. والحمد لله.
وبقي الكلام في حل الشبه التي أوردها الرازي في تقرير هذه الشبهة، وكذا سائر ما يوردونه في تقريرها، فنقول: قالوا: لولا التكليف لكان يستضر الكافر إذ التكليف سبب العقاب.
قلنا: الضرر الذي لحقه ليس لأجل التكليف، بل لأجل الكفر وإن كان لا يصح إلا مع التكليف، وليس ذلك يقتضي كون التكليف لا يصح إلا معها، بل كان يجب أن تكون القدرة والآلة والعلم سبباً للمضرة؛ لأن التكليف لا يصح إلا معها بل كان يجب أن تكون حياة المقتول سبباً في قتله؛ لأنه لولاها لما صح القتل، وخلافه معلوم.
والحاصل أن التكليف تمكين المكلف من نفع نفسه وضرها، كما أن القدرة ونحوها كذلك، فصح أنه ليس سبباً في العقاب سلمنا لكنا نقول: إن الله تعالى لا يخرج بذلك عن كونه منعماً ومحسناً إليه بالتكليف، مع أن غرضه تعريضه إلى درجة لا تنال إلا به، وصار الحال في ذلك كالحال فيمن تفضل على غيره بدنانير فضيعها ذلك الغير واغتم لمكانها، فكما لا يقال: بخروج هذا المعطي عن كونه منعماً، وكذلك هاهنا، يبين ذلك أن المضيع للدنانير ليس هو المعطي، وإنما ضيعها هو بنفسه، وكذلك هنا المضر ليس هو الله تعالى بل الكافر هو الذي أضر بنفسه حيث أساء الاختيار حتى استوجب العقوبة، وأما الباري تعالى فإنما استوفى حقه ولا قبح في ذلك.
قالوا: إذا لم يحصل المقصود بالتكليف وهو الإيمان يكون عبثاً.
قلنا: العبث هو كل فعل يفعله الفاعل من دون غرض مثله نحو أن يركب أحدنا الأهوال والأخطار ليربح على درهم درهماً مثله مع أنه يقدر على تحصيله بسهولة، ونحو أن يستأجر أجيراً بأجرة تامة ليصب الماء من دلو إلى دلو من دون أن يكون له في ذلك غرض، والتكليف غير مفعول على هذا الوجه، فبطل أن يكون عبثاً؛ إذ الغرض به التمكين من النفع، وهو التعريض للثواب، وذلك حاصل في هذا التكليف حصوله في تكليف من المعلوم أنه يؤمن وليس الغرض به نفس الإيمان والتمكين من النفع يجري عند العقلاء مجرى النفع في حسنه، وكونه نعمة، ولولا هذا لم يثبت في الشاهد نعمة لأحد على أحد؛ لأن أكثر ما يفعله المنعمون في الشاهد التمكين من النفع فقط.
قالوا: إدلاء الحبل إلى الغريق إذا علم أنه يخنق به نفسه قبيح، وإن كان غرضه تخليصه، فكذلك يقبح تكليف من المعلوم أنه يهلك نفسه بِهِ، وإن كان غرضه تعريضه.
قلنا: هذا مبني على أن المكلف أهلك نفسه بالتكليف كما خنق الغريق نفسه بالحبل وليس كذلك، وإنما أهلك نفسه بالكفر الذي لا يصح إلا مع التكليف على أن المدلى إليه الحبل يجب أن ينظر في حاله، فإن كان متمكناً من قتل نفسه قبل إدلاء الحبل، لكن المعلوم من حاله أنه لا يقتل نفسه إلا عند إدلائه فإن إدلاء الحبل يكون قبيحاً؛ لأنه مفسدة، وكذلك إن كان يمكنه تخليص نفسه من دون إدلاء الحبل فإنه يكون مفسدة، وإن كان لا يتمكن من الخنق ولا من تخليص نفسه إلا بهذا الحبل فإنه يحسن إدلاؤه إن كان المدلي قاصداً تخليصه، ولو علم أنه يخنق به نفسه؛ لأنه يكون تمكيناً، وهذا حال التكليف فإن المكلف لا يتمكن من تخليص نفسه، ولا من إهلاكها إلا بالتكليف، وحسن هذا التمكين في الموضعين واحد؛ لأن الغرض واحد، ولا يجوز أن يقال: إن هذا التمكين قبيح، لأنه كما هو تمكين من الحسن فهو تمكين من القبيح؛ لأنه لو قبح لهذا الوجه لقبح كل تمكين في العالم؛ إذ التمكين من الحسن لا يتصور إلا وهو تمكين من القبيح، ولهذا فإن القدرة على الشيء قدرة على جنس ضده، فما من قدرة يمكن أن يفعل الخير بها إلا ويمكن أن يفعل بها الشر.
قالوا: إذا كان يقبح من الله تعالى أن يكلف زيداً إذا علم أن عمراً يكفر عند تكليفه فلأن يقبح تكليف زيد إذا علم أنه نفسه يكفر أولى وأحرى.
قلنا: إنما قبح في الصورة الأولى لأنه علم أنه يكفر عمرو لأجل تكليف زيد، بخلاف الصورة الثانية فإنه لم يكفر زيد لأجل تكليفه، بل لسوء اختياره، والتكليف تمكين من الكفر فقط كالقدرة والآلة، فلا يجب قبحه.
قالوا: إذا كلفنا الله تعالى فلا بد من أن يريد منا ما يتعلق به التكليف ليحسن منه تكليفنا، والإرادة لا تتعلق بما المعلوم من حاله أنه لا يقع فلا يحسن تكليف من علم من حاله أنه لا يؤمن.
قلنا: لا نسلم أن الإراداة لا تتعلق بما لا يقع، بل تتعلق بالمعلوم وقوعه، وبالمعلوم عدم وقوعه على سواء، والدليل على ذلك أن الإرادة إذا تعلقت بالشيء فإنما تتعلق به لصحة حدوثه، وما المعلوم أنه لا يقع كالمعلوم وقوعه في صحة الحدوث، فيكف لا تتعلق به الإرادة، ألا ترى أن أحدنا يريد ما يشك في وقوعه، بل ما يعلم أنه لا يقع كإرادة النبي صلى الله عليه وآله وسلم إيمان أبي لهب، وكإرادتنا من الكفار أن يؤمنوا دفعة واحدة مع أنا نعلم بالعادة أن ذلك لا يقع.
فإن قيل: لا نسلم أن الإرادة تتلعق بالمعلوم أنه لا يقع، وإنما ذلك الذي سميتموه إرادة تمَنٍّ، ولا نسلم أيضاً استواء المعلوم وقوعه، والمعلوم عدم وقوعه في صحة الحدوث، فإن القدرة على خلاف المعلوم محال عندنا.
قيل في الجواب عن الأول: أن ذلك ينبئ عن جهلكم فإن التمني من أقسام الكلام، والفرق بين الإرادة والكلام جلي، وعن الثاني: بأن القدرة لو كانت على خلاف المعلوم محالاً لكان لا يصح في القادر على الشيء أن يكون قادراً على الضدين؛ لأن المعلوم أنه لا يكون إلا أحدهما لا محالة، وفي علمنا بأن القادر قادر على الضدين دليل على فساد ما قلتم.
قالوا: إذا كان غرض القديم تعالى بالتكليف نفع العباد، فهلا كلفهم على وجه آخر إذا أتوا به استحقوا المدح والثواب، وإذا لم يأتوا به لم يستحقوا الذم والعقاب.
قلنا: هذا مبني على أن في التكليف جهة أخرى تقوم مقام هذا في الغرض، ولسنا نسلمه كما لا يمكن الوالد إبلاغ ولده درجات الكمال من دون طريقة التعليم.
فإن قيل: بل هاهنا جهة أخرى وهي النوافل التي يثاب على فعلها ولا يعاقب على تركها، فهلا اقتصر في التكليف عليها.
قيل: لا يحسن التكليف بها ابتداء، بل على جهة التبع للواجبات عند من جعل وجه حسن التكليف بها كونها مسهلة للفرائض، وداعية إليها، وأما من يجعل الوجه في ذلك كونها لطفاً في مندوبات عقلية، فنقول: إن النفع في الواجبات أعظم فتكون النعمة في التكليف بها أعظم، والراد لذلك أُتي من جهة نفسه.
قال في (المنهاج): وله أن يقول أيضاً ليس يصح أن يكلفه بالنوافل إلابشروط حصولها معها ومع الواجبات، وترك المقبحات على سواء.
منها: أن يقدره عليها، والقدرة تتعلق بالكل على سواء، ومنها: أن يكمل له عقله، ومن جملة كمال العقل العلم بوجوب الواجبات وقبح المقبحات، ومنها: أن يجعلها شاقة بخلق النفرة عنها، ومتى تكاملت شرائط التكليف بالجميع وجب التكليف بالجميع.
قلت: وهو كلام حسن، على أن كثيراً من الناس أوجب تمام النوافل عند الدخول فيها، ومن تركها بعد الدخول استحق العقاب، وعلى هذا يبطل غرض السائل، ثم إنه قد تكرر أن المراد بالتكليف تعريض المكلف على درجة لا تنال إلا به، وليس الغرض به وصول المكلف إلى الثواب، والغرض بالتكليف حاصل، سواء وصل المكلف إلى الثواب أم لا.
قالوا: إذا كلف الكافر وقد علم أنه لا يؤمن فكأنه أمره بتجهيله وذلك فاسد، وأيضاً فقد كلفه ما لا يطيق؛ لأن القدرة على خلاف المعلوم محال.
قلنا: التجهيل ممتنع لأنه ما به يصير الشيء جاهلاً والإيمان لا يصير الشيء جاهلاً، وأيضاً فإن الله تعالى كما علم من حال الكافر أنه لا يؤمن فقد علم من حاله أنه لو اختار الإيمان لقدر عليه، وهذا هو الذي يحتاج إليه المكلف في اختيار الإيمان لا علم الله تعالى به، وقد استوفينا الكلام على هذه المسألة في المسألة الرابعة مما يتعلق بهاتين الآيتين.
وأما قوله:بأن تعلق القدرة بما المعلوم أنه لا يقع محال، فقد تقدم الجواب عنه قريباً.
قالوا: إذا أمر الوالد ولده بالتجارة وطلب المنافع، وهو يعلم أنه يهلك دونها ولا يصل إليها قبح منه؛ إذ لا شك أن العقلاء يستقبحون من العاقل أن يفعل فعلاً لغرض مع حصول اليقين بأنه لا يفضي إلى ذلك الغرض، وإنما يفضي إلى ضده.
قلنا: لا شك فيما قلتم، لكنكم جهلتم الفرق بين هذه الصورة وبين التكليف فإنه إنما قبح هنا؛ لأنه إنما يأمر ولده بذلك لنفع نفسه، ولتحصل له زيادة مسرة بما يصل إلى ولده من المنافع، فمتى أمره مع العلم بأنه يهلك دونها كان ناقضاً لغرضه، وكالجالب إلى نفسه ضرراً وغماً ولم يحصل من هذا شيء في التكليف؛ لأن الباري تعالى لا ينتفع به، ولا يلحقه ضرر عند فوت النفع وضرر المكلف، فلم يقبح منه، فإنما هو كمن يستدعي الغير إلى الدين والصلاة ليحصل له نفع وهو يعلم أنه لا يقبل.
قالوا: لو كان غرضه تعالى نفع المكلف لمنعه من الكفر.
قلنا: إن أردتم لمنعه بالقهر والجبر فذلك يبطل التكليف الذي هو تعريض للنفع فكأنكم قلتم: لوأراد النفع لفعل ما يبطل النفع، وإن أردتم المنع الذي يبقى معه التكليف فليس إلا النهي والوعيد، وقد فعله الله تعالى.
قالوا: وكيف عدل الباري تعالى بالمكلف عن النفع المتيقن الذي هو التفضل إلى التكليف الذي هو سبب فوات النفع، بل في حصول الضرر.
قلنا: الثواب نفع عظيم يستحق على طريقة التعظيم ، وما هذا حاله لا يحسن الإبتداء بمثله، ألا ترى أنه لا يحسن من أحدنا أن يعظم أجنبياً كتعظيم والديه، ولا أن يعظم والديه كتعظيم النبي، وليس ذلك إلا لعدم الاستحقاق، فصح أنه لا يحسن الابتداء به، ثم إن التكليف تفضل، وليس على الله تعالى اقتراح في اختيار تفضل على تفضل.
قال القرشي: على أن النعمة بالتكليف أفضل لتأدية ذلك إلى المنافع العظيمة وصار كالوالد فإنه يعدل بولده عن الراحة إلى المشاق لتأديته إلى المنافع، وقولهم: إن التفضل متيقن غير صحيح؛ لأنه غير واجب فمن أين يتيقن، وقولهم: إن التكليف سبب في فوات النفع وحصول الضرر باطل بما تقدم من أن السبب المعصية، يوضحه أنه يحسن عقلاً العفو عن الكافر بمعنى أنه لا يحيله. والله أعلم.
واعلم أنا قد أطلنا الكلام في إبطال هذه الشبهة وحل ما أبرمه الخصوم في تقريرها لما تقدم من أنها أعظم شبه المجبرة في إبطال مسألة التحسين والتقبيح العقليين، ولهذا أوردها الرازي وأرعد وأبرق في تقريرها، وحيث قد من الله علينا بمعرفة الحق فيها، وتبين بمعونة الله سبحانه حسن تكليف من هذا حاله بما أوضحناه من البراهين القاطعة فلنرجع إلى ما قالوه من أنه لم يبق إلا قبح التكليف أو سقوط العقاب، فنقول:
أما التكليف فقد ثبت حسنه بما تقدم، وأما سقوط العقاب فلا ملازمة بين حسن التكليف وسقوطه بحال، بمعنى أنه إذا حسن التكليف لزم سقوط العقاب.
فإن قالوا: بل الملازمة ظاهرة؛ لأن التكليف سبب للعقاب، والعقاب ضرر خال عن النفع فوجب سقوطه لأنه قبيح.
قلنا: قد تقدم أن التكليف ليس سبباً في العقاب، وإنما سببه الكفر فبطلت الملازمة سلمنا، فلا نسلم قبح العقاب حينئذٍ لثبوت استحقاقه، وذلك كاف في حسنه، وقد قررنا ذلك بلا مزيد عليه، فتأمله موفقاً إن شاء الله.
واعلم أنه لا خلاف بيننا وبين المجبرة في حسن تكليف من علم الله أنه يكفر إلا أنهم قالوا: إنما يحسن لأنه لا يقبح من الله قبيح، وإن كان قبيحاً في الشاهد، ونحن نقول بحسنه للوجوه المتقدمة بحيث لو لم تكمل فيه وجوه الحسن لحكمنا بقبحه؛ لأنه يقبح القبيح لوقوعه على وجه شاهداً وغائباً.
تنبيه:[في تكليف من علم الله أنه لا يؤمن]
روى الإمام المهدي عليه السلام عن أبي القاسم البلخي: أنه إنما يحسن تكليف من علم الله أنه لا يؤمن إن كان لطفاً لغيره بشرط أن يكون المؤمن عند هذا التكليف أكثر ممن يكفر عنده، وإلا لم يحسن؛ لأنه في حكم العبث حيث علم أنه لا ينتفع به، ونحوه في شرح الأصول عن أبي القاسم، قال: لكونه أصلح.
قال السيد مانكديم: وأراد بالأصلح الأنفع، وفي المنهاج: ذهب أهل الأصلح من أصحابنا البغداديين إلى أن الوجه في حسن تكليف من المعلوم أنه يكفر هو كونه لطفاً للغير بأن يعلم الله أنه إذا كلف قوماً آمن آخرون أكثر منهم، أو دونهم بحسب اختلاف بين أهل هذه المقالة.
قلت: والجمهور على بطلان هذا القول لوجهين:
أحدهما: أن التعريض للنفع حسن، وإن لم يكن فيه لطف إذا لم يستلزم مضرة تحصل عنده اتفاقاً، فنقيس عليه التعريض للنفع الذي به يتضمن التعريض لمضرة قد مكن المعروض من دفعها على ما تقدم تحقيقه من أن التمكين من النفع، ومن دفع المضار التي تخشى عند طلبه كالتمكين من النفع الخالص في كونه إحساناً.
الوجه الثاني: أن التكليف لنفع الغير يكون ظلماً وإن بلغ في النفع ما بلغ؛ لأنه يلحق الكافر من هذا التكليف ضرر، ولا يكفي في حسن هذه الأضرار أن ينتفع به الغير، بل لا بد أن يكون النفع راجعاً إلى المضرور، ويكون انتفاع غيره تبعاً لنفعه، كما نقول في إنزال الألم بغير المكلفين ليعتبر المكلفون، فإن للمؤلمين نفعاً واعتبار المعتبرين تبع له، ولولا هذا لما قبح في العالم ظلم، فما من شيء منه إلا وفيه يقع نفع للظالم، وربما انتفع به هو وأهل بيته، وفي عدتهم كثرة.
فائدة: [استطراد لمسألة تكليف من علم الله أنه لا يؤمن]
قال الإمام المهدي عليه السلام : معرفة الحق في هذه المسألة- أعني تكليف من علم الله أنه لا يؤمن- من فروض الكفايات عند أصحابنا؛ لأنها شبهة واردة على القول بالعدل، فيجب دفعها متى عرضت.
قلت: ولعله يأتي مثل هذا في سائر الشبه التي نحن بصدد ردها. والله أعلم.
الشبهة الثالثة: أَن الله تعالى خلق الخلق للنفع؛ إذ لا يجوز أن يخلقهم للضرر؛ لأن ذلك يكون ظلماً لايجوز من الله فعله، ولأنه ينافي ما وصف به نفسه من كونه رحيماً كريماً، ولا يجوز أن يخلقهم لا للنفع ولا للضرر؛ لأنه يكون غنياً، وإذا ثبت أنه لم يخلقهم إلا لينفعهم وجب أن لا يكلفهم لأنه يفضي بهم إلى الضرر الخالص؛ لأن الحكيم إذا أراد أمراً لا يفعل فعلاً يؤدي إلى ضد مقصوده مع علمه بكونه كذلك، والله تعالى عالم بإقدامهم على المعاصي إن كلفهم، وحيث كلفهم وجب ألاَّ يكون العصيان سبباً لاستحقاق العقاب.
والجواب: أنكم قد كفيتمونا المؤنة في حل هذه الشبهة باعترافكم بأنه لا يجوز أن يخلق الله الخلق للضرر، ولا أن يخلقهم لا للنفع ولا للضرر، وصرتم أحسن حالاً من المجبرة في هذا، حيث قالوا: إنما خلقهم ليدخل بعضهم الجنة، وبعضهم النار، ولكنكم جهلتم كون ما يجري مجرى النفع كالنفع في الحسن لتأديته إليه، وهذا هو التكيلف، وقد تقدم الكلام في هذا مستوفى في جواب الشبهة الثانية.
وأما قولكم: إنه إذا كلف وجب أن لا يكون العصيان سبباً للعقاب.
فجوابه: أنه إذا قد ثبت حسن التكليف بالوجوه المتقدمة، وثبت أن الإغراء بالقبيح قبيح، وجب القول بحسن العقاب؛ لأنه لو كلفهم وعرفهم القبائح وأقدرهم عليها، وقوى دواعيهم إليها ولم يكن ثمة صارف يصرفهم عنها كان مغرياً لهم بالقبيح لا محالة، فثبت استحقاق العقاب.
واعلم أنك إذا تأملت ما تقدم من الأدلة الدالة على استحقاق العقاب انتفت عنك هذه الشبهة بأسرها، فلهذا جعلنا ما قدمنا من بيان الاستحقاق أصلاً في حل هذه الشبه، وما كان مستحقاً فلاشبهة في حسن استيفائه، وهذا القدر كاف هنا مع التنبيه على ما تقدم.
الشبهة الرابعة: أن العبد مجبور على فعله، وتعذيب المجبور قبيح عقلاً، ولهم في بيان هذه الشبهة مسلكان:
أحدهما: أن الله تعالى هو الخالق للداوعي التي توجب المعاصي لأن صدور الفعل عن القدرة يتوقف على انضمام الداعية التي يخلقها الله تعالى إليها فيكون العبد ملجأ إليها وذلك هو الجبر كما تقدم تقريره في مسألة الداعي والمرجح.
المسلك الثاني: أن الأوامر والنواهي الشرعية إذا توجهت إلى شخصين فقبل أحدهما ولم يقبل الآخر، فلا بد من أمر حصل عنده قبول أحدهما دون الآخر.
فإن قلتم: إن القابل أحب الثواب وخشي العقاب، أو أصغى إلى من علمه وقبل منه.
قلنا: ولم وقع منه ذلك دون الآخر؟
فإن قلتم: لأنه حازم لبيب فطن.
قلنا: لِمَ اختص بهذا دون الآخر فلا بد أن تنتهي التعليلات إلى أمور خلقها الله؛ لأن الفطانة ونحوها وأضدادها من البلادة والغباوة والخرق أمور غريزية فإن الإنسان لا يختار لنفسه الغباوة ونحوها، ولا يفعلها في نفسه، وإذا كانت هذه الأمور بخلق الله تعالى علمنا أن الطاعة والمعصية بقضاء الله، ولا يمكن التسوية بين الطائع والعاصي في العقل والجهل، والفظاظة، والفطنة، والمعلمين ونحوها، ولا يمكن القول بأنهما لو استويا في ذ لك لما استويا في الطاعة والمعصية، فثبت أن الطاعة والمعصية بقضاء الله وقدره، وليس من العدل أن يخلق العاصي على ما خلقه عليه من هذه الخصال المذمومة ثم يعاقبه عليها، وليس من العدل أن لا يرزقه معلماً مثل الذي علم المطيع في البلاغة وحسن التأديب، والتعليم، والمعرفة، ثم يؤاخذه بما يؤاخذ من رزقه معلماً كاملاً، ما هذا من العدل في شيء، فثبت أن القول بالعقاب على خلاف قضايا العقول فوجب قبحه.
والجواب والله الموفق: أنه قد ثبت بالأدلة التي لا يبقى معها شك ولا شبهة أن العبد غير مجبور، بل مختار في جميع أفعاله، وذلك واضح لا يحتاج إلى إطناب في هذا الموضع.
وإذا عرفت هذا فنقول:
الجواب عن المسلك الأول: أن ذلك الداعي الذي زعمت أن الله تعالى الذي خلقه، فإن أردت به شهوة القبيح والنفرة عن الحسن فمسلم أن ذلك من فعل الله تعالى، لكنا لا نسلم لك أنه موجب للمعصية لما تقدم من أنه لا ينفك عن الصارف الذي هو العلم باستحقاق العقاب العظيم، وذلك الصارف هو داع للترك فصار الداعي والصارف متمانعان على الفعل والترك، ولا يترجح أحدهما إلا باختيار العبد، وأيضاً فإنا نعلم من حال أنفسنا ضرورة القدرة على ترك الفعل كما نعلم القدرة على إيجاده، وأجلى الأمور ما وجد من النفس، وقد تقدم أن خلق الشهوة والنفرة شرط في التكليف لتحصل المشقة التي يستحق عليها الثواب، وتقدم أيضاً أن خلقهما دليل استحقاق العقاب عند أبي هاشم فصار هذا الداعي حجة عليك لالك، والحمد لله، وإن أردت بالداعي المرجح الذي تقدم ذكره في المسألة السابعة مما يتعلق بهاتين الآيتين فقد بسطنا الجواب هنالك بما لا مزيد عليه، وبينا أن ذلك المرجح غير موجب، وأنه من فعل العبد وهو إرادته.
وأما المسلك الثاني فجوابه: أن الله تعالى عدل حكيم لا يظلم، ولا يجور، ولا يكلف عبداً فوق ما يستطيع، بل قد أعطى كل واحد من المكلفين في الدنيا من الاستطاعة ما يبلغ به مراده في الدنيا والآخرة، وساوى به بينهم في أصل العقل والفطنة،والذكاء،وسائر الأمور الغريزية التي بها ينالون الفوز بالنعيم،والنجاة من العذاب الأليم،كما ساوى بينهم في التكليف،وتلك الفطرة التي فطر الله الناس عليها،بل أعطى كل واحد من ذلك فوق ما يحتاج إليه في معرفة خالقه بالنظر في أثر صنعه، وادراك ما أوجب الله عليه من فرائضه، وترك مناهيه، وساوى بينهم في المعلمين والمؤدبين،فقد بعث إليهم رسله،وأنزل عليهم كتبه،وأبقى فيهم ورثة الأنبياء من العلماء العاملين من أهل البيت الطاهرين،وأتباعهم سلام الله عليهم جميعاً،بحيث لم يبق لأحد حجة ولا معذرة،ولكن أُتوا في العماء والضلال من جهة أنفسهم؛ حيث لم يستعملوا عقولهم، ولم يتبعوا كتاب ربهم،وقرناءَهم من أهل بيت نبيهم (صلوات الله عليه وعليهم) والمساواة بينهم في هذه الأمور هي محض العدل؛ إذ ليس من عدل الله المساواة بينهم في التكاليف من المعارف الإلهية، والأوامر والنواهي الشرعية، وعدم المساواة بينهم فيما به تقوم الحجة عليهم من أصل العقل، وما يترتب عليه من الذكاء والفطنة.
وأما قولك: إنه لا يمكن القول بالتسوية في العقل ونحوه، فمعلوم أن المكلفين غير مستوين في ذلك، لكنا نقول: قد استووا فيما يحتاجون إليه، بل فيما يكفيهم أقله في أداء ما كلفوا فلم يوجب على أحد أمراً ولا نهياً، ولم يجعله عنده على شيء معاقباً إلا وقد أعطاه من حجة العقل ما ينال به ما ينال غيره ممن زاده الله بسطة، وآتاه كرامة، فلما أن ساوى بينهم في ذلك زاد سبحانه وتعالى من شاء من عباده ما شاء من فضله وكرامته، كما فاضل بينهم في الجمال، والهيئة، والجلد، والهيبة وغير ذلك، فمن تكلم فيما فضل الله به بعض الخلق على بعض في زيادة العقل والذكاء، وجب عليه أن يجيب فيما فضل الله به بعضهم على بعض فيما ذكرنا من زيادة الخلق في حسن الألوان، وعظم الأبدان، والكمال، والبيان، لا يجد من ذلك بداً، لأن المعنى فيهما واحد، وليس للخلق في ذلك حجة، ولا ينسب به سبحانه إلى الظلم والجور، فثبت أن الزيادة على ما تقوم به الحجة فضل من الله سبحانه وكرامة، وثبت بذلك عدل الله وحكمته فيما ساوى به بين عباده من حججه من العقل الكافي، والرسول الداعي، والكتاب الهادي، والعلماء المبلغين عن الله حججه إلى خلقه، وأنا آتيك هنا بمثل ضربه الهادي إلى الحق عليه السلام يتبين به ما قلنا من أن الله قد أعطى كل مكلف فوق ما يحتاج إليه من العقل، وما يترتب عليه من الذكاء والفطنة.
قال عليه السلام : مثل زيادة الله تعالى لمن شاء من فضله وتفضيله لمن شاء من عباده على من قد أعطاه أكثر من حاجته، وثبت في صدره من وافر حجته ما بأقل قليله يؤدي إليه ما ألزمه من فرضه، مثل رجل له غلامان فدفع إلى أحدهما شمعة كبيرة متوقدة،ودفع إلى الآخر شمعتين،ثم قال لهما:يحرق كل واحد منهما شيئاً من حشيش بما معه من النار،فإن قال صاحب الشمعة:أعطتيني شمعة واحدة،وأعطيت صاحبي شمعتين ثم ساويت بيننا في إحراق الحشيش فقد ظلمتني في ذلك،وجرت علي إذ كلفتني مثل ما كلفت صاحبي،وقد زدته شمعة على شمعتي،هل ترى أيها السائل:هذا القائل صاحب الشمعة الواحدة صادقاً في قوله أو مصيباً في لفظه؟ أو ترى له حجة على سيده وقد أعطاه من النار ما بأقل قليله يحرق بيوتاً كثيرة؟ فإن قال: قد كان العبد في ذلك مصيباً،وبالحق محتجاً، والسيد له ظالم، وفي تكليفه له غاشم،حين كلفه من الإحراق مثل ما كلف صاحبه،وقد أعطى صاحبه شمعتين وأعطاه شمعة واحدة،كان في قوله ذلك محيلاً، وعن الصواب عادلاً، ولم يقل ذلك حقاً؛ لأن قليل النار يأتي من إحراق الحشيش على ما يأتي كثيرها، ويتفرع منها من الإلتهاب عند احتراق الحشيش ما لا يكون لصاحب ثنتين ولا ثلاث، ولا أربع فضل في عمله وفعله على صاحب الواحدة، وكل ينال بما أعطى أكثر مما كلف وأعطي، وإن قال: لا أرى لصاحب الشمعة الواحدة على سيده حجة في دفعه إلى صاحبه شمعتين؛ لأن المكلف الذي كلفهما إياه ينال بأقل من واحدة، فلذلك قلنا: إنه لا حجة لصاحب الواحدة على سيده، وصاحب الواحدة ظالم لسيده غير محتج بحق على مالكه؛ لأنه قد ساوى بينه وبين صاحب الثنتين فيما دفع إليه من النار التي بأقل قليلها ينال من إحراق بيوت كثيرة ما ينال صاحب الثنتين، والثلاث، والأربع لوكان، فإذا قال بالحق، ورجع إلى الصدق، قيل له عند إقراره ومعرفته بالأمر: إذا كان كذلك فقد أصبت، وقلت بالحق، وثبت على الاستواء، وثبت لك بذلك ما أحببت معرفته من
عدل الله سبحانه في ذلك وحكمته، ولطيف صنعه وقدرته، فعلى هذا المثال: يخرج ما تقدم منا من المقال فيما أعطاه الله العباد من حجة عقولهم، وساوى بينهم فيما ركب من ذلك في صدورهم، فجعل كل من لزمه عقاب على فعله في حجة العقل سواء، فكل قد ركب فيه ما بأقل قليله ينال به أكثر مما افترض الله عليه، ويستدل به على حاجته منه وفيه، ويميز به بين أعماله ويهتدي به إلى فواصل أفعاله، ويصل به إلى الاختيار في الحالين، والتمييز بين العملين، وسلوك ما شاء من النجدين {لِيَهْلِكَ مَنْ هَلَكَ عَنْ بَيِّنَةٍ وَيَحْيَا مَنْ حَيَّ عَنْ بَيِّنَةٍ وَإِنَّ اللَّهَ لَسَمِيعٌ عَلِيمٌ}[الأنفال:42].
فلم تكن لمن أعطي من حجة العقل ما ذكرنا على الله سبحانه حجة في شيء من أموره، ولا بسبب من أسبابه بما فضل به عليه غيره من بعد المساواة فيما يحتاج إليه، كما لم يكن لصاحب الشمعة الواحدة على سيده في إحراق ما أمره بإحراقه حجة بإعطائه لصاحبه شمعتين؛ إذ المعنى في ذلك واحد في الواحدة والثنتين، والدرك بالجزء الواحد لما أمر به من النار وإحراق الحشيش كالدرك بالجزئين.
قلت: ومن تأمل ما ضربه الهادي عليه السلام من المثل زال عنه الشك، ووضح له الحق إن أنصف من نفسه، وترك العناد والمكابرة.
وأما قول الرازي: وإذا كانت هذه الأمور بخلق الله فالطاعة والمعصية بقضاء الله، فقول باطل؛ إذ ليس العقل ونحوه بموجب حتى إذا وجدوا وجدت الطاعة لا محالة،وإنما هو معرف وداع إليها على جهة الهداية والإرشاد،وأما وقوعها فموكول إلى اختيار العبد،ثم إنه يلزم أن يكون العبد طائعاً باعتبار ما ركب فيه من العقل،عاصياً باعتبار ما فاته من الزيادة على جهة الإيجاب،والمعلوم خلاف هذا فإن كثيراً من الكفار لم تقع منه طاعة لله أصلاً لا بالتشريك ولا بغيره كعبدة النار والبقر وغيرهم، فانتفى أن تكون هذه الغرائز موجبة.
وأما قوله: ولا تمكن التسوية بين الطائع والعاصي في العقل والجهل ...إلخ فغير مسلم، فإن ذلك من الممكنات، والعجب منه إذ قال: إن ذلك من فعل الله، ثم قال: لا تمكن التسوية في ذلك، فينسب الله تعالى إلى العجز تعالى الله عن ذلك علواً كبيراً، فلا يعجزه شيء وهو على كل شيء قدير، وليت شعري ما مستند هذه الدعوى، هل ذلك من المستحيل لذاته أو لغيره، وقد بينا كل واحد منهما في المسألة الرابعة، وإمكان التسوية خارجة عن تلك الأقسام،فتأملها موفقاً،وكذلك لاملازمة بين استوائهما في العقل والجهل،واستوائهما في الطاعة والمعصية،فإنه لا مانع من الاستواء في العقل، ويكون أحدهما طائعاً والآخر عاصياً لما بينا من أن العقل غير موجب، بل من استعمل عقله حصلت منه الطاعة، ومن ترك استعماله واتبع هوى نفسه حصلت منه المعصية، فالطاعة والمعصية باختيار العبد بحسب استعمال العقل وعدمه.
وقد قيل: إن العقل كالحكيم إن طلبته وجدته، وإن غفلت عنه لم يطلبك، وهوى النفس كالعدو الذي إن غفلت عنه لم يغفل عنك، والطاعة والمعصية تكثران وتقلان بحسب استعمال العقل وإهماله، ومتابعة الهوى والشيطان المتابعة التامة أو دونها، وذلك معلوم، وبهذا يبطل قوله: إن الطاعة والمعصية بقضاء الله.
وأما قوله: وليس من العدل أن يخلق العاصي على ما خلقه عليه... إلخ.
فالجواب: أنا قد بينا أن الله قد جعل لكل مكلف من العقل ما يكفيه، وتقوم به الحجة عليه،ولم يخلق فيه من الخصال المذمومة ما يعاقب عليه،وإنما خلقه متمكناً من الفظاظة،واللين،وسوء الخلق،وأضدادها، ومتمكناً من تركها، والدليل على ذلك أنه نهاه عن مساوئ الأخلاق التي هذه منها، وذمه على فعلها، وتوعده عليها وأمره بمكارم الأخلاق، ومدحه عليها، ووعده الثواب العظيم بفعلها، ولم ينهه عن سواده، وعدم اعتدال قامته، ولم يذمه عليهما، ولا على غيرهما مما ليس داخلاً تحت مقدوره، ولم يمدحه على حسن الصورة ونحوها، ولم يأمره بها، فلو كان الكل من أفعال الله لاستوت في ثبوت المدح والذم، والأمر والنهي أو عدمها، وثبت أن الله تعالى لم يخلق الفظاظة واللين، والطاعة والمعصية في العبد، بل هي فعل العبد حاصلة باختياره، وحينئذٍ لا يقبح العقاب على المعاصي.
واعلم أن الكلام على المعلمين والمؤدبين كالكلام في العقل في أن الله قد رزق كل مكلف منهم ما يكفيه، والفضل بيد الله يؤتيه من يشاء.
فائدة [الزيادة في العقل]
قد تكون الزيادة في العقل من فعل الله، وقد تكون من فعل العبد واقعة باختياره، فالتي من فعل الله تعالى تكون ابتداء منه لما يعلمه مما يصير العبد إليه من الصلاح، والطاعة، والانقياد، أشار إليه الهادي عليه السلام .
قلت: أو لتأهيله لأمور عظيمة ومنافع جسيمة في باب الدين، والدعاء إليه، والقيام به بحيث لا يتم الغرض بدون تلك الزيادة كالأنبياء، والأئمة، ومن أهله الله من غيرهم لمزيد نفع لا يتم بدونها. والله أعلم.
وقد تكون الزيادة منه تعالى جزاء على استعمال عقله واهتدائه، كما قال تعالى: {وَالَّذِينَ اهْتَدَوْا زَادَهُمْ هُدًى}[محمد:17] وهذا ذكره الهادي عليه السلام ، وأما التي تكون باختيار العبد فهو النظر، والفكر، والاستنباط والتمييز، ذكره القاسم بن إبراهيم عليه السلام ، والإمام أحمد بن سليمان عليه السلام ، وعندي أن ما ذكراه عليهما السَّلام ليس إلا نتيجة العقل، وقد ذكر هذا القاسم عليه السلام في جوابه على الملحد، والذي يظهر والله أعلم أن الزيادة التي تكون من العبد هو ما يستمده من أقوال من هو أتم منه عقلاً، وأفعالهم، والاقتداء بهم.
قال الجاحظ: وقد أجمعت الحكماء أن العقل المطبوع، والكرم الغريزي لا يبلغان غاية الكمال إلا بمعاونة العقل المكتسب، ومثلوا ذلك بالنار والحطب، والمصباح والدهن، وذلك أن العقل الغريزي آلة، والمكتسب مادة، وإنما الأدب عقل غيرك يزيده في عقلك.
قلت: ويشهد لهذا قول الهادي عليه السلام : لقاح العقل التجارب.
الشبهة الخامسة: أن الله تعالى إنما كلفنا لنفع يعود علينا كما قال تعالى: {إِنْ أَحْسَنتُمْ أَحْسَنتُمْ لِأَنفُسِكُمْ وَإِنْ أَسَأْتُمْ فَلَهَا}[الإسراء:7] ولا يحسن تعذيب من فوت نفع نفسه؛ لأن تفويت النفع مرجوح بالنسبة إلى دفع الضرر، ألا ترى أن السيد لو عاقب عبده وقطعه إرباً إرباً لأجل ترك اكتساب دينار مع القدرة عليه لا ينتفع السيد بذلك الدينار البتة، وإنما نفعه للعبد خاصة لكان في غاية السفاهة، فكيف يليق مثل هذا بأحكم الحاكمين؟!.
والجواب: أنا قد بينا فيما تقدم أنه تعالى لم يعاقب المكلفين، لأنه لم ينفع نفسه وإنما عاقبه لما لأجله يذم، وهو أنه فاعل للقبيح، ومخل بالواجب، والآية محمولة على ذلك؛ إذ معناها إن أحسنتم بأداء ما كلفتم من فعل الواجب، وترك القبيح أحسنتم لأنفسكم؛ لأن الثواب لا يستحق إلا على جهة المجازاة، وإلا كان تعظيماً لمن لا يستحق التعظيم وهو قبيح، وإن أسأتم بالإخلال بالواجب، وارتكاب القبيح فلها؛ لأنكم تستحقون بذلك العقاب الدائم، وقد تقدم دليل استحقاقه.
وأما ما ذكره من المثال فلا جامع بينه وبين ما نحن فيه، ونحن نقول: إن هذا العبد لا يحسن عقابه لأنه لم يخل بواجب ولم يفعل قبيحاً، وإنما فوت على نفسه منفعة محضة.
الشبهة السادسة: أَنا وإن سلمنا استحقاق العقاب، فمن أين الداوم، والمعلوم أن أقسى الناس قلباً إذا عذب من بلغ في الإساءة يوماً أو شهراً أو سنة فإنه يبشع منه ويمل، ولو واظب عليه لامه كل أحد، وقالوا: هب أنه بالغ في إضرارك، ولكن إلى متى هذا التعذيب، فإما أن تقتله وتريحه، وإما أن تخلصه، فإذا قبح هذا من الإنسان الذي يلتذ بالانتقام، فالغني عن الكل كيف يليق به هذا الانتقام مع أنه قد نهى عباده عن استيفاء الزيادة فقال: {فَلاَ يُسْرِفْ فِي الْقَتْلِ إِنَّهُ كَانَ مَنصُوراً}[الإسراء:33] وقال: {وَجَزَاءُ سَيِّئَةٍ سَيِّئَةٌ مِثْلُهَا}[الشورى:40]، فصح أن ما زاد على القدر المستحق كان ظلماً.
قلت: هذه الشبهة يوردها جهم وأصحابه في منع دوام عقاب الفساق، ولعل الرازي لم يوردها إلا لذلك، وإن كان الظاهر أنه إنما حكاها عن من يمنع عقاب الكفار، وعليه فله فيها مآرب أخرى، قد تقدمت الإشارة إليها.
والجواب:أن حاصل هذه الشبهة منع دوام العقاب، فلا بد من إقامة الدليل على ذلك أولاً،ثم حل هذه الشبهة التي أيد بها دعواه ثانياً.
ونسأل الله الإعانة،وتنوير القلب والهداية إلى الإنصاف، ومعرفة الحق، فنقول: لنا في ثبوت دوام العقاب أدلة:
أحدها: أن العقاب كالذم يثبتان في الاستحقاق معاً ويزولان معاً حتى لا يثبت أحدهما مع سقوط الآخر، ومعلوم أن الذم يستحق على طريق الدوام، فوجب في العقاب مثله.
فإن قيل: ولِمَ قلتم إنهما يثبتان معاً ويسقطان معاً؟
قيل: لأن المثبت لأحدهما هو المثبت للآخر، والمسقط لأحدهما هو المسقط للآخر ، فالمثبت: هو الإقدام على المعاصي، والإخلال بالواجب، والمسقط: هو التوبة أو طاعة هي أعظم من المعصية على قول، وإذا كان المؤثر في استحقاقهما واحد وجب إذا استحق أحدهما على الدوام أن يستحق الآخر كذلك؛ لأنه لا يجوز في شيئين استحقا على وجه واحد وكان المؤثر في ثبوتهما وإسقاطهما واحد أن يستحق أحدهما دائماً والآخر منقطعاً، هذا محال ذكره السيد مانكديم.
فإن قيل: ولم قلتم إن الذم يستحق على الدوام؟
قيل: لأن المعلوم ضرورة أن من لطم والده وكان مصراً عليه فإنه يحسن منه، ومن غيره ذمه على ذلك الصنع دائماً حتى لو قدر أن يميته الله ثم أحياه لكان يحسن ذمه على هذا الصنع.
فإن قيل: إن الذم ليس بضرر فجاز استحقاقه دائماً، وليس كذلك العقاب فإنه ألم وضرر في نفسه فلا يجوز استحقاقه دائماً.
قيل: إن الذم قد ينزل منزلة الضرر وأبلغ منه إذا قصد استهانة العاقل ونقصه في ارتكاب القبيح، فإذا كان بمنزلة الضرر وجاز استحقاقه دائماً فكذلك العقاب.
فإن قيل: أليس يجوز أن يثبت الذم ولا عقاب، والعقاب ولا ذم، فكيف قلتم: إِنهما يثبتان معاً ويزولان معاً حتى توصلتم بذلك إلى القول بدوام استحقاقهما؟
قيل: نحن لم ندع أنهما يثبتان معاً ويزولان معاً على كل وجه، وأن أحدهما لا ينفصل عن الآخر بحال،وإنما قلنا: إنهما إذا ثبتا واستحقا جميعاً ثبتا معاً وزالا معاً،وما ثبت لأحدهما ثبت للآخر مثله لاتحاد المؤثر في الثبوت والسقوط، فأما إذا لم يثبتا معاً وإنما ثبت أحدهما فلا.
قال الموفق بالله عليه السلام : ولا يمتنع أن يكونا مستحقين على الدوام وإن كان أحدهما مشروطاً بشرط لا يكون الآخر مشروطاً به،ولا يخرجان من استحقاقهما دائماً، ولذلك يستحق المدح والشكر على الدوام وإن كان أحدهما مشروطاً بما لا يكون الآخر مشروطاً به.
فإن قيل: كيف يثبت الذم ولا عقاب؟
قيل: القديم تعالى لو أغرى أحدنا بفعل القبيح أو أمره به، أو لم يفعل اللطف عند من يوجبه عليه تعالى فإنه يستحق الذم ولا عقاب، وقد تقدمت الإشارة إلى هذا.
قال الموفق بالله عليه السلام :وقد قيل: إنه لا يستحق الذم ولا العقاب؛ لأنه تعالى بأمره إياه وإغرائه ومنعه اللطف قد أسقط حقه عنه من الذم والعقاب، ومن قال: لا يستحق العقاب ويستحق الذم يقول لأن العقاب خاصة حقه فبإغرائه وأمره بالقبيح قد أسقطه،وليس كذلك الذم؛ لأنه تعالى لا يختص به، بل يحسن أن نذمه.
قال عليه السلام : والأقرب في ذلك أنه إن كان يعلم أنه قبيح، أو يتمكن منه فبأمره،وإغرائه لا يخرج من أن يكون عالماً بقبحه أو متمكناً من العلم بقبحه ولا إلجاء وله شهوة أوشبهة، فيجب أن يستحق الذم والعقاب، وأما اللطف فإن منعه يجري مجرى التكليف مع المنع، فلا يحسن ذمه ولا عقابه.
قال عليه السلام : وفيه نظر.
قلت: يرجع في معرفة وجه النظر إلى مسألة اللطف، وقد استوفيناها في الفاتحة.
فإن قيل: لا نسلم لكم أن الذم يستحق دائماً فإن المسيء والمساء إليه لو ماتا انقطع الذم.
قيل: إنما ينقطع فعله لا استحقاقه والكلام في الاستحقاق ولا حال ينتهي إليها المسيء إلا ويحسن من المساء إليه ذمه، وإن أماتهما الله تعالى مراراً وأحياهما مراراً كما تقدم، ولنا أيضاً على ثبوت دوام الذم أنا نعلم ضرورة حسن ذم فاعل القبيح في الحالة الأولى والثانية على سواء، والعلة المقتضية له في الحالة الأولى وهي فعل القبيح مع جميع الأوقات على سواء، فلا تزال مقتضية للحكم حتى يرتفع بأحد الأمرين المتقدمين؛ لأنهما بمنزلة طرو الضد على ضده.
وإذا ثبت هذا في الذم ثبت في العقاب مثله، ووجه آخر وهو أن المدح يستحق في كل وقت بمعنى أنه يجب النطق به عند التهمة مهمالم يتغير حال الممدوح، فكذلك الذم. والله أعلم.
الدليل الثاني:أنه قد ثبت أن العقاب يستحق خالصاً من كل روح وراحة، فلو جاز انقطاعه لأدى إلى أن يكون المعاقب في راحة؛ لأنه كلما كان الضرر أعظم كان تجويز زواله أبلغ في باب الاستراحة.
فإن قيل: إن المعاقب لا يجوز ذلك ولا يفكر فيه.
قيل: ليس كذلك؛ لأن كمال العقل يقتضي ذلك خصوصاً والضرر كضرر العقاب، ألا ترى أن أحدنا إذا أراد الإقدام على ما يتعلق به أعظم منافع دنياه أو ضرره فإنه لا بد من أن يجوز ويتفكر في أنه هل ينقطع أم لا، فكيف في مثل مضار الآخرة ومنافعها، وهذا الدليل ذكره الموفق بالله في الإحاطة.
قال عليه السلام : وبهذه الطريقة يعلم دوام الثواب وهي سديدة.
قال: فإن قيل: إن الله تعالى يتفضل عليه بمثل تلك المنافع، ولا يؤدي إلى أن تكون في تنغيص، قيل له: إنه لا يكون تفضلاً، بل يكون واجباً إذاً؛ لأن الثواب يجب فعله خالصاً، ولا يخلص إلا بفعل ما هو التفضل، فيجب أن يكون التفضل واجباً عليه؛ لأن ما لا يتم الواجب إلا به يجب كوجوبه فينقض كونه تفضلاً، وبعد فإن التفضل بمثل الثواب الذي هو الإجلال والتعظيم البليغ لا يجوز، فإذاً لا بد من استحقاقه دائماً.
الدليل الثالث: قال الإمام المرتضى عليه السلام في جواب من سأله عن التخليد في النار على ذنب واحد من كلام طويل ما لفظه: وقد أنصف الله عز وجل خلقه وعدل بينهم في حكمه، أولا ترى لو عصى الله طول عمره، ثم تاب، وأخلص، ورجع في صحة من بدنه من قبل نزول الموت به أن تلك الذنوب جميعاً تحط عنه وتغفر له، وإن مات على ذلك دخل الجنة، فكذلك من ختم عمله بالمعصية لله سبحانه وتعالى ومات عليها حكم عليه بالعذاب كما حكم له عند التوبة بالثواب، فهذا عين العدل والإنصاف، ولو جاز أن يدخل الجنة من مات على معصية واحدة لجاز أن يدخلها من مات على معصية أو معصيتين، ولو جاز ذلك لجاز أن يدخلها من عصى عشراً أو عشرين مرة، وإذا جاز ذلك فقل: بطل الوعد والوعيد، ووقع الاختلاف والفساد.
قلت: وكلامه عليه السلام رد على من استبعد وقوع العذاب على الذنب الواحد، وفي حكمه من استبعد العذاب الدائم على المعاصي المتناهية لأنه إذا استحق الثواب الدائم على الطاعة المتناهية، فلا يستبعد استحقاقه العذاب الدائم على المعاصي وإن تناهت. والله أعلم.
الدليل الرابع:ذكره أبو علي (رحمه الله) وتحريره أن العقاب على المعصية إنما هو بحسب حال المعصي والمراتب التي يتميز بها الباري علينا لا نهاية لها لو كانت وجودية، فكذلك يجب أن يكون عقاب الإساءة إليه على حسب مرتبته فلا تناهى كما لا تناهى مراتب عظمته تعالى. هكذا قرره الإمام المهدي عليه السلام .
قال: وقد اعترضه أبو هاشم بأنه بناه على أصله من أن العقاب قد يستحق من الآدميين، وهو أصل باطل، ثم أجاب الإمام عليه السلام على هذا الاعتراض، وسنذكره قريباً إن شاء الله.
وأما الموفق بالله عليه السلام فقال في بيان دليل أبي علي: قد ذكر أبو علي أن أحدنا قد يستحق العقاب على غيره ولا قدر إلا ويجوز أن يستحق فوقه، وقد ثبت أن نعمة الله علينا أعظم من نعمة بعضنا على بعض، فمتى ما عصيناه يجب أن يستحق علينا عقاباً دائماً.
قال عليه السلام : وهذه الدلالة بناها على أن أحدنا يجوز أن يستحق العقاب على غيره، وذلك لا يجوز بوجه، ثم اعترضه، فقال عليه السلام : وبعد فإن نعمة الله تعالى وإن كانت فوق نعمة غيره في الشاهد فهي محصورة، فإن كان تعاظم عقابه لتعاظم نعمه فهي منحصرة، فالعقاب يجب أن تنحصر أجزاؤه، ولن يكون كذلك إلا وهو منقطع، لأن ما لا ينقطع أبداً لا يتناهى.
قلت: فعلى هذا التقرير الذي قرره الموفق بالله عليه السلام فالاعتراض على أبي على وارد لأنه بنى على تعاظم النعمة وهي متناهية، وأما على ما ذكره الإمام المهدي عليه السلام فلا اعتراض عليه، ولهذا قال عليه السلام : وهذا الاعتراض يعني ما ذكره أبو هاشم غير واقع؛ لأنه لم يبنه على ذلك، وإنما بناه على تعاظم الاستقباح، ولا شك أن القبائح تتفاضل في الاستقباح، ألا ترى أن أحدنا لو وهب لغيره سيفاً قاطعاً يدافع به عدوه فحين قبضه ضرب به الواهب فقتله بنعمته عليه، فإن استقباح ذلك أعظم مما لو قتله قبل أن يهب له شيئاً، والعاصون ما يتمكنون من معصية الله إلا بنعمته التي أنعم بها عليهم، فقبح معصيته لا نهاية له لو كان أمراً وجودياً فصح ما احتج به أبو علي.
قلت: وهذا الدليل بهذا التقرير الذي حرره الإمام المهدي عليه السلام أوضح ما ذكر من الأدلة على المقصود وأصحها. والله الهادي.
الدليل الخامس:أن من أحبط ثوابه بالكبيرة فقد استحق حرمان الثواب؛ لأنه لا يجوز أن يثاب وهو مستحق الإهانة، والاستخفاف، وحرمان الثواب دائم وحرمانه عقاب، فدل على أنه يستحق العقاب دائماً، ورده الموفق بالله عليه السلام ؛ لأن حرمان الثواب أن لا يفعل الثواب به، وذلك لا يكون عقاباً؛ لأن العقاب هو الضرر المستحق المفعول بالغير على وجه الخلوص من كل راحة، وليس هو أن لا يفعل منافع مقترنة بالإجلال والتعظيم، ألا ترى أنه يجوز عقلاً أن لا يفعل به الثواب ولا العقاب، فلا يكون معاقباً.
الدليل السادس: أن الثواب قد ثبت كونه دائماً، وثبت أنه ينحبط بالشرك، ولا يجوز أن ينحبط بعقاب الشرك وهو منقطع؛ لأن ما لا يتناهى أعظم مما يتناهى، فكيف نجوز أن يسقطه، فلا بد أن يقال إنه غير متناهي كما أن الثواب غير متناهي، إذا عرفت ما تقدم، وثبت لك بالدلائل العقلية حسن دوام العقاب، فلنرجع إلى ما وعدنا به من حل شبهة الخصوم في هذا الموضع، وإن كان ما تقدم يغني عن ذلك إلا أن في هذا زيادة توضيح، وبيان بطلان الشبهة على التفصيل، فنقول: إن القوم ذكروا في تأييد شبهتهم ثلاث طرق:
الأولى: قياس فعل الله للعقاب على فعل من عاقب المسيء إليه ليشفي غيظه ويأخذ بثاره فإنه يمل ويشبع منه بحيث أنه لو لم يقع منه ذلك استحق الذم على مجاوزة الحد.
والجواب: أن الله تعالى لم يعاقب العاصي ليشفي غيظه ولا ليأخذ بثأره، وإنما عاقبه؛ لأنه أخل بالواجب وارتكب القبائح، ومعلوم أن من أخل بالواجب، وارتكب القبيح فإنه يستحق الذم دائماً، وقد تقرر أن العقاب يستحق بما يستحق به الذم يثبت بثباته، ويسقط بسقوطه.
وبعد فإن الوصف بالملل والشبع يختص بالمخلوقين، وإذا كانت خاصة بالمخلوقين بطل قياسكم الذي بنيتم عليه عدم الدوام؛ لأن هذين الوصفين إذا انتفيا في حقه تعالى لم يكن ثم مانع من الدوام.
وأما قولكم: إنه لو لم يقع منه رقة ولا ملل لاستحق الذم، فليس استحقاقه للذم إلا بسبب الزيادة على القدرالمستحق، ونحن لا نخالف في هذا، لكن إذا قد ثبت بالأدلة العقلية والسمعية أن الدوام مستحق فالعقلاء يحكمون بحسن استيفاء الحق، وحينئذٍ بطل قولكم، وظهر الفرق بين ما مثلتم به وبين داوم العقاب.
الطريقة الثانية: أن الله تعالى غني عن هذا الدوام، فكيف يفعله.
والجواب: أنا لم نقل إنه محتاج إليه، لكنا نقول هو حقه فهل يحسن من صاحب الحق استيفاء حقه، وإن كان غنياً عنه، إن قلتم: لا خالفتم الضرورة، وإن قلتم نعم فهو المطلوب.
الطريقة الثالثة: أن الله تعالى قد نهى عن استيفاء الزيادة كما في الآيتين.
والجواب: إن أردتم بالزيادة ما زاد على القدر المستحق كما يفيده آخر كلامكم فمسلم، وإن أردتم بالزيادة ما زاد على قدر الفعل وإن كانت مستحقة، فلا نسلم لما مر على أنها لا تتصور المماثلة لما يأتي.
واعلم أن المراد بالنهي عن الإسراف في القتل هو النهي عن المثلة ونحوها مما ليس بمستحق، وأما الآية الثانية فظاهرها متروك؛ لأن مثلية العقوبة للفعل غير ثابتة، فإن المعصية مستلذة، والعقاب منفور عنه مؤلم، والمعصية قبيحة وجزاؤها حسن، وإذا عدل بها عن الظاهر صارت مجازاً، والمجاز ظني فلم يبق إلا تأويلها بما يوافق الأدلة القاطعة، فنقول: الآية واردة مورد المشاكلة أطلق على العقاب سيئة مشاكلة للفظ سيئة في قوله: من عمل سيئة وهو نوع من الفصاحة مشهور، وإلا فالمعنى المراد من عمل سيئة فلا يجزى إلا العقاب، فالمعصية سبب في وقوع العقاب وعلة فيه، ولا مانع أن تكون المعصية، وإن كانت متناهية علة في حسن دوام العقاب كما اقتضت حسن دوام الذم.
قال السيد أحمد بن محمد الشرفي (رحمه الله): ويمكن أن يراد بالمماثلة المعادلة أي لا يجزي إلا عدلها بكسر العين أي ما يعادلها، وهو العذاب الدائم؛ لأن عصيان المالك المنعم يعظم في القليل كما يعظم في الكثير، فلا يعادله إلا دوام العقاب، يدل على ذلك في الشاهد قطع يد السارق التي ديتها خمسمائة مثقال في عشرة دراهم قفلة.
وقال الإمام المهدي عليه السلام : إنما أراد بالآية أنه لا يزاد في العقاب عليها على القدر المستحق بخلاف الثواب فقد وعد بالزيادة فيه على القدر المستحق؛ حيث قال: {وَيَزِيدُهُمْ مِنْ فَضْلِهِ}[النساء:173] وهذا مطابق لمعناها، وسياقها، وجمع بينها وبين غيرها من الأدلة.
الشبهة السابعة: أن المعصية لو بلغت ما بلغت كان العبد مواظباً عليها طول عمره، ثم تاب ومات على التوبة فإن الله تعالى يقبل توبته، ويعفو عنه فَلِمَ لا يقبل توبته في الآخرة ويعفو عنه، وأيضاً قد أمر بالدعاء ووعد بالإجابة،فلم لا يقبل دعاءَه ويستجيب له عند بلوغ الضرر الغاية،وهو القائل:{أَمَّنْ يُجِيبُ الْمُضطَرَّ إِذَا دَعَاهُ وَيَكْشِفُ السُّوءَ}[النمل:62] قالوا: فهذه الوجوه يعني الشبه التي تقدمت كلها توجب القطع بعدم العقاب.
والجواب: أن التوبة إنما يكون لها حكم إذا لم يكن التائب ملجأ كالإعتذار فإنه لو اعتذر وهو ملجأ إليه لم يكن لاعتذراه حكم، ولا يسقط به الذم، وقد ثبت أن العقاب يستحق بما يستحق به الذم ويسقط بما يسقط به، فإذا كان الذم لا يسقط باعتذار الملجأ فالعقاب مثله، وكذلك الكلام في الدعاء؛ لأنه نوع من الاعتذار على أن إجابة الداعي مشروطة بالمصلحة، فإذا علم أن لا مصلحة في إجابتهم قبحت الاستجابة، وأما الآية فليست على ظاهرها فكم من مضطر يدعو فلا يجاب فتعين كون الإجابة موقوفة على المصلحة، على أن الزمخشري وغيره لم يحملوا الآية على العموم، بل جعلوا التعريف في المضطر للجنس الصادق ببعض الأفراد.
قال الزمخشري (رحمه الله): وأما المضطر فمتناول للجنس مطلقاً يصلح لكله ولبعضه، فلا طريق إلى الجزم على أحدهما إلا بدليل، وقد قام الدليل على البعض وهو الذي إجابته مصلحة فبطل التناول على العموم، وهاهنا وجه آخر يدل على عدم حسن قبول التوبة والدعاء في الآخرة، وهو أنه لو جاز قبولهما لكان في ذلك إغراء بالمعاصي؛ لأن العاصي إذا علم قبول توبته ودعائه عند وقوع العذاب به لم يكف عن المعصية؛ لأنه وإن علم الوعيد الشديد على فعلها وهو يعلم سقوط ذلك عنه في الآخرة بما ذكر فإنه يؤثر شهوته العاجلة، ثم يتوب عنها، ويدعو فيزول عنه عقابها فأي صارف يصرفه عن القبائح حينئذٍ، وهذا وجه واضح لا غبار عليه، وهذا آخر الكلام على هذه الشبه التي يزعمون أنها دلائل عقلية توجب القطع بعدم العقاب، وقد تبين لك بحمد الله وحسن توفيقه وإعانته بطلانها، وانهدام أركانها، وأنها عن قضايا العقول بمعزل، بل العقل كما قرررنا يقضي بخلافها، ويحكم بضد أحكامها، وكيف يجوز من العقل السليم أن يحكم بما يخالف ما علم في الذكر الحكيم، حاشا حجج الله من التناقض والاختلاف، وعدم المطابقة، والإئتلاف، والحمد لله رب العالمين.
واعلم أن الرازي بعد أن أورد الشُّبَهَ المتقدمة قال: إن من آمن من هؤلاء اعتذروا عما ورد في القرآن من أنواع العذاب من وجوه.
قلت: ونحن نورد تلك الوجوه، ونجيب عنها بعون الله تعالى:
الوجه الأول: أن الدلائل العقلية تفيد اليقين، وقد تقدم تقريرها، وأما الدلائل اللفظية فلا تفيد إلا الظن؛ لأنها مبنية على نقل اللغات وقواعد النحو، والصرف وناقلوها لم يعلم بلوغهم حد التواتر، ولأن ثبوت دلالة الألفاظ على القطع مبنية على عدم الاشتراك والتخصيص، وعدم المجاز، وعدم الإضمار وغير ذلك، وكل ذلك أمور ظنية مع ما عارضها من تلك الأدلة العقلية القطعية التي لا تعادلها تلك الظنيات.
والجواب: أما ما ادعوه من الدلائل العقلية فقد تقدم ذكرها، وبيان
أنها عن العقل بمراحل، وأما قولهم: إن الدلائل اللفظية لا تفيد إلا الظن فغير مسلم، بل بطلانه معلوم من حيث الإطلاق فإن كثيراً منها تدل على مدلولاتها دلالة قطعية لا شك فيها، ولا امتراء، وذلك معلوم ضرورة، وأما قولهم: إنها مبنية على نقل اللغات ...إلخ.
فنقول: لا شك أن كثيراً من لغات العرب منقولة بالتواتر نقلها الخلف عن السلف حتى العوام، وتلقفوها عنهم ولم يغيروها عن وضعها العربي، إلا فيما يرجع إلى البناء والإعراب في بعضها، لكنه على وجه لا يتغير به المعنى، ولا يتوقف فهم الدلالة عليه، وهذا معلوم.
وأما قولهم: إِنها مبنية على نقل قواعد النحو والصرف وهي أحادية، فلا نسلم توقفها كلها على ذلك كما تقدم سلمنا، فلا نسلم عدم بلوغهم حد التواتر في أكثر تلك القواعد، بل هم في الكثرة والوفرة أضعاف من يحتاج إليه في التواتر، وذلك أشهر من نار على علم، ولا يمتري فيه من له أدنى إلمام بكتب الأدب واهتمامهم بجمع تلك القواعد من البراهين الساطعة الدالة على حصول العلم الضروري بحقيتها، واقتضاء كلام العرب لها، لولا ذلك لما وقع الاتفاق على أكثرها والاستمرار عليه، وعدم التغيير والتبديل فيها، هكذا تناسلت عليه القرون إلى وقتنا هذا، فلولا حصول العلم الضروري بها لما وقع هذا الاستمرار.
واعلم أن بعض العلماء قد شكك في التواتر بما هو معروف، وحاصل ما شكك به أن التواتر نقل جماعة عن جماعة يستحيل تواطؤهم على الكذب عادة مستندين إلى الحِسِّ.
وقد قيل: إن الواضع لم يتعين فإلى من ينتهي النقل، وأيضاً إن الناقلين إنما نقلوا ما فهموا من إطلاقات العرب المحفوفة بالقرائن، لا أنهم نقلوا أن العربي قال: إن هذا اللفظ موضوع لهذا المعنى، وأيضاً لا يعلم استواء الطرفين والوسط، فلعل النقل انتهى في بعض الأدوار الماضية إلى الآحاد.
والجواب: أنه ينتهي النقل إلى الواضع والاتفاق على حصوله في الجملة كاف، وليس تعيينه مما تتوفر الداوعي إلى نقله كاللغة، ولهذا قيل: إن الاتفاق على وجود الموضوعات يغني عن تكلف تعيين الواضع، وأما قوله: إن الناقلين إنما نقلوا ما فهموا... إلخ.
فنقول: لو سلم ذلك فإن اتفاق النقلة مع كثرتهم على تلك المعاني مما يحصل به العلم الضروري على إرادتها، وقطعية القرائن الدالة عليها، والفهم وإن كان بمعونة القرينة فلا تخرج بها الدلالة عن كونها لفظية وضعية،كما هو مقرر في موضعه،على أنا لا نسلم أن الناقلين إنما فهموا ذلك بمعونة القرينة،بل نقل الخلف عن السلف استعمال الألفاظ في معانيها من دون توقف على القرائن، وإنكاره مكابرة ودليل التواتر حصول العلم بذلك،وقد تقرر أن ضابط شرط التواتر والعلم بحصوله حصول العلم بصدقه،ثم إنا لو سلمنا ما قدحتم به في التواتر من حيث استكمال شرائطه،فلا يمكنكم دفع العلم الضروري بكون السماء، والأرض والجدار، والدار ونحوها كانت موضوعة في الأزمنة الماضية لهذه المعاني التي استعملت فيها الآن، وهذا ذكره الرازي في مقدمة تفسيره، وفي المحصول.
قال: وإنا نجد الشبه التي ذكروها جارية مجرى شبه السوفسطائية القادحة في المحسوسات، قال بعض العلماء: وأنت خبير بأن هذا الجواب أفاد أن ثمة علماً ضرورياً، ولم يعلم كيفية طريقه، فثبت بما تقرر أَن الدلائل اللفظية تفيد العلم، وبطل قول هؤلاء الملحدة، والحمد لله، وأما قولهم: إنها مبنية على عدم الاشتراك والتخصيص... إلخ.
فجوابه أن هذا لا يرد إلا على من يجوز تأخير البيان عن وقت الحاجة، وأما نحن فلا نجوزه، وقد تقدم الكلام عليه في المسألة الأولى من مسائل الآيتين.
الوجه الثاني: أن التجاوز عن الوعيد مستحسن عند الناس، قال الشاعر:
وإني إذا أوعدته أو وعدته .... لمخلف إيعادي ومنجز موعدي
بل الإصرار على الوعيد كأنه يعد لؤماً، وإذا كان كذلك وجب أن لا يصح من الله تعالى.
قال الرازي: وهذا بناء على حرف وهو أن أهل السنة جوزوا نسخ الفعل قبل مضي مدة الامتثال، وحاصل قولهم: أَن الأمر يحسن تارة لحكمة تنشأ من المأمور به، وتارة لحكمة تنشأ من نفس الأمر، فإن السيد قد يقول لعبده: افعل كذا غداً وإن كان يعلم أنه سينهاه عنه غداً، ويكون مقصده أن يظهر العبد الانقياد، ويوطن نفسه على امتثال أمره، فكذلك إذا علم الله أن العبد يموت غداً فإنه يحسن عند أهل السنة أن يقول: صل غداً إن عشت، ولا يكون المقصود تحصيل المأمور به؛ لأنه محال، بل لحكمة تنشأ من نفس الأمر فقط وهو حصول الانقياد وتوطين النفس.
قال: إذا ثبت هذا فنقول: لِمَ لا يجوز ذلك في الخبر فتارة تكون منشأ الحكمة من الأخبار هو الشيء المخبر عنه، وذلك في الوعد، وتارة تكون الحكمة ناشئة من الخبر لا المخبر عنه كما في الوعيد فإن الإخبار بالوعيد يفيد الزجر عن المعاصي والإقدام على الطاعات، وإذا حصل هذا المقصود جاز أن لا يوجد المخبر عنه، وعند هذا قالوا: إن وعد الله بالثواب حق لازم، وأما توعده بالعقاب فغير لازم، وإنما قصد به صلاح المكلفين مع رحمته الشاملة لهم كالوالد يهدد ولده بالقتل وغيره.
فإن قبل الولد أمره انتفع، وإلا فشفقة الوالد ترده عن قتله وعقوبته.
فإن قيل: فعلى جمع التقادير يكون ذلك كذباً، والكذب قبيح.
قيل: لا نسلم أن كل كذب قبيح، وإنما القبيح الضار دون النافع، سلمنا لكن لا نسلم أنه كذب، أليس أن جميع عمومات القرآن مخصوصة ولا تسمى كذباً، أليس المتشابه مصروفاً عن ظاهره ولا يسمى كذباً، فكذلك هاهنا أقول: هاهنا أفصح الرازي بما فهمناه من إيراده لهذه الشبه، وهو أنه إنما أراد بها تقوية مذهب أصحابه، ألا ترى أنه هنا في أول كلامه إنما حكى هذه الوجوه عمن آمن بالقرآن ممن ينفي عقاب الكفار، ثم صرح في هذا الوجه بأن أهل السنة بنوه على مسألة النسخ قبل إمكان العمل.
والجواب: أما كون إخلاف الوعيد مستحسن عند العقلاء، فليس على إطلاقه، لكنا نقرر قاعدة يتبين بها ما يحسن إخلاف الوعيد فيه، وما يقبح، فنقول:
اعلم: أن الوعيد قد يرد على ضربين:
أحدهما: قد يتناول نفس الضرر فيكون إخباراً عن إيصال نفس الضرر إلى الغير في المستقبل، كالذي يتوعد غيره بضرب عنقه، ويقصد الإخبار بذلك.
والثاني: يتناول العزم على فعل الضرر بالغير في المستقبل دون نفس الضرر، كالذي يتوعد غيره بضرب العنق، ومقصوده الإخبار عن عزمه على ذلك، لا عن الضرر نفسه، وهذا هو الذي يجوز في العباد دون الأول؛ لأن العبد لا يعلم ما يكون في غد، ولا يدري هل يبقى سالماً متمكناً مما يريد أم لا؟ فلا يكون خبره متناولاً إلا العزم على ذلك الفعل؛إذ لا يجوز أن يخبر بما لا يعلم هل يصير
إليه أم لا،فإذا كان الحال كذلك جاز للعقلاء، وحسن منهم أن يطلبوا من أحدنا إخلاف وعيده؛ لأنهم إذا أحسنوا به الظن حملوا وعيده على الوجه الجائز ولم يحملوه على الإخبار بما لا يعلم وصوله إليه، ولا تمكنه منه، ولا يحسن منهم ذمه على الإخلاف، ولا وصفه بأنه كاذب لما تقدم من أن الظاهر أنه إنما أخبر عن عزمه لا عن نفس المضرة، فكأنه قال: أنا عازم أن أفعل كذا، وكذا، ولا شك أنه صادق في خبره عن عزمه، فإذا ظهر خطأ ذلك الفعل وصواب العفو عنه، فرجع عن عزمه لم يوصف بأنه كاذب، ولا يستحق ذماً، بل حيث ظهر الخطأ ولم يرجع استحق اللوم، ثم إنا لو قدرنا أنه أخبر عن نفس الضرر لا عن عزمه عليه، فلا يمتنع أنه قد توعد بالظلم ونحوه مما لا يستحقه من توعده، وحينئذٍ يحسن من العقلاء سؤاله ترك ذلك، بل يجب عليهم ولا يستحق لوماً ولا ذماً بترك ما قبح منه فعله، بل ترك ذلك واجب عليه، ولو كشف عن كون ذلك الوعيد كذباً؛ لأنه لم يصر كذباً بالخلف، بل كشف عن كونه عند إيقاعه كذباً لإخباره على القطع عما لا سبيل إلى القطع فيه، فلم يصر لأجل الخلف كاذباً فيقبح بل كشف عن أنه كان كاذباً، وذلك لا يقتضي قبح الخلف.
وإذا عرفت هذه القاعدة وتقررت لديك علمت أنه لا يجوز من الله تعالى إخلاف الوعيد؛ لأن هذه الوجوه المقتضية لجوازه في الشاهد منتفية في حقه تعالى، وبيان ذلك أنه تعالى يخبر لا عن عزم ولا ظن، ولا اعتقاد؛ لأنها لا تجوزعليه تعالى علواً كبيراً، بل يخبر عن علم فلو خالف كان كاذباً، والكذب لا يجوز عليه سبحانه؛ لأنه لا يكون متوعداً بالظلم لأن العقاب مستحق كما قال تعالى: {وَلِكُلٍ دَرَجَاتٌ مِمَّا عَمِلُوا}[الأحقاف:19] ولو قدرنا في الواحد منا أنه توعد بماله إيصاله كالحد، فليس الخلف فيه كرم. ذكره القرشي.
وبعد: فإن ظاهر كلام الخصم أنه يصح وصف الله تعالى بالخلف، وهو ظاهر البطلان.
حكي أن أبا عمرو بن العلاء استدل على عمرو بن عبيد بالبيت المذكور على جواز إِخلاف الوعيد، فقال عمرو: إن الشاعر قد يمدح بالشيء وبضده، وقد مدح بعضهم بالوفاء بالوعيد كما مدح بالوفاء بالوعد، فقال:
إن أبا خالد لمجتمع الرأي .... شريف الآباء والبيت
لا يخلف الوعد والوعيد ولا .... يبيت من ثاره على فوت
زاد في المنهاج بعدهما، وقال آخر يمدح النبي صلى الله عليه وآله وسلم :
علمت رسول الله أنك مدركي .... وإن وعيداً منك كالأخذ باليد
ولكن هلم إلى كتاب الله الذي لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه تنزيل من حكيم حميد، قال الله تعالى: {وَنَادَى أَصْحَابُ الْجَنَّةِ أَصْحَابَ النَّارِ} الآية[الأعراف:44] فانقطع أبو عمرو، ثم قال له عمرو: فالذي يخلف الوعيد في الشاهد هل تسميه مخلفاً؟ قال: نعم، قال: فهل تسمي الله مخلفاً إذا خلف وعيده؟ قال أبو عمرو: لا يجوز، قال عمرو: فقد أبطلت شاهدك، قال الديلمي: ولاشك أن كلام عمرو بن عبيد كلام ظاهر البيان، واضح البرهان والدلالة، ونقول: هب أن ما قلتم معقولاً على بعض الوجوه، فالسمع قد منع منه، قال تعالى: {مَا يُبَدَّلُ الْقَوْلُ لَدَيَّ}[ق:29] وأما قول الرازي: إنهم بنوه على جواز النسخ قبل مضي مدة الامتثال، فهو بناء على أصل فاسد لما تقرر في موضعه من أنه يلزم البدأ أو العبث، وما أبداه في بيانه من أن الأمر يحسن تارة لحكمة تنشأ من المأمور به ...إلخ.
فجوابه: أنهم قد بنوا هنا على غير أصلهم، فإن أفعال الله لا تعلل بالحكمة عندهم، ولكنهم لا يبالون في تقرير مذاهبهم بما ارتكبوا من خلاف قواعدهم، ولهذا تجدهم يؤيدون أقوالهم بشبه الكفار، وأما هنا فقد أيدوها بأقوال أهل العدل، إلا أنه أخطأ في جعل الحكمة ما ذكره، وإنما هي ما يعلمه الله من المصلحة في التكليف بالفعل إلى وقت، ثم يبين رفعه عند انتهاء وقته، والمصالح تختلف باختلاف الأوقات والأشخاص وغيرها، وإنما جعلنا الحكمة ما ذكرنا لما يلزم على قوله من البدأ أو العبث، فأما قولهم: إن المقصود هو توطين النفس على الامتثال، وإن علم الآمر أن المكلف يموت قبل الوقت، فجوابه من وجهين:
أحدهما: أنه يكون من التكليف بما علم الآمر انتفاء شرط وقوعه، وهو باطل.
الثاني: أن وجوب العزم فرع وجوب المعزوم عليه والداعي إليهما واحد، فإذا انتفى المعزوم عليه انتفى العزم، سلمنا فالتعبير عن العزم بالفعل إِلغاز وتعمية؛ إذ لم يوضع له، ولا قرينة تدل عليه، ولو سلم لم يكن من النسخ في شيء لاختلاف المتعلقين، وإذا ظهر بطلان الأصل بطل ما فرعه عليه في الأخبار، ثم إنا نقول: جعلكم منشأ الحكمة في الوعد المخبر عنه وفي الوعيد الخبر نفسه، تحكم محض فإن لنا أن نقلب عليكم القضية.
فإن قلتم: إنما قلنا ذلك لأن في الوعيد زجراً عن المعاصي، وحثاً على الطاعة.
قلنا: وفي الوعد أيضاً ترغيب في الطاعة، وزجر عن المعاصي المانعة من نيل الموعود به، فليس أحدهما يجعل منشأ الحكمة فيه المخبر عنه، وفي الآخر الخبر بأولى من العكس، سلمنا فما فائدة هذا الزجر عن المعاصي مع عدم العقاب عليها، وأي أثر يؤثر في تركها مع علم مرتكبها بأنه لا يصل إليه شيء من ذلك الوعيد، وما هذا الصلاح الذي أراده بالمكلفين مع هذه الرحمة الشاملة؛ إذ الصلاح أن يزجرهم عما يوجب لهم الضرر العظيم، وهنا لا ضرر عظيم ولا حقير، فأما القياس على تهدد الوالد ولده ثم عفوه عنه فقياس باطل؛ لأن الوالد يلتذ بنفع ولده، ويتضرر بقتله وعقوبته، فالتهدد والعفو فيهما نفع للوالد، ودفع مضرة عنه، وليس كذلك الباري تعالى فإنه لا يلتذ ولا يتضرر، فحسن من الوالد العفو لنفع نفسه، ودفع الضرر عنها، ولأن عقوبة ولده قد تكون ظلماً، ولا يعد كاذباً لما مر من أنه إنما أخبر عن عزمه، بخلاف الباري تعالى فإنه لا يخبر إلا عن علم، فلو تخلف ما أخبر به كان كاذباً لا محالة.
فأما قوله:إنه لا يقبح الكذب النافع، فقول باطل فإن الكذب لا يخرج عن القبيح بحال.
فإن قالوا: أنتم توافقون في حسن الكذب المتضمن لإخفاء نبي ممن يريد قتله.
قلنا: لا نسلم حسنه، بل نقول: تعارض قبيحان الكذب وهلاك النبي بسبب الصدق، فرجح ارتكاب الكذب لكون قبحه أهون، مع أنه لا يجوز ارتكابه إلا مع عدم إمكان التعريض، وإلا فهو المقدم كما فعل بعض الصحابة وقد سئل عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم من هو؟
فقال: رجل يهدينا السبيل، فأما إذا كان النفع الحاصل بالكذب مجرد عن لزوم القبيح بفواته فلا.
نعم قد قيل: إن قبح الكذب النافع لا يعلم إلا بالسمع كما مر وإذا ثبت قبح الكذب مطلقاً ثبت أن إخلاف الله الوعيد لو وقع لكان قبحه مجرداً عن المعارض الذي يجوز معه ارتكابه؛ لأنه لا معارض يقدر إلا العقاب، وهو مستحق، والمستحق لا يقبح.
وأما قوله: إن جميع العمومات القرآنية مخصوصة ...إلخ .
فجوابه:أنا لا نسلم أن جميع العمومات القرآنية مخصوصة، فما هذه المجازفة في الدعوى، أين المخصص لقوله تعالى: {الْحَمْدُ لِلَّهِ} وقوله: {رَبِّ الْعَالَمِينَ}[الفاتحة:2]إلى غير ذلك، ثم إنا لم نجد لآيات الوعيد مخصصاً من المخصصات التي يدعونها، وليست متشابهة فنصرفها عن ظاهرها، ولم نجد لها قيداً فنقيدها به غير التوبة من المعاصي، والإقلاع عنها، والقيام بالواجب.
واعلم: أنا قد قدمنا أن المقصد بالخطاب فهم معناه، والعموم معناه الشمول، فوجب حمله عليه قطعاً، سيما في مسائل الاعتقاد فإنه لا غرض بالخطاب بها إلا ليعتقد معناها، فلو لم يرد بها ظاهرها لم يجز الخطاب بها إلا مع بيان المراد منها؛ لئلا تحملنا على اعتقاد جهل. والله أعلم.
الوجه الثالث: قالوا:إنكم تقولون:إن الوعيد مشروط بعدم التوبة وإن لم يكن هذا الشرط مذكوراً في النص، فما المانع من كونه مشروطاً بعدم العفو، وإن لم يذكر صريحاً، أو يقول: معناه الإخبار عن الاستحقاق، فتحمل الأخبار بالوقوع على استحقاق الوقوع فقط.
والجواب: أن ذلك الشرط الذي ذكرناه اقتضته الدلالة، وقامت عليه الحجة، وليس كذلك الحال فيما ذكرتموه، فإنه لا ينبي عنه الظاهر، ولا تقتضيه الدلالة، فلا يجوز إثباته بوجه، وقد تكرر أنه لا يجوز أن يخاطبنا الله بخطاب يريد به غير ما يقتضيه ظاهره، ثم لا يدل عليه؛ لأن ذلك يقدح في حكمته، ويصير ملغزاً معمياً، ثم إنه لو جاز أن يكون في عمومات الوعيد شرط، أو استثناء لم يبينه الله تعالى لجاز مثله في عمومات الوعد، بل يجوز مثله في الأوامر والنواهي، فيقال: في أقيموا الصلاة أن المراد إن اخترتم أو إن لم يشغلكم عنها شاغل، أو نحو ذلك، والمعلوم خلافه؛ لأنه يوجب الانسلاخ من الدين.
فإن قيل: ليس علينا تكليف في عمومات الوعيد، بخلاف الأوامر والنواهي.
قيل: بل علينا فيها تكليف، وهو أن نعتقد معناها كما تقدم، وأن الله لا يخلف وعده ولا وعيده، ولا يغير قوله ولا يبدله، كما أخبر حيث يقول: {مَا يُبَدَّلُ الْقَوْلُ لَدَيَّ وَمَا أَنَا بِظَلاَّمٍ لِلْعَبِيدِ}[ق:29].
وقد طولنا الكلام في رد هذه الشبه العشر مع ما جعلناه مقدمة لإبطالها من بيان الاستحقاق للعقاب، لما في تحقيق ما يتعلق بهذه المسألة من دقيق النظر، حتى لا يظهر الصواب فيه إلا عن جودة فكرة، وتوضيح عبارة، وتحقيق دلالة، وتنوير من الله جل جلاله، وصل يا رب وسلم على محمد وآله.
البقرة: 8
وتشتمل على مسائل:
قوله تعالى: {وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَقُولُ آمَنَّا بِاللَّهِ وَبِالْيَوْمِ الآخِرِ وَمَا هُمْ بِمُؤْمِنِينَ}[البقرة:8]
روي إجماع المفسرين على أن هذه الآية نزلت في المنافقين، وإنما اختلفوا هل نزلت في منافقي أهل الكتاب، أم في منافقي المشركين، وكذلك ما بعدها من الآيات إلى تمام ثلاث عشرة آية كما في كتب التفسير، وتتعلق بها مسائل:
المسألة الأولى [في حقيقة المنافق]
في حقيقة المنافق، وهو في اللغة من يظهر أمراً، ويبطن خلافه، مأخوذ من النافقا، وهو أحد جُحَرة اليربوع حيث كان يخفي أحد بابيه ويظهر الآخر.
قال في الصحاح: لليربوع ثلاثة جحره: القاصعا: وهو الذي يستعمله ويقصع فيه أي يدخل، والدامَّا: وهو الذي يخرج منه التراب من دم اليربوع جحره أي كنسه، والنافقا: هو الذي يكتمه، ويظهر غيره، ويرققه فإذا أتي من قبل القاصعا ضرب النافقا برأسه فانفتق أي خرج، وقد ذكر الناصر نحوه في البساط.
وأما في الشرع: فقد اختلفوا في حقيقته، فالذي نص عليه جماعة من أئمتنا " وغيرهم أنه من أظهر الإسلام، وأبطن الكفر.
وروى الإمام المهدي عليه السلام إجماع الصحابة على ذلك، وهو الذي تدل عليه الآية الكريمة، ويستفاد من سبب نزولها لأنها نزلت في شأن المنافقين على عهد النبي صلى الله عليه وآله، ولا شك أنهم كانوا يظهرون الإسلام ويبطنون الكفر، ويستفاد من الحد أن من كان خالي القلب عما يطابق ما أظهر، وعما يضاده، فإنه لا يسمى منافقاً.
وظاهر كلام الرازي أنه منافق؛ لأنه ذكر تقسميات لأحوال القلب باعتبار حلول الاعتقاد فيه، وخلوه عنه، ثم قال: فهذه هي الأقسام الممكنة في هذا الباب، وقد ظهر منه أن النفاق ما هو وأنه الذي لا يطابق ظاهره باطنه، سواء كان في باطنه ما يضاد ما في ظاهره، أو كان باطنه خالياً عما يشعر به ظاهره.
قلت: ولا يخفى أن ظاهر الآية مع ما بعدها يقضي بخلاف قوله: وهو أنه لا يسمى منافقاً إلا إذا كان في باطنه ما يضاد ظاهره، ويقضي بأنه لا بد أن يكون ذلك الضد كفراً؛ لأن الآيات مسوقة لبيان صفات المنافقين، وما لأجله استحقوا هذا الاسم، ويشهد لذلك آيات أخر، وستأتي إن شاء الله، منها قوله تعالى: {يَحْذَرُ الْمُنَافِقُونَ أَنْ تُنَزَّلَ عَلَيْهِمْ سُورَةٌ تُنَبِّئُهُمْ بِمَا فِي قُلُوبِهِمْ}[التوبة:64].
وقال القاسم بن إبراهيم عليه السلام في رواية عنه: بل المنافق هو المرائي؛ لأن النفاق في اللغة الرياء، وهو: إظهار الخير، وإبطان الشر، فهو باق على معناه اللغوي لم ينقله الشرع إلى إظهار خير مخصوص وهو الإسلام، وإبطان شر مخصوص وهو الكفر، وروي مثل قوله عن زيد بن علي والناصر عليهما السَّلام ، واختاره الشرفي إذ لا دليل على النقل.
وأجيب: بأنا لا نسلم أن النفاق في اللغة الرياء فقط، بل هو فيها لما هو أعم منه، كما مر من أنه من يظهر أمراً ويظهر خلافه، ويشهد له مأخذه سلمنا، فليس مطلق الرياء، بل رياء مخصوص، وهو ما ذكرنا، وقد نص على ذلك الهادي عليه السلام ، وحكاه عن العرب، فإنه قال: والنفاق في كلام العرب:إظهار الإيمان وإسرار الكفر، وهو الرياء؛ لأن الرياء: إظهار الخير،وإسرار الشر،ثم ذكر أن الفاسق لا يسمى منافقاً؛ لأنه قد أظهر فسقه،ثم قال:كما أن المرائي إذا أظهر ما في قلبه من الشر فقد برئ من الرياء، وصار فاجراً فاسقاً، وكذلك المنافقون لو أُظْهِرَ ما في قلوبهم من الكفر والنفاق لكانوا مجاهرين بالكفر، وزال عنهم اسم النفاق، فهذا تصريح منه عليه السلام بأن النفاق لغة رياء مخصوص، ويؤيده قول صاحب القاموس: ونافق في الدين ستر كفره وأظهر إيمانه وقد استدل في الأساس لمذهب القاسم عليه السلام بقوله تعالى: {هُمْ لِلْكُفْرِ يَوْمَئِذٍ أَقْرَبُ مِنْهُمْ لِلْإِيمَانِ}[آل عمران:167] وأجاب عنها، ونحن لا نتكلم على الآيات إلا في مواضعها، إلا أن الذي تقتضيه هذه الآية التي نحن بصددها، وما بعدها من الآيات أن النفاق ما ذكره الهادي عليه السلام ؛ لأن تلك الأوصاف لا تكون مجموعة إلا في كافر، بل قد صرح بكفرهم في قوله: {وَاللَّهُ مُحِيطٌ بِالْكَافِرِينَ}[البقرة:19] ولعل ذلك هو النكتة في العدول إلى الظاهر، أعني أنه إنما عدل عن قوله: {وَاللَّهُ مُحِيطٌ} بهم إلى قوله: {بِالْكَافِرِينَ} لأجل بيان كفرهم والدلالة عليه، وأن
إظهارهم للإيمان لا يخرجهم عن الكفر. والله أعلم.
ويمكن حمل كلام القاسم عليه السلام على ما ذكره الهادي عليه السلام من أنه رياء مخصوص، وأما الحكاية عن الناصر عليه السلام ففيها نظر، فإنه لم يقصر النفاق على الرياء، بل جعل كل عاص معصية كبيرة منافقاً نص عليه في البساط، وإلى مثل قوله ذهب الحسن البصري فإنه يقول: إن الفاسق منافق، والحجة لهذا القول أنه لو كان مؤمناً بالله، موقناً بالجنة والنار لم يقدم على الفسق، كما أن الواحد منا إذا قيل له: إن فعلت كذا أو تركته عذبتك بهذه النار المؤججة، وهو عالم بقدرة المتوعد، وأنه لا يخلف وعيده، فإنه والحال هذه لا يفعل ذلك الفعل قطعاً، فلما رأينا الفاسق ارتكب المعاصي مع هذا الوعد والوعيد، علمنا أن في اعتقاده خللاً، وأنه مكذب في الباطن وإن أظهر التصديق، واحتج أيضاً بأن الفاسق يستحق اللعن والذم كالمنافق، فلا يمتنع إجراء هذا الاسم عليه، وقد أطال الناصر الاحتجاج على مذهبه في (البساط) ومن أدلته أن المنافقين على عهد رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم كانوا يعاملون معاملة المؤمنين من تركهم مع نسائهم المؤمنات، والصلاة عليهم،ودفنهم في مقابر المسلمين،ووجوب الزكاة عليهم،وإعطائهم منها.
والجواب من وجهين: جملي، وتفصيلي:
الوجه الأول: الجملي وهو ما ذكره الهادي عليه السلام ، وحاصله أن الله قد فرق بين المنافقين، وأهل الكبائر من أهل الصلاح في كتابه، فوصف المنافقين بأنهم {وَإِذَا لَقُوا الَّذِينَ آمَنُوا قَالُوا آمَنَّا وَإِذَا خَلَوْا إِلَى شَيَاطِينِهِمْ قَالُوا إِنَّا مَعَكُمْ إِنَّمَا نَحْنُ مُسْتَهْزِئُون}[البقرة:14] وبأنهم يقولون: ما وعدهم الله ورسوله إلا غروراً، ولا يقومون إلى الصلاة إلا وهم كسالى، إلى غير ذلك من الأوصاف التي ليست في أهل الكبائر، فإنهم لا يستهزئون بالله، ولا بالنبي،ولا يقولون:ما وعدنا الله ورسوله إلا غروراً،ومنهم من يقوم إلى الصلاة بنشاط وإخلاص عن الرياء،وإنما آثروا شهواتهم،وبعضهم يوجب الوعيد لنفسه،ويؤمل التوبة،ويسوف بها،وبعضهم يدين بدين المرجئة.
وقال السيد مانكديم في رد مذهب الحسن البصري: الذي يدل على فساد هذا المذهب: المناظرة التي جرت في ذلك بين عمرو بن عبيد، والحسن،فإنه قال للحسن:أفتقول إن كل نفاق كفر؟ قال:نعم،قال: أفتقول إن كل فسق نفاق؟ قال:نعم،قال:فيجب في كل فسق أن يكون كفراً، وذلك مما لم يقل به أحد.
قال السيد مانكديم: تحقيق هذه الجملة أن المنافق صار بالشرع اسماً لمن يستحق العقاب العظيم؛ لأنه أبطن الكفر، وأظهر الإسلام، وصاحب الكبيرة ليس هذا حاله، فلا يستحق هذا الاسم.
قلت: يقال لا نسلم أنه منقول عن المعنى اللغوي إلى ما ذكره، بل هو حقيقة لغوية، اسم لمن أبطن الكفر وأظهر الإسلام كما مر غايته أنه في اللغة من أظهر أي دين كان وأبطن الكفر به، سواء كان المظهر دين الإسلام أو غيره؛ إلا أن غير دين الإسلام لما كان غير معتد به، ولا تتعلق به الأحكام من الثواب والعقاب، وغيرهما من الأحكام الدنيوية والأخروية،لم يبين في الشرع إلا أحكام من أظهر دين الإسلام وأبطن الكفر به، ونحو هذه المناظرة قد حكاه الموفق بالله عليه السلام بين عمرو بن عبيد، وواصل بن عطاء،وذلك أن عمرو كان يذهب إلى مثل مقالة الحسن فناظره واصل،فقال له:أتقول أن اليهودية فسق؟ فقال: نعم، قال: أتسميه منافقاً؟ قال: لا لأنه مجاهر بها، ولا يبطنها ويظهر خلافها، فقال:كذلك الفاسق مجاهر بفسقه ولا يبطنه،ويظهر خلافه،فلا يجوز وصفه بأنه منافق، فرجع عن ذلك، وروى مناظرة عمرو، وواصل الإمام المهدي عليه السلام بأبسط من هذا، وزاد فيها: ثم إنه قال له واصل: الذي أذهب إليه أن مرتكب الكبيرة فاسق مجمع على صحته، والذي تذهب إليه مختلف فيه، والأخذ بالمجمع عليه هو الأحق والأصوب، فقال عمرو: ما معي للحق من عداوة ولا عنادٍ، أشهد أن الحق ما قاله أبو حذيفة، أشهدكم أني معتزل لمذهب الحسن، واعتزل حلقة الحسن فسموه ومن تبعه معتزلة.
قال الإمام المهدي عليه السلام : هذا أحد الروايات في سبب التسمية، وأما المناظرة فهو متفق عليها، وأراد واصل بأنه مجمع على الفسق، أن الناس مختلفون في صاحب الكبيرة، فبعضهم كفره، وبعضهم سماه منافقاً، وبعضهم قال هو مؤمن، ولم يختلفوا في أنه فاسق، وإلى هذا أشار الصاحب بقوله:
فالكل في تفسيقه موافق .... قولي إجماع وخصمي خارق
قلت: واحتجاج واصل على عمرو بأن قوله مجمع عليه أصح من احتجاج عمرو على الحسن، وإلزامه القول بأن كل فسق كفر، وأن ذلك مما لا يقول به أحد، فإن الناصر عليه السلام وغيره يسمون الفاسق كافراً، كما سيأتي تحقيقه إن شاء الله في موضعه.
الوجه الثاني: في الجواب التفصيلي
فنقول: أما القول بأن ارتكاب المعصية ليس إلا من قلة اليقين، فيؤخذ جوابه من كلام الهادي عليه السلام ، وأما الاستدلال على عدم يقينه من معصيته بدليل أنه لو قيل له: إن فعلت كذا عذبتك بهذه النار إلى آخر ما مر، فقد ذكرنا في سياق الآية التي قبل هذه أن الإنسان إلى العاجل أميل منه إلى الآجل، وأنه قد يهرب من قليل الألم العاجل أعظم من هربه من العذاب الدائم الآجل، مع اليقين بالكل، وقد نبه الله على هذا بقوله: {كَلاَّ بَلْ تُحِبُّونَ الْعَاجِلَةَ ، وَتَذَرُونَ الآخِرَةَ}[القيامة:20،21] فلم يكن ارتكاب المعصية دليلاً على ضعف اليقين، وفي الإحاطة أن الفاسق قد يعلم من حاله ضرورة أنه يعتقد الوعيد، ولا يظن خلافه، قال: وكذلك أحدنا من نفسه يعلم ذلك وإن كان متعاطياً لفسق، فدل على أن تعاطيه ذلك، واستمراره لايدل على أنه يبطن خلاف ما يظهر.
وأما ما ذكره الناصر عليه السلام من أنه مأخوذ من جحرة اليربوع، فنقول: مسلم أنه مأخوذ من ذلك، لكنا قد دللنا على أن أهل اللغة اشتقوه منه لما ذكرنا، ثم لو سلمنا أنه مشتق لمن أبطن خلاف ما أظهر مطلقاً، فقد بينا أن هذه الآية وغيرها من الآيات الواردة في صفة المنافقين، دالة على النقل من المعنى اللغوي إلى المعنى الشرعي الذي اخترناه.
وأما استدلاله عليه السلام بأن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم عامل المنافقين معاملة المسلمين.
فجوابه: أن ذلك فيمن لم يتبين نفاقه؛ إذ شرائع الإسلام فيما يرجع إلى أحكام الدنيا مبنية على الظاهر، ويدل عليه حديث: ((نحن نحكم بالظاهر)) وحديث: ((أمرت أن أقاتل الناس حتى يقولوا لاإله إلا الله...)) الخبر.
وأما من ظهر نفاقه وشقاقه، فلا نسلم ذلك، بل عاملهم معاملة الكفار، فقد نهي عن الصلاة عليهم، والقيام على قبورهم، وأخذ الصدقة منهم، كما في قصة ثعلبة.
وأما الاحتجاج باستحقاقه للذم واللعن.
فجوابه: أن اشتراكهما في ذلك لا يوجب اشتراكهما في الاسم، فإن من المعلوم أن الفاسق يشارك الكافر في ذلك الاستحقاق ولا يسمى كافراً، ثم إن استحقاق الفاسق للذم والعقاب، ليس على الحد الذي يستحقه المنافق والمنافق أيضاً يستحق إجراء أحكام الكفار عليه إذا علم نفاقه، وليس كذلك صاحب الكبيرة، فلا يتساويان من كل وجه حتى يصح إلحاق الفاسق بالمنافق في الحكم، وقد احتج الناصر عليه السلام على مذهبه بأحاديث ذكرها في البساط، ونحن نأتي بها على وجهها، ثم نذكر الجواب عنها، فنقول:
قال الناصر عليه السلام : أخبرني الثقة، عن محمد بن منصور، عن محمد بن جميل، عن فضيل، عن الهجري، عن أبي الأحوص، عن عبد الله، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم : ((الأرواح جنود مجندة، فما تعارف منها ائتلف، وما تناكر منها اختلف، حتى لو أن رجلاً مؤمناً دخل مسجداً ليس فيه إلا مؤمن واحد لذهب حتى يجلس معه، ولو أن رجلاً منافقاً دخل مسجداً ليس فيه إلا منافق واحد لذهب حتى يجلس معه)).
قال الناصر عليه السلام : والمساجد مجالس المسلمين، ومحمد بن منصور المرادي، عن أحمد بن يحيى، قال: حدثنا إبراهيم بن علي بن وهب، عن غياث بن بشر التميمي، عن أبي إسحاق السبيعي، قال: حدثني الحارث، قال: حدثني علي بن أبي طالب، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم : ((إني لا أتخوف على أمتي مؤمناً ولا مشركاً، أما المؤمن فيحجزه إيمانه، وأما المشرك فيقمعه شركه، ولكن أتخوف عليهم منافقاً عليم اللسان يقول ما يعرفون، ويفعل ما ينكرون)).
ومحمد بن منصور، عن سفيان بن وكيع، عن زيد بن حباب، عن عبد الله بن شريح، قال: حدثني شراحيل بن يزيد المعافري، قال: سمعت محمد الصدفي -يعني ابن هدبة- قال: سمعت عبد الله بن عمرو يقول: سمعت النبي صلى الله عليه وآله وسلم يقول: ((أكثر منافقي أمتي قراؤها)).
ومحمدبن منصور، عن يوسف القطان، قال: حدثنا مهران بن أبي عمرو،قال: حدثني علي بن عبد الأعلى، عن أبي النعمان، قال: حدثنا أبو وقاص، قال: قال سلمان: قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم : ((من خلال المنافق إذا حدث كذب، وإذا أوعد أخلف)).
ومحمد بن منصور، عن الحكم بن سليمان، عن خالد بن الهيثم، عن عكرمة بن عمار، عن يزيد الرقاشي، عن أنس بن مالك، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم : ((ثلاث خصال من كن فيه فهو منافق، وإن صام وصلى، وحج واعتمر، وزعم أنه مسلم: إذا حدث كذب، وإذا وعد أخلف، وإذا اؤتمن خان ذئب بالليل، ذئب بالنهار)).
ومحمد بن منصور، قال: حدثنا علي بن أحمد، قال: أخبرني مخول بن إبراهيم، قال: حدثنا محمد بن بكر، عن أبي الجارود، قال: حدثنا بشير بن ميمون، قال: سمعت الحسن يقول: قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم : ((في المنافق ثلاث وإن صام وصلى وزعم أنه مسلم: إذا اوتمن خان، وإذا وعد أخلف، وإذا حدث كذب)).
ومحمد بن منصور، قال: حدثنا الحكم بن سليمان، عن خالد بن الهيثم، عن أيوب بن حوط، عن حميد بن هلال العدوي، عن ابن مسعود، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم : ((أربع خصال من كن فيه فهو منافق حقاً، ومن كان فيه خصلة منها ففيه خصلة من النفاق حتى يتوب أو يدعها: إذا حدث كذب، وإذا اوتمن خان، وإذا خاصم فجر، وإذا عاهد غدر)) وأخبرني محمد بن علي بن خلف، قال: حدثني يحي بن هاشم الغساني، عن أبي وائل، عن عطية العوفي، قال: سألت جابراً بعد ما كبر وسقط حاجباه على عينيه عن علي عليه السلام ، قال: ذلكم خير البشر، ما كنا نعرف نفاقاً ونحن على عهد رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم إلا ببغض علي. قال: وأخبرني محمد بن علي بن خلف، قال: حدثني الحسين الأشقر، قال: حدثنا جعفر الأحمر، عن أبي هارون العبدي، عن أبي سعيد الخدري، قال: ما كنا نعرف المنافقين إلا ببغضهم علي بن أبي طالب عليه السلام ، فإذا ولد فينا المولود ولم يحب علياً عرفنا أنه منافق.
قال: وأخبرني محمد بن علي بن خلف، قال: حدثني الحسين الأشقر، قال: حدثنا حسن بن صالح بن حي، عن مسلم الأعور، عن حبة العرني، قال: سمعت علياً عليه السلام يقول: قضي فانقضى أنه لايحبني إلا مؤمن، ولا يبغضني إلا منافق).
وأخبرني محمد بن منصور، قال: حدثنا عباد بن يعقوب،عن حسين بن حماد، عن أبيه، قال: قال زيد بن علي عليه السلام : أيكم يأمنُ أن يكون وقعت عليه هذه الآية {وَمِنْهُمْ مَنْ عَاهَدَ اللَّهَ لَئِنْ آتَانَا مِنْ فَضْلِهِ لَنَصَّدَّقَنَّ وَلَنَكُونَنَّ مِنَ الصَّالِحِينَ} إلى قوله تعالى: {نِفَاقاً فِي قُلُوبِهِمْ إِلَى يَوْمِ يَلْقَوْنَهُ بِمَا أَخْلَفُوا اللَّهَ مَا وَعَدُوهُ وَبِمَا كَانُوا يَكْذِبُونَ}[التوبة:75-77].
قال: وحدثنا بشر، قال: حدثنا وكيع، قال: حدثنا الأعمش، عن عمرو بن مرة، عن أبي البحتري قال: قال رجل: اللهم أهلك المنافقين، فقال حذيفة: لو هلكوا ما انتصفتم من عدوكم.
قال الناصر عليه السلام : لقلة المؤمنين، قال: حدثنا بشر، قال: حدثنا وكيع، قال: حدثنا الأعمش وسفيان، عن سلمة بن كهيل، عن حبة بن جون، قال: كنا مع سلمان في غزاة فصادفنا العدو، فقال سلمان: هؤلاء المشركون يعني العدو، وهؤلاء المؤمنون والمنافقون، يؤيد الله المؤمنين بقوة المنافقين، وينصر المنافقين بدعوة المؤمنين.
قال:حدثنا بشر،قال:حدثنا وكيع،قال:حدثنا الأعمش وسفيان، عن أبي المقدام،عن أبي يحيى،قال:سئل حذيفة من المنافق؟ قال:الذي يصف الإسلام ولا يعمل به. وحدثنا بشر، قال: حدثنا وكيع، قال: حدثنا الأعمش، عن أبي وائل قال: حدثنا حذيفة: المنافقون الذين فيهم اليوم شر المنافقين الذين كانوا على عهد رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ، قلنا: وكيف ذاك يا أبا عبد الله؟ قال: لأن أولئك أسروا نفاقهم، وإن هؤلاء أعلنوه.
قال: حدثنا بشر، قال: حدثنا وكيع، قال: حدثنا شعبة، عن الحكم، قال: قال إبراهيم: قال عبدالله: الغناء ينبت النفاق في القلب، قلت للحكم: من حدثك؟ قال: حماد، فأتيت حماداً فأقر به.
وحدثنا بشر، قال: حدثنا وكيع، قال: حدثنا حريث، عن حماد، عن إبراهيم، عن علقمة، عن عبد الله، قال: الغناء ينبت النفاق في القلب كما ينبت الماء البقل، فهذه الأحاديث مما احتج به الناصر عليه السلام على ما ذهب إليه من تسمية أهل الكبائر منافقين، ولها شواهد من رواية أئمتنا" وغيرهم، ولعله يأتي في أثناء الكتاب شيء منها.
والجواب: أنه قد مر أن هذه الآيات التي نحن بصددها، وما في معناها من كتاب الله تعالى دالة على المعنى الذي حكيناه عن من تقدم، وهذه الأحاديث لاتعارض بينها وبين الآيات القرآنية؛ إذ لا تدل على أن الكبائر نفاق بحال، بل هي باعتبار الدلالة على ثلاثة أقسام:
أحدها: ما يدل على أن بعض المعاصي علامة ودلالة على أن مر تكبها منافق، وليس فيها أن تلك المعاصي نفاق في نفسها، فإن علامة الشيء غير داخلة في حقيقته، وذلك كالأحاديث الواردة في بغض أمير المؤمنين عليه السلام ، والأحاديث الدالة على أن من ارتكب خصالاً كالكذب، والخيانة، ونحوهما فهو منافق، وهذه ليس فيها رائحة الدلالة على أن تلك المعاصي نفاق في نفسها، بل دلت على أن من أبغض الوصي عليه السلام ، واجتمعت فيه تلك الخصال فهو منافق، ومعنى ذلك أنا نستدل بها على أنه مبطن للكفر.
فإن قلت: فلم لا تُجْرى عليه أحكام الكفار؟
قلت: لأن إجراء أحكام الكفار فرع على ثبوت الكفر، والكفر لا يثبت إلا بقاطع، وهذه الأحاديث وإن فرضنا إفادتها القطع بنفاق من ارتكب هذه المعاصي، فنحن لانقطع بحصول تلك الخصال أجمع في فرد، ولا ببغض الوصي كذلك؛ لأن المتلبسين بهذه الرذائل لا يجاهرون بها، ولا يقرون بارتكابهم لها، وإنما يستدل على حصولها فيهم بما يظهر من فلتات كلامهم، وبعض معاملاتهم، ثم إن إظهارهم للشهادتين قد عصمت دماءهم، وأموالهم، ويدل على ذلك معاملة النبي صلى الله عليه وآله وسلم ، وأمير المؤمنين لمن عرف نفاقه معاملة المسلمين، وقد ذكر في البحر أن إسلام المشرك والمكذب بالرسول صلى الله عليه وآله وسلم بالنطق بالشهادتين، والمنافق قد نطق بهما، فيجب أن يعامل معاملة المسلم، وذكر بعضهم لإمساك النبي صلى الله عليه وآله وسلم عن قتل من عرف نفاقه وجوهاً غير ما ذكرنا، وسنأتي بها في موضع آخر يليق بها إن شاء الله تعالى، والذي ينبغي التعويل عليه أنه مهما لم يخرج عن اسم النفاق فلا تجري عليه أحكام الكفار؛ إذ لا يجري الحكم على الكافر إلا مع المجاهرة بالكفر، وإذا جاهر به خرج عن اسم النفاق، كمال قال الهادي عليه السلام في المنافقين: إنهم لو أظهروا ما في قلوبهم من الكفر والنفاق لكانوا مجاهرين بالكفر، وزال عنهم اسم النفاق، ولزمهم اسم الكفر والشرك، إذا عرفت هذا، فنقول: إن هذه العلامات لايخرج بها عن كونه منافقاً، وهذه الأحاديث تقضي بذلك، وإذا لم يخرج بها عن هذا الاسم وجب أن لاتجري عليه أحكام الكفر وإن أفادتنا هذه العلامات القطع بأنه مبطن للكفر مهما لم يجاهر به، إلا في أحكام مخصوصة كترك الصلاة عليه، والقيام على قبره ونحو ذلك، وبالجملة فإن الواجب الرجوع في أحكام أهل النفاق إلى ما كان يفعله النبي صلى الله عليه وآله وسلم من المعاملة والأحكام في منافقي زمانه، والله أعلم بمصالح عباده.
القسم الثاني: ما يدل على أن من المعاصي ما يؤل بصاحبه إلى النفاق كالآية التي ذكرها زيد بن علي عليه السلام ، والأخبار التي فيها أن الغناء ينبت النفاق، وذلك أن من المعاصي ما يكون سبباً للخذلان ومنع الألطاف، حتى يختار صاحبها الكفر والنفاق وغيرهما من الكبائر، وقد نبه الله على هذا في مواضع من كتابه، كقوله تعالى: {بَلْ طَبَعَ اللَّهُ عَلَيْهَا بِكُفْرِهِمْ}[النساء:155] {فَأَعْقَبَهُمْ نِفَاقاً فِي قُلُوبِهِمْ}[التوبة:77] {وَنَذَرُهُمْ فِي طُغْيَانِهِمْ يَعْمَهُونَ}[الأنعام:110] إلى غير ذلك.
القسم الثالث: ما لايدل إلا على ثبوت النفاق، وإن الشكل إلى شكله يرغب كحديث الأرواح ، وحديث: ((إني لا أتخوف على أمتي)) ونحوهما، وقول الناصر عليه السلام في حديث الأرواح: والمساجد مجالس المسلمين، يعني فهو دليل على أن صاحب الكبيرة يسمى منافقاً، فإنما تصح الدلالة لوكان المنافق بالمعنى الذي ذكرناه مسلوب القدرة على دخول المساجد، وليس كذلك قطعاً، وحينئذٍ فنقول: من الممكن دخول المنافق المسجد، فإذا دخله آخر مثله مال إليه؛ إذ إبطانه للكفر لايدفع الإمكان، وإذا كان كذلك فلا دلالة في الحديث لما ذهب إليه الناصر عليه السلام .
فإن قلت: فما تقول في قول حذيفة: المنافقون الذين فيهم اليوم...إلخ، وفيه لأن أولئك أسروا نفاقهم، وإن هؤلاء أظهروه، فأثبت النفاق بالمعاصي الظاهرة؟
قلت: إنما أراد بإظهار النفاق: إظهار علاماته، وما يقتضيه نفاقهم من الكيد للإسلام بوضع الأحاديث المكذوبة، والعداوة لأهل الفضل والسبق من الأمة، والتقرب إلى أئمة الجور، ونحو ذلك، ولم يرد أنهم أظهروا التكذيب بالإسلام والاستخفاف به؛ إذ لو كان الأمر كذلك لما تمكنوا من مكيدة الإسلام بحال، وقد دل على هذا حديث: ((إني لا أتخوف على أمتي...)) الخبر، وقول أمير المؤمنين عليه السلام : (إنما أتاك بالحديث أربعة رجال ليس لهم خامس: رجل منافق مظهر للإيمان متصنع بالإسلام) إلى قوله: (ثم بقوا بعده، فتقربوا إلى أئمة الضلالة، والدعاة إلى النار...) إلى آخره. رواه في النهج.
وفيه: (ولو علم الناس أنه منافق كاذب لم يقبلوا منه، ولم يصدقوا قوله). فهذا نص في أن إظهارهم للنفاق هو ما ذكرنا؛ إذ لو أظهروا ما أبطنوا من الكفر لما قال أمير المؤمنين عليه السلام : (ولو علم الناس أنه منافق...) إلخ.
وأما قوله: لأن أولئك كانوا يسرون نفاقهم، فذلك معلوم فإنهم لم يتمكنوا في زمان الرسول صلى الله عليه وآله وسلم من إظهار العداوة والكيد، خوفاً من نزول الوحي بما يوجب استئصالهم وفضيحتهم مع قوة الإسلام وأهله، ولذا كانوا إذا رأوا بالمسلمين وهناً أو نالهم شيء من الضعف والفشل، ظهر منهم بعض ما في قلوبهم، حتى توعدهم الله بقوله: {لَئِنْ لَمْ يَنْتَهِ الْمُنَافِقُونَ وَالَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ وَالْمُرْجِفُونَ فِي الْمَدِينَةِ لَنُغْرِيَنَّكَ بِهِمْ...} الآية[الأحزاب:60]، وبهذا اقتضى الكلام على رد ما ذهب إليه الناصر عليه السلام ، والحسن البصري، والذي يظهر أنه لاخلاف في التحقيق بينهما وبين القائلين بأن النفاق إظهار الإسلام وإبطان الكفر؛ إذ هما يقولان بذلك، إلا أنهما جعلا ارتكاب الكبائر دليلاً على الكفر باطناً، ولذا استدلا على نفاقه بأن ارتكابه في الفسق ليس إلا لضعف يقينه؛ إذ لو كان ثابت اليقين بالله وبوعده ووعيده لما ارتكب الكبيرة، وقد مر تحقيق ذلك كله، حتى أن الإمام المهدي، والسيد مانكديم ذكرا في تقرير حجة الحسن البصري أن المصدق الثابت اليقين في حكم الملجأ إلى ترك الكبيرة، كما ذكره في الواحد منا لو توعده القادر ...إلخ ما مر.
والتزم الإمام المهدي عليه السلام أن الصورة المذكورة توجب الإلجاء إلى الترك، ولكن قال: حال الفاسق يخالف هذا، فإنه لايعلم ولا يظن وصول العقاب إليه، إما لتجويز العفو والتوبة على ما مر، فهذا تصريح بأنهما لم يخالفا في حقيقة المنافق، وإنما استدلا على كفره بمعصيته، وغيرهما يقول: أنه يجوز ارتكاب الكبيرة مع القطع بصدق الوعيد عليها، وإنما يحمله عليها، إما تجويز العفو، أوالتسويف بالتوبة، وبهذا تعرف أن أكثر ما سقناه في الرد عليهما إنما يصلح الرد على الرواية المحكية عن زيد والقاسم عليهما السَّلام ، ومن وافقهما. والله أعلم.
المسألة الثانية [في التكليف]
الناس: جمع إنسان على غير لفظه، وقد اختلف الناس في الإنسان المكلف الذي يتوجه إليه الخطاب، ويستحق المدح والذم، وإليه تنسب الأفعال، وصاروا في المسألة فريقين:
الفريق الأول: زعموا أنه منفصل عن هذا الشخص ليس بجسم ولا حال في الجسم ولا مجموعهما، وهذا قول الفلاسفة، ووافقهم من علماء الإسلام أبو سهل البيختي، وأبو الحسن الحليمي، وأبو القاسم الراغب، والغزالي.
الفريق الثاني: زعموا أنه غير خارج عن الجسم، ثم افترقوا على أقوال، فالذي عليه الجمهور من الزيدية، والمعتزلة، وغيرهم من الفرق الإسلامية والكفرية:أنه هذه الجملة المشاهده المبنية بنية مخصوصة المشار إليه بقولنا: أنت فعلت، وقال أبو الهذيل: بل هو الجسد الظاهر كما مر، وحياته غيره، وروحه غيره.
قال الإمام المهدي: ولعله يعني أن الحياة معنى تحله هو غيره، والروح هو النفس الجاري، ولا كلام أنهما غيره فهو كالقول الأول، وقال أبوهاشم بمثل مقالة أبي الهذيل، إلا أنه زاد فيه بيان الروح، فقال: هو النفس الجاري الذي بانقطاعه يموت الإنسان، ولعل أبا الهذيل لا يخالفه في ذلك؛ لأنه أجمله، لكنه جعله غير الحياة، ولا يحتمل سوى النفس، فيكونان موافقين للجمهور، ويؤيده أن القرشي وغيره لم يحكوا عنهما خلافاً.
وقال النظام: هو جسم لطيف شابك هذا الجسم، وعبر عنه بالروح، والروح عنده الحياة، ولا يريد بالحياة المعنى الذي هو عرض؛ لأنه ينفي جميع الأعراض إلا الحركة، بل هي والروح عنده شيء واحد، وهو جوهر واحد مداخل للجسد.
قال النجري: وليس المراد الوحدة الحقيقية؛ لأنه يقول بتجزئ الجزء، بل الوحدة النوعية، فذلك الجوهر جسم لطيف محتوٍ على أجزاء غير متناهية، وهذا الجوهر عنده غير مختلف ولا متضاد بل هو متماثل، وقال: هو قادر، عالم، حي لذاته، ومداخلته للشخص كمداخلة الدهن للسمسم، وقال بشر بن المعتمر: بل هو جملة لطيفة جسمية، وتلك الجملة ضد للجسم الظاهر؛ لأنها لطيفة وهو كثيف، وصفتها مضادة لصفته؛ لأن اللطافة والكثافة متضادان عنده، وأما الروح فهو الذي تحيا به تلك الجملة، وكأنه جعله نفس الحياة، قال والشخص الظاهر والإنسان هما بمجموعهما حيان، وفي كلام ابن متويه بأن الإنسان عند بِشْرٍ مجموع تلك الجملة والحياة.
وقال هشام بن الحكم مثل مقالة بشر،إلا أنه يقول: إن الجسد موات، وإن الروح هو الإنسان الذي هو جملة لطيفة، وأنه هو الحي المدرك للمدركات، المنسوب إليه التأثيرات، وليس الروح هو نفس الحياة كما قاله بشر.
قال النجري: فكلامه أقرب إلى كلام النظام، وقد روي عنه كقول النظام سواء سواء، وقال ضرار بن عمرو: هو هذا الجسم الظاهر، كما قاله الجمهور، إلا أنه قال: إن هذا الجسم أعراض مجتمعة تركب منها هذا الشخص الظاهر، وقال معمر بن عباد السلمي: بل هو عين لاتنقسم، ولا هي ذات بعض ولا كل، ولا يجوز عليه الحركة والسكون، ولا الاتصال والانفصال، ولا القرب والبعد، ولا يوصف بما يوصف به الجسم ولا يحتاج إلى مكان لعدم تحيزه، ولا محل؛ إذ ليس بعرض، وهو الذي يدبر هذا البدن الظاهر، ويحركه، ويسكنه، ولا يدرك بشيء من الحواس.
قال النجري: وقد حكي قريب منه عن الغزالي، والحليمي، والبيختي، وقال: وهذا الذي ذهب إليه معمر عدول إلى ما يقوله الفلاسفة في النفوس الناطقة، وهو مبني على إثبات الجواهر الروحانية وقدمها، وهي الهيولى المجردة عن الصورتين، وقال هشام الفوطي: الإنسان جزء لا يتجزأ محله القلب، وقد حكى ابن متويه هذا عن معمر، وهو يخالف القول الأول الذي وافق فيه الفلاسفة. قال السمرقندي: إلا أن معمراً لا يجعله متحيزاً ، وقال ابن الراوندي بمثل مقالة الفوطي، إلا أنه زاد عليه بكون الجوارح مسخرة له.
قال الإمام المهدي: ولعل هشاماً لايخالفه في ذلك، وقال أبو علي الاسواري: بل هو ما في القلب من الروح وليس بجسم، قال ابن متويه: والروح عنده لا يتجزأ، وهذه الثلاثة المذاهب متقاربة، وقد عدها بعضهم مذهباً واحداً، وفرق بينهما في (الغياصة) بأنه عند الاسواري روح في القلب لايدخل تحت الإدراك، وعند الفوطي وابن الراوندي جزء لا يتجزأ ومحله القلب، ولم يذكر أن الروح لا يتجزأ عند الاسواري، ولعل الجزء الذي لا يتجزأ عند الفوطي، وابن الراوندي غير الروح، فيفترق قولهما وقول الاسواري في هذا الوجه، وقد جعل في (الغياصة) قول ابن الراوندي والفوطي واحداً، ثم قال: واتفق هؤلاء على أن الذي في القلب يستخدم الجوارح ويسخرها، قال: وحكي عن ابن الراوندي أنه أثبت في البدن أرواحاً كثيرة وإليها يرجع الإدراك والتألم، وقال النجار: بل الإنسان هو الجسم والروح معاً.
قال الإمام المهدي: ولا أعلم ما عنى بالروح، هل الحياة أو غيرها؟ وقال ابن الإخشيذ وبعض الأوائل: هو جسم رقيق منساب في الجسد، متشكل بشكله، في كل عضو من الجسد عضو منه، فإذا قطع عضو من الجسد وتقلص ذلك الجسم الناطق من ذلك العضو عاش، وإن تعذر التقلص مات، وقد عزا النجري هذا القول إلى الإمام يحيى بن حمزة، والرازي، ووجه نسبته إلى الرازي: ما ذكره الإمام المهدي وهو أنه ذكر في المعالم أن الإنسان جوهر نوراني في أعماق هذا البدن، فلا هو مجرد، ولا هو البدن؛ لأنه باق وإن كان عدمه ممكناً، فقوله: (هو نوراني) إشارة إلى أنه جسم؛ لأن النور جسم لطيف، وقوله: (في أعماق البدن) إشارة إلى انسيابه فيه، ولم يجعل له محلاً مخصوصاً، فكان كقول ابن الإخشيذ أو قريباً منه.
قال في الدرر: وهذا قوله في المعالم والأربعين، فأما في نهاية العقول فإنه وافقنا في أنه هذا الجسد الظاهر، وصرح به وادعى العلم الضروري بذلك، وإذ قد أتينا على أقوال الناس، فلنأخذ في ذكر ما تمسكت به كل طائفة:
ولنبدأ بذكر شبه الفريق الأول: وهم الفلاسفة ومن تابعهم، إلا أنه ينبغي قبل الكلام على شبههم أن نذكر تحقيق مذهبهم لأنا أجملناه في أول المسألة، وقد حققه الإمام عز الدين عليه السلام ، فقال: اعلم أن الفلاسفة يقولون بالنفس الناطقة، ويحكمون عليها بأنها الإنسان، ويجعلونها غير هذا الشخص، لكنها أمر لها تعلق به وليست بجسم، ولا عرض، ولا يجوز عليها الموت ولا غيره مما يجوز على الأجسام والأعراض، بل هي حية باقية لاتموت.
قيل: ويذهبون إلى حدوثها بأن أوجبها عقل مجرد أزلي، وليست أزلية؛ لأنه يوجبها بشرط متجدد وهو حدوث المزاج المستعد لقبولها. ذكره في المعراج.
إذا عرفت هذا، فاعلم: أن لهم شبهاً مبنية على قواعد غير مسلمة لهم، وقد ذكرنا في هذا الموضع أقواها ليعلم أنها غير قادحة:
الشبهة الأولى
أحدها: أن الإنسان يعلم الأشياء التي يستحيل انقسامها ضرورة، والعلم بما يستحيل انقسامه يستحيل أن يكون منقسماً؛ إذ لو جاز انقسامه لم يخل إما أن يصح تعلق كل جزء منه بذلك المعلوم أو لا، الأول باطل لاستلزامه أن يكون بعضه مثلاً لكله مغنياً عنه، وذلك محال فإن جزء الشيء لايغني عن كله ضرورة، وأيضاً لو أغنى عنه لكانت سائر الأجزاء فضلة مستغنى عنها، فيكون وجودها عبثاً؛ لأن وجودها حينئذ في حكم العدم.
والثاني: لا يخلو إما أن تتعلق جملتها بذلك المعلوم أو لا، الأول يستلزم أن العلم اجتماع الأجزاء واجتماعها لاينقسم، والثاني يلزم منه أن لايكون، ثم علم أصلاً والمعلوم خلافه.
فثبت أن العلم بغير المنقسم يستحيل انقسامه، وإذا استحال انقسامه استحال أن يحل في منقسم؛ لأن حلوله فيه يوجب أن يكون منقسماً وإلا استحال حلوله في ذلك المنقسم لتأديته إلى حلول الواحد في جزئين، وذلك محال ضرورة، وإذا تقرر هذا فنقول: قد ثبت أن العلم حال في الإنسان فيجب أن يكون الإنسان مما يستحيل انقسامه، فلا يكون جسماً ولا جسمانياً، والجسماني هو الحال في المنقسم عندهم.
فإن قيل: ومن أين لكم أن المنقسم لا يكون إلاَّ جسماً أو جسمانياً؟
قيل:ذلك معلوم فإنه لايعقل انقسام فيما ليس بمتحيز ولا حال في المتحيز؛ إذ لاجهة لغير المتحيز، ومن ضرورة المتحيز أن يكون في جهتين، وإلا لم يعقل انقسامه.
فإن قيل: وما الدليل على أن ذلك يستلزم كون الإنسان غير جسم ولا جسماني.
قيل: هو أنه قد ثبت بالاتفاق أن محل العلم هو الإنسان، وقد بطل بما قررنا أن يكون محله منقسماً والجسم منقسم، فبطل كون الإنسان جسماً أو جسمانياً، وهذه أقوى شبههم.
والجواب: أن هذه الشبهة مبنية على إنكار الجوهر الفرد،وأن الجسم لاينتهي إلى جزء لاينقسم، وقد مر في الفاتحة إثبات ذلك، وبطلان مقالة من أنكره، وإذا بطلت فلنا أن نقول: العلم المذكور حال من الإنسان الذي هو هذه الجملة المشاهدة في جزء من أجزاء القلب لاينقسم، فلم يلزم من حلوله في الجسم انقسامه، ثم إنا نعارضكم بالوهم وهو عندكم جسماني مع كونه لا ينقسم،فما أجبتم به فهو جوابنا، ثم إنا لو سلمنا لكم ما بنيتم عليه من إنكارالجوهر الفرد،فنقول:لم جعلتم العلة في استحالة انقسام العلم استحالة انقسام معلومه،فإن وجه الملازمة في ذلك غير معلوم،ولو لم تكن العلة إلا ما ذكرتم للزم صحة انقسام العلم المتعلق بما يصح انقسامه، ثم لم قلتم أن ما يستحيل انقسامه يستحيل أن يحل في منقسم؟ وما وجه الملازمة،وهذا التأليف عرض لا ينقسم وهو مع ذلك يحل في جزئين يصح انقسامهما؟
فإن قلتم: وجه الملازمة أنه يستلزم انقسام الحال تبعاً لانقسام المحل.
قلنا: لانسلم فإنه لايعقل من الحلول إلا الحصول بجنب الغير تبعاً لحصول ذلك الغير، وهذا لايستلزم انقسام الحال تبعاً لانقسام المحل.
الشبهة الثانية
قالوا: الإنسان يتصور صورة كبيرة، وتصور الشيء وتعقله يقتضي حصول صورته في العاقل؛ لأن تعقل النفي الصرف وتمييزه عن غيره محال، وإذا كانت الصورة موجودة في الإنسان وهو متحيز فلا يجوز أن تكون متحيزة لاستحالة تداخل المتحيزات، وإذا كانت غير متحيزة بطل أن يكون محلها جسماً أو جسمانياً؛ لأن كل جسم أو جسماني له مقدار، ومحل، ووضع معين، فلو حلت فيه لزم أن تكون كذلك، ولو كانت كذلك لبطل تجردها عن الشخصيات المذكورة، وإذا بطل أن يكون محلها جسماً أو جسمانياً وقد ثبت أن محلها العاقل الذي هو الإنسان، بطل كونه جسماً أو جسمانياً وهو المطلوب.
والجواب: أنا لانسلم أن العلم بالشيء يستلزم وجود صورته في العالم، وإنما يحصل بالعلم تمييز المعلوم للعالم فقط، لا وجود صورته فيه، والتصور أحد نوعي العلم، وإنما بنيتم هذه الشبهة على أصل فاسد.
الشبهة الثالثة
أن الإنسان هو القوة العاقلة، ولو كانت جسماً أو جسمانياً لزم ضعفها لضعف جسمه وقواه، والمعلوم أن عاقلية الإنسان بعد كمال أربعين سنة أكمل منها قبل ذلك، مع أن الجسم قد صار أضعف مما كان، فثبت أنه ليس بجسم ولا جسماني.
والجواب: أنا لانسلم أن الإنسان هو القوة العاقلة، وإنما هو محل العقل، ولا نسلم لزوم ضعف العقل لضعف الجسم؛ لأن قوته وضعفه واقفان على اختيار الباري تعالى، ثم إنا قد وجدنا بالعادة ضعف العقل عند التناهي في الشيخوخة، وليس إلا لضعف البنية التي هي محل العلوم، وقدصرح بذلك في القرآن، فقال: {لِكَيْلاَ يَعْلَمَ مِنْ بَعْدِ عِلْمٍ شَيْئا}[الحج:5] فبطل ما زعمتموه.
الشبهة الرابعة
قالوا: إن أحدنا قد يتخيل ويتصور جبلاً من ذهب مثلاً ويميزه عن غيره، والعدم الصرف لايصح تمييزه ولا تعقله، فيجب أن تكون هذه الصورة موجودة في المتخيل لها، وذلك يوجب امتناع كون المتخيل هو هذا الشخص المشاهد لاستحالة حلول الجسم العظيم في الجسم الصغير ضرورة، وكذلك يجب امتناع كون المتخيل جسمانياً؛ لأنه يكون محل تلك الصورة محله وهو جسم صغير، فيعود الالزام، فلم يبق إلا أن الإنسان ليس جسماً، ولا جسمانياً.
والجواب: أن هذه الشبهة مبنية على قاعدتين باطلتين:
إحداهما:أن كل ما يتصور الإنسان فإنه يجب أن يكون موجوداً، وهذه القاعدة باطلة عندنا،وأما كون العدم الصرف لا يتميز، فمسلم، لكنا نقول:إن هذا المتخيل منصرف إلى أمر موجود وهو الذهب مثلاً، ولا شك في تمييزه، والتخيل إنما هو تقدير اجتماع هذه الأجزاء على هيئة الجبل، والجبل أيضاً موجود متميز،بحيث أنا نعلم أنه لو لم يتقدم للمتخيل علم بالذهب والجبل لم يمكنه تخيل جبل من ذهب،والحاصل أن التخيل تقدير تركيب صورة من أجزاء متميزة معلومة ليس نفياً صرفاً، وتقدير ذلك لايوجب حصولها بأنفسها في نفس المتخيل، وهذا واضح.
القاعدة الثانية: أن تصور الإنسان للشيء هو حصول تلك الصورة فيه، وهي قاعدة باطلة، وإنما تصوره هو معرفة صورته، وذلك بعلم يوجده الفاعل المختار في قلب المتصور،كما تقدم التنبيه على هذا في جواب الشبهة الثانية،فهذه الشبه هي أقوى ما يتمسكون به في أن الإنسان ليس بجسم ولا جسماني.
وأما الشبه التي يتمسكون بها في أن الإنسان ليس بجسم خاصة، فمنها:
أنه مشارك للأجسام في الجسمية، ومخالف لها في الإنسانية،فلا بد أن يكون ما شاركها فيه مغايراً لما خالفها فيه، وذلك يقتضي أنه غير الجسم.
والجواب:أنا نعارضهم بالبهائم؛ لأنهم يوافقوننا في أَنَّ نفوسها ليست مجردة، فيلزمهم أن لاتكون هي هذه الأجسام وهم لايقولون بذلك، ثم إنا نقول الإنسان وإن شارك الأجسام في الجسمية فهو مخالف لها بخواصه التي لاتوجد في غيره، من الشكل، والصفات، وذلك لايقتضي كونه غير جسم.
واعلم: أن لهم شبهاً كثيرة، وقد أتينا بأقواها، وعرفناك بطلانها بما فيه كفاية، وبه تعرف أنهم يبنون على غير أساس، ويحذون على غير قياس، ولعله يأتي في أثناء الكتاب ما يقتضي ذكر سائر شبههم أو بعضها، وسنبين بطلان ما أتينا به منها في محله إن شاء الله.
وأما الفريق الثاني: فنأتي بحججهم على ترتيب أقوالهم في كتابنا هذا، فنقول: احتج الجمهور بالعقل، والسمع.
أما العقل فمن وجوه:
أحدها: أن الذي نعلمه بعقولنا ومن وضع اللغة: أن الإنسان هو هذا الجسد الظاهر الحي القادر لمعان تحله، وإثبات غيره إنساناً إثبات لما لاطريق إليه من ضرورة، ولا دلالة، وما لادليل عليه وجب القطع بنفيه، كما مر في المقدمة، والشبه التي تمسك بها الفلاسفة قد عرفت بطلانها، وما تمسك به غيرهم فسيأتي إبطاله.
الثاني: أنا نعلم ضرورة تو جه الأمر والنهي، والمدح والذم، والمطالبة بقضاء الدين إلى هذا الشخص دون غيره، فلو لم يكن هو الإنسان لم يتوجه ذلك إليه.
الثالث: أنه لو كان غير هذه الجملة، إما داخلاً فيها، أو خارجاً عنها، لصح انفصاله عنها؛ إذ من لازم كل متغايرين صحة انفصالهما، فيكون أحدنا حياً قادراً عالماً، ولا يكون إنساناً والعكس، والمعلوم خلافه.
الرابع: أنا نعلم من أنفسنا ضرورة كوننا مريدين، ومشتهيين، وعكسهما، ونعلم ذلك من حال غيرنا أيضاً، والعلم بصفة الذات فرع على العلم بالذات، فلو كان الإنسان غير هذا الشخص لكنا لا نعلمه ضرورة، وإذا لم نعلمه ضرورة لم يصح أن نعلم صفته ضرورة، وإلا لزم أن يكون الفرع أجلى من الأصل.
قلت: وبهذا تعلم أنه لايجوز القول بأن كون الإنسان غير هذا الشخص ثابت استدلالاً.
الخامس: أنه لوكان غيره لكنا نجد مشقة في تحريك هذه الأبعاض، والأعضاء، وحملها، كما نجدها إذا غلب علينا الدم.
السادس: أنا إذا شهدنا على أحد، فإنما نشهد على هذه الجملة، فلوكان الإنسان غيرها لكنا قد شهدنا زوراً؛ لأن الأفعال المشهود عليها من الأخذ والعطاء، والقتل والزنا لاتنسب إلا إلى الإنسان.
السابع: أنه لو كان غيره للزم أن لانجد كوننا عالمين من ناحية الصدر؛ لأن العالم هو الإنسان الحي، والفرض أنه غير هذه الجملة، وبطلان اللازم معلوم، فكذا الملزوم.
الثامن: أن صحة الإدراك وصحة الفعل حكمان للحي القادر الذي هو الإنسان، وهذان الحكمان يستندان إلى هذه الجملة، فصح أنها الإنسان، وأيضاً لوكان الإنسان غيرها لما صح الإدراك بما فيها من الأعضاء والحواس؛ لأنها أغيار له، ولايجوز فيما هو غير للمدرك -بكسر الراء- أن يدرك به، كما لايجوز أن يدرك زيد بحواس عمرو، وكذلك لايجوز في الآلام، والحرارة، والبرودة أن تدرك إلا بمحل الحياة، ومحلها هو الإنسان، وإذا ثبت أن المدرك هو هذه الجملة، وأن من أدرك فهو الحي وجب أن يرجع بالحي إلى ما ذكرناه، وقال في المنهاج: لو كان الإنسان الحي غيرها -يعني هذه الجملة- لما صح الإدراك بهذه الأعضاء على هذا الحد، بل كنا نجده متناقضاً؛ لأن المدرك في الحقيقة مستور بهذه الأعضاء.
التاسع: أنه لو كان مغايراً لهذه الجملة وكان هو المصرف لها لكان قادراً بقدرة؛ لأنه محدث فإذا أراد فعلاً فلا بد من اعتماد منه في هذه الأعضاء، ولو كان لوجدناه.
وأما الأدلة السمعية فكثيرة كقوله تعالى: {أَوَلَمْ يَرَ الإِنسَانُ أَنَّا خَلَقْنَاهُ مِنْ نُطْفَة...} الآية[يس:77]، وقوله: {لَقَدْ خَلَقْنَا الإِنسَانَ فِي أَحْسَنِ تَقْوِيمٍ}[التين:4] وقوله: {وَلَقَدْ خَلَقْنَا الإِنسَانَ مِنْ سُلاَلَةٍ مِنْ طِينٍ...} الآية[المؤمنون:12]، وقوله: {يَخْرُجُ مِنْ بَيْنِ الصُّلْبِ وَالتَّرَائِبِ}[الطارق:7] ولا شك أن المتردد بين هذه الأوصاف هو هذا الجسد، وهو أيضاًمعلوم من إجماع المسلمين، وقال في شرح الأبيات الفخرية: المعلوم من دين النبي صلى الله عليه وآله وسلم ضرورة أن الإنسان هو هذا الشخص المبني بنية بني آدم، وأنه المكلف العاقل، المطيع، العاصي، والمثاب، والمعاقب، وأنه الذي يتوجه إليه الأمر والنهي، والمدح والذم، والقرآن ناطق بذلك.
وقال الإمام عز الدين: قد قيل: لو ادعيَ أن الإنسان الحي القادر العالم هو هذه الجملة ضرورةلم يمتنع ذلك، وأنه معلوم من إجماع المسلمين قبل حدوث هذا الخلاف.
وقال شارح (الأبيات الفخرية): إن العلم بذلك ضروري، ولفظه:
اعلم: أنا إذا ذكرنا الدلالة على ذلك فإنما نريد به الاستظهار والتأكيد للعلوم الضرورية، فالإنسان يعلم بضرورة العقل، ولا يحتاج فيه إلى إقامة دليل.
احتج النظام بوجوه:
أحدها: أن هذا البدن الظاهر مركب من أجزاء، كل واحد منها لا يجوز أن يكون حياً قادراً عالماً بانفراده، فكذلك إذا اجتمعت؛ لأن ما لم يكن بهذه الصفات إذا انضم إلى مالم يتصف بها لا يصير متصفاً بها، كما أن ما ليس بأسود إذا انضم إلى ماليس بأسود لم يجز أن يصير أسود، فثبت أن الموصوف بما ذكر غير هذا الشكل، وأنه واحد غير مختلف ولا متضاد.
والجواب من وجوه:
أحدها: أنه إنما لم يصح كون الجزء الواحد حياً؛ لأن الحياة من شرطها البنية المخصوصة، وذلك لا يتم إلا بالاجتماع.
ثانيها: أنه بنى قوله: على أنه لايثبت للجملة شيء لا يثبت للآحاد والعكس وهذا لا يصح إطلاقه في كل موضع،فإنه يجوز أن ينضم ما ليس بمؤتلف إلى ما ليس بمؤتلف فصير مؤتلفاً،وينضم ما ليس بطويل إلى ما ليس بطويل فيصير طويلاً،وينضم ما ليس بعشرة إلى ما ليس كذلك فيصير الجميع عشرة، وهذا معلوم ضرورة، ونعلم بالضرورة أيضاً أن اليد آلة للقبض والبسط، والعين آلة للبصر، والأذن آلة للسمع، وكل جزء من ذلك ليس بآلة، وإذا ثبت هذا فلا يمتنع أن يجتمع ما ليس بحي، ولا قادر، ولا عالم، فيصير حياً قادراً عالما، وهذا بخلاف الأسود فإن السوادية راجعة إلى كل جزء، فلا يجوز أن يثبت للجملة منها مالا يثبت منها للآحاد، والحاصل أن الصفات إن كانت راجعة إلى الأجزاء فلا يجوز أن يثبت للجملة ما لايثبت للآحاد، وإن كانت راجعة للجملة جاز.
ثالثها: أنا نعارضه بالحركة فإنه يثبتها بعد انضمام ما هو إنسان عنده إلى هذا الشخص المشاهد لاقبله، فيقول: إذا انضم ما ليس بمتحرك إلى ما ليس بمتحرك فكيف يصير متحركاً.
قال الإمام المهدي: ولا نجد إلى الجواب سبيلاً؛ لأنه لا يجوز على ما سماه إنساناً ما يجوز على الإنسان من الحركة، والمكان، وغيرهما.
قلت: والمراد بالمنضمين هنا الإنسان الذي يقوله النظام والجسم المشاهد كما هو المفهوم من الكلام، وأما الإمام عز الدين فجعلهما الحركة والجوهر؛ لأنه قال: قد عورض بالحركة فإنها توجب للجوهر كونه متحركاً، وهي في نفسها غير متحركة، والجوهر قبل حلولها فيه غير متحرك، فكيف يصيرمتحركاً بضم ما ليس بمتحرك إليه -ذكره في المعراج- ولا مانع من المعارضة بالأمرين.
الوجه الثاني: مما احتج به أن الإنسان قادر عالم حي لذاته، والصفة الذاتية من حقها أن ترجع إلى الآحاد.
والجواب: أنا لانسلم أن هذه الصفات ذاتية إذ لوكانت كذلك لاستحال خروج أحدنا عنها، والمعلوم خلافه، وأيضاً لو كانت ذاتية لشاركته سائر الجواهر في ذلك لتماثلها.
فإن قيل: مذهبه أنها غير متماثلة.
قلنا: هو ظاهر البطلان لما مر من اشتراك الجواهر في الجوهرية، وأنها صفة ذاتية، وأن الاشتراك في الصفة الذاتية توجب التماثل.
الوجه الثالث: أن العرض إنما يوجب لمحله فقط كالحركة، فلو كانت هذه الجملة هي الحية كان كل جزء منها حياً، فتكون بمنزلة أحياء ضم بعضهم إلى بعض، وذلك يستلزم أن يكون العرض قد أوجب لغير محله وهو باطل.
والجواب: أن الكلام في إيجاب الأعراض للصفات موقوف على الدليل فلا يستعمل فيها القياس، وقد دل الدليل على أن فيها ما يوجد في المحل الواحد ويوجب للجملة، وذلك أنا نجد أنفسنا عالمين، مشتهين، مريدين، كارهين، مع كون العلم، والشهوة، والإرادة، والكراهة محلها القلب؛ لأنا نجد ذلك من ناحية الصدر فقط، ونعلم أن هذه الصفات إنما تثبت لجملتنا لالبعضنا.
قال القرشي: ولولا هذا لكان أحدنا بمنزلة أحياء قادرين ضم بعضهم إلى بعض فلا يحصل له فعل بداع واحد، وأما قوله: إن ذلك يستلزم أن يكون العرض قد أوجب لغير محله وهو باطل، ففي كلام الإمام المهدي ما يدل على أنه لامحذور فيه مع قيام الدليل عليه،وهو ما حررناه.
وأما القرشي فقال: ليست الجمل غيراً للمحل، فلا يصح قوله قد أوجب لغير محل؛ لأن المغايرة هي أن لايكون أحدهما هو الآخر، ولا جملة يدخل تحتها الآخر، ولهذا لايكون الواحد من العشرة غيراً للعشرة.
قلت: ولعله يعني أن المغايرة التامة ما ذكره لامطلق المغايرة؛ لأنه لاشك في المغايرة بين العام والخاص، والكل والجزء، ولذا أجازوا عطف أحدهما على الآخر مع إطباقهم على أن العطف يقتضي مغايرة ما.
احتج القائلون بأن الإنسان شيء واحد لايتبعض، ولا يزيد، ولا ينقص، وهم سائر المخالفين ماعدا ابن الإخشيذ ومن قال بقوله بوجوه:
أحدها: أن أجزاء هذه البنية تزيد وتنقص بالسمن، والعجف، والصغر، والكبر، والإنسان باق طول عمره، فلزم أن يكون الإنسان شيئاً غير الجملة.
والجواب: أن المراد بالإنسان هو الأجزاء التي لايكون حياً من دونها، فيحكم بأن هذا السمين هو الذي كان مهزولاً، وهذا الكبير هو الذي كان صغيراً، وإذا جاز في الفصيل أن يكون صغيراً أولاً، ثم يكبر ويكون هو الأول بالاتفاق بيننا وبينهم، فكذلك حال الإنسان عند وجود الزيادة في أبعاضه.
فإن قيل: لو كان هو الجملة لم يحسن ذم من كان مهزولاً ثم سمن، أو صغيراً ثم كبر، ولا عقابه؛ لأنه يتوجه الذم والعقاب إلى ماليس بموجود حال الفعل.
قيل: الذم متوجه إلى الجملة التي لايكون الحي حياً إلا بمجموعها، وما عداها زيادات تجري مجرى الشعر والظفر.
قال القرشي: لكنها تدخل في جملة الحي بحصول الحياة فيها، قال الإمام المهدي: ولو انفصل لنا ذلك القدر لوجهنا الذم إليه دون غيره، لكن لما فقدنا العلم به وجهنا الذم إلى الجملة، وقد عرفنا أن فيها ما لايتم كونه حياً إلا به، وأن فيها زيادات يستغنى عنها، فلا يمتنع أن يقصده.
قال عليه السلام : ولايقال فكان يلزمكم أن لايحسن الذم إلا ممن قد علم تلك الجملة؛ لأنا نقول العلم بها متقدماً على العلم بحسن الذم، لكنه علم جملي وهو كاف،قال ابن متويه:وقريب منه أن يقال:إذا كان الإنسان هو الجملة المهزولة لزم إذا سمن أن لايعلم أنه ذلك الإنسان؛ لأن العلم لايتعلق بشيء إلاعلى ما هو به، وعندنا أن معلوم العلم لايتغير، وأجاب بأنه في الحالين ينصرف إلى الأجزاء التي لايستغني عنها في كونه حياً، ويحكم بأن هذا السمين هو الذي كان مهزولاً، كما يحكم بذلك في الفصيل إذا كبر، وقال في المنهاج: وليس يلزم إذا سمن الإنسان بعد عجف أن يصير غير ما كان، كما أن الشجرة إذا كبرت بعد صغرٍ لم تصر غير ما كانت.
قال: وعلى هذا فيصح أن يعظم خلق أهل النار وأجسامهم.
قلت: وهذه الشبهة قد تمسكت بها الفلاسفة، وقد نبه الإمام عز الدين عليه السلام على أن هذه الشبهة يتمسك بها المخالفون كلهم.
الوجه الثاني: أن الإنسان قد يكون عالماً بنفسه حال ما يكون غافلاً عن جميع أعضائه وأجزائه الظاهرة، وأما الباطنة فالمعلوم أنه لايعلمها إلا بالتشريح، ولاريب أن المعلوم مغاير لما ليس بمعلوم، فثبت أن الإنسان غير الجسم.
والجواب: أنا لانسلم اختلاف النفس والأجزاء في الغفلة عنهما، بل ما ثبت في أحدهما ثبت في الآخر مثله؛ لأنه هو، سلمنا فليس لأن الإنسان غيرالجسم، بل لأن الذات هي الجملة، وأبعاض الجسم هي أجزاؤها، ولا يلزم من جواز الغفلة عن بعض الشيء جواز الغفلة عن جملته، فإن الإنسان قد يعلم الصبرة ولا يعلم أجزاءها، وهذه الشبهة قد تمسك بها الفلاسفة أيضاً، واحتجوا على تعذر الغفلة عن الذات بأنه لايصيب الإنسان ألم إلا ويتألم، وإنما يتألم لعلمه بحصول الألم فيه.
قالوا: وذلك يوجب أن يكون مسبوقاً بعلمه بنفسه، فصح أنه لايكون غافلاً عن نفسه مع أنا نعلم أنه قد يغفل عن بعض أعضائه... إلى آخر ما مر، وأجيب بأن الأعضاء كالذات إذا حصل في بعضها ألم فلا بد من إدراكها له، وحينئذ ثبت ما قلناه من عدم اختلاف الذات والأعضاء في الغفلة عنهما.
قالوا: لو كان الإنسان هو هذه الأجزاء لزم إذا أوجبت الحياة للجسم المهزول كونه حياً، ثم سمن أن يكون إيجابها بعد سمنه مخالفاً لإيجابها وقت هزاله، وهل هذا إلا كما يقال في العلم أنه يتعلق مرة بشيء، ثم يتعلق بغيره.
والجواب: أما على قول من لايثبت تأثير المعاني من أئمتنا والمعتزلة فلا وجه لهذه الشبهة؛ لأن الحيية، والعالمية، والقادرية صفات بالفاعل يتصرف فيها بالاختيار كسائر المحدثات والمصنوعات، وإذا كان كذلك صح أن تتجدد لما سمن حياة لم تكن من قبل، ولا محذور فيه على أصلهم، كما يصح أن تتجدد له علوم لم تكن، وأن تكثر علومه وتقل، كذلك قدرته، وليس هذا التجدد إلا كتجدد العقل للإنسان بعد أن لم يكن كذلك. والله أعلم.
وأما من يجعل الحيية صفة موجبة عن الحياة، فقد أجاب الإمام المهدي بأن الحياة في كلتا الحالتين لم تخرج عن أن تكون صفة للجملة، ثم إذا زادت الأجزاء دخلت بها في أن تكون من جملة الحي، وفارق حالها حال العلم؛ لأنه ليس له إلا معلوم واحد، وشابهت حالها حال القدرة التي لها مقدورات كثيرة، فلو قدرنا تقضي بعض مقدوراتها، وصحة الإعادة بالقدرة لعاد تعلقها كما كان، فتكون مقتضية في كلا الحالين لإيجاد جملة من المقدورات بها، فهذه طريقة القول في ذلك،هذا وأما شبهتهم في كون ذلك الشيء الواحد في القلب، فلما علم ضرورة أن وجود العلم، والشهوة، والإرادة وأضدادها، والفكر والظن من جهة القلب، فعلمنا أن ما صدرت عنه وتصرف فيها وهو الإنسان مستقر في القلب.
والجواب: أن ذلك لايقتضي كون الإنسان في القلب، وإنما مقتضاه حصول تلك المعاني فيه، فإذا ثبت أن الإنسان هو مجموع هذه الجملة كان حصول هذه المعاني من جهته، وإنما القلب محل لها.
احتج ابن الإخشيد، والإمام يحيى، ومن وافقهما بحجج سمعية، قال الإمام المهدي عليه السلام : ولا أعلم لهم شبهة عقلية.
قلت: بل قد احتج لهم الرازي بالوجهين الأولين من شبه سائر المخالفين، ذكرهما في سورة آل عمران وغيرها، وقال: إنه قد ثبت بهما أن الإنسان شيء مغاير لهذا البدن،ثم قال:فيحتمل أن يكون جسماً مخصوصاً سارياً في هذا البدن سريان النار في الفحم،والدهن في السمسم،وأن يكون جوهراً قائماً بنفسه،ليس بجسم،ولاحال في الجسم.
هذا وأما الشبه السمعية فقالوا: قد ورد في الكتاب والسنة ما يقضي بأن هاهنا أمراً زائداً على هذا البدن المشاهد، وذلك الأمر من جنس الأجسام، فيكون دليلاً على أن الإنسان جِسْمٌ لطيفاً منساب في الجسد، وذلك كقوله تعالى: {وَالْمَلاَئِكَةُ بَاسِطُوا أَيْدِيهِمْ أَخْرِجُوا أَنفُسَكُمُ}[الأنعام:93] فدل على أن ثم شيئاً خارجاً من الجسد عند الموت، والخروج من صفات الأجسام، وقوله تعالى: {اللَّهُ يَتَوَفَّى الأَنْفُسَ حِينَ مَوْتِهَا} الآية[الزمر:42]، وفيه تصريح بقبض الأنفس وإرسالها، والقبض والإرسال إنما هما للأجسام، وقوله تعالى في الشهداء: {بَلْ أَحْيَاءٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ...} الآية[آل عمران:169] فإنه يدل على أن الإنسان غير الهيكل المقتول، فإنا نعلم ضرورة كون تلك الأجسام أمواتاً لاحياة فيها، وقد وصفهم الله بأنهم أحياء مرزوقين، فتعين أن يكون الإنسان المثاب ليس هذا الهيكل المعلوم ضرورة كونه مواتاً؛ لأن الله قد أخبرنا أنه حي، قيل: وهذه الآية أقوى حجة على ذلك.
وأما السنة فمنها حديث السيلقية ((رفرف روحه فوق النعش وهو ينادي يا أهلي ويا ولدي...)) الخبر، وما في قصة المعراج من ملاقاة النبي صلى الله عليه وآله وسلم للأنبياء"، ووصفه لخلقتهم، ومنها مارواه المحدثون من طرق أن أرواح الشهداء في أجواف طير خضر، وفي بعضها: تأوي إلى سدرة المنتهى، وسيأتي ذكر طرقه في سورة آل عمران، وقوله صلى الله عليه وآله وسلم في أهل القليب يوم بدر: ((ما أنتم بأسمع منهم)) وسيأتي تخرجيه في موضعه إن شاء الله.
والجواب: أنه سيأتي الكلام على كل آية، وما يطابقها من السنة في مواضعها من كتابنا هذا إن شاء الله تعالى، ونكتفي في هذا الموضع بذكر ما أجاب به والدنا أمير المؤمنين عز الدين ابن الحسن عليه السلام ، ففيه البغية المقصودة، والضالة المنشودة، فنقول:
قال عليه السلام : الجواب عن ذلك أنه ليس في الآيات، والأخبار المذكورة تصريح بأن هذه الأشياء المقبوضة والمرسلة، والأرواح هي التي تسمى الإنسان، ويتوجه إليه المدح والذم، والثواب والعقاب، وهذا هو محل النزاع، وأقرب الآيات إلى المعنى المتنازع فيه آية الشهداء، والحكم عليهم بأنهم أحياء، مع مشاهدة موت جثثهم، والعلم به ضرورة، ونحن نقول: لامانع من أن يحيي الله الجثث في قبورها، كما هو الظاهر، والذي يقضي به كلام المفسرين.
قال جار الله ما لفظه: بل أحسبهم أحياء عند ربهم، مقربون عنده، ذوو زلفى كقوله: {فَالَّذِينَ عِنْدَ رَبِّكَ}[فصلت:38] يرزقون كما ترزق سائر الأحياء، يأكلون ويشربون، وهو تأكيد لكونهم أحياء وصف لحالهم التي هم عليها من التنعم برزق الله.
قال الإمام عليه السلام : وماهذه الآيات إلا دالة على ثبوت الروح، وهو أمر منعنا من الخوض فيه، وحجب عنا العلم به، وتلك مسألة أخرى غير ما نحن فيه فإنه روحٌ للإنسان؛ لا أنه هو الإنسان. ذكره في المعراج.
وأما الإمام المهدي عليه السلام فقال في جوابه على هذه الشبهة: إن هذه الظواهر تقضي بأن الإنسان جملة جسمية وهي هذا الشخص بلاريب، لكن إذا حققنا النظر فيها وجدناها مطابقة للعقل، ولا يبعد أن أهل هذا القول موافقون لنا في المعنى وإن خالفوا في العبارة، وإن التحقيق أن نقول لهم: هذا الجسم اللطيف الذي زعمتوه إنساناً لابد وأن يكون مداخلاً للهيكل، متصلاً به؛ إذ لايجوز أن يكون منفصلاً عنه اتفاقاً بيننا وبينكم، وإلا لم يختص ببعض الهياكل دون بعض؛ لأنه معها على سواء، وإذا كان متصلاً فلا يجوز أن يكون اتصاله على حد اتصال أحدنا بقميصه الذي يلي جسمه، وإلا لزم أن يصح أن لايدرك الإنسان ما لمسه هذا الهيكل، ولا يتألم به، ولا يلتذ به، إذ لايدركه كما لا يدرك ما اتصل بقميصه، وإنما لزمهم ذلك؛ لأنهم يجعلون الحي إنما هو الإنسان دون هيكله، وإذا قالوا ذلك لزمهم ما ذكرناه ضرورة؛ لأنا نعلم ضرورة أن علة عدم إدراكنا بغيرنا كونه غير حي بحياتنا، وأما إذا جعلوا ذلك الإنسان وهيكله حيان، لزمهم أن كل إنسان حَيَّانِ ضم بعضها إلى بعض كما قدمنا، وتلك الإلزامات باقية؛ لأنا نعلم ضرورة أن أحدنا لايدرك ما يدركه زيد، وأنه لاوجه لذلك إلا كونه ليس حياً بحياته، قال: والأقرب أنهم يوافقوننا على أن اتصال الإنسان بهيكله ليس على هذا الوجه لما فيه من مدافعة الضرورة كما أوضحنا، وأما إذا جعلوا اتصاله به اتصال مداخلة لامجاورة، فإما أن يقولوا بأن الحياة الحالة في بعضه موجبة للصفة لجملته، أو لمحلها فقط، إن كان الثاني كان اتصاله هنا اتصال مجاورة وعادت الإلزامات، وإن كان الأول وهو أن أجزاء الإنسان، وهي الجملة التي لا تصح الحياة إلا بمجموعها متصلة بهيكلها اتصال جملة المهزول بسمنه إذا سمن بحيث أن كل جزء منه حلته حياة، أوجبت الجملة أجزاء هيكله كونها حية بشرط وجود حياة في كل جسم، فهذا هو مذهبنا، وقد عاد الخلاف بيننا وبينهم إلى الوفاق، وصح
قولنا وقولهم أن الإنسان جملة لطيفة في هذا الهيكل لاتصح حياته إلا بمجموعها، وحينئذ تحمل الآيات الكريمة، والآثار على ظاهرها، وهو أن ثم جملة هي الإنسان، تلك الجملة هي التي تنزع عن الهيكل فتبطل حياته بنزعها عنه؛ إذ لايكون الحي حياً إلا بها فهي التي تنزعها ملائكة الموت بأمر ربها، وهي الموضوعة في أجواف طير خضر، والمناداة يوم القليب، والممسكة عند الموت، والمرسلة عند النوم، وهي والهيكل في حالة حياته كالشيء الواحد؛ لأن الحياة التي تحل في أجزاء تلك الجملة توجب صفة الحيية لكل ما اتصل ببنيتها اتصال تأليف وبنية مخصوصة، لامجرد مجاورة، فكل جزء منه حلته حياة، فتلك الحياة توجب صفة الحيية لمحلها، والأجزاء المتصلة بها اتصال بنية مخصوصة.
قال عليه السلام : وحينئذ يستقيم قولنا أن الإنسان هو هذا الشخص المشاهد، وإن كان التحقيق أنه الجملة التي لايكون حياً إلا بمجموعها، وبقية الأجزاء تابعة لا مقصودة.
قال عليه السلام : فهذا تحقيق مذهب جمهور العلماء في حقيقة الإنسان، فظهر لك تطابق العقل والسمع في ذلك.
قلت: وقد استوفينا ما قاله عليه السلام بأكثر ألفاظه، وحاصله: أن الإنسان عنده هو المقبوض، والمرسل، والكائن في أجواف الطير،ونحو ذلك،وهو الجملة التي لا يكون الحي حياً إلا بها،إلا أن هذا الهيكل قد صار داخلاً في حكم هذه الجملة للاتصال المخصوص،وصار إطلاق اسم الإنسان على المشاهدة بالتبعية لتلك الجملة فقط لا من حيث الحقيقة وأنت،خبير بأن في نسبته هذا القول إلى الجمهور نظر لما مر من تحقيق مقالتهم، وأنه لا إنسان عندهم إلا هذا الجسم الظاهر، فيكون هذا القول مختصاً بالمهدي عليه السلام ، وقد خصه بنسبة هذا القول إليه الإمام عز الدين عليه السلام ، وأما النجري فقد تبع الإمام في نسبة هذا القول إلى الجمهور؛ لأنه حكى عن الإمام عليه السلام أنه قال: التحقيق أن الإنسان هو الجملة التي لايكون الحي حياً إلا بمجموعها لما مر من الظواهر، قال: وهذا القول هو مراد الأكثر من المعتزلة المذكورين أولاً، إلا أنها لما كانت الجملة والهيكل في حال الحياة شيئاً واحداً؛ لأن الحياة وسائر معاني الجملة تو جب للمجموع، ولم يتميز البعض من البعض قالوا: إن الإنسان هو هذا المشاهد، وإن كان التحقيق أنه تلك الجملة فقط، لكن هل ملك الموت يقبض تلك الجملة حية أم ميتة؟
قال الإمام: يحتمل، ويحتمل، والأقرب الأول.
قال النجري: وقد حمل كلام ابن الإخشيذ ومن وافقه على ما قاله الإمام المهدي في حقيقة الإنسان، قال:ويمكن أن يحمل عليه كلام النظام،وبشر،وهشام بن الحكم،قال:وتلك الجملة هي المراد بالروح والنفس.
واعلم: أن الإمام عز الدين عليه السلام قد أجاب عما اختاره الإمام المهدي،فقال:إن فيه تكلف وتعسف،قال عليه السلام :وهكذا حال الإنسان إذا أراد أن يعلم ما تفرد الله بعلمه ولم ينصب لنا دليلاً عليه، ولا جعل للعقل فيه مجالاً ذهب كل مذهب، ولم يفز بمطلب، والأجزاء التي لا يكون الحي حياً إلا بها أجزاء قليلة، يسيرة، فكيف يصح أن تكون هي الموجودة المشاهدة ليلة المعراج،والمعلوم من لفظ الحديث إن صح أنها صورة واضحة،وأشخاص كاملة ذات أعضاء، وجوارح،ووجوه موصوفة خلقتها،ولو كانت هي المنزوعة المقبوضة حال النوم لوجب بطلان حياة النائم حال نومه حتى يستيقظ بعد ردها،ومعلوم أنه حي في حال نومه ولهذا يدرك،وكان يجب إذا قطعنا جسد الميت وفتحنا جسده أن نجد مكان تك الجملة خرقاً في جسده مجوفاً إذ قد انتزعت الجملة من وسطه، ثم من العلوم أن الإنسان هو المريد، الكاره، العالم، الظان، الناظر، وهذه معان لا توجد ولا تحل إلا في القلب، فأخبرنا هل القلب من تلك الجملة، فهذا يقضي بأنها كبيرة واسعة إذا القلب مع كبره جزء منها، وقد قلت: أنها هي الأجزاء التي لا يكون الحي حياً إلا بها، أوليس القلب منها، وكيف تكون هي العالمة، الناظرة، المريدة، الكارهة، وهذه المعاني في أجزاء غيرها لو ذهبت لم يقدح ذهابها في كونها إنساناً، عالماً، ظاناً، ناظراً، مريداً، كارهاً، وغير هذا من الإشكالات التي يمكن إيرادها على هذه المقالة لا محالة.
قال الإمام عز الدين:والحق الذي لامدفع له،ولا محيد عنه أن الإنسان العاقل المكلف،الممدوح المذموم،المثاب المعاقب هو هذا الشخص المشاهد،وأن النفس والروح الذي أشير في الآيات والأخبار إليه هو أمر لا يمكن الوصول إلى معرفة حقيقته إلا بالسمع، ولم ينصب الله لنا دليلاً على معرفته حقيقة يتضمن التصريح بذلك، بل قضت حكمته بإبهام ذلك علينا لمصلحة علمها لنا في الإبهام، فلا نتكلف علم ما لم نعلم، يابردها على القلب قولك فيما لا تعلم لا أعلم. ذكره في المعراج.
واعلم: أنا قد أتينا في المسألة بزُبد ما فيها من الأدلة العقلية، ونبهنا على جملة الأدلة السمعية، وقد طول الناس فيها وأكثروا، وفي كتاب الله آيات يقتضي الكلام عندها على هذه المسألة، وقد تكلم فيها الرازي في مواضع من تفسيره، ولابد من زيادة على ماهنا في المواضع المقتضية لذلك من كتابنا هذا؛ لأن في معرفة ذلك دفعاً لتأويل كتاب الله على غير ما تقتضيه أدلة العقل والسمع، ولذا قالوا إن العلم بهذه المسألة من فروض الكفايات لمعرفة مراد الله بخطابه بالأنسان والنفس، ورد ما يورده الفلاسفة من الشبه في ذلك، وبيان المستحق للثواب والعقاب، والإعادة، وغير ذلك مما يترتب علىمعرفة هذه المسألة. والله الموفق.
المسألة الثالثة [بطلان قول من زعم أن جميع المكلفين عارفون بالله)
هذه الآية تدل على بطلان قول من زعم أن كل المكلفين عارفون بالله، ومن لم يكن به عارفاً لا يكون مكلفاً، ووجه دلالتها أنه تعالى قد ذم فيها من لم يكن مؤمناً،وقد ثبت أن المعرفة من أركان الإيمان كما مر -ذكر معنى هذا الرازي- وهذا -أعني القول بأن من لم يعرف الله يكون معذوراً لم ينسب إلى أحد من أهل الكلام فيما أعلم غير أبي بكر الملقب ببوقا رواه عنه ابن متويه؛ إلا أن أصحابنا يوردونه إلزاماً لأصحاب المعارف الذين يقولون إن معرفة الله ضرورية، فقالوا: مما يدل على أن العلم بالله لا يجوز أن يكون ضرورياً هو أنه لو كان ضرورياً لوجب في العادم له أن يكون معذوراً، لأنه عند الخصم موقوف على اختيار الله تعالى، وهذا يوجب أن يكون الكفار كلهم معذورين في تركهم معرفة الله، وغيرها من المعارف، والخصم إن التزم هذا كفر، وإن لم يلتزمه بطل قوله.
قالوا: فإن قيل: قد أجاب الجاحظ عن هذا الإلزام، فقال: لا يلزم ما ذكر تموه؛ لأنا نقول أن العقلاء كلهم عارفون لله تعالى، وإنما بعضهم جحدوا ما عرفوه ضرورة، فلم يبق لهم عذر.
قيل: الجحود إنما يكون مع التواطئ وهو متعذر في الجماعة الكثيرة.
قلت: وفي هذا الجواب نظر، فإن المعلوم كثرة جماعة قريش وتواطئهم على تكذيب النبي صلى الله عليه وآله وسلم ، وكذلك اليهود، ولا أدري ما وجه منع الكثرة للتواطئ مع قوله تعالى:{وَجَحَدُوا بِهَا وَاسْتَيْقَنَتْهَا أَنْفُسُهُمْ}[النمل:14] فإن قالوا: وجهه العادة.
قيل:ما كان مستنده العادة جاز تخلفه في بعض الأحوال، أو وجب على قول لئلا يلتبس الجائز بالواجب كما مر في الفاتحة.
واعلم: أن القول بأن غير العارف لا يكون معذوراً مبني على قبح الإهمال بعد كمال العقل، وقد تقدم التنبيه على ذلك في المسألة السابعة من مسائل الحمد لله، وإذا كان قبيحاً فلابد من التكليف؛ إلا أنه يجب تنبيه المكلف على النظر إما بخاطر، أونحوه لئلا يكون من تكليف الغافل.
المسألة الرابعة [الرد عل الكرامية لقولهم أن الإيمان قول باللسان فقط]
في قوله تعالى: {وَمَا هُمْ بِمُؤْمِنِينَ}[البقرة:8] رد لمذهب الكرامية حيث قالوا أن الإيمان قول باللسان وإن لم يعتقد بالقلب؛ لأنه تعالى نفى إيمان من اقتصر على الإقرار بلسانه، وقال أبو السعود: لاحجة فيها عليهم؛ لأنها واردة فيمن أظهر الإيمان بلسانه، واعتقاده بخلافه، وهم إنما يقولون بإيمان من نطق بلسانه مع كونه فارغ القلب عما يوافقه أوينافيه، وأجيب بأن ظاهر مانقله العلماء عنهم قاض بأن مذهبهم أعم مما ذكره، وأنه يتناول فارغ القلب، والمعتقد لخلاف ما نطق به.
واعلم: أن ابن جرير نسب مذهب الكرامية الذي حكيناه عنهم إلى الجهمية، وهو وهم، وفي الآية رد لقول جهم أن الإيمان باليوم الآخر ليس داخلاً في مسمى الإيمان.
فإن قيل: المنافقون كانوا مؤمنين بالله واليوم الآخر، وإنما أنكروا نبوة محمد صلى الله عليه وآله وسلم ، فكيف نفى عنهم الإيمان بالله وباليوالآخر؟
قيل: أما على القول بأن الآية نزلت في منافقي المشركين فالسؤال ساقط، وأما على القول بأنها نزلت في منافقي أهل الكتاب وهم اليهود، فقال: الرازي إيمانهم بالله ليس بإيمان لاعتقادهم التجسيم، وقولهم عزير ابن الله، وكذلك إيمانهم باليوم الآخر ليس بإيمان؛ لأنهم لايؤمنون به على وجهه.
قلت: وفيه نظر؛ لأنه يلزم منه أنه لوحصل التصديق بالله على الوجه الصحيح وباليوم الآخرعلى وجهه أن يكونوا مؤمنين، وإن كذبوا الرسل، وخالفوا شرائع الإسلام، وليس كذلك، والصحيح أنه نفى عنهم الإيمان الشرعي.
المسألة الخامسة [عدم الاغترار بالمظاهر]
دلت الآية مع مابعدها من أوصاف المنافقين من الخداع لله، والمؤمنين، والاستهزاء بالدين على أنه لايغتر بظاهر أحوال الناس، وأنه لاينبغي الاعتماد عليهم في شيء مما لا يعتمد فيه إلا على المؤمنين إلا بعد تحقق إيمانهم، وسلامة أحوالهم، فيستنبط من ذلك عدم قبول رواية المجهول، والمنع من الاعتماد عليها في شيء من معالم الدين، وفي المسألة تفصيل وخلاف، وتحقيقها يحتاج إلى بسط،وبيان أقسام المجهولين،والمتفق على رده أو قبوله، والمختلف فيه من تلك الأقسام، فنقول: المجهولون منقسمون إلى خمسة أقسام:
أحدها:أن يكون المجهول مجهولاً ظاهراً وباطناً،فهذا لا يقبل لانتفاء تحقق العدالة وظنها،وادعى ابن السبكي الإجماع على ذلك،وفي عبارة ابن الصلاح، والنووي، والعراقي ما يدل على أن في قبوله خلاف؛ لأنهم نسبوا عدم القبول إلى الجمهور،وفي التقريب وشرحه للسيوطي ما لفظه:مجهول العدالة ظاهراً وباطناً مع كونه معروف العين برواية عدلين عنه لا يقبل عند الجماهير،وقيل:يقبل مطلقاً،وقيل: إن كان من روى عنه من لايروي عن غير عدل قبل، وإلا فلا.
قلت: والمراد بالمجهول باطناً من لايعرف إيمانه، وصحة اعتقاده، وبالمجهول ظاهراً من انتفت مخالطته كذا قيل. والله أعلم.
القسم الثاني:أن يكون مجهول العين كأن يقال فيه عن رجل فهذا مردود، قيل: إجماعاً لانضمام جهالة العين إلى جهالة الحال ما لم يصفه بالثقة أحد أئمة الحديث المعتبرين كالشافعي وأضرابه، وهذا اختيار ابن السبكي، وعليه إمام الحرمين، وهو ظاهر كلام القاسم، والهادي؛ لأن القاسم عليه السلام قد يروي عن الموصوف بذلك، أو بنفي التهمة ويحتج به، وربما كان هو الواصف، ويرويه عنه الهادي، ويحتج به كذلك، وهذا هو الظاهر من كلام السيد صلاح ابن أحمد المؤيدي في شرحه على الفصول، إلا أن الظاهر من واصفه أنه لايصفه بالثقة إلا بعد البحث التام، والخبرة التامة، وخالف في ذلك الصيرفي، والخطيب البغدادي لجواز أن يكون فيه جارح لم يطلع عليه الواصف، وأجيب ببعد ذلك من أحد الأئمة المشهورين المحتجين به على حكم في دين الله تعالى، وكذلك إن قال أحد الأئمة: أخبرني من لا أتهمه، فإنه يقبل ويكون توثيقاً لما مر، وخالف الصيرفي وغيره لما مَرَّ.
وقال الذهبي: ليس توثيقاً وإنما هو نفي للإتهام.
وأجيب: بأن ذلك إذا وقع من إمام واحتج به كان المراد به ما يراد بالوصف بالثقة.
واعلم:أن الإجماع المروي في عدم قبول مجهول العين غير صحيح، وإنما هو قول الجمهور؛ لأنه قد روي قبوله عمن لايشترط في الراوي غير الإسلام، وقيل: إن تفرد بالرواية عنه من لايروي إلا عند عدل، واكتفينا في التعديل بواحد قبل، وإلا فلا.
وقال ابن عبد البر: إن كان مشهوراً في غير العلم بالزهد، أوالنجدة قبل، وإلا فلا.
قلت: هذا ليس بمجهول العين، وإنما هومجهول العدالة والاسم، وقيل: يقبل إن زكاه أحد من أئمة الجرح والتعديل مع رواية واحد عنه، وهذا اختيار أبي الحسن بن القطان، وصححه شيخ الإسلام.
القسم الثالث: أن يكون مجهول العدالة وهو المستور حاله،وهذا لايقبل عند جمهور العلماء،وقبله محمد بن منصور،وعبد الله ابن زيد، والقاضي عبد الجبار في العمد،والحنفية،وابن فورك،وسليمان الرازي مع سلامة الظاهر من الفسق، وهو أحد احتمالي أبي طالب ذكره في جوامع الأدلة، وتوقف في المجزي، وهو أحد قولي المنصور بالله.
وقال إمام الحرمين: يوقف عن القبول أو الرد إلى أن يظهر حاله، ويجب الانكفاف عما ثبت حله بالأصل إذ روى التحريم فيه حتى يظهر حاله احتياطاً، وفي الفصول عن أكثر أئمتنا، والجمهور قبول مجهول الصحابة، وعن المنصور بالله قبول مجهول التابعين.
قال السيد صلاح ابن أحمد: المروي عنه أنه لايسأل عن ثلاثة قرون، وفي علوم الحديث لابن الوزير عن أئمتنا قبول مجهول العترة، ورواه عنهم أيضاً علامة العصر، احتج الجمهور بوجوه:
أحدها:أن الأصل في قبول الرواية حصول الظن الغالب، وخبر المجهول لايحصل به ذلك؛ لأن أمارة هذا الظن إنما هي ستره وعفافه، وثقته، وأمانته، وذلك لايحصل إلا بالاختبار.
الثاني: أَن الفسق مانع بالاتفاق، فيجب تحقق ظن عدمه كالكفر والصبا فإنا لانقنع بظهور عدمهما، بل يجب تحقق ظن عدمهما.
الثالث: ماورد في القرآن من تحريم العمل بالظن سواء علمت العدالة أو جهلت، فخولف فيمن علمت عدالته لدليل وهو الإجماع، فيبقى معمولاً به فيما عداه، ومنه محل النزاع.
الرابع: ما ورد في السنة من التحذير من علماء السوء، ووجوب التحري في الأخذ عن العدول الثقات، فمهما لم تتحقق العدالة فلا يؤمن أن يكون المأخوذ عنه من أولئك الذين قد حذرنا النبي صلى الله عليه وآله وسلم منهم، وأمرنا باتهامهم على ديننا.
وفي أمالي أبي طالب أخبرنا ابن عدي، ثني الحسن ابن الحسن، ثنا محمد بن أحمد، ثنا عبد الرحمن الهروي، ثنا روح ابن أبي روح، ثنا خليد، عن دعلج، عن قتادة، عن أنس قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم : ((إن هذا العلم دين فانظروا عمن تأخذون دينكم)).
احتج أبو حنيفة ومن وافقه بوجوه:
أحدها: أن الفسق شرط وجوب التثبت فإذا انتفى لم يجب التثبت، وهاهنا قد انتفى الفسق فلا يجب التثبت، وأجيب بأنا لانسلم انتفاءه، وإنما انتفى العلم به، والمطلوب العلم بانتفائه، وذلك لايحصل إلا بالاختبار.
الوجه الثاني: أن ظواهر قوله تعالى: {كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ}[آل عمران:110] ونحوها يدل على أن الأصل في هذه الأمة العدالة، وذلك يوجب قبول رواية كل فرد منهم مالم يعلم مانع من قبوله من فسق أوغيره.
والجواب: أنا نرجئ الجواب عن الآيات وبيان المراد منها إلى مواضعها إن شاء الله، إلا أنا نقول هنا: لانسلم أن الأصل العدالة، بل الظاهر أصالة الفسق، قال العضد: لأن العدالة طارئة، ولأن الفسق أكثر، قال سعد الدين: فهو أغلب على الظن وأرجح، وهو معنى الأصل، قال السيد صلاح ابن أحمد: في كون العدالة طارئة نظر؛ لأن الصبي يبلغ عدلاً حتى تصدر منه معصية.
قلت: وفي نظره عليه السلام نظر؛ لأن العدالة لاتثبت إلا مع حصول شرائطها وهي لا تحصل دفعة عند أول بلوغه، بل غايته أن يبلغ عارياً عن الوصفين، مع أن المعتبر تحقق العدالة، وتحققها يحتاج إلى اختبار، وذلك لايكون عند أول أحوال بلوغه؛ إذ لايمكن اختباره في تلك الحال غالباً على أن المراد بأصالة الفسق من حيث كثرته وغلبته لا من حيث أنه أول ما يكون عليه المكلف، فتأمل.
الوجه الثالث: أن الأخبار الكثيرة البالغة حد التواتر في فضل حملة العلم تدل على عدالتهم، وسلامة أحوالهم، وذلك يوجب ما قلناه من قبول روايتهم، بل قد روي ما هو نص في عدالتهم، وذلك مارواه زيد بن علي عليه السلام في مجموعه، عن علي عليه السلام ، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم : ((يحمل هذا العلم من كل خلف عدوله، ينفون عنه تحريف الغالين، وانتحال المبطلين، وتأويل الجاهلين)).
قال في الشرح: وهذا الحديث أخرجه ابن عدي، وأبو نصرالسجزي في الإبانة، وأبو نعيم، والبيهقي، وابن عساكر عن إبراهيم ابن عبد الرحمن العذري.
قال في كنز العمال: وهو مختلف في صحبته، قال أبو نعيم: وروي عن أسامة ابن زيد، وأبي هريرة، وكلها مضطربة غير مستقيمة، وأخرجه الخطيب، وابن عساكر عن أسامة، وابن عساكر عن أنس، والديلمي عن ابن عمر، والعقيلي عن أبي أمامة، والبزار، والعقيلي عن ابن عمر وأبي هريرة معاً.
قال الخطيب: سئل أحمد ابن حنبل عن هذا الحديث، وقيل له: كأنه كلام موضوع؟
قال: لا هو صحيح سمعته من غير واحد، وروي بلفظ: يرث هذا العلم من كل خلف الحديث أخرجه الحاكم، وابن عساكر عن إبراهيم ابن عبد الرحمن العذري، وجزم في الميزان بأنه غير صحابي، فقال: تابعي نقل ماعلمته واهياً، وأرسل يحمل هذا العلم من كل خلف عدوله رواه غير واحد عن معاذ بن رفاعة عنه، ومعاذ ليس بعمدة، ولاسيما إذا أتى بواحد لا يدرى من هو.
قال السيد عباس بن أحمد: ولكنه يقال: إذا كان الإمام أحمد ابن حنبل قد صححه فكفى به، وكفى به، فمن يعلم حجة على من لا يعلم.
قلت: وكان الأولى أن يقال: إذا كان رواية زيد بن علي عن آبائه فكفى به وكفى به.
والجواب: أما الأ خبار الواردة في فضل العلماء فالمراد بها من عمل بعلمه بدليل التحذير من علماء السوء وذمهم في عدة أحاديث لعلها تبلغ حد التواتر، ومدح العامل بعلمه لايقتضي ما ذكرتم من ظهور عدالة كل عالم، وإطلاقات بعض الأخبار في فضل العلماء مقيدة بما ذكرنا كما لايخفى، وأ ما حديث المجموع وشواهده فهي بمعزل عما رمتم، وإنما معناها الإخبار بحفظ هذا الدين بجملة من العلماء العاملين كما في قوله: ((لن تزال طائفة من أمتي على الحق ظاهرين)) بل الحديث حجة عليهم؛ لأنه قد أفاد أن ثمة من يحرف وينتحل ويتأول بالباطل ممن ينسب إلى العلم، إلا أن أولئك العدول ينفون ذلك، وتمييز إحدى الطائفتين عن الأخرى لا يكون إلا بالاختبار، وهو معنى قولنا إنه لا يكتفى بالظاهر.
الوجه الرابع: أنا متعبدون بالظاهر لقوله صلى الله عليه وآله وسلم : ((نحن نحكم بالظاهر)) ويشهد له ما رواه الهادي في الأحكام أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال لأسامة: ((أفلا شققت على قلبه فنظرت ما فيه))
والجواب:أما حديث نحن نحكم بالظاهر فلا حجة لهم فيه؛ لأنه ليس لنا في المجهول ظاهر يعتمد عليه، بل صدقه وكذبه متساويان، وأما حديث الأحكام فهو وارد في من قد ظهر إيمانه، وإنما اعتقده أسامة تقية.
فائدة: [في التعليق على حديث: ((نحن نحكم بالظاهر))]
قال الذهبي، والمزي: حديث ((نحن نحكم بالظاهر)) لا أصل له.
قلت: لكنه يقال معناه صحيح إذ لا نتمكن من الإطلاع على الباطن إلا في الأنبياء، ومن أخبروا بعصمته كما يدل عليه حديث أسامة، وقد روي في الصحيح: ((إنما أقضي بما أسمع)) . وفي صحيح البخاري عن ابن عمر: ((إنا نؤاخذكم بما ظهر لنا من أعمالكم)).
الوجه الخامس: أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قبل خبر الأعرابيين في الإفطار، رواه في الشفاء، وأخرجه أحمد، وأبو داود، ولا يقال إنه قد عرف عدالتهما إذ لو كان قد عرفها لما سألهما عن إسلامهما في رواية ابن أبي شيبة والشفاء إذ لايسأل إلا عن جهل، وقد قبل خبرهما في إسلامهما، وفي رواية الهلال.
والجواب: بأن الواجب حمل القبول له على وقوعه بعد معرفته عدالتهما لظاهر الأخبار الصريحة باعتبارالعدالة في رؤية الهلال، وحينئذ يجوز أن يكون السؤال عن إسلامهما سؤالاً عن نطقهما بالشهادتين، فكأنه قال: هل قلتما أشهد أن لاإله إلاَّ الله وأن محمداً رسول الله، فقالا: نعم، على أن اعترافهما بالإسلام إسلام في الحال وإن لم يكن قد تقدم منهما غيره، وهو كاف في ثبوت عدالتهما، لأن الإسلام يجب ما قبله، وقد اكتفى به النبي صلى الله عليه وآله وسلم فيما رواه ابن عباس أن أعرابياً جاء إلى النبي صلى الله عليه وآله وسلم فقال: إني رأيت الهلال يعني رمضان، فقال: ((أتشهد أن لا إله إلا الله؟)) قال: نعم، قال: ((أتشهد أن محمداً رسول الله؟)) قال: نعم، قال: (( يابلال أذن في الناس فليصوموا غداً)) ويجوز أنه قبل خبرهما في إسلامهما لقرائن دلت على ذلك من هيئة وأخلاق مخالفة لهيئات الكفار وأخلاقهم، وقد ذكر أبو الحسين في المعتمد أن العدالة إذا كان لها ظاهر وجب الاعتماد عليه، وإلا لزم اختبارها.
قال: ولاشبهة أن في بعض الأزمان كزمن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قد كانت العدالة منوطة بالإسلام، فكان الظاهر من المسلم كونه عدلاً، ولهذا اقتصر النبي صلى الله عليه وآله وسلم في قبول خبر الأعرابي عن رؤيته الهلال على ظاهر إسلامه، واقتصرت الصحابة على إسلام من كان يروي الأخبار من الأعراب، فأما الأزمان التي كثرت فيها الخيانات ممن يعتقد الإسلام، فليس الظاهر من الإسلام كونه عدلاً فلا بد من اختباره، قال: وقد ذكر الفقهاء هذا التفصيل.
الوجه السادس: أن الأمة أجمعت على قبول رواية المجهول، وبيان ذلك أن البخاري ومسلم قد رويا عن المجهولين كما صرح بذلك الذهبي، وغيره، و الأئمة مطبقة على قبول روايتهما.
والجواب: أنا لانسلم أن في رجالهما مجاهيل، ولعل المدعي لذلك متحامل عليهما ولم يؤد النظر حقه، سلمنا فقد علم من حالهما أنهما لا يرويان في الصحيحين إلا عن العدول، فمن جهلنا حاله حكمنا بعدالته استناداً إلى ذلك الأصل كما حكم كثير من الزيدية بصحة ما في كتب الأئمة وشيعتهم مستندين إلى أنه قد علم من حالهم أنهم لا يروون إلا عن العدول الثقات، ولما مر من أن مجهول العين إذا وصفه أحد الأئمة بالثقة كان كافياً، ثم إنا لو سلمنا أن فيهما مجاهيل، وأن الشيخين لم ينصا على أنهما لم يقبلا إلا الثقات، ولاعلم من حالهما أو أن الوصف بالثقة في الجملة لايكفي فلا نسلم الإجماع عن قبول روايتهما فإن أئمة العدل سيما الزيدية يروون كثيراً من أخبارهما، ولم يقبلوا إلا ما طابق العقل، والكتاب، والسنة الصحيحة.
قال الحسن بن يحيى عليه السلام : وسألت عن سماع العلم من أهل الخلاف وذكرت أن قوماً يكرهون ذلك.
فالجواب في ذلك: أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قد بلغ ما أمر به، وعلم أمته مافرض الله عليهم، وما سنه رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فيهم، ولم يقبض إلا عن كمال الدين، فسنة رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم منقسمة عند من سمعها من أصحابه، فمنهم من حفظ، ومنهم من قدم وأخر، ونسي وغفل، ومنهم من بدل وغير، وزاد ونقص، فقد ثبتت الحجة من رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم من أمته على أن بلغ إليهم ما أمر به، ودلهم على من يحفظ ما نسوا، ويعلم ما جهلوا بالتمسك به عند اختلافهم، ولا تابع له عند تفرقه، فقال: ((يا علي حربك حربي، وسلمك سلمي، وأنت مع الحق، والحق معك)) ثم أعلمهم بموضع الحق والهدى بعد أمير المؤمنين عليه السلام بالدلالة على عترته، فَمَا روته العامة من سنن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم المشهورة، المتسق بها الخبر من غير تواطئ، أخذت وحملت عن كل من يؤديها، إذا كان يحسن التأدية لها مأموناً على الصدق فيها، وما جاء من الآثار التي تخالف مامضى عليه علماء آل رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ترك من ذلك ما خالفهم، وأخذ ما وافقهم، ولم يضيق سماع ذلك من كل من نقله من أهل الخلاف، إذا كان يعرف بالصدق على هذا التمييز، ولاخير في السماع من أهل الخلاف إذا لم يكن مع المستمع تمييز على ما ذكرنا ذكره في الجامع الكافي، وسائر كلمات مشاهير العترة" على هذا النمط في منع قبول رواية العامة، إلا ما وافق الكتاب والسنة التي رواها آل محمد"، بل منع بعضهم القراءة في الصحيحين وغيرهما، فمن أين تصح دعوى الإجماع على قبول ما فيهما، والعمل به.
قال في (الروض النضير): وقد ثبت عن قدماء أهل البيت" كزيد بن علي، والباقر، والصادق، وأحمد بن عيسى، والقاسم بن إبراهيم، ومن في طبقتهم أنهم لايروون ويحتجون إلا بمن ثبت لديهم عدالته، وصح عندهم ثقته، وأمانته.
قلت: والمعلوم أن في رجال الصحيحين من لا يرتضي آل محمد" أمانته ودينه، فينتج من ذلك أن أهل البيت لايعملون بكل ما رواه البخاري ومسلم، فتبطل دعوى الإجماع المذكور.
الوجه السابع: أن خبر المجهول مقبول في الزكاة، ورق جاريته التي يبيعها، ونحوها، فيقاس عليه قبول روايته، وأجيب بأن القياس غير صحيح؛ لأن ذلك مقبول مع الفسق اتفاقاً، على أن الرواية على مرتبة من هذه الأمور الجزئية لإثباتها شرعاً عاماً، فلا يلزم من القبول هناك القبول هنا، احتج القائل بقبول مجهول الصحابة بما ورد في مدحهم من الآيات، كقوله تعالى: { مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللَّهِ وَالَّذِينَ مَعَهُ...} الآية[الفتح:29] وغيرها، وقول النبي صلى الله عليه وآله وسلم : ((أصحابي كالنجوم بأيهم اقتديتم اهتديتم)) قال الديبع: أخرجه رزين، وبحديث أبي سعيد المتفق عليه: ((لا تسبوا أصحابي)) وبما سيأتي من أن القرن الذي هو فيه خير القرون، وغير ذلك من الأخبار الواردة في فضلهم على العموم، وادعى ابن الصلاح إجماع الأمة على عدالة الصحابة كلهم، قال: ومن لابس الفتن فكذلك بإجماع العلماء الذين يعتد بهم في الإجماع.
والجواب: أما الآيات الدالة على المدح، فالمراد بها المؤمنون منهم للعلم بأن فيهم من ليس بمؤمن، بدليل هذه الآية التي نحن بصددها وغيرها مما نزل في المنافقين.
وأما حديث: ((أصحابي كالنجوم)) فقد نص على بطلانه جماعة من نقاد الحديث،قال ابن القيم في أعلام الموقعين: هذا الحديث روي من طريق الأعمش،عن أبي سفيان،عن جابر،ومن حديث سعيد بن المسيب،عن ابن عمر،ومن طريق حمزة الجزري عن نافع لايثبت شيء منها، وفيها عن ابن عبد البر بسنده إلى البزار أن هذا الحديث لا يصح، وفي شرح الغاية عن الإمام القاسم بن محمد عليه السلام أن رواية جعفر بن عبد الواحد الهاشمي القاضي، قال فيه الدارقطني: يضع الحديث، وقال أبو زرعة: روى أحاديث لا أصل لها، وقال ابن عدي: يسرق الحديث، ويأتي بالمناكير عن الثقات، وقال فيه الذهبي في ميزانه: ومن بلاياه عن وهب، عن جرير، عن الأعمش، عن أبي صالح، عن أبي هريرة، عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم : ((أصحابي كالنجوم من اقتدى بشيء منها اهتدى)) وروى السيد محمد بن إبراهيم في تنقيحه عن ابن كثير الشافعي تضعيفه، وقال: رواه عبد الرحيم بن زيد العمي عن أبيه كذبه ابن معين،والبزار، ونفى السعدي، والجوزجاني عنه الثقة، وضعفه أبو داوود،وضعف أباه أيضاً.
وقال البخاري، وأبو حاتم: متروك، ووهاه أبو زرعة، وقال ابن حجر في تلخيصه: رواه عبد بن حميد من طريق حمزة النصيبيني، عن نافع، عن ابن عمر، قال: وحمزة ضعيف، وقال فيه ابن معين: لايساوي فلساً، وقال البخاري: منكر الحديث، وقال الدارقطني: متروك، وقال ابن عدي: عامة مروياته موضوعة، وروي أيضاً من طريق جميل بن زيد، عن مالك، عن جعفر بن محمد، عن جابر، قال ابن حجر: وجميل لايعرف.
قال: ولا أصل له من حديث مالك ولا من فوقه، وحكى ابن حجر أيضاً عن ابن حزم أنه قال: هذا خبر موضوع، مكذوب باطل.
قلت: أبو سفيان الراوي عن جابر ذكره في الجداول، وهو أبو سفيان المكي، واسمه طلحة بن نافع، وذكر رواية الأعمش عنه، قال: وثقه ابن حبان، وقال أحمد، والنسائي: لابأس به، احتج به مسلم، والأربعة، وروى له أئمتنا الأربعة، ولعل الحديث ضعف لأجل غيره ممن تحته من الرواة.
وأما حديث أبي سعيد، وحديث خير القرون، وما في معناهما، فالجواب عنها: كالجواب عن الآيات سواء سواء، لما ثبت من نفاق بعضهم للأحاديث الصحيحة الكثيرة الصريحة في أن فيهم من يدفع عن الحوض، وقد نص أمير المؤمنين عليه السلام في كلامه في تقسيم الرواة على أن في رواة الأخبار من الصحابة جماعة من المنافقين المتقربين إلى أئمة الضلال.
قال السيد صلاح بن أحمد: ومن تأمله وجده مصرحاً بخلاف ذلك، يعني بخلاف القول بقبول رواية مجهول الصحابة، وأما الإجماع الذي ادعاه ابن الصلاح فهو باطل لخلاف أكابر الصحابة في ذلك، فقد رووا كثيراً من الروايات، ونهوا عن كثرة الرواية، وخافوا من قبل كل ما سمعوا، ورموا بعض رواة الصحابة بالكذب، والوهم، والخطأ كما في كلام الوصي عليه السلام الذي تقدمت الإشارة إليه، ومن ذلك ما روي عن نعيم بن دجاجة، قال: كنت جالساً عند علي عليه السلام إذ جاءه أبو مسعود البدري، فقال علي عليه السلام : قد جاء فروج، فجاء فجلس، فقال علي عليه السلام : أنت تفتي الناس؟ قال: نعم وأخبرهم أن الأخر شر قال: فأخبرني هل سمعت من النبي صلى الله عليه وآله وسلم من شيء؟ قال: نعم سمعته يقول: ((لا يأتي على الناس سنة مائة وعلى الأرض عين تطرف)) فقال علي عليه السلام : أخطأت إستك الحفرة، وأخطأت في الأول فتواك، إنما قال لمن حضره يومئذ هل الرخاء إلا بعد المائة. رواه في الاعتصام، وقال رواه أبو يعلى، وقال في مجمع الزوائد: ورجاله أي هذا الخبر ثقات. والفروج والرخا بالخاء المعجمة: الخير والسعة، وقوله: والأخر شر تعريض بعلي عليه السلام ، وقال في الاعتصام: نقل الحاكم، قال: حدثني بكر بن محمد الصيرفي بمرو، حدثنا محمد بن موسى الترمذي، حدثنا المفضل ابن عيشان، حدثنا علي ابن صالح، حدثنا موسى بن عبدالله بن حسن بن حسن،عن إبراهيم بن عمر، عن عبد الله التيمي، حدثنا القاسم بن محمد،قالت عائشة: جمع أبي الحديث عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فكانت خمسمائة حديث، فبات ليلة يتقلب كثيراً، قالت: فغمني فقلت: أتتقلب لشكوى،أو لشيء بلغك،فلما أصبح قال: أي بنية هلمي الأحاديث التي عندك، فجئته بها،فدعا بنار فحرقها، فقلت: لم حرقتها؟ قال:خشيت أن أموت وهي عندي، فيكون فيها أحاديث من رجل قد ائتمنته،ووثقت به ولم يكن كما حدثني، فأكون قد نقلت ذلك، وقال الذهبي:قد كان عمر
من وجله أن يخطئ الصاحب على رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يأمرهم أن يقلوا الرواية عن نبيهم صلى الله عليه وآله وسلم ، ولئلا يتشاغل الناس بالأحاديث عن حفظ القرآن، وروى ابن أبي الحديد وغيره كثيراً من تكذيب بعضهم لبعض، وقدح بعضهم في بعض، هذا أمير المؤمنين قال: لايجد أكذب على رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم من أبي هريرة، وضربه عمر بالدرة، وكذبته عائشة، وكذا غيره، وبالجملة إن الأمر في ذلك معلوم لمن بحث، وقال الحاكم في كتاب معرفة أصول الحديث: وقد جرح وعدل أبو بكر، وعمر، وعلي، وزيد بن ثابت، وبحثوا عن صحيح الروايات وسقيمها، وهذا كله يدفع صحة الإجماع الذي ادعاه ابن الصلاح؛ إذ لا تجمع الأمة على خلاف ما عليه أكابر الصحابة، بل قال السيد صلاح بن أحمد: إنه لم يظهر من أحد من الصحابة إنكار على الرادين، وذلك يقتضي حصول الإجماع، يعني إجماع الصحابة على رد المتهم.
[رواية المجهول]
قلت: وإذا ثبت أن فيهم من لا تقبل روايته كان الواجب عدم قبول المجهول منهم؛ إذ لايؤمن أن يكون من أولئك المجروحين.
وأما حكاية صاحب الفصول قبول مجهولهم عن أئمتنا، ففيها نظر، فإن إمامهم علي بن أبي طالب، وكلامه في الرواة يقتضي المنع من قبول من لاتعر ف عدالته كما مر، ومن تأمل كلام أولاده في الصحابة علم عدم صحة إطلاق هذه الرواية عنهم.
احتج المنصور بالله بقوله صلى الله عليه وآله وسلم : ((خير القرون قرني، ثم الذين يلونهم، ثم الذين يلونهم، ثم يفشو الكذب)) فأخذ منه أن في هذه الثلاثة القرون لم يفش الكذب، فلا يجب البحث عن عدالتهم؛ لأن الصدق غالب أمرهم، وأجيب بأن الحديث مطعون فيه؛ لأن المعلوم أن معظم الكذب على رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم لم يفش إلا في زمن التابعين، بل وقع في زمانهم من هتك حرمات الله مالم يقع في غيره من رمي الكعبة بالمنجنيق، وقتل أهل البيت وتشريدهم، والاستئثار بأموال الله وغير ذلك، وقد مر من رواية الناصر في البساط عن حذيفة أنه قال: المنافقون الذين فيهم اليوم شر من المنافقين الذين كانوا على عهد رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ، قلنا: وكيف ذاك يا أبا عبد الله؟ قال: لأن أولئك أسروا نفاقهم، وإن هؤلاء أعلنوه، وروي أن رجلاً قال: اللهم أهلك المنافقين، فقال حذيفة: لو هلكوا ما انتصفتم من عدوكم. قال الناصر: لقلة المؤمنين.
وفي البساط أيضاً عن حبة بن جوين، قال: كنا مع سلمان في غزاة فصادفنا العدو، فقال سلمان: هؤلاء المشركون يعني العدو، وهؤلاء المؤمنون والمنافقون يؤيد الله المؤمنين بقوة المنافقين، وينصر المنافقين بدعوة المؤمنين. وسلمان، وحذيفة ممن أدرك جماعة من التابعين.
قلت: أما الطعن في صحة الحديث فلم يظهر له وجه صحيح؛ لأنه ثابت من طرق، فقد أخرجه الشيخان، وأحمد، والترمذي عن ابن مسعود، ومسلم عن عائشة، والطبراني في الكبير عن ابن مسعود، وصححه شيخ العزيزي، والطبراني في الكبير، والحاكم عن جعدة بن هبيرة، وصححه شيخ العزيزي أيضاً، والترمذي، والحاكم عن عمران بن الحصين. قال: العزيزي، قال الشيخ: حديث صحيح.
إذا عرفت هذا فنقول: إن هذا الحديث ليس بأعظم مما ورد في الصحابة، ولا أصرح منه، وقد عرفت تأويل ما ورد فيهم لما كان الحمل على الظاهر غير ممكن، على أن لنا أن نقول غاية ما في هذا الخبر أن الكذب في هذه الثلاثة القروان أقل منه في غيرها، وذلك لا يستلزم عدم التفتيش عن العدالة؛ إذ مهما كان الكذب جائزاً فيهم فلا يؤمن كون من لم نعرف حاله من أهل الكذب. والله أعلم.
احتج أئمتنا على قبول مجهول العترة بما ورد في حقهم من وجوب مودتهم، وإرادة تطهيرهم، والأمر بالتمسك بهم، وغير ذلك مما لايحصى، هذا مع ما علم من سلامة أحوالهم، ومجانبتهم للكذب وأهله، وأجيب بأن المحكوم له بتلك الفضائل هو جماعتهم لا أفرادهم، والأمر بالمودة وإن تناول الآحاد، فذلك لا يستلزم العدالة في الكل.
إما لما هو الظاهر من وجوب مودة الصالح والطالح منهم، وإما لأن المجهول غير محكوم عليه بما يخرجه عن وجوب المودة، وهو كونه ممن حاد الله ورسوله، ولكن وجوب مودته لايستلزم قبول روايته لعدم تحقق شرط القبول وهو العدالة.
قلت: وفي إطلاق الرواية عن الأئمة نظر.
القسم الرابع من أقسام المجهولين: أن يكون مجهول النسب، والاسم، أو أحدهما مع معرفة حاله في العدالة والضبط، فهذا مقبول؛ لأن المعتبر العدالة والضبط، ومعرفتهما ممكنة مع الجهل بالاسم والنسب، وقيل: لايقبل إذ يصير مجهولاً، قلنا: مناط القبول العدالة والضبط.
القسم الخامس: أن يكون مجهول الضبط، وهذا لايقبل وإن علمت عدالته؛ لانتفاء شرط العمل وهو الضبط لما رواه.
قال في شرح الفصول: إلا أن يعرف منه أنه ضبط ذلك الحديث بخصوصه.
فائدة: [في أذان المجهول]
قال في الجوهرة: قد أجري هذا الاسم -يعني اسم المجهول- على من لم يعرف بمخالطة العلماء والأخذ عنهم، وغشيان مجالسهم، وهذا عندنا لايقدح في خبره؛ لأنه لايسقط عدالته، ولايبطل أمانته، فجاز العمل على روايته.
(فرع): في أذان المجهول هل يجزي أم لا؟ والمسألة مبنية على أنه هل شرع للإعلام بدخول الوقت أم لا؟ والذي يؤخذ من معناه لغة وشرعاً: أنه إخبار بدخول الوقت.
قال النووي: الأذان لغة: الإعلام، ومثله في شرح الأزهار، وقال الراغب: المؤذن كل من يعلم بشيء نداء، وأما في الشرع فقال في البحر: هو الإعلام بدخول وقت الصلاة بألفاظ مخصوصة، وهذا يدل على أنه يعتبر فيه مايعتبر في غيره من الأخبار من العدالة وغيرها، والمجهول غير معلوم العدالة فلايقبل إعلامه بدخول الوقت، ويؤيده إجماع الأمة على أنه لايجزي أذان كافر التصريح، ولا غير المميز، ولايؤمن في المجهول أن يكون أحدهما، واختلف العلماء في أذان الفاسق، فقال أهل المذهب: لايجزي لما في البحر عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم : ((يؤذن لكم خياركم)) وأخرجه أبو داود بلفظ: ((ليؤذن لكم خياركم، وليؤمكم أقرؤكم)) . وقال الإمام الحسن بن يحيى القاسمي، وولده علامة العصر، ورواه عن المؤيد بالله، وحكاه في التقرير عن أبي العباس، وأبي طالب: بل يجزى.
وبه قال الشافعي،وهو ظاهر كلام الإمام عز الدين،وأجابوا عن الحديث بأنه لا يمكن حمله إلا على الندب،والإ لزم إذا أذن من ليس بفاسق وثمة مؤمن خير منه أن لايصح أذانه،ولاقائل به،على أن لفظ الحديث: ((وليؤذن لكم أحدكم،وليؤمكم أكبركم)) رواه في الشفاء، وأخرجه بهذا اللفظ البخاري،ومسلم من حديث مالك بن الحويرث، وأجيب بأن المراد بالخيار العدول،وليس التفضيل على بابه لما ذكرتم، لكن ذلك لايوجب القول بصحة أذان الفاسق،بل نمنعها لاشتراط الخيرية فيه.
وأما الرواية الأخرى، فالمراد بالواحد فيها أحد المخاطبين وهم المؤمنون، وفيه دلالة بالمفهوم على أنه لايؤذن لهم من ليس منهم، ويؤيده أن الفاسق غير أمين على الوقت، وقد قال صلى الله عليه وآله وسلم : ((الإمام ضامن، والمؤذن مؤتمن، اللهم أرشد الأئمة، واغفر للمؤذنين)) رواه أحمد، وأبو داود، والترمذي من حديث أبي هريرة، رواه الأعمش، عن أبي صالح عنه.
قال في نيل الأوطار: ورواه الشافعي من طريق إبراهيم ابن أبي يحيى، وابن حبان، وابن خزيمة كلهم من طريق سهل بن أبي صالح، عن أبيه، عن أبي هريرة، قال: وروي أيضاً عن أبي صالح عن عائشة. قال أبو زرعة: حديث أبي هر يرة أصح من حديث عائشة، وقال محمد عكسه، وذكر علي بن المديني أنه لم يثبت واحد منهما، وقال أيضاً: لم يسمع سهيل هذا الحديث من أبيه، وإنما سمعه من الأعمش، ولم يسمعه الأعمش من أبي صالح بيقين؛ لأنه يقول فيه: نبئت عن أبي صالح، وكذا قال البيهقي في المعرفة، وقال الدار قطني في العلل: رواه سليمان، وروح بن القاسم، ومحمد بن جعفر، وغيرهم عن سهيل، عن الأعمش. قال: وقال أبو بدر عن الأعمش: حدثت عن أبي صالح، وقال ابن الفضيل: عنه عن أبي صالح، وقال الثوري: لم يسمع الأعمش هذا الحديث من أبي صالح، وقال في النيل: وصحح حديث أبي هريرة وعائشة جميعاً ابن حبان، قال: وقد سمع أبو صالح هذين الخبرين من عائشة، وأبي هرير ة جميعاً.
قلت: الحديث له شواهد في كتب الأئمة وغيرهم، ففي شرح التجريد عنه صلى الله عليه وآله وسلم : ((الإمام ضامن، والمؤذن مؤتمن)) وهو في أصول الأحكام، وذكره في الاعتصام، وفي الجامع الكافي: بلغنا عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم أنه قال: ((اللهم أرشد الأئمة، واغفر للمؤذنين)) وفي الشفاء عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم أنه قال: ((الأئمة ضمناء، والمؤذنون أمناء، فأرشد اللهم الأئمة، واغفر للمؤذنين)) قال في نيل الأوطار: وفي الباب عن ابن عمر أخرجه أبو العباس السراح، وصححه الضياء في المختارة، وعن أبي أمامة عن أحمد، وعن جابر عند ابن الجوزي في العلل، والحديث يدل على اشتراط عدالة المؤذن من حيث وصفه بكونه مؤتمناً، ومن حيث الدعاء له بالمغفرة.
قال الأمير الحسين:والمراد أن المؤذن أمين فيما يخبر من دخول وقت الصلاة.
فإن قيل: لا نسلم أنه أمين فيما ذكرتم بل المراد أنه أمين على حرم الناس؛ لأنه يشرف على المواضع العالية.
قيل: يدفع قولكم مارواه في الشفاء عن بلال بن حمامة، قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يقول: ((المؤذنون أمناء المؤمنين على صلاتهم، وصومهم، ولحومهم، ودمائهم، لايسألون الله شيئاً إلا أعطاهم)) وفي الجامع الصغير: ((المؤذنون أمناء المسلمين على صلاتهم وحاجتهم)) ونسبه إلى البيهقي عن الحسن مرسلاً، والمراد بحاجتهم: حاجة الصائمين إلى الإفطار، وفيه عن أبي محذورة مرفوعاً: ((المؤذنون أمناء المسلمين على فطورهم وسحورهم)) أخرجه الطبراني في الكبير، قال العزيزي: بإسناد حسن.
فإن قيل: عدم أمانة الفاسق لا تدل إلا على أنه لا يعتمد عليه في دخول الوقت، وأنه لا يؤهل لطلوع المأذنة، ونحن نلتزم ذلك، وقد قال في شرح الأزهار: إن تقليده في الوقت لا يصح بلاخلاف، كما لا يقبل خبره.
قيل: قد ثبت بما مر أن المقصود الأعظم بالأذان الإخبار بدخول الوقت، وقد ثبت أيضاً اشتراط العدالة في المخبر من حيث هو، فيجب أن لايعتد بأذان الفاسق كما لا يعتد بخبره، على أنه لولم يكن المقصود به الإخبار فقد قام الدليل على اشتراط عدالة المؤذن كما مر، فإذا انتفى الشرط لم يصح المشروط.
ومن الأدلة على اشتراط العدالة فيه ما رواه في شرح التجريد، والشفاء، وأصول الأحكام أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قال لرجل: ((أم قومك، واتخذ مؤذناً لا يأخذ على أذانه أجراً)) وأخرج أبو داود، والترمذي عن عثمان بن أبي العاص، قال: إن من آخر ما عهد إلي رسوالله صلى الله عليه وآله وسلم : ((أن اتخذ مؤذناً لايأخذ على أذانه أجراً)) ونسبه في المنتقى إلى الخمسة.
وقال في النيل: صححه الحاكم، وقال ابن منذر: ثبت أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قال لعثمان بن أبي العاص: ((واتخذ مؤذناً لا يأخذ على أذانه أجراً)) ووجه دلالة هذه الأخبار على اشتراط العدالة أنه قد منع من اتخاذ من يأخذ الأجر مؤ ذناً، وليس ذلك إلا لعصيانه بأخذ الأجرة، ويؤيده ما أخرجه ابن حبان عن يحيى البكالي، قال: سمعت رجلاً قال لابن عمر: إني لأحبك في الله، قال له ابن عمر: إني لأبغضك في الله، فقال: سبحان الله أحبك في الله وتبغضني في الله، قال: نعم إنك تسأل على أذانك أجراً.
وإذا ثبت أن العدالة في المؤذن شرط وجب أن لايقبل أذان المجهول لعدم تحقق العدالة فيه إلا أن يصح ما ذكره في الثمرات من الإجماع على قبوله، ولكنه لم يجزم برواية ذلك وإنما قال: إن قيل: إنه مخبر بدخول الوقت، فلا يقبل، ثم قال: قلنا: لعل هذا مخصص من العموم بإجماع المسلمين، قال: وقد ذكر بعض المفرعين من المتأخرين أنه يقبل أذان المجهول كما يصلى خلفه.
قلت: ولأهل المذهب تفصيل ذكره ابن بهران، وهو أن السامع حكمه حكم المقلد إن كان في بلد شوكته لإمام حق لا يرى صحة أذان من لم يجمع تلك الشروط اجتزأ به، وإلا فلا، وهو تفصيل حسن، ولعله بناه على ما ذكره أبو الحسين وقد مر.
فائدة
قال أهل المذهب: العدالة المعتبرة في المؤذن أن تكون كعدالة إمام الصلاة وهو قوي إن لم يجعلوا العلة في اشتراط العدالة كونه مخبراً بدخول الوقت، وأما إن جعلوا العلة ذلك، فالقياس أنه كسائر الأخبار، فمن قبل رواية فاسق التأويل وكافره قبلهما في الأذان، ومن لا فلا، والظاهر أن أهل المذهب لم يمنعوا إلا رواية فاسق الجارحة كما في حواشي الأزهار. والله أعلم.
قلت: والذي تدل عليه الأحاديث أنه لابد من انتفاء الفسق تصريحاً وتأويلاً، وكذلك غيره من المعاصي التي تختل بها العدالة.
البقرة 9
قوله تعالى: {يُخَادِعُونَ اللَّهَ وَالَّذِينَ آمَنُوا وَمَا يَخْدَعُونَ إِلاَّ أَنفُسَهُمْ وَمَا يَشْعُرُونَ}[البقرة:9]
الخديعة: المكر والحيلة، وأصله في اللغة: الإخفاء، ومنه مخدع البيت للمنزل الذي يحرز فيه الشيء ويخفى، وقيل: أصله الفساد، والنفس لها في لغة العرب معان: ذات الشيء، يقال هذا نفس كلامك أي ذاته، والروح يقال: فاضت نفس فلان أي روحه، ذكر هذين المعنيين القاسم بن إبراهيم، والهادي عليهما السَّلام ، وصاحب القاموس، وغيره من أئمة التفسير واللغة، وزادوا لها معان أخر، وهي بمعنى الدم، ومنه ما لانفس له سائلة لا ينجس، والماء لشدة حاجة النفس إليه وغير ذلك، والمراد هنا المعنى الأول، وقد جعل الهادي لفظ النفس في نحو هذا التركيب صلة زائدة، وقال: إن العرب قد تدخل لفظ النفس صلة في كلامها مثل ما ولا، وليس لها معنى عندهم غير تحسين الكلام، قال: ومنه قول الرجل لصاحبه: أتيتني بنفسك، أي أتيتني أنت لاغيرك، كما يقول: ما منعك أن لا تأتيني، يريد ما منعك أن تأتيني فأدخلت لا صلة، والشعور: علم الشيء علم حس من الشعار وهو ثوب يلي الجسد، وقال: أبو حيان الشعور: إدراك الشيء من وجه يدق، مشتق من الشعر، والإدراك بالحاسة مشتق من الشعار وهو ثوب يلي الجسد، ومشاعر الإنسان حواسه، وتفسيره للشعور يوافقه تفسير القرطبي له بالفطنة، وفي الآية مسائل:
المسألة الأولى [في المخادعة]
المخادعة على الحقيقة لاتجوز على الله تعالى؛ لأن العالم الذي لاتخفى عليه خافية لايخدع، وإذا كان ذلك كذلك فليست المخادعة هنا على ظاهرها، وقد ذكروا لها تأويلات، فقيل: هي واردة على طريقة الاستعارة والتمثيل لإفادة كمال شناعة جنايتهم، وقيل: معناه يخادعون رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم على جهة المجاز العقلى وفائدته الإبانة عن تشريفه صلى الله عليه وآله وسلم مع إفادة كمال الشناعة كما مر، وقيل: معناه يخادعون الله في زعمهم؛ لأنهم يظنون أنه تعالى ممن يصح خداعه لعدم معرفتهم به؛ إذ من كان إيمانه نفاقاً لم يكن عارفاً بالله ولا بصفاته،فلم يبعد من مثله تجويز أن يكون الله مخدوعاً،ومصاباً بالمكروه من وجه خفي، وهذه الوجوه أحسن التأويلات، وقد ذكروا وجوهاً لاتخلو من تكلف ومخالفة للظاهر، وأما خداعهم للذين آمنوا فلا بعد فيه ولا محذور، والمخادعة التي فعلوها هي إظهارهم للإيمان ليتوصلوا به إلى غرض لهم في حقن دمائهم، وحرمة أموالهم، والمشاركة للمؤمنين في الغنائم، واطلاعهم على الأسرار التي كانوا حراصاً على إذاعتها، وغير ذلك من الأغراض الفاسدة، وما كانوا يشعرون أن وبال ذلك الخداع وضرره عليهم حتى كأنهم لم يقصدوا به إلا أنفسهم.
المسألة الثانية [في الفرق بين المعاند من غيره]
في هذه الآية رد لما ذهب إليه الجاحظ، والعنبري من أنه لاعقاب على من لم يكن كفره عناداً، وقد مر ذكر مذهبهما في ذلك، ووجه الرد عليهما بالآية أن الله تعالى قد أخبر عن هؤلاء المنافقين بأنهم لايشعرون بخداعهم لأنفسهم بالباطل، ثم أخبر بعد ذلك بأن لهم عذاباً أليماً بما كانوا يكذبون.
المسألة الثالثة [في قبح الخداع]
دلت الآية الكريمه على قبح الخداع، ولا شبهة في ذلك.
قال الرازي: اعلم أنه لاشبهة في أن الخديعة مذمومة، والمذموم يجب أن يتميز عن غيره كي لايفعل، ثم قال بعد أن ذكر معناها اللغوي: وأما حدها فهو إظهار ما يوهم السلامة والسداد، وبطلان مايقتضي الإضرار بالغير، والتخلص منه، فهو بمنزلة النفاق في الكفر والرياء في الأفعال الحسنة، وكل ذلك بخلاف ما يقتضيه الدين؛ لأن الدين يوجب الاستقامة، والعدول عن الغرور، والإساءة، كما يجب المخالصة لله تعالى في العبادة.
قال: ومن هذا الجنس وصفهم المرائي بأنه مدلس إذا ظهر خلاف مراده، ومنه أخذ التدليس في الحديث؛ لأن الراوي يوهم السماع ممن لم يسمع، وإذا أعلن ذلك لايقال بأنه مدلس، وفي الجامع الكافي عن القوسي، قال: سألت القاسم عليه السلام عن الخديعة، والكذب في الحرب، فقال: لا خير في الخديعة والكذب على كل حال، وكذلك ذكر عن علي عليه السلام أنه كان يقول: يماكرني معاوية بن أبي سفيان، وعمرو بن العاص، وأبو الأعور السلمي، أما والله لولا أني سمعت رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يقول: ((المكر والخديعة في النار لكنت أعلم بالمكر والخديعة منهم)) والحديث أخرجه البيهقي في الشعب من حديث قيس بن سعد بن عبادة، قال العزيزي عن شيخه: حديث صحيح، وأخرجه أبو داود في مراسيله عن الحسن مرسلاً بلفظ: ((المكر والخديعة والخيانة في النار)) قال العزيزي: أي تدخل صاحبها النار. وعن النبي صلى الله عليه وآله وسلم أنه قال: ((من غشنا فليس منا، والمكر والخداع في النار)) أخرجه الطبراني في الكبير، وأبو نعيم في الحلية عن ابن مسعود، وفي تفسير القرطبي،وَخَرَّجَ الطبراني في كتاب آداب النفوس حدثنا أبو كريب محمد بن العلاء، حدثنا المحاربي، عن عمرو بن عامر البجلي، عن ابن صدقة، عن رجل من أصحاب النبي صلى الله عليه وآله وسلم أو من حدثه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم : ((لا تخادع الله فإنه من يخادع الله يخدعه الله ونفسه يخدع لو يشعر)) قالوا: يارسول الله وكيف نخادع الله؟ قال: ((تعمل بما أمرك الله وتطلب به غيره، واتقوا الرياء فإنه الشرك، وإن المرائي يدعى يوم القيامة على رؤوس الأشهاد بأربعة أسماء ينسب إليها: ياكافر، ياخاسر، ياغادر، يا فاجر ضل عملك، وبطل أجرك، فلا خلاق لك اليوم، فالتمس أجرك ممن كنت تعمل له يا مخادع)) أبو كريب قد مر ذكره وتوثيقه في الفاتحة.
والمحاربي لعله عبد الرحمن بن محمد بن زياد المحاربي أبو محمد الكوفي، وثقه ابن معين، والنسائي، توفي سنة خمس وسبعين ومائة، احتج به الجماعة، وروى له أبو طالب، والحديث ذكر آخره في الإحياء من قوله: ((إن المرائي ...)) إلخ بنحو ما هنا، وقال في التخريح: أخرجه ابن أبي الدنيا من رواية جبلة اليحصبي عن صحابي لم يسم، وإسناده ضعيف، وذكره أيضاً في الدر المنثور، وقال: أخرجه أحمد بن منيع في مسنده بسند ضعيف عن رجل من الصحابة أن قائلاً من المسلمين قال: يارسول الله ما النجاة غداً؟ قال: ((لا تخادع الله)) قال: وكيف نخادع الله؟ قال: ((أن تعمل....)) الحديث وفي آخره بعد قوله: يامخادع، وقرأ آيات من القرآن {فَمَنْ كَانَ يَرْجُوا لِقَاءَ رَبِّهِ فَلْيَعْمَلْ عَمَلاً صَالِحا} الآية[الكهف:110] وأن المنافقين {يُخَادِعُونَ اللَّهَ} الآية[البقرة:9] وأخرج الترمذي عن أبي الدرداء، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم : ((أنزل الله في بعض الكتب أو أوحى إلى بعض الأنبياء قل للذين يتفقهون لغير الدين، ويتعلمون لغير العمل، ويطلبون الدنيا بعمل الآخرة يلبسون للناس مسوك الكباش، وقلوبهم كقلوب الذئاب، وألسنتهم أحلى من العسل، وقلوبهم أمر من الصبر إياي يخادعون، وبي يستهزئون لأتحين لهم فتنة تذر الحليم فيهم حيران)) المسوك جمع مسك بفتح وسكون: الجلد، والأحاديث والآثار في المسألة كثيرة، وكلها تدل على قبح الخديعة في كل حال كما قال القاسم عليه السلام : وقد عد ابن حجر الهيثمي في كتاب (الزواجر عن اقتراف الكبائر) المكر والخديعة من الكبائر، وبما ذكرنا يعلم أنه لاَ حَسَنَ في المكر والخديعة، وقال الطيبي: قد يكون الخداع حسناً إذا كان الغرض منه استدراج الغير من الضلال إلى الرشد، قال: ومن ذلك استدراجات التنزيل على لسان الرسل.
قلت: وهذا عند التحقيق ليس بخداع، وإنما هو من الدعاء بالموعظة الحسنة كما يفهم ذلك من حقيقة الخداع، وإن أطلق على ماهذا حاله خداعاً فعلى جهة المجاز كما في قوله تعالى: {يُخَادِعُونَ اللَّهَ وَهُوَ خَادِعُهُمْ}[النساء:142] ونحوها، ويؤيده أن الوصف بالمكر، والخداع، والدهاء لايطلق إلا على أهل التعمق في الدنيا وزخرفها، وتشييد أركانها، ولا يوصف به الصالحون من الأنبياء وغيرهم، ألا ترى أنه لايقال كان رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أدهى العرب، ولا أمكر قريش، وكذلك غيره من الأنبياء والصالحين، ولذا قال المغيرة بن شعبة: لعمرو بن العاص حين قال له في محاورة بينهما: أنت كنت تفعل أوتوهم عمر شيئاً فيلقنه عنك-: كان عمر والله أعقل من أن يخدع، وأفضل من أن يخدع، فنفى فعل الخداع عن عمر لما كان معتقداً فضله وجلالته، وقد أورد الزمخشري سؤالاً معناه: كيف يجوز من الله تعالى أن يخدع المنافقين وهو حكيم لايفعل القبيح، وكيف يجوز من المؤمنين أن يخادعوهم أيضاً، ولم يج المدح إلا بالإنخداع دون الخداع كما في قول الشاعر:
واستمطروا من قريش كل منخدع
وقال ذو الرمه:
إن الحليم وذو الإسلام يختلب
أي ينخدع، ثم أجاب بأن ذلك إنما سمي خداعاً من حيث أنه أشبه الخداع في الصورة، وقد عرفت ما مر عن علي عليه السلام من أنه كان يتجنب مخادعة معاوية وغيره لقبحه، ومن كلامه عليه السلام ما رواه الموفق بالله في الإحاطة وهو قوله: (وأيم الله لولا التقى لكنت من أدهى العرب). وفي النهج عنه عليه السلام : (والله ما معاوية بأدهى مني، ولكنه يغدر ويفجر، ولولا كراهة الغدر لكنت من أدهى العرب) وغير ذلك من كلامه عليه السلام .
فإن قيل: فما تقولون في قوله صلى الله عليه وآله وسلم : ((الحرب خدعة)) أخرجه أحمد، والبخاري، ومسلم، وأبو داود، والترمذي عن جابر، والبزار عن الحسين بن علي بن أبي طالب،والطبراني في الكبير عن الحسين أيضاً، وعن زيد بن ثابت، وعبد الله بن سلام، وعوف بن مالك، ونعيم بن مسعود، والنواس بن سمعان، وأخرجه ابن عساكر عن خالد بن الوليد، والشيخان عن أبي هريرة، وأحمد عن أنس، وأبو داود عن كعب بن مالك، وابن ماجة عن ابن عباس، وعائشة، وفي شرح ابن أبن أبي الحديد من طريق الواقدي عن علي عليه السلام قال: (إذا حدثتكم عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فلئن أخر من السماء أحب لي من أن أكذب على رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ، وإذا حدثتكم فيما بيننا عن نفسي فإن الحرب خدعة، وإنما أنا رجل محارب سمعت رسول الله يقول: ((يخرج في آخر الزمان قوم أحداث الأسنان سفهاء الأحلام)) ) ثم ساق الحديث في الخوارج، وكذلك روي جواز الكذب في الحرب وهو نوع من الخداع، فعن جابر أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قال: ((من لكعب ابن الأشرف فإنه قد آذى الله ورسوله)) قال محمد بن مسلمة: أتحب أن أقتله يا رسول الله؟ قال: ((نعم)) قال: فأذن لي فأقول، قال: ((قد فعلت)) قال: فأتاه فقال: إن هذا -يعني النبي صلى الله عليه وآله وسلم - قد عنانا وساءلنا الصدقة، قال: وأيضاً والله فإنا قد اتبعناه فنكره أن ندعه حتى ننظر إلى مايصير أمره، قال: فلم يزل يكلمه حتى استمكن منه فقتله. رواه الشيخان.
وعن أم كلثوم بنت عقبة قالت: لم أسمع النبي صلى الله عليه وآله وسلم يرخص في شيء من الكذب مما تقول الناس إلا في الحرب، والإصلاح بين الناس، وحديث الرجل امرأته، وحديث المرأة زوجها. رواه أحمد، ومسلم، وأبو داود.
قيل: قد اختلف العلماء في معنى تلك الأحاديث على قولين:
أحدهما: أنها مخصصة للأدلة السابقة، وقالوا إن الكذب المذموم فيما فيه مضرة، وهذا قول طائفة، وقال النووي: الظاهر إباحة الكذب في هذه الأمور الثلاثة، لكن التعريض أولى، وقال ابن العربي: الكذب في الحرب من المستثنى الجائز بالنص رفقاً بالمسلمين لحاجتهم إليه، وقال النووي: اتفقوا على جواز خداع الكفار في الحرب كيف ما أمكن، إلا أن يكون فيه نقض عهد أو أمان، فلا يجوز، ويجاب بأن تحريم الكذب والخداع عقلي، والحكم العقلي لايتغير بحال، ورد بأنه قد مر عن الإمام المهدي أن الكذب المحرم عقلاً إنما هو الكذب الذي لانفع فيه، وبأنهم قد اتفقوا على جواز الكذب عند الاضطرار كما لو قصد ظالم قتل رجل مختف عند آخر، فإنه ينفي كونه عنده، ويحلف على ذلك ولا يأثم، وقد روى نحو هذا في الجامع الكافي عن الحسن بن يحيى، بل في كلامه أنه لايسعه الصدق هنا، وفيه عنه: وإنما الكذب المحرم هو الذي يكون معصية لله عز وجل، وما قمت فيه بأمر الله ودفعت به عن مؤمن فليس ذالك بمعصية، ولا حرج فيه.
قال: وقد روي أنه لا بأس أن يستطيب الرجل نفس امرأته في ثمن الثوب ونحوه، فالكذب على من تعتمد فيه الإثم.
القول الثاني: أن المراد بذلك التورية والتعريض ونحوها مما لاقبح فيه؛ إذ في رواية الجامع الكافي عن علي عليه السلام ما يمنع المكر والخداع على الإطلاق لأنه نص على أنه ترك المخادعة للخبر الذي رواه، والمخادعة بالكذب أقبح من غيرها لانضمام قبح الخداع إلى قبح الكذب المعلوم عقلاً وشرعاً، وهذا قول جماعة منهم السيد أحمد بن الحسين زبارة، والمهلب، والأصيلي وغيرهم.
قال ابن بطال عن بعض مشايخه: الكذب المباح في الحرب ما يكون في المعاريض لا التصريح بالتأمين مثلاً، وقال المهلب: لا يجوز الكذب الحقيقي في شيء من الدين أصلاً، وقال: محال أن يأمر بالكذب من يقول: ((من كذب عليّ متعمداً فليتبوأ مقعده من النار)) وقال ابن العربي: الخداع في الحرب يقع بالتعريض، وبالكمين ونحو ذلك.
قلت: ويؤيده رواية أبي داود: كان رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم إذا أراد غزوة وَرَّى بغيرها ويقول الحرب خدعة، فإنه قد أطلق الخداع على التورية، وأما حديث ابن الأشرف، فليس فيه تصريح بالكذب، وإنما هو معاريض وتورية.
إذا عرفت هذا وضممته إلى ما تقدم من كون الوصف بالخداع والمكر، وكذلك الكذب لايوصف بها الأخيار تعين أن يكون ذلك من باب المجاز، شبه التلطف في التوصل إلى مراد الله تعالى من قتال المفسدين، وإيقاع النكاية بهم بفعل المخادع الذي يتوصل بخداعه إلى أغراضه، وشبه التعريض من حيث أن صورته صورة الكذب بالكذب الذي قد يكون سبباً لنيل الغرض، وقد عقد أهل المعاني باباً يسمونه باب الخداع والاستدراج، ومثلوه بما فيه تلطف، واستمالة للقلوب، وجعلوا ذلك من جملة المحسنات عندهم، ولم يدخلوا فيه شيئاً من صور الخداع الحقيقي الذي هو قبيح عند العقلاء، وأهل الشرع، ويؤيده رواية الواقدي عن علي عليه السلام ؛ إذ لا يجوز حمل الخداع منه عليه السلام فيها إلا على ضرب من المجاز لنفيه عن نفسه الخداع، وإخباره بقبحه في رواية الجامع الكافي.
المسألة الرابعة [في الدليل على تحريم الحيل]
قيل: في هذه الآية وما في معناها من ذم الخداع وقبحه دليل على تحريم الحيل التي يتوصل بها إلى تحليل ما حرم الله؛ لأن حقيقة الخداع منطبقة على تلك الحيل، فإن فيها مخادعة، ومراوغة بإظهار إرادة أمر جائز ليتوصل به إلى أمر باطن محرم، وفي (القاموس) الخداع: المنع والحيلة، وفي تجويز الحيل التي يتوصل بها إلى تحليل المحرم خلاف، ففي كلام بعضهم مايدل على منعها على الإطلاق، منهم الإمام المؤيد بالله محمد بن القاسم عليه السلام فإنه قال: إن الحيل والذرائع لايحل الدخول فيها، ويجب النكير على فاعلها، والتأديب لكاتبها وشاهدها، وسواء كانت لمن يحرم عليه شيء ليحل كالتحيل للهاشمي في أكل الزكاة، أولمن يجب عليه شيء ليسقط كالمالك يخرج بعض المال لئلا تجب عليه الزكاة، ونسب القول بتحريم الحيل في الربا وغيره ابن حجر الهيثمي في كتاب الزواجر إلى مالك، وأحمد، واختاره ابن القيم، وفي كلام بعضهم ما يدل على جوازها في الربا وغيره، وعزاه في الزواجر إلى الشافعي، وأبي حنيفة.
قلت: ولا ينبغي إطلاق الجواز، فإن من الحيل مالا يجوز الدخول فيه بالإجماع، وفي أعلام الموقعين ما معناه: إن الذين ذكروا الحيل لايقولون بأنها جائزة كلها، وإنما يقولون إن هذا الأمر حيلة في كذا، وقد يكون ذلك الأمر محرماً كمن يفتي المرأة إذا أرادت فسخ النكاح أن ترتد ثم تسلم، وتارة تكون الحيلة مكروهة، وتارة جائزة.
قال: ولا يجوز أن ينسب إلى أحد من الأئمة شيء من الحيل المحرمة لمنزلتهم وإمامتهم في الإسلام، وإن كان بعض هذه الحيل قد تنفذ على أصول إمام بحيث إذا فعلها المتحيل فقد ثبت حكمه عنده، ولكن هذا أمر غير الإذن فيها، وإباحتها، وتعليمها، فإن إباحتها شيء ونفوذها إذا فعلت شيء، ولا يلزم من كونه لا يبطلها أن يبيحها ويأذن فيها، وكثير من العقود يحرمها الفقيه، ثم ينفذها ولا يبطلها، وأما سائر أئمة العترة" فظاهركلمات أفرادهم التفصيل، وإن من الحيل ما يجوز فعله، ومنها مايحرم بحسب مواقعها، كما ستعرف في مواضع من العقود والإنشاءات وغيرها، فإنك تجد الواحد منهم يحرم الحيلة في موضع، ويبيحها في غيره، فقد يرتب الحكم على الحيلة وإن كانت محرمة عنده، وقد لا يرتبه عليها، ومن كلام الهادي عليه السلام في إبطال الحيلة في الربا ما لفظه: ولا يجوز أن تدخل الفضة في الذهب ليزداد ما بينهما كما يفعل كثير من الجهال، والحديد مع الفضة ليزاد في الفضة كما يفعل كثير من أهل هذا الدهر؛ لأن الله عز وجل لايخادع وهو يعلم السر وأخفى، وهذا فإنما هو من حيل المحتالين، لا يجوز على مثلهم من المربوبين، فكيف على رب العالمين، وخالق كل المخلوقين.ذكره في الأحكام.
وروى السيد محمد بن الهادي في الروضة والغدير عن أكثر أئمتنا" جواز الحيلة في إسقاط الشفعة، ولم يرو الخلاف فيه إلا عن الناصر ومن تبعه، وأورد صوراً من الحيل جارية على قواعد الأئمة"، وقال في بعضها: إنها مما لاخلاف فيه، وكذلك الإمام عز الدين أبطل الحيلة في إسقاط الزكاة، وأجازها في موضع آخر، وعلله بأنه ليس في ذلك تحليل محظور، وهذا كله يبين صحة قولنا إن كلماتهم" تدل على اختلاف حكم الحيلة باختلاف موضعها، وقد قال الإمام المهدي عليه السلام : إن سلوك طريقة الاجتهاد في الحيل أحوط من كل وجه، وذهب الإمام شرف الدين إلى أن الحيل المحرمة هي ما يتوصل بها إلى تحليل ما حرم الشرع مع بقاء الوجه الذي يقتضي التحريم، والجائزة هي التي يزول بالحيلة وجه التحريم، وجعل من المحرمة بيع الشيء بأكثر من سعر يومه لأجل النساء؛ إذ علة تحريم بيع الصاع بالصاعين إنما هي حفظ مال المحتاج، وزجر الغني عن اغتنام الفرصة عليه، وقد نبه الله على ذلك بقوله: {لاَ تَأْكُلُوا الرِّبَا أَضْعَافاً مُضَاعَفَةً}[آل عمران:130] وكذا قول علي: (سيأتي على الناس زمان عضوض) إلى قوله: (ويبايع المضطرون).
وإذا كانت العلة ما ذكر، فلا فرق بين أن يبيع الصاع بالصاعين، أو بقيمة الصاعين لبقاء العلة، وجعل من الجائزة تقبيض المصرف للزكاة لأجل الهاشمي الفقير؛ لأن في هذا الهاشمي مانعاً من أخذ الزكاة، وهو تطهير الغير به، ومقتضياً وهو الفقر، وقد ارتفع المانع بالتقبيض، وبقي المقتضي وهو ضابط حسن، وقريب منه ما ذكره المقبلي في( المنار) وهو أن كل حيلة يتوصل بها إلى تفويت مقصد الشارع لا تقبل، وكل حيلة يتوصل بها إلى تحصيل مقصد شرعي كخروج من إثم فهي مقبولة، وقال به علامة العصر، وفسر ما يفوت مقصد الشارع بما حرم لذاته.
واعلم:أن كلام الأئمة" يخرج إما على هذه الضوابط، أوعلى ما ذكره الإمام المهدي من أنها محل اجتهاد، وهو الذي يدل عليه كلامهم على اختلاف مواضعه، وتلك الضوابط لم تستقر عليها كلمات العلماء، ولم تطبق عليها أدلتهم مع التأمل، وإذا قد عرفت اختلاف العلماء في المسألة، فاعلم: أن لكل منهم أدلة على ما ذهب إليه، ونحن نأتي منها هنا بما وقفنا عليه، فنقول وبالله التوفيق:
[حجج المانعين للحيل]
احتج المانعون بوجوه:
أحدها: هذه الآية التي نحن بصددها، وقد بينا وجه الاحتجاج بها، وقد جاء تسمية التحيل خداعاً في كلام ابن عباس فيما أخرجه عبد الرزاق عنه أنه سأله رجل، فقال: إن عمي طلق امرأته ثلاثاً، فقال: إن عمك عصى الله فأندمه، وأطاع الشيطان فلم يجعل له مخرجاً.
قال: كيف ترى في رجل يحلها له؟ قال: من يخادع الله يخدعه، وقال في أعلام الموقعين: صح عن أنس، وعن ابن عباس أنهما سُئلا عن العينة، فقالا: (إن الله لايخدع هذا مما حرم الله ورسوله) فسميا ذلك خداعاً، وسمى أمير المؤمنين عليه السلام نكاح التحليل تلبيساً وتدليساً، كما في رواية العلوم، والجامع الكافي، وقال أيوب السختياني في أهل الحيل: يخادعون الله كما خادعوا الصبيان، فلو أتوا الأمر عياناً كان أهون علي، وقال شريك بن عبد الله في كتاب الحيل: هو كتاب المخادعة.
قال ابن القيم: وتلخيص هذا أن الحيل المحرمة مخادعةٌ لله، ومخادعة الله حرام.
أما المقدمة الأولى: فإن الصحابة والتابعين وهم أعلم الأمة بكلام الله، ورسوله، ومعانيه سموا ذلك خداعاً.
وأما الثانية: فإن الله ذم أهل الخداع، وأخبر أن خداعهم إنما هو لأنفسهم، وأن في قلوبهم مرضاً، وأنه تعالى خادعهم، فكل هذا عقوبة لهم، قال: ومدار الخداع على أصلين:
أحدهما: إظهار فعل لغير مقصوده الذي جعل له.
الثاني: إظهار قول لغير مقصوده الذي وضع له، وهذا منطبق على الحيل المحرمة.
الوجه الثاني: ماسيأتي في مواضع من كتاب الله تعالى من تحريم أكل أموال الناس بالباطل، وقصة أصحاب السبت، وغير ذلك من الآيات الدالة على تحريم الحيل.
قلت: سيأتي أن في الاستدلال ببعضها نظراً.
الوجه الثالث: ماروي عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم من الأخبار الصريحة في تحريم الحيل، بعضها عامة، وبعضها في جزئيات متعددة، يحصل من مجموعها العلم بتحريم الحيل التي يتوصل بها إلى استباحة ماحرم الله ورسوله، فمن ذلك ما روي من لعن المحلل والمحلل له، وسيأتي بطرقه مستوفى إن شاء الله.
وروى الحاكم في السفينة عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال: ((أكلة الربا يبعثون يوم القيامة على صورة الكلاب، وعلى صورة الخنازير)) لأجل حيلتهم في الربا كما مسخ قوم داود عليه السلام حين أخذوا الحيتان بالحيلة، وكذلك روي عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم أنه نهى عن أكل الربا بالحيلة، وفي أعلام الموقعين عنه صلى الله عليه وآله وسلم : ((لا ترتكبوا ما ارتكبت اليهود فاستحلوا محارم الله بالحيل)) وفي أمالي أبي طالب عليه السلام : أخبرنا أبي، أنا عبد الله بن أحمد، أنا أبي، ثنا محمد بن منصور، حدثنا عبد الله بن داهر، عن عمرو بن جميع، عن الصادق، عن أبيه، عن جده، عن علي عليه السلام ، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم : ((قراءة القران في الصلاة أفضل من قراءة القرآن في غير صلاة، وقراءة القرآن في غير صلاة أفضل من ذكر الله، وذكر الله أفضل من الصدقة، والصدقة أفضل من الصيام، والصيام جنة من النار، ثم قال: لا قول إلا بعمل، ولا قول ولا عمل إلا بنية، ولا قول ولاعمل ولا نية إلا بإصابة السنة)).
أما والد الإمام أبي طالب فهو:السيد الحسين بن هارون البطحاني، روى عن الناصر، وكان من عيون أصحابه، وروى عن حمزة بن القاسم العلوي، والعقيقي وطائفة.
وعنه ولداه الإمامان: المؤيد بالله، وأبو طالب، قيل: والظاهر أنه كان إمامياً.
قال علامة العصر: روى عنه ولده، وقد صرح أنه لا يقبل أخبار الإمامية مع اختلاطه بالناصر والزيدية، ولو كان إمامياً لم يختلط بهم.
وأما عبد الله فهو: عبد الله بن أحمد بن محمد بن سلام، كان من أعيان الناصر ثم الداعي، وكان عالماً ديناً ورعاً.
روى له أبو طالب، توفي بعد العشر وثلاثمائة.
وأما أبوه أحمد فأخذ عن القاسم بن إبرا هيم، وكان أحد أصحابه، وروى عن المرادي، وابن عيينة، وعباد بن يعقوب وغيرهم، وهو من خلص الشيعة، وأحد أعيان الزيدية، ذو فقه كبير، ورواية غزيرة.
روى له الناصر، والأخوان، وصاحب المحيط.
وأما عمرو بن جميع فهو: الكوفي أبو المنذر العبدي، أحد رجال الشيعة، وقد نالوا منه.
روى له الناصر، وأبو طالب، والمرادي، والحديث رواه الناصر في البساط عن محمد بن منصور بالسند المذكور، وروى آخره المؤيد بالله في شرح التجريد عن أبي العباس الحسني، قال: حدثنا إسحاق بن إبراهيم الحريري، قال: حدثنا جعفر بن محمد، عن أ بيه، عن علي عليه السلام ... فذكره.
وفي أمالي المرشد بالله: أخبرنا الأزجي، أنا المفيد، ثنا محمد بن أحمد، ثنا زكريا بن يحيى، ثنا خالد بن عبد، عن نافع بن يزيد، عن زهرة، عن ابن المسيب، عن أبي هريرة قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم : ((قرآن في الصلاة أفضل من قرآن في غير صلاة، وقرآن في غير صلاة أفضل مما سواه من الذكر، والذكر أفضل من الصدقة، والصدقة أفضل من الصيام، والصيام جنة حصينة من النار، والإيمان قول وعمل، ولا قول إلا بعمل، ولا قول ولا عمل إلا بنية، ولا قول ولا عمل ولا نية إلا بإصابة السنة)).
وفي صحيح البخاري: حدثنا الحميدي، قال: حدثنا سفيان، قال: حدثنا يحيى بن سعيد الأنصاري، قال: أخبرني محمد بن إبراهيم التيمي أنه سمع علقمة بن وقاص الليثي يقول: سمعت عمر بن الخطاب على المنبر، قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يقول: ((إنما الأعمال بالنيات وإنما لكل امرئ مانوى، فمن كانت هجرته إلى دنيا يصيبها أو إلى امرأة ينكحها فهجرته إلى ما هاجرإليه)).
أما الحميدي فقال القسطلاني: الحميدي بضم المهملة وفتح الميم: نسبة إلى جده الأعلى حميد، أو إلى الحميدات قبيلة، أو الحميد بطن من أسد بن عبد العزى، وهو من أصحاب الشافعي، أخذ عنه ورحل معه إلى مصر، فلما مات الشافعي رجع إلى مكة، وهو أفقه قرشي مكي، أخذ عنه البخاري، توفي سنة تسع عشرة ومائتين.
قال: وليس هو أبا عبد الله محمد بن أبي نصر فتوح الحميدي صاحب الجمع بين الصحيحين.
قلت: وفي كلامه أن اسمه عبد الله بن الزبير، وأما سفيان فهو ابن عيينة.
وأما يحيى فهو: ابن سعيد بن قيس، أبو سعيد الأنصاري المدني التابعي، قاضي المدينة، وقال في الجداول: قاضي القضاة للدوانيقي.
وثقه العجلي، وابن سعيد، وقال: حجة، وابن معين، والنسائي وغيرهم، توفي سنة ثلاث وأربعين ومائة.
احتج به الجماعة، وروى له أئمتنا الخمسة.
وأما محمد بن إبراهيم التيمي فوثقه ابن معين، والذهبي، والناس إلا أحمد، توفي سنة عشرين ومائة.
احتج: به الجماعة، وروى له أئمتنا الأربعة، والنرسي.
وأما علقمة فذكره ابن مندة في الصحابة، وغيره في التابعين، توفي أيام عبد الملك بن مروان، وثقه النسائي وغيره.
احتج به الجماعة، وروى له الأخوان، والمرشد بالله، والنرسي، والحديث رواه المرشد بالله، وقال المؤيد بالله في شرح التجريد مستدلاً على وجوب النية: ويدل على ذلك الخبر المشهور عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم : ((الأعمال بالنيات وإنما لامرئ ما نوى)) ورواه في موضع آخر من شرح التجريد بسنده إلى عمر، وهو في الشفاء، وأصول الأحكام، وأخرجه من حديث عمر مسلم، وأحمد، وابن حبان، والبيهقي، والنسائي، والترمذي، وأبو داود، وابن ماجة، وأخرجه أبو نعيم في الحلية، والدارقطني في غرائب مالك عن أبي سعيد، وابن عساكرفي أماليه عن أنس، والرشيد العطار في جزء من تخريجه عن أبي هريرة.
وقال القسطلاني: وقد رواه من الصحابة غير عمر، قيل: نحو عشرين صحابياً، فذكره الحافظ أبو يعلى القزويني في كتابه الإرشاد من رواية مالك، عن زيد بن أسلم، عن عطاء بن يسار، عن أبي سعيد الخدري، عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم : ((الأعمال بالنية)) ثم قال: هذا غير محفوط عن زيد بن أسلم بوجه، فهذا ما أخطأ فيه الثقة، ورواه الدارقطني في أحاديث مالك التي ليست في الموطأ، وقال: تفرد به عبد المجيد عن مالك، ولا يعلم من حدث به عن عبد المجيد غير نوح بن حبيب، وإبراهيم بن محمد العتقي.
وقال ابن مندة في جمعه لطرق هذا الحديث: رواه عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم غير عمر سعدُ بن أبي وقاص، وعلي بن أبي طالب، وأبو سعيد الخدري، وعبد الله بن مسعود، وأنس، وابن عباس، ومعاوية، وأبو هريرة، وعبادة بن الصامت، وعتبة بن سعيد السلمي، وهلال بن سويد، وعقبة بن عامر، وجابر بن عبد الله، وأبو ذر، وعتبة بن المنذر، وعقبة بن مسلم، وعبد الله بن عمر، هكذا حكاه القسطلاني في شرحه لصحيح البخاري، ثم قال: وقد اتفق على أنه لا يصح مسنداً إلا من رواية عمر.
قلت: قد صحت روايته من طريق آل محمد" عن علي عليه السلام ، ولا يضر إرسال مثل زين العابدين عليه السلام ، على أ نهم قد رووه مسنداً مسلسلاً في سلسلة الإبريز، متصلاً بأمير المؤمنين عليه السلام ، والحديث يدل على أنه يكون للمرء ما نواه دون ما عداه، وعلى أن الأعمال تابعة للقصد والنية، وأنه ليس للعبد من ظاهر قوله وعمله إلا ما نواه وأبطنه، دون ما أعلنه وأظهره، وهذا نص في أن من نوى التحليل كان محللاً، ومن نوى الرِّبا بعقد البيع كان مربياً، ومن نوى المكر والخداع كان ماكراً مخادعاً.
قالوا: وهذا الحديث كاف في إبطال الحيل، وأورده البخاري في باب ترك الحيل، وقد أبطل النبي صلى الله عليه وآله وسلم ظاهر هجرة مهاجر أم قيس بما أبطنه ونواه من إرادة أم قيس، ومن أدلة المنع قوله صلى الله عليه وآله وسلم : ((لا يفرق بين مجتمع، ولا يجمع بين مفترق خشية الصدقة)) رواه الهادي عليه السلام ، والمؤيد بالله في شرح التجريد مرسلاً، وهو في الشفاء، وأصول الأحكام، والانتصار، ورواه في الجامع الكافي، ثم قال: وعن علي عليه السلام مثل ذلك، وأخرجه أبو داود، وابن أبي شيبة، وابن جرير وصححه.
قال في مواهب الغفار لعلامة العصر: وهو في خبر سالم عن أبيه مرفوعاً عند أحمد، وأبي دواد، والترمذي وحسنه، والدارقطني، والحاكم، والبيهقي، ورواه أنس عن كتاب أبي بكر ورفعه. أخرجه أحمد، والنسائي، وأبو داود، والبخاري، والشافعي، والحاكم، والبيهقي، ورواه في المجموع، والعلوم عن علي عليه السلام موقوفاً، والحديث نص في منع التحيل لإسقاط الزكاة.
وعن النبي صلى الله عليه وآله وسلم أنه قال: ((لعن الله اليهود حرم الله عليهم الشحوم فباعوها وانتفعوا بثمنها)) رواه في الشفاء.
وفي العلوم: ثنا محمد، قال: ثنا سفيان، عن أبي أسامة، عن عبد الحميد بن جعفر، عن يزيد بن أبي حبيب، عن عطاء، عن جابر، قال: قام رجل فقال: يارسول الله ما ترى في شحوم الميتة فإنه يدهن بها السقا، وتدهن بها الجلود، ويستصح بها؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم : ((إن اليهود لما حرم الله عليهم شحومها أخذوها فجملوها وأكلوا أثمانها)) قال أبو أسامة: جملوها يعني أذابوها.
أما سفيان فلعله ابن وكيع لأنه الذي ذكر في الجداول أخذ محمد بن منصور عنه، وفيها في ترجمة أبي أسامة مالفظه:
أبو أسامة، عن أبي فروة، وعنه سفيان بن وكيع ولم يزد في ترجمة أبي أسامة على هذا.
وسفيان بن وكيع كان شيخاً، صادقاً، فاضلاً، إلا أنه قيل: إنه ابتلي بوراق أفسد عليه.
توفي سنة أربع وأربعين ومائتين. روى له من أئمتنا الناصر، والمرادي، وأبو طالب، والنرسي.
وأما عبد الحميد، فقال في الجداول: عبد الحميد بن جعفر بن عبد الله بن الحكم الأنصاري أبو الفضل المدني عن أبيه وغيره، وعنه وكيع وغيره، خرج مع النفس الزكية.
قال أحمد، والنسائي: لابأس به، ووثقه ابن معين، وابن المديني، وابن سعد.
توفي سنة ثلاث وخمسين ومائة.
عداده في ثقات محدثي الشيعة، ثم قال عبد الحميد بن أبي جعفر العز عن أبي إسحاق.
وعنه: البخاري لعله الأول، وذكر ممن روى للثاني المرادي، والمرشد بالله، وأبا طالب.
وأما يزيد بن أبي حبيب فهو أبو رجاء المصري عالمها.
وثقه ابن سعد، وأثنى عليه غيره، توفي سنة ثمان ومائة.
احتج به الجماعة، وروى له أئمتنا الخمسة، والحديث رواه في الشفاء، وأخرجه الجماعة، وفي العلوم: نا محمد، قال: نا أبو عمار المروزي، عن الفضل بن موسى، عن الحسين بن واقد، عن أبي الزبير، قال: سمعت جابر بن عبد الله يقول: إن رجلاً أتى النبي صلى الله عليه وآله وسلم فقال: إن لي إبلاً تنفق، أفأبيع شحومها؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم : ((قاتل الله اليهود حرمت عليهم الشحوم فباعوها وأكلوا أثمانها)).
أبو عمار هو: الحسين بن حريث بن الحسن بن ثابت مولى عمران بن الحصين، أبو عمار الخزاعي المروزي.
قال في الجداول: وعنه محمد بن منصور، والحسن بن يحيى العقيقي، وجماعة، وثقه النسائي.
توفي سنة أربع وأربعين ومائتين.
احتج به الجماعة إلا ابن ماجة، وروى له المرادي، والجرجاني.
وأما الفضل فقال في الجداول: الفضل بن موسى الرازي السيناني، أبو عبد الله عن هشام، وشريك، وابن أبي ليلى.
وعنه: إسحاق، ومحمود بن غيلان، وإبراهيم بن موسى.
وثقه ابن معين، وأبو حاتم.
توفي سنة اثنتين وتسعين ومائة، احتج به الجماعة، وروى له المرادي، والمرشد بالله.
وأما الحسين بن واقد فهو: أبو عبد الله المروزي، وثقه ابن معين.
توفي سنة تسع وخمسين أو ستين ومائة، احتج به مسلم، والبخاري تعليقاً، وروى له أئمتنا الأربعة، وفي المناقب.
وأما أبو الزبير فهو: محمد بن مسلم بن تدرس الأسدي المكي، أحد الأئمة.
وثقه ابن معين، والنسائي، وابن المديني، وقال: ثبت، وزعم بعضهم أنه يدلس فإذا صرح بالسماع فحجة.
توفي سنة ثماني عشرة ومائة، احتج به الجماعة، ورو ى له أئمتنا الخمسة، وفي المناقب، والحديث في الشفاء.
وعن ابن عباس أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال: ((لعن الله اليهود حرمت عليهم الشحوم فباعوها وأكلوا أثمانها، وإن الله إذا حرم على قوم أكل شيء حرم عليهم ثمنه)) رواه أحمد، وأبو داود، وهو في الجامع الكافي، والحديث دليل على تحريم الحيل وإبطالها، وأنه لا يجوز التوصل إلى ما هو في ذاته حلال بالحيل، والذرائع المحرمة.
وعن علي عليه السلام : (كلوا خل الخمر ما فسد، ولا تأكلوا ما أفسدتموه أنتم). رواه علي بن موسى الرضا في الصحيفة، وفي الشفاء لما نزل تحريم الخمر أمر النبي صلى الله عليه وآله وسلم بإراقتها، وكان في الجملة خمر ليتيم فاستأذنه وليه في أن يجعلها خلاً فمنع من ذلك وأمر بإراقتها، وهذا نص في المسألة، والأخبار فيها كثيرة، وحصرها في هذا الموضع متعسر، وسيأتي في مواضع كثيرٌ من ذلك إن شاء الله، على أن في ما ذكرناه كفاية.
الوجه الرابع: ماروي عن علي عليه السلام من التحذير من الحيل وأهلها، فمن ذلك قوله عليه السلام : (لقد صرنا في زمان قد اتخذ أكثر أهله الغدر كيساً ونسبهم أهل الجهل فيه إلى حسن الحيل، مالهم قاتلهم الله قد يرى الحُوَّل القُلَّب وجه الحيلة ودونها مانع من أمر الله ونهيه فيدعها رأي العين بعد القدرة عليها، وينتهز فرصتها لا حريجة له في الدين) رواه في النهج. الكيس بفتح الكاف وسكون الياء المثناه من تحت: الفطنة والذكاء، والحول القلب بضم الحاء المهملة والقاف وتشديد الواو واللام: قد تحول وتقلب في الأمور وجربها، والإنتهاز: المبادرة إلى الفرصة واغتنامها، والحريجة: التقوى.
وقال عليه السلام في عهده للأشتر: (ولا تعقد عقداً تجوز فيه العلل، ولا تعولن على لحن القول بعد التوثقة). رواه في النهج، وهو نهي عن الحيل؛ إذ هي مبنية على العلل والتأويلات المخالفة للظاهر.
وقال عليه السلام بعد كلام ذكره عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم : قال -يعني النبي صلى الله عليه وآله وسلم -: ((يا علي إن القوم سيفتنون بعدي بأموالهم، ويمنون بدينهم على ربهم، ويتمنون رحمته، ويأمنون سطوته، ويستحلون حرامه بالشبهات الكاذبة، والأهواء الساهية، فيستحلون الخمر بالنبيذ، والسحت بالهدية، والربا بالبيع)) فقلت: يارسول الله بأي المنازل أنزلهم عند ذلك بمنزلة فتنة؟ أم بمنزلة ردة؟ فقال صلى الله عليه وآله وسلم : ((بمنزلة فتنة)) رواه في النهج، والأهواء الساهية الغافلة، والسحت: الحرام.
قال ابن أبي الحديد: هذا الخبر مروي عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قد رواه كثير من المحدثين عن علي عليه السلام أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قال له: ((إن الله كتب عليكم جهاد المفتونين)) وساق الرواية إلى أن قال: فقلت: يارسول الله لوبينت لي قليلاً، فقال: ((إن أمتي ستفتتن من بعدي، فتتأول القرآن، وتعمل بالرأي، وتستحل الخمر بالنبيذ، والسحت بالهدية، والربا بالبيع، وتحرف الكتاب عن مواضعه وتغلب كلمة الضلال، فكن جليس بيتك حتى تقلدها...)) الخبر بطوله.
ومن كلامه عليه السلام للخوارج وهم مقيمون على إنكار الحكومة: (ألم تقولوا عند رفعهم المصاحف حيلة وغيلة ومكراً وخديعة: إخواننا، وأهل دعوتنا استقالونا واستراحوا إلى كتاب الله، فالرأي القبول منهم، والتنفيس عنهم، فقلت لكم: هذا أمر ظاهره إيمان، وباطنه عدوان، وأوله رحمة، وآخره ندامة، فأقيموا على شأنكم، والزموا طريقتكم، وعضوا على الجهاد بنواجذكم، ولا تلتفتوا إلى ناعق نعق، إن أجيب أضل، وإن ترك ذل). رواه في النهج، والناعق: المصوت.
وفي كلامه عليه السلام دليل على أنها مهما علمت إرادة الحيلة والخداع، فإنه لايترتب على الظاهر شيء من أحكام الشرع التي يقصد بالحيلة إثباتها أو سقوطها، وكلامه عليه السلام في هذا المعنىكثير.
الوجه الخامس: إجماع الصحابة على تحريم الحيل حكاه ابن القيم، وتقريره على ماذكره في أعلام الموقعين أنها قد وقعت وقائع متعددة في أوقات متفرقة تدل على تحريم الحيل، من ذلك:
أن أمير المؤمنين عليه السلام ، وابن عباس، وعثمان، وابن عمر أفتوا أن المرأة لاتحل بنكاح التحليل، وخطب بتحريم ذلك عمر على منبر رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ، وقال: لا أوتى بالمحلل والمحلل له إلا رجمتهما، وأقره سائر الصحابة، وروي أن ابن مسعود، وأبي، وعبد الله بن سلام، وابن عباس، وابن عمر نهوا المقرض عن قبول الهدية من المقترض، وجعلوا قبولها ربا، وحرم ابن عباس، وأنس، وعائشة مسئلة العينة، وأفتى علي، وعمر، وعثمان، وأبي بن كعب وغيرهم من الصحابة أن المبتوتة في مرض الموت ترث، ووافقهم سائر المهاجرين والأنصار من أهل بدر وبيعة الرضوان، ومن عداهم.
قال: وهذه وقائع متعددة، لأشخاص متعددة، في أزمان متعددة، والعادة توجب اشتهارها وظهورها بينهم، لا سيما وهؤلاء أعيان المفتين من الصحابة الذين كانت تضبط أقوالهم وتنتهى إليهم فتاويهم، ومع هذا أنه لم يحفظ الإنكار من أحد عليهم، وإذا كان هذا قولهم في إبطال الحيلة فيما ذكر، فماذا يقولون في التحيل لإسقاط حقوق المسلمين، بل لاسقاط حقوق رب العالمين، هذا حاصل كلامه في الأعلام، وقال فيه أن تقرير إجماعهم على تحريم الحيل وإبطالها، أقوى من تقرير إجماعهم على العمل بالقياس وغيره مما يدعى فيه إجماعهم.
الوجه السادس: أن كل مادل على سد الذرائع ومنعها، فهو دال على تحريم الحيلة،وأدلة سد الذرائع كثيرة كتاباً وسنة، وستأتي مفصلة في كتابنا هذا إن شاء الله، ووجه دلالة هذا الوجه على منع الحيل أن الشارع يسد الطريق إلى المفاسد بكل ممكن، والمحتال يفتح الطريق إليها بحيلته.
الوجه السابع: أن الحيل مبنية على الهوى، والكتاب والسنة ناطقان بتحريم اتباع الهوى، وأجمع العترة" على تحريم الأخذ بالأخف اتباعاً للهوى، رواه الإمام القاسم بن محمد عليه السلام في الإرشاد، ولا شك أن الحيل لا يطلب بها إلا الأخف، والأخف لايطلب إلا اتباعاً للهوى غالباً.
الوجه الثامن: ما ذكره الإمام المؤيد بالله محمد بن القاسم وجعله من طريقة القياس، ولفظه: ومن القياس أن يقال: كل فعل توصل به إلى مخالفة الشريعة، وميل بها عن أسرارها التي جعل الله لاختلاف الأحكام فهو باطل لقوله تعالى: {وَمَنْ أَضَلُّ مِمَّنِ اتَّبَعَ هَوَاهُ بِغَيْرِ هُدًى مِنَ اللَّهِ}[القصص:50] وقوله صلى الله عليه وآله وسلم : ((فمن أحدث في ديننا هذا ماليس فيه فهو رد عليه)) وقوله صلى الله عليه وآله وسلم : ((ليس منا من غش مسلماً، أوضره، أو ماكره)) ولأن إسقاط الحقوق إضرار بأهلها، ومما روي عنه صلى الله عليه وآله وسلم أنه قال: ((لا ضرر ولاضرار في الإسلام)) قال: وهذا دليل على أن ليس في الإسلام حكم يثبت به الضرر والإضرار.
[حجج المجيزين للحيل]
احتج القائلون بالجواز مطلقاً بوجوه:
أحدها:أن الله قد شرع الحيل لأنبيائه،وقصها علينا في كتابه لنقتدي بفعلهم،ونهتدي بهداهم،وفي قصة يوسف مع إخوته، وأيوب في ضربه بالضغث لزوجته ما لا يمكن معه إنكار شرعية الحيلة، وحسن التوصل إلى المخارج من المضايق بكل حيلة، بل قد أعلمنا الله سبحانه أنه مكر بمن مكر بأنبيائه، وخادع المنافقين مع أنه تعالى قادر على أخذهم بغير المكر والخداع، ولكن جازاهم بجنس فعلهم، وليعلم عباده أن المكر والخداع الذي يتوصل به إلى إظهار الحق، أو يكون عقوبة للماكر ليس قبيحاً، وهذا شأن الحيل فإنما يتوصل بها إلى نصرة مظلوم، وقهر ظالم، ونصرة حق، وإبطال باطل، وإعانة ملهوف، وتنفيس عن مكروب، وما على من اقتدى بالله وأنبيائه من غضاضة، قالوا: وقد قال تعالى: {وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجاً}[الطلاق:2] قال غير واحد من المفسرين: مخرجاً مما ضاق على الناس، ولا ريب أن هذه الحيل مخارج مما ضاق على الناس.
الوجه الثاني: أن السنة الصحيحة قد دلت على جواز الحيل، فمن ذلك ما رواه في الشفاء عن أبي سعيد، وأبي هريرة أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم أمّر سوار بن عروبة أخا بني عدي الأنصاري على خيبر، فأتاه بتمر جيد، فقال له: ((أكل تمر خيبر هكذا؟)) فقال: لا ولكنا نشتري الصاع بصاعين، والثلاثة بصاعين، فقال: ((لاتفعلوا، ولكن بيعوا تمركم هذا بعوض واشتروا بثمنه من هذا، وكذلك الميزان)) وهو في أصول الأحكام، ونحوه في الجامع الكافي، وقال فيه: عن ابن عمر، عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم نحوه.
قال: وفي حديث آخر عن أبي سعيد فقال له رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم : ((رده وخذ تمرك، فإن أردت أن تشتري فبع تمرك بسلعة أخرى ثم اشتر حاجتك من التمر)) قال في مواهب الغفار: والحديث أخرجه البخاري، ومسلم، والموطأ، والنسائي مع اختلاف في اللفظ لا في المعنى.
وعن النبي صلى الله عليه وآله وسلم أنه أتي برجل مريض أصيفر أحيبن قد خرجت عروق بطنه يكاد يموت، وفي بعض الحديث: قد زنا، فدعا النبي صلى الله عليه وآله وسلم بعثكول فيه مائة شمراخ فضربه ضربة واحدة. رواه الهادي عليه السلام ، وعن ابن عباس أنه قال: تصدق على بريرة فأهدت منه لعائشة، فذكرت ذلك للنبي صلى الله عليه وآله وسلم ، فقال: ((هو لنا هدية ولها صدقة)) . رواه في الشفاء، وأصول الأحكام، وفي الباب نحو هذه الرواية أخرجها أحمد، والبخاري، ومسلم عن أم عطية، وأخرج مسلم، وأحمد قريباً منها عن جويرية.
وروى قصة بريرة الهادي في الأحكام، وقال: وأكل منه صلى الله عليه وآله وسلم ، قالوا: ففي هذه الأخبار إرشاد إلى التخلص من الربا بتوسط العقد الآخر، ومن ترك إقامة الحد أو إيلام الزاني بما لايحتمله بالضرب بعثكول، ومن أكل الصدقة المحرمة بتوسط المصرف، وهل الحيل إلا معاريض في الفعل على وزان المعاريض في القول، وإذا كان في المعاريض مندوحة عن الكذب كما أخرج أبو نعيم عن علي مرفوعاً: ((إن في المعاريض ما يكفي الرجل العاقل الكذب)) ففي معاريض الفعل مندوحة عن المحرمات، ويؤيده ما مر من أدلة جواز الخداع، وقد لقي النبي صلى الله عليه وآله وسلم طائفة من المشركين وهو في نفر من أصحابه، فقال: المشركون: من أنتم؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم : ((نحن من ماء)) فنظر بعضهم إلى بعض فقالوا: أحياء اليمن كثير فلعلهم منهم وانصرفوا، وجاء رجل إلى النبي صلى الله عليه وآله وسلم فقال: احملني، فقال: ((ما عندي إلا ولد ناقة)) فقال: ما أصنع بولد الناقة؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم : ((وهل يلد الإبل إلا النوق)) ومن أدلتهم ما روي أن امرأة عبد الله بن رواحة رأته على جارية له، فذهبت وجاءت بسكين فصادفته قد قضى حاجته، فقالت: لو وجدتك على الحال التي كنت عليها لوجأتك، فأنكر، قالت: فاقرأ إن كنت صادقاً، فقال:
شهدت بأن وعد الله حق .... وأن النار مثوى الكافرينا
وأن العرش فوق الماء طافٍ .... وفوق العرش رب العالمينا
وتحمله ملائكة كرام .... ملائكة الإله مسومينا
فقالت: آمنت بالله وكذبت بصري، فبلغ النبي صلى الله عليه وآله وسلم فضحك ولم ينكر عليه، وهذا تحيل ظاهر.
واحتجوا أيضاً بما في الجامع الكافي عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم أنه قال لرجل من أصحابه: ((لا أخرج من المسجد حتى أعلمك سورة ما أنزل الله مثلها)) فمشى مع النبي صلى الله عليه وآله وسلم حتى وضع إحدى رجليه خارج المسجد، فقال الرجل: يارسول الله إنك قد قلت كذا، فقال: ((إني لم أخرج من المسجد إنما أخرجت إحدى رجلي)) ثم أخبره أنها فاتحة الكتاب، وقد تقدم نحوه في البسملة من حديث أبي بريدة، قالوا: وهذا الحديث أصل في التخلص من الأيمان، وقد بنى الخصاف كتابه في الحيل عليه، ووجه الاستدلال به أن من حلف أن لا يفعل شيئاً فأراد التخلص من الحنث بفعل بعضه لم يكن حانثاً، فإذا حلف لا يأكل هذا الرغيف، ولا يأخذ هذا المتاع، فليدع بعضه ويأخذ الباقي ولا يحنث، وقد احتج به محمد بن منصور على أن من حلف لايدخل دار فلان، فأدخل إحدى رجليه، ولم يدخل الأخرى لم يحنث حتى يدخلهما، وقد ندب الشارع إلى إتيان رخص الله تعالى، ففي الجامع الصغير عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم : ((إن الله يحب أن تؤتى رخصه كما يحب أن تؤتى عزائمه)) وعزاه إلى أحمد، والبيهقي في السنن عن ابن عمر وإلى الطبراني في الكبير عن ابن مسعود، وابن عباس، قال: العزيزي والأصح وقفه، والحديث قد احتج به في حواشي الأزهار على صحة العقد على الصغيرة وإن كان القصد مجرد النظر، قالوا: فذلك من لطائف الحيل الشرعية، التي جاء بها خير البرية صلى الله عليه وآله وسلم حيث قال: ((إن الله يحب أن تؤتى رخصه كما يحب أن تؤتى عزائمه)) وقرر هذا المتوكل على الله إسماعيل عليه السلام ، والأخبار في الباب كثيرة، والجزيئات متعددة، وكلها
تفيد ثبوت الحيل الشرعية، وصحتها وإباحتها.
الوجه الثالث: أن باب مدينة علم الر سول صلى الله عليه وآله وسلم قد فتح هذا الباب، وأوضح إليه النهج لذوي الألباب، ففي العلوم حدثنا محمد، قال: وحدثنا حسين بن نصر، عن خالد بن عيسى، عن حصين، عن جعفر، عن أبيه أن رجلاً أتى علياً عليه السلام بالكوفة، فقال: يا أمير المؤمنين إني حلفت على امرأتي أن أطأها في شهر رمضان نهاراً بطلاقها، قال: سافر بها إلى المدائن، ثم طأها نهاراً فقد حل لك الطعام، والشراب، والنكاح.
أما الحسين فهو: ابن نصر بن مزاحم المنقري.
قال في الجداول: له اتساع في الرواية منه وإليه عن العترة وشيعتهم، وثقه المؤيد بالله، وروى له الناصر، وأئمتنا الأربعة، وفي المناقب.
وأما خالد فهو: ابن عيسى العكلي، قال في الطبقات: هو من رجال الشيعة، وممن وثقه المؤيد بالله.
وأما حصين فهو: الحصين بن المخارق بن ورقاء أبو جنادة،روى عن زيد بن علي، والباقر، والصادق، والنفس الزكية، والحسين بن زيد، ومحمد بن زيد، وعبيد الله بن حسين، والإمام يحيى عبد الله، والحسن بن زيد بن الحسين، وغيرهم من الشيعة، وعنه جماعة.
قال في الطبقات: فمن روى عن هؤلاء الأئمة الثقات لايكون إلا من الشيعة الثقات، ولا التفات إلى ما ذكره الذهبي وغيره.
قال: وأخرج له الطبراني ووثقه، والمؤيد بالله ووثقه، ولعل وفاته رأس المائتين، روى له أئمتنا الأربعة، وفي كتاب حي على خير العمل والمناقب، والحديث رواه في المنهاج.
وفي العلوم: حدثنا محمد، قال: وحدثنا حسين، عن خالد بن عيسى، عن حصين، عن جعفر، عن أبيه، عن علي عليه السلام في الرجل قال لامرأته أنت طالق ثلاثاً إن لم أصم يوم الأضحى قال: إن صامه لم تطلق امرأته، والله ولي عقوبته، ويعزره الإمام.
وفي أمالي المرشد بالله: أخبرنا التنوخي، أنا الديباجي، ثنا ابن الأشعث، ثنا موسى بن إسماعيل، عن أبيه، عن جده الكاظم، عن أبيه، عن جده الباقر، عن أبيه، عن علي عليه السلام أنه سئل عن رجل أنه قال لامرأته أنت طالق إن لم أصم يوم الأضحى، فقال علي عليه السلام : (إن صام فقد أخطأ السنة وخالفها، فالله ولي عقوبته ومغفرته، ولم تطلق امرأته).
قال:وينبغي للإمام أن يؤدبه بشيء من ضرب.
أما التنوخي فهو: علي بن المحسن بن علي بن أبي الغنائم أبو القاسم التنوخي البغدادي.
قال الخطيب: صدوق، وقال ابن خيرون: رأيه الرفض والإعتزال، وقال الذهبي: سماعاته صحيحة، ومحله الصدق والستر، وقال ابن سعد: في أوساط رجال الزيدية، وكان التشيع دينه، ودين أبيه وجده علي بن محمد الأكبر.
توفي سنة أربع وأربعين وأربعمائة، روى له المرشد بالله، وفي المناقب.
وأما الديباجي فهو: سهل بن أحمد الديباجي، رموه بالرفض، وقد عرفت رميهم بالرفض لمن أظهر محبة الوصي، وذلك صريح الإيمان.
وأما ابن الأشعث فهو: محمد بن محمد بن الأشعث الكوفي، أخذ عنه ابن عدي، وقال: لشدة تشيعه حمل إلينا نسخة قريباً من ألف حديث عن موسى بن إسماعيل عن آبائه.
قال في الجداول: احتج به البيهقي في السنن الكبرى.
قال السيوطي: إيراد البيهقي له فائدة جليلة فإنه التزم أن لايخرج في تصانيفه عن وضاع، سيما في الكبرى التي هي أجل كتبه، ذكر معنى ذلك في جمع الجوامع.
توفي ابن الأشعث في جماد سنة أربع عشرة وثلاثمائة، روى له من الأئمة أبو طالب، والمرشد، وأبوه الموفق بالله.
وأما موسى فهو:موسى بن إسماعيل بن موسى بن جعفر الصادق.
قال في الجداول: هو السيد الكبير، الورع، الصالح، العالم، أحد كبار سادات المدينة، والمشهور عن أهل البيت" له قريب من ألف حديث، رواها عنه شيعي الآل محمد بن محمد بن الأشعث.
روى لموسى من الأئمة، أبو طالب، والمرشد.
وأما أبوه إسماعيل فذكر في الجداول ممن روى له من الأئمة المرادي، وأبو طالب، والمرشد بالله.
وأما الكاظم ومن فوقه، فلا يسأل عنهم لظهور جلالتهم، وشهرتهم بين الملأ.
قلت: والحديث لايدل على جواز الحيلة، إلا أنه يدل على أن المتحيل إذا فعلها ثبت حكمها، وإن كانت محرمة، فيكون رداً على من قال لا يترتب على الحيل المحرمة حكم.
وقد قال محمد بن منصور: إن هذا الأثر يقوي قول أبي يوسف في رجل حلف ليصومن يوم الأضحى، فقال: هو صائم وقد أساء.
وقال زفر: ليس بصائم؛ لأن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قد حرمه.
وفي أعلام الموقعين قال معتمر بن سليمان التيمي: عن أبيه، حدثني نعيم بن أبي هند، عن سويد بن غلفة أن علياً كرم الله وجهه في الجنة لما قتل الزنادقة نظر في الأرض، ثم رفع رأسه إلى السماء، ثم قال:(صدق الله ورسوله) ثم قام فدخل بيته فأكثر الناس في ذلك، فدخلت عليه وقلت: يا أمير المؤمنين أشيء عهد إليك رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ؟ أم شيء رأيته؟ فقال: (هل علي من بأس أن أنظر إلى السماء؟) قلت: لا، قال: (فهل علي من بأس أن أنظر إلى الأرض؟) قلت: لا، قال: (فهل علي من بأس أن أقول صدق الله ورسوله؟) قلت: لا، قال: (فإني رجل مكايد).
أما معتمر فهو: أحد الأعلام، وثقه أبوحاتم، وابن معين، وابن سعد، وقال ابن خراش: ثقة إذا حدث من كتابه، وقال الذهبي: ثقة مطلقاً.
توفي سنة سبع وثمانين ومائة. احتج به الجماعة، ورى له أئمتنا الأربعة.
وأما سويد فوثقه ابن معين، وقال في الكاشف: إمام، زاهد، ثقة، توفى سنة ثمانين.
احتج به الجماعة، وروى له أئمتنا الأربعة، وهذا القدر كاف هنا فيما نقل عن الوصي عليه السلام من إثبات الحيل، وترتب الأحكام عليها.
الوجه الرابع: أن الأمة من السلف والخلف، وأئمة العترة وغيرهم كالمجمعين على التخلص بالحيل من مضائق الأيمان والربا، وغيرذلك مما حرمه الله ورسوله، هؤلاء الصحابة والتابعون قد نقل عن جماعة منهم جواز التحليل في المطلقة ثلاثاً.
أخرج عبد الرزاق، عن هشام بن حسان، عن محمد بن سيرين، قال: أرسلت امرأة إلى رجل فزوجته نفسها ليحلها لزوجها، فأمره عمر بن الخطاب أن يقيم معها ولا يطلقها، ووعده أن يعاقبه إن طلقها، فصحح النكاح وأجازه، وهو لم يقصد به إلا الحيلة، وعن ابن عباس أنه قال: ما يسرني بمعاريض الكلام حمر النعم، وقال الشعبي: لا بأس بالحيل فيما يحل ويجوز، وإنما ا الحيل شيء يتخلص به الرجل من الحرام، ويخرج به إلى الحلال، وهكذا كلمات كثير من السلف، وتصرفاتهم تدل على ما ذهبنا إليه.
وأما أئمة المذاهب وأتباعهم من الزيدية، والشافعية، والحنفية، والمالكية، والحنبلية، فقولهم بالحيل في كثير من المسائل ونفوذها مما لاينكره إلا مكابر، ومن أراد معرفة ذلك فعليه بكتب الفقه، فهذه زبد من حجج المانعين والمجوزين، وأما المفصلون كالإمام المهدي، والإمام شرف الدين، والمقبلي، ومن تبعهم فقالوا: أدلة الأولين تقتضي المنع، وأدلة الآخرين تقتضي الجواز والنفوذ، ومعاذ الله أن يكون في شريعة الله تناقض أواختلاف، بل هي شريعة مبنية على أحسن نظام وائتلاف، مؤسسة على العدل والحكمة والمصلحة والإنصاف، ولما كانت أدلة الطرفين صحيحة صريحة في الإثبات والنفي، كان الواجب استعمال أدلة كل من الفريقين في الموضع الذي يليق استعماله فيه، فمنعوا الحيل في مواضع واستعملوها في أخر، وأتوا لها بضوابط يعرف بها الجائز من المحرم، ولكنه يقال: حصر مسائل التحريم والجواز حتى يمكن جمعها تحت ضابط كلي متعسر، لاسيما والشرائع مصالح تختلف أحكامها بحسب اختلاف المصلحة في جزئياتها، والأولى سلوك طريقة الاجتهاد في جزئيات المسائل، وذلك بأن ينظر المجتهد في الحيلة التي يريد فعلها، فإن وجد دليلاً خاصاً يدل على الجواز أو المنع عمل به، وإلا عرض تلك الحيلة على ما مر من أدلة الجواز والمنع، فإن وجدها داخلة تحت أدلة التحريم حرمها، أو تحت أدلة الجواز أجازها، وإلاحكم بالوقف فيها حتى يتبين له الحق.
وأما ما ذكره الإمام المهدي عليه السلام من سلوك طريقة الاجتهاد فيما يجوزمن الحيل، وما لا يجوز على الجملة، فهو راجع إلى حصر مسائل الجواز والمنع تحت ضوابط كلية، وقد عرفت ما فيه، وإن كان عليه السلام قد نص على أن سلوك هذه الطريقة سهلة، قال: لأن العلماء قد حكت الخلاف في المسألة مستوفاً، وأوردت ما يحتج به كل فريق، فإذا عرض الإنسان تلك الأدلة على عقله لم يخف عليه الأرجح؛ لأن العقول وطرائق النظر واحدة لم تختلف بين السابق واللاحق، ثم يأخذ ما ترجح له قوته وصحته، وذلك هو غاية مراد الله تعالى منه، ولا تكليف عليه فوق ذلك.
قلت: وهو كلام حسن، إلا أن لقائل أن يقول: إذا نظر الناظر على حسب ما ذكرت فغاية ما يتحصل له أن من الحيل ما يجوز فعله، ومنها ما هو محرم على الجملة، وأما معرفة ما يجوزمن الجزئيات وما لا يجوز، فلا يحصل إلا بنظر جديد فيها بخصوصها.
وإذا تقرر لك أنه لابد من النظر في الجزئيات، فاعلم: أن طريقة الاجتهاد فيها ميسرة غاية التيسير، وأنا آتيك هنا بصورة مما يجوز فعله تعرف بها كيفية الاجتهاد في هذا الباب، وهي التحيل لمصير الزكاة إلى من تحرم عليه كالهاشمي مثلاً فنقول: لاشك أن الزكاة محرمة على بني هاشم، ثم إنا نظرنا فإذا المحرم صرفها إليهم، لا تملكها بالشرى من المصرف أو الإهداء منهم إليهم بدليل خبر بريرة المتقدم، ولما في الجامع الكافي عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم : ((لاتحل الصدقة لغني إلا لخمسة: رجل عمل عليها، أو في سبيل الله، أو ابن السبيل، أو غارم، أو رجل اشتراها بماله)) قال: وفي حديث آخر: ((أو أهداها إليه من تصدق بها عليه)) وفي أمالي أبي طالب أخبرنا أبو علي أحمد بن عبد الله بن محمد، قال: أخبرنا محمد بن قارن بن العباس، قال: حدثنا الحسين بن الحسن الطبركي، قال: حدثنا يحيى بن عبد الله بن بكير، قال: حدثنا مالك، عن زيد بن أسلم، عن عطاء بن يسار أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قال: ((لاتحل الصدقة لغني إلا لخمسة: لغاز في سبيل الله، أو العامل عليها، أو الغارم، أو لرجل اشتراها بماله، أو لرجل كان جاراً لمسكين فتصدق على المسكين فأهداها لغني)).
أما أحمد بن عبدالله فلم أعرفه.
وأما ابن قارن فذكره في الجداول، وقال: ذكره في الإكمال.
وأما الطبركي فهو: أبو معين. قال أبو أحمد الحاكم: هومن كبار حفاظ الحديث، توفي سنة اثنتين وسبعين ومائتين.
وأما يحيى بن عبدالله فهو: المخزومي مولاهم أبو زكريا المصري، وثقه في الكاشف، وابن حبان، وقال في الميزان: وثقه غير واحد.
احتج به الشيخان، وابن ماجة، وأخذ عنه البخاري.
توفي سنة إحدى وثلاثين ومائتين.
روى له أبو طالب، والمرشد بالله، والحديث رواه في الشفاء، وأصول الأحكام، وأشار إليه في شرح التجريد.
وفي سنن ابن ماجة: حدثنا محمد بن يحيى، ثنا عبد الرزاق، أنبأنا معمر، عن زيد بن أسلم، عن عطاء بن يسار، عن أبي سعيد الخدري، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم : ((لاتحل الصدقة لغني إلا لخمسة: لعامل عليها، أو لغاز في سبيل الله، أو لغني اشتراها بماله، أو فقير تصدق عليه فأهداها لغني أو غارم)) رواه محمد بن يحيى وهو الذهلي أبو عبد الله النيسابوري الإمام الحافظ، أخذ عنه الجماعة سوى مسلم.
قال أبو حاتم: إمام زمانه، وقال أبو بكر بن زياد: أمير المؤمنين في الحديث، وثقه النسائي وغيره، وكان البخاري يدلسه.
توفي سنة ثمان وخمسين ومائتين، روى له أبو طالب، والمرشد بالله.
وأما معمر بفتح الميمين مع التخفيف فهو: ابن راشد الأزدي أبو عروة البصري، أخذ عن الزهري وغيره.
وعنه عبد الرزاق وجماعة منهم السفيانان، وثقه العجلي.
روى أنه لماسئل عن الحديث المأفوك في علي والعباس، قال: الله عالم بحالهما أني لا أتهمهما في بني هاشم، يعني الزهري وعروة.
قلت: أما الزهري فقد روى عنه في شرح ابن أبي الحديد ما يدل على تبرمه من الحديث، واتهامه لعائشة في روايته.
توفي معمر سنة ثلاث وخمسين ومائة.
احتج به الجماعة، وروى له الهادي في المنتخب، وأئمتنا الأربعة، وفي المناقب، والحديث أخرجه أبو داود، وأحمد، ومالك في الموطأ، والبزار، وعبد بن حميد، وأبو يعلى، والحاكم وصححه، والبيهقي وقد أعل بالإرسال؛ لأنه قد رواه بعضهم عن عطاء بن يسار عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم كما في أمالي أبي طالب.
قال في النيل: لكنه قد رواه الأكثر عنه عن أبي سعيد، والرفع زيادة يتعين الأخذ بها، وفي صحيح البخاري حدثنا علي بن عبد الله، حدثنا يزيد بن زريع، حدثنا خالد، عن حفصة بنت سيرين، عن أم عطية الأنصارية، قالت: دخل النبي صلى الله عليه وآله وسلم على عائشة فقال: ((هل عندكم شيء؟)) فقالت: لا إلا شيء بعثت به إلينا نسيبة من الشاة التي بعثت بها من الصدقة، فقال: ((إنها قد بلغت محلها)).
أما علي فهو ابن المديني، وخالد هو الحذا، ونسيبة هي أم عطية الحديث وأخرجه مسلم، وأخرج مسلم عن عبيد بن السباق قال: أن جويرية زوج النبي صلى الله عليه وآله وسلم أخبرته أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم دخل عليها فقال: ((هل من طعام؟)) فقالت: لا والله يارسول الله ما عندنا طعام إلا عظم من شاة أعطتنيه مولاتي من الصدقة، فقال: ((قربيه قد بلغت محلها)) إذا عرفت هذا فنقول: قد دل حديث بريرة، وهذه الأحاديث على أن الزكاة إذا ملكها المصرف تغيرت صفتها، وأزال عنها اسم الصدقة، وتغيرت الأحكام المتعلقة بها، وحينئذ يجوز أن يعطى الهاشمي منها.
قال الأميرالحسين: وذلك هو الظاهر من إجماع علماء الإسلام، ذكره في الشفاء، وكذلك غير الهاشمي ممن تحرم عليه، وإذا ثبت أن مصيرها إلى غير المصرف بعد ملك المصرف لها جائز، فيقال: إذا صارت إلى غير المصرف بعد تقدم مواطأة بين الصارف والمصرف في أنه يردها إلى من تحرم عليه فهذا هو المقصود بالحيلة التي أردنا بيان كيفية الاجتهاد في جوازها أوتحريمها، فنقول: قد اختلف في ذلك.
فقال الإمام المؤيد بالله عليه السلام ، والإمام يحيى: هذه الحيلة مكروهة، وفي الأجزاء تردد، وقال الإمام المهدي: بل هي محرمة ولا يجزي هذا الصرف، لكن لا مطلقاً، بل إن توصل بها إلى مخالفة مقصود الشرع وهو تصييرها إلى الغني فيشبه التوصل إلى الربا.
قال: ومن ثم قال المنصور بالله: يؤدبان، وأما إن توصل بها إلى مطابقة مقصودالشرع فيجوزكالتقبيض للهاشمي الفقير؛ إذ علة التحريم ألاَّ يتطهر به الناس تشريفاً وقد زالت؛ إذ يطهر بالقابض، وطابقت مقصود الشارع وهو سد خلة الفقير، قال: ولا تضر المواطأة كالحيلة في الصرف واليمين، ولا يبعد الإجماع على ذلك، ولا يخفي عليك أن الأئمة المذكورين، ومن وافقهم بنوا نظرهم في المسألة على علل مستنبطة، وقياسات شبهيه، والذي ينبغي أن يقال المعلوم من أدلة تحريم الزكاة على الهاشمي وغيره، ومن حديث بريرة، وأبي سعيد أن المحرم عليهم أخذها قبل أن يملكها المصرف، وأنها بعد ملك المصرف لها حلال لمن أخذها بأحد وجوه التمليك، وإنما يبقى النظر هل تقدم المواطأة يمنع ملك المصرف لها أم لا؟ والذي يظهر أن الصارف إن شرط على الفقير إعطاء الغير حيث لولم يلتزم له بذلك لما صرف إليه، أوعرف من حال المصرف أنه لم يعط ذلك الغير إلا لغلبة الحياء أو نحوه، وأنها لم تطب بذلك نفسه، فهذه الحيلة محرمة؛ لأنها لم تطابق السنة وهو إعطاء المصرف على جهة تملكه لها، ولم يخرجها المصرف عن ملكه على وجه تحل لمن صارت إليه والأعمال بالنيات، وإن كان مصيرها إلى المصرف على الوجه الشرعي وهو أنها تكون له وفي ملكه على وجه لا يخرجها عنه إلا بطيبة من نفسه، فهذه الحيلة صحيحة، ولاحرج فيها، ولايكون تقدم المواطأة إلا من باب السعاية في فعل الخير، والدلالة عليه، والترغيب فيما أمر الله به من الصدقة، والإنفاق في وجوه الخير والبر، وامتثال المصرف ليس إلا رغبة في تلك الوجوه، وفي الأخبار المذكورة مايدل على جواز تقدم المواطأة لأنه يؤخذ منها، أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم نبه بها المصرف على هذا الفعل وَدَلَّهُ عليه، فهو كما لو تقدمت المواطأة بينه وبينه، وقد ندب الله الناس كافة إلى الإنفاق غنيهم وفقيرهم، ولا فرق على هذا بين مصيرها إلى هاشمي أوغيره، ولا بين غني أو فقير، وقد
نص على نحو ما ذكرناه العلامة المقبلي في المنار فإنه قال بعد أن ذكر ما حكيناه عنه من أن الضابط في الحيلة مالفظه: ثم لها شرط تحققها وهو أن يتطابق الباطن والظاهر، لا كهذه الحيل التي يبنونها على الألفاظ بدون طيبة النفس والانسلاخ كأن يعطي الفقير زكاته ليقضيه دينه، ولو أراد الفقير التصرف لغير الدين لمنعه، وكذلك اعطاؤه ليعطي هذا الهاشمي مثلاً فلولم يعطه لما طابت نفسه، وإنما تجزي بأن يعطيه طيبة نفسه بها، فإن وفي بما أراده من إعطاء الهاشمي مثلاً فنعما هي، وإن لم يعطه فقد رضي بإخراجها، وطابت نفسه بصرفها ونحو ذلك.
قال: ونكتته أن الملك لم يتم للمصرف إلا بطيبة النفس.
قلت: وقد عرف من هذا كله أن مناط المسألة النية، ومطابقة السنة، فمتى كان إعطاء الفقير بطيبة من نفس الصارف وفى له بالوعد أو لم يف، وكان إعطاء المصرف للهاشمي والغني بطيبة من نفسه، فقد صار الصرف إلى المصرف، والتصرف منه بإعطاء الغير مصحوباً بالنية، مطابقاً للسنة، لا امتراء في جوازه، ولا شك في إجزائه. والحمد لله.
وبما ذكرنا تعرف كيفية الاجتهاد في هذا الباب، وهوبالرجوع في كل مسألة إلى عمومات الشرع، وتصرفات الشارع فيما يتعلق بتلك المسألة من دون رجوع إلى ظابط كلي لا دليل عليه، أو علة مستنبطة، أو قياس شبهي يؤديان إلى صرف أدلة الشرع عن ظواهرها، وقد عرفت أن أول القضاء ما في كتاب الله، ثم ما في السنة إلى آخره.
البقرة: 10
قوله تعالى: {فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ فَزَادَهُمُ اللَّهُ مَرَضاً وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ بِمَا كَانُوا يَكْذِبُونَ}[البقرة:10]
المرض في اللغة: هو الألم، ويستعمل في غيره مجازاً. ذكره الزمخشري.
وقال ابن فارس اللغوي: المرض: كل ما خرج به الإنسان عن حد الصحة من علة، أو نفاق، أو تقصير في أمر، والأليم: الموجع، وفي {يكذبون} قراءتان بتخفيف الذال.
قيل: ومعناه يكذبون في قولهم آمنا، وتشديدها، ومعناه تكذيبهم الرسل وردهم على الله عز وجل، ويحتمل موا فقتها للمخففة على جهة المبالغة كما يقال في صدق مخفف الدال: صدق بتشديدها، وفي بان بين، والكذب: الإخبار عن الشيء على خلاف ما هو به، وفي الآية مسائل:
المسألة الأولى [بطلان استدلال المجبرة بهذه الآية]
في البساط للناصر عليه السلام أن المجبرة استدلت بقوله: {فَزَادَهُمُ اللَّهُ مَرَضاً}[البقرة:10] على مذهبهم في خلق المعاصي، وتقريره على ما أشار إليه بعضهم من أن الزيادة تكون من جنس المزيد عليه، فإذا كان المراد بمرض قلوبهم ها هنا الكفر والجهل كانت الزيادة من جنسهما، فيلزم أن يكون الله تعالى فاعلاً للكفر والجهل.
والجواب: أنه لا يجوز حمل الآية على خلقه تعالى للكفر فيهم لما علم مما مر من تنزيهه تعالى عن القبيح، وأي قبح أعظم من أن يخلق الكفر فيهم ثم يعذبهم عليه، هذا مع أن الآية مسوقة لذمهم، وكيف يذمهم على ما خلقه فيهم، ومن تأمل ما مر في مواضع من أن العباد الفاعلون باختيارهم، علم أنه لا يجوز حمل الآية على ما قال هؤلاء، وحينئذ فلأهل العدل في تأويلها وجوه:
أحدها: ما ذكره الناصر عليه السلام وهو أن المرض الذي في قلوبهم هو الكفر والشك والكبر، وكانوا إذا نزل على النبي صلى الله عليه وآله وسلم وحي كذبوا به، فازدادوا بذلك كفراً إلى كفرهم، وجاز نسبته إلى الله؛ لأنه الذي أنزل الوحي الذي ازدادوا به مرضاً، ونظير ذلك أن يقول الإنسان: قد وعظت فلاناً فما زاده وعظي إياه إلا بعداً من الخير، ومنه قول نوح عليه السلام : {فَلَمْ يَزِدْهُمْ دُعَائِي إِلاَّ فِرَاراًً}[نوح:6] وهم الذين فعلوا خلاف ما دعاهم إليه نوح عليه السلام ، وإنما نسبت الزيادة إلى دعائه لأنه السبب فيها.
قال الناصر: ويحقق ذلك قوله تعالى في آخر الآية: {وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ بِمَا كَانُوا يَكْذِبُونَ}[البقرة:10] وقد ذكر هذا الوجه الرازي عن المعتزلة، وقال في آخره: فكذا هؤلاء المنافقون لما كانوا كافرين، ثم دعاهم الله إلى شرائع دينه فكفروا بتلك الشرائع، وازدادوا بسبب ذلك كفراً، لاجرم أضيفت زيادة كفرهم إلى الله، ونحوه في الكشاف وقال: هو من إسناد الفعل إلى سببه كما أسند إلى السورة في قوله: {فَزَادَتْهُمْ رِجْساً إِلَى رِجْسِهِمْ}[التوبة:125] .
الثاني: أن يحمل المرض على الغم تجوزاً.
قال القرشي: لأن المرض لايستعمل حقيقة إلا في الألم، وهو في الغم مجاز يقال: فلان مريض القلب من كذا أي مغتم، ولا شك أنهم كانوا يغتمون بعلو أمر رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ، قال القرشي: فأورد الله هذا، إما على الدعاء عليهم كأنه قال: زادهم الله غماً، وهو يتضمن الدعاء للمؤمنين بزيادة النصر والعزة، أو يكون على جهة التحقيق بأن الله زادهم غماً بما زاد به المسلمين مما لأجله يغتم عدوهم، وقد ذكر الهادي عليه السلام قريباً من هذا، وهو أنه قال: والمرض فهو الشك، والحيرة، والحسد له صلى الله عليه وآله وسلم ، فكانت قلوبهم مدخولة مما أتى به من الحق خوفاً أن يظهر حقه، وكلمته، وتتمكن في قلوب العرب دعوته، فكانوا كلما أشفقوا من شيء زاد الله نبيه حجة، ويزيده نوراً وتقوياً، ونصراً وتأييداً، فتزاداد لذلك قلوبهم عداوة وحسداً.
قال عليه السلام : فهذا معنى قول الله تعالى: {فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ}[البقرة:10] يخبر سبحانه أن كلما يؤتيه نبيه من العز والخير، وإقامة الحجج على الأمة يزيد ذلك قلوب المشركين سقماً وغماً، وبلاء ومرضاً.
قلت: وقد جمع عليه السلام في كلامه بينما يمكن نسبته إلى الله تعالى حقيقة كالسقم والغم، وما لا يمكن نسبته إليه إلا تجوزاً وهو الشك والحسد ونحوهما.
الوجه الثالث: أن المراد بالزياده الطبع على قلوبهم، ومعناه خذلانهم بمنع زيادة اللطف.
الرابع: أنه محمول على فتور النية في المحاربة؛ لأن قلوبهم كانت قوية على ذلك، ثم فترت نياتهم، وانكسرت شوكتهم، فأخذوا بالنفاق بسبب ذلك {فَزَادَهُمُ اللَّهُ مَرَضاً}[البقرة:10] أي فتوراً وانكساراً حين قذف الله في قلوبهم الرعب، وشاهدوا شوكة المسلمين، والعرب قد تعبر عن الفتور بالمرض، يقال: جارية مريضة الطرف أي بطرفها فتور، ويكون من الإسناد إلى السبب؛ لأن العزم على ترك المحاربة فعلهم، إلا أنه لما كان فعل الله سبباً فيه نسب إليه.
الوجه الخامس: أن يراد بالمرض حقيقته وهو الألم؛ لأن الحاسد والمنافق إذا دام به ذلك فربما صار سبباً لتغير مزاج القلب وتألمه، ورجح هذا الرازي للحمل على الحقيقة، وقال أبوحيان: الحمل على المجاز أولى؛ لأن قلوبهم لو كان فيها مرض لكانت أجسامهم مريضة بمرضها، أوكان الحمام عاجلهم.
قال بعض المفسرين: يشهد لهذا الحديث النبوي، والقانون الطبي، أما الحديث: فقوله صلى الله عليه وآله وسلم : ((إن في جسد ابن آدم لمضغة إذا صلحت صلح الجسد جميعه، وإذا فسدت فسد الجسد جميعه، ألا وهي القلب)) وأما القانون الطبي: فإن الحكماء وصفوا القلب على ما اقتضاه علم الترشيح، ثم قالوا: إذا حصلت فيه مادة غليظة فإن تمكنت منه ومن غلافه أومن أحدهما فلا يبقى مع ذلك حياة، وعاجلت المنية صاحبه، وربما تأخرت تأخيراً يسيراً، وَإنْ لَمْ ولم تتمكن منه المادة المنصبة إليه ولا من غلافه أخرت الحياة مدة يسيرة، وقالوا لاسبيل إلى بقاء الحياة مع مرض القلب.
قال أبو حيان: وعلى هذا الذي تقرر لا تكون قلوبهم مريضة حقيقة.
واعلم: أن الذي تدل عليه أقوال السلف أن المرض الذي في قلوبهم هو الشك والنفاق،وأن الزيادة المنسوبة إلى الله تعالى من ذالك الجنس، وهذا مروي عن ابن عباس، وابن مسعود، وغير همامن الصحابة، رواه جما عة من المفسرين، وهو قول قتادة، والربيع بن أنس، وعبد الرحمن بن زيد، وهو الذي يدل عليه كلام الهادي عليه السلام ، أعني أنه يدل على اتحاد الزيادة والمزيد عليه، وفي تفسير زيد بن علي في قلوبهم مرض: أي شك ونفاق، وقد سمى علي عليه السلام الشرك داء، فقال في وصف القرآن: (فإن فيه شفاء من أكبر الداء وهو الشرك بالله). رواه في النهج، وفيه دلالة على أن المعاصي تسمى داء؛ لأن الشرك أعظمها، وإذا كان المراد به ما ذكرنا فالتأويل مطابق لأدلة العدل وقواعده، وهو ما ذكره الناصر عليه السلام ، وأما التأويلات الأخر فهي وإن كانت معانيها صحيحة فهو يلزم منها، إما تأويل القرآن بغير ما يقتضيه سياق الآية في وصف النفاق وأهله، وما فسره به الصحابة، وإما تفكيك نظم القرآن بأن يحمل المرض في أول الآية على الشك والنفاق، وفي آخرها على غيره.
المسألة الثانية [صور أمراض القلوب]
اعلم: أن أمراض القلوب لا تختص بالشك والنفاق، بل كل فساد في الدين يتعلق بأفعال القلوب فهو مرض من أمراضها، كالغل، والحسد، والكبر، وغيرذلك كما مر عن ابن فارس، وقال بن عرفة: المرض في القلب الفتور عن الحق، وقد مرَّ من كلام علي عليه السلام ما يشهد لما ذكرناه، إذا عرفت هذا فاعلم: أنه يجب على كل أحد أن يعالج قلبه بما يصلحه، فإن بصلاحه صلاح البدن، وبفساده فساد البدن كما مر في الحديث، والمراد به أن الجوارح الظاهرة تابعة في الطاعة لله والمعصية له للقلب فإن صلح صلحت،وإن فسد فسدت، ولاشيء ينفع في علاج القلوب، ولا أدعى لها إلى رضى علام الغيوب من التدبر لكتاب الله، والإهتداء به، والاتباع لمن أمر الله باتباعه فيه، وقد أشار إلى هذا أمير المؤمنين عليه السلام بقوله: (فإن فيه الشفاء من أكبر الداء وهو الشرك بالله) ومن كلام القاسم بن إبراهيم عليه السلام قوله: واعلموا أن القلوب كالآنية المصدعة لما تنازع إليه من غرائزها المطبوعة،فإن لم ترهم صُدُوْعَهَا لم يصح مطبوعها على بنية اعتداله فيما فطرها الله عليه من كمالها، فزموها بالعلم بكتاب الله وتنزيله، والوقوف على محكم تأويله، ففي ذلك لها تقويم، وتعديل، وهداية، ونور، ودليل على منهاج خالص الطريق، والمستأثر لها في حب الله وطاعته، وما أوجب الله على العباد من إثرته وعبادته، وبكتاب الله يتجلى عن القلوب ظلم الحيرة، وبلطيف النظر فيه يدرك حقائق العلم والبصيرة.
المسألة الثالثة [في إيضاح القراءة في هذه الآية]
قال في الثمرات: قرئ يكذبون بالتشديد مع ضم الياء وبالتخفيف مع فتحها، والثمرة في ذلك أن تكذيب النبي صلى الله عليه وآله وسلم ، وكذلك كذب من قال أنه مؤمن وليس بمؤمن: كفر في الباطن.
قلت: وكلامه يفيد الفرق بين القرائتين بالمعنى، والأولى حملهما على معنى واحد وهو الكذب في قولهم كما مر، ويشهد له قوله تعالى:{وَاللَّهُ يَشْهَدُ إِنَّ الْمُنَافِقِينَ لَكَاذِبُونَ}[المنافقون:1] ولم يقل المكذبون، ولأن حمل قراءة التشديد على قراءة التخفيف، يفيد كون الوعيد في آخر الآية على ما افتتحها به من الإخبار عنهم بأنهم يقولون آمنا وليسوا بمؤمنين، فيلتئم أول الآيات وآخرها، وفي عدم الحمل من تفكيك النظم واختلاف معنى الكلمة الواحدة مالا ينبغي تخريج أفصح الكلام عليه، إذا عرفت هذا، فنقول: في الآية دليل على تحريم الكذب.
قال الرازي: قوله تعالى: {وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ بِمَا كَانُوا يَكْذِبُون}[البقرة:10] صريح في أن كذبهم علة للعذاب الأليم، وذلك يقتضي أن كل كذب حرام، فأما ما روي أن إبراهيم عليه السلام كذب ثلاث كذبات، فالمراد التعريض، ولكن لما كانت صورته صورة الكذب سمي به، ونحوه في الكشاف، وفي الآية رد لما ذهب إليه الجاحظ من أنه لايسمى بالكذب إلا إذا علم المخبر كون المخبر عنه مخالفاً للخبر، ذكره الرازي وهو صحيح إذا ثبت أنهم كذبوا وهم غير عالمين بأنهم كاذبون.
البقرة: 12،11
قوله تعالى: {وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ لاَ تُفْسِدُوا فِي الأَرْضِ قَالُوا إِنَّمَا نَحْنُ مُصْلِحُونَ، أَلاَ إِنَّهُمْ هُمُ الْمُفْسِدُونَ وَلَكِنْ لاَ يَشْعُرُونَ}[البقرة:11،12]
الفساد: خروج الشيء عن حال استقامته وكونه منتفعاً به، ونقيضه الصلاح وهو الحصول على الحالة المستقيمة النافعة،وفي الآية مسائل:
المسألة الأولى [في ذكر الخلاف في معنى الإفساد]
اختلف في معنى إفسادهم في الأرض على أقوال، حاصلها يرجع إلى أن ذلك بالمعصية، إلا أن بعضهم خصه بمعصية مخصوصة كقول من قال: هو الكفر أو النفاق الذي صافوا به الكفار، وأطلعوهم على سرائر المؤمنين، ومنهم من في كلامه ما يدل على تعميم كل معصية كقول من قال إنه المعاصي وأطلق.
وقال الزمخشري: الإفساد في الأرض: تهييج الحروب والفتن؛ لأن في ذلك فساد ما في الأرض، وانتفاء الاستقامة عن أحوال الناس، والزروع، والمنافع الدينية والدنيوية، قال الله تعالى: {وَإِذَا تَوَلَّى سَعَى فِي الأَرْضِ لِيُفْسِدَ فِيهَا وَيُهْلِكَ الْحَرْثَ وَالنَّسْلَ}[البقرة:205] {أَتَجْعَلُ فِيهَا مَنْ يُفْسِدُ فِيهَا وَيَسْفِكُ الدِّمَاءَ}[البقرة:30] ومنه قيل لحرب كانت بين طيء حرب الفساد.
قال أبوحيان: ووجه الفساد بهذه الأقوال التي قيلت أنها كبائر عظيمة، ومعاصٍ جسيمة، وزادها تغليظاً إصرارهم عليها، والأرض متى كثرت معاصي أهلها، وتواترت قلَّتْ خيراتها، ونزعت بركاتها، ومنع عنها الغيث الذي هو سبب الحياة، فكان فعلهم الموصوف أقوى الأسباب لفساد الأرض وخرابها، كما أن الطاعة والاستغفار سبب لكثرة الخيرات، ونزول البركات، ونزول الغيث، ألا ترى إلى قوله تعالى: {فَقُلْتُ اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ}[نوح:10] {وَأَلَّوِ اسْتَقَامُوا عَلَى الطَّرِيقَةِ}[الجن:16] {وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ الْقُرَى آمَنُوا وَاتَّقَوْا} [الأعراف:96] {وَلَوْ أَنَّهُمْ أَقَامُوا التَّوْرَاةَ وَالإِنجِيلَ}[المائدة:66] الآيات، وقد قيل: في تفسير ما روي في الحديث من أن الفاجر يستريح منه البلاد والعباد، والشجر والدواب، وأن معاصيه يمنع الله بها الغيث، فيهلك العباد والبلاد لعدم النبات، وانقطاع الأقوات.
قال: والنهي عن الإفساد في الأرض من باب النهي عن المسبب، والمراد النهي عن السبب، فمتعلق النهي حقيقة هو مصافاة الكفار وممالأتهم على المؤمنين بإفشاء السر إليهم، وتسليطهم عليهم لإفضاء ذلك إلى هيج الفتن المؤدي إلى الإفساد في الأرض، فجعل ما رتب على المنهي عنه حقيقة منهياً عنه لفظاً.
قلت: وحكم الله عليهم أنهم مفسدون، لايوجب عليهم حد المحارب المذكور في سورة المائدة؛ لأن هذه الآية نزلت في المنافقين، ولم ينقل عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم أنَّه أقام عليهم هذا الحد، ولأن الحد في آية المائدة مشروط بأمر ين، وهما محاربة الله والمراد أوليائه.
والثاني: السعي بالفساد، والمراد فساد مخصوص. ذكر هذا الفقيه يوسف.
المسألة الثانية[العمل بالظاهر]
قيل: في الآية دليل على أن من أظهر الإيمان وجب إجراء حكم المؤمنين عليه، قال بعضهم: جعل الله الأحكام بين عباده على الظاهر، وتولى الحكم في سرائرهم دون أحد من خلقه، فليس لأحد أن يحكم بخلاف ما ظهر؛ لأنه حكم بالظنون، ولو كان ذلك لأحد كان أولى الناس به رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وقد حكم للمنافقين بحكم المسلمين بما أظهروا، ووكل سرائرهم إلى الله، وقد كذب الله ظاهرهم في قوله: {وَاللَّهُ يَشْهَدُ إِنَّ الْمُنَافِقِينَ لَكَاذِبُونَ}[المنافقون:1].
قلت: وفي كف رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم عن قتل المنافقين مع أنه قد علم أعيانهم جميعاً أو بعضهم خلاف سيأتي في غير هذا الموضع، وقد أشرنا إليه فيما مر.
المسألة الثالثة [في الدلالة على جواز الجدل]
قيل: هذه الآية من أدِلّة جواز الجدل، ويراد ما يبطل دعوى الخصم على قواعد أهل الجدل، وهو صحيح فإن فيها سؤال المنع؛ لأنهم لما نفوا عن نفوسهم الفساد لدعوى الإصلاح منعوا هذه الدعوى بقوله: { أَلاَ إِنَّهُمْ هُمُ الْمُفْسِدُونَ}[البقرة:12].
قيل: وفي الآية دليل على جواز المنع من طريق المعنى، وفيها رد على أبي إسحاق الشيرازي حيث قال: لايسمع الاعتراض بمنع حكم الأصل في القياس، وقد أجيب عليه أيضاً بأن غرض المستدل لا يتم مع منعه، واختلفوا في كون هذا الاعتراض بمجرده قطعاً للمستدل، فقيل: لايكون قطعاً له، وهو اختيار صاحب الغاية، وصاحب جمع الجوامع وغيرهما؛ لأن منع حكم الأصل كمنع العلية ونحوها من مقدمات القياس، وحكم الأصل أحد تلك المقدمات، فكما أن المستدل لاينقطع بمنع أيها، بل يجب عليه إثباتها بالدليل اتفاقاً، فكذلك حكم الأصل، وقيل: بل ينقطع فلا يمكن من إثباته؛ لأنه إذا أخذ في الدلالة على إثبات حكم الأصل فقد انتقل عن المقصود وهو إثبات حكم الفرع بالقياس، ولا معنى للانتقال إلا هذا، وأجيب بأنه لايضر؛ إذ المقصود لايتم إلا به، والواجب على ملتزم أمر إثبات ما يتوقف عليه غرضه، وقال الإسفراييني: ينقطع إن كان المنع ظاهر يعرفه أكثر الفقهاء، وإلا فلا، وقال الغزالي: يعتبر عرف مكان البحث فإن للجدل عرفاً ومراسم في كل مكان، فإن عده أهل المكان الذي فيه البحث قطعاً فهو كذلك، وإلا فلا.
قيل: وإذا أتى المستدل على حكم الأصل بدليل فلا ينقطع المعترض، بل له أن يعود فيعترض؛ إذ لا يلزم من صورة دليل صحته، وهذا اختيار الحسين بن القاسم، وابن الحاجب، وابن السبكي، وقيل: بل ينقطع لخروجه باعتراضه عن المقصود.
وأجيب بأَنَّ ألمقصود لا يحصل إلا به.
المسألة الرابعة [الجهل ليس بعذر]
ظاهر قوله: { أَلاَ إِنَّهُمْ هُمُ الْمُفْسِدُونَ وَلَكِنْ لاَ يَشْعُرُون}[البقرة:12] أنهم لا يشعرون بأن ماهم عليه من الخلاف، والمعاندة، وترك الواجب، وارتكاب المناهي من الفساد، فتدل الآية على أن الجهل ليس بعذر للعاقل؛ لأن هذه الآية واردة في ذمهم وتوبيخهم على أفعالهم.
قال ابن جرير: وهم يحسبون أنهم بفعلهم ذلك مصلحون فيها، فلم يسقط الله جل ثناءه عنهم عقوبته، ولا خفف عنهم أليم ما أعد من عقابه لأهل معصيته، بحسبانهم أنهم فيما أتوا من معاصي الله مصلحون، بل أوجب لهم الدرك الأسفل من ناره، والأليم من عذابه، والعار العاجل بسب الله إياهم، وشتمه لهم، فقال: { أَلاَ إِنَّهُمْ هُمُ الْمُفْسِدُونَ وَلَكِنْ لاَ يَشْعُرُون}[البقرة:12] قال: وذلك من حكم الله جل ثناؤه فيهم، أدل دليل على تكذيبه تعالى، قول القائلين: أن عقوبات الله تعالى لا يستحقها إلا المعاند ربه فيما لزمه من حقوقه وفروضه، بعد علمه، وثبوت الحجة عليه بمعرفته، بلزوم ذلك إياه.
قلت: ويشهد لهذ قوله تعالى: {أَلاَ إِنَّهُمْ هُمُ السُّفَهَاءُ وَلَكِنْ لاَ يَعْلَمُونَ}[البقرة:13] وقوله: {قُلْ هَلْ نُنَبِّئُكُمْ بِالأَخْسَرِينَ أَعْمَالاً ، الَّذِينَ ضَلَّ سَعْيُهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا...} الآية[الكهف:103،104]، وقوله:{إِنَّمَا التَّوْبَةُ عَلَى اللَّهِ لِلَّذِينَ يَعْمَلُونَ السُّوءَ بِجَهَالَةٍ...} الآية[النساء:17] فشرط في عدم المؤخذة لهم التوبة، لايقال فيلزمكم في الناسي؛ لأنا نقول فعل الناسي كلا فعل، بخلاف الجاهل فإنه قاصد لفعله، ومتعمد لما ارتكبه.
فإن قيل: الجاهل غافل عن قبح فعله، فتكليفه والحال هذه، ومؤاخذته بفعله من تكليف ذوي الغفلة ومؤاخذتهم.
قيل: لاشك أن تكليف ذوي الغفلة لايجوز، لكنا نقول: متى تكاملت علوم العقل فلا يحسن من الله إهمال العبد، كما يدل عليه: {أَفَحَسِبْتُمْ أَنَّمَا خَلَقْنَاكُمْ عَبَثًا}[المؤمنون:115] وإذا كان لا يحسن إهماله فلا بد من خوف يحصل للعبد من ترك النظر في معرفة الله، أو معرفة رسوله، أوما جاءوا به من الشرائع، أو خاطر ينبهه كما سيأتي في مسألة النظر، فإذا حصل الباعث على النظر في معرفة الله، وفي صدق رسله، وما جاءوا به، ثم قصر المكلف في النظر كان قد أتى من جهة نفسه، وقد تقدمت إشارة إلى هذه الجملة. والحمد لله.
البقرة: 15
قوله تعالى: {اللَّهُ يَسْتَهْزِئُ بِهِمْ وَيَمُدُّهُمْ فِي طُغْيَانِهِمْ يَعْمَهُونَ}[البقرة:15] تتعلق بالآية مسائل:
المسألة الأولى [في قبح الاستهزاء]
يقال: لا شك في قبح الاستهزاء؛ لأنه لا ينفك عن التلبيس والجهل، وهما قبيحان، ولذا استعاذ منه موسى عليه السلام ، وسماه جهلاً لما قيل له: {أَتَتَّخِذُنَا هُزُواً قَالَ أَعُوذُ بِاللَّهِ أَنْ أَكُونَ مِنَ الْجَاهِلِينَ}[البقرة:67] فكيف جاز أن ينسب إلى الله تعالى، وأيضاً الدواعي إليه خوف الأذى، واستجلاب النفع، والهزل، واللعب اللذين هما أساس الجهل والسفاهة، وهل هذه الآية وما شابهها إلاَّحجة لما ذهب إليه المجبرة من أن الله تعالى لايقبح منه ما يقبح من غيره لو فعله، وقد حكى الناصر عليه السلام عنهم أن ذلك كاستهزاء العباد بعضهم ببعض، وأما من ينفي فعل القبيح عن الله تعالى من أعداء الإسلام، فقد تمسكوا بها على الطعن في القرآن، لاشتماله على الكذب والفساد؛ إذ لو كان من عند الله لم ينسب إلى نفسه هذا القبيح الذي لاشك في عدم وقوعه منه.
والجواب: أن الفريقين إنما أوتو من جهلهم بلغة العرب، وعنادهم لمن أمرهم الله بسؤاله عما جهلوا، ونحن نجيب على الطائفتين بجواب واحد مقنع، فنقول: لاريب في أن الله تعالى لايفعل القبيح، وأنه لو فعله لقبح منه، وقد استوفينا الأدلة العقلية على ذلك في فاتحة الكتاب، ولاريب أيضاً أن القرآن من عند الله، وقد ثبت القطع بذلك، وإذا تقرر لك هذا فنقول: الاستهزاء المذكور لايدل على ما تقوله المجبرة، ولا على مايقوله الطاعنون في القرآن؛ لأن له في اللغة العربية محامل صحيحة، ومخارج صريحة لا يجهلها إلا من ليس له في العلم نصيب.
أحدها: أن الله تعالى نزل إمهالهم،واجراء أحكام المسلمين في الدنيا عليهم مع ما ادخره لهم من أليم العقاب منزلة الاستهزاء بهم للمشابهة في الصورة، وهذا المعنى شائع عند العرب.
قال الناصر عليه السلام : الاستهزاء من الله بهم أنه ممهل لهم وغير معاجل لأخذهم، وأنه عالم بما سينالهم من عقابه وأليم عذابه على سوء أفعالهم، وذلك فمثل ما تعرفه العرب من تصرف معاني الكلام فيما بينهم، فلو أن رجلاً استهزأ برجل وسخر منه، واحتمل الآخر منه، ووكله إلى عقاب الله، وأخذه له بظلمه إياه، لجاز أن يقول قائل للمستهزئ: لا تظن أنك تستهزئ بفلان فإنه هو المستهزئ بك والساخر منك لاحتماله، وتغافله عليك، وأخذه له بحقه منك بما أعده الله للمستهزئين الظالمين من العقوبة، والنكال، وسوء العاقبة، وكذلك لو كان لرجل عبد يستهزئ به، ويخالف أمره، فينهاه مولاه عن ذلك فلا ينتهي، لجاز أن يقول له: أهملتك لأعاقبك على فعلك بما تستحقه، وإنما حلمي عنك لأني لا أخاف أن تفوتني بجرمك.
قال عليه السلام : فعلى هذا المعنى الاستهزاء من الله سبحانه في جميع ما ذكره في كتابه، قال: وكذلك المخادعة، والمكر، والكيد، وكل ما أشبه ذلك في كتاب الله، وتحقق ذلك قوله سبحانه: {وَأُمْلِي لَهُمْ إِنَّ كَيْدِي مَتِينٌ}[الأعراف:183] أي أن أخذي إياهم بالعذاب على ذنوبهم شديد أليم.
قلت: وهذا التأويل قد ذكره الرازي، وأبو السعود، وأبو حيان، والنيسابوري وهم من علماء الخصوم وفحولهم، إلا أن الرازي ضعفه بأن الله تعالى لما أظهر لهم أحكام الدنيا، فقد أظهر لهم الأدلة الواضحة بما يعاملون به في الآخرة من العقاب، فليس في ذلك مخالفة لما أظهره في الدنيا.
الثاني: أن من آثار الاستهزاء حصول الهوان والحقارة، فذلك الاستهزاء، والمراد حصول الهوانة لهم تعبيراً بالسبب عن المسبب.
الثالث: أن المراد أنه يعاقبهم وينتقم منهم، ويجازيهم على استهزائهم، فسمى العقوبة باسم الذنب على جهة المشاكلة، قال القرطبي: هذا قول الجمهور من العلماء، والعرب تستعمل ذلك كثيراً في كلامهم.
من ذلك قول عمرو بن كلثوم:
ألا لا يجهلن أحد علينا .... فنجهل فوق جهل الجاهلينا
فسمى انتصاره جهلاً، والجهل لايفتخر به ذو عقل، وإنما قاله ليزدوج الكلام فيكون أخف على اللسان من المخالفة بينهما، وكانت العرب إذا وضعوا لفظاً بإزاء لفظ جواباً له وجزاءً، ذكروه بمثل لفظه وإن كان مخالفاً له في معناه، قال: وعلىذلك جاء القرآن والسنة، ثم استشهد بآيات منها: {وَجَزَاءُ سَيِّئَةٍ سَيِّئَةٌ مِثْلُهَا}[الشورى:40] والجزاء لايكون سيئة، ومن السنة بقوله صلى الله عليه وآله وسلم : ((إن الله لايمل حتى تملوا، ولا يسأم حتى تسأموا)).
قلت:والنكتة في المشاكلة أن يعلم أن ذلك جزاءٌ لاستهزائهم.
الرابع: أن الله تعالى يعاملهم معاملة المستهزئ في الدنيا بإظهارهم أسرارهم على النبي صلى الله عليه وآله وسلم ، وفي الآخرة يفعل ما يريد في غيظهم، على ماروي عن ابن عباس: إذا دخل المؤمنون الجنة والكافرون النار فتح الله من الجنة باباً على الجحيم في الموضع الذي هو مسكن المنافقين، فإذا رأى المنافقون الباب مفتوحاً أخذوا يخرجون من الجحيم، ويتوجهون إلى الجنة، وأهل الجنة ينظرون إليهم، فإذا وصلوا إلى باب الجنة، فهناك يغلق دونهم الباب، فذلك قوله تعالى: {فَالْيَوْمَ الَّذِينَ آمَنُوا مِنَ الْكُفَّارِ يَضْحَكُونَ، عَلَى الأَرَائِكِ يَنظُرُونَ}[المطففين:34،35] فذلك هو الاستهزاء. رواه النيسابوري، والرازي، وهوفي الدر المنثور منسوباً إلى البيهقي في الأسماء والصفات.
الخامس: أن المراد أنه يُجَهِّلُهُمْ- ذَكره زيد بن علي عليه السلام - ومعناه: أنه يحكم عليهم بالجهل، وقد روى في تأويل الاستهزاء المذكور تأويلات غير ما ذكرنا، كلها راجعة إلى معنى المجاز، وقد ذكرها أبو حيان وغيره، وهي أنه عبارة عن جمود النار كما تجمد الأدهان، فيمشون عليها، ويظنون النجاة فتخسف بهم، أو عن ضرب السور بينهم وبين المؤمنين، أو عن التهكم بهم في قوله تعالى: {ذُقْ إِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْكَرِيمُ}[الدخان:49] أوعن الحيلولة بينهم وبين النور الذي يعطاه المؤمنون حيث يقولون لهم: {انْظُرُونَا نَقْتَبِسْ مِنْ نُورِكُمْ}[الحديد:13] أوعن طردهم عن الجنة إذا أمر بناس منهم إلى الجنة، ودنوا منها، ووجدوا ريحها، ونظروا إلى ما أعد الله فيها لأهلها.
قال أبو حيان: وهو حديث فيه طول، روي عن عدي بن حاتم، فقال: ونحى هذا المنحى ابن عباس، والحسن، أو توبيخه إياهم ولومه لهم على ما ارتكبوا، كما يقال: فلان يهزء منه ويسخر به، يراد بذلك تو بيخ الناس إياه ولومهم له، وهذه الوجوه منها ما يمكن حمله على المجاز ولا بأس به، ومنها مالا يمكن فيه ذلك، فلا يجوز حمل القرآن عليه،سيما على قواعد العدل.
وأما ابن جرير فقد سلك في التأويل مسلك الحقيقة،وذلك أنه قال:إن معنى الاستهزاء عند العرب إظهار المستهزئ للمستهزء به من القول والفعل ما يرضيه ظاهراً، وهو بذلك يريد به المساءة باطناً،وكذلك معنى الخداع،والمكر،والسخرية عنده،وإذا كان ذلك كذلك،كان الله بما أظهره لهم في الدنيا من إلحاقه أحكامهم بأحكام المسلمين،وحشرهم في الآخرة مع المؤمنين، مع علمه بخبث عقائدهم،ثم إنه بعد ذلك ميز بينهم في الجزاء، فهؤلاء في جنات النعيم، وهؤلاء في الدرك الأسفل من الجحيم بهم مستهزئاً، ومنهم ساخراً، ولهم خادعاً، وبهم ماكراً، على ما ذكر في معنى هذه الألفاظ، واستدل على ذلك برواية أسندها عن ابن عباس أنه قال في قوله: {اللَّهُ يَسْتَهْزِئُ بِهِمْ}[البقرة:15] أي يسخر بهم للنقمة منهم، قال: والله في ذلك غير ظالم لهم؛ لأنه إنما جزاهم بما يستحقونه على أفعالهم.
قال: وأما من زعم أن ذلك على جهة الجواب، وأنه لم يكن من الله استهزاء، ولا مكر، ولا خديعة، فقد نفى عن الله ما أثبته لنفسه، وليس إنكاره لذلك إلا كإنكار ما أخبر الله به عن نفسه من أنه خسف بقوم، وأغرق آخرين، وأما الفرق في الإقرار بهذا دون هذا، فإن قال: إن الاستهزاء عبث ولعب يجب نفيه عن الله دون الخسف والغرق فهو عقوبة مستحقة.
قيل: له ألست تقول الله يستهزئ بهم، سخر الله منهم، وإن لم يكن من الله هزو ولا سخرية بزعمك، فإن قال: لا كذب القرآن، وإن قال: نعم، قيل له: أفتقول من الوجه الذي قلت الله يستهزئ بهم، ويسخر منهم يعني الوجه المجازي الله يلعب بهم، ويعبث على جهة المجاز من دون أن يثبت لعباً وعبثاً حقيقة، فإن قال: نعم، وصف الله تعالى بما أجمع المسلمون على نفيه عنه وعلى تخطئة واصفه به، وأضاف إليه ما قد قامت الحجة من العقول على ضلال مضيفه إليه، وإن قال لا، قيل: له فقد فرقت بمعنى معنى اللعب، والعبث، والهزء، والسخرية ونحوهما، وبه يعلم أن لكل منهما معنى غير الآخر، هذا تلخيص كلامه مع بيان بعض مقاصده.
وحاصله أن معنى الاستهزاء ونحوه مغاير لمعنى ما يجب نفيه عن الله من اللعب، والعبث، والجهل، وأن الاستهزاء في اللغة ما ذكره، وإذا كان معناه مغايراً لمعنى ما لا يجوز وصف الله تعالى به وقد وصف به نفسه، فلا وجه لإخراجه عن ظاهره، ولا ملجئ إليه. والله أعلم.
المسألة الثانية [الجواب على شبه المجبرة من خلال استدلالهم بهذه الآية]
تمسكت المجبرة بقوله تعالى: {وَيَمُدُّهُمْ فِي طُغْيَانِهِمْ يَعْمَهُونَ}[البقرة:15] في إثبات مذهبهم فإن الله الخالق لأفعال العباد، قال بعضهم: وإسناد هذا المد إلى الله تعالى مع إسناده في قوله تعالى: {وَإِخْوَانُهُمْ يَمُدُّونَهُمْ فِي الغَيِّ}[الأعراف:202] إلى العباد محقق لقاعدة أهل الحق، من أن جميع الأشياء مستند من حيث الخلق إليه تعالى، وإن كانت أفعال العباد مستندة إليهم من حيث الكسب، وقد استدل بها بعضهم على أن الله تعالى يريد المعاصي من العباد؛ إذ لو لم يردها منهم لما زادهم منها.
والجواب:أن للعدلية في رد هذه الشبهة مسلكان:
أحدهما:أن المد بمعنى الإمهال، وهذا قول زيد بن علي، وأبي علي، والقرشي، قال أبو علي: ويمدهم، أي: يمد عمرهم، ثم أنهم مع ذلك في طغيانهم يعمهون، وليس المراد أنه يمد في عمرهم ليطغوا، بل المراد أنه تعالى يبقيهم ويلطف بهم في الطاعة، فيأبون إلا أن يعمهوا.
قلت: ظاهر كلام أبي علي أن قوله: {فِي طُغْيَانِهِمْ يَعْمَهُونَ}[البقرة:15] استئناف، والأولى أن يكون حالاً تقديره: وميلهم حال عمههم في طغيانهم، أو في حال كونهم في طغيانهم يعمهون، وهذا مسلك صحيح من جهة المعنى، ويقويه أن فيه حمل اللفظ على حقيقته، بل قال القرشي: إن المد في الطغيان بالمعنى الذي ذكره الخصوم غير معقول في اللغة ولا يستعمل، وإنما المد هو الإنساء في الأجل.
قال: ولوكان كما قالوه من أنه فعل بهم الطغيان، وأراده لكان قوله: {أُوْلَئِكَ الَّذِينَ اشْتَرَوْا الضَّلاَلَةَ بِالْهُدَى}[البقرة:16] لامعنى له؛ لأنهم لايتمكنون من الهدى.
المسلك الثاني: أنه من المدد وهو الزيادة على مايقوله الخصوم، وهو قول الزمخشري وغيره.
قال في الكشاف: مد الجيش وأمده إذا زاده، وألحق به ما يقويه، ومده الشيطان وأمده إذا واصله بالوسواس حتى يتلاحق عنه ويزداد إنهماكاً فيه، ويقوي ماذكره قراءة {يَمُدُّونَهُمْ} بضم الياء، وقراءة نافع: {وَإِخْوَانُهُمْ يَمُدُّونَهُمْ}[الأعراف:202] بضمها أيضاً.
قال: على أن الذي بمعنى أمهله، إنما هو مد له مع اللام كأملى له، إذا عرفت هذا فنقول: إن هذا المعنى وإن كان ظاهره يقضي بما ذهب إليه الخصوم، فلا يجوزحمله على الظاهر؛ لأن الله إنما جعل الآية ذماً لهم على أفعالهم، وانهماكهم في الطغيان، وكيف يذمهم على ماخلقه فيهم، وأراده منهم، ولأنه قد أضاف الطغيان والعمه إليهم، فقال: {فِي طُغْيَانِهِمْ يَعْمَهُونَ}[البقرة:15] وإذا لم يجز حمله على ظاهره، فلنا في تأويله وجوه:
أحدها: أنهم لما أصروا على كفرهم خذلهم الله تعالى، ومنعهم ألطافه، فتزايد الرين في قلوبهم تزايد الإنشراح والنور في قلوب المؤمنين، فسمى ذلك التزايد مدداً في الطغيان، فأسند إلى الله سبحانه؛ لأنه مسبب عن فعله بهم بسبب كفرهم.
الثاني: أن المراد به ترك القسر والإلجاء إلى الإيمان، كما في قوله تعالى: {وَنَذَرُهُمْ فِي طُغْيَانِهِمْ يَعْمَهُونَ}[الأنعام:110].
الثالث: أن المراد به معناه الحقيقي الذي هو الزيادة في الطغيان، وهو فعل الشيطان، لكنه أسند إلى الله تعالى؛ لأنه بتمكينه وإقداره، والتخلية بينه وبين إغواء عباده.
قلت: وقد يستعمل المد بمعنى الترك، حكى الأخفش مددته إذا تركته، وعلى هذا فيكون معنى الآية ويتركهم في طغيانهم يعمهون، والمراد به ترك اللطف، والدعاء إلى الخير عقوبة على سوء صنيعهم، وتماديهم في الكفر، ويكون الإسناد إلى الله تعالى حقيقي. والله أعلم.
المسألة الثالثة [الرد على النسفي في انتقادهم للمعتزلة حول اللطف]
قال النسفي: هذه الآية حجة على المعتزلة في الأصلح يعني أنها تدفع قولهم بوجوب الأصلح وهو اللطف على الله تعالى؛ إذ لو كان واجباً عليه لما أخل به، ولما زادهم طغياناً.
والجواب: أنه قد وهم في إطلاق نسبة هذا القول إلى المعتزلة، فإنه لم يقل به إلا بعضهم كما مر، ثم إن القائلين بوجوبه لم يوجبوا إيقاعه على وجه يمتنع معه وقوع المعصية لا محالة، بل قالوا: هو ما يختار عنده المكلف الطاعة ويجتنب المعصية، أو ما يكون معه أقرب إلى الاختيار، وإذا تقرر هذا فلهم أن يقولوا إن الله قد لطف بهم لطفاً مطلقاً بالهداية، ودعاءِ الرسول صلى الله عليه وآله وسلم فلم يلتطفوا، و يدل عليه قوله تعالى: {أُوْلَئِكَ الَّذِينَ اشْتَرَوْا الضَّلاَلَةَ بِالْهُدَى}[البقرة:16] وما ضربه الله لهم من المثل بعدها بمن استوقد ناراً إلى آخره، فلما علم الله منهم عدم قبول اللطف أمدهم في طغيانهم، وقد نصوا على أنه يجوزمن الله سلب الألطاف عن بعض المكلفين جزاء على عصيانهم، ويجري مجرى العقوبة لهم، وهذا هو الذي يعبرون عنه بالخذلان، وهو أحد الوجوه السابقة في تأويل الآية، فيطلق قوله إن الآية حجة على المعتزلة والحمد الله، وقد مر الكلام على مسألة اللطف مستوفى في الفاتحة.
فائدة
ذكر الإمام عز الدين أن كثيراً ما يتكرر في كلام الأصحاب أن الله يجعل الخذلان، وهو سلب الألطاف، وترك فعلها، والتخلية عقوبة للعاصين، وهو مناف لقواعدهم؛ لأنه إذا كان في المقدور لطف لهذا العاصي، فمن قواعدهم إيجاب فعله على الله، والمنع من تركه له؛ لأنه عندهم إخلال بواجب، وإن لم يكن له لطف فلا معنى لكون سلب اللطف عقوبة؛ لأن فعل اللطف حينئذ كتركه، بل لا يسمى لطفاً ما لايلتطف به، فلا سلب، وهذا واضح كما ترى.
قال عليه السلام : وقد تكلف بعض المتأخرين في الجواب عنه؛ بأنه لاما نع من أن يكون في معلوم الله؛ أنه لولا العصيان المتقدم من هذا المخذول لكان يلتطف بهذا الفعل الذي سلبه، فلما عصى تولد من معصيته عدم لطفية ما كان لطفاً له لو لم يعص، فكان ترك فعله وسلبه إياه بسبب معصيته بعد ذلك عقوبة عليها.
قال عليه السلام : وفيه تعسف كما ترى، فإن العقوبة إنزال الضرر بالعاصي على جهة الاستخفاف لأجل معصيته، وليس الضرر الذي يناله بسبب فعل المعصية لا جزاء عليه يُعَد عقوبة، كما لو قتل من لايستحق القتل فوقع السلاح الذي قتله به في شيء من جسده، أو ناله تعب بسبب القتل، فإن ذلك لا يعد عقوبة، وإنما يتصور ما يذكرونه على القول بعدم وجوب اللطف، وأن الله سبحانه يسلبه إياه مع تأثيره لو فعله بمن يعصيه عقوبة له، ومكافأة على معصيته.
قال عليه السلام : (وليكن هذا على بال منك فإنه كثيراً ما يرد في كلام العدلية القائلين بوجوب اللطف، وهو غير مستقيم على قواعدهم. والله سبحانه أعلم.
فائدة أخرى
الطغيان: مجاوزة الحد في كل أمر، والمراد إفراطهم في العتو وغلوهم في الكفر، والعمه في البصيرة كالعمى في البصر، وهو التحير والتردد بحيث لا يدري أين يتوجه، وقيل: هو كالعمى إلا أن العمى أعم منه؛ لأنه عام في البصر والرائي، والعمه في الرائي خاصة، وقيل: العمه العمى عن الرشد.
قال ابن قتيبة: هو أن يركب رأسه ولا يبصر ما يأتي، قال بعض المفسرين: وهو أقرب إلى الصواب؛ لأنهم لم يكونوا مترددين في كفرهم، بل كانوا مصرين عليه، معتقدين أنه الحق، وما سواه الباطل.
البقرة: 16
قوله تعالى: {أُوْلَئِكَ الَّذِينَ اشْتَرَوْا الضَّلاَلَةَ بِالْهُدَى فَمَا رَبِحَتْ تِجَارَتُهُمْ وَمَا كَانُوا مُهْتَدِينَ}[البقرة:16]
الإشتراء والشراء بمعنى الاستبدال بالشيء والاعتياض منه، والضلالة: الجور عن القصد، والهدى: التوجه إليه، والربح: ما يحصل من الزيادة على رأس المال، والتجارة: صناعة التاجر، وهو الذي يتصرف في المال بطلب النمو والزيادة، والمهتدي: اسم فاعل من اهتدى وافتعل فيه للمطاوعة هديته فاهتدى، وفي الآية مسألتان:
المسألة الأولى [في ماهية الشراء المذكور في الآية]
في كون هذا الشراء حقيقة أو مجازاً قولان:
أحدهما: أنه حقيقة؛ لأن المعاوضة متحققة.
قالوا: لأن الآية إن كانت في المنافقين ففيها احتمالات، وهي إما أن يقال أنهم قد كان لهم هذا ظاهراً من التلفظ بالشهادتين، وإقامة الصلاة، وإيتاء الزكاة، وغير ذلك مما هو في أعمال المسلمين، فلما لم تصدق بواطنهم ظواهرهم، واختاروا الكفر استبدلوا بذلك الهدى الضلال، ويشهد لهذا قول مجاهد في الآية: آمنوا ثم كفروا، وإما أنهم لما ولدوا على الفطرة واستمر لهم حكمها إلى البلوغ استبدلوا عنها الكفر والنفاق، وإما أنهم لما كانوا ذووا عقول متمكنين من النظر الصحيح فاستبدلوا بهذا الاستعداد، والتمكن اتباع الهوى، وتقليد الآباء، كانوا قد جعلوا اتباع الهوى بدلاً عن النظر الصحيح، وعلى كل واحد من هذه الوجوه فقد تحققت المعاوضة، وحصل البيع والشراء حقيقة، وكان من بيع المعاطاة التي لاتفتقر إلى اللفظ، وإن كانت في أهل الكتاب، فالمراد بالهدى ما كانوا عليه من معرفة صحة نبوة النبي صلى الله عليه وآله وسلم ، وحقيقة دينه بما علموه من التوراة، وقد كانوا على يقين منه حتى كانوا يتهددون الكفار بخروجه، وكانوا مؤمنين به {فَلَمَّا جَاءَهُمْ مَا عَرَفُوا كَفَرُوا بِهِ}[البقرة:89] واستبدلوا بذلك الإيمان الكفر، فتحققت المعاوضة، وإن كانت في سائر الكفار، فقد حصل له ما يفيد القطع بالنبوة، وحقيقة الدين حساً ونظراً لو أنصفوا وسمعاً، فاستبدلوا بها الجري على سنن الآباء، لايقال: هذه الوجوه لا يمكن إجراؤها على الحقيقة؛ لأنها على تقدير يؤول إلى المجاز؛ إذ الاشترى الحقيقي هو استبدال السلعة بالثمن؛ لأنا نقول إطلاقات أهل اللغة تفيد أنه مجرد الاعتياض والاستبدال كما مر، وقال الراغب: يجوز الشراء والاشتراء في كل ما يحصل به شيء، نحو: {إِنَّ الَّذِينَ يَشْتَرُونَ بِعَهْدِ اللَّهِ}[آل عمران:77] وجعل منه يشترون
الضلالة.
القول الثاني: أن هذا الشراء مجاز؛ لأن الشرى الحقيقي ما فيه معاوضة بأن تستبدل شيئاً في يدك بشيء في يد غيرك، ولما كانت المعاوضة هنا مفقودة حكموا بأن ذلك مجاز، فقالوا: استعار لفظ الاشتراء للاختيار؛ لأن المشتري للشيء مختار له فكأنه قال: اختاروا الضلالة على الهدى، ويجري في الاستبدال ما قاله الأولون من أنهم استبدلوا بإيمانهم الظاهر النفاق، واستبدلوا بالفطرة الدينية... إلى آخر ما مر.
قلت: وعلى أي القولين، فالآية تدل على أنهم كانوا قادرين على الإيمان والكفر جميعاً، وإلا لما صح منهم الاستبدال بأن يفعلوا هذا بدل ذلك، ولأن الآية ذم لهم وتوبيخ، ولا يذم إلا الفاعل المختار.
المسألة الثانية [الدليل على جواز بيع المعاملات]
قيل: في الآية دليل على جواز بيع المعاطاة وانعقاده؛ لأنهم لم يتلفظوا بلفظ الشراء، ولكن تركو الهدى بالضلالة عن اختيارهم، وسمي ذلك شراءً، فصار دليلاً على أن من أخذ شيئاً من غيره، وترك عليه عوضه برضاه، فقد اشتراه وإن لم يحصل منهما لفظ من الألفاظ التي اعتبرها الفقهاء، وفي المسألة خلاف فقالت: الهدوية، والشافعية: المعاطاة في غير المحقر لاتوجب الملك.
قال في البحر: وهي المعاوضة لا بإيجاب وقبول، والوجه في ذلك أنها ليست بيعاً لعدم اللفظين، ثم اختلفوا فالهدوية قالوا: يكون في يد المشتري إباحة، وهو وجه للشافعية، ووجه آخر أنه كالمقبوض بعقد فاسد، فيجب رده وبدله إن تلف، ولكل منهما الفسخ.
وقال المؤيد بالله، والمنصور بالله، والوالد على بن يحيى العجري، والحنفية، ومالك: بل ينعقد بها البيع، وتوجب الملك، والمسألة مبنية على أنه هل يشترط في صحة البيع لفظ مخصوص أم لا؟ فالأولون يشترطون ذلك، واحتجوا بوجوه:
أحدها: قوله تعالى: {وَأَشْهِدُوا إِذَا تَبَايَعْتُمْ}[البقرة:282] والمبايعة مفاعلة من الطرفين، وأجيب بأن اقتضائها المفاعلة لايدل على اعتبار لفظين من المتبايعين، وإنما يدل على اعتبار الرضا منهما؛ لأن الرضا مأخوذ في مفهوم البيع.
الثاني: أن في اشتراط اللفظ بُعْدٌ عما نهي عنه من بيع الملامسة، والمنابذة، ورمي الحصاة، وأجيب بأنه لم ينه عنها لعدم اللفظ المخصوص، بل لعدم دلالتها على الرضا الذي هو مناط البيع المدلول عليه بقوله تعالى: {تِجَارَةً عَنْ تَرَاضٍ}[النساء:29] وقوله صلى الله عليه وآله وسلم : ((إنما البيع عن تراض)) بل ربما أنهم كانوا يحكمون بنفوذ البيع بها مع علمهم بعدم الرضا.
الثالث: ما ذكره النجري، وهو أنه لما كانت المعاملة بين العباد، والتزام الحقوق فيما بينهم، وإسقاطها أمراً مبنياً على فعل قلبي، وهو طيبة النفس، ورضاء القلب كما نبه عليه الشارع، وكان ذلك أمراً خفياً أقام الشرع القول المعبر عما في النفس مقامه، وناط به الأحكام على ما اعتيد من إقامة الأمور الظاهرة المنضبطة مقام الحكم الخفية، وتعليق الأحكام بها، وأجيب بأن إقامة القول عما في النفس مقامه لا يقتضي تعيينه، ولم نجد نصاً من الشارع على أنه لايكون التعيين إلا بالقول، بل الظاهر من نصوصه اعتبار ما يدل على الرضا سواء كان ذلك الدال لفظاً أو غيره، وظاهر إطلاقات الشارع في البيع والشراء أنه باق على الاستعمال اللغوي، إلا ما خصه دليل كالمنابذة ونحوها، ولوسلم اعتبار القول وتعيينه، فمن أين لكم اشتراط كون ذلك القول لفظين ماضيين مضافين إلى النفس.
الرابع: ما ذكره في الروض النضير وهو أن البيع ليس مجرد الرضا بالمبادلة، وإلا لما كان ثمة فرق بينه وبين سائر الإنشاءات، وقد ثبت كونها أنواعاً متباينة كالبيع، والإجارة، والرهن، والهبة، والصدقة على عوض، والصلح بالمال، ولكل منها ماهية تخصه، والرضاء المقترن بالمعاوضة جنس شامل لجميع تلك الصور، فلابد من معرفة كونه بيعاً من هبة، ونحو ذلك من بيان كل منها باسم يخصه، وليس إلا القول المترجم عما في النفس، وإلا كان رجوعاً بالبيان إلى غير ما جعل الله أمره إليه.
والجواب: أما قوله ليس البيع مجرد الرضا، فغير مسلم، بل هو الرضاء نفسه، كما تدل عليه نصوص الشارع، لكن لما كان خفياً احتجنا إلى ما يدل عليه من القرائن، وهذا الذي يفيده كلام هذا المستدل.
وأما قوله: وإلا لما كان ثمة فرق بينه وبين سائر الإنشاءات فنقول: الفرق بينه وبينها يحصل بما يصحبها من القرائن، وتقدم السوم، والطلب، ونحو ذلك مما لا يخفى معه المراد من الفعل، ونحن نلتزم أنه لا بد من قرينة تدل على الرضا، وعلى تعيين المراد من هذه الإنشاءات، إلا أنا لانقصر ذلك على مطلق القول، ولا على قول مخصوص، بل ما دل على الرضا وتعيين المقصود عملنا به ما لم يرد عنه نهي، وحاصل الكلام معهم أن كل ما يذكرونه لا يفيد اشتراط القول، ولا كونه قولاً مخصوصاً، وإنما يدل على أنه لابد من قرينة تدل على الرضا، ولقد أجاد في الجواب عليهم العلامة المقبلي راداً على الإمام المهدي حيث جعل المعاطاة من البيوعات المنهي عنها، فقال: هذه غفلة؛ إذ لم يرد نهي عن ذلك، بل ولا أثر، ولا اعتبار للإيجاب والقبول، بل البيع المبادلة الصادرة عن رضى، كما قال تعالى: {تِجَارَةً عَنْ تَرَاضٍ}[النساء:29] وقال صلى الله عليه وآله وسلم : ((لا يحل مال امرئ مسلم إلا بطيبة من نفسه)) فمتى حصل التراضي بالمبادلة، وانسلاخ النفس عن المبيع والثمن رضاءً ببدله عنه، فقد وقع مسمى البيع، غير أن الأمور القلبية لابد عليها من دليل لفظ أوغيره أي لفظ كان، وعلى هذا معاملات الناس أجمعين إلا نوادر يتكلفون مارسمه الفقهاء لأحد أمرين، إما تديناً من الآخذين بكلام الفقهاء تقليداً، وإما خوفاً من أن يحكم عليهم باختلاف البيعة في نحو العقارات، وليس في كتاب ولا في سنة دليل على هذا العقد، ثم قال: فالمصنف رحمه الله ـ يعني الإمام المهدي عليه السلام ـ لما ارتسم عنده هذا العقد، وصار كأنه من الضروريات بنى على ذلك لأنه لابد أن ينهى عن خلافه، فحكى النهي عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم توهماً، ومثل هذا يجوزعلى القاصرين لا على مثل الإمام، فإنها غريبة عليه جداً، وقال: على ما احتج به الإمام المهدي على ثبوت العقد وشرطيته في البيع بنهيه صلى الله عليه وآله وسلم عن
بيع الجاهلية، ما لفظه: وقد بين المصنف رحمه الله أن تلك البيوع المنهية فيها نوع من المفسدات كالغرر، والجهالات، وعدم الرضا، فلا يلزم من النهي عن تلك الأمور المباينة للعقد تعينه ولزومه؛ إذ هو أحد طرق معرفة الرضى، والحاجة إنما هي لمعرفة الرضا.
قال: وأما ما حكاه عن الإمام يحيى أن لفظ البيع لسان شرعي منقول، فهذه دعوى يحتاج المدعي لها إلى أن يبرهن عليها، ثم قال: ولعل إسناد الإمام يحيى إلى ما ذكرنا من إسناد الإمام المهدي في قوله: أنه نهى عن المعاطاة، ويحتمل أنها من المغلطة الواقعة في ذلك، وهي تسمية عرف المفرعين للفقه لساناً شرعياً.
قال: وقد نظمنا ذالك في سلك الألفاظ التي جمعناها في نحو ذلك في (الأبحاث المسددة).
وقال الوالد علي بن يحيى العجري رحمه الله: إنه لم ينقل عن المبلغ عن الله، والمبين للحق بعده اشتراط لفظ مخصوص، أو حظر على نوع خاص، وهو من مهمات الشريعة، فلو كان لنقل.
احتج أهل القول الثاني بوجوه:
أحدها: هذه الآية الكريمة، وقد مر وجه الاحتجاج بها.
الثاني: أن الإذن بالبيع ورد في كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وآله وسلم مطلقاً عن التقييد بغير الرضا، ولا في صورة مخصوصة نهى عنها الشارع، والنهي عنها في التحقيق إنما هو لعدم تحقق الرضا كالمنابذة، وما فيه غرر، وهذا الإطلاق يدل على جواز كل بيع يصدر عن تراض، وعلى عدم إعتبار لفظ مخصوص في انعقاده.
قال الوالد علي بن يحيى العجري رحمه الله: وفي إطلاق الله ورسوله لحل البيع من دون تقييد بعقد مخصوص، أو لفظ أو ألفاظ مخصوصة دلالة على أن ما وقع فيه التعاوض بالتراضي بيع صحيح بأي لفظ كان، وعلى أي حالة بالكتابة وغيرها من قرائن التراضي بالمعاوضة، ولو بأمر، وماض، أولفظين مستقبلين غير محضي الاستقبال، إلا ما نهي عنه فلم يأذن به الله، أو أجمع على منعه إجماعاً صحيحاً من الأمة، أو عترة رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم .
قال رحمه لله: وقد ذكر في البحر الإجماع على أنه لا ينعقد باللفظين المستقبلين المحضين أو أحدهما بيع.
قال رحمه الله: فإن حكم الظن بصحته لم يخص بالإجماع هنا إلا ذلك.
قلت: وأما مارواه في البحر عن الإمام يحيى أنه قال: ولا ينتقل الملك بالمعاطاة بلاخلاف بين العترة والفقهاء، فيدفعه ما مر من ذكر الخلاف عن بعض الأئمة والفقهاء، على أن الإمام يحيى اختار أنه بيع فاسد يملك بالقبض، ورواه عن المؤيد بالله.
فإن قيل: فقد روي في البحر الإجماع على أنه لاينقل الملك بالمعاطاة في المحقر، وإذا كان لاينقل الملك بها فيه فغيره بالأولى.
قيل: قد عرفناك عدم صحته بما ذكرناه من الخلاف.
الوجه الثالث: ماروي عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم في بعض معاملاته وبيوعه، مما يدل على عدم اعتبار اللفظين الماضيين كما في حديث الحلس والقدح، وذلك ما رواه أنس أن رجلاً أصابه جهد شديد هو وأهل بيته، فأتى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فذكر له ذلك، فقال: ما عندي شيء، فقال: ((فاذهب فأتني بما عندك، فذهب وجاء بحلس وقدح، فقال: يا رسول الله هذا الحلس والقدح، فقال: من يشتري هذا الحلس والقدح، فقال رجل: أنا آخذهما بدرهم، فقال: من يزيد على درهم، فسكت القوم، فقال: من يزيد على درهم، فقال رجل: أنا، فقال: اخذهما بدرهمين، فقال: هما لك)) الخبر رواه في الشفاء، والحديث أخرجه أبو داود، وأحمد بلفظ أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم نادى على حلس وقدح لبعض أصحابه، فقال رجل: هما علي بدرهم، ثم قال الآخر: هما علي بدرهمين، وعنه صلى الله عليه وآله وسلم أنه اشترى سراويل فقال لوزان الثمن: ((زن وأرجح)) ولم يزد على ذلك في الدلالة على الرضا والقبول.رواه في أصول الأحكام، و الشفاء.
وفي العلوم: حدثنا محمد، قال: نا محمد، عن وكيع، عن سفيان، عن سماك بن حرب، عن سويد، قال: جلبت أنا ومخرمة العبدي بزاً من هجر فجاءنا رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فساومنا بسراويل وعندنا وزان يزن بالأجر، فقال: رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم : ((زن وأرجح)) أما محمد الراوي، عن وكيع فاحتمل أنه محمد بن إسماعيل بن البحتري؛ لأنه قد ذكر في الجداول روايته عن وكيع، وأخذ المرادي عنه، ويحتمل أنه محمد بن إسماعيل الأحمسي شيخ محمد بن منصور المرادي، وكلاهما ثقتان.
وأما سفيان فالظاهر أنه الثورى أحد الأعلام، قال شعبة، وابن معين، وجماعة: سفيان أمير المؤمنين في الحديث، قال علامة العصر: أجمع على جلالته وإتقانه مع الحفظ والضبط، والمعرفة، والزهد، والورع، أحد ثقات الشيعة، وعلماء الزيدية.
توفي سنة إحدى وستين ومائة.
احتج به الجماعة، قال: وكل ما أطلق في كتب أصحابنا فهو المراد غالباً.
روى له الهادي في المنتخب، والناصر، وأئمتنا الخمسة،والنرسي وفي المناقب، والمحيط، والسيلقي.
وأما سماك بن حرب فهو: البكري الذهلي أبو المغيرة الكوفي.
روى عنه الثوري وجماعة، وثقه أبو حاتم، وقال أحمد: هو أصلح حديثاً من عبدالملك بن عمير.
توفى سنة ثلاث وعشرين ومائة.
احتج به الجماعة إلاالبخاري، روى له أئمتنا الأربعة.
وأما سويد فهو: أحد الصحابة، قال في الجداول: له حديث السراويل، عداده في الكوفيين.
روى عنه سماك، والحديث قال في المنتقى: رواه الخمسة، وصححه الترمذي، وقال في النيل: سكت عنه أبو داود، والمنذري، وفي الشفاء في قصة شرائه صلى الله عليه وآله وسلم لجمل جابر، فقال لي رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم : ((بعنيه بأوقية)) فقلت: يارسول الله هو ناضحك أي لك.. الخبر، وهو عند جماعة من المحدثين، وكل هذا يدل على أنه لايعتبر إلاما يدل على الرضا، ألا ترى أنه في شراء السراويل لم يزد على المساومة، وفي حديث جابر، لم يزد على سؤال البيع ولم يكن من جابر غير قوله: هو ناضحك، وكذلك في حديث الحلس إنما قال: هما لك، وفي رواية فقال: خذ فلو كان ثمة ناقل شرعي ينقل معنى البيع والشراء عن معناهما اللغوي لما خفي نقله كسائر الشرعيات، وقد عرفت مما أسلفنا لك عن معنى الاشتراء أن أهل اللغة لم يعتبروا في معنى البيع أمراً زائداً على مجرد المبادلة، والشرع لم يزد في ذلك إلا اعتبار الرضا، ويزيد المعنى اللغوي تحقيقاً ما ذكره الراغب في مفرداته حيث قال: البيع: إعطاء المثمن، وأخذ الثمن، والشراء إعطاء الثمن، وأخذ المثمن، ثم ذكر أنه قد يطلق أحدهما على الآخر، وقال في مادة شرى: الشرى والبيع متلازمان، فالمشتري دافع الثمن، وآخذ المثمن، والبائع دافع المثمن وآخذ الثمن، هذا إذا كانت المبايعة بناض وسلعة، فأما إذا كانت بيع سلعة بسلعة صح أن يتصور كل واحد منهما مشترياً وبائعاً.
قال: ومن هذا الوجه صار لفظ البيع والشرى يستعمل كل واحد منهما في موضع الآخر، فهذا نص منه وتصريح بأن القول غيرمعتبر في معنى البيع والشرى عند أهل اللغة، وأهل القول الأول معترفون بذلك، وإلا لما ادعوا النقل الشرعي، ولكنها دعوى لا دليل عليها كما عرفت، بل قام على خلافها.
واعلم: أن من يشترط في صحة البيع لفظاً مخصوصاً قد استثنوا من ذلك المحقر فقالوا: يكفي فيه ما اعتاده الناس، إلا ماروي عن بعض أصحاب الشافعي من أنه لابد فيه من لفظ كغيره.
قال الصعيتري: وظاهر المذهب أنه يكفي ما جرت به العادة في جميع المحقرات، وقال ابن أبي الفوارس: إن هذا في المأكول فقط، قال الصعيتري: والقياس يمنع من كونه بيعاً إذا لم يحصل فيه الإيجاب والقبول، ولا ماهو في معناهما، إلا أن عمل المسلمين جرى بالتعامل به في المحقرات، وتوارثوه خلف عن سلف من غير خلاف ولا نكير، ولم يراعوا فيه لفظ الإيجاب والقبول، كما لم يراعوا في الهدايا لفظ الهبة والقبول، وكما أجمعوا على دخول الحمام على وجه لا تحصل فيه الإجارة الصحيحة، فصح ذلك لأجل عمل المسلمين، واختلفو في قدر المحقر، فقال علي خليل، وأبو مضر: هو ما دون ربع المثقال، وقال القاضي زيد: قدر قيراط المثقال فما دون، وقال في البيان: المحقر الذي لا يعقد عليه لحقارته، لا للتساهل فيه كما يفعله الجهال، وقيل: هو نحو البقول، والفواكه، والخبز، وقيل: ما دون نصاب السرقة، قيل: والأقرب في ذلك اتباع العرف والعادة، وهو الذي يشير إليه كلام الإمام شرف الدين في إلحاق المنقولات بالمحقرات، والذي صححه في حواشي الأزهار للمذهب: أنه يثبت فيه الشفعة، وتلحقه الإجازه، ويدخله الربا، ويثبت فيه الخيار، وهذا فرع على حصول الملك، ومنه تعرف ضعف دعوى الإجماع على أنه لا يحصل بالمعطاة ملك في المحقر. والله أعلم.
البقرة: (18،17)
قوله تعالى: {ذَهَبَ اللَّهُ بِنُورِهِمْ وَتَرَكَهُمْ فِي ظُلُمَاتٍ لاَ يُبْصِرُونَ، صُمٌّ بُكْمٌ عُمْيٌ فَهُمْ لاَ يَرْجِعُونَ}[البقرة:17،18]
الذهاب: لغة الإنطلاق، والنور:الضوء من كل نير، ونقيضه الظلمة، وسمي نوراً لاضطرابه وحركته،والترك: التخلية، اترك هذا أي دعه وخله، وفي تضمينه معنى التصيير،وتعديته إلى اثنين خلاف،والظلمة:عدم النور أو عرض ينافيه،والإبصار:الرؤية، والصمم: داء في الأذن يسد العروق فيمنع من السمع، وأصله من الصلابة، قالوا: قفاه صماً أي صلبهُ.
وقيل: أصله السد، صممت القارورة سددتها، والبكم: آفة تحصل في اللسان تمنعه من الكلام.
وقيل: الذي يولد أخرس، وقيل: الذي لا يفهم الكلام، ولا يهتدي إلى الصواب، فيكون آفة في الفؤاد، والعمى: ظلمة في العين تمنع من إدراك المبصرات، والرجوع إن لم يتعد فهو بمعنى العود، وإن تعدى فهو بمعنى الإعادة.
وفي هذه الجملة مسائل:
المسألة الأولى [في الضياء والظلمة]
قد مر عن الإمام أحمد بن سليمان عليه السلام أنه قال: الضياء والظلمة: عرضان، وهو قول أبي الهذيل على ما رواه عنه في الغياصة.
وقال السيد مانكديم، والشيخ أحمد بن الحسن الرصاص وغيرهما من أصحابنا: بل هما جسمان رقيقان، فالنور جسم رقيق مضيء، والظلمة جسم رقيق غير مضيء، وقال الإمام يحيى: النور عرض، والظلمة عدم النور، ووافقه الزمخشري في الظلمة، وقال: النور نقيضها.
احتج الأولون على أنهما عرضان بوجوه:
أحدها: أن الأجسام المنيرة والمظلمة مشتركة في الجسمية، ومتباينة في النور والظلمة، فما اشتركت فيه يجب أن يكون مغايراً لما اختلفت فيه، فثبت أن الجسمية غير النور والظلمة.
الثاني: أن الجسم المعين يصير مضيئاً بعد أن كان مظلماً و بالعكس، وجسميته باقية في الحالين، فوجب أن يكون مغايراً لهذين الوصفين.
الثالث: أن الشمس إذا كانت محاذية لكوة في البيت صار البيت مضيئاً بطلوعها، فإذا سدت الكوة صار مظلماً،فلو كان النور جسماً لبقي بعد سد الكوة في البيت.
الرابع: أن الشمس إذا طلعت من دائرة الأفق استضاء وجه الأرض، ومن المحال أن تنتقل الأجسام منها إلى الأرض لا ستحالة الطفر، والضوء قد حصل دفعة واحدة فوجب أن لايكون جسماً.
وأما القائلون بأنهما جسمان فلم أظفر لهم بحجة واضحة، إلا أنهم أطلقوا اسم النور والظلمة على الأجسام، وجعلوا البياض والسواد وصفاً لها، وهي حجة ضعيفة كما ترى، ولذا قال الإمام عز الدين عليه السلام : الأقرب أنه خلاف لفظي، وقد حقق ذلك في الغياصة بعد أن حكى أنهما جسمان، ونسب الخلاف إلى أبي الهذيل، ثم قال: لا خلاف أن النور أجسام وجواهر فيها بياض، والظلمة أجسام وجواهر فيها سواد.
قال: فعندنا أن الاسم وقع على الأجسام والجواهر، والبياض والسواد وصف لذلك، وانبساطها وانقباضها، وعنده أن الاسم واقع على السواد والبياض؛ لأن ذلك السابق إلى الفهم، وإن لم يخطر بالبال الجسم الذي هو المحل والجواهر.
قلت: وقد احتج بعضهم على جسمية النور؛ بأن الهواء إنما يضيء بمجاورة لا بعرض يحله، وإلا لم يزل بغروب الشمس، وهو ضعيف؛ لأن العرض لا يبقى عند وجود ما ينافيه، والظلمة تنافي النور كما قيل أنها عرض منافية له.
احتج الإمام يحيى: على أن الظلمة عدم النور بأن حال البصير في الظلمة التامة كحال الأعمى، ثم إن الأعمى لايدرك كيفية الظلمة؛ لأنه لايبصر شيئاً فيجب أن تكون الظلمة عبارة عن أن البصر لا يدرك شيئاً، فيكون أمراً عدمياً وبأنه إذا كان إنسان قريباً من النار وآخر بعيداً عنها، فالبعيد يرى القريب ولا يكون الهواء المظلم مانعاً له، فلو كانت الظلمة أمراً ثبوتياً لم يفترق الحال بينهما في المنع، واعترضه الإمام عز الدين فقال: هذا لايستقيم على قاعدة الأصحاب؛ لأن النور عندهم عرض باق، والباقي لاينتفي إلا بضد، وما يجري مجراه فلا بد أن تكون الظلمة أمراً ثبوتياً مضاداً له،وإلا لزم أنه إذا وجد في جسم أن لا ينتفي عنه، وقد علل ابن متويه رؤية البعيد من النار للقريب منها دون العكس؛ بأن شعاع البعيد وجد مادة فرأى معها، بخلاف القريب فإن شعاعه ينفصل إلى الظلمة التي لامادة فيها للشعاع فلا يرى من فيها، واحتج أبوحيان على أن الظلمة عرض بأنه قد تعلق بها الجعل بمعنى الخلق، والإعدام لاتوصف بالخلق.
قال: قد ردها بعضهم إلى الظلم،وهو المنع؛لأنها تسد البصر وتمنع الرؤية.
المسألة الثانية [الجواب على شبهة التعلق بقول الله تعالى: {ذهب الله بنورهم}]
قد يتعلق من ينسب إلى الله إضلال العباد وإغوائهم بقوله: {ذَهَبَ اللَّهُ بِنُورِهِمْ وَتَرَكَهُمْ فِي ظُلُمَاتٍ لاَ يُبْصِرُونَ}[البقرة:17] لأن الظاهر من ضرب المثل أن هؤلاء القوم قد كان لاحت لهم لوائح الهدى والإيمان، وأخذوا بها برهة من الزمان، ثم نزع الله ذلك منهم، وتركهم في ظلمات الجهل لايبصرون هدى، ولا يهتدون إلى رشاد، وقد روى معنى هذا ابن جرير بسنده عن ابن عباس قال: قوله: {مَثَلُهُمْ كَمَثَلِ الَّذِي اسْتَوْقَدَ نَارا ...} إلى {فَهُمْ لاَ يَرْجِعُونَ}[البقرة:17،18] ضربه الله مثلاً للمنافق، وقوله: {ذَهَبَ اللَّهُ بِنُورِهِمْ}[البقرة:17] قال: أما النور فهو إيمانهم الذي يتكلمون به، وأما الظلمة فهي ضلالتهم وكفرهم يتكملون به وهم كانوا على هُداً، ثم نزع منهم، فعتوا بعد ذلك.
والجواب: أنا لا نسلم أن المقصود بالآية ما ذكرتم ولا يقتضيه ظاهرها ولا يحتمله، وقد ذكر المفسرون في معناها وجوهاً كلها محتملة، وبها يبطل دعوى الخصم في معناها:
أحدها: أن المنافقين لما تكلموا بلا إله إلا الله أضاءت لهم في الدنيا بإجراء أحكام المسلمين عليهم، وحقن دمائهم، فلما ماتوا سلبهم الله ذلك النور أي لم ينفعهم نطقهم بالشهادة مع إبطانهم الكفر، وهذا مروي عن قتادة، ويؤيده ما رواه ابن جرير، وابن المنذر، وابن أبي حاتم، والصابوني في المائتين عن ابن عباس، قال: هذا مثل ضربه الله للمنافقين أنهم كانوا يعتزون بالأنساب، فيناكحهم المسلمون، ويوارثونهم، ويقاسمونهم الفيء، فلما ماتوا سلبهم الله ذلك العز كما سلب صاحب النار ضوءه {وَتَرَكَهُمْ فِي ظُلُمَاتٍ}[البقرة:17] يقول في عذاب.
الثاني: أن الله أذهب نورهم بإطلاع المؤمنين على كفرهم، فقد أذهب منهم نور الإسلام بما ظهر من كفرهم.
الثالث: أن المراد أنهم أوقدوا ناراً حقيقة ليتوصلوا بها، وبنورها إلى فسادهم، وعبثهم، ومعاصيهم، فأخمد الله نارهم، وأضل سعيهم.
الرابع: أن هذه النار مجاز عن عداوة أهل النفاق وحقدهم، وما كانوا يحاولونه من إثارة الفتنة، وإذهاب الله إياها: دفع ضررها عن المؤمنين، كما قال تعالى: {كُلَّمَا أَوْقَدُوا نَاراً لِلْحَرْبِ أَطْفَأَهَا اللَّهُ}[المائدة:64] وهذه الوجوه لايبقى معها لأهل الزيغ في الآية شبهة؛ لأن إسناد الذهاب بنورهم إلى الله تعالى على أحد هذه الوجوه، ولا يلزم منه ما ذكره الخصم، ثم إنا لو سلمنا احتمالها لما ذكرتم، وأنها ظاهرة في أن الله نزع منهم الإيمان، فنقول: قد ثبت قطعاً تنزيه الله تعالى عن إضلال عباده، وحينئذ تكون الآية من المتشابه، فيجب تأويلها بما يطابق دليل العقل، ومحكم الكتاب، لا بما يخالفهما، ولنا في تأويلها وجوه:
أحدها: أن الله تعالى فعل بهم ذلك عقوبة على فعلهم، وجزاء على حسن صنيعهم، كما قال الإمام أحمد بن سليمان وغيره في الطبع والختم.
الثاني: أن الله تعالى سلبهم الألطاف، ومنعهم منها، وخذلهم لما علمه من عدم التطافهم وقبولهم، فلما وقع بهم ذلك ذهب ما كان معهم من الهدى، فأسند إلى الله من باب الإسناد إلى السبب، ويؤيده ما أخرجه ابن جرير، عن ابن عباس، وابن مسعود وناس من الصحابة أن ناساً دخلوا في الإسلام مقدم النبي صلى الله عليه وآله وسلم المدينة، ثم أنهم نافقوا، فكان مثلهم كمثل رجل كان في ظلمة، فأوقد ناراً، فأضاءت له ما حوله من قذى أو أذى، فأبصره حتى عرف ما يتقي، فبينا هو كذلك إذ طفئت ناره، فأقبل لايدري ما يتقي من أذى، فكذلك المنافق كان في ظلمة الشرك، فأسلم، فعرف الحلال من الحرام، والخير من الشر، فبينا هو كذلك إذ كفر فصار لايعرف الحلال من الحرام، ولا الخير من الشر، فهؤلاء الصحابة فسروا الآية باعتبار الواقع، والمعنى الحقيقي لها، فنسبوا الكفر والنفاق إلى فاعليه وهذا يقوي كون النسبة إلى الله تعالى على جهة المجاز؛ لأن المفسر يحل المعنى باعتبار مافي نفس الأمر، لاسيما وفيهم ابن عباس، وابن مسعود، ومحلهما في معرفة تأويل القرآن ومعانيه لا يجهل.
الوجه الثالث: أن يحمل على قصد المبالغة في التشبيه، ومعناه أنهم في ضلالهم وحيرتهم، وعدم انتفاعهم بما عرفوا من نور الهدى بمنزلة من ذهب الله بنوره؛ لأن من ذهب الله بنوره، ولم يدله، ولم يهده، فلا شك أنه لايهتدي، ولا يرجع إلى الحق، وحاصله أنهم من فرط تمكنهم في الضلال، وثباتهم فيه، وعدم انتفاعهم بهداية الله تعالى بمنزلة من فعل الله بهم ذلك، أي ذهب بنورهم وإن لم يكن منه تعالى إذهاب لنورهم، بل لم يذهبه فإن العقول كاملة والآيات متواصلة، وقد مر نظير هذا عن بعضهم في قوله تعالى: {خَتَمَ اللَّهُ عَلَى قُلُوبِهِمْ}[البقرة:7] ويشهد له قوله تعالى: {صُمٌّ بُكْمٌ...} الآية[البقرة:18]، وهذا الوجه مبني على أن جواب لما محذوف، ويكون قوله: {ذَهَبَ اللَّهُ بِنُورِهِمْ}[البقرة:17] مستأنف. والله أعلم.
واعلم: أن ما ذهب إليه هذا الذاهب من الاستدلال بها على أن الله يغوي العباد ويضلهم، لايمكن حمل الآية عليه بوجه لما ذكرنا، ولأنها واردة في ذمهم على عدم الإيمان، وتشنيع أقوالهم، والحكم بسماجة حالهم، فكيف يذهب ذاهب إلى أن الله تعالى يسلبهم النور والقدرة عليه، ثم يذمهم، ويتوعدهم، ويشبههم بالصم البكم، ويتوعدهم بالدرك الأسفل من النار.
فائدة
قوله: {ذَهَبَ اللَّهُ بِنُورِهِمْ}[البقرة:17] معناه: أذهب الله نورهم؛ إذ لايجوز أن يوصف الله بالذهاب مع النور.
المسألة الثالثة [في سر وصفهم بالصم والبكم والعمي]
وصف الله لهؤلاء القوم بأنهم صم بكم عميٌ، وإيراده على جهة المبالغة في التشبيه، دليل على أن من كانت فيه هذه الأوصاف على جهة الحقيقة، لايعرف الحق على وجهه، فيستنبط من ذلك أحكام قد ذكرناها في قوله تعالى: {خَتَمَ اللَّهُ عَلَى قُلُوبِهِمْ ...} الآية[البقرة:7]، وهذا التشبيه يؤكد ما هنالك، وفي إسناد عدم الرجوع إليهم دليل على أنهم المختارون له؛ إذ الأصل في الإسناد الحقيقة.
قوله تعالى: {وَاللَّهُ مُحِيطٌ بِالْكَافِرِينَ}[البقرة:19] دلت الآية على أن المحيط من أسماء الله تعالى، واختلف في معناه، فقيل: بمعنى عالم لقوله: {أَحَاطَ بِكُلِّ شَيْءٍ عِلْماً}[الطلاق:12] وقيل: معناه مستولِ عليهم بالقدرة لقوله: {وَاللَّهُ مِنْ وَرَائِهِمْ مُحِيطٌ}[البروج:20] وقيل: إنه يهلكهم لقوله تعالى: {إِلاَّ أَنْ يُحَاطَ بِكُمْ}[يوسف:66] وكلها محتملة هنا، واستعماله في الباري تعالى مجاز، كنى به عن كونهم لا يفوتونه كما لايفوت المحاط المحيط؛ إذ لا تجوز الحقيقة في حقه تعالى؛ لأن الإحاطة حقيقة في حصر الشيء بالمنع له، والاشتمال عليه من كل جهة، وظاهر كلام الموفق بالله أنه لايطلق على الباري تعالى إلا مقيداً بما يزيل الوهم؛ لأنه قال: ولايوصف بأنه محيط؛ لأنه من صفات الأجسام، ولا يجوز عليه تعالى ذلك، ويجب أن يكون مراده عليه السلام أنه لا يطلق إلا مقيداً بما ذكرنا لأنه لايمنع ما ورد به القرآن، وفي وضع الظاهر -أعني الكافرين- موضع الضمير الراجع إلى من تقدم ذكره إعلام بكفرهم، وأنه السبب فيما ينالهم من عقوبة الله وتنكيله بهم، فيدل على عدمه، وأنه تعالى لا يعذب أحداً إلا بذنبه.
البقرة: (20)
{ولو شاء الله لذهب بسمعهم وأبصارهم إن الله على كل شيء قدير}
قوله تعالى: {وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ لَذَهَبَ بِسَمْعِهِمْ وَأَبْصَارِهِمْ إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ}[البقرة:20]
يتعلق بهذه الجملة مسائل:
المسألة الأولى [الدلالة على صحة مذهبنا في القسر والإلجاء]
في هذه الآية دليل لما يذهب إليه أصحابنا في تأويل بعض آيات المشيئة بمشيئة القسر والإلجاء؛ لأنه تعالى أخبر في هذه الآية أنه لو شاء أن يذهب بسمعهم وأبصارهم على جهة القسر والغلبة لهم لما منعه عن ذلك عجز، ولذا عقبه بما يدل على تعلق القدرة بكل شيء، وإنما منعه منه الحكمة التي يعلمها، والمقصود من هذا أن لإيراد المشيئة على هذا الوجه في مقام الزجر، والتوبيخ لمن يهتدي بهداية الله، ويقبل مواعظه، ويكف عن معاصيه أصلاً في كتاب الله، فلا يكون تفسير بعض آيات المشيئة بالقسر والإلجاء خارجاً عن الأصل، مخالفاً للظاهر كما يقوله الخصوم.
المسألة الثانية [في بحث لفظة (كل) مع ألفاظ العموم]
دلت الآية الكريمة على أن لفظة (كل) موضوعة للعموم، ولذا أورده الله في مقام إخباره بشمول قدرته، وتمدحه بذلك، وهذا من جملة الأدلة على أن للعموم صيغة، وفي المسألة خلاف، فالذي عليه العدلية من الزيدية، والمعتزلة وكثير من غيرهم: أن في اللغة ألفاظاً موضوعة للعموم حقيقة، وقيل: لا لفظ في اللغة يفيد العموم بوضعه، وإنما القرينة تقيده، وهذا مروي عن الأشعري، وبعض المرجئة، وعزاه في شرح الغاية إلى بعض الأصوليين، وهؤلاء يجعلون الصيغة من المشترك اللفظي، وقيل: بل الألفاظ التي يدعى في العموم موضوعة للخصوص، و أقل ما يحتمله اللفظ، قال في حواشي الجوهرة: ومرادهم أن لفظ العموم ما كان منها فيه لفظ الجمع حمل على ثلاثة فقط، وما لم يكن فيه لفظ الجمع حمل على الواحد، كالرجل، ونحو ذلك مما ليس لفظ جمع، قال: وهذا القول يُحفظ للأشعري، وعزاه في شرح الغاية إلى المرجئة، واستعمال الصيغة في العموم مجازٌ عندهم، وقيل: بالوقف أي لاندري أهي حقيقة في العموم، أم في الخصوص، أم فيهما، أو لا ندري هل وضع للعموم والخصوص صيغة أم لا، وهذا مذهب الأشعري في رواية، والآمدي، والباقلاني وغيرهم، وفي حواشي الجوهرة أن من القائلين بالوقف من توقف لأجل كون اللفظ مشتركاً بين المعنيين، ومنهم من توقف لاحتمال الحقيقة فيهما والاشتراك، وكونه حقيقة في أحدهما مجازاً في الآخر، وقيل: للعموم صيغة في الأمر والنهي، والوقف في الأَخبار كالوعد والوعيد، قال في شرح الغاية:حكاه أبو بكر الرازي عن الكرخي، ثم قال: وربما ظن أن ذلك مذهب أبي حنيفة لأنه كان لايقطع بوعيد أهل الكبائر من المسلمين، ويجوز أن يغفر الله لهم في الدار الآخرة.
قال سيلان: وأشار بقوله ربما ظن إلى أن تجويز العفو لا يقتضي الوقف لاحتمال أن يقول أبو حنيفة بثبوت الصيغ، وتجويز العفو لعدم القطع بدلالتها، وفي الجوهرة وتعليقها عن المرجئة أنهم ينفون الصيغة في الأخبار دون الأمر والنهي، وللجمهور في إثبات مذهبهم مسلكان:
أحدهما: أن في اللغة ألفاظاً مو ضوعة للعموم على الجملة.
والثاني: ما يدل على ألفاظ مخصوصة أنها وضعت للعموم.
[المسلك الأول: ألفاظ العموم في اللغة]
المسلك الأول: في أن في اللغة ألفاظاً للعموم على الجملة، ولهم على ذلك أدلة:
الدليل الأول: أن العموم معنى عقله أهل اللغة، ومستهم الحاجة إلى العبارة عنه، والتخاطب، والتفاهم به، فيجب أن يضعوا له لفظاً، كما وضعوا لما مستهم إليه الحاجة من المعاني التي عقلوها، نحو: الفرس، والحمار، والسيف.
فإن قيل: ومن أين لكم أنهم عقلوه؟
قيل: لأنهم أهل العقول الوافرة، والفطنة الباهرة، فلا يجهلون مثل ذلك مع كثرة دورانه في كلامهم.
فإن قيل: وما الدليل على حاجتهم إلى ذلك؟
قيل: الذي يدل عليه أن الواحد منهم قد يحتاج كثيراً إلى خبر، أو استخبارِ، أو أمر يقتضي الاستغراق، ويطول عليه تعداد الأعيان.
ألا ترى إذا أراد أن يستخبر عن من عند غيره من العقلاء طال عليه القول مستخبراً هل عندك فلان؟ أو فلان؟ إلى أن يعدد من يريد الاستخبار عنهم، وكذلك في الأمر والنهي، فلطول ذلك مستهم الحاجة إلى وضع لفظ شامل لما يريدونه من خبر، أو استخبار، أو أمر، أو نهي، فيقول المخبر: عندي العلماء، والمستخبر: من عندك، والآمر: أكرم العلماء، والناهي: لاتهن الأولياء.
فإن قيل: غاية ما ذكرتم الدلالة على حسن وضعهم لألفاظ العموم لا وجوبه.
قيل: بل يدل على الوجوب؛ لأن من حق القادر على الشيء إذا توفرت الدواعي إلى إيجاده أن يوجده لامحالة؛ إذ لو لم يوجده لخرج عن كونه عاقلاً، كما قيل فيمن قدم إليه طعامٌ شهي مع حاجته إليه، ولا مانع منه بحال، فإنه إذا تركه والحال هذه لا يعد من العقلاء، وقد قررنا حاجتهم إلى الألفاظ العامة، وأما قدرتهم عليها فلا شك فيها.
فإن قيل: لو سلمنا الوجوب، فلا نسلم أن العرب لا يخلون به، إلا لو ثبتت حكمتهم ومرا عاتهم للمصالح، وليسوا كذلك، فإنهم أرباب التيه والحمق، فلا يؤمن أن يخلوا بذلك الوا جب، كإخلالهم بغيره من الوا جبات التي منها معرفة الله، ومعرفة نبوة رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم .
قيل: لسنا نوجب ذلك عليهم من باب إيجاب التكليف، وإنما أو جبناه لأجل العادة، وتوفر الدواعي، كما يقول فيمن دعاه الداعي إلى شهي ولا مانع منه، فإنه يفعله لامحالة، ويجب ذلك عليه، وجوب استمراري عادي، وقد مر بتقدير الوجوب بهذا المعنى في مواضع من هذا الكتاب.
فإن قيل: قد وجدنا أشياء قد عقلوها، ولم يضعوا لها لفظاً يخصها، كأنواع الاعتماد وصنوف الروائح وغير ذلك.
قيل: لا نسلم عدم الوضع لها، بل وقد وضعوا لها ما يميزها عن غيرها، ولكنها أسماء مركبة إضافية، فقالوا اعتماد سفلي، وعلوي، ورائحة المسك، والكافور والغرض يحصل بذلك، وإن لم تكن أسماء مجردة، سلمنا، فهذه الأمور ليست الحاجة إلى التخاطب بها كالحاجة إلى التخاطب بالعموم، والكلام فيما تشد الحاجة إليه.
فإن قيل: قد وضعوا لذلك لفظاً مشتركاً بينه وبين الخصوص، أو مجازاً فيه حقيقة في الخصوص، وذلك كاف.
قيل: إن ما ذكرناه من دليل الوجوب قاض بأنه يجب أن يضعوا له لفظاً يسبق إلى الفهم معناه عند النطق به، وليس المشترك والمجاز كذلك.
فإن قيل: أسماء التعداد دالة على العموم وقد وضعوها، فإذا أردنا الاستفهام قلنا: أزيد عندك؟ أعمرو عندك؟ أبكر عندك؟ حتى نأتي على جميع العقلاء، وهذا كاف في الوضع والخروج عن عهده الوجوب.
قيل: هذا يكشف عن جهل قائله، فإنا لم نوجب وضع اللفظ، إلا لما في ذكر الأعداد من التطويل مع كثرة الخبر والاستخبار ونحوهما كما مر، ولا يعدل عاقل إلى الأشق مع إمكان الأسهل لغير فائدة، مع أنه قد يتعذر التعداد عند كثرة المعدودات.
ألا ترى أنه لو أراد أحد أمر غيره بإكرام العلماء، فإنه يتعذر عليه تعدادهم لكثرتهم، ولخفاء بعضهم عليه، فإذا عدل إلى اللفظ العام تم مراده، وكمل مقصوده.
فإن قيل: الحاجة إن أوجبت وضع اللفظ لما عقلوه من العموم، فهي تو جب عليهم أن يضعوا لفظاً لا يلتبس الحال فيه، هل هو للعموم، أوالخصوص، أو للمشترك بينهما.
قيل: قد فعلوا فإن المتبادر من ألفاظ العموم الشمول، والتبادر دليل الحقيقة.
فإن قيل: الاشتراك بين الكل والبعض معنى عقلوه، كمن يريد أن يشكك على غيره ولم يضعوا له لفظاً.
قيل: بل وضعوا له، قولهم: جاءني إما كل الناس أو بعضهم، ومما ذكرنا يثبت أن الحاجة توجب وضع اللفظ العام. والحمد لله.
ويؤيده أنهم قد وضعوا لكثير من المسميات أسماء كثيرة، مع أن الحاجة إلى التخاطب بها ليست كالحاجة إلى التخاطب بالعموم.
الدليل الثاني: أن أهل اللغة يؤكدون ألفاظ العموم بكل، وأجمعين، فيقولون: جاء القوم كلهم أجمعون، وهذا يدل على أن المؤكد بفتح الكاف للعموم لوجهين:
أحدهما: أنه قد ثبت بما سيأتي أن قولهم: كلهم أجمعون يقتضي العموم، فيجب في القوم أن يكون كذلك؛ لأن من حق التأكيد أن يكون مطابقاً للمؤكد، وإلا لم يكن تأكيداً له.
الثاني: أنهم إنما قصدوا بذلك المبالغة في شمول الخطاب لما يصلح له، وتمكين الأمر المؤكد في النفس، فلو كان المؤكد بالفتح موضوعاً للخصوص أو له وللعموم، لكان التأكيد زيادة في البعد عن الاستغراق، وهو خلاف ماعلم من قصد واضعي اللغة.
فإن قيل: لانسلم أنهم قصدوا بذلك المبالغة والتمكين في النفس، وإنما أكدوا؛ لأن التأكيد أكثر شمولاً، وأظهر عموماً.
قيل: هذا باطل، فإن فائدة التوكيد عند أهل اللغة تقرير المؤكد لأن له معنى مخالف، سلمنا فالتأكيد إما أن يستوعب، فهو الذي نقول أولا، فاللبس، والبعد عن الاستغراق ثابت، وهو خلاف ماعلم عن أهل اللسان.
الدليل الثالث: أن أهل اللسان فصلوا بين العموم والخصوص، كما فصلوا بين الأمر والنهي، فقالوا: خرج هذا مخرج العموم، وخرج هذا مخرج الخصوص، كما قالوا خرج مخرج الأمر، والزجر، والتهديد.
قال علي عليه السلام في كلامه في أحوال الرواة: (وقد كان يكون من رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم الكلام له وجهان، فكلام خاص، وكلام عام). رواه في النهج.
وقال عليه السلام في وصف القرآن، وبيان النبي صلى الله عليه وآله وسلم : (مبيناً حلاله وحرامه) إلى قوله: (وخاصه وعامه) رواه في النهج.
قال بعض المحققين: فكما أن فائدة الأمر وموضوعه غير فائدة النهي، كذلك العموم فائدته غير فائدة الخصوص ومعناه، وكلام علي عليه السلام نص في ذلك.
قال الموفق بالله عليه السلام : فإن قيل: إنما قالوا ذلك لأن ها هنا لفظاً يحتمل ذلك؛ لا أنه يختص إفادة العموم.
قيل له: كما لا بد من لفظ يختص الأعداد، والأمر، والنهي، كذلك لا بد من لفظ يختص العموم؛ لأنهم قسموا الكلام، فقالوا: مهمل، ومستعمل، فالمهمل مالم تقع عليه مواضعة، والمستعمل ما وقعت عليه المواضعة، وينقسم ذلك بين أمر، ونهي، وخبر، وعام، وخاص، فلا بد من لفظ يختص العموم لا على وجه الاشتراك، كما لا بد من لفظ يختص الأعداد، والأمر، والنهي لا على وجه الاشتراك.
قال عليه السلام : وما يحكى عن ابن أبي بشر الأشعري أنه لا لفظ موضوع للأمر، والنهي، والعدد، فإنه معلوم خلافه ضرورة.
الدليل الرابع: تبادر العموم عند إطلاق ألفاظ مخصوصة، والتبادر دليل الحقيقة؛ إذ لو لم تكن موضوعة للعموم لما حصل التبادر، ولا يقال أنه لا يسبق إلى الفهم إلا بما يقترن به من القرائن؛ لأنا نقول أنه يسبق وإن لم يقترن بشيء، كأن يكتب إلينا به غائب.
الدليل الخامس: أن المعلوم من حال أهل اللغة أنهم متى أرادوا أن يأتوا في عباراتهم بلفظ عام، قصدوا إلى ألفاظ مخصوصة، فلولا أنها للعموم لما استمر الحال في ذلك.
الدليل السادس: صحة الاستثناء من مدخول صيغ العموم، ومن حق الاستثناء أن يخرج من الكلام ما لولاه لوجب دخوله تحته.
فإن قيل: لا نسلم وجوب الدخول، بل تكفي الصلاحية كما في الاسم النكرة.
قيل: قد تقدم الجواب عن هذا السؤال في المسألة الأولى من قوله: {الْحَمْدُ لِلَّهِ} ونزيده هنا تو ضيحاً صحيحاً بما ذكره الموفق بالله عليه السلام ، وهو أنه لا خلاف بين أهل اللغة أن الاستثناء يخرج البعض مما اعتوره اللفظ والكلام، ولا يخرج بعضه إلا ويكون هنا لفظ يشمله وغيره؛ ولأن أحدنا إذا قال: أعط زيداً عشرة دراهم إلا درهما، فإن هذا الاستثناء يخرج ما لولاه لوجب دخوله تحت العشرة، بدليل أنه لولم يستثن لوجب إعطاء العشرة،وإنما وجب أن يخص به في العدد؛ لأنه استثناء فيجب اطراد الحكم فيه أينما وجد، يوضحه الشرط، فإنه لما اقتضى أن يخرج به من الكلام ما لولاه لو جب دخوله تحته لم يفترق الحال فيه بين العدد وغيره، على أنا لانسلم كون الأسماء النكرة صالحة لأن يدخل غيرها تحتها؛ إذ لو صلح ذلك لصلح دخول الاستثناء فيها، وقد ثبت أنه لايجوز حقيقة.
فإن قيل: قد حكى ابن دريد عن أهل اللسان: رأيت رجلاً إلا زيداً.
قيل: لم يصح ذلك عنه، ولوصح ذلك فمجاز، ونحن قلنا: إن الاستثناء لايدخله حقيقة، هذا تلخيص كلام الموفق بالله عليه السلام .
[المسلك الثاني: في تعيين ألفاظ العموم]
المسلك الثاني: في تعيين الألفاظ الموضوعة للعموم، والدليل على كل لفظ منها أنه موضوع لذلك، والكلام في هذا المسلك يكون على كل كلمة من تلك الكلمات في الموضوع الذي يليق بها في كتاب الله تعالى، وقد مر الدليل على أن اسم الجنس، والجمع المعرفين بلام الجنس للعموم في الفاتحة، وسائر الألفاظ تأتي في مواضعها إن شاء الله، والكلام الآن في أن لفظ (كل) موضوع للعموم، والذي يدل على ذلك مامر من تأكيد ألفاظ العموم بها، وتبادره من إطلاقها، وقصد أهل اللغة عند إرادة الشمول إلى التعبير بها، وصحة الاستثنا من مدخولها، وذلك واضح، ويكفي في دلا لتها على العموم الآية التي نحن بصددها كما مر تقرير ذلك، وفي معناها آيات، كقوله تعالى:{كُلُّ شَيْءٍ هَالِكٌ إِلاَّ وَجْهَهُ}[القصص:88] ولذا استثنى منه نفسه تعالى لما كان العموم يقتضي دخوله، ومن الأدلة على ذلك فهم عثمان بن مظعون العموم من قول لبيد:
وكل نعيم لا محالة زائل
فقال: كذب، فإن نعيم أهل الجنة لايزول، وقد قيل: أنه لا خلاف في ألفاظ التوكيد، نحو: كل، وأجمعين، وأجمع أنها للشمول، وإنما الخلا ف في غيرها.
قال في تعليق الجوهرة: والأظهر أن الخلاف من منكري العموم مطرد في جميع ألفاظ المؤكد والتأكيد.
قلت: وهو ظاهر ما في الإحاطة، فإنه قال: فإن قيل: قولهم كلهم محتمل للعموم، والخصوص.
قيل: لو كان محتملاً لصح أن يؤكد بها الخصوص كما يؤكد بها العموم، فيقول: جاءني زيد كلهم أجمعون، كما يقال جاءني القوم كلهم أجمعون.
احتج القائلون بالاشتراك بوجوه:
أحدها: أن هذه الصيغ كما قد تستعمل في العموم، قد تستعمل في الخصوص، فيجب أن لا تكون لأحد هما دون الآخر لاحتمالها لهما معاً، كما أن اللون لما كان محتملاً للسواد والبياض، لم يكن موضوعاً لأحدهما دون الآخر.
والجواب: أن الاستعمال لايدل على الحقيقة؛ لأن اللفظ قد يستعمل في غير ما وضع له مجازاً، ولو كان الاستعمال يدل على الحقيقة لوجب أن لا يوجب المجاز على أن حمله على المجاز في أحدهما أو لى من الاشتراك، لما تقرر من أن المجاز أولى منه، وأما القياس على اللون ففاسد لوجود الفارق؛ إذ هو يطلق عليها بالاشتراك، كما يطلق الحيوان على الإنسان، والفرس وغيرهما.
الوجه الثاني: قالوا: لو وضع للعموم لفظ لوجب أن نعلمه ضرورة عند الإدراك، كما نعلم قولنا خبز وماء أنه موضوع لهذين الجنسين.
والجواب: أن الإدراك يتعلق بأخص الوصف لا بالمواضعة، فلا يجب إذا وضع لفظ الأمر أن نعلمه ضرورة بالإدراك، على أن قولهم هذا يقتضي أن لاتكون فائدة للفظ إلا وهي معلومة ضرورة، والمعلوم خلافه.
فإن قيل: إذا لم يكن ذلك معلوماً ضرورة فلابد من طريق إليه، وهي إما المشافهة لأهل اللغة وهي مفقودة؛ لأنا لم نرهم، أو التواتر وهو باطل وإلا لشاركناكم، أو الآحاد وهو لايفيد.
قيل: الطريق إليه موجودة وهي المشافهة لمن شاهدهم، والتواتر، أو الآحاد لمن تأخر عنهم، والآحاد إذا صحبها قرينة أفادت القطع كما قلنا في الظواهر، على أنا لا نسلم اشتراط التواتر في مدلولات الألفاظ، وقد مر تحقيق هاتين القاعدتين في مسألة الأمر في سياق قوله تعالى: {اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ}[الفاتحة:6] وقد نص القرشي على أنها تحصل الضرورة بعد استقراء اللغة، ونص غيره على أن من الموضوعات اللغوية ما يعلم ضرورة.
قال الموفق بالله عليه السلام : ولا يمتنع أن يكون في ألفاظهم ولغاتهم ما يعلم استدلالاً، كما لا يمتنع أن يكون فيها ما يعلم ضرورة، ثم إنا نقلب السؤال عليهم، فنقول: بم علمتم الاشتراك، هل بالضرورة؟ أم بالمشافهة ...؟ إلى آخره.
الوجه الثالث: أنه إذا قيل: من ضربت حسن الاستفهام، فنقول أضربت الكل، أو البعض، ولو كانت للعموم لم يحسن.
والجواب: أن الاستفهام لا يحسن إلا مع تجويز قصد غير المعنى الموضوع له، أو سهو المتكلم أوتساهله، فأما إذا صدر الكلام عن حكيم لا يعمي، ولا يلبس، وتعرى عن قرينة التخصيص وجب حمله على ظاهره، وعمومه، ولا يحسن الاستفهام؛ إذ لو أراد الخصوص لبينه.
الرابع: قالوا لو كان موضوعاً له لم يكن للتأكيد فائدة؛ لأن فائدتهما واحدة حينئذ، فلما حسن تأكيده كشف لنا عن كونه محتملاً للخصوص والعموم، وبالتأكيد يخرج عن أحدهما.
والجواب: أنه باطل بالأمر، والنهي، والأعداد فإنها مما تؤكد، فيجب أن لا تكون للأمر حقيقة، بل تكون محتملة له، وللخبر، والمعلوم ضرورة أنا نعلم أن في اللغة لفظاً موضوعاً لعدد ما، وأمر ما، ونهي ما، ثم إنا لا نسلم حسن التأكيد مع الاحتمال؛ لأنه كالعموم في الاحتمال، فلا معنى له والحال هذه.
الوجه الخامس: قالوا لو كان للعموم لما جاز أن يوجد ولا يكون عاماً، كما أن الدليل لا يجوز أن يوجد ولا يكون دليلاً، والمعلوم أن الصيغة قد توجد ولا تكون عامة.
والجواب: أنا لا نمنع استعماله في غير العموم مجازاً لقرينة كما في الأمر والنهي، ولا يلزم منه ما ذكرتم، إلا إذا كنتم ممن ينفي المجاز، فللكلام عليكم موضع آخر.
احتج القائلون بالخصوص بوجهين:
أحدهما: أن الخصوص متيقن، والعموم مشكوك فيه لجواز أن تكون للخصوص، والحمل على المتيقن أولى.
والجواب: أن ذلك إثبات للغة بالترجيح، وهي لا تثبت إلا بالنقل، سلمنا، فالعموم أحوط لدخول الخصوص فيه بخلاف العكس.
الثاني: أنها لوكانت للعموم كان الاستثناء مناقضاً؛ لأن العموم يقتضي شمول المستثنى، والاستثناء يقتضي إخراجه، فيكون داخلاً تحت الخطاب، خارجاً عنه، وهذه مناقضة ظاهرة.
والجواب: أنه معارض بالأعداد، فإنه لا يجوز الاستثناء منها، ولا يخرجها ذلك عن كونها موضوعة لذلك العدد، ولا يكون الاستثناء منها مناقضاً، على أن اللفظ لايجب أن يتناول الشيء إلا مع القصد، وإنما الوضع يفيد صلاحيته للتناول، فإذا لم يحصل القصد، بل أراد البعض واستثناه لم يجب أن يتناول إلا ما قصده، فلا يؤدي إلى تناقض.
احتج القائلون بالوقف بأنه لا دليل على وضع صيغة للعموم، ولا للخصوص؛ لأن الطريق إليه إما الضرورة، أو المشافهة، أو التواتر... إلى آخر ما مر.
والجواب: أن الدليل قد وجد على ما ادعيناه من وضع صيغة العموم، وهو ماتقدم، قالوا: هو دليل محتمل، قلنا: لانسلم.
احتج القائلون بالعموم في الأمر، والنهي فقط بوجهين:
أحدهما: أنه لو لم تكن الصيغة فيهما للعموم لم يكن التكليف عاماً، والإجماع منعقد على عمومه، ولا تكليف بغير الأمر والنهي.
والجواب: أن التعميم قد ثبت في غيرهما بما ذكرنا، وقولهم لاتكليف بغير الأمر والنهي، ممنوع؛ فإنا مكلفون باعتقاد معاني الأخبار وما دلت عليه.
الوجه الثاني: ذكره القرشي، وهو أن الغرض بالوعيد التخويف الذي يكفي فيه الظن، بخلاف الأمر والنهي فإنه تكليف لا بد فيه من إزاحة العلة.
قلت: وظاهر هذا أن هؤلاء لا ينفون العموم إلا عن الوعيد، ولعلهم يقولون بالوقف في سائر الأخبار.
والجواب: أن التخويف لا يحصل إلا مع الحمل على العموم؛ لأن الألفاظ إن أفادت السامع العموم بوضعها وجب حملها عليه كالأمر.
قال القرشي: وهو المطلوب لأن الغرض بالخبر الإفادة، فلا بد أن يقصد المتكلم باللفظ ما وضع له، أو تدل قرينة على مقصوده، وإن لم تفد العموم فلا يجوز حملها عليه، فلا يحصل التخويف.
المسألة الثالثة [في جواز التخصيص بالعقل]
دلت الآية الكريمة على جواز التخصيص بالعقل؛ لأن عموم قوله تعالى: {وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ}[البقرة:284] متناول لذات الباري تعالى لأنه شيء، مع أن ذاته جل وعلا ليست من جملة المقدورات، والتخصيص بالعقل هو الذي ذهب إليه الجمهور، والخلاف في ذلك منسوب إلى شذوذ من الناس كما في شرح الجمع، وبينهم في شرح الغاية فقال: وخالف فيه شذوذ من المتكلمين.
واعلم: أن التخصيص بالعقل على ضربين:
أحدهما: بضرورته.
والثاني: بدلالته، فأما التخصيص بضرورته فكما في الآية، وكقوله تعالى:{ خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ}[الأنعام:102] وقوله: {تُدَمِّرُ كُلَّ شَيْءٍ}[الأحقاف:25] فإنا نعلم ضرورة أن ذات الباري تعالى غير مقدورة ولا مخلوقة، وأن الريح لم تدمر كل شيء، ومن علم ذلك لم يمكنه اعتقاد ماتناوله الظاهر، ولا تجويزه أصلاً.
قال في الجوهرة: ولا خلاف في وجوب التخصيص بضرورة العقل وإن خالف بعض من لا يرجع إلى تحصيل في دلالة العقل.
قلت: أشار بهذا إلى أن من ينفي حكم العقل لا يخصص به وهم أهل السنة، وقد نبه على هذا في حواشي شرح الغاية، وفيه نظر؛ فإن ابن الحاجب، والرازي، وابن السبكي وغيرهم قد نصو على جوازه.
فإن قيل: كيف حكمتم بأنا نعلم ضرورة أن الحكيم تعالى لم يرد العموم فيما ذكرتم من الآيات ونحوها، مع أنا لانعرف ذاته تعالى إلا دلالة، فكيف نعرف صفته ضرورة؟
قيل: ليس المراد بالمعلوم ضرورة إلا أن الحكم الذي اقتضته هذه العمومات بظاهرها غير واقع، فأما أنه تعالى لم يرد ذلك، فإنما نعلمه دلالة، وأما الضرب الثاني وهو التخصيص بدلالة العقل، فدليله أن يقال: لفظ العموم إذا اقتضى ثبوت الحكم بصور متعددة، ودلالة العقل منعت من ثبوته لبعضها، فإما أن نعمل بموجبهما معاً، وهذا لا يصح لأدائه إلى التنافي، وإما أن نطرحهما معاً، وهو أيضاً لا يصح؛ إذ لا يجوز إبطال الأدلة مع إمكان استعمالها، وإما أن يعمل بالعام فقط، لم يصح؛ لأن دلالة الألفاظ والعمومات معرضة للاحتمال، وللعدول بها عن ظاهرها، ودلالة العقل لا يعدل عنها أصلاً، فتعين أنه يجب العمل بالعقل فيما دل عليه، وبالعام فيما بقى، وهو معنى التخصيص؛ إذ ليس إلا إخراج بعض ما تناوله العام، ومثال المسألة قوله تعالى: {خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ}[الأنعام:102] فإن العقل يخص أفعال العباد، وكذلك قوله تعالى: {وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلاً}[آل عمران:97] فإن العقل بنظره اقتضى عدم دخول الطفل،والمجنون في التكليف بالحج لعدم فهمهما.
احتج المخالف بوجوه:
أحدها: أن من حق الخاص أن يتأخر عن العام، ودلالة العقل غير متأخرة.
قلنا: لا نسلم، بل يجوز التقدم، والتأخر، والمقارنة.
قالوا: هو بيان، وحق البيان أن يتأخر عن المبين.
قلنا: لا نسلم أن من حق البيان التأخر، سلمنا، فالعقل وإن كان في قضيته متقدماً فهو في حكم المتأخر؛ لأنه لا يقع به الإخراج إلا بعد ورود العام، فلما كان الإخراج به متأخراً كان في نفسه في حكم المتأخر.
الثاني: القياس على النسخ فإنه كما لايجوز بالعقل، كذلك التخصيص إذ كل من النسخ والتخصيص بيان.
والجواب: لا نسلم أن النسخ بيان، وإنما هو رفع للحكم، أو يتضمن رفعه، والعقل لايهتدي لذلك، فلذلك امتنع النسخ به، وقول الأصو ليين: أن النسخ بيان فإنما يريدون به أنه بيان لانتهاء المدة.
قيل: ولأن النسخ لتغير المصالح، والعقل لا هداية له إلى ذلك، بخلاف التخصيص فإن العقل قد دل عليه وعرفه فافترقا.
الوجه الثالث: أن التخصيص هنا لايتصور، لأن ما نفى العقل حكم العموم عنه لم يتناوله العام؛ لأنه لا تصح إرادته، وأيضاً التخصيص إنما يكون حيث يجوز تناول العموم لما خرج بالتخصيص.
والجواب: أنه إن أريد عدم تناول اللفظ له، فغير مسلم، وإن أريد معناه من حيث الحكم، فلا يضر؛ إذ كل ما أخرجه التخصيص كذلك، أما قولهم لا تصح إرادته، فيقال: كل خارج بالتخصيص غير مراد، وقولهم: أن التخصيص لا يكون إلا مع جواز التناول، غير مسلم، بل هو إخراج بعض ماتناوله اللفظ، سواء تصور كونه مراداً بالعموم، أم لا.
واعلم: أن ابن السبكي حكى عن الشافعي منع تسمية ما أخرجه العقل تخصيصاً؛ نظراً إلى أن ما يخصص بالعقل لايصح إرادته بالحكم، وفيه ما قد عرفت، والفرق بين قوله، وقول الشذوذ أنه يمنع التسمية مع قوله: بأن اللفظ شامل لما نفاه العقل، وهم يمنعون التناول، ويلزم منه منع التسمية.
قيل: والخلاف لفظي للاتفاق على الرجوع إلى العقل فيما نفي عنه حكم العام، إلا أن الجمهور يسمون ذلك النفي تخصيصاً، والشذوذ، والشافعي لا يسمونه تخصيصاً، وقيل: هو لفظي بالنسبة إلى الشافعي، وأما بالنسبة إلى الشذوذ فمعنوي؛ لأنهم ينفون التناول لفظاً وحكماً.
فائدة
في كلام بعضهم ما يقتضي أن المخصص في الآية -أعني قوله: {إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ}[البقرة:20] -لفظي وهو قوله: {قَدِيرٌ} لأن القدرة لاتتعلق إلا بالممكن، قال أبو حيان: وفي لفظ قدير ما يشعر بتخصيص العموم؛ إذ القدرة لا تتعلق بالمستحيلات، وقال الزمخشري مالفظه: فإن قلت: كيف قيل على كل شيء قدير، وفي الأشياء ما لا تعلق به للقادر، كالمستحيل، وفعل قادر آخر؟
قلت: مشروط في حد القادر أن لا يكون الفعل مستحيلاً، فالمستحيل مستثنى في نفسه عند ذكر القادر على الأشياء كلها، فكأنه قيل: {عَلَى كُلِّ شَيْءٍ} مستقيم {قَدِيرٌ} ونظيره: فلان أمير على الناس أي على من وراءه منهم، ولم يدخل فيهم نفسه وإن كان من جملة الناس، وأما الفعل بين قادرين فمختلف فيه.
المسألة الرابعة [في أن المعدوم شيء]
استدل بعض العلماء بهذه الآية على أن المعدوم شيء، قال: لأنه تعالى أثبت القدرة على الشيء، والموجود لاقدرة عليه لاستحالة إيجاد الموجود، فتعين أن المقدور هو المعلوم وقد سماه شيئاً، وهذه المسألة قد كثر فيها خبط المتكلمين واختلافهم، والتكلم على بعضهم الآخر بسببها، وحاصل ما يتعلق بها من الكلام يكون في ثلاثة مواضع:
الأول: في حقيقة الشيء، وما يتبع ذلك من بيان قسمته وانحصاره.
الثاني: في الخلاف في ثبوت ذوات العالم في الأزل.
الثالث: في المعدوم، هل يسمى شيئاً أم لا.
[حقيقة الشيء]
الموضع الأول: في حقيقة الشيء وما يتبع ذلك.
أما حقيقته فله معنيان: لغوي، واصطلاحي:
أما اللغوي: فهو ما صح أن يعلم ويخبر عنه، قال سيبويه: وإنما يخرج التأنيث من التذكير، ألا ترى أن الشيء يقع على كل ما أخبر عنه من قبل أن يعلم أذكر هو أم أنثى.
وأما الاصطلاحي: فهو ما يصح العلم به على انفراده، فقولنا ما يصح العلم به جنس الحد، وقولنا: على انفراده فصل يخرج به مالا يعلم على انفراده، كالصفات والأحكام فإنها لا تعلم على انفرادها، وإنما تعلم الذات عليها؛ لأنها لو علمت على انفرادها لافتقرت إلى صفة لها؛ إذ كل معلوم لايصح العلم به إلا لأجل صفة الذات، وتلك الصفة أيضاً لو صح بها العلم على انفرادها لافتقرت إلى صفة كذلك، فيؤدي إلى التسلل، وما أدى إليه وجب القول بفساده.
وأما قسمته فهو ينقسم إلى موجود، ومعدوم عند من يسمي المعدوم شيئاً.
فالموجود قد تقدم حده في البسملة، وأما المعدوم فهو المعلوم الذي ليس بموجود، وهو أصلي، وفرعي:
فالأول: مالم يتقدم عدمه وجود، نحو مالم يوجد من مقدورات الباري تعالى، ومقدورات العباد.
الثاني: ما تقدم عدمه وجود كأفعال الله تعالى، وأفعالنا التي قد مضت، وينقسم الموجود إلى قديم، ومحدث، والمحدث ينقسم إلى متحيز، وغير متحيز، والمتحيز إلى جوهر، وجسم، وطول، وصفيحة وهي العريض والسطح، وأما انحصاره فعلى القول بأن المعدوم شيء، يقال: الشيء لا يخلو إما أن يتصف بصفة الوجود، أو لا.
الثاني: المعدوم وهو لا يخلو إما أن يسبق عدمه وجود، أولا، الثاني الفرعي، والأول الأصلي، وإن اتصف بصفة الوجود فلا يخلو إما أن يسبق وجوده عدم، أولا، الثاني القديم، والأول المحدث، وهو إما أن يشغل الحيز، أو لا، الثاني العرض، والأول إما أن يصح عليه التجزء، أو لا، الثاني الجوهر، والأول إما أن ينقسم من الجهات الثلاث، أو لا، الأول الجسم، والثاني إن انقسم من جهتين منها فهو العريض، وإلا فهو الطويل، وقد علم بذلك حد كل واحد منها إجمالاً، وقد مر في الفاتحة الكلام عليها مفصلاً، لكن المقام اقتضى إعادة ذكرها؛ لأنها تابعة لبيان معنى الشيء، وتحقيق الكلام فيه.
[الخلاف في ثبوت ذوات العالم في الأزل]
الموضع الثاني: في الخلاف في ثبوت ذوات العالم في الأزل، فقال القرشي، وحكاه عن الجمهور: أن ذوات العالم ثابتة في الأزل، وقالوا: لا نهاية لها،وفسر الإمام عز الدين الجمهور بجمهور الزيدية، والمعتزلة.
وقال أئمتنا"، وأبو الحسين،وابن الملاحمي، وأبو الهذيل، وأبو القاسم ابن شبيب التهامي،والبرذعي،وهشام بن عمرو،والمجبرة بأسرهم: لا ثبوت للذوات في العدم، بل العدم نفي محض، وهو قول الدهرية، والفلاسفة المتقدمين، وبعض الفلا سفة الإسلاميين. رواه عنهم الإمام عز الدين.
قلت: وما حكيناه عن أئمتنا" فهو الذي رواه في الأساس، ومجموع السيد حميدان عنهم، ولا يخفى ما في إطلاق الرواية عنهم من النظر لظهور خلاف بعض المتأخرين، ولعل المراد قدماءهم"، وممن جنح إلى هذا القول من متأخريهم الإمام يحيى، ورواه عن المحققين.
قال في التمهيد: ذهب المحققون من جماهير العلماء إلى أن المعدوم ليس بشيء، ولا عين، ولا ذات في حال عدمه، وإنما هو نفي محض، والله تعالى هو الموجد للأشياء، والمحصل لذواتها وحقائقها.
قال الإمام عز الدين: وهذا هو الحق الذي لا ريب فيه.
احتج الأولون بوجوه:
أحدها: أن للقادر العالم تعلقاً بمقدوره ومعلومه، وإذا لم تكن ذوات العالم ثابتة في الأزل لم يصح تعلق القدرة والعلم بها لاستحالة تعلق القدرة والعلم بالمعدوم المحض، وتو ضيح ذلك أن يقال: معنى تعلق القادر بمقدوره أن يصح إيجاده له، وهذا التعلق حكم يعلم بين القادر والمقدور، فلا بد أن يكون المقدور ذاتاً أو صفة ليعلم الحكم بينه وبين القادر، وباطل بالاتفاق أن يكون صفة فتعين أن يكون ذاتاً، وإلا كان الحكم قد علم لا بين غيرين، ولابين غير وما يجري مجراه، وهكذا يقال في تعلق العالم بالمعلوم؛ إذ معنى تعلقه به أنه يعلمه على ما هو به، وهذا التعلق حكم إلى آخره.
والجواب من وجهين:
أحدهما: أنه ليس من شرط الحكم أن يكون المقدور، والمعلوم ذاتاً أو صفة في الحال كما يفيده كلامكم، فإن صحة وجود المقدور حكم علم بينه وبين الوجود مع عدم ثبوت الوجود في الحال.
الثاني: أن معنى التعلق هو أن القادر العالم يصح منه لذاته أو لاختصاصه بصفة على الخلاف أن يجعل ذاتاً، وأن يعلم ما سيجعل؛ لا أن في العدم ذاتاً معينة يصح إيجادها، والعلم بها.
الوجه الثاني: أن أحدنا يفصل في حال عدم الأشياء بين ما يقدر عليه، وبين ما لا يقدر عليه، ولو لم يكن المعدوم ذاتاً لما صح هذا التمييز؛ لأن الفصل بين الأشياء راجع إلى ذواتها.
والجواب: أن التمييز يرجع إلى تصور حقائقها وما هيتها، وهو لا يقتضي كونها ذواتاً ثابتة في العدم.
قال في المعتمد: تصور المعدوم كتصورنا ثاني القديم، والبقاء، والإدراك، ومعلوم أن تصور هذه الأشياء لا يقتضي كونها ذواتاً.
قالوا: لانسلم صحة تصور ثاني القديم، وسائر ما ليس بشيء؛ لأن التصور علم بصور الأشياء وما هيتها، وليس لثاني القديم ماهية يمكن تصورها.
قلنا: لا نسلم أن التصور يشترط فيه العلم بصور الأشياء وما هياتها، بل يكفي التصور بوجه ما، كما ذكره المحققون في تصور المستحيل، وليس للخصم أن يدعي أن المستحيل شيء؛ لأنه ليس بشيء اتفاقاً، ولا أن يقول: أن العلم لا يتعلق به، فإن انكار ذلك مكابرة؛ لأن كل عاقل يجد من نفسه العلم باستحالة اجتماع النقيضين والضدين، قال بعض المحققين: المستحيل لا تحصل له صورة في العقل، فلا يمكن أن يتصور شيء هو اجتماع النقيضين والضدين، فتصوره إما على جهة التشبيه بأن يعقل مثلاً بين السواد والحلاوة أمر هو الاجتماع، ثم يقال مثل هذا الأمر الذي عقلناه لا يمكن حصوله بين السواد والبياض أو نحو ذلك، وحاصله أن تصور ما لا وجود له في الخارج صحيح، وأن التصور بوجه ما كاف، و لو على جهة الفرض، فيكون تصور نفي ثاني القديم، وسائر ماليس بشيء صحيح وبه يصح جوابنا، وقولنا: إن التمييز راجع إلى تصور الحقائق ويبطل اعتراضهم،وما أحسن ما قاله بعض أهل التحقيق حيث قال: إن الذي لا وجود له في الخارج وأنت قصدت الحكم عليه بنفي الوجود مثلاً لا يحتاج إلى تصور مورد النفي على وجه يجوز ثبوته في الخارج، بل يكفيك تصوره على وجه الفرض، فإذا قصدت أن تحكم على الضدين بنفي الاجتماع تتصور لهما اجتماعاً كاجتماع المختلفات الغير المتضادة ثم تنفيه.
الوجه الثالث: أن القادر يقصد إلى الجوهر دون السواد مثلاً، فلو لم يكونا ذاتين لم يصح القصد إلى أحدهما دون الآخر.
والجواب: أن القصد إليهما لا يترتب على كونهما ذاتين، وإنما يترتب على العلم بهما، والعلم عندنا يتعلق بالنفي المحض.
الرابع: أن إعدام المكلفين صحيح، وإعادتهم للجزاء صحيحة، ولا يجوز أن يكون المعاد غير الأجزاء الفاعلة للطاعة والمعصية، وإذا كانت هي المعادة، فنقول: هل هي متعينة في حالة العدم ليصح القصد إلى إيجادها بعينها، فهو الذي نقول، أو ليست بمتعينة فبما ذا نعلم أنها هي بعينها؟ وكيف يصح القصد إليها؟
والجواب: أن في كيفية الإعادة خلاف ليس هذا موضع ذكره، إلا أنا نقول: إن أردتم بتعينها كونها معلومة لله تعالى، فهو قولنا، ولسنا ننفي علمه تعالى بما سيوجد، وإن أردتم به ثبوت أعيانها، فهو باطل، ولا نسلم أن العلم بتلك الأعيان متوقف على الثبوت والتعيين.
احتج الآخرون بوجوه:
أحدها: ما مر قريباً من تعلق العلم بالمستحيل، مع أنه ليس بشيء ولا ذات.
الثاني: أن الذوات المعدومة لا يجوز أن تكون متناهية، وإلا لزم أن تكون مقدورات الباري تعالى متناهية، ولا يصح منكم القول بأنها غير متناهية؛ لأنه لا بد عند خلق العالم أن تكون الجواهر المعدومة أقل مما كانت لما ينضم إليها من الزيادة عند الخلق، وكلما دخلته الزيادة والنقصان فهو متناه، فيلزم منه تناهي مقدورات الباري تعالى، وهو باطل، فما أدى إليه يجب أن يكون باطلاً، وهذه حجة قوية لا يمكن دفعها.
الثالث: أن السواد إذا طرأ على البياض، فإما أن أن يبطل ذاته، أو يبطل وجوده، إن قلتم بالأول، فهو قولنا؛ لأنه إذا أبطل الذات فلا ثبوت لها أصلاً لا في الجود، ولا في العدم، وإن قلتم بالثاني، فإما أن يبطله بوجوده وهو محال؛ لأن الوجود لا يضاد الوجود بل يماثله، والشيء لايبطل إلا بضد أو ما يجري مجرى الضد، أو يبطله بسواديته لزم أن تكون السوادية مضادة للوجود، فيستحيل وجود السواد؛ لأن سواديته إذا كانت مضادة لوجوده لزم استحالة وجوده لاستحالة الجمع بين الضدين.
فإن قيل: نحن نقول بأنه يبطل وجوده، لكن لا على التقرير الذي قررتم، وإنما نقول إن هيئة السواد التي هي صفة مقتضاة له تقتضي جمع الشعاع تضاد هيئة البياض التي تقتضي تفريقه، فطروء السواد لا يبطل ذات البياض، وإنما يبطل صفته المقتضاة التي هي الهيئة، وإذا بطلت بطل الوجود؛ إذ يستحيل ثبوته وثبوت المقتضي للهيئة مع حصولها؛ لأن حصول الشرط وهو الوجود، والمقتضي -بالكسر- وهو البياض هنا مع المقتضى -بالفتح- وهو الهيئة محال.
قيل: لنا في الجواب عن هذه وجوه:
أحدها: أن فيه تعسف.
الثاني: أنكم قد اعترفتم باستحالة ثبوت الذات مع عدم الهيئة، وإذا استحال ثبوتها فما بقي لكم في العدم، وليس لكم أن تقولوا أردنا بالثبوت الوجود؛ لأنكم قد عطفتم منع ثبوت الذات على منع ثبوت الوجود، والعطف يقتضي المغايرة، وأيضاً فرقتم بينهما بأن جعلتم الوجود شرطاً والذات مقتضياً.
الثالث: أن كلامكم يؤدي إلى أن يكون عدم المشروط سبباً في عدم الشرط وتابع له، وهو عكس قالب الشرط والمشروط، فلا يصح، بيانه أنكم قد جعلتم الوجود شرطاً في حصول الهيئة، ثم قلتم إن حصول الشرط مع عدم المقتضى -بالفتح- وهو الهيئة محال.
الوجه الرابع: أنه يلزمكم أن يكون مع الله تعالى في الأزل غيره، وهو خرم لقاعدة التوحيد، وقد أجاب الحاكم عن هذا بأنا نقول: إنه تعالى يعلم الأشياء، ولا نقول معه أشياء؛ لأن مع للمقارنة فيقتضي الوجود، ويجاب بأنكم إن أردتم أنه يعلمها فقط من دون ثبوت، فهو قولنا، وإن أردتم يعلمها ثابتة، فهذا الجواب غير مخلص لكم عن الإلزام.
واعلم: أن الأدلة في هذا الموضوع من الجانبين كثيرة، وفيما ذكرناه هنا كفاية، مع أن المسألة كثيرة الورود، وعليها تبنى مسائل متعددة في الأصول، ونحن لا نترك إن شاء الله الزيادة في الأدلة عند ورود ما يقتضي ذلك، وتكرير هذه المسألة،وإن كان القول بثبوت ذوات العالم في الأزل ظاهر البطلان،متضعضع الأركان، ولقد شنع أئمتنا وغيرهم على أهل هذه المقالة، وقالوا إنها في غاية الخطر، لما فيها من نفي تأثير الباري في الذوات، وكثير من الصفات، وإثبات ذوات لا نهاية لها معه في الأزل، حتى أن منهم من قال: لافرق بين إثبات الذوات في الأزل، وإثبات المجبرة للمعاني القديمة في الشناعة والخطر، وظهور البطلان.
وقال الإمام عز الدين عليه السلام : ولعمري إن إثبات ذوات في العدم لها صفة،وأحكام وتتعلق بها بعض المتعلقات، مما لاينبغي أن يكون معقولاً، وأنه أبعد في التعقل من الطبع، والكسب، ونحوهما.
قلت: وقد أوضح المسألة وبين ما في قول هؤلاء من الشناعة والخطر السيد حميدان رحمه الله في مواضع من مجموعه، ولنتبرك بذكر نبذة من كلامه عليه السلام ، فنقول: ذكر رحمه الله أن مذهب العترة" أن معنى كون الباري سبحانه وتعالى مؤثراً في العالم، وهو كونه خالقاً لذواته وصفاته التي علم سبحانه وتعالى فيما لم يزل أنه سيجعلها أشياء بعد أن لم تكن، وأن كونها أشياء وموجودة، ليس بأمر زائد على ذواتها.
قال: ومذهب بعض المعتزلة أن معنى كونه تعالى مؤثراً في العالم هو أنه أو جد ذواته المعدومة الثابتة فيما لم يزل، وأخرجها من حالة العدم إلى حالة الوجود الذي هو مؤثر فيه، وليس هو له بمعلوم فيما لم يزل؛ لكونه بزعمهم صفة، والصفة ليست بشيء يتعلق به علمه سبحانه وتعالى فيما لم يزل.
قال عليه السلام : والذي يدل على صحة مذهب العترة"، وبطلان مذهب المعتزلة هو أن قولهم: أن الله تعالى مؤثر في الصفة التي هي عندهم لا شيء، ولا لا شيء، قول مجهول غير معقول؛ لأن الصفة التي قالوا هي لا شيء ولا لا شيء غيرمعقولة، ولا معلومة بإجماعهم، وكلما لم يعقل فالتأثير فيه لا يعقل.
قال عليه السلام : ويدل عليه أنه قد ثبت بإجماعهم كون الباري صانعاً للعالم، فلا يخلوا إما أن يكون صنعه هو الذوات، أو الصفات، أو الذوات والصفات، فإن قالوا: هو الذوات بطل قولهم بثبوتها فيما لم يزل، وإن قالوا: هي الصفة التي هي الوجود وتوابعه، بطل إقرارهم بأن الباري تعالى صانع للعالم؛ لأن ذوات العالم هي العالم بإجماعهم، فإذا لم يكن صانعاً للذوات بمعنى أنه جعلها ذواتاً، فليس بصانع للعالم، وإن قالوا: أنه صانع للذوات والصفات خرجوا عن مذهبهم، ويدل عليه إجماعهم مع العترة على أن الذي يدل على كون الباري تعالى عالماً هو وجود فعله محكماً، والعلم بالأحكام فرع على العلم بالإيجاد، فلو لم يكن سبحانه عالماً فيما لم يزل بالإيجاد والإحكام لبطل كون الإحكام دليلاً على كونه عالماً، وللزم أن تقف صحة كونه عالماً بالإحكام على وجود الإحكام، ويقف وجود الإحكام على صحة كونه عالماً به، وذلك باطل، يدل عليه أن القول بثبوت ذوات مقدورات الباري تعالى فيما لم يزل، وأنه لا تأثير له في كونها ذواتاً يؤدي إلى تعجيزه عن خلق العالم، والقول بأنه لا يعلم الإيجاد فيما لم يزل يؤدي إلى القول بأنه سبحانه وتعالى جاهل لتأثيره قبل أن يؤثر فيه، وكل قول يؤدي إلى تعجيزه أوتجهيله فهو ظاهر البطلان، ويدل عليه أن القول بأنه تعالى لا يعلم فيما لم يزل إلا ذوات الموجودات دون الوجود يؤدي إلى تكذيب أخبار الله سبحانه قبل أن يوجد آدم عليه السلام بأنه يوجده؛ لأنه أخبر عما سيكون ولم يخبر عن الذات الثابتة فيما لم يزل، وكل قول يؤدي إلى تكذيب الباري فهو باطل، ويدل عليه أن قولهم بأن الذوات المعدومة الثابتة بزعمهم فيما لم يزل تخرج إذا وجدت من حالة العدم إلى حالة الوجود، يوجب كون العدم صفة كالوجود، وذلك باطل بإجماعهم، ويدل عليه إجماعهم مع العترة على إنكار قول من زعم أن أعيان العالم قديمة، ولافرق بين ذلك، وبين قولهم: إن ذوات العالم ثابتة في
الأزل، بدليل أنه ما من دليل يصح أن يستدل به على أن أعيان العالم قديمة إلا ويصح أن يستدل به على أن ذوات العالم ثابتة فيما لم يزل، وأنه ما من دليل يصح أن يستدل به على بطلان قدم أعيان العالم إلا ويصح أن يستدل به على بطلان ثبوت ذوات العالم فيما لم يزل.
قلت: وقد استوفينا هذا البحث من كلام السيد حميدان رحمه الله لما اشتمل عليه من الفوائد، والأدلة، والإلزامات، وتحقيق مذهب الخصوم، ولم نتصرف فيه إلا تصرفاً يسيراً جداً،وهو كلام قوي واضح، إلا أني لم أقف في كلام الخصوم على ما حكي عنهم هنا من أن الباري تعالى لا يعلم الوجود، بل ظاهر كلامهم أنهم إنما أوجبوا ثبوت الذوات في العدم ليصح تعلق العلم والقدرة بها، ولعله عليه السلام ألزمهم ذلك؛ لأن الوجود ليس بذات، فلا يتعلق به العلم. والله أعلم.
[هل المعدوم شيء]
المو ضع الثالث: في المعدوم هل يسمى شيئاً أم لا؟
والخلاف فيه متفرع على الخلاف في الموضع الذي قبله، فمن أثبت ذوات العالم في الأزل سمى المعدوم شيئاً حقيقة، ومن لا يثبتها في الأزل لم يسمه شيئاً، هذا هو الظاهر من كلام أصحابنا وما نقلوه من الخلاف إلا صاحب الغياصة فإنه نسب القول بأنه يسمى شيئاً إلى أكثر فرق الإسلام وكثير من غيرهم، ثم قال: والخلاف في ذلك مع قوم من الفلاسفة، وقوم من المجبرة كهشام بن الحكم، وحفص الفرد، والأصم، وذهب إليه أبو الحسين، وابن الملاحمي من المعتزلة، والإمام يحيى من الزيدية، وأما الحجج فما تقدم لأن الشيء هو الذات، فمن أثبتها في الأزل أطلق لفظ شيء عليها في حال العدم، ومن لا فلا إلا ما ذهب إليه أبو القاسم من أن المعدوم شيء وليس بذات، ولا بأس بزيادة الاستدلال هنا، فنقول: احتج من قال: إن المعدوم يسمى شيئاً بوجوه:
أحدها: أنه يصح العلم به على انفراده، وذلك هو معنى الشيء والذات، والمنكر لصحة العلم به مكابر، فإنا نعلم القيامة ونحوها مما لم يوجد.
الثاني: أنا نجد فرقاً بين الكاتب العالم بقوانين الكتابة، وبين الأمي الذي لايعلمها، ولا فرق بينهما إلا أن الكاتب عالم بتصوير الكتابة قبل إيقاعها، بخلاف الأمي فلولا أن المعدوم المتصور في ذهن الكاتب شيء لما فرق بينهما.
الثالث: أنه قد ثبت أن معلومات الله تعالى غير متناهية بدلالة العقل، وإجماع المسلمين، فلو لم يكن المعدوم شيئاً، ولم يعلم الباري تعالى إلا الموجودات وهي منحصرة لكانت معلوماته تعالى متناهية، منحصرة؛ لأن الموجدات قد حصرها الوجود.
الرابع: أن الله تعالى قد وعدنا بثواب، وعقاب، وجنة، ونار، وهذا إن لم يكن معلوماً لله تعالى لم يحسن منه أن يعدنا بما لم يعلم؛ لأن ذلك كالكذب -تعالى الله عنه- وإن كان معلوماً ثبت ما قلنا؛ إذ لا نعني بقولنا إن المعدوم شيء إلا أنه يصح العلم به.
الخامس: أن أهل اللغة يقولون: علمت شيئاً موجوداً، فإن أفاد لفظ موجود فائدة غير فائدة شيء، وهي الاحتراز عن الشيء المعدوم إذ لايقدر غيرها لعدم الواسطة بين الموجود والمعدوم فهو قولنا، وإن لم يفد فائدة غير فائدة شيء، كان تكراراً، وكان بمنزلة قولك: علمت شيئاً شيئاً، أوموجوداً موجوداً، والمعلوم من ظاهر كلامهم خلاف ذلك، وأيضاً هم يقولون علمت شيئاً معدوماً، فلو لم يكن المعدوم شيئاً لكان لفظ معدوم مناقضاً للفظ شيء.
السادس: أنا وجدنا ذلك في كلام الله تعالى، ومنه هذه الآية أعني قوله تعالى: {إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ}[البقرة:20] فسمى تعالى جميع مقدوراته شيئاً، ولا شك أنه قادر على الموجود والمعدوم.
والجواب: أن غالب هذا الوجوه مبني على أصل واحد، وهو أن علم الله تعالى وقدرته لا يتعلقان إلا بما هو شيء ثابت، ولا يتعلقان بالمعدوم الذي لا ثبوت له، ولذا تراهم لا يحتجون على كون المعدوم شيئاً إلا بتعلق العلم والقدرة به، وإذا عرفت هذا فنقول: لا نسلم أن العلم والقدرة لا يتعلقان إلا بالشيء الذي هو ذات ثابتة، وقد مر في كلام السيد حميدان ما يكفي في الجواب عن هذا، وإثبات أن التعلق المذكور لايحتاج إلى ما ذكروا، وقال السيد أحمد بن محمد الشرفي: يصح أن يتعلق علمه تعالى بالمعدوم، بمعنى أنه تعالى يعلم أنه سيوجد على الصفة التي يوجده عليها، وكذلك يقدر تعالى على اختراع المقدور المعدوم جسماً كان أو عرضاً، وإيجاده من العدم كما ذلك في حكم المعلوم بضرورة العقل، مثل المشاهدات من السحاب، والمطر، والأشجار، وغير ذلك.
قلت: ومن أقوى ما يبطل به قولهم ما مر من تعلق العلم بالمستحيل مع الاتفاق على أنه لايسمى شيئاً، وأما حكايتهم عن أهل اللغة أنهم يقولون: علمت شيئاً موجوداً، فليس الكلام في المعنى اللغوي؛ إذ لاخلاف في إطلاق لفظ شيء لغة على المعدوم، وإنما الخلاف في الاصطلاحي، وإذا عرفت هذا فالمنقول عن أهل اللغة، والآية وما في معناها محمول على المعنى اللغوي، ويجوز في الآية أن يحمل على المجاز من تسمية الشيء باسم ما يؤول إليه.
تنبيه
قد مر في أول المسألة الاستدلال بالآية على غير وجه الاستدلال بها هنا، وذلك أنا ذكرنا هنالك أنه تعالى أثبت القدرة على كل شيء، والموجود لا قدرة عليه... إلى آخر ما مر، والاستدلال بها على هذا الوجه في غاية الضعف لوجهين:
أحدهما: أنه لم يقل أحد بأن القدرة لا تتعلق بالمقدور إلا لإيجاده حتى يصح قولهم أن الموجود لا تتعلق به قدرة، بل كل من أقر بالصانع يقطع بأن قدرة الباري تعالى تتعلق بالممكن الموجود، من حيث أنه قادر على التصرف فيه بالصحة، والسقم، والزيادة، والنقص، والإماتة، وغير ذلك، وبالمعدوم من حيث الإيجاد، والإخراج من العدم، على أنه لا تعرض في الآية للمعدوم، بل هي في الدلالة على تعلق القدرة بالموجود أصرح من حيث السبب؛ لأن الله تعالى أوردها للإخبار بقدرته على إذهاب سمعهم، وأبصارهم مع الإخبار بالقدرة على غيرهما، وسمعهم وأبصارهم من الموجودات، وقد ذكر الأصوليون أن صورة السبب تدخل في العموم دخولاً أولياً.
الوجه الثاني: أنه يلزمهم أن ما لا يقدر الله عليه لايكون شيئاً، فالموجود لايكون شيئاً؛ لأنه غير مقدور بزعمهم.
احتج من لايسمي المعدوم شيئاً بوجوه:
أحدها: أن الخصم موافق في أن ذوات العالم هي العالم، وفي أن العالم محدث، وفي أن الحدث نقيض الأزل، فلو كان المعدوم شيئاً بالمعنى الحقيقي الذي زعموه للزم صحة وصف ذوات العالم بالمتناقضين، وهما كونها محدثة وثابتة في الأزل، والجمع بين النقيضين محال، فما أدى إليه يجب أن يكون محالاً.
الثاني: أنهم موافقون في استحالة وجود ذوات العالم في الأزل، فيلزم أن يستحيل ثبوتها في الأزل.
فإن قيل: الوجود غير الثبوت، فلا يلزم من استحالة وجود الذوات في العدم ووصفها به استحالة ثبوتها ووصفها به.
قيل: لانسلم الفرق بينهما، بل هما عند العرب مترادفان علم ذلك بالاستقراء، وتناقض قول القائل ثبت ولم يوجد أو العكس.
الثالث: أن في كتاب الله تعالى من الأدلة الصريحة الدالة على أن المعدوم لايسمى شيئاً ما لا يمكن دفعه، وسيأتي في مواضعه، ومنها قوله تعالى: {وَقَدْ خَلَقْتُكَ مِنْ قَبْلُ وَلَمْ تَكُنْ شَيْئاً}[مريم:9].
الرابع: أن السنة النبوية قد دلت على ذلك، فمنها مارواه المرشدبالله عليه السلام بسنده إلى ابن عباس، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم : ((من قال لا إله إلا الله قبل كل شيء، ولا إله إلا الله بعد كل شيء، ولا إله إلا الله يبقى ربنا ويفنى كل شيء عوفي من الهم والحزن)) وفي المعراج عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم : ((وكان الله ولا شيء ثم خلق الذكر)) ورواه السيد حميدان، وعنه صلى الله عليه وآله وسلم أنه ذكر في بعض خطبه: ((أن الله منشئ الأشياء)) رواه السيد حميدان.
الخامس: إنما ذهبنا إليه هو كلام أمير المؤمنين عليه السلام ، فإن في غضون كلامه مما يدل على أن لا شيء في العدم، ولا ذات في الأزل شيء كثير، وهو المبين للأمة ما اختلفوا فيه، فمن ذلك قوله عليه السلام : (الحمد لله الأول قبل كل أول، والآخر بعد كل آخر) وقوله: (هو الأول لم يزل، والباقي بلا أجل) وقوله: (لم يخلق الأشياء من أصول أزلية، ولا من أوائل أبدية) وقوله عليه السلام : (وإن الله سبحانه يعود بعد فناء الدنياء وحده لا شيء معه كما كان قبل ابتدائها، كذلك يكون بعد فنائها بلا وقت ولا مكان، ولا حين ولازمان، عدمت عند ذلك الآجال والأوقات، وزالت السنون والساعات، فلا شيء إلا الله الواحد القهار) وقوله: (أنشأ الخلق إنشاء، وابتدأه ابتداء) وقوله: (الحمد لله الدال على وجوده بخلقه، وبمحدث خلقه على أزليته) وقوله: (عالم إذ لامعلوم، ورب إذ لامربوب، وقادر إذ لامقدور). روى هذا كله في نهج البلاغة.
وقال عليه السلام : (الذي الحدث يلحقة فالأزل يباينه) رواه السيد حميدان، وقال عليه السلام : (الحمد لله الذي لامن شيء كان، ولا من شيء خلق ماكون)، رواه أبو طالب، وقال عليه السلام : (بل هو الواصف لنفسه، والملهم لربوبيته، والمظهر لآياته إذ كان ولاشيء كائن) رواه السيد حميدان، وكلامه عليه السلام قد تضمن إبطال جميع شبة الخصوم، فتأمله تعرف.
ألا ترى إلى ما تضمنه من إبطال قولهم إنه لايصح تعلق القدرة والعلم بالمعدوم عدماً محضاً، وقولهم: إنه لايصح إعادة الأجزاء الفانية إلا إذا كانت ذواتها ثابتة، وبالجملة إن كلامه عليه السلام حجة قاطعة في صحة ما ذهب إليه الأئمة، وإبطال قول من خالفهم.
وأما قول أبي القاسم، فقال الإمام عز الدين: لافرق بينه وبين قول من نفى الذوات في حال العدم؛ لأن مراده أن المعدوم شيء من جهة اللغة، ولاخلاف في ذلك، ولم يرد أنه ذات يصح العلم به على انفراده.
فائدة
قال الإمام عز الدين: ذهب جمهور المثبتين للذوات في العدم إلى أن الصفات الذاتية تثبت لها في حال عدمها، وقال أبو اسحاق بن عياش: مع اعترافه بأنها أشياء وذوات، لا تستحق في حال عدمها شيئاً من الصفات.
فائدة [في ذكر ما يجوز إطلاق شيءٍ عليه]
فيما يجوز إطلاقه على الشيء في حال عدمه عند القائلين بأن المعدوم شيء، فمن ذلك جوهر، ولون، وطعم، ورائحة، وتأليف، وكون، وغير ذلك من أسماء الأجناس التي لا تدل على الوجود، وإنما تفيد إبانة نوع من نوع، فإن قولنا جوهر لا يفيد إلا أنه شيء متحيز عند الوجود، ولون لايفيد إلا أنه شيء يكون هيئة لمحله عند وجوده، وكون لايفيد إلا أنه شيء يوجب كون محله في جهة عند وجوده، وكذلك سائرها، فأما ماكان يدل على الوجود، فإنه لايجوز إجراؤه، سواء دل عليه لفظاً ومعنى كموجود، أو معنى فقط كمحدث، وقديم، وباق، ومعاد، فإن هذه تفيد الوجود مع وجه زائد، فمحدث يفيد الوجود بعد عدم، وقديم يفيده في الأزل، وباق يفيد استمرار الوجود وقتين فصاعداً، ومعاد يفيد حصول الوجود بعد عدمٍِ تقدمه وجودٌ، وهكذا قولنا في التأليف إلتزاق ومماسة، وخشونة، ولين، وفي الشهوة جوع، وعطش، وعشق، فإن هذه تفيد الوجود على وجه، فلا يجوز إجراؤها على الشيء في حال عدمه، وكقولنا: قدرة على الكون فإن تعلقها بالكون يفيد وجودها إذ لا تتعلق به إلا بعد الوجود، وقد ذهب أبو الحسين الخياط إلى أن المعدوم يجوز تسميته جنساً، وعند قوم أنه يوصف في حال عدمه بأنه جسم وجرم، وبالمجيء، والذهاب، والأكل، والشرب.
قال الإمام عزالدين: وهذا إفراط في إثبات الذوات في العدم، وغلو جاوز الحد، وأعظم من ذلك تجويز بعضهم رجلاً راكباً على فرس في العدم.
قال عليه السلام : فأما أبو القاسم فقد ذهب إلى أنه لا يسمى في حال العدم جوهراً ولا عرضاً، بل يسمى شيئاً، ومعلوماً مخبراً عنه، ومقدوراً، ونحو ذلك، قال عليه السلام : وكلامه أرجح وأوضح. والله أعلم.
المسألة الخامسة [احتجاج جهم بهذه الآية]
احتج جهم بهذه الآية على أن الله تعالى لا يسمى شيئاً؛ لأنها تدل على أن كل شيء مقدور له تعالى، وذاته تعالى ليست من جنس المقدورات، فوجب أن لايكون شيئاً.
واعلم: أن هذه المسألة فيها خلاف من أربع جهات في جواز إطلاق هذا اللفظ على الباري تعالى، فمنعه جهم والباطنية، وأجازه الجمهور.
الجهة الثانية: اختلف في جواز إطلاقه على غير الباري تعالى، فمنعه الشيخ أبو محمد الناشي من العدلية، وقال لايسمى شيئاً إلا الله تعالى، وأما غيره فيسمى مشيئاً بصيغة اسم المفعول وأجازه الأكثر.
الجهة الثالثة: اختلف من أجاز إطلاقه على الباري تعالى في تقييده، وإطلاقه، فقال القاسم، والهادي: لا يجري عليه تعالى إلا مع تقييده بما يفيد المدح.
قال القاسم: إني إذا سميته شيئاً ذكرته بكلام آخر أصله به فيكون مديحاً كقولنا شيء واحد كريم، والله شيء واحد عزيز، والله شيء لا كالأشياء.
وقال الهادي في جواب السؤال عن الله أهو شيء، فقال: نقول إن ربنا جل وتقدس إلهنا شيء لا كالأشياء، وظاهر كلام الأكثر أنه يجوزمن غير قيد، كما تفيده عبارة الإمام المهدي في القلائد وشرحها.
الجهة الرابعة: اختلف المجوزون في دليل الجواز هل عقلي أم سمعي، فقال أبو هاشم، وهو ظاهر كلام الإمام المهدي: دليله العقل، والسمع، وهو المأخوذ من كلام القاسم والهادي، وقال أبو علي، وأبو عبد الله البصري: بل السمع فقط، وفائدة الخلاف أن دليله إذا كان عقلياً فلا يحتاج إلى الإذن في تسمية الباري تعالى، بخلاف ما إذا كان سمعياً، وإذ قد أتينا على ما يتعلق بالمسألة من الخلاف فلنأخذ في الاحتجاج على ترتيب ذكر الخلاف، فنقول: احتج جهم ومن وافقه بالعقل والسمع، أما العقل فلأن لفظ شيء لا يفيد المدح، وقد مر أنه لايجري عليه تعالى من الأسماء إلا ما تضمن مدحاً، وإنما لم يفد هذا اللفظ مدحاً؛ لأنه لفظ مشترك بين الشيء الحقير كالذرة، وبين أعظم الأشياء، وإذاكان كذلك كان مفهومه حاصل في أحسن الأشياء وأحقرها.
ألا ترى أنه يقال الكلب شيء، والحمار شيء، والإنسان شيء، فأين فائدة المدح والحال هذه.
وجه آخر: وهو أنه قد ثبت إطلاقه على المحدثات، وإذا كان كذلك لزم من إطلاقها على الباري تعالى التشبيه، وأما السمع فآيات منها هذه الآية التي نحن بصددها، وقد مر وجه الاحتجاج بها.
والجواب: أنه قد ثبت أن كل اسم يفيد معنى على الحقيقة وحصل ذلك المعنى في حق الله فإنه يجوز إجراؤه عليه تعالى، وهذا الاسم قد دل على معنى وهو ما يصح العلم به والإخبار عنه، وهذا المعنى حاصل في حق الله تعالى، ولا مانع منه، فوجب أن يصح إجراؤه عليه، وأما تعليلهم لمنعه بعدم إفادة المدح، فنقول: الدليل العقلي لم يشترط في صحة الإطلاق فيما حصل فيه المعنى إلا عدم المانع، على أنا لا نسلم خلوه من المدح والحال هذه، سيما على القول بأنه لا يطلق على المعدوم.
ألا ترى أنه إذا أريد المبالغة في تحقير شخص أو نحوه، أو الإستهانة به، قيل: هو لا شيء، أو هو سواء والعدم، وهذا يدل على أن وصف الشيء بما يدل على كونه موجوداً معلوماً، وكونه مما يصح الإخبار عنه يفيد مدحاً ما، سلمنا، فلانسلم أن عدم إفادته المدح يمنعه مطلقاً، بل إذا لم يقيد بما يفيد المدح، وقد عرفت أن وجوب تقييده بذلك مذهب بعض الأئمة على أن لقائل أن يقول: إن جميع أسماء الله وصفاته مقيدة في المعنى، فإن وصفه بقادر، وعالم مقيد في المعنى بأنه قادر لا كالقادرين، وعالم لا كالعالمين، فكذلك هذا نقول هو مقيد في المعنى بما يفيد المدح، وعنده يرتفع الإشكال، وأما قولهم إنه يلزم التشبيه، فباطل؛ لأن التشبيه لا يحصل بمجرد التسمية، فإنا لو سمينا شخصاً ناراً لم يوهم أنه مثل النار، وقد أطال القاسم بن إبراهيم عليه السلام الاحتجاج على أن إطلاق هذا الاسم على الباري تعالى لايلزم منه تشبيه.
وحاصل كلامه عليه السلام أنه إنما قيل هذا شيء، وهذا شيء لإثبات الأشياء بأنها موجودة وليست بمعدومة، والاشتراك في صفة الوجود لا يستلزم التشبيه ولا المماثلة، فكذلك ما هو في معناها، ولأنه يقال للذرة شيء، وللفيل شيء ولا يلزم من إطلاقه عليهما المشابهة بينهما، فكذلك إذا أطلقناه على الباري تعالى لايلزم منه تشبيه؛ إذ المراد منه إثباته موجوداً جل وعلا، وليس التماثل إلا في اللفظ لا في المسميات.
قال الإمام المهدي: على أنه لا خلل في التشبيه إلا حيث يوجب التماثل الذاتى لا العرضي، فإنما الممنوع تشبيه ذاته بذوات المحدثات في الماهية لا في العوارض التي ليست لازمة للذات، فإن المعلوم أنا قد شاركناه في كوننا أحياء قادرين موجودين لا تردد في ذلك، وإذا صحت الشركة المعنوية فاللفظية فرع عليها، فلا حرج في ذلك.
قلت: كلامه عليه السلام يوهم أن قادرية الباري تعالى، ونحوها ليست لازمة للذات، ويوهم أن صفاته تعالى الذاتية كالقادرية، والعالمية معنوية، وأنا نشاركه في ذلك، وكل ذلك غير صحيح فإنه تعالى لا مشاركة بينه وبين خلقه لا في الذات، ولا في الصفات، وليست صفاته تعالى معنوية، بل هي إما نفس الذات، أو استحقها للذات، وقد نص الإمام عليه السلام على هذا الأخير، والحاصل أنه لاشركة بيننا وبينه إلا في اللفظ، فإنه يطلق عليه، وعلينا لفظ قادر ونحوه، لكنه في حقه تعالى مقيد كما مر.
هذا، وأما احتجاجهم بالآية فجوابه:
أنها مخصوصة بضرورة العقل كمامر، وبالمخصص اللفظي، وهو قوله: قدير على رأي.
قالوا: التخصيص خلاف الأصل.
قلنا: يجوز العدول عن الأصل لدليل، وقد قام الدليل على جواز التخصيص.
قالوا:الأصل في التخصيص أن أهل العرف يقيمون الأكثر مقام الكل، وذلك إنما يجوز في الصورة التي يكون الخارج حقيراً قليلاً بحيث يجعل وجوده كعدمه، ويحكم على الباقي بحكم الكل، ولا شك أن أعظم الأشياء قدراً هو الله تعالى، فلا يجوز أن يقال أنه تعالى مخصص من هذه الآية، وإذا ثبت أنه غير مخصص منها وجب أنه لا يطلق عليه لفظ شيء.
قلنا: لا نسلم أن إقامة الأكثر مقام الكل لا يكون إلا فيما إذا كان الخارج حقيراً، بل هو فيما كان الباقي من أفراد العموم أكثر من الخارج من غير نظر إلى عظمة الخارج ولا إلى حقارته؛ لأن اللفظ بالنسبة إلى العظيم، والحقير على سواء، على أنا لانسلم أن الأصل في التخصيص ما ذكرتم من إقامة الأكثر مقام الكل كما هو مقرر في موضعه، ولهذا أجاز بعضهم التخصيص إلى أن لا يبقى إلا واحد.
احتج الأكثر على جواز إطلاقه على الباري تعالى من جهة العقل بما مر من أنه اسم يفيد معنى على الحقيقة، ولا مانع منه، فيجب أن يجوز إجراءه عليه تعالى، واستدلوا من السمع بآيات منها قوله تعالى: {كُلُّ شَيْءٍ هَالِكٌ إِلاَّ وَجْهَهُ}[القصص:88] والمراد بوجهه ذاته، فلو لم يكن شيئاً لم يصح الاستثناء، ومن السنة ما رواه الرازي، عن عمران بن الحصين، عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم : ((كان الله ولم يكن شيء غيره)) وروى الرازي أيضاً، عن عائشة أنها سمعت رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يقول: ((ما من شيء أغير من الله عز وجل))
احتج الناشي: بأن الشيء إنما وضع لما لم يؤثر فيه غيره، وليس كذلك إلا الباري تعالى.
والجواب: أنه واهم في ذلك، بل الشيء هو ما ذكرناه عن أهل اللغة، ولنا على إبطال قوله من الأدلة السمعية هذه الآية وغيرها مما لا يحصى كثرة، بل إطلاقه على غير الباري تعالى في حكم المعلوم ضرورة من أهل اللغة.
واعلم: أن الناشي قد جعل الموجود، والقادر، ونحوهما في حكم الشيء في أنها لا تطلق إلا على الباري للعلة المذكورة.
والجواب الجواب، احتج القاسم، والهادي بأنه قد ثبت بالإجماع أنه لا يطلق على الباري تعالى إلا ما أفاد المدح، وهذا الاسم إن لم يقيد بما ذكر لم يفد مدحاً، فلا يجوز إطلاقه، وأجيب بأنا لانسلم أنه لايطلق عليه إلا ما أفاد مدحاً، بل المعتبر في الحقيقي صحة المعنى وعدم المانع، سواء أفاد مدحاً أم لا، وكيف يصح الإجماع مع خلاف الموفق بالله، والإمام المهدي، وغيرهما، فإن ظاهر كلامهما عدم اشتراطه، فلو كان ثمة إجماع لما خالفوه، سلمنا فهو مقيد في المعنى كمامر.
احتج من لايشترط التقييد بأنه يفيد معنى، وهو كونه تعالى معلوماً، فو جب تسميته بذلك من غير قيد لما مر من أن الاسم إذاكان حقيقة في معنى وذلك المعنى يصح على الله تعالى فإنه يجوز إطلاقه من غير قيد، وأيضاً ورد السمع به بدون تقييد نحو ما مر، ونحو قوله تعالى: {قُلْ أَيُّ شَيْءٍ أَكْبَرُ شَهَادَةً قُلِ اللَّهُ}[الأنعام:19] وقوله: {وَاللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ}[البقرة:282] وهو عالم بذاته قطعاً، فكان داخلاً في عموم الآية.
وأجيب بأنه قد قام الدليل على أنه لا يطلق عليه إلا ما تضمن مدحاً ولفظ شيءٍ مطلقاً لا يفيد المدح، وإفادة كونه معلوماً لا يكفي في جواز الإطلاق؛ إذ ليس المصحح للإطلاق في الأسماء دلالتها على كون المسمى معلوماً، وإلا لجاز إجراء اللقب عليه لأنه يفيد كون مسماه معلوماً، وهو ممنوع إجماعاً، ولا وجه لمنعه إلا أنه لا يتضمن مدحاً، وأما عدم التقييد في الآيتين فلأن لفظ الشيء فيهما عام للأشياء المتشابهة، والشيء الذي لا كالأشياء، وكل لفظ عام لماهو مقيد في المعنى وما هو غير مقيد إذا أتي به وأريد به العموم، فإنه لا يمكن ذكر القيد وإن كان مقصوداً، لكنا نقول: هو مقيد في المعنى، وإذا كان مقيداً في المعنى بطل احتجاجكم به على جواز الإطلاق.
قالوا: قد ثبت أن صحة المعنى وعدم المانع كافٍ في صحة الإطلاق فيما هو حقيقة، وقد مر حجتهم على ذلك في البسملة، وأما الإلزام بإجراء اللقب، فوهم؛ لأنه لا يدل على معنى في المسمى، وإنما هو علامة للذات، ومن حيث هو لابإزاء معنى فيها، ونحن نشترط في الإطلاق أن يدل الاسم على معنى في الباري تعالى كقادر وعالم بأن يطلق عليه لأجل ذلك المعنى الذي فيه، والمعلوم أن وضع الألقاب ليس لأجل معنى في المسميات، وإنما وضعت لتمييز الأشخاص وتعيينها.
وأما قولكم: إن الآيتين مقيدتان في المعنى، فدعوى مجردة، ثم إنه إذا جاز التقييد فيهما بالمعنى فهلا يجوز في اللفظ المفرد، بل هو في التحقيق، وجميع صفات الله تعالى مقيدة في المعنى كما مر، ولم أوجبتم التقييد في اللفظ هنا ولم تو جبوه في قادر ونحوه، مع أنه يلزم من إطلاقها من الإيهام والتشبيه ما يلزم من إطلاق لفظ شيء، بل أعظم لتبادر المعاني منها، وأيضاً هي مع عدم القيد لا تفيد مدحاً يليق بجلال الله عز وجل إلا مع اعتبار تقييدها في المعنى فما الفرق.
احتج القائلون بأن جواز إطلاقه عقلي بما مر من أنه يفيد معنى، وهؤلاء قالوا: العقل بمجرده كافٍ في جواز ذلك كما في غيره من الحقائق، وورود السمع به إنما هو للتأكيد.
احتج القائلون بأن دليله سمعي فقط بأنه كاللقب لم يفد معنى ولا صفة، وما كان كذلك لم يجز إطلاقه إلا بإذن سمعي، وقد ورد، وهو ما مر، وأجيب بأنه جار مجرى المفيد.
قال الإمام عز الدين: هو يشبه المفيد، ويفارق اللقب من وجه، ويفارق المفيد من وجه.
أما الأول: فمن حيث أنه لا يجوز تغييره مع بقاء اللغة بحالها الأول بحيث أنه لو استعمل فيما لايصح العلم به والخبر عنه لكان في ذلك تغييراً للغة،وهذا حال المفيد،واللقب يجوز تغييرٌ، واللغة لم تتغير فيصح تسمية زيد بعمرو ولا يكون في ذلك تغييرٌ للغة.
وأما الثاني: فمن حيث أنه لايقع به إبانة نوع من نوع.
قلت: يعني أنه لا يفيد أمراً ثبو تياً يقع به التمييز بين الأنواع، ولذا جاز إطلاقه على الأشياء المختلفة كالإنسان، والفرس فإنه يقال لهذا شيء، ولهذا شيء.
قال الموفق بالله عليه السلام : ولا يختلف أصحابنا أنه لا يفيد إثباتاً؛ لأنه لا يميز نوعاً من نوع، ولا جنساً من جنس، ولا قبيلاً من قبيل، ونص في الإحاطة أيضاً على أن المفيد هو الذي يحصل به التمييز المذكور، وقد ذكرنا كلامه في البسملة، ثم قال: وما يفيد هو المستعمل، وذلك مثل قولنا: قادر، وعالم.
قال: ومنه ما لا يفيد، كقولنا: زيد، وعمرو فإنه لا إفادة له صحيحة، وإنما وضعت عند الغيبة لتنوب مناب الإشارة عند الحضور، وكذلك قولنا شيء لأنه لا يميز نوعاً من نوع، ولا جنساً من جنس، ولا قبيلاً من قبيل، وفي النفي يفيد ذلك كقولنا: مارأيت شيئاً؛ لأنه يفيد أنه ما رأى شيئاً ما على وجه ما، وإذا قال: رأيت شيئاً لم يفد لأنه لم يفهم به ما رآه إذالم يحصل تمييز جنس، ولا نوع، ولا قبيل، وممن قال: إنه إنما يشبه المفيد القرشي، وحاصل كلامهم: أن المفيد هو ما تميز به جنس، أو نوع، أو قبيل، والظاهر أن المراد بالقبيل الذات أي ما يميز ذاتاً عن ذات من حيث الوضع، كقولنا: جوهر لما يشغل الحيز، وعرض لما لا يشغله، ولما كان لفظ شيء لا يميز به شيء مما ذكرنا لم يجعلوه مفيداً، وإنما جعلوه جارياً مجرى المفيد من حيث أنه يدل على كون المسمى به معلوماً من حيث الوضع، وهذا بخلاف اللقب فإنه وإن كان المسمى به معلوماً فليس من حيث الوضع،ولذا يجوز تغييره وتسميته بغيره، ولا يمكن في لفظ شيء التغيير بحيث يكون زيدٌ معلوماً لا يصح أن يطلق عليه هذا اللفظ، فتنبه لهذا الفرق، وبه تعلم أن إطلاق القول بأنه مفيد لمعنى ليس إلا تجوزاً، وإنما هو جار مجرى المفيد.
واعلم: أنا قد أشرنا إلى تقسيم الأسماء في مباحث البسملة، وجعلناها تسعة أقسام من حيث هي، ووعدنا بالتنبيه على ما يجوز إجراؤه على الله منها عند عروض مايطلق عليه تعالى من الأسماء، وهذا الاسم -أعني لفظ شيء- هو من القسم الرابع.
فائدة
قد عرفت مما مر أن معنى كونه تعالى شيئاً كونه معلوماً على انفراده، وهذا عند من يطلق الشيء على المعدوم والموجود، وأما من يخصه بالموجود، فمعناه عنده أنه موجود كما مر عن القاسم.
وقال الهادي عليه السلام : نريد بقولنا شيء إثبات الموجود، ونفي العدم المفقود؛ لأن الإثبات أن تقول شيء والعدم أن لا تثبت شيئاً؛ لأن من أثبت شيئاً فقد أثبت صانعاً مدبراً، ومن لم يثبت شيئاً كان في أمره ذلك متحيراً، ودخل عليه ضد الإقرار وهو النفي، والشك، والإنكار، وفي كلامه عليه السلام رد لما حكاه الموفق بالله من أنه لايفيد إثباتاً؛ لأنه عليه السلام قد جعل معناه الإثبات، غايته أن لا يحصل به تمييز المثبت إلا مع قرينة تمييزه كقرينة المدح في حق الباري تعالى. والله أعلم.
المسألة السادسة [في قدرة العبد]
قال الرازي: احتج أصحابنا بهذه الآية على أن مقدور العبد مقدور لله تعالى خلافاً لأبي علي، وأبي هاشم، ووجه الاستدلال بها أن فعل العبد شيء، والآية عامة لكل شيء، فو جب بحكم العموم دخوله، وهذه هي مسألة مقدور بين قادرين، وبين المتكلمين فيها نزاع شديد، فقال أكثر المعتزلة: مقدور بين قادرين محال، فلا تتعلق قدرة قادر بنفس ما تعلقت به قدرة قادر آخر، بل إنما تعلق بجنسه، وسواء في ذلك القادر بقدرة والقادر للذات، فلا يقدر الباري تعالى على نفس ما قدر عليه العبد فيكون ذلك الفعل من الله تعالى ومن العبد، بل إنما يقدر على جنسه فقط، وبه قال بعض متأخري الزيدية، وبعض أئمة العترة، منهم الإمام المهدي وغيره.
وقال الإمام يحيى، والإمام القاسم بن محمد، وأبو الحسين، ومن تابعهم من العدلية: بل يصح وليس بمحال. ورواه في القلائد عن النجارية، والكلابية.
قال النجري: بل هو قول أكثر المجبرة، وهو ظاهر حكاية الرازي هنا.
قال في الأساس: ومقدور بين قادرين متفقين ممكن، وقال الإمام المهدي: أما الأشعرية فالظاهر من قول الرازي وغيره مثل قولنا حيث منعوا مخلوقاً لخالقين، واستدلوا بمثل دليل منع مقدور بين قادرين.
احتج الأولون بحجج:
الحجة الأولى: أنه لو صح مقدور بين قادرين لصح أن يريده أحدهما ويكرهه الآخر؛ لأنا نعلم ضرورة أنه يصح من القادرين منا أن يريد أحدهما ما يكرهه الآخر، فلو كان لهما مقدور واحد فكره أحدهما وجوده لزم عدمه، وإلا لم يكن قادراً عليه؛ إذ القادر من وقف وجود الفعل وعدمه على اختياره، وإذا أراده الآخر عند كراهة صاحبه لزم وجوده، وإلا لم يكن قادراً عليه، وإذا لزم وجوده وعدمه كان موجوداً معدوماً في حالة واحدة، وهو محال، فما أدى إلى تجويزه وهو مقدور بين قادرين يجب أن يكون محالاً، وهذا الدليل يحتاج في تقريره إلى بيان خمسة أصول:
الأول: أن من حق القادر على الشيء وجوب وجود مقدوره عند محاولة إيجاده وزوال المانع، وهذا معلوم ضرورة؛ إذ القادر إذا حاول الإيجاد ولا مانع حصل مقدوره ضرورة، وإذا لم يحصل علمنا ضرورة أنه غير قادر عليه، وكذلك إذا كرهه وانصرف عنه استحال وجوده ضرورة؛ لأنا كما نعلم ضرورة أنا إذا أردنا وجوده وجد، فإنا نعلم ضرورة أنه لايوجد حيث كرهناه وانصرفنا لا فرق بينهما.
الأصل الثاني: أن من حق كل قادرين صحة اختلاف مراديهما.
الثالث: أن ذلك يستلزم إذا كان لهما مقدور واحد أن يجب وجوده عند محاولة أحدهما، وانتفاؤه عند كراهة الآخر، فإذا اتفق منهما وقوع الكراهة والإرادة في حالة واحدة لزم أن يكون في تلك الحال موجوداً معدوماً.
الرابع: أن كون الشيء موجوداً معدوماً في حالة واحدة محال، وهذه الثلاثة الأصول معلومة بالضرورة، إلا أن بعضها بديهي، وبعضها تحتاج إلى مراجعة النفس بأدنى تأمل.
الأصل الخامس: أن ذلك يقتضي إحالة مقدور بين قارين، فدليله أن تصحيحه يقدح فيما علم بالضرورة وهي الأصول المتقدمة، وما قدح في الضروري وجب القطع بنفيه.
فإن قيل: أتقولون أن مخالفكم جاحد للضرورة؟
قيل: لانقول ذلك لأن الأصل الخامس ليس بضروري، بل استدلالي كما بينا، وما اعترض به بعضهم على هذه الحجة من أن المحال وجود الشيء وعدمه بالنظر إلى ذاته، وأما بالنظر إلى الغير فالإستحالة بأن يوجد من جهة ما أراده، ويعدم من جهة ما كرهه كما أن ما يوجده زيد غير ما يوجده عمرو، فمدفوع بأن المسألة مفروضة في فعل واحد تعلقت به الإرادة والكراهه في وقت واحد، وهذا لا شك في استحالته.
الحجة الثانية:أنه لوصح ذلك لصح أن تتفق إرادتهما على إيجاده في حالة واحدة ضرورة، فإذا كان إيجاده فإما أن يؤثر في إيجاده قادريتاهما معاً، وهو باطل؛ لأنهما إن أثرا في وجود واحد لزم أن يكون وجود الذات الواحدة متبعضاً فيكون لها نصف وجود وثلث وجود، وذلك باطل اتفاقاً بيننا وبين الخصم بالضرورة، سواء قلنا الوجود زائد على الذات، أم هو نفس الموجود، ثم إنا لو سلمنا تبعضه فقد حصل غرضنا، وهو أنه لا مقدور بين قادرين إذ البعضان متغايران، وإن أثرتا في وجودين لزم أن يتعدد الوجود للذات الواحدة، والخصم يمنع ذلك؛ لأنه جعل الوجود ما هية الموجود، ومن المحال أن تكون للماهية الواحدة ماهيات متعددة، ثم إنا لو سلمنا تأثيرهما في وجودين فقط حصل المطلوب، وإما أن لا يؤثر في إيجاده فهو باطل؛ لأنه يؤدي إلى خروجه عن كو نه مقدوراً لهما وهو خلاف الفرض، وإما أن تؤثر فيه إحداهما فقط، فباطل أيضاً لتأديته إلى كون الذي لم تؤثر فيه قادريته غير قادر، وإذا بطلت هذه الأقسام لزم بطلان صحة مقدور بين قادرين؛ لأنه إذا علم ضرورة أنه إذا صح استحال خلوه من تلك الأقسام، وقد علم ضرورة استحالة ثبوتها له ثبت بالضرورة لزوم بطلان ذلك المقدر صحته وهو مقدور بين قادرين؛ لأن ما أدى إلى باطل فهو باطل.
الحجة الثالثة: أنه لوجاز لجاز معلول لعلتين أو أكثر، وذلك يفتح باب جهالات كثيرة، والجامع بين المقدور والمعلول حاجة كل واحد منهما إلى المؤثر؛ لأن الحكم وهو استحالة تعلق المعلول بغير ما أوجبه ثبت بثبوت تأثير علته فيه، وانتفى بانتفائه، ولا طريق إلى العلة سوى ذلك، فقطعنا أنه لا علة له غير التي أوجبته.
الحجة الرابعة: أنه لو صح ذلك لصح أن يريد أحدهما وجوده في محل، ويريد الآخر وجوده في محل آخر، فإن وجد مرادهما معاً لزم حلول الذات الواحدة في محلين، وهو محال، وإما أن لايوجد مرادهما معاً لزم خروجهما عن كونهما قادرين، وإما أن يوجد مراد أحدهما فقط فمن وجد مراده فذلك المراد مقدور له دون الآخر فلم يكن مقدوراً لهما، وبهذا يعلم بطلان مقدور بين قادرين، وهذه الحجة مبنية على أن الحلول بالفاعل.
احتج أهل القول الثاني بحجج:
الأولى: أن مقدور العبد ممكن، والباري تعالى قادر على كل ممكن فيجب أن يكون قادراً عليه، ويتأيد هذا الدليل بعموم الآية، وأجيب بأنا لا نسلم أنه ممكن إلا من جهة من تعلقت به قادريته ويستحيل من غيره، والآية مخصوصة.
الحجة الثانية: قالوا: لوحرك قادران جوهراً فإما أن يوجدا فيه حركتين، أوحركة واحدة.
الأول: باطل لاستحالة اجتماع المثلين، سلمنا فلا وجه لاختصاص أحدهما بإحدى الحركتين دون الأخرى، وحينئذ يجب أن يقال كل واحدة منهما مستندة إلى كل واحد من القادرين، ففيه غرضنا لأن كل واحدة منهما مقدورة لقادرين.
والثاني: وهو أن يو جد فيه حركة واحدة لاتخلو إما أن تستند إلى أحدهما، وهو باطل؛ إذ لا اختصاص له بإيجادها، وإما أن لا تستند إلى أيهما، وهوباطل أيضاً لأنها تكون فعلاً لا فاعل له، فتعين أن تكون مستندة إليهما معاً، وهو المطلوب، وأجيب بأن المثلين يصح اجتماعهما في المحل الواحد، وعلى هذا فيقال: هما يوجدان حركتين كل واحدة منهما مختصة بقدرة معينة، فلا يلزم ما ذكروه.
الحجة الثالثة: قالوا لو لم يقدر الباري تعالى على عين مقدورنا لكان نقصاً في قادريته، كما لو لم يعلم عين معلومنا، وأجيب بالفرق، وهو أن تعلق القدرتين بمقدور واحد محال لما مر، وتعذر المحال ليس نقصاً في حق القادر كتعذر الجمع بين الضدين، بخلاف العالميتين فلا إحاله لتعلقها بمعلوم واحد.
الحجة الرابعة: أن منع ذلك يؤدي إلى تناهي مقدورات الباري تعالى، وأجيب بأنه لا يؤدي إلى ذلك مع القول بأنه يقدر على ما لا يتناهى من كل جنس.
الحجة الخامسة: قالوا: يلزم أن يقدر أحدنا على تحريك جسم لطيف وحال تحريكه لايقدر الباري جل وعلا على تحريكه، وأجيب بأنا لا ننفي تعلق القدرة به على كل حال، فنقول: هو يقدر على تحريكه حركة غير الحركة الذي أو جدها الواحد منا.
الحجة السادسة: أن تحريك الجماعة نحو الخشبة حركة واحدة في وقت واحد، وكسرهم نحو العود كسراً واحداً كذلك لا ينكره عاقل، وذلك دليل واضح على ما ذهبنا إليه؛ لأن الفعل وهو التحريك، والكسر فعل واحد، ومقدور واحد، وقد اشترك فيه جماعة علم ذلك ضرورة.
فإن قالوا: قدرة كل واحد تعلقت بغير ما تعلقت به قدرة الآخر، وإن لم يتميز مقدور كل منهم فكل واحد له مقدور.
قلنا: هذا باطل، بل تعلقت قدرة كل واحد بنفس ما تعلقت به قدرة الآخر وهو تحريك الخشبة، وكسر العود؛ لأنه المقدور الذي حصل بمجموع فعلهم، والتحريك، والكسر شيء واحد لا يتبعض، ولا يتجزأ، وهو مقدور واحد بين قادرين، ولا يلزم من اجتماع القدر، وضم بعضها إلى بعض تعدد المقدور إذ لا ملازمة بينهما وذلك واضح.
وأجيب بأنه لو اتحد المتعلق للزم تبعض الوجود أو تعدده للذات الواحدة، وهو باطل كما مر، فما أدى إليه يجب أن يكون باطلاً.
قال ابن لقمان: واعلم أن ثمرة الخلاف هي أنه هل يقدر الله تعالى على أعيان أفعال العباد أم لايقدر إلا على أجناسها، فمن قال يجوز مقدور بين قادرين، قال بأن الله تعالى يقدر على أعيان أفعال العباد، وأنه يجوز أن تكون حركة المتحرك وسكون الساكن من الله ومن العبد، ولا مانع من ذلك إلا أن ذلك لم يقع؛ لأن أفعال العباد منهم، ولا يلزم من عدم الوقوع عدم الجواز، ومن قال لا يجوز مقدور بين قادرين قال لا يجوز ذلك، ولا يقدر الله تعالى إلا على أجناس أفعال العباد لا على أعيانها.
قلت: وقد نبهنا على هذه الثمرة في أول المسألة، وإنما ذكرنا ماهنا لزيادة الإيضاح، والتحقيق لمحل الخلاف وفائدته. والله الموفق.
المسألة السابعة [استطراد في ذكر القدرة]
قال الرازي: احتج أصحابنا بهذه الآية على أن المحدث حال حدوثه مقدور لله تعالى خلافاً للمعتزلة، ثم قال وبيان استدلال الأصحاب أن المحدث حال وجوده شيء، وكل شيء مقدور، وهذا الدليل يقتضي كون الباقي مقدوراً ترك العمل به فيه، فيبقى معمولاً به في محل النزاع لأنه حال البقاء مقدور على معنى أنه قادر على إعدامه، وأما حال الحدوث فيستحيل أن يقدر الله على إعدامه لاستحالة أن يصير معدوماً في أول زمان وجوده، فلم يبق إلا أن يكون قادراً على إيجاده.
قلت: حاصل كلامه أن عموم الآية يقتضي أنه قادر على إيجاد المحدث حال إحداثه، وإعدامه في تلك الحال، خصصنا الإعدام بالعقل لاستحالته، فيبقى محل النزاع وهو تعلقها به حال الحدوث للإيجاد داخلاً تحت العموم، وأما قدرته عليه حال البقاء فليس من محل النزاع لأن القدرة لا تتعلق به للإيجاد لاستحالة إيجاد الموجود، فلم يبق إلا تعلقها به للإعدام ونحوه.
واعلم: أن ما ذكره عن المعتزلة صحيح فإنهم يقولون أن الفعل يستغني عن القدرة حال حدوثه فلا تتعلق به، ومرادهم بحالة الحدوث أول أوقات الوجود، ولا أعلم بينهم في ذلك خلافاً إلا ماروي عن أبي الهذيل من الخلاف في أفعال القلوب، وأجيب بأنه لا وجه للفرق، واحتجوا على أن حالة الحدوث حالة استغناء بأن قالوا: لو لم يستغن عن القدرة حالة الحدوث لما استغنى حالة البقاء، والمعلوم خلافه، فإذا ثبت استغناؤه حالة البقاء وجب مثل ذلك حالة الحدوث؛ لأن كل حكم يثبت للذات في حالة الحدوث لعلة من العلل ثبت مثله في حالة البقاء لتلك العلة.
ألاترى أن التحيز لما كان واجباً للجوهر في حال الحدوث وجب في حالة البقاء، فصح أنه لو لم يستغن حالة الحدوث لما استغنى حالة البقاء، ولما كان المعلوم استغناؤه عن القدرة حالة البقاء وجب مثله في حالة الحدوث، لما ذكرنا من استوائهما في ثبوت الأحكام، والخصم قد وافقنا في حالة البقاء فيجب أن يوافق في حالة الحدوث، وتكون الآية مخصوصة في هذه الحالة كما هي مخصوصة في حالة البقاء، وأما ما ذكره من أن قدرة الباري تعالى تتعلق بالموجود حال بقائه لإعدامه فهو مذهب قاضي القضاة، ومن اتبعه من أصحابنا فإنهم يقولون أن الباري تعالى قادر على إفنائه وإعادته، فيوصف بأنه قادر عليه، وقال أبو عبد الله: لايوصف بذلك إذ القادرية لاتتعلق به، قال الحاكم: والخلاف لفظي.
المسألة الثامنة [دلالة الآية على قدرة الله]
دلت الآية الكريمة على أن الله تعالى قادر، وأن هذا الصفة ثابتة له، ولا يقال هذه من الاستدلال بالسمع، والاستدلال بالسمع على إثبات الصانع وصفاته الذاتية لا يصح كما مر في المقدمة؛ لأنا نقول: ليس الاستدلال به في هذا ممنوع مطلقاً، بل إن لم يكن مثيراً لدفائن العقول كمامر، وهذه الآية من ذلك القبيل، ألا ترى أن الله سبحانه أتبعها بما يدل على القدرة البالغة بقوله: {الَّذِي خَلَقَكُمْ وَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ...} الآية[البقرة:21]، ولذا قيل: إن هذه الآية -أعني قوله: {الَّذِي خَلَقَكُمْ...} إلخ- من أدلة وجوب النظر.
واعلم: أن هذه المسألة تحتاج إلى تحقيق، وتوضيح الدليل عليها، ورد الشبه الواردة من أهل الإلحاد ونحوهم، ولأجل هذا جعلنا الكلام عليها في أربعة مواضع:
الأول: في حقيقة القادر، والمقدور.
الثاني: في بيان الخلاف في المسألة .
الثالث: في ذكر الدليل على أن الله تعالى قادر، ورد شبه المخالفين، وبيان بطلانها.
الرابع: فيما يلزم المكلف معرفته في المسألة.
[حقيقة القادر والمقدور]
الموضع الأول في حقيقة القادر: فقيل هو من يصح منه الفعل مع سلامة الحال، وهذا الحد ذكره ابن الملاحمي،وهو بناء على ما يذهب إليه هو، و أبو الحسين،واتباعهما من أن صدور الفعل من الفاعل على سبيل الصحة والاختيار يعلم منه ضرورة أنه يقتضي قادريته عليه، وقال المتقدمون من المتكلمين: هو المختص بصفة لكونه عليها يصح منه الفعل مع سلامة الأحوال، فقوله: المختص بصفة جنس الحد، وقوله: لكونه عليها أي لأجل اختصاصه بها، وقوله: يصح منه الفعل فصل يخرج ما تناوله الجنس، والمراد بالصحة ما كان على وجه الاختيار، لا الصحة التي تقابل الاستحالة فإنها لا تدل على القادرية كالمسببات، وقوله: مع سلامة الأحوال يعني ما لم يكن ثم مانع ولا ما يجري مجراه، وقد ورد على هذا الحد أسئلة:
أحدها: أن من حق الحد أن يكون أجلى من المحدود، وإن من علمه علم المحدود، والمعلوم أن نفاة الأحوال يعلمون القادر قادراً وإن لم يعلموا اختصاصه بصفة، وأجيب بأن الحقيقة توضع على اصطلاح واضعها، واعتقاده من دون اعتبار للمخالف، ثم إنا لا نسلم أن نفاة الأحوال يعلمون القادر تفصيلاً، وإنما يعلمونه إجمالاً.
الثاني: أنكم ذكرتم صحة الفعل، والفعل لا يكون فعلاً إلا بعد حصوله، والصحة له متقدمة عليه، فكيف يقال يصح منه الفعل، وبعد حصوله لا صحة إذ قد خرج عن كونه مقدوراً، وأجيب بأن تسميته قبل وجوده فعلاً من باب تسمية الشيء باسم ما يؤول إليه يجوز، وفيه نظر، والأولى أن يقال المراد بالفعل الإيجاد لا الموجد وهو حقيقة فيه.
الثالث: أن فيه إحالة لأنهم ذكروا الفعل في حد القادر، والقادر في حد الفعل، وهذا يؤدي إلى التو قف في فهم معنييهما، وأجيب بأن الفعل قد يراد به الإيجاد وهو الحقيقة، وقد يراد به الموجود وهو مجاز، فالأول معلوم ضرورة لا يحتاج إلى تحديد؛ لأن الوجود على الجملة معلوم ضرورة، وهذا هو المقصود في حد القادر فكأنه قال: هو المختص بصفة لكونه عليها يصح منه الإيجاد، وهذا خلل فيه، وأما الفعل الذي ذكر القادر في حده فالمراد به الموجود لا الوجود؛ لأنه لا يتصف بالوجود إلا الموجود دون الوجود؛ إلا أنه كان ينبغي أن ينصبوا قرينة في حد الفعل تصرف لفظ الفعل إلى معناه المجازي.
فإن قيل: ومن أين لكم أن الفعل قد يطلق ويراد به الإيجاد؟
قيل: الذي دلنا على ذلك أنه لو قال: فعلت هذا وما أوجدته لعد مناقضاً، وكذلك لو قال أوجدته وما فعلته.
الرابع: أنه لم يبين في الحد أن المراد بسلامة الأحوال أن لايكون هناك مانع، ولا ما يجري مجراه، ومن حقه البيان؛ لأن الغرض بالحد إبانة المحدود، وأجيب بأن الحدود مبنية على الاختصار، سيما في مختصرات الكتب وتبيين معانيها، وما تخرجه فصولها موكول إلى الشيخ الحافظ، والكتب البسيطة، وليس الاختصار في الحدود إلا كالاختصار في الكتب التي يتوقف فهم جملة معانيها على الشروح والمشائخ، والمقصود من الحد التقريب.
قال في الغياصة: ومثال المنع أن يريد أحدهما حمل شيء فيعتمد عليه من هو أكبر منه قدراً، فالمنع هو الضد لفعلك، والضد: هو ما فعله الأقوى من السكون، والذي يجري مجرى المانع القيد والحبس فإنهما يمنعان من كثير من الأفعال، وهما جاريان مجرى الضد لكونه يتعذر الفعل معهما كما يتعذر عند حصول الضد.
السؤال الخامس: أنكم قد فسرتم سلامة الحال بأن لايكون مانع، والمنع إنما يكون منعاً في حال حدوث الفعل فإذ كان المنع إنما منع الحدوث، فكيف تحترزون عنه وأنتم لم تذكروا الحدوث في الحد، وإنما ذكرتم الصحة؟
وأجيب بأن المنع حالة الحدوث يكشف أن ذلك المقدور الذي منع مانع من حدوثه لم يكن يصح من القادر قبل إحالة الحدوث، وهذا الجواب مستقيم إن صح أن المنع من الحدوث يكشف عن عدم الصحة، لكن في كلام بعضهم أن ذلك لا يكشف.
السادس: أن المنع لا يكون إلا بكثرة الأضداد وكونها أكثر من مقدورات الممنوع، ولاشك أن مقدورات الله تعالى غير متناهية في الوجود، بل لا شيء منها يفعله إلا وفي مقدوره الزيادة عليه، فلا يتصور في حقه المنع، فلا يكون الحد جامعاً لخروج الباري تعالى عنه.
وأجيب بأن المنع يتصور في حقه تعالى، وذلك بأن تريد قدراً معلوماً من الأفعال، فإن الواحد منا يمكنه المنع بأن يفعل أكثر مما أراد الله تعالى إيجاده من أضداد تلك الأفعال.
قال في الغياصة: وهذا معلوم إلا أن إطلاق العبارة أن الله تعالى ممنوع يوهم الخطأ، وأنه لا يقدر على الزيادة، فلم يجز إطلاقها.
واعلم: أن للقادر حدوداً كثيرةً غير ما ذكرنا ذكرها علماء الكلام، منها ما حكاه الإمام المهدي، عن المتأخر ين وهو أنه المختص بصفة لكونه عليها يصح منه الفعل ما لم يكن ثم مانع، أو ما يجري مجراه، ولم يكن الفعل مستحيلاً في نفسه لوجوده فيما لم يزل، وهو كالأول، إلا أنهم زادوا ولم يكن مستحيلاً لأنه لم يخرج بقولهم ما لم يمنع مانع لما عرفته من تفسير المانع، وما يجري مجراه، ويرد عليه ما ورد على الأول إلا السؤال الرابع ونحوه في الغياصة إلا أنه قال: يصح منه إيجاد مقدوره، ولم يقل يصح منه الفعل ليسلم من السؤال الثاني والثالث، وقيل: هو الذي إن شاء فعل، وإن لم يشأ لم يفعل، وهذا الحد لا يرد عليه شيء مما سبق، ويجري على جميع المذاهب؛ لأن المشيئة تقع من القادر، سواء قلنا إنه إنما كان قادراً لاختصاصه بصفة أم لغير ذلك، وهو إلى الحد الأول أقرب، وفي شرح القلائد لمؤلفها عليه السلام عن ابن الملاحمي أنه قال: هو المتميز تميزاً لأجله يصح منه الفعل مع سلامة الأحوال، وأنه لا يكون مستحيلاً في نفسه، قال: ولا يقال إنه يعلم القادر من لا يعلمه هذا التمييز؛ لأن هذا التمييز معلوم لكل أحد، وإنما الكلام هل التميز بصفة أم بالذات.
قال الإمام المهدي: وهو كحد المتأخرين إلا أنهم فصلوا وهو أجمل، والإجمال مطعون فيه؛ لأن المطلوب فيه تفصيل المحدود.
وأما المقدور فهو ما يصح إيجاده، والمراد بالصحة الامكان أي ما يمكن إيجاده ليخرج المستحيل إيجاده.
قال الإمام المهدي: وإن شئت قلت هو إيجاد الممكن.
قلت: والفرق بين هذا وبين الأول أنه في الأول جعل المقدور الممكن، وفي هذا جعله الإيجاد.
واعلم: أن بعض أصحابنا يتبعون حقيقة القادر والمقدور بحقيقة الفعل والفاعل لما بينهما من التلازم والارتباط، ونحن قد ذكرنا حقيقتهما في الاستعاذة فلا فائدة في التكرار.
قال بعض المحققين: والفرق بين الفاعل والقادر أنا نصف القادر بأنه قادر وإن لم يفعل، ولا نصف الفاعل بأنه فاعل حتى يفعل، ولهذ يتصف القديم تعالى بأنه قادر فيما لم يزل ولا نصفه بأنه فاعل فيما لم يزل لأنه يؤدي إلى قدم المفعول.
[ذكر الخلاف في مسألة القدرة]
الموضع الثاني: في ذكر الخلاف، والخلاف في المسألة من جهتين:
الأولى: في كونه تعالى متصفاً بالقادرية.
والثانية: في كونها صفة زائدة على الذات شاهداً وغائباً أم لا.
أما الجهة الأولى: فذهب أهل الإسلام، وأكثر الفرق الخارجة عنه إلى أن الله تعالى قادر، وقالت الباطنية: لا يوصف بأنه قادر ولا غير قادر؛ لأن وصفه بذلك يقتضي تشبيهه، ونفيه عنه يقتضي تعطيله، وهذا مذهبهم في سائر الصفات، وقال برغوث: لا مزية له بكونه قادراً، وإنما المرجع به إلى أنه ليس بعاجز، و ألزمت المطرفية أن لا يوصف بذلك؛ لأنهم أضافوا التأثيرات إلى الطبائع، وجعلوها موجبة، فسدوا على أنفسهم طريق معرفة كونه تعالى قادراً؛ إذ لا طريق إلى ذلك إلا حدوث هذه الحوادث من جهته، فإذا أضفناها إلى غيره من طبع أو غيره جوزنا في الطبع كذلك، وأنه صادر عن موجب فتنسد الطريق إلى القادرية.
قال الإمام المهدي: وفي هذا الإلزام نظر، فإن لهم أن يقولوا: إنا قد علمنا حدوث الحوادث فلابد من انتهائها إلى فاعل مختار، وإلا لزم قدمها إن كان موجبها قديماً، أو وقوف وجودها على وجود ما لا يتناهى من الواجبات لاستلزامه بطلان وجودها.
قلت: وحاصل كلامه عليه السلام أنه لا يصح الإلزام إلا لو قالوا: العالم كله حاصل بالطبع أصوله وفروعه، وأما على القول بأنه تعالى خلق أصوله، فلا يصح الإلزام؛ لأنهم يقولون أن حدوث الحوادث ينتهي إلىخالق الأصول وهو فاعل مختار، وقالت الفلاسفة الإسلاميون: الرب الذي هو العلة عندهم لا توصف بأنها قادرة ولاغيرها من الصفات؛ لأن وصفها بذلك يقتضي تكثيرها وهي غير متكثرة. هكذا في الغياصة ونحوه، وفي الدرر ولم يقيد الفلاسفة بالإسلاميين، بل أطلق الحكاية عنهم، وأما القرشي فقال: إن الفلاسفة يقولون: إنه قادر، ولكنه موجب لفعله.
وأما الجهة الثانية: فقال في الغياصة: الذي عليه الزيدية، وجمهور المعتزلة وغيرهم أن للقادر بكونه قادراً صفة راجعة إلى جملته، يعني أنها أمر وجودي زائد على الذات كما صرح به النجري، ونسبه إلى الأكثر، وقال برغوث، والنجار: المرجع بها إلى النفي فقط، وهو أنه ليس بعاجز، وقال أبو القاسم: المرجع بكونه قادراً إلى الصحة، واعتدال المزاج، وقال أبو الحسين، وابن الملاحمي: المرجع بها إلى البنية المخصوصة في الشاهد من اللحم، والدم، وما يصحب ذلك من العصب، والرطوبة واليبوسة، وفي الغائب إلى ذات الباري المخصوصة.
قال ابن حابس: هذا هو مذهب جمهور أئمتنا، بل إطباق قدمائهم على ذلك؛ لأن الصفات عندهم هي الذات، وقد غفل الدواري في إطلاق الروا ية عن الزيدية.
قلت: وفي قول ابن حابس أن قول الأئمة كقول أبي الحسين نظر، فإنهم يقولون إن صفات الله تعالى هي الله، وليس ثم أمر زائد، ولا مزية، ولا غيرها، وأبو الحسين لم يوافقهم إلا في صفة الوجودية، وأما غيرها، فقال: هي مزايا لاهي الله، ولا هي غيره كما في الأساس، وحكى النجري عنه، وعن ابن الملاحمي أن القادرية في حق الله ليست صفة وجودية، بل هي مزية وخصوصية للذات على غيرها من الذوات، وهذا كما ترى مخالف لمذهب الأئمة، اللهم إلا أن يكون ابن حابس بنى كلامه هنا على ما ذكره الشرفي من أن أبا الحسين، ومن تبعه لا يثبتون المزية إلا في العالمية، والمدركية فقط، قال: على ما حكاه عنهم الإمام يحيى.
الموضع الثالث: والكلام فيه في فصلين:
الأول: في ذكر الدليل على أن الله تعلى قادر، وإبطال شبه المخالفين.
الثاني: في ذكر أدلة المختلفين في الجهة الثانية.
الفصل الأول: في الدليل على أن الله تعالى قادر، والذي يدل على ذلك أنه تعالى قد صح منه الفعل، وصحة الفعل لاتكون إلا من قادر، أما أنه قد صح منه الفعل فلأنه قد وقع، وقد أوضحنا الدلالة على ذلك حيث دللنا على أن العالم محدث، وأن محدثه هو الله، وذلك مستوفى في الفاتحة في المسائل المتعلقة بالحمد لله رب العالمين، وإذا ثبت وقوعه ثبت صحته؛ إذ لو كان مستحيلاً لما وقع.
فإن قيل: هلا جعلتم دليل القادرية وقوع الفعل، وما منعكم من ذلك حتى جعلتم الدليل هو الصحة؟
قيل: لأن مجرد الوقوع لا يدل على كونه قادراً، ألا ترى أنه لو وقع الفعل على جهة الوجوب لم يدل على القادرية.
فإن قيل: فما تدفعون به قول من قال إن وقوع الفعل وهو العالم كان على جهة الإيجاب، فلا يصح لكم الاستدلال بالوقوع على الصحة.
قيل: ندفعه بما مر من إبطال كون وقوعه على جهة الإيجاب، فارجع إلى فاتحة الكتاب ترى ما يزيل الشك والإرتياب.
فإن قيل: فلم احتجتم إلى الاستدلال بالوقوع على الصحة، ولم تستدلوا بالصحة من أول الأمر؟
قيل: لأنا لم نجد طريقاً إلى صحة الفعل من الله إلا الوقوع، وإما أن صحة الفعل لا تكون إلا من قادر، فقال الإمام القاسم بن محمد ومن تبعه: إن العلم بذلك ضروري، ألا ترى أن الإنسان لما لم يقدر على الطيران لم يصح منه إيجاده، والمقعد لما لم يقدر على المشي لم يصح منه إيجاده ونحو ذلك.
قال القرشي: وهو معلوم على الجملة ضرورة، فإن العقلاء يصفون من أمكنه أن يفعل، وأن لايفعل بحسب اختياره بأنه قادر، ويوجهون إليه المدح والذم، وقال غيرهم من أئمتنا وغيرهم: بل العلم بذلك استدلالي، واستدلوا عليه بالقياس بأن أقاسوا الغائب وهو القديم تعالى على الشاهد وهو الواحد منا بعلة جامعة بينهما، وتحرير ذلك القياس أن يقال: إنا وجدنا في الشاهد حيين أحدهما صح منه الفعل وهو الصحيح السليم، والآخر تعذر عليه ذلك الفعل وهو المريض المدنف، فالذي صح منه الفعل يفارق من تعذر عليه ذلك بمفارقة لولاها لما صدر منه ما تعذر على الآخر، وتلك المفارقة معللة، وهذا الحكم ثابت في القديم تعالى، فيجب أن يكون قادراً لأن طرق الأدلة لا تختلف شاهداً وغائباً.
فإن قيل: ما الدليل على ثبوت المفارقة بين من صح منه الفعل ومن تعذر عليه؟
قيل: ذلك معلوم ضرورة.
فإن قيل: صحة القياس مبنية على أن المفارقة معللة، فما الدليل على ذلك، فإنا نجد كثيراً من المفارقات لا تعلل؟
قيل: الدليل على ذلك أنا نظرنا في الطرق المقتضية للتعليل فوجدنا علماء الكلام قد اختلفوا حتى صارت بحسب اختلافهم ثلاث طرق، ونظرنا في هذه المفارقة فإذا هو يجب تعليلها على كل واحدة من هذه الطرق، ونحن نأتي بتلك الطرق، ثم نبين التعليل على كل واحدة منها، فنقول:
الطريقة الأولى: ذكرها قاضي القضاة، وهي أن تعرض الحكم على وجوه التعليل فإن قبل التعليل وجب تعليله، وإلا فلا، ووجوه التعليل المؤثرات وهي الفاعل، والسبب، والعلة، وما يجري مجرى المؤثر وهو المقتضي، والشرط، والداعي.
الطريقة الثانية: طريقة أبي رشيد وهي أن كل حكم أو صفة إذا لم يعلل بطل، وعاد على أصل ثبوته بالنقض فإنه يجب تعليله، وكل حكم أو صفة إذا علل بطل فإنه لا يجوز تعليله، وكل حكم أو صفة لايبطل سواء علل أم لا، فإنه لا يجب تعليله، وهل يجوز؟ أم لا؟
قال المتأخرون: إن كان في تعليله فائدة زائدة، وإن لم تتعلق بتلك المسألة جاز لتلك الفائدة.
مثاله: تعليل حاجة أفعالنا إلينا بالحدوث، فإن حاجتها إلينا لا تبطل سواء عللنا أم لا لأن الحاجة معلومة، ولكنا عللنا لفائدة زائدة في غيرنا وهي قياس الأجسام المحدثة على أفعالنا في حاجتها إلى المحدث، ويحصل من ذلك إثبات الصانع.
قلت: ومقتضى هذا وجوب هذا التعليل وإن كانت الفائدة في الغير، إلا أنا نقول لا يجب إلا لولم نجد دليلاً على إثبات الصانع إلا هذ القياس.
الطريقة الثالثة: ذكرها المتأخرون، وهي أن موجبات التعليل ثلاثة:
أحدها: الثبوت بعد أن لم يكن، كثبوت وجود الذوات بعد عدمها، فإنه لابد من أمر أثر في الوجود.
ثانيها: الحصول مع الجواز كاحتراك المتحيز في حال كان يجوز أن يسكن فيها، فلا يجوز أن يكون لغير مؤثر.
ثالثها: الافتراق بعد الاشتراك كمسألتنا فإن الحيين اشتركا في كونهما حيين، ثم صح من أحدهما ما تعذر على الآخر، قالوا: فهذه الأمور الثلاثة أي واحد منها حصل وجب تعليله، إذا عرفت هذا، فنقول: هذه المفارقة يجب تعليلها على كل واحدة من هذه الطرق:
أما الأولى: فإنا عرضنا هذه المفارقة على وجوه التعليل، فوجدناها قابلة للتعليل بالمقتضي وهوكونه قادراً.
وأما الثانية: فلأنه إذا لم يعلل بطل؛ لأنه إذا لم يكن في الصحيح أمر يتميز به عن المريض لم يكن الفعل من الصحيح بأن يصح بأولى من المريض.
وأما الثالثة: فالافتراق بعد الاشتراك فإن الحيين لما اشتركا في كونهما حيين، ثم افترقا فصح من أحدهما ماتعذر على الآخر، وجب أن يكون فيمن صح منه أمر، وإلا لما فارق المريض في ذلك، فثبت بما ذكرنا أن هذه المفارقة معللة، هذا وأما الإمام المهدي، فقال: إن وجوب تعليل المفارقة معلوم ضروة، وبيان ذلك أَن الذي يعلم ضرورة افتقاره إلى العلة أمران:
أحدهما: الحصول مع الجواز فإنا نعلم ضرورة فيما حصل مع جواز أن لا يحصل أنه لابد من مؤثر لأجله حصل، وإلا لم يكن حصوله بأولى من أن لا يحصل، وقد أوضحنا هذا في الفاتحة في أدلة حدوث العالم.
والثاني: افتراق الأمرين في حكم بعد اشتراكهما في الماهية التي يتميزان بها عن غير جنسهما كافتراق الحيين في صحة الفعل من أحدهما دون الآخر، فإن اشتراكهما في المصحح للحكم وهو كونهما حيين معاً يقتضي جواز ثبوت ذلك الحكم، وهو صحة الفعل لكل منهما، فإذا علمنا ثبوته لأحدهما دون الآخر علمنا أنه لابد من أمر غير الأمر الذي اشتركا فيه، اختص به الذي ثبت له الحكم دون الآخر، وعِلْمُنَا بأنه لابد من مؤثر ضروري وإن افتقر إلى أدنى تأمل ومرا جعة النفس فافتقاره إلى ذلك لا يخرجه عن كونه ضرورياً، فبعض الضروريات تفتقر إلى ذلك، هذا حاصل كلامه عليه السلام ، وقد ذكر نحوه السيد مانكديم، فإنه قال بعد أن استدل على التعليل: على أن هاهنا طريقة ملجئة إلى التعليل؛ لأن هذين الحيين إذا صح من أحدهما الفعل وتعذر على الآخر مع استوائهما في باقي الصفات، فلا بد أن يكون هناك أمر له ولمكانه صح من أحدهما الفعل، وتعذر على صاحبه، وإلا لم يكن هو بصحته أولى منه بالتعذر، ولا صاحبه بالتعذر أولى منه بالصحة، وليس ذلك الأمر إلا صفة راجعة إلى الجملة وهو كونه قادراً.
فإن قيل: لو ثبت أن المفارقة معللة فلا نسلم أنها معللة بأمر يرجع إلى الجملة، فلا يصح لكم قياس الغائب على الشاهد، وإلا فدلوا على ذلك.
قيل: الذي يدل على ذلك أنه لولم يكن راجعاً إلى الجملة فلا يخلو إما أن يرجع إلى النفي، أو إلى الإثبات، الأول باطل؛ لأن النفي لا اختصاص له، فليس بأن يصح الفعل لأجله من الصحيح بأولى من أن يصح من المريض؛لأنه معهما على سواء،ولأن صحة الفعل تتزايد من القادر،وتزايد الأثر يدل على تزايد المؤثر،والنفي لا تزايد فيه، فوجب أن يكون التعليل بأمر ثابت،وذلك الأمر لايخلو إما أن يخرج عن القادر وصفاته،أم لا،إن خرج عن ذلك،فليس إلا الفاعل أو العلة باطل أن يكون بالفاعل،ويعنون بذلك أنه باطل أن يكون أثر المؤثر إنما حصل بفعل فاعل آخر،كأن يكون صحة حصول الفعل من زيد لأمر يرجع إلى عمرو وتأثيره، والذي يدل على بطلان ذلك أن صحة الفعل حكم صدر عن الجملة، فالمؤثر فيه يجب أن يكون راجعاً إليها، والفاعل خارج عن تلك الجملة؛ لأن صحة الفعل لو صدرت من فاعل آخر لما وجب وقوع الأفعال بحسب قصد الصادرة عنه، ولأنه يؤدي إلى التسلسل؛ لأن ذلك الفاعل لا يصح منه الفعل الذي هو الصحة إلابفاعل آخر كالأول، فإن قلتم يصح منه الفعل لأجل صفة ترجع إليه، وجب في الأول مثله، فلا يحتاج إلى هذا الفاعل؛ إذ لافرق، ولأن من حق ما أثر الفاعل في ثبوته أن يؤثر في صحته، وصحة الفعل لا صحة لها تؤثر في الفاعل، وباطل أن يكون بالعلة؛ لأنها إن كانت معدومة أو غير حالة فيه، فلا اختصاص لها به، وإن حلته لم تؤثر؛ لأنها تختص بمحلها والمعلوم أن الفعل صادر عن الجملة، فثبت أن المؤثر في صحة الفعل من القادر ليس أمراً خارجاً عن ذاته وصفاته، وإذا لم يكن خارجاً عن ذلك، فاعلم: أنه لا يجوز أن يصح منه الفعل لمجرد الذات، وإلاَّ لزم في كل ذات مثله حتى الجمادات، ولا لوجود مزية زائدة على الذات؛ لأن تلك المزية إن كانت حكماً لم يصح لأنه لا يعلم إلا بين غيرين أو غير، وما يجري مجرى الغير، ونحن نعلم القادر قادراً، وإن لم نعلم غيراً ولا ما يجري مجراه، وإن كانت صفة راجعة إلى آحاد
الجواهر لم يصح أيضاً، وإلا لزم في كل واحد من الجواهر أن يكون قادراً، وأن لايفترق الحال بين القادر والعاجز، وأن لا يخرج الجسم عن كونه قادراً ما دام موجوداً؛ لأن جواهره باقية، ويلزم أيضاً أن تكون الجملة بمنزلة أحياء قادرين ضم بعضهم إلى بعض، فكان يجب أن لا يحصل منها الفعل بداع واحد، ويلزم أيضاً أنه إذا دعا أحد الأجزاء الداعي إلى الفعل، وصرف الآخر عنه صارف أن يو جد ولا يوجد دفعة واحدة، وهو محال، ويلزم أيضاً أن يتأتى الفعل بكل جزء ابتداء حتى بشحمة الأذن، والمعلوم خلافه، فثبت أن المؤثر في صحة الفعل أمر يرجع إلى الجملة.
فإن قيل: إذا ثبت ذلك، فما الدليل على أن ذلك الأمر هو كونه قادراً؟
قيل: الدليل على ذلك أن الصفات الراجعة إلى الجملة عشر، وليس شيء منها يؤثر في صحة الفعل إلا كونه قادراً، بيان ذلك أن الصحيح والمريض قد يشتركان في جميع الصفات الراجعة إلى الجملة، خلا كونه قادراً، فيكونان حيين، عالمين، مريدين، كارهين، مشتهيين، نافرين، ظانين، ناظرين، مدركين، ويصح مع هذا الاشتراك من الصحيح ما لايصح من المريض، فدل على أن المؤثر في ذلك صفة غير ماذكرنا، وهو كونه قادراً إذ لا صفة ترجع إلى الجملة غير ذلك.
فإن قيل: إذا ثبت في الشاهد كونه قادراً للمفارقة المذكورة، فمن أين ثبت لكم بذلك أن الباري تعالى قادر؟
قيل: ثبت ذلك بالقياس القطعي، بيانه أنه قد تقرر بما ذكرنا أن الذي دل على كون الواحد منا قادراً أنه قد صح منه من الأفعال ما تعذر على غيره، وقد ثبت أن الله تعالى قدصح منه ما تعذر على غيره، فوجب أن يكون قادراً، وها هنا أصل وفرع، وعلة، وحكم، فالأصل الواحد منا، والفرع الباري تعالى، والعلة صحة الفعل، والحكم كونه قادراً، فإذا شارك الفرع الأصل في العلة وجب أن يشاركه في الحكم، وإلا لما صح أن تكون علةً. هكذا حرره جماعة من المتكلمين.
قال في الغياصة: والأولى أن يقال إذا شارك الباري تعالى الواحد منا في صحة الفعل، وجب أن يشاركه في كونه قادراً؛ لأن الفعل مقتضى عن كونه قادراً، وكونه قادراً مقتضيه لأن الاشتراك في المقتضى بصيغة اسم المفعول يوجب الاشتراك في المقتضي بصيغة اسم الفاعل، ثم نقول: هاهنا أصل، وفرع، ومقتضى بالفتح، ومقتضي -بالكسر- فالأصل الواحد منا، والفرع الباري تعالى، والمقتضى صحة الفعل، والمقتضي لذلك كونه قادراً، فإذا شارك الفرع الأصل في المقتضى بالفتح وهو صحة الفعل وجب أن يشاركه في المقتضي لذلك، ولا يبطل كون صحة الفعل حكماً مقتضى عن كونه قادراً، والمقتضى لا يحصل إلا بعد حصول المتقضي بالكسر لأنه موجب له، وإنما اختار هذه الطريقة لأن المقتضي بالكسر موجب، بخلاف العلة فإنها غير موجبة، وإنما هي معرفة موصلة، ولقائل أن يقول: إن العلة وإن لم تكن إلا معرفة وكاشفة، فإن ذلك لا يضعف الاستدلال بها، وإيصالها إلى القطع؛ لأنها إذا قد كشفت عن صفة الأصل وعرفتنا بها وجب أن تكشف عنها في الفرع؛ لأنها قد حصلت فيه على الوجه الذي تحصل معه الدلالة، فيجب أن تكشف عن المدلول وهو ثبوت الصفة للفرع، وإلا لخرجت عن كونها علة.
قلت: إلا أن طريقة التعليل وإن كانت قطعية فما ذكره في الغياصة أولى على أصولهم لما ذكره من الإيجاب، ولذا إن الإمام المهدي لما أورد على نفسه سؤالاً يفيد تجويز الفارق بين الواحد منا، والباري تعالى من حيث أن صحة الفعل من أحدنا يجوز أن تكون مقتضاة عن القادرية دون الباري تعالى، أجاب بأن الاشتراك في المقتضى بالفتح يوجب الاشتراك في المقتضي بالكسر ضرورة،ولفظ السؤال هو أن يقال: إن صحة الفعل في الغائب واجبة أزلية،وفي الشاهد متجددة،فإذا اختلفا في ذلك جاز أن يخلتفا في أن أحدهما يفتقر إلى مؤثر غير المؤثر الآخر كما نقول في قادريتنا وقادرية القديم تعالى،وحينئذ يجوز أن صحة الفعل في حقنا مقتضاة عن القادرية، ولا يجب مثل ذلك في صحة الفعل من القديم تعالى، وأجاب بأن صحة الفعل إذا دلت في الشاهد على القادرية بطريقة الاقتضاء لزم مثل ذلك في القياس، فإن الاشتراك في المقتضى يوجب الاشتراك في المقتضي.
ألا ترى أن الاشتراك في التحيز يوجب الاشتراك في الجو هرية، والاشتراك في المدركية يوجب الاشتراك في كونه حياً معلومٌ بالضرورة، وأن من كان مدركاً لزم كونه حياً، وما كان متحيزاً كان من جنس الجواهر.
واعلم: أن بعضهم قد جعل هذا القياس ظنياً زاعماً أن علته غير قطعية، وقد عرفت بما قررنا أنها قطعية، سيما على طريقة الاقتضاء فلا يهولنك ما يشنع به الخصوم ويزخرفونه من الكلام في رد نحو هذا القياس، وقد أوضحنا في المقدمة، وقررنا في الفاتحة صحة قياس الغائب على الشاهد إذا كان تركيب القياس صحيحاً، فارجع إلى تلك القواعد تعرف صحة هذا القياس، على أن لنا أن نركب هذا الدليل على غير طريقة القياس، وذلك بأن نرده إلى كلية، وهي أن من صح منه الفعل فهو قادر.
قال النجري: وعرفنا هذه الكلية بأن صحة الفعل لا بد لها من مقتضي بالكسر، وذلك المقتضي هي الصفة التي عبرنا عنها بالقادرية، وإنما ذكرنا الشاهد على وجه التقريب والتمثيل، فإنها إذا ثبتت في الشاهد صفة زائدة على الذات بالدليل أمكن ثبوتها في الغائب صفة زائدة بمثل ذلك الدليل، وكان أصل الدليل أن يقال قد صح منه الفعل، وكل من صح منه الفعل فهو قادر، أما المقدمة الأولى فمعلومة، وأما المقدمة الثانية وهي الكلية فلأن صحة الفعل لا تصح أن تكون ذاتية؛ لأنها حكم، والأحكام لا تكون ذاتية، وإذا لم تكن ذاتية لم يكن لها بد من مؤثر، وليس هو مجرد الذات وإلاَّ لزم في كل ذات أن يصح منها الفعل، فهو حينئذ صفة زائدة على الذات متعلقة بالمقدور؛ لأنا نعلم بين القادر والمقدور تعلقاً، وتلك الصفة هي المرادة، والمسماة بالقادرية، فصح أن الله تعالى قادر، وأما ما ذهب إليه الباطنية وغيرهم من المخالفين، فيكفي في إبطاله صحة ماذهبنا إليه؛ لأنهما في طرفي نقيض إذا ثبت أحدهما بطل الآخر، ولا بأس بالتعرض لشبههم، فنقول: أما قول الباطنية بأنه يؤدي إلى التشبيه والتعطيل، فنقول: لا يؤدي إلى التشبيه إلا وصفه بصفات المخلوقين كإثبات المعاني القديمة، ولذا قال أمير المؤمنين عليه السلام : (وكمال الإخلاص له نفي الصفات عنه لشهادة كل صفة أنها غير الموصوف، وشهادة كل موصوف أنه غير الصفة، فمن وصف الله سبحانه فقد قرنه، ومن قرنه فقد ثناه، ومن ثناه فقد جزأه، ومن جزأه فقد جهله). رواه في النهج، وقال في موضع آخر منه: (لا يوصف بشيء من الأجزاء، ولا بالجوارح، والأعضاء، ولا بعرض من الأعراض، ولا بالغيرية والأبعاض) فبين في هذا الكلام أن المنفي عنه صفات المخلوقين؛ لأنها التي تقتضي التشبيه دون ما يليق به من الصفات التي أثبتها لنفسه، ودل عليها في كتابه، كما قال عليه السلام : (فما دلك القرآن عليه من صفته فأتم به). رواه في النهج وغيره.
ولا يذهب إلى قولهم إلا من ينكرحكم العقل والكتاب، وإلا فالعقل قد عرف أنه تعالى قادر كما مر، وأما الكتاب فهذه الآية ونحوها، ومن بلغ به الحال إلى مخالفة هذين الدليلين فلا جدوى في الكلام معه، وأما برغوث فيجاب عليه بأن كونه قادراً حكم ثابت، والثابت لا يعلل بالنفي، وأما المطرفية فإبطال نسبة التأثير إلى الطبائع كاف في الرد عليهم، وأما الفلاسفة فشبهتهم أن الوصف يقتضي التكثير.
والجواب:
أولاً: أنا لانسلم أن الباري تعالى جل وعلا علة، وقد أبطلنا أن يكون المؤثر في العالم علة في سياق قوله تعالى: {الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ}[الفاتحة:2].
ثانياً: أن دعواهم لزوم التكثير باطل، وإنما يلزم ذلك لو وصف بأوصاف المخلوقين، ونحن لم نصفه بذلك سبحانه وتعالى، وأما ماحكاه عنهم القرشي من الإقرار بأنه قادر، ودعواهم أنه موجب لفعله، فقد أبطلنا تأثير الإيجاب في الفاتحة.
تنبيه [في صفة القدرة]
اعلم: أن هذا الدليل المركب من القياس، وما ذكره النجري مبنيان على ما ذهب إليه الأكثر من أن هذه الصفة أمر وجودي زائد يدل على الذات، وأما على ماذهب إليه الأئمة ومن وافقهم ممن ينفي الأحوال، فالدليل عندهم على قادريته تعالى ما مر من أن العلم بأن صحة الفعل لا تكون إلا من قادر ضروري، ومن قال منهم أنه استدلالي قال: إن القادر من يصح منه الفعل، وفسر الصحة بعدم الاستحالة، فكأنه قال: القادر من لا يستحيل منه الفعل، والباري تعالى لا يستحيل منه الفعل بدليل وقوعه منه، والوقوع فرع الصحة، فيجب أن يكون قادراً.
قلت: وهذا هو دليل المجبرة على قادريته تعالى؛ لأنه لا يمكنهم القياس على الشاهد على أصلهم، وهو نفي قادرية العبد وفعله.
فائدة: الصحة تستعمل في معان:
أحدها: أن يراد بها ماقابل الاستحالة، يقال العالم يستحيل وجوده في الأزل، ويصح فيما لايزال أي ليس بمستحيل.
الثاني: إمكان الفعل والترك بالاختيار، وهذا يقابله الإيجاب، يقال: فلان يقع منه الفعل على سبيل الصحة أي باختياره لا على سبيل الإيجاب أي عدم الاختيار.
الثالث: بمعنى البرء من المرض، يقال: صح من مرضه.
الرابع: بمعنى اعتدال المزاج، يقال: فلان صحيح أي معتدل الطبائع والمزاج.
الخامس: أن تكون اسماً للتأليف الذي تحله الحياة.
السادس: بمعنى الإجزاء، يقال: صلاته صحيحة أي مجزئه.
السابع: بمعنى تكامل الشرائط الشرعية، كما يقال: عقد صحيح أي إن الشرائط المعتبرة مجتمعة فيه.
الثامن: بمعنى الصدق، يقال: كلام فلان صحيح، أي صدق، والمراد هنا الثاني، إلا عند من ينفي الأحوال فالظاهر أنهم يعنون بالصحة هنا المعنى الأول.
الفصل الثاني: في أدلة المختلفين في الجهة الثانية، وهي هل للقادر بكونه قادراً صفة راجعة إلى الجملة أو لا.
اعلم:أن الأكثر قد احتجوا في الفصل الأول على رجوعه إلى الجملة بقولهم: لو لم يرجع إلى الجملة فلا يخلو، إما أن يرجع إلى النفي أو إلى الإثبات... إلى آخره، وهذا الدليل عندهم قد أبطلوا به كل ما يقدر التعليل به من الأمور التي ليست راجعة إلى الجملة، وأما أبو الحسين، ومن وافقه من أئمتنا" وغيرهم ممن ينفي الأحوال شاهداً وغائباً، فقد ذكرنا في البسملة في مسألة موجود أن الوجود ليس أمراً زائداً على الموجود، بل هو ذات الموجود، وأوضحنا الأدلة على ذلك، ومنه يؤخذ دليل هذه المسألة،وكيفية تركيبه في القادرية، سيما على ما ذهب إليه الأئمة" من أن صفات الله تعالى كلها هي الذات؛ إذ لافرق بين الموجود والقادر، وسيأتي لذلك مزيد تحقيق عند ذكرنا لكيفية استحقاقه تعالى لصفاته، وقد استدل أبو الحسين على أن المرجع في هذه الصفة في الشاهد إلى البنية المخصوصة بأن رجوعها إلى الجملة باطل؛ إذ لم يقع الفعل بكل الجملة لعلمنا أن البطش مثلاً واقع باليد فقط، فإن قلتم إن معنى رجوعه إلى الجملة أن يقع بحسب كون الجملة مريدة، ومعتقدة، ونحو ذلك، فهو لا يمنع وقوعه باليد فقط؛ لأنه يجوز أن تعلم الجملة نفعاً في فعل اليد وتريده، فيقع باليد لا بالجملة، يوضحه أنه لا بد من استعمال محل القدرة، ومن كونه مبنياً بنية مخصوصة، وإذا وقفت صحة الفعل على بنية اليد، فهلا كفى ذلك من دون اعتبار صفة راجعة إلى الجملة، وأجيب بأن المراد بصدورها عن الجملة ماهو المعقول عند جميع العقلاء من قولهم: فعل زيد، وقال: زيد ونحو ذلك، ولم يقولوا فعلت يد زيد، ولا قال لسانه، ولهذا يتوجه المدح والذم إلى الجملة، ولسنا ننكر أن الفعل وقع باليد، لكنها آلة للجملة، فالفعل وقع من الجملة بآلتها، والآلة لابد من استعمالها، هذا مع أنه لو كان صادراً من بعض أبعاض الحي لكان الحي بمنزلة أحياء قادرين، فيلزم ما مر ذكره من اللوازم على هذا، ويلزم أيضاً تعلق المدح والذم بذلك البعض،
والمعلوم خلافه، ويمكن أن يقال إن نسبته إلى الجملة من حيث أنها هي البنية المخصوصة لا من حيث أن هذه الصفة أمر وجودي زائد على الذات، كما هو مرادكم برجوعه إلى الجملة، والنسبة يكفي فيها أدنى ملابسة، وإذا كانت النسبه من هذه الحيثية ثبت ماذهب إليه أبو الحسين وموافقوه من أن المرجع بكونه قادراً إلى البنية المخصوصة. والله أعلم.
وأما ماذهب إليه برغوث، والنجار فقد مر جوابه، وأما قول أبي القاسم إن المرجع بها إلى الصحة، واعتدال المزاج، فقال السيد مانكديم: إن أريد بذلك صفة ترجع إلى الجملة، فهو الذي نقول، وإن أريد اعتدال الطبائع الأربع التي هي الحرارة، والبرودة، واليبوسة، والرطوبة فهو فاسد؛ لأنها علل متضادة، والعلل الكثيرة المتضادة لاتجتمع على إيجاد حكم واحد.
قلت: في كلام القاسم بن إبراهيم عليه السلام مايدل على أن المرجع بها في الشاهد إلى الصحة، فيكون كقول أبي القاسم، وما أجاب به السيد مانكديم من أنه إذا أريد اعتدال الطبائع ... إلخ.
ففيه نظر؛ لأن العلة ليست هذه الأمور المتضادة، بل اعتدالها، وهو أمر مغاير لها. فتأمل.
الموضع الرابع: فيما يجب معرفته من هذه المسألة، فالذي يلزم المكلف معرفته فيها هو أن يعلم أن الله تعالى قادر فيما لم يزل وفيما لايزال، ولا يجوز خروجه عن هذه الصفة في حال من الأحوال، ونعلم أنه قادر على جميع أجناس المقدورات، ومن كل جنس على ما يتناهى فلا تنحصر مقدوراته جل وعلا جنساً، ولا عدداً، فهذه خمسة أصول، ولا بد من الدليل على كل واحد منها:
الأول: أنه قادر فيما لم يزل، ودليله أنه لو لم يكن كذلك ثم حصل قادراً بعد أن لم يكن للزم أن يكون قادراً بقدرة محدثة، متجددة، وبطلانه معلوم.
الثاني: أنه قادر فيما لايزال.
الثالث: أنه لا يجوز خروجه عن هذه الصفة في حال، ودليل هذين الأصلين أنه يستحق هذه الصفة لذاته، أو لما هو عليه في ذاته على الخلاف، أو لأنها نفس الذوات على قول الأئمة، والمو صوف بصفة ذاتية لا يجوز خروجه عنها في حال من الأحوال، وإلا لم تكن ذاتية.
الرابع، والخامس: أنه قادر على جميع أجناس المقدورات إلى آخر ما مَرَّ، ودليله ماذكرنا من أنها صفة ذاتية، والصفة الذاتية مع جميع المقدورات على سواء، ولأن المقدورات إن لم تدخل تحت مقدورنا وجب أن يختص بالقدرة عليها الباري تعالى، وإلا خرجت عن كونها مقدورة، وإن دخلت فالله تعالى بالقدرة عليها أولى، وأيضاً فالذي يحصر المقدورات في الجنس والعدد هو القُدَرُ، والباري تعالى ليس قادراً بقدرة.
فإن قيل: كيف تقولون إن الله تعالى قادر على جميع أجناس المقدورات، والمعلوم أنه تعالى غير قادر على الظن؛ إذ لاظن إلا عن أمارة، والأمارة مستحيلة في حقه تعالى.
قيل: قد مر نحو هذا السؤال في الفاتحة و جوابه، ونقول هنا: أما على قول أبي هاشم أنه من جنس الاعتقاد فلا إشكال أنه قادر على جنسه، وأما على قول الأكثر أنه جنس برأسه فهم لايمنعون صحة تعلق قادريته تعالى به، إلا أنهم قالوا: إنه لما كان يستحيل وجوده من دون أمارة استحال وقوعه من الباري تعالى لاستحالة الأمارة في حقه تعالى؛ لأنه يعلم الأشياء على وجهها، ولم يمنعوه لكون جنسه غير مقدور، فإن جنسه مقدور عندهم، وذلك أن الظن ترجيح، والترجيح جنس يدخل تحته الظن، والعلم مقدور له تعالى، ونظيره: قولهم إن الله تعالى قادر على جنس الأكوان، وإن كان بعضها مستحيلاً من جهته تعالى، وهو ما تعلقت به قدرة قادر آخر.
ويلحق بالمسألة فائدتان:
الأولى: هي أن يقال: هل عدم المقدور شرط في القادرية أم لا؟
قال في الغياصة: ولا خلاف بينهم أنه شرط في صحة الفعل، وأما القادرية فالذي عليه المتقدمون أنه شرط فيها حتى أن القادر لو وجد منه جميع مقدوراته خرج عن كونه قادراً شاهداً وغائباً، وأما المتأخرون فقالوا: كذلك في الشاهد، وأما الغائب فعدم مقدوراته غير شرط في قادريته؛ لأنها وإن وجدت فهو تعالى قادر على إفنائها وإعادتها، فتبقى قادريته متعلقة بذلك.
قيل: وكلام المتقدمين هو الصحيح؛ لأنا لو فرضنا تقدير أن مقدورات الباري وجدت فهو لا يعدمها إلا بضد يفعله، أو ما يجري مجرى الضد، وقد فرضنا المسألة أن مقدوراته قد وجدت فلا شيء منها معدوم يوجده، فإذا كان كذلك لم يتهيأ منه على هذا التقدير إعدام ولا إيجاد، فيزول تعلق القادرية بالمقدورات، وإذا زال التعلق فقدت الصفة؛ لأن تعلقها ملازم لثبوتها نفياً وإثباتا.
قلت: وفي جواز تجويز خروجه تعالى عن هذه الصفة نظر، كيف وقد مر أنه لا يجوز خروجه عن هذه الصفة بحال من الأحوال، وتجويز الخروج يقتضي الجواز على أنهم بنوه على أمر لا يسلمه لهم من خالفهم، وهو أن الإفناء لايكون إلا بخلق ضد وهو الفناء، أو ما يجري مجراه، وكيف يبنون على هذا الأصل الذي يؤدي إلى جواز خروج الباري تعالى عن صفته الذاتية، لا سيما على قول الأئمة": إن صفاته ذاته، فهل من الجائز أن نجوز أمراً يؤدي إلى خروج الباري عن ذاته تعالى عن ذلك علواً كبيراً، على أن فرض المسألة لا يتصور إلا على وجه يؤدي إلى المحال، وهو الجمع بين الضدين لأنهم بنوه على أن مقدوراته تعالى المتضادة وغيرها قد وجدت، وهذا لا يصح لأن اجتماع الضدين محال، والفرض أنه قد وجد الموجود وضده الذي هو الفناء، فإن قالوا: إن الفناء يعدم لأجله الموجود فلا يجتمع ضدان إذا عدم، لأجله تعلقت القدرة بإعادته؛ لأن الفناء لا يبقى.
فإن قالوا: يخلق فناء آخر، قلنا: الفرض أن لا موجود يضاده الفناء، ثم إن الفناء يقل لبثه، فيلزم أن تتعلق القدرة بفناء بعد فناء إلى ما لا نهاية له.
فيلزم من ذلك عدم تناهي مقدورات الباري تعالى وهو المطلوب، فثبت أن فرض المسألة لا يتصور بحال.
الفائدة الثانية: [في الأسماء المرادفة للقدرة]
فيما يجري عليه من الأسماء بمعنى كونه قادراً وهي القادر، وقد عرفت معناه، والقدير، والمقتدر، وفيهما مبالغة لإفادتهما استحالة المنع، ويفهم من تفسير الشرفي للقدير أنه بمعنى قادر، فعلى هذا لامبالغة فيهما، وهو قوي لأن صفات الله تعالى الذاتية لا يتصور فيها مبالغة، والقوي.
فإن قيل: القوي ليس بمعنى قادر، وإنما هو الشديد فإنهم يقولون: حبل قوي أي شديد.
قيل: استعماله في الشديد مجاز تشبيهاً بالقادر الذي يصعب منعه، والذلك لا يطرد، فلا يقال ريشة قوية.
فإن قيل: لو كان معناه ومعنى قادر واحد لصح أن يجري كلاً منهما على الشديد تجوزاً.
قيل: لايلزم صحة ذلك، فإنه لا يبعد التجوز بأحد اللفظين المترادفين في موضع دون الآخر، ألا ترى أنه يتجوز بالغائط عن الحدث، ولا يتجوز عنه بالأرض المطمئنة مع أن معناهما واحد، فيقال: جئت من الغائط أي عن الحدث، ولا يكنى عنه بالأرض المطمئنة، فيقال: جئت من الأرض المطمئنة، ومما يدل على أن معناهما واحد أنه لا يجوز أن يقال: فلان قوي على كذا وليس بقادر عليه، أو العكس فلولم يكن معناهما واحداً لما امتنع ذلك، وملك، ورب، وقد مر الكلام عليهما، والخلاف في ذلك، وكذا في مالك، والجبار، ومعناه أنه إذا أراد فعلاً من أفعاله لم يصح أنه يمنع فيلحقه ذلة، وضيم، وهو مأخوذ من قولهم: نخلة جبارة إذا فاتت اليد وامتنعت أن تنال، وقيل: هو من استمر وكثر منه سد حاجة المحتاجين، فكأنه تعالى لماكان منه استمرار سد حاجة المحتاجين وصف بأنه جبار، وقيل: أنه مأخوذ من الجبر وهو الإصلاح، فيكون صفة فعل، وإنما كان ذماً في أحدنا لأنه يدعي ما ليس له، ويتشبه بمن يستحق هذا الوصف، والصمد ومعناه أنه يقصد في قضاء الحوائج، والعزيز، والكبير، والعلي، والعالي، والمتعال، والقاهر، والظاهر، وهذه الأسماء وما في معناها قد تضمنها كتاب الله، وسيأتي الكلام على كل واحد منها في موضعه إن شاء الله، والإله وقد مر، والمستولي، فيقال: هو مستول على الأشياء أي قادر عليها، ولا يوصف بما في معناه، وهو المستوي لإيهامه الاستقرار، أو استواء الأجزاء، أو استقامتها.
قال الموفق بالله: ولا يوصف في الحقيقة بأنه رفيع وشريف؛ لأنه يفيد رفعة المكان وشرف الشأن، وذلك محال في حقه تعالى؛ لأنه من صفات الأجسام، ولا يوصف بأنه شديد، ولا متين، و لا صلب لأن كل ذلك عبارة عن تأليف واقع على وجه مخصوص، وقوله تعالى: {ذُو الْقُوَّةِ الْمَتِينُ}[الذاريات:58] مجاز يقر حيث ورد، ولذلك لا يطرد فلا يقال: إرادته متينة.
قيل: ويوصف بأنه مستطيع حقيقة، ومعناه قادر بدليل {هَلْ يَسْتَطِيعُ رَبُّكَ}[المائدة:112] ولا يوصف بأنه مطيق؛ لأنه يفيد الكد، والمشقة، والجهد، ولذا يقال: لا يطيق النظر إلى زيد، وإن كان قادراً عليه، وإنما أراد أنه يلحقه بالنظر إليه مشقة، فلو جاز إطلاقه بمعنى قادر لتناقض، قوله: لا يطيق النظر إلى زيد وكونه قادراً على النظر إليه، ولا يوصف بأنه مطلق ومخلى؛ لأنهما يفيدان جواز المنع عليه.
قال الموفق بالله عليه السلام : ولا يجوز أن يطلق، فيقال لا يقدر الله على الجمع بين الضدين أو اختراع مثله؛ لأنه يوهم أنه مما يجوز دخوله تحت قدرة قادر، بل يقال: لا يوصف بالقدرة، ولا يوصف بأنه شجاع ولا صبور؛ لأنه يفيد قوة القلب، وذلك مستحيل في حقه تعالى، ويوصف بأنه سيد، ومولى، ومعناهما مالك. ذكره في المنهاج.
البقرة: (22،21)
قوله تعالى: {يَاأَيُّهَا النَّاسُ اعْبُدُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ وَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ، الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الأَرْضَ فِرَاشاً وَالسَّمَاءَ بِنَاءً وَأَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَخْرَجَ بِهِ مِنَ الثَّمَرَاتِ رِزْقاً لَكُمْ فَلاَ تَجْعَلُوا لِلَّهِ أَندَاداً وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ}[البقرة:21،22]
الخلق لغة: التقدير، خلقت الأديم أي قدرته، ويستعمل في إبداع الشيء على غير مثال ولا احتذاء، وقال قطرب: الخلق هو الإيجاد على تقدير وترتيب، وقال أبوحيان: معنى الخلق والإيجاد، والإحداث، والإبداع والاختراع، والإنشاء متقارب، وجعل: لفظ عام في الأفعال كلها، وهو أعم من صنع، وفعل، وسائر أخواتها. قاله الراغب، وقال: إنه يتصرف على خمسة أقسام:
أحدها: بمعنى صار، وطفق فلا يتعدى نحو: جعل زيد يقول كذا.
والثاني: بمعنى أوجد فيتعدى إلى واحد نحو: {جَعَلَ الظُّلُمَاتِ وَالنُّورَ}[الأنعام:1].
قلت: وهذا بمعنى خلق، نص عليه القرطبي.
الثالث: بمعنى إيجاد شيء من شيء وتكوينه منه نحو: {جَعَلَ لَكُمْ مِنْ أَنفُسِكُمْ أَزْوَاجاًً}[النحل:72].
الرابع: بمعنى تصيير الشيء على حالة دون حالة نحو: {الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الأَرْضَ فِرَاشاً}[البقرة:22].
قلت: وفي كلام غيره أنها في الآية بمعنى خلق.
الخامس: بمعنى الحكم على الشيء بالشيء حقاً كان نحو: {وَجَاعِلُوهُ مِنَ الْمُرْسَلِينَ}[القصص:7] أو باطلاً نحو: {وَجَعَلُوا لِلَّهِ مِمَّا ذَرَأَ مِنَ الْحَرْثِ وَالأَنْعَامِ نَصِيباً}[الأنعام:136] والأرض: الجرم المقابل للسماء، والفراش: الوطأ الذي يقعد عليه وينام، ويتقلب عليه.
قيل: وما ليس بفراش كالأوعار والبحار فهي من مصالح ما يفترش منها؛ لأن الجبال أوتادا،والبحار تركب إلى سائر المنافع، والسماء: كل ما علاك فأضلك، ومنه قيل: لسقف البيت سماء، ويطلق على المطر مجازاً، وكذلك على الطين والكلاء، وظهر الفرس، والثمرة: ما تخرجه الشجرة من مطعوم، أو مشموم، والند: الكفء والمثل.
وقال أبو عبيدة: أنداداً أي أضداداً، وقال أبو حيان: الند المقاوم المضاهي مثلاً كان أو ضداً، أو خلافاً، وفي هذه الجملة مسائل:
المسألة الأولى [في خطاب المشافهه]
قد مر في الفاتحة أن الجمع واسم الجمع المعرف بلام التعريف يفيد العموم عند الجمهور، وإذا كان للعموم كان قوله تعالى: {يَاأَيُّهَا النَّاسُ} عاماً لكل الناس، فيتناول الموجود، والمعدوم، والعبيد، والكفار، وقد خالف في تناوله للمعدوم وما بعده جماعة، ولنفرد لكل واحد من هذه الأمور الثلاثة بحثاً نذكر فيه ما يتعلق به من الخلاف فنقول:
البحث الأول: اختلفوا في خطاب المشافهة، وهو الوارد في زمن الرسول صلى الله عليه وآله وسلم نحو: {يَاأَيُّهَا النَّاسُ}، {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا} هل يدخل فيه من سيوجد من المكلفين أم لا؟ فقال: الأكثر لا يتناول إلا الموجودين في زمنه صلى الله عليه وآله وسلم فقط، بل قيل: إنه لا يتناول من الموجودين إلا الحاضرين في مهابط الوحي.
وقالت الحنابلة، وبعض الحنفية، واختاره الإمام القاسم بن محمد عليه السلام : بل يعم الموجود والمعدوم إلى انقطاع التكليف.
احتج الأولون بأن خطاب المشافهة مع المعدوم لا يجوز لأن معناه توجيه الكلام نحو الغير للإفهام، ولا فهم للمعدوم قطعاً، ولأن المعدوم لا يكون إنساناً، ولا مؤمناً، فكيف يدخل تحت هذا الخطاب، وأيضاً امتنع خطاب الصبي والمجنون بمثله مع وجودهم لقصورهم عن الخطاب، فالمعدوم أولى.
قلت: وهذا الوجه ضعيف؛ لأن عدم تو جيه الخطاب إليهم إنما كان لوجود المخصص، والتخصيص لا ينافي تناول اللفظ، فالأولى الاحتجاج بالوجه الأول فقط.
فإن قيل: لا نسلم امتناع خطاب المعدوم مطلقاً، بل إذا توجه إليه الخطاب خاصة، فأما مع الموجودين فلا مانع منه، ويكون من باب التغليب، وهو فصيح شائع.
قيل: التغليب مجاز، والكلام في التناول الحقيقي، وأيضاً ليس الكلام في مطلق الخطاب، بل في خطاب المشافهة، والمعلوم امتناع توجيهه إلى المعدومين، سواء كانوا مع الموجودين أم لا، ووجهه أن خطاب المشافهة يقتضي وجود المخاطب وحضوره، وإلا لم يكن خطاب مشافهة، على أن الذي يصح من باب التغليب إنَّما هو إطلاق لفظ المؤمنين والناس، وليس الكلام فيه، وإنما الكلام في صحة توجيه الخطاب إلى غير الحاضرين على سبيل التغليب، وعندنا أنه ممنوع لما مر فضلاً عن أن يكون فصيحاً شائعاً.
احتج الآخرون بأنه لو لم يكن الخطاب متناولاً للمعدومين لم يكن الرسول صلى الله عليه وآله وسلم مرسلاً إليهم،واللازم باطل، فالمقدم مثله، أما الملازمة فإنه لا معنى لإرساله إلا أن يقول بلغهم أحكامي، ولا تبليغ إلا بهذه العمومات والفرض أنها لا تتناولهم، وأما بطلان اللازم فبالإجماع.
وأجيب: بأنه لا يلزم من عدم الخطاب عدم الإرسال؛ لأن التبليغ لا ينحصر في خطاب المشافهة، بل يحصل للبعض بذلك، وللبعض بنصب الدلائل، والأمارات على أن حكمهم حكم المشافهين.
قالوا: ثبت الاحتجاج به من الصحابة والتابعين على من بعدهم إلى يومنا هذا فلو لم يكن متناولاً لغير الموجودين في زمان الخطاب لم يصح الاحتجاج به عليهم.
وأجيب: بأنه لا يتعين أن يكون للتناول، بل يجوز أن يكون؛ لأنهم علموا أن حكمه ثابت عليهم لدليل آخر وهو ماعلم من عموم دينه صلى الله عليه وآله وسلم إلى يوم القيامة بالضرورة، وقوله: {لأُنذِرَكُمْ بِهِ وَمَنْ بَلَغَ}[الأنعام:19] ونحوها.
قيل: والخلاف في المسألة قليل الفائدة.
قال إمام الحرمين في البرهان: لا شك أن خطاب رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وإن كان مختصاً به وبآحاد الأمة فإن الكافة يلزمون من مقتضاه ما يلزمه المخاطب، وكذلك القول فيما خص به أهل عصره، وكون الناس شرعاً في الشرع، واستبانة ذلك في عصر الصحابة ومن بعدهم لاشك فيه، وكون مقتضى اللفظ مختصاً بالمخاطب من جهة اللسان لاشك فيه، فلا معنى لعد هذه المسألة من المختلفات والشقان جميعاً متفق عليهما.
البحث الثاني: اختلفوا في شمول نحو هذا الخطاب للعبيد، فقال الجمهور: هم داخلون في خطاب الكتاب والسنة، سواء تعلق الخطاب بحقوق الله أم بحقوق الخلق، وقيل: لا يعمهم مطلقاً، وقال أبو بكر الرازي: يعمهم في حقوق الله دون حقوق الآدميين لنا أن الخطاب للمكلفين والعبيد بصفة المكلفين في التمكين والإعلام وإزاحة العلة، ولذلك كلفوا بالعقليات، كالشكر، وترك الظلم، وببعض السمعيات كطاعة السيد، وهذا معلوم ضرورة، ولاخلاف فيه فيجب أن يكلفوا بسائر ما ورد به السمع، إلا ما خصه دليل كالتكاليف التي تقف على ملك الأموال كالزكاة، والحج، ونحوهما، فإنه لا شبهة في عدم التكليف بها.
احتج من منع تكليفهم على الإطلاق بأنهم مأمورون بامتثال أمر السادة في جميع الأوقات، وهذا يمنع من تكليفهم بالشرعيات لاستغراق أوقاتهم في خدمة سادتهم، وصرف منافعهم في مآربهم.
قلنا: ذلك الاستغراق مخصوص بما يلزمهم من العبادات.
قالوا: خرجوا عن الجهاد، والحج، والجمعة، قلنا: لدليل يخصهم كخروج المسافر عن الجمعة، والمرأة عنها وعن الجهاد، وغير ذلك من المخصصات.
احتج القائل بالتفصيل بأن التناول اللغوي والإجماع على صرف المنافع إلى السيد تعارضا في حقوق الآدميين فترك الظاهر وهو التناول اتباعاً للإجماع.
قلنا: لا نسلم وجوب صرف المنافع على الإطلاق، وإنما يجب عند طلب السيد فقط، ولهذا جاز أن يصرفها العبد في نفسه، فلا يكون الخطاب بحقوق الآدميين عند عدم الطلب معارضاً لصرف الواجب مع الطلب.
البحث الثالث: اختلفوا في الكافر، هل يتناوله هذا الخطاب أم لا؟
واعلم: أن ظاهر كلام العلماء أنه لا خلاف في أن الكافر مكلف بالإيمان، وإنما الخلاف في فروعه، فالذي عليه الأكثر أن الكفار مخاطبون بفروع الإيمان، ومكلفون بالإتيان بها أجمع، وقال أبو حنيفة ومن وافقه: إنهم غير مكلفين بها، هكذا روى الإطلاق في شرح الجوهرة، وهو مروي عن الاسفرايني من الشافعية.
وقال النجري في المعيار: وهو المشهور عن الحنفية، وهو ظاهر الأزهار، وجعله الإمام المهدي للمذهب.
حكاه عنه في شرح ابن مفتاح، والمصحح للمذهب أنهم مخاطبون بها وهو الذي في البحر، وقيل: بالتفصيل وهو أنهم مخاطبون بالنواهي دون الأوامر.
قال البرماوي: قطع بعضهم بأنهم مكلفون بالمناهي، وأن الخلاف إنما هو في الأوامر، وجرى عليه أبو إسحاق الإسفرايني في أصوله، فقال: لا خلاف بين المسلمين أن خطاب الزواجر من الزنا والقذف متوجه عليهم كالمسلمين.
قال الشيخ تقي الدين: وهي طريقة جيدة، وقال ابن تاج الشريعة: لاخلاف في أنهم مخاطبون بالتروك، وبالمعاملات، وبالعبادات في الآخرة -يعني عقوبتها- إنما الخلاف في الأداء، وقال: إن المخالف بعضهم وإن أوائلهم لم يذكروها، وإنما خرجوها وذكر تخريجات واهية.
احتج الأكثر بهذه الآية أعني قوله تعالى: {يَاأَيُّهَا النَّاسُ اعْبُدُوا رَبَّكُمُ}[البقرة:21] ونحوها من الأوامر العامة، لاسيما على ماروي أن كل شيء نزل فيه: {يَاأَيُّهَا النَّاسُ} فهو مكي، وقال في الكشاف في الآية أنها خطاب لمشركي مكة.
قلت: ويؤيده قوله تعالى: {وَإِنْ كُنتُمْ فِي رَيْبٍ}[البقرة:23] وإن حملت على العموم الشامل للمؤمن والكافر فلا مخصص للكافر منها، بل دل الدليل على تأكيد دخوله تحت العموم، وهو أنه متمكن من الاستدلال بالخطاب وقادر على امتثاله، فيجب دخوله تحته، ولأنا نعلم من الدين ذم الكفار، وورود الوعيد لهم في القرآن، كقوله تعالى: {مَا سَلَكَكُمْ فِي سَقَرَ...} الآية [المدثر:42] ونحوها.
احتج النافون على الإطلاق بأن الكافر لو كان مخاطباً بالزكاة مثلاً لوجب متى أسلم في بقية من الحول أن يجب عليه إخراجها، والمعلوم خلافه.
والجواب: إن شرط ذلك أن يكون المخرج على صفة في كل الحول يكون معها ما أخرجه زكاة شرعية، وهذا لم يحصل على تلك الصفة إلا في بعض الحول.
فإن قيل: لم لا تقع هي أو غيرها من واجبات الشرع صحيحة منه مع كونه مخاطباً بها؟
قيل: لأنه مخاطب أن يأتي قبلها بما لا يتم كونها قربة إلا به وهو الإسلام، ونظير ذلك خطاب المحدث بالصلاة فإنه مخاطب معها بما لا تتم إلا به وهو رفع الحدث، وتركه لا يمنع من كونه مخاطباً.
قالوا: لو كان مخاطباً بها للزمته بعد إسلامه كالفاسق.
قلنا: ورد الشرع بأن الإسلام يجب ما قبله ليتيسر عليهم الخروج إلى الإسلام.
احتج المفصلون بأن ترك المناهي ممكن منهم في حال الكفر، بخلاف المأمورات؛ إذ لاتصح إلا بنية، ونية الكافر غير معتد بها.
والجواب: أن الفعل والترك مستويان في إمكانهما من الكافر، والكفر غير مانع من واحد منهما؛ لأنه يمكن رفعه بالإسلام، وعدم إمكان الامتثال حال الكفر كعدم إمكان الامتثال في المحدث، فكما أن الحدث لا يمنع توجه الخطاب، كذلك الكفر كما مر قريباً.
واعلم: أنهم قد اختلفوا في فائدة الخلاف في المسألة، فقال بعضهم: هي قليلة الفائدة، وقيل: الفائدة على قولنا أنهم مخاطبون بها كونهم معاقبين عليها فعلاً وتركاً كما يعاقب المسلم، فأما في الدنيا فلا تظهر فائدة؛ إذ لا يصح منهم فعل الطاعات، ولا يجب عليهم قضاؤها، ومن قال أنهم غير مخاطبين بها قال لا يعاقبون عليها في الآخرة، وإنما يعاقبون على التكاليف العقلية، وقيل: بل للخلاف فوائد في أحكام الدنيا منها فيمن صلى أول الوقت، ثم ارتد ثم أسلم في الوقت، وفي من حج أو عجل الزكاة، ثم ارتد ثم أسلم، فمن قال هم مخاطبون لا تجب عليه الإعادة لأن الخطاب باق، ومن قال أنهم غير مخاطبين، قال قد انقطع الخطاب بالردة، ثم عاد بعد الإسلام فصاركأنه مكلف آخر، فتجب عليه الإعادة بوجوب غير الوجوب الأول.
وتحقيق ذلك أن الحنفية قالوا: المكلف أول الوقت مخاطب بالأداء، فإذا فعل صار مخاطباً بالإجزاء؛ لأنه حكم شرعي، فإذا ارتد ارتفعت عنه خطابات الشرع فارتفع الإجزاء، فإذا أسلم في الوقت صار كالكافر الأصلي إذا أسلم وفي الوقت بقية فوجبت عليه الإعادة، وعندنا أن الخطاب بالإجزاء لم ينقطع فلا تجب الإعادة.
قال النجري: لكن عن بعض أصحابنا وجوب الإعادة في الصلاة، وكذا ذكره بعضهم في الحج.
قال في المعيار: فيحتمل أن يكون بناء على أنهم غير مخاطبين كما هو ظاهر قول قدمائهم، وأن يكون له علة أخرى إذ قد يعلل الحكم بعلتين.
قلت: قد علله بعضهم بأن الفعل الأول صار محبطاً بالردة، فوجب تلافيه في الوقت لا بعده، ولا يلزم مثله في الفسق لخروجه بالإجماع، وسيأتي للمسألة مزيد تحقيق في الأنفال إن شاء الله تعالى.
تنبيه [في أن الكفار مكلفون بالإيمان]
قد مر أن ظاهر كلام العلماء أنه لاخلاف في أن الكفار مكلفون بالإيمان، وفي كلام الرازي مايدل على القول بعدم تكليفهم به؛ لأنه قال: لقائل أن يقول قوله تعالى: {يَاأَيُّهَا النَّاسُ اعْبُدُوا رَبَّكُمُ}[البقرة:21] لايتناول الكفار البتة؛ إذ لا يمكن أن يكونوا مأمورين بالإيمان، وإذا امتنع ذلك امتنع أن يكونوا مأمورين بالعبادة، واستدل على أنه لا يمكن أن يكونوا مأمورين بالإيمان بأن الأمر بمعرفة الله تعالى إن تناول الكافر وهو غير عارف بالله استحال أن يكون عارفاً بأمر الله؛ لأن العلم بالصفة مع الجهل بالذات محال، فلو تناوله الأمر في هذه الحالة كان من تكليف ما لايطاق، وإن تناوله الأمر وهو عارف كان أمراً بتحصيل الحاصل، وهو محال، فثبت أن كون الكافر مأموراً بالمعرفة محال، وإذا استحال ذلك استحال أن يكون مأموراً بالعبادة؛ لأنه مترتب على صحة الأمر بالمعرفة، وقد عرفت استحالته، سواء كان المأمور عارفاً أم لا، قال: ويستحيل أن يكون الأمر بالعبادة للمؤمنين لأنهم يعبدون الله، فأمرهم بها يكون أمراً بتحصيل الحاصل.
واعلم: أن الرازي إذا وجد كلاماً يتشبث به في تقرير أصل قد اعتقده انتهز الفرصة في نقله وتهذيبه، وهذا الكلام من ذلك القبيل؛ لأنه يقرر به مذهبه في تكليف مالا يطاق، وقد سبقه إلى ذلك ابن جرير فإنه قال: هذه الآية من أدل دليل على فساد قول من زعم أن تكليف ما لايطاق غير جائز، وذلك أن الله تعالى أمر بعبادته من آمن به ومن كفر بعد إخباره عنهم أنهم لا يؤمنون، وأنهم عن ضلالتهم لا يرجعون.
والجواب: أن هذا القول في غاية الفساد وقد تقدم إبطاله، وأما قول الرازي إن الأمر بالمعرفة محال فباطل؛ لأن معرفة الله مقدورة لنا لقدرتنا على سببها الذي هو النظر، والدليل على أن النظر مقدور لنا وقوفه على قصودنا ودواعينا كسائر أفعالنا، وإذا كانت مقدورة لم يكن الأمر بها محال كسائر الواجبات، وأما قوله: وإن كان الأمر للمؤمنين كان محالاً فوجه بطلانه أن الأمر لهم بالعبادة أمر بالإستدامة عليها، على أنه يلزم على هذا التقرير استحالة الأمر بالعبادة من حيث هي؛ لأن المأمور لا يكون عابداً إلا بعد حصول العبادة، وحصول العبادة متوقف على حصول الأمر بالمعرفة، والمفروض أن حصول الأمر بالمعرفة محال، فيكون الأمر بالعبادة مستحيلاً دائماً لترتبه على المستحيل، لا سيما على القول بأن معرفة الله نظرية.
واعلم: أن الرازي قد أجاب عن هذه الشبهة، فقال: من الناس من قال الأمر بالعبادة مشروط بحصول المعرفة، كما أن الأمر بالزكاة مشروط بحصول ملك النصاب، وهؤلاء هم القائلون بأن المعارف ضرورية، وأما من لم يقل بذلك استدل بهذه الآية على أن المعارف ليست ضرورية، فقال: الأمر بالعبادة حاصل، والعبادة لاتمكن إلا بالمعرفة، والأمر بالشيء أمر بما هو من ضرورياته، كما أن الطهارة إذا لم تصح إلا بإحضار الماء كان إحضار الماء واجباً، والدهري لا يصح منه تصديق الرسول إلا بتقديم معرفة الله تعالى فوجبت، والمحدث لا تصح منه الصلاة إلا بتقديم الطهارة فوجبت، والمودع لا يمكنه رد الوديعة إلا بالسعي إليها، فكان السعي واجباً، فكذا هاهنا يصح أن يكون الكافر مخاطباً بالعبادة، وشرط الإتيان بها الإتيان بالإيمان أولاً، ثم الإتيان بالعبادة بعد ذلك، بقي قولهم الأمر بتحصيل المعرفة محال، قلنا: هذه المسألة مستقصاة في الأصول، والذي نقوله هاهنا: إن هذا الكلام وإن تم في كل ما يتوقف العلم بكون الله آمراً على العلم به؛فإنه لا يجري فيما عدا ذلك من الصفات، فلم لا يجوز ورود الأمر بذلك، سلمنا ذلك فلم لا يجوز أن يقال هذا الأمر يتناول المؤمنين.
قوله: لأنه يصير بذلك آمراً بتحصيل الحاصل، وهو محال.
قلنا: لما تعذر ذلك فنحمله إما على الأمر بالاستمرار على العبادة، أو على الأمر بالإزدياد منها، ومعلوم أن الزيادة على العبادة عبادة، فصح تفسير قوله اعبدوا بالزيادة في العبادة.
قلت: وهو جواب حسن، إلا قوله إن هذا الكلام وإن تم في كل ما يتوقف العلم ...إلخ .
فإنه التزم فيه أن الأمر بمعرفة ثبوت الصانع المختار يكون أمراً بالمحال إذ لا يتوقف العلم بكونه أمراً إلا على ثبوته، وإذا كان الأمر بالمعرفة محالاً فقد حصل تكليف مالا يطاق؛ لأن الله قد أمر بمعرفته في غير آية، ومن جملتها الآيات الدالة على وجوب النظر، وعلى هذا فتكون معرفة الله محالاً؛ لأنها مترتبة بزعمه على المحال الذي هو الأمر بها، والفرض أن الله تعالى قد أمر بها، وبه تعلم صحة قولنا إنه ينتهز الفرصة في تقرير مذهبه، ألا ترى أنه هنا آل كلامه إلى التزام تكليف ما لا يطاق.
المسألة الثانية [تخصيص من لا يفهم بعدم التكليف]
ظاهر الآية العموم فتناول الأمر بالعبادة كل الناس، لكنه مخصوص في حق من لايفهم كالصبي، والمجنون، والغافل، والناسي، ومن لايقدر، والخلاف لبعض من يجوز تكليف المحال فأجازوا تكليف الصبي والمجنون، وأما البعض الآخر فمنعوا لا تحاشياً عن لزوم تكليف ما لايطاق، بل هرباً من لزوم انتفاء فائدة التكليف وهو الإبتلاء؛ لأنه إنما يتصور التهيؤ وتوطين النفس على الامتثال من فاهم الخطاب، وهو متعذر في المجنون، وغير المميز من الصبيان.
قلت: أما من عدا الصبي والمجنون، فالذي يأتي على أصل من يجوز تكليف مالا يطاق أنهم مكلفون،وقد تقدمت المسألة،وأبطلنا ما أوردوه من الشبه في المسألة الرابعة مما يتعلق بقوله تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا سَوَاءٌ عَلَيْهِمْ أَأَنذَرْتَهُمْ...} الآية[البقرة:6]، وقد احتجوا على تكليف الغافل بصحة طلاق السكران ووقوعه، ولذا كان مؤاخذاً به، والمؤاخذة فرع التكليف لنا، لو لم يكن الفهم شرطاً في التكليف لصح تكليف البهائم؛ إذ لا مانع يقدر فيها إلا عدم الفهم، وقد فرض أنه ليس بمانع، واللازم باطل.
قلت: ولأن المطلوب بالتكليف الامتثال وهو الاتيان بالفعل على قصد الطاعة، ولا ريب في استحالة هذا الامتثال ممن لا يفهم الخطاب، وأما مؤاخذة السكران بطلاقه عند من قال به، فليس من قبيل التكليف، بل من قبيل ربط الأحكام بأسبابها، فيقال:وجد سبب الفراق وهو اللفظ بالطلاق، فوجب وقوع المسبب الذي هو الفراق،كما قيل: من الصبي إذا قتل غيره، فإن قتله سبب في وجوب الدية من ماله على وليه مع أنه غير مكلف، وقد قيل: إن العلة في صحة طلاقه المعصية تغليظاً عليه، فعلى هذا ينفذ ما عليه فيه خسر كالطلاق، والعتاق، والهبة لا ما فيه نفع له كالنكاح ونحوه، وقيل: العلة في ذلك أن زوال عقله إنما يعلم من جهته فلا يقبل قوله في زواله لفسقه، فيقع ظاهراً لا باطناً، وأي العلتين كانت فلا يصح لهم الاحتجاج بوقوع ذلك منه على مطلوبهم.
المسألة الثالثة [في الرد على من أنكر التكاليف]
في الآية رد على من أنكر التكاليف إذ كلف فيها بالعبادة، وقد تمسكوا بشبه واهية.
منها: أنه لو ورد الأمر بالتكليف للزم تكليف مالا يطاق، لأن التكليف إن توجه على العبد حال استواء دواعيه إلى الفعل والترك كان محالاً لكون حالة الاستواء مانعة من حصول الترجيح لما بين الاستواء والترجيح من المنافاة، وإن توجه إليه حال رجحان أحدهما على الآخر كان محالاً أيضاً، لأن الراجح واجب الوقوع، والمرجوح ممتنع الوقوع، وإذا ثبت هذا كان وقوع التكليف تكليفاً بما لايطاق، أما مع استواء الداعيين فلامتناع حصول الترجيح، وأما مع رجحان أحدهما فلأن التكليف إن كان بالراجح كان تكليفاً بما يجب وقوعه، وإن كان بالمرجوح كان تكليفاً بما يمتنع وقوعه، وكلاهما تكليف بما لايطاق، ومنها: أن المكلف به إن كان قد علم الله وقوعه فلا يجوز تخلفه، أوعلم عدم وقوعه فلايجوز وقوعه، وإن لم يعلم هذا ولا ذاك لزم أن يكون الباري تعالى جاهلاً، تعالى الله عن ذلك، ومنها: أن التكليف لا يكون إلا لفائدة، والفائدة لايجوز أن تكون لله تعالى؛ لأنه الغني الذي لايحتاج، ولا للعبد لأن الفائدة محصورة في اللذة ودفع الألم، والله قادر على تحصيلها للعبد من دون توسط هذه المشاق فيكون توسطها عبثاً والله منزه عنه، ومنها: أن العبد غير موجد لأفعاله فإن أمره بالفعل حال ما خلقه فيه كان أمراً بتحصيل الحاصل، وإن أمره قبل أن يخلقه فيه كان أمراً بالمحال، ومنها: أن المقصود بالتكليف تطهير القلب، فلو قدرنا إنساناً مشتغلاً بالله تعالى بحيث لو اشتغل بهذه الأفعال الظاهرة كان عائقاً عن الاستغراق في معرفة الله تعالى، وجب أن تسقط عنه هذه التكاليف.
والجواب:أما الشبهة الأولى فمبنية على أن الفعل لا يقع إلا لداع، وإن ذلك الداعي موجب، وقد أبطلنا ذلك في المقدمة، وفي المسألة السابعة مما يتعلق بقوله تعالى: {خَتَمَ اللَّهُ عَلَى قُلُوبِهِمْ}[البقرة:7] وأما الثانية فقد مر جوابها في السادسة من مسائل قوله تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا سَوَاءٌ عَلَيْهِمْ...} الآية[البقرة:6]، وقررنا ثمة أن العلم لايؤثر في المعلوم، وأما الثالثة فقد أوضحنا في المقدمة، وفي سياق قوله تعالى: {الْحَمْدُ لِلَّهِ} أن الفائدة للعبد، وأنه لا يحسن الثواب من دون توسط المشقة، وأما الرابعة فقد استوفينا الدلالة على أن العبد الموجد لفعله في مواضع من كتابنا هذا، وبسطنا القول فيها في الاستعاذة، وأما الخامسة فقد تقدم لهم نظيرها في الحمد، وأجبنا هنالك.
المسألة الرابعة [في أن العبادة شكر]
ظاهر الآية أنه تعالى إنما كلف بالعبادة شكراً على ما ذكره من نعمة الخلق، وما بعده، وفي المسألة خلاف، فقال الإمام شرف الدين، والإمام القاسم بن محمد: إن وجه وجوب الواجبات الشرعية كونها شكراً على النعم العظيمة، وهو ظاهر قول أبي القاسم البلخي، وقال في الجواب المختار: هو إجماع قدماء العترة".
وقال الإمام المهدي، وبعض الزيدية، وكثير من المعتزلة: بل وجه وجوبها كونها ألطافاً في الواجبات العقلية، ومعنى ذلك أن فعل الواجب الشرعي كالصلاة والصوم، وسائر الواجبات الشرعية يكون مسهلاً لفعل الواجبات العقلية، وأما المندوبات فإنما شرعت لكونها لطفاً في مندوبات عقلية، ومسهلة للواجبات الشرعية، وليست لطفاً فيها وإلا لوجبت، وأما المكروهات فإنما كرهت لكونها مسهلة لترك القبائح العقليه، وليس فعلها مفسدة فيها وإلا لقبحت، وعن أبي علي أنه قال: وجبت الواجبات الشرعية لكونها مانعة من القبائح، وقبحت القبائح الشرعية لمنعها من الواجب.
احتج الأولون بأن ذلك غير ممتنع عقلاً فإن من أخذ غيره من قارعة الطريق فرباه وأحسن تربيته فإنه يجوز له أن يكلفه فعلاً تلحقه به مشقة، نحو أن يقول: ناولني هذا الكوز، ولا يجب عليه أن يغرم له في مقابلة ذلك شيئاً آخر، وإذا ثبت هذا في الواحد منا فكذلك في القديم تعالى.
واحتجوا أيضاً من السمع بآيات كقوله تعالى: {اعْمَلُوا آلَ دَاوُودَ شُكْراًً}[سبأ:13] وقوله تعالى: {إِنَّا هَدَيْنَاهُ السَّبِيلَ إِمَّا شَاكِراً وَإِمَّا كَفُوراً}[الإنسان:3] ومن السنة ما رواه في أمالي أبي طالب، قال: أخبرنا محمد بن بندار، ثنا الحسن بن سمعان، ثنا عبد الله بن عون، ثنا محمد بن بشير، ثنا مسعر، عن قتادة، عن أنس، قال: قام رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم حتى تورمت قدماه، أو ساقاه، فقيل له: أليس قد غفر الله لك ما تقدم من ذنبك وما تأخر قال: ((أفلا أكون عبداً شكوراً)).
أما ابن عون فهو: عبد الله بن عون بن أبي عون الهلالي أبومحمد البغدادي، الخراز، وثقه عبدالله بن أحمد، وأبو زرعة، وصالح بن محمد، وقال أحمد: مأمون.
توفي سنة اثنين وثلاثين ومائتين، احتج به النسائي، وروى له أبو طالب.
وأما شيخه فلم يبين حاله في الجداول.
وأما قتادة فهو: ابن دعامة السدوسي أبو الخطاب البصري الأكمه.
احتج به الجماعة، وعده المنصور بالله من العدلية.
توفي سنة سبع أوثمان عشرة ومائة، روى له أئمتنا الخمسة، والنرسي، والسيلقي، والحديث أخرجه ابن عساكر، وأبو يعلى.
وفي أمالي أبي طالب أيضاً أنا ابن عدي الحافظ، ثنا أحمد بن محمد، ثنا محمد بن خراش، ثنا سيف بن محمد، ثنا سفيان ومسعر، عن عطية، عن أبي سعيد، قال: كانت مريم تصلي حتى ترم قدماها، وكان النبي صلى الله عليه وآله وسلم يصلي حتى ترم قدماه، فقيل: يا رسول الله أليس قد غفر لك الله ما تقدم من ذنبك وما تأخر، قال: ((أفلا أكون عبداً شكوراً)).
أحمد بن محمد هو السياري أبو عبد الله البصري.
قال الذهبي: شيعي جلد له تأليف، وشيخه محمد ابن خراش: لا أعرفه.
وأما سيف فهو: ابن محمد الثوري نزيل بغداد.
قال في الجداول: تكلموا فيه بغير حجة، وحسن له الترمذي، واحتج به أبو داود.
وأما سفيان فهو: الثوري.
وأما عطية فهو: ابن سعيد بن جنادة العوفي الجذلي أبو الحسن الكوفي.
قال ابن معين: صالح، وحسن له الترمذي أحاديث عداده في ثقات محدثي الشيعة، احتج به البخاري في الآداب، والأربعة إلا النسائي.
توفي سنة إحدى عشرة ومائة، وفي الباب عن جماعة من الصحابة، وسيأتي في سورة الفتح إن شاء الله.
وفي أمالي أبي طالب: أخبرنا يحيى بن الحسين الحسني، ثنا علي بن محمد بن مهرويه القزويني، ثنا داود بن سليمان الغازي، ثني علي بن موسى الرضا، عن أبيه، عن جده جعفر بن محمد، عن أبيه، عن جده علي بن الحسين، عن أبيه، عن جده علي عليه السلام ، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم : ((يقول الله عز وجل يابن آدم ما تنصفني أتحبب إليك بالنعم وتتمقت إلي بالمعاصي، خيري إليك منزل وشرك إلي صاعد، ولا يزال ملك كريم يأتيني عنك في كل يوم وليلة بعمل قبيح، يابن آدم لو سمعت وصفك من غيرك وأنت لا تدري من الموصوف لسارعت إلى مقته)) .
أما علي بن محمد فوصفه الذهبي بالصدق، وهو من مشائخ أبي العباس الحسني.
توفي سنة خمس وثلاثين وثلاثمائة، وقد نيف على المائة، روى له الأخوان.
وأما داود فتكلم عليه ابن معين، والذهبي بلا حجة إلا روايته لأحاديث الشيعة وموالاته لآل محمد، وهو ممن روى صحيفة علي بن موسى الرضا، وأخذ عنه، وروي أنه كان مختفياً في داره مدة لبثه بقزوين، واحتجوا من كلام الوصي بقوله: (وإن قوماً عبدوا الله شكراً فتلك عبادة الأحرار)، وقوله عليه السلام : (لو لم يتوعد الله على معصيته لكان يجب أن لايعصى شكراً لنعمته)، واحتجوا أيضاً بإجماع أهل اللغة على أن الشكر إقرار باللسان، واعتقاد بالجنان، وعمل بالأركان.
احتج أهل القول الثاني بأن من أنعم على غيره، ثم أمكنه أن يستخدمه على وجه لا تلحقه به مشقة، فإنه يقبح منه أن يعدل إلى استخدامه على الوجه الشاق لأجل النعم السابقة؛ إذ هو بمنزلة من أنعم على غيره بعشرة دنانير، ثم جعل يضربه ضرباً عنيفاً لمكان ذلك الإحسان، وإذا قبح ذلك في الشاهد، فكذلك في الغائب إذ العلة واحدة، وكذلك من أنعم على غيره نعمة، ثم كلفه لأجلها الاشتغال بمدحه والثناء عليه لا لوجه سوى ذلك، فإن العقلاء يذمونه، وينسبونه إلى إحباط إحسانه، ولأنه لو كان التكليف لأجل النعم السابقة للزم اختلاف التكليف باختلاف النعم، ونحن نجد من تكليفه أشق، والإنعام عليه أقل، ولأنه لا نفع لله في التكليف فيلزمنا به لأجل إنعامه علينا ولا لنا؛ لأنه مشقة لا يقابلها جزاء فيكون عبثاً، وبهذه الحجج تعرف بطلان ما استدل به الأولون من الدليل العقلي، وهو قولهم إن من أنعم على غيره بأنه يجوز له أن يكلفه إلى آخره، وقد نص السيد مانكديم على أن ذلك لا يحسن إلا فيما ليس فيه كثير مشقة، قال: وليس كذلك ما كلفنا الله تعالى ففي ذلك ما يتضمن الجود بالنفس، والمخاطرة بالروح، فلا يقاس ما أورده -يعني أبا القاسم- بما ذكرناه، ولهذا فلو كلف المنعم الذي وصفه المنعم عليه بما يتضمن المشقة العظيمة نحو المواظبة على خدمته، والقيام بين يديه آناء الليل والنهار، وما شاكل ذلك لم يحسن البتة، وقد أورد القرشي وغيره وجوهاً يقررون بها مذهبهم، ويبطلون به مذهب خصومهم، منها: أن مثل هذا القدر من النعم لايقابل إلزام المشاق، وإنزال العقاب على الإخلال به، ومنها: أن حسن التكليف مشروط بأصول النعم فلا يصح أن يكون في مقابلها التكليف، واعترضه الإمام عز الدين بأنه ليس اشتراط أصول النعم في حسن التكليف يدفع أن يكون ما كلف المكلف به ساقطاً ثوابه لأجل تلك النعم، وهي وغيرها لا تمنع من ذلك، بل تناسبه فإنه يقال لولا حصول تلك النعم التي تتوجه على العبد لأجلها
تلك الطاعات لما حسن من الحكيم إلزامه إياها.
ألا ترى أن الشكر لايحسن إلا مع تقدم النعمة التي تستدعيه فحسنه مشروط بحصولها، ولا يمنع ذلك من أن يكون في مقابلها، ومن كون المنعم لا يجب عليه للشاكر ثواب وجزاء غير ما تقدم منه من الإنعام، ومنها: أن الشرعيات وردت على كيفيات مختلفة من قيام، وقعود، ومشي، ووقوف وغير ذلك، ونعمة السيد على عبده لا تقتضي ذلك الاختلاف قطعاً إذ لا فائدة لاختلاف الفعل المشكور به، وإنما يقتضيه كونها ألطافاً، ورده في الأساس بأن النعمة تقتضي الامتثال من المنعم عليه للمنعم بفعل ما أوجبه عليه، ومطابقة مراده في تأديته على تلك الكيفية؛ إذ العقل يقضي بتحريم مخالفة المنعم، ولذلك وجبت تلك الواجبات، ولو كانت لطفاً لم تجب لأنها ليست مقصودة بالوجوب عندهم، وإنما الواجب الحقيقي هو العقليات، والعبد متمكن من الإتيان بها من دون الشرائع، والمعلوم أن الله تعالى قد أوجبها وهو حكيم لا يوجب ما لا يجب -يعني ولا وجه لوجوبها إلا كونها شكراً- ومنها: أنه يؤدي إلى أن يسقط وجوب شكر نعمة الله علينا؛ لأنا قد فعلنا ما يقابلها، بل كان يلزم أن لا يبقى له علينا نعمةٌ، وخلافه معلوم، واعترضه الإمام عز الدين بأن الشكر من جملة الواجبات المستحقة لأجل نعمة الله، فلا معنى لإلزام سقوطه، وأما قولهم بل كان يلزم أن لا يبقى له علينا نعمة، فقال عليه السلام : في رده ليس مقابلتنا للنعمة بما يجب لأجلها من الشكر، وما يجري مجراه يلزم منه انتفاؤها ومصيرها في حكم العدم، بل يلزم منه قيامنا بحقها، ومقابلتها بما تستدعيه ويسقط الواجب عنا في ذلك، ومنها: أن جعل التكليف نعمة مستقلة أولى من جعله في مقابلة النعمة ومسقطاً لها، ويجاب بأن جعله في مقابل النعمة لا يخرج عن كونه نعمة لما فيه من التعريض على الخير الذي لايتفضل الله علينا إلا بسببه، وأما جعله مسقطاً للنعمة، فكلام ساقط لما مر على أن الظاهر من كلام القائلين بأن
العبادات ليست شكراً أنهم يقولون أنها جارية مجرى الشكر، وأنه لا يستحقها إلا مولي أعظم النعم، وعلى هذا فهي في التحقيق لا تكون إلا في مقابلة نعمة؛ لأنها لاتكون شكراً عندهم، وقد تقدم في {إِيَّاكَ نَعْبُدُ}[الفاتحة:5] أنه لا يستحقها إلا مولي أعظم النعم، وممن نص على أنها جارية مجرى الشكر السيد مانكديم فإنه ذكر أن الشكر قد يكون باللسان، وقد يكون بالقلب، ثم قال: وقد يكون بضرب من الأفعال المخصوصة نحو هذه العبادات التي يتقرب بها إلى الله من صلاة، وصيام، وحج، وجهاد فإنها جارية مجرى الشكر لله تعالى على نعمه وأياديه؛ لأن هذا الضرب من الشكر لا يستحقه إلا الله تعالى؛ لأنه إنما يؤدى على نهاية ما يمكن من التذلل والخضوع، وذلك لايستحق إلا على أصول النعم، والقادر على أصول النعم ليس إلا الله تعالى.
قلت: والسيد رحمه الله ممن يقول بعدم جواز التكليف لأجل النعم السابقة كما مر.
وقال القرشي: إن من شرط حسن التكليف أن يكون المكلف منعماً على المكلف بما معه يستحق الطاعة والعبادة، وهي أصول النعم التي هي خلق الحي، وحياته، وقدرته، وشهوته، وتمكنه من المشتهى، والعقل الذي به يميز بين الحسن والقبيح.
قال: فحينئذ يستحق العبادة، ويجري ذلك مجرى الشكر المطلق على النعمة في الشاهد، وحكى الرازي عن القاضي أنه قال الآية -يعني قوله تعالى: {يَاأَيُّهَا النَّاسُ اعْبُدُوا رَبَّكُمُ}[البقرة:21]- تدل على أن سبب وجود العبادة ما بينه من خلقه لنا، والإنعام علينا.
[خصائص العبادة]
وقال الإمام عز الدين: اعلم: أن العبادة توافق الشكر في أمرين: الاستحقاق لأجل النعمة، ومقارنة التعظيم والإجلال، وتفارقه في وجوه:
أحدها: أنه لا يستحقها إلا المنعم بأصول النعم.
وثانيها: تأديتها على نهاية ما يمكن من التذلل والخضوع.
وثالثها: أنها يتغير حكمها بتغير الأحوال والأزمان، ويرد عليها النسخ.
ورابعها: وجوب إظهارها على سبيل الاستمرار في أوقاتها، والشكر لا يجب إظهاره إلا عند تهمة.
وخامسها: أنها لا تتزايد بتزايد النعم، والشكر يتزايد بتزايدها.
وسادسها: أنه لا يعلم وجوبها إلا بالشرع، ووجوبه معلوم بالعقل.
قلت: وبما ذكرنا تعلم أن العبادة لاتكون إلا مسببة عن النعمة اتفاقاً بين العدلية، وإنما الخلاف هل هي من جملة أنواع الشكر، وداخلة في مسماه أم لا؟ فالأولون جعلوها من جملة الشكر، والآخرون أجروها مجراه، وفرقوا بينهما بماذكر هرباً مما سيأتي من لزوم عدم استحقاق الثواب عليها، ومما مر من عدم حسن تكليف المنعم للمنعم عليه لأجل النعمة السالفة، وجعلوا الشكر مجرد الاعتراف بالنعمة مع ضرب من الإجلال، والتعظيم.
واعلم: أنهم قد استدلوا على أن الوجه في وجوب العبادات كونها لطفاً من السمع، بآيات منها: قوله تعالى: {إِنَّ الصَّلاَةَ تَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ}[العنكبوت:45] ووجه الاستدلال بها أنه تعالى عقب الأمر بها ببيان فائدتها، وهو النهي المذكور، وليس ذلك إلا لكونها مسهلة لترك القبيح فكأنها ناهية عنه، وهذا هو معنى اللطف، وإذا ثبت في الصلاة ثبت في غيرها من الواجبات؛ إذ لافارق، وفي معناها من السنة مارواه أبو طالب في أماليه قال: حدثنا أبو سعيد عبيد الله بن محمد الكرخي، قال: حدثنا أحمد بن يوسف بن خلاد، قال: حدثنا الحارث بن محمد بن أبي أسامة، قال: حدثنا أبو النظر، قال: ثنا بكر بن قيس، عن محمد القرشي، عن ربيعة بن يزيد، عن أبي إدريس الخولاني، عن بلال، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم : ((عليكم بقيام الليل فإنه دأب الصالحين قبلكم، وإن قيام الليل قربة إلى الله، وتكفير للسيئات، ومنهاة عن الإثم، ومطردة لداعي الحسد)).
الكرخي وشيخه لم يبين حالهما في الجداول؛ إلا أنه قال: إن وفاة ابن خلاد سنة تسع وخمسين وثلاثمائة، وقالوا: هو النصيبيني.
وأما الحارث فهو: ابن محمد بن أبي أسامة داهر، أبو محمد التميمي الحافظ البغدادي، صاحب المسند، وثقه إبراهيم الحربي، وأبو حاتم، وابن حبان، وقال الدارقطني: صدوق، وقال في الميزان: تكلم فيه بلاحجة.
قال علامة العصر:عداده في ثقات محدثي الشيعة، روى حديث المناشدة عن أبي الطفيل.
توفي سنة اثنتين وثمانين ومائتين، روى له أبو طالب، والمرشد بالله، وولداه: الموفق بالله، والنرسي.
وأما بكر فهو: ابن حبيش الكوفي، ثم البغدادي، قال ابن عدي: هو ممن يكتب حديثه، وفي رواية عن ابن معين: شيخ صالح لابأس به، مات في عشر الثمانين بعد المائة.
روى له المرادي، والناصر، وأبو طالب، والموفق بالله، والمرشد بالله، والحديث في الجامع الصغير، ونسبه إلى أحمد، والترمذي، والحاكم، والبيهقي في السنن عن بلال، وإلى الترمذي، والحاكم، والبيهقي عن أبي أمامة، وإلى ابن عساكر عن أبي الدرداء، وإلى الطبراني في الكبير عن سلمان، وإلى ابن السني عن جابر.
قال العزيزي: وهو حديث صحيح، إلا أن لفظ الجامع: ومطردة للداء عن الجسد بالجيم، ومعناه أنه قربةٌ تطرد الداء عن أجسادكم كما ذكره الشارح، وفي أمالي المرشد بالله أخبرنا ابن ريذة، أنا الطبراني، ثنا بكر ابن سهل، ثنا عبد الله ابن صالح، ثنا معاوية ابن صالح، عن ربيعة، عن أبي إدريس، عن أبي أمامة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم : ((عليكم بقيام الليل فإنه دأب الصالحين قبلكم وإنه قربة لكم إلى ربكم، ومكفرة للسيئات،ومنهاة عن الإثم)) وفي أمالي أبي طالب أخبرنا ابن عدي، ثنا محمد بن محمد بن الأشعث الكوفي، ثنا موسى بن إسماعيل بن موسى، عن أبيه، عن جده موسى بن جعفر، عن أبيه جعفر بن محمد، عن أبيه، عن جده علي بن الحسين، عن أبيه، عن جده عليٍّ عليه السلام ، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم : ((لا يزال الشيطان هائباً مذعوراً من المؤمن ما حافظ على الصلوات الخمس، فإذا ضيعهن تجرأ عليه فألقاه في العظائم)) وفيه: أخبرنا أبو الحسين علي بن محمد النجري، ثنا الحسين بن علي المصري أخو الناصر للحق، ثنا أحمد بن يحيى الأودي، ثنا يحيى بن طلحة، ثنا أبو معاوية، عن الليث، عن طاووس، عن ابن عباس، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم : ((من لم تنهه صلاته عن الفحشاء والمنكر لم يزدد بها من الله إلا بعداً)) وأخرجه الطبراني في الكبير.
قال العزيزي: وإسناده حسن، وفي الباب أحاديث تؤدي هذا المعنى، وهو أن وجه شرعية العبادات لما فيها من اللطف، وقد تأول في الأساس الآية بأن المراد أن الصلاة سبب للتنوير الذي أراده الله تعالى في قوله: {إِنْ تَتَّقُوا اللَّهَ يَجْعَلْ لَكُمْ فُرْقَاناً}[الأنفال:29] أي تنويراً في قلوبكم تفرقون به بين الحق والباطل، فهي كالناهي عن القبيح لما كانت سبباً لحصول التنوير الزاجر عنه، وذلك لايخرجها عن كونها شكراً إلى كونها لطفاً؛ إذ لامنافاة بين المعنى المذكور وبين الشكر.
قلت: وهذا التأويل يجري في الأخبار المذكورة، لكن قد اعترضه السيد أحمد بن محمد بن لقمان بأنه نفس مذهب المخالف فإنهم لايريدون بكونها لطفاً؛ إلا أنها سبب في الانزجار، والتنوير الذي ذكره هو نفس اللطف.
قال: فلو قيل: إن وجه وجوب الواجبات الشرعية هو المعنيان معاً عملاً بمقتضى الآيتين المذكورتين -أعني التي احتج بها من قال: إن وجه الوجوب كونها شكراً- والتي احتج بها من قال: كونها لطفاً لم يكن فيه بعد، وتسلم الآيتان من التأويل؛ إذ لا منافاة بين الوجهين المذكورين حتى يقال إنه لايصح اجتماعهما، ولا مانع من أن تكون الصلاة التي هي شكر لله تعالى سبباً في ترك القبائح العقلية من الظلم والكذب، وفي فعل الواجبات العقلية من شكر المنعم، ورد الوديعة، ونحوهما مسهلاً لذلك، فليتأمل. والله أعلم.
المسألة الخامسة [احتجاج أصحاب الرازي بهذه الآية على عدم استحقاق العبد للثواب بفعله]
قال الرازي: اعلم أن أصحابنا يحتجون بهذه الآية على أن العبد لايستحق بفعله الثواب؛ لأنه لما كان خلقه إيانا، وإنعامه علينا سبباً لوجوب العبادة، فحينئذ يكون اشتغالنا بالعبادة أداء للواجب، والإنسان لا يستحق بأداء الواجب شيئاً، فوجب أن لايستحق العبد على العبادة ثواباً على الله تعالى.
واعلم: أن الخلاف في هذه المسألة من جهتين:
إحداهما: بين العدلية والمجبرة، والثانية اختص بالخلاف فيها العدلية فيما بينهم.
أما الجهة الأولى: فقالت المجبرة: إن الثواب لايجب على الله، وذلك بناء منهم على أصلهم أنه لايجب على الله واجب، ولايقبح منه قبيح، وفي أن فعل العبد فعل لله تعالى أوجده في العبد، ولا تأثيرله في وجوده، وإذا كان كذلك، فلا معنى لاستحقاق الثواب عندهم وهم مصرحون بذلك، وقدحكى الإمام المهدي عن الرازي أنه قال مامعناه: إن استحقاق الثواب والعقاب إذا بني على بطلان التحسين والتقبيح ظهر بطلانه.
قال الإمام المهدي: فظهر لك أنهم يسقطون الثواب، وهو موافق لأصولهم، وإذا عرفت هذا علمت أن احتجاجهم بالآية غير جار على قواعدهم، وإنما أوردوه على جهة الإلزام للعدلية لما قالوا إن سبب وجوب العبادة الإنعام علينا، وقد تقدم في المسألة العاشرة من مسائل الحمد لله بيان مذهبهم في نفي الوجوب، وما بنوه عليه وإبطاله، وتقدم في الفاتحة، وفي الاستعاذة بيان بطلان قولهم بأنه لايقبح من الله قبيح، ونسبتهم أفعال العباد إلى الله تعالى.
وأما الجهة الثانية: فالخلاف بين العدلية فيها مترتب على الخلاف في المسألة التي قبل هذه، فمن قال إن وجه وجوب الواجبات الشرعية كونها ألطافاً في العقليات قال بوجوب الثواب على الله تعالى، ومن جعل وجه الوجوب كونها شكراً، قال: لايجب الثواب، والقائلون بذلك أبو القاسم وأتباعه، والإمام القاسم بن محمد وأتباعه، وهو ظاهر روايته في الجواب المختار عن قدماء الأئمة".
قال أبو القاسم: وإذاقلنا بوجوبه فإن المعنى أنه وجوب جود وتفضل، بمعنى أن جوده وكرمه يقتضي بأنه ينعم علينا بالثواب لا أنه حق لنا عليه، وخلافه لفظي لأنه يوافقنا في أن الله تعالى لابد أن يفعله، ولا يجوز تخلفه، وإنما منع من إطلاق الوجوب على الله تعالى فقط، وقيل: بل معنوي لأنه يقول لو أخل به لم يستحق عليه ذماً، ولأن الطاعات في حكم المستحقة علينا بما له علينا من سابق النعم فهي بمنزلة الشكر له، فكما أن الشكر مستحق كذلك طاعة المنعم بأصول النعم وفروعها، وإذا كانت مستحقة امتثالاً لأمره، وذلك الامتثال شكر على نعمة لم يستحق عليها جزاء، كما لا يستحق من قضى دينه جزاءً من المقضي، وحكى في الغياصة عن أبي القاسم وأتباعه نحو ما هنا من عدم الوجوب، إلاًّ أنهم يقولون يجب لنا على الله من جهة الأصلح بناء على أصلهم.
قال: لأن الأصلح واجب على الله -يعني عندهم- وهو ما نفع الحي ولا مفسدة فيه، وأما الإمام القاسم بن محمد فكلامه محتمل لأن يكون خلافه لفظياً؛ لأن عنده أن الثواب لابد من وقوعه قطعاً وإن كان تفضلاً لأن الله قد وعد به وهو لا يخلف الميعاد، ولأن الشرفي علل القطع بفعله بأنه تعالى قد أخبر به، وقضت به حكمة العدل، وما قضت به حكمة العدل لا يجوز تخلفه، ولأن الإمام استدل على أنه لايقال إنه واجب بأنه يوهم التكليف، وظاهر هذا أنه إنما منع من إطلاق لفظ الوجوب فقط مع الموافقة في قبح الإخلال به، ويحتمل أن خلافه معنوي لاستدلاله بأن الطاعات شكر، والأول أظهر؛ لأنه قد نص على أن الثواب مستحق عقلاً، وهذا يدل على قبح الإخلال به عنده. والله أعلم.
احتج الأولون من جهة العقل بأن الله تعالى ألزمنا الشاق وهو هذه التكاليف، فلو لم نستحق ثواباً عليها لكان إلزامه لنا إياها قبيحاً؛ لأن إلزام الشاق كإنزاله، فكما أن إنزاله بنا لا لنفع ولا استحقاق يقبح، كذلك إلزامه لا لنفع ولا استحقاق مع كونه يمكنه أن يجعل فعل ماكلفنا به غير شاق بأن يزيد في قوانا، ويصرف شهواتنا إلى الحسن، ويجعل نفرتنا عن القبيح، فلما علمنا خلاف ذلك عرفنا أنه إنما كلفنا لتحصيل نفع لا يحسن منه الابتداء بمثله وهو الثواب.
فإن قيل: لم لا تقولون بأنه كلفنا لدفع مضرة؟
قيل: لأنه يحسن منه دفع المضرة عنا من دون واسطة فعل منا، فلا يكون للتكليف حينئذ فائدة فيكون عبثاً، وأما من جهة السمع فلأن الله تعالى قد سمى الثواب جزاء حيث قال تعالى: {لِيُوَفِّيَهُمْ أُجُورَهُمْ}[فاطر:30] وهذه العبارة تقتضي أنه كالدين؛ لأن الوفاء لا يعبر به إلا عن ما هو مستحق، ولا يسمى التفضل وفاء، ويقتضي أيضاً أنه شيء قد علم قدره كالأجرة المعلومة، ولوكان تفضلاً لم يعبر عنه بالإيفاء، وأيضاً لايسمى أجراً إلا ما كان مستحقاً.
قال الموفق بالله: الأجر على الشيء لايكون إلا استحقاقاً لا تفضلاً، ألا ترى أن من تفضل على فقير بدرهم لايقال أنه آجره، وإذا عمل له عملاً فأعطاه في مقابلة عمله، قيل: إنه آجره إذا استحق عليه لعمله، قال: وكذلك قوله تعالى: {جَزَاءً بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ}[السجدة:17] والجزاء لا يكون إلا في مقابلة مستحق يكون جزاء عليه، فما يكون تفضلاً يفعله ابتداء لا في مقابلة استحقاق لم يكن جزاء.
احتج أهل القول الثاني بوجوه:
أحدها: أن في إطلاق الوجوب على الله إيهام التكليف، وهو ضعيف، وقد بينا ضعفه في الفاتحة.
الثاني: أنه قد ثبت فيما مر أن الطاعات شرعت شكراً، وجارية مجرى الشكر على النعم السابقة، وإذا كانت كذلك كان الثواب الموعود به عليها تفضلاً محضاً، وإن كان في مقابلة الطاعة؛ إذ لا يجب على المشكور على النعمة السابقة نعمة أخرى توازي شكر الشاكر له.
الثالث: أن القرآن ناطق بأن الجزاء والثواب تفضل منه، قال تعالى: {لِيَجْزِيَ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ مِنْ فَضْلِهِ}[الروم:45] وقال تعالى حاكياً عن أهل الجنة: {الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي أَذْهَبَ عَنَّا الْحَزَنَ ...} إلى قوله: {...مِنْ فَضْلِه}[فاطر:34،35] وقال: { إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِي مَقَامٍ أَمِينٍ...} إلى أن قال: {...فَضْلاً مِنْ رَبِّك}[الدخان:51-57] إلى غير ذلك من الآيات، وهذا يدفع قول الأولين إن الأجر لا يكون تفضلاً.
الوجه الرابع: ورود السنة النبوية بأن الثواب تفضل، قال في الجواب المختار: روى أبو طالب في الأمالي بإسناده إلى النبي صلى الله عليه وآله وسلم أنه قال في حديث طويل: ((وبالعفو تنجون، وبالرحمة تدخلون، وبأعمالكم تتسمون)) وروى عليه السلام في الأمالي أيضاً بإسناده إلى النبي صلى الله عليه وآله وسلم أنه قال: ((إن الله يجمع فقراء هذه الأُمَّةِ ومياسيرها في رحبة باب الجنة، ثم يبعث منادياً فينادي من بطنان العرش: أيما رجل منكم وصله أخوه المؤمن في الله ولو بلقمة من خبز فيأخذ بيده على مهل حتى يدخله الجنة، قال: وهم أعرف بهم يومئذ منهم بآبائهم وأمهاتهم، قال: فيجيء الرجل منهم حتى يضع يده على ذراع أخيه المكرم له والواصل له فيقول: يا أخي أما تعرفني ألست الصانع كذا وكذا فيعرفه كل شيء صنعه به من البر والتحفة فقم معي فيقول: إلى أين؟ فيقول: لأدخلك الجنة فإن الله قد أذن لي في ذلك، فينطلق به آخذاً بيده لايفارقه حتى يدخله الجنة بفضل رحمة الله لهما ومَنِّهِ عليهما)) وروى الحاكم في السفينة عن جابر، قال: خرج رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فقال: ((خرجت من خليلي جبريل آنفاً فقال: يامحمد والذي بعثني بالحق إن لله عبداً من عباده عبَد الله خمسمائة سنة على رأس جبل عرضه وطوله ثلاثون ذراعاً في ثلاثين ذراعاً والبحر محيط به أربعة آلاف فرسخ من كل ناحية فأخرج الله له عيناً عذباً بعرض الأصبع كذا ينبض بماء عذب فيستنقع في أسفل الجبل وشجرة رمان تخرج له في كل ليلة رمانة فيصوم يومه فإذا أمسى نزل فأصاب في الوضوء وأخذ تلك الرمانة فأكلها، ثم قام لصلاتة فسأل ربه عند وقت الأجل أن يقبضه ساجداً وأن لا يجعل للأرض ولا لشيء عليه سبيلاً حتى يبعثه وهو ساجد ففعل فقال: نحن نمر عليه إذا هبطنا وإذا صعدنا فنجده في العلم يبعث يوم القيامة فيقف بين يدي الله فيقول له الرب ادخل عبدي الجنة برحمتي فيقول: بل بعملي، فيقول الله للملائكة: قايسوا
عمل عبدي بنعمتي عليه فيؤخذ عليه نعمة البصر قد أحاطت بعبادته خمسمائة عام وبقية نعمة الجسد فضلاً عليه... )) الخبر بطوله.
الوجه الخامس: مارواه في الجواب المختار، وشرح الأساس عن علي عليه السلام أنه قال:(ولكنه جعل حقه على العباد أن يطيعوه، وجعل جزاءهم عليه مضاعفة الثواب تفضلاً منه وتوسعاً بما هو من المزيد أهله) وهو في النهج، وفي شرح الأساس، والجواب المختار عنه عليه السلام أنه قال: (وتا الله لو انماثت قلوبكم انمياثاً، وسالت عيونكم من رغبة إليه ورهبة دماً، ثم عمرتم في الدنيا ما الدنيا باقية ما جزت أعمالكم ولو لم تبقوا شيئاً من جهدكم أنعمه عليكم العظام وهداه إياكم إلى الإيمان).
قال في الجواب المختار: وقال عليه السلام : (رافق بهم رسله، وأزارهم ملائكته، وأكرم أسماعهم أن تسمع حسيس نار أبداً، وصان أجسادهم أن تلقى لغوباً ونصباً) {ذَلِكَ فَضْلُ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ}[الحديد:21] وأما ما احتج به الأولون من الدليل العقلي.
فجوابه: أنا لانسلم أن إلزام الشاق يوجب الثواب؛ لأن للمالك المنعم أن يلزم عبده الشاق الممكن، وإلا لما وجب على العبد الامتثال، ووجوب امتثال أمر المالك المنعم مما لاينبغي النزاع فيه؛ إذِ الامتثال شكر، والشكر واجب عقلاً وسمعاً، وأما الآيات المتضمنة لذكر الجزاء، والأجر، وما في معناها مما رتب فيه الثواب على العمل فقد أجاب عنها الإمام القاسم بن محمد في الجواب المختار، وقال: معناها كمعنى الزيادة التي ذكرها الله تعالى في قوله: {لَئِنْ شَكَرْتُمْ لاََزِيدَنَّكُمْ}[إبراهيم:7] لأن الزيادة جعلها تعالى في مقابلة الشكر تفضلاً، وكذلك الثواب جعله في مقابلة الأعمال تفضلاً. قال عليه السلام : بل مذهب آبائنا" أن الثواب من جملة الزيادة التي ذكرها الله تعالى في قوله: {لَئِنْ شَكَرْتُمْ لاََزِيدَنَّكُمْ}[إبراهيم:7] كما صرحوا بذلك في كتبهم، وقد ذكر ذلك أمير المؤمنين عليه السلام وذكره الهادي عليه السلام في الأحكام، وفي كتاب الديانات، والحسين بن القاسم عليه السلام في تفسيره.
قلت: ولقائل أن يقول كون الطاعات شكراً لايمنع من استحقاق العبد للثواب على الله تعالى بحيث أنه يقبح الإخلال به؛ لأنه تعالى لما ألزمهم أن يشكروه بما فيه عليهم مشقة كان لهم عليه من الحق الجزاء الجزيل على تلك المشقة، وإلا لكان في تكليفهم إياها جور وظلم؛ لأنه كان يمكنه أن يستوفي ما يجب له عليهم من الشكر من دونها كما مر، وهذا هو الظاهر من كلام أمير المؤمنين عليه السلام ، ومشاهير أئمة العترة، وقد مر من كلامه عليه السلام مايدل على ذلك في العاشرة من مسائل الحمد لله، وفيه تصريح بوجوبه عليه تعالى، وذكر الهادي عليه السلام ذلك في البالغ المدك، وقد مر بعض كلامه في الرابعة من مسائل قوله تعالى: {مَالِكِ يَوْمِ الدِّينِ}[الفاتحة:4] وقال الإمام أحمد بن سليمان عليه السلام : الجزاء إتمام العدل ونظامه قال: ولولا ذلك لكان خلق الدنيا، وما فيها عبثاً تعالى الله عن ذلك، ذكره في الحقائق وصرح فيها بأنا نعلم علماً عقلياً ضرورياً أن العدل الحكيم سيحدث داراً للجزاء يثيب فيها المطيعين، ويعاقب فيها العاصين.
وقال عليه السلام : (اعلم أن جزاء العمل موجب والزيادة على الجزاء فضلٌ من الله تعالى ورحمة فصرح بوجوب الجزاء مع أنه يقول بأن الطاعات شكر، واستدل على أن الجزاء واجب بحديث ابن عمر مرفوعاً: ((الأعمال عند الله سبعة، عملان موجبان...)) الخبر ذكره في الحقائق، وهو في أمالي أبي طالب مسنداً.
قال: أخبرنا محمد بن بندار، ثنا الحسين بن سفيان، ثنا إبراهيم بن يعقوب، ثنا سعد بن سليمان ثنا يحي بن المتوكل، ثنا عمر بن محمد عن ابن دينار، عن ابن عمر قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم : ((الأعمال عند الله سبعة عملان موجبان، وعملان بأمثالهما، وعمل بعشرة أمثاله، وعمل بسبعمائة، وعمل لايعلم ثوابه إلا الله، فأما الموجبان فمن لقي الله يعبده مخلصاً لايشرك به شيئاً وجبت له الجنة، ومن لقي الله قد أشرك به وجبت له النار،ومن عمل سيئة جزيَ مثلها، ومن أراد أن يعمل حسنة ولم يعمل بها جزيَ مثلها،ومن عمل حسنة جزي عشراً،ومن أنفق ماله في سبيل الله ضوعفت له نفقته الدرهم بسبع مائة والدنيار بسبعمائة، والصيام لايعلم ثواب عامله إلا الله تبارك وتعالى)) ونقل في البدر الساري عن جماعة من قدماء العترة" القول بوجوب الثواب مع القول بأن التكاليف شكر، منهم: علي عليه السلام ، وفاطمة الزهراء، والقاسم، والهادي، والمرتضى، وصرح في الأساس بأن الثواب والعقاب يستحقان عقلاً، وهذا هو معنى الوجوب، فثبت بما قررنا أن كون التكاليف شكراً لا يمنع لوجوبه، كما أن كونها لطفاً لا يمنع ذلك عند القائل بها مع أنها عندهم في مقابلة النعم كما مر، وقد أورد القرشي على القائلين بأنها ألطاف مع القول بأنها لأجل الإنعام بأصول النعم السابقة إلزام عدم استحقاق الثواب، وأجاب عنه بأنه إذا كانت نعمة الله تعالى السابقة من قبيل التفضل، ثم كلفنا الشاق ولم يجبره بنفع صارت هذه العبادة في مقابلة تلك النعم فخرجت عن كونها نعما متفضلاً بها، وصارت كتقديم أجرة الأجير على عمله، ثم قال: وعلى الجملة إذا جعل التكليف شاقاً فلا بد وأن يجبره بنفع، وإلا فقد كان يمكنه تأدية شكره من دون مشقة بأن لايخلق شهوة القبيح ونفرة الحسن كما في أهل الجنة، وهذا الجواب الأخير -أعني قوله وعلى الجملة إلى آخره- هو الذي استحسنه الإمام عز الدين، وأما الأول فقال: فيه تكلف لاحاجة
إليه، ومقصودنا من إيراد هذا الجواب الاستدلال به على أن كون العبادة شكراً لاينافي وجوب الثواب. والله أعلم.
المسألة السادسة [التعليق على لفظة {اعبدوا}]
قوله: {اعبدوا} ورد مطلقاً، وقد اختلف العلماء في الأمر إذا ورد بمطلق كهذه الآية فإن الأمر فيها بالعبادة ورد مطلقاً من دون تعيين لعبادة مخصوصة هل المطلوب الجزئي المطابق للماهية؟ أم الماهية نفسها؟ فذهب أصحابنا، وأكثر الفقهاء، وابن الحاجب إلى أن المطلوب الفعل الجزئي الممكن المطابق للماهية المشتركة بين الجزئيات لا الماهية نفسها، وقال بعض الشافعية: بل الماهية هي المطلوبة، والأمر إنما تعلق بها لابشيء من جزئياتها.
احتج الأولون بأن الماهية يستحيل وجودها في الأعيان، وذلك يوجب امتناع طلبها؛ لأنها لو وجدت فالموجود إما هي فقط، ويلزم وجود الأمر الواحد بالشخص في أمكنة مختلفة، واتصافه بصفات متضادة وهو محال، وتحقيقه أن الموجود الخارجي متميز عن غيره تميزاً يمنع وجود الشركة فيه،فلو وجدت الماهية في الخارج لكانت كذلك مع أنها مشتركة بين الأفراد،متمكنة في أماكن مختلفة، ومتصفة بصفات متضادة فيلزم المحال المذكور.
قال ابن الحاجب: ويلزم أن تكون كلياً جزئياً وهو محال، ويعني به أنها من حيث كونها موجودة تكون مشخصة جزئية، ومن حيث أنها الماهية الكلية تكون كلية وهو محال، أو يكون الموجود هي مع أمر آخر زائد عليها، فإن اتحد وجودهما فإما أن تقوم بكل واحد منها، أو بالمجموع، وعلى أيهما يلزم المحال.
أما الأول: فلأنه يلزم قيام الشيء الواحد بمحلين.
وأما الثاني: فلأنه يلزم منه أن لايكون كل منهما موجوداً وإنما الموجود المجموع، ووجود الكل بدون الإجزاء محال، وإن تعدد وجودهما لم يمكن حملها على المجموع أي الإخبار بها عنه مع أنه ممكن، فإنه يقال زيد حيوان.
فإن قيل: وما الدليل على أن التعدد يمنع الحمل؟
قيل: لأن الموجودات الخارجية المتغايرة إذا اجتمعت لم يمكن أن يقال: إن هذا المجموع هو أحدها كأن يقال هذا المجموع من الزاج والعفص هو الزاج، أو العكس كأن يقال: هذا الزاج هو المجموع منه ومن العفص.
احتج الآخرون بأن المطلوب مطلق، والجزئي مقيد، والمطلق لايدل على المقيد، فوجب أن يكون المطلوب هو المشترك وهو الماهية، وأجيب بأنا قد بينا استحالة طلب الماهية، وطلب الشيء يتوقف على إمكانه إما لأن طلب المحال قبيح كما هو مذهب المعتزلة، وإما لأن طلب الشيء يتوقف على تصوره، وتصوره فرع إمكانه.
قال في شرح الغاية: على أنا لانسلم عدم استلزام المطلق للمقيد فيما نحن فيه؛ لأن من لوازم الماهية طلب فرد منها لاستحالة وجودها في الخارج من دون فرد بالإجماع، إذا عرفت هذا فالمطلوب من قوله: {اعبدوا} إيجاد فعل ممكن لاماهية العبادة، لكنه يقال: هل تدل هذه الصيغة على الأمر بكل عبادة أم لا؟ اختار الرازي أنها لا تدل؛ لأن المعنى أدخلوا هذه الماهية في الوجود، فإذا أتوا بفرد من أفراد الماهية فقد أدخلوها في الوجود لاشتمال الفرد عليها، فيخرجون عن العهدة بالإتيان بالفرد.
قلت: وهذا مع عدم القرينة المقتضية للتعدد، فأما هنا فالقرينة الدالة على تعدد العبادات وتقررها معلومٌ كتاباً وسنة.
وأما الرازي فقد جعله من الأمر المعلق على علة، وهو يتكرر بتكررها اتفاقاً، وحاصل كلامه أن الأمر بالعبادة إنما كان لأجل كونها عبادة؛ لأن ترتب الحكم على الوصف يشعر بعلية الوصف، لاسيما إذا كان الوصف مناسباً كما هنا، فإن كون العبادة عبادة يناسب الأمر بها لأنها تعظيم لله وخضوع له، وكل ذلك مناسب في العقول، وإذا ثبت أن العلة ذلك وجب في كل عبادة أن تكون مأموراً بها؛ لأن العلة إذا حصلت وجب حصول الحكم لا محالة.
قلت: ولقائل أن يقول: لانسلم أن وجه شرعية العبادة كونها عبادة، بل هو باطل من وجوه:
أحدها: أنه لا دليل عليه.
الثاني: أن الله تعالى إنما كلفنا ليعرضنا على الخير ولو كان الأمر كما ذكره لم يكن التكليف إلا لكونه عبادة فقط، وذلك باطل؛ لأنه لو كان كذلك لكان ظلماً وعبثاً لأن التكليف شاق، والمعلوم أن الباري تعالى لا ينتفع بتكليفنا الشاق، وإذا كان لمجرد كونه عبادة لزم أن لا نفع لنا فيه، فيكون ظلماً، وعبثاً لمشقته من دون فائدة، وكلاهما قبيح لايجوز من الله تعالى فعله.
الثالث: أنه قد ثبت بما مر أن وجه وجوب الواجبات كونها شكراً، أو ألطافاً على الخلاف بين العدلية، وفي ذلك إبطال كون الوجه كونها عبادة، اللهم إلا أن يقال لم يرد بكون العلة ما ذكره مجردة، بل مع كونها مسببة عن النعم السابقة، فتكون شكراً، أو جارية مجرى الشكر، وقد أشار إلى هذا فيما حكيناه عنه قريباً، لكن أصولهم تأباه؛ لأن مسألة وجه شرعية التكاليف مؤسسة على مسألة الحسن والقبح العقلي، وهم ينفونها، وقد مر أن قوله إن النعم إذا كانت سبباً في وجوب العبادة لم يجب الثواب إنما هو على سبيل الإلزام. والله أعلم.
المسألة السابعة [وجوب النظر]
قيل: في هذه الآية دليل على وجوب النظر؛ لأنه تعالى أردف الأمر بالعبادة بما يدل على وجود الصانع، وهو خلق المكلفين وما ذكر بعده، وذلك يدل على أنه تعالى لايعرف إلا بالنظر والاستدلال؛ إذ لو كان معلوماً ضرورة لما كان لذكر ذلك فائدة.
واعلم: أن مسألة وجوب النظر مسألة عظيمة في المعارف الإلهية، ولأجل ذلك جعلنا الكلام عليها في أربعة مواضع؛ إذ لايحصل العلم بها على وجه لايبقى معه شك ولاشبهة إلا بذلك:
الموضع الأول: في أن معرفة الله واجبة.
الثاني: أنها ليست ضرورية.
الثالث: أن التقليد فيها لا يجوز، وأن الظن لايكفي.
الرابع: في أدلة وجوب النظر.
[المعرفة]
الموضع الأول: في أن معرفة الله تعالى واجبة، فالذي عليه الجمهور من العدلية، وأكثر فرق الإسلام: أنه يجب على كل مكلف أن يعلم الله تعالى على الجملة، وما يجب له، وما يستحيل عليه، وما يحسن منه ويقبح، والخلاف في ذلك لأهل المعارف وهم القائلون بأن المعارف ضرورية، وسيأتي الكلام عليهم في الموضع الثاني، فهؤلاء قالوا: لا تجب علينا المعرفة على الإطلاق لا في الدنيا ولا في الآخرة؛ لأنها من فعله تعالى فهي غير داخلة في التكليف، وحكى عنهم في سائر مسائل أصول الدين المتعلقة بالتوحيد، والعدل، والوعد، والوعيد مثل ذلك، هذا وبينهم في كونها ضرورية ضرب من الاختلاف، وسيأتي تحقيقه، ومن الخلاف في ذلك القول بجواز التقليد في المسألة، وكذلك القول بأن الظن كاف فيها، وسيأتي ذلك كله، واختلف القائلون بالوجوب في وجهه، فقال الإمام القاسم بن محمد، وحكاه الشرفي، وابن لقمان عن قدماء أهل البيت، وهو في البدر الساري عن عامة الآل: إن وجه وجوب المعرفة لأجل القيام بواجب شكره تعالى على نعمه، وهو قول أبي علي، ورواه في البدر الساري عن البغدادية، وتوضيح هذا الدليل أنه قد ثبت بالعقل وجوب شكر المنعم، وجهل المنعم سيلزم الإخلال بشكره؛ لأن توجيه الشكر إلى المنعم مترتب على معرفته ضرورة، والإخلال بالشكر قبيح عقلاً، فوجبت المعرفة لذلك، واعترضه السيد مانكديم بأن شكر الله لا يجب إلا بعد معرفته، ومعرفة أنه قصد وجه الإحسان، وشبه ذلك بمن اجتاز بحياض، أو نحوها فشرب من مائها فإنه لا يجب عليه أن يعرف بانيها ليشكره، بل إن عرف أنه قصد بها وجه الإحسان شكره، وإلا فلا، فكذلك في هذه المسألة إن عرف الله وعرف أنه قصد بهذه المنافع الإحسان شكره، وإلا فلا.
قال القرشي: وإن وجب الشكر أمكن تأديته مشروطاً وإن لم تحصل معرفته، وقال السيد مانكديم، والإمام المهدي: بل إنما وجبت المعرفة لكونها لطفاً، وهو قول سائر المعتزلة، ورجحه السيد العلامة محمد بن عز الدين المفتي، ورواه عن المؤيد بالله.
وهذا الدليل مبني على أصلين:
أحدهما:أن المعرفة لطف للمكلفين في القيام بما كلفوه.
الثاني: أن تحصيل ما هو لطف بهذه الصفة واجب، أما الأصل الأول فيدل عليه أن اللطف ما يكون المكلف عنده أقرب إلى أداء الواجب، وترك القبيح، ومعرفة الله بهذه المثابة، فإن المعلوم أن المكلف إذا عرف أن له صانعاً إن أطاعه أثابه، وإن عصاه عاقبه كان أقرب إلى فعل ما كلف به.
قال السيد مانكديم:واللطف عند التحقيق هو العلم باستحقاق الثواب والعقاب؛ لأنه هو الذي يدعو ويصرف، لكنه لما ترتب على العلم بالله بحيث لايتم إلا به عد العلم بالله لطفاً،وحكى في الغياصة عن كثير من المعتزلة،والزيدية: أن اللطف في التحقيق هو العلم بالثواب والعقاب، ثم قال: والأولى أن يقال إن اللطف في الحقيقة ليس هو الثواب والعقاب، ولا العلم بهما، وإنما هو كون هذا الفعل، أوهذ الترك مما يستحق بفعله أو تركه ثواباً أو عقاباً كما صرح به القرشي.
قلت: الذي صرح به القرشي هو العلم ولفظه: اللطف في الحقيقة هو العلم بأن هذا الفعل مما يتحقق عليه الثواب والعقاب؛ لأنه الذي يدعو ويصرف.
قال الإمام عز الدين: إنما لم يجعل اللطف العلم باستحقاق الثواب والعقاب كما ذكره السيد الإمام؛ لأنه قد اعترض بأن من أصولكم بأن اللطف إذا كان معلوماً فاللطف نفس المعلوم، وإن كان مظنوناً فاللطف نفس الظن؛ إذ المظنون قد يكون لا ثبوت له فكان الظن اللطف، فيلزم على هذا الأصل أن يكون اللطف نفس الثواب والعقاب لأنهما معلومان، ولايصح أن يكون لطفاً لتأخرهما عن فعل المكلف به، ومن حق اللطف التقدم على الملطوف فيه، فحينئذ جعل اللطف ماذكره، ولايلزم عليه مالزم على جعله العلم باستحقاق الثواب.
قلت: إلا أنه لم يظهر لي الفرق بين قول السيد مانكديم، بأنه العلم باستحقاق الثواب والعقاب،وبين قول هؤلاء بأنه العلم بكون هذا الفعل مما يستحق عليه ذلك، فلا يرد هذا الاعتراض على السيد، وإنما يرد على من قال بأن اللطف هو العلم بالثواب والعقاب، وإنما ورد عليهم لما مر من تأديته إلى كون اللطف متأخراً عن الملطوف فيه، وأما العلم بالاستحقاق فليس بمتأخر. فتأمل.
وبما قررنا ثبت أن المعرفة إنما سميت لطفاً؛ لأن العلم بالاستحقاق لايتم إلا بمعرفة المثيب والمعاقب،فسمي الجميع لطفاً،فإن قيل:إذا كان الوجه في تسمية المعرفة لطفاً كون العلم بالاستحقاق لايتم إلا بها،فما تقولون فيما لايتوقف العلم باستحقاق الثواب والعقاب عليه من المعارف كنفي الرؤية، ونفي الثاني،ومسألة الإمامة،والشفاعة، وغيرها من مسائل أصول الدين؟
قيل: قد أجيب عن هذا من وجهين:
أحدهما: أن نقول لكل واحدة من تلك المسائل حظ في الدعاء والصرف فتكون ألطافاً، ولا نسلم قول من يقول إن اللطف ليس إلا مجرد العلم باستحقاق الثواب والعقاب.
الثاني: أن منها ماهو شرعي محض كالإمامة، والأمر بالمعروف، والنهي عن المنكر، والمنزلة بين المنزلتين، ومنها ما تطابق فيه العقل والشرع كنفي الثاني، فإذا ثبت ذلك كان وجه وجوبها كالوجه في وجوب الواجبات الشرعية، وهو كونها ألطافاً في التكاليف العقلية العملية، فصح أن وجه وجوب جميع مسائل أصول الدين واحد وهي كونها لطفاً، فإن قيل: إذا لم تجب المعارف إلا لكونها وصلة إلى المطلوب الذي هو العلم باستحقاق الثواب والعقاب فلم أطلق كثير من المتكلمين القول بأنها ألْطَافٌ؟
فالجواب من وجهين:
أحدهما: ما روي عن قاضي القضاة من أنه ما من شيء من هذه المعارف إلا وله حظ في اللطف، ألا ترى أنه لو لم يعلم أن الله تعالى قادر لجوز أن لايقدر على عقابه مع استحقاقه لذلك، ولو لم يعلم أنه تعالى عالم لجوز أن لا يعلم أنه ممن يستحق العقاب وإن كان مستحقاً له، ونحو ذلك في سائر المسائل أو أكثرها.
قال الإمام عز الدين: وهو كلام حسن وإن منع منه أكثر المتأخرين، وصرحوا بأن اللطف ليس إلا العلم بالثواب والعقاب.
وثانيهما: أن تسميتها لطفاً على جهة المجاز من تسمية الشيء بما يؤدي إليه، وهي تؤدي إلى العلم باستحقاق الثواب والعقاب بمعنى أنه لايمكن إلا معها.
قال الإمام عز الدين: ولا يلزم تسمية النظر لطفاً؛ لأن المجاز لايقاس عليه، ولأنها سميت بذلك تفخيماً لها لتعلقها بذات الله تعالى، وصفاته، وعدله، وحكمته، ووعده ووعيده، ولا كذلك النظر.
قلت: وتسميتها لطفاً على جهة المجاز هو الظاهر من حكاية صاحب الغياصة عن المتكلمين، فإنه ذكر أن للطف على التحقيق على ما ذكره المتكلمون هو العلم بالثواب والعقاب، وأما مجرد المعرفة فلا حظ لها في اللطف، قال: ولهذا لو عرف العبد ربه ولم يعلم وعد الثواب، ولا وعيد العقاب لم يدعه شيء من ذلك إلى شيء من التكاليف، بل ربما وقع في نفسه أنه يعاقب على ذلك لإتعاب نفسه التي هي ملك غيره.
وأما الأصل الثاني، وهو أن تحصيل ما هو لطف للمكلفين بما كلفوه واجب، فدليله أن تحصيله يجري مجرى دفع الضرر عن النفس، فإنه إذا فعل الطاعة دفع عن نفسه ضرر العقاب، ولا يحصل فعل الطاعة إلا بعد معرفة المطاع، فكان تحصيل المعرفة واجباً؛ لأن وجوب دفع الضرر عن النفس معلوم ضرورة مظنوناً كان أو معلوماً، إلا أن وجه الوجوب في المعلوم هو كونه دفعاً للضرر، وفي المظنون هو الظن لدفع الضرر، فإن قيل: لم جعلوا تحصيل المعرفة جارياً مجرى دفع الضرر ولم يجعلوه دفع ضرر في نفسه؟
قيل: لأن الذي يدفع الضرر في الحقيقة هو فعل الطاعة وترك المعصية، ولذا لو حصلت المعرفة من دونهما لم يندفع الضرر، لكن لما يتم الفعل والترك إلا بعد المعرفة أجري تحصيلها مجرى دفع الضرر، وإنما قالوا إنه لايتم فعل الطاعة وترك المعصية إلا مع المعرفة؛ لأن المطيع من فعل ما أراده المطاع، والطاعة فعل ذلك مع القصد إلى طاعته، ولا يمكن القصد إلى طاعته إلا مع معرفته.
فإن قيل: ما الوجه في استواء الحال في المظنون والمعلوم؟
قيل: حكم العقل بذلك، فإنه لافرق عند العقلاء بين مشاهدة السم في الطعام، وخبر من يورث خبره الظن في وجوب الترك، وكذلك الأدوية فإنه يجب فعلها لظن الدفع، وذلك أمر موجود من النفس.
فإن قيل: لم قالوا إن وجه الوجوب في المظنون هو ظن الدفع ولم يجعلوه نفس الدفع كما في المعلوم؟
قيل: لأن الدفع غير مقطوع به إذا لم يكن الضرر معلوماً؛ إذ من الجائز أن لا يكون ثابتاً في نفس الأمر، والعلم بالوجوب فرع على العلم بوجه الوجوب، والظن في نفسه معلوم، فكان هو الوجه للعلم به دون الدفع، وإلى هنا انتهى الكلام على هذين الأصلين، وبثبوتهما يثبت أن معرفة الله واجبة، وأن وجه وجوبها كونها لطفاً.
فإن قيل: إذا كانت لطفاً فهلا وجب على الله فعلها؛ لأن اللطف يجب على المكلف -بكسر اللام- للمكلف -بفتحها- لإزاحة العلة مع أن الضروري أجلى وأقطع للشك، وقد مر أن اللطف إذا كان مقدوراً لله وجب فعله، وإذا فعله وجب أن يفعله على أبلغ الوجوه، وفعل المعرفة مقدور لله تعالى.
قيل: لو وجب عليه تعالى لفعله إذ لا يخل بواجب، ولعله قد علم أنه من فعلنا أبلغ، وقد ذكر الشيخ أبو عبد الله أن المعرفة إذا حصلها العبد بنظر و اكتساب كان إلى الثبات إلى ماهي لطفاً فيه، والتمسك به أقرب من أن ينالها بلاكد ولا كلفة، ومن شأن اللطف أن يجب على أبلغ الوجوه، ولا عبرة في كونه أبلغ بكونه أجلى، قال: ولمثل هذا فإن من يكتسب الأموال بكلفة ومشقة يكون تمسكه بها أقرب مِنْ تمسكِ من ينالها بإرثٍ أو نحوه مما لامشقة فيه.
واعلم: أنه قد روي في وجه وجوب المعرفة قول ثالث وهو أن وجه وجوبها قبح تركها وهو الجهل، والظن ونحوهما مما يمنع من وجودها كالشك وغيره، وهذا القول رواه السيد مانكديم عن أبي علي، وروي في وجه وجوبها قول رابع وهو أنه ورد بها الشرع، وهذا قول المجبرة، رواه عنهم الإمام عز الدين، وهو بناء على نفي الحكم العقلي، وقد مر إبطاله، وأما أبو علي فقد أبطل قوله هذا السيد مانكديم بأنه لايستقيم إلا لو لم يمكن الانفكاك عن القبيح إلا إلى المعرفة، فأما وهو يمكن الانفكاك عنه إلى غيرها بأن لايفعلها، ولا يفعل ما يضادها وهو الجهل وغيره، فلا يستقيم كلامه، وهذا يشبه قولنا في الصلاة أنه لايجوز أن يجعل وجه وجوبها قبح تركها من الزنا وغيره؛ لأن ذلك إنما يصح لو لم يمكن الاحتراز عن الزنا مثلاً إلابالصلاة، فأما وهو يمكن الانفكاك عن الأمرين جميعاً فلا، وحاصله أنه لايصح القول بأن وجه وجوب المعرفة ما ذكره أبو علي إلا إذا كانت المعرفة قد منعت من وقوع القبيح، ولا يكون ذلك إلا إذا لم ينفك عن المعرفة إلا إلى القبيح، والعكس، لكنه قد ينفك عن الأمرين جميعاً، فلا يصح جعل ما ذكره وجهاً في وجوبها.
قال الإمام عز الدين: اعلم أنه إذا ثبت أن للمعرفة تروكاً كثيرة لم يتأت على أصل أبي هاشم أن يكون وجه وجوبها قبح تركها؛ لأن عنده أن الواجب إذا كان له تروك كثيرة لم يقبح شيء منها، وإنما يقبح إذا كان له ترك واحد لا يمكنه الانفكاك من الواجب إلا إليه.
قيل: ومثاله أن يكون المكلف بين صفيحتين من حديد بينهما من الفرق ما يتسع لجسمه فقط، وهو قائم مستند الظهر إلى صفحة أخرى، واللبث هنالك واجب عليه، فإنه لا يمكنه فعل شيء يشتغل به عن الواجب، ويكون تركاً له إلا المشي أمامه لاغير، فأما إذا أمكن الانفكاك من الواجب، ومنه لم يقبح، وهذه حال المعرفة، وهذه التروك فإنه يمكن الانفكاك منها، ومن كل واحد على انفراده، فلا يقبح على ما قاله أبو هاشم، ولكن مذهب الجمهور: إن كل ترك للواجب اشتغل به عنه فهو قبيح، وإن أمكن الانفكاك عنه، وعن الواجب بأن يكون للواجب تروك غيره.
قال الإمام عزالدين: وقد روي الخلاف في المسألة على غير هذه الصورة، فقيل: إن كان الواجب المتروك لا يمكن فعله إلا بجارحة كالكلام، فإن تركه وهو السكوت يكون قبيحاً؛ لأنه فعل ما لايتم الكلام معه وهو السكوت، وإن كان يمكن فعل الواجب بجوارح كرد الوديعة فإنه يمكن ردها بجوارح ومن جهات، والفعل الذي يشتغل به عنها كذلك، فهاهنا وقع الخلاف، فقال أبو هاشم، وأبو عبد الله:لا يكون شيئٌ مما يشتغل به عن الرد قبيحاً، وقال أبو إسحاق، وقاضي القضاة: تقبح هذه التروك جميعها، وتكون بمنزلة الترك الواحد، هذا مع إجماعهم على استحقاق تارك الواجب للذم والعقاب على إخلاله به، سواء كان له ترك أو تركان أو تروك، وإنما الخلاف في الفعل الذي يشتغل به عن أداء الواجب هل يستحق عليه عقاباً أم لا.
قلت: وبما ذكرنا عن السيد مانكديم، وأبي هاشم تعرف ضعف قول أبي علي، فإن قيل: إن مذهب أبي علي أن التروك أفعال، وأنه لا يمكن القادر بقدرة الخلو عن فعل الشيء، وفعل ضده فمن لم يفعل المعرفة فقد فعل ضداً لها، وهو المسمى تركها، فيكون الترك قبيحاً حقيقة، وأنتم تقولون: أن الترك كالقبيح من حيث أنه جهة كافية في استحقاق الذم، وإذا كان كذلك فقد صار أحدنا لاينفك عن المعرفة إلا إلى ما يستحق به الذم.
قيل: أما قوله إن الترك فعل، فغير مسلم، فقد أبطل الجمهور قوله أن القادر بقدرة لا يخلو من فعل الشيء وفعل ضده، بأن أحدنا قد لا يريد تصرفات الناس في الأسواق ولا يكرهها، فقد خلا عن الشيء وضده، لايقال أنه لا يخلو عنهما إلا إلى ثالث، وهو الإعراض؛ لأنا نقول الإعراض ليس بمعنى؛ إذ لا يوجد من النفس ولا دليل عليه، وأما قوله إن الترك كالقبيح...إلخ.
فجوابه: أنه وإن كان كذلك، فإنا نقول إنما يكون عدم فعله للمعرفة كالقبيح إذا ثبت وجوبها، فلا يصح جعله وجهاً في وجوبها؛ لأنه دور.
قال في المعراج: واعلم أن لأبي علي مذهباً آخر في وجه وجوب المعرفة، وهو أنها وجبت لدفع ضرر العقاب.
قلت: إن أراد أنها جارية مجرى دفع الضرر كان كقول القائلين بأن وجه وجوبها كونها لطفاً، وإن أراد أنها دفع للضرر ورد عليه ما مر من أن الذي يدفعه فعل الطاعة، وترك المعصية.
تنبيه: [في وجه وجوب المعرفة وكونها لطفاً]
ظاهر قول القائلين بأن وجه وجوب المعرفة كونها لطفاً للمكلفين فيما كلفوه العموم، وهو أنها لطف في كل تكليف عقلي، أو شرعي، وليسوا كذلك، وإنما تسامحوا في العبارة، وإلا فليس مرادهم إلا أنها لطف في التكاليف العقلية العملية فعلاً كقضاء الدين، وتركاً كرد الوديعة، فأما التكاليف الشريعة فليست لطفاً فيها؛ لأن من حق اللطف أن يكون زائداً على التمكين، والشرعيات لا يمكن تأديتها إلا بعد المعرفة، فإن من المعلوم أن عبادة من لايعرف غير ممكنة، وكذلك ليست بلطف في التكاليف العقلية العلمية كمسائل أصول الدين للوجه الذي ذكرنا (وقيل): بل العبارة على ظاهرها من العموم، وذلك أن للمكلف في معرفته تعالى حالتين:
إحداهما: في ابتداء التكليف كأول علمه بالله تعالى، وما يلي ذلك إلى وقت إمكان الشرعيات فاللطف في هذه الحال لا يكون إلا في التكاليف العقلية العملية.
الحالة الثانية: ما بعد ذلك كالحالة التي يجدد فيها العبد المعرفة بالله بعد معرفة الشرعيات، وإمكان ذلك فالمعرفة المتجددة لطف في جميع التكاليف؛ لأن المكلف قد صار متمكناً من معرفة جميع التكاليف، فيصح إجراء العبارة على العموم نظراً إلى هذه الحال، وقد يقال اللطف في التحقيق العلم بالثواب والعقاب، أو باستحقاقهما كما مر، والعلم بذلك لطف في التكاليف الشرعية، كما في العقلية العملية، ومعرفة الله لم نجعلها لطفاً إلا لكونها وصلة إلى اللطف الحقيقي، فيصح جعلها لطفاً في العقلية العملية، وفي الشرعيات بهذا الاعتبار. والله أعلم.
الموضع الثاني: في أن معرفة الله ليست ضرورية، فالذي عليه الجمهور أن الله تعالى لايعرف ضرورة في دارالتكليف، وخالف في ذلك أهل المعارف وهم أبو علي الإسواري، والجاحظ، وغيرهما، فهؤلاء قالوا: المعارف ضرورية كما مرت الحكاية عنهم، ثم اختلفوا، فمنهم من قال: أن المعرفة تحصل إلهاماً فلا يجب النظر أيضاً وهو قول الإسواري ومن تابعه، ومرادهم بالإلهام أنها واقعة لا لأمر ولا عند أمر، وإنما هي كالبديهيات، ومنهم من قال: بوجوب النظر؛ لأنه شرط اعتيادي يفعل الله تعالى المعرفة عنده، وهذا مذهب الجاحظ، واختاره صاحب الجوهرة، وروي عن المؤيد بالله، والإمام يحيى بن حمزة أن المعرفة قد تحصل ضرورة في الدنيا لبعض المكلفين كالأنبياء، والأولياء، وحكي مثله عن الفقيه حميد بن أحمد المحلي، ورواه في البدر الساري عن الإمام عز الدين، وفي حواشيه عن الهادي بن إبراهيم، والإمام محمد بن القاسم، والقاسم العياني، ورجحه الشرفي، ورواه عن الإمامين، وقيل: العلم الجملي حاصل ضرورة، فإنا نعلم ضرورة أن المطر لا بد له من منزل، وأن السحاب لابد له من منشئ، وأن النبات لا بد له من منبت.
وأما التفصيلي: فلا يحصل إلا دلالة، وهذا المذهب مال إليه الفقيه حميد أيضاً فيكون له قولان، وحكى الإمام يحيى عن الصوفية القول بأن المعرفة تحصل بالتصفية للنفس عن العلائق الجسدانية، والهيئات البدنية، فمتى خلت عن هذه الأمور حصلت لها عقائد يقينية.
واعلم: أنه قد مر في الفاتحة ذكر الخلاف في هذا الموضع، إلا أنه غير مستوفى، ولا مدلول عليه بالدليل العام، فلهذا أعدنا ذكره هنا.
احتج الجمهور بوجوه:
أحدها: أن هذه المعارف تحصل بحسب نظرنا على طريقة واحدة مستمرة، فيجب أن تكون متولدة عن النظر، وإذا كانت كذلك فالنظر من فعلنا، فيجب أن تكون المعارف من فعلنا؛ لأن فاعل السبب فاعل المسبب، وإذا كانت من فعلنا لم يجز أن تكون ضرورية؛ لأن الضروري هو ما يحصل فينا بغير اختيارنا، فإن قيل: فيلزمكم في اللون الحاصل عند الضرب أن يكون من فعلكم لحصوله بحسب فعلكم الذي هو الضرب.
قيل: قد مر الجواب عن هذا السؤال في الاستعاذة، وتحريره: أن هذا اللون ليس بحادث عن الضرب، وإنما هو لون الدم انزعج بالضرب؛ لأن الدم كان مستوراً بين أجزاء اللحم فوقع بالضرب افتراق تلك الأجزاء فجرى الدم ورؤي من تحت البشرة العلياء لرقتها، ومما يدل على ذلك أنه لو ضرب الجماد، أو الجسم الثخين لما ظهر اللون مع احتمالهما للألوان.
قال الإمام عز الدين: وقد جرى لأبي هاشم أنه لا يمتنع أن يكون هذا اللون حادثاً بمجرى العادة، أما أبو القاسم ومن تبعه فقد جعلوه متولداً عن الضرب من فعل الضارب، فلا يرد عليهم هذا السؤال.
فإن قيل: وما دليلكم على أن فاعل السبب فاعل المسبب حتى يصح لكم هذا الوجه؟
قيل: دليلنا أن المسبب يقف على اختيار فاعل السبب بواسطة السبب، وإن فاعل السبب يمدح ويذم على المسبب.
الوجه الثاني: أنها تقع بحسب قصودنا ودواعينا، وتنتفي بحسب كراهتنا وصوارفنا، فيجب أن تكون من فعلنا، وهذا هو أصل دليلنا في أفعال العباد كما مر، فإن قيل: فيلزمكم أن يكون العلم بمخبر الأخبار المتواترة من فعل المخبرين لأنه حاصل بحسب قصدهم، ودواعيهم، وواقف على اختيارهم.
قيل: لا يلزمنا ذلك؛ لأن الذي وقف على اختيارهم ووقع بحسب قصدهم هو الإخبار لا العلم فهو من جهة الله تعالى بخلقه فينا عند خبرهم، ولو وقف العلم على اختيارهم لوجب حصوله عند كل خبر بأن يختاروه، وأن لا يحصل إن لم يختاروه.
الوجه الثالث: أنه يلزم أن يكون العادم للمعرفة معذوراً، و هذا الوجه قد تقدم ذكره في الثالثة من مسائل قوله تعالى: {وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَقُولُ آمَنَّا بِاللَّهِ...} الآية[البقرة:8].
الوجه الرابع: لو كان العلم بالله ضرورياً لكان بديهياً لتعذر ما عداه من الضروريات، وتحقيق هذا الوجه أن العلوم الضرورية تنقسم إلى ما يحصل لا عن طريق،وإلى ما يحصل عن طريق،الأول البديهي،والثاني إما أن تكون طريقه المشاهدة،أو الأخبار المتواترة، أو الخبرة، أو التجربة، ولا يجوز أن تكون طريق علمنا بالله تعالى المشاهدة لما سيأتي من أنه تعالى لا تجوز عليه الرؤية، ولا الخبرة، ولا التجربة لأنه لا بد من تقدم المشاهدة في حصول العلم عن الخبرة فلم يبق إلا أن يكون بديهياً، وهو باطل؛ إذ البديهيات مما يجب اشتراك العقلاء فيها؛ لأنه من كمال العقل، ومعلوم أنهم مختلفون في الباري تعالى، فمنهم من نفاه، ومنهم من أثبته، واعترضه الإمام عز الدين بأن قال: لانسلم أنه يجب في كل علم بديهي أن يشترك العقلاء فيه، ولا أن كل البديهيات من كمال العقل فإن العلم بأن زيد هو الذي شاهدناه من قبل بديهي؛ إذ ليس بحاصل عن طريق، وليس من علوم العقل، ولا يجب اشتراك العقلاء فيه، فهلا كان العلم بالله بديهياً ولا يجب اشتراك العقلاء فيه.
قلت: في كلام ابن متويه ما يدل على أن نحو العلم بأن زيداً هو الذي شاهدناه من قبل قسم برأسه معدود من كمال العقل، وذلك أنه قال بعد أن ذكر زوائد على علوم العقل العشرة، وعدها من علوم العقل ما لفظه: ويجب أن يثبت ولده، أو صديقه، وقد صحبهما، وعاشرهما الدهر الطويل إذا غابا عنه ثم رآهما.
الوجه الخامس: أن الله تعالى قد مدح العلماء في غير موضع من القرآن، وأمر بالمعرفة في قوله تعالى: {فَاعْلَمْ أَنَّهُ لاَ إِلَهَ إِلاَّ اللَّهُ}[محمد:19] وذلك يقتضي أن المعرفة من فعلنا؛ إذ لا يمدح أحد على فعل غيره، ولا يأمر الله بما لايطاق، وفي السنة النبوية من الأخبار الدالة على وجوب طلب العلم عموماً، وعلى جوب معرفة الله خصوصاً شيء يعجزنا حصره، وهو يدل على أنا مكلفون بالمعرفة، والتكليف بها لا يجوز إلا إذا كانت من فعلنا، وفي ذلك إبطال كونها ضرورية.
من ذلك ما رواه المرشد بالله في الأمالي قال: ثنا أبو نصر الفرحان الشافعي، أنا عبد الكريم بن أحمد بن محمد الدراوردي، أنا جدي، أنا أحمد بن محمد الأعرابي، ثنا الحسن بن علي الزعفراني، ثنا الحسن بن عطية، عن ابن عاتكة، عن أنس قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم : ((اطلبوا العلم ولو بالصين فإن طلب العلم فريضة على كل مسلم)).
الفرحان هو: ابن أحمد الفرحان أبو نصر الشافعي القزويني.
وعبد الكريم بن أحمد هو: الشيرازي الدراوردي، وهو ابن بنت بشر الحافي، وجده هو أبو عبدالله محمد بن جعفر.
وأما الأعرابي فهو: أحمد بن محمد بن زياد.
قال في الطبقات: هو اسم أبي سعيد الأعرابي، راوي سنن أبي داود عن إبراهيم بن أحمد، وعنه أحمد بن موسى.
قال علامة العصر: هو أبو سعيد أحمد بن محمد بن زياد الأعرابي البصري الدراوردي، روى عن الحسن بن محمد بن الصباح، وعنه محمد بن جعفر الشيرازي، والحديث أخرجه العقيلي في الضعفاء، وابن عدي في الكامل، والبيهقي في الشعب، وابن عبد البر في كتاب فضل العلم، كلهم عن أنس.
قال العزيزي: وهو حديث حسن لغيره، وأخرجه ابن عبد البر من حديث أنس وزاد بعد قوله: على كل مسلم، وإن الملائكة لتضع أجنحتها لطالب العلم رضاء بما يطلب، وفي أمالي المر شد بالله أخبرنا أبو سعيد بن زر، أنا أبوبكر الملجمي، ثنا محمد بن علي الفرقدي، ثنا إسماعيل بن عمر، ثنا سلام الطويل،عن زيد بن ميمون، عن أنس، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم : ((طلب العلم فريضة على كل مسلم)) وفيه أخبرنا أبو إسحاق البرمكي، ثنا محمد بن حسين الأزدي، ثنا أبو يعلى، ثنا هريل بن إبراهيم الحماني، ثنا عثمان، عن حماد ابن أبي سلمان، عن أبي وائل، عن عبدالله قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم : ((طلب العلم فريضة على كل مسلم)).
إسماعيل الظاهر أنه إسماعيل بن نجيح البجلي الكوفي الأصبهاني إذ لم يذكر في الجداول من اسمه إسماعيل بن عمرو من رجال أصحابنا غيره، وقال: عده ابن حبان في الثقات، وقال الذهبي: إليه انتهى علو الإسناد بأصبهان، وأثنى عليه غيره.
توفي سنة سبع وعشرين ومائتين، روى له أبو طالب، والمرشد بالله، وفي المناقب.
وأما سلام فهو: سلام بن سليم التميمي السعدي، أبو سليمان المدائني الطويل، قال السيد إدريس في الكنز: وسلام ممن قال بالعدل والتوحيد.
توفي سنة سبع وتسعين ومائة، احتج به ابن ماجة، وروى له أئمتنا الثلاثة.
وأما محمد بن الحسين فهو: الأزدي، وفي الجداول الأودي أبو الفتح الموصلي، أهل الموصل يذمونه ولا يحمدونه.
توفي سنة أربع وسبعين وثلاثمائة.
وأما حماد فهو: حماد ابن أبي سليمان مسلم الأشعري، أبو إسماعيل الفقيه، أخذ عن أنس، وابن جبير وغيرهما، ووثقه النسائي.
توفي سنة عشرين ومائة، احتج به مسلم، والأربعة.
قال علامة العصر: كان ممن أرسله معاوية إلى دومة الجندل للقيا الأشعري.
روى له المرادي، والمؤيد بالله، والمرشد بالله، والحديث أخرجه ابن عدي، والبيهقي في الشعب عن أنس، والطبراني في الأوسط، والخطيب عن الحسين بن علي، والطبراني في الأوسط عن ابن عباس، وتمام في فوائده عن ابن عمر، والطبراني في الكبير عن ابن مسعود، والخطيب عن علي، والطبراني في الأسط، والبيهقي في الشعب عن أبي سعيد.
قال المناوي:وأسانيده ضعيفة لكن تقوى بكثرة طرقه،وقال العلقمي: هو صحيح لغيره.
قال بعض العلماء: المراد به هنا ما يجب لله، ومايجوز، وما يستحيل، وكذا للرسل، وكذا كل ما يتوقف عليه صحة عبادته، وإذا أراد بيعاً مثلاً يجب عليه معرفة ما يصححه فكل ذلك فرض عين، وفرض الكفاية كالتدريس، وما زاد على الاجتهاد المطلق سنة، وفي أمالي أبي طالب أخبرنا أبو عبد الله القزويني، ثنا علي بن إبراهيم القطان، ثنا محمد بن مزيد، ثنا هشام بن عمار، ثنا حفص بن سليمان، ثنا كثير بن شنظم، عن ابن سيرين، عن أنس قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم : ((طلب العلم فريضة على كل مسلم، وواضع العلم عند غير أهله كمقلد الخنازير الجواهر واللؤلؤ والذهب)) وأخرجه ابن ماجة، وضعفه المنذري.
أما علي فهو: بن إبراهيم بن سلمة بن بحر القطان أبو الحسن القزويني، كان عالماً زاهداً عابداً.
توفي سنة خمس وأربعين وثلاثمائة، روى له أبو طالب، والمرشد بالله.
وأما محمد ابن يزيد فهو: ابن ماجة.
وأما حفص بن سليمان فهو: حفص بن أبي داود المقري الأسدي مولاهم الغاضري، وفي الخلاصة حفيص، قال البخاري: تركوه، وقال وكيع: ثقة، وفي الميزان والكاشف: وأما القراءة فهو فيها ثبت بإجماع. توفي سنة اثنتين وثمانين ومائة.
احتج به الترمذي، وابن ماجة، وروى له المؤيد بالله، وأبو طالب.
وأما كثير بن شنظم، فقال في الجداول: الصواب شنظير وهو الأزدي أبو قرة البصري.
قال ابن عدي: أرجو أن تكون أحاديثه مستقيمة، وقال أحمد وغيره: صالح الحديث، وعن يحيى أنه ثقة.
احتج به الجماعة إلا النسائي.
وفي الجامع الصغير عنه صلى الله عليه وآله وسلم : ((طلب العلم فريضة على كل مسلم، وإن طالب العلم يستغفر له كل شيء حتى الحيتان في البحر)) ونسبه إلى ابن عبد البر في كتاب العلم من حديث أنس.
قال الشيخ العزيزي: حديث حسن لغيره، وأخرجه البيهقي في الشعب، وابن عبد البر عن أنس بلفظ: ((طلب العلم فريضة على كل مسلم والله يحب إغاثةاللهفان)) وفي أمالي أبي طالب أخبرنا محمد بن علي العبدكي، ثنا محمد بن يزداد، ثنا الفضل بن العباس، ثنا الحسن بن عبد الله بن جعفر، ثنا أفلح بن محمد، عن محمد بن يحيى، عن جويبر، عن الضحاك، عن ابن عباس: جاء رجل إلى النبي صلى الله عليه وآله وسلم فقال: يا نبي الله علمني من غرائب العلم، فقال له: ((وماذا صنعت في رأس العلم حتى تسألني عن غرائبه؟)) فقال الرجل: وما رأس العلم يارسول الله؟ فقال: ((معرفة الله حق معرفته)) فقال: يارسول الله وما معرفة الله حق معرفته؟ فقال: ((أن تعرفه بلا مثل ولا شبيه، وتعرفه إلهاً واحداً صمداً أولاً آخراً ظاهراً باطناً لا كفؤ له ولامثل)).
أما العبدكي فهو: محمد بن علي العبدكي أبو أحمد، كان رأساً في علم الكلام يقال خلط في الإمامة وتنقل من قول إلى قول، وفي تاج العروس: محمد بن علي بن عبدك الجرجاني مقدم الشيعة، بها روى وحدث.
وأما محمد بن يزداد فهو: السلمي الأصبهاني، قال في الطبقات: الظاهر أنه صاحب المصابيح الذي عده المنصور بالله ممن قال بالعدل والتوحيد، وذكره في تاريخ قزوين. والله أعلم.
وأما الفضل ابن العباس والحسن ابن عبدالله فلم يبين حالهما في الجداول.
وأما أفلح فهو: ممن استشهد مع الحسين عليه السلام سنة ستين، ومحمد بن يحيى لا أعرفه.
وجويبر هو: ابن سعيد الأزدي، أبو القاسم البجلي، وقيل اسمه جابر روى عن علي عليه السلام وغيره.
توفي بعد الأربعين ومائة، تكلموا عليه بغير حجة.
احتج به ابن ماجة، وروى له أئمتنا الأربعة.
وأما الضحاك فهو: ابن مزاحم الهلالي الخراساني، وثقه أحمد، وابن معين، وأبو زرعة، وزاد أحمد: مأموناً، توفي سنة خمس ومائة.
احتج به الأربعة، وروى له أئمتنا الخمسة.
قال في الجداول: أينما ورد الضحاك، عن ابن عباس، وعن جويبر فهو ابن مزاحم، وقد ذكر بعض أصحابنا أن إسناد هذا الحديث موثوق به، وفيه تنبيه على أن الأهم أن يبتدئ الإنسان بما هو مطالب به، ولا يشتغل بتعلم نوادر العلم، بل يصحح أساس دينه ليمكنه أداء العبادات على الوجه الذي أمر بها، والمراد بالمعرفة العلم بالله، وبما يجب له من الصفات على الوجه الذي يجب اعتقادها عليه.
وفي أمالي أبي طالب أيضاً: حدثنا محمد بن علي العبدكي، حدثنا علي بن يحيى الآملي، ومحمد بن موسى الوضاحي، ثنا محمد بن شداد، ثنا عباد بن صهيب، وأبو بكر الهذلي، ثنا جعفر بن محمد سمعت أبي محمد يقول: سمعت أبى علياً يقول: سمعت أبي الحسين يقول: سمعت أبى علياً" يقول: سمعت رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يقول: ((من أخذ دينه عن التفكر في آلاء الله والتدبر لكتابه والتفهم لسنتي زالت الرواسي ولم يزل، ومن أخذ دينه عن أفواه الرجال وقلدهم فيه ذهبت به الرجال من يمين إلى شمال، وكان من دين الله على أعظم زوال)).
علي بن يحيى ومحمد بن موسى لم يبين حالهما في الجداول.
أما محمد بن شداد فهو: المسمعي، قال الذهبي: كان معتزلياً، وقال في التقريب: مقبول، وفي التذكرة: كان مسنداً ببغداد في وقته.
توفي سنة ثمان وسبعين ومائتين، روى له أبو طالب، والمرشد بالله.
وأما عباد فهو: البصري الكلبي، قال يحيى: هو أثبت من أبي عاصم النبيل، وقال أبو داود: صدوق قدري، وقال أحمد: ما كان بصاحب كذب.
توفي بعد المائتين، وقد نال منه بعضهم.
وقال أبو طالب في الأمالي: أخبرنا العبدكي، ثنا ابن يزداد، ثنا الوليد بن أبي الوليد، ثنا أبو بكر بن العوام، ثنا إبراهيم بن عبد الحميد، عن جويبر، عن الضحاك، عن ابن عباس قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم : ((خمس لا يعذر بجهلهن أحد معرفة الله أن تعرف الله ولا تشبهه بشيء ومن شبه الله بشيء أو زعم أن الله يشبهه شيء فهو من المشركين، والحب في الله والبغض في الله، والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، واجتناب الظلم)) فهذه الأخبار كلها تدل دلالة صريحة على أن معرفة الله، ومعرفة صفاته ليست ضرورية إذ لو كانت ضرورية لما حسن الأمر بالطلب وإيجابه، والحث عليه، والترغيب فيه، والاستفهام عن حصول المعرفة ووصف من لم يعرف الله بالجهل؛ لأنه لامعنى لذلك، ولا فائدة فيه؛ إذ الضروري لايتوقف على شيء من جهتنا، ولا يكون لنا فيه اختيار.
واعلم: أن هذه الأدلة السمعية كما دلت على أن المعارف ليست ضرورية فهي أيضاً تدل على وجوب المعارف، وذلك واضح، فإن قيل: الاستدلال بالسمع في هذه المسألة لايصح؛ لأن العلم بالسمع يتوقف على العلم بالله تعالى، ومعرفة ما يجب له، وما يستحيل عليه، فالجواب من وجوه:
أحدها: أن ذلك من باب الاستظهار.
الثاني: أنَّ مقتضى مذهب الخصم صحة الاستدلال بالسمع لأن صحة الاستدلال به لاتتوقف إلا على معرفة الله، وهي حاصلة لكل مكلف من ابتداء تكليفه لأنها إذا كانت ضرورية فلا يتوقف حصولها على شيء، بل يجب فعلها في المكلف عند ابتداء تكليفه،، وإلا لم يجز التكليف، وإذا كان مذهب الخصم يقتضي صحة الاستدلال به جاز أن يستدل عليه بما يلتزمه.
الثالث: ذكره الإمام عز الدين وهو أن الاستدلال بالسمع ممكن لأنا متفقون نحن والخصم على حصول العلم بالله وبصفاته، وعدله وحكمته، وإنما وقع النزاع في أن حصول المعرفة من فعلنا، أو من فعله، ولا تتوقف صحة السمع على صحة واحد من القولين، ومن الأدلة على أن المعارف ليست ضرورية قول علي عليه السلام بعد أن ذكر آدم عليه السلام : (واصطفى من ولده أنبياء أخذ على الوحي ميثاقهم، وعلى تبليغ الرسالة أمانتهم لما يدل أكثر خلقه عهد الله إليهم فجهلوا حقه واتخذوا الأنداد معه، واجتالتهم الشياطين عن معرفته،واقتطعتهم عن عبادته،فبعث فيهم رسله، وواتر إليهم أنبياءه ليستأدوهم ميثاق فطرته، ويذكروهم منسي نعمته، ويحتجون عليهم بالتبليغ، ويثيروا لهم دفائن العقول، ويروهم الآيات المقدرة من سقف فوقهم مرفوع، ومهاد تحتهم موضوع، ومعائش تحييهم، وآجال تفنيهم، وأوصاب تهرمهم، وأحداث تتابع عليهم). رواه في النهج.
فهذا نص في أن معرفة الله ليست ضرورية إذ لوكانت ضرورية لما اتخذوا الأنداد شركاء له جل وعلا؛ إذ لا يعتقد جواز الشريك له تعالى في الإلهية إلا من جهله، ولم يعرفه حق معرفتة، والضروري لا ينتفي بشك ولا شبهة، وأيضاً لو كانت ضرورية لما أمكن الشياطين اجتيال العباد عنها، ولما كان لبعث الرسل ليدلوهم على النظر ويبينوا لهم طرقه فائدة، بل يكون عبثاً، قوله: اجتالتهم بالجيم: أي أدارتهم وصرفتهم تارة هكذا، وتارة هكذا، وواتر إليهم أنبياءه: أي جعل بين كل نبيين فترة، وقيل: ردفهم وتابعهم، والأوصاب: الأمراض.
ومن كلامه عليه السلام : (الحمد لله الذي لا تدركه الشواهد...) إلى أن قال: (الدال على قدمه بحدوث خلقه، وبحدوث خلقه على وجوده، وباشتباههم على أن لاشبه له). رواه في النهج، وهو نص في أنَّا لا نعرف قدمه ووجوده إلا بحدوث خلقه، ولا ننفي عنه مشابهة الخلق إلا باشتباههم، وهذا هو معنى النظر، وقد نص عليه السلام على أنه تعالى جعل حدوث الخلق واشتباههم دليلاً لنا، والدليل لا يحصل منه العلم بالمدلول إلا بالنظر، وكلامه عليه السلام في هذا المعنى كثير، وقد تضمن كتابنا هذا كثيراً منه.
احتج أهل المعارف بوجوه:
الوجه الأول: أنه لو كان العلم بالله تعالى نظرياً لجاز أن يختار أحدنا الجهل في الحالة الثانية من النظر؛ إذ من حق القادر على الشيء أن يكون قادراً على جنس ضده إذا كان له ضد، كما في مشي يمنةٍ ويسرةٍ، والمعلوم أنه لايقدر على اختيار الجهل في ثاني حال من أحوال النظر، وليس ذلك إلا لكون المعرفة ليست من فعلنا، وإذا لم تكن من فعلنا كانت ضرورية.
والجواب من ثلاث جهات:
أحدها: أنا نعارضهم بسائر الأنظار في المسائل الشرعية؛؛ إذ ليست ضرورية اتفاقاً، فما أجابوا به فيها فهو جوابنا هاهنا.
الثانية: أن امتناع اختيار الجهل؛ لأن العلم حصل بسبب موجب وهو النظر، والجهل يقع مبتدأ لاختيار الفاعل، وما كان حاصلاً عن سبب فهو أولى بالوجود؛ إذ حصول سببه يصيرهُ كالحاصل، وهذا مما لاشبهة فيه.
الثالثة: أن العلم ترتاح إليه النفس، ويميل إلى فعله الطبع، فكان وجوده أولى.
نعم: أما في الحالة الثالثة من النظر وما بعدها، فيصح من أحدنا اختيار الجهل بدلاً عن العلم؛ لأن العلم ليس بواجب الوجود حينئذ، وإنما يجدده الفاعل باختياره عند تذكره النظر المتقدم، وفي المعراج وقد ذهب أبو هاشم إلى أنه لا يصح اختيار الجهل مع حصول العلم من دون عارض، وقال أبو علي: يصح، ولا مانع من ذلك، وهذا الخلاف فيما إذا كان العلم مكتسباً،فأما إذا كان ضرورياً فالاتفاق على أنه لا يصح اختيار الجهل بمعلومه،واحتج ابن متويه لصحة ما قاله أبو هاشم بأن العالم من حقه أن يستمر على العلم إلا عند حدوث عارض، لاسيما والعلم مما يستروح إليه ويعد معدَّ المنافع، والعارض الذي يعرض من دون العلم ليس إلا ورود شبهة يختار المرء عندها الجهل.
قال الإمام عز الدين: وهذا الاحتجاج وإن صح فأكثر ما فيه أن العالم لا يدعوه الداعي إلى اختيار الجهل من دون شبهة ترد عليه، فلا يختاره مع عدم الشبهة لعدم الداعي،ولحصول الداعي إلى سكون النفس لما فيه من الاسترواح فأما أن يخرج القادر عن صحة فعل الجهل وعن قادريته عليه فلا،وإذا كان قادراً غير ممنوع صح منه فعله.
قال عليه السلام : إذا عرفت هذا فالأولى أن يقال: أما في الوقت الثاني من وجود النظر فلا يصح اختيار الجهل لما تقدم، ولعل أبا علي لا يخالف في ذلك، وأما من بعد ذلك وعند فعله للعلم ابتداءً غير موجب عن نظر، فيصح مطلقاً سواء وردت شبهة أو لم ترد، هذا من جهة القدرة، وإن لم تقع فلفقد الدواعي. والله أعلم.
الوجه الثاني: لأهل المعارف قالوا: لا يصح دخوله تحت التكليف؛ لأن المكلف إذا لم يعلم أن نظره صحيح مؤد إلى العلم لم يجز منه الإقدام عليه؛ إذ لايأمن أن يوقعه في خطر عظيم، ولأن الإقدام عليه والحال هذه كالإقدام على الجهل المطلق، والإقدام على الجهل، وما لا يؤمن قبحه قبيح، والتكليف بالقبيح لا يجوز، فثبت أن النظر لايصح أن يكون طريقاً إلى معرفة الله، وإذا لم يصح تعين أنه معلوم بالضرورة إذ لا واسطة تصح المعرفة بها.
والجواب: أنا نعارضهم بالتكسب فنقول: قد تقرر في العقول حسن تحمل المشقة لطلب الربح مع أن المسافر لايعلم ما يهجم عليه من نفع أو ضر، فما أجابوا به فهو جوابنا، ثم إنا لا نسلم أنا غير آمنين من الوقوع في الخطر، بل نحن آمنون من ذلك بدليل أن العقلاء يفزعون عند التباس الأمور إلى النظر، ويستحسنونه، بل يوجبونه في بعض الأحوال، وليس ذلك إلا لعلمهم بحسنه، وأنه يدلهم على الصواب.
قال السيد مانكديم: ولا يجب على المكلف أن يعلم أن نظره يؤديه إلى العلم كما لا يجب أن يعلم فيما يتصرف فيه من أحوال معائشه أنه يؤدي إلى المطلوب، بل يكفي أن يعلن على الجملة أن نظره حسن أو واجب، وأنه لو كان يؤدي إلى الجهل لم يحسن ولم يجب، قال: فعلى هذا الوجه يجوز أن يدخل تحت تكليفه، ولا يجب أن يعرف التفصيل الذي قالوه.
واعلم: أن هذا مبني على أن النظر قد يولد الجهل وسيأتي أنه لا يولد غير العلم، وعلى هذا فلا معنى لما ذكروه.
الوجه الثالث: قالوا: لو كان مكلفاً بالمعرفة لوجب أن يعرف صفتها من كونها مقدورة، وكونها اعتقاداً صحيحاً يقتضي إثبات الباري لوجوب كون المكلف عارفاً بصفة ما كلفه، وإلا كان من التكليف بما لايعلم، والمعلوم أنه حال النظر غير عارف، ولو حصلت المعرفة لم تكن مقتضية لسكون النفس؛ لأنها لا تكون إلا ظناً واتفاقاً.
فإن قلتم: هو يعلمها.
قلنا: لو علمها لم يكلف طلبها؛ لأنها هي المطلوب وقد حصلت، فثبت أن التكليف بالمعرفة لا يحسن، إما لأنه من التكليف بما لا يعلم، أومن طلب تحصيل الحاصل.
والجواب من وجوه:
أحدها: المعارضة بما عدا المعارف الإلهية من العلوم النظرية، فما أجابوا به فهو الجواب.
الثاني: ذكره ابن الملاحمي وهو أنه لا يعتبر في العلم بما كلفنا إلا معرفة جنس ذلك المكلف به، وأنه مقدور لنا، ولا يعتبر معرفة عينه، وأنه مقدور لنا، ونحن نعلم أن العلم جنس متميز عن غيره من الأجناس مقدور لنا يحصل لنا معه سكون النفس، وهذا كافٍ.
الثالث: أنه يعلم ماهية المعرفة تصوراً وإن كانت معدومة، وهو مكلف بتلك الماهية المتصورة في ذهنه.
الرابع: ذكره الغزالي وهو أن المكلف لا يكلف بمعرفة الله حتى يحصل له أولاً معرفة، ثم يكلف بالمعرفة بعدها، فأما أول الأمر فلا يكلف إلا بالنظر.
قلت: وفيه نظر؛ لأنه إن أراد بالمعرفة الأولى معرفة الله كان تكليفه بطلبها ثانياً من طلب تحصيل الحاصل، وإن أراد معرفة غيرها، فلا دليل عليها.
الخامس: وهو معتمد أصحابنا أن الواجب إذا كان له سبب يوجبه وعلم المكلف ذلك السبب صار كما لو علم المسبب؛ إذ المقصود الإتيان بالمسبب، وذلك ممكن إذا عرف سببه، وهذه المسألة من هذا القبيل فإن النظر سبب في المعرفة وهو معلوم متميز لنا، فتكون معرفته قائمة مقام العلم بالمعرفة؛ لأن الإتيان بها مع معرفته ممكن كما يمكن إذا عرفناها نفسها.
الوجه الرابع: أنه لا مشقة في المعرفة، بل يحصل بها الاسترواح لما فيها من الطمأنينة، وزوال الشك، ولا بد في المكلف به من المشقة، فكيف قلتم بأن المعرفة مكلف بها؟
والجواب: أن المشقة في سببها وهو النظر، فإن قيل: إنما يتأتى هذا الجواب في العلم المسبب عن النظر، فأما الذي يجدده أحدنا حالاً بعد حال فلا سبب له حتى يقال المشقة في سببه.
قيل: المشقة حاصلة فيما يتصل به، وهو توطين النفس على دفع ما يرد عليه من الشبه.
الوجه الخامس: قالوا: كيف يجب العلم بوجوب المعرفة ونحن لانعلم بصفة من أوجبها؟
والجواب: أن وجوبها ليس شرعياً حتى يرد هذا السؤال، وإنما علم وجوبها بالعقل والسمع مؤكد كما مر، والعقليات تجب لوجوه تقع عليها، فلا تحتاج إلى العلم بالموجب.
الوجه السادس: قالوا: لو كلف بالمعرفة لنهي عن الجهل؛ لأن الأمر بالشيء نهي عن ضده، ولو عرف الجهل لعرف المجهول فيكون من تحصيل الحاصل، وتحقيقه أنه لو نهى عن الجهل فلا بد أن يعرفه ليمكنه الاحتراز عنه، وإذا عرفه عرف المجهول لأنه إذا عرف أن اعتقاد أن لاصانع للعالم جهل فمعرفته لذلك لا تكون إلا مع معرفة الصانع، وإذا كان قد عرفه فلا يكلف بمعرفته.
والجواب: أنا لانسلم أن الأمر بالشيء نهي عن ضده، سلمنا فليس منهياً عن جهل معين، وإنما هو منهي عن كل اعتقاد لا يأمن كونه جهلاً، وذلك لايستلزم معرفة المجهول على التعيين، فهذه جملة الوجوه التي ذكرها أهل المعارف وهي كما ترى ما عدا الوجه الأول مبنية على عدم صحة التكليف بالمعرفة، وإذا لم يصح التكليف بها وقد حصلت تعين أن تكون ضرورية، وقد عرفت الجواب عن ذلك، ولهم من الأدلة السمعية نحو قوله تعالى: {أَفِي اللَّهِ شَكٌّ فَاطِرِ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ}[إبراهيم:10] ويمكن أن يجاب بأنه لقوة دلائل ثبوته جل وعلا ينزل منزلة الضروريات التي لا سبيل للشك إليها كما في قوله تعالى: {لاَ رَيْبَ فِيهِ}[البقرة:2] ويؤيد هذا أنه عقب نفي الشك بقوله: { فَاطِرِ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ}[الأنعام:14] وهما من أقوى الأدلة على ثبوته تعالى فكأنه قال: {أَفِي اللَّهِ شَكٌّ}[إبراهيم:10] مع هذا الدليل الواضح والبرهان القاطع. والله أعلم.
ويشهد لهذا التأويل ماروي في بعض الآثار من قوله: ((وعجبت ممن يشك في الله وهو يرى أثر خلقه)) أو كما قال، وقد مر نحوه مرفوعاً، وأما ما ذهب إليه المؤيد بالله ومن وافقه فقد احتج له الإمام يحيى بأن الخوف من الله إنما هو على قدر المعرفة، ونحن نعلم تباين الخلق في الخوف، فخوف الأنبياء ليس كخوف الملائكة، وخوف الأولياء ليس كخوف الأنبياء، وخوف الأولياء ليس كخوف سائر الناس، فزيادة الخوف إنما هو لزيادة المعرفة، فلا يمتنع أن يزداد الخوف حتى ينتهي إلى رتبة العلم الضروري.
قال الإمام عز الدين: وكلامه عليه السلام لا يخلو عن نظر، فإنا نقطع باختلاف المكلفين في الخوف وإن كانت معارفهم مكتسبة، مع أنه لامعنى للتزايد فيها وهي مكتسبة، وكذلك فقد صرح باختلاف خوف الملائكة وغيرهم ممن يحكم أو يجوز أن معارفهم ضرورية، وأدلة الجمهور كما ترى من عدم القوة.
قال عليه السلام : (فالأولى أن يحكم بأنه لامانع من حصول العلم الضروري للأنبياء والأولياء) ولا دليل على ثبوته لهم، وهذا هو تحصيل مذهب السيد المؤيد بالله فإن الذي يحكي عنه أصحابنا جواز ذلك، وهو الصحيح، فأما الإمام يحيى فظاهر كلامه القطع بحصول ذلك لهم، ولادليل عليه. ذكره في المعراج.
وقد أبطل الجمهور تجويز كونها ضرورية في حق من ذكر بوجوه:
أحدها: أن المعرفة لطف فلا يجوز أن يخص الله بها بعضاً دون بعض، بل كان يجب أن يفعلها في الجميع، ويقبح التكليف باكتسابها.
قلت: وهذا ضعيف لأن لهم أن يقولوا المعرفة وإن كانت لطفاً فالألطاف تختلف باختلاف أحوال المكلفين، ولهذا قد يكون لطف بعضهم في الصحة، وبعضهم في السقم، فكذلك لامانع من أن يكون الله تعالى قد علم أن لطف بعضهم في المعرفة الضرورية فجعلها لهم، وبعضهم في النظرية فكلفهم بها، وقد ذكر الإمام يحيى معنى هذا وجعله دليلاً على صحة ما اختاره وكذلك ذكره في مراتب التوحيد فإنه ذكر أن مراتب التوحيد الحصول على معرفته تعالى وصفته بالعلم الضروري الذي لايعترضه شك، ولا شبهة، ولا يعتريه ريب، قال: وهذه هي درجة المقربين، وقد منع منه طوائف من المتكلمين، ولا دليل على المنع، فإن قيل: المعرفة الضرورية إذا كانت لطفاً لبعض المكلفين لزم أن تكون لطفاً لسائرهم؛ لأن الضروري أبلغ، والواجب في اللطف أن يكون على أبلغ الوجوه.
قيل: لا نسلم أنه يجب في اللطف أن يكون على أبلغ الوجوه سلمنا، فالمراد به أنه يجب أن يكون على أبلغ الوجوه في حق من علم الله أن ذلك لطف له، وليس المراد أنه يجب أن يفعل لكل مكلف أبلغ الألطاف؛ لأن بعضها لاتكون لطفاً لبعض المكلفين لاختلافها باختلافهم.
الوجه الثاني: مما أبطل به الجمهور قول هؤلاء ما تقدم من أنها لو كانت ضرورية لكانت بديهية يشترك فيها العقلاء.
الثالث: أن تجويز ذلك في حق الأنبيا، والأولياء يقتضي أنهم قد عرفوا الله قبل بالاكتساب وإلا لماصاروا صالحين؛ لأنهم لا يكونون كذلك إلا إذا عرفوا الله، وإذا قد عرفوه استدلالاً كان من البعيد أن يعرفوه من بعد ضرورة، واعترضه الإمام عز الدين فقال: كلام المؤيد بالله مستقيم إن أراد أنه يحصل لهم بعد أن صاروا أنبياء وأولياء، وبعد أن عرفوا الله استدلالاً، فلا مانع منه، ولا وجه لاستبعاده، فإن ذلك منحة وموهبة لمستحقها، ومن لله به مزيد عناية، وإن أراد أن هذا الذي علم الله أنه سيكون نبياً أو ولياً لطفه في المعرفة الضرورية فيخلقها عند بلوغه حالة التكليف، فذلك داخل في حيز الإمكان، ولا مانع منه.
الوجه الرابع: ذكره ابن متويه وهو أن هذا القول خارق للإجماع فإنه منعقد على استواء حالهم في ذلك، فمن قائل إنها ضرورية في حق الجميع، ومن قائل بأنها استدلالية مطلقاً، وإحداث قول ثالث خروج عن الإجماع، وأجيب بأنا لا نسلم الإجماع، سلمنا فإنما منعوا من إحداث قول ثالث إذا كان رافعاً للقولين، وهذا لا يرفعهما، بل أخذ من كل قول بنصيب، هذا وأما القائلون بأن العلم الجملي حاصل ضرورة، فقد مر وجه قولهم، وحاصله: أن العلم بأنه لا بد من مؤثر في العالم حاصل ضرورة، ولا يبعد الإجماع على ذلك، وقد تقدمت الإشارة إلى هذا في قوله تعالى: {الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ}[الفاتحة:2] وأما ما ذهب إليه الصوفية، فقد أبطله الإمام يحيى بأن العقائد الحاصلة عن التصفية إما أن تكون من فعل الله تعالى أو من فعلنا، إن كان الأول لزم كونها ضرورية، وقد تقرر فساده، وإن كان الثاني فإما أن تكون تلك العقائد لازمة للعلوم الضرورية ومترتبة عليها فهي نظرية إذ لامعنى للعلم النظري إلا ذلك، أو لا فهي عقائد تقليدية لاعبرة بها، وبقي في المسألة قول آخر حكاه في إيثار الحق ولم يعين قائله وهو أن العلم بالله ليس نظرياً، ولا ضرورياً بديهياً، بل يحتاج إلى تذكر يوقظ من سنة الغفلة، كتذكر الموت الذي تقع الغفلة عنه وهو ضروري حتى قال الله تعالى: {إِنَّكَ مَيِّتٌ وَإِنَّهُمْ مَيِّتُونَ}[الزمر:30] ونحوها.
قلت: ونظيره ما مر عن الإمام المهدي في أفعال العباد من أن العلم بكونهم الفاعلين لها ضروري يحتاج إلى أدنى تأمل، ويدل عليه قوله تعالى: {أَفِي اللَّهِ شَكٌّ}[إبراهيم:10]ونحوها مما أنكر الله فيه على من جحده سبحانه وتعالى فإنه قرنه بما يذكره، ويدفع الشبهة عنه من ذكر خلق السماوات والأرض وغيرهما، ومن كلام علي عليه السلام : (الذي تشهد له أعلام الوجود على إقرار قلب ذي الجحود). رواه في النهج، ومثله قوله عليه السلام : (وهل يوجد بناء من غير بان) وهو في النهج، وذلك كله يدل على أنه لابد من أدنى تأمل، ولذا قال بعضهم: عجبت لمن شك في الله وهو يرى أثر صنعه أو كما قال، ولوكان يعرف بالبديهة لما كان لاقتران الإنكار على الشاك في الله بالدليل المنبه فائدة. فتأمل.
تنبيه [في بيان هل المعرفة ضرورية في دار التكليف]
قد مر أن مذهب الجمهور أن الله تعالى لا يعرف ضرورة في دار التكليف، وقد عرفت أدلتهم على ذلك، وأما في الدار الآخرة فقالوا: إنه تعالى يعرف ضرورة، وكذلك المحتضر يعرفه تعالى ضرورة، ذكره السيد مانكديم، وخالف في ذلك أبو القاسم البلخي فقال: إنه تعالى لا يعرف إلا دلالة في الدنيا والآخرة، واحتج على ذلك بأن ما يعرف دلالة لا يجوز أن يعرف إلا دلالة، كما أن ما يعرف ضرورة لا يجوز أن يعرف إلا ضرورة.
والجواب: أن نقول ما أردت بقولك لا يجوز هل نفي الصحة، أم نفي الوجود، فإن أردت الأول فهو باطل لأنه قد ثبت أن العلم من أجناس المقدورات، فلا يخلو إما أن يدخل جنسه تحت مقدورنا أولا، إن لم يدخل وجب أن يكون الباري تعالى قادراً عليه وإلا خرج عن كونه مقدوراً أصلاً، وهو باطل، وإن دخل تحت مقدورنا فالباري بأن يكون قادراً عليه أولى، وإذا ثبتت قدرته عليه صح أن يوجده فينا، وإذا أوجده كان ضرورياً، وإن أردت الثاني وهو نفي الوجود، فهو باطل أيضاً؛ لأن أهل الآخرة إن كانوا من أهل الجنة فلا بد من أن يعرفوا الله تعالى، وإلا لم يعرفوا استحقاق الثواب من جهته، فيحصل تجويز انقطاع نعيمهم، وفي ذلك تنغيص وهو منفي عنهم، وإذا كان لابد من المعرفة وجب أن تكون ضرورية لأنها لو كانت نظرية لكان فيها تتنغيص ومشقة، فإن قيل: لا مشقة لأنهم يعرفون بتذكر النظر والاستدلال السابق.
قيل: لو كان كذلك لكانت معارفهم اختيارية، وحينئذ يجوز إن يقال أن الواحد منهم يختار من المعرفة ما يبلغ به ثواب الأنبياء، والمعلوم خلافه، وإن كانوا من أهل النار، فكذلك لابد من المعرفة، وإلا جوزوا انقطاع عقابهم، وفي ذلك راحة لهم وهي منفية عنهم، وإذا كان لا بد من المعرفة لم يجز أن تكون نظرية، لأنها والحال هذه تكون موقوفة على اختيارهم، فيجوز منهم ترك النظر فلا تحصل المعرفة، وإذا انتفت جوزوا انقطاع العقاب، وفيه راحتهم، وذلك لا يجوز، وأيضاً من حق الناظر أن يكون مجوزاً فيلزم أن يكونوا قبل النظر وحاله قبل حصول العلم مجوزين لانقطاع العقاب، وذلك يقتضي أن لا يخلص عقابهم من كل روح وراحة، وذلك لا يجوز، لا يقال يعرفونه بتذكر النظر السابق؛ لأنا نقول لا نظر لهم سابق فيتذكرونه، وإلا لما وقعوا فيما وقعوا فيه.
قلت: وهذا ضعيف فإن منهم من له نظر صحيح ومعرفة تامة، وإنما استوجب دخول النار لاتباع الهوى، وتأثير الحياة الدنيا، والأولى أن يقال لو كلفوا بالنظر لوجب أن يكون لهم انتفاع بالتكليف، ولا نفع لهم إلا قبول توبتهم إذا تابوا، وذلك يؤدي إلى خروجهم من النار وهو باطل، أو تخفيف العذاب عنهم، وهو باطل أيضاً لقوله تعالى: {وَلاَ يُخَفَّفُ عَنْهُمْ مِنْ عَذَابِهَا}[فاطر:36] وأما شبهته فجوابها: أنه جمع بين الاستدلالي والضروري من دون علة جامعة، وأيضاً لا نسلم أنما يعلم ضرورة لايعلم إلا كذلك، فإن فيه ما يجوز أن يعلم استدلالاً فإن العلم بزيد، يجوز أن يكون عن مشاهدة فيكون ضرورياً، وأن يكون بخبر نبي فيكون استدلالياً.
قال السيد مانكديم: على أن العلم بالمشاهدات وغيرها من الأمور التي قاس عليها من كمال العقل، والنظر، والاستدلال لايتأتى إلا ممن هو كامل العقل، فلذا لم يجز في هذه الأمور أن تعلم استدلالاً، وهذا غير ثابت في الأمور المكتسبة ففارق أحدهما الآخر.
فائدة [في معرفة الضروري لغة وعرفاً واصطلاحاً]
في حد الضروري لغة، وعرفاً، واصطلاحاً.
أما في اللغة: فهو كل أمر وقع بغير اختيار، والمضطر قد يُسمى مكرهاً وملجأً، فالمكره من يكون الحامل له على الفعل عاقلاً عالماً مع تخويفه إياه بتلف نفس، أو ما في معناه، ولا بد أن يكون المخوِّف قادراً على فعل ما توعد به، وأما الملجئ فلا يعتبر فيه ذلك، بل قد يكون من جهة السباع والصواعق ونحوها، وقد يكون من جهة النفس كشدة الجوع، والعطش، ويقال في جميع ذلك هو مضطر إلى الهرب من السبع، وإلى الطعام إذا ألجئ إليه، ومضطر إلى الخمر إذا أكره عليه، فتحصل أن الألفاظ المستعملة فيما كان من غير اختيار ثلاثة: إلجاء، وإكراه، واضطرار، وهو أعمها.
وأما في العرف: فلا بد من أن تكون الضرورة حاصلة من جهة الغير، والمراد بالعرف عرف أهل اللغة، أوعرف الزمان، فحقيقة الضروري عرفاً: ما يحصل فينا لا من قبلنا، واشترط الجمهور في تسميته ضرورياً أن يكون جنسه داخلاً تحت مقدورنا، ولذا يقال حركة ضرورية لما كان جنسها داخلاً تحت مقدورنا، ولا يقال لون ضروري، وقال أبو علي: لايشترط ذلك فيقال لون ضروري.
قيل: وكلام الجمهور أقرب وأصح؛ لأن للعرف شبهاً بالوضع اللغوي، والضرورة في اللغة: الإلجاء، والإكراه، وهما لا يستعملان إلا فيما يدخل جنسه تحت مقدورنا.
وأما في اصطلاح المتكلمين: فالضروري عندهم قسم من أقسام العلم، وقد اختلفوا في حده، فقال قاضي القضاة: هو العلم الذي يحصل فينا لا من قبلنا، ولا يمكننا نفيه عن النفس بوجه من الوجوه، قيل: وفيه تكرار؛ لأن الحاصل لا من قبلنا هو الذي لا يمكننا نفيه، والذي لا يمكننا نفيه هو الحاصل لا من قبلنا، فكان الواجب الاقتصار على أحد الطرفين، وقد اقتصر على الطرف الأول بعضهم، وقيل: هو العلم الذي لايمكن العالم به نفيه عن نفسه بشك ولا شبهة، وإن انفرد واحترز بقوله وإن انفرد عن العلم المكتسب إذا قارنه ضروري فإنه لا يمكن نفيه، لكن عدم إمكان نفيه إنما هو لاقترانه بالضروري بحيث لو انفرد لأمكن نفيه بشك أو شبهة، واعترِضَ بأن النفي مذكور فيه، والنفي لا يتصور إلا فيما يبقى، والعلم مما لا يبقى، وأجيب بأن المراد بالنفي هنا أن أحدنا لا يمكنه أن يخرج نفسه عن استمرار كونه عالماً، لا النفي الذي لايتصور إلا في الباقيات، واعترض أيضاً بأن فيه ذكر الشك، والشك ليس بمعنى، وأجيب بأنه لو حذف لم يحصل في الحد خلل على أن بعض العلماء قد جعله معنى.
قلت: ولأجل السلامة من هذين الاعتراضين حده بعضهم بأنه العلم الذي لايمكن العالم به إخراج نفسه عن استمرار كونه عالماً بمعلومه، وقيل: هو العلم الذي لايمكن العالم به نفيه عن النفس بوجه من الوجوه.
قال السيد مانكديم: وهذا صحيح، وقال ابن الملاحمي: الضروري علم لا يقف على استدلال العالم إذا كان يصح منه الاستدلال، واحترز بهذا القيد عن كونه جل وعلا عالماً.
قال الإمام عز الدين: والذي يقابل الضروري المكتسب، وحقيقته العلم الحاصل فينا من قبل أنفسنا، وقيل: الذي يمكن العالم به إخراج نفسه عن العلم بما تناوله، وقال ابن الملاحمي: علم يقف على استدلال العالم به.
واعلم: أن العلم الضروري ينقسم إلى ما يحصل فينا مبتدأ وهو كالعلم بأحوال النفس من كوننا مريدين وكارهين، وما شاكل ذلك وإلى ما يحصل فينا عن طريق، أو ما يجري مجراه.
فالأول: كالعلم بالمدركات فإن الإدراك طريق إليها.
والثاني: كالعلم بالحال مع العلم بالذات، فإن العلم بالذات أصل للعلم بالحال، ويجري مجرى الطريق إليه، والفرق بينهما أنما يحصل عن طريق يجوز أن يبقى مع عدم الطريق إليه، وما يحصل عن ما يجري مجرى الطريق لا يجوز فيه ذلك.
قال السيد مانكديم: ولهذا يصح من الله تعالى أن يخلق فينا العلم بالمدركات من دون الإدراك، ولم يصح أن يخلق فينا العلم بالحال من دون العلم بالذات، ثم الحاصل فينا مبتدأ ينقسم إلى ما يعد في كمال العقل، وإلى ما لا يعد في كماله، والأول ينقسم إلى ما يستند إلى الخبرة، وإلى ما لا يستند إليها.
فالأول: كالعلم بتعلق الفعل بفاعله، وما يتصل بذلك من أحكام الفعل من حسن وقبح وغيرهما.
والثاني: كالعلم بأن الذات إما أن تكون موجودة، أو معدومة، والموجود إما قديم، أو محدث.
قال السيد مانكديم: وأما المشاهدة فهي الإدراك بهذه الحواس، هذا في الأصل، وفي الأغلب أن ما يستعمل في الإدراك بحاسة البصر، قال هذا إذا كان مطلقاً، فأما إذا أضيف إلى العلم فقيل: علم المشاهدة، فالمراد به العلم المستند إلى الإدراك بهذه الحواس، وفي الأغلب إنما يستعمل في العلم المستند إلى الإدراك بحاسة البصر فقط.
وأما القسم الثاني: وهو ما لا يعد في كمال العقل، فذلك كالعلم بأن زيداً هو الذي شاهدناه من قبل فإنه علم مبتدأ من جهة الله تعالى، ولا يعد من كمال العقل، ولهذا تختلف أحوال العقلاء، فمنهم من يثبته إذا شاهده، ومنهم من لايثبته.
الموضع الثالث: في أن التقليد في معرفة الله لا يجوز، وأنه لايكتفى فيها بالظن، وفي هذا الموضع خلاف، فذهب الحشوية إلى جواز التقليد في الأصول والفروع، ورواه في الغياصة عن أبي القاسم البلخي.
قال: ورواية عن المؤيد بالله متأولة أنه يجوز التقليد مطلقاً، وقال جعفر بن حرب، وجعفر بن مبشر من معتزلة بغداد: لا يجوز مطلقاً، وقالا: يجب على العالم أن يطلع العامي على الأدلة.
وقال الجمهور: لا يجوز في أصول الدين، ويجوز في الفروع، ومسائل أصول الفقه، وغير ذلك سواء كان قطعياً أو ظنياً. كذا ذكره الإمام عزالدين في المعراج.
والذي في الغياصة عنهم المنع في أصول الدين، والجواز في الفروع، ولم يذكر أصول الفقه، وقول أبي علي كقول الجمهور، إلا أنه استثنى ما كانت دلالته قطعية من مسائل الفروع فلم يجز التقليد فيه كغسل الوجه.
وقال عبيد الله بن الحسن العنبري: إنه يجوز التقليد في أصول الدين، ولا يجوز في الفروع، وفي الغياصة عن أبي إسحاق ابن عياش، وأبي القاسم البلخي: أنه يجوز التقليد لمن غفل عن طريق النظر كالنساء، والعبيد، والعوام، ومثله عنهما في المنهاج إلا أنه قيد الجواز عندهما بتقليد المحق، وروي عن القاسم بن إبراهيم جواز تقليد المحق مطلقا، أي سواء كان المقلد غافلاً عن طريق النظر أم لا، والذي في الأساس وشرحه للشرفي عن أبي إسحاق والعنبري وغيرهما، ورواية عن المؤيد بالله: أنه يجوز التقليد مطلقاً أي لم يشترطوا تقليد المحق، بل أطلقوا، وفيهما عن هؤلاء، وعن أبي القاسم البلخي، ورواية عن القاسم عليه السلام مغمورة: أن النظر فرض كفاية، وفي الشرح عن العنبري أنه يصوب أهل القبلة في جميع معتقداتهم في الديانة، والذي ينبغي الكلام عليه في هذا الموضع هو ما يتعلق بالتقليد في أصول الدين إلا أنا قبل ذكر الحجج نبدأ بذكر حقيقة التقليد فنقول: التقليد لغة: مصدر قلد يقلد، ويستعمل في جعل القلادة في عنق الحيوان، وقلادة كل حيوان بحسب ما يعتاد أن يوضع في عنقه في كل وقت وموضع، فقلادة المرأة من الخرز ونحوه، والإبل من الصوف أو غيره، واصطلاحاً: قبول قول الغير من غيرحجة ولاشبهة زائدة على حاله، ولفظ القبول يشمل القبول بالقول، والظن، والاعتقاد، وقلنا: من غير حجة ولا شبهة للاحتراز من قبول أهل الحق لأقوال علمائهم في المسائل الإلهية لأجل ما يلقونه إليهم من الحجج، فإن ذلك لايسمى تقليداً، وكذلك قبول أهل الباطل لأقوال علمائهم لما يلقونه إليهم من الشبه فإنه لايسمى تقليداً، وقلنا زائدة على حاله أي على حال المقلد للاحتراز عن شبهة حاله فإنه لا بد منها، وهي الحال التي هو عليها من العلم، والورع، فإن اتباعه لأجل هذه الشبهة لا يخرج العامي عن كونه مقلداً له؛ لأنه لم يحصل بها احتجاج على المسألة، ولا تصوير للدليل، فلم تكن زائدة على الحال الذي العالم
عليها، ولا يكاد يتبع أحد أحداً إلا لشبهة ترجع إلى حاله وأوصافه.
[التقليد في أصول الدين]
إذا عرفت هذا فنقول: احتج الجمهور على أنه لا يجوز التقليد في الأصول بالعقل، والنقل، أما العقل فمن وجوه:
أحدها: أن المقلد إما أن يقلد أرباب المذاهب جملة، وهو باطل؛ لأنه يؤدي إلى اجتماع الاعتقادات المتضادة، وإما أن يقلد بعضاً دون بعض كان ذلك تحكماً، فإن قالوا نقلد الزهاد فلتقليدهم مزية، قيل: ليس الزهد من أمارات الحق؛ بدليل أن في اليهود والنصارى زهاداً ورهباناً وهم على غير الحق؛ ولأنا لا نجد طائفة إلا وفيهم زهاد وعباد، فإما أن يقلدهم جميعاً، أو يقلد بعضاً دون بعض، وعلى أيهما يلزم مامر، وأيضاً فإن الزاهد قد يرجع عن زهده إلى خلافه، وغير الزاهد قد يرجع زاهداً، والعقيدة بحالها فينقلب الحق باطلاً، والباطل حقاً، وذلك محال فما أدى إليه يجب أن يكون محالاً، فإن قالوا نقلد الأكثر فللكثرة مزية.
قيل: الكثرة لاتدل على الحق لأن الله تعالى قد ذم الأكثرين في غير آية، ومن أراد استقصاءها فعليه بكتاب (مدح القلة وذم الكثرة) للإمام الشهيد زيد بن علي عليه السلام ، ويدل على ذلك قول علي عليه السلام لما قال له الحارث بن حوط: أترى يا أمير المؤمنين أن أهل الشام مع كثرتهم على الباطل، وأن أهل العراق مع قلتهم على الحق: (ياحارث إنه لملبوس عليك، الحق لايعرف بالرجال، وإنما الرجال يعرفون بالحق فاعرف الحق تعرف أهله قلوا أم كثروا، واعرف الباطل تعرف أهله قلوا أم كثروا) رواه السيد مانكديم في الشرح، وهو في النهج.
فإن استدلوا على أن للكثرة مزية بما روي عنه صلى الله عليه وآله وسلم أنه قال: ((عليكم بالسواد الأعظم)).
قيل: الخبر آحادي فلا يحتج به في قطعي، وأيضاً هو مصادم بحسب ظاهره للقرآن من حيث أن القرآن ورد بذم الكثرة ومدح القلة، ولئن صح فليس على ظاهره، بل محمول على اتباع الإجماع لأنه لاسواد أعظم منه، أو الأعظم عند الله وهم أهل الحق، ولكن لا يعرفون إلا بعد معرفة الحق كما قاله الوصي عليه السلام ، فكأنه أمر بالنظر ليكونوا مع السواد الأعظم.
الوجه الثاني: أن المقلد لايخلو إما أن يقلد الجاهل وهو ظاهر البطلان، أو العالم، فلا يخلو ذلك العالم إما أن يكون قد علم ما قد علمه ضرورة وهو باطل لما مر أن الله تعالى لايعرف ضرورة، أو علمه تقليداً وهو باطل أيضاً؛ لأن الكلام فيه كالكلام في الأول فيؤدي إلى ما لايتناهى من المقلدين بفتح اللام ومقلديهم، وما أدى إلى التسلسل فهو محال فلم يبق إلا أن ذلك العالم يعلمه دلالة، وفي ذلك بطلان التقليد، فإن قيل: وما أنكرت أن يكون التقليد طريقاً لبعض والاستدلال لآخرين فلم حكمت ببطلان التقليد؟
فالجواب من وجهين:
أحدهما: أن عند أكثر من يجيز التقليد أنه لا طريق سواه؛ إذ قد صرحوا بالمنع من النظر، وقد صح بما ذكرنا أنه لا بد من أن ينتهي التقليد إلى من علم ما علمه غير تقليد دفعاً للتسلسل.
وثانيهما: أنه يبطل من حيث أنه لم يحصل الاكتفاء به مطلقاً، بل لابد من العلم على كل حال.
الوجه الثالث: أن المقلد لا يأمن خطأ من قلده، وأن يكون جهلاً، والإقدام على ما لا يؤمن قبحه قبيح، وأما الأدلة النقلية فقد ذم الله التقليد في عدة آيات، نحو قوله تعالى: {إِنَّا وَجَدْنَا آبَاءَنَا عَلَى أُمَّةٍ}[الزخرف:22] ومن السنة ما مر في الموضع الثاني فإنه أوجب الطلب، وحذر من التقليد بقوله: ((مالت به الرجال من يمين إلى شمال...)) الخبر، وفي معناه أخبار كثيرة منها: ما رواه أبو طالب في الأمالي قال: أخبرنا العبدكي، ثنا ابن يزداد، ثنا محمد بن عبيد، وعمر بن أحمد، ثنا محمد بن يزيد الرفاعي، ثنا محمد بن الفضيل، ثنا الوليد بن مجمع، عن أبي الطفيل، عن حذيفة بن اليمان قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم : ((لا تكونوا إمعة تقولون إن أحسن الناس أحسنا، وإن أساءوا أسأنا، ولكن وطنوا أنفسكم على أنه إن أحسن الناس أن تحسنوا، وإن أساءوا فلا تظلموا)).
أما محمد بن عبيد فهو: ابن واصل.
وأما الرفاعي فهو: محمد بن يزيد الرفاعي أبو هشام الكوفي، أخذ عن حفص بن غياث، ووكيع، ويحيي بن يمان، وعبد الرحمن بن مهدي، ويحيى بن آدم، وخلق، وعنه المرادي، ومسلم، والترمذي، وابن ماجة، وابن صاعد، وأبو كريب وطائفة.
قال البرقاني: أمرني الدار قطني أن أخرج حديثه في الصحيح، وقال العجلي: لابأس به، توفي سنة ثمان وأربعين ومائتين، وضعفه بعضهم، روى له الناصر، وأبو طالب، والمرادي، والحديث أخرجه الترمذي.
والإمعة: المحقب دينه الرجال، كذا في المنهاج، وقال في المعراج: الإمعة والإمع: الذي يكون لضعف رأيه مع كل أحد، ولا يقال امرأة إمعة لأن ذلك لا يقال للنساء، قال: والمحقب دينه المردف له أي الحامل محقباً أي مردفاً، وروى في أنوار اليقين عن ابن عباس قال: كان أمير المؤمنين عليه السلام كثيراً ما ينشد:
إذا المشكلات تصدين لي .... كشفت حقائقها بالنظر
ولست بأمعة في الرجال .... أسائل هذا وذا ما الخبر
ولكنني مدرة الأصغرين .... أقيس بما قد مضى ما غبر
[آثار التقليد في أصول الدين]
وكل ذلك يدل على قبح التقليد ووجوب النظر، قال الحاكم في شرح العيون: قال أبو هاشم: المقلد يستحق عقوبتين:
إحداهما: لكونه أقدم على ما لايأمن كونه جهلاً.
والثانية: على ترك النظر، وكل واحدة من المعصيتين كبيرة، وقال في المنهاج: يقال لأهل التقليد هل يجب شكر المنعم فلا بد من قولهم بلى، فيقال: وكيف يجب شكر من لانعرفه، ويقال لهم أيضاً: هل يجب الاعتراف بالنبوات، والشرائع، وهل تجب العبادات فلا بد من قولهم بلى، فيقال: إذا لم يعرف المعبود فكيف يعرف وجوب العبادات ونبوة الأنبياء.
[القائلون بجواز التقليد في أصول الدين]
احتج القائلون بالتقليد مطلقاً بوجوه:
أحدها: أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم لم يكن يدع الناس إلا إلى الإقرار بالشهادة ولم يأمرهم بطلب دقائق علم الكلام، ولم يقاتلهم إلا عليها، بدليل ما رواه المرشد بالله في أماليه قال: أخبرنا ابن عبد الرحيم، قال: أنا ابن حبان، أنا ابن أبو بكر الهاشمي، ثنا منجاب، عن شريك، عن عبد الله بن محمد بن عقيل، عن جابر رفعه: ((أمرت أن أقاتل الناس حتى يقولوا لاإله إلا الله فإذا قالوها حرمت علي دماؤهم وأموالهم إلا بحقها وحسابهم على الله)) وفيه أخبرنا ابن ريذة، أنا الطبراني، ثنا عبد الله ابن أحمد، ثنا محمد المقدمي، ثنا فضيل، عن أبي مالك، عن الأشجعي، عن أبي ه أنه سمع رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يقول: ((من قال لاإله إلا الله وكفر بما يعبد من دون الله حرم الله ماله ودمه وحسابه على الله)) وفي أمالي أبي طالب: أخبرنا أبو محمد القاضي، أنا علي بن الحسن، أنا أبو داود، ثنا سعيد الطالقاني، ثنا عبد الله بن المبارك، عن حميد، عن أنس قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم : ((أمرت أن أقاتل الناس حتى يشهدوا أن لا إله إلا الله وأن محمداً عبده ورسوله، وأن يستقبلوا قبلتنا، وأن يأكلوا ذبيحتنا، وأن يصلوا صلاتنا فإذا فعلوا ذلك حرمت علينا دماؤهم وأموالهم إلا بحقها لهم ما للمسلمين، وعليهم ما على المسلمين)) والحديث في الجامع الصغير عن أبي هريرة بلفظ: ((أمرت أن أقاتل الناس حتى يشهدوا أن لا إله إلا الله وأني رسول الله فإذا قالوها عصموا مني دماءهم وأموالهم إلا بحقها وحسابهم على الله)) وعزاه إلى البخاري، ومسلم، وأبو داود، والترمذي، والنسائي، وابن ماجة، ثم قال: وهو متواتر وهو نص في الاكتفاء بالتقليد؛ لأن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قبل منهم النطق بالشهادة، ولم يوجب عليهم النظر وتعلم الأدلة.
والجواب: أن الحديث إنما دل على أنه لا يقاتلهم بعد إظهار الشهادتين والتمسك بالإسلام عملاً بما يقتضيه الظاهر من إسلامهم؛ لأن الإكراه على العقيدة لا يتصور، وليس فيه أنه لا يجب عليهم النظر، وتعلم الأدلة، كيف والكتاب، والسنة، وكلام أمير المؤمنين مشحونة بالحث على النظر وذم تركه، بل لقائل أن يقول: هذا الحديث حجة على وجوب النظر لأنه أخبر فيه أن ما أظهروه لا ينفعهم إلا في الأحكام الدنيوية، وأما الأخروية فهي مبنية على مطابقة الظاهر والباطن، وذلك هو معنى إيجاب النظر؛ إذ تحصيل العلم في الباطن والجزم به لا يكون إلا مع النظر الصحيح، فتأمل، ولو كان التقليد كافياً لما قال وحسابهم على الله.
الوجه الثاني: قالوا: قال تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ قَالُوا رَبُّنَا اللَّهُ ثُمَّ اسْتَقَامُوا} [الأحقاف:13] فأخبر أن الإقرار كاف.
والجواب: أن المراد أنهم قالوا ذلك عن علم، بدليل قوله تعالى: {إِلاَّ مَنْ شَهِدَ بِالْحَقِّ وَهُمْ يَعْلَمُون}[الزخرف:86] وقوله تعالى: {فَاعْلَمْ أَنَّهُ لاَ إِلَهَ إِلاَّ اللَّهُ}[محمد:19] وما تقدم من أن الاعتقاد أحد أركان الإيمان، وغير ذلك من أدلة وجوب العلم بالله، والعلم لا يحصل إلا عن نظر.
الوجه الثالث: قوله تعالى: {فَبَشِّرْ عِبَادِ ، الَّذِينَ يَسْتَمِعُونَ الْقَوْلَ فَيَتَّبِعُونَ أَحْسَنَهُ}[الزمر:17،18] فلم يشترط النظر والاستدلال.
والجواب: أن معرفة صحة القول وحسنه تقف على معرفة الله، وعدله، وحكمته.
الوجه الرابع: أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم أمر باتباع السواد الأعظم وهو معنى التقليد، والجواب عنه قد مر.
الوجه الخامس: أنكم قد أجزتم التقليد في الفروع فأجيزوه في الأصول.
والجواب: أنه فرق بينهما الدليل، ولهذا يكتفى بالظن في الفروع.
الوجه السادس: أنكم قد جوزتم تقليد الرسول عليه السلام .
والجواب أن أتباعه عليه السلام ليس تقليداً لأنه عن دليل، فهذه أدلة من يجيز التقليد مطلقاً أي من دون تقييد بكونه من أهل الغفلة، ولا يكون من يقلده محقاً، وأما غيرهم فمنهم من قد دخلت شبهته فيما ذكرنا كالعنبري القائل بجواز التقليد في الأصول دون الفروع، ومنهم من يحتاج إلى دليل يخصه باعتبار ما ذكره من القيد وهم القائلون بأنه يجوز التقليد للعوام، والقائلون يجواز تقليد المحق، فأما الأولون فاحتجوا بأنه لو كلف العوام والنساء بهذه الأصول، والاستدلال عليها بالأدلة الغامضة،ودفع الشبه مع علمنا أنهم لم يفعلوا ذلك لوجب علينا الحكم بكفرهم، وإجراء أحكام الكفر عليهم، والمعلوم عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم ، وعن باب مدينة علمه، وعن السلف والخلف من أهل البيت" وغيرهم خلافه.
الجواب: من وجهين:
أحدهما: أن نقول لا يخلو حالكم من أن تجيزوا التقليد مع جواز الخطأ أو لا، إن كان الأول لزمكم صحة تقليد سائر الملل الكفرية؛ إذ لا فرق بينها وبين ملة الإسلام عند المقلد في جواز الخطأ، وإن كان الثاني فهو باطل لأنه كيف يعلم أنه لا يجوز عليه الخطأ، هذا الجواب على جهة الإلزام، والإبطال للقول بالتقليد من أصله.
الوجه الثاني: في إبطال هذه الشبهة، وحلها، وهو أنا لم ندع أنهم كلفوا ما كلفه المبرزون وأهل النظر الدقيق، وإنما كلفوا جملاً يسيرة يسهل اكتسابها.
قال الحاكم في شرح العيون: أصحاب الجمل من يعرف الله بصفاته، وعدله، والثواب، والشرائع جملة لا على سبيل التفصيل، ويعلم ذلك بالأدلة نحو:أن يعلم أن العالم محدث لأنه لا يخلو من الحوادث وله محدث؛لأن المحدث يحتاج إلى محدث لأجل حدوثه،كما أن أفعالنا تحتاج إلينا لأجل حدوثها،وهو تعالى قادر لصحة الفعل منه،عالم لصحة الفعل المحكم منه، حي لكونه قادراً عالماً موجودٌ لتعلقه بالفعل وصحته منه، قديم لأن الحوادث تنتهي إليه، سميع بصير يدرك المدركات؛ لأنه حي لا آفة به، لايشبه شيئاً من الأجسام والأعراض؛ إذ لو أشبهها لجاز عليه من دلالة الحدوث ما يجوز عليها، وهو غني؛ لأن الحاجة من خصائص الجسم، وعلى هذا فقس.
قال الإمام عز الدين: لكن الأقرب ما ذكره الإمام يحيى من تعذر إدراك العلوم هذه وغيرها عليهم.
قلت: وسيأتي كلام الإمام يحيى، ولقائل أن يقول: لا نسلم أن إدراك هذه العلوم متعذر عليهم فإنها مقررة في عقولهم، وإنما المتعذر التعبير عنها وهو غير معتبر.
قال القرشي: وأدلتها يعني الجملة المكلف بها مقررة في عقولهم، وعجزهم عن التعبير عنها لايدل على أنهم غير عالمين بها فإن كثيراً من العقلاء يعلم ما لا يحسن العبارة عنه، ألا ترى أنك لو سألت رجلاً عاقلاً عن العقل ما هو لما درا كيف يجيبك، ومتىعددت العلوم المذكورة لقال أما هذه فأنا أعلمها، يزيده وضوحاً أن الذي يذكره العالم للمتعلمين في هذا الفن إنما هو التنبيه على وجوه الاستدلال، وعلى ما هومقرر في عقولهم.
قلت: ويؤيده قوله عليه السلام : (ويثيروا لهم دفائن العقول) وقد احتج القائلون بجواز تقليد المحق وهم القاسم، وأبو القاسم، ورواه ابن لقمان عن الإمام يحيى بأن اعتقادهم إذا كان مطابقاً للحق كان كافياً في السلامة، والخروج من زمرة أهل الضلال بدليل أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم كان يقبل إسلام الأعراب مع أنهم ليسوا على يقين من علومهم، وإنما اتبعوا النبي صلى الله عليه وآله وسلم ، وكبار أصحابه في المعارف الإلهية وغيرها.
قلت: قد مر في المقدمة أن النظر ليس مقصوداً لذاته، فإذا حصل للمكلف معرفة الحق من دونه فلا يحتاج إليه، فارجع إلى ما ذكرناه هنالك فإنّ فيه فوائد تتعلق بهذا الموضع، وتفصيل، وتوضيح.
[مراتب التوحيد]
واعلم: أن للإمام يحيى كلاماً في مراتب التوحيد، ذكره في التمهيد، والشامل، وقد تضمن فوائد متعلقة بما تقدم في هذا الموضع من تضعيف بعض الأدلة، وتقوية أخرى، ورد شبهة، وتوضيح عبارة، ولنذكر هنا رواية الشامل فهي أبسط، وأوضح، فنقول:
قال عليه السلام : اعلم أن الناس بالإضافة إلى معرفته تعالى على خمس مراتب:
الأولى: الإقرار بها باللسان من غير اعتقاد لها لاعن دلالة، ولا غيرها، بل النطق باللسان فقط، وفائدة الإقرار هو البراءة عن الشرك، وإحراز الرقبة عن القتل، وتحصين الأموال عن الأخذ إلا بحقها، ويثبت لقائلها أحكام الإسلام في الظاهر وحسابهم على الله.
قال ابن لقمان: وهذه حال المنافقين، وقال الشرفي: لا شك في هلاك هذه الطائفة.
قلت: ويسمى هذا النطق توحيداً، وقد نص عليه في التمهيد، واحتج بأنه يفيد أن الله واحد قال: وزعم عباد أن قول لاإله إلا الله ليس بتوحيد، قال: ولو كان توحيداً لوجب دوامه؛ لأن التوحيد يجب أن يكون مستداماً قال عليه السلام : وهذا خطأ لأنه لا يمتنع أن يكون توحيداً وإن لم يكن دائماً، ثم ذكر من الفائدة في ذلك نحو ما تقدم.
المرتبة الثانية: اعتقاد مضمون هذا الإقرار بالتقليد، وهذا حال كثير من الخلق ممن قصر عن بلوغ مراتب النظر، والوصول إلى حقيقته، وهؤلاء هل يكونون سالمين في الآخرة أم لا؟ فيه خلاف بين المتكلمين، فالأكثر منهم على أنهم ناجون، ومنهم من قطع بهلاكهم، قال: والمختار عندنا أنهم ناجون لأنهم مصدقون بالله، ورسوله، واليوم الآخر، وجازمون بصحة هذه الأمور وإن عدموا السكون للقلب والطمأنينة.
قلت: واحتج في التمهيد على نجاتهم بأن صاحب الشريعة صلى الله عليه وآله وسلم كان يقبله من الأعراب، قال: ولو كلفهم العلم اليقين لعجزوا عن إدراكه لقصور أفهامهم، وزاد في التمهيد شرطاً لسلامتهم وهو سلامة اعتقادهم عن الزلل، وهذا معنى قول القاسم عليه السلام أن مقلد المحق ناجٍ.
المرتبة الثالثة: العلم بهذه الأصول على سبيل الجملة، وهذا هو الذي يكون من أصحاب الجمل فإنهم يعلمونها بأوائل الأدلة ومبادئها، وهذا كاف في إحراز المعرفة في حقهم، فإذا علم أحدهم ما يحصل في العالم من أنواع الحوادث، والأمطار وأصناف الحيوانات، وأنواع الثمار، والنبات، وجري الشمس، والقمر، واختلا ف الليل والنهار، وغير ذلك مما يعلم بالضرورة أنه لابد لهذه الأمور من صانع مؤثر على القرب؛ لأن العلم بالصانع هو علم قريب يحصل بأدنى تأمل، وهكذا القول في سائر صفاته نحو القادرية، والعالمية، وما يجب له، ويستحيل عليه، فإن علمهم الجملي كاف في حقهم؛ لأن الخوض في تفاصيل هذه العلوم يتعذر تحصيله على أكثر الخلق.
قلت: وهذه المرتبة لم يذكرها في التمهيد، بل اقتصر فيه على أربع كما في المعراج، ويدل على مضمونها قول علي عليه السلام : وهل يوجد بناء من غير بان.
المرتبة الرابعة: العلم بمقدمات النظر بحقيقة ذاته، وصفاته، وحكمته، وصدق رسله على سبيل التفصيل، وأنه تعالى واحد لاشريك له، وهذه الحالة هي حالة العلماء والأفاضل الذين توصلوا بحقائق الأدلة، وأنوار البراهين، فحصلوا على انشراح الصدور، وطمأنينة النفوس، وهؤلاء هم قليلون لأن معرفتهم بهذه التفاصيل بالدلائل القطعية متوقفة على معرفة شروط البراهين، وكيفية ترتيبها، وهي صعبة وعسيرة، والزلل فيها كثير إلا على من وفقه الله تعالى.
ثم ذكر عليه السلام المرتبةَ الخامسة: وهي الوصول إلى معرفة الله وصفاته بالعلوم الضرورية، وقد ذكرنا هذه المرتبة، وما احتج به هو وغيره عليها في الموضع الثاني.
قال الإمام عز الدين بعد أن ذكر المراتب الأربع التي ذكرها في التمهيد ما لفظه: إذا عرفت هذا ففيه طرف من الأخذ بقول من أجاز التقليد كما سبق له من موافقة من أجاز حصول العلم الضروري، وقوله عليه السلام : ولو كلفهم العلم اليقين لعجزوا عن إدراكه هو القريب من أحوال من ذكره من الأعراب، والعبيد، والنساء أو أكثرهم، وإن كان الحاكم قد ذكر في شرح العيون أنه ما من عامي إلا ويمكنه أن ينظر في الدقائق ويعلمها، قال: وذلك يظهر في معاملاته وأفعاله، فإن عامياً لو اشترى كوزاً، واشترى غيره كوزاً مثله فقال البائع للعامي: كوزه بدرهمين، وقال للآخر: بدرهم لم يقبله العامي، بل يقول: هما من جنس واحد، والقدر واحد، والوقت واحد، والصفة واحدة؛ فالفضل لابد أن يكون لأمر.
قال: وذكر الشيخ أبو رشيد أن جميع ما يتعلق بالحِجَاجِ تعرفه العامة، ألا ترى أن من استام ثوباً فقال البائع له: بعشرة، فيقول المشتري: لم؟ فيقول: لأني اشتريته بثمانيه وأستربح درهمين، فالمشتري طالب بالوجه والثاني أبان عنه، فإذا قال المشتري: لم فإن مثل هذا يوجد بأقل مما ذكرت، فيقول البائع: لأن هذا أجود منه، فقاس المشتري على الأصل والبائع فرق، وليس الحِجَاج إلا هذا، وإنما اشتبه الأمر لأن العوام اشتغلوا بأمور أخرى فحققوا في ذلك، ألا ترى أنهم يعرفون في صنائعهم الدقائق مالا ينقص عن المسائل الدقائق، هذا معنى ما ذكره الحاكم.
فائدة [التعليق على ما روي عن الإمانم القاسم في جواز التقليد]
اعلم: أن من أصحابنا من أبطل ماروي عن القاسم بن إبراهيم عليه السلام من جواز تقليد المحق؛ لأن نصوصه عليه السلام في كتبه تقضي بخلافه، وأنه لا يعرف الحق إلا بالنظر من ذلك ماذكره في كتاب الدليل الكبير بأن معرفة الله تعالى لا تحصل إلا من طريقتين:
إحداهما: ما ظهر من الأشياء من آثار الحكمة المتقنة التي لاتكون إلا من مؤثر متقن.
والثانية: طريقة خلافه للأشياء كلها فإن العقول تعلم ضرورة أن لكل محسوس ومعقول مما خلقه الله خلافاً متيقناً معلوماً، وذلك الخلاف هو الله تعالى؛ لأن الخلاف الذي بينه وبين الأشياء كلها فروعها وأصولها لايوصف به إلا الله تعالى، قال: وهي الصفة التي لايشاركه فيها مشارك، ولا يملكها عليه مالك، لأنه وإن وقع بين الأشياء اختلاف في بعض الصفات فقد تتوافق في صفات أخرى، فإن المحسوسين إذا اختلفا في لون، أو طعم اتفقا في مالهما من حدود الجسم، وكذلك يقال في المعقولين إذا اختلفا من فعل أوهمة اتفقا فيما يعقل من أصولهما كالملائكة، والإنس، والشياطين التي أصولها في النفسانية متفقة فهممها وأفعالها مختلفة، فهمم الملائكة الإحسان والتسبيح، وهمم الشياطين الطغيان والقبيح، وَهِمَمُ نفوس الإنس مختلفة فتحسن تارة وتسيء أخرى، ثم قال: ولا بد من النظر لمن أراد يقين المعرفة بالله في تصحيح كل ما وصفنا في معرفة الله ليأتي معرفة الله تعالى من بابها، وليسلم بذلك من شكوك النفس وارتيابها فإنه لن تزكو نفس ولن تطيب، ولن يهتدي امرؤ ولن يصيب، اعتلج في صدره با الله ريب مريب، ولا كان فيه لشكٍ في الله نصيب، هذا تلخيص كلامه عليه السلام وهو نص في وجوب النظر، وأنه لا طريق إلى اليقين بالله تعالى غيره، وأن التقليد غير كاف في ذلك بدليل قوله: (ليسلم بذلك من شكوك النفس ...) إلخ، فإنه نفى الهداية عن الشاك، والمعلوم أن المقلد لا يسلم من الشك، وقد بين عليه السلام صحة الطريق الثانية، وليس هذا موضع ذكره.
قال السيد أحمد بن محمد الشرفي: لعل الرواية عن القاسم عليه السلام لا تصح؛ لأنه قال في كتاب العدل والتوحيد: فهذه جملة التوحيد المضيقة التي لا يعذر عن اعتقادها والنظر في معرفتها عن كمال الحجة أحد من العبيد، فمن تمكن بعد بلوغه وكمال عقله وقتاً يكمل فيه معرفة العدل ويمكنه، وتعدى إلى الوقت الثاني وهو جاهل بهذه الجملة فقد خرج من حد النجاة، ووقع في بحور الهلكات حتى يستأنف التوبة، ويقلع عن الجهل والغفلة بالنظر في معرفة هذه الجملة، وأما التأويل فذكره صاحب المحيط، وهو أنه أراد أن المعرفة الجمليه كافية، وإن لم يتمكن من تحرير الأدلة، وحل الشبهة، وكذلك تأول ما روي عن البلخي من جواز التقليد بمثل هذا التأويل، والمراد بالجملي أن يعلم أن للعالم محدثاً، وأن من صح منه الفعل فهو قادر، ونحو ذلك مما مرت الإشارة إليه.
قلت: والذي يظهر أن القاسم عليه السلام أراد بجواز تقليد المحق الاقتفاء باتباعه فيما قد نظر فيه إذا كان قد علم كونه محقاً بدليل آخر، كما أمر علي عليه السلام ولده الحسن بالاقتفاء بنظر سلفه، وقد مر كلامه عليه السلام في المقدمة وشرحناه شرحاً نافعاً، وذكرنا أن المراد به فيما عدا إثبات الصانع، فراجعه فإنه ينفعك في هذه الأبحاث، والله الموفق.
هذا وأما القائلون بالاقتفاء بالظن في معرفة الله تعالى فهم الإمامية، والبكرية وبعض أهل الحديث، ورواه في المعيار عن العنبري، ولعل حجتهم أن الظن كاف في الفروع، فكذلك يكفي في الأصول.
والجواب: بالفرق وهو أنه دل الدليل على جواز العمل به في الفروع دون الأصول، ويؤيده أن الأصل تحريم العمل بالظن مطلقاً كما قد يدل عليه قوله تعالى: {إِنَّ الظَّنَّ لاَ يُغْنِي مِنَ الْحَقِّ شَيْئاً}[النجم:28] ونحوه خصص من ذلك مسائل الفروع بدليل، وبقي في دلالته على تحريم العمل به في الأصول على أصله، وأيضاً التكليف بالظن إما أن يراد به الظن كيف كان،أو الظن المطابق لما في نفس الأمر، والمطابق لأقوى الأمارات، إن أرادوا الأول لزم إصابة من ينفي الصانع وينكر النبوات، وإن قالوا بالثاني قلنا:كيف يعلم أن ظنه مطابق للواقع، وإن قالوا بالثالث، قلنا: ما تريدون بأقوى الأمارات، فإن قالوا: قول الآباء والأسلاف لزم إصابة أهل كل ملة، وإن قالوا: قيام الأدلة، ففيه رجوع إلى وجوب النظر وهو المطلوب؛ لأنها حينئذ توصل إلى المعرفة، وهاهنا وجه آخر يعرف به الفرق بين الفروع والأصول ذكره القرشي وهو:
أن التكليف بالظن مع إمكان العلم قبيح في باب الأصول؛ لأن كون الباري تعالى مرئياً، أو غير مرئي مثلاً أمر ثابت في نفس الأمر لا يحصل بحسب الظن، ولهذا يخالف الفروع؛ لأن المصلحة فيها يجوز أن تحصل بحسب الظن.
قال الإمام عز الدين: فإن الوجوب والندب والتحريم ونحوها أمور تحصل بحسب الظن، فمن ثبت له الظن بوجوب شيء صار واجباً عليه، وإذا حصل لغيره ظن تحريمه كان محرماً عليه فافترقت الحال.
قلت: وهو مبني على أن الحق ليس بواحد في الفروع.
الموضع الرابع: في أدلة وجوب النظر في طريق معرفة الله وفي وجه وجوبه خلاف، فمنهم من أوجبه، ومنهم من لايوجبه، واختلف الموجبون في وجه وجوبه، فقال الجمهور: وجهه أنه يولد العلم بالله، وقيل: بل لأنه شرط اعتيادي كما مر، والذين قالوا: ليس بواجب منهم من منعه؛ لأن العلم بالله ضروري، أو لأن التقليد كاف، أو لأن المعرفة ليست واجبة، وقد ذكرنا هذه الأقوال، ومنهم من منعه؛ لأن الأدلة متكافئة فلا يولد العلم، ومنهم من منعه؛ لأن الإسلام لم يرد إلا بالسيف، ومنهم من قال: لأنه يورث الحيرة والشك، ومنهم من قال: بل لأن النظر بدعة وأطلق، وجعل القرشي القول بأن الإسلام لم يرد إلا بالسيف، وأن النظر بدعة قولاً واحداً.
قيل: وهذه الأقوال وهو القول بأن الأدلة متكافئة، وما بعده متفقة على أن النظر قبيح، وإن اختلفوا في التعليل، ونسب القول بأنه بدعة في الأساس إلى التعليمية، وفي تفسير الرازي إلى الحشوية، إذا عرفت هذا، فنقول: أمَّا المانعون لوجوبه لأجل كون المعرفة ضرورية والاكتفاء بالتقليد، أو لأن المعرفة ليست بواجبة فقد مر إبطال ما قالوه، وأما الباقون فالكلام فيما ذكروه يكون في فصلين:
الأول: في أدلة الجمهور.
والثاني: في شبه الخصوم وإبطالها.
[الأدلة على وجوب النظر]
الفصل الأول: في الدليل على وجوب النظر وهو من وجوه:
أحدها: أنه قد ثبت وجوب معرفة الله تعالى من غير شرط، وأن التقليد والظن ليسا طريقاً إليها فلم يبق إلا النظر؛ لأن ما لا يحصل الواجب المطلق إلابه يجب كوجوبه، فهذه ثلاثة أصول:
أما الأولان: وهما وجوب المعرفة، وبطلان كون التقليد، والظن طريقاً إليها فقد تقدم.
وأما الثالث: وهو أن ما لا يحصل الواجب إلا به يجب كوجوبه، فهو معلوم ضرورة، على الجملة فإن من معه وديعة ولا يتم له ردها إلا بالقيام، والسير، وفتح الباب فإن العقلاء يقضون بوجوب هذه الأفعال عليه، ويذمون على تركه، ولا وجه لذلك إلا كون الواجب لايتم إلا بها بدليل أنه لو تم بغيرها لما وجبت، وقلنا: من غير شرط احترازاً مما يكون وجوبه مشروطاً بما لا يتم إلا به كالحج، وكما إذا قال السيد لعبده: اصعد السطح إذا كان السلم منصوباً فإنه لا يجب الحج إلا بالاستطاعة، والصعود إلا إذا كان السلم منصوباً؛ لما كان الموجب قد شرط ذلك في الوجوب، فأما لو لم يشرطه وجب تحصيله.
الوجه الثاني: أن المكلف عند كمال عقله لا بد أن يخاف من ترك النظر ضرراً، ولا يحصل له الأمان إلابالمعرفة، والمعرفة لا تحصل إلا بالنظر، وما لا يتم الواجب إلا به كان واجباً كوجوبه، وهذا الدليل هو الذي يسميه المتكلمون دليل الخوف وهو معتمد المتقدمين، والأول يسمى دليل المعرفة، وذكره المتأخرون، ودليل الخوف هذا مبني على أربعة أصول كما ترى:
الأصل الأول: أنه لا بد من الخوف عند كمال العقل، والذي يدل عليه أنه لا بد أن يكلفه الله عند كمال العقل، وإلا كان خلقه تعالى للعقل عبثاً، وإذا كلفه فلابد أن يخاف، وإلا كان تكليفه كتكليف الساهي والنائم، وهو قبيح.
الأصل الثاني: أَنه لا يحصل له الأمان إلا بالمعرفة، ودليله أنه لا يحصل الأمان، ويزول الخوف إلا إذا كان على يقين من أمره، وعارف بالصانع، وثوابه، وعقابه، فيفعل طاعته، ويتجنب معصيته.
الأصل الثالث: أن ذلك لا يحصل إلا بالنظر، ودليله ما مر من أنه لا طريق إلى العلم بالله إلا النظر.
الأصل الرابع: أنما لا يتم الواجب إلا به يجب كوجوبه، وقد مر دليله، فإن قيل: هذا الوجه مبني على أن دفع الضرر عن النفس واجب، ونحن لا نسلمه.
قيل: قد مر أن وجوب ذلك ضروري، وأنه يستوي في الوجوب الضرر المظنون والمعلوم.
قال الإمام عز الدين: وإنما استوى الحال في المظنون والمعلوم لحكم العقل بذلك، فإنه لافرق عند العقلاء بين أن يشاهدوا السم في الطعام أو يخبرهم من خبره يورث الظن في وجوب تركه، وكذلك الأدوية فإنه يجب فعلها لظن الدفع، وذلك أمر موجود من النفس.
قلت: ويدل على ذلك أنهم يذمون من أقدم على طعام قد علم، أو ظن أنه مسموم، والذم خاصة الوجوب، ويتصل بهذا الوجه الكلام في فائدتين:
الأولى: في حقيقة الخوف.
والثانية: في بيان أسبابه.
الفائدة الأولى: [حقيقة الخوف]
في حقيقة الخوف، فقال القرشي: هو الظن لحصول ضرر أو فوت نفع في المستقبل، وهذا الحد اعتمده أكثر المتأخرين، وقال أبو هاشم: هو الظن أو الاعتقاد لنزول ضرر أو فوت نفع في المستقبل في الظان، أو المعتقد، أو فيمن يجري مجراه، والذي يجري مجراه هم أحبائه، وقرر هذا الحد ابن متويه وجرى عليه في الغياصة إلا أنه قيد الاعتقاد بأن يكون من غير سكون النفس، وفائدة هذا القيد واعتبار الظن الاحتراز عن الأمور المعلومة المقطوع بحصولها، فإن الإنسان القاطع بها لا يسمى خائفاً عند أهل اللغة.
فإن قيل: كيف قلتم إن الخوف لايكون علماً مع أنا نخاف الموت وهو مقطوع به؟
قيل: إنا لا نخاف الموت نفسه، وإنما نخاف وقته وهو غير مقطوع بتعيينه، بل يظن في أكثر الأوقات.
فإن قيل: فما تقولون في خوف الملائكة من العقاب مع أنهم يعلمون أنه لاينزل بهم في المستقبل؟
قيل: ليس خوفهم من العقاب نفسه؛ لأنهم قد علموا أنهم لايعاقبون لعصمتهم، وإنما خوفهم خوف توق وهو أنهم يخافون مواقعة ما يفضي إلى الضرر، وعلى هذا أول بعضهم قوله تعالى: {يَخَافُونَ رَبَّهُمْ مِنْ فَوْقِهِمْ}[النحل:50] وقيل: معناه يفعلون أفعال الخائفين، وقد ضعف في الغياصة الجواب في الموت والملائكة، وقال: إنه عذر غير محكم، وقال القرشي: الأقرب أنهم -يعني الملائكة- يخافون خوفاً حقيقياً؛ لأنهم مكلفون بمعرفة الله تعالى، وهي إنما تحصل عن النظر في حق كل مكلف، ووجه وجوب النظر هو الخوف من تركه في حق كل أحد، فلا بد أن يخافوا من ترك النظر ضرراً ليكون ذلك وجهاً، وقول أصحابنا أنهم يقطعون على أنهم لايعذبون هو صحيح، لكن إنما يقطعون على ذلك بعد معرفة الله، والخوف من ترك النظر مقدم عليها، واعترضه الإمام عز االدين بأن قوله تعالى: {يَخَافُونَ رَبَّهُمْ مِنْ فَوْقِهِمْ}[النحل:50] جاء بلفظ المضارع، وهو موضوع لإفادة الحال، وقد يؤتى بهذه العبارة لإفادة الاستمرار، وليس مما يدل على المضي، ومن المعلوم أنهم حال إخباره تعالى لنا بذلك عارفون له غير خائفين من ترك النظر في معرفته، وإن جعل يخافون حكاية حال ماضية ولم يحمل على ظاهره في إفادة الحال فقد قال: {يَخَافُونَ رَبَّهُمْ } وهم قبل النظر، وحال الخوف الحاصل قبله غير عارفين له، وذلك الخوف ليس خوفاً له.
واعلم: أنهم اعتبروا في الحد تعلق الظن بحصول ضرر أو فوت نفع؛ لأن تعلقه بعكس ذلك طمعٌ ورجاء، واعتبروا الاستقبال لأن ما قد وقع لايخاف، وفي منعهم أن يكون الخوف علماً دليل على أنه لايكون من فعل الله، وقد نص على ذلك القرشي، وعلله بأنه ظن، والظن لايحسن فعله، ولا الفعل لأجله، ولا الترك إلا إذا حصل عند أمارة صحيحة ينظر فيها فاعل الظن، والظن في الأمارة مستحيل على الله لأنه عالم لذاته، واشتراط الأمارة الصحيحة في حسن فعل الظن للاحتراز عن ظن السوداوي فإنه لا يحسن؛ لأنه صادر لا عن أمارة.
الفائدة الثانية: في بيان أسباب الخوف
اعلم: أن للخوف أسباباً لا بد للعاقل من أن يخاف عند حصول أحدها.
قال السيد مانكديم: حتى لو لم يخف البتة لم يكن مكلفاً ولا عاقلاً، إذ العاقل إذا خوف بأمارة صحيحة خاف لا محالة، وأسبابه كثيرة منها:
أن ينظر إلى نفسه وما في تركيبه من الحكمة والتدبير، فيقول لعل لهذا الصنع صانعاً إن أطعته أثابني وإن عصيته عاقبني فيخاف فينظر، ومنها: أن يرى افتراق الناس في الأديان وتضليل بعضهم لبعض، فيجوز أن يكون من الضالين، ومنها: سماع الوعظ، والأخبار، والكتب المنزلة، وما فيها من إثبات الصانع، والوعد، والوعيد فيجوز أن تكون حقاً فيخاف، ومنها: أن ينظر في كتاب فيرى فيه ما يخوفه من ذكر الثواب والعقاب ونحوهما، فإذا لم يحصل شيء من هذه الأسباب وجب على الله تعالى أن يفعل له الخاطر، والكلام على الخاطر يكون من ست جهات:
الجهة الأولى: في حقيقته، فقال الجمهور: هو كلام خفي يلقيه الله في باطن السمع، أو على لسان بعض ملائكته، والمراد بباطن السمع داخل صماخ الأذن.
قال في الغياصة: أو في ناحية صدره أى يخلقه الله تعالى، أو يلقيه الملك في ناحية صدره، واقتصر على كونه يخلق أو يلقيه الملك في ناحية الصدر في رياض الأفهام، ولم يذكر باطن السمع، ورواه عن أبي هاشم، وقاضي القضاة، وقال أبو علي: بل هو اعتقاد، وعنه أنه ظن، وعنه أنه كلام كالجمهور، وفي الغياصة عنه أنه فكر، وأجيب بأنه لا يجوز أن يكون اعتقاداً؛ لأنه إن طابق كان علماً ضرورياً لأنه قد وقع على أحد الوجوه التي إذا وقع عليها الاعتقاد كان علماً، وهو وقوعه من فعل العالم بالمعتقد، وإن لم يطابق كان جهلاً، وكلاهما باطل.
أما الأول: فلأن المعلوم بخلافه، وأما كونه جهلاً فلأن الجهل قبيح والله لا يفعل القبيح، ولا يجوز أن يكون ظناً، ولا فكراً؛ لأنا نفرق بين كوننا ظانين ومتفكرين وبين الخاطر، ولأن الله لايفعل الظن، ولأنه تخويف فيستحيل بغير الكلام.ذكره في رياض الأفهام.
فإن قيل: فهلا كان من فعل الملائكة فكراً كان أو ظناً، أو اعتقاداً.
قيل: إن الملك قادر بقدرة، فلا يصح منه تعدية الفعل إلى غيره إلا بالاعتماد، والاعتماد لايولد هذه المعاني، وإلا لولدها، وإن صدر من جهتنا.
الجهة الثانية: في حكمه فقال جماعة من العدلية من الزيدية، والمعتزلة منهم الإمام المهدي، والقرشي: الخاطر واجب على الله للمكلف، وقال أبو الهذيل: بل يلزمه النظر في الدينية، وإن لم يكن ثم خاطر ولا سمع، وقال الإسكافي، وابن حرب: يلزمه النظر من دونه في معرفة الصانع فقط، ثم بعدها إن خطر بباله شيء من مسائل التوحيد والعدل وغيرهما لزمه النظر ومعرفة الحق، وإلا فلا إلا مسألة الوعيد فعليه أن يجوز ولا يقطع، وقال ابن مبشر: بل يقطع أنه إن عصى عوقب دائماً؛ لأن الوعيد يعلم عقلاً عنده.
قال ابن المعتمر كأبي الهذيل، إلا أنه يجعل العلم متولداً عن النظر، بخلاف أبي الهذيل فعنده أن النظر لايولده، لكن الناظر يفعل العلم بعده، ومن الخلاف في وجوب الخاطر قول من قال: إن وجوب النظر لايعلم إلا سمعاً؛ لأن السمع حينئذ يكون كافياً عن الخاطر.
أجاب الأولون عن هذه الأقوال جميعها بأنه إذا عدمت الأسباب المتقدمة ولم ينبهه بالخاطر قبح بتكليفه؛ لأنه يصير في حكم الساهي، وقبح تكليف الساهي معلوم بضرورة العقل.
قال بعض المحققين: ولأنه إذا كان الخوف شرطاً في حسن التكليف حتى يقبح التكليف من دونه فأولى وأحرى أن يقبح تكليفه من دون الخاطر الذي هو أصل الخوف.
قال بعض أصحابنا: ووجوبه مشروط بعدم الأسباب كلها، ولا يجب إلا على قولنا بجواز انفصال التكليف العقلي عن السمعي، فأما من لم يجوز ذلك فدعاءُ الرسول كاف.
الجهة الثالثة: في كيفية وروده وهو يرد على أحد وجوه:
أحدها: أن يقول يا هذا قد ترى عظم هذه النعم، وقد تقرر في عقلك حسن الذم على القبيح فلا تأمن أن يكون لك صانع أنعم عليك بها، إن عرفته وأطعته أثابك، وإن جهلته وعصيته عاقبك، أو كلاماً يقرب من هذا، وحينئذ لا بد من أن يخاف وإلا لم يكن عاقلاً.
ثانيها: أن يخوفه بأمارة صحيحة نحو أن يقول: قد تقرر في عقلك حسن ذمك على المعصية ممن ينعم عليك، فلا تأمن أن تستحق من المنعم عليك أكثر من ذلك وهو العقوبة.
قلت: ذكر هذا في الغياصة، ومعناه: أنه يلقى إليه كلام يتضمن الأمارة كهذا الكلام فإنه متضمن الاستدلال على جواز العقاب من المنعم بالقياس على استحقاق الذم من غيره.
ثالثها: ذكره في الغياصة أيضاً أن ينبهه على جهة اللطف بأن يقول: ياهذا إنك إذا عرفت ربك كنت أقرب إلى فعل الطاعة والمعصية، واختلفوا هل يجب أن ينبهه الخاطر على الدليل كأن يقول انظر في الأعراض والأجسام، فقال أبو علي: لابد من ذلك، واختاره ابن متويه وهو أحد قولي القاضي، وادعى الإمام المهدي الاتفاق عليه وفي الغياصة عن أبي هاشم أنه لاحاجة إلى ذلك.
قال أبو علي: ويجب أن ينبهه على ترتيب الأدلة؛ لأن النظر فيها يلزمه مرتباً وجوز أن ينبهه عليها حالاً فحالاً على حسب ترتيبها، وفي حالة واحدة لحصول المقصود بكل من الوجهين، وقال أبو عبد الله: بل يجب أن يكون في حالة واحدة لئلا يتوهم أنه لم يكلف ذلك.
وقال القاضي: إن علم الدليل والترتيب فلا يجب أن ينبهه الخاطر عليه، وإلا وجب وصححه الحاكم، وقال أبو هاشم: وهو أحد قولي القاضي واختيار أكثر المتكلمين: لا يجب التنبيه على الدليل بل إذا حصل الخاطر وخاف فهو مشاهد للعالم فيقع نظره فيه. كذا في المعراج، وفي رياض الأفهام عن أبي هاشم: أنه لا يجب التنبيه على الترتيب، ولا على الدليل؛ لأنا نعلم ضرورة أن النظر في الطب لا يولد معرفة.
وأجيب: بأنه قد يلتبس عليه الترتيب فيحتاج إلى التنبيه.
الجهة الرابعة: في حكمه إذا عارضه الوسواس وفي الفرق بينهما.
أما المعارضة فالذي عليه أكثر أهل العدل أو كلهم أنه لا يجوز تساويهما، بل إذا تعارضا وفر الله تعالى دواعي العمل بما يدعو إليه الخاطر، مع أن المعلوم أن الإنسان إذا توارد عليه سبب خوف وسبب أمن، فإن استشعاره الخوف أكثر من استشعاره الأمن، كمن يكون فيه جراحة فقال طبيب: إن لم يداوها أهلكته، وقال له الآخر: لاضرر عليك فإنه يؤثر قول من خوفه، وينظر في فعل ما قاله، ونظير هذه المسألة ما إذا تعارض خاطران أحدهما دعا إلى النظر، والآخر دعا إلى الترك، فإن داعي الترك لايبطل وجوب النظرعند أبي هاشم، والقاضي، وصححه الحاكم، ولا يعد داعي الترك معارضاً عندهم؛ لأن الخاطر الداعي إلى النظر بَيَّن وجه الخوف، وهو أنه إن لم يعرف ربه، وثوابه، وعقابه كان إلى الانهماك في المعاصي وترك الطاعات أقرب، فيؤديه ذلك إلى العقاب الدائم، وذلك مقرر في العقول بخلاف الداعي إلى الترك فإنه لم يبين وجه خوف في النظر فكان وجوده وعدمه على سواء، وقال أبو علي: بل يتعارضان، لكن داعي الترك مدفوع؛ لأنه يدعو إلى خلاف ما في العقل، وذلك أن الأول داع إلى النظر ليزول الخوف، والآخر داع إلى تركه، والمقام على الحيرة فلاحكم له.
فإن قيل: إذا تعارض الخاطر والوسوسة، ثم إن الله تعالى قوى الخاطر كما قلتم، ثم ذهل المكلف عن الخاطر، فهل يجب على الله تعالى إعادته مرة بعد مرة حتى يخاف؟
قيل: ذكر في (الغياصة) أن ظاهر كلام أصحابنا يقضي بوجوب ذلك، قال: والأولى أن لا يجب؛ لأن الإنسان أتي من جهة نفسه، وأما الفرق بينهما فمن حيث أن الخاطر من جهة الله تعالى وداعياً إلى الخير، والوسوسة من جهة الشيطان وداعية إلى الشر.
قال في (الغياصة): والوسواس من الشيطان كلام خفي في باطن السمع وناحية الصدر، يهون الأمر على المكلف، ويقول: لاتنزل بنفسك مشقة النظر ولا غيره، فليس ثمّ أمر تخافه.
وقال في (المعراج): اعلم أن الخاطر والوسواس لا يسميان بذلك إلا إذا كانا كلاماً خفياً في باطن السمع أو ناحية الصدر، ولهذا يلتبسان بالفكر، وقد نص صاحب المحيط على أن الشياطين لا يقدرون على أن يُسْمِعُوْنَا كلامهم جهرة؛ إذ لو كان كذلك لعظمت الفتنة بهم، وكانوا يوقعون أسباب العداوة بين الناس بما يسمع منهم فيظن أنه من جهة الآدميين، وكلام الملائكة كذلك إلا ما كان في زمن الأنبياء " على جهة المعجز.
الجهة الخامسة: ذكر صاحب المحيط أنه لا بد من أن يكون الخاطر مقارناً لأول كمال العقل، وكذلك إذا كان الخوف لأحد الأسباب، فلا بد من المقارنة إلا أن يكون قد حصل أحدهان أو الخاطر قبل كمال العقل فخاف فيكفيه استصحاب ذلك الخوف عند كمال العقل.
الجهة السادسة: قال بعضهم: لا بد من خاطرين أحدهما يأمر بالإقدام، والآخر خاطر ترك يأمر بالكف ليحصل الاختيار، وقال الجمهور: بل يكفي واحد يدعو إلى النظر، واختلف القائلون بوجوب الخاطرين، فمنهم من قال: كلاهما من الله تعالى، ومنهم من قال: داعي الترك من الشيطان، حجة الجمهور أن المقصود حصول الخوف من ترك النظر، وقد حصل من دون الخاطر الثاني فلا حاجة إليه، ثم إنه لا حكم لحصوله ولا يعارض ما مر فما فائدته، ولو قدر حصوله فلا يجوز أن يكون من جهة الله تعالى؛ لأنه أمر بمعصيته، وذلك قبيح، فأما كونه من جهة نفسه ومن الشيطان فجائز غير شرط.
الوجه الثالث: في وجوب النظر ما ذكره القائلون بأن وجه وجوب المعرفة لأجل القيام بواجب الشكر، وقد مر تقريره في الموضع الأول، فهؤلاء قالوا: قد ثبت وجوب شكر المنعم، وتو جيه الشكر إليه مترتب على معرفته، وهي لا تحصل إلا بالنظر؛ إذ لا طريق إليها سواه لبطلان التقليد والظن، وامتناع المشاهدة، وإذا كانت المعرفة لا تحصل إلا بالنظر كان واجباً لما مر من أن ما لا يتم الواجب إلا به وجب كوجوبه.
قال في الأساس: وإلا وقع الخلل في الواجب، وقد قضى العقل بقبحه.
الوجه الرابع: أن الأدلة السمعية المعلومة صريحة في وجوب النظر، وقد مر في أثناء هذه المواضع شيء من الأخبار، وكلام الوصي، والقرآن مشحون بذلك، ومنه هذه الآية التي نحن بصددها، وقد مر وجه الاحتجاج بها في أول المسألة.
فإن قيل: ليس المراد من الآية إلا بيان الوجه في حسن التكليف بالعبادة والوجه في استحقاقه لها وهو كونه منعماً كما مر في المسألة الرابعة.
قيل: بل المراد منها الدلالة على وجوب النظر، وذلك أنه لما أمر بالعبادة وأوجبها، وكان الإتيان بها مترتب على معرفة المعبود عقبها بذكر الدليل على معرفته وهو خلق المكلفين، وما ذكر بعده، والاستدلال لا يكون إلا بالنظر فيما فيها من دلالة الحدوث، واحتياجها إلى المحدث، وما لا يتم الواجب إلا به وجب كوجوبه، ويكون ما أورده السائل مقصوداً على جهة التبع على أنه لايمتنع إرادة الأمرين معاً بالأصالة.
[شبه القائلين بأن أدلة جواز التقليد من عدمه متكافئة]
الفصل الثاني: في ذكر شبه القائلين بأن الأدلة متكافئة ومن ذكر بعدهم وإبطالها.
واعلم: أن شبه هؤلاء الخصوم على اختلاف طرائقهم مجتمعة في خمسة مقامات:
أحدها: أن النظر لا يفيد العلم.
الثاني: أن المفيد للعلم منه غير مقدور.
الثالث: أنه لا يجوز الإقدام عليه.
الرابع: أن الرسول ما أمر به.
الخامس: أنه بدعة، ونحن نأتي بما قرروا به كل واحد من هذه المقامات التي نبين فساده، ونسأل الله المعونة والتسديد. آمين.
المقام الأول: في أنه لايفيد العلم وقد قرروها بوجوه:
أحدها: أن علْمَنَا بكون الاعتقاد الحاصل عن النظر علماً إما أن يكون ضرورياً، أو نظرياً الأول باطل؛ لأنا نعلم أن علمنا بكون ذلك الاعتقاد علماً، ليس كعلمنا بأن الواحد نصف الإثنين، والثاني باطل أيضاً؛ لأن الكلام في هذا العلم الذي علمنا به كون ذلك الاعتقاد علماً كالكلام في الأول، فيلزم التسلسل وهو محال، فما أدى إليه يجب أن يكون محالاً.
الوجه الثاني: ذكره القائلون بأن النظر يوقع في الشك والحيرة وهو أن الناس قد اجتهدوا في النظر وحصل بينهم مع ذلك مالايخفى من الإختلاف حتى أن الواحد منهم قد ينظر ويحصل له الاعتقاد الجازم، ثم يظهر له أنه كان جهلاً، ولو كان يولد العلم لاتفق الناس فيه، واستمر الاعتقاد الحاصل بسببه.
فإن قيل: إنما اختلفوا ورجع الناظر عن اعتقاده لتقصير وقع في بعضهم في النظر، وذلك لا يوجب عدم توليده العلم من ذي النظر الصحيح.
قيل: إذا علمنا خطأ بعضهم جاز في الآخرين مثلهم، وإذا وقع الخطأ من الناظر في الأول جاز في النظر الثاني مثله، فلا يمكن الجزم بصحة شيء من العقائد المستفادة من جهة النظر.
الوجه الثالث:أن المطلوب إن كان مشعوراً به استحال طلبه لاستحالة تحصيل الحاصل، وإن كان غير معلوم كان الذهن غافلاً عنه،والمغفول عنه يستحيل طلبه.
الوجه الرابع: أن العلم بكون النظر مفيداً للعلم؛ إما أن يكون ضرورياً أو نظرياً، وكلاهما باطلان، أما الأول فلأنه لو كان كذلك لاشترك العقلاء فيه، وأما الثاني فلأنه يؤدي إلى إثبات الشيء بنفسه وهو محال، وبيانه أن العلم بإفادة النظر العلم فرد من أفراد العلم الثابت بالنظر، والماهية التي نريد إثباتها بذلك الفرد موجودة في ذلك الفرد، فلزم إثبات الشيء بنفسه، ويلزم منه أيضاً اجتماع النفي والإثبات؛ لأن هذا الفرد من حيث أنه وسيلة إلى الإثبات يجب أن يكون معلوماً، ومن حيث أنه مطلوب يجب أن لا يكون معلوماً.
الوجه الخامس: أنه لا ينتج إلا المقدمتان، واجتماعهما في الذهن دفعة واحدة محال؛ لأن الخاطر إذا توجه نحو معلوم استحال في ذلك الوقت توجيهه نحو معلوم آخر.
الوجه السادس: ذكره القائلون بأن الأدلة متكافئة، وهو أن كل أهل مذهب استدلوا بمثل دليل مخالفهم، ورجح كل منهم مقالته بمثل ما رجح به خصمه، فلا مزية لدليل على دليل.
الوجه السابع: أنه لو أوصل إلى العلم لما عدل عنه أحد.
الوجه الثامن: أن النظر وإن أفاد العلم في الجملة، فهو لا يفيده في الإلهيات لوجهين:
أحدهما: أن حقيقة الإله غير متصورة، وإذا لم تكن متصورة استحال التصديق بثبوته، وثبوت صفاته بيان عدم تصور حقيقته أن المعلوم عند البشر أنه ليس في جهة، ولا شاغلاً للحيز، والمعلوم عندهم أيضاً أنه موصوف بالعلم، والقدرة، والعلم بهذين ليس علماً بذاته، أما تنزهه عن الجهة فهو قيد سلبي وليست حقيقته نفس هذا السلب فلم يكن العلم بهذا السلب علماً بحقيقته، وأما كونه موصوفاً بالعلم والقدرة فهو عبارة عن انتساب ذاته إلى هاتين الصفتين، وليست ذاته نفس هذا الانتساب، وبيان استحالة التصديق به وبصفاته أن التصديق متوقف على التصور فإذا استحال التصور استحال التصديق، لا يقال ذاته تعالى وإن لم تكن متصورة بحسب الحقيقة المخصوصة، فهي متصورة بحسب لوازمها من التنزيه، ووجوب الوجود ونحوهما، فيحكم على هذا المتصور؛ لأن نقول: هذه الأمور إما أن تكون نفس الذات وهو محال، أو أمور خارجة عنها فلا يمكن العلم بكونها موصوفة بها؛ لأن العلم بالصفة تابع للعلم باللذات.
ثاني الوجهين: أن أظهر الأشياء عندنا ذات الإنسان المشار إليها بقولنا أنا وقد تحير الناس فيها كما مر، فكيف بأبعد الأشياء مناسبة عنا وعن أحوالنا.
والجواب من وجهين:
أحدهما: في إقامة البرهان على أن النظر الصحيح يولد العلم، لأن بثبوته يبطل ما ذهبوا إليه لما مر في المقدمة من أن الدليلين إذا كانا في طرفي نقيض، وثبت أحدهما فإنه يبطل الآخر، والذي يدل على إفادته العلم أن العلم يقع بحسبه في القوة والجلى، فمن كان نظره أكمل كان العلم في حقه أجلى، ويدل عليه أيضاً أن العقلاء يفزعون عند التباس الأمور إلى النظر، فلو لا أن العلم متولد عنه لما وقع بحسبه ولما فزع العقلاء إليه.
فإن قيل: فهلا كان النظر طريقاً إلى العلم لامولداً له.
قيل:طريق العلم تتعلق بما يتعلق به العلم كالإدراك بحاسة البصر فإنه طريق إلى العلم بالمشاهد، وهما يتعلقان معاً بالمشاهد، بخلاف النظر فإن متعلقه الدليل، ومتعلق العلم المدلول، فلا يصح أن يكون طريقاً إليه، وكذلك لايصح أن يكون داعياً إليه؛ لأن الداعي يختص بشيء بعينه، والنظر ليس كذلك؛ إذ ليس دعاؤه إلى اعتقاد المدلول على صفة أولى من غيرها، وإنما الناظر يستكشف به عن حال ما ينظر فيه، وأيضاً الداعي علم الإنسان،أو ظنه،أو اعتقاده بأن له في الشيء جلب نفع، أو دفع ضرر، وليس هذا حال النظر،لا يقال فقد جعلتم التذكر للنظر داعياً مع أنه، وليس بأن يدعو إلى صفة أولى من غيرها؛ لأنا نقول بل هو يدعو إلى صفة معينة، وهو أنا نصير إلى مثل الصفة التي كان عليها من قبل.
فإن قيل: فهلا كان شرطاً؟
قيل: لأن من حق الشرط المقارنة، والنظر متقدم على العلم.
فإن قيل: هو شرط اعتيادي كما قال الجاحظ كالحفظ عند الدرس.
قيل: فكان يجوز اختلاف العادة فيه كالحفظ، فإن أحدنا قد يدرس ولا يحفظ، أو لا يحفظ إلا بدرس كثير، والآخر قد يحفظ بالدرس القليل، والمعلوم أن النظر بخلافه فإن الناظرين إذا استويا في صحة النظر واستحضار مقدماته ولد نظرهما العلم في الوقت الثاني، وإذا حصل لأحدهما العلم دون الآخر أو قبله، فإنما هو لكون نظر أحدهما صحيحاً، ولا يولد العلم إلا النظر الصحيح، أو لتمكنه من استحضار المقدمات قبل الآخر فيحصل له العلم قبله؛ لأن القلب خلق آلة لذلك، والآلات تختلف في سرعة الفعل.
فإن قيل: لوكان النظر سبباً في حصول العلم لصحة مقارنته له؛ لأن الأسباب تصح مقارنتها للمسببات، وتؤثر في وقوعها فقط لا في وقوعها على وجه، وليس هذا حال النظر.
قيل: أما عدم صحة المقارنة؛ فلأن شرط النظر التجويز وهو لايقارن العلم، وأما تأثيره في وقوع مسببه على وجه فهو شيء اختص به النظر دون سائر الأسباب لقيام الدليل.
الوجه الثاني: وفيه مسلكان:
جملي، وتفصيلي؛ فالجملي هو أن الشبه التي ذكروها إما أن تكون ضرورية، أو نظرية.
الأول: معلوم البطلان، والمدعي له مكابر.
والثاني: يبطل مذهبهم لما فيه من المناقضة؛ لأن علمهم بأن النظر لايولد العلم متولداً عن النظر، وأما التفصيلي فنقول:
الجواب: عن الوجه الأول باختيار كون علمنا بذلك ضرورياً كما ذهب إليه أبو عبد الله فإنه يذهب إلى أن علمنا بسكون النفس الذي هو الطريق إلى معرفة كون الاعتقاد علماً عند الجمهور ضروري، سواء كان الاعتقاد المقتضي له ضرورياً، أم استدلالياً، وقواه القرشي، والحجة على ذلك أنه لا يمكن الإشارة إلى أمر نجعله دليلاً على أن أنفسنا ساكنة، ولا ريب في أنا نقطع بسكونها فتعين أن العلم بذلك ضروري، وأيضاً لو لم يكن ضرورياً لصح أن ينظر أحدنا في الدليل على الوجه الذي يدل فيعلم المدلول، ولا يعلم أن نفسه ساكنة بأن لا ينظر في كونها ساكنة، أم لا، أو ينظر لا على وجه الصحة،والمعلوم أن أحدنا عند أن يحصل له العلم لا يشك في سكون نفسه من دون نظر، وأما قوله: إن علمنا بكون ذلك الاعتقاد علماً ليس كعلمنا بأن الواحد نصف الإثنين، فلا نسلمه، بل هما سواء لأنهما راجعان إلى أمر موجود في النفس، سلمنا فلا يشترط استواء العلوم الضرورية لما مر من أن منها ما يحصل فينا ابتداء، وهذا أقواها وأجلاها، ومنها ما يحصل عن طريق، وهذا يتفاوت بتفاوت طرقه، وباختيار الثاني، وهو كون العلم به استدلا لياً كما ذهب إليه الجمهور، فإنهم يقولون إن كان المقتضي له ضرورياً فهو معلوم ضرورة، وإن كان المقتضي له استدلالياً فهو استدلالي، واحتجوا بأنه إذا كان الاعتقاد استدلا لياً فبالأولى ما هو مقتضى عنه؛ لأنه كالفرع له، وبأنه لو كان ضرورياً لم يصح زوال العلم الاستدلالي بعد حصوله؛ لأنا مضطرون فيه إلى سكون النفس، وأجابوا عن لزوم التسلسل بأنه غير لازم؛ لأن الدليل الذي يحصل به العلم بالمدلول والعلم بسكون النفس واحد، وكذلك النظر
واحد، ولا يلزم التسلسل إلا لو اختلف الدليل بأن يكون دليل سكون النفس غير دليل حصول العلم؛ لأنه حينئذ يحتاج علمنا بكون ذلك السكون علماً إلى دليل، وهلم جرا كما ذكره الخصم، وكذلك لو احتاج علمنا بسكون النفس إلى نظر آخر، فلما لم يكن شيئٌ من ذلك انتفى التسلسل، وقد اعترض دليل الجمهور بأن كون سكون النفس مقتضى عن علم استدلالي لا يمنع كونه معلوماً بالوجدان، فإن أرادوا بكونه استدلالياً أن النظر الأول يولده، وأنه يحصل بنظر مستأنف، فمحل النزاع.
وأجيب: عن قولهم لو كان ضرورياً لم يصح زوال العلم ...إلخ، بالتزام صحة زواله، لكن إذا زال لزم منه زوال ما هو مقتضى عنه، وهو سكون النفس، وإذا زال سكون النفس زال العلم الضروري المتعلق بسكون النفس؛ لأن الله تعالى لا يجدد فينا اعتقاداً ضرورياً يتعلق بشيء لا على ما هو به، واعترض جوابهم عن لزوم التسلسل بأنه يلزم عليه أن يكون النظر مولداً لعلمين مختلفين، العلم بالمدلول، والعلم بسكون النفس إليه، وقد سبرنا الأنظار، واختبرناها فلم نجد أنفسنا طالبة للعلم بسكون النفس حال النظر، نعم وبقي لنا وجه ثالث في الجواب، وهو أنا نعرف كون ذلك الاعتقاد علماً بسلامة طرقه كما يقوله أبوعلي، وسيأتي تحقيقه بعد هذا.
والجواب عن الوجه الثاني: أنا لم ندَّع في كل نظر أنه يوصل إلى العلم، وإنما يوصل إليه الصحيح، وأما الاختلاف فهو لا يدل على مطلوبهم؛ لأنه قد يقع لشبهة تدعو إلى الجهل، أو لضرب من اللبس كما في الإدراك فإنا متفقون على أنه طريق إلى العلم مع أنه يختلف الحال فيه كمن يرى الشراب فيلتبس عليه بالماء، وكاختلاف الشخصين في الحساب فيدعي كل منهما أنه المصيب، ثم ينكشف لأحدهما خطؤه، وأما قولهم إذا علمنا خطأ بعضهم جاز في الآخرين مثلهم، فباطل لأنه إنما يلزم ذلك لو لم يكن لنا ما نعرف به كون الاعتقاد علماً، وليس كذلك فإنا نعرفه إما بسكون النفس على ما قاله الجمهور، وقد مر أن علمنا بذلك إما ضروري، أو استدلالي على الخلاف، وإما بسلامة طرقه من الانتقاض على ما يقوله أبو علي؛ لأن الجاهل قد يكون ساكن النفس كما قاله الجاحظ، وكذلك المقلد مع أن اعتقادهما ليس بعلم، وما قيل في الرد عليه بأن في العلوم ما لا طريق إليه كالبديهي وغيره، وإنما يعرف كونه علماً بأمر يرجع إليه، فمدفوع بأنه إنما جعل ذلك طريقاً في المكتسب، وكل علم مكتسب فله طريق أي دليل، وهذا هو المطابق لحكاية قاضي القضاة عنه فإنه لم يحك عنه إلا أنه يجعل تميز العلم المكتسب عن غيره بسلامة طريقه ودليله، وهذا هو الذي يتصور منه، قالوا: لا تعرف سلامة طريقه إلا بعد معرفة كون الاعتقاد الحاصل عنها علماً، ويجاب بأنا لا نسلم ذلك، بل الأمر بالعكس، وهو أنه إنما يعرف ماذكرتم بعد علمه بسلامة طرقه بأن تكون مقدماتها صحيحة، واستنادها إلى أصول معلومة بالضرورة، ومن أدلة أبي علي أنا لا نتمكن من تعريف الغير بأن اعتقادنا علمٌ دون اعتقاده إلا ببيان سلامة طريقنا دون طريقه، وأجيب بأنه لاحجة له في ذلك؛ لأنا لا نتمكن من تعريف الغير بسكون النفس إلا بذلك،ولو كان يمكن بغيره لكان هو الواجب، وليس الكلام في تعريف الغير،وإنما هو فيما به يعرف المرء أن اعتقاد نفسه علم، وأما كلام الجاحظ
فواضح السقوط؛لأن الواحد منا يجد من التفرقة بين اعتقاده كون زيد في الدار عندما شاهده فيها، أو خبر الصادق بذلك، وبين أن يخبره رجل من آحاد الناس ما لا يجده الجاهل، وكذلك المقلد، وإنما يتصوران بصورة ساكن النفس، ولذا لو شكك عليهما لاضطربا في الاعتقاد، وإذا تقرر لك هذا علمت أن لنا سبيلاً إلى معرفة كون الاعتقاد علماً على اختلاف الأصحاب في ذلك السبيل كما عرفت، وإذا ثبت أن لنا إلى معرفته سبيلاً بطل ما ذكره الخصوم في الوجه الثاني. والحمد لله.
والجواب عن الوجه الثالث: أن الممنوع كون المطلوب معلوماً من الوجه الذي يطلب بالنظر تحصيله، فأما العلم به من وجه آخر فيجب ليمكن طلبه؛ إذ المجهول المطلق لا يمكن طلبه، ولا محذور في طلب ما هومعلوم بوجه من الوجه المجهول؛ إذ الامتناع في تو جه النفس إليه لكونه معلوماً ببعض عوارضه، والحاصل أنه يجب أن يعلم إجمالاً بوجه ما.
فإن قيل: فما الوجه الذي علم به الباري تعالى إجمالاً حتى يمكن توجه النفس إلى معرفته بالنظر؟
قيل: هو ما ينبه عليه الخاطر ونحوه من حدوث العالم، وأنه محتاج إلى محدث؛ لأنه إذا حصل هذا العلم علم أن محدث العالم شيء، فتتوجه النفس إلى معرفة ذلك الشيء.
والجواب عن الوجه الرابع: أن العلم بذلك ضروري، وهو ما قدمناه من أن العلم يقل أو يكثر بحسب قلة النظر وكثرته، وأنه إذا وقع على وجه الصحة يوجب حصول العلم أن العقلاء لو لم يعلموا أنه يوصلهم إلى الصواب لما فزعوا إليه عند التباس الأمور وارتباكها، والمعلوم أنهم عند التباس الأمور يفزعون إلى النظر ويذمون تاركه، وهذان الدليلان ضروريان بلاشك، والمخالف مكابر فلا يعتبر بخلافه، ولا يقدح في كونه ضرورياً.
والجواب عن الوجه الخامس: أنه مبني على ما يذكره الفلاسفة، ومن مال إلى علومهم من أنه لا يوصل إلى العلم إلا الدليل المركب من الأشكال الأربعة، وقد مر في المقدمة إبطال مذهبهم، وأن الدليل هو ما إذا نظر الناظر فيه نظراً صحيحاً أوصله إلى العلم بالغير، سواء تركب من تلك الأشكال أم لا.
قال بعض المحققين: الدليل عندنا على إثبات الصانع هو العالم، وعند المنطقيين أن العالم حادث، وكل حادث له صانع، فالدليل عندهم هاتان القضيتان مع هيئة الترتيب العارضة لهما، ثم إنا لو سلمنا لهم ذلك فمن أين لهم منع المقدمتين في الذهن دفعة واحدة، ولا أظن أحداً يقول بهذا من الحكماء، فإن علماء المنطق قد نصوا على عكسه، ففي الشمسية وشرحها وما عليها من الحواشي: أن العلم النظري يحصل بالفكر، قالوا: والفكرة ترتيب أمور معلومة حاصلة في الذهن للتأدي إلى المجهول كما إذا حاولنا تحصيل معرفة الإنسان، وقد عرفنا الحيوان الناطق رتبناهما بأن قدمنا الحيوان، وأخرنا الناطق حتى يتأدى الذهن منه إلى تصور الإنسان، فهذا نص منهم على أنه لا بد من استحضار المقدمتين في الذهن قبل ترتيبهما، ويؤيد ذلك أنهم لم يمنعوا استحضار المتعددات في الذهن إلا إذا كانت لا نهاية لها، وإنما منعوا استحضار ما لانهاية لها إذا كان استحضارها دفعة واحدة، أو في زمان متناه، فأما إذا كان في أزمنة غير متناهية فقد نص على جوازها في حواشي الشمسيه، وإذا عرفت هذا عرفت أنه لا وجه لمنع استحضار المقدمتين دفعة واحدة، وإن كلام أئمة الفن قاض باشتراطه ليمكن ترتيب المقدمات، وقد مر عن أبي عبد الله أنه يجب التنبيه على الأدلة في حالة واحدة، وأما قوله إن الخاطر إذا توجه إلى معلوم...إلخ، فمغالطة ظاهرة؛ لأنا لو سلمنا ذلك فليس توجهه إلى المقدمتين ليعلمهما؛ لأن حصولهما في الذهن قبل التوجه إليهما لابد منه كما مر، وإنما توجه إليهما ليستدل بهما، وقد صارتا بالتركيب كالشيء الواحد، ولذا قال
المناطقة: إن الترتيب في اصطلاحهم جعل الأشياء المتعددة بحيث يطلق عليها اسم الواحد، وإذا كان التوجه إلى المقدمتين من حيث الاستدلال بهما ومصيرهما دليلاً واحداً لم يكن التوجه إليهما إلاتوجهاً واحداً، على أن توجه الخاطر إلى شيئين والنظر فيهما لا يمتنع عند أبي هاشم، ومنعه أبوعلي بناء على تضاد الأنظار.
وأجيب: بأن شرط التضاد فيها اتحاد المتعلق، وأن يكون التعلق متعاكساً، ولو سلم له ذلك فلا نسلم امتناع النظر في شيئين إذ لا تضاد، ولو امتنع فهو لفقد الداعي إلى الجمع بينهما، كما يمتنع فعل النظر مع كراهته لفقد الداعي لا لتضاد بينه وبين الكراهة.
والجواب عن السادس: كالجواب عن الثاني، ويقال لهم أيضاً: هذه الأدلة المتكافئة إما أن توصل كلها إلى العلم حتى يكون جميع المذاهب حقاً، وهذا باطل؛ لأنه لا يكون إثبات الصانع ونفيه حقاً، وإما أن لا توصل، وفي هذا خروجها عن كونها أدلة فضلاً عن كونها متكافئة فكيف سميتموها أدلة مع أن الدليل ما أوصل إلى العلم، وإما أن يوصل بعض دون بعض، فهو المطلوب، لكن ما أوصل فهو الدليل، وما لم يوصل فهو شبهة، ولا تكافؤ بين الدليل والشبهة.
والجواب عن السابع: بأنه قد يعدل عن النظر لسبب من الأسباب، والأسباب الصارفة عن الخوض في هذا العلم، والتشاغل عن النظر والفكر كثيرة، منها: إيثار الدعة والراحة، والتشاغل باللذات.
قال الحاكم: وهذه عادة كثير من الناس، وذلك مما لا يخفى فساده؛ لأن صلاح أمر الدنيا لا يحصل مع تلك الآفات فكيف الثواب، وقد قال صلى الله عليه وآله وسلم : ((حفت الجنة بالمكاره وحفت النار بالشهوات)) ومنها: تجويز التقليد.
قال الإمام عز الدين: اعلم أن التقليد الذي يصرف عن النظر والفكر، والبحث والتأمل، والعلاج الشديد في إدراك الحق ووجدانه على ضربين:
أحدهما: تقليد الآباء والنشأ على مذهبهم، وموافقة أهل بلده وجهته.
قال الحاكم: لأنه إذا اعتاد ذلك واستمر عليه تتعذر عليه مفارقته، ولهذا قالوا: {إِنَّا وَجَدْنَا آبَاءَنَا عَلَى أُمَّةٍ}[الزخرف:22]
وثانيهما: أن يشاهد أكثر الناس على مذهب فيعتقد أنه الحق لذهاب الأكثر إليه، فيستكفي بذلك عن النظر المستلزم للمشقة، ولا ينظر إلى قوله تعالى: {بَلْ أَكْثَرُهُمْ لاَ يَعْلَمُونَ}[النحل:75] {وَإِنْ تُطِعْ أَكْثَرَ مَنْ فِي الأَرْضِ}[الأنعام:116] {وَقَلِيلٌ مِنْ عِبَادِي الشَّكُورُ}[سبأ:13] وقول أمير المؤمنين: (الحق لا يعرف بالرجال...) الخبر، ومنها أن النظر في الأدلة، والخوض فيها قد يؤدي إلى الزندقة، والفساد في الدين فيجعل ذلك سبباً للامتناع منه على ما يعتقده بعض المتفقهة، وهذا غلط فاحش؛ لأنه لو كان كذلك لكان الله تعالى لا يدعو عباده إلى النظر، ومنها: أن يكون له رئاسة، أو يؤمل ذلك ويخاف فوتها إن اشتغل بالنظر وخاض في الكلام فيعدل عنه إلى غيره من العلوم والآداب.
قال الحاكم: وهذا أمر أكثر المتفقهة، لأنهم يؤملون نيل رئاسة يخافون فوتها إن خاضوا في الكلام، ولذلك ترى كثيراً منهم يعدل عنه مع البصيرة بأنه واجب حتى يتعلم سراً ويظهر خلافه جهراً، وما عليه أصحاب الحديث من أنهم لو خاضوا في علم الكلام لفارقوا طريقة السلف، ولذلك تراهم يحتجون بقول فلان وفلان، ويعدلون عن الحجج، ومنها: ما يصرف عن العلم الحاصل بالنظر، وذلك إما لشبهة تطرأ عليه فلا يمعن النظر في حلها، أو يتقاعد عنه تكاسلاً، وإما للتعصب للأسلاف فيعرض عما يخالفهم وإن قاد إليه النظر كما هو حال كثيرمن المخالفين، وإما لاتباع مذهب يكون له به رئاسة، ويصير به قدوة وإن كان باطلاً.
قال في المعراج: روي عن الأشعري أنه قال: أحب إلي أن أكون رأساً في الباطل ولا ذنباً في الحق.
والجواب عن الوجه الثامن: أن نقول أما من يقول إن معرفة كنه ذات الباري تعالى وحقيقته غير ممكنة، وأنا غير مكلفين بمعرفة الحقيقة، وإنما كلفنا بإثباتها، فلا يرد عليهم هذا الإشكال، ولا يتوقف الواجب من معرفته على تصور ذاته جل وعلا، وإنما يعرف بالدليل، وقولهم: إذا لم تكن ذاته متصورة امتنع التصديق بثبوته وثبوت صفاته باطل، فإن العلم بأن للمصنوع صانعاً، والتصديق به لايستلزم وجوب معرفة كنه صانعه وحقيقة ذاته كالآثار المصنوعة في القفار، فإنا إذا رأيناها نعلم ضرورة أن لها صانعاً، موجوداً، حياً، قادراً، عالماً بما صنع، ويكفينا ذلك من غير احتياج إلى معرفة كونه ذاتاً معينة، بل ولا يحتاج إلى معرفة جنسه من كونه جنياً أو إنسياً، ولا نوعه من كونه ذكراً أو أنثى، فإذا كفانا هذا في الشاهد مع أنه قد يمكننا أن نعرفه على التعيين أو نحوه، فليكفنا في الغائب الذي لا نحيط به علماً بالأولى، وما الدليل على أنه لا يمكن العلم بالمعلوم والتصديق به إلا بعد تصوره، وأما قولهم أن العلم بالصفة تابع للعلم بالذات، فلو سلم لكان لنا أن نقول علمنا بأنه لا بد للمصنوع من صانع كاف في معرفة ثبوت الذات، ولا يشترط في معرفة الحقيقة كما مر، وإذا علمنا أنه لا بد من صانع، علمنا أنه لايكون إلا موصوفاً بتلك الصفات؛ لأنه لو لم يكن موجوداً حياً قادراً لم يصح منه الفعل، ولو لم يكن عالماً لم يصح منه إحكام فعله، ولو لم يكن قديماً لاحتاج إلى محدث، فثبت أنا لم نعلم الصفات إلا بعد العلم بالذات، ولا نسلم أن ذاته تعالى معلومة لنا بحسب اللوازم التي ذكروها من التنزيه ونحوها، وإنما علمت لنا بالدليل، وهو الأثر الدال بالضرورة على المؤثر، وأما قولهم إن الناس تحيروا في الإنسان، فهو حجة عليهم؛ لأن تحيرهم في معرفة حقيقة الإنسان لم يمنع من علمهم بثبوته قطعاً، وإنما اختلفوا في تعيين حقيقته ما هي، فما لهم لا يقولون إن عدم وقوفنا على حقيقة ذات الباري جل
وعلا لا يمنع من العلم بثبوته، هذا مع أنا لو سلمنا لهم أن التصديق متوقف على التصور فلا نسلم أنه متوقف على تصور الذوات، بل على ما يمكن تصوره كما ذكره علماء المنطق.
قال في شرح (الشمسية): استدعاء التصديق بتصور المحكوم عليه ليس معناه أنه يستدعي تصور المحكوم عليه بكنه الحقيقة حتى لولم يتصور حقيقة الشيء يمتنع الحكم عليه، بل المراد به أنه يستدعي تصوره بوجهٍ مَّا بكنه حيققته، وإما بأمر صادق عليه، فإنا نحكم على أشياء لا نعرف حقائقها كما نحكم على واجب الوجود بالعلم والقدرة، وعلى شبح رأيناه من بعد بأنه شاغل للحيز المعين، فلو كان الحكم مستدعياً لتصور المحكوم عليه بكنه حقيقته لم يصح منا أمثال هذه الأحكام، فهذا كلام من لا ريب في تقدمه في هذا الفن، ولم أقف على خلافه لأحد من علماء هذه الصناعة، ولا أظن القائل بخلافه إلا من يريد التلبيس، وإذا كان لا يشترط تصور الحقيقة فلا مانع من القول بالتصور منا في حقه تعالى بأمر صادق عليه، وهو كونه محدثاً -بالكسر- بأن نقول: قد ثبت أن كل محدث بالفتح لا بد له من محدث فيتصور المحدث -بالكسر- من حيث هو، ثم نحكم بثبوت محدث العالم جل وعلا بعد هذا التصور الجملي، وهذا لا محذور فيه؛ لأنه لا يمتنع في حقه تعالى إلا تصور حقيقته، وقد أجازوا تصور المستحيل بوجهٍ مَّا كما مر، هذا وأما القائلون بأنا مكلفون بمعرفة حقيقة ذاته، وأن معرفتها ممكنة فلهم في بيان كون معرفة ذاته ممكنة طرق: منها: ما ذكره الإمام المهدي عليه السلام ، وحاصلها أنا إذا جوزنا لذاته تعالى مزية يعلمها هو ولا نعلمها نحن، وليست تلك المزية إلا الصفة الأخص، ونحن قد علمنا ثبوتها له، وحكمها وهو أنه خالف بها مخالفه، واقتضت له وجوب الأربع، وأنها لا تتعلق بها المدركية لامنا ولا منه تعالى، وأنها ثبتت على سبيل الوجوب، وإذا علمناها كما ذكرنا فهو غاية ما يمكن من معرفة كنهها، ولهم في تقرير هذه الطريقة كلام مبسوط، وأدلة
كثيرة، وسيأتي الكلام عليها في موضعها إن شاء الله.
والمقصود هنا إبطال قول من قال: إن النظر لا يفيد العلم بالله تعالى لعدم إمكان تصور ذاته. والله الموفق.
وإذا ثبت بما قررنا أن النظر يولد العلم، فاعلم: أنه لايولده إلا إذا وقع في دليل، أو طريقة نظر.
فالأول: أن ينظر في ذات فيحصل له العلم بذات أخرى كان ينظر في العالم فيحصل له العلم بالصانع، أو ينظر في صفة لذات فيحصل له العلم بصفة لذات أخرى كالنظر في كوننا قادرين عند صحة الفعل فإنه يحصل لنا عنه العلم بكون الله تعالى قادراً.
والثاني: أن ينظر في صفة لذات فيحصل له العلم بصفة أخرى لتلك الذات كالنظر في كونه تعالى قادراً فإنه يولد العلم بكونه حياً، وإنما حصروا توليد النظر للعلم على تعلقه بهذين الأمرين؛ لأنه لا يمكن النظر في غيرهما؛ إذ لا يخرج النظر عن تعلقه بذات، أو بذات على صفة، أو بذات على حكم، ولتوليده للعلم شروط:
أحدها: أن يكون الناظر عاقلاً، ووجهه أنا نعلم من حال الصبيان والمجانين أنهم إذا نظروا لم يولد نظرهم العلم، ولا وجه لذلك إلا اختلال العقل.
فإن قيل: إنما لم يولد نظرهم؛ لأن من حق الناظر أن يعلم الدليل ووجه دلالته، وذلك لايتأتى منهم، فكان عدم التوليد لاختلال شرط غير العقل.
قيل: لو كان لأجل ما ذكرتم للزم فيما إذا كان العلم بالدليل ووجه دلالته ضرورياً أن يولد نظرهم العلم، والمعلوم خلافه، وأيضاً إذا تعذر توليد نظرهم للعلم لعدم علمهم الاستدلالي بالدليل ووجه دلالته، فإنما عدموا العلم بذلك، وتعذر التوصل إليه بالاستدلال لعدم العقل، فيكون عدم العقل مؤثراً في انتفاء توليد النظر للعلم، وإن كان بواسطة تعذر العلم بالدليل ووجه دلالته. والله أعلم.
الشرط الثاني: أن يكون عالماً بالدليل، والمراد أن يعلم بنفس الدليل لابكونه دليلاً؛ لأن ذلك يتأخر عن العلم المتأخر عن النظر؛ لأن الدليل ما يتوصل بصحيح النظر فيه إلى العلم بالمدلول، ولا يعلم أنه دليل يوصل إلى ذلك إلا عقيب العلم بالمدلول الحاصل عن النظر فيه، فإذا علم المدلول علم أنه دليل لحصول حقيقة الدليل فيه، ووجه اشتراط هذا الشرط أن اعتقاده الذي ليس بعلم لايكفي في توليد النظر للعلم، وأنه لا يتولد عنه اعتقاد ليس بعلم فضلاً عن أن يولد العلم.
الثالث: أن يعلم وجه دلالته؛ لأن وجه الدلالة هو التعلق بين الدليل والمدلول والرابطة بينهما فلولم يعلم الناظر وجه الدلالة لم يعلم التعلق بين الدليل والمدلول، فلم يكن نظره بأن يولد العلم بأولى من أن لا يولده، ولذا لم يولد نظر الملحد في الأجسام العلم بالصانع مع أنه يعلمها، وليس ذلك إلا لعدم علمه بوجه دلالتها وهو الحدوث.
المقام الثاني: في أن النظر المفيد للعلم غير مقدور لنا، واحتجوا عليه بوجوه:
أحدها: أن تحصيل التصورات غيرمقدور لنا؛ لأن طالب تحصيلها إما أن يكون عارفاً بها، أو غافلاً عنها، وأيهما كان استحال منه طلبها كما مر، لايقال هي معلومة من وجه، ومجهولة من آخر؛ لأنا نقول الوجه المعلوم غير المجهول ضرورة، وإذا كان كذلك فنقول: الوجه المعلوم يستحيل طلبه؛ لأنه من تحصيل الحاصل، والوجه المجهول يستحيل طلبه؛ لأن ما غفلنا عنه لا يكون مطلوباً، وإذا ثبت استحالة التصورات الكسبية، وأنها غير مقدورة لنا وجب أن تكون التصديقات البديهية غير كسبية؛ لأن عند حصول طرفي القضية البديهية في الذهن، إما أن يلزم من مجرد حضورهما الجزم بنسبة أحدهما إلى الآخر أوْ لا، إن لم يلزم لم تكن القضية بديهية بل مشكوكة، وإن لزم كان التصديق واجب الحصول عند حضور ذينك التصورين، وممتنع عند عدمه، وما توقف ثبوتاً وانتفاءً على ما لايكون مقدوراً وهو التصور يجب أن يكون كذلك، فثبت أن التصديقات البديهية غير كسبية، وإذا لم تكن كسبية لم يكن شيء من التصديقات كسبياً؛ لأن التصديق النظري إن لم يكن واجب اللزوم عند حصول التصديقات البديهية لم يلزم من صدق تلك المقدمات صدق ذلك المطلوب، فلم يكن ذلك استدلالاً يقينياً، بل إما ظناً، أو اعتقاداً تقليدياً، وإن كان واجب اللزوم كانت تلك النظريات واجبة الدوران نفياً، وإثباتاً مع تلك القضايا الضرورية، فوجب أن لا يكون شيء من تلك النظريات مقدوراً للعبد أصلاً، وحاصل هذا الوجه أن التصورات غير مقدورة لنا، وأن التصديقات البديهية لا تكون كسبية، وإذا لم تكن كسبية فهي غير مقدورة لنا، وإذا لم تكن كذلك فجميع التصديقات مثلها لا تكون كسبية، بل إما ظنية، أو بديهية، والبديهي غير مقدور، والظني ليس الكلام فيه، فوجب من هذا أن النظر المفيد للعلم غير مقدور.
الوجه الثاني: أن الإنسان إنما يكون قادراً على إدخال الشيء في الوجود إذا كان يمكنه تمييز المطلوب عن غيره، وإنما تميز عن الجهل بمطابقته للمعلوم، ولا تعلم المطابقة إلا إذا علم المعلوم على ماهو عليه، فإذاً لا يمكنه إيجاد العلم بالشيء إلا إذا كان عالماً بذلك الشيء، وذلك محال لاستحالة تحصيل الحاصل، فوجب أن لا يكون العبد متمكناً من إيجاد العلم ولا من طلبه.
والجواب من وجهين:
جملي، وتفصيلي.
أما الجملي فقد ثبت بالدليل أن النظر فعل قلبي من أفعالنا، وأفعالنا مقدورة لنا، وواقفة على اختيارنا.
قال الرازي: وأما الشبه التي تمسكوا بها في أن النظر غير مقدور فهي فاسدة؛ لأنهم مختارون في استخراج تلك الشبه فيبطل قولهم إنها ليست اختيارية.
وأما التفصيلي: فنقول: الجواب عن الوجه الأول من وجهين:
أحدهما: أنه مؤسس على القواعد المنطقية، وقد مر في المقدمة أن هذا الفن لايحتاج إليه في دين الإسلام، وأنه مشتمل على مفاسد قد أوضحنا بعضها ثمة، وهذا الوجه وما يشابهه مما يؤيد به القول بتحريم علم المنطق.
ثانيهما: أنا لانسلم أن تحصيل التصورات غير مقدورلنا، بل لم يقل به أحد فيما أعلم، فإن الذي نص عليه في الكتب التي طالعناها من فن المنطق والأصول، وعلم الكلام هو انقسام كل من التصور والتصديق إلى ضروري، ونظري بلانزاع في ذلك، ولم يحكوا فيه خلافاً، بل قيل: إن هذه القسمة بديهية لا تحتاج إلى تجشم استدلال، واحتج له في شرح الشمسية بأنه لو كان كل واحد من التصورات والتصديقات بديهياً لما احتجنا في تحصيل شيء من الأشياء إلى كسب ونظر، وهو فاسد ضرورة احتياجنا في تحصيل بعض التصورات والتصديقات إلى الفكر والنظر، ولا نظرياً أي ليس كل واحد منهما نظرياً، وإلا لزم الدور أو التسلسل، والدور توقف الشيء على ما يتوقف عليه ذلك الشيء من جهة واحدة.
إما بمرتبة كما لو قلت: زيد متوقف على عمرو، وعمرو متوقف على زيد، أو بمراتب كما لو قلت: زيد متوقف على بكر، وبكر على خالد، وخالد على عمرو، وعمرو على زيد، والتسلسل هو ترتب أمور غير متناهية، واللازم باطل فالملزوم مثله، أما الملازمة فلأنا إذا حاولنا تحصيل شيء منهما فلا بد من أن يكون حصوله بعلم آخر،وهذا الآخر نظري أيضاً لا يكون حصوله إلا بعلم آخر وهلم جرا، فإما أن تذهب سلسلة الاكتساب إلى غير نهاية، وهو التسلسل، أو يعود فيلزم الدور، وأما بطلان اللازم فلأن تحصيل التصور والتصديق لو كان بطريق الدور أو التسلسل لامتنع التحصيل والاكتساب، هذا حاصل ما في شرح الشمسية، وإذا بطل أن يكون كل منهما بديهياً وكونه نظرياً تعين أن كل واحد منهما منقسم إلى بديهي ونظري، وبه يبطل القول بأن التصورات غير مقدورة لنا؛ إذ النظري من جملة المقدورات كما مر، وما استند إليه من أنه إن كان عارفاً امتنع تحصيلها... إلى آخره فقد مر جوابه في المقام الأول.
قوله: الوجه المعلوم يستحيل طلبه والمجهول كذلك، قلنا: قد مر أن الممنوع كون المطلوب معلوماً من الوجه الذي يطلب بالنظر تحصيله لا من وجه آخر، والمجهول الذي لا يمكن طلبه ليس إلا المجهول المطلق.
قوله: الوجه المعلوم غير المجهول، قلنا: مسلم لكن لا يمتنع توجه النفس إلى ما جهل من وجه مع العلم به من وجه آخر، وما أمكن توجه النفس إليه فلا استحالة في طلبه ضررورة، وإنما يستحيل طلب المجهول المطلق، ألا ترى أنا لو رأينا شبحاً لعلمناه شاغلاً للحيز مع جهلنا بكونه إنساناً أو بهيمة، لكن بعد علمنا به كما ذكرنا لا يمتنع توجه النفس إلى معرفة شخصه، فإذا توجهت إليه النفس أمكن العلم به على التعيين، ولولا علمنا به من الوجه السابق لما أمكن توجه النفس إليه، ولا طلب معرفته، فثبت أن المعلوم من وجه، المجهول من آخر لا يستحيل طلبه، وبطل قولهم: إن التصورات كلها غير كسبية، وإذا بطل هذا بطل ما ترتب عليه من قولهم إنه يجب أن لاتكون التصديقات البديهية كسبية، هذا مع أن الملتزم أن التصديقات البديهية لايجوز مصيرها استدلالية إلا مع زوال العلم الضروري إذا لم يكن من علوم العقل كالعلم بأحوال أنفسنا، ومثال الذي لايعد من كمال العقل العلم بأن زيداً هو الذي كنا نشاهده من قبل، فهذا يجوز مصيره استدلالياً بأن يزول العلم الضروري، وهو علمنا بأنه الذي كنا نشاهده، والحجة على أن الضروري لا يجوز مصيره استدلالياً إلا بالشرط المذكور: هي أن ما علم استحال النظر فيه، لأن شرط النظر التجويز، وأما اشتراط أن لايكون من علوم العقل؛ فلأنه إذا كان منها استحال النظر من دونه؛ إذ من شرط النظر اجتماع علوم العقل، لكن القول بأن التصديق البديهي لا يصير كسبياً لا يدل على منع التصديق الاستدلالي، وقد ثبت بما مر انقسام التصديق إلى ضروري ونظري، فما هذه المجازفة والمغالطة.
قوله: لأن عند حصول طرفي القضية البديهية في الذهن إما أن يلزم من مجرد حضورهما الجزم ...إلخ.
قلنا: لا يلزم من مجرد حضورهما الجزم، وإنما يحصل الجزم بعد النظر والفكر، وهو ترتيب المقدمات المتصورة في الذهن، ولا يلزم منه أن تكون القضية غير بديهية.
قال في شرح الشمسية: والنظري يمكن تحصيله بطريق الفكر من البديهي؛ لأن من علم لزوم أمر لآخر، ثم علم وجود الملزوم حصل له من العلمين السابقين وهما العلم بالملازمة، والعلم بوجود الملزوم العلم بوجود الإلزام بالضرورة، فلو لم يكن تحصيل النظري بطريق الفكر لم يحصل العلم الثالث من العلمين السابقين؛ لأن حصوله بطريق الفكر.
قال: والفكر ترتيب أمور معلومة للتأدي إلى المجهول، كما إذا حاولنا تحصيل معرفة الإنسان، وقد عرفنا الحيوان والناطق رتبناهما بأن قدمنا الحيوان، وأخرنا الناطق حتى يتأتى الذهن منه إلى تصور الإنسان، وكما إذا أردنا التصديق بأن العلم حادث ووسطنا المتغير بين طرفي المطلوب، وحكمنا بأن العالم متغير، وكل متغير حادث فحصل لنا التصديق بحدوث العالم.
قال في الحواشي: وكون الفكر ترتيب أمور...إلخ، إنما هو عند المتأخرين، وأما عند المتقدمين فهو عبارة عن مجموع حركتين حركة من المطالب إلى المبادي، والثانية من المبادي إلى المطالب، بيان ذلك أنه يخطر أولاً بالعقل حدوث العالم فينتقل الذهن إلى المبادي، فيوقع الترتيب بينها، فينتقل من المبادي إلى المطالب، وبما ذكر تعلم أنه لا يلزم من عدم لزوم الجزم بمجرد حضور طرفي القضية كون القضية غير بديهية، وإن حصول النظري عن البديهي ممكن، وقد أوضح دليله بما لامزيد عليه.
قوله: وما توقف ثبوتاً وانتفاء ...إلخ.
قلنا: قد مر أن من التصور ما هو مقدورلنا.
قوله: وإذا لم تكن كسبية لم يكن شيء من التصديقات كسبياً.
قلنا: لا وجه للملازمة، وقد علم من ما مر أن التصديق ينقسم إلى ضروري وكسبي.
قوله: لأن التصديق النظري إن لم يكن واجب اللزوم ...إلخ.
قلنا: قد عرفت دليل لزوم صدق المطلوب لصدق مقدماته من كلام شارح الشمسية.
قوله: وإن كان واجب اللزوم كانت تلك النظريات واجبة الدوران.... إلخ.
قلنا:دورانها مع القضايا الضرورية لا يخرجها عن كونها نظرية لاحتياجها إلى الفكر كما مر.
والجواب عن الوجه الثاني: بأنه قد مر الدليل على إمكان توجه النفس إلى المجهول إذا كان قد علم من وجه آخر، وقررناه بما لامزيد عليه، فلا فائدة في التكرار.
المقام الثالث:في أنه لا يجوز الإقدام على النظر.
وحاصل كلامهم في ذلك أن النظر وإن أفاد العلم وكان مقدوراً للمكلف فإنه يقبح من الله الأمر به لوجوه:
أحدها:أنه في الأكثر يفضي بصاحبه إلى الجهل، فالمقدم عليه لا يأمن الجهل وهو قبيح، فالمؤدي إليه وهو النظر يجب أن يكون قبيحاً.
الثاني: أن الواحد منا مع ماهو عليه من النقص، وضعف الخاطر لا يجوز أن يعتمد على عقله في تمييز الحق من الباطل لعجزه عن التمييز بينهما، ويدل على ذلك أن أرباب المذاهب إذا تركوا التعصب وجدوا الأدلة متعارضة، وهذا يدل على عجز العقل عن إدراك هذه الحقائق.
الثالث: أن مدار الدين لو كان على النظر لما استقر إيمان عبد ساعة واحدة؛ لأن الناظر كلما خطر على باله سؤال أوشبهة صار شاكاً، فيلزم أن يخرج في كل ساعة من الدين بسبب هذه العوارض.
الرابع: أنه قد اشتهر في الألسنة أن من طلب الدين في الكلام تزندق.
والجواب من وجهين: جملي، وتفصيلي:
أما الجملي فنقول: قد ثبت وجوب النظر بما مر، وما ثبت وجوبه ثبت حسنه وانتفى قبحه، والشبه التي أوردوها في القبيح تناقض دعواهم لقبحه؛ لأنه إذا كان قبيحاً كان إيرادهم لهذه الشبه قبيحاً.
وأما التفصيلي فنقول:
الجواب عن الوجه الأول: أنا لانسلم أن النظر قد يفضي إلى الجهل، بل لا يولد إلا العلم، ولا يولد جهلاً ولاظناً، واحتج القرشي على ذلك بأنا نعلم حسن جميع الأنظار لعلمنا بحسن الإقدام عليها على الإطلاق، فلو كانت تولد الاعتقادات والظنون مع أن فيها ماهو قبيح قطعاً لما حسنت على الإطلاق؛ لأن قبح المسبب يقتضي قبح السبب، وقد أورد على هذا الدليل اعتراضان:
أحدها: أنا لانسلم حسن جميع الأنظار فإن الخلاف فيه كالخلاف في العلم، ذكره الإمام عز الدين، وقال الحاكم: فأما النظر فيجوز أن يقبح إذا لم يكن فيه نفع فيكون عبثاً، أو ينظر في الدليل ليقف عليه ويطعن فيه.
قال الإمام عز الدين: واعلم أنه إذا جعل الأنظار حسنة فالمراد الأنظار على الوجوه الصحيحة، فأما الأنظار على الوجوه الفاسدة فلا.
الاعتراض الثاني: أن المسبب قد يكون قبيحاً، والسبب حسن كمن يرمي ويقصد كافراً فيصيب مسلماً، فالإصابة التي هي المسببة قبيحة، والرمي الذي هو السبب حسن.
والجواب عن الاعتراض الأول: بأنا لم ندع الإجماع في المسألة، والخلاف لا يصيرها ظنية مع قيام الدليل القاطع عليها، والعبث لا يتصور في النظر؛ لأن النظر إذا حصل على وجهه لابد من أن يولد العلم، ولا نفع أعظم من العلم، والنظر في الدليل للطعن فيه لانسلم قبحه، وإنما القبح فيما يصحبه من القصد والإرادة للطعن.
والجواب عن الاعتراض الثاني: بأن قبح ما أدى إلى القبيح مما لاشك فيه، ولا أبلغ من تأدية السبب إلى المسبب؛ لأنه موجب، وإذا كان بينهما هذه الملازمه صح إطلاق القول بأن قبح المسبب يقتضي قبح السبب، وأما صورة الرمي ففعل الرامي يجري مجرى فعل الساهي عند الشيخين في عدم القبح؛ لأنهما يعتبران القصد، وأما الجمهور فعندهم أن المعتبر في القبح حصول الخاطر بالمسبب القبيح، فإن خطر ببال الرامي إصابة المؤمن قبح رميه، وإن لم يخطر بباله بل كان غالب ظنه إصابة الكافر دون غيره لم يقبح.
فإن قيل: إن الجهل قد يحصل عند النظر في الشبهة، وهذا يدل على أنه قد يفضي إلى الجهل ويولده.
قيل: ليس الجهل بمتولد عن النظر، وإنما هو جهل مبتدأ واقع باختيار الناظر تدعو إليه الشبهة، ويدل على ذلك أنه لاتعلق للشبهة، والنظر لا يولد العلم، ولا الاعتقاد إلا إذا كان بين ما تعلق به النظر وبين ما ولد العلم به والاعتقاد تعلق كما مر في المقدمة، ولاتعلق بين الشبهة، وما ولد النظر فيها الجهل به؛ إذ لوكان لها تعلق لكانت دليلاً ولم تكن شبهة، يوضحه أن النظر في الدليل قد لايولد العلم بأن لايكون عالماً بوجه دلالته، مع أن له تعلقاً بالمدلول فأولى في النظر في الشبهة.
قال القرشي: ولأن النظر في الشبهة لو ولد الجهل للزم إذا نظرنا في شبهة الخصم من الوجه الذي كانت له شبهة أن تولد الجهل لنا، فثبت أن الجهل ليس متولداً عن الشبهة، وإنما حصل بالداعي، وما يدعو زيداً يجوز أن لا يدعو عمراً.
والجواب عن الوجه الثاني: أن القول بعجز العقل عن تمييز الحق من الباطل سفسطة، ومخالفة لإجماع العقلاء فإنهم لا يفزعون عند التباس الأمور، وعدم تمييز الحق من الباطل إلا إلى عقولهم، فيميزون بها ما اشتبه عليهم، كما قال أمير المؤمنين: ( وميز بعقلك ما اشتبه عليك فإنه حجة الله عليك) أو كما قال، فلولا أنه يحصل به التمييز لما رجعوا إليه، هذا مع ما في كتاب الله، وسنة رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم من مدح العقل، والحث على استعماله، والرجوع إليه في طلب الحق، والتمييز بينه وبين الباطل، وقولهم: إن من ترك التعصب عرف التعارض دعوى مجردة عن البرهان، فإنا نعلم عدم التعارض بين أدلة المحقين وشبه المبطلين، وتمييز الحق بدليله أعظم تمييز، ومن نظر في كتابنا هذا وما شاكله من كتب أهل الإسلام علم صدق ما قلنا.
والجواب عن الوجه الثالث: أن من الشبه ما لا يقدح في الدليل فلا يزول العلم بطروها، ولا توجب شكاً كما مر في الفاتحة، ومنها ما يقدح وتوجب شكاً، وهذا قد اختلف أصحابنا في وجوب تجديد النظر عند زوال العلم، فقال أبو رشيد، والقرشي: إذا حل الشبهة الطارئة فلا يلزمه تجديد النظر، بل يكفي تذكره كالنائم لاستوائهما في زوال العلم.
قال الإمام المهدي: وهو القوى إذ الشبهة منعت تجديد العلم فقط فبزوالها يجدده، واختار ابن متويه أن عند زوال الشبهة يجوز أن يحصل له العلم بالنظر المستأنف، وبالتذكر، إلا أنه رجح حصوله بالتذكر.
وقال أبو هاشم، والقاضي فيما حكاه عنهما الحاكم وصححه: بل لابد من استئناف النظر؛ لأن الشبهة لإزالتها العلم بالدليل، أو بوجه دلالته قد أزالت العلم بالمدلول، وبزوال الشبهة لا يعود العلم بالمدلول، فوجب أن يستأنف النظر، لكن هذا النظر لا يطول بما قد تقدم من الممارسة والاختبار لمقدمات الدليل.
قال في المعراج: والصحيح أنه لا فرق بين هذا وبين النائم، ولم يوجب الخصم بزوال الشبهة عود العلم، بل قال: إذا تذكر النظر فعل العلم، ولامانع من ذلك، إذا عرفت هذا فنقول: أما على القول الأول فبطلان هذا الوجه ظاهر، وأما على الثاني فلانسلم؛ لأنه لا يستقر الإيمان ساعة؛ لأن حل الشبهة وتجديد النظر لا يحتاج إلى ما قد توهمه الخصم من مرور الأوقات، وتعدد الساعات، بل يحصل في أقرب وقت، ومن أين له أن الشبه ترد في وقت بعد وقت حتى لا يمكن استقرار الإيمان فإن الشبه الواردة قد حصرها العلماء، وأجابوا عنها بحيث أن الناظر اللبيب لايستكمل النظر في أدلة المسألة إلا وقد عرف ما يرد عليها وإبطاله، ثم إنا لو سلمنا تجدد الشبهة حالاً بعد حال، ووقتاً بعد وقت، فالمكلف مهما كان في النظر وحل الشبهة غير مقصر ولا متوان، فهو معذور في عدم حصول العلم حال نظره في الدليل، وفي حل الشبهة كابتداء النظر فإنه معذور عن عدم الاعتقاد المطابق مهما كان في النظر. والله أعلم.
والجواب عن الوجه الرابع: أن ذلك المشهور على الألسنة معارض بأدلة وجوب النظر عقلاً وسمعاً، وإذا جاء نهر الله بطل نهرمعقل، على أنه يمكن حمله على من طلب الدين بالجدل وأهمل النظر في الأدلة على الوجه الصحيح، وهذا هو الذي يفهم من كلام العلماء في الجدل، وتقسيمه إلى حسن وقبيح. والله أعلم.
المقام الرابع: في أن الله تعالى لم يأمر بالنظر ولا رسوله صلى الله عليه وآله وسلم .
وحاصل ما قالوه: أن النظر، وإن قدر أنه غير قبيح، لكنه لم يقع الأمر به من الله تعالى ولا من رسوله صلى الله عليه وآله وسلم ، والذي يدل على ذلك أن هذه المطالب -أعني المعارف الإلهية- لاتخلو إما أن يكون العلم بدليلها ضرورياً، وإما أن يكون نظرياً، الأول باطل، وإلا لكان العقلاء مشتركون في العلم بها، والمعلوم خلافه؛ ولأنا نجد أذكى الناس في هذا العلم فلا يمكنه تحصيله إلا بعد السنين المتطاولة، بعد الاستعانة بالأستاذ والتصانيف، والثاني باطل أيضاً؛ لأنه يوجب أن لا يحصل العلم إلا بعد الممارسة الشديدة، وذلك يستلزم ألا يحكم الرسول صلى الله عليه وآله وسلم بصحة إسلام أحد إلا بعد أن يجربه في هذه المسائل، ودلائلها، ولو فعل ذلك لاشتهر، ولما لم يشتهر عنه بل المشهور المنقول بالتواتر أنه كان يحكم بصحة إسلام من نعلم ضرورة أنه لم يخطر بباله شيء من ذلك، علمنا أن النظر غير معتبر في صحة الدين.
فإن قيل: معرفة أصول الدلائل حاصلة لكل العقلاء، وإنما المحتاج إلى التدقيق دفع الأسئلة وحل الشبه، وذلك غير معتبر في صحة أصل الدين.
قلنا: هذا ضعيف؛ لأن الدليل لايقبل الزيادة والنقصان، وذلك أن الدليل إذا كان مبنياً على مقدمات عشر، فالجازم بها عارف بالدليل معرفة لا يمكنه الزيادة عليها؛ لأن الزائد إن كان معتبراً بطل قولنا إن الدليل مركب من العشر فقط، وإن لم يكن معتبراً لم يكن العلم به علماً بزيادة شيء في الدليل، فثبت بهذا أن الدليل لا يقبل الزيادة، وأما أنه لايقبل النقصان؛ فلأن تسعاً من هذه المقدمات لو كانت يقينية والعاشرة ظنية كان المطلوب ظنياً؛ لأن المبني على الظني ظني، فثبت أنه لا يصح بنقصان واحدة من تلك المقدمات بأن تكون ظنية، وهو معنى قولنا إن الدليل لا يقبل النقصان، وإذا ثبت أن الدليل لا يقبل الزيادة والنقصان بطل ذلك السؤال، ومثال المسألة: أن الإنسان إذا رأى حدوث مطر ورعد وبرق قال: سبحان الله، فمن الناس من قال: إن قوله سبحان الله يدل على أنه قد عرف الله بدليله، وهذا باطل؛ لأنه إنما يكون عارفاً بالله إذا عرف أن ذلك الحادث لا بد له من مؤثر، ثم يعرف بالدليل أنه لا مؤثر فيه سوى الله تعالى، وهذه المقدمة الثانية إنما تستقيم إذا عرف بالدليل أنه يستحيل استناد هذه الحوادث إلى الفلك والنجوم، والطبع، والعلة الموجبة، فإنه إذا لم يكن يعرف بطلان ذلك بالدليل كان معتقداً لهذه المقدمة الثانية لغير دليل، فتكون تقليدية، ويكون المبني عليها تقليداً لا يقيناً، فثبت بهذا أن الأمر بالنظر أمر بالباطل، والأمر بالباطل لا يجوز من الله تعالى، ولا من أنبيائه"، فيجب أن يكون النظر غير مأمور به.
والجواب: أن إنكار ورود الشرع بالأمر بالنظر إنكار للضرورة، وقد تقدم شيء من الأدلة على ذلك، وسيأتي زيادة على ذلك في غير موضع، وأما قولهم لو كان العلم بالدلائل ضرورياً لاشترك فيه العقلاء، فنقول: قد اشترك العقلاء فيه، فإن الدلائل على إثبات الصانع هي أنواع العالم وهي معلومة للعقلاء ضرورة، ولذا قيل: إنه لانزاع في أن العلم بالمؤثر في العالم ضروري.
قوله: ولأنا نجد أذكى الناس لا يحصله إلا في سنين متطاولة.
قلنا: كون العلم بالدليل ضرورياً لايوجب كون العلم بالمدلول كذلك؛ لأن النظر في الدليل يحتاج في توليده للعلم مع العلم به إلى العلم بوجه دلالته كما مر، ويحتاج أيضاً إلى معرفة كيفية الاستدلال به وترتيب الدلالة، كما يقال في الاستدلال على الباري تعالى بأفعاله أنه يجب أولاً أن نعلم ثبوتها، ثم نعلم أنها محدثة، وأن المحدث لابد له من محدث، وإن المحدث ليس إلا الله، وإذا عرفت هذا علمت أن احتياج تحصيل العلم بالمدلول إلى طول المدة، ومراجعة الكتب، والمشائخ ليس بكون الدليل غير ضروري، وإنما هو لتوقفه على ما ذكرنا، على أنا لانسلم أنه يحتاج إلى السنين المتطاولة، سيما للذكي.
قوله: والثاني باطل.
قلنا، نحن نلتزم أن العلم بالدلائل ليس نظرياً، لكن ظاهر كلامهم أنهم قد انتقلوا إلى أن النظر في الدليل لا يجب، ولذا أجبنا عليهم، وأبطلنا ما استندوا إليه، فقلنا:
قوله وذلك يسلتزم أن لا يحكم الرسول الله صلى الله عليه وآله وسلم بإسلام أحد حتى يجربه في هذه المسائل ...إلخ.
قلنا: نحن نلتزم أنه لم يحكم بإسلام أحد حتى يعرف منه العلم بالله بدليله، لكن لا يشترط العلم بالدقائق التي يذكرها المتكلمون، بل ذلك فرض كفاية، والعامة يكفيهم العلم بالأدلة مع النظر فيها على سبيل الجملة، وقد مر توضيح هذا في الموضع الثالث من هذه المسألة، وفي المسألة السابعة مما يتعلق بقوله تعالى: {الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ} الآية[البقرة:3].
قوله: الدليل لا يقبل الزيادة والنقصان ... إلخ.
قلنا: عدم قبول الدليل الزيادة لا يستلزم عدم حصول العلم الجملي، فإن حصول العلم عن النظر يختلف باختلاف الناظرين، فمنهم من يكون ذكياً فهماً، ومنهم من يكرر النظر، ويصبر على الفكر في الأدلة، فهؤلاء يحصل لهم عن النظر علم تفصيلي على تفاوت فيما بينهم في ذلك، ومنهم من يكون بخلاف هذه الأوصاف فلا يحصل له إلا علم جملي، وهذا كاف في حقه كما مر.
قوله: وإما أنه لا يقبل النقصان ... إلخ.
قلنا: نسلم لكن لم ندع أنه يحصل العلم الجملي عند الدليل الناقص، وإنما ادعينا أن العلم الحاصل عن الدليل يختلف باختلاف الناظرين فيه، وبعد فإن الدليل الواحد يجوز أن يحصل عن النظر فيه علوم كثيرة، ويختلف الناس في حصولها لهم باختلاف أنظارهم، وإذا جاز ذلك، فلا مانع من تحصيل الجملي لقوم، والتفصيلي لآخرين مع اتحاد الدليل؛ إذ هما علمان متغايران.
فإن قيل: ومن أين لكم أنه يجوز أن يحصل عن النظر في الدليل الواحد علوم كثيرة مع أن الظاهر من كلام قاضي القضاة منعه، فإنه لا يجيز توليد النظر في وجه واحد من الدليل علوماً مختلفةً.
قيل: قد أجاز ذلك أبو هاشم، والظاهر معه؛ إذ لامانع، ولوسلم عدم الجواز كما يقوله القاضي فذلك لا يمنع من تحصيل العلوم المختلفة عن النظر في الدليل الواحد؛ لأنه إنما منع توليده إذا كان النظر في الدليل الواحد من وجه واحد، فأما إذا اختلف الوجه فهو لا يمنعه، ولذا قال: إن النظر في حدوث الفعل يدل على القادرية، وفي إحكامه على العالمية، وفي حسنه أو قبحه على الإرادة، فأجاز كما ترى أن يتولد عن النظر في الفعل علوم كثيرة، فكذلك نقول في مسألتنا إنه يجوز أن يتولد عن النظر في الدليل من وجهين: علم جملي، وعلم تفصيلي، وقد أشرنا إلى كيفية توليده للعلم الإجمالي في الموضع الثالث، وإذا ثبت أن عدم احتمال الدليل الزيادة والنقصان لا يستلزم منع العلم الجملي، ثبت أن العلم الجملي كاف في حق العوام ونحوه. والله أعلم.
قوله: ومثال المسألة أن الإنسان ...إلخ.
قلنا: قد عرفت أن الإيمان الجملي كاف وهو لا يحصل إلا عن النظر، فلا يغرك ما زخرفوه في المثال وهولوا به من توقف المعرفة الإجمالية على ما ذكروه، وإنما تتوقف عليه المعرفة التفصيلية.
تنبيه[العلم بمدلول الدليل]
قد مر أن العلم بالدليل نفسه ضروري،وإنما النظري العلم بمدلوله، وهذا هو الذي بنى عليه القرشي وغيره،وهو قول المناطقة.
قال القرشي: ولا بد أن ينتهي الاكتساب إلى الضرورة في طرفي التصور والتصديق، وإلا لم تنقطع المطالبة بما في التصوريات، وبلمَ في التصديقيات،بل كان يحتاج كل حد إلى حد، وكل دليل إلى دليل.
قال الإمام عز الدين: أما التصورات فلا كلام أنه إذا حد المفرد بلفظ غير متصور ضرورة احتجاج إلى أن يحد ذلك الحد مرة أخرى حتى ينته طالب الحد إلى متصور ضروري،وأما التصديقي فهو مما اختلف فيه كلام الشيوخ في المعراج.
قلت: وبيان الخلاف في ذلك أن منهم من يقول إنه يجب أن يكون لكل علم مكتسب أصل ضروري كما حكيناه عن القرشي، وهو محكي عن البغداديين، وقال أبو هاشم: وحكاه عن والده أبي علي لا يجب ذلك، بل يجوز كون بعض المكتسب لا أصل له في الضرورة، وهذا قول قاضي القضاة، وروي عن أبي علي خلاف هذا، وكلام أبي القاسم محتمل للنفي والإثبات، وقال ابن متويه: الصحيح أن يقسم فنقول إذا جرى في كلام شيوخنا أنه يجب أن يكون للمكتسب أصل ضروري فمرادهم في شيء بعينه، وإذا أجازوا خلافه فمرادهم في شيء معين أيضاً، وحكى عنه القرشي أنه قال لا يجب ذلك إلا في أصول الأدلة؛ لأن كثيراً من المسائل لا تستند إلى أصل ضروري كالعلم بالصانع فإنه يبنى على كون أحدنا فاعلاً، وليس بضروري.
قال: وما هذا حاله من الأدلة فإنما يجب على المستدل أن ينهي الخصم إلى ما إذا نظر فيه علم.
قال: ومثال ما ينتهي إلى أصل ضروري دليل العدل، فإنه ينبني على أن من علم قبح الفعل واستغنى عنه فإنه لايفعله وهو ضروري، وكذلك استدلالنا على نفي الظلم عن الله تعالى بأنه لو فعله لاستحق الذم، فإن استحقاق الذم على ذلك ضروري في الشاهد، وعلى الجملة فأكثر المسائل ينبني على أصل ضروري، وبنحو هذا احتج أبو هاشم ومن وافقه فإنهم استدلوا بأن إثبات الأعراض وحدوثها، وكثير من مسائل العدل والتوحيد لا أصل له في الضروري، لكن قال الإمام المهدي: في الإطلاق نظر؛ إذ لا بد أن ينتهي المكتسب إلى ضروري وإن بعد، وإلا استحال وجوده لوقوفه على ما لا يتناهى.
قال عليه السلام : فالأقرب أن الخلاف في أقرب مقدمتي المكتسب، وتوضيح كلامه عليه السلام يعرف مما رد به القرشي على ابن متويه، ولفظه: ولقائل أن يقول أنه ما لم ينته إلى أصل ضروري لم تنقطع المطالبة، وقوله: إن الواجب منا أن ننهي الخصم إلى ما إذا نظر فيه علم هو صحيح، لكنا إذا قلنا للخصم: انظر إلى ما أنهيناك إليه تعلم كان ذلك استدلالاً منا على أن ذلك المنظور فيه دليل، واستدلالنا هذا لا شك مستند إلى الضرورة، وهي الوجدان من النفس، فإنا حين نظرنا فيه وجدنا أنفسنا عالمة عند النظر فيه حتى لو لم نجد ذلك من أنفسنا لكان للخصم أن يقول قد نظرت فيما أنهيتموني إليه فلم أعلم، ونصدقه فيما قال، واعترضه الإمام عز الدين بأن هذا الوجدان خارج عما نحن فيه؛ لأن الكلام في منع جواز دليل لا ينتهي إلى أصل ضروري يعرفه المطالب والمجيب، وليس هذا بحاصل هاهنا فإنا وإن علمنا من أنفسنا ضرورة أنا حين نظرنا حصل لنا العلم فلا تنقطع مطالبته، وحاصله أنه لم ينته إلى أصل ضروري بمعرفة المطالب والمجيب، وإنما يعرفه المجيب فقط، وهو اعتراض وارد.
قال القرشي: وماذكره رحمه الله من المثال فهو صحيح، لكنه يمكن استناده إلى أصل ضروري، وإن كثرت مراتبه فإنا إن لم نعلم كون أحدنا فاعلاً ضرورة، فإنا نستدل على ذلك بما يستند إلى الضرورة وهو أن فعله يدل على قصده وداعيه، وأنه يمدح ويذم عليه، ونحو ذلك، وقال الإمام عز الدين: اعلم أن احتجاج ابن متويه وهو قوله إن إثبات الصانع مستند إلى كون أحدنا فاعلاً لتصرفه، وأنت لا تعرف ذلك ضرورة يقضي بأن الخلاف في المسألة لا يتمحض؛ لأنه لا يجهل أنه ينتهي إلى أصل ضروري، وإن كثرت مراتبه فلعله يمكن حمل كلامه على أنه لا يجب في الأدلة استنادها إلى أصل ضروري قريب من غير وسائط، ولذا قال في تذكرته: ولسنا نريد أن أصول الأدلة غير معروفة ضرورة حتى يحوج إلى إقامة دليل على كل دليل، بل أصولها معروفة باضطرار، وإنما الغرض أنه لا يجب في كل حكم ثبت في موضع بدلالة أن يثبت نظيره في موضع آخر ضرورة.
قال الإمام عليه السلام : وكلامه هذا صحيح متفق عليه، فلعل الخلاف لفظي. والله أعلم.
قلت: ولو لم يمكن حمل كلام ابن متويه على ما ذكره الإمام عليه السلام لكان لقائل أن يقول: إن احتجاج ابن متويه على ماذهب إليه بأن إثبات الصانع مبني على كون أحدنا فاعلاً وليس بضروري، ضعيف؛ لأنا لانسلم أن العلم بكون أحدنا فاعلاً ليس بضروري، بل نقول هو ضروري كما مر في الاستعاذة، سلمنا فلا يصح له الاحتجاج به إلا لو لم يكن لنا دليل على إثبات الصانع غيره، وقد مر أن لنا طرقاً في إثباته تعالى غير هذه الطريقة، وعلى هذا فليست هذه الطريقة هي الدليل على إثبات الصانع إن لم تستند إلى أصل ضروري. والله أعلم.
المقام الخامس: في أن النظر بدعة، والدليل عليه من وجوه:
أحدها: أن الله تعالى ذم الجدل في غير آية، ومنه قوله تعالى: {مَا ضَرَبُوهُ لَكَ إِلاَّ جَدَلاً}[الزخرف:58] والنظر مؤد إلى الجدل.
الثاني: قوله صلى الله عليه وآله وسلم : ((عليكم بدين العجائز)) ، وقوله صلى الله عليه وآله وسلم : ((تفكروا في الخلق ولاتفكروا في الخالق فإنكم لاتقدرون قدره)) أخرجه أبو الشيخ من حديث ابن عباس، ورواه المتكلمون، وقوله صلى الله عليه وآله وسلم : ((إذا ذكر القدر فامسكوا)) أخرجه الطبراني في الكبير عن ابن مسعود وثوبان، وابن عدي في الكامل عن عمر.
قال العزيزي: وهو حديث حسن.
الثالث: إجماع الصحابة على الإمساك عن علم الكلام، وعدم الخوض فيه إذ لو وقع من أحدهم شيء من ذلك لنقل ولم ينقل شيء، بل كانوا من أشد الناس إنكاراً على من خاض فيه.
الرابع: ماروي عن السلف من عدم الخوض في دقائق هذا العلم، ونهيهم عنه، من ذلك قول زين العابدين عليه السلام : أسماؤه تعبير... إلى آخره، ونحوه للقاسم وغيره من أئمة العترة"، وقد مر في المسألة السابعة من مسائل قوله تعالى: {يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ}[البقرة:3] وقال مالك: إياكم والبدع، قيل: وما البدع يا أبا عبد الله؟ قال: أهل البدع الذين يتكلمون في أسماء الله وصفاته وكلامه، ولايسكتون عما سكت عنه الصحابة والتابعون، وسئل سفيان ابن عيينة عن البدعة، فقال: اتبع السنة ودع البدعة، وقال الشافعي: لأن يبتلي الله العبد بكل ذنب سوى الشرك خير له من أن يلقاه بشيء من الكلام، وقال: لو أوصى رجل بكتبه العلمية لآخر وكان فيها كتب الكلام لم تدخل تلك الكتب في الوصية، وقال بعض العلماء: لو أوصى للعلماء لم يدخل المتكلم فيه.
الوجه الخامس: ذكره التعليمية وهو أن النظر لا معنى له، ولا فائدة فيه فوجب أن يكون بدعة محرمة لأن الاشتغال بما لا فائدة فيه يكون عبثاً، واحتجوا على عدم الفائدة بأن العقل لا يدرك إلا الضروريات، ومعرفة الله ليست ضرورية، بل استدلالية، والاستدلاليات يدركها الإمام والشيخ لأنهما يعلمان بالكشف ما يناسب حروف القرآن وغيره من المغيبات ضرورة ثم يعلمانه الناس.
والجواب من وجهين: جملي، وتفصيلي.
أما الجملي فنقول: قولهم إن النظر بدعة باطل لما نعلمه ضرورة من فزع العقلاء إليه عند التباس الأمور، وما ذاك إلا لحكم العقل بحسنه، وما حكم العقل بحسنه فلا يكون بدعة، هذا مع ماطابقهُ من الأدلة السمعية، فإن المعلوم من ضرورة الدين أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم كان يدعو إلى دينه بالقرآن المشتمل على أنواع الحجج والبراهين، والرد على أهل البدع، والمنكرين للقيامة، والبعث والرسل، والآيات المتضمنة للحث على النظر في المخلوقات، والذم على ترك ذلك أكثر من أن يحصى.
وأما التفصيلي، فالجواب عن الوجه الأول: أن المنهي عنه الجدال بالباطل بدليل الأمر به في قوله تعالى: {وَجَادِلْهُمْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ}[النحل:125] ونحوها، مع أنا لا نسلم أن النظر هو الذي يؤدي إلى الجدل، وإنما يؤدي إليه اللجاج والعناد، وأما النظر الصحيح إذا أنصف صاحبه من نفسه، فلا يؤدي إلا إلى اعتقاد الحق، وسكون النفس.
والجواب عن الوجه الثاني: أن حديث: ((عليكم بدين العجائز)) غير صحيح.
قال السيد أحمد بن عبد الله الوزير في المقاصد الحسنة: لا أصل له، لكن عند الديلمي من حديث محمد بن عبد الرحمن بن البيلماني، عن أبيه، عن ابن عمر مرفوعاً: إذا كان في آخر الزمان، واختلفت الأهواء فعليكم بدين أهل البادية والنساء. وابن البيلماني: ضعيف جداً.
قال ابن حبان: حدث عن أبيه بنسخة موضوعة لا يجوز الاحتجاج به على أنه لا حجة فيه على منع النظر؛ إذ غاية ما يدل عليه الأمر بالاكتفاء بالجمل، والعلم الجملي لا يحصل إلا بالنظر، وأما حديث: ((تفكروا في الخلق)) فهو حجة عليهم واضحة إذ أمر فيه بالنظر، وإنما نهى عن التفكر في ذات الله تعالى، وأما حديث: ((إذا ذكر القدر فامسكوا)) فهو نهي لمن يخاف عليه الإلتباس والشبهة، وعدم الاهتداء إلى الحق عن أن يخوض فيه إذ البقاء على الفطرة أسلم كما قال علي عليه السلام وقد سُئِلُ عن القدر: بيت مظلم فلاتدخلوه. أوكما قال، وإنما خصينا النهي بمن ذكر لأن أمير المؤمنين عليه السلام قد خاض في القدر، وتكلم فيه مع الشامي، وقد مر.
والجواب عن الوجه الثالث: أنا لانسلم أن الصحابة لم يتكلموا ولم ينظروا، وكيف وأول من أسس هذا الفن، ومهد قواعده أمير المؤمنين، وسيد الوصيين علي بن أبي طالب كرم الله وجهه في الجنة، وكلامه بذلك مشهور مزبور، وقد مر منه درر ولآلئ في كتابنا هذا، وهو كلام باهر ظاهر، جار على قواعد المتكلمين، وأهل النظر، ولاغرو فهو إمام الأمة، والمبين لكل مدلهمة، وأما غيره من الصحابة فإن عنيتم أنهم لم يستعملوا ألفاظ المتكلمين، فمسلم لكنه لا يلزم منه القدح في علم الكلام فإنهم لم يستعملوا ألفاظ الفقهاء، ولم يلزم منه القدح في الفقه، وإن عنيتم أنهم ما عرفوا الله بالدليل فبئس ما قلتم، وقد كان غالب الصحابة كعوام سائر الناس لا يهتدون إلى معرفة الدقائق وتفاصيل الأدلة، لكنه قد حصل لهم القدر الكافي من النظر على ما قررناه سابقاً من الاكتفاء بالنظر المؤدي إلى العلم الجملي، والعجز عن التعبير على اصطلاح المتكلمين لا يقدح في معرفتهم فإن المقصود العلم بالدليل والاستدلال به، وإن لم يحسن التعبير عنه؛ إذ العلم بالعبارة علم زائد لا يلزمهم. والله أعلم.
والجواب عن الوجه الرابع: أن تشديدات السلف محمولة على التعمق والتكلف لمعرفة ما لا طريق لنا إلى معرفته وهو التفكر في الذات، والتعمق في تفاصيل الصفات،وقد مر من كلام أمير المؤمنين عليه السلام النهي عن ذلك، وأنه لا طريق إلى معرفة صفات الباري تعالى كما لا طريق إلى معرفة ذاته، وأما ماذكر من الوصية فلا حجة فيه؛ لأن الوصايا محمولة على العرف، وأما قول القائل إنه لو أوصى للعلماء لم يدخل المتكلم فتهافت ومجازفة، وكيف يمنع دخولهم وهم العلماء على الحقيقة؛ لأن من لم يعرف الله فلا اعتداد بعلمه، بل لو قيل: إنهم المختصون بها لكان هو الصواب، وقد فسر قوله تعالى: {إِنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاءُ}[فاطر:28] على الحقيقة. والله أعلم.
والجواب عن الوجه الخامس: بأنا نعلم إدراكنا لبعض المدركات بالنظر ضرورة كما نعلم أنا نروى بالماء، ونشبع بالطعام، وأما قولهم بإدراك الإمام والشيخ بالاستخراج مما ذكروا، ففاسد، وإنما ذلك دعوى منهما عليكم مجردة عن الدليل، ثم نقول: ما الفرق بينكم وبينهما حيث أدركا ذلك ضرورة دونكم، وهما من جملتكم وأنتم قادرون مثلهما، ولو نظرتم في صحة هذه الدعوى لعرفتم بطلانها، لكنكم لم تنظروا لاعتقادكم قبح النظر وعدم إفادته للعلم عندكم، وإلا فالمعلوم عند جميع العقلاء بطلان كل دعوى لا دليل عليها، وقد قررنا ذلك في المقدمة بما فيه منية الراغب، ونهاية الطالب.
المسألة الثامنة [في ذكر ما يتفكر فيه]
اعلم: أن الآية كما دلت على وجوب النظر في معرفة الله تعالى فكذلك قد دلت على بيان ما ينظر فيه، وقد ذكر جل وعلا فيها خمسة أنواع من الأدلة اثنين من الأنفس، وثلاثة من الآفاق، وهاتان الدلالتان هما أعظم الدلائل على إثبات الصانع المختار؛ لأنهما باقيتان على ما بقي الليل والنهار، واضحتان لذوي العقول والأبصار، ولذا كرر الله تعالى التوبيخ والذم لمن لم يكتفِ بهما، وينقاد لواضح دلالتهما، وحكم عليه بأنه من المعاندين المعرضين، فقال سبحانه: {وَكَأَيِّنْ مِنْ آيَةٍ فِي السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ يَمُرُّونَ عَلَيْهَا وَهُمْ عَنْهَا مُعْرِضُونَ}[يوسف:105] وقال تعالى: {وَفِي الأَرْضِ آيَاتٌ لِلْمُوقِنِينَ ، وَفِي أَنفُسِكُمْ أَفَلاَ تُبْصِرُونَ}[الذاريات:20،21] وقال تعالى: {سَنُرِيهِمْ آيَاتِنَا فِي الآفَاقِ وَفِي أَنْفُسِهِمْ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُ الْحَقُّ أَوَلَمْ يَكْفِ بِرَبِّكَ أَنَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ}[فصلت:53] إلى غير ذلك من الآيات، وإذا تقرر لديك ما ذكرنا فنقول: أما الدليلان اللذان من الأنفس: فهما خلق الإنسان، وخلق من قبله من الآباء والأمهات.
وبيان دلالتهما من وجوه:
أحدها: أنا نعلم ضرورة أن لخلق الإنسان ابتداء وانتهاء، وذلك أنه كان نطفة ثم علقة، ثم نقل من طور إلى طور حتى صار طفلاً قد أعد له جميع ما يصلح له دينه ودنياه قبل حاجته إليه فأعطي عينين، وأذنين، وأنفاً، ولساناً، وفماً، وسبيلين، ويدين، ورجلين، وعصباً، ومعدة، ومعاً، وغير ذلك مما لاتتم أفعاله ولا تزكو أحواله من دونه، أو لايصح بقاؤه ونشوءه ونماؤه إلا به، ثم رأيناه يزيد شيئاً فشيئاً حتى يبلغ أشده، ويعطى العقل الكامل الذي به يعرف مصالحه في دنياه وآخرته، وكل ماذكرنا فآيات بينات، ودلالات واضحات على حدوث الإنسان واحتياجه إلى محدث أحدثه، وصانع صنعه، ومؤثر أثر فيه، وقد مر أن احتياج الأثر إلى المؤثر معلوم ضرورة، وما أحسن ما قال القاسم بن إبراهيم عليه السلام لولده الحسن، ونبهه عليه من الطريق الموصلة إلى العلم بخالقه: ألا ترى يابني أن من رأى كتاباً علم أن له كاتباً، وأن من كتبه عنه غائب، وكذلك من رأى أثراً علم أن له مؤثراً وصورة ما كانت علم أن لها مصوراً، أو سمع منطقاً علم أن له ناطقاً، وكذلك ما يرى من هذ الخلق العجيب فقد يوقن من نظر وفكر أن له خالقاً ليس له مثل ولا شبيه كما قال تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ لَنْ يَخْلُقُوا ذُبَابًا وَلَوِ اجْتَمَعُوا لَهُ وَإِنْ يَسْلُبْهُمُ الذُّبَابُ شَيْئًا لاَ يَسْتَنقِذُوهُ مِنْهُ ضَعُفَ الطَّالِبُ وَالْمَطْلُوبُ}[الحج:73] قال عليه السلام : يخبر تعالى أنه لن يفعل أحد فعله، وكيف يفعل ذلك من ليس مثله، وإنما يكون تشابه الأفعال بين النظراء والأمثال.
الوجه الثاني: أنا نعلم بالضرورة وجودنا أحياء قادرين، عالمين، ناطقين، مدركين بعد أن لم نكن شيئاً، وأن أول وجودنا كان نطفة قذرة، مستوية الأجزاء والطبيعة غاية الاستواء بحيث يمتنع في عقل كل عاقل أن يكون منها بغير صانع حكيم ما يختلف أجناساً، وأنواعاً، وأشخاصاً.
الوجه الثالث: أن كل أحد يعلم بالضرورة أنه ما كان موجوداً ثم صار الآن موجوداً، وأن كل ما وجد بعد عدم فلابد له من موجد، وذلك الموجد ليس هو نفسه، ولا الأبوان، ولا سائر الناس، ولا غيرهم من سائر أنواع الأجسام والأعراض؛ لما تقرر من عجز الخلق عن مثل هذا التركيب، وذلك معلوم ضرورة فلا بد من موجد يخالف هذه الموجودات وهو الله رب الأرض والسماوات.
فإن قيل: لم لا يجوز أن يكون المؤثر طبائع الفصول والنجوم والأفلاك؟
قيل: لا تخلو هذه الأشياء إما أن تكون جسماً أو عرضاً، أو لا أيهما، فإن كان جسماً أو عرضاً فلا يصح منه الإحداث كما مر في الفاتحة، وإن لم يكن أيهما فلا يعقل، وما لايعقل وجب نفيه.
وقال المؤيد بالله في الزيادات في الطبع: إن سلمنا وجوده لا يحصل به الشيء على قدر الحاجة، وإنما يكون بمقدار قوته وضعفه، ألا ترى أن النار تحرق لا على قدر الحاجة، بل على قدر قوتها، وتنقص عن الحاجة إذا ضعفت، وكذلك الماء الجاري، والحكيم يجربه ويقطعه على قدر الحاجة.
قال في إيثار الحق: وفيه تنبيه حسن على الفرق الجلي.
واعلم: أن علمنا بأن الله تعالى الذي خلق من قبلنا كعلمنا بأنه الذي خلقنا؛ لأن طريقة العلم بذلك واحدة، ولذلك كان الاستدلال على إثبات الصانع بالأمرين مع ما في ذلك من التذكير بالنعمة العظيمة، وهي خلق أصولهم، وما ألقاه في قلوبهم من التحنن عليهم، والشفقة بهم، وتربيتهم وتأديبهم بحيث لو لم يكن منهم ذلك لهلكوا، وقد أشار إلى ذلك كله القاسم ابن إبراهيم عليه السلام حيث قال: فلو كان الناس إذا ابتدأوا عندما فطروا ونشأوا لم يجعل لهم ولا فيهم من يغذوهم، ويقوم عليهم لهلكوا، ولم يبقوا وقت يوم واحد لما يحتاجون إليه في النفاس، وعند المولد من تلفيف الولدان بخرقها، وتسويته أعضاء خلقها، ولكن الله تبارك وتعالى جعل لهم في الابتداء آباء قاموا بكفاية المصلحة والغذاء حدهم في العلم بمصلحتهم غير حدهم فغذوهم برأفة الأبوة، وبصر التربية من مولدهم إلى بلوغ قوة الرجال، والاستغناء بنهاية الكمال، ولا بد لهذه الآباء التي قامت على الأبناء من أن تكون في المبتدأ، وعند أول المنشأ من الجهالة في مثل حال أبنائها، محتاجة إلى تربية آبائها، ولا بد كيف ما ارتفع الكلام في هذا المعنى من أبناء يقوم عليها آباؤها، وآباء كانوا كذلك في الأصل إذ ابتدأ إنشاؤها في حد أبنائها من جهلها، وقلة اكتفائها حتى يعود ذلك إلى أب واحد منه كان ابتداء النسل والتوالد، ولا بد للأب الأول من أن يكون أدبه، وتعليمه على خلاف أدب من يكون بعده؛ إذ لا أب له، ولا يكون أدبه وتعليمه إلا من الله ومن بعض من يؤدبه ويعلمه من خلق الله، فإن كان من المخلوق أخذ أدبه فلا يخلو ذلك من أن يكون الله أو غيره أدبه، وكيف ما ارتفع الكلام في هذا المعنى فلابد أن يعود إلى أن خلق ابتداء أدبه من قبل الله الأول البدي. ذكره في كتاب تثبيت الإمامة.
المسألة التاسعة [المعنى الوضعي لكلمة لعل]
المعنى الوضعي لكلمة لعل هو إنشاء توقع أمر متردد بين الوقوع وعدمه مع رجحان الأول إما محبوب فيسمى ترجياً، أو مكروه فيسمى إشفاقاً، والتوقع إنما يكون مع الجهل بالعاقبة، وهو محال في حق الله تعالى فلا بد من التأويل، وفيه وجوه:
أحدها: أن لعل على بابها من الترجي والأطماع، ولكن بالنسبة إلى المخاطبين فكأنه قال: افعلوا ذلك على الرجاء منكم والطمع أن تتقوا، وهذا قول سيبويه، ورؤساء اللسان، واختاره أبو المعالي.
الثاني:أن من عادة الملوك والعظماء أن يقتصروا في مواعيدهم التي يوطنون أنفسهم على الوفاء بها على أن يقولوا لعل وعسى، ونحوهما من الكلمات، أو يظفر منهم بالرمزة والنظرة الحلوة، وحينئذ لايبقى لطالب ما عندهم شك في النجاح والفوز بالمطلوب، وعلى مثله ورد كلام ملك الملوك جل وعلا، وهذا هو معنى قول بعضهم أن لعل في كلام الله للتحقيق.
الثالث: ذكره الزمخشري وهو أنها في الآية واقعة موقع المجاز؛ لأنه تعالى فعل بالمكلفين ما لو فعله غيره لا قتضى رجاء حصول المقصود؛ لأنه تعالى لما أعطاهم القدرة على الخير والشر، وخلق لهم العقول الهادية، وأزاح أعذارهم، ووضع في أيديهم زمام الاختيار، وأراد منهم التقوى كانوا في صورة المرجو منهم أن يتقوا؛ إذ كل من فعل بغيره ذلك فإنه يرجو منه حصول المقصود، فالمراد من لفظة لعل أنه تعالى فعل معهم ما لو فعله غيره لكان موجباً للرجاء.
الرابع: أنه عبر بلعل على طريق الأطماع دون التحقيق؛ لئلا يتكل العباد كقوله تعالى: {تُوبُوا إِلَى اللَّهِ تَوْبَةً نَصُوحًا عَسَى رَبُّكُمْ أَنْ يُكَفِّرَ عَنْكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ}[التحريم:8].
قال الزمخشري: وقد جاءت على سبيل الأطماع في مواضع من القرآن، ولكن لأنه إطماع من كريم رحيم، وإذا أطمع فعل ما يطمع فيه لا محالة لجري أطماعه مجرى وعده المحتوم وفاءه به.
الخامس: أن لعل مأخوذ من تكرر الشيء كقولهم عللاً بعد نهل، واللام فيها للتأكيد كما هي في لقد، وأصلها عل فإذا كان معناها التأكيد، والتكرير كان معنى قول القائل: افعل كذا لعلك تظفر بحاجتك افعله، فإن فعلك له يؤكد طلبك له ويقويك عليه. وهذا ذكره القفال.
السادس: أنها بمعنى التعرض للشيء كأنه قيل: افعلوا ذلك متعرضين؛ لأن تتقوا، والمعنى لعلكم أن تجعلوا قبول ما أمركم الله به وقاية بينكم وبين النار، وهذا من قول العرب: اتقاه بحقه إذا استقبله به فكأنه جعل دفع حقه إليه وقاية له من المطالبة، ومنه قول علي عليه السلام : (كنا إذا احمر البأس اتقينا برسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ) أي جعلناه وقاية لنا من العدو.
السابع: أن تكون للتعليل بمعنى لام كي، وهي على هذا مجردة من الشك، وقد حكى القرطبي استعمال العرب لها كذلك، وهو اختيار قطرب، وابن جرير، واستشهد له بقول الشاعر:
وقلتم لنا كفوا الحروب لعلنا .... نكف ووثقتم لنا كل موثق
فلما كففنا الحرب كانت عهودكم .... كلمح سراب في الفلا متألق
المعنى كفوا لنكف، ولو كانت لعل هنا شكا لم يوثقوا لهم كل موثق، وهذا هو الذي بنى عليه الفقيه يوسف في الثمرات، وقال هي نظير قوله تعالى: {وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالإِنسَ إِلاَّ لِيَعْبُدُونِ}[الذاريات:56] وفرع عليه حكماً شرعياً، فقال: وقد استدل بهذا على أن من قدر على الحقوق الزوجيه ولم تتق نفسه إلى النكاح، فالمستحب له أن لا ينكح؛ لأنه خلق للطاعة والعبادة، وفي النكاح تحميل لنفسه من الحقوق ما يشغل عن ذلك، وهذا مذهب الشافعي، وقد ورد في الحديث: ((خيركم الخفيف الحاذ)) قيل: وما الخفيف الحاذ يارسول الله قال: ((الذي لا أهل له ولا ولد خفيف المؤنة)).
وقال الناصر، والمنصور بالله، والحنفية: إنه يستحب لمن هذه حاله، وقد ورد قوله صلى الله عليه وآله وسلم : ((من أحب فطرتي فليستن بسنتي ومن سنتي النكاح)) ويكون هذا في معنى العبادة لأن المعنى من العبادة حصول الثواب.
قلت: وسيأتي استيفاء الكلام على المسألة، وأدلتها في الموضع اللائق بها.
المسألة العاشرة [استكمال النظر في النعم]
قد ذكرنا فيما مر أن الله تعالى ذكر في هذه الآية خمسة أدلة اثنين من الأنفس وثلاثة من الآفاق.
فأما الدليلان اللذان من الأنفس فقد مر الكلام عليهما، وأما دلائل الآفاق فالأول منها جعل الأرض فراشاً، ووجه دلالة ذلك على إثبات الصانع المختار أن جعل الأرض فراشاً من الممكنات ضرورة، فإن كل عاقل يعلم بضرورة عقله أنه لا يمتنع جعلها على صفة لا يمكن الاستقرار عليها، وما وجد مع الإمكان فلا بد من مؤثر في وجوده، وإلا لم يكن بأن يحدث بأولى من أن لايحدث وهذا ظاهر.
تنبيه [في كروية الأرض من عدمها]
وقد استدل بقوله تعالى: {فِرَاشاً} على أن الأرض ليست كريَّة، وقد اختلف في ذلك فقال أبو هاشم، وأبو القاسم: هي كرية، وقال أبو علي: بل مسطحة لظاهر الآية، وقيل: شبه طبل، وقيل: كنصف كرة مشقوقة، وقيل: كصنوبرة.
قال الحاكم: ولا طريق إلى القطع إلا السمع.
قال الإمام المهدي عليه السلام : بل لهم إلى كريتها طريق عقلي تحقيقه في علم الفلك.
وقال الزمخشري: ليس في الآية إلا أن الناس يفترشونها كما يفعلون بالمفارش، وسواء كانت على شكل السطح، أو شكل الكرة فالإفتراش غير مستنكر، ولا مدفوع لعظم حجمها، واتساع جرمها، وتباعد أطرافها، وإذا كان متسهلاً في الجبل وهو وتد من أوتاد الأرض فهو في الأرض ذات الطول والعرض أسهل.
فإن قيل: لو كانت كرية لما استقر ماء البحار فيها.
أجيب: بأنه يجوز أن يكون في جزء منها متسطح يصلح للاستقرار، وماء البحر متماسك بأمر الله تعالى.
قال أبو حيان: إنما يجوز أن يكون بعض الشكل الكري مقرٌ للماء إذا كان ذلك الشكل ثابتاً غير دائر، أما إذا كان دائراً فيستحيل عادة قراره في مكان واحد من ذلك الشكل الكري.
واعلم: أن كون الارض فراشا مشروطٌ بأمور:
أحدها: أن تكون ساكنة، ولا خلاف فيه إلا عن الثنوية، فقالوا: العالم يهوي أبداً قلنا: لو كانت الأرض هاويةً لم تكن فراشاً على الإطلاقْ؛ لأن من ظفر من موضع عالٍ يجب أن لايصل إلى الأرض لأنها هاوية، والإنسان هاوي، والأرض أثقل منه، والأثقل أسرع في الهوي.
فإن قيل: فلم لا يجوز أن تكون متحركة بالاستدارة.
قيل: لأنها لو كانت كذلك لم يكمل انتفاعنا بها؛ لأن حركاتها لو كانت إلى المشرق، والإنسان يريد المغرب لم يتمكن من وصول المغرب؛ لأن حركة الأرض أسرع، والمعلوم أنه يمكنه ذلك، فثبت أنها غير متحركة، والسمع ورد بذلك، قال تعالى: {إِنَّ اللَّهَ يُمْسِكُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ أَنْ تَزُولاَ}[فاطر:41] وقد اختلف في سبب سكونها على أقوال، وليس هذا موضع ذكرها.
الشرط الثاني: أن لا تكون في غاية الصلابة كالحجر، ولا في غاية اللين كالماء ليسهل النوم والمشي عليها، ويمكن الزراعة، واتخاذ الأبنية، ويتأتى حفر الآبار، وإجراء الأنهار.
الثالث: أن لا تكون في غاية اللطافة والشفافة؛ لأن الشفاف لايستقر عليه النور، وما كان كذلك فإنه لا يتسخن بالشمس فكان يبرد جداً، فلا يصلح أن يكون فراشاً.
الشرط الرابع: أن تكون بارزة من الماء؛ لأن طبع الأرض أن تكون غائصة في البحر، فيجب أن تغمرها البحار، وذلك يمنع أن تكون فراشاً.
قلت: وقد جعلها الله تعالى مستكملة لهذه الشرائط، ولهذا كان الانتفاع بها على أبلغ الوجوه وأتمها، وهذه نعمة من الله يجب على العباد شكر من أولا ها، والانقياد له، وتخصيصه بالطاعة والعبادة، اللهم عرفنا نعمك، وارزقنا شكرك.
الدليل الثاني من دلائل الآفاق: جعل السماء بناء، والكلام فيه كالكلام في الأول فإنه كان يمكن أن تجعل على غير هذه الصفة بأن تكون قراراً، أوغير بناء فاختصاصها بالكون على هذه الصفة لا بد فيه من أمر كانت لأجله كذلك، لما تقرر من أن الممكنات لا بد لها من مرجح يرجح أحد طرفيها على الآخر، ولا يصح أن تكون لمجرد الجسمية لتماثل الأجسام فلا بد من أمر زائد، وهو المعنى بقولنا صانع العالم، وليس ذلك إلالله الواحد، الفرد، الكبير، المتعال، وفي قوله تعالى: {وَالسَّمَاءَ بِنَاءً}[ البقرة:22] إيقاض وإرشاد لذوي العقول إلى النظر في ذلك الخلق العظيم والاستدلال به على وجود الصانع الحكيم، والإقرار الذي لايتطرق إليه الانكار بقدرته العظيمة وحكمته البالغة، وذلك أن المعلوم أن كل بناء مرتفع لا يتهيأ إلا بأساس مستقر على الأرض، أو بعمد وأطناب مركوزة فيها، والسماء في غاية مايكون من العظم، وفي سبع طباق بعضها فوق بعض، وعليها من أثقال الأفلاك وأجناس الأملاك، وأجرام الكواكب التي لا يعبر عن عظمها، ولا يحصى عددها، وهي مع ذلك بغير أساس يمسكها، ولا عمد تقلها، ولا أطناب تشدها، وهى لو كانت بعمد، وأساس كانت من أعظم المخلوقات، وأحكم المبدعات، فكيف وهي عارية عن ذلك ممسكة بالقدرة الإلهية {إِنَّ اللَّهَ يُمْسِكُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ أَنْ تَزُولاَ}[فاطر:41].
الدليل الثالث: إنزال الماء من السماء،وما أخرج به من الثمرات العظيمة ذات المنافع الجسيمة، ووجه الدلالة من هذا على الصانع المختار ظاهرة، فإن حصول المطر بعد أن لم يكن يدل بالضرورة على أنه لا بد في حدوثه من أمر؛ لأنه من جملة الممكنات على ما مر قريبا،ًوالبا في به للسببية أي أخرج بسبب ذلك الماء من الثمرات رزقاً لكم، وقد أورد هَاهُنَا سؤال وهو أنه لما كان الباري جل وعلا قادراً على خلق هذه الثمار بقدرته ومشيئته فما الحكمة في جعل الماء سبباً في خروجها وتراخيها المدة الطويلة.
والجواب لا شك أنه قادر على أن ينشئ الأجناس كلها بلا أسباب، ولا مواد ولا تراخ كما أنشأ نفوس الأسباب والمواد، لكن له تعالى في ربط المسببات بأسبابها مدرجاً لها من حال إلى حال، وناقلاً لها من مرتبة إلى مرتبة حكماً بالغة علمها من علم، وجهلها من جهل، لكن الواجب على الجاهل أن يسلم للحكيم حكمته، وأن يرجع باللوم على العجز عن إدراك وجهها إلى نفسه، وقد ذكروا في الحكمة في ذلك وجوهاً:
أحدها:وهو أحسنها ما في ذلك من الدلالة الواضحة على الصانع المختار، وزيادة اليقين به،والسكون إلى عظيم قدرته،وغرائب حكمته، فإن في إنزال المطر من السماء من الدلائل البينة ما يضطر العقول إلى الإقرار بأن محدثاً أحدثه حكيماً، قديراً، عليماً، رؤوفاً، رحيماً انظر إلى تغير أحوال الهواء بالغيوم، والصواعق، والبروق العجيبة، المتتابعة، المختلطة بالسحاب الثقال، الحاملة للماء الكثير، المطفئ بطبعه النار المضادة له، وما في الجمع بينهما، وإنشائهما من الدلالة على العزيز الحكيم، انظر إلى ما في إنزال الماء من ذلك السحاب من الحكمة، والدلالة على اللطيف الخبير، انظر كيف لا تختلط قطرة بأخرى، ولو اعتدت الرياح العواصف، انظر كيف صغرت القطر، وكثرت، وتقاربت حتى تقع متفرقة غير ضارة، ولو اجتمعت لعظم ضررها، تفكر في نزول البرد الشديد المستحجر في أوقات الخريف الذي لا يجمد فيه الماء مع أنه لا يجمد في أوقات الغيم، سواء كانت في الشتاء، أو في غيره لرطوبة الغيم، فمن أين جاء البرد المستحجر، والماء إذا جمد لا يكون على صفة البرد أبداً، ثم ارجع البصر كرتين، وانظر فيما في إخراج الثمر بذلك الماء من الدلالة على القوي المتين، فإن في إخراج الثمرات مع اختلافها جنساً، ونوعاً، ولوناً وطعماً، وكبراً، وصغراً وغير ذلك من الصفات والأعراض بذلك الماء الذي اتحد جنساً وطبعاً، كما قال تعالى: {يُسْقَى بِمَاءٍ وَاحِدٍ}[الرعد:4] من الدلالة على القادر المدبر ما يبهر
العقول، ويدحض شبه أهل العناد من الطبائعية وغيرهم، وما أحسن ما قال الإمام المرتضى محمد بن يحيى عليه السلام في كتاب الإيضاح، ولفظه:ألا ترى إلى ما صنع من غذاء الأشجار، بما نزَّل من الأهوية من الأمطار، وأجرى من ماء العيون والأنهار، وصلاح الحيوان والثمار، وجعل في الأشجار مداخل للمياه، بمنزلة الحلوق والأفواه، فجعل لكل حبة من الثمر مسقاً، وجعل للماء طرقاً، وأجرى ذلك بلطفه في العروق، وجعلها بمنزلة الحلوق، وليس من طبع الماء أن يتصعد علواً، ولا يسمو إلى أعالي الشجر سمواً، وإنما طبع على الثقل والإنحدار، وعلى الثبات في الأرض والقرار، فلما رأيناه يطلع إلى بواسق الأغصان، علمنا أن ذلك من الواحد المنان الرحمن.
الوجه الثاني: أن الله تعالى أجرى العادة بأن لايفعل ذلك إلا على تدريج وترتيب؛لأن المكلفين إذا تحملوا المشقة، وكدوا أنفسهم حالاً بعد حال؛ علموا أنهم لما احتاجوا إلى تحمل المشقة في طلب المنافع الدنيوية، فلأن يتحملوا مشاق أقل منها في طلب المنافع الأخروية لأولى وأحرى، كما قيل:أنه أجرى العادة بتوقف الشفاء على تناول الدواء؛ لأنه إذا تحمل مرارة الأدوية لدفع ضرر المرض كان تحمل مشقة التكليف لدفع ضرر العقاب بالأولى.
قلت: وهذا الوجه لا يناسب ما نحن فيه؛ لأن الكلام في وجه الحكمة في جعل ماء السماء سبباً في خروج الثمرات، وهذا إنما هو في بيان الحكمة في توقف حصول الثمرات ونحوها على أعمال العباد من الحرث والغرس، لكنه يقال قد تضمن إثبات الحكمة في إثبات الوسائط والأسباب، والأولى أن يقال في هذا الوجه كما في البلغة إن الله تعالى لما أجرى العادة بأن يخرج الثمرات بعد وقوع المطر حسن أن نقول أخرج بالمطر الثمرات والنبات، وإن لم يكن المطر سبباً موجباً له كالاعتماد الذي يولد الكون، والكون الذي يولد التأليف، وهو جواب حسن قد تضمن القول بأن الله تعالى هو الخالق لهذه الثمرات عقيب وصول الماء إليها بمجرى العادة، وإبطال قول من قال: إن الله خلق في الماء طبيعة مؤثرة، وفي الأرض طبيعة قابلة، فإذا اجتمع حصل الأثر من تلك القوى التي خلقها الله، والقول بأن الله هو الخالق للثمر هو الحق فإن الأجسام لا تؤثر في إيجاد الأجسام.
وأما الرازي فأجاب بجوابين:
جملي، وهو: أنه لا شك على كلا القولين أنه لابد من الصانع الحكيم، وتفصيلي وهو أنه لاشك أن الله تعالى قادر على خلق هذه الثمار ابتداء؛ لأنها من جنس المقدورات، والله تعالى لا يعجزه شيء.
قال: إلا أنا نقول قدرته على خلقها ابتداء لا تنافي قدرته عليها بواسطة هذه القوى المؤثرة والقابلة في الأجسام، قال: وظاهر قول المتأخرين من المتكلمين إنكار ذلك، ولا بد فيه من دليل.
قلت: الدليل ما ذكرناه.
الوجه الثالث: أنه لو خلقها دفعة من غير هذه الوسائط لحصل العلم الضروري بإسنادها إلى القادر الحكيم،وذلك كالمنافي للتكليف، بخلاف خلقها بهذه الوسائط فإنه يحتاج في إسنادها إلى القادر إلى نظر دقيق وفكر غامض، فيستوجب بذلك الثواب ولهذا قيل: لولا الأسباب لما ارتاب مرتاب.
قلت: وهذا ضعيف؛ لأنه لو كان يحصل العلم الضروري بالصانع بخلق المسببات غير متوقفة على أسبابها لحصل بخلق الأسباب أنفسها. والله أعلم.
تنبيه [في دلالة الآية على صفات الله تعالى]
وهذه الأدلة التي ذكرها الله تعالى في هذه الآية الكريمة كما تدل على إثبات الصانع المختار، فهي تدل على صفاته من كونه قادراً، عالماً، حياً، قديماً لما في ذلك من بديع الصنعة التي يعجز عنها حذاق الصناع، وعجائب وغرائب تتضاءل عندها بدائع ذوي الإبداع، وتراكيب لاتتناولها أيدي المحدثات، وإن اتسعت قواها غاية الاتساع، وكما دلت على ثبوت هذه الصفات، فقد تضمنت إبطال قول العلية، ودعوى الطبائعية ونفي التشبيه؛ لأن الصانع لايشبه صنعته، ألا ترى أن الكاتب لا يشبه كتابته، والخياط لا يماثل خياطته، وهكذا كل صانع فإنه لا يشبه صناعته، ولا يماثلها، وذلك معلوم بالضرورة.
فائدة: قال الإمام أبو طالب عليه السلام : العالم كالبيت أرض وسماء وسقف، ومهاد موضوع، والنجوم في السماء كالقناديل في السقف، والنيران كالشمعتين، والأرض كقرار البيت، والفراش الممهود وما عليها من النبات كالفواكه المعدة، وما فيها من الرياحين، وأنواع الأنوار والزهران، وأماكنها من الأرض كالروضة من البيت، وما فيها من معادن الذهب والفضة كالخزائن المخزونة في البيت، والإنسان فيها كأرباب البيوت الذين إليهم تدبيرها وسياستها، فيجب أن يكون حال السماء والأرض في الحدوث واستحالة القدم كالبيت الذي نشاهد في مفازة أو برية إن لم نشاهد له فاعلاً ولا بانياً في أنا لانشك في حدوثه، وتجدده، وكونه بنيان قادر.
قال: وحدوث الحركات الفلكية بيَّن لا بد لها من أول، وما كان له أول فله آخر، ومتى استحال قدم الحركات استحال قدم المتحركات؛ لأنه لاجسم إلا متحرك أو ساكن، وحقيقة التحرك هو الانتقال من جهة إلى جهة،وهذا لايكون إلا متجدداً حادثاً، وحقيقة الساكن لبثه مع جواز انتقاله من موضعه ذكره في شرح البالغ المدرك، ونحوه ذكر الإمام أحمد بن سليمان عليه السلام ، والجاحظ، وقد تضمن دليل حدوث العالم واستحالة القدم عليه، ونحن قد بسطنا القول في ذلك في الفاتحة، وأبطلنا شبه المخالفين بما فيه مقنع، ولهذا اختصرنا الكلام في هذا الموضع، واقتصرنا على بيان وجه دلالة الأدلة المذكورة. والله الموفق.
المسألة الحادية عشرة [الحث على الزيادة من الأدلة]
اعلم: أن الله تعالى كرر الأدلة في كتابه على إثبات ذاته عز وجل وصفاته، وما يوجب له الاختصاص بالطاعة من عباده، فذكر في هذا الموضع خمسة أدلة، وفي غيره ما يقرب منها أو يزيد عليها، وفي ذلك دليل على أنه ينبغي لمن أراد تحرير المسائل على وجه يحصل به اليقين، وتنشرح به الصدور أن يأتي عليه بما أمكنه من الأدلة، ولا يقتصر على دليل ولا دليلين مع إمكان الزيادة؛ إذ لو لم يكن لزيادة الأدلة فائدة في طمأنينة القلب ورسوخ الإعتقاد لكان تعداد الأدلة في كتاب الله تعالى حشواً خالياً من الفائدة، والمعلوم أن كتاب الله منزه عن ذلك، وأَن كل لفظة منه وحرف واقع موقعه في الإفادة والإرشاد، والهداية وطلب طمأنينة القلب وزيادة اليقين هو الدين المتين واشتغال الأنبيا والصالحين، قال تعالى حاكياً عن إبراهيم: {وَلَكِنْ لِيَطْمَئِنَّ قَلْبِي}[البقرة:260] وجعل سبحانه للذي مر على القرية فقال: {أَنَّى يُحْيِي هَذِهِ اللَّهُ بَعْدَ مَوْتِهَا}[البقرة:259] أنواعاً من الأدلة في نفسه وفي طعامه وفي حماره {فَلَمَّا تَبَيَّنَ لَهُ قَالَ أَعْلَمُ أَنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ}[البقرة:259] وقد قيل:إن الهداية المطلوبة في قوله تعالى: {اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ}[الفاتحة:6] هي الهداية إلى معرفة ما في كل شيء من الدلالة على إثبات الصانع وصفاته كما مر في موضعه، وقد بسطنا القول في هذا المعنى في بحث مستقل، وذكرنا فيه أيضاً أنه ينبغي للمصنفين توضيح العبارة وتجنب الإختصار المؤدي إلى عسر الفهم لمنافاته المقصود بالتأليف من إرشاد الخلق وتعريفهم بطرق الحق وهو بحث نفيس لاينبغي جهله ولولا خوف التطويل لأتينا به في هذا الموضع على أن فيما ذكرناه هنا كفاية، وقد مر في الثانية من مسائل المقدمة، وفي الثالثة من الإستعاذة شيء مما يؤدي هذا المعنى.
فإن قيل: هل فيما عدده الله تعالى من الأدلة دليل على أنه يجب النظر في كل دليل، وإن كان بعضها موصلاً إلى العلم لا يحتاج إلى غيره أم لا، وإذا قيل: بالوجوب فهل علم وجوبه عقلاً أو سمعاً.
قيل: قد قيل بوجوب ذلك عقلاً احتياطاً للدين وحراسة له، والعقل يوجب الاحتياط للدين وحراسته؛ لأنه ربما طرت شبهة على الناظر فقدحت في دليله فيزول علمه، وإذا كان معه دليل غيره لم يزل بل يجدده لما قد علمه من صحة الدليل الآخر، وقد يستعين بالدليل الآخر على حل تلك الشبهة، وقال القرشي:يجوز أن يجب ذلك سمعاً لجواز أن يكون فيه لطفٌ.
قال الإمام عز الدين: يعني فإذا علم تعالى أنا إذا نظرنا في دليل آخر كان مقرباً لنا إلى فعل واجب وترك قبيح، أوجبه علينا؛ إذ قد حصل وجه الوجوب، وكان واجباً شرعياً، وذلك داخل في الإيجاب، لايقال إذا كان كذلك فهلا عرف كونه لطفاً بالعقل؛ لأنا نقول العقل لايهتدي إلى تعيين الألطاف كالواجبات الشرعية فلا يلزم ذلك.
قلت: ومن الأدلة السمعية القاضية بالوجوب قوله تعالى: {قُلِ انْظُرُوا مَاذَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَمَا تُغْنِي الآيَاتُ وَالنُّذُرُ عَنْ قَوْمٍ لاَ يُؤْمِنُونَ}[يونس:101] فأمر بالنظر فيما اشتملت عليه السماوات والأرض من الآيات، وذم من لاينتفع بتلك الآيات وهو معنى الوجوب وقال تعالى: {سَنُرِيهِمْ آيَاتِنَا فِي الآفَاقِ وَفِي أَنْفُسِهِمْ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُ الْحَقُّ}[فصلت:53] فأخبر أنه يظهر لهم الآيات المذكورة، ولافائدة لإظهارها إلا إذا كان النظر فيها مطلوباً منهم، وهومعنىالوجوب بل قوله: {حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُ الْحَقُّ} صريح في أنه لم يرهم تلك الآيات إلا ليعرفوا بها الحق ومعرفة الحق من الآيات لاتكون إلا بالنظر فيها، والنظر واجب، وقد مر دليله، ولقائل أن يقول المطلوب من المكلف تحصيل العلم، فإذا حصل له بالنظر في بعض الأدلة فلا وجه لوجوب طلبه ثانياً، بل يستحب ذلك لزيادة الطمأنينة والاحتياط، والآيتان واردتان في ذم من لم يؤمن مع كثرة الأدلة لا في وجوب النظر في كل دليل. والله أعلم.
المسألة الثانية عشرة [الدلالة على نزول المطر من السماء]
قوله تعالى: {وَأَنزَلْنَا مِنَ السَّمَاءِ مَاءً}[المؤمنون:18] يدل على نزول المطر من السماء، وقيل: إنه يتولد من أبخرة ترتفع من الأرض، وتتصاعد إلى الطبقة الباردة من الهواء فتجتمع هنالك بسبب البرد وتنزل بعد اجتماعها وذلك هو المطر.
قلنا: قد أخبر الله تعالى وهو أصدق القائلين بأنه ينزل من السماء إلا أنه يجوز أن يراد بالسماء السحاب؛ لأن السماء اسم لكل ما سماك، ويجوز أن يراد بها السماء المعروفة، وإذا كان المراد هذا الأخير وجب أن نقول: إنه ينزل من السماء إلى السحاب، ومن السحاب إلى الأرض؛ لأنا نعلم نزوله من السحاب.
المسألة الثالثة عشرة [الأصل في الثمرات الاباحة]
قيل: في قوله تعالى: {أَخْرَجَ بِهِ مِنَ الثَّمَرَاتِ رِزْقاً لَكُمْ}[البقرة:22] دليل على أن الأصل في الثمرات الإباحة، وهذا مبني على أن من للتبيين، وأما علىالقول بأنها للتبعيض فلا دلالة فيها على ذلك.
قال القرطبي: ودلت هذه الآية على أن الله تعالى أغنى الإنسان عن كل مخلوق، ولهذا قال صلى الله عليه وآله وسلم مشيراً إلى هذا المعنى: ((والله لئن يأخذ أحدكم حبله فيحتطب على ظهره خير له من أن يسأل أحدًا أعطاه أو منعه)) أخرجه مسلم.
قال: ويدخل في معنى الاحتطاب جميع الأشغال من الصنائع، وغيرها فمن أحوج نفسه إلى بشر مثله بسبب الحرص، والأمل والرغبة في زخرف الدنيا فقد أخذ بطرف من جعل لله نداً.
المسألة الرابعة عشرة [في نفي الشريك لله تعالى]
دل قوله تعالى: {فَلاَ تَجْعَلُوا لِلَّهِ أَندَاداً}[البقرة:22] على أنه لا يجوز أن يجعل لله شريك.
قال ابن عباس: {فَلاَ تَجْعَلُوا لِلَّهِ أَندَاداً}[البقرة:22] أي لاتشركوا به غيره من الأنداد التى لا تضر ولا تنفع {وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ} أنه لارب لكم يرزقكم غيره، ونحوه عن قتادة، وفسره ابن مسعود بالأكفاء من الرجال يطيعونهم في معصية الله.
وعن ابن عباس الأنداد الأشباه، وهذه الأقوال متقاربة في المعنى، وفي أمالي أبي طالب أخبرنا العبدكي ثنا ابن يزداذ، ثنا يونس بن حبيب، ثنا الطيالسي، ثنا شعبة، أنا واصل سمعت أباوائل يحدث، عن عبد الله قال: سألت رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أي الذنب أعظم؟ قال: ((أن تجعل لله نداً وهو خلقك)) وأخرج ابن أبي حاتم عن عوف بن عبدالله قال: خرج النبي صلى الله عليه وآله وسلم ذات يوم من المدينة فسمع منادياً ينادي للصلاة فقال: الله أكبر الله أكبر، فقال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم : ((على الفطرة)) فقال أشهد أن لاإله إلا الله، فقال: ((خلع الأنداد)) وأخرج ابن أبي شيبة، وأحمد، والبخاري في الأدب المفرد، والنسائي وابن ماجة، وأبو نعيم في الحلية، والبيهقي في الأسماء والصفات عن ابن عباس قال: قال رجل: للنبي صلى الله عليه وآله وسلم : ((ما شاء الله وشئت فقال: جعلتني لله نداً بل ماشاء الله وحده)) وأخرج ابن سعد، عن فتيلة بن صيفي قالت: جاء حبر من الأحبار إلى النبي صلى الله عليه وآله وسلم فقال: يا محمد نعم القوم أنتم لولا أنكم تشركون، قال: ((وكيف)) قال: يقول أحدكم لا والكعبة، فقال النبي صلى الله عليه وآله وسلم : ((إنه قد قال فمن حلف فليحلف برب الكعبة)) فقال: يا محمد نعم القوم أنتم لولا أنكم تجعلون لله أنداداً، قال: ((وكيف ذاك)) قال: يقول أحدكم ماشاء الله وشئت، فقال النبي صلى الله عليه وآله وسلم : ((إنه قد قال، فمن قال
منكم فليقل ماشاء الله ثم شئت)) وأخرج أحمد، وابن ماجة، والبيهقي عن طفيل ابن سخبرة أنه رأى فيما يرى النائم كأنه مر برهط من اليهود، فقال: أنتم نعم القوم لولا أنكم تزعمون أن عزيرًا ابن الله فقالوا: وأنتم نعم القوم لولا أنكم تقولون ماشاء الله وشاء محمد، ثم مر برهط من النصارى، فقال: أنتم نعم القوم لولا أنكم تقولون المسيح ابن الله، قالوا: وأنتم نعم القوم لولا أنكم تقولون ماشاء الله وشاء محمد، فلما أصبح أخبر النبي صلى الله عليه وآله وسلم فخطب فقال: ((إن طفيلاً رأى رؤيا، وإنكم تقولون كلمة كان يمنعني الحياء منكم فلا تقولوها، ولكن قولوا ماشاء الله وحده لاشريك له)) وأخرج ابن أبي شيبة، وأحمد، وأبو داود، والنسائي، وابن ماجة، والبيهقي عن حذيفة ابن اليمان، عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال: ((لا تقولوا ما شاء الله وشاء فلان، قولوا: ما شاء الله ثم ما شاء فلان))
واعلم: أن الله تعالى إنما نهى عن اتخاذ الشركاء له جل وعلا، لأنه إثبات لما لا دليل عليه، بل إثبات لما قام الدليل على بطلانه كما سيأتي تقريره، ولا خلاف بين المسلمين في أنه لا ثاني للقديم تعالى، والخلاف في ذلك مع طوائف من فرق الكفار.
وقيل: أما إثبات ثان يشارك القديم تعالى في جميع ما يجب له من الصفات، ويستحيل عليه فلا يظهر فيه خلاف أحد من الناس، وأما إثبات ثان يشاركه في بعض الصفات فقد ظهر فيه.
قال الرازي: ليس في العالم أحد يثبت لله شريكاً يساويه في الوجود، والقدرة، والعلم، والحكمة، هذا مما لم يوجد إلى الآن، لكن الثنوية يثبتون إلهين أحدهما حليم يفعل الخير، والثاني سفيه يفعل الشر، وأما اتخاذ معبود سوى الله، ففي الذاهبين إلى ذلك كثرة، إذا عرفت هذا فاعلم أن الكلام في المسألة، وما يتعلق بها من الأدلة، والخلاف والشبه لا يتحصل منه الغرض إلا في ثلاثة مواضع:
الأول: في ذكر الخلاف.
الثاني: في أدلة المسلمين.
الثالث: في شبه المخالفين.
[ذكر الخلاف في مسألة نفي الشريك لله تعالى]
الموضع الأول في ذكر الخلاف: قد عرفت اتفاق أهل الإسلام على نفي الشريك لله تعالى، والخلاف في ذلك لطوائف من الكفار:
الطائفة الأولى: الثنوية وسموا ثنوية لقولهم بإلاهين اثنين وهم تسع فرق:
الفرقة الأولى: المانوية وهم منسوبون إلى رجل يقال له: ماني بن بريك، وقيل: مانيا وهو من دعاتهم، وأخذ مذهبه أو أكثره عن قوم كانوا يقولون بمثل مقالته، وقيل: إنه ادعى النبوة وجاء بكتابين سمى أحدهما الإنجيل، والآخر الشابرقان، وكان ينهى قومه من ادخار فوق قوت يوم وكسوة سنة، وينهى عن الزنا، والسرق، ودخول بيت الأوثان، وكان في شريعته صوم وصلاة، وروي أنه ظهر في أيام سابور ابن ازدشير وهو تلميذ الفارذون، فقال: سابور بمقالته، وهؤلاء يقولون بإلهية النور والظلمة، وقدمهما وحياتهما، وقدرتهما، وامتزاج العالم منهما، وتضاد طبعهما.
الفرقة الثانية: المزدكية وهم كذلك، إلا أنهم يجعلون النور مختارًا، والظلمة بطبعها، وقيل: المزدقية بالقاف بدل الكاف وهم منسوبون إلى رجل يقال له مزدق، وكان ادعى الربوبية، وقتله على ما روي كسرى أنو شروان.
الفرقة الثالثة: الديصانية ويقال بالراء، وقولهم كالأولين في النور، وأما الظلمة فقالوا: عاجزة جاهلة موات.
الفرقة الرابعة: المرقيونية وهم منسوبون إلى رجل يقال له مرقيونا، وهؤلاء يثبتون ثالثاً ليس نوراً ولاظلمة، بل حصل بسبب امتزاجهما، وامتزاجهما كان بواسطة ممازج، فقالوا: متوسط دون الله في النور، ودون الشيطان في الطبع، واختلفوا في موضع الامتزاج وكيفيته، أما موضعه فمنهم من قال: إن الامتزاج واقع في حد الظلمة، وقيل: إنه واقع في فرجة بين النور والظلمة، وأما كيفية الامتزاج فقيل: إن قطعة من الظلمة خرجت غازية للنور، وخرجت من النور قطع غازية للظلمة فأحاطت الظلمة بالتي من النور، وأحاط النور بالتي من الظلمة، فوقع الامتزاج بين النور وقطعة الظلمة، وبين الظلمة وقطعة النور، وقيل: إنه كان في الظلمة غلظة على النور، فأراد النور الدخول فيها ليلينها ويخفض من حالها، فلما دخل فيها غلبت عليه فمازجها، وقيل: لما كان جهة الظلمة السفل، وجهة النورالعلو دفعها عن نفسه بالاعتماد عليها فاندفعت فيها لشدة اعتماده فخالطها، وحكى القرشي عنهم أن العالم امتزج من هذا الثالث ومن الظلمة، وإن النور لما رأى تعدي الظلمة على هذا المتوسط بعث إلى هذا العالم الممتزج روحاً وهو ابنه عيسى، ومرقيون هذا لحق بعض أصحاب عيسى، وأخذوا عنه.
الفرقة الخامسة: الماهانية: وهم موافقون للثنوية إلا في النكاح والذبائح، وجعلهم المسيح ثالثاً.
الفرقة السادسة: الكيسانية زعموا أن الأشياء من أصول ثلاثة الماء، والأرض، والنار.
الفرقة السابعة: الصامية، قيل: وهم من الصابئين، وقيل: من الدهرية، ولا كتاب لهم معروف ولا أقاويل معروفة.
[الفرقة] الثامنة: المهركية واختصوا بأن قالوا لابد في كل زمان من رئيس يخلص من الآفات ويرشد للسداد، وهم أقرب إلى الما نوية.
الفرقة التاسعة: المجوس، وهم يقولون بقدم الشيطان مع الله تعالى على خلاف بينهم، وتفاصيل ستأتي في مواضعها إن شاء الله تعالى.
واعلم: أن الثنوية متفقون على أمور بعضها يفهم مما ذكرنا، وجملة ما اتفقوا عليه هو القول بأن النور والظلمة صانعان للعالم قديمان، وأنهما موجبان، وأن النور مجبول على الخير ولا يقدر على الشر، والظلمة بالعكس، وأنهما امتزجا فحصل منهما العالم، وأن جهة النور العلو وجهة الظلمة السفل، وأن لكل واحد منهما ست جهات، خمس لايتناهى منها ويتناهى من السادسة، فجهات النور خلف، وأمام، ويمين، وشمال، وفوق، وتحت وهو لايتناهى إلا من جهة السفل؛ لأن الظلمة تلاقيه منها، وكذلك جهة الظلمة كالنور لاتتناهى إلا من جهة العلو؛ لأن النور يلاقيها منها قالوا: وجوهر النور خير صالح، صافٍ طيب الرائحة، حسن المنظر، مجبول على الخير، وجوهر الظلمة على العكس من ذلك، وكل واحد منا مركب من خمسة أشياء أربعة أبدان، والخامس روح، فأبدان النور: النار، والنور، والماء، والريح، وروحه النسيم، وأبدان الظلمة أربعة كذلك، وهي:
الظلمة، والحريق ، والسموم، والضباب، وروحها الدخان قالوا ورح النور نافعة لأبدانه، وأبدانه نافعة لروحه وكل واحد من الأبدان نافع للآخر، والظلمة على العكس من ذلك، فهذا جملة ما اتفقوا عليه، وأما ما اختلفوا فيه فقد عرفته.
الطائفة الثانية: الصابئون فزعموا أن للعالم صانعاً واحداً، لكنه خلق الأفلاك حية قادرة عالمة، وجعلها آلهة فعبدوها، وعظموها، وسموها الملائكة، وجعلوا بيوت العبادات بعدة الأملاك السبعة، وزعموا أن بيت الله الحرام هو بيت زحل، وأنكروا الآخرة، وفيهم قائلون بالتناسخ، وزعموا أن لهم أنبياء، وأنهم على دين شيث.
الطائفة الثالثة: النصارى وهم فرق متعددة، ومذاهبهم مختلفة، واتفقوا على أشياء منها، وسيأتي تحقيق مذاهبهم في مواضعها إنشاء الله تعالى.
الطائفة الرابعة:عباد الأوثان، قال الرازي: ودينهم أقدم الأديان، وذلك؛ لأن نوحاً عليه السلام من أقدم الأنبياء، وقد حكى الله عن قومه أنهم: {قَالُوا لاَ تَذَرُنَّ آلِهَتَكُمْ}[نوح:23] الآية، وهذه المقالة باقية إلى الآن، بل أكثر أهل العالم مستمرون عليها.
قال: والدين والمذهب الذي هذا شأنه يستحيل أن يعرف فساده بالضرورة، لكن العلم بأن هذا الحجر المنحوت في هذه الساعة ليس هو الذي خلقني وخلق السماوات والأرض علم ضروري، فيستحيل إطباق الجمع العظيم عليه، فوجب أن يكون لعبدة الأوثان غرض سوى ذلك يعني غرضًا في عبادتها، وتعظيهما سوى اعتقاد كونها الخالقة لهم، ولسائر أصناف العالم.
قلت: وقد ذكر الإمام المهدي، والرازي وغيرهما من أصحاب المقالات وجوهاً في سبب ذلك:
أحدها: أن منشأ ذلك من الهند والصين، وكانوا مقرين بالله وبملائكته، ويعتقدون أن الله تعالى جسم، وأن الملائكة تشبهه، فعظموها،واتخذوا أصناماً على صورتها، واعتقدوا أنها تنفع وتضر. هكذا ذكره الإمام المهدي عليه السلام .
وقال الرازي: إنهم اتخذوا تلك الصور وعبدوها لتقربهم إلى الله زلفى، وفي حكاية الإمام المهدي عليه السلام أن بعض حكمائهم قال لهم: إن الكواكب أقرب إلى الله تعالى حية ناطقة مدبرة فعبدوها، فلما خفيت عليهم نهاراً اتخذوا أصناماً على شكلها لتستمر لهم رؤيتها، وزعموا أن تعظيمها يحرك لهم الكواكب بما يحبون، وأول من عبد الصنم في العرب عمرو بن لحي.
الثاني: أن الناس لما رأوا تغيرات أحوال العالم مرتبطة بتغير أحوال الكواكب فإن بحسب قرب الشمس وبعدها من سمت الرأس تحدث الفصول المختلفة، ثم رصدوا أحوال الكواكب فاعتقدوا ارتباط السعادة والنحوسة بكيفية وقوعها في طوالع الناس، فبالغوا في تعظيمها، فمنهم من اعتقد أنها واجبة الوجود، وأنها هي الإله الخالق للعالم، ومنهم من اعتقد أنها مخلوقة للإله الأكبر، لكنها الخالقة للعالم فهي الواسطة بين الله وبين البشر فاشتغلوا بعبادتها، ولما كانت غير مرئية في كثير من الأوقات اتخذوا لها أصناماً وتقربوا بعبادتها إلى تلك الأشباح الغائبة، فلما طالت المدة تنوسي هذا السبب فعبدوا الأصنام أنفسها، وألغوا ذكر الكواكب.
الثالث: أن منهم من كان يتخذ طلسماً يترصد له وقتاً مخصوصاً، ويزعم أنه ينفع ويجلب السعادة، ويدفع الآفات، ثم يعظمون ذلك الطلسم حتى صار تعظيمهم كالعبادة، فلما طالت المدة نسوا السبب فعبدوها على الجهالة بمبدأ الأمر.
الرابع: أنه كان إذا مات منهم رجل مجاب الدعوة، مقبول الشفاعة عند الله، اتخذوا صنماً على صورته يعبدونه على اعتقاد أن يكون من شفعائهم عند الله.
الخامس: لعلهم اتخذوها محاريب وقبلة لصلواتهم، ولما استمرت الحال ظن الجاهل أنه يجب عبادتها.
السادس: لعلهم كانوا مجسمة فاعتقدوا حلول الرب عز وجل فيها.
الطائفة الخامسة: ما ألزم به أصحابنا المجبرة من إثبات الشركاء لله تعالى، فإنهم ألزموهم مذهب المجوس في القول بإلهية النور والظلمة، ويزدان والشيطان على اختلاف مقالتهم في ذلك، وألزموهم مذهب النصارى حيث أثبتوا قدماء مع الله تعالى وسموها صفات، فإن هذا مذهب جمهور النصارى في الأقانيم.
قال القرشي: وكذلك إذا لم تكن المعاني أغيارًا لله تعالى كانت هي هو، وهو مذهب النصارى في الأقانيم أيضاً، وكذلك قولهم ليست بمستقلة مع القول بأنها معاني هو كقول النصارى فإن عندهم أن الأقانيم ليست بمستقلة، ولا يصح انفراد بعضها عن بعض، وكذلك تسميتهم للمعاني علماً وحياة، وهو مذهب جمهور النصارى في الأقانيم.
وتوضيح الإلزام أنه لم يقل أحد إن لله ثانياً يشاركه في جميع الصفات، وإنما يقولون بالمشاركة في وجوب الوجود، والمجبرة إما أن يقولوا بأن هذه المعاني جائزة الوجود لزم حدوثها؛ لأن دليلهم على حدوث العالم هو كونه جائز الوجود، وإما أن يقولوا بأنها واجبة الوجود، فإما من ذاتها فهو مذهب الثانوية، أو من غيرها وهو مذهب الفلاسفة في العقول والأفلاك، وقدم العالم.
فإن قيل: الثنوية اعتقدوا استحقاق العبادة.
قيل: لا نسلم فإنهم لم يعبدوا أهرمن ولا الظلمة.
قال القرشي: على أن المجبرة متى لم يعترفوا بأن هذه المعاني أغيار لله تعالى لزمهم أن تكون هي هو فتكون مستحقة للعبادة، قال: ولم يذمهم الله على مجرد القول باستحقاق العبادة بدليل قوله تعالى: {قَالُوا اتَّخَذَ اللَّهُ وَلَداً سُبْحَانَهُ هُوَ الْغَنِيُّ}[يونس:68] فبين أن هذه المقالة تستلزم جواز الحاجة عليه تعالى، وهذا لازم للمجبرة.
الموضع الثاني: في الحجج على نفي الشريك لله تعالى في إلهيته وعظمته وجلاله سبحانه وتعالى عما يقول الظالمون علواً كبيراً.
اعلم: أن المخالفين لنا في هذا الباب على قسمين قسم يثبت لله تعالى شريكاً يماثله في القدم وهم من عدا عباد الأوثان، وقسم يثبت له شريكاً يشاركه في استحقاق العبادة فقط مع الإقرار بحدوث تلك الآلهة المعبودة، وهذا قول عباد الأوثان فيما يظهر من حكاية أقوالهم، وكلا القسمين قد تناولهما إطلاق النهي في قوله تعالى: {فَلاَ تَجْعَلُوا لِلَّهِ أَندَاداً}[البقرة:22] ونحن نتكلم على إبطال كل قسم على انفراده فنقول:
أما القسم الأول: فلنا في إبطاله حجج كثيرة عقلية، ونقلية، أما العقلية:
فأحدها: دليل التمانع وهو مبني على ستة أصول.
الأول: أن القديم قديم لذاته، وقد مر الدليل على ذلك في المسألة الثامنة عشرة من المسائل المتعلقة بقوله تعالى الحمد لله رب العالمين.
الأصل الثاني: أن الاشتراك في هذه الصفة يوجب التماثل في سائر صفات الذات، ودليله أن الصفتين لو اشتركا في صفة ذاتية،ثم افترقا في أخرى ذاتية لم يكونا مثلين لاتفاقهما في صفة، بأولى من أن يكونا مختلفين لافتراقها في أخرى،وإنه محال إذ التماثل هو سد إحدى الذاتين مسد الأخرى فيما يرجع إلى ذاتها، والاختلاف أن لا تسد إحداهما مسد الأخرى في ذلك، فيلزم أن تكون كل واحدة منهما سادة مسد الأخرى، وغير سادة مسدها إذا ثبت هذا، فنقول لو كان للباري تعالى مثل يشاركه في القدم لوجب أن يشاركه في سائر صفاته الذاتية، وإلا لكان ذلك القديم الذي لا يشارك الباري تعالى في سائر صفاته الذاتية مثلاً له لمشاركته في القدم مخالفاً للذات؛ لأنه لم يشاركه في سائرها، وإنه محال.
فإن قيل: هذا لا يستقيم إلا على قول أبي علي إن القدم صفة ذاتية، وأما على قول أبي هاشم إنه صفة مقتضاة عن الذاتية فلا.
قيل: بل هو مستقيم على القولين معاً؛ لأنه وإن كان صفة مقتضاة عن الذاتية، فالاشتراك يكشف عن الاشتراك في صفة ذاتية فيحصل التماثل.
الأصل الثالث: أن القديم تعالى قادر لذاته كما مر في قوله تعالى: {وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ}[البقرة:284] فيجب في المماثل أن يشاركه في القادرية.
الرابع: أن من حق كل قادرين صحة تمانعهما، وذلك ضروري في الشاهد، ولا علة لهذه الصحة إلا لكونهما قادرين بدليل أن العلم بها يدور مع العلم بالقادرية ثبوتاً وانتفاء، مع فقد ما هو أولى من القادرية بأن تعلق عليه صحة التمانع، واستدل على هذا الأصل في شرح الأصول بأن من حق القادر على الشيء أن يكون قادراً على جنس ضده إذا كان له ضد، وإذا قدر عليه صح وقوع التمانع بينهما، والتمانع هو أن يفعل كل واحد من القادرين ما يمنع به صاحبه كمتجاذبي الحبل، فإن كل واحد منهما يفعل من الاعتماد ما لأجله يتعذر على صاحبه تحصيل الحبل في جهته التي يحذبه إليها.
الأصل الخامس: أن من حق القادر على الشيء إذا دعاه إليه الداعي أن يحصل لا محالة حتى لو لم يحصل لخرج عن كونه قادراً، دليله الجائع إذا كان بين يديه طعام شهي لذيذ ولا مانع منه، فإنه إذا لم يأكل والحال هذه لخرج عن كونه قادراً
الأصل السادس: أن من لم يحصل مراده يكون ممنوعاً، وهذا ظاهر لا إشكال فيه؛ إذ لو لم يكن ممنوعاً لحصل مراده مع قوة الداعي إليه، إذا عرفت هذا فلو قدرنا وقوع التمانع منهما بأن يريد أحدهما تحريك جسم، والآخر يريد تسكينه فإما أن يوجد مرادهما جميعاً، وهو محال لما فيه من اجتماع الضدين، وإما أن لايوجد مراد واحد منهما، وفيه خروجهما عن كونهما قادرين، وإما أن يوجد مراد أحدهما دون الآخر، وفيه خروج من لم يحصل مراده عن كونه قادراً لذاته؛ لأن القادر للذات يجب حصول مراده عند توفر دواعيه، وإلالم يكن قادراً للذات، وكان متناهي المقدور بدليل أنه يجب فيمن حاول حمل ثقيل أن تكون قدرته زائدة على ثقله حتى يمكنه رفعه، فحيث لا يمكنه علم أن مقدوره قد تناهى، وكل من تناهى مقدوره فهو قادر بقدرة؛ لأن الذي يحصر المقدورات في الجنس والعدد إنما هو القدرة، فإذا تناهى مقدوره دل على أنه قادر بقدرة، وكل قادر بقدرة جسم؛ لأنه لا يصح الفعل بها إلا بعد استعمال محلهافي الفعل أوفي سببه، ألا ترى أنه لا يمكننا رفع الثقيل بمافي أيدينا من القدرة إلا بعد استعمال اليد في الفعل أو في سببه، وما كان كذلك وجب أن يكون جسماً، وكل جسم محدث فلايصح أن يكون إلهاً.
فإن قيل: المفروض أن القادرين حكيمان فلايتمانعان؛ لأن كل واحد منهما يعلم أن الذي يريد الآخر فعله حكمة فلا يمانعه، بخلاف القادرين في الشاهد.
قيل:الحكمة لا تمنع إلا من وقوع التمانع، ولم نستدل على المسألة إلا بصحة التمانع، إذ لو كانت دلالتنا وقوع التمانع لكنا قد اعترفنا بمذهب الخصم؛ إذ وقوع التمانع فرع على ثبوت القديم الثاني، وإذا كان الاستدلال بالصحة حصل غرضنا، وقال الإمام المهدي عليه السلام : حكمتهما، وإن منعت من وقوع اختلاف مرادهما فإنها لا تحيل، بل هو جائز تقديراً لا تحقيقاً أي يصح تقدير وقوع تمانعهما، لكونه حينئذ ليس بمحال في نفسه، وما أدى إلى صحة تقدير المحال فهو محال؛ إذ يتضمن اعتقاد صحة ما علم بالبديهة إحالته وهو وقوع التمانع؛ لأنا إذا قدرنا أن أحدهما أراد تحريك جسم، والآخر أراد تسكينه، وقد علمنا بالبديهة أنه محال؛ لأنه إذا تمانع الفعلان لزم أن يخرج الجسم عن كونه متحركاً وساكناً، والمعلوم بالبديهة استحالة خلو الجسم منهما، فما أدى إلى صحة تقدير خلوه منهما فهو محال،فوجب نفي الثاني لتأديته إلى صحة تقدير المحال.
قال السيد مانكديم: التقدير كالتحقيق ها هنا، وصار الحال في ذلك كالحال في تقدير الاصطراع بين زيد وأسد، وإن علمنا أنهما لايتصارعان البتة، فكما أنا إذا قدرنا بينهما الاصطراع أمكننا أن نعلم كون أحدهما غالباً و الآخر مغلوباً، ونعلم أن من غلب فهو الممنوع، والممنوع ضعيف متناهي القدرة.
فإن قيل: لم قلتم إن صحة تقدير المحال محال فجعلتم تقدير اختلافهما في الداعي والإرادة يقوم مقام الوقوع في الدلالة على صحة التمانع، ولم يقم تقدير وقوع الظلم من جهة الله تعالى مقام وقوعه في الدلالة على الجهل والحاجة.
قيل: أما على ماذهب إليه القرشي من أنه لايصح تقدير وقوع الظلم من الله فالسؤال ساقط، وقد مر كلامه في الثامنة من مسائل الحمد لله، وأما سائر أصحابنا فقالوا إن التقدير يقوم مقام التحقيق في إفادة العلم بنفي الثاني، كما يفيده لزوم وقوع التمانع؛ إذ تقدير صحة التمانع في الاستحالة كوقوعه في الاستحالة؛ لأن صحة تقدير وقوع المحال محال، بخلاف تقدير وقوع الظلم فإنه لا يدل على ثبوت الجهل والحاجة، وإنما يدل عليه وقوعه فلم يقم التقدير هنا في التزامه الجهل والحاجة مقام الوقوع؛ إذ لوكان التقدير يستلزمها كالوقوع لم يحكم بإحالة السؤال، بل كنا نجيب بأنه يدل على الجهل والحاجة كما قلنا إن تقدير صحة التمانع يدل على نفي الثاني للقديم تعالى، فليس لهم أنه يحيلوا السؤال كما أحلناه هنالك، ثم إنا إنما أحلناه هنالك لأن الجواب بنعم أو بلا ينقض أصلا، قد تقرر كما مر في الفاتحة وليس هذا كذلك؛ لأنه لم يتقرر نفي الثاني ولا ثبوته، فصحت الإجابة بنعم على من قال إذا قدرنا وقوع التمانع بين الإلهين، هل يدل على نفي الثاني لأنا لم ننقض أصلاً قد تقرر، وقال النجري: في جواب هذا السؤال صحة وقوع المحال محال مطلقاً؛ لأن المراد بهذه الصحة هو نقيض الاستحالة ووقوع المحال مستحيل، ولو وصف بالصحة التي هي نقيض الاستحالة لوصف بالنقيضين وهو محال.
قال: وأما قول أصحابنا بصحة فعل الله تعالى للقبائح، وأن تلك الصحة لاتوصف بالاستحالة، وإنما المستحيل هو الوقوع فمرادهم صحة الفعل وهو الحكم المقتضى عن القادرية، لا الصحة التي هي نقيض الاستحالة، ألا تراهم يقولون إن فعل الله للقبائح صحيح من جهة القادرية، مستحيل من جهة الحكمة، فظهر أن بين الصحتين فرقاً، وأن صحة وقوع المحال محال مطلقاً.
فإن قيل: هما قادران للذات فمقدورهما واحد، وإذا اتحد لم يصح بينهما التمانع، كما أن الواحد منا لا يصح منه ممانعة نفسه.
قيل: لنا في الجواب عن ذلك طرق:
أحدها:ما أجاب به أبو إسحاق بن عياش، وهو أن من حق كل قادرين تغاير مقدورهما سواء كانا قادرين للذات أم لمعنى؛ لأن دليل استحالة مقدر بين قادرين لم يفصل، وما دل على صحة التمانع بين القادرين لم يفصل أيضاً بين القادرين للذات أو لمعنى، واعترض بأن هذه الطريقة تنقض قولنا إن الاشتراك في صفة ذاتية يُوجب الاشتراك في سائر الصفات، فكان يجب إذا قدر أحدها على شيء لذاته أن يقدر عليه الآخر، فلا يصح الاعتماد على هذه.
الطريقة الثانية: ذكرها قاضي القضاة، وهي أنا نعلم صحة التمانع بين القادرين، وإن لم نعلم تغاير مقدورهما، ولهذا فإن نفاة الأعراض يعلمون صحة التمانع، وإن لم يخطر ببالهم تغاير المقدورات ولا تماثلها، واعترض بأنا ما لم نعلم التغاير لم نعلم صحة المتمانع، ونفاة الأعراض يعلمون تغاير المقدورات جملة، وإن لم يعلموها تفصيلاً.
الطريقة الثالثة: أَن مقدور بين قادرين محال، وإثبات الثاني يؤدي إليه، فيجب أن يكون محالاً، واعترض بأن هذا انتقال من دليل التمانع إلى غيره، وأجيب بأنه ليس بانتقال، وإنما هو استعانة ببعض ما يذكر في دليل آخر دفعاً لسؤال السائل، يبين ذلك أنا لم نعتمد في الدلالة على هذا القدر، بل قلنا: لو كان مع الله تعالى قديم آخر لكان قادراً مثله، ومن حق القادرين صحة التمانع، ثم لما ورد هذا السؤال أسقطناه باستحالة مقدور بين قادرين فلايكون انتقالاً.
قال السيد مانكديم: والأحسم للشغب أن نحرر دليل التمانع تحريراً آخر، فنقول: لو كان مع الله تعالى قديم لوجب أن يكون قادراً مثله، فإما أن يتحد مقدورهما أويتغاير، الأول باطل لاستحالة مقدور بين قادرين فتعين الثاني، وفيه صحة التمانع.
فإن قيل: دليل التمانع مبني على صحة اختلافهما في الإرادة وهما لا يختلفان فيها؛ لأنها موجودة لا في محل فلا تختص بأحدهما دون الآخر، فكما توجب لأحدهما توجب للآخر، فيلزم اتحاد المراد، فما أراده أحدهما أراده الآخر.
قيل: أما من لا يجعل إرادة الباري تعالى عرضاً لا في محل، بل يجعلها نفس المراد فلا يرد عليه هذا السؤال؛ لأن الاختلاف في الإرادة لا يمتنع لعدم وجود علة الامتناع وهي ماذكره الخصم من أنها موجودة لا في محل فلا تختص بأحدهما.
وأما القائلون بأن إرادته تعالى عرض لا في محل فقد أجابوا بوجوه:
أحدها: أن ذلك مما يؤكد إلزامنا؛ لأن إرادة كل منهما إذا كانت إرادة للآخر، وقدرنا أن أحدهما أوجد إرادة تسكين جسم، والآخر أوجد إرادة تحريكه لزم أن يكون كل منهما مريداً لتسكين الجسم وتحريكه، فيكون متحركاً ساكناً، أو لا أيهما وهو محال. وهذا ذكره الإمام المهدي.
الثاني: أن من حق كل حيين صحة اختلافهما في الإرادة، سواء كانا مريدين بإرادة لا في محل أم لا، وإلا لم ينفصل الحي الواحد من الإثنين.
قال السيد مانكديم: وفي إثبات الثاني فساد هذا الأصل فيجب فساده، وليس هذا انتقالاً، بل استعانة ببعض ما يذكر في دليل آخر كما مر.
قال السيد: على أنا لم نبن صحة وقوع التمانع بينهما على اختلافهما في الإرادة، وإنما بنينا على صحة اختلافهما في الدواعي، وما من قادرين إلا ويصح اختلافهما في الدواعي، ألا ترى أن النائمين قد يتجاذبان كساءً مع فقد الإرادة، وبعد فإن التمانع ليس بأكثر من أن يفعل أحدهما ضد ما يفعله الآخر، وهذا يصح في مجرد الفعل، ومجرد الفعل لا يحتاج إلى القصد والإرادة، وإلا لما وقع من الساهي والنائم.
قلت: وهذا إنما يستقيم على القول بأنه لاداعي لهما، وقد مر في الاستعاذة.
الوجه الثالث: ذكره القرشي وهو أنا لانسلم أن إرادتهما معنى واحد؛ لأن هذا المعنى لا يصح أن يكون فعلاً لهما جميعاً لاستحالة مقدور بين قادرين، ولجواز أن يريد أحدهما فعله ولا يريده الآخر، فيعود الإلزام من أصله، وإذا كان من فعل أحدهما استحال أن يؤثر في فعل الآخر، ولهذا لو خلق الله فينا إرادة الأكل مع توفر الصوارف عنه كأن يكون مسموماً لما أكلناه، أو خلق فينا إرادة تركه مع توفر الدواعي إليه لما تركناه.
قال: ومن هنا قال أصحابنا: إن الإرادة لو خلقت فينا لما أثرت في كون كلامنا أمراً أو خبراً.
قلت: وحاصله أن إرادة المريد لا تؤثر في فعل غيره.
واعلم: أن في كلام بعض أئمة آل محمد" ما يدل على أن التمانع، والاختلاف لازم للتعدد، وأنه لو كان لله تعالى شريك لم يكن شيء من بديع عجائب الصنع.
قال زين العابدين عليه السلام : لو كان له ضد لانتقض التدبير، ولم يتم له تقدير، وقال القاسم عليه السلام في الرد على الملحد بعد أن ذكر أن اختلاف إرادتهما لا يمتنع فقال الملحد: ما أنكرت أن يتفقا ويصطلحا.
قال القاسم عليه السلام : إن الاتفاق، والاصطلاح يدلان على حدث من تعمدهما؛ لأنهما لا يتفقان إلا عن ضرورة، والمضطر محدث لا محالة، فكلامه عليه السلام مشعر بأن الاتفاق لا يكون إلا عن ضرورة، وإنه لولاها لوقع الاختلاف وهو معنى القول بأن التمانع، والاختلاف لازم للتعدد، وهذا هو الذي يدل عليه قوله تعالى: {لَوْ كَانَ فِيهِمَا آلِهَةٌ إِلاَّ اللَّهُ لَفَسَدَتَا}[الأنبياء:22] وقوله: {إِذاً لَذَهَبَ كُلُّ إِلَهٍ بِمَا خَلَقَ وَلَعَلاَ بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ}[المؤمنون:91].
قال السيد محمد بن عز الدين المفتي: لوفرض صانعان لكان بينهما تمانع في الأفعال فلم يوجد مصنوع أصلاً، وظاهر القرآن يدل على أن ذلك لازم من التعدد، واحتمال توافقهما دائماً الذي يجوزه العقل لا نظر إليه؛ لأنه مما تحيله العادة التي هي مناط الأدلة القرآنية، والسليقة العربية، فليس ذلك إقناعاً يكتفى به في المقامات الخطابية، وكون العادة تحيل مثل ذلك لا تحتاج إلى البيان؛ لأن كل من عرفها حكم أن شريكين في الإيجاد، والامداد لا يتصور دوامهما على الموافقة؛ لأن من شأن النفس أن لا تريد بقاء شريك معها، وكل ذلك باطل لمشاهدة بقاء هذا العالم على أكمل وجوه الاتقان، قال: هكذا حرره المحققون في هذا المقام.
الدليل الثاني:أن إثبات ثان للقديم تعالى يؤدي إلى محال آخر غير التمانع وهو مقدور بين قادرين على ما مر تقريره.
الدليل الثالث : أنه لو كان مع الله تعالى قديم غيره لكانت إرادته تعالى إما أن توجب لهما معاً صفة المريدية، أو لا توجب لواحد منهما، أو توجب لواحد منهما دون الثاني، الأول باطل؛ لأن المعنى لايتعدى في إيجابه صفة واحدة لموصوف واحد، والثاني باطل أيضاً؛ لأنه يؤدي إلى خروج الصفة عن حكم صفتها المقتضاة، والثالث كذلك لعدم المخصص، فبطل أن يكون معه تعالى ثان قديم.
قلت: وهذا الدليل مبني على أن الإرادة معنى توجب صفة المريدية، وفي ذلك نزاع بين الأصحاب.
الدليل الرابع: أنه لوكان لله تعالى شريك لأتتنا رسله، ولرأينا آثارصنعه، ولم يقع شيء من ذلك فانتفاؤه ليس إلا لعدم الشريك، وفيه ما نروم أو للاضطرار إلى المصالحة بينهما لما يؤدي إليه النزاع من الفساد، أو لقهر الغالب المغلوب، وأيهما كان فهو عجز، والعجز لا يكون إلا للمخلوقين؛ إذ هو ضعف الآلات والعدد، وليست إلا للمخلوقين لما ثبت من غناء الباري تعالى، وذلك يبطل كونهم آلهة، وقد نبه على هذا الدليل أمير المؤمنين صلوات الله عليه في وصيته لولده الحسن السبط عليه السلام المروية في أمالي أبي طالب، وسلوة العارفين، ونهج البلاغة، فقال: (واعلم يابني أنه لو كان لربك شريك لأتتك رسله، ولرأيت آثار ملكه وسلطانه، ولعرفت أفعاله وصفاته، ولكنه إله واحد كما وصف نفسه لا يضاده في ملكه أحد، لايزول أبداً ولم يزل) وهذا لفظ النهج،وقد جوز الاستدلال به، واستخرج درره ولآلئه العلامة ابن أبي الحديد في شرحه فقال: يمكن الاستدلال بهذا الكلام على نفي الثاني من وجهين:
أحدهما: أنه لو كان في الوجود ثان للباري تعالى لما كان القول بالوحدانية حقاً، بل كان الحق هو القول بالتثنية، ومحال أن لا يكون ذلك الثاني حكيماً، ولو كان الحق هو إثبات ثان حكيم لوجب أن يبعث رسولاً يدعو المكلفين إلى التثنية؛ لأن الأنبياء كلهم دعوا إلى التوحيد، لكن التوحيد على هذا الفرض ضلالٌ، فيجب على الثاني الحكيم أن يبعث من ينبه المكلفين على ذلك الضلال، ويرشدهم إلى الحق وهو إثبات الثاني، وإلا كان منسوباً في إهمال ذلك إلى السفه، واستفساد المكلفين، وذلك لا يجوز، ولكنا ما أتانا رسول يدعو إلى إثبات ثان في الإلهية فبطل كون القول بالتوحيد ضلالاً، وإذا لم يكن ضلالاً كان حقاً، فنقيضه وهو القول بإثبات الثاني باطل.
الوجه الثاني: أنه لو كان في الوجود ثان للقديم تعالى لوجب أن يكون لنا طريق إلى إثباته إما من مجرد أفعاله، أو من صفات أفعاله، أو من صفات نفسه، أو لا من هذا ولا من هذا، فمن التوقيف على وهذه هي الأقسام التي ذكرها أمير المؤمنين عليه السلام ؛ لأن قوله: (أتتك رسله) هوالتوقيف، وقوله: (ولرأيت آثار ملكه وسلطانه) هي صفات أفعاله، وقوله: (ولعرفت أفعاله وصفاته) هما القسمان الآخران أما إثبات الثاني من مجرد الفعل فباطل؛ لأن الفعل إنما يدل على فاعل، ولا يدل على التعدد، وأما صفات أفعاله وهي كون أفعاله محكمة متقنة فإن الإحكام الذي نشاهده إنما يدل على عالم، ولا يدل على التعدد، وأما صفات ذات الثاني فالعلم بها فرع على العلم بذاته، فلو أثبتنا ذاته بها لزم الدور، وأما التوقيف فلم يأتنا رسول ذو معجزة صحيحة يدعو إلى الثاني، وإذا بطلت الأقسام كلها وقد ثبت أن ما لا طريق إلى إثباته لا يجوز إثباته بطل القول بإثبات الثاني.
وقال السيد محمد ابن عز الدين رحمه الله: لو كان متعدداً، ومنعت الحكمة من تخالفهما لما وصلنا رسول مؤيد بمعجز خارق يدعو إلى أحدهما، ويكذب دعوى التعدد.
قال: وأيضاً لو فرضنا التعدد من غير منع للحكمة من الاختلاف لكان ترك رسول الآخر لا يخلو إما أن يكون لعجز، وهو أمارة الحدث، أو لحكمة وهو باطل؛ لأن الكذب ينافيها، فيقتضي دفعه بالإرسال.
قلت: ويمكن أن يستدل بنفي الرسالة على نفي الثاني على وجه آخر، وهو أن يقال: قد ثبت إرسال الرسل بالدعاء إلى التوحيد، ولو كان للقديم تعالى ثان لوجب أن يشاركه في جميع صفاته، فيجب أن يكون عدلاً حكيماً مثله، وإذا كانا حكيمين لم يجز منهما، ولا من أحدهما إرسال الكاذب، فدل ذلك على صدق الأنبياء"، والمعلوم من دينهم ضرورة الإخبار بأنه لاإله إلا الله وحده لاشريك، والدعاء إلى ذلك، والتصريح به ولو كان، ثم ثان في نفس الأمر لكان ذلك كذباً، والكذب قبيح، وهذه الدلالة مركبة من العقل والسمع.
الدليل الخامس: ذكره أبو الهذيل، وأبو علي وغيرهما من قدماء المعتزلة، وهو أنه لو كان مع الله قديم ثان لما انفصل وجود ذلك الثاني من عدمه؛ لأن اشتراكهما في القدم يوجب اشتراكهما في جمع صفات الذات، فلا ينفصل أحدهما عن الآخر فيما يرجع إلى ذاته، ولاهما مما يصح عليه المكان فينفصلان بالمكان، ولا مما يصح عليه الحدوث فينفصلان بالزمان.
فإن قيل: ينفصلان بالأفعال فيدل على كل واحد منهما أفعاله.
قيل: أما من يوجب كون مقدورهما واحداً،وهم الجمهور فلا يرد عليهم هذا السؤال؛لأنهم يجعلون جميع أعيان المقدورات مقدورة للقادر للذات، ولا يقولون بأنه لا يقدر على بعض الأعيان حتى إذا وجد ذلك البعض دل على غيره لكونه ليس بمقدور له،وإنما يرد على أبي إسحق بن عياش لأنه يقول:لا يجب كون مقدورهما واحداً لامتناع مقدور بين قادرين لكنه يقول إنه قد أمكن إضافة المحدثات إلى خالق واحد، فلا يكون إلى إثبات الثاني طريق، وفيه نظر؛ لأن إمكان إضافتها إلى واحد لا ينافي ثبوت الثاني، وقد اعترض هذا الدليل الإمام يحيى بأنه إذا أريد بعدم الانفصال أنه ليس عند العاقل دليل يميز به أحد الإلهين فمسلم، لكنه لا يلزم من عدم المميز عدمه في نفس الأمر، اللهم إلا أن يقولوا لا طريق إليه فهي طريقة أخرى، وإن أريد أنه لا يمكن أن يختص أحد الإلهين في نفسه بأمر يميزه، فهذه دعوى لا بد من تصحيحها.
قال الإمام عز الدين: يمكن أنهم أرادوا الثاني لأنهما اشتراكا في القدم وهو صفة ذاتية، والاشتراك فيها يوجب الاشتراك في جنس الذات، ويلزم منه الاشتراك في جميع الصفات الذاتية فلا يعقل افتراقهما في أمر يتميز به أحدهما عن الآخر، لكن الإمام يحيى عليه السلام قد أبطل هذه القاعدة كما عرفت، ولم يصحح من أدلة أصحابنا على نفي الثاني من الأدلة العقلية إلا دليل التمانع، وأما سائر الأدلة فنقضها، هذا وأما الأدلة السمعية فأكثر من أن تحصر كتاباً، وسنة كآيات التهليل وغيرها، ومنها هذه الآية فإن النهي عن جعل الأنداد لله تعالى، إنما هو لانتفاء المثل والند لله تعالى، وأن المجعولة لا يصح فيها ذلك، ولا تستحق اسم الإلهية، ولا معناها بوجه من الوجوه؛ لأنها لو كانت آلهة لشاركته في جميع الصفات كما مر، وبالجملة فنفي إله ثان على أي صفة كان معلوم من ضرورة الدين، وإجماع المسلمين، والاستدلال بالسمع في هذه المسألة صحيح؛ لأنه لا يتوقف صحة السمع على نفي الثاني، وقد قيل: إن الاستدلال عليها بالسمع صحيح اتفاقاً، وقال الإمام يحيى: والمعتمد في نفي قديم ثان دلالة السمع.
هذا وأما الكلام على إبطال القسم الثاني وهو قول عباد الأوثان فلنا في إبطاله مع ما يؤخذ مما تقدم وجوه:
أحدها: أن هذه الأوثان لو كانت آلهة للزم أن تشاركه في جميع صفات الإلهية؛ لأن حقيقة الإله هو من يحق له العبادة، وحقيقة العبادة هي النهاية في التذلل والخضوع للمعبود، ولا يستحقها إلا المنعم بأصول النعم، وقد تقدم بيانها، ولا يكون منعماً بها إلا من كان قادراً على جميع أجناس المقدورات، عالماً بجميع المعلومات، حياً قديماً، فثبت أنها لو كانت آلهة لشاركته في جميع صفات الإلهية التي من جملتها القدم، والقدرة على كل مقدور، والعلم بكل معلوم، والمدعون لإلهية الأوثان معترفون بحدوثها، فبطل أن تكون آلهة.
فإن قيل: لا نسلم أن الإله من تحق له العبادة، بل هو من يفزع إليه العباد، ويلجؤون إليه، أو من يتحيرون في معرفة كنه ذاته على ما مر في البسملة.
قيل: لو سلم ذلك فهو حجة عليكم؛ لأنه لا يحصل الفزع، والإلتجاء إلا إلى القادر على الممكنات العالم بالمعلومات، على ما مر في الثانية من مسائل الاستعاذة، ولا يتحير العباد إلا فيما لم يمكن معرفة كنه ذاته، وليس ذلك إلا الله تعالى، وأما الأوثان فمعرفة ذواتها ممكنة، بل هي عند المتخذين لها مشاهدة مركبة.
الوجه الثاني: أن تسميتها آلهة وعبادتها تعظيم لها، وهي لاتستحق التعظيم،وقد ثبت أن تعظيم من لا يستحق التعظيم قبيح كما مر في الفاتحة.
فإن قيل: لا نسلم أنها لاتستحق التعظيم.
قيل: التعظيم لا يكون إلا لأمر صدر من المعظم، وذلك الأمر إما نعمة عظيمة لا يقدر عليها غير ذلك المنعم كالإنعام بأصول النعم، وفروعها التي لايقدر عليها إلا الله تعالى، وهذا هو الذي يستحق به العبادة، أو امتثال وانقياد للمنعم، وخضوع وتذلل له، وهذا هو الذي يستحق لأجله التعظيم بالإجلال والثواب، وعلو المنزلة كما يفعل الله بالمؤمنين في الجنة، أولإنعام غيركامل كتربية الأولاد، والإحسان إلى الغير،وهذه النعم لا شك أن المنعم بها يستحق ضرباً من التعظيم،ولذا وجب بر الوالدين، وشكر المحسن على إحسانه، لكن لا يبلغ بهذا التعظيم مبلغ العبادة وهو نهاية الخضوع والتذلل، وليس ثمة قسم رابع يستحق به التعظيم، وهذه الأوثان لا تستحق التعظيم بوجه من هذه الوجوه، فوجب قبح عبادتها، وتعظيمها، وتسميتها آلهة، وقد نبه الله على هذا بما حكاه عن إبراهيم الخليل عليه السلام من قوله: {يَاأَبَتِ لِمَ تَعْبُدُ مَا لاَ يَسْمَعُ وَلاَ يُبْصِرُ وَلاَ يُغْنِي عَنْكَ شَيْئا}[مريم:42].
واعلم: أن هذا الوجه والوجه الأول قد دل عليهما قوله: {اعْبُدُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ ...}الآية[البقرة:21] فإن فيها إشارة إلى هذين الدليلين، وهما أنه لايستحق الإلهية والعبادة إلا من ثبتت له حقيقة الإله، وهو المنعم بأصول النعم وفروعها المدلول عليها بقوله: {الَّذِي خَلَقَكُمْ...} إلى {وَأَنزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً...} الآية[البقرة:22]، وأنه لا يستحق التعظيم إلا الموصوف بتلك الصفات، ولذا قال: {فَلاَ تَجْعَلُوا لِلَّهِ أَندَاداً}[البقرة:22] فإن معناها الذي يقتضيه السوق والذوق {فَلاَ تَجْعَلُوا لِلَّهِ أَندَاداً} فتعظموها بالعبادة وتسميتها آلهة، وليس لذلك التعظيم وجه يقتضيه، ولا دليل يدل عليه. والله أعلم.
الوجه الثالث: أن الأدلة السمعية قد دلت على أن هذه الأوثان ليست بآلهة، وهي أدلة معلومة، ومنها ما نحن بصدده كما قررناه آنفاً.
تنبيه [في إبطال القول بإثبات قديم ثان]
ما تقدم من الأدلة على إبطال القول بقديم ثان فهي أدلة عامة متناولة لإبطال قول كل من يثبت قديماً ثانياً مع الله تعالى من جميع فرق الكفر، وأما الكلام على إبطال قول كل طائفة على انفراده فسيأتي في مواضعه؛ لأن الله تعالى قد ذكر النصارى والصابئين والمجوس في القرآن، وأخبر بكفرهم وعنادهم، فتأخير الكلام على كل طائفة إلى موضع ذكرها هو اللائق والأنسب كما لا يخفى، ولنتكلم في هذا الموضع على مذهب الثنوية على سبيل الاختصار فنقول: لنا على نفي قدم النور والظلمة أدلة كثيرة:
أحدها: أنهما عرضان على الخلاف، والأجسام والأعراض محدثة، وقد دللنا على حدوثها في مسائل الحمد لله رب العالمين.
الثاني: أنهما متضادان إذا حضر أحدهما زال الآخر، ويحضر أحدهما بزوال ضده، ومازال وتغير بغيره فهو ضعيف عاجز، والعجز من صفات المحدثين.
الثالث: أن كل ماله أول وآخر فهو محدث؛ لأن القديم هو الذي لا أول لوجوده، ولا انتهاء لبقائه، والنور والظلمة لهما أول وآخر، ولهذا يقال أول النهار وآخره، وأول الليل وآخره.
الرابع: أنهما لو كانا قديمين وكان أحدهما قادراً لذاته وجب في الآخر أن يكون مثله، فيكون الخير والشر مقدورين لهما جميعاً، وهذا يوجب أن يستغنى بأحدهما عن الآخر.
الخامس: أن القول بقدمهما يوجب أن يكون كل منهما في جهة صاحبه، بل يكون كل منهما في جميع الجهتين؛ إذ لا مخصص، وأما إبطال القول بأنهما موجبان فمن وجوه:
أحدها: أن بعض أصحابنا ذهب إلى أنهما جسمان، واستدل على ذلك، وإذا كانا كذلك فالأجسام لا توجب.
الثاني: أن بعض العالم أجسام، والأجسام لا يجوز أن تكون موجبة عن غيرها؛ لأن الموجبات محصورة.
الثالث: أنهما لوكانا موجبين للزم حصول العالم الخير والشر دفعة واحدة، بل يلزم قدم العالم؛ لأن الموجب لايتراخى عن الذي أوجبه.
الرابع: أن إيجابهما لا يخلو إما أن يكون إيجاب العلل، أو إيجاب الأسباب، أو إيجاب الطبع وكلها باطلة.
أما الأول: فلأنه يلزم عليه قدم العالم.
وأما الثاني: فلأن العالم متحيزات وأعراض، ولا يجوز أن تكون مسببة عن غيرها.
وأما الثالث: فلأن الطبع غير معقول .
الخامس: أنهما لو كانا موجبين لبطل المدح والذم، والأمر والنهي؛ لأن الخير إذا كان حاصلاً عن النور على جهة الإيجاب فلا فائدة في الأمر به، ولا المدح عليه، وكذلك الشر إذا كان حاصلاً عن الظلمة فلا فائدة في النهي عنه، ولا الذم عليه، وأيضاً عند بعضهم أن الظلمة غير قادرة ولا حية، فكيف يتصور منها النهي.
السادس: أنهما عندهم يستحقان المدح والذم على ما يصدر منهما، والقول بالإيجاب ينافي ذلك الاستحقاق.
وأما إبطال قولهم: بأن النور مجبول على الخير والظلمة على الشر فمن وجوه:
أحدها: أنهم بنوا ذلك على أن الخير ما تستلذه النفوس، والشر ما تنفر عنه وليس كذلك، وإنما الخير ما يستجلب به النفع، ويستدفع به الضرر، والشر عكسه، ورب مشتهى يأتي بمضار كثيرة، ورب منفور عنه يأتي بمنافع عظيمة.
الثاني: أن الظلمة قد يحصل منها خير وشر، والنور قد يحصل منه خير وشر، وذلك معلوم، وقد أشرنا إلى شيء من ذلك في الفاتحة.
الثالث: أن الواحد منا يصدر عنه الخير والشر ضرورة، فإن قالوا: جميع ذلك فينا من النور أو من الظلمة، بطل قولهم أنه لا يصدر من النور إلا الخير، ولا من الظلمة إلا الشر، وإن قالوا: الخير من النور، والشر من الظلمة، أبطله توجه المدح والذم إلى جهة واحدة، وفاعل واحد.
الرابع: أنه يلزمهم أن يكون الشيء الواحد حسناً قبيحاً، وخيراً وشراً في حالة واحدة؛ لأنه قد يكون طعم واحد يشتهيه شخص، وينفر عنه آخر في حالة واحدة.
وأما الكلام على القائلين بأن النور والظلمة امتزجا فتولد منهما العالم فنقول: امتزاجهما إما أن يكون على جهة الوجوب، أوعلى جهة الجواز الأول باطل، وإلالزم حصوله في الأزل فيكون قديماً فلا يحتاج إلى مازج؛ لأن القديم لا يحتاج إلى مؤثر، والثاني باطل أيضاً؛ لأن حصوله إما أن يكون من مؤثر على جهة الاختيار فهم لا يقولون به، ولو قالوا به لقيل: فهلاَّ صح من هذا الذي مزجهما أن يفعل الخير والشر باختياره، ولا حاجة إلى ثانٍ وثالث، وإما أن يكون على جهة الإيجاب فالموجب إما أن يكون قديماً أو محدثاً، باطل أن يكون قديماً؛ لأنه ليس بأن يمزجهما بأولى من أن يمزجه أحدهما بالآخر، فإن لاذوا بالطبع فهو غير معقول، وإن كان محدثاً فهم لايقولون به؛ ولأن الحوادث كلها لا تحصل إلا بعد اجتماعهما فيؤدي إلى التوقف.
وأما الكلام على الديصانية فهو داخل في جملة ما أبطلنا به قدم النور والظلمة وإيجابهما، ونخصهم هنا بوجه واحد وهو أن الظلمة إذا كانت فاعلة للشر فلا بد أن تكون قادرة حية، فكيف يصح أن تكون مواتاً، ثم أنهما عندكم قديمان، فيجب أن يشتركا في سائر الصفات، وأما ما يخص المرقيونية فقد تقدم إبطاله قريباً حيث أبطلنا القول بالامتزاج، ونزيده تأييداً وتوضيحاً بأن نقول: هذا الثالث إن كان قديماً لزم أن يكون مماثلاً للنور والظلمة في جميع الصفات الذاتية، فإن كان أحدهما قادراً وجب أن يكون الآخر قادراً، وهذا الثالث قادراً، وهذا يؤذن بوقوع الاستغناء به عنهما، وإن كان محدثاً فقد أبطلناه، وسائر أقوال الثنوية التي حكيناها فدليل إبطالها داخل فيما تقدم من الأدلة العامة، وكذلك فيما تقدم من الأدلة الخاصة في مواضع الاتفاق بينهم، وأما قول المجوس فنرجي الكلام عليه فيما يخصه إلى الموضع اللائق به.
الموضع الثالث: في شبه الخصوم قد ذكرنا فيما تقدم أن الله تعالى قد ذكر منهم طوائف في القرآن العظيم، وإنا نؤخر الكلام على بيان مذاهبهم، وإبطالها إلى تلك المواضع، وكذلك نقول في تأخير الشبه التي تعلقوا بها، وإبطالها إلا من عدا المجوس من الثنوية فإنا نذكر لهم شبهتين:
الشبهة الأولى: أن الملاذ كلها حسنة، والآلام كلها قبيحة، وما كان حسناً فهو خير، وما كان قبيحاً فهو شر، وإن الخير والشر ضدان فاستحال وقوعهما من واحد كما يستحيل التسخين والتبريد، والتبييض والتسويد من واحد، فلا بد من أصلين، ويزيده وضوحاً أن النار يصدر عنها التسخين ولا يصدر عنها ضده الذي هو التبريد، وكذلك الثلج لا يصدر عنه إلا التبريد.
والجواب: أنا لانسلم أن الملاذ كلها حسنة، ولا أن الآلام كلها قبيحة، بل في كل منهما ما يحسن ويقبح؛ لأن حسن الفعل وقبحه إنما يكون لوقوعه على وجه، ولهذا فإنه يحسن تحمل المشقة لطلب العلوم والأرباح، وفعل الحجامة والفصد طلباً للنفع، ويقبح منا الانتفاع بالأشياء المغصوبة مع عدم المشقة في ذلك.
قولكم: الخير والشر ضدان.
قلنا: لا نسلم ذلك، بل هما من جنس واحد كما بينا، وإنما يفترقان باعتبار الوجوه التي تقع عليها الأفعال، ألا ترى أن الفصد يقبح إذا وقع ممن لاينتفع به، ويحسن إذا وقع من المنتفع، سلمنا فوجود الضدين يصح من الفاعل المختار على جهة التعاقب أو مع اختلاف المحل فإن الجسم الواحد يتعاقب عليه السواد والبياض، وبعد فإنه يجوز في الفاعل الواحد أن يكون موصوفاً بالخير والشر في وقتين، فهلا جاز منه أن يفعل الألم في وقت واللذة في آخر فلا يحتاج إلى فاعلين، ثم إن عمدتهم في هذا قياس الفاعل على العلة، وهو باطل لظهور الفارق، فإن هذا مختار وهي موجبة.
الشبهة الثانية: أن الفاعل المختار لا يفعل إلا لنفع نفسه أو دفع مضرة عنه، والقديم يستحيل عليه ذلك، فيلزم أن لا يكون ثمة قديم مختار، بل ذو طبع، وإذا كان موجباً لم يوجب الضدين فلا بد من أصلين.
والجواب: بل يصح أن يفعل للحسن فقط كما مر في الفاتحة، وأول هذه السورة، فلا مانع من قديم مختار.
واعلم: أن أصحابنا قد ألزموا الثنوية بإلزامات لا محيص لهم عنها، منها: أن أحدنا يعلم أنه كاذب فمن الذي يعلم ذلك، فإن قالوا: النور فقد وصفوه بالكذب وهو شر، وإن قالوا: الظلمة فقد وصفوها بالخير وهو العلم،وليس لهم أن يقولوا إن العالم أحدهما والكاذب الآخر؛ لأن كلامنا في شخص واحد، ومنها: أن أحدنا يسيىء، ثم يعتذر فمن المسيىء ومن المعتذر، فإن قالوا: النور فقد وصفوه بخصلة من خصال الشر وهي الإساءة، وإن قالوا: الظلمة فقد وصفوها بخصلة من خصال الخير وهي الاعتذار.
فإن قالوا: المعتذر النور، والمسيء الظلمة.
قلنا: قد وصفتم النور بالشر؛ لأن الاعتذار من غير إساءة قبيح.
فإن قالوا: لا نسلم القبح، فإن الوالد يعتذر من إساءة ولده، والراكب من رفس فرسه والإساءة منهما.
قلنا: بل الوالد يعتذر من إساءته بترك تأديب ولده، والراكب يعتذر من إساءته حيث لم يحفظ دابته، ومنها أن الواحد منا يغصب ثم يرد فمن الغاصب، ومن الراد فإن قالوا:النور،قلنا:فقد وصفتموه بالشر وهو الغصب، وإن قالوا الظلمة، قلنا: فقد وصفتموها بالخير وهو الرد.
وهاهنا شبهة سمعية يتمسكون بها وهي: قوله تعالى: {اللَّهُ نُورُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ}[النور:35].
والجواب: أن الاستدلال بالقرآن لايصح إلا بعد القول بتو حيد الله وعدله، وأنتم لا تقرون بذلك، ثم إن معنى الآية الله منور السموات والأرض فأقام المصدر مقام اسم الفاعل للمبالغة، ونظائره كثيرة: كعدل بمعنى عادل، وهدى بمعنى هاد يؤكده إضافة النور إلى نفسه في قوله: {مَثَلُ نُورِهِ} إذ المضاف غير المضاف إليه، ولا يصح التغاير إلا على ماقلناه من التأويل. والله أعلم.
تنبيه [في إلزام المجبرة بإثبات المعاني القديمة]
قد مر أن أصحابنا ألزموا المجبرة إثبات الشركاء لله تعالى لقولهم بإثبات المعاني القديمة، وكفرهم بعضهم بهذا الإلزام، وغيره من اللوازم، ولسنا نتكلم هنا إلا في تكفيرهم بإثبات المعاني، وأما تكفيرهم بغيره فسنذكره في مواضعه اللائقة به كما أنا أخرنا ذكر شبههم في إثبات المعاني، وإبطالها إلى غير هذا الموضع، إلا أنا نذكر من قال بكفرهم من أصحابنا، ومن منعه إجمالاً، ثم نتبعه بذكر الخلاف في تكفيرهم بإثبات المعاني، فنقول: اختلف أصحابنا في كفر المجبرة، فقال جمهور المعتزلة، وأكثر أهل البيت، ومن تابعهم من الزيدية: إنهم كفار، وصرح به القاسم والهادي، والناصر، وأبو طالب، والإمام أحمد بن سليمان، والمنصور بالله، وروي عن زيد بن علي، وروى الإمام أبو عبد الله الداعي، والأمير الحسين إجماع أهل البيت" على ذلك، وبالغ بعضهم حتى كفر الشاك في كفرهم والشاك في كفر الشاك، وممن قال: بكفرهم عدلية الإمامية، وذهب إلى عدم كفرهم جماعة من المعتزلة، وهم المتقدمون منهم، ومنهم من متأخريهم محمد بن شبيب، وأبو الحسين، وأبو الفضل بن شروين، وهو مذهب المؤيد بالله، والإمام يحي، وروى بعض السادة عن المؤيد بالله أنه قال: طريقة التكفير والتفسيق السمع إما نص في آية لا يختلف في تأويلها، أو خبر مجمع على صحته لا يختلف في تفسيره، أو إجماع أمة، أو إجماع أهل البيت" وليس يوجد شيء من ذلك في تكفير المجبرة، وحكى الفقيه حميد عنه التصريح بأن الجبر إثم عظيم، وحوب كبير، وفي المعراج عن كتاب الهوسميات الكبير أن رأيه الأول كان تكفيرهم، ولعل هذه الرواية هي مستند ماروي عن الأمير الحسين من أنه صحح عن المؤيد بالله القول بتكفير المجبرة، ونفى عنه القول بعدم كفرهم، ولعل الأمير لم يطلع على رواية عدم التكفير، ورجوع المؤيدبالله إليه من طريق صحيحة، ولو اطلع على هذه الطرق التي حكيناها لم يجزم بنفيها عنه. والله أعلم.
وقد كان الرأي الأول للمنصور بالله عدم تكفيرهم، وصرح به في حديقة الحكمة، ثم رجع إلى القول به، وبالغ فيه، هذا وقد ذكر من قال بكفرهم في تكفيرهم وجوهاً، لكن قال القرشي: إنه لا يمكن القطع بشيء منها على كفرهم؛ لأن أكثر التعويل على القياس وهو لا يكون قطعياً إلا إذا أمكن القطع على علة الكفر في مكان، والقطع على حصولها في مقالة المجبرة، وذلك متعذر في الغالب؛ لأن المرجع بالكفر إلى بلوغ العقاب قدراً عظيماً مع إجراء أحكام مخصوصة، والمجبرة متى كانت تعترف بجمل الإسلام من إثبات الصانع، وعدله، وصفاته، وصدق رسله لم يمتنع أن يكون عقابهم فيما أخطأوا أقل من عقاب من لم يعتقد الإسلام، فلا يمكن القطع بكفرهم.
قلت: أصحابنا يكفرونهم بالإلزام في أكثر المسائل التي كفروهم بها، وقد تقدم الخلاف في التكفير بالإلزام في المسألة الثانية مما يتعلق بقوله تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا سَوَاءٌ عَلَيْهِمْ أَأَنذَرْتَهُمْ أَمْ لَمْ تُنذِرْهُمْ لاَ يُؤْمِنُون}[البقرة:6] وكذلك قد تكلمنا هنالك على التكفير بالقياس، إذا عرفت هذا فمن جملة الوجوه التي كفروهم بها إثبات المعاني القديمة، وتكفيرهم بها من وجوه:
أحدها: إجماع الأمة في الصدر الأول والثاني على أن من أثبت مع الله قديماً آخر فهو كافر، وهو إجماع مستمر حتى نشأ الخلاف وتفرقت الآراء، واتبع الأشعري النجار وابن كلاب فقيل: بهذه المقالة.
قال أبو القاسم البستي: لم يكن خلاف بين الصدر الأول والثاني أن من أثبت قديماً سوى الله وغير الله وليس هو الله فهو كمن أثبت إلهاً ليس هو الله، والمعلوم أن من أثبت إلهاً ثانياً فهو كافر، فكذلك من أثبت قديماً ثانياً، ثم قال ما معناه: إن الصدر الأول كان يقول بذلك حتى حدث قوم من المستضعفين تمسكوا بظواهر القرآن في إثبات القدرة والعلم، حتى وردت عليهم شبه الثنوية والملحدة، وكثير من أعداء الدين فقالوا: نقول ما قال الله ورسوله ولا نتجاوز ذلك، فقيل: إن في القرآن إثبات اليد، والعين، والعلم، والقدرة، فالتزموا ذلك، وأبوا أن يفسروه ويصفوه بشيء من الصفات التي تقتضي لله شريكاً في بعض صفاته، وقالوا: إن كل ذلك صفات لله، والصفات لا توصف.
قالوا: ومن وصفها فقد كفر، فلم يزل ذلك حتى نشأ ابن كلاب بعدهم فأثبت هذه الصفات، فلما سئل عن صفاتها.
قال: مأخوذة ثابتة أزلية وليست بقديمة، وكفر من قال: بقدمها، ورأى أن في وصفها بالقدم خروجاً عن الدين، وعدل إلى وصفها بأنها أزلية؛ بعداً عن اللفظ المستشنع من القول بقديم ثان ليس هو الله، ولم يزل ذلك حتى نشأ ابن أبي بشر الأشعري فنظر في قوله فوجده في نهاية التناقض، وعلم أنه لا فرق بين القديم، والأزلي، ووجد الناس قد أنسوا بقول ابن كلاب فقال: إن صفاته تعالى قديمة، لكن ليست بأغيار له.
قال: ومن قال إنها غيره فقد كفر، ولم يزل كذلك حتى حدثت الكرامية فزعمت أن تلك الصفات إذا لم تكن هي الموصوف، ولاجملة له، ولا بعض، وتفرد بالذكر كما يفرد الموصوف بالذكر فقد حصل حقيقة التغاير، فارتكبوا القول بأنها قديمة أغيار لله تعالى، وزعموا أن الكافر إنما هو من أثبت غير الله إلهاً.
قال الشيخ أبو القاسم البستي: فحدثت هذه المذاهب على هذا التدريج وكل منهم يكفر القائل بخلاف قوله، ويطلب موضعاً للكفر يصرف إليه ما أجمعوا عليه من أن من أثبت قديماً سوى الله تعالى كمن أثبت إلهاً سوى الله تعالى، فإذا كان كذلك، وعرفت أن الإجماع قد انعقد بتكفير من هذا وصفه، ثم حصل الاتفاق من بعضهم على ما بيناه وتكفير بعضهم لبعض وابتداع الأقوال علمنا أنهم كفار بهذه المقالة.
قال: وهذه الطريقة من أقوى ما يتعلق به في تكفير هؤلاء، واعترض هذا الوجه بأنه لا يفيد القطع بكفرهم؛ لأنه يتوقف على تواتر الإجماع على كفر من أثبت مع الله قديماً مستقلاً كان أم غير مستقل، وسواء قالوا إنه مستحق للإلهية أم لا، فأما مع عدم العلم بأنهم قصدوا هذا فلا يكون الإجماع حجة بالاتفاق.
قال القرشي: ولعلهم إنما أجمعوا على كفر من أثبت مع الله إلهاً آخر، والمجبرة وإن لزمهم أن تكون هذه المعاني أمثالاً لله فالكفر لا يثبت بالإلزام.
وقال الإمام المهدي عليه السلام : الظاهر أن المتواتر إنما هو منع القديم المستقل دون ما كان على جهة الصفة، ألا ترى أن أصحابنا يصفون الأحوال بكونها أزلية ولا يتحاشون عن ذلك، ولا فرق بين المعاني، وبينها في كونها غير مستقلة، بل استقلالها مستحيل.
قال: ثم إنا لو سلمنا تواتر الإجماع على إكفار من أثبت مع الله قديماً مستقلاً كان أم غير مستقل، فإن في كون الإجماع حجة قطعية من التشكيكات مالا خفاء به.
وأجيب: بأن المجبرة، وإن لم يجعلوا المعاني مغايرة لله، ولا مستقلة، ولا سموها آلهة، فالقول بالمغايرة والاستقلال والإلهية لازم لقولهم، سواء أقروا به أم لا؛ لأنه لا يعقل في المعنى إلا أنه شيء مستقل مغاير لما اتصف به، وأما أن القول بها يستلزم استحقاقها للإلهية فلما مر من أن المشاركة في صفة من صفات الذات توجب المشاركة في سائر الصفات، ولا اعتبار بقولهم إنها ليست بأغيار لله تعالى بعد ثبوت معنى الغيرية فيها، ألا ترى أن من أثبت الطبع والفلك قديماً مع الله تعالى كان كافراً، وإن قال: لا أصفه بأنه غير الله، لا يقال إنما كفر لأنه أثبت ماليس بصفة بخلاف المجبرة، فإنما أثبتوا الصفة؛ لأنا نقول: المعلوم أن من أثبت علمين قديمين، وقدرتين، وحياتين قديمتين فإنه يكون كافراً وإن كان صفة، فثبت أن العلة في الكفر هو إثبات قديم غير الله، ويشهد لذلك قول الله تعالى: {لَقَدْ كَفَرَ الَّذِينَ قَالُوا إِنَّ اللَّهَ ثَالِثُ ثَلاَثَةٍ}[المائدة:73] ومن كلام علي عليه السلام : (وكمال الإخلاص له نفي الصفات عنه لشهادة كل صفة أنها غير الموصوف، وشهادة كل موصوف أنه غير الصفة، فمن وصف الله تعالى فقد قرنه، ومن قرنه فقد ثناه، ومن ثناه فقد جزأه، ومن جزأه فقد جهله، ومن جهله فقد أشار إليه، ومن أشار إليه فقد حده، ومن حده فقد عده). رواه في النهج، وكلامه عليه السلام نص في تكفيرهم من وجوه ثلاثة:
أحدها: أنه شرط في كمال الإخلاص نفي الصفات عنه، والمجبرة يثبتون الصفات له، وهي المعاني القديمة، وقسيم الإخلاص الشرك، فيلزم منه أن من أثبت الصفات له فهو مشرك، والمشرك كافر، وليس المراد بالإخلاص هنا عدم الرياء الذي هو أحد أنواع الشرك، بل المراد نفي الثاني بشهادة المقام والمقال.
ثانيها: أنه قال: إن من وصفه فقد أثبت له ثانياً، ومن أثبت له تعالى ثانياً فلا شك في كفره ولا نزاع.
ثالثها: أنه حكم عليه بأنه جاهل بالله تعالى، والجاهل بالله كافر إجماعاً، والمراد بالصفات التي يجب نفيها عنه هي صفات المحدثات، وهي هذه المعاني التي يثبتها المجبرة، وإنما حملنا كلامه عليه السلام على ذلك؛ لأنه قد نص في سائر خطبه عليه السلام على أنه يجب وصف الله تعالى بما يستحقه من صفات الكمال والعظمة، وعلى أن المنفي عنه صفات المحدثات، وأن من أثبت قديماً مع الله تعالى من صفاته أو غيرها فقد أثبت إلهاً ثانياً وكلامه يفسر بعضه بعضاً، ثم إنه لو لم يفسر كلامه من كلامه لكان الواجب حمل ماذكره من الصفات المنفية على الباري تعالى على ما ذكرنا؛ لأنه الذي يدل عليه قواطع العقل والنقل، وأمير المؤمنين لا يخالفهما، ولا يجوز عليه الجهل بما يجب إثباته للباري تعالى، وما يجب نفيه عنه، ومن كلامه عليه السلام : (من وصفه فقد حده، ومن حده فقد عده، ومن عده فقد أبطل أزله، ومن قال: كيف فقد استوصفه، ومن قال: أين فقد حيزه عالم إذ لامعلوم، ورب إذ لا مربوب، وقادر إذ لا مقدور) فانظر كيف تضمن أول كلامه هذا المنع من وصف الله تعالى، ثم وصفه في آخره بقوله: (عالم إذ لا معلوم...) إلى آخره، ولا ريب أن كلامه عليه السلام مصون عن التناقض، لا سيما في الإلهيات التي لم يبين مشكلها، ولم يرد على من ألحد فيها، ويكشف عن مساؤئهم قبله أحد من هذه الأمة.
قال العلامة ابن أبي الحديد: اعلم أن هذا الفن هو الذي بان به أمير المؤمنين عليه السلام عن العرب في زمانه قاطبة، واستحق به التقدم والفضل عليهم أجمعين، وذلك لأن الخاصة التي يتميز بها الإنسان عن البهائم هي العقل والعلم، ألا ترى أنه يشارك غيره من الحيوانات في اللحمية، والدموية، والقوة، والقدرة، والحركة الكائنة على سبيل الإرادة والاختيار، فليس الامتياز إلا بالقوة الناطقة أي العاقلة العالمة، فكلما كان الإنسان أكثر حظاً منها كانت إنسانيته أتم، ومعلوم أن هذا الرجل انفرد بهذا الفن وهو أشرف العلوم، لأن معلومه أشرف المعلومات، ولم ينقل عن أحد من العرب غيره في هذا الفن حرف واحد، ولا كانت أذهانهم تصل إلى هذا، ولا يفهمونه، فهو بهذا الفن متفرد، وبغيره من الفنون وهي العلوم الشرعية مشارك لهم وأرجح عليهم، فكان أكمل منهم؛ لأنا قد بينا أن الأعلم أدخل في صورة الإنسانية، وهذا هو معنى الأفضلية، وقال رحمه الله -في معنى قول أمير المؤمنين عليه السلام : (من وصفه فقد حده ...) إلخ-: إن المراد به من أثبت صفة زائدة قديمة قائمة بذاته؛ لأن من أثبت له علماً قديماً أو قدرة قديمة فقد أوجب أن يكون معلومه ومقدوره محدودين أي محصورين، وهذا هو الذي يقوله أصحابنا المتكلمون من أن العلم الواحد لا يتعلق بمعلومين والقدرة الواحدة لا يمكن أن تتعلق في الوقت الواحد من الجنس الواحد في المحل الواحد إلا بجزء واحد، وسواء فرض هذان المعنيان قديمين أومحدثين، فإن هذا الحكم لازم لهما، فثبت أن من أثبت المعاني القديمة فقد أثبت الباري تعالى محدود العالمية والقادرية، ومن قال بذلك فقد عده من جملة الأشياء المعدودة من البشر وسائر الحيوانات، ومن قال بذلك فقد أبطل أزله؛ لأن المماثل للمحدث محدث، هذا حاصل كلام الشارح رحمه الله.
قلت: فعلى هذا من أثبتها للباري تعالى فقد نفى قدمه، وشبهه بخلقه، ومن قال بذلك فهو كافر.
وقال علي عليه السلام في وصف الباري تعالى: (المتعالي عن الأشباه والضروب، علام الغيوب، فمعاني الخلق عنه منفية، وسرائرهم عليه غير خفية). رواه أبو طالب، وقد تقدمت الخطبة بكمالها في أول هذه السورة في المسألة السابعة، ولنذكر هنا سندها:
قال أبو طالب: أخبرنا أبو العباس الحسني، أنا الفضل بن العباس الكندي، ثنا محمد بن سهل، ثنا عبد الله بن محمد البلوي، ثنا عمارة بن زيد، عن عبد الله بن العلاء، عن صالح بن سميع، عن عمر بن صعصعة، عن أبي ه، عن أبي المعتمر، قال: حضرت مجلس أمير المؤمنين عليه السلام في جامع الكوفة، فقال: يا أمير المؤمنين صف لنا خالقك... إلى آخر ما مر.
والفضل قال في الجداول: هو الفضل بن الفضل بن العباس الكندي، وشيخه هو محمد بن سهل بن ميمون العطار.
روى عنه أبو الشيخ وغيره.
والبلوي هو: أبو أحمد المدني، أخذ عنه الناصر عليه السلام .
وأما عمارة فذكره في الجداول ولم يبين حاله، وأما ابن العلاء فقد مر توثيقه.
وأما أبو المعتمر فهو: الحسين بن المعتمر، ويقال بن ربيعة بن المعتمر الكناني، وثقه الحاكم، وقيل: صدوق له أوهام.
وقوله عليه السلام : (فمعاني الخلق عنه منفية) نص في أن المنفي عنه تعالى صفات المحدثات، وقد عرفت أن إثبات المعاني القديمة له تعالى تؤدي إلى وصفه بصفات الحدوث؛ لأن المعاني لا تكون إلا للمحدثين.
وقال عليه السلام : (تعالى عما ينحله المحددون من صفات الأقدار، ونهايات الأقطار، وتأثل المساكن، وتمكن الأماكن، فالحد لخلقه مضروب، وإلى غيره منسوب). رواه في النهج.
وقال عليه السلام : (هو الذي خلق الخلائق على غير مثال امتثله، ولامقدار احتذى عليه من خالق كان قبله، بل أرانا ملكوت قدرته، وعجائب ما نطقت به آثار حكمته، واعتراف الحاجة من الخلق إلى أن يقيمهم ببليغ قوته، مادلنا باضطرار قيام الحجة له علينا إلى معرفته، لم تحط به الصفات فيكون بإدراكها إياه بالحدود متناهياً، وما يزال هو الله الذي ليس كمثله شيء عن صفة المخلوقين متعالياً). رواه أبو طالب.
وكلماته عليه السلام في هذا المعنى كثيرة، وكلها دالة على أن الواجب نفيه عنه هو ما يوجب تحديداً أو تشبيهاً، ألا ترى ما في كلامه عليه السلام من وصفه بالقدرة والقوة والعلم وغيرها من الأوصاف التي تليق به، وقد ذكر عليه السلام في غضون خطبه ما يدل على أن استحقاقه لهذه الصفات ليست كاستحقاقنا لصفاتنا، وتقدم كلمات كثيرة له عليه السلام في هذا الكتاب دالة على إثبات الصفات له عليه السلام ؛ إلا أن العقول لاتهتدي إلى معرفة كنه صفته، وأصرح من هذا كله قوله عليه السلام في الملائكة: (لا يتوهمون ربهم بالتصوير، ولا يجرون عليه صفات المصنوعين). رواه في النهج، وأصرح منه قوله عليه السلام : (فمن وصفه فقد شبهه، ومن لم يصفه فقد نفاه، وصفته أنه سميع ولا صفة لسمعه). رواه في (البدر الساري) إذ لايصح توارد النفي والإثبات على معنى واحد، فوجب حمله على أن المراد به أنه لايجوز وصفه بمعنى يقتضي التشبيه، ولا يجوز الإمساك عن وصفه بما يقتضي التنزيه والتعظيم، ومعلوم أن المعاني من صفات المخلوقين، فمن وصفه بها فقد شبهه، ألا ترى إلى قوله: ولا صفة لسمعه.
تنبيه [في أن عدم الخوض في صفات الباري من صفات المستضعفين]
قد تقدم في كلام أبي القاسم البستي أن القول بالإمساك عن الخوض في صفات الباري ووجوب إجراء ما ورد في الكتاب، والسنة منها على ظاهره من دون تفسير ولا تشبيه إنما هو قول قوم من المستضعفين، والذي ذكره غيره أن ذلك قول السلف قاطبة، وأنهم كانوا يمرون أدلة الصفات على ظاهرها، ولا يتكلفون علم ما لم يعلموا ولا يتأولون.
قال بعض المتأخرين: وهذا المعلوم من أقوالهم وأفعالهم، والمتقرر من مذاهبهم لا يشك فيه شاك، ولا ينكره منكر، وقال السيد محمد بن إبراهيم الوزير في (إيثار الحق) مالفظه: فالفريقان من المشبهة والمعطلة إنما أتوا من تعاطي علم ما لايعلمون، ولو أنهم سلكوا مسالك السلف في الإيمان بما ورد من غير تشبيه لسلموا، فقد أجمعوا على أن طريقة السلف أسلم، ولكنهم ادعوا أن طريقة الخلف أعلم، فطلبوا العلم من غير مظانه، بل طلبوا علم مالم يعلم، فتعارضت أنظارهم العقلية، وعارض بعضهم بعضاً في الأدلة السمعية، فالمشبهة ينسبون خصومهم إلى رد آيات الصفات ويدعون فيها ماليس فيها من التشبيه، والمعطلة ينسبون خصومهم وسائر أئمة الإسلام جميعاً إلى التشبيه، ويدعون في تفسيره ما لا تقوم عليه حجة، والكل حرموا طريق الجمع بين الآيات والآثار، والاقتداء بالسلف الأخيار، والاقتصار على جليات الأنظار، وصحاح الآثار، ثم احتج على ذلك بما في أمالي أبي طالب من قول علي عليه السلام : (فعليك أيها السائل بما دل عليه القرآن من صفته...) وقد تقدم نحوه من رواية النهج، والجامع الكافي.
قال السيد محمد بن عز الدين المفتي بعد أن ذكر كلام الناس في الصفات:وعندي في ذلك الوقف وهو ترك الخوض في تفصيل تلك الصفات،وحقائق تلك المسميات لماورد من النهي عن التفكر في الذات بالنص، قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم كما رواه المتكلمون: ((تفكروا في الخلق ولا تفكروا في الخالق فإنكم لن تقدروا قدره)) وهذا يعم التفكر في ذاته وصفاته، سواء جعلت تعبيراً أو غير ذلك على وجه التعمق وإدراك الكنه، ثم احتج من كلام الوصي عليه السلام بما قد ذكرنا كله أو بعضه في مواضع من كتابنا هذا مما يدل على أن صفات الله تعالى لا تدرك كما لاتدرك ذاته، وأنه يكتفى بما دل عليه القرآن، أوثبت في السنة، أو أجمع عليه أئمة الهدى من الصفات، ومن النهي عن تكلف فهم ما ليس علينا فيه تكليف، وهذا كله هو معنى القول بالإمساك عن الخوض في تفاصيل تلك الصفات، وقال أيضاً وقد نفاها -يعني الصفات- قوم فعطلوا، وأثبتها آخرون فجسموا، وخرجوا إلى ضرب من التشبيه والتكييف، والفصل سلوك الطريقة الوسطى فدين الله بين المقصر والغالي.
والكلام في الصفة فرع إلى الكلام في الذات، فإذا كان المعلوم أن إثباته تعالى إثبات وجود لا إثبات كيفية، وكذلك إثبات صفاته فإنماهو إثبات وجود لاإثبات تحديد وتكييف، وإنما وجب الإيمان بها؛ لأن السمع أثبتها، ووجب نفي التشبيه لقوله تعالى: {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ}[الشورى:11]والتفكر في الصنع هو المفيد للتوحيد، والتفكر في الصانع يؤدي إلى التحديد، وقد أرشد إلى ذلك إمام كل إمام أمير المؤمنين عليه السلام حيث قال: (التوحيد أن لاتتوهمه وهذ ملاك الأمر كله) واحتج أيضاً بقوله عليه السلام : (إن كنت صادقاً أيها المتكلف لوصف ربك فصف جبريل وميكائيل وجنود الملائكة والمقربين في حجرات القدس مرجحنين، متولهة عقولهم أن يحدوا أحسن الخالقين، وإنما يدرك بالصفات ذو الهيئة والأدوات). رواه في النهج، واحتج بغيره من كلام الوصي عليه السلام ثم قال: وفي الجامع الكافي عن قدماء آل محمد نحو هذا.
قلت: وقد ذكرنا شيئاً من كلامهم وكلام غيرهم فيما نحن فيه في أول هذه السورة في المسألة السابعة، وهو الذي يقضي به قول الرازي هنالك، ويدل عليه ما مر في مسألة النظر من أن المعرفة الإجمالية كافية، وهذا قول أهل الحديث وهو الظاهر من مذهب المنتسبين إلى السنة والجماعة في هذه الأعصار المتأخرة. والله أعلم.
تنبيه
قد مر أن القرشي ألزم المجبرة بأنهم إذا لم يقولوا بأن المعاني أغيار لله لزمهم أن تكون هي هو فتكون مستحقة للعبادة، وهذه هفوة منه وغفلة، وسبب ذلك التجافي عن علوم قدماء آل محمد" والجهل بها، وإلا فهذا مذهب عيون قدماء آل محمد (صلوات الله عليهم) وممن نص على ذلك وصرح به القاسم بن إبراهيم في جواب مسألة الطبريين فقال: إنما صفته سبحانه وتعالى هو، وكذلك الهادي عليه السلام في كتاب الديانة، ورواه السيد حميدان عن العترة، والشرفي في شرح الأساس عن قدمائهم جميعاً، فكيف يتجاسر القرشي على إلزام المجبرة الكفر، إن قالوا بما قال أئمة العترة وهو يزعم أنه مقتف لآثارهم،مقتد بهداهم،ومن أين جهة اللزوم الذي ذكره والقائلون إن صفاته تعالى ذاته لايثبتون أمراً زائداً على الناس حتى يمكنه القول بأنها تكون مستحقة للعبادة، وإنما يلزم ذلك لو قيل بالتغاير،ولا يتصور إثبات أمر زائد على القول بأنها هي هو لما فيه من التناقض، فهذا الإلزام صادر عن غير روية ولافكر، والمراد بقولهم" إن صفات الله تعالى هي ذاته أنه قادر وعالم بذاته، وحي بذاته لا بأمر زائد على الذات، والمعنى أنه ليس إلا ذاته جل وعلا. ذكره في الأساس وشرحه، وهو معنى قول بعضهم إن معنى كونه قادراً عالماً أنه تعالى ذات لها مقدور ومعلوم، ومعنى كونه حياً أنه ذات لا يستحيل أن يقدر ويعلم ونحو ذلك.
قال في البدر الساري: فكلما أخبر الله تعالى به عن ذاته وما لها من الأسماء والصفات هو حقيقة ذاته المقدسة إجمالاً، وليس شيء منها مثل المسميات في الدنيا لكن الإخبار عن الغائب لايتم إن لم يعبروا عنه بالأسماء المعلوم معانيها في الشاهد ليعلموا بها ما في الغيب بواسطة العلم بما في هذا الشاهد، مع القطع بالفارق المميز، وبما ذكرنا وحققنا به معنى القول بأن صفات الله تعالى هي هو نعلم أنه لا وجه للالزام الذي ذكره القرشي، ولو أجال نظره في كتب سادته وأئمته لما تجاسر على هذا القول. والله المستعان.
الوجه الثاني: مما كفَّر به أصحابنا المجبرة لأجل قولهم بإثبات المعاني القديمة أنه قد ثبت أن القادر بالقدرة لا يقدر على فعل الأجسام والألوان، وكثير من الأجناس، والعالم بالعلم لا يعلم جميع المعلومات، والقول بالمعاني يقتضي الجهل بكونه تعالى قادراً على أجناس المقدورات، عالماً بجميع أجناس المعلومات، والجهل بالله تعالى كفر، واعترض بأن الجهل بصفات الله تعالى إنما يكون كفراً مع إنكارها، وأما مع الاعتراف بثبوتها فلا؛ لأنه لا دليل على كفر من أثبت صفات الله وجهل بعض أحوالها، وإلا للزم إكفار كثير من شيوخ المعتزلة، فإنه ما من أحد منهم إلا وقد قال في صفات الله تعالى بمقالة هي جهل لشدة الاختلاف بينهم، والحق فيها مع واحد.
وأجيب: بأن جهل المجبرة جهل لا يتمكنون معه من العلم بصفات الله تعالى على الكمال؛ لأنهم أثبتوا معنى قديماً، وإثباته يمنع من العلم بالصفات على الوجه الذي يجب أن تعلم عليه، بل يمنع العلم بها أصلاً، فإن من اعتقدها معاني قديمة فقد اعتقدها على خلاف ماهي به وذلك جهل، والجاهل بالشيء لايوصف بأنه عالمٌ به لاجملة ولا تفصيلاً، ولا ينفعهم اعترافهم بثبوت صفات غير ثابتة، ويدل على ذلك ما مر من قول علي عليه السلام ومن جزأه فقد جهله، وأما المعتزلة فلم يثبتوا أمراً معقولاً يلزم منه حدوث الباري تعالى، وإثبات قديم آخر معه، ولذا ألزمهم في الأساس وغيره بتلاشيها.
الوجه الثالث: أن الله تعالى إنما كفر النصارى بقولهم: {إِنَّ اللَّهَ ثَالِثُ ثَلاَثَةٍ}[المائدة:73] لأجل أنهم أثبتوا قدماء مع الله تعالى يوضحه أن أكثرهم يقول ذات وصفات والمجبرة أدخل منهم في ذلك، ولهذا قيل: لبعضهم إذا كنت موافقاً للنصارى فلم كفرتهم.
قال: لأنهم نقصوا عن الواجب واقتصروا على الثلاثة، واعترض بأن كفر القائلين بالمعاني لا يصح أخذه من ظاهر الآية؛ لأن الله تعالى إنما كفر النصارى لقولهم ثالث ثلاثة، والمجبرة لا تطلق ذلك، وأيضاً النصارى تعتقد إلاهية الثلاثة بخلاف المجبرة، ولا يصح تكفيرهم بالقياس، فيقال: إن الله إنما كفر النصارى لإثباتهم قدماء مع الله تعالى على الإطلاق؛ إذ لا يمكن القطع بأن ذلك هو العلة فقط فإن من الجائز أن تكون العلة هي ذلك مع اعتقادهم استحقاقها للعبادة كما هو ظاهر حالهم، وأما ما يحكى عن بعضهم من أنه إنما كفرهم؛ لأنهم نقصوا الواجب فإن صح هذا عنه فلاشبهة في كفره؛ لأن ظاهره يقتضي أن الحق عنده أنَّ الله تعالى ثامن ثمانية أي ذات وسبع صفات.
وأجيب: بأن ظاهر الآية يدل على أن علة كفر النصارى هو إثبات قدماء مع الله تعالى، ويؤيده قوله: {وَمَا مِنْ إِلَهٍ إِلاَّ إِلَهٌ وَاحِدٌ}[المائدة:73] ولا يجوز العدول عن الظاهر إلا لدليل، ولا دليل هنا، وقد مر أن الظاهر إذا عضده غيره يصير قطعياً، وهذا الظاهر يعضده العقل والنقل، وقدعرفت ما مر عن الوصي قريباً، ومن كلامه عليه السلام في القرآن: (لو كان قديماً لكان إلهاً ثانياً). رواه في النهج، فجعل إثبات الإلاهية لازم لإثبات القدم، ومن أثبت إلهاً ثانياً فهو كافر بالإجماع.
الوجه الرابع: أن القول بالإرادة القديمة يقضي بأن يكون مريداً لجميع الكائنات وفيها ما هو قبيح، ومن وصف الله بإرادة القبيح فقد وصفه بصفة نقص، وذلك كفر، واعترض بأن المجبرة لم تجعل القبائح مستندة إلى إرادة الله تعالى من حيث أنها قبيحة؛ لأن القبيح عندهم هو المنهي عنه، وذلك مما لايتعلق بالإرادة، بل كلما صدر عن الله تعالى فهو حسن عندهم، وهذا قد اعتقدوه عذراً، وفروا به من الكفر، فلا يمكن القطع بكفرهم مع اجتهادهم في دفعه.
وأجيب: بأن الدليل القاطع قد دل على أن إرادة القبيح قبيحة، وأنه يقبح من الله تعالى ما يقبح من غيره لو فعله، وأن من وصفه تعالى بصفة نقص فهو كافر ولم يفصل، ولو كان اعتقادهم عذراً لهم لكان اعتقاد المجسمة والمشبهة، بل وسائر فرق الكفر عذراً لهم فلا يوجد كافر إلا المعاند، والمعلوم خلافه.
الوجه الخامس: أن القول بالمعاني القديمة يقتضي القول بحاجة الله تعالى إلى غيره؛ لأن عندهم لولا هي لما وجد الباري تعالى، أو لكان ناقصاً، وليس الحاجة بأكثر من أن يقف الشيء في وجوده أو كماله على غيره، واعترض بأن ما يقوله من أثبت الأحوال من العدلية تقوله المجبرة في المعاني.
وأجيب: بأن من أثبت الأحوال لم يثبت أمراً مستقلاً بالمعلومية، ولذا قيل: بتلاشيها، ولا ينفع من أثبت المعاني اعتقادهم أنها غير مستقلة؛ لأنهم اعتقدوا ثبوت مالو كان ثابتاً في نفس الأمر لكان مستقلاً، بل كان إلهاً ثانياً كما قال: باب مدينة العلم.
الوجه السادس: أنه يلزمهم أن تكون أمثالاً لله تعالى لمشاركتها له في صفة ذاتية وهي القدم، ويلزمهم أيضاً تشبيه غير الله تعالى به جل وعلا، وذلك كفر، واعترض بأنهم لا يلتزمون كونها أمثالاً لله تعالى، وأما التشبيه فالظاهر من اصطلاح الناس أنه لا يطلق إلا على من شبه الله بغيره لا على من شبه غير الله به ثم إنهم لا يلتزمونه.
وأجيب: بأنه لايشترط الالتزام مهما كان اللازم بيناً، وما ذكرتموه من الاصطلاح لا ينفع لعدم الفارق، على أنا لانسلمه، فإن في كلام علي عليه السلام وهو رأس المتكلمين ما يدل على خلافه.
فائدة [في تعريف المجبرة]
قال الإمام عز الدين عليه السلام : لفظ المجبرة اسم لهذه الفرقة التي يجمعها القول بأن الوجود في الأفعال يستحيل تعليقه بقدرة العبد، وأنه مضاف إلى قدرة الله تعالى،وأَن الذي يضاف إلى قدرة العبد إما الكسب، وإما غيره على اختلاف فيه بينهم، والمراد بقولنا رجل مجبر أنه صار ذا قول بالجبر، كقولك مريب إذا صار ذا ريبة، وكذلك إذا قلت: أجبر الرجل، وأما قولنا جبري فمنسوب إلى الجبر كنمري وليثي.
قال الإمام يحيى: وفائدة وصفنا لهم بهذين الوصفين، إما على معنى أن الله خلق فينا جميع الأفعال كلها، وإما على معنى أنه خلق القدرة وهي موجبة للفعل، فمن قال بأحد هذين القولين صدق عليه هذان الوصفان مجبر وجبري، ثم قال: الصحيح أن إطلاق هذين الوصفين إنما يكون باعتبار أمر جامع لهم في الجبر؛ لأنهم أجمعوا عن آخرهم واتفقت كلمتهم على أن الوجود في الأفعال يستحيل تعليقه بقدرة العبد، وأنه مضاف إلى قدرة الله تعالى.
فائدة [في العلم بنفي الثاني وفرضه على الأعيان]
العلم بهذه المسألة -أعني مسألة نفي الثاني- من فروض الأعيان.
قال الإمام المهدي عليه السلام : الواجب على المكلف من جهة العقل إنما هو معرفة الله وعدله وحكمته لكونها لطفاً، فماظهر من الصفات له حظ في اللطفية أو تكملة بما هو لطف وجبت معرفته عقلاً، وما لم يظهر فيه شيء من ذلك فلا طريق للعقل إلى القطع بمعرفته، ثم هذا القسم نوعان:
أحدهما: إما أن يعلم وجوب معرفته من ضرورة الدين كنفي الثاني، فنقطع أن في ذلك مصلحة كسائر الواجبات السمعية.
والثاني: أيضاً نوعان:
أحدهما: إما الدليل على ثبوته مع العقل نص متواتر كما في سامع مبصر، وإنما وجبت معرفته لوجوب معرفة مقاصد خطاب الله تعالى فيكون فرض كفاية.
والثاني: لا نص فيه، ولا دليل على وجوب معرفته نحو كون صفة الوجود زائدة على الذات أم لا، فهذا لا دليل على وجوب معرفته لاعقلاً ولا سمعاً إلا بتخيل بعيد.
قال عليه السلام : وأما نفي الجسمية ونفي الحاجة فمن فروض الأعيان، وأما نفي الرؤية ففيه تردد.
المسألة الخامسة عشرة [في معرفة الله وهل هي ضرورية]
قد يتمسك بقوله تعالى: {وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ} على أن معرفة الله تعالى ضرورية؛ لأن الله تعالى نهاهم عن اتخاذ الأنداد مع علمهم بالمستحق للإلهية والعبادة.
قال ابن عباس فيما رواه عنه ابن جرير وغيره: نزلت في الكفار والمنافقين، وإنما عنى بقوله تعالى: {فَلاَ تَجْعَلُوا لِلَّهِ أَندَاداً وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ}[البقرة:22]: لاتشركوا بالله غيره من الأنداد التي لا تنفع ولا تضر {وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ}: أنه لارب لكم يرزقكم غيره، وقد علمتم أن الذي يدعوكم إليه الرسول من توحيده هو الحق لاشك فيه.
قال قتادة: وأنتم تعلمون أن الله خلقكم، وخلق السموات والأرض.
والجواب: أنه لا متمسك لهم في الآية سواء قلنا إنها نزلت خطاباً لأهل الكتابين، أم لكفار العرب، أم لهم وللمؤمنين؛ لأنا نقول معناها وأنتم تعلمون وحدانيته تعالى بالدليل والنظر في الصنع، فلا تعاندوا وتجحدوا بعد المعرفة، لا يقال هذه دعوى منكم مجردة عن الدليل؛ لأنا نقول: دليلنا ما مر من أنه تعالى لايعرف إلا بالنظر والاستدلال، وأيضاً الآية محتملة لهذا الاحتمال، ولغيره من الاحتمالات، والمسألة قطعية لايصح الاستدلال فيها بالمحتمل، ومن الاحتمالات فيها أن يكون عبر بالعلم عن التمكن فكأنه قال: وأنتم متمكنون من العلم بالله تعالى، ونفي الشريك عنه لكمال عقولكم، وظهور الدلائل على إثبات الصانع المختار، المتفرد بصفات الكمال، فنزل تمكنهم من العلم بمنزلة العلم لقرب حصوله، وسهولة تحصيله.
قال القرطبي فيما ذكره من معاني الآية: المعنى وأنتم تعلمون وحدانيته بالقوة والإمكان لو تدبرتم ونظرتم، ومنها: أنكم تعلمون أنه المنعم عليكم دون الأنداد، ومنها: أنكم تعلمون بكمال عقولكم أن هذه الأشياء لا يصح جعلها أنداداً لله تعالى لضعفها وعجزها فلاتقولوا ذلك فإن القبيح من العالم بقبحه أقبح، ومنها: أن يكون المؤمنون مرادين بالخطاب والمعنى لاترتدوا أيها المؤمنون وتجعلوا لله أنداداً بعد علمكم بأن الله واحدٌ، إلى غير ذلك من الاحتمالات، فكيف يستدل بها مع ذلك في مسألة قطعية. والله أعلم.
البقرة: (23،24)
قوله تعالى: {وَإِنْ كُنتُمْ فِي رَيْبٍ مِمَّا نَزَّلْنَا عَلَى عَبْدِنَا فَأْتُوا بِسُورَةٍ مِنْ مِثْلِهِ وَادْعُوا شُهَدَاءَكُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ إِنْ كُنتُمْ صَادِقِينَ ، فَإِنْ لَمْ تَفْعَلُوا وَلَنْ تَفْعَلُوا فَاتَّقُوا النَّارَ الَّتِي وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجَارَةُ أُعِدَّتْ لِلْكَافِرِينَ}[البقرة:23،24].
الريب: الشك، والعبد: مأخوذ من التعبد وهو التذلل فسمي المملوك من جنس ما يفعله، ولما كان مقام عبادة الله والتذلل له مقام شريف سمى نبيه محمداً صلى الله عليه وآله وسلم عبداً، وأضافه إلى نفسه تشريفاً لمقامه، وتعظيماً لشأنه، والسورة: واحدة السور وهي طائفة من القرآن مترجمة، وأقلها ثلاث آيات، وهي مأخوذة من سورالبلد؛ لأنها محيطة بطائفة من القرآن، وبفنون من العلم كاحتواء سور البلد على ما فيها، أو من السورة التي هي الرتبة؛ لأن سور القرآن في أنفسها رتب من حيث الفضل والشرف، أو من حيث الطول والقصر، أو من حيث ارتقاء القارئ إليها شيئاً فشيئاً، وعلى هذه الوجوه فواوها أصلية، وقيل: هي مبدلة عن همزة فمعناها البقية من الشيء، ولا يخفى ما فيه، والشهداء: الأعوان والنصراء، والوقود بالفتح: الحطب، وبالضم: ما يتوقد، والحجارة: قيل: هي حجارة الكبريت، وقيل: الأصنام، وفي كلام الرازي ما يدل على أنها سائر الأحجار، وفي هذه الجملة مسائل:
المسألة الأولى [إثبات نبوة سيدنا محمد صلى الله عليه وآله]
اعلم: أن الله تعالى لما ذكر دلائل إثبات الصانع المختار جل وعلا أعقبه بذكر دليل نبوة نبينا محمد صلى الله عليه وآله وسلم ، وهو المعجزة العظمى، والشهادة الكبرى، الذي تحدى به فصحاء العرب قاطبة، وطلب منهم أن يأتوا بسورة من مثله، ذلك كتاب الله الذي لايأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه، وفي المسألة مواضع:
الأول: في ذكر الخلاف في نبوة محمد صلى الله عليه وآله وسلم .
الثاني: في أنه لا يكون نبي من الأنبياء إلا بمعجز.
الثالث: في حقيقة المعجز وشرائطه.
الرابع: في أن القرآن معجزة لنبينا صلى الله عليه وآله وسلم .
الخامس: في وجه إعجازه.
الموضع الأول في ذكر الخلاف: لا خلاف بين أهل الإسلام في صحة نبوة نبينا محمد صلى الله عليه وآله وسلم ، ووافقهم على ذلك كثير من الفرق الخارجة عن الإسلام، هكذا ذكره في الغياصة- أعني موافقة بعض الفرق الكفرية- ولعله أراد الفلاسفة فإنهم يقولون بنبوة الأنبياء، لكن بنوها على قواعد وعقائد غير مسلمة لهم، والخلاف في نبوة محمد صلى الله عليه وآله وسلم لأهل الإلحاد، واليهود، والنصارى، والمجوس، والصابئين، والبراهمة، وعباد الأوثان والنجوم، فإن هؤلاء ينكرون نبوته صلى الله عليه وآله وسلم وإن اختلفوا في التعليل، ومن المخالفين في ذلك المطرفية، والباطنية، فالمطرفية، وإن أقروا بأنه رسول من الله فهم مخالفون من جهة المعنى؛ لأنهم ينكرون أن يكون مبعوثاً من جهة الله تعالى على الحد الذي نقوله، فمنهم من يقول: النبوة يفعلها النبي لنفسه فمن شاء كان نبياً، ومنهم من قال: هي جزاء على الأعمال، ومنهم من يقول: حكم وتسمية، والباطنية يقولون: النبوة مادة ترد من السابق على قلب من وقعت للتالي به عناية، وإن المعجزات تظهر على الأنبياء لما اختصوا به من العلم بطبائع الأشياء وخواصها، فهي من قبيل الحيل.
الموضع الثاني: في أنها لا تثبت نبوة نبي إلا بمعجز:
اعلم: أنها لاتثبت نبوة نبي ولا رسالة رسول إلا بمعجز يدل على صدقه؛ لأن الطريق إلى معرفة النبوة ليس إلا خبر الصادق، أو ظهور المعجز على يديه، لكن خبر الصادق، وإن دل على ذلك فإنما يعلم صدق المخبر بالمعجز فقد عاد الأمر إلى أنه هو الدليل الحقيقي، هكذا حرره بعض أصحابنا.
قيل: وليس بواضح فإن الذي قد علمت نبوته إذا نص على نبي آخر فطريقنا إلى ثبوت نبوة هذا الأخير، إنما هي إخبار الأول لا معجزته، وإنما معجزته دالة على صدق خبره، فعلى هذا يقال: الطريق إلى إثبات النبوة: إما الخبر، وإما المعجز، وهذا هو الذي ذكره بعض أصحابنا.
قالوا:والإِخبار على ضربين إخبار من الله كالذي يخلقه في الأشجار ونحوها، قالوا: وهذا لا يكون حجة إلا إذا علمنا ضرورة أن ذلك الكلام من الشجرة لاحتمال أن يكون من شيطان أو نحوه، ونعلم أيضاً ضرورة الشخص المتوجه إليه الخطاب بعينه.
قلت: الظاهر أن خلق الكلام في الشجرة ونحوها أمر خارق للعادة فتكون معجزة، الضرب الثاني إخبار الصادق كالنبي ونحوه من المعصومين، وقد اعترض القرشي هذه الطريقة- أعني إخبار نبي بنبوة آخر- بأنه لا بد أن يظهر المعجز عقيب دعوى من أخبرنا الصادق بنبوته ليميزه عن غيره؛ لجواز أن يكون الذي أخبرنا بنبوته غير هذا الشخص، فالطريق الحقيقي هو المعجز، ورده الإمام عز الدين بأنه يتميز بالإشارة إليه، وإن كان غائباً فباسمه الذي لايشارك فيه، وصفته التي يختص بها، وقد خالفت الحشوية فقالوا: لا يشترط المعجز في ثبوت النبوة، بل تصح من دون معجز.
وأجيب بوجهين:
أحدهما: أن المعجز شاهد بصدقه، وإذا عدم الشاهد لم يصح التمييز بين الصادق والكاذب، والله تعالى عدل حكيم لا يلبس خطابه الذي لا يأتيه الباطل بالكذب والافتراء.
ثانيهما: أنه لو لم يكن معجز يميز الصادق من الكاذب كانت النبوة عبثاً لافائدة فيها، والمعلوم أن في بعث الأنبياء مصلحة لهم، وللمبعوث إليهم.
فإن قيل: لم لا يصح أن يكون متنبئاً إلى نفسه فلا يحتاج إلى دليل؟
قيل: أما من لا يفرق بين النبي والرسول فأجابوا بأن الشخص لا يكون رسولاً إلى نفسه، فلا بد من مصلحة وهي لا تحصل إلا بمعرفته وتمييزه، وليس ذلك إلا بالمعجز، وأما من فرق فقالوا: لا بد أن يأتي النبي بشريعة متقدمة يجددها غيره، ولكن هذا لا يلزم منه أنه لا بد من أن يبلغها غيره فينظر.
نعم: الظاهر أن خلا ف الحشوية إنما هو في النبي، وأما الرسول فهم يوافقون في أنه لا بد من دليل على رسالته وهم يفرقون بين النبي والرسول، هذا ولا يخفى أن خبر الصادق قائم مقام المعجز في الدلالة على صدق مدعي النبوة كما مر قريباً، فما أطلق هنا من ذكر المعجز فالمراد هو أو ما يقوم مقامه.
فائدة
نص القرشي على أن نبوة النبي لا تعلم ضرورة أي لا تكون الضرورة طريقاً إليها؛ لأنا لا نعلم الله تعالى إلا دلالة، والعلم بالرسول فرع على العلم بالله.
الموضع الثالث: في حقيقة المعجز وشرائطه وفيه فصلان:
الأول: في حقيقة المعجز.
والثاني: في شرائطه.
الفصل الأول في حقيقة المعجز: له حقيقتان لغوية، واصطلاحية، أما اللغوية فقال: الراغب العجز أصله التأخر عن الشيء وهو ضد القدرة، وأعجزت فلاناً، وعجزته، وعاجزته جعلته عاجزاً، وقال الإمام المهدي: هو في اللغة كل فعل يقدر عليه بعض القادرين دون بعض، يقال: أعجزني هذا الفعل أي لم أقدر أن أفعل مثله، والمعنى أن ظهور قدرة فاعلة كانت سبباً للحكم بعجزي عنه، فهذا معنى أعجزني أي كان سبباً للحكم بعجزي؛لا أنه سبب عجزي فليس كذلك، وإنما سبب العجز عدم القدرة،وإنما المعجز سبب الحكم بالعجز، لا سبب وقوع العجز.
وقال في الغياصة: هو لغة يستعمل في الفاعل والفعل، أما في الفاعل فالمعجز من أعجز غيره كالمُقْدِرِ من أقدر غيره، وأما في الفعل فهو ما تعذر على القادر بقدرة إيجاد مثله في جنسه كالصور والألوان، أو نوعه كالقدر، أو صفته كفصاحة القرآن، أو مقداره كنتق الجبل وقلب المدائن، أو وقوعه على وجه دون وجه كالكلام الموجود في الحصى والشجر؛ فلأنا لا نقدر على إيقاعه على هذه الصفة فما وجد من الأفعال على أحد هذه الوجوه فهو معجز؛ لأنه متعذر علينا إيجاده كذلك، وأما في الاصطلاح: فقد ذكر العلماء له حدوداً كثيرة، فقال السيد مانكديم، والإمام المهدي وغيرهما: هو الفعل الذي يدل على صدق المدعي للنبوة، وله شبه بالمعنى اللغوي؛ لأنه سبب للحكم بعجز من لم يظهر عليه مثله، وقيد بعضهم الفعل بكونه خارقاً للعادة، ولاحاجة إليه؛ لأن الفعل لا يكون معجزاً إلا إذا كان خارقاً للعادة بحيث يعجز البشر عن الإتيان بمثله، وقد أورد على هذ الحد أن المعجز قد يكون فعلاً، وقد يكون غير فعل كما يقول المدعي للنبوة الدليل على صدق دعواي عدم طلوع الشمس غداً فإنها إذا لم تطلع كان ذلك العدم معجزة له وليس بفعل.
قيل: فالأولى أن يقال هو الأمر ....إلخ.
واختار في (الغياصة) حده: بأنه الأمر الناقض للعادة، الحاصل على يد المدعي للنبوة عقيب دعواه، وعدل إلى أمر لما مر، وقال: على يدي المدعي؛ لأنه لو لم يكن على يده لم يكن له به علقة، وإذا لم يكن له به علقة لم يدل على ثبوته، وقيل: هو ما تعذر على القادر بقدرة الإتيان بمثله في جنسه، أونوعه، أو صفته، أو مقداره، أو وقوعه على وجه دون وجه على ما مر عن الغياصة، وزادوا هنا أوكيفيته أي أو يتعذر على القادر بقدرة الإتيان بمثله في كيفيته كتأليف أجزاء الحي على حد يصح حلول الحياة فيها، ولا بد أن يكون ذلك الأمر على يدي مدعي النبوة، وقال في الأساس: هو ما لايطيقه بشر، ولا يمكن التعلم لإحضار مثله ابتداء، سواء دخل جنسه في مقدورنا كالكلام أم لا، كحنين الجذع، فقال: ما لايطيقه بشر؛ ليدخل ما يطيقه الملائكة والجن؛ لأن النبي لا يكون إلا من البشر، والمعجز أمارة صدقه، فإذا جاء بما يخرق عادة البشر كفى في تصديقه، وقال: لا يمكن التعلم ....إلخ، ليخرج السحر والطلسمات فإنه يمكن التعلم لإحضار مثلها، وقال ابتداءً ليدخل ما لا يمكن التعلم للإتيان بمثله إلا اتباعاً لمبدئه كالقرآن فإنا نقدر على الإتيان به اتباعاً لمنشئه وهو الله تعالى، ولا نقدر على الإتيان بمثله ابتداءً، وأخصر الحدود وأقربها أن يقال: هو عبارة عما قصد به إظهار صدق من ادعى النبوة.
الفصل الثاني: في ذكر شرائطه،وقد ذكروا له شروطاً بعضها متفق عليه، وبعضها مختلف فيه، وجملتها عشرة:
الأول: أن يكون فعلاً؛ لأن ما ليس بفعل لا يدخل تحت الاختيار، فلا يصح كونه معجزاً، ولايكون للتحدي به فائدة، ولأنه ليس بأن يدل على صدق المدعي بأولى من كذبه أو من صدق غيره، أو من أن لا يدل لأ نه مع الجميع على سواء.
قال القرشي: ومن ها هنا صعب على المجبرة تصحيح كون القرآن معجزاً لما قالوا بقدمه، وقلنا لهم: لو صح كونه معجزاً مع قدمه لصح كون علم الله معجزاً وقدرته، بل كان يصح أن يكون الباري تعالى معجزاً نفسه، وفي هذا نظر لما عرفت من أن المعجز قد يكون غير فعل، فالأولى أن يقال: ولا بد أن يكون فعلاً، أو ما يقوم مقامه من التروك ليتناول المثال السابق، فإن عدم طلوع الشمس ليس بفعل.
نعم: أما من جعل الترك فعلاً، وقال هو أمر وجودي بناء على أنه الكف، فلا يرد عليه هذا، ولا يحتاج إلى قوله أو ما يقوم مقامه، وفي كلام الآمدي أن العجز إن كان عدمياً فالمعجز هاهنا عدم خلق القدرة، فلا يكون فعلاً، وإن كان وجودياً كما ذهب إليه بعضهم فالمعجز هو خلق العجز فيهم، ويكون فعلاً فلا حاجة إلى قولنا أو ما يقوم مقامه.
الشرط الثاني: أن يكون من فعل الله تعالى أو جارياً مجرى فعله.
فالأول: هو ما لا يدخل جنسه تحت مقدورنا كإحياء الموتى، وقلب العصا حية.
والثاني: كوجود الكلام في الشجر ونحوه، وإنما اعتبرنا ذلك؛ لأن الله تعالى هو المصدق لدعوى المدعي فإذا لم يكن التصديق فعله أو جارياً مجراه لم نعلم أنه تعالى قد صدق دعواه لجواز أن يكون من فعل غيره، وظاهر كلام الإمام المهدي أن هذا الشرط متفق عليه.
قلت: أما كون الجاري مجرى فعله متفق عليه، ففيه نظر، فإن ظاهر كلام صاحب المواقف، والقرطبي أنه يشترط أن يكون مما لا يقدر عليه إلا الله، واحتج له القرطبي بأن مدعي الرسالة لو جعل معجزته أن يتحرك، ويسكن، ويقوم، ويقعد لم يكن هذا الذي ادعاه معجزة له، ولا دالاً على صدقه لقدرة الخلق على مثله، قال: وإنما المعجزات كفلق البحر، وانشقاق القمر، وماشاكلهما مما لا يقدر عليه البشر، وهي حجة ضعيفة كما لا يخفى، وحكى القرشي الخلاف في ذلك عن اليهود فقال: وقد زعمت اليهود أنه لا بد أن يكون مما يختص الله بالقدرة عليه، ولا يدخل جنسه تحت مقدورنا، قال: وهو باطل؛ لأن الغرض بالمعجز التصديق، وذلك كما يحصل بما يختص الباري بالقدرة عليه فقد يحصل بما يجري مجرى ذلك، ويوضحه أن معجزات موسى عليه السلام فلق البحر، ونتق الجبل، وهي من الأجناس المقدورة للخلق.
قلت: ولا بد أن يزاد بعد قوله من فعل الله أو ما يقوم مقامه من التروك لما مر، وقد صرح به بعضهم.
الشرط الثالث: أن يتعذر علينا مثله في العادة ومعارضته، ولوكان جنسه داخلاً تحت مقدورنا؛ لأن ذلك حقيقة الإعجاز.
الشرط الرابع:أن يكون خارقاً للعادة؛ إذ لا إعجاز دونه فإن المعجز ينزل من الله تعالى منزلة التصديق بالقول، وما لا يكون خارقاً للعادة؛ فإنه لايدل على الصدق، لأن غيره يساويه في ذلك حتى الكذاب في دعوى النبوة، وهذا واضح فإن المدعي للرسالة لو قال: معجزتي مجيء الليل بعد النهار، وطلوع الشمس من مشرقها لم تكن هذه معجزة؛ لأن هذه الأفعال وإن كانت لايقدر عليها إلا الله تعالى فلم تفعل من أجله، وقد كانت قبل الدعوى على ماهي عليه حين دعواه، ولا فرق في دلالتها على دعواه ودعوى غيره،والذي يستشهد به الرسول لابد وأن يكون له وجه يدل على صدقه كأن يقول الدليل على صدقي أن الله تعالى يخرق العادة بقلب العصا حية، أو ينبع الماء من بين أصابعي، أو نحو ذلك من الآيات الخارقة للعادة التي تفرد بها رب الأرض والسماوات، فتقوم له هذه العلامات مقام قول الله تعالى لو أسمعنا كلامه صدق عبدي أنا بعثته.
قال بعض العلماء: ومثال المسألة ولله ولرسوله المثل الأعلى: ما لوكانت جماعة بحضرة ملك من ملوك الأرض، وقال أحد رجاله وهو بمرأى منه والملك يسمعه: الملك يأمركم أيها الجماعة بكذا وكذا، ودليل ذلك أن الملك يصدقني بفعل من أفعاله وهو أن يخرج خاتمه من يده قاصداً بذلك تصديقي، فإذا سمع الملك كلامه إياهم ودعواه فيهم، ثم فعل ما استشهد به على صدقه كان ذلك قائماً مقا م قوله صدق فيما ادعا ه عليّ، فكذلك إذا عمل الله عملاً لا يقدرعليه إلا هو وخرق به العادة على يد الرسول فإنه يقوم مقام كلامه تعالى لو أسمعناه، وقال: صدق عبدي في دعوى الرسالة، وأنا أرسلته إليكم فاسمعوا له وأطيعوا.
واعلم: أن المراد بكونه خارقاً للعادة أن يكون خارقاً لعادة من هو بين ظهرانيهم وإن لم يكن خارقاً لعادات الخلق على الإطلاق، وإن كان في المعجزات ما هو كذلك ومثال ما ذكرناه نزول الثلج فإنه خارق للعادة فيما كان من الأقطار شديد الحر، خصوصاً في أيام القيض، وكاللسان العربي حيث تكون الولادة والنشأة في بلاد السودان، وقد يكون نقض العادة في زمان دون زمان، كأن تحصل ثمرة وتدرك في غير وقتها.
تنبيه [في أن المعجز لا يكون مقدوراً]
قال في (المواقف وشرحها): وشرط قوم في المعجز أن لا يكون مقدوراً للنبي، إذ لو كان مقدوراً له كصعوده إلى الهواء، ومشيه على الماء لم يكن نازلاً منزلة التصديق من الله تعالى، وليس بشيء؛ لأن قدرته مع عدم قدرة غيره عادة معجز.
قال الآمدي: هل يتصور كون المعجز مقدوراً للرسول أم لا؟ اختلف الأئمة، فذهب بعضهم إلى أن المعجز فيما ذكر من المثال ليس هو الحركة بالصعود، والمشي لكونها مقدورة له يخلق الله فيه القدرة عليها، وإنما المعجز هو نفس القدرة عليها، وهذه القدرة ليست مقدورة له، وذهب آخرون إلى أن نفس هذه الحركة معجزة له من جهة كونها خارقة للعادة، مخلوقة لله تعالى وإن كانت مقدورة للنبي، وهو الأصح.
قلت: وهذا الأخير هو الذي يقضي به كلام أصحابنا؛ لأن هذه الحركة وإن كانت فعلاً للنبي فهي جارية مجرى فعل الله تعالى، وقد فسر الإمام عز الدين الجاري مجرى فعله تعالى بما لا يحصل إلا بأن يؤتي الله فاعله من القدرة ماهو زائد على المعتاد، وذلك كالمشي على الهواء، وعلى الماء، ونتق الجبل.
نعم: قول الآمدي إن الحركة مخلوقة لله مبني على قولهم في أفعال العباد.
الشرط الخامس: أن يكون مطابقاً للدعوى؛ لأنه لو لم يكن كذلك لم يكن متعلقاً بدعواه، فلا يدل على صدقه، ومثاله أن يقول: معجزتي إحياء هذا الميت ففعل خارقاً آخر كنتق الجبل مثالاً، فإنه لا يدل على صدقه لعدم تنزله منزلة تصديق الله له، هكذا ظاهر كلام بعض أصحابنا وغيرهم -أعني أنه لا يكون معجزاً إلا إذا قال مدعي النبوة: الدليل على صحة ما ادعيت كيت وكيت ثم يكون كذلك- فأما لو ظهر عليه معجز عقيب الدعوى ولم يدعه فإنه لايكون معجزاً له، ولذا قالوا: في حد المعجز هو: الفعل الناقض للعادة، المتعلق بدعوى المدعي للنبوة، وخالفهم صاحب الغياصة فقال: الأولى أن الذي يظهر على يده المعجز بعد دعوى النبوة يكون معجزة وإن لم يدع ذلك،ولذا عدل عن قولهم في الحد المتعلق بدعوى المدعي للنبوة إلى قوله:على يد مدعيها كما مر، إذ لو لم يكن معجزاً لكان فعله عبثاً، أما لو ادعى خارقاً فوقع خارق آخر عكس المدعى فلا شك أنه لا يدل على صدقه، وفي كلام بعض أصحابنا أنه ربما دل على كذبه.
قال السيد مانكديم: وفي أصحابنا من ذهب إلى أن المعجز إذا لم يكن مطابقاً للدعوى وكان بالعكس فإنه يدل على التكذيب، كما حكي عن مسيلمة أنه تفل في بئر ليفور ماؤها كما سمع عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم فغار ماؤها.
قال السيد: وذلك مما لا أصل له عندنا، وما هذا حاله فلا يجوز على الله تعالى؛ لأنه إذا أراد تكذيب شخص كان يمكنه ذلك بأن لايظهر عليه المعجز عقيب دعواه وإحداث شيء آخر، والحال ما قلناه يكون عبثاً لا فائدة فيه.
قلت: وظاهر كلامه أنه لا يجوز من الله إظهار معجز آخر غير مطابق للدعوى؛ لأنه عبث فيكون ما تقدم في المثال من نتق الجبل مما لا يجوز فعله، لأنه عبث، والذي ينبغي الاعتماد عليه أن يقال للمعجز صور:
إحداها: أن يدعي أمراً خارقاً للعادة يكون شاهداً بصدقه ولم يعينه، فإذا وقع أمر خارق على يده وليس فيه ما يدل على تكذيبه فإنه يكون معجزة له لامحالة؛ إذ لا يجب تعيين المعجز، بل يكفي أن يقول: أنا آتى بخارق من الخوارق، قيل: وهذا متفق عليه.
الثانية: أن يدعي أمراً فيقع خلافه كما في المثال، فهذا لا يدل على تصديقه ولا على تكذيبه، والظاهر أن مثله مما لا يصح وقوعه لعدم الفائدة.
الثالثة: أن يدعي أمراً فيقع ذلك الأمر بعينه لكنه متضمن لتكذيبه نحو أن يقول: معجزتي أن ينطق هذا الضب فنطق، وقال: إنه كاذب، فهذا لايدل على صدقه؛ لأنه متضمن لتكذيبه، بل المعجز هو نفس التكذيب فلا يفيد إلا زيادة اعتقاد تكذيبه، وأما على كلام السيد مانكديم فلا يقع مثل هذا لعدم الفائدة لإمكان تكذيبه بعدم وقوع ما ادعاه.
نعم: أما لو قال: معجزتي أن أحيي هذا الرجل الميت فأحياه فكذبه، فقال في (المواقف): الصحيح أنه لا يخرج بذلك عن كونه معجزاً؛ لأن المعجز إحياؤه وهو غير مكذب له،بل المكذب ذلك الشخص بكلامه، وهو بعد الإحياء مختار في التصديق والتكذيب ولم يتعلق به دعوى، وقيل:عدم خروجه عن كونه معجزاً إنما هو إذا عاش زماناً واستمر على التكذيب.
قال الآمدي: ولا أعرف خلافاً في هذه الصورة بين الأصحاب، فأما لو خر ميتاً في الحال فيبطل الإعجاز؛ لأنه كأنه أحيي للتكذيب فصار كتكذيب الضب، وقيل: الحق أنه لا فرق فلا يقدح لوجود الاختيار في الصورتين بخلاف الضب.
الصورة الرابعة: أن يدعي أمراً فيقع عكسه كما في قصة مسيلمة، وهذا لا يدل على تصديقه بلا خلاف، والظاهر أنه يدل على تكذيبه، ولا وجه لما قاله السيد مانكديم من منع نحو هذه الصورة لما فيه من تأكيد تكذيبه ورفع تلبيسه على أغمار العوام، ومثل هذه الفائدة تنفي العبث.
الصورة الخامسة: أن لا يدعي النبي ذلك المعجز لكنه حصل بعد دعوى النبوة معرفاً بها ودالاً على صدق مدعيها، فهذا يكون معجزاً كما في خبر الثعلب لحصول حقيقة المعجز فيه.
الشرط السادس: أن يكون ظاهراً على يد مدعي النبوة ليعلم أنه تصديق له، وهذا ذكره بعضهم، وهو الذي يدل عليه حد صاحب (الغياصة)، والراجح أنه لا يشترط ذلك، بل الشرط حصول التصديق، سواء كان بحضرة مدعي النبوة وعلى يديه كما في انشقاق القمر وفلق البحر أم لا كما في خبر الثعلب، وكلام الأصحاب يدل على ذلك حيث شرطوا في المعجز أن يكون متعلقاً بدعوى النبوة، فإن التعلق بالدعوى قد يكون بحضرة المدعي، وقد لا يكون.
قال السيد أحمد بن محمد بن لقمان ما معناه:إن المعرف بالنبوة كخبر الثعلب يكون معجزاً دالاً على صدق مدعي النبوة، وإن لم يكن في حضرته ويجب على من سمعه متابعة ذلك النبي.
الشرط السابع: التحدي بالمعجز، قال الامام المهدي: ومعنى التحدي هو طلب الفعل ممن عرف الطالب عجزه عنه اظهاراً لعجزه عنه، مأخوذ من حداء الإبل وهو حثها على السير بكلام مخصوص، فالتحدي هو حث المخاطب على فعل ما هو عاجز عنه إظهاراً لعجزه، كما أن الحدي للبعير العاجز إظهاراً لعجزه؛ لأنه إذا فعل المعتاد في الحث على السير فلم يحصل الاحتثاث دل على عجزه، وقيل: بل التحدي طلب المعارضة من صحابك بإتيانه بمثل ما فعلت أنت، مأخوذ من الحداء فإن الحاديين يتعارضان فيه، ويغني كل واحد منهما بمثل ما أتى به صاحبه، والحداء والحدو سوق الإبل والغناء لها، والمعنيان متقاربان إلا في أخذه من الحداء فإنه على الأول مأخوذ منه من حيث تضمنه الحث، وعلى الثاني من حيث تعارض الحاديين فيه، وهذا الشرط ذكره في المواقف، والنووي في شرح مسلم وغيرهما فما لم يقرن بالتحدي يسمى آية ولا يسمى معجزاً.
قال في شرح شفاء القاضي عياض: الآية والمعجزة يشتركان في الدلالة على صدقه، لكن الآية أعم؛ لأنه لا يشترط فيها مقارنة النبوة والتحدي، ثم اختلف القائلون بهذا الشرط فمنهم من شرط التصريح بالتحدي والمعارضة، ومنهم من لا يشترط ذلك، وقال قرائن الأحوال كافية مثل أن يقال له إن كنت نبياً فأظهر معجزة ففعل فيكون ظهوره دليلاً على صدقه، نازلاً منزلة التصريح بالتحدي، وفي (جمع الجوامع) أن التحدي الدعوى للرسالة، وهو يدل على أنه إذا أتى بالمعجزة عقيب الدعوى فقد تحداهم بها، سواء طلبوا منه إظهار المعجز أم لا، فيكون مغايراً للقول الذي قبله، ولا يخرج عن المعجز إلا ما تقدم النبوة، وقد صرح بذلك في شرح شفاء القاضي عياض، فإنه نص فيه على أن شق صدره صلى الله عليه وآله وسلم وتسليم الحجر عليه قبل البعثة ونحوه آية وليست بمعجزة، ثم قال: وأما قول السهيلي في بعض الخوارق إنها علامة للنبوة لا معجزة بناء على عدم اقترانها بالتحدي المشروط عنده، فرده ابن الهمام بأن أمره مبني على دعوى النبوة في كل زمان.
قلت: لعل السهيلي يشترط التصريح بالتحدي وطلب المعارضة، ومجرد دعوى الرسالة ليس بتحد عنده فلا يرد عليه هذا.
نعم: وأما أصحابنا فالظاهر أنهم لايشترطون هذا الشرط فإنهم لم يذكروه فيما حدوا به المعجز من الحدود، ولا فيما شرطوا فيه من الشروط، بل حدودهم تقضي بعدم اشتراطه، وممن صرح بذلك الإمام القاسم بن محمد في الأساس فإنه جعل المعرف بالنبوة معجزاً وإن لم يدعه النبي كخبر الثعلب، ففي تسميته معجزاً تصريح بعدم اعتبار التحدي، وإلا لما كان كلام الثعلب حجة على الرجل السامع، والحامل للأشاعرة على اشتراط هذا الشرط هو أنهم يجوزون ظهور الخوارق على يد الساحر ونحوه فألزمهم أصحابنا بعدم التمييز بين النبي والساحر فأجابوا بهذا، وقد صرح به النووي في شرح مسلم، فقال:
إن قيل: إذا جوزت الأشعرية خرق العادة على يد الساحر فبماذا يتميز عن النبي؟
فالجواب: أن العادة تنخرق على يد النبي والولي والساحر، لكن النبي يتحدى بها الخلق ويتعجزهم عن مثلها، ويخبر عن الله تعالى بخرق العادة بها لتصديقه، فلو كان كاذباً لم تنخرق العادة على يديه، ولو خرقها الله على يد كاذب لخرقها على يد المعارضين للأنبياء، ولا يخفى أنه لا يتحقق خلاف بين أصحابنا والأشاعرة على ما ذهب إليه صاحب الجمع من أن التحدي هو الدعوى. والله أعلم.
الشرط الثامن: أن يكون المعجز واقعاً عقيب دعوى النبوة، وفي كلام الإمام المهدي في موضع من شرح القلائد أن هذا الشرط متفق عليه.
واعلم:أن لوقوع المعجز ثلاث حالات:
الحالة الأولى: أن يكون مقارناً لدعوى النبوة، ونعني بالمقارنة وقوعه عقيب الدعوى بلافصل ولا تراخ، وهذه الحالة لاخلاف في صحتها ودلالتها على التصديق.
الحالة الثانية: أن يتقدم عليها، وهذا مختلف فيه، فقالت البهشمية، والسيد مانكديم وغيره من أصحابنا، وهو قول صاحب المواقف، ورواه في الأساس عن البصرية: لا يجوز تقدم المعجز على الدعوى، ومعنى عدم جواز ذلك أنه لا يعد معجزة ولا يدل على صدق الدعوى المتأخرة، وليس مرادهم أنه لا يجوز وقوع الخوارق قبل دعوى المدعي للنبوة فإن ذلك جائز قطعاً ذكر هذا في المعراج.
وقال أبو القاسم البلخي: بل يجوز تقدمه ويحكم عليه بأنه معجز، ويكون إرهاصاً أي توطئة وتمهيداً لدعوى النبوة.
قال الإمام عز الدين: وهو يوافق على أنه لا يكفي، بل لا بد من معجز عقيب الدعوى، ومَثَّله بقصة الغمامة التي كانت تظل النبي صلى الله عليه وآله وسلم في بعض أسفاره من حر الهاجرة وتدور معه حيث دار، وبقصة الفيل فإنها وقعت عام مولده صلى الله عليه وآله وسلم .
قال الإمام عز الدين: أما قصة الفيل فإنما هي من كرامات البيت وآياته، ولا تعلق لها بالنبي صلى الله عليه وآله وسلم ، وقال الإمام القاسم بن محمد عليه السلام : يجوز تقدمه إن كان معرفاً بالنبوة كما في قول عيسى عليه السلام {وَجَعَلَنِي نَبِيّاً}[مريم:30] وهو في المهد فإنه معجز شاهد بصدق نبوته التي ستحصل له بعد تكليفه، وهو ظاهر كلام السيد مانكديم.
احتج الأولون بوجوه:
أحدها: أن التصديق قبل الدعوة لايعقل؛ إذ لامعنى للمعجز إلا تصديق دعوى المدعي للنبوة، والمتقدم لا يكون تصديقاً؛ لأنه لا دعوى ولانبوة فتصدقهما.
فإن قيل: بل يكون تصديقاً لما سيأتي من الدعوى.
قيل: لا فائدة في تقديمه قبل الحاجة إليه فيكون عبثاً.
الوجه الثاني: أن المتقدم على الدعوى لا تعلق له بدعوى النبوة فهو معه ومع غيره على سواء، فلا يكون بالدلالة على صدقه أولى منه بالدلالة على صدق غيره، فيجوز أن يكون من الأمور الاتفاقية، والآيات الربانية التي لم يقصد بها التصديق لشخص دون آخر لعدم الخصوصية كما ذكرنا.
الثالث: أنه لو جاز تقدمه للزم تجويز كون المعجز الواقع عقيب الدعوى معجزة لنبي آخر سيأتي لا لمن ظهر على يديه؛ لأنه يصلح أن يكون لكل واحد منهما؛ لجواز التقدم فلا يقطع بكونه لأحدهما دون الآخر، فإذا كان تقدمه يؤدي إلى القدح في كونه تصديقاً قطعنا بامتناعه، واعترضه النجري وغيره بأنه إنما يلزم ذلك لو قيل: إن المتقدم دال على الصدق، وأما إذا لم يجعل كذلك، وإنما قيل: إنه إرهاص فلا بد أن يكون تقدمه من قبيل الألطاف الباعثة على تصديقه في المستقبل.
قلت: وبهذا يجاب عما في الوجه الأول من عدم التعقل ولزوم العبث.
احتج أبو القاسم بما مر من قصة الفيل والغمامة، وقال: هما آيتان معجزتان تقدمتا إرهاصاً لبعثته في المستقبل، واحتج أيضاً بكلام عيسى في المهد.
والجواب: أما الفيل فلا حجة فيه كما مر، وأما الغمامة فليست معجزة تدل على صدقه بنفسها، وإنما هي أمارة كون المعجز المتأخر دالاً على الصدق، ولا يمنع منه عقل ولا شرع فهو من قبيل الألطاف؛ لأن في تقديمها تقريباً إلى تصديق ما ادعاه، وتنبيهاً على أن فيه سراً سيظهر مثل ما ظهر عليه من الأمارات عند مولده عليه السلام وأيام صباه حتى كان بعضهم يتوسم فيه الخير، ويقول إن له شأناً، وأما كلام عيسى عليه السلام في المهد فهو بنى الاحتجاج به على مذهبه في أنه ليس بنبي، وأما على مذهب البصرية ومن وافقهم في أنه نبي في المهد فلا حجة له فيه، هذا ولا يخفى أنه لا يتحقق خلاف من جهة المعنى بين الجمهور، وأبي القاسم؛ لأنه يوافقهم في أن المتقدم لا يكفي في الدلالة على صدق الدعوى، وإنما هو إرهاص من قبيل الألطاف، والجمهور لا يمكنهم مخالفته في ظهور ما ظهر من كرامات نبينا صلى الله عليه وآله وسلم قبل بعثته الدالة على عظم شأنه وعلو مكانه، وليس النزاع إلا في تسمية مثل ذلك معجزاً فالخلاف لفظي.
احتج الإمام القاسم على أن المتقدم إذا لم يكن معرفاً فليس بمعجز بأنه لادليل على كونه معجزاً وعلى كونه معجزاً إن عرف بأن الفائدة تحصل به، وهي الشهادة على صدق مدعي النبوة كما تحصل بالمقارن فلا وجه لمنعه.
فإن قيل: المتقدم يصير في حكم المنسي.
قيل: لا نسلم إذ يجب على الذين عرفوه وظهر لهم تذكره في كل وقت، كما يجب عليهم تذكر أحوال النبي المتقادم عهده الذي لم تنسخ شريعته؛ لأنه يجب على كل عاقل أن يعلم أنه لا بد لله من حجة يظهرها تدعو إليه، وتبين ما يريده من عباده.
الحالة الثالثة من حالات المعجز: تراخيه عن وقت الدعوة، وقد اختلف في ذلك فقال الإمام المهدي، والإمام القاسم بن محمد: يجوز تراخيه عن دعوى النبوة إذا أخبر به فقال: سيقع كذا ووقوعه دال على صدقي فوقع كما أخبر، وإلا فلا؛ لأنه إن لم يخبر به لم يتعلق به، وإن لم يطابق كان دالاً على كذبه.
قال النجري: ولا خلاف في جواز تأخره بهذين الشرطين، والظاهر وقوع الخلاف في ذلك،فإن السيد مانكديم والقرشي وغيرهما يمنعون من تأخيره لأنه إذا تراخى لم يتعلق به، فلا يكون بالدلالة على صدقه بأولى من الدلالة على تصديق غيره إلا إذا كان قد ثبت صدقه بمعجز عقيب الدعوى على الفور،فيجوز تراخي معجز آخر كما في إخبار النبي صلى الله عليه وآله وسلم بقتال علي عليه السلام ((الناكثين والقاسطين والمارقين)) وكثير من معجزاته صلى الله عليه وآله وسلم ، وإنما جاز التراخي حينئذ؛ لأنه قد ثبت صدقه بدلالة أخرى، والوجه في اشتراط تقدم معجز مقارن أنا مكلفون بتصديقه عند دعوى النبوة، فلا بد من معجز مقارن، وإلا كنا قد كلفنا بمالم نعلم وهو قبيح.
قال الإمام عز الدين: وفيه نظر فإنا إنما نكلف تصديقه عقيب ظهور المعجز فإذا كان لله حكمة في تقدم الدعوى وتأخر المعجز جاز ذلك، وتأخر التكليف بالتصديق، ولا مانع كما في تأخير بعثته من الأصل.
قلت: وهذا كلام حسن، وحجة واضحة، وقد روى الاتفاق عليه في المواقف، وجعل محل الخلاف وجه دلالة ذلك المعجز المتأخر، ولا بأس بإيراد حاصل كلامه ففيه تحقيق للمسألة وبيان موضع الخلاف، وحاصله: أن التأخر إما أن يكون بزمان يسير يعتاد مثله فلا بأس به، وإما أن يكون بزمان طويل كأن يقول معجزتي وقوع كذا بعد شهر فحصل، فاتفقوا على أنه معجز، ولكن اختلفوا في وجه دلالته، فقيل: إخباره عن الغيب فيكون المعجز على هذا مقارناً للدعوى لكن تأخر علمنا بكونه معجزاً، وإنما انتفى التكليف بتصديقه ومتابعته لانتفاء شرط التكليف وهو العلم بكونه معجزاً؛ لأنه لا يحصل إلا بعد وجود ما وعد به قبل حصول الموعود به، فيكون المعجز على هذا القول المتأخر عن الدعوى، واعترض بأن الحصول قد لا يكون خارقاً فلا يصح جعله معجزاً، و قيل: يصير إخباره معجزاً عند حصوله فيكون تأخره باعتبار صفته لا غير وهي كونه معجزاً، وفي الأساس وشرحه أنه مع التراخي يصير معجزين إن كان ما أخبر به خارقاً وهما وقوع ذلك الخارق وإخباره بالغيب، فإن لم يكن خارقاً فهو معجز واحد وهو إخباره بالغيب. ذكره ابن لقمان في شرحه.
الشرط التاسع: ذكره الإمام المهدي وهو أن يظهر المعجز مع بقاء التكليف، وإلا جوزناه خارقاً من جملة الخوارق الحادثة بعد ارتفاع التكليف، وقيل: لاحاجة إلى هذا الشرط؛ لأن الكلام فيما كلفناه من تصديق الأنبياء، ومع زوال التكليف فلا تكليف علينا في تصديقهم، بل لا فائدة في بعثة الأنبياء حينئذ؛ إذ بعثتهم تستلزم التكليف، بل قيل: إنه لا بد فيها من تكليف جديد.
الشرط العاشر: أن يصدر من عدل حكيم أو يكون في الحكم كأنه صادر منه كما مر، وهذا الشرط نص عليه السيد مانكديم، والقرشي، وذكره في الغياصة، وقال: هو ملاك الشروط وهو الذي يجري على قواعد العدل؛ لأنه لو لم يكن كذلك لجوزنا أن يصدق الكاذب فلا يدل المعجز على صحة النبوة، ولذا قال أصحابنا: إن المجبرة لا يمكنهم معرفة النبوات لتجويزهم القبائح على الله فلا يؤمن أن يظهر المعجز على غير صادق لعدم قبحه منه، وقد مر إلزام الأصحاب لهم بهذا، إذا عرفت هذا فاعلم أن المعجز متى استوفى ما ذكرناه من الشروط المعتبرة كان دالاً على صدق مدعي النبوة لا محالة كما سيأتي.
تنبيه [في الفروق بين المعجزة والشعبذة]
وما تقدم من ذكر حقيقة المعجز وشرائطه متضمن للفرق بينه وبين السحر والشعبذة وهي الحيل التي تعسر معرفة كيفيتها إلا باستنباط ونظر، ومعرفة خواص، أو بتعلم ممن تقدم منه ذلك؛ لأن الحيل كلها لا تحصل فيها تلك الحقيقة ولا تجتمع فيها الشرائط، ولما كان كثير من علماء الإسلام يصرحون بذلك الفرق بين ذلك وبين المعجز ولا يكتفون تضمنه الحد والشروط رأينا أن نتبعهم ونحذوا حذوهم في ذلك؛ لما في ذلك من الفائدة العظيمة في تقرير قواعد النبوة وتشييد أركانها، ودفع ما يشكك به أعداء الإسلام فيها فإن من ينفي النبوة يدعي أن هذه المعجزات التي هي طريقنا إلى إثبات نبوة الأنبياء" حيل لا يمتنع أن يظفر بعض الناس بمعرفة كثير من خواص الأشياء فيتأتى منه هذه المعجزات.
واعلم: أن المتكلمين وغيرهم قد فرقوا بين المعجز والشعبذة ونحوها من وجوه:
أحدها: ما تقدم من أن المعجز لا بد وأن يكون من فعل الله أو جارياً مجرى فعله بخلاف الحيلة.
الثاني: أن الحيلة يمكن تعلمها بخلاف المعجز، وذلك معلوم ضرورة فلا يحتاج إلى دليل فإنا نعلم من حال المشعبذين المعجزين بعلمهم غيرهم أنهم إنما أدركوا ذلك تعلماً واستنباطاً، أولخاصية عرفوها، كما روي أن سحرة فرعون شحنوا حبالهم وعصيهم زئبقاً، ومن خاصته أنه إذا حمي بحر الشمس اضطرب وتحرك وجرى.
الثالث: أن الحيل يُوقف على أصلها بعد البحث الشديد، ومعلوم أن أعداء الله ورسله لم يقفوا على أصل للمعجز مما يدعونه إلى وقتنا هذا مع شدة بحثهم في إبطال أمر الأنبياء".
الرابع: أن الحيلة لا تنفذ ولا تمضي إلا على من لا يتعاطى الحيل، ولا يكون له بها دراية، ومعرفة بخلاف المعجز فإنه يمضي على جميع الناس من أهل المعرفة بجنسه وغيره، ولذلك جعل الله معجزة كل نبي من الجنس الذي يتفاخر به أهل زمانه، ويبالغون في تعاطيه ليظهر عجزهم مع مبالغتهم فجعل معجزة موسى عليه السلام قلب العصا حية لما كان الغالب على أهل زمانه قلب الأجناس، وجعل معجزة عيسى عليه السلام إبراء الأكمه والأبرص؛ لما كان الغالب على أهل زمانه علم الطب ويتفاخرون به، وجعل معجزة نبينا محمد صلى الله عليه وآله وسلم القرآن، وجعله في أعلى طبقات الفصاحة وحسن النظم؛ لما كان أهل زمانه يتفاخرون ويتباهون بذلك.
الخامس: أن المحتال لم تجر العادة بأنه يأتي بالأمر إلا وفى أهل زمانه من يشاركه في ذلك ويتأتى منه الإتيان بمثله ولا كذلك المعجز.
السادس: أن الحيل لا تكون إلا بتعلم وممارسة، وتفتقر إلى آلات وأدوات إذا فقد شيء منها لم تنفذ بخلاف المعجز.
السابع: أن المعجز يجب أن يكون خارقاً للعادة، والحيل مستنبطة في أمور معتادة مستمرة.
قلت: وبهذا الوجه يجاب عما يتوهم فيه من لايعرف معنى الخارق للعادة أنه في الخوارق مما يعمله النصارى في زماننا هذا من الأمور العجيبة والأشياء الغريبة من السيارات في الأرض بعمل النار التي تقطع في اليوم الواحد مسافة أيام، ومن الطيارات في الهواء التي لعلها تقطع في يومها مسافة سنة أو نحوها، والبرقيات التي تبلغ الأخبار من جهة إلى جهة في أسرع وقت، وكذلك الآلات التي بها ينقلون أصوات الخطباء، وأخبار الحروب وغيرها إلى جهات متفاوتة، وأقطار متباعدة، إلى غير ذلك من الغرائب فيقال في: ذلك كله ليس من الخوارق في شيء، وإنما حصل ذلك لهم لما عرفوه من خواص الأشياء وكيفية تركيبها كما يحصل للواحد منا معرفة الكتابة والبناء، وكيفية تركيب الحروف والأحجار ونحو ذلك، فكما أن هذا لا يعد خارقاً في حق من لايعرفه، فكذلك تلك الأمور التي ركبوها ورتبوها على وجه تحصل به ثمرة تلك الخواص المستودعة في مفرداتها أنها لاتكون خارقاً، ولذا فإن علمها عند أهلها ومن كان عارفاً بأصولها بمنزلة عمل البناء ونحوه عند أهله، فتنبه لهذا فإنه مهم، وأيضاً لو كانت أمراً خارقاً لما أمكن تعلمها، ولما احتاجت إلى آلات وتركيبات مخصوصة.
الثامن: أن الحيل التي هي من قبيل السحر والشعبذة لا حقيقة لها ولا أصل، وإنما ترى في الظاهر على وجه وهي في الحقيقة على خلافه، والمعجز على ظاهره، وما كان من الشعبذة على ظاهره كمن يمشي على يديه ورجلاه في الهواء ويمشي على الحبل الذي لا يعتاد المشي على مثله ويقعد عليه ويضطجع مع كون ذلك صحيحاً محققاً، فسببه ما يتفق لبعض الناس من خفة البدن، ومما رسة ذلك من وقت الصغر مع اعتياده لغذاء مخصوص تتأتى منه هذه الأفعال، ولرياضة النفس وتعويدها الصبر على الأمور الشاقة تأثير عظيم في حصول ما يراد بالرياضة، فقد روي أن بعض الصوفية كان يتعود الصبر عن الطعام أربعين يوماً، وفي تذكرة داود الأنطاكي مامعناه أن بعض من يدعي التصوف يأكل طعاماً مخصوصاً، ذكره داود، وقد زال عن ذهني معرفة جنسه فيصبر بعده عن الطعام أياماً، وإنما فعل ذلك إيهاماً للعوام أنه ممن راض نفسه حتى صارت تصبر عن تناول الطعام تلك المدة، ويروى أن ابن الزبير كان يصوم واصلاً قدر خمسة عشر يوماً مع أنه كان من أقوى أهل زمانه، وليس ذلك إلا بالتعود للصبر والممارسة، ومما يؤكد ذلك، ويوضحه ما ذكره صاحب الغياصة عن نفسه، وذلك أنه قال: ولقد شاهدت من ذلك يعني الشعبذة عجباً في السنة التي حججت فيها إلى بيت الله الحرام رأيت رجلاً عظيم الشبعذة رأيت منه أنه يتعلق بحبل في مباني الحرم الشريف من واحدة إلى أخرى، وهو مع ذلك مستلقٍ على ذلك الحبل، ومرة يقعد عليه كما يقعد المتكئ على الأرض ومعه آخر ربما قعد أحدهما على الحبل ويأتي الآخر على فخذه فيما أحسب أعني قعوده على فخذه، فأما غير ذلك فتحقيق لي، قال وسألت عن ذلك وما سببه فقيل: هما رجلان من الهند وذلك منهما اعتياد وممارسة.
قلت: فثبت بما ذكرنا أن مثل ذلك لا يعارض به المعجز؛ لأنه لا يكون إلا بتعلم وممارسة وشروط، وكذلك القول في السحر فإنه لا يحصل إلا بشروط مخصوصة في أوقات مخصوصة، ولا يكون بحسب الاقتراح بخلاف المعجزات.
الوجه التاسع: اتفاق الأنبياء على التوحيد والدعاء إلى الله والترغيب فيما لديه، الأول منهم يبشر بالثاني، والثاني يؤمن بالأول لا ينقم أحدهم على الآخر، ولا ينقصه، وأرباب السحر والشعبذة بل وأرباب الكرامات من الأوليا والعلماء التي يعدها بعضهم خوارق تجري بينهم المعارضات والمنافسة،والدالة على ارتفاع العصمة عنهم التي هي من لوازم النبوة.
العاشر: أن صاحب المعجزات يفارق أصحاب الحيل في هيئته وزيّه، وروائه وكلامه وأفعاله، وفي كافة أحواله، هذا همه تقوى الله ونورها يتلألأ في وجهه، ولوائح الخيرات تعرف منه في جميع شئونه، وصاحب الحيل همه الدنيا وأهلها من الملوك وغيرهم يعرف في وجهه الشر، والخداع والغدر، اشتغاله ومرمى آماله استمالة الناس إليه، وجمع حطام الدنيا لديه، وهذا فرق جلي لا يجهله إلا غبي.
فهذه جملة الوجوه التي يتميز بها النبي من الساحر، والمعجز من الحيلة، فمن كابر بعد ذلك وجحد، وادعى عدم التمييز فهو الخصم الألد، الذي لا يجارى ولا يناظر.
واعلم: أنما ذكرناه من وجوه المعجز والشروط الفارقة بينه وبين السحر والحيل تدل على أن العلم بالمعجزات استدلالي، وإلا لما احتجنا إلى معرفة تلك الشروط والفروق، وهو ظاهر إطلاقات كثير من أصحابنا، ويؤخذ من كلام بعضهم أن منها ما يعلم ضرورة، ومنها ما يعلم دلالة، ففي المنهاج ما لفظه:
قال شيوخنا: وكثير من المعجزات يعلم بالضرورة إعجازها ومفارقتها للسحر والحيل، ولهذا اعترف سحرة فرعون بمعجزة موسى عليه السلام وهم أعلم الناس بالسحر، ووصف الله قوم فرعون بالجحود في قوله تعالى: {وَجَحَدُوا بِهَا...} الآية[النمل:14] ولا يوصف بذلك إلا منكر الضرورة، وأقول ليس في اعتراف السحرة بمعجزة موسى عليه السلام وإخبار الله عن قوم فرعون ما يدل على أنهم علموا ذلك ضرورة؛ إذ من الجائز أن يكونوا علموا ذلك استدلالاً فاعترف السحرة، وجحد الآخرون بعد معرفتهم لصدقه بالنظر فأخبر الله عن جحودهم بعد علمهم النظري، ولا نسلم أنه لايوصف بالجحود إلا منكر الضرورة، بل يوصف به منكر المعلوم سواء علمه ضرورة أو دلالة، ولذا قال علي عليه السلام : (الذي تشهد له أعلام الظهور على إقرار قلب ذي الجحود) فإنه يدل على أن الجاحد قد يكون مقراً بقلبه بإثبات الصانع لقيام الدليل عليه، وهو أنواع العالم المعبر عنها بأعلام الظهور فسمى إنكاره جحوداً مع أنه إنما أنكر ماعلم دلالة، هذا وأما كيفية دلالة المعجز على صدق مدعي النبوة فقد اختلف في ذلك، فعند أصحابنا أن دلالته عقلية محضة كدلالة الفعل على وجود الفاعل، ومعناه: أن من وجد على يديه المعجز فهو نبي صادق لدلالة المعجز على صدقه؛ إذ لو لم يكن صادقاً لقبح عقلاً إيجاد المعجز على يديه؛ لأن تصديق الكاذب قبيح فيمتنع وقوعه من الله تعالى من حيث الحكمة كسائر القبائح، ولهذا ألزموا المجبرة لما نفوا القبح العقلي لجواز خلق المعجز على يد الكاذب، وقالت الأشاعرة: ليست عقلية محضة؛ لأن الأدلة العقلية مرتبطة بمدلولاتها، ولا يجوز تقديرها غير دالة عليها، والمعجز ليس كذلك فإن خوارق العادات عند قيام الساعة من انفطار السماء وانتثار الكواكب واقعة، وليست دالة على النبوة قطعاً لانتفاء الرسالة في ذلك الوقت، وكذلك تكون الخوارق على يدي الأولياء وغيرهم وهي غير دالة على صدق مدعي النبوة، وإذا كان
المعجز قد يتخلف مدلوله عنه وهو دلالته على صدق نبي ثبت أن دلالته ليست عقلية، وإنما هي دلالة عادية، ومعناها أن الله تعالى أجرى عادته بخلق العلم بالصدق عقيب ظهور المعجز، قالوا وإظهار المعجز على يد الكاذب وإن كان ممكناً عقلاً فانتفاؤه معلوم عادة، فإن من قال أنا نبي، ثم نتق جبلاً واوقفه على رؤوس قومه، ثم قال: إن كذبتموني وقع عليكم، وإن صدقتموني انصرف عنكم فكان كلما هموا بتكذيبه قرب منهم، وكان كلما هموا بتصديقه بعد عنهم يعلم بالضرورة أنه صادق، والعادة قاضية بامتناع ذلك من الكاذب مع كونه ممكناً صدوره من جهته عقلاً لشمول قدرة الله تعالى للمكنات بأسرها، وقد ضربوا لهذا مثلاً وهو أنه لو ادعى رجل بمشهد الجم الغفير أن هذا الملك أرسله إليهم، ثم قال للملك: إن كنت صادقاً فخالف عادتك، وقم من على سريرك واقعد في مواضع الأتباع والحشم، ففعل كان ذلك نازلاً منزلة تصديقه بصريح المقال، ولم يشك أحد في صدقه بقرينة الحال والمقام، وهي ما نعلمه ضرورة من جهة العادة أن فعل هذا الملك يفيد تصديق المدعي للرسالة، فكذلك في المعجزة، وفي المواقف وشرحها عن بعض الأشعرية أن خلق المعجز على يد الكاذب غير مقدور في نفسه؛ لأن دلالة المعجز على صدق مدعي النبوة دلالة قطعية يمتنع تخلفها، فلا بد لها من وجه دلالة؛ إذ به يتميز الصحيح من الأدلة عن غيره وإن لم يعلم ذلك الوجه بعينه، وأيضاً لو خلق المعجز على يد كاذب لم يخل من أحد أمرين، وهما الدلالة على صدقه، أو عدم الدلالة، وكلاهما باطلان.
أما الأول: فلأنه يلزم منه أن يكون الكاذب صادقاً وهو محال.
وأما الثاني: فلما فيه من انفكاك المعجز عما يلزمه من الدلالة القطعية.
والجواب:عما ذكروه أن نقول: أما استدلالكم على أن دلالة المعجز غير عقلية لوجود الخوارق عند قيام الساعة، فباطل لما مر من أن الكلام في المعجزات الخارقة مع بقاء التكليف، وأما قولهم بوجودها على يد الأولياء وغيرهم، فغير مسلم سلمنا فنقول: الباري تعالى عدل حكيم لايوقع عباده في لبس، فلا بد وأن يفعل ما يزيل اللبس إما باعتراف من وقعت على يديه بالنبوة لغيره، أو عدم دعوى النبوة، وإلا لم يجز من الله فعلها، وهؤلاء إنما جوزوها على يد الكاذب والساحر وإن أوقعت في اللبس بناء على قولهم أنه لا يقبح من الله قبيح.
فإن قيل: المعلوم أنه قد يتفق من أهل الكهانة والعارفين بالخواص التي أودعها الله بعض الأجسام ونحوهم ما يلتبس بالخوارق، والذي يخفى عليه علل ذلك وأسبابه لايأمن في المعجزات أن تكون من هذا القبيل خصوصاً من العوام الذين لايعرفون حقيقة المعجز ولا شرائطه، وربما كان ذلك سبباً لاتباعهم من ادعى النبوة من هؤلاء، كما قد وقع ذلك على ما في كتب التاريخ، فبماذا يميز الناظر المعجز عن غيره، وكيف جاز من الله تمكينهم مما يوقع في اللبس.
قيل: الناظر في صحة المعجز لا بد أن ينتهي إلى وجه يعلم به المعجز ويميزه عن غيره، فإن لم يهتد إليه نظره وجب على الله تعالى الخاطر المنبه على ذلك كما في سائر أدلة أصول الدين، فإن ضل بعد ذلك كان قد أتي من جهة نفسه كما مر في مسألة الناظر، وتمكينهم من ذلك قد يكون زيادة في التكليف، ولا قبح فيها. والله أعلم.
وأما قولهم: إن الله تعالى أجرى عادته بخلق العلم بالصدق عقيب ظهور المعجز، فقد مر جوابه في المسألة السادسة من المقدمة،وقولهم في النبي إذا نتق الجبل إن العادة قاضية بامتناع ذلك من الكاذب،دعوى لادليل عليها،بل العقل الذي حكم بامتناع وقوعه لقبح تصديق الكاذب والله لايفعل القبيح،وقولهم في المثال:إنا نعلم بالضرورة العادية أن فعل الملك تصديق لمدعي الرسالة،معلوم البطلان،بل نعلمه بالدلالة العقلية، وهي أنه لولم يقصد بذلك الفعل تصديق المدعي لكان فعله عبثاً وجهلاً وسفهاً،وهذا واضح،وأما قول بعضهم إن خلق المعجز على يد الكاذب غير مقدور،فمبني على أن الله تعالى لا يقدر على فعل القبيح،وقد مرالخلاف في المسألة وجوابات أصحابنا على القائل بذلك في المسألة الثامنة مما يتعلق بقوله تعالى: {الْحَمْدُ لِلَّهِ} وأما قوله إنه يمتنع تخلف دلالة المعجز على الصدق، فقد مر جوابه في المسألة السابعة من مسائل الحمد لله.
الموضع الرابع: في أن القرآن معجزة لنبينا محمد صلى الله عليه وآله وسلم ، ولا خلاف بين المسلمين في كونه معجزاً، والذي يدل على ذلك أنه قد ادعى النبوة وجاء بالقرآن، وادعى أنه معجزة له، ووجدنا فيه حقيقة المعجز وشرائطه، فدل على ماذكرنا.
واعلم: أن بعض أصحابنا يجعلون هذه الأدلة مبنية على ثمانية أصول، وهي أن محمداً صلى الله عليه وآله وسلم موجود، وأنه ادعى النبوة، وأنه أتى بالقرآن، وأنه لم يأت به غيره، وأنه جعله حجة له على صدق دعواه، وأنه تحدى العرب بل الجن والإنس أن يأتوا بمثله فلم يأتوا بشيء، وأنه يعلم بذلك عجزهم، وأن عجزهم دليل نبوته، وهذه الأصول منها ماهو معلوم ضرورة، ومنها مايعلم مما تقدم في حد المعجز وشرائطه، إلا أن في إفرادها بالذكر والكلام على كل واحد منها ودفع ما يرد عليه من التشكيكات والاعتراضات مزيد تحقيق، وطمأنينة قلب، ولأجل ذلك استحسنا الإتيان بها كاملة، وتفصيل الكلام عليها على وجه بديع، واستكمال لما يتعلق بها من الإشكالات، وردها بأوضح رد وأكمله وفي ذلك من الفوائد ما لا يخفى على من له رغبة في العلوم، واليقين بما كلفه بها الحي القيوم، فنقول:
أما الخمسة الأُوَلُ، وهي وجوده وما بعده آخرها أنه جعله حجة له، فالعلم بها ضروري بالتواتر.
قال السيد مانكديم: ولا مانع يمنع من حصول العلم بهذه الأشياء وما جانسها اضطراراً، فإن العلم بالملوك والبلدان وكون المصنفات منسوبة إلى مصنفيها ضروري، وقد أورد على دعوى الضرورة اعتراضات أكثرها في التشكيك في وقوع التواتر وفي إفادة العلم، ولم نذكرها في هذا الموضع؛ لأنها غير قادحة فإن كل أحد يعلم من نفسه ضرورة أنه لا يشك في واحد من هذه الأصول؛ ولأن إيرادها يستدعي الكلام على ماهية التواتر وشرائطه وأدلة إفادته العلم، وما يتعلق به من الخلاف، وفي ذلك تطويل للمسألة لغير موجب، ولأن التواتر وما يتعلق به مسألة مستقلة؛ إذ لا يختص بالاستدلال به هذا الموضع، بل يستدل به في مسائل، وسنذكر له إن شاءالله في الموضع اللائق به بحثاً مستقلاً نستوفي فيه أقسامه وأحكامه، ومن الاعتراضات على هذه الأصول أن قولكم إن محمداً رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم هو الذي أتى بالقرآن ولم يأت به غيره، غير مسلم؛ لأن المنقول تواتراً إنما هو جملة القرآن لا آحاده، ومن الجائز أنه طالع كتب من تقدم وأشعارهم وخطبهم فانتقى أجودها، وضم بعضه إلى بعض، فيكون هو المؤلف للمجموع، وإن كانت مفردات الآيات أو بعضها عمن تقدم، ويؤيده أنه كان إذا أعجبه كلام أدخله في القرآن كما أدخل قول كاتب الوحي فتبارك الله أحسن الخالقين، وقال له: اكتب فهكذا نزلت فارتد ذلك الرجل، ويدل على ذلك أيضاً أنه لم ينزل عليه القرآن جملة، وأن بعض مفرداته قد وجدت في شعر من تقدمه كما روي في شعر امرئ القيس:
وقدور راسيات .... وجفان كالجوابي
وفي شعر أسعد الكامل:
ملكتهم بلقيس تسعين عاماً .... بأولي قوة وبأس شديد
والجواب:أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قد تحدى به العرب ولوكان جمعه له كما ذكرتم لما تحداهم؛لأنه يعلم قطعاً أن غيره يقدر على مثل فعل لذكائهم، وفصاحتهم،ومعرفتهم بكلام من تقدمهم بحيث لايقدر العجز منهم عن مثل ذلك التأليف، والعاقل لا يتحدى غيره بما يعلم قدرته عليه، ومافيه نقضه ومعاكسة غرضه، وأما وجود مثل مفردات بعض كلماته فلا يقدح؛ لأن الإعجاز بما فيه من الفصاحة، وحسن النظم، والتركيب، وضم الآيات بعضها إلى بعض، ولذا قيل: إن المعجز منه لايكون أقل من ثلاث آيات، ومن الاعتراضات على أنه أتى بالقرآن وأنه لم يأت به غيره، أن من الجائز أن يكون الله تعالى بعث نبياً وأظهر القرآن عليه فقتله محمد صلى الله عليه وآله وسلم وادعى النبوة لنفسه، وادعى القرآن معجزة له.
والجواب من وجوه:
أحدها: أنه لو جاز ذلك لما وثقنا بنبوة نبي، ولا شعر شاعر، ولا خطبة خطيب لتجويز مثل ذلك، والمعلوم خلافه.
الثاني: أنه لا يجوز من الله تعالى أن يمكن أحداً من قتل نبي قبل التبليغ؛ لأنه يجب على الله بقاء النبي وحفظه من كل آفة حتى يبلغ، ويصدقه بالمعجز، وإلا عاد على غرضه بالنقض، وهذا متفق عليه بين أصحابنا.
فإن قيل: نفرض أنه قد بلغ وأظهر المعجز.
قيل: لا يجوز من طريق العادة أن لا يعلم بذلك الرسول ولا بمعجزته أحد من الخلق سوى محمد صلى الله عليه وآله وسلم ، بل نعلم ضرورة امتناع ذلك، وإذا كان ممتنعاً فنقول:
الواجب: على من علم دعوة ذلك النبي ومعجزته أن يظهر ما علمه ليعارض به دعوى الكاذب ويبطلها، والعادة قاضية بأنه لا بد من وقوع ذلك، ولما لم ينقل شيء من ذلك علمنا أن ذلك المفروض لم يقع.
فإن قيل: لعله لم يبعث إلا إلى محمد صلى الله عليه وآله وسلم فقط فصدقه وأخذ كتابه، ثم لما هلك ذلك النبي ادعاه معجزة له.
قيل: مثل ذلك لا يجوز؛ لأن من حق البعثة أن يكون لطفاً للمبعوث إليه، ولا تكون مفسدة، واللطف الواقع من جهة الله تعالى لا بد أن يلتطف به من فعل له، ولو قدرنا هذا التقدير خرجت البعثه عن كونها لطفاً إلى كونها مفسدة، وذلك لا يجوز من الله فعله، ولذا قلنا إنه لا يجوز بعثة نبي لا يجيبه أحد من الناس، بل لا بد أن يعلم أنه يلتطف به ملتطف، هكذا أجاب الإمام المهدي، قال عليه السلام : ولأجل هذا يضعف عندنا ما روي عن القاسم بن إبراهيم عليه السلام من قوله: إن بعض الأنبياء يأتي يوم القيامة ولم يجبه أحد.
فإن قيل: يجوز أنه قد التطف بها ملتطف بفعل واجب أو ترك قبيح، ثم إنه عصى فحبط ثوابه فجاء ذلك النبي وحده، ونقول مثل ذلك في هذه الصورة.
قيل: لو جاز ذلك لم يجز مثله في هذه الصورة؛ لأن المصلحة المفروضة قد عارضتها مفسدة.
الثالث: أنه قد ظهر على محمد صلى الله عليه وآله وسلم معجزات غير القرآن، وأيضاً في القرآن آيات كثيرة يجتمع منها أكثر من سورة نزلت بحسب ما عرض لمحمد صلى الله عليه وآله وسلم من الأحوال فهي معجزة كافية.
الوجه الرابع: ما ذكره الرازي حيث قال: إن الإنصاف في هذا الموضع أن كل عاقل إذا رجع إلى نفسه علم ضرورة أن هذا الاحتمال لم يكن، وإذا كان العلم الضروري حاصلاً ببطلانه أغنانا عن تكلف الجواب عنه.
الأصل السادس: أنه تحدى العرب بمعارضته، قال الموفق بالله وغيره: والعلم بذلك ضروري، قيل: لكن يحتاج إلى الفحص فإن من بحث عن أحواله صلى الله عليه وآله وسلم علم بالتواتر أنه كان يغشى محافل العرب ومجامعهم، ويتلو عليهم القرآن، ويلتمس منهم معارضته، وقيل: إن العلم بذلك استدلالي واستدلوا بوجهين:
أحدهما: أن المرجع بالتحدي إلى أنه يعتقد أن له مزية بسبب ما معه، وهذا كان حال النبي صلى الله عليه وآله وسلم مع القوم، فإنه كان يعلم من حاله ضرورة أنه كان يعتقد أن له الفضل على الناس لمكان ما جاء به من القرآن، ويدعي المزية عليهم بسببه ويظهر ما جاء به، وذلك كاف في التحدي كالخطيبين إذا كان بينهما منافسة فإنه لا فرق بين أن يأتي أحدهما بخطبة يتحدى بها صاحبه، وبين أن يظهرها عليه.
الوجه الثاني: أن القرآن مشحون بآيات التحدي، ومنها هذه الآية التي نحن بصددها، وهي صريحة واضحة مشتملة على غاية التحدي ونهايته، فإنه تحداهم أن يأتوا بسورة من مثله، والسورة منه قد تكون ثلاث آيات، ثم بالغ في ذلك حتى قال: {وَادْعُوا شُهَدَاءَكُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ}[البقرة:23] فأمرهم بالاستعانة بشهدائهم كما في قوله: {وَادْعُوا مَنِ اسْتَطَعْتُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ}[يونس:38] ثم أخبرهم أنهم لايفعلون ذلك، وفي ذلك غاية التبكيت ونهاية التحدي، والدلالة على عجزهم، فإنه لو كان في مقدورهم الإتيان بشيء من معارضته لكان هذا الكلام والتسجيل عليهم حاملاً لهم على المعارضة ولو بسورة واحدة، وقد أورد على هذ الأصل اعتراضان:
الاعتراض الأول: أنه لم يتواتر إلا جملة القرآن لا أفراده بدليل إنكار ابن مسعود المعوذتين والفاتحة، وأثبت أبي خمس سور، ونفاهن ابن مسعود، وأثبت زيد بن ثابت ثلاثاً منها، واختلف في البسملة إلى غير ذلك من الاختلاف الذي يدل على عدم تواتر مفردات القرآن، ومع ذلك إنه لم ينكر على هؤلاء في نفي ولا إثبات، ولا نقص ذلك من قدرهم، ولا كفر أحد من خالفه، ولو كان مما يشترط فيه التواتر في مفرداته لوقع التكفير بالزيادة والنقص، إذا عرفت هذا فمن الجائز في آيات التحدي أن تكون مزيدة في القرآن، وليست منه، أومنه ولكن لم تنزل إلا بعد استقرار الإسلام، وقهر العرب، وقوة المسلمين بحيث لا يتمكن المشركون من المعارضة، وحينئذ فلا يمكن القطع بعجزهم عن المعارضة.
والجواب من وجوه:
أحدها: أن التفاصيل كالجملة في التواتر لا فرق بينهما إلا أن التفاصيل ربما احتاجت إلى البحث، والذي يدل على عدم الفرق بينهما العلم الضروري بأنه لو زاد أحدنا في القرآن لفظة أو حرفاً، أو نقص منه ذلك لعلمه كل من يقرأ القرآن حتى الصبيان فضلاً عن العلماء، وليس ذلك إلا لتشدد أهل الإسلام في حفظ القرآن ومنعه من التغيير، وإذا كان هذا التشديد في الزمن المتأخر، فالمعلوم ضرورة أن الصحابة إن لم يكن تشددهم أعظم فهو لا يقصر عن تشدد غيرهم.
الوجه الثاني: أنه لو أمكن القول بزيادة آيات التحدي لأمكن أن يقال بزيادة أقيموا الصلاة وغيرها بل سائر القرآن، ومعلوم فساده.
الثالث: أن هذه الآيات مسموعة، والتحدي قائم على وجه الدهر، والفصحاء موجودون بكثرة؛ فيجب أن يأتوا بمثله ليظهر فساد التحدي، والمعلوم أن أحداً لم يقدر على معارضته إلى يومنا هذا.
فإن قيل: إن الفصاحة قد نقصت ولو ظهرت تلك الآيات في أيام توفر فصاحة العرب لعارضوه.
قيل: لا نسلم فإن في خطباء الأزمنة المتأخرة من الفصاحة والتفنن فيها ما لا يوجد في العرب، وغايته نقص الفصاحة في الشعر، وهي لا تتعلق بما نحن فيه.
وأما ما روي عن ابن مسعود فقد مر جوابه في الفاتحة، وبمثله يجاب عن سائر ما نقل عن غيره، على أن هذه الروايات آحادية لا يعارض بها المتواتر الذي قد ظهر ظهور الشمس، وأما البسملة فقد مر الجواب على عدم تخطئة المثبت والنافي في مباحثها.
الاعتراض الثاني: أن آيات التحدي وإن كانت متواترة فلانسلم أن الغرض منها التحدي والاستدلال على نبوته بالقرآن؛ إذ لو أريد بها ذلك لاشتهر كما اشتهر ادعاؤه للنبوة، ولم ينقل أحد من أصحاب الأخبار أنه استدل على نبوته بالقرآن، ولم ينقل أن من آمن به لم يؤمن إلا لدليل القرآن، فثبت أن القرآن ليس بمعجزة، وإنما ذكرت آيات التحدي فيه على ما يعتاده الشعراء والخطباء من الدعاوي العظيمة في أثنا الشعر والخطبة.
والجواب:أن هذا إنكار لما هو معلوم بين الأمة وغيرهم، فإن المعلوم عند كل من عرف أن محمداً صلى الله عليه وآله وسلم ادعى النبوة من المؤمنين والفاسقين والكافرين أن القرآن معجزته العظمى، وأنه تحدى به العرب، واستدل به على نبوته، وإنكار ذلك سفسطة.
قوله: لم ينقل أصحاب الأخبار...إلخ.
قلنا: بل نقلوه كما في إسلام عمر والبراء بن عازب وغيرهما كما تضمنته كتب التاريخ.
الأصل السابع: أنه لما تحداهم به عجزوا عن معارضته ولم يأتوا بشيء مما تحداهم به، وذلك ظاهر فإن الدواعي إلى نقل معارضته أقوى من الدواعي إلى ينقل القرآن نفسه، فلا يجوز أن ينتقل أحدهما ولا ينقل الآخر، وإنما كانت أقوى؛ لأنها ألطف وأشرف، والتعجب منها أظهر لما فيه من إبطال أمره، فكيف يجوز أن يقال لعلها وقعت ولم تنقل، هذا مع أنه قد نقل من المعارضات ماهو دون هذه المعارضة في الغرض، كمعارضه جرير، والفرزدق، وامرئ القيس، وعلقمة، بل قد نقلت المعارضات الركيكة كمعارضة مسيلمة، وابن المقفع، ثم إنا لو جوزنا معارضة يشتبه الحال فيها لوجب على الله أن يوفر الدواعي إلى نقلها؛ لأنها هي الحجة حينئذ فكيف تخفى وتظهر الشبهة، وقد أورد على هذا الأصل اعتراضات:
الاعتراض الأول: أن من الجائز أن يكونوا قد عارضوا، لكن منعهم خوف المسلمين من نقلها.
والجواب: أن الخوف إنما يمنع من الظهور والاشتهار لا النقل فلا يمنعه؛ بدليل أنه قد نقل أقوال المنكرين للصانع والسابين للرسل، ولم يمنع من ذلك خوف المسلمين، وأعظم شاهد ودليل ما نال شيعة أمير المؤمنين عليه السلام من بني أمية وتوعدهم إياهم على إظهار مناقبه حتى كتموها خوفاً وفرقاً، وبالغ أعداؤه في طمس فضائله وكتمها فخرج من بين الكتمين ما ملأ الخافقين، ولم يؤثر الخوف إلا في ظهورها واشتهارها في أيام بني أمية، وأما نقلها وروايتها فلم يؤثر في منعه بحال، وبعد فكان أعداء محمد صلى الله عليه وآله وسلم في عزة ومنعة، وفي غير أرضهم مواضع يمكنهم إظهار المعارضة فيها كبلاد فارس والروم وغيرها، وأيضاً لو جوزنا ذلك لجاز لقائل أن يقول: إنه كان في زمن النبي صلى الله عليه وآله وسلم أنبياء إلا أن المسلمين قتلوهم ولم يجسر أعداؤهم على نقل ذلك للخوف، وكذلك يقال في زمن موسى وعيسى عليهما السَّلام ، والمعلوم أنه لو ادعى ذلك مُدَّعٍ لَكَذبه العرب والعجم، ثم إن المعارضة لو كانت لوجب نقلها لما مر، وقد نقل منها معارضة مسيلمة وابن المقفع مع أنها غير معارضة لركتها وسماجتها.
الاعتراض الثاني: أنهم إنما تركوا معارضته؛ لأنه مما يتكلمون في أشعارهم ومنثور كلامهم بمثله، فلا يكون للمعارضة معنى لوجود ما يدل على المعارضة، كما لو ادعى النبوة وقال: معجزتي أني أقعد وأقوم وأنتم لاتقدرون على ذلك، فإن حصول ذلك عندهم على العادة كاف في إبطاله.
والجواب: أن المعلوم ضرورة أنه كان متميزاً عن كلامهم بزيادة في فصاحته وبلاغته، على أنه لو كان الأمر كما قلتم لجرى منهم ما يجري مجرى الاستهزاء لقضاء العادة بذلك، ولما أجمع عليه العقلاء، هذا مع أنهم قد اعترفوا بتميزه عن كلامهم، وعن السحر والكهانة، كما حكى ذلك القاضي عياض وغيره.
الاعتراض الثالث: أن تركهم المعارضة لأنهم ليسوا من أهل النظر والجدال، وإنما عادتهم القتال ومصاولة الأقران فعدلوا إلى ما يعتادونه، ومن الجائز أنهم لم يعلموا أن المعارضة تبطل أمره، ويجوز أيضاً أن يكونوا عدلوا إلى قتاله لأنهم أرادوا استئصاله، ومع هذه التجويزات لا يكون عدم المعارضة دليلاً على عجزهم عنها.
والجواب: أن المعلوم من حال العرب معرفتهم لطريق المعارضة والجدال، بل كانت مفاخرتهم بالقصائد الفصيحة، والخطب البليغة، ولذا لم يأت شاعر بقصيدة إلا ويوجد من يعارضه فيها، وهذا معروف من حال شعرائهم كامرئ القيس وعلقمة وأشباههما.
قوله: ومن الجائز أنهم لم يعلموا ...إلخ.
قلنا: هذا باطل فإن كل أحد يعلم أن خصمه إذا أتى بأمر وادعى لمكانه منزلة عظيمة، وتحداه بمعارضته، فإنه متى عارضه فقد أبطل دعواه،وهذا مما لا يخفى حتى على الصبيان؛ ألا ترى أن صبياً لو تحدى صبياً آخر،وقال: إني أطفر هذا الجدول وأنت لا تقدر عليه فإن الآخر يعلم أن دعواه تبطل بطفره ذلك الجدول.
قوله: ويجوز أنهم أرادوا استئصاله.
قلنا: وهذا باطل أيضاً فإنه لا يجوز على عاقل أن يقدر على إبطال أمر خصمه بالأمر السهل فيعدل إلى ما فيه كلفة ومشقة، وتعريض بالنفس إلى الفناء والهلكة، لا سيما وهم لايقطعون بأنهم يغلبونه، بل يجوزون أن تكون الدائرة عليهم، وهذا معلوم حتى للصبيان كما مر فإن الصبي لا يعدل إلى قتل صاحبه مع إمكان الظَّفر منه، وكيف يقال: إن عدولهم عن المعارضة إلى قتاله لقصد استئصاله مع أنهم لو قتلوه لكانت الحجة عليهم ألزمَ؛ لأن لأصحابه أن يقولوا قتلتم نبياً من أنبياء الله، وأيضاً النبي صلى الله عليه وآله وسلم لا يستهان بقتاله؛ لأنه كان في منعة عظيمة في قومه بحيث لا يقدر معها العدول إلى قتاله إلا عند عجزهم عن إبطال أمره بغيره.
الاعتراض الرابع: لعلهم إنما تركوا معارضته؛ لأنه جمع القرآن في مدة طويلة، وطلب منهم معارضته في أيام يسيرة، فلما لم يمكنهم ذلك في تلك المدة عدلوا إلى القتال.
والجواب: لو كان الأمر كذلك لا عتذروا بأنه لم ينصفهم بالإمهال، وبعد فإنه قد تحداهم بأن يأتوا بسورة كما في هذه الآية، ومن السور ما هو ثلاث آيات، ومثله مما لا يحتاج إلى مدة طويلة، وأيضاً كان يمكنهم أن يأمروا فصحاءهم بمعارضته والنظر فيها وهم يشتغلون بقتاله، فلما لم يقع شيء من ذلك دل على أن عدولهم إلى القتال للعجز.
الاعتراض الخامس: أن هذا الأصل مبني على أنهم كانوا أهل حرص على إبطال أمره، وهذه دعوى ومهما لم تثبت فلا يكون تركهم المعارضة دليلاً على عجزهم.
والجواب: أن العلم بذلك ضروري، ويزيده وضوحاً ما في إبطال أمره من المنافع العائدة عليه، ودفع المضار المتعلقة بهم في منافعهم سلامتهم من الانقياد له وبقاء رئاستهم وعبادة آلهتهم، وما اعتادوه من عوائدهم، ومن المضار المدفوعة عنهم فوت الرئاسة، وتسفيه أحلامهم، ودخولهم تحت أمره ونهيه، وكسر آلهتهم وذمها إلى غير ذلك.
الاعتراض السادس: أن خبر التحدي لم ينقل أنه بلغ إلى كل واحد من العالمين فإنا نعلم ضرورة أن أهل الهند والصين، وسائر الأطراف الشاسعة لم يعلموا وجود محمد صلى الله عليه وآله وسلم في زمانه فضلاً عن نبوته وتحديه بالقرآن، ومن الجائز أن يكون في من لم يبلغه ذلك من يقدر على المعارضة، وإذا كان الأمركذلك لم يكن عجز من بلغه التحدي دليلاً على أن القرآن معجز، وإلا لكان الحاذق في حرفته إذا تحدى أهل قريته بحرفته فعجزوا عنها كان نبياً، وذلك ظاهر الفساد.
والجواب: أن فصحاء العرب إذا عجزوا عن المعارضة فعجز غيرهم بالأولى، وتقدير وجود فصيح لم يبلغه التحدي لا يضر؛ لأن فصاحته إن لم تبلغ فصاحة القرآن كان مثل الحاضرين، وإن بلغت ذلك فحكمه حكم من قدرنا قدرته على مثل القرآن من الجن والملائكة، وسيأتي الكلام عليه.
الاعتراض السابع: أن من الجائز أن قريشاً تركت المعارضة محاولة منهم لطلب الملك والرئاسة بسبب ذلك المدعي للنبوة؛ لأنه منهم، وإظهارهم لمعاندته وقتاله إنما هو من السياسة بأن يظهروا عداوة محمد صلى الله عليه وآله وسلم ثم أظهروا العجز عن معارضته ليتم غرضهم.
والجواب: أن خلاف ذلك معلوم ضرورة.
الاعتراض الثامن: أنه لا سبيل إلى القطع بأنهم لم يعارضوه، وقولكم لو وقع لاشتهر لأنه من الأمور المستعظمة، باطل؛ فإنه لا يجب اشتهار كل أمر مستعظم.
والجواب: أن السبيل إلى القطع موجودة، وهي أن المعارضة لو وجدت لظهرت وتواترت؛ لأن الداعي إلى فعلها وهو إبطال أمره صلى الله عليه وآله وسلم هو بعينه الداعي إلى إظهارها؛ إذ لايبطل أمره إلا بإظهارها لا بمجرد فعلها، ولو ظهرت لتواترت لما نعلمه ضرورة من حرص اليهود والنصارى وغيرهم على إبطال أمر رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ، ونقل ما يدل على كذب دعواه في حياته وبعد وفاته إلى زماننا هذا ولا مانع لهم يقدر إلا خوف المسلمين، وذلك إنما يلزم لو طبقت شوكة المسلمين أقطار الأرض، والمعلوم خلافه فإن أكثر الأقطار كفرية وهم في القوة والسطوة في الغاية التي ينتفي معها خوفهم من المسلمين، فثبت أن السبيل إلى القطع موجودة.
قوله: لا يجب اشتهار كل الأمور المستعظمة.
قلنا: ما توفرت الدواعي إلى نقله منها وجب القطع باشتهاره، ومنه معارضة القرآن فإنها لو وجدت لوجب اشتهارها لما ذكرنا.
الاعتراض التاسع: أنهم إنما تركوا المعارضة لاشتمال القرآن على مالم يعرفوه من الأقاصيص والمغيبات، لا لعجزهم عن الإتيان بمثله في الفصاحة.
والجواب: أن القرآن لم يختص بالأقاصيص والمغيبات، فلو لم يمنعهم إلا ذلك لعارضوه في سائر أنواع الكلام، وأيضاً ليس المطلوب منهم معاني تلك الأقاصيص، بل يرضى منهم بأن يفعلوا أقاصيص من تلقاء أنفسهم، ثم يكسونها تلك العبارات؛ إذ معنى التحدي معلوم عندهم، فإنهم إنما كانوا يتحدون بالنظم واللفظ لابالمعاني؛ ألا ترى أن علقمة عارض قول امرئ القيس:
ذهبت من الهجر ان في كل مذهب
بقوله:
خليلي مرّا بي على أم جندب
مع أن أحدهما في الوصال والآخر في الهجران،وأيضاً كان يمكنهم الاستعانة باليهود لمعرفتهم ما في القرآن من القصص، بل قد تحدى النبي صلى الله عليه وآله وسلم اليهود به، وعجزوا عن المعارضة وفيهم العلماء، وبعد فإن العرب قد بعثوا إلى الفرس يطلبون منهم القصص، وجمعوا من ذلك شيئاً كثيراً، ثم عجزوا عن جعله معارضاً للقرآن .
الأصل الثامن: أن عجزهم دليل نبوته، والدليل عليه أنها قد حصلت حقيقة المعجز فيه،وتكاملت فيه شرائطه، فوجب أن يكون معجزاً دالاً على نبوته صلى الله عليه وآله وسلم ، وعليه اعتراضان:
الاعتراض الأول: أن عجزهم لا يكون دليلاً على صحة دعواه، إلا إذا حصل القطع بأنه لا فاعل له إلا الله، ولا قطع بذلك؛ لأن من الجائز أن يمكن الله تعالى رسوله صلى الله عليه وآله وسلم من الفصاحة ما لم يمكن غيره، ولذا قال: ((أنا أفصح العرب)) ويكون الحال فيه صلى الله عليه وآله وسلم كالحال في أهل الحرف والصناعات، فإنه قد يوجد فيهم من لا يساويه أحد في الحرفة المعينة التي اشتركوا في صناعتها.
والجواب من وجهين:
أحدهما: ما أجاب به الرازي، والسيد مانكديم وغيرهم وهو أنا نعلم ضرورة أن الرجل لا ينشأ في العرب و يأخذ اللغة عنهم ثم يأتي بما يعجزون عنه جميعاً، يعلم ذلك بالعادة المستمرة، وضعفه الإمام المهدي، وقال: لا مانع من ذلك، فإن العمارات التي من أساس المتقدمين من التبابعة وغيرهم لا يقدر أحد من أهل الأزمنة المتأخرة على مثلها ضرورة، ولا يعد ذلك معجزة قطعاً، وكذلك كثير من الفصاحات والصناعات، لا يبعد عجز أبناء جنس من اختص بهما عنهما.
قلت: وفيه نظر فإن عجز المتأخرين إنما كان لنقص بنائهم وقواهم عن أولئك المتقدمين، فكأنهم ليسوا من أبناء جنسهم، ولو قدرنا في المتأخرين من يساويهم في ذلك لم نقطع بالاستحالة، وهذا بخلاف الحرفة والفصاحة، فإن أبناء الجنس موجودون، فلا يبعد أن يوجد فيهم من يقدر على مثل فعل هذا المختص.
قوله: ولم يكن ذلك معجزاً.
قلنا: إنما لم يعد معجزة لعدم اقتران دعوى النبوة به، ولو قدر فعله من أحد المتأخرين وقارنهُ دعوى النبوة لكان معجزاً؛ لأنه فعل خارقاً بالنسبة إلى المبعوث عليهم وادعاه شاهداً.
الوجه الثاني: ذكره الإمام المهدي ونحوه للرازي في التفسير، وهو أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم لو كان هو الذي جاء بالقرآن من جهة نفسه لم يأمن أن يكون في العالم من يمكنه أن يفعل مثل فعله، ولا يمكنه القطع بعدم ذلك، كما أن أحدنا إذا قدر على أمر لم يقدر على مثله أحد من أبناء جنسه، فإنا نعلم ضرورة بأنه لا يقطع بأنه ليس في العالم من يقدر على مثله، وإذا كان النبي صلى الله عليه وآله وسلم مجوزاً وجود من يقدر على مثل فعله، فالمعلوم من حاله في التنزه عن كل ما ينقصه ضرورة أنه لا يقدم على تحديهم، والإخبار لهم على سبيل القطع بأنهم لا يأتون مثله لوفور عقله، وظهور فضله، وتباعده عما ينقصه أو يشينه، فلما تحداهم، وقرعهم بقوله: {فَإِنْ لَمْ تَفْعَلُوا وَلَنْ تَفْعَلُوا}[البقرة:24] ونحوها، علمنا أنه كان قاطعاً بصحة خبره ونبوته، وأنهم عاجزون عن معارضته، ولا يكون قاطعاً بذلك إلا إذا كان ذلك الكلام خارجاً عن طويق البشر.
قال الإمام المهدي ما معناه: وفي إخباره على سبيل القطع بأنهم لايأتون بمثل أصغر سورة ولو اجتمعوا، دليل قاطع على أنه عالم أنهم لا يقدرون على ذلك، وإلا كان متعرضاً لتجهيل نفسه، وتكذيبها، وبخسها على رؤوس العالم، والمعلوم ضرورة من حال كل عاقل أنه لا يرضى بتشويه نفسه بأنواع التشويهات، ولا يتعرض لأمر لا يأمن فيه أن يكون بسببه مشوهاً لنفسه، ومنقصاً لها، فكيف برسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ، ولو كان هو الذي جاء بالقرآن من تلقاء نفسه لعلم هو قطعاً أنه إذا قدر على جميعه فإنه يمكن غيره أن يأتي بقدر ثلاث آيات منه بالغة في الفصاحة مبلغه، كما نجد من أنفسنا العلم الضروري بذلك في نظائره، ومع قطعه بذلك كان تحديه بأقصر سورة منه شاهد عدل، بل طريقاً يفيد الضرورة أنه عالم عند تحديهم بعجزهم عن ذلك، وإلا كا ن معرضاً نفسه للنقص، ودعواه للإبطال.
قال الرازي: إنه إذا لم يكن قاطعاً بصحة نبوته كان يجوز خلافه، وتقدير وقوع خلافه يظهر كذبه، فالمبطل المزور البتة لايقطع في الكلام ولا يجزم به، فلما جزم دل على أنه صلى الله عليه وآله وسلم كان قاطعاً في أمره.
قلت: ولا يجوز أن يكون قاطعاً في أمره،إلا إذا لم يكن من فعله كما مر.
قال الإمام المهدي: وهو لا يعلم بيقين عجزهم إلا وهو عالم عجز نفسه عنه؛ إذ لو لم يعلم عجز نفسه لم يعلم عجز غيره.
الاعتراض الثاني: أن العرب وإن لم يكونوا قادرين على مثل القرآن فما يؤمنا أن في الجن والملائكة من يقدر على ذلك، وحينئذ يجوز أن بعضهم ألقاه إليه، ويجوز أن يكون في الجن من يقدر على معارضته، لكنهم تركوها رغبة في إضلال الإنس وإغوائهم، وتركها الصالحون منهم؛ لأنهم لم يكونوا في الفصاحة مثل الشياطين، أو كانوا مثلهم، وتركوها لأنهم وكلوا المكلفين إلى عقولهم، فإن العقل يجوز كونه ليس من فعل الله تعالى، ومع هذا التجويز لا يقطع بأنه من فعل الله، فمن قطع فإنما أتي من جهة نفسه.
والجواب: أما الجن فلا نسلم أن فيهم من يقدر على مثله؛ لأن التحدي شامل لهم، وفيهم الصالح، والطالح، والكبر، والحسد كالإنس، فلو كان فيهم من يقدر على المعارضة لعارضوه كما مر ذلك في الإنس.
قيل: مع أنا لا نعلم ثبوت الجن والملائكة إلا بالسمع، فكيف يقف العلم بكون القرآن معجزاً على العلم بعجزهم، ونحن لا نثبت وجودهم إلا به هذا دور، وأما الملائكة فلأصحابنا عنهم جوابان مع ما مر:
أحدهما: أنا وإن جوزنا قدرتهم على مثله، فذلك لا يقدح؛ لأن المعتبر فيه عجز من ظهر عليه وتحداهم به، ونقض عادتهم، والملائكة غير داخلين في التحدي، ولا مكلفين بهذه الشريعة، ولذا قيل في حده: ما خرج عن طوق البشر، ولكون المعتبر نقض عادة المبعوث إليهم كان قلب المدن ونتق الجبال إذا وقع من مدعي النبوة معجزاً وإن قدر الملائكة على مثله.
ثانيهما: أنا نقول هم داخلون في التحدي، كما ذهب إليه الإمام المهدي محتجاً بعموم قوله تعالى: {وَادْعُوا مَنِ اسْتَطَعْتُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ}[يونس:38] ونحوها، فنقول: الملائكة معصومون لا يفعلون إلا ما أمرهم الله به، وهو لا يأمر بتصديق الكاذب، فإذا كانوا الذين أظهروا القرآن على لسان الرسول عقيب دعواه النبوة والناس عاجزون عن مثله كان ذلك بمنزلة قولهم صدقت،وتصديق الكاذب قبيح،والله تعالى لا يأمر به، فعلمنا أنه إذا كان من جهتهم فهو صدق،وإذا كان صدقاً دلنا على أنه ليس من فعلهم، وإنما هو فعل الله، والملائكة عاجزون عنه لآيات التحدي وغيرها، وحاصله أنه لا يكون منهم إلا الصدق لعصمتهم، وإذا لم يكن منهم إلا الصدق وجب أن يكون القرآن ليس بفعل لهم، وإن كانوا الذين ألقوه إلى الرسول لدلالة آيات التحدي على عجزهم عنه.
قلت: ولا يقدرون على معارضته، وإلا لما كان لتحديهم معنى.
الاعتراض الثالث: أن عجز الإنس والجن عن الإتيان بمثل القرآن، وإن سلم فمن الجائز أن يكون وقوعه هو وغيره من معجزات الأنبياء على الوجه الذي تدعيه الفلاسفة، وهو أنه من تأثير النفوس التي ليست جسماً ولا حالة في الجسم، كما يجعلون تأثير عين العائن من تأثير النفس، وتحقيق مذهبهم أنهم جعلوا الإنسان غير الشخص المعروف، وأثبتوا له تأثيراً وعملاً، فيجوز أن تكون هذه المعجزات من تأثيرات النفوس كما في العائن، ويجوز أن يكون لبعض الناس معرفة في طوالع النجوم وخواصها ما ليس لغيره، فاستعان بها على ظهور الخوارق على يده، فلعل هذا من ذاك، وقد ثبت عن كثير من الناس الإخبار بالغيوب وذلك معلوم، ومنه حديث المرأة العمياء التي كانت ببغداد، وكانت تخبر بالغيوب على سبيل التفصيل، ولا خلاف أنه كان في زمن الجاهلية كهنة يخبرون بمبعث النبي صلى الله عليه وآله وسلم قبل حصوله، ويجوز أيضاً أن بعضهم يعرف خواص بعض الأشياء فأظهر بسببها الخوارق، ولا يستنكر مثل هذا، فإن المعلوم أن حجر المغناطيس تجذب الحديد.
قال الرازي:وكذلك قد تواترت الأخبار عن جميع الأتراك أنهم يقدرون على استجلاب الرياح، واستنزال الأمطار، وتبريد الهواء في الصيف، وتسخينه في الشتاء وغير ذلك، ويجوز أيضاً أن تلك المعجزات مما أجرى الله العادة بحدوثها على دوران الفلك، وهي مختلفة في الدوران، فمنها ما يدور كل اليوم كطلوع الشمس، وقد يكون في شهر كاستهلال الهلال، إلى غير ذلك من الأدوار حتى أن منها مالا يعود إلا في ستة وثلاثين ألف عام، فيجوز أن يكون حدوث الخوارق في زمن النبي صلى الله عليه وآله وسلم إنما هي موافقة لأحد الأدوار والعادات ومع ما ذكر من التجويزات فلا نقطع بدلالة المعجز على النبوة لاحتمال أن يكون حصولها لأحد هذه الأسباب.
والجواب: أما القول بوقوعها على الوجه الذي تدعيه الفلاسفة فذلك الوجه المدعى باطل، وقد أبطلنا كون الإنسان ما يدعون في المسألة الثانية من ما يتعلق بقوله تعالى: {وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَقُولُ آمَنَّا بِاللَّهِ...}الآية[البقرة:8].
وأما تأثير النفوس فهو باطل لما مرّ من أنه لا مؤثر حقيقة إلا الفاعل المختار وهو الله تعالى فيما لم يكن من أفعال الخلق، وإذا ثبت بطلان مذهب الفلاسفة بطل ما ترتب عليه.
وأما سائر ما ذكروه فهي أمور يمكن تعلمها والإطلاع عليها وذلك معلوم، فإن المنجمين وأهل الصناعات والرياضات يحتاجون في معرفتها إلى من يعلمهم أصولها أو يتعلمونها من الكتب الموضوعة لذلك، وما كان سبيله التعلم فلا يمكن من علم شيئا منه القطع البت بأن أحداً لا يقدر على مثل فعله، بل يجوز حصوله لغيره، وإذا جوز ذلك لم يمكنه التحدي العام والإخبار على القطع بأنه لا يقدر أحد على مثله خوفاً من الفضيحة، ولا يأمن ذلك إلا بأمان الله تعالى كما أوجس موسى أن السحرة قد أُوْتُوْا مثل ما أوتي حتى أمّنه الله تعالى، والمعلوم أن نبينا صلى الله عليه وآله وسلم قد بالغ في التحدي وأخبر بعجزهم على القطع وادعى المزية عليهم وأوجب امتثال أمره وطاعته فيما أراد منهم فكان ذلك دليلا مفيداً للعلم على أنه لا يخاف أن أحدا يأتي بمثله ولا أن خبره يتخلف وذلك يدل على أنه لم تحصل من أحد هذه الأمور التي قالوا بتجويز حصوله من أحدها وثبت أنه من فعل الله سبحانه وتعالى أنزله دليلاً على نبوته صلى الله عليه وآله وسلم والحمد لله رب العالمين، وبما ذكرنا ثبت القرآن كعجزة دالة على نبوة أبينا ونبينا محمد صلى الله عليه وآله وسلم .
[فوائد تتعلق بالنبي صلى الله عليه ومعجزاته]
تنبيه: يشتمل على ثلاث فوائد:
الفائدة الأولى في بيان الوجه الذي علم به النبي صلى الله عليه وآله وسلم أن الذي جاءه ملك وأن القرآن الذي جاء به كلام الله.
اعلم: أنه لا بد للرسول صلى الله عليه وآله وسلم من معجز يدل على أن جبريل صادق في رسالته إليه، وأن القرآن الذي جاء به كلام الله تعالى ولا سبيل إلى العلم بذلك إلا من أحد وجهين:
أحدهما: أن يخلق الله له علماً ضرورياً عند مشاهدة جبريل وسماع القرآن منه بأنه ملك مرسل من عند الله تعالى وأن ما جاء به كلام الله جل وعلا، وذلك يصح عند المشاهدة، والسماع كما يصح أن يخلق لنا علماً ضرورياً بأن هذا الذي شاهدناه الآن هو الذي شاهدناه أمس، وأن الكلام المسموع الآن هو الكلام المسموع بالأمس سواء سواء.
الثاني: أن يظهر على يديه ـ أعني الملك ـ معجزة تدل على صدقه كما أظهر لموسى حين كلمه أن ذلك كلام الله، فحينئذ يعلم صدقه فيعلم بخبره أنه كلام الله تعالى، وهذا الوجه هو الذي عرف به نبينا صلى الله عليه وآله وسلم ، صدق جبريل عليه السلام ، فإنه أتاه بمعجزة تدل على ذلك وهي ما رواه أبو طالب في الأمالي قال: أخبرنا أبي، انا محمد بن الحسن، ثنا محمد الصفار، عن محمد بن الحسين، ثنا جعفر بن بشير، ثنا أبان، ثني محمد بن مروان، عن محمد بن سنان، عن الصادق، عن أبيه، عن جده، عن علي عليه السلام قال: تراءى لرسول الله صلى الله عليه وآله وسلم جبريل عليه السلام بأعلى الوادي وعليه جبة من سندس فأخرج له درنوكاً من درانيك الجنة فأجلسه عليه ثم أخبره أنه رسول الله إليه، وأمره بما أراد أن يأمره به، فلما أراد جبريل أن يقوم أخذ رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم بطرف ثوبه فقال له: ما اسمك؟ فقال: جبريل. فقام رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فلحق بالغنم فما مر بشجرة ولا مدرة إلا سلمت عليه وقالت: السلام عليك يا رسول الله، وكان يرعى غنماً لأبي طالب عمه. ورواه الإمام أحمد بن سليمان عليه السلام في (الحقائق).
أما والد الإمام أبي طالب فقد مر ذكره.
وأما شيخه فهو: محمد بن الحسن بن أحمد بن الوليد أبو جعفر.
وأما الصفار فهو: محمد بن الحسن وشيخه هو محمد بن الحسين بن أبي الخطاب، وجعفر هو البجلي وهؤلاء، لم يزد في (الجداول) على ما ذكرنا من بيان أحوالهم.
وأما أبان فهو ابن عثمان الأحمر، قال الذهبي: تكلم فيه ولم يترك بالكلية.
وأما محمد بن مروان فالذي في (الجداول) ممن روى له أبو طالب ممن سمي بهذا الاسم رجلان: محمد بن مروان السدي الصغير، وقد نالوا منه، ووثقه ابن حجر، وعداده في الشيعة، توفي سنة تسعة وثمانين ومائة، ومحمد بن مروان القطان ويقال: الذهلي، أبو جعفر الكوفي، روى عن ابن عباس وعبد الله بن جعفر وغيرهما، وهذا يقتضي أنه غير المذكور في السند لتقدم زمان هذا، لكنه مشكل لأنه ذكر أن ممن أخذ عن المذكور أبو أحمد الزبيري وأبو نعيم وهما متأخران إلى بعد المائتين كما مر في تراجمهما، وذكر أنه احتج به النسائي.
نعم ذكر في (الجداول) من رجال أبي طالب وأخيه المؤيد بالله محمد بن مروان عن الباقر وعنه نصر بن مزاحم وغيره، وهذا يقوي أن المذكور في السند الذي هنا هو السدي؛ لأن في ترجمته أن ممن أخذ عنه نصر بن مزاحم فيكون هو المذكور في الترجمة الأخرى، ولا مانع من أخذه عن الباقر سماعاً وعن الصادق بواسطة لجواز تباعد الديار، أو كانت روايته بالواسطة عن الصادق لتأخر موته عنه. والله أعلم.
وأما محمد بن سنان فلم يزد في (الجداول) على روايته عن الصادق، وعنه محمد بن مروان، وحسن بن محبوب.
قوله: درنوك، قال في (النهاية): الدرنوك ستر له خمل، وجمعه درانك.
والمعجزة من هذا إخراج الدرنوك الذي في الجنة، وتسليم الشجر والمدر؛ لأن ذلك كله خارق للعادة.
ومن معجزات جبريل عليه السلام الدالة على صدقه ما روي أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم رآه صافاً في الهواء قد سد الأفق. رواه الإمام أحمد بن سليمان عليه السلام .
وفي (أمالي المرشد بالله): أخبرنا ابن ريذة، أخبرنا الطبراني، ثنا ابن أبي مريم، ثنا الفريابي، عن سفيان، عن الأعمش، عن إبراهيم، عن علقمة، عن عبد الله في قوله: {لَقَدْ رَأَى مِنْ آيَاتِ رَبِّهِ الْكُبْرَى}[النجم:18] قال: رأى رفرفاً أخضر قد سد الأفق. ورجال هذا السند مشاهير، وقد تقدم الكلام عليهم أجمع أو على أكثرهم وثناء الناس عليهم إلا ابن أبي مريم فإن بعضهم قد نسبه إلى الكذب كما مر في الفاتحة، وسفيان الراوي عن الأعمش هو الثوري.
وفي (الدر المنثور): أخرج الفريابي، وعبد بن حميد، والترمذي وصححه، وابن جرير، وابن المنذر، والطبراني، وأبو الشيخ، والحاكم وصححه، وابن مردويه، وأبو نعيم والبيهقي معاً في (الدلائل) عن ابن مسعود في قوله تعالى: {مَا كَذَبَ الْفُؤَادُ مَا رَأَى}[النجم:11] قال: رأى صلى الله عليه وآله جبريل عليه حلتا رفرف أخضر قد ملأ ما بين السماء والأرض.
وأخرج البخاري، ومسلم، والترمذي، وابن جرير، وابن المنذر، وابن مردويه، والبيهقي في (الدلائل) عن ابن مسعود في قوله تعالى: {فَكَانَ قَابَ قَوْسَيْنِ أَوْ أَدْنَى}[النجم:9] قال: رأى النبي صلى الله عليه وآله جبريل له ستمائة جناح.
وأخرج محمد بن سليمان الكوفي وابن جرير وابن أبي حاتم والبيهقي في (الدلائل) عن عائشة قال: كان أول شأن رسول الله صلى الله عليه وآله أنه رأى في منامه جبريل عليه السلام بأجياد ثم خرج لبعض حاجته فصرخ به جبريل: يا محمد يا محمد، فنظر يمينا وشمالاً فلم ير شيئاً ثلاثاً، ثم رفع بصره فإذا هو ثان إحدى رجليه على الأخرى على أفق السماء، فقال: يا محمد جبريل جبريل يسكنه، فهرب النبي صلى الله عليه وآله حتى دخل في الناس فنظر فلم ير شيئاً، ثم خرج من الناس فنظر فرآه. فذلك قول الله تعالى: {وَالنَّجْمِ إِذَا هَوَى}[النجم:1] إلى قوله: {ثُمَّ دَنَا فَتَدَلَّى}[النجم:8] يعني جبريل إلى محمد {فَكَانَ قَابَ قَوْسَيْنِ أَوْ أَدْنَى}[النجم:9] يقول: القاب: نصف الأصبع {فَأَوْحَى إِلَى عَبْدِهِ مَا أَوْحَى}[النجم:10] جبريل إلى عبد ربه.
وأخرج البخاري ومسلم عن عائشة أنها قالت: أول ما بدئ به رسول الله صلى الله عليه وآله من الوحي الرؤيا الصالحة فكان لا يرى رؤيا إلا جاءت مثل فلق الصبح ثم حبب إليه الخلاء، وكان يخل بغار حراء فيتحنث فيه (وهو التعبد)...إلى أن قالت: حتى جاء الحق وهو في غار حراء فجاءه الملك فقال: اقرأ، قال: ما أنا بقاري، قال: فأخذني فغطني حتى بلغ مني الجهد ثم أرسلني فقال: اقرأ، قال: ما أنا بقاري، فأخذني فغطني الثانية حتى بلغ مني الجهد ثم أرسلني فقال: {اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ، خَلَقَ الإِنسَانَ مِنْ عَلَقٍ، اقْرَأْ وَرَبُّكَ الأَكْرَمُ}[العلق:1-3] ثم ساقت في الحديث رجوعه إلى خديجة مرعوباً وانطلاقها به إلى ورقة بن نوفل وهو حديث طويل، وفي آخره: وفتر الوحي.
وأخرج البخاري عن جابر بن عبد الله أنه قال وهو يحدث عن فترة الوحي فقال في حديثه: ((بينا أنا أمشي إذ سمعت صوتاً من السماء فرفعت بصري فإذا الملك الذي جاءني بحراء جالس على كرسي بين السماء والأرض فرعبت منه، فرجعت، فقلت: زملوني زملوني فأنزل الله تعالى: {يَاأَيُّهَا الْمُدَّثّرُ...}إلى قوله: {وَالرُّجْزَ فَاهْجُرْ}[المدثر:1-5] فحمي الوحي وتتابع)). وأخرجه محمد بن سليمان الكوفي حاكم الهادي بصعدة في مناقبه.
وروى الإمام أحمد بن سليمان عليه السلام في (الحقائق) أن جبريل عليه السلام جاءه صلى الله عليه وآله فأخرجه إلى البقيع وانتهى به إلى مقبرة فإذا جثوة في التراب فضربها برجله وقال: قم بإذن الله، فانتفض التراب فإذا شخص قد صار حياًّ وهو يقول: يا حسرتا على ما فرطت في جنب الله، ثم ضربها فعادت إلى ما كانت، وانتهى به إلى جثوة أخرى فضربها فقام صاحبها وهو يقول: الحمد لله، ثم ضربها فعادت إلى ما كانت فقال: يا محمد فعلى هذا تبعثون.
فهذه التي تضمنتها هذه الأحاديث معجزات ظاهرة لصدق حقيقة المعجز عليها دالة على صدق جبريل صلوات الله عليه فيما جاء به وفي دعواه الرسالة من عند الله تعالى إليه.
قال الإمام المهدي: ولا يجوز أن يكون علم النبي صلى الله عليه وآله بصدق جبريل حاصلاً من إعجاز القرآن؛ لأنه لا يمكنه القطع بصحة نبوته صلى الله عليه وآله وبأن القرآن كلام الله إلا بعد معرفة عجز الجن والإنس عن الإتيان بمثله، وذلك لا يكون إلا بعد مهلة طويلة وبعد أن يتحداهم به وإذا لم يقطع لم يمكنه إظهار عجزهم والإخبار به على القطع؛ إذ لا يأمن أن يكون فيهم من يقدر على ذلك.
فإن قيل: فيلزم أن لا يعلم أحد صدق الرسول صلى الله عليه وآله إلا بعد التحدي، والمعلوم أن علياً وخديجة أسلما قبل أن ينزل أكثر القرآن، بل المروي أن علياً أسلم ثاني البعثة وخديجة أسلمت قبله.
قيل: يجوز أنهما قد علما نبوته عليه السلام بمعجز آخر إذ له معجزات كثيرة، وقد قيل: إن ما تقدم النبوة من الأحوال الشريفة والصفات الكريمة من جملة معجزاته صلى الله عليه وآله وهما ملازمان له في كثير من أوقاته ومطلعان على جميل صفاته.
قال الإمام المهدي: ولا يصح أن تكون الطريق إلى معرفة صدق جبريل عليه السلام معجزة يدخل جنسها تحت مقدور القدر؛ إذ لا طريق إلى أنها من فعل الله تعالى؛ لأن الملائكة جنس آخر يقدرون على ما لا نقدر عليه نحن فلا يكون ما فعلوه خارقاً للعادة لمخالفة عادتهم لعادتنا.
قلت: وما تضمنته الأخبار المتقدمة مما لا يدخل جنسه تحت مقدور القدر فتأمل.
الفائدة الثانية فيما به يعرف جبريل عليه السلام أنه مرسل إلى محمد صلى الله عليه وآله وأن القرآن كلام الله
قال الإمام عز الدين: طريقه إلى معرفة رسالته سماع كلام من رب العزة يخلقه في جسم ويقرنه بما يدل على أنه ليس من كلام غيره بحيث أن جبريل يعلم ذلك ولا يشك فيه.
قال عليه السلام : ومثل هذا يتصور في حق النبي فيعلم كونه مرسلاً كما في حق موسى عليه السلام ، وقريب من هذا ذكره الإمام المهدي قال: ويجوز أن يكون مما يدخل جنسه تحت مقدور القدر إذا علم جبريل أن الملائكة كافة والجن يعجزون عن مثله.
قلت: ويجوز أن يكون علماً ضرورياً يخلقه الله فيه، ويجوز أيضاً أن يكون خبر المعصوم وهو الذي وردت به السنة.
قال الهادي عليه السلام : وسألت كيف يأخذ جبريل عليه السلام الوحي عن الله؟ وكيف يعلمه؟
واعلم هداك الله أن القول فيه عندنا كما قد روي عن رسول الله صلى الله عليه وآله أنه سأل جبريل عن ذلك فقال: ((آخذه من ملك فوقي ويأخذه الملك من ملك فوقه، فقال: كيف يأخذه ذلك الملك ويعلمه؟ فقال جبريل: يُلقى في قلبه إلقاءً ويلهمه إياه إلهاماً)) رواه في جواب مسائل الرازي وفيه: ((إن الملك الأعلى يعلمه بعلم ضروري يفعله الله في قلبه)).
الفائدة الثالثة في وجه كون القرآن معجزاً في حق العجم
وذلك أن لقائل أن يقول: إذا علم العرب إعجازه لمعرفتهم بتناهيه في الفصاحة وصار حجة عليهم فبماذا يعلم ذلك العجم حتى يكون حجة عليهم ودليلاً لهم على صحة نبوة نبينا صلى الله عليه وآله؟
وجوابه: أنهم علموا ذلك إجمالاً وهو أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قد تحدى به العرب فعجزوا عن الاتيان بمثله وذلك كافٍ في كونه معجزاً؛ إذ العبرة بنقض عادة العرب بأمر هو من جنس ما يتعاطونه وهو الفصاحة.
وقال القرشي: إذ كان ناقضاً لعادة العرب وهم أمراء الفصاحة فنقضه لعادة العجم بالأولى، قال الإمام عز الدين: وهذا ركيك، ورجح ما مر من أن نقضه لعادة العرب كافٍ وهو الظاهر من كلام السيد مانكديم والإمام المهدي.
الموضع الخامس في وجه إعجاز القرآن
قد مر أن المسلمين متفقون على أن القرآن معجزة لنبيئنا محمد صلى الله عليه وآله بل ادعى السيوطي إجماع العقلاء على ذلك وإنما اختلفوا في وجه إعجازه.
فقال أئمتنا والجمهور من غيرهم: وجه إعجازه كونه في الدرجة العالية من الفصاحة والبلاغة التي لم يعهد مثلها في تراكيبهم وتقاصرت عن بلوغها درجات بلاغاتهم، واحتجوا على ذلك بأن المتعذر على أرباب اللسان هو إيجاد مثله في فصاحته وبلاغته وبما مر من أن الله تعالى جعل معجزة كل نبي من جنس ما يتعاطاه أهل زمانه ويتفاخرون به، والمعلوم أن العرب كانوا يتفاخرون ويتميز بعضهم على بعض بالفصاحة في كلامهم والبلاغة في خطبهم وأشعارهم ويجعلون ذلك وسيلة إلى مقاصدهم وسبباً إلى نيل أغراضهم، ويتصرفون في الكلام على البديهة تصرفاً عظيماً، جعل الله لهم ذلك غريزة وطبعاً، يأتون منه على البديهة بالعجب، ويدلون به إلى كل سبب، ويمدحون ويذمون، ويرفعون ويضعون، ويجرئون الجبان، ويبسطون يد الجعد البنان، ويصيرون الناقص كاملاً، ويتركون النبيه خاملاً إلى غير ذلك من التصرفات الدالة على اهتمامهم بأمر الفصاحة والتوصل بها إلى الأغراض المهمة، والتفاخر بها في المحافل، وكل ذلك دليل على أن وجه إعجاز القرآن هو فصاحته الخارقة لعادتهم.
وقال بعض المعتزلة: وجه إعجازه ما اشتمل عليه من حسن النظم وهو التأليف المخالف لأسلوب العرب في السجع والرجز والشعر والكلام المنثور، فإن من نظر في مطالعه التي هي فواتح السور وقواطعه وفواصله علم أنها وقعت على وجه لم يعهد في كلامهم وأنهم كانوا عاجزين عنه، وهذا هو الظاهر من كلام الباقلاني والأصبهاني، واحتجوا بوجهين:
أحدهما: أنه لا يمكن معرفة إعجازه من أصناف البديع التي أودعوها في الشعر؛ لأنها ليست بخارقة بل يمكن تعلمها وإدراكها بالتدريب كالشعر والخطب والرسائل، ولها طرق تسلك إليها بخلاف نظم القرآن وأسلوبه؛ فليس له مثال يحتذى، ولا إمام يقتدى به، ولا يصح وقوع مثله اتفاقاً.
الثاني: أن الإعجاز لو كان متعلقاً بفصاحته وبلاغته لم يصح أن يكون متعلقاً بعنصره الذي هو اللفظ والمعنى؛ لأن ألفاظه ألفاظ العرب قال تعالى: {بِلِسَانٍ عَرَبِيٍّ}[الشعراء:195] ومعانيه أكثرها موجود في الكتب المتقدمة قال تعالى: {وَإِنَّهُ لَفِي زُبُرِ الأَوَّلِينَ}[الشعراء:196] فتعين أن يكون متعلقاً بصورته وهي النظم المخصوص؛ إذ لا تختلف الأحكام والأسماء إلا باختلاف صورة الشيء لا بعنصره كالخاتم والقرط والسوار فإن باختلاف صورها اختلفت أسماؤها لا بعنصرها الذي هو الذهب والفضة والحديد فإن الخاتم المتخذ من الذهب والفضة والحديد يسمى خاتماً وإن اختلف عنصره وإن اتخذ من الذهب خاتم وقرط وسوار اختلفت أسماؤها وإن اتحد عنصرها وليس ذلك إلا لاختلاف صورها فصح أن القرآن لم يتميز عن غيره من ألفاظ العرب وما تضمنته الكتب المتقدمة إلا بصورته التي هي النظم المخصوص فوجب أن يكون هو وجه إعجازه.
قال الأصبهاني: وبيان كون النظم معجزاً يتوقف على بيان نظم الكلام ثم بيان أن هذا النظم مخالف لنظم ما عداه.
[مراتب تأليف الكلام]
فنقول: مراتب تأليف الكلام خمس:
الأولى: ضم الحروف المبسوطة بعضها إلى بعض لتحصل الكلمات الثلاث: الاسم، والفعل، والحرف.
والثانية: تأليف هذه الكلمات بعضها إلى بعض لتحصل الجمل المفيدة، وهو النوع الذي يتداوله الناس جميعاً في مخاطباتهم وقضاء حوائجهم ويقال له: المنثور من الكلام.
والثالثة: ضم بعض ذلك إلى بعض ضماً له مبادء ومقاطع ومداخل ومخارج ويقال له: المنظوم.
والرابعة: أن يعتبر في أواخر الكلام مع ذلك تسجيع، ويقال له: المسجع.
والخامسة: أن يجعل مع ذلك وزن، ويقال له: الشعر، والمنظوم إما محاورة ويقال له: الخطابة، وإما مكاتبة ويقال له: الرسالة.
فأنواع الكلام لا تخرج عن هذه الأقسام ولكل من ذلك نظم مخصوص، والقرآن جامع لمحاسن الجميع على نظم غير نظم شيء منها يدل على ذلك أنه لا يصح أن يقال له: رسالة أو خطابة أو شعر أو سجع، كما يصح أن يقال: هو كلام، والبليغ إذا قرع سمعه فصل بينه وبين ما عداه من النظم ولهذا قال تعالى: {لاَ يَأْتِيهِ الْبَاطِلُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَلاَ مِنْ خَلْفِه}[فصلت:42] تنبيهاً على أن نظمه ليس على هيئة نظم يتعاطاه البشر فيمكن أن يغير بالزيادة والنقصان كحالة الكتب الأخر.
وقال الرازي في رواية الإمام المهدي وصاحب المواقف عنه: بل وجه إعجازه الفصاحة وغرابة الأسلوب، ورواه الموفق بالله عن بعض المحدثين، واختاره ابن عطية ورواه عن الجمهور ولفظه الصحيح والذي عليه الجمهور والحذاق في وجه إعجازه أنه بنظمه وصحة معانيه وتوالي فصاحة ألفاظه.
قلت: وما ذكره من صحة معانيه قيد معتبر لا بد منه.
قال في (شرح شفا القاضي عياض): ولا شك أن من يقول بإعجازه لبلاغته وأسلوبه يقول أيضاً أنه بالنظر لمعناه؛ إذ لا يمكن قطع النظر عنه، والحجة لهذا القول ما ذكره الخطابي والزركشي في برهانه، وحاصله أن أجناس الكلام مختلفة ومراتبها في درجات البيان متفاوتة، فمنها البليغ الجزل والقريب السهل والجائز الطلق الرسل، وهذه هي أقسام الكلام الفاضل المحمودة فالأول أعلاها والثاني أوسطها والثالث أدناها وأقربها، وبلاغة القرآن قد حازت من كل قسم حصة وافرة فانتظم بها بانتظام هذه الأوصاف نمط من الكلام بجمع الفخامة والعذوبة وهما كالمتضادين؛ لأن العذوبة نتاج السهولة والجزالة والمتانة يعالجان نوعا من الزعوره فكان اجتماعهما فضيلة اختص بها القرآن ليكون آية بينة لنبيه صلى الله عليه وآله وسلم وإنما تعذر على البشر الإتيان بمثله؛ لأن علمهم لا يحيط باللغة العربية وأوضاعها التي هي ظروف المعاني، وأفهامهم لا تدرك جميع معانيها ووجوه نظمها وارتباط بعضها ببعض فيتوصلوا باختيار أحسنها إلى الإتيان بمثله وإنما يقوم الكلام بهذه الأشياء الثلاثة لفظ حاصل ومعنى به قائم ورباط لهما ناظم، وإذا تأملت القرآن وجدته استوفى ذلك كله ورقى لأعلى درجاته، ولا توجد هذه الفضائل الثلاث مجموعة في غيره وإن وجدت متفرقة في أنواع كلام الفصحاء؛ إذ لا يقدر عليها مجتمعة إلا العليم القدير فخرج من هذا أنه إنما صار معجزاً لأنه جاء بأحسن الألفاظ وأبدع النظم والتأليف واصح المعاني من الدعاء إلى توحيد الملك العلام، وبيان الشرائع والأحكام، والإرشاد إلى مكارم الأخلاق، والزجر عن مساوئها على الإطلاق، واضعاً كل شيء في موضعه بحيث لا ترى محلاً أولى من محل، مودعاً فيه أخبار القرون الماضية وما نزل من مثلات الله تعالى بمن مضى منبئاً بالحوادث المستقبلة، جامعاً للحجة والمحتج له والدليل والمدلول عليه ليكون ذلك آكد للزوم ما دعا إليه، ولا شك أن استيفاء هذه الأمور منسقاً
أحسن نسق لا يمكن لغيره عزَّ وجلّ.
وقال النظام والشريف المرتضى الموسوي ورواه القاضي عياض عن أبي الحسن الأشعري ورجحه الرازي في التفسير: بل إعجازه بالصرفة على معنى أن العرب كانت قادرة على كلام مثل كلام القرآن قبل البعثة لكن الله صرفهم عن معارضته، وبه قال أبو إسحاق.
نعم، وأبو إسحاق هذا في كتب أصحابنا أنه النصيبيني من المعتزلة، وفي المواقف وشرحها: أنه الأستاذ أبو إسحاق من أهل السنة ثم اختلف هؤلاء في كيفية الصرفة.
قال في المواقف وشرحها فقال: الأستاذ أبو إسحاق منا والنظام من المعتزلة صرفهم الله عنها مع قدرتهم عليها وذلك بأن صرف دواعيهم إليها مع كونهم مجبولين عليها خصوصاً عند توفر الأسباب الداعية في حقهم كالتقريع بالعجز والاستنزال عن الرياضات والتكليف بها بالإنقياد فهذا الصرف خارق للعادة فيكون معجزاً.
وقال المرتضى: بل سلبهم العلوم التي يحتاج إليها في المعارضة بمعنى أن المعارضة والإتيان بمثله يحتاج إلى علوم يقتدر بها عليها وكأن تلك العلوم حاصلة لهم لكنه تعالى سلبها عنهم فلم تبق لهم قدرة عليها، ومقتضى مذهب هؤلاء على ما ذكره الإمام يحيى أن الله تعالى لم ينزل القرآن ليكون حجة على النبوة وإنما أنزله لبيان الحلال والحرام وتعليم سائر الأحكام، وإنما لم يعارضوه؛ لأن الله تعالى صرفهم عن ذلك مع قدرتهم عليها، وعلى هذا فليس القرآن معجزة.
قال الإمام عز الدين: وفيه نظر؛ لأن المشهور أن الصرفة وجه إعجاز القرآن وذلك تصريح بإعجازه ولا معنى لكونه حجة على النبوة إلا كونه معجزاً، فالمشهور عنهم خلاف ما ذكره.
قلت: ويدل على ذلك إجماع الأمة على أن القرآن معجزة دالة على نبوة نبينا محمد صلى الله عليه وآله ولو كان الأمر كما ذكره الإمام يحيى لم يصح دعوى الإجماع.
وقال السكاكي: إعجاز القرآن يدرك ولا يمكن وصفه، كاستقامة الوزن تدرك ولا يمكن وصفها، وكالملاحة، قال: ولا يدرك تحصيله لغير ذوي الفطرة السليمة إلا بإتقان علمي المعاني والبيان والتمرين فيها، ونحو قوله حكاه الخطابي عن أكثر أهل النظر فقال: ذهب الأكثرون من علماء النظر إلى أن وجه الإعجاز فيه من جهة البلاغة لكن صعب عليهم تفصيلها وصغوا فيه إلى حكم الذوق.
وقال قوم: وجه إعجازه اشتماله على الإخبار بالمغيبات المستقبلة فوجدت كما أخبر وذلك كثير يعرف بتتبع القرآن وإخباراته عن الأمور المستقبلة الكاينة على وفقها كقوله تعالى: {وَهُمْ مِنْ بَعْدِ غَلَبِهِمْ سَيَغْلِبُونَ}[الروم:3] فأخبر عن غلبة الروم لفارس فيما بين الثلاث إلى التسع فوقع كما أخبر به، ومنه الآية التي نحن بصددها فإنه تحداهم أن يأتوا بسورة من مثله وأخبر أنهم لا يفعلون ذلك أبداً فكان كما أخبر إلى غير ذلك من المغيبات التي أوقف الله عليها رسوله لتكون دلالة على صدقه، وهذا القول حكاه الموفق بالله عن النظام.
وقيل: وجه إعجازه أنه مع طوله واشتماله على فنون القصص والأحكام لم يوجد فيه تناقض ولا اختلاف وتمسكوا بقوله تعالى: {وَلَوْ كَانَ مِنْ عِنْدِ غَيْرِ اللَّهِ لَوَجَدُوا فِيهِ اخْتِلاَفاً كَثِيراً}[النساء:82] وهذا رواه الموفق بالله عن أبي علي.
وقال بعض المجبرة: بل وجهه كون قارئه لا يمله وسامعه لا يمجه بل الإكباب على تلاوته يزيده حلاوة وترديده يوجب له محبة وغيره من الكلام ولو بلغ من الحسن والبلاغة مبلغه يمل مع الترديد ويعادا إذا أعيد ولهذا وصفه رسول الله صلى الله عليه وآله بأنه لا يخلق على كثرة الرد كما مر في المقدمة من حديث علي عليه السلام .
وقال الخطابي: قد قلت في وجه إعجاز القرآن وجها ذهب عنه الناس وهو صنيعه في القلوب وتأثيره في النفوس، أقول هذا الوجه هو الذي يسمونه الروعة بفتح الراء وهي الخوف والحزن الذي يطرأ عند سماعه وتلاوته لجلالته وهيبته وقد عدها القاضي عياض من وجوه الإعجاز وقال: هي على المكذبين به أعظم حتى كانوا يستثقلون سماعه ويزيدهم كما قال تعالى: {نفورا} وقال صلى الله عليه وآله وسلم فيما أخرجه الديلمي وغيره عن الحكم بن عمير ((إن القرآن صعب مستصعب على من كرهه وهو الحكم....))الخبر، ويعني بالحكم: الحاكم أي الفاصل بين الحق والباطل والبر والفاجر، قال: وأما المؤمن فلا يزال روعته به وهيبته إياه مع تلاوته توليه انجذاباً وتكسبه هشاشة لميل قلبه إليه وتصديقه به ويدل على ثبوت الروعة به قوله تعالى: {تَقْشَعِرُّ مِنْهُ جُلُودُ الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ}[الزمر:23] وقوله تعالى: {لَوْ أَنْزَلْنَا هَذَا الْقُرْآنَ عَلَى جَبَلٍ لَرَأَيْتَهُ خَاشِعاً...}الآية[الحشر:21].
قال بعض العلماء: هذا تمثيل لما فيه من الروعة التي تهد الجبال فما بالك بالرجال ويدل على هذا أن الروعة قد تعتري من لا يفهم معناه كما روي عن نصراني أنه مر بقارئ فوقف يبكي فقيل له: مم بكيت؟ فقال: للشجا والنظم، والمراد بالشجى هنا الطرب أو الحزن، وفي شفاء القاضي عياض أن هذه الروعة قد اعترت جماعة قبل الإسلام وبعده فمنهم من أسلم لها ومنهم من كفر، فأخرج الشيخان عن جبير بن مطعم قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يقرأ في المغرب بالطور فلما بلغ هذه الآية {أَمْ خُلِقُوا مِنْ غَيْرِ شَيْءٍ أَمْ هُمُ الْخَالِقُونَ} إلى قوله: {أَمْ هُمُ الْمُسَيْطِرُونَ}[الطور:35-37] كاد قلبي أن يطير للإسلام. وفي رواية: وذلك أول ما وقر الإيمان في قلبي.
وأخرج ابن إسحاق في السيرة والبغوي في التفسير أن عتبة بن ربيعة كلم النبي صلى الله عليه وآله فيما جاء به من خلاف قومه فتلى عليهم حم فصلت إلى قوله: {صَاعِقَةً مِثْلَ صَاعِقَةِ عَادٍ وَثَمُودَ}[فصلت:13] فأمسك عتبة على فيه وناشده بالرحم أن يكف، وفي رواية: فجعل النبي صلى الله عليه وآله يقرأ وعتبة مصغ ملق يديه خلف ظهره حتى انتهى إلى السجدة فسجد صلى الله عليه وآله وقام عتبة لا يدري بما يراجعه ورجع إلى أهله ولم يخرج إلى قومه حتى أتوه فاعتذر لهم وقال: والله لقد كلمني بكلام ما سمعت أذناي مثله.
وقال في (الإتقان): قد مات جماعة عند سماع آيات منه أفردوا بالتصنيف.
وفي مجموع زيد بن علي عليه السلام عن أبي خالد الواسطي قال: كان إذا صلينا خلفه ـ يعني زيد بن علي عليه السلام ـ سمعنا وقع دموعه على الحصر، وسمعته عليه السلام يقرأ (اقتربت) فرتلها وقرأها قراءة لا يسمعها فرح ولا محزون إلا قرحت قلبه فمرض من أصحابه عليه السلام رجل من طي من وجدان تلك القراءة فدفناه بعد أيام فصلى عليه ثم قيل: هذا قتيل القرآن وشهيد الرحمن لقد أمسيت مغتبطاً وما أزكي على الله عز وجل أحداً.
وروى القاضي العلامة أحمد بن صالح ابن أبي الرجال في تاريخه (مطالع البدور) أن السيد العلامة داود بن الهادي بن أحمد بن المهدي بن الإمام عز الدين بن الحسن عليه السلام كان حليفاً للقرآن لا يزال يتلوه وكان له زميل في التلاوة فتلى معه ليلة في مدينة ساقين شيئاً من القرآن أثناء الليل فوقع منهما القرآن بموقع عظيم فاضت به نفس ذلك الزميل رحمه الله تعالى.
قال القاضي عياض: وقد حكي عن غير واحد ممن رام معارضته أنه اعترته روعة وهيبة كف بها عن ذلك، فحكي أن ابن المقفع طلب ذلك ورامه وشرع فيه فمر بصبي يقرأ: {وَقِيلَ يَاأَرْضُ ابْلَعِي مَاءَكِ}[هود:44] فمحى ما عمل وقال: أشهد أن هذا لا يعارض وما هو من كلام البشر، وكان من أفصح أهل وقته.
وكان يحيى بن الحكم الغزال بليغ الأندلس في زمنه فحكي أنه رام شيئاً من هذا فنظر في سورة الإخلاص ليحذو على مثالها وينسج بزعمه على منوالها قال: فاعترتني منه خشية ورقة حملتني على التوبة والإنابة.
وقيل: بل الوجه في ذلك ما أنبأ به من أخبار القرون السالفة والأمم البائدة مما كان لا يعلم القصة الواحدة منه إلا أفراد من أهل الكتاب بعد طول بحث وتعلم فيورده نبينا صلى الله عليه وآله وسلم على وجهه وهو أمي لا يقرأ ولا يكتب ومع هذا لم يحك عن واحد من اليهود والنصارى مع شدة عداوتهم له وحرصهم على تكذيبه وكثرت سؤالهم إياه عليه الصلاة والسلام وتعنتهم عليه عن أخبار أنبيائهم وأسرار علومهم ومستودعات كتبهم أنه أنكر ذلك أو كذبه، بل أكثرهم صرح بصحة نبوته وصدق مقالته واعترف بحسده وعناده إياه.
واعلم أن العلماء قد ذكروا من وجوه الإعجاز أنواعاً كثيرة غير ما ذكرنا، منها: كونه آية باقية لا تعدم ما بقيت الدنيا مع تكفل الله بحفظه، وسائر معجزات الأنبياء" انقضت بانقضاء أوقاتها فلم يبق إلا خبرها.
ومنها جمعه لعلوم ومعارف لم يعهدها النبي صلى الله عليه وآله وسلم قبل نزوله فضلاً عن غيره من بيان علم الشرائع وغيرها من الحكم والآداب والتنبيه على طرق الحجج العقلية والرد على فرق الضلالة ببراهين قاطعة وألفاظ بارعة مع إيجاز وبيان لا يقدر أحد على مثله.
ومنها مشاكلة بعض أجزائه بعضاً وحسن ائتلاف أنواعها والتئام أقسامها وحسن التخلص والخروج من باب إلى غيره على اختلاف معانيه وغيره من الكلام والفصيح إذا اعتوره مثل هذا ضعفت قوته وقل رونقه إلى غير ذلك من الوجوه الكثيرة، وبعضهم يقول: إن الإعجاز وقع بجميع ما سبق، وبعضهم يذكر اختلاف الناس ويعدد وجوها مما تقدم وغيرها ثم يجزم بأن الإعجاز وقع بجميعها كالقرطبي ورواه الزركشي عن أهل التحقيق.
وقال القاضي عياض: المعتمد في حقيقة الإعجاز أربعة وجوه:
أحدها: حسن تأليفه والتئام كلمه وفصاحته ووجوه إيجازه وبلاغته الخارقة لعادة العرب.
ثانيها: صورة نظمه العجيب وأسلوبه الغريب، قال: وكل واحد من هذين النوعين نوع إعجاز خلافاً لمن زعم أن الإعجاز في مجموع البلاغة والأسلوب.
ثالثها ورابعها:ما انطوى عليه من الإخبار عن المغيبات المستقبلة والإنباء عن الأمم السالفة.
قال: وهذي الوجوه الأربعة لا نزاع فيها ولا مرية.
إذا عرفت هذا فاعلم أن الأئمة" ومن وافقهم يبطلون جميع ما خالف مذهبهم وهو القول بأن وجه الإعجاز كونه في الدرجة العالية من الفصاحة والبلاغة بوجهين: جملي وتفصيلي.
فالجملي هو أن الله تعالى إنما تحداهم بما يساويه في الفصاحة فقط، فثبت أنها الأصل، وإن صح أن تكون بعض هذه الأمور وجها في الإعجاز آخر فليس إلا على جهة التبع لما هو الأصل.
فإن قيل: التحدي إنما وقع بالإتيان بمثل القرآن ولم يذكر الفصاحة.
قيل: لكنه قد تحداهم بأن يأتوا بسورة وأطلق والمعلوم أن كثيراً من السور لا يوجد فيها أكثر الأنواع التي ذكروها بخلاف الفصاحة فإنها لازمة لكل سورة فثبت أن التحدي بفصاحته.
وأما التفصيلي وهو الجواب عن كل واحد من تلك الأقوال فنقول: الجواب عن القول بأن وجه إعجازه حسن النظم من وجوه:
أحدها: أن الفصاحة قد تظهر فيما ليس فيه أسلوب كالآية الواحدة فإنها معجزة، كقوله تعالى: {وَلَكُمْ فِي الْقِصَاصِ حَيَاةٌ}[البقرة:179] ولا أسلوب هناك لقصرها وتقارب أطرافها.
الثاني: أن يقال: ما وجه الإعجاز بالأسلوب إن كان الفصاحة لكنها مخالفة لسائر أساليب الكلام الفصيح، فهذا صحيح ومرجعه إلى قولنا وإن كان مخالفته للشعر والخطب من غير اعتبار فصاحة فخطأ؛ لأن الفصاحة هي الأصل في الإعجاز،ذكر هذين الوجهين الإمام يحيى، واعترض الإمام عز الدين الوجه الأول بأن الإعجاز إنما يتحقق بسورة أو بعدة آياتها،والثاني بأنه احتجاج بنفس المذهب.
الوجه الثالث: إن أكثر أسلوبه لا يخالف أساليب الكلام لا سيما المنثور والخطب والرسائل ولهذا إذا أدرجت الآية في خطبة أو سجع أو كلام كادت تشتبه به في أسلوبها وقافيتها وكذلك فيه ما يقارب أسلوب الشعر كقوله: ويخزهمُ وينصركم عليهم، ويشف صدور قوم مؤمنينا ونحوها.
الوجه الرابع: أنه يلزم أن يكون كل من أتى بأسلوب غريب أن يكون كلامه معجزا كقس بن ساعدة وغيره فإنه كان يأتي في مواعظه بأساليب غريبة.
فإن قالوا: إنما كان الأسلوب معجزاً بانضمام الفصاحة إليه.
فجوابه ما ذكره الموفق بالله وهو: أن القرآن إنما بان عن غيره بالفصاحة العظيمة لا بالأسلوب الذي هو موجود في كلام قس وأكثم بن صيفي فلا تأثير له فيه.
الخامس: أنه لو اختص بأسلوب لكان التحدي به لا يقع لعدم اعتيادهم له فلا يكون ناقضاً لعادتهم.
وأما احتجاجهم بأنه لا يمكن معرفة إعجازه من أنواع البديع وقولهم: إنه يمكن تعلمها إلى آخرما ذكر في الوجه الأول فمدفوع بأن الناس يتفاضلون في الفصاحة وفي العلم بها وذلك معلوم، وإذا كان التفاضل فيها وفي العلم بها بين البشر فلا شك أنهم لا يحيطون بكل شيء علماً، وإذا كانوا كذلك فلا يصح أن يقال إنه يمكنهم تعلم جميع أنواع الفصاحة وبلوغ الدرجة العالية منها حتى يأتوا بمثل القرآن في فصاحته بخلاف الباري تعالى فإنه قد أحاط بكل شيء علماً وأحاط بالكلام كله، فإذا أراد ترتيب ألفاظ القرآن علم أي لفظة تصلح أن تلي الأولى وتبين المعنى المراد من دون تنافر في الحروف ولا غرابة ولا مخالفة لقياس اللغة ولا تعقيد في الدلالة على المعنى، والبشر يعمهم الجهل والنسيان والذهول، بل المعلوم من حالهم ضرورة أنهم لا يحيطون بذلك، ولهذا ترى البليغ ينقح القصيدة أو الخطبة حولاً ثم ينظر فيها فيغير فيها وهلم جرا، وكتاب الله لو نزعت منه لفظة ثم أدير لسان العرب على لفظة أحسن منها لم توجد فكيف يقال إنه يمكنهم أن يتعلموا أصناف البديع.
وأما قولهم في الوجه الثاني: إن ألفاظه ألفاظ العرب ومعانيه في الكتب المتقدمة إلى آخر ما ذكروه، فمسلم لكن الفصاحة والبلاغة لم تتعلق بمفردات الألفاظ ولا بمعانيها المفردة بل بالمركبات منها ولذا قيل: لا يكون المعجز أقل من ثلاث آيات، والمعلوم أن الفصاحة المتعلقة بهذا القدر لا توجد في كلام العرب.
وأما جمعه لمحاسن أقسام الكلام فليس ذلك إلا لفصاحته وبلاغته لا لنظمه وأسلوبه وقد مر أن أسلوبه لا يخالف أساليب الكلام.
والجواب عن قول الرازي ومن وافقه أن نقول: إن كانت الفصاحة جزءاً من وجه الإعجاز فلا يخلو إما أن يعجز جميع البلغاء عن مثل ذلك القدر الذي في القرآن منها أو لا يعجزون عنه إلا مع انضمامه إلى الأسلوب، إن كان الأول لزم أن تكون الفصاحة وجهاً مستقلاً في الإعجاز لحصول حقيقة المعجز فيها، وإن كان الثاني لزم أن لا يكون مجموع الأمرين وجه إعجاز؛ لأن كل واحد على انفراده ليس بمعجز، وإذا انضم ما ليس بمعجز إلى ما ليس بمعجز لم يصر بذلك معجزاً؛ فإن دخول كل واحد على انفراده تحت قدرة البشر يستلزم دخوله تحت قدرهم مع الاجتماع؛ إذ حاجته إلى تزايد العلم لا إلى تزايد القدر؛ لأن كيفية الترتيب لا يحتاج إلى تزايد القدرة بل إلى كثرة العلوم، فمن قدر على أدنى كيفية الترتيب قدر على أعلاها وليس من علم أدناها يعلم أعلاها، بل لا بد له من زيادة في العلوم، وإذ كان كذلك فمن علم بكيفية الفصاحة وحدها وكيفية النظم على انفرادها وأمكنه إيجادهما مفترقين أمكنه إيجاد مجموعهما لكمال آلة ذلك في حقه وهو القدرة والعلم في الطرفين وذلك واضح فيلزم أن لا يكون مجموعهما وجه إعجازه كإفرادهما وبهذا يتبين فساد حجة أهل هذا القول التي بنوها على أن البشر لا يمكنهم الإحاطة؛ لأنا فرضنا الكلام على أن المتعذر عندهم الإحاطة بعلمه على البشر هو مجموع النظم والفصاحة لا كل واحد على انفراده، ثم أبطلنا ذلك بأن القدرة على الأفراد والعلم بها يستلزم القدرة على المجموع والعلم به، وإذا كان ذلك ممكنا في حق البشر لم يحصل فيه حقيقة الإعجاز فلا يصح جعله وجها للإعجاز، وكل ما ذكروه في احتجاجهم إنما يصلح وجهاً في تعين الفصاحة للإعجاز؛ إذ هي التي لا يمكن البشر الإحاطة بأنواعها كما مر فتأمل.
والجواب عن القول بالصرفة من وجوه:
أحدها: إجماع الأمة قبل حدوث المخالف على أن القرآن هو المعجز والقول بالصرفة يخرجه عن كونه معجزاً وذلك خلاف الإجماع.
قلت: قد مر عن الإمام عز الدين أنهم يوافقون في كون المعجز هو القرآن وإنما خلافهم في وجه إعجازه، وأما الإمام يحيى فقد صرح بأنهم يقولون: إن القرآن لم ينزل للإعجاز كما مر وقد سلك مسلكه في شرح مفتاح السكاكي في نقل الخلاف فنسب إلى النظام القول بأن القرآن ليس بمعجز ولا أنزل ليكون حجة على نبوة النبي -صلى الله عليه وآله- بل لبيان الأحكام، والعرب إنما لم يعارضوه؛ لأن الله تعالى صرفهم عن ذلك وسلب علومهم به وقدرتهم عليه لا لأن الإتيان بمثله غير ممكن.
الوجه الثاني: أن الصرفة لو كانت هي الوجه في الإعجاز لكان غير الفصيح من الكلام أظهر إعجازاً؛ لأنه إذا وقع على وجه يقدر عليه الفصيح وغيره واللاحن والمعرب ثم لم تقع معارضته بعد ظهور التحدي البالغ كان ذلك أبلغ في الإعجاز بل كان يجب إيقاعه كذلك بحيث لا يعجز عنه أحد ليكون الترك والحال هذه أبلغ في ظهور إعجازه؛ لأن الإعجاز لطف واللطف يجب أن يقع على أبلغ الوجوه، فلما كان في أعلا طبقات الفصاحة علمنا أن الصرفة ليست وجه إعجازه وأن تعجيزهم إنما كان بفصاحته.
الوجه الثالث: أنه يلزم من القول بالصرفة زوال الإعجاز بزوال زمان التحدي وخلو القرآن من الإعجاز وفي ذلك خرق لإجماع الأمة أن معجزة الرسول العظمى باقية ولا معجزة له باقية سوى القرآن.
قلت: وفي هذا الوجه نظر؛ لأن لهم أن يقولوا: التحدي باق ببقاء التكليف فلا يزول زمانه ولا يخلو القرآن من الإعجاز.
الوجه الرابع: أنا نعلم بالضرورة أن العرب كافة كانوا مستعظمين لفصاحة القرآن معجبين بها عجباً عظيماً حتى قال الوليد بن المغيرة لما تلا عليه النبي صلى الله عليه وآله {إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالإِحْسَانِ...}الآية [النحل:90]: والله إن له حلاوة، وإن عليه لطلاوة، وإن أسفله لمغدق، وإن أعلاه لمثمر، ما هذا بقول بشر، أخرجه البيهقي عن عكرمة مرسلا، وأخرجه في الشعب بسند جيد عن ابن عباس، وكذا ابن إسحاق في السيرة، وذكره ابن عبد البر في الاستيعاب بغير إسناد إلا أنه قال خالد بن عقبة بدل الوليد.
وحكى أبو عبيد أن أعرابياً سمع رجلاً يقرأ: {فَاصْدَعْ بِمَا تُؤْمَرُ}[الحجر:94] فسجد وقال: سجدت لفصاحته.
وفي حديث إسلام أبي ذر وقد وصف أخاه أنيساً فقال: (والله ما سمعت بأشعر من أخي لقد ناقض اثني عشر شاعراً في الجاهلية أنا أحدهم وإنه انطلق إلى مكة وجاء إلى أبي ذر بخبر النبي -صلى الله عليه وآله- قلت: فما يقول الناس؟ قال: يقول: شاعر، كاهن، ساحر، لقد سمعت ما قال الكهنة فما هو بقولهم، ولقد وضعته على أقرا الشعر فلم يلتئم وما يلتئم على لسان أحد بعدي أنه شعر وإنه لصادق وإنهم لكاذبون)، أخرجه مسلم وغيره، والأخبار في هذا المعنى صحيحة كثيرة.
الوجه الخامس: أنهم لو كانوا يقدرون على مثله وإنما صرفوا عنه لكانوا يتعجبون من تعذره عليهم بعد أن كان مقدوراً لهم كما أن نبياً لو قال: معجزتي أن أضع يدي على رأسي وأنتم يتعذر ذلك عليكم، ثم كان الأمر على ما قال لم يكن تعجبهم من وضع يده على رأسه بل من تعذر ذلك عليهم بعد إمكانهم.
قال الإمام عز الدين: والمعلوم ضرورة أن تعجب العرب ما كان إلا من فصاحة القرآن.
السادس: أن القول بأن الله سلب دواعيهم والقول بأنه سلبهم العلوم المحتاج إليها في المعارضة باطلان.
أما الأول فلما مر من أن دواعيهم متوفرة إلى ذلك ورغبتهم في إبطال أمره وذلك معلوم ضرورة، فكيف يقال سلبهم الدواعي وقد علمناها فيهم ضرورة ويعلم من حالهم أيضاً أنهم يعلمون أن أمره يبطل بالمعارضة بعد إظهار التحدي.
وأما الثاني: وهو أن الله تعالى سلبهم العلوم المحتاج إليها فقال الموفق بالله: لا يصح ذلك؛ لأنه خروج عن كمال العقل؛ إذ لا يجوز أن يكون المرء عالماً بالنظم فيصح منه مع السلامة ولا يتأتى منه ذلك كما لا يصح أن يكون عالماً بصنعة من الصنائع كالخياطة فيصح مع السلامة ولا يتأتى ذلك منه ولأنه كان يجب أن يكون في كلامهم ما هو مثله قبل سلب العلم بكيفية إيجاده والمعلوم خلافه، وأما الإمام المهدي والقرشي فقالا: القول بسلبهم هذه العلوم صحيح، قال الإمام المهدي: فإنا نقول إنهم عاجزون عن مثله؛ إذ لا علوم لهم يتمكنون بها من تأليف مثله فهو مثل قولنا.
قلت: وفيه نظر فإنا نقول إن إيجاد مثله غير داخل تحت قدر البشر وعلومهم لا تحيط بما اشتمل عليه من أسرار الفصاحة والبلاغة ولسنا نقول إنهم سلبوا علوماً كانت حاصلة لهم قبل التحدي وهؤلاء يقولون: إنهم سلبوا علوماً كانت حاصلة لهم كما مر عن المرتضى.
فإن قيل: إن لهم أن يقولوا: لسنا نريد بالصرفه سلب الدواعي ولا سلب العلوم، بل أردنا أنهم سلبوا القدرة عليه مع توفر الدواعي وبقاء العلوم وكانوا قادرين عليه لكن كلما حاولوا إيجاد المثل منعوا إما بأن يسكن ألسنتهم فلا يقدرون على الكلام عند محاولة المعارضة وإما بأن لا يقدروا على الكلام الفصيح.
قيل: لو كان ذلك كذلك لاشتهر لأنه من الأمور المستعظمة التي تتوفر الدواعي إلى نقلها في العادة وكيف لا يشتهر وهو المعجز في الحقيقة دون القرآن ولأنه لو كان كذلك لوجده العرب من أنفسهم واستنكروه من أحوالهم، ألا ترى أن أحدنا لو وجد من نفسه إمكان المشي يمنة فرسخاً وإذا أراد أن يمشي يسرة لم يقدر أن ينقل قدماً فإنه يظهر استنكاره ويجد ذلك من نفسه فكذلك حال العرب لو كانوا قادرين على مثل القرآن فإذا حاولوا معارضته منعوا ولو وجدوه من أنفسهم لاشتهر وانتشر؛ إذ لا يصح أن يجد العرب كافة أقصاهم وأدناهم من أنفسهم هذا الأمر الخارق ولا ينقل عنهم الحديث في استنكاره والعجب منه، وبعد فإن المعلوم من حالهم أنهم لم يمنعوا من الكلام الفصيح ولا غيره بل كان يصدر منهم حال النبوة وبعدها.
الوجه السابع: أن مسيلمة اللعين وابن المقفع وغيرهما قد تعاطوا معارضته فلم يأتوا إلا بما تمجه الأسماع وتنفر عنه الطباع، فلو كان وجه الإعجاز الصرفة لصرفوا عن تعاطي ما فعلوا.
قلت: وفي هذا الوجه نظر؛ لأن للخصم أن يقول: إنهم إنما لم يتمكنوا من الإتيان بمثله لصرفهم عن الكلام الفصيح، فمعنى الصرفة في حقهم باق على أنه قد مر عن ابن المقفع وغيره أنها اعترتهم روعة عند إرادة المعارضة أوجبت تركهم إياها وهو معنى الصرفة، وأما مسيلمة فقال أبو حيان: إنه لم يقصد المعارضة ومثله أبو الطيب المتنبي وغيرهما، وإنما ادعوا أنه نزل عليهم وحي بذلك.
واعلم أن القول بالصرفة إنما منع منه أصحابنا لقيام الدليل على خلافه عندهم ولتأديته إلى خروج القرآن عن كونه معجزاً في نفسه وإلا فإثبات النبوة بها وجعلها وجه إعجاز صحيح؛ لأن الله تعالى لما دعى أهل البلاغة والخطابة الذين يهيمون في كل واد من المعاني بسلاطة ألسنتهم إلى معارضة القرآن مع كونها في نفسها ممكنة ودواعيهم إليها متوفرة ثم عجزوا ولم يتصدوا لمعارضته بحال لم يخف على أولي الألباب أن صارفاً إلاهياً صرفهم عن ذلك وذلك الصرف أمر خارق للعادة فوجب أن يكون معجزا، بل أي إعجاز أعظم من عجز كافة البلغاء عن معارضته مع كونها من الأمور الممكنة وتوفر الدواعي إليها.
والجواب عن القول بأنه يدرك ولا يمكن وصفه أنه راجع إلى الفصاحة كما صرح به السكاكي والخطابي.
والجواب عن القول بأن وجه إعجازه اشتماله على المغيبات المستقبلة من وجوه:
أحدها: أن ذلك لا يشمل القرآن، والتحدي واقع بكله، ولهذا قال: {فَأْتُوا بِسُورَةٍ مِنْ مِثْلِهِ}[البقرة:23] ولم يفصل بين ما فيه إخبار عن غيب وغيره، بل قال: {فَأْتُوا بِعَشْرِ سُوَرٍ مِثْلِهِ مُفْتَرَيَاتٍ}[هود:13] وهذه الآية حجة قاطعة واضحة على أن التحدي إنما كان بفصاحته الخارقة.
الثاني أنه يلزم من هذا القول ألا يثبت لمن كان في زمن النبي -صلى الله عليه وآله- في أول الأمر العلم بنبوته -صلى الله عليه وآله- لأن وجه الإعجاز إذا كان الإخبار عن الغيوب المستقبلة فصدقها لا يعرف إلا بعد العلم بصدق المخبر بها والعلم بصدقه لا يحصل إلا بعد النبوة وذلك دور.
فإن قيل: بل يعرف بمشاهدة ما أخبر بوقوعه.
قيل: إن منها ما لا يعلم إلا في الآخرة، كالإخبار بالجنة والنار ولا تكليف علينا في الآخرة، ومنها ما هو متأخر عن وقت دعوى النبوة كغلبة الروم ودخول المسجد الحرام وهذا وإن علم صدقه بالمشاهدة فإنه يلزم منه أن لا تثبت الحجة على نبوته إلا بعد مدة مديدة من دعوته والمعلوم أنها تثبت الحجة من أول البعثة.
الثالث: أن الإخبار بالغيب جرى على لسانه -صلى الله عليه وآله- في غير القرآن كقوله لعمار: ((تقتلك الفئة الباغية)) وقوله لعلي: ((ستقاتل الناكثين والقاسطين)) وغير ذلك مما لا ينحصر، فلو كان وجه إعجاز القرآن ما فيه من الإخبار بالغيب لكانت هذه الأخبار معجزات.
قال الإمام المهدي: ولا قائل من أمة محمد -صلى الله عليه وآله- أن الإخبارات كلها كالقرآن في كونها معجزة.
قلت: أراد عليه السلام أنه لم يقل أحد أن الخبر المتضمن للغيب يكون كله معجزا، وأما ما يتضمنه من الإخبار بالغيب فهو معجز عنده كما سيأتي ولما مر عنه عليه السلام وعن غيره من جواز تأخر المعجز عن الدعوى إذا كان قد أخبر بأنه سيقع.
الوجه الرابع: أَن فيما أنزل الله تعالى من الكتب المتقدمة إخبار عن الغيوب وليست بمعجزات؟
قلت: لقائل أن يقول: ومن أين لكم أنها ليست بمعجزات سلمنا فإنما لم تكن معجزة لعدم التحدي بها والتحدي شرط في كون المعجز معجزاً عند قوم كما مر.
الخامس: أن في أخبار الكهنة ونحوهم إخبار بالغيب وليس بمعجز.
قلت: وفي هذا الوجه نظر سيأتي بيانه.
السادس: أن الإخبار بالغيب لو كان هو الوجه في الإعجاز لكان الإعجاز ليس براجع إلى القرآن من حيث هو قرآن بل لكون الخبر حاصلاً فيه من غير سبق تعلم ولا تعليم؛ لأن الإخبار بالغيب إخبار به سواء كان بهذا النظم أو بغيره مؤدى بالعربية أم بلغة أخرى بعبارة كان أو إشارة ولهذا استضعف الإمام المهدي نسبة هذا القول إلى أحد من العلماء فقال: والذي عندي أنه لا يقول أحد أن وجه الإعجاز في القرآن الإخبار فيه بالغيب، واحتج بما مر في الوجه الثالث من لزوم كون كل خبر متضمن للإخبار بالغيب معجزا، ثم قال عليه السلام : فالأقرب عندي أن صاحب هذا القول أنكر كون القرآن معجزة لدخول الكلام الفصيح تحت قدرة البشر وعدم القطع بعجز كل العالم عن مثله لكنه متضمن للإعجاز من وجه آخر وهو تواتره متضمناً للإخبار بالغيب فكان طريقنا إلى إثبات نبوته -صلى الله عليه وآله- تواتر إخباره بالغيوب ولم تتواتر إلا في القرآن فجعلناه دليل النبوة لكن لا من حيث كونه معجزة في نفسه بل لتضمنه الإخبار بالغيب وهو معجزة، ولم يجعل سائر الإخبار بالغيب طريقاً إلى إثبات النبوة لعدم تواترها إلينا ولو تواترت لكانت مثله في الدلالة على النبوة وكذلك التوراة والإنجيل لو تواترت لكانت معجزة لما فيها من الإخبار بالغيب لا من حيث أنه لا يقدر أحد على مثل كلامها.
قال عليه السلام : فهذا تحقيق هذا المذهب عندي لا ما حكاه العلماء من الاطلاق فإنه لا يقوله بعض العوام فضلاً عن العلماء.
أقول: أما كون ما تضمنه القرآن من الإخبار بالغيب معجزا بالمعنى الذي ذكره الإمام المهدي فمما لا ينبغي الخلاف فيه وذلك أمر لا يختص القرآن ولذلك تجد العلماء إذا ذكروا حديثاً يتضمن الإخبار بأمر مستقبل ثم وقع على وفقه يقولون: هذا من معجزات النبي -صلى الله عليه وآله- والإمام المهدي ممن نص على ذلك، ففي شرحه على القلائد: إن القرآن متضمن ثلاث معجزات كل واحدة منها لو استقلت لكانت كافية في الدلالة على صدق النبي -صلى الله عليه وآله- وهي: فصاحته الخارقة، والإخبار بالغيب، والإخبار عن القرون الماضية، وقال في الأساس وشرحه: وأما الإخبار بالغيب فهو معجزة أخرى مضافة إلى معجزة البلاغة، وقد مر عن القاضي عياض أنه لا نزاع في ذلك وهو الذي يقتضيه ما مر من جواز تراخي المعجزة.
فإن قيل: كيف يكون الإخبار عن الغيب معجزة وقد ظهر الإخبار به عن الكهنة والمنجمين ونحوهم؟
قيل: لأن النبي -صلى الله عليه وآله- لم يظهر عنه في جميع إخباراته بالغيوب شيء من الاختلاف وهولاء إن صدقوا مرة كذبوا عشراً فدل ذلك على أنهم لم يأخذوا خبرهم عن الله عالم الغيب والشهادة وإلا لاستمر صدقهم كما استمر صدقه، وقد أخبرنا الله تعالى أن ذلك من أعظم المعجزات حيث قال: {وَعَلَّمَ آدَمَ الأَسْمَاءَ كُلَّهَا...}الآية[البقرة:31].
قال الإمام المهدي: ولا شك أنما عرفنا أنه إخبار عن غيب ليس بمستدل عليه بالعادات التي أجراها الله تعالى عند الطوالع ولا جعلها خاصة لبعض الأجسام ولا من طريق استراق الشياطين للسمع فهو معجز قطعاً لكنا لا نعلمه معجزاً إلا بعد العلم بأنه غير مأخوذ عن أحد هذه الطرق.
والجواب عن القول بأن وجه إعجازه سلامته من التناقض ما مرَّ من أن المتحدى به هو الفصاحة وبأن سائر كتب الله تعالى سالمة من التناقض مع أنها ليست بمعجزات.
وبعد فإن السلامة ليست خارقة للعادة فإنه يجوز منا تهذيب الكلام والاحتراز عن تناقضه كما يجوز ذلك في القصائد والكتب المصنفة وإنما علم أنه لو كان من عند غير الله لوجد فيه اختلافاً من الشرع فقط.
قال الموفق بالله: فأما العقل فلا يقتضي ذلك لجواز أن ينظر في كل سورة وكلمة في الأوقات ويصونها عن التناقض.
والجواب على من قال: إن وجهه كون قارئه لا يمل أن التحدي لم يقع به وإنما ذلك من خواصه وفضائله، وجعله القرشي وجهاً مؤكداً للإعجاز، قال: لأن للخصم أن يقول إنما لَذَّ لَكُمْ ولم تملوه على التكرار لاعتقادكم صحته والإيمان به وحصول الثواب عليه.
وقال في (الأساس): إنما كان كذلك لبلاغته، وأما الإمام المهدي فقال: لا نسلم أنه لا يمل، بل قد يمل تكراره الملل العظيم إلا من يرجو ثواب التلاوة، قال: ولو جعلنا ذلك وجه إعجازه جعلنا الصلاة معجزة إذ لا يمل تكرارها، وهكذا يجاب عن القول بالروعة والهيبة الحاصلة عند تلاوته وسماعه أعني أنه لم يقع التحدي بذلك وإنما هو من خواصه.
والجواب على من قال: بأن وجه إعجازه ما أنبأ به من أخبار القرون الماضية بنحو ما مر من الجواب عن القول بأن وجه إعجازه اشتماله على الإخبار بالمغيبات المستقبلة.
هذا وأما سائر الوجوه المذكورة في وجه إعجازه فهي إما راجعة إلى الفصاحة أو خاصة وفضيلة للقرآن.
قال القرشي بعد أن أبطل القول بالصرفة وغيرها من الوجوه المدعاة في الإعجاز ما عدى الفصاحة ما لفظه: فثبت أن الأصل في الإعجاز هو الفصاحة وإن صح أن يكون في هذه الأمور المذكورة وجه في الإعجاز آخر لكن الأصل في الإعجاز هو الفصاحة وما عداها تبع، قال: وكذلك كونه عليه السلام أتى بالقرآن وهو أمي لا يقرأ ولا يكتب مطابقاً لصحيح اللغة وفصيحها وللقصص الصحيحة البعيدة العهد ومطابقاً للعقول في أكثر أحكامه حتى صار يرجع إليه في أكثر أدلة العقل وما يتعلق بالنحو واللغة وسائر الأحكام وكذلك كون شرعه -صلى الله عليه وآله- مؤيداً لا يزداد إلا قوة وعلوا فإن كل هذه لا تستقل وجهاً في الإعجاز ولكنها مؤكدة له.
قال الإمام عز الدين: يعني أن كل واحد منها لم يقصد جعله وجها في الإعجاز وسببا في التحدي وإن كان يمكن استقلال بعضها بالدلالة على النبوة.
قلت: وقد مر عن الإمام المهدي أن في القرآن ثلاث معجزات.
المسألة الثانية [مقدار المعجزة]
قوله تعالى: {فَأْتُوا بِسُورَةٍ مِنْ مِثْلِهِ}[البقرة:23] يدل على أن القدر المعجز من القرآن لا يكون أقل من سورة، وقد اختلف في ذلك فقيل: يتعلق الإعجاز بسورة منه طويلها وقصيرها بخلاف ما دونها للآية وهذا هو ظاهر كلام الجمهور، وذهب بعض المعتزلة إلى أنه يتعلق بجميعه لقوله: {فَلْيَأْتُوا بِحَدِيثٍ مِثْلِهِ}[الطور:34]، وقوله تعالى: {قُلْ لَئِنِ اجْتَمَعَتِ الإِنسُ وَالْجِنُّ...}الآية[الإسراء:88]، لنا ما مر، وقوله تعالى: {فَأْتُوا بِعَشْرِ سُوَرٍ مِثْلِهِ}[هود:13] وقال قوم: بل يحصل بقليل القرآن أو كثيره ولو آية، وهذا قول الإمام يحيى كما مر واختاره بعض متأخري أصحابنا لقوله تعالى: {فَلْيَأْتُوا بِحَدِيثٍ مِثْلِهِ}[الطور:34] وهو صادق بالآية.
قلنا: سياق الآية يفيد العموم وأيضاً الحديث التام الذي يتبين فيه تفاضل قوى البلاغة لا يتحصل في أقل من كلمات سورة قصيرة.
وقيل: لا يحصل الإعجاز بآية ولا بسورة قصيرة بل يشترط الآيات الكثيرة، وهذا هو الظاهر من كلام الرازي في تفسيره فإنه ادعى العلم الضروري بأن الإتيان بمثل سورة قصيرة كالكوثر والعصر ممكن ونسب من أنكر ذلك إلى المكابرة ولهذا اختار القول بالصرفة كما مر، لنا إطلاق السورة وكون التحدي لم يقع إلا بالفصاحة، ودعواه العلم الضروري بالقدرة على مثل الكوثر باطلة؛ إذ لو كان ذلك مقدوراً لهم لفعلوه لتوفر دواعيهم إلى معارضته، ولو كان لنقل.
فرع
ومثل السورة في الإعجاز قدرها من آيات القرآن من أي سورة كانت نص عليه جماعة من أصحابنا وغيرهم، والمراد بقدرها ثلاث آيات إذ بها يحصل العلم بعلو شأنه في الفصاحة فكانت كالسورة في الإعجاز، وقال بعضهم: بل الآية الواحدة إذا كانت بقدر حروف سورة كالسورة في الإعجاز إذ يتبين بها التفاضل في الفصاحة.
المسألة الثالثة [دلالة الأية على أن القرآن من عند الله]
هذه الآية تدل على أن القرآن نزل من عند الله تعالى سوراً مفصلة، قال الإمام الحسن بن عز الدين: هذا الترتيب الذي هو عليه الآن هو الذي كان عليه مذ أنزل دفعة واحدة قبل تنزيله حسب الحاجة والحادثة وما فرق تنزيله حينئذ إلا لما في ذلك من المصلحة، وقد مر البحث في هذا في الفاتحة وذكرنا ثمة الإجماع على أن ترتيب الآيات في السور توقيفي.
وحكى الرازي عن كثير من أهل الحديث أنه نظم على هذا الترتيب في أيام عثمان فلذلك صح التحدي مرة بسورة ومرة بكل القرآن.
قلت: الواقع في أيام عثمان إنما هو ترتيب السور لا ترتيب الآيات فيها كما مر في الفاتحة، ولعل هؤلاء لم يريدوا إلا هذا وأما الاحتجاج لهم بأن التحدي وقع مرة لكذى ومرة بكذا فلا وجه له؛ لأن كون ترتيب آي القرآن توقيفاً لا ينافي التحدي على أحد الأمرين.
المسألة الرابعة [صيغة الآمر في الآية]
الأمر في قوله: {فَأْتُوا بِسُورَةٍ مِنْ مِثْلِهِ}[البقرة:23] للتعجيز وهو أحد معاني الصيغة كما مر في الفاتحة ولا يجوز أن يراد به الطلب؛ لأن التكليف بما علم الآمر انتفاء شرط وقوعه لا يجوز عند العدلية والجويني وهؤلاء قد علم الله منهم أنهم لا يقدرون على الإتيان بمثله بدليل تقريعهم بقوله: {وَادْعُوا شُهَدَاءَكُمْ}[البقرة:23] وإخباره تعالى بأنهم لم يفعلوا.
المسألة الخامسة [جواز الجدل لاظهار الحق]
في الآية دليل على جواز الجدال لإرادة إظهار الحق ودمغ الباطل ودلالتها على ذلك ظاهرة.
المسألة السادسة [دلالة الآية على نسبة أفعال العباد إليهم]
هذه الآية من أوضح الأدلة لمذهب العدلية في نسبة أفعال العباد إليهم وإبطال القول بالجبر؛ لأن التحدي وإظهار حجة الرسول -صلى الله عليه وآله- بعجزهم لا يصح إلا إذا تعذر الإتيان بمثله ممن يصح منه الفعل، فأما إذا لم يكن لهم فعل أصلا فلا يصح تحديهم والاستدلال بالمعجز على النبوة وأيضاً تعذر الإتيان بمثله إنما يكون عند الخصم لفقد القدرة الموجبة وعلى هذا يستوي المعجز وغيره فلا يكون للتحدي معنى ويلزمهم أن يكون الباري تعالى في التحقيق متحدياً لنفسه ولا شك أنه قادر على مثله فلا يثبت الإعجاز، ثم إنه قد مر أن المعجز ما يكون من فعل الله تعالى ناقضاً للعادة، فإذا كان المعتاد ليس بفعل لهم لم يكن بينه وبين الخارق فرق؛ لأن الجميع من قبل الله تعالى.
المسألة السابعة [ما هو الاتقاء المذكور في الآية]
اتقاء النار المأمور به كناية عن الاحتراز من العناد كأنه قيل: فإذا عجزتم عن الإتيان بمثله فاحترزوا من إنكار كونه منزلا من عند الله فإنه موجب للعقاب فوضع فاتقوا النار موضعه؛ لأن اتقاء النار من نتائج ترك العناد من حيث أن اتقاء النار ترك المعاندة فيؤخذ من هذا أن فعل التقوى خشية من النار مجز ومنج منها وأن فاعل التقوى لذلك قائم بما فرض الله عليه، وقد تقدم الكلام في المسألة في قوله تعالى: {إِيَّاكَ نَعْبُدُ}[الفاتحة:5].
المسألة الثامنة [الدلالة على أن النار قد خلقت]
قوله تعالى في النار: {أُعِدَّتْ لِلْكَافِرِينَ}[البقرة:24] يدل على أن النار مخلوقة الآن، وقد اختلف العلماء في خلقها وخلق الجنة:
فقال القاسم والهادي والإمام أحمد بن سليمان وقاضي القضاة وأبو هاشم وضرار بن عمرو ومنذر بن سعيد البلُّوطي والفوطي ورواه أبو حيان عن كثير من المعتزلة والجهمية: هما غير مخلوقتين الآن قطعاً.
وقال أحمد بن عيسى والحسن بن يحيى ومحمد بن منصور وروياه عن علماء أهل البيت": بل قد خلقتا قطعاً، وهو قول الإمام يحيى وأبي علي وأبي الحسين ورواه أبو حيان عن أهل السنة فهما موجودتان الآن حقيقة.
وقال المرتضى وأبو القاسم البلخي ورواه النجري عن كثير من المعتزلة وقال الشرفي هو قول البغدادية: لا قطع بأيهما، واختاره الإمام القاسم بن محمد ورواه عن الإمام المهدي وحكاه في (البدر الساري) عن بعض الآل".
احتج الأولون بوجوه:
أحدها: أنهما إنما خلقتا ثوابا وعقاباً، والثواب والعقاب إنما يكون في الآخرة فخلقهما الآن عبث.
وأجيب بأنا لا نسلم أنه عبث لجواز أن يكون في خلقهما لطف لبعض المكلفين من الملائكة أو غيرهم ويجوز أن يكون في الجنة من ينتفع بها الآن تفضلا؛ لأن التفضل والثواب من جنس واحد وإنما يتميزان بالتعظيم.
قيل: النجري: وفي هذا التجويز الأخير نظر؛ لأنه لا يجوز التفضل بقدر الثواب وإن انفصل عنه التعظيم؟
قلت: وأما أهل السنة فأجابوا عن هذا الوجه بأن أفعاله تعالى لا تعلل بالأغراض والفوائد لا يسأل عما يفعل، وقد مر إبطال مقالتهم هذه في الفاتحة.
الوجه الثاني: أنه لا يعد الشيء ويدخره إلى وقت طويل إلا من يعجز عن إبداعه وقت الحاجة إليه والله تعالى لا يعجزه شيء.
وجوابه كالأول وهو أنه يجوز أن يكون في خلقهما لطف.
ووجه آخر وهو أنه لا مانع من أن يكون في إعدادهما حكمة ومصلحة لا نعلمها وهذان الوجهان العقليان إنما يفيدان القطع بعدم خلقهما عند غير أبي هاشم وأما هو فعنده أنه يجوز من جهة العقل كونهما قد خلقتا وكونهما لم يخلقا وإنما وجب القطع بعدم خلقهما سمعاً فقط.
الوجه الثالث: ورود الأدلة السمعية بذلك وهي كثيرة:
منها قوله تعالى في وصف الجنة: {أُكُلُهَا دَائِمٌ وَظِلُّهَا}[الرعد:35] والدائم لا يجوز عليه الفناء، وقد قامت الأدلة القاطعة على أنه لا بد من فناء العالم أجمع، فلو كانتا مخلوقتين للزم فناؤهما والفناء يناقض الدوام فوجب القطع بعدم خلقهما وأن الجنة التي أسكنها آدم غير جنة الآخرة الموصوفة بالدوام جمعا بين الأدلة.
ومنها: قوله تعالى: {يَوْمَ تُبَدَّلُ الأَرْضُ غَيْرَ الأَرْضِ وَالسَّمَاوَاتُ}[إبراهيم:48] ولو كانتا مخلوقتين لما كانتا إلا في السماء أو في الأرض وإذا كانتا فيهما فكيف تبدل السماء والأرض دونهما.
ومنها قوله تعالى في وصف الجنة: {عَرْضُهَا السَّمَاوَاتُ وَالأَرْضُ} [آل عمران:133] فأخبر أن عرضها عرض السماء والأرض والمتحيزات لا يجوز تداخلها فعلمنا أن ذلك إنما يكون بعد فناء السماوات والأرض فيكون عرض الجنة جهة عرضهما بعينه ليصدق الخبر، قالوا: ولا نسلم أن المراد كعرضهما؛ لأنه خلاف الظاهر ولا موجب لمخالفته.
وأجيب عن هذه الأدلة بأن الاحتجاج بالآية الأولى مبني على أن أدلة الفناء قطعية وليس كذلك، قال النجري: والصحيح أنها ظنية وأن الاحتجاج بها ضعيف، وقال المرتضى: الفناء إنما يكون للدنيا وما كان منها دون ما كان من الآخرة وأسبابها وما حكم به فيها فهو باق ثابت، وقال الحسين بن القاسم العياني: الفناء يكون للحيوان، وقال الإمام القاسم بن محمد: يحتمل أن يراد بدوام أكلها في القيامة لا في أيام الدنيا فليس بدائم فيكون المعنى أن أكلها بعد دخولها دائم لا ينقطع كما أن من دخلها يبقى كذلك وذلك لا ينافي فنائها مع فناء الدنيا وإذا كانت دلالة هذه الآية غير قطعية بطل قولهم بوجوب القطع بأن جنة آدم غير جنة الخلد كيف وقد روي في النهج عن علي عليه السلام ما يدل على أنها هي، وهو قوله عليه السلام : (فاغتره إبليس نفاسة عليه بدار المقام).
وأما قوله: {يَوْمَ تُبَدَّلُ الأَرْضُ....}الآية[إبراهيم:48] فلا حجة فيها إذ لا تدل على تبدل الجنة والنار، وقوله: لو خلقتا لما كانتا إلا فيهما، ممنوع لجواز أن تكونا في غيرهما وقد ورد ما يدل على ذلك كما سيأتي قريباً.
وأما قوله تعالى: {عَرْضُهَا السَّمَاوَاتُ وَالأَرْضُ}[آل عمران:133] فلا يصح حمل العرض الذي وصفت به الجنة على أن المراد به عين عرض السماء والأرض؛ لأن العرض هو امتداد الجسم من يمين الناظر وشماله والمعلوم ضرورة أن الجنة غير السماء والأرض فكيف يكون عرضها هو نفس عرضهما فلم يبق إلا أن المراد بالآية التشبيه ويؤيده ما روي عن ابن عباس أنه قال: الجنة كسبع سماوات وسبع أرضين لو وصل بعضها ببعض.
فإن قيل: لسنا نريد أن عرض الجنة هو نفس عرضهما وإنما أردنا أن عرض الجنة هو جهة عرضهما وذلك لا يكون إلا بعد فنائهما.
قيل: هذا باطل؛ لأن العرض ليس هو الجهة كما بينا ثم إن هذا التأويل لا دليل ولا ملجئ إليه وإنما بنتموه على أنهما لو كانتا موجودتين لما كانت إلا في السماء أو في الأرض وذلك غير مسلم لجواز أن يكونا في غيرهما بل هو الذي جاءت به الروايات.
قال المرتضى: وقد روينا عن السلف أنهما قد خلقتا وأنهما فوق السماء السابعة، وذكر في ذلك حديثاً نزل به جبريل عليه السلام في إيقاد النار حتى صارت أشد سوادا من الليل رواه عنه في (البدر الساري)، وروي أن ناسا من اليهود سألوا عمر بن الخطاب إذا كانت الجنة عرضها ذلك فأين تكون النار؟ فقال لهم: أرأيتم إذا جاء الليل فأين يكون النهار وإذا جاء النهار فأين يكون الليل، فقالوا: إن مثلها في التوراة ومعناه أنه حيث شاء الله، وسئل أنس بن مالك عن الجنة أفي السماء أم في الأرض؟ فقال: وأي أرض وسماء تسع الجنة؟! قيل: فأين هي؟ قيل: فوق السماوات السبع تحت العرش.
وقال قتادة: كانوا يرون الجنة فوق السماوات السبع وإن جهنم تحت الأرضين السبع.
وأما قولهم: إن الله تعالى قد أخبر بعرض الجنة ولا يصدق الخبر إلا بالتأويل الذي ذكروه فغير مسلم، بل نقول لا يصدق خبره تعالى إلا إذا كانت قد وجدت وحصل فيها ذلك العرض، قال الحسن بن يحيى عليه السلام : فقد دل على أنه خلقها وكونها إذ قال عرضها كذى وفيها كذى وقول الله لا يسقط ولا يختلف، وأما بالتأويل الذي ذكروه فلا يصدق الخبر إلا على ضرب من التأويل لكن لا موجب له ولا دليل عليه
احتج القائلون بخلقها بوجوه:
أحدها: أن الله تعالى أخبر في هذه الآية بلفظ الماضي بأنه أعد النار للكافرين وقال في الجنة: {أُعِدَّتْ لِلْمُتَّقِينَ}[آل عمران:133] ومعنى أعدت: هيئت وادخرت، والإخبار عن إعدادهما بلفظ الماضي يدل على وجودهما وإلا لزم الكذب في خبر الله تعالى فوجب القطع بخلقهما، والآيات الدالة على خلقهما كثيرة، منها قوله تعالى: {وَلَقَدْ رَآهُ نَزْلَةً أُخْرَى ، عِنْدَ سِدْرَةِ الْمُنْتَهَى ، عِنْدَهَا جَنَّةُ الْمَأْوَى}[النجم:13-15] قال الحسن بن يحيى عليه السلام : وقد أجمع المسلمون على أن سدرة المنتهى في الجنة التي أعدت للمتقين، وقال الرازي في جنة المأوى: ليست إلا دار الثواب بإجماع الأمة.
وأجيب بأن الدليل القاطع قد دل على فناء العالم وكل من قطع بفناء العالم لا يكون له سبيل إلى القطع بوجود الجنة والنار اللتين وعد الله المجازاة بهما؛ لأن العلم بتخلل عدم إعدادهما قبل وصولهما إلى من أعدا له يمنع كونهما معدودتين له ضرورة، ألا ترى أنك لو أعددت علفاً لبهيمتك وأنت تعلم تلفه قبل وصولها إليه وأخبرت بذلك غيرك لسارع إلى تكذيبك في كونك أعددته لها وحينئذ يجب تأويل هذه الآيات على ما يليق، فنقول: المراد بأعدت ونحوه مما كان بصيغة الماضي المستقبل وذلك كثير في اللغة كقوله: {وَسِيقَ الَّذِينَ اتَّقَوْا رَبَّهُمْ إِلَى الْجَنَّةِ}[الزمر:73] وقوله تعالى: {وَنَادَى أَصْحَابُ النَّارِ}[الأعراف:50] إلى غير ذلك مما يطول تعداده وكله بلفظ الماضي، والمعلوم أن المراد به المستقبل.
وأما قوله: {عِنْدَ سِدْرَةِ الْمُنْتَهَى...}الآية[النجم:14]، فالمراد بتلك الجنة الموصوفة بما ذكر تأوي إليها أرواح الشهداء بقية أيام الدنيا وليست جنة الخلد التي وعد المتقون وإنما عدلنا إلى التأويل للجمع بين الأدلة ورد بأنا لا نسلم القطع بفناء العالم.
سلمنا فلا نسلم أن ذلك يمنع القطع بوجودهما الآن؛ لأنا نقول: تخلل العدم مع إعادتهما بأعيانهما لا يمنع كونهما معدودتين للمتقين والكافرين وإنما فناؤهما كتباعدهما عن جهة من هما معدودتان له مع العلم بوصولهما إليه فكما أنا نعلم ضرورة أن تباعدهما لا يمنع كونهما معدودتين له مع العلم بوصولهما إليه كذلك فناؤهما والحال هذه، ومثاله أن تعد لبهيمتك علفاً في جهة بعيدة عن جهتها بمسافة طويلة وأنت تعلم أنها تصل إلى ذلك العلف وأخبرت غيرك بذلك فإن المعلوم أنه يصدقك فصح أن تخلل العدم لا يمنع كونهما معدودتين وإنما يمنعه لو لم يعادا بأعيانهما كما في المثال الذي ذكرتموه.
وأما تأويلكم للآية الأخرى فنقول: تلك الجنة التي ادعيتموها لا دليل عليها ولا ملجئ إلى ذلك التأويل لما ذكرناه من عدم القطع بفناء العالم ومن أن القطع به لا يمنع القطع بوجودهما ثم إنه مخالف للإجماع.
الوجه الثاني: أن الأحاديث الصحيحة الكثيرة المشهورة دالة على وجودهما، قال الحسن بن يحيى ومحمد بن منصور: الجنة والنار مخلوقتان قد خلقهما الله تعالى اتصل بنا ذلك عن رسول الله -صلى الله عليه وآله- وعن علماء أهل البيت".
وقال (الحسن بن يحيى) أيضاً: والآثار المشهورة عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم أنه دخل الجنة حيث أسري به إلى السماء وأري النار ومن فيها فذلك دليل على إبطال قولهم ولا سبيل إلى ترك التنزيل بقول التأويل المبطل مع أخبار كثيرة مشهورة متسق بها الخبر أثبتها العلماء عن النبي -صلى الله عليه وآله- في إثبات خلق الجنة والنار ذكره في (الجامع الكافي).
وقال الإمام المهدي: الأخبار كثيرة أحادية تواردت على معنى واحد فكان تواتر معنوياً.
قلت: وسيأتي كثير من تلك الأخبار في مواضع من كتابنا هذا إن شاء الله تعالى، ومنها ما رواه الإمام أبو طالب عليه السلام في الأمالي، قال: أخبرنا أبي نا حمزة بن القاسم نا علي بن إبراهيم بن هاشم عن أبيه عن محمد بن أبي عمير عن أبي بصير عن الصادق عن أبيه عن آبائه" قال رسول الله -صلى الله عليه وآله: ((لما أسري بي إلى السماء دخلت الجنة فرأيت فيها قصراً من ياقوت يرى داخله من خارجه وخارجه من داخله من ضيائه وفيه بيتان من در وزبرجد، فقلت: يا جبريل، لمن هذا القصر؟ فقال: هذا لمن أطاب الكلام، وأدام الصيام، وأطعم الطعام، وتهجد بالليل والناس نيام، فقال علي عليه السلام : يا رسول الله، وفي أمتك من يطيق هذا؟ قال: ادن مني يا علي، فدنا منه، قال: تدري من أطاب الكلام؟ قال: الله ورسوله أعلم، قال: من قال سبحان الله والحمد لله ولا إله إلا الله والله أكبر، تدري من أدام الصيام؟ قال: الله ورسوله أعلم، قال: من صام شهر رمضان ولم يفطر منه يوماً، تدري من أطعم الطعام؟ قال: الله ورسوله أعلم، قال: من طلب لعياله ما يكف به وجوههم عن الناس، تدري من تهجد بالليل والناس نيام؟ قال: الله ورسوله أعلم، قال: من لم ينم حتى يصلي العشاء الآخرة)) ويعني بالناس نيام اليهود والنصارى لأنهم ينامون بينهما.
أما حمزة فهو حمزة بن القاسم العلوي، قال في التذكرة: توفي سنة خمس وثلاثين وثلاثمائة، قال في (الجداول): الظاهر أنه حمزة بن القاسم بن عبيد الله بن محمد بن عبد الله بن الحسن بن عبيد الله بن الحسن بن عبيد الله بن العباس بن علي بن أبي طالب.
وأما علي بن إبراهيم فقال في (الجداول): الظاهر أنه ابن البريد المشهور من رجال الشيعة، وأما والده فلم يبين حاله في (الجداول) وكذلك ابن أبي عمير، والحديث نص في المقصود.
وأجيب عنه وعما في معناه: بأنه إذا صح وجود جنة ونار الآن فليستا دار الخلود والجزاء كما مر، قال الإمام المهدي: لا شك أن ثم جنة وهي جنة آدم عليه السلام بتصريح القرآن بذلك، وأما النار فلا قاطع على وجودها لكن قد وردت آثار أحادية بأن إدريس عليه السلام ونبينا محمد -صلى الله عليه وآله- قد اطلعا عليها وأن الميت يرى مقعده في النار فلا يبعد وجودها وليست دار الخلود لما قدمناه، وقال النجري: المراد بالمضي الاستقبال فمعنى قوله: إنه رأى في الجنة كذا أنه إذا كان في الآخرة رأى ذلك، هكذا قيل، قال: ويمكن أن يحمل ذلك على ظاهره ويكون المراد جنة الدنيا وهي جنة آدم عليه السلام فقد قيل: لا يمتنع أن يكون في السماء جنات شتى سوى جنة الخلد نحو الجنة التي كان فيها آدم عليه السلام ويكون فيها كثير من الملائكة والأنبياء الآن ورد بأن هذا كله عدول عن الظاهر بلا موجب.
الوجه الثالث: إجماع العلماء على وجودهما، قال محمد بن منصور: وهذا عندنا إجماع العلماء وإنما يدفع ذلك من لا يعلم، وقد مر حكاية إجماع علماء العترة" على ذلك، وفي الجامع الكافي عن الحسن بن يحيى ومحمد بن منصور أنهما قالا: من قال إن الله تعالى لم يخلق الجنة والنار ولكن يخلقهما بعد.
فإنا نقول: إن هذا القول تكلف من قائله وجرأة وقذف بالغيب وبدعة، ويجاب بأن الخلاف مشهور كما مر.
قلت: ولعل المراد إجماع السلف ويؤيده ما مر عن المرتضى.
احتج المجوزون للأمرين بأنه لا قطع بخلقهما ولا عدمه لاحتمال أدلة القولين كما مر فتعين القول بالتجويز، والمسألة مما لا تكليف علينا فيها.
قال المرتضى بعد ذكر القولين: وبأيهما قال به القائل فغير مأثوم؛ لأن هذا ليس مما تعبدنا به ولا فرضت معرفته ولا فرض علينا إلا الإقرار بهما والتصديق بما فيهما من الوعد والوعيد.
وقال السيد محمد بن عز الدين المفتي: الخلاف فيها لا يثمر جدوى.
قلت: ولقائل أن يقول معرفة هذه المسألة من فروض الكفايات لمعرفة خطاب الله وخطاب رسوله -صلى الله عليه وآله- كما في غيرهما من مسائل علم الكلام؛ إذ لا نعرف معنى الإعداد لهما والإخبار برؤيتهما إلا بعد الخوض في المسألة، وإنما جعلناها من فروض الكفايات؛ لأن معرفة جميع المراد من خطاب الله تعالى ورسوله ليس من فروض الأعيان وذلك معلوم، ويؤيده قوله عليه السلام في وصف القرآن بين مأخوذ ميثاق علمه وموسع على العباد في جهله رواه في النهج.
المسألة التاسعة [الجواب على المرجئة في قولهم أن النار غير معدة للفاسقين]
ربما قال بعض المرجئة: إن قوله تعالى: {أُعِدَّتْ لِلْكَافِرِينَ}[البقرة:24] يدل على أن النار ليست معدة للفساق ولا تعلق لهم بذلك؛ لأنا نقول: إن أردتم أن الآية تدل على أن العصاة لا يدخلون ناراً أصلاً فباطل؛ لأنها إنما دلت على أن هذه النار التي وقودها الناس والحجارة مخصوصة بالكافرين وليس فيها دلالة على أنه لا نار لغيرهم من أهل الكبائر وإن دلت بالمفهوم فالمنطوق الصحيح الصريح القاطع بخلافه، فإن المعلوم من الدين توعد العصاة بنار جهنم -أعاذنا الله منها- وقد قيل: إن النار دركات كما أن الجنة درجات فيجوز أن تكون هذه النار خاصة للكافرين ولأهل الكبائر نيران غيرها، وفي الكشاف: أن النيران شتى، منها نار توقد بالناس والحجارة يدل على ذلك تنكيرها في قوله تعالى: {قُوا أَنفُسَكُمْ وَأَهْلِيكُمْ نَاراً}[التحريم:6] {فَأَنْذَرْتُكُمْ نَاراً تَلَظَّى}[الليل:14] قال: ولعل لكفار الجن وشياطينهم ناراً وقودها الشياطين كما أن لكفرة الإنس ناراً وقودها هم جزاء لكل جنس بما شاكله من العذاب، وإن أردتم أن نار العصاة غير نار الكفار كما بيناه فهو لا ينفعكم في الإرجاء ولا يقدح في أدلة الوعيدية، هذا على أن من العلماء من ادعى دخول عصاة الأمة في هذا الوعيد.
قال السيد أحمد بن عبد الله الشرفي في (المصابيح): أما عند قدماء أئمتنا" وغيرهم فالفاسق داخل تحت هذا الاسم؛ إذ يسمى كافر نعمة، وقد صرح بذلك الهادي عليه السلام حيث قال: الكفر كفران: كفر جحدان، وكفر نعمة للواحد الرحمن، قال أبو حيان: اكتفى بذكر الكفار تغليباً للأكثر على الأقل أو لأن الكافرين يشمل من كفر بالله وكفر بأنعمه.
البقرة: (25)
* دلالة الآية على البعث.
* العلاقة بين الإيمان والأعمال.
* تخصيص العمل بأفعال الجوارح
* ماهية الأعمال الصالحة المذكورة في الآية
* في شروط ثواب الأعمال.
* توقيت استحقاق الثواب
* في أن (كلما) تفيد التكرار.
* دلالة الآية على وجود الجنة
* أحكام تتعلق بالثواب.
* في رزق الدنيا والآخرة
* فيما يناسب الآية مما جاءت به السنة النبوية من أوصاف الجنةقوله تعالى: {وَبَشِّرِ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ أَنَّ لَهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الأَنْهَارُ كُلَّمَا رُزِقُوا مِنْهَا مِنْ ثَمَرَةٍ رِزْقاً قَالُوا هَذَا الَّذِي رُزِقْنَا مِنْ قَبْلُ وَأُتُوا بِهِ مُتَشَابِهاً وَلَهُمْ فِيهَا أَزْوَاجٌ مُطَهَّرَةٌ وَهُمْ فِيهَا خَالِدُونَ}[البقرة:25]
البشارة: قيل: هي أول خبر يرد على الإنسان خيراً كان أو شراً، وأكثر استعماله في الخير، ويدل عليه ما روي عن سيبويه أنه قال: هو خبر يؤثر في البشرة من حزن أو سرور، وقال الزمخشري: لا يستعمل إلا في الخير، وهو ظاهر كلام الراغب، وما ورد في الشر محمول على التهكم والاستهزاء، والعمل كل فعل يكون من الحيوان يقصد فهو أخص من الفعل؛ لأن الفعل قد ينسب إلى الحيوان الذي يفعل بلا قصد وقد ينسب إلى الجماد، والعمل قلّ ما ينسب إلى ذلك ولم يستعمل إلا في قولهم البقر العوامل، والعمل يستعمل في الأعمال الصالحة والسيئة.
قال الراغب: والصلاح ضد الفساد، قيل: وهما مختصان في الاستعمال بالأفعال.
والجنة: البستان الذي سترت أشجاره أرضه، والأنهار جمع نهر بفتح الهاء وجاء إسكانها، وهو المجرى الواسع، والمراد تجري ماء الأنهار، وإنما أسند الجري إلى الأنهار توسعاً، والأزواج جمع زوج وهو الواحد الذي يكون معه آخر ويستعمل في الذكر والأنثى، قال الأصمعي: ولا تكاد العرب تقول: زوجه، وقيل: يقال للمرأة زوج في لغة الحجاز وزوجة في لغة تميم، والطهارة: النظافة، والخلود: البقاء الدائم الذي لا ينقطع لقوله تعالى: {وَمَا جَعَلْنَا لِبَشَرٍ مِنْ قَبْلِكَ الْخُلْدَ}[الأنبياء:34] فنفى الخلد عن البشر مع أنه أعطى بعضهم العمر الطويل والمنفي غير المثبت، فوجب القول بأن الخلد البقاء الدائم، وقال امرئ القيس:
وهل يعمن إلا سعيد مخلد .... قليل هموم ما يبيت بأوجال
وقيل: هو الثبات الطويل سواء دام أم لا لتقييده بالتأبيد ولو كان داخلاً في مقر يوم الخلود لكان تكرارا.
قلت: وهو ضعيف لاحتمال التأكيد، وفي الآية مسائل:
المسألة الأولى [دلالة الآية على البعث]
هذه الآية من أدلة البعث، ووجه دلالتها أن الله تعالى قد أخبر وهو الصادق في خبره أن للمؤمنين هذه الجنان الموصوفة، والمعلوم أنه لم يصل إليهم في الدنيا شيء من ذلك ولا بعد الموت في قبورهم؛ لأنا نجدهم عظاماً ورفاتاً فوجب القطع بأن وصول ذلك إليهم يكون في دار أخرى وذلك لا يحصل إلا ببعثهم أحياء؛ إذ لا تحصل اللذة لغير الحي وذلك معلوم ولا خلاف فيه بين المسلمين وكثير من غيرهم.
واعلم أن البحث عن مسألة البعث يكون إما عن وقوعه وإما عن إمكانه، فأما البحث عن وقوعه فعندنا أنه يصح إثباته بالدليل العقلي والسمعي، أما الدليل العقلي فقد مر في قوله تعالى: {مَالِكِ يَوْمِ الدِّينِ}[الفاتحة:4]، وفي الثالثة عشرة من مسائل قوله تعالى: {سَوَاءٌ عَلَيْهِمْ أَأَنذَرْتَهُمْ...}الآية[البقرة:6].
وأما السمع فالقرآن مشحون بذكره وهو معلوم من ضرورة الدين، وقال الرازي: لا سبيل إلى معرفته إلا بالعقل وهو مبني على نفي الحسن والقبح العقلي وأن الثواب غير واجب، ولا مستحق للعبد بل يجوز من الله تعالى أن لا يثيب المطيع ولا يقبح منه وقد مر إبطال ما بنوا عليه في مواضعه على أنه قد مر عنه في {مَالِكِ يَوْمِ الدِّينِ}[الفاتحة:4] الاستدلال على الوقوع بالعقل، وذكره أيضاً في هذا الموضع واستشهد له بقوله: {لِتُجْزَى كُلُّ نَفْسٍ بِمَا تَسْعَى}[طه:15] وغيرها.
وأما الإمكان فيجوز إثباته بالعقل والنقل عندنا وعند الأشاعرة، أما العقل فلأنه لا استحالة فيه وقد نبه الله على الطرق العقلية الموصلة إلى ذلك في مواضع من كتابه، وقد أشرنا إليها في سياق قوله تعالى: {وَبِالآخِرَةِ هُمْ يُوقِنُونَ}[البقرة:4].
وأما السمع فلأنه قد أخبر بوقوعه الصادق العدل الحكيم على لسان رسوله المنزه عن كل خلق ذميم، وما هذا حاله وجب التصديق به واعتقاد إمكانه؛ إذ لا يجوز من الحكيم الإخبار بوقوع المستحيل، والاستدلال بالسمع على هذه المسألة جائز؛ لأنه لا يتوقف صحة السمع على العلم بها ولهذا فإن الله تعالى تارة يخبر عن البعث والنشور ويقرن خبره بالدليل العقلي وتارة يخبر عنه خبراً مجرداً عن الدليل، لكن الاستدلال بخبره المجرد لا يصح إلا على القول بعدله وحكمته والقول بذلك متفرع على القول بالحسن والقبح ولهذا يقول أصحابنا: إنه لا يصح للمجبرة الاستدلال بالسمع مع نفي حكم العقل.
المسألة الثانية [العلاقة بين الإيمان والأعمال]
استدل بالآية من قال: إن الأعمال غير داخلة في مسمى الإيمان؛ إذ العطف يوجب التغاير وإلا لزم التكرار.
والجواب: أنه يجوز حمل الأيمان فيها على اللغوي ولا مانع منه، ويجوز أن يكون من عطف الخاص على العام وهو كثير شايع، ومع هذين الاحتمالين لا يصح لهم الاستدلال بالآية.
المسألة الثالثة [تخصيص العمل بأفعال الجوارح]
قال بعض المحققين: ما يتعلق بالجوارح وبالقلوب قد يطلق عليه عمل ولكن الأسبق إلى الفهم تخصيص العمل بأفعال الجوارح وإن كان ما يتعلق بالقلب فعلا له.
وقيل: الأعمال مخصوصة بما لا يكون قولاً، وقال الحافظ: التحقيق أن القول لا يدخل في العمل إلا مجازاً وكذى الفعل لقوله تعالى: {وَلَوْ شَاءَ رَبُّكَ مَا فَعَلُوهُ}[الأنعام:112] بعد قوله تعالى: {زُخْرُفَ الْقَوْلِ غُرُوراً}[الأنعام:112] وحمله بعضهم على أنه أراد أن الفعل كالقول غير داخل في العمل إلا توسعاً، ثم رتب عليه استبعاد قول الحافظ ونسبته إلى الغرابة وقال الذي ينبغي أن يكون لفظ العمل يعم جميع أفعال الجوارح ولو خص بذلك لفظ الفعل لكان أقرب؛ لأنهم استعملوهما متقابلين فقالوا: الأفعال والأقوال.
قلت: والذي يظهر من عبارة الحافظ وظاهر استدلاله أنه إنما أراد أن القول لا يدخل في الفعل إلا مجازاً كدخوله في العمل ولم يرد ما توهمه هذا المعترض من إرادة استواء القول والفعل في عدم الدخول في العمل حقيقة.
نعم والظاهر عدم دخول الأقوال وما يتعلق بالقلوب في مسمى العمل لحديث: ((لا قول ولا عمل ولا نية إلا بإصابة السنة)) وأحاديث الإيمان قول وعمل واعتقاد؛ إذ العطف يقتضي المغايرة. والله أعلم.
المسألة الرابعة [ماهية الأعمال الصالحة المذكورة في الآية]
اختلف في الأعمال الصالحة المقصودة في الآية، فروى أبو حيان في تفسيره عن علي عليه السلام أنها الصلوات في أوقاتها وتعديل أركانها وهيئآتها، وقال معاذ بن جبل: ما احتوى على أربعة: العلم، والنية، والصبر، والإخلاص، وقال عثمان: الصالح ما أخلص لله تعالى، وقيل: الأمانة، وقيل: التوبة، وقال سهل بن عبد الله: ما وافق الكتاب والسنة، وهو معنى ما رواه أبو حيان عن الجمهور واختاره من أنه كل عمل صالح أريد به الله وهو قول الزمخشري فإنه قال: الصالحات كل ما استقام من الأعمال بدليل العقل والكتاب والسنة واللام في الصالحات للجنس لا للعموم؛ لأنه لا يكاد يمكن المؤمن أن يعمل جميع الصالحات لكن يعمل جملة من الأعمال الصحيحة في الدين على حسب حال المؤمن في مواجب التكليف.
قال (الزمخشري): والفرق بين لام الجنس إذا دخلت على المفرد وبينها إذا دخلت على الجمع أن المفرد معها يكون صالحاً أن يراد به الجنس إلى أن يحاط به وأن يراد به بعضه إلى الواحد، والجمع يكون صالحا لإرادة جميع الجنس وإرادة بعضه لكن لا إلى الواحد؛ لأن وزانه في تناول الجمعية في الجنس وزان المفرد في تناول الجنس والجمعية في جمل الجنس لا في وجدانه.
المسألة الخامسة [في شروط ثواب الأعمال]
دلت الآية الكريمة على أن كل من أتى بالإيمان والأعمال الصالحة فله الجنة ولا خلاف في ذلك وإنما الخلاف في أنه هل يشترط في استحقاقها أن لا يحبط المكلف إيمانه وصالح أعماله أم لا؟
فذهب أهل البيت" والمعتزلة إلى أنه يشترط في استحقاق الثواب أن لا يحبط عمله بالكفر والإقدام على الكبائر وأن لا يندم على ما أوجده من فعل الطاعة وترك المعصية.
وقالت المرجئة: الآية على ظاهرها فتدل على أن من فعل الإيمان والعمل الصالح فقد استحق الثواب الدائم، والتزموا القطع بانقطاع عقاب الفاسق.
وإذا قيل لهم: فما تقولون فيمن آمن وعمل الصالحات ثم كفر؟
قالوا: هذا ممتنع الوقوع؛ لأن فعل الإيمان والعمل الصالح يوجب استحقاق الثواب الدائم وفعل الكفر يوجب استحقاق العقاب الدائم والجمع بينهما محال والقول بالإحباط محال أيضاً فلم يبق إلا أن نقول هذا الفرض الذي فرضتموه ممتنع الوقوع، وهذا القول حكاه الإمام المهدي في (القلائد) عن المرجئة وفي شرحها عن الإمامية أو بعضهم، وهؤلاء كما منعوا الإحباط منعوا التكفير وهو سقوط العقاب بالثواب.
[أدلة القائلين بإحباط الأعمال]
لنا على ثبوت الإحباط أدلة كثيرة عقلية ونقلية:
أما العقلية فمن وجوه:
أحدها: ما مر من أن العقاب يستحق دائماً وكذلك الثواب وإذا كان كذلك استحال اجتماع استحقاقهما لتنافيهما فتساقطا، وإنما قلنا باستحالة اجتماع الاستحقاقين؛ لأن الثواب يستحق على سبيل التعظيم، والعقاب يستحق على سبيل الإهانة والاستخفاف، واستحالة كون الواحد معظماً مهاناً في وقت واحد من فاعل واحد معلوم بالضرورة، واعترض الرازي هذا الدليل فقال:
إن أردتم بالاستحالة المذكورة من حيث النطق باللسان بالمدح والذم في وقت واحد فمسلم لكن تعذر النطق بهما ليس لأجل تنافيهما بل لتعذر النطق بهما في وقت واحد، وإن أردتم بالاستحالة من حيث الاعتقاد فلا نسلم فإنه يمكن الإنسان أن يعتقد استحقاق شخص للتعظيم من وجه ويعزم عليه وإهانته والاستخفاف به من وجه آخر ويعزم عليه فيجتمع التعظيم والإهانة القلبيين فبطل التنافي الذي أوجبتم لأجله الإحباط وإنما يمتنع اجتماع التعظيم والإهانة إذا كانا من جهة واحدة.
والجواب: أنا نعلم ضروة أن الاستحقاق للشيء فرع علىصحة إيصاله إلى المستحق وأما مع استحالته فلا يصح وصفه باستحقاقه ويعلم ضرورة أيضاً أن الشخص الواحد لا يصح منه تعظيم شخص واحد وإهانته في وقت واحد سواء اتحدت الجهة أم تعددت وسواء كان ذلك بالقلب أم بغيره وليس ذلك إلا للتنافي لكونهما بمنزلة الضدين والنقيضين في استحالة اجتماعهما في الاستحقاق لما بيناه من أن الاستحقاق فرع على صحة الوجود.
قوله: فإنه يمكن الإنسان أن يعتقد...إلخ.
قلنا: مسلم لكنه إنما صحّ على حسب صحة ثبوتهما؛ وثبوتهما إنما كان في حالين لا في حالة واحدة، فالذي فرضه من صحة اعتقاد الثواب من جهة والعقاب من جهة عائد في التحقيق إلى أنه كان مستحقاً للثواب ثم استحق العقاب فأما أن الاستحقاقين ثابتان معاً في حالة واحدة فلا لما مر من استحالتهما كاستحالة الضدين والنقيضين فكما أنه لا يصح اعتقاد ثبوت الشيء ونفيه لاستحالة اجتماعهما كذلك اعتقاد استحقاق الثواب والعقاب في حالة واحدة وكذلك العزم على إيصالهما لا يصح؛ لأنا نعلم ضرورة استحالة إيصالهما إليه في وقت واحد فكيف يصح العزم على ما علمت استحالته، فإذا كانا مستحقين في كل وقت وعلم استحالة اجتماعهما في وقت واحد من فاعل واحد علم يقيناً تساقطهما وهو معنى الإحباط والتكفير.
فإن قيل: إن أحدنا يعلم حسن مدح الكافر على إحسانه وحسن ذمه على كفره لاختلاف الوجه فبطل دعوى تنافي الاستحقاقين.
قيل: لا نسلم حسن المدح مطلقاً فإنه إنما يحسن ويجب من شكر الكافر على إحسانه الاعتراف فقط دون التعظيم فلا يستحقه؛ لأن فعله مستحيل لمنافاته ما يجب من الإهانة له والاستخفاف به لأجل كفره في كل وقت؛ إذ كل وقت يقع فيه التعظيم فهو وقت للإهانة، وإذا استحال اجتماع فعلهما استحال اجتماع استحقاقهما.
الوجه الثاني: أن الله تعالى وعدنا بالثواب ترغيباً وتوعدنا بالعقاب زجراً وترهيبا والواجب في الترغيب أن يكون بمنافع خالصة عما يشوبها من المنغصات وفي الزجر أن يكون العقاب خالصاً عن الروح والراحة وإلاّ لَمْ يكمل الترغيب والزجر، والترغيب والزجر جاريان مجرى اللطف والواجب في اللطف أن يكون على أبلغ الوجوه التي تدعو ما لم يبلغ الإلجاء، فكذلك يجب في الثواب والعقاب لما ذكرناه من أن الله تعالى وعدنا وتوعدنا بهما على جهة الترغيب والزجر، وإذا كانا كذلك لم يصح اجتماعهما في حال واحدة؛ لأن الثواب راحة خالصة فلا يحصل حال العقاب، والعقاب مضرة محضة فلا يقترن به الثواب، وإذا استحال اجتماعهما استحال استحقاق الجمع بينهما.
فإن قيل: يمكن وصول كل واحد منهما منفرداً في وقت خالصاً من الآخر.
قيل: لا نسلم إمكان الخلوص؛ لأن المتقدم إن كان هو الثواب كان العلم بحصول العقاب بعده منغص وإن كان هو العقاب كان علمه بانقطاعه مروح فلا يحصلان فثبت تنافيهما.
فإن قيل: إن المثاب والمعاقب قد لا يجوزان انقطاع الثواب والعقاب ولا يفكران فيه وحينئذ ينتفي علمهما بذلك فلا يحصل لهما تنغيص ولا راحة.
قيل: كمال العقل يقتضي التفكير في ذلك.
فإن قيل: لا مانع من أن يذهل الله تعالى خاطر المثاب عن الفكر فيما علمه من الألم الحاصل في المستقبل فيشغله باللذات العظيمة عن تذكر العقاب كما تقولون إن الله تعالى يذهل أهل الجنة عن تذكر من في النار من أحبابهم لئلا يتنغصوا بذلك وأيضاً فإنا نجد كثيراً من المنهمكين باللذات غافلين عن ذكر الموت وما بعده فيجوز مثل ذلك في المشغول بنعيم الجنة، بل هو هناك أبلغ وما أجاز العقل وقوعه فلا يصح القول بأنه يقتضي خلافه.
قيل: بل ذلك ممنوع؛ لأن معرفة قدر ما يستحق وأنه لا يستحق الدوام إن كان مما لا يدوم مما لا يجوز أن يجهله أحد في الآخرة لتيقن عدل الله وحكمته فكيف يقولون إنه يجوز أن يذهله الله عن الفكر فيما لا يجوز جهله وهل هذا إلا بمنزلة القول بأنه يجوز من الله أن يخلق فينا الجهل وبطلان ذلك معلوم، لا يقال إنا إنما قلنا إنه يجوز أن يذهله عن الفكر فيما علمه، وجوابكم إنما يصح لو قلنا إنه يجوز من الله أن يسلبه العلم؛ لأنا نقول: ذهوله عن الفكر إنما يتم مع سلب العلم؛ إذ العالم بالشيء القاطع به لا بد وأن يكون مفكراً فيه لا سيما في مثل ما نحن فيه وهو انقطاع اللذات العظيمة والخروج منها إلى أليم العذاب وهذا بخلاف الصور التي ذكرتم فإنه لا يجب تجديد العلم بها، ولو قدرنا تجدد العلم فإن الرحمة والرقة التي في قلوب البشر من فعل الله تعالى ويجوز أن لا يفعلها في الآخرة فيستوي عند أهل الجنة الأقرب والأبعد من أهل النار في عدم الرقة والرحمة لهم.
فإن قيل: هذا الوجه مبني على أن اللطف واجب ونحن لا نسلم ذلك.
سلمنا فلا نسلم أن الثواب والعقاب جاريان مجرى اللطف في وجوب وقوعهما على أبلغ الوجوه وإلا لوجب أن يكون وعد كل مطيع بمثل ثواب الأنبياء ووعيده كل عاص بمثل عقاب آل فرعون؛ لأن ذلك أبلغ في الزجر والترغيب والمعلوم خلافه، وإذا بطل هذا الأصل بطل ما بني عليه.
قيل: أما وجوب اللطف فقد مر دليله في الفاتحة وكون الثواب والعقاب جاريين مجراه يعلم من هنالك، وأما اللازم الذي ذكرتم فلا يلزمنا؛ لأنا إنما أردنا أن القدر المستحق من الثواب والعقاب يجب أن يكون على أبلغ الوجوه، وأما الزيادة عليه فهي قبيحة إلا على جهة التفضل من دون استحقاق تعظيم زائد على المستحق أو عقاب زائد كذلك؛ لأن الأول سفه والثاني ظلم فثبت بما قررنا استحالة اجتماع الثواب والعقاب ويترتب عليه استحالة اجتماع استحقاقهما.
الوجه الثالث: مما يدل على تنافي الثواب والعقاب ما ذكره أبو هاشم وهو أنا نعلم ضرورة أن من أحسن إلى غيره بضروب الإحسان ثم كسر المحسن على ذلك الغير رأس قلم فإنه لا يستحق ذماً من جهته بل لو ذمه لأجل ذلك لذمه العقلاء وعدوه لئيماً جاحداً للنعم، ولولا تقدم ذلك الإحسان لما استقبحوا منه ذمه لكسر قلمه فدل على أن استحقاق المدح والذم متنافيان فكذلك يكون الحكم في استحقاق الثواب والعقاب، بل هما أولى، وإذا ثبت التنافي ثبت التحابط.
واعترضه الرازي فقال: لا نسلم أن المانع من الذم هنا تقدم استحقاق المدح وإنما منع منه كونه قد صار معارضاً باستحقاق الشكر فلا يتحابطا بل تقاوما، ألا ترى أن من له على غيره مائة قنطار من الذهب ولذلك الغير على هذا حبة واحدة من الذهب فإنه يقبح من صاحب الحبة المطالبة بها مع أن الاستحقاق حاصل فكذلك هاهنا، فإن منعتم قبح المطالبة بالحبة منعنا قبح الذم فيما ذكرتم، قال: ولأنا نعلم ضرورة أن من أعطى غيره مائة دينار وقتل عبداً له يساوي ذلك القدر فإن له أن يمدحه على ما أعطاه ويذمه على قتل عبده فثبت أن الاستحقاقين لم يتنافيا.
والجواب: أنا نسأله عن معنى تقاومهما، هل أراد أن كل واحد منهما منع من وصول استحقاق الآخر؟ فهذا هو الذي أردناه بالإحباط، أم أراد أنه يستحق كل منهما ويصل إليه فذلك باطل لما مر من تنافيهما، ثم إن القول بذلك يبطل المعارضة التي أثبتها.
وأما قبح المطالبة من صاحب الحبة الذهب فليس ذلك إلا للمحابطة والمساقطة، فتلك الصورة حجة عليه لا له ولذا قال أصحابنا: إذا استوى الدينان تساقطا.
وأما صورة هبة المائة وقتل العبد فنقول: إن الواهب إنما استحق المدح من الموهوب له لما أوصل إليه من المنافع بما وهب فإذا فوت عليه قدر ما وهب صار كأنه لم يهب شيئاً ولم يفوت شيئاً فلا يستحق حينئذ مدحاً ولا ذماً، هذا الذي يعلم ضرورة دون ما ادعيت من اجتماع الاستحقاقين.
نعم هو يستحق الذم على قتل العبد لقبحه لا لتفويت منافعه؛ لأنه قد جبرها بالمائة، فهذه حجج عقلية جلية صريحة في ثبوت الإحباط.
وأما الأدلة السمعية فنحو قوله تعالى: {وَالَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا وَلِقَاءِ الآخِرَةِ حَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ}[الأعراف:147] وقوله تعالى للمؤمنين: {وَلاَ تَجْهَرُوا لَهُ بِالْقَوْلِ كَجَهْرِ بَعْضِكُمْ لِبَعْضٍ أَنْ تَحْبَطَ أَعْمَالُكُمْ}[الحجرات:2] إلى غير ذلك مما سيأتي من الآيات والأخبار، وإذا كان الإحباط ثابتاً صحَّ ما ذهب إليه العدلية من أنه يشترط في استحقاق الجنة التي وعد الله بها الذين آمنوا وعملوا الصالحات عدم الإحباط كما مر وأن ذلك الشرط وإن لم يصرح به في هذه الآية ونحوها فهو كالمصرح به للعلم به.
قال (الزمخشري): لما جعل الثواب مستحقاً بالإيمان والعمل الصالح والبشارة مختصة بمن يتولاها وركز في العقول أن الإحسان إنما يستحق فاعله عليه المثوبة والثناء إذا لم يتعقبه بما يفسده ويذهب بحسنه وأنه لا يبقى مع وجود مفسدة إحساناً،وأعْلَمَ بقوله تعالى لنبيه -صلى الله عليه وآله- وهو أكرم الناس عليه وأعزهم: {لَئِنْ أَشْرَكْتَ لَيَحْبَطَنَّ عَمَلُكَ}[الزمر:65] وقال تعالى للمؤمنين: {وَلاَ تَجْهَرُوا لَهُ بِالْقَوْلِ كَجَهْرِ بَعْضِكُمْ لِبَعْضٍ أَنْ تَحْبَطَ أَعْمَالُكُمْ}[الحجرات:2] وكان اشتراط حفظهما من الإحباط والندم كالداخل تحت الذكر؛ هذا وأما المنكرون للإحباط فلهم شبه عقلية وسمعية أما العقلية فذكر الرازي لهم ثلاث شبه، وظاهر كلامه أنه ممن يقول بنفي الإحباط كما يعرف في جوابه على هذه الشبه، وقد صرح بنسبة ذلك إليه الإمام المهدي.
الشبهة الأولى
أن الاستحقاقين إما أن يتضادا أَوْ لا.
الثاني: باطل وإلا لزم اجتماعهما والمعلوم خلافه، والأول باطل أيضاً؛ لأن طريان الطارئ مشروط ومعلل بزوال الباقي فلو كان زوال الباقي معللاً بطريان الطارئ لزم الدور وهو محال وربما أورد هذه الشبهة على وجه آخر وهو أن تنافي الاستحقاقين يوجب كون كل واحد منهما علة في عدم الآخر، ومن حق العلة أن يكون معلولها مقارناً لوجودها وذلك يستلزم عدمهما معاً حال وجودهما معاً وهو محال.
والجواب أنا لا نسلم تضادهما وإنما هما جاريان مجرى المتضادين وذلك أن التضاد لا يكون إلا بين الأعراض.
قيل: أو بين الجوهر والعرض كالفناء والجسم، وإذا لم يكونا متضادين لم يكونا أمرين وجوديين بل هما أمران اعتباريان متنافيان في أنفسهما، وإذا كانا اعتباريين فلا يكون ثبوتهما علة ولا عدمهما معلولا، وإنما هي كالنفي والإثبات في أنه لا يصح اجتماعهما وإن لم يكن أحدهما علة حقيقة في انتفاء الآخر.
فإن قيل: ومن أين لكم أنهما أمران اعتباريان؟
قيل: لأن المرجع بهما إلى حسن أمر، والحسن ليس بوجودي بل معناه أن للفاعل أن يفعله وهذا ليس بوجودي فبطلت طريقة العلة والمعلول بينهما وثبت أن امتناع اجتماعهما إنما هو لاستحالة ثبوت أحدهما مع ثبوت الآخر لا لكون أحدهما علة، وإذا بطلت هذه الطريقة بطل ما فرعه عليها من لزوم الدور أو عدمهما ووجودهما في حال، ثم إنا لو سلمنا تضادهما فلا نسلم أن الضد علة في انتفاء ضده؛ إذ لو كان كذلك للزم عود البياض بانتفاء السواد لزوال علته والمعلوم أنه لا يلزم عوده لجواز أن يخلف السواد لون آخر غير البياض وإنما انتفاء الضد لما هو عليه عند طروء ضده.
الشبهة الثانية
أن المنافاة حاصلة من الجانبين فليس زوال الباقي لطريان الطارئ أولى من اندفاع الطارئ بقيام الباقي فإما أن يوجدا معاً وهو محال أو يتدافعا بطل القول بالمحابطة.
والجواب: أنا نختار تدافعهما وهو معنى المحابطة، وذلك أن وجود الطاعة والمعصية يقتضي أمرين متنافيين وهما استحقاق الثواب والعقاب فيتمانعان لما بينهما من التنافي فلا يوجد أي الاستحقاقين كما لا يوجد أي الحركتين في المتجاذبين لحبل بينهما، ثم مع التمانع يرجع في كيفية التحابط بينهما إما إلى طريقة الموازنة أو سقوط الأقل بالأكثر على الخلاف.
فإن قيل: إنما يصح الرجوع إلى إحدى الطريقين إذا زاد أحد الجانبين فأما مع تساويهما فلا.
قيل: سيأتي الجواب عن ذلك قريباً.
الشبهة الثالثة
أن الاستحقاقين إما أن يتساويا أو كان المقدم أكثر أو أقل فهذه ثلاثة أقسام:
القسم الأول: أن يتساويا، فنقول: استحقاق كل واحد من أجزاء العقاب مستقل بإزالة كل واحد من أجزاء استحقاق الثواب وإذا كان كذلك لم يكن تأثير جزء بإزالة جزء أولى من تأثيره في إزالة غيره ومن تأثير جزء آخر في إزالته، فإما أن يكون كل واحد من هذه الأجزاء الطارئة مؤثرا في إزالة كل واحد من الأجزاء المتقدمة فيلزم أن يكون لكل واحد من العلل معلولات كثيرة ولكل واحد من المعلولات علل كثيرة مستقلة وكل ذلك محال، وإما أن يختص كل واحد من الطارئة بواحد من المتقدمة من غير مخصص فهو محال لامتناع ترجح طرفي الممكن لا لمرجح.
القسم الثاني: أن يكون المقدم أكثر فالطارئ لا يزيل إلا بعض أجزائه وليس بعض بالإزالة بأولى من بعض، فإما أن يزيل الكل وهو محال؛ إذ الزائد لا يزول بالناقص، أو يتعين بعض ولا مخصص أو لا يزول شيء وهو المطلوب، وأيضاً الطارئ إذا أزال بعض الأجزاء فإما أن يبقى ذلك الطارئ ولم يقل ببقائه أحد من العقلاء أو يزول وهو باطل؛ لأن تأثير كل واحد منهما في إزالة الآخر إما أن يكون معاً أو على الترتيب والأول باطل؛ لأن المزيل يجب أن يكون موجوداً حال الإزالة فلو وجد الزوالان معاً لوجد المزيلان معاً فيلزم وجودهما حال عدمهما وهو محال والثاني باطل أيضاً؛ لأن المغلوب يستحيل أن ينقلب غالباً.
القسم الثالث: أن يكون المتقدم أقل، فإما أن يكون المؤثر في زواله بعض أجزاء الطارئ وهو محال؛ لأن جميع أجزائه صالحة للإزالة واختصاص بعضها بذلك ترجيح من غير مرجح، وإما أن يؤثر الكل فيلزم اجتماع علل مستقلة على معلول واحد، هذا تلخيص ما ذكره الرازي في التفسير.
ثم قال: فثبت بهذه الوجوه العقلية -يعني هذه الشبه الثلاث- فساد القول بالإحباط، وعند هذا يتعين في الجواب قولان:
الأول: قول من اعتبر الموافاة وهو أن شرط الإيمان أن لا يموت على الكفر فلو مات عليه علمنا أن ما أتى به أولاً كان كفرا، وهذا قول ظاهر السقوط.
الثاني: أن العبد لا يستحق على الطاعة ثواباً ولا على المعصية عقاباً استحقاقاً عقلياً واجباً وهو قول أهل السنة واختيارنا وبه يحصل الخلاص عن هذه الظلمات.
والجواب أن هذه الأقسام لا موقع لها عند التحقيق مع ما قدمنا من الحجج العقلية والنقلية على ثبوت الإحباط، وهاهنا جواب جملي لا محيص لمن يدعي الإسلام عنه وهو: أنا مجمعون على أن القرآن حق وأن ما دل عليه من الأحكام الاعتقادية والعملية فإنه يجب اعتقاده والعمل به، ولا شك أن القرآن قد دل دلالة صريحة على ثبوت الإحباط فتعين العمل به ورفض ما خالفه، وهذا جواب كاف للمنصف، ثم إنا لا نترك الجواب عن كل واحد من هذه الأقسام؛ لأن في ذلك زيادة اطمئنان وتحقيقا لدلالة القرآن وما طابقها من الدلالة العقلية فنقول:
الجواب عن القسم الأول: أن لأصحابنا في تساوي الاستحقاقين قولين:
القول الأول: المنع من تساويهما بحيث تستوي طاعات العبد ومعاصيه فيستحق الثواب على الطاعة والعقاب على المعصية، وهذا قول الجمهور، وإنما اختلفوا في دليل ذلك، فقال أبو علي: دليل ذلك العقل والسمع، أما السمع فسيأتي وأما العقل فاحتج بأنهما إن لم يتساقطا لزم اجتماع الاستحقاقين وهما متنافيان كما مر وإن تساقطا لم يكن تأثير الثواب في سقوط العقاب بأولى من العكس فيلزم أن لا يسقط أيهما فيستحقان جميعاً وهو محال، واحتج ثانياً بأن أقل جزء من الطاعة يستحق عليه جزء من الثواب وأقل جزء من المعصية يستحق عليه جزآن من العقاب لمكان النعم العظيمة فعقاب المعصية يجب أن يكون أكثر من ثواب الطاعة وعلى هذا اتفق أهل العدل وحينئذ لا يمكن الحكم باستواء الثواب والعقاب في حق شخص أصلاً.
قلت: ويمكن الاحتجاج بما ذكره الرازي في القسم الأول من اللوازم إذ هي واردة على القول بالتساوي.
وقال (أبو هاشم) و(قاضي القضاة): بل العقل يجوز استوائهما؛ إذ لا مانع من أن يثبت للعبد من الحسنات والسيئات ما يستوي به ثوابه وعقابه ويكون بمنزلة من لا حق له ولا عليه وإنما يمتنع وصول المستحقين في حالة واحدة لتنافيهما، وأما الاستحقاقان فلا إحالة في ثبوتهما وتساقطهما كما يتساقط الدينان وإنما منع من اجتماعهما السمع وهو الإجماع على أنه لا بد للمكلف من الجنة أو النار وعلى أنه لا دار ثالثة غيرهما في الآخرة فلو استوت حسناته وسيئاته لم يخل إما أن يدخل النار وذلك ظلم أو يدخل الجنة وهو باطل؛ لأنه لا ثواب له فيدخلها مثاباً ولا يصح أن يدخلها تفضلاً للإجماع على أنه لا يدخل الجنة مكلف إلا مثاباً ليتميز حاله عن حال الصبيان والمجانين، قال في (الغياصة): وإن دخلها متفضلاً عليه لم يجز؛ لأن الإجماع منعقد على أنه لا بد للمكلفين في الجنة مما يميز حالهم عن حال الولدان ومن ليس بمكلف والتمييز لا يكون إلا بالثواب فليس إلا أنه لا يجوز الاستواء.
إذا عرفت هذا فنقول: هؤلاء المانعون للتساوي لا يرد عليهم شيء من هذه اللوازم؛ لأن موردها أوردها على فرض القول به وهم يمنعونه كما ترى.
القول الثاني: أنه لا منع من ذلك بل يجوز استواء استحقاق الثواب والعقاب عقلاً وسمعاً وهذا قول زين العابدين والقاسم بن إبراهيم والمؤيد بالله والمنصور بالله والإمام عز الدين والشعبي من التابعين والقاضي جعفر والشيخ الحسن الرصاص والفقيه حميد الشهيد واحتجوا على ذلك عقلاً بما مر عن أبي هاشم وسمعاً بأن قالوا: لا نسلم الإجماع على نفي التفضل سلمنا فأحادي والمسألة قطعية أعني جواز أن يدخل الجنة تفضلاً.
قال القرشي: على أنه يصح أن يتميز عن الصبيان والمجانين بكثرة التفضل وليس في الإجماع تصريح بأن التمييز لا بد أن يقع بالثواب وهؤلاء موافقون للجمهور في أنه لا دار ثالثة وإنما يدخل الجنة بالتفضل {وَمَا كَانَ عَطَاءُ رَبِّكَ مَحْظُوراً}[الإسراء:20].
وقال بعض الصوفية: إنه يجوز الاستواء لكن من كان كذلك فلا يدخل الجنة بل يصير إلى دار ثالثة وهي الأعراف التي ذكرها الله تعالى في القرآن، وقد أجاب عليهم العلماء بما سنذكره إن شاء الله في موضعه.
قال الإمام عز الدين ما معناه إنه لا يستحيل في العقل أن يكون المراد بالأعراف ما ذكره الصوفية وما ذكره غيرهم وليس فيه ما يدل على شيء من ذلك؛ إذ لا مجال له في أمور الآخرة الغيبية ولا شيء مما ذكروه مستحيل في القدرة ولا في الحكمة فلا يصح القطع بشيء إلا بدليل سمعي ولا قطع فيما ذكره أهل هذه المذاهب من الأدلة.
إذا عرفت هذا فنقول: ما ورد في هذا القسم إنما يرد على هؤلاء الذين جوزوا استواء الاستحقاقين ولهم أن يجيبوا بأنه لا يلزمنا ما ذكرتم إلا لو كان الاستحقاقان أمرين وجوديين وأما إذا كانا اعتباريين فلا يلزم شيء من ذلك إذ لا مزيل ولا مزال وإنما هما كالنفي والإثبات في عدم صحة اجتماعهما كما مر، وقد ذكرنا أن المراد بالتحابط التمانع لا التأثير في الإزالة كما مر في جواب الشبهة الثانية.
قوله: يلزم أن يكون لكل واحد من العلل ...إلخ.
قلنا: قد مر أن لا علة ولا معلول.
قوله: وإما أن يختص كل واحد من الطارئة....إلخ.
قلنا: إنما يلزم ذلك لو كانت أعياناً موجودة وليست كذلك وإنما هي كالدين المستحق الذي يسقط الغريم بعضه من نصف أو ثلث فذلك لا يحتاج إلى تخصيص رأسا؛ إذ معناه أن لا يطالب بالبعض، والنفي لا يحتاج إلى مخصص.
والجواب عن القسم الثاني بما مر من أن ذلك إنما يلزم لو كانت أعياناً موجودة إلى آخره.
قوله: أو يزول وهو باطل...إلخ.
قلنا: إنه قد مر أنه لا مزيل ولا مزال وإنما هو تدافع وتنافي فلا يلزم شيء مما ذكره.
والجواب عن القسم الثالث بما تقدم من أن ذلك لا يحتاج إلى التخصيص وأنه لا علة ولا معلول.
وأما ما أجاب به الرازي من الوجهين فهما باطلان، أما الأول فقد اعترف ببطلانه، وأما الثاني فهو مؤسس على إبطال حكم العقل وقد مر في المقدمة الرد على هذه المقالة وتقدم في الثالثة عشرة من مسائل {سَوَاءٌ عَلَيْهِمْ...}الآية[البقرة:6] الدليل على أن العقاب مستحق عقلاً، ومر أيضاً في الخامسة من مسائل قوله تعالى: {يَاأَيُّهَا النَّاسُ اعْبُدُوا رَبَّكُمُ}[البقرة:21] الدلالة على أن الثواب واجب.
نعم قول الرازي: إن أهل الموافاة يقولون: إن من مات على الكفر علمنا أن ما أتى به أولاً كان كفراً ليس بقول لهم على ما ذكره الإمام المهدي من معنى الموافاة وإنما هو قول المرجئة اللهم إلا أن يكون جارياً على بعض ما فسرت به الموافاة.
فائدة [تتعلق بالإحباط]
ذكر الإمام المهدي أن القائل بإحالة الإحباط والتكفير من الإمامية قد بنى على هذه المقالة الفاسدة أقوالاً باطلة، منها أنه لا طاعة لكافر؛ لأن ثوابه وعقابه دائمان فيستحيل اجتماعهما، والإحباط والتكفير ممتنعان فلم يبق إلا نفي طاعته ووقوعها منه.
ومنها القطع بانقطاع عقاب الفاسق ودوام ثوابه.
ومنها أنه لا يقع كفر بعد إيمان؛ لأن ثواب الإيمان دائم فلا يصح أن يطرو عليه ما يثبت دوام عقابه.
ومنها أن الكافر إذا تاب سقط عقابه تفضلاً لا بالتكفير بالتوبة، قالوا: ويجوز أن لا يسقط لجواز أن لا يتفضل عليه.
ومنها أن من كفر بعد إظهار الإيمان انكشف لنا أنه كان منافقاً.
ومنها أن الصحابة لما خالفوا النص في أمير المؤمنين علمنا أنهم لم يكونوا مؤمنين وإنما كانوا منافقين وكذلك المشائخ الثلاثة وعائشة وطلحة والزبير.
ومنها أن النبي -صلى الله عليه وآله- زوج بنتيه من عثمان وهو يعلم أنه كافر وكذلك يعلم في عائشة وأبيها الكفر، وزوج علي ابنته من عمر وهو يعلم كفره وكل ذلك تقية، وقال: يجوز تزويج المؤمنة من الكافر والعكس تقية، وربما أنكر بعضهم هذه التزويجات المنقولة بالتواتر، قال عليه السلام : وكل هذه التخاليط إنما تولدت من إنكار التحابط بين الأعمال؛ لأنه لما قال به ألزمه أصحابنا جميع ذلك فالتزمه وبنى فاسداً على فاسد وهكذا ربما كان ابتداء الباطل بأمر قليل هين ثم تعظم فروعه.
فائدة أخرى في تحقيق مذاهب المخالفين في المسألة
اعلم أن من العدلية من أنكر الإحباط وهو عباد بن سليمان والخالدي، فأما عباد فذهب إلى أن عقاب المعصية لا يسقط إلا بالتوبة والثواب لا يصح سقوطه بعد توبته، ومذهبه أن المستحق على المعصية نوعان: أحدهما العقاب الأخروي وذلك حيث كانت معاصيه غالبة لطاعاته، ثانيهما التفرقة فقط وذلك حيث غلبت طاعاته معاصيه، ومعنى التفرقة أنه من المرتبة دون من خلصت طاعاته عن المعاصي، قال: وكذلك المستحق على الطاعة نوعان: الثواب الأخروي لمن غلبت طاعته معصيته والتفرقة وذلك فيمن غلبت معاصيه طاعاته فلا يستحق بالطاعة إلا التفرقة فقط وهي مزية تثبت له على من خلصت معاصيه عن الطاعة.
وأما الخالدي وهو أبو الطيب محمد بن إبراهيم بن شهاب فذهب إلى أنه يجب انقطاع عقاب الفاسق، وتحقيق مذهبه على ما ذكره بعض أصحابنا أن المعصية لا يستحق عليها العقاب الدائم إلا إذا انفردت عن الطاعات وأما ما وجدت مع الإيمان فلا يستحق عليها إلا العقاب المنقطع ودعاه ذلك إلى القول بأن الكافر لا تقع منه طاعة يستحق عليها ثواباً؛ لأن الكفر يوجب دوام العقاب والطاعة توجب انقطاعه ومصيره بعده إلى الثواب الدائم ودعاه ذلك إلى القول بأنه لا يجوز الكفر بعد الإيمان لمثل هذه العلة فأوجب فيمن آمن في وقت من الأوقات أن لا يموت إلا مؤمنا وأوجب في الكافر أن لا يفعل ما يستحق عليه ثواباً ما دام على كفره، وزعم أن غير الكافر إما أن تكون طاعاته خالصة من الكبائر إما بتركها أو بالتوبة عنها فثوابه دائم لا عقاب عليه، أو مقترنة بالكبائر فلابد وأن يستحق عليها عقاباً منقطعاً ثم يصير إلى الثواب الدائم، وأحال كون المعصية المنفردة عن الطاعة بمنزلة المعصية التي لم تنفرد.
وحكى الإمام المهدي عن بعض من أنكر الإحباط والتكفير أن من غلب ثوابه عقابه استحق الثواب الأخروي الدائم والعقاب الدنيوي المنقطع ولا إحباط ولا تكفير، قال عليه السلام : فصار المنكرون للإحباط والتكفير ثلاث فرق: فرقة قطعت بحصول إثابة الفاسق ودوامها وحصول عقابه في الآخرة وانقطاعه وهذا قول الخالدي منا والرازي من المجبرة وغيرهما، وفرقة قطعت بحصول الثواب الأخروي ودوامه وأنه لا عقاب عليه رأسا وهذا قول مقاتل بن سليمان وأصحابه، وفرقة قطعت بحصول ثوابه في الآخرة ودوامه ووصول العقاب إليه في الدنيا فقط، وهذا قول جماعة من أهل الحديث، وأما قول عباد فالأقرب أنه يعود إلى مثل قولنا وإن خالف في العبارة، قال عليه السلام : فهؤلاء جميعاً يحيلون الإحباط والتكفير.
المسألة السادسة [توقيت استحقاق الثواب]
اللام في قوله تعالى { أَنَّ لَهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي...}[ البقرة:25] للاستحقاق، وقد اختلف الناس في أي وقت يحصل للمكلف استحقاق الثواب وكذلك اختلفوا في وقت استحقاق العاصي العقاب، فقال الموفق بالله والإمام المهدي والقرشي والبصرية: يستحقان عقيب فعل الطاعة والمعصية من غير مهلة، قال القرشي: ومعناه أن للمكلف الحكيم أن يوصل إليه من حينئذ إلا لمانع يقتضي تأخره إلى الآخرة.
قال (الإمام عز الدين): هذا من فروع القول باستحقاق الثواب والعقاب من حال الطاعة والمعصية وله فرع آخر هو محط الفائدة فإن إيصال الثواب والعقاب في الدنيا لا يتهيأ منه إلا اليسير وذلك الفرع هو أن يستحق منذ فعله للطاعة والمعصية في كل وقت أجزاء معلومة منها ويحسب له ما يجتمع في الدنيا ولا ينقص منه شيء حتى يتوفاه كاملاً في الآخرة، فإذا فعل طاعة يستحق عليها في كل يوم مثلا خمسة أجزاء من الثواب وعاش مائتي يوم فقد توفر له ألف جزء فيوفى هذا القدر في الآخرة ثم تستمر له الخمسة لأنها المستحقة وتلك إنما توفرت له، لا يقال فيلزم تنغصه في الجنة؛ لأنه إذا لم يعط ما كان يعطاه كاملاً فلا بد وأن يغتم لذلك وأهل الجنة لا يجوز عليهم التنغيص والاغتمام؛ لأنا نقول: إن سلم من الاغتمام لمانع يمنع منه فذلك وإلا فقال الإمام المهدي: إذا علم الله أنه يتألم بانقطاعها جملة فرقها على الأوقات بحيث ينقطع عنه شيء يسير لا يكترث بفواته حتى لا يجد تنغيصاً عند انقضاء آخرها، وهذا قول أبي علي، وقال أبو هاشم: بل يتفضل عليه بمثل المنقطع مستمرا لئلا يقع التنغيص.
قال (الإمام المهدي): وهو باطل؛ لأن هذا الذي يُجْرَى عليه إن كان ثواباً صار واجباً وهو خلاف الفرض، وإن جعله تفضلاً فذلك يقتضي أن له أن يجريه وأن لا يجريه، وأبو علي والجمهور لا يمنعون ذلك.
إذا عرفت هذا فنعود إلى تمام حكاية الخلاف في المسألة فنقول: وقال أهل الموافاة وهم: هشام الفوطى وبشر بن المعتمر وأتباعهما: الثواب والعقاب لا يستحقان في الحال بل ينتظر أمره، فإن وافاه الموت ولم يكن قد فعل ما يبطل به ثواب الطاعة ثبت له استحقاقه وإن كان قد فعل ما يبطله فلا وكذلك المعصية إن وافاه الموت ولم يكن قد فعل ما يسقط عقابها حكم عليه بالاستحقاق، وإن كان قد فعل ما يسقطه فلا، هذا معنى المذهب، وحاصله أن الموافاة تكشف عن عدم الاستحقاق، ثم اختلفوا، والمشهور من اختلافهم أن منهم من يقول إن الموافاة شرط حقيقي فلا يحصل الاستحقاق إلا في الآخرة، فالطاعة والمعصية موجبان للثواب والعقاب والموافاة شرط في استحقاقهما، ومنهم من يجعل الشرط العلم فإن علم الله من حاله الموافاة بالطاعة استحق الثواب في الحال وإلا فلا وكذلك المعصية، واختلفوا أيضاً في أنه هل تعتبر موافاة الموت وانقطاع التكليف أو موافاة القيامة أو موافاة الإعادة أقوال لهم واختلفوا أيضاً فيما لا يوافى به من طاعة أو معصية بأن يكون قد فعل ما يبطل الطاعة ويكفر المعصية، فقيل: لا يستحق عليها ثواباً ولا عقاباً لا في الدنيا ولا في الآخرة لعدم شرط الاستحقاق وهو الموافاة، وقيل: بل يستحق ثواب الدنيا وعقابها.
والحجة لما ذهب إليه أصحابنا من ثلاث جهات:
الجهة الأولى: في الدلالة على أن استحقاق الثواب والعقاب يكون عقيب فعل الطاعة والمعصية
والذي يدل على ذلك أن الذي يوجب الثواب والعقاب إنما هو الطاعة أو المعصية وهذه الآية تدل على ذلك بدليل أنه رتب البشارة بالجنة على حصول الإيمان والعمل الصالح فإذا وجدتا أوجبتا الاستحقاق؛ إذ لا مانع من توبته وأيضاً لو جاز تأخره عنهما لم يكن وقت بثبوته أولى من وقت وذلك يعود على ثبوته بالنقض؛ لأنه إذ لم يكن وقت أولى من وقت كان تخصيص ثبوته بوقت دون وقت تحكم محض.
الجهة الثانية في إبطال القول بأن الاستحقاق يتعلق بالموافاة
ولنا في إبطاله وجوه:
أحدها: حسن المدح للمطيع والذم للعاصي ولعنه عقيب الفعل وهذا معلوم وهو مجمع عليه.
فإن قيل: ألستم تمدحون فاعل الطاعة وتذمون مرتكب الكبيرة وإن غابا عنكم وجوزتم عدم استحقاقهما كذلك فلم لا يجوز أن يمدح أو يذم من نشاهد منه الطاعة والمعصية، وإن جوزنا عدم استحقاقه لذلك؟
قيل: إنما يمدح ويذم الغائب بشرط كونه مستحقاً لذلك بخلاف من شاهدنا منه ذلك وعلمناه منه فإنا نمدحه ونذمه ونلعنه قطعاً لا لشرط فلو لم يكن مستحقاً لم يحسن شيء من ذلك فثبت أن الموافاة لو كانت شرطاً في الاستحقاق لم يحسن ذلك لعدم حصول شرطه الذي هو الاستحقاق وكذلك يقال: لو كان العلم بالموافاة شرطاً؛ لأنا لا نعلم أنه يوافي بذلك فلم نستيقن شرط استحقاقه للمدح والذم.
فإن قيل: هذا الوجه مبني على القطع بحسن مدح المطيع وذم العاصي في الحال ونحن لا نسلم ذلك.
قيل: قد عرّفناك أنه مجمع عليه، قال الموفق بالله: وربما بلغ المخالف فيه حداً يعلم خلافه؛ لأنه معلوم ضرورة حسن ذم الكفار من عبدة الأوثان والمكذبة به عليه الصلاة والسلام وكذلك الذين يسعون في الأرض بضروب من الفساد على أهل الإسلام وإن اعتقدوا الإسلام كتخريب المساجد وقتل ذراريهم وما شاكله فلا معنى للخلاف فيه.
قلت: وكذلك يعلم ضرورة حسن مدح الأنبياء والصالحين.
الوجه الثاني: أنه قد وجب علينا إقامة الحدود على وجه النكال وهو الإهانة من دون شرط فلو لم تكن مستحقة لم يحسن إقامتها، وقد نص الله تعالى على أن ذلك عقوبة على المعصية في قوله تعالى: {جَزَاءً بِمَا كَسَبَا نَكَالاً مِنَ اللَّهِ}[المائدة:38].
فإن قيل: نحن إنما نمنع أن يكون ما ينالهم في الآخرة مستحقاً في الدنيا والآية إنما تدل على استحقاقهم لهذا العذاب الكائن في الدنيا ونحن لا ننكره.
قيل: قد دل هذا الدليل على أن العذاب استحق عقيب فعل المعصية وأنها التي اقتضت استحقاقه وهذا الاستحقاق الذي لأجله وقع العذاب في الدنيا هو بعينه الذي يقع لأجله العذاب في الآخرة، فهو استحقاق واحد وليس باستحقاقين فتفرقون بينهما وإنما عجل بعض المستحق وتأخر بعضه ولا مانع من ذلك.
الوجه الثالث: أن الله تعالى كلفنا الشاق وأوجبه علينا فلا بد من وجه لوجوبه وليس ذلك إلا كونه يستحق العقاب بتركه؛ إذ لا يحسن التكليف لمجرد النفع كما مر في مسألة استحقاق العقاب.
الوجه الرابع: أن الموافاة إما الموت أو نحوه مما مر أو العلم بأنه يوافى مطيعاً أو عاصياً وكلا الأمرين لا يصح أن يكون مؤثرا في استحقاق العقاب؛ لأن الموت من فعل الله والعلم لا مدخل له في التأثير في ذلك لا يقال إنما قلنا إن الموافاة والعلم شرط في الاستحقاق لأنا نقول: الشرط لا يثبت إلا بدليل.
الوجه الخامس: أنه قد ثبت أن أحدنا يستحق الشكر على الإحسان والذم على الإساءة وإن لم يواف بهما فكذلك في الثواب والعقاب على الطاعة والمعصية، ثم إنه يلزم من القول بالموافاة أن لا يستحق الباري تعالى الشكر والعبادة لأن الموافاة مستحيلة عليه والشكر نظير الثواب في الاستحقاق.
فإن قيل: إنما يلزم ذلك إذا قلنا: إن الموافاة هي الموت، ونحن لا نقول بذلك، بل المراد بها حصول العبد في الآخرة وموافاته فيها بالطاعة أو المعصية ونحو هذه الموافاة لا يستحيل على الباري تعالى إذ هو جل وعلا موجود في الأخرة والأولى وإحسانه إلى العبد لم يقع منه ما يبطله إلى يوم القيامة.
قيل: فيلزمكم أن لا يكون الباري تعالى مستحقاً للشكر والعبادة إلا في الآخرة كما أن المحسن منا لا يستحق الشكر إلا في الآخرة وكما أن المطيع والعاصي لا يستحقان الثواب والعقاب إلا فيها.
الجهة الثالثة في إبطال كون العلم بالموافاة شرطا في الاستحقاق
ولأصحابنا في إبطال ذلك وجوه:
منها ما هو داخل فيما تقدم ومأخوذ منه، ومنها أنه لو كان لا يستحق العقاب على المعصية إلا إذا علم من حال فاعلها أنه يوافي لها لوجب فيمن بشره النبي بالجنة أن لا تجب عليه التوبة من الكبائر؛ لأن المعلوم من حاله أنه لا يوافى بها فلا يستحق عليها عقاباً.
فإن قيل: إنما وجبت التوبة لأنه قد يظن الموافاة بالمعصية.
قيل: لا ظن مع بشارة نبي.
ومنها أنه لو كان العلم بالموافاة شرطاً في استحقاق العقاب للزم مثله في التوبة فيشترط في زوال العقاب بها العلم بالموافاة فيجب حينئذ إذا تاب ثم عاد أن يكون في حكم من لم يتب لعدم العلم بالموافاة بها.
قال الإمام المهدي: بل كان يجب على هذا القول إذا كان المعلوم أنه يوافى بالمعصية أن لا يحسن تكليفه بالتوبة؛ لأنه لا يمكنه إزالة العقاب المستحق ولا سبيل له إلى ذلك لوقوف إسقاط التوبة إياه على العلم بالموافاة ولا يأمن من معاودة المعصية بعد التوبة فتكون الموافاة بالمعصية وحينئذ لا يكون للتوبة ثمرة لعدم القطع بنفعها له لا في الحال ولا في المآل بل العبرة بما أفضت إليه العاقبة فلا يحسن إيجابها، بل لا يكلف إلا بما يحسن التكليف به، وإذا كان هذا القول يؤدي إلى قبح ما كلفنا الله بفعله وجب القطع ببطلانه.
قيل: وفي الاستدلال بهذين الوجهين نظر؛ لأن التوبة لا تجب عقلاً إلا بعد ثبوت استحقاق العقاب على المعصية فالاستدلال بوجوب التوبة منها على استحقاق العقاب دور والأولى الاستدلال بما مر من أن الموجب للثواب والعقاب المعصية والطاعة ولا تأثير للموافاة في الاستحقاق؛ إذ هي أجنبية عنه فكذلك العلم بها إذ هو أجنبي عن الاستحقاق، وأيضاً لو كان شرطاً لتوقف العقلاء في المدح والذم حتى يعلموا هل يوافى أم لا والمعلوم أنهم لا يتوقفون، فدل على أن استحقاق المدح والذم غير متوقف على ذلك فكذلك الثواب والعقاب، وهذا أولى من هذين الوجهين، وكذلك ما تضمنته الجهة الثانية من الوجوه التي يمكن تركيب الاستدلال بها على إبطال هذه الجهة هي أولى. والله الموفق.
هذا وقد استند أهل الموافاة إلى شبه: أحدها أن الوعيد إما أن يتناول من يوافى بالمعصية ومن لا يوافى أو لا يتناول إلا من يوافى بها، إن قلتم بالأول لزمكم أن يعاقب التائب وإلا لزم الكذب والخلف في الوعيد، وإن قلتم بالثاني فلم منعتم قولنا إنه لا يستحق العقاب على المعصية إلا إذا وافى بها أو علم من حاله أنه يوافى بها، وحاصل هذه الشبهة أن الموافاة لو لم تكن شرطاً هي أو العلم بها لدخل العاصي في آيات الوعيد ولو دخل فيها لم يسقط عقابه بالتوبة؛ لأنه يؤدي إلى كذب ذلك الوعيد.
والجواب: أن كل وعيد مشروط بعدم التوبة لأنه وإن أطلق في آية فقد قيد في أخرى فيحمل المطلق على المقيد، هذا معنى جواب أبي علي.
وأما أبو هاشم فأجاب بأن الله تعالى إنما أخبر بأنه يفعل المستحق فإذا تاب العاصي فقد خرج عن كونه مستحقاً للعقاب فلا يلزم الكذب في الوعيد.
والفرق بين الجوابين أن أبا علي يجعل لفظ العموم في الوعيد متناولاً لكل عاص سواء علم من حاله أنه يتوب أم لا، ثم خص التائب بعد دخوله في ذلك العموم، وأما أبو هاشم فعنده أن الوعيد لم يتناول التائب وأن المراد بالعموم ليس إلا غير التائب، هكذا ذكر الفرق بينهما الإمام المهدي ثم قال: والتحقيق أن خلافهما في تخصيص العموم هل هو إخراج لما كان قد دخل في الخطاب أم بيان للمعنى المقصود بالعموم عند إطلاقه وأنه أريد به الخصوص من أول وهلة، فالأول قول أبي علي والثاني قول أبي هاشم.
قلت: والتحقيق أن الشبهة وجوابها مبنية على أن العلم هل يصح أن يتعلق بالشيء على شرط أم لا، فقال هشام الفوطي وحكاه في (الإحاطة) عن عباد بن سليمان: لا يجوز ذلك، وقال أبو علي: بل يجوز وألحق بالعلم الخبر والأمر والنهي والإرادة والكراهة فكل هذه يجوز أن تتعلق بالشيء على شرط وهو الذي قواه الموفق بالله ووافقه أبو هاشم في العلم واختلف قوله في الخبر، فتارة قال: يجوز، وتارة منع، ولم يختلف قوله في الوعد والوعيد في أنهما لا يتعلقان بالشيء على شرط وكذلك الإرادة والكراهة والأمر والنهي، احتج هشام وعباد بأن ذلك يقتضي أن يكون العالم شاكاً في المعلوم.
والجواب: لا نسلم أنه يقتضي ذلك وإنما هو دليل على علمه بالعواقب وأن لو كان كيف كان يكون، ألا ترى أنه من الوجه الذي نعلمه لا مجال للشك فيه نحو أن يعلم أن زيداً لو آمن لأثابه الله تعالى وإن كان المعلوم أنه لا يؤمن فالوجه الذي نعلمه منه هو أنه لو آمن لأثابه لا يدخله شك ولو قطع بعدم إيمانه وعلى هذا ورد السمع قال تعالى: {وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ الْقُرَى آمَنُوا وَاتَّقَوْا لَفَتَحْنَا عَلَيْهِمْ بَرَكَاتٍ مِنَ السَّمَاءِ...}الآية[الأعراف:96] إلى ما شاكلها في القرآن، وهذا هو حجة أبي علي في العلم، وإذا صح العلم بالشيء على شرط صح الخبر عنه كذلك.
وأما حجته فيما عداهما فهي أنه يحسن أن يقول القائل لغيره: اضرب زيداً إذا أساء الأدب، فيكون آمراً بضربه بهذا الشرط ومريداً له ويجد إرادة ذلك بهذا الشرط من نفسه، لا يقال هذه الإرادة لا مراد لها لأنا نقول: لو جاز ذلك مع أن الضرب ممكن حدوثه لجاز أن يقال كذلك في كل إرادة وأيضاً إنا نجد من أنفسنا الفرق بين هذا المراد وبين مراد آخر كما نجد الفرق بين المرادين إذا لم يكونا مشروطين، فكما أن الإرادة إذا لم تكن مشروطة يجب أن تكون متعلقة بمراد كذلك إذا كانت مشروطة لعدم الفارق والسمع قد ورد بذلك -أعني بتعليق الأمر على شرط- فإنه أمر بالواجبات بشرط الاستطاعة وأوجب علينا إرادة ذلك؛ لأنه كلفنا أن نقصد بها عبادته وهذه الإرادة مشروطة أيضاً بالاستطاعة.
احتج أبو هاشم على أن الوعد والوعيد لم يجز أن يتعلقا على شرط بأن الوعد يتضمن الترغيب، والترغيب يدل على إرادة ما رغب فيه، والوعيد يتضمن الزجر، والزجر يدل على كراهة ما زجر عنه، والإرادة والكراهة لا يتعلقان بالشيء على شرط عنده، وهذه الحجة إنما هي جواب عما ألزم به أبو هاشم من المناقضة؛ لأنه إذا جاز في الخبر أن يتعلق بالشيء على شرط جاز في الوعد والوعيد مثله؛ لأنهما خبران، فأجيب بما ذكر.
والجواب أن ذلك ليس بعذر له؛ لأن الإرادة المتعلقة بالطاعة منفصلة عن الوعد ولا تعلق لها به ولا يلزم من عدم تعلق الإرادة بالمراد على شرط أن لا يتعلق الوعد بالشيء على شرط.
واحتج أيضاً بأن الوعد والوعيد جاريان مجرى الأمر والنهي وهما لا يتعلقان عنده كما مر فكذلك ما أجري مجراهما.
والجواب أنا لا نسلم عدم تعلق الأمر والنهي وقد مر الدليل على تعلقهما سلمنا فلا جامع بينهما وبين الوعد والوعيد؛ لأنهما من الإنشاءات وهذان من جملة الأخبار فيجب إلحاقهما بسائر الأخبار.
واحتج على عدم تعلق الإرادة والكراهة بالشيء على شرط بأن ذلك الشرط إما أن يكون شرطاً في وجود الإرادة وفي تعلقها وفي وجود المراد، الأول؛ لأن ذلك حاصل ثابت، والحاصل لا يكون مشروطاً وإنما يصح ذلك فيما كان مستقبلاً متوقعاً حصوله، والثاني باطل أيضاً لأنه يلزم منه أن يكون شرطاً في تعلق الإرادة فيئول الحال إلى أن يكون تعلق الإرادة مشروطاً مع أنه ثابت.
وأجيب بأنه ينتقض عليه بالعلم والخبر فما أجاب به فهو جوابنا، ثم إنا نلتزم الثاني.
قوله: يلزم منه أن يكون شرطاً في تعلق الإرادة.
قلنا: لا يلزم ذلك؛ لأن تعلق الإرادة بالمراد حاصل سواء وجد الشرط أم لا، قال الموفق بالله: وإن كان المريد يريد حدوث ذلك الشيء عند هذا الشرط فليس يجب إذا كان وجود المراد مشروطاً أن يكون تعلق الإرادة مشروطاً.
إذا عرفت هذا فاعلم أن الفرق بين قول أبي علي وقول أبي هاشم في جواب هذه الشبهة أن أبا علي يذهب إلى أن الوعيد يتناول المكلف سواء عصى أو لم يعص وسواء علم من حاله الموافاة بالمعصية أو لم يعلم من حاله ذلك إلا أنه يكون وعيدا مشروطاً بحصول المعصية وعدم التوبة، وعند أبي هاشم أن الوعيد لا يتناول الفاعل وإنما يتناول الفعل ومعناه أنه أخبر عن فعل المستحق على هذه المعصية، فإذا كان العبد مستحقاً للعقاب عليها تناولها هذا للوعيد وإلا فلا.
قال الموفق بالله: وذكر أن أبا علي قال: إنه زجر بالوعيد جميع المكلفين وقصدهم به، وعند أبي هاشم لا يكون زجرا إلا للمستحق للعقاب فهو بمنزلة أن يقول: أدب أولادي إذا أساءوا الأدب فإنه يكون زجراً لجميعهم بهذا الخطاب وإن كان التأديب يستقر على المسيء للأدب منهم، وعند أبي هاشم لا يتناول إلا المستحق للتأديب فقط.
الشبهة الثانية لأهل الموافاة
أن الله إذا توعد من يوافي ومن لا يوافي بها فقد توعد بالظلم.
والجواب أن ذلك لا يلزم إلا لو لم يكن الوعيد مشروطاً.
فإن قيل: إن الوعيد نفسه يكون ظلما لأنه ضرب لا يستحق العقاب به.
قيل: لا نسلم، بل هو نفع خالص؛ لأن عنده يكون المكلف أقرب إلى فعل الواجب وترك القبيح.
الشبهة الثالثة
قوله تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ حَقَّتْ عَلَيْهِمْ كَلِمَةُ رَبِّكَ لاَ يُؤْمِنُونَ}[يونس:96] ولو ثبت الاستحقاق قبل الموافاة لكانت قد حقت عليهم الكلمة؛ إذ معنى حقية كلمة الله علمه باستحقاقهم العقاب فيلزم أن لا يؤمن من قد استحق العقاب والمعلوم حصول الإيمان من الكفار فوجب كون الاستحقاق لا يثبت في دار التكليف.
والجواب لا نسلم أن معنى الآية ثبوت الاستحقاق، بل المراد من علم حالهم أنهم يعاقبون على كفرهم لعدم التطافهم وقبولهم للحق وأن العقاب واصل إليهم لا محالة فإنهم لا يؤمنون وذلك لا يقتضي بطلان تقدم ثبوت الاستحقاق على وقوع المجازاة بل يستحق قبل المجازاة ويصح إيمانهم لكن الله تعالى أخبر بما علم من حالهم.
الشبهة الرابعة
قوله تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَصَدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ ثُمَّ مَاتُوا وَهُمْ كُفَّارٌ فَلَنْ يَغْفِرَ اللَّهُ لَهُمْ}[محمد:34] فشرط في انتفاء الغفران موتهم على الكفر فكأنهم لا يستحقون على الكفر عقاباً إلا إذا وافوا به.
والجواب أن الآية إنما دلت على أن بموتهم ينقطع رجاء الغفران لهم وليس فيها أن بموتهم يثبت استحقاقهم للعقاب ولا نفي الاستحقاق قبل الموت.
فائدة
والظاهر أن معرفة هذه المسألة فرض كفاية لأجل معرفة خطاب الله؛ لأنه قد دل على ثبوت استحقاق الثواب والعقاب ولا يعلم وقت الاستحقاق إلا بعد العلم بهذه المسألة والنظر في أدلتها.
المسألة السابعة [في أن (كلما) تفيد التكرار]
(كلما) للتكرار، قال: ولا يرد في لسان العرب مطلق الفعل الواقع صلة لما فيكفي فيه بمرة واحدة.
قال: ولدلالتها على عموم الزمان جزم بها بعض العرب والتكرار الذي يذكره أهل أصول الفقه والفقهاء في كلما إنما ذلك لما فيها من العموم؛ لا أن لفظ (كلما) وضع للتكرار كما يدل عليه كلامهم وإنما جاءت كل توكيداً للعموم المستفاد من ما الظرفية.
قلت: وقد بنى الفقهاء على كونها للتكرار أحكاماً في تعليق الطلاق ونحوه بالشرط المقترن بها.
المسألة الثامنة [دلالة الآية على وجود الجنة]
قيل: هذه الآية تدل على وجود الجنة الآن، ووجه دلالتها أنه أخبر تعالى بوقوع هذا الملك لهم وحصوله في الحال وذلك يقتضي وجود المملوك في الحال، ولقائل أن يقول: لا نسلم أن اللام في الآية للملك وإنما هي لام الاستحقاق وحينئذ فلا دلالة فيها.
المسألة التاسعة [أحكام تتعلق بالثواب]
اعلم أن القرآن العظيم قد اشتمل على آيات متعددة في وعد المؤمنين بالثواب وكلها دالة على أن إثابتهم لا تكون إلا بمنافع عظيمة دائمة خالصة مستحقة على جهة التعظيم والإجلال، ومنها الآية التي نحن بصددها فيستنبط من ذلك أحكام تتعلق بالثواب:
الأول: صحة ما ذكره أصحابنا في حد الثواب من كونه نفعاً مستحقاً خالصاً عن كل كدر، واقعاً على وجه الإجلال والتعظيم الدائم الذي تتوق إليه النفس وتشتهيه، وهذا الحد ذكره الموفق بالله، وحدود سائر الأصحاب مطابقة له في المعنى، ودلالة الآية وما في معناها على صحة هذا الحد ظاهرة، فإن الله تعالى إنما وعدهم بمنافع من جنات وأزواج طاهرات وأرزاق متتابعات، وقرنه بالدوام الذي لا ينقطع، وجعل ذلك لهم جزاء مستحقاً على إيمانهم وصالح أعمالهم، وافتتحه بالأمر بالبشارة، فأي نفع وتعظيم وخلوص عن كل كدر وخيم أعظم من هذا.
الحكم الثاني: أن الثواب لا يكون مدحاً مجرداً؛ لأن الوعد وقع بغيره كما في الآية هذه وغيرها، والعقل أيضاً يدل على ذلك فإن الله تعالى إذا كلفنا الأفعال الشاقة فلا بد أن يكون في مقابلتها من الثواب ما يعتد به وإلا كان التكليف عبثاً وظلماً، ولا شك أن المكلف لا يعتد بمجرد قول الله تعالى في يوم الجزاء لقد أحسنت بما فعلته من طاعتي وتركته من معصيتي في جنب ما تحمله من مشاق الطاعة ومجاهدة النفس في ترك الشهوات العظيمة ولا يحسن من الحكيم التكليف على هذا الوجه، وأيضاً المدح لا يستحق من الله تعالى خاصة، بل هو وغيره سواء في استحقاق المدح من جهته وما يستحق في مقابلة التكليف يجب أن يكون من فعل الله تعالى؛ لأنه الذي كلف بالشاق.
فإن قيل: أليس الإنسان قد يتحمل المشاق العظيمة في طلب المدح من السلطان فكيف لا يعتد بمدح الرحمن ويتحمل لأجله التكاليف؟
قيل: إنما يرغب في ذلك لما يرجوه من الوصول إلى منازل سنية عند السلطان ومنافع عظيمة، ولو علم أنه لا يكون من السلطان إلا مجرد المدح لم يرض به ولذلك يفرق بين مدحه ومدح العامي الذي لا يصل بمدحه إلى رتبة.
فإن قيل: أليس العرب يبذلون مهجهم وأموالهم طلباً للمدح والذكر حتى عدّوا الذكر عمراً ثانياً؟
قيل: إنما ذلك من جهالتهم مع أنه لا بد أن يكونوا قد اعتقدوا في ذلك نفعاً يزيد على ما يلحقهم من المشاق.
قال السيد مانكديم: وصار ذلك كإيصائهم بعقر بعير وحبس جمل أو فرس على قبورهم ونصب السراج ووضع السيوف عليها، كل ذلك لما يعتقدون فيه من النفع العظيم.
دليل آخر وهو أنه يستحق المدح على فعل الواجب وترك القبيح وإن لم يكن في فعله مشقة ولذا استحقه الباري تعالى على فعل الواجب وترك القبيح مع أنه لا مشقة عليه في ذلك فلا بد أن يكون بإزاء هذه المشقة ما يقابلها وهو الثواب.
فإن قيل: إنما كلفه لأن المدح مع المشقة يكون أبلغ.
قيل: المبالغة يمكن حصولها من دون المشقة فلا وجه لها، وأيضاً المعلوم أن الباري تعالى يستحق أبلغ المدح ولا مشقة تلحقه، وعلى ما قلتم يلزم أن يستحق المكلف من المدح أكثر مما يستحقه الباري جل وعلا.
دليل آخر: وهو أنه لو كان المقصود من التكليف حصول المدح لم يكن للإعادة معنى؛ لأن المدح يمكن للمعدوم كما يمدح المرء بعد وفاته.
واعلم أنه لا خلاف في أن استحقاق المدح على الطاعة لا يكفي إلا عن بعض الفلاسفة الإسلامية فإنه روي عنهم أن المدح وما يقع من السرور كاف في حسن التكليف بالمشاق.
الحكم الثالث: أن الثواب لا يكون مجرد السرور، والخلاف في ذلك لبعض الفلاسفة كما مر، وحكاه الموفق بالله عن بعض اليهود والنصارى قال: فزعموا في العقاب أنه الغم وأن صورة المثاب في الجنة بمنزلة النائم الذي يتخيل له نيل سني الملاذ والرتب لا أنه ينالها، في التحقيق، لنا الآية ونحوها فإنها صريحة في خلاف قولهم، ومن جهة العقل ما مر في المدح فإنه يجري هنا -أعني عدم الاعتداد بالسرور المجرد، وأيضاً المرجع بالسرور إلى اعتقاد نفع أو ظنه ولا يجوز من الحكيم التكليف لهذا الوجه، وكيف يجوز منه أن يكلفه بترك المنفعة العظيمة وتحمل الكد العظيم وبذل الروح حتى إذا وافى المحشر لم يظفر إلا باعتقاد أنه سوف ينتفع.
الحكم الرابع: أنه لا يكون إلا بمنافع عظيمة ودلالة الآية على ذلك ظاهرة، ومن جهة العقل أنا كلفنا الشاق فلا بد أن يكون في مقابلته من الثواب ما يزيد عليه في القدر إلى أن يبلغ حداً لا يحسن الابتداء بمثله ولا التفضل به وإلا كان التكليف عبثاً وظلماً كما مر في بيان حسن التكليف.
الحكم الخامس: دوام الثواب لقوله تعالى: {وَهُمْ فِيهَا خَالِدُونَ}[البقرة:25] وقوله: {أُكُلُهَا دَائِمٌ}[الرعد:35] وهذا الحكم ثابت له ولا يجوز تخلفه عنه، بل ودوامه واجب، والعقل يحكم بوجوب دوامه من وجوه:
أحدها: أنه نظير المدح والمدح يستحق دائما فكذا نظيره لاتحاد جهة استحقاقهما.
الثاني: أنه لو لم يجب دوامه لجوزوا انقطاعه فكان خوف الانقطاع ينغص عليهم تلك النعمة وكلما كانت النعمة أعظم كان خوف انقطاعها أعظم وذلك يقتضي أن لا ينفك أهل الجنة عن الغم والحسرة وقد نفي عنهم.
الثالث: أنه يحسن من الله تعالى دوام التفضل، فلو كان الثواب منقطعاً لكان أعلى حالاً من الثواب ولقبح التكليف لأجل الثواب؛ لأن التفضل يغني عنه، بل يكون أبلغ منه لجواز دوامه والقطع بانقطاع الثواب ولاختار العقلاء التفضل على الثواب المنقطع.
الرابع: أنه لا يمكن تقديره بوقت دون وقت فكان حال الأوقات معه على سواء.
وقد ضعف الإمام عز الدين هذه الوجوه كلها:
أما الأول فلأنه لا يلزم من استواء المدح والثواب في جهة الاستحقاق استوائهما في الدوام، كما لا يلزم منه تساويهما في غيره.
وأما الثاني فلأن تأدية قطعه إلى التنغيص لا يكون سببا في وجوب دوامه إذا لم يكن واجباً في الأصل، بل إذا لم يكن واجباً من الأصل لم يقع مبالاة بالتنغيص بعد إيفاء الواجب.
وأما الثالث فليس اللازم إلا استوائهما في جواز انقطاعهما وفي جواز استمرارهما تفضلاً لا وجوباً، ولا مانع من استوائهما في ذلك مع امتياز الثواب بمقارنة التعظيم وغيره من المزايا.
وقولهم: لقبح التكليف لأجل الثواب، كلام لا طائل تحته؛ إذ تقدير انقطاعه لا يقتضي قبح التكليف لأجله.
وقولهم: ولاختار العقلاء ...إلخ، لا معنى له؛ إذ لا يلزم ذلك إلا لو كان من لم يثب ثوابا منقطعاً تفضل عليه تفضلاً دائماً ولا قائل بذلك.
وأما الرابع فيقال: ما أردتم بنفي الإمكان؟ هل لا يمكننا نحن؟ فمسلم، لكن ذلك لا يستلزم عدم إمكان التقدير من المثيب العزيز العليم ولا يمكن المثيب جل وعلا فغير مسلم وصار الحال في ذلك كالحال في كمية أجزاء الثواب، فإنه لا يمكننا معرفة مقدارها، والباري تعالى يعلم ذلك، ولا يصح أن يقال: إذا كان لا يمكننا تقدير أجزائها بقدر دون قدر وجب أن لا تتناها، قال عليه السلام : فالمعتمد في دوامه دليل السمع، فالقرآن فيه تصريح بذلك وتأكيد له وكذلك السنة النبوية والأخبار الصحيحة المروية.
قلت: وكذلك إجماع الفرق الإسلامية إلا ما يحكى عن جهم والبطحي فإنهما منعا دوام الثواب والعقاب وقولهما باطل بما ذكرنا وبما مر في الثالثة عشرة من مسائل قوله تعالى: {سَوَاءٌ عَلَيْهِمْ أَأَنذَرْتَهُمْ}[البقرة:6] من دليل دوام العقاب.
الحكم السادس: أن الثواب يكون خالصاً عن الشوائب والمنغصات ودليله وصفه بالخلود؛ لأنه تعالى لو لم يصفه بذلك لجوزوا انقطاعه وفي ذلك تنغيص كما مر، فكان وصفه بالخلود دليلاً على أنه لا ينغص عليهم بخوف الانقطاع، ومن الدليل على أن وصفه بالخلود يدل على نفي التنغيص قول امرئ القيس:
وهل يعمن إلا سعيد مخلد .... قليل الهموم لا يبيت بأوجال
وقول الآخر:
أشد الغم عندي في سرور .... تيقن عنه صاحبه انتقالا
وقد قيل: إن الأمة مجمعة على أنه لا تنغيص في الجنة، والدلائل القرآنية والسنة النبوية صريح في ذلك، وقد استدل عليه من جهة العقل بوجوه:
الأول: أن الثواب في مقابلة ما كلفناه وهو قد وقع منا على نهاية ما يصح أن يؤدى لوجوبه، فيجب في المستحق عليه أن يكون على أبلغ ما يمكن وهو خلوصه من الشوائب.
فإن قيل: إنما يلزم نهاية ما يمكن من الثواب لو وقع التكليف بنهاية ما يمكن من المشاق، والمعلوم أن التكليف وقع بالأخف فكيف يستحق عليه نهاية ما يمكن من الثواب؟
قيل: الثواب في مقابلة أداء ما كلف وقد أداه على أبلغ ما يمكن للوجه الذي يجب فاستحق الجزاء عليه على وجه لا يشوبه منغص، وقد قيل: إن التكليف قد وقع على أبلغ ما يمكن في إزاحة العلل فلا بد من كون المستحق عليه خالصاً.
الوجه الثاني: أن الله تعالى لو فعل الألم بأهل الجنة لكان إما مستحقاً أو لطفاً وكلاهما محالان؛ لأنه لا يجوز أن يستحقوا عقاباً لمنافاته للثواب كما مر واللطف لا يكون إلا لمكان التكليف ولا تكليف عليهم.
الثالث: أن الثواب يجب أن يتميز عن غيره وتميزه إما بكونه دائماً أو مقترناً بالتعظيم أو خالصاً، الأول باطل؛ لأن الدوام ثابت في التفضل؛ إذ لا يجوز دوامه؛ ولأن الدوام مما سيحصل وما يقع به التمييز يجب أن يكون مقارناً، والثاني باطل أيضاً؛ لأنه لو كان بإزاء التعظيم ما يوافي عليه كثيراً لكان مساوياً له، ولذلك إن العاقل قد يؤثر المنافع الزائدة على أجزاء التعظيم على تلك الأجزاء، فإذاً لا يتميز إلا بكونه خالصاً عن المكدرات.
فإن قيل: كونه خالصاً يرجع إلى النفي، والنفي لا يقع به التمييز؛ لأنه مع الثواب وغيره على سواء.
قيل: لا نسلم لأنه تميز بوقوعه على هذا الوجه وذلك أمر يخصه لا يشاركه فيه غيره.
قلت: والقول بأنه لا يتميز بالدوام والتعظيم هو الذي ذهب إليه الموفق بالله، وأما القرشي فعدهما من الصفات التي يتميز بها الثواب عن غيره.
الوجه الرابع: أن الله قد كلفنا المشاق فلا يجوز منه أن يكلفنا ذلك ثم لا نظفر منه إلا بمنافع مثلها أو مقاربة لها؛ لأن مثل ذلك مما يحسن الإبتداء به فلا يكون للتكليف فائدة.
الخامس: أن المكلف مرغب في الثواب فلا بد أن يتميز حاله عن حال التكليف في الخلوص من المشاق والمضار ولذلك زال التكليف عن المثابين وصاروا كالملجئين؛ لأنه لم يقابل دواعيهم إلى الحسن صارف ولا صوارفهم عن القبح داع.
وهاهنا سؤال، وهو: أن اللذة لا تحصل إلا بعد الجوع فلا بد من أن يجوع أهل الجنة فيحصل لهم اللذة، والجوع ألم، وأيضاً درجاتهم متفاوتة في الجنة فلا بد من أن يشتهي الناقصة درجته أن ينال درجة من هو أعلى منه، فإذا لم ينلها تنغص عليه ما هو فيه، وقد يرى الواحد منهم أخص الناس لديه في النار فيغتم لذلك وحينئذ لا ينفك الثواب عن ألم الجوع وغم فوت المرتبة وتعذيب القريب فلا يخلص عن مكدر.
والجواب: أن لذاتهم لا تحتاج إلى جوع وإنما تحصل بخلق شهوات فيهم لا يتأخر نيل المشتهى عنه، وذو الرتبة الناقصة لا يشتهي غير ما هو فيه كما لا يشتهي الواحد منا رتبة الملوك في الدنيا، ومن رأى تعذيب قريبه لا يتنغص لتعذيب عدو الله بل ربما استراح بذلك، كما أنه قد يستريح في الدنيا بقتله.
الحكم السابع: أن الثواب مستحق على جهة التعظيم، ووجه دلالة الآية على ذلك أنه جعل ما بشر به المؤمنين جزاء على فعل ما كلفهم به ووصفه بأوصاف تدل على أنه تعالى جعل لهم ذلك الجزاء العظيم رفعاً لشأنهم وتنويهاً بذكرهم وذلك معنى التعظيم، وقد أوجب كثير من أصحابنا اقتران الثواب بالتعظيم لينفصل عن العوض.
فائدة
بعض هذه الأحكام إنما هي فرع على القول بوجوب الثواب وأما من يقول بأنه تفضل محض فهي غير ثابتة عنده.
المسألة العاشرة [في رزق الدنيا والآخرة]
ذهب جماعة من الصحابة فمن بعدهم إلى أن المراد بقوله تعالى: {قَالُوا هَذَا الَّذِي رُزِقْنَا مِنْ قَبْلُ}[البقرة:25] أن الذي رزقوه في الجنة مثل الذي رزقوه في الدنيا ومشابهاً له، وهذا يدل على ما ذكره الموفق بالله من أنه يجب في الثواب أن يكون من جنس ما قد تصورناه، قال: وكذلك العقاب؛ لأن الوعد إذا كان بما يدرك ويتصور من اللذات وينفر عنه من الآلام كنا أقرب إلى أداء الطاعات واجتناب المعاصي، قال: ومعلوم ضرورة أن الاعتداد بما يدرك ويتصور من اللذات أقوى منه إذا لم يكن قد تصوره وأدركه.
وقال المرتضى: لا يصح حمل الآية على ذلك لتأديته إلى عدم تفضيل نعيم الجنة على نعيم الدنيا وإنما معنى الآية أنه لا يأتيهم في الجنة رزق إلا وافق شهواتهم، ثم ما وصل بعده يكون كذلك بخلاف أرزاق الدنيا فإن منها موافق ومنها مخالف، ويدل عليه قوله تعالى: {وَأُتُوا بِهِ مُتَشَابِها}[البقرة:25] ولا يجوز حمل المتشابه عنده على التشابه في الألوان كما قيل، وإنما المراد التشابه في الإرادة والشهوة والمحبّة؛ لأن أرزاق الدنيا منها ما لا يرى ولا يشتهى.
وفي (المصابيح) عن أكثر العلماء أن معناها هذا الذي رزقنا من قبل في الجنة وهم يعلمون أن ما أتوا به في الحال غير ما أكلوه من قبل ولكنهم شبهوه بالأول.
وقيل: المعنى هذا الذي وعدنا في الدنيا أن نرزقه في الآخرة، وعلى هذا فلا دلالة في الآية على ما ذكره الموفق بالله، بل كلام المرتضى صريح في منعه لما علل به من تأديته إلى عدم التفاضل، وقد استدل بعضهم على عدم اشتراط ذلك بقوله تعالى: {فَلاَ تَعْلَمُ نَفْسٌ مَا أُخْفِيَ لَهُمْ مِنْ قُرَّةِ أَعْيُنٍ}[السجدة:17].
وروى الموفق بالله عن علي عليه السلام في تفسيرها أنه قال: (من أخفى لله طاعة أخفى له ثواباً)، ويرجح ما ذهب إليه الموفق بالله بوجهين:
أحدهما أن الجنة دار التلذذ والنعيم الخالص، ومعلوم أن الإنسان إلى ما قد ألفه أميل منه إلى غيره، بل ربما نفر طبعه عن غير المألوف.
الثاني أن كلما للتكرار فلا بد وأن يقولوا هذا القول عند كل مرة من مرات الرزق ومنها المرة الأولى، ولا يكون عند المرة الأولى شيء من أرزاق الجنة حتى يشبه به ذلك فثبت أن حمل المتشابه على أثمار الدنيا أرجح وهو الذي قواه الزمخشري وما أحسن ما قاله في بيان الغرض في تلك المشابهة وترجيح هذا القول، ولفظه:
فإن قلت: لأي غرض تتشابه ثمر الدنيا وثمر الآخرة؟ وما بال ثمر الجنة لم يكن أجناساً أخر؟
قلت: لأن الإنسان بالمألوف آنس وإلى المعهود أميل، وإذا رأى ما لم يألفه نفر عنه طبعه وعافته نفسه، ولأنه إذا ظفر بشيء من جنس ما سلف له به عهد وتقدم له معه إلف، ورأى فيه مزية ظاهرة وفضيلة بينه، وتفاوتاً بينه وبين ما عهد بليغاً أفرط ابتهاجه واغتباطه، وطال استعجابه واستغرابه، وتبين كنه النعمة فيه، وتحقق مقدار الغبطة به، ولو كان جنساً لم يعهده وإن كان فائقاً حسب أن ذلك الجنس لا يكون إلا كذلك فلا يتبين موقع النعمة حق التبين، فحين أبصروا الرمانة من رمان الدنيا ومبلغها في الحجم وأن الكبرى لا تفضل عن حد البطيخة الصغيرة، ثم يبصرون رمانة الجنة تشبع السكن، والنبقة من نبق الدنيا في حكم الفلكة ثم يرون نبق الجنة كقلال هجر كما رأوا الشجرة من شجر الدنيا وقدر امتداده، ثم يرون الشجرة في الجنة يسير الراكب في ظلها مائة عام لا يقطعه كان ذلك أبين للفضل، وأظهر للمزية، وأجلب للسرور، وأزيد في التعجب من أن يفاجؤا ذلك الرمان وذلك النبق من غير عهد سابق بجنسهما، وترديدهم هذا القول، ونطقهم به عند كل ثمرة يرزقونها دليل على تناهي الأمر وتمادي الحال في ظهور المزية وتمام الفضيلة وعلى أن ذلك التفاوت العظيم هو الذي يستملي تعجبهم ويستدعي تبجحهم في كل أوان.
هذا وأما قوله تعالى: {فَلاَ تَعْلَمُ نَفْسٌ مَا أُخْفِيَ لَهُمْ مِنْ قُرَّةِ أَعْيُنٍ}[السجدة:17] وكلام الوصي عليه السلام فقال الموفق بالله: المراد به تفاصيل الثواب التي لا يعلمها كثرة وعظماً وموقعاً إلا الله سبحانه.
المسألة الحادية عشرة فيما يناسب الآية مما جاءت به السنة النبوية من أوصاف الجنة أسعدنا الله بدخولها آمين
اعلم أن الله تعالى وصف الجنة في هذه الآية بأربع صفات:
الأولى: بأن الأنهار تجري من تحتها.
الثانية: تشابه أرزاقها.
الثالثة: طهارة أزواجها.
الرابعة: الخلود فيها.
ونحن نأتي من السنة الشريفة بما يناسب كل واحدة من هذه الصفات بحسب ما يقتضيه الحال والمقام فنقول:
الصفة الأولى: أن الأنهار تجري من تحتها
وفي معناها ما أخرجه ابن ماجة وابن أبي الدنيا والبزار وابن أبي حاتم والبيهقي وابن حبان وابن أبي داود وأبو الشيخ في العظمة وابن مردويه عن أسامة بن زيد قال: قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم : ((ألا هل مشمر للجنة فإن الجنة لا خطر لها، هي ورب الكعبة نور يتلألأ، وريحانة تزهر، وقصر مشيد، ونهر مطرد، وثمرة نضيجة، وزوجة حسناء جميلة، وحلل كثيرة، ومقام في أبد في فاكهة دار سليمة، وفاكهة خضرة وحبرة، ونعمة في محلة عالية بهية، قالوا: نعم يا رسول الله، قال: قولوا: إن شاء الله، قال القوم: إن شاء الله)).
وأخرج ابن أبي الدنيا عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال: ((أرض الجنة بيضاء، عرصتها صخور الكافور وقد أحاط به المسك مثل كثبان الرمل، فيها أنهار مطردة، فيجتمع أهل الجنة أولهم وآخرهم يتعارفون، فيبعث الله عليهم ريح الرحمة، فتهيج عليهم المسك، فيرجع الرجل إلى زوجه وقد ازداد حسناً وطيباً فتقول: لقد خرجت من عندي وأنا بك معجبة وأنا بك الآن أشد إعجاباً)).
وأخرج ابن أبي الدنيا في صفة الجنة وأبو الشيخ في العظمة عن ابن زميل أنه سأل ابن عباس: ما أرض الجنة؟ قال: مرمرة بيضاء من فضة كأنها مرآة، قال: ما نورها؟ قال: ما رأيت الساعة التي يكون فيها طلوع الشمس فذلك نورها إلا أنه ليس فيها شمس ولا زمهرير، قال: فما أنهارها؟ أفي أخدود؟ قال: لا، ولكنها تفيض على وجه الأرض لا تفيض هاهنا ولا هاهنا، قال: فما حللها؟ قال: فيها الشجر فيها الثمر كأنه الرمان فإذا أراد ولي الله منها كسوة انحدرت إليه من أغصانها فانفلقت له عن سبعين حلة ألواناً بعد ألوان ثم لتطبق فترجع كما كانت وهو في تتمة الروض. عن سماك، عن ابن عباس وقال: أخرجه ابن أبي الدنيا، قال الحافظ: بإسناد حسن.
وأخرج ابن أبي حاتم وابن حبان والطبراني والحاكم وابن مردويه والبيهقي في البعث عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم : ((أنهار الجنة تفجر من تحت جبال مسك)).
وأخرج ابن أبي شيبة وابن أبي حاتم وأبو الشيخ ابن حبان في التفسير والبيهقي في البعث وصححه عن ابن مسعود قال: إن أنهار الجنة تفجر من جبل مسك.
وأخرج ابن مردويه وأبو نعيم والضياء المقدسي كلاهما في صفة الجنة عن أنس قال: قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم : ((لعلكم تظنون أن أنهار الجنة أخدود في الأرض، لا والله، إنها لسائحة على وجه الأرض، حافتاه خيام اللؤلؤ، وطينها المسك الأذفر، قلت: يا رسول الله، ما الأذفر؟ قال: الذي لا خلط معه)).
وأخرج ابن عساكر في تاريخه عن أنس مرفوعاً: ((في الجنة نهر يقال له الريان عليه مدينة من مرجان لها سبعون ألف باب من ذهب وفضة لحامل القرآن)).
الصفة الثانية: في أرزاق أهل الجنة.
وفي معناها ما رواه زيد بن علي عليه السلام عن أبيه عن جده عن علي عليه السلام قال: قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم : ((الجنة لبنة من ذهب ولبنة من فضة، حصباؤها الياقوت والزمرد، ملاطها المسك الأذفر، ترابها الزعفران، أنهارها جارية، ثمارها متدلية، وأطيارها مرنة، ليس فيها شمس ولا زمهرير، لكل رجل من أهلها ألف حوراء، يمكث مع الحوراء من حورها ألف عام لا تمله ولا يملها، وإن أدنى أهل الجنة منزلة لمن يغدى عليه ويراح بعشرة آلاف صحفة في كل صحفة لون من الطعام له رائحة وطعم ليس للآخر، وإن الرجل من أهل الجنة ليمر به الطائر فيشتهيه فيخر بين يديه إما طبيخاً وإما مشوياً ما خطر بباله من الشهوة، وإن الرجل من أهل الجنة ليكون في جنة من جنانه من أنواع الشجر إذ يشتهي ثمرة من تلك الثمار فتدلى إليه فيأكل منها ما أراد، ولو أن حوراء من حورهم برزت لأهل الأرض لأغشت نور الشمس ولافتتن بها أهل الأرض)).
وعن أنس رفعه قال: ((إن أسفل أهل الجنة أجمعين من يقوم على رأسه عشرة آلاف خادم مع كل خادم صحفتان، واحدة من فضة وواحدة من ذهب، في كل صحفة لون ليس في الأخرى مثلها يأكل من آخره كما يأكل من أوله، يجد لآخره من اللذة والطعم ما لا يجد لأوله، ثم يكون بعد ذلك رشح مسك وجشا مسك، لا يبولون ولا يتغوطون ولا يتمخطون)) أخرجه ابن أبي الدنيا والطبراني، قال المنذري: رواته ثقات.
الصفة الثالثة: في أزواج أهل الجنة
ذكر الله تعالى في هذه الآية أن لهم أزواجاً مطهرة، قال زيد بن علي: أي لا يحضن، ولا ينفسن، ولا يبزقن، ولا يتمخطن، ومعناه مروي عن جماعة من السلف.
وأخرج الحاكم، وابن مردويه وصححه عن أبي سعيد الخدري، عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم في قوله: {وَلَهُمْ فِيهَا أَزْوَاجٌ مُطَهَّرَةٌ}[البقرة:25] قال: ((من الحيض والغائط والنخامة والبزاق)).
وأخرج ابن أبي شيبة، وأحمد، والترمذي وصححه، والبيهقي في البعث عن أبي سعيد الخدري، قال: قال رسول الله -صلى الله عليه وآله: ((أول زمرة تدخل الجنة وجوههم كالقمر ليلة البدر، والزمرة الثانية أحسن كوكب دري في السماء، لكل امرئ منهم زوجتان، على كل زوجة سبعون حلة، يرى مخ ساقهن من وراء الحلل)).
وأخرج أحمد، والبخاري، ومسلم، والبيهقي عن أبي هريرة أنهم تذاكروا الرجال أكثر في الجنة أم النساء، فقال: ألم يقل رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم : ((ما في الجنة أحد إلا وله زوجتان، إنه ليرى مخ ساقهما من وراء سبعين حلة ما فيها عزب)).
وأخرج الترمذي، وصححه والبزار عن أنس عن النبي -صلى الله عليه وآله- قال: ((يزوج العبد في الجنة سبعين زوجة، قيل: يا رسول الله، أنطيقها؟ قال: تعطى قوة مائة)).
وأخرج ابن أبي الدنيا عن أنس عن النبي -صلى الله عليه وآله- قال: ((لو أن حورية بزقت في بحر لعذب ذلك البحر من عذوبة ريقها)).
وعن علي عليه السلام قال: قال رسول الله -صلى الله عليه وآله: ((إن في الجنة لمجتمعاً للحور العين يرفعن بأصوات لم تسمع الخلائق بمثلها يقلن: نحن الخالدات فلا نبيد، ونحن الناعمات فلا نبأس، ونحن الراضيات فلا نسخط، طوبى لمن كان لنا وكنا له)) أخرجه الترمذي وقال: غريب، والبيهقي.
وعن ابن عمر قال: قال رسول الله -صلى الله عليه وآله: ((إن أزواج أهل الجنة ليغنين أزواجهن بأحسن أصوات[ما] سمعها أحد قط، وإن مما يغنين به: نحن الخيرات الحسان، أزواج قوم كرام، ينظرون بقرة أعيان، وإن مما يغنين به: نحن الخالدات فلا نمتنه، نحن الآمنات فلا نخفنه، نحن المقيمات فلا نظعنه)) أخرجه الطبراني في الصغير والأوسط قال الحافظ: ورواتهما رواة الصحيح.
الصفة الرابعة: الخلود
وهي أم الصفات، ومعقد اللذات والمسرات إذ كل لذة ونعيم يخاف عليه الفوات لا تحصل به الغبطة ولا يخلص عن المنغصات، ولذا قال الشاعر:
أشد الغم عندي في سرور .... تيقن عنه صاحبه انتقالاً
وفي أمالي المرشد بالله: أخبرنا ابن ريذة، أخبرنا الطبراني، ثنا ابن خالويه، ثني سهل بن عثمان، ثنا الحكم بن طهير، عن السدي، عن مرة، عن عبد الله قال رسول الله -صلى الله عليه وآله: ((لو قيل لأهل النار: إنكم ماكثون في النار عدد كل حصاة في الدنيا لفرحوا، ولو قيل لأهل الجنة: إنكم ماكثون في الجنة عدد كل حصاة لحزنوا، ولكن جعل لهم الأبد))، وهو في الدر المنثور منسوباً إلى الطبراني، وابن مردويه، وأبي نعيم.
وفي أمالي أبي طالب: أخبرنا أبو العباس، انا يعقوب بن إسحاق، ثنا محمد بن حسان، ثنا أحمد الأشعري، عن الحسن بن محبوب، عن أبي ولاد الخياط، عن الصادق، عن أبيه، عن جده في قوله تعالى: {وَأَنذِرْهُمْ يَوْمَ الْحَسْرَةِ إِذْ قُضِيَ الأَمْرُ}[مريم:39] قال: يقال لأهل الجنة: يا أهل الجنة، خلود ولا موت فيها أبداً، ويا أهل النار، خلود لا موت فيها أبداً، وذلك قوله تعالى: {إِذْ قُضِيَ الأَمْرُ} قال: قضي على أهل الجنة الخلود فيها، وقضي على أهل النار الخلود فيها.
وفيه: أخبرنا أبي، أنا حمزة بن القاسم، ثنا بكر بن عبد الله، عن محمد بن زكريا، ثني محمد بن الحسين، ثني محمد بن عباد، عن أبيه، عن محمد بن الحنفية في خبر طويل أن علياً عليه السلام قال للأحنف: فاحتل للدار التي خلقها الله عز وجل من لؤلؤة بيضاء فشق فيها أنهارها، وغرس فيها أشجارها، وأظل عليها بالنضح من ثمارها، وكبسها بالعواتق من حورها، ثم أسكنها أولياءه وأهل طاعته، فإن فاتك يا أحنف ما ذكرت لك لترفلن في سرابيل القطران، ولتطوفن بينها وبين حميم آن، فكم يومئذ في النار من صلب محطوم، ووجه مشئوم، ولو رأيت وقد قام منادي ينادي: يا أهل الجنة ونعيمها وخيلها وحللها خلود لا موت، ثم يلتفت إلى أهل النار: يا أهل النار، يا أهل السلاسل والأغلال، خلود لا موت، فانقطع رجاءهم وتقطعت بهم الأسباب، فهذا ما أعد الله عز وجل للمجرمين وذلك ما أعد الله عز وجل للمتقين.
قلت: وفي قوله: فإن فاتك يا أحنف...إلخ دليل على أنه لا دار ثالثة، وأنه لا دار في الآخرة إلا الجنة أو النار.
وفي قوله: خلود لا موت، دليل على أن الخلود هو الدوام بدليل أنه عقب ذلك بالإخبار بانقطاع رجائهم، وجعله سبباً عن قول المنادي...إلخ خلود لا موت، فلو لم يكن ذكر الخلود نصاً في الدوام لما صح إخباره بانقطاع رجائهم عند سماعه.
وفي أمالي أبي طالب أيضاً: أخبرنا أبي، انا حمزة، ثنا علي بن هاشم، عن أبيه، عن حسن الفارسي، عن إسماعيل بن أبي زياد، عن الصادق، عن أبيه،عن جده"، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم لعلي عليه السلام : ((يا علي، ما من دار فرحة إلا تبعتها ترحة، وما من هم إلا له فرج إلا هم أهل النار، وما من نعيم إلا وله زوال إلا نعيم أهل الجنة، فإذا عملت سيئة فاتبعها حسنة تمحها سريعاً، وعليك بصنائع الخير فإنها تدفع عنك مصارع الشر)).
قوله: ((ترحة)) الترح: ضد الفرح، وهو الهلاك والانقطاع، والترحة: المرة الواحدة.
وأخرج عبد بن حميد، والبخاري، ومسلم، وابن مردويه عن عمر عن النبي -صلى الله عليه وآله- قال: ((يدخل أهل الجنة الجنة وأهل النار النار، ثم يقوم مؤذن بينهم: يا أهل النار لا موت، ويا أهل الجنة لا موت، كل حاله فيما هو فيه)).
وأخرج البخاري عن أبي هريرة، قال: قال النبي -صلى الله عليه وآله: ((يقال لأهل الجنة خلود ولا موت، ولأهل النار خلود ولا موت)).
وأخرج عبد بن حميد، وابن ماجة، والحاكم وصححه، وابن مردويه عن أبي هريرة، قال: قال رسول الله -صلى الله عليه وآله: ((يؤتى بالموت في هيئة كبش أملح فيوقف على الصراط، فيقال: يا أهل الجنة، فيطلعون خائفين وجلين مخافة أن يخرجوا مما هم فيه، فيقال تعرفون هذا؟ فيقولون: نعم، هذا الموت، فيقال: يا أهل النار، فيطلعون مستبشرين فرحين أن يخرجوا مما هم فيه، فيقال: أتعرفون هذا؟ فيقولون: نعم هذا الموت، فيؤمر به فيذبح على الصراط، فيقال للفريقين: خلود فيما تجدون لا موت فيها أبداً)).
وأخرج الطبراني، والحاكم وصححه عن معاذ بن جبل أن رسول الله -صلى الله عليه وآله- بعثه إلى اليمن، فلما قدم عليهم قال: يا أيها الناس إني رسول رسول الله إليكم، إن المرد إلى الله إلى جنة أو نار، خلود بلا موت، وإقامة بلا ظعن، في أجساد لا تموت.
فائدة
في أمالي المرشد بالله: أخبرنا ابن الثوري والجوهري، ثنا المرزباني، ثنا محمد بن عمران، ثنا الحسين بن الحكم، ثنا حسن بن حسين، ثنا حيان بن علي، عن الكلبي، عن أبي صالح، عن ابن عباس قال: فيما أنزل من القرآن في خاصة رسول الله -صلى الله عليه وآله- وأهل بيته من دون الناس من سورة البقرة {وَبَشِّرِ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ...}الآية[البقرة:25]، إنها نزلت في علي، وحمزة، وجعفر، وعبيدة بن الحارث بن عبد المطلب.
[البقرة: 27،26]
* الحياء في حقه تعالى.
* حسن ضرب الأمثال.
* في ماهية الحق.
* في مسألة الإرادة.
*
*
*
قوله تعالى: {إِنَّ اللَّهَ لاَ يَسْتَحْيِي أَنْ يَضْرِبَ مَثَلاً مَا بَعُوضَةً فَمَا فَوْقَهَا فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا فَيَعْلَمُونَ أَنَّهُ الْحَقُّ مِنْ رَبِّهِمْ وَأَمَّا الَّذِينَ كَفَرُوا فَيَقُولُونَ مَاذَا أَرَادَ اللَّهُ بِهَذَا مَثَلاً يُضِلُّ بِهِ كَثِيراً وَيَهْدِي بِهِ كَثِيراً وَمَا يُضِلُّ بِهِ إِلاَّ الْفَاسِقِينَ ، الَّذِينَ يَنقُضُونَ عَهْدَ اللَّهِ مِنْ بَعْدِ مِيثَاقِهِ وَيَقْطَعُونَ مَا أَمَرَ اللَّهُ بِهِ أَنْ يُوصَلَ وَيُفْسِدُونَ فِي الأَرْضِ أُوْلَئِكَ هُمُ الْخَاسِرُونَ}[البقرة:26،27].
الحياء: تغير وانكسار يعتري الإنسان من تخوف ما يعاب به ويذم.
والضرب: إمساس جسم بجسم بعنف، ويكنى به عن السفر في الأرض، ويكون بمعنى الصنع والاعتمال.
وقال الراغب: الضرب إيقاع كل شيء على شيء، قال: ولتصور اختلاف الضرب خولف بين تفاسيرها، ثم ذكر في تفسيرها صوراً، وجعل ضرب المثل من ضرب الدراهم، وضرب الدراهم عنده من الضرب بنحو اليد كالسيف والعصا اعتباراً بضربها بالمطرقة، وهو قريب مما ذكره الزمخشري فإنه قال: ضرب المثل اعتماده وصنعه من ضرب اللبن، وضرب الخاتم، وكذلك ضرب الدرهم فيه اعتماد وصنع، والمثل: في الأصل بمعنى المِثْلِ وهو النظير، ثم قيل للقول السائر الممثل مضربه بمورده مثل، ولم يضربوا مثلاً إلا قولاً فيه غرابة من بعض الوجوه.
والبعوضة: واحدة البعوض وهو البق، وقيل: صغاره.
والحق: الثابت الذي لا سبيل إلى إنكاره يقال: حق الأمر إذا ثبت ووجب، وحقت كلمة ربك، وثوب محقق محكم النسج.
وقال الراغب: الحق في الأصل المطابقة والموافقة، كمطابقة رجل الباب في حقه لدورانه على استقامة، وذكر أنه يطلق على معان، فيقال لموجد الشيء بحسب ما تقتضيه الحكمة، ولهذا قيل في الله تعالى: هو الحق، وللفعل الموجود بحسب الحكمة، ولذا يقال: فعل الله تعالى حق، وللاعتقاد المطابق كقولنا: اعتقاد فلان في البعث حق، وللفعل والقول الواقع بحسب ما يجب بقدر ما يجب في الوقت الذي يجب كقولنا: فعلك حق، وقولك حق، وإذا قيل: أحققت كذا، فمعناه أثبته حقاً أو حكمت به حقاً، وقد يستعمل استعمال اللازم والواجب والجدير، كقوله تعالى: {وَكَانَ حَقّاً عَلَيْنَا نَصْرُ الْمُؤْمِنِينَ}[الروم:47].
والإرادة: طلب نفسك الشيء، وميل قلبك إليه فهي نقيض الكراهة والفسق والخروج، والنقض: فك تركيب الشيء ورده إلى ما كان عليه أولاً، فنقض البناء هدمه، ونقض المبرم حله.
والعهد: الموثق، وعهد الله بكذا أوصاه به ووثقه عليه، وقال أبو حيان: والعهد في لسان العرب على ستة محامل: الوصية، والضمان، والأمر، والالتقاء، والرؤية، والمنزل.
والميثاق: العهد الموثق باليمين.
والخسران: النقص والهلاك.
وفي هذه الجملة مسائل:
المسألة الأولى [الحياء في حقه تعالى]
لقائل أن يقول: نفي الاستحياء في هذه الآية عن الله تعالى يدل على أنه عز وجل يوصف بالحياء؛ لأن تخصيص السلب لبعض الصور يقتضي كون الإيجاب من شأنه في الجملة، وقد جاء في السنة وصفه بذلك على جهة الإيجاب كما في قوله -صلى الله عليه وآله: ((إن الله يستحي من ذي الشيبة المسلم)) وقوله -صلى الله عليه وآله: ((إن الله حي كريم ... )) الخبر، وقد عرفت مما مر في حقيقة الحياء لغة أنه لا يصح وصف الباري تعالى، فَعَلاَمَ يحمل ما ورد؟
والجواب: أن العلماء في هذا وأمثاله على قولين:
أحدهما: أن نمر على ما جاءت، ونؤمن بها، ولا نتأولها، ونكل علمها إلى الله تعالى؛ لأن صفاته تعالى لا يطلع على ماهيتها الخلق، وهذا قول أهل الحديث فيما رواه الصابوني عنهم، واختاره الشوكاني رواه عن السلف من الصحابة والتابعين وتابعيهم، ومعناه أنا نتلوا ما جاء من القرآن من الصفات ونروي ما جاء في السنة منها ونمسك عن القال والقيل فيها مع اعتقاد كون تلك الصفات في غاية الجمال، مجردة عن صفة النقص والتشبيه والتعطيل، وإلى هذا مال جماعة من المتأخرين منهم السيد محمد بن عز الدين المفتي، ودليلهم نحو قوله تعالى: {وَلاَ يُحِيطُونَ بِهِ عِلْماً}[طه:110] وما مر في مواضع عن أمير المؤمنين عليه السلام من أن العقول لا تدرك كنه صفته كما لا تدرك كنه ذاته.
القول الثاني: أنه يجب تأويل ما هذا شأنه؛ لأن الله تعالى خاطبنا بلغة العرب، وفيها الحقيقة والمجاز فما صح في العقل نسبته إلى الله تعالى نسبناه إليه، وما استحال أولناه بما يليق به تعالى كما نأول ما نسب إلى غيره مما لا يصح نسبته إليه، وهذا قول الأكثر، ولهم في تأويل الاستحياء المنسوب إليه سبحانه أقوال:
أحدها: أن يرجع في تأويله إلى القانون الذي ذكرناه في قوله تعالى: {غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ}[الفاتحة:7] الشامل للأعراض النفسانية فنقول: الحياء حالة تحصل للإنسان لها مبدأ، وهو التغير الجسماني الذي يلحقه من خوف أن ينسب إلى القبيح، ومنتهى وهو ترك ذلك الفعل، فإذا ورد في حق الله تعالى حمل على ترك الفعل الذي هو منتهى الحياء وغايته، وعلى هذا فيكون معنى الآية: إن الله تعالى لا يترك ضرب المثل بالبعوضة كما يتركه من يستحي أن يمثل بها، وهذا قول جماعة من العلماء منهم الزمخشري، وهو ظاهر كلام الهادي، والمرتضى فإنهما حملا الحياء في الآية على أنه تعالى لا يرى في التمثيل بما صح من الأمثال عيباً ولا خطأ، بل هو عنده تعالى صواب وحسن، وحاصله أنه لا يترك ذلك.
قال أبو حيان: فيكون من باب تسمية المسبب باسم السبب، يعني أنه سمي ترك الفعل حياءً؛ لأنه مسبب عن الحياء.
قلت: ويجوز أن يكون من إطلاق الملزوم على اللازم.
ثانيها: أن المعنى لا يخشى، وسميت الخشية حياء؛ لأنها من ثمرته، ورجحه الطبري.
وثالثها: أن المعنى: لا يمتنع، قال أبو حيان: وهذه الأقوال متقاربة.
وقال الزمخشري: يجوز أن تقع هذه العبارة في كلام الكفرة، فقالوا: أما يستحي رب محمد أن يضرب مثلاً بالذباب والعنكبوت، فجاءت على سبيل المقابلة وإطباق الجواب على السؤال وهو من كلامهم بديع.
تنبيه
قال القاضي: لا يجوز إطلاق القول بأن الله تعالى لا يستحي وإنما يقال: لا يوصف بذلك؛ لأنه يوهم نفي ما يجوز عليه، قال: وما ذكر الله تعالى من قوله: {لاَ تَأْخُذُهُ سِنَةٌ وَلاَ نَوْمٌ}[البقرة:255] {لَمْ يَلِدْ وَلَمْ يُولَدْ}[الإخلاص:3] {وَهُوَ يُطْعِمُ وَلاَ يُطْعَمُ}[الأنعام:14] فهو بصورة النفي وليس بنفي على الحقيقة، وليس كلما ورد في القرآن إطلاقه يجوز إطلاقه في المخاطبة إلا مع بيان كونه محالاً.
قلت: ونظير هذا ما مر عن الموفق بالله من أنه لا يجوز إطلاق القول بأن الله تعالى لا يقدر على الجمع بين الضدين، وإنما يقال لا يوصف بالقدرة على ذلك، وهو الذي يجري على قواعد الأصحاب من منع إجراء ما فيه إيهام على الباري تعالى.
وأما الرازي فقال: لا منع من ذلك؛ لأن هذه الصفات منفية عن الله تعالى، فكان الإخبار عن انتفائها صدق فيجب جوازه، ومنع أن يكون الإخبار عن انتفائها يقتضي صحتها عليه تعالى؛ لأن تخصيص هذا النفي بالذكر لا يدل على ثبوت غيره، ولكن إذا اقترن اللفظ بما يدل على انتفاء الصحة كان أحسن للمبالغة في البيان.
المسألة الثانية [حسن ضرب الأمثال]
دلت الآية على أن ضرب الأمثال من الأمور المستحسنة في العقول، وعليه إطباق العرب والعجم، لضرب الأمثال، واستحضار العلماء المثل والنظائر شأن ليس بالخفي في إبراز خفيات المعاني، ورفع الأستار عن الحقائق حتى تريك المتخيل في صورة المحقق، والمتوهم في معرض المتيقن، والغائب كأنه مشاهد.
المسألة الثالثة [في ماهية الحق]
الحق قد تقدم معناه لغة، وبين المتكلمين في ماهيته إذا أريد به الفعل اختلاف:
فقال الإمام المهدي: هو الفعل الحسن الواقع من العالم بحسنه، فلا يسمى فعل غير المكلف حقاً.
قلت: كان الأولى أن يقال: فلا يسمى فعل غير العالم حقاً ليدخل فعل الباري تعالى فإنه يسمى حقاً؛ لأنه موجود بحسب الحكمة، وقد سماه الله تعالى حقاً، قال تعالى في القيامة وهي فعله: {وَيَسْتَنْبِئُونَكَ أَحَقٌّ هُوَ قُلْ إِي وَرَبِّي إِنَّهُ لَحَقٌّ}[يونس:53]، وقال تعالى: {وَتَكْتُمُونَ الْحَقَّ}[آل عمران:71] {الْحَقِّ مِنْ رَبِّكُ}[يونس:94] {وَإِنَّهُ لَلْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ}[البقرة:149].
وقال أبو القاسم: الحق ما يجب قبوله وأداؤه في العقل، ومقتضاه أن ما عدا الواجب لا يوصف بأنه حق وإن وصف به فتجوز، ولعله نظر إلى المعنى اللغوي، لكن ما ذكره الراغب من أنه في الأصل المطابقة يدل على شموله لكل فعل حسن؛ لأن كل حسن فهو مطابق لحكم العقل. والله أعلم.
فائدة
قال الراغب: إحقاق الحق على ضربين:
أحدهما بإظهار الأدلة والآيات كما قال تعالى: {وَأُوْلَئِكُمْ جَعَلْنَا لَكُمْ عَلَيْهِمْ سُلْطَاناً مُبِيناً}[النساء:91] أي حجة قوية.
والثاني بإكمال الشريعة وبثها في الكافة كقوله تعالى: {وَاللَّهُ مُتِمُّ نُورِهِ وَلَوْ كَرِهَ الْكَافِرُونَ}[الصف:8] وقوله تعالى: {هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدَى وَدِينِ الْحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلّهِ}[الصف:9].
المسألة الرابعة [في مسألة الإرادة]
في هذه الآية نسبت الإرادة إلى الله تعالى، وقد نسبها الله تعالى إلى نفسه في مواضع من كتابه، ولا خلاف بين المسلمين في أنه تعالى يوصف بأنه مريد، ومن خالف في ذلك فقد كفر لرده ما علم من ضرورة الدين، ولكن المسلمين اختلفوا في معنى وصفه بذلك، ومعرفة الحق في المسألة لا يحصل إلا بعد استيفاء القول في الإرادة، وما يتعلق بها من الأحكام، والخلاف والكلام في ذلك يكون في ستة مواضع: الأول في حقيقة الإرادة، الثاني في كون الباري تعالى مريداً على الحقيقة أم لا، الثالث في كيفية استحقاقه تعالى لهذه الصفة، الرابع في أن إرادته لا تحتاج إلى محل عند القائل بأنها معنى محدث، الخامس فيما يريد الله تعالى من الكائنات وما لا يريده، ويدخل فيه ذكر الخلاف في إرادته لأكل أهل الجنة وشربهم، السادس في الرضى والسخط، والولاية والمحبة.
واعلم أنا نتكلم في هذه المواضع على الكراهة؛ لأنها ضد الإرادة، ولا ينبغي الكلام على أحد الضدين دون الآخر؛ لأن أصحابنا يجعلون الكلام عليهما في مسألة واحدة، وهذا أوان الشروع في تلك المواضع فنقول:
الموضع الأول في حقيقة الإرادة والكراهة
ويتصل بهما بيان حقيقة المريد والكاره، فأما الإرادة والكراهة فقال السيد مانكديم: الإرادة هي ما توجب كون الذات مريداً، والكراهة ما توجب كونه كارهاً.
وقال الإمام المهدي: الإرادة هي المعنى الموجب لمن اختص به صفة لأجلها يوقع فعله على وجه دون وجه، قال: لأن الذي يؤثر في ذلك هو المريدية لا مجرد القادرية فإنها لا تتعدى الأحداث، وهذا معنى ما ذكره السيد مانكديم، والكراهة ضدها، فهي المعنى الموجب لمن اختص به صفة لأجلها لا يقع منه الفعل.
وفي (الغياصة): أن الإرادة المعنى الموجب كون الحي مريداً، والكراهة المعنى الموجب كونه كارهاً، قال: وإنما ذكر الحي ليشمل الحد الباري تعالى؛ إذ هو مريد وكاره بإرادة وكراهة، وسيأتي الكلام على هذه المقالة على أن الحد يشمله وإن لم يذكر الحي.
وحكى الرازي عن المتكلمين أنها صفة تقتضي رجحان أحد طرفي الجائز لا في الوقوع، بل في الإيقاع، واحترزوا بالقيد الأخير عن القدرة، والذي اختاره الرازي أنها لا تحد؛ لأنها ماهية يجدها العاقل من نفسه، ويدرك التفرقة البديهية بينه وبين علمه وقدرته، وألمه ولذته، قال: وإذا كان الأمر كذلك لم يكن تصور ماهيتها محتاجاً إلى التعريف.
قلت: وكذلك يقال في الكراهة.
وأما المريد والكاره، فقال السيد مانكديم وغيره: لا يفتقران إلى تحديد؛ لأنهما أظهر من أن يحدا، فإن العاقل إذا رجع إلى نفسه فصل بين أن يكون على هذه الصفة وبين أن لا يكون عليها، وأجلى الأمور ما وجد من النفس، وقد يعلم ذلك ضرورة من غيره.
وقيل: بل يفتقران إلى الحد؛ لأنهما وإن علما جملة فلا يعلمان تفصيلاً إلا بالحد؛ إذ العلم الجملي لا يغني عن الحد، كما أن كون الحي حياً وكونه قادراً وعالماً معلوم ضرورة على الجملة لا يغني عن الحد، ثم اختلفوا في الحد، فقيل: المريد هو المختص بصفة لكونه عليها يصح منه الفعل على وجه دون وجه، والكاره هو المختص بصفة لكونه عليها يصح منه إيقاع كلامه نهياً أو نحوه، وأورد على حد المريد اعتراضان:
أحدهما: أن قولنا مريد أظهر من هذا الحد، ومن حق الحد أن يكون أظهر من المحدود.
وأجيب: بأنك إذا أردت أنه أظهر منه على سبيل الجملة، فذلك لا يمنع من تحديده، ولا يغني عنه كما مر، وإن أردت على سبيل التفصيل فلا نسلم.
ثانيهما: أنه يلزم أن يكون الكاره مريداً؛ لأنه يصح منه إيقاع الفعل على وجه دون وجه ككونه نهياً وتهديداً، وكذلك العالم فإنه على صفة يصح منه لأجلها إيقاع الفعل على وجه دون وجه.
قال الإمام عز الدين: فكان الأولى أن يقول على الوجوه المختلفة؛ لأن الكاره والعالم إنما يصح منهما إيقاعه على أحد وجهين بخلاف المريد، ويرد على حد الكاره الاعتراض الأول.
وقال أبو علي: المريد من وجدت إرادته بحيث تتعاقب هي وضدها عليه، وكان أبو هاشم يوافقه في ذلك، ثم رجع إلى ما مر، وأما أبو علي فبقي على هذا القول، وجعل العلم بكون المريد مريداً علماً بالإرادة لا علماً بالمريد على حال، وهكذا قوله في الكاره.
إذا عرفت هذا فاعلم أن العلماء مختلفون في المرجع بالإرادة والكراهة على أربعة أقوال:
الأول: قول جمهور المعتزلة، والزيدية، والمجبرة: وهو أنهما أمران زائدان على الشهوة والنفرة، والداعي والصارف شاهداً وغائباً.
الثاني: قول أبي القاسم وسائر معتزلة بغداد، وهو أن المرجع بهما في الشاهد إلى الشهوة والنفرة فقط وفي الغائب إلى ما سيأتي عنهم.
الثالث: أن المرجع بهما إلى الداعي والصارف شاهداً وغائباً، وهذا قول ابن الملاحمي، ورواه الإمام يحيى عن أبي الهذيل، والنظام، والجاحظ، وأبي القاسم، والخوارزمي.
قال ابن الملاحمي: وهو الذي ذهب إليه سائر الشيوخ غير أبي هاشم ومن قال بقوله.
قلت: وفي الرواية عن أبي القاسم نظر؛ إذ المشهور عنه ما مر.
الرابع: أن المرجع بهما إلى الداعي والصارف في الغائب، وأما في الشاهد فهما مزيتان زائدتان عليهما، وهذا قول أبي الحسين، ورواه في المعراج عن الإمام يحيى.
احتج الجمهور بأن كوننا مريدين وكارهين مزية موجودة من النفس، معلومة ضرورة، ويعلم ضرورة أن تلك المزية غير كوننا عالمين وناظرين وقادرين، وإنما يلتبس الحال في كوننا مشتهيين ونافرين، والذي يدل على أنهما أمران زائدان على الشهوة والنفار أن الشهوة والنفار لا يكونان إلا حسيين بخلاف الإرادة والكراهة، وأيضاً الشهوة والنفرة غير مقدورتين بخلاف الإرادة والكراهة، وهما يتعديان في التعلق في جميع أجناس المدركات، والإرادة والكراهة لا يتعديان الحدوث وتوابعه في المدرك وغيره، وهما يثبتان مع السهو والنوم، ويستحيلان على الله تعالى، ولا يتعلقان إلا على التفضيل، ولا يؤثران في وقوع الفعل على وجه بخلاف الإرادة والكراهة في ذلك كله، وأيضاً فإن أحدنا قد يريد ما لا يشتهي كشرب الأدوية الكريهة، ويشتهي ما لا يريده كالزنا وشرب الخمر.
قال الإمام المهدي: وبالطريقة التي ثبت بها كونهما زائدين على الشهوة والنفرة يثبت كونهما زائدين على الصارف والداعي، ألا ترى أن الجائع قد توفر دواعيه إلى الطعام، ولا يعزم على تناوله لأجل كونه لغيره أو نحو ذلك، فيجد الإنسان من نفسه الداعي الشديد ولا يجد العزم على تناوله، فإذاً الداعي غير العزم، وكذلك يجد من نفسه الانصراف عن شرب الدواء الكريه ولا يجد الكراهة لشربه، بل يجد العزم على الإقدام عليه، فالصارف غير الكراهة وهو ما نجد من النفرة.
وقال القرشي في إبطال قول ابن الملاحمي: إن إرادة القبيح وإرادة الحسن قبيحان بخلاف الداعي إلى القبيح، والصارف عن الحسن حيث يكونان من قبيل المعلوم، سيما الضرورية، وأيضاً الإرادة والكراهة يتضادان بخلاف الداعي والصارف ولهذا يجتمعان في الطعام المسموم في حق الجائع، قال: ومن أقوى ما يمكن أن يقال له: إن داعي القديم تعالى ثابت فيما لم يزل، ومعلوم أنه غير مريد فيما لم يزل وإلا كان مريداً لذاته، أو لمعنى قديم وهو لا يقول به.
قلت: هذا وارد على أبي الحسين.
لكن قال الإمام عز الدين: إنه لا قطع بمنع أبي الحسين وابن الملاحمي وصف الله تعالى بأنه مريد في الأزل لذهابهما إلى أن المرجع بالإرادة والكراهة في حقه تعالى إلى الداعي والصارف، وهما راجعان إلى صفته تعالى التي هي العالمية فأكثر ما في ذلك إثبات داع له وصارف في الأزل، ولا ضير في ذلك فإن الجمهور يثبتونهما في الأزل.
قلت: والظاهر أن ابن الملاحمي لا يثبت الداعي والصارف في الأزل إذا كان بمعنى الإرادة والكراهة؛ لأن المحكي عنه أنه لا يجعل الداعي إرادة إلا إذا خلص عن الصوارف أو ترجح، وداعي الحكيم تعالى عنده لا يخلص إلا الفعل إلا إذا صح حدوثه في نفسه، وذلك لا يكون في الأزل وإلا إذا كان إحساناً ومصلحة للمكلف، وانتفت عنه وجوه القبح، وذلك أيضاً لا يتصور في الأزل.
واحتج ابن الملاحمي، وأبو الحسين على ما ذهبا إليه بأن الإرادة والكراهة لو كانتا غير الداعي والصارف لصح أن يدعو أحدنا الداعي إلى أمر ولا يريده، ويصرفه الصارف عن أمر ولا يكرهه، والمعلوم خلافه، والجواب بالتزام ذلك كما مر عن الإمام المهدي لا يقال المذكور في كلامه العزم، والعزم ليس بإرادة، ولهذا لا يجوز على الله تعالى؛ لأنا نقول: بل هو إرادة متقدمة، وإنما لم يجز على الله تعالى؛ لأنه عبث في حقه تعالى وذلك أنه لا يحسن إلا لتعجيل مسرة، أو توطين النفس على المشقة.
قال أبو علي: وللحفظ من السهو وكل ذلك منتف عن الباري تعالى فلا يكون للعزم في حقه معنى فكان عبثاً، ثم إنا لو سلمنا التلازم بين الداعي والإرادة، فإنما كان لأجل أن الداعي إلى الفعل يدعو إلى إرادة فيفعلها صاحب الداعي، وكذلك الصارف عن الشيء يدعو إلى فعل كراهته.
ومن حججهما ما احتج به الإمام يحيى وهو أنا توافقنا على أنه لا بد من الداعي إلى الفعل في حقه تعالى وهو علمه باشتمال الفعل على مصلحة، ولكن زعموا أنه لا بد من أمر زائد على هذا العلم يكون تابعاً له وهو الذي يعنونه بالإرادة فنقول: لا يعقل كون الإرادة أمراً زائداً على الداعي إلا أن يكون ميلاً في القلب، وتشوقاً من جهة النفس، وتوقاناً من جهتها إلى مرادها، وهذا المعنى مستحيل في حقه تعالى، ولهذا قلنا: إن معنى الإرادة في حقه تعالى ليس أمراً زائداً على مجرد الداعي وهو علمه تعالى باشتمال الفعل على مصلحة، فإثبات أمر زائد على ما ذكرناه لا يعقل، قال عليه السلام : وهذا الذي اخترناه هو مذهب الخوارزمي، وأبي الحسين.
قلت: وهكذا قوله في الكراهة فإنها عنده علمه باشتمال الفعل على مفسدة، ويجاب بما مر من أن الفراق بين الإرادة والكراهة وبين الداعي والصارف ضروري، ومن طريقة النظر بما ذكره الإمام المهدي، لكنه يقال: ذلكم الفرق إنما هو في الشاهد، وأما الباري تعالى فلا يتصور في حقه غير علمه جل وعلا باشتمال الفعل على مصلحة أو مفسدة.
تنبيه [في أن الإرادة والكراهة أمران زائدان]
قد مر عن الجمهور أن الإرادة والكراهة أمران زائدان على الداعي والصارف والشهوة والنفرة، ثم اختلفوا في تفصيل تلك المزية ماهي؟
قال الإمام المهدي: ثبوت المزية في الشاهد على سبيل الجملة لا يفتقر إلى دليل؛ لأنها مودة من النفس، وأما على سبيل التفصيل فتفتقر إليه.
قلت: وتفصيل ذلك أن القائلين بالمزية اختلفوا في ماهيتها، فذهب القائلون بها من المعتزلة إلى أنها صفة وهي المزية، وقالت المجبرة: بل هي معنى، وقال أبو الحسين: بل هي حكم، وهو تعلق بين المريد والمراد.
احتج الأصحاب على أنها صفة بأن القول بأنها معنى باطل؛ لأنها لو كانت معنى لكانت ذاتاً يصح العلم بها على انفرادها، والمعلوم ضرورة أنه لا يصح العلم بها إلا تبعاً للمريد كما نعلم ذلك في كوننا متحركين وساكنين وعالمين، فوجب أن يكون مثلها في كونها مزية للذات، والقول بأنها حكم باطل أيضاً؛ لأن التعلق إما أن يكون مزية للذات فهو كقولنا، وإنما خالف في اللفظ، وإما أن يكون حكماً وهو صحة تأثير الذات في المتعلق فلا بد لذلك الحكم من مقتضى وهو إما الذات فيلزم اشتراك الذوات فيه؛ إذ لا مخصص، أو أمر زائد عليها فهو يؤول إلى قولنا لبطلان كل أمر يحتمل ثبوته لأجله سوى الصفة، وإذا بطل هذان القولان تعين قولنا؛ إذ لا قسم رابع يعقل أن يكون هو المزية.
فإن قيل: إذا كانت المزية هي الصفة فكيف يستحقها المتصف بها، هل بالفاعل أو المعنى أو بغيرهما عند القائل بها؟
قيل: بل يستحقها لمعنى، وذلك أن المعلوم أنها حصلت مع الجواز لا مع الوجوب فلا بد من مؤثر فيها، وليس إلا معنى كما سبق في الكاينية سواء سواء، وتحريره هنا أن الواحد منا حصل مريداً مع جواز أن لا يحصل والحال واحدة وهي الحياة، والشرط واحد وهو البنية، فلا بد من أمر لأجله حصل على هذه الصفة، وإلا لم يكن بالحصول عليها أولى من خلافه، وليس ذلك الأمر إلا وجود معنى وهو الإرادة والكراهة.
تنبيه آخر [إلى العلم بصفة الإرادة]
اعلم أن الطريق إلى العلم بهذه الصفة وثبوتها في حق من اختص بها تكون من وجهين:
أحدهما: أن العالم بما يفعله إذا كان فعله مقصوداً في نفسه ولم يمنع من إرادته، فإن الذي يدعوه إلى فعله يدعوه إلى إرادته وذلك ضروري في الشاهد، فإن الداعي إلى الأكل يدعو إلى الإرادة واعتبروا العلم؛ لأن الساهي ونحوه يستحيل منه الإرادة، واعتبروا أن يكون الفعل مقصوداً في نفسه احتراز عما لا يفعل إلا ابتغاء لغيره كالألم الحاصل عند الفصد، أو لا يقع إلا على وجه واحد كالإرادة، ورد الوديعة فإنه لا يجب أن يراد، واحترزوا بقولهم أن لا يكون ممنوعاً من إرادته عمن دعاه الداعي ويمنع من إرادته فإنه يأكل لا محالة ولا يحتاج إلى إرادة، وكذلك الواقف على باب الجنة إذا علم ما فيها من النعيم ومنع من إرادة دخولها وخلق فيه إرادة دخول النار فإنه يدخل الجنة من دون إرادة.
الوجه الثاني: أن تقع أفعاله على وجوه مختلفة من نحو كون كلامه أمراً أو خبراً أو نحو ذلك، ولا يصح وقوع الفعل على الوجوه المختلفة إلا من مريد، وبيانه أنه إذا قال القائل: محمد رسول الله، جاز أن يكون خبراً عن محمد بن عبد الله وعن غيره من المحمدين، ولا ينصرف إليه إلا بأمر وليس إلا إرادته.
فإن قيل: ولِمَ قلتم إن ذلك الأمر ليس إلا الإرادة؟
قيل: لمثل ما مر في إثبات كون الأكوان معاني، وتحريره هنا أن نقول: لا يخلو إما أن يكون خبراً عنه لذاته أي لذات الخبر، أو لشيء من صفاته الواجبة الجائزه وذلك باطل، وإلا لما صح أن يقع مرة فيكون خبراً، ويقع أخرى فلا يكون خبراً؛ لأن الواجب في الصفة المستحقة للشيء لذاته أو لما هو عليه في ذاته أن لا يتخلف كما مر في الأكوان، والمعلوم أنه قد يقع ولا يكون خبراً، نحو صدوره من الساهي والنائم، وأيضاً صيغة الخبر مع ابن عبد الله ومع غيره على سواء، فيلزم أن يكون خبراً عنهم جميعاً، أو لا يكون خبراً عن واحد منهم، فأما أن يكون خبراً عن بعض دون بعض فلا، إذ الفرض أن لا مخصص.
قال السيد مانكديم والإمام المهدي: ولأن صفة الذات ترجع إلى الآحاد لا إلى الجملة، فيلزم في كل حرف أن يكون خبراً، والمعلوم خلافه، وهذه الوجوه كما تدل على أنه لا يكون خبراً لذاته ولا لما هو عليه في ذاته فإنها تدل على أنه لا يجوز أن يكون خبراً عنه لوجوده أي الخبر، ولا لعدمه ولا لحدوثه؛ لأن هذه الأوصاف مع ابن عبد الله وغيره على سواء؛ ولأنها ترجع إلى الآحاد، فيلزم في كل حرف أن يكون خبراً، وأيضاً العدم يحيل الحكم وما أحال حكماً فكيف يؤثر فيه، وإما أن يكون خبراً عنه لأمر خارج عن ذاته وصفاته، فذلك الأمر إما علة أي معنى فذلك المعنى إما أن يكون معدوماً، أو موجوداً، وأيهما كان فلا يصح أن يكون مؤثراً في كونه خبراً عن ابن عبد الله؛ لأنه معه ومع غيره على سواء، وأيضاً المعدوم لا يوجب حكماً؛ لأن الإيجاب إنما يصدر عن صفته المقتضاة عن صفة الذات وهي مشروطة بالوجود، وإما أن يكون ذلك الأمر هو الفاعل وهو باطل؛ إذ تأثيره لا يصح أن يكون لذاته؛ لأنه مع الأشخاص التي يصح الخبر عنها على سواء، ولا لصفاته؛ لأن من صفاته ما لا تعلق لها كالحيية والوجود، وما لا تعلق له فلا يؤثر في غيره، ومنها ما له تعلق وهي محصورة معدودة ككونه قادراً عالماً، مريداً كارهاً مشتهياً، نافراً ظاناً، وكل واحدة من هذه لها تعلق مخصوص، فالقادر يتعلق بالإحداث ولا يتعداه، وكون الكلام خبراً أمر زائد على ذلك، ثم إن القادرية تثبت مع السهو ولا يصح الإخبار في تلك الحال، والعالمية تتعلق بالأحكام، وكون الكلام خبراً غير الأحكام، وأيضاً العلم تابع للمعلوم، ويتعلق به على ما هو عليه، ولا يؤثر فيه؛ إذ لو أثر لوجب أن تؤثر علومنا في المعلومات كلها نحو القديم والجوهر والأعراض، فتثبت متى ثبت علمنا، وتنتفي إذا انتفى، والمعلوم خلافه.
وأما كونه مشتهياً ونحوه فلا إشكال أنه لا يؤثر في ذلك، وقد مر بيانه، وكما لا تؤثر هذه الأوصاف في كونه مريداً كذلك لا يؤثر في ذلك كونه كارهاً؛ لأن الكراهة تمنع الفعل فضلاً عن أن تؤثر في وقوعه على وجه، فلم يبق إلا أن المؤثر في ذلك هو إرادة المخبر، فهذا هو الكلام في الإرادة، وهكذا الكلام في الكراهة؛ لأن كل ما ذكرناه في إثبات كونه مريداً يعود هنا.
الموضع الثاني: في كون الباري تعالى مريداً على الحقيقة أم لا؟
ذهب جمهور أئمتنا" على ما رواه عنهم في الأساس إلى أنه تعالى غير مريد على الحقيقة أعني أن إرادته تعالى ليست كإرادة الواحد منا، وإنما إرادته تعالى لأفعالنا أمره بها، وإرادته لأفعاله فعله إياها.
قال الإمام أحمد بن سليمان عليه السلام : عندنا أن إرادة الله تعالى ومشيئته في فعله إرادة حتم وخلق، وإحداث، وجبر، وحكم، ووعد، ووعيد، وأنه لا تسبق إرادته مراده، وأن إرادته خلقه، وأن خلق الشيء هو الشيء، وأن إرادته فعل خلقه إرادة نهي وأمر، وبه قالت المطرفية، وهو قول أبي القاسم وغيره كما في (الأساس).
والذي في (القلائد) وشرحها و(المنهاج) عن أبي القاسم أن معنى إرادته تعالى لأفعاله أنه أوجدها وهو عالم بها غير ساهٍ ولا مغلوب، ومعنى إرادته لأفعال غيره أنه أمر بها، وهذا محكي عن أبي الهذيل، والنظام، والجاحظ.
وعن أبي الهذيل أن معنى كونه مريداً أنه فعل الإرادة، قال الإمام المهدي: فأثبتها معنى محدثاً لا توجب صفة.
وقال أبو الحسين، والإمام يحيى، وابن الملاحمي: المرجع بها إلى الداعي كما مر، وقد مر أن الإمام يحيى رواه عن أبي الهذيل، والجاحظ، وأبي القاسم، والخوارزمي وهو مروي عنهم في (شرح المواقف)، وزاد النظامَ وقد مر أن في الرواية عن أبي القاسم نظر إلا أن يكون البلْخي غير الكعبي كما يفهم من (المواقف) وشرحها فإنه روى عن أبي القاسم البلْخي كقول أبي الحسين، وعن الكعبي أن إرادته تعالى لفعله العلم بما فيه من المصلحة ولفعل غيره أمره، لكن المشهور أن البلْخي والكعبي واحد.
وقال جمهور المعتزلة، والزيدية، والمجبرة: بل هو تعالى مريد على الحقيقة، ومعناه أنه مختص بصفة كما مر، فهذه الصفة -أعني كونه مريداً- ثابتة له تعالى على الحد الذي تثبت لنا وهي زائدة على الداعي والصارف كما هي كذلك فينا، ثم اختلف هؤلاء في كيفية استحقاقه تعالى لها كما سيأتي في الموضع الثالث.
احتج الأئمة ومن وافقهم بوجوه:
أحدها: أن جعل الإرادة معنى أو نفس العلم بالمصلحة مما لا دليل عليه، وما لا دليل عليه يجب نفيه.
الوجه الثاني: أن الله تعالى لو كان مريداً بإرادة لكانت إرادته إما معقولة ولا يعقل منها إلا ما يشبه إرادة المخلوق فيلزم التشبيه، أو غير معقولة فيكون الكلام فيها عبثاً، وغلواً، وتجاوزاً لحد العقل، وذلك لا يجوز.
الثالث: أن الأمة مجمعة على أنه لا يكون شيء موجوداً غير الله إلا في العالم، فإن كانت هذه الإرادة في العالم فقد صار العالم لها مكاناً، ولم يقل أحد أن إرادة الله تعالى قائمة بذات غير ذات الباري تعالى، نص عليه الرازي، وصاحب (المواقف)، وإن كانت في غير العالم فماذا غير العالم إلا الله تعالى أو العدم، والقول بأنها قائمة بذات الباري تعالى باطل بما سيأتي، فلم يبق إلا العدم وهو نفي محض، فكيف يكون محلاً لشيء.
قال الإمام (أحمد بن سليمان): فإذا لم تكن نية ولا ضميراً، ولا كانت الخلق نفسه ولا كانت في مكان، فهل هي إلا عدم، ولا يعقل شيء موجود لا يكون حالاً ولا محلاً إلا الله؟
قلت: وإذا ثبت أن إرادة الله تعالى أمر ثبوتي وبطل أن تكون كإرادة الواحد منا صح أنها هي خلقه لا غير، ويكون معنى ذلك يريد الله كذا كمعنى يخلق، ويحكم ويثيب ويعاقب، وإنما خاطب الله العرب بلغتهم وبما يعرفون كما قال تعالى: {يَاحَسْرَةً عَلَى الْعِبَادِ}[يس:30] مع أنه تعالى لا يتحسر.
الوجه الرابع: ما روي عن أمير المؤمنين عليه السلام من نفي إثباتها معنى من ذلك قوله عليه السلام : لا يوصف بشيء من الأجزاء، ولا من الجوارح والأعضاء، ولا بعرض من الأعراض. رواه في (النهج)، وفيه عنه عليه السلام : يريد ولا يضمر.
وفي مجموع السيد حميدان عنه عليه السلام : ومشيئته الإنفاذ لحكمه، وإرادته الإمضاء لأموره. وهذا تصريح منه عليه السلام بأن إرادته هي نفس المراد، ولذا أخبر عنها بأنها الإنفاذ والإمضاء للأمور وهو الخلق والأمر وعلى هذا فيكون وصفه تعالى بأنه مريد على جهة التجوز لا غير.
قال السيد أحمد بن محمد الشرفي: سمي مراده إرادة توسعاً، لأنه جل وعلا مريد لا بإرادة، كما أنه سبحانه عالم لا بعلم، وقادر لا بقدرة؛ لأن الإرادة الحقيقية التي هي النية والضمير في حقه تعالى محال.
قلت: قد مر في الثانية من مسائل قوله تعالى: {غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ}[الفاتحة:7] عن الهادي عليه السلام أن الله تعالى يوصف بأنه مريد وكاره على الحقيقة وهو ممن يقول بأن إرادة الله هي نفس مراده.
هذا وأما أبو الهذيل فيمكن أن يحتج له بالظواهر، وهي أن الله تعالى قد نسب فعل الإرادة إلى نفسه، وذلك يدل على أنه الذي فعلها لنفسه.
والجواب أنه قد أثبتها معنى محدثاً، فإما أن يقول: هي قائمة بذات الباري تعال لزم أن يكون الباري تعالى محلاً للحوادث، أو بغيره، فإما أن يكون ذلك الغير في العالم أو خارجه، الأول لا قائل به، ويستلزم الحاجة، والثاني لا يعقل.
احتج القائلون برجوعها إلى الداعي بما مر في الموضع الأول، ويجاب بما مر هنا.
احتج القائلون بأن الله تعالى مريد على الحقيقة أي حاصل على مثل صفة الواحد منا بوجهين: أولهما في الاستدلال على صحة هذه الصفة في حقه تعالى، والثاني في الاستدلال.
أما الوجه الأول فقالوا: الذي يدل على صحة هذه الصفة عليه جل وعلا أن من حق كل حي أن يصح منه إيقاع الفعل على وجه دون وجه، وكل من صح منه ذلك صح أن يكون مريداً وكارهاً لأنهما اللذان يؤثران في وقوع الفعل كذلك.
فإن قيل: ومن أين لكم أن المصحح لهذه الصفة في الشاهد هي الحيية؟
قيل: لأن صحتها تحصل بحصول الحيية وتنتفي بانتفائها، وليس هاهنا ما تعليق تصحيح كونه مريداً به أولى من كونه حياً، وإلا لزم حصول الحيية مع عدم حصول الصحة بأن لا يقع ذلك الأمر المصحح أو حصولها مع عدم حصول الحيية بأن يقع ذلك الأمر المصحح، ومعلوم خلافه، وقد قيل: إن العلم بأن من كان حياً فإنه يصح منه أن يريد ضروري، وإذا كان العلم بالصحة دائراً على العلم بالحيية علمنا أنها المؤثرة فيها، وقد ثبت أنه تعالى حي، فيجب أن تقتضي له صحة الإرادة كما تقتضيها في الشاهد.
فإن قيل: إنما صح في الشاهد أن يكون مريداً لحصول شرط يكون مصححاً لاقتضاء كونه حياً صحة كونه مريداً وهو بنية القلب، وهذا الشرط مفقود في الباري تعالى فلا تصح عليه هذه الصفة؛ لأن المشروط لا يحصل بدون شرطه.
قيل: إن المصحح إذا اختلفت كيفية استحقاقه جاز اختلاف شرط تصحيحه، والحيية كيفية استحقاقها مختلفة في حقه تعالى وفي حقنا، فجاز اختلاف الشرط، ولا يقدح اختلافه في تصحيح المصحح.
وأما الوجه الثاني وهو الذي في بيان الاستدلال على ثبوت هذه الصفة في حقه تعالى، فالذي يدل على ذلك ما ذكرناه في الوجهين المذكورين في التنبيه الآخر من الموضع الأول فإنه حاصل هنا؛ لأن الله تعالى أوجد كثيراً من أفعاله لأعراض تخصها، ويستحيل أن يمنعه مانع من إرادتها فيجب أن يريدها، ولأن جميع أفعاله واقعة على وجوه مختلفة، أما الكلام فظاهر فإنه أمر ونهي، وخبر، ووعد، ووعيد إلى غير ذلك، وأما غيره فلا يخرج فعل عن كونه نعمة أو نقمة، والنعمة لا تكون نعمة إلا مع قصد الإحسان، والمضرة لا تكون نقمة إلا إذا قصد الإضرار، وإلا لزم في الأمراض والبلاوي أن تكون نقمة ومضرة، والمعلوم خلافه، وإذا ثبت أن أفعاله تعالى تقع على الوجوه المختلفة ثبت أنه مريد؛ لأن الأفعال المختلفة لا تقع إلا من مريد كما مر.
دليل آخر: وهو أن الله تعالى قد تعبدنا بالطاعة وخلق فينا النفرة عنها، وبالكف عن المعصية وخلق فينا الشهوة لها مع التمكين من ذلك وزوال الإلجاء، فلا بد من أن يريد منا فعل الواجب ويكره فعل القبيح، وإلا كان مغرياً بفعل القبيح وترك الواجب وهو تعالى لا يفعل القبيح.
ويمكن أن يجاب بأن جميع ما ذكرتموه في هذين الوجهين إنما يدل على أن الله تعالى مريد، وأن الإرادة ثابتة له، ونحن نقول بموجب ذلك إذ لم ننف صحة وصفه بكونه مريداً، ولم نمنع من إثبات الإرادة له، لكنا جعلناها نفس المراد،لما مر من استحالة الإرادة الحقيقية التي هي النية والضمير عليه.
فإن قيل: ما احتج به المخالف من قوله أنه تعالى إذا قال: {مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللَّهِ}[الفتح:29] فإنه لا ينصرف إلى ابن عبد الله إلا بالإرادة دليل واضح قوي على كون الإرادة معنى؛ إذ لو جعلناها نفس المراد والمراد هو هذا الخبر لأدى إلى أن لا ينصرف إلى ابن عبد الله إلا بنفس قوله: {مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللَّهِ}[الفتح:29]، فيكون هذا اللفظ هو الذي يصرف نفسه إلى ابن عبد الله، وهذا معلوم البطلان؛ إذ الشيء لا يصرف نفسه.
قيل: لا نسلم تأديته إلى ذلك؛ لأنا نستدل على أن المراد به ابن عبد الله بالقرائن الدالة على ذلك، ولا يحتاج إلى المعنى الذي ذكرتموه كما أنه لا طريق لنا إلى معرفة المراد من خطاب المخلوقين إلا ذلك؛ لأنا لا نعلم ما في الصدور، ولهذا قلتم إن إيجاد الكلام على الوجوه المختلفة إنما يدل على كون الواحد منا مريداً إذا ثبتت عصمته، فأما من لم تثبت عصمته فلا يحكم بأنه مريد إلا إذا لم يكن ملغزاًعلينا ولا ملبساً، والمعلوم أنا لا نعلم أنه غير ملغز ولا ملبس إلا بالقرائن والدلائل الخارجية، فإن كان نحو هذا الكلام إذا صدر ممن يجوز عليه الضمير والنية لا يعرف انصرافه إلى المراد به إلا بالقرائن، فبالأولى فيمن لا يوصف بعرض من الأعراض.
واعلم أن الكلام في الكراهة في حق الله تعالى كالكلام في الإرادة؛ لأن دليل الكراهة هو النهي، وهي عند أهل القول الأول نفس الكراهة، وعند القائلين برجوعها إلى الصارف هو ما علمه تعالى من المفسدة في فعل المنهي، وعند الآخرين هي معنى مؤثر في كون الكلام نهياً لا تهديداً من حيث أنه في النهي كاره لما تناولته الصيغة دون التهديد، إلا أن المجبرة وإن أثبتوا الإرادة معنى في حق الباري فهم لا يثبتون الكراهة معنى في حقه تعالى، بل نفوها وقالوا: معناها في حق الله سبحانه عدم الإرادة.
الموضع الثالث في كيفية استحقاقه تعالى لهذه الصفة
والخلاف في هذا الموضع إنما هو بين من أثبت له تعالى صفة المريدية، والكراهة مزيتين زائدتين، ولم يجعلهما نفس المراد ولا الداعي والصارف، فقال أكثر المعتزلة: هو تعالى مريد بإرادة محدثة، ووافقهم بعض أصحابنا منهم السيد مانكديم، والإمام المهدي، والقرشي، فهو يستحق هذه الصفة عندهم بمعنى محدث كالشاهد.
وقالت الكلابية والأشعرية: بل يستحقها لمعنى قديم كما قالوا في القدرة والعلم والحياة إلا أنه قد مر عن المجبرة أنهم لا يثبتون الكراهة معنى، فلا يكون خلافهم هنا إلا في الإرادة.
وفي (الغياصة) عن الأشعرية: أنهم يقولون في كونه كارهاً كما يقولون في الإرادة، يعني أنه يستحق هذه الصفة لمعنى قديم هو الكراهة، ولعله وهم في ذلك. والله أعلم.
وبعض أصحابنا يفرقون بين قول الأشعرية والكلابية فيروون عن الكلابية أنهم يقولون: إنه مريد بإرادة أزلية، ويروون عن الأشعرية ما مر.
وقال الإمام عز الدين: ولا فرق بين القولين، وقد اتفقوا جميعاً على أن هذه الإرادة لا هي الله ولا هي غيره، قال عليه السلام : وذهبوا إلى نفي الصفة التي هي كونه كارهاً.
وقالت النجارية: بل هو مريد لذاته كما أنه قادر لذاته، ووافقهم بشر بن المعتمر، وفي (الغياصة) عن النجارية أنه كاره لذاته، وفيه نظر لما مر.
احتج الأولون بوجوه:
أحدها: أنه قد ثبت أن الله تعالى مريد وكاره، فلا يخلو إما أن يستحق ذلك لذاته أو لمعنى قديم، أو محدث، أو معدوم، أو بالفاعل لا يصح أن يستحق ذلك لمعنى معدوم لعدم الاختصاص ولا بالفاعل؛ إذ لا يستحق القديم صفة بالفاعل وهذان القسمان لا يشتبه الحال فيهما، ولم يقل بهما أحد، وإنما يشتبه الحال في استحقاقه لذاته أو لمعنى قديم كما قاله المخالفون، وإذا أبطلنا هذين القسمين صحّ أنه مريد بإرادة محدثة، وكاره بكراهة محدثة؛ إذ لا يقدر أمر غير ذلك يستحق لأجله هذه الصفة، وإذا أردنا إبطال هذين القسمين قلنا: الذي يبطل ذلك أنه لو كان مريداً لذاته أو لمعنى قديم لوجب أن يكون مريداً لجميع المرادات لعدم الاختصاص؛ لأن ذاته تعالى والمعنى القديم مع جميع المرادات على سواء، بل يجب أن يريد كل ما يصح أن يراد؛ إذ لا اختصاص، وإرادته تعالى لجميع المرادات محال فما أدى إليه يجب أن يكون باطلاً.
فإن قيل: ما الدليل على أن ذاته والمعنى القديم مع جميع المرادات على سواء؟
قيل: دليله عالميته تعالى فإنه لما كان عالماً لذاته، وكانت المعلومات على سواء كان عالماً بجميعها.
فإن قيل: أليس الله تعالى قادراً لذاته ولم تتعلق قادريته تعالى بجميع المقدورات عندكم؛ إذ لا تتعلق بأعيان مقدوراتنا مع كونها مما يصح تعلق القادرية بها، فهلا جاز مثله في الإرادة؟
قيل: أما من يصحح مقدوراً بين قادرين من أصحابنا فلا يرد عليه هذا، وأما المانعون منه فأجابوا بأن بين الموضعين فرقاً وهو أن المقدورات مقصورة على بعض القادرين دون بعض حتى لا يجوز في مقدور زيد أن يكون مقدوراً لعمرو؛ لأن ذلك يؤدي إلى المحال، ألا ترى أنه لو دعا أحدهما الداعي إلى إيجاد أمر، ودعا آخر إلى عدم إيجاده للزم على القول بجواز مقدور بين قادرين أن يكون موجوداً معدوماً في حالة واحدة، وذلك محال، وقادرية القديم تعالى لا تتعلق بالمحالات.
قال الإمام المهدي: قادريته سبحانه متعلقة بكل الممكنات، ولا يجب تعلقها بالمحالات؛ لأنه لا يصح في أي قادرية أن تتعلق بالمحال، ومن جملة المحالات تعلق قادريتين بمقدور واحد، فكل ممكن قد تعلقت به قادرية صار تعلق غيرها به محالاً، فلما كان ذلك محالاً ظهر لك عموم قادريته سبحانه لكل الممكنات، ولا يصح تعلقها بالمحال.
قال السيد مانكديم: وليس كذلك المرادات فإنها غير مقصورة على مريد دون مريد، يعني أنه يصح أن تتعلق إرادتان لمريدين بمراد واحد، قال عليه السلام : حتى ما من مراد إلا وكما يصح أن يريده زيد يصح أن يريده عمرو، فصح أنه لو كان مريداً لذاته أو لمعنى قديم لوجب أن يكون مريداً لجميع المرادات كما أنه لما كان عالماً لذاته كان عالماً بجميع المعلومات، وإرادته تعالى لجميع المرادات محال؛ لأنه يلزم عليه مفاسد كثيرة: ومنها أنه يلزم أن أحدنا إذا أراد شيئاً من الأموال والبنين أن يقع لأنه مراد الله تعالى لا سيما على مذهب الأشعرية والنجارية من أن ما يريده الله تعالى فهوا واقع لا محالة مطلقاً، وإلا كان عاجزاً، وكذلك يلزم أن يوجد ما يصح أن يريده الواحد منا.
ومنها أنه يلزم أن يكون مريداً للإيمان من الكافر والكفر من المؤمن؛ لأن ذلك مما تصح إرادته.
ومنها أنه يلزم أن لا يكره شيئاً قط؛ لأن كل ما يكرهه فهو مما يصح أن يراد.
ومنها أنه كان يجب أن يوجد من المرادات أكثر مما أوجد؛ لأنه تعالى يصح أن يريد أكثر، وإذا صح وجب أن يريده، وإذا وجب أن يريده وجب حصوله لا محالة.
فإن قيل: إرادة ما لا يقع ليست إلا تمنياً، ولا يلزم من إرادته للمرادات أن يريد المتمنيات.
قيل: التمني عند أهل اللغة من أقسام الكلام لا من أقسام الإرادة، ولذا يقسمون الكلام إلى أمر، ونهي، وتمني وغير ذلك.
ومنها: أنه يلزم أن يكون الله تعالى مريداً لخلق العالم قبل الوقت الذي خلقه فيه وقبل ذلك وقبله؛ إذ لا اختصاص لذاته، ولا للمعنى القديم بوقت دون وقت.
فإن قيل: الإرادة تتبع الداعي فلا يريد إلا ما دعاه إليه الداعي.
قيل: لا يتأتى ذلك؛ لأن الصفة الذاتية لا تقف على أمر فلا يقف كونه مريداً على علمه بحصول نفع للغير أو دفع ضرر عنه، وكذلك المعنى القديم لا يقف على أمر ثم لا أن الخصم يقول بإرادة ما لا يدعو إليه الداعي، وذلك أنه يريد الكفر من الكافر، ولا يدعوه إليه الداعي.
ومنها: أنه يلزم أن يكون الله تعالى مريداً لوجود الضدين لأنهما مما يصح أن يريدهما مريدان، أو مريد واحد إذا اعتقد ارتفاع التضاد بينهما، وما صح أن يكون مراداً لناصح أن يكون مراداً لله تعالى؛ لأنه مريد لذاته، وإذا صح وجب، وإذا وجب وجب حصول الضدين وحصولهما محال، فما أدى إليه يجب أن يكون محالاً.
فإن قيل: كونه مريداً لذاته لا يلزم منه إرادة حدوث الضدين، كما أن كونه عالماً لذاته لا يلزم منه أن يكون عالماً بوجود الضدين.
قيل: بين الموضعين فرق، فإن وجود الضدين في محل واحد يستحيل أن يكون معلوماً لعالم واحد أو أكثر بخلاف الإرادة فإن الضدين مما يصح أن يكونا مرادين لمريدين، بل لمريد واحد إذا اعتقد ارتفاع التضاد بينهما كما مر.
فإن قيل: إرادة حدوث الشيء تبع للعلم به، والعلم بوجود الضدين مستحيل، فلا تصح إرادتهما.
قيل: بل إرادة الشيء تابعة لصحة حدوثه، وصحة الحدوث ثابتة في كل واحد من الضدين، فيصح أن يعلم الله ذلك من حال كل واحد منهما، وإذا صح ذلك صح أن يريدهما وإذا صح وجب؛ لأن صفة الذات متى صحت وجبت لما مر من أنها لا تقف على أمر، فيجب حصولهما كما ألزمناكم.
قال السيد مانكديم: ومتى قلتم إن على هذا يجب أن يكون القديم تعالى عالماً بوجود الضدين، وذلك محال.
قلنا: إن مذهبكم في الإرادة يقتضي ذلك ويؤدي إليه فاتركوه كيلا يقتضيه فلا يلزمكم ذلك.
فإن قيل: لا نسلم أن كونه مريداً لذاته يلزم منه أن يكون مريداً لوجود الضدين؛ لأن العلم بوجود الضدين في محل واحد دفعة واحدة مستحيل، وإنما يعلم أحدهما فيما علم أنه يقع فهو مراد، وما لا فهو متمنى، والباري تعالى إذا كان مريداً لذاته لا يجب أن يكون متمنياً.
قيل: لا فرق بين ما علم أنه يقع وما علم أنه لا يقع في صحة الإرادة، ولهذا فإن أحدنا قد يريد الضدين إذا اعتقد ارتفاع التضاد بينهما، مع أن المعلوم وقوع أحدهما فقط، وكذلك فقد يريد الحلاوة والسواد في محل واحد بحيث لا يفصل بين إرادتهما ثم يقع أحدهما دون الآخر، وصح أنه لا فرق بين ما علم أنه يقع، وما علم أنه لا يقع في صحة إرادتهما، وأيضاً لو كان بينهما فرق لوجب أن لا يكون النبي صلى الله عليه وآله وسلم مريداً لإيمان أبي لهب بل متمنياً له؛ لأنه قد علم أنه لا يؤمن، وقد اتفقت الأمة على أنه مريد لإيمانه، وأيضاً التمني من أقسام الكلام كما مر، وإن اعتبرت فيه الإرادة فذلك لا يقتضي كونه إرادة كسائر أقسام الكلام.
فإن قيل: إرادة الله تعالى تعلق بالضدين على وجه يصح وهو أن يريد وجود أحد الضدين، ويريد في الآخر أن لا يوجد.
قيل:لا يصح تعلق الإرادة بالنفي؛ لأنها لو تعدت في التعلق من وجه الحدوث إلى ما زاد عليه ولا حاصر لوجب تعديها إلى سائر الوجوه كالاعتقادات فتتعلق بالقديم والماضي والباقي، وقد علم تعذر ذلك، وأما إرادة أن لا يقوم زيد فهي متعلقة بضد القيام وهو القعود، ولهذا لا يصح أن يريد من الميت أن لا يقوم لما لم يمكن منه القعود، ثم إنها لو تعلقت بالضدين كما ذكرتم لم يكن أحدهما بالوجود والآخر بأن لا يوجد بأولى من العكس فيجب أن يريد وجود كل واحد منهما وعدم وجوده؛ لأنه مريد لذاته وهي معهما على سواء، وأيضاً لو كان مريداً لذاته والمرادات غير محصورة لوجب أن يريد كل واحد من الضدين على وجه يصح أن يراد عليه، فيريد كل واحد منهما أن يكون وأن لا يكون.
فإن قيل: إرادته لأحدهما يحيل كونه مريداً لضده.
قيل: لا يكون بإرادة أحدهما أحق من إرادة الآخر مع كونه مريداً لذاته، فثبت ما قررناه أنه تعالى لو كان مريداً لذاته لوجب أن يكون مريداً لوجود الضدين، ولو أراد وجودهما لوجب حصوله لما مر، ووجود الضدين محال، فما أدى إليه وهو القول بأنه مريد لذاته يجب أن يكون محالاً لما تقرر من أن ما أدى إلى المحال فهو محال، وتلخيص هذه الجملة أن نقول: متى أراد الضدين فإما أن يوجدا معاً وهو محال، وإما أن لا يوجدا معاً وفيه تخلف مراده وهو محال عندهم، وإما أن يوجد أحدهما ولا مخصص فلم يبق إلا القول ببطلان كونه مريداً لذاته.
ومنها: أنه يلزم على القول بأنه مريد لذاته أن يريد سائر القبائح، وذلك صفة نقص، والخصم يمنع من وصفه بذلك.
فإن قيل: إنما يكون صفة نقص في الشاهد؛ لأنه مريد بمعنى وهو الإرادة بخلاف الباري تعالى فإنه مريد لذاته.
قيل: لم يختلف الحال في صفة النقص بين أن تكون مستحقة للذات أو لمعنى، دليله كونه جاهلاً فإنه لم يختلف في كونها صفة نقص بين أن تكون مستحقة للذات أو لمعنى.
واعلم أن كثيراً من هذه اللوازم يختص القول بأنه مريد لذاته.
وأما القائلون بالمعنى القديم فيلزمهم أن يكون مع الله تعالى إلاهاً آخر تعالى الله عن ذلك.
الوجه الثاني مما احتج به الأولون أنه تعالى لو كان مريداً لذاته أو لمعنى قديم لاستحال خروجه عن هذه الصفة ككونه عالماً قادراً، والمعلوم خلافه لا سيما على مذهب الخصم من أنه لا يريد الواقعات فيريد الإيمان من زيد ما دام يفعله، فإذا كفر أو مات أو عجز خرج الباري تعالى عن كونه مريداً له.
الوجه الثالث:أنه لو كان تعالى مريداً لذاته أو لمعنى قديم لبطل الاختيار في أفعاله تعالى، ولما صح وصفه بالقدرة على إقامة القيامة الآن، إلى غير ذلك من التقديم والتأخير والزيادة والنقصان؛ لأن الإرادة القديمة لم تتعلق بذلك، وما لم تتعلق به استحال وقوعه.
قال القرشي: وليس لهم أن يقيسوه على العلم؛ لأنها لا تجوز القدرة على خلاف المعلوم وهم لا يجوزون تعلق الإرادة بخلاف المعلوم، وهذا يبطل ما قد قامت عليه الدلالة من أنه إن شاء فعل وإن لم يشأ لم يفعل، وقد نطق القرآن بذلك قال تعالى: {وَلَئِنْ شِئْنَا لَنَذْهَبَنَّ بِالَّذِي أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ}[الإسراء:86] يوضحه أن الشرط لا يدخل إلا المستقبل، ولا بد أن يعترفوا بأنه أراد هذا الشيء مع جواز أن لا يريده.
احتج المخالفون بشبه:
منها: ما يشترك فيه القائلون بأنه مريد لذاته، والقائلون بأنه مريد لمعنى قديم.
ومنها ما يختص به أحد الفريقين، فأما ما يشتركون فيها فشبهتان:
إحداهما: أنه لو كان مريداً بإرادة محدثة لكان لا بد لتلك الإرادة من محدث، فإما أن يكون محدثها الواحد منا وذلك باطل؛ لأنه إن فعلها ذلك المحدث في نفسه بأن يكون محلاً لها كان بأن توجب الحكم له أولى، وإن فعلها في غيره لم يصح؛ لأن تعديه الفعل عن محل القدرة لا يكون إلا باعتماد، والاعتماد لا يولد الإرادة، وإما أن يكون محدثها القديم تعالى وهو باطل أيضاً؛ لأنه يوجب أن يكون مريداً لتلك الإرادة، والكلام في تلك الإرادة كالكلام في هذه فيتسلسل.
وأجيب باختيار الثاني وهو أن محدثها القديم تعالى، ولا نسلم لزوم التسلسل؛ لأن الإرادة لا تحتاج إلى إرادة كما مر تحقيق ذلك في السابعة من مسائل قوله تعالى: {خَتَمَ اللَّهُ عَلَى قُلُوبِهِمْ}[البقرة:7] وحاصله أن الإرادة جنس الفعل، وجنس الفعل لا يحتاج إلى إرادة؛ لأن الإرادة لا تقع مقصودة، وإنما تقع تبعاً للمراد، ألا ترى أن الآكل إذا أراد الأكل لا يكون مقصوده إلا المراد وهو الأكل دون الإرادة، وإنما هي تابعة للأكل فما دعا إليه دعا إليها، على أن من الغداديين من أحال إرادة الإرادة وقالوا: إنها كالقديم والماضي في أنها لا تصح إرادتها، ومن أجاز ذلك من أصحابنا فلم يقولوا بالوجوب، ولا يلزم من الجواز الوجوب.
الشبهة الثانية
قالوا: لو كان الباري تعالى مريداً بإرادة محدثة لكان قد حصل على هذه الصفة بعد أن لم يكن عليها، فيجب أن يكون قد تغير كالمحل إذا كان أسوداً ثم ابيض.
وأجيب: بأنكم إن أردتم بالتغير أنه حصل على هذه الصفة بعد أن لم يكن عليها، فهو قولنا، ولا يسمى تغيراً فإن حصول الذات على صفة لم تكن لا يوجب تغيرها، ألا ترى أنه تعالى لم يكن مدركاً فيما لم يزل ولا فاعلاً، ولا خالقاً، ولا رازقاً ثم حصل كذلك، ولم يلزم من ذلك أن يكون متغيراً فكذلك هنا، وأما قول العرب: إذا ابيض الجسم بعد سواد إنه قد تغير، فذلك إنما هو لاعتقادهم التغير، والأسامي تتبع الاعتقاد، وإن أردتم التغير الحقيقي وهو أن ذاته صارت غير ما كانت فما دليلكم عليه؟ ثم إنا نقول: لو لم تكن محدثة حكمها حكم سائر صفات الفعل لم يجز إثباتها ونفيها، والمعلوم أنه يجوز ذلك فيقال: يريد ولا يريد.
قال الإمام أحمد بن سليمان: الدليل على أن إرادة الله تعالى محدثة أنك تقول: الله يريد ولا يريد، كما تقول يخلق ولا يخلق، ويرزق ولا يرزق فجاز أن نصفه بصفات الفعل وأضدادها، وليس كذلك صفات الأزل، ألا ترى أن الله تعالى لما كان عالماً في ما لم يزل استحال الجهل عليه.
قال عليه السلام : ويؤيد ذلك أن الله تعالى إذا أراد حياة زيد ثم أراد موته أن الإرادة التي هي الموت حادثة، وقد قال تعالى: {يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلاَ يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ}[البقرة:185].
وأما ما تختص به النجارية وبشر فهو أنه قد ثبت أنه تعالى مريد، وباطل أن يكون مريداً بإرادة قديمة لمثل ما ثبت في نفي القدرة والعلم القديمين في حقه تعالى ولا بإرادة محدثة؛ إذ ليس محلاً للحوادث، ولا يقبح وجودها في محل، فيتعين كون مريديته كعالميته، وأجيب بما سيأتي من إبطال ما زعموا من إحالة وجود إرادة لا في محل.
قلت: ولقائل أن يقول: إبطال كونه مريداً بإرادة قديمة أو حادثة لا يوجب تعيين كونه مريداً لذاته؛ لأن القسمة لم تنحصر في هذه الأقسام لِمَ لم يقولوا كما قال قدماء الآئمة: إنه غير مريد على الحقيقة، وإنما إرادته نفس المراد ليسلموا من جميع وجوه الفساد، وقد مر أنه يلزم على قول أولئك من اللوازم ما يوجب الحكم عن قولهم بالخروج عن منهج الرشاد، وطريقة السداد.
وأما ما تختص به الأشعرية فهو الاستدلال بانتفاء الصفة على ثبوت ضدها والعكس، وهذه طريقة يسلكها الأشعري، وتحرير الاستدلال بها هنا أن قالوا: الباري تعالى ليس بساهٍ فيما لم يزل ولا غافل، فيجب أن يكون مريداً، واحتجوا على كون الإرادة قديمة بما مر من لزوم التغير على القول بالحدوث.
والجواب من وجهين:
أحدهما: أن تلك الطريقة لا تتأتى هاهنا؛ لأن ضد السهو والغفلة العلم لا الإرادة.
فإن قيل: لِمَ لا تجوز مضاددتهما للإرادة كما تضادان العلم.
قيل: لأن الإرادة تخالف العلم، والشيء الواحد لا ينفي مختلفين غير ضدين.
الثاني: أن الاستدلال بهذه الطريقة إنما يجب إذا لم يجز خلو الذات عن الضدين جميعاً،وفي مسألتنا هو يصح الخلو عنهما فإن القديم تعالى غير غافل ولا ساهٍ عن ذاته، ولا يجب أن يكون مريداً لها، وكذلك يقال في الماضي والباقي يقال في غيره تعالى من الأحياء كذلك، ألا ترى أن المسلمين غير ساهين عن مضي اليهود إلى كنائسهم وهم غير مريدين لمضيهم إليها.
تنبيه
قد مر أن مذهب قدماء الأئمة" أن إرادة الله تعالى إنما هي أفعاله، وأوامره، وكراهته إنما هي نهيه وزجره، وقد عرفت ما استند إليه المختلفون في هذا الموضع، فأما القائلون بأنه تعالى مريد لذاته أو بإرادة قديمة، فقد أوضحنا بطلان ما ذهبوا إليه في هذا الموضع مما لا مزيد عليه.
وأما القائلون بأنه مريد بإرادة محدثة فقد تضمن الجواب عليهم ما احتج به الأئمة" وقد حققناه في الموضع الثاني، وأقوى ما يبطل به قولهم أن نقول: أنتم موافقون لنا في أنه تعالى منزه عن صفة المخلوقين، وكلامكم يتضمن وصفه تعالى بالأعراض، وفي ذلك تشبيه بخلقه جل وعلا، وكل قول يؤدي إلى ذلك فإنه يجب الحكم ببطلانه.
ووجه آخر وهو أنه لا دليل لهم على ذلك إلا أنه قد بطل أن يكون مريداً لذاته أو لمعنى قديم، فتعين أن يكون مريداً بإرادة محدثة كما مر تقريره، وهذا ضعيف؛ لأنه لا يتعين ذلك إلا إذا ثبت أن هذه الصفة ثابتة له تعالى على الحقيقة، وأنه لا بد في ثبوتها له من مؤثر، ونحن ننازعهم في ذلك ونقول: لا نسلم ثبوتها له تعالى على الحقيقة كما مر عن الأئمة، ولو سلم كما يفهم من كلام الهادي عليه السلام فلا نسلم أنه لا يوصف بذلك حقيقة إلا المؤثر لِمَ لا يجوز أن يوصف بذلك لأنه فعل المراد وأوجده، وعلى الجملة إن القول بهذا المعنى المحدث في حق الباري تعالى مما لا دليل عليه، لا سيما مع ما يلزم عليه من التشبيه، وما لا دليل عليه في مثل هذه المسألة فإنه يجب القطع بنفيه.
فإن قيل: ما تريدون بقولكم لا دليل عليه، أفي معلومكم أمْ في نفس الأمر، إن أردتم الأول لم يصح؛ لأنه لا يلزم بطلان ما لم تعلموه وإلا لزم فيما لا نعلمه أن يقطع ببطلانه، ويلزم مثل ذلك في الملحد إذا لم يعلم الصانع أن يلزم بطلانه، وإن أردتم الثاني فهو دعوى مجردة لا دليل عليها.
قيل: أردنا الثاني وهو أنه لا دليل عليه في نفس الأمر.
قولكم: دعوى مجردة.
قلنا: بل صحيحة، وذلك لأمرين: أحدهما أنا قد عرفنا دليلكم الذي أوجبتم لأجله ثبوت هذا المعنى وهو قولكم: لا يخلو إما أن يستحق هذه الصفة لذاته أو لمعنى قديم إلى آخر ما ذكرتم، ثم أبطلتم الأقسام كلها إلا المعنى المحدث الذي زعمتموه وادعيتم أن هذه القسمة حاصرة، ونحن لا نسلم صحة هذه القسمة، ولا كونها حاصرة فإنكم تركتم قسماً محتملاً، بل هو الصحيح وهو كونه مريداً لا لذاته ولا لغيره، ودليل صحته أن غيره من الأقسام إما متفق على بطلانه، وإما أن القول به يؤدي إلى محالات من تشبيه أو غيره كما مر، فصح أن دليلكم غير دليل، وثبت قولنا لا دليل على ما ذهبتم إليه، ومما يبطل قولكم أنه ألجأكم إلى القول بأن الله سبحانه خلق الإرادة ولم يردها، وهذا باطل قطعاً، ودليل بطلانه ما ذكره السيد حميدان وهو ما يعلمه كل عاقل من أن الفاعل لما لا يريد لا يخلو من أن يكون زائل العقل أو ساهياً أو ملجئاً تعالى الله عن ذلك علواً كبيرا.
فإن زعموا أن الدليل أدّاهم إلى ذلك فيه سبحانه خاصة، فالجواب أنه إذا لم يجز أن يؤدي الدليل إلى إثباته في المخلوق فبأن لا يؤدي إلى إثباته في الباري تعالى أولى.
وفي (الأساس): أن إثبات إرادته تعالى معنى يستلزم ثلاثة محالات:
الأول: الحاجة إلى ذلك المعنى عند فعل ما يريد؛ لأنه يلزم أن لا يفعل تعالى فعلا إلا بعد أن يوجد ذلك المعنى؛ لأنه لا يفعل ما لا يريد.
ثانيها: أنه يستلزم العبث ونحوه حيث أوجد ما لا يريد وهو ذلك المعنى؛ لأن إيجاد ما لا يراد عبث.
ثالثها: إثبات عرض لا في محل، والمعلوم ضرورة أن ذلك لا يصح، وكل ما أدى إلى هذه المحالات ونحوها فإنه يجب القطع ببطلانه؛ لأن ما أدى إلى الباطل فهو باطل، فثبت أن دليلكم هذا غير دليل وإنما هو شبهة؛ إذ لو كان دليلاً لأوصل إلى المطلوب، ولما لزم على القول بمدلوله ما لزم، وعند هذا كان لنا إطلاق القول بأنه لا دليل على ما ذهبتم إليه، وما لا دليل عليه وجب نفيه والقطع ببطلانه كما قررناه في المقدمة في المسألة الخامسة منها.
فإن قيل: لو سلمنا بطلان هذا الدليل فما يؤمنكم أن ثم دليلاً غيره يدل على ما ذهبنا إليه، ولا يلزم من عدم العلم به عدمه في نفس الأمر.
قيل: لم نجد لكم دليلاً غير ما حكيناه عنكم ولو كان لم يجز خفاؤه في مثل هذه المسألة، وقد أوضحنا في المقدمة ما يجب القطع بنفيه مما لا دليل عليه، وما لا يجب فيه ذلك إلا بعد البحث، فارجع إلى ما هنالك تعرف الحال فيما نحن فيه، ونزيدك هنا بياناً وتوضيحاً وشرحاً لما قد قررناه هنالك فنقول:
اعلم أن ما لا نعلم ثبوته أو نفيه ولا نظنه على ثلاثة أنواع:
الأول أن نعلم أنه لو كان ثابتاً لكان إليه طريق قطعاً، فهذا لا نقطع بنفيه، بل يجوز ثبوته، وإن كان لا طريق إليه في الحال، وذلك نحو تجويزنا ثبوت لون أو طعم أو رائحة غير ما نعرفه من ذلك؛ إذ يجوز ثبوتها في غير حضرتنا ونحن لا نعلمها، فهذه لا نقطع بانتفائها؛ إذ لا طريق إلى القطع بذلك لخفاء أكثر المعلومات عنا، والحاصل أن كل ما يجوز فيه أن يكون مقدوراً لله تعالى فلا نقطع بانتفائه.
الثاني: أن يكون مما لو جوزنا ثبوته لعلمنا إمكان الطريق إليه، فهذا لا نقطع بنفيه أيضاً إلا لدليل وذلك كثاني القديم تعالى قبل الاستدلال على استحالته فليس لنا القطع بنفيه استناداً إلى عدم الطريق إليه؛ لأنه لا طريق لنا إلى إثبات الفاعل إلا فعله، ومن الجائز أن لا نختار فعل ما يدل على وجوده، لكنا نعلم أنه لو كان ثابتاً لأمكن الطريق إلى معرفته، فهذا النوع كالأول في تجويز ثبوته إلا لدليل على استحالته غير مجرد انتفاء الطريق إليه، ولذا عدل المحققون إلى الاستدلال على نفي ثاني القديم تعالى باستحالته كما مر، وعابوا على من استدل على نفيه بأنه لا طريق إليه، وكل ما لا دليل عليه وجب نفيه.
النوع الثالث: أن يكون مما إذا جوزنا ثبوته لم يكن لنا طريق إلى القطع بثبوت طريق إليه، ولا إلى إمكان معرفته بالنظر، فهذا هو الذي يقول فيه أصحابنا ما لا طريق إليه وجب القطع بنفيه ونحو ذلك نحو إثبات علة لا يدل عليها معلولها، أو صفة لا يكشف عنها مقتضاها ولا تدرك الذات عليها، ولا نجدها من النفس، أو وجه اعتباري لا دليل عليه، والدليل على امتناع تجويز ثبوت ما هذا حاله ما مر في المقدمة من تأديته إلى القدح في بعض العلوم الضرورية، وفي المكتسبة كلها؛ لأنا إذا جوزنا معارضاً قادحاً في دلالة الدليل لم نقطع بصحة دليل، ولا حصوله علم مكتسب، وإذا لم نقطع بذلك بطل العلم بإفادة النظر العلم، وما أدى تجويز ثبوته إلى القدح في العلوم المكتسبة والضرورية وجب القطع بانتفائه.
فإن قيل: هذا إنما يلزم من لم يجعل النظر علوماً ضرورية يستحضرها الناظر فيعلم استلزامها للمستدل عليه، وأما من جعله علوماً ضرورية فلا يلزمه ذلك؛ لأنه لا تجويز مع الضروري.
قيل: قد أورد هذا أبو الحسين، والرازي وهو غير مخلص لهما من الإلزام؛ لأنهما يجوزان الغلط في تلك المقدمات على وجه لا يعلمه المستدل، ثم إنا نقول: لو كان كل المقدمات ضرورية لكان الغالطون مخالفين للضرورة، فيلزم أن نصفهم بالسفسطة، والمعلوم خلافه، وأيضاً لو كانت ضرورية لكان استلزامها للمكتسب إما أن يكون معلوماً ضرورة لزم أن يكون المكتسب ضرورياً، أو دلالة عاد إلى مثل قولنا.
أجاب الرازي بأن بعض الضرورية يجوز الذهول عنها فيحصل الغلط.
قلنا: فيلزم إذا نبهه خصمه على الغلط ولم يذعن أن نصفه بمدافعة الضرورة، والمعلوم خلافه.
فإن قيل: إن من المجوزات التي لا يهتدي العقل إليها ما قد انكشف لنا ثبوتها بالسمع كالألطاف، فإنا لو سئلنا عنها قبل ورود الشرع لقلنا لا طريق إليها فيجب نفيها، وهذا يقدح في إفادة هذه الطريقة العلم، أعني أن ما لا طريق إليه يعلم انتفاؤه.
قيل: لا يقدح في ذلك؛ لأنا نلتزم انتفاء ذلك، وبيانه أن اللطف إما أن يكون من فعل الله تعالى فلا لطفية فيه قبل وقوعه فلا ثبوت له حين لا طريق إليه، أو من فعلنا فلا لطفية فيه قبل أن نعلم وجوبه لأجل اللطفية؛ لأن الله تعالى لا يجوز عليه تأخير إيقاعه، وتأخير التكليف عند ثبوت اللطفية فيه، وإذا كان كذلك قطعنا أنه لا ثبوت له قبل وقوعه وقبل التكليف به، وثبت أنه لا يقدح في هذه القاعدة.
فإن قيل: هل العلم بانتفاء ما لا دليل عليه ضروري أم استدلالي؟ وما حكم من لا يمكنه النظر في الدقائق كالعوام؟ هل يحكم بانتفاء الطريق في حقهم فيلزم أن يكونوا عالمين بنفي الأمور التي لم يعلموا دليلاً على ثبوتها، وأن يكون المنكرون للصانع والتوحيد والنبوة عالمين بنفيها لانتفاء علمهم بأدلتها، بل يلزم أن يكون الإنسان كلما كان أقل علماً بالدلائل أن يكون أكثر علماً، وفساد هذا ظاهر.
قيل: بل العلم به استدلالي وهو ما مر من لزوم القدح في الضروري والنظري، وأما من لم يمكنه النظر في الدقائق فلا نحكم في حقهم بالقطع بنفي الطريق؛ لأن هذه الأمور التي لم يعلموا أدلتها مما يمكن أن يكون إليه طريق، بل طرقها حاصلة، وكلما أمكن أن يكون إليه طريق فقد مر أنه لا يجوز القطع بنفيه، ولا بد لهؤلاء من خاطر، أو نحوه ينبههم على الطريق كما مر في مسألة النظر.
إذا عرفت هذا فنقول: قولكم بتجويز دليل على إثبات المعنى المحدث الذي زعمتوه لا نعلمه باطل، وبيان بطلانه بالرجوع إلى النوع الثاني وهو أن نقول: لو جوزنا ثبوت المعنى الذي هو الإرادة في حق الباري تعالى بزعمكم لعلمنا إمكان الدليل عليه، لكنه قام الدليل على نفي ذلك المعنى واستحالته وهو ما ذكره الأئمة في الموضع الثاني، وما تقدم قريباً عن (الأساس) والسيد حميدان، وما قام الدليل على استحالته والقطع بانتفائه لا يصح قيام الدليل على ثبوته، فصح أنه لا دليل لكم على إثباته، وأنه لا يصح تجويز دليل لا نعلمه. والحمد لله.
ولقائل أن يقول: هاهنا إشكال يرد على السيد حميدان، والإمام القاسم بن محمد لا محيص عنه، وهو: أنهما ألزما القائلين بإثبات الإرادة معنى غير مراد إثبات فعل غير مراد، وذلك يستلزم العبث والسفه، وهذا الإلزام بعينه يرد على أصحابنا في إرادة العبد، فإن المجبرة لما استدلوا على الجبر بأن الفعل لا يقع إلا لمرجح، والمرجح من فعل الله؛ إذ لو كان من العبد لزم التسلسل.
أجاب الأصحاب بأن المرجح من فعل العبد وهو إرادته ودفعوا التسلسل بأن الإرادة لا تحتاج إلى إرادة كما حققنا ذلك في المقدمة، وفي قوله تعالى: {خَتَمَ اللَّهُ عَلَى قُلُوبِهِمْ}[البقرة:7] فيقال للسيد حميدان، والإمام القاسم بن محمد: إرادة العبد لا تخلو إما أن تكون مرادة فيلزم التسلسل أو غير مرادة فيلزم العبث، وحينئذ يبقى ما أورده علينا المجبرة من الإشكال لا جواب عليه ولا محيص لهما عن هذا الإشكال إلا بالتزام كون الإرادة لا تحتاج إلى إرادة، فإن ادعى مدع فرقاً بين إرادة العبد وبين إرادة الباري فقال: إرادة العبد لا تحتاج بخلاف إرادة الباري فإنها لو كانت معنى لاحتاجت إلى إرادة، فما ذلك الفرق وما دليله؟
فإن قيل: ما أورده الأئمة" إنما يقتضي نفي كون الإرادة معنى، وليس فيه ما يدل على أنها نفس المراد، وحينئذ فلقائل أن يقول: لا نسلم أن الإرادة ما ذكره الأئمة" ولا دليل عليه.
قيل: إنما ألجأهم إلى القول بذلك أنه قد ثبت أنها لا تكون معنى فلم يبق إلا أن يكون عدماً محضاً، أو نفس المراد من باب إطلاق السبب على المسبب؛ لأن الإرادة لما كانت سبباً في إيجاد المراد وإحداثه صح إطلاقها عليه.
واعلم أنه قد ذهب بعض أئمتنا" إلى أنه لا يجب العلم بكيفية الإرادة منهم: الإمام أحمد بن الحسين، والإمام الحسن بن بدر الدين وغيرهما.
قال الإمام الحسن بن بدر الدين: لا يجب علينا إلا أن نعلم أن الله تعالى يريد الحسن ويكره القبيح، ولا يجب علينا العلم بكيفية الإرادة، ولا لماذا كان مريداً فتكلف العلم بما لا يجب علينا العلم به لا يصلح.
وقال الإمام شرف الدين: لا يجب معرفة الإرادة، ولا لماذا كان مريداً جملة ولا تفصيلاً بالدليل العقلي، بل الإيمان الجملي بالسمع في ذلك كاف في الجملة، ولا يجب معرفة كونه مريداً حقيقة.
وقال الهادي بن إبراهيم: تكلفوا في إرادة الباري تعالى وكراهيته كلاماً لم يرد به برهان، ولم يدل عليه قرآن، وهذا اختيار السيد محمد بن عز الدين المفتي، وهو الظاهر من كلام الإمام الحسن بن يحيى القاسمي في البحث السديد، وقال فيه: روي أن شيوخ المعتزلة إلى زمن أبي هاشم لم ينصوا على إثبات الصفات، ولا على نفيها.
وقال ابن لقمان في (شرح الأساس): الذي أرى والله أعلم أن الوقف في الإرادة على ما دل عليه الدليل هو الأولى بل الواجب، والذي قد دل عليه الدليل القاطع هو كونه تعالى مريداً، وأما تعيين الإرادة فلم يقم عليه دليل قاطع وهي مسألة علمية، والمسائل العلمية إنما يعمل فيها بالدليل القاطع؛ لأنه الذي يفيد العلم، قال: فلما لم يقم عليها دليل قاطع علمنا أن الله تعالى غير مكلف لنا بمعرفتها؛ إذ لو كلفنا بمعرفتها ولم ينصب عليها دليلاً قاطعاً وهو يطلب منا فيها العلم لكان قد كلفنا فيها ما لا يطاق، والله يتعالى عن ذلك.
وأما ما ذكر من الأدلة فغاية ما تفيده الظن وهو لا يكفي في ذلك، فعلم أن الله تعالى إنما كلفنا كونه مريداً؛ لأنه الذي قام عليه الدليل، وأما تعيين الإرادة فلم يكلفنا بها.
قال: وقد ذهب إلى هذا شارح الأبيات الفخرية، وإليه رجع المؤلف عليه السلام فيما نقل عنه -ويعني بالمؤلف الإمام القاسم بن محمد.
قلت: وهذا هو المروي عن السلف، وأهل الحديث كما مر عنهم من الإمساك عن القول في تفصيل الصفات، وقد تقدم في مواضع من كتابنا هذا عن أمير المؤمنين عليه السلام ما يشهد لهذا المذهب. والله الموفق.
الموضع الرابع أن إرادة الباري تعالى لا تحتاج إلى محل عند القائل بأنها معنى محدث
فهؤلاء قالوا: إرادته تعالى لا في محل.
وقالت الصفاتية: بل إرادته تعالى قائمة بذاته كعلمه، ولا يصح القول بوجودها لا في محل، وقيامها بذاته ليس على جهة الحلول كما قالوا في سائر صفات الذات، بل كما يقال: الذات إنما تقوم بالصفة الذاتية أي لا يصح العلم بها إلا لأجل صفتها الذاتية، فلو فرضنا عدم ثبوت الصفة الذاتية لم تُقَوَّمْ لنا الذات أي لم يصح تعلق العلم بالذات فتكون كالمنتفية، وهذه المعاني عندهم لا يتقوم وجودها والعلم بها إلا بذات الباري تعالى؛ إذ لو قدر انفرادها لم يصح وجودها والعلم بها، ومن ثم قالوا: إن هذه المعاني ليست إياه أي ليست ذاته تعالى؛ لأن ذاته تعالى قائمة بنفسها لا بغيرها، وقالوا: ليست بعضه تعالى؛ لأنه ليس بذي أبعاض ولا غيره، وإلا لكان العلم بها من دونه ممكناً فلم تكن قائمة به أي تابعة له في تقويمها وجوداً وعلماً، فهذا تحقيق مذهب الأشعرية في المعاني التي وصفوها بالقدم، وحاصله أن معنى قولهم: إنها قائمة بذات الباري تعالى أنها تابعة للذات في وجودها والعلم بها.
هذا وأما سائر الصفاتية فمنهم من يقول: صفات الله تعالى الذاتية عندهم لا توصف بقدم، ولا حدوث، ولا وجود، ولا عدم وإن كانت عندهم معاني، وهذا قول الكلابية، ويروى عنهم أنهم إنما يقولون ذلك في العلم، ومنهم من يقول: إن تلك المعاني غير الله تعالى، ويصرحون بأنها قائمة بذاته على وجه الحلول، وإنما تكلمنا على تفصيل مذاهب هؤلاء؛ لأنا قد جمعنا الحكاية عنهم في كون الإرادة معنى قائم بالذات فاحتجنا إلى تفسير معنى القيام، وبيان اختلافهم فيه.
وقالت الرافضة وهم هشام بن الحكم وأتباعه: بل إرادته تعالى حركة لا هي الله ولا هي غيره.
قال الإمام المهدي: يحتمل أنهم عبروا بالحركة عن الصفة، فيكون قولهم كقول النجارية إن جعلوها أزلية، وإن جعلوها متجددة كما هو الظاهر، فهو قول مستقل، ويحتمل أنهم عبروا بها عن المعنى فيكون كقول الأشعرية إن جعلوه قديماً، وإن جعلوه محدثاً غير موجب، فكقول أبي الهذيل، وإن جعلوه موجباً فكقولنا.
وقال النجري: يحتمل أن يريدوا الحركة على حقيقتها بناء على القول بالتجسيم، وإن يريدوا بأنها صفة المريدية التي أثبتها غيرهم فيكون خطأً في العبارة فقط.
وقال الحضرمي، وعلي بن مَيْثم: بل هي حركة في غيره سبحانه.
احتج الأولون بأنه قد ثبت بما مر أن الله تعالى مريد بإرادة محدثة، وهذه الإرادة لا يجوز أن تحل في الباري تعالى لاستحالة أن يكون جل وعلا محلاً للحوادث؛ إذ ليس بجسم على ما يأتي بيانه إن شاء الله، والحلول فرع على التحيز، والتحيز فرع على الجسمية، ولا يجوز أن تكون حالة في غيره؛ لأن ذلك الغير لا يخلو إما أن يكون عرضاً أو جسماً، لا يجوز أن يكون عرضاً؛ لأن من شرط المحل التحيز كما ذكرنا، وإن كان جسماً فلا يخلو إما أن يكون جماداً أو حياً، لا يصح أن يكون جماداً؛ لأن المصحح لوجود الإرادة الحياة ولا حياة في الجماد، ولذا أطلق أصحابنا القول باستحالة وجود الإرادة فيه، وأيضاً لو قيل بصحة وجودها فيه للزم محالان:
أحدهما: أن يكون الجماد مريداً فيتأتى منه وقوع الفعل على الوجوه المختلفة، والمعلوم استحالة ذلك.
ثانيهما: أنه يؤدي إلى أن لا توجب صفة فتنقلب ذاتها؛ لأن الإيجاب مأخوذ في حدها وبيان ماهيتها كما مر فهو حكم ذاتي لها.
فإن قيل: ما المانع من إيجابها؟
قيل: لأن إيجابها إما لمحلها الذي هو الجماد أو لغيره، لا يصح إيجابها لاستحالة موجبها عليه كما بينا، ولا يصح أن توجب لغيره؛ لأنها إما توجب لنا ولا اختصاص لها بنا لعدم حلولها فينا والباري تعالى، فكذلك إذ لم توجد على حد وجود الباري تعالى فلم تختص به، وإيجابها من دون أن تختص محال، وأيضاً لو صح أن توجب للباري تعالى والحال هذه صح أن توجب لنا؛ إذ ليس بأولى منا؛ لأنها معه سبحانه وتعالى ومعنا على سواء، فثبت أنه لا يصح حلولها في جماد، وكذلك لا يصح حلولها في حي؛ لأنها غير مختصة بالباري تعالى فهي بالإيجاب لمن اختصت به أولى، فلم يبق إلا أن تكون لا في محل.
فإن قيل: كيف يوجد عرض لا في محل؟
قيل: قد مر في الفاتحة أن من الأعراض ما لا يحتاج إلى محل.
فإن قيل: هذا محال؛ إذ لا يعقل عرض لا في محل كما في الألوان، والأكوان وغيرها.
قيل: هذا قياس لبعض الأعراض على بعض بلا علة جامعة إلا مجرد الوجدان وهو أنكم لم تجدوا عرضاً في غير محل ولم تعلموه، وهذه الطريقة لا يعتمد عليها كما مر في السابعة من مسائل قوله تعالى: {الحمد لله} على أن الفناء من جملة الأعراض، وهو موجود لا في محل.
فإن قيل: لم نعتمد في هذا القياس على الوجدان، وإنما اعتمدنا على العلة الجامعة، وبيان ذلك أن من الأعراض مما لا يصح وجوده إلا في محل اتفاقاً، ولا علة لذلك إلا كونه عرضاً فيجب فيما شاركه في هذه العلة أن يشاركه في الحكم.
قيل: لا نسلم أن العلة ما ذكرتم، ولا دليل عليه، بل قام الدليل على خلافه وهو أن اشتراكهما في العرضية لا يوجب تماثلهما؛ لأن العرض اسم عام لمتماثل، ومختلف كلفظ الذات وإذا لم نوجب تماثلها بطل قولكم.
وبعد فإن وجود إرادة الله تعالى لم تثبت بالضرورة، وإنما ثبتت دلالة كما مر، وما ثبت دلالة فكيفية وجوده تبع للدليل، فإذا كانت إرادته تعالى لم تثبت إلا دلالة فكذلك كيفية وجودها، فإذا منع الدليل من حلولها فيه سبحانه أو في غيره ثبت أنها لا محل لها، ولولا قيام الدليل على أن ما عدا إرادة الباري تعالى وكراهته والفناء لا يوجد إلا في محل لجوزنا وجوده لا في محل.
قلت: وحاصل الكلام في الأعراض بالنسبة إلى حاجتها إلى المحل وعدم الحاجة إليه على ما ذكره بعض أصحابنا أنها على ثلاثة أضرب:
أحدها: ما يصح وجوده في محل وفي غير محل، وهو نوع الإرادة والكراهة، وذلك أنا نظرنا في الإرادة فوجدناها إذا وجدت لا في محل لم يلزم منه انقلابها عما هي عليه في ذاتها أو إلى انقلاب غيرها؛ لأن الذي تقتضيه ما هي عليه في ذاتها هو إيجاب الحكم للحي ومضادة مضادتها وهي الكراهة، والمعلوم أن وجودها لا في محل لا يمنع من ذلك، فجاز أن يكون لا في محل؛ إذ لا مانع، وهذا القول في الكراهة.
الضرب الثاني: ما لا يصح وجوده في محل، ويجب وجوده في غير محل وهو الفناء، وسيأتي الدليل على ذلك عند ذكر الفناء إن شاء الله.
الضرب الثالث: ما يجب وجوده في محل ويستحيل وجوده لا في محل، وهو سائر الأعراض وذلك لأن منها ما كان وجوده لا في محل يؤدي إلى انقلاب ذاته عما هو عليه في ذاته، ومنها ما يؤدي إلى انقلاب غيره، فالأول كالسواد والبياض فإنهما لو وجدا في غير محل فإما أن يتضادا أو لا، إن لم يتضادا لزم خروجهما عما هما عليه في أنفسهما وهو التضاد، وإن تضادا وجب أن يكون تضادهما لمجرد وجودهما، وذلك يستلزم استحالة وجودهما معاً في العالم، والمعلوم خلافه، وهكذا القول في الحركة والسكون.
وأما التأليف فلأن حكمه أن يحل في محلين وذلك لما هو عليه في ذاته فلو وجد لا في محل انقلبت ذاته، وكذلك الاعتماد؛ لأن حكمه أن يختص بجهة فلو وجد في غير محل انقلبت ذاته لعدم اختصاصه بجهة.
وأما القدرة فلأن شرطها استعمال محلها في الفعل أو سببه ونعلم ضرورة استحالة الإختراع منا، ولا علة لذلك تعقل إلا كوننا قادرين بقدرة، والوجود في المحل حكم واجب لها؛ إذ لو كان جائزاً لصح منا الاختراع في حال، ولو صح لم يعلم ضرورة تعذر ذلك منا في كل حال، وإذا كان واجباً لها استلزم افتقارها إلى المحل.
وأما الحياة فلأنه لا يصح منا الإدراك لها إلا بعد استعمال محلها في المدرك وجهته ضرباً من الاستعمال فكانت كالقدرة.
وأما النظر فلأنه لو وجد لا في محل فإما أن لا يوجب صفة، وفي ذلك انقلاب جنسه أو يوجبها لنا فليس بمختص بنا، أو للقديم تعالى لزم جواز الشك عليه وهو محال، وهكذا يقال في الشهوة والنفرة، والثاني وهو ما يؤدي إلى انقلاب غيره فكالعلم؛ لأنه لو وجد لا في محل فإما أن يوجب صفة للباري تعالى لزم منه جواز الجهل عليه تعالى فيخرج عن صفته الذاتية وهي العالمية، أو لا يوجب صفة رأساً لزم انقلاب ذاته فافتقر إلى المحل لتأدية خلافه إلى انقلاب ذات القديم جل وعلا، وانقلاب ذات العلم نفسه.
فإن قيل: إذا لم تكن إرادته تعالى لا في محل لم تكن بأن توجب للقديم تعالى بأولى من أن توجب لنا لعدم الاختصاص.
قيل: بل توجب له لاختصاصها به غاية ما يمكن من الاختصاص وهو وجودها على حد وجوده؛ إذ كل منهما لا في محل، ولا توجب لأحدنا؛ لأن غاية الاختصاص في حقنا الحلول فينا، وهو ممكن فَلَمَّا لم تحل فينا لم يصح أن توجب لنا.
فإن قيل: لا نسلم أن وجود الإرادة على حد وجود الباري تعالى يستلزم أن توجب له وتختص به فإن الفناء كذلك مع أنه لا ينفي الباري سبحانه وتعالى، وقد نفى الجواهر مع عدم اختصاصه بها غاية ما يمكن وهو الحلول فيها.
قيل: إنما نفى الجواهر لأنه ضد لها والقديم لا يضاد الفنا، وإن كان وجوده على حد وجوده، دليله السواد والحلاوة إذا وجدا في محل واحد فطرأ عليهما بياض فإنه لا ينفي الحلاوة لما لم يكن ضداً لها مع أنه موجود على حد وجودهما معاً.
هذا وأما سائر الأقوال فقد تقدم ذكر شبههم وإبطالها.
وأما الرافضة فإذا كان قولهم مستقلاً فإن كان مبنياً على التجسيم فيكفي في إبطاله إبطال أصله، وإن لم يكن مبنياً على ذلك فيقال لهم: لا واسطة إلا العدم ولا تأثير له، والإرادة يجب أن تكون مؤثرة في المراد.
وأما الحضرمي فيلزمه أن يكون المريد غير الباري تعالى، ولو سلم له ذلك لزم منه حاجة الباري تعالى إلى ذلك المحل؛ لأنه تعالى لا يفعل شيئاً إلا بإرادة، وأيضاً قد ثبت أن ما عدا الباري تعالى فهو مخلوق فمحل الإرادة يجب أن يكون أول مخلوق فإما أن تقولوا هو غير مراد لعدم وجود محل للإرادة لزم أن يكون الله تعالى قد أوجد ما لا يريد، وذلك يستلزم العبث والسفه، وإما أن تقولوا هو مراد احتاجت هذه الإرادة إلى محل غيره ولزم في هذا المحل ما لزم في الأول فيؤدي إلى التسلسل.
قلت: وأما ما ذهب إليه أكثر المعتزلة فالملجئ إلى القول به ما مر عنهم من أن إرادته تعالى معنى محدث، وقد مر ما فيه.
وأما ما احتجوا به هنا من أن حلولها لا في محل لا يلزم منه انقلابها في ذاتها ولا انقلاب غيرها، فدعوى مجردة مخالفة للمعقول من معنى الإرادة، فإن المعقول من معناها أنها النية والضمير، وهما لا يعقلان في غير القلب أو ما هو على بنيته.
وقولهم: إن الذي تقتضيه ما هي عليه في ذاته...إلخ لا يوجب لها المحل ممنوع، فإن المعقول من المعاني أنها لا توجب إلا لمن قامت به، والمتقرر في عقل كل عاقل أنه يجب إلحاق الفرد المخصوص بالأعم الغالب المعلوم ما لم يخصص ذلك الفرد دليل صحيح يوصل إلى المطلوب، والدليل الذي ذكروه غير موصل إلى ذلك كما عرفناك، هذا مع ما يلزم على هذا القول من اللوازم الباطلة كما مر.
الموضع الخامس فيما يريده الله تعالى من الكائنات وما لا يريده
ويدخل في هذا الموضوع الخلاف في إرادته تعالى لأكل أهل الجنة وشربهم، والكلام في هذا الموضع يكون في فصلين:
الأول: فيما يريده تعالى، وما لا يريده.
الثاني: في الخلاف في إرادته تعالى لأكل أهل الجنة وشربهم.
الفصل الأول فيما يريده الله تعالى وما لا يريده
ولنقدم قبل ذلك مقدمة فيما يصح أن يراد ويستحيل، ويجب، ويحسن، ويقبح، أما ما يصح فكلما صح حدوثه كالمقدورات أو اعتقد صحة حدوثه كاجتماع الضدين صح أن يراد، وقد مر البحث في صحة إرادة اجتماع الضدين ممن اعتقد ارتفاع التضاد في الموضع الثالث، وكلما لم يكن كذلك كالقديم والباقي واجتماع الضدين في حق من يعلم تضادهما استحال أن يراد؛ لأنها لا تتعلق إلا بالحدوث وتوابعه، لكن إنما يستحيل تعلقها بالنافي حق من يعتقد بقاه، فأما من لا يعتقده كمن يعتقد تجدد الجسم حالاً فحالا فإنه يصح أن يريده، ذكره الإمام عز الدين، ومراده عليه السلام أن الإرادة إنما تتعلق بالشيء لإحداثه والباقي على القول بتجدده من جملة المحدثات التي تتعلق بها الإرادة لإحداثها، لكنه يقال لم تتعلق على هذا القول بالباقي وإنما تعلقت بما يتجدد عليه من الحدوث، فلا يكون مخالفاً للقول باستحالة تعلقها بالباقي، وأما ما يجب أن يراد فهو فعل العالم بما يفعله إذا كان له فيه غرض، وكان ذلك الفعل مقصوداً بنفسه غير تابع لغيره ولم يكن منه مانع، ولا بد من استكمال هذه الشرائط؛ لأنه لو لم يكن عالماً به لصح أن يقع ولا يريده أيضاً، ألا ترى أن الضارب لغيره قد يعلم أنه ينتفض التراب من المضروب عند الضرب مع أنه قد لا يريده لما لم يكن فيه غرض ولا تعلق به قصده، وإنما هو تبع للضرب، وكذلك الفصاد فإنه لا يريد الألم مع علمه بأنه قلما ينفك الفصد من الألم، وكذلك لو كان ثم مانع لأنه لو منع من الإرادة لصح منه الفعل من دونها كمن قدم إليه طعام وهو محتاج إليه ثم منع
من إرادته فإنه يأكله لا محالة مع عدم إرادته، وحصول المانع من الإرادة جائز؛ لأنها من جملة المقدورات، ويجوز أن لا يخلق الله فينا القدرة عليها، وقد مر نحو هذا في الموضع الأول.
وأما ما يحسن أن يراد فهو الحسن إذا لم يتعلق بالإضرار بالنفس ولم يكن عبثاً، فإن كان في الحسن إضرار بالنفس فتجب إرادته عند أبي علي، وابن متويه كالعاصي إذا أراد نزول العقاب بنفسه؛ لأن العقاب ضرر محض، فكما لا يحسن فيه إنزاله بنفسه، فكذلك لا يحسن منه أن يريد نزوله به.
وقال أبو هاشم: هو ملجأ إلى عدم إرادة ذلك، فلو فعل الإرادة احتمل حسنها لا متعلقها حسن وهي تابعة للمراد، واحتمل قبحها؛ لأنها إرادة للإضرار بالنفس.
وأما اشتراط أن لا يكون عبثاً فإنما ذكر للاحتراز به عن إرادتنا للمكروهات، وعن إرادة الباري تعالى لها، وللمباحات عند من لا يجوز عليه تعالى إرادة المباح.
قال الإمام عز الدين: أما إرادتنا للمكروهات فلا نسلم قبحها إذا كان لنا فيها غرض بل تكون حسنة؛ لأن حسن الإرادة يثبت إذا تعلقت بحسن مع غرض فيه، فإن لم يكن في المكروه غرض قبحت إرادته؛ لأنه عبث والعبث قبيح، وإرادة القبيح قبيحة وذلك هو وجه قبحها، ولقائل أن يقول: إذا تعلق بالمكروه غرض صحيح خرج عن الكراهة، وكلام الأصحاب إنما هو فيما بقي فيه وجه الكراهة فلا وجه لاعتراض الإمام عليه السلام .
وأما ما يقبح أن يراد فهو كل قبيح أو حسن صفته ما تقدم.
وإذا عرفت هذه المقدمة فاعلم أن الأفعال ضربان: أفعال الله تعالى، وأفعال غيره:
فأما أفعاله سبحانه وتعالى فاتفقت العدلية من أهل البيت" وغيرهم على أنه يريدها، بل رواه الإمام يحيى عن أهل القبلة كافة ما خلا إرادته تعالى وكراهته فإنه قد خالف في إرادتهما من أثبتهما معنى محدثاً فقالوا: لا يجب فيه أن يكون مراداً، والدليل على أنه تعالى مريد لأفعاله من وجوه:
أحدها: أنه قد اجتمع شرائط وجوب الإرادة المتقدمة فإنه فعل أفعاله وهو عالم بها؛ لأنه عالم لذاته ولم تفعل تبعاً لغيرها، بل هي مقصودة في نفسها، وله في فعلها غرض صحيح نحو كونها إحساناً ولطفاً، وتمكينا وبياناً، أو مستحقة، أو غير ذلك، ولا مانع من إرادتها؛ لأن الإرادة من جنس المقدورات وهو قادر لذاته فلا يجوز عليه المنع، فمع توفر هذه الشرائط فإنه لا بد وأن يريد فعله.
ثانيها: أنه قد ثبت أنه تعالى حكيم والحكيم لا يفعل ما لا يريد، وإلا كان فعله عبثاً.
ثالثها: أن أفعاله تعالى حكمة وهي لا تكون كذلك إلا بالإرداة التي تخصصها بوجه دون وجه، والمراد بقولنا بوجه دون وجه كون الفعل لطفاً، أو إحساناً، أو عقاباً أو نحو ذلك.
وأما كون إرادته تعالى وكراهته لا يحتاجان إلى إرادة عند من أثبتهما معنى محدثاً فلعدم استكمال الشرائط المتقدمة فيهما من حيث أنهما لا تكونان مقصودتين لذاتهما، وإنما هما تابعتان لغيرهما وهو الفعل المراد والمكروه، فما دعا إليه دعا إليهما على ما مر.
قال السيد مانكديم: ولأنه لا فائدة في إرادتهما، قال: ولسنا نمنع من صحة إرادتهما فإن ما يصح حدوثه يصح أن يراد ويكره وهما مما يصح حدوثه.
قال القرشي: وهذا الكلام في إرادته تعالى المتعلقة بأفعاله، فأما المتعلقة بفعل غيره فيجب أن يريدها؛ لأنها لا تفعل تبعاً لغيرها، بل لغرض يخصها.
قال في (المعراج): وهذا قول المتأخرين، والغرض الذي يخصها هو كونها مرغبة في فعل الواجب والمندوب، وباعثة عليهما، وأوجد الكراهة أيضاً لغرض يخصها وهو كونها زاجرة عن فعل القبيح وصارفة عنه، وكل ما فعل لغرض يخصه وكان الفاعل له عالماً به فإنه يجب أن يكون مراداً كما تقدم.
وقد حكي عن قاضي القضاة أنه تعالى يريد كراهته لفعل غيره، وأما قدماء المتكلمين فأطلقوا القول بأن الله تعالى لا يريد إرادته، ولا كراهته من غير فصل بين ما يتعلق بفعله، وما يتعلق بفعل غيره.
تنبيه [في أن أفعال الله حسنة]
ولا يكره الله سبحانه شيئاً من أفعاله؛ لأن القبيح لا يقع منه بل أفعاله كلها حسنة وكراهة الحسن قبيحة، وليس ممن يصح عليه الجهل بالقبيح حتى يقال يفعل الكراهة زجراً لنفسه، وتعريفاً لها بالقبيح كما يفعل الكراهة المتعلقة بفعل الغير وإن كان المعلوم أن ذلك لا يقع.
وهاهنا سؤال وهو أنه هل يريد كل جزء من أفعاله تعالى بإرادة مستقلة، أو يريد جملة أفعال بإرادة واحدة؟
والجواب: أن كل جزء مستقل بالغرض الذي فعل لأجله، كالجوهر واللون والطعم ونحوهما مما فيه غرض يخصه فإنه يراد بإرادة تخصه، وكل جزء لا يتم الغرض به إلا بانضمام غيره إليه فإنه يراد هو وجميع ما لا يتم الغرض إلا به بإرادة واحدة، وذلك كالخبر والأمر فإنه لا يكون كذلك إلا بمجموع حروف، فإرادة جميع تلك الحروف واحدة.
واعلم أن ما ذهب إليه القائلون بأن إرادته تعالى معنى محدث، وكذلك كراهته من أنهما لا يرادان فهو مبني على صحة ما ذهبوا إليه من المعنى المحدث، ونحن قد تكلمنا على إبطال ثبوت ذلك المعنى بما فيه كفاية، وإذا بطل ذلك الأصل بطل ما فرعوا عليه في هذا الموضع فلا يحتاج إلى النظر في كون إرادته تعالى وكراهته يحتاجان إلى إرادة أم لا، وثبت أنه لا فعل لله تعالى إلا وهو مراد.
وأما أفعال غيره فقد اختلف الناس فيما يريده الله وما يكرهه منها.
فقالت العدلية كافة: هو تعالى يريد من أفعال عباده الطاعات ما وقع منها وما لم يقع، سواء كانت واجبة أو مندوبة، عقلية أو شرعية، ويكره القبائح كذلك، واختلفوا في المباح، فقال أبو علي، وأبو هاشم: لا يريده الله ولا يكرهه، وهذا في المباحات الدنياوية، وبه قال السيد مانكديم، ورد القرشي اتفاق الشيوخ على أنه تعالى لا يريد المباح في الدنيا واختاره الإمام القاسم بن محمد.
وقال القاسم البلخي: بل يريده، واختاره صاحب (الغياصة).
وقالت المجبرة: بل الباري تعالى مريد لكل واقع من أفعاله تعالى، وأفعال غيره الحسن منها والقبيح.
والحجة على أنه تعالى مريد للطاعات وكاره للمقبحات أنه تعالى أمر بالطاعة وحث عليها، ونهى عن القبائح وزجر عنها، والحكيم لا يأمر بما لا يريد، ولا ينهى عما يريد، وأيضاً العبد يوصف بأنه مطيع لله بفعل الواجب والمندوب، فيجب أن يكون الله مريداً لطاعته؛ لأن المطيع هو من فعل ما أراده المطاع بدليل قوله تعالى: {مَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ حَمِيمٍ وَلاَ شَفِيعٍ يُطَاعُ}[غافر:18] أي لا يفعل ما أراده.
وروي أن النبي -صلى الله عليه وآله- ضرب بعقبه الأرض بين يدي عمه العباس فنبع الماء فقال له عمه: يابن أخي إن ربك ليطيعك، فقال النبي -صلى الله عليه وآله: ((وأنت يا عم، لو أطعت الله لأطاعك)).
فإن قيل: هل كان المطيع هو من فعل ما أمر به الغير؟
قيل: الأمر قد يرد والمراد به التهديد كقوله تعالى: {اعْمَلُوا مَا شِئْتُمْ}[فصلت:40] فلو كان المطيع من ذكرتم للزم في العصاة أن يكونوا مطيعين بفعلهم المعصية والمعلوم خلافه مع أن العبد قد يكون مطيعاً بفعل ما أراده السيد وإن لم يكن مأموراً.
والحجة على أنه تعالى لا يريد المباح ولا يكرهه أنه لا مزية لفعله على تركه ولو أراده لرجح فعله على تركه فيكون واجباً أو مندوباً، ولو كرهه لرجح تركه فيكون قبيحاً.
فإن قيل: لم قلتم إنه لو أراده لرجح فعله؟
قيل: لأن الله تعالى إنما يريد من أفعال عباده ما لفعله على تركه مزية لتكون تلك الإرادة لطفاً داعياً لنا إلى فعله، ولا وجه لإرادة ما لا مزية لفعله على تركه؛ لأنه إذا استوى فعله وتركه في عدم المزية لم يكن بأن يريده أولى من أن يكرهه.
احتج أبو القاسم ومن وافقه بوجوه:
أحدها: أن فعل المباح شاغل عن المعصية فيكون مأموراً به ومكلفاً به، ويوصف فاعله بأنه مطيع، ألا ترى أن من دعاه الشيطان إلى الزنا فجامع امرأته فإنه يكون مطيعاً بذلك، ويستحق المدح وهو مباح.
والجواب: أنا لا نسلم أن فعل المباح شاغل عن المعصية؛ لأنه ليس بنقيض لها والشاغل عن الشيء إنما هو نقيضه؛ لأنهما لا يجتمعان، ودليل عدم المناقضة بينهما أن بعض المباحات قد تجتمع مع المعاصي ولا تشغل منها، كالسكوت مثلاً فإنه يجتمع مع الزنا وشرب الخمر، وقتل النفس وغير ذلك، ثم إن فعله قد يكون تركاً لواجب فيلزم أن يكون منهياً عنه ومكلفاً به، ولا قائل بذلك، فما أدى إليه يجب أن يكون باطلاً.
وأما المثال الذي ذكره فإنما كان مطيعاً بترك الزنا وصرف نفسه عنه لابنفس مجامعة أهله.
الوجه الثاني: أن الله تعالى قد أمر به في قوله تعالى: {كُلُوا مِنَ الطَّيِّبَاتِ}[المؤمنون:51] ونحوها، والمعلوم أن الأمر في ذلك للإباحة، والحكيم لا يأمر بما لا يريد.
قلت: ولأن إرادته تعالى لفعل غيره هو أمره به عند أبي القاسم كما مر في الموضع الثاني، وقد أمر بالمباح كما ترى.
والجواب: أن متعلق الأمر والإرادة ليس طلب المباح، وإنما هو تعريفنا بأن هذا الشيء مباح، والإباحة حكم شرعي فيجب معرفتها كسائر الأحكام الشرعية؛ إذ لا يتميز بعضها من بعض حتى يمكن العمل بمقتضاها إلا بعد معرفتها فصح أن الأمر بالمباح لا يدل على أن فعله مراد، وإنما هو كالخبر عنه بأنه مباح، والخبر عنه لا يدل على إرادته.
الوجه الثالث: ما ورد في الحديث عنه ـ صلى الله عليه وآله ـ أنه قال: ((إن الله تعالى إذا أنعم على عبد أحب أن يرى أثر نعمته عليه)) وإنما يرى الأثر في الملبس ونحوه وهو مباح.
والجواب: أنه صار مراداً لنية إظهار نعمة الله فيصير مندوباً لا لمجرد التلذذ.
الوجه الرابع ذكره في (الغياصة) وهو: أن إرادة المباح أكمل في التفضل فما جاز لأجله إرادة إحداث الفعل جاز لأجله إرادة تناولهم، ثم أورد سؤالاً وهو أن الله تعالى قد رغبنا في ترك المباح وزهدنا في تناوله، فكيف يريده؟ وأجاب بأن الوجه الذي لأجله رغبنا في تركه غير الوجه الذي أراد منا تناوله لأجله، فوجه الترغيب في الترك التقرب إليه بترك زينة الدنيا، ووجه إرادة التناول كمال النعمة والتفضل.
والجواب أن المعتبر في الأكملية أن يكون المباح إحساناً إلى الغير، وإنعاماً عليه كما مر في {أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ}[الفاتحة:7] وفي جواب الشبهة الثانية من الثالثة عشر من مسائل قوله تعالى: {خَتَمَ اللَّهُ عَلَى قُلُوبِهِمْ}[البقرة:7]، وإنما اعتبر ذلك فيه لئلا يكون إيجاده قبيحاً، وقد ذكرنا في جواب الشبهة المذكورة أن إرادة الانتفاع لو كانت معتبرة للزم أن يثاب عليه، وأنه لا وجه لاشتراط ذلك إلا لو كان وقوع الانتفاع شرطاً في الإحسانية، والمعلوم أنه ليس بشرط فيها، فإن من مكن غيره من منفعة حسنة وقصد ذلك التمكين فقد أكمل في الإحسان، وأتم التفضل والامتنان، وكانت إرادة التناول لا حاجة إليها في ذلك ولا معنى لها فتكون عبثاً، ثم إن وقوع التناول فعل غير المحسن فهو أجنبي عن الإحسان بالمباح، فلا فرق حينئذ بين إرادته وإرادة طلوع الشمس، وأيضاً لو أراد ذلك لوجب أن يعلمنا به ليتم الغرض به.
فإن قيل: إذا كان الله تعالى خلق الأشياء لينتفع بها الأحياء فقد أراد الانتفاع بها وهو مباح، وذلك كاف في الإعلام.
قيل: إنه تعالى إنما أراد خلقها على وجه يصح أن ينتفع بها، وإرادة الانتفاع غير تلك الإرادة.
احتجت المجبرة بأنه لا فاعل سواه عندهم جل وعلا، وإذا كان هو الفاعل لكل واقع وجب أن يريد فعله، فلزم أن يكون مريداً لكل واقع من مباح، وطاعة، ومعصية.
والجواب: أن هذه الحجة مبنية على الجبر وقد مر إبطاله في مواضع، ثم إنا نقول: قد مر قريباً بيان الحجة على عدم إرادة المباح.
وأما الطاعات فلا إشكال في أنها مرادة لله تعالى لما مر من الدليل القاطع على ذلك.
وأما المعاصي فلا نسلم كونها مرادة لله تعالى، ولا يصح منه سبحانه أن يريدها ولا يشاء[ها]،، بل المعلوم أنه يكرهها ويسخطها، ولنا على ذلك حجج.
الحجة الأولى: إن إرادة القبيح قبيحة والله تعالى لا يفعل القبيح، أما أن إرادة القبيح قبيحة فلما نعلمه ضرورة من حسن ذم من علم من حاله من إرادة القبيح من الفساد في الأرض، وانتهاك حرم المسلمين، وظلمهم وغير ذلك، ولا وجه لقبحها إلا كونها إرادة للقبيح بدليل أنا متى علمناها كذلك علمنا قبحها، ومتى لا فلا كالظلم، فيجب فيما يشاركها في كونه إرادة للقبيح أن يكون قبيحاً؛ لأن إيجاب العلل لا تختلف باختلاف الفاعلين.
وأما أنه تعالى لا يفعل القبيح فقد مر الاستدلال عليه في السابعة من مسائل قوله تعالى: {الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ}[الفاتحة:2].
فإن قيل: هذا مبني على أن إرادة الله تعالى معنى محدث، ونحن لا نسلم ذلك.
قيل: لا نسلم أنه مبني على ذلك بل مبني على أنه لا يفعل القبيح وذلك أعم من أن تكون الإرادة معنى محدثاً أو نفس المراد سلمنا، فقد ذكرنا من الدليل على ذلك بما مثله يثبت المطلوب.
فإن قيل: يلزم على هذا أن تكون القدرة على القبيح قبيحة لأنها تؤثر فيه.
قيل: بل بينهما فرق وهو أن تأثير القدرة على سبيل الصحة، بخلاف تأثير الإرادة.
فإن قيل: أنتم تقولون: إن إرادة الحسن تنقسم إلى حسنة وقبيحة ولهذا قلتم: إن المستحق للعقاب يقبح منه أن يريد عقاب نفسه، فهلاّ قلتم في إرادة القبيح كذلك فتقبح منا، وتحسن من الباري تعالى؟
قيل: إنما انقسمت إرادة الحسن إلى ذلك؛ لأنها لا تحسن بكونها إرادة للحسن بل لذلك على شرط كما مر في أول الفصل بخلاف إرادة القبيح فإنها إنما قبحت لكونها تلك الإرادة كما مر فلم تتأت فيها القسمة.
فإن قيل: إذا كانت إرادة القبيح قبيحة كلها، فيجب في إرادة الحسن أن تكون حسنة كلها؛ لأنها في طرفي نقيض.
قيل: لا نسلم أنهما في طرفي نقيض وإنما هما خلافان لما علم من قبح الكذب على كل حال، وقبح تكليف ما لا يطاق كذلك، وخلافهما اللذين هما الصدق وتكليف ما يطاق لم يحسنا على كل حال، أما تكليف ما يطاق فظاهر، فإن تكليف الإنسان بنقل حجر يطيقها من موضع إلى آخر إذا لم يكن فيه نفع لأحد لايحسن بل يقبح، وأما الصدق فإنه إذا تضمن الدلالة على نبي ليقتل فإنه يقبح لا محالة.
الحجة الثانية: أنه لو كان مريداً للقبائح لكان حاصلاً على صفة نقص، فإن من علمنا من حاله في الشاهد أنه يريد من زوجاته وأولاده وعبيده الزنا، والسرق، وقطع السبيل فإنا نقطع بأنه حاصل على صفة النقص يذمه عليها كل عاقل، ولا وجه لذلك إلا كونه مريداً للقبائح فيجب في الباري تعالى مثله لثبوت العلة الجامعة.
فإن قيل: إنما كان الواحد منا كذلك؛ لأنه مريد بإرادة محدثة، بخلاف الباري تعالى فإنه مريد لذاته.
قيل: لا نسلم سلمنا فصفات النقص لا يفترق الحال فيها بين أن تكون ذاتية أو معنوية، دليله كونه جاهلاً فإنها من صفات النقص سواء كانت مستحقة للذات أم علة.
فإن قيل: إن الله تعالى إنما يريد القبائح أن تكون فاسدة لا على الحد الذي نريدها نحن.
قيل: هذا خلاف ظاهر عباراتكم، ثم إنه إذا كان مريداً لذاته أو لمعنى قديم، فلا مانع من أنه يريدها عليه نحن؛ لأن ذاته أو المعنى القديم مع المرادات على سواء، والمرادات غير مقصورة على بعض المريدين دون بعض.
قال السيد مانكديم: على أن الإرادة لا تتعلق بقبح القبيح وفساد الفاسد، ولهذا لا يختلف الحال في قبحه وفساده بالإرادة وعدمها، ومراده -رحمه الله- أن القبح أمر ذاتي للفعل ولا أثر للإرادة في كونه قبيحاً، وإنما أثرها في إحداث الفعل المتصف به بأن يريد حدوثه.
الحجة الثالثة: أنه لو أرادها لكان مختاراً لها؛ لأن الاختيار هو الإرادة، لا يقال الاختيار لا يكون إلا في أفعاله؛ لأنا نقول: الكل عندكم فعله.
الحجة الرابعة: أنه لو أرادها لكان محباً لها وراضياً بوقوعها؛ لأن معنى هذه الألفاظ واحد كما في {غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ}[الفاتحة:7].
الحجة الخامسة: غاية ما تعلم به كراهة الشيء النهي عنه، والباري تعالى قد نهى عن القبائح، وأكد ذلك بالزجر البالغ، والوعيد بالعذاب الشديد، وأمر بخلافها ووعد عليه بالثواب العظيم، فلو أرادها لم يكن منه شيء من ذلك كله لقبح النهي عن المراد، ألا ترى أن العاقل في الشاهد لو فعل ذلك لسخر منه واستهزئ به، ولا وجه لذلك إلا كونه نهي عما يحبه ويريده، فإذا لم يجز ذلك منا فهو بعدم الجواز من أحكم الحاكمين وأعدل العادلين أولى، مع أنه لو نهى عنها مع كونه مريداً لوقوعها لكان حاصلاً على صفتين متضادتين؛ لأن النهي يدل على الكراهة ولا يصير نهياً إلا بها، والإرادة لوقوعها تنافي ذلك وتضادده.
الحجة السادسة: أنه لو أرادها لوجب أن يكون العبد مطيعاً لله بفعلها لما مر من أن المطيع من فعل ما يريده المطاع.
الحجة السابعة: إذا كان الله مريداً للقبائح وكان الشيطان مريداً لها أيضاً والأنبياء" لا يريدون من العباد إلا الطاعات فقط ويكرهون المعاصي كلها، فقد تطابقت إرادة الله تعالى وإرادة الشيطان، وكانت إرادة الأنبياء" مخالفة لإرادة الله وصاروا موصوفين بأنهم يكرهون ما أراد الله تعالى وقوعه، فيلزم أن يكونوا عاصين لله تعالى غير مطيعين له بمخالفتهم لله تعالى في الإرادة وكراهتهم ما أراده، والمعلوم خلاف ذلك.
الحجة الثامنة: ما في القرآن الكريم من نفي إرادة الظلم ونحوه عن نفسه وكراهة السيئات والقبائح، وسيأتي ذلك كله والكلام عليه مفصلاً إن شاء الله.
الحجة التاسعة: ما دلت عليه السنة الشريفة، والآثار الصحيحة عن السلف والصحابة فمن بعدهم من كراهة الله تعالى للمعاصي وعدم محبته لها ولمرتكبها، وسيأتي في أثناء الكتاب كثير من ذلك إن شاء الله.
[شبهات المجبرة حول نسبة المعاصي]
والعجب من هؤلاء المجبرة كيف يتجاسرون على أن ينسبوا إلى الله عز وجل ما لو نسب إلى أحدهم أو إلى أحد من قراباتهم ورؤسائهم لتبرموا وتجرموا، وبرأوا أنفسهم منه بغاية ما يمكنهم من البراءة، وقد تعلقوا على مذهبهم الفاسد بشبه عقلية وسمعية، ونحن نذكرها ثم نجيب عنها بعون الله تعالى وحسن لطفه وتوفيقه فنقول:
الشبهة الأولى [في القبح]
أن القبيح لا يتصور في حق الله تعالى؛ لأنه إنما يقبح لكون فاعله منهياً عنه أو مملوكاً، والباري تعالى لا يصح عليه شيء من ذلك.
والجواب أنا لا نسلم أن وجه القبح ما ذكرتم، وقد استوفينا الكلام على ذلك في السابعة من مسائل الحمد لله.
الشبهة الثانية [الإرادة]
أنه لو وقع في ملكه ما لا يريد أو لم يقع ما أراده لدل على عجزه كما في الشاهد، فإن الملك إذا وقع من رعيته ما يكرهه أو لم يقع ما يريده فإنه يدل على عجزه.
والجواب من وجوه:
أحدها: أن هذا القياس لا يصح على أصلكم؛ لأنكم تمنعون قياس الغائب على الشاهد كما مر في السابعة من مسائل الحمد لله.
ثانيها: أن الذي يدل على العجز إنما هو ما أراده من فعل نفسه، أو من فعل غيره على طريق الحتم والإكراه ثم لم يقع، وأما ما أراده من فعل غيره على جهة الاختيار من العبد فلا نسلم أن عدم وقوعه يدل على عجزه من إيجاد وقوعه، وتحقيق ذلك أن ما يريده الله لا يخلو إما أن يكون من فعل نفسه، أو من فعل غيره، إن كان الأول فلا شك أن عدم وقوعه دليل على العجز والضعف؛ لأن من حق القادر على الشيء إذا خلص داعيه إليه أن يقع لا محالة، وإلا خرج عن كونه قادراً عليه، وإن كان الثاني فإما أن يريده على طريق الإكراه والحمل على وقوعه، أو على طريق اختيار فاعله، إن كان الأول فعدم وقوعه دليل على عجزه عن السبب الذي يتوصل به إلى الإكراه والحمل على الفعل، وإن كان الثاني فلا؛ لأن المرجع بالعجز إلى زوال القدرة، وليس عدم وقوع الفعل من الفاعل المختار يدل على عجز من يريد منه ذلك، بل ولا يدل على عجز الفاعل نفسه مع عدم خلوص الداعي، وهكذا يقال فيما قالوه في الملك إذا لم يكن له في فعل رعيته نفع ولا عليه من تركه ضرر كأن يريد منهم طاعة الله ليفوزوا بثوابه ويسلموا من عقابه، وهذا حال الباري تعالى في إرادته لوقوع الطاعة من عباده فإنه لا نفع ولا ضرر عائد عليه، وإنما ذلك عائد إليهم فقط، ولذلك نظائر فإن النبي صلى الله عليه وآله وسلم يريد إيمان الكفار وطاعتهم، ولا يدل عدم إيمانهم على عجزه، وكذلك المسلمون إذا أرادوا من اليهود دخولهم في الإسلام وترك المضي إلى الكنائس باختيارهم ثم لم يقع شيء من ذلك فإنه لا يدل على عجزهم.
ثالثها: أنه قياس مع وجود الفارق فإن عدم وقوع ما يريده الملك إنما يدل على عجزه؛ لأن له فيه نفعاً من حيث أنه يتقوى به بخلاف الباري تعالى لاستحالة المنافع والمضار عليه.
رابعها: أنه لا قياس إلا بعلة جامعة وهي مفقودة هنا، وما ذكره ليس بعلة، وبيان ذلك أن الأمر عندنا لا يكون إلا بما يريد الآمر، ونحن متفقون نحن وأنتم على أن الله تعالى قد أمرنا بالطاعة ثم لم يقع مراده، والمعلوم عندنا وعندكم أن ذلك لا يدل على عجزه وضعفه، وهذا بخلاف الملك فإنه لو أمر جنده بأمر لم يقع ما أمر به لكان أدخل في الدلالة على عجزه من أن يريد منهم ذلك الأمر ثم لم يقع، فصح أن عدم وقوع المراد ليس دليلاً على العجز، ولا علة له وإلا لكانت مطردة.
فإن قيل: إنما لم يدل عدم وقوع المأمور به على العجز في حق الباري تعالى؛ لأنه قد يأمر بما لا يريد بخلاف الواحد منا فإنه لا يأمر إلا بما يريد، فلهذا دل ذلك على العجز إن لم يقع ما أمر به وأنتم إنما أبطلتم هذا القياس؛ لأنكم بنيتم على غير أساس وهو اعتقادكم الفاسد أن الله تعالى لا يأمر إلا بما يريد، وقد أوضحنا لكم الفرق بين الموضعين.
قيل: هذا فرق من غير فارق، وقول عن منهج الحق مارق، بل الصحيح الواضح بالدليل الصريح أن الله تعالى لا يأمر إلا بما يريد، وقد مر في الموضع الأول أنه لا دليل على كونه تعالى مريداً إلا وقوع أفعاله على الوجوه المختلفة، ومن ذلك صيغة افعل فإنها تكون أمراً وتهديداً، ولا فرق بينهما إلا من حيث الإرادة والكراهة، ومثاله أن يقول الرجل لغلامه: ناولني الثوب، وكان بين يديه إناء يخاف أن يكسره فيقول: واكسر الإناء، فإنا نعلم أن الصيغة أمر، والثانية تهديد، ولا فرق بينهما إلا أنه مريد لما تعلقت به الأولى من مناولة الثوب، وكاره لما تعلقت به الثانية،ولولا الإرادة لم يكن بين قوله تعالى : {أَقِيمُوا الصَّلاَةَ}[الأنعام:72] وقوله: {وَإِذَا حَلَلْتُمْ فَاصْطَادُوا}[المائدة:2] وقوله: {وَاسْتَفْزِزْ مَنِ اسْتَطَعْتَ مِنْهُمْ بِصَوْتِكَ..} الآية[الإسراء:64]،فرق لاتحاد الصيغة، والمعلوم أنها في الأول أمر، وفي الثاني إباحة، وفي الثالث تهديد، وليس الوجه في ذلك إلا كونه مريداً لبعض، وكارهاً لبعض، ومبيحاً لبعض.
قالوا: قد أمر الله تعالى بما لا يريد كما في أمر إبراهيم بذبح ولده ثم نهاه عنه، ولو أراده لم ينهه.
قلنا: لا تعلق لكم بالظاهر؛ لأن ظاهره إنما يقتضي أنه رأى في المنام أنه يذبحه، فمن أين أن ذلك أمر من الله تعالى، فإذا بطل التعلق بالظاهر ورجع إلى التأويل فلستم بأولى منا فنقول: أراد بالذبح مقدماته من الإضجاع ونحوه، وصح ذلك لقرب المقدمات من الذبح كما يقال في مقدمات الموت من المرض الخوف إنه موت قال تعالى: {كُتِبَ عَلَيْكُمْ إِذَا حَضَرَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ إِنْ تَرَكَ خَيْراً الْوَصِيَّةُ}[البقرة:180] والمعلوم أن الوصية لا تقع منه مع وقوع الموت وحضوره، ويدل على صحة هذا التأويل قوله بعد: {قَدْ صَدَّقْتَ الرُّؤْيَا}[الصافات:105] إذ لو كان المراد الذبح الحقيقي لم يصح أن يقال: {قَدْ صَدَّقْتَ الرُّؤْيَا}[الصافات:105] فإذا ثبت ذلك صح أن إبراهيم قد فعل ما أمر به وأريد منه.
قالوا: لو كان الأمر كما ذكرتم لم يكن امتحاناً.
قلنا: يجوز أن يكون عليه السلام لما أمر بذلك ظن أنه يؤمر بالذبح، فكان امتحاناً من هذه الجهة.
قالوا: لو كان كذلك لم يكن للفداء من إضجاع قد وقع معنى.
قلنا: ليس بفداء حقيقة، وإنما سمي بذلك لظن إبراهيم عليه السلام أنه سيؤمر بالذبح هكذا قيل.
وفي الآية أبحاث طويلة سنستوفيها في محلها إن شاء الله تعالى.
قالوا: أمر الله تعالى رسوله -صلى الله عليه وآله- ليلة المعراج بخمسين صلاة ثم ردها إلى خمس، فلو كان مريداً لها لما ردها إلى ذلك.
قلنا: هذا الحديث بالنظر إلى ظاهره لا يجوز الاعتماد عليه لما فيه من النسخ قبل إمكان العمل وهو لا يجوز؛ إذ هو دليل الجهل والبداء فلم يبق إلا رده، أو تأويله على وجه يصح وهو أن نقول: هو أمر مشروط بأن لا يراجع في ذلك، ولا مانع من تعلق المصلحة به إن لم يراجع فإن راجع تعلقت المصلحة برد الأمر إلى الخمس، ومثل ذلك صحيح ولولا هو لما حسن الدعاء.
قالوا: قد يوجد في الشاهد أن الحكيم يأمر بما لا يريد، كلو شكا رجل إلى السلطان معصية غلامه فأحضره عند الملك وأمره بأمر ليصدق شكواه، فإن المعلوم أنه لا يريد ما تناولته الصيغة؛ لأنه يعود على غرضه بالنقض.
قلنا: مثل هذا ليس أمراً حقيقة لعدم الإرادة.
وبعد فإن قولكم هذا لا يتأتى إلا على مذهبكم الفاسد وهو أنه لا يقبح من الله قبيح؛ لأن عندكم أنه وإن كان أمره بما لا يريد يصير عبثاً فهو لا يقبح من الله جل جلاله.
وأما على مذهب أهل العدل الذي قام دليله، واستنار سبيله، فلا يصح ذلك لما مر من أن الفاعل لما لا يريد يكون سفيهاً عابثاً إذا كان فعله مقصوداً لذاته، ولا ريب أن أمر الباري المتوجه إلى عبيده لا يكون إلا مراداً مقصوداً لذاته، وإلا لما وجب امتثاله وكان كأمر الساهي والنائم لعبيده -تعالى الله عن ذلك علواً كبيراً، ثم إنا نقول: ألستم تقولون: إن الأمر يدل على الطلب، والطلب عندكم غير الإرادة، وتقولون إن ذلك الطلب قائم بذات الباري، فنحن نلزمكم في هذا الطلب الذي لا يجوز أن يتعرى الآمر منه بمثل ما قلتم في الإرادة من جواز تعري الأمر منها؛ لأن الحال فيهما واحد.
الشبهة الثالثة [فعل القبائح]
إن الله تعالى فاعل للقبائح وخالق لها، فيجب أن يكون مريداً لها؛ لأن العالم بما يفعله لا بد من أن يريده، دليله الشاهد.
والجواب من وجوه:
أحدها:أَن شبهتكم هذه متناقضة، فإنكم بنيتم أولها على أنه فاعل القبائح، ثم نقضتم ذلك بإثبات فعلها للشاهد وأقستم الغائب عليه، وهذه مناقضة ظاهرة لا يصح الاستناد إلى هذه الشبهة معها.
الثاني: أنا لا نسلم أنه فاعل القبائح وحاشاه من ذلك، بل ولا فاعل لغيرها من أفعال خلقه، وقد أبطلنا دعواكم هذه في مواضع من كتابنا هذا.
الثالث: أنا نطالبكم ببيان العلة الجامعة بين الشاهد والغائب في هذا القياس.
فإن قلتم: هي كون العالم بفعله لا بد من أن يريده؛ إذ لا علة لوجوب إرادة الواحد منا لفعله إلا كونه عالماً به وهذه العلة موجودة في الغائب.
قلنا: لا نسلم أن العلة ما ذكرتم وإلا لوجب اطرادها، وقد مر أن الواحد منا يفعل الإرادة والكراهة، ولا يجب أن يريدهما وإن علمهما، سلمنا فلا نسلم أن القبائح فعله.
فإن قيل: لو ثبت أنه غير فاعل لها فقد ثبت أنه عالم بها وقادر على المنع منها، وذلك يدل على أنه مريد لها وإلا لمنع منها.
قيل: قد منع أشد المنع بالنهي والزجر، والوعيد الشديد، ولا يصح منه المنع بغير ذلك من القسر والإلجاء لئلا يبطل التكليف.
الشبهة الرابعة [الإكراه]
أنه لو كان كارهاً للمعاصي لكان فاعلها مكرهاً له كما أن من فعل الطاعات يكون مرضياً له.
والجواب أن المكره في اللغة هو الملجأ إلى الشيء ولم يلجؤوه إلى شيء فيقال: أكرهوه بخلاف المرضي.
الشبهة الخامسة [العلم السابق]
أن الله تعالى أمر بمجاهدة الكفار، وأراد المجاهدة لهم ولم يتم جهادهم إلا بكفرهم فوجب أن يراد؛ لأن ما لم يتم المراد إلا به فهو مراد.
والجواب: لا نسلم أنه يجب فيمن أراد فعلاً أن يريد ما عنده يحصل بدليل أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم إذا أمر الزاني بالغسل من الجنابة، والتوبة من الزنا، وأمر بإقامة الحد عليه ونحو ذلك مما يترتب حصوله على وقوع الزنا لا يوصف بأنه مريد للزنا.
جواب آخر: وهو أن إرادته تعالى لجهاد الكفار إرادة مشروطة بوقوع الكفر.
الشبهة السادسة [الأمر هل يقتضي القضاء]
أنه أمر بجهاد الكفار وهو لا يتم إلا بأن يقاتلونا فاقتضى ذلك أنه يريد قتالهم إيانا وهو معصية، وندبنا إلى الشهادة وهي لا تتم إلا بفعل الظالم فاقتضى إرادته.
والجواب أنه أراد منا الجهاد، وطلب الشهادة ولم يرد منهم ذلك، بل هو كاره لقتالهم إيانا؛ لأنه إنما أمر بجهادهم لكفرهم لا ليقاتلونا.
الشبهة السابعة [خلق إبليس]
أنه خلق إبليس وأنظره مع علمه بأنه يدعو إلى المعاصي فدل على أنه يريدها.
والجواب أن نهيه عن الإغواء دليل على كراهتها، وحسن خلقه وإنظاره لأمر آخر قد ذكرناه في الاستعاذة.
الشبهة الثامنة [كراهة الله للمعاصي]
أنه تعالى لو كره المعاصي ولم يردها لصح أن يقال: إنها وقعت سواء شاءها الله أم أباها، وسواء سخطها أم رضيها، ومن يرتكب هذا فهو كافر.
والجواب: أن الإباء للشيء يكون بمعنى الكراهة له مع المنع منه، يقال: أبى الظلم أي كرهه ومنع منه، وبمعنى الكراهة فقط، فإن أراد هذا القائل المعنى الأول وهو أنها تقع ولو كرهها الله تعالى ومنع منها على جهة القسر والحمل على تركها، فلا شك في كفره؛ لأنه كما لو قال إن الله تعالى لا يقدر على المنع منها بالقسر لو أراده، وذلك باطل في حقه تعالى؛ لأنه قادر على هذا المنع لولا حكمة التكليف، وإن أراد الثاني وهو أنها وقعت وهو كاره لفعلها فلا محذور في ذلك، ولا يكفر من أراده، بل هو حقيقة الإيمان والقول بالعدل.
الشبهة التاسعة [هل يقبح من الله ما يقبح من غيره؟]
إن الذي يعولون عليه في هذا الباب أنه يقبح من الله ما يقبح من غيره، وهذا باطل بدليل أن إبليس يريد موت الأنبياء ويقبح منه، والباري تعالى يريد موتهم ولا يقبح منه، فهلا جاز أن يقال إن الله تعالى يريد المعاصي ولا يقبح منه؟
والجواب: أنه قد ثبت أنه يقبح من الباري تعالى ما يقبح من غيره، وقد مر الكلام على ذلك في الفاتحة.
وأما الصورة المذكورة فإنما قبح ذلك من إبليس -لعنه الله- ولم يقبح من الباري لاختلاف الوجه في الإرادتين؛ وذلك أن الله تعالى إنما أراد موتهم لما علمه من المصلحة، ولإرادة الخير لهم بوصول دار الكرامة، والخروج من دار الذل والإهانة، وأراد إبليس ذلك لما في موتهم من ضعف الدين والخلل على المسلمين، وهذا من أقوى الأدلة على إثبات الحسن والقبح العقلي، ألا ترى كيف اختلف الفعل الواحد حسناً وقبحاً لما اختلف وجهه.
الشبهة العاشرة [الاخبار هل يدل على الرضاء؟]
أنه تعالى إذا أخبر أن فلاناً يقتل ظلماً فلا بد من أن يريد قتله ظلماً، وإلا كان مريداً لأن يكون كاذباً تعالى الله عن ذلك.
والجواب: لا نسلم أن ذلك يوجب إرادة قتله بدليل أن النبي -صلى الله عليه وآله- أخبر بقتل الحسين وهو كاره له ضرورة حتى روي أنه كان يبكي لذلك.
وقوله: وإلا كان مريداً لكونه كاذباً.
قلنا: إنما يلزم ذلك لو أراد الإخبار عن وقوع ما يعلم أنه لا يقع، وأما على ما وصفتم فلا، ولهذا يصح منه كراهة قتله ظلماً، ولو كان مريداً لقتله لكان قد حصل على صفتين متضاددتين.
الشبهة الحادية عشرة [المشيئة]
قالوا: لو لم يكن مريداً إلا للطاعات لوجب فيمن حلف ليأتين ببعض الطاعات وعلق قسمه بمشيئة الله أن يحنث إن لم يأت بتلك الطاعة؛ لأن الله تعالى يشاء الطاعات ولا يشاء منه غيرها، والإجماع على خلافه، فدل على أنه يشاء الواقعات أجمع معصية وطاعة؛ لأن المعنى إن شاء الله مني ذلك لا أن شاء الله مني غيره من أفعالي.
والجواب من وجهين:
أحدهما: ذكره أبو علي، وأبو هاشم وهو أن هذا الكلام لا يراد به حقيقة الشرط، وإنما يورد لقطع الكلام عن النفوذ، وللدلالة على أنه شاك غير قاطع بوقوع ما حلف عليه كما يقتضيه العرف فلا يحنث.
والثاني:أنه وإن أريد به حقيقة الشرط فإن غرض قائله أفعل إن وفقني الله تعالى لذلك وسهل السبيل إليه، فإذا لم يحصل دل على أنه لم يوفق لذلك؛ لأنه لم يكن له في المعلوم لطف يختار عنده الملطوف فيه لا محالة، ولهذا لم يحنث، وهذا اختيار أبي عبد الله البصري.
قيل: الأول أصح لظهوره عرفاً، ولأن قول أبي عبد الله لا يثبت إلا في الواجبات والمندوبات دون المباحات لعدم اللطف فيها؛ إذ لا تتعلق بها مشيئة لله تعالى والقسم المعلق بالمشيئة قد يدخل المباحات، لكنه يرد على أبي علي سؤال وهو أنه لو قصد به حقيقة الشرط فإما أن يقول إنه يحنث،وفيه خرق للإجماع أو لا فلا وجه له مع انتفاء العرف الذي لأجله منع الحنث،وجوابه أن دعوى الإجماع غير صحيحة فإن عامة الزيدية على خلافه،ولذا قالوا فيمن قال لامرأته: أنت طالق إن شاء الله: إنه ينظر فإن كان ممسكاً لها بالمعروف لم يقع الطلاق؛ لأن الطلاق يكون حينئذٍ مباحاً والله لا يريد المباح وإلا وقع؛ لأن الطلاق حينئذ يكون مراداً لله تعالى لما في الإمساك من الضرار، وهكذا قالوا في العتق المعلق بالمشيئة، فإن كان العبد صالحاً عتق؛ لأن عتقه يكون مراداً لله تعالى لما فيه من القربة وإلا فلا؛ لأنه يكون مباحاً.
الشبهة الثانية عشرة [إباحة القبح عند الإكراه]
قالوا: كما أراد القبيح وأباحه عند الإكراه كالنطق بكلمة الكفر فلتحسن منه إرادته لا منا.
والجواب: أما عند أبي علي، وأبي هاشم فلا يحسن ذلك إلا تعريضاً، والقائل بحسنه وإباحته أبو الهذيل، واستبعده المشائخ إلا أن يكون المكره كالملجأ فيكون الفعل للذي أكرهه لا له، ولذا لا يذم عليه، وسئل أبو علي، وأبو هاشم عمن لم يخطر بباله التعريض فقالا بمنعه، ولا بد أن يخطر الله بباله الحث على التعريض ويمكن منه.
وقال القاضي فيما رواه عنه أبو رشيد: إذا قال أبو الهذيل بحسن إباحة القبيح من الله تعالى عند الإكراه، فهلا قال يجوز أن يحسن فعل القبيح من الله تعالى فأجاب بأنه يجوز أن يحسن عند الإكراه ما لا يحسن عند الاختيار.
قلت: وقد مر في السابعة من مسائل الحمد لله ما يؤخذ منه معرفة كون القبيح يخرج عن القبح بالإكراه ونحوه أم لا.
الشبهة الثالثة عشرة [فيما شاء الله]
إجماع الأمة على قولهم ما شاء الله كان وما لم يشأ لم يكن، وذلك يدل على أن كل واقع في العالم فهو بمشيئة الله تعالى.
والجواب من وجوه:
أحدها: أن الإجماع غير صحيح، قال السيد مانكديم: لأنا نخالف فيه وإنما هو من إطلاقات المجبرة.
الثاني: أن دلالة الإجماع سمعية لاستناده إلى الكتاب والسنة، ولا يصح لكم الاستدلال بالسمع حتى تثبتوا عدل الله وأنه لا يريد القبيح.
الثالث: أنه أحادي والمسألة قطعية.
الرابع: أن المراد من الإجماع غير معلوم ضرورة، فلا بد من تأويله بمتشابهات الكتاب والسنة، ولستم بأولى منا بالتأويل فنتأوله على ما يوافق دلالة العقل والسمع،وهما قد دلا على أن الله تعالى لا يريد القبائح، وأنه لا يجب وقوعه مما يشاءه إلا فعل نفسه كما مر فيجب تأويل هذا الكلام على الوجه الذي يمكن حمله عليه وهو أن ما يشاؤه من فعل نفسه كان وما لم يشأه لم يكن.
فإن قيل: لِمَ أخرجتم الطاعات من هذه المشيئة وأنتم تقولون إنه يشاؤها؟
قيل: إنما أخرجناها؛ لأن الكلام يقتضي أنه لا بد من كون ما شاءه ولم نجد ما يجب كونه عند المشيئة لا محالة إلا أفعال نفسه، وأما الطاعات فحصولها متوقف على اختيار المطيع كما مر.
فإن قيل: الظاهر من هذا التركيب العموم، وأنه لا يقع إلا ما يشاء، ولا مخصص لبعض ما يدخل تحت المشيئة دون بعض، فإن قلتم: المخصص العقل، قلنا: التخصيص به ممنوع أو غيره فدلوا عليه بدليل لا يحتمل التأويل.
قيل: المخصص العقل والسمع، وقد مر الدليل على جواز التخصيص بالعقل في الثالثة من مسائل قوله تعالى: {انَ اللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِير}[البقرة:20].
وأما السمع فنحو قوله: {وَمَا اللَّهُ يُرِيدُ ظُلْماً لِلْعِبَادِ}[غافر:31] نص في أنه لا يشاءُ بعض الكائنات، وهذا معنى التخصيص، وما أحسن ما قاله السيد محمد بن إبراهيم الوزير في هذا، وحاصله أنه لا دليل للخصم في ذلك إلا لو تبين بدليل آخر أن الله تعالى يشاء أن يكون العباد مجبورين على أفعالهم، لكنه قد ثبت أنه شاء أن يكونوا مختارين فيها بمشيئتهم لها لقوله تعالى: {وَمَا تَشَاءُونَ إِلاَّ أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ}[الإنسان:30] ولم يقل: وما تشاءون من غير استثناء كما قال الجبرية فقد كان الاختيار الذي شاء الله أن يكون العباد عليه، ولكن بعد مشيئة الله لذلك ولم يكن الجبر الذي لم يشأه الله.
الوجه الخامس: أنا نعارضهم بأمرين أحدهما إجماع المسلمين على قولهم لا مرد لأمر الله ثم لم يمنع ذلك من كون العصاة رادين لأمر الله بتركهم الطاعة وارتكابهم المعصية.
فإن قالوا: المراد بهذا الأمر لما يريده الله من فعل نفسه.
قلنا: فارضوا منا بمثله فيما شاء الله كان.
الثاني: قول الأمة: استغفر الله من جميع ما كره الله، فإنه يدل على أنه يكره المعاصي؛ لأنها التي وقع منها الاستغفار، وعلى مذهب الخصم يلزم أن يقال: استغفر الله عما يريده الله لا عن قولهم عن جميع ما يكرهه الله.
الشبهة الرابعة عشرة [الإضلال المذكور في القرآن]
ما اشتمل عليه القرآن من الآيات الظاهرة في إرادته تعالى للقبائح كآيات المشيئة ونحو ما في الآية التي نحن بصددها من قوله: {يُضِلُّ بِهِ كَثِيراً}[البقرة:26] فإنه جواب عن الاستفهام في قوله: {مَاذَا أَرَادَ اللَّهُ بِهَذَا مَثَلاً}[البقرة:26] فكأنه قال: أراد أن يضل به كثيراً.
والجواب: أما آيات المشيئة فسيأتي الكلام عليها في مواضعها، وأما قوله: {يُضِلُّ بِهِ كَثِيراً} فسيأتي الكلام عليه في المسألة التي بعد هذه.
الشبهة الخامسة عشرة [الأحاديث]
قالوا: روي عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم : ((لو شاء الله أن لا يعصى لما خلق إبليس)).
والجواب: أنا نطالبكم بتصحيح الحديث، ثم إن صح فأحادي، والمسألة قطعية، ثم إن ذلك لا يتم على أصلكم؛ إذ لا تأثير لإبليس عندكم؛ لأن الفعل لله تعالى بزعمكم لحصوله بالقدرة.
وبعد فهو معارض بأحاديث كثيرة نحو ((إن الله كره لكم قيل وقال....))الخبر وحديث: ((إن الله كره لكم العبث في الصلاة)) وغير ذلك مما يتواتر معنى، وما كرهه الله لا يكون مريداً له على أن التأويل ممكن، وهو أن الله تعالى لو شاء المنع من المعصية بسلب القدرة عليها والاختيار لما خلق لما خلق إبليس؛ لأنه يعود على غرضه بالنقض، لكنه أراد التمكين من الطاعة والمعصية ليحصل ما أراده من التكليف. والله أعلم.
تنبيه
ما تقدم من أنه تعالى يريد الطاعات ويكره المقبحات يدل على أنه لا يريد المكروه كراهة تنزيه ولا يكرهه وهو كذلك، وفي حكمه الفعل اليسير والصادر عن غير المكلف، سواء كان الصادر عنه قبيحاً كالواقع من الساهي والنائم والبهائم فإنها وإن لم تقبح منهم فإنها قبيحة في نفسها عند من لا يعتبر القصد والعلم كما مر في الاستعاذة، والقول بأن الله تعالى لا يريد هذه الأنواع متفق عليه بين الشيوخ؛ لأنه لا غرض له سبحانه في إرادتها؛ إذ الغرض له جل وعز في إرادة فعل غيره ترجيح وجوده على عدمه والبعث عليه، وهذا مبني على التكليف بفعله، وهذه الأنواع قبيحة وما لم يكن حسناً فالكراهة لا يوجدها تعالى إلا للزجر عن الفعل ولا مدخل لذلك هنا، وهذه الدلالة بعينها تدل على أنه لا يكره المباح ولا يريده، وقد تقدم نحو ما هنا في عدم إرادة المباح وكراهته.
فإن قيل: إذا لم يكره المكروه فلم سمي مكروهاً؟
قيل: إنما سمي بذلك تجوزاً؛ إذ النهي عنه ليس حقيقياً؛ إذ لم يقترن بوعيد ولا غيره مما يقتضي قبحه، فكان سبب تسميته مشابهته للقبيح من وجه وهو استحقاق الثواب بتركه.
الفصل الثاني في الخلاف في إرادته تعالى لنعيم أهل الجنة
ذهب أبو علي إلى أنه لا يجوز من الله تعالى أن يريد أكلهم وسائر ما يتلذذون به من النعيم؛ لأنه مباح وقد تقدم أنه لا يريد المباح.
وقال أبو هاشم: بل يجوز ذلك، واختاره الإمام القاسم بن محمد، والدواري في (الغياصة).
قال الإمام المهدي: وهو الأقرب؛ إذ فيه كمال النعمة لهم إذا علموا أنه يريده، كما أن الضيف إذا علم أن المضيف يريد منه الأكل فإنه يكون ألذ وأهنأ، ولاتفاق العقلاء على أن السخي إذا وفر العطاء فإنه يريد أن المعطى يقبل منه ما أعطاه، والله عز وجل أولى بذلك لكرمه وغناه، ويدل عليه سمعاً قوله تعالى: {كُلُوا وَاشْرَبُوا هَنِيئاً}[الطور:19] وظاهر الأمر يقتضي إرادته إلا لدليل وإن لم يقتض كونه واجباً ولا مندوباً لسقوط التكليف، لكن لفعله على تركه مزية وهو كونه ثواباً يستحق على أبلغ الوجوه.
فإن قيل: هلا جاز إرادة أكل أهل الدنيا ونحوه ليكون أكمل في الإحسان ويكون تفضلاً؟
قيل: قد مر الجواب عن هذا في الفصل الأول، وأما قولهم: إنه يكون تفضلاً، فالتفضل غير واجب على الله تعالى فلا يكون إلى العلم بتلك الإرادة طريق، فيكون عبثاً بخلاف نعيم أهل الجنة لوجوبه.
قلت: لقائل أن يقول: الطريق إلى العلم بذلك في المباح موجودة، وهي ما تقدم من الدليل العقلي، ولورود الأمر بالأكل ونحوه كما مر، واستدل له السيد أحمد الشرفي بحديث: ((إن الله يحب أن تؤتى رخصه...))الخبر، وقد مر تخريجه في الرابعة من مسائل قوله تعالى: {يُخَادِعُونَ اللَّهَ}[البقرة:9] ثم أورد سؤالاً وهو: إنكم قد قلتم: إن الإرادة في حق الله تعالى المراد وعلمه باشتمال الفعل على المصلحة فما هي في المباح ونعيم أهل الجنة؟ وأجاب بأنها الأمر بالمباح والإخبار به، وبيان حكمه، ونعيم أهل الجنة مع نصب قرينة ترجح الفعل على الترك، أو علمه باشتمال ذلك الفعل على المصلحة.
نعم ولقائل أن يقول: إذا كان الثواب مستحقاً على أبلغ الوجوه وقد قلتم: إنه يجوز إرادة التذاذ أهل الجنة فإنه يجب القطع بوقوع تلك الإرادة؛ لأن أبلغ الاستحقاق لا يحصل من دونها ولا مانع منها.
قلت: أما قاضي القضاة فقد حكى عنه الحاكم وجوبها لذلك، ويوضحه أن تعظيمهم يظهر بهذه الإرادة، ولأنه لما وفر دواعيهم ومنع صوارفهم صار ملجئاً لهم إلى الانتفاع، والملجئ إلى فعل لا بد أن يريده.
وقال الإمام المهدي: الأقرب عدم الوجوب، وإنما الواجب خلق الشهوة والمشتهى، والتمكين منه على وجه التعظيم، ولا دليل على وجوب أكثر من ذلك، ولا نسلم أن الإلجاء يوجب الإرادة، بل يجوز أن تتعلق إرادته بمجرد الإلجاء، سيما إذا كان إلجاء بطريق الدواعي والصوارف كما خلق فينا شهوة المباح في الدنيا ولم يصرفنا عنه صارف يقاوم الداعي ولم تجب إرادته.
الموضع السادس في الرضا والسخط والولاية والمحبة
ذهب أكثر الأصحاب إلى أن الولاية والمحبة والرضا بمعنى إرادة نفع الغير وكراهة مضرته، والسخط كراهة نفعه وإرادة مضرته، وقد ذكرنا حجتهم على ذلك في قوله تعالى: {غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ}[الفاتحة:7] وإذا كانت بمعنى الإرادة والكراهة فهي حادثة فلا يصح القول بأن الله تعالى ساخط فيما لم يزل خلافاً لسليمان بن جرير، وقد مر الكلام عليه في الرابعة من مسائل قوله تعالى: {غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ}[الفاتحة:7].
وقالت النجارية: ليست معاني هذه الألفاظ متفقة في المعنى، واختاره السيد محمد بن إبراهيم.
وقال الرازي: الرضا ترك الاعتراض والمحبة ليست مجرد الإرادة، فيجوز أن يريد الشيء ولا يحبه، وفرق بينهما بأن المحبة التي لا تبعة فيها فهي أخص، ولا يلزم من نفي الأخص نفي الأعم.
قال الإمام المهدي: ولعله أراد بها الشهوة، ولهذا قال: لا يشتهيه، ويجوز التمدح بنفي الشهوة عنه تعالى وإن كانت مستحيلة عليه سبحانه كما في قوله تعالى: {مَا اتَّخَذَ صَاحِبَةً وَلاَ وَلَدًا}[الجن:3] واحتج هؤلاء على الفرق بين هذه الألفاظ بوجهين:
أحدهما: ما نقل عن أهل اللغة من الفرق، ومنه قول ابن دريد:
رضيت قسراً وعلى القسر رضا .... من كان ذا سخط على صرف القضا
فقال: رضيت قسراً، والمقسور ليس بمريد لما قسر عليه، بل تارك للاعتراض، ويقول الواحد منا: أحب جاريتي، ولا يقول: أريدها.
الثاني:أن الصائم العاطش يحب شرب الماء للطبيعة ولا يريده.
والجواب: أن ابن دريد ليس من العرب العرباء، بل من الأدنى فلا حجة في شعره، فلا نسلم أن القسر يمنع الإرادة، فإن الإنسان قد يريد فعل ما أكره عليه لينجو، سلمنا فالمعلوم أن الرضا بمعنى الإرادة ظاهر في اللغة كما يقال: رضيت هذا الشيء، ورضيت البيع والنكاح، أي أردته؛ إذ لا يحتمل هنا ترك الاعتراض، ولا يكفي في تنفيذ ذلك، بل لا بد من الإرادة، فإن استعمل في ترك الاعتراض فمجاز؛ لأن الغالب فيمن ترك الاعتراض في شيء أنه مريد له، لا سيما إذا كان له به تعلق.
وأما المثال فالمحبة فيه بمعنى الشهوة وهو استعمال مجازي؛ لأن الغالب فيمن اشتهى شيئاً أن يكون مريداً له، سيما حيث لم يكن فيه قبح، وقيل أبو علي: هو مِن مجاز الحذف أي أحب الاستمتاع بجاريتي، فتكون المحبة بمعنى الإرادة حقيقة، وهكذا يقال في محبة الصائم للماء يعني أن المحبة بمعنى الشهوة، وإنما حملناها على ذلك؛ لأن استعمال المحبة بمعنى الإرادة ظاهر شائع في اللغة ولا يحتمل، قوله تعالى: {فَسَوْفَ يَأْتِي اللَّهُ بِقَوْمٍ يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَه}[المائدة:54] غير الإرادة لاستحالة الشهوة عليه تعالى أي يريد إثابتهم، ويريدون طاعته، وكذلك قول علي عليه السلام في قتل عثمان: والله ما كرهت ولا رضيت أو كما قال، فقابل الكراهة بالرضا وهي ضد الإرادة، وكذلك الولاية، والموالاة معناها إرادة النفع، وكراهة الضرر.
قال الإمام المهدي: ولا بد من تعظيمه مع الموالاة؛ لأنا لا نسمى أولياء لليهود وإن كرهنا مضرتهم في الدنيا وأردنا نفعهم ، ومنه قوله تعالى: {اللَّهُ وَلِيُّ الَّذِينَ آمَنُوا يُخْرِجُهُمْ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ}[البقرة:257] ونحوها وقد نريد نفع الأعداء ودفع المضار عنهم أيام الهدنة ولا نكون بذلك موالين.
تنبيه
قال النجري: وقولنا إن الرضى وما ذكر معه بمعنى إرادة النفع وكراهة الضرر والسخط بالعكس إنما هو في الشاهد، فأما في القديم تعالى فليس معناهما إلا الإرادة فقط؛ إذ لا يكره الله عقاب الأنبياء ولا ثواب الكفار؛ لأنه لا يكره القبيح من فعله لعدم الفائدة كما تقدم.
تنبيه
وما تقدم من أن الألفاظ المذكورة بمعنى إرادة النفع إلى آخره في حق الله تعالى إنما هو عند أكثر أصحابنا خلافاً للإمام القاسم بن محمد وأتباعه فقالوا: معنى رضا الله ومحبته، والولاية بمعنى المحبة الحكم باستحقاق الثواب قبل وقته، وإيصاله إليه في وقته، والكراهة الحكم باستحقاق العقاب قبل وقته، وإيصاله في وقته في الدار الآخرة، والسخط بمعناها، والوجه في ذلك أن حملها على المعنى الحقيقي لا يجوز في حقه سبحانه وتعالى؛ لأنها أعراض وهو عز وجل ليس بمحل للعرض. وإلى هنا انتهى الكلام على مسألة الإرادة، والحمد لله على هدايته وإرشاده.
وبقيت أبحاث تتعلق بالمسألة كبيان أحكام الإرادة، وما يجري على الله من الأسماء باعتبار كونه مريداً ونحو ذلك، وسنذكرها في غير هذا الموضع إن شاء الله تعالى.
المسألة الخامسة [في الإضلال]
قالت المجبرة: قوله تعالى: {يُضِلُّ بِهِ كَثِيراً}[البقرة:26] يدل على أن الله تعالى يضل بعض خلقه عن الدين أي يخلق فيهم الضلال، وذلك أن المعنى الأصلي في الإضلال عن الدين عندهم إنما يكون بالدعاء إلى تركه وتقبيحه في أعينهم، وهذا هو الإضلال المنسوب إلى الشيطان وفرعون ونحوهما، وهذا لا يجوز نسبته إلى الله إجماعاً.
قال الرازي: الأمة مجمعة على أن الإضلال بهذا المعنى لا يجوز على الله تعالى؛ لأنه ما دعا إلى الكفر ولا رغب فيه، بل نهى عنه وزجر، وتوعد بالعقاب عليه، وإذا انتفى هذا المعنى الحقيقي ثبت بالإجماع أن الآية ليست على ظاهرها، فحينئذٍ لا بد من التأويل، فأهل الجبر حملوها على أن المراد بذلك خلق الضلال فيهم وصدهم عن الإيمان، وربما قالوا هذا حقيقة اللفظ؛ لأن الإضلال عبارة عن جعل الشيء ضالاً كما أن الإخراج عبارة عن جعله خارجاً، هكذا حقق مذهبهم الرازي وما ذكره من أنهم ربما قالوا: إن حقيقة الإضلال هو خلق الضلال فيهم، وصدهم عنه هو الظاهر من مذهبهم.
قال أبو حيان: وإسناد الضلال إلى الله تعالى إسناد حقيقي كما أن إسناد الهداية كذلك فهو خالق الضلال والهداية.
وفي كتب أصحابنا عنهم أنهم ينسبون ذلك إلى الله تعالى على معنى أنه يغويهم ويصدهم عن الدين وهو الجاري على مذهبهم في أنه تعالى الخالق لأفعال العباد، وأنه لا يقبح من الله تعالى قبيح.
وإذا عرفت تحقيق مذهبهم فاستمع لما أملي عليك في رده وإبطاله من كلام أئمة الهدى، ومصابيح الدجى، فأقول:
أجابت العدلية بأنكم قد اعترفتم بأنه لا يجوز القول بأن الله تعالى دعاهم إلى ترك الدين وقبحه في أعينهم، وإنما المعنى أنه خلق الضلال فيهم، أو صدهم عنه، وحال بينهم وبينه بأي الموانع، وهذا باطل لغة، وعقلاً، ونقلاً، أما اللغة فلأنا قد استوفينا المعاني اللغوية للإضلال في قوله تعالى: {وَلاَ الضَّالِّينَ} ولم ينقل أحد من أئمة اللغة أن خلق الضلال أو الصد عن الدين من معانيه، وإنما المعروف في اللغة أنه يقال لمن منع غيره من أمر على جهة القسر والجبر: إنه منعه وصرفه، ولا يقال أضله إلا إذا لبس عليه، وأورد عليه شبهة لا يهتدي معها.
وأما العقل فمن وجوه:
أحدها: أنكم جعلتم أساس مذهبكم هذا كون الباري تعالى هو الخالق لأفعال العباد، وأنه لا يقبح منه قبيح لو فعله، وقد أبطلنا هذين الأساسين في الاستعاذة والفاتحة، وفي مواضع أخر من كتابنا هذا.
الثاني: أنه لو كلفهم مع خلقه للضلال فيهم، ومنعهم منه للزم قبائح كثيرة، كتكليف ما لا يطاق وفعله للجهل فيهم وعدم الفائدة في إنزال الكتب، وبعثة الرسل إلى غير ذلك من اللوازم الفاسدة، وقد تقدم كثير منها في الثالثة من مسائل الاستعاذة وغيرها.
وأما النقل فلأن الله تعالى قد ذم إبليس، ومن سلك مسلكه في إضلال الناس، وشنع على من لا يؤمن ولم يتذكر فقال: {فَمَا لَهُمْ لاَ يُؤْمِنُونَ}[الإنشقاق:20] {فَمَا لَهُمْ عَنِ التَّذْكِرَةِ مُعْرِضِينَ}[المدثر:49] إلى غير ذلك من الآيات الدالة على أنه لا مانع لهم من الإيمان البتة، وأنهم إنما ضلوا بسوء اختيارهم، وبسبب انقيادهم لمن حذرهم الله منهم من شياطين الإنس والجن، فكيف يتوهم عاقل مع ذلك أن يكون الله تعالى هو الخالق للضلال فيهم والمانع لهم من الإيمان، وما أحسن ما قاله إمامنا الهادي يحيى بن الحسين عليه السلام في بعض كتبه حيث قال: كيف يغوي خلقه ويضلهم ولا يرشدهم ثم يعذبهم على فعله، إذاً لكان لهم ظالماً، وعليهم متعدياً، وهو مع ذلك يعيب على من فعل مثل هذا الفعل إذ يقول عز وجل: {وَمَنْ يَكْسِبْ خَطِيئَةً أَوْ إِثْماً ثُمَّ يَرْمِ بِهِ بَرِيئاً فَقَدِ احْتَمَلَ بُهْتَاناً وَإِثْماً مُبِيناً}[النساء:112] وبعث إليهم الرسول، وأنزل عليهم الكتاب، ثم قال: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا ادْخُلُوا فِي السِّلْمِ كَافَّةً}[البقرة:208] فأمرهم أن يدخلوا في السلم والإيمان، ولو كان كما يقول الجاهلون أنه هدى قوماً، وأضل قوماً ولم يهدهم لم يكن لقوله: {ادْخُلُوا فِي السِّلْمِ كَافَّةً}[البقرة:208] معنى، إذا كان عز وجل بزعمهم أدخل قوماً في الإسلام وحال بين قوم وبين الدخول في الإسلام، فما معنى قوله لقوم داخلين في الإسلام: {ادخلوا} وهم داخلون، كما لا يقول لقائم: قم، وكما لا يقول لجالس: اجلس، ويقول لقوم حال بينهم وبين الدخول في الإسلام: ادخلوا، فكيف يقدرون على ذلك وهو قد حال بينهم وبين الدخول في الإسلام، كما لا يقول لمقعد: قم، ولا لأعمى: ابصر.
وقال الإمام القاسم بن محمد في (الأساس): إن القول بذلك -أعني نسبة الإضلال إلى الله تعالى- بمعنى الإغواء عن طريق الحق ذم لله تعالى، وتزكية لإبليس وجنوده، وذلك كفر.
واعلم أن الرازي قد بسط الكلام فيما نقله عن العدلية في رد ما ذهب إليه هو وحزبه، وحاصله راجع إلى ما ذكرنا، ومنه ما هو داخل في وجوه التأويل الآتية، فلا نطيل بما لا طائل تحته.
وإذا ثبت أنه لا يجوز حمل الآية على ما تقوله وجب المصير إلى تأويلها، وردها إلى المحكم من الكتاب ودلالة العقل، وقد ذكر أئمة العدل في ذلك وجوهاً:
أحدها: أن معنى الآية الحكم عليهم بالضلال، وتسميتهم به، والشهادة به عليهم وهو معنى شائع في اللغة، وقد مر الاستشهاد عليه في قوله: {وَلاَ الضَّالِينَ}[الفاتحة:7]، ومن شواهده قول طرفة:
وما زال شربي الراح حتى أضلني .... صديقي وحتى ساءني بعض ذلكا
أراد سماني ضالاً، وهذا الوجه ذكره القاسم بن إبراهيم، والهادي، والناصر، وذهب إليه قطرب، وكثير من المعتزلة، وقال الإمام المهدي: هو أصح المعاني في الآية، أي يحكم بضلالهم بحسب مخالفتهم إياه؛ لأن الضمير راجع للقرآن وهو لا يضل به أحداً، بل يهتدي به، فكأنه سبحانه أراد أنه يحكم بضلال كثير من الناس بسبب القرآن حيث لم يهتدوا به.
قلت: وفي رجوع الضمير للقرآن نظر، والظاهر رجوعه إلى المثل، وعليه أئمة التفسير، فكأنه تعالى أراد بالمثل ظهور ما علمه من ضلالهم ليصح الحكم عليهم به وتسميتهم ضالين؛ لأن ذلك لا يصح قبل ظهور الضلال.
واعترضه الرازي بأمرين:
أحدهما: حكاه عن غيره وهو أن من أهل اللغة من أنكر هذا الوجه، وقال: إنما يقال: ضللته تضليلاً إذا سميته ضالاً، كما يقال: فسقته؛ إذا سميته فاسقاً، ولا يقال أضله بمعنى سماه ضالاً وحكم عليه بالضلال.
ثانيهما: أن الله تعالى إذا سماه بذلك وحكم به عليه امتنع تخلفه ووجب الإتيان به، وإلا انقلب خبر الله تعالى كذباً، وعلمه جهلاً، وكل ذلك محال، فالمفضي إليه يجب أن يكون محالاً، فيجب أن يكون ضلال العبد ثابتاً واجباً، وهذا عين الجبر الذي تفرون منه.
والجواب عن الأول: بأنه قد ثبت ما ذكرناه عن العدول من أئمة العترة وحفاظ اللغة، ومن علم حجة على من لم يعلم، وقد اعترف الرازي بأنه مستعمل؛ لأن الرجل إذا قال لآخر: فلان ضال، جاز أن يقول: لم جعلته ضالاً؟ أي لم سميته وحكمت به عليه.
والجواب عن الثاني: يؤخذ من الرابعة من مسائل قوله تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا سَوَاءٌ عَلَيْهِمْ أَأَنذَرْتَهُمْ}[البقرة:6].
الوجه الثاني: أن إسناد الإضلال إلى الله تعالى إسناد إلى السبب البعيد، وهو يتخرج على وجهين:
أحدهما: أنه لما ضرب المثل فازداد به المؤمنون إيماناً إلى إيمانهم، وازداد به قوم ضلالاً إلى ضلالهم كان سبباً في الإضلال والهداية، فصح نسبته إلى الله تعالى من هذه الجهة، وهذا اختيار الزمخشري، والنيسابوري وهو من الخصوم، وهو معنى مشهور في اللغة، وقد تقدم ذكره في الفاتحة، وشواهده كثيرة في القرآن وغيره، قال تعالى في الأصنام: {رَبِّ إِنَّهُنَّ أَضْلَلْنَ كَثِيراً مِنَ النَّاسِ}[إبراهيم:36] أي ضل بها كثير، وقال تعالى: {وَإِذَا مَا أُنزِلَتْ...} إلى قوله: {فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا فَزَادَتْهُمْ إِيمَاناً وَهُمْ يَسْتَبْشِرُونَ، وَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ فَزَادَتْهُمْ رِجْساً إِلَى رِجْسِهِمْ}[التوبة:124،125] فأضاف زيادة الإيمان والكفر إلى السورة؛ لأن الصلاح والفساد يحصلان عند نزولها، ويقال: أمرضني الحب، أي مرضت بسببه، وأفسدت فلانة فلاناً وهي لم تعلم به، وقال الشاعر:
دع عنك لومي فإن اللوم إغراء
أي يغري الملوم باللوم، والمراد أنه يكون سبباً فيه.
وعن مالك بن دينار -رحمه الله- أنه دخل على محبوس قد أخذ بمال عليه وقيد فقال: يا أبا يحيى، أما ترى ما نحن فيه من القيود، فرفع مالك رأسه فرأى سلة فقال: لمن هذه السلة؟ فقال: لي، فأمر بها تنزل، فإذا دجاج وأخبصة، فقال مالك: هذه وضعت القيود على رجلك، فأسند وضع القيود إلى السلة لما كانت سبباً فيه، فكذلك يجوز أن يضاف الإضلال إلى الله تعالى على معنى أن الضُلاَّلَ ضلوا بسبب إنزاله الآيات المشتملة على الامتحانات.
ثانيهما: أن الله تعالى لما خلق الإنسان على هيئة وجبلة يألف معها ما اعتاده من خير أو شر، صح أن ينسب إليه سبحانه الإضلال من هذا الوجه، وهذا ذكره الراغب، وقد مر في الفاتحة.
واعترض الرازي هذا الوجه -أعني نسبة الإضلال إلى الله تعالى من حيث أنه فعل السبب- فقال: هذه المتشابهات إما أن يكون لها أثر في تحريك الدواعي أو لا، إن كان لها أثر وجب على أصلكم أن تقبح؛ لأنها إذا أثرت في ترجيح المعصية وجب وقوع المعصية لما مر في قوله تعالى: {خَتَمَ اللَّهُ عَلَى قُلُوبِهِمْ}[البقرة:7] من أنه إذا حصل الرجحان فلا بد وأن يحصل الوجوب، وحينئذٍ يحصل الجبر وهو قبيح عندكم، فما أدى إليه يجب أن يقبح.
فإن قلتم: لا نسلم أنه يحصل الوجوب عند الرجحان.
قلنا: فأنتم توافقون في أنه ينبغي أن يكون المكلف مزاح العلة والعذر، وإنزال هذه المتشابهات مع أن لها أثراً في ترجيح المعصية كالعذر للمكلف في عدم فعل الطاعة فوجب أن تقبح، وأما إن لم يكن لها أثر، فهي أجنبية عن الضلال فلا تصح نسبته إليها، كما لا ينسب إلى صرير الباب ونغيق الغراب.
قلت: وكان عليه أن يزيد، وإذا لم تصح نسبته إليها فلا تصح نسبته إلى فاعلها؛ لأن النسبة إليه فرع على صحة النسبة إليها، ولأنه أجنبي عن الضلال مع عدم الأثر مثلها.
والجواب: أنا لا نسلم أن القول بالمرجح يوجب وقوع الفعل، سواء كان الفعل طاعة أم معصية، وقد استوفينا الرد على الرازي في السادسة من مسائل المقدمة، وفي السابعة من مسائل الآية التي ذكرها، وإذا بطل ذلك بطل ما رتبه عليه من لزوم الجبر الذي ألزمنا لأجله قبح إنزال المتشابه.
وأما قوله: إنه ينبغي أن يكون المكلف مزاح العلة، فمسلم، لكن لا نسلم أن إنزال المتشابه يكون عذراً للمكلف في ترك الطاعة، وإنما ألجأهم إلى القول بذلك جهلهم بالحكمة في إنزاله، أو تجاهلهم لأجل عنادهم، وهي زيادة المشقة في التكليف والابتلاء كما سيأتي بيانه في سورة آل عمران، ولا شك أن أصل التكليف حسن كما مر في الفاتحة وغيرها، فكذلك الزيادة فيه، وإذا حسن من الله تعالى إبقاء إبليس -لعنه الله- وتمكينه من إغواء العباد وإضلالهم، فإن أراد بإزاحة العلة أن لا يكون له داعي إلى المعصية، فذلك باطل لما مر في الثالثة عشرة من مسائل قوله تعالى: {خَتَمَ اللَّهُ عَلَى قُلُوبِهِمْ}[البقرة:7] وغيرها من أن شرط التكليف زوال الإلجاء، وأن يكون المكلف متردد الدواعي بين الطاعة والمعصية لتحصل المشقة التي لا يتم التكليف من دونها، وأما العلة فقد أزاحها الله تعالى بما ركب في العبد من العقل الوافر، وما أنزله من الكتب، وأرسله من الرسل مع خلق القدرة على ما كلفه به وتمكينه منه، وهذا واضح والحمد لله.
الوجه الثالث: أن يكون المراد بإضلال الله إياهم هو خذلانهم، وترك اللطف والتوفيق لهم لما علمه من تماديهم في الطغيان، وانهماكهم في العصيان، وهذا حكاه الناصر عن بعض أهل النظر كما مر في الفاتحة، وهو بيِّن واضح في اللغة، ومن شواهده قوله:
أضاعوني وأي فتى أضاعوا .... ليوم كريهة وسداد ثغرِ
ويقال لمن ترك سيفه في الأرض الندية حتى فسد وصدى: أنت أفسدته وأصديته.
واعترضه الرازي بأن هذا إنما يسمى إضلالاً إذا كان الأولى والأحسن المنع، فلا يقال للوالد: إنه أضل ولده، إذا ترك معاهدته بالتأديب إلا إذا كان الأحسن بالوالد أن يمنعه من ذلك، وذلك حيث لم يحصل من المنع مفسدة من الولد أعظم من المفسدة الأولى، فأما إن كان يحصل ذلك فلا يقول أحد إنه أضله، وأفسده بالتخلية وعدم المنع، وهاهنا لو منع الله تعالى المكلف جبراً عن هذه المفسدة لزمت مفسدة أعظم من الأولى وهي التكليف مع عدم شرطه المتقدم قريباً، فكيف يقال: إنه أضله وأفسده بمعنى أنه ما منعه.
والجواب: أنا لم نقل إنه أضله بمعنى أنه ما منعه قسراً وجبراً، وإنما قلنا: إنه أضله، بمعنى أنه خلاه وشأنه، فلم يمده بلطف ولا توفيق لعلمه بعدم التطافه مع كونه متمكناً من فعل الطاعة واختيارها، وترك المعصية واجتنابها، فلا تلزم المفسدة المذكورة، وإنما هذا الاعتراض مبني على القول بالجبر، وحينئذ فيصح أن يقال: إن الله تعالى أضل أهل الضلال، بمعنى أنه تركهم وضلالهم ولم يمنعهم منه، ولا محذور فيه.
وأما قوله: إنه لا يقال ذلك إلا إذا كان الأحسن المنع، فغير مسلم، بل لا يقال ذلك إلا لمن كان قادراً على المنع، والله تعالى قادر على المنع من المعاصي، لكن منعت حكمته جل وعلا من الجبر والإلجاء.
الوجه الرابع: أن تكون نسبة الإضلال إلى الله تعالى على جهة الحقيقة، ويكون ذلك منه تعالى جزاءً لهم على أفعالهم الخبيثة، وقبائحهم العظيمة، وهذا قول القاسم بن إبراهيم فيما رواه عنه في (البدر الساري)، ونص عليه الإمام أحمد بن سليمان في الحقائق، واختاره السيد محمد بن إبرهيم الوزير وقال: من عجائب أهل التأويل تكلف وجهٍ لحسن ذلك، وترك الوجه المنصوص عليه وهو العقوبة، ورجحه ابن جرير، ورواه عن بعض الصحابة قال: حدثني موسى بن هارون، قال: حدثنا عمرو بن حماد، قال: حدثنا أسباط، عن السدي في خبر ذكره، عن أبي مالك، وعن أبي صالح، عن ابن عباس، وعن مرة عن ابن مسعود، وعن ناس من أصحاب النبي صلى الله عليه وآله وسلم {يُضِلُّ بِهِ كَثِيراً} يعني المنافقين {وَيَهْدِي بِهِ كَثِيراً}[البقرة:26] يعني المؤمنين، قال ابن جرير: فيزيد هؤلاء ضلالا إلى ضلالهم لتكذيبهم بما قد علموه حقاً يقينا من المثل الذي ضرب الله {وَيَهْدِي بِهِ} يعني بالمثل كثيراً من أهل الإيمان والتصديق، فيزيدهم هدىً إلى هداهم، وإيماناً إلى إيمانهم؛ لتصديقهم بما قد علموه حقاً يقيناً أنه موافق ما ضربه الله له مثلاً وإقرارهم به، وذلك هداية من الله لهم به، واستدل هؤلاء بظواهر آيات كثيرة جعل ما نسب إلى الله تعالى من الإضلال ونحوه فيها مرتباً على تقدم المعاصي من العبد ترتب المسبب على سببه، كقوله تعالى: {طَبَعَ اللَّهُ عَلَيْهَا بِكُفْرِهِمْ}[النساء:155] {فَلَمَّا زَاغُوا أَزَاغَ اللَّهُ قُلُوبَهُمْ}[الصف:5] {وَمَا يُضِلُّ بِهِ إِلاَّ الْفَاسِقِينَ}[البقرة:26] {وَنُقَلِّبُ أَفْئِدَتَهُمْ وَأَبْصَارَهُمْ كَمَا لَمْ يُؤْمِنُوا بِهِ أَوَّلَ مَرَّةٍ} [الأنعام:110] {فَزَادَهُمُ اللَّهُ مَرَضاً}[البقرة:10] {وَنَذَرُهُمْ فِي طُغْيَانِهِمْ يَعْمَهُونَ} [الأنعام:110] {فَبِمَا نَقْضِهِمْ مِيثَاقَهُمْ لَعَنَّاهُمْ وَجَعَلْنَا قُلُوبَهُمْ قَاسِيَةً}
[المائدة:13] {وَأَمَّا مَنْ بَخِلَ وَاسْتَغْنَى ، وَكَذَّبَ بِالْحُسْنَى ، فَسَنُيَسِّرُهُ لِلْعُسْرَى} [الليل:8-10] {إِذْ تَأْتِيهِمْ حِيتَانُهُمْ يَوْمَ سَبْتِهِمْ شُرَّعاً...} إلى قوله: {كَذَلِكَ نَبْلُوهُمْ بِمَا كَانُوا يَفْسُقُونَ} [الأعراف:163] {فَمَا كَانُوا لِيُؤْمِنُوا بِمَا كَذَّبُوا بِهِ مِنْ قَبْلُ كَذَلِكَ نَطْبَعُ عَلَى قُلُوبِ الْمُعْتَدِينَ} [يونس:74] وفي آية أخرى: {عَلَى قُلُوبِ الْكَافِرِينَ}[الأعراف:101] {وَقَوْلِهِمْ قُلُوبُنَا غُلْفٌ بَلْ طَبَعَ اللَّهُ عَلَيْهَا بِكُفْرِهِمْ}[النساء:155] وفيها رد قولهم: إن قلوبنا غلف من أصل الخلقة، والحكم بأنها إنما صارت كذلك بسبب كفرهم، وأنهم استحقوا الطبع عليها عقوبة إلى غير ذلك من الآيات الدالة بظواهرها على أن الختم والطبع والإضلال إنما كانت جزاء على المعاصي وعقوبة لمرتكبيها، وذلك لا يكون إلا بعد أن يبين الله طرق الهداية ويدلهم عليها، ويدعوهم إليها كما قال تعالى: {وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُضِلَّ قَوْماً بَعْدَ إِذْ هَدَاهُمْ حَتَّى يُبَيِّنَ لَهُمْ مَا يَتَّقُونَ}[التوبة:115]، وقوله تعالى: {وَمَا كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولاً}[الإسراء:15] وقوله: {ذَلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ لَمْ يَكُ مُغَيِّراً نِعْمَةً أَنْعَمَهَا عَلَى قَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنفُسِهِمْ}[الأنفال:53] فنص على أنه لا يسلبهم النعمة، ويبدلهم منها النقمة، والعقوبة إلا بعد تغييرهم ما بأنفسهم وهو عدم الشكر، وامتثال أوامره، والترك لمناهيه، ولا شك أن الهداية للإيمان من أعظم النعم بدليل قوله تعالى: {بَلِ اللَّهُ يَمُنُّ عَلَيْكُمْ أَنْ هَدَاكُمْ لِلْإِيمَانِ}[الحجرات:17]، فإذا كان عادة الله التغيير على العصاة بسلب النعم وإبدالها بالعقاب والنقم جاز أن يعاقب من لا يقبل الهداية بسلبها عنه وإضلاله عن الحق، والطبع والختم على قلبه، والقول بأن
الإضلال يكون عقوبة رواه في (البدر الساري) عن الهادي إلا أنه جعله عبارة عن الخذلان والبراءة منهم، وأما الضلال فهو فعلهم ونحوه في (الجامع الكافي) عن أحمد بن عيسى، ومحمد بن منصور -أعني أنهما فسرا إضلال الله تعالى لعباده بالخذلان لمن علم منه المعصية وإيثار الهوى- وقد تقدم بعض كلمات أحمد في الاستعاذة، ولعل كلام القاسم والإمام أحمد بن سليمان يعود إلى هذا.
والمراد بالخذلان ترك الهداية التي بمعنى اللطف، والزيادة في تنوير القلوب، وشرح الصدور كما ذلك مفهوم من متفرقات كلماتهم، وقد مر بعضها في الفاتحة.
وأما الهداية التي بمعنى الدلالة فلا يجوز خلو المكلف عنها؛ إذ لا يصح التكليف من دونها.
وقد حمل بعض العدلية الإضلال في الآية على العذاب والعقوبة كما هنا، إلا أنه لم يحمله على الإضلال في الدنيا ولا على الخذلان، بل على عذاب الآخرة وعقابها، واحتج عليه بقوله تعالى: {إِذِ الأَغْلاَلُ فِي أَعْنَاقِهِمْ وَالسَّلاَسِلُ يُسْحَبُونَ...} إلى قوله: {كَذَلِكَ يُضِلُّ اللَّهُ الْكَافِرِينَ}[غافر:71-74].
واعترضه القفال وقال: لا نسلم أن الضلال والإضلال قد يكونان بمعنى العذاب، وأجاب عما يستدل به أصحابنا على استعمالهما في ذلك من قوله: {إِنَّ الْمُجْرِمِينَ فِي ضَلاَلٍ وَسُعُرٍ}[القمر:47] وقوله: {كَذَلِكَ يُضِلُّ اللَّهُ الْكَافِرِينَ}[غافر:74] بأنه لا يجوز في الآية الأولى أن يكون معناها في ضلال عن الحق في الدنيا وسعر في الآخرة أي في جهنم، ويكون قوله: {يَوْمَ يُسْحَبُونَ}[القمر:48] من صلة سعر، وأما الآية الأخرى فيحتمل أن يراد بإضلال الله إياهم إبطال أعمالهم وإحباطها في الآخرة، ويحتمل أن يراد به خذلانهم في الدنيا لإعراضهم عن الحق، فإذا خذلهم جاءوا يوم القيامة وقد بطلت أعمالهم.
والجواب: أن هذين التأويلين خلاف الظاهر، بل في تأويل الآية الأولى تفكيك النظم، وفي الأخرى تقدير مضاف وهو الأعمال، وكل ذلك لا ملجئ إليه، فلا يبعد المنع منه، وكذلك تأويل الآية الأخرى بالخذلان يأباه السياق ولا موجب له.
الوجه الخامس: أن يحمل الإضلال على الإهلاك والإبطال، وهو وجه مستعمل في اللغة، وقد مر في الفاتحة، ومنه يقال: أضل القوم ميتهم، إذا واروه في قبره؛ لأنه يصير بذلك في حكم المستهلك الذي قد بطل وذهب.
قال النابغة:
وآب مضلوه بعين خلية .... وغودر بالجولان حزم ونائل
والمراد هنا أن الله أبطل أعمالهم، وأهلكها حتى لا ينتفعون بها.
واعترضه الرازي بأنه لا يليق حمل الآية عليه؛ لأن قوله: {وَيَهْدِي بِهِ كَثِيراً}[البقرة:26] يمنع منه.
والجواب: أنه لا يمنع منه إلا لو حملت الهداية على الدلالة والتوفيق، وأما إذا حملت على الإثابة والنجاة فلا. والله أعلم.
فهذه خمسة أوجه من التأويل إذا حملنا الإضلال في الآية على الإضلال عن الدين، وأما إن لم نحمله على ذلك ففيه تأويلات أخر:
أحدها: ما اعتمده أبو علي ومن وافقه وهو أن يحمل الإضلال على الإضلال عن طريق الجنة.
قالوا: وهذا في الحقيقة ليس بتأويل، بل حمل اللفظ على ظاهره؛ لأن الله تعالى لم يبين ما يضلهم عنه، فحملناه على هذا لعدم المانع منه، ولا ملجئ إلى غيره من المجازات والتأويلات البعيدة.
قال الرازي: ثم حملوا ما في القرآن على هذا، واحتجوا بقوله تعالى: {كُتِبَ عَلَيْهِ أَنَّهُ مَنْ تَوَلاَّهُ فَأَنَّهُ يُضِلُّهُ وَيَهْدِيهِ إِلَى عَذَابِ السَّعِيرِ}[الحج:4] أي يضله عن الجنة وثوابها بدليل آخر الآية.
واعترضه الرازي بأنه قال: (يضل به)، أي باستماع الآيات، والإضلال عن طريق الجنة ليس بسبب استماع الآيات، بل بسبب الإقدام على القبائح.
والجواب: أن استماع الآيات مع ردها من القبائح على أن رد الضمير إلى استماع الآيات غير مسلم، بل هو راجع إلى المثل، وجهلهم بحسن مورده لتقصيرهم في النظر وعنادهم من أعظم القبائح.
الوجه الثاني: أن لا تكون الهمزة للتعدية، بل للوجدان فيكون المعنى: إن الله تعالى وجدهم ضالين.
واعترضه الرازي بأن مجيئ الهمزة للوجدان غير ثابت في اللغة، وأن الهمزة لا تفيد إلا التعدية، وتأول قول عمرو بن معدي كرب لبني سليم: قاتلناكم فَمَا أَجْبَنَّاكُمْ، وهاجيناكم فما أفحمناكم، وسألناكم فما أبخلناكم، على أن المراد فما أثر قتالنا في صيرورتكم جبناء، وهكذا البواقي، وليس المراد فما وجدناكم جبناء، وقال: إن هذا أولى دفعاً للاشتراك، ولو سلم فالمعدى بالباء لا يكون بمعنى الوجدان.
والجواب: أنه قد نص على مجيئ الهمزة للوجدان مشاهير من أئمة العربية، ولم ينقلوا في ذلك خلافاً وهم القدوة في نقل اللغة.
وأما تأويله لقول عمرو بن معدي كرب فتعسف بلا موجب.
وأما قوله: إن المعدى بالباء لا يكون بمعنى الوجدان، فالباء فيه ليست للتعدية وإنما هي باء السببية ومفعول الفعل كثيراً، وكان الأولى في الاعتراض أن يقال: الجملة كالجواب لقولهم: ماذا، ولا يستقيم أن تكون الهمزة للوجدان مع جعل الجملة جواباً؛ إذ لا يصح أن يقال: لمن قال: ما ذا أردت بسفرك؟ أردت وجدت زيداً محموداً.
الوجه الثالث: أن يكون قوله: {يُضِلُّ بِهِ كَثِيراً وَيَهْدِي بِهِ كَثِيراً} [البقرة:26] من كلام الكفار قالوه على سبيل التهكم فأجاب الله عليهم بقوله: {وَمَا يُضِلُّ بِهِ إِلاَّ الْفَاسِقِينَ}[البقرة:26].
واعترضه الرازي وغيره بأن فيه تفكيك النظم، حيث يكون أول الكلام من كلام الكفار وآخره من كلام الله تعالى، لا سيما مع اتصال الكلامين بحرف العطف، ولو احتمله المقام فهو غير مخلص من نسبة الإضلال إلى الله؛ لأنه قد نسب إليه في قوله: {وَمَا يُضِلُّ بِهِ إِلاَّ الْفَاسِقِينَ} وفي قوله: {يضل به من يشاء} فلا حاجة لتكلف مثل هذا التأويل في هذا الموضع مع أن الخصم لو سلمه لم تنقطع حجته لتمسكه بما هو أصرح منه في الدلالة على مذهبه، فعليك بالتأمل لما مر من هذه التأويلات ففيها غنية عن بعض التكلفات مع أنها شاملة لكل شبهة يوردها الخصم، وبعضها أقوى من بعض كما لا يخفى على الفطن.
واعلم أن الرازي قد أجاب عما ذكرناه من التأويل للآية إجمالاً وتفصيلاً، فأما التفصيل فقد ذكرناه وأجبنا عليه، وأما الإجمال فمن وجوه:
أحدها: مسألة الداعي والمرجح وهي أن القادر على العلم والجهل والهدى والضلال لِمَ فعل هذا دون الآخر؟ ومقصوده أنه لا بد أن ينتهي الأمر إلى داع موجب يخلقه الله في العبد كما مر تحقيق مذهبه في ذلك.
الثاني: مسألة العلم كما مر في قوله: {خَتَمَ اللَّهُ عَلَى قُلُوبِهِمْ}[البقرة:7] وقد قرر هنالك أنه لو وقع من العبد خلاف ما علمه الله منه لانقلب علم الله جهلاً.
الثالث:أَن فعل العبد لو كان بإيجاده لما حصل إلا ما يريد، والمعلوم خلافه، فإن كل أحد لا يريد إلا العلم والاهتداء ، ولا يحصل له إلا الجهل والضلال.
فإن قلتم: سبب ذلك أنه اشتبه عليه العلم والهدى بالجهل والضلال، فظن الجهل علماً، والضلال هدىً فقصدهما.
قلنا: ذلك الظن خطأ، فإن اختاره أَوَّلاً فقد اختار الجهل وذلك غير ممكن، وإن اشتبه عليه ذلك بسبب ظن متقدم لزم أن يكون قبل كل ظن ظن، إلى ما لا نهاية له وهو محال.
الوجه الرابع: أن التصورات غير كسبية، والتصديقات البديهية غير كسبية، وذكر نحو ما تقدم في المقام الثاني من الفصل الثاني في الموضع الرابع في المسألة السابعة من مسائل قوله تعالى: {يَاأَيُّهَا النَّاسُ اعْبُدُوا رَبَّكُمُ}[البقرة:21].
والجواب عن الوجه الأول: قد مر في السادسة من مسائل المقدمة، وفي السابعة من مسائل قوله تعالى: {خَتَمَ اللَّهُ عَلَى قُلُوبِهِمْ}[البقرة:7] وكذلك الجواب عن الثاني قد مر في الرابعة من مسائل هذه الآية، والجواب عن الثالث يؤخذ من السابعة من مسائل قوله تعالى: {يَاأَيُّهَا النَّاسُ اعْبُدُوا رَبَّكُمُ}[البقرة:21] ومن جواب الشبهة الرابعة من الثالثة عشرة من مسائل قوله تعالى: {خَتَمَ اللَّهُ عَلَى قُلُوبِهِمْ}[البقرة:7]، والجواب عن الرابع قد مر في ذلك المقام.
المسألة السادسة [استطراد في استدلال المجبرة]
قد مر في المسألة الرابعة من هذه الآية أن المجبرة استدلوا بهذه الآية على أن الله تعالى يريد القبائح من العباد.
والجواب: أن ذلك اغترار منهم بالظاهر، وقد أوضحنا بما ذكرنا من وجوه التأويل السابقة أن الآية ليست على ظاهرها، وبه يبطل تمسكهم بها.
المسألة السابعة [شبه المجبرة والرد عليها]
ظاهر الآية أنه يجوز أن يطلق على الله تعالى أنه يضل عباده؛ لأنه أطلق في الآية أنه يضل كثيراً، وهذا قول المجبرة كافة.
وقالت العدلية: لا يجوز ذلك؛ لأنه يوهم الخطأ وهو أن الله تعالى أغواهم عن طرق الدين، وظاهر إطلاق رواية الإمام المهدي عن العدلية أنه لا خلاف بينهم في ذلك، وصرح بنسبته إليهم جميعاً النجري، وهكذا القول في كل لفظة توهم الخطأ فإنه لا يجوز إطلاقها؛ لإيهامها الخطأ، هكذا احتج أصحابنا على المنع، والظاهر من إطلاق عبارات كثير منهم المنع وإن كان المتكلم خالياً، وليس ثم سامع يتوهم الخطأ، وقد صرح بذلك في (الغياصة) فقال: إنه يمتنع وإن لم يكن هناك من يعلمه المتكلم لجواز أن يكون هناك إنسان لا يعلمه، ولو فرضنا القطع بأنه ليس ثمة إنسان فإن الملائكة والجن ربما سمعوا ذلك منه فيتوهمون الخطأ في اعتقاده.
واعلم أن في كلام أصحابنا نظراً من وجوه:
أحدها: أن الله تعالى قد أطلق الألفاظ الموهمة للجبر والتشبيه في كتابه كما في هذه الآية، وكإطلاق الوجه واليد والعين، ووكل عباده إلى القرائن العقلية والنقلية، فما لنا لا نكتفي بتلك القرائن عند إطلاقنا للألفاظ الموهمة، على أنا لو اعتبرنا مطلق الإيهام للزم منع إطلاق الصفات الذاتية، كعالم، وقادر؛ لإيهام كون إطلاقها عليه على حد إطلاقها على الواحد منا سيما عند العوام، وقد تقدمت إشارة إلى هذا في العاشرة من مسائل الحمد لله.
فإن قيل: قد ذكر السيد أحمد الشرفي في (شرح الأساس) أنه لا يجوز منا الإطلاق إلا بقرينة ظاهرة تصرف عن الخطأ ولا تكفي النية والقصد، قال: وليس كذلك ما في الكتاب والسنة الصحيحة من ذلك، فإنه يكفي في تخصيصه بالمعنى الجائز في حقه تعالى بالعقل بما قد عرف من الأدلة القطعية.
قيل: هذه دعوى من السيد ـ رحمه الله ـ كيف وقد وصف الله تعالى القرآن بأنه هدىً وتبياناً لكل شيء، وأنه يهدي للتي هي أقوم، ووصفه رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم بنحو ذلك، وأمر باتباعه، وأخذ الهدى منه، والتدبر لآياته ونحوه من كلام الوصي، وقد مر في المقدمة وغيرها كثير من ذلك، وجاء في القرآن من الحث على اتباع الرسول والتأسي به ما لا يخفى، وكل ذلك يدل على أنه يجوز منا أن نطلق على الله تعالى ما قد أطلق جنسه في الكتاب والسنة، ويزيده وضوحاً ما مر من قول أمير المؤمنين عليه السلام فما دلك القرآن عليه من صفته فأتم به.
الوجه الثاني: أن أمير المؤمنين عليه السلام قد أطلق لفظ القضاء والقدر في أفعالنا في جوابه للشامي، واكتفى بالقرينة العقلية، ولما عرف أن السائل لا يهتدي إليها عرفه المعنى الصحيح الذي أراده، وقد مر في الرابعة من مسائل قوله تعالى: {خَتَمَ اللَّهُ عَلَى قُلُوبِهِمْ}[البقرة:7] وغيرها، وفي هذا رد على الشرفي حيث قال: لا يجوز منا إطلاق ما أطلق في الكتاب والسنة.
الوجه الثالث: أن إيهام الخطأ غير مسلم؛ لأنه لا معنى له إلا كون السامع يسبق فهمه إلى الخطأ ونحن لا نسلمه؛ لأن السامع إما أن يكون عارفاً للمعاني التي يحتملها اللفظ أو لا، إن كان عارفاً صار اللفظ مجملاً في حقه فيتردد فهمه فلا نقطع بمعنى مخصوص نحمله عليه، ولا نرتكب خطأ، وحينئذ لا وجه لقبح النطق، وإن لم يكن عارفاً فالمسألة قطعية لا يجوز للسامع أن يقلد المتكلم في إطلاق اللفظ، بل يجب عليه أن ينظر، فإن وجده صحيحاً وإلا رد كلامه وحكم بكذبه، فمن أين يدخل الخطأ على السامع حتى يحكم بقبح هذا الإطلاق؟
فإن قيل: لم يحكم بقبحه لأجل خلل يرجع إلى السامع، بل لأجل خلل يرجع إلى الناطق به؛ لأنه يوهم أنه يعتقد المعنى الفاسد، ودفع التهمة عن النفس واجب.
قيل: إنما تلحق التهمة إذا لم يكن للفظ معنى صحيح يمكن حمل الناطق به على إرادته، فأما إذا كان له ذلك فالواجب حمله على إرادة المعنى الصحيح لوجوب الحمل على السلامة مهما أمكن.
فإن قيل: اللفظة المشتركة إذا أطلقت وجب حملها على جميع معانيها؛ إذ لا مخصص لمعنى دون آخر، ولا مانع من إرادة جميع المعاني، وحينئذ فلا وجه يوجب الحمل على إرادة المعنى الصحيح، فتعين قبح الإطلاق للإيهام المذكور.
قيل: أما أبو هاشم فلا يرد عليه هذا؛ لأنه يمنع صحة إرادة المعنيين جميعاً، وإذا امتنعت إرادتهما صار اللفظ مجملاً لا يحصل بسببه إيهام، وأما غيره فهم وإن صححوا ذلك فهم يشترطون عدم المانع من إرادة أحد المعنيين، والمطلق للعبارة إما جبري، أو عدلي، أو ملتبس الحال، إذا كان جبرياً فلا تهمة في حقه لظهور إرادة المعنى الفاسد، فلا يصح منه الإطلاق لما يلحقه من التهمة؛ لأنه مجاهر بالخطأ، وإن كان عدلياً فالواجب حمله على السلامة، وذلك يمنع من حمل اللفظة على معنييها، سلمنا أنه غير مانع، فالمعلوم أنه لا يحمل عليها إلا مع عدم القرينة الصارفة لأحدهما، وهاهنا القرينة كونه عدلياً، وإن كان ملتبس الحال في العدل والجبر، فلا يحسن حمل اللفظة على المعنيين معاً، فنحمله على الجبر مع احتمال كونه عدلياً، وأنه قصد المعنى الصحيح، والتهمة لا تكون إلا عن أمارة مرجحة، ومجرد احتمال اللفظ للخطأ لا يكون مرجحاً لكونه أراده إلا لو لم يحتمل سواه، وأما هنا فقد احتمل المعنى الصحيح فلا موجب للتهمة، وغاية الأمر وجوب التوقف في أمره، وبهذه الوجوه يثبت أنه لا يقبح إطلاق الألفاظ الموهمة في الباري تعالى، إلا ممن يقصد المعاني الفاسدة منها.
فإن قيل: هذا مخالف لإجماع العدلية كما مر في حكاية النجري عنهم.
قيل: في الحكاية عنهم جميعاً نظر، فإن الإمام الموفق بالله لم يمنع إلا إذا كان يوهم أحد الحاضرين، وقد ذكرنا كلامه بلفظه في العاشرة من مسائل الحمد لله، وفي الرابعة من مسائل بسم الله، وهذا الإمام المهدي استضعف دليل الأصحاب وهو إيهام الخطأ، وعدل إلى دليل آخر ذكره في منع إطلاق القول بأن المعاصي بقضاء الله وقدره وهو أن في الإطلاق تشبه بأهل الجبر؛ لأنه قد كثر ولعهم بإطلاق هذه العبارة -أعني القضا والقدر- حتى صارت كالمختصة بهم، فلأجل ذلك يقطع سامعها بأن المتكلم بها منهم؛ لأنها قد صارت كالعلامة لهم فيقبح من العدلي التلبس بشعارهم، كما يقبح من المسلم التلبس بلباس اليهود والنصارى لئلا يتوهم أنه منهم، ودفع التهمة واجب، ولهذا قال قاضي القضاة وغيره: إنه يقبح من العدلي تسمية نفسه سُنياً لتسمي المجبرة بهذا الاسم وولعهم به، وإن كان أهل الإسلام كلهم سنيين أي متبعين لسنة نبينا محمد صلى الله عليه وآله وسلم قال عليه السلام : ولعل أصحابنا إنما قصدوا هذا المعنى خلا أنهم أتوا بعبارة لا توضح مقصودهم، ومقتضى كلامه عليه السلام أن ما لا يكون شعاراً للمجبرة فيجوز إطلاقه وإن كان فيه إيهام للسامع اكتفاء بالقرينة الخارجية، بل قد صرح عليه السلام بذلك وقال: قد أشار إليه أصحابنا، وذلك أنه قال بعد أن نص على أنه لا يجوز من العدلي إطلاق ما اختص به المجبرة وإن لم يحصل منه إيهام لما مر من أنه شعار خاص بهم ما لفظه: ويحسن عند أصحابنا تجنبه لئلا يؤدي إلى التسامح في ذلك من الجهال، وقد أشاروا إلى هذا حيث قالوا: لا يجوز إطلاق هذه العبارة، فمفهومه أنه مع التقييد الرافع للإيهام يجوز.
قال عليه السلام : والأمارات قائمة مقام التقييد حيث تفيد فائدته، ومع ما ذكره الإمامان عليهما السَّلام لا تستقيم دعوى الإجماع من العدلية، لا سيما ودلالة الكتاب، وإطلاقات السنة، والآثار العلوية قاضية بخلافه، ويمكن حمل الإجماع على ما لم تشتهر فيه القرينة الصارفة، أو على ما كان شعاراً،ومما يدل على ضعف الإجماع أن ظاهر كلام الإمام القاسم بن محمد عليه السلام في (الأساس) يدل على أنه لا يمتنع الإطلاق إلا مع قصد المعنى الفاسد، وذلك أنه نص على أنه يجوز أن يقال: إن الله يضل الظالمين بمعنى يحكم عليهم، أو يهلكهم، أو يعذبهم لا بمعنى يغويهم، وهكذا كلامه في كل ما ذكره في فصل المتشابه، وهذا الإمام من مشاهير أئمة العترة المقتفين لآثار سلفهم، الحريصين على نقل مذاهبهم، ومن أراد الاحتياط لدينه والتوثق بالعروة الوثقى فليستضيءْ بنور القرآن، ويتبعه في صفات الرحمن، فيطلق ما أطلق، ويمسك عما ليس فيه إلا ما كان في صحيح السنة، وكلام الوصي، وأئمة الهدى أثره، فهو في حكم ما في القرآن، كما نص عليه باب مدينة العلم عليه السلام ، وقد مر عنه عليه السلام الإطلاق في مواضع، وكذلك أطلق الهادي وغيره الوجوب على الله وهم القدوة، وبهم الأسوة.
المسألة الثامنة [الهداية]
قد تقدم ذكر معاني الهداية في قوله تعالى: {اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ}[الفاتحة:6] واللبيب الحازم لا يخفى عليه المعنى اللائق بقوله تعالى: {وَيَهْدِي بِهِ كَثِيراً}[البقرة:26] والأشبه أن تكون الهداية فيها بمعنى التوفيق واللطف، وهو اختيار الإمام القاسم بن محمد عليه السلام ويكون ذلك جزاءً على أعمالهم الصالحة، وكون الهدى بمعنى التوفيق جزاء إنما هو على مذهب الهادي والناصر، وأما على ما ذهب إليه الإمام أحمد بن سليمان من أنه لا يكون جزاءً، بل تفضلاً فلا، ولكن إن كان وجهاً مستقلاً فهو قوي في حمل الآية عليه، وإنما اخترنا هذين الاحتمالين؛ لأن الله تعالى جعله مرتباً على تصديقهم بضرب المثل، فكأنه تعالى جعل لهم هذه الهداية بسبب إيمانهم تفضلاً واستحقاقاً له مع احتمال غيرها من المعاني السابقة، ما عدا ما كان بمعنى الدلالة والدعاء؛ لأن الله تعالى لم يخص بهما أحداً كما مر، ولا يجوز منه ذلك مع التكليف.
وقالت المجبرة فيما حكاه الرازي عنهم: هاهنا وجه آخر وهو: أن يكون الهدى بمعنى خلق الهداية والعلم قال الله: {وَاللَّهُ يَدْعُو إِلَى دَارِ السَّلاَمِ وَيَهْدِي مَنْ يَشَاءُ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ}[يونس:25].
والجواب: أن هذا المعنى غير ثابت في اللغة؛ إذ لا يقال لمن أجبر غيره وأكرهه على سلوك طريق أنه هداه إليه، وإنما يقال رده إليه وأكرهه عليه على أنه لو صح من جهة اللغة لامتنع من جهة العقل لما مر من بطلان القول بالجبر.
فإن قيل: إنما يكون ممتنعاً عقلا على القول بالجبر المحض، وأما على رأي من يثبت للعبد كسباً فلا؛ لأنه يقول: الهدى خلق لله وكسب للعبد.
قيل: هذا الكسب غير معقول، سلمنا فوقوع حركة العبد للطاعة وغيرها إن كان خلقاً لله، فمتى خلقه الله استحال من العبد الامتناع منه، وإذا لم يخلقه استحال منه الإتيان به وهذا عين الجبر، وإن لم يكن خلقاً لله فهو مذهبنا، وأيضاً لو كان كما قلتم لكان لا يخلو من أن يخلقه الله ثم يكتسبه العبد، أو العكس، أو يقع الأمران معاً، إن كان الأول لزم الجبر، وإن كان الثاني لزم أن يكون الباري تعالى مجبوراً على خلقه -تعالى الله عن ذلك- وإن كان الثالث لزم أن لا يحصل الفعل إلا بعد اتفاقهما، والمعلوم عدم الاتفاق، ولو قدر وقوعه احتاج إلى اتفاق آخر؛ لأنه من جملة الأفعال المحتاجة إلى ذلك، فيؤدي إلى ما لا نهاية له وهو محال.
أجاب الرازي بأنه قد ثبت بالدليل العقلي القاطع أن الله تعالى خالق أفعال العباد إما بواسطة، أو بغير واسطة، وما تمسكتم به فوجوه نقلية قابلة للاحتمال، فلا تقاوم القطعي.
والجواب: أنه لا دليل لكم لا من العقل ولا من النقل، والشبه العقلية التي تمسكتم بها قد أبطلناها في الاستعاذة وغيرها، والمتشابهات التي اتبعتموها قد بينا الوجوه الصحيحة فيها.
وأما قولكم: إنا لم نتمسك إلا بوجوه نقلية فتجاهل ظاهر، فإنه لا يخفى عليكم أنا قد أشرقناكم بريقكم، وأنشبنا الشجا في حلوقكم، وأتينا من البراهين العقلية بما عجزتم عن دفعه إلا بإنكاركم لحكم العقل الذي يعلمه كل عاقل، على أن أدلتنا النقلية واضحة صريحة قاطعة، وبدفع ما في بعضها من الاحتمال الباطل مخالفته لقضية العقل المبتوتة، وما وضح بطلانه من الاحتمالات فهو في حكم المعدوم، فلا يصح القدح به في دلالة الدليل. والله الموفق.
المسألة التاسعة [في الفسق والفساق]
في قوله تعالى: {وَمَا يُضِلُّ بِهِ إِلاَّ الْفَاسِقِينَ}[البقرة:26] دليل على ثبوت الفسق، ولا خلاف فيه في الجملة.
قال الإمام المهدي: اتفق الناس على أن مرتكب الكبيرة من المسلمين يسمى فاسقاً لقوله تعالى عقيب قذف المحصنة: {وَأُوْلَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ}[النور:4] ونحوها، ولا خلاف أيضاً أن الكافر يسمى فاسقاً لخروجه عن طاعة الله، ولا خلاف أن البر التقي لا يسمى فاسقاً ولا كافراً.
واعلم أن المعاني الثابتة للفسق ثلاثة:
أحدها: بحسب أصل اللغة وهو الخروج كما مر، يقال: فسقت الرطبة إذا خرجت من قشورها.
الثاني: بحسب عرفها؛ وهو الخروج على جهة الإضرار، ومنه قيل للفأرة: فويسقة؛ لخروجها من جحرها لطلب المضرة. ذكره في (الغياصة).
الثالث: بحسب اصطلاح المتكلمين؛ وهو ارتكاب كبير من الذنوب غير كفر عمداً، والمراد بقوله: غير كفر أي غير كفر جحود، وإنما أطلق؛ لأنه المتبادر عند الإطلاق غالباً، وكفر النعمة يقيد بها، والفاسق المرتكب كذلك، وهذا الحد هو ظاهر كلام أئمة العترة" بل لا يبعد الاتفاق عليه لما مر، وفي (الأساس) وشرحه: ومرتكب الكبيرة الغير المخرجة من الملة يسمى فاسقاً اتفاقاً بين أهل علم الكلام، وقال في (الغياصة): هو عبارة عن معاني مخصوصة يستحق لأجلها أحكام مخصوصة، وعقاب عظيم دون العقاب الأعظم مع أحكام دنيوية مخصوصة، وهو كالشرح للأول، ومعناه أن صاحب الكبيرة له اسم بين الاسمين، وحكم بين الحكمين، فلا يسمى كافراً ولا مؤمناً بل فاسقاً، ولا يثبت له حكم المؤمن ولا حكم الكافر، بل يكون له حكم ثالث، ولهذا سميت المسألة مسألة المنزلة بين المنزلتين.
قال الرازي: وهي منزلة الفساق والكفار التي بين منزلة المؤمنين والكافرين في هذه الدنيا.
وقال الموفق بالله في (الإحاطة): فإن قيل: فما معنى المنزلة بين المنزلتين؟ قيل: له: إن من ارتكب كبيرة من أهل القبلة لا يوصف بأنه كافر، ولا بأنه مؤمن وإنما يوصف بأنه فاسق عاص طالح متعد.
وفي كلامه عليه السلام بيان الأحكام الدنيوية وهي إطلاق هذه الأسماء عليه، وما ذكرناه من ثبوت المنزلة بين المنزليتن هو قول أئمتنا، وجمهور المعتزلة فلا يسمى مرتكب الكبيرة عندهم مؤمناً ولا كافراً، ولا يجوز وصفه بأحد هذين الوصفين.
قالت المرجئة: بل يسمى مؤمناً، والمراد بالمرجئة بعض العدلية وكل المجبرة، ووافقهم بعض الخوارج في تارك الواجب الشرعي وهم النجدات؛ لأنه لا يسمى كافرا إلا من فعل فعلاً محرما عقلياً، كما مر في السادسة من مسائل أول هذه السورة، وتقدم هنالك أيضاً أن منهم من لا يجعل كل معصية كفراً.
وقالت الخوارج: بل يسمى كافراً إلا أن منهم من أطلق هذا في كل معصية، ومنهم من قيده ببعض المعاصي كما أشرنا إليه قريباً، وحققنا في أوائل هذه السورة.
وحكى الموفق بالله عن الأباضية أنه مشرك.
وقال الحسن البصري: بل يسمى منافقاً.
قلت: وقريب منه قول الناصر كما مر في قوله: {وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَقُولُ آمَنَّا بِاللَّهِ}[البقرة:8].
احتج الأولون على أنه لا يسمى مؤمناً بما مر في السادسة من قوله تعالى: {يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ}[البقرة:3] من الأدلة عقلاً وشرعاً القاضية بأن الإيمان اسم مدح على الإطلاق، والفسق اسم ذم على الإطلاق، فلا يجتمعان في حق شخص واحد لاستحالة أن يكون ممدوحاً مذموماً في حالة واحدة.
فإن قيل: لا مانع من ذلك مع اختلاف الجهة فيكون ممدوحاً لإيمانه مذموماً لفسقه، كمن أحسن إلى شخص وأساء إليه، فإنه يستحق شكر إحسانه، وذم إساءته.
قيل: إنما يتم هذا لو كان الإيمان هو التصديق فقط، وقد أبطلناه فيما مر، فلا إيمان حتى يستحق عليه المدح، وأما القياس الذي استندوا إليه فقد مر جوابه في الخامسة من مسائل قوله تعالى: {وَبَشِّرِ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ}[البقرة:25].
قال الإمام المهدي: ويوضح ما ذكرناه من تنافي لفظ المؤمن والفاسق قوله تعالى: {أَفَمَنْ كَانَ مُؤْمِناً كَمَنْ كَانَ فَاسِقاً لاَ يَسْتَوُونَ}[السجدة:18] فأوضح سبحانه أن بين الوصفين تنافيا فلا يصح اجتماعهما لشخص واحد؛ إذ لو صح لم يصدق نفي تساويهما؛ إذ لقائل أن يقول: إذا كان الفاسق هو المؤمن فهما مستويان، وهذا واضح كما ترى.
واحتجوا على أنه لا يسمى كافراً بأن للكفر حقيقتان: لغوية واصطلاحية كما مر في قوله تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا سَوَاءٌ عَلَيْهِمْ...}الآية[البقرة:6]، فإما أن يقال: إن الفاسق يسمى كافراً بالنظر إلى المعنى اللغوي، أو بالنظر إلى المعنى الاصطلاحي، وبأيهما يقال فهو باطل، أما الأول؛ فلأن الفاسق يسمى فاسقاً وإن لم يغط شيئاً، ولو أريد بالفسق الكفر اللغوي لم يسم فاسقاً إلا من غطى شيئاً، وأيضاً حقيقة كل واحد منهما لغة مباينة لحقيقة الآخر، ويلزم أن لا يقتصر في هذا الاسم على الفاسق، بل يطلق على كل من غطى شيئاً ولو نبياً أو ولياً.
وأما الثاني فبطلانه من وجوه:
أحدها: أن الحقيقة الاصطلاحية لم تتناول مرتكب الكبيرة كما مر تحقيقها في قوله تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا}.
الثاني: أن الكافر في الشرع اسم لمن يستحق أعظم العقاب ويختص بأحكام مخصوصة نحو المنع من المناكحة، والموارثة، والدفن في مقابر المسلمين، ومعلوم أن صاحب الكبيرة لا يستحق أعظم العقاب، ولا تجري عليه هذه الأحكام.
قال الهادي عليه السلام : وقد قامت السنة عندنا بمناكحة أهل الكبائر من أهل الصلاة نسائهم ورجالهم، وموارثتهم، وأكل ذبائحهم، وأنه لا يتوارث أهل ملتين شيئاً، وأطال عليه السلام الكلام في ذلك وقال في من جعل حكم الفساق حكم إحدى ملل الكفر: إنه قد خالف حكم رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فإنه لم يكن يحكم في أهل الحدود ونحوهم بأنهم مشركون أو منافقون، ولا يحرم مناكحتهم، ولا موارثتهم، ولا ذبائحهم، ولا يفرق بينهم وبين نسائهم، ولا تؤخذ منهم الجزية، بل كانوا يسمون بالأسماء القبيحة من الفسق والظلم والفجور، هذا حاصل كلامه عليه السلام .
إذ عرفت هذا فالقائل بأنه يسمى كافراً شرعاً لا يخلو إما أن يقول بذلك ولا تجري عليه تلك الأحكام كما رواه في (الغياصة) عن بعضهم، أو مع إجرائها كما هو قول أكثرهم، الأول باطل؛ لأن هذا الاسم لا يجري في الشريعة إلا على من تجري عليه تلك الأحكام، مع أن القول بهذا يسير؛ لأنه يعود إلى الخلاف في العبارة أو إلى ما ذهب إليه بعض الأئمة من تسميته كافر نعمة، والثاني أيضاً باطل لمخالفته ما كان عليه الصحابة قبل الفتنة وبعدها، أما قبلها فالمعلوم من حالهم في وقت المشائخ أنهم لم يكونوا يسمون من شرب الخمر كافراً، والزاني والسارق، بل يجرون عليهم الحدود، ثم يعاملونهم معاملة المسلمين في أنهم لا يمنعونهم من المساجد، ولا يحرمون مناكحتهم وغير ذلك، وهذه الأحكام تابعة للتسمية، وكانوا لا يسمونهم مرتدين، وأما بعد الفتنة فالمعلوم من سيرة أمير المؤمنين عليه السلام في أهل البغي أنه لم يبدأ بقتالهم، ولم يتبع مدبرهم، ولم يسمهم كفرة.
قال السيد مانكديم في (شرح الأصول): ولهذا لما سئل عليه السلام عنهم أكفار هم؟ فقال: من الكفر فروا، فقال: أمسلمون هم؟ قال: لو كانوا مسلمين ما قاتلناهم، كانوا إخواننا بالأمس فبغوا علينا. فلم يسمهم كفاراً ولا مسلمين، بل أثبت لهم منزلة بين المنزليتن، وأجرى عليهم الاسم الذي يليق بهم وهو البغي.
قال الإمام المهدي: المعلوم ضرورة أنه لم يُكَفِّر علي عليه السلام طلحة والزبير حين خرجا عليه وقد فسقا بالخروج عليه؛ لأن الخروج على الإمام بغي، والبغي فسق إجماعاً، وكانت الصحابة حينئذٍ مجمعة على ذلك؛ لأن الخوارج إنما حدث خلافهم عند التحكيم وكان متأخراً عن يوم الجمل، فلو كان كل معصية كفراً لأنكر الصحابة على علي عليه السلام كونه لم يسمهم كفاراً وكونه لم يجر عليهم أحكام الكفار في القتل والسبي، بل طلبوا منه أن يقسم الغنائم بينهم، فقال: أيكم تأتي عائشة في سهمه؟! فاعترفوا بالخطأ فيما توهموه من أن حكمهم حكم الكفار، وقالوا: أصبت وأخطأنا، فصار إجماعاً عنهم على أنه لا يجوز الحكم بكفرهم ولا تسميتهم كفاراً.
قلت: مقتضى كلام الإمام عليه السلام أن الحجة موافقة الصحابة لعلي عليه السلام لا مجرد قوله وما فعله وليس كذلك فإن الحجة عندنا وعند قدماء أئمة العترة" ومن تبعهم من خلفهم وشيعتهم هي قول الوصي وفعله، والأدلة في ذلك معلومة.
قال السيد مانكديم بعد أن روى عنه ما مر: وقوله عليه السلام حجة.
الوجه الثالث من الوجوه التي أبطل بها القول بتسمية الفاسق كافراً بحسب المعنى الاصطلاحي: إن الكبيرة لو كانت كفراً لم يشرع اللعان بين الزوجين؛ وذلك أن أحدهما قد فسق قطعاً إما المرأة بالزنا أو الزوج بالقذف، فلو كان الفسق كفراً لم يحتج في الفرقة بينهما إلى لعان؛ إذ اختلاف الملتين توجب الفرقة إجماعاً لقوله تعالى: {لاَ هُنَّ حِلٌّ لَهُمْ وَلاَ هُمْ يَحِلُّونَ لَهُنَّ}[الممتحنة:10] ونحوها، فثبت بما ذكرنا أن صاحب الكبيرة لا يجوز أن يسمى كافراً، ولا أن تجرى عليه أحكام الكفر، وكما أنه لا يسمى كافراً، فكذلك لا يسمى مشركاً كما تقول الأباضية؛ لأن الكافر والمشرك واحد، وقد ثبت أنه لا يسمى كافراً فكذلك ما هو في معناه، والدليل على أن الشرك في معنى الكفر أنا نصف المجوسي، واليهودي، والنصراني بأنه مشرك، فدل على أنه منقول عن معناه الأصلي؛ لأنه في الأصل اسم لمن شارك غيره، أو ضم شيئاً إلى شيء، وأيضاً جاء القرآن بذلك قال تعالى: {ثُمَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بِرَبِّهِمْ يَعْدِلُونَ}[الأنعام:1] أي يشركون، قال الموفق بالله: بإجماع المفسرين، وقال تعالى: {فاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ}[التوبة:5] قال الموفق بالله: ولا خلاف أن المراد به أهل الكتاب، وقال تعالى حاكياً عن اليهود والنصارى: {وَقَالَتِ الْيَهُودُ عُزَيْرٌ ابْنُ اللَّهِ}[التوبة:30].
هذا وأما ما ذهب إليه الحسن من أنه يسمى منافقاً فقد مر الكلام عليه في الأولى من مسائل قوله تعالى: {وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَقُولُ آمَنَّا بِاللَّهِ وَبِالْيَوْمِ الآخِرِ}[البقرة:8].
واعلم أن للمرجئة والخوارج شبهاً يتمسكون بها، فأما المرجئة فقد مر في سياق قوله تعالى: {يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ}[البقرة:3] اختلاف أهل الإسلام في حقيقة الإيمان، وأنه ذهب كثير من الفرق إلى أنه اسم لبعض الأركان التي ذكرها أئمة العترة، وجمهور المعتزلة في بيان معناه الشرعي، وإذا كان مقصوراً على بعض تلك الأركان، وكان الفاسق آتياً بذلك البعض وجب أن يسمى مؤمناً؛ لحصول حقيقة الإيمان فيه بزعمهم، وهذا إحدى الشبه التي يتمسكون بها.
والجواب: يؤخذ من هنالك، ففيه مقنع لمن أراد تحقيق مذهب أئمة العدل في ماهية الإيمان وإبطال ما عداه.
ولنذكر للمرجئة في هذا الموضع شبهتين: إحداهما عقلية، والأخرى سمعية:
أما الأولى فقالوا: قد علمنا أن الفاسق يجري عليه طرف من أحكام الإيمان وهو التوارث والتناكح ونحوهما، وطرف من أحكام غير المؤمنين وهو التبري واللعن ونحوهما، فيجب أن يكون موصوفاً بهما جميعاً، وفي ذلك تسميته مؤمناً وهو مطلوبنا.
والجواب: أنه لا يتم ما ذكرتم إلا لو كان تسمية المؤمن مؤمناً لإجراء بعض أحكام الإيمان عليه؛ لأنه لم يسم لأجل ذلك، بل لإتيانه بالواجب واجتنابه المحرم ، والفاسق ليس كذلك.
وأما الشبهة السمعية فقوله تعالى: {الَّذِينَ آمَنُوا وَلَمْ يَلْبِسُوا إِيمَانَهُمْ بِظُلْمٍ...}الآية[الأنعام:82].
قالوا: فأوضح تعالى أن الظلم قد يختلط بالإيمان، والظلم فسق فيصح كون الشخص الواحد مؤمناً، فاسقاً، وهذا عين مطلوبنا.
والجواب: أن الآية إنما تدل على صحة اجتماع الإيمان اللغوي وفعل الظلم، ونحن لا ننكر ذلك؛ لأن الله تعالى قد أثبت الإيمان اللغوي مع الشرك في قوله تعالى: {وَمَا يُؤْمِنُ أَكْثَرُهُمْ بِاللَّهِ إِلاَّ وَهُمْ مُشْرِكُونَ}[يوسف:106] وإنما ننكر اتصاف الظالم بالإيمان الشرعي، وفي التحقيق أنهم بنوا مذهبهم على أن الإيمان باق على معناه اللغوي، وقد أبطلناه فيما مر، وأيضاً لو كان باقياً على المعنى اللغوي للزم اجتماعه مع الشرك، فيوصف الشخص الواحد بأنه مؤمن ومشرك وهم لا يقولون به.
هذا وأما الخوارج فلهم شبه كذلك عقلية وسمعية
أما العقلية فأحدها أن الفاسق يستحق الذم والإهانة وعذاب النار، فيجب أن يكون كافراً.
والجواب: أن هذا لا يصح الاحتجاج به إلا لو كان الكافر لم يسم كافراً إلا لذلك، وليس كذلك، فإنه إنما سمي كافراً لاستحقاقه العقاب الأعظم ، وأحكام مخصوصة، وليس شيء من ذلك ثابتاً للفاسق.
الشبهة الثانية [شبهة أن التقسيم الديني للكفر والإيمان]
أن الإيمان والكفر دينان معلومان ولهما أحكام، فلو كان الفسق منزلة ثالثة لكان ديناً معلوماً وله أحكام.
والجواب: أن للفسق أحكاماً تخالف أحكامهما، ولا يلزم تسميته ديناً مستقلاً؛ إذ لا يسمى ديناً إلا ما كان من باب الاعتقاد.
قلت: الفسق قد يكون من باب الاعتقاد كالباغي إذا كان معتقداً أنه محق في بغيه، والكفر قد لا يكون من باب الاعتقاد كلبس الزنار، وإظهار كلمة الكفر اختياراً ممن لا يعتقد معناها ونحو ذلك، فالأولى أن يقال: لا نسلم أن كل كفر يكون ديناً أي يعتقده صاحبه ديناً، فكذلك الفسق لا يجب فيه ذلك، بل كل منهما قد يكون ديناً وقد لا يكون ديناً، وأما الأحكام فقد ثبت لكل منهما حكم يخالف حكم الآخر.
الشبهة الثالثة [الصلة بين الفسق والكفر]
أن الفسق يضاد الإيمان ويمنعه، فيجب أن يكون كفراً.
والجواب: لا نسلم أنه يضاده، بل يخالفه، فيجوز أن يكون معه بعض خصال الإيمان. فهذه شبههم العقلية.
وأما السمعية: فآيات كثيرة من كتاب الله، وسنتكلم عليها في مواضعها إن شاء الله إلا أنا نذكر منها شبهة واحدة هي أقوى ما تمسكوا به، وهي قوله تعالى: {وَالَّذِينَ كَفَرُوا بِآيَاتِنَا هُمْ أَصْحَابُ الْمَشْأَمَةِ}[البلد:19] فليكن كافراً.
والجواب: أن الآية واردة مورد المبالغة في استحقاق الكفار للنار، فكأنهم لكبر معصيتهم، وعظم عقابهم، وقوة استحقاقهم إياه هم أصحاب المشأمة المستحقون لدخول النار دون غيرهم، ونظيرها ما مر في وجه اختصاص المتقين بكون القرآن هدىً لهم في قوله: {هُدًى لِلْمُتَّقِينَ}[البقرة:2] مع أنه هداً للناس، ومنه قوله: {أُوْلَئِكَ هُمُ الْمُؤْمِنُونَ حَقّاً}[الأنفال:4] فكأنه قال لا مؤمن غيرهم، وليس المراد به إلا للمبالغة في وصفهم بالإيمان لما علم من ثبوت إيمان من لم يستكمل تلك الأوصاف، ومنه قوله صلى الله عليه وآله وسلم لما سمع من يذم كفار قريش: ((إن أولئك للملأ)) فكأنه قال: لا ملأ غيرهم، وغير ذلك كثير.
فإن قيل: إنما وجب حمل هذه النظائر على المبالغة للعلم بأن الظاهر غير مراد، بخلاف هذه الآية فلا موجب لحملها على ذلك.
قيل: بل الموجب ما مر من أن الفاسق ليس بكافر.
تنبيه [الفرق بين الفاسق والكافر عند العترة]
وما مر عن أئمة العترة من أن الفاسق لا يسمى كافراً، فالمراد أنه لا يسمى كافراً بالمعنى الذي ذهبت إليه الخوارج، وأما إطلاق الكفر عليه وتسميته به على معنى أنه كافر بأنعم الله فهو قول الصادق، والقاسم، والناصر، ونص عليه الهادي في مسائل الرازي ولم يقيده بكفر النعمة، بل أطلق القول بكفره، وأطال في الاحتجاج عليه وأطلقه أيضاً غيره، والظاهر أنه إجماع قدماء العترة".
قال القاسم: والكافر من لم يحكم بما أنزل الله، وأقام على ما نهى الله عنه لقوله سبحانه: {وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنزَلَ اللَّهُ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الْكَافِرُونَ}[المائدة:44] وهذا مما لا اختلاف فيه عن آل رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ، ولا يجهله منهم إلا كل جهول، ذكره في (الجامع الكافي) .
وفي الجامع أيضاً عن القاسم في قوله تعالى: {وَمَنْ كَفَرَ فَإِنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ عَنِ الْعَالَمِينَ}[آل عمران:97] قال: الكفر هو الترك بعد الاستطاعة، ومن ذلك أيضاً إنكاره وجحوده، وفيه عن الباقر في هذه الآية قال: من لم يكن به من مرض أو سلطان فلم يحج فهو كما قال الله، وفيه عن الحسن بن يحيى، ومحمد بن منصور أن من ترك صلاة واحدة متعمداً حتى مات وهو ذاكرٌ لها، مستطيع أن يؤديها فلم يؤدها فهو كافر.
وفي (شرح القلائد) للإمام المهدي أن الحاكم حكى هذا القول -يعني تسمية الفاسق كافر نعمة- عن الزيدية.
قلت: وهو مذهب الإمام أحمد بن سليمان ورواه عن المعتزلة، وفي الرواية عنهم نظر، ورواه في (الأساس) عن ابن عباس، وفي(البدر الساري) عن المرتضى، وفي (شرح الأصول) عن جماعة من الخوارج، وقال الأكثر من العدلية والجبرية: لا يجوز تسميته كافر نعمة، وقال الإمام المهدي: الأقرب أن تسميته بذلك لا تجوز وإن قيد إلا عند جحده لبعض نعم الله تعالى؛ لأنه يكون كذباً.
احتج الأولون بحجج:
أحدها: أنه قد ثبت أن الطاعات شكر لله تعالى على نعمه كما مر في الرابعة من مسائل قوله تعالى: {يَاأَيُّهَا النَّاسُ اعْبُدُوا رَبَّكُمُ}[البقرة:21] فمن تركها أو بعضها فقد أخل بالشكر الذي هو وجه وجوبها، والمخل بالشكر يوصف بأنه قد كفر النعمة التي أنعم عليه بها؛ لأن الإخلال بالشكر هو الكفر في عرف اللغة، ولا شك أن مرتكب الكبيرة بترك واجب، أو فعل محظور مخل بالشكر.
الحجة الثانية: ما ذكره الهادي عليه السلام وهو أن أصل كل كفر وشرك من عبادة الأصنام وغيرها هو المعصية؛ لأن الله تعالى لما نهاهم أن يعبدوا معه غيره فتعدوا وعبدوا معه غيره كانوا له عاصين، وصاروا بمخالفة أمره ونهيه كافرين، وكذلك اليهود والنصارى لم نجد أصل كفرهم إلا معصية الله تعالى في محمد صلى الله عليه وآله وسلم حيث لم يمتثلوا ما أمر الله به من تصديقه واتباعه، فكذلك من ينتحل الإسلام وهو مقيم على كبائر المعاصي، فإنه يجب أن يكون حاله حال من ذكرنا من العاصين؛ لأنه وإن أقر بمحمد -صلى الله عليه وآله- بلسانه فهو جاحد بفعله، معرض عن الله بقلبه.
الحجة الثالثة: أنه قد ثبت النص في كتاب الله بتسمية مرتكب بعض الكبائر كافراً فليطلق على مرتكب غيرها من الكبائر لعدم الفارق، فمن ذلك آية الحج، ومنه قوله تعالى: {إِنَّ الْمُبَذّرِينَ كَانُوا إِخْوَانَ الشَّيَاطِينِ وَكَانَ الشَّيْطَانُ لِرَبِّهِ كَفُوراً}[الإسراء:27] ومنه قوله تعالى: {وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنزَلَ اللَّهُ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الْكَافِرُونَ}[المائدة:44]، وقد روي أن هذه الآية وقوله: {فَأُوْلَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ}[المائدة:45] و{هُمُ الْفَاسِقُونَ} [المائدة:47] نزلت في هذه الأمة كما سيأتي في موضعه.
وقال الناصر: الكافرون في المسلمين، والظالمون في اليهود، والفاسقون في النصارى، رواه عن الشعبي وهي نص في أن من عصى الله بالحكم بغير ما أنزل الله فهو كافر، وقد استدل بها الهادي على كفر كل من عصى الله؛ لأن العاصي لم يحكم بما أنزل الله ولفظه: ومن ترك فرائض الله وسعى في ضدها من حرام الله فليس من المهتدين، ومن كان كذلك فهو لله من العاصين، ومن عصى الله، وفسق في دينه، وخالف أمره في نفسه أو غيره فلا يحكم في فعله بحكم الله، ومن لم يحكم بما أنزل الله فهو من الكافرين، وذكر الآية، ثم قال: فأخبر الله سبحانه بالدلالة على الكافرين، ووصفهم بالعدول عن شرائع الدين، ومن عدل عن شرائع الدين ولم يحكم في فعله بحكم رب العالمين فهو في حكم الله عنده من الكافرين، لا يسميه ذو عقل وبيان فيما أبانه من المعاندة بحكم الله من العصيان إلا بما سماه الله سبحانه من الكفران. ذكره في جواب الرازي.
وقد استدل الناصر في (البساط) بآيات كثيرة على ما ذهب إليه، وسيأتي بيان دلالتها في مواضعها إن شاء الله.
الحجة الرابعة: أن السنة الصحيحة والآثار عن أمير المؤمنين عليه السلام وغيره من السلف قد دلت على كفر مرتكب الكبيرة، ولنذكر منها في هذا الموضع ما ذكره الناصر عليه السلام في (البساط) ولم نذكر من خرج هذه الأحاديث من أئمتنا والمحدثين في هذا الموضع؛ لأنه سيجيء لبعضها مواضع تستدعي ذكرها هي أخص بها، فأرجينا استيفاء الطرق إلى هنالك هرباً من التطويل، قال عليه السلام : وهذا شيء مما رويناه من الحديث في تصحيح ما ذكرناه مما هو متبع للقرآن وموافق له: حدثنا بشر، قال: حدثنا وكيع، قال: حدثنا مبارك، عن الحسن، قال: قال رجل: يا رسول الله -صلى الله عليه وآله: ((الحج كل عام؟ قال: لو قلت: نعم لوجب، ولو وجب ما قمتم بها، ولو تركتموها كفرتم)).
قال: وحدثنا بشر، قال: حدثنا، وكيع، قال: حدثنا سفيان، قال: حدثنا علي بن بذيمة، قال: سمعت أبا عبيدة يقول: قال رسول الله -صلى الله عليه وآله: ((لما وقع النقص في بني إسرائيل جعل أحدهم يرى أخاه على الذنب فينهاه عنه ولا يمنعه ذلك أن يكون أكيله وشريبه وجليسه، فصرف الله قلوبهم بعضهم ببعض، ونزل فيهم القرآن: {لُعِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ...} إلى آخر أربع آيات {وَلَكِنَّ كَثِيراً مِنْهُمْ فَاسِقُون}[المائدة:78-81])) قال: وكان رسول الله -صلى الله عليه وآله- متكئاً فاستوى جالساً ثم قال: ((كلا والذي نفسي بيده حتى تأخذوا على يدي الظالم فتأطروه على الحق أطرا)) قال الحسن بن علي عليه السلام : يأطروه على الحق أي يعطفوه على الحق عطفاً.
قال: وحدثنا بشر قال: حدثنا وكيع قال: حدثنا سفيان، عن الأعمش، عن أبي الضحى، عن مسروق أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم خطب الناس في حجة الوداع فقال: ((ألا لا ترجعن بعدي كفاراً يضرب بعضكم بعضا، ألا ولا يؤخذ الرجل بجريرة أخيه)).
قال: وحدثنا بشر، قال: حدثنا وكيع، قال: حدثنا فضيل بن غزوان، عن نافع، عن ابن عمر، قال: قال رسول الله -صلى الله عليه وآله: ((أيما رجل كفر رجلاً فأحدهما كافر)).
قال: وحدثنا بشر، قال: حدثنا وكيع، قال: حدثنا سفيان، عن عبد الله بن دينار، عن ابن عمر، قال: قال رسول الله -صلى الله عليه وآله: ((أيما امرئ قال لأخيه: يا كافر، فقد باء بها أحدهما)) قال عبد الله: وسمعت ابن عمر يقول: أحق ما طهر المسلم لسانه.
قال: وحدثنا بشر، قال: حدثنا وكيع، قال: حدثنا ابن هلال، عن الحسن، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم : ((سباب المؤمن فسق وقتاله كفر)).
قال: وحدثنا بشر، قال: حدثنا وكيع، قال: حدثنا المسعودي، عن القاسم بن محمد، والحسن بن سعيد،قال: قيل لعبد الله: إن الله يكثر ذكر الصلاة في القرآن {الَّذِينَ هُمْ فِي صَلاَتِهِمْ خَاشِعُونَ}[المؤمنون:2] {وَالَّذِينَ هُمْ عَلَى صَلاَتِهِمْ يُحَافِظُونَ}[المعارج:34]، فقال عبد الله ذلك على مواقيتها، قالوا: يا أبا عبد الرحمن ما كنا نرى ذلك إلا على تركها، فقال عبد الله: تركها الكفر.
قال: وحدثنا محمد بن منصور، قال: حدثنا أحمد بن عيسى بن زيد، عن ابن علوان، عن أبي خالد ، عن زيد، عن آبائه، عن علي"، قال: قال رسول الله -صلى الله عليه وآله: ((سيأتي على الناس أئمة بعدي يميتون الصلاة كميتة الأبدان، فإذا أدركتم ذلك فصلوا الصلاة لوقتها، ولتكن صلاتكم مع القوم نافلة فإن ترك الصلاة عن وقتها كفر)).
قال: وحدثنا محمد بن منصور، قال: حدثنا حرب بن الحسن، قال: حدثنا حيان بن سدير، قال: حدثنا سديف المكي، قال: حدثني محمد بن علي وما رأيت محمديا يعدله قال: حدثنا جابر بن عبد الله الأنصاري، قال: خطبنا رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ، فقال: ((يا أيها الناس من أبغضنا أهل البيت بعثه الله يوم القيامة يهودياً، قال: قلت: يا رسول الله، وإن صام وصلى وزعم أنه مسلم؟ قال: وإن صام وصلى وزعم أنه مسلم)).
قال: وحدثنا بشر عن عطية الكاهلي، عن علي عليه السلام ، قال: (المكر غدر والغدر كفر).
قال: وحدثنا بشر، قال: حدثنا وكيع، قال: حدثنا سفيان، عن زبيد، عن أبي وائل، عن عبد الله، قال عبد الله: سباب المسلم فسق، وقتاله كفر، قال سفيان:قال زبيد: قلت لأبي وائل أنت سمعته؟ قال: نعم،قال الحسن بن علي بن الحسن عليه السلام : إنما اتبع قول رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم .
قال: وحدثنا وكيع، قال: حدثنا عبد الله بن موسى، قال: أخبرنا هاشم بن البريل، ومحمد بن إسماعيل الزبيدي، عن سعيد بن حنظلة، عن مازن العبدي، قال: قال علي عليه السلام : ما وجدت إلا القتال أو الكفر.
قال: وحدثني محمد بن منصور، قال: حدثني أحمد بن عيسى، عن الحسين، عن أبي خالد، عن زيد، عن آبائه، عن علي عليه السلام ، قال: قال له رجل: يا أمير المؤمنين، أرأيت قومنا أمشركون هم -يعني أهل القبلة؟ قال: (لا والله ما هم بمشركين ولو كانوا مشركين ما حلت لنا مناكحتهم، ولا ذبائحهم، ولا مواريثهم، ولا المقام بين أظهرهم، ولا جرت الحدود عليهم، ولكنهم كفروا بالأحكام، وكفروا بالنعمة والأعمال غير كفر الشرك) قال الحسن بن علي عليه السلام : يعني شرك العدل بالله لا شرك الطاعة للشيطان مع الله.
قال: وحدثنا محمد بن منصور، عن ابن هاشم، عن محمد بن إسماعيل، عن معقل الخثعمي قال: جاء رجل إلى علي عليه السلام فسأله عن امرأة لا تصلي فقال: من لم يصل فهو كافر.
قال: وحدثنا محمد بن منصور، قال: حدثنا أبو كريب عن حفص، قال: حدثنا أشعث، عن كردوس، قال: سمعت على المنبر رجلاً من أهل بدر -يعني عليا- قال: رب غاد قد غدا فما يؤوب إلى أهله حتى يعمل عملاً يدخل به النار، ثم قرأ {يَوْمَ تَبْيَضُّ وُجُوهٌ وَتَسْوَدُّ وُجُوهٌ فَأَمَّا الَّذِينَ اسْوَدَّتْ وُجُوهُهُمْ أَكَفَرْتُمْ بَعْدَ إِيمَانِكُمْ}[آل عمران:106] يقول: كفروا بعد إيمانهم ورب الكعبة، كفروا بعد إيمانهم ورب الكعبة.
قال: وأخبرني محمد بن خلف العطار، قال: حدثني عمرو بن عبد العزيز، عن أبي بكر بن عياش، قال: حدثني الضبي، قال: بلغ علياً عن لبيد بن عطارد التميمي شيء فأرسل إليه فأخذه فمر به على مسجد سماك وفيه نعيم بن دجاجة التميمي فقام إليه فانتزعه من رسل علي عليه السلام وخلى سبيله، فبلغ ذلك علياً، فأرسل إليه فأخذه فضربه أسواطاً، فقال له نعيم: إن البقاء معك لذل، وإن فرقتك لكفر، قال: أو كذلك هو، قال: نعم، قال: خلوا سبيله.
قال: وحدثنا بشر بن عبد الوهاب، قال: حدثنا وكيع، قال: حدثنا سفيان،عن معمر عن ابن طاووس،عن أبيه،عن ابن عباس {وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنزَلَ اللَّهُ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الْكَافِرُونَ}[المائدة:44] قال: هو كفر، وليس كمن كفر بالله، وملائكته، وكتبه، ورسله.
قال: وحدثنا أبو جنان، عن الضحاك، عن ابن عباس، قال: من كان له مال تجب فيه الزكاة فلم يزكه، أو مالٍ يبلغه حج بيت الله فلم يحج سأل عند الموت الرجعة، قال: فقال رجل: اتق الله يا ابن عباس إنما سألت الكفار الرجعة، فقال ابن عباس: أنا أقرأ بها عليك القرآن {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لاَ تُلْهِكُمْ أَمْوَالُكُمْ وَلاَ أَوْلاَدُكُمْ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ...} إلى قوله: {فَأَصَّدَّقَ وَأَكُنْ مِنَ الصَّالِحِينَ}[المنافقون:9،10] قال: فقال رجل: يا بن عباس، وما يوجب الزكاة؟ قال: مائتان فصاعداً، قال: فما يوجب الحج؟ قال: الزاد والبعير.
وروي لنا عن عبيد الله بن رافع، عن عبد الله بن مسعود، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وآله: ((ما بعث الله نبياً إلا وله حواري فيمكث النبي بين ظهرانيهم ما شاء الله يعمل بينهم بكتاب الله حتى إذا قبض الله نبيه مكث الحواريون يعملون بكتاب الله وبأمره وسنة نبيهم، فإذا انقرضوا كان من بعدهم أمراء يركبون رؤوس المنابر، يقولون ما لا يعرفون، ويعملون ما ينكرون، فإذا رأيتم ذلك فحق على كل مسلم أن يجاهدهم، فإن لم يستطع فبقلبه ليس وراء ذلك إسلام)).
قال: وأخبرني محمد بن علي بن خلف العطار، قال: حدثني بكر بن عيسى الأحول أبو زيد، قال: حدثني عبد الله بن الحسن، قال: حدثني ثابت أبو المقداد، قال: أدركت أصحاب علي عليه السلام متوافرين، قال: فسمى منهم رجالاً كثيراً، قال: قلت لهم: أي شيء كنتم تسمون من خالفكم؟ قال: كنا نسميهم بالفسق، والضلال والنفاق، وبالكفر غير كفر الشرك.
قال الناصر عليه السلام : وفي هذا ما يكثر.
الحجة الخامسة: إجماع قدماء آل محمد" كما تفيده رواية الجامع الكافي عن القاسم، ورواية الحاكم عن الزيدية؛ إذ لا يمكن حمل روايته على إطلاقها لظهور خلاف بعض المتأخرين كالموفق بالله، والسيد مانكديم وغيرهما.
احتج الأكثر بأن كفر النعمة هو جحدها وعدم اعتقادها، والفاسق غير جاحد، بل هو معترف بنعمة الله عليه قولاً واعتقاداً، وحاصل هذه الحجة أنا لا نسلم أن الطاعات شكر، وإنما الشكر هو الاعتراف بالنعمة مع التعظيم بقلبه أو بجارحته، والفسق لا ينافيه فيصح تسميته فاسقاً شاكراً، ولا يسمى كافراً إلا إذا جحد النعمة ولم يعظم فاعلها.
قال السيد مانكديم ما معناه: إنه لا يصح تسميته كافراً لنعمة الله إلا إذا جحدها، والفاسق غير جاحد فكيف يطلق هذا الاسم، فإن جحدها فلا شك في كفره، ومبنى الاحتجاج على أن الطاعات غير شكر، وإنما الشكر الاعتراف كما مر في الرابعة من مسائل قوله تعالى: {يَاأَيُّهَا النَّاسُ اعْبُدُوا رَبَّكُمُ}[البقرة:21].
فإن قيل: قد مر في تلك المسألة عن بعض من لم يجعل الطاعات شكراً، القول بأنها جارية مجرى الشكر، وقرروا ذلك بما يفيد الاعتراف بكونها شكراً، وحينئذ لا يصح قولهم هنا: لا نسلم كون الطاعات شكراً.
قيل: بل يصح ذلك؛ لأنهم وإن أجروها مجرى الشكر في بعض الوجوه فقد فرقوا بينها وبينه من ستة أوجه، وقد ذكرناها في ذلك الموضع، على أن عبارتهم وإن أفادت ما ذكرتم من الاعتراف بكون الطاعات شكراً فقد ذكر النجري أن الشكر ضربان عام وهو الاعتراف، وخاص وهو العبادة، والواجب عقلاً إنما هو الأول، وأما الثاني فلم يجب إلا شرعاً لكونه لطفاً لا لكونه شكراً، والفاسق شاكر بالمعنى الأعم؛ إذ كفر النعمة هو ترك الشكر بالمعنى العام؛ لأنه الذي يوجبه العقل لا غيره.
وقال الإمام المهدي: المعلوم ضرورة أن الشكر المستحق في مقابلة النعم إنما هو الاعتراف بنعمة المنعم مع وقوع تعظيمٍ حيث يستحقه، وأنه لا يجب على من أنعم عليه منعم أن يكد نفسه في خدمته واتباع مراضيه؛ إذ لو أوجبنا عليه ذلك لجرت النعمة مجرى الأجرة، فيكون ذلك معاوضة لا إنعاماً حقيقياً وإن لم يقصد المنعم حصول ذلك الغرض مع علمه بوجوبه، فحينئذ ليس الشكر هو الأعمال ومطابقة رضوان المنعم، وإنما هو الاعتراف على وجه مخصوص، والفاسق لا شك معترف بنعمة الله، معظم لله تعالى، فحينئذ لا يجوز وصفه بأنه كافر نعمة.
قلت: وما ذهب إليه الأكثر من أن الشكر هو الاعتراف هو الذي نص عليه أئمة اللغة كما مر في الثالثة من مسائل الحمد لله رب العالمين، وقد تضمن هذا الاحتجاج الرد للحجة الأولى من حجج الأئمة"، ومن أراد معرفة الحق في كون الطاعات شكراً أم لا فليرجع إلى ما حققناه في سياق قوله تعالى: {يَاأَيُّهَا النَّاسُ اعْبُدُوا رَبَّكُمُ}[البقرة:21] فإن الخلاف هنا فرع على الخلاف ثمة.
هذا وأما سائر ما احتج به الأولون فيمكن الجواب عنه بأن يقال: لا نسلم ما ذكره الهادي من أن علة تسمية المشرك ونحوه كافراً نفي المعصية من حيث أنها معصية، بل من حيث كونها معصية مخصوصة يستحق فاعلها أعظم العقاب في الآخرة، وتجري عليه في الدنيا أحكام مخصوصة من عدم التوارث وغيره مما مر، ولم نجد هذا في الفاسق فلا يصح الإلحاق.
وأما الآيات والأخبار والإجماع المروي عن القدماء" فذلك كله محمول على ما يقتضيه ظاهر الحال من أن العاصي لا يكون إلا جاحداً للنعمة، وبيانه أن المعصية لله تعالى بمنزلة الإساءة إلى المحسن في الشاهد، والإساءة لا تكاد تصدر ممن هو معترف بالإحسان، وإنما تصدر من المنكر غالباً، فإذا علم واشتهر إحسان المحسن إلى من أساء إليه فإن المسيء يُسمى كافر نعمة بناء على الغالب؛ إذ الأغلب من حال البشر أن الإحسان يدعو إلى طاعة المحسن، واجتناب معاصيه وإن لم تكن واجبة، وأنه لا يخالفه ويعصيه إلا من لا يعترف بنعمه، فأجري على المسيء الوصف بكفر النعمة نظراً إلى الغالب من استلزام الإساءة إنكار النعمة وجحدها، وإذا وصف به، فالوصف مشروط بوقوع الجحد للنعمة بحيث لو علم أن المسيء إلى المحسن معترف بإحسانه لم تجز تسميته كافر نعمة؛ إذ ليس بكافر بها، لا يقال إذا أساء إلى المحسن فقد استخف به، ومن حق الشكر أن يصحبه التعظيم،والمستخف بغيره لا يقال إنه معظم له، وإذا انتفى التعظيم فليس بشاكر، فصح وصفه بأنه كافر نعمة؛ لأنا نقول: ليس كل إساءة استخفاف، بل منها ما هو استخفاف كالشتم ولطم الوجه، ومنها ما ليس كذلك كسرقة شيء من ماله، وقتل بعض عياله، فكذلك من يعصي الله واثقاً بعفوه وكرمه، راجياً لثوابه، فإنه غير مستخف بحقه، فلا يصح تسميته كافر نعمة.
وقيل: إن كلام الأئمة" محمول على التشبيه؛ وذلك أن العاصي أشبه جاحد النعمة من حيث أنه لم يفعل ما كلف به مما هو كالشكر مع وفور نعم الله عليه، ولذلك إن الأئمة" لم يكونوا يجرون عليهم أحكام الكفار مع تمكنهم منها، ومع هذا الحمل لا يكون بين العدلية خلاف؛ لأن الظاهر أن الأكثر لا يمنعون إجراء اسم الكافر عليه بهذا المعنى كما تفيده عبارة (الغياصة) إن قيد بما يرفع الوهم، وإلا فالإطلاق يوهم أنه غير معترف ولا مقر.
قال في (الغياصة): واجتناب ما يوهم الخطأ واجب.
وأقول: لا ملجئ إلى تأويل كلام الأئمة" ولا إلى حمل أدلتهم على الغالب، ولقد أجاد الهادي عليه السلام فيما حكيناه عنه في الحجة الثانية، وما قيل في جوابها من أنه ليس العلة في تسمية المشرك ونحوه كفاراً مطلق المعصية دعوى لا دليل عليها.
والحق أن الكفر من الحقائق الشرعية، فمن حكم عليه الشرع بالكفر وسماه كافراً أجرينا عليه ما أجراه عليه الشارع من حكم واسم، ولانسلم أنه لا يسمى كافراً إلا من اختص بأحكام مخصوصة من عدم التوارث، والتناكح ونحوهما، بل هو أنواع منه ما ينافي إجراء أحكام المسلمين عليه، ومنه ما لا ينافيها كما يدل عليه ما مر من قول علي عليه السلام : لكنهم كفروا بالأحكام وكفروا بالنعم والأعمال غير كفر الشرك، وقد أجرى النبي صلى الله عليه وآله وسلم على المنافقين أحكام المسلمين.
قال في (الغياصة): المعلوم من أحكام المنافقين على عهد رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم على حقن دمائهم وأموالهم، وهم في ذلك يشبهون أهل الملة، فأما عقاب الآخرة فيقرب أن عقابهم أعظم لقوله تعالى: {إِنَّ الْمُنَافِقِينَ فِي الدَّرْكِ الأَسْفَلِ مِنَ النَّارِ}[النساء:145] ولا متمسك للأكثر أعظم من قولهم إن الكفر هو الجحد فقط، وهو متمسك ضعيف لما ثبت من أن الكفر هو عدم الشكر، وأن الطاعات من الشكر باعترافهم، ودعواهم أنه لا يجب عقلاً إلا الاعتراف دون الامتثال للأمر والنهي دعوى مجردة عن الدليل، وقد مر في قوله تعالى: {يَاأَيُّهَا النَّاسُ} إقامة الدليل على وجوب امتثال أمر المالك المنعم عقلاً، سلمنا فقد أوضحنا بما ذكرناه من الأدلة الشرعية كتاباً وسنة أن الكفر من الحقائق الشرعية، والأحاديث النبوية في ذلك لا يبعد تواترها معنى، وكلها دالة على أن ارتكاب كبائر العصيان من ترك واجب، أو ارتكاب محظور من الكفر، سواء كان مرتكبها جاحداً أم لا، وما أحسن ما قاله الناصر عليه السلام في (البساط) في تقرير ما ذهب إليه من أن الكفر هو المخالفة لأمر الله تعالى ولفظه: واعلم هداك الله أن الشيطان اللعين الرجيم لم يكن كفره بجحد لربه منه ولا عدل به سواه، وإنما كفره وجحده من طريق ترك طاعته، وأمره إياه بالسجود، واستكباره على آدم لأجل ربه؛ إذ قال: {أَنَا خَيْرٌ مِنْهُ خَلَقْتَنِي مِنْ نَارٍ وَخَلَقْتَهُ مِنْ طِينٍ}[الأعراف:12] فكل عاص لربه كافر كإبليس، وإن أكثر الناس الآن ليأتون من الاستكبار الذي كفر الله به إبليس، وأخرجه به من الجنة ولعنه بأكثر مما جاء به إبليس لا يرون عليهم في ذلك شيئاً، ولا يعظم لديهم، فيقول أحدهم للآخر: تكلمني وتساويني في المجلس والقول وأنا ابن فلان القائد، وابن فلان الملك الجبار المعاند، وابن فلان الموسر الغني، وأنت ابن فلان الفقير المسكين، وابن فلان المؤمن الصانع بيده المكتسب بيديه، وما أشبه
ذلك، ولا تراهم يفخرون بأنه كان نبياً، ولا ورعاً، ولا براً، ولا تقياً، ولا مؤمناً رضياً زكياً، ولا بأنهم في أنفسهم صالحون، ولربهم مرضون مطيعون، ولمعاصيه مجتنبون، ومنها حذرون، وهذا أكبر من استكبار الشيطان أو مثله.
قلت: ويشهد لما ذكره عليه السلام قول أمير المؤمنين بعد أن ذكر ما فعل الله تعالى بإبليس اللعين لتكبره ومخالفته ما أمره الله به، وذلك قوله: فاعتبروا بما كان من فعل الله بإبليس إذ أحبط عمله الطويل، وجهده الجهيد، وكان قد عبد الله ستة آلاف سنة لا يدرى أمن سني الدنيا أم من سني الآخرة عن كبر ساعة واحدة، فمن ذا بعد إبليس يسلم على الله بمثل معصيته، كلاَّ ما كان الله سبحانه ليدخل الجنة بشراً بأمر أخرج به منها ملكاً، إن حكمه في أهل السماء والأرض لواحد، وما بين الله وبين أحد من خلقه هوادة في إباحة ما حرمه على العالمين. رواه في (النهج). والهوادة: الصلح.
ثم قال الناصر عليه السلام بعد ما تقدم: غير أن الكفر والجحد والكبر يختلف، فبعضه أعظم وأجل إثماً وعقاباً، فمنه ما يزيل عن الملة، ويوجب سفك الدماء، وإحلال المال والسبي، وبعضه يوجب الحدود التي ذكرها الله، وليس ما أوجب الحد مزيل عن الملة؛ لأنه لا يجتمع وجوب سفك الدم والسبي، وغنيمة المال، وإقامة الحدود في حال واحدة، ومنها للأدب والزجر اللذين جاءت بهما السنة عن رسول الله -صلى الله عليه وآله- ثم ذكر عليه السلام أنه لا ينبغي أن يقال للعاصي من المسلمين يا كافر لئلا يسبق إلى الأفهام أنه أراد الكفر المخرج عن الملة، وإن كان هذا الاسم واقعاً على جميع الذنوب في اللغة والعقل.
فائدة
قال الإمام المهدي: حكى الفقيه عبد الله بن زيد إجماع قدماء أهل البيت" على نفي المنزلة بين المنزلتين.
قلت: وإذا صح إنكارهم ذلك، فالظاهر أن كفره عندهم غير كفر الشرك والجحود المخرج عن الملة كما مر.
وقال الإمام المهدي: إذا صح عنهم ذلك فالأقرب أنه عندهم كافر نعمة؛ لأن الحاكم قد روى هذا القول عن الزيدية جملة، ولأنهم كثيراً ما يطابقون قول أبي القاسم البلخي كما نحكيه عن القاسم والهادي وهو يجعل العبادات شكراً لا مصالح، وإذا جعلوها شكراً كان المخل بها كافر نعمة، وكذلك يجعلون طاعة الله في اجتناب مناهيه جارية مجرى الشكر، فمن أتى معصية فقد أخل بإحدى جنبتي الشكر فكان إخلاله كفر نعمة.
قال عليه السلام : وهذا رأي المتقدمين منهم، وأما المتأخرون كالمؤيد بالله، وأبي طالب، والسيد مانكديم، والمنصور بالله، وأحمد بن سليمان وغيرهم ممن درس في علم الكلام فإنهم قد صرحوا بإثبات المنزلة بين المنزلتين أي اسماً بين الاسمين، وحكماً بين الحكمين، وهو الحق الواضح المجمع على صحته، فافهم هذه النكتة فإنها غريبة.
قلت: وممن صرح بإثبات المنزلة بين المنزلتين الهادي عليه السلام وقد مر نصه في ذلك، والظاهر أنه قول أهل البيت" جميعاً؛ لأنهم وإن سموا العاصي كافراً فلم يثبتوا له أحكام المشركين ونحوهم، ولا أحكام المؤمنين، ولا معنى للمنزلة بين المنزلتين إلا ذلك. والله أعلم.
المسألة العاشرة [في العهد والميثاق]
قد مر ذكر معنى العهد والميثاق، وقلنا: إن الميثاق هو العهد الموثق باليمين، وذلك بالنظر إلى أصل وضعه، وأما هنا فقال أبو حيان: ليس على ذلك وإنما كني به عن الالتزام والقبول.
وقال ابن جرير: هذا وصف من الله للفاسقين الذين أخبر أنه لا يضل بالمثل الذي ضربه لأهل النفاق غيرهم.
واختلف في معنى العهد المذكور على أقوال ذكرها المفسرون، منها ما يفيد العموم، وأن المراد به وصية الله إلى خلقه، وأمره إياهم بطاعته، ونهيه لهم عن معصيته في كتبه على ألسنة رسله، ونقضهم له: ترك العمل به.
ومنها ما يفيد الخصوص، وأن الآية نزلت في طائفة مخصوصة، غير أنها وإن كانت كذلك فهي متناولة بعموم اللفظ كل من كان على مثل ما كانوا عليه من الضلال.
قال الحاكم: وفي الآية دليل على وجوب الوفاء بالعهد وقبح نقضه، فيدخل فيه أوامر الله، والأيمان والنذور، والمعاقدات.
وقال القرطبي: في الآية دليل على أن الوفاء بالعهد والتزامه، وكل عهد جائز ألزمه المرء نفسه فلا يحل له نقضه، سواء كان بين مسلم أم غيره؛ لذم الله تعالى من نقض عهده وقد قال: {أَوْفُوا بِالْعُقُودِ}[المائدة:1] وقال لنبيه -صلى الله عليه وآله: {وَإِمَّا تَخَافَنَّ مِنْ قَوْمٍ خِيَانَةً فَانْبِذْ إِلَيْهِمْ عَلَى سَوَاءٍ}[الأنفال:58]فنهاه عن الغدر، وذلك لا يكون إلا بنقض العهد، ويؤيد ذلك من السنة ما رواه الإمام أبو طالب في أماليه قال: أخبرنا ابن عدي الحافظ، أخبرنا ابن الأشعث، حدثنا موسى بن إسماعيل بن موسى بن جعفر، عن أبيه، عن جده جعفر بن محمد، عن أبيه، عن جده علي بن الحسين، عن أبيه عن جده علي عليه السلام ، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم : ((لا إيمان لمن لا أمانة له، ولا دين لمن لا عهد له، ولا صلاة لمن لا يتم ركوعها)).
وفي أمالي المرشد بالله عن الحسن، قال: قال رسول الله -صلى الله عليه وآله: ((لا إيمان لمن لا أمانة له، ولا دين لمن لا عهد له)) وفي سنده من لا أعرفه.
وأخرج أحمد، والبزار، وابن حبان، والطبراني في الأوسط، والبيهقي في الشعب، عن أنس قال: خطبنا رسول الله -صلى الله عليه وآله- فقال: ((لا إيمان لمن لا أمانة له، ولا دين لمن لا عهد له)) وأخرجه الطبراني في الكبير من حديث عبادة بن الصامت وأبي أمامة، وفي الأوسط من حديث ابن عمر.
وأخرج البخاري في تاريخه، والحاكم وصححه عن عائشة، قالت: قال رسول الله صلى الله عليه وآله: ((حسن العهد من الإيمان)) وقد مر في مسألة النفاق والخداع والحيلة ما يؤيد هذا، ووجوب الوفاء بالعهد معلوم عقلاً لا يخالف فيه أحد من العقلاء على اختلاف طرائقهم وتباين أديانهم، كما قال أمير المؤمنين عليه السلام في عهده للأشتر: وإن عقدت بينك وبين عدو لك عقدة وألبسته منك ذمة فحط عهدك بالوفاء، وارع ذمتك بالأمانة، واجعل نفسك جنة دون ما أعطيت، فإنه ليس من فرائض شيء الناس أشد عليه اجتماعاً مع تفرق أهوائهم وتشتت آرائهم من تعظيم الوفاء بالعهود، وقد لزم ذلك المشركون فيما بينهم دون المسلمين لما استوبلوا من عواقب الغدر، فلا تغدرن بذمتك، وتخيسن بعهدك، ولا تختلن عدوك، فإنه لا يجترئ على الله إلا جاهل شقي، وقد جعل الله عهده وذمته أمناً أفضاه بين العباد برحمته، وحريماً يسكنون إلى منعته ويستفيضون إلى جواره، فلا إدغال ولا مدالة ولا خداع فيه، ولا تعقد عقداً تجوز فيه العلل، ولا تقولن على لحن القول بعد التأكيد والتوثقة، ولايدعونك ضيق أمر لزمك فيه عهد الله إلى طلب انفساخه بغير الحق، فإن صبرك على ضيق ترجو انفراجه وفضل عاقبته خير من غدر تخاف تبعته، وأن تحيط بك من الله طلبة لا تستقيل فيها دنياك ولا آخرتك. رواه في (النهج). قوله: استوبلوا أي وجدوه وبيلاً أي ثقيلا وخيماً، ولا تخيسن: أي لا تغدرن، والختل: المكر والخديعة، وأفضاه بين عباده: جعله مشتركاً بينهم، ويستفيضون إلى جواره: ينتشرون في طلب حاجاتهم ساكنين إلى جواره، والإدغال: الإفساد، والمدالة: المخادعة.
المسألة الحادية عشرة [إيضاح وجه القطيعة المذكورة في الآية]
اختلفوا في المراد من قوله تعالى: {وَيَقْطَعُونَ مَا أَمَرَ اللَّهُ بِهِ أَنْ يُوصَلَ}[الرعد:25] على أقوال:
أحدها: أنه رسول الله -صلى الله عليه وآله- قطعوه بالتكذيب والعصيان، وفيه ضعف؛ إذ لو كان المراد بذلك لقيل (مَنْ) مكان (مَا).
الثاني: أن الله أمر أن يوصل القول بالعمل فقطعوا بينهما بأن قالوا ولم يعملوا، وهذا مبني على أنها نزلت في المنافقين.
الثالث: أن المراد أن الله أمرهم أن يصلوا حبلهم بالمؤمنين فانقطعوا إلى الكفار.
الرابع: أنه نهى عن الفتن والتنازع وهم كانوا مشتغلين بذلك.
الخامس: أنهم أمروا بتصديق الأنبياء كلهم فقطعوه بتصديق بعض وتكذيب بعض.
السادس: أنه الرحم والقرابة، ورجحه ابن جرير؛ لأن الله قد ذكر المنافقين في غير آية، ووصفهم بقطيعة الرحم.
السابع: أنه على العموم في كل ما أمر الله به أن يوصل، قال أبو حيان: وهذا هو الأوجه؛ لأن فيه حمل اللفظ على مدلوله من العموم، ولا دليل واضح على الخصوص، واختاره الإمام القاسم بن محمد فقال في هذه الآية: تدل على تحريم نقض عهود الله، وعلى تحريم قطع ما أمر الله به أن يوصل من صلة الأرحام، وإيتاء ذوي القربى، وأداء الأمانة إلى أهلها، ومودة ذوي القربى، والاجتماع على الحق، وترك التفرق في الدين.
المسألة الثانية عشرة [استطراد في ذكر القطيعة]
المراد بلفظ أمر في قوله تعالى: {وَيَقْطَعُونَ مَا أَمَرَ اللَّهُ بِهِ أَنْ يُوصَلَ}[الرعد:25] القول الدال على الطلب؛ إذ لا يمكن غيره، ولا خلاف بين الأصوليين في أن إطلاق الأمر على القول واستعماله فيه حقيقة، إلا ما يروى عن بعض المجبرة ممن أثبت الكلام النفسي فإنه جعله حقيقة في الكلام النفسي، مجازاً في القول وغيره، ولا خلاف أيضاً في أن لفظ أمر مستعمل في غير القول من الشأن، والغرض، وجهة التأثير والفعل.
فالأول: كقوله تعالى: {وَمَا أَمْرُنَا إِلاَّ وَاحِدَةٌ}[القمر:50] أي شأننا.
والثاني: لأمر ما جدع قصير أنفه أي لغرض وداع.
والثالث: نحو: زيد مشغول بأمر أي بفعل.
والرابع: نحو احتراك الجسم لأمر أي لمعنى مؤثر فيه، ثم اختلفوا في استعماله في هذه المعاني هل هو حقيقة أم مجاز؟ فالذي اختاره الحسين بن القاسم ونسبه إلى الأكثر ورواه في (شرح الجوهرة) عن الحاكم: أنه حقيقة في القول فقط، مجاز فيما عداه.
وقال الإمام يحيى، وأبو الحسين، والشيخ الحسن الرصاص: بل هو حقيقة فيها أجمع ما خلا الفعل.
وقال المنصور بالله، والإمام المهدي، وأحمد بن محمد الرصاص: هو مشترك بين الصيغة، والشأن، والغرض، ورواه الإمام المهدي عن أبي الحسين، والحاكم، وأكثر أصحابنا.
وقيل: هو للقدر المشترك بين القول والفعل، قال بعضهم: وهذا القول لا يعرف نسبته إلى أحد، وإنما جوزه الآمدي في معرض المنع لدليل القول بالاشتراك بين القول المخصوص والفعل، ثم أورد على ذلك إيرادات، وأجاب عنها فأشعر ذلك بأنه يرتضيه.
قال العطار: والإشعار ممنوع؛ لأن المناضر لا يستلزم طريقه؛ لأن الغرض إلزام الخصم ولو بما لا يقوله الملزوم، بل المدار على اعتراف الخصم بالمقدمة.
وقيل: هو مشترك بين القول والفعل وهذا مروي عن أكثر الشافعية.
وقيل: هو مشترك بين القول والكلام النفسي، قال في حواشي (الجوهرة): وهذا محكي عن المحققين من الأشعرية كالجويني، والغزالي، والرازي، رواه عنهم الإمام يحيى.
احتج الأولون بأن القول هو المتبادر إلى الذهن عند إطلاق لفظ أمر، والتبادر علامة الحقيقة، بخلاف غيره فإنه لا يسبق إلى الفهم إلا بقرينة نحو جاء فلان لأمر فأنه يفهم أنه جاء لغرض بقرينة التعليل، واحتجوا ثانياً بأنه قد ثبت أنه حقيقة في القول بلا خلاف.
وأما في غيره فاللفظ دائر بين أن يكون مشتركاً بينه وبين ذلك الغير، أو مجاز في الغير، والمجاز أولى من الاشتراك فوجب المصير إليه.
احتج أهل القول الثاني بأن لفظة الأمر متى أطلقت لم يسبق إلى الفهم أحد المعاني الأربعة دون بعض إلا بقرينة، وهذا علامة الاشتراك، فإذا قلت: سمعت أمر فلان، فهم القول، وإن قلت: جاء فلان لأمر الغرض، أو تحرك الجسم لأمر فهم أنه لا بد من شيء تعلق التحرك به، وإن قيل: أمر فلان مستقيم فالمراد به شأنه وطريقته، واعترضه الرازي، وكان من حق المستدل أن ينقل عن أهل اللغة أنهم قالوا: إن لفظ الأمر مشترك بين هذه المعاني، أو أن الفهم يبقى متردداً بينها عند الإطلاق، وأما غير أهل اللغة فلا عبرة بما يتبادر إلى أفهامهم.
احتج المنصور بالله وموافقوه بتردد الفهم بين هذه الثلاثة، ولا يترجح أحدها إلا بقرينة، وذلك دليل الاشتراك.
وأما جهة التأثير فليس استعمال لفظ أمر حقيقة لغوية فيها؛ لأن أهل اللغة لم يعقلوا معناها الذي ذكره المتكلمون حتى يضعوا لها عبارة تدل عليها.
وأجيب بأن ليس المراد المعنى الذي يذكره المتكلمون، بل المقصود أنه لا بد من أمر لأجله تحرك الجسم كائناً ما كان من فاعل، أو معنى، أو صفة أو غير ذلك، فلا بد من أمر جملة لولاه لما احترك الجسم، وهذا شيء يعقله أهل اللغة.
قال في حواشي (الجوهرة): بل يقرب أنه يعلم بالضرورة، وأما عدم استعماله في الفعل حقيقة؛ فلأنه لو كان حقيقة فيه لاطرد في قليله وكثيره، والمعلوم أنه غير مطرد في القليل فإنه لا يقال لمن حمل خردلة أو بصق ريقه هو في أمر.
احتج القائل بأنه للقدر المشترك بين القول والفعل بأنه أولى من القول بالاشتراك اللفظي والمجاز.
وأجيب بأن الحمل على القدر المشترك إنما يكون أولى إذا لم يقم دليل على أحدهما، وهنا قد قام الدليل على أحدهما كما مر؛ إذ لو لم يقيد بذلك لأدى إلى ارتفاع المجاز والاشتراك لإمكان حمل كل لفظ يطلق لمعنيين على أنه موضوع للقدر المشترك بينهما، على أن القول بالاشتراك المعنوي مما يخالف الإجماع على أنه حقيقة في القول المخصوص بخصوصه، لا باعتبار أنه ما صدق عليه الموضوع له.
احتج القائلون بأنه مشترك بين القول والفعل بقوله تعالى: {وَمَا أَمْرُ فِرْعَوْنَ بِرَشِيدٍ}[هود:97] أي فعله؛ إذ القول لا يوصف بالرشد بل بالسداد، والأصل في الإطلاق الحقيقة، وكذلك قوله: {وَمَا أَمْرُنَا إِلاَّ وَاحِدَةٌ كَلَمْحٍ بِالْبَصَرِ}[القمر:50].
وأجيب بأن الأمر في الأولى إما بمعنى القول، والمعنى أنهم امتثلوا أمر فرعون وما أمره الذي أمر به برشيد، فأراد الصيغة، ولا نسلم أن القول لا يوصف بالرشد، وإما بمعنى الشأن، وإما بمعنى الفعل فمجاز لقيام المانع من حمله على الحقيقة، لكن حمله على الشأن أولى؛ لأنه أشمل من الفعل، وأما الآية الثانية فهو فيها بمعنى الشأن؛ إذ لو أريد الفعل لزم اتحاد أفعاله تعالى وحدوثها دفعة كلمح البصر، وهو باطل؛ لأنه يصير المعنى وما فعلنا إلا فعلة واحدة أو دفعة واحدة كلمح، ويكون المراد من الفعل الأفعال كلها؛ لأن اسم الجنس المضاف للعموم، وفي هذا الجواب نظر؛ لأنه يلزم مثله في الشأن وقد قال تعالى: {كُلَّ يَوْمٍ هُوَ فِي شَأْنٍ}[الرحمن:29] والأولى أن يقال هذا اللفظ محتمل للفعل والشأن، وعلى أيهما حمل فمجاز لما مر من تبادر القول دون غيره، أو نحمله على الحقيقة على تقدير الشأن عند القائل به، وعلى المجاز إن أريد الفعل لقيام المانع من الحقيقة.
احتجوا بأنه قد خولف بين جمع الأمر بمعنى القول، فقال في جمعه: أوامر، وبين جمعه بمعنى الفعل فقالوا: أمور، فدل على أنه حقيقة فيهما، والجمع أحد أدلة الحقيقة.
وأجيب بأنا لا نسلم أن أوامر جمع أمر بمعنى القول، بل القياس في جمعه: أمور، لكنهم خالفوا القياس للفرق بينه وبين الشأن ونحوه فإنه يجمع على أمور، والأصل أن أوامر جمع آمرة بصيغة اسم الفاعل فاستعير هذا الجمع للأمر بمعنى الصيغة؛ لأنها أشبه باسم الفاعل؛ لأنها باعثة على الفعل فكأنها آمرة، ولهذا خصوا ما كان بمعناها بمخالفة القياس، وقد قيل: إن أمور ليس بجمع؛ لأنه يقع موقع المفرد فيقال: أمر فلان مستقيم، فيفهم منه ما يفهم من قوله: أموره مستقيمة.
قال في حواشي (الجوهرة): على أن اختلاف الجمع ليس بأن يدل على أنه حقيقة فيها بأولى من أن يدل على أنه حقيقة في أحدهما مجاز في الآخر، ولا نسلم أن الجمع أحد أدلة الحقيقة، وكيف يقال: إن لفظ الأمر يستعمل حقيقة في الفعل مع أن أبا الحسين منع من استعماله فيه حقيقة ومجازاً.
نعم وأما القائلون بأنه مشترك بين القول والكلام النفسي، والقائلون بأنه حقيقة في النفسي، مجاز فيما عداه، فمذهبهم مبني على إثبات الكلام النفسي، ونحن لا نسلمه، وليس هذا موضع استيفاء الكلام عليه.
المسألة الثالثة عشرة [حد الأمر المخصص]
اختلف في حد الأمر بمعنى الصيغة المخصوصة، فقال الإمام المهدي: هو قول القائل لغيره: افعل، أو نحوه على جهة الاستعلاء مريداً لما تناوله، فقوله أو نحوه ليدخل فيه لتفعل، أو ألزمتك أن تفعل وما في معناه.
وقوله: على جهة الاستعلاء ليخرج الدعاء والالتماس.
وقوله: مريداً لما تناوله؛ ليخرج التهديد.
وقال في (الغاية): هو القول الإنشائي الدال على طلب الفعل استعلاءً، فقوله: القول كالجنس يخرج المهمل والطلب بالإشارة والقرائن.
وقوله: الإنشائي ليخرج الإجبار نحو: أنا طالب منك كذا، أو موجب عليك كذا والمفردات؛ لأنها تسمى قولاً عند غير المنطقيين، وظاهر كلام الإمام المهدي دخول أنا موجب عليك كذا في مسمى الأمر، وقوله الدال على طلب الفعل احتراز عن النهي؛ لأنه يدل على طلب الترك، وقيل: هو قول القائل لمن دونه: افعل، وهو ينتقض عليه بالتهديد والسؤال، فإن كل واحد منهما بصيغة افعل، وينتقض أيضاً بالرتبة فإن الأمر قد يكون ممن لا رتبة له؛ إذ الرتبة عبارة عن المزية لا عن القهر، وما صدر عن من لا رتبة له قد يكون أمراً، ولهذا ينسبون من أمر من هو أعلى منه رتبة إلى الحمق والجهل، ويدل على أن ما صدر عن الأدنى قد يكون أمراً: قول عمرو بن العاص:
أمرتك أمراً جازماً فعصيتني .... وكان من التوفيق قتل ابن هاشم
وقول حباب بن المنذر ليزيد بن المهلب:
أمرتك أمراً جازماً فعصيتني .... فأصبحت مسلوب الإمارة نادماً
وكلاهما دون المأمور، وكان صاحب هذا الحد يعتبر العلو، وهذا يبطله، ثم إنه غير جامع لخروج أمر الغائب.
وقيل: وهو قول القائل: افعل، على جهة الاستعلاء ولم يذكر الإرادة؛ لأنها شرط في كون الأمر أمراً، ولا يلزم ذكر الشروط في الحد وإنما يذكر الخواص.
وقال قاضي القضاة: لا بد من ذكرها؛ لأنها من الخواص ومؤثرة، واعترض الحد بأنه غير جامع لخروج أمر الغائب، والمثنى، والمجموع، وغير مانع لشموله للتهديد.
وقيل: هو قول يستدعي بنفسه الفعل من الغير بشرط أن يكون المقول له دون القائل في الرتبة، وهذا منسوب إلى أبي الحسين.
قيل: وهو ينتقض بالخبر نحو: أنا موجب عليك كذا، أو طالب منك بصحة أمر الأدنى لمن فوقه.
وقيل: أما النقض بالخبر فلا يصح؛ لأنه احترز عنه بقوله يستدعي، والخبر لا يستدعي الفعل إلا بواسطة الإرادة، ولأنه قد يكون في معنى الأمر إذا قارنه، أو تعقبه، أو تقدمه وعيد على الإخلال به، ويرد عليه أنه ترك الاستعلاء.
وقيل: هو قول القائل لغيره: افعل أو ليفعل على جهة الاستعلاء دون الخضوع مع كون المورد للصيغة مريداً لحدوث المأمور به.
قال في (الجوهرة): والأولى تجنب لفظ المأمور به لئلا يكون إحالة بأحد المجهولين على الآخر، ويقال مع كونه مريداً لما تناولته الصيغة حتماً.
واعترض بأنه غير جامع لخروج المثنى والمجموع والأمر بلغة العجم.
وأجيب: بأن المراد ما كان بهذا الوزن وهو يختلف بحسب وروده على الواحد والأكثر، وبأن الكلام في الأمر في لغة العرب إذ أوامر الكتاب والسنة لم ترد إلا بها، وأورد عليه أيضاً أن ذكر الخضوع حشو؛ لأن ذكر الاستعلاء يغني عنه.
نعم لو قال هو افعل أو ليفعل أو ما يقوم مقامهما إلى آخر الحد كما فعله بعضهم لسلم من الاعتراض، لكن مع الجواب المذكور لا يرد الاعتراض.
وقال أبو الحسين: لا بد في الأمر من خواص ثلاث: الصيغة، والاستعلاء، والإرادة، قالوا: وإذا ثبت ذلك حددناه بأنه قول تفصيلي يستدعي الفعل بنفسه لا على جهة التذلل، فقوله تفصيلي أي مخصوص ليخرج النهي ونحوه.
وقوله: ونحوه، ليخرج الخبر بوجوب الفعل؛ لأن استدعاءه الفعل بواسطة التصريح بالإيجاب، وكذلك قوله: أريد منك فعل كذا، فإن استدعاءه بواسطة الإخبار عن الإرادة.
قال الدواري: الأجود في حد الأمر أن يقال: صيغة إنشائية يطلب بها الفعل من الغير على جهة الاستعلاء، وإنما قال: إنه الأجود، لشموله جميع صيغ الأمر، وجميع المأمورين، ولما فيه من الاحتراز عن الإخبار بالوجوب والإرادة، ثم قال:
واعلم: أن هذه الحقائق إنما تصح على قول من يرجع بالأمر إلى نفس الصيغة مع الإرادة فيجعل نفس القول هو الأمر، وهو في التحقيق بخلاف ذلك، فإن الأمر شيء معنوي لا لفظي، وكذلك سائر ضروب الكلام والإنشاء من الاستفهام وغيره، وأدل دليل على ذلك حسن إضافة الصيغة إلى هذا الجنس من الكلام.
وإذا عرفت هذا كانت هذه الحقائق لصيغة الأمر لا غير، أما الأمر فهو: طلب الفعل من الغير على جهة الاستعلاء، والعبارة عن ذلك، الطلب: قولك افعل، وكذلك سائر الأمور الطلبية من النهي، والاستفهام وغيرهما تحد بالطلب لا بالصيغة، بخلاف الخبر فإنه نفس اللفظ لعدم معنى الطلب فيه، فلا يعترض به على ذلك وإن كان يصحبه طلب الإخبار من المخبر فهو في نفسه راجع إلى اللفظ، ثم قال: ويمكن أن يقال: إن العرب لا تعقل معنى الأمر إلا من الصيغة، ولهذا لا يسمون الطلب أمراً ما لم يلفظ، قال: والذي غرهم في ذلك لزوم الطلب للصيغة، وأما إضافة الصيغة إلى الأمر مثلاً في قولنا صيغة الأمر فجار على منهاج قولهم جرد قطيفه والأصل صيغة هي أمر.
قلت: وما جنح إليه الدواري من أن الأمر معنوي إنما يتأتى على مذهب الأشعرية في إثبات الكلام النفسي، وأما على ما ذهب إليه أصحابنا فلا؛ إذ الطلب الذي أشار إليه لا يعقل، ولا دليل عليه، وإنما المعقول من لفظ الطلب هو النطق بالصيغة المخصوصة، وهكذا سائر أنحاء الكلام فإن المعقول منها ليس إلا هذه الحروف والأصوات بدليل أن من علمها وصفها بأنها كلام وإن جهل المعنى النفسي، ومن جهلها لم يصفها بأنها كلام وإن علم المعنى النفسي، وقد تقدم الكلام على إبطال الطلب النفسي في الموضع الرابع من السادسة من مسائل المقدمة.
واعلم أن الأشاعرة لما كان الكلام النفسي هو العمدة عندهم لم يلحظ بعضهم إلى حد الأمر إلا باعتبار الأمر النفسي، ولم يحده بالنظر إلى الصيغة؛ لأن ذلك هو الأصل عندهم، وممن اقتصر على حد النفسي ابن السبكي في (جمع الجوامع) فقال: هو اقتضاء فعل غير كف مدلول عليه بغير كف، فالاقتضاء هو الطلب الذي يزعمونه وهو يعم الطلب الحازم وغيره، وخرج بقوله: غير كف النهي، وقوله: بغير كف أي مدلول عليه بصيغة لا يكون لفظ كف، وكذا مرادفه كاترك؛ لأنها في معنى النهي فلم تجعل الصيغة إلا دالة على الأمر ولم يجعلها نفس الأمر كما ترى، وأورد على هذا الحد بأن فيه تعريف بالأخفا؛ لأن التعريف اشتمل على الطلب المعبر عنه بالاقتضاء وهو نظري.
وأجيب: بأنا لا نسلم أنه نظري، بل هو بديهي؛ فإن كل عاقل يفرق بينه وبين غيره كالأخبار وما ذاك إلا لبداهته، سلمنا فكونه نظرياً لا يفيد كونه أخفى من الأمر.
تنبيه
قد تقدم في أثناء الحدود ما يفيد أن بعضهم يشترط في كون الأمر أمراً العلو، وهو كون الآمر أعلى رتبة من المأمور، وبعضهم يشترط الاستعلاء وهو الطلب بعظمة، وبعضهم يشترط التحتم، وبعضهم لم يشترط شيئاً من ذلك.
ونحن نفصل الخلاف في ذلك للتوضيح وتتميم الفائدة فنقول: ذهب إلى اشتراط العلو جمهور المعتزلة وغيرهم،ومنعه من يشترط الاستعلاء، وهذا من أصحابنا، ومن لا يشترطهما معاً، وقد مر ما يدل على عدم اشتراطه، وذهب بعض إلى اشتراط العلو والاستعلاء معاً، وذهب الأشعري وأكثر أتباعه إلى عدم اشتراطهما معاً، واحتجوا بقوله تعالى حاكياً عن فرعون: {مَاذَا تَأْمُرُونَ}[الأعراف:110] مخاطباً قومه، فأطلق الأمر على القول المخصوص بلا علو من القائلين ولا استعلاء.
وأجيب: بأنه مجاز للقطع بأن الطلب على سبيل التصريح والتساوي، ولا يسمى أمراً، وردّ بأن الأصل في الإطلاق الحقيقة، وأجيب بأن القرينة تدفع الأصل وهو ما علم من حاله أنه لم يكن إلا مستشيراً لهم لا مستأمراً، لكن لما كان المشير يأتي بصيغة افعل سماه أمراً تجوزا، واحتجوا أيضاً بما مر من شعر عمرو بن العاص؛ إذ عمرو من أتباع معاوية، وليس عنده علو ولا استعلاء.
قلنا: أما العلو فمسلم، وأما الاستعلاء فغير مسلم فإنه كان يستعلي على معاوية بقوله في مواضع عديدة.
وذهب أئمتنا"، وأبو الحسين، وأبو إسحاق الشيرازي، وابن المسيب، والرازي، والآمدي: إلى اشتراط الاستعلاء وحده، ورواه في (شرح الغاية) عن أكثر المتأخرين.
قال: ونقله صاحب (الملخص) عن أهل اللغة، وجمهور أهل العلم، واختاره، وحجتهم ما مر من أن الطلب على سبيل التضرع ونحوه، لا يسمى أمراً قطعاً، ولا يسمى الطالب آمراً.
وأما اشتراط التحتم فهو قول الحسن الرصاص، ورواه سيلان عن صاحب (الفصول).
قيل: والأولى إسقاطه؛ لأنه مبني على أن الأمر حقيقة في الوجوب، والذي هو حقيقة في الوجوب إنما هو مسمى الأمر الذي هو صيغة افعل، والكلام في لفظ الأمر لا في مسماه، فهما مسألتان مختلفتان.
المسألة الرابعة عشرة [صفة الأمر]
اختلف العلماء في الأمر، هل له بكونه أمراً صفة يتميز بها أم لا؟ فقال المنصور بالله والإمام يحيى، وأبو الحسين، وابن الملاحمي وغيرهم: ليس للأمر بكونه أمراً صفة يتميز بها عن التهديد وغيره، وإنما يتميز بإرادة المأمور به؛ لأن المتهدد لا يريد ما تناولته الصيغة والآمر يريده، وحجتهم بأن المعقول من كون الآمر آمراً أن الأمر ورد على صيغة افعل، وغرضه أن يفعل المأمور الفعل فلا حكم للأمر بكونه أمراً فيعلل به؛ لأن كلما يرجع إلى الصيغة من كونها خطاباً أو إلى محلها من كونه جسماً، أو إلى الآمر من كونه مخاطباً، أو إلى المأمور من كونه مخاطباً اسم مفعول ينتقض بالتهديد ما خلا إرادة المأمور به فأغنت في التمييز، ولا دليل عليها يدعيه الخصم، وقال الأكثر: بل له صفة يتميز بها زائدة على مجرد حروفه؛ إذ لا يكفي في تميزه مجرد الحروف لاستوائها فيه وفي التهديد، وتلك الصفة هي كونه طلباً، والدليل على أن الصفة هي كونه طلباً أنه قد ثبت أن مجرد الحروف لا يكفي فلا بد من أمر زائد، وذلك الأمر لا يجوز أن يكون راجعاً إلى المتكلم، ولا إلى ما تناولته الصيغة؛ لأن ذلك مع التهديد والأمر على سواء، فلم يبق إلا ما ذكرناه وهو كونه أمراً.
وأجابوا عما احتج به الأولون من وجهين:
أحدهما: أنا نعلم أن للصيغة إذا كانت أمراً حكماً يخالف حكمها إذا كانت تهديداً، فيجب أن يكون الأمر الذي تميزت به راجعاً إليها في نفسها، وما ذكروه متعلق بالمريد وما تناولته الصيغة، ولا يرجع إلى الصيغة بل هي عنه بمعزل.
الثاني: أن المريد للمأمور به إن أراده قبل أن تتناوله صيغة الأمر لم يتميز بها عن التهديد ونحوه؛ إذ لا علاقة حينئذ بين الأمر والإرادة؛ لأنها معه ومع غيره على سواء، ولا وجه يقتضي اختصاصها بأيهما قبل وجودهما، وإن أراده بعد أن تناولته الصيغة لم يصح أن يريد ما تناولته إلا بعد مصيرها أمراً، والفرض أنها لا تصير أمراً إلا بإرادة ما تناولته، وهذا دور، وبيانه لا يريد ما تناولته الصيغة إلا وهي طلب في تلك الحال وهي لا تصير طلباً إلا بإرادة ما تناولته فيقف كل منهما على الآخر.
فإن قيل: إذا وجدت الصيغة حال إرادة المأمور به صارت أمراً، ولا يلزم محال؛ لأنه دور معية.
قيل: إن أريد بالصيغة الطلب فقد صارت أمراً، وإن لم يرد بها الطلب فهي وسائر ألفاظ الخبر والإنشاء مع تلك الإرادة على سواء؛ إذ لا اختصاص فيلزم لو أراد صيغة الخبر عند إرادته لفعل يصدر من غيره أن يكون أمراً؛ إذ لا مؤثر في مصير صيغة الطلب أمراً إلا مقارنة إرادة المأمور به، فيلزم مثله في كل لفظ قارنها، لا يقال: إنما يصير أمراً ما قارن الإرادة من الصيغة المخصوصة فقط؛ لأنا نقول: تلك الصيغة إن وضعت لتفيد الطلب فقد وضعت أمراً من قبل الإرادة، فلا حاجة إليها في مصيرها أمراً، وإن وضعت لذلك بشرط مقارنة الإرادة لزم أن لا يكون طلباً حتى تتعلق الإرادة بمطلوبها، ولا مطلوب لها قبل تعلق الإرادة؛ إذ لا يصير طلباً لمطلوب إلا بها فيلزم الدور، وإن وضعت لا لتفيد الطلب فلما قارنت إفادته لزم في الخبر، وذلك باطل فبطل ما احتج به الأولون.
قال الإمام المهدي: ومما يلزم أبا الحسين أنه لو كان أمراً لأجل الإرادة لزم أن لا يستدل بالأمر على الإرادة؛ لأنا لا نعلمه أمراً حتى نعلمها على مقتضى كلامه، والمعلوم أنا نستدل به على أن المورد له مريد لما تناوله ونعلم ذلك ضرورة، وقد أجاب عن هذا بأن قال: إنا لا نستدل بالأمر على الإرادة من حيث كونه أمراً، بل من حيث كون الصيغة الموضوعة للطلب، فإذا سمعناها مجردة عن قرينة التهديد ونحوه علمنا أنه مريد لما تناولته.
قال عليه السلام : ولم يزد في هذا الجواب على أن سلم ما ذكرناه من أنا نستدل بالأمر على الإرادة.
وأما قوله: إنما دل عليها من حيث كونه صيغة وضعت للطلب لا من حيث كونه أمراً، فمغالطة؛ لأنها لا معنى لكونه طلباً إلا كونه أمراً.
فإن قيل: أليس مذهب الجمهور أن صيغة الطلب حقيقة في الأمر مجاز في التهديد كما حكاه عنهم أبو الحسين، واحتج على ذلك بأن السامع إذا سمع غيره يقول: افعل كذا مجرداً عن القرائن فإنه يتبادر إلى فهم الطلب، فما لكم لا تقولون إنه لا يحتاج إلى صفة تميزه عن التهديد اكتفاءً بوضع الصيغة؛ إذ لا تستعمل في التهديد وغيره إلا بقرينة فلا يعدل به عن الموضوع له من دونها.
قيل: لأنا لا نوجب الصفة لتميزه عن التهديد فقط، بل ليتميز عن سائر أقسام الكلام من الخبر وغيره كما أوجبنا للخبر بكونه خبراً صفة يتميز بها عن سائر أقسام الكلام، هكذا أجاب الإمام المهدي.
فرع
واختلف القائلون بأن للأمر بكونه أمراً صفة تميزه عن غيره في تعيين المؤثر في تلك الصفةن فقالت البصرية: المؤثر فيها إرادة المأمور به، ورواه الدواري عن جمهور الزيدية، وإنما نسب التأثير إلى الإرادة المذكورة؛ لأنه لو لم يرد المأمور به لم يطلبه بالصيغة المخصوصة، فكانت هي المؤثرة في إيقاع هذه الصيغة طلباً فنسب إليها، وإن كان المؤثر حقيقة في إيجاد الصيغة طلباً هي القادرية؛ لأن الإرادة إنما تؤثر فيما تعلقت به وهي إنما تتعلق بالمطلوب لا بالطلب، لكن لما كانت القادرية لم توقع الصيغة طلباً إلا لأجل إرادة المطلوب، وكانت تلك الإرادة هي التي تصرف تأثير القادرية إلى وجه دون وجه وصفناها بأنها هي المؤثرة وإن كان التأثير في الحقيقة إنما هو للقادرية.
وقالت الأشعرية: بل المؤثر إرادة الموجد للصيغة كونها أمراً وإن لم يرد المأمور به لما زعموه من أنه يصح من الله الأمر بما لا يريده، وقد مر إبطاله في الموضع الخامس من المسألة الرابعة من مسائل هذه الآية، ومما يقال لهم هنا: إن المعلوم ضرورة في الشاهد أنا لا نعقل كون الصيغة أمراً إلا إذا علمنا أن موردها أراد ما تناولته، وإذا لم تعتبر هذه الإرادة لزم أن تكون الصيغة أمراً وإن كره المأمور به إذا كان قد أراد كونها أمراً وأنتم لا تقولون بهذا.
فإن قيل: أما مع الكراهة فلا يصح كونها أمراً لما بينهما من التدافع.
قيل: إذا جوزتم أن يكون أمراً وإن لم يرد المأمور به فلا تدافع؛ لأنه لا فرق بين أن يكون مريداً له أو كارهاً له، فلا وجه لما تزعمون، ونسبة هذا المذهب إلى الأشعرية إنما هو على رواية الإمام المهدي وصاحب (الجوهرة).
قال الحسين بن القاسم: لكنه لم يوجد في كتبهم الأصولية نسبة هذا القول إلى أحد منهم، قال: والأقرب أن الأشاعرة لا يثبتون للأمر حالاً، ولم يشتهر عنهم إلا القول بأن الأمر بالشيء لا يستلزم إرادته، وقد صرح بذلك الإمام يحيى في (معياره).
قلت: وفيما قاله -رضي الله عنه- نظر، فإنه قد صرح به بعضهم، ففي حاشية العطار على شرح جمع الجوامع عن منع الموانع: إن إرادة إحداث الصيغة شرط من غير توقف، قال: وقد حكى قوم فيها الاتفاق، وكذلك كلام الإمام يحيى فإنه مصرح فيه بأن بعض الأشعرية يشترطون إرادة كونه أمراً، والذي أوجب نفي الحسين بن القاسم نسبة هذا القول إلى الأشعرية أن الإمام يحيى نسب إليهم القول بأنه ليس للأمر حال، ثم قال: إن منهم من يشترط إرادة كونه أمراً، وظاهره أن تلك الإرادة لم تؤثر في صفة، لكنه يقال ليس المراد بالصفة إلا كونه أمراً وهي لا تحصل إلا بشرطها وهو الإرادة فيجب أن تكون مؤثرة فيها؛ إذ لا معنى لتأثيرها إلا كون الصيغة لا تكون أمراً إلا بها. والله أعلم.
وقال أبو القاسم البلْخي وأصحابه: بل إنما يثبت الأمر أمراً لذاته لا لمؤثر، ومعناه أن للأمر بكونه أمراً صفة لذاته وهي الأمرية كما أن الجوهر صفة ذاتية وهي الجوهرية.
وأجيب بأنه يلزمه أن يكون التهديد أمراً؛ لأن الصيغة لم تخرج عن كونها أمراً، ويلزمه أيضاً أن يكون الجزء الواحد من الصيغة أمراً، وأن لا يكون للمواضعة في ذلك تأثير؛ لأنها تكون أمراً قبل الوضع وهو باطل.
وقال الرازي: لا حاجة إلى شيء يتميز به الأمر عن غيره، بل الوضع كاف في كون الصيغة أمراً؛ إذ لا تعتبر فيه إرادة كسائر الأوضاع النحوية نحو: أسد، وحمار، واختاره الحسين بن القاسم، واحتج له بأنه من علم بوضع لفظ إذا ورد عليه ذلك اللفظ من حكيم، علم أنه مراد به معناه الحقيقي إلا أن يصرف عنه صارف من القرائن، وإن كان مشتركاً فالتمييز للقرائن لا لما ذكروه من الأفعال القلبية التي غالبها الخفاء، وقد أشرنا إلى هذا وجوابه فيما مر، قال: وكلام أبي القاسم محمول على هذا.
قال الدواري: وليس كذلك فإن من تقدم من أهل العدل لم يذكروا ذلك عن أبي القاسم وهم أعرف بمقاصد أسلافهم وإن كان ما ذكره الرازي غير بعيد عن المقصد، فهذا تحقيق الخلاف فيما به يكون الأمر أمراً على ما هو المشهور من الخلاف، وإلا ففي المسألة خبط وخلط الفرع بالأصل، ومناقضة في النقل، ففي (شرح الغاية) عن الإمام يحيى أن أبا علي وأتباعه يقولون: إنه لا يكون الأمر أمراً إلا بإرادات ثلاث: إرادة حدوث الصيغة، وإرادة كونها أمراً، وإرادة المأمور به، واقتصر أبو هاشم على إرادة حدوث الصيغة والمأمور به، ونسبه في الحواشي إلى أكثر أئمة الزيدية، والشيعة، منهم: المؤيد بالله، وأبو طالب، والمهدي، وفي (البرهان) عن أبي هاشم كقول أبي علي.
قيل: ويحترز بالأولى عن النائم، والثانية عن نحو التهديد، والثالثة الصيغة، تصدر عن المبلغ والحاكي.
وقيل: إن اشتراط الإرادات الثلاث لتحقيق ماهية الأمر، وفي (جمع الجوامع) عن أبي هاشم، وأبي علي اعتبار إرادة الدلالة باللفظ على الطلب، ومعناه إرادة كونه أمراً.
وروى الدواري عن أبي هاشم أنه لا يثبت للأمر حالاً، فما حكي هنا عن أبي علي، وأبي هاشم على اختلاف النقل عنهم يخالف ما مر من إطلاق الرواية عن البصرية، وكذلك ما حكي هنا عن أئمة الزيدية يخالف ما مر عنهم.
تنبيه [تعدد الخلاف في وجود الكلام]
وما ذكرناه من اختلافهم في الأمر هل له صفة أم لا، فهو لا يختص به بل الخلاف في سائر وجوه الكلام من النهي، والخبر، والاستخبار، والعرض، والتمني ونحو ذلك، والعلماء في ذلك على إطلاقين، وتفصيل، الإطلاق الأول لجمهور المعتزلة أن لكل نوع من أنواع الكلام حالاً وحكماً، فللأمر بكونه أمراً حكم، وللنهي بكونه نهياً حكم، وكذلك سائر أنواع الكلام، واختاره الإمام المهدي، ورواه الدواري عن جماهير المتكلمين والأصوليين، واحتجوا بوجهين:
أحدهما: أنه إذا قيل: زيد في الدار لم يكن خبراً عن زيد بن خالد دون غيره إلا بإرادة المخبر كونه خبراً عنه وهو المراد بالصفة.
الثاني: أن مثل هذه الصيغة قد تقع من الساهي والنائم، ولا تكون خبراً ولا يستحق عليها مدحاً ولا ذماً، وتقع من اليقظان فينعكس الحكم، فلا بد من أمر تميزت به عند صدورها من اليقظان وليس إلا الإرادة.
الإطلاق الثاني للمنصور بالله، وأبي الحسين، وابن الملاحمي أنه لا حكم لشيء من أنواع الكلام، ويوخذ حجتهم، وردها من نفيهم ذلك في الأمر.
وأما التفصيل فهو للشيخ الحسن الرصاص فإنه يقول: إن للخبر بكونه خبراً حكماً بخلاف الأمر.
قال الرازي: ولعل سائر أنواع الكلام عنده حكمها حكم الخبر؛ إذ طريقة الدلالة في ذلك واحدة، إلا النهي فإنه عنده كالأمر.
وروى الإمام المهدي عنه أنه لا صفة لما عدا الخبر، ووجه الفرق ما قاله الإمام عز الدين في (المعراج) وهو أنه جعل تمييز الأمر والنهي وغيرهما بإرادة المأمور به، وكراهة المنهي عنه، فاكتفى بذلك عن إثبات صفة لهما، بخلاف الخبر فإنه لا يصح أن يتميز بإرادة المخبر عنه؛ إذ قد يكون باقياً وماضياً وقديماً.
المسألة الخامسة عشرة [دلالة الأمر في الآية]
دل قوله: {وَيَقْطَعُونَ مَا أَمَرَ اللَّهُ بِهِ أَنْ يُوصَلَ}[ البقرة:27] على أن مسمى الأمر الذي هو الصيغة للوجوب؛ لأن الله ذم هؤلاء على عدم امتثال ما أمر الله به من الصلة، والمعلوم أن الأمر بالوصل على اختلاف القول فيه إنما كان بالصيغة المخصوصة، وقد تقدم البحث في المسألة في قوله تعالى: {اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ}[الفاتحة:6].
المسألة السادسة عشرة [خاتمة الآية]
أما الفساد في الأرض فقد مر في قوله تعالى: {لاَ تُفْسِدُوا فِي الأَرْضِ}[البقرة:11] ما يغني ويكفي، وأما وصفهم بالخسران فلأنهم استبدلوا النقص بالوفاء، والقطع بالوصل، والإفساد بالإصلاح، والعقاب بالثواب، وقيل: الخاسرون بفوت التوبة، ولزوم العقوبة، وقيل: خسروا نعيم الآخرة، وقيل غير ذلك.
قال القفال: وبالجملة إن الخاسر اسم عام يقع على كل من عمل عملاً لا يجزى عليه فيقال له: خاسر، كالرجل إذا أعطى شيئاً ولم يأخذ بإزائه ما يقوم مقامه. والله أعلم.
[البقرة: 28]
قوله تعالى: {كَيْفَ تَكْفُرُونَ بِاللَّهِ وَكُنتُمْ أَمْوَاتاً فَأَحْيَاكُمْ ثُمَّ يُمِيتُكُمْ ثُمَّ يُحْيِيكُمْ ثُمَّ إِلَيْهِ تُرْجَعُونَ}[البقرة:28].
الاستفهام للتقريع، والتوبيخ، والإنكار، وفي الآية مسائل:
المسألة الأولى [كفر الجحود]
يحتمل أنه أنكر عليهم الكفر بالله الذي بمعنى الجحود؛ لأن معهم من الآيات ما يصرفهم عن الكفر ويدعوهم إلى الإيمان بالله تعالى وإلى توحيده، ولو لم يكن إلا إحياؤهم بعد أن كانوا أمواتاً ثم أماتهم بعد ذلك فإن المحيي المميت هو الذي يكون إلهاً، وأما غيره من الأصنام ونحوها فلا تصلح للإلهية لعدم قدرتها على ما ذكر، ويحتمل أن يراد بالكفر عدم الشكر على نعمه الجسام التي من أعظمها وأصولها نعمة الحياة المذكورة في هذه الآية، فتكون الآية دليلاً على أن شكر المنعم واجب.
المسألة الثانية [الرد على الطبائعية]
في هذه الآية رد لقول الطبائعية والمنجمين ونحوهم؛ لأنها تدل على أنه لا يقدر على الإحياء والإماتة إلا الله؛ إذ لو كان لغيره تأثير فيهما لم يصح إنكار كفرهم بمن فعل ذلك؛ لأن لهم أن يقولوا: لا وجه لإنكارك علينا لأجل تلك النعمة؛ لأن غيرك الذي فعلها بنا، أو أنك غير مختص بالقدرة عليها. والله أعلم.
المسألة الثالثة [دلالة الآية على أن الكفر من العباد]
في الآية دليل على أن الكفر من قبل العباد، وإلا لما صح التوبيخ عليه وإنكار وقوعه منهم، كما لا يصح التوبيخ على صورهم وألوانهم، وأيضاً لو لم يكن فعلهم لكانت الحجة على الله لهم بأن يقولوا: أنت الذي خلقته فينا وأنت الذي خلقت القدرة الموجبة له أو الداعي الموجب أو نحو ذلك والحكيم لا ينكر على أحد ولا يحتج عليه بما يعلم فساده، وهذا واضح لا يحتاج إلى التطويل، وقد أجاب الرازي هنا بمسألة العلم ومسألة الداعي والمرجح، وقد أجبنا عليهما فيما مر، وبالله التوفيق.
المسألة الرابعة [شبهة الاحتجاج بالآية على نفي عذاب القبر]
احتج قوم بهذه الآية على نفي عذاب القبر وآخرون على إثباته، وسيأتي بيان وجه الاستدلال بها، والكلام في المسألة يكون في أربعة مواضع:
الأول: في الخلاف في عذاب القبر ونعيمه، وذكر ما احتج به كل فريق.
الثاني: في اختلاف القائلين بثبوته في كون التعذيب يكون بعد إحياء الميت، أو حال موته.
الثالث: في تعيين وقته.
الرابع: في جواز دخول الملكين القبر.
الموضع الأول في الخلاف في عذاب القبر ونعيمه
ذهب أكثر الأمة إلى أن عذاب القبر ثابت لأهل النار، وقال السيد مانكديم، والقرشي: لا خلاف في ذلك إلا عن ضرار بن عمرو، قال السيد: وكان من أصحاب المعتزلة ثم لحق بالمجبرة ولهذا شنع ابن الراوندي على المعتزلة، وقال: إنهم ينكرون عذاب القبر.
وقال قاضي القضاة: لا نعرف معتزلياً نفى عذاب القبر، بل منهم من يجوزه ولا يقطع به، ومنهم من يقطع به وهم الأكثر.
وروى القسطلاني إجماع أهل السنة على ثبوته، وعلى ثبوت سؤال منكر ونكير ونسب القول به في (الأساس) إلى أئمتنا " ما خلا قديم قولي الإمام أحمد بن سليمان ذكره في (الحقائق) وقد رجع إلى موافقة الأكثر في (الحكمة الدرية).
قلت: وممن روي عنه نفيه الناصر، والهادي، وولداه الناصر والمرتضى، وبشر المريسي، ويحيى بن كامل من المجبرة، والمرتضى الموسوي، ورواه في (الغياصة) عن بعض البغدادية، ورواه الشرفي عن أبي القاسم البستي، فهؤلاء قد روي عنهم إنكار عذاب القبر.
قلت: أما الإمام الهادي فقد روى عنه ولده المرتضى ما يدل على ثبوت النعيم والعذاب لكن للأرواح، وظاهره أنه لا يكون ذلك لها في القبر بل في غيره، وأن ذلك من قبيل الروح والراحة، والتنغيص بالذم والتبكيت فقط، وقد استوفى كلامه في (البدر الساري) وفيه عن الناصر إثبات سؤال الملكين لكن لا يسميان نكيراً ومنكراً.
واعلم أن أكثر ما يذكر في هذا الموضع الخلاف في عذاب القبر وقليل من يذكر النعيم، وقد ذكره صاحب (الغياصة) فإنه قال: الذي عليه أكثر أهل العدل القول بحياة القبر وعذابه، وأنه روضة من رياض الجنة، أو حفرة من حفر النار، وقال في (البدر الساري): إنما ترك ذكره الجمهور بناء على أن النصوص في العذاب أكثر، وأن الأكثر من الثقلين عصاة فكان أجدر بالذكر، وكذلك لا يختص العذاب والنعيم بالقبر، بل المقصود حصوله قبل يوم القيامة، ذكره القرشي وقال: سواء كان في القبر أو لم يكن، فإن كثيراً من الناس لا يقبر بأن يصلب، أو يحرق، أو تأكله السباع ونحو ذلك، ولكن عبر عنه بعذاب القبر؛ لأنه الغالب.
وإذا عرفت الخلاف في هذه المواضع فاستمع لما يتلى من الحجج فنقول:
احتج من أثبته بوجوه:
أحدها: أن العقلاء لا تمنع أن يعيد الله الحياة في جزء من الجسد أو في جميعه على الخلاف فيثيبه أو يعذبه، وإذا لم يمنع منه العقل وورد به الشرع وجب قبوله واعتقاده.
الثاني:أن الكتاب العزيز قد دل على ثبوته في آيات، وسيأتي الكلام عليها في مواضعها، ومنها هذه الآية التي نحن بصددها، ووجه الاستدلال بها أن قوله: {ثُمَّ يُحْيِيكُمْ} ليس هو الحياة الدائمة الواقعة عقيب البعث؛ لأنه عطف رجوعهم إليه تعالى بثم التي تقتضي التراخي والرجوع إليه سبحانه تكون عقيب الحياة التي للبعث فدل على أن الحياة المذكورة تكون عقيب الإماتة قبل البعث، ولا بد لها من فائدة وإلا لكانت عبثاً، والفائدة هي الإثابة أو التعذيب مع سؤال الملكين؛ إذ لا دليل على فائدة غير هذا.
الوجه الثالث:أنه قد صح عن النبي -صلى الله عليه وآله- بذلك أخبار كثيرة بل قيل: إنها متواترة، فمن ذلك ما رواه المرشد بالله قال: أخبرنا أبو طاهر بن عبد الرحيم، انا ابن حبان، ثنا علي بن إسحاق، ثنا محمد بن زنبور، ثنا عبد العزيز ابن أبي حازم، عن سهل، عن حبيب بن حسان، عن مجاهد، عن ابن عباس قال: دخلت مع النبي -صلى الله عليه وآله- في بعض حوائط الغابة فإذا بقبرين، فقال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم : ((سبحان الله سبحان الله، إن صاحبي هذين القبرين يعذبان في غير كبير، أما أحدهما فكان يمشي بالنميمة، وأما الآخر فكان لا يستنزه من البول)) ثم أخذ جريدة رطبة فكسرها نصفين فجعل عند رأس كل واحد منهما نصف وقال: ((لعله يرفه عنهما ما دامتا رطبة)).
أما محمد بن زنبور واسمه جعفر بن أبي الأزهر مولى بني هاشم، أبو صالح المكي فوثقه النسائي، وابن حبان، وأبو أحمد الحاكم، توفي سنة ثمان وأربعين ومائتين، روى له أبو طالب، والمرشد بالله، والنسائي، ويروى أنه حج ثمانين حجة، وزنبور بضم الزاي وسكون النون.
وأما عبد العزيز فهو المدني، روى عنه جماعة من الحفاظ النقاد، وثقه ابن معين، وقال في (التقريب): صدوق، مات سنة أربع وثمانين ومائة، احتج به الجماعة، وروى له أبو طالب، والمرشد بالله.
وأما حبيب بن حسان فهو الكوفي، قال الذهبي: ضعفوه.
وفي (شرح التجريد): أخبرنا أبو الحسين بن إسماعيل، قال: حدثنا محمد بن الحسين اليماني، قال: حدثنا محمد بن شجاع، قال: حدثني القاسم بن يحيى بن آدم، عن وكيع، عن الأعمش قال: سمعت مجاهداً يقول عن طاوس عن ابن عباس: إن النبي -صلى الله عليه وآله- مرّ بقبرين فقال: ((إنهما ليعذبان وما يعذبان في كبير، أحدهما كان لا يستنزه أو لا يستبرئ عن بوله، والآخر كان يمشي بالنميمة)) شك أبو عبد الله، وهو في (أصول الأحكام) و(الشفاء).
ابن اليمان هو الحنفي، أبو جعفر، ذكره في (طبقات الحنفية) وقال في (الطبقات): خرج له المؤيد بالله ووثقه.
وأما ابن شجاع فهو البلخي، أبو عبد الله البغدادي، قال المنصور بالله: هو المبرز على نظرائه من أهل زمانه فقهاً، وورعاً، وثباتاً، على رأي أهل العدل، وله تصانيف كثيرة، قال علامة العصر: تكلم عليه الحشوية ونالوا منه، وقالوا: كان ينال من أحمد، قال في (الطبقات): ولا يبعد أنه من رجال الشيعة، مات ساجداً في صلاة العصر سنة ست وستين ومائتين، خرّج له المؤيد بالله ووثقه.
وأما القاسم بن يحيى فالظاهر أن ذكر القاسم غلط فإنه ذكر في (الجداول) رواية محمد بن شجاع عن يحيى بن آدم، ورواية يحيى بن آدم عن وكيع فيحقق البحث، ويحيى بن آدم ثقة مشهور، وكذلك وكيع.
والحديث أخرجه البخاري فقال: حدثنا قتيبة، حدثنا جرير، عن الأعمش بسند المؤيد بالله وفي آخره: ((ثم أخذ عوداً رطباً فكسره باثنتين ثم غرز كل واحد منهما على قبر ثم قال: لعله يخفف عنهما ما لم ييبسا)).
وقتيبة هو ابن سعيد، وجرير هو ابن حازم.
وفي سنن ابن ماجة: حدثنا أبو بكر بن أبي شيبة، حدثنا أبو معاوية ووكيع عن الأعمش، عن مجاهد، عن طاوس، عن ابن عباس قال: مر رسول الله -صلى الله عليه وآله- بقبرين جديدين فقال: ((إنهما ليعذبان وما يعذبان في كبير، أما أحدهما فكان لا يستنزه من بوله، وأما الآخر فكان يمشي بالنميمة)) والحديث قال في المنتقى: رواه الجماعة.
قلت: والروايات كلها بإثبات طاووس بين مجاهد وابن عباس كما ترى، إلا رواة المرشد بالله، ورواه النسائي بإثبات طاووس من طريق هناد بن السري عن وكيع عن الأعمش بالسند المذكور، ثم قال: ورواه منصور عن مجاهد عن ابن عباس ولم يذكر طاووساً، وذكر حديث منصور أبو داود فقال: حدثنا عثمان بن أبي شيبة، ثنا جرير، عن منصور، عن مجاهد، عن ابن عباس عن النبي -صلى الله عليه وآله- بمعناه.
وأبو معاوية المذكور هو: محمد بن حازم التيمي مولاهم الضرير الشيعي الثبت، وثقه الذهبي والعجلي، وقال: يرى الإرجاء، ويعقوب وقال: قلما دلس، وقال الحاكم: احتج به الشيخان، وقد اشتهر عنه غلو التشيع، توفي سنة خمس وتسعين ومائة، احتج به الجماعة، وروى له المرادي.
وفي (المناقب): وعن علي عليه السلام ، قال: ((مر رسول الله -صلى الله عليه وآله- بقبرين يعذبان وما يعذبان في كبير أما أحدهما فكان لا يتنزه من بوله وأما الآخر فكان يمشي بالنميمة)) أخرجه ابن عساكر من طريق عبد الله بن محمد بن عمر بن علي، عن أبيه، عن جده، عن علي عليه السلام .
وفي سنن ابن ماجة: حدثنا أبو بكر بن أبي شيبة، ثنا وكيع، ثنا الأسود بن شيبان، حدثني بحر بن مرَّار، عن جده أبي بكر، قال: مر النبي -صلى الله عليه وآله- بقبرين فقال: ((إنهما ليعذبان وما يعذبان في كبير، أما أحدهما فيعذب في البول، وأما الآخر فيعذب بالغيبة)).
أما الأسود فهو: ابن شيبان السدوسي البصري، أبو شيبان، وثقه ابن معين، وقال أبو حاتم: صالح الحديث، وفي (التقريب): ثقة، عابد، توفي سنة ستين ومائتين، روى له المرشد بالله، واحتج به مسلم، والأربعة إلا الترمذي.
وأما بحر فهو: ابن مرار -بفتح الميم وتشديد الراء- ابن عبد الرحمن بن أبي بكر الثقفي، أبو معاذ البصري، قال في (التقريب): صدوق اختلط بآخره.
فائدة [في تقرير رواية عذاب رجلين]
لم يعرف اسم الرجلين المقبورين ولا أحدهما، ولعل ذلك لقصد الستر عليهما وهو عمل مستحسن، ولا ينبغي الفحص عن تسمية من وقع في حقه ما يذم به، والظاهر أنهما مسلمين لقوله في رواية ابن ماجة: جديدين.
وفي حديث أبي أمامة عند أحمد أنه صلى الله عليه وآله وسلم مر بالبقيع فقال: ((من دفنتم اليوم هاهنا)) والبقيع: مقبرة المسلمين.
وفي رواية أبي بكرة عند أحمد، والطبراني بإسناد صحيح: ((يعذبان وما يعذبان في كبير وبلى: وما يعذبان إلا في الغيبة والبول)) وهذا الحصر ينفي كونهما كافرين؛ لأن الكافر يعذب على كفره بلا خلاف.
وقال أبو موسى: بل كانا كافرين لما في حديث جابر أنه صلى الله عليه وآله مر على قبرين من بني النجار هلكا في الجاهلية.
وأجيب بأنه ضعيف كما اعترف به، وسيأتي حديثه أن المسموع من بني النجار جماعة ولم يذكر سبب تعذيبهم أعني البول والنميمة ولو سلم ما احتج به، فلعلها تعددت الواقعة، رجعنا إلى ما نحن بصدده:
وفي أمالي المرشد بالله: أخبرنا عبد الله بن رستة، ثنا الحسين بن أحمد، ثنا أبو الحسن بن بسطام، ثنا أبو الحجاج القيس، ثنا درست الرقاشي، عن أنس قال رسول الله صلى الله عليه وآله: ((من لم يؤمن بعذاب القبر فعذبه الله، ومن لم يؤمن بشفاعتي فلا جعله الله فيها)).
قوله: درست الرقاشي، الصواب درست عن يزيد الرقاشي كما في (الجداول).
ودرست بضم الدال والراء وسكون المهملة بعدها مثناة من أعلى وهو ابن زياد العنبري البصري، روى عن يزيد الرقاشي وابن جدعان وغيرهما، قال ابن عدي: أرجو أنه لا بأس به، وقال ابن معين: لا شيء، وقال البخاري: ليس بالقائم، وفي (التقريب): ضعيف.
وفي أمالي المرشد بالله أيضاً: أخبرنا ابن السواق، انا القطيعي، ثنا بشر بن موسى، ثنا أبو عبد الرحمن، ثنا ابن لهيعة، عن أبي الزبير أنه سأل جابراً عن عذاب القبر فقال: دخل النبي -صلى الله عليه وآله- نخلاً لبني النجار فسمع أصوات رجال من بني النجار قد ماتوا في الجاهلية يعذبون في قبورهم فخرج النبي -صلى الله عليه وآله- فزعاً فأمر أصحابه أن يتعوذوا من عذاب القبر، وأخرجه أحمد بإسناد صحيح.
وفي أمالي المرشد بالله: أخبرنا الذكواني، انا ابن حبان، ثنا محمد بن هارون، ثنا أبو حذافة، ثنا عبد العزيز بن محمد عن أنس أن رسول الله -صلى الله عليه وآله- دخل حائطاً من حوائط بني النجار فسمع صوتاً من قبر فقال: ((متى دفن هذا القبر؟)) قالوا: في الجاهلية، فسر بذلك وقال: ((لولا أن تدافنوا لسألت الله أن يسمعكم عذاب القبر)).
وفيه: أخبرنا ابن غسان، انا الأسفاطي، ثنا أبو حليقة، ثنا محمد بن بشار، ثنا محمد بن جعفر، ثنا شعبة سمعت قتادة يحدث عن أنس أن رسول الله -صلى الله عليه وآله- قال: ((لولا أن تدافنوا لدعوت الله أن يسمعكم عذاب القبر))، وهو في الجامع الصغير منسوباً إلى أحمد والنسائي إلا أنه قال: ((لولا أن لا تدافنوا)) بزيادة: لا، قال بعض الشراح: يحتمل أن لا زائدة، والمعنى: لولا الخوف عليكم من الموت والدفن بسبب سماع ذلك لدعوت ...إلخ، ويحتمل أن تكون أصلية أي لولا الخوف عليكم من ترك دفن موتاكم لما يحصل لكم من الفزع والدهشة المقتضية لترك مصالحكم حتى تتركوا دفن موتاكم.
وفي أمالي المرشد بالله: أخبرنا ابن ريذة، انا الطبراني، ثنا محمد بن عثمان، ثنا يعلى بن المنهال، ثنا إسحاق بن منصور، ثنا أبو بكر بن عياش، عن الأعمش، عن أبي وائل، عن عبد الله، عن النبي صلى الله عليه وآله: ((إن الموتى ليعذبون في قبورهم حتى أن البهائم تسمع أصواتهم)).
وفيه: أخبرنا أبو طاهر بن عبد الرحيم، انا ابن حبان،ثنا إبراهيم بن محمد، ثنا محمد بن المغيرة، ثنا النعمان،عن الوصاني،عن عطية عن أبي سعيد: ارتحلنا ليلة مع نبي الله صلى الله عليه وآله فنفرت راحلته، فقال رسول الله صلى الله عليه وآله: ((فزعت من صوت هذا القبر فإنه يعذب)).
وفيه: أخبرنا الجوزداني، انا ابن شهدل، انا ابن عقدة، انا أحمد بن الحسن، ثنا أبي، ثنا حصين، عن أبي حمزة، وأبي الجارود، عن أبي جعفر وزيد بن علي: العذاب الأدنى: عذاب القبر، والدابة، والدجال، والعذاب الأكبر: جهنم يوم القيامة.
وبإسناده ثنا حصين، عن محمد بن عبد الله بن الحسن، عن أبيه، عن آبائه أن النبي -صلى الله عليه وآله- قال: ((لولا أن تدافنوا لدعوت الله أن يسمعكم من عذاب القبر ما أسمعني)).
وبإسناده ثنا حصين، عن الحسن بن زيد بن الحسن، عن أبيه، عن جده، عن علي عليه السلام : دخل رسول الله صلى الله عليه وآله بعض حوائط المدينة فسمع أصوات يهود عند مغيربان الشمس فقال: ((هذه أصوات يهود تعذب في قبورها)).
وقال في (الاعتصام): أخرج البخاري عن أم خالد، قالت: بينما رسول الله -صلى الله عليه وآله- في حائط لبني النجار ونحن معه إذ حادت به بغلته فكادت تلقيه، وإذا قبر ستة أو خمسة، فقال صلى الله عليه وآله: ((من يعرف أصحاب هذه الأقبر؟ فقال رجل: أنا، فقال: فمتى ماتوا؟ قال: في الشرك، قال: إن هذه الأمة تبتلى في قبورها، فلولا أن لا تدافنوا لدعوت الله أن يسمعكم من عذاب القبر الذي أسمع منه، ثم قال: تعوذوا بالله من عذاب القبر، قالوا: نعوذ بالله من عذاب القبر، قال: تعوذوا بالله من عذاب النار، قالوا: نعوذ بالله من عذاب النار، قال: تعوذوا بالله من عذاب الفتن ما ظهر منها وما بطن، قالوا: نعوذ بالله من عذاب الفتن ما ظهر منها وما بطن، قال: تعوذوا بالله من فتنة الدجال، قالوا: نعوذ بالله من فتنة الدجال)).
وفي صحيح البخاري: حدثنا محمد بن المثنى، حدثنا يحيى، حدثنا شعبة، قال: حدثني عون بن أبي جحيفة، عن أبيه، عن البراء بن عازب، عن أبي أيوب، قال: خرج النبي -صلى الله عليه وآله- وقد وجبت الشمس فسمع صوتاً فقال: ((يهود تعذب في قبورها)) وأخرجه مسلم، والنسائي.
وفي أمالي المرشد بالله: أخبرنا أبو طاهر، انا أبو حيان، ثنا إبراهيم بن محمد، ثنا محمد بن مغيرة، ثنا النعمان، عن ورق اليشكري، عن عاصم، عن أبي وائل، عن مسروق، عن عائشة قال رسول الله صلى الله عليه وآله: ((عذاب القبر حق، قلت: فهل يسمعه أحد؟ قال: لا يسمعه الجن والإنس ويسمعه غيرهم)) أو قال:((الهوام)) وهو في الجامع الصغير عنها بلفظ: ((عذاب القبر حق)) ونسبه إلى الخطيب في التاريخ.
أما محمد بن المغيرة فهو: الشهروري روى ((ثلاثة ما كفروا قط: مؤمن آل يس، وآسية امرأة فرعون، وعلي بن أبي طالب)) كذبه ابن عدي لهذا، واحتج به الطبراني في الكبير.
وأما ورق فهو: ابن عمر اليشكري، أبو بشر، وثقه أحمد، وابن معين، وقال ابن عدي: لا بأس به. روى له المرشد بالله، واحتج به الجماعة.
وفي صحيح البخاري: حدثنا عبدان، أخبرني أبي، عن شعبة سمعت الأشعث، عن أبيه، عن مسروق، عن عائشة: أن يهودية دخلت عليها فذكرت عذاب القبر فقالت لها: أعاذك الله من عذاب القبر، فسألت عائشة رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم عن عذاب القبر فقال: ((نعم عذاب القبر)) قالت عائشة: فما رأيت رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم بعد صلى صلاة إلا تعوذ من عذاب القبر. وهو من صحيح مسلم بطريقين.
أما عثمان فهو: لقب عبد بن عثمان بن جبلة -بفتح الجيم والموحدة- ابن أبي رواد العتكي بفتح العين والتاء المثناة، ذكره هو وأباه في (التقريب) ووثقهما.
وأما الأشعث فهو: ابن أبي الشعثاء سليم بن سواد المحاربي الكوفي، من ثقات الكوفيين، ووثقه أحمد، توفي سنة خمس وعشرين ومائة، روى له الأخوان، واحتج به الجماعة، وأما والده فقال في (التقريب): ثقة باتفاق، وتوفي زمن الحجاج، وخبر قوله: عذاب القبر محذوف أي حق أو ثابت، وأخرجه النسائي، والإسماعيلي، وأبو داود الطيالسي.
وعن زيد بن أرقم مرفوعاً: ((عذاب القبر حق فمن لم يؤمن به عذب فيه)) أخرجه ابن منيع.
وفي صحيح البخاري: حدثنا يحيى بن سليمان، حدثنا ابن وهب، قال: أخبرني يونس، عن ابن شهاب، قال: أخبرني عروة بن الزبير أنه سمع أسماء بنت أبي بكر تقول: قام رسول الله -صلى الله عليه وآله- خطيباً فذكر فتنة القبر التي يفتتن فيها المرء، فلما ذكر ذلك ضج المسلمون ضجة.
أما يحيى فهو: ابن سليمان، أبو سعيد الجعفي الكوفي، نزيل البصرة، وثقه ابن حبان وقال: ربما أغرب، وقال في (التقريب): صدوق يخطئ، وقال النسائي: ليس بالقوي، توفي سنة سبع أو ثمان وثلاثين ومائة، روى له المرشد بالله، وفي كتاب (حي على خير العمل) واحتج به البخاري، والترمذي.
وأما يونس فهو: ابن يزيد الأيلي بفتح الهمزة وسكون التحتانية بعدها لام، أبو يزيد مولى آل أبي سفيان، قال في (التقريب): ثقة إلا أن في روايته عن الزهري وهما قليلاً وفي غير الزهري خطأ، وقال في (التقريب) عن أحمد أنه ضعفه، ووكيع نسبه إلى سوء الحفظ، وشذ ابن سعد فقال: ليس بحجة، قال الذهبي: بل هو ثقة حجة كمالك، وقال ابن مهدي، وابن المبارك: كتابه صحيح، وقال أحمد بن صالح: نحن لا نقدم عليه أحداً في الزهري، ووثقه النسائي وغيره.
قلت: وأحسبه من رجال المؤيد بالله والسيلقي، وأخرج له الجماعة.
وأما ابن وهب فهو عبد الله، وقد مر.
وفي أمالي المرشد بالله: أخبرنا أبو طاهر، انا ابن حبان، ثنا محمد بن جرير، ثنا زكريا الصيرفي، ثنا بشر بن محمد، ثنا عبد الله بن عمران، عن ابن أشوع، عن الشعبي، عن جابر، قال رسول الله صلى الله عليه وآله: ((من مات مبطوناً مات شهيداً ووقي عذاب القبر)).
أما ابن جرير فهو: محمد بن جرير بن رستم الطبري، أبو حفص الآملي، عداده في ثقات محدثي الشيعة، وليس بصاحب التفسير والتاريخ، روى له المرشد بالله.
وأما زكريا فهو: ابن يحيى الصيرفي، ذكر في (الجداول) من أخذ عنه، ثم قال فيها: قال مولانا أبو يحيى الوكاز المصري، قال ابن عدي: رأيت مشائخ مصر يثنون على أبي يحيى في العبادة، والاجتهاد، والفضل، وله أحاديث كثيرة بعضها مستقيمة، توفي سنة أربع وخمسين ومائتين، وفي التعقيب: زكريا بن يحيى بن أبان بموحدة ونون، مصري، يروي عنه ابن جرير والطحاوي، صدوق يهم.
قلت: ولعل ذكر الصيرفي تصحيف، والصواب المصري.
وأما بشر فهو: ابن محمد بن أبان اليشكري الواسطي، قال الذهبي: صدوق إن شاء الله، وقال ابن عدي: أرجو أنه لا بأس به، وذكره في التعقيب.
وأما عبد الله بن عمران فذكره في (الجداول) من رجال المرشد بالله ولم يبين حاله، وفي (التقريب) ثلاثة ممن لهم هذا الاسم وكلهم مقبولون.
وأما ابن أشوع فهو: سعيد بن عمرو بن أشوع الهمداني، قاضي الكوفة، عداده في الشيعة، وقد تكلم عليه الجوزجاني لذلك فقال: زائغ غال، وقال الذهبي: صدوق، وقال النسائي: لا بأس به، ووثقه ابن حبان، وابن معين، والنسائي، والعجلي، وابن حجر في (التقريب)، توفي في ولاية خالد بن عبد الله، روى له المرشد بالله، واحتج به البخاري، ومسلم، والترمذي.
وفي (الجامع الصغير) عنه صلى الله عليه وآله وسلم : ((من مات مرابطاً في سبيل الله أمنه الله من فتنة القبر)) ونسبه إلى الطبراني في الكبير من حديث أبي أمامة.
وفي (المقاصد الحسنة) للسيد العلامة أحمد بن عبد الله الوزير رحمه الله ما لفظه: عبد الرزاق، عن ابن جرير، عن رجل، عن ابن شهاب أن النبي -صلى الله عليه وآله- قال: ((من مات يوم الجمعة أو ليلة الجمعة وقي فتنة القبر وكتب شهيداً)).
وروى أبو قرة في السنن نحوه عن عبد الله بن عمر مرفوعاً، والطبراني، وأبو يعلى عنه بسند متصل، وله طريق أخرى أخرجها أحمد وإسحاق والطبراني ورواه أبو نعيم عن جابر بلفظ: ((من مات يوم الجمعة أو ليلة الجمعة أجير من عذاب القبر، وجاء يوم القيامة وعليه طابع الشهداء)).
وفي الباب عن أنس عند أبي يعلى، وعن علي عليه السلام عند الديلمي بلفظ: ((من مات ليلة الجمعة أو يوم الجمعة رفع الله عنه عذاب القبر)).
قال رحمه الله: ويروى الأمن من فتنة القبر لمن مات في أحد الحرمين، أو في طريق مكة، أو مرابطاً، ولمن يقرأ سورة الملك عند منامه، وقد نظم ولي الله ابن رسلان ذلك فقال:
عليك بخمس فتنة القبر تمنع .... وتنجي من التعذيب عنك وتدفع
رباط بثغر ليله ونهاره .... وموت شهيد شاهد السيف يلمع
ومن سورة الملك اقترأ كل ليلة .... ومن روحه يوم العروبه تنزع
وموت شهيد البطن جاء ختامها .... وذو غيبة تعذيبه يتنوع
وفي أمالي المرشد بالله: أخبرنا أحمد بن المظفر، انا ابن الشقا، ثنا أبو حليفة، ثنا مسدد، عن محمد بن سليمان، عن أنس أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم كان يقول: ((اللهم إني أعوذ بك من الكسل والعجز والجبن والهرم والبخل، وأعوذ بك من عذاب القبر، وفتنة المحيا والممات)).
قلت: هكذا في أمالي المرشد بالله عن محمد بن سليمان عن أنس، وأظنه من تحريف النساخ وغلطهم، والصواب عن المعمر بن سليمان عن أبيه عن أنس كما في كتب الحديث، ففي صحيح البخاري: حدثنا مسدد، حدثنا المعتمر، قال: سمعت أبي، قال: سمعت أنس بن مالك يقول: كان نبي الله صلى الله عليه وآله وسلم يقول: ((اللهم إني أعوذ بك من العجز والكسل والجبن والهرم، وأعوذ بك من عذاب القبر، وأعوذ بك من فتنة المحيا والممات)) وهو بهذا السند والمتن في سنن أبي داود إلا أن أبا داود زاد البخل بعد ذكر الجبن فقال: والجبن والبخل والهرم.
وفي (شرح القسطلاني): إن بعض رواة صحيح البخاري زادها في ذلك الموضع.
ورواه مسلم من طرق أخرى متصلة بأبيه فقط، وبعضها غير متصلة بأحدهما فقال: حدثنا يحيى بن أيوب، حدثنا ابن علية، قال: وأخبرنا سليمان التيمي، حدثنا أنس بن مالك، قال: كان رسول الله -صلى الله عليه وآله- يقول: ((اللهم إني أعوذ بك من العجز...)) إلى آخر ما مر بتقديم وتأخير، وذكر البخل بعد الهرم قال: وحدثنا أبو كامل، حدثنا يزيد بن زريع، وحدثنا محمد بن عبد الأعلى، حدثنا معتمر كلاهما عن التيمي، عن أنس، عن النبي -صلى الله عليه وآله- بمثله غير أن يزيد ليس في حديثه قوله: ((من فتنة المحيا والممات)).
وفيه: حدثني أبو بكر ابن نافع العبدي، حدثنا بهز بن أسد العمي، حدثنا عروة الأعور، حدثنا شعيب بن الحبحاب، عن أنس قال: كان صلى الله عليه وآله يدعو بهؤلاء الدعوات: ((اللهم إني أعوذ بك من البخل والكسل وأرذل العمر وعذاب القبر وفتنة المحيا والممات)).
أما التيمي فهو: سليمان بن طرخان بفتح الطاء وسكون الراء المهملتين بعدهما خاء معجمة التيمي، أبو المعتمر، قال علامة العصر: كان مائلاً إلى الوصي، وثقه أحمد، وابن معين، وابن سعد، وأثنى عليه العلماء، وقال غيره: كان ثقة عابداً لم يضع جنبه عشرين سنة، كان يصلي الصبح بوضوء العشاء، توفي سنة ثلاث وأربعين ومائة، روى له أئمتنا الأربعة، احتج به الجماعة.
وأما يحيى بن أيوب فهو: المقابري بفتح الميم والقاف وكسر الموحدة، البغدادي، قال في (التقريب): العابد ثقة، وفي التعقيب عنه مسلم، توفي سنة أربع وثلاثين وله سبع وسبعون سنة.
وأما محمد بن عبد الأعلى فهو: الصنعاني البصري، قال في (التقريب): ثقة، واحتج به مسلم، والترمذي، والنسائي، وابن جرير وغيرهم، مات سنة خمس وأربعين ومائتين.
وأما أبو بكر بن نافع فهو: محمد بن أحمد بن نافع العبدي البصري، قال في (التقريب): صدوق.
وأما بهز بن أسد، فقال أحمد: إليه المنتهى في التثبت، وقال أبو حاتم: إمام صدوق، وفي رواية: ثقة، وقال الذهبي: إمام حجة، قال الأزدي: كان يتحامل على عثمان، وقال في هامش (الجداول): عداده في رجال الشيعة ومحدثيهم، احتج به الجماعة، توفي بعد المائتين، وقيل: قبلها.
وأما هارون فهو: ابن سعد العجلي أو الجعفي الكوفي، أبو محمد الأعور، قال أبو حاتم: لا بأس به، وفي (الكاشف) وغيره: صدوق ورموه بالرفض، قال علامة العصر: هو من عيون الزيدية بايع زيد بن علي عليه السلام وولاه النفس الرضية واسط، روى له المرادي، وأبو طالب، والمرشد بالله، واحتج به مسلم.
وأما ابن الحبحاب فهو: بحاءين مهملتين مفتوحتين وباءين موحدتين الأزدي مولاهم أبو صالح البصري، وثقه أحمد وابن سعد، مات سنة ثلاثين أو إحدى وثلاثين ومائة، روى له أئمتنا الثلاثة، واحتج به الجماعة إلا ابن ماجة.
وحديث أنس هذا أخرجه أيضاً أحمد، والترمذي، والنسائي، وروى المرشد بالله نحوه عن عبدالملك بن عمير عن مصعب بن سعد عن أبيه مرفوعاً، وأخرجه البخاري، والنسائي.
وفي (أمالي المرشد بالله): أخبرنا غيلان، انا أبو بكر الشافعي، ثنا الحسين بن غزوان، عن سليمان عم الأقطع سمعت مسلمة يحدث عن هشام بن عروة، عن أبيه، عن عائشة كان من دعاء النبي صلى الله عليه وآله: ((اللهم إني أعوذ بك من عذاب القبر، ومن فتنة البلايا، ومن فتنة القبر، ومن شر فتنة الكفر، ومن شر فتنة المسيح الدجال، اللهم اغسل خطاياي بالثلج والبرد، ونق قلبي من الخطايا كما ينقى الثوب الأبيض من الدنس، وباعد بيني وبين خطاياي كما باعدت بين المشرق والمغرب، اللهم إني أعوذ بك من الكسل والهرم)) وفي السند من لا أعرفه.
وفي (صحيح البخاري): حدثنا معلى بن راشد، حدثنا وهيب، عن هشام بن عروة، عن أبيه، عن عائشة أن النبي صلى الله عليه وآله كان يقول: ((اللهم إني أعوذ بك من الكسل والهرم، والمأثم والمغرم، ومن فتنة القبر وعذاب القبر، ومن فتنة النار وعذاب النار، ومن شر فتنة الغنى، ومن شر فتنة الفقر، وأعوذ بك من فتنة المسيح الدجال، اللهم اغسل عني خطاياي بماء الثلج والبرد، ونق قلبي من الخطايا كما نقيت الثوب الأبيض من الدنس، وباعد بيني وبين خطاياي كما باعدت بين المشرق والمغرب)).
معلى بضم الميم وفتح العين واللام مشددة، قال العجلي: ثقة ثبت ذو صلاح، توفي سنة ثمان عشرة ومائتين، روى له المؤيد بالله، والمرشد بالله، واحتج به الشيخان، والترمذي، والنسائي.
وأما وهيب فهو: ابن خالد بن عجلان الباهلي مولاهم أبو بكر المصري، وثقه جماعة، وقال ابن سعد: حجة، قال في (التقريب): لكنه تغير قليلاً بآخره، توفي سنة خمس وستين ومائة، روى له الأخوان والمرشد بالله، واحتج به الستة.
وفي (صحيح البخاري): حدثنا أبو اليمان، قال: أخبرنا شعيب عن الزهري، قال: أخبرنا عروة بن الزبير، عن عائشة زوج النبي صلى الله عليه وآله أخبرته أن رسول الله صلى الله عليه وآله كان يدعو في الصلاة: ((اللهم إني أعوذ بك من عذاب القبر، وأعوذ بك من فتنة المسيح الدجال، وأعوذ بك من فتنة المحيا وفتنة الممات، اللهم إني أعوذ بك من المأثم والمغرم، فقال له قائل: ما أكثر ما تستعيذ من المغرم؟ فقال: إن الرجل إذا غرم حدث فكذب ووعد فأخلف)) وأخرجه مسلم بسند البخاري، قال: حدثني أبو بكر بن إسحاق، أخبرنا أبو اليمان فذكره، وهو في سنن أبي داود، قال: حدثنا عمرو بن عثمان، ثنا بقية، ثنا شعيب فذكره، وأخرجه النسائي.
أما أبو اليمان فهو: الحكم بن نافع القضاعي البهراني بفتح الموحدة الحمصي، ثقة ثبت، يقال: إن أكثر حديثه عن شعيب مناولة، مات سنة اثنتين وعشرين ومائتين، روى له المرادي والمرشد بالله، واحتج به الستة.
وأما شعيب فهو: ابن أبي حمزة الأموي مولاهم أبو بشر الحمصي، قال ابن حجر: ثقة عابد، وثقه ابن معين وغيره، توفي سنة اثنتين أو ثلاث وستين ومائة، روى له أبو طالب والسيلقي، واحتج به الجماعة.
وأما أبو بكر بن إسحاق فهو: محمد بن إسحاق الصغاني بفتح المهملة ثم المعجمة أبو بكر نزيل بغداد، وثقه وأثنى عليه غير واحد، مات سنة سبعين ومائتين، روى له أبو طالب، واحتج به مسلم والأربعة.
وفي (صحيح مسلم): حدثنا نصر بن علي الجهضمي، وابن نمير، وأبو كريب، وزهير بن حرب جميعاً عن وكيع، قال أبو كريب: حدثنا الأوزاعي، عن حسان بن عطية، عن محمد بن أبي عائشة، عن أبي هريرة، وعن محمد بن أبي كثير، عن أبي سلمة، عن أبي هريرة قال رسول الله صلى الله عليه وآله: ((إذا تشهد أحدكم فليستعذ بالله من أربع، يقول: اللهم إني أعوذ بك من عذاب جهنم، ومن عذاب القبر، ومن فتنة المحيا والممات، ومن شر فتنة المسيح الدجال)).
وفيه: حدثني زهير بن حرب، حدثنا الوليد بن مسلم، حدثني الأوزاعي، حدثنا حسان بن عطية، حدثني محمد بن عائشة أنه سمع أبا هريرة يقول: قال رسول الله صلى الله عليه وآله: ((إذا فرغ أحدكم من التشهد الآخر فليتعوذ بالله من أربع: من عذاب جهنم، ومن عذاب القبر، ومن فتنة المحيا والممات، ومن شر المسيح الدجال)) وله عنده طريقان إلى الأوزاعي غير هذه، وقال: ((إذا فرغ أحدكم من التشهد...)) ولم يذكر الآخر، وله عنده خمس طرق أخر وليس فيها ذكر الصلاة ولا التشهد.
أما نصر فهو: نصر بن علي بن نصر بن علي بن صهبان الأزدي الجهضمي الصغير، أبو عمرو، وثقه النسائي وغيره، طلبه المستعين للقضاء فقال: استخير، فصلى ركعتين فنام فقبض سنة خمسين ومائة، روى له أبو طالب والموفق بالله، وعنه الجماعة وغيرهم، وإنما قيدناه بالصغير للفرق بينه وبين جده نصر بن علي بن صهبان فإن هذا من مشائخ وكيع، والمترجم له من الآخذين عن وكيع كما هنا، وصهبان بضم المهملة وسكون الهاء.
وأما ابن أبي عائشة فقال في (التقريب): ليس به بأس، وفي هذه الأخبار دليل لمن يقول بجواز الدعاء في الصلاة، وقد مر الخلاف في ذلك.
وفي (صحيح مسلم): حدثنا قتيبة بن سعد، عن مالك بن أنس فيما قرئ عليه، عن أبي الزبير، عن طاووس، عن ابن عباس أن رسول الله صلى الله عليه وآله كان يعلمهم هذا الدعاء كما يعلمهم السورة من القرآن يقول: ((اللهم إنا نعوذ بك من عذاب جهنم، وأعوذ بك من عذاب القبر، وأعوذ بك من فتنة المسيح الدجال، وأعوذ بك من فتنة المحيا والممات)) وكان من دعاء النبي صلى الله عليه وآله: ((اللهم لك الحمد كالذي نقول وخيراً مما نقول، اللهم لك صلاتي ونسكي ومحياي ومماتي، وإليك مآبي، ولك يا رب تراثي، اللهم إني أعوذ بك من عذاب القبر، ووسوسة الصدر، وشتات الأمر، اللهم إني أسألك من خير ما تجيء به الرياح، وأعوذ بك من شر ما تجيء به الرياح)) رواه في الجامع الصغير، ونسبه إلى الترمذي والبيهقي في الشعب من حديث علي عليه السلام .
والأخبار المتضمنة لذكر عذاب القبر وثبوته والاستعاذة منه كثيرة يتعسر علينا استقصاؤها، وسيأتي شطرٌ منها في المواضع الآتية، وفي أثناء الكتاب إن شاء الله.
الوجه الرابع: مما احتج به المثبتون لعذاب القبر أنه قد ثبت القول به عن أمير المؤمنين علي بن أبي طالب -كرم الله وجهه في الجنة- قال في مجموع زيد بن علي عليه السلام : حدثني زيد بن علي، عن أبيه، عن جده عن علي عليه السلام قال: عذاب القبر من ثلاث: من البول، والدين، والنميمة. وهو في العلوم.
وروى الموفق بالله عليه السلام في (سلوة العارفين) بسنده إلى علي عليه السلام قال: ما زلنا نشك في عذاب القبر حتى نزلت {أَلْهَاكُمُ التَّكَاثُرُ}[التكاثر:1] وأخرجه الترمذي، وقال أمير المؤمنين عليه السلام في كتابه إلى محمد بن أبي بكر: واعلموا عباد الله أن ما بعد الموت لمن لم يغفر الله له ويرحمه أشد من الموت عذاب القبر، فاحذروا ضيقه وظلمته وغربته، إن القبر يتكلم في كل يوم فيقول: أنا بيت الوحدة، أنا بيت الغربة، أنا بيت الدود، أنا بيت التراب، وإنما القبر روضة من رياض الجنة أو حفرة من حفر النار، وإنما العبد المسلم إذا دفن قالت له الأرض: مرحباً وأهلاً، لقد كنت من أحب خلق الله تمشي على ظهري، فإذا وليتك وصرت إليَّ لتعلم كيف أصنع بك، فيفسح له مد بصره ويفتح له باب إلى الجنة، وإذا دفن الكافر قالت له الأرض: لا مرحباً ولا أهلاً، لقد كنت من أبغض خلق الله تمشي على ظهري، فإذا وليتك وصرت إليّ ستعلم كيف أصنع بك، فيضيق عليه موضعه حتى تلتقي أضلاعه في حفرته، وهي المعيشة التي قال الله تعالى: {مَعِيشَةً ضَنكاً}[طه:124] ليسلط عليه في قبره حيات تنهش عظمه، لو أن واحدة منهن نفخت نفخة في الأرض لم ينبت زرع أبداً. رواه الموفق بالله في السلوة، وكذلك سائر كتابه عليه السلام إلى محمد بن أبي بكر وهو كتاب نفيس مشتمل على علوم غزيرة.
قال الموفق بالله عليه السلام في سند هذا الكتاب ما لفظه: عن أبي مخنف، عن سليمان بن أبي راشد الأسدي، عن عبد الرحمن بن عبد أن محمد بن أبي بكر كتب إلى أمير المؤمنين عليه السلام يسأله جوامع من الحلال والحرام، والسنن والمواعظ وهو إذ ذاك بمصر عامل له، ثم ذكر كتاب محمد وجواب باب مدينة العلم عليه السلام .
وأبو مخنف هو: لوط بن يحيى بن سعيد بن مخنف الأزدي الكوفي صاحب التصانيف، توفي سنة ثمان وخمسين ومائة، عداده في ثقات الشيعة، واعتمده أئمتنا وقد نالت منه النواصب. قال علامة العصر: وأكثر النقل عنه ابن أبي الحديد مع تحريه في النقل.
وأما سليمان وعبد الرحمن فيبحث عنهما إن شاء الله.
وقال علي عليه السلام بعد أن ذكر ما يقاسيه العبد عند نزول الموت عليه من الشدائد ما لفظه: ثم حملوه إلى محط في الأرض فأسلموه فيه إلى عمله، وانقطعوا عن زورته. رواه في (النهج) ولا معنى له إلا أنهم أسلموه إلى جزاء عمله؛ إذ التسليم للعمل لا يتصور، ولا يترتب عليه فائدة إلا بهذا التأويل.
الوجه الخامس: إجماع أهل البيت" على ثبوته كما مر في الجامع الكافي.
الوجه السادس: أنه قد نقل سماع الكلام من القبر وسماع عذابه نقلاً مستفيضاً قديماً وحديثاً حتى ادعى بعضهم تواتر ذلك الإمام المهدي بلغنا عن حي الفقيه العلامة لسان المتكلمين، حواري أهل البيت المطهرين أحمد بن حميد الحارثي قد كثر نقل سماع عذاب القبر حتى بلغ التواتر لكثرة الناقلين لسماعه من جهات شتى.
[الحكايات الدالة على عذاب القبر]
قلت: وهكذا في كل زمان، فإن في كتب التواريخ والسير وغيرها من ذلك شيء كثير، ويحكى لنا في زماننا هذا حكايات متعددة، ونحن نأتي هنا بما صح لنا من الحكايات عن أهل زماننا وغيرهم مما يدل على ثبوت الحياة في القبر وعذاب العصاة فيه، ولا ننقل إلا ما هو عندنا صحيح.
الحكاية الأولى
ما رواه الإمام المهدي في (شرح القلائد) وصححه قال: حدثنا السيد الأفضل ربيب حجر العبادة، ورضيع لبان الزهادة، سلالة الآباء الكرام المؤيد بن أبي الفضائل بن محمد بن علي في مسجد زيدان من مدينة صعدة هجرة الهادي إلى الحق يحيى بن الحسين عليه السلام وذلك أنا كنا قد سمعنا الحكاية عنه من غيره، فلما وصل إلينا إلى صعدة أيام قراءتنا فيها أنا وحي صنوي -رحمة الله عليه- وهذا السيد ابن خالنا فوقف معنا أياماً، فسألته أنا وحي الصنو -قدس الله روحه- عما حكي لنا عنه من هذه القصة وذكرناها له فقال: نعم هي كما حكي لكما، قال: وذلك أني كنت في صغري أيام تعلمي القرآن أتعلمه أنا وصبي يتيم كان معنا فكانت قراءتي أنا وذلك الصبي مدة، ثم إنه توجع أياماً ثم توفي وهو دون البلوغ، فكفنه والدي في ثوب كان أعطانيه، فلما حملوه للدفن سرت أنا معهم وأنا يومئذٍ طفل صغير وكنت أسمع من أهلي أن الأطفال يسمعون عذاب القبر دون المكلفين، قال: فلما دفنوه وفرغوا وانصرفوا تأخرت عنهم عند القبر لأسمع ما يكون فيه، قال: فانفردت على القبر بعد انصرافهم مصغياً سمعي، فسمعت في القبر صوت شخص يتلو هذه الآية الكريمة: {أَلاَ إِنَّ أَوْلِيَاءَ اللَّهِ لاَ خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلاَ هُمْ يَحْزَنُونَ}[يونس:62] قال: ثم سمعت كلاماً لم أفهم منه إلا كلمة واحدة سمعتها من الصبي وأنا أعرف صوته وكلامه، سمعته يقول: هذا ثوب السيد المؤيد، أظنه يعني الكفن، قال: ثم انصرفت عن القبر فأخبرت بما سمعت.
قال الإمام المهدي: هكذا سمعت أنا وحي الصنو من لسانه في الموضع المذكور، وهو في الفضل والورع، وصدق اللهجة أشهر من أن يوصف.
الحكاية الثانية
رواها الإمام المهدي أيضاً وصححها، قال: أخبرتنا الأخت الشريفة المطهرة العالمة العاملة عادت بركتها قالت: حدثتها امرأة جيدة أنها وجدت جمجمة ميت في خلاء لا تشك أنها رأس ابن آدم فرأت في جبهته إبرة مطرزة رتقا في العظم كما تطرز في حاشية الثوب، فعجبت من كونها في العظم على الهيئة التي تغرز في الخرقة، قالت: فاستخرجت الإبرة من تلك الجمجمة، وحملتها بيتي فوضعتها في حق أو نحوه، فلبثت أياماً فاحتجت إليها فطلبتها في الموضع الذي وضعتها فيه فلم أجدها، فعدت إلى موضع الجمجمة التي استخرجت الإبرة منها فوجدت الإبرة قد أعيدت إلى موضعها ذلك، فتركتها فيه وانصرفت فزعة من ذلك.
قال عليه السلام : هكذا سمعته من لسان الأخت المطهرة.
قالت: والمرأة المذكورة غير متهمة بالكذب.
الحكاية الثالثة
ما كتبه إلي سيدي المولى مفخر الزيدية، الجامع بين فضيلتي العلم والعبادة، علامة العصر عبد الله بن الإمام الحسن بن يحيى القاسمي ـ أيده الله ـ في شهر رجب الأصب سنة ست وستين وثلاثمائة وألف هجرية من مسكنه بباقم ببلاد آل أبي الخطاب، وذلك حال تأليف هذه المسألة قال -أطال الله بقاءه: أخبرني شيخي القاضي العلامة محمد بن إسماعيل العنسي وكان من أهل التحري والتقشف، أحد تلامذة شيخنا العلامة علي بن يحيى العجري -رحمهما الله- قال: أخبره الإمام المهدي محمد بن القاسم عليه السلام أنه هو وجماعة من العلماء سمعوا أنه يقع في ليلة الجمعة عذاب للمهدي عبد الله فساروا في تلك الليالي إلى قبته فأراد السادن إخراجهم فقالوا: نريد البقاء للمذاكرة والتلاوة، فبقوا إلى وقت السحور، وإذا القبة قد انشق ظهرها وهبط من السماء سلسلة حديد تلتهب، فانشق القبر وانتصب منه شخص، ثم إن الإمام صعق هو ومن معه.
قلت: وقد سمعت هذه الحكاية من لسان علامة العصر قبل أن يكتب إليّ بها وأمرني بروايتها عنه، وإنما طلبت منه الكتابة للتثبت.
الحكاية الرابعة
رواها الفقيه العلامة صالح بن مهدي المقبلي في كتابه (المنار) الذي وضعه على (البحر الزخار) وقال: إنه قد صح سندها عن بعض أشراف مكة، وكان يسكن القنفذة على نحو عشر مراحل من مكة من جهة اليمن، والحكاية أن الشريف دخل مكة وإذا بهندي فقير بفناء بيته قد حضره الموت، فطلب من خدم الشريف عصيدة لينة ففعلوا له، فانفرد بنفسه وأنفق أشراف الشريف عليه من بيته، وإذا هو يستعين بالعصيدة على إدخال الدنانير إلى باطنه، ثم عقب ذلك الموت فعرف قبره وقال لخدمه: احفروا عنه وابقروا بطنه وخذوا الدنانير، قال: وكان عندهم في جهة القنفذة رجل أسود تكروري يتعلم القرآن، ويكتب بلوح يعرفونه، فلما فتحوا قبر الهندي إذا بالتكروري مدفون وحده ومعه لوحه، وقد خلفوا التكروري حياً، فعلموا أن التكروري قد مات، فلما رجعوا من مكة سألوا عن التكروري فقالوا: مات، فذهبوا إلى قبره للاختبار فحفروا قليلاً ومنعتهم النار من باطن القبر، فعلموا أنه الهندي.
قلت: وفي هذه الحكاية مع إثبات عذاب القبر فوائد:
منها: أن العصاة المستوجبين للعذاب ينقلون من مكة المكرمة إلى غيرها، وأن المؤمنين قد ينقلون إليها.
ومنها الدلالة على أن من حب الدنيا المذموم الحرص على الدنيا والبخل بها، وأنه ليس المذموم منها محبة الجاه والشرف فقط كما قاله بعضهم؛ إذ مثل هذا الهندي لا يطلب بفعله هذا شرفاً، وهذه الحكاية ذكرها المقبلي في ما كتبه على تكملة (الأحكام) من آخر البحر في فصل في حب الدنيا.
الحكاية الخامسة
ما ذكره العلامة ابن حجر الهيثمي المكي الشافعي -رحمه الله- في كتابه (الزواجر عن اقتراف الكبائر) حاكياً له عن نفسه قال: كنت وأنا صغير أتعاهد قبر والدي -رحمه الله- للقراءة عليه، فخرجت يوماً بعد صلاة الصبح بغلس في رمضان بل أظن أن ذلك كان في العشر الأخيرة بل في ليلة القدر، فلما جلست على قبره وقرأت شيئاً من القرآن ولم يكن بالمقبرة أحد غيري، فإذا أنا أسمع التأوه العظيم، والأنين الفظيع بآه آه آه وهكذا بصوت أزعجني من قبر مبني بالنورة والجص له بياض عظيم، فقطعت القراءة واستمعت، فسمعت صوت ذلك العذاب من داخله، وذلك الرجل المعذب يتأوه تأوهاً عظيماً بحيث يقلق سماعه القلب ويفزعه، فاستمعت إليه زمناً، فلما وقع الأسفار خفي حسه عني فمر بي إنسان فقلت: قبر من هذا؟ قال: قبر فلان الرجل أدركته وأنا صغير، وكان على غاية من ملازمة المسجد والصلوات في أوقاتها، والصمت عن الكلام، وهذا كله شاهدته وعرفته منه، فكبر عليّ الأمر جداً لما أعلمه من أحوال الخير الذي كان ذلك الرجل متلبساً بها في الظاهر، فسألت واستقصيت الذين كانوا يطلعون على حقيقة أحواله، فأخبروني أنه كان يأكل الربا فإنه كان تاجراً ثم كبر وبقى معه شيء من الحطام فلم ترض نفسه الظالمة الخبيثة أن يأكل من جنبه حتى يأتيه الموت، بل سول له الشيطان محبة المعاملة بالربا حتى لا ينقص ماله، فأوقعه في ذلك العذاب الأليم حتى في رمضان حتى في ليلة القدر، هكذا ساق هذه الحكاية ابن حجر المذكور -رحمه الله- ثم قال: ولما قلت ذلك لبعض أهل بلده قال لي: أعجب منه عبد الباسط رسول القاضي فلان، قال ابن حجر: وهذا الرسول أعرفه أيضاً كان رسولاً للقضاة أول أمره، ثم صار ذا ثروة.
فقلت: وما شأنه؟
قال: لما حفرنا قبره لننزل عليه ميتاً آخر رأينا في رقبته سلسلة عظيمة، ورأينا في تلك السلسلة كلباً أسوداً عظيماً مربوطاً معه في تلك السلسلة وهو واقف على رأسه يريد نهشه بأنيابه وأظفاره، فخفناه خوفاً عظيماً، وبادرنا برد التراب في القبر.
قالوا: ورأينا فلاناً عن رجل آخر لما حفرنا قبره لم يبق منه إلا جمجمة رأسه فإذا فيها مسامير عظيمة القدر عريضة الرؤوس مدقوقة فيها كأنها باب عظيم، فتعجبنا منها وردينا عليها التراب.
قالوا: وحفرنا عن فلان فخرجت لنا حية عظيمة من قبره ورأيناها مطوقة به، فأردنا دفعها عنه فتنفثت علينا حتى كدنا نهلك عن آخرنا، فنعوذ بالله من عذاب القبر الناشئ عن غضب الله ومعصيته.
قلت: وابن حجر هذا كان من مشاهير علماء الشافعية في القرن العاشر، وله مؤلفات كثيرة في الفقه وغيره معتمدة عند علماء الإسلام، وكان له همة عظيمة في الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر للزجر عن معاصي الله، وكتابه (الزواجر) شاهد بذلك، وكان من محبي أهل البيت" ومن المعترفين بفضلهم وعلو مرتبتهم، وقد نقل عنه في كتاب (رشفة الصادي) ابن بحر في فضائل بني الهادي شيئاً كثيراً مما يدل على ذلك.
واحتج المنكرون لعذاب القبر بالعقل والسمع
أما العقل فقالوا: لو كان له أصل لكان له فائدة وإلا كان عبثاً ولا فائدة فيه.
والجواب: أن فائدته معلومة وهي أن المكلف متى علم أنه إذا أقدم على المعصية عذب في القبر ثم في النار كان صارفاً له عن فعل القبيح، وداعياً له إلى فعل الواجب.
قالوا: لو كان ثابتاً لرأى النباش أثره، ولكان يجب في المصلوب والميت أن يسمع أنينه، وأن يشاهد اضطرابه كل أحد، والمعلوم خلافه.
قلنا: يجوز أن يخفى عذابه عن النباش والمستمع لمصلحة وأن لا يعذبه في تلك الحال، على أنا لا نسلم أن عذابه لم يره أحد ولم يسمعه فإنه قد يُرى ويسمع كما مر في الحكايات.
قوله: يجب أن يشاهده ويسمعه كل أحد.
قلنا: لا نسلم وجوب ذلك لجواز أن تكون المصلحة لقوم في سماعه ومشاهدته، ولا يكون للآخرين في ذلك مصلحة فيشاهدونه عظاماً نخرة وهو في حال العذاب ولا يعلمونه.
قالوا: لو جاز فيما نشاهده من الموتى أن يكونوا معذبين لجاز فيما نشاهد من الجمادات أن يكونوا أحياء فضلاء علماء، وذلك سفسطة، فإن قلتم: إنه معذب على غير الحال التي نشاهده عليها لزم في كل مشاهد أن يجوز كونه على غير ما نراه فيؤدي إلى أن لا نثق بمشاهد.
قلنا: لا يلزم ذلك؛ لأن الميت قد نزعت منه الحياة فيجوز أن يرد إليه المنزوع على الصفة التي هو عليها؛ لأن المحل محل حياة بخلاف الجماد فلم ينزع منه شيء وبنيته ليست بمحل للحياة، وللإمام المهدي عن هذا جواب وهو: أنا لا نقول بأي الطرفين، بل يجوز أن الله أحيا الأجزاء التي لا يكون الحي حياً إلا بها وهي لطيفة جداً فنعمها أو عذبها، وتجويز ذلك لا يقدح فيما علم ضرورة فلا يلزم ما ذكرتم.
فإن قيل: فيلزم تجويز كون الحجر الصم، بل في حبة الخردل حيوان منعم أو معذب لا يشاهد للطافته، وهذا معلوم البطلان.
أجيب بأنا لا نجوز ذلك فيما نشاهده على تلك الحال، وإنما نجوز أن تلك الأجزاء المنزوعة صارت في جهة أخرى منفصلة عن الجسم المشاهد، وتجويزه على هذا الوجه لا يقدح في ضروري، ويؤيده ما روي أن أرواح الشهداء منفصلة عن أجسامهم إلى حواصل طير خضر.
قلت: الحق أنه لا مانع من أن يكون معذباً على الحالة التي هو عليها وإن لم نشاهد عذابه كما في النائم الذي يتخيل ما يحزنه أو ما يفرحه فيكون في غم ولا يشعر به من حوله.
وأما ما احتجوا به من السمع فآيات منها هذه الآية التي نحن بصددها، ووجه دلالتها أنه تعالى ذكر أنه يحييهم مرة في الدنيا ومرة في الآخرة، ولم يذكر حياة القبر، ويؤكده قوله تعالى: {ثُمَّ إِنَّكُمْ بَعْدَ ذَلِكَ لَمَيِّتُونَ، ثُمَّ إِنَّكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ تُبْعَثُونَ}[المؤمنون:15،16].
والجواب: ما مر من أنه ليس المراد بقوله: {ثُمَّ يُحْيِيكُمْ} الحياة الدائمة لقوله بعدها: {ثُمَّ إِلَيْهِ تُرْجَعُونَ} سلمنا، فعدم ذكر حياة القبر هنا لا يدل على عدمها كيف وقد قام الدليل القاطع عليها، وهكذا يجاب عما ورد من ذكر الحياة الدائمة بعد الموت، فإنه يقال: عدم الذكر لحياة القبر لا يدل على عدمها. والله أعلم.
الموضع الثاني في اختلاف من أثبته
هل التعذيب لا يكون إلا بعد إحياء الميت أو يكون حال موته؟
فقالت العدلية: إذا أراد الله تعذيبهم فلا بد أن يحييهم؛ إذ لا يتألم إلا حي يعلم ذلك ضرورة، وكذا يقال: إذا أراد أن يثيبهم وخلافاً للصالحي من المعتزلة، وبعض الكرامية فيما رواه عنه وعنهم الرازي؛ لأن الحياة ليست شرطاً في الإيلام عندهم، ثم قال: وهذا باطل بالضرورة، والحق أنه لا بد من الإحياء، ثم اختلف القائلون بالإحيا، فروى الإمام المهدي عن أصحابنا أنه يجوز أن يعيده الله حياً بجميع أجزائه ويجوز أن يعيد الأجزاء التي لا يكون حياً إلا بها وهي الإنسان، فإن كانت أجزاؤه قد تفرقت لم تصح إعادة حياته إلا بعد تأليفه؛ لأن من شرط الحياة البنية المخصوصة.
وقال الرازي وغيره من المجبرة: البنية ليست شرطاً، بل تصح الحياة من دونها فيجوز أن يحيي كل جزء في الجهة التي هو فيها فيعذبه أو ينعمه.
قلنا: تجويز ذلك يستلزم أن يصير الحي أحياءً إلى آلاف، والضرورة تدفع ذلك.
قالوا: إنما يلزم ذلك لو كان تعلق الحياة بتلك الأجزاء على جهة الحلول، ونحن لا نقول بذلك.
قلنا: لا معنى يعقل لتعلق الحياة بالجسم إلا حلولها فيه.
قال الرازاي: ويجوز أن تعذب أرواح الذين افترستهم السباع إن كانوا معذبين كما أنه يثيب أرواح الشهداء بجعلها في حواصل طير خضر.
قال الإمام المهدي: إذا جعل الأجزاء هي ما لا يكون الحي حياً إلا بها كما حكيناه عنه في مسألة الإنسان فهو قولنا.
وفي (البدر الساري) عن الهادي عليه السلام أن المعذب والمنعّم الروح، وقال الشرفي: يمكن أن يقال: إن المعذب الأرواح، وقد ثبت عن بعض أئمة أهل البيت" أن الروح جسم، أو يقال: إن الله يحيي بعض العاصين ويرد إليه روحه ويعذبه، ولا يلزم أن يكون ذلك في كل عاص.
أقول: الذي قضى به الشرع الشريف من السنة النبوية وكلام الوصي عليه السلام أنه يعاد الروح في الجسد بعد انصراف المشيع ورجوع المودع، وهذه الحالة تكون عقيب الدفن، وسنذكر بعض ما ورد في ذلك قريباً، وأما فيما بعد ذلك فظاهر الأخبار التي فيها أنه يفتح له باب من الجنة أو باب من النار، وأن القبر روضة من رياض الجنة أو حفرة من حفر النار، أنه يكون منعماً أو معذباً وإن كان في رأي العين شبيهاً بالجماد، ويكون في تلك الحال حياً مدركاً لما هو فيه ولا تكون مشاهدتنا له على الحالة التي هو فيها مانعة من تنعمه أو عذابه كالنائم الذي يكون في حال نومه متألماً أو مسروراً لرؤيا رآها، ونحن نشاهده على حاله في النوم ولا نعلم بما هو فيه. والله أعلم.
فإن قيل: إن من حق المثاب والمعذب أن يكون عاقلاً ليعلم أن ما فعل به عدل لا جور، وإلا جاز أن يعتقد العذاب ظلماً، والبعث على اعتقاد الجهل قبيح.
قيل: لم نقل إنه غير عاقل حال التعذيب، وإنما قلنا إنه كالنائم في كوننا لا ندرك ما به من الألم واللذة، وأما هو فيدرك ذلك ويعقله ويعلم أنه جزاء على عمله، على أن قولكم: إنه يكون محمولاً على اعتقاد الجهل لو كان غير عاقل وذلك قبيح غير مسلم؛ إذ لو كان قبيحاً للزم قبح إزالة العقل في الدنيا؛ لأن المجانين والصبيان يعتقدون بسبب إزالته جهلاً كثيراً، والمعلوم أن إزالته لا تقبح في الدنيا فكذلك في الآخرة، والجامع كونهم غير مكلفين، ذكر معنى هذا الإمام المهدي، وحاصله أن ما صدر عن غير المكلف فلا نسلم قبحه لا في الدنيا ولا في الآخرة؛ لأن حقيقة القبح غير حاصلة فيه.
قلت: والذي يقطع النزاع، ويحل الإشكال هو ما قدمنا من أنا إنما شبهناه بالنائم في عدم إدراكنا لما به من الألم والموجب لذلك أنه قد ثبت أنه منعم أو معذب في قبره، ونحن لا نشاهده إلا ميتاً كالجماد، فوجب أن نقول بتعذيبه على الوجه المذكور. والله أعلم. وهذا ما وعدنا به في الأحاديث والآثار:
قال المرشد بالله في أماليه: أخبرنا ابن ريذة، انا الطبراني، ثنا عمر والسدوسي، ثنا عاصم بن علي، ثنا المسعودي، عن عبد الله بن المخارق، عن سليم، عن أبيه قال عبد الله: إذا حدثتكم بحديث أتيناكم بتصديق ذلك: إن العبد المسلم إذا مات أجلس في قبره فيقال له: من ربك؟ ما دينك؟ ما نبيك؟ فيثبته الله فيقول: ربي الله، وديني الإسلام، ونبيي محمد صلى الله عليه وآله وسلم فيوسع له في قبره ويفرج له فيه، ثم قرأ عبد الله: {يُثَبِّتُ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا بِالْقَوْلِ الثَّابِتِ فِي الْحَيَاةِ...}الآية[إبراهيم:27].
أما الطبراني فهو: سليمان بن أحمد بن أيوب اللخمي الشامي الطبراني، أبو القاسم، حدث عن ألف شيخ، وثقه الشيرازي وأثنى عليه غيره، وكان من أئمة الحديث، وقال في (الجامع الوجيز): كان ثقة واسع الحفظ كثيراً ما يروي فضائل أهل البيت" توفي سنة ستين وثلاثمائة، روى له المرشد بالله ووالده الموفق بالله.
وأما السدوسي فهو: عمر بن حفص السدوسي.
وأما عاصم فهو: عاصم بن علي بن عاصم بن صهيب التميمي، مولاهم أبو الحسن الواسطي، ثقة، أثنى عليه جماعة، وقال ابن معين: أصح سند الناس عاصم بن علي، وقال الذهبي: كان من أئمة السنة قولاً بالحق، مات سنة إحدى وعشرين ومائتين، روى له المرادي وأبو طالب، والمرشد، والسيلقي، واحتج به البخاري والترمذي، وابن ماجة، والحديث أخرجه ابن جرير، والطبراني، والبيهقي.
وفي (صحيح البخاري): حدثنا عياش بن الوليد، حدثنا عبد الأعلى، حدثنا سعيد عن قتادة، عن أنس بن مالك أنه حدثهم أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قال: ((إن العبد إذا وضع في قبره وتولى عنه أصحابه وإنه ليسمع قرع نعالهم أتاه ملكان فيقعدانه فيقولان: ما كنت تقول في هذا الرجل لمحمد صلى الله عليه وآله وسلم ؟ فأما المؤمن فيقول: أشهد أنه عبد الله ورسوله، فيقال: انظر إلى مقعدك من النار قد أبدلك الله به مقعداً من الجنة، فيراهما جميعاً)) قال قتادة: وذكر لنا أنه يفسح في قبره، ثم رجع إلى حديث أنس قال: ((وأما المنافق والكافر فيقال له: ما كنت تقول في هذا الرجل؟ فيقول: لا أدري، كنت أقول ما يقول الناس، فيقولان: لا دريت ولا تليت، ويضرب بمطارق من حديد ضربة فيصيح صيحة يسمعها من يليه غير الثقلين)).
أما عياش بالمثناة التحتية والشين المعجمة فهو: ابن الوليد الرقام، أبو الوليد البصري، وثقه ابن حجر، مات سنة ست وعشرين ومائتين.
وأما عبد الأعلى فهو: عبد الأعلى بن عبد الأعلى الشامي بالمهملة، البصري، أبو محمد، وثقه ابن معين، وأبو زرعة وقال أحمد: كان يرى القدر، قال ابن حبان: لكن لم يكن داعياً إليه، مات سنة تسع وثمانين ومائة، روى له المرشد بالله، واحتج به الجماعة.
وأما سعيد فهو: ابن أبي عروبة اليشكري، مولاهم البصري، وثقه ابن معين وغيره، قيل: اختلط سنة خمس وأربعين ومائة، وتوفي سنة ست وخمسين ومائة، روى له أئمتنا الأربعة، وفي المناقب: واحتج به الجماعة.
والحديث أخرجه مسلم، وأبو داود، والنسائي، وابن مردويه.
وقوله: ((ولا تليت)): أصله تلوت؛ وإنما قلبوا الواو ياءً للازدواج والمعنى لا فهمت، ولا قرأت القرآن، أو لاد ريت، أو لا أتبعت من يدري.
قال في (الدر المنثور): أخرج الطيالسي، وابن أبي شيبة في المصنف، وأحمد بن حنبل، وهناد بن السري في الزهد، وعبد بن حميد، وأبو داود، وابن جرير، وابن أبي حاتم، وابن مردويه، والحاكم، وصححه البيهقي في كتاب عذاب القبر عن البراء بن عازب، قال: خرجنا مع رسول الله -صلى الله عليه وآله- في جنازة رجل من الأنصار فانتهينا إلى القبر ولما يلحد فجلس رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وجلسنا حوله وكأن على رؤوسنا الطير وفي يده عود ينكت به في الأرض، فرفع رأسه فقال: ((استعيذوا بالله من عذاب القبر)) مرتين أو ثلاثاً ثم قال: ((إن العبد المؤمن إذا كان في انقطاع من الدنيا، وإقبال من الآخرة نزل إليه ملائكة من السماء بيض الوجوه كأن وجوههم الشمس، معهم كفن من أكفان الجنة، وحنوط من حنوط الجنة، حتى يجلسوا منه مد البصر، ثم يجيء ملك الموت، ثم يجلس عند رأسه فيقول: أيتها النفس المطمئنة اخرجي إلى مغفرة الله ورضوانه، قال: فتخرج تسيل كما تسيل القطرة من فيِّ السقاء، وإن كنتم ترون غير ذلك، فيأخذها فإذا أخذها لم يدعوها في يده طرفة عين حتى يأخذوها فيجعلوها في ذلك الكفن وفي ذلك الحنوط، فيخرج منها كأطيب نفحة مسك وجدت على وجه الأرض، فيصعدون بها فلا يمرون على ملأ من الملائكة إلا قالوا: ما هذا الروح الطيب؟ فيقولون: فلان بن فلان بأحسن أسمائه التي كانوا يسمونه في الدنيا، حتى ينتهوا بها إلى السماء الدنيا فيستفتحون له فيفتح لهم، فيشيعه من كل سماء مقربوها إلى السماء التي تليها حتى تنتهي به إلى السماء السابعة، فيقول الله: اكتبوا كتاب عبدي في عليين، وأعيدوه إلى الأرض فإني منها خلقتهم، وفيها أعيدهم، ومنها أخرجهم تارة أخرى، فتعاد روحه في جسده فيأتيه ملكان فيجلسانه، فيقولان له: من ربك؟ فيقول: ربي الله، فيقولان له: ما دينك؟ فيقول: ديني الإسلام، فيقولان له: ما هذا الرجل الذي بعث فيكم؟ فيقول: هو رسول الله، فيقولان له: وما علمك؟ فيقول:
قرأت كتاب الله فآمنت به وصدقت، فينادي مناد من السماء: أن صدق عبدي فأفرشوه من الجنة، وألبسوه من الجنة، وافتحوا له باباً إلى الجنة، فيأيته من روحها وطيبها، ويفسح له في قبره مد بصره، ويأتيه رجل حسن الوجه، حسن الثياب، طيب الريح فيقول: أبشر بالذي يسرك، هذا يومك الذي كنت توعد، فيقول له: من أنت فوجهك الوجه يجيء بالخير؟ فيقول: أنا عملك الصالح، فيقول: رب أقم الساعة، رب أقم الساعة حتى أرجع إلى أهلي ومالي، قال: وإن العبد الكافر إذا كان في انقطاع من الدنيا، وإقبال من الآخرة تنزل إليه من السماء ملائكة سود الوجوه معهم المسوح، فيجلسون منه مد البصر، ثم يجيء ملك الموت حتى يجلس عند رأسه فيقول: أيتها النفس الخبيثة اخرجي إلى سخط من الله وغضب، فتفرق في جسده فينتزعها كما ينتزع السفود من الصوف المبلول فيأخذها، فإذا أخذها لم يدعوها في يده طرفة عين حتى يجعلوها في تلك المسوح، ويخرج منها كأنتن ريح جيفة وجدت على وجه الأرض، فيصعدون بها، فلا يمرون بها على ملأ من الملائكة إلا قالوا: ما هذا الروح الخبيث؟ فيقولون: فلان بن فلان بأقبح أسمائه التي كان يسمى بها في الدنيا حتى ينتهى بها إلى السماء الدنيا، فيستفتح فلا يفتح له، ثم قرأ رسول الله -صلى الله عليه وآله: {لاَ تُفَتَّحُ لَهُمْ أَبْوَابُ السَّمَاءِ}[الأعراف:40] فيقول الله عز وجل: اكتبوا كتابه في سجين في الأرض السفلى، فتطرح روحه طرحاً، ثم قرأ رسول الله -صلى الله عليه وآله: {وَمَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَكَأَنَّمَا خَرَّ مِنَ السَّمَاءِ فَتَخْطَفُهُ الطَّيْرُ أَوْ تَهْوِي بِهِ الرِّيحُ فِي مَكَانٍ سَحِيقٍ}[الحج:31] فتعاد روحه في جسده، ويأتيه ملكان فيجلسانه، فيقولان له: من ربك؟ فيقول: هاه هاه لا أدري، فيقولان له: ما دينك؟ فيقول: هاه هاه لا أدري، فيقولان له: ما هذا الرجل الذي بعث فيكم؟ فيقول: هاه هاه، فينادي منادي من السماء: أن كذب عبدي فأفرشوه من النار
وافتحوا له باباً إلى النار، فيأتيه من حرها وسمومها، ويضيق عليه قبره حتى تختلف فيه أضلاعه، ويأتيه رجل قبيح الوجه، قبيح الثياب، منتن الريح فيقول: أبشر بالذي يسوؤك، هذا يومك الذي كنت توعد، فيقول: من أنت؟ فوجهك الوجه يجيء بالشر، فيقول: أنا عملك الخبيث، فيقول: رب لا تقم الساعة)).
وأخرج البيهقي في كتاب عذاب القبر عن ابن عباس، قال: قال رسول الله -صلى الله عليه وآله: ((كيف أنت يا عمر إذا انتهى بك إلى الأرض فحفر لك ثلاثة أذرع وشبراً في ذراع، ثم أتاك منكر ونكير أسودان يجران شعرهما كأن أصواتهما الرعد القاصف، وكأن أعينهما البرق الخاطف، يحفران الأرض بأنيابهما فأجلساك فزعاً فتلتلاك وتوهلاك؟ قال: يا رسول الله وأنا يومئذ على ما أنا عليه؟ قال: نعم، قال: اكفيكهما بإذن الله يا رسول الله)). قوله: ((فتلتلاك وتوهلاك)) يقال: تلتله: إذا أفزعه وأقلقه.
وأخرج البيهقي عن ابن عباس، عن النبي -صلى الله عليه وآله- قال: ((إن الميت ليسمع خفق نعالهم حين يولون، ثم يجلس فيقال له: من ربك؟ فيقول: الله ربي، ثم يقال له: ما دينك؟ فيقول الإسلام ديني، ثم يقال له: من نبيك؟ فيقول: محمد، فيقال: وما علمك؟ عرفته وآمنت به وصدقت بما جاء به من الكتاب، ثم يفسح له في قبره مد البصر، ويجعل روحه مع أرواح المؤمنين)).
وأخرج أحمد، وابن أبي الدنيا، والطبراني، والآجري في الشريعة، وابن عدي عن عبد الله بن عمر أن رسول الله -صلى الله عليه وآله- ذكر فتاني القبر فقال عمر: أترد إلينا عقولنا يا رسول الله؟ فقال رسول الله -صلى الله عليه وآله: ((نعم كهيئتكم اليوم)) قال عمر: بفيه الحجر.
وأخرج ابن أبي داود في البعث، والحاكم في التاريخ، والبيهقي في عذاب القبر عن عمر بن الخطاب، قال: قال لي رسول الله -صلى الله عليه وآله: ((كيف أنت إذا ركبت في أربعة أذرع في ذراعين، ورأيت منكراً ونكيراً؟ قلت يا رسول الله، وما منكر ونكير؟ قال: فتانا القبر يبحثان الأرض بأنيابهما، ويطأن في شعارهما، أصواتهما كالرعد القاصف، وأبصارهما كالبرق الخاطف، معهما مرزبة لو اجتمع عليها أهل منى لم يطيقوا رفعها، وهي أيسر عليهما من عصاي هذه، فامتحناك، فإن تعاييت أو تلويت ضرباك بها ضربة تصير بها رماداً، قلت: يا رسول الله، وأنا على حالي هذه؟ قال: نعم، قلت: إذاً أكفيكهما)). قوله: مرزبة: المرزبة التي يكسر بها المدر.
وأخرج أحمد عن أسماء عن النبي -صلى الله عليه وآله- قال: ((إذا دخل الإنسان قبره فإن كان مؤمناً أحف به عمله الصلاة والصيام، فيأتيه الملك من نحو الصلاة فترده، ومن نحو الصيام فيرده فينادي اجلس، فيجلس، فيقول له: ما تقول في هذا الرجل -يعني النبي صلى الله عليه وآله؟ قال: من؟ قال: محمد، قال: أشهد أنه رسول الله، فيقول: وما يدريك أدركته؟ قال: أشهد أنه رسول الله، فيقول: على ذلك عشت، وعليه مت، وعليه تبعث، وإن كان فاجراً أو كافراً جاءه الملك وليس بينه وبينه شيء يرده فأجلسه وقال: ما تقول في هذا الرجل؟ قال: أي رجل؟ قال: محمد، فيقول: والله ما أدري سمعت الناس يقولون شيئاً فقلته، فيقول له الملك: على ذلك عشت، وعليه مت، وعليه تبعث، ويسلط عليه دابة في قبره معها سوط ثمرته جمرة مثل عرف البعير تضربه ما شاء الله لا تسمع صوته فترحمه)).
وأخرج أحمد، والبيهقي عن عائشة، قالت: جاءت يهودية فاستطعمت على بابي فقالت: أطعموني أعاذكم الله من فتنة الدجال ومن فتنة عذاب القبر، فلم أزل أحبسها حتى أتى رسول الله -صلى الله عليه وآله- فقلت: يا رسول الله، ما تقول هذه اليهودية؟ قال: ((وما تقول؟ قلت: تقول: أعاذكم الله من فتنة الدجال ومن فتنة عذاب القبر، فقام رسول الله -صلى الله عليه وآله- فرفع يديه مداً يستعيذ بالله من فتنة الدجال ومن فتنة عذاب القبر، ثم قال: أما فتنة الدجال فإنه لم يكن نبي إلا وقد حذر أمته وسأحذركموه بحديث لم يحدثه نبي أمته، إنه أعور والله ليس بأعور، مكتوب بين عينيه كافر يقرؤه كل مؤمن، وأما فتنة القبر فبي تفتنون، وعني تسئلون، فإذا كان الرجل الصالح أجلس في قبره غير فزع ولا مشغوف، ثم يقال له: فيم كنت؟ فيقول: في الإسلام، فيقول: ما هذا الرجل الذي كان فيكم؟ فيقول: محمد رسول الله جاءنا بالبينات من عند الله فصدقناه، فيفرج له فرجة قبل النار فينظر إليها يحطم بعضها بعضاً فيقال له: انظر إلى ما وقاك الله، ثم يفرج له فرجة إلى الجنة فينظر إلى زهرتها وما فيها فيقال له: هذا مقعدك منها، ويقال على اليقين كنت، وعليه مت، وعليه تبعث إن شاء الله، وإذا كان الرجل السوء جلس في قبره فزعاً مشغوفاً فيقال له: فيم كنت؟ فيقول: لا أدري، فيقول: ما هذا الرجل الذي كان فيكم؟ فيقول: سمعت الناس يقولون قولاً فقلت كما قالوا، فيفرج له فرجة قبل الجنة فينظر إلى زهرتها وما فيها فيقال: انظر إلى ما صرف الله عنك، ثم يفرج له فرجة قبل النار فينظر إليها يحطم بعضها بعضاً ويقال: هذا مقعدك منها، على الشك كنت، وعليه مت، وعليه تبعث إن شاء الله)). قوله: ولا مشغوف، المراد به هنا: الذي مرض قلبه من الفزع.
فهذه الأحاديث صريحة في أنه تعاد الروح في الجسد بعد الدفن، فبعضها قد صرح فيه بذلك، وبعضها هو كالصريح وهي الأحاديث التي فيها ذكر الجلوس والقعود، إذ لو لم يكن وقت السؤال على الهيئة التي كان عليها في الدنيا لم يكن لذكر الجلوس معنى.
ومن كلام الوصي في ذلك قوله عليه السلام : (إذا انصرف المشيع ورجع المتفجع أقعد في حفرته نجيا لبهتة السؤال وعثرة الامتحان). رواه في النهج.
الموضع الثالث في تعيين وقته
وقد اختلف في ذلك، فقال السيد مانكديم، وأبو علي، وأبو هاشم، وقاضي القضاة وغيرهم: لم يرد لتعيين وقته دليل فلا يقطع به، والأخبار المفيدة لكونه عقيب الدفن أحادية لا تفيد القطع.
وقال أبو الهذيل وبشر بن المعتمر: بل نقطع أن وقته بين النفختين، وهي النفخة التي يموت عندها كل حيوان يوم القيامة ينفخها إسرافيل في الصور كما ورد في الأثر، والنفخة التي يحيا بها كل ميت ويبعث من في القبور، وهذا القول رواه ابن أبي الحديد عن كثير من المعتزلة قبل قاضي القضاة.
وقال السيد مانكديم، والقرشي: من الجائز أن يكون بين النفختين، وقال قاضي القضاة: الأقرب في الأخبار أنها الأوقات المقاربة للدفن وإن كنا لا نعينها بأعيانها.
احتج أبو الهذيل ومن وافقه بقوله تعالى: {َوَمِنْ وَرَائِهِمْ بَرْزَخٌ إِلَى يَوْمِ يُبْعَثُونَ}[المؤمنون:100] {فَإِذَا نُفِخَ فِي الصُّورِ فَلاَ أَنسَابَ بَيْنَهُمْ يَوْمَئِذٍ وَلاَ يَتَسَاءَلُونَ} [المؤمنون:101] فذكر أن النفخة الثانية واقعة عقيب البرزخ، والبرزخ: الأمر العظيم الهائل، ولا مستعظم بعد الموت إلا العذاب والنعيم، وأما استمرار الميت على حاله فلا، وإذا كان البرزخ هو ذلك والنفخة التي يحيا بها الموتى واقعة عقيبه لزم أن يكون التعذيب والنعيم بين النفختين؛ إذ لا قائل بأنه يستمر التعذيب والتنعيم إلى يوم القيامة، وإنما المسألة مرة واحدة بعد الموت.
وأجاب الإمام المهدي عليه السلام بأن الآية ليست واردة على النمط الذي قرروه، وإنما معناها أنه أخبر الله سبحانه أن الذي يحضره الموت يتمنى أن يزاد في عمره ليعمل صالحاً، فأخبر سبحانه أنه لا يجاب إلى ذلك، وأن بينه وبين مطلوبه برزخاً أي أمراً عظيماً هائلاً مانعاً من ذلك، وهو ذوقه سكرات الموت، ومنعه من العود إلى مثل التي كان عليها قبل الموت إلى يوم يبعثون.
قلت: والظاهر ما استقر به قاضي القضاة من أنه في الأوقات المقارنة للدفن؛ للأخبار السابقة وغيرها وهي كثيرة من رواية أئمتنا والمحدثين ولا يبعد تواترها لمن بحث.
تنبيه [في الظاهر من كلام أصحابنا بعدم دوام عذاب ونعيم الغير]
ظاهر كلام أصحابنا أن عذاب القبر ونعيمه لا يدوم، بل يكون حالاً فحالاً.
قال قاضي القضاة: أنكر مشائخنا أن يكون عذاب القبر دائماً في كل حال؛ لأن الأخبار إنما وردت بذلك في الجملة، فالذي يقال به هو ما تقتضيه الأخبار دون ما زاد عليه مما لا دليل عليه.
واحتج الإمام المهدي لأصحابنا بأن في الأدلة ما يقتضي دوامه، وفيها ما يقتضي انقطاعه، فمن الأول قوله تعالى: {النَّارُ يُعْرَضُونَ عَلَيْهَا غُدُوّاً وَعَشِيّاً}[غافر:46] وهذه وإن كان ظاهره أنهم لا يحرقون بها وإنما يعرضون عليها، فقد دل على إحراقهم وتعذيبهم قوله تعالى: {أُغْرِقُوا فَأُدْخِلُوا نَاراً} [نوح:25] وحديث: ((القبر روضة من رياض الجنة...)) الخبر ونحوه.
ومن الثاني قوله تعالى: {يُعْرَضُونَ عَلَيْهَا...}الآية، فظاهره أنهم لا يعذبون بين الغدو والعشي، وفي بعض الآثار: أنه يقال للمؤمن: نم كنومة العروس، وآثار كثيرة تدل على أنه غير دائم، ولا يبعد الإجماع على أن عذاب القبر ليس كعذاب النار في التأبيد والتعظيم، هذا كلام أصحابنا واحتجاجهم.
وحاصله أنه لا قطع بدوامه ولا انقطاعه.
وأما غيرهم فقد اختلفوا في ذلك أيضاً، فقال ابن القيم: يدوم عذاب الكفار وبعض العصاة، وينقطع عذاب من خفت جرائمهم من العصاة، وإنما يكون على قدر المعصية، ثم يرتفع، وقد يرتفع بدعاء، أو صدقة، أو نحو ذلك.
وقال اليافعي: بلغنا أنه يرتفع ليلة الجمعة تشريفاً لها، قال: ويحتمل اختصاص ذلك بعصاة هذه الأمة.
وقال النسفي: بل والكافر ينقطع عنه يوم الجمعة وليلتها، وشهر رمضان، ثم لا يعود إلى يوم القيامة، وإن مات ليلة الجمعة أو يومها عذب ساعة واحدة، وضغطه القبر كذلك، ثم لا يعود إلى يوم القيامة، وهذا يحتاج إلى دليل.
وقال القاضي أبو يعلى: لابد من انقطاع عذاب القبر؛ لأنه من عذاب الدنيا، والدنيا وما فيها منقطع، فلا بد من أن يلحقهم الفناء والبلاء، ولا يعرف مقدار مدة ذلك.
وعن طاووس: الموتى يفتنون في قبورهم سبعاً، فكانوا يستحبون أن يطعم عنهم تلك الأيام.
وعن عبيد بن عمير: المؤمن سبعاً، والمنافق أربعين صباحاً.
قلت: الظاهر أنه لا قطع بدوامه ولا انقطاعه، لكن قد جاء فى بعض الأخبار أن من العصاة من لا ينزل به عذاب رأساً كالمبطون، ومن مات يوم الجمعة أو ليلتها ونحو ذلك، وأن منهم من يدوم عذابه كما سيأتي من حديث أبي هريرة، وجاء: ((إن المؤمن إذا أقعد وسئل يعاد جسده إلى ما بدئ منه من التراب، ويجعل روحه في النسيم الطيب وهي طير خضر تعلق في شجر الجنة)) أخرجه البيهقي، والحاكم وغيرهما من حديث أبي هريرة، وروي أنه يقال للمؤمن: ((نم كنومة العروس))، وجاء: ((يعرض على الميت مقعده بالغداة والعشي)) أخرجه الشيخان، والنسائي من حديث ابن عمر قال مسلم: حدثنا يحيى بن يحيى قال: قرأت على مالك عن نافع عن ابن عمر أن رسول الله -صلى الله عليه وآله- قال: ((إن أحدكم إذا مات عرض عليه مقعده بالغداة والعشي إن كان من أهل الجنة فمن أهل الجنة، وإن كان من أهل النار فمن أهل النار يقال: هذا مقعدك حتى يبعثك الله إليه يوم القيامة)) ورواه البخاري عن إسماعيل بن أبي أويس عن مالك بالسند المذكور.
ورواه مسلم من طريق أخرى، قال: حدثنا عبد بن حميد، أخبرنا عبد الرزاق، أخبرنا معمر، عن الزهري، عن سالم، عن ابن عمر، قال: قال النبي -صلى الله عليه وآله: ((إذا مات الرجل عرض عليه مقعده بالغداة والعشي إن كان من أهل الجنة فالجنة، وإن كان من أهل النار فالنار، ثم يقال: هذا مقعدك الذي تبعث إليه يوم القيامة)) وهذا يدل على أنه لا يدوم عذابه ولا نعيمه، وظاهره أنه لا يكون فيما بين الوقتين نعيم ولا عذاب، وإنما يحصلان له في هذين الوقتين بالعرض؛ لأنه يحصل به تنعيم للمؤمن، وتعذيب للعاصي، نص عليه النووي وغيره.
إذا عرفت هذا فنقول: هذه لا تعارض بينها عند الإنصاف؛ لأن الواجب فيها ما يجب في غيرها من الأدلة الشرعية من الجمع بالتعميم والتخصيص، والإطلاق والتقييد، ونحو ذلك، فيقال:
أما ما روي من نجاة المبطون ونحوه من عذاب القبر فهو مخصص بعموم ما ورد في عذاب القبر.
وأما ما يدل على داوم العذاب لبعض العصاة كالمنافق فمخصوص به، ولا مانع من أن يكون معذباً في قبره وإن كنا إذا شاهدناه لم نجد أثر العذاب وإن لم نشاهد شيئاً من ذلك كما في النائم، وقد تقدمت الإشارة إلى هذا، ونص عليه النووي في شرح صحيح مسلم فقال: المعذب عند أهل السنة الجسد بعينه أو بعضه بعد إعادة الروح إليه، أو إلى جزء منه، ولا يمنع من ذلك كون الميت قد تفرقت أجزاؤه أو أكلته السباع، فكما أن الله تعالى قادر على أن يعيده للحشر فكذا يعيد الحياة إلى جزء منه أو أجزاء، ولا يمنع من ذلك مشاهدتنا للميت على حالة في القبر لا يصح معها السؤال والقعود ونحوهما، فإن له نظير في العادة وهو النائم فإنه يجد لذة وآلاماً لا يحس بحس شيئاً منها، وكذلك يجد اليقضان لذة وآلاماً لما يسمعه، أو يفكر فيه ولا يشاهد ذلك جليسه منه، وكذلك كان جبريل عليه السلام يأتي النبي -صلى الله عليه وآله- فيخبر بالوحي ولا يدركه من حوله، وكل هذا ظاهر جلي، ثم حكى عن أصحابه أنهم قالوا: وأما إقعاده المذكور في الحديث فيحتمل أن يختص بالمقبور دون المنبوذ ومن أكلته السباع.
وأما ضربه بالمطارق فلا يمتنع أن يوسع له في القبر فيقعد ويضرب.
هذا وأما حديث عرض المقعد بالغداة والعشي، فليس نصاً في أنه لا يتنعم ولا يتعذب في غير هذين الوقتين، بل يحتمل ذلك، ويحتمل أن العرض المذكور زيادة في نعيمه وعذابه المستمر.
وأما حديث أنه يعاد الجسد تراباً والروح في النسيم الطيب، فخاص بالمؤمن ويكون معنى كونه روضة من رياض الجنة أنه كذلك عند المسألة والجلوس وعود الروح في الجسد، وكذلك عرض مقعده من الجنة عليه يحمل على أنه يعرض على الروح، والحاصل أن من ورد في حقه السلامة من العذاب خصصناه، ومن ورد أنه بعد الإقعاد والسؤال ينتقل ما يستحقه إلى روحه عملنا به، ومن ثبت دوام عذابه مع بقاء روحه في جسده قضينا به عليه، وقد بينا أنه لا مانع منه، ومن أطلق في حقه حكم لم يحكم بدوامه ولا انقطاعه، وهذه طريقة حسنة، لكن على الناظر قبل ذلك النظر في صحة الدليل وطريقه، ومعرفة وجه دلالته. والله الموفق والهادي.
[مسائل أخرى تتعلق بعذاب القبر]
ويلحق بهذه الجملة مباحث من الخلاف:
البحث الأول [تخصيص سؤال القبر]
اختلفوا هل المسألة في القبر واقعة على كل أحد أم لا؟ فروي عن عبيد بن عمير: أنه لا يفتن إلا المؤمن والمنافق، وأما الكافر فلا يسأل عن محمد -صلى الله عليه وآله- ولا يعرفه، والصحيح أن الكافر يُسأل؛ للأحاديث الصحيحة الكثيرة في ذلك، وممن نص عليه ابن القيم، والترمذي الحكيم، ولا أعلم فيه خلافاً بين من أثبت عذاب القبر إلا هذه الرواية عن عبيد بن عمير.
البحث الثاني هل يسأل الطفل الذي لا يميز
روي عن الحنفية وجزم به القرطبي في (التذكرة) أنه يسأل، وقال غير واحد من الشافعية: لا، وهو الظاهر؛ لأن السؤال إنما هو عن القيام بما كلفوا، وهذا غير مكلف.
وأما المميز، فقد روي ما يدل على أنه يسأل، قال في (الدر المنثور): أخرج ابن شاهين في السنة عن راشد بن سعد، قال: كان النبي -صلى الله عليه وآله- يقول: ((تعلموا حجتكم فإنكم مسؤولون)) حتى أنه كان أهل البيت من الأنصار يحضر الرجل منهم الموت فيوصونه، والغلام إذا عقل، فيقولون له: إذا سألوك من ربك فقل: الله ربي، وما دينك؟ فقل: الإسلام ديني، ومن نبيك؟ فقل: محمد -صلى الله عليه وآله.
قلت: وهو محمول على أنه قد عقل التكاليف.
البحث الثالث [هل السؤال يختص بهذه الأمة أم يعم الأمم قبلها]
اختلفوا هل السؤال يختص بهذه الأمة أم يعم الأمم قبلها؟
قال الحكيم الترمذي بالأول لظاهر الأحاديث، وقال ابن القيم: الثاني؛ لأن الأحاديث لا تنفي ذلك، وإنما الذي فيها بيان كيفية امتحان هذه الأمة فيكون حال كُلِّ أُمَّةٍ مع نبيها كذلك فيعذب كفارهم بعد سؤالهم وإقامة الحجة عليهم، كما يعذبون في الآخرة بعد ذلك.
قلت: ويدل عليه تقريره لقول اليهودية لعائشة: أعاذك الله من فتنة القبر؛ إذ لا تعرف ذلك من كتب اليهود وعلمائهم، والفتنة هي السؤال في القبر، وكذلك ما روي أنه صلى الله عليه وآله سمع عذاب قوم ماتوا في الجاهلية.
البحث الرابع هل السؤال بالعربية
قال القسطلاني: ظاهر قوله: ما كنت تقول في هذا الرجل أنه بالعربي، وقال ابن حجر: يحتمل أن يكون خطاب كل أحد بلسانه.
قيل: ويستأنس له بإرسال الرسل بلسان قومهم.
وعن البلقيني: أنه بالسريانية. والله أعلم.
الموضع الرابع في جواز دخول الملكين القبر
قال الأكثر: ويجوز دخول الملكين القبر للسؤال، وقال ضرار، وأبو القاسم البستي: لا، والحديث المروي في ذلك أحادي ضعيف لتضمنه لتسمية الملائكة المقربين باسمين متضمنين للذم والنقص وهما منكر ونكير، والمنكر القبيح، وكذلك النكير.
احتج الأكثر بأن العقل لم يمنع منه؛ لأنه مقدور ممكن، ولا وجه يقتضي قبحه، والنبي -صلى الله عليه وآله- قد أخبر به، ففي (الجامع الكافي): عن محمد بن منصور قال: سألت القاسم بن إبراهيم عن منكر ونكير فقال: إن الحديث فيهما كثير، وإن الله سبحانه يقدر عليه كما يقدر على غيره.
وقال الحسن بن يحيى وسئل عن منكر ونكير، وما يُسأل عنه العبد فقال: سمعنا عن النبي -صلى الله عليه وآله- وعن علي عليه السلام أنهما قالا: ((القبر روضة من رياض الجنة أو حفرة من حفر النار)) و(يسأل عن خمس، من ربك؟ ومن نبيك؟ وما دينك؟ وما إمامك؟ ومن وليك؟ فيقول المؤمن: الله ربي، ومحمد نبيي، والقرآن إمامي، والإسلام ديني، وعلي وليي).
وفيه: عن الحسن أيضاً وهو قول محمد في المسائل: منكر ونكير حق ومن لم يقر بمنكر ونكير جهلاً فينبغي له أن يتعلم من العلماء، وإن كان لا يقر به إنكاراً لذلك ورداً له فقد ثبت لنا عن رسول الله -صلى الله عليه وآله- أنه أثبت منكراً ونكيراً وعذاب القبر، وأجمع على ذلك علماء آل رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وغيرهم، وقد ثبت لنا عن علي عليه السلام أنه قال: ((القبر روضة من رياض الجنة أو حفرة من حفر النار)) فهو كما روي عنه.
وروي عن علي عليه السلام أنه قال: (حرام على نفس تخرج من الدنيا حتى تعلم أين مصيرها).
وفيه: قال محمد: بلغنا عن النبي -صلى الله عليه وآله- وعن علي عليه السلام وعن علي بن الحسين، وأبي جعفر، وزيد بن علي" وغيرهم من علماء أصحاب رسول الله -صلى الله عليه وآله- في منكر ونكير أحاديث كثيرة صحيحة، وهو عندنا كما قالوا.
قلت: والأحاديث الكثيرة منها ما قد تقدم في هذه المسألة، ومنها ما سيأتي في أثناء الكتاب إن شاء الله، ومنها ما نذكره في هذا الموضع وكل ذلك على قسمين؛ قسم يدل على دخول الملكين القبر للسؤال من دون ذكر تسميتهما، وقسم صرح فيه بتسميتهما منكراً ونكيراً.
قال المرشد بالله عليه السلام في (الأمالي): أخبرنا ابن السواق، حدثنا القطيعي، ثنا بشر بن موسى، ثنا أبو عبد الرحمن، ثنا ابن لهيعة، عن ابن الزبير، عن جابر لما سأله عن فتان القبر، قال صلى الله عليه وآله: ((إن هذه الأمة تبتلى في قبورها، فإذا دخل المؤمن قبره وتولى عنه أصحابه جاءه ملك شديد الانتهار فقال له: ما كنت تقول في هذا الرجل؟ فيقول المؤمن: رسول الله وعبده، فيقول له الملك: انظر إلى مقعدك الذي كان من النار قد نجاك الله منه وأبدلك بمقعدك التي ترى من النار مقعدك الذي ترى من الجنة فيراهما كلاهما، فيقول المؤمن: دعوني أبشر أهلي، فيقول: اسكن، وأما المنافق فيقعد إذا تولى عنه أهله فيقال له: ما كنت تقول في هذا الرجل؟ فيقول: لا أدري، أقول ما يقول الناس، فيقول: لا دريت، هذا مقعدك الذي كان لك من الجنة قد أبدلت مكانه مقعدك من النار)) قال جابر: فسمعت رسول الله -صلى الله عليه وآله- يقول: ((يبعث كل عبد من القبر على ما مات عليه، المؤمن على إيمانه والمنافق على نفاقه)). وهو في (الدر المنثور)، وقال: أخرجه أحمد، وابن أبي الدنيا، والطبراني في الأوسط، والبيهقي.
وأخرج ابن أبي عاصم في السنة، وابن مردويه، والبيهقي من طريق أبي سفيان عن جابر، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وآله: ((إذا وضع المؤمن في قبره أتاه ملكان فانتهراه، فقام يهب كما يهب النائم، فيقال له: من ربك؟ فيقول: الله ربي، والإسلام ديني، ومحمد -صلى الله عليه وآله- نبيي، فينادي منادي: أن صدق عبدي فافرشوه من الجنة وألبسوه من الجنة، فيقول: دعوني أخبر أهلي، فيقال له: اسكن)).
وفي (أمالي المرشد بالله): أخبرنا أحمد بن المظفر، انا ابن السقا، ثنا أبو حليفة، ثنا مسدد، ثنا بشر، ثنا عبد الرحمن بن إسحاق، عن سعيد المقبري، عن أبي هريرة قال رسول الله صلى الله عليه وآله: ((إذا قبر الميت أو أحدكم أتاه ملكان أسودان أزرقان يقال لأحدهما: المنكر، وللآخر: النكير، فيقولان له: ما كنت تقول في هذا الرجل؟ فيقول: ما كان يقول هو عبد الله ورسوله، وأشهد أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله، فيقولان: قد كنا نعلم أنك تقول هذا، ثم يفسح له في قبره سبعون ذراعاً في سبعين ذراعاً، ثم ينور له، ثم يقال له: نم، فيقول: أرجع إلى أهلي فأخبرهم، فيقولان: نم، فينوم كنومة العروس لا يوقضه إلا أحب أهله إليه، حين يبعثه الله عز وجل من مضجعه ذلك، وإن كان منافقاً قال: لا أدري سمعت الناس يقولون شيئاً فقلت لا أدري، فيقولان: قد كنا نعلم أنك تقول ذلك، ثم يقال للأرض: التئمي، فتلتئم فتختلف فيها أضلاعه فلا يزال فيها معذباً حتى يبعثه الله عز وجل من مضجعه ذلك)). وهو في الدر المنثور منسوباً إلى الترمذي وحسنه، وابن أبي الدنيا، وابن أبي عاصم، والآجري، والبيهقي.
وأخرج أحمد، والبيهقي في عذاب القبر، وابن مردويه عن أنس، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وآله: ((إن هذه الأمة تبتلى في قبورها، وإن المؤمن إذا وضع في قبره أتاه ملك فسأله ما كنت تعبد؟ فإن الله هداه قال: كنت أعبد الله، فيقال له: ما كنت تقول في هذا الرجل؟ فيقول: هو عبد الله ورسوله، فما سأله عن شيء بعدها، فينطلق إلى بيت كان له في النار فيقال له: هذا بيتك كان لك في النار ولكن الله عصمك ورحمك فأبدلك بيتاً في الجنة، فيقول: دعوني حتى أذهب فأبشر أهلي، فيقال له: اسكن، وإن الكافر إذا وضع في قبره أتاه ملك فينتهره فيقول له: ما كنت تعبد؟ فيقول: لا أدري، فيقول له: ما كنت تقول في هذا الرجل؟ فيقول كنت أقول ما يقول الناس، فيضربونه بمطراق من حديد بين أذنيه فيصيح صيحة يسمعها الخلق إلا الثقلين)).
وأخرج ابن أبي الدنيا عن أبي هريرة، قال: قال رسول الله -صلى الله عليه وآله- لعمر: ((كيف أنت إذا رأيت منكراً ونكيراً؟ قال: وما منكر ونكير؟ قال: فتانا القبر، أصواتهما كالرعد القاصف، وأبصارهما كالبرق الخاطف، يطآن في أشعارهما ويحفران بأنيابهما، معهما عصا من حديد لو اجتمع عليها أهل منى لم يقلوها)).
وأخرج البخاري عن أسماء بنت أبي بكر أنها سمعت رسول الله -صلى الله عليه وآله- يقول: ((إنه قد أوحي إليّ أنكم تفتنون في القبور، فيقال: ما علمكم بهذا الرجل؟ فأما المؤمن أو الموقن فيقول: هو محمد رسول الله جاءنا بالبينات والهدى فأجبنا واتبعنا، فيقال له: علمنا أن كنت لمؤمناً، نم صالحاً، وأما المنافق أو المرتاب فيقول: لا أدري سمعت الناس يقولون شيئاً فقلت)).
قلت: فهذه الأحاديث مع ما في المسألة من غيرها دليل واضح، وبرهان صريح على صحة قول القاسم بن إبراهيم، والحسن بن يحيى، ومحمد بن منصور أن الأحاديث في عذاب القبر ومنكر ونكير كثيرة ثابتة صحيحة، وتدل على بطلان قول البستي وضرار.
وأما ما استندا إليه من تضمن هذه الأخبار تسمية الملكين باسمين قبيحين، فجوابه من وجهين:
أحدهما: أن الأعلام لا تفيد معنى سوى تمييز المسمى وتعيينه، ولهذا تقع على الشيء ومخالفه وقوعاً واحداً نحو زيد فإنه يقع على الأسود كما يقع على الأبيض والقصير والطويل، وإذا كانت كذلك فلفظ منكر ونكير ليسا إلا علمين للملكين لا يستفاد منهما ذم ولا نقص، ولا غيرهما سوى تمييز الملكين كسائر الأعلام، وقد كانت العرب تسمي كلباً، وذئباً، وأسداً لم يريدوا بها مدحاً ولا ذماً.
الوجه الثاني: أَنا لو سلمنا أنهما يتضمنان الوصف فلا نسلم تضمنهما وصفاً قبيحاً؛ إذ ليس المنكر هو القبيح في أصل الوضع، بل هو ما لا يعرفه الغير، ولما كانا على خلق هائل عظيم سميا بهذين الاسمين من حيث أن العبد لا يعرفهما .
نعم وأما تسمية القبيح منكراً كما يقال يجب النهي عن المنكر فإنما ذلك تسمية شرعية فقط، وإنما سمي بذلك تشبيهاً بالمعنى اللغوي؛ لأن القبيح لما كان منهياً عنه عقلاً وشرعاً فكأنه غير معروف، ويؤيد ذلك أنهم وصفوا نقيض القبيح وهو الواجب والمندوب بالمعروف.
قال الإمام المهدي: وهذا يدل على أنهم لحظوا الوضع اللغوي فشبهوا القبيح بالذي لم يعرفه المشاهدون له فسموه منكراً، وشبهوا الواجب والمندوب بالأهيل المتداول فسموه معروفاً.
فائدة [في استحباب تلقين الميت الشهادتين]
يستحب تلقين الميت عند الدفن وبعده كلمة الشهادة، وما يجاب به على الملكين، وسؤال الثبات له؛ لما أخرجه الطبراني، وابن مندة عن أبي أمامة عن رسول الله -صلى الله عليه وآله- قال: ((إذا مات أحد من إخوانكم فسويتم التراب عليه فليقم أحدكم على رأس قبره، ثم ليقل: يا فلان بن فلانة، فإنه يسمعه ولا يجيب، ثم يقول: يا فلان بن فلانة، فإنه يستوي قاعداً، ثم يقول: يا فلان بن فلانة، فإنه يقول: أرشدنا رحمك الله، ولكن لا تشعرون، فليقل: اذكر ما خرجت عليه من الدنيا شهادة أن لا إله إلا الله وأن محمداً عبده ورسوله، رضيت بالله رباً وبالإسلام ديناً وبمحمد -صلى الله عليه وآله- نبياً، وبالقرآن إماماً، فإن منكراً ونكيراً يأخذ كل واحد منهما بيد صاحبه ويقول: انطلق بنا ما يقعدنا عند من لقن حجته، فيكون حجيجه دونهما، قال رجل: يا رسول الله، فإن لم يعرف أمه، قال: ينسبه إلى حوا، يا فلان بن حوا)).
وفي (الدر المنثور): عن أبي أمامة: إذا مت فدفنتموني فليقم إنسان عند رأسي فليقل: يا صدي بن عجلان، اذكر ما كنت عليه في الدنيا، شهادة أن لا إله إلا الله، وأن محمداً رسول الله.
وعن بعضهم: كان يستحب أن يقال للميت عند قبره إذا سوي وانصرف الناس: يا فلان، قل لا إله إلا الله ثلاث مرات، يا فلان، قل: ربي الله، وديني الإسلام، ونبيي محمد صلى الله عليه وآله وسلم ثم ينصرف.
وعن عمرو بن مرة: كانوا يستحبون إذا وضع الميت في اللحد أن يقول: اللهم أعذه من الشيطان الرجيم.
وعن الثوري: إذا سئل الميت من ربك ترايا له الشيطان في صورة فيشير إلى نفسه إني أنا ربك.
وفي مجموع زيد بن علي عليه السلام عن علي عليه السلام من حديث جنازة رجل من بني عبد المطلب، وفيه قال صلى الله عليه وآله: ((ضعوه في حفرته لجنبه الأيمن مستقبل القبلة وقولوا: بسم الله وبالله وفي سبيل الله وعلى ملة رسول الله -صلى الله عليه وآله- لا تكبوه لوجهه، ولا تلقوه لقفاه، ثم قولوا: اللهم لقنه حجته، وصعد بروحه، ولقه منك رضواناً، فلما ألقي عليه التراب قام رسول الله -صلى الله عليه وآله- فحثا في قبره ثلاث حثيات، ثم أمر بقبره فربع ورش عليه قربة من ماءٍ، ثم دعا بما شاء الله أن يدعو له، ثم قال: اللهم جاف الأرض عن جنبه، وصعد بروحه، ولقه منك رضوانا)).
وفي أمالي أبي طالب عن علي عليه السلام من حديث وفاة أمه فاطمة بنت أسد وفيه: (ثم نزل -يعني النبي -صلى الله عليه وآله- في قبرها ووضعها في اللحد، ثم قرأ آية الكرسي، ثم قال: ((اللهم اجعل من بين يديها نوراً، ومن خلفها نوراً، وعن يمينها نوراً، وعن شمالها نوراً، اللهم املء قلبها نوراً، ثم خرج من قبرها)).
وفي أمالي المرشد بالله عن ابن المسيب، قال: حضرت ابن عمر في جنازة فلما وضعها في اللحد قال: بسم الله وفي سبيل الله وعلى ملة رسول الله، فلما أخذ في تسوية اللبن على اللحد قال: اللهم أجرها من الشيطان ومن عذاب القبر، فلما سوى الكثيب عليه قام إلى جانب القبر ثم قال: اللهم جاف الأرض عن جثته، ولقها منك رضوانك، فقلت شيء سمعته من رسول الله -صلى الله عليه وآله- أم شيء قلته من رأيك؟ فقال: بل سمعته من رسول الله -صلى الله عليه وآله.
وأخرج أبو نعيم عن أنس أن رسول الله -صلى الله عليه وآله- وقف على قبر رجل من أصحابه حين فرغ منه فقال: ((إنا لله وإنا إليه راجعون، اللهم نزل بك وأنت خير منزول به، جاف الأرض عن جنبيه، وافتح أبواب السماء لروحه، واقبله منك بقبول حسن، وثبت عند المسائل منطقه)).
وأخرج أبو داود، والحاكم، والبيهقي عن عثمان بن عفان، قال: مر رسول الله -صلى الله عليه وآله- بجنازة عند قبر وصاحبه يدفن فقال: ((استغفروا لأخيكم، واسألوا له التثبت فإنه الآن يسأل)).
وأخرج سعيد بن منصور عن ابن مسعود، قال: كان رسول الله ـ صلى الله عليه وآله ـ يقوم على القبر بعد ما يسوى عليه فيقول: ((اللهم نزل بك صاحبنا وخلف الدنيا خلف ظهره، اللهم ثبت عند المسألة منطقه، ولا تبتله في قبره بما لا طاقة له به)).
المسألة الخامسة [شبهة استدلال المجسمة بهذه الآية على أن الله عز وجل شأنه في كل مكان]
تمسكت المجسمة بقوله تعالى: {ثُمَّ إِلَيْهِ تُرْجَعُونَ}[البقرة:28] على أن الله تعالى في مكان إذ الرجوع إليه ولا مكان له لا يعقل، وينبغي قبل الجواب عما تمسكوا به من الآية أن نذكر الخلاف في المسألة والدلائل العقلية في ذلك فنقول:
قالت العدلية جميعاً وأكثر المجبرة: إن الله تعالى ليس بذي مكان ولا انتقال في الجهات من جهة إلى جهة.
قيل: والفرق بين المكان والجهة أن المكان هو الجسم الذي يقل الثقيل ويمنعه من الهُوي، والجهة هي الفراغ الذي يتحيز فيه الجسم فهي أمر عدمي وهما متلازمان، فكل ذي مكان فهو ذو انتقال والعكس، والله تعالى لا يجوز عليه شيء من ذلك.
وقالت المجسمة: بل له مكان، ثم اختلفوا، فالمحققون في التجسيم كالهشاميين ومن تبعهما يجعلونه كغيره من الأجسام في الحاجة إلى المكان، والتمكن فيه والاستقرار عليه، والتنقل في الجهات بناء على مذهبهم الفاسد.
وقالت الكلابية: بل هو على العرش بلا استقرار.
وقال بعض الكرامية: بل هو تعالى بجهة فوق أي في الجهة التي توصف بالفوقية غير معينة، وقيل: كلامهم يحتمل أنه بجهة فوق لا على معنى أنه شاغل للجهة، ويحتمل أنه فوق العرش مماس له، أشار إلى هذين الاحتمالين الإمام يحيى، وحكى عليه السلام عن بعضهم قولاً آخر، وهو ان ذاته بكل مكان، وأنه فضا لا نهاية له.
قال الشرفي: وهؤلاء هم عباد الأهوية لاعتقادهم أن الهوى هو ربهم قالوا: لأنه محيطٌ بالأشياء فيه كل شيء، ومع كل شيء، وفيه الحياة وعند انقطاعه الموت.
احتج الأولون بوجوه:
أحدها: أن المكان والجهة إذا اختصت بهما ذات فاختصاصها بهما يستلزم الجسمية؛ إذ لا يختص بهما إلا ما يتحيز فيهما وذلك معلوم ضرورة، والجسمية تستلزم الحدوث لما مر في الفاتحة من البرهان القاطع على أن كل جسم محدث، والحدوث والجسمية باطلان في حق الباري تعالى.
الثاني: أنه لو كان له مكان لكان بعض الأماكن منه خالياً، وإذا كان كذلك كان لما يحدث في الخالي منه جاهلاً، والمعلوم أنه بكل شيء عليم، فوجب القطع بنفي المكان والانتقال عنه؛ لأنه يؤدي إلى ما علم بطلانه، وما أدى إلى الباطل فهو باطل.
فإن قيل: ألستم تقولون إن علمه هو ذاته أو إنه عالم لذاته وذاته مع جميع المعلومات على سواء، فكيف يخفى عليه شيء أو يجهله؟
قيل: بل نحن نقول بذلك، لكن المعلوم أن كل محتجب عن غيره أو غائب عنه فإنه لا يعلمه على التفصيل، بل قد لا يعلمه أصلاً، ولا فرق بين العالم لذاته وغيره، ولذا قال أمير المؤمنين عليه السلام : (فاستفتحوه واستنجحوه، واطلبوا إليه واستمنحوه، فما قطعكم عنه حجاب، ولا أغلق عنكم دونه باب، وإنه لبكل مكان وفي كل حين وأوان، ومع كل إنسان وجان). رواه في (النهج)، وهو نص في أن اختصاصه بمكان، أو احتجابه بحجاب، أو غيبته خلف الأبواب مظنة حرمان الطلاب، وما ذلك إلا لما علم من أن الغائب قد لا يعلم بحال من غاب عنه، ولهذا عقبه بقوله: وإنه لبكل مكان، وقد احتج بهذا الوجه أمير المؤمنين عليه السلام فقال: (ومن قال عَلاَمَ فقد أخلى منه). رواه في (النهج)، أي من قال هو على العرش والكرسي فقد أخلى منه غير ذلك الموضع، لكن ابن أبي الحديد وجه الاحتجاج به على غير ما ذكرنا من لزوم الجهل، بل قال: إن أهل هذه المقالة يمتنعون من القول بخلو سائر المواضع عنه، ومراده عليه السلام إظهار تناقض أقوالهم.
قلت: ويمكن أنهم إنما امتنعوا من القول بخلو سائر المواضع عن علمه تعالى كما قررناه، فألزمهم أمير المؤمنين بأن خلو الذات عن الموضع يستلزم الخلو عن العلم بها، وبما يحدث فيها. والله أعلم.
الوجه الثالث: أن هذا المكان الذي زعمتموه لا يخلو إما أن يكون قديماً أو محدثاً؛ إذ لا واسطة، الأول باطل إذ لا قديم إلا الله تعالى، وأيضاً لو كان قديماً لكان إلهاً ثانياً؛ لأن الاشتراك في صفة ذاتية يوجب الاشتراك في سائر الصفات الذاتية، والمعلوم أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له كما مر في قوله تعالى: {يَاأَيُّهَا النَّاسُ اعْبُدُوا رَبَّكُمُ}الآية[البقرة:21]، والثاني باطل أيضاً؛ إذ لو كان محدثاً لكان الباري تعالى منتقلاً إليه، وإذا كان منتقلاً كان محدثا؛ لأن الانتقال دليل الحدوث، فثبت بهذه الوجوه أن الله تعالى ليس بذي مكان ولا انتقال، ويؤيده من كلام أمير المؤمنين عليه السلام مع ما مر قوله عليه السلام : لا يشغله شأن، ولا يغيره زمان، ولا يحويه مكان. رواه في (النهج)، وقال عليه السلام : لا ينظر بعين، ولا يحد بأين. رواه في (النهج).
قال ابن أبي الحديد: إن شئت قلت: إنه تكلم على الاصطلاح الحكمي، والأين عندهم حصول الجسم في مكان، وقال عليه السلام : الحمد لله الكائن قبل أن يكون كرسي أو عرش، أو سماء أو أرض، أو جان أو إنس. رواه في (النهج).
هذا وقد تعلق هؤلاء المجسمة بشبه منها ما هو جواب على بعض الوجوه السابقة، ومنها ما هو شبهة دليل على دعواهم هذه.
الشبهة الأولى
أنه تعالى قائم بنفسه فلزم اختصاصه بجهة كالجسم.
والجواب: أنه قياس بغير جامع؛ إذ ليس علة اختصاص الجسم بالجهة كونه قائماً بنفسه، بل العلة التحيز، والباري تعالى ليس بمتحيز.
الشبهة الثانية
أنه موجود، ولا يخلو موجود في الشاهد من محل وجهة، فكذلك الغائب.
والجواب: أن الوجود لا يستلزم الجهة وإنما يستلزمها التحيز، سلمنا فيلزمكم أن يكون متحركاً أو ساكناً؛ إذ الموجود في الجهة في الشاهد لا يخلو من ذلك.
فإن قلتم: إن الدليل اقتضى في حقه تعالى خلاف ذلك.
قلنا: فكذلك نقول.
الشبهة الثالثة
أنه يحصل في الجهة ولا يشغلها فلا يلزم التحيز، وهذا رد لقولنا إن الحصول في الجهة يستلزم التجسيم ولعلها للكلابية أو الكرامية؛ إذ هشام وحزبه لا يتحاشون عن القول بالتجسيم تعالى عن ذلك.
والجواب: أنه لا يعقل حصول في الجهة إلا لمتحيز أو تابع لمتحيز، وللقوم شبه سمعية، ومنها ما نحن بصدده، وقد تقدم وجه احتجاجهم بها، والجواب أنه قد ثبت بما قدمنا أنه لا مكان له سبحانه وتعالى ولا جهة، وحينئذ فالواجب تأويل ما كان ظاهره يقتضي ذلك؛ إذ الدليل السمعي معرض للتأويل والاحتمال لوجوه المجاز، والدليل العقلي لا يحتمل ذلك، فكان هو المحكم، لا سيما وقد ورد السمع بمطابقته، قال تعالى: {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ}[الشورى:11] وقولكم وما تقتضيه شبهكم يخالف هذه الآية المحكمة.
إذا عرفت هذا فنقول: معنى الآية ثم إلى حكمه ترجعون أو إلى جزائه؛ لأنه تعالى يبعث من في القبور، ويجمعهم في المحشر، ويحكم فيهم بحكمه العدل، ويجازيهم بما هم أهله، وذلك هو معنى الرجوع إلى الله تعالى وإنما وصف بذلك؛ لأنه رجوع إلى حيث لا يتولى الحكم غيره كقولهم: ارجع أمره إلى الأمير، أي إلى حيث لا يتولى الحكم غيره.
نعم وبقي الكلام على ما اختص به الكلابية وهو قولهم: إنه على العرش بلا استقرار، وما اختص به الكرامية من الشبهة على أنه بجهة فوق، وما قاله عباد الأهوية.
فأما الكلابية فشبهتهم: أنه قد جاء في القرآن أنه على العرش استوى فوجب التصديق به، ودل الدليل العقلي على أنه ليس بجسم فوجب نفي الاستقرار لاستلزامه الجسمية.
والجواب: أن العقل كما منع من الاستقرار فكذلك هو يمنع من حمل الآية على ظاهرها لاستلزامه التجسيم، أو إثبات ما لا يعقل، فوجب تأويل الاستواء بالاستيلاء وهو استعمال عربي مشهور، وسنوضحه في موضعه إن شاء الله، ومنه قوله:
………قد استوى بشر على العراق ... البيت
وأما الكرامية فقالوا: لو لم يكن له جهة لكان نفياً محضاً وتلك الجهة هي جهة فوق؛ لأنها الجهة التي تنزل منها الأوامر والنواهي والكتب، وإرسال الرسل، ومنها تنزل الرحمة، وإليها يتوجه الدعاء.
والجواب: أما قولكم: لو لم تكن له جهة لكان نفياً محضاً، فمبني على أن الوجود يستلزم الجهة، وقد تقدم إبطاله.
وتقريره: أَنا لا نسلم أن نفي الجهة يستلزم ما زعمتموه، وإنما يستلزم نفي كونه من جنس العالم وهو مطلوبنا.
وأما قولكم: إن الأوامر ونحوها تنزل من جهة فوق، فذلك لا يدل على الجهة وإنما أجرى الله العادة بذلك لما فيه لنا من المصلحة واللطف؛ إذ الأمر الذي نتوقع إتيانه من فوقنا ليس كالذي يأتينا من سائر الجهات، ولأن السماء مسكن الملائكة وهم رسل الله إلى البشر والمبعوثون بالرحمة والعذاب، فكان نزول الكتب من تلك الجهة؛ لأن سكانها المأمورون بإيصالها إلى الأرض.
وأما عبّاد الأهوية فقد ذكرنا شبهتهم والجواب أنه إنما كان محيطاً بالأشياء لما جعل الله فيه من المنافع العظيمة كحمله الأصوات والروائح والسحاب إلى غير ذلك، ولو كان ضيقاً لأدى إلى الضرر وإباحة الأسرار، وفوات المنافع التي لا تحصل إلا بما هو عليه من السعة والدقة والصفاء، فحدوثه وأثر التدبير فيه ظاهر لا يخفى، ألا ترى أنه مع كبره ضعيف يتغير بالظلم والأنوار، وتعاقب الليل والنهار، وحلول السحاب فيه والغبار، وكل متغير فهو محدث، ثم هو مع ذلك مُعدٌ لما ذكرنا من المنافع وغيرها، وذلك دليل كونه مدبَّراً، وما كان مدبَّراً فلا بد له من مدبر.
فائدة
قال الإمام المهدي: حكى الجويني عن الأستاذ أبي إسحاق أن استغناه تعالى عن المكان والحيز لمعنى؛ لأن الاستغناء ليس نفياً محضاً، بل إشارة إلى أنه قائم بذاته مستقل وهذا ثبوتي، وإذا كان ثبوتياً والمعقول منه مغاير للمعقول من ذاته المخصوصة لزم كونه معنى.
قال الإمام عليه السلام : والجواب أنا لا نسلم أن الاستغناء أمر ثبوتي، سلمنا فلا نسلم أن معنى كونه قائماً بنفسه مغاير للمعقول من ذاته، بل المرجع به إلى أنه غير محتاج وهو نفي.
تنبيه
ما مر من قول علي عليه السلام : وإنه لبكل مكان، يدل على جواز إطلاق القول بأنه تعالى بكل مكان وإن لم يقيده بما يرفع الإيهام إذا أريد به المعنى الصحيح، وهذا قول أحمد بن عيسى، والقاسم بن إبرهيم، والهادي، والإمام أحمد بن سليمان" ورواه الهادي، وابن أبي الحديد عن الموحدين، وحكاه ابن أبي الحديد في موضع آخر عن المعتزلة، واختاره السيد محمد بن عز الدين المفتي، ورواه عن عامة الآل".
وقال أبو القاسم البلخي: لا يجوز إلا مقيداً بما يرفع الوهم، فيقال: الله تعالى بكل مكان، أي حافظ مدبر لئلا يوهم الخطأ.
وقال الإمام المهدي: لا يجوز ذلك مطلقاً، وراوه النجري عن جمهور المعتزلة وغيرهم؛ لأنه مجاز فلا بد من علاقة، والعقل لا يهتدي إلى القدر المبيح للتشبيه من العلاقة، فلا يجوز إلا بإذن سمعي وهو أن يرد من كلام الله أو كلام رسوله.
والجواب: أنه قد ورد الإذن بذلك، قال تعالى: {وَهُوَ مَعَكُمْ أَيْنَ مَا كُنْتُمْ}[الحديد:4] وقال: {وَهُوَ الَّذِي فِي السَّمَاءِ إِلَهٌ وَفِي الأَرْضِ إِلَهٌ}[الزخرف:84] {وَمَا كُنَّا غَائِبِينَ}[الأعراف:7] و{إِنَّنِي مَعَكُمَا أَسْمَعُ وَأَرَى}[طه:46] وغير ذلك.
ومن كلام الوصي عليه السلام مع ما مر: (لا يقال له حد ولا نهاية، ولا انقطاع ولا غاية، ولا أن الأشياء تحويه فتقله أو تهويه، أو أن شيئاً يحمله فيميله أو يعدله، وليس في الأشياء بوالج، ولا عنها بخارج).
وقال عليه السلام : (سبق في العلو فلا شيء أعلى منه، وقرب في الدنو فلا شيء أقرب منه، فلا استعلاؤه باعده عن شيء من خلقه، ولا قربه ساواهم به في المكان).
وقال عليه السلام : (لم يحلل في الأشياء فيقال هو فيها كائن، ولم ينأ عنها فيقال هو منها بائن).
وقال عليه السلام : (مع كل شيء لا بمقارنة، وغير كل شيء لا بمزايلة) روى ذلك كله في (النهج)، وهو والآيات المذكورة بمعنى قولنا: هو بكل مكان.
فإن قيل: لا شك أن جميع ما ذكرتم بمعنى هذا القول، لكن المعتبر في جواز الاطلاق إذن خاص وهو هنا مفقود.
قيل: لا نسلم اشتراط ذلك؛ إذ لم تمنعوا إلا لعدم اهتداء العقل إلى العلاقة ومع ورود السمع بما هو في معنى ذلك فقد حصل اهتداء العقل إلى العلاقة بتعريف السمع، فإذا جاز إطلاق نحو قوله تعالى: {وَهُوَ مَعَكُمْ أَيْنَ مَا كُنْتُمْ}[الحديد:4] جاز إطلاق ما سواه في المعنى؛ إذ لا فارق، واشتراط الإذن الخاص يحتاج إلى دليل، سلمنا فقد ثبت الإذن الخاص بقول علي عليه السلام : وإنه لبكل مكان، وهو حجة مع ما يعضده من كلام أئمة الهدى وغيرهم من الموحدين.
هذا وأما معنى قولنا: إنه بكل مكان، فقال أحمد بن عيسى عليه السلام : هو عز وجل موجود بكل مكان بلا كيفية ولم يزد على ذلك، وأما غيره فحاصل كلامهم يؤول إلى معنى واحد، وهو أنه تعالى عالم بما في كل مكان، مدبر حافظ لما في كل مكان، فكأنه موجود في جميع الأمكنة لإحاطة علمه تعالى بالجميع.
قال الهادي عليه السلام : معنى قولنا ذلك في ربنا أنا نريد أنه الشاهد لنا غير الغائب عنا، لا يغيب عن الأشياء، ولا يغيب عنه شيء قرب أو نأى، وهو الله الواحد الجليل الأعلى؛ لأن من غاب عن الأشياء كان في عزلة منها، والعزلة فموجدة للحد والتحديد، ومن غابت عنه المعلومات كان من أمرها في أجهل الجهالات، وكانت عنه عازبة غائبة، والله سبحانه لا تخفى عليه خافية سراً كانت ولا علانية، فعلى ذلك يخرج قولنا: إن الله بكل مكان، نريد أنه العالم الشاهد لكل شأن. ذكره في كتاب المسترشد.
فائدة [في معنى قول علي عليه السلام (ليس في الأشياء بوالج)]
في معنى قول أمير المؤمنين عليه السلام : ليس في الأشياء بوالج، ولا عنها بخارج. فإن ظاهره التناقض؛ لأنه يقتضي أنه في كل مكان وأنه ليس في كل مكان وهذا تناقض، وكذلك الكلام الذي حكيناه عنه عليه السلام بعد هذا فإن ظاهره يوهم التناقض.
واعلم أن كلام أمير المؤمنين عليه السلام هو مذهب الموحدين، رواه عنهم ابن أبي الحديد، قال: والخلاف فيه مع الكرامية والمجسمة.
قلت: وما ذكره من أن كلام الوصي عليه السلام هو مذهب الموحدين فهو صحيح؛ لأنهم يقولون كما يفهم من كلام الإمام أحمد بن سليمان، والشرفي أن الباري تعالى لا داخل في العالم ولا خارج عنه، وإنما خالفت الكرامية والمجسمة؛ لأن هذا القول يقتضي نفيه؛ لأنه يكون حينئذ قد خلا من النقيضين؛ إذ لا تعقل ذات لا تكون داخلاً في العالم ولا خارجة عنه وإنما ذلك النفي المحض.
إذا عرفت هذا فاعلم أن علماء العدل والتوحيد قد أوضحوا المقصود من هذا المقال، وأزاحوا ما يوهمه ظاهره من الإشكال، فقال الإمام أحمد بن سليمان: نقول إنه ليس بخارج من الأماكن كخروج الشيء من الشيء ولا بغائب منها، ولو كان كذلك لأدى ذلك إلى الانتقال والجهل تعالى الله عن ذلك علواً كبيراً.
وقال السيد (أحمد بن محمد الشرفي): لا نسلم أن القول بذلك نفي له تعالى وإنما هو نفي أن يكون من جنس العالم.
وقال (ابن أبي الحديد): ينبغي أن يفهم من قوله عليه السلام : ولا عنها بخارج، أنه لا يريد سلب الولوج فيكون قد خلا من النقيضين؛ لأن ذلك محال، بل المراد بكونه ليس خارجاً عنها أنه ليس كما يعتقده كثير من الناس أن الفلك الأعلى المحيط لا يحتوي عليه، ولكنه ذات موجودة متميزة بنفسها، قائمة بذاتها، خارجة عن الفلك في الجهة العليا بينها وبين الفلك بعدٌ مّا غير متناه على ما يحكى عن ابن الهيصم،أو متناه على ما يذهب إليه أصحابه، وذلك أن هذه القضية وهي قولنا: الباري خارج عن الموجودات كلها، على هذا التفسير ليست مناقضة للقضية الأولى وهي قولنا: الباري داخل في العالم، ليكون القول بخلوه عنهما قولاً بخلوه عن النقيضين، ألا ترى أنه يجوز أن تكون القضيتان كاذبتين معاً بأن لا يكون الفلك المحيط محتوياً عليه، ولا يكون حاصلاً في جهة خارج الفلك، ولو كانت القضيتان متناقضتين لما استقام ذلك، وهذا كما نقول: زيد في الدار، زيد في المسجد، فإن هاتين القضيتين ليستا متناقضتين لجواز أن لا يكون زيد في الدار ولا في المسجد، فإن هاتين ولو تناقضتا لاستحالة الخروج عن النقيضين، لكن المتناقض زيد في الدار زيد ليس في الدار، قال: والذي يستشنعه العوام من قولنا: الباري لا داخل في العالم ولا خارج العالم غلط مبني على اعتقادهم تصور أن القضيتين تتناقضان، وإذا فهم ما ذكرناه بأنه ليس هذا القول بشنيع، بل هو سهل وحق أيضاً فإنه تعالى لا متحيز ولا حال في المتحيز من حيث كان واجب الوجود، فإذن القول بأنه ليس في الأشياء بوالج، ولا عنها بخارج صواب وحق.
قلت:وحاصله أن القضيتين لا تتناقضان إلا إذا توارد نفي وإثبات على معنى واحد كقولنا: زيد في الدار زيد ليس في الدار، وهاهنا ليس كذلك، بل توارد نفيان على منفيين اثنين أحدهما نفي كون الباري تعالى حالاً في العالم، والثاني نفي ما ذهب إليه ابن الهيصم وأصحابه من كونه حالاً خارج العالم؛ لأنه تعالى لا يحتاج إلى المحل أصلاً؛ إذ لا يحتاج إليه إلا المتحيز أو الحال في المتحيز، والباري تعالى ليس بمتحيز ولا حالاً في المتحيز، فيكون معنى كلامه عليه السلام نفي كون الباري تعالى من جنس العالم.
ولقائل أن يقول: ما المانع من أن يقال المراد بذلك أنه لا داخل في العالم بذاته؛ لأن ذاته تعالى منزهة عن الحلول في الأشياء كما مر، ولا خارج عنه بعلمه وتدبيره؛ لأنه العالم بكل شيء، والقائم على كل شيء، والمدبر لكل شيء، ويدل على هذا سائر كلمات الوصي عليه السلام المتضمنة لهذا المعنى، وكلام الإمام أحمد بن سليمان صريح فيه.
وأما قوله عليه السلام : مع كل شيء لا بمقارنة ...إلخ فقال ابن أبي الحديد: مراده عليه السلام بذلك أنه يعلم الجزئيات والكليات كما قال سبحانه: {مَا يَكُونُ مِنْ نَجْوَى ثَلاَثَةٍ إِلاَّ هُوَ رَابِعُهُمْ}[المجادلة:7].
قال: وأما قوله: وغير كل شيء لا بمزايلة، فحق لأن الغيرين في الشاهد هما مازايل أحدهما الآخر وباينه بمكان أو زمان، والباري سبحانه يباين الموجودات مبيانة منزهة عن الزمان والمكان، فصدق عليه أنه غير كل شيء لا بمزايلة.
قلت: وهذا معنى كلام الإمام أحمد بن سليمان عليه السلام .
وأما قوله عليه السلام : لم يحلل في الأشياء...إلخ فقال ابن أبي الحديد: ينبغي أن يراد أنه لم ينأ عن الأشياء نأياً مكانياً فيقال: هو بائن بالمكان؛ لأنه لا يجوز إطلاق القول بأنه ليس ببائن عن الأشياء، ولكنها بينونة بالذات لا بالجهة.
ولقائل أن يقول: ما المانع من أن يقال: مراده عليه السلام أنه لم ينأ عن الأشياء بعلمه وتدبيره فيكون معناه كمعنى قوله: وإنه لبكل مكان.
وقوله: مع كل شيء لا بمقارنة، وهذا هو الظاهر من كلامه عليه السلام ، ولهذا جعلناه أحد الأدلة على جواز إطلاق القول بأن الله تعالى بكل مكان إذا قصد به المعنى الصحيح.
[البقرة:29]
قوله تعالى: {هُوَ الَّذِي خَلَقَ لَكُمْ مَا فِي الأَرْضِ جَمِيعاً ثُمَّ اسْتَوَى إِلَى السَّمَاءِ فَسَوَّاهُنَّ سَبْعَ سَمَاوَاتٍ وَهُوَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ}[البقرة:29].
فيه مسائل:
المسألة الأولى [في (ما) الموصولة]
دلت الآية الكريمة على أن (ما) الموصولة موضوعة للعموم لتقييدها بقوله: {جَمِيعاً}، ووجه الدلالة أن قوله: {جَمِيعاً} حال منها يفيد التوكيد وهو موضوع للعموم، فلو لم تكن ما موضوعة للعموم لم يجز تأكيدها به على ما مر تقريره في قوله تعالى: {العالمين} وفي قوله: {أَنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ}[البقرة:106] وهذا قول الجمهور، وفي حكمها سائر الأسماء الموصولة إذا لم يرد بها العهد، وكذلك (ما) الاستفهامية نحو: ما صنعت، والشرطية نحو: ما فعلت فعلت، والخلاف في ذلك كله لمن قال: ليس في اللغة لفظ يفيد العموم أصلاً وللمتوقفين وغيرهم، وقد مر تحقيق الخلاف في قوله: {أَنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ}[البقرة:106].
ومن أدلة عموم هذه اللفظة ونحوه ما مر من صحة الاستثناء من مدخولها ونحوه وفي الآية رد على القائلين بأنه لا عموم في الأخبار.
نعم و(ما) بأقسامها موضوعة لما لا يعقل.
المسألة الثانية [تخصيص الآية]
الآية ليست على عمومها؛ إذ قد خصت وأخرج منها بعض ما تناولته، قيل: إجماعاً، وإذا كانت مخصوصة فصحة الاستدلال بها فيما بقى بعد التخصيص مبني على أنه يصح الاستدلال بالعموم المخصوص فيما بقي، وفي ذلك خلاف بين الأصوليين، فقال الجمهور: يصح الاستدلال به فيما بقي ويكون حجة فيه إن خص بمبين، هكذا نسبه إلى الجمهور وقيده بكونه مخصوصاً بمبين في الغاية وشرحها، وأما غيره كالإمام المهدي، والإمام يحيى بن المحسن، والرصاص في (الجوهرة) فظاهر إطلاقهم في الزوائد يدل على أنه يستدل بالعام فيما بقي مطلقاً، ولم يحكوه عن الجمهور، بل حكاه الإمام المهدي للمذهب وأكثر الفقهاء، وحكاه الإمام يحيى بن المحسن عن أبي علي، وأبي هاشم، والحاكم، والشافعي، وأصحابه، وبعض الحنفية، وقال: إنهم يقولون: إنه يصح الاستدلال به على كل حال، وجعله مقابلاً لقول عيسى بن أبان ونحوه، وفي (الجوهرة): ولكن ظاهر احتجاج يدل على اعتبار القيد الذي ذكره في (الغاية) ولعلهم أرادوا بالإطلاق مقابلة التفاصيل الآتية. والله أعلم.
وقال عيسى بن أبان، وأبو ثور: لا يصح الاستدلال به على كل حال.
وقال أبو الحسن الكرخي: إن خص بمتصل صح الاستدلال به وإلا فلا، وبه قال محمد بن شجاع وبعض الحنفية.
وقال قاضي القضاة: إن كان للعام ظاهر يمكن العمل به قبل التخصيص فليس بمجمل، ويصح الاستدلال به فيما بقي نحو: {اقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ}[التوبة:5] المخرج منه أهل الذمة، وإن لا يَكُنْ له ظاهر كذلك فإنه مجمل كقوله تعالى: {أَقِيمُوا الصَّلاَةَ}[الأنعام:72] فإنه مخصص بالحائض، لكنه مفتقر إلى بيان قبل إخراجها؛ إذ لا نعلم الصلاة الشرعية فلا يمكنا امتثال ما أريد منّا من دون بيان، قيل: وكلام أبي طالب يومئ إليه.
وقال أبو الحسين البصري: إن أخرج المخصص قدراً معلوماً حتى يكون الباقي تحت العموم معلوماً صح الاستدلال به وإلا فلا. قال في (الجوهرة): وهو الذي اختاره شيخنا أبو محمد.
قلت: هذا هو الذي نسبه في (شرح الغاية) إلى الجمهور، وعليه فتكون إطلاق حكاية الإمام المهدي ومن تقدم معه عمن ذكروا على ظاهره فيحقق.
وقال أبو عبد الله البصري: إن منع ورود التخصيص من استفادة الحكم المراد من ظاهره بعد التخصيص لم يصح التعلق به وإن لم يمنع صح، وروي هذا في (المقنع) عن أبي طالب.
وقال الإمام يحيى بن المحسن: إن علم المراد من ظاهر العموم بعد التخصيص على سبيل التفصيل فهو حجة، نحو: اقتلوا المشركين إلا زيداً، وإلا فلا نحو: اقتلوا المشركين إلا ثلاثة على صفة مخصوصة ولم يبين تلك الصفة، قال: وهو مذهب إمام عصرنا عليه السلام .
وقال بعضهم: إنه يبقى حجة في أقل الجمع.
قيل: ولعل قول من لا يجيز التخصيص إلى الواحد قال في (شرح الفصول) للشيخ لطف الله: ولعل هذا إذا كان لفظ العموم جمعاً؛ إذ لو كان مفرداً فلعلهم يقولون إلى الواحد.
وحكى الغزالي عن أبي هاشم أنه يتمسك به في واحد ولا يتمسك به في جمع.
احتج الجمهور بوجوه:
أحدها: أن العام إذا خص بمبين لم يكن مجملاً وهو واضح، وإذا لم يكن مجملاً صح التعلق بظاهره لما نعلمه قطعاً من صحة التعلق بجميع الخطاب المبين كقوله -صلى الله عليه وآله: ((في الرقة ربع العشر)) ولهذا لو قال السيد لعبده: اعط زيداً درهماً فلم يمتثل العبد معتذراً بأنه لا يصح التعلق بظاهره لاستحق اللوم من العقلاء ولكان لومهم على هذا الاعتذار أعظم من لومهم على ترك إعطاء الدرهم، وليس ذلك إلا لقطعهم بأن ما أورده السيد مبين يصح التعلق بظاهره وهذا بخلاف ما لو كان في الخطاب إجمالاً نحو: اعطه درهماً مخصوصاً، فإنه لا يستحق اللوم على هذا الاعتذار، وإذا صح التعلق بظاهره صح الاستدلال به بدليل أنه لا يصح أن يثبت بأحد اللفظين وينفى بالآخر فلا يقال: هذا يصح التعلق بظاهره ولا يصح الاستدلال به والعكس.
الوجه الثاني: أنا نقطع بأنه إذا قيل: أكرم بني تميم ولا تكرم منهم زيداً، فترك إكرام سائر بني تميم عُدّ عاصياً، ولولا أنه ظاهر فيما عدا صورة التخصيص وحجة فيه لما عد عاصياً.
الوجه الثالث: أنه قبل التخصيص كان حجة في كل واحد إجماعاً فبقي كذلك حتى يظهر معارض؛ إذ الأصل بقاء ما كان على ما كان، ولم يظهر معارض إلا في القدر المخصوص فبقي حجة في الباقي.
الوجه الرابع: استدلال الصحابة بالعمومات على ما بقي بعد التخصيص وشاع وذاع فيما بينهم ولم ينكر فكان إجماعاً، من ذلك احتجاج علي عليه السلام على منع الجمع بين الأختين المملوكتين في الوطء بعموم قوله تعالى: {وَأَنْ تَجْمَعُوا بَيْنَ الأُخْتَيْنِ}[النساء:23] مع تخصيصها بقوله تعالى: {أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ}[النساء:3] وقال: أحلت الجمع آية وحرمته أخرى. ورجح التحريم، وكذلك قال عثمان ورجح التحليل، والمعلوم أنّ قوله: {أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ}[النساء:3] مخصوص بالبنت والأخت من الرضاع، والأمة المشتركة والمزوجة وغير ذلك، وكذلك احتجاج عمر على أبي بكر في قصة مانعي الزكاة بحديث: ((أمرت أن أقاتل الناس حتى يقولوا: لا إله إلا الله)) مع أنه مخصوص بقوله تعالى: {فَقَاتِلُوا الَّتِي تَبْغِي حَتَّى تَفِيءَ إِلَى أَمْرِ اللَّهِ}[الحجرات:9] إلى غير ذلك مما كثر واشتهر.
قال الحسين بن القاسم: على أنه لا يكاد يوجد في أدلة الأحكام عموم غير مخصوص، فإبطال حجية العام المخصوص إبطال لحجية كل عام.
احتج عيسى بأن العموم إذا خص صار مجازاً، وإذا كان كذلك صار استعماله فيما بقي أجمع، أو في بعض المراتب على سواء، فيبقى متردداً فيما بقي وفي كل مرتبة منه فيكون مجملاً فلا يصح التعلق بظاهره والاستدلال به.
والجواب: أنا لا نسلم أنه يبقى متردداً وإنما يكون كذلك لو كانت المراتب متساوية ولا دليل على تعيين أحدها، وليس كذلك فإن ما ذكرناه قد دل على حمله على الباقي أجمع.
قالوا: لو قال: اقتلوا المشركين إلا بعضهم لم يصح التعلق بظاهر العموم اتفاقاً فكذلك غيره.
قلنا: هذا قياس مع وجود الفارق، فإنه إنما لم يصح التعلق فيما ذكرتم؛ لأن التخصيص صير العام مجملاً؛ لأن البعض الذي يراد قتله يصح دخوله تحت الاستثناء كما يصح دخوله تحت العموم، بخلاف ما لو قال بعد ذلك: لا تقتلوا من أعطى الجزية، فإنه لا وجه للإجمال فيه؛ إذ المخصص متعين والباقي داخل فيه.
قال الإمام (المهدي): والمعلوم أن الأشياء المعلومة إذا أخرج منها أشياء معلومة كنا عالمين بما عداها، وإذا أخرج منها أشياء مجهولة بقي الباقي مجهولاً لا ينفصل عما عداه فلا يُدرى ما خرج مما لم يخرج.
احتج الكرخي بأنه إذا خص بمنفصل صار مجازاً فيكون متردداً كما قال عيسى بن أبان، بخلاف ما إذا خص بمتصل فإنه يبقى حقيقة في الباقي متناولاً له.
والجواب بما مر من منع التردد، ولا نسلم أنه حقيقة مع المتصل بل هو مجاز، لكن المعتبر عدم الإجمال وحصول البيان في الكل، وسواء قلنا هو حقيقة في الباقي أم مجاز؛ إذ المجاز لا يمنع التعلق بالظاهر مع البيان.
احتج القاضي بأن اللفظ إذا لم يكتف بظاهره يكون مجملاً.
والجواب: لا وجه لمنع العمل به مع بيان المراد منه ولا يضر افتقاره إلى بيان تفاصيل المراد.
وقال الإمام المهدي: نحن نوافق القاضي في أن العام إذا كان مجملاً قبل التخصيص بقي بعده كذلك فلا يزالان مجملين حتى يبينا.
احتج أبو الحسين بأن المخرج إذا كان بعضاً معلوماً نحو: اقتلوا المشركين إلا زيداً كان الباقي تحت العموم معلوماً، وإن كان المخرج مجهولاً نحو: اقتلوا المشركين إلا بعضهم كان الباقي مجهولاً، وهذه الحجة قد ذكرناها وجوابها فيما مر عن الإمام المهدي وهي من أدلة الجمهور.
وأجاب عنها الإمام يحيى بن المحسن بأنه لا يجب في العموم إذا أخرج منه مجهول أن يكون الباقي مجهولاً على سبيل الأطراد؛ لأن الحكيم إذا قال: اقتلوا المشركين إلا بعضهم، ولم يرد منه خطاب سوى ذلك، فإنه يمكننا الامتثال ويتعين البعض الذي أريد قتله بإخراج المكلف، ويصير الباقي معلوماً بعد هذا وكأنه قال: اقتلوا بعضاً وخلوا سبيل بعض، ويكون المراد أنا لا نستأصلهم بالقتل.
قال عليه السلام : فترك بيان البعض من الحكيم بيان ودلالة على أن ما أخرجه المكلف هو المراد؛ لأنه لو لم يكن مراداً لبينه.
قال عليه السلام : ويمكن إيراد هذا الجواب بلفظ آخر فيقال: العموم قد يخرج منه بعض مجهول ويعلم المراد بظاهره على سبيل التعيين فيصح الاستدلال به، وقد يخرج منه بعض مجهول ولا يعلم المراد من ظاهره على هذا الحد فلا يصح الاستدلال به.
قلت: وذلك نحو قوله تعالى: {أُحِلَّتْ لَكُمْ بَهِيمَةُ الأَنْعَامِ إِلاَّ مَا يُتْلَى عَلَيْكُمْ}[المائدة:1].
احتج أبو عبد الله البصري بأن التخصيص إذا لم يخرج العموم من بقاء حكم الاسم كان الظاهر سليماً فيصح التعلق به نحو: اقتلوا المشركين إلا أهل الذمة، فإنا لا نقتل ما عدا أهل الذمة إلا لكونهم مشركين، فالتخصيص من تعلق الحكم وهو القتل باسم الشرك وإن أخرجه من بقاء حكم الاسم لم يسلم الظاهر، فلا يصح التعلق به نحو قوله تعالى: {وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَة فاقطعوا أيديهما}[المائدة:38] فإنا لا نقطع أحداً لمجرد كونه سرق بعد ورود الشرع باعتبار كونه سرق قدراً مخصوصاً من موضع مخصوص؛ إذ قد تغير حكم الظاهر، ومنع التخصيص من تعليق الحكم على اسم السرقة.
وتحقيق حجته أن آية السرقة تدل على أنه يقطع كل سارق على الإطلاق؛ لأنه سرق والتخصيص قد مضى بشروط وصفات لا ينبئ عنها ظاهر الآية فصارت مجملة، لا يقال: فآية المشركين مثلها؛ لأنا نقول: آية المشركين الخصوص فيها أخرج أعياناً لا يقتلون، وآية السرقة لم يخرج مخصصها أعياناً من السراق وإنما أبطل استحقاق القتل في حال.
والجواب:أنا لا نسلم أن التخصيص إذا لم يخرج العموم من بقاء حكم الاسم يصح الاستدلال به على كل حال، ولأنه إذا أخرجه يكون مجملاً على كل حال، فإنه قد يبقى حكم الاسم ولا يصح الاستدلال بل يكون مجملاً، وقد يخرجه من بقاء حكم الاسم ولا يصير مجملاً بل يصح الاستدلال به، فالأول نحو: اقتلوا الفساق إلا قوماً مخصوصين بصفة مخصوصة ولا يبين تلك الصفة، فإن هذا التخصيص لا يخرج العموم من بقاء حكم الاسم؛ لأنا لا نقتل أحداً منهم إلا لكونه فاسقاً عملاً بظاهر اللفظ بعد البيان وهو هنا مجمل؛ لأن المراد لم يعلم بعد هذا المخصص؛ إذ الفسق درجات بعضها أغلظ من بعض، ولا نعلم الصفة المخصوصة من أي الدرجات هي فصار مجملاً، والثاني نحو قوله صلى الله عليه وآله: ((فيما سقت السماء العشر)) فإن أبا عبد الله يقول بصحة التعلق بظاهره بعد تخصيصه بقوله صلى الله عليه وآله: ((ليس فيما دون خمسة أوسق صدقة)) مع أنه يلزمه على أصله أن يكون التخصيص قد أخرج العموم عن بقاء حكم الاسم؛ لأنه قد شرط فيه شرطاً لا ينبى عنه الظاهر وهو الأوساق، وليس اشتراطها إلا كاشتراط الحرز في السرقة، فصح أن إخراج العام عن بقاء حكم الاسم لا يوجب الإجمال من كل حال، ولا يبطل الاستدلال، وإلا فما الفرق بين الخبر وآية السرقة.
فإن قيل: إنما صح الاستدلال بالخبر للإجماع على الاستدلال به بعد ورود خبر الأوساق.
قيل: الإجماع دليل على عدم الإجمال فيه من أصله؛ إذ لو كان مجملاً لما أجمعوا على التعلق بظاهره، فيجب أن تكون الآية مثله، وكذلك لا فرق بين آية المشركين وآية السرقة فإنه قد شرط في آية المشركين شروطاً لا ينبي عنها الظاهر، وهي أن لا يكون المشرك كتابياً ولا معاهداً إلى غير ذلك.
قوله: آية المشركين، أخرج مخصصها أعياناً بخلاف آية السرقة.
قلنا: بل وآية السرقة أخرج مخصصها أعياناً وهم الذين لم يأخذوا النصاب من حرز.
احتج الإمام يحيى بن المحسن بالوجه الأول للجمهور، وكذلك سائر الوجوه التي احتجوا بها تصلح للاحتجاج له، والفرق بين كلامه وكلامهم أنه يقول: إن المخصص إذا كان فيه إجمال لا يمنع من العمل بالظاهر فإنه يصح الاستدلال بالعام ولا يمنع منه ما في المخصص من الإجمال نحو: اقتلوا المشركين إلا بعضهم كما مر في جوابه على أبي الحسين، وظاهر كلام الجمهور أنه لا يصح الاستدلال بما كان كذلك.
احتج القائلون بأنه يبقى حجة في أقل الجمع أو في واحد بأن ذلك المتيقن وما زاد فمشكوك فيه بعد التخصيص.
قلنا: لا نسلم الشك فيما عدا المخرج لتناوله لغيره بأصل وضعه.
تنبيه
حكى الإمام المهدي وغيره الاتفاق على أن المخصص بمجمل نحو قوله تعالى: {وَأُحِلَّتْ لَكُمُ الأَنْعَامُ إِلاَّ مَا يُتْلَى عَلَيْكُمْ}[الحج:30] ونحو: لا تقتلوا بعض المشركين بعد قوله: اقتلوا المشركين، لا يبقى حجة فيما بقي؛ لأن كل فرد يجوز فيه أن يكون مخرجاً وألاًّ يكون.
قيل: وفي دعوى الاتفاق نظر، فإن ابن برهان حكى الخلاف فيه، وصحح العمل به، واحتج بأنا إذا نظرنا إلى فرد شككنا فيه هل هو من المخرج أم لا، والأصل عدمه فيبقى على الأصل ويعمل به إلا أن يعلم بالقرينة أن المخصص معارض للعام وإنما يكون معارضاً عند العلم به، ونقل العمل به أيضاً عن بعض الحنفية، وصاحب اللباب، وابن زيد وغيرهم، وعن بعض الشافعية، وهو ظاهر ما حكاه الإمام يحيى بن المحسن عن أبي علي وأبي هاشم وغيرهما كما مر، وهو مذهب الإمام يحيى بن المحسن في بعض صوره كما مر.
وأجيب بأن القول به في غاية البعد؛ لأن إخراج المجهول من المعلوم يصير المعلوم مجهولاً، ولما يلزم عليه من ترك الدليل المخصص بلا موجب، ولأنه يلزم فيمن طلق إحدى امرأتيه أن يطأهما جميعاً، ومن اشتبه عليه إناء طاهر بإناءٍ متنجس أن يستعملهما، وقد عاتب الله نوحاً عليه السلام لما احتج بما كان مخصصه مجهولاً لما قال: {وَأَهْلَكَ إِلاَّ مَنْ سَبَقَ عَلَيْهِ الْقَوْلُ}[المؤمنون:27] فقال نوح عليه السلام : {إِنَّ ابْنِي مِنْ أَهْلِي}[هود:45] مستنداً إلى عموم قوله: {وَأَهْلَكْ} فعاتبه الله على ذلك، ويمكن أن يقال: لا حجة في الآية؛ لأن الله عاتبه على تمسكه بالعموم مع دليل إخراج الولد منه؛ لأن الذين سبق عليهم القول معلومون وهم عصاة أهله. والله أعلم.
قلت: أما على التفصيل الذي ذكره الإمام يحيى بن المحسن في جوابه على أبي الحسين فلا بُعْدَ في العمل به، ولا يلزم شيء مما ذكروه؛ لأنه مبين؛ إذ هو في حكم التخصيص بمعين في إمكان التعلق بظاهره.
المسألة الثالثة [شبهة الإباحية في هذه الآية]
تمسكت الإباحية وهم فرقة من الباطنية بقوله تعالى: {خَلَقَ لَكُمْ مَا فِي الأَرْضِ}[البقرة:29] على أنه خلق الكل للكل، فلا يكون لأحد اختصاص بشيء أصلاً.
وتحقيق مذهبهم أنهم يقولون بحل كل ما علم من الدين تحريمه من الأموال، والفروج، وقتل النفس بغير حق ونحو ذلك، وسواء كانت عقلية أم شرعية، وتأولوا ما يدل على التحريم من الكتاب والسنة وقالوا: إن له باطناً خلاف ظاهره، ووافقهم على هذا المذهب المزدكية والمرجئة إلا في القتل فإنهم لا يجيزونه، واحتجوا بأن المال مال الله والعبد عبد الله فيحل لعبده تناول ماله، وقالوا: تناول النكاح من زنا أو غيره محبة لله لحلوله جل وعلا بزعمهم في المنكوح تعالى الله عن ذلك علواً كبيراً، وتمسكوا بظواهر من القرآن ومنه الآية المذكورة، وخالفهم المسلمون في ذلك وقالوا: ما ورد الشرع بتحريمه فلا يحل تناوله، وأدلة ذلك معلومة كما في قوله تعالى: {حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةُ...} الآية[المائدة:3] ونحوها.
وأما قولهم: المال مال الله...إلخ فمسلم لكن لا نسلم أن لعبده تناول ماله إلا بإذنه، وقد خص تعالى بعض عبيده ببعض ماله بوجه من وجوه التخصيص والتمليك، ثم منع من تناوله إلا بإذن المخصوص به كما في قوله تعالى: {وَلاَ تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبَاطِلِ}[البقرة:188] وغيرها.
وأما ما ذكروه في النكاح وأنه محبوب لله، نعوذ بالله من التجاسر على إطلاق هذه المقالة في حق رب العالمين، المنزه عن مشابهة المخلوقين، وبطلان ذلك معلوم.
وأما الآية فما ذكرنا من أدلة تخصيص بعض لبعض، وتحريم ما اختص به أحد عبيده على غيره إلا بشروط مخصوصة يدفع ظاهرها على أنه لا ظاهر لها فيما راموه؛ لأنه تعالى قابل الكل بالكل فيقتضي مقابلة الفرد بالفرد، وتعيين أفراد ما في الأرض لأفراد العبيد مستفاد من دليل منفصل وهو المسمى بطريق الرزق، وهو قسمان: عقلي، وشرعي.
أما العقلي فنحو ما يحوزه ويحصله العبد من المباحات كإحياء الأرض، أو يكون طريقه المكاسب كالإجارات، وعقود المعاوضات، أو يكون مبتدأ كالهبات والإباحات ونحوها، وليس احتياج ذلك إلى شروط شرعية يخرجها عن كونها عقلية؛ لأنا لو خلينا وقضية العقل لاستحسنا التصرف فيها عند حصول أحد هذه الأسباب.
وأما الشرعي فكالمواريث والوصايا؛ إذ لو خلينا وقضية العقل لأجريناه مجرى ما لا مالك له فيكون لمن سبق إليه، لكن الشرع خص به بعضاً دون بعض، وكذلك الغنائم والصدقات وبيوت الأموال، فإن العقل يقضي بأن أهلها أحق بها.
المسألة الرابعة [حقيقة الرزق]
دلت الآية على أنه الله تعالى هو الرازق حقيقة لإفادتها الحصر المستفاد من تعريف المسند إليه فكأنه قال: لم يخلق لكم ما في الأرض إلا هو ومتى صار ذلك ملكاً لنا فلأحد الأمور التي جعلها الله أسباباً للملك، وقد مرت، ويزيده وضوحاً أن أحدنا قد يجتهد في الطلب فلا يحصل وقد يحصل بأيسر ما يكون، وقد يدخل في ملكنا بغير اختيارنا كالمواريث، وهذا متفق عليه بين العدلية والجبرية، وقالوا كلهم: لا يقدر على إحداث الرزق غيره؛ لأنه إما جسم وهو ما يغتذى به ولا طعم له كالخبز والماء، وقد مر أن الجسم لا يقدر عليه إلا الله تعالى، وإما عرض وهو ما لا يغتذى بمحله إلا لأجله كحلاوة التمر والعنب ونحوهما فإنه لولا الحلاوة لما اغتذي بهما، فهي المنتفع بها حقيقة فكانت هي الرزق، وذلك العرض غير مقدور لنا؛ لأنا لا نقدر على إحداث الطعوم والروائح، واختلفوا في صحة إضافته إلى العبد. فقالت العدلية: يجوز ذلك.
قال النجري: مجازاً فيقال: رزق الملك جنده، ومنه قوله تعالى: {فَارْزُقُوهُمْ مِنْهُ}[النساء:8] وإنما أضيف إليه؛ لأنه سبب لحصوله بما فعله من هبة وصدقة لا لحدوثه.
وقالت المجبرة: لا يصح إضافة الرزق إلى العباد رأساً؛ لأن التسبب والأحداث فعل الله وهو بناء منهم على أن فعل العبد فعل الله، وقد أبطلناه، ويزيده بياناً أن الهبة ونحوها لو كانت فعلاً لله لما استحق العبد عليها ثواباً ولا مدحاً، والمعلوم من ضرورة الدين أنه يستحق الثواب إذا قصد وجه الله تعالى.
قلت: والظاهر أنه لا مانع من إطلاق اسم الرزق على العبد حقيقة؛ لأنه قد أعطى الغير ملكه ومكنه من الانتفاع به.
وقال الشرفي: العمدة استقراء اللغة، فإن كان الرازق لغة هو خالق الرزق كان إطلاقه على نحو الواهب مجازاً، وإن كان هو معطي الرزق كان إطلاقه حقيقة.
وقال الإمام المهدي: للرزق معنيان:
أحدهما: العين المنتفع بها، ومنه {وَعَلَى الْمَوْلُودِ لَهُ رِزْقُهُنَّ}[البقرة:233] أي قوتهن.
والثاني: بمعنى الإعطاء فهو مصدر يقال: رزقه رزقاً، كما قال تعالى: {لاَ يَمْلِكُ لَهُمْ رِزْقًا مِنَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ شَيْئًا}[النحل:73]فرزقاً مصدر ولهذا نصب شيئاً.
قال عليه السلام : فهو بالمعنى الأول لا يضاف إلى العبد؛ إذ لا يقدر عليه إلا الله، يقال: الله الرازق، أي محدث الأرزاق ولا يقدر على إحداثها سواه، وبالثاني يصح؛ لأن العباد يقدرون على الإعطاء، ومن ثم قال تعالى: {فَارْزُقُوهُمْ مِنْهُ}[النساء:8] أي اعطوهم وهم الفاعلون للإعطاء، وظاهر كلامه عليه السلام أنه يطلق بهذا المعنى على العبد حقيقة، والمفهوم من كلام الراغب أن الرازق اسم مشترك بين خالق الرزق، ومعطيه،والمسبب له، قال: وهو الله تعالى، ويقال: ذلك للإنسان الذي يصير سبباً في وصول الرزق، قال: والرزاق يعني بصيغة المبالغة لا يقال إلا لله تعالى.
وفي المختار: الرزق ما ينتفع به، والجمع: الأرزاق، والرزق أيضاً: العطاء مصدر قولك رزقه يرزقه رزقاً.
المسألة الخامسة
في الآية دليل على أن الله تعالى لا يفعل إلا لغرض وحكمة؛ لأن اللام فيها للتعليل، وقد تقدم الكلام في المسألة السابعة من مسائل الحمد الله.
وعزا الرازي في هذا الموضع نفي الغرض إلى أصحابه، واحتج لهم بنحو ما مر، وزاد وجهاً رابعاً وهو أنه لو كان فعله لغرض لكان الغرض رعاية مصلحة المكلفين، ولو كان ذلك هو الغرض لما فعل ما هو مفسدة في حقهم، لكنه قد فعل ذلك حيث كلف من علم أنه لا يؤمن، ثم حكى عن أصحابه أنهم قالوا: إن اللام في قوله: {خَلَقَ لَكُمْ}[البقرة:29] ونحوها ليست للتعليل حقيقة، ولكن لما فعل تعالى ما لو فعله غيره سبحانه لكان فعله لذلك الشيء لأجل الغرض أطلق الله عليه لفظ الغرض بسبب هذه المشابهة.
والجواب عن هذا الوجه يؤخذ من الثالثة عشرة من مسائل قوله تعالى: {سَوَاءٌ عَلَيْهِمْ أَأَنذَرْتَهُمْ}[البقرة:6].
وأما حملهم اللام على المجاز فعدول عن الظاهر بلا سبب ولا ملجئ إليه، وقد صرح بعض المتكلمين في العربية من أصحابه بأنها للتعليل، ومنهم من قال: إنها للملك وللإباحة، وكل ذلك يثبت به الفرض، وقد مر في الفاتحة على أن الظاهر من كلام المجبرة غير الرازي إثبات الغرض.
وقال القسطلاني: أهل السنة لا ينكرون إمكان التعليل وإنما ينكرون وجوبه.
المسألة السادسة [الأصل في الأشياء]
استدل من قال: إن الأصل في الأشياء التي ينتفع بها ولم تجر مجرى المحظورات في العقل الإباحة بهذه الآية وما كان مثلها نحو: {وَسَخَّرَ لَكُمْ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ جَمِيعاً مِنْهُ}[الجاثية:13] حتى يقوم دليل التحريم، وهذا الدليل شرعي، والعقل يقضي بذلك عند أئمتنا " وغيرهم، وبعضهم قال: إن العقل يقضي بالقبح ولا تستفاد الإباحة إلا من الشرع، وبعضهم توقف في دلالة العقل، وقد ذكرنا الخلاف والحجج في السادسة من المقدمة، وظاهر الآية أنه لا فرق بين الحيوانات وغيرها، وهو قول المؤيد بالله، والأمير الحسين، ومالك، فقالوا: قد دخل في العموم لحوم الحيوانات فيجوز أكلها إلا ما خصه دليل، وقال به بعض أصحاب الشافعي، واختاره أحمد بن يوسف زبارة وغيره، وهو ظاهر كلام الهادي في (الأحكام).
وقالت الحنفية، وخرجه المؤيد بالله للهادي: بل الأصل في الحيوانات الحظر فلا يحل شيء منها إلا بدليل، واختاره علامة العصر وهو المصحح للمذهب.
احتج الأولون بالآية وما في معناها من العمومات، ومنه قوله تعالى: {قُلْ لاَ أَجِدُ فِي مَا أُوحِيَ إِلَيَّ مُحَرَّماً عَلَى طَاعِمٍ يَطْعَمُهُ إِلاَّ أَنْ يَكُونَ مَيْتَة...}الآية[الأنعام:145].
وفي أمالي المرشد بالله: أخبرنا ابن ريذة، قال: أخبرنا الطبراني، ثنا إسحاق بن إبرهيم الديري، ثنا عبد الرزاق، أخبرنا قتادة، عن مطرف بن عبد الله بن الشخير، عن عياض بن حمار المجاشعي، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وآله: ((إن الله أمرني أن أعلمكم ما جهلتم مما علمني يومي هذا وإنه قال: كل مال نحلته عبادي لهم حلال...)) الحديث. قال في (أنوار التمام): أخرجه المرشد بالله من سبع طرق.
أما الديري فهو: إسحاق بن إبرهيم بن عباد الديري، أخذ عنه أبو داود وغيره، وأكثر عنه الطبراني، واحتج به أبو عوانة في صحيحه، وقيل: هو الذي شهر علم عبد الرزاق، وقال الحاكم في رواية الدارقطني: صدوق ما رأيت فيه خلافاً، روى له المؤيد بالله، والمرشد بالله.
وأما قتادة فهو: ابن دعامة السدوسي، أبو الخطاب البصري الأكمه، احتج به الجماعة، وعده المنصور بالله في العدلية، توفي سنة سبع أو ثمان عشرة ومائة، وروى له الأئمة.
وأما مطرف فهو: أحد سادات التابعين، وثقه ابن سعد، قال علامة العصر: عداده في مبغضي أمير المؤمنين مع قوله بالعدل، وقال في (التقريب): ثقة عابد فاضل، توفي سنة خمس وتسعين، روى له أئمتنا الخمسة، واحتج به الجماعة.
وأما عياض، فقال في (الجداول): كان صديقاً لرسول الله -صلى الله عليه وآله- قبل الإسلام، له خمسة أحاديث.
ودلالة الحديث على المطلوب واضحة، فإنه نص في أن الله تعالى قد أحل لعباده ما أنحلهم وهو سبحانه قد أنحلهم ما في الأرض جميعاً بهذه الآية وغيرها، فلا يخرج منه إلا ما خصه دليل.
وفي (الشفاء): إن الله تعالى قال لنوح عليه السلام : (وجعلت كل دابة مأكلاً لك ولذريتك ما خلا الدم فلا تأكلوه) ونحن متعبدون بشرائع من قبلنا بدليل قوله تعالى: {فَبِهُدَاهُمُ اقْتَدِهِ}[الأنعام:90].
وفي (صحيح البخاري): حدثنا عبد الله بن يزيد المقري، حدثنا سعيد، حدثنا عقيل، عن ابن شهاب، عن عامر بن سعد بن أبي وقاص أن النبي -صلى الله عليه وآله- قال: ((إن أعظم المسلمين جرماً من سأل عن شيء لم يحرم فحرِّم من أجل مسألته)).
سعيد: هو ابن أبي أيوب الخزاعي المعدي، وعقيل بضم العين ابن خالد الأيلي، والحديث أخرجه مسلم، وأبو داود.
وعن أبي هريرة عن النبي -صلى الله عليه وآله- أنه قال: ((ذروني ما تركتكم، فإنما هلك من كان قبلكم بكثرة سؤالهم واختلافهم على أنبيائهم، فإذا نهيتكم عن شيء فاجتنبوه، وإذا أمرتكم بأمر فأتوا منه ما استعطتم)). أخرجه الشيخان، وهو والحديث الذي قبله دليل على أن الأصل الإباحة، وأنه لا يحرم شيء إلا بدليل شرعي.
وعن سلمان الفارسي قال: سئل رسول الله -صلى الله عليه وآله- عن السمن والجبن والفرا فقال: ((الحلال ما أحل الله في كتابه، والحرام ما حرم الله في كتابه، وما سكت عنه فهو مما عُفِيَ لكم)). أخرجه ابن ماجة، والترمذي، والحاكم، قيل: في إسناد ابن ماجة سيف بن هارون البرجمي وهو ضعيف متروك.
وأخرج البزار وقال: سنده صالح، والحاكم وصححه من حديث أبي الدرداء رفعه بلفظ: ((ما أحل الله في كتابه فهو حلال، وما حرم فهو حرام، وما سكت عنه فهو عفو، فاقبلوا من الله عافيته فإن الله لم يكن لينسى شيئاً، وتلا: {وَمَا كَانَ رَبُّكَ نَسِيًّا}[مريم:64])).
وأخرج الدارقطني من حديث أبي ثعلبة رفعه: ((إن الله فرض فرائض فلا تضيعوها، وحدد حدوداً فلا تعتدوها، وسكت عن أشياء رحمة لكم غير نسيان فلا تبحثوا عنها)).
وقال علي عليه السلام : (إن الله عز وجل افترض عليكم فرائض فلا تضيعوها، وحد لكم حدوداً فلا تعتدوها، ونهاكم عن أشياء فلا تنتهكوها، وسكت لكم عن أشياء ولم يدعها نسياناً فلا تتكلفوها). رواه في (النهج).
وفي سنن أبي داود: حدثنا محمد بن داود بن صبيح، ثنا الفضل بن دكين، ثنا محمد يعني ابن شريك المكي، عن عمرو بن دينار، عن أبي الشعثاء، عن ابن عباس قال: كان أهل الجاهلية يأكلون أشياء ويتركون أشياء تقذراً، فبعث الله تعالى نبيه صلى الله عليه وآله وسلم ، وأنزل كتابه، وأحل حلاله، وحرم حرامه، فما أحل فهو حلال، وما حرم فهو حرام، وما سكت عنه فهو عفو وتلا: {قُلْ لاَ أَجِدُ فِي مَا أُوحِيَ إِلَيَّ مُحَرَّمًا عَلَى طَاعِمٍ...} إلى آخر الآية[الأنعام:145].
حدثنا موسى بن إسماعيل، ثنا غالب بن حجرة، حدثني ملقام بن تلب، عن أبيه قال: صحبت النبي -صلى الله عليه وآله- فلم أسمع لحشرة الأرض تحريماً.
حدثنا إبرهيم بن خالد الكلبي أبو ثور، ثنا سعيد بن منصور، ثنا عبد العزيز بن محمد، عن عيسى بن نميلة، عن أبيه قال: كنت عند ابن عمر فسئل عن أكل القنفذ فتلا: {قُلْ لاَ أَجِدُ فِي مَا أُوحِيَ إِلَيَّ مُحَرَّمًا...} الآية[الأنعام:145]، قال شيخ عنده: سمعت أبا هريرة يقول: ذكر عند النبي -صلى الله عليه وآله- فقال: ((خبيثة من الخبائث)) فقال ابن عمر: إن كان قال رسول الله -صلى الله عليه وآله- هذا فهو كما قال.
أما ابن صبيح ومحمد بن شريك فوثقهما في (التقريب).
وأما عمرو بن دينار فهو الجمحي، مولاهم أبو محمد الأثرم المكي، وثقه غير واحد، وعداده في ثقات الشيعة، مات سنة ست وعشرين ومائة، احتج به الجماعة، وروى له الأخوان.
وأما الشعثاء فهو: جابر بن زيد الأزدي، احتج به الجماعة، وروى له الهادي، والمرادي.
وأما موسى بن إسماعيل فهو المنقري.
وأما غالب فهو: ابن حجرة بفتح المهملة وسكون الجيم، التميمي العنبري، قال في (التقريب): مجهول، وقال في (التعقيب): وثقه ابن حبان كما في (الخلاصة).
وأما ملقام فهو: بكسر أوله وسكون اللام ثم قاف، ويقال بالهاء بدل الميم، ابن التلب بفتح المثناة وكسر اللام وتشديد الموحدة، فهو صحابي له حديث واحد في العتق.
وأما إبراهيم بن خالد فهو: أبو ثور الفقيه صاحب الشافعي، له أقاويل معروفة في الفقه، وقال في (التقريب): ثقة، وأثنى عليه غيره.
وأما سعيد فهو: ابن منصور بن شعبة، أبو عثمان الخراساني نزيل مكة، رفع من شأنه أحمد وغيره، وقال أبو حاتم: متقن ثبت، وقال في (التقرب): ثقة مصنف، وكان لا يرجع عما في كتابه لشدة وثوقه به، مات سنة سبع وعشرين ومائتين، وقيل: بعدها، احتج به الجماعة، وروى له الأخوان والمرشد بالله.
وأما عبد العزيز فهو: ابن محمد بن عبيد الدراوردي، أبو محمد الجهني مولاهم المدني، وثقه القطان وابن معين وغيرهما، وقال أبو حاتم: صدوق في الحديث، وقال معن بن عيسى: يصلح أن يكون أمير المؤمنين في الحديث، وضعفه بعضهم، توفي سنة تسع وثمانين ومائة، احتج به الجماعة، وروى له أئمتنا الأربعة.
وأما عيسى فهو: ابن نميلة بالتصغير، الفزاري الحجازي، قال في (التقريب): مجهول، وقال في (التعقيب): وثقه ابن حبان، وقال الذهبي: ما روى عنه سوى الدراوردي في أكل القنفذ.
وأما نميلة فقال في (التقريب): مجهول.
فهذه الآثار وما تقدمها من الأخبار تعضد ظواهر القرآن فيما تقتضيه من أن الأصل الإباحة في إباحة الانتفاع بكل حيوان إلا ما خصه دليل.
قال في (الثمرات): ونهيه صلى الله عليه وآله عن أكل كل ذي ناب من السبع ومخلب من الطير يدل على أنه خص المخرج، وأباح ما عدا ذلك.
احتج الآخرون بأن إيلام الحيوان محظور عقلاً فلا يحل إيلامها إلا بدليل شرعي؛ إذ الانتفاع لا يحصل غالباً من دون إيلام، وقد ورد الشرع بجواز الانتفاع ببعضها بذبح وغيره فيقر حيث ورد ولا نتجاوزه إلى غيره، وفي هذا جمع بين دلالة العقل والنقل.
قالوا: والعمومات التي احتج بها الأولون ليست على عمومها لخروج كثير من المحرمات، والعام المخصوص لا يكون حجة فيما بقي على ما مر، سلمنا فنقول كما أنه قد تخصصت بالمضار كالسم وحق الغير، وما ورد الشرع بتحريمه فكذلك تخص بإيلام الحيوان الذي قد قضى العقل بتحريمه والتخصيص بالعقل جائز.
وأما ما روي في قصة نوح عليه السلام فلا حجة فيه علينا؛ لأنه خاص بشرعه فلا يلزمنا إلا بدليل، والآثار المروية عن الصحابة ليست بحجة.
والجواب: أنا لا نسلم أن العقل يقضي بقبح الانتفاع، بل يقضي بالإباحة وأنها الأصل بمعنى أنه لم يمنع منه، وإنما قضى بقبح الإيلام وهو غير الانتفاع؛ إذ لا ملازمة كلية بين الإيلام والانتفاع، ألا ترى أنه يمكننا الانتفاع بميت السمك والجراد من دون أن نؤلمها، ويمكننا أن ننتفع بالتجمل برباط الخيل ونحوها من دون إيلامها بأن لا ننتفع بها في غير التجمل، وكذلك ما أكلناه مما ذبحه الغير فإنا ننتفع بأكله من دون أن نؤلمه، فثبت أن الإيلام والانتفاع أمران مفترقان.
فإن قيل: هذا لو تم لكم فيما يمكن الانتفاع به من دون إيلامه فلا دليل لكم على حل ما لا يمكن انتفاعنا به إلا بأن نؤلمه كذبح الدابة وركوبها.
قيل: إذا قد ثبت أن العقل يحكم بجواز الأكل وغيره من وجوه المنافع وكان ذلك لا يحصل إلا بإيلامها فإن العقل حينئذ يحسن إيلامها وجوازه وإلا لعاد على الغرض وهو إباحة الانتفاع بالنقض، ونقطع بأن لها في ذلك مصلحة يعلمها الله أو أنه سبحانه قد ضمن لها العوض على ذلك على حسب الخلاف، ولا بعد في هذا فإنه لا نزاع في أنه يجوز إيلام ما أباح الشرع أكله والانتفاع به إذا كان لا يحصل الانتفاع من دونه، فكذلك يقال فيما أباحه العقل؛ إذ هو دليل كالشرع، وقد قررنا أن العقل يبيح الانتفاع بها فيلزم منه إباحة ما لا يحصل الانتفاع من دونه من الألم، وإنما نشأ القول بأن الأصل في الحيوانات الحظر من توهم الملازمة الكلية بين الانتفاع والإيلام، وقد وضح الفرق بينهما كما قررناه، وعلى هذا فتكون العمومات السمعية مؤكدة لحكم العقل في أن الأصل الإباحة في حيوان وغيره، ولا يخرج من ذلك إلا ما خصه دليل، ثم إنا لو سلمنا أن الأصل في الحيوانات الحظر لما ذكرتم من قبح إيلامها عقلاً فنقول: حكم العقل بذلك ليس من القضايا المبتوتة التي يجوز رفعها، بل هو قضية مشروطة بأن لا يرد السمع بحسنه، وقد ورد السمع بإباحة إيلامها لأجل تحصيل الانتفاع وذلك يستلزم حسنها؛ لأن الله لا يبيح لنا القبيح ولا يرضاه.
قال النجري في (شرح الآيات): فإن قيل: قول الأكثر بعموم الحل يؤدي إلى رفع الحكم العقلي، وهو تحريم إيلام الحيوان بدليل السمع والأحكام العقلية لا يصح رفعها بنسخ ولا غيره.
قلنا: الأحكام العقلية حاصلة عن علل عقلية، والمستحيل هو رفعها مع بقاء عللها، فأما مع ارتفاع عللها فهو صحيح، بل واجب؛ إذ يلزم من ارتفاع المؤثر ارتفاع الأثر، وإيلام الحيوان قبيح عقلاً لكونه ظلماً، فإذا أباحها الشرع بنص كآية الأنعام، أو عموم كهذه الآية علم أن الله قد ضمن لها من العوض ما يخرج به الألم عن كونه ظلماً الذي هو علة القبح؛ فبذلك يرتفع القبح العقلي.
هذا وأما قولهم: إن العام المخصوص ليس بحجة فجوابه من وجهين:
أحدهما:أنا لا نسلم أن هذه الآية مخصوصة، بل هي باقية على عمومها بمعنى أن الانتفاع حاصل بكل ما تناولته وإن اختلفت وجوه النفع.
قال الزمخشري في معنى: {خَلَقَ لَكُمْ}[البقرة:29] لأجلكم ولانتفاعكم به في دنياكم ودينكم، أما الانتفاع الدنيوي فظاهر، وأما الديني فالنظر فيه وما فيه من عجائب الصنع الدالة على الصانع القادر الحكيم، وما فيه من التذكير بالآخرة وبثوابها وعقابها؛ لاشتماله على أسباب الأنس واللذة من فنون المطاعم، والمشارب، والفواكه، والمناكح، والمراكب، والمناظر الحسنة البهية، وعلى أسباب الوحشة والمشقة من أنواع المكاره كالنيران، والصواعق، والسباع، والأحناش، والسموم والغموم، والمخاوف، وقال غيره بعد أن حكى أن قوله: {مَا فِي الأَرْضِ} عام ما لفظه: لكن يرد على هذا العموم أن كثيراً من ما في الأرض ضار كالسباع والحشرات، وبعضها لا فائدة له أصلاً كالهوام، ويجاب بأنها كلها نافعة إما بالذات كالمأكول والمركوب، وإما بواسطة، ألا ترى أن السباع الضارية أهلكت كثيراً من الحيوانات التي لو بقيت أهلكت الحرث والنسل، والحيات يتخذ منها الترياق.
الوجه الثاني: أنا وإن سلمنا تخصيصها فلا نسلم أن العام المخصوص بمبين ليس بحجة كما مر، وهذا الوجه أحسن من الأول؛ لأن الآية وإن تناولت ما في الأرض جميعاً بالاعتبار الذي ذكروه فهي لم تتناول جميع وجوه الانتفاع في أفراد ما تناولته للقطع بتحريم الضار، وتحريم إتيان البهائم في فروجها، وغير ذلك مما يمكن أن يكون نفعاً، لكن منع منه مانع عقلي وشرعي، فهي لا تخلو عن تخصيص. والله أعلم.
وأما قولهم: لو سلمنا حجية العام المخصوص فنحن نخص هذه العمومات بالعقل، فقد مر أن العقل لا يقضي بقبح الانتفاع...إلى آخر ما مر.
وأما قولهم:لا حجة في قصة نوح إلا بدليل قوله تعالى: {فَبِهُدَاهُمُ اقْتَدِهِ}[الأنعام:90].
وأما الآثار عن الصحابة فالمراد بها التأييد والتأكيد؛ لأنهم أعرف بمقاصد الشرع إلا ما صح عن أمير المؤمنين عليه السلام فهو عندنا حجة.
تنبيه [الأصل في الحيوانات]
وما ذكرناه من أن العقل يقضي بأن الأصل في الحيوانات الإباحة قد أشار إليه المقبلي في المنار وهو الذي تقضي به العمومات السابقة، فإن الظاهر من سياق قوله تعالى: {هُوَ الَّذِي خَلَقَ لَكُمْ مَا فِي الأَرْضِ جَمِيعاً}[البقرة:29] إرادة الامتنان عليهم، وتذكيرهم بما هو متقرر في عقولهم من أنه المنعم عليهم بتلك النعم، وتوبيخهم على كفرهم بالله وهو الذي أنعم عليهم بهذه النعمة، ولم يرد بها بيان الحكم فيما في الأرض أولا وبالذات وإن كانت قد تضمنت ذلك، لكن من حيث التقرير والتأكيد لما هو مقرر في عقولهم، وقد ذكر بعض جهابذة التفسير معنى هذا فقال: مناسبة هذه الآية لما قبلها ظاهرة وهو أنه لما ذكر أن من كان منشئاً لكم بعد العدم ومفنياً لكم بعد الوجود، وموجداً لكم ثانية إما إلى جنة وإما إلى نار كان جديراً أن يعبد ولا يجحد، ويشكر ولا يكفر، ثم أخذ يذكرهم عظيم إحسانه، وجزيل امتنانه من خلق جميع ما في الأرض لهم، وعظيم قدرته، وتصرفه في العالم العلوي، وأن العالم العلوي والعالم السفلي بالنسبة إلى قدرته على السواء، وأنه عليم بكل شيء.
وقال آخر: الصحيح في معنى قوله تعالى: {خَلَقَ لَكُمْ مَا فِي الأَرْضِ}[البقرة:29] الاعتبار يدل عليه ما قبله وما بعده من نصب العبر الإحياء، والإماتة، والخلق،والاستواء إلى السماء وتسويتها أي الذي قدر على هذه لا تبعد منه القدرة على الإعادة،والمراد بالانتفاع المفهوم من قولكم هو الاعتبار لا غير، ابن العربي: وليس في الأخبار بهذه القدرة عن هذه الجملة ما يقتضي حظراً ولا إباحة ولا وقفاً، وإنما جاء ذكر هذه الآية في معرض الدلالة والتنبيه ليستدل بها على وحدانيته.
قلت: ولا وجه لمنع دلالتها على الإباحة، وكون المراد بها ما ذكر لا يمنع من ذلك؛ إذ اللفظ يقتضيه، بل لا يصح الاستدلال بها على التوحيد، ولا على التذكير بالنعم والاعتبار إلا إذا كان ما تناولته على ما يقتضيه ظاهرها، ولهذا حافظ الزمخشري وغيره على بقاء عمومها على حسبه، ولو أنصف ابن العربي لقال: إنها تدل على أن حكم الأشياء كلها على الإباحة عقلاً؛ لأن الامتنان والتذكير والتنبيه على التوحيد لا يصح إلا إذا كان ذلك مركوز في عقولهم بحيث لا يمكنهم إنكاره، وإن أنكروه ظهر عنادهم لسائر العقلاء، وكذلك قوله تعالى: {قُلْ لاَ أَجِدُ فِي مَا أُوحِيَ إِلَيَّ مُحَرَّماً...} الآية[الأنعام:145] وسائر الأدلة المتقدمة، وأقوال الصحابة تدل على أن الأصل الإباحة عقلاً في حيوان وغيره، وأنه لا يحكم بتحريم إلا بدليل شرعي، ويؤيده أن النبي -صلى الله عليه وآله- كان يركب البهائم قبل البعثة، وأيضاً والأدلة العقلية الدالة على أن الأصل في المنافع الإباحة تتناول الحيوانات، وقد مرت في السادسة من المقدمة.
هذا وأما أصحابنا فظاهر كلامهم أن الإباحة في الحيوانات ليست إلا شرعية، وممن صرح بذلك النجري فإنه قال: وإيلام البهائم إنما حسن شرعاً فقط.
نعم لنا أن العقل يقضي بإباحة الحيوانات إنما نعني به فيما فيه انتفاع، فأما إيلامها واستعمالها في غير منفعة فذلك ظلم ممنوع عقلاً وشرعاً، ويتفرع على الخلاف في الحيوانات أعني في كون الأصل فيها الإباحة أو الحظر فرعان:
الفرع الأول [في طهارة ذرق الطير]
لو وجد ذرق طير أو عظم ولم يعلم من أي حيوان هو فمن قال الأصل الحظر حكم بالنجاسة، ومن قال الأصل الإباحة كانت طاهرة.
وقال المتوكل على الله إسماعيل: أما الذرق فطاهر؛ لأن الأصل الطهارة وصحح للمذهب.
وقال الحسن بن يحيى القاسمي، وولده علامة العصر، وأبو حنيفة: بطهارة ذرق سباع الطير؛ لمفهوم خبر عمار، ولترك السلف غسل المساجد منه.
الفرع الثاني [في استعمال الدواب]
في استعمال الدواب في غير ما جرت العادة باستعمالها فيه كالحرث على الخيل والبغال والحمير وحمل آلة الحرب ونحوها على البقر ونحو ذلك.
ظاهر كلام النجري الجواز لظواهر الأدلة وعمومها، فإنها تقتضي جواز الانتفاع بها في أي منفعة كانت إلا ما خصه دليل.
وقال السيد محمد بن الهادي في قوله تعالى: {وَالأَنْعَامَ خَلَقَهَا لَكُمْ فِيهَا دِفْءٌ وَمَنَافِعُ}الآية[النحل:5]: تدل على جواز أكلها والانتفاع بجميع المنافع منها، وقد ورد بذلك الشرع الشريف، قال: وهو معلوم من الشرع ضرورة.
وحكى النجري عن بعض السلف أنه كان ينهى عن تحميل آلة الحرث على البقر، قال: وكذلك سائر وجوه الانتفاع إلا ما أباحه الشرع بدليل خاص.
قلت: ومقتضى مذهب الهدوية ومن وافقهم، وحجة الأولين ما مر من عموم الأدلة عقلاً ونقلاً، وحجة الآخرين ما مر من أن الأصل في الحيوانات الحظر فلا يحل من وجوه الانتفاع بها إلا ما خصه دليل، ويحتج لهم أيضاً بما في صحيح مسلم قال: حدثني أبو الطاهر أحمد بن عمرو بن سرح وحرملة بن يحيى، قالا: أخبرنا ابن وهب، قال: أخبرني يونس، عن ابن شهاب، حدثني سعيد بن المسيب، وأبو سلمة بن عبد الرحمن أنهما سمعا أبا هريرة يقول: قال رسول صلى الله عليه وآله: ((بينما رجل يسوق بقرة له قد حمل عليها التفتت إليه فقالت: إني لم أخلق لهذا، ولكني إنما خلقت للحرث، فقال الناس: سبحان الله تعجباً وفزعاً أبقرة تكلم، فقال رسول الله -صلى الله عليه وآله: فإني أومن به وأبو بكر وعمر)). وله طريق أخرى قال: وحدثنا محمد بن عباد، حدثنا سفيان بن عيينة، ح وحدثني محمد بن رافع، حدثنا أبو داود الحفري، عن سفيان كلاهما عن أبي الزناد، عن الأعرج، عن أبي سلمة، عن أبي هريرة عن النبي -صلى الله عليه وآله- بمعنى حديث يونس عن الزهري.
وأخرجه البخاري قال: حدثنا محمد بن بشار، حدثنا غندر، حدثنا شعبة، عن سعيد، قال: سمعت أبا سلمة، عن أبي هريرة، عن النبي -صلى الله عليه وآله- فذكر نحوه إلا أنه قال: ((بينما رجل راكب على بقرة))، وسعد هو: ابن إبراهيم بن عبد الرحمن بن عوف، وأخرجه الترمذي، وهو دليل على أنه لا يجوز استعمال الدواب في غير ما خلقت له نصاً في البقرة وقياساً في غيرها؛ لأن علة المنع إنما هو كونها لم تخلق لما فعله هذا الرجل من الحمل أو الركوب، فكذلك يجب المنع من استعمال سائر الدواب فيما لم تخلق له للعلة المذكورة، وقد أعلمنا الله في كتابه بما خلق له الأنعام والخيل والبغال والحمير فقال في الأنعام: {فِيهَا دِفْءٌ وَمَنَافِعُ وَمِنْهَا تَأْكُلُونَ ، وَلَكُمْ فِيهَا جَمَالٌ حِينَ تُرِيحُونَ وَحِينَ تَسْرَحُونَ ، وَتَحْمِلُ أَثْقَالَكُمْ إِلَى بَلَدٍ لَمْ تَكُونُوا بَالِغِيهِ إِلاَّ بِشِقِّ الأَنفُسِ}[النحل:5-7] وقال في الخيل وما بعدها: {لِتَرْكَبُوهَا وَزِينَةً}[النحل:8] وهذا إذا ضممته إلى الدليل العقلي كان حجة قاطعة على المنع.
والجواب: أما قولهم: إن الأصل الحظر فقد مر إبطاله.
وأما الحديث فلا يقاوم القواطع العقلية والنقلية الدالة على جواز مطلق الانتفاع ما لم يخرج إلى حد الجور والظلم، على أنه يجاب عنه وعن الآية بأن ذكر الحرث والركوب والزينة لا يدل على أن المنفعة مختصة بذلك، وإنما خصت هذه المنافع بالذكر؛ لأنها معظم المقصود، ولا يلزم من تعليل الفعل بمعظم المقصود منه أن لا يقصد منه غيره أصلاً ولهذا سكت عن حمل الأثقال على الخيل والبغال والحمير مع أنه لا ريب في جواز ذلك، سيما على البغال والحمير، واستدل السيد محمد بن الهادي بقوله في الأنعام: {وَتَحْمِلُ أَثْقَالَكُمْ}[النحل:7] على جواز إتعابها بالتحميل للأثقال والمسير عليها والعمل، وذلك من أعظم المشقة على البهائم، قال: وهذا جائز، ولو أتعبها ما لم يبلغ حد الجور من تكليفها ما هو فوق طاقتها، وضربها لذلك فوق الحاجة، قال: وما ذكرناه من الوجهين معلوم من الشرع على الجملة، وعليه الإجماع.
هذا وللإمام المهدي كلام حسن، ودليل عقلي مستحسن في جواز تحميل البهائم المشقة في مصالح أنفسنا حاصله: أنا نعلم من كل حيوان اختياره تحمل المشقة في طلب المعيشة ولم نر حيواناً أجوف حتى النمل ساكناً عن طلب المعيشة إلا لمانع، فعلمنا بالعقل حسن تحميل البهائم التي لا تحمل رزقها كالأنعام والخيل ونحوها قدر ما تحمله هي لو طلبت المعيشة، ويكون ذلك في مقابلة القيام بها وحفظها من المهالك؛ لأن المعلوم أن الله تعالى لم يجعل متاعها وحفظ نفسها موكولاً إليها؛ إذ لا يمكنها ما يمكن المتوحشات من حفظ نفسها عما تخاف، فلو تركت تتبع رزقها في الفيافي والقفار لكان فيه هلاكها، فلما علمنا ذلك من حالها، وعلمنا من حال سائر الحيوانات أنها تكد أنفسها أكثر نهارها في طلب المعاش راكبة للأخطار في ذلك، علمنا حسن تحميل البهائم مثل مشقتها لو اشتغلت بالطلب كغيرها، ويكون ذلك في مقابلة القيام بمؤنتها وحفظها من السبع، والحر، والبرد وغير ذلك.
قال عليه السلام : ونعلم ضرورة أنها لو عقلت وعلمت ما يلقاه غيرها في طلب المعيشة لاختارت ما هي عليه من الخدمة في مقابلة القيام بها وحفظها، سيما مع عجزها عن القيام بنفسها، فإنها في كثير من المواضع لا تجد بلغة ولا مأوى إلا ما حصله لها المالك، وإذا علمنا ذلك فالقدر الذي يجوز عقلاً تحميلها إياه إنما هو القدر الذي تحمل نفسها لو طلبت المعيشة والحفظ فقط، لكن الأقرب أن ما من قدر في المشقة غير المبرحة إلا وهي تختار تحمله في طلب ذلك عند حاجتها وهي لا تزال محتاجة إلا في وقت امتلائها وهو يسير، فيجب التهوين عليها ذلك القدر.
قلت: وقد تضمن قوله عليه السلام : لكن الأقرب...إلخ الرد على من قال: إنه لا يهتدي العقل إلى القدر الذي يحسن منا أن نحمله البهائم في منافع أنفسنا في مقابلة ما نوصله إليها من النفع، وقد استفيد من كلامه عليه السلام أنه يقول: إن إيلام الحيوان لمنفعة أنفسنا جائز عقلاً، وهو الذي اخترناه أولاً، لكن العلة عنده عليه السلام في الجواز هو كونه في مقابلة قيامنا بها.
تنبيه [مشقة الحيوان]
وكما يجوز تحميل البهائم المشقة لنفعنا على ما مر تقريره، فكذلك يجوز أن نحملها المشقة لنفعها، كركوبها في تعهدها بالسقي، وحمل علفها عليها وغير ذلك، وكذلك غيرها مما لا تكليف عليه فإنه يجوز تحميله المشقة لنفعه.
قال الإمام المهدي: وجواز ذلك معلوم، وإنما الخلاف في أنه ثابت عقلاً أم سمعاً، فقال أبو هاشم: ثبوته عقلي فإنا نعلم بعقولنا حسن ذلك، واختاره الإمام المهدي.
وقال أبو علي: لا وإنما ثبت سمعاً فقط؛ لأن العقل لا يهتدي إلى قدر المنفعة التي يختار الحيوان لو عقل تحمل المشقة لأجلها.
والجواب: أنه قد ثبت عقلاً حسن تحميلها المشاق لنفعنا، فبالأولى حسنه إذا كان في نفعها، ولا نسلم أن العقل لا يهتدي إلى قدر المنفعة لما مر عن الإمام المهدي، وأيضاً قد علم حسن تحميل الإنسان نفسه المشقة في طلب نفع نفسه، وعلم حسن ما يتحمله سائر الحيوانات التي تقوم بنفسها من المشقة في طلب ذلك، وكذلك حسن ما يفعله الإنسان من تحميل البهيمة المشقة لنفع نفسها، فإن تدبيره لها مع عجزها وعدم تمييزها كتدبيرها لأنفسها.
دليل آخر وهو: أن الشيخين متفقان على أنه يحسن عقلاً تحميلها المشقة لدفع ضرر عنها أعظم مما حملت، كإيلامها بالكي ونحوه لدفع ضرر أعظم منه، فكذلك يحسن لدفع ضرر الجوع والعطش ونحوهما، بل هذه المضار أبلغ من بعض الآلام، وما فرق به بين الأمرين من أن دفع المضرة قد تبلغ الرغبة فيه حد الإلجاء حتى يجب على من يخافها محاولة دفعها، بخلاف المنفعة فإنها تختلف أحوال الحيوانات فيها، فمنها ما لا يهون عليه تحمل المشقة في طلبها وإن جلت، ومنها ما يهون عليه ذلك فلا يهتدي العقل إلى القدر الذي يعلم أن هذا الحيوان يختار هذا الألم لو عقل لحصول هذه المنفعة فمدفوع بما مر.
تنبيه [إنزال الألم بالعقلاء للمنفعة]
واختلف في إنزال الألم بالعقلاء لنفعهم من دون مراضاتهم، فقال أبو هاشم وأكثر الشيوخ: قد يعلم عقلاً حسن ذلك، فإن رجلاً لو قال لآخر: قم من مكانك لتأخذ هذه الصرة وفيها مثاقيل كثيرة لتنتفع بها وليس بينه وبينها إلا قدر خطوة مثلاً فإنه إذا امتنع كان له إجباره وقهره على القيام وهو متفضل، ويعلم حسن ذلك بالعقل.
قال الإمام المهدي: ولعل أبا هاشم يعني حيث لا يعلم من حال الممتنع قصد الزهد أو نحوه من الأمور التي يحسن معها الامتناع، بل عرف ضرورة أنه لا وجه لامتناعه إلا الكسل.
وقال أبو علي: لا يحسن ذلك عقلاً، واختاره الإمام المهدي؛ لجواز كون هذا الكسلان يرى لذة الدعة في تلك الحال أبلغ من لذة الانتفاع بالصرة.
نعم وأما إجباره على دفع المضرة كأن يرى رجلاً قاعداً تحت جدار يخشى انهدامه عليه في تلك الحال.
قيل: فلا يبعد اتفاق الشيخين هنا أنه يحسن إجباره على القيام، ويكون ذلك تفضلاً حسناً.
قال الإمام المهدي: وهو قريب.
المسألة السابعة [حق الله وحق العباد وأيهما يقدم]
استدل بعض العلماء بقوله تعالى: {خَلَقَ لَكُمْ مَا فِي الأَرْضِ}[البقرة:29] على أنه إذا تعارض حق الله تعالى وحق العباد الماليان كان الواجب تقديم حق العباد؛ لأن الآية تدل على أنهم المقصودون بخلق ما في الأرض، ولأن في تقديمها وفاءً بالحقين؛ لأن وصول ذي الحق إلى حقه من أفراد المصالح العامة، ولأن دين العباد واجب عقلاً وشرعاً وهم فقراء محتاجون ودين الله واجب شرعاً فقط وهو غني لا تجوز عليه الحاجة بحال؛ ولأن دين الآدمي مبني على المشاححة والمضايقة، ومستحقه متعين، وهذا قول زيد بن علي، والداعي، والمؤيد بالله، والإمام يحيى، وأبي حنيفة وأصحابه، وقول للشافعي، ورواه في (البحر) عن أبي طالب وقال في غيره: هو تحصيل الأخوين للهادي، وقيل: بل يقدم حق الله لقوله صلى الله عليه وآله: ((فدين الله أحق أن يقضى)) وهو حديث ثابت عند أئمتنا والمحدثين من رواية ابن عباس وغيره، وسيأتي ذكره في حكم الصوم، والحج عن الميت، وله ألفاظ، ففي بعضها: ((فدين الله أولى))، وفي بعضها: ((فدين الله أحق بالوفاء)) وهو في (الجامع الكافي) بلفظ: ((دين الله أحق أن يقضى من دين الناس)) وهذا أحد أقوال الشافعي، قال النووي: وهو أصحها، ويشهد له قوله تعالى: {وَاللَّهُ وَرَسُولُهُ أَحَقُّ أَنْ يُرْضُوهُ}[التوبة:62] ولا شك أن توفير حقوقه جل وعلا إرضاء له، كما أن توفير حقوق الآدمي إرضاء له، وقد نصت الآية على أن الله تعالى أحق بالإرضاء، ويدل عليه من جهة النظر أن معنى كونه لله أنه للمصالح العامة وليس معناه أنه ملك؛ إذ له ما في السماوات وما في الأرض فيكون بها حفظ قواعد الدين ونفاذ شوكته، وبحفظ الدين تتصل الحقوق كلها بأربابها، وبضياعها تضيع جميع الحقوق، فهو كصرف غلة الوقف في عمارته أولاً، ثم تصرف الفضلة في المصرف، ولأن في تقديم حقوق الله وفاء بالحقين؛ إذ بتقديمها يصل كل أحد إلى حصته من المصالح
العامة.
وأما ما احتج به الأولون فضعيف، أما الآية فليس فيها إلا إباحة ما في الأرض وتمليكهم إياه، وإطلاق الانتفاع به من جملة الانتفاع تخليص ذممهم من الحقوق اللازمة سواء كانت لله أم للعباد، وبيان كيفية تخليص الحقوق وترتيب أدائها مأخوذ من دليل آخر، وقد دل الدليل على أن حق الله أقدم.
وأما قولهم: إن في تقديمها وفاء بالحقين؛ لأن وصول العبد إلى حقه من أفراد المصالح، فلا نسلم أن وصول فرد إلى حقه يكون وفاء بحق غيره لعدم المشاركة، وإنما يكون وفاء بالحقين إذا قدم حق الله كما مر.
وأما قولهم: إن دليل وفاء الآدمي عقلي وشرعي، وأما دين الله فشرعي فقط، فضعيف؛ لأن العقل يحكم في الجملة بوجوب قضاء كل دين، سلمنا فذلك لا يقتضي التقديم؛ إذ المعتبر في الدليل ثبوت دلالته، وإفادته الحكم.
وأما التعليل بفقر العباد وحاجتهم، فلا يصلح؛ لأن حق الله في التحقيق عائد إليهم.
وأما كون حق الآدمي مبنياً على المشاححة ...إلخ فلا يقع؛ لأن المشاححة لا تصلح فارقاً وإلا لوجب تقديم دين المشاحح من الآدميين على غير المشاحح وإن استووا في الطلب والتعيين كذلك؛ إذ المطلوب تفريغ الذمة من حق الغير، ولولا ورود الدليل بوجوب تقديم حق الله تعالى لوجب تقسيط المال بين ذوي الحقوق سواء كانوا معينين أم لا لما ذكرنا.
وقال ابنا الهادي، وأبو علي، وقول للمؤيد بالله، وقول للشافعي: بل يقسط بين دين الله ودين الآدمي ولا يقدم أحدها، ورواه في (شرح الأزهار) عن أبي طالب، واختاره الإمام الحسن بن يحيى القاسمي وولده علامة العصر، ورواه عن الهادي لحديث: ((فدين الله أحق أن يقضى))؛ ولأنهما في شغل الذمة على سواء، ولما مر من أن حق الله عائد للعباد وما مر ترجيحات غير مقصودة من جهة شرعية القضاء وهو تفريغ الذمة، فلا اعتبار بها مع كونها متكافئة، وهذا هو المصحح للمذهب.
ولقائل أن يقول: أما الحديث فهو عليكم لا لكم، وأما استواؤهما في شغل الذمة، فغير مسلم وإلا لما جاء الشرع بتقديم حق الله؛ إذ لا يقدم إلا ما هو أهم، وأما عود حقه تعالى للعباد فهو حجة عليكم؛ لأنه عائد إلى مصالحهم العامة، والمصلحة العامة مقدمة على الخاصة عند التعارض.
وأما قولهم: إن ما مر ترجيحات غير مقصودة...إلخ فعجيب كيف لا يكون صريح الكتاب والسنة، وتقديم المصالح العامة مقصوداً، وقد مر أن ورود الشرع بتقديم حق الله دليل كونه أهم.
فإن قيل: قد تقدم عن الراغب أن الحق قد يستعمل بمعنى الجدير، فعلى هذا لا يكون في الحديث دلالة على وجوب التقديم؛ لأنه يكون المعنى فحق الله أجدر بالوفاء أي أولى، والأولوية لا تدل على الوجوب، لا يقال فهو يدل على أن تقديم حقه تعالى أولى؛ لأنا نقول: المراد من الأولوية هنا الحث على قضاء حق الله ودفع ما عساه يتوهم من تقديم حق العباد.
قيل: هذا الاستعمال لا يصح هنا؛ لأن الزيادة تكون من جنس المزيد عليه في هذا الباب، والتفضيل يكون في كل شيء بحسبه، فإن كان الأمر المشترك بين المفضل والمفضل عليه هو الوجوب فالتفضيل فيه أو الندب أو التحريم فكذلك، ولا شك أن قضاء الدين مطلقاً واجب، فوصفه بأنه حق لا يكون إلا بمعنى أنه واجب، فإذا وصف شيء منه بأنه أحق أفاد أنه أدخل في اللزوم، وأمكن في الوجوب، ولا فائدة لوصفه بذلك والدلالة على أمكنيته في الوجوب إلا وجوب تقديمه والاهتمام به، وقد مر عن الراغب أن الحق قد يستعمل استعمال الواجب واللازم. والله الموفق.
واعلم أن حقوق الله وحقوق العباد التي يقدر فيها التعارض على أربعة أضرب:
الأول: أن يكونا ماليين فحق الله كالزكاة، والفطرة، والأخماس، والمظالم الملتبس أهلها ونحو ذلك مما لا يتعلق إلا بالمال، وحق الآدمي كالدين، وهذا الضرب قد تقدم الكلام عليه.
الضرب الثاني: أن يكونا بدنيين وهو ثلاثة أقسام:
أولها: أن يكون حق الله عبادة، فيقدم حق الآدمي اتفاقاً؛ لأن العبادة نفع للمكلف وليس له أن يؤثره على إيفاء غيره حقه كصوم المرضعة التي تخشى على الرضيع ضرراً، أو صوم المرأة ما أوجبته على نفسها بغير إذن الزوج ونحو ذلك.
ثانيها: أن يكون حق الله عقوبة كالحد فيقدم على حق الآدمي المحض؛ لأنه لما شرع لدفع المفسدة بما فيه من الزجر أهم لما عرف من أن دفع المفسدة العامة أهم من جلب المصلحة الخاصة، فيقام الحد على الزوجة والمملوك وإن فات حق الزوج والسيد ونحو ذلك ما لم يخش فوت مهجة الآدمي، كأن يخشى على الصبي التلف بإقامة الحد على أمه فلا، فأما إذا كان حق الآدمي مستوياً بحق الله كالقصاص فيقدم على الرجم.
ثالثها: أن يكون حق الله ديانة كالجهاد، والأمر بالمعروف، والفتوى، والحكم والهجرة ونحوها، وفي هذا اختلاف وهو المعبر عنه بتعارض المصلحة العامة والمصلحة الخاصة.
الضرب الثالث: أن يكون حق الله بدنياً كالحج والصلاة، وحق العباد مالياً فيقدم حق الآدمي مع المطالبة، فإن كان حق الله عقوبة فهو أولى، أو ديانة فعلى الخلاف.
الضرب الرابع: أن يكون حق الله مالياً وحق العباد بدنياً، وذلك كالزوجة تخرج من بيت زوجها لتسلم الزكاة ولا يمكن التسليم إلا بخروجها، وهذا الضرب على الخلاف في الضرب الأول، ويتعلق بهذه الأضرب فروع وتفاصيل في مواضع مما يتعلق بها ويرد إليها، سنذكرها في مواضعها إن شاء الله تعالى مع إقامة الأدلة على ذلك كله، وإنما جعلنا ذكرها في هذا الموضع كالمقدمة والتمهيد لما يترتب عليها من المسائل والخلاف.
المسألة الثامنة [تحريم أكل الطين]
قيل: في الآية دليل على تحريم أكل الطين؛ لأنه امتن بأنه خلق لنا ما في الأرض دون نفس الأرض، فإنما امتن علينا بأنه خلقها لنا فراشاً.
وقيل: لا حجة فيها؛ لأن من جملة الأرض ما يطلق عليه أنه فيها وهو مخلوق لنا كالمعادن.
وأما امتنانه بأنه خلقها لنا فراشاً فتخصيص الشيء بالذكر لا يدل على نفي ما عداه، لكن الآية وإن لم تدل على تحريم الطين فقد دل على تحريمه غيرها عقلاً ونقلاً، أما العقل فلأنه ضار والعقل يحكم بوجوب دفع الضرر عن النفس وتجنب ما يجلب الضرر ولهذا حرمت السموم، وأما النقل فما رواه الهادي في (الأحكام) عن النبي -صلى الله عليه وآله- أنه نهى عن أكل الطين وقال: ((إنه يعظم البطن، ويعين على القتل)).
وفي (الشفاء) عن عائشة قالت: قال رسول الله صلى الله عليه وآله: ((يا حميراء، إياك والطين، فإنه يعظم البطن، ويعين على قتل النفس)).
وفي (أصول الأحكام) عن النبي -صلى الله عليه وآله- أنه نهى عن أن يأكل الإنسان من الطين ما يضره.
وقال الهادي في (الأحكام): بلغنا عن علي -صلى الله عليه- أنه قال: ومن أكل من الطين حتى يبلغ فيه ثم مات لم أصل عليه.
وفي خبر الأصول: والأثر العلوي دليل على أن المحرم منه ما يضر، والعقل لا يقضي إلا بتحريم ذلك، وهذا هو المصحح للمذهب.
وأما ما لا يضر منه فقالوا: يكره فقط، وفي (البحر) عن الإمام يحيى: إن الطين مباح؛ لأنه طاهر مطهر فيحل كالماء، وقال أبو طالب: يباح قليله ويكره كثيره لخبر عائشة.
قلت: ولا وجه لكلام الإمام يحيى بمخالفته للعقل والنقل، ولا قياس مع نص.
وأما قول أبي طالب في القليل، فمسلم؛ إذ لم يرد على الكراهة فيه دليل، بل ظاهر ما مر في الإباحة، ويؤيده ما في (الجامع الكافي) عن محمد أنه سئل عن الحامل تشتهي الطين فرخص في القليل منه، وذكر عن علي -صلى الله عليه- واستدل على كراهته في (المنار) بحرمة كثيره فأقل أحواله الكراهة.
وأما قوله بكراهة الكثير، فإن أراد كراهة التحريم فمسلم، وإن أراد كراهة التنزيه فلا لما مر.
المسألة التاسعة [الاستواء]
اختلف في معنى الاستواء في الآية، فقال الفراء والزمخشري ومن وافقهما: معناه أقبل وقصد فهو راجع إلى معنى الإرادة.
وقال الراغب في الاستواء: إذا عدي بإلى فمعناه الانتهاء إليه إما بالذات، أو بالتدبير.
قلت: والذي يجوز هنا إنما هو الانتهاء إليه بالتدبير.
وقال الربيع بن أنس، والطبري: معناه علا وارتفع، قال الربيع: من دون تكييف ولا تحديد، وقال الطبري: علا أمره وسلطانه.
وقيل: إن إلى بمعنى على أي استوى على السماء، والمعنى أنه تفرد بملكها ولم يجعلها كالأرض ملكاً لخلقه، ومعناه على هذا الاستيلاء كما قال الشاعر:
قد استوى بشر على العراق .... من غير سيف ودم مهراق
قال: وقال الحسن البصري: معناه تحول أمره إلى السماء واستقر فيها، والاستواء الاستقرار فيكون على حذف مضاف، أي ثم استوى أمره إلى السماء أي استقر؛ لأن أوامره تنزل إلى الأرض من السماء.
وقيل: المعنى كمل صنعه فيها كما تقول: استوى الأمر، وفيه ضعف؛ إذ لا يقال: كمل إلى هذا الشيء.
وقيل: الضمير عائد إلى الدخان، قال أبو حيان: وهذا بعيد جداً يبعده قوله تعالى: {ثُمَّ اسْتَوَى إِلَى السَّمَاءِ وَهِيَ دُخَانٌ}[فصلت:11] واختلاف الضمائر وعوده على غير مذكور، ولا يفسره سياق الكلام.
وهذه التأويلات كلها فرار عما تقرر في العقول من أن الله يستحيل أن يتصف بالانتقال المعهود في غيره سبحانه وتعالى، وأن يحل فيه حادث، أو يحل هو في حادث، وسيأتي الكلام على الاستواء بالنسبة إلى العرش إن شاء الله.
المسألة العاشرة [الرد على المشككين في القرآن الكريم]
تمسك بعض الطاعنين في القرآن من الملحدة، ومنهم ابن الراوندي بالآية على إثبات التناقض في القرآن؛ لأنها تدل على أن خلق الأرض قبل السماء، وقد نقضه بقوله تعالى: {وَالأَرْضَ بَعْدَ ذَلِكَ دَحَاهَا}[النازعات:30] فإنها تدل على العكس، والجواب من وجهين جملي، وتفصيلي:
أما الجملي: فهو أن التناقض هو اختلاف الجملتين بحيث إذا صدقت إحداهما كذبت الأخرى، وشرطه أن يتحد المنسوب والمنسوب إليه، ووجه النسبة والزمان والمكان، والجزء والكل، ومتى اختل شيء من هذه الشروط لم يكن الكلام متناقضاً وإن كان ظاهر اللفظ التناقض، ولهذا لا يحكم بالتناقض في نحو قولك: زيد في الدار زيد ليس في الدار إذا أريد بأحد الزيدين زيد بن عمرو وبالآخر ابن بكر، أو أريد بأحد الدارين غير الآخر، أو أثبت كونه فيها في وقت ونفاه في آخر، والمعلوم أن ما في القرآن مما يدعى فيه التناقض لم يحصل فيه حقيقة التناقض ولا شرائطه، وأيضاً لو كان فيه تناقض لعرفه العرب وطعنوا به، فهم كانوا أعرف منكم، وأحرص على الطعن.
وأما التفصيلي فمن وجوه:
أحدها: أن المراد بالاستواء تحول أمره إلى السماء كما مر عن الحسن، والمعنى أن الأوامر والتكاليف ونحوها تنزل من السماء إلى الأرض بعد خلق الأرض وما فيها.
ثانيها: أن خلق جرم الأرض قبل خلق السماء، إلا أنه ما دحاها حتى خلق السماء، وهذا قول جماعة من المفسرين وغيرهم، قال في تفسير القرطبي: قال مجاهد وغيره من المفسرين: إنه تعالى أيبس الماء الذي كان عرشه عليه فجعله أرضاً وثار منه دخان فارتفع فجعله سماء، فصار خلق الأرض قبل خلق السما، ثم قصد أمره إلى السماء فسواهن سبع سماوات، ثم دحا الأرض أي بسطها بعد ذلك وكانت غير مدحوة.
وفي (الكشاف): عن الحسن: خلق الله الأرض في موضع بيت المقدس كهيئة الفهر عليها دخان ملتزق بها، ثم أصعد الدخان وخلق منه السماوات، وأمسك الفهر في موضعها فذلك قوله: {كَانَتَا رَتْقًا}[الأنبياء:30] وهو الالتزاق، ويؤيده ما رواه ابن جرير قال: حدثنا المثنى، قال: حدثنا أبو صالح، قال: حدثني معاوية بن صالح، عن علي بن أبي طلحة، عن ابن عباس في قوله حيث ذكر خلق الأرض قبل السماء ثم ذكر السماء قبل الأرض وذلك أن الله خلق الأرض بأقواتها من غير أن يدحوها قبل السماء، ثم استوى إلى السماء فسواهن سبع سماوات، ثم دحا الأرض بعد ذلك، فذلك قوله: {وَالأَرْضَ بَعْدَ ذَلِكَ دَحَاهَا}[النازعات:30].
قلت: وظاهر الآية يؤيد هذا الوجه؛ لأنه أخبر فيها بالاستواء إلى السماء لتسويتها سبع سماوات، والاستواء إليها يقتضي تقدم خلقها؛ إذ المفهوم من إطلاق قولنا: استوى فلان إلى ضيعته لإصلاحها أن الضيعة موجودة في ملكه، ولا يقال استوى إليها وهي غير موجودة في ملكه إلا على ضرب المجاز.
وأما الرازي فذكر على هذا الوجه إشكالين:
أحدهما: أن الأرض جسم عظيم يمتنع انفكاك خلقها عن التدحية، وإذا كانت التدحية متأخرة عن خلق السماء كان خلق الأرض متأخراً عن خلق السماء لا محالة.
قلنا: هذه دعوى ولا وجه لها، فإن المعلوم ضرورة إمكان خلقها غير مدحوة، وما كان ممكناً فلا يمتنع وقوعه وإلا لخرج عن كونه ممكناً.
ثانيهما: أن الآية تدل على أن خلق الأرض وما فيها قبل خلق السماء، وخلق الأشياء فيها لا يمكن إلا إذا كانت مدحوة، فهذه الآية تدل على أنها مدحوة قبل خلق السماء، وحينئذ يتحقق التناقض، وأجاب بأن قوله: {وَالأَرْضَ بَعْدَ ذَلِكَ دَحَاهَا}[النازعات:30] يقتضي تقديم خلق السماء على الأرض ولا يقتضي تقديم تسويتها على خلق الأرض، وعلى هذا يزول التناقض، ثم اعترض هذا الجواب بأن قوله تعالى: {أَأَنْتُمْ أَشَدُّ خَلْقاً أَمِ السَّمَاءُ بَنَاهَا...} الآية[النازعات:27]، يقتضي تقدم خلق السماء وتسويتها على تدحية الأرض، وتدحية الأرض ملازمة لخلقها فيكون خلق ذات السماء وتسويتها مقدم على خلق ذات الأرض وتدحيتها فيعود السؤال.
والجواب ما مر من أنا لا نسلم أن تدحية الأرض ملازمة لخلقها، وحينئذ يرتفع الإشكال.
الوجه الثالث: أَن ثُمَّ هنا إنما جيء به للإيذان والدلالة على ما بين الخلقين من التفاوت في المزية والفضل الذي امتازت به العلويات على السفليات، كما في قوله تعالى: {ثُمَّ كَانَ مِنَ الَّذِينَ آمَنُوا}[البلد:17] وليست للتراخي الزماني، قال أبو السعود: فإن تقدمه على خلق ما في الأرض المتأخر عن وجودها مما لا مرية فيه لقوله تعالى: {وَالأَرْضَ بَعْدَ ذَلِكَ دَحَاهَا}[النازعات:30] ولما روي عن الحسن.
الوجه الرابع: أَن ثُمَّ هنا ليس للترتيب فإنما هو على جهة تعديد النعم، مثاله قوله: أليس قد أعطيتك النعم العظيمة، ثم رفعت قدرتك، ثم دفعت الخصوم عنك، ولعل بعض ما أخره في الذكر قد تقدم فكذلك هاهنا.
قال الرازي: وهذا الجواب الصحيح.
المسألة الحادية عشرة [دلالة الآية على مسألة أن الله عالم]
دلت الآية الكريمة على أن الله تعالى عالم، وليس الاستدلال بها من الاستدلال بالسمع من حيث أنه سمع، بل من حيث أنه مثير لدفائن العقول، ألا ترى أنه نبه قبل قوله: {وَهُوَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ}[البقرة:29] على دليل العالمية الذي هو خلق الأرض وما فيها، وتسوية السماوات المشتمل على الإحكام العجيب، والإتقان الغريب، ولنتكلم على المسألة في ثلاثة مواضع: الأول في حقيقة العالم، الثاني: في كون الباري تعالى عالماً وذكر الخلاف في ذلك، الثالث في الدليل على أنه عالم.
الموضع الأول في حقيقة العالم
قال القرشي: هو المختص بصفة لكونه عليها لمكانها يصح منه الإحكام تحقيقاً أو تقديراً وزاد غيره: إذا لم يكن ثم مانع ولا ما يجري مجراه، فقوله المختص بصفة جنس الحد، وقوله: لمكانها، يعني لاختصاصه بها، وقوله: يصح منه الإحكام أي يصح منه الفعل المحكم فصلٌ يخرج غير المحدود، ومعنى الإحكام إيجاد فعل عقيب فعل أو مع فعل على وجه لا يتأتى من كل قادر ابتداءً، والمحكِم -بكسر الكاف- هو المرتب لذلك، والمحكَم بالفتح هو الفعل المرتب.
وقوله: أو تقديراً، أراد به ما لا يكون مقدوراً كفعل الغير، أو يكون مقدوراً لكن لا يصح إحكامه كالفعل الواحد فإنما هذا حاله يصح إحكامه تقديراً بمعنى أنه لو كان مقدوراً ومما يصح ترتيبه لأحكمناه، وقوله: ما لم يكن ثم مانع...إلخ يعني بالمانع الضد كأن يريد أحدنا الكتابة فيمسك الغير يده فيفعل من الأكوان ضد ما يريد الكاتب فعله، والذي يجري مجراه عدم الآلات كعدم القلم ونحوه، ويرد عليه أسئلة:
أحدها: أَن من حق الحد أن يعلم منه المحدود، والمعلوم أن نفاة الأحوال يعلمون العالم عالماً وإن لم يعلموا أنه مختص بصفة.
الثاني:أَنكم ذكرتم صحة الفعل والفعل وصف لما وجد من المقدورات، والصحة حكم لما لم يوجد، فكيف يصح منه الفعل المحكم وبعد الحصول لا صحة؟
الثالث: أَن المانع وما يجري مجراه لا يتصور إلا في حقنا، فأما الباري تعالى فلا مانع في حقه كما مر تقريره في السؤال السادس على حد القادر.
الرابع: أَن المانع لا يكون مانعاً إلا إذا وجد في وقت وجود المقدور كما مر في السؤال الخامس على مسألة قادر.
والجواب عن هذه الأسئلة قد مر في الثانية من مسائل قوله تعالى: {أَنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ} [البقرة:106]، وقال أبو الحسين، وابن الملاحمي: العالم هو المتبين لأمر من الأمور تبيناً يمتنع معه في نفسه تجويز خلافه، واعترضه القرشي بأن هذا اللفظ لا يطلق إلا على من يتعرف الشيء بمشقة وتجويز، وبأنه لا يفيد حصول المعرفة، ولهذا يقال: تبينت الشيء فما عرفته، وبأن المتبين أخفى من العالم.
وقال ابن حابس: هو من يمكنه إحكام الأشياء المتباينة وتمييز كل منها بما يميزه، أو من أدرك الأشياء إدراك تمييز وإن لم يقدر على فعل محكم.
نعم وقد ذكر العلماء للعالم حدوداً غير ما ذكر وهي في المعنى راجعة إلى ما ذكرنا، ولعله يأتي على أصل من قال: إن العلم لا يحد أن يقال في العالم كذلك. والله أعلم.
فائدة
الأفعال بحسب الحكمة والإحكام تنقسم إلى أربعة أقسام: محكم، وحكمة نحو الخط الحسن في نفاعة مسلم، ولا محكم ولا حكمة نحو الخطوط التي لا حروف فيها مفصلة إذا كان لمضرة مسلم ونحو ذلك، ومحكم دون حكمة نحو الخط الحسن الذي لا غرض فيه، وحكمة دون محكم نحو الخط الذي لا تميز حروفه لنفع مسلم، ولا يوجد في أفعال الباري تعالى إلا ما فيه حكمة، والإحكام أو الحكمة دون الأحكام.
الموضع الثاني في كون الباري تعالى عالماً وذكر الخلاف في ذلك
ذهب أهل الإسلام وأهل الكتاب وغيرهم ممن أقر بالصانع المختار إلى أن الله تعالى عالم، وبه قالت الفلاسفة في الجملة، والخلاف في ذلك مع الباطنية وبرغوث فإنهم لا يصفونه بشيء من الصفات كما مر في مسألة قادر، وألزمت المطرفية أن لا يكون عالماً كما ألزموا أن لا يكون قادراً.
الموضع الثالث في دليل أهل الإسلام على أن الباري تعالى عالم
وتحريره أنه قد صح منه الفعل المحكم، وصحة الفعل المحكم دليل كونه تعالى عالماً، فهذان أصلان:
أحدهما: أَنه قد صح منه الفعل المحكم.
والثاني: أن تلك الصحة دليل كونه عالماً.
أما الأصل الأول فذلك ظاهر في خلق السماوات والأرض وما بينهما من جميع أصناف العالم فإن كل شيء منها قد قدر أعظم تقدير، وجعل في موضعه اللائق به، وأعد لما يصلح له، وأوتي ما يحتاج إليه من التمييز والتدبير، انظر في خلق الإنسان ورزقه من ابتدائه إلى انتهائه فإنه عندما تحمل أمه ينقطع عنها الحيض ليكون الدم رزقاً له، فإذا وجد أحدث الله له رزقاً في ثدي أمه مما تحتمله معدته ولم يكن ذلك موجوداً في الأم قبل الولادة، انظر إلى الإحكام البليغ في عدم اشتباه بني آدم وما يملكون من الحيوان، فإنه لا يشتبه آدميان في صورة ولا صوت، وكذلك لا يشتبه مما يملكون من الحيوان اثنان، ولولا هذا الإحكام والتدبير لوقع من الفساد ما لا يخفى على الأبله فضلاً عن العاقل البصير من اشتباه الأزواج والتظالم والأملاك إلى غيرذلك، انظر إلى ما في إدارة الأفلاك وتسخير الرياح، وتقدير الشتاء والصيف من الحكم والمنافع التي تحار فيها العقول، وتقصر عن وصفه ألسن العلماء الفحول.
فإن قيل: ما المانع من أن يكون إحكام هذه الأفعال من بعض القادرين بالقدرة، لأن الأصل في ذلك التأليف، والتأليف مقدور لنا.
قيل: إنا نفرض الكلام في أول حي خلقه الله فيسقط الاعتراض.
قال السيد مانكديم: على أنا نعلم الآن من جهة السمع أن هذه الأفعال المحكمة من جهة الله تعالى لا يشاركه فيها مشارك.
ووجه آخر وهو أن أحدنا وإن قدر على إيقاع الفعل المحكم والتأليف، فهو غير قادر على إيقاعه على الوجه الذي وقع في كثير من الأجسام كتأليف أجسام الأحياء وأزهار الأشجار، وثمارها ونحو ذلك.
وجواب آخر: وهو أن ذلك الغير إما قديم وهو باطل؛ إذ لا قديم مع الله تعالى، وإما محدث وهو إنما يكون قادراً بقدرة وعالماً بعلم، وذلك يحتاج إلى نية مخصوصة، فيحتاج إلى غاية الإحكام، فيجب في فاعله أن يكون عالماً، وذلك كاف في حصول الغرض؛ لأن فاعله هو الله وإلا لزم التسلسل.
وأما الأصل الثاني وهو أن من صح منه الفعل المحكم فهو عالم، فقال الإمام القاسم بن محمد: هو ضروري، وقال القرشي: هو ضروري في الجملة؛ لأن معنى العالم هو من يصح منه الفعل المحكم.
وظاهر كلام السيد مانكديم، والإمام المهدي وغيرهما أن ذلك استدلالي، واستدلوا عليه بأنا وجدنا في الشاهد قادرين أحدهما قد صح منه الفعل المحكم كالكاتب، والآخر تعذر عليه ذلك كالأمي، فمن صح منه يجب أن يفارق من تعذر عليه ذلك بأمر، وليس ذلك إلا صفة ترجع إلى الجملة وهي كونه عالماً؛ لأن الذي يشتبه الحال فيه ليس إلا كونه ظاناً أو معتقداً، وذلك مما لا تأثير له في إحكام الفعل بدليل أن أحدنا أول ما يمارس الكتابة ويتعلمها قد يظنها ويعتقدها ولا تتأتى منه محكمة، فصح أن صحة الفعل المحكم دليل كونه عالماً في الشاهد، وإذا ثبت ذلك في الشاهد ثبت مثله في الغائب؛ لأن طرق الأدلة لا تختلف شاهداً وغائباً.
واعلم أنه يسأل هنا عن دليل ثبوت هذه المفارقة وأنها لم عللت، ثم لم وجب تعليلها بأمر يرجع إلى الجملة، والكلام عليه على نحو ما مر في مسألة قادر، ويلحق بهذه الجملة سؤالات:
الأول: أَن صحة إحكام الفعل في الشاهد إنما تدل على كون فاعله عالماً لمطابقته للمواضعة والعادة السابقة، وهذا غير ثابت في حق الله تعالى؛ لأن أفعاله تعالى مبتدأة لا تجري مواضعة في مثلها ولا عادة.
والجواب من وجهين:
أحدهما: ذكره السيد مانكديم وهو: أن صحة الفعل المحكم إنما تدل على كون فاعله عالماً من حيث أنه صح من أحدهما وتعذر على الآخر، حتى لو صح ذلك من جميع القادرين لم يدل على كونهم عالمين بدليل أن الكتابة اليسيرة كالكثيرة في الإحكام، وهي لا تدل على أن فاعلها عالم لما لم يتعذر على غيره، بخلاف الكثيرة فإنها تدل على ذلك لتعذرها على غيره.
الثاني: ذكره الإمام المهدي وغيره وهو: أن في أفعال الله ما يجري مجرى ما تجري فيه المواضعة والعادة، ألا ترى أن الله تعالى أجرى العادة المستمرة بأن لا يخلق هذه الحيوانات إلا من أجناسها، كالبقر من البقر، والغنم من الغنم، وكذلك لا يخلق هذه الثمار إلا من أشجارها المخصوصة، وذلك يدل على علمه بالأصول عند خلقه الفروع التي أوجدها من جنسها، وهذا جار مجرى المواضعة ومطابقتها.
السؤال الثاني
إذا كان الدليل على أن الله عالم وقوع الفعل المحكم وكشف الفعل عن الصحة قبله، فيلزم فيما وقع منه تعالى غير محكم، كإيجاد الأعراض والجواهر التي لا تأليف بينها، والصور الناقصة المستقبحة أن تدل على أنه تعالى غير عالم.
والجواب من وجوه:
أحدها: أن هذا جمع من غير جامع.
ثانيها: أن وجود الفعل المحكم يدل على أنه تعالى عالم من جهة المفارقة بخلاف غير المحكم فإنما يدل على أنه قادر، ولا يدل على العالمية بنفي ولا إثبات.
ثالثها: أن العالم قد يوجد منه فعل غير المحكم لغرض ولا يخرجه ذلك عن كونه عالماً، دليله أن الواحد منا قد يكون عالماً بالكتابة وكيفية إحكامها وتوجد منه كتابة غير محكمة لغرض من الأغراض ولا يخرجه ذلك عن كونه عالماً.
فإن قيل: فما الحكمة في خلق الصور القبيحة؟
قيل: لا بد فيها من حكمة ومصلحة لما تقرر من عدل الله وحكمته سواء عرفناها تفصيلاً أم لا،وقد قيل: وجه الحكمة أن في وجودها كذلك لطف لنا وأقل أحوالها أن تدعونا إلى الشكر على تمام الخلقة وتحسين الصورة.
السؤال الثالث
إذا كان في الأفعال ما يدل على أن فاعله عالم فهل فيها ما يدل على أن فاعله جاهل أي معتقد اعتقاد جهل؟
والجواب: أنه لا يوجد فيها ذلك؛ لأن غير المحكم كما يقع من الجاهل فقد يقع من العالم، قال الإمام المهدي: أما إذا علمنا أن داعيه متوفر إلى إيجاد الفعل المحكم فتعذر عليه علمنا أنه ليس بعالم به، وإذا جادل على تصحيح الباطل وعلمنا من شاهد حاله الجد في التمسك به والدفع عنه علمنا أنه معتقد اعتقاد جهل.
السؤال الرابع
إذا قستم الغائب على الشاهد في كونه قادراً عالماً فهلا حملتموه عليه في كونه جسماً؛ إذ قد ثبت في الشاهد أن القادر العالم لا يكون إلا جسماً؟
والجواب: أن هذا قياس بلا رابطة، وإنما استندتم في ذلك إلى مجرد الوجود وهي طريقة باطلة، وقد مر الكلام عليها في المسألة السابعة من مسائل الحمد لله، وأيضاً هو قياس مع وجود الفارق، فيجب أن يكون باطلاً؛ وذلك أنا إنما أوجبنا في القادر العالم في الشاهد أن يكون جسماً؛ لأنه قادر بقدرة وعالم بعلم، والقدرة والعلم لا بد لهما من محل، والمحل متحيز، والجسم مركب من المتحيزات، بخلاف الباري فإنه قادر عالم لذاته فظهر الفرق.
تنبيه [في الدليل على العالمية]
قد عرفت مما مر أن الدليل على العالمية هو صحة الفعل المحكم، ودليل صحة الإحكام الوقوع؛ إذ الوقوع فرع الصحة، وهذا اختيار جماعة من أصحابنا -أعني أنهم جعلوا دليل العالمية صحة الإحكام- ولعلهم إنما عدلوا عن جعل الإحكام نفسه دليل العالمية لنحو ما مر في مسألة قادر من أن مجرد الوقوع لا يدل على كونه قادراً، وكذلك يقال مجرد الإحكام لا يدل على كونه عالماً؛ لأنه قد يقع اتفاقياً، وأيضاً إذا جعلنا دليل العالمية هو صحة الإحكام وفرضنا عدم وقوع الإحكام لم يلزم منه ثبوت الجهل وعدم العالمية؛ إذ لا يلزم من عدم الإحكام عدم صحة الإحكام، بخلاف ما إذا جعلنا الدليل نفس الإحكام فإنه يلزم من عدمه العدم، ومرادهم بالصحة هنا التي بمعنى الاختيار كما مر في مسألة قادر.
وظاهر احتجاج الإمام القاسم بن محمد في (الأساس) اختيار الاستدلال بنفس الإحكام، وهو الذي رجحه الدواري في (الغياصة) فإنه قال: الأولى في الاستدلال أن يقال: قد وقع الفعل المحكم من الله تعالى فإما أن يقع على جهة الإيجاب، أو على جهة الاختيار، باطل وقوعه على جهة الإيجاب؛ لأنه يلزم منه حصول العالم دفعة، ولأنه يلزم من ذلك قدم العالم، فإذا بطل أن يكون وقوعه على جهة الإيجاب وجب أن يكون على جهة الاختيار.
قلت: وهكذا يقال في الاستدلال على كونه قادراً، وما ذكره الأولون من أن مجرد الوقوع لا يدل على كونه قادراً ولا عالماً فمدفوع بما ذكره الدواري من إبطال كونه على جهة الإيجاب.
وقولهم: لو جعلنا الدليل الوقوع نفسه للزم من عدمه عدم المدلول عليه تكلف واحتراز عن أمر مقطوع بانتفائه، فلا حاجة إلى الاحتراز عنه والهرب من لزومه.
تنبيه آخر [في صفة العالمية هل هي زائدة]
وما تقدم من الدليل المركب من القياس فإنما هو مبني على أن هذه الصفة أمر زائد على الذات.
وأما من ينفي الأحوال فاستدلوا بالعموم، وقالوا: قد ثبت أن كل من صح منه إحكام الفعل فهو عالم، وهذه القضية معلومة ضرورة عند بعضهم، ومن قال منهم إنها استدلالية قالوا: العالم من صح منه الفعل المحكم، وفسروا الصحة بعدم الاستحالة، والباري تعالى لا يستحيل منه ذلك بدليل وقوعه فيجب أن يكون عالماً.
ومن استدل على العالمية بنفس إحكام الفعل قال: كل من وقع منه الفعل المحكم فهو عالم، أو العالم من وقع منه الفعل المحكم.
نعم والقول بأن هذه الصفة أمر زائد على الذات هو الذي عليه الأكثر من المعتزلة وجماعة من الزيدية، فإنهم يذهبون إلى أن للعالم بكونه عالماً صفة زائدة على ذاته راجعة إلى الجملة في الشاهد، وإلى الحي في الغائب.
وقال أبو الحسين وابن الملاحمي: المرجع بها إلى تبين العالم للمعلوم، وهو تعلق العالم بالمعلوم، ولم يثبتا صفة زائدة على التعلق لا للباري تعالى ولا للواحد منا، إلا أن أبا الحسين سمى هذا التعلق صفة لقلب الواحد منا، وابن الملاحمي لم يجعل ذلك صفة.
قال ابن حابس: وكلامهما هو المطابق لما عليه جمهور أئمتنا وقدماؤهم من كون الصفات هي الذات.
قلت: وفي كون كلامهما مطابق لكلام الأئمة نظر يؤخذ تقريره من مسألة قادر.
وقد حقق مذهب أبي الحسين، وابن الملاحمي القرشي في (المنهاج) ومنه تعلم عدم مطابقة كلامهما لمذهب الأئمة" وتلخيص كلامه أنهما لا يثبتان للعالم حالة على الحد الذي يثبته سائر المشائخ، بل أثبتا له تعلقاً وهو التبيين، وجعله ابن الملاحمي حكماً للقلب في الشاهد، وللذات في حق الباري تعالى، والفرق بين كلامه وكلام الجمهور أنهم يثبتون حالة وتعلقاً زائداً عليها، وهو أثبت التعلق فقط وجعله حالة، واستدل على أنه حالة للقلب بأنه لا يعقل من دون القلب، ولو كان حالاً للجملة لتساوت أجزاؤها فيه كما تتساوى الأجزاء السود في السواد، والمعلوم أنا نجد هذا التبين من ناحية الصدر فقط.
وأجيب بأن كونه لا يعقل من دون القلب لا يقتضي كونه حالة له، وإلا لزم أن تكون الكتابة حالة لليد؛ إذ لا تعقل إلا بها، وأما أنَّا نجد التبين من ناحية الصدر، فمسلم لكن العالم هو الجملة كما أن قدرة الكتابة في اليد والكاتب هو الجملة، واستدل على أنه حالة لذات الباري تعالى بأنه أمر زائد على ذاته، ولا يعقل من دونها فكان حالة لها، أما أنه أمر زائد، فلأنه قد صح منه الفعل المحكم، فإما أن يصح لأنه ذات مطلقة، أو لأنه ذات مخصوصة، أو لأن ذاته تبين للأشياء.
الأول باطل وإلا لزم صحة الإحكام من كل ذات.
وأما الثاني فيقال لهم: أصَحَّ منه؛ لأنه ذات مخصوصة بكونها متبينة للأشياء أم لا؟ إن قالوا: لا، لزمهما صحة الإحكام ممن لم يتبين وهو محال.
وأما الثالث فباطل؛ لأن ذاته لو كانت تبيناً للأشياء وهذا التبين حاصل لنا لكان يلزم أن يكون مثلا لتبيننا، وأما أن التبيين لا يعقل من دون ذاته فهو ظاهر، فثبت كونه حالة لذاته تعالى، هذا ما حكاه ابن الملاحمي.
وأجيب بأن هذا الدليل هو الذي يستدل به البهشمية على إثبات الحالة، فهو موضع اتفاق، لكنهم يثبتون تعلقاً للعالم بالمعلوم غيرها وهو صحة إيجاد المعلوم من جهته محكماً، وهذا لا يمكن إنكاره.
فأما ابن الملاحمي فاستدل على أن هذا التبين حكم لا حالة بأن التعلق بين العالم، والمعلوم لا يعقل من دونهما والحالة لا يعتبر فيها الغير.
وأجيب بأنا لا نسلم أنه حكم، لكنا نستدل على الحالة بما ذكرته عن أبي الحسين.
قال القرشي: وقد استدل شيوخنا لإثبات هذه الحالة مع ما تقدم بأنه يستحيل حصول العلم بالشيء في جزء من القلب والجهل به في آخر، ولا وجه لهذه الاستحالة إلا حصوله على صفتين ضدين؛ لأن المعاني لا تتضاد إلا على المحل، واعترضه ابن الملاحمي بأنه مبني على إثبات المعاني، ويمكن أن يجاب بأنا لا نحتاج إلى ذكر المعاني، بل يكفي أن نقول: يستحيل أن يكون أحدنا عالماً بالشيء جاهلاً له، والوجه ما مر؛ إذ لو لم يكن إلا مجرد التعلق لما استحال تعلق القلب بالشيء على ما هو به وعلى ما ليس هو به، ألا ترى أن المجوز للشيء قد تعلق به على ما هو به وعلى ما ليس هو به، وليس له أن يفرق بسكون النفس؛ لأنه لا يثبته ولأنه من أحكام العلم.
قال القرشي: قال أصحابنا: ولو لم يكن إلا ما في القلب من التعلق، وفي اليد من البنية لما صح وقوع الفعل ولا إحكامه باليد لداع في القلب، كما لا يصح بيد زيد لداع في قلب عمرو.
قالوا: ولا يصح الفرق بأن اليد متصلة بالجملة؛ إذ لا حكم لذلك إلا إذا كان المؤثر راجعاً إلى الجملة، واعترضه أبو الحسين بأنه يلزم أن لا يصح الفعل المحكم باليد لحال العالم؛ لأن العالم هو الجملة دون اليد، ورد بأن الفعل المحكم وقع من الجملة باليد؛ لأنها آلة، فالفعل واقع من الجملة لحال الجملة.
خاتمة فيما يجب معرفته في هذه المسألة
وجملة القول في ذلك: أنه يجب على المكلف أن يعلم أنه تعالى عالم فيما لم يزل وفيما لا يزال، ولا يجوز خروجه عن هذه الصفة في حال من الأحوال، ودليل كونه عالماً فيما لم يزل أنه لو لم يكن عالماً فيما لم يزل ثم صار عالماً للزم أن يكون عالماً بعلم متجدد محدث وهو باطل، ودليل كونه عالماً فيما لم يزل أنه يستحق هذه الصفة لذاته، والموصوف بصفة ذاتية لا يجوز خروجه عنها بحال من الأحوال.
نعم وقد دلت الآية على أنه تعالى عالم بجميع المعلومات، وهذا مما يجب على المكلف معرفته في المسألة، وقد خالف طوائف من الناس في تعلق علمه تعالى بكل معلوم، وسيأتي ذكرهم، وإبطال مقالتهم إن شاء الله في الكلام على قوله تعالى: {إِنَّ اللَّهَ لاَ يَخْفَى عَلَيْهِ شَيْءٌ فِي الأَرْضِ وَلاَ فِي السَّمَاءِ...}الآية[آل عمران:5].
فائدة فيما يطلق عليه سبحانه وتعالى من الأسماء بمعنى كونه عالماً وما لا يجوز
فمما يجوز إجراؤه عليه: العالم، والعليم، والعلام.
قال القرشي: وفي الأخيرين مبالغة تفيد استحالة الجهل عليه، وقد يقال: إن صفات الله الذاتية لا يتصور فيها مبالغة كما مر في قدير.
ومنها: العارف. ذكره الموفق بالله والقرشي؛ إذ لا فرق بين المعرفة والعلم، ولذلك إذا أثبت بأحد اللفظين ونفي بالآخر تناقض الكلام.
قال القرشي: لكن العارف أقل استعمالاً من العالم ولا تدخله المبالغة، فلا يقال: عراف؛ لإيهامه الخطأ.
ومنها: الداري. نص عليه الموفق بالله والقرشي لما مر في عارف، قال الشاعر:
لا هم لا أدري وأنت الداري
وقال بعضهم: اللهم أنت الداري ولا أدري.
وحكي عن أبي علي القسوي أن أصله من دريت الصيد إذا توصلت إليه بحيلة، يعني فلا يصح إطلاقه على الله تعالى وهو قول الرازي؛ لامتناع الفكر والحيل عليه تعالى.
وأجيب بأنه وإن كان في الأصل كذلك فقد صار في العرف مستعملاً في العالم.
قال القرشي: وأصل الاشتقاق لا يراعى في الألفاظ إذا وقع التعارف على وجه صحيح، كالحال فإن أصله التغير والانقلاب ثم استعمل في الصفات.
وقال الراغب: الدراية المعرفة المدركة بضرب من الختل، قال: والدراية لا تستعمل في الله تعالى، وقول الشاعر:
لاهم لا أدري وأنت الداري .... فمن تعجرف أجلاف العرب.
ومنها: البصير. يقال: فلان بصير بكذا أي عالم به، ولا بد من زيادة علم يقتضي وصفه بذلك، ولذلك لا يقال: فلان بصير بالكلام إلا بعد معرفته حق معرفته، ولما كان الباري تعالى عالماً بكل شيء جاز وصفه بذلك.
قال القرشي: وإن كان قد يستعمل بمعنى كونه حياً لا آفة به، ويستعمل مبالغة في المبصر.
ومنها: الحكيم. أي العالم، قال تعالى: {وَآتَيْنَاهُ الْحِكْمَةَ}[ص:20] أي العلم، ويستعمل بمعنى المحكم أي فعل الحكمة، فيكون من صفات الأفعال، ويستعمل بمعنى المحكَم بالفتح نحو: {وَالْقُرْآنِ الْحَكِيمِ}[يس:2].
ومنها: الواجد بالجيم، حكاه القرشي عن بعض العدلية، وهو أحد الأسماء الحسنى المشتمل عليها حديث أبي هريرة، ومنه قوله تعالى: {وَوَجَدَكَ ضَالّاً فَهَدَى}[الضحى:7].
قيل: يقر حيث ورد لإيهامه الخطأ من حيث لا يطلق الوجدان إلا بعد طلب، وقال بعض شراح الحديث: معنى الواجد في حق الله تعالى أنه الذي يجد كل ما يريد ولا يفوته شيء، وقيل: هو الغني، وقيل: هو بمعنى الموجد أي الذي عنده علم كل شيء.
ومنها: الرائي. لا بمعنى المشاهدة؛ لأن الرؤية كما تستعمل حقيقة في المشاهدة تستعمل حقيقة في مطلق العلم، وعليه قوله تعالى: {أَوَلَمْ يَرَ الإِنسَانُ}[يس:77] أي ألم يعلم، ذكر هذا القرشي.
وقال الموفق بالله: الرائي في أصل اللغة يستعمل في العالم والله تعالى عالم، فيجوز وصفه به، لكن لا يجوز إطلاق القول بأنه لم يزل؛ لأنه يوهم أنه مدرك فيما لم يزل فيجب أن يقيد بما يزيل الإيهام؛ لأنه لا يجوز أن يكون مدركاً فيما لم يزل، ذكره في (الإحاطة).
ومنها: الخبير. أي العالم بكنه الشيء كالعليم، وقيل: هو العالم ببواطن الأشياء من الخبرة وهي العلم بالخفايا الباطنة، وقيل: هو المتمكن من الإخبار عما علمه، وقيل: معناه المخبر كالسميع بمعنى المسمع في نحو قوله:
أمن ريحانة الداعي السميع
ومنها: الرقيب. نحو: {كُنتَ أَنْتَ الرَّقِيبَ عَلَيْهِمْ}[المائدة:117].
قال القرشي: وقد تعورف به في العالم بتفاصيل الأحوال وإن كان أصله من الارتقاب لحال غيره، ومثله الحفيظ وإن كان يستعمل بمعنى الحافظ فيكون من صفات الأفعال.
وقال العزيزي: الرقيب هو الحفيظ الذي يراقب الأشياء ويلاحظها فلا يعزب عنه مثقال ذرة، وقال: في الحفيظ: معناه الحفيظ لجميع الموجودات من الزوال والاختلال مدة ما شاء، ويصون المتضادات بعضها عن بعض، ويحفظ على العباد أعمالهم، ويحصي عليهم أقوالهم وأفعالهم.
ومنها: الشهيد. مبالغة في الشاهد أي العالم الذي لا تخفى عليه الأسرار، ويستعمل بمعنى المدرك فيكون من بابه، ذكر هذا القرشي.
وقيل: الشهيد: العليم بظواهر الأشياء وما يمكن مشاهدته، كما أن الخبير هو العليم ببواطن الأشياء وما لا يمكن الإحساس به، وقيل: معناه أن يشهد على الخلق يوم القيامة.
ومنها: المطلع. حكاه القرشي عن بعض العدلية؛ لأنه قد تعورف به في العالم، وقيل: يقر حيث ورد لإيهامه المشاهدة من المكان المرتفع إلى المكان المنخفض.
وقال الموفق بالله: لا يوصف به حقيقة إلا إذا قيد بما يرفع الإيهام نحو المطلع على ضمائر القلوب فيجوز.
ومنها: الواسع. قيل: معناه العالم، وقيل: الغني، وقيل: المكثر من العطاء، وقيل: الجواد الذي عمت نعمته، وشملت رحمته كل بر وفاجر، وقيل: يقر حيث ورد لإيهامه الخطأ إلا أن يقيد نحو: واسع الرحمة والعطاء ونحو ذلك.
قلت:قد ورد به السمع مطلقاً عن القيد كما في حديث الأسماء الحسنى، فلا وجه لاشتراط التقييد.
هذا وأما ما لا يجوز أن يجري عليه سبحانه من الأسماء المفيدة لكون الموصوف بها عالماً.
ومنها: طبيب؛ لأنه يفيد غلبة هذه الصنعة عليه؛ إذ لا يفهم عند الإطلاق إلا ذلك، وقيل: بل يجوز إطلاقه لوروده في حديث أخرجه أبو داود، والنسائي، والترمذي بإسناد على شرط الشيخين.
ومنها: شاعر. لذلك ولأنه يفيد ضرباً من التفطن لمعاني الكلام وقوافي الشعر؛ ولأنه لا بد فيه من تجدد، فلا يستعمل إلا فيما علم بعد جهل.
ومنها: فقيه؛ لأنه لا يستعمل عرفاً إلا فيما فيه بعض غموض.
ومنها: فطن، وفهم، ولقن؛ لأنها تفيد حدوث علم له وحصوله بعد أن لم يكن؛ إذ لا يوصف بذلك إلا من أدرك معاني الكلام ومقاصده مع نوع صعوبة من فكر واستنباط.
ومنها: علامة؛ لأنه يفيد أنه يحصل له العلم بالكد والطلب، وذلك عليه تعالى محال، هكذا ذكره الموفق بالله عليه السلام .
ومنها: الراوية. نص على منعه الموفق بالله، ولعل وجهه أن الراوية قد يستعمل في من تكثر رواياته للكذب كما في (النهاية).
ومنها: المنجم، لأنه يفيد أنه يتعلم علم النجوم ويستند إليها في معرفة الأشياء.
ومنها: المتيقن، والمتحقق، والمتبصر؛ لأنه يفيد حصول العلم بعد الشك والاحتياج إلى البحث ليرتفع الشك، ولذلك لا يقال: أنا متيقن أن السماء فوقنا؛ لانتفاء الشك في ذلك.
وقال القرشي: وكذلك المتبين لذلك.
ومنها: محسّ. من الإحساس وهو العلم بالحواس الذي طريقه منها، فلا يوصف الباري تعالى بأنه محس، ولا أنه يحس الأشياء.
وقال أبو علي: لأنه يفيد حدوث علم عند أو الإدراك، ولذلك إنه عندما يستشعر دخول داخل في الدار مثلاً يوصف بأنه أحس بدخوله وإن لم يكن قد أدركه، فدل على أنه يستعمل في العلم الحادث الذي يتعقبه الإدراك، هكذا ذكره الموفق بالله عن أبي علي، ومقصوده أن الإحساس في حق الله بهذا المعنى ممتنع؛ لأن علمه تعالى بالأشياء مستمر.
وقال أبو هاشم: بل لا يوصف به؛ لأنه يفيد إدراكه للأشياء بالحاسة.
ومنها: المشاهد. ذكره الموفق بالله قال: لأنه يفيد القرب، وحكى أنه يقال: شاهد الأعمى الأمر إذا قرب.
ومنها: حاذق؛ لأنه يفيد نوع معالجة؛ ولأنه في الأصل اسم للقاطع، يقال: سكين حاذق، وخل حاذق أي قاطع، فكأن العالم بالشيء قطعه بعلمه، فسمي حاذقاً، وذلك لا يجوز على الباري تعالى.
ومنها: الذكي. إذ لا يستعمل إلا في ذي قلب سريع التلقن.
ومنها: الحافظ. بمعنى العالم لإيهامه حفظ الدرس بخلاف الحفيظ كما مر.
ومنها: العاقل. لأن العقل إنما سمي عقلاً لمنعه صاحبه عما تنزع إليه نفسه، مأخوذ من عقال الناقة والمنع مستحيل على الله تعالى.
ومنها: المعتقد. لأنه مأخوذ من عقد الخيط، كأن المعتقد يعقد قلبه على شيء.
ومنها: المحيط. وقد مر الكلا عليه.
ومنها: ساكن النفس. لإيهامه السكون المعاقب للحركة؛ ولأنه مجاز.
ومنها: المتعجب؛ لأنه يفيد حصول العلم للإنسان بما لم يكن عالماً به مما لم تجرِ به العادة وفيه غرابة.
ومنها: المحصي. ذكره الموفق بالله قال: لأنه يفيد أن علمه بالشيء من طريق العدد، وذلك محال عليه تعالى.
قلت: وفيه نظر، فقد ورد به السمع كما في حديث أبي هريرة، وقال تعالى: {وَأَحَاطَ بِمَا لَدَيْهِمْ وَأَحْصَى كُلَّ شَيْءٍ عَدَداً}[الجن:28] وما استند إليه من أنه يوهم أن علمه بالشيء من طريق العدد ممنوع لقيام الدليل العقلي القاطع على دفع هذا الإيهام، ولو منعنا كل ما فيه إيهام للزم منع نحو: قادر وعالم؛ إذ لا تخلو عن إيهام، وقد نبهنا على هذا فيما مر.
إذا عرفت هذا فنقول: استعمال المحصي في حق الله تعالى مجاز، ومعناه أنه العالم الذي يحصي المعلومات ويحيط بها كإحاطة العاد بما يعده.
وقيل: معناه القادر الذي لا يشذ عنه شيء من المقدورات.
قال القرشي: وأما الغم، والندم، والأسف، والحسرة ونحو ذلك فلا شبهة في امتناع إجرائها عليه تعالى؛ لأنها تفيد اعتقاداً مخصوصاً فيما يرجع إلى فوات النفع، أو وقوع الضرر وهو مستحيل عليه تعالى، وقوله تعالى: {يَاحَسْرَةً عَلَى الْعِبَادِ}[يس:30] مجاز، وقيل: معناه أن أفعالهم تصير حسرة عليهم، وقوله: {فَلَمَّا آسَفُونَا}[الزخرف:55] مجاز، وقيل: معنى آسفوا أولياءنا.
فائدة [في القدرة والعلم الحقيقيين]
ذكر السيد أحمد بن محمد الشرفي في (شرح الأساس) أنه لا يوصف بأنه قادر حقيقة ولا عالم حقيقة إلا الله؛ لأنه جل وعلا قادر لا بقدرة وعالم لا بعلم، وغيره قادر وعالم بقدرة وعلم مجعولين له، فهو في الحقيقة مقدر ومعلم.
وظاهر كلامه أن هذا مذهب الأئمة" قال: واعترضه بعضهم بأن المعلوم أن قولنا: زيد قادر وعالم حقيقة لغوية كضارب وقاتل مع أنه يلزم من القول بأنه مجاز الجبر، وأجاب بأن المعلوم أن معنى قولنا: زيد قادر وعالم أنه قادر وعالم بقدرة وعلم خلقهما الله، والمعلوم أنه لا يشتق اسم الفاعل إلا من الفعل الذي فعله المشتق له، فإن فعله به غيره اشتق له اسم مفعول، وإذا ثبت ذلك وجب أن يكون القادر العالم منا مقدر ومعلم في الحقيقة؛ لأن القدرة والعلم مخلوقان له ومجعولان فيه، فيكون استعمال قادر وعالم فينا مجاز، لكن لما كنا محلاً للقدرة والعلم ساغ بإذن الشرع إطلاق قادر وعالم على الواحد منا مجازاً كما يقال: التراب منبت للبقل، والمنبت حقيقة هو الله تعالى، ولا يلزم الجبر؛ لأن القدرة غير موجبة للمقدور، وليس كذلك ضارب وقاتل فإنهما حقيقة؛ لأنا الفاعلون للضرب والقتل، والاشتقاق وقع في فعلنا.
فإن قيل: استعمال قادر وعالم في المخلوق من دون قرينة دليل كونهما حقيقة.
قلنا: العقل أقوى قرينة، ولا يشترط في كل مجاز أن تكون قرينته لفظية بإجماع أهل اللغة ولذا قالوا: سال الوادي، وجرى الميزاب ونحو ذلك.
قال: ثم نقول: هل تقول إن اسم قادر في الخالق والمخلوق على سواء أم لا؟ إن كان الأول لزم الكفر؛ لأن الله تعالى قادر لا باعتبار غيره والمخلوق قادر باعتبار غيره، وإن كان الثاني فهو الذي نقول، وكذلك عالم.
المسألة الثانية عشرة [شبهة خلق أفعال العباد في الآية]
قال الرازي: في الآية دليل على أن أفعال العباد مخلوقة لله تعالى؛ لأنه بين أن الخالق للشيء على سبيل التقدير والتحديد لا بد وأن يكون عالماً به وبتفاصيله؛ لأنه قد خصصه بقدر دون قدر، وذلك لا يكون إلا بإرادة، وإلا فقد حصل الرجحان من دون مرجح، والإرادة مشروطة بالعلم، فثبت أن خالق الشيء لا بد وأن يكون عالماً به على سبيل التفصيل، فلو كان العبد موجداً لأفعاله لكان عالماً بها تفصيلاً، فلما لم يحصل هذا العلم علمنا أنه غير موجد لها.
والجواب: أن هذه الشبهة قد مرت ومر جوابها في الثالثة من مسائل الاستعاذة.
المسألة الثالثة عشرة [في أن الله عالم بذاته]
حكى الرازي عن المعتزلة أنهم قالوا: إذا جمعت بين هذه الآية وبين قوله تعالى: {وَفَوْقَ كُلِّ ذِي عِلْمٍ عَلِيمٌ}[يوسف:76] ظهر أنه عالم بذاته، وأجاب بأن قوله: {وَفَوْقَ كُلِّ ذِي عِلْمٍ عَلِيمٌ} عام، وقوله: {أَنزَلَهُ بِعِلْمِهِ}[النساء:166] خاص، والخاص مقدم على العام.
قلت: والكلام على هذه المسألة سيأتي مستوفى في موضع غير هذا إن شاء الله، وقد قيل: إن معنى قوله تعالى: {أَنزَلَهُ بِعِلْمِهِ}[النساء:166] أنزله وهو يعلمه، وتأويلها متعين لظهور فساد القول بإثبات المعاني. والله الموفق.
[البقرة: 30]
قوله تعالى:{وَإِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلاَئِكَةِ إِنّي جَاعِلٌ فِي الأَرْضِ خَلِيفَةً قَالُوا أَتَجْعَلُ فِيهَا مَنْ يُفْسِدُ فِيهَا وَيَسْفِكُ الدِّمَاءَ وَنَحْنُ نُسَبِّحُ بِحَمْدِكَ وَنُقَدِّسُ لَكَ قَالَ إِنّي أَعْلَمُ مَا لاَ تَعْلَمُونَ}[البقرة:30].
الملائكة: جمع ملاك على الأصل، واستعمال الواحد بحذف الهمزة أكثر وأشهر في كلام العرب، وقيل: الملك مأخوذ من الملك وهو القوة ولا حذف فيه، وجمعه على فعائلة شذوذاً، وقيل غير ذلك.
والخليفة: من يخلف غيره، وقال الرازي: الخلافة النيابة عن الغير إما لغيبة المنوب عنه، أو لموته، أو لعجزه، أو لتشريف المستخلف، وعلى هذا الوجه الآخر استخلف الله أولياءه، وقرئ: خليقة بالقاف.
والسفك: الصب والإراقة، ولا يستعمل إلا في الدم، وفي الآية مسائل:
المسألة الأولى في حقيقة الملائكة
فالذي عليه أكثر المسلمين أنهم أجسام لطاف، وليسوا من لحم ودم وعظام كما خلق البشر من هذه الأشياء، وقال أبو حفص المعوِّد القرينسي من المعتزلة: بل هم كالبشر وإنما لم يروا لبعد المسافة بيننا وبينهم، وتبعه على ذلك جماعة من معتزلة ما وراء النهر.
قلنا: قد نطق القرآن بقربهم منا قال تعالى: {وَرُسُلُنَا لَدَيْهِمْ يَكْتُبُونَ}[الزخرف:80] ونحوه، فلو كانوا أجساماً كثيفة لرأيناهم.
وقال بعض عباد الأوثان: ليس الملائكة إلا هذه الكواكب الموصوفة بالإسعاد والإنحاس؛ لأنها عندهم أحياء ناطقة، فالمسعدات ملائكة الرحمة، والمنحسات ملائكة العذاب.
وقال معظم المجوس والثنوية: إن أصل العالم مركب من أصلين أزليين وهما النور والظلمة، وهما جوهران شفافان، مختاران قادران، أحدهما وهو النور خيِّر كريم لا يقع منه إلا النفع، والثاني وهو الظلمة على الضد من ذلك، ثم إن جوهر النور لم يزل يولد الأولياء وهم الملائكة لا على سبيل التناكح بل كتولد الحكمة من الحكيم، والضوء من المضيء، وجوهر الظلمة لم يزل يولد الأعداء وهم الشياطين على سبيل تولد السفه من السفيه.
وقالت طائفة من النصارى: إن الملائكة هي الأنفس الناطقة المفارقة لأبدانها على نعت الصفاء والخيرية؛ لأن هذه النفوس عندهم إن كانت صافية خالصة فهي الملائكة، وإن كانت خبيثة كدرة فهي الشياطين.
وقالت الفلاسفة: هي جواهر قائمة بأنفسها ليست بمتحيزة، وماهيتها مخالفة لأنواع النفوس الناطقة البشرية، وهي أكمل منها قوة وعلماً، قالوا: وهي للنفوس البشرية جارية مجرى الشمس بالنسبة إلى الأضواء، ثم هذه الجواهر منها ما هو بالنسبة إلى الكواكب والأفلاك كنفوسنا الناطقة بالنسبة إلى أبداننا، ومنها ما هو مستغرق في معرفة الله وطاعته، ولا تعلق لها بشيء من تدبير الفلك، وهؤلاء هم المقربون، ونسبتهم إلى الملائكة المدبرين للسماوات كنسبة أولئك إلى نفوسنا الناطقة، وهذان القسمان قد اتفقت الفلاسفة على إثباتهما، ومنهم من أثبت أنواعاً ومراتب أخر.
وحاصل الكلام في ذلك عندهم أنهم أثبتوا الملائكة والجن والشياطين أشياء موجودات غير متحيزة ولا حالة في المتحيز، بل هي مجردة عن الجسمية، ثم هذه الموجودات قد تكون عالية مقدسة عن تدبير الأجسام، وهم مراتب أشرفها حملة العرش، ثم الحافون حول العرش، ثم ملائكة الكرسي، ثم ملائكة السماوات طبقة طبقة، ثم ملائكة كرة الأثير، ثم ملائكة كرة الهواء الذي هو في طبع النسيم، ثم ملائكة كرة الزمهرير، ثم الأرواح المتعلقة بالبحار، ثم الأرواح المتعلقة بالجبال، ثم الأرواح السفلية المتصرفة في الأجسام النباتية والحيوانية.
قلت: والظاهر أن الجن والشياطين داخلون في الأرواح المتعلقة بالبحار ومن بعدهم، وإن كان منها خيرة سعيدة فهم المسمون بصالحي الجن، وما كان منها شريرة كدرة فهم الشياطين.
فهذا ما وقفنا عليه من أقوال الناس في بيان ماهية الملائكة" وكلها باطلة ما عدا الأول منها، أما الثاني فقد مر إبطاله، وأما سائرها فلا دليل عليها، وسيأتي إن شاء الله الرد عليهم مفصلاً عند الكلام على هذه الأجناس التي ادعوها.
فرع: ولا خلاف بين المسلمين في حدوث الملائكة" وهو قول غيرهم من أهل الملل، والخلاف في ذلك للفلاسفة القائلين بأنهم العقول المفارقة، فإنهم يذهبون إلى قدمهم، حكاه عنهم ابن أبي الحديد، وهو مبني على أنها ليست بمتحيزة ولا حالة في المتحيز وهو باطل؛ إذ العالم بأمره لا يكون إلا متحيزاً أو حالاً في متحيز، وقد أشرنا إلى هذا في الفاتحة.
المسألة الثانية [الدليل على وجود ا لملائكة]
ذهب بعضهم إلى أنه لا دليل على وجود الملائكة إلا من جهة السمع، وهذا هو الظاهر من كلام علماء الإسلام، فإني لم أجد عن أحد منهم خلافاً في ذلك.
وذهبت الفلاسفة إلى أن العقل يدرك ثبوتهم، ومن جملة أدلتهم على ذلك أنه قد ثبت أن الملك هو الحي الناطق الذي لا يكون ميتاً، والقسمة العقلية تقتضي وجود أقسام ثلاثة وهي: أن الحي إما أن يكون ناطقاً ميتاً وهو الإنسان، أو ميتاً فقط وهو البهائم، أو ناطقاً ولا يكون ميتاً وهو الملك وهو أشرف المراتب، والإنسان أوسطها، والبهائم لكونها ميتة فقط أخسها، فإذا اقتضت الحكمة الإلهية إيجاد الأخس السافل كان اقتضاؤها لإيجاد الأشرف العالي بالأولى.
والجواب: أنا لا نسلم أن الحكمة إذا اقتضت إيجاد السافل كان اقتضاؤها لإيجاد العالي بالأولى لجواز أن لا يكون في إيجاد العالي مصلحة.
احتجوا ثانياً بأن المعلوم أن عالم السماوات أشرف من العالم السفلي، وأن الحياة والعقل والنطق أشرف من أضدادها، ومن البعيد حصول هذه الخصال في العالم السفلي ولا يحصل في العالم العلوي.
والجواب: أنه لا بعد في ذلك لما مر، ثم إن هذه الحجة لا تدل إلا على استبعاد عدم الوجود، ومجرد الاستبعاد لا يدل على الثبوت.
المسألة الثالثة [التشاور مع ذوي العلم والمعرفة]
قيل: في الآية دليل على أنه ينبغي مشاورة ذوي الأقدار، والأحلام، وأرباب المعرفة وإن كان من يشاورهم أوفر منهم عقلاً وأكمل معرفة، وأنه لا ينبغي كتم الأمور العامة ونحوها عنهم؛ لأن الله تعالى اعتبر بالملائكة" مع علمه بالمصالح وحقائق الأمور، وقد صرح الله بهذا الحكم في قوله تعالى: {وَشَاوِرْهُمْ فِي الأَمْرِ}[آل عمران:159].
المسألة الرابعة [في أن الكبائر لا تجوز على الملائكة]
ذهبت الحشوية إلى أن الكبائر تجوز على الملائكة، وخالفهم في ذلك العدلية جميعاً، وحكاه الرازي عن الجمهور، ولفظهُ: الجمهور الأعظم علماء الدين، اتفقوا على عصمة كل الملائكة" عن جميع الذنوب، ومن الحشوية من خالف في ذلك.
احتج الجمهور بآيات منها قوله تعالى: {وَجَعَلُوا الْمَلاَئِكَةَ الَّذِينَ هُمْ عِبَادُ الرَّحْمَنِ إِنَاثا}[الزخرف:19] قال سبحانه في الرد عليهم: {بَلْ عِبَادٌ مُكْرَمُونَ، لاَ يَسْبِقُونَهُ بِالْقَوْلِ وَهُمْ بِأَمْرِهِ يَعْمَلُونَ}[الأنبياء:26،27] وقوله تعالى: {يَخَافُونَ رَبَّهُمْ مِنْ فَوْقِهِمْ وَيَفْعَلُونَ مَا يُؤْمَرُونَ}[النحل:50] وهاتان الآيتان عامتان لأصناف الملائكة ولجميع الأزمان، وفيهما دلالة على العصمة من الكبائر والصغائر، وقد نص على عصمتهم من الصغائر الإمام المهدي لعموم الدليل.
ومن أدلة الجمهور قول علي عليه السلام في وصف الملائكة عليه السلام : (لا ينتحلون ما ظهر في الخلق من صنعه، ولا يدعون أنهم يخلقون شيئاً معه مما انفرد به...إلى أن قال: وعصمهم من ريب الشبهات، فما منهم زائغ عن سبيل مرضاته...إلى أن قال: ولم يختلفوا في ربهم باستحواذ الشيطان عليهم، ولم يفرقهم سوء التقاطع، ولا تولاهم على التحاسد، ولا تشعبتهم مصارف الريب، ولا اقتسمتهم أخياف الهمم، فهم أسراء إيمان لم يكفهم من ربقته زيغ ولا عدول ولا ونى ولا فتور). رواه في (النهج) من كلام طويل كله يؤدي هذا المعنى، وفي (النهج) أيضاً عنه عليه السلام مما يدل على عصمتهم كلام كثير.
احتج الخصم بشبه منها هذه الآية التي نحن بصددها، وقال: هي تدل على صدور الذنب عنهم؛ لأنهم اعترضوا على الله تعالى وطعنوا في بني آدم وذلك غيبة، ومدحوا أنفسهم بقولهم: {وَنَحْنُ نُسَبِّحُ بِحَمْدِكَ وَنُقَدِّسُ لَكَ}[البقرة:30] ومدح النفس قبيح.
قلنا: لا نسلم أنهم اعترضوا على الله، ودليل عصمتهم يمنع من حمل سؤالهم على ذلك ويوجب تأويله، وفيه وجوه:
أحدها: أن الإنسان إذا رأى حكيماً يفعل فعلاً لا يقف على وجه الحكمة فيه فإنه يستفهم عن ذلك متعجباً مع قطعه بأن ذلك الحكيم لا يفعل إلا لحكمة، فكذلك يقال في الملائكة، وإلى هذا ذهب المرتضى فإنه نص على أن سؤالهم كان استفهاماً لا شكاً في أمر الله، وذلك بعد أن كان قد أخبرهم الله تعالى بما يكون من بني آدم من الفساد وسفك الدماء.
الثاني: أن إيراد الإشكال طلباً للجواب لا محذور فيه، فكأنهم قالوا: أنت الحكيم الذي لا يفعل القبيح وتمكين السفيه من القبيح قبيح من الحكيم فكيف يمكن الجمع بين الأمرين، فكأن الملائكة أوردوا السؤال طلباً للجواب.
الثالث: أن الخير في خلق بني آدم غالب على الشر، والحكيم لا يترك الخير الكثير لأجل الشر القليل، والملائكة نظروا إلى ما يحصل منهم من الشرور فأجابهم الله تعالى بأنه يعلم من الخير الكثير الحاصل منهم ما لا يعلمه الملائكة، وهذا جواب الحكماء والأولان للعدلية.
الرابع: أن جوابهم كان على جهة المبالغة في إعظام الله تعالى، فإن العبد المخلص لشدة حبه لمولاه يكره أن يكون له عبد يعصيه.
الخامس: أن ذلك مسألة منهم أن يجعل الأرض لهم أو بعضها إن كان ذلك صلاحاً؛ فكأنهم قالوا: اجعل الأرض لنا لا لهم، كما قال موسى عليه السلام : {أَتُهْلِكُنَا بِمَا فَعَلَ السُّفَهَاءُ مِنَّا}[الأعراف:155] أي لا تهلكنا، فأجابهم الله بأنه يعلم من صلاح الفريقين ما لا يعلمه الملائكة، وأن المصلحة للملائكة في إسكانهم السماء، ولبني آدم في إسكانهم الأرض.
السادس: أن هذا الاستفهام خارج مخرج الإيجاب كقول جرير:
ألستم خير من ركب المطايا
أي أنتم وإلا لم يكن مدحاً، فكأنهم قالوا: أنت تفعل ذلك ونحن مع هذا نسبحك ونقدسك؛ لأنا نعلم أنك لا تفعل إلا الصواب والحكمة فقال تعالى: {إِنِّي أَعْلَمُ مَا لاَ تَعْلَمُونَ}[البقرة:30] فأنتم علمتم ظاهرهم وهو الفساد والقتل، وأنا علمت ظاهرهم وما في باطنهم من الأسرار الخفية التي تقتضي إيجادهم.
وأما قولكم: إنهم طعنوا على بني آدم.
فالجواب: أن من أراد إيراد سؤال وجب أن يذكر موضع الإشكال، وموضع الإشكال إنما هو إقدام بني آدم على الفساد والقتل دون غيرهما فلذلك تعرضوا لذكرهما ولم يقصدوا الغيبة.
وأما مدح النفس فليس ممنوعاً مطلقاً كما مر في الفاتحة.
المسألة الخامسة [دلالة الآية على مذهب العدلية]
هذه الآية تدل على العدل ونسبة أفعال العباد إليهم من وجوه:
أحدها: أنهم أضافوا الفساد وسفك الدماء إلى المخلوقين لا إلى الخالق.
الثاني: أنهم نسبوا التسبيح والتقديس إلى أنفسهم وتمدحوا به، ولو كان الله هو الفاعل لذلك لم يحسن التمدح به، ومعنى: {نُسَبِّحُ بِحَمْدِكَ}[البقرة:30]: أنا ننزهك عن مشابهة خلقك، وعن نسبة القبائح إليك، ونثني عليك بذلك ونصفك به، ومعنى {وَنُقَدِّسُ لَكَ} أنا نطهرك من نسبة ذلك إليك وهو كالتأكيد للأول، وقيل: التسبيح والتقديس الصلاة، وهو مروي عن قتادة.
وأخرج ابن جرير عن ابن مسعود وناس من الصحابة في قوله: {وَنُقَدِّسُ لَكَ} قال: نصلي لك.
وعن مجاهد في قوله: {نُسَبِّحُ بِحَمْدِكَ وَنُقَدِّسُ لَكَ}[البقرة:30] قال: نعظمك ونكبرك، وعنه: نطهر أنفسنا من ذنوبنا وخطايانا ابتغاء لمرضاتك، وقيل: نصفك بما يليق بك.
وقال أبو مسلم: نطهر أنفسنا من ذنوبنا حتى تكون خالصة لك.
الوجه الثالث: لو كان الفساد والقتل فعلاً لله تعالى لوجب أن يكون الجواب: أَني مالك أفعل ما أشاء، أو نعم خلقهم للفساد والقتل.
الرابع: أن قوله: {إِنّي أَعْلَمُ مَا لاَ تَعْلَمُونَ}[البقرة:30] يقتضي التبري من فعل الفساد والقتل؛ لأن الملائكة لما قالوا: {أَتَجْعَلُ فِيهَا مَنْ يُفْسِدُ فِيهَا}[البقرة:30]، أجاب بأنه يعلم من المصلحة ما لا يعلمونه، فكأنه قال: لم أخلقهم لذلك بل خلقتهم لمصلحة لا تعلمونها وهي ما يخرج من ذرية آدم من المطيعين. ذكره الهادي والمرتضى.
قال الهادي: منهم من لولاه ما خلقته ولا خلقت الدنيا محمد -صلى الله عليه وآله- السراج المنير، البشير النذير.
وقيل: إن إبليس كان أميراً على ملائكة السماء الدنيا فاستكبر، وفي رواية: إن الجن لما سفكوا الدماء وأفسدوا، فأرسل الله عليهم إبليس في جند من الملائكة فقتلوهم وطردوهم اغتر إبليس وداخله العجب، فلما علم الله منه ما علمه من المعصية قال: {إِنِّي جَاعِلٌ فِي الأَرْضِ خَلِيفَةً}[البقرة:30] وأخبر الملائكة بما يقع منهم، فقالوا: {أَتَجْعَلُ فِيهَا مَنْ يُفْسِدُ فِيهَا وَيَسْفِكُ الدِّمَاءَ}[البقرة:30] فقال: {إِنِّي أَعْلَمُ مَا لاَ تَعْلَمُونَ}[البقرة:30]، من كبر إبليس واغتراره هذا حاصل الروايات وهي مبسوطة في (الدر المنثور): وأي القولين كان هو المراد، فقوله: {إِنِّي أَعْلَمُ مَا لاَ تَعْلَمُونَ}[البقرة:30] يقتضي التبري من فعل الفساد، وأنه إنما خلقهم لما يخرج منهم من أهل الصلاح، أو لأجل ما علمه من معصية إبليس، وكان خلقه إياهم كالعقوبة للشيطان. والله أعلم.
الوجه الخامس: لو كان الفساد والقتل فعلاً لله لكان جارياً مجرى صورهم وألوانهم في عدم صحة التعجب منه.
المسألة السادسة [في المصلحة المفسدة]
دلت الآية على أن المصلحة لا تبطل إذا لزم من وجودها مفسدة مرجوحة؛ لأن الله تعالى قد علم بما يقع من بني آدم من الفساد وسفك الدماء، ولم يكن ذلك مانعاً من إيجادهم لما علمه من المصلحة الحاصلة من الإيجاد.
فإن قيل: إنما يصح الاستدلال بالآية لو ثبت أن المفسدة اللازمة من إيجادهم مرجوحة بالنظر إلى المصلحة الحاصلة منه، وهذا دليل عليه لاحتمال رجحان المفسدة أو مساواتها للمصلحة.
قيل: إيهام تلك المصلحة، واختصاص الله تعالى بالعلم بها دليل على عظم أمرها وفخامة شأنها، وذلك يقتضي رجحانها، وهذا الحكم متفق عليه -أعني كون المصلحة لا تبطل بلزوم مفسدة مرجوحة- وأما إذا لزم من وجود المصلحة مفسدة راجحة عليها أو مساوية لها فقد اختلف في اعتبار المصلحة وعدمه حينئذ، فقال الجمهور ببطلان المصلحة وعدم اعتبارها؛ لقضاء العقل بأن لا مصلحة مع مفسدة مثلها أو زائدة عليها ضرورة، ولذلك لو قيل لعاقل: بع هذا بربح مثلما تخسر أو أقل منه لم يقبل ويعلل بأنه لا ربح حينئذٍ، ولو فعل لم يعد عاقلاً، ولهذا يقال: درء المفاسد مقدم على جلب المصالح.
وقال الرازي: لا تبطل، وهو مروي عن البيضاوي لصحة الصلاة في الدار المغصوبة مع كون المصلحة المقتضية لها معارضة بمفسدة التحريم، والمصلحة لا تزيد على المفسدة وإلا لما حرمت للقطع والإجماع على أن ما يشتمل على مصلحة راجحة لا يحرم، بل ربما يجب فيجب كون المفسدة تساويها وتزيد عليها، فلو انخرمت المصلحة بذلك لما صحت الصلاة.
والجواب: أنا لا نسلم صحة الصلاة، سلمنا فالكلام في مصلحة ومفسدة لشيء واحد، ومفسدة الغصب لم تنشأ من الصلاة، فإنه لو شغل المكان من غير أن يصلي لأثم، وكذلك مصلحة الصلاة لم تنشأ من الغصب، فإنه لو أداها في غير المغصوب لصحت.
قيل: والخلاف لفظي؛ لأنه يرجع إلى أن هذه المصلحة هل تبقى مع المفسدة أم لا مع الاتفاق على انتفاء الحكم؟
فالجمهور قالوا: عدم لزوم المفسدة شرط في كونها مصلحة، فإذا وجدت المفسدة الراجحة أو المساوية عدم المقتضي للحكم فيجب انتفاء الحكم لانتفاء مقتضيه، والرازي يقول: انتفاء الحكم ليس لعدم المقتضى؛ بل لوجود مانع، فلزوم المفسدة عنده مانع.
فإن قيل: كيف وقع الاتفاق على الاعتبار عند رجحان المصلحة ولم يقع على الإلغاء عند رجحان المفسدة؟
قيل: لشدة اهتمام الشارع برعاية المصالح وبناء الأحكام عليها.
فائدة [في ترجيح المصلحة]
وترجح المصلحة على المفسدة يكون إما بطريق إجمالي شامل لجميع المسائل وهو أن المصلحة لو لم تكن راجحة لما ثبت الحكم؛ إذ لو ثبت من دونها لزم أن يكون الحكم قد ثبت لا لمصلحة وهو باطل؛ إذ فيه التعبد بالتحكم ، وإما بطريق تفصيلي وهو يختلف باختلاف المسائل، ومنه ترجح المصلحة الدينية على المفسدة الحاجية والضرورية [......] على المفسدة الحاجية إلى غير ذلك.
[البقرة:31-33]
قوله تعالى: {وَعَلَّمَ آدَمَ الأَسْمَاءَ كُلَّهَا ثُمَّ عَرَضَهُمْ عَلَى الْمَلاَئِكَةِ فَقَالَ أَنْبِئُونِي بِأَسْمَاءِ هَؤُلاَء إِنْ كُنتُمْ صَادِقِينَ ، قَالُوا سُبْحَانَكَ لاَ عِلْمَ لَنَا إِلاَّ مَا عَلَّمْتَنَا إِنَّكَ أَنْتَ الْعَلِيمُ الْحَكِيمُ، قَالَ يَاآدَمُ أَنْبِئْهُمْ بِأَسْمَائِهِمْ فَلَمَّا أَنْبَأَهُمْ بِأَسْمَائِهِمْ قَالَ أَلَمْ أَقُلْ لَكُمْ إِنّي أَعْلَمُ غَيْبَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَأَعْلَمُ مَا تُبْدُونَ وَمَا كُنتُمْ تَكْتُمُونَ}.
وفي هذه الجملة مسائل:
المسألة الأولى [في ثبوت العلم]
دلت هذه الجملة على ثبوت العلم، ووجه دلالتها: أن الله تعالى أخبر بأنه علّم آدم وأن العلم حصل لا بدليل قوله: {أَنْبِئْهُمْ بِأَسْمَائِهِمْ}، ودلت أيضاً على أنه يصح العلم بالأشياء وأن للأشياء حقائق يصح العلم بها ودلالتها على ذلك ظاهرة، وهذا قول الأكثر، والخلاف في ذلك لأهل السفسطة والعنود فقالوا: لا يصح العلم بشيء؛ إذ لا علم عندهم ولا حقيقة لشيء من الأشياء، وهو قول مخالف للضرورة، ومن ثم اختلف أصحابنا في صحة مناظرتهم، فقال أبو القاسم والقرشي: لا يناظرون لإنكارهم الضرورة؛ إذ ما جحدوه هو الذي ينتهي إليه المتناظران، وإذا وقع معهم ما يجري مجرى المناظرة فليس المراد به إلا بيان كذبهم.
ومما يجري مجرى المناظرة معهم أن يقال:أبعلم قلتم: أن لا علم ولا حقيقة لشيء، فإن قالوا: نعم، تركوا مذهبهم، وإن قالوا: لا، لم يستحقوا جواباً؛ إذ لا مستند لهم حتى يناقض ويعارض، وإنما يسألون عن مستند قولهم فيقال: لم قلتم ذلك؟ ولم لا تجوزون خلافه؟
فإن قالوا: نحن نجوز ذلك.
قلنا: فهل تعلمون ذلك الجواز أم لا؟ ثم يعود الكلام ويقال لهم أيضاً: بم تجتنبون الضرر وتتبعون النفع؟ وكيف ميزتم بين ذلك؟
فإن قالوا: بالظن.
قلنا: أتعلمون أنكم تظنون؟ وهل تعلمون الفصل بين العلم والظن؟
فإن قالوا: نعم، تركوا مذهبهم، وإن قالوا: لا، عاد الكلام.
وقال أبو علي، وأبو هاشم: بل تصح مناظرتهم؛ لأنهم إنما أنكروا كون اعتقادهم علماً، والعلم بكون الاعتقاد علماً مكتسب لا ضروري.
وقال قاضي القضاة: إن أنكروا كون الضروري علماً لم يناظروا؛ إذ العلم به ضروري، بل يعارضون ويناقضون كما مر، وإن أنكروا الاستدلال نوظروا؛ إذ العلم به استدلالي.
هذا ولم أقف للسوفسطائية على شبهة إلا ما يقع من الغلط في المناظرة وكون العقلاء يتخيلون الأشياء على خلاف حقيقتها كالسراب ماءً، وحبة العنب في الماء ترى كالأجاصة ونحو ذلك.
والجواب: أن هذه الشبهة إنما تتأتى على القول بأن للأشياء حقائق يقع اللبس في بعضها، وأما على قولهم فلا تصح.
قال القرشي: وعندنا أن ذلك اللبس لأمر يرفع إلى الأشعة ومجاورة أجزاء بعض المرئيات لبعض، ثم نقول لهم: هل تعلمون أن العنبة أصغر من الأجاصة، وأن السراب ليس بماء؟
فإن قالوا: نعم. بطل مذهبهم، وإن قالوا: لا. تركوا شبهتهم.
نعم وحكى القرشي أن منهم فرقة تسمى الاّدرية؛ لأنهم يقولون في كل شيء: لا ندري، وهؤلاء يقال لهم: هل تعلمون أنكم لا تدرون؟ وأن قولكم لا ندري يطابق مذهبكم؟ وهل تعلمون الفصل بين لا ونعم؟
المسألة الثانية في أقوال الناس في حد العلم
وقد اختلف في ذلك، فقال السيد حميدان، والإمام يحيى، والرازي، والطوسي، والغزالي، والجويني: لا يحد، وهو قول البغدادية، ورواه السيد حميدان عن أئمتنا، ثم اختلف هؤلاء في الوجه: فقال الرازي وهو ظاهر ما في (شرح الغاية) عن الإمام يحيى والطوسي: إنما لم يحد؛ لأنه ضروري جلي، والحد إنما يؤتى به لتبيين المحدود وتوضيحه، وتوضيح الواضح محال، وهذا قول البغدادية.
ويفهم من كلام السيد حميدان فإنه قال: إنه أبين من أن يفسر، واحتجوا بوجهين:
أحدهما: أن كل أحد يعلم بالضرورة وجود نفسه، وهذا علم خاص لتعليقه بمعلوم خاص، فالعلم جزء منه؛ لأنه مطلق والمطلق ذاتي للمقيد، والعلم بالجزء سابق على العلم بالكل لتوقف حصول الكل على حصول جزئه ضرورة، والسابق على الضروري أولى بأن يكون ضرورياً.
وأجيب بأن الضروري إنما هو حصول العلم للعالم وهو غير المتنازع فيه، فإن المتنازع فيه هو حد العلم وتصوره، ونحن لا ننكر حصوله العلم ووجوده للعالم ضرورة، لكن لا يلزم من حصول العلم بحقيقته؛ إذ حصوله ليس نفس تصوره ولا مستلزماً لتصوره بدليل أنها تحصل لنا علوم جزئية بمعلومات مخصوصة، ولا نتصور أشياء من تلك العلوم مع كونها حاصلة لنا، بل نحتاج في تصورها إلى توجه مستأنف إليها، فلا يكون حصولها نفس تصورها ولا مستلزماً له، وإذا لم يكن العلم الجزئي متصوراً فلا يلزم تصور العلم المطلق أصلاً فضلاً عن أن يكون تصوره ضرورياً، ولو سلم أن الحصول هو التصور أو مستلزماً له فإنما يتم إذا كان العلم ذاتياً لما تحته وكان شيء من إفراده متصوراً بالكنه بديهية وهما ممنوعان، أما الأول فلأنه ليس بمجزوم به لتعسر الاطلاع على الذاتيات في أكثر الأشياء، وأما الثاني فلأن التصديق بأنه موجود لا يستدعي تصور بعض أفراد العلم بالكنه، كما لا يستدعي تصور بعض أفراد شيء من أطرافه بالكنه، هكذا حرر أصحابنا وغيرهم هذا الوجه وجوابه.
وهو جواب مفيد على هذا التحرير، لكن الرازي أورده في التفسير على وجه آخر وهو: أن كل أحد يعلم بالضرورة أنه يعلم وجود نفسه، وأنه يعلم أنه ليس على السماء ولا في لجة البحر، والعلم الضروري بكونه عالماً بهذه الأشياء علم باتصاف ذاته بهذه العلوم، والعالم بانتساب شيء إلى شيء عالم لا محالة بكلا الطرفين، قال: فلما كان العلم الضروري بهذه المنسوبية حاصلاً كان العلم الضروري بماهية العلم حاصلاً، وإذا كان كذلك كان تعريفه ممتنعاً.
وحاصل كلامه أن العلم بالنسبة الذي هو التصديق بديهي، فيكون السابق على هذا التصديق وهو العلم بالطرفين أولى بأن يكون بديهياً لما مر.
وأجيب بأنه يكفي في التصديق تصور الطرفين بوجه ما، ولا يحتاج فيه إلى تصورهما بالحقيقة كما يحكم على جنس معين مشاهد من بعد بأنه شاغل لحيز معين مع الجهل بحقيقة الحيز والشغل، فاللازم مما ذكره تصور مطلق العلم بوجه ما بديهياً، ولا نزاع فيه، بل في تصوره بنفس الحقيقة.
الوجه الثاني مما احتجوا به: أَن تصور العلم لو كان كسبياً، فالمعلوم ضرورة أنه لا يعرف بنفسه؛ لأنه يكون من تعريف الشيء بنفسه وهو محال، وإذا كان كذلك فلا بد من أن يكون مُعَرَّفاً بغيره وهو باطل أيضاً؛ لتوقف تصور حقيقته على تصور ذلك الغير وهو الجنس والفصل، لكن ذلك الغير لا يعلم إلا بالعلم فيلزم الدور لتوقف معلومية كل منهما على معلومية الآخر، لا يقال لا يلزم من امتناع كونه كسبياً أن يكون ضرورياً لجواز أن يكون تصوره بالكنه ممتنعاً؛ لأنا نقول: هو معلوم، فيكون لا بالغير وهو الضروري.
وأجيب بأن الدور إنما يلزم لو توقف تصور الغير على تصور حقيقة العلم، وليس كذلك، بل حصول فرد من أفراد العلم يتعلق بذلك الغير، ولهذا فإن جمهور العقلاء يعلمون أشياء كثيرة ولا يتصورون حقيقة العلم المطلق.
وقال الجويني والغزالي: ليس امتناع حد العلم لكونه ضرورياً، وإنما هو لعسر تحديده لخفاء جنسه وفصله، ومن شرط الحد أن يكون أجلى من المحدود ليحصل به التمييز، قالا: وإنما يعرف بالقسمة أو المثال، أما القسمة فكأن يقال: الاعتقاد إما جازم أو لا، والجازم إما مطابقٌ أو لا، والمطابق إما ثابت أو لا، فقد حصل من القسمة اعتقاد جازم مطابق ثابت متميز عن سائر الاعتقادات، وهذا هو العلم بمعنى اليقين، والمثال فكتشبيه إدراك البصيرة بإدراك الباصرة.
وأجيب أن القسمة والمثال إن أفادا تمييز ماهية العلم عما عداها صلحاً معرفاً لها، وإلا لم تحصل بهما معرفة؛ لامتناع حصول معرفة الشيء بدون تمييزه.
واعلم بأن الغزالي صرح في المستصفى بما يفيد أن المتعسر حد العلم بالحد الحقيقي لا بما يفيد امتيازه.
وحاصل كلامه على ما ذكره سعد الدين أنه يعسر تحديد العلم على الوجه الحقيقي بعبارة محررة جامعة للجنس والفصل؛ لأن ذلك متعسر في أكثر الأشياء بل أكثر المدركات الحسية كرائحة المسك، فكيف في الإدراكات الخفية، لكنا نقدر على شرح معنى العلم بتقسيم أو مثال.
أما التقسيم فهو أن نميزه عما يلتبس به من الإدراكات فيتميز عن الظن والشك بالجزم، وعن الجهل بالمطابقة، وعن اعتقاد المقلد بأن الاعتقاد يبقى مع تغير المعتقد ويصير جهلاً بخلاف العلم، وبعد هذا التقسيم والتمييز يكاد يرتسم العلم في النفس بحقيقته ومعناه.
وأما المثال فهو أن إدراك البصيرة شبه بإدراك الباصرة، فكما أنه لا معنى للإبصار إلا انطباع صورة المبصر أي مثاله المطابق في القوة الباصرة كانطباع الصورة في المرآة، كذلك العلم عبارة عن انطباع صور المعقولات في العقل، فالنفس بمنزلة حديدة المرآة، وغريزتها التي بها يتهيأ لقبول الصورة -أعني العقل- بمنزلة صقالة المرآة واستنارتها، وحصول الصورة في مرآة العقل هو العلم، فالتقسيم المذكور يقطع العلم عن مظان الاشتباه، وهذا المثال يفهمك حقيقة العلم.
قال السعد: هذا ملخص كلامه في (المستصفى) وبه يتبين أن مراده عسر تحديده بالحد الحقيقي لا ما يفيد امتيازه.
وقال في (شرح الغاية): فظهر أنه إنما أراد تعسر التحديد الحقيقي لا مطلق التعريف، وهذا موضع اتفاق لا اختلاف فيه جار في غير العلم أيضاً كما اعترف به.
وقال السيد حميدان: إنما امتنع حده لاختلاف المعلومات في ذواتها، فإن بعضها جسم وبعضها عرض، وكل منهما أنواع وأفراد مختلفة، وكما اختلفت ذاتاً فهي أيضاً مختلفة ماهية، فإن حقيقة الجماد غير حقيقة الحيوان، وكل جنس منهما مختلف في نفسه، ومع هذا الاختلاف لا يمكن جمعها في حد واحد؛ لأن لكل واحد منهما فصلاً يميزه غير فصل الآخر، وذلك معلوم.
قال في (الأساس): وهذا نظر منه إلى أن العلم يطلق على المعلومات، كما يقال: هذا علم أهل البيت أي معلومهم.
قلت: والظاهر أنه إنما منع من تحديده لجلائه، كما مر، ولأنه عنده من قبيل المشترك اللفظي فهو معاني متعددة، وإذا كان كذلك لم يكن هناك علم مطلق مشترك بين جزئياته حتى يتصور بداهة أو كسباً، وإنما قلنا إنه إنما منع لهذا؛ لأنه الذي تقتضيه عبارته، فإنه قال: أما معنى العلم ففيه ثلاثة أقوال:
الأول: قول الأئمة" إنه أبين من أن يفسر بغيره، ومع ذلك فإنه اسم عام لأنواع مختلفة المعاني، وكل اسم كذلك، فإنه لا يصح السؤال عن معناه حتى يبين السائل أيها يريد، فإن لم يبين كان سؤاله مغلطة وتعنتاً، فهذا يدل على أنه عنده من المشترك اللفظي، والمعلوم أن المشترك اللفظي لا يمكن جمع أفراده في حد واحد لما مر من أن لكل فرد منها فصلاً يميزه عن غيره، ولا يصح أن يكون لها فصل واحد يميزها جميعاً عن غيرها.
وقد ذكر في (المقاصد) وشرحه: أنه لا نزاع في اشتراك لفظ العلم، وعن بعضهم أنه مشترك بين اليقين والظن.
وقال بعض المحققين: إنه يطلق بالاشتراك في المشهور على ثلاثة معاني:
أحدها: مطلق الإدراك الذي يعم التصور وهو ما يحصل بالمعرف، والتصديق وهو ما يحصل بالبرهان إما مطلقاً أو مقيداً بكون يقينياً.
وثانيها: مطلق التصديق الذي يساوي اليقيني من الأحكام.
وثالثها: التصديق اليقيني الذي هو عبارة عن المعنى المقتضي لسكون النفس إلى آخر الحد، والعلماء لم يحدوه إلا باعتبار المعنى الثالث، ولا شك أن حده باعتبار جميع معانيه متعذر لاختلافها في نفسها، واختلاف فصولها المميزة لكل واحد منها. والله أعلم.
فهذا كلام القائلين بأنه لا يحد.
وأما القائلون بأنه يحد فهم البصرية، ورواه في (الفصول) عن أئمتنا والجمهور؛ لأنه نظري، وهؤلاء اختلفوا في حده اختلافاً شديداً.
فقالت المعتزلة: هو المعنى الذي يقتضي سكون النفس، قال الإمام المهدي: إلى أن متعلقه على ما تناوله، وقال أبو علي وأبو هاشم: إلى أن متعلقه على ما هو به، وقيل: كما اعتقده، وربما قالوا: هو الاعتقاد المقتضي سكون النفس...إلخ.
وقال القرشي: هو الاعتقاد الذي يكون معتقده، أو ما يجري مجراه على ما تناوله مع سكون النفس إليه، والمراد بسكون النفس هو التفرقة التي يجدها الإنسان بين أن يعتقد كون زيد في الدار بالمشاهدة أو خبر نبي، وبين أن يعتقد ذلك بخبر واحد من افناء الناس.
وقيل: هو اعتقاد جازم مطابق ثابت، ومعنى هذه الحدود متقارب، فالاعتقاد جنس شامل للظن والجهل والتقليد والتبخيت.
وقوله: المقتضي سكون النفس فصل يخرج به الظن والتقليد، والتبخيت وهو اعتقاد الشيء خبطاً وهجوماً لا لأمر، وإنما خرج التقليد والتبخيت بهذا الفصل حيث يطابقان معتقدهما؛ لأنهما وإن طابقا فإنه يجوز زوالهما لا لموجب لعدم استنادهما إلى أمر من حس أو بديهة، أو عادة أو برهان، وما هذا حاله فهو لا يقتضي سكون النفس.
قال القرشي: فأما حيث لا يطابقانه فهما جهل.
وقوله: على ما تناوله فصل آخر يخرج به الجهل؛ لأن الجاهل ساكن النفس على ما اعتقده وجازم به.
قال القرشي: وأردنا بالمعتقد ما يكون شيئاً كالذوات وبما يجري مجراه ما لا يكون شيئاً، كالصفات، والأحكام، والأمور السلبية، ولعله أراد أن هذه الأمور من الأمور الاعتبارية التي لا وجود لها في الخارج، وما هذا حاله فلا يتعلق به الاعتقاد، فلهذا جعله جارياً مجرى المعتقد فقط، وهو مبني على ما ذهب إليه أبو هاشم من أنه يجوز علم لا معلوم له ومثلوه بالنفي، وخالفه أبو القاسم، وابن الإخشيذ فقالا: بل لكل علم معلوم، ورد قولهما الإمام المهدي بأن علمنا بأن لا ثاني للقديم إن تعلق بذاته تعالى أو بصفاته لزم فيمن علمها أن يعلم نفي الثاني، وإن تعلق بموجود غيره أو معدوم لزم إثبات ثاني فصح أن لا معلوم له، وقد اعترض على هذا الحد من وجوه:
أحدها: أن الاعتقاد جنس مخالف للعلم فلا يجوز جعله جنساً للعلم.
وأجيب بأنا لا نسلم لما مر في السابعة من مسائل الحمد لله.
الثاني: أنه غير جامع لخروج علم الله؛ إذ لا يصح وصفه بالاعتقاد وسكون النفس، ولخروج التصور لعدم اندراجه في الاعتقاد؛ لأن الاعتقاد هو التصديق، والتصديق قسيم التصور.
وأجيب عن الأول بأنا إنما حددنا العلم في الشاهد؛ لأن الباري تعالى عندنا عالم لا بعلم، وعن الثاني بأنا لا نسلم خروج التصور عن الاعتقاد؛ لأن الاعتقاد هو الجزم بالشيء، فإن كان مع سكون النفس سمي علماً وإلا فلا، والتصور هو العلم بصور الأشياء ومفرداتها، ومعنى ذلك أنه يحصل في ذهن الإنسان صورة مطابقة لما في الخارج، ولا شك أن العالم بصور الأشياء ومفرداتها جازم بها، وهذا هو معنى الاعتقاد، ويؤيده أن الاعتقاد اسم لما عقد عليه القلب من الجزم كما ذكره بعضهم، أو مأخوذ من عقد الخيط على شيء على جهة التشبيه فكأن المعتقد عقد قلبه على عقيدته، وعلى هذا فلا وجه لقصر الاعتقاد على التصديق، لكنه يقال: هو مأخوذ من العقد وهو لغة الجمع بين أطراف الشيء فسمي الاعتقاد اعتقاداً؛ لتعلقه بشيئين وهما المنسوب والمنسوب عليه، وهذا هو معنى التصديق؛ لأنه هو العلم بالنسب الحاصلة بين المفردات والتصور لا نسبة فيه، فالأولى أن يقال هذا الاعتراض لا يرد إلا على من جعل جنس الحد الاعتقاد، وأما من عدل عنه فلا.
الوجه الثالث: استعمال المجاز في لفظ الاعتقاد والسكون، فإنهما مأخوذان على جهة التشبيه من عقد الخيط والسكون المقابل للحركة، واستعمال المجاز في الحدود معيب.
وأجيب بأنه لا عيب إذا ظهر المراد باشتهار التجوز أو ظهور القرينة، وهنا المعنى المجازي مشهور، والإضافة إلى النفس قرينة مشعرة بالمراد.
الوجه الرابع: ذكره السيد حميدان، وهو أن هذا الحد غير صحيح لما مر من أن اسم العلم عام لأنواع من العلم مختلفة المعاني؛ ولأن علم كل عالم من علماء السوء قد اقتضى سكون نفسه بحيث لا يخطر بباله أن أحداً أعلم منه، قال: وكل حقيقة لا يحصل بها التمييز بين الحق والباطل فهي باطلة.
قلت: وهو بناء منه على ما مر من أن لفظ العلم مشترك اشتراكاً لفظياً بين معاني متعددة، وأن حده باعتبار جميع معانيه متعذر، ويمكن أن يقال: إن أراد السيد بأنواع العلم فنونه، كعلم الكلام، وعلم النحو، وعلم الفقه ونحو ذلك فاعتراضه غير وارد؛ لأنهم لم يريدوا تمييز تلك العلوم عن بعضها الآخر في حد واحد، ولم يقصدوا في الحد هذه الفنون، وإنما قصدوا مطلق العلم من حيث أنه علم من غير نظر إلى أنواعه، كما يقال في حد الحيوان إنه جسم نام حساس، ولم يلحظوا إلى بيان أنواعه، ولم يقل أحد بمنع هذا التحديد على أن تسمية الفنون علوماً إنما هو اصطلاح وإلا فكثير من مسائلها إنما هو مظنون لا معلوم، والمطلوب حد العلم الذي هو بمعنى اليقين.
وإن أراد أنه متنوع باعتبار متعلقاته فإن العلم بالله غير العلم بزيد، والعلم بالسماء مغاير للعلم بالأرض بناء على ما ذهبت إليه البهشمية من أنه لا يتعلق العلم الواحد تفصيلاً بأكثر من معلوم واحد، فذلك لا يمنع من تحديده؛ لأن بين هذه العلوم قدراً مشتركاً وهو المعنى المذكور، فالحد باعتباره.
وإن أراد ما مر من أنه مشترك بين الظن وغيره، فقد مر أنهم لم يحدوه إلا باعتبار أحد معانيه وهو ما كان بمعنى اليقين.
لا يقال: فكان عليهم أن يبينوا أنهم لم يقصدوا إلا ذلك المعنى؛ لأنا نقول: ذلك معلوم لا يحتاج إلى بيان على أنه مفهوم من الحد؛ لأنهم ذكروا فيه سكون النفس والجزم والمطابقة.
وأما قوله: إن علماء السوء قد تسكن أنفسهم، ومراده أن ذلك قد لا يكون علماً لمخالفته الحق المتقرر في نفس الأمر، كمن ينسب إلى الله ما لا يليق به، فجوابه: أَنا لا نسلم أن ذلك سكون نفس، وإنما هو بصورة السكون، وقد مر المعنى المراد من سكون النفس قريباً، وتقدم أيضاً في السابعة من مسائل قوله تعالى: {يَاأَيُّهَا النَّاسُ اعْبُدُوا رَبَّكُمُ}[البقرة:21] الدليل على أن سكون النفس هو الطريق إلى العلم، ومنهم من جعل ذلك ضرورياً. وبهذا تم الكلام على حد المعتزلة.
وقال السيد صلاح بن أحمد المؤيد: الأجود أن يقال إدراك لا يحتمل متعلقه النقيض، قال: أي نقيض ذلك التمييز، فيشمل التصور والتصديق بناء على أن التصورات لا نقائض لها، ويرد عليه أنه غير مانع لشموله الإدراك بالحواس الظاهرة، وليست من العلم عند أكثر المتكلمين خلافاً للأشعري، فالسمع والبصر عنده نفس العلم بالمسموع والمبصر، وهو ضعيف؛ لأنهما صفتان زائدتان.
وقال الإمام القاسم بن محمد: يمكن أن يقال: هو إدراك تمييز مطابق بغير الحواس سواء توصل إليه بها أم لا، فالإدراك جنس يشمل جميع الإدراكات.
وقوله: تمييز يخرج إدراك البهائم، وقوله: مطابق يخرج الجهل المركب، وقوله: سواء توصل إليه بها أم لا، زيادة في توضيح المراد من شموله لعلم الله تعالى؛ لأنه لا يحتاج إلى التوصل إليه بشيء.
ويرد عليه أنه ليس بمانع لشموله الظن وغيره؛ لأن الإدراك قدر مشترك بين العلم والظن وغيرهما، وقد يكون الإدراك بمعنى الظن مطابقاً، فلو قال: إدراك تمييز جازم مطابق لكان أولى.
وقال ولده الحسين عليه السلام : الأولى أن يقال: هو إدراك يتجلى به المدرَك بفتح الراء للمدرِك بكسرها، فالإدراك جنس شامل للتصورات والتصديقات، والتجلي الانكشاف التام الذي لا اشتباه فيه، فيتناول الموجود والمعدوم ممكنة ومستحيلة، والمفرد والمركب، والكلي والجزئي، ويخرج بقيد التجلي ممكن الزوال من تصور أو تصديق سواء كان مطابقاً أم لا،ويعني بممكن الزوال الظن والجهل المركب واعتقاد المقلد المصيب، ويرد عليه شموله إدراك الحواس الظاهرة كما مر.
قال عليه السلام : فإن أريد إخراجه قيل: إدراك يتجلى به المعنى المدرك للمدرك؛ لأن المراد بالمعنى ما يقابل المدرك بإحدى الحواس، ولا يضر كون الإدراك مجازاً عن العلم؛ لأنه مشهور، ولا يلزم تعريف الشيء بنفسه لاشتهار الإدراك في المعنى الأعم الذي هو جنس للأخص المعرف، وتعريف الأخص بالأعم جائز لجلائه.
قال عليه السلام : أو يقال صفة يتجلى بها المذكور أي ما من شأنه أن يذكر لمن هو له، وهو كالذي قبله في الإخراج والشمول.
وقال أبو الحسين: هو ظهور أمر للحي يمتنع معه في نفسه تجويز خلافه، وهذا شامل لعلم الخالق والمخلوق، واعترض بأن الظهور يختص بالمعلوم، والعلم يختص بالعالم، وبأن الظهور هنا مجاز ولا قرينة، وبأنه لا يصح إطلاقه على الله تعالى فلا يقال: ظهر لله كذا، وأيضاً إن أراد بامتناع التجويز استحالته فغير صحيح؛ لأن أحدنا قد يختار الجهل ويجوز في نفسه خلاف المعلوم في المسائل الاستدلالية.
وإن أراد بامتناعه أنا لا نفعله مع القدرة عليه فغير صحيح؛ لأن أحدنا كما يمتنع من هذا التجويز عند حصول هذا الظهور وهو لم يعتبر سكون النفس حتى يتميز به الظهور الحقيقي من غيره.
وقال أبو الحسن الأشعري: العلم ما يعلم به وربما قال: ما تصير الذات به عالماً، واعترض بأن العالم والمعلوم لا يعرفان إلا بالعلم فتعريفه بهما دور.
وأجاب بأن علم الإنسان بكونه عالماً بنفسه وألمه ولذته ضروري، والعلم بكونه عالماً بهذه الأشياء علم بأصل العلم؛ لأن الماهية المطلقة داخلة في الماهية المقيدة كعلمه بكون العلم علماً ضرورياً فلا دور، لا يقال: فقد صار العلم حينئذٍ ضرورياً فلا يحتاج إلى التعريف؛ لأن له أن يقول: الضروري إنما هو حصول العلم للعالم، ولا يفيد العلم بحقيقته كما مر.
وقال القاضي أبو بكر: هو معرفة المعلوم على ما هو عليه، وربما قال: هو المعرفة.
والاعتراض على الأول أنه عرف العلم بالمعلوم وهو دور، وبأن المعرفة لا تكون إلا على وفق المعلوم، فقوله: على ما هو عليه، حشو، وعلى الثاني بأنه من تعريف الشيء بنفسه؛ لأن المعرفة هي العلم عنده، وبأنه غير جامع لخروج علم الله تعالى وما لم يسبقه جهل والتباس من علم المخلوق؛ لأن المعرفة عبارة عن حصول العلم بعد الجهل أو الالتباس، ولهذا قيل: لا يوصف الباري تعالى بأنه عارف.
وقال أبو إسحاق الإسفرايني: هو تبين المعلوم على ما هو به، وهذا الحد مروي عن (الأشعرية)، وربما قالوا: هو استبانة الحقائق، وربما قال: العلم هو التبيين، واعترض على الأول بما اعترض به على حد القاضي، وعلى الآخرين بأنه ليس فيهما إلا تبديل لفظ بلفظ أخفى منه، وبأن التبيين والاستبانة يشعران بالظهور بعد الخفاء، وذلك لا يطرد في علم الله.
وقال ابن فورك: هو ما يصح من المتصف به إحكام الفعل وإتقانه، واعترض بأن العلم بوجوب الواجبات، وامتناع الممتنعات لا يفيد الإحكام.
وقال القفال: العلم إثبات المعلوم على ما هو به، وربما قيل: هو تصور المعلوم على ما هو به، ويرد عليه ما مر وعدم اطراده؛ إذ علم الله ليس بتصور، وأيضاً إذ الإثبات ليس بجنس للعلم.
وقالت (الفلاسفة): هو إدراك النفس الحق، روى هذا عنهم (الإمام المهدي)، ويرد عليه عدم الانعكاس لشموله المدرك بالحواس والظن؛ لأنه داخل في الإدراك، وقد يكون المظنون حقاً.
وحكى عنهم السيد حميدان أنهم يقولون: العلم ثبوت صورة المعلوم في نفس العالم، واعترض من وجوه:
أحدها: أن ثبوت الشيء غير العلم به.
الثاني: أنه مبني على ثبوت ذوات العالم في الأزل وهو باطل.
الثالث: أنهم قرروا كلامهم بأن قالوا: إنه كما تحصل في المرآة صورة الوجه مثلاً، فكذلك تحصل صورة المعلوم في الذهن، وهذا ضعيف؛ لأنا إذا عقلنا الجبل والبحر فإن حصلا في الذهن ففي الذهن جبل وبحر، وهو محال، وإن لم يحصل فيه إلا صورتاهما فقط كان المعلوم هو الصورة والجبل والبحر يجب أن لا يكونا معلومين، والمعلوم خلافه.
وإن قيل: الحاصل فيه الصورة ومحلها لزم ما مر من حصول الجبل والبحر في الذهن.
الرابع: أن من المعلومات ما لا صورة له كالباري تعالى، والأعراض، والمستحيل، والأمور الاعتبارية والنفي.
الخامس:أن المعلوم الواحد قد يكون معلوماً لعالم من الناس، ولا ريب في استحالة أن يكون للمعلوم الواحد ألف صورة في نفس ألف عالم.
السادس: أنه غير شامل لعلم الله سبحانه؛ لأن النفس عندهم جوهر متعلق بالبدن، وحكى الرازي عنهم أن العلم صورة حاصلة في النفس مطابقة للمعلوم، واعترض بما مر، إلا أنه عبر هنا بالحصول وهناك بالثبوت ومعناهما واحد، واعترض أيضاً بأن المطابقة لا تعقل في الأمور الاعتبارية ونحوها مما لا وجود له في الخارج، ولهذا فإنا نعقل المعدوم، ولا يمكن أن يقال: الصورة العقلية مطابقة له؛ لأن المطابقة لا تكون إلا بين أمرين ثبوتيين، والمعدوم نفي محض يستحيل تحقق المطابقة فيه.
ويمكن أن يجاب عن الوجه الأول بأن مرادهم بالثبوت الوجود الذهني، والحكماء يثبتونه، وقال: هو العلم وهو نفس الصورة الحاصلة في نفس العالم، واستدلوا على ثبوته بأنا نحكم على ما هو عدم صرف، ونفي محض بأحكام ثبوتية صادقة، كالحكم عليه بالإمكان العام، والحكم عليه يقتضي ثبوته؛ إذ ثبوته لغيره فرع ثبوته في نفسه، وليس ثابتاً في الخارج فهو ثابت في الذهن وهو المطلوب.
واحتجوا على أنه هو العلم بأن الحكم على ما هو عدم صرف إذا كان لا يمكن إلا بتعلقه، فلا شبهة أن بين العاقل والمعقول تعلقاً مخصوصاً، والتعلق إنما يتصور بين شيئين متمايزين، ولا تمايز إلا بأن يكون لكل منهما ثبوت في الجملة، ولا ثبوت للمعلوم هنا في الخارج كما مر فهو في الذهن، فإذاً لا حقيقة للعلم إلا أثر الوجود في الذهن، وأما التعلق فأمر خارج عن حقيقة العلم لازم لها.
قالوا: وهذا الموجود في الذهن هو المعلوم، فالعلم والمعلوم متحدان بالذات، مختلفان بالاعتبار، فإن الموجود في الذهن باعتبار قيامه بالقوة العاقلة علم، وباعتباره في نفسه من حيث هو هو معلوم.
قالوا: وإذا كان العلم بها هو عدم صرف على هذه الحال وجب أن يكون العلم في سائر المعلومات كذلك؛ إذ لا اختلاف بين أفراد حقيقة واحدة نوعية، وإذا كان الوجود الذهني ثابتاً بطل الوجه الأول من هذه الاعتراضات، لكنه يقال: لا نسلم ثبوت الوجود الذهني، وقد نفاه جمهور المتكلمين، واحتجوا على نفيه بما مر في الوجه الثالث من لزوم كون الجبل والبحر في الذهن.
وأجابوا عما احتج به الحكماء على إثباته بأنهم إن أرادوا بالأحكام الثبوتية أموراً ثابتة في الخارج فلا نسلم؛ إذ لا يحكم بها على ما لا ثبوت له في الخارج، وإن أريد بها أمور ثابتة في الذهن فمصادرة على المطلوب، وإذا لم يثبت الوجود الذهني بطل قولهم إنه هو العلم.
ويجاب عن الوجه الثاني بأنا لا نسلم بناءه على القول بثبوت ذوات العالم في الأزل، وإنما هو مبني على إثبات الوجود الذهني كما مر.
وعن الثالث بأنا لم نقل: إن الموجود في الذهن هوية الجبل والبحر، فإنه لا شك في امتناع ذلك؛ لاتصافها بالعظم المانع من حصولها في الذهن، ولا الصورة وحدها ولا هي ومحلها، بل الموجود فيه هو ماهية الجبل والبحر أي الحقيقة، ويمكن أن يقال: إن أردتم بحصول الماهية من حيث هي أي من غير نظر إلى حصولها في ضمن الأجزاء عاد الإلزام السابق، وهو أن لا يكون الجبل معلوماً، وإن أردتم مع حصولها في ضمن الأفراد لزم حصول تلك الأفراد في الذهن وهو محال.
ويجاب عن الوجه الرابع والخامس: بأن المراد بالصورة الوجود الذهني لا ما توهمتموه.
وعن السادس بأن المبحوث عنه هو العلم المكتسب، وعلم الله تعالى ليس بمكتسب فلا يضر خروجه من الحد.
وأما ما حكاه الرازي عنهم من اشتراط المطابقة فلعله قول لبعضهم أو وهم، فإن المحكي عنهم في (الغاية) وشرحها أنهم لا يشترطون المطابقة، ولذا حده في (الغاية) بأنه الصورة الحاصلة من الشيء في العقل أو عنده، قال: وهو شامل للصورة المطابقة وغيرها، والكليات والجزئيات لقولنا في العقل أو عنده، قال: وهذا كله بناء على أنه مدرك الكليات والجزئيات المجردة هو العقل، ومدرك الجزئيات المادية هو القوى الجسمانية وهو رأي محققي الحكماء، ووجه بناء الحد على رأيهم كون إطلاق لفظ العلم على هذا المعنى الأعم واقعاً على اصطلاحهم، ثم اعترضه بخروج علم الله وعلم الإنسان إن أريد بالعقل ما هو المعنى المشهور بينهم من أنه جوهر مجرد غير متعلق بالبدن، وبخروج علم الله فقط إن أريد به النفس، وقد مر معناها عندهم، واعترضه أيضاً بخروج المستحيل والمعدوم، ثم قال: ولو عرف بما يحصل من المعنى المدرك بفتح الراء للمدرك بكسرها لسلم عما ورد على تعريف الحكماء.
تنبيه [في اطلاق العلم]
ذكر في (الغاية) وشرحها أن العلم يطلق على معنيين أعم وأخص، فهو بالمعنى الأعم يشمل غير الثابت من تصور أو تصديق، والمراد بغير الثابت ممكن الزوال، ومحتمل النقيض، فيدخل فيه من التصورات العلم بالمفرد الذي يمكن تغيره والشك والوهم، ومن التصديقات الظن والجهل المركب، واعتقاد المقلد المصيب، وأما بالمعنى الأخص فلا يتناول إلا الثابت.
قيل: وهذا المعنى هو الذي يقتضيه استعمال اللغة، والعرف، والشرع؛ إذ لا يطلق في شيء منها على الظان، والشاك، والجاهل جهلاً مركباً أنه عالم، وإلا لزم أن يكون أجهل الناس بما في الواقع أعلمهم به، وإطلاق العلم على التقليد مجاز، وإنما يطلق العلم على هذه الإدراكات في اصطلاح الحكماء.
واعلم أن تفسيرهم غير الثابت بممكن الزوال، ومحتمل النقيض مبني على إثبات النقيض للتصور على ما عليه المناطقة، والمشهور بين جمهور العلماء أن الصورة التصديقية تتصف بالمطابقة لما في نفس الأمر وعدمها، والصورة التصورية لا تتصف إلا بالمطابقة، وما لا يكون إلا مطابقاً فلا يحتمل النقيض.
فإن قيل: إنكار الخطأ في التصور مكابرة كما إذا رأينا شجرة من بعيد فحصل في أذهاننا منه صورة إنسان، فلا شك أن هذه الصورة غير مطابقة للواقع فيكون خطأ.
قيل: الخطأ إنما هو في الحكم المقارن لهذا التصور، وهو أن هذه الصورة صورة لهذا المرئي الذي هو الشجرة.
وأما الصورة المرتسمة في أذهاننا فهي علم تصوري للإنسان وآلة لملاحظته ومطابقته له بحيث لا يحتمل غيره.
إذا عرفت هذا فاعلم أن الخلاف في حد العلم وعدمه على كلا المعنيين، وما تقدم من الحدود فإنما هو باعتبار المعنى الأخص إلا الحد المحكي عن الحكماء فإنه بالمعنى الأعم كما لا يخفى على الفطن.
تنبيه [في ذكر حد العلم]
وما ذكرناه من الخلاف في حد العلم فإنما هو باعتبار الحد الذاتي والرسمي مما يحصل به في الذهن صورة غير حاصلة، وأما اللفظي فالقائل بأنه ضروري يجيزه؛ لأن الضروري قد يحد لإفادة العبارة عنه؛ إذ الإنسان قد يعلم حقيقة الضروري ويعجز عن التعبير عما في نفسه، فالحدود المذكورة للعلم إنما هي بحسب لفظه عنده ليمكن التعبير عنه. والله أعلم.
تتمة في ذكر الألفاظ
منها ما هو مرادف للعلم، ومنها ما هو نوع خاص منه، ومنها ما هو جنس له، ومنها ما هو مخالف له، لكنه قد يتوهم مرادفته إياه، ومنها ما يحسن ذكره لبيان ماهيته، وذكر الفرق بينه وبين العلم.
أحدها: الإدراك وهو لغة الوصول، يقال: أدركت الثمرة، إذا وصلت وبلغت حد الكمال، وفي الاصطلاح: وصول النفس إلى المعنى بتمامه من نسبة أو غيرها، وفي هذا الحد مراعاة للمعنى اللغوي؛ لأن القوة العاقلة إذا وصلت ماهية المعقول وحصلتها كان ذلك إدراكاً لها من هذه الجهة.
قيل: والشائع في معناه أنه حصول صورة الشيء في العقل أي صورة الشيء الحاصلة عند العقل، وفيه أنه إن أريد بالعقل ما هو المشهور عند الحكماء من أنه جوهر مجرد غير متعلق بالبدن خرج إدراك الله تعالى للمدركات وإدراك الإنسان، وإن أريد به النفس على اصطلاحهم خرج إدراك الإنسان.
ويرد عليه كثير مما ورد على حدهم للعلم، فالحد الأول أولى لسلامته من ذلك وقربه من المعنى اللغوي وإن كان قد ورد عليه عدم شموله إدراك البسايط؛ لأن التمام لا يعقل إلا في المركبات، وقد أجيب بأن المراد بالتمام الكنه والحقيقة.
وقيل: بل المراد به أعم مما بالكنه وغيره فيشمل البسيط؛ لأنه يحد بالجنس والفصل إلا أنهما فرضيان، فإن العقل يخترع منه شيئاً يقوم مقام الجنس، وشيئاً يقوم مقام الفصل كتعريف السواد بأنه لون قابض للبصر.
وقوله: في الحد من نسبة، أراد به النسبة الحكمية في التصديق والتقييد به في التصور، وقوله: أو غيرها وهو المحكوم عليه أو به.
إذا عرفت هذا فالإدراك ليس مرادفاً للعلم، بل هو أعم منه؛ لأنه ينقسم إلى تصور ولا يكون إلا علماً خلافاً للمناطقة كما مر، وتصديق وهو ينقسم إلى جازم وغير جازم، والجازم ينقسم إلى علم واعتقاد، والاعتقاد إلى صحيح وفاسد، وغير الجازم ينقسم إلى ظن ووهم وشك كما ذكره أهل الأصول، فثبت أن الإدراك غير مرادف للعلم، واختلف في الإدراك هل هو معنى أم لا، وقد تقدم الخلاف في ذلك في العاشرة من مسائل قوله تعالى: {خَتَمَ اللَّهُ عَلَى قُلُوبِهِمْ وَعَلَى سَمْعِهِمْ}الآية[البقرة:7] إلا أن القائلين بأنه معنى من أئمة العدل إنما يثبتونه في الشاهد فقط، وأما الأشعرية فيثبتونه معنى شاهداً وغائباً.
الثاني من الألفاظ التي نريد الكلام عليها: الشعور، وهو لغة: إدراك الشيء من وجه يدق، مشتق من الشعر لدقته، هكذا قيل، ويشهد له قول صاحب القاموس: شعر به كنصر وكرم، شعراً وشعوراً علم به وفطن له وعقله، وقال فيه: وأشعره الأمر وبه أعلمه.
وفي (المختار): وشعَر بالشيء بالفتح يشعر شعراً بالكسر فطن له، ومنه قولهم: ليت شعري، أي ليتني علمت.
وقال الزمخشري والراغب ومن وافقهما: هو علم الشيء علم حسي، قال الراغب: والمشاعر الحواس، وقوله: {وَأَنْتُمْ لاَ تَشْعُرُونَ}[الزمر:55] ونحو ذلك، معناه: لا تدركونه بالحواس، ولو قال في كثير مما جاء فيه لا يشعرون يعقلون لم يكن يجوز؛ إذ كان كثير مما لا يكون محسوساً قد يكون معقولاً، هذا ما قيل في معناه لغة.
وأما في الاصطلاح: فهو وصول النفس إلى المعنى لا بتمامه، هكذا قال المحلى في (شرح الجمع).
وفي (المقاصد) عن الرازي وغيره:أنه أول وصول النفس إلى المعنى، فإذا حصل وقوف النفس على تمام ذلك المعنى فتصور، فإذا بقي بحيث لو أراد استرجاعه بعد ذهابه أمكن يقال له: حفظ، ولذلك الطلب تذكر، ولذلك الوجدان ذكر، قال بعضهم: فيؤخذ منه أن الشعور ليس تصوراً.
وفي تفسير الرازي نحو ما حكي عنه هنا فإنه قال: هو إدراك بغير استثبات، وهو أول مراتب وصول المعلوم إلى القوة العاقلة، وكأنه إدراك متزلزل، ولهذا لا يقال في الله تعالى إنه يشعر بكذا كما يقال يعلم بكذا.
قلت: والحق تفسيره بما ذكره، بل لأن علمه تعالى لا يكون من قبيل الحاسة، أو لأنه يفيد ضرباً من التفطن والتفكر والباري تعالى منزه عن ذلك.
الثالث: التصور. وهو في اللغة التوهم، قال في (المختار): تصورت الشيء توهمت صورته، وفي الاصطلاح ما مر من أنه وقوف النفس على تمام المعنى.
وقال القرشي: هو العلم بصور الأشياء ومفرداتها، ومعنى ذلك أنه يحصل في ذهن الإنسان صورة مطابقة لما في الخارج، قال: ومنه قولهم: تصورت هذا الشيء أي علمت صورته.
وقيل: هو حصول صورة الشيء في العقل، وليس المراد من حصول الصورة معناه الحقيقي لاستحالته وإنما المراد تخيله.
قال الرازي: اعلم أن التصور لفظ مشتق من الصورة، ولفظ الصورة حيث وضع فإنما وضع للهيئة الجسمانية الحاصلة في الجسم المتشكل، إلا أن الناس لما تخيلوا أن حقائق المعلومات تصير حالة في القوة العاقلة كما أن الشكل والهيئة يحلان في المادة الجسمانية أطلقوا لفظ التصور عليه بهذا التأويل.
إذا عرفت هذا فالتصور ليس مرادفاً للعلم، بل هو نقيضه بالنظر إلى المعنى اللغوي، وقسم منه بالنظر إلى الاصطلاحي، وقد قسمه العلماء باعتبار معناه الاصطلاحي إلى ضروري ونظري، فالضروري منه ما لا يحتاج في معرفته إلى حد، كعلمنا بزيد، والحرارة، والبرودة، ونحو ذلك مما نجد من أنفسنا العلم بها بلا واسطة نظر في جنس وفصل، بل يدركها العقل بضرورته، والنظري بخلافه وهو ما لا يدرك إلا بالحد ونحوه، كالعلم بماهية العالم، والمحدث، والملك، والجن، والإنسان، ونحو ذلك مما لا تحصل صورته عند العقل إلا بتفكر في جنسه وفصله، وقد استفيد من هذا أنه لا طريق إلى تحصيل النظري من التصور إلا الحد وما في معناه وهو الرسم والشرح، فالحد إن كان المطلوب العلم بالماهية مفصلاً، والرسم إن كان المطلوب مجرد تمييزها عن غيرها، والشرح هو الحد اللفظي إن كان المطلوب العلم بها مجملاً.
الرابع: الحفظ. وهو لغة: الحراسة والاستظهار، قال في القاموس: حفظه كعلمه حرسه، والقرآن استظهره، والمال رعاه.
وقال الراغب: الحفظ يقال تارة لهيئة النفس التي بها يثبت ما يؤدي إليه الفهم، وتارة لضبط في النفس ويضاده النسيان، وتارة لاستعمال تلك القوة فيقال: حفظت كذا حفظاً، ثم يستعمل في كل تفقد، وتعهد، ورعاية.
وأما معناه في الاصطلاح فمأخوذ مما مر، وقد حققه الرازي فقال: إذا حصلت الصورة في العقل وتأكدت بحيث لو زالت تمكنت القوة العاقلة من استرجاعها سميت تلك الحالة حفظاً، ولما كان لفظ الحفظ مشعراً بالتأكد بعد الضعف لم يسم علم الله حفظا، ولأنه إنما يحتاج إلى الحفظ ما يجوز زواله.
قلت: وهو قريب من المعنى اللغوي، إلا أن الظاهر أنه بناه على ما ذهب إليه الحكماء من إثبات القوة الباطنة والمتكلمون ينفونها، وقد علمت مما ذكرنا أنه غير مرادف للعلم وإنما هو لفظ يطلق على نوع من العلم خاص، وقول الرازي: إنه لا يجوز إطلاقه على الله غير مسلم؛ إذ المعنى اللغوي لا يثبت في حقه تعالى، ولما مر في قوله تعالى: {وَهُوَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ}[البقرة:29].
الخامس: التذكر. هو مأخوذ من الذكر، والذكر في اللغة الحفظ للشيء كالتذكار، ذكره في القاموس.
وقال الراغب: الذكر تارة يراد بها هيئة للنفس بها يمكن الإنسان أن يحفظ ما يقتنيه من المعرفة وهو كالحفظ، إلا أن الحفظ يقال اعتباراً بإحرازه، والذكر يقال اعتباراً باستحضاره، وتارة يقال لحضور الشيء بالقلب أو القول، ولذلك قيل: الذكر ذكران ذكر بالقلب وذكر باللسان، وكل منهما ذكر عن نسيان، وذكر لا عن نسيان، بل عن إدامة الحفظ، وهذا يفيد أن التذكر يقال على استمرار الدرس ونحوه طلباً لاستدامة الحفظ، وعلى استحضار ما قد ذهب عنه بالنسيان بعد حفظه وطلب استرجاعه، وهذا المعنى هو الذي ذكره في (المقاصد) وقد مر.
وذكره أيضاً الرازي فقال: إن الصورة المحفوظة إذا زالت عن القوة العاقلة فحاول الذهن استرجاعها فتلك المحاولة هي التذكر، ثم ذكر أن في هذا سر وإشكال لا تقف عليهما العقول، ولا يعلمهما إلا الحي القيوم، حاصلهما أن الصورة الزائلة إن كانت مشغولاً بها فهي حاصلة، والحاصل لا يمكن تحصيله وإلا كان الذهن غافلاً عنها، والمغفول عنه يستحيل طلبه واسترجاعه، وعلى كلا التقديرين يكون التذكر بهذا المعنى ممتنعاً مع أنا نجد أنفسنا طالبة لاسترجاعها، ثم قال: وهذه الأسرار إذا توغل العاقل فيها وتأملها عرف أنه لا يعرف كنهها مع أنها من أظهر الأشياء عند الناس، فكيف القول في الأشياء التي هي من أخفى الأمور وأعضلها على العقول والأذهان.
والجواب: أنه لا إشكال في ذلك، وقد تقدم نحو هذا في السابعة من مسائل قوله تعالى: {يَاأَيُّهَا النَّاسُ اعْبُدُوا رَبَّكُمُ...}الآية[البقرة:21]، واستوفينا الجواب هنالك في المقام الأول منها والثاني، وحاصله أن المطلوب لا بد وأن يكون معلوماً من وجه، مجهولاً من وجه، ولا محذور في طلبه من الوجه المجهول؛ لأنه ليس مجهولاً مطلقاً فيستحيل طلبه، وتوجه النفس إليه، بل هو معلوم ببعض عوارضه الذي هو الوجه المعلوم، وبما تقرر يعلم أن الإشكال الذي أورده االرازي إنما يتأتى لو قيل: إن التذكر معلوم من كل وجه، أو مجهول من كل وجه، ويكفي في الدلالة على أنه معلوم من وجه اعترافه بأنا نجد أنفسنا طالبة له؛ إذ لو لم يكن معلوماً من وجه لم يحصل ذلك الوجدان ضرورة استحالة طلب المجهول المطلق، ونحن نعلم من أنفسنا أنا لا نتوجه إلى تذكر الصورة الزائلة ونطلب استرجاعها إلا إذا علمنا أنها قد كانت محفوظة لنا ثم زالت، ولم نعلم بما كان محفوظاً على الوجه الأكمل، وهذا هو معنى قولنا: إنه معلوم من وجه، مجهول من آخر، ثم إن قوله: إذا كانت مشعوراً بها فهي حاصلة، إن أراد أنها حاصلة على الوجه الأكمل ناقض ما مر له في معنى الشعور، وإن أراد أنها مدركة إدراكاً متزلزلاً بطل قوله بامتناع طلبها إذا لم يكن المعنى حاصلاً بتمامه، والمطلوب هو تمام المعنى.
نعم وقد استفيد مما ذكر أن التذكر ليس علماً، وإنما هو طريق من طرق العلم يطلب به استدامته واسترجاع الزائل منه بعد حصوله.
السادس: الذكر، وقد عرفت معناه لغة، وهو في الاصطلاح الوجدان الحاصل بعد التذكر كما مر، وقال الرازي: الصورة الزائلة إذا عادت بعد الطلب سمي ذلك الوجدان ذكراً، فإن لم يسبق بزوال لم يسم ذكراً، ولهذا قال الشاعر:
الله يعلم أني لست أذكره .... وكيف أذكره إذ لست أنساه
فجعل النسيان شرطاً لحصول الذكر ويوصف به القول؛ لأنه سبب حصول المعنى في النفس ثم قال: إن الله تعالى قال: {فَاذْكُرُونِي أَذْكُرْكُمْ}[البقرة:152] وهذا الأمر إن توجه على العبد حال نسيانه فهو غافل فكيف يكلف مع النسيان، وإن كان حال ذكره فالذكر حاصل، وتحصيل الحاصل محال فكيف يكلف به، قال: وهذا الإشكال وارد على قوله تعالى: {فَاعْلَمْ أَنَّهُ لاَ إِلَهَ إِلاَّ اللَّهُ}[محمد:19] إلا أن هذا في التصديقات فلا يقوى فيه الإشكال وذلك في التصورات فيقوى فيه.
قلت:وهذا الإشكال يعرف جوابه مما مر، وقد أجاب عنه الرازي وقارب الإنصاف لولا دسيسة في آخره، وذلك أنه قال: إنا نجد من أنفسنا أنه يمكننا التذكر فما ذكرته تشكيك في ضروري فلا يستحق جواباً، إلا أنا لا نعرف كيف نتذكر، لكن العلم الجملي بالتمكن منه كاف، وعجزك عن إدراك تلك الكيفية يكفيك في علمك بأن ذاك ليس منك، ثم ذكر أن عجزنا عن إدراك ماهية التذكر مع أنه صفة لنا دليل على عجزنا عن إدراك كنه المذكور وهو الله تعالى، والدسيسة المشار إليها هي قوله: وعجزك عن إدراك تلك الكيفية...إلخ فإنه جعل ذلك العجز دليلاً على الجبر وأن ذلك الطلب ليس منا.
وجوابه:أن هذا يناقض قوله أولاً: إِنه يمكننا التذكر وجعل ذلك ضرورياً؛ لأنه إذا كان كذلك فكل فعل يوصف بالتمكن منه ثم يقع منا على حسب دواعينا وقصودنا ويقف على اختيارنا، فلا يصح وصفنا بالعجز عنه؛ إذ لو كنا عاجزين عنه لم يكن كذلك، والتذكر من هذا القبيل باعترافه.
وأما قوله: إنا لا نعرف كيف نتذكر، فغير مسلم، فإن التذكر هو الطلب كما نص عليه في (المقاصد) وبه قال الرازي؛ لأنه عبر عنه بمجادلة الذهن استرجاع الصورة الزائلة، وهذا هو معنى الطلب، والطلب أمر معلوم عندنا وعند الخصم، فعندنا أنه الإرادة، واختاره القرشي كما مر في السادسة من مسائل المقدمة، وعند الخصم أنه أمر مغاير للإرادة والعلم والفكر كما مر هنالك، فعلى قولنا لا شك أنا نعرف كيف نريد وعند الخصم كذلك؛ لأنه أمر يجده الإنسان من نفسه عند الإرادة، والأمور الضرورية لا تحتاج في معرفتها إلى أمر خارج تعرف به لجلائها، ولهذا قالوا: لا يحد الضروري، هذا وقد علم مما ذكرنا في حقيقة الذكر لغة واصطلاحاً أنه أمر مغاير للعلم، أما لغة فلأنه عبارة عن هيئة للنفس يتمكن بها من حفظ المعلوم، وعن حضور الشيء بالقلب أو القول كما مر، وكل من الهيئة والحضور لا يسمى علماً.
وأما على المعنى الاصطلاحي؛ فلأن معنى الوجدان المذكور إنما هو حصول الصورة الزائلة في الذهن، والحصول لا يسمى علماً كما مر في مباحث العلم. والله أعلم.
السابع: المعرفة. قال القرشي: وهي لغة مرادفة للعلم وهو ظاهر القاموس، وقال الراغب: المعرفة والعرفان إدراك الشيء بتفكر وتدبر لأثره، وهو أخص من العلم، ويضاده الإنكار يقال: فلان يعرف الله ولا يقال: يعلم الله متعدياً إلى مفعول واحد لما كان معرفة البشر لله هي بتدبر آثاره ودون إدراك ذاته، ويقال: الله يعلم كذا ولا يقال: يعرف كذا، قال: والعلم يضاده الجهل.
هذا وأما الحكماء فلهم في معنى هذه اللفظة أقوال كلها تدل على عدم الترادف فقيل: العلم يتعلق بالمركبات والمعرفة بالمفردات، وربما قالوا: المعرفة هي التصور والعلم هو التصديق، وهؤلاء جعلوا العرفان أعظم درجة من العلم، قالوا: لأن تصديقنا باستناد هذه المحسوسات إلى موجود واجب الوجود، وأمر معلوم بالضرورة، وأما تصور حقيقته فأمر خارج عن طوق البشر، ولأن الشيء ما لم يعرف وجوده فلا تطلب ماهيته، فعلى هذا كل عارف عالم ولا عكس، ولذلك فإن الرجل لا يوصف بالعرفان إلا إذا توغل في العلم وبلغ غايته بحسب الطاقة البشرية.
قالوا: وفي الحقيقة أن أحداً لا يعرف الله سبحانه لاستحالة الاطلاع على كنه ذاته.
قلت: إن أرادوا أن أحداً لا يعرف كنه ذاته فمسلم، وإن أرادوا أن أحداً لا يعرف ما يجب من معرفته وهو إثباته وإثبات صفاته فهو خلاف ما عليه المسلمون من اتفاقهم على حصول معرفة الله تعالى وإن اختلفوا في كونها ضرورية أو نظرية.
وقيل: المعرفة إدراك الجزئيات، والعلم إدراك الكليات.
وقيل: المعرفة إدراك المحفوظ ثانياً.
وأما المتكلمون فقال (النجري): أطلق كثير من أصحابنا أن العلم والمعرفة مترادفان، قالوا: ولهذا لا يصح أن يثبت بأحدهما وينفى بالآخر، ثم استشكله لما مر من الفرق بينهما لغة.
وعند (الحكماء) قال: وقال بعضهم: المعرفة علم ناقص، ومن ثم يقال: الله تعالى عالم ولا يقال له عارف، قال: ومنع بعضهم أن يطلق على الله عارف وإنما يقال له: عالم، قال: لأن المعرفة هي العلم المسبوق بالجهل والله يتعالى عن ذلك.
قيل: ومن ثم لم يرد لفظ عارف في أسماء الله الحسنى، ولا وصف بها نفسه في كتابه العزيز مع كثرة ما وصف به نفسه بالعلم وما تصرف منه.
قلت: وقد مر في قوله: {وَهُوَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ}[البقرة:29] عن الموفق بالله، والقرشي جواز وصف الله تعالى بعارف.
وبه قال السيد محمد بن عز الدين المفتي، وأجازه الفقيه حميد الشهيد وهو في (الكشاف) وغيره، بل قد روي عن علي عليه السلام حيث يقول في بعض خطبه: هو الظاهر عليها بسلطانه وعظمته، والباطن لها بعلمه ومعرفته. وقال عليه السلام : عارفاً بها قبل إبدائها، محيطاً بها قبل انتهائها.
وأجيب بأن إطلاقه عليه السلام إنما كان للقرينة الصارفة عن المعنى الذي وضعت له المعرفة وهو العلم المسبوق بجهل، والقرينة في كلامه عليه السلام ذكر العلم والمحيط؛ إذ هو بمعنى عالم، وفيه نظر؛ إذ اتباع أحد اللفظين بالآخر لا يقتضي صرفه عما وضع له. والله أعلم.
الثامن: الفهم. قال في (المختار): فهِم الشيء -بالكسر- فهماً وفهامة علمه، ونحوه في القاموس إلا أنه قال: علمه وعرفه بالقلب.
وقال الراغب: الفهم هيئة للإنسان بها يتحقق معاني ما يحسن، وهذا يدل على أنه غير مرادف للعلم في اللغة.
وأما كلام صاحب (المختار) فهو يفيد الترادف وهو قول القرشي فإنه نص على ترادفهما لغة، واحتج بما مر في المعرفة.
وقال الغزالي: هو لغة بمعنى الفقه، وسيأتي معنى الفقه عنده.
وقال الرازي: الفهم تصور الشيء من لفظ المخاطب، والإفهام إيصال المعنى باللفظ إلى فهم السامع، فقصره على نوع خاص من العلم، لكنه خالف أهل اللغة في معناه كما عرفت، فإن من قصره على نوع من العلم لم يقصره على العلم الحاصل من لفظ المخاطب، بل قصره على علم الإنسان وهم القدوة في معاني الألفاظ اللغوية، وإن كان ما مر من التعليل في منع وصف الله تعالى بفطن وفهم يشهد لصحة قوله. والله أعلم.
التاسع: الفقه. وقد اختلف في معناه لغة واصطلاحاً، فقال القرشي: هو لغة مرادف للعلم لما مر، وفي القاموس: الفقه ـ بالكسر ـ: العلم بالشيء والفهم له، وغلب على علم الدين لشرفه، وفي (المختار): الفقه: الفهم، ثم خص به علم الشريعة، والعالم به فقيه.
وقال الراغب: هو التوصل إلى علم غائب بعلم شاهد وهو أخص من العلم، ثم قال: والفقه: العلم بأحكام الشريعة.
وقال الإمام يحيى بن المحسن، والإمام المهدي، وأحمد بن محمد الرصاص ومن تبعهم: هو لغة فهم معنى الخطاب الذي فيه غموض فلا يقال: فهمت معنى قولك السماء فوقنا لما كان لا غموض فيه، ووافقهم الرازي إلا أنه لم يقيده بالغموض.
وقال في (الفصول): هو لغة العلم، أو الظن لأمر خفي ولو كان بغير خطاب في الأصح، قال السيد صلاح بن أحمد: هذا إشارة إلى ضعف تقييد الفهم بكونه عن الخطاب؛ لأنه يصح أن يقال: فقهت المسألة وإن لم يكن ثم متكلم ولا مخاطب، فإن احتج للتقييد بقوله تعالى: {قَالُوا يَاشُعَيْبُ مَا نَفْقَهُ كَثِيراً مِمَّا تَقُولُ}[هود:91] ونحوها.
قلنا: هذا يدل على أن الفهم من الخطاب يسمى فقهاً لا على أنه لا يسمى فقهاً إلا ما كان كذلك وقد قال تعالى: {وَلَقَدْ ذَرَأْنَا لِجَهَنَّمَ كَثِيراً مِنَ الْجِنِّ وَالإِنسِ لَهُمْ قُلُوبٌ لاَ يَفْقَهُونَ بِهَا}[الأعراف:179] وهذا لا يختص بالفهم من الخطاب، بل عدم الفهم مطلقاً من الأدلة العقلية والسمعية، وذكر بعض المحققين أن الفقه يقال لغة على ما ليس من جنس الكلام كالحرف والصنائع.
قلت: ويرد على من قيده بالخفي والغموض أنه مخالف لما نقل عن أهل اللغة كما قررناه لكنه يقال: قد ثبت أن الفقه يستعمل في علم الشريعة وهو مما يدخله بعض خفاء وغموض، ولهذا لا يسمى العلم بوجوب الصلاة ونحوها مما علم من ضرورة الدين فقهاً، ومن حق العرفي أن يكون بينه وبين المعنى اللغوي بعض مناسبة، فإذا اعتبر الخفاء في أحدهما وجب أن يكون معتبراً في الآخر، ثم إن كلام الراغب يقتضي اشتراطه؛ لأنه جعله عبارة عن العلم الاستدلالي، وذلك لا يخلو من غموض.
هذا وأما في الاصطلاح فقد اختلف فيه على أقوال:
أحدها: أنه العلم بالحلال والحرام الشرعي، وأسبابهما، وشروطهما.
ثانيها:أنه العلم بأحكام الشرع وما يتصل بها من أسبابها، وشروطها، وعللها، وطرقها، والأسباب، كالنصاب في الزكاة، والشروط على ضربين: شرط في الحكم نفسه كشروط الصلاة من الطهارة وغيرها، وشرط في علته كالزنا علة في الرجم بشرط الإحصان، والعلل كالكيل والوزن مع اتفاق الجنس فإنهما علة لثبوت الحكم الشرعي وهو التحريم، والطرق هي الأدلة وسائر مسائل أصول الفقه، وذكر الأسباب وما بعدها للاحتراز عن العامة إذا اعتقدوا هذه الأحكام تقليداً، فإن اعتقادهم لا يسمى فقهاً لما لم يكن تحصيل ذلك منهم عن معرفة هذه الأمور.
واعترض هذان الحدان بأمور: منها أن أكثر الفقه خارج عنهما وهو ما كان مظنوناً، ويجاب بأن المراد بالعلم هنا الاعتقاد الراجح وهو شامل للعلم والظن.
قلت: وفيه نظر؛ إذ للخصم أن يقول: لا نسلم أن الظن من جنس الاعتقاد، والأولى أن يقال: إنما عبر بالعلم؛ لأن الظن يفضي إلى اليقين، وذلك لأن الشارع جعل مناط الأحكام ظن المجتهد كما جعل ألفاظ العقود علامة عليها وأسباباً لثبوتها، فمتى تحقق ظنه بالوجدان علم قطعاً ثبوت ما نيط به إجماعاً، بل ضرورة من الدين فقد أفضى به ظنه إلى العلم بالأحكام نفسها، ذكر هذا الوجه الإمام الحسن بن عز الدين قال: وعلى هذا لا يدخل اعتقاد العامي المقلد؛ لأن ظنه لا يفضيه إلى علم؛ إذ لم ينعقد إجماع على وجوب اتباعه لظنه، بل انعقد على خلافه، وإنما يتأتى دخوله حيث حملنا العلم على الاعتقاد الراجح وهو جواب حسن لكنه لا يتأتى إلا على القول بأن كل مجتهد مصيب، وأما على الأول بأن المصيب واحد فلا، لكن قد أجاب بعضهم على هذا التقدير بما معناه: أن المجتهد إذا نظر في الدليل الظني فحصل له ظن الحكم فإنه يجب عليه العمل بذلك الحكم قطعاً، وكلما وجب عليه العمل به قطعاً فهو معلوم عنده قطعاً، أما الأولى فللإجماع على أن المجتهد يجب عليه العمل بما أداه إليه اجتهاده من الأحكام المظنونة قطعاً.
قيل: والأخبار في ذلك متواترة معنى.
وأما الثانية فلأن وجوب العمل لا يكون مقطوعاً به إلا بعد العلم المقطوع به؛ لأنه فرع عليه حتى لو لم يكن معلوماً لم يجب العمل به.
وأجيب بأن القطعية لم تحصل من الدليل التفصيلي، وإنما الحاصل عنه ظن فقط، ووجوب العمل به قطعاً أمر خارج عن مفاد الدليل فلا ينافي كون المدلول ظنياً، ومن الأمور المعترض بها على هذين الحدين أن الأحكام الشرعية ومسائل الحلال والحرام متعذر إحصاؤها، والتعريف بأل إن أريد الاستغراق لزم أن لا يوجد فقيه في الدنيا؛ لأنه لا يكون فقيهاً حتى يأتي على كل الفقه، والفرض أنه متعذر، وهذا خلاف ما هو معلوم من إطلاق اسم الفقيه على من عرف جملاً منه، وقد ثبت عن مالك أنه قال في ست وثلاثين مسألة أو أكثر: لا أدري، وتسميته فقيهاً مجمع عليه، وإن لم يرد به الاستغراق فإما أن يراد به بعض معنى فلا دليل عليه، أو بعض له نسبة معينة إلى الكل كالنصف فصاعداً فهو رد إلى جهالة؛ لأن الكل مجهول الكمية، والجهل بها يستلزم الجهل بالأجزاء المنسوبة إليها، أو بعض مطلق وإن قل، وهو باطل وإلا لزم تسمية من علم مسألة أو مسألتين فقيهاً، وليس كذلك اصطلاحاً.
وأجيب باختيار الأول، ولنا في تقريره طريقان:
الأولى: أن العلم هنا بمعنى التهيؤ وهو أن يكون عند المجتهد ما يكفيه في العلم بالأحكام بأن يرجع إليه عند النظر فيحكم، وعدم العلم في الحالة الحاضرة لا ينافيه؛ لجواز أن يكون ذلك لتعارض الأدلة، أو لعدم التمكن من الاجتهاد في الحال لاستدعائه زمناً طويلاً.
فإن قيل: إن أريد بالتهيؤ البعيد فهو حاصل لكل عاقل فيلزم أن يكون كل عاقل فقيهاً، والمعلوم خلافه، وإن أريد القريب فلا ضابط له؛ إذ لا يعرف أن أي قدر من الاستعداد يقال له التهيؤ القريب.
قيل: نختار الثاني، وقوله: لا ضابط له ممنوع، فإن معناه ملكة يقتدر بها على إدراك جزئيات الأحكام، وإطلاق العلم على هذا التهيؤ شائع عرفاً، يقال: فلان يعلم النحو، ولا يراد أن جميع مسائله حاضرة عنده على التفصيل، بل إنه متهيئٌ لذلك.
الطريقة الثانية: أن العموم معتبر بالنظر إلى المجتهد وهو أن تكون جميع الأحكام الحاصلة له بالفعل ثابتة بطريق علمية وهي طريقة الاستدلال، ومما يعترض به عليهما أنهما غير مانعين لدخول غير المحدود فيه، وذلك أن العلم بوجوب الأمر الشرعي على سبيل الجملة حكم شرعي، وكذلك بعض ما يذكر في أصول الفقه وغيره مع أنها لا تعد فقهاً بالإجماع.
قلنا: أما الأول فلا يرد عليه هذا، لأن ما ذكره المعترض ليس من مسائل الحلال والحرام.
وأما الثاني فإنما لزمه بما يلتزمه فإنه قد جعل مسائل أصول الفقه من الفقه كما يفيده قوله: وما يتصل بها...إلخ، وله أن يقول الإجماع على أنها لا تعد فقهاً غير مسلم، فإن السبكي اختار في (منع الموانع) أن المسائل الاعتقادية التي طريقها السمع فقه، وسيأتي لهذا مزيد تحقيق.
ومنها أنه يلزم أن يكون علم الله تعالى بذلك فقهاً وليس كذلك، ولهذا لا يوصف بأنه فقيه كما مر.
ويجاب بأن كون الكلام في بيان ماهية الفقه قرينة واضحة كافية في إخراج علم الله تعالى وتخصيصه بعلم الإنسان الذي يكون به فقيهاً، ومنها أنه يلزم دخول ما علم ضرورة أنه من الدين، ويجاب بالتزام دخوله كما مر.
الثالث من الأقوال في حد الفقه: العلم أو الظن لجمل من الأحكام الشرعية لا يعلم باضطرار أنها من الدين وشروطها، وأسبابها، وعللها، واعترض عليه بوجوه: منها ما قد ذكر في الاعتراض على ما قبله، ومنها: أنها أتى (بأو) فى الحد، والإتيان بها معيب في الحدود.
ويجاب بأن المعيب إنما هو إذا كانت للتشكيك، وليست هنا كذلك وإنما هي للتنويع.
ومنها أن ذكر الظن حشو لا حاجة إليه؛ لأن العلم يشمله على ما ذكره صاحب (التنقيح) من أن العلم يطلق على الظنيات كما يطلق على القطعيات، وبه يشعر كلام صاحب (الكشاف) وقد مر عن بعضهم أنه يطلق بالاشتراك على ثلاثة معان، وعد منها ما يجب العمل به من الأحكام.
وأجيب بأن ذلك الإطلاق مجاز، سلمنا فاستعمال العلم بالظن غريب لا يعرفه إلا الخواص، والمقصود بالحدود التوضيح والتفصيل الذي يعرفه كل أحد.
ومنها: أن الحكم المظنون يصير معلوماً على ما مر تقريره فلا حاجة لذكر الظن.
وأجيب بأن المعلوم انقسام الأحكام إلى معلوم ومظنون، ولا نزاع في أن الحكم المظنون يجب العمل به قطعاً، لكن الفقه هو العلم بنفس الحكم أو ظنه لا بوجوب العمل به فإنه أمر آخر، والحكم المظنون إنما يصير معلوماً بالنظر إلى وجوب العمل به لا بالنظر إلى ثبوته في نفسه، ويؤيد ذلك أن الحكم المظنون محتمل لعدم الثبوت في الواقع، ولو كان قطعياً لم يحتمل ذلك، فثبت أن ذكر العلم لا يغني عن ذكر الظن.
ومنها: أن الفقه هو المعلوم والمظنون لا العلم والظن بدليل أنه يقال: هل علمت الفقه أو ظننته، والفقيه لا يكون فقيهاً حتى يعلم جملاً من الفقه أو يظنها.
ويجاب بأن هذا مخالف لما عليه محققو الأصوليين فإنهم لم يفسروا الفقه إلا بالعلم أو بالعلم والظن، وفي (شرح الجمع) ما معناه: إن جميعهم عرفوا الفقه بالعلم بالأحكام لأنفسها مع أنه أقرب إلى المعنى اللغوي، سلمنا فهو من إطلاق المصدر مراداً به اسم المفعول وهو شائع.
ومنها: أنه يخرج منه علم الصحابة فلا يسمى فقهاً؛ لأنه حاصل عن اضطرار لتلقيهم من النبي صلى الله عليه وآله وسلم .
وأجيب بأن المراد بالعلم التهيؤ كما مر، وإمكان الاستنباط من الأدلة والصحابة كانوا كذلك.
الرابع من حدود الفقه: قول الإمام يحيى بن المحسن وهو أنه جملة من الأحكام الشرعية، أو جمل معلومة، أو مظنونة على سبيل التفصيل لا يعلم اضطراراً أنها من الدين وشروطها، وأسبابها، وعللها، وطرقها، والاعتراض عليه يعلم مما مر، ومما يختص به أن جعل الفقه هو نفس الأحكام، وقد مر أنه خلاف قول المحققين، وأنهم يجعلونه اسماً لما تعلق بالأحكام من علم فقط، أو من علم وظن على الخلاف.
وقال صاحب (الجوهرة): هو العلم أو الظن بجمل من الأحكام...إلخ، ثم قال: ولك أن تقول: هو العلم الذي يتبعه، ويصح معه إمكان استنباط أحكام الشرع عن طرقها بشروطها وأسبابها وعللها، ولعله إنما اقتصر على العلم لنحو ما مر من أن الأحكام المظنونة تفضي إلى اليقين، أو لما ذكره إمام الحرمين في (البرهان) وهو أن الظنون ليست فقهاً،وإنما الفقه العلم بوجوب العمل عند قيام الظنون، قال: ولذلك قال المحققون: أخبار الآحاد وأقيسة الفقه لا توجب عملاً لذواتها، وإنما يجب العمل بما يجب به العلم بالعمل وهو الأدلة القاطعة على وجوب العمل عند رواية أخبار الآحاد، وإجراء الأقيسة، ونحوه محكي عن القاضي، وأبي الحسين، والرازي، وابن الحاجب، والسبكي، وأكثر الأصوليين، فهؤلاء يقولون: إن الأحكام كلها معلومة، وقالوا: الظن إنما يدخل في طرف الأحكام لا في الأحكام أنفسها فإنها معلومة عند حصول غالب الظن بطريقها والفقه هو العلم بها.
قال في (الجوهرة): وقلنا بشروطها...إلخ؛ لأن العامة يظنون كثيراً من أحكام الشرع ثقة بمن يقلدونه من أهل الاجتهاد، وليسوا فقهاء لما لم يظنوها بشروطها وأسبابها وعللها.
الخامس من الحدود: ذكره صاحب (الفصول) وهو أنه العلم، أو الظن للأحكام الشرعية الفرعية عن أدلتها التفصيلية ونحوه في (جمع الجوامع) إلا أنه حذف الظن وعبر عن الفرعية بالعملية، وزاد بعدها المكتسب ونحوهما في (الغاية) إلا أنه عدل عن العلم والظن إلى الاعتقاد لشموله الظن، ولأنه إن أريد بالعلم المعنى الأخص خرج أكثر الأحكام؛ إذ أكثرها ظني، أو الأعم دخل الشك والوهم.
قلت: وإن صرح بذكر الظن كان تطويلاً، والحدود مبنية على الاختصار.
إذا عرفت هذا فاعلم أنه خرج بقيد الأحكام العلم بالذوات والصفات كتصور الإنسان والبياض، وبقيد الشرعية العلم بالأحكام العقلية والحسية، كالعلم بأن الواحد نصف الاثنين وأن النار محرقة، وأن هذا مماثل لهذا أو مخالف له؛ إذ لا مدخل لهما في باب الفقه ومعنى انتسابها إلى الشرع ثبوتها به، وبقيد الفرعية العلم بالأحكام الشرعية أي الاعتقادية، كالعلم بأن الله تعالى لا يرى في الدنيا ولا في الآخرة، وكمسألة الشفاعة، وبقيد المكتسبة علم الله تعالى وجبريل والنبي -صلى الله عليه وآله- بما ذكر، فإنها لا تسمى فقهاً؛ لأن المنقسم إلى الضروري والكسبي هو العلم الحصولي، وأما علم الله فهو حضوري، وأما علم جبريل فمستند إلى الوحي فهو ضروري، وعلم النبي -صلى الله عليه وآله- كذلك إلا ما كان طريقه الاجتهاد فقيل: إنما لم يسم فقهاً لأن اجتهاده دليل وفي عدم تسمية علمه صلى الله عليه وآله وعلم جبريل فقهاً خلاف ليس هذا موضعه، وبقيد التفصيلية اعتقاد المقلد العامي؛ إذ ليس عن دليل، ويخرج أيضاً الأدلة الإجمالية كمطلق الكتاب والسنة فلا يستند في حل البيع إلى كون الكتاب حجة، بل إلى الدليل التفصيلي وهو قوله تعالى: {وَأَحَلَّ اللَّهُ الْبَيْعَ}[البقرة:275]، والمراد بالأحكام النسب التامة نحو: الحج واجب، والوتر مندوب، هذا ويؤخذ ما ورد على هذا الحد مما سبق.
واعلم أن العلوم وإن كانت كلها فقهاً إلا أنه قد غلب هذا الاسم على هذا العلم، كما غلب اسم النحو على علم العربية وإن كانت العلوم كلها منحوة أي مقصودة، والأمور الاصطلاحية لا مشاححة فيها، ولا حجة منها.
وأما الغزالي فقد صاح وناح وقال: إن الناس تصرفوا في لفظ الفقه بالتخصيص لا بالنقل والتحويل؛ إذ خصصوه لمعرفة فروع الفقه من الطلاق والعتاق ونحوهما والوقوف على دقائقها، ولم يكن إطلاقه في العصر الأول إلا على علم طريق الآخرة ومعرفة آفات النفوس، واحتج بقوله تعالى: {لِيَتَفَقَّهُوا فِي الدِّينِ وَلِيُنذِرُوا قَوْمَهُمْ}الآية[التوبة:122]، والإنذار لا يكون إلا بتعريف علوم الآخرة لا بمسائل الطلاق ونحوه، بل ربما أن الانكباب عليها يقسي القلب، واحتج أيضاً بقوله تعالى: {لَهُمْ قُلُوبٌ لاَ يَفْقَهُونَ بِهَا}[الأعراف:179] أي لا يعقلون معاني الإيمان، وبقوله صلى الله عليه وآله وسلم : ((علماء حكماء فقهاء)) للذين وفدوا عليه، قال في (التخريج): أخرجه أبو نعيم في الحلية، والبيهقي في الزهد، والخطيب في التاريخ من حديث سويد بن الحارث بإسناد ضعيف، وروى أبو طالب نحوه من حديث [.......].
وقوله صلى الله عليه وآله: ((ألا أنبئكم بالفقيه كل الفقيه؟ قالوا: بلى، قال: من لم يقنط الناس من رحمة الله، ولم يؤمنهم من مكر الله، ولم يؤيسهم من روح الله، ولم يدع القرآن رغبةً عنه إلى ما سواه)) أخرجه أبو بكر بن لال في مكارم الأخلاق، وابن السني، وابن عبد البر من حديث علي عليه السلام قال ابن عبد البر: وأكثرهم يوقفونه على علي عليه السلام .
وقال في (الجامع الكافي): وروى محمد بإسناده عن أبي الدرداء، قال: قلت يا رسول الله ما الحد الذي إذا بلغه الرجل كان به فقيهاً؟ فقال صلى الله عليه وآله: ((من حفظ على أمتي أربعين حديثاً يبعثه الله يوم القيامة فقيها عالماً، وكنت له شهيداً شفيعاً)).
ومن كلام السلف قول أنس: إنّا كنا نقعد فنذكر الإيمان، ونتدبر القرآن، ونتفكر في الدين، ونعد نعم الله علينا تفقهاً. رواه أبو داود بإسناد حسن.
وعن الحسن: الفقيه الزاهد في الدنيا، الراغب في الآخرة، البصير بهذا الدين، المتمسك بالإسلام. رواه الموفق بالله.
فهذه وما في معناها لم يقل في شيء منها العالم بالفروع والفتاوي الفقهية.
قال الغزالي: ولست أقول إن اسم الفقه لم يكن متناولاً للفتاوي في الأحكام الظاهرة، ولكن كان بطريق العموم، أو بطريق الاستتباع، وكان إطلاقهم له على علم الآخرة أكثر.
قلت: قد أكثر الغزالي التشنيع على العلماء في هذا الموضع، والحق أنهم لم يخصوا اسم الفقه بالأحكام الظاهرة إلا من حيث الاصطلاح، وذلك لا حجة فيه ولا مشاححة، فلكل أهل حرفة وصناعة اصطلاح خاص فيما بينهم به تعرف مقاصدهم في المخاطبة ونحوها، وكذلك يقال: إن العلماء اصطلحوا على هذا التخصيص فيما بينهم لتمييز العلم بالأحكام عن سائر العلوم إذا وقع في التخاطب نحو أن يقال: الأولى القراءة في علم الفقه، أو ابحث عن مسألة كذا في كتب الفقه، وقد تقدم أن هذا اصطلاح غالب كما اصطلح على تسمية علم العربية نحواً.
وأما بحسب الوضع الشرعي الذي تتعلق به فضائل الفقه ونحوها فجميع مسائل الشرع تسمى فقهاً، ولا نزاع فيه إلا أنه يرد على أهل الاصطلاح إشكال وهو أنهم فسروا الفقه المأخوذ في اسم الفن المعروف بأصول الفقه بالمعنى الاصطلاحي، وهذا يفيد أنه لا يتوقف على معرفة فن أصول الفقه إلا الفقه بالمعنى المصطلح عليه، وليس كذلك، فإن كثيراً من مسائل الاعتقاد التي دليلها السمع متوقفة على أصول الفقه، ويتوصل بقواعده إلى معرفتها، وذلك معلوم في مسألة الوعد والوعيد، والشفاعة وغير ذلك، فإن الاستدلال عليها إنما يكون بإجراء الأدلة على قواعد الأصول من عموم وخصوص، وإجمال وتبيين وغير ذلك، فكان الأولى أن يفسر بما يفيد الشمول نحو أن يقال: الفقه هو العلم بالمسائل.
العاشر من الألفاظ المتكلم عليها: العقل. والكلام في العقل يحتاج إلى تطويل وليس هذا موضعه إلا أنا نقول: تسميته علماً هو قول المعتزلة؛ لأنهم يقولون: إن العقل هو مجموع علوم عشرة ضرورية فهو نوع خاص من العلم.
وقال الإمام أحمد بن سليمان: العقل العلم، وحكى إجماع الموحد والملحد على أن العقل هو العلم إلا المطرفية فإنهم يقولون: هو القلب.
قلت: وفي دعوى الإجماع نظر كيف وبعض أئمتنا" يقولون: إنه عرض غير العلوم العشرة، والفلاسفة يقولون: إنه جوهر وإن العلم هو الصورة الحاصلة أو عنده، ولغيرهم كلمات تدل على أنه غير العلم.
وقال الرازي: العقل هو العلم بصفات الأشياء من حسن وقبح وما فيها من نفع وضر؛ لأن من علم ذلك أقدم على الفعل والترك فصار العلم هو الداعي إلى الفعل والترك، ويكون تارة مانعاً من الفعل، وتارة مانعاً من الترك، فجرى مجرى عقال الناقة.
والجواب: أن العلم بالحسن ونحوه إنما هو نوع مخصوص مما يدرك بالعقل، ولا يحصل إدراكه بغيره، وليس العلم هو نفس العقل، ونظيره المشاهدة للشيء فإنها لا تحصل إلا بإدراك مخصوص، ولا يحصل إلا بمعنى في العين، وليست المشاهدة هي نفس البصر، فكذلك هنا، وسنقتصي الكلام في مواضعه إن شاء الله تعالى.
الحادي عشر: الدراية. وقد تقدم الكلام عليها في مسألة عالم.
الثاني عشر: الحكمة. وسيأتي الكلام عليها في مواضعها إن شاء الله تعالى.
الثالث عشر: اليقين. وقد تقدم الكلام عليه في قوله تعالى: {وَبِالآخِرَةِ هُمْ يُوقِنُونَ}[البقرة:4] وفي مسألة عالم.
وقال الرازي: قالوا: اليقين لا يحصل إلا إذا اعتقد أن الشيء كذا، وأنه يمتنع كون الشيء بخلاف معتقده إذا كان لذلك الاعتقاد موجب إما ببديهة الفطرة، وإما بنظر العقل، وأتى الغزالي في تحقيق اليقين وتقسيمه بما لا ينبغي جهله؛ لأن اليقين مقام عظيم، ولهذا وجبت العناية الشديدة بتقويته بالنظر في الأدلة كما يشير إلى ذلك تكرار الأدلة في المعارف الإلهية وغيرها؛ إذ لا فائدة لها إلا رسوخ العلم، وثبوت اليقين، واطمئنان القلب، وقد أشرنا إلى هذا في سياق قوله تعالى: {يَاأَيُّهَا النَّاسُ اعْبُدُوا رَبَّكُمُ}[البقرة:21]، وفي الحديث: ((إن اليقين هو الإيمان كله)) وقد مر.
وحكى الغزالي في فضله أحاديث منها قوله صلى الله عليه وآله: ((تعلموا اليقين)) ونسبه العراقي إلى أبي نعيم في الحلية من رواية ثور بن يزيد مرسلاً وهو معضل، رواه ابن أبي الدنيا من قول خالد بن معدان.
وقوله صلى الله عليه وآله لما قيل له رجل حسن اليقين كثير الذنوب، ورجل مجتهد في العبادة قليل اليقين، فقال صلى الله عليه وآله: ((ما من آدمي إلا وله ذنوب ولكن من كان غريزته العقل، وسجيته اليقين لم تضره الذنوب؛ لأنه كلما أذنب تاب واستغفر وندم فتكفر ذنوبه، ويبقى له فضل يدخل به الجنة)) هكذا في الإحياء، قال العراقي: أخرجه الحكيم الترمذي في النوادر بإسناد مظلم.
وقوله صلى الله عليه وآله: ((إن من أقل ما أوتيتم اليقين وعزيمة الصبر، ومن أعطي حظه منهما لم يبال ما فاته من قيام الليل وصيام النهار)) قال في (التخريج): لم أقف له على أصل.
قال: وروى ابن عبد البر من حديث معاذ: ((ما أنزل الله شيئاً أقل من اليقين، ولا قسم بين الناس شيئاً أقل من الحلم)).
قال الغزالي: وقد أشار الله في القرآن إلى ذكر الموقنين في مواضع دل بها على أن اليقين هو الرابطة للخيرات والسعادات.
إذا عرفت هذا فلنأت في هذا الموضع بحاصل ما في الإحياء من التحقيق والتقسيم فنقول:
اعلم أن اليقين لفظ مشترك يطلقه فريقان لمعنيين مختلفين، وأما النظار والمتكلمون فيعبرون به عن عدم الشك، وذلك أن لميل النفس إلى التصديق بالشيء أربع مقامات:
أحدها: أن يعتدل التصديق والتكذيب، وهذا يعبر عنه بالشك.
ثانيها: أن يكون أحد الأمرين راجحاً، لكنه رجحان لا يمنع إمكان نقيضه، وهذا هو الظن ولا يخلو من شك الاستواء التجويزين في ميل النفس إليهما، لكن ذلك الميل لا يمنع رجحان أحدهما.
ثالثها: أن تميل النفس إلى التصديق بحيث يغلب عليها ولا يخطر بالبال غيره، ولو خطر لم تقبله النفس لكن ليس مع ذلك معرفة محققة؛ إذ لو وقع التأمل والإصغاء إلى التشكيك أو التجويز لم تنفر عنه النفس، وهذا يسمى اعتقاداً مقارباً لليقين وهو اعتقاد العوام في الشرعيات؛ إذ رسوخها في نفوسهم ليس إلا لمجرد السماع حتى أن كل فرقة تثق بصحة مذهبها وإصابة إمامها حتى لو ذكر لأحدهم إمكان خطأ إمامه نفر عنه.
رابعها: المعرفة الحقيقية الحاصلة بطريق البرهان الذي لا يشك فيه ولا يتصور الشك فيه، فإذا امتنع الشك وإمكانه سمي يقيناً عند هؤلاء، وكل علم حصل على هذا الوجه يسمى يقيناً عندهم، سواء حصل بنظر كإثبات القديم تعالى، أو بحس كعلمنا بالشمس والقمر، أو بغريزة العقل كالعلم باستحالة حادث بلا سبب، أو بتواتر كعلمنا بمكة، أو بالتجربة كالعلم بأن بعض الأدوية مسهلة، فشرط إطلاق هذه الاسم عندهم عدم الشك، وعلى هذا لا يوصف اليقين بالضعف؛ إذ لا تفاوت في نفي الشك.
المعنى الثاني: وهو اصطلاح الفقهاء، والمتصوفة، وأكثر العلماء أنه عبارة عن ميل النفس إلى التصديق، وغلبة ذلك الميل على القلب، واستيلائه عليه حتى صار هو المتحكم والمتصرف في النفس بالتجويز والمنع، فإذا كان كذلك سمي يقيناً عندهم، ولم يلتفتوا إلى اعتبار التجويز والشك، بل إلى الغلبة والاستيلاء، ويوصف عندهم بالقوة والضعف، ولهذا يقال: فلان قوي اليقين في الرزق مع أنه يجوز أن لا يأتيه لما كان قد غلب عليه ميل النفس إلى الوثوق بإتيانه، ويقال: فلان ضعيف اليقين بالموت، أو غير موقن به لما كان غير ملتفت إليه ولا إلى الاستعداد له.
نعم أما الوصف بالجلاء والخفاء فالمعنيان مشتركان في الوصف بهما، ألا ترى أنك تجد تفرقة بين تصديقك بوجود مكة ووجود فدك مثلاً مع أنك لا تشك في الأمرين، وطريقهما معاً التواتر، ولكنك تجد أحدهما أوضح في قلبك من الثاني لقوة سببه وهو كثرة المخبرين، وكذلك ليس ما علمته بدليل واحد في الوضوح كالذي علمته بالأدلة الكثيرة مع تساويهما في نفي الشك.
قال الغزالي: وهذا ينكره المتكلم الذي يأخذ العلم من الكتب والسماع ولا يراجع نفسه فيما يدركه من تفاوت الأحوال، قال: وأما القلة والكثرة فذلك بكثرة متعلقات اليقين كما يقال: فلان أكثر علماً من فلان أي معلوماته أكثر.
فإن قيل: فما معنى متعلقات اليقين ومجاريه وفيماذا يطلب؟ فإني عالم أعرف ما يطلب فيه اليقين لم أقدر على طلبه.
قيل: جميع ما ورد به الأنبياء -صلوات الله عليهم- هو من مجاري اليقين، فإن اليقين عبارة عن معرفة مخصوصة، ومتعلقه المعلومات التي وردت بها الشرائع، ولا مطمع في إحصائها، ولكنا نشير إلى أمهاتها فمنها: التوحيد.
قلت: وأدلته معلومة وهو مما وردت به الشريعة من حيث أنها جاءت بتقرير الأدلة العقلية ومنبهة عليها، وقد اشتمل كتابنا هذا من أدلة التوحيد على ما يغني عن غيره.
ومنها: الثقة بضمان الله تعالى بالرزق في قوله تعالى: {وَمَا مِنْ دَابَّةٍ فِي الأَرْضِ إِلاَّ عَلَى اللَّهِ رِزْقُهَا}[هود:6] واليقين أن ذلك يأتيه، فعند ذلك يجمل في الطلب ولم يشتد حرصه وشرهه وتأسفه على الفائت، ويثمر هذا اليقين كثيراً من الطاعات والأخلاق الحميدة.
ومنها: أن يغلب على قلبه أن من يعمل مثقال ذرة خيراً يره ومن يعمل مثقال ذرة شراً يره وهو اليقين بالثواب والعقاب، وثمرته صدق المراقبة في الحركات والسكنات والخطرات، والمبالغة في التقوى، والتحرز عن كل السيئات، اليقين اليقين بأن الله تعالى مطلع عليك في كل حال، وهذا متيقن عند كل مؤمن بالمعنى الأول.
وأما بالثاني فهو مختص بالصديقين، وثمرته أن يكون الإنسان في خلوته متأدباً في جميع أحواله، كالجالس بمشهد ملك عظيم ينظر إليه، ويكون تأدبه في الأعمال الباطنة كتأدبه في الأعمال الظاهرة لتحققه أن الله تعالى مطلع على باطنه كاطلاع الخلق على ظاهره، وهذا المقام من اليقين يورث الحياء والخوف، والذل والخضوع، وجملة من الأخلاق المحمودة، وهذه الأخلاق تورث أنواعاً من الطاعات رفيعة.
قال (الغزالي): فاليقين في كل باب من هذه الأبواب مثل الشجرة، وهذه الأخلاق في القلب مثل الأغصان المتفرعة منها، وهذه الأعمال والطاعات الصادرة عنها كالثمار والأنوار المتفرعة من الأغصان، فاليقين هو الأصل والأساس، وله مجارٍ وأبواب أكثر مما عددناه، فهذا حاصل ما ذكره الغزالي، وهو كلام نفيس تقتضيه الأدلة وأقوال الأئمة"، ومنه يتبين صحة ما قاله الناصر عليه السلام من أن العاصي من هذه الأمة إنما يختار المعصية لعدم يقينه؛ لأنه إما أن يكون من العوام فاليقين غير حاصل له بالمعنى الأول لعدم انتفاء الشك عنه، وإما أن لا يكون من العوام لكن قد غلب على قلبه حب الدنيا واستولى عليه حب الشهوات، فاليقين منتفٍ عنه بالمعنى الثاني. والله أعلم.
وقد علم مما ذكرناه هنا وفيما مر أن اليقين علم مخصوص.
الرابع عشر: الذهن. وهو لغة الفطنة والحفظ، ذكره في (المختار) قال: والذهن بفتحتين مثله، وفي (القاموس): الذهن -بالكسر-: الفهم والعقل، وحفظ القلب، والفطنة، ويحرك والقوة والشحم، وجمعه أذهان.
وأما في الاصطلاح فقال الرازي: هو قوة النفس على اكتساب العلوم التي هي غير حاصلة، قال: وتحقيق القول فيه أن الله تعالى خلق الروح خالياً عن العلم بالأشياء ولم يخلقها إلا للطاعة كما قال تعالى: {وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالإِنسَ إِلاَّ لِيَعْبُدُونِ}[الذاريات:56] والطاعة مشروطة بالعلم، ولا بد منه على كل حال، فلا بد وأن تكون النفس متمكنة من تحصيله، فأعطانا الله سبحانه من الحواس ما أعان على تحصيل الغرض فقال في السمع: {وَهَدَيْنَاهُ النَّجْدَيْنِ}[البلد:10] وفي البصر: {سَنُرِيهِمْ آيَاتِنَا فِي الآفَاقِ وَفِي أَنْفُسِهِمْ}[فصلت:53] وقال في الفكر: {وَفِي أَنفُسِكُمْ أَفَلاَ تُبْصِرُونَ}[الذاريات:21]، فإذا تطابقت هذه القوى صار الروح الجاهل عالماً، فالحاصل أن استعداد النفس لتحصيل هذه المعارف هو الذهن.
قلت: وما ذكره في حده فهو موافق لقول أهل اللغة، إن أراد بالقوة الفطنة، أو العقل أو الفهم؛ لأن كل واحد من هذه تصدق عليه أنه قوة للنفس على اكتساب العلوم، ولكن كلامه في تحقيق ذلك يفيد أن تلك القوة هي الحواس المستعان بها على تحصيل العلوم، وهذه القوة لا أعلم أحداً من الحكماء يسميها ذهناً، بل كلامهم كلهم يقتضي أن الذهن أمر قلبي.
وأما أهل اللغة فقد عرفت معناه عندهم، ويمكن تخريجه على ما في القاموس من أنه قد يطلق على القوة، ثم تخصيصه الروح بالخلو من العلم، وأنه هو المخلوق للطاعة إنما يستقيم على القول بأن الإنسان المكلف هو الروح وهو قول باطل، وقد مر إبطاله في الثانية من مسائل قوله تعالى: {وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَقُولُ آمَنَّا بِاللَّهِ وَبِالْيَوْمِ الآخِرِ}الآية[البقرة:8].
الخامس عشر: الفكر. وسيأتي الكلام عليه.
السادس عشر: الحدس. وهو لغة الظن والتخمين، ذكره في القاموس و(المختار)، قال في القاموس: والتوهم في معاني الكلام، وقال في (المختار) يقال: هو يحدس أي يقول شيئاً برأيه.
واصطلاحاً قيل: هو سنوح المبادئ المترتبة من غير طلب، وقيل: هو انتقال من المطالب إلى المبادئ دفعة واحدة، ومن المبادئ إلى المطالب كذلك فهو مجموع الانتقالين، وقال الرازي: لا شك أن الفكر لا يتم عمله إلا بوجدان شيء يتوسط بين طرفي المجهول لتصير النسبة المجهولة معلومة، فإن النفس حال جهلها كأنها في ظلمة فلا بد لها من قائد وسائق وذلك هو المتوسط بين الطرفين، وله إلى كل واحد منهما نسبة خاصة فيتولد من نسبته إليهما مقدمتان، فكل مجهول لا يحصل العلم به إلا بواسطة مقدمتين معلومتين، والمقدمتان هما اللتان ينتجان المطلوب، فاستعداد النفس لوجدان ذلك المتوسط هو الحدس.
قلت: وذلك المتوسط هو التصور للمطلوب بوجه ما؛ إذ لا يتصور غيره. والله أعلم.
السابع عشر: الذكاء. وهو لغة سرعة الفطنة، وفي (النهاية): الذكاء شدة وهج النار ونحوه في مفردات الراغب قال: وعبر عن سرعة الإدراك وحدة الفهم بالذكاء كقولهم: هو شعلة نار، وقال الرازي: الذكاء هو شدة الحدس وكماله، وبلوغه الغاية القصوى.
الثامن عشر: الفطنة. قال في (المختار): الفطنة كالفهم، وفي القاموس: الفطنة بالكسر الحذق، وفطن به وإليه وله كفرح ونصر وكرم، وقال الرازي: هي عبارة عن التنبيه لشيء قصد تعريضه، ولذلك فإنه يستعمل في الأكثر في استنباط الأحاجي والرموز.
التاسع عشر: الخاطر. وقد بسطنا القول فيه في المسائل قوله تعالى: {يَاأَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ}[النساء:1] ولنذكر هنا ما قاله أهل اللغة والرازي، قال في القاموس: الخاطر: الهاجس، وجمعه الخواطر، وقال الرازي: هو حركة النفس نحو تحصيل الدليل، قال: وفي الحقيقة ذلك المعلوم هو الخاطر بالبال والحاضر والنفس، وكذلك يقال: هذا خطر ببالي، إلا أن النفس لما كانت محلاً لذلك المعنى الخاطر جعلته خاطر إطلاقاً لاسم الحال على المحل.
العشرون: الوهم. وقد مر أنه الاعتقاد والتجويز المرجوح، قال الرازي: وقد يقال إنه عبارة عن الحكم بأمور جزئية غير محسوسة لأشخاص حزبية جسمانية كحكم السخلة بصداقة الأم وغداقة المؤذي.
الحادي والعشرون: الظن. وسيأتي الكلام عليه مبسوطاً.
الثاني والعشرون: الخيال. وهو لغة: الشخص، والطيف، وفي القاموس: الخيال والخيلة ما تشبه لك في اليقظة والحلم من صورة، وجمعه: أخيلة، وفي مفردات الراغب: الخيال أصله الصورة المجردة، كالصورة المتصورة في المنام، وفي القلب بعيد غيبوبة الشخص، ثم يستعمل في صورة كلام متصور، وفي كل شخص دقيق يجري مجرى الخيال، والتخييل تصوير خيال الشيء في النفس، والتخيل تصور ذلك.
واصطلاحاً قال المحلى: حركة النفس في المحسوسات يسمى تخييلاً ويقابله الفكر، والمراد بحركة النفس في الشيء مطالعتها إياه ومشاهدتها له في قواها، وقال بعض المحققين: المحسوس ما حصل صورته في إحدى الحواس الظاهرة، والمخيل ما حصل صورته في الخيال التي هي خزانة الحس المشترك، والموهوم الذي أدركته القوة الواهمة وألقته في خزانتها التي هي الحافظة وتوجه النفس إلى المحسوس، والمخيل إحضار صورة إلى الحس المشترك، وتوجهها إلى الموهوم إحضار صورته من الحافظة إلى الواهمة، فصور المحسوسات إن حضرت إلى الحس المشترك من قبل الحواس كان ذلك الإحضار توجهاً إلى المحسوس، أو من قبل الخيال كان ذلك الإحضار يوجهها إلى المخيل، وكلا الإحضارين يسمى تخييلاً، وهو المراد من قول الشريف الجرجاني: إن حركة النفس في صور المحسوسات تسمى تخييلاً، ومن هنا تعلم الفرق بين الخيال والتخيل بياء واحدة، والتخييل باثنتين.
وفي الاصطلاح فالأول هو خزانة الحس المشترك، والثاني حصول صورة في الخيال، والثالث إحضار الصورة إلى الحس المشترك من قبل الحواس أو من قبل الخيال، وهذا كله مبني على إثبات الحواس الباطنة وعلماء الإسلام ينفونها، وسيأتي الكلام عليها إن شاء الله، وكلام الرازي في معنى الخيال قريب من كلام أهل اللغة.
الثالث والعشرون: البديهة. وهي المعرفة الحاصلة في النفس ابتداء في النفس لا بسبب الفكر، كالعلم بأن الواحد نصف الاثنين، والبديهيات هي التي يسمونها الأوليات سميت بذلك لأن الذهن يلحق محمول القضية بموضوعها أولاً من غير توسط شيء آخر.
الرابع والعشرون: الرويَّة. هي النظر والفكر كما في القاموس.
وقال الرازي: هي ما كان من المعرفة بعد فكر كثير.
الخامس والعشرون: الكياسة. قال في القاموس: الكيس خلاف الحمق، وفي النهاية: والكيس العاقل، وقال الرازي: هي تمكن النفس من استنباط ما هو أنفع.
السادس والعشرون: الخبرة. قال في القاموس: الخبر والخبرة بكسرهما ويضمان والمخبرة والمخبرة: العلم بالشيء، كالاختيار، وفي المختار: وخبر الأمر علمه، وبابه نصر، والاسم الخبر بالضم وهو العلم بالشيء، ثم قال: وخبره إذا بلاه واختبره، وبابه نصر وخبرة أيضاً بالكسر.
وقال الراغب: الخبر العلم بالأشياء المعلومة من جهة الخبر، وخبرته خبراً وخبره وأخبرت: علمت بما حصل لي من الخبر، وقيل: الخبرة المعرفة ببواطن الأمور.
وقال الرازي: الخبرة هي معرفة يتوصل إليها بطريق التجربة.
قلت: وهذا هو معناها في الاصطلاح.
السابع والعشرون: الرأي. وهو في أصل اللغة مصدر رأى الشيء يراه رأياً، ثم غلب على المرئي نفسه من باب استعمال المصدر في المفعول، وهو اسم لما يعلم بالقلب، ولكنهم خصوه بما يراه القلب بعد فكر وتأمل وطلب لمعرفة وجه الصواب مما تعارض فيه الأمارات، فلا يقال لمن رأى بقلبه أمراً غائباً عنه مما يحس به أنه رأيه، ولا للأمر المعقول الذي لا تختلف فيه العقول ولا تتعارض فيه الأمارات أنه رأي وإن احتاج إلى فكر وتأمل، كدقائق الحساب ونحوها.
وقال الرازي: الرأي إحاطة الخاطر في المقدمات التي يرجى منها إنتاج المطلوب وهو للفكر كالآلة للصانع، ولهذا قيل: إياك والرأي الفطير.
الثامن والعشرون: الفراسة. هي لغة التثبت والنظر، واصطلاحاً قال الرازي: هي الاستدلال بالخلق الظاهر على الخلق الباطن، وقد نبه الله على صدقها بقوله تعالى: {إِنَّ فِي ذَلِكَ لاَيَاتٍ لِلْمُتَوَسِّمِينَ}[الحجر:75] ونحوها، وفي الحديث: ((اتقوا فراسة المؤمن فإنه ينظر بنور الله عزَّ وجل)). أخرجه البخاري.
وفي التاريخ عن أبي سعيد، والحكيم الترمذي، وسمويه في فوائده، والطبراني في الكبير، وابن عدي في الكامل كلهم عن أبي أمامة، وابن جرير عن ابن عمر، قيل: وهو حديث حسن، وهي ضربان: ضرب يحصل في الخاطر بلا سبب وهذا ضرب من الإلهام، وضرب يكون بصناعة متعلمة وهي الاستدلال بالأشكال الظاهرة على الأخلاق الباطنة.
فهذه ثماني وعشرون كلمة تكلمنا عليها في هذا الموضع، وقد نبهنا على بعض ما هو نوع مخصوص من العلم وما ليس كذلك، وسكتنا عن بعضها لوضوحه. والله الموفق.
المسألة الثالثة [فضل العلم]
هذه الآية دالة على فضل العلم، والأدلة على فضيلته كثيرة عقلاً ونقلاً، أما العقل فمن وجوه:
أحدها: أن العلم صفة كمال وشرف، والجهل صفة نقص، وهذا معلوم ضرورة، ولذلك لو قيل للعالم: يا جاهل، فإنه يأنف ويتأذى مع علمه بكذب القائل، ولو قيل للجاهل إنه عالم لفرح بذلك، وهذا يدل على أن العلم شريف وممدوح، وأن الجهل نقصان لذاته.
الثاني: أن صاحب العلم محترم معظم حتى أن الرعاة إذا رأوا من جنسهم من هو أوفر منهم عقلاً وأوفر فضلاً فيما بصدده انقادوا له وأطاعوه، ولذلك قيل: العلماء إذا لم يعاندوا كانوا رؤساء بالطبع على من دونهم.
الثالث: لا شك أن كل نفيس مرغوب فيه ينقسم إلى ما يطلب لغيره، وإلى ما يطلب لذاته، وإلى ما يطلب لغيره ولذاته جميعاً، والمعلوم أن المطلوب لذاته أفضل من المطلوب لغيره، والذي يطلب هو نحو الدراهم والدنانير فإنهما حجران لا نفع فيهما إلا أن الله تعالى يسر قضاء الحاجات بهما، والذي يطلب لذاته هو السعادة في الآخرة، والذي يطلب لهما فكسلامة البدن، فإنها مطلوبة لكونها سلامة للبدن من الألم وللمشي بها ولتوصل إلى المآرب، وبهذا الاعتبار إذا نظرت إلى العلم وجدته لذيذاً في نفسه مطلوباً لذاته، ووجدته مع ذلك وسيلة إلى السعادة الأخروية وهي أعظم الأشياء في حق الآدمي، ولن يتوصل إليها إلا بالعلم والعمل؛ إذ لا يتوصل إلى العمل إلا بالعلم، فأصل السعادة هو العلم، فهو إذن أفضل الأشياء وأعظمها؛ إذ فضل الشيء قد يعرف بفضل ثمرته، وهذا الوجه هو لبيان فضل علوم الإسلام.
الوجه الرابع: أنا نعلم أن الإنسان أفضل من سائر الحيوانات، وليس ذلك لقوته وصولته؛ إذ فيها ما هو مثله أو أعظم، ولم يبق إلا أن تلك الفضيلة ليس إلا لاختصاصه بمزية العقل التي لأجلها صار مستعداً لإدراك حقائق الأشياء والإطلاع عليها.
الخامس: أن الجاهل كأنه في ظلمة شديدة لا يرى شيئاً، والعالم كأنه يطير في أقطار الملكوت، ويسبح في بحار المعقولات، فيطالع الموجود والمعدوم، والواجب والممكن والمحال، ثم يعرف انقسام الممكن إلى الجوهر والعرض، والجوهر إلى البسيط والمركب، ويعرف أثر كل شيء ومؤثره، ومعلوله وعلته، لازمه وملزومه، وكليه وجزئيه إلى غير ذلك حتى يصير عقله كنسخة أثبت فيها جميع المعلومات بتفاصيلها وأقسامها، فأي فضيلة فوق هذه الدرجة الرفيعة، ثم إنه بعد ذلك يصير النفوس الجاهلة عالمة بتعليمه إياها فيصير كالشمس للعالم، وسبباً للحياة الأبدية لسائر النفوس؛ لأنها كانت بسبب الجهل كالميتة؛ ولذلك قيل: الروح بلا علم ميت، وقال عليه السلام : هلك خزان الأموال والعلماء باقون ما بقي الدهر. أو كما قال.
وأما الأدلة النقلية فأكثر من أن تحصى كتاباً وسنة وإجماعاً، وسيأتي كثير منها إن شاء الله في أثناء الكتاب ومنها هذه الآية، ووجه دلالتها أن الله تعالى ما أظهر كمال الحكمة في خلق آدم عليه السلام إلا بإظهار علمه، فلو كان شيء أشرف من العلم مما هو داخل في الإمكان لكان من الواجب إظهار فضله بذلك الشيء لا بالعلم. والله أعلم.
تنبيه [معاني الفضيلة]
قد علم مما تقدم بيان معنى الفضيلة، وتحقيق القول في معناها ما ذكره الغزالي وهو: أَن الفضيلة مأخوذة من الفضل وهو الزيادة، فإذا اشترك شيئآن في أمر واختص أحدهما بمزية فيما هو كمال ذلك الشيء فإنه يقال فضل عليه، كما يقال: الفرس فضل على الحمار بمعنى أنه يشاركه في قوة الحمل ويزيد عليه بقوة الكر والفر، وشدة العدو، وحسن الصورة، فلو فرض حمار اختص بسلعة زائدة لم نقل إنه أفضل؛ لأن تلك الزيادة في الجسم ونقصان في المعنى، وليست من الكمال في شيء؛ إذ الحيوان يطلب لصفاته ومعناه لا لجسمه.
إذا فهمت هذا لم يخف عليك أن للعلم فضيلة إن أخذته بالإضافة إلى سائر الأوصاف، كما أن للفرس فضيلة إن أخذته إلى سائر الحيوانات، بل شدة العدو فضيلة في الفرس وليست فضيلة على الإطلاق، والعلم فضيلة في ذاته وعلى الإطلاق من غير إضافة، فإنه وصف كمال الله تعالى، وبه شرف الملائكة والأنبياء" بل الكيس من الخيل خير من البليد، فهو فضيلة على الإطلاق من غير إضافة.
المسألة الرابعة [هل يصح إطلاق معلم على الله تعالى]
قال الإمام المهدي، وأبو هاشم، والرازي: قوله تعالى: {إِنَّ فِي ذَلِكَ لاَيَاتٍ لِلْمُتَوَسِّمِينَ}[الحجر:75] لا يقتضي وصف الله تعالى بأنه معلم؛ إذ لا يوصف به في العرف إلا المحترف بالتحريم والتلقين ولا يفيد فعل العلم بالغير.
قال الرازي: ولهذا لا يقال للمدرس معلم مطلقاً حتى لو أوصى للمعلمين لم يدخل المدرس، فلا يطلق على الله إلا مقيداً، ولولا العرف لحسن إطلاقه.
وقال أبو علي: بل يوصف به؛ إذ فعل العلم في غيره بدليل الآية وذلك هو معنى معلم.
المسألة الخامسة [توقيف اللغة]
استدل بالآية على أن اللغات توقيفية، ومعناه أنها حاصلة بتعليم الله تعالى عباده إما بالوحي إلى بعض أنبيائه، أو بخلق الأصوات إما بأنه يخلق في كل شيء إسماع اسمه، أو يخلق في بعض الأجسام إسماع اسمه واسم غيره، وإما بخلق علم ضروري في بعض العباد بها.
والكلام في المسألة يكون في ثلاثة مواضع: الأول في بيان الحاجة إلى الوضع وذكر حقيقته، الثاني في الخلاف في أدلة الألفاظ هل بالوضع أو بغيره، الثالث في الخلاف في تعيين الواضع وذكر الحجج على ذلك.
الموضع الأول في بيان الحاجة إلى الوضع وذكر حقيقته
فأما بيان الحاجة إليه فاعلم أن كل أحد من الناس محتاج إلى وضع اللغات للتعبير عما في ضميره؛ لأنه لا يستقل بنفسه، بل يحتاج إلى من يعاونه في أمر معاشه، وتفهيم ما ينفعه في معاده، والإشارة والمثال وهو الجرم الموضوع على شكل الشيء لا تكمل إفادتهما لاختصاصهما بالموجود المحسوس بخلافها، فإنها تعم الموجود والمعدوم، والمحسوس والمعقول، والقديم والمحدث، والغائب والشاهد، وأيضاً هي أسهل منها وأيسر لموافقتها الأمر الطبيعي وهو النَّفَس بفتح الفاء؛ لأن الصوت إنما يتولد من كيفية مخصوصه في إخراج النَّفَس، وذلك أمر ضروري لا تكلف فيه ولا مشقة بخلافهما فإنهما لا يحصلان إلا بعلاج وتكلف، ولأجل هذا قال العلماء: إن وضع اللغات من نعم الله العظيمة وألطافه الجسيمة؛ لأنه إما أن يكون الله هو الذي وضعها فذلك ظاهر، أو غيره فليس ذلك إلا بتمكينه وهدايته إليها بخلق العقل والقدرة عليها، فهي بأي الاعتبارين نعمة منه جل وعلا {وَمَا بِكُمْ مِنْ نِعْمَةٍ فَمِنَ اللَّهِ}[النحل:53].
وأما حقيقة الوضع فهو في اللغة: جعل الشيء في حيز معين، وأما في الاصطلاح فقد اختلف في حده، فقيل: هو تخصيص شيء بشيء بحيث إذا أطلق الأول أو أحس فهم الثاني، وهذا منسوب إلى أئمة النحو والبيان والأصول، واعترض بأنه لم يثبت تعيين الواضع، وإذا لم يتعين فلا سبيل إلى النقل عنه بأنه خصص هذا اللفظ بهذا المعنى.
وأجيب بمنع عدم تعيينه سلمنا فالاتفاق على أنه لا بد من واضع، وعلى أن اللغات منسوبة إليه يكفي في الحكم بالتخصيص؛ إذ لا يشترط النقل عن معين.
قالوا: قولهم متى أطلق الأول فهم الثاني غير صحيح؛ إذا المعلوم ضرورة أنها قد تطلق ألفاظ موضوعة ولا يفهم معناها.
قلنا: هم يشترط في الفهم علم السامع بالموضوع له.
قالوا: يخرج المجاز؛ إذ لا يفهم عند الإطلاق.
قلنا: بل يفهم بمعونة القرينة، سلمنا فقد ذكر بعض المحققين أنه ليس بموضوع فلا يضرنا خروجه.
وقيل: هو جعل اللفظ دليلاً على المعنى، ذكره ابن السبكي، واعترض بأنه غير شامل للمجاز؛ إذ دلالته على المعنى المجازي إنما هو بمجموع اللفظ والقرينة.
قلنا: ممنوع، بل الدال هو اللفظ بواسطة القرينة سلمنا فلا يضر لما مر.
وقيل: هو تعيين اللفظ للدلالة على معنى بنفسه فدخل المشترك؛ لأنه قد عين للدلالة على كل من المعنيين بنفسه، وعدم فهم أحد المعنيين لعارض الاشتراك لا ينافي ذلك ولا يخرج المجاز؛ إذ ليس بموضوع بالنسبة إلى معناه المجازي؛ لأن دلالته عليه إنما تكون بقرينة لا بنفسه، واختلف في الكناية، قيل: -السعد- لا تدخل في الحد؛ إذ ليست موضوعة؛ لأن القول بوضعها إن كان بالنسبة إلى معناها الأصلي فهو فاسد؛ لأن المجاز كذلك، وإن كان بالنسبة إلى معناها الذي هو لازم المعنى الأصلي ففساده ظاهر؛ لأنه لا يدل عليه بنفسه بل بواسطة القرينة.
وقيل: بل تدخل؛ لأنها تدل على المعنى بنفسها؛ لأنها أريد بها موضوعها استعمالاً، وأريد لازمة إفادة، فالكناية موضوعة؛ لأن اللفظ عين فيها للدلالة على معناه الذي هو موضوع اللفظ بنفسه فكانت موضوعة، وكونها دالة على لازم ذلك المعنى بقرينة حالية كدلالة طويل النجاد على طول المقام يحتاج إلى قرينة، لكن ذلك ليس المعنى الذي استعملت الكلمة فيه.
قيل: الوضع تعيين اللفظ بإزاء معنى، فيدخل المجاز؛ لأنه موضوع لمعناه المجازي.
الموضع الثاني في الخلاف في دلالة اللفظ هل ذلك بالوضع أو بغيره
فالذي نص عليه جماعة من المحققين وأحسبه قول الأكثر أن دلالة اللفظ على معانيه إنما هي بالوضع، وقال عباد بن سليمان الصيمري: بل بين اللفظ وبين مدلوله مناسبة ذاتية تقتضي اختصاص دلالة ذلك اللفظ على ذلك المعنى، وهو محكي عن بعض المعتزلة، وفساده ظاهر؛ فإن دلالة الألفاظ لو كانت ذاتية لما اختلفت باختلاف النواحي والأمم، ولفهم كل إنسان معنى كل لغة، والمعلوم خلاف ذلك، وبطلان اللازم يدل على بطلان الملزوم، ويلزمه أيضاً منع الاشتراك بين المتنافيين كالقرء والجون؛ لأنا لو وضعناه لمجرد النقيض أو الضد لما كان له في ذلك الاصطلاح دلالة على ذلك الشيء فيلزم تخلف ما بالذات وهو محال، ولو وضعناه لذلك الشيء ونقيضه أو ضده، فدل عليهما لزم اختلاف ما بالذات بأن يناسب اللفظ بالذات الشيء ونقيضه أو ضده وهما مختلفان.
قالوا: لو تساوت الألفاظ بحسب ذواتها لم يختص بالمعاني؛ إذ لو كان لها اختصاص فإما أن يكون هناك تخصيص أو لا، فعلى الثاني يلزم الاختصاص بدون مخصص، وعلى الأول التخصيص بغير مخصص وكلاهما محالان.
قلنا: نختار التخصيص، والمخصص إرادة الواضع المختار ولا تحتاج إلى انضمام داعية إليها في التخصيص؛ إذ الواضع إما الله تعالى فتخصيصه هنا كتخصيص حدوث العالم بوقته مع إمكان تقدمه وتأخره، وليس المخصص هنا إلا إرادته تعالى من غير انضمام داعيه إليها.
وأما البشر فتخصيصهم هنا كتخصيص الأَعلام بالأشخاص والمخصص الإرادة، وقد يؤول كلام عباد بأن معناه أنها حاملة على الوضع على وفقها، وتحقيقه أن الواضع لا يهمل رعاية ما بين اللفظ والمعنى من المناسبة كالجهر، والهمس، والشدة وغير ذلك، فإن تلك الخواص تقتضي أن يكون العالم بها إذا أخذ في تعيين شيء مركب منها لمعين لا يهمل التناسب بينهما قضاء لحق الحكمة كما قيل: إن الفصم بالفاء الذي هو حرف رخو للكسر من غير بينونة وبالقاف الذي هو شديد للكسر مع البينونة.
الموضع الثالث في الخلاف في تعيين الواضع وذكر أدلة كل قول
فقال المرتضى، وأبو مضر، والبغدادية، وأكثر الأشعرية: اللغات كلها توقيفية لا يوقف عليها إلا بإعلام من الله تعالى للبشر فهو الواضع لها، قال الأشعري: وذلك التوقيف إما بالوحي، أو بخلق الأصوات، أو بعلم ضروري.
وحكى الرازي عنه، وعن أبي علي، وأبي القاسم: أن معنى كونها توقيفية أن الله تعالى خلق علماً ضرورياً بتلك الألفاظ وتلك المعاني، وبأن تلك الألفاظ موضوعة لتلك المعاني.
وقالت البهشمية: بل واضعها البشر واحداً أو جماعة، قال الشريف: بأن انصرفت داعيته ودواعيهم إلى وضع هذه الألفاظ بإزاء معانيها، وهذا قول الموفق بالله، ورواه في (الفصول) عن جمهور أئمتنا، وفي (جمع الجوامع) عن أكثر المعتزلة.
وقال أبو علي، وأبو إسحاق الإسفراييني: القدر المحتاج إليه في التعريف توقيف وغيره محتمل، وقيل عكسه، وهو مروي عن بعض المعتزلة.
وقال الإمام يحيى، وابن أبي الخير، وبعض الأشعرية: الجمع ممكن عقلاً، وأدلتها لا يفيد شيء منها القطع فوجب الوقف، ونسبه في (جمع الجوامع) إلى كثير من العلماء.
احتج الأولون بالآية، ووجه الاحتجاج بها أنها تدل على أن الملائكة وآدم" لا يعلمون إلا بتعليم الله إياهم، لا يقال: الدليل لا يطابق الدعوى، فإن المدعي وضع اللغات كلها من الأسماء والأفعال والحروف، والدليل لم يتناول إلا الأسماء؛ لأنا نقول: المراد بالأسماء ما يشمل الأفعال والحروف؛ لأن كلاً منها اسم أي علامة على مسماه، وتخصيص الاسم ببعضها عرف طارئ فلا ينزل القرآن عليه، وعلى تقدير اختصاص الأسماء بالمعنى العرفي، فالدليل تام؛ إذ لا قائل بالفصل، ولأن التكلم لمجرد تعليم الأسماء دونهما متعذر أو متعسر.
واعترض بوجوه:
أحدها: جواز أن يراد بالتعليم الإلهام وبعث داعيته على الوضع مثل: {وَعَلَّمْنَاهُ صَنْعَةَ لَبُوسٍ لَكُمْ}[الأنبياء:80].
الثاني: أن يكون المراد علمه ما سبق من اصطلاحات قوم كانوا قبله.
الثالث: جواز أن يراد بالأسماء الحقائق أي المسميات بدليل قوله تعالى: {ثُمَّ عَرَضَهُمْ}[البقرة:31]؛ إذ لا يصلح للأسماء إلا إذا أريد به المسميات مع تغليب العقلاء؛ لأن عرض الأسماء نفسها غير معقول.
الرابع: أن الآية ظاهرة في إضافة التعليم إلى الأسماء، لكن ذلك لا يقتضي أنها كانت أسماء قبل ذلك التعليم.
الخامس: أن آدم لما تحدى الملائكة بعلم الأسماء فلا بد وأن يعلموا كونه صادقاً وإلا لم يحصل العلم بصدقه، وذلك يقتضي سبق وضع الأسماء على ذلك التعليم.
السادس: أَنا وإن سلمنا أن المراد بالأسماء ما ذكروه فلا نسلم العموم لجواز أن يراد بها الأسماء الموجودة في زمان آدم عليه السلام .
السابع: لو سلم العموم منعنا بقاء تلك اللغات لجواز أن يكون من بعد آدم من نسيها، فاصطلح جماعات على هذه اللغات التي يبعد أن يعلمها الحكيم شخصاً واحداً مع غناء أحدها.
والجواب من وجهين: جملي، وتفصيلي، أما الجملي فهو أن جميع ما ذكروه خلاف الظاهر ولا موجب له، وكل ما كان هذا حاله وجب رده.
وأما التفصيلي فنقول:
الجواب عن الوجه الأول والثاني بأنهما خلاف الظاهر، وبأن الأصل عدم وضع سابق، وعن الثالث كذلك وبأن قوله: { أَنْبِئُونِي بِأَسْمَاءِ هَؤُلاَء}[البقرة:31] {فَلَمَّا أَنْبَأَهُمْ بِأَسْمَائِهِمْ}[البقرة:33] نص في أنه ليس المراد بالأسماء المسميات، وأيضاً لو كان التعليم بالمسميات لما صح الإلزام للملائكة" ضرورة أن إلزامهم لا يكون إلا بما اختص بالعلم به آدم دونهم وهم يعلمون الحقائق؛ إذ منها ما يدرك بالحواس كالمبصرات والمسموعات، لا يقال الفضيلة بإدراك الحقائق أفضل إذ هي المقصودة بالمعرفة والأسماء كالآلة التي يتوصل بها إلى الإدراك والتمييز، وأيضاً التحدي إنما يجوز بما يمكن السامع من مثله في الجملة؛ إذ لا يحسن من العربي أن يقول للزنجي: تكلم بلغتي وأفصح بمثل بلاغتي، والمعلوم أن العقل لا طريق له إلى معرفة اللغات، بخلاف العلم بالحقائق فإنه متمكن من تحصيله فيجب أن يكون التحدي إنما وقع به؛ لأنا نقول: لا نسلم أن الفضيلة بإدراك الحقائق أكثر، سلمنا فذلك لا يوجب حمل الآية عليها؛ إذ المقصود ما به تظهر الحكمة في خلق آدم وبيان فضيلته في العلم وهي تحصل بما ذكرنا.
قوله: التحدي لا يجوز إلا بما يتمكن السامع من مثله...إلخ.
قلنا: هم متمكنون بمعنى أنه لو كان التعليم متوجهاً إليهم لفهموا وقبلوا، ثم إن المراد بالآية التنصيص على أن الله تعالى فضل آدم بما اختصه به من العلم دونهم، وليس المقصود بها التحدي والدلالة على نبوته عليه السلام ، وإلا لكان مرسلاً إليهم ولكان هو الذي يتحداهم كما فعل سائر الرسل"، وعلى الجملة إن الآية لم يرد بها إلا بيان الحكمة والمصلحة في خلق آدم والنص على فضله. والله أعلم.
والجواب عن الرابع: بأن الآية لا تقتضي ذلك إلا لو كانت اللام فيها للعهد، ولا دليل عليه.
وعن الخامس بأن آدم لم يتحد الملائكة وإنما تحداهم الله عز وجل لإظهار حكمته في خلق آدم.
وعن السادس بأن قوله تعالى: {كلها} يدفعه، وعن السابع بأنه خلاف الظاهر، بل قيل: إنه من فرض المحال.
احتج أهل القول الثاني بأنا لا نعلم فائدة الكلام إلا إذا علمنا المواضعة، وكذلك لا نعرف فائدة الذبح إلا إذا عرفنا ما وضع له، فالتوقيف إذا لم يكن مواضعة ومواطأة سابقة لا تعلم منه فائدة؛ لأنا نجوز أن يقصد به غير ما يراد منه، ألا ترى أن الباري تعالى إذا قال ماءً قبل أن يكون له وضع سابق فإنا نجوز كون المراد به طعاماً.
فإن قيل: إنه يقرن التعليم بالإشارة.
قيل: الباري تعالى لا تجوز عليه الإشارة؛ لأنها لا تتم إلا بآلة وكونه في جهة والعلم الضروري الذي يدعيه الأشعري لا يجوز مع بقاء التكليف؛ لأن معرفة الله تعالى نظرية، وكونه مريداً لمعنى مخصوص من اللفظ صفة له تعالى، ولا يجوز أن تعلم الذات دلالة والصفة ضرورة، وأيضاً العلم النظري يدخله التشكيك بخلاف الضروري، وكيف يصح أن يكون شاكاً في الذات مع كونه يعلم صفتها ضرورة، ألا ترى أنه لا يصح كون أحدنا يعلم كون الجسم متحركاً وهو شاك في جمود الجسم.
فإن قيل: لِمَ لا يصح أن يخلق الله من لا يكون مكلفاً ويغنيه بالحسن عن القبيح، ويكمل عقله، ويضطره إلى معرفة المراد فيخبرنا، ويضيف إلى ذلك قرائن تضطرنا إلى قصده وإن كنا مكلفين؛ لأنه وإن كان لا يصح الاضطرار إلى مراد الباري تعالى فيصح الاضطرار إلى قصد أحدنا.
قيل: ذلك جائز عقلاً لكن لا دليل عليه.
فإن قيل: لا مانع من أن يحصل العلم الضروري بها لغير العاقل، كما أنه قد يحصل للصبيان العلم الضروري ببعض المعلومات.
قيل: من البعيد أن يحصل العلم بهذه اللغات مع ما فيها من الحكم العجيبة لغير العاقل، والعلم الحاصل للصبيان إنما هو في المحسوسات من دون شعور منهم لما تضمنته من الحكم الغريبة.
احتجوا ثانياً بقوله تعالى: {وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ رَسُولٍ إِلاَّ بِلِسَانِ قَوْمِهِ}[إبراهيم:4] أي بلغتهم، وبيان الاحتجاج بها أنها تدل على سبق اللغات للإرسال، ولو كان حصول اللغات بالتوقيف فلا يتصور التوقيف إلا بإرسال الرسل إليهم لسبق الإرسال للغات، فيلزم الدور لتقدم كل من الإرسال واللغات على الآخر، فتعين أن تكون اللغات سابقة على الإرسال، وإذا كانت كذلك فلا تكون إلا بالمواضعة.
قالوا: وطريقنا إلى العلم بقصد الواضع ما يصحب القول من القرائن أو الإشارة نحو أن يشير بيده إلى كتاب ويقول لمن قد عرف معنى خذ لقرينة خذ هذا الكتاب، ونحو أن يقول لمن عرف معنى خذ ومعنى البيت خذ الكتاب من البيت وليس في البيت غير الكتاب، وهذه القرائن قد تفيدنا الضرورة بقصد الواضع، ولذلك إن أعجمي قد يضطر إلى معرفة المراد من كلامنا بالقرينة، والصبي يعلم ما تلقنه أمه من الكلام بالقرائن.
قال الموفق بالله: وبهذا يبطل قول القاسم على أنه لا يمكنا معرفة فائدة الكلام وقصده.
والجواب عن الحجة الأولى: بأنكم بنيتموها على أنها لو كانت توقيفية لما عرف المراد منها؛ إذ لا طريق إلا بالإشارة أو العلم الضروري، وقد أبطلتموهما، ونقول: لم لا يجوز أن يعلم بقرينة غير الإشارة كما قلتم في الطريق إلى معرفة مراد أهل الاصطلاح؟ وما المانع من حصول العلم الضروري للعاقل الذي ليس بمكلف أو لغير العاقل كما مر؟ ولا مانع من ذلك عندكم إلا عدم الدليل والاستبعاد، لكنه يقال: قد ثبت بقوله تعالى: {وَعَلَّمَ آدَمَ الأَسْمَاءَ}[البقرة:31] أنها توقيفية، وإذا كان لا طريق إليها إلا خلق العلم الضروري، وقد بطل أن يكون ذلك للمكلف، ولا وجه يقدر إلا أحد الأمرين تعين أحدهما بطريق السبر والتقسيم، وهذا دليل واضح، فيقال: قد ثبت أن اللغات توقيفية فلا تخلو إما أن يكون العلم بها ضرورياً أو لا، الثاني باطل لعدم المشاهدة والمشافهة للباري تعالى، والإشارة ممتنعة كما مر، والأول إما أن يخلق ذلك العلم للمكلف أو لا، الأول باطل لما مر فتعين الثاني، وأما الاستبعاد فلا وجه له مع ما ذكرنا.
والجواب عن الحجة الثانية: أن الآية إنما تدل على سبق اللغات والأوضاع ولا توقف له على الإرسال، وإنما يتوقف على الوحي باللغات والأوضاع إلى آدم قبل إرساله إلى القوم فيكون هناك وحي باللغات، ولا إرسال له إلى قوم لعدمهم، ثم بعد وجودهم وتعلمهم منه عليه السلام ، وتفرق اللغات فيهم أرسل إلى كل قوم بلسانهم، فلا يلزم الدور. والله أعلم.
احتج أبو علي الإسفرائيني بأنه لو لم يكن القدر المحتاج إليه في الاصطلاح توقيفياً لزم الدور؛ لتوقف الاصطلاح على سبق معرفة ذلك القدر، والمفروض أنه يعرف بالاصطلاح فيلزم توقفه على اصطلاح سابق يتوقف على معرفته وهو الدور، أو متوقف على اصطلاح سابق وهو على آخر إلى ما لا نهاية له فيلزم التسلسل.
وأجيب بأنا لا نسلم توقفه على اصطلاح، بل يعرف بالترديد والقرائن كالأطفال والحيوانات، فإنها تعلم مراد تصويت الإنسان لها، وتصويت بعضها لبعض بقرينة حسية، ثم ينتهي ذلك إلى تجربة تامة تفيد الضرورة.
احتج القائلون بأن القدر المحتاج إليه اصطلاحي بما مر عن البهشمية، وأما احتمال الباقي فلعدم الحاجة إليه.
احتج أهل الوقف بما مر وهو مبني على أن المسألة قطعية، وفيه نظر، ولهذا قال ابن السبكي: المختار الوقف عن القطع بواحد منها؛ لأن أدلتها لا تفيد القطع، وأن التوقيف مظنون لظهور دليله.
قلت: ويؤيده أنه قد ورد عن جماعة من السلف منهم ابن عباس أنه علمه اسم كل شيء حتى البعير، والبقرة، والشاة والقصعة، ذكره في (الدر المنثور) وفيه: وأخرج وكيع، وابن عساكر، والديلمي عن عطية بن بشر مرفوعاً في قوله: {وَعَلَّمَ آدَمَ الأَسْمَاءَ كُلَّهَا}[البقرة:31] قال: علم الله في تلك الأسماء ألف حرفة من الحرف وقال له: (قل لولدك وذريتك يا آدم إن لم تصبروا عن الدنيا فاطلبوا الدنيا بهذه الحرف ولا تطلبوها بالدين، فإن الدين لي وحدي خالصاً، ويل لمن طلب الدنيا بالدين ويل له).
وقال السيد محمد بن إسماعيل الأمير: ومن نظر في التفاسير المأثورة في قوله تعالى: {وَعَلَّمَ آدَمَ الأَسْمَاءَ كُلَّهَا}[البقرة:31] وضمها إلى ما ذكرناه لم يبق معه ريب أن الله واضع اللغات، وعلم الملائكة منها ما يحتاجونه في عبادته، وتقديسه، وتحميده، وتسبيحه، ثم علم آدم ما يحتاجه البشر في ذلك، ثم اختلفت اللغات بتداخل بعض الألفاظ في بعض وتبديل بعض الحروف ببعض، وإلا فاللغة واحدة هي ما علمه الله آدم عليه السلام .
قلت: وأراد بما ذكره ما حرره في حاشيته على (شرح الغاية) من الاستدلال على ما اختاره، وحاصله: أن المعلوم ضرورة أنه لا بد من واضع، والمعلوم ضرورة أنه تعالى لم يوجد البشر في أول إيجاده العالم، وقد تيقن شرعاً أن الملائكة كانوا يسبحونه ويقدسونه قبل إيجاده لآدم، ومعلوم أن قوله: {إِنّي جَاعِلٌ فِي الأَرْضِ خَلِيفَةً}[البقرة:30] وقوله للسماوات والأرض:{اِئْتِيَا طَوْعاً أَوْ كَرْها}[فصلت:11] خطاب قبل إيجاده عليه السلام ، وهو برهان قاطع على أن الله تعالى وضع ألفاظاً قبل خلق البشر، ومعلوم يقيناً أن تسمية يوم القيامة وما فيه من الكائنات والجنة والنار وما فيهما ليس من وضع البشر؛ إذ لا يعلمون ذلك، ووضع الاسم فرع على العلم به، وذكر آثاراً منها ما أخرجه ابن جرير، وابن أبي حاتم عن ابن عباس: أن أول ما خلق الله من شيء القلم وأمره أن يكتب ما هو كائن إلى يوم القيامة والكتاب عنده ثم قرأ: {وَإِنَّهُ فِي أُمِّ الْكِتَابِ لَدَيْنَا لَعَلِيٌّ حَكِيمٌ}[الزخرف:4]، ثم ذكر أن الله تعالى قد أخبر أن اسم محمد صلى الله عليه وآله في التوراة والإنجيل، وأنه بشّر مريم بكلمة منه، وزكريا بغلام اسمه يحيى، وروي عن ابن عباس أنه لم يسم أحداً بيحيى قبله، فهذه التسمية منه تعالى، هذا حاصل كلام السيد رحمه الله، واختار أن بعض الألفاظ واضعها الله يقيناً وبعضها الأظهر أنه واضعها، ويحتمل أن في بعضها إلهاماً منه للبشر، كإلهامه لمن لا يعقل فهم معاني الألفاظ مثل إيحائه إلى النحل أن تأكل من بعض الثمرات.
المسألة السادسة [في أن الاسم غير المسمى]
في هذه الآية دلالة على أن الاسم غير المسمى؛ إذ المراد بقوله: {وَعَلَّمَ آدَمَ الأَسْمَاءَ كُلَّهَا}[البقرة:31] أسماء المسميات، فحذف المضاف إليه لكونه معلوماً ومدلولاً عليه بقوله تعالى: {أَنْبِئُونِي بِأَسْمَاءِ هَؤُلاَء}[البقرة:31] وقوله: {أَنْبِئْهُمْ بِأَسْمَائِهِمْ فَلَمَّا أَنْبَأَهُمْ بِأَسْمَائِهِمْ}[البقرة:33] وما قاله ابن المنير من أن المراد بالأسماء المسميات كقوله: {ثُمَّ عَرَضَهُمْ عَلَى الْمَلاَئِكَةِ}[البقرة:31] والضمير فيه للمسميات اتفاقاً؛ ولأن تعليق التعليم بالألفاظ لا يكون فيه كثير غرض فمدفوع بما مر في المسألة التي قبل هذه.
وأما عود الضمير في قوله: {ثُمَّ عَرَضَهُمْ عَلَى الْمَلاَئِكَةِ} إلى المسميات، فليس فيه دلالة على ذلك؛ لأنه إنما عرض المسميات على الملائكة ليطلب منهم الإنباء بأسمائها فيكون أدخل في التبكيت وأدل على الحكمة؛ إذ لو طلب منهم معرفة أسماء ما لا يعرفونه لم يكن فيه بيان فضيلة آدم التي هي المقصودة من هذا الطلب.
المسألة السابعة [في تكليف ما لا يطاق]
من الناس من تمسك بقوله تعالى: {أنبئوني} على جواز تكليف ما لا يطاق وهو باطل؛ لأن الأمر فيه للتعجيز لا للتكليف، ويدل عليه قوله: {إِنْ كُنتُمْ صَادِقِينَ}[البقرة:31].
المسألة الثامنة [في المعاصي هل تقع من الملائكة]
تمسك من قال بمعصية الملائكة لقولهم: {أَتَجْعَلُ فِيهَا مَنْ يُفْسِدُ فِيهَا} [البقرة:30] بقوله تعالى حكاية عنهم: {سُبْحَانَكَ لاَ عِلْمَ لَنَا...}الآية[البقرة:32]، وقالوا: هذا منهم اعتذار وتوبة عن ذلك الذنب.
وأجاب النافون للمعصية عنهم بوجهين:
أحدهما: أنهم إنما قالوا ذلك على وجه الاعتراف بالعجز والتسليم، كأنهم قالوا: لا نعلم إلا ما علمتنا، فإذا لم تعلمنا ذلك فكيف نعلمه.
والثاني: أنهم إنما قالوا: {أَتَجْعَلُ فِيهَا} بقوله: {يُفْسِدُ فِيهَا} لأن الله تعالى أعلمهم ذلك فكأنهم قالوا: إنك علمتنا أنهم يفسدون فقلنا لك أتجعل، وأما هذه الأسماء فلم تعلمنا فكيف نعلمها.
وعلى أي الوجهين فكلامهم هذا غاية في ترك الدعوى والاستسلام التام لله تعالى.
فائدة
قال بعض العارفين: ما بلا الخلق إلا الدعاوي، ألا ترى أن الملائكة لما قالوا: {وَنَحْنُ نُسَبِّحُ بِحَمْدِكَ} كيف ردوا إلى الجهل حتى قالوا: {لاَ عِلْمَ لَنَا}، وروي معناه عن جعفر الصادق.
المسألة التاسعة [في المعارف]
احتجت الأشاعرة بقوله: {إِلاَّ مَا عَلَّمْتَنَا} على أن المعارف والعلوم كلها مخلوقة لله تعالى.
أجابت العدلية بأن المراد لا علم لنا إلا من جهتك إلا بالتعليم أو بنصب الأدلة.
أجابت الأشاعرة بأن التعليم عبارة عن تحصيل العلم في الغير كالتسويد عبارة عن جعل السواد في الغير.
قلنا: لا نسلم بل هو عبارة عن إفادة الأمر الذي يحصل عنده العلم عند حصول الشرط وانتفاء المانع، ولذلك يقال: علمته فما تعلم، وذلك الأمر هو الدليل والله تعالى قد فعله.
قالوا: المؤثر في وجود العلم ليس هو الدليل، بل النظر وهو فعل العبد فلم يكن حصول العلم بتعليم الله تعالى وإنه يناقض قوله: {إِلاَّ مَا عَلَّمْتَنَا}.
قلنا: قد نص علماء المعاني على أن للفعل ملابسات شتى فيسند إلى الفاعل حقيقة،وإلى غيره مجازاً كإسناده إلى المصدر،وإلى المسبب له ونحو ذلك.
إذا عرفت هذا فنقول: ما كان من العلوم من فعل الله، كالعلوم الضرورية فلا إشكال في إسناده إلى الله تعالى حقيقة، وما كان متولداً عن النظر في الدليل فهو يسند إلى الله تعالى وإلى الدليل على جهة المجاز العقلي من إسناد المسبب إلى السبب، وبهذا يدفع التناقض، وقد تقدم نحوه في إسناد الإيمان إلى الله تعالى في التاسعة من مسائل الحمد لله وغيرها.
المسألة العاشرة [معرفة المغيبات]
احتج أهل الإسلام بهذه الآية على أنه لا سبيل إلى معرفة المغيبات إلا بتعليم الله، وأنه لا يمكن التوصل إليها بعلم النجوم والكهانة.
فإن قيل: لِمَ لا يجوز القول بأن الله تعالى خلقها دلائل على أحوال هذا العالم؟
قيل: العقل لا يمنع منه كما جعل السحاب والرعد والبرق دليلاً على حصول المطر ونحو ذلك، لكن كونه تعالى خلقها كذلك يحتاج إلى دليل قاطع ولو كان لاشتهر، بل المشهور خلافه وهو تحريم إتيان المنجمين وتصديقهم فيما قالوا، وتكفير من أتاهم وصدقهم.
المسألة الحادية عشرة [في معرفة العليم]
العليم قد تقدم معناه في مسألة عالم، والحكيم قد تقدم أنه يكون من صفات الفعل بمعنى أنه لا يفعل القبيح كما مر في السابعة من مسائل الحمد لله، وبمعنى عالم ومحكِم بكسر الكاف ومحكَم بفتحها كما مر في مسألة عالم، وقد تقدم معناه لغة وعرفاً في الرابعة من مسائل بسم الله الرحمن الرحيم.
وقال الرازي: الحكيم يستعمل بمعنى العليم فيكون من صفات الذات، وبمعنى آخر وهو أنه لا اعتراض عليه في فعله فيكون من صفات الفعل، قال: والأقرب هاهنا الثاني هرباً من التكرار.
قلت: المعنى الثاني غير مسلم، ولا دليل عليه، وإنما بناه على تفسيرهم العدل الحكيم بأنه الذي لا يقبح منه ما يقبح من غيره، وقد أبطلناه في الفاتحة.
تنبيه
قد مر في مسألة قادر ومسألة عالم عن بعض أصحابنا أن في قدير وعليم مبالغة، وأجبنا بأن صفات الله الذاتية لا يتصور فيها مبالغة، لكنه روي عن ابن عباس ما يدل على المبالغة فيها وهو أنه قال: العليم الذي قد كمل في علمه، والحكيم الذي قد كمل في حكمه، أخرجه ابن جرير.
المسألة الثانية عشرة [دلالة الآية على إمامة أمير المؤمنين]
قيل: في هذه الجملة دليل على إمامة علي بن أبي طالب عليه السلام ووجه الاستدلال بها أن فيها دليلاً على أن الكمال في العلم أحد شرائط خليفة الله في الأرض؛ لأنه تعالى اقتصر في بيان فضل آدم على العلم، ويؤكده قوله تعالى في طالوت: {وَزَادَهُ بَسْطَةً فِي الْعِلْمِ وَالْجِسْمِ}[البقرة:247] فإنه يدل على أنه يجب في الخليفة أن يكون كاملاً في العلم والقوة، ولا شك أنه لم يكن بعد رسول الله -صلى الله عليه وآله- أعلم، ولا أقوى، ولا أشجع في مجاهدة أعداء الله من أمير المؤمنين علي بن أبي طالب -كرم الله وجهه- وإذا كانت شرائط الإمامة حاصلة له دون غيره فلا وجه للعدول عنه صلوات الله عليه وسلامه.
المسألة الثالثة عشرة [في تصفية القلوب]
في قوله تعالى: {وَأَعْلَمُ مَا تُبْدُونَ وَمَا كُنتُمْ تَكْتُمُونَ}[البقرة:33] تخويف عظيم يوجب على العبد أن يجتهد في تصفية نفسه من القبائح كما ينزه ظاهره منها فإن الله لا يخفى عليه شيء مما أسرّه وأخفاه، ولله حاتم الأصم حيث قال: طهر نفسك في ثلاثة أحوال: إذا كنت عاملاً بالجوارح فاذكر نظر الله إليك، وإذا كنت قائلاً فاذكر سمع الله إليك، وإذا كنت ساكناً عاملاً بالضمير فاذكر علم الله بك؛ إذ هو يقول: {إِنَّنِي مَعَكُمَا أَسْمَعُ وَأَرَى}[طه:46].
[البقرة: 34]
قوله تعالى: {وَإِذْ قُلْنَا لِلْمَلاَئِكَةِ اسْجُدُوا لآدَمَ فَسَجَدُوا إِلاَّ إِبْلِيسَ أَبَى وَاسْتَكْبَرَ وَكَانَ مِنَ الْكَافِرِينَ}[البقرة:34].
السجود في اللغة: التذلل والخضوع، وقال ابن السكيت: هو الميل، وقال الراغب: أصله التطامن والتذلل، ويشهد له قول الشاعر:
بجمع تضل البلق في حجراته .... ترى الأكم فيها سجداً للحوافر
يريد أن الحوافر تطأ الأكم، فجعل تأثر الأكم للحوافر سجوداً، وقال بعضهم:السجود ميل رأسه وانحنى، قال الشاعر:
سجود النصارى لأحبارها
يريد انحناءهم، قال أبو عبيدة: وأنشدني أعرابي من بني أسد:
…وقلنا له اسجد لليلى فأسجدا
يعني البعير إذا طأطأ رأسه، ويقال: غير ساجدة أي فاترة، قال الراغب: وجعل ذلك -يعني السجود- عبارة عن التذلل لله وعبادته، وهو في الإنسان والحيوانات والجمادات، ويكون بالاختيار وليس إلا للإنسان وبه يستحق الثواب، وبغير اختيار ويسمى سجود تسخير وهو للإنسان والحيوانات والنبات وعليه قوله تعالى: {وَلِلَّهِ يَسْجُدُ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ...}الآية[الرعد:15]، وقوله: {يَتَفَيَّأُ ظِلاَلُهُ عَنِ الْيَمِينِ وَالشَّمَائِلِ سُجَّداً لِلَّهِ}[النحل:48] فهذا سجود تسخير، وهو الدلالة الصامتة الناطقة المنبهة على كونها مخلوقة، وأنها خلق فاعل حكيم هذا معناه لغة.
وأما في الشرع فهو: وضع الجبهة على قصد العبادة، وفي كلام أبي حيان ما يدل على أن ذلك استعمال لغوي فإنه قال في ذكر معنى السجود لغة: وقال بعضهم: سجد وضع جبهته بالأرض.
قال الراغب: خص السجود في الشريعة بالركن المعروف من الصلاة، وما يجري مجرى ذلك من سجود القرآن وسجود الشكر.
وإبليس قيل: من الإبلاس وهو اليأس والإبعاد من الخير، وقيل: بل هو أعجمي وليس بمشتق. والإباء: الامتناع، والاستكبار: الاستعظام، وفي الآية مسائل.
المسألة الأولى [في السجود]
ظاهر هذه الآية وما في معناها وقوله تعالى في يوسف: {وَخَرُّوا لَهُ سُجَّداً}[يوسف:100] أن السجود لغير الله لا قبح فيه ولا منع ولو كان على جهة العبادة، وهذا الظاهر غير مراد اتفاقاً.
قال الرازي: أجمع المسلمون على أن ذلك السجود ليس سجود عبادة؛ لأن سجود العبادة لغير الله كفر، والأمر لا يرد بالكفر، وإذا كان السجود بهذا المعنى لا يجوز إلا لله تعالى وجب تأويل الآية، وقد اختلف العلماء في تأيلها فقال أصحابنا: لم يكن السجود لآدم وإنما كان لله تعالى، فإنهم لما رأوا تصويره ونفخ الروح فيه استعظموا قدرته سبحانه على تلك الخليقة فسجدوا إجلالاً لله تعالى وتعظيماً، حكى معنى هذا عنهم الإمام المهدي، وروى في (المصابيح) نحوه عن الهادي، والمرتضى وغيرهما من أئمتنا" وهو ضعيف لمخالفته الظواهر، ولو كان كذلك لما تكبر إبليس عن السجود ولما قال: أنا خير منه؛ إذ لم يعهد منه التكبر عن عبادة الله تعالى، وأيضاً لو كان كذلك لم يكن فيه فضيلة لآدم عليه السلام ، والمعلوم أنه يستدل بهذا السجود على فضله وعلو منزلته.
قيل: إن السجود كان لله تعالى وآدم كان كالقبلة.
فإن قيل: لو كان قبلة لقيل: اسجدوا إلى آدم؛ إذ لا يقال: صلى للقبلة بل إليها.
قيل: بل يقال ذلك، قال حسان:
ما كنت أحسب أن الأمر منصرف .... عن هاشم ثم منها عن أبي حسن
أليس أول من صلى لقبلتكم .... وأعرف الناس بالقرآن والسنن
قالوا: المقصود من القصة شرح تفضيل آدم، ولهذا قال إبليس: {هَذَا الَّذِي كَرَّمْتَ عَلَيَّ}[الإسراء:62] أي بكونه مسجوداً له، وجعله مجرد القبلة لا يدل على أنه أفضل من الساجد بدليل أن الأنبياء كانوا يصلون إلى الكعبة، ولم يلزم أن تكون أفضل منهم، بل قد روي أن المؤمن أفضل منها.
قلنا: لا نسلم أن المراد بيان تفضيله على الساجد لما سيأتي بمجرد السجود له، بل به مع أمور أخرى، وقول إبليس: كرمت عليَّ، إنما كان بعد المعصية منه، ولا شك في تكريمه عليه حينئذٍ، ولو فرض أنه قاله قبلها فلا نسلم أنه كان من الملائكة، سلمنا فيحتمل تكريمه لكونه قبلة فقط لا مطلق التكريم، ولا مانع من تفضيله على الملائكة من هذه الجهة.
وقيل: إن المراد بالسجود الانقياد والخضوع، وقال محمد بن عباد المخزومي: كان سجود الملائكة إيماء، ورد هذان القولان بأن السجود في عرف الشرع هو وضع الجبهة على الأرض فيجب أن يكون في اللغة كذلك؛ لأن الأصل عدم التغيير، وقد مر نقل هذا المعنى عن أهل اللغة.
وقال كثير من المفسرين: كان السجود لآدم على وجه التحية والتكرمة له والعبادة لله تعالى وحده.
وعن ابن عباس: كانت السجدة لآدم والطاعة لله، وعنه قال: أمرهم أن يسجدوا فسجدوا له كرامة من الله أكرم بها آدم.
قال النيسابوري تبعاً للرازي: وأصح الأقوال أن السجود كان بمعنى وضع الجبهة لكن لا عبادة بل تكرمة وتحية، كالسلام منهم عليه، وقد كانت الأمم السالفة تفعل ذلك بدل التسليم.
قال قتادة في قوله تعالى{وَخَرُّوا لَهُ سُجَّداً}[يوسف:100]: كان تحية الناس يومئذ سجود بعضهم لبعض، ويجوز أن تختلف الرسوم والعادات باختلاف الأزمنة والأوقات يعني أنه مما يجوز تغيره بالنسخ؛ لأن الظاهر من شرعنا أنه لا يجوز السجود لأحد ولو على جهة التحية والتكريم.
وفي (الثمرات): أَن السجود في ذلك الوقت كان تحيتهم، وامتد إلى وقت سجود إخوة يوسف.
وقال القرطبي: الذي عليه الأكثر أنه كان مباحاً إلى عصر رسول الله -صلى الله عليه وآله- وأن أصحابه قالوا له حين سجدت له الشجرة والجمل: نحن أولى بالسجود لك من الشجرة والجمل الشارد، فقال لهم: ((لا ينبغي أن يسجد أحد لأحد إلا لله رب العالمين)). هكذا رواه القرطبي، وقد روى قصة سجود الشجرة والجمل جماعة من أصحابنا والمحدثين.
قال محمد بن سليمان الكوفي في (المناقب): حدثنا علي بن عبد العزيز، قال: حدثنا مالك بن إسماعيل، قال: حدثنا إسحاق بن الفضل الهاشمي، قال: حدثنا المغيرة بن عطية، عن أبي الزبير، عن جابر بن عبد الله قال: كان في رسول الله -صلى الله عليه وآله- خصال: لم يكن يمر في طريق فيتبعه أحد إلا عرف أنه سلكه من طيب عرفه أو ريح عرقه، ولم يكن يمر بشجر ولا حجر إلا سجد له. فيما يظن إسحاق.
وفي (شفاء) القاضي عياض عن جابر: لم يكن رسول الله -صلى الله عليه وآله- يمر بحجر ولا شجر إلا سجد له. ونسبه الشارح إلى البيهقي.
وفي (شفاء) القاضي عياض عن بريدة ونسبه الشارح إلى البزار مسنداً قال: سأل أعرابي النبي صلى الله عليه وآله وسلم فقال له: قل لتلك الشجرة رسول الله يدعوك، قال: فمالت الشجرة عن يمينها وشمالها وبين يديها وخلفها فتقطعت عروقها، ثم جاءت تخد الأرض تجر عروقها مغيرة حتى وقفت بين يدي رسول الله -صلى الله عليه وآله- فقالت: السلام عليك يا رسول الله، قال الأعرابي: مُرْها فلترجع إلى منبتها، فرجعت فدلت عروقها فاستوت، فقال الأعرابي: ائذن لي أسجد لك؟ قال: ((لو أمرت أحداً أن يسجد لأحد لأمرت المرأة أن تسجد لزوجها))، قال: فأذن لي أقبل يديك ورجليك، فأذن له.
وروى في (الشفاء) أيضاً حديثه مع الراهب وهو أن النبي -صلى الله عليه وآله- خرج تاجراً مع عمه وكان الراهب لا يخرج إلى أحد، فخرج فجعل يتخللهم حتى أخذ بيد رسول الله -صلى الله عليه وآله- فقال: هذا سيد العالمين، يبعثه الله رحمة للعالمين، فقال أشياخ من قريش: ما علمك؟ فقال: لأنه لم يبق شجر ولا حجر إلا خر ساجداً له ولا تسجد إلا لنبي. قال في الشرح: رواه الترمذي والبيهقي.
وفي أمالي أبي طالب: أخبرنا محمد بن بندار، ثنا الحسن بن سفيان، ثنا قتيبة، عن إسماعيل بن عمر، عن رجل من بني سلمة ثقة، عن جابر أن ناضحاً لبعض بني سلمة اغتلم وكان ينضح عليه فصال عليهم وامتنع حتى عطشت نخيله، فذهب إلى النبي -صلى الله عليه وآله- فاشتكى ذلك إليه فقال -صلى الله عليه وآله: ((انطلق))، فذهب النبي صلى الله عليه وآله وسلم معه، فلما بلغ باب النخيل قال: يا رسول الله، لا تدخل فإني أخاف عليك منه، فقال النبي -صلى الله عليه وآله: ((ادخلوا فلا بأس عليكم منه، فلما رءاه الجمل أقبل يمشي وأصغى رأسه حتى قام بين يديه فسجد، فقال النبي -صلى الله عليه وآله: ائتوا جملكم فاخطموه، فأتوه فخطم، فقالوا: سجد لك يا رسول الله حين رآك، فقال: لا تقولوا ذلك لا تبلغوا بي ما لم أبلغ، فلعمري ما سجد لي ولكن الله سخره لي)).
وفي مناقب محمد بن سليمان الكوفي: أخبرنا علي بن عبد العزيز، قال: حدثنا غارم بن الفضل أبو النعمان، قال: حدثنا حماد بن سلمة، عن علي بن زيد، عن سعيد بن المسيب، عن عائشة أن النبي -صلى الله عليه وآله- كان في نفر من أصحابه فجاء بعير فسجد له فقالوا: يا رسول الله، سجدت لك البهائم والشجر ونحن أحق أن نسجد لك، فقال: ((اعبدوا ربكم، وأكرموا أخاكم، فإنه لا ينبغي لأحد أن يسجد لأحد من دون الله، ولو كنت آمراً أحداً أن يسجد لأحد لأمرت المرأة أن تسجد لزوجها، ولو أمرها أن تنقل من جبل أحمر إلى جبل أسود ومن جبل أسود إلى جبل أحمر لكان بحق لها أن تفعل)).
وغارم بالغين المعجمة من رجال المرشد بالله ذكره في (الجداول)، وقد روي حديث الجمل من طرق متعددة، فرواه محمد بن سليمان الكوفي، وأبو نعيم من حديث ثعلبة بن أبي مالك، وأحمد، والبزار، والدارمي، والبيهقي من حديث جابر، وأحمد، والحاكم، والبيهقي من حديث يعلى بن مرة، قال في شرح شفاء القاضي عياض: عن السيوطي بسند صحيح، ومسلم، وأبو داود عن عبد الله بن جعفر، وأبو نعيم، والبيهقي من حديث عبد الله بن أبي أوفى، ومحمد بن سليمان الكوفي عن أنس، والبزار بسند حسن عن أنس، وفي كثير منها ذكر السجود له صلى الله عليه وآله، وهو محمول على التسخير والتكريم لا السجود بمعنى العبادة، لكن في الاستدلال به على أن السجود على معنى التحية والتكريم كان مشروعاً إلى وقت نبينا محمد صلى الله عليه وآله وسلم نظر؛ لأن لقائل أن يقول: إن سجود غير العقلاء لغير الله تكريماً ليس ممنوعاً، بل قد قيل: إن الممنوع إنما هو السجود من البشر، وهذا إن صح يدفع الإشكال في سجود الملائكة لآدم عليه السلام ويؤيده أنه لم يصح شرعاً سجود أحد من البشر لبعضهم الآخر، ويمكن أن يقال: الاستدلال إنما هو من قول الصحابة لما رأوا سجود الشجر والحيوانات: نحن أحق بالسجود لك، فإنه يدل على أن السجود على هذا الوجه لم يكن ممنوعاً شرعاً، ومن الجائز أن يكونوا قد علموه من شرع من تقدمهم، ويؤيده ما أخرجه ابن ماجة في سننه، والبستي في صحيحه عن أبي واقد قال: لما قدم معاذ بن جبل من الشام سجد لرسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فقال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم : ((ما هذا؟ فقال: قدمت الشام فرأيتهم يسجدون لبطارقتهم وأساقفتهم فأردت أن أفعل ذلك بك، قال: فلا تفعل فإني لو أمرت شيئاً أن يسجد لشيء لأمرت المرأة أن تسجد لزوجها لا تؤدي المرأة حق ربها حتى تؤدي حق زوجها، حتى لو سألها نفسها وهي على قتب لم تمنعه)) قال البستي: ومعنى القتب أن العرب يعز عندهم وجود كرسي عند الولادة
فيحملون نساءهم على القتب عند الولادة، وفي بعض طرق الحديث: ونهى عن السجود للبشر، وأمر بالمصافحة.
وروى الرازي، عن الثوري، عن سماك بن هانئ، قال: دخل الجاثليق على علي بن أبي طالب عليه السلام فأراد أن يسجد له، فقال له عليه السلام : اسجد لله ولا تسجد لي، وهو يدل على أن ذلك كان مشروعاً في شرائع الأنبياء المتقدمين لأنه قد قيل: إن الأساقفة هم العلماء، والجاثليق كان من علماء النصارى على ما تفيده حكاية قصته مع أمير المؤمنين عليه السلام وهو في (أنوار اليقين).
قلت: ولقائل أن يقول: لا حجة فيما رواه علماء اليهود والنصارى، ولا فيما فعلوه للعلم بتحريفهم الدين، وزيغهم عن شرائع النبيين، وقد روي عن النبي -صلى الله عليه وآله- أنه كذبهم في نسبة هذا السجود إلى الشرع، وذلك فيما رواه الرازي عن صهيب أن معاذاً لما قدم اليمن سجد للنبي -صلى الله عليه وآله- فقال: ((يا معاذ، ما هذا؟ فقال: إن اليهود تسجد لعظمائها وعلمائها ورأيت النصارى تسجد لقسسها وبطارقتها قلت: ما هذا؟ قالوا: تحية الأنبياء، فقال عليه السلام : كذبوا على أنبيائهم)).
واعلم أن للإمام المهدي عليه السلام كلاماً في معنى سجود الملائكة لآدم عليه السلام حاصله: إبقاء السجود على ظاهره وأنه كان لآدم على جهة التذلل والخضوع، وأنه لا منع من ذلك على الوجه الذي قرره عليه السلام وهو أنه قال: لو قيل إن الله تعالى أكرم آدم بتلك السجدة خضوعاً وتذللاً لم يبعد ولا تسمى عبادة إلا لو استمرت؛ لأن المرة الواحدة قاصرة عن غاية التذلل والخضوع؛ إذ غايتها المداومة والعزم على المعاودة في كل حال أريد به تعظيم المسجود له فيكون جواز السجدة الواحدة لغير الله مشروطة بأن تكون بأمر الله تعالى، وبأن لا يعزم على مداومتها ومعاودتها؛ لأنه لو جاز ذلك لم يبق للباري تعالى علينا مرتبة في التذلل والخضوع. هذا حاصل كلامه عليه السلام قال: وفيه مطابقة لظاهر قوله تعالى: {فَقَعُوا لَهُ سَاجِدِينَ}[الحجر:29] ولما اقتضاه تكبر إبليس عن السجود، ولما اقتضاه قوله تعالى: {وَخَرُّوا لَهُ سُجَّداً}[يوسف:100] وكونه مطابقاً لرؤياه؛ لأنه إنما رأى الكواكب سجدت له خضوعاً وتذللاً لا لله تعالى.
المسألة الثانية [تفصيل الأنبياء]
احتج من يقول بتفضيل الأنبياء على الملائكة بهذه الآية، وسيأتي بيان وجه الاستدلال بها.
والكلام في المسألة يكون في موضعين: الأول في ذكر الخلاف، والثاني في ذكر الحجج.
الموضع الأول في ذكر الخلاف
فنقول: ذهب أهل العدل كافة، قال ابن لقمان: إلا من شذ منهم إلى أن الملائكة" أفضل من الأنبياء" هكذا أطلقت الرواية عن أصحابنا، وقال الشرفي: هو قول أهل البيت" وشيعتهم والمعتزلة، ونسبه الرازي إلى المعتزلة، والباقلاني، والحليمي ومثله في (المواقف) وزاد: الفلاسفة، وزاد الرازي: جمهور الشيعة، وقال أكثر أهل السنة: بل الأنبياء أفضل، ونسبه ابن أبي الحديد إلى أهل الحديث والأشعرية، وفي (الأساس) إلى الأشعرية جميعاً وغيرهم في (المواقف) إلى الشيعة، قال في شرحه وشرح ابن لقمان: وأكثر أهل الملل.
وروى الإمام المهدي عن الإمامية أن الأنبياء والأئمة أفضل من الملائكة، ونحوه حكاه ابن أبي الحديد، وحكي عن قوم منهم والحشوية أن المؤمنين أفضل من الملائكة، وقيل: بتفضيل نبينا خاصة، وقيل: لا فضل للملائكة؛ لأنهم مجبرون، ومال إليه المفتي، هكذا نقل الخلاف.
وقد زيف ابن أبي الحديد نسبة القول بتفضيل الملائكة مطلقاً على الأنبياء مطلقاً إلى المعتزلة، وأتى لهم بتفصيل فقال في شرحه على (النهج): قال أصحابنا: نوع الملائكة أفضل من نوع البشر، والملائكة المقربون أفضل من نوع الأنبياء، وليس كل ملك عند الإطلاق أفضل من محمد -صلى الله عليه وآله- بل بعض المقربين أفضل منه، وهو عليه السلام أفضل من ملائكة أخرى غير الأولين، وكذلك القول في موسى وعيسى وغيرهما من الأنبياء" قال: والذي يحكيه قوم من أرباب المقالات أن المعتزلة قالوا: إن أدنى ملك في السماء أفضل من محمد -صلى الله عليه وآله- ليس بصحيح عنهم.
وحكى السيد محمد بن عز الدين عن بعض أهل البيت الوقف، وقد حكى الوقف أيضاً الإمام المهدي ولم يعين قائله، ومن القائلين بالوقف الإمام عز الدين قال في (المواقف): ومحل النزاع إنما هو في الملائكة العلوية السماوية، وأما السفلية الأرضية فلا نزاع أن الأنبياء أفضل منهم.
قلت: وقد مر في الأولى من مسائل قوله تعالى: {وَإِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلاَئِكَةِ}[البقرة:30] أنه لا دليل على إثبات الملائكة السفلية التي يعبرون عنها بالأرواح السفلية، بل قوله تعالى: {قُلْ لَوْ كَانَ فِي الأَرْضِ مَلاَئِكَةٌ}الآية[الإسراء:95] يدل على أن الأرض ليست من مساكن الملائكة، وأنهم لا يستقرون فيها على جهة الحلول والاطمئنان، وفي كلام أمير المؤمنين عليه السلام ما يؤيد هذا.
الموضع الثاني في ذكر الحجج
وينبغي قبل الكلام على تفصيلها أن نتكلم في معنى الأفضلية من حيث هي، وقد تقدم فيها بحث مفيد في الثالثة من مسائل قوله تعالى: {وَعَلَّمَ آدَمَ الأَسْمَاءَ}[البقرة:31] ونقول هنا: لا شك أن سبب الزيادة في الفضل لا يكون إلا من جهة شرف الحسب، أو كثرة الأعمال الصالحة حتى يكون صاحبها أكثر الناس ثواباً عند الله، أو حصول صفات الكمال النفسانية، كالشجاعة، والسخاء ونحوهما؛ إذ لا يقدر جهة للتفضيل من غير هذه الجهات.
إذا عرفت هذا فمعنى التفضيل بين الملائكة" وبين غيرهم إنما يكون باعتبار كثرة الثواب، وقد نص عليه الإمام المهدي فقال: معنى الأفضلية أنهم أكثر ثواباً، ومثله في شرح ابن أبي الحديد، وهو الظاهر من كلام أصحابنا وغيرهم؛ إذ المقصود بيان الأفضل عند الله سبحانه ولا فضيلة عنده تعالى إلا لمن كثرت عنده الأعمال التي يستحق بها الثواب والدرجة العالية، وقد نبه الله تعالى على هذا بقوله: {إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ}[الحجرات:13] وقوله: {وَمَا أَمْوَالُكُمْ وَلاَ أَوْلاَدُكُمْ بِالَّتِي تُقَرِّبُكُمْ عِنْدَنَا زُلْفَى}[سبأ:37] وقوله: {وَالْبَاقِيَاتُ الصَّالِحَاتُ خَيْرٌ}[الكهف:46] إلى غير ذلك، فهذا ما يتعلق بهذا الموضع من بيان معنى الأفضلية.
وأما تفصيل الحجج فنقول: احتج أهل القول الأول بحجج عقلية، ونقلية، أما العقلية فمنها ما لا يجري إلا على قواعد الفلسفة ولم يحتج به إلا الفلاسفة، ونحن لا نرضى مذهبهم، ولا نعتمد على احتجاجهم، وإنما ذكرناه للتنبيه على أنه مبني على أساس منهار، وقد استدلوا بوجوه:
أحدها: أن الملائكة أرواح مجردة في ذواتها عن علائق المادة وتوابعها، فليس شيء من أوصافها وكمالاتها بالقوة، بل كمالاتها كلها بالفعل، بخلاف هذه النفوس الناطقة الإنسانية فإنها في مبدأ فطرتها خالية عن الكمالات، وإنما يحصل لها منها ما يحصل على سبيل التدريج والانتقال من القوة إلى الفعل، والتام أكمل من غيره.
الثاني: أن الروحانيات متعلقة بالهياكل العلوية المبرأ من الفساد وهي الأفلاك والكواكب المدبرة للعالم، والنفوس الإنسانية متعلقة بالأجسام السفلية الفاسدة، ونسبة النفوس إلى الروحانيات كنسبة الأجساد إلى الهياكل العلوية، فكما أن الهياكل أشرف كذلك الروحانيات.
الثالث: أنهم نورانيون والجسمانيات مركبة من المادة، والصورة والمادة طمأنينة مانعة عن الاستغراق في مشاهدة الأنوار الربانية.
الرابع: أن فيهم قوة على الأفعال العجيبة الشاقة كالزلازل، وإحداث السحب وأمثال ذلك بخلاف الجسمانيات.
الخامس: أنهم أعلم لإحاطتهم بما كان في العصر الأول وبما سيكون، وعلومهم كلية؛ إذ لا حواس لهم فعلية؛ لأنها مباد للحوادث حاصلة في ابتداء فطرتهم لتجردهم عن القوة آمنة من الغلط.
فهذه الوجوه التي احتج بها الفلاسفة، وهي مبنية على أن الملائكة" جواهر قائمة بأنفسها ليست بمتحيزة، وقد أبطلناه في الأولى من مسائل قوله تعالى: {وَإِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلاَئِكَةِ إِنِّي جَاعِلٌ فِي الأَرْضِ خَلِيفَةً}[البقرة:30] وصححنا أنهم أجسام لطيفة، ثم إنا لا نسلم أن كمالات الملائكة كلها بالفعل، ولا أنهم يعلمون ما كان وما سيكون، وأيضاً النزاع بين المتكلمين إنما هو في التفضيل بمعنى كثرة الثواب، وبقي من الوجوه العقلية وجه سادس وهو: أن الملائكة عليهم[السلام] مبرؤون عن الشهوة والغضب الذين هما مبدأ الشرور والقبائح، ولا ريب أن المبرأ عن ارتكاب القبائح بأسرها أفضل من المرتكب لبعضها، واعترض بأنا لا نسلم براءتهم من الشهوة؛ إذ لو كانوا كذلك لما صح تكليفهم، والقول بأن لهم شهوة هو قول العدلية، حكاه عنهم الإمام المهدي عليه السلام قال: ولا نعلم كيفيتها، وقيل: في النظر والرائحة والسماع، قال عليه السلام : وأكثر الناس على أن لا شهوة لهم، وأجاب بما مر.
وقال الرازي: لا شهوة لهم إلى الأكل والشرب، بل شهوة التقدم والترفع بدليل قولهم: {أَتَجْعَلُ فِيهَا مَنْ يُفْسِدُ فِيهَا...}الآية[البقرة:30] وفيه نظر؛ إذ لا تدل الآية على أنهم سألوا لبقاء الرئاسة لهم، وإنما سألوا عن وجه الحكمة في خلق من يقع منه الفساد كما مر.
وأما الغضب فلا دليل على نفيه عنهم، بل الظاهر وقوعه منهم على من عصى الله تعالى، والمنفي عنهم إنما هو الغضب الممقوت لعصمتهم، ولقائل أن يقول: إنا وإن سلمنا أن لهم غضباً وشهوة فهو لا يقدح في تفضيلهم على البشر؛ لأن البشر يشاركونهم في الشهوة والغضب الجائزين عليهم ويختصون بشهوات أخر كشهوة البطن والفرج والغضب على من لا يستحق، والمعلوم أن من كانت دواعي القبيح في حقه أقل كان من فعل القبيح أبعد، ومن الوجوه العقلية أنهم سباقون إلى فعل الخيرات بخلاف البشر، والسابق أفضل بإجماع العقلاء؛ ولقوله تعالى: {وَالسَّابِقُونَ السَّابِقُون، أُوْلَئِكَ الْمُقَرَّبُونَ}[الواقعة:10،11].
ومنها أن أعمالهم المستوجبة للثواب أكثر لطول زمانهم، وأدوم لعدم تخلل الشواغل {يُسَبِّحُونَ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ لاَ يَفْتُرُونَ}[الأنبياء:20] وأقوم لعدم مخالطتها للمعاصي المنقصة للثواب، وأشق؛ لأن مسكنهم السماوات وهي محل الراحة والتنزه واللذة وهم مع ذلك سالمون من الآفات، مستغنون عن طلب الحاجات، والمعلوم أن من كان كذلك فإنه يكون ميله إلى الراحة والدعة أشد، والمعلوم من حالهم أنهم مع هذه الأسباب والدواعي إلى الترفه والنعيم مشتغلون بالعبادة، خاضعون خاشعون للمعبود جل وعلا، مشفقون كأنهم مسجونون، والأجر على قدر المشقة.
وأما الأدلة النقلية فآيات كثيرة منها قوله تعالى: {لاَ يَسْبِقُونَهُ بِالْقَوْلِ}[الأنبياء:27] وقد مر الكلام عليها في الرابعة من مسائل قوله تعالى: {وَإِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلاَئِكَةِ إِنّي جَاعِلٌ فِي الأَرْضِ خَلِيفَةً}[البقرة:30] ومنها ما سيأتي الكلام عليه في مواضعه، ومنها أنهم رسل الله تعالى إلى الأنبياء، والرسول أفضل من الأمة المرسل إليها، دليله الرسل من البشر فإنهم أفضل من أممهم، ولا يعترض بأنه يلزم أن يكون الفرد من آحاد الناس إذا أرسله ملك إلى ملك أفضل من الملك المرسل إليه؛ لأنا لا ندعي اطراد ذلك، بل خصصناه برسل الله، وذلك أنا وجدنا رسل الله من البشر أفضل من المرسل إليهم ضرورة، ولا وجه لتفضيله عليهم إلا كونه رسول الله فوجب اطراد هذه العلة بأن نقول: كل من أرسله الله فهو أفضل من المرسل إليهم لكونه رسول الله تعالى.
ومنها اطراد تقديم ذكر الملائكة على ذكر الأنبياء والمفضول لا يقدم على سبيل الاطراد.
قالوا: إنما قدمهم لتقدم وجودهم.
قلنا: لو كان كذلك لما اطرد كما لم يطرد تقديم ذكر من تقدم وجوده من الأنبياء وغيرهم.
ومنها قوله -صلى الله عليه وآله- حكاية عن الله تعالى: ((إذا ذكرني عبدي في ملأٍ ذكرته في ملأٍ خير من ملائه)) وهو يدل على أن الملأ الأعلى أفضل، وفيه أنه أحادي، وإن صح فهو لا يدل إلا على تفضيلهم على العامة لا على خصوص الأنبياء لما قيل من أن المراد بملأ العبد العوام.
ومنها إجماع أهل البيت" كما مر، واعترض بما مر من توقف الإمام عز الدين، وبأن في كلام بعض قدمائهم" ما يفيد بعمومه تفضيل الأنبياء كافة على الملائكة، وما يفيد تفضيل نبينا خاصة، فمن الأول قول الحسن بن يحيى: فأعطى الأنبياء من خزائن رحمته، وتفضيله، ومنّه وتوفيقه، وخصّهم برسالته، ورفعهم على خلقه مناً منه ورحمة وفضلاً. ذكره في (الجامع الكافي)، ومن الثاني قول علي عليه السلام في وصف نبينا صلى الله عليه وآله: المجتبى من خلقه. رواه في (النهج). وقول زيد بن علي: إنه ليس أحد أولى بالله ولا أرفع درجة عنده ممن ابتعثه، وقول القاسم: ونسأل الله أن يصلي على محمد عبده ورسوله المصطفى، وأمينه المرتضى، وخيرته من خلقه. وقول الهادي في صلاة الجنازة: ويستحب أن يقال قبل الصمد: اللهم صل على محمد عبدك ورسولك وخيرتك من خلقك. ذكره في (الأحكام).
احتج القائلون بتفضيل الأنبياء على الملائكة" بالعقل والنقل، أما العقل فمن وجهين:
أحدهما: أن الإنسان ركب تركيباً بين الملك الذي له عقل بلا شهوة وبين البهائم التي لها شهوات بلا عقل، فبعقله له حظ من الملائكة، وبشهوته له حظ من البهائم، فإن غلبت شهوته فهو من البهائم بل أضل لقوله تعالى: {أُوْلَئِكَ كَالأَنْعَامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ}[الأعراف:179] ولذلك استوجب النار دونها، وإن غلب عقله كان من الملائكة، وإذا كان عند غلبة الشهوة دون البهائم وجب بطريق قياس أحد الجانبين على الآخر أن يكون عند غلبة العقل أفضل (من البهائم).
ثانيهما: أن للبشر عوائق عن العبادة من شهوة، وغضب، ووسوسة، وحاجاتهم الشاغلة، ومع ذلك إن تكاليفهم مستنبطة بالاجتهاد والبحث، وطاعة الملك ليس لها موانع وصوارف، وتكاليفهم منصوص عليها لا مستنبطة بالاجتهاد، وهذا يوجب أن طاعة البشر أشق فيكون أفضل لقوله -صلى الله عليه وآله: ((أفضل الأعمال أحمزها)) أي أشقها، ويكون صاحبها أكثر ثواباً، وهذان الوجهان يصلحان حجة لمن يقول بتفضيل غير الأنبياء من البشر.
والجواب عن الوجه الأول: أنا لا نسلم أن الملك لا شهوة له كما مر، سلمنا فالقياس ممنوع؛ إذ لا يلزم من كونه أدنى من البهائم عند غلبة الشهوة أن يكون أفضل من الملائكة عند غلبة العقل، والقياس لا يصح من دون علة جامعة.
وعن الثاني بأنا لا نسلم سلامة الملائكة عن عوائق بنحو الشهوة والغضب كما مر، سلمنا فلا نسلم أن زيادة المشقة تقتضي التفضيل بدليل أن بعض الصوفية يتحمل من مشقة العبادة ما لم يتحمله النبي -صلى الله عليه وآله- ولم يقل أحد إنهم أفضل منه صلى الله عليه وآله، فثبت أن المشقة في تحمل العمل لا تعتبر إلا مع ما يصحبها من مشقة الإخلاص والمراقبة، وأجاب بعضهم بأن الأشق لا يكون أفضل إلا بعد المساواة في وجوه المصالح، ولعل في عبادة الملائكة مصالح لا تحصى، فلا تثبت أفضلية عبادة البشر وإن كانت أشق، ويمكن أن يقال: هذا الجواب احتمال قادح في التيقن لا الظن، فإن كانت المسألة مما يعتبر فيها اليقين فقد أفاد في منع هذا الوجه، وإن كانت مما يكتفى فيها بالظن فلا؛ لأن الظاهر أن الأشق يكون أفضل من دون اعتبار المساواة في المصلحة، ولا يلزم تفضيل أعمال الصوفية على أعمال الأنبياء للقطع بأن مشقة أعمال الأنبياء" أعظم لما ينالهم من مشقة الجهاد، وأذية الأضداد، ومشقة الإخلاص والمراقبة وغير ذلك.
وأما الحجج النقلية فآيات متعددة، وستأتي في مواضعها إن شاء الله، منها ما اشتملت عليه قصة آدم عليه السلام في هذه السورة فإنها تدل على تفضيل آدم على الملائكة من وجوه:
أحدها: أن الله تعالى جعل آدم خليفة له، والمراد منه خلافة الولاية بدليل قوله تعالى في داود: {إِنَّا جَعَلْنَاكَ خَلِيفَةً فِي الأَرْضِ فَاحْكُمْ بَيْنَ النَّاسِ بِالْحَقِّ}[ص:26] ومعلوم أن أعلى الناس منصباً عند الملك من يقيمه مقامه في الولاية.
الثاني: كونه أعلم من الملائكة؛ لأنه علم ما لا يعلمونه، والأعلم أفضل لقوله تعالى: {قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَالَّذِينَ لاَ يَعْلَمُونَ}[الزمر:9].
الثالث: أنه أمرهم بالسجود لآدم عليه السلام والسجود نهاية التواضع، فلو لم يكن أفضل منهم لكان أمرهم بالسجود له قبيح؛ لأن تكليف الأشرف بنهاية التواضع للأدنى قبيح عقلاً؛ لما تقرر من أن تعظيم من لا يستحق التعظيم قبيح.
الرابع: أنه ذم إبليس، وأخرجه من الجنة، وحكم بكفره بسبب تكبره عليه.
والجواب عن الوجه الأول: أنه إنما يدل على أن آدم أفضل ممن في الأرض؛ لأنه إنما جعله خليفة فيها، ولا يدل على أنه أفضل من ملائكة السماء بحال.
وعن الثاني: بأنها لا تدل على أن آدم عليه السلام كان أعلم منهم بالأسماء، ولا تدل على أنه كان أعلم منهم بسائر الأشياء، ومن الجائز أن يكونوا عالمين بما لم يعلمه آدم عليه السلام .
وعن الثالث: بأن الأمر بالسجود لا يقتضي تفضيله لما مر من أن المراد بيان فضله لا تفضيله، على أنه قد مر عن كثير أنه إنما كان قبلة، أو أن السجود جار مجرى التحية.
وعن الرابع بأن ذم إبليس وتكفيره لعدم امتثاله أمر الله تعالى، وذلك لا يدل على كون آدم أفضل من الملائكة، فإن الملك قد ينكل ببعض خواصه حيث أمره بأمر يتعلق ببعض ضعفاء رعيته فخالف، ولا يدل ذلك التنكيل والإبعاد على كون ذلك الضعيف الذي هو سبب في التنكيل أفضل من خواص الملك ووجوه أصحابه.
واحتجوا أيضاً من السنة بما روي أن جبريل عليه السلام أخذ بركاب محمد -صلى الله عليه وآله- حتى أركبه على البراق ليلة المعراج، وبقوله صلى الله عليه وآله: ((إن لي وزيرين في السماء، ووزيرين في الأرض، أما اللذان في السماء: فجبريل، وميكائيل، وأما اللذان في الأرض: فأبو بكر، وعمر)). والمخدوم أفضل من الخادم، والملك أفضل من الوزير.
وأجيب: أن الخبرين من أخبار الآحاد، على أن الثاني معارض بما تواتر من أن وزير النبي -صلى الله عليه وآله- علي بن أبي طالب -كرم الله وجهه في الجنة- والأول لو صح فهو لا يقتضي تفضيل محمد صلى الله عليه وعلى آله على جبريل عليه السلام لجواز أن يكون ذلك تواضعاً وللضرورة؛ لأنه قد ورد في بعض الروايات أن البراق استصعب حين أراد النبي -صلى الله عليه وآله- الركوب.
احتج من قال بتفضيل نبينا صلى الله عليه وآله خاصة بأن مقام محمد -صلى الله عليه وآله- عظيم كما دل على ذلك الآيات والأخبار، ويدل على ذلك حديث الأشباح، وما سيأتي في تفسير الكلمات التي تلقاها آدم عليه السلام من ربه، ولقوله -صلى الله عليه وآله: ((أنا أول من تنشق عنه الأرض وألبس حلة من حلل الجنة ثم أقوم عن يمين العرش ليس أحد من الملائكة يقوم ذلك المقام غيري)).
وفي الحديث: ((ثلاث من كن فيه وجد حلاوة الإيمان، من كان الله ورسوله أحب إليه مما سواهما...)) الحديث. وظاهره العموم، وقد تقدم عن بعض قدماء العترة " ما يفيد اختيارهم ذلك.
احتج من نفى فضل الملائكة" بأنهم مضطرون إلى أفعالهم، وهو باطل لما سيأتي.
المسألة الثالثة [دلالة صيغة الأمر المذكور في الآية]
في الآية دليل على أن صيغة الأمر حقيقة في الوجوب؛ لأن الله تعالى ذم إبليس وحكم بكفره لعدم الامتثال، ووبخه وأنكر عليه في آية أخرى فقال: {مَا مَنَعَكَ أَلاَّ تَسْجُدَ إِذْ أَمَرْتُكَ}[الأعراف:12] وكل ذلك لا يجوز إلا على ترك الواجب؛ إذ لا تحسن مقابلة شيء من أقسام الأفعال بالذم على الإخلال به، ووصف تاركه بالكفر والعصيان غير الواجب، ألا ترى أنه لا يحسن عند العقلاء ذم من ترك المباح كالأكل والشرب، أو المندوب لا على جهة الاستخفاف، كالوتر، وقد تقدم الخلاف في المسألة في قوله تعالى: {اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ}[الفاتحة:6].
المسألة الرابعة [دلالة الأمر الفور]
ظاهر الآية يدل على أن الأمر للفور؛ لأن الملائكة بادروا إلى السجود عقيب الأمر بدليل الفاء فإنها تقتضي التعقيب بلا مهلة، وفي المسألة خلاف، فذهب إلى دلالته على الفور الهادي، والناصر، والمؤيد بالله، والقاضي جعفر، ورواه في (الجوهرة) عن أبي طالب وأحد قولي قاضي القضاة، وقال في (المقنع): هو الذي نصره قاضي القضاة في (النهاية)، وذكره الشيخ الحسن الرصاص في (الفائق)، ونسبه في (المقنع) أيضاً إلى كثير من العلماء، وأبي الحسن الكرخي، وجماعة أصحاب أبي حنيفة، وقوم من الظاهرية.
وفي (شرح الغاية): إلى الحنفية، والحنابلة، وجمهور المالكية، والظاهرية، وبعض الشافعية، وفي (المقنع) إلى أحد أقوال الشافعي، وفي (الفصول) إلى أبي حنيفة، ومالك وبعض أصحابهما، وقال: وقال المنصور بالله، والإمام يحيى بن المحسن، وأبو علي، وأبو هاشم، وأبو الحسين، وابن الملاحمي، والغزالي: بل هو للتراخي، وهو قول ابن الحاجب وأكثر المجبرة، وأصحاب الشافعي، وهو مروي عن الشافعي، والشيخ الحسن، وأبي طالب، قال في (المقنع): وهو محكي عن القاسم بن إبراهيم.
وقال الإمام يحيى، والإمام المهدي، والقرشي، ورواية عن الشافعي: ليس فيه إشعار بفور ولا تراخ إنما هو لمجرد الطلب، ولا يدل على أيهما إلا لقرينة، قال في (شرح الغاية): وإليه ذهب الغزالي، والرازي، والآمدي، وابن الحاجب، والبيضاوي، قال: والظاهر أن القول بأنه للتراخي يرجع إلى هذا القول، وأنهما قول واحد، وقال الجويني: بل هو للفور شرعاً وتوقف لغة، وقال الباقلاني: يجب الفور أو العزم على الفعل فيما بعد ثاني أوقات الخطاب، وهو مروي عن أبي طالب، وقيل: إنه مشترك بين الفور والتراخي فيجب الوقف عن حمله على أحدهما إذا تجرد عن القرينة، وقيل: بالوقف بمعنى لا ندري أنه هل وضع للفور أو للتراخي.
احتج الأولون بوجوه:
أحدها: أن السيد إذا أمر عبده بفعل فأخر الفعل ولم يمتثل في الحال فإنه يستحق اللوم من جميع العقلاء، وليس ذلك إلا لفهم الفور من الصيغة.
فإن قيل: إنما فهم الفور من القرينة وهي ما علم من أن قصد السيد التعجيل، وإنما تمس الحاجة إلى ذلك بخلاف أوامر الحكيم فإن الغرض بها التعريض للثواب لا لحاجة، وهذا الغرض حاصل في أي وقت [فُعِلَ] فيه المأمور به.
قيل: لا نسلم بل فهم من الصيغة أن أوامر الحكيم وإن كان الغرض بها ما ذكرتم فالثمرة المقصودة منها لا تحصل إلا بفعل المأمور به، والمكلف غير واثق بالبقاء إلا ما بعد ثاني وقت الخطاب، وتأخير ما به ينال النفع العظيم مع خوف فوته مذموم عند العقلاء ولهذا أمر الله بالمسارعة إلى المغفرة، والمسابقة إلى الخيرات، ويقول: فوت الفرصة غصة، والحاصل أنا وإن سلمنا أن الفور إنما فهم من القرينة فالقرينة في أوامر الشارع موجودة، وهي ما ذكرنا من أن الثمرة لا تحصل إلا بالفعل وأن المكلف غير واثق بالبقاء، فعلى هذا يقال: أوامر الشرع تقتضي الفور إما بوضعها أو للقرينة.
الوجه الثاني: أنه لو جاز تأخيره عن أول أوقات الإمكان لالتحق بالنوافل؛ لأن المفروض جواز تأخيره إلى غير غاية ومع غير بدل، وهذا يخرجه عن حقيقة الواجب فيلحق بالنافلة لاشتراكهما في جواز الترك عن أول أوقات الإمكان لا إلى بدل.
والجواب بالفرق فإن النافلة يجوز تركها رأساً بخلاف الواجب، وأيضاً النافلة ليس لها حالة تتضيق فيها أصلاً، والمأمور به قد يتضيق فعله إن غلب على الظن أنه إن لم يفعل فات فيما بعد، وبالنقض بما إذا صرح بجواز التأخير نحو أن يقول للمكلف في أي وقت أتيت بالمأمور به فقد امتثلت، فإن هذا الوجه متحقق فيه، فما هو جوابكم فهو جوابنا.
الثالث: القياس على الإيقاعات والعقود، فإنها تفيد أحكامها في أقرب وقت، فكذلك الأمر بجامع أن كل منهما إنشاء.
والجواب من وجهين:
أحدهما: أن اللغة كانت توجب أن تكون هذه العقود كالأمر في أنها لا تتخصص بوقت دون وقت لعدم دلالتها على الأوقات، لكن الشرع أوجب فيها ذلك ولم نجد فيه ما يوجب في الأمر مثلها.
ثانيهما: بالفرق وهو أنه إنما وجب ذلك في العقود ونحوها لكونها إخباراً عن الحال لا عن المستقبل؛ إذ قول البائع: بعت إخبار عن رضاه بانتقال الملك إلى المشتري في الحال، بخلاف الأمر فإنه موضوع للدلالة على طلب وقوع المأمور به في المستقبل وليس خبراً، ولو سلم أنه خبر فهو مثل قولك: سيقوم زيد في دلالته على إنشاء وقوع الفعل في أوقات الاستقبال، فلا يصح قياسه على ما دل على الوقوع في الحال، وأيضاً هو قياس في اللغة وهو ممنوع.
الوجه الرابع: أن المأمور إذا فعل المأمور به في الثاني كان ممتثلاً وسقط عنه الفرض بإجماع الأمة ولم يجمعوا على سقوطه مع التراخي، والأخذ بالمجمع عليه أولى.
والجواب: أنا لا نسلم الإجماع سلمنا فلا يلزم فيما لم يجمع عليه أن يكون باطلاً لجواز دليل على صحته غير الإجماع، وقد قام الدليل على سقوطه إن فعل في الثالث كما سيأتي.
الخامس: أن التعجيل أحوط إذ لا يأمن الضرر بالتأخير.
والجواب: أن الأحوط اتباع الدليل، فما دل عليه من فور أو تراخ اتبعناه، وإذا دل الدليل على التراخي أمنا من ضرر التأخير.
السادس: أن المكلف إذا فعل في الثاني سقط عنه الفرض وارتفع عنه الذم، وذلك يمنع من تأخيره إلى الثالث؛ لأن الأفعال تختص الأوقات فما صح أن يوجده القادر في وقت لا يصح أن يوجده في آخر، وليس لنا دليل على أن مثل الفعل الذي يسقط به الفرض يقوم مقامه.
والجواب من وجهين:
أحدهما: أن هذا فرع على إثبات الأعراض وأنها تختص الأوقات، وفي كل منهما نزاع ذكره أبو الحسين إن الأمر لم يوجب فعلاً معيناً إنما أوجب إيقاع ما له صورة مخصوصة من غير تعيين، فإذا وجد المكلف ما له تلك الصورة في الثاني أو الثالث كان ممتثلاً.
السابع: أن الأمر يقتضي اعتقاد وجوب المأمور به على الفور، ولا لفظ لذلك في الأمر فكذلك يقتضي فعل المأمور به على الفور لتناول الأمر له.
والجواب: أن ذلك قياس في اللغة فلا يصح.
الثامن: أن النهي يقتضي الكف عقيب النهي فكذلك الأمر.
والجواب بالفرق وهو أن المكلف به في النهي الترك، ومهما لم يستمر الترك في جميع الأوقات لم يعد ممتثلاً بخلاف الأمر فإن المكلف به فيه فعل ما له صورة مخصوصة، ففي أي وقت فعله فقد امتثل ثم إنه قياس في اللغة.
واعلم أن بعض الأدلة المذكورة ليست لغوية، وإنما هي شرعية كالرابع والخامس والبحث لغوي؛ إذ النزاع إنما هو في كون وضع الأمر للفور، ولا يعدل عنه إلا لدليل أولا، وأما في الشرع فالخلاف فيه أمر وراء ذلك، وقد ذهب إليه الجويني كما مر، والإجماع والاحتياط إنما يصلحان دليلان له، وكذلك الآية، وقد مر بيان وجه الاحتجاج بها، ويمكن أن يقال: أما الآية فهي دليل على أنه موضوع للفور؛ لأن الظاهر أن الملائكة فهموا الفور من الصيغة؛ إذ ليس في الكلام ما يقال إنهم سارعوا إلى السجود لأجله غير الأمر إلا أنه يقال: إذا قد ثبت أنه لم يوضع للفور وجب القول بأن الملائكة " إنما فهموا الفورية من شيء آخر غير اللفظ. والله أعلم.
وقد قيل: إن أمر الملائكة بالسجود ليس من محل النزاع؛ إذ محله إنما هو الأمر المطلق، وهذا مقيد بوقت معين بدليل: {فَإِذَا سَوَّيْتُهُ وَنَفَخْتُ فِيهِ مِنْ رُوحِي فَقَعُوا لَهُ سَاجِدِينَ}[الحجر:29].
احتج القائلون بالتراخي بوجوه:
أحدها: أن الأمر يقتضي إيقاع الفعل على الإطلاق من دون تخصيص بوقت دون وقت؛ إذ لو أراد الحكيم تخصيصه لبينه، وإلا كان تكليفاً بما لا يعلم وهو لا يجوز، فاقتضى ذلك أنه لم يرد به أول الأوقات، بل في أي وقت فعل فقد امتثل، وهذا هو معنى التراخي.
والجواب: أن البيان إنما يجب على الحكيم إذا أراد التعجيل لو لم يكن ظاهر الأمر يفيده، وأما أنه كان يدل عليه بوضعه فلا يحتاج إلى ذلك، ثم إن دليلكم كما أبطل اقتضاءه الفور فهو يبطل اقتضاءه التراخي؛ إذ حاصل ما أبطلتم به الفورية كونه لا يقتضي سوى إيقاع الفعل، واقتضاؤه لذلك لا يدل على أنه يستفاد منه التراخي فهو بمراحل عن مطلوبكم.
الثاني: أنه لو كان يقتضي الفور لكان إما بلفظه، وهو باطل؛ إذ لا ذكر للوقت في اللفظة، وإما بمدلوله وهو الوجوب، وهو باطل؛ إذ ليس من ضرورة الواجب التعجيل لجواز كون المصلحة في تأخيره، والعقل يجوز ذلك.
وجوابه بالمعارضة بأنه لو كان للتراخي لكان إما بلفظه... إلى آخر ما ذكرتم، والعقل يجوز كون المصلحة في التعجيل كما يجوز كونها في التأخير، فما أجبتم به فهو جوابنا.
الثالث:أنه لو اقتضى الفور لما كان من أوقعه في الوقت الثالث ممتثلاً، والمعلوم خلافه.
والجواب: أنا لا نسلم أنه يكون ممتثلاً سلمنا فلدليل منفصل.
الرابع: أن الأمر جار مجرى الخبر لاشتراكهما في إفادة إيقاع الفعل في المستقبل، والخبر لا يقتضي وقوع المخبر عنه في وقت دون وقت اتفاقاً، فيجب في الأمر مثله.
والجواب: أنه قياس في اللغة، وبالفرق، فإن الخبر ليس المطلوب فيه الامتثال ولا إيقاع فعل، وإنما هو دال على وقوع أمر، أو لا وقوعه في المستقبل، ففي أي وقت وقع فقد حصلت الدلالة وكشف عن صدق الخبر، بخلاف الأمر فإن المطلوب به الامتثال، ولا يُعد ممتثلاً إلا بإيقاع المأمور به، ولا يأمن من فوته إن لم يعجل فيكون عاصياً إن فات، والإقدام على ما لا يؤمن قبحه قبيح.
الخامس: أنه لو قيل: اعط رجلاً درهماً، لم يختص برجل معين ولا درهم معين، بل له أن يعطي أي رجل شاء أي درهم، فكذلك لا يجب أن يعطيه على الفور لعدم الاختصاص بوقت دون وقت.
والجواب: أنه قياس في اللغة وبأن عدم التعيين في الرجل والدرهم مستفاد من تنكيرهما لا من الأمر، وبأنه احتجاج بمحل النزاع، وبأنه يعود على مذهبكم بالنقض.
السادس: أن فريضة الحج نزلت سنة ثمان وحج رسول الله -صلى الله عليه وآله- سنة عشر، فلو كان الأمر يقتضي الفور لما أخر النبي -صلى الله عليه وآله.
والجواب: أنه قد روي أنه كان حج قبل الهجرة، سلمنا فلعله أخره لعذر فلا يكون دليلاً على التراخي.
احتج القائلون بأنه وضع لمجرد الطلب لحقيقة الفعل فقط بأن ما ذكره الفريقان الأولان لا ينتهض على المطلوب فلا يفيد الأمر إلا طلب مطلق الفعل، والفور والتراخي موقوفان على القرائن الخارجية؛ لأنهما صفتان للفعل متقابلتان بالقلة والكثرة، والموصوف بالصفات المتقابلة المنوعة لا دلالة له على شيء منها.
والجواب: أن قولكم: فلا يفيد إلا طلب مطلق الفعل مصادرة؛ إذ مبناه على القطع بأن مدلول الصيغة طلب حقيقة الفعل من غير تقييد بفور أو تراخ، وهذا نفس مذهبكم، والخصم يدعي أنها للحقيقة المقيدة، لا يقال: قد دللنا على ذلك بقولنا: والفور والتراخي...إلخ؛ لأنا نقول ذلك إنما يفيد دلالة المصدر المشتق منه صيغة الأمر على الحقيقة فقط ولا يفيد عدم الدلالة عليها بالصيغة، وجائز أن تفيد الصيغة ما لا يفيده مصدرها، ورد بمنع إفادة الصيغة ما لا يفيدها مصدرها؛ لأن قولك اطلب مثلاً مختصر من أطلب منك ضرباً مقصوداً به الإنشاء، ولا دلالة للمصدر على غير الماهية فكذلك ما هو مختصر من هذه الجملة المشتملة على ذلك المصدر، وحاصله: أنه وضع لطلب الفعل صيغتان اضرب وافعل ضرباً، ولا شك أن المختصر والمطول سواء في إفادة المعنى، فالفور والتراخي خارجان عن مدلولي اللفظ سواء أتي فيه بلفظ المصدر أم بالصيغة الدالة عليه.
احتج الجويني على أنه للفور شرعاً بأنه أحوط من التأخير لإجماع من يعتد به على حصول الامتثال بتعجيله، وليس كذلك إيقاعه فيما بعد؛ إذ لا يؤمن معه الضرر.
وجوابه قد مر، وله أن يحتج بنحو: {سَارِعُوا إِلَى مَغْفِرَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ}[آل عمران:133] {فَاسْتَبِقُوا الْخَيْرَاتِ}[البقرة:148] ونحوهما.
واحتج على التوقف لغة بأنه لا يعلم منها فور ولا تراخ.
حجة الباقلاني ما ذكره أبو طالب، واحتج به لهذا القول بأن ترك الواجب لا إلى بدل غير جائز، ولا يخرج عن كونه واجباً؛ إذ معنى الواجب ما يستحق الذم والعقاب بتركه، فإذا لم يجب فعله ولا فعل بدله خرج عن صفة الوجوب، وأما أن البدل هو العزم فلما تقرر عقلاً وشرعاً من أن العزم بدل عن كل واجب بتراخي ولا يتعين له بدل، لا سيما فيما يتعلق بالحقوق كقضاء الدين، ورد الوديعة ونحوهما، وإذا ثبت قيام العزم هنا قيام الفعل عند تعذره حكمنا بأنه بدل عن كل واجب يحتاج إلى بدل، وهذا مبني على أنه يجب على المأمور في أول الوقت، إما الفعل أو بدله كما حققه أبو طالب، وهو قول الباقلاني كما في (شرح الغاية).
والجواب: بمنع وجوب العزم وإذا لم يجب فلا يصح أن يكون ما ليس بواجب بدلاً عن الواجب، ولو سلم وجوب العزم فلا نسلم أنه بدل؛ إذ لو كان بدلاً لتأدى الواجب به وليس كذلك، وأيضاً المصلحة إنما هي فيما عين الله سبحانه وجوبه، ومعلوم أنه سبحانه لم يعين إلا الفعل المتصف بالوجوب كالصلاة دون العزم.
نعم وحجة القائلين بوجوب العزم وإن لم يكن بدلاً بأنه لو جاز تأخير المأمور به من غير عزم لالتحق بالنفل.
وجوابه ما مر من أن النفل يجوز تركه دون الفرض.
واعلم أن مقتضى كلام أبي طالب هنا والباقلاني أن الأمر للفور، قال في (شرح الفصول): والمراد أن الباقلاني يقول: إن الأمر المطلق يقتضي الفور، لكنه لا يقضي بالتأخير مع العزم، قال: وحاصله أن الواجب عليه في ثاني الحال إما الفعل، أو العزم، قيل: والظاهر أن هذا هو القول بالتراخي، أعني جواز التأخير لكن بشرط العزم، وهو اختيار أبي طالب.
احتج القائل بالاشتراك بأنه ورد في الشرع على الوجهين، والأصل في الكلام الحقيقة فوجب الاشتراك.
وأجيب بأنه لم يتبادر من ذلك إلا القدر المشترك فيكون حقيقة فيه.
احتج القائل بالوقف بأنه لو ثبت لثبت بدليل وهو إما العقل ولا مدخل له، أو غيره فهو إما أحادي فلا يفيد، أو متواتر ولم يوجد.
والجواب بأنه قد ثبت بالاستقراء أنه للفور أو التراخي أو للقدر المشترك بينهما، ولا يخفى على الناظر الراجح منها؛ لأنا قد استوفينا الأدلة وما ورد عليها.
قوله: إما أحادي ولا يفيد.
قلنا: بل يفيد؛ إذ الظن كاف في مدلولات الألفاظ كما مر في اقتضائه الوجوب.
فرع
ذهب القائلون بأنه للفور إلى أن من أخر عن أول أوقات الإمكان يكون عاصياً بالتأخير؛ لأن الواجب هو ما لا يجوز تركه، فلو جاز تركه في الزمن الأول لما كان متصفاً بالوجوب، واختلفوا في فعله في الثاني هل يكون بالأمر الأول أو لا، فذهب أكثرهم إلى أنه يجب في الثاني بالأمر الأول؛ لأن التقدير افعل في الوقت الأول وإن لم ففي الثاني، ثم كذلك إلى انتهاء التكليف.
وقال الكرخي، وأبو عبد الله: بل لا يجب إلا بدليل غيره، وظاهر حكاية الحاكم عن أهل الفور اتفاقهم على هذا، فإن الإمام المهدي حكى عنه أنه قال: ومن قال إن المطلق للفور فهو لا يجب فعله بعد التراخي إلا لدليل، ولم ينسب الإمام المهدي القول الأول إلا إلى الرازي.
والحجة لهؤلاء من وجهين:
أحدهما: أن الفور كالتأقيت، والمؤقت إذا فات وقته لم يلزم فعله بعد إلا بدليل آخر، فكذلك المطلق إن لم يفعل فوراً.
ثانيهما: أن مقدورات القدر لا يصح عليها التقديم والتأخير، والمأمور به من المقدورات التي يصح إيجادها فوراً، فإذا لم يوجدها المأمور ففعلها في الوقت الثاني فما بعده مستحيل، ولو فعل فالمفعول غيرها وهو غير مأمور به.
وحاصل هذا أن المقدورات تختص الأوقات كما مر.
وأجيب عن الأول بأنا لا نسلم أن الفور كالتأقيت؛ إذ التوقيت الأمر بالشيء في وقت معين، سلمنا فلا نسلم أن الموقت لا يجب قضاؤه إلا بدليل آخر؛ إذ النزاع في المسألة مشهور، وعن الثاني بما مر.
هذا وأما أهل التراخي فليس لإيجاد المأمور به عندهم وقت معين يجب إيقاعه فيه فيقال: هل هو بعد ذلك يحتاج إلى دليل أو لا، بل الأوقات سواء في إيجاب إحداث ذلك الفعل، لكن اختلفوا في المبادر هل يعد ممتثلاً أو لا، فذهب أكثرهم أنه يكون ممتثلاً لفعله ما أمر به فيكون كالمبادر بالزكاة قبل وقتها، وقال الأقلون: لا؛ لوضعه للتراخي فالمبادر غير ممتثل، هكذا حكى الخلاف بينهم بعض النظار، وأشار إليه في (جمع الجوامع) وقد أنكر إمام الحرمين وغيره كون أحد من أهل التراخي يوجبه حتى تكون المبادرة ممنوعة، وقالوا: لم يصر أحد إلى ذلك، وإنما المراد بكونه على التراخي أنه يجوز تأخيره لا أنه يجب فإن أحداً لا يقول ذلك، وقال بعضهم بعد أن حكى عن الأقلين: أن المبادر لا يكون ممتثلاً، وقد قيل إنه مخالف للإجماع، وإنما يتحقق الخلاف بين القائلين بالوقف، فذهب الأكثر منهم إلى أن المبادر ممتثل قطعاً لحصول الفعل منه فيخرج عن العهدة كما يخرج عنها من فعل الموسع عند من يقول: إن الوجوب يتعلق بأوله، وعند من قال: يتعلق بآخره، وحكي عنهم أن المؤخر لا يقطع بخروجه عن العهدة، وقال الأقل منهم بالوقف في المبادر والمؤخر في أنه هل هو ممتثل أم لا لاحتمال إرادة الشارع التأخير فلا يجزي التقديم، أو التقديم فلا يجزي التأخير، وهؤلاء يسمون غلاة الواقفية، والأولون مقتصدوهم.
قيل: وهذا سرف عظيم في الوقف، وقد نسبوا إلى خرق إجماع السلف والخلف لإجماعهم قبل حدوث هذا المخالف على استحقاق الثناء بالمسارعة، كما ورد به الشرع في قوله: {أُوْلَئِكَ يُسَارِعُونَ فِي الْخَيْرَاتِ}[المؤمنون:61] ونحوها.
واعلم أن ما حكيناه من نسبة الخلاف إلى الواقفية في طرفي التقديم والتأخير هو الذي ذكره في (الفصول)، وأما في غيرها فالظاهر أن الخلاف بينهم إنما هو في التعجيل، فإن الغلاة منهم توقفوا في القطع بكون المبادر ممتثلاً؛ لجواز أن يكون غرض الآمر في التأخير.
قال ابن الصباغ: وقائل هذا لا يجوز فعله على الفور، لكنه خالف الإجماع، وقال الغزالي في (المستصفى): أما المبادر فممتثل مطلقاً، ومنهم من غلا فقال: يتوقف في المبادر، وقد طابق حكاية (الفصول) ما ذكره الصفي الهندي في نهايته فإنه قال: أما الغلاة فهم الذين توقفوا في المبادر والمؤخر في أنه هل هو ممتثل أم لا، ونسبوا إلى خرق إجماع السلف، فإنهم كانوا قاطعين بأن المبادر مسارع في الامتثال، ومبالغ في الطاعة، قال: وأما المقتصدون فهم الذين قطعوا بامتثال المبادر، وتوقفوا في المؤخر هل هو ممتثل أم لا، ثم منهم من قال بتأثيمه، ومنهم من لم يقل به، ثم منهم من لم يؤثمه، ومنهم من توقف فيه، مع القطع بأنه امتثل أصل المطلوب، وفي كلامه تحقيق لموضع الخلاف غير ما سبق.
تنبيه
الخلاف في المسألة إنما هو حيث ورد الأمر مطلقاً غير مقيد بفور ولا تراخ، فأما إذا ورد مقيداً بأيهما فإنه يجب حمله على حسب ما يقتضيه القيد، ولا نزاع في ذلك.
المسألة الخامسة [تكليف الملائكة]
دلت الآية على أن الملائكة" مكلفون، وكذلك الجن على القول بأن إبليس من الجن، والخلاف في ذلك مع الحشوية فقالوا: هم مضطرون، لنا الآية فإنه قد كلفهم السجود، وذم إبليس على الامتناع، ولو كانوا غير مكلفين لما استحقوا مدحاً ولا ذماً، وكم في القرآن الكريم من مدح الملائكة، وفيه أيضاً مدح صالحي الجن وذم عصاتهم، ثم إن معنى التكليف إما إلزام الشاق على قول، أو الإعلام بوجوب الواجبات وقبح المقبحات على آخر، وعلى أيهما فقد حصل معناه في الفريقين.
المسألة السادسة [تكليف من علم الله بكفره]
دلت الآية على حسن تكليف من علم الله أنه يكفر؛ إذ كلف إبليس مع علمه أنه يكفر، وهذه المسألة قد بسطنا الكلام فيها في المسألة الثالثة عشرة من مسائل قوله تعالى: {خَتَمَ اللَّهُ عَلَى قُلُوبِهِمْ}[البقرة:7] لكن الاستدلال بالآية لا يصح إلا بعد ثبوت عدل الله وحكمته، وقد دللنا على ذلك في الفاتحة.
المسألة السابعة [في الدلالة على أن إبليس كان من الملائكة]
في الآية دليل على أن إبليس كان من الملائكة إذا الاستثناء حقيقة في المتصل فلا يعدل عنه إلا لدليل، وفي المسألة خلاف، فذهب كثير من الفقهاء إلى أنه كان منهم، واختاره ابن جرير، ورواه هو وغيره عن جماعة من السلف منهم ابن مسعود، وابن عباس، وابن المسيب، وقتادة، وابن جرير، قال أبو حيان: واختاره الشيخ أبو الحسن، ورواه النسفي عن علي عليه السلام ، وقال ابن أبي الحديد: قال شيخنا أبو عثمان وجماعة من أصحابنا: إنه من الملائكة، وقال الحسن وابن زيد: لم يكن من الملائكة قط. ورواه أبو حيان عن ابن عباس، وهو قول الهادي، والإمام المهدي، ورواه الرازي عن بعض المتكلمين قال: لا سيما المعتزلة.
احتج الأولون بوجوه:
أحدها: الآية الكريمة فإنها تدل على كونه منهم من وجهين:
أحدهما: استثناؤه منهم، والاستثناء إخراج ما لولاه لدخل أو لصح خروجه، وهو حقيقة في المتصل فلا يعدل عنه لغير موجب.
ثانيهما: أن الأمر قد تناوله وإلا لما استحق الذم، ولا يتناوله الأمر إلا إذا كان من الملائكة.
قالوا: الاستثناء المنقطع شائع في اللغة.
قلنا: مسلم لكنه على خلاف الأصل، فلا يصار إليه إلا لدليل ولا دليل هنا، وما استندتم إليه في إخراجه منهم لا ينتهض دليلاً على ذلك كما سنبينه.
قالوا: نحن نلتزم بقاء الاستثناء على حقيقته من الاتصال، لكن ذلك لا يوجب كونه من الملائكة لجواز أن يكونوا غلبوا عليه، قال الزمخشري: {إِلاَّ إِبْلِيسَ} استثناء متصل؛ لأنه كان جنياً واحداً بين أظهر ألوف من الملائكة مغموراً بهم فغلبوا عليه في قوله: {فَسَجَدُوا} ثم استثني منهم استثناء واحد منهم، أو يقال: إنه لما نشأ بينهم والتصق بهم جاز أن يتناوله الخطاب، قال الهادي عليه السلام : وإنما جاز أن يجعل إبليس معهم في الأمر وإن لم يكن من جنسهم؛ إذ كان حاضراً لأمر الله لهم فأمره بالسجود معهم وإن لم يكن جنسه من جنسهم، وحاصله أنه مستثنى من المأمورين بالسجود، ولا يمتنع اختلاف جنس المأمورين بفعل شيء واحد.
قلنا: أما الأول فلا يصار إليه إلا إذا كان المغلوب ساقطاً عن درجة الاعتبار، أما إذا كان معظم الحديث فيه فلا، وأما الثاني فالمخالطة لا توجب ما ذكرتموه، ولهذا قيل: إن خطاب الذكور لا يتناول الإناث مع شدة المخالطة بين الصنفين.
قالوا: يجوز ألاَّ يتناوله هذا الأمر، ولكن الله تعالى أمره بأمر آخر لم يحكه في القرآن بدليل قوله: {مَا مَنَعَكَ أَلاَّ تَسْجُدَ إِذْ أَمَرْتُكَ}[الأعراف:12] فلا يكون داخلاً في الخطاب.
قلنا: خلاف الظاهر ولأن قوله تعالى: {أَبَى وَاسْتَكْبَرَ}[البقرة:34] بعد قوله: {اسجدوا} مشعر بأن المخالفة بسبب هذا الأمر.
الوجه الثاني: أن ظاهر الآية مؤيد بأقوال مشاهير السلف، وأئمة الشرع واللغة.
قال علي عليه السلام : (كلا ما كان الله ليدخل الجنة بشراً بأمر أخرج به منها ملكاً). رواه في (النهج).
وقال ابن جرير في تفسيره: حدثنا أبو كريب، قال: حدثنا عثمان بن سعيد، عن بشر بن عمارة، عن أبي روق، عن الضحاك، عن ابن عباس، قال: كان إبليس من حي من أحياء الملائكة يقال لهم الجن، خلقوا من نار السموم من بين الملائكة، قال: فكان اسمه الحارث، قال: وكان خازناً من خزان الجنة، قال: وخلقت الملائكة من نور غير هذا الحي، قال: وخلقت الجن الذين ذكروا في القرآن من مارج من نار، وهو لسان النار الذي يكون في طرفها إذا التهبت.
أما أبو كريب فهو: محمد بن العلاء، وقد مر في الفاتحة.
وأما بشر فهو: ابن عمارة الخثعمي الكوفي المكتب، ضعفه النسائي ومشاه غيره، وقال ابن عدي: حديثه إلى الاستقامة أقرب، روى له المرادي والمرشد بالله، وفي (المناقب).
وأما أبو روق بفتح الراء وسكون الواو بعدها قاف فهو: عطية بن الحارث الهمداني الكوفي صاحب التفسير، قال في (التقريب): صدوق، وقال ابن عبد البر: وثقه الكوفيون بلا حرج، وصدقه أحمد، وأبو حاتم.
وأما الضحاك فقد مر.
قال ابن جرير: وحدثنا ابن حميد، قال: حدثنا سلمة، عن ابن إسحاق، عن خلاد، عن عطاء، عن طاووس، عن ابن عباس، قال: كان إبليس قبل أن يركب المعصية من الملائكة اسمه عزازيل، وكان من سكان الأرض، وكان من أشد الملائكة اجتهاداً وأكثرهم علماً فذلك دعاه إلى الكبر، وكان من حي يسمون جناً.
وحدثنا به ابن حميد مرة أخرى، قال: حدثنا سلمة، عن ابن إسحاق، عن خلاد، عن عطاء، عن طاووس أو مجاهد أبي الحجاج، عن ابن عباس وغيره بنحوه إلا أنه قال: كان ملكاً من الملائكة اسمه عزازيل، وكان من سكان الأرض وعمارها، وكان سكان الأرض فيهم يسمون الجن من بين الملائكة. ونسبه في (الدر المنثور) باللفظ الأول إلى ابن إسحاق في المبتدي، وابن جرير، وابن الأنباري.
أما ابن حميد فهو: محمد بن حميد بن حبان القمي، أبو عبد الله الرازي، الحافظ، قال ابن معين: ثقة كيس، وأثنى عليه أحمد وغيره، وقال البخاري: فيه نظر، وقال في (التقريب): حافظ ضعيف، وقال في الهامش: من بحور العلم، وذكر ثناء أحمد عليه قال: لكن ابن خزيمة قال: لم يعرفه أحمد كما عرفناه، توفي سنة ثلاثين ومائتين كما في التقريب، قال في حواشيه: وفي الميزان سنة ثماني وأربعين ومائتين وهو الصحيح فإنه روى عنه ابن جرير الطبري وقد ولد سنة أربع وعشرين ومائتين.
قلت: ومثل ما في الميزان ذكره في (الجداول).
وأما سلمة فهو: ابن الفضل الشيعي الأنصاري مولاهم أبو عبد الله الرازي الأبرش الأورق، قال في (التقريب): صدوق كثير الخطأ، وفي (الخلاصة) وغيرها: وثقه ابن معين، وقال مرة: ليس به بأس يتشيع، وقال البخاري: عنده مناكير، وضعفه النسائي، قال أبو حاتم: محله الصدق، وقال ابن سعد: كان ثقة صدوقاً صاحب مغازي بن إسحاق، توفي سنة إحدى وتسعين ومائة، احتج به أبو داود، والترمذي، وروى له أئمتنا الخمسة في (المناقب).
وأما ابن إسحاق فهو: محمد بن إسحاق صاحب المغازي.
وأما طاووس فهو: ابن كيسان اليماني الحميري، مولاهم أبو عبد الرحمن، قيل: اسمه ذكوان، وطاووس لقبه، له رواية عن الوصي في رواية المنصور بالله، وثقه ابن معين وغيره، قال علامة العصر: أجمع على جلالته وعظمته وزهده، وعداده في ثقات محدثي الشيعة، ما زال كامل آل محمد ملازماً لنعشه حتى دفن، توفي سنة ست ومائة بمكة، وقيل: بعد ذلك، احتج به الجماعة، وروى له أئمتنا الأربعة.
وأما مجاهد فهو: ابن جبر بفتح الجيم وسكون الموحدة، أبو الحجاج المكي المفسر، قال في (الجداول): صاحب العدل والتوحيد، وقال البستي: مجاهد ثقة بلا مدافعة، أجمعت الأمة على إمامته والاحتجاج به، مات سنة إحدى أو اثنتين أو ثلاث أو أربع ومائة عن ثلاث وثمانين سنة، وروي أنه مات ساجداً، احتج به الجماعة، وروى له أئمتنا الخمسة والناصر.
قال ابن جرير: وحدثني موسى بن هارون، قال: حدثنا عمرو بن حماد، قال: حدثنا أسباط، عن السدي في خبر ذكره عن أبي مالك، وعن أبي صالح عن ابن عباس، وعن مرة عن ابن مسعود، وعن ناس من أصحاب النبي -صلى الله عليه وآله: (جعل إبليس على ملك سماء الدنيا، وكان من قبيلة من الملائكة يقال لهم الجن، وإنما سموا الجن؛ لأنهم خزان الجنة، وكان إبليس مع ملكه خازناً.
وأما عمرو فهو: ابن حماد بن طلحة الكوفي النقاد عن أسباط بن نصر وغيره، قال ابن معين، وأبو حاتم، والذهبي: صدوق، ووثقه مطين، قال في (التقريب): رمي بالرفض، وقال علامة العصر: احتج به مسلم، وأبو داود، والنسائي، عداده في ثقات محدثي الشيعة، وقد اغتاض منه بعض النواصب، مات سنة اثنتين وعشرين ومائة، روى له أبو طالب والمرشد بالله.
وأما أسباط فهو: ابن نصر الهمداني، أبو يوسف، ويقال: أبو نصر الكوفي، وثقه ابن معين، وقال النسائي: ليس بالقوي، وقال في (التقريب): صدوق كثير الخطأ يغرب، توفي في عشر الثمانين بعد المائة، احتج به مسلم والأربعة، وروى له المرادي، وأبو طالب، والمرشد بالله.
وأما السدي فهو: إسماعيل بن عبد الرحمن بن أبي كريمة السدي -بضم المهملة وتشديد الدال- أبو محمد الكوفي، قال في (التقريب): صدوق يهم، ورمي بالتشيع، وقال ابن عدي: مستقيم الحديث صدوق، وقال النسائي: لا بأس به، ووثقه أحمد، قال علامة العصر: كان من أتباع زيد بن علي والراوين عنه، مات سنة سبع وعشرين ومائة، روى له أبو طالب والمرشد بالله.
وفي (المناقب): وأما أبو مالك فاسمه غزوان الغفاري الكوفي، اشتهر بكنيته، ووثقه ابن معين وابن حجر، واحتج به الأربعة إلا ابن ماجة، وروى له المرادي.
وأما أبو صالح، فالظاهر أن اسمه ميزان وليس بمولى أم هانئ؛ لأنه يقيد فيما أحسب بمولى أم هانئ، قال في (التقريب): أبو صالح عن ابن عباس، اسمه ميزان البصري، مقبول من الثالثة، وهو مشهور بكنيته، ويحتمل أن يكون مولى أم هانئ، واسمه باذام بالذال المعجمة، ويقال آخره نون، وقيل: اسمه ذكوان، وله رواية عن علي، وابن عباس، وأم هانئ، وأبي هريرة.
وعنه سماك بن حرب، وعاصم بن بهدلة، والثوري، والكلبي، قال في (التقريب): ضعيف مدلس، واعترضه في الحاشية فقال: لا بد من تمام النظر والاحتياط، ثم حكى تضعيف البخاري وعبد الحق إياه، وقول النسائي: ليس بثقة، وقال إن ابن القطان أنكر على عبد الحق، وقال ابن معين: ليس به بأس إلا إذ روى عنه الكلبي، ثم حكى عن يحيى بن سعيد القطان أنه قال: لم أر أحداً من أصحابنا ترك أبا صالح مولى أم هانئ، قال المحشي: فهذا كلام إمام مشدد في الرجال يتركهم بأدنى جرح، وفي (الجداول) عن يحيى أنه زاد بعد كلامه هذا: وما سمعنا أحداً يقول فيه شيئاً، قال علامة العصر: هو عبّادة من خلص الشيعة، توفي في إمارة الوليد بن عبد الملك، احتج به الأربعة، وروى له أبو طالب وفي المحيط.
وأما مرة فهو: ابن شراحيل الهمداني، أبو إسماعيل الكوفي، يروي عن عمر، وابن مسعود وغيرهما، وعنه السدي وغيره، وثقه ابن معين، وقال في (الجداول): عداده في مبغضي الوصي، وقال في (التقريب): هو الذي يقال له: مرة الطيب، ثقة عابد من الثانية، مات سنة ست وسبعين، وقيل: بعد ذلك، احتج به الجماعة، وروى له أبو طالب، والموفق بالله، والمرشد بالله.
قال ابن جرير: وحدثنا القاسم بن الحسن، قال: حدثنا حسين، قال: حدثني حجاج، عن ابن جريج، قال: قال ابن عباس: كان إبليس من أشراف الملائكة وأكرمهم قبيلة، وكان خازناً على الجنان، وكان له سلطان سماء الدنيا، وكان له سلطان الأرض، قال: قال ابن عباس: وقوله: {كَانَ مِنَ الْجِنِّ}[الكهف:50] إنما يسمى بالجنان أنه كان خازناً عليها، كما يقال للرجل: مكي، ومدني، وكوفي، وبصري، وقال ابن جريج وقال آخرون: هم سبط من الملائكة قبيلة، فكان اسم قبيلتهم الجن.
قال ابن جرير: وحدثنا القاسم، قال: حدثنا الحسين، قال: حدثني حجاج، عن ابن جريج، عن صالح مولى التوءمة وشريك بن أبي نمر أحدهما أو كلاهما عن ابن عباس، قال: إن من الملائكة قبيلة من الجن، وكان إبليس منها، وكان يسوس ما بين السماء والأرض.
قال ابن جرير: وحدثت عن الحسن بن الفرج، قال: سمعت أبا معاذ الفضل بن خالد، قال: أخبرنا عبيد بن سليمان، قال: سمعت الضحاك بن مزاحم يقول في قوله: {فَسَجَدُوا إِلاَّ إِبْلِيسَ كَانَ مِنَ الْجِنِّ}[الكهف:50]، قال: كان ابن عباس يقول: إن إبليس كان من أشراف الملائكة وأكرمهم قبيلة، ثم ذكر مثل حديث ابن جريج الأول سواء.
وقال ابن جرير: حدثنا بشر بن معاذ، قال: حدثنا يزيد، قال: حدثنا سعيد، عن قتادة قوله: {وَإِذْ قُلْنَا لِلْمَلاَئِكَةِ اسْجُدُوا لِآدَمَ فَسَجَدُوا إِلاَّ إِبْلِيسَ كَانَ مِنَ الْجِنِّ}[الكهف:50] قال: كان من قبيل من الملائكة يقال لهم الجن، وكان ابن عباس يقول: لو لم يكن من الملائكة لم يؤمر بالسجود، وكان على خزانة سماء الدنيا، قال: وكان قتادة يقول: جن عن طاعة ربه.
أما حجاج فهو ابن محمد.
وأما ابن جرير فهو عبد الملك، وقد مر ذكرهما في الفاتحة.
وأما صالح مولى التوأمة فهو: ابن نبهان المدني مولى التوءمة بفتح المثناة وسكون الواو وبعدهما همزة مفتوحة، قال ابن معين: ثقة حجة لكنه خرف قبل أن يموت، وقال في (التقريب): صدوق اختلط بآخره، قال ابن عدي، وعبد الله بن أحمد: لا بأس برواية القدماء عنه، قال في (التقريب): كابن أبي ذوئيب وابن جريج، وفي هامشه: أنه وثقه غير واحد، مات سنة خمس وعشرين ومائة، احتج به الأربعة إلا النسائي، وروى له المرادي والمرشد بالله، قال في (التقريب): وقد أخطأ من زعم أن البخاري أخرج له.
وأما شريك فهو: ابن عبد الله بن أبي نمير، أبو عبد الله القرشي المدني، وثقه ابن سعد وغيره، وقال في (التقريب): صدوق يخطئ، وقال ابن عدي: إذا حدث عنه ثقة فهو ثقة، وقال النسائي: ليس بالقوي، مات في حدود الأربعين ومائة، احتج به الجماعة إلا الترمذي، وروى له الأخوان والمرشد بالله، وقد أخرج معنى ما رواه ابن جرير عن ابن عباس: وكيع، والمنذر، والبيهقي في الشعب، وابن أبي الدنيا في مكائد الشيطان، وابن أبي حاتم، وابن الأنباري في كتاب الأضداد، وذلك مبسوط في (الدر المنثور).
احتج الآخرون بوجوه:
أحدها: أن الملائكة معصومون على ما مر بيانه، وإبليس ليس بمعصوم، فوجب أن لا يكون منهم.
وأجيب بأن أدلة العصمة لم تتناول إلا بعضهم وذلك ظاهر، وفي تقسيم علي عليه السلام للملائكة" إلى أنواع ما يدل على ذلك، قال عليه السلام بعد ذكر خلقهم، ووصف حالهم ما لفظه: وأنشأهم على صور مختلفات، وأقدار متفاوتات، أولي أجنحة تسبح جلال عزته، لا ينتحلون ما ظهر في الخلق من صنعه، ولا يدّعون أنهم يخلقون شيئاً معه مما انفرد به، بل عباد مكرمون لا يسبقونه بالقول وهم بأمره يعملون، جعلهم الله فيما هنالك أهل الأمانة على وحيه، وحملهم إلى المرسلين ودائع أمره ونهيه، وعصمهم من ريب الشبهات، فما منهم زائغ عن سبيل مرضاته، وأمدهم بفوائد المعونة، وأشعر قلوبهم تواضع إخبات السكينة، وفتح لهم أبواباً ذللاً إلى تماجيده، ونصب لهم مناراً واضحة على أعلام توحيده...إلى أن قال: ومنهم من هو في خلق الغمام الدلح، وفي عظم الجبال الشمخ، وفي قترة الظلام الأيهم، ومنهم من قد خرقت أقدامهم تخوم الأرض السفلى فهي كرايات بيض قد نفذت في مخارق الهواء، وتحتها ريح هفافة تحسبها على حيث انتهت من الحدود المتناهية) ثم أخذ في وصف عبادتهم وإقبالهم على طاعة ربهم فقال: (قد استفرغتهم أشغال العبادة...)إلى آخر كلامه عليه السلام . رواه في (النهج) ولم يذكر فيه إلا عصمة النوع الأول، وأما الأنواع الأخر فليس في شيء منه ما يدل على عصمتهم، وإنما أخبر عليه السلام بما هم عليه من الطاعة والانقياد واليقين، وكل ذلك لا يدل على عصمتهم؛ إذ يجوز في غيرهم من المجتهدين في الطاعة وأهل اليقين أن يكون على نحو تلك الأوصاف، ولا يلزم من ذلك عصمته، بل قريب من أوصافهم موجودة فيمن ليس بمعصوم من البشر كبعض أهل البيت" وغيرهم من أهل الانقطاع إلى العبادة كابن أدهم والكينعي وأمثالهما.
قوله: لا ينتحلون، أي لا يدعون، والغمام: السحاب، والدلح بالحاء المهملة: الثقال، والشمخ: العالية، وقترة الظلام: سواده وهو بقاف مضمومة ثم مثناة من أعلى ساكنة، والهفافة: الساكنة الطيبة.
الوجه الثاني: أن قوله تعالى: {كَانَ مِنَ الْجِنِّ}[الكهف:50] يدل على أنه لم يكن من الملائكة لاختلاف الجنسين.
وأجيب بما مر عن ابن عباس وغيره من أن الجن الذين كان منهم قبيلة من الملائكة، أو أنه سمي بذلك لكونه خازن الجنان، وجواب آخر وهو: أنه سمي بذلك لاستتاره، والإجتنان: الستر، قال ابن إسحاق: أما العرب فيقولون: ما الجن إلا كل من اجتن فلم يُرَ، ويمكن أن يقال: معنى {كان} صار أي صار من الجن، والمراد به أنه انتقل إلى أحكامهم، وصار كأحدهم بعد تلبسه بالمعصية.
ورد الجواب الأول بأن ظاهر سياق الآية يُشْعِرُ بتعليل ترك السجود بكونه جنياً، ولا يمكن تعليل ترك السجود بكونه من نوع لا من الملائكة، أو بكونه كان خازناً للجنة مع ما في ذلك من مخالفة الظاهر، فإن المتبادر من لفظ الجن ما لا يدخل تحت الملك، وعن الثاني بأنه خلاف الظاهر، وبأن القرآن قد فرق بين الملائكة والجن في قوله تعالى: {ثُمَّ يَقُولُ لِلْمَلاَئِكَةِ أَهَؤُلاَءِ إِيَّاكُمْ كَانُوا يَعْبُدُون...}إلى قوله: {بَلْ كَانُوا يَعْبُدُونَ الْجِنَّ}[سبأ:40،41] فوجب أن لا يكون إبليس من الملائكة بحال بعد إخبار الله تعالى بأنه من الجن، لا يقال الآية معارضة بقوله تعالى: {وَجَعَلُوا بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْجِنَّةِ نَسَباً}[الصافات:158] وذلك أن قريشاً قالت: الملائكة بنات الله، فدلت الآية على أن الملائكة تسمى جناً؛ لأنا نقول يحتمل أن بعض الكفار أثبت ذلك النسب في الجن كما أثبته في الملائكة، ويمكن أن تكون تسميتهم جناً بحسب أصل اللغة، لكن العرف قد خصص هذا الاسم بغيرهم كما قيل في الدابة ونحوها، وعن الثالث بأنه خلاف الظاهر فلا يصار إليه إلا لضرورة، ولقائل أن يقول: لا نسلم أن ترك السجود معلل بكونه من الجن؛ إذ لا يصح ذلك إلا لو كان الامتناع من الخضوع لله تعالى والامتثال لأوامره عام للجن أجمعين، وخاصية فيهم بحيث لا يقع من أحد منهم إيمان ولا امتثال البتة، والمعلوم أن فيهم المطيع والعاصي كغيرهم، وحينئذ يصح حمل الآية على الإخبار بأن إبليس كان من الجن، ولو قيل بوجوب حمله على ذلك لم يبعد لما مر عن ابن عباس وغيره، وظاهر الآية يدل على ذلك بدليل قوله: {فَفَسَقَ عَنْ أَمْرِ رَبِّهِ}[الكهف:50] فيكون المراد من الآية الإخبار بأنه كان من الملائكة الذين يقال لهم الجن، فخالفهم في الطاعة بالخروج عن أمر ربه، وهذا معنى {فَفَسَقَ} ولو سلم احتمال التعليل فهو لا يمنع احتمال الإخبار، ولا بد في تعيين أحد الاحتمالين من دليل
وقد دل على إرادة احتمال الإخبار كلام المدعو له بالفقه وعلم التأويل، مع ما عضده من كلام الحجة بعد الرسول عند أهل التحصيل، وغيره من علماء الصحابة فمن بعدهم ممن يرجع إلى مثله في معرفة أسرار التنزيل.
الوجه الثالث: أن إبليس له ذرية لقوله تعالى: {أَفَتَتَّخِذُونَهُ وَذُرِّيَّتَهُ أَوْلِيَاءَ}[الكهف:50] والملائكة لا ذرية لهم؛ إذ لا أنوثة فيهم، وحصول الولد من غير اجتماع الذكر والأنثى خلاف الظاهر.
وأجيب بأنه لا يمتنع أن يركب الله فيه شهوة وإن لم يركبها في سائر الملائكة زيادة في تكليفه.
الرابع: أن إبليس مخلوق من النار، والملائكة ليسوا كذلك، بل خلقوا من نور، قال الرازي: لما روى الزهري، عن عروة، عن عائشة عن رسول الله -صلى الله عليه وآله- أنه قال: ((خلقت الملائكة من نور، وخلق الجان من مارج من نار)).
وأجاب الطبري بأنه غير مستنكر أن يكون الله تعالى خلق الملائكة من أصناف شتى فخلق بعضاً من نور، وبعضاً من نار السموم، وبعضاً من غير ذلك، وليس في القرآن الإخبار عما خلق منه ملائكته، وإخباره عن إبليس بأنه مخلوق من نار لا يوجب خروجه منهم؛ لجواز خلق صنف من الملائكة من نار.
قلت: ويشهد له ما مر عن ابن عباس، وخبر عائشة إن صح فمحمول أنه أراد أن صنفاً من الملائكة خلقوا من نور جمعاً بينه وبين كلام ابن عباس؛ لأن له حكم الرفع؛ إذ ليس للاجتهاد فيه مسرح.
الخامس: أن الملائكة رسل الله لقوله تعالى: {جَاعِلِ الْمَلاَئِكَةِ رُسُلاً}[فاطر:1] ورسل الله يجب أن يكونوا معصومين لقوله تعالى: {اللَّهُ أَعْلَمُ حَيْثُ يَجْعَلُ رِسَالَتَهُ}[الأنعام:124] فلما لم يكن إبليس رسولاً وجب أن لا يكون ملكاً.
وأجيب بأن الرسل بعضهم لا كلهم بدليل كلام علي عليه السلام السابق، فالتعريف في {جَاعِلِ الْمَلاَئِكَةِ رُسُلاً}[فاطر:1] للجنس الصادق ببعض الأفراد، وأيضاً عصمتهم ليست لذواتهم وإنما هي بجعل الله لهم، ولم يقم لنا دليل إلا على جعلها لبعضهم.
المسألة الثامنة [في كفر إبليس]
في الآية دليل على أنه لا يمتنع الكفر مع العلم؛ لأن كفر إبليس كان عناداً مع علمه بدليل ذمه وتوبيخه، واستناده في الامتناع إلى دعوى الفضل على آدم كما قال: {أَنَا خَيْرٌ مِنْهُ}[ص:76]، وقيل: إن كفره كان مع الجهل بأن سلبه الله ما كان وهبه من العلم، فخالف الأمر ونزع يده من الطاعة، قال ابن عطية: الكفر عناداً مع بقاء العلم مستبعد، إلا أنه عندي جائز لا يستحيل مع خذل الله لمن يشاء.
والجواب: أن دعوى السلب خلاف الظاهر، ولا وجه للاستبعاد مع أنه لا يتأتى على مذهب العدلية؛ لأنهم إن أرادوا بالجهل الذي كفر معه الجهل المطلق بأن لا يعلم الله، ولا وجوب طاعته بوجه من الوجوه، ولا ينبه على النظر لا بخاطر، ولا بدعاء رسول ولا غيره، فهو باطل؛ لأنه يكون من تكليف من لا يعلم، وحينئذ يكون ذمه وعقابه قبيح، والمعلوم أن الله تعالى قد ذمه وتوعده بالعقاب، وقد ثبت أن الله تعالى لا يفعل القبيح، فوجب القطع بعلمه، وإن أرادوا به الجهل من بعض الوجوه، فلا دليل عليه؛ إذ الظاهر من حال إبليس العلم بالله وبوجوب طاعته، على أنه لو كان كذلك فهو غير مسلوب العلم؛ لأنه يعلم الله من وجه آخر، ولتمكنه معه من النظر الذي يحصل به اليقين، وهذا على جهة التنزيل معهم، وإلا فعلم إبليس بالله تعالى وبوجوب طاعته مما لا سبيل إلى إنكاره، والمعصية مع العلم واقعة بالفعل كما تقع من علماء السوء، وفي الحديث: ((كم من عالم يهلك وعلمه معه)) أو كما قال، وقد رد هذا القول أبو حيان فقال: هذا فرعون كان عالماً بوحدانية الله تعالى وربوبيته دون غيره، ومع ذلك حمله حبه الرئاسة والإعجاب بما أوتي من الملك فادعى الألوهية مع علمه، وأبو جهل كان يتحقق رسالة النبي -صلى الله عليه وآله- ويعلم أن ما جاء به حق، ومع ذلك أنكر نبوته وأقام على الكفر، وكذلك الأخنس وأمية بن أبي الصلت وغيرهما ممن كفر عناداً.
قلت: كعلماء أهل الكتابين.
قال: وقد قسم العلماء الكفار إلى كافر بقلبه ولسانه كالدهرية والمنكرين رسالة النبي -صلى الله عليه وآله- وكافر بقلبه مؤمن بلسانه وهم المنافقون، ومؤمن بقلبه كافر بلسانه كفرعون ومن ذكر معه، فلا ينكر الكفر مع وجود العلم.
قلت: وفي الآية رد لما ذهب إليه الإمام المهدي من أن العاصي لا يختار المعصية إلا لعدم العلم، أو تجويز العفو، أو التسويف بالتوبة؛ لأن إبليس لعنه الله اختار المعصية مع علمه وإياسه من العفو وعزمه على ترك التوبة، كما يفيده ما حكاه الله تعالى في القرآن من أحواله، وقد ذكرنا حجة الإمام وجوابها في الثالثة عشرة من مسائل قوله تعالى: {خَتَمَ اللَّهُ عَلَى قُلُوبِهِمْ}[البقرة:7].
المسألة التاسعة [دلالة عناد إبليس]
دل قوله تعالى: {إِلاَّ إِبْلِيسَ أَبَى} على أن ترك إبليس للسجود كان مع القدرة، وزوال العذر؛ لأن الإبا هو الامتناع مع الاختيار، قال الشاعر:
فأما أن تقولوا قد أبينا .... فشر مواطن الحسب الإباء
وفي هذا رد لمذهب المجبرة؛ لأنهم يزعمون أنه أمر بالسجود مع عدم القدرة لانتفائها عندهم، فأبطل الله مقالتهم بقوله في إبليس: {أبى}؛ إذ لو كان غير قادر لامتنع أن يقال فيه: أبى، ويؤيده قوله بعد: {وَاسْتَكْبَرَ وَكَانَ مِنَ الْكَافِرِينَ}[البقرة:34]؛ إذ لا يقال لمن لا يقدر على الفعل إنه استكبر عنه، ولا يوصف بأنه كافر، هذا مع ذم الله تعالى إياه على الامتناع والاستكبار، وتوعده بعذاب النار، والذم والوعيد لا يجوزان لمن عُدِمَ القدرة والاختيار.
وقد أجاب الرازي بدليل الداعي فقال: هل صدور ذلك الفعل عن قصد وداع أم لا؟
قلنا: بل عن قصد وداعٍ، وفاعلهما العبد، ولا يلزم التسلسل؛ لأن الإرادة لا تحتاج إلى إرادة.
وقد استوفينا الكلام على هذه الشبهة في المقدمة في سياق قوله تعالى: {خَتَمَ اللَّهُ عَلَى قُلُوبِهِمْ}[البقرة:7].
المسألة العاشرة [قبح رد أوامر الله تعالى]
دلت الآية على قبح رد أوامر الله تعالى، والاستكبار عنها، وعظم موقعها عند الله.
قال ابن جرير: وهذا وإن كان من الله جل ثناؤه خبراً عن إبليس فإنه تقريع لضربائه من خلق الله الذين يتكبرون عن الخضوع لأمر الله، والانقياد لطاعته فيما أمر ونهى، والتسليم له فيما أوجب لبعضهم على بعض من الحق، ويدخل في ذلك اليهود الذين كذبوا برسول الله -صلى الله عليه وآله- مع معرفتهم لصفته، وعلمهم بنبوته بغياً وحسداً، قال: فقرعهم الله بخبره عن إبليس، فإن فعله نظير فعلهم من التكبر والامتناع والحسد، هذا معنى ما ذكره ابن جرير، وفي الحديث عنه صلى الله عليه وآله: ((ثمانية هم أبغض خلق الله إليه يوم القيامة: السفارون وهم الكذابون، والمختالون وهم المستكبرون، والذين يكنزون البغض لإخوانهم في صدورهم فإذا أتوهم تخلقوا لهم، والذين إذا دعوا إلى الله ورسوله كانوا ابطاء، وإذا دعوا إلى الشيطان وأمره كانوا سراعاً، والذين لا يشرف لهم طمع من الدنيا إلا استحلوه بأيمانهم وإن لم يكن لهم ذلك نحو والمشاؤون بالنميمة، والمفرقون بين الأحبة الباغون للبراء الدحضة، أولئك يقذرهم الرحمن عز وجل)). رواه ابن حجر الهيتمي في الزواجر، ونسبه إلى أبي الشيخ، وابن عساكر، والدحضة: الزلقة استعارها لطلب العيب؛ لأن صاحبه يزلق به عن رتبته، والمعنى: أنهم يطلبون للبراء ما يسقط به منزلته.
المسألة الحادية عشرة [قبح الكبر]
دلت الآية على قبح الكبر وهو إجماع، وفي أمالي المرشد بالله عليه السلام : أخبرنا أبو بكر بن ريذة قراءة عليه، قال: أخبر أبو القاسم الطبراني، قال: حدثنا علي بن عبد العزيز، قال: حدثني حرمي بن الحفص السلمي ح قال: وأخبرنا ابن ريذة قال: أخبرنا الطبراني، قال: وحدثنا محمد بن محمد النمار البصري، قال: حدثنا عيسى بن إبراهيم البركي، قالا: حدثنا عبد العزيز بن محمد، عن الأعمش، عن حبيب بن أبي ثابت، عن يحيى بن جعدة، عن عبد الله بن مسعود، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وآله: ((لا يدخل النار من كان في قلبه مثقال حبة من خردل من إيمان، ولا يدخل الجنة من كان في قلبه مثقال حبة من خردل من كبر، قال رجل: يا رسول الله، إنه ليعجبني أن يكون ثوبي غسيلاً، ورأسي دهيناً، وشراك نعلي جديداً، وذكر أشياء حتى ذكر علاقة السوط، أفمن الكبر ذلك؟ قال: لا، ذلك الجمال، إن الله جميل يحب الجمال، ولكن الكبر من سفه الحق، وازدرى الناس)).
وفي صحيح مسلم: حدثنا منجاب بن الحرث التميمي، وسويد بن سعيد كلاهما عن علي بن مسهر قال منجاب: أخبرنا ابن مسهر، عن الأعمش، عن إبراهيم، عن علقمة، عن عبد الله، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وآله: ((لا يدخل النار أحد في قلبه مثقال حبة من خردل من إيمان، ولا يدخل الجنة أحد في قلبه مثقال حبة خردل من كبرياء)).
أما الطبراني فهو: سليمان بن أحمد بن أيوب، أبو القاسم الطبراني، قال في (التذكرة): مسند الدنيا، ولد سنة ستين ومائتين، وحدث عن ألف شيخ أو يزيدون، وأثنى عليه غير واحد، ووثقه الشيرازي، توفي سنة ستين وثلاثمائة، قال الذهبي: استكمل مائة عام وعشرة أشهر، وحديثه قد ملأ البلاد، روى له الموفق بالله وولده المرشد بالله.
قال في (التذكرة): وأبو بكر بن ريذة خاتمة أصحابه.
وأما علي فهو: ابن عبد العزيز بن المرزبان بن سابور، الحافظ الصدوق، أبو الحسن البغوي، شيخ الحرم ومصنف المسند، عاش بضعاً وتسعين عاماً، قال أبو حاتم: صدوق، ووثقه الدارقطني وقال: مأمون، قال الذهبي: ومقته النسائي لكونه كان يأخذ على الحديث، قال: ولا شك أنه كان فقيراً، وحكي عنه أنه كان يعتذر بما تقتضي الحاجة إلى ذلك، توفي سنة ست وثمانين ومائتين، روى له الأخوان، والمرشد بالله، والسيلقي.
وأما حرمي بلفظ النسب فهو: ابن حفص بن عمر العتكي -بفتح المهملة والمثناة- أبو علي البصري، كذا في (التقريب) وقال: ثقة من كبار العاشرة، مات سنة ثلاث أو ست وعشرين ومائتين، احتج به البخاري، وأبود داود، والنسائي، وروى له المرشد بالله.
وأما النمار، فقال في (الجداول): محمد بن محمد النمار عن محمد بن كثير وعمرو بن مرزوق، وعنه الطبراني، ولم يزد على هذا.
وأما عيسى فهو: ابن إبراهيم الشعيري بفتح المعجمة، البركي بكسر الموحدة وفتح الراء، أبو إسحاق البصري، قال أبو حاتم وابن حجر: صدوق، وقال النسائي: ليس به بأس، وقال في (الكاشف): وثق، قال في حواشي (التقريب): ونسبت الأوهام إليه كما وقع للحافظ عبد الغني في الكمال فرده المزي وتبعه الذهبي، توفي سنة ثمان وعشرين ومائتين، احتج به أبو داود وأخذ عنه، وروى له المؤيد بالله والمرشد بالله.
وأما عبد العزيز بن محمد فأحسبه عبد العزيز بن محمد بن عبيد الجهني أو القضاعي، مولاهم أبو محمد المدني الدراوردي، له رواية عن الصادق وغيره، ووفاة الصادق عليه السلام والأعمش في سنة واحدة، وعبد العزيز هذا وثقه القطان، وابن معين، وابن سعد، وابن المديني، وقال أبو حاتم: صدوق في الحديث، وقال معن بن عيسى: يصلح أن يكون أمير المؤمنين، وضعفه غيرهم، قال في (التقريب): صدوق كان يحدث من كتب غيره فيخطئ، وقال النسائي: حديثه عن عبيد الله العمري منكر، مات سنة ست أو سبع وثمانين ومائة، احتج به الجماعة، وروى له أئمتنا الأربعة.
وأما حبيب فهو: ابن أبي ثابت الكاهلي، مولاهم أبو يحيى وأبو المقدام الأسدي الكوفي، وثقه ابن معين، وأبو زرعة، والعجلي وغيرهم، توفي سنة سبع عشرة، وقيل: سنة اثنتين وعشرين ومائة، عداده في ثقات الشيعة، وفي كتاب (المقالات): من الزيدية، احتج به الجماعة، وروى له أئمتنا الأربعة.
وفي (المحيط): وأما ابن جعدة فهو: يحيى بن جعدة بن هبيرة المخزومي، قال في (التقريب): ثقة وقد أرسل عن ابن مسعود ونحوه غيره من الثالثة، احتج به مسلم والأربعة إلا الترمذي، ووثقه أبو حاتم والنسائي، روى له أبو طالب والمرشد بالله والسيلقي.
وأما منجاب فهو: ابن الحارث التميمي، أبو محمد الكوفي، وثقه في (الكاشف) وابن حبان وابن حجر، توفي سنة إحدى وثلاثين ومائتين، احتج به مسلم، وابن ماجة في التفسير، وروى له المرشد بالله، وفي كتاب (حي على خير العمل).
وأما إبراهيم فهو ابن سويد النخعي الكوفي، وثقه النسائي وابن حجر وقال: لم يثبت أن النسائي ضعفه، احتج به مسلم والأربعة، وروى له المرادي وأبو طالب، وثقه أحمد وابن معين، وعداده في ثقات الشيعة، توفي سنة إحدى أو اثنتين وستين، احتج به الجماعة، وروى له أئمتنا الأربعة.
وفي أمالي المرشد بالله: أخبرنا أبو طاهر بن عبدالرحيم بقراءتي عليه قال: أخبرنا أبو محمد عبد الله بن محمد بن جعفر بن حبان، قال: حدثنا أبو الحسن أحمد بن مكرم البرني قال: حدثنا علي بن المديني قال: حدثنا إسماعيل بن شيبان أبو عبيدة، قال: حدثنا عكرمة بن عمار، قال: حدثنا محمد بن القاسم، قال: زعم عبد الله بن حنظلة أن عبد الله بن سلام مر في السوق على رأسه حزمة من حطب فقيل له في ذلك فقال: إني أردت أن أدفع الكبر فإني سمعت رسول الله ـ صلى الله عليه وآله ـ يقول: ((لا يدخل الجنة رجل في قلبه مثقال حبة من كبر)).
أما ابن عبد الرحيم، فقال في (الجداول): هو أبو طاهر الأصفهاني عن أبي بكر المقري وغيره، وعنه المرشد بالله، ولم يزد على هذا.
وأما ابن حبان فهو أبو الشيخ وقد مر.
وأما ابن المديني فهو: علي بن عبد الله المديني شيخ البخاري وغيره، قال علامة العصر: أجمع النقاد على توثيقه وحفظه حتى قال النسائي: كأن الله خلقه لهذا الشأن، خرج مع النفس الزكية ثم توارى أيام أبي جعفر، مات سنة أربع وثلاثين ومائتين، وعداده في ثقات محدثي الشيعة، احتج به البخاري، وأبو داود، والترمذي، والنسائي، وابن ماجة في التفسير، وروى له أبو طالب والمرشد بالله.
وأما عكرمة فهو: ابن عمار العجلي، أبو عمار التمامي، وثقه ابن معين، والعجلي، وقال وكيع: ثقة مستقيم الحديث إذا روى عنه ثقة، وكان مستجاب الدعوة، توفي سنة تسع وخمسين، احتج به الجماعة، لكن البخاري تعليقاً، وروى له الناصر، والمؤيد بالله، والمرشد بالله، والمرادي، والحديث قال المنذري: رواه الطبراني بإسناد حسن، والأصبهاني إلا أنه قال: ((مثقال ذرة من كبر)).
قلت: الأصبهاني هو ابن حبان المذكور.
وفي أمالي المرشد بالله أيضاً: أخبرنا أبو بكر محمد بن عبد الله بن أحمد بن ريذة قراءة عليه قال: أخبرنا أبو القاسم سليمان بن أحمد الطبراني، قال: حدثنا أحمد بن عبد الوهاب بن نجدة يعني الحوطي قال: حدثنا أبو المغيرة عبد القدوس بن الحجاج، قال: حدثنا معاذ بن رفاعة، قال: حدثني علي بن يزيد، قال: وسمعت القاسم يحدث عن أبي أمامة قال: مر النبي -صلى الله عليه وآله- في يوم شديد الحر نحو بقيع الغرقد فكان الناس يمشون خلفه، فلما سمع صوت البغال وقر ذلك في نفسه فجلس حتى قدمهم أمامه لئلا يقع في قلبه شيء من الكبر.
أما ابن ريذة فهو: الضبي أبو بكر الأصبهاني الشروطي، قال الذهبي: هو خاتمة أصحاب الطبراني، وقال في الإكمال: توفي سنة أربع وأربعمائة.
وأما ابن نجدة فحكى في (الجداول) روايته عن خالد بن يزيد وغيره قال: وعنه الطبراني، وأبو الحسن المغازلي وآخرون، توفي سنة تسع وتسعين ومائتين.
وأما أبو المغيرة فهو: الحمصي الخولاني الشامي، قال أبو حاتم: صدوق، وقال النسائي: ليس به بأس، وقال العجلي والدارقطني: ثقة، وهو من شيوخ البخاري، توفي سنة اثنتي عشرة ومائتين، احتج به الجماعة، وروى له المرشد بالله والمرادي.
وأما معاذ، فقال في (الجداول): معاذ بن رفاعة عن علي بن يزيد، وعنه الوليد بن مسلم وذكر رواية المرشد بالله له، وقال في (التقريب): معاذ بن رفاعة بن رافع الأنصاري الزرقي المدني، صدوق من الرابعة، ورمز لكونه من رجال البخاري، وأبي داود، والترمذي، والنسائي.
وقال الهادي عليه السلام : بلغنا عن أمير المؤمنين عليه السلام وأبي ذر رضي الله عنه أنهما سألا رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فقالا: ما أعظم ذنباً بعد الشرك عند الله؟ فقال: ((الكبر الكبر)).
ومن كلام علي عليه السلام : (الحمد لله الذي لبس العز والكبرياء واختارهما لنفسه دون خلقه، وجعلهما حمىً وحرماً على غيره، واصطفاهما لجلاله، وجعل اللعنة على من نازعه فيهما من عباده، ثم اختبر بذلك ملائكته المقربين ليميز المتواضعين منهم من المتكبرين فقال سبحانه وهو العالم بمضمرات القلوب، ومحجوبات الغيوب: {فَإِذَا سَوَّيْتُهُ وَنَفَخْتُ فِيهِ مِنْ رُوحِي فَقَعُوا لَهُ سَاجِدِينَ، فَسَجَدَ الْمَلاَئِكَةُ كُلُّهُمْ أَجْمَعُونَ، إِلاَّ إِبْلِيسَ}[الحجر:29-31] اعترضته الحمية فافتخر على آدم بخلقه، وتعصب عليه لأصله، فعدَّ والله إمام المتعصبين، وسلف المستكبرين، الذي وضع أساس العصبية، ونازع الله رداء الجبرية، وأدرع لباس التعزر، وخلع قناع التذلل، ألا ترون كيف صغره الله بتكبره ووضعه الله بترفعه فجعله في الدنيا مدحوراً وأعدَّ له في الآخرة سعيراً...إلى أن قال: فاعتبروا بما كان من فعل الله بإبليس إذ أحبط عمله الطويل وجهده الجهيد، وكان قد عبد الله ستة آلاف سنة لا يدرى أمن سني الدنيا أم من سني الآخرة عن كبر ساعة واحدة، فمن ذا بعد إبليس يسلم على الله بمثل معصيته؟ كلاّ ما كان الله سبحانه ليدخل الجنة بشراً بأمر أخرج به منها ملكاً، إن حكمه في أهل السماء والأرض لواحد، وما بين الله وبين أحد من خلقه هوادة في إباحة حمى حرمه على العالمين). رواه في (النهج) والهوادة: الموادعة والمصالحة.
وقال القاسم بن إبراهيم عليه السلام : يا بني اجتنب الكبر فإنه رداء الجبار المعطل للديار، والمحل لصاحبه دار البوار، والمغير للأنعام، والمعجل للانتقام.
وهذا القدر كاف في هذا الموضع في بيان قبح الكبر والتحذير منه، نسأل الله السلامة واللطف والمعونة على دفع كيد الشيطان، وسائر دواعي عصيان الرحمن.
تنبيه [في ذكر معاني حديث الكبر]
ظاهر قوله صلى الله عليه وآله: ((لا يدخل النار من كان في قلبه مثقال حبة خردل من إيمان...))إلخ التناقض؛ لأن المقصود بالإيمان المذكور التصديق، ولا يخلو كثير من المتلبسين بالكبر من تصديق ما بالله وبرسوله، بل إبليس هو رأس المستكبرين لا يخلو من تصديق، بل الظاهر من حاله التصديق والمعرفة، وأن كفره إنما كان بسبب استكباره، وعدم امتثاله، وهكذا غيره فيلزم أن يكون الشخص الواحد مستحقاً لدخول النار وغير مستحق لذلك في حالة واحدة وهو محال.
والجواب: أنه لا تناقض في الحديث؛ إذ ليس المراد به إلا بيان حال الإيمان وعلو منزلته، وعظم معصية الكبر ووخامة عاقبته من غير نظر إلى اجتماعهما وعدمه، ويرجع في بيان حكمهما عند الاجتماع إلى دليل خارجي، وقد دل الدليل على أن الكبائر تحبط الطاعات أجمع فضلاً عن مثقال حبة من خردل، وعند ذلك يقال: الواجب حمل الحديث على من مات بعد تمام المعرفة قبل إمكان العمل، فإنه يكون من أهل الجنة كما مر في الثامنة من مسائل أول هذه السورة إذا كان غير مرتكب لكبيرة من كبر أو غيره، وتكون كل واحدة من الجملتين مستقلة بنفسها، الأولى واردة في بيان كون التصديق الذي لم يتمكن معه من العمل كاف في حصول النجاة، وهو مشروط بأن لا تعقبه كبيرة، والثانية في بيان كون الكبر من الكبائر التي لا ينفع معها عمل، ويدل على ذلك أنه قد روي الحديث من غير ذكر الإيمان، ففي صحيح مسلم: حدثنا محمد بن مثنى ومحمد بن بشار وإبراهيم بن دينار جميعاً عن يحيى بن حماد، قال ابن المثنى: حدثني يحيى بن حماد، وأخبرنا شعبة، عن أبان بن تغلب، عن فضيل الفقيمي، عن إبراهيم النخعي، عن علقمة، عن عبد الله بن مسعود عن النبي -صلى الله عليه وآله- قال: ((لا يدخل الجنة من كان في قلبه مثقال ذرة من كبر، قال رجل: إن الرجل يحب أن يكون ثوبه حسناً ونعله حسنة، قال: إن الله جميل يجب الجمال، الكبر بطر الحق، وغمط الناس)). وله عنده طريق أخرى قال: حدثنا محمد بن بشار، حدثنا أبو داود حدثنا شعبة، فذكره إلى آخر السند والمتن، والرجل السائل قيل: إنه مالك بن مرارة الرهاوي، وقيل غيره.
وذكر ابن أبي الدنيا في كتاب الخمول والتواضع أنه معاذ بن جبل، ومثله في كتاب الذكر لمحمد بن منصور المرادي بطريقين قال: حدثنا عثمان بن أبي شيبة، عن عبد الله بن نمير، عن موسى بن عبيدة، قال: حدثني زيد بن أسلم، عن جابر، فذكر معنى الرواية الآتية، والطريق الأخرى قال: ثنا محمد بن إسماعيل، عن عبيد الله بن موسى، عن موسى، عن زيد بن أسلم، عن جابر بن عبد الله، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وآله: ((ألا أخبركم بشيء أوصى به نوح ابنه؟ إن نوحاً عليه السلام قال لابنه: يا بني، آمرك بأمرين وأنهاك عن أمرين...))إلى أن قال: ((وأنهاك يا بني عن الشرك بالله فإنه من يشرك بالله فقد حرم الله عليه الجنة، وأنهاك عن الكبر فإن أحداً لن يدخل الجنة وفي قلبه مثقال حبة من خردل من كبر، قال معاذ: يا رسول الله، أمن الكبر أن يكون لأحدنا النعلان يلبسهما أو الثياب يلبسها، أو الدابة يركبها، أو الطعام يجمع عليه أصحابه؟ قال: لا ولكن الكبر أن تسفه وتغمص المؤمن -يعني تستطيل عليه- وسأنبئك بخلال من كن فيه فليس بمتكبر، اعتقال الشاه، وركوب الحمار، ولبس الصوف، ومجالسة فقراء المؤمنين، وليأكل أحدكم مع عياله)) .
فائدة
اختلف العلماء في حد الكبر. وأحسن الحدود ما جاء عن النبي ـ صلى الله عليه وآله ـ وقد عرفته، وسفه الحق: جهله والاستخفاف به، والسفيه: الجاهل، وغمط بالغين المعجمة والطاء المهملة: احتقر، ومثله غمص بالمعجمة والمهملة، وبطر الحق: دفعه وإنكاره ترفعاً وتجبراً.
المسألة الثانية عشرة [حال إبليس]
اختلف العلماء في إبليس هل كان حين اشتغاله بالعبادة منافقاً كافراً أم لا؟
فقيل: لا بل كان مؤمناً ثم كفر؛ لأنه لا خلاف أنه كان عالماً بالله قبل كفره، وهؤلاء اختلفوا في معنى كان في قوله: {وَكَانَ مِنَ الْكَافِرِينَ}[ البقرة:34] فقيل: على بابها أي كان في علم الله أنه سيكفر، فصيغة {كان} متعلقة بالعلم لا بالمعلوم.
وقيل: بمعنى صار، قال ابن جرير معنى قوله: {وَكَانَ مِنَ الْكَافِرِينَ}[ البقرة:34] أنه كان حين أبى عن السجود من الكافرين حينئذٍ، وروي عن أبي العالية أنه كان يقول: وكان من العاصين.
وقيل: كان حال اشتغاله بالعبادة منافقاً كافراً لظاهر الآية، وقرروه بوجهين:
أحدهما: أنه لو وقع منه الإيمان لامتنع منه الكفر؛ لأن الإيمان يوجب استحقاق الثواب الدائم، والكفر يوجب استحقاق العقاب الدائم، والجمع بينهما محال، والقول بالإحباط باطل، فوجب القطع بأنه لم يقع منه إيمان البتة، وأن عبادته كانت نفاقاً، وحاصله: أن خاتمته لما كانت على الكفر علمنا أنه ما كان مؤمناً قط.
والجواب: أن هذه الشبهة وجوابها قد تقدما في الخامسة من مسائل قوله تعالى: {وَبَشِّرِ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ...}الآية[البقرة:25].
الوجه الثاني: وهو لمن لم يمنع الإحباط، أن الله تعالى قد أوحى إلى إبليس بأنه لم يعرفه ومن لم يعرف الله فهو كافر، وذلك فيما حكاه محمد بن عبد الكريم الشهرستاني في أول كتابه المسمى بـ(الملل والنحل) عن ماري شارح الأناجيل الأربعة وهي مذكورة في التوراة متفرقة على شكل مناظرة بين إبليس والملائكة بعد الأمر بالسجود، قال إبليس للملائكة: إني أسلم أن لي إلهاً هو خالقي وموجدي وهو خالق الخلق، لكن لي على حكمة الله أسئلة سبعة:
الأول: ما الحكمة في الخلق لا سيما إذا كان عالماً أنه لا يستوجب عند خلقه إلا الآلام؟
الثاني: ثم ما الفائدة في التكليف مع أنه لا يعود منه ضر ولا نفع وكلما يعود على المكلفين فهو قادر على تحصيله لهم من غير واسطة التكليف؟
الثالث: هب أنه كلفني بمعرفته وطاعته فلماذا كلفني السجود لآدم؟
الرابع: ثم لما عصيته في ترك السجود لآدم فَلِمَ لعنني وأوجب عقابي، مع أنه لا فائدة له ولا لغيره فيه ولي فيه أعظم الضرر؟
الخامس: ثم لما فعل ذلك فلم مكنني من الدخول إلى الجنة ووسوست لآدم عليه السلام ؟
السادس: لما فعلت ذلك فَلِمَ سلطني على أولاده ومكنني من إغوائهم وإضلالهم؟
السابع: ثم لما استمهلته المدة الطويلة في ذلك فلم أمهلني ومعلوم أن العالم لو كان خالياً عن الشر لكان ذلك خيراً؟
قال شارح الأناجيل: فأوحى الله تعالى إليه من سرادقات الجلال والكبرياء: يا إبليس، إنك ما عرفتني ولو عرفتني لعلمت أنه لا اعتراض عليّ في شيء من أفعالي فإني أنا الله لا إله إلا أنا، لا أُسْأَل عما أفعل.
قال الرازي: واعلم أنه لو اجتمع الأولون والآخرون من الخلائق وحكموا بتحسين العقل وبقبحه لم يجدوا عن هذه الشبهات مخلصاً وكان الكل لازماً، قال: إذا جئنا بذلك الجواب الذي ذكره الله زالت الشبهات، واندفعت الاعتراضات وكيف لا، وكما أنه سبحانه واجب الوجود في ذاته واجب الوجود في صفاته فهو مستغن في فاعليته عن المؤثرات والمرجحات؛ إذ لو افتقر لكان فقيراً لا غنياً فهو سبحانه مقطع الحاجات، ومنتهى الرغبات، ومن عنده نيل الطلبات، وإذا كان كذلك لم تتطرق اللمية إلى أفعاله، ولم يتوجه الاعتراض على خالقيته، وما أحسن ما قال بعضهم: جل جناب الجلال عن أن يوازن بميزان الاعتزال، فهذا القائل أجرى قوله تعالى: {وَكَانَ مِنَ الْكَافِرِينَ}[البقرة:34] على ظاهره وقال إنه كان كافراً منافقاً منذ كان.
والجواب والله الموفق للصواب: أن هذه الأسئلة من أعظم شبه المجبرة في نفي الحكمة عن أفعال الباري جل وعلا، ومنع الحسن والقبح العقلي، ولذا هوّل الرازي بدعوى تعذر الجواب عليها إن رجع في ذلك إلى حكم العقل وذلك مجازفة، وتقوّل بالباطل، فإنه لا يمكن الجواب عنها وتنزيه الله عن العبث وفعل القبيح إلا بالرجوع إلى تحسين العقل وتقبيحه، وقد أجاب عنها أصحابنا في مختصرات كتبهم فضلاً عن المطولات، وقد ذكرنا فيما مر من كتابنا هذا ما فيه مقنع في إبطال هذه الأسئلة، وسنشير إلى ما تقدم في هذا الموضع، ونزيد عليه ما لا غنية عنه فنقول: أما كونه تعالى عدلاً حكيماً فقد مر الكلام عليه في السابعة من مسائل الحمد لله.
وأما إثبات الحسن والقبح العقلي فقد مر في تلك المسألة وفي السادسة من مسائل المقدمة، وهذا جواب إجمالي.
وأما الجواب التفصيلي عن كل واحد من الأسئلة فنقول:
الجواب عن السؤال الأول: أنه قد ثبت أن الله تعالى لا يفعل إلا لغرض كما مر في السابعة من مسائل الحمد لله، فوجب القطع بأن الله تعالى لم يخلق الخلق إلا لغرض وحكمة، وذلك الغرض لا بد أن يعود إلى الخلق لاستحالة النفع والضر عليه تعالى، وهو إما أن يعود عليهم بالضرر المحض، وهو باطل؛ لأنه يكون ظلماً، أو بالنفع المحض كالثواب، وكثير من النعم، والملاذ، وما يجري مجرى النفع، وهو التكليف والمصائب والآلام فإنها منافع دينية، ومصالح في التكليف، ومذكرة بعقاب الآخرة، وداعية إلى التوبة وغيرها من الطاعات، أو تعود عليهم بالضرر المستحق كعقاب الدنيا والآخرة، ويلحق بكل واحد من هذه الأقسام ما لا تتم إلا به كالإرادة، وعلى الجملة لا تعدو أفعاله تعالى ستة أقسام: المنعم عليه، والنعمة، وما لا يتم كونها نعمة إلا به من القصد، والمنتقم منه، والنقمة، وما لا يتم كونها نقمة إلا به من القصد، والثلاثة الأول متلازمة والأخيرة كذلك، ولا يصح في ابتداء الخلق إلا الثلاثة الأول؛ لأنه لا مستحق للضرر حينئذٍ، والمعلوم أنا نعلم بالعقل حسن الابتداء بالنفع وما يؤدي إليه، فيتحصل من ذلك القطع بأن الله تعالى متفضل بإيجاد الخلق أعني المكلفين من الجن والإنس؛ إذ الكلام فيهم والسؤال إنما هو عنهم، ومعنى التفضل عليهم هو تمكينهم من منافع غير مستحقة، وحسن ذلك معلوم ضرورة كما مر قريباً، وفي الفاتحة، وفي قوله تعالى: {خَتَمَ اللَّهُ عَلَى قُلُوبِهِمْ}[البقرة:7] وهذا قول العدلية جميعاً، وقد نبه الله على ذلك بقوله: {وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالإِنسَ إِلاَّ لِيَعْبُدُونِ}[الذاريات:56] وإلزامه تعالى إياهم عباداته عرض على الخير الذي هو الفوز بالثواب الدائم والسلامة من العقاب اللازم؛ إذ لا يكون الثواب والسلامة من العقاب إلا لمن عبده من المكلفين لما مر من أنه لا يحسن الابتداء بالثواب.
وقال قاضي القضاة: بل خلقهم لإظهار قدرته، ونحوه للهادي روى عنه في (البدر الساري) أنه قال: خلق الله الخلق لإظهار حكمته وإظهار قدرته؛ لأنه ليس من صفة الحكيم أن يستر حكمته ويفنيها، فلإظهار حكمته خلق الخلق ولم يكن بد مما يعيشون فيه فخلق ما فيها، فلما خلقهم كذلك لم يكن بد مما يأمرهم وينهاهم ويوفقهم على رشدهم وغيهم، ويبين لهم رضاه وسخطه، فلما فعل ذلك كانوا مأمورين ومنهيين فلم يكن بد من ترغيب وترهيب، فخلق النار ترهيباً وعقوبة للعصاة، وخلق الجنة ترغيباً وثواباً لأهل طاعته، وفيه عن فاطمة الزهراء+: وفطرها يعني الأشياء لغير فائدة زادته إلا إظهاراً لقدرته، ودلالة على ربوبيته، وإمداداً لأهل دعوته، ثم جعل الثواب على طاعته حياشة لعباده إلى جنته، ووضع العقاب على معصيته ذيادة لعباده عن معصيته.
وقد رد الإمام المهدي قول القاضي وقال: إنه بعيد؛ لأنه لا غرض له في إظهار قدرته؛ إذ لا تجوز عليه الرغبة في مثل ذلك؛ إذ يستلزم الحاجة ولا نفع للمخلوق فيه، فلا وجه لجعله غرضاً في خلق العالم.
وقال الرازي وبرغوث: بل خلقهم لا لغرض لنا ما مر.
وقالت المجبرة: بل خلقهم ليدخل بعضهم الجنة وبعضهم النار كقوله تعالى: {وَلَقَدْ ذَرَأْنَا لِجَهَنَّمَ كَثِيراً مِنَ الْجِنِّ وَالإِنسِ}[الأعراف:179] فظاهرها يقضي بمقالتهم.
والجواب: أن الظاهر إذا خالف دليل العقل ومحكم الكتاب وجب العدول عنه، وظاهر هذه الآية كذلك، فيجب تأويلها والعدول بها عن ظاهرها، أما مخالفته لدليل العقل فلأنه تعالى لو ابتدأ خلقهم للنار وكان ذلك مراده تعالى لكان ظلماً والظلم قبيح والله تعالى لا يفعل القبيح، أما أنه يكون ظلماً فلأنه ابتدأ بالضرر الخالص عن نفع يجبره، أو دفع ضرر، أو فى منه، ولا هو من باب المستحق على فعل متقدم يستوجبه به، وذلك هو معنى الظلم؛ لأن من عرفه بهذه الصفات عرفه ظلماً ومن لا فلا وإن عرف ما عرف، وأما أنه تعالى لا يفعل القبيح فذلك معلوم، وقد مر في الفاتحة.
وأما مخالفته لمحكم الكتاب فلأنه مخالف لقوله تعالى: {وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالإِنسَ إِلاَّ لِيَعْبُدُونِ}[الذاريات:56] وهي عامة؛ لأنه تعالى نفى أن يكون خلق أحداً من الجن والإنس إلا لعبادته على وجه العموم، إلا أنا خصصنا من لم تكمل فيه شرائط التكليف بدليل وبقى ما عداه داخلاً في العموم، وإذا تقرر لك امتناع العمل بظاهر الآية التي احتجوا بها، وأنه يجب تأويلها، فلنأخذ فيما ذكره أئمة العدل من التأويل المقبول، الموافق لمحكم التنزيل ودلالة العقول، وقد ذكروا فيها أقوالاً:
أحدها: أن اللام على أصلها، والمراد بالذرء الذرء الثاني، وهذا رواه الشرفي عن القاسم والهادي.
الثاني: أنها للتعليل المجازي كما قال الزمخشري قال في قوله تعالى: {فَالْتَقَطَهُ آلُ فِرْعَوْنَ...}الآية[القصص:8]، فإنه قال: هذه اللام للتعليل كقولك: جئتك لتكرمني سواءً سواء، ولكن معنى التعليل فيها وارد على طريق المجاز دون الحقيقة؛ لأنه لم يكن داعيهم إلى الالتقاط أن يكون لهم عدواً وحزناً، ولكن المحبة والتبني غير أن ذلك لما كان نتيجة التقاطهم له وثمرته شبه بالداعي الذي يفعل الفاعل الفعل لأجله، قال: وتحريره أن هذه اللام حكمها حكم الأسد حيث استعيرت لما يشبه التعليل كما يستعار الأسد لمن يشبه الأسد، فكذلك يقال في هذه الآية لما كان نتيجة خلقهم استحقاقهم النار شبه بالداعي.
الثالث: ذكره المنصور بالله، والإمام المهدي، والإمام القاسم بن محمد وغيرهم من أصحابنا وهو أنها لام العاقبة وليست بلام العلة والغرض، وورود لام العاقبة في كلام العرب كثير كقوله تعالى: {فَالْتَقَطَهُ آلُ فِرْعَوْنَ لِيَكُونَ لَهُمْ عَدُوّاً وَحَزَناً}[القصص:8] ومعلوم أنهم التقطوه ليكون لهم قرة عين، لكن لما كانت عاقبته وما يؤول إليه أمره ذلك قال: {لِيَكُونَ لَهُمْ عَدُوّاً وَحَزَناً} ومثله: {إِنَّمَا نُمْلِي لَهُمْ لِيَزْدَادُوا إِثْماً}[آل عمران:178] أي عاقبتهم ذلك، قال الشاعر:
لدوا للموت وابنوا للخراب
وقال آخر:
أموالنا لذوي الميراث نجمعها .... ودورنا لخراب الدهر نبنيها
قال المنصور بالله: ولا يصح أن تكون اللام في الآية للغرض والإرادة؛ لأن هذه اللام إنما تدخل في المصادر والأفعال المضارعة، وجهنم اسم جامد فلا يجوز دخول لام الغرض فيه؛ لأنه يقال: دخلت بغداد لطلب العلم أو لأطلب العلم، ولا يقال: دخلت بغداد للسماء والأرض لما كان اسماً جامداً، فإن عدلوا عن الظاهر وتأولوا معناها فليسوا بالتأويل بأولى منا، ثم ذكر أنها للعاقبة كما مر، ورجح على تأويلهم بموافقته لدليل العقل، ومحكم النقل.
وأما قوله في السؤال: لا سيما إذا كان عالماً أنه لا يستحق إلا الآلام.
فإن أراد بذلك آلام الدنيا فقد تقدم طرف من الكلام على حسنها في قوله تعالى: {الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ}[الفاتحة:3]، وإن أراد ألم العقاب في الآخرة فليس كل الخلق يستحقونه، فكيف نقول: إنه لا يستحق بخلقه إلا الآلام، فإن أراد الجنس الصادق بالبعض فقد مر بيان حسن العقاب في الثالثة عشرة من مسائل قوله تعالى: {خَتَمَ اللَّهُ عَلَى قُلُوبِهِمْ...}الآية[البقرة:7].
واعلم أن النيسابوري في حكايته لهذه الأسئلة قصر السؤال الأول على طلب الحكمة في خلق إبليس -لعنه الله تعالى- فقال: الأول أنه قد علم قبل خلقي أي شيء يصدر عني فَلِمَ خلقني؟ وما الحكمة في خلقه إياي؟
وجوابه: أن الحكمة في خلقك أيها اللعين هي الحكمة في خلق غيرك، وقد عرفتها، فهو متفضل عليك بذلك، ومحسن إليك بخلقه إياك؛ إذ خلقك حياً تنتفع كالإنسان، وإنما أتيت من جهة نفسك.
وأما علمه بما يصدر منك فلا يمنع كون خلقه إياك إحساناً؛ إذ العلم لا يحسن حسناً ولا يقبح قبيحاً كما مر عن القاسم بن إبراهيم في السابعة من مسائل الحمد لله.
وتحقيق الجواب أن نقول: قد تقرر في تلك المسألة، وفي الثالثة عشرة من مسائل قوله تعالى: {خَتَمَ اللَّهُ عَلَى قُلُوبِهِمْ}[البقرة:7] أن الإحسان المجرد عن الغرض سوى كونه إحساناً كاف في البعث على الفعل، ولو علم أن ذلك المحسن إليه لا يقبل إذا كان قد مكنه وهداه ودله على طريق الوصول إلى المنفعة، وإبليس بهذه المثابة فإن الله تعالى قد أنعم عليه بالخلق وعرضه على منافع عظيمة، ودله عليها، ومكنه منها، فاستحب العمى على الهدى، واختار الضلالة والردى، وهذا واضح.
قال الديلمي: وليست الخلقة موجبة لما صار إليه عدو الله من الضرر والشر لقوله: {وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالإِنسَ إِلاَّ لِيَعْبُدُونِ}[الذاريات:56]، بل الموجب له ما كان من سوء الاختيار بالاستكبار والتعزز بخلقه من النار، قال: وأيضاً إنما يقبح خلقه إذا علم صدور القبيح منه لو كان علمه موجباً للقبيح بحيث لا يمكن أن يقع منه خلافه، والأمر بخلافه، ولا غرض للقديم تعالى في معاقبة الخلق بغير حق {مَا يَفْعَلُ اللَّهُ بِعَذَابِكُمْ إِنْ شَكَرْتُمْ}[النساء:147].
قلت: وقد مر في الرابعة من مسائل قوله تعالى: {خَتَمَ اللَّهُ عَلَى قُلُوبِهِمْ}[البقرة:7] ما ذكره أصحابنا في تحقيق كون العلم لا يؤثر في المعلوم، ولا يمنع من وقوع خلافه، فارجع إليه.
والجواب عن السؤال الثاني: قد مر في السابعة من مسائل الحمد لله فإن فيها إقامة البرهان القاطع على حسن التكليف.
قوله: وكل ما يعود على المكلفين...إلخ.
قلنا: مسلم أنه يقدر على ذلك، لكنه لا يحسن لما مر من أنه لا يحسن الابتداء بالثواب.
فإن قيل: إذا كان التكليف تفضلاً لأنه تعريض على الخير، فهلا تفضل علينا بما يحسن الابتداء به من النعم، وقد قلتم إن من النعم ما يحسن الابتداء به وهو التفضل، ولو فعل ذلك لكان أرفق بالمنعم عليه لخطر التكليف، ولكون التفضل متيقن حصوله دون الثواب لتوقفه على القيام بما كلف به.
قيل: التكليف تفضل، والابتداء بالنعم التي يصح الابتداء بها تفضل، وليس لنا أن نقترح على الله اختيار تفضل على تفضل، بل أيهما فعل فهو محسن على أن التفضل بالتكليف أبلغ لتأديته إلى منافع عظيمة لا تنال إلا به.
وقولهم: إن التفضل متيقن. غير مسلم؛ لأنه غير واجب فمن أين يتيقن.
وقولهم: بخطر التكليف، باطل مع التمكين والدلالة وإزاحة العلل، وأيضاً لو ابتدأهم بالإحسان لم يكن لإحسانه قدر كما قيل: الإحسان بالمجان لا يعرف له قدر وامتنان، ولو لم تكن النار وأهلها لما عرف أهل الجنة قدرها؛ لأن بضدها تتبين الأشياء، وهذا وجه مرجح لحسن توقف حصول النفع على التكليف والمشقة على الابتداء به.
والجواب عن الثالث: أنه زيادة في التكليف مضمومة إلى أصله.
والجواب عن الرابع: بأن عقاب العاصي حسن، كما مر في الثالثة عشرة من مسائل قوله تعالى: {خَتَمَ اللَّهُ عَلَى قُلُوبِهِمْ}[البقرة:7].
والجواب عن الخامس والسادس: يؤخذ من الركن الرابع من الاستعاذة، وكذلك الجواب عن السابع -أعني أن ذلك كله زيادة في التكليف.
قال الديلمي: اعلم أن موضع التكليف هو الابتلاء والاختبار بالمشاق العظيمة، والأخطار الجسيمة، ولا شك أن التكاليف مع تبقية إبليس وإمهاله أشق، والابتلاء بها أعظم وهو في الثواب داخل.
قوله: لو كان العالم خالياً من الشر لكان خيراً.
قلنا: قد أنبأناك أن موضع التكليف الابتلاء والمشقة، فإذا كان امتزاجه بالشر زيادة في التكليف وبزيادته يعظم الثواب كان اختلاطه بالشر حسناً، وحينئذ يكون ذلك الامتزاج وعدم الخلو مما به يزيد التكليف المستلزم لزيادة الثواب خيراً لا شراً بهذا الاعتبار، ويكون وضع العالم على ما وضع عليه خيراً كله، ولو سلم أن في ذلك الامتزاج شراً فقد ثبت أن الله تعالى حكيم فلا يفعل ذلك إلا لحكمة، وهي ما ذكرنا من زيادة المشقة والابتلاء كما قال تعالى: {وَنَبْلُوكُمْ بِالشَّرِّ وَالْخَيْرِ فِتْنَةً}[الأنبياء:35] ولأن بذلك يعرف قدر الخير؛ إذ يعرف الشيء بضده كما مر، ولذلك قال تعالى: {وَمِنْ كُلِّ شَيْءٍ خَلَقْنَا زَوْجَيْنِ}[الذاريات:49] قيل: أي الفقر والغنى، والحياة والموت، والصحة والمرض، فلولا الشر لما عرف الخير، ولسنا نريد بقولنا ولو سلم أن في الامتزاج شراً أن الله تعالى خلق إبليس لفعل الشر، فحاشا حكمة الباري وعدله عن ذلك فإنه لم يخلقه لذلك، ولم يرد منه إلا فعل الخير والعبادة، لكنه لما اختار الضلالة على الهدى سمي شراً بمعنى أنه فاعل للشر كما يقال للرجل الكثير فعل الشر: ما أنت إلا شر في شر.
فهذا جواب هذه الأسئلة وهي كما ترى أجوبة جلية واضحة، وبها يتبين بطلان قول الرازي ومجازفته في قوله: إنه لو اجتمع الأولون والآخرون ورجعوا إلى العقل لم يجدوا جواباً، بل يقال: لو اجتمع الأولون والآخرون ولم يرجعوا إلى حكم العقل بالتحسين والتقبيح لم يجدوا عنها جواباً، ولهذا فإن الرازي وأصحابه لما نفوا حكم العقل ولم يرجعوا إليه لم يجدوا لها جواباً، ولم يعرفوا منها خطأ ولا صواباً، بل سلموها مذعنين، وانقادوا لها طائعين، وإن لزم منها ما لزم من نسبة أفعال الله تعالى إلى العبث والظلم وسائر القبائح.
وأما حكايتهم عن الله تعالى أنه أوحى إلى إبليس: أنك ما عرفتني...إلخ، فلا نسلم صحتها لما مر في الثامنة من مسائل هذه الآية من أن إبليس كان عالماً بالله تعالى وعارفاً به، وقد مر عن الناصر عليه السلام في التاسعة من مسائل قوله تعالى: {إِنَّ اللَّهَ لاَ يَسْتَحْيِي أَنْ يَضْرِبَ مَثَلاً مَا بَعُوضَةً}الآية[البقرة:26]، أن إبليس كان عالماً بالله، وأن كفره إنما كان بمخالفة الأمر والاستكبار، وأيضاً ما مر من أنه كان من الملائكة، وأنه كان من أعلمهم وأكرمهم يدفع صحة هذه الحكاية.
واعلم أن بعض أصحابنا قد ذكر هذه الأسئلة وأشار إلى أن المجبرة هم الذين حرروها، لكنهم جعلوها على لسان إبليس؛ لأنه أقرب إلى التلبيس، قال: ولا شك أنه أستاذهم الذي أخذوا علمهم عنه.
قلت: هذه الأسئلة وإن لم تكن من كلام إبليس فهي من وسوسته، ومن جملة مكائده التي بها يصد عن طاعة الرحمن، ولعلها من عمل بعض البطالين النافين لحكمة أحكم الحاكمين كابن الراوندي ومن حذا حذوه، ولما رآها المجبرة مطابقة لهواهم في نفي حكم العقل تلقوها بالقبول، وقالوا مثل هذا مما لا تهتدي إلى حله العقول، وقد عرفت إمكان حلها وكيفية التخلص من ظلماتها. والحمد لله رب العالمين.
وأما إشارتهم في هذه الحكاية إلى قوله تعالى: {لاَ يُسْأَلُ عَمَّا يَفْعَلُ}[الأنبياء:23] بقولهم عن الله تعالى: لا أسأل عما أفعل، فسيأتي معنى الآية في موضعها، وقد مرت الإشارة إليه في الثالثة من المسائل المتعلقة بقوله تعالى: {مَالِكِ يَوْمِ الدِّينِ}[الفاتحة:4] وبما حققناه من عدم صحة هذه الحكاية يظهر بطلان قول من قال: إن إبليس كان كافراً حال اشتغاله بالعبادة من القائلين بالاحباط؛ لأنهم إنما استندوا إلى ظاهر الآية، وقد منعنا الظاهر، وإلى قول شارح الإنجيل: إن الله تعالى أوحى إلى إبليس: إنك ما عرفتني. ومن ماري حتى نصدقه فيما روى؟!! ومن أين الطريق إليه؟ ثم من أين لنا أن الرواية صحت له هو في نفسه؟
وقوله: إنها في التوراة مفرقة مما ينادي عليها بالبطلان؛ لأن اليهود قد حرفوا في التوارة كما أخبر الله عنهم في القرآن، فكيف يجوز الاعتماد على ما فيها والحال هذه، هذا مع ما قيل من أنه لا خلاف أن إبليس كان عالماً بالله حال كفره.
فائدة
اختلف القائلون بأن كان بمعنى صار في أنه هل كان ثَم كفار قبل إبليس حتى يكون هو بعضهم؟
فقيل: نعم بدلالة (من) فإنها للتبعيض ولا يصح معناها إلا بذلك، ورووا عن أبي هريرة أنه قال: إن الله تعالى خلق خلقاً من الملائكة ثم قال لهم: {إِنِّي خَالِقٌ بَشَراً مِنْ طِينٍ ، فَإِذَا سَوَّيْتُهُ وَنَفَخْتُ فِيهِ مِنْ رُوحِي فَقَعُوا لَهُ سَاجِدِينَ}[ص:71،72] فقالوا: لا نفعل ذلك، فبعث الله عليهم ناراً فأحرقتهم، وكان إبليس من أولئك الذي أبوا. رواه الرازي، ومعناه مروي عن ابن عباس، ذكره في (الدر المنثور) وقال في رواية: {إِلاَّ إِبْلِيسَ اسْتَكْبَرَ وَكَانَ مِنَ الْكَافِرِينَ}[ص:74] الأولين.
وقيل: لم يكن قبله أحد، ثم اختلفوا، فقال الأصم وهو ظاهر ما مر عن ابن جرير: معنى الآية أنه صار من الذين وافقوه في الكفر بعد ذلك، فأضيف إليهم لأجل الموافقة كما أضيف بعض المنافقين إلى بعض لذلك في قوله تعالى: {بَعْضُهُمْ مِنْ بَعْضٍ}[التوبة:67].
وقيل: بل هو من إضافة بعض أفراد الماهية إليها، وصحة هذه الإضافة لا يحتاج إلى وجود تلك الماهية، كما أن أول حيوان خلقه الله تعالى يصح أن يقال فيه إنه فرد من أفراد هذه الماهية على معنى أنه فرد من أفرادها، لا على معنى أنه واحد من الحيوانات الموجودة خارج الذهن، وعلى هذا فيصح أن يقال: إن إبليس أول من كفر بالله تعالى.
المسألة الثالثة عشرة [شبه استدلال الخوارج بالآية]
ظاهر الآية يدل على ما تذهب إليه الخوارج من تكفير أهل الكبائر؛ لأن الله تعالى كفر إبليس بتلك المعصية، فدل على أن كل معصية كبيرة كفر.
والجواب: أما على القول بأنه كان كافراً من قبل فلا يصح لهم الاحتجاج بالآية، وأما على القول بأنه كان مؤمناً ثم كفر فنقول: لا نسلم أن كفره كان لامتناعه من السجود فإنه لا يوجب الكفر وإنما كفر لرده أمر الله تعالى معتقداً أنه ليس بحكمة، وتركه الامتثال تكبراً، واستخفافه بالنبي كما قال: {خَلَقْتَنِي مِنْ نَارٍ وَخَلَقْتَهُ مِنْ طِينٍ}[ص:76] والكفر يقع ببعض ذلك، ففي (الثمرات): من رد أمر الله تعالى اعتقاداً أنه ليس بحكمة أو ترك الامتثال تكبراً واستخفافاً بالنبي كفر، وقال الرازي: إنما كفر لاستكباره واعتقاده كونه محقاً في ذلك التمرد، واستدلاله على ذلك بقوله: أنا خير منه.
قلت: لم يذكر نفي الحكمة بناء على أصله في نفيها.
واعلم أن الاستدلال بكفر إبليس على تكفير أهل الكبائر لم يختص به الخوارج، فقد احتج به الناصر كما مر في التاسعة من مسائل قوله تعالى: {إِنَّ اللَّهَ لاَ يَسْتَحْيِي أَنْ يَضْرِبَ مَثَلاً مَا بَعُوضَةً...}الآية[البقرة:26]، وتقدم في تلك المسألة عن بعض أئمة العترة القول بتسمية مرتكب الكبيرة كافراً، لكن الظاهر بينهم وبين الخوارج من حيث أن الأئمة" يجعلون الكفر مراتب فمنه ما يزيل من الملة ويوجب سفك الدماء، ومنه ما لا يوجب ذلك كما مر عن الناصر.
وأما الخوارج فالظاهر عنهم أنهم يقولون بخروج مرتكب الكبيرة من الملة، وأنه يستوجب سفك الدم، وأخذ المال وغير ذلك كما يفهم من احتجاج أمير المؤمنين عليه السلام عليهم لما قالوا بكفره كرم الله وجهه وكفر أصحابه بالتحكيم، فإنه قال: فإن أبيتم أن تزعموا إلا أني أخطأت وضللت فلم تضللون عامة أمة محمد -صلى الله عليه وآله- وتأخذونهم بخطأي، وتكفرونهم بذنوبي، سيوفكم على عواتقكم تضعونها مواضع البرء والسقم، وتخلطون من أذنب بمن لم يذنب، وقد علمتم أن رسول الله -صلى الله عليه وآله- رجم الزاني المحصن ثم صلى عليه وورثه أهله، وقتل القاتل وورث ميراثه أهله وقطع، وجلد الزاني غير المحصن ثم قسم عليهما من الفيء، ونكحا المسلمات فأخذهم رسول الله -صلى الله عليه وآله- بذنوبهم، وأقام حق الله فيهم، ولم يمنعهم سهمهم من الإسلام، ولم يخرج أسماءهم من بين أهله. رواه في (النهج).
ففي قوله عليه السلام : سيوفكم على عواتقكم دليل على أنهم كانوا يعتقدون استحقاق مرتكب الكبيرة ما يستحقه غيره من الكفار من سفك الدم وغيره جهلاً منهم بأقسام الكفر وأنواعه، ولذا احتج عليهم بفعل رسول الله -صلى الله عليه وآله- مع أهل الكبائر، وقد أوضح معنى هذا ابن أبي الحديد فقال: إن أمير المؤمنين عليه السلام ما قال هذه المقالة إلا لما رأى منهم استعراض العامة، وقتل الأطفال حتى البهائم فقد كان منهم قوم فعلوا ذلك وقالوا: إن الدار دار كفر لا يجوز الكف عن أحد من أهلها.
تنبيه في كلام علي عليه السلام دليل على شرعية الصلاة على الفاسق، لا يقال: لعله إنما صلى عليه النبي -صلى الله عليه وآله- لعلمه بتوبته؛ لأنا نقول: لو كان ذلك كذلك لم يصح احتجاج علي عليه السلام بالصلاة عليه على الخوارج، وكيف يقال في أمير المؤمنين وباب مدينة علم النبي الأمين أنه يحتج بالصلاة على المؤمن على عدم تكفير العاصي، بل لا ينسب ذلك الاحتجاج إلى عاقل قط فضلاً عن وارث علم الأنبياء".
تنبيه ظاهر كلام الناصر عليه السلام أن كفر إبليس ليس أعظم الكفر؛ لأنه لا ريب أن معصية الشرك بالله، وجحد ربوبيته أعظم من معصية الكبر والمخالفة لأمره، ويمكن أن يقال: أما أصل معصية اللعين، فمسلم أن الشرك والجحد أعظم منها، لكنها تزايدت وعظمت بعدُ؛ لأنه الأصل في وقوع كل معصية من شرك وغيره فإنه الذي يدعو إلى المعاصي ويزينها لأهلها، والراضي بفعل قوم كالداخل معهم فيه، فكيف بالداعي إليه والحامل عليه.
[البقرة: 35]
قوله تعالى: {وَقُلْنَا يَاآدَمُ اسْكُنْ أَنْتَ وَزَوْجُكَ الْجَنَّةَ وَكُلاَ مِنْهَا رَغَدًا حَيْثُ شِئْتُمَا وَلاَ تَقْرَبَا هَذِهِ الشَّجَرَةَ فَتَكُونَا مِنَ الظَّالِمِينَ}[البقرة:35]
السكون لغة: ثبوت الشيء بعد تحرك، ويستعمل في الاستيطان نحو: سكن فلان مكان كذا، قاله الراغب، وقال الزمخشري: السكنى من السكون؛ لأنه نوع من اللبث والاستقرار، وقال أبو حيان: السكنى راجع إلى السكون وهو عدم الحركة، وكأن الساكن في المكان للبثه واستقراره فيه غير متحرك بالنسبة إلى غيره من الأماكن.
قلت: وفي تفسيره السكون بعدم الحركة نظر لما مر في الفاتحة من أن السكون أمر وجودي عند المتكلمين لا عدمي، وهم لا يخالفون اللغة سيما في مثل هذه اللفظة فإنهم جعلوها أحد الأدلة على حدوث الأجسام من حيث أن الجسم لا ينفك عن الحركة والسكون، وهما عرضان محدثان، وما لا ينفك عن المحدث فهو محدث، ولأن الأولى أن يقال هو ضد الحركة، وقد دل كلام الزمخشري والراغب على أنه أمر وجودي. فتأمل.
قال الراغب: والسكنى أن يجعل له السكون في دار بغير أجرة، والزوج المراد به هنا الزوجة يستعمل فيها بهاء وغيرها.
قال ابن جرير: واستعماله بالهاء أكثر في لغة العرب، والرغد: الواسع الكثير الذي لا عناء فيه، والقرب: الدنو من الشيء، والظلم، قال أبو حيان أصله: وضع الشيء في غير موضعه ثم يطلق على الشرك وعلى الجحد وعلى النقص، والمظلومة: الأرض التي لا تمطر، ومعناه راجع إلى النقص.
وقال الراغب: الظلم عند أهل اللغة وكثير من العلماء: وضع الشيء في غير موضعه المختص به إما بنقصان أو زيادة، وإما بعدول عن وقته أو مكانه، ومن هذا يقال: ظلمت السقاء إذا تناولته في غير وقته فسمي ذلك اللبن الظليم، وظلمت الأرض حفرتها ولم يكن موضعاً للحفر وتلك الأرض يقال لها مظلومة، والتراب الذي يخرج منها ظليم، والظلم يقال في مجاوزة الحق الذي يجري مجرى نقطة الدائرة، ويقال فيما يكثر وفيما يقل من التجاوز، ولهذا يستعمل في الذنب الكثير وفي الذنب الصغير، ولذلك قيل لآدم في تعديه ظالم، وفي إبليس ظالم وإن كان بين الظالمين بون بعيد، وفي الآية مسائل:
المسألة الأولى [دلالة لفظ (اسكن)]
قال القرطبي في قوله تعالى: {اسكن} تنبيه على الخروج؛ لأن السكنى لا تكون ملكاً، ولهذا قال بعض العارفين: السكنى تكون إلى مدة ثم ينقطع، فدخولهما الجنة كان دخول سكنى لا دخول ثواء قال: وإذا كان هذا فيكون فيه دلالة على ما يقوله الجمهور من العلماء: أن من أسكن رجلاً مسكناً له أنه لا يملكه بالسكنى وأن له أن يخرجه إذا انقضت مدة الإسكان.
قلت: وفي قول الراغب: إن السكنى أن يجعل له السكون في دار بغير أجرة دليل على أن السكنى لا تكون ملكاً عند أهل اللغة؛ إذ لو كانت تفيد الملك لم يكن لقوله بغير أجرة فائدة، بل يكون كالمناقض لأول الكلام المستفاد منه الملك؛ لأنه لا يفهم من قول القائل: أعطيت زيداً داري أو دابتي بغير أجرة إلا أنه أعطاه مجاناً على جهة العارية والإباحة، ولا يتبادر من هذا أنه ملكه إياها بخلاف ما إذا حذف قوله بغير أجرة.
وقال الرازي: السكنى: هي طول المكث، وهذا يفيد أنها تقتضي الدوام.
وقد اختلف العلماء في كونها تفيد الملك أم لا، فقال أصحابنا: هي عارية في جميع أحكامها سواء قال: أسكنتك داري أو هي لك سكنى أم قال هي لك صدقة سكنى، أو هبة تسكنها، أو صدقة تسكنها، وروى علامة العصر عن الأمير الحسين أنه قال: وأما السكنى فعارية بلا خلاف، وروي أيضاً عن القاضي زيد أنه قال: إن له استرجاعها بلا خلاف، ولو قال: هي لك عارية لا أستردها منك كان له استردادها بلا خلاف.
وفي (البحر) عن أبي حنيفة وأصحابه أنه قال: هي لك سكنى أو صدقة سكنى أو عمرى عارية فعارية، وإن قال: هي لك عمرى تسكنها، أو هبة تسكنها، أو صدقة تسكنها فهذه كلو قال: وهبتها منك تؤجرها أو تعيرها؛ إذ قوله: تسكنها بعد ذكر الهبة والعمرى والرقبى والصدقة لغو.
وقال الشعبي: إن قال: داري لك سكنى حتى تموت فهي له حياته وموته، وإن قال: داري هذه اسكنها حتى تموت فإنها ترجع إلى صاحبها إذا مات.
وفي شرح القاضي زيد أن له أن يرجع سواء دفعها مطلقة أو مؤقتة بوقت معلوم، قال: وهو قول أبي حنيفة وأصحابه والشافعي، قال: وحكي عنه أنه قال: إن أعار جداراً للبناء عليه فليس له أن يرجع، وحكى القاضي زيد أيضاً عن مالك أنه إذا ضرب أجلاً للعارية فليس له أن يرجع فيها قبله.
وروي عن الهادي عليه السلام أنه قال في (المنتخب): فيمن دفع إلى غيره عرصة وشرط له أن لا يبرح فيها هو وعقبه لم يجز له أن يخرجهم منها إلا لحدث يحدثونه في الإسلام، فإن أحدثوه وأراد الدافع إخراجهم غرموا لهم قيمة بنائهم، فهذا ما وقفنا عليه من الخلاف في المسألة.
حجة أصحابنا ما مر من أن المفهوم من معنى السكنى أنها لا تكون ملكاً.
وروي عن ابن الأعرابي أنه قال: لم يختلف العرب في أن هذه الأشياء على ملك أربابها ومنافعها لمن جعلت له وعد السكنى والمنحة.
فإن قيل: وأي حجة في فعل العرب ولم يجيء الإسلام إلا بهدم قواعدهم ومخالفة مذاهبهم؟
قيل: ليس الحجة في فعلهم من حيث أنه فعلهم، بل من حيث أن النبي -صلى الله عليه وآله- قررهم على ذلك، والمعلوم أن الشرع قد قررهم على أشياء مما كانوا عليه من العادات والمعاملات، كتقريره إياهم على تلقيح النخل، وعلى الضرب في الأرض للتجارة، وعلى إنشاء الشعر المباح وغير ذلك كثير، ولا يقال: إنما يفيد التقرير مع علمه بالفعل؛ لأنا نقول: إن الله تعالى عالم بما يفعلون في زمن مشرع الشرائع ونزول الوحي، فإقرارهم عليه دليل على جوازه والإذن فيه؛ إذ لو كان قبيحاً لما جاز السكوت عنه وقد قال تعالى: {الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ}[المائدة:3] وفي الحديث: ((ما تركت شيئاً يقربكم من الجنة إلا وقد دللتكم عليه، ولا شيئاً يباعدكم من النار إلا وقد حدثتكم عنه)) أو كما قال. وقد احتج جابر بتقرير الرب جل وعلا في زمن الوحي كقوله: كنا نعزل والقرآن ينزل فلو كان شيء ينهى عنه لنهى عنه القرآن.
واحتج به أيضاً أمير المؤمنين عليه السلام على عمر لما هم بأخذ مال الكعبة، فقال عليه السلام : إن القرآن نزل والأموال أربعة...إلى أن قال: وكان حلي الكعبة فيها يومئذ فتركه الله على حاله ولم يتركه نسياناً ولم يخف عليه مكانه، فأقره حيث أقره الله ورسوله، فقال له عمر: لولاك لافتضحنا، وترك الحلي بحاله. رواه في (النهج).
ومن كلام له عليه السلام : وسكت لكم -يعني الله عز وجل- عن أشياء ولم يدعها نسياناً فلا تتكلفوها. رواه في (النهج) أيضاً وفيه من وصف النبي صلى الله عليه وآله وسلم وصمته لسان أو كما قال، فإذا كانوا يفعلون السكنى ومعناها عندهم ما ذكرنا ولم نجد في الشرع ما يمنع من ذلك، وجب القول بجوازها، وأنها لا تقتضي التمليك، بل يجوز لجاعلها الرجوع فيها متى شاء، وقد جاء ما يؤيد ذلك عن علي عليه السلام وغيره.
قال في (الجامع الكافي): وروى محمد بإسناده عن علي عليه السلام وعبد الله قالا: من بنى في أرض قوم بغير إذنهم فله نقضه، وإن بنى بإذنهم فله نفقته في حديث علي عليه السلام وقال عبد الله: فله قيمته، فهذا نص في أن الإذن بالانتفاع لا يوجب الملك.
وفي (الموطأ) عن مالك عن نافع عن ابن عمر أن عبد الله بن عمر ورث حفصة بنت عمر دارها قال: وكانت حفصة قد أسكنت بنت زيد بن الخطاب ما عاشت، فلما توفيت بنت زيد قبض عبد الله بن عمر المسكن ورأى أنه له.
وأخرجه البيهقي قال: أخبرنا أبو أحمد المهرجاني، أنبأ أبو بكر بن جعفر، ثنا محمد بن إبراهيم، ثنا ابن بكير، ثنا مالك فذكره، قال البيهقي: وهو ورد في العارية دون العمرى.
وأما أن حكمها حكم العارية فلأنه قد ثبت بما مر أن العين لا تملك هي ولا منافعها بذلك اللفظ، وإنما يفيد إباحة المنفعة، وذلك هو معنى العارية؛ لأنها عند العترة، والشافعي، ومالك: إباحة المنافع؛ بدليل صحة الرجوع فيها إجماعاً، وعدم جواز تأخيرها إجماعاً في غير المضمضة.
وأما أن له الرجوع فيها متى شاء، وأنه إذا ضرب لها أجلاً كان له استرجاعها قبله؛ فلأنه قد ثبت أن حكمها حكم العارية، وحكم العارية أنه يجوز الرجوع فيها متى شاء مالها وإن ضرب لها أجلاً؛ لأنها إباحة والإباحة هذا حكمها، ولقوله صلى الله عليه وآله وسلم : ((على اليد ما أخذت حتى ترد)) ولما في العلوم قال: نا محمد، نا الحكم بن سليمان، عن إسماعيل بن عياش، عن شرحبيل بن مسلم قال: سمعت أبا أمامة يقول: سمعت رسول الله -صلى الله عليه وآله: ((العارية مؤداة والمنيحة مردودة، والزعيم غارم)). قال أبو جعفر: العارية مؤداة يقول: إذا استعرت شيئاً يقول: فهي مضمونة عليك في ضمانك حتى تردها، والمنيحة مردودة الرجل يمنح الرجل الأرض يقول له: ازرعها، والشاة والبقرة يقول له: احلبها، يقول: فهي مردودة متى شاء، والزعيم غارم هو الضمين أو الكفيل، والحديث في (الجامع الكافي) وأخرجه أحمد، والبخاري، ومسلم، وأبو داود، وابن ماجة عن أبي أمامة يرفعه بلفظ: ((العارية مؤداة، والمنحة مردودة، والدين مقضي، والزعيم غارم)). وأورده ابن حزم من أوجه لكنه ضعفها؛ لأن خصمه احتج بها على ضمان العارية فأتى من حجة خصمه بالطرق التي يمكنه تضعيفها وردها، ولم يلتفت إلى كون الحديث في الصحيحين وهم يلتزمون صحة ما فيهما، وما كان ينبغي لمثله ممن يدعي الإنصاف والوقوف عند صحيح الأدلة إلا أن يذكر دليل خصمه من أي وجه جاء، ثم يرده إن كان ضعيفاً، أو يتأوله إن كان صحيحاً، وقد ثبت له خلاف ما يقتضيه ظاهره، أو يسلم أو يذعن للحق، لكن قل من نجده يسلم من هذا الداء، نسأل الله اللطف، ولنأتي بتلك الطرق التي ذكرها فإن فيها تقوية للطريق المذكورة في العلوم فنقول:
قال: واحتجوا -يعني على ضمان العارية- بما رويناه من طريق ابن أبي شيبة نا إسماعيل بن عياش، عن شرحبيل بن مسلم سمعت أبا أمامة الباهلي قال: سمعت النبي -صلى الله عليه وآله- في حجة الوداع يقول: ((العارية مؤداة، والدين مقضي، والزعيم غارم)). إسماعيل بن عياش ضعيف.
وروينا أيضاً ((العارية مؤداة)) من طريق أحمد بن شعيب عن عبد الله بن الصباح، نا المعتمر بن سليمان سمعت الحجاج بن الفرافصة، حدثني محمد بن الوليد عن أبي عامر الهوزني، عن أبي أمامة، عن النبي -صلى الله عليه وآله-. الحجاج بن الفرافصة مجهول.
ومن طريق أحمد بن شعيب انا عمرو بن منصور، نا الهيثم بن خارجة، نا الحراج بن مليح، حدثني حاتم بن حريث الطائي سمعت أبا أمامة عن النبي -صلى الله عليه وآله-. حاتم بن حريث مجهول.
ومن طريق ابن وهب، عن ابن لهيعة، عن عبد الله بن حيان الليثي، عن رجل منهم قال: سمعت رسول الله -صلى الله عليه وآله- يقول: ((العارية مؤداة، والمنحة مردودة)). ابن لهيعة لا شيء.
ومن طريق البزار نا عبد الله بن شبيب، نا إسحاق بن محمد الفروي، نا عبد الله بن عمر، عن زيد بن أسلم، عن ابن عمر، عن النبي صلى الله عليه وآله: ((العارية مؤداة)).
الفروي ضعيف، وعبد الله بن عمر هو العمري الصغير ضعيف.
فهذا ما ذكره ابن حزم من الروايات، وهي تؤيد ما تقدم، ولوقال: إن قوله مؤداة لا تدل على التضمين، لكان أولى من ترك الصحيح على أصله، وذكر الضعيف ليمكنه رده على أنه قد تأول اللفظة المذكورة بأنها إنما تدل على وجوب الرد لا على التضمين، لكنه علق التأويل على فرض الصحة، ولعله والله أعلم يخالف طوائف الفقهاء وأهل الحديث في الحكم على صحة ما في الصحيحين أجمع، ويقول إنها كغيرها فيها الصحيح، والسقيم، وما بينهما، وهو الحق.
هذا وأما تضعيفه إسماعيل بن عياش فغير مسلم كما مر.
وأما الحجاج فليس بمجهول، وقد ذكره في (التقريب) فقال: الحجاج بن فرافصة بضم الفاء الأولى وكسر الثانية بعدها صاد مهملة، الباهلي البصري، صدوق عابد يهم، من السادسة، وذكره في (الجداول) وقال العابد، وقال ابن معين: لا بأس به، توفي بعد المائة، احتج به أبو دود، والنسائي، وروى له محمد بن منصور في العلوم.
وأما حاتم فلعله اعتمد في الحكم عليه بالجهالة إلى قول ابن معين: لا أعرفه، وهو مستند ضعيف؛ لأن ابن معين لم يحط بكل شيء علماً، وعدم معرفته إياه لا يقتضي جهالته إذا كان قد عرفه غيره، وحاتم هذا قد وثقه عثمان الداري، وقال أبو حاتم: شيخ، وقال في (التقريب): حاتم بن حريث الطائي المحزي بفتح الميم وسكون المهملة، حمصي مقبول من الرابعة، احتج به الأربعة إلا الترمذي، وروى له محمد بن منصور.
وأما ابن لهيعة فاسمع ما أقول فيه لتعرف مجازفة ابن حزم في قوله: إنه لا شيء، فنقول: هو عبد الله بن لهيعة -بفتح اللام وكسر الهاء- ابن عقبة الحضرمي الغافقي، أبو عبد الرحمن المصري، وقد تكلم عليه بعضهم ولا ذنب له إلا التشيع فإنه كان مجبولاً عليه، وقد أثنى عليه أهل الإنصاف، قال الثوري فيه: عنده الأصول وعندنا الفروع، وقال ابن مهدي: وددت أني سمعت من ابن لهيعة خمسمائة حديث وغرمت مالي، ونفى الغلط عنه أهل مصر وقالوا: لم يزل أول أمره واحد وهم أعرف به؛ لأنه كان قاضيهم وعالمهم، وقال ابن وهب: حدثني والله الصادق البار عبد الله بن لهيعة، وقال أحمد: كان صحيح الكتاب، وقال علامة العصر: عداده في ثقات محدثي الشيعة.
وأما قول المؤيد بالله في الرد لحجة بعض الخصوم قيل: في ابن لهيعة كلام فليس بجرح؛ لأنه إنما حكى أن بعضهم قد تكلم فيه، وهو صحيح كما أشرنا إليه، ولعله أراد بذلك إبطال حجة الخصم بما يلتزمه، توفي سنة أربع وتسعين ومائة، احتج به الجماعة لكن البخاري والنسائي لم يصرحا باسمه، وروى [له] أئمتنا الأربعة والسمان، وفي (المناقب).
وأما إسحاق الفروي فهو: إسحاق بن محمد بن إسماعيل بن فروة الفروي المدني، مولاهم، قال في (التقريب): صدوق كف فساء حفظه، وفي هامشه عن أبي حاتم أنه قال: كتبه صحيحة وربما لقن بعد الكف، وقال أبو داود: إنه واه جداً.
قلت: قد عرفت أن سبب جرحه أنه كف بصره لا غير، والرجل من رجال البخاري في الصحيح وهو عندهم الغاية في الصحة، ولذا يسمون رجاله رجال الصحيح.
وأما عبد الله بن عمر، فقال في (الجداول): عبد الله بن عمر بن حفص بن عاصم بن عمر بن الخطاب، وذكر له رواية عن زيد بن أسلم وغيره ثم قال: قال ابن عدي: لا بأس به وأحمد أيضاً، وقال الدارمي: قلت ليحيى: كيف حاله في نافع؟ قال: صالح ثقة، وقال أبو حاتم: يكتب حديثه، خرج مع النفس الزكية، ولما أسره أبو الدوانيق قال له: أنت الخارج عليّ؟ قال: لم أجد إلا ذلك أو الكفر بما أنزل على محمد. توفي سنة إحدى أو اثنتين وسبعين ومائة، احتج به مسلم والأربعة، وروى له المؤيد بالله والمرادي.
فثبت بما ذكرنا أنه يجب رد العارية متى طلبها؛ إذ حكم النبي -صلى الله عليه وآله- بأنها مؤداة من دون تقييد شرط، وإنما قلنا: إنه لا يجب الرد إلا عند الطلب؛ لأنه لا خلاف أنه لا يجب قبل الطلب استصحاباً للإباحة، اللهم إلا أن يموت المعير فالواجب الرد أو تجدد العارية لانتقال الملك، وكذلك إن ضرب لها المالك أجلاً فإنه يجب الرد أو الاستئذان عند انقضاء مدة الأجل، وهذا واضح.
نعم وقوله صلى الله عليه وآله: ((والمنحة مردودة)) نص في وجوب رد المنحة ويقاس عليها ما أشبهها من السكنى وغيرها مما لا يحصل فيه وجه يقتضي التمليك، ولا يبعد دخول السكنى وما في حكمها في عموم المنحة والمنيحة. والله أعلم.
وأما حجة أبي حنيفة وأصحابه فقد عرفتها، ومثلها حجة الشعبي؛ لأن قوله: حتى يموت، بعد قوله: هي لك سكنى، يكون لغواً، وقوله: هي لك بمنزلة قوله: وهبتها لك.
والجواب: أن الظاهر إرادة السكنى تقدم لفظها أم تأخر.
وأما مالك فلم أقف له على حجة، ولعله يحتج بأن المالك قد أباح الانتفاع إلى انتهاء الأجل المضروب، وذلك يوجب ملك المنافع الحاصلة في المدة المضروبة.
والجواب: أن المنافع المباحة لا تملك إلا بالقبض والمستقبل منها غير حاصل فصح الرجوع فيه قبل قبضه، قال بعض المحققين: وأما الارتجاع متى شاء فإنه لم يهب الأصل ولا الرقبة، فلا يجوز من ماله إلا ما طابت به نفسه، فما دام طيب النفس فهو جائز، وإنما طيب النفس حال وجود الشيء لا قبله، وأيضاً شرط بقاء العارية مدة معلومة ليس في كتاب الله ولا في سنة رسول الله -صلى الله عليه وآله- فهو باطل.
فإن قيل: له أن يحتج بترك ابن عمر الدار التي أسكنتها حفصة ابنت زيد الخطاب كما مر.
قيل: ليس في الأثر أنه تركها لتحريم أخذها، فلعله تركها صلة وبراً لحفصة وابنة زيد.
سلمنا فليس بحجة على أنه يحتمل أن حفصة أوصت لها بالسكنى، وهي تتأبد مدة حياة الموصى له كما سيأتي.
وأما الشافعي فلعله يحتج لما حكي عنه من منع الرجوع حيث أعار جداراً للبناء بأن الظاهر في مثله التمليك؛ لأن المطلوب بالبناء الدوام، ويجاب بما مر، وبأن لفظ العارية قرينة صارفة عن الظاهر.
وأما حجة ما ذكره الهادي في (المنتخب) فقال القاضي زيد حكاية عن بعض السادة: إن قوله: لم يجز له أن يخرجهم محمول على الكراهة؛ لأنه إخلاف للوعد وتغرير للمعار وعدول عن الوفاء، وأما من طريق الحكم فله ذلك؛ لأن المرء أولى بملكه من المعار لا خلاف فيه، وقد نص في (الأحكام) على أنه إذا أعار عرصة إلى وقت كان له أن يسترجعها، ووجه الكراهة قوله تعالى: {أَوْفُوا بِالْعُقُودِ}[المائدة:1] وقوله صلى الله عليه وآله: ((المؤمنون عند شروطهم)). والمراد بالحدث الذي ترتفع معه الكراهة إضرار المسلمين والمطابقة مع البغاة والفاسقين.
قلت: ويؤيد التأويل ما مر عن الوصي فيمن بنى بأرض قوم بإذنهم.
تنبيه وما تقدم من الخلاف في السكنى، فإنما هو إذا أسكنه في حال حياته، فأما إذا أضاف ذلك لبعد الموت فمن أجاز الوصية بالمنافع صححها وهم الأكثر ومن لا فلا، ولم أجد من نفى صحة الوصية غير ابن أبي ليلى قال: لأنها معدومة لنا عموم قوله تعالى: {مِنْ بَعْدِ وَصِيَّةٍ يُوصِي بِهَا أَوْ دَيْنٍ}[النساء:11] وقوله: {فَمَنْ بَدَّلَهُ بَعْدَمَا سَمِعَهُ}[البقرة:181] وعدمها لا يمنع صحة الإيصاء بها كما لا يمنع المعاوضة عليها.
فرع
وطريق إخراجها من الثلث أن تقوم الدار الموصى بها مسلوبة المنافع، فما زاد على قيمتها مسلوبة فهو الوصية فينسب من التركة، ذكره في (البحر) قال: وإن شئت قوّمت المنفعة وحدها على الدوام.
قال الإمام المهدي: وهو كالأول.
هذا إذا أطلق الوصية، وأما إذا أوصى بها مدة معلومة فيكون تقويم الدار كاملة المنافع ومسلوبتها المدة المضروبة فما نقص من قيمتها كاملة فهو الوصية، وإن شئت قوّمت المنفعة هذه المدة وهي الوصية فتنسب من التركة.
فرع
وإذا أوصى بالسكنى مؤبدة أو أطلق صحت الوصية، واستحقها الموصى له مدة حياته ولا تورث عنه، بل ترجع لوارث الموصي عن أبي حنيفة وأحد قولي الشافعي، وهو المصحح للمذهب؛ إذ لا تورث المنافع، ولما مر من أن السكنى لا تكون ملكاً عند أهل اللغة.
وقال الإمام يحيى: بل يستحقها ورثته؛ إذ تورث المنافع كالأعيان، ولعموم ما مر، وفي كلام بعضهم أنها إن خرجت مخرج الإباحة لم تورث عنه، ولا يصح منه الإيصاء بها ولا تأجيرها، وذلك نحو أن يوصي أن يسكنوا فلاناً داره ما بقيت، وإن خرجت مخرج التمليك نحو أن يقول: منفعة كذا لفلان فتورث عنه، وله إيصاؤها وتأجيرها كمن نذر عليه بالمنفعة، قال الإمام المهدي: وعلى الأول يحمل قول من منع الموصى له بالمنفعة من التأجير والإيصاء والميراث.
قلت: الظاهر من كلام الهدوية المنع على كل حال؛ لأن الوصية والهبة بالمعدوم لا تكون تمليكاً وإنما هي إباحة فقط، قالوا: ولذا خالفت النذر بالمنافع من أنه يملك ويورث كالوقف؛ لأن التمليك في الوصية حقيقي، فلا يصح بالمعدوم بخلاف الوقف.
فرع
وإذا أوصى بسكنى دار أو خدمة عبد وهو لا يملك غير الموصى به كان للموصى له سكنى ثلثها إلى موت الموصى له عند أبي طالب، والقاضي زيد، والحنفية وهو المذهب إما بالمهايأة، أو يقسم أثلاثا؛ إذ المستحق ثلث المنفعة، وقال الأستاذ وأبو جعفر: بل يعتبر الثلث بالتقويم فيسكن ثلثها إلى أن يموت، أو يبلغ أجرة سكنى ذلك الثلث قدر قيمة ثلث الدار.
ووجه قولهما: أن الوصية نافذة من ثلث التركة ورقبة الدار من جملتها.
المسألة الثانية [في الجنة والنار وخلقهما]
احتج القائلون بوجود الجنة والنار الآن بإسكان آدم وحواء الجنة، وإخراجهما عنها بالزلة كما في هذه الآية وغيرها.
ووجه الاستدلال بها من وجوه:
أحدها: أن اللام في الجنة المذكورة في القصة للعهد ولا معهود غير دار الثواب، فوجب صرف اللفظ إليها.
الثاني: ورود النقل المشهور بذلك، ومنه ما ورد في محاجة آدم وموسى عليهما السَّلام وهو مروي من طرق، أخرج البخاري، ومسلم، وأبو داود، والترمذي، والنسائي، وابن ماجة، وابن أبي حاتم، والآجري في الشريعة، والبيهقي في الأسماء والصفات عن أبي هريرة أن رسول الله -صلى الله عليه وآله- قال: ((تحاج آدم وموسى فحج آدم موسى فقال موسى: أنت آدم الذي أغويت الناس وأخرجتهم من الجنة؟ فقال له آدم: أنت موسى الذي أعطاه الله كل شيء واصطفاه برسالته؟ قال: نعم، قال: فتلومني على أمر قدر عليّ قبل أن أخلق)).
وأخرج عبد بن حميد في مسنده، وابن مردويه عن أبي سعيد الخدري، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وآله: ((احتج آدم وموسى فقال موسى: أنت خلقك الله بيده، وأسكنك جنته، وأسجد لك ملائكته، فأخرجت ذريتك من الجنة وأشقيتهم، فقال آدم: أنت موسى الذي اصطفاك الله بكلامه وبرسالاته تلومني في شيء وجدته قد قدر عليّ قبل أن أخلق، فحج آدم موسى)).
وأخرجه أبو داود، والآجري في الشريعة، والبيهقي في الأسماء والصفات عن عمر بن الخطاب، والنسائي، وأبو يعلى، والطبراني، والآجري عن جندب البجلي، وأبو بكر الشافعي في الغيلانيات عن أبي موسى، وابن النجار من تأريخه عن ابن عمر.
ووجه الاستدلال بالخبر كالآية أن المتبادر إلى الفهم من إطلاق لفظ الجنة إنما هو دار الثواب، وأيضاً المعاتبة على التسبب لخروج ذريته من الجنة وإشقائهم يدل على ذلك؛ إذ لو كانت من جنان الدنيا لم تخل من شقاء، والقول بأنها جنة في السماء مما لا دليل عليه.
تنبيه
قد تقدم في الرابعة من مسائل قوله تعالى: {خَتَمَ اللَّهُ عَلَى قُلُوبِهِمْ}[البقرة:7] احتجاج من يقول بتكليف ما لا يطاق بهذا الخبر، وقد أجبنا عليه هنالك.
الوجه الثالث: ما مر في الثانية من مسائل قوله تعالى: {وَإِنْ كُنتُمْ فِي رَيْبٍ مِمَّا نَزَّلْنَا عَلَى عَبْدِنَا...}الآية[البقرة:23] من الأخبار الدالة على وجود الجنة والنار، فإنها موجبة لصرف الجنة المذكورة في قصة آدم إلى الجنة المعدة لثواب المؤمنين، وقد تقدم هنالك عن الوصي عليه السلام ما يدل على أن جنة آدم هي دار الخلود.
الرابع: ما ذكره القوشحي من انعقاد الإجماع على ذلك، قال بعد أن قرر أن جنة آدم هي دار الخلود ما لفظه: وانعقد عليه الإجماع قبل ظهور المخالفين، قال: وحملها على بساتين الدنيا يجري مجرى التلاعب بالدين، والمراغمة لإجماع المسلمين.
هذا وإذا ثبت الاستدلال بالآية على وجود الجنة فكذلك النار إذ لا قائل بالفصل.
أجاب القائلون بعدم خلقهما الآن بوجوه:
أحدها: ما مر في الثامنة من مسائل قوله تعالى: {وَإِنْ كُنتُمْ فِي رَيْبٍ}[البقرة:23] من الدلالة على منع وجود الجنة والنار الآن، وذلك يوجب صرف لفظ الجنة في الآية المذكورة إلى معنى لا يمنع منه الدليل.
الثاني: أنها لو كانت دار الخلود لما لحقه الغرور من إبليس فيها.
الثالث: أن من دخل جنة الخلد لا يخرج منها لقوله تعالى: {وَمَا هُمْ مِنْهَا بِمُخْرَجِينَ}[الحجر:48].
الرابع: أن إبليس ملعون فلا يصل إلى جنة الخلد.
الخامس: أنه لا يجوز في الحكمة أن يبتدئ الخلق في الجنة عند أكثر العدلية، رواه عنهم الحاكم؛ إذ لو خلقهم كذلك لم يعرفوا موقع النعم التي صاروا إليها؛ إذ لا يعرف قدر النعمة إلا من لحقته مشقة.
السادس: أنه لا نزاع في أن الله خلق آدم من الأرض ولم يذكر من القصة أنه نقله إلى السماء ولو كان نقله إليها لكان أولى بالذكر؛ لأنه من أعظم النعم.
السابع: أن الله تعالى قال في جنة الخلد: {لاَ يَسْمَعُونَ فِيهَا لَغْواً وَلاَ تَأْثِيماً...}الآية [الواقعة:25]، وقد لغا فيها إبليس، وكذب، ونسب آدم إلى الإثم.
الثامن: أن الجنة دار نعيم وراحة ولا تكليف فيها، وقد كلف آدم بترك الأكل من الشجرة.
التاسع: أنها محل تطهير فكيف يقع فيها وحواء العصيان ويدخلها غير المطهرين.
وإذا ثبت بما قررنا أن جنة آدم عليه السلام ليست بجنة المأوى فقد اختلف في حقيقتها ومحلها، فقال أبو القاسم البلخي، وأبو مسلم الأصبهاني: كانت في الأرض، وحملا الإهباط على الانتقال من بقعة إلى بقعة، قال الشرفي في (المصابيح): وهذا صريح قول الهادي عليه السلام وغيره من سائر أئمتنا" وقال أبو علي: كانت في السماء السابعة لقوله: {اهبطوا} ثم الهبوط الأول كان من تلك السماء إلى السماء الأولى، والهبوط الثاني كان من السماء إلى الأرض.
أجاب الأولون: بأن دليلكم على منع خلق الجنة والنار الآن ضعيف، والدليل القاطع يقضي بوجودهما.
قلت: وقد مر الدليلان في قوله تعالى: {وَإِنْ كُنتُمْ فِي رَيْبٍ...} الآية[البقرة:23].
قالوا: وأما سائر الوجوه المذكورة فهي ضعيفة لا تدفع ما هو الظاهر من أن المراد بهذه الجنة دار الخلود، وأما الأدلة القاضية بعدم الخروج منها واللغو ووقوع المعصية فيها ونحو ذلك، فذلك كله إنما هو بعد دخولها للاستقرار والخلود لا على سبيل المرور والجواز، فقد صح دخول النبي -صلى الله عليه وآله- الجنة في ليلة المعراج وفي غيرها.
وأما دخول إبليس فليس دخول تكريم، بل دخول ابتلاء وتكليف، وقد قيل: إنه لم يدخل وإنما وقف على بابها وكلمهما.
وأما منع ابتداء الخلق في الجنة فلا يمنع منه عقل ولا سمع إذا كان على جهة التفضل كما في خلق الحور العين، وقد أجازه الإمام المهدي، ورواه عن البهشمية والحاكم، وأجاب عن قولهم: إن لم يعرفوا قدر النعمة بأن إمكان معرفتهم قدرها معلوم ضرورة.
سلمنا فلا فائدة في تعريفهم قدرها إلا إذا كان لهم في معرفته لطف، واللطف تابع للتكليف ولا تكليف.
فإن قيل: ذلك يستلزم التكليف ولا تكليف في الجنة.
قيل: لا يلزم مع القول بأن معرفة الله حينئذٍ ضرورية.
قال الإمام المهدي: ولو قيل: إنه لا يخلق لهم العلم العاشر من علوم العقل وهو العلم بقبح القبائح وحسن المحسنات؛ إذ لا فائدة فيه حينئذٍ لم يبعد، فهذه أقوال الناس في جنة آدم عليه السلام .
قال الإمام المهدي: ومن الجائز أن يخلق الله مثل دار الجزاء ـ يعني جنة وناراً ـ في الدنيا لينتفع بعض من أراد التفضل عليه من الحيوانات كآدم وحواء وغيرهما وخزنة النار، وليلتطف برؤيتهما بعض الأنبياء كإدريس عليه السلام وليأوي إلى الجنة أرواح الشهداء والأولياء حتى يخلق الله لهم دار الخلد.
المسألة الثالثة[دلالة الأمر في الآية]
الأمر في قوله تعالى: {كُلاَ مِنْهَا رَغَداً}[البقرة:35] للإباحة، وفيه دلالة على جواز تناول ما أباحه مالكه على حسب ما يقتضيه اللفظ من إطلاق أو تقييد، ومعنى الإباحة لغة: حل الشيء وعدم المنع منه، قال في (النهاية) ما معناه: المباح ما لا تبعة فيه، وفي (المختار): أباحه الشيء أحله له، والمباح ضد المحظور، واصطلاحاً: إسقاط حق المنع من استهلاك الشيء المباح في المستقبل. ذكره النجري.
فرع
وتصح الإباحة في المجهول كطعام يدعى إليه قوم يباح لهم أكله ولا يدري كم يأكل كل واحد للآية؛ إذ أباح لآدم وحوا الأكل كيف شاء مع عدم علمهما بقدر ما يأكلانه، قال بعض المحققين: وهذا منصوص من عهد رسول الله -صلى الله عليه وآله- كأمره بإجابة الدعوة والأكل فيها، وقوله: إذ نحر الهدي ((من شاء فليقتطع)) وأمره المرسل بالهدي إذا عطب أن ينحره ويخلي بينه وبين الناس ونحو ذلك، وتصح للمجهول، قال النجري: ولكونها إسقاطاً صحت في المجهول، وللمجهول ولم يفتقر إلى علم المباح ولم يصح من المحجور وولي الصبي.
فرع
ولا يحتاج إلى قبول لجري عرف المسلمين بذلك، قال علامة العصر: ولا خلاف أن الإباحة تستغني عن القبول والقبض، وإنما هي إذن بتناول الشيء لفظاً كأبحت لك هذا الطعام أو ثمرة هذه الشجرة، أو حكماً كتقديم الطعام والشراب للضيف ليأكل أو يشرب.
المسألة الرابعة [النهي المذكور في الآية]
اختلف في النهي في قوله تعالى: {وَلاَ تَقْرَبَا هَذِهِ الشَّجَرَةَ}[البقرة:35] فقيل: للتنزيه، ويرجحه أنه يرجع حال معصية آدم عليه السلام إلى ترك الأولى فيكون أقرب إلى عصمة الأنبياء عليه السلام .
وقيل: للتحريم نظراً لموضوع الصيغة وحملاً على نظائرها نحو: {وَلاَ تَقْرَبُوهُنَّ حَتَّى يَطْهُرْنَ}[البقرة:222] {وَلاَ تَقْرَبُوا مَالَ الْيَتِيمِ}[الأنعام:152] ولقوله: {فَتَكُونَا مِنَ الظَّالِمِينَ}[البقرة:35] إذ معناه إن أكلتما كنتما من الظالمين، ولذا قالا: {رَبَّنَا ظَلَمْنَا أَنفُسَنَا}[الأعراف:23] ولاستحقاق آدم الخروج من الجنة ولوجوب التوبة.
المسألة الخامسة [استطراد في ذكر النهي]
قال الرازي: النهي عن قرب الشجرة لا يفيد النهي عن الأكل؛ إذ ربما كان الصلاح في ترك قربها مع أنه لو حمل إليها لجاز أكلها، قال: بل هو الظاهر، والنهي عن الأكل إنما استفيد من دليل آخر وهو قوله: {فَلَمَّا ذَاقَا الشَّجَرَةَ}[الأعراف:22] وتصدير الإباحة بالأكل وهو قوله: {وَكُلاَ مِنْهَا رَغَداً}[البقرة:35] فصار كالدلالة على أنه نهاهما عن الأكل، وقال غيره: بل يفيد النهي عن الأكل بطريق الأولى.
قال أبو السعود: وإنما علق النهي بالقربان منها مبالغة في تحريم الأكل، ووجوب الاجتناب، وذكر أبو حيان نحوه، وهذه قاعدة يتخرج عليها كل ما نهي عن قربه فإنه يتناول الوجه المقصود من الانتفاع به بالأولى، وقد أشار إلى هذا الراغب فقال في قوله: {وَلاَ تَقْرَبُوا مَالَ الْيَتِيمِ}[الأنعام:152]: هو أبلغ من النهي عن تناوله؛ لأن النهي عن قربه أبلغ من النهي عن أخذه، قال: وعلى هذا قوله: {وَلاَ تَقْرَبَا هَذِهِ الشَّجَرَةَ}[البقرة:35] {وَلاَ تَقْرَبُوهُنَّ}[البقرة:222] كناية عن الجماع {وَلاَ تَقْرَبُوا الزِّنَى}[الإسراء:32].
قلت: وفي النهي عن القرب مزيد فائدة أشار إليها بعضهم، وهو أنه يعم سائر وجوه الانتفاعات، ولو نص على الأكل أو الجماع أو نحوهما لما تناول غيره.
المسألة السادسة [في الظلم]
قد مر معنى الظلم لغة، واختلف في معناه اصطلاحاً فقال المنصور بالله وغيره من أصحابنا: هو الضرر الذي ليس فيه نفع للمضرور أعظم منه، ولا دفع ضرر أعظم منه ولا استحقاق، ولا الظن للنفع أو الدفع إذا كان الضرر من المخلوقين.
قال السيد مانكديم: ولا يكون في الحكم كأنه من جهة المضرور ولا كأنه من جهة غير فاعل الضرر، فقولنا: هو الضرر...إلخ ليخرج تكليف الأجير العمل فإنه لا يكون ظلماً؛ لأن في مقابلته من النفع وهو الإجارة ما يوازيه، وكذلك قطع اليد المتآكلة؛ لأنه يدفع به ضرر أعظم منه، وكالقصاص وذم المسيء فإنه لا يكون ظلماً لاستحقاقه.
وقولنا: ولا الظن...إلخ لأنه لا فرق بين أن يكون النفع والدفع مظنونين، أو معلومين، ولهذا يحسن من أحدنا تحميل ولده مشقة الاختلاف إلى المكتب لما كان في مقابلة نفع مظنون.
وقلنا: إذا كان الضرر من المخلوقين؛ لأن الظن لا يجوز على الباري تعالى كما مر.
وقلنا: ولا يكون في الحكم...إلخ لأنه لو كان كذلك لم يكن ظلماً، ألا ترى أن من حاول أخذ مال فقتله دفعاً لم يكن ظلماً؛ لأن ذلك الضرر كأنه حل به من جهة نفسه.
وقلنا: ولا كأنه من جهة غير فاعل الضر؛ لأنه إذا كان بهذه الصفة لم يكن ظلماً، وذلك نحو أن يميت الله صبياً قد ألقاه إنسان في النار فإنه لا يكون ظلماً؛ لأن هذه الإماتة كأنها من جهة غير الله تعالى.
قلت: وهذين القيدين لا حاجة إليهما لدخولهما في قيد الاستحقاق.
وقيل: حقيقة الظلم هو ما ليس لفاعله أن يفعله وهو دور؛ لأنا لا نعرف كونه ظلماً إلا إذا عرفنا أنه ليس لفاعله فعله، ولا نعرف أنه ليس له فعله إلا إذا علمنا أنه ظلم، ثم إنه ليس بمانع لدخول سائر القبائح كالكذب ونحوه؛ إذ ليس لفاعلها فعلها مع أنه ليس كل قبيح ظلماً.
قال السيد مانكديم: وقد قيل في حده: هو وضع الشيء في غير موضعه.
قلت: هذا معناه اللغوي كما مر.
قال السيد: وهو أبعد من الأول؛ إذ لو كان كذلك لكان يجب فيمن وضع منديله على ركبتيه، أو عظم أجنبياً كوالديه أن يكون ظالماً، وقد عرف خلافه، قال: فيجب أن يكون حقيقة الظلم ما ذكرناه إما لأنه موضوع له أصلاً، أو لأنه بكثرة الاستعمال فيه صار حقيقة كالغائط في قضاء الحاجة.
وقد استدل السيد مانكديم وغيره على صحة هذا الحد بأن من عرف الضرر بهذه الصفات عرفه ظلماً ومن لا فلا، ولهذا فإنهم لما اعتقدوا الضرر على هذا الوجه من الحية بدخولها جحر الفأرة وإخراجها منه قالوا: أظلم من حية.
قال السيد: وإذا استعمل في غير ذلك فمجاز، كما يقال للسحاب إذا مطرت في غير حينها: ظالمة، تشبيهاً بالظلم الحقيقي، لكن لا يجب في اللفظ إذا استعمل مجازاً في موضع أن يستعمل في غيره، بل يقر حيث ورد فلا يقال: ظلمت الريح أو النار.
وإذا عرفت حقيقة الظلم فقد اختلف في معنى ظلم آدم وحوا عليهما السَّلام .
قال الرازي: اتفقوا على أن المراد بقوله تعالى: {فَتَكُونَا مِنَ الظَّالِمِينَ}[البقرة:35] هو أنكما إن أكلتما فقد ظلمتما أنفسكما؛ لأن الأكل من الشجرة لا يقتضي ظلم الغير، وقد يكون ظالماً بأن يظلم نفسه وبأن يظلم غيره، فظلم النفس أعم وأعظم، ثم اختلف الناس على أقوال: فقيل {فَتَكُونَا مِنَ الظَّالِمِينَ} لأنفسكما بإخراجكما من دار النعيم إلى دار الشقاء، أو بالأكل الذي نهيتما عنه، أو بالفضيحة بين الملأ الأعلى، أو بمتابعة إبليس أو بفعل الكبيرة كما ذهبت إليه الحشوية، أو الصغيرة كما يقوله أئمتنا والمعتزلة.
واختلف أبو علي، وأبو هاشم في وجه تسميته ظالماً لنفسه مع كون معصيته صغيرة، فقال أبو علي: لأنه ألزم نفسه ما يشق عليه من التوبة والتلافي، وقال أبو هاشم: بل بإحباط بعض الثواب الحاصل.
وقيل: إنما ظلما أنفسهما بترك الأولى وهو مبني على أن النهي للتنزيه، قالوا: ومثاله إنسان طلب الوزارة ثم إنه تركها فإنه يقال له: يا ظالم نفسه.
والأولى من هذه الأقوال قول من ذهب إلى أنهما ظلما أنفسهما بفعل الصغيرة، وقد مر أن الظلم يستعمل في الذنب الصغير والذنب الكبير، ويدل على صحة ذلك ما روي عن أمير المؤمنين عليه السلام من تقسيم الظلم إلى ثلاثة أقسام ولفظه: (ألا وإن الظلم ثلاثة: فظلم لا يغفر، وظلم لا يترك، وظلم مغفور لا يطلب، فأما الظلم الذي لا يغفر فالشرك بالله قال الله سبحانه: {إِنَّ اللَّهَ لاَ يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ}[النساء:48]، وأما الظلم الذي يغفر فظلم العبد نفسه عند بعض الهنات، وأما الظلم الذي لا يترك فظلم العباد بعضهم بعضاً). رواه في (النهج).
قال ابن أبي الحديد ما معناه: أراد عليه السلام بالقسم الأول الكبائر عند أصحابنا وإن لم يذكرها؛ لأن حكمها حكم الشرك عندهم، وبالثاني الصغائر عندهم، وبالثالث حقوق البشر بعضهم على بعض فإنه لا بد من عقاب فاعله، وإنما أفرده بالذكر مع دخوله في القسم الأول ليميزه بكونه متعلقاً بحقوق بني آدم بعضهم على بعض، وليس الأول كذلك.
وفي مفردات الراغب: قال بعض الحكماء: الظلم ثلاثة:
الأول: ظلم بين الإنسان وبين الله تعالى، وأعظمه الكفر والشرك، والنفاق ولذلك قال تعالى: {إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ}[لقمان:13] وإياه قصد بقوله: {أَلاَ لَعْنَةُ اللَّهِ عَلَى الظَّالِمِينَ}[هود:18] {وَالظَّالِمِينَ أَعَدَّ لَهُمْ عَذَاباً أَلِيماً}[الإنسان:31] في آي كثيرة، وقال: {فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ كَذَبَ عَلَى اللَّهِ}[الزمر:32] {وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِباً}[الأنعام:21].
والثاني: ظلم بينه وبين الناس وإياه قصد بقوله: {وَجَزَاءُ سَيِّئَةٍ سَيِّئَةٌ...} إلى قوله: {لاَ يُحِبُّ الظَّالِمِينَ}[الشورى:40] وقوله: {إِنَّمَا السَّبِيلُ عَلَى الَّذِينَ يَظْلِمُونَ النَّاسَ}[الشورى:42] وبقوله: {وَمَنْ قُتِلَ مَظْلُوماً}[الإسراء:33].
والثالث: ظلم بينه وبين نفسه وإياه قصد بقوله: {فَمِنْهُمْ ظَالِمٌ لِنَفْسِهِ} [فاطر:32] وقوله: {ظَلَمْتُ نَفْسِي}[النمل:44] {إِذْ ظَلَمُوا أَنفُسَهُمْ}[النساء:64]، وكل هذه الثلاثة في الحقيقة ظلم للنفس، فإن الإنسان في أول ما يهم بالظلم فقد ظلم نفسه، فإذا الظالم مبتدئ بنفسه في الظلم، ولهذا قال تعالى في غير موضع: {وَمَا ظَلَمَهُمُ اللَّهُ وَلَكِنْ كَانُوا أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ}[النحل:33] {وَمَا ظَلَمُونَا وَلَكِنْ كَانُوا أَنفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ}[البقرة:57].
قلت: وهذا كالشرح لكلام أمير المؤمنين عليه السلام ومجموع ما ذكرنا يدل على صحة حمل ظلم آدم وحوا عليهما السَّلام على الذنب الصغير.
فإن قيل: ظلمهما أنفسهما يحتمل أن يكون بارتكاب الكبيرة، وأن يكون بارتكاب الصغيرة، ولا دليل على تعيين أحدهما فحمله على الصغيرة تحكم.
قيل: بل الدليل على تعيين الصغيرة موجود، وهو ما ثبت من عصمة الأنبياء" عن الكبائر كما سيأتي إن شاء الله.
تنبيه
قول الرازي: اتفقوا على أن المراد إن أكلتما فقد ظلمتما أنفسكما غير مسلم، فإنهم لم يتفقوا على ذلك وإنما هو مذهب بعض الكوفيين، وذهب بعض البصريين إلى أن يكونا منصوب بأن مضمرة بعد الفاء، والتقدير: لا يكن منكما قرب هذه الشجرة فأن تكونا من الظالمين، وضعف ابن جرير هذا المذهب، واختار أحد وجهين إما مذهب الكوفيين، وإما أن يكون فيكونا معطوفاً على قوله: {وَلاَ تَقْرَبَا} والمعنى: ولا تقربا، جوّزه الزمخشري، ولا تكونا من الظالمين كما تقول: لا تكلم عمراً ولا تؤذه.
قلت: وعلى الوجه الأخير لا يصح الاستدلال بالآية على وقوع الظلم منهما بالأكل من الشجرة؛ لأن الكلام تضمن جملتين كل واحدة منهما مستقلة بنفسها منهي عنها لحالها، فيحتمل أن يكون ظلمهما أنفسهما الذي اعترفا به بقولهما: {رَبَّنَا ظَلَمْنَا أَنفُسَنَا}[الأعراف:23] هو الأكل من الشجرة، ويحتمل أن يكون غيره. والله أعلم.
[البقرة: 36]
قوله تعالى: {فَأَزَلَّهُمَا الشَّيْطَانُ عَنْهَا فَأَخْرَجَهُمَا مِمَّا كَانَا فِيهِ وَقُلْنَا اهْبِطُوا بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ وَلَكُمْ فِي الأَرْضِ مُسْتَقَرٌّ وَمَتَاعٌ إِلَى حِينٍ}
قرئ {أزلهما} بتشديد اللام.
قال ابن جرير: أي استزلهما من قولك: زل الرجل عن دينه إذا أخطأ فيه، وقال القفال: هو من الزلل لكون الإنسان ثابت القدم على الشيء فيزول عنه ويتحول عن ذلك الموضع، وقرئ فأزلهما من الزوال، وأصله التنحية، قال أبو حيان: والهمزة في كلا المحلين للتعدية، وعن ابن عباس: معنى أزلهما أغواهما، والضمير في عنها للشجرة.
قال في (الكشاف) وغيره: أي فحملهما الشيطان على الزلة بسببها وتحقيقه فأصدر زلتهما عنه، وقيل: أزلهما عن الجنة بمعنى أذهبهما وأبعدهما عنها، يقال: زل عني كذا إذا ذهب عنك.
والهبوط: الانحدار على سبيل القهر، وبالفتح المنهبط، قال الراغب: وإذا استعمل في الإنسان فعلى سبيل الاستخفاف، بخلاف الإنزال فإن الله ذكره في الأشياء التي نبه على شرفها كإنزال الملائكة والقرآن وغيرهما، وذكر الهبوط حيث نبه على الغض نحو: {وَقُلْنَا اهْبِطُوا}[البقرة:36].
وقال أبو حيان: الهبوط النزول، وقيل: هو الخروج من البلدة والدخول فيها من الأضداد، ويقال في انحطاط المنزلة مجازاً.
واختلف في المراد به هنا، فمن قال جنة آدم في السماء فسّره بالنزول من العلو إلى السفل، ومن قال هي في الأرض فسّره بالتحول من موضع إلى آخر وهو معنى الخروج.
والضمير في {اهبطوا} قيل: آدم وحوا وإبليس، قيل: والحية.
وقال الزمخشري: بل آدم وحوا، والمراد هما وذريتهما؛ لأنهما لما كانا أصل الإنس جعلا كأنهما الإنس كلهم، ودليله: {اهْبِطُوا مِنْهَا جَمِيعاً}[البقرة:38] وقوله: {فَمَنْ تَبِعَ هُدَايَ فَلاَ خَوْفٌ عَلَيْهِمْ...}الآية[البقرة:38]، وهو حكم يعم الناس.
والعداوة: مجاوزة الحد، وقيل: التباعد بالقلوب.
والمستقر: مستفعل من القرار وهو اللبث والإقامة، ويكون مصدراً، وزماناً، ومكاناً، ولهذا قيل في المعنى موضع استقرار أو استقرار.
والمتاع: البلغة فينطلق على ما يتحصل للإنسان من عرض الدنيا، وعلى الزاد والانتفاع بالنساء، والكسوة والتعمير، ومنه: أمتع الله بك أي أطال الإيناس بك، وكله راجع لمعنى البلغة والحين والوقت والزمان، ولا يتخصص بمدة، بل وضع للمطلق منه، والمراد هنا إلى يوم القيامة، وقيل: إلى الموت، وفي الآية مسائل:
المسألة الأولى [عصمة الأنبياء]
ظاهر الآية يقتضي كون الأنبياء" غير معصومين من ارتكاب المعاصي نصاً في آدم عليه السلام وقياساً على غيره؛ إذ لا فارق، ولأن أحداً لم يفرق بين الأنبياء" في هذا الحكم، بل منهم من ادعى العصمة للكل، ومنهم من نفاها عن الكل كما سيأتي مفصلاً، وقد بسط علماء الكلام القول في المسألة حتى تشعبت غصونها، وتنوعت فنونها، وهي جديرة بذلك، ولهذا جعلنا الكلام عليها في إحدى عشر فصلاً: الأول في الفوائد المترتبة على العلم بالمسألة، الثاني في حقيقة العصمة، الثالث في الخلاف في عصمتهم قبل النبوة، الرابع في عصمتهم بعد النبوة من الجهل بالله وبما أوحى إليهم" الخامس في أنه لا يشترط فيهم" العصمة فيما يتعلق بأمور الدنيا وأنه لا يضر الجهل بها، السادس أنه لا يجوز جهلهم بشيء من أمور الدين، السابع في عصمتهم من الشيطان الرجيم لعنه الله، الثامن في عصمتهم في أقوالهم المتعلقة بالتبليغ، التاسع في عصمتهم في الأفعال، العاشر في عصمتهم من الكبائر، الحادي عشر في الخلاف في جواز الصغائر على الأنبياء".
الفصل الأول في الفوائد المترتبة على العلم بالمسألة
وإنما قدمنا هذا الفصل لدفع ما لعله يتوهمه جاهل وهو مدع العلم لجهله بأنه جاهل من أن الكلام في هذه الفصول تطويل عار عن الفائدة، وأن هذه الأبحاث من فصول العلم وزوائده التي لا يعود منها على طالب الرشاد عائدة، وهيهات ذلك فإن العلم بذلك أمر متعين وواجب متحتم، لا ينازع فيه عاقل، ولا ينكره إلا جاهل؛ لما نذكره من الفوائد المترتبة على معرفة هذه الفصول، وبها يستبين أن العلم بهذه المسألة أصل عظيم تتفرع عليه مسائل الفروع والأصول، وجملة الفوائد المذكورة في هذا الفصل ثلاث:
[الفائدة] الأولى
إن الاحتجاج بأقوال الأنبياء" وأفعالهم، وتقريراتهم، وتروكهم متوقف على معرفة عصمتهم، ووجوب ما يجب، وجواز ما يجوز، واستحالة ما يستحيل في حقهم"، بل الاحتجاج بالكتب المنزلة عليهم متوقف على ذلك؛ لأنا لو جوزنا عليهم الكذب وفعل القبيح أو التقرير عليه وترك الإنكار على فاعله لم يجب علينا اتباع ما جاءوا به، بل لا يجوز؛ إذ لا يؤمن أن نكون مقدمين على قبيح ومخلين بواجب؛ لكون النبي قد أقدم على القبيح أو أخل بالواجب، وهذه فائدة عظيمة، ولو لم يكن في هذا الفصل غيرها لكانت كافية في وجوب معرفة هذه الفصول؛ إذ مبنى الشرع عليها.
الفائدة الثانية
أن من يجهل ما يجب للأنبياء" أو يجوز لهم، أو يستحيل عليهم عقلاً أو نقلاً ولا يعرف الحكم في حقهم من وجوب أو غيره لا يأمن أن يعتقد بعض الأحكام المتعلقة بهم على خلاف ما هي عليه، ولا ينزههم عما لا يجوز أن يضاف إليهم؛ فيهلك من حيث لا يدري، ويهوي في النار مع من يهوي؛ لظنه الباطل بأنبياء الله، واعتقاده ما لا يجوز عليهم في حكم الله، ولهذا احتاط صلى الله عليه وآله على الرجلين الذين رأياه ليلاً مع زوجته صفية فقال: ((إنها صفية)) فقالا: سبحان الله، تعجباً من قوله ذلك لهما؛إذ لا يظن مسلم به صلى الله عليه وآله ما لا يليق به، ثم قال لهما: ((إن الشيطان يجري من ابن آدم مجرى الدم، وإني خشيت أن يقذف في قلوبكما شيئاً فتهلكا)). أخرجه البخاري وغيره.
الفائدة الثالثة
يحتاج إليها المفتي والحاكم ونحوهما فيمن نسب إلى الأنبياء" شيئاً مما يجب أو يستحيل في حقهم، أو وصفهم بشيء من ذلك فمن لم يعرف ما يجوز عليهم ويمتنع من الأحكام والأوصاف وما وقع الإجماع عليه في حقهم، وما اختلف فيه كيف يكون منه الإقدام على الحكم والفتيا لعدم علمه بكون ما قاله المستفتي أو المحكوم عليه مدح أو ذم، فإما سفك دم القائل، أو استباحة ماله، وهتك حرمته وهو غير مستحق لذلك، أو يسقط حقاً، أو تضييع حرمة للأنبياء" لعدم علمه بالحكم الواجب فيمن ارتكب شيئاً مما يتعلق بهم"، فهذه هي الفوائد المترتبة على العلم بالمسألة، وكل واحدة منها كافية في وجوب معرفة هذه الفصول، ومبينة لعظيم قدرها وموقع نفعها عند الكملة الفحول، فكيف إذا اجتمعت كلها واتفق حكمها. والحمد لله رب العالمين.
الفصل الثاني في حقيقة العصمة
هي في اللغة: المنع، ويقال: عصمه الطعام أي منعه من الجوع. ذكره في (المختار)، ومثله ذكره السيد مانكديم، والإمام المهدي، قال الإمام المهدي: هي المنع المحذور، يقال:عصمة من القتل، ولا يقال: عصمة من العطاء ولا من الخير.
وقال في (المختار): والعصمة أيضاً الحفظ، واعتصم بالله أي امتنع بلطفه من المعصية.
وقال الراغب: العصم الإمساك، والاعتصام: الاستمساك، قال: وعصمة الأنبياء حفظه إياهم أولاً بما خصهم به من صفاء الجوهر، ثم بما أولاهم من الفضائل الجسيمة والنفسية، ثم بالنصرة وبتثبيت أقدامهم، ثم بإنزال السكينة عليهم، وبحفظ قلوبهم وبالتوفيق {وَاللَّهُ يَعْصِمُكَ مِنَ النَّاسِ}[المائدة:67].
وأما في اصطلاح المتكلمين فقد اختلف في ذلك فقال أبو علي، وأبو هاشم، وقاضي القضاة: هي اللطف الذي تترك لأجله المعصية لا محالة، واختاره السيد صلاح بن أحمد وزاد: ما لم يبلغ حد الإلجاء.
وقال السيد مانكديم: هي عبارة عن لطف يقع معه الملطوف فيه لا محالة حتى يكون المرء معه كالمدفوع إلى أن لا يرتكب الكبائر، ولهذا لا يطلق إلا على الأنبياء ومن يجري مجراهم، وهو في معنى الأول، قال أبو القاسم: وكما تطلق على اللطف المذكور فقد تطلق على الدلالة والبيان، وحكى عنه الحاكم أنه روى عن العدلية أنهم قالوا في العصمة مثل ما قالوه في الهداية، وأنها تنقسم فمنها الدلالة والبيان قال: فكل مكلف معصوم؛ لأنه قد بين لهم ودلهم إلا أنه لا يطلق على الكافر لغلبته على المهتدين، بل يقال: عصمه فلم يعتصم أي دله على الخير فلم ينتفع بالدلالة.
وأجاب الإمام المهدي بمنع إطلاقها على ذلك لا في اللغة ولا في الاصطلاح، وفي الرواية عن العدلية نظر، ولو كان كما ذكره للزم أن لا يسألها المكلف فيقول: اللهم اعصمني؛ لأنها قد فعلت له لما علم أن الله قد هدى كل مكلف، وسؤال الإنسان تحصيل ما قد حصل لا يحسن، والإجماع واقع على حسن هذا السؤال.
فإن قيل: بل يحسن سؤال ما قد وقع بدليل قول الملائكة: {فَاغْفِرْ لِلَّذِينَ تَابُوا}[غافر:7].
قيل: إنما حسن لأن هناك ما حمل على القطع بأن السؤال تعبد للملائكة" لا طلب حقيقي وهو القطع بأن التائب مغفور له، وهنا لا قطع، بل لا دليل على أن العصمة بمعنى الهدى، فحسن الاستدلال بظاهر طلبها على أنها ليست بمعنى الدلالة إبقاء للطلب على حقيقته، ولا موجب لصرفه عن ظاهره.
فإن قيل: فيلزم أن لا يسأل الهداية، والمعلوم حسن قولهم: اللهم اهدني.
قيل: ليس المراد مجرد الدلالة بل زيادة الأَلطاف، قال النجري: وله أن يقول: والعصمة التي يسألها المكلف هي اللطف في الترك؛ إذ العصمة مستعملة في المعنيين معاً عنده لا في الأخير فقط، قال: والخلاف لفظي لا ثمرة له.
وقالت المجبرة والرافضة: بل هي المنع من المعصية بخلق القدرة الموجبة للطاعة.
قيل: إن كانت ما ذكرتم لزم أن لا يسألها المؤمن؛ إذ قد فعلت له فكيف يطلبها، وإن سلمنا حسن طلبها فهذا الحد منكم مبني على أصل فاسد وهو أن القدرة موجبة للمقدور وغير صالحة للضدين، وهو معلوم البطلان كما سيأتي في موضعه إن شاء الله.
قال الإمام المهدي: وتفسيرهم للعصمة بالمنع أقرب إلى المعنى اللغوي، لكن البرهان العقلي اقتضى أنها ليست معنى حقيقياً؛ إذ لو كانت كذلك لم يحسن مدح المعصوم على امتناعه من المعصية، والمعلوم ضرورة حسن مدحه، فثبتت أنه تركها مع القدرة عليها وأن تسميته معصوماً مجازاً؛ لأنه بلطف العصمة الذي امتنع عنده من المعصية باختياره أشبه الممنوع الحقيقي من الفعل فحسنت الاستعارة.
قلت: وكذلك ما ذكره أصحابنا في حد العصمة فيه شبه قوي بالوضع اللغوي؛ إذ اللطف الذي لا تقع عنده المعصية رأساً في حكم المانع منها، فلذلك سمي عصمة كما سمي عصام القربة عصاماً؛ لأنه يمنع محذوراً وهو ذهاب الماء منها، وما حكيناه عن المجبرة في معنى العصمة هو رواية أصحابنا عنهم.
وفي المواقف وشرحها: هي عندنا على ما يقتضيه أصلنا من استناد الأشياء كلها إلى الفاعل المختار ابتداء أن لا يخلق الله فيهم ذنباً، ومثله في شرح شفاء القاضي عياض ونسبه إلى المتكلمين، ويعني متكلمي أصحابه فهي عندهم أمر عدمي، وقد صرح به بعضهم، وعلى ما حكاه الأصحاب عنهم هي أمر وجودي، وقال الحسن: كلام بعضهم أنها قد تكون أمراً وجودياً، وقد تكون عدمياً، قال في (التحرير) لابن الهمام: العصمة عدم القدرة على المعصية، أو خلق مانع منها غير ملجئ.
قال الخفاجي: وهو مناسب لقول الماتريدي: العصمة لا تزيل المحنة أي الابتلاء المقتضي لبقاء الاختيار، ومعناه أنها لا تجبره على الطاعة ولا تعجزه عن المعصية، بل هي لطف من الله تعالى تحمله على فعل الخير، وتزجره عن الشر مع بقاء الاختيار تحقيقاً للابتلاء.
قال ابن التلمساني: هي عند الأشعرية تهيئة العبد للموافقة مطلقاً، وقالت الحكماء: هي مَلَكَة تمنع من الفجور حاصلة من العلم بمثالب المعاصي ومناقب الطاعات، فإنه الزاجر عن المعاصي، والداعي إلى الطاعات، وتتأكد في الأنبياء" بالوحي والاعتراض على ما يصدر عنهم من الصغائر، وترك الأولى فإن الصفات النفسانية تكون أولاً أحوالاً غير راسخة ثم تصير ملكات، أي راسخة في النفس.
قيل: وهذا الحد بناء على ما يذهبون إليه من القول بالإيجاب اعتبار استعداد القوابل.
وقال القرافي: جملة الشرع يطلقون العصمة على عدم المعصية في الجملة، ومنه قولهم في الدعاء: نسألك من العصمة تمامها، وعلى عصمة الأنبياء والملائكة" من الكفر دون سائر البشر، مع أن الله تعالى قد أثنى على الخلق بدوام الإيمان، فلا بد من تفسير عصمة الأنبياء بغير عدم الكفر، ومنع الله منه ليصح قولنا ليس أحد منا معصوماً، ولو كنا غير كافرين بل مساوين للأنبياء في ذلك فتميزهم إنما هو بإعلام الله لنا أنه صانهم في قضائه وقدره عن الكفر، وقدر لهم السعادة الأبدية حتماً مقضياً، فهذا الإعلام الرباني هو عصمة الملائكة والأنبياء" ومجموع الأمة دون كل واحد منهم.
وقيل: العصمة بنية مخصوصة ركبهم الله عليها فهم لمكانها ينفرون عن المعاصي، ويرتاحون إلى الطاعات وهذا قول الإمامية.
قيل: المهدي واختاره من أصحابنا الإمام يحيى، والذي في معياره خلافه وهو أنها من قبيل الألطاف، وقريب من هذا الحد ما ذكره في (المواقف) ونسبه إلى قوم ولم يعينهم وهو أنها خاصية في نفس الشخص أو في بدنه يمتنع بسببها صدور الذنب عنه، قال في الحاشية: والفرق بين الخاصية وبين الملكة أن الملكة مكسوبة للعبد، ولا تمنع قدرة العبد بخلاف الخاصية، وقد أبطل في (المواقف) وشرحه هذا القول فقال يكذبه: أَنه لو كان صدور الذنب ممتنعاً لما استحق المدح بترك الذنب؛ إذ لا مدح ولا ثواب بترك ما هو ممتنع؛ لأنه ليس داخلاً تحت الاختيار، وأيضاً فالإجماع منعقد على أن الأنبياء مكلفون بترك الذنوب مثابون به، ولو كان الذنب ممتنعاً عنهم لما كان الأمر كذلك؛ إذ لا تكليف بترك الممتنع ولا ثواب عليه، وأيضاً فقوله تعالى: {قُلْ إِنَّمَا أَنَا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ يُوحَى إِلَيَّ}[ الكهف:110] يدل على مماثلتهم لسائر الناس فيما يرجع إلى البشرية والامتياز بالوحي لا غير، فلا يمتنع صدور الذنب عنهم كما في سائر البشر.
قلت: وهذ الجواب في التحقيق إنما أجابوا به على أنفسهم؛ لأنهم فسروا العصمة بأن لا يخلق الله فيهم ذنباً كما مر، وقد اعترفوا بأن هذا مبني على الجبر، فثبت أنه جواب عليهم، وإبطال لعين مقالتهم، وإنما نسبت الجواب إلى (المواقف) وشرحها ليتحقق بطلان مذهبهم في العصمة وغيرها بما جرى على ألسنتهم، وقرروه في مشاهير كتبهم، وليتبين أن مذهبهم في الجبر لم يستقر على أصل، وأنهم يثبتونه لفظاً ويخالفونه اعتقاداً، ولهذا إذا أردوا قولاً لمخالفهم لم يمكنهم رده إلا بالرجوع إلى مذهب أهل العدل -رضي الله عنهم- وهذا الجواب هو نفس جواب العدلية عليهم في هذا الموضع وغيره، وقد مر في صدر المسألة وبه نجيب عن كل حد للعصمة مما حكيناه في هذا الفصل يكون مبنياً على قواعد الجبر المنهارة.
تنبيه
واختلف العلماء في من ثبتت منه العصمة وفي كيفية ثبوتها، أما من ثبتت منه العصمة فالذي عليه أئمة الزيدية وجماهير المعتزلة: أن الله تعالى هو الفاعل لها والمتولي لعصمة رسله، وهو قول المجبرة والإمامية كما مر في الحد، ثم اختلف هؤلاء في كيفية ثبوتها.
فقال أئمتنا والمعتزلة: هي من قبيل الألطاف ونوع منها مخصوص كما مر في الحد فإنه تعالى لما علم أن الأنبياء" يلتطفون فيما عصموا منه فلا يفعلونه أمدهم بهذا اللطف، لكن عدم فعلهم إياه واقع باختيارهم اختياراً منهم للخير، وتنكباً لسبيل الهلكة، وقد مر في قوله تعالى: {أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ}[الفاتحة:7] أن اللطف لا يمنع الاختيار، وتقدم قريباً أنه لو منعه لما استحقوا مدحاً ولا ثواباً، وقريب من قولنا ما مر عن ابن الهمام والماتريدي، ويمكن أن ترد إليه رواية ابن التلمساني عن الأشعرية، لكن الظاهر أن المجبرة كافة لا يثبتون الألطاف كما مر في الفاتحة وكذلك يمكن حمل قول الحكماء على مذهبنا لما مر في مسألة النظر من أن العلم باستحقاق الثواب والعقاب هو اللطف الحقيقي.
وقالت المجبرة والروافض: ليست من قبيل الألطاف، وبه قال غيرهم كما يعلم من الحدود السابقة، ثم اختلفوا في كيفية ثبوتها على ما مر في الحدود من كونها بنية مخصوصة، أو تهيئة العبد أو غير ذلك، والحاصل أن منهم من يقول: يمنعهم الله عن مواقعة القبيح والإخلال بالواجب بأن يبنيهم على بنية التقوى والطهارة بحيث لا يكون لهم داع إلى غير ذلك، ومنهم من قال: يصرفهم عن المعاصي بطريق الإلجاء، ويصرف قواهم عن ملامستها.
هذا وأما من قال: إن ثبوت العصمة ليس من الله وإنما يفعلها الأنبياء لأنفسهم، فاختلفوا في كيفية ثبوتها، فمنهم من قال: تثبت له العصمة باختيار نفسه بأن يمتنع من فعل القبيح من جهة نفسه.
قيل: وحيث يقال باختيار نفسه فاللطف الواجب لا بد منه وإن لم يذكر لأنه معلوم.
قلت: هو خارج عما نحن فيه لشموله للأنبياء وغيرهم، والكلام في اللطف المخصوص.
ومنهم من قال: بل تثبت له باختيار نفسه، لكنه غير مستغن عن معونة الله تعالى، فلا بد وأن يكون اختياره مع اللطف من الله تعالى.
قيل: ثبوتها من الله والنبي وكيفيته بخلق الداعي إلى فعل الطاعة واللطف الذي لأجله تترك المعصية من الله تعالى، وبفعل الواجبات واجتناب المقبحات من النبي، قال في (الفصول): ومعناه معنى ما قبله وليس بمستقل في الأظهر؛ لأن كيفية الثبوت إذا كانت للنبي باختياره ومن الله باللطف، فهو عين ما تقدم في القول الثاني.
الفصل الثالث في الخلاف في عصمتهم قبل النبوة
اعلم أنه لا يجوز من الله تعالى أن يبعث نبياً إلا معصوماً من المنفرات، فإذا لم يكن معصوماً من ذلك لم يجز بعثه، وهذا قول المعتزلة وغيرهم من أصحابنا، وممن نص عليه السيد مانكديم والقرشي، والمنفرات أنواع:
أحدها: ما يعود إلى الخلقة نحو أن يكون مجذوماً، أو مقعداً، أو مسلوب اليدين أو الرجلين أو أحدهما، أو ذاهب البصر، أو السمع، أو شوه الصورة على وجه ينفر منه من رآه ويستزريه كالتفاحش في القصر، ويلحق بذلك نتن الرائحة، وسلس البول، فأما بعد صحة نبوة النبي، وتبليغ رسالته، واستقرار صدقه في قلوب أمته فلا يجب امتناع العلل المنفرة عنه؛ لأنهم إذا عرفهم بفضل الابتلاء وما يترتب عليه من العوض امتنعت منهم النفرة، ودليل جواز ذلك وقوعه كما في قصة أيوب وعمه يعقوب، وليس ذلك بأبلغ من تمكين الظالمين منه يتحكمون فيه كيف شاءوا كما كان في زكريا ويحيى عليهما السَّلام .
النوع الثاني: ما يرجع إلى النسب فلا يجوز من الله أن يبعث نبياً من أراذل المبعوث إليهم؛ لأن ذلك ينفر ذوي الشرف من القبول، ولهذا قيل: إن الله ما بعث نبياً إلا من أشرف بيت في قومه، فأما لقمان عليه السلام فقد قيل: إنه لم يكن نبياً وإنما كان عبداً صالحاً.
النوع الثالث: ما يعود إلى الفعل وهو أقسام:
أحدها: الفضاضة والغلظة فلا يجوز بعثة الموصوف بهما، وقد نبه الله على ذلك بقوله: {وَلَوْ كُنْتَ فَظًّا غَلِيظَ الْقَلْبِ لاَنْفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ}[آل عمران:159].
ثانيها: الأخلاق المسترذلة نحو كثرة الضحك والمزاح، وكثرة النهم في الأكل والشرب وما أشبه ذلك.
ثالثها: الأفعال المستقبحة عقلاً وشرعاً فلا بد من عصمتهم منها، والوجه في ذلك كالوجه في سائر المنفرات، وهو أن الغرض بالرسالة هو القبول وحصول الامتثال، وذلك لا يتم إلا بانتفاء هذه المنفرات، فلو بعث نبي غير معصوم منها لانتقض الغرض المقصود من بعثته، وهذا القسم الثالث قد اختلف فيه.
واعلم أن المعاصي كبائر وصغائر، والكبائر كفر وغيره، فأما الكفر فلا خلاف بين الأمة أنهم معصومون منه قبل النبوة وبعدها، غير أن الأزارقة من الخوارج جوزوا عليهم الذنب وكل ذنب عندهم كفر، فلزمهم تجويز الكفر عليهم، ونسب الرازي هذا القول إلى الفضلية وهم من الخوارج، وفي (شرح المواقف) عن الأزارقة أنهم يقولون بجواز بعثة نبي علم الله تعالى أنه يكفر بعد نبوته.
وقالت الإمامية: يجوز عليهم إظهار الكفر تقية.
والجواب: أن ذلك يؤدي إلى إخفاء الدعوة بالكلية، وترك تبليغ الرسالة؛ إذ أعظم حاجة إلى التقية عند ابتداء البعثة لقلة المعين والمجيب وكثرة المخالف، ثم إن ما ذكروه منقوض بفعل الأنبياء" فإن المعلوم من حالهم الجد في التبليغ والصدع بالحق مع كثرة الأعداء وقوة شوكتهم، وضعف الأنبياء" حتى أججت النيران، ورموا بالأحجار، وتحزبت عليهم القبائل فلم يلجأ أحد منهم إلى التقية؛ إذ لو كان لنقل كما نقل دعاؤهم وما نالهم، بل صبروا على الإلقاء في النار، ومفارقة الأوطان.
وأما سائر الكبائر فقال جمهور الأشعرية: لا يمتنع صدورها منهم قبل البعثة؛ إذ لا دلالة للمعجز على امتناعها منهم حينئذٍ، ولا حكم للعقل على امتناعها ودليل سمعي، ونسب الإمام المهدي هذا القول إلى الحشوية، والكرامية، وأبي الهذيل، والأشعرية، والكلابية، ورواه الرازي عن أبي علي، وقال الإمام المهدي: بل هم معصومون منها، واختاره في (الفصول) وقال به السيد محمد بن عز الدين المفتي، وهو قول جمهور المعتزلة، واحتجوا بأن ارتكابها يوجب النفرة عمن ارتكبها وإن تاب؛ لأنها تسقط المرتبة ويسترذل فاعلها، وقد مر أنه لا يحسن من الله بعثة من يسترذله الناس ويتهاونون بأمره، قال الإمام المهدي: ولا شك في تهاون الناس بمن يرتكب المعاصي ولو قبل بعثته، وقد تهاون فرعون بأمر موسى للثغة كانت بلسانه وفقره، وأيضاً المقصود من النبوة أن يقبل الناس منه ما جاء به من عند الله ومن كان معروفاً عندهم بارتكاب الكبائر، أو جوزوا عليه ذلك فإنهم يكونون عن القبول منه أبعد، ولهذا فإن الخطيب لو بات يزني ويشرب الخمر ثم أصبح يعظ الناس ويدعوهم إلى الطاعة لم يكن لوعظه تأثير، ولا لدعائه إجابة.
قال القرشي: ولا فرق بين أن يقع ذلك قبل البعثة أو بعدها فإن الناس إلى القبول ممن لم يتدنس بالمعاصي أقرب منهم إلى القبول ممن يتعاطاها وإن كان قد تاب لا شك في ذلك.
هذا وأما قول الخصم إنه لا دلالة للمعجز على امتناعها قبل البعثة فمسلم ولم نستند إلى ذلك.
وأما قولهم: لاحكم للعقل، فمبني على أصلهم الباطل من نفي الحكم العقلي، وقد مر بطلانه في المقدمة وغيرها، ومن أنصف عرف صحة الدليل العقلي الذي أوردناه.
فإن قيل: أليس من الجائز أن يعلم الله تعالى أن في بعثة من قد عصى ثم تاب لطفاً لا يكون في بعثة غيره ممن لم يرتكب الكبائر، ويعلم أن تقدم المعصية لا يصرفه عن القبول، وإذا كان ذلك جائز فما المانع من تجويز بعثته ولا وجه يقتضي القبح.
قيل: هذا التجويز بعيد عن الصحة؛ لأن ارتكاب الكبائر قبل البعثة كالجذام ونحوه من الأمور الخلقية في التنفير، فلو جوزنا في بعثة مرتكب الكبيرة لطفاً لجوزنا في بعثة المجذوم لطفاً، والمعلوم ضرورة خلافه لملازمة النفرة عنه، وعدم القبول منه.
فإن قيل: بين الصورتين فرق فإن الجذام باق والمعصية غير باقية؛ لأن الفرض أنه قد تاب منها فهي في حكم العلة التي قد زالت.
قيل: ونحن نجد من أنفسنا النفرة عمن قد تفاحش فيه الجذام والجنون وإن زال عنهما بالكلية، فكذلك يقال في مرتكب الكبائر إذا تاب، وقال الإمام القاسم بن محمد فيما رواه عنه في(البدرالساري) إن في الأنبياء من هو مرسل إلى نفسه كأولاد يعقوب" وإنها تجوز عليهم الكبائر قبل البعثة، ثم قال: وكذا من أرسل ولم يكن الذنب مكفراً.
وقال الإمام أحمد بن سليمان: اعلم أنا لا نقطع على من كان عصى الله ومعصيته عمداً ثم تاب وأخلص، واشتهر إخلاصه وتوبته عند الخاص والعام، وظهر صدقه ووفاه، وطهارته وتقاه، أنه لا يجوز أن يرسله الله إلى قوم، بل نقول: إنه قد يمكن ويجوز ذلك، واحتج عليه السلام بأنه قد خرج عن كونه ظالماً أو متهماً كالفاسق فإنه إذا تاب عند أداء الشهادة لا تقبل شهادته، وإذا تقدمت توبته بزمان طويل قبلت شهادته، واحتج أيضاً بما كان من أولاد يعقوب عليه السلام وروي عن ابن عباس أنهم المرادون بقوله تعالى: {والأسباط} وأنهم أنبياء، وادعى إجماع الأمة، بل لم يخالف في ذلك اليهود، واحتج أيضاً بقوله تعالى لموسى: {إِنِّي لاَ يَخَافُ لَدَيَّ الْمُرْسَلُونَ ، إِلاَّ مَنْ ظَلَمَ ثُمَّ بَدَّلَ حُسْنًا بَعْدَ سُوءٍ...}الآية[النمل:10،11]، وبقوله تعالى: {لاَ يَنَالُ عَهْدِي الظَّالِمِينَ} [البقرة:124] والتائب ليس بظالم.
هذا وأما ارتكابهم الصغائر قبل البعثة فمن أجاز عليهم الكبائر قبلها أجاز الصغائر بالأولى، وأما من منع الكبائر فإن الظاهر منهم تجويز الصغائر عليهم، وهو الذي رواه الإمام المهدي عن المعتزلة، ونص عليه القرشي ما لم تنفر عن القبول كسرقة لقمة، ومهازلة النساء، والتطفيف في الكيل، وكثرة المزاح؛ إذ ارتكاب مثل هذه الكبائر وإن كانت في نفسها صغائر فإنها مما يسترذل مرتكبها، ويتهاون بأمره وينفر عنه، لا شك في ذلك، فأما غير المنفر منها فلا منع منه؛ إذ لا يؤثر في الشك، ولا في التنفير عن القبول.
قال القرشي: فأما الصغائر التي ليس لها حظ إلا في تقليل الثواب دون التنفير والقدح في التبليغ، فجائز قبل البعثة وبعدها إلا عند من لا يعبأ به.
قلت: ولعله أراد بمن لا يعبأ به الإمامية، فإن ظاهر الحكاية عنهم أنهم لا يجوزون على الأنبياء وقوع المعاصي من الأنبياء قط لا كبيرة ولا صغيرة لا قبل البعثة ولا بعدها. والله أعلم.
الفصل الرابع في عصمتهم بعد النبوة من الجهل بالله وبما أوحي إليهم
قد مر في الفصل الثالث رواية الإجماع على عصمتهم من الكفر قبل النبوة وبعدها، ولا شك أن الجهل بالله وبصفاته، وبما أرسل به رسله من أعظم أنواع الكفر، فوجب القطع بعصمتهم من ذلك، وقد نص القاضي عياض في (الشفاء) على معنى هذا، وذكر أنهم على غاية المعرفة، ووضوح اليقين، وانتفاء الجهل بشيء من ذلك، أو الشك فيه، وأنهم معصومون عن كل ما يضاد المعرفة واليقين من جهل وشك، ثم قال: هذا ما وقع عليه إجماع المسلمين، ولا يصح بالبراهين الواضحة أن يكون في عقود الأنبياء سواه.
قلت: وقد جاء في بعض الآيات ما يقتضي ظاهره وقوع الشك ونحوه منهم، وهو مأول كما سيأتي في مواضعه إن شاء الله تعالى.
وأما ما مر في الأولى من مسائل قوله تعالى: {وَإِنْ كُنتُمْ فِي رَيْبٍ مِمَّا نَزَّلْنَا عَلَى عَبْدِنَا}الآية[البقرة:23]، فإنه صلى الله عليه وآله داخله الرعب عند أن خاطبه جبريل بالوحي، وما أخرجه البخاري وغيره من أنه صلى الله عليه وآله قال لخديجة لما أخبرها برؤية جبريل: ((لقد خشيت على نفسي)) فليس معناه الشك فيما أوحي إليه بعد رؤية الملك، ولعله خشي أن لا تحتمل قوته مقاومة الملك، وأعباء الوحي، فينخلع قلبه وتزهق روحه من الفزع، هذا إن كان قال هذا القول بعد لقاء الملك وإعلامه له بأنه رسول الله على ما تفيده بعض الروايات، أو يكون قال ذلك قبل لقاء الملك وإعلام الله له بالنبوة، وذلك عند ابتداء ظهور العجائب في حقه صلى الله عليه وآله من دعاء جبريل إياه بيا محمد، وتسليم الحجر والشجر، ونحو ذلك كما جاءت بذلك بعض الأخبار، وعلى أي الاحتمالين يبطل التعليق بالحديث على إثبات الشك فيما جاءه من الوحي. ولله الحمد.
الفصل الخامس في أنه لا يشترط في الأنبياء العصمة فيما يتعلق بأمور الدنيا وأنه لا يضر الجهل بها
اعلم أن خطايا الأنبياء" فيما يتعلق بالأمور الدنيوية، لا يضر، ولا يقدح في نبوتهم، ولا في عصمتهم، ولا يكون حجة على غيرهم، ولذا قال صلى الله عليه وآله في قصة التلقيح: ((أنتم أعلم بأمور دنياكم)) وكذلك لا يقدح في علمهم جهلهم ببعض أمورها واعتقادها على خلاف ما هي عليه، ويحكى عن الشيعة خلاف هذه.
قلنا: هممهم منصرفة إلى الآخرة والبعثة إنما كانت لأجلها، وأمور الدنيا تضادها، ولهذا شبه صلى الله عليه وآله وسلم الدنيا والآخرة بالضرتين.
هذا وأما جهلهم بأمور الدنيا أجمع فلا يجوز في حقهم، ولا يصح إطلاق القول بأنهم لا يعلمون شيئاً من أمورها؛ لأن ذلك شأن أهل الغفلة والبله، وهم منزهون عن ذلك، كيف وقد قلدوا سياسة الخلق ودعائهم إلى ما فيه الهدى والرشد، وليس هذا من شأن البله وأهل الغفلة فافهم.
الفصل السادس في أنه لا يجوز جهلهم بشيء من أمور الدين
أما ما يتعلق بمسائل الاعتقاد فقد تقدم الكلام عليها، وأما غيرها فلأنهم مبعوثون لإرشاد الخلق، وإنقاذهم من مهاوي الضلال، وتعليمهم معالم دين ذي الجلال، ومن كان كذلك فلا يجوز أن يجهل شيئاً يحتاج إليه في هذا المقصد؛ إذ لو جاز عليه الجهل بشيء من ذلك لم يتم الغرض المقصود من البعثة، وحينئذٍ يكون الإرسال عبثاً؛ إذ ما لا يتم به الغرض يكون وجوده كعدمه، وهذا واضح.
الفصل السابع في عصمتهم من الشيطان الرجيم
أما نبينا -صلى الله عليه وآله- فأجمعت الأمة على عصمته من الشيطان -لعنه الله- ويدل على ذلك ما روي أن النبي -صلى الله عليه وآله- لما بعث انطلق إبليس إلى تهامة فوجد ملائكة قد حفت بها، فأراد أن يدخل فطردوه وزجروه، فأتى من قبل حراء فقال: يا جبريل هل إليه سبيل؟ فقال: لا هذا النبي المعصوم. الخبر رواه أبو طالب من حديث علي عليه السلام .
وروى القاضي عياض في (الشفاء) بسنده إلى الدارقطني قال: حدثنا إسماعيل الصفار، ثنا عباس الترقفي، ثنا محمد بن يوسف، ثنا سفيان، عن منصور، عن سالم بن أبي الجعد، عن مسروق، عن عبد الله بن مسعود، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وآله: ((ما منكم من أحد إلا وقد وكل به قرينه من الجن وقرينه من الملائكة، قالوا: وإياك يا رسول الله؟ قال: وإياي ولكن الله أعانني عليه فأسلم)) زاد في رواية: ((فلا يأمرني إلا بخير)). والحديث أخرجه مسلم عن سالم بن أبي الجعد، عن أبيه، عن ابن مسعود.
والترقفي بمثناة مفتوحة ثم راء ساكنة ثم قاف مضمومة ثم فاء مكسورة ثم ياء النسبة، قال علي القارئ: ثقة متعبد، أخرج له ابن ماجة.
وابن يوسف هو الفريابي، وسفيان هو الثوري، ومنصور هو ابن المعتمر.
وروى القاري في شرحه عن ابن عباس مثله من دون الزيادة وقال: بسند أحمد، وقال القاضي عياض: وروي عن عائشة بمعناه، قال: وروي: ((فأسلم)) بضم الميم أي فأسلم أنا منه، وصحح بعضهم هذه الرواية ورجحها.
قال الراوي: وممن رجحها سفيان بن عيينة فإنه زعم أن الشيطان لا يسلم.
القاضي عياض: فإذا كان هذا حكم شيطانه وقرينه فكيف بمن بعد عنه -يعني فإن عصمته منهم بالأولى- وقد جاءت الآثار بتصدي الشيطان له في الصلاة وغيرها فانقلب خاسئاً مدحوراً.
وأما غيره من الأنبياء" فقد استدل على عصمتهم منه بقوله تعالى: {إِنَّ عِبَادِي لَيْسَ لَكَ عَلَيْهِمْ سُلْطَانٌ}[الحجر:42] فإذا لم يكن له سلطان على خلص عباده علم أنه ليس له سلطان على أنبيائه بالأولى، والمراد بعصمتهم" من الشيطان أن الله تعالى يكفيهم شره في أجسامهم، فلا يؤذيهم بشيء فيها من إغماء وجنون وألم ونحوه، وفي خواطرهم فلا يوسوس لهم بشيء على وجه الإلقاء، ذكره في (الشفاء) وشرحه، ويدل على ذلك قوله صلى الله عليه وآله حين لد في مرضه وقيل له: خشينا أن تكون لك ذات الجنب، فقال: ((إنها من الشيطان ولم يكن الله ليسلطه عليَّ)). رواه الشيخان عن عائشة.
قوله: لُدّ بضم اللام وتشديد الدال أي سقي دواء من أحد سقى فمه بغير أذنه لغشائه.
وقال صلى الله عليه وآله في حديث رواه الشيخان عن أبي هريرة: ((إن عيسى عليه السلام كفي من لمسه -يعني الشيطان- فجاء ليطعن بيده في خاصرته حين ولد فطعن في الحجاب)) أي في المشيمة، وقيل: ما لف عليه، وقيل: أمر حجبه الله به عنه، وقيل: حجبته به أمه.
قلت: وظاهر هذا الحديثين الخصوص، ولا دليل على التعميم.
قال في (شرح مسلم): عموم عدم طعن إبليس ونخسه لم يقم عليه دليل غير عصمة الأنبياء" ولا يلزم منها عدم المس إنما يلزمها عدم الإغواء والأذية لهم، ولا يلزم من اختصاصه عليه السلام بهذه المنقبة تفضيله على نبينا -صلى الله عليه وآله- وذكر أمه معه كما يدل عليه دلالة ظاهرة فقد يخص الله بعض عباده بأمر لم يكن لأفضل منه.
قلت: وكذلك لا أعلم دليلاً على عموم العصمة من وسوسته لقوله تعالى في آدم: {فَوَسْوَسَ إِلَيْهِ الشَّيْطَانُ}[طه:120] وسيأتي الكلام على ذلك فيما يتعلق بالآية إن شاء الله.
الفصل الثامن في عصمتهم في الأقوال المتعلقة بالتبليغ
أجمعت الأمة على عصمتهم من الكذب والتحريف والإخفاء فيما يتعلق بتبليغ الشرائع لا قصداً ولا عمداً، ولا سهواً ولا غلطاً، خلافاً للباقلاني في الكذب سهواً قال: لأن الاحتراز منه غير ممكن، لنا لو جاز عليه شيء من ذلك لارتفع الوثوق بما جاءوا به، هكذا استدل أصحابنا والرازي، واحتج القاضي عياض، ورواه الإمام المهدي عن الأشعرية بأن المعجز يفيد العلم الضروري بصدقه لما مر من أنه في معنى قول الله تعالى: صدق رسولي.
قال الإمام المهدي: وهو غلط أو مغالطة؛ لأن المعجز إنما يدل على التصديق لا على الصدق في نفس الأمر إلا مع القول بالعدل والحكمة.
قلت: أراد عليه السلام أن هذه الحجة لا تستقيم على أصولهم لعدم تنزيههم الباري تعالى عن فعل القبيح تعالى الله عن ذلك.
ومن أدلة المسألة قوله تعالى: {وَمَا يَنْطِقُ عَنِ الْهَوَى}[النجم:3] {قَدْ جَاءَكُمُ الرَّسُولُ بِالْحَقِّ}[النساء:170] {ومَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ}[الحشر:7] ونحوها وهي أدلة عامة مانعة من أن يقع منه في هذا الباب خبر بخلاف مخبره على أي وجه كان، فلو جوزنا عليه سهواً أو غلطاً لم يكن بين خبره وخبر غيره فرق، ولاختلط الحق بالباطل، وفي حديث عبد الله بن عمرو: قلت: يا رسول الله، أأكتب كلما أسمع منك؟ قال: ((نعم، قلت: في الرضا والغضب؟ قال: نعم فإني لا أقول في ذلك كله إلا حقاً)). أخرجه أحمد، وأبو داود، والحاكم وصححه.
واعلم أنه قد يتمسك بعض الطاعنين في الدين بآيات وهي مأوّلة، وستأتي في مواضعها إن شاء الله مع أنه لا عبرة بطعنهم مع إجماع الأمة على خلافه، وقضاء المعجز وأدلة العصمة، ومحكم الكتاب، والسنة بخلافه.
تنبيه وأما عصمتهم" من الكذب فيما لا يتعلق بالتبليغ كأخبار النبي عن حال نفسه أو حال غيره فقد اختلف في ذلك، فقال أصحابنا: لا يجوز عليهم الكذب في شيء من ذلك، وبه قال القاضي عياض وقال: إنه يجب اعتقاد عصمته من ذلك، والخلاف في ذلك للحشوية.
قلنا: لو جوزنا عليه الكذب في شيء من أخباره لجوزناه عليه فيما يؤديه عن الله فلا نثق به فيبطل الغرض ببعثته، واحتج القاضي عياض على منع ذلك بإجماع السلف وقال: إنا نعلم من دين الصحابة مبادرتهم إلى تصديقه صلى الله عليه وآله وسلم في جميع أحواله على أي باب كانت أخباره بلا تردد، ولا توقف، ولا سؤال هل وقع فيها سهواً أو لا، ولما احتج ابن أبي الحقيق اليهودي على عمر حين أخلاهم من خيبر بإقرار رسول الله -صلى الله عليه وآله- واحتج عليه عمر بقوله صلى الله عليه وآله: ((كيف بك إذا أخرجت من بلادك))؟ فقال اليهودي: كانت هزيلة من أبي القاسم، قال له عمر: كذبت يا عدو الله. أخرجه البخاري، وإنما كذبه لنسبته صلى الله عليه وآله إلى ما لا يليق به من الهزل، وللإشارة إلى أنه لو كان مزحاً فهو لا يمزح إلا بحق.
وللخصم شبه يتعلق بها من القرآن الكريم وهي مؤولة، ومنها ما حكاه الله تعالى عن إبراهيم عليه السلام حيث اعتذر إلى قومه من الخروج معهم إلى عيدهم فقال: {إِنِّي سَقِيمٌ}[الصافات:89] فقالوا: لم يكن سقيماً وإنما أراد مكيدتهم في الأصنام.
والجواب: أن جميع الشبه التي يتمسكون بها لا سبيل إلى القطع بكذب ما تضمنته من الأخبار، وليس كل خبر يعلم قصد المخبر به ضرورة، وإنما يعلم ذلك بقرائن الأحوال عند المشاهدة، أو تواتر المنتهي إلى المشاهدة، والمعرفة بالقصد ضرورة؛ لأن كل خبر يحتمل التقييد بالنية، والتقييد يخرج الكلام عن ظاهره فلا يقطع به.
إذا عرفت هذا فنقول: قوله: {إِنّي سَقِيمٌ}[الصافات:89] يحتمل أنه كان معه سقم باطن، ويحتمل أنه أراد سقيم الاعتقاد فيهم، ومع الاحتمال يبطل الاحتجاج. والله أعلم.
الفصل التاسع في عصمتهم في الأفعال التي تجري مجرى الأقوال في التبليغ
وذلك نحو أن تكون بياناً لمجمل واجب كأفعال الصلاة والوضوء ونحوهما مما يؤخذ بيانها من أفعالهم، وكذلك سائر ما يفعلون من القرب وتفاصيل الشرائع، فهذا يجب القطع بعصمتهم فيها، والحجة على ذلك كالحجة على الأقوال المتعلقة بالتبليغ، ويدل على ذلك أن الله تعالى قد أمرنا بالاقتداء بهداهم، والتأسي بأفعالهم أمراً مطلقاً، ولو كان يجوز عليهم الخطأ في شيء من ذلك لما حسن إطلاق الأمر.
الفصل العاشر في عصمتهم عن الكبائر التي لا تتعلق بالتبليغ
أما الكفر فقد مر أنهم معصومون عنه قبل البعثة وبعدها بالإجماع، وأما غيره من الكبائر فقد مر الخلاف في عصمتهم عنها قبل النبوة، وأما بعدها فمن عدا الحشوية والكرامية مجمعون على عصمتهم عنها، وادعى القاضي إجماع المسلمين على ذلك، ولعله أراد إجماع السلف ومن يعتد بقوله، واختلف القائلون بعصمتهم في دليل ذلك، فقالت العدلية: دليل المنع العقل والسمع.
وقالت الأشاعرة: بل دليله السمع فقط، قال في (شرح المواقف) وغيره: المحققون من الأشاعرة إن العصمة فيما وراء التبليغ غير واجبة عقلاً؛ إذ لا دلالة للمعجزة عليه فامتناع الكبائر عمداً مستفاد من السمع وإجماع الأمة قبل ظهور المخالف.
قلت: ومن الأدلة السمعية قوله تعالى: {وَإِنَّهُمْ عِنْدَنَا لَمِنَ الْمُصْطَفَيْنَ الأَخْيَارِ}[ص:47] ونحوها مما أثنى الله فيه على الأنبياء" ونص على اصطفائهم واجتبائهم واستخلاصهم، وغير ذلك من الأوصاف الحميدة، والممادح الجميلة.
وأما الدليل العقلي فهو من وجوه:
أحدها ما مر في الفصل الثالث من أن ذلك يوجب النفرة.
الثاني: أن صدور المعصية منهم يستلزم أن يكونوا أقل درجة من عصاة الأمة؛ لأن من كانت درجته أشرف يكون وقوع الذنب منه أفحش، ولا يجوز أن يكونوا أقل درجة من غيرهم بالإجماع فيجب أن لا تصدر منهم المعصية.
الثالث: أنا مأمورون باتباعهم أمراً مطلقاً، فلو صدر منهم ذنب وجب اتباعهم فيه، والمعلوم أن الاقتداء بالعاصي في معصيته محرم، فيلزم اجتماع الحرمة والوجوب وهو محال.
الرابع: أنه لو صدر عنهم ذنب لكانوا معذبين أشد العذاب؛ لأن عليهم وزرهم، ووزر من اقتدى بهم، وأجمعت الأمة على أن أحداً منهم لم يستحق عذاباً فثبت أنه لم يصدر عنه معصية.
احتج المخالف بقصص الأنبياء" فإنها توهم صدور الكبائر عنهم في زمن النبوة وقبلها، وقد ذكرها الله في القرآن.
قلت: وسنذكر كيفية احتجاجهم بتلك القصص، ونجيب عنها في مواضعها إن شاء الله، ولنتكلم هنا على احتجاجهم بقصة آدم عليه السلام فنقول:
احتج القائلون بجواز ارتكاب الكبائر على الأنبياء" بقصة آدم، وتقرير احتجاجهم بها من وجوه:
أحدها: أن الله سماه عاصياً لقوله تعالى: {وَعَصَى آدَمُ رَبَّهُ فَغَوَى} [طه:121] والعصيان من الكبائر لقوله تعالى: {وَرَسُولَهُ فَإِنَّ لَهُ نَارَ جَهَنَّمَ}[الجن:23].
الثاني: أنه سماه غاوياً لقوله: {فغوى} والغواية ضد الرشد، بل هي اتباع الشيطان لقوله تعالى: {إِلاَّ مَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ الْغَاوِينَ}[الحجر:42].
الثالث: أنه تائب لقوله: {فَتَابَ عَلَيْهِ} والتوبة لا تكون إلا عن ذنب؛ لأنها الندم على المعصية والعزم على ترك العود.
الرابع: أنه ارتكب المنهي عنه بقوله: {وَلاَ تَقْرَبَا هَذِهِ الشَّجَرَةَ}[البقرة:35] ولذا قال تعالى: {أَلَمْ أَنْهَكُمَا عَنْ تِلْكُمَا الشَّجَرَةِ}[الأعراف:22] وارتكاب المنهي عنه عين الذنب.
الخامس: أن الله تعالى سماه هو وحوا ظالمين على تقدير أكلهما من الشجرة، والظلم ذنب وقد اعترفا به في قوله: {رَبَّنَا ظَلَمْنَا أَنفُسَنَا}[الأعراف:23].
السادس: أنه اعترف أنه إن لم يغفر الله له كان خاسراً، والخسران دليل كون ذنبه كبير.
السابع: أنه أخرج من الجنة كما قال تعالى: {فَأَزَلَّهُمَا الشَّيْطَانُ عَنْهَا فَأَخْرَجَهُمَا مِمَّا كَانَا فِيهِ}[البقرة:36] والإخراج بسبب إزلال الشيطان دليل كون الصادر عنهما كبيرة.
والجواب من وجهين جملي، وتفصيلي، أما الجملي فهو أنا إنما منعنا الكبائر من الأنبياء" حيث تقع منهم تمرداً وتعمداً على الحد الذي لو وقعت من غيرهم كانت فسقاً، فأما إذا كانت بصورة الكبيرة، لكنها على جهة الخطأ والتأويل بحيث لو وقعت من أحدنا لم تكن فسقاً فلا يمنع وقوع صورتها منهم؛ إذ وقوعها على هذا الوجه لا يقتضي التنفير.
قال الإمام أحمد بن سليمان: اعلم أن الأنبياء -صلوات الله عليهم- بشر من الناس يأكلون الطعام ويمشون في الأسواق كما قال تعالى، وإنهم مركبون على الشهوة، والكراهة، والغفلة، والذكر، والنسيان إلا في تبليغ ما أمروا به فإنهم معصومون عن النسيان، والغفلة، والسهو، والكذب؛ لأن الله قد اختارهم لتبليغ رسالته، وأداء أمانته، ولا يجوز أن يرسل من ينسى شيئاً من تبليغ الرسالة أو يسهو عنها أو يكذب.
قال عليه السلام : فهذه الجملة لا تجوز على الأنبياء، بل هم معصومون عنها، وكذلك تعمد معصية الله قال تعالى: {لاَ يَنَالُ عَهْدِي الظَّالِمِينَ}[البقرة:124] فأما في سائر أفعالهم غير تبليغ الرسالة فإنه يجوز عليهم النسيان، أو الغفلة، والخطأ في التأويل، والعجلة، وقد ذكر الله عنهم ذلك، وذكر توبتهم منه وندمهم، وإقلاعهم، واستغفارهم.
إذا عرفت هذا فنقول: الصور المحكية عن الأنبياء" لم تقع منهم إلا على وجه لو وقعت من غيرهم لم تكن فسقاً كما سنبين ذلك في موضعه إن شاء الله، ولا نتكلم هنا إلا على قصة آدم عليه السلام فنقول:
أما من جوز عليهم ارتكاب الكبائر قبل البعثة فقالوا إنما يتم استدلالكم بالقصة لو ثبت أنه ارتكب هذا الذنب حال النبوة وهو ممنوع؛ إذ لم يكن اجتباؤه للنبوة إلا بعد هذه القصة بدليل قوله تعالى: {فَغَوَى ، ثُمَّ اجْتَبَاهُ رَبُّه}[طه:121،122].
قلت: وفيه نظر فإنه قد كان أوحي إليه قبل دخول الجنة كما قال تعالى: {اسْكُنْ أَنْتَ وَزَوْجُكَ الْجَنَّةَ}[البقرة:35] لا يقال الوحي لا يستلزم النبوة بدليل: {وَأَوْحَيْنَا إِلَى أُمِّ مُوسَى}[القصص:7]؛ إذ لا تتصور نبوتها؛ لأنا نقول: المتبادر فيما ورد في حق آدم عليه السلام هو استماع الكلام في اليقظة وهو المسمى بالوحي الظاهر والمتلو، ولم يثبت ذلك لغير الأنبياء.
وأما إلقاء المعنى في الروع في اليقظة أو إسماع الكلام في المنام فهو يقال له وحي وإيحاء في اللغة، لكنه غير مختص بالأنبياء، والواجب حمل ما جاء في جانبهم على ما هو اللائق بجنابهم، لا يقال: كيف يكون نبياً ولا أمة له؛ لأنا نقول: هو مرسل إلى حوا وإلى من وجد بعدها؛ إذ لا يجب في المرسل إليهم أن يكونوا موجودين في ابتداء الإرسال، على أنه لا مانع من أن يكون مرسلاً إلى نفسه فقط، وإذا بطل حمل القصة على وقوع الذنب منه قبل البعثة تعين بيان التأويل الذي يخرج به هذا الذنب عن كونه كبيرة، وذلك يعلم بالجواب عن كل واحد من هذه الوجوه، وهو الجواب التفصيلي فنقول:
الجواب عن الأول: تسميته عاصياً لا يقتضي كون معصيته كبيرة، والمعاصي منقسمة إلى صغائر وكبائر، والآية واردة في أهل الكبائر لما ثبت من غفران الصغائر، ويجوز شمولها لأهل الصغائر بشرط عدم اجتناب الكبائر لقوله تعالى: {إِنْ تَجْتَنِبُوا كَبَائِرَ مَا تُنْهَوْنَ عَنْهُ نُكَفِّرْ عَنْكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ}[النساء:31].
وعن الثاني بأن الوصف بالغواية لا يقتضي كبر المعصية إذ يوصف بها مرتكب الصغيرة، وذلك واضح.
وعن الثالث بأنه لا قبح في التوبة عن الصغائر، وليس في توبته منها ما يدل على كبرها.
وعن الرابع أن النهي إما للتنزيه كما قيل فلا إشكال، وفيه نظر، وإما للتحريم فلأصحابنا في تأويل إقدامه وجوه:
الوجه الأول: أن الإقدام كان عمداً، لكن كان معه من الوجل والخوف والإخلاص ما صيره في حكم الصغيرة، وفيه نظر، فإن المتعمد لترك الواجب أو فعل المنهي عنه تكون معصيته كبيرة وإن صحبها خوف ووجل، ولا يصح وصف الأنبياء" بذلك.
الوجه الثاني: ذكره الإمام الهادي عليه السلام وهو أن إقدامه على أكل الشجرة كان في حال النسيان لقوله تعالى: {فَنَسِيَ وَلَمْ نَجِدْ لَهُ عَزْماً}[طه:115] قال عليه السلام : يقول لم نجد له عزماً على اعتمادها وأكلها بعينها، وقد أوضح الإمام المهدي توجيه النسيان فقال: إن الشيطان قد كان أدخل في روع آدم عليه السلام أن الله سبحانه لم ينههما عن أكل الشجرة لكونها مفسدة، بل لأن أكلها يستحق من جهته الخلد وقاسمهما أنه لهما لمن الناصحين.
قال عليه السلام : وأما إخبار الله لهما أنهما يصيران بذلك من الظالمين، فلعلهما نسيا ذلك عند الإقدام وسهوا عن النظر في كلام إبليس، وما تقدم إليهما من العهد، وقد صرح الله بذلك بقوله: {وَلَقَدْ عَهِدْنَا إِلَى آدَمَ...}الآية[طه:115]، والكبيرة إذا وقعت نسياناً لم تكن معصية كمن نسي طلاق امرأته فوطئها، لا يقال: لو كانا ناسيين لم تكن معصية؛ إذ لا ذنب على الناسي وقد قال تعالى: {وَعَصَى آدَمُ رَبَّهُ فَغَوَى}[طه:121] لأنا نقول: لم ندع أنه نسي النهي، بل أقدم وهو يعلمه فهو عاص، وإنما نسي النظر في وجه النهي هل للقبح والمفسدة، أو لأمر آخر، فلا إشكال في معصيته لإقدامه على ما يعلم أنه ينهي عنه، وأن الإقدام على المنهي عنه قبيح، لكن إذا لم يكن النهي عنده للقبح لم يكن المعصية في الفحش، كما لو أقدم مع معرفة وجه القبح وعظم العقاب، وحاصل كلامه عليه السلام أن النسيان كان للنظر لا للنهي.
الوجه الثالث: أنه أقدم على الأكل بسبب اجتهاد أخطأ فيه، وذلك لا يقتضي كبر المعصية، وهذا مروي عن أكثر المعتزلة، وبيان الخطأ أن لفظ هذا قد يشار به إلى الشخص نحو هذا الرجل، وهذه المرأة، وقد يشار به إلى النوع كما في قوله صلى الله عليه وآله وقد أخذ حريراً وذهباً: ((هذان حلال لإناث أمتى حرام على ذكورهم)) فإنه أراد النوع، وعلى هذا فآدم ظن أن الإشارة مراد بها الشخص أي الشجرة المعينة فتركها وتناول من شجرة أخرى من ذلك النوع فأخطأ في اجتهاده؛ لأن مراد الله النهي عن النوع لا الشخص، لكنه اجتهاد في الفروع، والخطأ فيه يكون صغيرة مغفورة.
واعترض من وجوه:
أحدها: أن كلمة هذا في اللغة موضوعة للإشارة بها إلى الحاضر، والحاضر لا يكون إلا معيناً، وورودها للإشارة بها إلى النوع على خلاف الأصل، وإذا ثبت هذا فما عدا المعين خارجاً عن النهي لا محالة، والمجتهد مكلف بحمل اللفظ على حقيقته، وآدم قد فعل ما يجب، فيلزم أن لا يوصف بالخطأ ولا بالعصيان، ويؤيد ذلك أن العقل يقتضي حل الانتفاع بجميع المنافع إلا ما خصه الدليل، والدليل لم يخص إلا المعين، وقد جاء الشرع مؤكداً لدليل العقل وهو قوله: {وَكُلاَ مِنْهَا رَغَداً حَيْثُ شِئْتُمَا}[البقرة:35] فإنه يتناول ما عدا المعين.
الثاني: سلمنا تردد كلمة هذا بين النوع والشخص، فلا يجوز من الله تعالى ترك البيان للمراد منهما، وحينئذٍ فآدم إما مقصر في معرفة البيان، أو لم يقصر، بل عرف أن المراد النوع، وعلى أيهما فإقدامه على تناول شجرة من ذلك النوع يكون عمداً لا خطأً.
الثالث: أن الأنبياء" لا يجوز لهم الاجتهاد؛ إذ لا يوصل إلا إلى الظن، ولا يجوز العمل به مع إمكان العلم وهو ممكن في حقهم فالإقدام على الاجتهاد معصية.
الرابع: أن المسألة إن كانت قطعية كان الخطأ فيها كبيراً، وإن كانت ظنية فكل مجتهد في الظنيات مصيب فلا خطأ أصلاً، وإن قلنا إن الحق فيها واحد فالمخطئ معذور اتفاقاً، فكيف وصف آدم بسببه بالعصيان، وأخرج من نعيم الجنان إلى دار الذل والهوان.
وأجيب عن الأول بأن لفظ هذا، وإن كان في الأصل للإشارة به إلى الشخص فقد يستعمل في النوع كما مر، ويجوز أن يكون الله تعالى قد قرن به ما يدل على أن المراد به الإشارة إلى النوع.
وعن الثاني بأنه يجوز كونه قصر في معرفة الدليل ظناً أنه لا يلزمه معرفته، أو عرفه عند النهي ثم غفل عنه.
وعن الثالث بأنه لا حاجة بنا إلى كونه متمسكاً بالاجتهاد لما بينا من تجويز ظنه عدم وجوب معرفة الدليل المعين للمراد، أو أنه غفل عنه.
وعن الرابع بأنه يجوز كونها قطعية إلا أنه لما نسيها صار النسيان عذراً في كونها صغيرة، أو يقال: هي ظنية إلا أنه ترتب عليها من التشديدات ما لا يترتب على خطأ سائر المجتهدين؛ لأن ذلك مما يجوز اختلافه باختلاف الأشخاص، وكما أن الرسول عليه السلام مخصوص بأمور كثيرة في التشديد والتخفيف، فكذلك هنا، ذكر معنى هذه الأجوبة الرازي ثم قال: يمكن أنه ظن أن النهي إنما كان عن أكلهما مجتمعين؛ إذ لا يلزم من النهي عن الاجتماع النهي عن الانفراد، فلعل الخطأ كان من هذا الوجه.
والجواب عن الوجه الخامس مما قرر به القائلون بجواز الكبائر على الأنبياء" احتجاجهم بالآية وهو أن الله سماهم ظالمين بأن الظلم مراتب، وقد تقدم تحقيقها.
وعن السادس بأن طلب المغفرة لا ينافي صغر المعصية، وأما اعترافهما بالخسران لولا المغفرة فالمراد به نقصان الثواب؛ لأن الصغائر إن لم تغفر توجب نقصاً في الثواب، والخسران هو النقص، ويجوز أن يعترفا بذلك لما شاهداه من التشديد في حقهما، والتهويل لأمرهما.
وعن السابع بأن العقوبة إنما كانت في استعماله في أكل الشجرة، لأنه نهي عن البر فأكل من شجرة الشعير وهي ورق لم تثمر، فلما ظهر فيها الحب أشكل عليه أمرها، فخدعه إبليس بالقسم فاستعجل فأكل، ولم ينتظر الوحي، فعوقب في ذلك، وهذا ذكره الهادي.
وقال الزمخشري: ما كانت معصيته إلا صغيرة مغمورة بأعمال قلبه من الإخلاص والأفكار الصالحة التي هي أجلّ الأعمال، وأعظم الطاعات، وإنما جرى عليه ما جرى تعظيماً للخطيئة وتفظيعاً لشأنها وتهويلاً؛ ليكون ذلك لطفاً له ولذريته في اجتناب الخطايا، واتقاء المآثم، والتنبيه على أنه أخرج من الجنة بخطيئة واحدة، فكيف يدخلها ذو خطايا جمة.
الفصل الحادي عشر في الخلاف في جواز الصغائر على الأنبياء عليهم السلام
ذهب الأكثر إلى أنها تجوز عليهم الصغائر بعد البعثة إذا لم يكن لها حظ إلا في تقليل الثواب دون المنفر، وما فيه خسة وسخافة، كمهازلة النساء، والتطفيف بحبة عند الكيل، وكذلك إذا كانت الصغيرة متعلقة بالتبليغ نحو الكذب إذا قدرناه صغيرة؛ لأن ذلك كله منفر، وقد مر أنه يجب سلامة النبي من المنفرات، فأما غيرها من الصغائر فإنها إذا وقعت منهم ولم يصروا عليها بل ظهر منهم الإقلاع عنها، فإنه لا يكون منفراً.
قال القرشي: وعلى هذا يحمل ما حكاه الله تعالى من ذنوب الأنبياء، وأكل الشجرة، وعبوس النبي -صلى الله عليه وآله- حين جاءه الأعمى ونحو ذلك.
نعم أما إذا عرفنا منه الإصرار على ذلك فلا يبعد كونه منفراً.
فإن قيل: وكذلك إذا عرفنا منه الإقلاع والتوبة في الطرف الأول فلا ننفر عنه، فلا فرق بين الطرفين.
قيل: لا سواء فإنا وإن عرفنا توبته عن الطرف الأول فلا نأمن معاودته فلا نثق به ولا ترتفع النفرة عنه؛ لأنه لما كان منفراً جرى مجرى الكبائر التي لا ترتفع كونها منفرة بظهور التوبة عنها، بخلاف الطرف الثاني فليس بمؤثر في التنفير بمجرده وإنما يؤثر الإصرار عليه، بل بعد العزم على الإقلاع فإن معاودته تكون كابتداء فعله سواء سواء.
وقالت الإمامية: لا تجوز عليهم الصغائر كالكبائر، واختاره الرازي، ورواه في (البدر الساري) عن طائفة من الفقهاء المتكلمين على أحوال الأنبياء" وجماعة من الأشعرية قالوا: وما ظاهره يقتضي وقوع المعصية منهم فهو محمول على ترك الأولى.
احتج الأولون بأن المعصية إذا لم تؤثر في الشك بما يؤدونه ولا في التنفير عن قبول ما جاءوا به، فلا مانع من جوازها عليهم؛ إذ لم يقم دليل على امتناع شيء من المعاصي غير هذين النوعين فما عداهما داخل في حيز الجواز.
قال الإمام أحمد بن سليمان: اعلم أنه لا يقال إن النبي -صلى الله عليه وآله- معصوم عن جميع المذمومات والمعاصي؛ لأنه لو كان كذلك لم يكن له ثواب في لزمه لنفسه عن المحرمات، ولما كان محموداً في ترك اتباع الشهوات، ولما كان يوسف عليه السلام في لزمه لنفسه عن امرأة العزيز محموداً ومثاباً، وقد قال تعالى: {وَلَقَدْ هَمَّتْ بِهِ وَهَمَّ بِهَا لَوْلاَ أَنْ رَأَى بُرْهَانَ رَبِّهِ}[يوسف:24] فصح أنه لزم نفسه لا عن عصمة ولا نقول: إن الله عصمه، بل نقول: إن الأنبياء" مخيرون ممكنون كغيرهم من الآدميين، بل إنهم أقوى على أنفسهم، وعلى لزمها من المحرمات لما شاهدوا من الدلائل والمعجزات، والرسالة من الله لهم والآيات، قال عليه السلام : وقد يمكن أن يصرف الله عنهم بالتوفيق والتسديد كثيراً من المحظورات كما حكى الله تعالى عن يوسف عليه السلام {وَإِلاَّ تَصْرِفْ عَنِّي كَيْدَهُنَّ...}الآية[يوسف:33].
قلت: كلام الإمام عليه السلام هنا مبني على أن المراد بالعصمة المنع من المعصية على جهة الإلجاء والقسر، وليس كذلك، فإن العصمة من قبيل الإلطاف، وهي لا تمنع الاختيار كما مر في غير هذا الموضع.
ومن الأدلة على وقوع الصغائر من الأنبياء" ما حكاه الله من خطايا الأنبياء" ومعاتبته إياهم على ارتكابها، ومنها قصة آدم عليه السلام وقد مر تقرير الاحتجاج بها ممن يجوز عليهم الصغائر، وهي نص في أنه عليه السلام قد ارتكب المعصية، وإنما وجب حملها على الصغر لقيام الدليل على منع الكبائر عليهم، وما أحسن ما قال المرتضى في كتاب (الشرح والبيان) حيث يقول: إن الأنبياء" غير معصومين، وإنهم يغفلون ويسهون، وإن بنيتهم مركبة على بنية الآدميين، وقال في قوله تعالى: {وَعَصَى آدَمُ رَبَّهُ فَغَوَى}الآية[طه:121]: أفتكون التوبة إلا من بعد خطيئته، وقال فيه: من قال إن آدم لم يعص ولم يظلم موسى نفسه وكذلك يونس، فقد أكذب كتاب الله، ولأئمة العترة نحو كلامه عليه السلام في إثبات معاصي الأنبياء" ولأبيه الهادي كتاب في خطايا الأنبياء.
فإن قيل: النبي لطف، ومن حق اللطف أن يكون على أبلغ الوجوه وكونه بحيث لا تجوز عليه معصية قط أبلغ، فيجب كونه كذلك.
قيل: قد تكون المصلحة في بعثة رجل معين فلا نتصور وجوب كونه على أبلغ الوجوه، بل ربما علم الله عصمته من كل معصية كيحيى بن زكريا، وربما علم أنه سيتلوث ببعض الصغائر.
فإن قيل: فلو علم الله المصلحة في بعثة معين قد ارتكب كبيرة ولا يقوم غيره مقامه أكان يبعثه؟
قال النجري: هذا السؤال محال عند أصحابنا؛ إذ لا تثبت المصلحة في فاعل الكبيرة أصلاً؛ لإيجابها التنفير على ما مر.
احتج المانعون بما مر في الفصل العاشر من أدلة منع ارتكابهم الكبائر وقالوا: هي أدلة عامة تمنع من القول بارتكابهم الكبائر والصغائر.
والجواب: أن عمومها مسلم، لكنا قصرناها على الكبائر وما في حكمها من المنفرات لقيام الدليل على جواز الصغائر عليهم عقلاً ونقلاً.
قالوا: العصمة حفظ يستحيل شرعاً وقوع خلافه من سائر الذنوب صغيرها وكبيرها عمدها وسهوها قبل النبوة وبعدها.
قلنا: لا نسلم أن معنى العصمة ما ذكرتم، وكيف يقال ذلك وقد نص الله على وقوع الذنب منهم في كتابه وعاتبهم عليها، وقال لأفضلهم وأكرمهم عليه: {لِيَغْفِرَ لَكَ اللَّهُ مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِكَ وَمَا تَأَخَّرَ}[الفتح:2] وذلك تصريح بجواز وقوع الذنب منه عليه السلام ، والجواز ينافي الاستحالة.
فرع [في الإقدام على الصغائر من الأنبياء]
واختلف القائلون بجواز الصغائر في كيفية إقدامهم عليها، فقال الهادي، والناصر، والمرتضى، والإمام أحمد بن سليمان: لا يصح إقدامهم عليها مع العمد والعلم بكونها معصية، وهذا قول أبي علي، وأبي عبد الله، وقاضي القضاة، والنظام وجعفر بن مبشر، ورواه في (الأساس) عن بعض البغدادية، وفي شرحه عن جمهور أئمة أهل البيت، واحتجوا بأن الإقدام مع العمد والعلم بالقبح في التنفير كوقوع الكبيرة؛ إذ يدل على الجراءة على معصية الله تعالى.
وقال الإمام المهدي: بل يجوز الإقدام مع العمد والعلم بالقبح، وهو قول أبي هاشم، ورواه في (الأساس) عنه وفي (المواقف) عن الجمهور، واحتجوا بما علم من إقدام آدم على المعصية بعد تحذيره منها ونهيه عنها، وإعلامه بكونها ظلماً، وأيضاً إقدامهم على الفعل لا يخلو عن تعمد ارتكاب القبيح؛ لأنهم إن أقدموا عليه مع العلم بكونه معصية فهذا صريح التعمد، وإن أقدموا عليه مع الإخلال بالنظر في أنه هل هو معصية أم لا فقد تعمدوا الإقدام على ما لا يؤمن قبحه، والإقدام على ذلك قبيح، فلا بد في الإقدام من تعمد ما يكون قبيحاً.
وأجابوا عما احتج به الأولون بأنا لا نسلم الدلالة على الجرأة إلا فيما يعلم أنه يستحق عليه العقاب، فأما مع أمن العقاب والثقة بالثواب فلا جرأة، ثم إن الإقدام مع الخوف والوجل لا يقتضي جرأة المقدم في كل حال، وإنما يقتضيها لو أقدم غير مكترث ولا خائف، ورد بأنهم إن تعمدوها غير عالمين بأنها صغائر فلا يشك أن تعمدها حينئذٍ يكون جرأة؛ إذ هو إقدام على ما لا يؤمن كونه كبيرة، والإقدام على ما هذه حاله جار مجرى الإقدام على الكبائر في التنفير عن قبول ما أتوا به وإن بين لهم من بعد كونها صغائر؛ لأن الناس ينفرون عمن أقدم على ما لا يؤمن من كونه كبيرة كما ينفرون عن مرتكب الكبيرة، وليس انكشاف الصغر إلا كالتوبة من الكبيرة، فكما أن التوبة لا ترفع النفرة من مرتكب الكبيرة، فكذلك انكشاف الصغر لا يرفع النفرة عمن أقدم على ما لا يؤمن كبره، وإذا كان الإقدام على هذا التقدير يؤدي إلى التنفير وجب الحكم ببطلانه وعدم جوازه على الأنبياء" لأنه يرجع على الغرض المقصود من بعثتهم بالنقض والإبطال.
قوله: ثم إن الإقدام مع الخوف والوجل...إلخ.
قلنا: هذا باطل؛ لأنهم إذا أقدموا مع علمهم بأنها معصية فهو عين الجرأة سواء صحبها خوف أم لا، ثم إن الإقدام مع الخوف وإن كان بعد التعريف بصغرها كان التعريف إغراء في حقهم لشدة رغبتهم في الطاعة فيكون علمهم بنقص ثوابهم كاف في الزجر؛ لأنا نقول: لا إذا عرفوا كونها معصية يكرهها الله، ثم عرفهم الله بأنه لا عقاب عليهم في ارتكابها فهو حقيقة الإغراء بفعلها.
قالوا: العمد في حقهم صغير لكثرة ثوابهم الذي لا يستحقه غيرهم من البشر.
قلنا: مصادم للنص قوله تعالى: {لَقَدْ كِدْتَ تَرْكَنُ إِلَيْهِمْ شَيْئاً قَلِيلاً ، إِذاً لاََذَقْنَاكَ ضِعْفَ الْحَيَاةِ وَضِعْفَ الْمَمَاتِ...}الآية[الإسراء:74،75]، فانظر كيف توعده على أنه لو مال إلى قومه يسيراً من الميل لأذاقه عذاب الآخرة وعذاب القبر، ولم يقل إن ذلك مكفر في جنب ثوابه وأنه صغيرة منه، فثبت أن إقدامهم على الصغائر لا يكون مع العمد.
وإذا تقرر ذلك فقد اختلف القائلون بهذا القول في كيفية إقدامهم عليها الإمام أحمد بن سليمان في كلامه في خطايا الأنبياء" فأما في سائر أفعالهم في غير تبليغ الرسالة فإنه يجوز عليهم النسيان، والغفلة، والخطأ في التأويل والعجلة، وقد ذكر الله عنهم ذلك، وذكر توبتهم منه، ثم ذكر بعض خطاياهم على هذه الوجوه، وأن ذنب آدم وموسى على جهة النسيان، وأن ذنب يونس كان الاستعجال، وكذلك آدم أكل الشجرة، وداود كان الخطأ في التأويل، وذكر الآيات في ذلك، وسنتكلم عليها في مواضعها إن شاء الله.
هذا هو الظاهر من كلام الهادي في كتاب خطايا الأنبياء، وحاصله أن معاصيهم تكون على جهة النسيان والغفلة والخطأ في التأويل والعجلة، وقد تقدم كلام المرتضى في ذلك.
وروى في (البدر الساري) عن الهادي والناصر وغيرهما من الآل أنها تقع منهم على جهة التأويل والسهو، وقال النظام وجعفر بن مبشر: إنما تقع منهم على جهة السهو والغفلة، فيكونون معذورين قطعاً، وهو مبني على أن السهو صغيرة.
قيل: وهو ضعيف؛ لأن الساهي لا تكليف عليه فضلاً عن أن يكون مذنباً.
وفي المواقف وشرحها عن الحافظ أنه تجوز عليهم غير صغائر الخسة سهواً بشرط أن ينتبهوا عليه فينتهوا عنه، وقد تبعه عليه كثير من المتأخرين من المعتزلة كالأصم، والنظام، وجعفر بن بشر، قال: وبه نقول نحن معاشر الأشاعرة.
وقال أبو علي، وأبو عبد الله، والقاضي وقواه القرشي: بل إنما يفعلونها لتأويل منهم واعتقاد عدم القبح لتقصير منهم في النظر وغلط في طرقه، فإن الأنظار يعرض فيها الغلط كثيراً فتعرض لهم بسبب ذلك شبهة يخرجون بها عن الجرأة الممتنعة عليهم؛ إذ ليس المقدم على الفعل مع الاخلال بالنظر فيه واعتقاد إباحته كالمقدم عليه مع العلم بقبحه، لا سيما إذا كان في حكم الذاهل عن النظر، ومعتقد الإباحة في تلك الحال، وعلى كل حال فالإقدام مع الخطأ أليق من الإقدام مع العمد وأبعد عن التنفير عنه، ولهذا قال أمير المؤمنين: ليس من طلب الحق فأخطأه كمن طلب الباطل فأدركه، وقريب من هذا ما اختاره الإمام القاسم بن محمد.
تنبيه قد علم من كلام صاحب (المواقف) أنهم لا يقرون على ما فعلوه سهواً، وفي (البدر الساري) قال بعض أئمتنا كالمهدي وغيره: بل يقدمون عليها عمداً وسهواً، ولكن لا يقرون عليها، بل ينبهون لئلا يقتدى بهم فيها.
المسألة الثانية [دلالة الخطاب في الآية]
قوله: {اهبطوا} قيل: خطاب لآدم وحوا وإبليس إما في وقت واحد على أن إبليس قد عاد إلى الجنة لأجل الوسوسة، أو لهما في وقت، وله في آخر قبل ذلك، وقيل: لهما وللحية، وقيل: لآدم وحوا وذريتهما، واختاره الزمخشري؛ لأنهما لما كانا أصل الإنس جعلا كأنهما الناس كلهم، ويدل عليه قوله تعالى: {اهْبِطَا مِنْهَا جَمِيعاً}[طه:123] وقوله: {فَمَنْ تَبِعَ هُدَايَ فَلاَ خَوْفٌ عَلَيْهِمْ...}الآية[البقرة:38] وهو حكم يعم جميع الناس، و{اهبطوا} قيل: أمر تكليف لا عقوبة، واختاره الرازي وأبو حيان؛ لأن فيه مشقة شديدة بسبب إخراجهما مما كانا فيه من الجنة إلى مكان لا تنال فيه المعيشة إلا بالمشقة؛ ولأن التشديد في التكليف يكون سبباً للثواب العظيم، فكيف يكون عقوبة، لا يقال الحدود وكثير من الكفارات عقوبات وإن كانت من باب التكاليف؛ لأنا نقول: لا نسلم أن الحدود تكليف على المحدود إذ هي فعل غيره، فلهذا جاز أن تكون عقوبة إذا كان المحدود مصراً.
وأما الكفارة فإنما يقال في بعضها أنها عقوبة؛ لأنها لا تكون إلا مع المآثم، وأما أنها تكون عقوبة مع كونها تعريضات للثواب فلا، وكذلك الإهباط لا يكون عقوبة مع كونه يترتب عليه الثواب العظيم.
قال النيسابوري: ويمكن أن يقال نفس الإهباط عقوبة لا ثواب عليه، وإنما الثواب على حسب العمل بعد ذلك.
وقال القرطبي: لم يكن الإهباط عقوبة؛ لأنه أهبط بعد التوبة وإنما أهبطه تأديباً وتغليظاً للمحنة، قال: والصحيح في إهباطه وسكناه في الأرض ما قد ظهر من الحكمة في ذلك وهي نشر نسله فيها ليكلفهم ويمحنهم، ويترتب على ذلك ثوابهم وعقابهم، فكانت تلك الأكلة سبب الإهباط، وقد قال تعالى: {إِنّي جَاعِلٌ فِي الأَرْضِ خَلِيفَةً}[البقرة:30].
قلت: في كلام أئمة العدل ما يدل على أن الإهباط عقوبة، وإذا كان كذلك فيقال: لا يستحق عليه ثواباً، لكنه يستحق الثواب على الامتثال، وتسليم النفس، والصبر على إمضاء أحكام الله عليه. والله أعلم.
وقوله: {بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ}[البقرة:36] قيل: في موضع الحال، والمراد ما عليه الناس فيما بينهم أو ما هم عليه هم وإبليس من التعادي والتباغي، وليست هذه العداوة المأمور بها في قوله: {إِنَّ الشَّيْطَانَ لَكُمْ عَدُوٌّ فَاتَّخِذُوهُ عَدُوّاً}[فاطر:6] فلا تدخل تحت الأمر، بل المراد اهبطوا وسيكون حالكم كذا.
وقيل: الجملة مستأنفة وليست حالاً، بل هي إخبار من الله بأن بعضهم لبعض عدو.
وقال الشرفي: ومعنى {بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ}[البقرة:36] إخبار عن حالهم لا أمر بالمعاداة؛ لأن معاداة إبليس لآدم عليه السلام كفر، والله تعالى لا يأمر بالكفر فكأنه قال: يعادي بعضكم بعضاً وذريتكما يعادي بعضهم بعضاً، وهذا فرار من الحمل على الحال؛ لأن الحال قيد في صاحبها فتكون العداوة مأمور بها، والأمر بها على الإطلاق لا يجوز، واعترضه أبو حيان بأن الحال إنما تكون قيداً إذا لم تكن لازمة، فأما إن كانت لازمة على معنى أن الفعل لا يقع في الوجود إلا بذلك القيد، فلا يكون القيد مأموراً به؛ لأنه ليس داخلاً في حيز التكليف، وهذه الحال من هذا النوع -أعني أنها لازمة- وحاصله أن الحال اللازمة غير داخلة تحت الاختيار.
المسألة الثالثة في قصة آدم
وما جرى له بسبب هذه الزلة الصغيرة معتبر عجيب، وموعظة بليغة بينة كافية في وجوب اجتناب الخطايا واتقاء المآثم، ولله در القائل:
يا ناظراً يرنو بعيني راقد .... ومشاهد للأمر غير مشاهدِ
تصل الذنوب إلى الذنوب وترتجي .... درك الجنان ودرك فوز العابد
أنسيت أن الله أخرج آدم .... منها إلى الدنيا بذنب واحدِ
وعن فتح الموصلي: كنا قوماً من أهل الجنة فساقنا إبليس إلى الدنيا، فليس لنا إلا الهم والحزن حتى نرد إلى الدار التي أخرجنا منها. شعراً:
تطلب الراحة في دار العنا .... خاب من يطلب شيئاً لا يكون
وفي قوله تعالى: {وَمَتَاعٌ إِلَى حِينٍ}[البقرة:36] دلالة على المعاد، وفيه أيضاً إشارة لآدم عليه السلام بأنه غير باق في الأرض، وأنه سينقل إلى الدار التي وُعِد بالرجوع إليها وهي الجنة.
[البقرة: 37]
قوله تعالى: {فَتَلَقَّى آدَمُ مِنْ رَبِّهِ كَلِمَاتٍ فَتَابَ عَلَيْهِ إِنَّهُ هُوَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ}.
قال القفال:أصل التلقي هو التعرض للقاء، ثم استعمل في استقبال الشيء الجائي، وفي قبول الشيء وأخذه، ومعنى تلقى آدم الكلمات أنه استقبلها بالقبول.
والتوبة لغة: الرجوع، قال أبو حيان: فإذا عدي بعلى ضمن معنى العطف، وقال الراغب: التوبة ترك الذنب على أحمل الوجوه، وهو أبلغ وجوه الاعتذار، فإن الاعتذار على ثلاثة أوجه إما أن يقول: لم أفعل، أو يقول: فعلت لكذا، أو فعلت وأسأت وقد أقلعت، ولا رابع لذلك، وهذا الأخير هو التوبة، وفي الآية مسائل:
المسألة الأولى [في ا لكلمات التي تلقاها آدم عليه السلام]
اختلف في الكلمات ما هي على أقوال:
أحدها: أنه لما كان قد أعلمه الله من أن ذريته يكون فيهم المطيع والعاصي، وأنه يقبل توبة العاصي منهم، فلما أكل الشجرة ذكر ما كان قد أعلمه الله من قبول التوبة فقالا: {رَبَّنَا ظَلَمْنَا أَنفُسَنَا...}الآية[الأعراف:23]، وهذا قول الهادي.
وقيل: هي نفس قولهما: {رَبَّنَا ظَلَمْنَا أَنفُسَنَا...}الآية[الأعراف:23]، وهذا قول زيد بن علي، وهو مروي عن ابن عباس، ومحمد بن كعب القرضي، ومجاهد، وقتادة، والحسن، والضحاك.
الثاني: أنها النبي -صلى الله عليه وآله- ويدل عليه ما أخرجه الطبراني في الصغير، والحاكم، وأبو نعيم، والبيهقي كلاهما في الدلائل، وابن عساكر عن عمر بن الخطاب، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وآله: ((لما أذنب آدم الذنب الذي أذنبه رفع رأسه إلى السماء فقال: أسألك بحق محمد إلا غفرت لي، فأوحى الله إليه: ومن محمد؟ فقال: تبارك اسمك لما خلقتني رفعت رأسي إلى عرشك فإذا فيه مكتوب لا إله إلا الله محمد رسول الله، فعلمت أنه ليس أحد أعظم عندك قدراً ممن جعلت اسمه مع اسمك، فأوحى الله إليه: يا آدم إنه آخر النبيين من ذريتك، ولولا هو ما خلقتك)).
وأخرج ابن المنذر عن الباقر عليه السلام قال: لما أصاب آدم الخطيئة عظم كربه واشتد ندمه، فجاءه جبريل فقال: يا آدم، هل أدلك على باب توبتك الذي يتوب الله عليك منه؟ قال: بلى يا جبريل، قال: قم في مقامك الذي تناجي فيه ربك فمجده وامدح، فليس شيء أحب إلى الله من المدح، قال: فأقول ما ذا يا جبريل؟ قال: فقل: لا إله إلا الله وحده لا شريك له، له الملك وله الحمد، يحيي ويميت وهو حي لا يموت، بيده الخير وهو على كل شيء قدير، ثم تبوء بخطيئتك فتقول: سبحانك اللهم وبحمدك لا إله إلا أنت رب إني ظلمت نفسي وعملت السوء فاغفر لي إنه لا يغفر الذنوب إلا أنت، اللهم إني أسألك بجاه محمد عبدك وكرامته عليك أن تغفر لي خطيئتي، قال: ففعل آدم، قال: فقال الله: يا آدم من علمك هذا؟ فقال: يا رب إنك لما نفخت فيّ الروح فقمت بشراً سوياً أسمع وأبصر، وأعقل وأنظر، رأيت على ساق عرشك مكتوب بسم الله الرحمن الرحيم لا إله إلا الله وحده لا شريك له محمد رسول الله، فلما لم أر على أثر اسمك اسم ملك مقرب، ولا نبي مرسل غير اسمه علمت أنه أكرم خلقك عليك، قال: صدقت وقد تبت عليك وغفرت لك خطيئتك، قال: فحمد آدم ربه وشكره، وانصرف بأعظم سرور لم ينصرف به عبد من عند ربه، وكان لباس آدم النور، قال الله: {يَنزِعُ عَنْهُمَا لِبَاسَهُمَا لِيُرِيَهُمَا سَوْآتِهِمَا}[الأعراف:27] ثياب النور، قال: فجاءته الملائكة أفواجاً تهنيه يقولون: ليهنك توبة يا أبا محمد.
القول الثالث: أنها التوسل بحق أهل الكساء" وهو قول المنصور بالله لما أخرجه ابن النجار عن ابن عباس قال: سألت رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم عن الكلمات التي تلقاها آدم من ربه فتاب عليه قال: ((سأل بحق محمد، وعلي، وفاطمة، والحسن، والحسين إلا تبت عليّ فتاب عليه)) ويؤيده ما أخرجه الديلمي في مسند الفردوس عن علي عليه السلام قال: سألت النبي صلى الله عليه وآله وسلم عن قول الله: {فَتَلَقَّى آدَمُ مِنْ رَبِّهِ كَلِمَاتٍ فَتَابَ عَلَيْهِ}[البقرة:37] فقال: ((إن الله أهبط آدم بالهند وحوا بجدة، وإبليس ببيسان، والحية بأصبهان، وكان للحية قوائم كقوائم البعير، ومكث آدم بالهند مائة سنة باكياً على خطيئته حتى بعث الله إليه جبريل، وقال: يا آدم ألم أخلقك بيدي؟ ألم أنفخ فيك من روحي؟ ألم أسجد لك ملائكتي؟ ألم أزوجك حواء أمتي؟ قال: بلى، قال: فما هذا البكاء؟ قال: وما يمنعني من البكاء وقد أخرجت من جوار الرحمن، قال: فعليك بهؤلاء الكلمات فإن الله قابل توبتك وغافر ذنبك قل: اللهم إني أسألك بحق محمد وآل محمد، سبحانك لا إله إلا أنت، عملت سوءاً وظلمت نفسي فاغفر لي إنك أنت الغفور الرحيم، اللهم إني أسألك بحق محمد وآل محمد سبحانك لا إله إلا أنت عملت سوءاً وظلمت نفسي فتب عليّ إنك أنت التواب الرحيم، فهؤلاء الكلمات التي تلقى آدم)).
القول الرابع: أَن الله علم آدم وحواء أمر الحج فحجا، وهذا مروي عن ابن عباس قال: وهي الكلمات التي تقال في الحج، قال: فلما فرغا من الحج أوحى الله تعالى إليهما بأني قبلت توبتكما.
القول الخامس: ما أخرجه الفريابي، وعبد بن حميد، وابن أبي الدنيا في التوبة، وابن جرير، وابن المنذر، وابن أبي حاتم، والحاكم وصححه، وابن مردويه عن ابن عباس في قوله: {فَتَلَقَّى آدَمُ ...}الآية، قال: أي رب ألم تخلقني بيدك؟ قال: بلى، قال: أي رب ألم تنفخ فيّ من روحك؟ قال: بلى، قال: أي رب ألم تسبق إليّ رحمتك قبل غضبك؟ قال: بلى، قال: أي رب أرأيت إن تبت وأصلحت أراجعي أنت إلى الجنة؟ قال: نعم.
القول السادس: ما أخرجه الطبراني في الأوسط، وابن عساكر بسند ضعيف عن عائشة عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال: ((لما أهبط الله آدم إلى الأرض قام وجاء الكعبة فصلى ركعتين فألهمه الله هذا الدعاء: اللهم إنك تعلم سري وعلانيتي فاقبل معذرتي، وتعلم حاجتي فاعطني سؤلي، وتعلم ما في نفسي فاغفر لي ذنبي، اللهم إني أسألك إيماناً يباشر قلبي، ويقيناً صادقاً حتى أعلم أنه لا يصيبني إلا ما كتبت لي، وارضني بما قسمت لي، فأوحى الله إليه: يا آدم قد قبلت توبتك وغفرت لك، ولن يدعوني أحد بهذا الدعاء إلا غفرت ذنبه، وكفيته المهم من أمره، وزجرت عنه الشيطان، واتجرت له من وراء كل تاجر، وأقبلت إليه الدنيا راغمة وإن لم يردها)).
وأخرج نحوه الجذمي، والطبراني، وابن عساكر عنها موقوفاً بلفظ: ((فلما صلى ركعتين قام استقبل البيت وقال: اللهم إنك تعلم سريرتي وعلانيتي فاقبل معذرتي فاعطني سؤلي، وتعلم ما في نفسي فاغفر لي ذنوبي، اللهم إني أسألك إيماناً يباشر قلبي، ويقيناً صادقاً حتى أعلم أنه لا يصيبني إلا ما كتبت لي، والرضا بما قسمت لي)). وذكر نحو ما مر وفيه: ((وكشفت غمومه وهمومه، ونزعت الفقر من بين عينيه)).
وأخرج الأزرقي في تأريخ مكة، والطبراني في الأوسط، والبيهقي في الدعوات، وابن عساكر بسند لا بأس به عن بريدة، قال: قال رسول الله -صلى الله عليه وآله: ((لما أهبط الله آدم إلى الأرض طاف بالبيت أسبوعاً وصلى حذاء البيت ركعتين ثم قال: اللهم أنت تعلم سري وعلانيتي فاقبل معذرتي، وتعلم حاجتي فاعطني سؤلي، وتعلم ما عندي فاغفر لي ذنوبي، أسألك إيماناً يباهي قلبي، ويقيناً صادقاً حتى أعلم أنه لا يصيبني إلا ما كتبت لي، ورضني بقضائك، فأوحى الله: يا آدم إنك دعوتني بدعاء فاستجبت لك فيه، ولن يدعوني به أحد من ذريتك إلا استجبت له وغفرت له ذنبه، وفرجت همه وغمه، واتجرت له من وراء كل تاجر، وأتته الدنيا راغمة وإن كان لا يريدها)).
قلت: وجعل هذا الدعاء تفسيراً للكلمات مأخوذ من قوله في الرواية الأولى فألهمه الله هذا الدعاء.
القول السابع: ما رواه في كتاب الذكر لمحمد بن منصور المرادي قال فيه: حدثنا محمد قال: ثنا عباد بن يعقوب، عن أبان، عن سعيد بن جبير، عن ابن عباس قال: لما أصاب آدم الخطيئة فزع إلى كلمة الإخلاص فقال: لا إله إلا أنت سبحانك وبحمدك عملت سوءاً وظلمت نفسي فاغفر لي إنك خير الغافرين سبحانك وبحمدك عملت سوءاً وظلمت نفسي فارحمني إنك أنت أرحم الراحمين، لا إله إلا أنت سبحانك وبحمدك عملت سوءاً وظلمت نفسي فتب عليّ إنك أنت التواب الرحيم.
وأخرج ابن عساكر من طريق جويبر، عن الضحاك، عن ابن عباس: إن آدم عليه السلام طلب التوبة مائتي سنة حتى أتاه الله بكلمات ولقنه إياها، قال: بينا آدم عليه السلام جالس يبكي واضع راحته على جبينه إذ أتاه جبريل عليه السلام فبكى آدم، وبكى جبريل لبكائه فقال: يا آدم ما هذه البلية التي أجحف بك بلاؤها وشقاؤها؟ وما هذا البكاء؟ قال: يا جبريل، وكيف لا أبكي وقد حولني ربي من ملكوت السماوات إلى هوان الأرض، ومن دار المقامة إلى دار الظعن والزوال، ومن دار النعمة إلى دار البؤس والشقاء، ومن دار الخلد إلى دار الفناء، كيف أحصي ياجبريل هذه المصيبة، فانطلق جبريل إلى ربه فأخبره بمقالة آدم، فقال الله عز وجل: انطلق يا جبريل إلى آدم فقل: يا آدم ألم أخلقك بيدي؟ قال: بلى يا رب، قال: ألم أنفخ فيك من روحي؟ قال: بلى يا رب، قال: ألم أسجد لك ملائكتي؟ قال: بلى يا رب، قال: ألم أسكنك جنتي؟ قال: بلى يا رب، قال: ألم آمرك فعصيتني؟ قال: بلى يا رب، قال: وعزتي وجلالي وارتفاعي في علو مكاني لو أن أملأ الأرض رجالاً مثلك ثم عصوني لأنزلتهم منازل العاصين غير أنه يا آدم قد سبقت رحمتي غضبي، فقد سمعت صوتك وتضرعك ورحمة بكائك وأقلت عثرتك فقل: لا إله إلا أنت سبحانك وبحمدك عملت سوءاً وظلمت نفسي فارحمني إنك أنت خير الراحمين، لا إله إلا أنت سبحانك وبحمدك عملت سوءاً وظلمت نفسي فتب عليّ إنك أنت التواب الرحيم. فذلك قوله: {فَتَلَقَّى آدَمُ مِنْ رَبِّهِ كَلِمَاتٍ...}الآية.
وأخرج عبد بن حميد عن عبد الله بن زيد في قوله: {فَتَلَقَّى آدَمُ [مِنْ رَبِّهِ كَلِمَاتٍ}[البقرة:37] قال: لا إله إلا أنت سبحانك وبحمدك عملت سوءاً وظلمت نفسي فارحمني إنك أنت أرحم الراحمين، لا إله إلا أنت سبحانك وبحمدك عملت سوءاً وظلمت نفسي فتب عليّ إنك أنت التواب الرحيم.
وأخرج البيهقي في شعب الإيمان، وابن عساكر، عن أنس في الكلمات قال: سبحانك وبحمدك رب عملت سوءاً وظلمت نفسي فاغفر لي إنك أنت خير الغافرين، لا إله إلا أنت سبحانك وبحمدك، رب عملت سوءاً وظلمت نفسي فارحمني إنك أنت أرحم الراحمين، لا إله إلا أنت سبحانك وبحمدك، رب عملت سوءاً وظلمت نفسي فتب عليّ إنك أنت التواب الرحيم. وذكر أنه عن النبي -صلى الله عليه وآله- ولكن شك فيه.
وأخرج هناد في الزهد عن سعيد بن جبير قال: لما أصاب آدم الخطيئة فزع إلى كلمة الإخلاص فقال: لا إله إلا أنت سبحانك وبحمدك رب عملت سوءاً وظلمت نفسي فتب علي إنك أنت التواب الرحيم.
وأخرج الطبراني عن أبي برزة الأسلمي، قال: إن آدم لما طوطئ منع كلام الملائكة، وكان يستأنس بكلامهم بكى على الجنة مائة سنة فقال الله عز وجل: يا آدم ما يحزنك؟ قال: كيف لا أحزن وقد أهبطتني من الجنة ولا أدري أعود إليها أم لا، فقال الله تعالى: يا آدم، قل: اللهم لا إله إلا أنت وحدك لا شريك لك سبحانك وبحمدك رب إني عملت سوءاً وظلمت نفسي فاغفر لي إنك أنت خير الغافرين، والثانية: اللهم لا إله إلا أنت وحدك لا شريك لك سبحانك وبحمدك رب إني عملت سوءاً وظلمت نفسي فاغفر لي إنك أنت أرحم الراحمين، والثالثة: اللهم لا إله إلا أنت سبحانك وبحمدك لا شريك لك رب عملت سوءاً وظلمت نفسي فاغفر لي إنك أنت التواب الرحيم. فهي الكلمات التي أنزل الله على محمد -صلى الله عليه وآله- {فَتَلَقَّى آدَمُ مِنْ رَبِّهِ كَلِمَاتٍ فَتَابَ عَلَيْهِ إِنَّهُ هُوَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ}[البقرة:37] قال: وهي لولده من بعده.
فائدة
أخرج الخطيب، وابن عساكر عن أنس، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وآله: ((لما أهبط الله آدم إلى الأرض مكث فيها ما شاء الله أن يمكث ثم قال له بنوه: يا أبانا تكلم، فقام خطيباً في أربعين ألفاً من ولده، وولد ولده، فقال: إن الله أمرني فقال: يا آدم أقلل كلامك ترجع إلى جواري)).
وأخرج الخطيب، وابن عساكر عن ابن عباس قال: لما أهبط الله آدم إلى الأرض أكثر ذريته فنمت، فاجتمعت إليه ذات يوم ولده وولد ولده فجعلوا يتحدثون حوله وآدم ساكت لا يتكلم فقالوا: يا أبانا ما لنا نحن نتكلم وأنت ساكت لا تتكلم؟ فقال: يا بني إن الله أهبطني في جواره إلى الأرض عهد إليّ فقال: يا آدم أقل الكلام حتى ترجع إلى جواري.
وأخرج ابن عساكر عن فضالة بن عبيد قال: إن آدم كبر حتى بلغت به بنو بنيه فقيل له: ألا تنهى بني بنيك أن يلعبوا بك؟ قال: إني رأيت ما لم يروا، وسمعت ما لم يسمعوا، وكنت في الجنة وسمعت الكلام، وإن ربي وعدني إن أنا أسكت فمي أن يدخلني الجنة.
وأخرج ابن الصلاح في أماليه عن محمد بن النضر، قال: قال آدم: يا رب شغلتني بكسب يدي فعلمني شيئاً فيه مجامع الحمد والتسبيح، فأوحى الله إليه: يا آدم إذا أصبحت فقل ثلاثاً، وإذا أمسيت فقل ثلاثاً: الحمد لله رب العالمين حمداً يوافي نعمه ويكافي مزيده، فذلك مجامع الحمد والتسبيح.
المسألة الثانية في التوبة
والكلام فيها يكون في اثني عشر موضعاً: الأول في حقيقتها، الثاني في حكمها، الثالث في كيفية إسقاطها للعقاب، الرابع فيمن فعل طاعات ثم فعل كبيرة تحبطها ثم تاب هل يعود ثواب تلك الطاعات، الخامس في الخلاف في العاصي إذا تاب ثم تذكر الذنب هل يجب عليه تجديد التوبة، السادس في الخلاف في صحة التوبة من ذنب دون ذنب، السابع في وجوب قبول التوبة، الثامن في الخلاف في اعتبار الموافاة، التاسع في التوبة من المتولد قبل وقوعه.
الحادي عشر: في أن التوبة واجبة على الفور.
الثاني عشر: في صفات التوبة وشروطها.
الموضع الأول في حقيقة التوبة
وفيها خلاف.
فقال الإمام المهدي: هي الندم على ما فرط أو العزم على أن لا يعود، وأصرح منه ما ذكره القرشي، و هو أنها الندم على المعصية؛ لكونها معصية، والعزم على أن لا يعود إلى مثلها في كونها معصية.
قال الإمام عزالدين: وقد زيد في الحد مع تلافي ما يجب تلافيه، قوله: الندم جنس الحد، ولا خلاف في اعتبار الندم في التوبة، إذ لو لم يندم لكان راضياً بفعله الذنب، والراضي بالشيء كالفاعل له، والفاعل للشيء لا يكون تائباً عنه، وقوله على المعصية ليخرج الندم على فعل الطاعة، فإنه لا يسم توبة بل معصية، وقوله: لكونها معصية احتراز عما إذا ندم عليها خوفاً من العقاب أو لرجاء الثواب، أو لما لحقه من ذم وصغار، أو لأجل أمر دينوي يناله، فإن ندمه لا يكون توبة؛ لأنه إذا ندم لأجل ذلك كان غير نادم من عصيان الله، وهو وجه القبح.
قيل: وإذا انضم إلى الندم المذكور فيما ذكر أو شيء منه، فالأقرب صحتها إذا كان كونها معصية هو الأهم في الندم.
قلت: ويؤيده ظواهر الكتاب والسنة، فإن ما فيهما من التوبة والأمر بها مضتمن للترغيب في الثواب والسلامة من العقاب، وأيضاً التوبة من جملة العبادات، بل هي من أعظمها وقد مر من الفاتحة أنه يجوز الاتيان بالطاعة والاجتناب للمعصية طلباً للثواب، وهرباً من العقاب.
قوله: والعزم ...إلخ قد اختلف العلماء في اعتبار العزم في التوبة، فمنهم من اعتبره وهو قول جماعة من أصحابنا، ومنهم من لا يعتبره وهذا القول منسوب إلى ابن الملاحمي، فإنه قال حقيقة التوبة الندم على المعصية لكونها معصية، ولم يذكر العزم، وإليه أشار صاحب (الإكليل)، ورواه في (المحيط) عن بعض المتكلمين.
قال بعض أصحابنا وهو القوي، ومقتضى الآثار ويؤيده قوله تعالى: {وَآخَرُونَ اعْتَرَفُوا بِذُنُوبِهِمْ}[التوبة:102] والاعتراف بذلك يصحبه الندم، ولم يشترط العزم ولا خلاف في أن الذكر للمعصية في المستقبل لابد أن يعزم على أن لا يعود لمثلها في المستقبل، وأنه لو لم يعزم على ذلك لم يصح كونه نادماً على الماضي؛ لأن الداعي إلى الندم داع إلى الحزم والعكس، فمن ندم فهو عازم، ومن عزم غهو نادم، وليس ذلك عند من لا يعتبر العزم جزء من حقيقة التوبة، ولا بشرط فيها، لكنه لابد منه من باب الداعي، وتظهر فائدة الخلاف، فمن ندم على الماضي وكان ساهياً عن المستقبل كمن لا يعتبر العزم يقول توبته صحيحة، ومن يعتبره يقول لا تصح.
احتج المعتبرون له بأن التوبة نظير الاعتذار من الإساءة في الشاهد لاتحادهما صورة وإن اختلفا في التسمية، وفي أن المعتذر لا بد أن يظهر عذره بالقول لخفاء ما في ضميره.
سلمنا عدم اتحادهما في الصورة، فالتوبة مقيسة عليه، فكما أن المسيء لا يكون معتذراً، ولا يسقط عنه الذم إلا إذا عزم على أن لا يعود إلى الإساءة، فكذلك التوبة، والجامع كون كل منهما بذل الجهد في التلافي، ودفع استحقاق الذم والعقاب، ويوضحه أن من اعتذر إلى غيره من قتل ولده وهو عازم على قتل ولده الآخر فإنه لا يكون معتذارً.
وأجيب بأن مثل هذه الصورة من صور الاتفاق؛ إذ لا خلاف في أنه لا بد من العزم مع ذكر المستقبل كما مر.
قلت: ومما يدل على اعتبار العزم ما روي عن علي عليه السلام في حقيقة التوبة حين قال رجل بحضرته: استغفر الله، فقال عليه السلام : (ثكلتك أمك أتدري ما الاستغفار؟ إن الاستغفار درجة العليين وهي اسم واقع على ستة معان:
أولها: الندم على ما مضى.
والثاني: العزم على ترك العود إليه أبداً.
والثالث: أن تؤدي إلى المخلوقين حقوقهم حتى تلقى الله عز وجل أملس ليس عليك تبعة.
والرابع: أن تعمد إلى كل فريضة عليك ضيعتها فتؤدي حقها.
والخامس: أن تعمد إلى اللحم الذي قد نبت على السحت فتذيبه بالأحزان حتى يلصق الجلد بالعظم وينشأ بينهما لحم جديد.
والسادس: أن تذيق الجسم ألم الطاعة كما أذقته حلاوة المعصية فعند ذلك تقول: أستغفر الله). رواه في (النهج).
فإن قيل: هذا معارض بقوله صلى الله عليه وآله: ((الندم توبة)). رواه الموفق بالله في (سلوة العارفين) عن ابن مسعود، وهو في (الجامع الصغير) منسوباً إلى أحمد، والبخاري في التاريخ، وابن ماجة، والحاكم من حديث ابن مسعود، وإلى الحاكم والبيهقي من حديث أنس، قال العزيزي: وإسناده صحيح.
وفي أمالي المرشد بالله: أخبرنا أبو بكر بن ريذة قراءة عليه، قال: أخبرنا الطبراني، قال: حدثنا علي بن برهم العامري الكوفي، قال: حدثنا أحمد بن يونس، قال: حدثنا الحسن بن صالح، عن أبي سعيد البقال، عن عبد الله بن معقل، عن عبد الله بن مسعود، عن النبي -صلى الله عليه وآله- قال: ((من أخطأ خطيئة أو أذنب ذنباً ثم ندم فهو كفارته)). رواه الموفق بالله في السلوة، قال: أخبرنا أبو الحسن، أخبرنا أبو أحمد، حدثنا أبو ميسرة، حدثنا إبراهيم بن إسحاق الزهري قاضي الكوفة، حدثنا مالك بن إسماعيل، حدثنا الحسن بن صالح، عن أبي سعيد، عن عبد الله بن معقل، عن ابن مسعود فذكره بلفظه.
أما العامري وشيخه فلم أعرفهما.
وأما الحسن بن صالح فهو: ابن حي الهمداني، أبو عبد الله الكوفي البكيلي، كان إماماً جليلاً، عابداً زاهداً، مبايناً للظلمة، وإليه تنسب الصالحية من الزيدية، وثقه أحمد، وابن حبان، وابن معين، والنسائي، وأثنى عليه غيرهم، وعداده في ثقات محدثي الشيعة، توفي سنة تسع وستين ومائة، احتج به الجماعة لكن البخاري في الأدب، وروى له أئمتنا الأربعة وفي المسائل المرتضاة.
وأما أبو سعيد والصواب أبو سعد كما في (التقريب) قال فيه: سعيد بن مرزبان العبسي مولاهم أبو سعيد البقال الكوفي الأعور ضعيف مدلس، وفي (الجداول): أنه مولى حذيفة، وفيها عن الخزرجي أنه قال: ما علمت أحداً وثقه، توفي بعد الأربعين ومائة، احتج به الترمذي، وابن ماجة، والنسائي، والبخاري في الأدب المفرد.
قلت: ولعل وجه التضعيف من حيث أنه كوفي؛ إذ مرادهم بذلك أنه شيعي، والشيعي ضعيف عندهم، نص على هذه القاعدة علامة العصر.
وأما ابن معقل فهو: عبد الله بن معقل بفتح أوله وسكون المهملة بعدها قاف، ابن مقرن المزني، أبو الوليد الكوفي، قال في (التقريب): من كبار الثالثة، ذكر في (الجداول) روايته عن علي، وابن مسعود، وأبيه، وثقه العجلي، وابن حجر، توفي سنة ثمان وثمانين، وفي (التقريب) ما يوهم أن وفاته سنة ثمان وثمانين ومائة وهو وهم؛ إذ لا يتأتى سماعه ممن ذكر مع ذلك، احتج به الجماعة، وروى له الموفق بالله وولده، وليس بابن المغفل بالغين المعجمة كما يفيده إعجام بعضهم؛ إذ عبد الله بن المغفل بالمعجمة صحابي شهد بيعة الشجرة.
وأما أبو الحسن شيخ الموفق بالله فهو: علي بن محمد بن أحمد، أبو الحسن، عن علي بن عاصم، وابن منيع، وعلي بن محمد بن داهر وغيرهم، وعنه الموفق بالله، قال في (الجداول): يحتمل أن يكون أبو لؤلؤ أو ابن كيسان.
قلت: أبو لؤلؤ هو علي بن محمد بن أحمد بن لؤلؤ، أبو الحسن الوراق، روى عنه أبو هاشم التنوخي، قال البرقاني: كان لا يحسن الحديث إلا أن سماعه كان صحيحاً مع أخيه.
وأما أبو أحمد فهو: الحسن بن عبد الله بن سعيد الحضرمي، أبو أحمد العسكري، أكثر عنه الجرجاني، وقال ابن خلكان: هو أحد الأئمة في الأدب والحفظ، توفي سنة اثنتين وثمانين وثلاثمائة.
وأما أبو ميسرة وشيخه فلم أعرفهما.
وأما مالك فهو: ابن إسماعيل بن درهم النهدي، مولاهم أبو غسان الكوفي الحافظ الحجة، عن الحسن بن صالح وطبقته، وعنه عثمان بن أبي شيبة والبخاري وخلق، وثقه النسائي وغيره، وأثنى عليه غير واحد، وقال في (الكاشف): كان حجة عابداً قانتاً، قال علامة العصر: عداده في ثقات محدثي الشيعة، توفي سنة عشر ومائتين، احتج به الجماعة، وروى له أبو طالب والموفق بالله والمرادي.
وعن حميد الطويل قال: قلت لأنس بن مالك: أقال رسول الله -صلى الله عليه وآله: ((الندم توبة))؟ قال: نعم. أخرجه ابن حبان في صحيحه.
وعن عبد الله بن مغفل قال: دخلت أنا وأبي على ابن مسعود فقال له أبي: سمعت رسول الله -صلى الله عليه وآله- يقول: ((الندم توبة))؟ قال: نعم. أخرجه الحاكم وصححه.
وفي أمالي المرشد بالله: أخبرنا أبو محمد عبد الله بن عمر بن عبد الله بن رسته بن المهيار البغدادي نزيل أصفهان بقراءتي عليه، قال: حدثنا أبو الطيب عبد الرحمن بن محمد بن عبد الله بن شيبة إملاءاً قال: أخبرنا أبو الحسن بكر بن أحمد بن مقبل، قال: حدثنا أحمد بن يسار القطان، قال: حدثنا عبد الرحمن بن مهدي، عن سفيان، عن عبد الكريم الجزري، عن زياد بن أبي مريم، عن عبد الله بن مغفل قال: سألت ابن مسعود: أسمعت رسول الله -صلى الله عليه وآله- يقول: ((الندم توبة))؟ قال: نعم.
وفيه: أخبرنا أبو محمد عبد الرحمن بن عمر بن عبد الله بن رسته، قال: حدثنا أبو الطيب عبد الرحمن بن محمد، قال: حدثنا أبو الحسين بن مقبل، قال: حدثنا أبو سفيان البروري ونعم الرجل كان قال: حدثنا عبد العزيز بن أبان قال: حدثنا يحيى بن عمرو بن مالك البكري، عن أبيه، عن أبي الحوراء، عن ابن عباس، عن النبي -صلى الله عليه وآله- قال: ((الندم توبة)).
قوله: أبو سفيان البروري كذا في الأمالي، وفي (الجداول): أبو سفيان المروزي عن عبد العزيز بن أبان، والأخبار في هذا المعنى أكثر مما ذكرنا، ذكرها أئمتنا وغيرهم.
وروى الموفق بالله عليه السلام عن علي عليه السلام أنه قال: (إني لأرجو أن تكون كفارة العبد من ذنبه ندامته عليه). ذكره في (سلوة العارفين).
قيل: قد أجاب عنه الإمام المهدي أنه إنما اقتصر فيه على الندم؛ لأن الغالب ممن تاب العزم على أن لا يعاود؛ إذ لا يجوز من عاقل أن يندم على فعل لعلة اقتضت ندمه، ثم لا يعزم على أن لا يعاوده مع بقاء تلك العلة، وحاصله أنه إنما اقتصر على الندم لكون العزم لازماً له لا ينفك عنه فاكتفى بالنص عليه عن ذكر العزم، وقال غيره: المراد أنه معظم أركانها كخبر: ((الحج عرفة)).
هذا وأما من اعتبر العزم فاختلفوا في كونه جزءاً منها أو شرطاً، فقال أبو هاشم ومن تابعه: هو جزء منها لما مر، ورواه في (البدر الساري) عن القاسم.
وقال السيد مانكديم وأبو رشيد: ليس بجزء منها وإنما هو شرط فيها والأصل هو الندم؛ لأن من حق التوبة أن تتعلق بالماضي والعزم لا يتعلق بالماضي، واختاره الإمام عز الدين قال: وإنما يعتبر العزم ويشترط؛ لأن عدمه يكشف عن عدم صحة الندم، وكيف يندم أحد على فعل من الأفعال وهو عازم على العود إليه.
وأجيب بأن التوبة بذل الجهد في تلافي ما فرط ولا يكمل إلا بهما، وأيضاً لا خلاف بيننا وبينكم أنه لا بد منهما فكانا جميعاً ركنين.
قيل: والخلاف لفظي لا يختلف المعنى فيه مع اعتبارهما معاً، وتوقف ثمرة التوبة عليهما.
وقيل: معنوي وفائدته أنه لو نسي العزم أو كان يتعذر عليه معاودة ما تاب منه كتوبة المجبوب عن الزنا فإن التوبة تجزيه عند من جعله شرطاً دون من جعله جزاءاً، فلا بد عنده من أن يضمر أنه لو قدر ما فعل.
فرع وإذا قيل بوجوب العزم
فقال القرشي: يتعلق بفعل الواجب لوجوبه، وبكراهة فعل القبح أو بإرادة فعل ضده إذا كان له ضد، ولا يصح تعلق العزم بأن لا يفعل من حيث هو نفي.
قال: فأما الندم فلا يصرف عن ظاهره في التعلق؛ لأنه من قبيل الغم والأسف، يعني وهما يتعلقان بالنفي.
قال الإمام عز الدين:وفيه تكلف إلجا إليه، يصحح تلك القاعدة وهي أن العزم إرادة، والإرادة لا تتعلق بالنفع، والمتكلمون كثيراً ما يبنون على قواعد قد قرروها، ويجدون في إطرادها فيلجيهم ذلك إلى اقتحام المضايق، ومن المعلوم قطعاً أن العزم الذي يجده التايب من نفسه ليس متعلقاً بأن يفعل كراهة للقبيح، ولا إرادة على فعل كراهة للقبيح من عزمه على فعل القبيح فلا تنافي بين ا لعزمين، وكذلك العزم عليه، والعزم على ضده، فنحن في غنية عن هذا التكليف، والعزم أمر موجود من النفس ضرورة، ونحن نجد في أنفسنا العزم على أن لا يفعل وجدانا يقينياً، وإذا صح أنه من قبيل الإرادة و أنها لاتتعلق بالنفي جعلناه متعلقاً بالكف عن الفعل والكف فعل عند أهل التحقيق، وقد لمح إليه السيد مانكديم بل صرح به وقال: الترك فعل يصح تعلق العزم به، وهو قول أبي علي.
فإن قيل: الترك قد يكون مجرد الإخلال بالفعل، وعدم إيجاده وذلك نقي محض….
قيل: إن أبا هاشم وإن أجاز أن يكون ترك القبح بمعنى لا يفعل فليس ذلك بمانع من جعله العزم هنا متعلقاً للعزم، وفي الإكليل ان معنى العزم هنا الكراهة، فحيث يذم على القبح فعزمه على أن لا يعود كراهة أن يحدث ما هو قبح، وأن يذم على الإخلال بالواجب، فالعزم هنا إرادته لا ذاماً وجب عليه في المستقبل.
قال الإمام عز الدين: وهو كلام جدي لا غبار عليه.
قلت: وفي تسمية صاحب (الإكليل) الكراهة عزماً على القول بأنه من قبيل الإرادة، نظراً إذ الإرادة والكراهة ضدان، وقد قيل أن تسمية تلك الكراهة عزماص من قبيل الاستعارة والمجاز، قوله: مع تلافي ما يجب تلافيه، المراد بالتلافي غرامة ما يجب غرامته بتلك المعصية من قصاص أو مال أو اعتذار في الحد من إساءة أو نحو ذلك.
قيل: ولا حاجة إلى هذه الزيادة؛ لأن التلافي إنما هو شرط في صحة التوبة، ودليل على حصول حقيقتها التي هي الندم، إذ لا يتحقق الندم إلا بذلك، فهذا ما ذكره أصحابنا في حقيقة التوبة على الختلاف بينهم، والمتحصل من اختلافهم أنهم في حدهاعلى قولين:
أحدهما: ما ذكره الإمام المهدي والقرشي، والثاني ما ذكره من لا يعتبر العزم جزءاً منها، سواء قيل إنه شرط أم لا، وهو أنها الندم على ما فرط من فعل قبيح، أو إخلال بواجب كما يفهم مما مر.
وأما غيرهم فقال النجار وبعض الخوارج: بل التوبة مجرد الاستغفار باللسان.
لنا ما مر من أنها بذل الجهد في التلافي وهو لا يحصل إلا بما ذكرنا، وأيضاً قوله صلى الله عليه وآله: ((الندم توبة))، وقول الوصي يدفع هذا القول.
قال الإمام المهدي: ويزيد ذلك وضوحاً ما ورد عنه صلى الله عليه وآله: ((من استغفر الله بلسانه وهو مصر فكأنما يستهزئ بربه)).
وقال الغزالي: التوبة تتحقق من ثلاثة أمور مترتبة: علم، وحال، وعمل، والأول موجب للثاني، والثاني موجب للثالث إيجاباً اقتضته سنة الله في الملك والملكوت، أما العلم فهو معرفة ما في الذنب من الضرر وفوت المنفعة، فإذا عرف ذلك حصل له تألم القلب بسبب فوت المحبوب، فإذا كان فواته بفعل من جهته تأسف بسبب فوات المحبوب على الفعل الذي كان سبباً لذلك الفوات فسمي ذلك التأسف ندماً، وهذا هو الحال، ثم ذلك الألم إذا تأكد حصلت منه إرادة جازمة ولها تعلق بالحال وبالمستقبل والماضي، أما تعلقها بالحال فبترك الذنب الذي قد ارتكبه، وأما بالمستقبل فالعزم على أن لا يعود إليه، وأما بالماضي فبتلافي الفائت بالجبر والقضاء إن كان قابلاً للقضاء، وهذا هو العمل، وحاصله أن العلم والندم والقصد المتعلق بالترك في الحال والاستقبال والتلافي للماضي ثلاثة معان مترتبة يطلق اسم التوبة على مجموعها، وكثيراً ما نطلق اسم التوبة على الندم وحده، ونجعل العلم كالمقدمة، والترك كالثمرة، والتابع المتأخر، وبهذا الاعتبار قال صلى الله عليه وآله: ((الندم توبة))؛ إذ لا ينفك الندم عن علم أوجبه وعن عزم يتبعه.
قال الرازي: وهو كلام حسن، وقال القفال: لا بد من التوبة من ترك الذنب، والندم على ما سبق، والعزم على أن لا يعود إلى مثله، والإشفاق فيما بين ذلك كله.
وأما اعتبار الثلاثة الأول فقد عرف مما مر، ودليل اعتبار الترك هو دليل اعتبار العزم على أن لا يعود، ولأنه لو لم يترك لكان فاعلاً للذنب والفاعل غير تائب، وأما الإشفاق فلأنه لا سبيل له إلى القطع بأنه قد أتى بالتوبة كما لزمه فيكون خائفاً، ولهذا قال تعالى: {يَحْذَرُ الآخِرَةَ وَيَرْجُو رَحْمَةَ رَبِّهِ}[الزمر:9].
قلت: أما العلم بالذنب فلا نسلم اعتباره في مسمى التوبة، وإنما هو شرط في وجوبها والتكليف بها، وفي حكمه الظن كما سيأتي، وأما الإشفاق فلا يصح اعتباره عند أصحابنا لاشتراطهم أن يتوب من القبيح لقبحه لا لخوف ضرره كما مر على أن الإشفاق إنما يعتبر عند القفال لعدم القطع بتمام التوبة، وهذا أمر خارج عن مسمى التوبة ضرورة فكيف يجعل جزءاً منها.
نعم الإشفاق من عدم قبول الأعمال والوفاء بها هو شأن المؤمنين كما قال تعالى: {يُؤْتُونَ مَا آتَوا وَقُلُوبُهُمْ وَجِلَةٌ}[المؤمنون:60] لكن هذا الإشفاق لا يختص بالتوبة بل هو معها ومع سائر الطاعات على سواء، وهو عمل وطاعة مستقلة.
وقال الراغب: التوبة في الشرع ترك الذنب لقبحه، والندم على ما فرط منه، والعزيمة على ترك المعاودة، وتدارك ما أمكنه تداركه من الأعمال بالإعادة، فمتى اجتمعت هذه الأربع فقد كمل شرائط التوبة، وهو معنى ما ذكره الأصحاب إلا أنه زاد التدارك، وكلام أمير المؤمنين يشهد له، ويقال: لا حاجة إلى هذه الزيادة كما يعرف مما مر.
واعلم أن بعضهم يعتبر في التوبة أن يندم على القبيح لعظمه في القبح لا للقبح المطلق، واعتبر بعضهم أن يندم عليه لقبحه ولجنسه فيندم على الزنا لقبحه، ولكونه زنا، وقال بعضهم: بل لقبحه ولوجه قبحه.
قلنا: العقلاء يستحسنون الذم على القبيح، وإنزال العقاب عليه وإن تجرد عن جميع ما ذكروه، ولو اعتبر شيء من ذلك لوجب إذا تعرى القبيح عنه أن يكون فاعله معذوراً فلا تجب عليه توبة، وأيضاً وجه وجوب التوبة كونها تدفع ضرر العقاب فتجب التوبة من القبيح لوجه قبحه لا لنفس القبح فيتوب من الكذب؛ لأنه كذب لا لكونه قبيحاً كما يصح فعل الواجب لوجه الوجوب، واعتبر بشر بن المعتمر وأصحابه في التوبة الموافاة، وسيأتي الرد عليه.
الموضع الثاني في حكم التوبة
وحكمها أنها واجبة بلا خلاف بين المسلمين، واختلف في دليل الوجوب، فقال أبو هاشم: إن كانت المعصية كبيرة فدليل وجوبها العقل والسمع، وإن كانت صغيرة فالسمع فقط، وهذا قول السيد مانكديم، والقرشي، وغيرهما من أصحابنا.
وقال أبو علي: بل التوبة عن الصغائر تجب عقلاً وسمعاً.
قلنا: التوبة إنما تجب لدفع الضرر عن النفس، ولا ضرر في الصغائر؛ إذ لا تؤثر إلا في تقليل الثواب ولا ضرر في ذلك.
فإن قيل: في ترك التوبة تفويت منفعة فتجب.
قيل: المنافع لا يجب حفظها كما لا يجب تحصيلها وإن سمي ظالماً لنفسه بتفويتها، والتحقيق أن أبا علي يقول: إن الصغيرة لا تسقط شيئاً من الثواب؛ لأنه لا يقول بالموازنة، لكنه يقول بوجوب التوبة منها لوجوه:
أحدها: أن عنده أن للتوبة ضد وهو الإصرار؛ إذ لا يخلو من أن يكون نادماً أو مصراً، والإصرار قبيح فلزمته التوبة؛ لأنها ترك قبيح.
والجواب: أنا لا نسلم أن لها ضداً.
الثاني: أن في التوبة من الصغائر لطفاً؛ لأن المكلف معها يكون أقرب إلى تجنب المعصية فتجب لذلك.
والجواب: أن كونها لطفاً لا يعلم من جهة العقل، سلمنا فإنما يجب اللطف لجريه مجرى دفع الضرر، ولا ضرر في الصغيرة فلا يجب فعل ما يدعو إلى تركها.
الثالث: أن فعل الصغيرة قبيح فلو لم تجب التوبة عنها لكان ذلك إغراء بالقبيح.
والجواب: أنه لا إغراء مع العلم بقبحها، والذي يدل على وجوب التوبة عن الكبائر من جهة العقل أنها دفع ضرر عظيم، ودفع الضرر عن النفس واجب، وقد ذهب أبو الحسين إلى أن العلم بوجوب التوبة عن القبيح لقبحه معلوم ضرورة، وأما الدليل السمعي فهو معلوم ضرورة من الدين.
فرع
ومن ظن ظناً غالباً أنه ارتكب معصية وجبت عليه التوبة كما لو علمها، نص عليه الإمام الموفق بالله في (الإحاطة) وأجرى غالب الظن مجرى العلم، ثم قال: فعلى هذا إذا ظن أنه ارتكب كبيرة وتناوش معصية يجب عليه أن يندم ويتوب؛ لأنه لا يأمن أن يكون فاعلاً لها فيستحق العقاب، وممن نص على وجوب التوبة من الذنب المظنون الدواري، وأما إذا لم يعلم ولا يظن ذنباً فقال الدواري: ذكر بعض علمائنا أن التوبة تجب عليه؛ لأنه يجوز الذنب، وإذا جوزه خشي الضرر ودفع الضرر المخشي واجب، قال: وهذا غير جيد، بل لا تجب عليه التوبة هاهنا؛ لأن التوبة لا تجب إلا إذا علم الضرر أو ظنه، وفي هذه الصورة لا علم ولا ظن، وأكثر ما هو عليه أن يكون شاكاً، ودفع الضرر المشكوك لا يجب.
فرع
والمعصية قد تعلم أو تظن جملة نحو أن يعلم أنه قد أذنب ذنباً ولا يعلم ما تفصيل الذنب، أو تفصيلاً وهو واضح، فالأول تكفي منه التوبة جملة فيندم على ما علمه الله من معصية، والثاني يجب عليه التوبة تفصيلاً فيندم على كل معصية بعينها، فإن علم تفاصيل ما علمه جملة بعد التوبة منه فقال الموفق بالله: لا يجب عليه أن يتوب عن التفاصيل؛ لأنه قد أسقط عنه عقابها بالتوبة كالمعتذر إذا أساء إلى غيره ضروباً من الإساءة من دون معرفة تفصيلها فاعتذر إليه ثم علم تفاصيلها، فإنه لا يجب عليه الاعتذار بعد ذلك.
الموضع الثالث في كيفية إسقاطها للعقاب
وقد اختلف في ذلك، فالذي عليه الزيدية وجمهور المعتزلة أنها مسقطة للعقاب بنفسها.
وقالت البغدادية: لا تأثير لها في إسقاط العقاب وإنما يتفضل الله بإسقاطه عندها، هكذا نقل عنهم السيد مانكديم، حكاه الموفق بالله عن أبي القاسم وجل البغدادية.
وأما القرشي فنسب القول بالسقوط عندها تفضلاً إلى أبي الهذيل ثم قال: وبه قالت البغدادية، إلا أنهم جعلوا الوجه في ذلك كونه أصلح.
وفي (الغياصة) عن البغدادية أنها تسقط العقاب بكثرة ثوابها، وتحقيق الخلاف على ما ذكره الإمام المهدي أن أكثر أصحابنا يقولون بسقوط العقاب بالتوبة، والبغدادية يقولون بسقوط عقبهاً تفضلاً، والقائلون بأنها تسقط بالعقاب، اختلفوا أهل تسقيطه بنفسها أو بكثرة ثوابها، فقالت البهاشمة ومن تابعهم بالأول، وقال بعض القائلين بالموازنة بل بسقطه بثوابها.
قال عليه السلام : فصار الناس في إسقاط التوبة للعقاب فريقين، فريق أوجبه وفريق لم يوجبه، والموجبون فريقان: فريق أوجب إسقاطها إياه بنفسها، وفريق قال بثوابها، وغير الموجبين فريقان، فريق قطع بأنه لابد من سقوط العقاب بها وإن لم يكن واجباً كإثابة المثاب عنده، وفريق لا يقطع بسقوطه، بل يجوز وقوعه بعدها لولى منع السمع من ذلك.
قلت: الذي قطع بسقوط العقاب هم أكثر البغدادية، والذي لم يقطع هو أبو القاسم كما يفهم، وذلك من كلام رياض الأفهام، وما حكاه في (شرح القلائد) للإمام المهدي عن الحاكم، وهو أنه قال بعد أن حكى ما مر عن البغدادبة ما لفظه: قال الحاكم: وهو خلاف في عبارة؛ لأنهم لا يجوزون العقاب بعد التوبة، إلا أنهم يقولون وجوبه وجوب جود لا استحقاق، ومنهم من قال بلا تفضل محض، بحيث كان يجوزان يعاقب التايب لولي منع السمع من ذلك حيث ورد بأن التايب لا يعاقب، وإلى هذا المذهب ذهب الشريف المرتضى الموسوي.
قلت: القائل بأنه تفضل محض هو أبو القاسم كما في (رياض الأفهام) وحكى فيها عنه أنه قال: لو عوقب تايب لم يكن ظلماً، وإنما لم يعاقبه؛ لأنه أصلح، والحجة على أنه تسقط العقاب من وجوه:
أحدها: أنها نظير الاعتذار، والمعلوم أن الاعتذار الصادق في الشاهد يسقط الذم على الاساءة، ولم يكن للمجني عليه أن يذمه بعد ذلك، ولا وجه له سوى أنه اعتذر إليه، فكذلك التوبة، والجامع ما مر أن لم يكونا جنساً واحداً.
الثاني: أنها لو لم تكن مسقطة للعقاب لكان يجب أن يحسن من الله أن لا يتفضل بل يعاقب؛ لأن التفضل هو الذي لفاعله أن يفعله وان لا يفعله، وا لمعلوم خلافه، لا يقال أنه تعالى يتفضل لا محالة؛ لأنه أصلح؛ لأنا نقول ليس بواجب عندنا، فكان يجب حسن ا لمعاقبة بعد التوبة، وذلك مما قد علم خلافه.
الثالث: أن العقاب لو لم يسقط بالتوبة لوجب أن ترتفع التكليف عقيب المعصية، ويكون قبيحاً؛لأنه لا يتخلص به من العقاب، ولا يتوثل له إلى ما هو الفرض بالتكليف، وهو نيل الثواب، وذلك يؤدي إلى نقص الفرض بالتكليف، فيجب قبحه لعدم الانتفاع به حينئذٍ.
فإن قيل: إنه يفعل الطاعات بعد تلك الكبائر، فتؤثر في إسقاطها.
قيل: إن من الجائز أن يموت قبل أن يفعل من الطاعات ما يؤثر في الإسقاط.
فإن قيل: التكليف بعد المعصية وإن لم يؤثر في إسقاط العقاب كله فهو يؤثر في نقصانه بما يفعله من الطاعات.
قيل: ليس الغرض بالتكليف نقصان العقاب؛ لأنه يحسن إسقاطه عقلاً، وإنما الغرض به إيصاله إلى الثواب، وذلك مما لا يجوز بعد الكبيرة.
فإن قيل: إن الله عندها يغفر له كما أخبر بذلك فيحصل المقصود به.
قيل: فيلزمكم أنه لو لم يرد سمع لكان لا طريق إلى الانتفاع بالتكليف فلا يحصل الغرض.
الرابع: أنه قد علم سمعاً وجوب التوبة، ولا يجوز أن تجب لأجل نفع فيها؛ لأن طلب النفع لا يجب، وإنما وجبت لدفع الضرر، وإذا وجبت لذلك فإما لكونها لطفاً أو لكونها تسقط العقاب، والأول باطل؛ لأنها ندم على ما مضى وعزم على مستقبل، وحق اللطف أن يكون داعياً إلى العزم، فالعزم هو الملطوف فيه فكيف يكون لطفاً فتعين كون وجه وجوبها دفع ضرر العقاب.
الخامس: أنها لو لم تؤثر في إسقاط العقاب واستحقاق الثواب لكان التائب يدخل الجنة بلا استحقاق، وذلك خرق للإجماع فإن الأمة مجمعة على أن المكلفين يجب أن يميز حالهم في الجنة عن حالة المتفضل عليهم من الأطفال والحور العين، لا يقال: إذا أسقط الله تعالى عقابه استحق على توبته ثواباً فيدخل الجنة باستحقاق وهو الثواب عليها؛ لأنا نقول: عقابه إنما يزول بإسقاط الله تعالى بعد التوبة، وعند حصولها يزول الثواب المستحق عليها لمكان ما يستحقه من العقاب على الكبيرة.
والحجة على أنها تسقط العقاب بنفسها أنها نظير الاعتذار كما مر وهو يسقط الذم بنفسه لا بكثرة ما يستحق من المدح عليه، ولا يفترق الحال بين قليل الاعتذار وكثيره في إسقاط الذم، وأيضاً لو أسقطت بكثرة ثوابها للزم أن يكون ثواب التائب من الشرك أعظم من ثواب النبي؛ لأن التوبة تسقط عقاب الشرك، وعقابه أكثر من ثواب النبؤة؛ لأنه يحبطه بدليل: {لَئِنْ أَشْرَكْتَ لَيَحْبَطَنَّ عَمَلُكَ}[الزمر:65] وكون ثواب التائب أكثر من ثواب النبي معلوم البطلان.
ودليل آخر وهو أنها قد تسقط عقاب المعصية في حال لا يستحق عليها ثواباً، وذلك بأن تصدر من مصر على كبيرة يعتقد أنها غير معصية كالخارجي، والباغي إذا تاب من شرب الخمر فإن توبته تقبل، ولا ثواب له عليه لانحباطه بالكبيرة التي اعتقدها غير معصية.
قيل: وللخصم أن يقول: إنما يسقط عقاب شرب الخمر بثوابها فيسقط ثوابها في مقابلة عقاب تلك المعصية، وإن بقيت منه بقية سقطت لأجل عقاب تلك الكبيرة ولا مانع من ذلك.
احتج الخصوم بأنها لو أسقطته بنفسها لوجب أن تسقطه في الآخرة، وأن تسقطه توبة المحتضر.
وأجيب بأن هذا لازم لهم؛ لأن ثواب التوبة يكون أكثر من عقابه في الآخرة كما هو كذلك في الدنيا.
قيل: وفيه نظر؛ لأنهم يقولون إنها تسقط العقاب بثوابها، ولا ثواب لطاعة من في الآخرة، ولا لطاعة المحتضر، وإنما يلزم من يقول أنها تسقطه بمجردها؛ لأنها حاصلة منهما.
والتحقيق أنا لم نقل بأنها تسقطه بنفسها على كل حال، بل حيث كملت شروطها، ومنها أن تقع مع بقاء التكليف وعدم الإلجاء، وأن يندم على القبيح لقبحه، وليس كذلك المحتضر ومن في الآخرة؛ إذ لا تكليف، والندم إنما هو للإلجاء.
قالوا: لو أسقطته بنفسها لوجب في كل طاعة؛ إذ لا فرق.
قلنا: لم تسقطه لكونها طاعة، بل لكونها بذل الجهد في التلافي وليس غيرها كذلك؛ إذ لا تعلق له بما سلف من المعصية.
قالوا: تلزمكم المساواة بين من استمر على المعاصي ثم تاب وبين من عصى معصية واحدة فقط ثم تاب ومات؛ لأنها قد أسقطت ما قبلها بنفسها وبقي لهما ثوابها.
أجاب النجري بأنا نلتزم ذلك ونفرق بينه وبين ما ألزمناه أبا علي في مسألة الموازنة أن سقوطه المعصية هنا بالجب لا بالموازنة، والمعصية هنا صارت كالمعدوم، فيستوي من سلف له معصية واحدة ومن سلف له معاصي متعددة؛ إذ صار كل منهما كأنه لم يعص بخلاف مسألة الموازنة فإن السقوط فيها بمجرد الموازنة والمقابلة من الجانبين، فلم يجز تساوي من أحسن وأساء، ومن أساء فقط.
قلت:تحقيق الإلزام في مسألة الموازنة أن أبا علي لا يقول بالموازنة، بل يقول بالإحباط، وعلى مقتضى مذهبه أنه يلزم المساواة بين من قطع عمره في الطاعة ثم مات على كبيرة وبين من بلغ أوان التكليف فمات على مثل تلك الكبيرة، فيلزمه استواء عقابهما، والمعلوم أنه لا بد من فرق بينهما لئلا تذهب تلك الأعمال الصالحة مبتدأ وقد فعلت على وجهها، وإنما طرأ عليها ما هو أعظم منها، ولا سبيل إلى الفرق بينهما إلا بما ذكره أبو هاشم من القول بالموازنة وهو أنه يسقط من عقاب تلك الكبيرة بقدر ثواب تلك الأعمال الصالحة، ثم يستحق النار بباقي عقابها، بخلاف الآخر فإنه يستحق النار بجميع عقاب تلك الكبيرة، ولا يسقط منه شيء، وإلا لما كان ما ذكروه هنا من لزوم المساواة بين التائب من معاصي متعددة وبين التائب من معصية واحدة شبيهاً في الظاهر بما ألزموه أبا علي من المساواة بين [من] مات على معصية بعد طاعة، وبين من مات على معصية لم تتقدمها طاعة، فرق النجري بين الصورتين بما ذكر، لكن الظاهر من كلام أبي هاشم، والإمام المهدي أنه لا فرق، والخلاف في ذلك لأبي علي كما في (رياض الأفهام) وشرحه (الدامغ) فإن فيهما عن أبي هاشم أن التائب من الذنب كمن لا ذنب له، قال الإمام المهدي كقوله بالموازنة، وقال أبو علي: بل هو كمن لم يفعل ذنباً لإبطال التوبة حكم المعصية فيكون التائب كالمجتنب لكل معصية فيكتب له بكل معصية تاب منها حسنة كما يكتب له بعدد كل معصية اجتنبها حسنات.
وأجاب الإمام المهدي بأنه لو كان كما ذكره لاستوى حال من كفر مائة سنة، ومن كفر لحظة ثم تاب في استحقاق الثواب، ولكان الكافر مائة أكثر ثواباً والمعلوم خلافه، وهذا نص في عدم الفرق، وقد تحصل منه أنه لم يفرق بينهما إلا النجري.
فائدة [انعدام الطاعة والمعصية بالندم]
قال النجري: وكما أن التوبة تصير المعصية كالمعدومة، فكذلك الندم على الطاعة يصيرها كالمعدومة بشرط أن يندم عليها؛ لأنها طاعة كما قيل في التوبة؛ إذ كل منهما بذل الجهد في التلافي.
قلت: ويدل على ذلك ما رواه الإمام المهدي في شرح الملل والنحل عن علي عليه السلام أن رجلين أتياه فقالا: ائذن لنا أن نصير إلى معاوية فنستحله من دماء من قتلنا من أصحابه، فقال عليه السلام : إن الله قد أحبط أعمالكما بندمكما على ما فعلتما.
قال النجري: فحصل من جميع ما تقدم أن الثواب لا يسقط إلا بشيئين، الموازنة بالعقاب، أو الندم على الطاعة على الوجه المذكور، والعقاب لا يسقط إلا بشيئين: الموازنة بالثواب، والتوبة عن المعصية هذا بعد الشرع، وأما قبله فقد كان يجوز أن يسقط بالعفو.
تنبيه [في اسقاط التوبة للعقاب]
قد علم من كلام أصحابنا في وجوب التوبة واختلافهم في كونها مسقطة للعقاب بنفسها أو بكثرة ثوابها أنها من جملة الطاعات التي يستحق عليها الثواب، وظاهر (المواقف) وشرحها أن في ذلك اختلاف؛ لأنه قال ما لفظه: اختلف في كون التوبة طاعة.
قال الآمدي: الظاهر أن التوبة طاعة واجبة فيثاب عليها؛ لأنها مأمور بها، قال الله تعالى: {وَتُوبُوا إِلَى اللَّهِ جَمِيعاً}[النور:31] والأمر ظاهر في الوجوب، لكنه غير قاطع لجواز أن يكون رخصة وإيذاناً بقبولها، ودفعاً للقنوط لقوله تعالى: {ولا تقنطوا}، {لاَ تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعاً}[الزمر:53] هكذا عبارته، وهي تفيد أن ثمة من يخالف في الوجوب ويقول إنها رخصة، ولا يتأتى نفي الوجوب إلا على مذهب الأشعرية؛ لأنهم ينفون حكم العقل وهو أحد أدلة الوجوب، ولأنهم لا يقطعون بدخول الفساق النار، ويحكمون بخروج من دخلها منهم، وعلى هذا لا يكون لوجوب التوبة مقتضي؛ لأنه لا التفات منهم إلى ما حكم به العقل من وجوبها لأجل دفع الضرر لنفيهم حكمه ولا قطع عندهم بالضرر، وعلى هذا فلا تكون واجبة، لكنه يقال: عدم الوجوب لا ينفي كونها طاعة؛ لأن أقل أحوالها الندب والمندوب طاعة يثاب عليها، اللهم إلا أن يكون مرادهم بكونها رخصة أنها مباحة يستوي فعلها وتركها فيقال لهم: إذا فقد بطلت تلك الأوامر، واتفقت فائدتها وفائدة الترغيب في التوبة بنحو {إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ التَّوَّابِينَ}[البقرة:222] وما في معناها كتاباً وسنة.
نعم ويتفرع على القول بوجوب التوبة الكلام في العاصي إذا لم يتب هل يستحق العقاب بتركها كما يستحقه بترك سائر الواجبات، فقال أبو علي والأكثر: إنه يستحق العقاب على ذلك، وقال أبو هاشم: لا إنما يستحق عقاب المعصية التي وجبت عليه التوبة لأجلها.
احتج الأكثر بأنها واجب مضيق كسائر الواجبات المضيقة، فكما أنه يستحق العقاب بالإخلال بالواجب المضيق كذلك في التوبة، وأيضاً عدم العقاب عليها ينقض وجوبها.
احتج أبو هاشم بأن وجه وجوب التوبة إنما هو إسقاط عقاب المعصية.
قلنا: لا نسلم، بل وجه وجوبها كوجه وجوب الاعتذار وهو التلافي لما فرط منه فيكون وجه وجوبها كوجه وجوب قضاء الدين، فكما وجب قضاؤه لكونه جبراً لما قبض من حق الغريم، فكذلك تجب التوبة لكونها جبراً وتلافياً لما وقع منه.
فإن قيل: قد اعترفتم بأنها كالاعتذار، والمسيء إذا لم يعتذر لم يلزمه الاعتذار عن تأخير الاعتذار، ولا يستحق ذماً زائداً على تركه الاعتذار، فكذلك التوبة لا يستحق على تركها عقاباً زائداً على عقاب المعصية.
قيل: إنما لم يستحق ذماً لأنه ما أساء إليه بترك الاعتذار ولم يضربه، والاعتذار إنما يجب للإساءة، وليست التوبة كذلك فإنها واجبة كالصلاة فإذا أخل بها استحق العقاب عليها.
فإن قيل: بل يضر به فإنه يلحق غم بترك الاعتذار.
قيل: المساء إليه هو الذي اختار الغم، هكذا أجاب الموفق بالله، وقال الإمام المهدي: إنما لم يلزمه الاعتذار عن تأخير الاعتذار؛ لأن التأخير إنما كان إساءة تبعاً للإساءة المعتذر منها، فإن اعتذاره عن الأصل يقتضي الاعتذار عن كل إساءة، فكأنه اعتذر عن الإساءتين معاً، ولو لم يعتذر على هذا الوجه استحق الذم.
احتج أبو هاشم بأنه لو استحق على تركها عقاباً للزمه أن يتوب من كونه لم يتب ثم كذلك إلى غير غاية، وللزم المعتذر أن يعتذر من كونه لم يعتذر.
قلنا: نحن نلتزم أنه يلزم الندم على الإخلال بالتوبة إلى أن يفعلها، ألا ترى أنه لو أخبر بعد التوبة أنه لم يندم على تركها في الزمن الماضي لاستحق الذم؛ لأنه يكون كمن عزم على الإقلاع عن الذنب ولم يندم على فعله فيما مضى، لكن لا يحتاج إلى إفراد التوبة عن ترك التوبة؛ لأنها تدخل ضمناً في التوبة عن المعصية.
واحتج أيضاً بأنه لو استحق عقاباً زائداً للزم أن يصير الفسق كفراً، والصغيرة كبيرة بحيث يجب فيمن سرق حبة وأصر على ترك التوبة عنها أن يجوز في عقابه أن يبلغ عقاب الفسق.
قلنا: منع الإجماع على أن المعصية إذا لم تكن كفراً حال فعلها أنها لا تصير بعد ذلك كفراً، دليله الفاسق، فإن مدة إصراره لو بلغت في الطول كل مبلغ لم تجر عليه أحكام الكفار، وأما مصير الصغيرة كبيرة بالإصرار، وبلوغ العقاب عقاب الفسق فملتزم.
ومما احتج به أن المال إذا بقي عند الغاصب مدة فإنها لا تزيد أعواضه على كونه لم يرد إليه، فكذلك إنما لم تزد هنا لدلالة الشرع على أنه لا يلزمه إلا قدر ما يقوم بها، والأعواض بمنزلة قيم المتلفات.
الموضع الرابع [في الاحباط والموازنة]
اختلف المتكلمون في من فعل طاعات ثم فعل كبيرة تحبط ثواب تلك الطاعات ثم تاب، هل يعود ثواب تلك الطاعات أو لا؟
فقال أبو هاشم، وجمهور البصرية، وبه قال الإمام الحسين بن القاسم العياني والإمام المهدي، والقرشي ونسبه الإمام عز الدين إلى الجمهور: لا يعود، واختاره الإمام القاسم بن محمد.
وقال أبو القاسم البلخي، وأبو بكر النجاري من البهشمية، وبشر بن المعتمر من البغدادية: بل يعود وجوباً، وهو ظاهر كلام الناصر.
احتج الأولون بوجوه:
أحدها: أن الثواب قد يسقط في مقابلة ما يوازنه من عقاب المعصية، والتوبة إنما أسقطت الزائد، فأما ما يقابل الثواب فقد أسقطه الثواب، فلا يحتاج إلى مسقط، فلا يتصور عود الثواب بالتوبة؛ إذ ليس لها فيما يقابله تأثير.
الثاني: أنها تسقط العقاب المستحق بالمعصية فقط، فلا مقتضي لإيجابها إعادة ما قد بطل استحقاقه من الثواب كالاعتذار فإنه يسقط استحقاق الذم، ولا يوجب عود استحقاق المدح.
الثالث: أنه لو عاد لكان التائب أحسن حالاً ممن لم يعص من حيث أن له مثل ثواب الذي لم يعص، وثواب التوبة أيضاً.
الرابع: أنه يلزم أن يكون سبب استحقاق عوده التوبة لا الطاعة المتقدمة؛ لأنه قد سقط حتى حصلت، ولو صحّ ذلك لزم أن يستحقه من لم يكن قد أطاع إذا تاب، فينتفي الفرق بين تقدم الطاعة وعدمه، والإجماع منعقد على أنه لا يستحقه من لم يكن قد أطاع.
احتج الآخرون بأن انحباطه بعقاب تلك الكبيرة عقاب، وقد سقط عنه كل عقاب بالتوبة، فيسقط الانحباط، ويلزم منه عود الثواب، وإلا لزم أن لا تكون التوبة مسقطة لجميع عقابه، وهو خلاف المعلوم.
قلنا: لا نسلم أن الانحباط عقاب، وإنما العقاب الألم الواقع على جهة الإهانة؛ بدليل أن سقوط الثواب قد يحصل في حق الأنبياء" وهم لا يستحقون عقاباً.
قالوا: من أساء إلى غيره بعد إحسان ثم اعتذر لم يكن كاعتذار من أساء إليه لا بعد إحسان، فلولا أن مدح الإحسان الأول يعود عند الاعتذار لما افترق الحال، كذلك الثواب عن التوبة.
وأجيب بأن الفرق على أصل الجمهور هو أن المحسن قد استحق المدح بالإحسان في وقت ما وهو قبل وقوع الإساءة، فأما بعد وقوعها فقد سقط بما يقابله من الإساءة، وبقي الزائد يسقطه الاعتذار، فيكون حاصل الفرق أن اعتذار من لم يحسن أسقط ذماً كثيراً، واعتذار من تقدم إحسانه أسقط ذماً قليلاً، والوجه ظاهر وهو أن من لم يحسن لم يسقط من إساءته التي هي السبب في استحقاق الذم شيء، فكان استحقاقه الذم باقياً على أصله لم يسقط شيء منه إلا بالاعتذار، فكان اعتذاره مسقطاً لذم كثير، بخلاف من قد تقدم منه إحسان فإنه لم يبق استحقاقه الذم على الإساءة كاملاً، بل على ما بقي بعد المقابلة، فلم يسقط اعتذاره إلا ما بقي من الذم، وهو قليل بالنسبة إلى كله.
قالوا: يلزم استواء حال من أطاع الله ثم عصاه ثم تاب، وحال من لم يصدر منه إلا المعصية ثم التوبة.
قلنا: لا يلزم ذلك إما لما ذهب إليه أبو هاشم من القول بالموازنة، وإما لما سيأتي عن ابن الملاحمي.
قالوا: لو لم يعد الثواب لما كان طلحة والزبير أفضل من أحدنا، والمعلوم خلافه.
قلنا: لا نسلم أن المعلوم خلافه، بل نلتزم ما ألزمتمونا في حقهما، وكيف يقال إن عدو أمير المؤمنين عليه السلام أفضل من وليه وعداوتهما له معلومة.
قالوا: من أنعم على غيره ثم أساء إليه ثم اعتذر فإنه يجب أن يعود وجوب شكره، فكذلك الثواب.
قلنا: يؤخذ جوابها من الكلام على عود المدح، على أن القول بالموازنة لا تستقيم هذه الحجة بحال.
تنبيه ما تقدم من نقل الخلاف وتقرير الحجج في هذا الموضع فهو على ما هو المشهور، وقد اعترضه الإمام المهدي وقال: إن نقل مذهب الجمهور على هذه الكيفية غفلة ووهم من الحاكم وغيره، وقال: إنه لا يصح على قولهم بالموازنة، وإلا لزمهم ما لزم أبا علي من استواء حال من أحسن وأساء، وحال من أساء ولم يحسن، وأن يكونا في الجنة والإثابة سواء، وهذا لا يحسن في حكمة الله وعدله، وحمل كلام البهشمية والجمهور على ما ذكره ابن الملاحمي، وهو أنه لا يعود ما مضى إلى وقت التوبة، ويعود الاستحقاق في المستقبل، وهذا هو الذي اختاره أعني وقال: كنت أقوله نظراً ثم وجدته نصاً لابن الملاحمي.
قلت: وحاصل هذا المذهب أن من تاب بعد انحباط ثوابه المستحق على الطاعات السابقة بالمعصية لم يعد ذلك الثواب الذي كان قد اجتمع له سابقاً، ولا الثواب الذي منعت من استحقاقه الكبيرة من وقت فعلها إلى وقت فعل التوبة، بل يتجدد له استحقاق الثواب في المستقبل على تلك الطاعات الماضية حتى يصير كأنه فعلها وقت التوبة، ويكون حكمها حكم الطاعات المستقبلة في أنه يستحق عليها الثواب متجدداً دائماً.
قال النجري: وهو الموافق للقواعد والأصول؛ إذ كان المانع من استحقاق الثواب على تلك الطاعات هو استحقاق العقاب على تلك المعصية، وعند بطلانها بالتوبة زال المانع من استحقاق الثواب؛ إذ الطاعة باقية لم يطرؤ عليها ما يصيرها كالمعدومة، فيعود استحقاق الثواب في المستقبل، وهو اللائق بالعدل والحكمة، وإلا لزم التساوي بين من قطع عمره في طاعة الله ثم فعل كبيرة وتاب عنها قبل موته، وبين من قطع عمره في عصيان الله ثم تاب قبل موته، والفرق بينهما مما لا يشك فيه، وحمل عليه ابن الملاحمي كلام أبي القاسم حيث قال: إنه يعود ثوابه بالتوبة فقال: مراده المتجدد، وحمل عليه الإمام كلام أبي هاشم حيث قال: لا يعود ثوابه بالتوبة فقال: مراده المجتمع حال المعصية لا المتجدد.
قلت: فعلى هذا لا يكون في المسألة إلا على قولين، وإذا حملنا كلام الجمهور ومخالفيهم على ظاهره ففيها ثلاثة أقوال: يعود مطلقاً وهو قول أبي القاسم ومن وافقه، ولا يعود مطلقاً وهو قول الجمهور، والتفصيل للإمام المهدي وابن الملاحمي، وهذا التفصيل مبني على أن ثواب الطاعة يتجدد بتزايد الأوقات، وقد اعترضه السيد أحمد بن محمد الشرفي فقال: ما دليلكم على أن ثواب الطاعة إنما حصلت كثرته بتزايد الأوقات، وأنه لم يعده الله كثيراً من غير مرور الأزمان؛ لأن الله سبحانه لم يخبرنا بذلك، بل أخبرنا أنه أعده كثيراً دائماً غير منقطع.
واعلم أن العلماء كما اختلفوا في عود الثواب التي أسقطته المعصية، فكذلك اختلفوا في العقاب الساقط بالتوبة هل يعود بمعصيته عقيب التوبة؟ فقال الجمهور: لا يعود، ووافقهم أبو القاسم، وقال بشر بن المعتمر: بل يعود.
احتج الجمهور بما مر من أن سقوط عقاب المعصية بالتوبة نفسها، فيصير بالتوبة كالمعدوم، والمعصية كأنها لم تكن.
وتحقيق هذه الحجة أن العقاب قد سقط بالتوبة، وصارت نسبته إليه وإلى غيره على سواء، وفعل المعصية ثانياً متجدد بعد التوبة فلا يستحق العقاب إلا عليه، فلو عاد عقاب الأولى لما كان سبب استحقاقه إلا المعصية الأخيرة، فيلزم أن يستحق العقابين كليهما من فعل تلك المعصية.
واحتج أبو القاسم بأن سقوط العقاب بالتوبة تفضل وليست التوبة بمانعة من استحقاقه، فإذا تفضل عليه بإسقاطه عند التوبة فلا وجه لعوده إذا عاود الذنب.
وأما بشر فقال الإمام المهدي: لا يعرف له حجة إلا أني أظن أنه ممن يقول: إن التوبة إنما تسقط العقاب لثوابها لا بنفسها، وإذا كان كذلك لزم ما قاله؛ لأن استحقاق ثواب التوبة مانع من استحقاق عقاب المعصية حينئذ، فإذا زال استحقاق ثواب التوبة بمعاودة المعصية فقد زال المانع من تجدد استحقاق العقاب بالمعصية الأولى التي تمانع عقابها وثواب التوبة، فلما زال المانع تجدد استحقاق العقاب كما قلناه في عود الثواب.
قال عليه السلام : وهذا في الحقيقة ليس بحجة؛ لأنا لا نسلمه، وإنما بناه على قاعدة له، وقد أبطلناها فيبطل ما تفرع عليها.
فإن قيل: قد مر عن الإمام المهدي وغيره أن التائب يتجدد له الثواب في المستقبل فهلا قلتم بتجدد عقاب المعصية الأولى في المستقبل إن رجع إلى العصيان بعد التوبة، وما الفرق بينهما؟
قيل: الفرق بينهما قد عرف من ما مر وهو أن الطاعات المتقدمة باقية بنفسها؛ لأن سقوط ثوابها في الزمن الماضي إنما هو بالموازنة بينه وبين عقاب المعصية، وذلك لا يصيرها كالمعدومة؛ إذ الموازنة بين الثواب والعقاب فقط لا بين الطاعة والمعصية، فالطاعة غير ساقطة، بل إنما منع من استحقاق ثوابها مانع وقد زال، بخلاف سقوط المعصية بالتوبة فليس بالموازنة، بل بالتوبة صارت المعصية كالمعدومة لما مر من أنها تجبها جباً، فبطلت تلك المعصية في الحال المقارن للتوبة، وفيما بعد التوبة من الزمان.
نعم قد ذكر النجري صورة يتجدد فيها استحقاق العقاب في المستقبل وهي ما إذا فعل معصية ثم طاعة تكفر عقاب تلك المعصية، ثم ندم على تلك الطاعة ندماً يوجب سقوطها فإنه يتجدد له استحقاق العقاب على تلك المعصية في المستقبل على قول ابن الملاحمي والإمام المهدي؛ لأن سقوطها إنما كان بموازنة ثواب الطاعة فلم تصر بذلك كالمعدومة وقد بطلت الطاعة، فيعود استحقاق العقاب، ويصير كأنه فعلها وقت الندم على الطاعة.
فإن قيل: فما تقولون فيما إذا تاب بعد الندم المذكور، هل يعود شيء من ثواب طاعته الماضية؟
أجاب النجري بأنه لا يعود شيء على قول الإمام المهدي وغيره؛ لأنها بالندم عليها صارت كالمعدومة فبطلت في الحال والمآل.
الموضع الخامس [في تذكر العاصي للذنب بعد التوبة]
اختلف العلماء في العاصي إذا تاب توبة صحيحة ثم تذكر الذنب هل يجب عليه تجديد التوبة أو لا يجب؟
للمسألة صورتان:
الصورة الأولى: إذا تاب عنه ثم ذكره، فقال أبو علي ونسبه الآمدي إلى بعض العلماء: يجب عليه تجديد التوبة، وقال أبو هاشم: لا. ونص عليه الآمدي.
الصورة الثانية: من ذكر ذنباً لم يكن قد تاب منه بعينه وكان قد تاب من الذنوب جملة، فقال أبو علي، والإخشيدية: يجب عليه تجديد التوبة، وقال أبو هاشم: لا وإن فعل فحسن.
حجة أبي علي في الصورتين: أن علة وجوب التوبة قبح الفعل، وإذا كان هو العلة فهي علة باقية مستمرة فيجب استمرار التوبة لحصول العلة، وإلا كان مصراً على القبيح، وفسر الإصرار بترك التوبة، فعلى هذا يقال: وجبت التوبة لقبح تركها وهو الإصرار؛ إذ هو ضدها عنده، وإن كان قد فسر الإصرار مرة بالثبات على المعصية، ومرة بالعزم على فعلها، وأما تقييده وجوب التجديد بالذكر؛ فلأنه لا تكليف على غير الذاكر فالنسيان رافع للتكليف.
حجة أبي هاشم: أن وجه وجوب التوبة كونها دفعاً للضرر، وقد اندفع بأول توبة فلا يجب تجديدها وإن حسن.
واحتج الآمدي بأنا نعلم بالضرورة أن الصحابة ومن أسلم بعد كفره كانوا يتذاكرون ما كانوا عليه في الجاهلية من الكفر ولا يجددون الإسلام ولا يؤمرون به، فكذلك الحال في كل ذنب وقعت التوبة منه.
وأجابوا عن حجة الأولين بأنه لو كان وجه الوجوب ما ذكرتم للزم أهل الجنة تجديدها؛ لأن قبح ضدها مستمر في الجنة وغيرها، والمعلوم أنه لا تكليف بوجه، ويتفرع على هذا الخلاف خلاف في دليل وجوب التوبة على الأنبياء، فقال أبو علي: دليل وجوب التوبة عليهم عقلي بناءً على هذا الأصل، وتحريره أنه إذا كان وجه وجوب التوبة هو قبح تركها لزمت الأنبياء؛ لأن التحرز من القبيح واجب عقلاً.
وقال أبو هاشم: بل دليله السمع لما مر من أن وجه وجوبها كونها دفعاً للضرر والأنبياء" لا يخشون ضرر العقاب فلا تجب عليهم إلا من جهة السمع فقط كقوله تعالى: {وَاسْتَغْفِرِي لِذَنْبِكِ}[يوسف:29] ونحوه.
تنبيه حكى في (المواقف) عن المعتزلة أنهم يشترطون استدامة الندم على الذنب المتوب عنه في جميع الأوقات، ثم قال: إنه عندهم -أعني الأشعرية- غير واجب، ولا شرط في صحة التوبة؛ لأن النادم إذا لم يصدر عنه ما ينافي ندمه كان ذلك الندم في حكم الباقي؛ لأن الشارع أقام الأمر الثابت حكماً مقام ما هو حاصل بالفعل كما في الإيمان، فإن النائم مؤمن بالاتفاق، ولما في التكليف بالاستدامة هذه من الحرج المنفي عن الدين.
قال الآمدي: يلزم من ذلك اختلال الصلوات وباقي العبادات، وأَلا يكون بتقدير عدم استدامة الندم وتذكره تائباً، وأن تجب عليه إعادة التوبة، وهو خلاف الإجماع.
قلت: نسبة هذا القول إلى المعتزلة وهم، ولا يتخرج على مذهب أبي علي.
الموضع السادس في الخلاف في صحة التوبة من ذنب دون ذنب
اعلم أن النجاة لا تتم بالتوبة إلا بشمولها لكل ذنب اتفاقاً ذكره في صحتها على معنى إسقاطها لما خص بها من الذنوب خلاف، فذهب زيد بن علي والصادق، والقاسم بن إبراهيم، وموسى بن جعفر، وعلي بن موسى الرضا، وبشر بن المعتمر، وجعفر بن مبشر، وأبو عبدالله البصري إلى أن التوبة لا تصح من ذنب دون ذنب، وهو قول السيد مانكديم، والإمام المهدي، وواصل بن عطاء، وعمرو بن عبيد، وأبي هاشم وأصحابه، وقاضي القضاة وغيرهم، ونسبه القرشي إلى الجمهور، وهو قول علي عليه السلام وهو حجة، وقال أبو علي، ورواه في (شرح المواقف) عن الأشاعرة: بل تصح، وهو قول أبي القاسم، وابن الملاحمي، ورواه الإمام عز الدين عن المؤيد بالله والمنصور بالله، ثم اختلف هؤلاء فقال أبو علي: إنما يصح إذا كانت المعصية الأخرى من جنس التي تاب منها كأن يندم على شرب قدح من خمر ولا يندم على ارتكاب الزنا، فأما إذا اتحد الجنس فلا، نحو أن يندم على شرب قدح من خمر ولا يندم على شرب قدح آخر.
قال في (المنهاج): فلا يصح بالاتفاق، وإلى هذا مال ابن الملاحمي، وقال أبو القاسم: بل تصح مطلقاً، وهو ظاهر إطلاق (شرح المواقف) عن الأشاعرة، وروى الإمام عز الدين الإطلاق عن المؤيد بالله والبغداديين.
قلت: وعلى هذا الإطلاق فلا يصح دعوى الاتفاق الذي ذكره في (المنهاج).
احتج الأولون بوجوه:
أحدها: أن التوبة على القبيح يجب أن تكون ندماً عليه لقبحه، وعزماً على أن لا يعود لمثله، وإذا كان كذلك لم تصح التوبة من قبيح مع الإصرار على آخر لما تقرر في العقول من أن من ترك فعلاً لعلة فإنه يجب أن يترك ما ساواه في تلك العلة، ألا ترى أنه لا يصح أن يترك سلوك طريق لأن فيها سبعاً ثم لا يترك أخرى فيها سبع آخر؛ إذ لو ترك والحال هذه لبطل كون العلة للترك وجود السبع، فكذلك إذا تاب عن القبيح لقبحه مع الإصرار على قبيح آخر علمنا أنه ما تركه لقبحه.
فإن قيل: أليس أن أحدنا قد يفعل فعلاً لوجه ولا يجب أن يفعل كل ما ساواه في ذلك الوجه، فهلا جاز مثله في الترك؟
قيل: لأنه لا يصح قياس أحدهما على الآخر؛ إذ لكل منهما حكم مقرر في العقل يخصه فكيف يصح القياس، يوضحه ما مر فيمن ترك سلوك طريق لعلة فإنه مقرر في عقل كل عاقل أن يجب ترك سلوك طريق مساوية لها في تلك العلة، وإلا علم أنه لم يترك لتلك العلة، وكذلك قد تقرر في العقول أنه من تفضل على غيره بدرهم لأنه حسن لم يجب عليه أن يتفضل عليه بجميع دراهمه لهذا الوجه، فصح أن بينهما فرقاً.
فإن قيل: وما وجه الفرق؟
قيل: قد اختلف فيه، فقال أبو هاشم: الوجه أن الفعل مشقة فلا يجب فيمن فعل فعلاً لوجه أن يفعل ما ساواه في ذلك الوجه للمشقة، بخلاف الترك فلا مشقة فيه، واعترضه السيد أن المشقة غير حاصلة في حق القديم تعالى، قال: ثم إنه لا يجب إذا تفضل نوعاً من التفضل لكونه إحساناً أو حسناً أن يتفضل بسائر أنواع التفضل.
وقال الجمهور: إذا كان الحكم معلوماً فلا يضر الجهل بعلة الفرق.
قال السيد مانكديم: إن لم يمكن أن يطلب له علة صحيحة فذاك، وإلا لم نقدح في صحة الحكم، ويكون من الأحكام التي لا تعلل؛ لأنه بأي شيء علل فسد.
وقال القرشي: الحق أنه لا فرق بين الموضعين، بل كما يجب أن يترك ما حصل فيه علة الترك يجب أيضاً أن يفعل ما حصل فيه علة الفعل، لكن بشرط بقاء تلك العلة والا يعرض ما يزيلها، وأجاب عن معنى قولهم إن من تفضل على غيره بدرهم لا يجب عليه أن يتفضل بجميع دراهمه فقال: هو صحيح لكن إنما لم يجب ذلك لوجود صارف عن التفضل بجميع الدراهم حتى لو خلص الداعي وبقي الغرض الذي لأجله تفضل بالدراهم لوجب أن يتفضل بغيره، وإلا بطل أن يكون تفضلاً لذلك الغرض، ولهذا لو سألت المتفضل: لم تفضلت بدرهم ولم تتفضل بغيره لقال: إني لو تفضلت بسائر أنواع التفضل لنفدت دراهمي وحصل عليّ ضرر، فثبت أنه إنما لم يتفضل بسائر دراهمه لحصول صارف أزال الغرض المتقدم، ونحن فرضنا المسألة مع بقاء الغرض، هذا معنى ما ذكره القرشي.
قال الإمام عز الدين: وهو كلام حسن، وتوجيه عجيب، ولا غبار عليه، إلا أنه يرد عليه ما أورده السيد مانكديم على كلام أبي هاشم وهو أن يقال: ما ذكرته لا يتصور في حق القديم تعالى، وقد علمنا أنه يتفضل على شخص دون شخص بنحو الغنى وهبة الولد ونحو ذلك مما دعا إليه إرادة الإنعام، ولا صارف يتصور في حق القديم؛ إذ لا ضرر عليه في الإعطاء، ولا تلحقه مشقة ولا منفر.
فإن قيل: إنما لم يتفضل على زيد بمثل ما تفضل به على عمرو لعدم استواء الحال لجواز أن يكون لعمرو في ذلك التفضل لطف ولا لطفية لزيد في مثله، أو لأن عمراً لا يقع بالتفضل عليه مفسدة دون زيد.
قلنا: نفرض المسألة في حق أهل الآخرة فكان يلزم أن لا يصح التفضل على واحد من أهل الجنة إلا بما يفعل مثله لسائر أهلها فلا لطفية هناك ولا مفسدة.
قال عليه السلام : فظهر لك رجحان ما مال إليه السيد من صعوبة التعليل، وأن كل فرق يذكر فهو عليل.
الوجه الثاني مما احتج به الأولون: أن التوبة إنما تجب لدفع العقاب كما مر، والعقاب إنما يستحق للقبح؛ لأنه تابع للذم، والذم إنما يستحق على القبح لقبحه؛ بدليل أنا متى علمنا القبح علمنا حسن الذم، وما لم نعلمه لم يحسن الذم، وإذا كان وجه وجوب التوبة ما ذكرنا وجب أن تقع من الوجه الذي يستحق عليه العقاب وهو القبح، فإصراره على قبح مثله ينقض كونه الوجه بهذا التدريج الذي ذكرناه.
قلت: وفي جعل هذا دليلاً على ما نحن فيه نظر؛ لأنه إذا ثبت كون وجه الوجوب القبح فهو لا يقتضي أنها لا تصح التوبة من ذنب دون آخر، وإنما يقتضي وجوب التوبة من كل ذنب وهو أمر غير ما نحن فيه.
الوجه الثالث: أن التوبة كالاعتذار وهو لا يصح من إساءة دون أخرى؛ لأن المعتذر عن الإساءة إنما يعتذر عنها لأجل كونها إساءة، وإذا كان كذلك كان مع إصراره على إساءة أخرى في حكم من لم يعتذر؛ لأنه لم يعتذر إلا ليرتفع عنه حكم المسيئين، ولم يرتفع عنه الحكم مع الإصرار على الإساءة الأخرى فبطل اعتذاره، لا يقال: بل قد يرتفع عنه الحكم بالنظر إلى الإساءة التي اعتذر منها؛ لأنا نقول: المعلوم أن مقصده استطابة نفس المساء إليه، والإصرار على الإساءة الأخرى ينقض ذلك الغرض.
فإن قيل: إنما قصد استطابة نفسه من الإساءة التي اعتذر منها دون غيرها فلا ينتقض غرضه.
قيل: لو كان كذلك لكان ذلك القصد في حكم العبث؛ لأن الغرض بالاستطابة إزالة ما في النفس من العداوة والوحشة، ففعل ما لا يحصل معه ذلك كالعبث إلا أن تكون إحدى الإساءتين أصغر من الأخرى فاعتذر من الكبرى دون الصغرى لاعتقاده أنها لا تورث العداوة، فإن مثل ذلك جائز عقلاً، نظيره التوبة من الكبائر دون الصغائر، فأما حيث استوت الإساءتان أو التي أصر عليها أغلظ فلا إشكال أن الإصرار ينقض الغرض بالاعتذار من الأخرى، وإذا بطل المقصود به كان كالعبث فيبطل في نفسه،وهكذا في التوبة من ذنب دون آخر مع عدم العلم بصغر ما أصر عليه لا فرق بينهما في وجه.
واعترضه بعض المحققين بأن الفرق هو أن الوجه في وجوب التوبة إسقاط ضرر العقاب لاستطابة نفس الغير، وإذا كان الوجه ما ذكر فيحصل الغرض المطلوب من التوبة من ذنب دون ذنب وهو إسقاط ضرر عقابه، ثم إن الناس يعلمون بعقولهم صحة الاعتذار من إساءة دون إساءة.
الوجه الرابع: عموم الآيات الواردة في التوبة، ولم يرد منها شيء يدل على صحة التوبة من ذنب دون ذنب وذلك قوله تعالى: {وَإِنّي لَغَفَّارٌ لِمَنْ تَابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ صَالِحاً ثُمَّ اهْتَدَى}[طه:82] فظاهرها عموم التوبة من كل ذنب.
الوجه الخامس: أن ذلك قول أمير المؤمنين عليه السلام وهو حجة، وفي السنة النبوية ما يؤيد ذلك، وسيأتي للأحاديث الواردة في التوبة والاستغفار موضع غير هذا وهي متضمنة للمطلوب، ومنها قوله صلى الله عليه وآله: ((التائب من الذنب كمن لا ذنب له، والمستغفر من الذنب وهو مقيم عليه كالمستهزئ بربه)).
قال القاضي عبد الله بن زيد العنسي: والخبر يدل على اشتراط كون التوبة من القبيح لقبحه، وعلى اشتراط عموم التوبة من كل ذنب لمن تأمله.
احتج أبو علي بأن الندم من قبيح دون قبيح كالإتيان بواجب دون واجب، فكما أنه يصح الإتيان بواجب دون آخر فكذلك تصح التوبة من قبيح دون قبيح؛ لأنه كما يجب عليه ترك القبيح لقبحه كذلك يجب عليه فعل الواجب لوجوبه، ولو لزم من اشتراك القبائح في القبح عدم صحة التوبة من قبيح دون آخر لزم من اشتراك الواجبات في الوجوب عدم صحة الإتيان بواجب دون واجب.
والجواب: أنه لا يصح القياس للفرق بين المقيس والمقيس عليه، فإن ترك القبيح لكونه نفياً لا يحصل إلا بترك جميع القبائح، بخلاف الإتيان بالواجب لكونه إثباتاً فإنه يحصل بإتيان واجب دون واجب.
قلت: وفي هذا الجواب نظر؛ لأن الكلام في الواجبات التي تصدر من الشارع الأمر بكل واحد منها على انفراده كالصلاة والصيام مثلاً لا في إفراد واجب أمر الشارع بالإتيان بواحد منها لا على التعيين، كإعتاق رقبة أي رقبة كانت، والظاهر أن الامتثال لا يحصل بإتيان واحد منها، بل بإتيان الجميع كما في ترك القبيح من غير فرق، وقد جاء في السنة ما يدل على ذلك.
قلت: فعلى هذا يقال في الجواب لا نسلم الأصل، بل نقلب دليل أبي علي دليلاً عليه فنقول: لا يصح الندم من ذنب دون ذنب؛ كما لا يصح الإتيان بواجب دون واجب.
احتج ثانياً بأنه لا مانع من التوبة من ذنب دون آخر كما لو فعل ذنباً وترك آخر، فكما أنه لا يعاقب على المتروك فكذلك لا يعاقب على ما تاب منه.
والجواب: أن هذا القياس فاسد لعدم الجامع، وتحقيقه أنه بفعله الذنب قد استحق العقاب عليه، ولا يسقط ذلك عنه إلا التوبة، وقد علم أنها نظير الاعتذار عن الإساءة التي يستحق عليها الذم، فكما أنه لا يسقط عنه الذم الاعتذار من إساءة دون أخرى كذلك لا يسقط عنه العقاب بالتوبة من قبيح دون آخر، وليس كذلك ما لم يفعله من الذنوب فإنه لا يستحق عليه عقاباً كما أن ما لم يفعله من الإساءة لا يستحق عليه ذماً، فكيف يصح قياس ما استحق عليه الذم والعقاب على ما لا يستحق عليه شيء من ذلك، والحاصل أن التوبة بدل عن استحقاق العقاب، والعقاب لا يسقط مع الإصرار على قبيح آخر، كما أن الذم على الإساءة لا يسقط مع الإصرار على أخرى، وهذا واضح، وبه يظهر أنه لا يصح قياس ما هو كالبدل على ما ليس كذلك.
قالوا: لو لم تصح التوبة من ذنب دون ذنب لوجبت التوبة عن الحسن، والواجب، وبيانه أنه إذا أراد اليهودي أن يتوب عن الكبيرة وعنده أن اعتقاد نبوة محمد -صلى الله عليه وآله- قبيح وتكذيبه حسن كان قد وجب عليه أن يتوب عن هذا الاعتقاد الذي هو واجب، وهذا فاحش من الكلام.
قلنا: إن كان هذا الإلزام من حيث الداعي فملتزم؛ لأن هذا الاعتقاد قبيح عنده، فما دعاه إلى التوبة من الكبيرة يجب أن يدعوه إلى التوبة من هذا الاعتقاد لاشتراكهما في القبح عنده، وإن كان من حيث التكليف فلا يرد؛ إذ لم تجب عليه التوبة منه، وتوبته من الكبيرة صحيحة، وإنما صحت لجهله قبح تكذيب محمد -صلى الله عليه وآله- ووجوب اعتقاد نبوته، ونحن فرضنا الكلام فيمن يعلم قبح المعصية الأخرى.
قالوا: قد يستعظم التائب ذنباً لو يسهل عليه الإقلاع منه دون الآخر فتصح توبته عما أقلع منه.
قلنا: إذا لم يعتقد أن الأقل عقاباً مكفر وقطع بأنه يعاقب عليه وجب في الداعي له إلى التوبة عن الأعظم أن يدعوه إلى التوبة عن الأخف.
سلمنا لزم في الاعتذار أن يصح من قتل ولد دون آخر، والمعلوم خلافه، لا يقال: إذا كان عقاب أحد الذنبين أخف جاز لغلبة الشهوة أن يوطن نفسه على احتمال عقابه، فيكون الداعي أقوى من الصارف؛ لأنا نقول: إذا كان متيقناً للعقاب علم أن أقله كأشده في كون لذة المشتهى لا تقابله، فقد ورد أن أقل أهل النار عقاباً من له نعلان يغلي منهما دماغه، فالأخف كالأغلظ في ذلك.
قالوا: التائب يجوز أن ينصرف عن الذنب لقبحه ولعظمه، أو لقبحه وكثرة الزواجر عنه، أو لقبحه وكونه مكملاً لذنوب كثيرة، وإذا كان كذلك جاز أن يندم على بعض القبائح لقبحه ولهذه الصوارف، ولا يندم على ما ساواه في القبح فقط، وصار كمن يأكل طعاماً لشهوة شديدة، فإنه لا يجب أن يأكل طعاماً لشهوة قليلة وإن اشتركا في القبح، وهذه الحجة ذكرها ابن الملاحمي، قال: ويوضحه إجماع الأمة على أن اليهودي إذا تاب عن اليهودية مع إصراره على غصب درهم صحت توبته، وتجرى عليه أحكام المسلمين؛ وليس ذلك إلا لعدم المساواة في القبح مع أنهما مشتركان في أصله.
قلنا: لا نسلم أن توبة من ندم على القبيح لقبحه ولأحد الصوارف التي ذكرتم صحيحة، بل لا بد من الندم عليه لقبحه فقط؛ لأن القبح هو سبب العقاب، والعقاب سبب التوبة، فلا حاجة إلى الزيادة.
قوله: ويوضحه إجماع الأمة...إلخ هذا التوضيح يورده أبو علي على جهة الاحتجاج به استقلالاً، وإلزام الجمهور بما يلتزمون خلافه، وتقرير احتجاجه أن التوبة لو لم تصح من ذنب دون ذنب للزم أن لا تصح توبة اليهودي مع إصراره على غصب درهم فيبقى على حكم اليهودية، فتجرى عليه أحكامها، ويعاقب في الآخرة عقابها لا عقاب فاسق، وذلك خلاف إجماع الأمة فإنهم يحكمون بخروجه عن اليهودية، وبأن عقابه ليس بعقاب كافر.
والجواب من وجهين:
أحدهما: أنا نلتزم أن عقابه عقاب اليهودية؛ لأنه لم يأت بما يسقطه، والأمة لم تجمع على سقوط عقابه، ولا على أنه يكتب له ثواب الإسلام، ولا على أنه تجري عليه أحكام المسلمين، وإنما أجمعوا على صحة خروجه من اليهودية فقط؛ وذلك لأنه لم يبق على التزام أحكام اليهودية من السبت ونحوه من شرائعهم المختصة بهم، ذكر معنى هذا الجواب الإمام المهدي عن قاضي القضاة.
الثاني حكاه القرشي عن الجمهور وهو أن الإجماع إنما وقع على أنها تجرى عليه أحكام المسلمين لا على سقوط عقاب اليهودية، وبنحوه أجاب السيد مانكديم، وإنما أجريت أحكام الإسلام عملاً بالظاهر، ونظيره المنافق فإنه يستحق العقاب على كفره مع أنها تجري عليه أحكام المسلمين، وأيضاً المنافق يستحق أن يعاقب بعقاب اليهودية ولا يجب أن تجرى عليه أحكام اليهودية.
قال السيد مانكديم: يؤكد ذلك قوله صلى الله عليه وآله: ((أمرت أن أقاتل الناس حتى يقولوا: لا إله إلا الله...)) الخبر، فإنه يدل على أن استحقاق العقوبة لا تعلق له بإقامة الحدود عليها.
قلت: وهذا أولى من الوجه الأول؛ لأن الأول يقتضي أن الإجماع وقع على خروجهم من اليهودية لا على إجراء الأحكام الإسلامية عليهم، والمعلوم أن الأمر بالعكس مع أن ظاهر ذلك الجواب المناقضة بين أوله وآخره فتأمل، لكنه يرد على جواب الجمهور أن إجراء أحكام المسلمين لا يصح على أصولهم؛ لأنها تقتضي أنه ما لم يتب من غصب الدرهم فهو باق على اليهودية، ويمكن أن يقال: أما بقاه على اليهودية فملتزم، وأما إجراء أحكام الإسلام عليه فلدليل وجوب العمل بالظاهر، وذلك معلوم من سيرة النبي -صلى الله عليه وآله- في أهل النفاق؛ ولحديث: ((أمرت أن أقاتل الناس...)) ونحوه.
وحكى القرشي عن ابن الملاحمي أنه أجاب على الجمهور بأنه لو لم يسقط عنه عقاب اليهودية لكان كافراً في نفس الأمر والمعلوم خلافه، ولكان لا فرق بين رجوعه عن اليهودية وبين إصراره عليها.
قلت: ولهم أن يجيبوا بالتزام ذلك؛ لأن إسلامه إذا كان كعدمه لأجل إصراره على الغصب فهو كافر في نفس الأمر، ولا فرق بين الرجوع والإصرار والحال هذه إلا في أحكام الدنيا لقيام دليل الفرق فيها فقط، فهذان الجوابان هما المشهوران.
وأما أبو رشيد فزعم أنه قد استحق ثواب الإسلام، وأنه يخفف عليه من عقاب الكفر، ولعله يعني أنه لا يعاقب عقاب كافر، ويمكن الاحتجاج له بقوله تعالى: {إِنْ يَنتَهُوا يُغْفَرْ لَهُمْ مَا قَدْ سَلَفَ}[الأنفال:38] وحديث: ((الإسلام يجب ما قبله)) لكنه يقال: الدليل ليس على ظاهره، وإلا لزم أن لا يعاقب على إصراره على غصب الدرهم، وظاهر كلام أبي رشيد أنه يعاقب عليه، وإذا لم يكن على ظاهره فللجمهور أن يقولوا: الإسلام يجب ما قبله إن لم يصر على معصية، فصحته وتأثيره في الخروج من الكفر مشروط بعدم الإصرار.
وقال الحاكم: يبطل جميع ما ذكره أبو علي بمن أسلم وترك اليهودية للطمع، فإن العقاب يبقى وإن أجريت عليه أحكام المسلمين، واعترض بأن إجراءها إنما كان عملاً بالظاهر بحيث لو علم منه خلافه لم تجر له فلا إبطال.
هذا وبقي الكلام على دليل الفرق بين اتحاد جنس الذنب واختلافه على ما ذكره أبو علي، ودليله الاتفاق على أنه إذا اتحد الجنس فلا تصح التوبة كما مر عن (المنهاج) وقد مر ما فيه، ولعله يحتج له بأن الذنبين إذا اتحد جنسهما فهما كالذنب الواحد، والمعلوم أنه لا تصح التوبة من بعض الذنب دون بعضه نحو أن يغصب درهماً واحداً فيتوب من نصف معصيته التي هي الغصب دون النصف الآخر منها. والله أعلم.
احتج أبو القاسم ومن وافقه بوجوه: منها ما مر عن أبي علي فإنه صالح للاحتجاج به لهؤلاء، ووجوه أخر:
أحدها: أن التوبة بمنزلة أن يخرج نفسه عن كونها فاعلة للمعصية، فكما أنه لو قدر على إخراج نفسه عن أن تصير فاعلة لما قد فعلت من بعض القبائح، ولا يستحق العقاب عليه إذا أخرجها عنه، كذلك إذا تاب من بعضها.
والجواب: أنه قياس بغير جامع، بل الفرق بينهما جلي وهو أن التوبة كالبدل عن استحقاق العقاب، والذي أخرج نفسه عن المعصية لم يخرجها إلى بدل، بل هو كمن لم يفعل المعصية أصلاً، ولا يصح قياس ما هو كالبدل على ما ليس كذلك، ذكر معنى هذا الموفق بالله.
الثاني: أنه إذا تاب من كل معصية إلا من صغيرة واحدة فإن ثواب توبته أعظم من عقاب هذه الصغيرة، فلا بد من أن يزول عقابه المستحق على جميع ما قد فعله صغيرة وكبيرة.
والجواب: أنه لا يستحق على التوبة ثواباً ؛ لأنه لم يأت بها على وجهها فعقابه مستقر كما كان.
الثالث: أن التوبة مأخوذة من تاب إذا رجع، فإذا رجع عن بعض القبائح فقد استحق اسم التوبة فيكون تائباً حقيقة.
والجواب: أن أخذها من ذلك لا يوجب صحة هذه التوبة.
فإن قيل: بل يوجبه لاقتضاء صحة وصفه بأنه تائب.
قيل: ومن أين لكم أن أخذها من ذلك وصحة الوصف بها يقتضي أن تكون مؤثرة في إسقاط العقاب على أن التوبة قد صارت منقولة عن المعنى اللغوي إلى معنى شرعي هو الندم على فعل القبيح، والإخلال بالواجب مع العزم، ودليل ذلك أنه إذا قيل: تاب فلان لم يتبادر إلى هذا المعنى آخر، ولم يتبادر المعنى اللغوي، فهي في الشرع رجوع مخصوص.
إذا عرفت هذا فنقول: لا نسلم أن النادم من بعض الذنوب دون بعض يوصف بأنه تائب في عرف الشرع، وإن وصف به لغة، على أن أهل اللغة لا يظن بهم أنهم يصفون من تاب من الزنا ببعض محارمه دون بعض أنه تائب حقيقة، وأيضاً لو وصفوه بذلك فلا يجب أن تكون توبته صحيحة؛ لأن علمهم بذلك إن كان ضرورياً وجب أن نشاركهم فيه، وإن كان استدلالياً فما ذلك الدليل.
الرابع: أنه لا شك في أن العاصي مأمور بالتوبة من جميع المعاصي ومن بعضها، فإذا صحت التوبة عن الجميع صحت عن البعض.
والجواب: أنه مأمور بالتوبة لقبح المعاصي، فإذا أصر على بعضها كشف لنا عن أنه لم يتركها لأجل القبح فلا تصح.
فهذا خلاصة كلام المتكلمين في هذا الموضوع، وبقي فيه تفصيل للعلامة المحقق الطوسي ذكره في (التجريد) ولنذكر كلامه ملخصاً فنقول: قال: التحقيق أن ترجيح الداعي إلى الندم عن البعض يبعث على الندم عن هذا البعض خاصة دون البعض الآخر؛ لانتفاء ترجيح الداعي بالنسبة إليه وإن اشتركت الدواعي في الندم على القبح لقبحه، ولا يلزم من ذلك أن يكون الندم على البعض الذي معه الترجيح لا لقبحه؛ إذ لا يخرج الداعي بهذا الترجيح عن الاشتراك في كونه داعياً إلى الندم على القبيح لقبحه، وهذا كما في الدواعي إلى الفعل، فإن الفعل يقع بحسب الداعي، فإذا كانت داعية بعض الأفعال راجحة على داعية بعض آخر اختص الذي رجحت داعيته بالوقوع وإن اشترك مع غيره في الدواعي، وإن اشترك الترجيح في الدواعي في الندم اشترك وقوع الندم، فلا يصح الندم على بعض دون بعض، قال: وبه يتأول كلام أمير المؤمنين وأولاده" وهو أن التوبة لا تصح من ذنب دون ذنب.
قلت: هذا التفصيل هو نفس قول ابن الملاحمي أو قريب منه، فإن الداعي المشترك هو القبح، والدواعي المقتضية للندم على ذنب دون ذنب هي الصوارف التي ذكرها ابن الملاحمي، وقد قال بعد كلامه السابق: وما حكي عن أهل البيت" إنما هو مصروف إلى التوبة الكاملة لا إلى التوبة على الإطلاق، قال القرشي: وهذا حسن.
قلت: وقد عرفت ما أجاب به الجمهور على ابن الملاحمي.
قال القرطبي: وله أن يجيب بأنه إذا ندم عليه لقبحه صحت التوبة، ولا يقدح في صحتها أن يندم عليه لزيادة مع القبح وهي كثرة العقاب بذلك الذنب ونحو ذلك فإنه لا يشتبه على عاقل كون عظم الذنب وكثرة الزواجر مما يصرف عنه، وإذا جاز أن يندم عليه للقبح وزيادة لم يجب أن يندم على ما ساواه في القبح فقط، فيجب صحة التوبة من ذنب دون ذنب بأن لا يحصل في أحد المذنبين هذه الصوارف المذكورة، قال: وهذا قوي كما ترى، لا سيما على القول بأن العزم دليل على التوبة وليس جزءاً منها ولا شرطاً فيها.
أقول: وما ذكره القرشي من الجواب فهو معنى ما ذهب إليه الطوسي، وقد استفيد منه أن ابن الملاحمي لم يوافق أبا علي إلا فيما حصل فيه ترجيح الداعي إلى التوبة من ذنب دون ذنب.
تنبيه وما تقدم من منع صحة التوبة من ذنب دون ذنب فهو مشروط بأن يعلم أو يعتقد كون المعصية الأخرى معصية، فأما إذا لم يعتقد فيها ذلك، بل اعتقد حسنها كمن قتل وشرب خمراً فتاب من شرب الخمر دون القتل لاعتقاده حسنه فإن توبته تصح، ولهذا تصح توبة الخارجي عن الزنا مع إصراره على مذهبه لما اعتقد كونه حقاً، وممن نص على ذلك السيد مانكديم، والقرشي، والطوسي؛ لحصول شرط التوبة وهو الندم على القبيح لقبحه.
قال السيد مانكديم والقرشي: إلا أن توبته تقع محبطة في جنب إصراره على الكبيرة واعتقاده حسنها، وألحق الطوسي بذلك المستحقر من الذنوب فقال: إذا استحقر التائب أحد الذنبين حتى اعتقد أن وجوده كالعدم بالنسبة إلى ما استعظمه منهما فإن توبته تصح عن العظيم دون الحقير كمن قتل ولد رجل وكسر قلمه فتاب عن القتل دون كسر القلم؛ لأنه تاب عنه لقبحه.
قلت: وقواعد الأصحاب تأباه لوجهين:
أحدهما: أنهم قد نصوا أنه لا يجوز تمييز الصغائر؛ لأن ذلك يكون إغراء بفعلها وهي قبيحة، والإغراء بالقبيح قبيح فلا يؤمن أن يكون هذا المستحقر عظيماً فتجب التوبة عنه لهذا التجويز.
الثاني: أنهم قد نصوا على وجوب التوبة من الصغائر، وإنما اختلفوا في دليله، هل العقل أو السمع كما مر، وقد ذكر معنى هذا السيد مانكديم فإنه نص على أن التائب إن تميزت له الصغائر فلا تلزمه التوبة عنها إلا سمعاً، وإن لم تتميز له لزمته التوبة عن كل معصية لتجويز أن تكون كبيرة، وذكر هو والإمام المهدي أن الذين تتميز لهم الصغائر إنما هم الأنبياء فقط؛ لأن معاصيهم صغائر، فأما في حقنا فقال الإمام المهدي: المسألة مبنية على الفرض والتقدير؛ لأن الصغائر لا يصح أن تعلم، وإذا جوزنا في كل معصية أنها كبيرة وجبت التوبة عقلاً؛ لأن دفع الضرر الموهوم في الثبوت كوجوب دفع المعلوم، فلا خلاف حينئذ في وجوبها، وإنما الخلاف حيث قطعنا بصغرها وذلك لا يحصل في غير معاصي الأنبياء".
الموضع السابع في وجوب قبول التوبة
ذهبت البصرية من المعتزلة وهو ظاهر كلام الإمام المهدي إلى أنه يجب على الله تعالى قبول التوبة ويسقط العقاب، وخالف في ذلك أبو القاسم فقال: لا يجب قبولها ولا يسقط العقاب حتى لو عوقب التائب لم يكن ظلماً، قال: وإنما لا يعاقبه لكونه أصلح لا لأجل كون التوبة مسقطة للعقاب، وهو بناء على أصله في أن الثواب غير واجب على الله تعالى لاستحقاقه الطاعة على نعمه، والعقاب عندنا لا يستحق بالمعصية، بل يفعله الله لكونه أصلح فيجب، هكذا حقق مذهبه الإمام المهدي.
احتج الأولون بوجهين:
أحدهما: أنه لو لم يجب قبول التوبة ويسقط بها العقاب لم يحسن التكليف بها بعد وقوع المعصية؛ إذ لا نفع فيه حينئذٍ؛ لأن العقاب قد استحق بالمعصية والتوبة لا تسقطه فتكون عبثاً، والمعلوم من ضرورة الدين وجوبها.
الثاني: لو لم يجب قبولها للزم مثله في الاعتذار فيعتذر المسيء ولا يجب على المجني عليه قبول اعتذاره، والمعلوم ضرورة أنه إذا لم يقبل استحق الذم، قال الشاعر:
إذا ما جنى الجاني محى العذر ذنبه .... وكان الذي لا يقبل العذر جانيا
وقد جاء الشرع بتأييد ذلك في حديث: ((من لم يقبل من المنتصل...))الخبر، ونحوه.
واحتجوا على أنها تسقط العقاب بأن العاصي قد بذل وسعه في التلافي والتدارك فيسقط عقابه، كمن بالغ في الاعتذار إلى من أساء إليه فإنه يسقط ذنبه بالضرورة، فثبت أنها تسقط العقاب، وأنه لو عوقب بعدها لكان ظلماً، ولا نسلم أن العقل يحكم بوجوب قبول الاعتذار، بل إن شاء صفح وإن شاء جازى.
قال بعض علمائنا: نقل الإمام يحيى عن الحسن البصري أنه لا يجب قبول الاعتذار عقلاً، قال: فكيف يدعى علم ذلك ضرورة، واسْتَقْر ما روي عن المؤيد بالله والكرخي وأن المؤيد على جلالة شأنه لم يقبل عذر الكرخي في إساءته إليه، ومعلوم أن الذنب إذا تفاحش وعظم كقتل الأولاد وطم الأموال أن قبول العذر بعده في عقول العقلاء لا يكون واجباً، وكذا إذا تكررت الإساءات وانتهكت الحرمات. والله أعلم.
احتج أبو القاسم بأن العقاب إنما يحسن لفعل القبيح ولم يبطل فعله بالتوبة؛ لأنه قد فعل فلا سبيل إلى بطلانه.
والجواب: أنه يصير بالتوبة كأنه لم يقع، كما أن الاعتذار يصير الإساءة كأنها لم تقع.
احتج ثانياً بأن التوبة لو أوجبت إسقاط العقاب لكان إغراء بالمعصية؛ لأنه أبداً يتوب ويعود.
والجواب: أنه يلزم أن لا يسقط بالأصلح؛ لأنك توجبه مع التوبة، ثم إن ذلك يبطل بالاعتذار، ومما يحتج به لقول أبي القاسم أن يقال: لو وجب على الله قبول التوبة لما استحق الشكر على قبولها، ويمكن أن يجاب بأنه يستحق الشكر على التوفيق لها والهداية إليها، وإبقاء العاصي حتى يتوب، ونحو ذلك من المقدمات على أنه لا يمتنع استحقاق الشكر على الواجب بدليل أن الوالد يستحق على ولده الشكر في التربية وإن كانت واجبة عليه، ووجوب الفعل لا يخرجه عن كونه نعمة إذا حصلت فيه حقيقتها.
واعلم أن الأشعرية يوافقون أبا القاسم في عدم وجوب قبول التوبة، وفي أنها لا توجب سقوط العقاب بناءً على أصلهم الفاسد الذي هو نفي حكم العقل، وأنه لا يجب على الله واجب، ولا يقبح منه قبيح.
فرع واختلف القائلون بقبول التوبة هل تقبل من كل ذنب أو لا، فقال الأكثر: هي مقبولة من كل ذنب، وقالت البكرية والسمعية: لا تقبل من القتل ولا يسقط عقابه، واختاره السيد أحمد بن يوسف زبارة رحمه الله، وهو مروي عن ابن عباس والحسن البصري.
وفي (الجامع الكافي) عن الحسن بن يحيى فيمن قتل مؤمنا متعمداً قال: باب التوبة مفتوح، ولكن من قتل مؤمناً متعمداً لم يوفق لتوبة، وقد تأول القرشي ما روي عن ابن عباس والحسن بنحوه.
احتج الأولون بوجوه:
أحدها: أنها قد أسقطت عقاب الشرك وهو أعظم من القتل، فيجب أن تسقط عقاب القتل بالأولى.
الثاني: أن العلة التي لأجلها أسقطت عقاب سائر المعاصي هو كونها بذل الجهد في التلافي وهي حاصلة في القتل، فيجب أن يسقط عقابه وإلا لم تكن علة.
الثالث: أنها لو لم يسقط عقابه للزم أن لا يكلف القاتل بعده؛ لأنه قد استحق النار، ولا سبيل له إلى التخلص في هذا الاستحقاق أبداً، فلا فائدة في تكليفه حينئذ للإجماع على أن ثمرة التكليف تحصيل المنافع ودفع المضار وقد تعذر عليه ذلك، فيكون تكليفه عبثاً، والإجماع منعقد على أنه مكلف، فبطل ما زعم المخالف.
الرابع: أنه لا يخلو من أن يكون كافراً أو منافقاً أو فاسقاً، وأيها كان فتوبته مقبولة لقوله تعالى: {قُلْ لِلَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ يَنتَهُوا يُغْفَرْ لَهُمْ مَا قَدْ سَلَفَ}[الأنفال:38] وقوله: {إِنَّ الْمُنَافِقِينَ فِي الدَّرْكِ الأَسْفَلِ مِنَ النَّارِ...} إلى قوله: {إِلاَّ الَّذِينَ تَابُوا}[النساء:145،146]، وقوله تعالى: {أُوْلَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ}[آل عمران:82] {إِلاَّ مَنْ تَابَ}[مريم:60].
الخامس: قوله تعالى في سورة الفرقان: {وَلاَ يَقْتُلُونَ النَّفْسَ...} إلى قوله: {إِلاَّ مَنْ تَابَ}[الفرقان:68-70] فاستثنى التائب من الوعيد المذكور على المعاصي التي عدها.
السادس: ما جاء في الكتاب والسنة من العمومات الدالة على قبول توبة كل تائب، ومن ذلك أن النبي -صلى الله عليه وآله- قبل توبة من أسلم وصحح توبته، وإذا صحت من الكافر فالمسلم بالأولى.
احتج المانعون بوجوه:
أحدها: أن التوبة كالاعتذار، والاعتذار شرطه أن يكون إلى المساء إليه، والمقتول لا يصح الاعتذار إليه لتعذره بموته فلا تصح التوبة من قتله.
الثاني: قوله تعالى: {وَمَنْ يَقْتُلْ مُؤْمِناً مُتَعَمِّداً فَجَزَاؤُهُ جَهَنَّمُ خَالِداً فِيهَا}الآية[النساء:93].
الثالث: ما رواه في أمالي أحمد بن عيسى قال: انا محمد، قال: سمعت عبد الله بن موسى يقول حديث موطا: ((من أعان على قتل امرئ مسلم بشطر كلمة جاء يوم القيامة مكتوب بين عينيه آيس من رحمة الله)). وهو في (الجامع الكافي) بلفظ: ((من أعان بشطر كلمة على قتل امرئ مؤمن بغير حق لقي الله عز وجل مكتوباً بين عينيه آيس من رحمة الله)). وأخرجه ابن ماجة من حديث أبي هريرة، قال العزيزي: وهو حديث حسن، وفسر بعضهم شطر الكلمة بنحو: أق، من اقتله.
وفي أمالي المرشد بالله: أخبرنا أبو بكر محمد بن علي الجوزذاني المقري، قال: ثنا أبو مسلم عبد الرحمن بن محمد بن إبراهيم بن شهدل المديني، قال: أخبرنا أبو العباس أحمد بن محمد بن سعيد بن عقدة، قال: حدثنا أحمد بن الحسن أبو عبد الله قال: ثنا أبي، قال: ثنا حصين بن مخارق، عن عبد الصمد، عن أبيه، عن ابن عباس، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وآله: ((إن الله تعالى أبى عليّ فيمن قتل مؤمناً)). وهو في (الجامع الصغير) بلفظ: ((إن الله أبى علي فيمن قتل مؤمناً ثلاثا)) ونسبه إلى أحمد، والنسائي، والحاكم من حديث عقبة بن مالك الليثي، قال العزيزي: بإسناد صحيح.
وقوله: ثلاثاً إن كان من كلام النبي -صلى الله عليه وآله- فالمعنى سألت ربي ذلك ثلاث مرات، وإن كان من كلام الراوي فالمعنى أنه -صلى الله عليه وآله- كرر ذلك ثلاث مرات، ورواه الترمذي وقال: قالها ثلاثاً، وهو يؤيد الاحتمال الأخير.
وفي (الجامع الكافي) عن الحسن البصري، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وآله: ((ما نازلت ربي في شيء ما نازلته في قاتل المؤمن فلم يجبني بشيء)). وفيه عن ابن عباس، قال: ليس لقاتل المؤمن توبة فإنهما مبهمتان: الشرك، والقتل، وقرأ: {وَمَنْ يَقْتُلْ مُؤْمِناً مُتَعَمِّداً...}الآية[النساء:93]، والذي نفسي بيده ما نسختها آية ولا نزل بعدها من برهان، قال: وسمعت رسول الله -صلى الله عليه وآله- يقول: ((ثكلته أمه قاتل المؤمن متعمداً جاء يوم القيامة معلق رأسه بيمينه أو شماله تشخب أوداجه قبل عرش الرحمن يأتي وقاتله بيده الأخرى يقول: يا رب سل هذا فيم قتلني)).
الوجه الرابع: ما جاء في السنة من الوعيد الشديد لقاتل المؤمن بغير حق والتغليظ في حقه، وسنذكرها في غير هذا الموضع إن شاء الله تعالى.
فهذه حجج الفريقين، وأنت خبير بأن كلاً منها لا يفيد القطع بالمطلوب.
أما أدلة الأولين فيرد على الوجه الأول منها أنه قياس مع وجود الفارق، وذلك أن عقاب الشرك حق لله محض والاعتذار إليه ممكن؛ لأنه لا يموت سبحانه وتعالى، بخلاف عقاب القتل فإنه حق للمقتول والاعتذار إليه متعذر في دار التكليف وفي الآخرة لا حكم له، فوجب أن لا يسقط عقابه، وقد جاء في السنة ما يؤيد هذا وهو ما ورد في بعض الطاعات أن من فعلها كفرت عنه ذنوبه ما لم تكن مظلمة لبشر فإن ذلك إلى المظلوم، وعلى الثاني أن العلة وإن كانت بذل الجهد فالمراد بذل الجهد إلى المساء إليه وهو هنا متعذر كما مر، وعلى الثالث أن هذا الإلزام غير لازم.
أما من يقولون: وجه وجوب الواجبات كونها شكراً فواضح، والمعصية لا توجب سقوط شكر المنعم، كيف وهو معلوم من ضرورة العقل.
وأما من يجعل الوجه غير ذلك فعندهم أنها جارية مجرى الشكر كما مر في قوله تعالى: {يَاأَيُّهَا النَّاسُ اعْبُدُوا رَبَّكُمُ}[البقرة:21] فلا مقتضي لسقوطها عنه.
وعلى الرابع أنها عمومات محتملة للتخصيص على أنهم يقولون إنه يسمى كافراً ولا منافقاً.
وعن الخامس أنه مبني على أن الاستثناء بعد الجمل المتعاطفة يعود إلى جميعها، وفيه خلاف وخصمكم قد لا يسلمه.
وعلى السادس أنه عمومات يمكن تخصيصها بالقاتل، وأما قبول إسلام الكافر بعد القتل فلدليل خاص وهو قوله تعالى: {إِنْ يَنتَهُوا يُغْفَرْ لَهُمْ مَا قَدْ سَلَفَ}[الأنفال:38] وحديث: ((الإسلام يجب ما قبله)).
ويرد على أدلة القول الثاني ما يمنع إفادتها القطع كذلك، فيرد على الأول المعارضة لغصب المال ثم يموت المغصوب عليه فإن الغاصب تصح توبته عن ذلك إذا فعل ما يجب إلى وارثه، فما أجابوا به فهو جوابنا، على أنا لا نشترط في التوبة العذر إلى المساء إليه إلا إذا أمكن والميت لا يمكن الاعتذار إليه.
قال الإمام المهدي: ثم إنا نفرق بين الاعتذار والتوبة بأن الاعتذار إنما يجب إلى الحي ليزول سخمه، فإذا مات سقط وجوب الاعتذار؛ لارتفاع وجه وجوبه، وبقيت التوبة على الوجوب.
سلمنا أنه كالتوبة لزم أن يعتذر إلى الورثة فيقوم مقام الاعتذار إليه كالقصاص والدية.
وعلى الثاني أنه مثل قوله تعالى: {وَمَنْ يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَإِنَّ لَهُ نَارَ جَهَنَّمَ}[الجن:23] فما أجبتم به فهو جوابنا.
وعلى الثالث أنه أحادي والمسألة قطعية، على أنه يمكن حمل حديث العلوم على من مات ولم يتب، لا يقال: لو كان المراد ذلك لم يكن لقوله: ((مكتوب بين عينيه آيس من رحمة الله)) فائدة؛ إذ كل من وافى القيامة غير تائب فهو آيس من رحمة الله؛ لأنا نقول: بل له فائدة وهي بيان افتضاحه في الحشر بذلك المكتوب، وإدخال الغم عليه هنالك بقطع الرجاء، فيكون من وافى القيامة بمعصية القتل غير تائب منها له مزيد الافتضاح وقطع الرجاء بالكلية.
وأما حديث ابن عباس فيجوز حمله على المستحل، أو خرج مخرج الزجر والتنفير، ذكر معنى هذا العزيزي، وعندي أنه والله أعلم أنه يمكن حمله على الخصوص، وأن المراد به رجل مخصوص قد علم الله نفاقه وكفره، لكن النبي -صلى الله عليه وآله- أتى بهذه العبارة على عادته في الستر على أهل النفاق، ويدل على ذلك سببه كما في سنن الترمذي عن عقبة بن مالك، قال: بعث رسول الله -صلى الله عليه وآله- سرية فأغارت على قوم فشذ رجل من القوم فأتبعه رجل من أهل السرية فشاهره فقال الشاذ من القوم: إني مسلم، فضربه فقتله، فنمى الحديث إلى رسول الله -صلى الله عليه وآله- فقال فيه قولاً شديداً، فبينما رسول الله -صلى الله عليه وآله- يخطب إذ قال القاتل: يا رسول الله، ما قال الذي قال إلا تعوذاً من القتل، فأعرض عنه رسول الله -صلى الله عليه وآله- وعمن قبله من الناس، ثم قال الثانية: يا رسول الله ما قال الذي قال إلا تعوذاً من القتل، فأعرض عنه رسول الله -صلى الله عليه وآله- وعمن قبله من الناس وأخذ في خطبته، ثم لم يصبر أن قال الثالثة: يا رسول الله، ما قال الذي قال إلا تعوذاً من القتل، فأقبل عليه رسول الله -صلى الله عليه وآله- تعرف المساءة في وجهه ثم قال: ((إن الله أبى عليّ فيمن قتل مؤمناً قالها ثلاثاً)). ففي عدم ظهور الخوف والحزن على القاتل عند إغلاظ النبي -صلى الله عليه وآله- مع إعراضه عنه وعدم اكتراثه بمسألته دليل على أن الرجل مدخول في دينه، وعلى هذا يحمل حديث الحسن البصري.
وأما مذهب ابن عباس فليس بحجة، على أنه قد تأول كما مر.
وقوله: هما مبهمتان، ممنوع، فإن المشرك إذا أسلم يقبل إسلامه، وذلك معلوم من ضرورة الدين، ولعل مراد ابن عباس أن القاتل لا تقبل له توبة ما دام مصراً على معاودة القتل، كما أن المشرك لا تقبل توبته ما دام مصراً على الاستمرار على الشرك، ويدل على هذا تسويته بينهما، والتأويل أولى من التعطيل.
ويرد على الوجه الرابع أن تلك الأخبار عمومات ومطلقات، وهي قابلات للتخصيص والتقييد.
إذا عرفت هذا فنقول: إذا كانت أدلة الجانبين غير مفيدة للقطع فالواجب إما الوقف، وإما الرجوع إلى الأصل المقرر وهو ما تقتضيه ظواهر الأدلة من أن الله تعالى يقبل توبة التائبين عامة، ويكفر سيئاتهم، ويعظم أجورهم، وأدلة ذلك كتاباً وسنة كثيرة، لا يقال: هي عامة محتملة للتخصيص؛ لأنا نقول: لا مخصص إلا ما قد عرفت عدم انتهاضه للتخصيص لاحتماله كما مر، مع ما في القول بالقبول في المطابقة للعدل والجري على قواعد الحكمة، وهذا المقتول لا بد له من عوض تطيب به نفسه ويختاره على شفاء غيظه بتعذيب قاتله، وهذا بحسب ما يقتضيه الظاهر، وما ذكر من احتمال أدلة المانعين قريب من الصريح في مطلوبهم، وإنما أوجب تأويله كونه أحادياً ولكن لا يؤمن صدقه في نفس الأمر، فعلى العاقل أن يحتاط لنفسه، ويتذكر مثل ذلك الوعيد الشديد الذي لم يكن مثله لكافر ولا زان ولا غيرهما من أهل الكبائر، فإن كل صاحب كبيرة لم يأت الشرع بأن كبيرته تمنع من قبول توبته، فعليك بتذكر ذلك الوعيد عند منازعة النفس، ثم تحفظ لسانك عن النطق بكلمة أو شطر كلمة تتضمن التحريض على القتل ما لم تقطع بالاستحقاق. وفقنا الله وإياك لما يرضيه، وجنبنا معاصيه آمين.
الموضع الثامن في الخلاف في اعتبار الموافاة
ذهبت البصرية وهو قول الجمهور إلى أنها غير معتبرة في استحقاق الثواب والعقاب.
وقال بشر بن المعتمر، وهشام الفوطي وأتباعهما: بل تعتبر، ومعنى الموافاة ما يوافى به الموت من توبة صحيحة أو غيرها، فهؤلاء قالوا: لا يكتب له أجر طاعة ولا جزاء معصية إلا بحسب حاله عند الموت، فإذا علم الله أنه يموت تائباً كتب له أجر طاعته في الحال، وإن علم أنه يموت وقد أحبطه فلا، وكذلك إذا فعل معصية وعلم الله أنه يموت على التوبة لم يكتب له عقابها في الحال.
وعند الجمهور أن العبرة بحال الفعل، فإذا فعل طاعة أو معصية استحق عقيب الفعل الثواب أو العقاب، وكتب له في ذلك الوقت ما يستحقه فيه، ولو علم الله أنه يموت وقد فعل ما يحبط الثواب أو يسقط العقاب فذلك لا يؤثر في ثبوت هذين الاستحقاقين في الحال وكتابتهما.
احتج الجمهور بوجوه:
أحدها: أن التوبة بذل الجهد في تلافي ما وقع حتى يصير في الحكم كأنه لم يفعل المعصية، وما هذا سبيله فلا يحتاج في إسقاطه العقوبة أن يوافى به الآخرة، نظيره الاعتذار فإن من اعتذر اعتذاراً صحيحاً سقط عنه الذم، سواء أساء مرة أخرى أم لا، فكذلك التوبة.
الثاني: أن سبب استحقاق الثواب والعقاب إنما هو فعل الطاعة والمعصية لا غيره، وإذا كان كذلك فلا يصح توقف الاستحقاق على غير سببه؛ إذ لا وجه يقتضي ذلك.
الثالث: أن المعلوم شرعاً وجوب تعجيل القطع بالسرقة عقوبة، وكذلك المعلوم شرعاً جواز لعن الفاسق والاستخفاف به ولم ينتظر الموافاة في استحقاق العقاب بالقطع واللعن، فكذلك غيرهما مما يستحق.
احتج المخالف بأن التائب موعود بالجنة وعداً مطلقاً ووعد الله لا خلف فيه، فلو لم يشترط الموافاة لدخله الخلف، وكذلك يقال في الوعيد على أصلهم إنه ورد مطلقاً فلو علم الله أنه يوافي مؤمناً للزم الخلف فيه، وقد تقدم لهم معنى هذا في قوله تعالى: {وَبَشِّرِ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ}[البقرة:25] وأجبنا عليهم هنالك.
ونقول هنا: والجواب أن الوعد والوعيد في نفس الأمر مشروط بأن لا يقع إحباط ولا تكفير قبل الموافاة.
فرع قالت البصرية: وتقبل توبة من علم الله أنه سيعود إلى المعصية خلافاً لبشر بن المعتمر لنا أن التائب قد استكمل شرائط التوبة فوجب قبولها، ولا يؤاخذ بما سيكون ما لم يعزم عليه، ولا حجة له إلا ما مر من أنه موعود بالجنة إلى آخره، وجوابه ما مر.
قلت: وقد جاء في السنة ما يدل على قبول التوبة وإن تكررت معاودة الذنب، وسيأتي ذلك في موضع غير هذا إن شاء الله.
الموضع التاسع في التوبة من المتولد قبل وقوعه
حكى الإمام المهدي عن أصحابنا أن التوبة تجب منه قبل وقوعه عند حدوث سببه فتمنع العقاب عليه ولو حدث من بعد.
وقال أبو القاسم: لا يصح إلا بعد وقوعه؛ إذ لا يستحق العقاب على الفعل حتى يقع.
وأجيب بأن التوبة تحرز عن الضرر، فتجب المبادرة إليها، والمتولد بعد وقوع سببه في حكم الواقع؛ لأنه لا يملك رده، هكذا قرر الإمام المهدي الخلاف والاستدلال.
وظاهر كلام الموفق بالله في (الإحاطة) كقول أبي القاسم، وتلخيص كلامه أن من فعل سبباً المعلوم من حاله أنه يولد قبيحاً فإنه لا يستحق العقاب على المسبب إلا بعد وجوده، ونسب الخلاف في ذلك إلى أبي هاشم فقال: إنه حكي عنه أنه إذا علم من حاله أنه يقع فإنه يستحق العقاب عليه قبل وجوده، واعترضه بأن العقاب إنما يستحق على القبيح لقبحه، وكونه قبيحاً وهو معدوم محال؛ لأن قبحه عبارة عن وقوعه على وجه، وذلك متعذر حال العدم.
فإن قيل: واجب الوجود لا محالة.
قيل: وكذلك المباشر عند القصد والداعي وعدم المانع يجب وجوده ولا يستحق عليه عقاباً ما لم يوجد، وأيضاً لو استحق العقاب على المتولد قبل وجوده للزم إذا قدرنا طروء ما يمنع وجوده أن يستحق العقاب عليه؛ لأن عدم وجوده لا يخرج ما قد ثبت من استحقاق العقاب عن التوبة.
فإن قيل: إنه لا يحسن أمره ونهيه فهو كالموجود.
قيل: إنه لمن يحصل قبيحاً، والعقاب لا يستحق إلا على القبيح.
فإن قيل: لو لم يستحق عليه عقاباً لما لزمته التوبة.
قيل: ملتزم فلا تلزمه؛ إذ لا يستحق عليه عقاباً، وإذا ندم قبل وجوده فندمه يكون على سببه لقبحه، ولأنه يولد قبيحاً.
فإن قيل: لم قلتم إنه يتوب عنه لقبحه ولتوليده قبيحاً، والتوبة عندكم لا تتناول وجه القبح وإنما تتناول القبيح.
قيل: إنما أجزناها هنا؛ لأنها منع عن استحقاق العقاب، وإذا كانت كذلك جاز تناولها لوجه القبح، فأما إذا تناولته والفعل موجود فلا؛ لأنها إسقاط، فيجب أن تتعلق بما له تأثير في العقاب وهو القبح دون وجهه؛ إذ لا تأثير له.
فإن قيل: إذا ندم على السبب الآن أسقط عقابه، فلم لا يجوز أن يسقطه بعد وجوده؟
قيل: لأنه لا تعلق بينهما بعد وجوده؛ إذ قد انقطع توليده عنه، وليس كذلك قبل وجوده؛ لأنه يولده فبينهما تعلق.
فإن قيل: هذا يؤدي إلى أن يفعل سبباً فيموت وهو من أهل الثواب، فإذا وجد المسبب صار من أهل النار، وهذا خلاف الإجماع فإنهم أجمعوا على أن الاستحقاق يستقر بالموت.
قيل: ليس كذلك وهل الخلاف إلا فيه، فكيف هذا الإجماع المخالف للدليل الجازم.
الموضع العاشر في الصغائر إذا كثرت هل يجوز مصيرها كبيرة
وقد اختلف في ذلك، فقال أبو هاشم والإمام المهدي: من كثرت صغائره حتى لزمته تبعة كوجوب الرد ولزوم الحد، وذلك كمن يسرق قليلاً قليلاً حتى يبلغ نصاب السرقة جاز أن يصير مجموع تلك الصغائر كبيرة لا كل فرد منها فلم يقل به أحد، فإن لم تلحقه تبعة كالكذب مراراً فالأخير هو الذي يصير كبيرة فقط.
وقال أبو علي: بل الجميع يصير كبيرة في الصورتين.
احتج الأولون بأن الأوائل مما لا تبعة فيه مغفورة؛ لأنه لا عقاب عليها في الآخرة، ولا تبعة تلحقه بسببها في الدنيا، بخلاف ما فيه تبعة كأوائل السرقة فإنها لما وجب فيها الرد شاركت آخرها في الكبر.
وأما أبو علي فهو بنى في هذه المسألة على أصله وهو وجوب التوبة من الصغائر عقلاً، ووجوب تجديد التوبة عند تذكر الذنب، فترك التوبة يجوز أن يكون كبيراً؛ لأنه إصرار، وقد مر الرد عليه.
قال بعض المحققين: والقياس فيما لا تبعة فيه أن لا يصير كبيراً؛ لأن الأول مكفر فلا يقع الثاني إلا وقد كفر، وكذا ما بعده فلا يتحقق اجتماع، قال: وعلى أصل أبي علي أيضاً الصغير الأول ساقط رأساً.
وأما على قول أبي هاشم فمستقيم، لكن لا يتم مطلقاً وإنما هو حيث لم يكن له ثواب في تلك الحال أزيد؛ لأنه يثبت الموازنة.
واعلم أن الكلام في هذا الموضوع إنما هو على سبيل الفرض والتقدير على أصل من يمنع تعيين الصغائر.
الموضع الحادي عشر في أن التوبة واجبة على الفور
نص على وجوبها على الفور الإمام القاسم بن محمد والغزالي وقال: لا يستراب فيه، وهو الظاهر من كلام أصحابنا.
ومعنى كونها على الفور أنها تجب عقيب المعصية بلا تراخ، والحجة على ذلك من وجوه:
أحدها: أن التراخي عنها إصرار على الذنب؛ إذ الإصرار ليس إلا ترك التوبة بعد وجوبها، والإصرار في نفسه كبيرة.
الثاني: أن العبد مخاطب بترك المعصية في كل وقت فليس تركها بغير فعلها إلا التخلص منها، ولا يكون إلا بالتوبة؛ فوجبت فوراً.
الثالث: أنها مأمور بها، والأمر يقتضي الفور عند بعضهم.
الرابع: أن الله تعالى قد أمر بالمسارعة إلى المغفرة فقال: {سَارِعُوا إِلَى مَغْفِرَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ}[آل عمران:133] ونحوها، والمراد اطلبوا المغفرة من ربكم، وطلبها إنما يكون بالتوبة، أو بما يقوم مقامها من الطاعات على رأي.
الخامس: ما جاء في السنة من ذم التسويف بالتوبة، وذلك يدل على وجوب المسارعة إليها، هذا مع أني لا أعلم قائلاً بجواز التراخي فيها، ولعل القائلين بأن الأمر للتراخي أو لمطلق الطلب يخصصون التوبه بهذه الوجوه.
فإن قيل: إذا كانت التوبة على الفور فهل تصح وتقبل إن تراخى العاصي عن الإتيان بها؟
قيل: نعم تقبل مدة العمر وإن كان عاصياً بالتأخير ما لم تحضره ملائكة الموت فإذا حضرته لم تقبل، وإنما قبلت منه لبقاء التكليف وهي من جملة ما كلف به، فإذا حضرت الملائكة ارتفع التكليف فلا تقبل، وقد جاء الشرع بذلك قال تعالى: {يَوْمَ يَرَوْنَ الْمَلاَئِكَةَ لاَ بُشْرَى يَوْمَئِذٍ لِلْمُجْرِمِينَ وَيَقُولُونَ حِجْرًا مَحْجُورًا}[الفرقان:22] أي حرام عليكم قبول التوبة وكل عمل صالح، وأصرح منها قوله تعالى: {وَلَيْسَتِ التَّوْبَةُ لِلَّذِينَ يَعْمَلُونَ السَّيِّئَاتِ حَتَّى إِذَا حَضَرَ أَحَدَهُمُ الْمَوْتُ قَالَ إِنِّي تُبْتُ الآنَ...}الآية[النساء:18]، وهذا قول الإمام القاسم بن محمد وغيره، ولا أعلم فيه خلافاً، وينبغي تقييد الحضور بالغرغرة بالموت لمجيء التقييد به في بعض الأحاديث، قال النووي: وللتوبة شرط آخر وهي أن يتوب قبل الغرغرة كما جاء في الحديث الصحيح، وأما في حالة الغرغرة وهي حالة النزع فلا تقبل توبته ولا غيرها، ولا تنفذ وصيته ولا غيرها، وكذلك يمتنع قبول التوبة عند طلوع الشمس من مغربها لحديث: ((من تاب قبل أن تطلع الشمس من مغربها تاب الله عليه)).
قال النووي: هذا حدٌّ لقبول التوبة.
وقد جاء في الحديث الصحيح: ((إن للتوبة باباً مفتوحاً فلا تزال مقبولة حتى يغلق، فإذا طلعت الشمس من مغربها أغلق)). وامتنعت التوبة على من لم يكن تاب قبل ذلك، وهو معنى قوله تعالى: {يَوْمَ يَأْتِي بَعْضُ آيَاتِ رَبِّكَ لاَ يَنفَعُ نَفْساً إِيمَانُهَا لَمْ تَكُنْ آمَنَتْ مِنْ قَبْلُ أَوْ كَسَبَتْ فِي إِيمَانِهَا خَيْراً}[الأنعام:158].
الموضع الثاني عشر في صفات التوبة وشروطها
اعلم أن التوبة هي الندم والعزم على ما مر، وهذان الأمران لا تحصل التوبة عن أي ذنب إلا بحصولهما؛ لأنهما نفس حقيقتها وماهيتها، فإذا لم يحصلا وجب انتفاؤها، ثم لها بعد ذلك شروط تختلف باختلاف المعاصي؛ لأن الواجب على العاصي بذل الجهد في تلافي ما فرط منه حتى يصير في الحكم كأنه لم يأت بالمعصية، والمعاصي مختلفة فيها ما يكفي في التخلص منها حصول ماهية التوبة وهي الندم والعزم المذكورين، ومنها ما لا يتخلص منها إلا أن يأتي معهما بأمر زائد إن لم يأت به لم يصدق عليه أنه بذل جهده في التلافي، ونحن نأتي من التفاصيل في هذا الموضع بما يكون دليلاً على غيره، ونكل الاستقصاء إلى بسائط الكتب، وإلى ما سيأتي في أثناء هذا الكتاب إن شاء الله من التفاصيل، واستكمال الاستدلال عليها فنقول:
لا يخلو حال التائب من أن تكون المعصية بينه وبين الله تعالى، أو بينه وبين الآدميين، فإن كانت بينه وبين الله تعالى فلا يخلو إما أن تكون من باب الاعتقاد، أو من باب الأفعال والتروك، إن كان الأول كفاه الندم والعزم على أن لا يعود، وذلك كالجهل بالله وبما يجب له من الصفات، أو ينسب إليه ما لا يجوز عليه من ظلم العباد، والرضا بالفساد، ونحو ذلك من المسائل الاعتقادية، وإنما يكفيه ذلك إن لم يكن قد اتبعه فيه أحد، أو كان قد أثبته في مصنفاته، فإن كان كذلك وجب عليه إظهار توبته ليرجع من قد اتبعه، ويبالغ في إظهار بطلان ما وقع في مصنفاته ونقضه، سيما إذا كان قد دعا أحداً إلى ذلك الضلال، وإذا كان قد دعا جماعة يشق حصرهم واجتماعهم وجب عليه إظهار بطلان إضلاله في موضع يغلب على ظنه أو يعلم أنه سيصل إليهم لا محالة كالمجامع والأعياد ونحوها، ودليل ذلك ما مر من أن الواجب عليه بذل الوسع في التلافي، ولأمره صلى الله عليه وآله وسلم بلالاً لما أذن بليل بأن ينادي إن العبد نام، فإن لم يتمكن من الضال ولا من المجامع فقال ابن أبي الحديد: يجب عليه العزم إذا تمكن، فإن مات قبل ذلك أو تمكن واجتهد في حل الشبهة فلم تنحل من نفس الضال فلا عقاب عليه؛ لأنه قد استفرغ جهده.
قال الموفق بالله: وكذلك يجب عليه الاعتذار إلى من دعاه إلى باطل، فإن كانوا جماعة يشق حصرهم وجب عليه في المجامع كما مر، وإنما وجب الاعتذار لأنه قد أساء إليه؛ إذ لا يأمن استحقاقه العقاب بسببه.
فإن قيل: كيف يجب عليه إظهار التوبة ونقض ما في التصانيف مما يتعلق بالاعتقاد والناس مكلفون بالنظر وممنوعون من التقليد.
قيل: لأنه ربما كان العالم قد حرر الشبهة على وجه لا يهتدي المتبع إلى حلها؛ إذ الأفهام والأفكار تختلف، ولو تركه على فطرة العقل لسلم من ذلك الذنب، ولا شك أن العلماء قدوة، سيما إذا كان ظاهرهم الصلاح وقوة الفكر وغزارة العلم، وما ضل كثير من أهل الضلال إلا بسبب علمائهم، ولذلك قال صلى الله عليه وآله: ((من سن سنة سيئة فعليه وزرها ووزر من عمل بها لا ينتقص من أوزارهم شيئاً)). رواه البخاري، ومسلم من حديث جرير بن عبد الله، وقال ابن عباس: ويل للعالم من الأتباع يزل زلة فيرجع عنها ويحملها الناس فيذهبون بها في الآفاق.
وإن كانت فيما بينه وبين الله من باب الأفعال والتروك كالصلاة إذا تركها فقد اختلف في ذلك، فقيل: يكفيه الندم والعزم، وهو قول ابن أبي الحديد، وهو ظاهر كلام السيد مانكديم، وبه قال من لا يوجب القضاء على العامد.
وقيل: لا بد مع ذلك من القضاء وهو قول القاسم بن إبراهيم ذكره في كتبه، وبه قال القرشي، ومن أوجب القضاء على العامد.
وإن كانت المعاصي نحو الزنا، وشرب الخمر، والأيمان الكاذبة، وقطيعة الرحم، والنميمة، ومعاداة أولياء الله، وموالاة أعدائه وما أشبه ذلك من الذنوب التي حرمها الله وليس فيها جناية على آدمي في نفسه ولا في ماله ولا في عرضه، فلا يجب عليها الندم والعزم، ذكر معنى ذلك القاسم بن إبراهيم.
وأما إن كانت المعصية فيما بينه وبين بني آدم فهي أنواع: منها ما يكون جناية عليه في نفسه بأن يقتله عمداً عدواناً، فهذا الواجب عليه مع الندم والعزم تسليم نفسه لورثة المقتول للقصاص، أو يسلم الدية إن عفوا، أو كان قتله خطأ.
ومنها: أن تكون الجناية عليه في سائر أعضائه وجب عليه تسليم ما يجب من قصاص أو أرش.
ومنها أن تكون الجناية عليه في ماله فهذا يجب رده بعينه إن كان باقياً أو مثل المثلي، وقيمة القيمي إن كان تالفاً إما إلى صاحبه إن كان، وإلا فإلى ورثته، فإن لم يكونوا معروفين فقال القاسم بن إبراهيم: يتصدق بها على المساكين، فإن عرفوا بعدُ رُدَّ المال إليهم إن أمكن، أو عوضه إلا أن يرضوا بصدقته، قال: وإن كان فقيراً فأنفقه على نفسه على جهة القرض كانت توبته مقبولة.
وقال السيد مانكديم: إن لم يعرف المالك ولا الوارث فإلى الإمام، فإن لم يكن فإلى الفقراء، قال في (الغياصة): ويجب مع ذلك إظهار التوبة عند كل عالم بمعصيته لئلا يتضرر بإساءة الظن به فيقول: أنا تائب إلى الله مما علمته صدر مني.
ومنها: أن تكون الجناية عليه في عرضه نحو الغيبة والسب ونحوهما إذا كانت من هذا القبيل، فقال السيد مانكديم، والموفق بالله، والقرشي وغيرهم من أصحابنا: يجب عليه الاعتذار إليه إن كان قد بلغه؛ لأنه قد أساء إليه؛ إذ يغتم بذلك، وإلا كفاه الندم والعزم، ولا يجب أن يبلغه؛ لأن ذلك يوحشه.
قال الموفق بالله: وكذلك إن ظن أنه قد بلغه؛ لأنه لا يأمن أن يستحق بتركه العقاب، فأما إذا علم أنه ما بلغه وشك في ذلك فلا يجب عليه أن يعتذر؛ لأنه ما أساء إليه وهذا في غير الفاسق، فإن كان فاسقاً فقد جاء في الحديث: ((لا غيبة لفاسق)) ذكره في (الغياصة).
وقال الإمام يحيى: لا تجوز غيبة الفاسق، وحمل الحديث على النهي لا على الخبر.
نعم وفي كلام القاسم بن إبرهيم ما يدل على أنه لا يجب الاعتذار من هذا النوع، قال عليه السلام : وأما ما كان من ظلم الناس نحو اغتياب وتخسيس وسوء ظن بمؤمن أو سعاية إلى ظالم أو كذب عليه فالتوبة إلى الله جل جلاله في ذلك، ويتحلل ذلك من أصحابها الذين فعل بهم فإنه أحسن وأفضل، ويكون على أجمل الوجوه، فإن لم يمكنه التحلل ولم يفعله بعد أن يتوب إلى الله جل ثناؤه رجونا أن لا يضره ذلك، قال عليه السلام في موضع آخر: وأحب إلينا أن ينظر إلى ما كان أذىً لمسلم أو معاهد فيستحله ويعتذر إليه منه ويرضيه.
واعلم أن تفصيل الكلام على أنواع الذنوب يحتاج إلى تطويل وبسط وبحث عن الدليل، وهذا الموضع لا يتسع، والواجب على من أراد التخلص من حقوق العباد أن يرجع في كيفية التخلص منها إلى ما جاء في الشريعة المطهرة في كيفية ذلك، فما كان منها جناية على نفس أو عضو فمحلها كتب الفقه وهي متنوعة إلى عمد وخطأ، وإلى ما يجب فيه القصاص، وما لا يجب فيه ذلك، وكذلك ما يتعلق بالأموال فإن محلها الكتب الفقهية وتنوعها أكثر مما قبلها؛ إذ هي قد يكون الذنب لغش في تجارة، أو غرر، أو خداع فيها، وقد يكون في نفقات من يجب نفقته، وفي مهور النساء، وفي الأوقاف، والأعشار، والأخماس، والهدايا، والهبات، والنذور، واللقطة، والغصب وغير ذلك مما يطول تعداده فضلاً عن استيفاء الكلام على كيفية التخلص من ارتكاب المعصية بسببه، وقد بسط بعض البسط في ذلك القاسم بن إبراهيم في كتاب (العدل والتوحيد) والموفق بالله في (الإحاطة).
وحاصل القول في ذلك أنه يجب على العبد التخلص من حقوق الله على الوجه الذي يريده الله منه، ومن حقوق العباد كذلك.
فائدة
قال القرشي: واختلف فيمن اعتذر إلى الغير ولم يتب إلى الله فقال الجمهور: لا يقبل اعتذاره؛ لأن من حق الاعتذار أن يكون بذل الجهد في تلافي ما فرط وما لم يتب إلى الله عز وجل فلم يبذل الجهد.
وقال القاضي: يصح اعتذاره؛ لأن الاعتذار إنما لزمه في مقابلة كون الفعل إساءة، والتوبة تلزمه في مقابلة كونه معصية وهما أمران متغايران، ولمثل هذا يصح أن يكون معتذراً إلى زيد دون عمرو.
فائدة أخرى
قال الموفق بالله: اعلم أنه إذا أساء إلى غيره يجب أن يعتذر إليه إذا علم موقع الاعتذار، فأما إذا لم يعلمه لم يجب عليه، ولذلك لا يجب على أحدنا إذا أساء إلى صبي أو مجنون أن يعتذر إليه بل يقبح، فإذا اعتذر المسيء إلى المساء إليه وعلم قصده ضرورة وجب أن يقبل عذره ولا يحسن ذمه بعد، وذلك معلوم ضرورة، فإن لم يعلم قصده وجب القبول أيضاً؛ لأنه لا يمكنه أكثر مما قد فعله، ولا يقدر على أن يخلق العلم في قلبه بأنه قصد التوبة جملة فرض عين، وأما التفاصيل فمختلفة، منها ما يجب عيناً، ومنها ما يجب كفاية كما لا يخفى.
واعلم أنا لم نذكر من الأخبار المتعلقة بالمسألة إلا شيئاً يسيراً؛ لأن المقصود الأعظم في هذا الموضع بيان الأدلة العقلية والجري على ما تقتضيه قواعد المتكلمين، وسنأتي فيما بعد إن شاء الله من الأحاديث النبوية، والآثار العلوية، بما يسر الناظر، ويهدي المناظر، ويستبين به المعتدل من المائل، والحق من الباطل، واللبيب العاقل لا يعزب عنه توزيع تلك الأخبار على هذه المواضع، وما تدل عليه من أقوال المختلفين، فليكن هذا على ذكر منك عند وقوفك على ما سنذكره من السنة النبوية لترد كل شيء إلى أصله، وتضع الاستدلال به في محله. والله الموفق.
المسألة الثالثة التوَّاب من صفات الفعل
وقد اختلف في معنى وصفه تعالى بصفة المبالغة فقال زيد بن علي: التواب المعين للعباد على التوبة، والتّواب من العباد الراجع عن ذنب التارك له والنادم على ما تاب منه، وكلامه عليه السلام يفيد أن المبالغة غير مقصودة فيه.
وقال الرازي: المراد المبالغة في قبول التوبة؛ لأن المكلف قد تكرر منه المعصية والتوبة فيقبل الله منه ذلك مرة بعد أخرى؛ لأن الذين يتوبون في عددهم كثرة والباري تعالى يقبل توبة الجميع؛ فلأجل هذين الأمرين استحق الوصف بأنه تواب، ويجوز أن يوصف بذلك لما في قبوله للتوبة من المبالغة من حيث أن التائب منزلة من لم يذنب لسعة كرمه، ذكر معناه في (المصابيح).
قال في (البلغة): واقتضى ذكر الرحمة هنا ذكر قبول التوبة ليعلم أنه ينعم على من تاب.
وقال أبو حيان: قد ورد هذا الاسم في كتاب الله معرفاً ومنكراً، ووصف به تعالى نفسه فدل ذلك على أنه مما استأثر الله بعلمه.
قلت: يعني أنه لا يتأول.
قال: وذهب بعضهم إلى أنه لا يوصف به إلا تجوزاً.
قلت: وذهب آخرون إلى أنه يوصف به حقيقة؛ إذ لا مانع، وقد عرفت معناه ومن أين له إن ذكره معرفاً ومنكراً دليل على أنه لا يتأول.
قال: وأجمعوا على أنه تعالى لا يوصف بتائب، ولا آيب، ولا منيب، ولا رجاع، والوجه عدم ورود السمع به، ويمكن أن يقال: إذا كان الإطلاق حقيقياً وصح المعنى فلا مانع كما مر في البسملة، وفرق بين إطلاقه على الله تعالى وعلى العبد لاختلاف صلتيهما فقال في إطلاقه على الله: {فَتَابَ عَلَيْهِ}[البقرة:37] وفي العبد: {وَتُوبُوا إِلَى اللَّهِ}[النور:31].
المسألة الرابعة
ذكر الناصر عليه السلام أن المجبرة تمسكت بقوله تعالى: {فَتَلَقَّى آدَمُ مِنْ رَبِّهِ كَلِمَاتٍ}الآية[البقرة:37]، على أنه يجوز أن يخص الله بعض عباده بالتوبة عليه دون بعض لأنه أعطى آدم الكلمات فتاب عليه، ولم يعط إبليس مثله ولم يتب عليه.
وأجاب عليه السلام بأنا لا ننكر أن يختص الله بعض الأنبياء والمؤمنين بأمور كثيرة ويفضلهم بها، وأما ما تلقاه آدم فليس إلا أن الله أعلم جميع عباده أنه يغفر لمن تاب فقال: {وَإِنِّي لَغَفَّارٌ لِمَنْ تَابَ...}الآية[طه:82]، فتلقى آدم ذلك من ربه فتاب واستغفر، وقد أعطى الله إبليس ما أعطى آدم لو تلقاه عنه، وفتح باب التوبة لجميع الخاطئين.
قال عليه السلام : ويدل على ذلك قوله: {فَإِمَّا يَأْتِيَنَّكُمْ مِنّي هُدًى فَمَنْ تَبِعَ هُدَايَ فَلاَ خَوْفٌ عَلَيْهِمْ...}الآية[البقرة:38]، وهداه هنا هو ما دله عليه من التوبة والرجوع إلى طاعته، وهو الذي تلقاه آدم من ربه ولم يتلقه إبليس وأصر على ذنبه واستكبر، ويبين ذلك قوله: {فَإِمَّا يَأْتِيَنَّكُمْ مِنّي هُدًى فَمَنِ اتَّبَعَ هُدَايَ فَلاَ يَضِلُّ وَلاَ يَشْقَى...}الآية[طه:123]، وهو جواب حسن. والله الموفق.
[البقرة: 38]
قوله تعالى: {قُلْنَا اهْبِطُوا مِنْهَا جَمِيعًا فَإِمَّا يَأْتِيَنَّكُمْ مِنّي هُدًى فَمَنْ تَبِعَ هُدَايَ فَلاَ خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلاَ هُمْ يَحْزَنُونَ}.
قال أبو حيان: بمعنى تبع الحق، وبمعنى تلا، وبمعنى اقتدى، وقال الراغب ما معناه: يقال: تبعه واتبعه قفى أثره، وذلك تارة بالارتسام والائتمار كقوله: {فَمَنْ تَبِعَ هُدَايَ} ونحوها مما أمر الله به من الاتباع أو نهى عنه، ويقال: اتبعه إذا لحقه، قال: {فَأَتْبَعُوهُمْ مُشْرِقِينَ}[الشعراء:60] ويقال: أتبعته عليه أي أحلت عليه، وأتبع فلان بمال أي أحيل عليه.
والخوف: الفزع ويكون كالأمر المستقبل، ولذلك قيل: الخوف يلحق المرء لأمر متوقع عن أمارة مظنونة أو معلومة.
والحزن: شدة الهم، مأخوذ من الحزن وهو ما غلظ في الأرض.
وقال الراغب: الحزن والحُزن: خشونة في الأرض، وخشونة في النفس بما هو يحصل فيه من الغم ويضاده الفرح، قيل: والحزن لا يحصل بالاختيار، والنهي عنه في نحو: {وَلاَ تَحْزَنُوا} إنما هو تعاطي أسبابه، وإلى ذلك أشار الشاعر بقوله:
ومن سره أن لا يرى ما يسوءه .... فلا يتخذ شيئاً يبالي له فقدا
وفي الآية مسائل:
المسألة الأولى الهدى المذكور في الآية
قال أبو حيان: الكتب المنزلة، أو الرسل، أو البيان، أو القدرة على الطاعة، أو محمد رسول الله -صلى الله عليه وآله- أقوال، ورجح الزمخشري أنه الرسول والكتاب، وتبعه أبو السعود قالا: وجيء بكلمة الشك مع تحقيق الإتيان بالهدى للإيذان بأن الإيمان بالله وتوحيده لا يشترط فيه بعثة الرسل وإنزال الكتب، بل يكفي في وجوبه العقل ونصب الأدلة الآفاقية والنفسية، والتمكين من النظر والاستدلال.
قلت: وهذا يدل على أن وجوب دليل النظر عقلي، وقد اعترض ابن المنير هنا فقال: إن دليل وجوبه سمعي، قال: وإن كان حصول الإيمان بالله وتوحيده غير موقوف على ورود السمع، بل محض العقل كاف فيه بالاتفاق، وقد تقدم الكلام في ذلك مبسوطاً في قوله تعالى: {يَاأَيُّهَا النَّاسُ اعْبُدُوا رَبَّكُمُ...}الآية[البقرة:21].
واعلم أن كلام الزمخشري مبني على أن المراد بالخطاب آدم وذريته كما مر؛ إذ لا يصح أن يفسر الهدى بالرسول في حق آدم؛ لأنه لم يبعث إليه رسول.
وقيل: بل بعث إليه من الملائكة.
وقال الرازي: من الهدى كل دلالة وبيان، فيدخل فيه دليل العقل وكل كلام ينزل على نبي؛ إذ تخصيصه بنوع معين منه ولا يثبت إلا بدليل، قال: وقد نبه بذلك على عظم نعمة الله تعالى على آدم وحوا عليهما السَّلام فكأنه قال: وإن أهبطتكم إلى الأرض فقد أنعمت عليكم بما يردكم إلى الجنة مع الدوام الذي لا ينقطع.
المسألة الثانية [من ثمار الطاعة الطمأنية]
قال الرازي: إن الله تعالى بين أن من اتبع هداه بحقه علماً وعملاً بالإقدام على ما يلزم والإحجام عما يحرم فإنه يصير إلى حال لا خوف عليه ولا حزن، وهذه الجملة مع اختصارها تجمع معاني كثيرة؛ لأنه قد دخل في الهدى الإنعام بالأدلة العقلية والشرعية وزيادات البيان، وجميع ما لا يتم ذلك إلا به من العقل والتمكن، وجمع قوله: {فَمَنْ تَبِعَ هُدَايَ}[البقرة:38] تأمل الأدلة بحقها والنظر فيها، واستنتاج المعارف منها، والعمل بها وبجميع ذلك كل التكاليف، وجمع قوله: {فَلاَ خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُوْن}[البقرة:38] جميع ما أعد الله لأوليائه؛ لأن زوال الخوف يتضمن السلامة من جميع الآفات، وزوال الحزن يقتضي الوصول إلى كل اللذات.
المسألة الثالثة [في أن المطيع لا يخاف ولا يحزن]
قيل: في الآية دليل على أن المكلف المطيع لا يلحقه خوف ولا حزن عند الموت ولا في القبر ولا فيما بعدهما من أهوال البعث والقيامة، وفي ذلك خلاف، فقالت البصرية: لا يجوز اغتمام الأنبياء والمؤمنين بما يشاهدونه من أهوال يوم القيامة، وممن قال به من أئمتنا" الإمام المهدي، والإمام القاسم بن محمد، والإمام المهدي محمد بن القاسم، فهؤلاء الذين عرفت نصوصهم في ذلك، ونص عليه من أتباعهم القرشي، وقرره النجري، وهو ظاهر كلام الرازي.
وقال أبو القاسم: بل يجوز ذلك، وإليه أشار أبو بكر بن الإخشيذ، ورواه الرازي عن قوم من المتكلمين.
قال الإمام المهدي: وأما المجبرة فيجوزون ذلك ويقبلون ما ورد فيه من الآثار لنفيهم حكم العقل.
احتج الأولون بوجوه:
أحدها: أن الأفزاع والآلام لا تحسن إلا حيث كانت مستحقة أو فعلت لجلب نفع أو دفع ضرر، والمعلوم أنه لا استحقاق في حق الصالحين، ولا يحصل لهم نفع من ثواب؛ إذ ليست واقفة على اختيارهم، ولا عوض مع اللطف؛ إذ ليست الدار دار تكليف، ولا يحصل لهم دفع ضرر؛ إذ لا ضرر عليهم يحتاجون إلى دفعه، وليست الدار دار تكليف فنقول هو لطف، فإذا خلت عن هذه الوجوه كانت ظلماً لحصول حقيقة الظلم فيها فوجب القطع بانتفائها.
الثاني: أنه لو وقع بهم ذلك لكان عذاباً، والمؤمن غير معذب قطعاً؛ لأنه قد صار من عند الموت في أول مواقف الآخرة وهي للمؤمن دار ثواب لا دار عقاب، وهذان الوجهان عقليان وهما يعمان جميع أوقات الآخرة من عند الموت إلى دخول الجنة فلا يفزع في قبره ولا في غيره، ويشملان أيضاً كل من لا يستحق عقاباً من الأنبياء والملائكة والمؤمنين، والأطفال، والبهائم، وصالحي الجن.
فإن قيل: هذان الوجهان إنما يدلان على بطلان أن يكون الفزع والغم من الله فيجوز أن يكون من المؤمن نفسه بأن يظن ظنوناً فاسدة لعظم ما يشاهده فيغتم لذلك.
قيل: العلوم كلها في الآخرة ضرورية، فالمؤمن لا بد أن يعلم ضرورة ذلك اليوم صدق ما وعده الله، ومع هذا لا سبيل إلى الظن.
الوجه الثالث: أن ذلك هو الذي دلت عليه الأدلة السمعية الصريحة المحكمة من الكتاب والسنة، ومنه هذه الآية وهي عامة لجميع أحوالهم في الدنيا والآخرة، لكن خصص نفي الخوف والحزن بالآخرة؛ لأن قرائن الأحوال ومجاري الأمور تدل على ذلك وهو ما علم من أن المؤمن قد يلحقه الخوف والحزن في الدنيا؛ ولذلك قال صلى الله عليه وآله: ((خص البلاء بالأنبياء، ثم بالأولياء، ثم بالأمثل فالأمثل)).
وفي كلام علي عليه السلام في صفة المؤمن: بشره في وجهه، وحزنه في قلبه. ونحو ذلك، ويكفي في ثبوت ذلك الهم في الدنيا ما حكاه الله من قولهم عند دخول الجنة: {الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي أَذْهَبَ عَنَّا الْحَزَنَ}[فاطر:34].
فإن قيل: قد روي عن المفسرين في معنى نفي الخوف والحزن أقوال كثيرة منها ما يدل على تخصيص نفي الخوف والحزن ببعض أوقات الآخرة كقول من قال أشار إلى أنه يدخلهم الجنة التي لا خوف عليهم فيها ولا حزن، وقول بعضهم: لا خوف عليهم حين أطبقت النار، ولا حزن حين يذبح الموت في صورة كبش إلى ما شاكل ذلك من الأقوال، ومع هذا الاختلاف في معناه يضعف الاحتجاج بها وقد قيل: إنه لا دليل فيها على نفي أفزاع القيامة عن المؤمن لما وصفه الله من شدة أهوال ذلك اليوم إلا أنه يخففه عن المطيعين، فإذا صاروا إلى رحمته فكأنهم لم يخافوا.
قيل: الظاهر العموم، وتلك الأقوال لا دليل على شيء منها، وما لا دليل عليه يجب نفيه.
سلمنا فالأدلة الصريحة تدفع تلك الاحتمالات، وترد تلك الجهالات كقوله تعالى:{إِنَّ الَّذِينَ قَالُوا رَبُّنَا اللَّهُ ثُمَّ اسْتَقَامُوا تَتَنَزَّلُ عَلَيْهِمُ الْمَلاَئِكَةُ أَلاَّ تَخَافُوا وَلاَ تَحْزَنُوا...}الآية[فصلت:30]، وقوله: {يَاأَيَّتُهَا النَّفْسُ الْمُطْمَئِنَّةُ ، ارْجِعِي إِلَى رَبِّكِ رَاضِيَةً مَرْضِيَّة...}الآية[الفجر:27،28]، وقوله تعالى: {لاَ يَحْزُنُهُمُ الْفَزَعُ الأَكْبَرُ}[الأنبياء:103] وهذا قوله: {أَلاَ إِنَّ أَوْلِيَاءَ اللَّهِ لاَ خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلاَ هُمْ يَحْزَنُونَ}[يونس:62] وقوله: {وَهُمْ مِنْ فَزَعٍ يَوْمَئِذٍ آمِنُونَ}[النمل:89] إلى غير ذلك من الآيات الصريحة في المقصود.
قال الإمام المهدي محمد بن القاسم الحوثي عليه السلام : وهذا هو اللائق بعدل الله وحكمته فيجب المصير إليه، وحمل ما عارضه عليه.
احتج المخالف بوجهين:
أحدهما: أن العقل لا يمنع من ذلك لجواز أن يكون لهم من العلم به لطف كما قيل في الصراط والميزان.
والجواب من وجهين:
أحدهما: أنه لو ورد بثبوت الفزع دليل سمعي يفيد العلم لما منعنا ثبوته لهذا الوجه، لكن لم يرد بذلك دليل، لا يقال الظن كاف؛ لأنا نقول: لا يصح العمل به إذا صادم النصوص الصريحة المعلومة، ثم إنه لم يحصل من أدلتكم السمعية ما يفيد الظن كما سيأتي الإشارة إلى الرد عليها.
ثانيهما: أنه قد مر أنه لو وقع الفزع لكان ظلماً فلا يحسن إيقاعه، ولو قدرنا في وقوعه لطفاً لبعض المكلفين؛ إذ لا يحسن اللطف إذا كان في فعل قبيح.
فإن قيل: إذا كان في فزع المؤمن لطف خرج عن كونه ظلماً فكذلك إذا حصلت اللطفية بالعلم بها لا في فعلها فلا فرق بين حصول اللطف بها، أو بما يستلزمها فهي تخرج بذلك عن كونها ظلماً.
قيل: وجه الحسن والقبح لا بد وأن يكون مقارباً لحدوث الفعل، ولا يحسن فعل أو يقبح لأمر قد مضى ولذا لما قال أبو علي: إن الله لو وعد بغفران معصيته لقبح العقاب عليها لأجل إخلاف الوعد، أجيب عليه بأنه لا يقبح الفعل إلا لوجه مقارن لا متقدم، فكذلك هنا لا يحسن إيلام المؤمن يوم القيامة بما لا استحقاق فيه ولا نفع ولا دفع، بل لأجل تطابق إخباره إياهم بأنه سيفزعهم، فالإخبار وإن كان فيه لطف فالإيلام لا يحسن لأجل مطابقة الخبر الماضي، ثم إن ذلك اللطف قد وقع بحصول الاعتقاد أو الظن عند الإخبار ولا تبطل لطفيته بتخلف الفعل عن الوقوع؛ إذ قد مضى الوقت الذي يحتاج فيه إلى اللطف، وإذا لم تبطل اللطفية بتركه فلا نفع فيه للمؤمن ولا دفع ولا استحقاق فتعين كونه ظلماً.
واعلم أن هذا الوجه إنما يحتج به من قال بهذا القول من العدلية دون المجبرة فإنهم لا يثبتون اللطف ولا حكم العقل، والمحتج به من العدلية من عدا أبا القاسم، فأما هو فقال الإمام المهدي: إنه بنى على أصله في أن الآخرة دار تكليف.
الوجه الثاني مما احتج به المخالف: ورود السمع بعموم الفزع للمطيع والعاصي قال تعالى: {وَتَرَى كُلَّ أُمَّةٍ جَاثِيَةً}[الجاثية:28] وقال تعالى: {وَيَوْمَ يُنفَخُ فِي الصُّورِ فَفَزِعَ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَمَنْ فِي الأَرْضِ}[النمل:87] وقال: {وَإِنْ مِنْكُمْ إِلاَّ وَارِدُهَا...}الآية[مريم:71]، وقال: {يَوْماً يَجْعَلُ الْوِلْدَانَ شِيباً}[المزمل:17] إلى غير ذلك من الآيات، وأما الأخبار الواردة في عموم الفزع فكثيرة حتى جاء في بعضها أن الأنبياء" لشدة فزعهم يقول: إلهي وسيدي، لا أسألك اليوم إلا نفسي، وجاء في مناقشة الحساب والإزدحام وإلجام العرق وغير ذلك أخبار كثيرة.
والجواب من وجهين:
أحدهما: أن الآيات منها ما هو عام وحجتنا خاصة والخاص مقدم على العام، ومنها ما هو مجمل كقوله: {فَفَزِعَ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَمَنْ فِي الأَرْضِ}[النمل:87] فإن قوله: {إِلاَّ مَنْ شَاءَ اللَّهُ}[النمل:87] صيرها مجملة وبين الإجمال بالآيات المصرح فيها بأن المؤمنين لا يفزعون فاقتضى أنهم المستثنون.
وقال الإمام المهدي محمد بن القاسم: المعنى الظاهر في الآية أن المراد بالفزع الموت الذي لا بد أن يجري على كل أحد؛ لأنها عبارة عن النفخة الأولى، ولهذا لم يذكر الفزع في الثانية وهي قوله: {ثُمَّ نُفِخَ فِيهِ أُخْرَى}[الزمر:68] وقد قيل: إن ما بين قبل ثم وما بعدها مدة لا يعلم قدرها إلا الله تعالى.
وأما قوله: {وَإِنْ مِنْكُمْ إِلاَّ وَارِدُهَا}[مريم:71] فلم يصرح فيه بأن كل من وردها يفزع، وقد صرح بأن المؤمنين لا يحزنون ولا يخافون، وبانتفاء هذين ينتفي الفزع، على أن في تفسير الورود بالحضور ما يمنع الاحتجاج بها.
وأما قوله: {يَوْماً يَجْعَلُ الْوِلْدَانَ شِيباً}[المزمل:17] فالمراد به التهويل لا الحقيقة فإنه لا شيب في الآخرة، والتهويل إنما هو على من لم يؤمنه الله من الفزع.
وأما الأخبار فما كان منها عاماً أو مجملاً فجوابه ما مر، وما كان صريحاً في فزع المؤمنين فهو أحادي لا يقوى على مصادمة النصوص المتواترة الصحيحة، ولا يصلح لتخصيص هذه الصرائح؛ لأن المسألة علمية لا عملية فلا يكتفى فيها بالظن، وتخصيص القطعي بالظني في المسائل العلمية لا يصح، على أنه لا يمكن جعلها مخصصاً لهذه العمومات؛ لأن الحكم بفزع الأولياء في الآخرة مصادم لخصوصها لا مخصص لعمومها لصراحتها في نفي الفزع.
الوجه الثاني من وجهي الجواب: أن يقال المراد بالفزع ونحوه ما يشاهدونه من الوقيعة بالعصاة؛ لأن هذا اليوم عظم فيه الإنصاف وتمييز الخبيث من الطيب مع طمأنينة قلوبهم بالسلامة والبشارات لهم بأنهم لا خوف عليهم ولا هم يحزنون، ذكر معنى هذا الإمام المهدي محمد بن القاسم عليه السلام وفيه نظر؛ إذ فيه حمل الفزع على الفعل المفزع، ولا ملجئ إليه، ولا دليل يقتضيه، فالأول المعتمد.
المسألة الرابعة [إبطال قول الجبرية من أن الإيمان من فعل الله تعالى
قال بعض العدلية: هذه الآية تدل على أمور:
أحدها: أن الهدى قد يثبت ولا اهتداء فلذلك قال: {فَمَنْ تَبِعَ هُدَايَ}[البقرة:38] وفي ذلك إبطال قول الجبرية: أن الإيمان من فعل الله؛ إذ لو كان كذلك لوجب حصوله لكل أحد لحصول سببه الذي هو الهدى.
الثاني: أن المعارف غير ضرورية؛ لأنها تفيد أن الاهتداء لا يحصل إلا باتباع الهدى، والهدى هو الدليل والبيان كما مر.
الثالث: بطلان القول بالتقليد؛ لأن المقلد لا يكون متبعاً للدليل الذي هو الهدى، وفيها دليل على أنه لا يستحق هذا الوعد العظيم إلا من اتبع الدليل العقلي والنقلي، واتباعه لا يحصل إلا بعد طلبه والنظر في كيفية دلالته، فعلى العاقل المريد لنجاة نفسه بذل مهجته وقطع أيام عمره في أخذ الأحكام عن أدلتها الصحيحة، ولا تسول له نفسه الأمارة بالسوء بأن ذلك يشغله عن كثير من أنواع العبادات فإنه لا عبادة إلا ما طابق السنة.
الرابع: أن باتباع الهدى يستحق الجنة؛ لأن الله سبحانه قد نفى عن من اتبع هداه كل خوف وكل حزن، وذلك يقتضي الوصول إلى كل اللذات والمرادات، ولا يجتمع كل مراد ولذة إلا في الجنة، فثبت أن من أخذ دينه عن اتباع الهدى بالتفكر في مخلوقات الله، والتدبر لكتاب الله، والتفهم لسنة رسول الله -صلى الله عليه وآله- فإنه يستحق الجنة.
قال المؤلف: وهذا حين آن الفراغ من تأليف الجزء الثاني من كتاب (مفتاح السعادة المشتمل على مهمات مسائل الاعتقاد والمعاملات والعبادة) وذلك قبيل العصر من يوم الجمعة المبارك وهو اليوم السابع والعشرون من شهر رجب الأصب أحد شهور سنة سبع وستين وثلاثمائة وألف هجرية بهجرة ضحيان، حرسها الله من كيد أهل البغي والعدوان، وعمرها بدوام حملة السنة والقرآن. آمين.
وأقول شاكراً لربي مستعيناً به على أداء ما يجب له من حق شكره عندي، وضارعاً إليه في قبول عملي ومحو ذنبي: الحمد الله الذي هدانا لهذا وما كنا لنهتدي لولا أن هدانا الله، رب أوزعني أن أشكر نعمتك التي أنعمت علي وعلى والدي وأن أعمل صالحاً ترضاه وأصلح لي في ذريتي إني تبت إليك وإني من المسلمين، اللهم صل على محمد وآله، وأسألك يا الله يا رحيم أن تجعل عملي في هذا الكتاب وسائر أعمالي خالصة لوجهك الكريم، ومقربة إلى جوارك المنيع العزيز يا علي يا عظيم، وموجبة لرضوانك الأكبر والفوز بجنات النعيم، اللهم وأسألك أن تغفر لي ولوالدي وأولادي وإخواني وللمؤمنين والمؤمنات أجمعين، ربنا تقبل منا إنك أنت السميع العليم وتب علينا إنك أنت التواب الرحيم، واغفر لنا إنك على كل شيء قدير، وسلام على المرسلين، والحمد لله رب العالمين، وصل يا رب وسلم على محمد وآله، ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم. آمين.
تم بحمد الله ومنه وكرمه وإعانته نساخة هذا الجزء بقلم الفقير إلى الله سبحانه حسن بن محمد العجري غفر الله له بعناية مؤلفه الصنو العلامة جمال الدين علي بن محمد العجري حفظه الله وأبقاه، ونفعنا ببركته ومتعنا بحياته آمين.
بتاريخه عشية الأحد سادس وعشرين شهر رمضان الكريم سنة1367هجرية.
[البقرة: 40]
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم على محمد وآله الطاهرين، رب زدني علماً، ويسر أمري، واشرح صدري، وأعني وانفعني وانفع بي يا قوي يا متين.
قوله تعالى: {يَابَنِي إِسْرَائِيلَ اذْكُرُوا نِعْمَتِي الَّتِي أَنْعَمْتُ عَلَيْكُمْ وَأَوْفُوا بِعَهْدِي أُوفِ بِعَهْدِكُمْ وَإِيَّايَ فَارْهَبُونِ}[البقرة:40] اتفق المفسرون على أن إسرائيل وهو يعقوب بن إسحق بن إبراهيم عليه السلام ، واختلفوا في معنى إسرائيل، فقيل: عبد الله، وقيل: صفوة الله، وقيل: غير ذلك، والذكر بكسر الذال وضمها بمعنى واحد، وقيل: بكسرها ضده الصمت، وبالضم ضده النسيان، والذكر ذكران:
ذكر باللسان وذكر بالقلب.
قال أبو حيان: والذكر هنا يحتمل الأمرين فعلى الأول يكون المعنى أمروا النعم على ألسنتكم فإن ذلك سبب في أن لا تنسى، وعلى الثاني يكون المعنى: تنبهوا للنعم ولا تغفلوا عن شكرها، وفي النعمة المأمور بذكرها أقوال: منها أنها ما أنعم به على آبائهم من النعم التي سيجيء تعدادها وتفصيلها وعليهم من فنون النعم التي أجلها إدراك أصل محمد صلى الله عليه وآله وسلم ، ومنها: أنها ما أنعم الله به على آبائهم من اصطفائه الرسل منهم، وإنزاله الكتب عليهم، واستنقاذهم مما كانوا فيه من البلاء إلى غير ذلك من النعم المتكاثرة على سلفهم، وفي (المصابيح) عن المرتضى نحوه، وهو اختيار ابن جرير، وأبي حيان، وإنما أمر الأعقاب بذكر صنيعه إلى سلفهم؛ لئلا ينسوه فيحل بهم من النقم ما أحل بمن نسي نعمه.
قال أبو حيان: وهذه النعم وإن كانت على آبائهم فهي أيضاً نعم عليهم؛ لأنه حصل بها النسل، ولأنَّ الانتساب إلى آباءٍ شرفوا بنعم تعظيم للأولاد، وأما حد النعمة وما يتعلق بها فقد سبق في الفاتحة، ومعنى{أوفوا}: أتموا، يقال: وفي الشيء إذا أتم، والعهد قد تقدم الكلام عليه في قوله تعالى: {الَّذِينَ يَنقُضُونَ عَهْدَ اللَّهِ}[البقرة:27] واختلف في معنى العهدين المذكورين هنا، فأخرج ابن جرير، وابن أبي حاتم، عن ابن عباس في قوله: {أَوْفُوا بِعَهْدِي} يقول: ما أمرتكم به من طاعتي، ونهيتكم عنه من معصيتي في النبي صلى الله عليه وآله وسلم وغيره. {أُوفِ بِعَهْدِكُمْ} يقول: أرض عنكم وأدخلكم الجنة، واختاره الزمخشري فإنه قال: أوفوا بما عاهدتموني عليه من الإيمان بي، والطاعة لي أوف بما عاهدتكم عليه من حسن الثواب على إحسانكم، وقيل: هو ما أخذه الله على بني إسرائيل في التوراة من أن يبينوا للناس أمر محمد صلى الله عليه وآله وسلم أنه رسول، وأنهم يجدونه مكتوباً عندهم، وأنه يجب الإيمان به وبما جاء به، ومعنى{أُوفِ بِعَهْدِكُمْ}: إنكم إذا فعلتم ذلك أدخلتكم الجنة، وهذا قول ابن جرير وغيره، وقد روي في معناه أقوال كثيرة هي في التحقيق راجعة إلى هذين القولين.
وحكى الرازي عن المعتزلة أنهم قالوا: العهد هنا هو ما دل عليه العقل من أنه يجب على الله تعالى إيصال الثواب إلى المطيع، وصح وصف ذلك الوجوب بالعهد؛ لأنه يجب الوفاء به، فكان أوكد من اليمين والنذر.
قال: وعند أصحابنا أنه لا يجب على الله شيء، والآية تدل على ذلك؛لأنّهُ تعالى لما رتب الأمر بالوفاء على ذكر النعم دل على أن تلك النعم السالفة توجب عهد العبودية، وإذا كان ذلك واجباً بسبب النعم السالفة،فإدا الواجب لا يكون سبباً لواجب آخر، واختار أحد تأويلين:
أحدهما: أنه لما وعد بالثواب وكل ما وعد به استحال أن لا يوجد لئلا ينقلب خبره جل وعلا كذباً، فكان واجب الوقوع لذلك، فسمي عهداً؛ لأنه آكد من اليمين.
وثانيهما: أنه من باب المشاكلة، وذلك أن يقال العهد الأمر، والعبد يجوز أن يكون مأموراً لأن الله تعالى لا يجوز عليه ذلك؛ لكنه جرى على مشاكلة اللفظ كقوله تعالى: {يُخَادِعُونَ اللَّهَ وَهُوَ خَادِعُهُمْ}[النساء:142] ولقائل أن يقول: قد ثبت أن المراد بالعهد ما أوجبه الله عليهم من أداء الفرائض، واجتناب المعاصي على العموم، أوبيان أمر نبينا صلى الله عليه وآله وسلم ، وإذا كان ذلك كذلك فالواجب حمل الكلام على ما يلتئم معه النظم، ويتفق المعنى، وليس إلا ما ذكره المعتزلة؛ لأن المعنى: أدوا ما يجب عليكم كاملاً أعطيكم ما يجب لكم تاماً، وقد مر في قوله تعالى: {الْحَمْدُ لِلَّهِ}[الفاتحة:2] الدليل على جواز إطلاق الواجب على الله تعالى.
وأمَّا قوله: إن أداء الواجب لا يكون سبباً لواجب آخر فقد مر جوابه في سياق قوله تعالى:{ يَاأَيُّهَا النَّاسُ اعْبُدُوا رَبَّكُمُ}[البقرة:21].
وأما قوله: إن سماه عهداً لأنه قد وعد به فمسّلم أنه قد وعد به، لكنه جعله أجراً، والوفاء بالأجر واجب، وأما دعوى المشاكلة فخروج عن الحقيقة بلى موجب فصح ما ذكرته المعتزلة، وتكون الآية من الأدلة المعتمدة في وجوب الثواب. والرهب، والرهبة: الخوف، والرهبة والخشية والمخافة نظائر، وفي الآية مسائل:
المسألة الأولى [نعم الله]
في الآية دليل على أن الله تعالى منعم على الكفار بنعم الدين والدنيا؛ لأن المخاطب بها أهل الكتاب وهم من الكفار، ومثلها قوله تعالى: {يَاأَيُّهَا النَّاسُ اعْبُدُوا رَبَّكُمُ...}الآية[البقرة:21]، وقوله: {كَيْفَ تَكْفُرُونَ بِاللَّهِ وَكُنتُمْ أَمْوَاتاً...}الآية[البقرة:28]، في آيات كثيرة، والخلاف في المسألة، واستيفاء الحجج العقلية قد مر في قوله تعالى: {صِرَاطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ}[الفاتحة:7].
المسألة الثانية [دلالة الآية على جواز إطلاق (ابن) على المنتمي إليه ولو بوسائط كثيرة]
في الآية دليل على أن من انتمى إلى شخص ولو بوسائط كثيرة فإنه يطلق عليه أنه ابنه، وعليه {يَابَنِي آدَمَ}[الأعراف:26] وسمى ذلك أباً، قال تعالى: {مِلَّةَ أَبِيكُمْ إِبْرَاهِيمَ}[الحج:78] ويتفرع على ذلك مسائل في الوقف والوصايا.
المسألة الثالثة [النعم على الآباء نعمة على الأبناء]
يؤخذ من الآية أن النعمة على الآباء نعمة على الأبناء، وإلا لم يكن للامتنان عليهم بها، وأمرهم بذكرها فائدة، وأصرح منها قوله تعالى في آية أخرى: {وَأَنّي فَضَّلْتُكُمْ عَلَى الْعَالَمِينَ}[البقرة:47] فجعل تفضيله آباءهم على عالمي زمانهم تفضيلاً لهم، ولهذا نسبه إليهم فيستنبط من ذلك حكمان:
الحكم الأول: تفضيل أهل البيت ["] على سائر البشر لإنعامه على سلفهم الطّاهر وهم الخمسة أهل الكساء بأنواع من التفضيل التي أعظمها شرف النبوة لنبينا محمد صلى الله عليه وآله وسلم ، ثم ما اختص به أمير المؤمنين وزوجته البتول وسبطاهما أبناء الرسول من المزايا والخصائص التي لم يشاركهم فيها مشارك، فيجب لما تقرر من أن النعمة على الآباء نعمة على الأبناء أن يتشرفوا لما يُعطى آباؤهم من النبوة، والخلافة، وعلم الدين وغير ذلك.
الحكم الثاني: ثبوت جر الولاء لمعتق الآباء؛ لأن الميراث فيه بالنعمة، وقد ثبت أن الله تعالى جعل النعمة على آباء بني إسرائيل نعمة على الأبناء كما مر، وقد جاءت السنة مقررة لهذا الحكم، وأنه لا ولاء إلا لذي نعمة.
ففي (سنن أبي داود) حدثنا عثمان بن أبي شيبة، ثنا وكيع بن الجراح، عن سفيان الثوري، عن منصور، عن إبراهيم، عن الأسود، عن عائشة قالت: قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم : ((الولاء لمن أعطى الثمن وولي النعمة)) وأخرجه البخاري بلفظ: (الولاء لمن أعطى الورق وولي النعمة).
وفي (المجموع): حدثني زيد بن علي عليهما السَّلام عن أبيه، عن جده، عن علي عليه السلام أنه قال: (لا ولاء إلا لذي نعمة، ولا ترث النساء من الولاء شيئاً إلا ما أعتقن)، وكان يقضي بالولاء للأكبر.
وعن الحسن أن رجلاً أتى النبي صلى الله عليه وآله وسلم برجل وقال: اشتريته وأعتقته، فقال: ((هو مولاك إن شكرك فهو خير له وإن كفرك فهو شرٌ له وخير لك)) فقال: فما أمر ميراثه؟ فقال: ((إن ترك عصبة فالعصبة أحق وإلا فالولاء)) يعني لك. رواه في (الشفاء). وهذه الآحاديث نص في ثبوت الميراث بولاء العتاق، ولا خلاف فيه.
قال علامة العصر: والإجماع على أن ولاء العتاق سبب في الإرث، ومعنى الولاء لغة: القرب، يقال: بينهما ولاء أي قرب في النسب، وشرعاً: استحقاق المال بسبب العتق، وقيل: هو الإنعام بالحرية على وجه ينجو به من الاسترقاق، ويتعلق بهذا الحكم فروع:
الفرع الأول: اختلف العلماء في المولى وعصبته هل يرثون مع ذوي سهام المعتق بالفتح أو لا؟ فقال عمر وابن مسعود: لا يرث المولى وعصبته شيئاً مع ذوي سهام المعتق، بل يستبد به ذوو سهامه بالرد كلو لم يكن، ثم عصبة للمولى، وهذا مروي عن علي عليه السلام .
قال في (المجموع): حدثني زيد بن علي، عن أبيه، عن جده، عن علي" في بنت ومولى عتاقة، قال: للبنت النصف، وما بقي فرد عليها، وكان لا يورث المولى مع ذوي سهم، إلا مع الزوج والمرأة، ويشهد له ظاهر قوله تعالى: {وَأُوْلُوا الأَرْحَامِ بَعْضُهُمْ أَوْلَى بِبَعْضٍ}[الأنفال:75].
وقال أبو بكر، وزيد بن ثابت، والعترة وأحمد بن حنبل: بل لذوي السهام سهامهم، والباقي لمولاه أو عصبته، واحتجوا بوجوه:
أحدها: قوله صلى الله عليه وآله وسلم : ((الولاء لحمة كلحمة النسب لا يباع ولا يوهب)) رواه في (الشفاء) من حديث ابن عمر، وهو في (أصول الأحكام).
قال القسطلاني: وأخرج الشافعي من رواية أبي يوسف القاضي، عن عبدالله بن دينار، عن ابن عمر: (الولاء لحمة كلحمة النسب) وأخرجه ابن حبان في صحيحه، عن أبي يعلى، وأخرجه أبونعيم من طريق عبد الله بن جعفر بن أعين بن بشر فزاد في المتن: (لا يباع ولا يوهب)، ومن طريق عبدالله بن نافع، عن عبد الله بن دينار: (إنما الولاء نسب لا يصح بيعه ولا هبته) والمحفوظ في هذا ما أخرجه عبدالرزاق، عن الثوري، عن داود بن أبي هند، عن سعيد بن المسيب موقوف عليه: (الولاء لحمة كلحمة النسب)، وقال علامة العصر بعد أن ذكر الحديث وأنه أخرجه الحاكم وابن حبان وصححه البيهقي وأعله من حديث ابن عمر ما لفظه: جمع أبو نعيم طرقه فرواه من نحو خمسين رجلاً من أصحاب عبدالله بن دينار عنه، وأخرجه أبو جعفر الطبري في تهذيبه، والطبراني في (الكبير) وأبو نعيم أيضاً من حديث عبد الله بن أبي أوفى فلا وجه لما قاله البيهقي من أنه يروى بأسانيد كلها ضعيفة.
قلت: [أما قوله]: جمع أبو نعيم طرقه، فظاهر كلام القسطلاني أنه ما رواه البخاري في صحيحه فقال: حدثنا أبو الوليد، حدثنا شُعبة، قال: أخبرني عبد الله بن دينار سمعت ابن عمر يقول: نهى رسول الله صلى الله عليه وآله ((عن بيع الولاء وعن هبته)) .
قال القسطلاني: قد اشتهر هذا الحديث عن عبدالله بن دينار حتى قال مسلم في صحيحه: الناس في هذا الحديث عيال عليه، وقد اعتنى أبو نعيم الأصبهاني بجمع طرق هذا الحديث عن عبد الله بن دينار، فأورده عن خمسة وثلاثين نفساً ممن حدث به عن عبد الله بن دينار، والحديث أورده مسلم في صحيحه فقال: حدثنا يحيى بن يحيى التميمي، أخبرنا سليمان بن بلال، عن عبد الله بن دينار، عن ابن عمر أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم : ((نهى عن بيع الولاء وعن هبته)) وله إلى عبد الله بن دينار طرق، وفي طريق منها لم يذكر إلا النهي عن البيع ولم يذكر الهبة، وأخرجه أبو داود، والنسائي، ورواه في (الجامع الكافي).
واعلم أن حديث الولاء لحمه...إلخ قد رواه الإمام أحمد بن سليمان، والأمير الحسين، وصححه ابن حبان، وهذا كاف في صحة الاحتجاج به، ويشهد له ما في (الجامع الكافي) عن علي عليه السلام أنه قال: (الولاء لحمة كلحمة النسب لا يباع ولا يوهب) ووجه الاستدلال به على المطلوب أنه يقتضي أن السيد كأنه بإعتاقه العبد أدخله في لحمة نسبه، وصار له بمنزلة أبيه لانتسابه إليه وإلى عصبته بالولاء، فيقال: مولى فلان ومولى بني فلان، وإذا كان كذلك وجب أن يكون حكمه حكم عصبة العبد في أنه إذا فضل عن ذوي سهامه شيء يكون للسيد أو عصبته، ويؤيده أنه ألحقه برتبة النسب في أنه لا يباع ولا يوهب، وما ذلك إلا لعدم صحة انفكاك نسبته عن معتقه.
قال بعض العلماء: وهذا أقرب شيء إلى توريث المولى المعتق وعصبته مع ذوي سهام المعتق -بالفتح.
الوجه الثاني: قوله صلى الله عليه وآله وسلم : ((إنما الولاء لمن أعتق)) فهو حديث صحيح رواه أئمتنا وغيرهم.
قال الهادي عليه السلام : روي عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم في بريرة جارية اشترتها عائشة فكان فيها من النبي صلى الله عليه وآله وسلم أربع سنن:
فأولهن: أن عائشة اشترتها واشترط عليها الذي باعها أن الولاء له، فقال صلى الله عليه وآله وسلم : ((الولاء لمن أعتق)) وتصدق على بريرة بشيء يخفق، فذكرت ذلك عائشة للنبي صلى الله عليه وآله وسلم فقال: ((هو لنا هدية وعليها صدقة)) وأكل منه صلى الله عليه وآله وسلم .
والثالثة: أنه كان لها زوج فخيرها رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم بعد العتق فجرت السنة بتخيير الأمة بعد عتقها، فإن اختارت نفسها كان ذلك فسخاً لما بينها وبين زوجها من النكاح، وإن اختارت زوجها كانت معه على نكاحها.
والرابعة: أنه لم يجعل بيعها طلاقها ولو جعل بيعها طلاقها لم يخيرها من بعد عتقها في أمرها وأمر زوجها، فجرت السنة بهذه الأربع من رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم . ذكره في (الأحكام).
وفي (أمالي أحمد بن عيسى) عليه السلام ، حدثنا محمد، قال: حدثنا عباد، عن محمد بن فضيل، عن حصين، عن عامر قال: قضى في بريرة ثلاث قضايا اشترتها عائشة وشرطت ولاءها لأهلها، فقال النبي صلى الله عليه وآله وسلم : ((الولاء لمن أعتق)) وكان لها زوج فخيرها رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم حين أعتقت، وتصدق عليها بلحم فأهدته إلى النبي صلى الله عليه وآله وسلم فقال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم : ((هو لها صدقة ولنا هدية)).
وفي (الجامع الكافي) قال محمد يقال:إن في بريرة أربع سُنن، وبريرة جارية اشترتها عائشة، واشترط مواليها على عائشة أن تعتقها ويكون الولاء لهم، فاستفتت عائشة رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ، فقال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم : ((ما بال أقوامٍ يشترطون شروطاً ليست في كتاب الله شرط الله أوثق، والولاء لمن أعطى الورق، وما كان من شرط ليس في كتاب الله فهو باطل)).
فأبطل رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم الشرط، وأثبت البيع في بريرة، وجعل الولاء لعائشة فجرت السنة من رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أن الولاء لمن أعتق، وتصدق على بريرة بشيء فذكرت ذلك عائشة لرسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فقال: ((هو عليها صدقة ولنا هدية)) فأصاب النبي صلى الله عليه وآله وسلم منه، فجرت السنة من رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أنه إذا تصدق على المسكين بصدقة وأهداها إلى غني أو دعاه إليها فأصاب منها كان ذلك حلالاً، وكان لبريرة زوج فخيرها رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم بعد العتق فجرت السنة بأن الأمة إذا عتقت ولها زوج خُيرت، فإن اختارت نفسها كانت فرقة بغير طلاق، وإن اختارت زوجها بقيت معه بالنكاح الأول، وفيه أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم لم يجعل بيعها طلاقها، ولو كان جعل بيعها طلاقها لم يخيرها.
وفي (صحيح مسلم) حدثنا أبو بكر بن أبي شيبة، حدثنا حسين بن علي، عن زائدة، عن سماك، عن عبدالرحمن بن القاسم، عن أبيه، عن عائشة أنها اشترت بريرة من أناس من الأنصار واشترطوا الولاء، فقال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم : ((الولاء لمن ولي النعمة)) وخيرها رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ، وكان زوجها عبداً، وأهدت لعائشة لحماً فقال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم : ((لو صنعتم لنا من هذا اللحم)) قالت عائشة: تصدق به على بريرة، قال: ((هو لها صدقة ولنا هدية)) وأخرجه البيهقي بسنده إلى زائدة وهو زائدة بن قدامة الثقفي، وسماك هو: ابن حرب.
وفي (صحيح البخاري) حدثنا آدم حدثنا شعبة، حدثنا الحكم، عن إبراهيم، عن الأسود، عن عائشة أنها أرادت أن تشتري بريرة للعتق، وأراد مواليها أن يشترطوا ولاءها، فذكرت عائشة للنبي صلى الله عليه وآله وسلم فقال لها النبي صلى الله عليه وآله وسلم : ((اشتريها فإنما الولاء لمن أعتق)).
قالت: وأتي النبي صلى الله عليه وآله وسلم بلحم فقلت: هذا ما تصدق به على بريرة، فقال: ((هو لها صدقة ولنا هدية)).
آدم هو: ابن أبي إياس، وشعبة هو: ابن الحجاج، والحكم هو: ابن عتيبة.
وفي (سنن البيهقي): أخبرنا أبو القاسم الفقيه، ثنا أحمد بن سليمان، ثنا جعفر الطيالسي، ثنا محمد بن سنان، ثنا همام، ثنا قتادة، عن عكرمة، عن ابن عباس أن زوج بريرة كان عبداً أسوداً اسمه مغيث، قال: فكأني أراه يتبعها في سكك المدينة يعصر عينيه عليها، قال: وقضى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فيها أربع قضيات، فقال: ((إن الولاء لمن أعتق)) وخيرها وأمرها أن تعتد.
قال: وتصدق عليها بصدقة فأهدت منها لعائشة فذكرت ذلك للنبي صلى الله عليه وآله وسلم فقال: ((هو لها صدقة ولنا هدية)).
وفي (صحيح مسلم): حدثنا محمد بن مثنى، حدثنا محمد بن جعفر، حدثنا شعبة، قال: سمعت عبد الرحمن بن القاسم، قال: سمعت القاسم يحدث عن عائشة أنها أرادت أن تشتري بريرة للعتق، فاشترطوا ولاءها، فذكرت ذلك لرسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فقال: ((اشتريها واعتقيها فإن الولاء لمن أعتق)). وأهدي لرسول الله صلى الله عليه وآله وسلم لحم، فقالوا للنبي -صلى الله عليه وآله-: هذا تصدق به على بريرة، فقال: ((هو لها صدقة وهو لنا هدية)) وخيرت، فقال عبد الرحمن: وكان زوجها حُراً.
قال شعبة: ثم سألته عن زوجها فقال: لا أدري.
وفيه حدثنا زهير بن حرب ومحمد بن العلاء، واللفظ لزهير قالا: حدثنا أبو معاوية، حدثنا هشام بن عروة، عن عبد الرحمن بن القاسم، عن أبيه، عن عائشة قالت: كان في بريرة ثلاث قضيات أراد أهلها أن يبيعوها واشترطوا ولاءها فذكرت ذلك للنبي صلى الله عليه وآله وسلم فقال: ((اشتريها واعتقيها فإن الولاء لمن أعتق)) قالت: وعتقت، فخيرها رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فاختارت نفسها.
قالت: وكان الناس يتصدقون عليها وتهدي لنا، فذكرت ذلك للنبي صلى الله عليه وآله وسلم فقال: ((هو عليها صدقة وهو لكم هدية فكلوه)).
وفي (صحيح البخاري) حدثنا إسماعيل بن عبد الله، حدثني مالك، عن ربيعة بن أبي عبدالرحمن، عن القاسم بن محمد، عن عائشة زوج النبي صلى الله عليه وآله وسلم قالت: كان في بريرة ثلاث سُنن إحدى السنن أنها أعتقت فخيرت في زوجها، وقال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم : ((الولاء لمن أعتق)). ودخل رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم والبرمة تفور بلحم فقرب إليه خبز وإدام من إدام البيت فقال: ألم أر البرمة فيها لحم؟ قالوا: بلى. ولكن ذلك لحم تصدق به على بريرة وأنت لا تأكل الصدقة، فقال: ((عليها صدقة ولنا هدية)) وأخرجه مسلم قال: حدثني أبو الطاهر، حدثنا ابن وهب، أخبرنا مالك بن أنس فذكره.
وفي (صحيح البخاري) أيضاً حدثنا أبو نعيم، حدثنا عبدالواحد بن أيمن، قال: حدثني أبي أيمن، قال: دخلت على عائشة فقلت: كنت لعتبة بن أبي لهب ومات وورثني بنوه وإنهم باعوني من ابن أبي عمرو فأعتقني ابن أبي عمرو، واشترط بنو عتبة الولاء، فقالت: دخلت بريرة وهي مكاتبة فقالت:اشتريني واعتقيني، قالت: نعم. قالت: لا تبيعوني حتى تشترطوا ولائي، فقالت: لا حاجة لي بذلك، فسمع بذلك النبي صلى الله عليه وآله وسلم أو بلغه فذكر ذلك لعائشة، فذكرت عائشة ما قالت لها، فقال: اشتريها واعتقيها ودعيهم يشترطون ما شاءوا، فاشترتها عائشة فأعتقتها، واشترط أهلها الولاء، فقال النبي صلى الله عليه وآله وسلم : ((الولاء لمن أعتق وإن اشترطوا مائة شرط)).
وفيه: حدثنا عبد الله بن يوسف، أخبرنا مالك، عن يحيى بن سعيد، عن عمرة بنت عبد الرحمن أن بريرة جاءت تستعين عائشة أم المؤمنين فقالت لها: إن أحب أهلك أن أصب لهم ثمنك صبة واحدة فأعتقك فعلت، فذكرت بريرة ذلك لأهلها، فقالوا: لا إلا أن يكون ولاؤك لنا.
قال مالك قال يحيى: فزعمت عمرة أن عائشة ذكرت ذلك لرسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فقال: ((اشتريها واعتقيها فإنما الولاء لمن أعتق)).
وفيه: حدثنا قتيبة، حدثنا الليث، عن ابن شهاب، عن عروة أن عائشة أخبرته أن بريرة جاءت تستعينها في كتابتها، ولم تكن قضت من كتابتها شيئاً، قالت لها عائشة: ارجعي إلى أهلك فإن أحبوا أن أقضي عنك كتابتك ويكون ولاؤك لي فعلت، فذكرت ذلك لأهلها، فأبوا وقالوا: إن شاءت أن تحتسب عليك فلتفعل ويكون ولاؤك لنا، فذكرت ذلك لرسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ، فقال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم : ((ابتاعي فأعتقي فإنما الولاء لمن أعتق))، قال: ثم قام رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فقال: ((ما بال الناس يشترطون شروطاً ليست في كتاب الله من اشترط شرطاً ليس في كتاب الله فليس له وإن شرط مائة مرة شرط الله أحق وأوثق))، وفي رواية من طريق الليث: ((من اشترط شرطاً ليس في كتاب الله فهو باطل)).
وفيه: حدثنا عبد الله بن يوسف، أخبرنا مالك عن نافع، عن عبد الله بن عمر قال: أرادت عائشة أم المؤمنين أن تشتري جارية لتعتقها، فقال أهلها: على أن ولاءها لنا.
قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم : ((لا يمنعك ذلك فإنما الولاء لمن أعتق))، وأخرجه مسلم عن يحيى بن يحيى النيسابوري، عن مالك، وأبو داود، عن قتيبة بن سعيد، عن مالك، وفيه حدثنا عبيد بن إسماعيل، حدثنا أبو أسامة، عن هشام، عن أبيه، عن عائشة قالت: جاءت بريرة فقالت: إني كاتبت أهلي على تسع أواق في كل عام أوقية فأعينيني؛ فقالت عائشة: إن أحب أهلك أن أعدها لهم عدة واحدة وأعتقك، فعلت، ويكون ولاؤك لي، فذهبت إلى أهلها فأبوا ذلك عليها، فقالت: إني قد عرضت ذلك عليهم فأبوا إلا أن يكون الولاء لهم، فسمع بذلك رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فسألني، فأخبرته فقال: ((خذيها فأعتقيها واشترطي لهم الولاء فإنما الولاء لمن أعتق)).
قالت عائشة: فقام رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم في الناس فحمد الله وأثنى عليه ثم قال: ((أما بعد فما بال رجال يشترطون شروطاً ليست في كتاب الله فأيما شرط ليس في كتاب الله فهو باطل وإن كان مائة شرط فقضاء الله أحق وشرط الله أوثق، ما بال رجال منكم يقول أحدهم اعتق يا فلان ولي الولاء إنما الولاء لمن أعتق)) وأخرجه مسلم من حديث أبي كريب، عن أبي أسامة، وللحديث عند البخاري طرق كثيرة.
وفي (صحيح مسلم) حدثنا أبو بكر بن أبي شيبة، حدثنا خالد بن مخلد، عن سليمان بن بلال، حدثني سهيل بن أبي صالح، عن أبيه، عن أبي هريرة، قال: أرادت عائشة أن تشتري جارية تعتقها فأبى أهلها إلا أن يكون لهم الولاء، فذكرت ذلك لرسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فقال: ((لا يمنعك ذلك فإنما الولاء لمن أعتق)).
وفي (أمالي أحمد بن عيسى) عليه السلام : حدثنا محمد، قال: حدثنا أبو هشام الرفاعي، عن يحيى بن يمان، عن معمر، عن الزهري أن عائشة أرادت أن تشتري بريرة وتشترط ولاءها لأهلها فبلغ ذلك النبي صلى الله عليه وآله وسلم فقال: ((ما بال أقوامٍ يشترطون شروطاً ليست في كتاب الله شرط الله أوثق والولاء لمن أعطى الورق)).
وفي (أمالي أحمد بن عيسى) عليه السلام ثنا محمد، قال: ثنا محمد، عن وكيع، عن هشام بن عروة، عن أبيه، عن عائشة، قالت: قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم : ((ما كان من شرط ليس في كتاب الله فهو باطل وإن كان مائة شرط)) ذكره في (تتمة الاعتصام) منسوباً إلى (الأمالي)، وفي (الشفاء).
وروى أن بريرة جاءت إلى عائشة وذكرت أن مواليها كاتبوها على تسع أواقٍ من الذهب على أن تؤدي إليهم في كل سنة أوقية، وأنها عاجزة عن ذلك، فقالت عائشة: إن باعوك صببت لهم المال صبة واحدة، فرجعت إلى مواليها فأخبرتهم فقالوا: لا نبيعك إلا بشرط أن تجعل الولاء لنا، فأخبرت عائشة النبي صلى الله عليه وآله وسلم بذلك، فأذن لها في أن تشتري وقال: ((لا يمنعك ذلك فإن الولاء لمن أعتق)) فلما اشترتها صعد النبي صلى الله عليه وآله وسلم المنبر فقال: ((ما بال أقوام يشترطون شرطاً ليس في كتاب الله وكل شرط ليس في كتاب الله فهو باطل كتاب الله أحق وشرطه أوثق، والولاء لمن أعتق)).
قال الأمير الحسين: وروي أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال لعائشة: ((اشتري واشترطي لهم الولاء فإن الولاء لمن أعتق)).
وروى خبر بريرة في (أصول الأحكام) وهو خبر مشهور، وطرقه كثيرة يعسر علينا استيفاؤها، وقد قال الإمام أبو طالب: أجمع العلماء على قبول هذا الخبر.
وقال في (تتمة الاعتصام) بعد ذكر رواية من روايات البخاري ومسلم لهذا الخبر: وأخرج الموطأ، وأبو داود، والترمذي، والنسائي نحوها.
قلت: وقد أكثر البيهقي في السنن الكبرى من طرق هذا الحديث مطولاً، ومختصراً وفي الجامع الصغير من حديث ابن عباس: ((كل شرط ليس في كتاب الله تعالى فهو باطل وإن كان مائة شرط))، وقال: أخرجه البزار، والطبراني في الكبير.
قال العزيزي: قال الشيخ: حديث صحيح، وفيه مرفوعاً: ((الولاء لمن أعطى الورق وولي النعمة)) ونسبه إلى الشيخين، وأبي داود، والنسائي، والترمذي، وفيه أيضاً من حديث ابن عباس: ((الولاء لمن أعتق)) وعزاه إلى أحمد، والطبراني في الكبير، قال العزيزي: بإسناد حسن.
والمقصود مما سقناه من الروايات ثبوت هذه الكلمة، أعني قوله صلى الله عليه وآله وسلم : ((الولاء لمن أعتق)) للاستدلال بها على توريث المولى مع ذوي سهام المعتق بالفتح، ووجه الاستدلال بذلك أنه قد مر أن الولاء عبارة عن استحقاق الميراث بسبب العتق، وقد مر أيضاً أن الولاء لحمة كلحمة النسبـ وذلك يقتضي أنه يثبت به جميع أحكام النسب إلا ما خصه دليل.
ومن أحكام النسب أن العصبة ترث ما بقي بعد استيفاء ذوي السهام سهامهم، فيجب في المولى أن يستحق ما فضل عن ذوي السهام كالعصبة من النسب. والله أعلم.
تنبيه [في إيضاح الإشكال في قوله ((واشترطي لهم الولاء))]
استشكل العلماء قوله في حديث هشام بن عروة (واشترطي لهم الولاء) لأن ذلك يجري مجرى التغرير والخداع للقوم، والنبي صلى الله عليه وآله وسلم منزه عن ذلك فلأجل ذلك أنكر بعض العلماء هذه اللفظة، وقال: تفرد بها هشام فيحمل على وهم وقع له، وقيل: إنه كان قد خولط في عقله آخر عمره،وقد أشار الشافعي في (الأم) إلى تضعيف هذه الرواية لانفراد هشام بها دون أصحاب أبيه،وأجيب بأن هشاماً ثقة حافظ، والحديث صحيح فلا وجه لرده، بل يجب تأويل هذه اللفظة، وقد أُوِّلَتْ على وجوه:
منها: أن لهم بمعنى عليهم كما في قوله تعالى: {وَإِنْ أَسَأْتُمْ فَلَهَا}[الإسراء:7] وهذا قول المزني والخطابي، وروي عن الشافعي، والمعنى اشترطي عليهم الولاء، وضعفه النووي لأنه أنكر الاشتراط، ولو كانت بمعنى على لم ينكره.
ومنها: أنه خاص بقصة عائشة، وهذا حكاه النووي عن أصحابه، وقال: هو الأصح، قال: واحتمل هذا الإذن وإبطاله في هذه القصة، وهي قضية عين لا عموم لها.
قالوا: والحكمة في الإذن به ثم إبطاله أن يكون أبلغ في قطع عادتهم في ذلك وزجرهم عن مثله كما أذن صلى الله عليه وآله وسلم لأصحابه بفسخ الحج إلى العمرة، وخصهم بذلك ليكون أبلغ في زجرهم عما اعتادوه من منع العمرة في أشهر الحج، وقد يحتمل المفسدة اليسيرة في جنب مصلحة عظيمة، واعترضه ابن دقيق العيد بأن التخصيص لا يثبت إلا بدليل.
ومنها: أن معنى اشترطي أظهري، والمعنى: أظهري لهم حكم الولاء، وقد رويت هذه اللفظة بلفظ: اشرطي.
قال الطحاوي: حدثني المزني به، عن الشافعي بلفظ: واشرطي لهم الولاء بهمزة قطع بغير مثناة فوقية، ثم وجهها بأن المعنى أظهري لهم حكم الولاء.
ومنها: أنه خرج مخرج الزجر والتهديد، فكأنه صلى الله عليه وآله وسلم قصد أنه لا ينفعهم هذا الاشتراط، ويدل عليه أنه غضب فصعد المنبر، وهو تأويل حسن إن كان قد تقدم بيان حكم الولاء قبل ذلك.
ومنها: أن الأمر للإباحة وهو على وجه التنبيه على أن ذلك لا ينفعهم وأن وجوده كعدمه فكأنه قال: اشترطي أو لا تشترطي فذلك لا يفيدهم، ويؤيده قوله في رواية أيمن: ((اشتريها ودعيهم يشترطون ما شاءوا)).
الوجه الثالث: مما احتج به من قال بتوريث المولى مع ذوي سهام المعتق بالفتح ما روي أن ابنة حمزة بن عبد المطلب أعتقت عبداً لها فمات، وترك بنتاً، فجعل النبي صلى الله عليه وآله وسلم نصف ميراثه لبنت حمزة، ونصفه لبنت المعتق. رواه في (الشفاء) و(أصول الأحكام)، وأخرجه النسائي، وابن ماجة.
قالوا: وفي إسناده محمد بن عبد الرحمن بن أبي ليلى وهو ضعيف.
قلت: ابن أبي ليلى لم يقدح فيه بما يسقط بمثله الاحتجاج به، والأولى أن يقال: حديث ابنة حمزة مضطرب اللفظ، ففي (الجامع الكافي) عن إبراهيم أن مولى لحمزة مات وليس له ولد، فأطعم رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ابنة حمزة النصف مما ترك.
وعن جابر بن زيد، عن ابن عباس أن مولى لحمزة توفي وترك ابنته وابنة حمزة فأعطى النبي صلى الله عليه وآله وسلم ابنته النصف وابنة حمزة النصف. أخرجه الدارقطني، وسكت عنه في (التلخيص).
وعن قتادة، عن سلمى ابنة حمزة أن مولاها مات وترك ابنته فورث النبي صلى الله عليه وآله وسلم ابنته النصف، وورث يعلى النصف وكان ابن سلمى. أخرجه أحمد، وسكت عنه في (التلخيص).
وقال في (مجمع الزوائد): رجال أحمد ثقات إلا أن قتادة لم يسمع من سلمى ابنة حمزة.
قال: وأخرجه الطبراني بأسانيد رجال بعضها رجال الصحيح، وهذه الرواية تدل على أنه لا يرث النساء من الولاء شيئاً، ويشهد له ما في (الجامع الكافي) عن علي عليه السلام أنه لم يورث النساء من الولاء شيئاً وقال: إنما الولاء للذكور، لكن هذا ليس على ظاهره لما ثبت من توريث المرأة ممن أعتقته فيحمل على أن المراد به أنهن لا يشاركن الذكور في الولاء إلا ما أعتقن.
نعم، ومع اضطراب حديث ابنة حمزة هذا فلا يصلح للاحتجاج به، ويمكن أن يقال روايات كونها المعتقة أشهر وأقوى حتى قال البيهقي: اتفق الرواة على أن ابنة حمزة هي المعتقة، وقال: إن قول إبراهيم النخعي أنه مولى حمزة غلط، وقد جمع بين الروايات بالحمل على تعدد الواقعة، وأنه أضاف مولى الوالد إلى الولد بناء على القول بانتقاله إليه أو توريثه به.
الوجه الرابع: أنه ثابت عن أمير المؤمنين عليه السلام ، قال في (الشفاء) عن علي عليه السلام أنه قال: إذا مات المعتق وخلف ذوي سهام نفسه وعصبة مولاه كان لذوي سهامه سهامهم، ويرد الباقي إلى عصبة مولاه.
قال: وبه قال محمد بن علي الباقر، وولده جعفر الصادق، ومحمد بن عبد الله بن الحسن النفس الزكية، وأبو بكر، وزيد بن ثابت.
وقال في (أنوار التمام) لزبارة: الروايات المصححة عن علي عليه السلام أن مولى العتاق يرث الباقي بعد أخذ ذوي السهام سهامهم بتعصيب الولاء.
وروي في (سنن البيهقي الكبرى) عن سلمة بن [الفضل] قال: رأيت المرأة التي ورثها علي-رضي الله عنه-فأعطى الابنة النصف، والمولى النصف.
وأخرج أبو الشيخ في (الفرائض) عن محمد بن الحنفية، عن أبيه علي عليه السلام في رجل مات وترك ابنته ومولاه فللابنة النصف وللمولى النصف قال ذلك رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وفعله، وهذه الرواية قد تضمنت الرفع من طريقه عليه السلام .
وفي (تتمة الروض) عن علي عليه السلام وزيد بن ثابت أنهما كانا يقولان: إذا كان ذو رحم ذا سهم فله سهمه، وما بقي فللموالي هم كلالة.
الفرع الثاني: اختلف فيمن ترك ذوي أرحامه ومعتقه فروي عن عمر، وابن مسعود، وابن عباس، وزيد بن علي، والناصر: أن مولى العتاق لا يرث إلا بعد ذوي أرحام الميت، وهو مروي عن علي عليه السلام .
قال في (تتمة الروض): روى سفيان الثوري في (الفرائض) وعبد الرزاق، وابن أبي شيبة، وسعيد بن منصور، وابن ماجة، عن إبراهيم قال: كان عمر، وعلي، وابن مسعود يورثون ذوي الأرحام دون الموالي، هكذا في (التتمة)، وقال غير هؤلاء: بل يقدم المعتق على ذوي أرحام الميت، ويأخذ الباقي بعد ذوي السهام، ويسقط مع العصبات، وهذا ثابت عن علي عليه السلام .
قال في (المجموع): حدثني زيد بن علي، عن أبيه، عن جده، عن علي عليه السلام أنه كان يورث مولى العتاقة دون الخالة والعمة وغيرهما من ذوي الأرحام، ويؤيده قوله صلى الله عليه وآله وسلم : ((الولاء لحمة كلحمة النسب)) ونحوه مما مر.
الفرع الثالث: أن الولاء يثبت للمعتق ولو أعتقه بعوض نحو أن يكاتبه، أو سراية نحو أن يعتق نصيبه فيسري.
قال في (التذكرة): أو بمثلة نحو أن يلطمه، أو سعاية نحو أن يعتقه في مرضه المخوف وهو مستغرق أو لا يملك سواه، أو استيلاد، أوعن واجب، والوجه في ذلك كله عموم قوله صلى الله عليه وآله وسلم : ((الولاء لمن أعتق)).
المسألة الرابعة [عظم المعصية بكثرة النعمة]
في الآية دلالة على أن بكثرة النعم تعظم المعصية، وأن النبي صلى الله عليه وآله وسلم كان مبعوثاً إلى بني إسرائيل.
قال الإمام القاسم بن محمد عليه السلام : وتدل على وجوب ذكر الله، والوفاء بعهد الله وهو القيام بما فرض الله، واجتناب ما حرم الله، وأن ذلك في مقابلة نعمة الله، وخشيته من عذابه.
وقال الرازي: فيها دلالة على أنه يجب على المكلف أن يأتي بالطاعات للخوف والرجاء، وأن ذلك لابد منه في صحتها، ولعله أخذ من قوله: {وَإِيَّايَ فَارْهَبُونِ}[البقرة:40] بعد أمره بذكر النعمة، والوفاء بالعهد، وكان صواب العبارة أن يقول مع الخوف والرجاء، وما ذكره صحيح إن أراد مع الخوف والرجاء، ويشهد له قوله تعالى: {إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ إِذَا ذُكِرَ اللَّهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ}[الأنفال:2]، وقوله: {وَيَرْجُونَ رَحْمَتَهُ}[الإسراء:57] ونحوهما مما يدل على أن المؤمن ليس إلا من جمع بين الخوف والرجاء، وذلك كثير كتاباً وسنة، وإن أراد ظاهر عبارته وأنه يأتي بالطاعات لأجل الخوف والرجاء فلا معنى له؛ إذ الواجب أن يأتي بالطاعة للوجه الذي شرعت له كما مر في الفاتحة.
المسألة الخامسة [الوعيد للعصاة]
في قوله تعالى: {وَإِيَّايَ فَارْهَبُونِ}[البقرة:40] وعيد بالغ للعصاة.
قال الرازي: ويدل على أن المرء يجب أن لا يخاف أحداً إلا الله، قال: وكما يجب ذلك في الخوف فكذا في الرجاء والأمل، وذلك يدل على أن الكل بقضاء الله وقدره؛ إذ لو كان العبد مستقلاً بالفعل لوجب أن يخاف منه كما يخاف من الله تعالى، وهذا يبطل الحصر الذي دل عليه {وَإِيَّايَ فَارْهَبُونِ} بل كان يجب أن لا يرهب إلا نفسه؛ لأن مفاتيح الثواب والعقاب بيده لا بيد الله فلا يخاف الله البتة.
والجواب: أن الحصر إنما هو بإعتبار ماوقع الوعيد به وهو أن ينزل بهم ما أنزل بآبائهم، أخرج ابن جرير، عن ابن عباس {وَإِيَّايَ فَارْهَبُونِ} أن أنزل بكم ما أنزلت بمن كان قبلكم من آبائكم من النقمات التي قد عرفتم من المسخ وغيره، أومطلق الخشية من عقابه على المعاصي، وهذا لا يدل على أنه لا يجوز الخوف من غير الله تعالى باعتبارات أخر، بل ذلك معلوم الوقوع فقد حكى الله الخوف من الظلمة وغيرهم عن الأنبياء"، وكذلك في الرجاء والأمل إنما ذلك فيما اختص الله بإيجاده والقدرة عليه.
قوله: وذلك يدل على أن الكل بقضاء الله...إلخ.
قلنا: من أين هذه الدلالة؟ ثم لو كانت كذلك فما معنى نهي العبد عن أن يرهب غير الله تعالى إذا كان الكل بقضاء الله، فإن الخوف من جملة ما يقضي به الله بزعمكم، فإن قضى بحصره على الخوف من الله وقع كما قلتم، وإلا فلا سبيل للعبد إلى حصره وقصره.
قوله: إذ لو كان العبد مستقلاً...إلخ.
قلنا: ملتزم فإنه يجب حصول الخوف من العباد فيما يدخل تحت مقدورهم سواء خافوه بحق أو باطل، وذلك معلوم الوقوع، لكن الخوف المأمور به في الآية ليس داخلاً تحت مقدور العباد؛ لأنه إما النقمات النازلة ببني إسرائيل، أو عقاب الآخرة، وكل ذلك مما لا يقدر عليه إلا الله فلذلك حسن الحصر.
قوله: فإنه يجب أن يخاف منه كما يخاف من الله.
قلنا: إن أردت أنه يجب حصول الخوف من العبد كما يجب حصول الخوف من الله، وإن تفاوت الخوفان فملتزم إن كان على الوجه الذي ذكرناه، وإن أردت استواء الخوفين في العظم والرتبة، فغير مسلم ولا وجه لهذه الدعوى، فإن تفاوت درجات الخوف باعتبار عظم قدرة المخوف منه وضعفها أمر معلوم بالضرورة.
قوله: بل كان يجب أن لا يرهب إلا نفسه...إلخ.
قلنا: ليس المتوعد به أسباب الثواب والعقاب التي هي راجعة إلى اختيار العبد، بل المتوعد به عقاب الله الذي لا يقدر عليه غيره، فأما خوف العبد من نفسه أن ترديه وتلقيه في أسباب الهلاك فنحن لا ننكره، وقد أمر الله بمخالفة النفس، وحذرنا من اتباع تسويلها، والانقياد لشهواتها، وهذا يدل على أنها من جملة أعدائنا الذين يجب علينا الحذر والاحتراز منهم، وكل عدو فشأنه أن نخاف منه، وأما دعواه حصر الخوف عليها بأن لا نخاف الله تعالى ولا غيره فلا يقتضيه عقل ولا نقل، فإن الخوف من الله مغاير للخوف من غيره، وذلك معلوم، ومع المغايرة فلا وجه لما ذكره. والله اعلم.
[البقرة: 41]
قوله تعالى: {وَلاَ تَشْتَرُوا بِآيَاتِي ثَمَناً قَلِيلاً وَإِيَّايَ فَاتَّقُونِ}[البقرة:41]
قد تقدم معنى الشراء والاشتراء.
وقال السيد محمد بن الهادي بن تاج الدين: الشراء لغة: أن تأخذ الشيء بثمن تعطيه فيه، ويطلق على البيع، فهو من أسماء الأضداد.
وقال الراغب: الشراء والبيع متلازمان، فالمشتري دافع الثمن وآخذ المثمن، والبائع عكسه، هذا إذا كانت المبايعة وسلعة، فأما إذا كان بيع سلعة بسلعة صح أن يتصور كل واحد منهما بائعاً ومشترياً، ومن هذا الوجه صار لفظ البيع والشراء يستعمل كل منهما في موضع الآخر، وشريت بمعنى: بِعت أكثر، وابتعت بمعنى: اشتريت أكثر، قال تعالى: {وَشَرَوْهُ بِثَمَنٍ بَخْسٍ}[يوسف:20] أي: باعوه، وكذلك قوله تعالى: {يَشْرُونَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا بِالآخِرَةِ}[النساء:74].
قال: ويجوز الشراء والإشتراء في كل ما يحصل به شيء نحو: {إِنَّ الَّذِينَ يَشْتَرُونَ بِعَهْدِ اللَّهِ}[آل عمران:77].
قلت: ومنه هذه الآية، وقال أبو حيان وغيره: الاشتراء هنا مجاز [يراد به الاستبدال كما يقال: اشترى المسلم إذ تنصرا... والآية: العلامة، وتجمع على آي وآيات.
قال أبو السعود: ويقال للمصنوعات من حيث دلالتها على الصانع تعالى وعلمه وقدرته، ولكل طائفة من كلمات القرآن المتميزة عن غيرها بفصل؛ لأنها علامة لانفصال ما قبلها مما بعدها، وقيل: لأنها تجمع كلمات منه فيكون من قولهم خرج بني فلان بآيتهم أي بجماعتهم.
قال:
خرجنا من البيتين لاحي مثلنا .... بآيتنا نزجي النعاج المطافلا
وقال الراغب: الآية هي العلامة الظاهرة، وحقيقته لكل شيء وهو ظاهر وملازم لشيء لا يظهر ظهوره، فمتى أدرك مدرك الظاهر منهما علم أنه أدرك الآخر الذي لم يدركه بذاته، إذ كان حكمهما سواء، وذلك ظاهر في المحسوسات والمعقولات، فمن علم ملازمة العلم للطريق المنهج، ثم وجد العلم علم أنه وجد الطريق، وكذا إذا علم شيئاً مصنوعاً علم أنه لابد له من صانع، قال: وقيل للبناء العالي آية نحو {أَتَبْنُونَ بِكُلِّ رِيعٍ آيَةً}[الشعراء:128] ولكل جملة من القرآن دالة على حكم آية سورة، كانت أو فصولاً أو فصلاً من سورة، وقد يقال لكل كلام منه منفصل بفصل لفظي آية، وعلى هذا اعتبار آيات السور التي تعد بها السور، والآيات المذكورة في الآية المراد بها الأوامر والنواهي، أو ما أنزل من الكتب الإلهية المحتوية على التكليف، أو القرآن، أوما أوضح من الحجج والبراهين، أو الآيات المنزلة على بني إسرائيل في التوراة والإنجيل المتضمنة الأمر بالإيمان برسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ، وقيل: إن الآية نزلت في اليهود.
قال الخازن: وذلك أن كعب بن الأشرف ورؤساء اليهود وعلماءهم كانوا يصيبون المآكل من سفلتهم وجهالهم، وكانوا يأخذون منهم في كل سنة شيئاً معلوماً من زرعهم وثمارهم ونقودهم وضروعهم، فخافوا أن بينوا صفة محمد صلى الله عليه وآله وسلم وتابعوه أن تفوتهم تلك المآكل فغيروا نعته، وكتموا اسمه، واختاروا الدنيا على الآخرة، وأصروا على الكفر، وقيل: كانت عامتهم يعطون أحبارهم من زروعهم وثمارهم، ويهدون إليهم الهدايا ويرشونهم الرشا على تحريفهم الكلم، وتسهيلهم لهم ما صعب من الشرائع، وكان ملوكهم يدرون عليهم الأموال ليكتموا أو يحرفوا.
وفي (الكشاف): وعلى هذا فالآية خاصة باليهود، لكن العموم لا يقصر على سببه، وقال السيد محمد بن الهادي: هي عندنا لا تقصر على أحبار اليهود بل عامة.
وقال الحاكم: هذا الخطاب كما يتوجه إلى علماء بني إسرائيل يتوجه إلى علماء السوء من هذه الأمة إذا اختاروا الدنيا على الدين.
قلت: وإذا صح أنها نزلت في اليهود فنزولها فيهم إنما كان لذمهم، وبيان ما ارتكبوه من عظيم جرمهم، وهو الكفر بالقرآن المنزل على محمد صلى الله عليه وآله وسلم ، كما دل عليه قوله في أول الآية: {وَآمِنُوا بِمَا أَنزَلْتُ مُصَدِّقاً لِمَا مَعَكُمْ وَلاَ تَكُونُوا أَوَّلَ كَافِرٍ بِهِ}[البقرة:41] والمنزل إنما هو القرآن إذلم ينزل في عصر النبي صلى الله عليه وآله وسلم غيره، فوبخهم الله ونهاهم عن أن يستبدلوا بالدين المتين والحق الواضح شيئاً يسيراً من الزائلة من الفانية،وإذا كان ذلك كذلك وجب فيمن فعل فعلهم وارتكب معصيتهم أن يكون حكمه حكمهم، على أنه قد ورد نحو هذه الآية خطاباً للأمة بأسرها.
قال تعالى: {وَلاَ تَشْتَرُوا بِعَهْدِ اللَّهِ ثَمَناً قَلِيلاً إِنَّمَا عِنْدَ اللَّهِ هُوَ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنتُمْ تَعْلَمُونَ، مَا عِنْدَكُمْ يَنفَدُ وَمَا عِنْدَ اللَّهِ بَاقٍ}[النحل:95،96] ونحوها، مع أنه لا خلاف أن من استبدل بآيات الله وأحكامه شيئاً من الدينا وآثرها على ذلك أنه من الخاسرين الهالكين، والثمن العوض المبذول في مقابلة العين المبيعة، قال الشاعر:
إن كنت حاولت دنيا أوظفرت بها .... فما أصبته بترك الحجج من ثمن
أي من عوض، فإذا أطلق في غير ذلك كان توسعاً وتشبيهاً نحو ذكر الثمن في هذه الآية.
وقال الراغب: الثمن اسم لما يأخذه البائع في مقابلة المبيع عيناً كان أو سلعة، وكل ما يحصل عوضاً عن شيء فهو ثمنه، قال تعالى: {الَّذِينَ يَشْتَرُونَ بِعَهْدِ اللَّهِ وَأَيْمَانِهِمْ ثَمَناً قَلِيلاً}[آل عمران:77] .وقال: {وَلاَ تَشْتَرُوا بِآيَاتِي ثَمَناً قَلِيلاً}[البقرة:41] وظاهر كلامه أنه حقيقة فيما كان في مقابلة العين وفيما لم يكن كذلك، وهاهنا سؤال: وهو أن القياس دخول الباء على ما كان ثمناً؛ لأن الثمن في البيع حقيقته أن يشتري به، وفي الآية دخلت على المبيع، وجوابه أن الاشتراء لما كان على معنى الاستبدال جاز دخول الباء على الآيات؛ لأن معنى الاستبدال يكون المنصوب فيه هو الحاصل، وما دخلت عليه الباء هو الزائل، ذكره أبو حيان.
وقال المهدوي: دخول الباء على الآيات كدخولها على الثمن، وكذلك كل ما لا عين فيه، وإذا كان في الكلام دراهم أو دنانير دخلت الباء على الثمن. قاله الفراء.
قال أبو حيان: ومعناه أنه إذا لم يكن دراهم ولا دنانير في البيع صح أن يكون كل واحد من المبذول ثمناً ومثمناً، لكن تختلف دخول الباء بالنسبة إلى من نسب الشراء إلى نفسه من المتعاقدين جعل ماحصل هو المثمن فلا تدخل عليه الباء، وجعل ما بذل هو الثمن فأدخل عليه الباء.
واعلم أنه لابد من تقدير مضاف يتبين به المعنى الاّ على القول بأنه كنى بالآيات عن الأوامر والنواهي فلا يحتاج إلى شيء، واختلف في المقدر فقيل: بتعليم آياتي، وهذا قول أبي العالية؛ لأن معنى الآية عنده لا تأخذوا على آياتي أجر، ونفس الآيات لا تشترى ولا يؤخذ عليها أجراً، فالمراد تعليمها، واختاره السيد محمد بن الهادي، وقيل: التقدير لا تشتروا بكتمان آياتي، والآيات هي ما في كتبهم من أمر محمد صلى الله عليه وآله وسلم وهذا قول السدي.
وقال الحسن: بتغيير آياتي، وهو مبني على أنهم أخذوا العوض على التحريف، وتغيير الأحكام، ووصف الثمن بالقلة؛ لأن ما حصل عوضاً عن آيات الله لا يكون إلا قليلاً وإن بلغ ما بلغ، فليس وصف الثمن بالقلة من الأوصاف التي تخصص النكرات، بل من الأوصاف اللازمة للثمن المحصل بالآيات؛ إذ لا يكون إلا قليلاً، ويحتمل أن يكون ثم معطوف تقديره: ولا كثيراً، فحذف لدلالة المعنى عليه، والآية تدل على تحريم أخذ العوض على آيات الله، وتفصيل ذلك في مسائل:
المسألة الأولى [تحريم جعل القراءة مهراً]
المسألة الأولى: في الآية دليل على أنه لا يجوز جعل تعليم القرآن مهراً؛ لأنه يكون من الاستبدال بآيات الله ثمناً قليلاً، والآية نص في تحريم ذلك، ولما سيأتي من أدلة تحريم أخذ الأجرة على تعليم القرآن، وجعله ذريعة إلى نيل الحطام، ولقوله تعالى: {أَنْ تَبْتَغُوا بِأَمْوَالِكُمْ}[النساء:24] فإن ظاهره يدل على أن استباحة الوطئ مشروطة بما يكون مالاً، وتعليم القرآن ليس بمال ولا جار مجراه؛ ولأن تعليم القرآن فرضٌ بدليل قوله صلى الله عليه وآله وسلم : ((تعلموا القرآن وعلموه الناس)) والفروض لا يجوز أخذ الأجرة عليها ولا جعلها مهراً، وهذا هو الذي يقتضيه كلام الهادي عليه السلام لأنه نص على أنه لا يجوز أخذ العوض على تعليم القرآن، وبه قال أبو حنيفة وأصحابه.
قال الإمام المهدي: وكل من منع التأجير على تعليم القرآن منع جعله مهراً، وهو المذهب.
وقال الإمام يحيى: بل يصح جعل تعليمه مهراً، وهو قول الشافعي، ورواه النووي عن عطاء، والحسن بن صالح، ومالك، وإسحاق وغيرهم، واحتجوا بما رواه البخاري في الصحيح.
قال: حدثنا علي بن عبد الله،حدثنا سفيان سمعت أبا حازم يقول: سمعت سهل بن سعد الساعدي يقول: إني لفي القوم عند رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم إذ قامت امرأة فقالت: يا رسول الله إنها قد وهبت نفسها لك فرَ فيها رأيك، فلم يجبها شيئاً، ثم قامت فقالت: يا رسول الله إنها قد وهبت نفسها لك فرَ فيها رأيك، فلم يجبها شيئاً، ثم قامت الثالثة فقالت: إنها قد وهبت نفسها لك فرَ فيها رأيك، فقام رجل فقال: يا رسول الله أنكحنيها.
قال: هل عندك من شي؟ قال: لا. قال: ((اذهب فاطلب ولو خاتماً من حديد))، فذهب فطلب، ثم جاء فقال: ما وجدت شيئاً، ولا خاتماً من حديد، فقال: فهل معك من القرآن شيء؟ قال: معي سورة كذا وسورة كذا. ((قال: اذهب فقد أنكحتكها بما معك من القرآن)) .
أمَّا علي بن عبد الله فهو المديني، وأما سفيان فهو ابن عيينة، وللبخاري إلى أبي حازم غير هذه الطريق.
وفي (صحيح مسلم): حدثنا قتيبة بن سعيد الثقفي، حدثنا يعقوب يعني ابن عبدالرحمن القاري، عن أبي حازم، عن سهل بن سعيد.
(ح) وحدثناه قتيبة،حدثنا عبد العزيز بن أبي حازم، عن أبيه، عن سهل بن سعد، قال: جاءت امرأة إلى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فقالت: يا رسول الله جئت أهب لك نفسي، فنظر إليها رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فصعد النظر فيها وصوَّبه، ثم طأطأ رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم رأسه،فلما رأت المرأة أنه لم يقض فيها شيئاً جلست، فقام رجل من أصحابه فقال:يا رسول الله إن لم يكن لك بها حاجة فزوجنيها، فقال: ((فهل عندك من شيء؟)) فقال: لا والله يا رسول الله.فقال: ((اذهب إلى أهلك فانظر هل تجد شيئاً)) فذهب ثم رجع فقال: لا والله ما وجدت شيئاً، فقال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم : ((انظر ولو خاتماً من حديد)) فذهب، ثم رجع فقال: لا والله يا رسول الله ولا خاتماً من حديد، ولكن هذا إزاري.
قال سهل: ما له رداء فلها نصفه، فقال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم : ((ما تصنع بإزارك إن لبسته لم يكن عليها منه شيء، وإن لبسته لم يكن عليك منه شيء)) فجلس الرجل حتى إذا أطال مجلسه قام فرآه رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم مولياً فأمر به فدعي له، فلما جاء قال: ((ماذا معك من القرآن؟))
قال: معي سورة كذا وسورة كذا عددها.
فقال: ((تقرأهن عن ظهر قلبك؟ ))
قال: نعم.
قال: ((اذهب فقد ملكتها بما معك من القرآن)).
قال مسلم: هذا حديث بن أبي حازم، وحديث يعقوب يقاربه في اللفظ، وحدثنا خلف بن هشام، قال حدثنا حماد بن زيد.
(ح) وحدثنيه زهير بن حرب، حدثنا سفيان بن عيينة.
(ح) وحدثنا إسحاق بن إبراهيم، عن الدراوردي.
(ح) وحدثنا أبو بكر بن أبي شيبة، حدثنا حسين بن علي، عن زائدة كلهم عن أبي حازم، عن سهل بن سعد بهذا الحديث يزيد بعضهم على بعض غير أن في حديث زائدة قال: انطلق فقد زوجتكها فعلمها من القرآن.
قوله: عبد الرحمن القاري هو بتشديد الياء منسوب إلى القارة قبيلة معروفة، قوله: صعد هو بتشديد العين أي رفع، وصوب بتشديد الواو أي حفظ، قوله: فقد ملكتها هكذا في معظم النسخ، وقد نقله بعضهم عن رواية الأكثرين ملكتها بضم الميم وكسر اللام المشددة على ما لم يسم فاعله، وفي بعض النسخ ملكتكها، والحديث رواه في (الشفاء) من حديث سهل بن سعد، وأخرجه من حديثه مالك وعبدالرزق، وأحمد وأبو داود، والترمذي والنسائي، وابن المنذر، وابن مردويه ذكر له ابن حزم طرقاً في المحلى قال في بعضها ومن طريق مسلم، نا أبو بكر بن أبي شيبة، نا الحسين بن علي، عن زائدة، عن أبي حازم، عن سهل بن سعد قال: جاءت امرأة إلى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فقالت: يا رسول الله قد وهبت نفسي لك فاصنع فيَّ ما شئت.
فقال له شابٌ عند رسول الله: يا رسول الله، إن لم يكن لك بها حاجة فزوجنيها.
قال: ((وعندك شيء تعطيها إياه؟))
قال: ما أعلمه.
قال: ((فانطلق فاطلب فلعلك تجد شيئاً ولو خاتماً من حديد)) فأتاه فقال: ما وجدت شيئاً إلا إزاري هذا.
قال: ((إزارك هذا إن أعطيتها إياه لم يبق عليك شيء)).
قال: ((تقرأ أم القرآن؟))
قال: نعم.
قال: ((فانطلق، فقد زوجتكها، فعلمها من القرآن)).
وقال ابن حزم أيضاً: (نا) حمام بن أحمد القاضي، (نا) عبد الله بن محمد بن علي الباجي، (نا) عبد الله بن يونس المرادي، (نا) بقي بن مخلد، (نا) أبو بكر بن أبي شيبة،(نا) الحسن بن علي هو الجعفي عن زائدة عن أبي حازم، عن سهل بن سعد الساعدي أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم زوج رجلاً من امرأة على أن يعلمها سورة من القرآن.
قال ابن حزم: والحديث مشهور ومنقول نقل التواتر من طرق الثقات، قال: ورويناه أيضاً من طريق يعقوب بن عبد الرحمن القاري، وعبد العزيز بن محمد الداوردي، وسفيان بن عيينة، وحماد بن زيد، ومعمر ومحمد بن مطرف، وفضيل بن سليمان وغيرهم كلهم عن أبي حازم، عن سهل بن سعد، عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وللحديث طرق منها عن أبي هريرة عند أبي داود إلا أنه اختصره، وقال: بعد ذكر السند إلى عطاء بن أبي رباح عن أبي هريرة نحو هذه القصةولم يزد على هذا إلا قوله: لم يذكر الإزار والخاتم.
فقال: ما تحفظ من القرآن؟
قال: سورة البقرة والتي تليها.
قال: فقم فعلمها عشرين آية، وهي امرأتك، وأخرج من حديث أبي هريرة النسائي، ومنها عن ابن عباس، عند أبي الشيخ، وأبي عمر بن حيوية في فوائده، ومنها عن جابر عند أبي الشيخ وفي حديثه، وحديث ابن عباس: هل تقرأ من القرآن شيئاً؟ قال نعم. {إِنَّا أَعْطَيْنَاكَ الْكَوْثَرَ}[الكوثر:1].
قال: ((أصدقها إياها)).
وفي حديث ابن عباس أيضاً: ((أزوجها منك على أن تعلمها أربع أو خمس سور من كتاب الله)).
ومنها: عن ضميرة جد حسين بن عبد الله عند الطبراني، وفي حديثه زوج رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم رجلاً على سورة البقرة لم يكن عنده شيء.
ومنها: عن أنس عند البخاري، والترمذي.
ومنها: عن أبي أمامة عند تمام في فوائده، وفي حديثه زوج رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم رجلاً من أصحابه امرأة على سورة من المفصل جلعها مهراً وأدخلها عليه، وقال: علمها.
ومنها: عن ابن مسعود عند الدراقطني وفي حديثه نعم سورة البقرة، وسورة المفصل.
قال الحافظ: ويجمع بين هذه الألفاظ بأن بعض الرواة حفظ ما لم يحفظ الآخر وأن القصص متعددة.
قالوا: فهذه الأخبار دليل على ما ذهبوا إليه من جواز جعل تعليم القرآن مهراً، أجاب الأولون بوجوه:
الوجه الأول: أن الباء في قوله: بما معك من القرآن بمعنى اللام أي لما معك من القرآن على معنى التكرمة لكونه حاملاً للقرآن كما يقال: زوجتك لدينك ولشرفك، أو يقال: أزوجك على أن تتقي الله فيها وتحسن عشرتها، ولا يكون المراد في شيء من ذلك أنه مهر.
قال بعض العلماء ما معناه: والموجب للتأويل أنه لم يقل أحد أن نفس ما معه من القرآن يكون مهراً، فلا بد من تقدير إما على ما ذهبتم إليه فالتقدير بتعليمها ما معك من القرآن.
وإما على ما ذهبنا إليه مما ذكرناه آنفاً، ولستم بأولى منا بالتقدير، والمرجح لما قدرناه ما مر من الدليل على أنه يشترط في المهر أن يكون مالاً أو ما يجري مجراه، وأدلة تحريم العوض على تعليم القرآن.
الوجه الثاني: أن الباء للسسبيه، والمعنى زوجتكها بسبب ما معك من القرآن وهو قريب من الأول، وعلى هذين الوجهين فليس في الحديث إسقاط الصداق.
قال بعض العلماء: إن النبي صلى الله عليه وآله وسلم لما تحقق عجزه سأله هل معه شيء من القرآن؛ لأن القرآن هو الغنى الأكبر، فلما ثبت له حظ منه ثبت له حظ من النبي صلى الله عليه وآله وسلم فزوجه، وليس في الحديث إسقاط الصداق، فلعله زوجه إياها بصداق وجدت مظنته وإن لم توجد حقيقته، وإذا وجدت المظنة أوشك أن يحصل بفضل الله ببركة ما معه من القرآن، وحاصله أنه سكت عن المهر فيكون ثابتاً في ذمته إذا أيسر، ويشهد بصحة هذين التأويلين ما روي عن أنس أنه صلى الله عليه وآله وسلم زوج أم سليم أبا طلحة على إسلامه وسكت عن المهر؛ لأنه معلوم، وقد جاء التصريح بذكر المهر واشتراطه عند الميسرة في رواية ابن مسعود، وهيما أخرجه البيهقي عن ابن مسعود أن امرأة أتت النبي صلى الله عليه وآله وسلم فقالت: يا رسول الله رءَ فيّ رأيك... الحديث.
فقال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يعني للذي يخطبها: ((فهل تقرأ من القرآن شيئاً؟))
قال: نعم. سورة البقرة وسورة المفصل.
فقال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم : ((قد أنحكتكها على أن تقرئها وتعلمها، وإذا رزقك الله عوضتها)) فتزوجها الرجل على ذلك.
قال البيهقي: أخبرناه أبو بكر بن الحارث الفقيه، أنبأنا علي بن عمر أبو الحسن الدار قطني الحافظ، ثنا أبو عبيد القاسم بن إسماعيل، ثنا القاسم بن هاشم السمسار، ثنا عتبة بن السكن، ثنا الأوزاعي فذكره.
قلت: ورواه الأوزاعي كما ذكره البيهقي عن محمد بن عبد الله بن أبي طلحة، عن زياد بن أبي زياد، عن عبد الله بن شخيرة، عن ابن مسعود.
قال البيهقي: عتبة منسوب إلى الوضع، وهذا يعني الحديث باطل لا أصل له، وحكي عن الدرا قطني أنه قال: تفرد به عتبة، وهو متروك الحديث.
قال في (الجوهر النقي): طالعت كثيراً من كتب أهل هذا الشأن فأكثرهم لم يذكر عتبة، وبعضهم ذكره، وفيه كلام الدارقطني خاصة، وذكره ابن حبان في (الثقات)، وقال يخطئ ويخالف لم يزد على هذا فلا أدري من أين للبيهقي أنه منسوب إلى الوضع.
الوجه الثالث: أن المراد بتعليمه إياها تحصيل المنفعة التي تقوم بما يعجل به قبل الدخول دون المهر لجهالته، وقد ثبت بإجماع المسلمين أن من استأجر رجلاً بدرهم على أن يعلمه سورة من القرآن أن ذلك لا يصح للجهالة التي فيها، وكذلك لو باع داره بتعليم سورة من القرآن، وكل ما يوجب بطلان الإجارة والبيع من جهة الجهالة فهو يوجب بطلان المهر.
الوجه الرابع: ذكره الطحاوي، والأبهري وغيرهما أن هذا الحكم خاص بذلك الرجل، واحتجوا بما أخرجه سعيد بن منصور في سننه، قال نا أبو معاوية، نا أبو عرفجة الفاشي عن أبي النعمان الأزدي، قال زوج رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم امرأة على سورة من القرآن، ثم قال: ((لا يكون لأحد بعدك مهراً))، وفي سنن أبي داود عن مكحول أنه كان يقول: ليس ذلك لأحد بعد رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ، وأخرج أبو عوانة من طريق الليث بن سعد نحوه.
الوجه الخامس: أن الحديث محتمل أن يكون النبي صلى الله عليه وآله وسلم زوجه لأجل ما حفظه من القرآن، وأصدق عنه كما كفر عن الذي واقع أهله في رمضان، ويكون ذكر القرآن للحث على تعلمه وتعليمه، والتنويه بفضله وفضل أهله، وأجيب عن هذه التأويلات بجوابين جملي، وتفصيلي:
أما الجملي: فهو أن في بعض الروايات تصريح في أنه جعل التعليم مهراً وبعضها كالصريح.
قال القرطبي: قوله علمها نص في الأمر بالتعليم، والسياق يشهد بأن ذلك لأجل النكاح فلا يلتفت لقول من قال أن ذلك كان إكراماً للرجل، فإن الحديث مصرح بخلافه.
وأما الجواب التفصيلي: فيقال الجواب عن الوجه الأول والثاني بأن ذلك خلاف الظاهر ولا موجب للمصير إليه، بل الظاهر أن الباء في قوله بما معك للتعويض كقولك بعتك ثوبي بدينار، لا سيما وقد كثر منه صلى الله عليه وآله وسلم طلب المال من ذلك الرجل حتى تبين له عجزه، فزوجه بما معه من القرآن، ويعضد ذلك ما في الروايات الأخر من قوله: علمها، وقوله: على أن تعلمها، وقوله: أصدقها إياه، فهذه الروايات تؤيد الظاهر، وتدفع هذين الاحتمالين.
قال بعض العلماء: لو كانت الباء بمعنى اللام على معنى التكرمة لصارت المرأة بمعنى الموهوبة، والموهوبة خاصة بالنبي صلى الله عليه وآله وسلم .
وقال عياض: يحتمل قوله: بما معك من القرآن وجهين أظهرهما أن يعلمها ما معه من القرآن أو مقداراً معيناً منه كما في حديث أبي هريرة، ويكون ذلك صداقها، ويؤيده قوله في بعض طرق فعلمها من القرآن، ويحتمل أن تكون الباء بمعنى اللام أي لأجل ما معك من القرآن، فأكرمه بأن زوجه بلا مهر، ويؤيد الاحتمال الأول ما أخرجه ابن أبي شيبة، والترمذي من حديث أنس أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم سأل رجلاً من أصحابه ((يا فلان هل تزوجت؟))
فقال: لا، وليس عندي ما أتزوج به.
قال: ((أليس معك {قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ}[الإخلاص:1]؟)) فكأنه قال ليس عندي ما أجعله مهراً، فأجاب عليه النبي صلى الله عليه وآله وسلم بأنه إذا كان حافظاً لسورة الإخلاص فهو متمكن من المهر، وليس المراد أنه يجعل نفس السورة مهراً فلم يبق إلا أن المراد أنه إذا علم المرأة {قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ} فهو مهرها، وذلك قائم مقام إعطاء المال.
هذا وأمَّا قصة سليم فهي حجة عليكم لا لكم لأنه قد صرح فيها بأنه جعل الإسلام مهراً، وذلك فيما أخرجه النسائي وصححه عن أنس، قال خطب أبو طلحة أم سليم فقالت: والله ما مثلك يرد ولكنك كافر وأنا مسلمة ولا يحل لي أن أتزوجك فإن تسلم فذلك مهري ولا أسألك غيره فكان ذلك مهرها، وأخرج النسائي أيضاً نحوه من طريق أخرى.
وأمَّا حديث ابن مسعود فقد عرفت ما فيه من المقال.
والجواب عن الوجه الثالث أنكم قد التزمتم فيه جواز جعل تعليم القرآن عوضاً عن ما تستحقه المرأة عند الدخول، وحملتم الحديث على ذلك فلم منعتم جواز كونه مهراً كما صرحت به الأحاديث السابقة، وقولكم أن المهر لا يقبل الجهالة ليس على إطلاقه فإن العترة والفريقين نصوا على أنه إذا سمى عبداً موصوفاً كتركي أو حبشي صح، قالوا بأن جهالته أقل من جهالة مهر المثل فصححوه مع ضرب الجهالة، وقالوا: يرجع في معرفة الوصف إلى قول عدلين بصيرين.
وقال الهادي وأبو حنيفة: إذا لم يصف القيمي تعين الوسط من ذلك الجنس.
وروى في العلوم و(تتمة الشفاء) عن علي عليه السلام في الرجل يتزوج المرأة على وصيف، قال: لا وكس ولا شطط.
وفيهما عنه عليه السلام في الرجل يتزوج على جهاز البيت، قال: لا وكس ولا شطط.
والجواب عن الرابع أن دعوى الخصوص تحتاج إلى دليل، وأمَّا حديث النعمان الأزدي فلا تقوم به حجة لإرساله لأن أبا عرفجة وأبا النعمان مجهولان.
وأمَّا قول مكحول والليث فلا حجة فيه.
والجواب عن الخامس أن الاحتمال لا يدفع الظهور كيف وبعض الروايات نص فيما ذهبنا إليه.
هذى وأمَّا الاستدلال على المنع بتحريم أخذ الأجرة على تعليم القرآن فلا نسلم.
سلمنا فأدلة التحريم عامة تتناول تحريم أخذ العوض على تعليمه وعلى الرقية به، وجعله مهراً كما يعرف ذلك مما سيأتي، وما رويناه خاص، والخاص مقدم على العام، وقد ذهب بعض من يقول بتحريم أخذ العوض على تعليمه إلى جواز أخذ العوض على الرقية به، ولا مستند له إلا كون أدلة أخذ العوض عليه مخصصة للعمومات، وإذا جاز التخصيص هنالك جاز هنا إذ لا فارق، والشرائع مصالح لا يهتدى إلى معرفتها إلا من طريق السمع، وكذلك يجاب عن الاستدلال بالآية على فرض تناولها للمسألة.
وأما الاستدلال بقوله تعالى: {أَنْ تَبْتَغُوا بِأَمْوَالِكُمْ}[النساء:24] فهو من الاستدلال بمفهوم اللقب على ضعفه، والمفهوم من حيث هو لا يقاوم المنطوق، وقد يقال قد ثبت تحريم أخذ العوض على تعليم القرآن كما سيأتي، فالواجب حمل تزويجه صلى الله عليه وآله وسلم للواهبة نفسها، إما على أحد الوجهين الأولين، أو عليهما فلا إسقاط للمهر كما مر.
أوعلى الوجه الثالث: وهو أن هذا خاص بذلك الرجل. والله أعلم.
المسألة الثانية [بيع المصاحف]
المسألة الثانية:تمسك بالآية من منع بيع المصاحف وشراءها وتأجيرها وكتابتها بالأجرة، وقد اختلف في ذلك السلف والخلف، واختلفت الروايات فيها عن الصحابة، فممن روي عنه المنع جماعة من الصحابة، فأخرج وكيع، قال: نا سفيان الثوري، عن سالم بن عجلان هو الأفطس، عن سعيد بن جبير، قال: قال ابن عمر: وددت أني قد رأيت الأيدي تقطع في بيع المصاحف، وأخرج ابن أبي داود من طريق نافع عن ابن عمر نحوه، وأخرج بن أبي داود عن سالم، قال: كان ابن عمر إذا أتى على الذي يبيع المصاحف قال: بئس التجارة.
وأخرج ابن أبي داود، عن عبادة بن.نسي أن عمر كان يقول: لا تبيعوا المصاحف ولا تشتروها.
وأخرج ابن أبي داود، عن ابن سيرين وإبراهيم أن عمر كان يكره بيع المصاحف وشراءها، ومن طريق ابن أبي شيبة، نا إسماعيل بن إبراهيم هو ابن علية عن ليث، عن حماد بن أبي سليمان، عن إبراهيم، عن علقمة، عن ابن مسعود أنه كره شراء المصاحف وبيعها، وأخرجه ابن أبي داود.
وروى ابن حزم من طريق الحجاج بن المنهال، نا همام بن يحيى، نا قتادة، عن زرارة بن أوفى الحرشي، عن مطرف بن مالك، قال: شهدت فتح تستر مع أبي موسى الأشعري فأصبنا دانيال بالسوس ومعه ربعة فيها كتاب، ومعنا أجير نصراني: فقال: تبيعوني هذه الربعة وما فيها قال إن فيها ذهب أو فضة أو كتاب الله لم نبعك، قال فإن الذي فيها كتاب الله، فكرهوا بيعه، قال: فبعناه الربعة بدرهمين ووهبنا له الكتاب، وأخرجه ابن أبي داود وزاد في روايته.
قال قتادة: فمن ثم كره بيع المصاحف؛ لأن الأشعري وأصحابه كرهوا بيع ذلك الكتاب، والزيادة في رواية ابن حزم أيضاً إلا أنه قال: والصحابة موضع وأصحابه.
وأخرج عبد الرزاق، وأبو عبيد، وابن أبي داود، عن أبي الضحى قال: سألت ثلاثة من أهل الكوفة عن شراء المصاحف عبد الله بن يزيد الخطمي، ومسروق بن الأجدع، وشريحاً فكلهم قال: لا نأخذ بكتاب الله ثمناً.
عبد الله بن يزيد هو: الأنصاري صحابي صغير ولي الكوفة لابن الزبير، والخطمي بفتح المعجمة وسكون المهملة.
وأخرج ابن أبي داود عن جابر بن عبد الله أنه كره بيع المصاحف وشراءها وهولاء الذي يروى عنهم منع بيع المصاحف وشرائها، وكراهته من الصحابة، وقد وافقهم على ذلك من علماء التابعين فمن بعدهم جماعة منهم: ابن سيرين، ومسروق، وشريح، وإبراهيم النخعي، وسعيد بن جبير على اختلاف في الرواية عنه، وسالم بن عبد الله، وعلقمة، وعبيدة السلماني.
وعن علي بن الحسين عليه السلام قال: كانت المصاحف لا تباع، وكان الرجل يأتي بورقه عند المنبر فيقول من الرجل يحتسب فيكتب لي ثم يأتي الآخر فيكتب حتى يتم المصحف.
وعن ابن سيرين قال: كانوا يكرهون بيع المصاحف وكتابتها بالأجر.
وعن عطاء قال: لم يكن من مضى يبيعون المصاحف إنما حدث ذلك الآن، إنما كانوا يجلسون بمصاحفهم في الحجر فيقول أحدهم للرجل إذا كان كاتباً وهو يطوف: يا فلان إذا فرغت تعال فاكتب لي، قال: فيكتب الصفح وما كان من ذلك حتى يفرغ من مصحفه.
وعن عمرو بن مرة، قال: كان في أول الزمان يجتمعون فيكتبون المصاحف، ثم إنهم استأجروا العباد فكتبوها لهم، ثم إن العباد بعد كتبوها فباعوها، وأول من باعها العباد، أخرج هذه الروايات عن علي بن الحسين فمن بعده ابن أبي داود.
وأخرج أبو عبيد، وابن أبي داود عن عمران بن جرير، قال: سألت أبا مجلز عن بيع المصاحف، قال: إنما بيعت في زمن معاوية فلا تبعها، وممن روي عنه الترخيص في ذلك من الصحابة أمير المؤمنين عليه السلام .
قال في (أمالي أحمد بن عيسى) عليه السلام : (نا) محمد، قال: (نا) حسين بن نصر عن خالد، عن حصين، عن جعفر بن محمد، عن أبيه، عن علي عليه السلام أنه كان لا يرى ببيع المصاحف وشرائها بأساً، وتابعه على ذلك من أهل بيته عليه السلام أحمد بن عيسى فإنه روي عنه في العلوم جواز بيعها وشرائها، والتجارة فيها، وكتابتها بالأجر، ونحوه عن القاسم بن إبراهيم عليه السلام .
وفي العلوم أيضاً عن الحسن البصري أنه قال: لا بأس ببيع المصاحف وشرائها، وبعضهم روى عنه جواز البيع ولم يذكر الشراء و الإجارة بجواز ولا كراهة، والظاهر من مذهب هؤلاء أنهم لا يفرقون بين البيع والشراء والإجارة كما يفهم من تعليلهم منهم محمد بن الحنفية، وابن عباس، والهادي، والشعبي وابن حزم، ونَسَبَ القول بجواز بيع المصاحف وشرائها في البحر إلى الأكثر.
وقال النووي في (شرح المهذب): اتفق أصحابنا يعني الشافعية على صحة بيع المصحف وشرائه، وإجارته ونسخه بالأجرة، واختلف أصحاب الشافعي في الكراهة وعدمها.
قال النووي: والصحيح من المذهب أن بيعه مكروه وهو نص الشافعي، فهذان إطلاقان المنع والكراهة مطلقاً، والترخيص مطلقاً.
وفي المسألة قول ثالث وهو التفصيل، ومعناه أنه يجوز الشراء دون البيع، وأخرجه ابن أبي داود، عن ابن عباس، وكذا أخرجه عنه عبد الرزاق وأبو عبيد، وأخرجه ابن أبي داود، وأبو عبيد عن جابر، وأخرجه عبد الرزاق عن ابن عمر، وهو مروي عن ابن المسيب وسعيد بن جبير، وإسحاق، احتج الأولون بالآية،ووجه الاحتجاج بها أنها تدل على منع أخذ العوض على آيات الله تعالى،وبائعها ومتشريها وكاتبها بالأجرة ومؤجرها يصدق عليهم أنهم قد استبدلوا بآيات الله ثمناً قليلاً، وأخذوا عليها عوضاً، فيجب بظاهر الآية أن يكون ذلك منهياً عنه، والنهي يقتضي التحريم، وفساد المنهي عنه وبطلانه،واحتجوا أيضاً بما مر عن بعض الصحابة من المنع عن ذلك وهم أعرف بمقاصد الشرع ومدلولات الكتاب والسنة، فيكون كلامهم مقرراً للاحتجاج بالآية، وقد صرح بعضهم بما يفيد استنادهم إلى ظاهر الآية حيث قال: لا نأخذ لكتاب الله ثمناً.
وقال في شرح المهذب: روى البيهقي بإسناده عن ابن عباس ومروان بن الحكم أنهما سئلا عن بيع المصاحف للتجارة، فقالا: لا نرى أن تجعله متجراً، ولكن ما عملت يديك فلا بأس به، وعن عمر أنه كان يمر بأصحاب المصاحف فيقول: بئس التجارة.
وفي بعض الروايات ما يدل على أن ذلك إجماع السلف، وقد ذكرناها فيما تقدم.
وفي (شرح المهذب) عن البيهقي بإسناده إلى عبد الله بن شقيق، قال: كان أصحاب رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يكرهون بيع المصاحف، وصحح النووي إسناده.
وقال: إن عبد الله بن شقيق تابعي مجمع على جلالته وتوثيقه، وأخرجه من طريقه سعيد بن منصور، قال: نا خالد بن عبد الله هو الطحان، عن سعيد بن أبي إياس الحريري، عن عبد الله بن شقيق، قال: كان أصحاب رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يكرهون بيع المصاحف وتعليم الصبيان بالأرش يعظمون ذلك، وأخرجه عبد الرزاق، وابن أبي داود بلفظ: كان أصحاب رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يشددون في بيع المصاحف ويرونه عظيماً.
قلت: خالد الطحان وثقه أحمد.
وقال في (التقريب): ثقة ثبت، توفي سنة اثنتين وثمانين ومائة، احتج به الجماعة، وروى له المرشد بالله ووالده وفي (المناقب).
احتج القائلون بالرخصة بأن الذي يباع ويشترى إنما هو الورق والمداد والأديم إن كانت مجلدة، وهذا لا إشكال في جواز بيعه وشرائه، وكذلك يقال في التأجير إنما يؤجر ما ذكر، وتؤخذ أجرة الكتابة على عمل اليد وهو الكتابة، وليس ذلك كله إلا كسائر التجارات وعقود الإجارات المدلول على جوازها بعموم قوله تعالى: {وَأَحَلَّ اللَّهُ الْبَيْعَ}[البقرة:275] وقوله: {أَوْفُوا بِالْعُقُودِ}[المائدة:1] واحتجوا أيضاً بأن عمل المسلمين قد جرى بيعه وشراؤه، وأخذ الأجرة على كتابته من غير تناكر.
قالوا: والآية التي احتج بها الأولون لا تتناول المصحف لما ذكرنا، والآثار المروية عن الصحابة لا حجة فيها، والروايات الدالة على إجماع السلف غير صريحة فيه، وكيف ينعقد إجماعهم ويحتج به مع ثبوت خلافه عن علي عليه السلام وهو الحجة بعد رسول الله -صلوات الله عليه-.
قلت: وقوله عليه السلام حجة عندنا فيكون حجة ثالثة على الجواز، وقد حمل البيهقي الكراهة المروية عن الصحابة على التنزيه تعظيماً للمصحف عن أن يبتذل بالبيع أو يجعل متجراً.
احتج المفصلون بأن الآية إنما تدل على منع أخذ العوض على آيات الله، والمشتري إنما أعطى العوض ولم يأخذه فلم يتناوله النهي، ويؤيده ما روي عن ابن عباس وجابر، وابن عمر من أنهم قالوا: اشتر المصاحف ولا تبعها، وقد مرت الإشارة إلى أقوالهم وتخريجها، وهم أعرف بمعاني القرآن ومقاصده، وقد روي ما يدل على أن ذلك الحكم مأخوذ من السنة، وذلك فيما أخرجه ابن أبي داود عن ابن عباس قال: رخص في شراء المصاحف وكره بيعها.
قال ابن أبي داود: كذا قال رخص كأنه صار مسنداً -يعني مسنداً إلى النبي صلى الله عليه وآله وسلم أي مرفوعاً، لأن ابن عباس لا يحتج بالترخيص الصادر عن غير النبي صلى الله عليه وآله وسلم ، ويؤيده ما مر عن علي بن الحسين من أن المصاحف كانت لا تباع...إلخ، فإنه ظاهر في أنها لم تكن تباع في عهد النبي صلى الله عليه وآله وسلم ، وإلا لم يكن لاحتجاجه به معنى، وقد أخرج معنى هذه الرواية البيهقي في (السنن الكبرى)من طريق علي بن الحسين، وصرح فيها بأن ذلك كان في عهد النبي صلى الله عليه وآله وسلم .
قال: أخبرنا علي بن أحمد بن عبدان، أنبأنا أحمد بن عبيد الصفار، ثنا جعفر بن أحمد بن سنان، ثنا محمد بن عبيد الله بن بزيغ، ثنا الفضل بن العلاء، ثنا جعفر بن محمد بن علي، عن أبيه، عن علي بن الحسين، عن ابن عباس، قال: كانت المصاحف لا تباع، كان الرجل يأتي بورقه عند النبي صلى الله عليه وآله وسلم فيقوم الرجل فيحتسب فيكتب، ثم يقوم آخر فيكتب حتى يفرغ من المصحف.
جعفر هو: ابن أحمد بن سنان بن أسد أبو جعفر القطان الواسطي، روى عن أبيه وغيره، وعنه أبو الشيخ وابن عدي وغيرهما.
قال في (التذكرة): هو الحافظ الثقة، توفي سنة سبع وثلاثمائة، روى له المرشد بالله.
وأمَّا الفضل فقال في (التقريب): الفضل بن العلاء أبو العباس، ويقال: أبو العلاء الكوفي، نزيل (البصرة) صدوق له أوهام، قال في هامشه قال أبوحاتم شيخ، وقال النسائي: ليس به بأس.
قلت: والحديث حجة في أن المصاحف قد كانت موجودة في عهد النبي صلى الله عليه وآله وسلم ، ومن أدلة المفصلين ما مر من حكاية كراهة البيع عن الصحابة.
والجواب: ما مر من أن البائع لم يبع القرآن وإنما باع الورق ونحوه، فلا حجة لهم في الآية، وأقوال الصحابة لا حجة فيها، وقول ابن عباس رخص في شراء المصاحف ليس نصاً في أن المرخص النبي صلى الله عليه وآله وسلم فيجوز أن يكون فهم الترخيص في الشراء، والكراهة للبيع من الآية كما فهمه منها غيره، سلمنا فيجوز أن يكون المراد بالترخيص نفي الكراهة لمقابلته بها، والكراهة محمولة على التنزيه كما مر عن البيهقي، والموجب للحمل على ذلك ما مر من أدلة جواز بيع المصاحف وشرائها، وكيف يحرم النبي صلى الله عليه وآله وسلم بيعها، ويخفى على باب مدينة علمه، والمبين للناس ما اختلفوا فيه من بعده حتى يحكم بخلاف حكمه، أما إذا حملنا الكراهة على التنزيه فقد حصل الجمع بين الأدلة وسلامتها من الرد والإبطال، وهكذا يقال فيما حكي عن الصحابة من الكراهة.
وأمَّا الاحتجاج بأنها لم تكن تباع في عهد النبي صلى الله عليه وآله وسلم فلا وجه له؛ إذ عدم وقوع البيع لا يدل على عدم الجواز، إلا لو علم أنهم تركوه لمنع النبي صلى الله عليه وآله وسلم منه ولم ينقل المنع أصلاً.
تنبيه [في بيع ما تضمنه المصحف]
أمَّا لو قصد بالبيع ونحوه ما تضمنه المصحف من القرآن فالظاهر التحريم للآية ونحوها، وقد أشار إلى هذا السيد أبو العباس وغيره.
قال في شرح القاضي زيد: قال أبو العباس رحمه الله: أنه يجب أن يكون البيع متناولاً للجلد والكاغد، وهكذا ذكره أصحاب أبي حنيفة.
قال السيد أبو طالب: وهو الصحيح لأن المكتوب لا يصح بيعه.
قال عليه السلام : وما روي عن ابن عمر وغيره من كراهة بيع المصاحف يجب أن يكون محمولاً على بيع نفس المكتوب.
قلت: وهذا تأويل آخر لهذه الكراهة غير ما ذكره البيهقي.
(فرع) وبيع كتب العلوم الدينية وشرائها وكتابتها بالأجرة، وتأجيرها جائز كبيع المصحف إذ البيع لا يتناول إلا الجلد ونحوه كما مر، ولا يبعد أن الخلاف فيها كالخلاف في المصحف؛ إذ هي متضمنة لآيات الله تعالى -أي أحكامه وأوامره ونواهيه- فيمكن إجراء أدلة الأقوال المتقدمة هنا. والله أعلم.
وقد نص القاسم بن إبراهيم على جواز كتابة العلم بالأجرة، وكذلك نص ابن حزم على جواز بيع كتب العلوم كلها.
وقال النووي في شرح (المهذب): قال أصحابنا يجوز بيع كتب الحديث، والفقه، واللغة، والأدب، والشعر المباح المنتفع به، وكتب الطب، والحساب وغيرها مما فيه منفعة مباحة.
المسألة الثالثة[أخذ الأجرة على القرآن]
في الآية دليل على تحريم أخذ الأجرة على تعليم القرآن، وفي ذلك خلاف، فقال الهادي عليه السلام : لا يجوز أخذ الأجرة على تعليم القرآن.
قال القاضي زيد: وإليه ذهب المؤيد بالله، وهو قول أبي حنيفة وأصحابه، قالوا: ولا على تعليم الفرائض والفقه، والأذان والصلاة، وهذا هو المصحح للمذهب، فإنهم نصوا على أنه لا يصح عقد الإجارة على المنفعة الواجبة.
قال في (شرح الأزهار): نحو الجهاد، والأذان، وتعليم القرآن، وحكى فيه عن الفقيه يوسف، والفقيه محمد بن يحيى أنها تجوز على تعليم الصغير إجماعاً،وصحح المذهب ولا يجوز على تعليم البالغ القدر الواجب الذي لا تصح الصلاة إلا به إجماعاً،والقول بتحريم أخذ الأجرة على تعليم القرآن مروي عن جماعة منهم: الحسن بن صالح بن حي، والضحاك بن قيس، وعطاء، والزهري، وعبد الله بن شقيق، والمقبلي وكرهه إسحاق، وعن أحمد روايتين.
قال ابن حزم: وصح عن عبد الله بن مغفل أنه أعطاه الأمير مالاً لقيامه بالناس في رمضان فأبى وقال: إنا لا نأخذ للقرآن أجراً، ومن طريق شعبة وسفيان كلاهما عن أبي إسحاق الشيباني، عن ابن سيرين، قال شعبة في روايته: إن عمار بن ياسر أعطى قوماً قرءوا القرآن في رمضان، فبلغ ذلك عمر فكرهه.
وقال سفيان في روايته: إنه سعد بن أبي وقاص قال: من قرأ القرآن ألحقته على الفين. فقال عمر: أو يعطى على كتا بالله ثمناً، روى هذين الأثرين ابن حزم، وقد مر عن عبد الله بن يزيد،وشريح وغيرهما أنهم قالوا:لا نأخذ لكتاب الله ثمناً، ومر أيضاً رواية عبد الله بن شقيق أن الصحابة كانوا يكرهون بيع المصاحف، وتعليمه الغلمان بالأرش.
فهؤلاء القائلون بتحريم أخذ الأجرة على تعليم القرآن، وخالفهم القاسم بن إبراهيم، والناصر، والشافعي، ومالك، وأبو قلابة، وأبو ثور، وابن المنذر فقالوا: يجوز الاستئجار على تعليم القرآن، واختاره ابن حزم، ونسبه بعض العلماء إلى الجمهور.
وقال الحسن، وابن سيرين، وطاووس، والشعبي، والنخعي: يكره ذلك مع الشرط.
احتج الأولون بالآية لأن أخذ الأجرة على تعليمه من الاستبدال بآيات الله المنهي عنه بقوله:{ وَلاَ تَشْتَرُوا بِآيَاتِي ثَمَناً قَلِيلاً}[البقرة:41] واحتجوا من السنة بما رواه في (مجموع زيد بن علي) عليه السلام قال: حدثني زيد بن علي، عن أبيه عن جده، عن علي عليه السلام أنه أتاه رجل فقال: يا أمير المؤمنين والله إني لأحبك في الله، قال: ولكني أبغضك في الله.
قال: ولم ذاك؟
قال: لأنك تتغنى في أذانك وتأخذ على تعليم القرآن أجراً، وقد سمعت رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يقول: ((من أخذ على تعليم القرآن أجراً كان حظه يوم القيامة)).
وروي في (العلوم)، و(الجامع الكافي)، و(شرح القاضي زيد)، و(الشفاء) و(شرح الأحكام) لعلي بن بلال قال أحمد بن عيسى: ومعنى تتغنى في أذانك: تمدد، وقال محمد بن منصور: تطرب.
وفي (شرح الأحكام): أخبرنا السيد أبو العباس-رحمه الله-، ثنا الحسين بن علي بن الربيع القطان، قال: ثنا محمد بن ميرة، قال: ثنا محمد بن بكير الحضرمي، عن محمد بن الفضل، عن عطية، عن زيد العمي، عن الحسن، قال: حدثني خمسة من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم نهى عن تعليم القرآن بالأجر، ونهى أن يمحى اسم الله بالبزاق.
وقال الهادي عليه السلام في (الأحكام): بلغنا عن زيد بن علي، عن آبائه قال: إنه كان رجل من الأنصار يعلم القرآن في مسجد رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فأتاه رجل ممن كان يعلمه بفرس فقال: هذا لك احمل عليه في سبيل الله، فأتى النبي صلى الله عليه وآله وسلم فسأل عن ذلك، فقال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم : ((أتحب ان يكون حظك غداً))؟ قال: لا والله، قال: ((فاردده)).
وفي العلوم: (نا) محمد، قال: (نا) محمد عن وكيع، عن مغيرة، عن زياد الواسطي، عن عبادة بن بسير، عن الأسود بن ثعلبة، عن عبادة بن الصامت، قال: علمت رجالاً من أهل الصفة القرآن والكتابة فأهدى لي رجل منهم قوساً، فقلت: ليست بمال وأرمي عليها في سبيل الله، فسألت عنها رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فقال: ((إن سرك أن تطوق بها طوقاً من نار فاقبلها)) ورواه في (الجامع الكافي)، و(شرح القاضي زيد)، و(الشفاء).
وفي (أمالي المرشد بالله عليه السلام ) أخبرنا إبراهيم بن طلحة بن إبراهيم بن غسان، قال: حدثنا أبو العباس أحمد بن عبد الرحمن بن أبي المغير الخاركي، قال:حدثنا أبو العباس محمد بن حيان المازني البزار، قال: حدثنا مسدد، قال: حدثنا ابن داود، عن المغيرة بن زياد، عن عبادة بن نسي عن الأسود بن ثعلبة الكندي، عن عبادة بن الصامت قال: علمت أناساً من أهل الصفة القرآن والكتابة فأهدى إلي رجل منهم قوساً وليس بمال، قلت: أتقلدها في سبيل الله عز وجل فذكرت ذلك للنبي صلى الله عليه وآله وسلم وقص عليه القصة، فقال: ((إن سرك أن يقلدك الله قوساً من نار فاقبلها)).
وهو في (سنن أبي داود) بنحوه، قال: حدثنا أبوبكر بن أبي شيبة، ثنا وكيع، وحميد بن عبد الرحمن، عن مغيرة بن زياد، عن عبادة بن نسي، عن الأسود بن ثعلبة عن عبادة بن الصامت فذكره، وله عنده طريق أخرى، قال: حدثنا عمرو بن عثمان وكثير بن عبيد، قالا: ثنا بقية حدثني بشر بن عبد الله بن يسار، قال: عمرو حدثني عبادة بن نسي، عن جنادة بن أبي أمية، عن عبادة بن الصامت نحو هذا الخبر، والأول أتم يعني ما ذكره أبوداود بالطريق الأولى، ثم ذكر أبو داود في آخر هذه الطريق أنه قال فقلت: ما ترى فيها يا رسول الله؟ فقال: ((جمرة بين كتفيك تقلدتها أو تعلقتها)).
أما حميد بن عبد الرحمن فهو: الرؤاسي بضم الراء بعدها همزة خفيفة أبو علي الكوفي، أخذ عن الأعمش وغيره، وعنه أحمد وابنا أبي شيبة وغيرهم.
وثقه ابن معين، وابن حبان، وابن حجر، توفي سنة تسع وثمانين ومائة، وقيل: سنة تسعين ومائة، وقيل: بعدها.
احتج به الجماعة، وروى له أئمتنا الثلاثة.
وأما مغيرة فهو: ابن زياد البجلي أبوهشام أو هاشم الموصلي.
قال في (التقريب): صدوق له أوهام، مات سنة اثنتين وخمسين ومائة.
وقال في (النيل): وقد وثقه -يعني المغيرة بن زياد- وكيع، ويحيى بن معين، وتكلم فيه جماعة فقال أحمد: كل حديث رفعه فهو منكر، وقال أبو زرعة: لا يحتج بحديثه، وقال الترمذي: قد تكلم فيه بعضهم من قبل حفظه.
قلت: الرجل روى له المرشد بالله والمرادي كما ترى، وأخرج حديثه الأربعة ووثقه من ذكرنا هنا، فلا وجه لرده.
وأما عبادة بن نسي بضم النون وفتح السين فهو: الكندي أبو عمرو الشامي قاضي الأردن أيام هشام، وفي (التقريب): قاضي (طبرية) وثقه أحمد، ويحيى والنسائي، والعجلي، وابن حجر، وقال فاضل: توفي سنة ثماني عشرة ومائة.
احتج به الأربعة، وروى له الناصر، والمرشد بالله، والمرادي.
وأما الأسود بن ثعلبة فهو: الكندي الشامي، قال ابن حزم وابن حجر: مجهول، وقال ابن المديني: لا يحفظ عنه إلا هذا الحديث، حكى هذا عنه البيهقي في (السنن) واعترضه ابن التركماني في كتابه (الجوهر النقي على سنن البيهقي) فقال: ذكره ابن حبان في الثقات، وصحح الحاكم حديثه هذا، قال: وقد حفظ عنه ثلاثة أحاديث وذكرها، وقال في أحدها: أخرجه الحاكم في (المستدرك)، وقال: الأسود بن ثعلبة شامي معروف، وحديث عبادة هذا أخرجه ابن ماجة أيضاً.
قلت: وأخرجه البيهقي من حديث عبادة بن نسي، عن الأسود، ثم قال: وقد قيل عن عبادة بن نسي، عن جنادة بن أبي أمية، عن عبادة، وذكره بإسناده إلى أبي داود، ثم بإسناده المتقدم.
قال: وكذلك رواه أبو المغيرة، عن بشر، ثم قال: هذا حديث مختلف فيه على عبادة بن نسي كما ترى.
قلت: وهو يشير إلى ضعف الحديث، واعترضه التركماني فقال بعد أن ذكر أن البيهقي أخرجه-أعني رواية جنادة- من طريق أبي داود ما لفظه: وأخرجه أيضاً الحاكم، وقال: صحيح الإسناد.
وفي (سنن البيهقي): حدثنا أبو القاسم عبد الرحمن بن محمد السراج إملاء،ثنا أبو الحسن أحمد بن محمد بن عيدروس الطرائقي، ثنا عثمان بن سعيد الدارمي، ثنا عبد الرحمن بن يحيى بن إسماعيل بن عبيد الله، ثنا الوليد بن مسلم، ثنا سعيد بن عبد العزيز، عن إسماعيل بن عبد الله، عن أم الدرداء، عن أبي الدرداء أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قال: ((من أخذ قوساً على تعليم القرآن قلده الله قوساً من نار)) وضعف البيهقي هذا الإسناد.
وروي عن دحيم أنه قال: حديث أبي الدرداء: من تقلد قوساً...إلخ، لا أصل له.
قال التركماني: أخرجه البيهقي هنا بسند جيد فلا أدري ما وجه ضعفه وكونه لا أصل له، وأشار إليه الشوكاني في النيل، وذكر أنه عند الدارمي بإسناد على شرط مسلم.
وقد عرفت أن البيهقي رواه من طريق الدارمي فكان حقه الحكم عليه بالصحة، ولنتكلم هنا في بيان أحوال الدارمي ورجاله لتعلم أن القوم يضعفون ما خالف مذهبهم، وإن كملت فيه شرائط الصحة، وهذه المصيبة قد عمت وطمت إلا القليل النادر، فنقول: أما الدارمي فهو: عثمان بن سعيد بن خالد السجستاني أبو سعيد الدارمي.
قال علامة العصر في ترجمته: الحافظ الحجة، محدث هراة، وقال يعقوب الفرات: ما رأينا مثله ولا أرى مثل نفسه.
وقال أبو حامد الأعمش: ما رأيت مثله له مسند كبير، توفي ثمانين ومائتين، روى له أبو طالب.
وأما عبد الرحمن فهو: ابن يحيى بن إسماعيل بن عبد الله بن المهاجر المخزومي، أبو محمد الدمشقي، ذكره ابن حبان في (الثقات)، وقال أبو حاتم: ليس بحديثه بأس (والوليد بن مسلم هو صاحب الأوزاعي قاله النووي، مولاهم أبو العباس الدمشقي. وثقه بن مسعود وابن عدي والعجلي ويعقوب، وأثنى عليه أحمد بن المديني.
وقال في التذكرة: لانزاع في علمه وحفظه، وإنما الرجل يدلس فلايحتج به إلا إذا صرح بالسماع. وتوفي في سنة خمس وتسعين ومائة.
احتج به الجماعة وروى له أئمتنا الخمسة.
وسعيد قال في الجداول: سعيد بن عبد العزيز بن يحيى النتوا أبو محمد الدمشقي، وثقه ابن معين وأبو حاتم والنسائي وروى له أبو طالب)
وأما إسماعيل بن عبد الله فهو: ابن المهاجر المخزومي، ذكر في (الجداول) روايته عن أبيه، وأم الدرداء، وقال: يقال له أبوعبد الحميد الدمشقي، كان أميراً على إفريقية، وثقه الدارقطني والعجلي، وقال ابن يونس: سنة توفي إحدى وثلاثين ومائة عن سبعين سنة، احتج به الجماعة ما خلا الترمذي.
وروى له المرشد بالله، وذكر الحديث في (الجامع الصغير) ونسبه إلى البيهقي، وأبي نعيم في (الحلية).
وفي (سنن البيهقي): أخبرنا أبو الحسن علي بن محمد المقري أنبأنا الحسن بن محمد بن إسحاق، ثنا يوسف بن يعقوب، ثنا محمد بن أبي بكر، ثنا يحيى بن سعيد، عن ثور بن يزيد، حدثني عبد الرحمن بن أبي مسلم، عن عطية بن قيس الكلابي، قال: علم أُبي بن كعب -رضي الله عنه- رجلاً القرآن فأتى اليمن فأهدى له قوساً فذكر ذلك للنبي صلى الله عليه وآله وسلم فقال: ((إن أخذتها فخذ بها قوساً من النار)) وأخرجه ابن ماجة، نسبه إليه في المنتقى ولفظه: وعن أُبي بن كعب قال: علمت رجلاً القرآن فأهدى لي قوساً فذكرت ذلك للنبي صلى الله عليه وآله وسلم فقال: ((إن أخذتها أخذت قوساً من نار)) فرددتها، وأخرجه أيضاً الروياني في مسنده، وأعله البيهقي، وابن عبد البر والمزي بالانقطاع بين عطية الكلابي وأُبي.
قال التركماني: عطية تابعي ذكر صاحب (الكمال) عن أبي مسهر أنه ولد في حياة النبي صلى الله عليه وآله وسلم ، فعلى هذا روايته عن أُبي محمولة على الاتصال، وأشار إلى هذا الحافظ ابن حجر، وقد ذكر هذا الحديث قاسم بن أصبغ من طريق أبي إدريس الخولاني، فقال نا عبدالله بن روح، نا شبابة هو ابن ورقاء، نا أبو زيد عبدالله بن العلاء الشامي، نا بشر بن عبيدالله، عن أبي إدريس الخولاني قال: كان عند أُبي بن كعب ناس يقرئهم من أهل اليمن فأعطاه أحدهم قوساً يتسلحها في سبيل الله تعالى، فقال له رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم : ((أتحب أن تأتي بها في عنقك يوم القيامة ناراً)) وأعله ابن حزم بالانقطاع إذ لا يعرف لأبي إدريس سماع من أُبي.
وذكر الحديث الذهبي في (الميزان) في ترجمة شبابة بن سوار، وقال: حدثنا عبد الله بن العلاء بن زبر، ثنا بشر بن عبد الله، عن أبي إدريس فذكره، ثم قال: مرسل جيد الإسناد.
قلت: سماعه من أُبي ممكن لأنه ولد في حياة النبي صلى الله عليه وآله وسلم يوم حنين، وأُبي كانت وفاته سنة تسع عشرة، وقيل: سنة ثلاثين، وقد ذكر ابن حجر سماعه من أكابر الصحابة، وذكر غيره سماعه من جماعة من الصحابة، منهم: عمر وحذيفة، وبلال، وأبو ذر، وروي أن الذي أقرأه هو الطفيل بن عمرو. رواه سعيد بن منصور عن إسماعيل بن عياش، عن عبد ربه بن سليمان بن عمير بن زيتون، عن الطفيل بن عمرو، عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أنه عرض له ذلك في القوس مع أُبي بن كعب، وفي زيادة أنه قال: يا رسول الله إنا نأكل من طعامهم، قال: ((أما طعام صنع لغيرك فحضرته فلا بأس أن تأكله، وأما ما صنع لك فإن أكلته فإنما تأكله بخلاقك)).
وأخرج الطبراني في الأوسط عن الطفيل بن عمرو قال: أقرأني أٌبي بن كعب القرآن فأهديت إليه قوساً فغدا إلى النبي صلى الله عليه وآله وسلم وقد تقلدها فقال النبي صلى الله عليه وآله وسلم : ((تقلدها من جهنم)).
قلت: يا رسول الله إنا ربما حضر طعامهم فأكلنا.
فقال: ((أما ما عمل لك فإنما تأكله بخلاقك، وأما ما عمل لغيرك فحضرته فأكلت منه فلا بأس)) قوله بخلاقك[أي فهو نصيبك].
ومن طريق ابن أبي شيبة قال: نا محمد بن ميسر أبو سعد، عن موسى بن علي بن رباح، عن أبيه أن أُبي بن كعب غدَّاه رجل كان يقرئه القرآن فقال له رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم : ((إن كان شيء يتحفك به فلا خير فيه وإن كان من طعامه وطعام أهله فلا بأس به)) وأعله ابن حزم بالانقطاع؛ لأن علي بن رباح لم يدرك أُبي بن كعب.
قلت: علي بن رباح بن قصير اللخمي أبو عبد الله لقبه عُلي بضم العين روى عن أبي هريرة، وعقبة بن عامر وغيرهما.
قال أحمد: ما أعلم إلا خيراً، ووثقه العجلي وابن سعيد، أغزاه عبد العزيز إفريقية فلم يزل بها حتى مات سنة بضع عشرة ومائة، احتج به مسلم وأبو داود، وروى له المرشد بالله.
قال علامة العصر: وعلى قواعد المحققين روايته باطلة يعني التولية من جهة الظلمة وفيه نظر.
وأما ولده موسى فوثقه أحمد ويحيى، والنسائي، وأبو حاتم والعجلي.
وقال أبو حاتم: رجل صالح متقن.
وقال في (التقريب): صدوق ربما أخطأ، وفيه أن كنيته أبو عبد الرحمن البصري، روى له البخاري ومسلم والأربعة، ومن الأئمة المؤيد بالله والمرشد بالله، مات سنة ست وستين ومائة، وله نيف وتسعون.
قال علامة العصر: ولي مصر للدوانيقي ست سنين، وممن أخذ عنه ابن وهب.
وأما محمد بن ميسر فهو: الجعفي الصاغاني بمهملة، ثم معجمة البلخي نزيل بغداد، ويقال: محمد بن أبي زكريا.
قال في (التقريب): ضعيف رمي بالإرجاء، وقال النسائي: متروك، وقال أبوزرعة: لم يكن ليكذب.
وقال البينياني: صدوق لكنه مرجئ جهمي، وقال أحمد: صدوق مرجي، احتج به الترمذي، وروى له المرادي.
والحديث ذكر له المزي طريقاً آخرى فقال: رواه محمد بن جُحادة عن رجل يقال له أبان، عن أبي، ومحمد بن جُحادة، وثقه ابن حجر وقال جُحادة-بضم الجيم وتخفيف المهملة-: مات سنة إحدى وثلاثين ومائة، احتج به الجماعة.
وأخرج الأثرم عن أُبي بن كعب أنه قال: كنت أختلف إلى رجل مسن قد أصابته علة قد احتبس في بيته أقرئه القرآن فكان عند فراغه مما أقرئه يقول لجارية له هلمي بطعام أخي فيؤتى بطعام لا آكل مثله بالمدينة فحاك في نفسي منه شيء، فذكرته للنبي صلى الله عليه وآله وسلم فقال: ((إن كان ذاك الطعام طعامه وطعام أهله فكل منه وإن كان يتحفك به فلا تأكله)).
وأخرج الأثرم أيضاً عن أُبي أنه علم رجلاً سورة من القرآن فأهدى له خميصة أو ثوباً فذكر ذلك للنبي صلى الله عليه وآله وسلم فقال: ((لو أنك لبستها أو أخذتها ألبسك الله مكانها ثوباً من نار)).
وعن عبد الرحمن بن شبل عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال: ((اقرءوا القرآن ولا تغلوا فيه ولا تجفوا عنه ولا تأكلوا به ولا تستكثروا به)) أخرجه أحمد.
قال في (مجمع الزوائد): رجاله ثقات، وأخرجه أيضاً البزار وهو في (الجامع الصغير) بلفظ: اقرءوا القرآن واعملوا به ولا تجفوا عنه ولا تغلوا فيه ولا تأكلوا به ولا تستكثروا به، ونسبه إلى أحمد وأبي يعلى، والطبراني في (الكبير) والبيهقي في (الشعب).
قال العزيزي: ورجاله ثقات، ورواه ابن حزم من طريق ابن أبي شيبة، قال: نا عفان بن مسلم، نا أبان بن يزيد العطار، حدثني يحيى بن كثير، عن زيد هو أبي سلام، عن أبي سلام هو ممطور الحبشي الدمشقي، عن جده ممطور وغيره، وثقه النسائي وغيره.
احتج به مسلم والأربعة، والبخاري في (الأدب المفرد)، وروى له أبو طالب.
وأما ممطور فوثقه العجلي، واحتج به مسلم والأربعة، والبخاري في (الأدب المفرد).
وروى له أبو طالب، وقال في (التقريب) وهامشه: يرسل عن حذيفة وأبي ذر.
وأما أبو راشد فهو: الحبراني بضم الحاء المهملة وسكون الموحدة الشامي، قيل: اسمه أخضر، وقيل: النعمان، وثقه العجلي وابن حجر، واحتج به الأربعة إلا ابن ماجة، والحديث في (شرح القاضي زيد) و(الشفاء).
قال القاضي زيد: فنهى عن الأكل بالقرآن فمن أخذ الأجرة فقد أكل بالقرآن.
قلت: وقوله في رواية ابن أبي شيبة: ولاتغلوا عنه، نهى عن الترفع عن تعلمه بدليل قوله: ((تعلموا)) فيكون كالتأكيد للأمر بتعلمه، وفيه أن المذموم ترك تعلمه ترفعاً. والله أعلم.
وقوله في هذه الرواية: ((ولا تجفوا فيه)) كمعناه بالرواية الأولى التي قال فيها (ولا تجفوا عنه) أي: لا يكون موضعاً للجفاء بأن تتركوا تلاوته وتقصروا فيها، أو لا تتباعدوا عن تلاوته بالترك والتقصير.
وقوله في الأولى: ((ولا تغلوا فيه)) بالمعجمة معناه: لا تغلوا فيه بكثرة التلاوة لئلا تملوا، أو لا تتعمقوا في معانيه المتشابهة لئلا يؤدي إلى الاعتقاد الفاسد، أو لا تسلكوا به مسلك المجادلة مع الناس، أو لا تتعدوا حدوده أو لا تبذلوا جهدكم في تلاوته وتتركوا غيره من العبادات.
وقوله: ((ولا تأكلوا به)) أي: لا تجعلوه سبباً للأكل والاستكثار من الدنيا، ويجوز حمله على الجميع.
وقوله: ((ولا تستكبروا به)) بالباء الموحدة أي: لا تطاولوا بسببه على الناس.
وروى زيد بن علي عليه السلام في(المجموع) عن أبيه عن جده عن علي عليه السلام ، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم : ((تعلموا القرآن وتفقهوا به وعلموه الناس ولا تستأكلوهم به فإنه سيأتي قوم من بعدي يقرءونه ويتفقهون به يسألون الناس لا خلاق لهم عند الله عز وجل)).
قوله: لا خلاق لهم: أي لا نصيب لهم في رحمة الله وثوابه.
وعن أبي سعيد عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم أنه قال: ((تعلموا القرآن واسألوا الله به الجنة قبل أن يتعلمه قوم يسألون به الدنيا، فإن القرآن يتعلمه ثلاثة نفر: رجل يباهي به، ورجل يستأكل به، ورجل يقرأه لله)) أخرجه أبو نصر والبيهقي في (الشعب)، ويشهد له ما رواه المرشد بالله في أماليه.
قال: أخبرنا محمد بن محمد بن عثمان البندار، قال: حدثنا أبو بكر أحمد بن جعفر القطيعي، قال: ثنا بشر بن موسى، قال: ثنا أبو عبد الرحمن عبد الله بن يزيد المقري، عن موسى بن أيوب الغافقي، قال: أخبرني عمي، قال: أخذ علي بن أبي طالب عليه السلام بيدي فقال: إنك إن بقيت سيقرأ القرآن ثلاثة: صنفٌ لله عز وجل، وصنف للجدال، وصنفٌ للدنيا، ومن طلب به أدرك.
وعن عمران بن الحصين، عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال: ((اقرءوا القرآن واسألوا الله به فإن من بعدكم قوماً يقرءون القرآن يسألون به الناس)) أخرجه أحمد والترمذي وقال حديث حسن ليس إسناده بذاك.
قيل: ومعنى السؤال: أن يدعو عند ختمه بالأدعيه المأثورة، أو أنه كلما قرأ آية رحمة سألها، أو آية عذاب تعوذ منها.
قلت: والظاهر أن معنى سؤال الله به أن يجعله وسيلة إلى نيل ما عند الله تعالى من رفيع المنزلة وتيسير الأرزاق ونحو ذالك.
وأمَّا سؤال الناس فهو أن يجعله وسيلة إلى حصول الرئاسة وانتشار الصيت في الناس، أو إلى نيل مافي أيديهم من الحطام، أو مجموع الأمرين، والتوسل على هذه الصفة يسمى سؤالاً؛ إذ معنى السؤال راجع إلى الطلب فيشمل الطلب بلسان الحال وبلسان المقال. والله أعلم.
وفي (أمالي المرشد بالله عليه السلام ) أخبرنا أبونصر إبراهيم بن محمد بن علي الكسائي بقراءتي عليه، قال: أخبرنا أبو بكر محمد بن أحمد بن حسن المعدل قراءة عليه، قال: أخبرنا أبو حعفر محمد بن علي بن مخلد بن يزيد الفرقدي الداركي بـ(دارك) سنة سبع وثلاثمائه، قال: حدثنا إسمعيل بن عمرو البجلي، قال: حدثنا يوسف بن عطية الوراق، قال: حدثنا مسلمة بن مالك الأزدي، عن أبي عتبة الحمصي، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم : ((من قرأ القرآن كان حقاً على الله عزوجل أن لايطعمه النار مالم يغل به ومالم يأكل به ومالم يراء به ومالم يدعه إلى غيره)).
وله عند المرشد بالله أيضاً طريق أخرى قال: أخبرنا أبوعمر المطهر بن محمد بن علي بن محمد العبدي الخطيب، قال: أخبرنا أبو سهل المرزبان بن محمد بن مرزبان، قال: حدثنا أبو حعفر محمد بن علي الفرقدي بالسند السابق إلا أنه قال: حدثنا سلمة بن مالك عن أبي عبيد الحمصي، وفي الأول مسلمة عن أبي عتبة الحمصي، ولفظ هذه الرواية: ((من قرأ القرآن كان حقاً على الله عزوجل أن لايطعمه النار مالم يغل فيه مالم يأكل فيه مالم يراء به، مالم يدعُ إلى غيره)).
قلت: والصواب أبو عتبة كما قال في التقريب، واسمه أحمد بن الفرج الحمصي المعروف بالحجازي.
قال الذهبي: هو وسط، ووثقه ابن أبي حاتم روى له المرشد بالله والسمان، هكذا في الجداول ذكر في الكنى أنه أبو عتبة، وفي الأسماء أنه أبو عبيد وقال في هامش التقريب: أبو عتبة الحجازي شيخ لمسعر وفيه جهالة، والحديث مرسل.
وفي (أمالي المرشد بالله أيضاً: أخبرنا أبو طاهر بن عبد الرحيم، قال: أخبرنا أبو محمد بن حبان، قال: أخبرنا ابن أبي عاصم، قال: حدثنا الحوطبي، قال: حدثنا ابن عياش، قال: حدثنا حبيب بن صالح، قال: سمعت ثابت بن أبي ثابت يحدث عن عبد الله بن معانق، عن عبد الرحمن بن غنم، عن أبي غانم الأشعري، قال: قال النبي صلى الله عليه وآله وسلم : ((إن أخوف ما أخاف على أمتي أن يكثر المال لهم فيتحاسدوا ويقتتلوا ويفتح لهم القرآن فيقرأه البر والفاجر والمنافق، فيجادلون به المؤمن ابتغاء الفتنة، و{وَابْتِغَاءَ تَأْوِيلِهِ وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلاَّ اللَّهُ وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ يَقُولُونَ آمَنَّا بِهِ}[آل عمران:7] والناس في القرآن ثلاثة: فرجل يقرؤه بلسانه ولا يسوغ به الحنجرة فهو له إصر وعذاب وعقاب، ورجلٌ يقرأه فخراً ورياء ليأكل به في دنياه فليس له منه يوم القيامة شيء، ورجل يأخذه بسكينة ووقار فهو له حجةٌ يوم يلقى ربه)).
قوله: إصر بكسر الهمزة أي: ذنب.
وقال المرشد بالله: أخبرنا القاضي أبو القاسم التنوخي، قال: حدثنا علي بن محمد بن سعيد الرزاز، قال: أخبرنا جعفر بن محمد الغريابي، قال: حدثنا أبو عبد الله محمد بن مصطفى، قال: حدثنا عثمان بن سعيد، عن ابن لهيعة، عن بكر بن سوادة، عن سهل بن سعد، عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال: ((يأتي قوم يقرأون القرآن يقومونه كما يقام السهم لا يجاوز تراقيهم يتعجلون أجره ولا يتأجلون)) وهو في سنن أبي داود.
قال: حدثنا أحمد بن صالح، ثنا عبد الله بن وهب، أخبرني عمرو وابن لهيعة، عن بكر بن سوادة، عن وفاء بن شريح الصدفي، عن سهل بن سعد الساعدي، قال: خرج علينا رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يوماً ونحن نقترئ فقال: ((الحمد لله كتاب الله واحد وفيكم الأحمر وفيكم الأبيض، وفيكم الأسود اقرءوه قبل أن يقرأه أقوام يقيمونه كما يقوم السهم يتعجل أجره ولا يتأجله)).
أما التنوخي فهو من علماء العدل، ومشاهير علماء الأمة.
وأمَّا علي بن محمد الرزاز فهو: أبو الحسن الكوفي، ذكر في (الجداول) روايته عن جعفر الفريابي، وعنه التنوخي وعبد الله بن محمد قرعة.
وأمَّا الفريابي فهو: جعفر بن محمد بن حسن المستفاض التركي أبو بكر العلامة الفريابي، وثقه الخطيب والذهبي، توفي سنة إحدى وثلاثمائة، روى له أبو طالب والمرشد والنرسي.
وأما محمد فهو: ابن مصفى بن بهلول القرشي أبو عبد الله الحمصي، وثقه الذهبي.
وقال أبو حاتم: صدوق، وقال النسائي: صالح، وقال في (التقريب): صدوق له أوهام، وكان يدلس، وقال في هامشه: حافظ، توفي سنة ست وأربعين ومائتين، احتج به أبو داود، والنسائي، وابن ماجة، وروى له المرشد بالله ووالده.
وأما عثمان فهو: ابن سعيد بن كثير بن دينار القرشي الحمصي، أبو عمرو، وثقه أحمد وابن معين، وقال في (التقريب): ثقة عابد، مات سنة تسع ومائتين، احتج به الأربعة إلا الترمذي، وروى له المرشد بالله، ولم يذكر في (الجداول) من رجال المرشد بالله ممن له هذا الاسم إلا هذا.
وأما بكر فهو: ابن سوادة الجذامي المصري أبو ثمامة، وثقه ابن معين، والنسائي، وابن سعد، وابن حجر، توفي سنت ثمان وعشرين ومائة، احتج به مسلم، والأربعة، والبخاري تعليقاً.
وروى له أبو طالب والموفق بالله، والمرادي.
نعم وظاهر رواية المرشد بالله أنه سمع من سهل بن سعد، وقدذ كر في (الجداول) روايته عن سعد، وذلك ممكن لأن وفاة سعد إنما كانت سنة ثمان وثمانين، وقيل: سنة إحدى وتسعين.
وأما أحمد بن صالح شيخ أبي داود فهو: ابن الطبري، وذكر في (الجداول) رواية أن أبا داود والبخاري ممن أخذا عنه، ووثقه أحمد ويحيى، وابن المديني وجماعة منهم البخاري.
وقال في (التقريب): ثقة حافظ تكلم فيه النسائي بسبب أوهام له قليلة، ونقل عن ابن معين تكذيبه، وجزم ابن حبان بأنه إنما تكلم في أحمد بن صالح الشموني فظن النسائي أنه عني ابن الطبري، وقال في هامشه: هو أجلّ من أن يتكلم فيه حتى قال الذهبي: قد آذى النسائي نفسه بكلامه فيه البخاري ومسلم، مات سنة ثمان وأربعين ومائتين.
احتج به البخاري ومسلم، وأبو داود، والترمذي، وروى له الأخوان.
وأما ابن لَهِيْعَة فقد مر الكلام على توثيقه وثبوت عدالته.
وأما عمرو بن الحارث بن يعقوب الأنصاري وثقه ابن معين وغيره، مات سنة ثمان وأربعين ومائة، احتج به الجماعة، وروى له الأخوان والمرشد بالله.
وأما وفاء بفاءٍ ومد فهو: ابن شريح الحضرمي المصري.
قال في (التقريب): مقبول.
وفي (سنن أبي داود) أيضاً: حدثنا وهب بن بقية، أنا خالد عن حميد الأعرج، عن محمد بن المنكدر، عن جابر بن عبد الله قال: خرج علينا رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ونحن نقرأ القرآن وفينا الأعرابي والعجمي فقال: ((اقرءوا فكل حسن وسيجيئ أقوامٌ يقيمونه كما يقام القدح يتعجلونه ولا يتأجلوا له)).
أما وهب فهو: ابن بقية بن عثمان الواسطي، أخذ عنه مسلم، وأبو داود، والنسائي وغيرهم، وثقه أبو زرعة والخطيب وابن معين، وابن حجر، وقال: يقال له وهبان، مات سنة تسع وثلاثين ومائتين، روى له في (المناقب).
وأما خالد فهو: ابن عبد الله[..........]
وأما حميد فهو: ابن قيس المكي الأعرج أبو صفوان القاري.
قال في (التقريب): ليس به بأس، وفي هامشه عن (التنقيح) أنه ثقة، وقال ابن سعد: ثقة كثير الحديث، وقال أحمد في رواية: ليس بالقوي، احتج به الجماعة، مات سنة ثلاثين ومائة، وقيل: بعدها.
وفي (الجامع الصغير) عنه صلى الله عليه وآله وسلم : ((من قرأ القرآن يتأكل به الناس جاء يوم القيامة ووجهه عظم ليس عليه لحم)) ونسبه إلى البيهقي في (الشعب) من حديث بريدة، قال العزيزي: بإسناد ضعيف، ومعنى الحديث كما قال المناوي: إن من جعل القرآن وسيلة إلى حطام الدنيا جاء يوم القيامة على أقبح صورة حيث عكس وجعل أشرف الأشياء وأعزها واسطة إلى أرذل الأشياء وأحقرها.
وفي (الروض النضير) منسوباً إلى (جمع الجوامع) للسيوطي من رواية أبي نعيم، عن أبي هريرة: ((من أخذ على القرآن أجراً فذلك حضه من القرآن))، قال: ومن رواية أيضاً عن ابن عباس: ((من أخذ على القرآن أجراً فقد تعجل حسناته في الدنيا والقرآن يحاجه يوم القيامة)).
فهذه أدلة القائلين بتحريم أخذ العوض على تعليم القرآن وهي ظاهرة في ذلك، بل منها ما هو صريح لا يحتمل التأويل كما لا يخفى، احتج القائلون بالجواز بحديث الواهبة نفسها، وقد مر تخريجه وذكر طرقه، وبحديث الرقية وقد تقدم بعض طرقه في الفاتحة، ومنها ما أخرجه البخاري في صحيحه، قال: حدثنا أبو النعمان، قال: حدثنا أبو عوانة، عن أبي بشر، عن أبي المتوكل الناجي، عن أبي سعيد، قال: انطلق نفرٌ من أصحاب النبي صلى الله عليه وآله وسلم في سفرة سافروها حتى نزلوا على حي من أحياء العرب فاستضافوهم فأبوا أن يضيفوهم، فلدغ سيد ذلك الحي، فسعوا له بكل شيء لا ينفعه شيء، فقال بعضهم: لو أتيتم هؤلاء الرهط الذين نزلوا لعله أن يكون عند بعضهم شيء، فأتوهم، فقالوا: يا أيها الرهط إن سيدنا لدغ وسعينا له بكل شيء لا ينفعه، فهل عند أحدٍ منكم من شيء؟
فقال بعضهم: نعم والله إني لأرقي، ولكن والله قد استضفناكم فلم تضيفونا فما أنا براق لكم حتى تجعلوا لنا جعلاً، فصالحوهم على قطيع من غنم، فانطلق يتفل عليه ويقرأ الحمد لله رب العالمين فكأنما نشط من عقال، فانطلق يمشي وما به قلبة، قال: فأوفوهم جعلهم الذي صالحوهم عليه.
فقال بعضهم: أقسموا، فقال الذي رقى: لا تفعلوا حتى نأتي رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فنذكر له الذي كان فننظر ما ذا يأمرنا، فقدموا على رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فذكروا له فقال: ((وما يدريك أنها رقية؟ ثم قال: قد أصبتم أقسموا واضربوا لي معكم سهماً، فضحك رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم )).
قال البخاري وقال شعبة: حدثنا أبو بشر سمعت أبا المتوكل بهذا.
قوله: (وما به قلبة) بحركات أي علة، لأن الذي به الداء يقلب من جنب إلى جنب ليعلم موضع الداء منه.
وأبو النعمان هو: محمد بن الفضل السدوسي، وأبو عوانة هو: الوضاح بن عبد الله اليشكري.
وأما أبو بشر فهو: جعفر بن أبي وحشية واسمه: إياس اليشكري، وثقه أبوحاتم.
وقال في (الكاشف): صدوق احتج به الجماعة، وروى له المؤيد بالله، والمرشد بالله.
وأما أبو المتوكل فهو: علي بن داود، ويقال: ابن دُاؤد -بضم الدال بعدها واو بهمزة- الناجي -بالنون والجيم- البصري مشهور بكنيته.
قال في (التقريب): ثقة، مات سنة ثمان ومائة، وقيل: قبل ذلك، وأخرجه من طريقه مسلم، قال حدثنا يحيى بن يحيى التميمي، أخبرنا هشيم عن أبي بشر فذكر الحديث بمعناه، قال وحدثنا محمد بن بشار، وأبو بكر بن نافع كلاهما عن غندر بن محمد بن جعفر، عن شعبة عن أبي بشر هذا الاسناد، وقال في الحديث: فجعل يقرأ أم القرآن، ويجمع بزاقه ويتفل، فبرئ الرجل، وأخرجه من هذه الطريق البخاري إلا أنه لم يذكر ابن نافع.
وأخرجه أيضاً أبو داود، قال حدثنا مسدد، ثنا أبو عوانة بإسناد البخاري الأول.
وفي (صحيح مسلم): حدثنا أبو بكر بن أبي شيبة، حدثنا يزيد بن هارون، أخبرنا هشام بن حسان، عن محمد بن سيرين، عن أخيه معبد بن سيرين، عن أبي سعيد الخدري قال: نزلنا منزلاً فأتينا امرأة فقالت: إن سيد الحي سليم لُدِغ فهل فيكم من راقٍ؟ فقام معها رجل منا ما كنا نظنه يحسن رقية، فرقاه بفاتحة الكتاب فبرئ، فأعطوه غنماً وسقونا لبناً، فقلنا: أكنت تحسن رقية؟ فقال: ما رقيته إلا بفاتحة الكتاب.
قال: فقلت: لا تحركوها حتى نأتي النبي صلى الله عليه وآله وسلم فأتينا النبي صلى الله عليه وآله وسلم فذكرنا ذلك له، فقال: ((ما كان يدريه أنها رقية، أقسموا واضربوا لي معكم بسهم)) وأخرجه من هذه الطريق أبو داود.
أما معبد بن سيرين فقال ابن معين: يعرف وينكر، قال في (التقريب): ثقة.
ومنها ما رواه البخاري في الصحيح، قال حدثني سيدان بن مضارب أبومحمد الباهلي، حدثنا أبو معشر يوسف بن يزيد البراء، حدثني عبيد الله بن الأخنس أبو مالك، عن ابن أبي مليكة، عن ابن عباس أن نفراً من أصحاب النبي صلى الله عليه وآله وسلم مروا بماءٍ فيهم لديغ أو سليم فعرض لهم رجل من أهل الماء فقال: هل فيكم من راقٍ إن في الماء رجلاً لديغاً أو سليماً، فانطلق رجل منهم فقرأ بفاتحة الكتاب على شاء فبرئ، فجاء بالشاء إلى أصحابه فكرهوا ذلك، وقالوا: أخذت على كتاب الله أجراً، حتى قدموا المدينة فقالوا: يا رسول الله أخذ على كتاب الله أجراً، فقال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم : ((إن أحق ما أخذتم عليه أجراً كتاب الله)).
أما سيدان فهو بكسر السين المهملة ابن مضارب-بميم مضمومة وضاد معجمة ثم راء مهملة-.
قال أبو حاتم وابن حجر: صدوق، وقال القسطلاني: تكلموا فيه لكن قواه أبو حازم وغيره.
قلت: لعل وجه تكلمهم عليه كونه كوفياً، قيل: إنه يقال له البصري، ويقال له الكوفي.
وأما أبو معشر فهو: يوسف بن يزيد البراء -بفتح الموحدة والراء المشددة- فقال في (التقريب): صدوق وربما أخطأ، ووثقه المقدمي، وقال أبو حاتم: يكتب حديثه، وضعفه ابن معين.
وأما ابن الأخنس فوثقه أحمد وابن معين، وقال في (الفتح): وثقه الأئمة، وقال في (التقريب): صدوق، وقال ابن حبان: كان يخطئ.
وأما ابن أبي مليكة فهو: عبدالله بن عبد الله بن أبي مليكة واسمه زهير، وثقه أبو حاتم وأبو زرعة.
وقال في التقريب: ثقة فقيه ولاَّه ابن الزبير قضاء الطائف، احتج به الجماعة، وروى له أئمتنا الثلاثة والناصر، وفي (سنن البيهقي) أخبرنا أبو بكر بن الحارث الفقيه، ثنا أبو محمد بن حبان، ثنا أحمد بن جعفر الجمال، ثنا إدريس بن إبراهيم البزاز، ثنا وكيع، ثنا صدقة بن موسى الدقيقي،عن الوضين بن عطاء، قال: ثلاثة معلمون كانوا بالمدينة يعلمون الصبيان، وكان عمر بن الخطاب يرزق كل واحد منهم خمسة عشر درهماً كل شهر، قال: وكذلك رواه أبو بكر بن أبي شيبة، عن وكيع، وقد مر أن سعداً وعماراً أعطيا على القرآن أجراً.
فهذا ما احتج به القائلون بالجواز، وأساس حجتهم عموم قوله في حديث ابن عباس: ((إن أحق ما أخذتم عليه أجراً كتاب الله)).
قالوا: وأما ما احتج به الأولون فلا ينتهض للاحتجاج به على المنع.
أما الآية فلأنها واردة في بني إسرائيل، والاحتجاج بشرع من قبلنا فيه خلاف، ويجوز أن يكون المراد بها من قد تعين عليه التعليم، فأبى حتى يأخذ عليه أجراً، فإن لم يتعين فيجوز له أخذ الأجر بدليل السنة، هكذا أجاب بعض المحققين.
قال: وقد يتعين عليه إلا أنه ليس له ما ينفقه على نفسه وعياله فلا يجب عليه التعليم، وله أن يقبل على صنعته وحرفته، ويجب على الإمام أن يعين لإقامة الدين إعانته، وإلا فعلى المسلمين لفرض الصحابة لأبي بكر كفايته لما ترك حرفته لأجل القيام.
وأما الأحاديث فلأنها ضعيفة لا تقوى على معارضة ما في الصحيح، وبعضها أخص من الدعوى كحديث المنع من التأكل بالقرآن؛ إذ المنع من ذلك لا يتسلزم ما دفعه المتعلم بطيبة من نفسه.
ومنها ما ليس للاستدلال به مدخل في محل النزاع كحديث النهي عن السؤال بالقرآن، إذ السؤال به غير أخذ للأجرة عليه.
وأمَّا حديث أُبي وعبادة فواقعتان في عين لا يعلم المراد بهما؛ إذ يحتمل أنهما فعلا ذلك خالصاً لله، فكره لهما أخذ العوض عليه.
وأمَّا من علمه أنه لله ولأخذ العوض عليه فلا منع منه لحديث ابن عباس.
وأمَّا الآثار فلا حجة في فعل أحد ولا قوله غير النبي صلى الله عليه وآله وسلم .
أجاب الأولون عن ما احتج به هؤلاء فقالوا: أما حديث الواهبة نفسها فقد مر ما فيه من الاحتمالات والتأويلات، ومع ذلك فلا يبقى للاحتجاج به وجه، ولو صح الاحتجاج به في بابه فلا يصح الاحتجاج به هنا لخصوصه كما مر، وقد أوضحنا هنالك أنه يجوز تخصيص عموم أدلة تحريم أخذ العوض على القرآن بما إذ كان مهراً، ولا مانع من ذلك.
وأمَّا أحاديث الرقية فليست من التعليم في شيء، فنحن نقول بموجبها.
قال السيد [..........]-رحمه الله-: الظاهر من الأحاديث جواز أخذ الأجرة على نحو الرقية بكتاب لله للراقي، والمنع على المعلم أن يأخذ الأجرة على التعليم ليعمل بكل دليل في موضعه، ولا يجوز أن يهمل البعض، وبهذا قالت الحنفية فقالوا بالمنع على التعليم، وأجازوا الأخذ على الرقى، وذكره في (شرح الأزهار) للمذهب.
وأما احتجاجهم بحديث: ((إن أحق ما أخذتم عليه أجراً كتاب الله)) فقد أجيب عنهم بأجوبة:
منها: أن المراد بالأجر الثواب وهو ضعيف، فإن سياق القصة يأبى ذلك.
ومنها: أنه منسوخ بأحاديث المنع، ورد بأن النسخ لا يثبت بالاحتمال.
ومنها: أن المراد أحق ما أخذتم عليه أجراً من الرقية كتاب الله، وهذا هو الذي يشعر به السياق.
ومنها: أن الأجر هنا على عمومه فيشمل أخذ العوض على الرقية، والتعليم، والتلاوة، وتخصيص الأخذ على التعليم بالأحاديث المتقدمة المصرحة بالمنع منه، ويجوز ما عداه.
قال الشوكاني: وهذا أظهر وجوه الجمع، فينبغي المصير إليه.
وأما فعل عمر فلا حجة فيه على أنه وارد في الإعطاء من بيت المال، وليس من محل الخلاف، ولا ينبغي النزاع فيه؛ لأن بيت المال موضوع لمصالح المسلمين، ولا شك أن من المصالح العظيمة إعطاء من يقوم بالمصالح العامة من العلماء والمتعلمين والقراء وغيرهم، ومعلم القرآن من هذا القبيل، ويدل على ذلك ما رواه الإمام أبو طالب في (الأمالي) قال: أخبرنا أبو الحسين علي بن محمد النجري، أخبرنا أبو عبد الله الحسين بن علي بن الحسن بن علي بن عمر بن عمر بن علي بن الحسين بن علي" بمصر، قال: أخبرنا أحمد بن يحيى، قال حدثنا الحكم بن سليمان، قال حدثنا عمرو بن جميع، عن جويبر، عن الضحاك بن مزاحم، عن النزال بن سمرة، عن علي عليه السلام قال: قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم : ((من قرأ القرآن فله مائتا دينار من بيت المال فإن لم يعطها في الدنيا أُعطها في الآخرة)).
وفي (الجامع الصغير) عنه صلى الله عليه وآله وسلم : ((حامل كتاب الله له في بيت مال المسلمين في كل سنة مائتا دينار)) أخرجه الديلمي في (مسند الفردوس) عن سليك الغطفاني.
وقال ابن الجوزي: حديث موضوع.
هذا وأما قولهم إن الآية واردة في بني إسرائيل فيؤخذ جوابها من الكلام على مفرداتها وقد مر.
وأما قولهم يجوز أن يراد بها من قد تعين عليه ذلك...إلخ. فلا دليل على ذلك التفصيل، واستشهادهم بفعل الصحابة مع أبي بكر فإنما يصح للاحتجاج به على جواز الأخذ من بيت المال، وليس بمحل النزاع، وقد مر الكلام عليه.
وأما قولهم بضعف الأحاديث المفيدة للمنع فلا نسلم، وكيف يقال بضعف ما رواه أهل بيت التطهير، وقرناء التنزيل مع أن من أنصف علم أن مجموع ما ذكرناه من رواية الأئمة والمحدثين على كثرته مما تفيد المطلوب من التحريم، على أنا قد أوضحنا الكلام على رجال بعض تلك الأحاديث فوجدنا من وثقهم ومن ضعفهم، وكذلك وجدنا في رجال حديث البخاري من وثقهم ومن ضعفهم، وقد ذكرنا ذلك، فليس القدح بذلك الاختلاف فيما استدللنا به بأولى من القدح به في حديث ابن عباس.
وأما قولهم أن المنع للتأكل بالقرآن لا يستلزم المنع فيما دفعه المتعلم بطيبة من نفسه، فنقول: بل يمنعه إذ ليس المراد بالتأكل حقيقته، وإنما المراد أخذ العوض وقبول المال على تعليمه.
وأما قولهم إن النهي عن السؤال به غير أخذ الأجرة عليه فقد مر تحقيق معنى السؤال المراد في الأحاديث، مع أنا لا نخص المنع بما كان على جهة الأجرة، بل نجري مجراه ما أعطي بسبب التعليم بدليل حديث عبادة، وحديث أُبي في القوس والطعام، وعموم المنع من التأكل به.
وأما قولهم إن حديث عبادة وحديث أبي واقعتان في عين فمسلم، لكنا لا نسلم أنه لم يعرف المراد منهما، فإن الظاهر من السياق وترتيب إعلامهما بالوعيد على الأخذ ممن علماه القرآن يدل على أن العلة في منعها هو كونهما أخذ ممن تعلم منهما القرآن، وأنه أعطاهما لأجل تعليمهما وقد صرح بذلك في إباحة الأكل من الطعام الذي يظهر أن المتعلم لم يعده لأُبي بن كعب، سلمنا، فسائر الأدلة تفيد أن علة التحريم التعليم.
وأما قولهم إنه لا حجة في الآثار فمسلم لكنها إذا قرنت بمثل هذه الأخبار أفادت بيان المجملات، ودفع الاحتمالات، على أن فيها ما يدل على أن ذلك إجماع الصحابة كما في رواية عبد الله بن شقيق، وقد مر في مسألة بيع المصاحف أن كثيراً من السلف من الصحابة وغيرهم كانوا يكرهون أن يأخذوا لكتاب الله ثمناً.
إذا عرفت هذا فالأولى أن يقال العمل بالدليلين هو الواجب مهما أمكن، وهاهنا الجمع ممكن بلا كلفة بأن تحمل الآية وما في معناها على تحريم أخذ العوض على كل أمر واجب يتعلق بالقرآن من تعليمه، وتبليغ أحكامه المستنبطة منه؛ لأن الواجب منه يجب تبليغه لوجهه، أو محظور كالتحريف والتبديل والكتم لأحكامه ونحو ذلك مما يتعلق به من هذين النوعين، لأن الأخذ على أحد هذين الوجهين يكون من أكل أموال الناس بالباطل، ويحمل حديث ابن عباس وما في معناه، كأحاديث الرقية على جواز أخذ العوض على ما يصح تعلقه بالقرآن من الأمور التي ليست بواجبة ولا محظورة كالرقية والتلاوة ونحوهما مما يمكن تعلقه به على هذا الوجه، ويدخل في ذلك كتابته بالأجرة، وهذا جمع حسن يقتضيه العقل والشرع.
أما العقل: فلأنه لا قبح في أخذ العوض على ما هذا حاله.
وأما الشرع: فلأنا لم نجد فيه منعاً من أخذ العوض على ما ليس بواجب ولا محظور يعلم ذلك من ضرورته مع ما فيه من الجمع، وعدم الإهمال، واعتبار عموم لفظ الحديث وهو أولى من قصره على سببه الذي هو الرقية، وكون سبب الحديثمما لا يتصف بالوجوب مما يؤيد هذا الجمع. والله الموفق.
تنبيه [جواز أخذ العوض على تعليم القرآن]
قد مر في أثناء المسألة ما يدل على أنه يجوز أخذ العوض على تعليم القرآن وقراءته ونحوهما من بيت المال وهو الظاهر؛ لأنه موضوع لمصالح المسلمين، ومن قام بمصلحة من مصالحهم كان حظه عليها ثابتاً، يؤيده أن أمير المؤمنين كان يأخذ كفايته من بيت المال كما يدل عليه قوله: إن للوالي قصعتان من بيت المال، قصعة له ولعياله، وقصعة لنائبته، هذا معنى الرواية.
وكان القيام بأمر الأمة متعين عليه، وسيأتي أنه عليه السلام كان يرزق القضاة من بيت المال، والقضاء واجب، ومن تتبع جزئيات عمل السلف وتبعهم الخلف في جميع أمصار المسلمين علم علماً ثابتاً قاطعاً أنهم لا يتحاشون، ولا يتورعون من الأخذ من بيت المال بسببب اشتغالهم ببعض مصالح المسلمين، وإن كانت تلك المصلحة من الواحبات، ولو كان ثمة إنكار أو ترك لنقل، وما نقل من بعضهم من عدم القبول من السلطان فإنما هو لفساد الملوك وضمهم إلى بيت المال ما ليس منه، حتى اختلط الحلال بالحرام، والتبس الحق بالباطل.
تنبيه [اقتضاء أدلة تحريم أخذ الأجرة على تعليم القرآن]
ظاهر الأدلة السابقة القاضية بتحريم أخذ الأجرة على تعليم القرآن أنه لا فرق بين الصغير والكبير، ورواية عبد الله بن شقيق نص في كراهة أخذ الأجرة على تعليم الصغير، فإن صح الإجماع المذكور في أول المسألة على الجواز على تعليم الصغير فهو مخصص للأدلة، وصارف للكراهة المروية عن الصحابة إلى التنزيه، لكن الظاهر من نقل الخلاف عدم الفرق بين الصغير والكبير إلا عند الهدوية.
قال الشوكاني بعد أن ذكر جماعة من القائلين بالتحريم: وظاهره عدم الفرق بين أخذها على تعليم من كان صغيراً أو كبيراً.
وقالت الهادوية: إنما يحرم أخذها على تعليم الكبير لأجل وجوب تعليمه القدر الواجب، وهو غير متعين، ولا تحرم على تعليم الصغير لعدم الوجوب عليه.
نعم أما لو كانت الإجارة على تعليم الخط والهجاء فروى أبو مضر الإجماع على ذلك، ويدل عليه ما رواه البيهقي في (السنن) قال: أخبرنا أبو بكر محمد بن محمد بن أحمد بن رجاء الأديب، ثنا أبو محمد يحيى بن منصور القاضي، ثنا محمد بن موسى الحلواني أبو جعفر، ثنا موسى بن خاقان، وفضل بن عمران الأعرج قالا: ثنا علي بن عاصم، قال: أخبرني داود بن أبي هند، عن عكرمة، عن ابن عباس قال: لم يكن لأناس من أسارى بدر فداء فجعل رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فداءهم أن يعلموا أولاد الأنصار الكتابة، فجاء غلام من الأنصار يبكي يوماً إلى أبيه فقال له أبوه: ما شأنك؟ قال: ضربني معلمي.
قال: الخبيث يطلب بذحل بدر والله لا تأتيه أبداً، قوله بدخل.
تنبيه [في بيان المذهب في أخذ الأجرة]
تقدمت الإشارة إلى جواز أخذ الأجرة على تلاوة القرآن وهو نص أهل المذهب.
قال في (شرح الأزهار): وأما أخذ الأجرة على قراءة القرآن على قبور الموتى أو على غير قبورهم فجائز، كما قال أهل المذهب في جواز أخذ الأجرة على الرقية، لأنها ليست واجبة على الراقي.
وبه قالت: [الشافعية] وحكى السيد محمد بن إسماعيل الأمير جواز أخذ الأجرة على التلاوة عن القائلين بجواز الأخذ على التعليم وهو الظاهر، لأنهم إذا أجازوا على التعليم وهو واجب فبالأولى أن يجيزوا على ما ليس بواجب.
وأما غيرهم فالقائلون بالجواز من ذكر، ولم أقف على خلاف فيه لأحدٍ، إلا عن الشيخ العلامة محمد بن حيوة السندي فإنه نص على المنع من أخذ الأجرة على تلاوة القرآن، ويؤخذ هذا القول لعمر بن الخطاب من كراهته لاعطاء عمار الذين قرءوا القرآن في رمضان وإنكاره قول سعد: من قرأ القرآن ألحقته على ألفين، وقد مر ذلك في أول المسألة، لنا وجوه:
أحدها: أن الأصل ثبوت الإجارة في شرعنا وشرع من قبلنا على الأفعال، كما حكى الله تعالى من تأجير شعيب لموسى عليه السلام ، وصح استئجاره صلى الله عليه وآله وسلم دليلاً في سفره من مكة مهاجراً، وثبتت الإجارة على الأقوال كما في حديث الرقية، وثبتت الإجارة في الخصومات وغيرها، وبالجملة إن جواز الإجارة معلوم من الدين ما لم يرد منع شرعي، بلى فرق بين الأقوال والأفعال، والتأجير على تلاوة القرآن داخل تحت هذا الأصل، ولم يرد فيه منع خاص، بل جاءت السنة بتقريره وهو حديث ابن عباس فإنه دال بعمومه على جواز أخذ الأجرة على تعليم كتاب الله وتلاوته والرقية به ونحو ذلك، ويخص أخذها على ما كان واجباً أو محظوراً من الأمور المتعلقة به كالتعليم بالأدلة السابقة كما مر، ويبقى ما لم يكن كذلك داخلاً تحت العموم.
الوجه الثاني: أنه قد صح التأجير على الرقية، وذلك في المعنى تأجير على التلاوة؛ إذ الرقية بالقرآن، إنما تكون بالتلاوة، وأيضاً التأجير على التلاوة إنما هو كهذه الأوقاف على قراء القرآن والعلماء والمتعلمين في جميع الأمصار، وهو شيءٌ مجمع عليه بين أهل المذاهب من زيدي وحنفي، وشافعي ومالكي وغيرهم، ويعدونه من القرآن، ويحثون عليه، ويرافعون من منع شيئاً من ذلك إلى ولاة الأمر من أئمة أهل البيت وغيرهم، فيلزمون من ثبت عليه شيء من ذلك بتسليمه إلى أهله، فلوحرمت الأجرة على التلاوة لحرم هذا، إذ هو من أخذ العوض على تلاوة القرآن، وتعلم العلم وتعليمه.
الوجه الثالث: أن التلاوة على نية المؤجر، ومطابقة قصده غير واجبة ولا محظورة، فيجب أن يجوز أخذ العوض عليها كسائر الأمور التي تفعل مطابقة لمراد الغير.
الوجه الرابع: أن التالي بالأجرة كالغازي في سبيل الله يريد الجهاد لتكون كلمة الله هي العليا، ولينال قسطاً من الغنيمة، كما قال أمير المؤمنين عليه السلام لما خلفه النبي صلى الله عليه وآله وسلم في غزوة تبوك (يانبي الله والله ما أملك شيئاً وما عندي شيء ومالي غنى ...... مع المسلمين فأعود به على وئام أهل بيتك) وقد شبه صلى الله عليه وآله وسلم ذلك بأم موسى ترضع ولدها وتأخذ أجرها، وقد أجمع العلماء على جواز الجمع بين الحج والتجارة، وأنزل الله في ذلك: {لَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَنْ تَبْتَغُوا فَضْلاً مِنْ رَبِّكُمْ}[البقرة:198].
احتج الشيخ محمد فيما مر من الأحاديث الدالة على منع التأكل بالقرآن، والسؤال به.
قلنا: قد مر أن ذلك محمول على ما إذا كان التأكل به، والسؤال به في مقابلة أمرٍ واجب أومحظور يتعلق بالقرآن كالتعليم والتحريف، وقد قررنا ذلك فيما مر بما لا مزيد عليه.
وقال السيد محمد بن إسماعيل الأمير-رحمه الله-: قد بين لنا صلى الله عليه وآله وسلم أن أخذ الأجرة عليه جائزة، وأن أحق ما أُخذ عليه أجراً كتاب الله، وجعل تعليم آيات منه صداقاً، فلابد أن يراد بالتأكل به غير هذه الأنواع الجائزة التي من جملتها التأجر على تلاوته، ونظرنا فيمن تُصُدِّقَ عليه أنه متأكل بالقرآن، فإذا هم الذين يحرفونه، ويقلبون معانيه كالخوارج لصدق قوله: يقيمونه كما يقام السهم عليهم، وقد وصف الخوارج بذلك، وبأن أصحابه يحقرون قراءتهم عند قراءتهم، وأخبر أنهم يمرقون من الدين كما يمرق السهم من الرمية، وقد حرفوا كلام الله، وأراقوا دماء المسلمين، وكفروا به خير خلق الله في زمانهم بإجماع المسلمين وهو أمير المؤمنين علي بن أبي طالب عليه السلام ، ومثلهم الباطنية حرفوا كلام الله، وجعلوا له باطناً وظاهراً، وتأكلوا به، وكذلك طوائف الرافضة والصوفية، هذا حاصل كلامه.
قال: ولا يخفى أن لأهل المذهب المتعصبين قسطاً وافراً من هذا التحريف يعرفه من قلع غرس التمذهب عن أرض قلبه، واستبدل السنة والكتاب من قال أهل مذهبنا والأصحاب، وذكر أن تأكل هذه الفرق به معلوم، فإنه بسبب تحريفهم معانيه قالوا عند أتباعهم رئاسة، وحصلوا منهم أموالاً عديدة، وهذا لا ينكره أحد.
قال: فمن تلا كتاب الله مريداً به وجه الله وأخذ الأجرة على تفريغ ساعاته للتلاوة، ووهب أجر تلاوته لعبد من عباد الله لا يُعد ممن تأكل بكلام الله، ولا يقول هذا من له أدنى إلمام بالمعارف العلمية بعد إقرار الرسول صلى الله عليه وآله وسلم لأخذ الأجرة على الرقية بالقرآن، وجعل تعليمه مهراً.
قلت: وهو كلام حسن إلا أنه قصر المنع على الصورة المحظورة التي هي التحريف ونحوه، لجزمه بضعف حديث عبادة في التعليم، والأولى ما قدمناه من أن المنع يتناول أخذ الأجرة على الأمور المحظورة المتعلقة بالقرآن كما ذكره، وعلى ما يتعلق به من الأمور الواجبة، لما قد قدمنا من الأدلة، والعجب من السيد-رحمه الله- حيث لم يرفع نظره إلى ما رواه أئمة أهله كزيد بن علي، والهادي عليهما السَّلام فالله المستعان.
فإن قيل: التأجير على التلاوة من الإيثار بالقرب، وقد كره السلف ذلك، فكرهوا أن يؤثر الإنسان غيره بمكانه في الصف الأول من صفوف الصلاة.
قيل: لا نسلم الكراهة للعلم الضروري بحسن الدعاء للوالدين والمؤمنين، وهو من التأثير بالقرب، وقد جاء في الحث على الدعاء للغائب ما هو ظاهر لا يخفى، وجرى على ذلك سلف الأمة وخلفها، فإنهم بلا ريب يدعون للمسلمين كافة، ومن أوضح الأدلة ما ورد في صلاة الجنازة من الدعاء للميت، وما حكاه الله عن الملائكة من قولهم: {رَبَّنَا وَسِعْتَ كُلَّ شَيْءٍ رَحْمَةً وَعِلْماً فَاغْفِرْ لِلَّذِينَ تَابُوا}...الآية[غافر:7].
وما ورد من الترغيب في الصلاة على نبينا صلى الله عليه وآله وسلم ، وأن من صلى عليه واحدة صلى الله عليه بها عشراً.
وفي كتاب (الذكر) لمحمد بن منصور المرادي: حدثنا محمد، قال: حدثنا هناد، قال: ثنا قبيصة بن سفيان، عن عبد الله بن محمد بن عقيل، عن الطفيل بن أُبي بن كعب، عن أُبي بن كعب قال: كان رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم إذا ذهب ثلث الليل قام فقال: ((يا أيها الناس اذكروا الله جاءت الراجفة تتبعها الرادفة، جاءت الموت بما فيه جاءت الموت بما فيه)).
قال أُبي: قلت: يا رسول الله إني أكثر الصلاة عليك فكم أجعل لك من صلاتي؟ قال: ((ماشئت)). قلت: الربع. قال: ((ما شئت، فإذا زدت فهو خير لك)).قلت: النصف.قال: ((ما شئت، فإذا زدت فهو خير لك)).قلت: أجعل لك صلاتي كلها.قال: ((إذاً تكفى همك، ويغفر ذنبك)).
قيل لأبي جعفر محمد بن علي: كيف يجعل له صلاته؟
قال: إذا افتتح الدعاء فصلى على النبي صلى الله عليه وآله وسلم ، والحديث أخرجه أحمد، والترمذي، والحاكم وصححه، وقال الترمذي: حسن صحيح.
فلو كان التأثير بهم بالقرب مكروهاً ما قرر النبي صلى الله عليه وآله وسلم أُبي بن كعب على ذلك، على أن المؤثر ينال بسبب التأثير من الثواب والأجر العظيم، ونيل مطلوبه أعظم من ما آثر به كما يدل عليه حديث أُبي وغيره.
والمراد بالصلاة: أن المؤثر بها في حديث أُبي الدعاء كما يُفهم من الحديث، ومن تفسير أبي جعفر عليه السلام ، وقيل: بل المراد بها ذات الأذكار والأركان ترجيحاً للحقيقة الشرعية على اللغوية، وهو بعيد، وأيهما كان فهو من التأثير بالقرب، فإن قيل: جعل الأجير ثواب تلاوته للغير زهد في الثواب، قيل: لو كان ذلك زهداً في الثواب لنبه النبي صلى الله عليه وآله وسلم من أخذ الأجرة على الرقية، ولأعلمه بما هو الأولى في حقه، وإلاَّ وجب على أن الزهد في الثواب إذا لم يكن على جهة الاستخفاف لا يقتضي تحريم الأجرة، غاية الأجرة أن يكون الترك أولى وليس بمحل النزاع، ولا يبعد أن يكون ثواب التكسب على النفس والعيال من هذا الوجه الحلال مساوياً لثواب التلاوة أو أكثر منه، لما ورد في فضل التكسب من الحلال فيما يعود به على النفس والعيال.
وقال السيد محمد بن إسماعيل الأمير ما معناه: ولا يبعد أن يكون الأجير والمستأجر داخلين تحت قوله تعالى: {وَتَعَاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوَى}[المائدة:2] إذ الأجير أعان أخاه بما أهداه من ثواب تلاوته، والمستأجر أعانه بالأجرة، والثواب حق للأجير فله أن يهبه لمن يشاء من إخوانه، كما أن له أن يسقط حقه اللازم من جناية أو دين، ويعوضه الله خيراً منه، كما قال تعالى: {فَمَنْ عَفَا وَأَصْلَحَ فَأَجْرُهُ عَلَى اللَّهِ}[الشورى:40] وقد ثبت أن الله في عون العبد ما كان العبد في عون أخيه، فإذا كان الله في عون العبد وهو الذي يكافيه على أعماله فماذا يخاف، وقد ثبت أنه إذا دعا العبد لأخيه بظهر الغيب قال له ملك: ولك مثل ذلك، ولا يقوله الملك إلا عن أمر الله، ودعاء الملك مجاب.
قال: ومن هنا أقول إن دعاء العبد لأخيه بظهر الغيب أفضل من دعائه لنفسه، لأنه يعطى ما سأله لأخيه، لأنه يسأله الملك.
المسألة الرابعة [أخذ الأجرة على تعليم العلم]
في الآية دليل على تحريم أخذ الأجرة على تعليم العلم، ووجه الاستدلال بها يعلم مما مر، وهذا هو المصحح للمذهب.
ففي (شرح الأزهار) قال أبو مضر والإمام يحيى، والفقيه محمد بن يحيى: لا يجوز الاستجئار على سائر العلوم الدينية أبو مضر، ويلزم من تجويز أبي عباس إجارة الكتب أن يجوز.
قلت: لأن مذهب أبي عباس أنه يجوز استئجار سائر الكتب سوى المصاحف للقراءة فيها، ومنع من إجارة المصحف.
وروى هذا عنه القاضي زيد، وهو المصحح للمذهب-أعني أنه يجوز التأجير في الكتب دون المصاحف-.
وقال المنصور بالله وأبو مضر: لا يجوز في الجميع.
واعلم: أنه قد تقدم في المسألة التي قبل هذه، وفي التي قبلها ذكر الخلاف في المسألة-أعني مسألة أخذ الأجرة على تعليم العلم وكتابته بالأجرة وتأجير كتبه.
وممن نص على جواز أخذ الأجرة على تعليم العلم وكتابته بالأجرة: ابن حزم.
وقال في (شرح الإبانة): ويجوز للرجل أن يستأجر كتاباً فيه كلام أو فقه، أو لغة، أو شعر ليقرأ فيه عند أصحابنا، والشافعي خلاف أبي حنيفة.
والحجة على منع أخذ الأجرة على تعليم العلوم الدينية الآية كما قدمنا، وكل ما تقدم من الأدلة على تحريم الأجرة على تعليم القرآن، يدل على ذلك، لأن القرآن هو العلم الحقيقي، ومنه تؤخذ سائر العلوم الدينية التي يجب تبليغها وتعليمها، ولهذا جاء في الحديث في وصفه ((وحكم ما بينكم وهو الفصل ليس بالهزل)) وجاء فيه أنه لا تشبع منه العلماء، وأنه يدل على خير سبيل، وأنه الدليل على المعرفة، وكل هذا قد تضمنته أحاديث قد تقدمت.
ومن كلام علي عليه السلام في وصفه: فهو معدن الإيمان وبحبوحته، وينابيع العلم وبحوره، رواه في (النهج)، وكونه العلم الحقيقي، والأصل الذي يؤخذ منه كل علم نافع أمر معلوم، لا يشك فيه إلا جاهل ظلوم، وإذا كان كذلك وجب أن يكون حكم سائر العلوم الدينية حكمه في تحريم أخذ الأجرة على تعليمه؛ ولأن تبليغ العلم واجب فمن أخذ عليه شيئاً فهو من الآكلين لأموال الغير بالباطل، ولأن الإخلاص شرط، ومن أخذ الأجرة غير مخلص، وكون تبليغ العلوم الشرعية واجب فهو معلوم، وسيأتي الاستدلال على وجوب تبليغه وتحريم كتمانه إن شاء الله.
ومن الأدلة على تحريم الأجرة على تعليم العلم ما رواه أبو طالب في أماليه قال: أخبرنا أبي -رحمه الله-، قال: أخبرنا محمد بن الحسن بن أحمد بن الوليد، قال: حدثنا محمد بن الحسن الصفار، عن أحمد بن أبي عبيد الله، عن أبيه، عن حماد بن عيسى، عن عمر بن أُذينة، عن أبان ابن أبي عياش، عن سليمان بن قيس الهلالي قال: سمعت أمير المؤمنين علي بن أبي طالب عليه السلام يحدث عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قال: ((منهومان لا يشبعان: منهوم دنيا، ومنهوم علم، ومن اقتصر من الدنيا على ما أحل الله له سلم، ومن تناولها من غير حلها هلك إلا أن يتوب ويرجع، ومن أخذ العلم عن أهله وحملته نجا، ومن أراد به الدنيا فهي حظه منها، والعلماء رجلان: آخذ بعلمه فهذا ناجٍ، وعالم تارك لعلمه فهذا هالك، وإن أهل النار ليتأذون من ريح العالم التارك لعلمه، وإن أشد الناس ندامة وحسرة رجل دعا عبداً إلى الله سبحانه فاستجاب له وأطاع الله فأدخله الجنة وأدخل الداعي النار بترك علمه واتباعه هواه)).وله عند أبي طالب عليه السلام طريق أخرى. قال: أخبرنا أبي -رحمه الله- قال: أخبرنا أبو القاسم حمزة بن أبي القاسم العلوي العباسي، قال: أخبرنا محمد بن أبي القاسم، قال: أخبرنا أحمد بن أبي عبد الله البرقي فذكره إلى آخره باختلاف يسير في المتن، وفيه: من أخذ العلم عن أهله وعمل به نجا.
أما أحمد بن أبي عبد الله فقال في (الجداول): أحمد بن أبي عبد الله البرقي، عن علي بن الحكم، والحسن بن محبوب، والحسن بن يزيد النوفلي، وبشر بن عبد الله، وبكر بن صالح، والقاسم بن يحيى، وعنه محمد بن الحسن الصفار، وفي موضع من الأمالي أحمد بن عبد الله البرقي، عن جده أحمد بن محمد، وفي موضع منها أحمد بن محمد بن عيسى، عن محمد بن خالد البرقي، وفي موضع عن الحسن بن محبوب، وفي موضع أحمد بن محمد بن خالد البرقي، عن الحسن بن فضالة، وعن الجميع محمد بن الحسن الصفار قال: والنسبة إلى برقة قرية بـ(قم)، وأهل (قم) كلهم شيعة.
قلت: قد ترجم لبعض هؤلاء في (الجداول) فقال: أحمد بن عبد الله بن عبد الرحيم البرقي، وذكر أنه روى عن جده، وحماد بن عيسى وغيرهما.
قال في (التذكرة): كان من الحُفاظ المتقنين، وهو من رجال أبي طالب والمرشد بالله.
وقال أحمد بن محمد بن عيسى: أبو جعفر القمي، عن حسين بن سعيد وغيره، وعنه سعيد بن عبد الله، ومحمد بن الحسن الصفار.
قال الذهبي: العلامة أبو جعفر شيخ الرافضة بقم، له تصانيف وشهرة، كان في حدود الثلاث مائة.
وقال فيها أيضاً: أحمد بن محمد بن خالد البرقي، عن أبيه وعن علي بن نعمان، ويحيى بن يزيد النوفلي، وعنه حفيده أحمد بن أبي عبد الله البرقي، ومحمد بن عبد الله بن يحيى.
قال ابن حجر: عالم الشيعة، له تصانيف في الرفض.
وقال الذهبي: من كبار الرافضة، وذكر في (الجداول) أيضاً: محمد بن خالد البرقي، وأنه روى عن محمد بن أحمد بن أبي نصر، والحسين بن زيد بن علي، وعنه أحمد بن محمد الأشعري وولده أحمد بن محمد، وذكره في (الإكمال).
وأما حماد فهو: ابن عيسى بن عبيدة الجهني، روى عن الصادق وغيره.
قال ابن معين: شيخ صالح غرق بالجحفة سنة ثمان ومائتين، احتج به الترمذي وابن ماجة، وروى له أبو طالب والمرادي، وضعفه أبو حاتم، وابن حجر.
وروى الموفق بالله عليه السلام في (سلوة العارفين) عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم : ((من تعلم علماً مما يبغى به وجه الله لا تعلمه إلا ليصيب عرضاً من الدنيا لم يجد عرف الجنة-يعني ريحها-)) ورواه الغزالي في (الإحياء) ولفظه: عن أبي هريرة، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم : ((من طلب علماً مما يبتغي به وجه الله تعالى ليصيب به عرضاً من الدنيا لم يجد عرف الجنة يوم القيامة)) ونسبه العراقي في (التخريج) إلى أبي داود وابن ماجة، قال: بإسناد جيد.
وأخرج الترمذي من حديث ابن عمر مرفوعاً: ((من تعلم علماً لغير الله أو أراد به غير الله فليتبوأ مقعده من النار)).
وروى الموفق بالله عليه السلام في (السلوة) عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم : ((لا تطلبوا العلم لثلاث خصال: لتباهوا به العلماء ولا لتباهوا به السفهاء ولا لتصرفوا وجوه الناس إليكم فمن فعل ذلك فهو في النار، تعلموا لله والدار الآخرة)) ورواه في (الإحياء) بلفظ: ((لا تتعلموا العلم لتباهوا به العلماء ولتماروا به السفهاء ولتصرفوا به وجوه الناس إليكم فمن فعل ذلك فهو في النار)).نسبه العراقي في (التخريج) إلى ابن ماجة من حديث جابر، قال: بإسناد صحيح.
وفي (الجامع الصغير) من حديث كعب بن مالك مرفوعاً: ((من طلب العلم ليجاري به العلماء وليماري به السفهاء أو يصرف وجوه الناس إليه أدخله الله النار)) وعزاه إلى الترمذي.
والمباهاة والمجاراة: بمعنى واحد هنا يجري معهم في المناظرة ليظهر علمه رياء وسمعة، والمماراة: المحاججة والمجادلة، ومعنى صرفه وجوه الناس إليه: أن يطلبهُ بنية تحصيل المال والجاه وصرف وجوه العوام إليه.
وفي (أمالي المرشد بالله): أخبرنا أبو بكر محمد بن عبد الله بن أحمد بن ريذة، قال: أخبرنا سليمان بن أحمد الطبراني، قال: حدثنا الحضرمي عن محمود بن غيلان، قال: حدثنا نصر بن خالد النحوي، قال: حدثنا هداب، عن إبراهيم بن الضريس، عن الهيثم عن الجارود، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم : ((من طلب الدنيا بعمل الآخرة طمس وجهه، ومحق ذكره، وأثبت اسمه في النار)).
قال المرشد بالله: الجارود بن عمرو المعلى العبدي يكنى أبا المنذر، وفي نسبه بين النساب خلاف، وله عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ثلاثة أحاديث.
قلت ذكر في (الجداول): أنه أسلم سنة تسع، ثم سكن (البصرة)، وروى عنه مطرق وابن سيرين وخلق، توفي سنة إحدى وعشرين.
وقال في (التقريب): صحابي جليل استشهد سنة إحدى وعشرين، وقد وصفه أمير المؤمنين بالصلاح، فقال في كتابه إلى ولده المنذر بن الجارود: أما بعد: فإن صلاح أبيك غرني منك. رواه في (النهج).
وأما الحضرمي فهو: محمد بن عبد الله الحضرمي أبو جعفر الكوفي مطين الحافظ، وثقه الذهبي والطبراني، توفي سنة سبع وتسعين ومائتين.
وأما محمود فهو: ابن غيلان العدوي، مولاهم أبو أحمد المروزي الحافظ، روى عنه الجماعة وغيرهم، إلا أبا داود، وثقه النسائي، وقال أحمد: صاحب سُنة، توفي سنة تسع وثلاثين ومائتين، روى له المرشد بالله ووالده.
وروى الغزالي في (الإحياء) عن الضحاك، عن ابن عباس، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم : ((علماء هذه الأمة رجلان: رجلٌ آتاه الله علماً فبذله للناس ولم يأخذ عليه طمعاً ولم يشتر به ثمناً فذلك تصلي عليه طير السماء وحيتان الماء، ودواب الأرض، والكرام الكاتبون، يقدم على الله عز وجل يوم القيامة سيداً شريفاً حتى يرافق المرسلين، ورجل آتاه الله علماً في الدنيا فضن به على عباد الله وأخذ عليه طمعاً واشترى به ثمناً فذلك يأتي يوم القيامة ملجماً بلجام من نار ينادي مناد على رؤوس الخلائق هذا فلان بن فلان آتاه الله علماً في الدينا فضن به على عباده وأخذ به طمعاً واشترى به ثمناً فيعذب حتى يفرغ من حساب الناس)) نسبه الغزالي في (التخريج) إلى الطبراني في (الأوسط)، وقال: باسناد ضعيف، قوله: ((فضن به)): أي بخل به.
وفي كتاب (جامع بيان العلم) لأبي عمر بن عبد البر، حدثنا أحمد بن محمد بن هشام، قال: حدثنا علي بن عمر بن موسى، قال: حدثنا الحسن بن عبد الله أبو أحمد، قال: حدثنا عبد الله بن أحمد بن موسى، قال: حدثنا يحيى بن المغيرة المخزومي، قال: حدثني أخي، عن أبيه، عن عثمان بن عبد الرحمن، عن ابن شهاب، عن أبي إدريس الخولاني، عن أبي الدرداء، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم : ((أنزل الله في بعض الكتب أو أوحى إلى بعض الأنبياء قل للذين يتفقهون لغير الدين ويتعلمون لغير العمل، ويطلبون الدنيا بعمل الآخرة يلبسون للناس مسوك الكباش وقلوبهم كقلوب الذئاب وألسنتهم أحلى من العسل وقلوبهم أمر من الصبر إياي يخادعون وبي يستهزءون لأُتيحنَّ لهم فتنة تذر الحليم فيهم حيراناً)) رواه الموفق بالله في (سلوة العارفين).
قال: أخبرني عبد الله بن أحمد بن موسى فذكره بسنده ومتنه إلا أنه قال: عن أبي إدريس قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ولم يذكر أبا الدرداء.
وفي (سلوة العارفين) للموفق بالله عليه السلام : أخبرني أبو الحسن علي بن أحمد، أخبرنا أبو أحمد عبد الله بن الحسن، حدثنا أبو وهب يحيى بن موسى بن إسحاق، حدثنا عثمان بن عمر بن مهران الأيلي، حدثنا قبيصة، حدثنا سفيان، عن أيوب عن أبي العالية، عن أُبي بن كعب، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم : ((بشر هذه الأمة بالسناء والرفعة في الدين والتمكن في البلاد مالم يعملوا عمل الآخرة للدنيا، ومن يعمل عمل الآخرة للدنيا لم يقبل منه وليس له في الآخرة من نصيب)) والحديث في (الجامع الصغير) بلفظ: ((بشر هذه الأمة بالسناء والدين والرفعة والنصر والتمكن في الأرض فمن عمل منهم عمل الآخرة للدنيا لم يكن له في الآخرة من نصيب)) ونسبه إلى أحمد وابن حبان والحاكم، والبيهقي في (الشعب) من حديث أُبي بن كعب.
قال العزيزي: ورجال أحمد رجال الصحيح، والسناء بالمد: الرفعة، وقوله: والدين أي: التمكن فيه، وقوله: والرفعة: أي في الدارين، والمراد بجعل عمل الآخرة للدنيا أن يجعل عمله الأخروي وسيلة إلى تحصيل الدنيا.
ومن كلام علي عليه السلام لكميل بن زياد: (إن هاهنا علماً جماً، وأشار بيده إلى صدره لو أصبت له حملة، بل أصيب لَقِناً غير مأمون عليه مستعملاً آلة الدين للدنيا، ومستظهراً بنعم الله على عباده، وبحججه على أوليائه)...إلى أن قال: (أو منهوماً بالِلذة، سلس القياد للشهوة أو مغرماً بالجمع والادخار، ليسا من رعاة الدين في شيء) رواه في (النهج) و(سلوة العارفين) وهو حديث مشهور مبسوط، رواه جماعة من أئمتنا وغيرهم، حتى قال ابن عبد البر ما معناه: أنه استغنى بشهرته عن ذكر إسناده، واللقن: الحاذق.
وعن سفيان بن عيينة قال: (بلغنا عن ابن عباس أنه قال: لو أن حملة العلم أخذوه بحقه وما ينبغي لأحبهم الله وملائكته والصالحون وَلَهاَبَهِمُ الناس، ولكن طلبوا به الدنيا فأبغضهم الله وهانوا على الناس) رواه ابن عبد البر في كتاب (العلم).
وفي (أمالي المرشد بالله): أخبرنا الشريف أبو عبد الله محمد بن علي بن الحسن الحسني البطحاني بقراءتي عليه، قال: أخبرنا محمد بن الحسين بن النحاس قراءة عليه، قال: أخبرنا علي بن العباس البجلي، قال: حدثنا عباد بن يعقوب، قال: أخبرنا علي بن عابس، عن أبي إسحاق، عن صلة بن زفر، عن عبد الله بن مسعود قال: كيف أنتم إذا ألبستكم فتنة يشيب فيها الصغير، ويهرم فيها الكبير تتخذونها سنة إن غيرت؟ قيل: غيرت السنة.
قيل: ومتى ذاك يا أبا عبد الرحمن؟
قال: إذا كثرت قراؤكم، وقلت فقهاؤكم، وكثرت شعراؤكم، والتمست الدنيا بعمل الآخرة، وتفقه لغير الدين. ورواه ابن عبد البر في كتاب (العلم) بسند آخر.
قال: حدثنا سعيد بن مضر، قال: حدثنا قاسم بن أصبغ، قال: حدثنا ابن وضاح، قال: حدثنا موسى بن معاوية، قال: حدثنا عبد الرحمن بن مهدي، قال: حدثنا سفيان الثوري، عن يزيد بن أبي زياد، عن إبراهيم، عن علقمة، عن عبدالله بن مسعود فذكره مع اختلاف في بعض ألفاظه.
وروى ابن عبد البر بإسناده إلى محمد بن يحيى بن حبان، قال: حدثني رجل من أهل (العراق) أنهم مروا على أبي ذر فسألوه يحدثهم، فقال لهم: تعلمُن أن هذه الأحاديث التي يبتغى بها وجه الله لا يتعلمها أحد يريد بها عرض الدنيا، أو قال لا يريد بها إلا عرض الدنيا فيجد عرف الجنة أبداً.
قال عبد الله بن المبارك: عرفها: ريحها، وروى بإسناده إلى أبي العالية قال: مكتوب عندهم في الكتاب الأول: ابن آدم علم مجاناً كما علمت مجاناً. قال أبو عمر: معناه عندهم كما لم تغرم ثمناً فلا تأخذ ثمناً، والمجان عندهم الذي لا يأخذ بعلمه ثمناً.
فهذه الأدلة وما أشرنا إليه مما مر في المسألة التي قبلها تدل على أنه لا يحل أخذ الأجرة على تعليم الأجرة؛ لأنها قد تضمنت تحريم جعله وسيلة إلى الدنيا، ومن أخذ الأجرة على تعليمه فقد جعله وسيلة إليها، واستعمل آلة الدين للدنيا، وبهذا يبطل قول ابن حزم إنه لم يأت في النهي عن ذلك نص، ولا حجة لمن أجاز ذلك إلا حديث: ((أحق ما أخذتم عليه أجراً كتاب الله)) وحديث الواهبة نفسها.
قلنا: هذان الحديثان قد تقدم الكلام عليهما وأوضحنا أن حديث: ((أحق ما أخذتم عليه أجراً)) محمول على ما ليس بواجب ولا محظور كما يشعر به سببه، وأن حديث الواهبة نفسها محمول على التكرمة لقيام الدليل على منع أخذ العوض على تعليم كتاب الله تعالى.
فإن قيل: ما ذكرتموه من الأخبار إنما يدل على تحريم طلبه مقصوداً به الدنيا، وهو خارج عن محل النزاع؛ إذ النزاع في أخذ العوض على تعليمه.
قلنا: الآية ظاهرة فيما ذهبنا إليه، وكذلك حديث: ((من طلب الدنيا بعمل الآخرة)) وحديث ابن عباس: ((علماء هذه رجلان. ..إلخ ونحوهما.
وأما الأحاديث التي علق الذم والتحريم فيها بالطلب مراداً به الدنيا، فوجه الاستدلال بها أنها تتناول من قصد بطلبه أنه يعلم بالأجرة، وإذا كانت متناولة له وجب أن تكون الأجرة محرمة، وإلا لما جاز الوعيد عليها.
فإن قيل: هذه الأدلة إنما تدل على تحريم أخذ العوض على التعليم حيث قصد بتعليمه التوصل إلى العوض، فأما إذا لم يقصد ذلك فلا وجه لتحريم ما أخذه ولا تقتضيه هذه الأدلة.
قيل: لا نحكم إلا بتحريم ما كان عوضاً في مقابلة التعليم، والأدلة لا تتناول إلا ذلك، فأما إذا أخذ من المتعلم ما يعطيه على جهة البر والإحسان وإرادة وجه الواحد المنان لا لتعليمه فلا نقول بمنعه، ولا يقوله فيما أحسب أحد من أهل العرفان لخروجه عن أدلة التحريم، وقد كان النبي صلى الله عليه وسلم يقبل ما يتحفه به أصحابه وهو المعلم لكل خير والهادي إلى الرشد، وكذلك أمير المؤمنين ثم من بعده من أهل بيته" وغيرهم، وذلك معلوم لمن بحث، وجرى على ذلك علماء الأمصار في جيمع الأعصار إلى يومنا هذا، ويدل على ذلك ما ورد من الحث على الصدقة وفعل المعروف إلى كل أحد، ثم ما جاء في فضل إكرام المؤمن والإحسان إليه، ثم ما ندب الله إليه من إكرام العلماء خاصة والإحسان إليهم، فالعلماء إذا أخذوا ممن يعلمونه على هذا الوجه مهتدون بهدي النبي صلى الله عيه وسلم، ومقتدون بعمل الوصي وأهل بيته"، وعلماء السلف والخلف من هذه الأمة، وداخلون في عموم من حث الله على التصدق عليهم الأسود والأحمر، واختصوا بعد ذلك بما جاء في فضل الإحسان إلى المؤمنين ثم بما جاء من الحث على إكرام العلماء خاصة.
هذا وأما قول أصحابنا: بمنع إجارة المصاحف وتجويز إجارة سائر الكتب فقال القاضي زيد: الوجه أن إجارة المصاحف لا تجوز هو أن منفعتها وهي القراءة لا تستحق بالأجرة فلا يجوز استئجارها كما لو استأجر بيتاً على أن يبيع فيه الخمر.
قال: والمسألة مبنية على منع الاستئجار على تعليم القرآن، وكان الأولى الاستدلال بعموم الآية، والوجه في جواز إجارة سائر الكتب أن منافعها وهي القراءة فيها تجوز أن تستحق بعقد الإجارة فتصح إجارة ما هو آلة فيها كإجارة آلة الصناع.
قلت: وفي قوله إن القراءة فيها تجوز أن تستحق بعقد الإجارة نظر لما مر من الأدلة على تحريم الأجرة على تعليم العلم والمسألة مبنية على ذلك كما قال في منع إجارة المصاحف؛ أنَّ ذلك مبني على منع الاستئجار على تعليم القرآن، وذكر في حواشي الأزهار في وجه الفرق بين المصاحف والكتب أن القرآن يتعلق الوجوب بلفظه العربي ومعناه فلم يجز الاستئجار للمصاحف.
وأما الكتب فالواجب يتعلق بمعناها فقط فلم تتعين فيها الكتب والأشخاص الذين يعلمون العربية.
فإن قيل: ما وجه الفرق عند أهل المذهب بين البيع والإجارة حيث أجازوا بيع المصحف دون إجارته؟
قيل: وجهه أن البيع يتناول الجلد ونحوه والقرآن يدخل تبعاً.
وأما الإجارة فهي مشتملة على القرآن، بل لا منفعة غير القراءة.
قلت: والفرق ضعيف، والظاهر جواز إجارة المصاحف كما يجوز بيعها؛ إذ لا يتناول العقد فيهما إلا الجلد والكاغد ونحوهما، والقرآن عرض لا يمكن بيعه ولا إجارته وإن كان هو المقصود من البيع والإجارة أعني أنه إنما وقع العقد لأجله فذلك لا يمنع من بيع الجلد ونحوه وإجارته إذ ليس ذلك إلا آلة يتوصل بها إليه، ولا وجه لمنع أخذ العوض على ما هو آلة للقرآن.
تنبيه أما إذا كانت الإجارة على تعليم العلم من أموال المصالح فلا حرج في أخذها لما مر في المسألة التي قبل هذه، وإن كان الأولى جعل مثل هذا العمل العظيم متمحضاً لوجه الله والدار الآخرة، سيما إذا كان للمعلم [ما يكفيه ويكفي عياله].
المسألة الخامسة [دلالة الآية على أخذ العوض على الفتيا والقضاء]
في الآية دليل على تحريم أخذ العوض على الفتيا والقضاء إذ من أخذ على شيء من ذلك عوضاً فقد استبدل بآيات الله ثمناً قليلاً، وما تقدم من أدلة تحريم أخذ العوض على تعليم العلم يدل على هذا إذ الفتيا والقضاء نوع من التعليم.
قال بعض العلماء ما معناه: ما يأخذه المفتي على الفتيا، إما أن تكون على جهة الأجرة أو الهدية، أو الرزق المقرر المفروض من بيت المال، فهذه ثلاث صور مختلفة السبب والحكم.
فأما أخذ الأجرة فلا يجوز له؛ لأن الفتيا منصب تبليغ عن الله تعالى ورسوله فلا تجوز المعاوضة عليها كما لا تجوز على تعليم الإسلام والصلاة ونحوهما، فإذا امتنع عن الجواب إلا بأجرة كان ذلك حراماً، فهو مرتكب للمحظور للحرام قطعاً.
قال: ويلزمه رده ولا يملكه، وقال بعض المتأخرين: إن أجاب بالخط حلت له الأجرة إذ لا تلزمه الكتابة، وجعل الأجرة على ذلك كأجرة الناسخ، والخط قدر زائد على الجواب.
قال: والصحيح خلاف ذلك، وأنه يلزمه الجواب مجاناً لله بلفظه وخطه لكن لا يلزمه الورق ولا الحبر.
قلت: بل يلزمه حيث لا يتم الواجب إلا به، وقدكان النبي صلى الله عليه وسلم يبعث الرسل إلى الآفاق لتبليغ الشرائع لما كان التبليغ لا يتم بدون ذلك؛ إذ وصول أهل الأقطار إلى مقامه الشريف يتعذر عادة، وفيهم العاجز ومن لا قدرة له على تحصيل نفقة السفر، فيجب في كلام لا يتم الواجب إلا به أن يجب بوجوبه، ومنه كتابة الفتيا حيث لا يظهر معناها للسائل ولا ينضبط له إلا بها كما هو الظاهر من حال أكثر المستفتين، وفي حكمه الورق والحبر حيث لم يكن للسائل شيء منهما، وكذلك إذا كان معه منهما شيء ولم تسمح نفسه بهما فإن تحصيلهما واجب على المفتي؛ لأن وجوب الفتيا متعلق به فيجب عليه تخليص ذمته من هذا الواجب بالممكن، وسيأتي لهذا مزيد تحقيق إن شاء الله.
قال: وأما الهدية ففيها تفصيل فإن كانت بغير سبب الفتوى كمن عادته يهاديه أو من لا يعرف أنه مفتٍ فلا بأس بقبوله، والأولى أن يكافي عليها، وإن كانت بسبب الفتوى فإن كانت سبباً إلى أن يفتيه بما لا يفتي به غيره ممن لا يهدي له لم يجز له قبول هديته، وإن كان لا فرق بينه وبين غيره في الفتيا، بل يفتيه بما يفتي الناس كره له قبول الهدية؛ لأنها تشبه المعاوضة على الإفتاء.
وأما أخذ الرزق من بيت المال فإن كان محتاجاً جاز، وإن كان غنياً ففيه وجهان فمن ألحقه بعامل الزكاة قال النفع فيه عام فله الأخذ، ومن ألحقه بولي اليتيم منعه من الأخذ.
قال: وحكم القاضي في ذلك حكم المفتي، بل القاضي أولى بالمنع.
قلت: ما ذكر في هذا التقسيم هو الذي تقضي به الآية، وما مر من الأدلة المانعة من أخذ العوض على تعليم العلم، وهذه الصور كما ذكره جارية فيما يأخذه الحاكم بل الأحكام المتعلقة بما يأخذه الحاكم أكثر من المتعلقة بما يأخذه المفتي، ولأجل تحقيق المقام وتوضيحه يكون تقسيم ما يأخذه الحاكم إلى أنواع نبين فيها ما كان أخذه حراماً، وما كان حلالاً مع إقامة الأدلة على ذلك، ومن هذه الأدلة يظهر لك ما يجوز أخذه للمفتي، وما يحرم عليه بالدليل الواضح بعون الله ولطفه، فنقول: اعلم أن ما يأخذه القاضي على أنواع:
[أنواع الأموال التي يأخذها القاضي وحكمها]
النوع الأول: [الرشوة]
أن يكون المأخوذ رشوة وهي كما في النهاية الوصلة إلى الحاجة بالمصانعة، وأصله من الرشا الذي يتوصل به إلى الماء.
قال: فالراشي من يعطي الذي يعينه على الباطل، والمرتشي: الآخذ، والرائش: الذي يسعى بينهما يستزيد لهذا ويستنقص لهذا، فأما ما يعطي توصلاً إلى أخذ حق أو دفع ظلم فليس داخلاً فيه يعني ليس داخلاً في اللعن المذكور في الحديث، وسيأتي، ولا خلاف في تحريم الرشوة.
قال في البحر: وتحرم رشوة الحاكم إجماعاً.
قلت: ومستنده الكتاب والسنة، أما الكتاب فعموم الآية وما في معناها، وفي (الجامع الكافي) وقال الله تعالى: {وَلاَ تَشْتَرُوا بِآيَاتِي ثَمَناً قَلِيلاً}[البقرة:41] يقول: لا تأخذوا الرشا في حكمي فتكتموه.
وأما السنة ففي أمالي المرشد بالله أخبرنا أبوالقاسم عمر بن محمد بن سنبك البلخي، قال: أخبرنا أبوالحسين عمر بن الحسن بن علي بن مالك الأشناني، قال: حدثنا أبو بكر محمد بن زكريا المروروذي، قال: حدثنا موسى بن إبراهيم المروزي الأعور، قال: حدثني موسى بن جعفر بن محمد عن أبيه عن علي عليه السلام ، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم : ((القاضي إذا أخذ الرشوة بلغت به الكفر وإذا جار في حكمه نزع منه الإيمان فدخل النار)) ورواه في (الشفاء).
وفي (أمالي المرشد بالله) أيضاً: أخبرنا أبو بكر محمد بن علي بن الحسين الجوزداني المقري، قال: أخبرنا أبو مسلم عبد الرحمن بن محمد بن شهدل، قال: أخبرنا أبو العباس أحمد بن محمد بن سعيد بن عقدة، قال: أخبرنا أحمد بن الحسن بن سعيد أبو عبدالله، قال: حدثنا أبي، قال: حدثنا حسين بن مخارق عن يعقوب ابن عربي عن الإمام الشهيد زيد بن علي عن آبائه أن علياً" قال: الرشوة على الحكم كفر.
وبه قال حدثنا حصين، عن الأعمش، عن إبراهيم، عن علقمة، عن عبدالله مثله، وفيه أخبرنا أبو بكر محمد بن عبد الله بن ريذة، قال: أخبرنا أبو القاسم الطبراني، قال: حدثنا طالب بن قرة الأذنِّي، قال: حدثنا محمد بن عيسى الطباع (ح) قال السيد: وأخبرنا أبو بكر، قال: أخبرنا الطبراني، قال: حدثنا به بشر بن موسى، قال: حدثنا محمد بن سعيد الأصفهاني.
(ح) قال وأخبرنا أبو بكر قال: أخبرنا الطبراني، قال: وحدثنا عبيد بن غنام، قال: حدثنا أبو بكر بن أبي شيبة قالوا: حدثنا يحيى بن زكريا بن أبي زائدة عن ليث بن أبي سليم، عن أبي الخطاب عن أبي زرعة، عن أبي إدريس عن ثوبان قال: لعن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم الراشي والمرتشي والرائش.
ورواه من حديث ثوبان بن بلال في شرح الأحكام وأحمد وزاد تفسير الرائش بأنه الذي يمشي بينهما، وأخرجه أيضاً الحاكم.
قيل: وفي إسناده ليث بن أبي سليم، قال البزار: تفرد به، وقال في مجمع الزوائد: أنه أخرجه أحمد، والبزار، والطبراني في الكبير، وقال: في إسناده أبو الخطاب وهو مجهول.
قلت: أما ليث فقد تقدم الكلام عليه، وأما أبو الخطاب فذكر في التقريب وغيره أنه مجهول، لكن في الجداول ما يدل على أنه ممن روى له المؤيد بالله ووثقه، ولو سلمت الجهالة فالحديث صحيح لغيره.
فائدة
قال في تهذيب التهذيب: أبو زرعة المذكور في السند أبو زرعة بن عمرو بن جرير، ذكر ذلك ابن مندة، وابن عبد البر، وابن أبي حاتم، والحاكم أبو أحمد. وقيل: هو أبو زرعة يحيى بن أبي عمرو الشيباني فإنه شامي، وأبو إدريس شامي.
وأما ابن عمرو بن جرير فهو: عراقي، ولا تعرف له رواية في الشاميين.
قال ابن حجر: والأول أرجح، ولا مانع أن يكون أبو زرعة لقي أبا إدريس في مكة أو غيرها.
وفي سنن أبي داود: حدثنا أحمد بن يونس، ثنا ابن أبي ذئب، عن الحارث بن عبد الرحمن، عن أبي سلمة، عن عبد الله بن عمرو، قال: لعن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم الراشي والمرتشي.
وأخرجه الترمذي قال: حدثنا أبو موسى محمد بن المثنى، حدثنا أبو عامر العقدي، حدثنا ابن أبي ذئب فذكره بسنده ومتنه وقال: حديث حسن صحيح، وقال في المنتقى: أخرجه الخمسة إلا النسائي، وأخرجه أيضاً ابن حبان، والطبراني، والدارقطني.
قال الترمذي: وقواه الدارمي، وقال في النيل: إسناده لا مطعن فيه.
قلت: بل قد طعن فيه ابن حزم بالحارث بن عبد الرحمن وقال: ليس بالقوي، لكن لا التفات إلى كلامه فالحارث مشهور كما قال ابن معين.
روى له المؤيد بالله، ووثقه ابن حبان، وأثنى عليه غيره، واحتج به الجماعة، والحديث في الجامع الكافي وفيه قال محمد، فالراشي: الذي يرشو ليدفع بذلك حقاً، أو يعطل به حكماً.
وفي سنن الترمذي: حدثنا قتيبة، حدثنا أبو عوانة، عن عمرو بن أبي سلمة، عن أبيه، عن أبي هريرة، قال: لعن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم الراشي والمرتشي في الحكم. وقال: حديث حسن صحيح، وأخرجه أحمد، والحاكم، وابن حبان وصححه وهو في الجامع الصغير.
قال العزيزي: عن شيخه حديث صحيح، ورواه في الشفاء.
قال بعض العلماء: والتقييد بالحكم بناء على الغالب، وإلا فآخذ الرشوة ملعون وإن لم يكن حاكماً قاضياً، فكل من أخذ رشوة على أمر باطل من أمير ونحوه داخل في هذا، ويدل عليه عموم الحديث السابق.
قال الترمذي: وفي الباب عن عائشة، وأم حديدة، وأم سلمة، وقال في النيل: في الباب عن عبد الرحمن بن عوف عند الحاكم.
وقال العلامة ابن حجر المكي الهيثمي في كتاب (الزواجر): أخرج ابن ماجة، وابن حبان في صحيحه، والحاكم وصححه: لعنة الله على الراشي والمرتشي. والطبراني بسند رجاله ثقات: ((الراشي والمرتشي في النار)) وأحمد: ((ما من قوم يظهر فيهم الربا إلا أخذوا بالسنة، وما من قوم يظهر فيهم الرشا إلا أخذوا بالرعب)). والحاكم عن أبي هريرة: لعن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم الراشي والمرتشي في الحكم، والرائش الذي يسعى بينهما. والطبراني بسند جيد: لعن الله الراشي والمرتشي في الحكم. والحاكم: ((من ولي عشرة فحكم بينهم بما أحبوا وبما كرهوا جيء به مغلولة يداه فإن عدل ولم يرتش ولم يحف فك الله عنه، وإن حكم بغير ما أنزل الله وارتشى وحاف فيه شدت يساره إلى يمينه ثم رمي به إلى جهنم فلم يبلغ قعرها خمسمائة عام)).
قلت: الراشي والمرتشي في النار رواه في الشفاء، وذكره في الجامع الصغير ونسبه إلى الطبراني في الأوسط من حديث عبد الله بن عمرو بن العاص. قال الشارح: بإسناد صحيح، وكذلك ذكر حديث: ((ما من قوم...)) إلخ منسوباً إلى أحمد من حديث ابن عمرو بن العاص. والسنة: الجدب بالدال المهملة والقحط.
وعن علي عليه السلام ، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم : ((من اقتراب الساعة إذا رأيتم الناس أماتوا الصلاة، وأضاعوا الأمانة، واستحلوا الكبائر، وأخذوا الرشا)) رواه المرشد بالله وهو حديث طويل في أمارات اقتراب الساعة، وفي ذلك الحديث من جملة الأمارات قوله: ((وركن علماؤكم إلى ولاتكم فأحلوا لهم الحرام وحرموا عليهم الحلال، وأفتوهم بما يشتهون، وتعلم علماؤكم العلم ليجلبوا به دنانيركم ودراهمكم واتخذتم القرآن تجارة))..
وفي مجموع زيد بن علي عليه السلام عن علي عليه السلام مرفوعاً: ((لا تزال أمتي يكف عنها ما لم يظهروا خصالاً عملاً بالربا وإظهار الرشا))...الخبر.
وهو في أمالي أحمد بن عيسى، وأحكام الهادي عليه السلام ، والمراد يكف عنها البلاء، وقد صرح به في بعض نسخ المجموع.
وفي أمالي المرشد بالله: أخبرنا الشريف أبو عبد الله محمد بن علي بن الحسن الحسني بقراءتي عليه، قال: أخبرنا محمد بن علي بن الحكم، قال: أخبرنا محمد بن عمار العجلي قراءة عليه، قال: حدثنا أحمد بن عيسى بن هارون العجلي، قال: حدثنا علي بن عمروس الأنصاري، قال: حدثنا أبو عمارة الأنصاري، عن إبراهيم بن محمد، عن حمزة بن أبي حمزة الجعفي، عن الإمام زيد بن علي عليه السلام ، عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم : ((خذوا العطاء ما كان عطاء فإذا كان رشوة عن دينكم فلا تأخذوه ولن تتركوه يمنعكم من ذلك الفقر والفاقة إن بنا فرج فارس والروم قد دار، وإن رحى الإيمان دائرة فحيث ما دار القرآن فدوروا معه، فيوشك السلطان والقرآن أن يفترقا، ويحكمون لكم بحكم ولهم بغيره فإن أطعتموهم أضلوكم وإن عصيتموهم قتلوكم، فكونوا كأصحاب عيسى عليه السلام نشروا بالمناشير ورفعوا على الخشب، إن موتاً في طاعة الله خير من حياة في معصية الله، وإن أول ما نقص من بني إسرائيل كانوا يأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر شبه التعذير إذا لقى أحدهم صاحبه الذي كان يعيبه آكله وشاربه كأنه لم يعب عليه شيئاً فلعنهم الله على لسان داود وعيسى بن مريم ذلك بما عصوا وكانوا يعتدون الآية، والذي نفس محمد بيده لتأمرن بالمعروف ولتنهن عن المنكر ولتأخذن على يد الظالم فتأطروه على الحق أطراً أو ليضربن الله قلوب بعضكم ببعض)).
أما أبو عبد الله فهو: محمد بن الحسن بن علي بن الحسين بن عبد الله بن القاسم بن الحسن بن علي بن أبي طالب أبو عبد الله العلوي الكوفي الثقة العالم الفقيه، مسند الكوفة، أحد مشائخ المرشد بالله وابن المغازلي، وهو مصنف الجامع الكافي، وناهيك به شاهداً على جلالته وغزارة علمه، وله كتاب التأذين بحي على خير العمل.
وقال الذهبي في حقه: ما رأيت من كان يفهم فقه الحديث مثله، وكان حافظاً، توفي سنة خمس وأربعين وأربعمائة، والحديث أخرجه عبد بن حميد عن معاذ بن جبل مرفوعاً.
قوله: ((تأطروه أطراً)).
وفي الجامع الصغير مرفوعاً: ((خذوا العطاء مادام عطاء فإذا تحافت قريش بينها الملك وصار العطاء رشاء عن دينكم)).
ونسبه إلى البخاري في [جامعه] وأبي داود من حديث ذي الزوائد واسمه يعيش، ومعنى قوله: ما دام عطاء ما دام لله لا لغرض دنيوي فيه فساد دين الآخذ، ومعنى قوله: رشوة عن الدين أن يعطي العطاء ويحمله على فعل ما لا يجوز، وهذه الأحاديث تدل على تحريم أخذ الرشوة، وقد عرفت مما ذكره في النهاية أنها ما أخذ على الباطل، وفي ذلك تفصيل وخلاف سيظهر من الكلام على أطراف المسألة.
واعلم أن الأحاديث قد تضمنت نهي المرتشي والراشي والرائش
فأما المرتشي وهو الحاكم فمعنى الرشوة في حقه: أن يعطيه الراشي ليحكم له بحق أو باطل، وهذا لا إشكال في تحريمه على الحاكم، والظاهر أنه إجماع كما أطلقه في البحر،أما إعطاؤه ليحكم له بالباطل فظاهر، وأما لأجل الحكم بالحق؛ فلأن المدفوع في مقابلة واجب وذلك محرم أيضاً، وقد ألحق علماؤنا وغيرهم بذلك كل ما لا يتوصل به إلى نيل ما لا يستحق، أو إلى أذية مسلم، أو ظلم إنسان أو نحو ذلك، وسواء كان الآخذ على هذه الأمور حاكماً أو غيره، وقد نص الأمير الحسين على عدم الفرق بين أن يكون الآخذ الحاكم أو الشهود أو السلاطين إذا أخذوا على باطل، والوجه في إلحاق ما ذكر أن الرشوة هي كل مال دفع ليتوصل به إلى باطل، وما ذكرنا في هذه الصور فهو من الباطل، فمن أخذ في مقابلة فهو رشوة محرمة لعموم ما مر، ولقوله تعالى: {فَوَيْلٌ لَهُمْ مِمَّا كَتَبَتْ أَيْدِيهِمْ وَوَيْلٌ لَهُمْ مِمَّا يَكْسِبُونَ}[البقرة:79] فجعل معاقباً على كسبه من الفعل المحرم.
وأما الراشي وهو الدافع للمال فإن كان متوصلاً به إلى باطل تناوله اللعن وكان عاصياً لعموم الأدلة، ولا أعلم في ذلك خلافاً.
وفي الشفاء: من أعطى مالاً ليتوصل به إلى باطل فهو حرام، والمعطي والآخذ مستحقان للنار، وإن كان متوصلاً به إلى نيل حق أو دفع باطل فقد اختلف في ذلك.
فقال المنصور بالله والإمام يحيى، وأبو جعفر، ومالك، وبعض أصحاب الشافعي: إن طلب حقاً مجمعاً عليه جاز إن كان لا يمكن التوصل إليه إلا بذلك، كما يجوز للتجار والمترددين في الطرقات دفع المال لدفع الضرر عن أنفسهم وأموالهم، ولا يمنع ذلك كونه بصورة المحظور فإن له أن يتوصل إلى أخذ ماله من الغاصب ونحوه بالتلصص والقهر، وإن كان بصورة المحظور، وإن طلب حقاً مختلفاً فيه لم يجز، بل هو كالباطل؛ إذ لا تأثير لحكمه، وظاهر ما ذكره الأمير الحسين في الشفاء أنه يجوز للمعطي الإعطاء بلا فرق بين أن يكون الحق مجعماً عليه أو مختلفاً فيه إن كان لا يمكنه التوصل إلا بذلك؛ لأنه قال: فأما إن أعطى بالضرورة جاز له ولم يجز للآخذ، بل يكون الآخذ في النار.
وبه قال ابن حزم وغيره، قال في المحلى: فأما من منع حقه فأعطى ليدفع عن نفسه الظلم فذلك مباح للمعطي ليدفع عن نفسه الظلم، وأما الآخذ فآثم، ونحوه في كتاب الزواجر لابن حجر الهيثمي قال: لاضطراره يعني المعطي إلى التوصل إلى حقه بأي طريق كان، ويدل عليه ما رواه في الشفاء وغيره من أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قد كان همَّ بمصالحة المشركين بثلث ثمار المدينة دفعاً لشرهم وهو لا يهم إلا بالجائز.
وروى البيهقي في السنن قال: أخبرنا أبو الحسين بن الفضل القطان ببغداد أنبأنا عبد الله بن جعفر، ثنا يعقوب بن سفيان، ثنا زيد بن المبارك الصنعاني وكان من الخيار، قال: ثنا وكيع، ثنا أبو العميس عن القاسم بن عبد الرحمن، عن ابن مسعود أنه لما أتى أرض الحبشة أخذ بشيء فتعلق به فأعطى دينارين حتى خلي سبيله، وقال وهب بن منبه: ليست الرشوة التي يأثم فيها صاحبها بأن يرشو فيدفع عن ماله ودمه، إنما الرشوة التي تأثم فيها أن ترشو لتعطى ما ليس لك.
وقال الحسن وإبراهيم: ما أعطيت مصانعة على مالك ودمك فإنك فيه مأجور.
وقال أهل المذهب: بل يحرم الدفع وإن توصل به إلى نيل حق، أو دفع باطل؛ لعموم الخبر، ولأنه من فعل السبب المفضي إلى المحرم كما في قوله تعالى: {وَلاَ تَسُبُّوا الَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ} [الأنعام:108]...الآية، وقد قال تعالى: {وَلاَ تَعَاوَنُوا عَلَى الإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ}[المائدة:2] وهذ اختيار الشوكاني، قال في النيل: التخصيص بطالب الحق بجواز تسليم الرشوة منه للحاكم لا أدري بأي مخصص، فالحق التحريم مطلقاً أخذاً بعموم الحديث، ومن زعم الجواز في صورة من الصور فإن جاء بدليل مقبول، وإلا كان تخصيصه رداً عليه، فإن الأصل في مال المسلم التحريم {وَلاَ تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبَاطِلِ}[البقرة:188] ((لا يحل مال امرئ مسلم إلا بطيبة من نفسه)) فقد انضم إلى هذا الدفع كون الدافع إنما دفعه لأحد أمرين إما لينال به حكم الله إن كان محقاً، وذلك لا يحل لأن المدفوع في مقابلة أمر واجب أو جب الله عز وجل على الحاكم الصدع به، فكيف لا يفعل حتى يأخذ عليه شيئاً من الحطام، وإن كان الدفع للمال من صاحبه لينال به خلاف ما شرع الله إن كان مبطلاً فذلك أقبح لأنه مدفوعاً في مقابلة أمر محظور فهو أشد تحريماً من المال المدفوع للبغي في مقابلة الزنا بها؛ لأن الرشوة يتوصل بها إلى أكل مال الغير الموجب لاحراج صدره، والإضرار به، بخلاف المدفوع إلى البغي فإن التوسل به إلى شيء محرم وهو الزنا لكنه مستلذ للفاعل والمفعول به، وهو أيضاً ذنب بين العبد وربه وهو أسمح الغرماء ليس بين العاصي وبين المغفرة إلا التوبة ما بينه وبين الله، وبين الأمرين بون بعيد.
قلت: ويمكن أن يقال أدلة الأولين قاضية بالجواز للدافع على النحو الذي قرروه، وقد قال صلى الله عليه وآله وسلم : ((عند الضرورات تباح المحظورات)) رواه في تتمة الشفاء، وهي أخص من أدلة القول الثاني، على أن الحديث لا يتناول المعطي المتوصل بالعطاء إلى حق أو دفع ظلم لما مر من أن الرشوة إنما هي ما توصل به إلى باطل.
قوله: ولأنه من فعل السبب المفضي إلى المحرم.
قلنا: هذا مبني على وجوب سد الذرائع، ولكنا نقول القائل بالوجوب إنما يقوله إذا لم تكن مصلحة الفعل أرجح من المفسدة اللازمة منه، وهاهنا المصلحة وهي التوصل إلى ما يستحقه من المال المنهي عن إضاعته، وصيانة عرضه الذي قد نزله الشارع منزلة دمه، أو دفع الضرر الذي أوجب العقل والشرع دفعه ولو بالقتال في بعض الأحوال أرجح من المفسدة وهي المعصية التي يرتكبها الحاكم بأخذ المال المدفوع في مقابلة الواجب.
قوله: وقد قال تعالى: {وَلاَ تَعَاوَنُوا عَلَى الإِثْمِ}[المائدة:2]... إلخ.
قلنا: لم يقصد المعاونة على الإثم إنما قصد الوصول إلى حقه أو دفع الضرر عن نفسه والأعمال بالنيات.
قوله: ومن زعم الجواز في صورة... إلخ.
قلنا: قد أقمنا الدليل.
قوله: الأصل في مال المسلم التحريم... إلخ.
قلنا: مسلم وليس النزاع إلا في دفع المال للتوصل به إلى الحق، وما ذكرت إنما يصح الاستدلال به على تحريم المال المدفوع إلى الحاكم، ولا شك في تحريمه عليه، لكن لا يلزم من تحريمه عليه تحريم الدفع على الدافع إن كان لا يتوصل إلى حقه إلا به.
وقوله: قد انضم إلى هذا الدفع... إلخ.
قلنا: كلا الأمرين ليسا من محل النزاع، وحاصل الكلام في المسألة أن من لا يمكنه التوصل إلى حقه أو دفع الضرر عن نفسه إلا بإعطاء شيء من ماله فإنه يجوز له ذلك، ولا دليل يقتضي تحريمه، بل لا يبعد القول بالوجوب إذا كان المال الذي يستخرجه أكثر من المدفوع، والضرر الذي يدفعه أعظم من ضرره بإعطاء المال الذي يدفع ذلك الضرر بإعطائه للنهي عن إضاعة المال ووجوب دفع الضرر عن النفس، وكذلك يجب دفع المال لدفع الظلم عن الغير إن كان لا يمكن دفعه إلا بذلك لوجوب نصر المؤمن، بل وغيره ممن لم يرد الشرع باستباحة دمه وماله، وأدلة ذلك معلومة عقلاً ونقلاً، وهي عامة تتناول وجوب نصرته بكل ممكن من مال وغيره.
قال بعض العلماء: دفع المظالم عن الخلق من فروض الأعيان على أولي الأمر، ومن فروض الكفاية على غيرهم فإن قام به واحد سقط عن الباقين، وإن تخلى عن المظلوم أحد من الناس وأعانه آخر لم يأثم المتحلي حتى لو تخلى الناس كلهم عنه أثموا.
هذا وأما الرائش وهو الساعي بينهما فحكمه حكم من هو في جانبه من راش ومرتش إن خيراً فخير، وإن شراً فشر.
تنبيه [فسق الحاكم الآخذ للرشوة]
نص الهادي والإمام يحيى على فسق الحاكم بأخذ الرشوة، للوعيد واللعن، واختاره في الهداية، وهو الذي تقضي به الأدلة السابقة، ومثله ذكر ابن حجر الهيثمي.
وأما الراشي فقال ابن حجر المذكور ما معناه: إن توصل بالرشوة إلى باطل فسق لعموم الدليل وإلا فلا لما مر، وأما الرائش فقال: إن كان من جهة الآخذ فسق لما تقرر أن الآخذ يفسق مطلقاً فمعينه كذلك، وإن كان من جهة المعطي فإن كنا حكمنا بفسقه فسق رسوله وإلا فلا، والحاصل أنه تابع للراشي في قصده فإن قصد خيراً لم يفسق ولم تلحقه اللعنة وإلا لحقته وفسق، وظاهر الدليل أنه لا فرق في الرشوة المقتضية بالفسق بين قليل المال وكثيره، وهذا قول ابن حجر الهيثمي، وهو ظاهر إطلاق الهادي والإمام يحيى، والروياني وغيرهم، وأنت خبير بأن في الأحاديث المتقدمة ما هو صريح في كفر الحاكم إذا أخذ الرشوة، ولا وجه للعدول عن الظاهر، إلا أنا نقول إنه كفر غير كفر الشرك والجحود، وقد تقدم عن جماعة من أئمة العترة" وغيرهم تسيمة مرتكب الكبيرة كافراً.
النوع الثاني:[الهدية]
مما يأخذه القاضي أن يكون المأخوذ على جهة الهدية، وحقيقة الهدية: هي كل ما أعطاه عوضاً عن محبة ومودة ينشئها أو يديمها.
وقال بعض علماء العترة": هي تمليك لا يذكر معه عوض مع علم المهدي من مكان إلى مكان المهدى إليه إعظاماً أو إكراماً، وحكمها أنها محرمة عند أهل المذهب إذا وقعت في مقابلة واجب محظور.
قالوا: وسواء كان الواجب فرض عين أو كفاية كالحكم والجهاد، وغسل الميت والصلاة عليه، والأذان، وتعليم القرآن، وكما يأخذه الولي من الخاطب شرطاً، وسواء كان الواجب أو المحظور مشروطاً أو مضمراً، وسواء تقدم دفع الهدية على فعل الواجب أو المحظور أو تأخر.
قال في شرح الفتح: فإذا أهدى له ليحكم له، أو ليشهد له، أو ليفتيه، أو ليعلمه واجباً، أو ليفعل محظوراً، أو ليمنعه حرم ذلك منه، ومن ذلك الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر حيث لا يفعله إلا بما يُهدى إليه.
قال: وكذا ما جرت به عادة كثير من قضاة زماننا، ومفتي أواننا، وعمال أهل دولتنا من أنه لا يفعل لك واجباً ولا يمنع عنك منكراً إلا بذلك، بل ربما كانوا لا يمنعون نفوسهم من ضررك وترك الكلام عليك إلى أولي الأمر إلا بذلك، وإن لم يحصل ما هنالك تسبب في إنزال الضرر بك أو التلف، أو فعل المتلف بك، وصار ذلك منتشراً واسعاً متوسعاً، فنسأل الله سبحانه وتعالى أن يوفقنا ويعصمنا عن ذلك.
قلت: هذا شكوى صاحب شرح الفتح من أهل زمانه وولاة أوانه، فكيف لورأى زماننا هذا وما اشتمل عليه من الفضائح والقبائح، من تصدي الجهال للقضايا والأحكام، وتظاهرهم مع ذلك بأخذ الرشا والهدايا والإجارات على اختلاف أنواعها، لا يبالون بوعظ واعظ ولا إنكار عالم، ولا ذم عاقل حتى أن بعضهم يعترف بقبح ما هم عليه ولا يصده ذلك عن الدخول معهم فيه، وقد شاع وذاع بلا احتشام ولا استشناع، فإنا لله وإنا إليه راجعون.
ودليل تحريم الهدية على القاضي الآية، وقد مر تقرير ذلك، ومن السنة ما رواه زيد بن علي عليه السلام في المجموع عن علي عليه السلام أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال له: ((يا علي لا تقض بين اثنين وأنت غضبان، ولا تقبلن هدية مخاصم ولا تضيفه دون خصمه)).
وفي الجامع الكافي عن جابر عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم أنه قال: ((هدايا الأمراء غلول)) وهو في الشفاء، وأصول الأحكام، وذكره بهذا اللفظ في نيل الأوطار، وقال: أخرجه البيهقي، وابن عدي من حديث ابن حميد.
قال الحافظ: وإسناده ضعيف، ولعل وجه الضعف أنه من رواية إسماعيل ابن عياش عن أهل الحجاز، وأخرجه الطبراني في الأوسط من حديث أبي هريرة قال الحافظ: وإسناده أشد ضعفاً، وأخرجه سُنَيد بن داود في تفسيره عن عبيدة بن سليمان، عن إسماعيل بن مسلم، عن الحسن، عن جابر، وإسماعيل ضعيف. هكذا في النيل.
قلت: وإسماعيل بن عياش قد تقدمت ترجمته وهو ثقة مأمون، ولا أظن أن سبب تضعيفه في الحجازيين إلا كونه روى عنهم فضائل أمير المؤمنين عليه السلام .
وأما إسماعيل بن مسلم فهو المكي، وقد تقدمت ترجمته أيضاً، وذكرنا أنه روى في فضائل الوصي، ولعله وجه تضعيفه.
وفي الشفاء مرفوعاً: ((هدايا العمال غلول)).
قال الأمير الحسين: والغلول: هو الحرام، والحديث في الجامع الصغير منسوباً إلى أحمد والبيهقي في السنن من حديث أبي حميد الساعدي، قال الشارح بإسناد ضعيف، وفيه من حديث حذيفة يرفعه: ((هدايا العمال كلها حرام)) أخرجه أبو داود، والترمذي، والنسائي، وابن ماجة، والمراد بالعمال: الإمام ونوابه من أهل الولايات، ذكره بعض شراح الحديث.
وفي الجامع أيضاً: ((الهدية إلى الإمام غلول)) وعزاه إلى الطبراني في الكبير من حديث ابن عباس.
قال العزيزي: وإسناده ضعيف.
ومن كتاب كتبه علي عليه السلام إلى عثمان بن حنيف الأنصاري، وكان عامله على البصرة، وقد بلغه أنه دعي إلى وليمة فأجاب قوله: أما بعد يا ابن حنيف فقد بلغني أن رجلاً من فتية أهل البصرة دعاك إلى مأدبة فأسرعت إليها تستطاب لك الألوان، وتنقل إليك الجفان، وما ظننت أنك تجيب إلى طعام قوم عائلهم مجفو، وغنيهم مدعو، فانظر إلى ما تقضمه من هذا المقضم فإن اشتبه عليك علمه فالفظه، وما أيقنت بطيب وجهه فنل منه. رواه في النهج.
المأدبة بضم الدال: الطعام يدعى إليه القوم، وقد جاءت بفتح الدال، والعائل: الفقير.
وفيما ذكرناه كفاية في إثبات الدلالة على تحريم الهدية على الحاكم، وفي حكمه سائر ذوي الولايات لعموم بعض هذه الأخبار.
قال بعض العلماء: والظاهر أن الهدايا التي تهدى للقضاة ونحوهم هي نوع من الرشوة؛ لأن المهدي إذا لم يكن معتاداً للإهداء إلى القاضي قبل ولايته لا يهدي إليه إلا لغرض، وهو إما التقوي به على باطله، أو التوصل لهديته له إلى حقه، والكل حرام كما تقدم، وأقل الأحوال أن يكون طالباً لقربة من الحاكم وتعظيمه ونفوذ كلامه، ولا غرض له بذلك إلا الاستطالة على خصومه، أو الأمن من مطالبتهم له فيحتشمه من له حق عليه، ويخافه من لا يخافه قبل ذلك، وهذه الأغراض كلها تؤول إلى ما تؤول إليه الرشوة، فليحذر الحاكم المتحفظ لدينه المستعد للوقوف بين يدي ربه من قبول هدايا من أهدى إليه بعد توليه للقضاء فإن للإحسان تأثيراً في طبع الإنسان، والقلوب مجبولة على حب من أحسن إليها، فربما مالت نفسه إلى المهدي إليه ميلاً يورث الميل عن الحق عند المخاصمة بينه وبين غيره، والقاضي لا يشعر بذلك، ويظن أنه لم يخرج عن الصواب لما قد زرعه الإحسان في قلبه، والرشوة لا تفعل زيادة على هذا.
قلت: ويدل على ما ذكره من تأثير الإحسان في ميل النفس إلى المحسن ما رواه في الجامع الصغير عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم أنه قال: ((الهدية تذهب بالسمع والقلب)) ونسبه إلى الطبراني في الكبير من حديث عصمة بن مالك، وفيه مرفوعاً: ((الهدية تعور عين الحكيم)) وعزاه إلى مسند الفردوس للديلمي.
قال العزيزي: وإسناده ضعيف.
تنبيه [استطراد في ذكر الهدية والهبة]
قد علم مما مر أن الهدية، وفي حكمها الهبة إنما تحرمان إذا جرتهما الولاية أو كانا سبباً للميل عن الحق ومحاباة المهدي والواهب، فأما إذا لم يكونا لذلك بل المقصود بهما الصلة، وجلب المحبة الدينية، أو نحو ذلك من الأغراض المباحة فلا وجه لتحريمهما؛ إذ قد قبل الهدية رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وندب إليها، وكذلك أهل بيته من بعده" وأكابر أصحابه، وإنما كانوا يردون منها ما علم أنه لأجل الولاية أو في حكم الرشوة.
ففي مجموع زيد بن علي عليه السلام عن علي عليه السلام قال: أهدي لرسول الله صلى الله عليه وآله وسلم دجاج فطبخ بعضهن وشُويَ بعضهن فأتي بهن فأكل منهن وأكلت معه، وما رأيت رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم جمع بين إدامين حتى لحق بالله عز وجل، وقد تقدم أكله صلى الله عليه وآله وسلم مما تصدق به على بريرة وقال: ((هو لنا هدية)).
وقال الهادي عليه السلام : أهدى النجاشي إلى النبي صلى الله عليه وآله وسلم حراباً وبغلتين وشيئاً من الذهب فقبل ذلك، وكانت الحراب تحمل قدامه، وأهدى إليه ملك قبط مصر جاريتين وبغلتين وحللاً من حلل مصر، فقبل ذلك، ووطأ إحداهما فولدت له إبراهيم، ووهب الأخرى لحسان بن ثابت، وأخرجه ابن خزيمة مختصراً من حديث بريدة، ويقال إنهما كانتا أختين.
وفي (سلوة العارفين) للموفق بالله عليه السلام : أخبرنا أبو الحسن علي بن محمد بن أحمد، أخبرنا الحسن بن علي بن عاصم، أخبرني قبيس بن حفص الدارمي، أخبرنا جعفر بن سليمان الضبعي، عن ثابت، عن أنس بن مالك يقول: أهديت للنبي صلى الله عليه وآله وسلم ثلاث طوائر فأطعم خادمه طائراً، فلما كان من الغد أتته به فقال لها رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم : ((ألم أنهك أن ترفعي لغد شيئاً فإن الله يأتي برزق كل غد)).
وعن عائشة أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم كان يقبل الهدية ويثيب عليها. أخرجه أحمد، والبخاري، وأبو داود، والترمذي.
وفي (الشفاء) عنه صلى الله عليه وآله وسلم أنه قال: ((تهادوا تحابوا)) أخرجه أبو يعلى في سنده.
وفي مجموع زيد بن علي عليه السلام عن علي عليه السلام ، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم : ((لا تدخلوا الجنة حتى تؤمنوا، ولا تؤمنوا حتى تحابوا، ألا أدلكم على شيء إذا فعلتموه تحاببتم؟ قالوا: بلى يا رسول الله، قال: أفشو السلام وتواصلوا وتباذلوا)).
والتباذل: هو إعطاء بعضهم بعضاً.
[جواب علامة العصر حول صدق النفل لبني هاشم]
ولنأت في هذا الموضع بما ذكره علامة العصر في جواب سؤال سألته عنه في سنة ثلاث وخمسين وثلاثمائة وألف فقد أشار في جوابه إلى صور متعددة مما قبل النبي صلى الله عليه وآله وسلم فيها الصلات والهدايا، وعزاها إلى أربابها من محدثي أئمتنا" وغيرهم.
قال أبقاه الله: وسأملي عليك بعض ما تناوله صلى الله عليه وآله وسلم مما تقرب به المسلمون، أو تناوله أهل العصمة، منها: ما رواه أبو طالب في أماليه من حديث جابر وفيه طحنه الشعير له، وذبح شاة له، ثم أكله صلى الله عليه وآله وسلم وأهل الخندق وهم ثلاثة آلاف.
ومنها: صنع أبي طلحة طعاماً للنبي صلى الله عليه وآله وسلم فأكل منه وثمانون رجلاً، وأهل البيت. عند أبي طالب، ونحوه عند مسلم.
ومنها: حديث أنس سمعت صوت النبي صلى الله عليه وآله وسلم ضعيفاً أعرف فيه الجوع فهل عندك من شيء يعني أم سليم؟ قالت: نعم فأخرجت قراصاً من شعير وعصرت له عكة، وأكل صلى الله عليه وآله وسلم وسبعون أو ثمانون. عند الشيخين.
ومنها: إرسال أم أنس أيضاً الحيس له صلى الله عليه وآله وسلم في عرس زينب فأكل منه والخلفاء حتى بلغوا اثنين وسبعين. عند أبي نعيم، وابن عساكر.
ومنها: حديث سمرة أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم أتي بقصعة فتعاقبوها إلى الظهر. عند أبي نعيم، والدارمي، وابن أبي شيبة، والترمذي، والحاكم، والبيهقي، وصححوه.
ومنها: صنع أبو أيوب لرسول الله صلى الله عليه وآله وسلم طعاماً فأكل منه ومائة وثمانون من الأنصار. عند البيهقي، والطبراني، وأبي نعيم.
ومنها: حديث عبد الرحمن بن أبي بكر: كنا مع النبي صلى الله عليه وآله وسلم ثلاثين ومائة فقال: هل مع أحدكم طعام فإذا مع رجل صاع أو نحوه إلى أن قال فعجن إلى أن قال وجعل قصعتين فأكلنا منه أجمعون. عند البخاري.
ومنها: حديث أنس عند ابن المغازلي بينا أنا ذات يوم بباب النبي صلى الله عليه وآله وسلم إذ جاء رجل وطبق مغطى فقال: هل من إذن؟ فقلت: نعم فوضع الطبق بين يدي رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم طائر مشوي فقال: أحب أن تملأ بطنك من هذا يا رسول الله. قال: غط عليه -إلى أن قال- فدخل علي عليه السلام فجعل ينازع النبي صلى الله عليه وآله وسلم .
ومنها: حديث جابر صنعت أمي طعاماً فقالت: اذهب إلى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فادعه فجئته فساررته فقال لأصحابه: قوموا -إلى أن قال- فأكلوا حتى شبعوا. عند الطبراني بسند حسن.
ومنها: حديث جابر أيضاً أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم أقام أياماً لم يطعم طعاماً حتى شق ذلك عليه فأتى فاطمة وقال: يا بنية هل عندك شيء؟ قالت: لا، فلما خرج من عندها بعثت جارةً لها برغيفين وقطعة لحم ووضعته في جفنة، وغطت عليها، وأرسلت إلى النبي صلى الله عليه وآله وسلم -إلى أن قال: فبعث النبي صلى الله عليه وآله وسلم ثم أكل هو وعلي وفاطمة، وحسن وحسين، وجميع أزواج النبي صلى الله عليه وآله وسلم . عند أبي يعلى، ومثله في سلوة العارفين.
ومنها: حديث أم عامر أسماء بنت يزيد بن السكن قالت: رأيت رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم صلى في مسجدنا المغرب فجئت منزلي، وجئت بعرق وأرغفة فقلت: بأبي وأمي تعش، فقال لأصحابه: ((كلوا بسم الله)) فأكل هو وأصحابه -إلى أن قال- فشرب من ماء عندي في شحب ثم انصرف... إلخ. عند أبي سعد.
ومنها: حديث مسعود بن خالد بعثت إلى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم بشاة ثم ذهبت في حاجة فرد إليهم رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم شطرها يعني أهله. الخبر عند الطبراني.
ومنها: حديث جابر قلت لامرأتي: إن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يجيئنا اليوم نصف النهار فدخل وفرشت له فنام، وذبحت عناقاً، فلما استيقظ وضعتها بين يديه فقال: ادع لي أبا بكر، ثم دعا جواريه الذين معه فأكلوا حتى شبعوا. عند الحاكم.
ومنها: إهداء أم شريك للنبي صلى الله عليه وآله وسلم [عكة]سمن فأخذوها ففرغوها. عند البيهقي من حديث طويل.
ومنها: حديث جابر أن أم مالك كانت تهدي للنبي صلى الله عليه وآله وسلم من عكة سمناً. الخبر عند مسلم.
ومنها: حديث كانت عند أم شريك عكة تهدي فيها سمن كذا لرسول الله صلى الله عليه وآله وسلم . الخبر عند ابن سعد.
ومنها: حديث أن أم مالك الأنصارية جاءت بعكة سمن إلى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فأمر بلالاً فعصرها، فرجعت فإذا هي مملوءة فأخبرت النبي صلى الله عليه وآله وسلم فقال: ((هذه بركة عجل الله ثوابها)) عند الطبراني، وأبي نعيم، وابن أبي شيبة.
ومنها: حديث أم أوس النهزية وإهدائها للنبي صلى الله عليه وآله وسلم عكة فقبله وترك فيها قليلاً -إلى قوله: فردوها مملوءة فظنت أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم لم يقبلها فجاءت ولها صراخ. الخبر عند البيهقي، والطبراني.
ومنها: حديث أن أم سليم جمعت من شاتها سمناً في عكة، وأرسلت به إلى النبي صلى الله عليه وآله وسلم فأفرغها وردها. الخبر عند أبي يعلى، والطبراني، وأبي نعيم، وابن عساكر.
قال أيده الله: فهذا بعض ما تناوله رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ، ثم ذكر بعض ما تناوله أمير المؤمنين عليه السلام .
وأخرج البخاري، ومسلم عن أنس أن أكيدر دومة أهدى لرسول الله صلى الله عليه وآله وسلم جبة من سندس فلبسها.
وعن أبي حميد الساعدي قال: غزونا مع النبي صلى الله عليه وآله وسلم تبوك وأهدى ابن العَلْما للنبي صلى الله عليه وآله وسلم برداً، وجاء رسول صاحب أيلة إلى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وأهدى له بغلة. أخرجه البخاري، وفي صحيح مسلم: أهدى فروة الجدامي بغلة بيضاء ركبها يوم حنين.
وفي (مسالك الأبرار المنتزع من جلاء الأبصار) عن الحاكم المحسن بن كرامة بإسناده إلى عبد الله بن مسعود، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم : ((أجيبوا الداعي ولا تردوا الهدية ولا تضربوا المسلمين)).
وأخرج ابن عساكر عن أبي هريرة، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم : ((تهادوا تحابوا وتصافحوا يذهب الغل عنكم)).
وأخرج أهل السنن الأربعة عن ابن عباس، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم : ((تهادوا الطعام بينكم فإن ذلك توسعة في أرزاقكم)).
وأخرج أحمد، والترمذي عن أبي هريرة، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم : ((تهادوا إن الهدية تذهب وحر الصدر، ولا تحقرن جارة لجارتها ولو فرسن شاة)).
الفرسن -بالسين المهملة والنون-: عظم قليل اللحم وهو خف البعير، وقد يستعار لظلف الشاة.
وأخرج أحمد عن سفينة مولى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قال: أهدت امرأة إلى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم طيرين بين رغيفين فقدمت إليه الطيرين، فقال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم : ((اللهم آتني بأحب خلقك إليك وإلى رسولك)) فجاء علي عليه السلام فرفع صوته، فقال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم : ((من هذا؟)) فقلت: علي، قال: ((فافتح له)) ففتحت له فأكل مع النبي صلى الله عليه من الطيرين حتى فنيا.
قلت: وحديث الطير هذا قد أخرجه جماعة من أئمتنا والمحدثين بألفاظ عن غير واحد من الصحابة، وفي بعض الروايات أن المهدي امرأة، وفي بعضها أن الذي كان على الباب أنس بن مالك، والظاهر تعدد القصة، وممن أخرج الحديث الترمذي عن أنس، والكنجي عن علي عليه السلام ، وفيه: أن الطائر من الحباري، وابن المغازلي عن أنس وفيه: أن الطائر نحامة، وأبو داود عن أنس، وفي كلها يقول: اللهم آتني بأحب خلقك إليك.
قال بعض الآل": وقد أخرج الحديث ابن المغازلي من نيف وعشرين طريقاً استوفاها بأسانيدها في المناقب.
وقال أبو القاسم إسماعيل بن أحمد البستي: قد صح الخبر بإجماع الصحابة والعترة عند الشيعة، والمعتزلة، والتترية وأحبهم عند الله هو أعظم ثواباً وأكثرهم طاعة.
قال (في أنوار التمام): هذا الحديث اشتمل على الإهداء لرسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ، وعلى هذه الفضيلة أشرف الفضائل التي لم يفضل الله تعالى بها أحداً بعد رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ، وجعلها خاصة لعلي بن أبي طالب كرم الله وجهه في الجنة.
قلت: وفي الحديث دليل على أن قوله عليه السلام حجة؛ لأنه قد ثبت أن الله تعالى يحبه على الإطلاق، وكذلك رسوله صلى الله عليه وآله وسلم ، وكل من ثبت أن الله يحبه ورسوله على الإطلاق فهو معصوم، ومن كان معصوماً فهو حجة.
هذا وأما قبول أئمة العترة" وولاتهم هدايا من بعد أن عرفوا من حاله أنه لم يصلهم، ولم يهد لهم لأجل الولاية، فهو مشهور عنهم"، ومن ذلك ما رواه في (أمالي أبي طالب) في اتخاذ الأحنف طعاماً لعلي عليه السلام فاستدعاه هو وأصحابه، وفي صحيفة علي بن موسى عليه السلام : أن بعضهم استدعاه فقال: أشترط عليك ثلاثاً... الخبر.
ومن ذلك ما في حديث أبي سعيد أن علياً عليه السلام وجد ديناراً، قال: فعرفته حتى سئمت فلم أجد له باغياً، فاستقرضه فاشترى به طعاماً من رجل حتى إذا ضم وعاه رد عليه الرجل الدينار، وفعل علي عليه السلام في اليوم الثاني كذلك، فأعطاه الرجل الطعام، ثم رد عليه الدينار، ثم في اليوم الثالث كذلك، فأبى علي عليه السلام من قبول الدينار.
هذا معنى الحديث، والخبر بطوله أخرجه الخوارزمي في فصوله، وفيه أنهم أكلوا الطعام، ورُويَ أنه عليه السلام دخل والحسنان يبكيان من الجوع فخرج فوجد ديناراً ثم أخذ به دقيقاً من يهودي، فقال: خذ دينارك ولك الدقيق، فأرسلت فاطمة إلى أبيها صلى الله عليه وآله وسلم فجاءهم، فقالت: أذكر لك فإن رأيته حلالاً لنا أكلناه وأكلت معنا، من شأنه كذا وكذا، فقال صلى الله عليه وآله وسلم : ((كلوا باسم الله)) فأكلوا. أخرجه أبو داود، والبيهقي، وفيه طول.
وكان الناصر عليه السلام يقبل الهدايا تارة، ويردها أخرى، وكان للمؤيد بالله صديق يتحفه في كل سنة بعدد من الرمان فيقبلها منه حتى ظهر له منه في بعض السنين أنه أعطاه لإزالة شكوى فأزال شكواه ولم يقبل منه، وكذلك روي أن رجلاً أهدى لعمر فخذ جزور فقبلها، ثم تبين له أنه لأجل الولاية فحرم الهدايا. رواه البيهقي.
وذكر أبو العباس أن الذي يجيء على مذهب الهادي جواز قبول هدية من يهاديه قبل القضاء، أو كان ذا رحم.
وفي كتب السير للأئمة وتواريخهم أنهم كانوا يقبلون الصِّلاَةَ والهدايا ما لم تكن على جهة الرشوة، أو لمكان الولاية، بل قد جعل اتساع نذورهم، وطلب البركة بالإحسان إليهم من جملة كراماتهم، وهذا معروف فيما بينهم إلى زماننا هذا، وقد أجاز المنصور بالله، والأمير الحسين قبول الهدايا بإذن إمام الحق لمصلحة يراها؛ لحديث معاذ بن جبل وهو أنه أهدي له في حال إمارته ثلاثون رأساً من الرقيق، فلما قدم بهم بعد موت النبي صلى الله عليه وآله وسلم أراد أبوبكر انتزاعه من يده إلى بيت المال فكره وقال: طعمة أطعمنيها رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ، ثم أتى وهم يصلون، فقال لمن: تصلون؟ فقالوا: لله، قال: قد وهبتكم له فأعتقهم. رواه (في الشفاء).
وفي ( سنن الترمذي): حدثنا أبو كريب، حدثنا أبو أسامة، عن داود بن يزيد الأودي، عن المغيرة بن شبيل، عن قبيس بن أبي حازم، عن معاذ بن جبل، قال: بعثني رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم إلى اليمن فلما سرت أرسل في أثري فرددت، فقال: ((أتدري لم بعثت إليك، لا تصيبن شيئاً بغير إذني فإنه غلول {وَمَنْ يَغْلُلْ يَأْتِ بِمَا غَلَّ يَوْمَ الْقِيَامَةِ}[آل عمران:161] لهذا دعوتك فامض لعملك)).
قال الترمذي: حديث غريب لا نعرفه إلا من هذا الوجه من حديث أبي أسامة، عن داود الأودي.
قال: وفي الباب عن عدي بن عميرة، وعبيدة، والمستورد بن شداد، وأبي حميد، وابن عمرو، وقال بعض أصحابنا: هذا حيث عُرِفَ من المهدي التقرب إلى الله تعالى؛ لأنهم كانوا يتبركون برسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فعرف معاذ ذلك من قصدهم، وقيل: إن حديث معاذ لم يصح ولو صح لكان خاصاً به لما علم فيه من فضله ونزاهته وورعه ما لا يشاركه فيه غيره، وكذلك يقال في الاستدلال بما مر من قبوله صلى الله عليه وآله وسلم الهدايا؛ لأن ذلك من خصائصه صلى الله عليه وآله وسلم ؛ لأنه كان لا يقبل إلا ممن علم أنه طيب النفس، ومع ذلك إنه كان يكافئ عليه، على أنه معصوم عن الميل والجور الذي يخاف على غيره بسبب الهدية.
قلت: دعوى الخصوصية تحتاج إلى دليل، والتعليل الذي ذكروه ينفي الاختصاص؛ إذ لا مانع من أن يعلم المهدى إليه من نفسه أنه لا يحصل منه بسبب الهدية ميل ولا جور مع ما يقتضيه الظاهر الذي لم نكلف إلا به؛ من أن المعطي لم يقع منه المعطى لأجل الولاية، وفي أئمة العترة" من يعلم من حال المعطين لهم أنهم لم يقصدوا إلا التبرك لظهور فضله، وانتشار عدله، وقصر جواز الإذن على معاذ لما ذكر من نزاهته وورعه من تحجر الواسع، فإن في أئمة أهل البيت وعلمائهم، وأتباعهم من هو أورع وأنزه من معاذ رضي الله عنه.
قال بعض العلماء: وقد روي أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم لما قدم معاذ على اليمن قال له: ((قد علمت الذي دار عليك في مالك، وقد طيبت لك الهدية)) ولم يصح سنداً ولا معنى، فإن الهدية على وجهها لا يختص بها معاذ وعلى غير وجهها لا تجوز لمعاذ، وذلك من هدايا الأمراء.
نعم على المهدى إليه إبلاغ الجهد في معرفة حل ما يأخذ، وتيقن طيب وجهه، ولا يغتر بتصنع المهدين، وتوصلهم إلى أغراضهم بالكذب والمين، فإنهم إذا عرفوا منه عدم القبول توصلوا إلى قبوله بكل ممكن ولو بالأيمان الفاجرة؛ لأنهم ما قصدوا بذلك إلا الوجه الذي لا يجوز له مع الأخذ، ثم يأخذون أغراضهم منه بعد تمكن الصداقة في قلبه، وتأثير الهدية بعد الهدية عنده، فالحذر الحذر فإن غالب الهدايا اليوم إنما تكون لدفع ضرر أو استجلاب نفع، فلينظر العالم والوالي فيما فيه السلامة من أهوال يوم القيامة، ولا أسلم من الورع، وكف النفس عن الشبهة، والنظر في قرائن الأحوال، والتبين للمقاصد لما ذكرناه من غلبة المقاصد الرديئة، والأهواء المردية، سيما من تلبس بالولاية فإن غالب ما يهدى إليه يكون من باب الرشوة المحرمة.
قال في شرح الإبانة: وهدايا الأمراء فإنما تهدى إليهم لمكانهم من الولاية ليمتنعوا بها عن الظلم، أو يعدلوا بسبب الهدية، وأكثر ما يهدى إليهم فيكون على وجه التقية والمخافة، وطمعاً في أن لا يظلموا ولا يحيفوا، فلذلك حرم أخذها.
وروى الناصر عليه السلام أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم كان يقبل الهدية ويدعو لصاحبها، وقال في حديث بريرة: ((لها صدقة ولنا هدية)) ومن حديث جعفر بن محمد عليه السلام : أن تكرمة الرجل لأخيه أن يقبل تحفته ويتحفه بما عنده ولا يتكلف له شيئاً فإن الله لا يحب المتكلفين. وذكر عليه السلام يعني الناصر في باب الهدية أن المهدى إليه إن كان إماماً أو حاكماً فلا ينبغي أن يأخذ الهدية، وكذلك الشاهد والمعدل.
وروى أبو الحسين الزاهد في قضائه عنه عليه السلام أنه أهدي إليه من الجيل شيء من الرُب فقبل، فلما كان اليوم الثالث جاء صاحبه مستعدياً على آخر فدعا بخادمه وأمر برد رُبِّه عليه، وأهديت إليه سفرجلة فأخذها، ثم قدم المهدي خصيماً له إليه فردها من ساعته، وكان من عادته صلوات الله عليه أنه إذا أهدي إليه شيء كان يسأل صاحبها لك ظلامة عند آخر، وكان يتربص بها حتى يتبين أمر صاحبها فإن كانت له خصومة ردها عليه، وإلا كان يستعملها، وينتفع بها.
تنبيه [في قبول هدايا الكفار]
وقد استفيد مما مر جواز قبول الهدية من الكفار لقبوله صلى الله عليه وآله وسلم هداياهم، والظاهر أنه إجماع.
قال في شرح الإبانة: ولا خلاف بين العلماء أنه تجوز الهبة من الملي المسلم ومن الذمي، والمشرك، وكذلك الهدية، وقال النبي صلى الله عليه وآله وسلم : ((ولو أهدي إلي ذراع لقبلت)) ولم يفصل بين أن يكون المهدي مسلماً أو غيره.
تنبيه [مكافأة الهدية]
في بعض الروايات السابقة أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم كان يثيب على الهدية، ومعنى الإثابة المجازاة عليها والمكافأة، وقد اختلف العلماء في ذلك، فذهب الجمهور إلى عدم وجوب المكافئة، وقالوا: إنما الإثابة مندوبة فقط.
وروي عدم الوجوب عن المؤيد بالله، وفي شرح الإبانة أن الذي تقضي به مسائل الناصر أن الهبة لا يثبت لها عوض إلا بالشرط، وذكر يعني الناصر في كتاب (الألفاظ) أن الواهب إن تعرض للعوض وجب على الموهوب له فيما بينه وبين الله تعالى أن يعوضه.
قال شارح الإبانة: فدليل هذا الكلام أن الهبة بمجردها لا تقتضي الثواب والعوض، وذلك قول عامة أهل البيت، وأبي حنيفة وأصحابه.
وقال الشافعي: إذا وهب لمن فوقه فإنها تقتضي الثواب بمجردها، وقوله الثاني مثل قولنا.
وفي حواشي شرح الإبانة عن أبي طالب أنها تقتضي الثواب، وذكر بعض المالكية أنها تجب المكافأة إذا أطلق المهدي، وكان ممن مثله يطلب الثواب كالفقير للغني بخلاف ما يهبه الأعلى للأدنى، قيل: وهو قول الشافعي في القديم، وروي عن الحنفية، والشافعي في الجديد أن الهبة في الثواب باطلة لأنها بيع مجهول؛ ولأن موضوع الهبة التبرع، وقال أهل المذهب: إن جرت العادة بأن الولائم والمآتم يفعل ذلك فيها ليفعل المهدي إليه مثلها وجبت المكافأة له حسب العرف.
قالوا: فأما إذا علم من قصد المهدي أنه لا يريد العوض لم يجب.
حجة الجمهور حديث: ((تهادوا تحابوا)) وما في معناه مما أمر فيه بالتواصل والمباذلة، ولو كانت مقتضية للعوض لا يحصل بها التحاب؛ لأنها تصير في معنى البيع ولم يقع التحاب بالبيع، وأيضاً ليس في الأحاديث السابقة الذكرالمكافأة، بل الظاهر من سياق كثير منها عدم المكافأة.
وروى الهادي عليه السلام عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أنه قال: ((اصطنع المعروف إلى من هو أهله وإلى من ليس من أهله فإن أصبت أهله فهو أهله وإلا فأنت أهله)) وأخرج نحوه ابن النجار عن علي عليه السلام والخطيب في رواية مالك عن ابن عمر.
حجة من أوجب المكأفاة حديث عائشة، وما روي عن ابن عباس أن أعرابياً وهب للنبي صلى الله عليه وآله وسلم هبة فأثابه عليها، قال: رضيت؟ قال: لا. فزاده، قال: أرضيت؟ قال: لا. فزاده، قال: أرضيت؟ قال: نعم، فقال النبي صلى الله عليه وآله وسلم : ((لقد هممت أن لا أتهب هبة إلا من قرشي أو أنصاري أو دوسي)) أخرجه أحمد، وابن حبان في صحيحه.
قال في مجمع الزوائد: ورجال أحمد رجال الصحيح.
وأخرجه أبو داود، والنسائي من حديث أبي هريرة بنحوه والترمذي مطولاً.
ورواه من وجه آخر بين أن الثواب كان ست بركات، ورواه الحاكم وصححه على شرط مسلم، وذكر الروايتين في الشفاء بنحو ما هنا ولم يذكر ابن عباس ولا أبا هريرة.
وروى الهادي إلى الحق عليه السلام يرفعه إلى النبي صلى الله عليه وآله وسلم أنه قال: ((قال جبريل عليه السلام : يا محمد من أولاك يداً فكافئه)).
وفي شرح الجامع الصغير مرفوعاً: ((إنا نقبل الهدية ونكافئ عليها)).
وفي أمالي أحمد بن عيسى: ثنا محمد، ثنا محمد بن إسماعيل، عن وكيع، عن إبراهيم بن إسماعيل، عن عمرو بن دينار، عن أبي هريرة، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم : ((الرجل أحق بهبته مالم يثب عليها)) وأخرجه ابن ماجة.
قال العزيزي: وإسناده ضعيف.
وفي أمالي أحمد بن عيسى: حدثنا محمد، قال: ثنا أبو الطاهر، قال: ثني أبي عن أبيه، عن أبيه، عن جده، عن علي عليه السلام قال: من وهب هبة يريد بها وجه الله والدار الآخرة أوصلة رحم فلا رجعة له فيها، ومن وهب هبة يريد بها عوضاً كان له ذلك العوض ما كان قائماً بعينه فإن استهلكها كان له قيمته.
وفي الشفاء عن علي عليه السلام : الواهب أحق بهبته ما لم يثب فيها إلا في ذي رحم محرم. وهذا يدل على أن الهبة تقتضي المكافأة.
وأجيب: بأن غاية ما تدل عليه تلك الأحاديث هو أنه عوض المهدي وكافأه ونحن نقول به، لكن الكلام في الوجوب، وليس ثمة ما يدل عليه فإن قيل: بل يدل عليه قوله صلى الله عليه وآله وسلم : ((من أولاك يداً فكافئه)).
قيل: الأمر فيه للندب لعدم مكافأته صلى الله عليه وآله وسلم لكل من أهدى إليه، وكذلك أمير المؤمنين كرم الله وجهه، وسائر أئمة العترة" كما يدل عليه ما مر.
قالوا: قال الله تعالى: {هَلْ جَزَاءُ الإِحْسَانِ إِلاَّ الإِحْسَانُ}[الرحمن:60].
قلنا: ليس الإحسان مقصوراً على بذل العوض، فقد يكون بالشكر والثناء ونحوهما.
حجة المفصلين وهم أهل المذهب وبعض المالكية بأن الأصل بقاء الشيء على ملك مالكه، وأنه لا يحل إلا بطيبة من نفسه، وإذا قضت القرائن بأن المهدي يريد من المهدى إليه العوض وجب تعويضه حسب العرف لوجوب العمل بالظن، والقرائن والأمارات قد يحصل عنها الظن الغالب بعدم طيبة نفس المهدي بالهدية إن لم ينل بها عوضاً، والذي يظهر هو وجوب المكافأة، لكن لا تقصر المكافأة على بذل المال، بل تختلف باختلاف المهدي والمهدى إليه، فإذا كانت لمن يتبرك بالإهداء إليه أو إلى فقير ونحو ذلك، فالمكافأة قد تكون بالدعاء والثناء ونحوهما، وإن كانت من فقير إلى غني أو من أحد الرعية إلى السلطان وجبت المكافأة بالمال حسب العرف، وفي هذا جمع بين الأدلة واستعمال لظواهرها القاضية بالوجوب، ويدل على أن الدعاء ونحوه من المكافأة ما مر من أنه صلى الله عليه وآله وسلم كان يقبل الهدية ويدعو لصاحبها، واستحسانه صلى الله عليه وآله وسلم لشعر ابن عريض.
روى الهادي إلى الحق عليه السلام عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أنه قال لعائشة: ((تروين من شعر ابن عريض اليهودي شيئاً؟ فقالت: لا، فقالت أم سلمة: لكني أروي، فقال لها: وكيف قال؟ قالت: قال:
أجزيك أن أثني عليك وإن من .... أثنى عليك بما فعلت فقد جزى
وقد ذم رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم من لم يكافئ بالثناء كما في حديث: ((من لم يشكر الناس لم يشكر الله)) وقد مر في الفاتحة وأمر بإعطائه كما مر في حديث: ((اصطنع المعروف))...الخبر.
وقال علي عليه السلام : لا يزهدنك في المعروف من لا يشكره لك فقد يشكرك عليه من لا يستمتع منه بشيء. رواه في النهج.
وعلى الجملة إن المكافأة بالثناء والدعاء والاعتراف بالنعماء كافية في حصول جزاء المهدى إليه للمهدي، وقد تقدم في الفاتحة أحاديث تدل على ذلك، وقد ورد: اللهم لك الحمد حمداً يوافي نعمك ويكافئ مزيدك. أو كما قال، فجعل الحمد مكافأة، وهذا ما لم يعلم أو يظن أن المهدي قصد بالهدية المعاوضة، وحينئذٍ تجب المعاوضة حسب العرف أو الرد، وقد مر أنه يرجع في معرفة مراده إلى القرائن.
النوع الثالث: [الأجرة من الخصم على القضاء]
لما يأخذه القاضي أن يكون المأخوذ من الخصوم أجرة على قضائه، وهذا محرم للآية.
قال الإمام أحمد بن سليمان عليه السلام : ولا يجوز للقاضي أن يأخذ شيئاً على الحكم من الخصمين ولا من غيرهما لأنه لا يجوز أن يأخذ الأجرة على أمر واجب عليه، ولا خلاف في ذلك، ولأنه لا يأخذ إلا على الظلم أو النصفة، ولا يجوز أخذه على شيء من ذلك، وكذلك الهدية أو ما يجري مجراها.
وبه قال أبو حنيفة، ويقتضيه قول الشافعي، وذهب بعض أصحابه قيل علي القفال إلى أن الأجرة على القضاء والشهادة جائزة إذا كانت مشروطة.
قيل: قال عليه السلام : وقد قدمنا ما يحجه.
قلت: أراد بما يحجه الإجماع، وذكر في شرح الإبانة أن القاضي إذا أجره رجل من أهل عمله على أن يحكم له ولهم فإنه لا يحل أخذه عند السادة" والفريقين؛ لأنه كالأجرة، وليس له أن يحكم بين الناس بأجرة مشروطة عليه، قال: لأن ذلك حرام كالهدايا التي تهدى لأجل القاضي، ثم احتج بقوله صلى الله عليه وآله وسلم : ((الراشي والمرتشي في النار)) وقوله: ((هدايا الأمراء غلول)) والمصحح للمذهب أنه لا يجوز أخذ الأجرة على الواجب والمحظور، وعدوا القضاء من الواجبات، ويدل على التحريم جميع ما مر من الأدلة الدالة على تحريم أخذ العوض على تعليم القرآن والعلم، وقد مر أول المسألة أن كل ما تقدم من الاستدلال على تحريم أخذ العوض على تعليم القرآن والعلم يدل على تحريم أخذ الأجرة على القضاء والفتوى إذ هما نوع من التعليم، وإبلاغ لأحكام الله تعالى، وقد قال تعالى حاكياً عن نبيه صلى الله عليه وآله وسلم : {قُلْ لاَ أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْراً إِلاَّ الْمَوَدَّةَ فِي الْقُرْبَى}[الشورى:23] والحكم بمنزلة تبليغ الرسالة.
وفي (سلوة العارفين) للموفق بالله عليه السلام : حدثنا الحسن بن علي، حدثنا محمد بن صدقة، حدثنا موسى بن جعفر، عن أبيه، عن جده، عن علي بن الحسين، عن أمير المؤمنين عليه السلام قال: سمعت النبي صلى الله عليه وآله وسلم يقول: ((إني أخاف عليكم استخفافاً بالدم وبيع الحكم)).
وأخرج ابن أبي شيبة عن علي عليه السلام أنهم سألوا متى الساعة؟ قال: لقد سألتموني عن أمر ما يعلمه جبريل ولا ميكائيل، ولكن إن شئتم أنبأتكم بأشياء إذا كانت لم يكن للساعة كثير لبث، إذا كانت الألسن لينة والقلوب جنادل، ورغب الناس في الدنيا، وظهر البناء على وجه الأرض،واختلف الأخوان فصار هواهما شتى، وبيع حكم الله بيعاً.
وفي حديث حذيفة مرفوعاً:((من اقتراب الساعة اثنتان وسبعون خصلة وعد منها بيع الحكم)) أخرجه أبو نعيم في الحلية.
قلت:والمراد ببيع الحكم أخذ العوض عليه؛ إذ حقيقة البيع هو استبدال الشيء بالشيء،فإذا امتنع الحاكم من الحكم إلا بإعطائه عليه عوضاً فقد باعه كما هو شأن قضاة زماننا.
وفي الجامع الكافي بإسناده عن علي عليه السلام أنه كره للقاضي أن يأخذ على القضاء رزقاً، وفيه أيضاً عن علي عليه السلام : من أخذ على حكمه شيئاً فذلك السحت.
فهذا مع ما قد تقدم في تحريم أخذ العوض على تعليم كتاب الله، وتبليغ أحكام الله، وذم من جعل العلم شبكة يصطاد بها أموال الناس، واستعمل آلة الدين للدينا، دليل صريح قاطع على تحريم ما يفعله قضاة زماننا من جعلهم القضاء بين الملأ وسيلة إلى جمع الدنيا، وأكل أموال الناس بلا حشمة ولا حياء، بل قد صارت أجرة الحاكم من أعظم الحقوق عندهم لا يقبل فيها عذر ولا ينظر فيها معسر، ولا يبالون بما لحقهم من الشتم والسب حتى أن المتخاصمين ربما تهدد أحدهما صاحبه بأنه سيوصله إلى الحاكم، ومرامه بذلك أنه إذا وصل عند الحاكم لا بد أن يغرم أجرة الحاكم، ومن العجب أنه إذا تشاجر الخصمان في دين فتبين إعسار من عليه الدين حكم الحاكم بإنظاره.
وأما أجرته فلا يتناولها حكمه، بل لا بد من تعجيلها وإلا حبسه وآذاه، وعلى الجملة إن قضاة زماننا سباع ضارية، وذئاب عاوية، وهذا أمر ظاهر مشهور فإنا لله وإنا إليه راجعون، وما أحسن ما قال القائل شعراً:
قضاة زماننا صاروا لصوصاً .... عموماً في القضايا لا خصوصا
يرون الحل أموال اليتامى .... كأنهم رووا فيها نصوصا
ونخشى منهم إن سالمونا .... يحلوا من خواتمنا الفصوصا
ومع ذلك إن كثيراً منهم جهال لا يعرفون التقليد، ولا يحققون فروع المذهب، وهذه طامة كبرى، ويتصل بذلك مصيبة عظيمة، وفادحة في الإسلام جسيمة، وهي أنهم وجدوا حاشية في أول كتاب الفرائض ذكر فيها أنه إذا قسم بين الورثة استحق نصف العشر بلا منة، فجعلوا هذه الحاشية عذراً لهم في أخذ أموال الناس عند القسمة، وموهوا بها على العامة حتى أن الحاكم ربما اتخذ له أعواناً ممن يدعي الفقه فيأمره بحصر التركة وقسمتها بين أهلها، وتكون لهم أجرة من المقتسمين أضعاف ما يستحقونه، ثم بعد تمام القسمة يوصلون إلى الحاكم نصيبه من المال إما نصف العشر أو نحوه كأنه فرض لازم ويكون ذلك أمر زائد على ما يأخذه القاسمون لأنفسهم، وربما فعل الورثة من يقسم بينهم من غير أعوانه ولا يرضى الحاكم بتلك القسمة إلا إذا سلموا ما هو له، وليس منه عمل قط، وقد يسميها بعضهم فريضة الحاكم، وهذه من الدواهي الفظيعة والأمور الشنيعة مع أن تلك الحاشية لا يعلم قائلها، ولا يشهد لها كتاب، ولا سنة ولا إجماع ولا قياس، بل هي مخالفة لأدلة الكتاب والسنة، وإجماع الأئمة والأمة، فإن علم الفرائض من جملة علوم الإسلام التي قد ثبت بما قدمناه تحريم أخذ العوض على تعلمها وتعليمها، وعلى القضاء بها، بل قد جاء عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم ما يدل على تفضيلها وتخصيصها بالحث على تعلمها وتعليمها لأجل دفع الظلم عند قسمة المواريث، وما كان هذا شأنه فكيف يقال بجواز أخذ العوض على تعليمه والقضاء به.
قال الهادي إلى الحق يحيى بن الحسين عليه السلام : بلغنا عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم : ((تعلموا القرآن وعلموه الناس، وتعلموا الفرائض وعلموها الناس فإني امرؤ مقبوض، وإن العلم سيقبض بعدي، وتظهر الفتن حتى يختلف الإثنان في الفريضة فلا يجدان من يفصل بينهما)) وهو في الجامع الكافي إلا أنه لم يذكر القرآن.
قال محمد: حدثنا جعفر بن محمد الهمداني، قال: ثنا حماد بن أسامة، عن عوف، بن أبي جميل، عن رجل حدثه عن سليمان بن جابر، عن عبد الله بن مسعود فذكره، وأخرجه النسائي، والحاكم، والدراقطني، والدارقطني كلهم من رواية عوف عن سليمان بن جابر.
قال السيد أحمد بن يوسف زبارة: وفيه انقطاع، أخرجه أحمد من طريق الأحوص عن ابن مسعود.
وأخرج الترمذي عن أبي هريرة، قال: قال: رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم : ((تعلموا الفرائض والقرآن وعلموا الناس فإني مقبوض)).
وأخرج الحاكم، وابن ماجة، والدارقطني عن أبي هريرة، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم : ((تعلموا الفرائض وعلموها فإنها نصف العلم وهو ينسى وهو أول علم ينتزع من أمتي)).
قال في التلخيص: ومداره على حفص بن عمر بن أبي العطاء وهو متروك.
وأخرج هؤلاء الثلاثة وابن النجوي الشافعي في (البدر المنير) من حديث حفص المذكور عن أبي هريرة مرفوعاً: ((تعلموا الفرائض فإنها من أقر دينكم وإنها نصف العلم، وإنه أول علم ينتزع من أمتي)).
وقال الهادي عليه السلام : بلغنا عن بعض الرواة أنه قال: ((من تعلم القرآن فليتعلم الفرائض ولا يكون كرجل لقيه أعرابي فقال له: يا مهاجر تقرأ القرآن؟ فقال: نعم. قال: إن إنساناً من أهلي مات وقص عليه فريضته فإن حدثه فهو علم علمه الله وزيادة زاده الله، وإن لم يحسن قال فبما تفضلونا يا معاشر المهاجرين)).
وأخرج الحاكم والبيهقي عن أبي مسعود موقوفاً نحوه.
قال في (تتمة الروض): وهو في الجامع الكافي بمعناه، وفي الوسيط للقاضي أحمد بن نسر رحمه الله عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم : ((من تعلم العلم ولم يتعلم الفرائض كان كبرنس لا رأس له)).
وأخرجه رزين بلفظ: ((مثل العالم الذي لا يعلم الفرائض كمثل البرنس الذي لا رأس له)).
وفي (جامع الأصول) و(المصابيح) من رواية البخاري عنه صلى الله عليه وآله وسلم : ((تعلموا الفرائض قبل الظانين الذين يتكلمون بالظن)).
وفي (إيضاح الغامض) للخالدي رحمه الله مرفوعاً: ((من قسم بين اثنين فريضتهم فكأنما تصدق بها عليهم)).
فهذه الأخبار، وما في معناها نص صريح في إبطال ما تضمنته تلك الحاشية؛ لأنها قد دلت على أن تعليم الفرائض من الواجبات، وما كان واجباً فلا يحل أخذ الأجرة عليه، وأيضاً هي تدل على أن هذا الفن من علوم الشريعة بل من أفضلها، وقد ثبت تحريم أخذ العوض على تعليم العلوم الدينية، على أنه قد ورد في تحريم أجرة الذي يعلم الناس كيفية قسمة مواريثهم وتمييز فرائضهم ما يخصه، بل جاء ما يدل على تحريم أجر كل من قسم بين طائفة من المسلمين شيئاً.
أخرج أبو داود عن أبي سعيد الخدري أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قال: ((إياكم والقسامة، قلنا: وما القسامة؟ قال: الشيء يكون بين الناس فينقص منه)).
وفي رواية قال: ((الرجل يكون على الفئام من الناس فيأخذ من حظ هذا وحظ هذا)).
قال في القاموس: والفئام: الجماعة من الناس لا واحد له من لفظه.
وعنه صلى الله عليه وآله وسلم من حديث وابصة: ((مثل الذي يأكل القسامة مثل جدي بطنه مملوء رضفاً)) ذكره في النهاية، وقد حمل صاحب الفتح القسامة على مميز الفرائض بالفتوى، فإن قيل حمل القسامة على ذلك يدفعه كلام أهل اللغة في معناها، فإن ظاهر كلامهم كما تفيده النهاية أنه ما يأخذه القسام لنفسه من رأس المال من غير رضى أربابه لا برضاهم فيحل.
قيل: لنا في الجواب عنه وجوه:
أحدها: أن لفظ الحديث يأبى ذلك التأويل؛ لأنه جعل القسامة تنقيص أنصباء المشتركين في المقسوم، ولم يفصل بين المأذون فيه وغيره.
الثاني: أن خطاب الشارع يحمل على ما عرف في الشرع، وقد دلت الأدلة على تحريم العوض على القضاء والفتوى، وتحريم العلوم الشرعية، وتمييز الفرائض، وبيان القسمة الشرعية من ذلك القبيل، فيجب حمل الحديث عليه مع احتماله إياه.
الثالث: أنه قد جاء ما يدفع كلام صاحب النهاية عن باب مدينة العلم المبين للأمة ما اختلفت فيه بعد نبيها صلى الله عليه وآله وسلم ، بل كلامه عليه السلام يقتضي تحريم الأجر على كل قاسم.
ففي مجموع زيد بن علي عليه السلام بسنده عن علي عليه السلام أنه قال: ((أجر القاسم سحت)).
وأخرج عبد الرازق عن طريف، قال: مر علي عليه السلام برجل يحسب بين قوم بأجر، وفي لفظ: يقسم بين ناس قسماً، فقال له عليه السلام : إنما تأكل سحتاً.
وقال البيهقي في السنن الكبرى: قال الشافعي: ينبغي أن يعطى أجر القسام من بيت المال؛ لأن القُسَّام حكام.
قال البيهقي: قد روينا في سهم المصالح سهم النبي صلى الله عليه وآله وسلم أنه كان لنوائبه، ونوائب الناس.
وأخبرنا أبو سعيد ابن أبي عمرو، ثنا أبو العباس الأصم، أنبأ الربيع قال: قال الشافعي حكاية عن أبي بكر بن عياش، عن عبد العزيز بن رفيع، عن موسى بن طريق الأسدي قال: دخل علي عليه السلام بيت المال فأصرط به، وقال: لا أمسي وفيك درهم، وأمر رجلاً من بني أسد فقسمه إلى الليل، فقال الناس: لو عوضته، فقال: إن شاء ولكنه سحت.
قال البيهقي: إسناده، ضعيف موسى بن طريف لا يحتج به، وقيل عنه عن أبيه عن علي عليه السلام كما أخبرنا أبو نصر بن قتادة إنباء، نا أبو منصور النضروي، ثنا أحمد بن نجدة، ثنا سعيد بن منصور، ثنا سفيان، عن عبد العزيز بن رفيع، عن موسى بن طريف عن أبيه أن علياً عليه السلام قسم شيئاً فدعا رجلاً يحسب فقيل لو أعطيته شيئاً، قال: إن شاء وهو سحت. وقد اعترض في الجوهر النقي على البيهقي في تضعيف إسناده بموسى بن طريف وقال: لا يلزم من عدم الاحتجاج به ضعفه.
قال: وقد أطلق ابن معين والدارقطني أنه ضعيف، وكذبه أبو بكر بن عياش.
وقال الجوزجاني: زائغ.
قلت: موسى ذكره في الميزان وحكى تضعيفه عن جماعة، ولا أظن أن سبب ذلك إلا روايته عن أبيه.
وعن عباية عن علي عليه السلام : أنا قسيم النار هذا لي وهذا لك، وهذا تعديل لا جرح، والحديث ثابت عند أئمتنا وغيرهم من طريق موسى وغيره، وقد ذكره في الميزان عن مخول بن إبراهيم، ثنا قبيس، عن أبي حسين، عن عباية عن علي عليه السلام .
قال بعض العلماء: صححه أحمد، وفسره، فما ينفع النواصب التشكيك في المشهورات ويعني بتفسيره قوله لما سئل عن الحديث ما تنكر من ذلك ألم يقل النبي صلى الله عليه وآله وسلم : ((لا يحبك إلا مؤمن ولا يبغضك إلا منافق والمؤمن في الجنة والمنافق في النار)).
وأما الحديث الذي يحكى فيه عن علي عليه السلام أنه قال: والله لأقتلن ثم لأبعثن ثم لأقتلن...الحديث فلم يجزم بروايته، وإنما قال بعد روايته للحديث الأول: وحدثني عباية بأعجب من هذا فذكره، ولا أظن إلا أن هذا مكذوب عليه وعلى عباية، فإن قيل: ظاهر هذا أنه لا يحل أجر القاسم مطلقاً حاكماً أو غيره، وسواء كان له رزق من بيت المال أم لا، وسواء كان القاسم معرفاً للحكم الشرعي في كيفية القسمة أم مباشراً لتعيين الأنصباء وتمييزها.
قال الأمير الحسين: ويجوز أن يقال إن القسام إن كان منصوباً من جهة الإمام أو الحاكم من قبله كانت أجرته من بيت المال لما روي عن علي عليه السلام أنه كان له قسام يرزقه، فإن لم يكن في بيت المال شيء وجبت على الشركاء.
وفي شرح الإبانة عن الناصر أن أجرة قسام الإمام على بيت المال فإن استأجره الناس فعليهم، قال: ومذهبه عليه السلام أن أجرة القسام على قدر الأنصباء، وبه قال الهادي، وأبو يوسف، ومحمد، وقول للشافعي، وله قول إنها على بيت المال مطلقاً كسائر المصالح، وفي الشفاء عن أبي العباس: مذهب الهادي أنها على الحصص وهو مروي عن القاسم.
قال في البحر: إما بأن يستأجره كل واحد على تعيين نصيبه أو كلهم بعقد واحد، أو يدفعه الإمام من بيت المال إذ هو من المصالح إن لم يكن غيره أهم كالجهاد.
وقال أبو حنيفة: بل على عدد الرؤوس، وبه قال أبو طالب إذ يفتقر إفراز القليل إلى مثل عمل إفراز الكثير.
قلنا: قد يؤدي إلى أن تستغرق الأجرة نصيب صاحب القليل، ولا نسلم استواء العملين إذ العمل في الكثير أكثر منه في القليل واختلفوا أيضاً فيما إذا طلب القسمة أحد الشركاء وأباها الآخرون، فظاهر مذهب الناصرية أن الأجرة على الطالب.
وبه قال أبو حنيفة وزفر لأن الحاكم إنما يجبر من أبى لحق الطالب فكأن القسمة وقعت لأجله.
وقال أبو يوسف، ومحمد، ومالك، وقول للشافعي: بل عليهم جميعاً إذ المنفعة وهي تمييز الحقوق وتعديل الأنصباء لهم جميعاً، وهذا تخريج السيد أحمد الأزرقي لمذهب الهادي \ عليه السلام ، فهذا الاختلاف وكلام الوصي يقتضي خلاف ما يقتضيه عموم الأدلة السابقة من تحريم أجرة القاسم.
والجواب من وجوه:
أحدها: أن نقول قد ثبت التحريم عن علي عليه السلام بطرق مسندة ورواية الشفاء مرسلة، ولا يضرنا خلاف من خالف مع قوله عليه السلام لأنه عندنا حجة، ولا نستوحش من الحق لقلة العامل به، ونعتذر للعلماء بأن نقول: أما من يرى أن كلامه عليه السلام حجة فلعله لم يبلغه ما ذكرنا من طريق صحيحة، وأما من لا يعتبر قوله حجة فعذره واضح.
الثاني: أن يقال تأجيره للقسام من بيت المال لا يقتضي حله للأجير كما تدل عليه رواية البيهقي، فيجوز للإمام أن يعطي، ولا يجوز للأجير أن يقبل، ويمكن حمل كلام الأئمة على هذا.
الثالث: أن يحمل جواز أخذ الأجرة على ما إذا فرض للقاسم أجراً معلوماً من بيت المال في كل شهر مثلاً سواء كان مباشراً للقسمة أم لا، ويحمل التحريم على أخذه على القضايا المخصوصة والجزئيات المتعينة، ويكون حكمه حينئذٍ حكم الحاكم في حل ما فرض له في الشهر أو السنة مع أنه قد لا يباشر الأعمال في بعض الأحوال، وأما القول بحلها من المقتسمين فلا يدل عليه دليل شرعي، بل كلام علي عليه السلام يقتضي المنع منه، ولا معارض لهذا.
قيل: بمنعها منه مطلقاً أو في بعض الأحوال، وقد ذكر في البيان أنها لا تحل إلا إذا كانت صحيحة أو فاسدة، والأجرة قدر أجرة المثل، ويحرم الزائد إلا إذا طابت به نفوسهم، وذكر فيه أيضاً أنه إذا كان فيهم غائب أو صغير بعث الحاكم قساماً وأجرته من بيت المال، وكذا إذا تشاجروا في القسام ولم يعرف الحاكم أنه حيلة.
واعلم أن القول بالتحريم مطلقاً مطابق لأصول الشريعة فإنها تدل على أنه يجب على المسلمين نفع بعضهم الآخر، ومعاونتهم كما قال تعالى: {وَتَعَاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوَى}[المائدة:2] المؤمنون كالبنان المؤمن أخو المؤمن، وغير ذلك كثير فلا يستبعد القول به مع ما ذكرنا من اختلاف العلماء.
تنبيه [الأجرة على الكتابة وقصاصة الورق]
قد ثبت يما تقدم تحريم أجر القاضي والمفتي على الحكم والفتوى، فهل يحل لهما ما أخذاه على كتابة ذلك وقصاصة الورقة، وكذلك إذا كان الحاكم لا يظهر له الحكم إلا بالسير إلى محل النزاع ونحوه، فهل يجوز له الأخذ على سيره؟
والجواب: أنه لا يخلو إما أن يأخذ أكثر مما يستحق ويعتبر بأجرة مثله غير قاض،فهذا قال الإمام المهدي: يقطع بتحريمه وصحح للمذهب لأنه إذا كان بطيب نفس الدافع فهو هدية، وقد تقدم أنها محرمة إذا كانت لأجل الحكم والولاية، والزائد هذا لا يكون إلا من أجلهما، وإن لم يكن بطيبة من نفسه فهو من أكل مال الغير بالباطل، وإما أن يكون المأخوذ قدر أجرة المثل ويعرف ذلك بأن ينظر أنه لو لم يكن قاضياً كم يأخذ على مثل هذا، وما كان هذا حاله فقد اختلف فيه.
فقال أبو مضر: يجوز وادعى الإجماع عليه، وبه قال أهل المذهب، قالوا: ولو كان قد فرض له الإمام أجرة من بيت المال لأن الكتابة غير واجبة.
وقال الفقيه يوسف: يحتمل أن لا تجوز إذا كان يعرف أنه لا ينفذ حكمه أو فتواه إلا بالكتابة.
قلت: وكذلك إذا كان لا يتبين له الحق إلا بالسير إلى نحو محل النزاع، والحجة على التحريم أنه قد تقرر أن ما لا يتم الواجب إلا به فإنه يجب بوجوبه، سيما الأسباب فإنه قد قيل إنها تجب بما لا يتم إلا بها إجماعاً، والسير والكتابة من الأسباب التي لا يكمل المقصود من تبليغ الأحكام الشرعية والاستمرار عليها وفهم المراد منها إلا بها عادة.
قال بعض العلماء: ولأن هذا لا يعرف ممن تولى القضاء في زمنه صلى الله عليه وآله وسلم ولا زمن أحد من الصحابة، ولا يقال حفظ مال الغير في المستقبل لا يجب، وأنتم لم تقولوا بالتحريم إلا لكونه يجب عليه التنفيذ وحفظ مال الغير؛ لأنا نقول: بل يجب مع التمكن لحرمة مال المسلم، ووجوب نصرته، سلمنا فلم نقل بالتحريم لذلك بل لأنه يجب تبليغ أحكام الله على وجه يعلمها الخصمان ويفهمانها ويستمران على العمل بها، والمعلوم أنه لا يحصل ذلك في الأغلب إلا بالكتابة ونحوها، والأحكام مبنية على الغالب، والصور النادرة لاحقة بالأعم الأغلب، فلا يقال فيلزم جواز أخذ الأجرة على الكتابة إذا كان التبيلغ والاستمرار يحصلان من دونها. والله الموفق.
تذييل [في ذكر ما يأخذه بعض الفقهاء من الأموال لنقض الأحكام]
لهذه الأنواع المتقدمة في ذكر حكم ما يأخذه بعض فقهاء الزمان وغيرهم من أهل الكياسة وجودة الأذهان على تعليمهم أحد الخصمين حجته، وما يثبت دعواه، ويدفع حجة خصمه، أو نقض حكم حاكم، أو تقويته، والذي تقضي به الأدلة السابقة المفيدة لتحريم أخذ العوض على تعليم العلم والفتوى، وما جاء من تحريم أكل أموال الناس بالباطل أن المأخوذ على هذا الوجه محرم؛ لأن ذلك إما تعليم أو فتوى أو مظاهرة على باطل، وكل ذلك يحرم أخذ العوض عليه، وتوضيح ذلك أن هذا الخصم لا يخلو من أن يعلم كونه محقاً أو مبطلاً، أوملتبس الحال، فإذا كان محقاً فنصرته واجبة لقوله تعالى: {وَتَعَاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ}[المائدة:2] ويجب نصره ولو بالقتال كما قال تعالى: {وَإِنْ طَائِفَتَانِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ اقْتَتَلُوا} إلى قوله: {فَقَاتِلُوا الَّتِي تَبْغِي...}[الحجرات:9] الآية، ومعاونته فيما ذكرنا من النصر الواجب والحق اللازب، ودليل السنة وجوب إعانته ودفع الظلم ثابت مشهور. رواه أئمتنا وغيرهم.
قال الموفق بالله عليه السلام في (سلوة العارفين): أخبرني أبو الحسين الحسن بن محمد بن جعفر الوبري،أخبرنا أبو بكر الجعاني، حدثني القاسم بن محمد، حدثني أبي، عن أبيه محمد بن عبد الله بن محمد، عن أبيه، عن عمر بن علي، عن أمير المؤمنين علي بن أبي طالب عليه السلام ، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم : ((للمسلم على أخيه ثلاثون حقاً لا براءة له منها إلا بالأداء أو العفو له: يغفر زلته، ويرحم عبرته، ويستر عورته، ويقيل عثرته، ويقبل معذرته، ويرد غيبته، ويديم نصيحته، ويحفظ خلته، ويرعى ذمته، ويعود مرضته، ويشهد ميتته، ويجيب دعوته، ويقبل هديته، ويكافئ صلته، ويشكر نعمته، ويحسن نصرته ويحفظ حليلته، ويقضي حاجته، ويشفع مسألته، ويشمت عطسته، ويرشد ضالته، ويرد ظلامته ويبر إنعامه، ويصدق أقسامه، يواليه ولا يعاديه، وينصره ظالماً أو مظلوماً، أما نصرته ظالماً فيرده عن ظلمه، وأما نصرته مظلوماً فيعينه على أخذ حقه ولا يسلمه ولا يخذله، ويحب له من الخير ما يحب لنفسه، ويكره له من الشر ما يكره لنفسه))، ثم قال سمعت رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يقول: ((إن أحدكم ليدع من حقوق أخيه شيئاً فيطالبه به يوم القيامة فيقضى له عليه)).
القاسم بن محمد هو: القاسم بن محمد بن عبد الله بن محمد بن عمر بن علي بن علي بن أبي طالب أبو أحمد الطبرستاني، روى عن أبيه، عن جده، وعنه الجعاني، دعا إلى نفسه وملك الطالقان، وكان يدعى بالملك الجليل. هكذا في الجداول.
وأما والده محمد فروى عن أبيه، وعن الصادق، وذكرهما في الجداول من رجال المرشد بالله، والحديث له شواهد متفرقة، والمقصود هنا ما نحن بصدده من بيان وجوب نصرة المسلم.
وعن النبي صلى الله عليه وآله وسلم أنه قال: ((انصر أخاك ظالماً أو مظلوماً، قيل: كيف أنصره ظالماً؟ قال: تحجزه عن الظلم فإن ذلك نصره)) أخرجه أحمد، والبخاري، والترمذي من حديث أنس.
وروي عنه صلى الله عليه وآله وسلم أنه قال: ((انصر أخاك ظالماً أو مظلوماً فإن يك ظالماً فاردده عن ظلمه، وإن يك مظلوماً فانصره)) أخرجه الدارمي، وابن عساكر من حديث جابر.
قال في شرح الجامع الصغير: حديث صحيح.
وأخرجه من حديث جابر مسلم في صحيحه بلفظ: ((ولينصر الرجل أخاه ظالماً أو مظلوماً، إن كان ظالماً فلينهه فإنه له نصر وإن كان مظلوماً فلينصره)).
وفي صحيح البخاري: حدثنا مسدد، حدثنا معتمر عن حميد، عن أنس، قال: قال صلى الله عليه وآله وسلم : ((انصر أخاك ظالماً أو مظلوماً، قالوا: يا رسول الله هذا ننصره مظلوماً فكيف ننصره ظالماً؟ قال: تأخذ فوق يديه)).
معتمر هو: ابن سليمان، وحميد هو حميد الطويل، وقوله: تأخذ فوق يديه: كناية عن منعه عن الظلم بالفعل إن لم يمتنع بالقول، وذكر الفوقية إشارة إلى الاستعلاء والقوة، ومعنى النصر المأمور به إعانته.
وقد أخرج ابن عدي، وأبو نعيم في المستخرج عن أبي الزبير، عن جابر مرفوعاً: ((أعن أخاك ظالماً...))الحديث.
وفي صحيح البخاري: حدثنا سعيد بن الربيع، حدثنا شعبة، عن الأشعث بن سليم قال: سمعت معاوية بن سويد، قال: سمعت البراء بن عازب، قال: ((أمرنا رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم بسبع، ونهانا عن سبع، فذكر عيادة المريض، واتباع الجنائز، وتشميت العاطس، ورد السلام، ونصر المظلوم وإجابة الداعي وإبرار المقسم)).
وسليم وسويد بضم السين فيهما وهما: كوفيان، والمقسم: الحالف، وفيه دليل على أن اليمين تنعقد على الغير، وأنه يجب إبرار قسم الحالف إذا حلف على مباح يستطاع فعله.
وفي شرح القسطلاني على البخاري عن ابن مسعود عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم أنه قال: ((أمر الله بعبد من عباده أن يضرب في قبره مائة جلدة فلم يزل يسأل الله تعالى ويدعوه حتى صارت واحدة فامتلأ قبره عليه ناراً فلما ارتفع عنه أفاق فقال: علام جلدتموني؟ قالوا: إنك صليت صلاة بغير طهور، ومررت على مظلوم فلم تنصره)) قال: رواه الطحاوي.
وأخرج المرشد بالله بنحوه بإسناده إلى حماد بن سلمة، عن عاصم بن بهدلة، عن أبي إسحاق الهمداني قال حماد أحسبه عن عمرو بن شرحبيل أن رجلاً أتي في قبره، وذكره بنحوه ولم يرفعه ولم يذكر ابن مسعود.
وروى البخاري عن ابن عمر أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قال: ((المسلم أخو المسلم لا يظلمه ولا يسلمه، ومن كان في حاجة أخيه كان الله في حاجته، ومن فرج عن مسلم كربة فرج الله عنه كربة من كربات يوم القيامة ومن ستر مسلماً ستره الله يوم القيامة)).
وأخرجه المرشد بالله، ومسلم، وأبو داود، والترمذي والنسائي.
وفي أمالي المرشد بالله من حديث أبي موسى مرفوعاً: ((المسلم للمسلم كالبنيان يشد بعضه بعضاً)) وأخرجه البخاري.
وفي أمالي المرشد بالله عن ابن عباس: لعن الله من رأى مظلوماً فلم ينصره.
فهذه الأخبار وما في معناها صريحة في وجوب نصرة المسلمين، والنصرة في كل شيء بحسبه فقد يكون بالقتال، وقد تكون بالتلقين للحجة أو كتابتها، وقد تكون بغير ذلك بحسب الحادثة والقدرة، وأما إن كان مبطلاً فنصرته ومعاونته محرمة محظورة؛ لأنه من المعاونة على الإثم والعداون، وقد قال تعالى: {وَلاَ تَعَاوَنُوا عَلَى الإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ}[المائدة:2] وقال تعالى:{وَجَادَلُوا بِالْبَاطِلِ لِيُدْحِضُوا بِهِ الْحَقَّ فَأَخَذْتُهُمْ فَكَيْفَ كَانَ عِقَابِ}[غافر:5] والمراد من الجدال بالباطل الطعن في الحق والقصد إلى إدحاضه أي إبطاله، والأحاديث المتقدمة صريحة في أن نصرة الظالم رده عن الظلم، ومقتضاه أن إعانته على الظلم لا تجوز.
وفي أمالي المرشد بالله: أخبرنا أبو بكر محمد بن عبد الله بن ريذة، قال: أخبرنا الطبراني، قال: حدثنا عبد الله بن أحمد بن حنبل، قال: حدثنا محمد بن أبان الواسطي،قال: حدثنا ابن شهاب، عن أبي محمد الجزري، عن حمزة النصيبيني،عن عمرو بن دينار، عن ابن عباس، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم : ((من أعان بباطل ليدحض بباطله حقاً فقد برئ من ذمة الله تعالى وذمة رسوله، ومن مشى إلى سلطان الله في الأرض ليذله أذله مع ما يدخر له من الخزي يوم القيامة سلطان الله: كتاب الله وسنة نبيه، ومن تولى من أمر المسلمين شيئاً ويستعمل فيهم رجالاً وهو يعلم أن فيهم من هو أولى بذلك وأعلم بكتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وآله وسلم فقد خان الله ورسوله وجميع المؤمنين ومن ترك حوائج الناس لم ينظر الله في حاجته حتى يقضي حوائجهم ويؤدي إليهم حقهم، ومن أكل درهماً رباً فهو ثلاثة وثلاثين زنية، ومن نبت لحمه من سحت فالنار أولى به)).
أما محمد بن أبان الواسطي فقال في حواشي التقريب: روى عنه عبد الله بن أحمد بن حنبل، وأبو يعلى والباغندي، محدث مشهور وثقه ابن حبان وقال: ربما أخطأ.
وقال في التقريب: محمد بن أبان بن عمران الواسطي الطحان صدوق تكلم فيه الأزدي، مات سنة ثمان وثلاثين ومائتين، وقيل: قبل ذلك، وعاش تسعين سنة.
وفي الجداول أنه مات سنة تسع وثلاثين ومائتين، احتج به البخاري في الأدب المفرد.
وأما أبو محمد الجزري فلم أظفر بترجمته.
وأما حمزة فقال في التقريب: حمزة بن أبي حمزة الجعفي الجزري النصيبيني واسم أبيه ميمون، وقيل: عمرو متروك متهم بالوضع.
وأما عمرو فقال في الجداول: عمرو بن دينار الجمحي مولاهم أبو محمد الأثرم عن ابن عباس، وابن مسعود، وابن عمر، وأنس وغيرهم. قال مسعر: كان ثقة ثقة ثقة.
احتج به الجماعة، وعداده في ثقات محدثي الشيعة.
نعم وفي الجداول من رجال المرشد بالله من اسمه عمرو بن دينار وهو: أبو يحيى البصري يروي عن سالم وغيره، وعنه الحمادان ضعفوه.
واحتج به الترمذي، وابن ماجة، والظاهر أن المذكور في سند الحديث هو الأول بدليل روايته عن ابن عباس.
وأخرج الطبراني في الكبير، والبيهقي في الشعب من حديث أنس بن شرحبيل أنه سمع رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يقول: ((من مشى مع ظالم ليعينه وهو يعلم أنه ظالم فقد خرج من الإسلام)) وأخرجه الضياء، وضعفه المنذري.
وفي سنن أبي داود من حديث ابن عمر يرفعه: ((من أعان على خصومة بظلم فقد باء بغضب من الله)).
وعنه صلى الله عليه وآله وسلم : ((من أعان على خصومة بظلم لم يزل في سخط الله حتى ينزع)) أخرجه ابن ماجة والحاكم من حديث ابن عمر.
قال العزيزي: بإسناد صحيح وهو في (الدر المنثور) وقال: أخرجه الحاكم وصححه ولفظه: ((من أعان على خصومة بغير حق...)) إلخ.
وأخرج الطبراني في الأوسط، والحاكم عن ابن عباس أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قال: ((من أعان ظالماً بباطل ليدحض به حقاً فقد برئ من ذمة الله ورسوله)).
وأخرج البيهقي من طريق فسيلة أنها سمعت أباها وهو واثلة بن الأسقع يقول: سألت رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أمن العصبية أن يحب الرجل قومه؟ قال: ((لا ولكن من العصبية أن يعين الرجل قومه على الظلم)).
وأخرج الحاكم وصححه، والبيهقي عن عبد الرحمن بن عبد الله بن مسعود عن أبيه، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم : ((من أعان قوماً على ظلم فهو كالبعير المتردي فهو ينزع بذنبه)).
ولفظ الحاكم: ((مثل الذي يعين قومه على غير الحق كمثل البعير يتردى فهو يمد بذنبه)) وهذا القدر كاف في تحريم المعاونة لمن عرف كونه مبطلاً.
وأما إن التبس الحال في كونه محقاً أو مبطلاً فهو لاحق بهذا القسم، غير أنها تحرم إعانته؛ لأن إعانته والحال هذه من الإقدام على ما لا يؤمن قبحه، والإقدام على ما لا يؤمن قبحه قبيح، ولقوله تعالى: {قُلْ إِنَّمَا حَرَّمَ رَبِّي الْفَوَاحِشَ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ وَالإِثْمَ وَالْبَغْيَ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَأَنْ تُشْرِكُوا بِاللَّهِ مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ سُلْطَاناً وَأَنْ تَقُولُوا عَلَى اللَّهِ مَا لاَ تَعْلَمُونَ}[الأعراف:33] وقوله سبحانه: {وَلاَ تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ}[الإسراء:36].
وأخرج البيهقي عن أبي هريرة، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم : ((من مشى مع قوم يرى أنه شاهد وليس بشاهد فهو شاهد زور، ومن أعان على خصومة بغير علم كان في سخط الله حتى ينزع، وقتال المسلم وسبابه فسوق)). قوله حتى ينزع: أي حتى يقلع عما هو عليه، وأصل النزع الجذب والقلع.
وإذا ثبت يما قررنا أن إعانة أحد الخصمين لا تكون إلا واجبة أو محظورة وجب أن يكون العوض المأخوذ عليها محرماً سواء كانت الإعانة بمشي أو كتابة أو تلقين أو غيرها.
تكميل لما مر وهو في حكم المال المكتسب على أحد الأنواع المتقدمة، وما يلحق بها، وقد اختلف في ذلك وتفصيله يحتاج إلى ذكر وجوه:
الوجه الأول: أن يكون مشروطاً على الواجب أو المحظور، فقال أهل المذهب: يجب رده لمالكه ولا يحل لأحد لأن ذلك هو الأصل، ولا يخرج عن الملك إلا بدليل، ولعموم قوله صلى الله عليه وآله وسلم : ((على اليد ما أخذت حتى ترد)) رواه في الشفاء، وأصول الأحكام.
وهو في الجامع الصغير من حديث سمرة بن جندب إلا أنه قال: ((حتى تؤديه)) وعزاه إلى أحمد والأربعة والحاكم. قال العزيزي: بإسناد حسن.
وأخرجه رزين من طرف حديث لأبي أمامة بلفظ: ((حتى تؤدي)).
وفي الشفاء عنه صلى الله عليه وآله وسلم أنه قال: ((لا يأخذ أحدكم عصا أخيه لالعباً ولا جاداً وإن أخذ عصا صاحبه فليردها)) وفيه:((لا يأخذن أحدكم متاع صاحبه مكان عصا صاحبه)).
وعن السائب بن زيد عن أبيه، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم : ((لا يأخذ أحدكم متاع أخيه جاداً ولا لاعباً، وإذا أخذ أحدكم عصا أخيه فليردها)) أخرجه أبو داود وسكت عنه هو والمنذري، وأخرجه الترمذي وحسنه، وأحمد، والبيهقي بإسناد حسن.
وعن أبي بكرة قال: خطبنا رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فقال: ((إن دماءكم وأموالكم عليكم حرام كحرمة يومكم هذا في شهركم هذا في بلدكم هذا)). رواه في الشفاء، وأخرجه البخاري ومسلم، ولمسلم نحوه عن ابن عمر، قال علي عليه السلام في حقيقة التوبة الثالث: أن يؤدي إلى المخلوقين حقوقهم حتى يلقى الله عز وجل أملس ليس عليه تبعة. رواه في النهج وقد مر.
فهذه الأدلة تقتضي وجوب رد ما أخذه الإنسان ولم يصح له تملكه شرعاً إلى مالكه إن كان باقياً وإلا فعوضه، وما نحن فيه من هذا القبيل لقيام الدليل على تحريمه كما مر، وما حرم على آخذه وجب أن يكون باقياً على ملك مالكه إلا لدليل يخرجه ولا دليل هنا، بل ما ذكرنا يدل على وجوب رده على أني لا أعلم في وجوب رد ما هذا حاله خلافاً.
الوجه الثاني: أن يعقد الإجارة على مباح حيلة في التوصل إلى المحظور بأن يكون في ضميرهما أنه لأجل الواجب أو المحظور، فهذا حكمه حكم الوجه الأول في كون المال محرماً على الآخذ، ووجوب الرد على مالكه، وبه قالت الهادوية.
وقال المؤيد بالله: يملكه لأن الضمير لا يؤثر في عقود المعاوضات، ولقوله صلى الله عليه وآله وسلم : ((نحن نحكم بالظاهر)) وقد مر.
قلنا: معارض بقوله تعالى: {يَعْلَمُ مَا تُسِرُّونَ وَمَا تُعْلِنُونَ}[هود:5] وقوله تعالى: {وَأَسِرُّوا قَوْلَكُمْ أَوِ اجْهَرُوا بِهِ إِنَّهُ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ}[الملك:13].
وقوله صلى الله عليه وآله وسلم : ((الأعمال بالنيات)) وقد مر فاعتبر الضمير وحديث: ((نحن نحكم بالظاهر)) قد قدح فيه، ولو سلم فهو فيما يتعلق بنا من إجراء الأحكام الشرعية على بعضنا بعضاً.
وأما فيما مرجعه إلى المكلف من تحليل شيء في حقه أو تحريمه بالنظر إلى ما يجده من نفسه، فالمعلوم عليه ما يعلمه من قصده وضميره، ولهذا قال صلى الله عليه وآله وسلم : ((التقوى هاهنا وأشار إلى صدره)) والكلام إنما هو في التحليل والتحريم بحسب ما في نفس الأمر لا في الظاهر فإنه لا شك في وجوب إجراء الحكم عند النزاع على الظاهر.
وقال الحقيني وأبو مضر: بل يتصدق به إذ ملكه من وجه محظور فيكون لبيت المال كشاة الأسارى لنا ما مر ولا نسلم الملك، وحديث شاة الأسارى سيأتي الكلام عليه.
الوجه الثالث: أن لا يعقدا بل أعطاه المال على وجه الهدية أو نحوها وأضمر أنه لأجل الواجب أو المحظور، وهذا لا شك في تحريمه كما مر، وإنما الخلاف في وجوب رده، فقال الهادي عليه السلام وأحد قولي المؤيد بالله: يلزمه التصدق به وهو المصحح للمذهب، وفي الثمرات: أنه لبيت المال، وهو الظاهر من كلام الإمام القاسم بن محمد في الجواب المختار.
قيل: ومعناه ما مر من أنه يملكه ويجب عليه التصدق به وفي أحد قولي المؤيد بالله أنه قد ملكه وهو مخير بين رده أو التصدق به.
وقال في الكافي: يرده لصاحبه وهو الظاهر من مذهب الناصر لما مر من أنه كان يرد بعض الهدايا لأربابها.
وفي شرح الإبانة عنه عليه السلام أنه ذكر أن كلما يأخذه القاضي أو العامل على سبيل الرشوة فإن علم صاحبه رده إليه إن كان باقياً، أو مثله أو قيمته إن كان تالفاً، وما لم يعلم صاحبه رده إلى بيت المال.
احتج الأولون بأنه قد ملكه من وجه محظور وكل ما ملك من وجه محظور وجب التصدق به لحديث شاة الأسارى، وهو ما رواه في الشفاء أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم زار بعض الأنصار فذبحوا له شاة وصنعوا له طعاماً فقدمت إليه فلم يسغ -يعني لحمها-وسأل عن حالها روي أنه قال: ما شأنها؟ فقال القوم: هي شاة كانت لصاحب لنا فذبحناها بغير إذنه على أن نرضيه بالثمن إذا جاء -وروي لجيراننا مكان لصاحبنا- فقال النبي صلى الله عليه وآله وسلم : ((تصدقوا بها)).
وروي: ((أطعموها الأسارى)).
وعن عاصم بن كليب أن رجلاً من الأنصار أخبره قال: خرجنا مع النبي صلى الله عليه وآله وسلم فلما رجع استقبله داعي امرأة فجاء وجيء بالطعام فوضع يده ثم وضع القوم فأكلوا فنظر آباؤنا رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يلوك لقمة في فمه ثم قال: ((أجد لحم شاة أخذت بغير إذن أهلها))، فقالت المرأة: يا رسول الله إني أرسلت إلى البقيع يشتري شاة فلم أجد فأرسلت إلى جار لي قد اشترى شاة أن أرسل بها إلي بثمنها فلم يوجد، فأرسلت إلى امرأته فأرسلت إلي بها، فقال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم : ((أطعميه الأسارى)) أخرجه أحمد وأبو داود، والدارقطني.
وفي لفظ له ثم قال: ((إني لأجد لحم شاة ذبحت بغير إذن أهلها))، فقالت: يا رسول الله أخي وأنا من أعز الناس عليه ولو كان خيراً منها لم يغير علي، وعلي أن أرضيه بأفضل منها، فأبى أن يأكل منها وأمر بالطعام للأسارى. والحديث في أصول الأحكام من رواية عاصم مختصراً، وأخرجه أيضاً مختصراً النسائي والطبراني، وفي الموطأ، وأخرجه البيهقي عن عاصم عن أبيه عن رجل من مزينة.
والجواب: أنا لا نسلم الملك أعني ملك الحاكم ما أعطيه على وجه الهدية والرشوة فلا يصح القياس على شاة الأسارى إذ لا ناقل عن الملك، بخلاف شاة الأسارى فإن الاستهلاك بالطبخ يوجب الملك، على أن بعض الأئمة وغيرهم قد نازع في الاستدلال بالحديث على الملك وتأويله، وليس هذا موضع ذكر ذلك، ومنهم من قدح فيه فلا ينتهض لمعارضة القواطع الدالة على منع أكل أموال الناس بالباطل، وما تقدم من وجوب رد كل مأخوذ، وما جاء من التحذير عن الظلم فمع ذلك لا يخرج مال عن ملك مالكه إلا بدليل شرعي خاص، وكيف يقال فيما ثبت تحريمه أنه يملكه القابض له على الوجه الذي حرم من أجله ما هذا إلا مخالفة للقواعد، وخروج عن دائرة النظر في الأدلة.
قالوا: وروى الإمام القاسم بن محمد في الجواب المختار أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم كان يأخذ هدايا عماله ويضعها في بيت المال. قال عليه السلام : ولا يظهر في ذلك خلاف على سبيل الجملة.
والجواب: أنه إذا ثبت ذلك عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم فهو حجة قوية، لكن المعروف عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم إنما هو نهي العمال عن أخذ الهدايا وإخبارهم بأنها غلول كما مر، على أنه يجوز أن يكون المراد أنه أخذ ما يدعونه هدايا ورده في بيت المال لعلمه بوحي أو غيره كذب دعواهم، وأن المال كله من مال الله وأنهم إنما أرادوا التغرير والخيانة، ويؤيد ذلك ما رواه البيهقي عن عدي بن عميرة، قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يقول: ((ياأيها الناس من عمل لنا على عمل فكتمنا مخيطاً فهو يأتي به يوم القيامة)) فقام رجل من الأنصار كأني أراه فقال: يا رسول الله: اقبل عني عملك، قال: ((ومالك؟ قال: سمعتك تقول الذي قلت، قال: وأنا أقوله الآن من استعملناه على عمل فليجئ بقليله وكثيره فما أوتي منه أخذ وما نهي عنه انتهى)).
قال البيهقي: أخرجه مسلم من أوجه.
وهذا يدل على أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم [ظن]من بعض عماله الخيانة، وأما دعوى الإجماع فقد عرفت الخلاف المحكي سابقاً وهو مشهور.
قالوا: أخرج البيهقي عن مالك قال: أهدى رجل من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وكان من عمال عمر بمزفتين لامرأة عمر فدخل عمر فرآهما فقال: من أين لك هاتين أأشتريتهما أخبريني ولا تكذبيني؟ قالت: بعث بهما إلي فلان، فقال: قاتل الله فلاناً أراد حاجة فلم يستطعها من قبلي أتاني من قبل أهلي فاجتذبهما اجتذاباً شديداً من تحت من كان عليهما جالساً فخرج يحملهما فتبعته جاريتها فقالت: إن صوفهما لنا ففتقهما وطرح إليهما الصوف، وخرج بهما فأعطى إحداهما امرأة من المهاجرات والأخرى امرأة من الأنصار.
والجواب: أنه لا حجة في فعل عمر على أنه ليس المهدى إليه فلعله تصدق بهما لطيبة نفس المهدي إليه بالهدية إلى أهله وعرف رضا أهله بالتصدق بهما، وفي ذلك فائدة وهي سد الذريعة وحسم مادة الهدايا حذراً من الوقوع في المحرم.
حجة المؤيد بالله أنه قد ملكه إذا أخذه بطيبة من نفسه، وإنما خير بين الرد إلى الدافع أو التصدق به؛ لأنه ملكه من وجه محظور، وله قول أنه يملكه ويطيب له لطيبة نفس المعطي، وقد قال صلى الله عليه وآله وسلم : ((لا يحل مال امرئ مسلم إلا بطيبة من نفسه)) وقد مر.
وبه قال الإمام يحيى، قال: وندب التصدق به لحديث: ((دع ما يريبك)).
والجواب: أنا لا نسلم طيبة النفس فلا ملك لأن العطاء إذا كان لأجل الواجب أو المحظور لم يكن المعطي طيب النفس به؛ لأن معنى طيبة النفس تجافيها عن العطية غير مخبثة بما يكون كالإلجاء إلى الدفع من خوف الظلم، أو الميل عن الحق، أو طلب ما لا يجوز.
قال في الكشاف في قوله تعالى: {فَإِنْ طِبْنَ لَكُمْ عَنْ شَيْءٍ مِنْهُ نَفْساً}[النساء:4] المعنى: فإن وهبن لكم شيئاً من الصداق وتجافت عنه نفوسهن طيبات غير مخبثات بما يظهرن إلى الهبة من شكاسة أخلاقكم وسوء معاشرتكم، على أنما كان لأجل الواجب المحظور أو الولاية لا يحل بحال وإن طابت به النفس لما مر من تحريم هدايا الولاة، ولحديث عبادة في هدية القوس وقد مر، فيكون حديث طيبة النفس ليس على ظاهره، وإذا اقترن هذا ثبت أنه لا يملك المهدى إليه ونحوه المال، وإذا لم يملكه وجب رده لمالكه كما يجب رد الوديعة والغصب ونحوهما.
حجة الناصر ما مر من أن الأصل الملك فلا يخرج عنه إلا بدليل ولا دليل، وحديث: ((على اليد ما أخذت)) وما في معناه، ولما تقدم من حديث هدية القوس ونحوه لمعلم القرآن من النهي عن القبول مع ظهور طيبة نفس المعطي، والنهي عن القبول يستلزم وجوب الرد إلى المهدي؛ إذ لا معنى لعدم القبول أنه يرده على صاحبه، وقد صرح في بعض روايات الحديث بالرد، ويستدل أيضاً بما مر من نهيه صلى الله عليه وآله وسلم عن قبول هدية المخاصم، ونحوه على ما ذكرنا من التقرير.
الوجه الرابع: أن يكون العوض على الواجب أو المحظور شرطاً ثم لما كان عند الدفع فسخا العقد وقالا عند تسليمه أو بعده أنه لا في مقابلة ذلك بل لله أو عن زكاته أو نحو ذلك، فقال أهل المذهب: أن يطيب الأخذ عملاً بالظاهر إذ لسنا مكلفين بغيره، وحكاه أبو مضر عن المؤيد بالله، وحكى عنه قولاً آخر وهو أنه لا تطيب له، ولعل وجهه أن الغالب فيما يعطاه ذو الولايات ونحوهم عدم قصد القربة ونحوها، وأنهم إنما يعطون لأجل الولايات، وللتوصل إلى الواجب أو المحظور، ولهذا حرم عمر الهدايا على عماله.
قلنا: لسنا مخاطبين إلا بالظاهر، وفعل عمر ليس بحجة، وقد روي عنه في شرح نهج البلاغة أنه قال في نهيه لعماله عن قبولها وليست بحرام، وقد قبلها النبي صلى الله عليه وآله وسلم وأمير المؤمنين، وأئمة الهدى من بعده، ولم يردوا إلا ما ظهر لهم أنه لأجل الولاية أو لغرض فاسد، وقد تقدم ذكر ذلك، وفي أمر النبي صلى الله عليه وآله وسلم للمسلمين عموماً أن يتهادوا لأجل يحصل بينهم التحاب الذي هو شرط الإيمان ما يدل على أنه ينبغي فعل ذلك وقبوله ما لم يظهر الوجه المقتضي للمنع، بل تقدم أن من حق المؤمن قبول هديته، ومن حقوقه أيضاً إتحافه بما عنده، وقد مر في كلام علي عليه السلام لعثمان بن حنيف ما يدل على أنه يعتبر بما ظهر له وهو قوله: فانظر إلى ما تقضمه... إلى آخره.
واعلم أنه قد ذكر في البيان والأزهار وشرحه ما به تحصيل الجمع بين الأدلة ولعله المراد للمذهب، وحمل عليه قولي المؤيد بالله وهو أنه إن ظن الأخذ صدق كلام الدافع في قوله: إن الدفع ليس لأجل الواجب أو المحظور حل له الأخذ وملكه، وإن ظن كذبه لم يحل، وإن التبس عليه عمل بما قاله عند الدفع لأنه لا طريق له إلى ما في ضميره إلا كلامه، فهذا التفصيل كما ترى يمكن تنزيل الأدلة السابقة عليه؛ إذ مستنده في التحقيق والرجوع إلى ما يظهر من قرائن الأحوال ولا شك أنها أمارات تفيد الظن، وقد مر أن الظاهر فيمن لم يكن معتاداً للهدية قبل القضاء ونحوه أن هديته لا تكون إلا لغرض فاسد، ولا يخفى أن كلام أمير المؤمنين لعثمان بن حنيف يقتضي تحريم الأخذ عند اللبس، وكذلك ما ورد من النهي عن الشبهات، والحث على الوقوف عندها، وقول الأصحاب لا طريق إلى ما في ضميره إلا كلامه مسلم لنا.
نقول: ذلك مشروط بإضمار الظن بصدقه وإلزام قبول كلامه، ولو ظن كذبه والملتبس لم يحصل له ظن بصدقه فلا يجوز قبول كلامه لعدم حصول شرطه، نعم أهل المذهب بنوا كلامهم في الملتبس على أنه يجب قبول خبر العدل ولو لم يظن صدقه ما لم يغلب في الظن كذبه لقيام الدليل على وجوب العمل بخبر الواحد العدل مطلقاً، وكلام الوصي وما في معناه يدفعه في هذه الصورة، ويعضده قوله تعالى: {وَلاَ تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ}[الإسراء:36] ونحوه.
الوجه الخامس: أن يعطيه العوض على الواجب أو المحظور وعلى أمر آخر مباح فيحل له قدر أجرة المباح. ذكره المؤيد بالله، وقال أبو علي، وأبو هاشم: لا يحل لعدم تمييز الحسن من القبيح.
قلنا: بل التمييز حاصل والظن كاف في تقدير ما يقابل كل منهما كما في جزاء الصيد ونحوه.
وفي الجامع الكافي ما معناه: أن علياً عليه السلام قضى فيمن اشترى دن خمر ودن خل أنه يأخذ الخل بحصته من الثمن، ولا فرق بين البيع والإجارة من هذا الوجه.
الوجه السادس: أن لا تكون الهدية ونحوها مقابلاً للواجب أو المحظور وإنما المقصود بها التبرك أو لمحبة المهدى إليه، فهذا لا إشكال في حله، وجواز أخذه، وقد تقدم دليله في النوع الثاني حيث ذكرنا جواز قبول الهدية إذا لم تكن للولاية أو لأجل فعل واجب أو محظور، وذكر في البيان أن تطيب للبغية ونحوها ما أعطيت إذا أعطاها أحد لمجرد محبته لها لا لمحظور يريده منها. قال ذكره المؤيد بالله.
النوع الرابع: [أن لا يكون المأخوذ رشوة، أو هدية، أو أجرة]
أن لا يكون المأخوذ على أحد الأنواع المتقدمة وذلك قسمان:
القسم الأول: أن يكون المأخوذ رزقاً مفروضاً من بيت المال، وهذا القسم يجوز أخذه للقاضي ويحل له، وفي حكمه الإمام وغيره من عماله، وبه قالت العترة وغيرهم.
قال في شرح الإبانة: لا خلاف بين العلماء أنه يجوز للقاضي أن يأخذ الجعل والرزق من الإمام من بيت المال، وكذلك الكاتب والقاسم، وصاحب الديوان، وصاحب بيت المال وخازنه، ولو عملوا محتسبين للأجر فذلك أفضل لهم.
قال: وقال قوم يكره رزق القاضي.
وقال الهادي عليه السلام : لا بد للقاضي من العطاء والتوسعة وإلا هلك وعياله، واشتغل عن القضاء قلبه.
وقال الأمير الحسين: [دل ذلك على أنه لا يجوز أخذ الرزق على القضاء، ولأن القضاء لابد منه والكفاية لابد منها، فجاز أن يأخذ علهي الرزق] وروي عن ابن عمر أنه منع من أخذ الرزق على القضاء، وكرهه محمد بن منصور إلا أن يكون مضطراً حابساً لنفسه على الحكم بين المسلمين فيأخذ كفايته، وكفاية عوله وأعوانه، ويعتقد الأخذ لأجل الضرورة لا على الحكم.
وقال في البحر: من تعين عليه حرمت عليه الأجرة حيث له كفاية فإن لم تكن أو كان ذا حرفة يشغله القضاء عنها حلت له دفعاً للضرر، فإن لم يتعين وله كفاية كره أخذ الأجرة إذ هو قربة، وتجوز لفعل الصحابة مع أبي بكر وعمر، والقضاء كالخلافة، وفعل عمر مع عمار وابن مسعود، وشريح قال وأجرته من مال المصالح إذ القضاء من أهمها ويعطى قيمة أوراق يحتاج إليها وأجرة أعوانه، والمصحح للمذهب أن أجرة القاضي تحل إذا كانت من مال المصالح سواء كان غنياً أو فقيراً، وسواء تعين عليه أم لا.
قال الفقيه يوسف: وإذا كان غنياً أعطي قدر كفاية السنة كما فعل علي عليه السلام لشريح.
فهذا ما وقفنا عليه من الخلاف في كتب أصحابنا، وأما غيرهم فروى البخاري عن شريح أنه كان يأخذ على القضاء أجراً، وهذا وصله عبد الرزاق وسعيد بن منصور.
قال (القسطلاني): وإلى جواز أخذ القاضي الأجرة على الحكم ذهب الجمهور من أهل العلم من الصحابة وغيرهم؛ لأنه يشغله الحكم عن القيام بمصالحه، وكرهه طائفة كراهة تنزيه منهم مسروق، ورخص فيه الشافعي وأكثر أهل العلم.
وقال صاحب (الهداية) من الحنفية: وإذا كان القاضي فقيراً فالأفضل بل الواجب أخذ كفايته، وإن كان غنياً فالأفضل الامتناع عن أخذ الرزق من بيت المال رفقاً ببيت المال.
وقيل: الأخذ هو الأصح صيانة للقضاء عن الهوان ونظراً لمن يأتي بعده من المحتاجين ويأخذ الكفاية له ولعياله، وعن أحمد لا يعجبني وإن كان فبقدر عمله مثل ولي اليتيم.
والحجة للقائلين بالجواز: ما روي عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم لما بعث عتاب بن أسيد إلى مكة قاضياً رزقه كل سنة أربعين أوقية وهي ألف وستمائة درهم. رواه في شرح الإبانة.
وأخرج أبو داود والحاكم من حديث بريدة مرفوعاً: ((أيما عامل استعملناه وفرضنا له رزقاً فما أصاب بعد رزقه فهو غلول )) وهو في الجامع الصغير منسوباً إليهما بلفظ: ((من استعملناه على عمل فرزقناه رزقاً فما أخذ بعد ذلك فهو غلول)).
قال العزيزي: وإسناده صحيح.
وقال في (نيل الأوطار): سكت عنه أبو داود والمنذري ورجال إسناده ثقات، ولا يؤخذ منه أن من ولي عملاً كالقضاء ونحوه ولم يفرض له رزق من بيت المال أنه يجوز له أخذ أموال الناس لما مر من تحريم ذلك، وإنما يؤخذ منه أنه يجوز لمن استعمل على مال كالزكاة والأخماس، ونحوهما، ولم يفرض له عليه رزق أن يأخذ ما يستحقه مما قبضه فيقبض من نفسه لنفسه، وقد روي ما يؤيد هذا، وأن له أن يأخذ كفايته مع عدم الفرض له، وذلك فيما رواه ابن أبي الحديد في شرح النهج، ولفظه: وفي الحديث المرفوع: ((من ولي لنا عملاً فليتزوج امرأة وليتخذ مسكناً ومركباً وخادماً فمن اتخذ سوى ذلك جاء يوم القيامة عادلاً غالاً سارقاً)) وقد استفيد من الحديثين أنه لا يحل لعمال الأموال أن يأخذوا زيادة على ما فرض لهم قل أو كثر، فإن لم يفرض لهم شيء أخذوا قدر ما يكفيهم، فإن زادوا على ذلك فقد خانوا، والأولى أن يفرض لهم شيء معلوم لئلا يؤدي بهم إلى الغش والخيانة، ولهذا قال أمير المؤمنين في عهده للأشتر بعد توصيته فيمن يختار للعمالة: ثم أسبغ عليهم الأرزاق فإن ذلك قوة لهم على استصلاح أنفسهم وغناً لهم عن تناول ما تحت أيديهم، وحجة عليهم إن خالفوا أمرك أو ثلموا أمانتك. رواه في النهج.
ومن أدلة القائلين بالجواز قول علي عليه السلام في عهده للأشتر بعد ذكره أوصاف من يختار للقضاء: ثم أكثر تعاهد قضائه وأفسح له في البذل ما يزيل علته وتقل معه حاجته إلى الناس. رواه في النهج.
قال: وفي مجموع زيد بن علي عليه السلام : حدثني زيد بن علي، عن أبيه، عن جده، عن علي عليه السلام أنه كان يأمر شريحاً بالجلوس في المسجد الأعظم، وكان يعطي شريحاً على القضاء رزقاً من بيت مال المسلمين.
وروى الهادي عليه السلام في الأحكام عن علي عليه السلام أنه كان يعطي شريحاً خمسمائة درهم.
وروي في شرح الإبانة أن علياً عليه السلام رزق شريحاً حين ولاه قضاء الكوفة كل شهر خمسمائة درهم.
وفي (أصول الأحكام) عن علي عليه السلام أنه أعطى شريحاً قاضيه.
قال (الإمام أحمد بن سليمان): دل على أنما يرزق القاضي من بيت مال المسلمين جائز، وما يأخذه من الإمام يجري مجرى ما يأخذ الإمام لنفسه ولمن تحت يده من بيت مال المسلمين ليستعين به على ما نهض به من مصالح المسلمين.
وفي (تتمة الاعتصام): أن الصحابة أجروا لأبي بكر درهمين لأنه روي أنه لما ولي خرج برزمة ثياب إلى السوق فقالوا له: ما هذا؟ قال: أنا كاسب أهلي فأجروا له كل يوم درهمين، وفي رواية ابن أبي شيبة: قد علم قومي أن حرفتي لم تكن تعجز عن مؤنة أهلي وقد شغلت بأمر المسلمين.
قال (القسطلاني): وأسنده البخاري في البيوع، وبقيته: فيأكل آل أبي بكر من هذا المال، وعن عمر أنه قال: إني أنزلت نفسي من مال الله منزلة قيم اليتيم إن استغنيت عنه تركت، وإن افتقرت إليه أكلت بالمعروف. أخرجه ابن أبي شيبة، وابن سعد. قال القسطلاني: وسنده صحيح.
وقد مر معنا ما روي عن علي عليه السلام أن للإمام قصعتين... الخبر.
قال في (التهذيب): قد روي عن علي عليه السلام ، وأبي بكر، وعمر أن للإمام أن يتناول من بيت المال للحاجة، ويكون تقدير ما يأخذه إلى اجتهاده. ذكره في الثمرات.
ويدل على أنه موضع اجتهاد اختلاف التقادير المروية كما مر، وقد روي في تقدير الصحابة لأبي بكر أنه ألفان، فقال: زيدوني فإن لي عيالاً وقد شغلتموني عن التجارة، فزادوه خمسمائة. أخرجه ابن سعد بسند صحيح.
وفي الجامع الكافي: بلغنا أن عمر رزق سلمان بن ربيعة وشريحاً رزقاً، ورزق شريح كل شهر مائة درهم وعشرة أجربة حنطة، وظاهر ما ورد في رزق القاضي لا فرق بين كونه غنياً أو فقيراً، إلا أن في كلام علي عليه السلام للأشتر إيماء إلى أن المقصود من إعطائه سد خلته وسد حاجته التي ربما حملته على الطمع في أموال الناس. والله أعلم.
هذا وأما القائلون بالتحريم فلم يحتجوا إلا بأن الأخذ في مقابلة ما يجب فعله، وقد أجيب بأن القضاء يلزم الإمام، فإذا لم يتمكن من ذلك ولى غيره فهو وكيل له، فجاز له أخذ الأجرة على وكالته، فإذا كانت الوكالة فيما يرجع إلى مصالح المسلمين جاز أن يعطيه الأجرة من بيت مالهم، وأيضاً قد جاز للإمام إعطاء العامل على الزكاة لأنه يعمل لبعض المسلمين وهم الفقراء والمساكين فيجوز له أن يرزق القاضي من بيت المال على ما ذكروه معارضة للنص بالنظر، كيف والمسألة إجماع أهل البيت"، وبما ذكرنا يجاب على من قال تحرم إذا تعين القضاء وله كفاية.
وأما القائلون بالكرامة فلعلهم يحتجون بما مر عن علي عليه السلام من أنه كره للقاضي أن يأخذ على القضاء رزقاً.
تنبيه [تحريم الأخذ من بيت المال للشاهد والجارح والعدل]
قال في شرح الإبانة: لا خلاف أن المعدل والشاهد والجارح لا يحل لهم أخذ الرزق من بيت المال خلاف بعض الشافعية، والشاهد إن كان لا يمكنه أداء الشهادة إلا بأن يعطي شيئاً فإنه يجب على المدعي أن يعطيه شيئاً، وهو باطل لقوله تعالى: {وَلاَ يَأْبَ الشُّهَدَاءُ إِذَا مَا دُعُوا}[البقرة:282] وقوله: {وَمَنْ يَكْتُمْهَا فَإِنَّهُ آثِمٌ قَلْبُهُ}[البقرة:283].
وأما ترجمان القاضي فيحل له الرزق من بيت المال عندنا وعند الحنفية قياساً على القاضي، وقال الشافعي: لا.
وأجيب بأن الإمام يلزمه القضاء والحكم بين الناس بنفسه، فلما لم يتفرغ كان له أن يستعين بقاضٍ يحكم بين الناس ويرزقه من بيت المال، ومراده أنه إذا جاز للإمام الاستعانة بالقاضي وتأجيره من بيت المال، فكذلك إذا احتاج القاضي إلى أعوان لا يستغني عنهم تكون أجرتهم من بيت المال كما لو استعان بهم الإمام نفسه.
قال: فأما وكلاء الخصوم فلا خلاف أنهم أجراء الخصوم ليس لهم في بيت المال حق إلا من نصب القاضي بشيء من أمور المصالح والمسلمين، فيجوز له أخذ الرزق والأجرة من بيت المال.
فائدة
قال بعضهم في حصر أموال المصالح شعراً:
مال المصالح سبعة مذكورة .... فيء وصلح جزية وخراج
ومظالم مجهولة وضوالهم .... لقط وخمس كلها تحتاج
القسم الثاني:أن يجمع له من في ولايته على وجه لا يوجب التهمة، وما أخذ على هذا الوجه فهو حلال.
قال في شرح الإبانة: ويجوز للمسلمين عند أصحابنا" أن ينصبوا رجلاً متديناً يجمع له ما يكفيه من أهل عمله وولايته على وجه لا يوجب التهمة، ويكون ذلك إحساناً منهم إليه كالإحسان إلى أهل الدين والفضل، فإنه جائز كما قلنا في المعلم والمؤذن والإمام في صلاة الجماعة أن لكل واحد منهم أن يقبل الإحسان الذي يفعله الناس لا على وجه الأجرة على شرط مشروط ونحوه، ذكره أهل المذهب فإنهم قالوا: إن أجرة منصوب الخمسة أو الحاكم بصلاحية تكون من مال المصالح إن كان وإلا فممن في ولايته على وجه لا يقتضي التهمة.
قالوا: فإن كان منهم من يكره ذلك لم يجز إكراهه وقد شرطوا لتحقق انتفاء التهمة أن لا يعلم الحاكم كم من كل واحد منهم، ولا من أعطى ومن لم يعط، وذكر في الإفادة أنه يجوز أن يفرض له على كل بالغ عاقل منهم قدراً معلوماً على سواء، ويكون برضاهم الكل.
[البقرة: 42]
قوله تعالى: {وَلاَ تَلْبِسُوا الْحَقَّ بِالْبَاطِلِ وَتَكْتُمُوا الْحَقَّ وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ}[البقرة:42].
اللبس: الخلط تقول العرب: لبست الشيء بالشيء خلطته، والتبس به اختلط بحيث لا يتميز أحدهما عن الآخر، فإن قيل: إنهم لم يخلطوا الحق بالباطل بل جعلوا الباطل موضع الحق وجعلوه مشتبهاً به.
قيل: بل خلطوه فقد روي أنهم كانوا يكتبون في التوراة ما ليس منها، وهذا خلط، سلمنا فهو من التعبير بالملزوم عن اللازم إذ الخلط يلزمه إشتباه الشيء بغيره فعبر به عن مطلق الاشتباه، ومعنى لبس الحق بالباطل: لبس الصدق بالكذب قاله ابن عباس، أو اليهودية والنصرانية بالإسلام قاله مجاهد، أو التوراة بما كتبوا بأيديهم فيها من غيرها أو بما بدلوا من ذكر محمد صلى الله عليه وآله وسلم قاله ابن زيد، أو الأمانة بالخيانة لأنهم ائتمنوا على إبداء مافي التوراة فخانوا بكتمانه وتبديله، أو الإقرار بنبوة محمد صلى الله عليه وآله وسلم إلى غيرهم وجحدهم أنه ما بعث إليهم.
قاله أبو العالية: أو إيمان منافقي اليهود بإبطان كفرهم، أو صفة النبي صلى الله عليه وآله وسلم بصفة الدجال.
قال الخازن: وفيه تنبيه لسائر الخلق وتحذير من مثله، فسار هذا الخطاب وإن كان خاصاً بالسورة لكنه عام في المعنى، فعلى كل أحد أن لا يلبس الحق بالباطل ولا يكتم الحق لما فيه من الضر والفساد، ويتعلق بالآية مسألتان:
المسألة الأولى [تحريم لبس الحق بالباطل]
دلت الآية على تحريم لبس الحق بالباطل لأنه يكون سبباً لإضلال الغير وذلك يقع على وجهين:
أحدهما: أن يكون ذلك الغير قد عرف الحق بدليله فإضلاله بالتشويش فيما قد عرفه من الدليل بإلقاء الشبه والقدح في الأدلة، ومنه ما يقع من المتعاصرين عند الجدال من قدح أحدهما في دليل الآخر لئلا تظهر غلبته إياه، إما بإنكاره أو قدح في طريقه، أو إخراجه عن ظاهره من دون موجب ولا طريق إلى القدح، وقد يكون التشويش سبب ذلك على السامع لا على الخصم، سيما إذا كان هذا التلبيس ممن يعتقد فيه العلم والصلاح، وهذا من أكبر القبائح، وأشنع الفضائح، ولا يبعد أن يدخل مرتكبه في عموم ما نهى الله عنه في قوله: {وَأَنْ تَقُولُوا عَلَى اللَّهِ مَا لاَ تَعْلَمُونَ }[البقرة:169] وإن يكون من الذين يفترون على الله الكذب ويصدون عن سبيل الله.
الوجه الثاني: أن لا يكون ذلك الغير قد عرف الدليل فإضلاله يكون بمنع دليل الحق وكتمانه عنه، وفي ذلك تلبيس عليه.
واعلم أنه يدخل في التلبيس إظهار البدع، والتلبس بالدين لغرض الدنيا، ولا أضر على الأمة من عالم متهتك، وجاهل متنسك، هذا يغر الناس بعلمه، وهذا يلبس عليهم بتنسكه، وقد روي هذا المعنى عن أمير المؤمنين عليه السَّلام .
وقال الموفق بالله في سلوة العارفين: حدثنا أبو الحسن علي بن أحمد، أخبرنا أبو أحمد، حدثنا بن أبي داود، يحيى محمد الدهقان، حدثنا عباد بن بشير الزراع اليمني، عن أبي إسحاق، عن الحارث، عن علي عليه السَّلام ، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم : ((إني لا أخاف على أمتي مؤمناً ولا مشركاً إن كان مؤمناً منعه إيمانه وإن كان مشركاً منعه شركه،ولكني أخاف عليهم عليم اللسان يقول ما يعرفون ويفعل ما ينكرون)) . وأخرجه الطبراني.
وفي الجامع الصغير من حديث عمر مرفوعاً: ((إنما أخاف على أمتي الأئمة المضلين )) وعزاه إلى الترمذي وصحح الحجازي إسناده، والأئمة: جمع إمام، والمراد به المتبع لكونه عالماً أو رئيساً لأنه إذا فعل شيئاً فعلوا مثله، أو أمر بشيء فعلوه.
وروى الموفق بالله عن ابن عباس، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم : ((صنفان من أمتي إن صلحت صلحت أمتي ، وإن فسدت فسدت أمتي: الملوك، والعلماء)) . وأخرجه أبو نعيم في الحلية، والديلمي. قال العزيزي: بإسناد ضعيف.
ولفظ الجامع: ((إذا صلحا وإذا فسدا )) وجعل الأمراء موضع الملوك ولا معنى لصلاحهم بصلاح العلماء، وفسادهم بفسادهم، وكون خوف النبي صلى الله عليه وآله وسلم على أمته منهم أعظم من غيرهم إلا لكونهم يستزلونهم بالشبه ويغرونهم بالتلبيس لأجل ما تلبسوا به من العلم، والعلماء متبعون، ولذا قيل: زلة العالم زلة لأنه يزل بزلته أمة.
قال الموفق بالله: فما في الدين فتنة أضر من فتنة علماء السوء، وفتنة العباد الجهال هذا يفتي المستضعفين بعلمه وذلك بنسكه، وخطأ العالم كانكسار السفينة تغرق ويغرق معها خلق كثير، ولكل أمرء قوام وقوام العالم في الدين الصدق، فإذا اختل قوامه فكيف يرجى به قوام غيره.
المسألة الثانية [تحريم كتمان العلم]
دلت الآية على تحريم كتمان العلم النافع لأنه حق، ويدخل في كتمان الحق كتمان الشهادة، وكتم الفتوى والمذاهب الصحيحة. ذكره في الثمرات، وفي معنى الآية قوله تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ يَكْتُمُونَ مَا أَنزَلْنَا مِنَ الْبَيِّنَاتِ وَالْهُدَى مِنْ بَعْدِ مَا بَيَّنَّاهُ لِلنَّاسِ فِي الْكِتَابِ أُوْلَئِكَ يَلْعَنُهُمُ اللَّهُ وَيَلْعَنُهُمُ اللاَّعِنُونَ}[البقرة: 159] وقوله تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ يَكْتُمُونَ مَا أَنزَلَ اللَّهُ مِنَ الْكِتَابِ وَيَشْتَرُونَ بِهِ ثَمَناً قَلِيلاً أُوْلَئِكَ مَا يَأْكُلُونَ فِي بُطُونِهِمْ إِلاَّ النَّارَ وَلاَ يُكَلّمُهُمُ اللَّهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَلاَ يُزَكّيهِمْ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ، أُوْلَئِكَ الَّذِينَ اشْتَرَوْا الضَّلاَلَةَ بِالْهُدَى وَالْعَذَابَ بِالْمَغْفِرَةِ فَمَا أَصْبَرَهُمْ عَلَى النَّارِ}[البقرة:174،175] وقوله سبحانه: {وَإِذْ أَخَذَ اللَّهُ مِيثَاقَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ لَتُبَيِّنُنَّهُ لِلنَّاسِ وَلاَ تَكْتُمُونَهُ فَنَبَذُوهُ وَرَاءَ ظُهُورِهِمْ وَاشْتَرَوْا بِهِ ثَمَناً قَلِيلاً فَبِئْسَ مَا يَشْتَرُونَ}[آل عمران:187] وهذه الآيات وإن وردت على أسباب خاصة نحو كتم اليهود والنصارى صفة النبي صلى الله عليه وآله وسلم فالعبرة بعموم اللفظ لا بخصوص السبب كما قرر ذلك علماء الأصول، ولأن ترتيب الحكم على الوصف المناسب يشعر بالعلية، وكتمان الدين يناسب استحقاق اللعن والذم وأليم العذاب، فوجب عموم الحكم عند عموم الوصف، وقد صرح جمع من الصحابة بالعموم، ومن ذلك استدلال عائشة بقوله تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ يَكْتُمُونَ ...}[البقرة:174] الآية على أنه صلى الله عليه وآله وسلم لم يكتم شيئاً مما أوحي إليه، وقال أبو هريرة: إنه لولا هذه الآية ونحوها لم أكثر من رواية الحديث.
والكتم: ترك إظهار ما يحتاج إلى إظهاره.
وقد جاءت السنة بتأكيد العموم والزجر عن الكتمان ففي أمالي المرشد بالله عليه السَّلام أخبرنا أبو بكر بن ريذة، قال: أخبرنا الطبراني، قال: حدثنا محمود بن محمد الواسطي، قال: حدثنا القاسم بن سعيد بن المسيب بن شريك، قال: حدثنا أبو مضر الأكفاني، قال: حدثنا سفيان، عن جابر، عن عطاء، عن ابن عباس، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم : ((من سئل عن علم فكتمه جاء يوم القيامة ملجماً بلجام من نار)) وأخرجه أبو يعلى والطبراني. قال السيوطي: بسند صحيح.
قال وأخرج الطبراني من حديث ابن عمر وابن عمرو مثله.
قلت: حديث ابن عمرو أخرجه المرشد بالله.
وفي أمالي المرشد بالله أخبرنا ابن ريذة، أخبرنا الطبراني، قال: حدثنا محمد بن المفضل السفطي، قال: حدثنا إبراهيم بن زياد سيلان، قال: حدثنا سوار بن مصعب، عن أبي إسحاق، عن أبي الأحوص، عن عبد الله، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم : ((من سئل عن علمه فكتمه ألجم يوم القيامة بلجام من نار)).
وأخرج الطبراني عن عبد الله بن مسعود، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم : ((أيما عبد آتاه الله علماً فكتمه لقي الله يوم القيامة ملجماً بلجام من نار)).
وروى المرشد بالله عن أبي هريرة مرفوعاً: ((من سئل عن علم فكتمه ألجمه الله بلجام من نار)) وأخرجه عبد بن حميد، والترمذي، وابن ماجة، والحاكم بزيادة: يوم القيامة. وهو في الجامع الصغير بلفظ: ((من سئل عن علم فكتمه ألجمه الله يوم القيامة بلجام من نار)) ونسبه إلى أحمد والأربعة، والحاكم. قال شيخ العزيزي: حديث حسن صحيح.
وفي الجامع أيضاً: ((من كتم علماً عن أهله ألجم يوم القيامة بلجام من نار )) ونسبه إلى ابن عدي من حديث ابن مسعود.
وأخرج ابن ماجة عن أنس بن مالك: سمعت رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يقول: ((من سئل عن علم فكتمه ألجم يوم القيامة بلجام من نار)).
وأخرج ابن ماجة والمرهبي في فضل العلم عن أبي سعيد الخدري، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم : ((من كتم علماً مما ينفع الله به الناس في أمر الدين ألجمه الله يوم القيامة بلجام من نار)).
وأخرج ابن ماجة عن جابر، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم : ((إذا لعن آخر هذه الأمة أولها فمن كتم حديثاً فقد كتم ما أنزل الله عز وجل علي)).
قال شيخ العزيزي: حديث حسن.
وهذا الحديث أعني حديث ((من كتم علماً ألجم بلجام من نار )) حديث مشهور رواه جماعة من أصحابنا، وخرجه كما ترى جمع من المحدثين.
وقال الحافظ المنذري: روي عن جماعة من الصحابة كجابر، وأنس، وابنَيْ عمر، ومسعود، وعمرو بن عنبسة، وعلي بن طارق وغيرهم.
وفي أمالي المرشد بالله عن ابن عباس، قال: قال النبي صلى الله عليه وآله وسلم : ((يا إخواني تناصحوا في العلم ولا يكتم بعضكم بعضاً فإن خيانة الرجل في علمه أشد من خيانته في ماله)).
وفي كتاب (الزواجر) منسوباً إلى (الطبراني): ((ناصحوا في العلم فإن خيانة أحدكم في علمه أشد من خيانته في ماله وإن الله عز وجل مسائلكم)) قال ورواته ثقات إلا واحداً مختلف فيه.
وهذا القدر كاف في الشواهد لما تقتضيه الآية من تحريم كتمان العلم، والمراد بالعلم الذي يحرم كتمانه هو العلم الشرعي، وما كان آلة له ووصلة إليه ذكره بعض العلماء، ومثله العلوم العقلية التي تحتاج إلى التنبيه عليها، والإرشاد إليها، وكذا حل الشبه حيث يجب، وقد مر في الجزء الأول ما يجب من حل الشبه وما لا يجب.
قال في الثمرات: وقد يجب إظهار المذهب والدليل للتهمة أو للإرشاد.
قال بعض شراح الحديث: ويدخل في كتم العلم منع إعارة الكتب ولو مملوكة حيث منعها ممن هو أهل لها إذا كان تعلمه العلم لله لا لنحو رياء ومجادلة ومماراة.
قال: ولا يجب إلا إذا لم يوجد ذلك عند غيره لئلا يلزم ضياع ذلك العلم المحتاج إليه، وقد ذكر نحوه الفقيه يوسف فإنه جعل من الكتمان المنهي عنه منع الكتب المنطوية على علم الدين حيث تعذر الأخذ إلا منها.
قال بعض العلماء: وله أخذ الأجرة على ذلك.
قلت: وهو قوي لما مر من جواز تأجير كتب العلم فيحمل وجوب العارية على ما إذا لم يتمكن المستعير من الأجرة.
واعلم أن ترك إظهار الحق من العلم وغيره إنما يكون كتماً محرماً إذا مست الحاجة إلى إظهاره. ذكره الحاكم.
وقال ابن حجر الهيثمي: الكتم قد يجب، والإظهار قد يجب، وقد يندب، ففي ما لا يحتمل عقل الطالب ويخشى عليه من إعلامه به فتنة يجب الكتم عنه وفي غيره إن وقع، وهو فرض عين أو في حكمه وجب الإعلام، وإلا ندب ما لم يكن وسيلة لمحظور.
قال: والحاصل أن التعليم وسيلة إلى العلم فيجب في الواجب عيناً في العين، وكفاية فيما هو على الكفاية، ويندب في المندوب كالعروض، ويحرم في الحرام كالسحر والشعبذة، وذكر في الثمرات أن النطق بالحق إذا كان يؤدي إلى محظور جاز الكتم كالنطق بكلمة الكفر، ولأن الحسن يقبح إذا أدى إلى قبيح، ولهذا قال تعالى: {وَلاَ تَسُبُّوا الَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِ للَّهِ فَيَسُبُّوا اللَّهَ عَدْواً بِغَيْرِ عِلْمٍ}[الأنعام:108] ويروى لعلي بن الحسين عليه السَّلام :
إني لأكتم من علمي جواهره .... كي لا يرى الحق ذو وجه فيفتننا
وقد تقدم في هذا أبو حسن .... إلى الحسين ووصى قبله الحسنا
يارب جوهر علم لو أبوح به .... لقيل لي أنت ممن يعبد الوثنا
ولاستحل رجال مسلمون دمي .... يرون أقبح ما يأتونه حسنا
وقال بعض المفسرين: لا يجوز تعليم المبتدع الجدل والحجاج ليجادل به أهل الحق، ولا تعليم الخصم على خصمه حجة يقتطع بها ماله، ولا السلطان تأويلاً يتطرق به إلى إضرار الرعية، ولا نشر الرخص في السفهاء يتخذونها طريقاً إلى ارتكاب المحظروات وترك الواجبات، ودليل هذا كله ما مر من أنه يؤدي إلى مفسدة، وقد مر أيضاً في غير هذا الموضع أن المصلحة إذا لزم منها مفسدة راجحة أو مساوية تنقلب مفسدة، فيكون ما يقتضيه ظاهر دليل تحريم كتمان العلم من العموم مخصصاً بما ذكرناه أيضاً قد مر في بعض الروايات من كتم علماً عن أهله، ومفهومه أن من لم يكن من أهله فلا قبح في الكتم عنه، والمراد بأهله من كان أهلاً للتعليم بحيث يرجى قبوله وصلاحه، ويؤمن إعراضه وفساده.
وعنه صلى الله عليه وآله وسلم : ((لا تمنعوا الحكمة أهلها فتظلموهم ولا تضعوها في غير أهلها فتظلموها)).
وروى الموفق بالله عليه السَّلام في السلوة عن عيسى عليه السَّلام : لا تمنعوا الحكمة عن أهلها فتظلموهم، ولا تعطوا الحكمة غير أهلها فتظلموها.
وعن النبي صلى الله عليه وآله وسلم : ((لا تعلقوا الدر في أعناق الخنازير )) قيل: يريد تعليم الفقه من ليس من أهله.
وأخرج ابن ماجة وغيره: ((طلب العلم فريضة على كل مسلم وواضع العلم عند غيره كمقلد الخنازير الجوهر واللؤلؤ والذهب)).
وقال الموفق بالله عليه السَّلام : العالم إذا وضع علمه في أهله فقد صان حقه وزانه، ومتى وضعه لا في أهله فقد وضعه وشانه.
قيل: ولا يجوز تعليم الكافر قرآناً ولا علماً حتى يسلم، واعترض بأن المرجو إسلامه يجوز تعليمه القرآن فبالأولى العلم.
قلت: الحق وجوب تعليمه مطلقاً لأنه من الإبلاغ، وقد قال تعالى: {بَلّغْ مَا أُنزِلَ إِلَيْكَ }[المائدة:77] وقال: {هَذَا بَلاَغٌ لِلنَّاسِ }[إبراهيم:52]، وقال سبحانه: {فَأَجِرْهُ حَتَّى يَسْمَعَ كَلاَمَ اللَّهِ }[التوبة:6]، وكان رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يعلم الكفار القرآن والشرائع ويدعوهم إليها، وذلك معلوم، وقوله: {وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ }[البقرة:42] حال أي في حال علمكم أنه حق وأنكم لبستم الحق بالباطل وكتمتموه، والمراد بيان قبح ما ارتكبوه من ذلك إذ فعلهم إياه مع علمهم بقبحه يكون أقبح فإن الجاهل ربما عذر بما ارتكب من القبيح، وليس فيه دلالة على جوازهما مع الجهل فإن تحريم ذلك معلوم.
وفي أمالي المرشد بالله: أخبرنا أبو بكر بن ريذة، أخبرنا الطبراني، حدثنا عبدان بن أحمد، حدثنا أيوب بن محمد الوزان، حدثنا معمر بن سليمان الرقي، حدثنا عبد الله بن بشر، عن أبي إسحاق، عن الحارث عن ابن مسعود، قال: قال: رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم : ((أشد الناس عذاباً يوم القيامة رجل قتل نبياً أو قتله نبي أو رجل يضل الناس بغير علم أو مصور يصور التماثيل)).
فائدة
وقوله: وتكتموا مجزوم عطفاً على تلبسوا داخل تحت حكم النهي، نهاهم عن كل فعل على انفراده، وقيل: منصوب بإضمار أن والواو للجمع، واعترض بأنه يلزم عليه جواز تلبيسهم بدون الكتمان وعكسه كما في لا تأكل السمك وتشرب اللبن بنصب تشرب، وأجيب بأنا نعتمد على القرينة، وفي الحمل على النصب نكتة وهي المبالغة في النعي عليهم وتقبيح فعلهم من حيث أنهم جمعوا بين فعلين لو انفرد كل واحد منهما عن صاحبه لكان قبيحاً.
[البقرة: 43]
قوله تعالى: {وَأَقِيمُوا الصَّلاَةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ وَارْكَعُوا مَعَ الرَّاكِعِينَ}[البقرة:43] الزكاة: في الأصل النماء، وترد بمعنى التطهير، وترد شرعاً بالاعتبارين:
أما الأول: فلأن إخراجها سببٌ للنماء في المال أو بمعنى أن الأجر يكثر بسببها، أو أنها متعلقة بالأموال ذوات النماء كالتجارة والزراعة.
وأما الثاني: فلأنها تطهرة للنفس من رذيلة البخل وطهرة من الذنوب، وهي في الشرع: إخراج جزء من النصاب إلى مصرف شرعي.
والركوع: في اللغة له معنيان:
أحدهما: التطامن والإنحناء. قاله الخليل وغيره.
الثاني: الخضوع والتذلل ذكره المفضل والأصمعي، والمراد به في الآية: الانقياد والخضوع، وقيل: المعروف في الصلاة، وخص بالذكر مع اندراجه في الأمر بالصلاة؛ لأن الخطاب لليهود وصلاتهم لا ركوع فيها للتنبيه على أنه مطلوب في صلاة المسلمين الذين أمروا بالدخول معهم في الإسلام والكون في أعدادهم، وقيل: كنى به عن الصلاة تسمية للكل باسم الجزء كما سمي بالسجدة والراكعون، قيل: النبي صلى الله عليه وآله وسلم وأصحابه، وقيل: الجنس، وفي الآية مسائل:
المسألة الأولى [مخاطبة الكفار]
دلت الآية على أن الكفار مخاطبون بفروع الإيمان لأن الخطاب مع اليهود، وقد تقدم الكلام في ذلك في قوله تعالى: {يَاأَيُّهَا النَّاسُ اعْبُدُوا رَبَّكُمُ }[البقرة:21].
المسألة الثانية [الصلاة والزكاة]
الصلاة والزكاة في هذه الآية ونحوها من الأسماء المستعملة في الشرع للمعنيين الشرعيين، ولا خلاف في ذلك الاستعمال، وإنما الخلاف في كونها حقائق شرعية أو عرفية.
قال في (شرح الغاية): لا نزاع في أن الألفاظ المتداولة على لسان أهل الشرع المستعملة في غير معانيها اللغوية قد صارت حقائق فيها، إنما النزاع في أن ذلك بوضع الشارع وتعيينه إياها بحيث تدل على تلك المعاني بلا قرينة فتكون حقائق شرعية، أو بغلبتها فيها في لسان أهل الشرع، والشارع إنما استعملها فيها مجاز بمعونة القرائن، فتكون حقائق عرفية خاصة لا شرعية.
قلت: والصحيح الأول. إذا عرفت هذا فاعلم أن الشرعية تنقسم إلى فرعية، وهي ما يتعلق بفروع الدين كالصلاة والصيام، ودينية وهي ما يتعلق بأصوله كمؤمن وفاسق، وهذه القسمة على رأي المعتزلة، وظاهر حكاية السيد داود بن الهادي عن أئمتنا " وغيرهم أنهم يخصون الشرعية بالفرعية، والدينية بما يتعلق بالأصول ويجعلونها قسيمة للشرعية لا قسماً منها، وهذه المسألة قد كثر فيها النزاع، وتحقيق الكلام فيها يكون في موضعين:
الأول: الخلاف في إمكانهما أعني الشرعية والدينية.
الثاني: في الخلاف في وقوعهما، الموضع الأول في الخلاف في أمكانهما ذهب إلى إمكان نقل الاسم من معناه اللغوي إلى معنى آخر شرعي فرعي أو ديني المعتزلة، ونص عليه الإمام القاسم بن محمد في الأساس، ولا خلاف فيه أعلمه إلا لمن يقول إن بين اللفظ والمعنى مناسبة مانعة من نقله إلى غيره، وهو قول عباد بن سليمان وأهل التكسير الذين ينفون الوضع، وحكى الإمام المهدي عن الرازي مثله، أعني أنه لا يجوز النقل إلى المعاني الشرعية.
حجتنا أن العقل يحكم بإمكانها وعدم استحالتها لأنها إما بنقل لفظ من معنى إلى معنى آخر وابتداء وضع، وكلاهما ممكن قطعاً، ولنا أيضاً أن دلالة اللفظ على المعنى إنما هي بحسب الوضع، وقد مر الاستدلال على كون الدلالة وضعية في قوله تعالى: {وَعَلَّمَ آدَمَ الأَسْمَاءَ }[البقرة:31] وإذا كانت كذلك فالوضع يجوز اختلافه وتغيره ويتبعه في ذلك التغيير والاختلاف المعنى فيتغير بتغيره كلفظ الدابة إذا وضعه الواضع لكل ما يدب فإنه يجوز اختيار نقله عن ذلك ووضعه على عين مخصوصة بحسب الاختيار، ولا حجر على الواضع.
هذا وأما المخالفون فاختلف تعليلهم، فأما عباد ومن وافقه فاحتجوا بما مر لهم من أن دلالة الألفاظ على معانيها ذاتية حاصلة بطبع الألفاظ، فكل اسم دل على معين فإنه لا يصح أن يدل على غيره سواء في ذلك النقل والإرتجال لأنه يؤدي إلى قلب الحقائق، وقد أبطلنا مقالتهم في قوله تعالى: {وَعَلَّمَ آدَمَ الأَسْمَاءَ }[البقرة:31] ونزيده هنا تأكيداً بأنها لو كانت ذاتية لم يصح أن يدل اللفظ على معنيين متضادين، وقد دل نحو قروء، وجون، وكالقانع اسم للسائل، والمتعفف والناهل اسم للضمآن، ولمن ارتوى من الماء، والتعزير اسم للتعظيم والإهانة.
وأما الرازي فاحتج بأن الله تعالى خاطب العرب بما يعقلون فلو خاطبهم بغيره كان كخطاب العربي بالزنجية، وذلك لا يجوز عليه تعالى لما فيه من الإلغاز وعدم البيان.
واحتج أيضاً بقوله تعالى: {وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ رَسُولٍ إِلاَّ بِلِسَانِ قَوْمِهِ }[إبراهيم:4] وقوله: {بِلِسَانٍ عَرَبِيّ مُبِينٍ }[الشعراء:195] والوضع الشرعي ليس بعربي ولا بلسان قومه، قال: ولأن أكثر الألفاظ دوراناً على ألسنة المسلمين لفظة الإسلام والإيمان ولو نقلا لوجب أن يبين الله تعالى ذلك بياناً ظاهراً، ولو بينه لاشترك الناس في العلم به كما اشتركوا في العلم بالفرائض التي وقع النص عليها.
والجواب: أنه لا يكون إلغازاً إلا لو لم يبين، ولا شك أن الله تعالى قد بين لنا على لسان رسوله صلى الله عليه وآله وسلم ما أراد بلفظ الصلاة والزكاة والصيام، والحج، والإيمان والإسلام، وأورد لنا غاية الإيضاح أنه أراد بها غير معانيها المعهودة في اللغة، وذلك البيان بمنزلة إخباره أنه قد نقلها إلى خلاف معناها المعهود.
قال الإمام المهدي: ولا بد أن يكون ما نقلت إليه بعض ما نقلت عنه لئلا يكون كخطاب العرب بالزنجية، وقصرها على بعض معانيها نقل من وضعها للكل إلى البعض، وهذا لا يمنع منه عقل ولا شرع، فإن قيل: قصرها على بعض ما وضعت له ليس بنقل.
قيل: بل نقل ظاهر، ونظيره الحقيقة العرفية فإن استعمال الدابة في ذوات الأربع وقصره عليها أخراج لها عن الدلالة على بعض ما كانت تدل عليه، وهذا الإخراج هو مرادنا بالنقل.
قال السيد داود بن الهادي: النقل استعمال اللفظ في غير ما وضع له، ومن ذلك قصره على بعض ما يطلق عليه، وهذا واضح، فإن الإنسان إذا كان يسمى دابة ثم منعت من إجراء ذلك عليه فقد نقلت هذا الاسم عن دلالته على مسماه.
وأما احتجاجه بالآيتين فليس بشيء؛ لأن خطاب الله تعالى لنا بهذه الألفاظ لا يخرجه عن كونه مخاطباً لنا بالعربية لأنها ألفاظ عربية وضعها العرب لمسمياتها الأصلية وهم لا ينكرون نقل الأسماء العربية إلى مسميات غير معهودة من قبل، سواء كانت من أسماء الأجناس أم من غيرها، ولا يدعون أن من وضع اسماً على غير مسماه الأصلي فقد خرج بذلك عن كونه عربياً، أو أن ذلك الاسم المنقول غير عربي، كما ذلك معلوم عنه في وضع الأعلام على الأناسي والبهائم والأراضي، وهؤلاء أئمة النحو قد قسموا الأعلام إلى مرتجلة ومنقولة، وعدوهما معاً من علوم العربية.
قوله: ولأن أكثر الألفاظ دوراناً الإسلام والإيمان.
قلنا: قد بينا نقلهما بياناً واضحاً، وقد استوفينا في قوله تعالى: {الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ وَيُقِيمُونَ الصَّلاَةَ}[البقرة:3] الأدلة عقلاً وشرعاً على نقل الإيمان، وقد مضى قريباً أن البيان بالأدلة جار مجرى الإخبار بالنقل، والناس مشتركون في معرفة ذلك البيان لولا ركوب أهل الاعتساف، وتجنب مسالك الإنصاف، وتأثير ما مضى عليه المشائخ والأسلاف.
الموضع الثاني: في الخلاف في وقوعهما وفيه فصلان:
الأول: في الخلاف في وقوع الفرعية.
الثاني: في الخلاف في وقوع الدينية.
الفصل الأول [الحقيقة الشرعية]
في الخلاف في وقوع الشرعية ذهب إلى وقوعها أئمتنا والجمهور من غيرهم.
قال الباقلاني وبعض المرجئة: لم يقع، وتوقف الآمدي. هكذا قيل في نقل الخلاف.
وروي عن الإمام يحيى، والغزالي أنها تدل على المعنيين اللغوي والشرعي حقيقة، وقال الرازي: دلالتها على الشرعي مجاز مشهور، وحكاه في التفسير عن أصحابه.
احتج الأولون بأن الصلاة والزكاة، والصيام والحج كانت في الأصل اسماً للدعاء والنماء، والإمساك، والقصد من غير تقييد في جميعها، ثم صارت أسماء للعبادات المخصوصة ونقلت إليها بحيث لا يسبق إلى الفهم عند إطلاقها إلا المعنى الشرعي وذلك علامة الحقيقة، فإن قيل: المعنى الذي وضعت له في أصل اللغة باق وملحوظ فيها بعد الاستعمال الشرعي، فإن الصلاة لغة الدعاء، وهذه في الشرع اسم لدعاء مخصوص تقارنه أفعال مخصوصة، والصوم مطلق الإمساك، وفي الشرع مخصوص تقارنه النية، وهكذا سائرها فهي لم تستعمل إلا في معانيها اللغوية وهي الخصوصيات المقترنة بها شرائط في كونها معتبرة شرعاً، وليست داخلة في الوضع.
قيل: المعلوم أن قول الشارع صلوا ليس معناه افعلوا الدعاء الذي في ضمن الأركان المخصوصة فإنه لا يعتبر شرعاً إلا إذاكان في ضمنها، ثم إنكم لا تنازعون في أن هذه الألفاظ الشرعية لا تدل على كمال ما كانت موضوعة له في الأصل، ولم يبق الآن لها دلالة على جميع معناها الذي هو مطلق الدعاء، وإن كنتم قد سلمتم ذلك فلا إشكال أن هذا الوضع مخالف لذلك، وأنها معان حدثت ما كان أهل اللغة يعرفونها، وأيضاً المعلوم أن المصلي إنما يقصد وينوي مجموع الأذكار والأركان، ولا يخص بالقصد الدعاء حتى أنه لو خصه بالقصد لم تجزه تلك الصلاة؛ لأنه لم يقصد إلا بعضها كما لوقصد بعض الركعات دون بعض، والمعلوم أنه لونوى أن يصلي الظهر ركعة لم تجزه تلك الصلاة؛ لأن النية يجب فيها أن تتناول جميع أجزاء المنوي، فإن قيل: أنتم لا تنكرون أنه قد بقي لها دلالة على بعض ما وضعت له وهو الدعاء والإمساك المخصوصين مثلاً.
قيل: ذلك لا يقتضي كونها لم تنقل فإن قصرها على بعض ما وضعت له وإخراج بعضه وإدخال ما لم يكن داخلاً وضع شرعي، وإنما حكمنا على ما وضعه الشارع وقصره على بعض معانيه وضع شرعي لكثرة ما قصره الشارع على بعض معانيه من الألفاظ والكثرة يفيد كونه وضعاً، ولا مانع منه، فوجب الحمل عليه، وإنما كان بحسن التجمل الذي ذكره المانع لو لم يرد من ذلك إلا لفظ أو لفظان، على أن بعض تلك الألفاظ لم يبق فيها شيء من معناها اللغوي وهي صلاة الأخرس فإنها صلاة شرعية ولا شيء فيها من المعنى اللغوي، وهو الدعاء، وهذا مما لا محيص لهم عنه فإن قيل لا يلزم من استعمالها في غير معانيها أن تكون حقائق شرعية إنما تصير كذلك بوضع الشارع وتعيينه بلا قرينة ولا دليل على ذلك، وحينئذٍ تكون في الأصل مجازات لغوية غلب عليها استعمال أهل الشرع فعادت حقائق عرفية خاصة لا بنقل الشارع، ولا نزاع في أنها بعد الغلبة والاشتهار حقائق بحسب عرف أهل الشرع، ولهذا لم تفتقر إلى قرينة.
قيل: المعلوم أن الشارع أطلق هذه الألفاظ على هذه المعاني وخصها بها ولم يعهد لها اسماً قبلها خاصة، ولا معرفة لأهل اللغة بهذه المسميات قطعاً، وأنه قصد تعريف المكلفين بهذه المعاني ولم يكن إلا بهذه الألفاظ وهي مجردة عن لازم المجاز الذي هو القرينة قطعاً وإلا لنقلت، وذلك حقيقة وضع الحقائق كما هو معلوم عند أهل اللغة، وإن لم نقل فيما هذه حاله أنه حقيقة كان كلما وضع من الأسماء لمعنى من المعاني مجازاً؛ لأنه إذا كان اطلاق لفظ الصلاة على العبادة المخصوصة مجازاً مع أنه لم يعهد لها اسم قبله، فيصح أن يقال إن لفظ أسد لم يرد به الحيوان المخصوص عند ابتداء وضعه إلا مجازاً، وهذا لا قائل به.
احتج النافون بأن الشارع لو نقلها إلى غير معانيها اللغوية لافهمها المكلف لأن الفهم شرط التكليف، ولو أفهمها إياه لنقل إلينا لأنا مكلفون مثلهم، ولو نقل فإما بالتواتر فلا يوجد، أو بالآحاد فلا يفيد القطع.
والجواب: أنها فهمت لهم ولنا بالقرائن والترديد كالأطفال يعلمون اللغات من دون تصريح لهم بوضع الألفاظ للمعاني لامتناعه بالنسبة إلى من لا يعرف شيئاً من الألفاظ.
قال الإمام الحسن بن عز الدين: وهذا طريق قطعي لا ينكر.
قالوا: لو كانت شرعية لم تكن عربية، واشتمال القرآن عليها ينفي عربيته إذ ما كان بعضه غير عربي لا يكون كله عربياً، وقد قال تعالى: {بِلِسَانٍ عَرَبِيّ }[الشعراء:195] ونحوها، وقال: {إِنَّا أَنزَلْنَاهُ قُرْآناً عَرَبِيّاً }[يوسف:2].
قلنا: قد مر الجواب في الموضع الأول بأن خطابه تعالى لنا بهذه الألفاظ لا يخرجه عن كونه مخاطباً لنا بالعربية إلى آخر ما مر، على أن لنا أن نقول ليس القرآن كله عربياً، والضمير في إنا أنزلناه للسورة والقرآن من الأسماء الموضوعة بإزاء مفهوم كلي التي يصدق على القليل والكثير كالماء والعسل، فلا يقال السورة ليست بقرآن، واطلاق كونه عربياً كله في بعض الآيات من المجاز، وقد يطلق العربي على ما غالبه كذلك كالشعر فيه عربي وفارسي فإنه ينسب إلى ما غلب فيه، منهما احتج الآمدي بأن الأدلة متعارضة فوجب الوقف.
هذا وأما سائر الأقوال فقد تضمن ما استندت إليه ورده ما ذكرنا.
الفصل الثاني [الحقيقة الدينية]
في الخلاف في وقوع الدينية،وذلك كالإيمان والكفر والفسق،ومؤمن وكافر وفاسق.
قال الإمام الحسن بن عز الدين: وهي اسم لنوع خاص من الشرعية وهو ما وضعه الشارع ابتداء بأن لا يعرف أهل اللغة لفظه أو معناه أو كليهما، وليس من أسماء الأفعال كالصلاة، والصيام والمصلي والمزكي، والظاهر أن الواقع هو القسم الثاني وهو ما لم يعرف أهل اللغة معناه ذكره في القسطاس، والقول بوقوع الدينية هو الذي ذهب إليه أكثر الزيدية والمعتزلة، وبعض الفقهاء والجماهير من السلف.
قال البخاري: كتبت عن ألف نفس ليس فيهم إلا صاحب حديث، وقال: لم أكتب إلا عمن قال الإيمان قول وعمل، والخلاف في ذلك مروي عن جمهور الأشعرية عنهم الشيرازي، والجويني، وابن الحاجب.
واعلم أن احتجاج كل من الفريقين قد تقدم في ذكر الإيمان والكفر والفسق في سياق قوله تعالى: {يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ }[البقرة:4] وقوله تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا سَوَاءٌ عَلَيْهِمْ أَأَنذَرْتَهُمْ}[البقرة:6] وقوله: {وَمَا يُضِلُّ بِهِ إِلاَّ الْفَاسِقِينَ }[البقرة:26] فلا حاجة إلى إعادته.
تنبيه
في كلام الإمام المهدي ما يدل على أنه لا بد أن يكون بين المعنى اللغوي، والمعنى الشرعي مناسبة وهو كذلك إذ كان المعنى الشرعي منقولاً عن المعنى اللغوي لئلا يكون كخطاب العربي بالزنجية، لكن لا يشترط في الأسماء الشرعية أن تكون منقولة عن معنى لغوي، بل يجوز أن تكون مرتجلة، وإنمالم يتعرض كثير من العلماء لذكر الخلاف فيها، إما لما قيل من أن الخلاف إنما يذكر في المنقولة، وإما لما مر عن الإمام الحسن من أن الواقع إنما هو مالم يعرف أهل اللغة معناه، وقد نص الإمام القاسم بن محمد على أنه لا يصح وقوع الحقيقة الشرعية من دون نقل، وأن ذلك قد وقع كما في رحمن، وهو بناء على مايذهب إليه من كونه حقيقة دينية، والمعلوم أن العرب لم تستعمل هذا اللفظ في شيء من الأشياء حتى يقال إنه منقول منه، وقد مر ذكر الخلاف فيه في البسملة.
المسألة الثالثة [وجوب الصلاة والزكاة]
الآية تدل على وجوب الصلاة والزكاة وهما معلومان من ضرورة الدين، فلا فائدة في تجشم الاستدلال على وجوبهما، وكذلك تدل على وجوب الركوع إن حملنا الركوع في الآية على ركوع الصلاة، ووجوبه معلوم ضرورة.
المسألة الرابعة [قضاء الصلوات الخمس]
احتج بعضهم بالآية على وجوب قضاء الصلوات الخمس، والاحتجاج بها مبني على أن القضاء يجب بالأمر الأول ولا يحتاج إلى أمر جديد، وقد اختلف في ذلك فذهبت الحنابلة وأكثر الحنفية، وأبو بكر الرازي إلى أنه يجب بالأمر الأول، وروي عن القاضي عبد الجبار وأبي الحسين البصري-قيل- والرواية عنه غير صحيحة لتصريحه في المعتمد باختيار مذهب الجمهور.
وقال أئمتنا والأكثر من الفقهاء والمتكلمين: لا يجب إلا بأمر جديد ودليل آخر لا بأمر الأداء.
قال الإمام يحيى بن المحسن: وذهبت فرقة إلى التفصيل، فقالوا: إن كان المأمور به مباحاً في العقل وجب فعله بالأمر الأول بعد خروج الوقت نحو تصدق يوم الجمعة، وإن كان محظوراً عقلاً لم يجب نحو: اختن ولدك يوم السابع من ولادته.
احتج الأولون بوجوه:
أحدها: أن التكليف إنما يكون بما نقدر عليه وهو الفعل دون ما لا نقدر عليه وهو الوقت، فهو غير داخل في المأمور به؛ إذ ليس من فعل المكلف وإنما هو من ضرورياته، وما لا يكون داخلاً في المأموربه لا يكون مطلوباً، وما لم يكن مطلوباً فلا أثر لاختلاله في سقوط ما اقتضاه الأمر وهو الفصل لا غير، فيصح التكليف بالفعل في الوقت وبعده وهو المطلوب.
الثاني: أن الفعل مع الوقت كالدين مع الأجل، فكما أن الدين إذا علق بوقت لا يسقط بخروجه كذلك الواجب لا يسقط بمضي وقته.
الثالث: أن القضاء لو كان بأمر جديد للزم أن يكون أداء كما في الأمر الأول، ولما كان لتسميته قضاء معنى، والمعلوم خلافه.
الرابع: أن قد ثبت جواز نسخ الأمر المؤقت، والنسخ لا يصح على الفعل الواحد لأنه يؤدي إلى أن يكون المأمور به هو المنهي عنه، وذلك هو نفس البداء، فدل على أن الأمر المؤقت يتناول أفعالاً كثيرة تفعل في أوقات، وهذا هو ما نذهب إليه من صحة فعل المأمور به في جميع الأوقات حتى يرد ناسخ.
احتج الجمهور أولاً: أن حكم ما فعل بعد الوقت حكم ما فعل قبله، فكما لا يجب قبله إلا بدليل كذلك ما بعده، وتلخيص ذلك أن الشرائع مصالح، ولا يمنع أن يعلم الله المصلحة في فعلها في وقت بعينه دون ما قبله وما بعده.
ثانياً: أن المعلق بالوقت كالمعلق بالمكان، ولو قال لعبده: اضرب من في الدار لم يقتضِ ضرب من خارجها.
ثالثاً: أن المقيد بالوقت كالمقيد بالشرط والصفة، والذي يدل على ذلك أن القربة كما تتعلق بإيقاع المأمور به على الصفة والشرط فإنها تتعلق بإيقاعه في ذلك الوقت، ولذلك وردت العبادات مختصة بأوقات، وجاء في خبر التبكير إلى الجمعة: ((من راح إلى الجمعة في الساعة الأولى فكأنما قرب بدنة، وفي الساعة الثانية فكأنما قرب بقرة...)) الخبر، ولو كانت القربة حاصلة قبل الوقت أو بعده كحصولها فيه لم يكن للتوقيت فائدة وكان عبثاً؛ لأن غيره يسد مسده في المصلحة، وإذا ثبت أن المقيد بالوقت كالمقيد بشرط أو صفة، فالمعلوم أن الأمر المقيد بهما لا يقتضي وجوب المأمور به مع عدمهما، ألا ترى أن من قال: أكرم زيداً إن دخل الدار أو أكرم الرجال الطوال فإنه لا يجب عليه بهذا الأمر إكرامه وإن لم يدخلها ولا إكرام القصار، فإن قيل: أليس المكلف مأموراً بالحج بشرط الاستطاعة ومع ذلك لو فعل الحج مع عدمها تعلقت به القربة وأجزأ عن فرضه.
قيل: لا نسلم الإجزاء، سلمنا فكلامنا في أن المأمور به هل يجب مع عدم الشرط أو لا، وليس الكلام في أن القربة هل تتعلق بفعله على أن الجمعة مشروطة بالوقت ووجود الإمام فلو فعلت مع فقد أحدهما لم تتعلق بها قربة.
احتجوا رابعاً: بأن الأمر المؤقت لا يتناول ما عدا الوقت بشيءٍ من وجوه الدلالة، وبيان ذلك أن من قال لغيره: اشتر لي لحماً يوم الجمعة لا يتناول ما بعد ذلك اليوم؛ إذ ليس في لفظه ما يقتضيه بمطابقة ولا تضمن ولا التزام، بل قد يستحق الذم إذا شرى بعده لجواز أن يكون للآمر غرض في شراء يوم الجمعة، فيكون الإقدام على الشراء بعده إقداماً على ما لا يؤمن قبحه وذلك قبيح، وإذا ثبت أنه لا يتناوله فلا يجوز أن يقضي فيه بنفي ولا إثبات إلا بدليل آخر، وإلا لجاز أن يكون الأمر بالصلاة أمراً بالحج والصوم، والمعلوم خلاف ذلك.
قالوا: وأما ما احتج به الأولون فالجواب عن الوجه الأول أن الكلام ليس في الفعل المطلق بل في المقيد بالوقت، ولا نسلم أن الوقت غير داخل فيه بل هو داخل وإلا لجاز التقديم، وهو ظاهر البطلان إذ الوقت المعلوم من صفات الفعل الواجب، ومن وجب عليه بصفة فلا يكون مؤدياً له من دونها، فإن قيل: نحن بنينا الكلام على أن الوقت غير مقدور لنا فكيف يقال: إنه داخل في المأمور به.
قلنا:دخل فيه لا من حيث أنه مقدور، بل من حيث أنه صفة للفعل.
قالوا: الأمر به في ذلك الوقت مشعر بطلب قضائه خارجة؛ لأنه وإن كان المطلوب الفعل في الوقت المعين لكن الوقت المعين إنما طلب لكونه مصلحة يكمل به الفعل، فالمقصود الأصلي هو الفعل نفسه، فإذا فات الكمال بقى الوجوب مع نقص فيه.
قلنا: لا نسلم أنه إنما طلب لكمال الفعل بل طلب للإتيان به فيه، وإلا لجاز تقديمه عليه، وما المانع من أن تتعلق المصلحة بذلك الوقت خاصة.
قالوا: الإخفاء في أنا إذا تعقلنا صوماً مخصوصاً وقلنا صم يوم الخميس فقد تعقلنا أمرين، وتلفظنا بلفظين، فمقتضى هذا التركيب أمران إلزام الصوم وكونه في يوم الخميس، فكان المأمور به شيئين، فإذا عجز عن الثاني لفواته بقي اقتضاء الصوم؛ إذ انتفاء أحدهما لا يوجب انتفاء الآخر.
قلنا: لا نسلم أن المأمور به شيئان بل شيء واحد وهو الصوم؛ إذ المقصود من الأمر الأول الفعل في الوقت لا مطلقاً.
قال بعض المحققين: اختلافهم في هذا الأصل وهو أن المطلق والمقيد بحسب الوجود شيئان أو شيء واحد يصدق عليه المعنيان ناظر إلى الاختلاف في أصل آخر، وهو أن تركب الماهية من الجنس والفصل وتمايزهما هل هو بحسب الخارج أو مجرد العقل. فإن قلنا بالأول كان المطلق والقيد شيئين لأنهما بمنزلة الجنس والفصل، وإن قلنا بالثاني وهو الحق كانا بحسب الوجود شيئاً واحداً.
قال: وحاصل الجواب حينئذ أن الكون في الوقت مصلحة للفعل به كماله، لكن إنما يبقى الوجوب مع النقص إذا انفرد به الطلب، وليس كذلك بل المطلوب شيء واحد وقد انتقى بانتفاء جزئية.
والجواب عن الوجه الثاني من وجوه:
أحدها: أنا قد بينا أن للوقت تأثيراً في إزالة الوجوب.
ثانيها: أنا لا نسلم كونه كأجل الدين لأنه لو قدم لم يعتد به بخلاف أداء الدين.
ثالثها: أن الفرق بين المسألتين جلي، وذلك أن في مسألة الدين حق الغير قد وجب ولزم وهو الدين والأجل وقت أدائه فلا يسقط بمضي الأجل، بخلاف مسألتنا فإن الذي به علمنا وجوب الفعل هو بعينه دال على أن الوجوب في ذلك الوقت فقط، وحاصله أن متعلق الوجوب في مسألتنا شيء واحد وهو الفعل المؤقت بخلاف مسألة الدين.
ورابعها: أن الأجل حق لمن عليه الدين، وسقوط حق من عليه الدين لا يوجب سقوط حق صاحب الدين فلا علة جامعة بين المسألتين.
قال بعض أئمتنا: وإنما وزان مسألتنا أن يقول من له الدين إذا جاء وقت كذا ولم آتك فقد أبرأتك منه.
والجواب عن الثالث: أنا لا نسلم الملازمة فإنه إنما سمي قضاء لكونه استدراكاً لمصلحة ما فات أولاً، والأداء لا يكون استدراكاً أصلاً.
والجواب عن الرابع: أنا لا نسلم جواز ورود النسخ عن الأمر المؤقت مطلقاً، بل إذا كان مفيداً لأفعال كثيرة بقرينة تقترن به فيرتفع بالنسخ بعض تلك الأفعال، وأما الأمر مطلقاً فلا يقتضي إلا فعل المأمور به مرة واحدة؛ لأنه لا يقتضي التكرار سواء كان مؤقت بوقت أم لا، وما كان هذا حاله فلا يصح ورود النسخ عليه.
احتج المفصلون بأن نحو الصدقة فعلها مباح فأي وقت فعلها المكلف فيه جاز؛ إذ لا ضرر في فعلها على أحد، بخلاف نحو الختان فإن فيه ضرراً على الغير والأصل فيه الحظر، فلا يحسن إلا بناقل شرعي، والشرع لم يرد مثلاً إلا بفعله في وقت مخصوص، فإذا لم يفعل فيه رجع إلى الحظر العقلي.
والجواب أن يقال: ما معنى قولك أي وقت فعلت فيه الصدقة جاز، هل أردت أنه يسقط عنه استحقاق الذم والعقاب على الإخلال بها في الوقت المعين لقيام فعلها بعد ذلك الوقت مقام فعلها فيه في المصلحة؟ فهذا محل النزاع، أو أردت بالجواز ضد الحظر فذلك صحيح، لكنه يفعل بقضية العقل لا بالأمر الأول.
إذا عرفت هذا وتقرر لديك أنه لا يجب القضاء إلا بدليل غير الأمر الأول، اعلم أنه قد ثبت بالدليل وجوب قضاء الصلوات الخمس على من تركها لعذر كالنائم والناسي، ولا خلاف في ذلك إلا ما شذ فيه بعضهم من أن الفائت إذا زاد على خمس صلوات لا يجب قضاؤه، حكى هذا القول القرطبي ولا يعتد به لثبوت الإجماع، وظهور الأدلة على خلافه، واختلفوا فيمن تركها متعمداً فذهب الجمهور إلى وجوب القضاء عليه، وادعى الأمير الحسين والقاضي زيد وغيرهما الإجماع على ذلك، ونسب النووي من خالف ذلك إلى الشذوذ، وخالف في ذلك المرتضى والناصر ابنا الهادي عليه السَّلام والأستاذ.
وروي عن القاسم والناصر، وهو ظاهر كلام السيد مانكديم، فهؤلاء قالوا: لا يجب القضاء على تارك الصلاة متعمداً، وبه قال ابن أبي الحديد، وابن حزم، وداود، وابن تيمية، والمقبلي، والشوكاني، ورواه ابن حزم عن عمر وولده عبد الله، وسعد بن أبي وقاص، وابن مسعود، وسليمان رجل من الصحابة، والقاسم بن محمد بن أبي بكر، وبديل العقيلي، وابن سيرين، وعمر بن عبد العزيز وغيرهم، وحكى عن هؤلاء كلمات أخذ لهم هذا القول منها، ورواه أيضاً المطرف بن عبد الله، ورواه عن هؤلاء أيضاً ابن القيم وحكاه عن أبي بكر، وسلمان الفارسي، وروى عن أبي بكر أنه قال: إن لله حقاً بالنهار لا يقبله بالليل وحقاً بالليل لا يقبله بالنهار. وعزا هذا إلى طائفة من السلف والخلف ولفظه:
وقالت طائفة من السلف والخلف: من تعمد تأخير الصلاة عن وقتها من غير عذر يجوز له التأخير، فهذا لا سبيل له إلى استدراكها، ولا يقدر على قضائها أبداً، ولا يقبل منه، قال: ولا نزاع بينهم أن التوبة النصوح تنفعه، ولكن هل من تمام توبته قضاء تلك الفوائت التي تعمد تركها فلا تصح التوبة بدون قضائها أم لا تتوقف التوبة على القضاء، فيحافظ عليها في المستقبل، ويستكثر من النوافل وقد تعذر عليه استدراك ما مضى، هذا محل الخلاف.
وقال ابن حزم: من تعمد ترك الصلاة حتى خرج وقتها فهذا لا يقدر على قضائها أبداً، فليكثر من فعل الخير، وصلاة التطوع ليثقل ميزانه يوم القيامة، وليتب وليستغفر الله عز وجل.
احتج الجمهور بحجج:
أحدها: ما مر من أن القضاء لا يحتاج إلى أمر جديد وقد تقدم تقرير هذه.
الحجة الثانية: ما في أصول الأحكام عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم أنه قال: ((من ترك صلاة أو نسيها أو نام عنها فوقتها حين يذكرها )).
الحجة الثالثة: قوله صلى الله عليه وآله وسلم : ((دين الله أحق أن يقضى )) وسيأتي استيفاء طرقه وألفاظه، وقد تقدمت الإشارة إليه في السابعة من مسائل قوله تعالى: {هُوَ الَّذِي خَلَقَ لَكُمْ مَا فِي الأَرْضِ }[البقرة:29] وهو عام لكل دين لله تعالى.
قال ابن عبد البر: من لزمه حق لله تعالى أو لعباده لزمه الخروج منه، وقد شبه رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم حق الله عز وجل بحق الآدميين، وقال: ((دين الله أحق أن يقضى )).
وقال غيره ما معناه: إن الحديث منبه على طريق علة وجوب القضاء لأنه ورد جواباً لسؤال سائل فذكر النبي صلى الله عليه وآله نظير المسؤل عنه ليثبت له ما ثبت لنظيره وهو المسمى باقتران النظير،فكان دليلاً على أن جميع الفائت من حقوق الله كالديون إلا ما خصه دليل،وهذا أقوى ما يحتجون به، لا سيما قول من قال إن وجوب القضاء بالخطاب الأول؛ لأنه يقول المتعمد للترك قد خوطب بالصلاة فوجب عليه تأديتها فصارت ديناً عليه، والدين لا يسقط إلا بأدائه.
الحجة الرابعة: قوله صلى الله عليه وآله وسلم : ((من نسي صلاة فليصلها إذا ذكرها لا كفارة لها إلا ذلك)) وهو حديث مشهور رواه أئمتنا والمحدثون بألفاظ في بعضها: ((من نام عن صلاة أو نسيها )) وفي بعضها: ((إذا رقد أحدكم عن الصلاة أو غفل عنها فليصلها إذا ذكرها فإن الله عز وجل يقول: أقم الصلاة لذكري)) وسيأتي استيفاء طرقه وألفاظه في موضعه من كتابنا هذا.
قالوا: والنسيان في لسان العرب يكون للترك عمداً ولضد الذكر قال تعالى: {نَسُوا اللَّهَ فَنَسِيَهُمْ }[التوبة:67] أي تركوا طاعته فتركهم من رحمته، سلمنا أن المراد بالناسي ضد الذاكر لاقترانه بالنائم في بعض الروايات، فإنما خصهما بالذكر لدفع ما يتوهم من أن سقوط الإثم عنهما لرفع القلم يوجب سقوط فرض الصلاة عنهما فأبان صلى الله عليه وآله وسلم أنها واجبة عليهما عند الذكر لها، وإن كان قد خرج وقتها، ولم يذكر العامد؛ لأن علة النائم والناسي ليست فيه، ولا عذر له في ترك فرض قد وجب عليه من صلاته إذا كان ذاكراً له.
الحجة الخامسة: قوله صلى الله عليه وآله وسلم : ((من أدرك ركعة من العصر قبل أن تغرب الشمس فقد أدرك العصر ...)) الخبر، وهو خبر صحيح رواه الأئمة والأمة.
قال الهادي عليه السَّلام في (المنتخب): جاء الأثر الصحيح عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ، ولم يختلفوا في رواية هذا الخبر أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قال: ((من أدرك من العصر ركعة قبل أن تغرب الشمس فقد أدركها ، ومن أدرك من الصبح ركعة قبل أن تطلع الشمس فقد أدركها)).
قال عليه السَّلام : روى ذلك من العراقيين ابن أبي شيبة وغيره، ومن أهل اليمن عبد الرزاق اليماني، عن معمر، عن الزهري، عن أبي سلمة، عن أبي هريرة أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قال: ((من أدرك من العصر ركعة قبل أن تغرب الشمس فقد أدركها )).
قال: وروى هذا الخبر عبد الرزاق، عن سفيان الثوري، عن الأعمش، عن ذكوان، عن أبي هريرة.
قلت: وذكره القاسم بن إبراهيم وقال: إن علماء العامة رووه.
وفي الشفاء عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم : ((من أدرك ركعة من الصبح قبل أن تطلع الشمس فقد أدركها ومن أدرك ركعة من العصر قبل أن تغرب الشمس فقد أدرك العصر)).
قال علامة العصر: وعن عائشة مرفوعاً مثله رواه في أصول الأحكام، وقال أيضاً: وفي العلوم عنه صلى الله عليه وآله وسلم أنه قال: ((من أدرك من العصر ركعة قبل غروب الشمس فقد أدركها ، ومن أدرك من الصبح ركعة قبل طلوع الشمس فقد أدركها)).
وقال ابن عبد البر: نقلت الكافة عنه صلى الله عليه وآله وسلم أنه: ((من أدرك ركعة من صلاة العصر صلى تمام صلاة العصر بعد الغروب)).
وفي صحيح مسلم حدثنا يحيى بن يحيى، قال: قرأت على مالك، عن زيد بن أسلم، عن عطاء بن يسار، وعن بشر بن سعيد، وعن الأعرج حدثوه عن أبي هريرة أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قال: ((من أدرك ركعة من الصبح قبل أن تطلع الشمس فقد أدرك الصبح، ومن أدرك ركعة من العصر قبل أن تغرب الشمس فقد أدرك العصر)).
وحدثنا عبد بن حميد، أخبرنا عبد الرزاق، أخبرنا معمر عن الزهري، عن أبي سلمة، عن أبي هريرة بمثل حديث مالك عن زيد بن أسلم، وحدثنا حسن بن الربيع، حدثنا عبد الله بن المبارك، عن معمر بن طاووس عن أبيه، عن ابن عباس عن أبي هريرة، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم : ((من أدرك ركعة من العصر قبل أن تغرب الشمس فقد أدرك، ومن أدرك من الفجر ركعة قبل أن تطلع الشمس فقد أدرك)).
قال: وحدثنا عبد الله علي بن حماد، حدثنا معمر قال: سمعت معمراً بهذا الإسناد.
وفي مسند أحمد: حدثنا عبد الله، حدثني أبي، ثنا عبد الملك بن عمرو، ثنا علي يعني ابن المبارك، عن يحيى يعني ابن أبي كثير، عن أبي سلمة، حدثنا أبو هريرة أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال: ((من صلى ركعة من صلاة الصبح قبل أن تطلع الشمس فلم تفته، ومن صلى ركعتين من صلاة العصر قبل أن تغرب الشمس فلم تفته)) وفي لفظ: ((فقد أدرك)).
قال شارح المسند: وافق عليه بهذا اللفظ وسنده جيد.
وفي المسند أيضاً: حدثنا عبد الله، حدثني أبي، ثنا محمد بن جعفر وروح، قال: ثنا سعيد، عن قتادة، عن خلاس، عن أبي رافع، عن أبي هريرة أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قال: ((من صلى من صلاة الصبح ركعة قبل أن تطلع الشمس ثم طلعت فليصل إليها أخرى)) وأخرجه البيهقي في السنن، والحاكم وسنده جيد.
وفي صحيح البخاري: حدثنا أبو نعيم، قال: حدثنا شيبان عن يحيى، عن أبي سلمة، عن أبي هريرة، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم : ((إذا أدرك أحدكم سجدة من صلاة العصر قبل أن تغرب الشمس فليتم صلاته وإذا أدرك سجدة من صلاة الصبح قبل أن تطلع الشمس فليتم صلاته)) وللحديث من رواية أبي هريرة طرق عند المحدثين فإنه أخرجه مالك، وأبو داود، والترمذي، والنسائي وغيرهم.
وفي صحيح مسلم:حدثنا حسن بن الربيع، حدثنا عبد الله بن المبارك، عن يونس بن يزيد، عن الزهري حدثنا عروة، عن عائشة، قالت: قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ح وحدثني أبو الطاهر وحرملة كلاهما عن أبي وهب والسياق لحرملة قال: أخبرني يونس، عن ابن شهاب أن عروة بن الزبير حدثه عن عائشة، قالت: قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم : ((من أدرك من العصر سجدة قبل أن تغرب الشمس أو من الصبح قبل أن تطلع الشمس فقد أدركها)) والسجدة: إنما هي الركعة، وأخرجه أحمد، والنسائي، وابن ماجة.
ووجه الاستدلال بالحديث أن الإتيان بما بقي من هاتين الصلاتين إنما يكون بعد خروج الوقت عند الجميع، وإذا صح فعل بعضها بعد خروج الوقت صح فعل جميعها إذ لا فرق، ولم يفصل الحديث بين أن يكون تأخيرها إلى ذلك الوقت عمداً أونسياناً، وليس ما فُعِلَ بعد خروج الوقت إلا قضاء إذ لا يكون بالركعة مدركاً لكل الصلاة اتفاقاً.
قال النووي: أجمع المسلمون على أن هذا ليس على ظاهره، وأنه لا يكون بالركعة مدركاً لكل الصلاة، بل هو متأول وفيه إضمار تقديره: فقد أدرك حكم الصلاة أو وجوبها أو فضلها، وقد صرح بأنها قضاء في رواية النسائي فإن فيها: ((فقد أدرك الصلاة كلها إلا أنه يقضي ما فاته)).
الحجة السادسة: أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم لم يصل هو ولا أصحابه يوم الخندق صلاة الظهر والعصر حتى غربت الشمس ولم يصلهما إلا بالليل لشغله بما نصبه المشركون يومئذ من الحرب، ولم يكن يومئذ نائماً ولا ناسياً، ولا كانت يومئذ حرب قائمة ملتحمة. ذكر هذه الحجة ابن عبد البر.
وحديث فوت الصلاة عليه يوم الخندق ثابت أشار إليه المؤيد بالله في شرح التجريد، ورواه المحدثون بألفاظ وطرق متعددة سيأتي ذكرها إن شاء الله، إلا أن في بعضها أن الفائت العصر فقط، وفي بعضها الظهر والعصر.
الحجة السابعة: أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أمر أصحابه أن لا يصلوا العصر إلا في بني قريظة، فصلاها بعضهم في الطريق وبعضهم أخرها إلى هنالك امتثالاً للأمر ولم يصلها إلا وقد خرج وقتها، فلم يعنف رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أحداً من الطائفتين، وقد علم صلى الله عليه وآله وسلم بأن من أخرها إلى بعد وقتها غير نائم ولا ناسٍ، ولم يقل إن الصلاة لا تقضى بعد خروج وقتها. والقصة مذكورة في كتب السير.
الحجة الثامنة: ما رواه زيد بن علي عليه السَّلام في المجموع عن أبيه، عن جده، عن علي عليه السَّلام ، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم : ((إنه سيأتي على الناس أئمة بعدي يميتون الصلاة كميتة الأبدان فإذا أدركتم ذلك فصلوا الصلاة لوقتها ولتكن صلاتكم مع القوم نافلة فإن ترك الصلاة عن وقتها كفر)) ورواه في العلوم، والناصر في (البساط) وقد مر.
وفي سنن أبي داود: حدثنا مسدد، ثنا حماد بن زيد عن أبي عمران يعني الجوني عن عبد الله بن الصامت، عن أبي ذر، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم : ((يا أبا ذر كيف أنت إذا كانت عليك أمراء يميتون الصلاة أو قال يؤخرون الصلاة، قلت: يا رسول الله فما تأمرني؟ قال: صل الصلاة لوقتها فإن أدركتها معهم فصلها فإنها لك نافلة)) وأخرجه مسلم عن خلف بن هشام، وأبي الربيع الزهراني، وأبي كامل الجحدري ثلاثتهم عن حماد بن زيد بسند، قال مسلم: ولم يذكر خلف عن وقتها، وله عند مسلم طرق وألفاظ لا بأس باستيفائها.
قال حدثنا يحيى بن يحيى، أخبرنا جعفر بن سليمان، عن أبي عمران الجوني، عن عبد الله بن الصامت، عن أبي ذر، قال: قال لي رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم : ((يا أبا ذر إنه سيكون بعدي أمراء يميتون الصلاة فصل الصلاة لوقتها فإن صليت لوقتها كانت لك نافلة وإلا كنت قد أحرزت صلاتك)) قال: معناه إذا علمت من حالهم تأخيرها عن وقتها المختار فصلها لأول وقتها، ثم إن صلوها لوقتها المختار فصلها معهم أيضاً، وتكون صلاتك معهم نافلة، وإلا كنت قد أحرزت صلاتك بفعلك في أول الوقت أي خلصتها وصنتها واحتطت لها.
قال مسلم:وحدثنا أبو بكر بن أبي شيبة، حدثنا عبد الله بن إدريس عن شعبة،عن ابن عمران، عن عبد الله بن الصامت، عن أبي ذر، قال: إن خليلي أوصاني أن أسمع وأطيع وإن كان عبداً مجدع الأطراف، وأن أصلي الصلاة لوقتها فإن أدركت القوم وقد صلوا كنت قد أحرزت صلاتك وإلا كانت لك نافلة.
وحدثني يحيى بن حبيب الحارثي، حدثنا خالد بن الحرث، قال: حدثنا شعبة عن بديل، قال: سمعت أبا العالية يحدث عن عبد الله بن الصامت، عن أبي ذر، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وضرب فخذي: ((كيف أنت إذا بقيت في قوم يؤخرون الصلاة عن وقتها ؟ قال: قال: ما تأمر؟ قال: صل الصلاة لوقتها ثم اذهب لحاجتك فإن أقيمت الصلاة وأنت في المسجد فصل)) وله إلى أبي العالية طريق أخرى رواها مسلم عن زهير بن حرب، عن إسماعيل بن إبراهيم، عن أيوب، عن أبي العالية، البراء، عن عبد الله بن الصامت، عن أبي ذر يرفعه بلفظ: ((صل الصلاة لوقتها فإن أدركتك الصلاة معهم فصل ولا تقل إني قد صليت فلا أصلي)) وفي الحديث قصة ذكرها مسلم.
وقال مسلم: حدثني أبو غسان المسمعي، حدثنا معاذ وهو ابن هشام، قال: حدثني أبي، عن مطر ، عن أبي العالية البراء، قال: قلت لعبد الله بن الصامت تصلي يوم الجمعة خلف أمراء فيأخرون الصلاة، قال فضرب فخذي ضربة أوجعتني وقال: سألت أبا ذر عن ذلك فضرب فخذي وقال: سألت رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم عن ذلك فقال: ((صلوا الصلاة لوقتها واجعلوا صلاتكم مع القوم نافلة)).
قال: وقال عبد الله ذكر لي أن نبي الله صلى الله عليه وآله وسلم ضرب فخذ أبي ذر. والحديث رواه الترمذي والنسائي، وابن ماجة كلهم من حديث أبي ذر، ومعنى يميتونها: يأخرونها فيجعلونها كالميت الذي خرجت روحه. ذكره النووي.
وفي مسند أحمد: حدثنا عبد الله، حدثني أبي، حدثنا الحكم بن نافع، ثنا ابن عياش، عن راشد بن داود، عن أبي أسماء الرحبي، عن شداد بن أوس، عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم أنه قال: ((سيكون من بعدي أئمة يميتون الصلاة عن مواقيتها فصلوا الصلاة لوقتها واجعلوا صلاتكم مع القوم سبحة)).
قال في (بلوغ الأماني): أي نافلة وسميت النافلة سبحة؛ لأنها كالتسبيحات في عدم الوجوب.
وفي سنن أبي داود: حدثنا عبد الرحمن بن إبراهيم دحيم الدمشقي، ثنا الوليد، ثنا الأوزاعي، حدثني حسان يعني ابن عطية، عن عبد الرحمن بن سابط، عن عمرو بن ميمونة الأودي، قال: قدم علينا معاذ بن جبل اليمن رسول رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم إلينا قال: فسمعت تكبيره مع الفجر رجل أجش الصوت قال: فألقيت عليه محبتي فما فارقته حتى دفنته بالشام ميتاً، ثم نظرت إلى أفقه الناس بعده فأتيت ابن مسعود فلزمته حتى مات فقال: قال لي رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم : ((كيف بكم إذا أتت عليكم أمراء يصلون الصلاة لغير ميقاتها ؟ قلت: فما تأمرني إن أدركني ذلك يا رسول الله؟ قال: صل الصلاة لميقاتها واجعل صلاتك معهم سبحة)).
قال بعض شراح سنن أبي داود: حديث عمرو بن ميمون، عن معاذ بن جبل وعبد الله بن مسعود أخرجه أبو عمر في تمهيده من طرق وهو على شرط الصحيح رجاله كلهم من رجال الصحيح.
قال في الروض: وحديث ابن مسعود بلفظ حديث معاذ سواء، وأخرجه معمر أيضاً عن عبد الله بن عثمان بن خثيم عن القاسم بن عبد الرحمن، عن ابن مسعود بلفظ أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال له: ((كيف بك يا أبا عبد الرحمن إذا كان عليك امراء يطفئون السنة ويؤخرون الصلاة عن ميقاتها؟ قال: فكيف تأمرني يا رسول الله؟ فقال النبي صلى الله عليه وآله وسلم : يسألني ابن أم عبد كيف يفعل، لا طاعة لمخلوق في معصية الله)).
وأخرج أبو داود عن عبادة بن الصامت، عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال: ((سيكون عليكم بعدي أمراء تشغلهم أشياء عن الصلاة لوقتها حتى يذهب وقتها فصلوا الصلاة لوقتها، فقال رجل: يا رسول الله أصلي معهم؟ قال: نعم إن شئت)).
وفي رواية: ((إن أدركتها معهم أصلي معهم؟ قال: نعم إن شئت)).
قال في نيل الأوطار: رجال إسناد أبي داود ثقات، وأخرجه ابن ماجة.
ووجه الاستدلال بالحديث أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم أباح الصلاة بعد خروج ميقاتها، ولم يقل إن الصلاة لا تصلى إلا في وقتها، والأحاديث في تأخير الأمراء الصلاة حتى يخرج وقتها كثيرة جداً، وفي بعضها أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم أمر بالصلاة معهم والانتظار لصلاتهم والاجتزاء بها.
قال في مسند أحمد: حدثنا عبد الله، حدثني أبي، ثنا عبد الرزاق، قال: أنا ابن جريج، قال: أخبرني عاصم بن عبيد الله أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال: ((إنها ستكون من بعدي أمراء يصلون الصلاة لوقتها ويؤخرونها عن وقتها فصلوها معهم فإن صلوها لوقتها وصليتموها معهم فلكم ولهم، وإن أخروها عن وقتها فصليتموها معهم فلكم وعليهم، من فارق الجماعة مات ميتة جاهلية، ومن نكث العهد ومات ناكثاً للعهد جاء يوم القيامة لا حجة له)) قلت له: من أخبرك هذا الخبر؟ قال: أخبرنيه عبد الله بن عامر بن ربيعة، عن أبيه عامر بن ربيعة ويخبر عامر بن ربيعة عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم .
وفي سنن أبي داود: حدثنا الوليد الطيالسي، ثنا أبو هاشم يعني الزعفراني، حدثني صالح بن عبيد عن قبيصة بن وقاص، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم : ((يكون عليكم أمراء من بعدي يؤخرون الصلاة فهي لكم وهي عليهم فصلوا معهم ما صلوا القبلة)) ففي هذين الخبرين الأمر بترك الصلاة مع الأمراء الذين يؤخرونها عن وقتها، والاعتداد بفعلها بعد الوقت مع تعمد تركها، ظاهره أنه لا فرق في الدلالة بين أن يكونوا أخروها إلى خروج وقتها المختار، أوعن جميع وقتها.
أما على الثاني: فظاهر، وأما على الأول فلأن النبي صلى الله عليه وآله وسلم [أنه] وقت الظهر في الحضر ما لم يدخل وقت العصر.
قال ابن عبد البر: وقد كان الأمراء من بني أمية، وأكثرهم يصلون الجمعة عند الغروب، وقد قال صلى الله عليه وآله وسلم : ((إنما التفريط على من لم يصل الصلاة حتى يدخل وقت الأخرى)) وقد أعلمهم أن وقت الظهر ما لم يدخل وقت العصر، وروي ذلك عنه من وجوه صحاح. ذكر هذا في كتابه الاستذكار، ثم روى بإسناده عن أبي قتادة أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قال: ((ليس في النوم تفريط إنما التفريط على من لم يصل الصلاة حتى يدخل وقت الأخرى)) قال: فقد سمى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم من فعل هذا مفرطاً، والمفرط ليس بمعذور وليس كالنائم، والناسي عند الجميع من جهة العذر، وقد أجاز رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم صلاته على ما كان من تفريطه.
الحجة التاسعة: ما رواه عبد الرحمن بن علقمة الثقفي وهو مذكور في الصحابة قال: قدم وفد ثقيف على رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فجلسوا يسألونه فلم يصل يومئذ الظهر إلا مع العصر. رواه ابن عبد البر في الاستذكار، قال: وأقل ما في هذا أنه أخرها عن وقتها الذي كان يصليها فيه لشغل اشتغل به.
وعبد الرحمن بن علقمة من ثقات التابعين وكبارهم.
الحجة العاشرة: ما رواه في مسند أحمد، قال: حدثنا عبد الله، حدثني أبي، ثنا يعقوب، ثنا أبي، عن ابن إسحاق، ثنا محمد بن يحيى بن حبان، عن عبد الله بن محيريز، عن المخدجي، عن عبادة بن الصامت، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم من فيه إلى في لا أقول حدثني فلان ولا فلان: ((خمس صلوات افترضهن الله على عباده فمن لقيه بهن لم يضيع منهن شيئاً لقيه وله عنده عهد يدخله به الجنة، ومن لقيه وقد أنتقص منهن شيئاً استخفافاً بحقهن لقيه ولا عهد له إن شاء عذبه وإن شاء غفر له)) وأخرجه مالك، وابن أبي شيبة، وأبو داود، والنسائي، وابن ماجة، وابن حبان، والبيهقي، وظاهره أن أي وقت أتى بالصلاة فيه فلم يضيعها، إلا أنه خرج ما قبل الوقت بالإجماع، فبقى ما بعده على مقتضى الظاهر في الدخول تحت العموم.
الحجة الحادية عشرة: ما مر عن علي عليه السَّلام في معنى التوبة، وهو قوله: الرابع أن تعمد إلى كل فريضة ضيعتها فتؤدي حقها. رواه في النهج.
الحجة الثانية عشرة: الإجماع، وهو أنواع:
أحدها: إجماع الأمة على وجوب القضاء عن من ترك الصلاة عمداً، وقد مر من رواية الأمير الحسين، والقاضي زيد، وادعاه أيضاً محمد بن محمود البابزتي، وغيره.
ثانيها: أن الصحابة تركوها في حرب تستر وقضوها،وذلك فيما رواه أنس أنها اشتدت بهم الحرب غداة فتح تستر فلم يصلوا إلا بعد طلوع الشمس.
ثالثها: أن الأمة مجمعة على وجوب الصلاة فلا يصح سقوطها إلا ببرهان نص أو إجماع.
الحجة الثالثة عشرة: القياس على الناسي.
قالوا: إذا لزم القضاء على الناسي فالعامد أولى.
قال النووي: وإنما قيد في الحديث بالنيسان لخروجه على سبب؛ لأنه إذا وجب القضاء على المعذور فغيره أولى بالوجوب وهو من باب التنبيه بالأعلى على الأدنى.
الحجة الرابعة عشرة: القياس على وجوب قضاء الصوم المتروك عمداً فإن السنة الثابتة تدل على وجوب قضائه.
وروى النووي إجماع الأمة على أن من لم يصم شهر رمضان عامداً وهو مؤمن بفرضه وإنما تركه أشراً وبطراً، ثم تاب أنه يجب عليه قضاؤه، فكذلك من ترك الصلاة عامداً إذ لا فرق بين فرض وفرض، فهذه حجج الموجبين للقضاء.
وأما المانعون فقالوا: قد ثبت بما مر أن القضاء لا يثبت إلا بدليل غير الأمر الأول، وقد قررنا ذلك بما لا مرية فيه لمنصف، ولم نجد دليلاً يوجب على تارك الصلاة عمداً غير معذور استدراكها بعد وقتها؛ إذ ليس بدليل.
وأما ما احتج به الموجبون، فلا يفيد المطلوب، ولا ينبغي أن يكون عليه في هذا الباب تعويل، وسنجيب عن كل واحدة من تلك الحجج، ونبين أن المستند إليها مائل عن سواء المنهج، سالك في تعويله عليها السبيل الأعوج، ولا بد قبل الجواب من إيراد البرهان على قولنا وإن كان المقرر أنه لا يجب على النافي دليل، إلا أنا نتبرع بذلك لما فيه من زيادة الإيضاح والتقوية لما مر، فنقول: الحجة لنا على أنه لا يجب على من تعمد ترك الصلاة لغير عذر قضاء من وجوه:
أحدها: أن الله تعالى قد توعد من ترك الصلاة في وقتها بوعيد شديد قال تعالى: {فَوَيْلٌ لِلْمُصَلّينَ ، الَّذِينَ هُمْ عَنْ صَلاَتِهِمْ سَاهُونَ}[الماعون:4،5] وقد فسر الصحابة السهو عنها بأنه تأخيرها عن وقتها، وقد ثبت ذلك عن سعد بن أبي وقاص، وفيه حديث مرفوع.
الثاني: قوله تعالى: {فَخَلَفَ مِنْ بَعْدِهِمْ خَلْفٌ أَضَاعُوا الصَّلاَةَ ..}[مريم:59] الآية، وفسرت إضاعتها بتضييع وقتها.
قيل: والتحقيق أن إضاعتها تتناول تركها وترك وقتها وواجباتها وأركانها، وهذان الوجهان قويان في الدلالة على المقصود؛ إذ لو كان المتعمد بتركها مدركاً لها بعد وقتها لما كان له الويل، ولا لقي غياً.
الثالث: أن لكل صلاة فرض وقتاً محدوداً إجماعاً، وحدود الله لا يجوز تعديها لقوله تعالى: {تِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ فَلاَ تَعْتَدُوهَا }[البقرة:229] وقوله: {وَمَنْ يَتَعَدَّ حُدُودَ اللَّهِ فَقَدْ ظَلَمَ نَفْسَهُ }[الطلاق:1] ولا شك أن مؤخرها عن وقتها متعد لحدود الله، كما أن مقدمها على وقتها كذلك، فما بالها تقبل مع تعدي الحد، ولا تقبل مع تعدي الحد الآخر!.
الرابع: أن هذه الصلاة المقضية لا تخلو إما أن تكون هي الصلاة المأمور بها أو غيرها، الأول باطل، وإلا لزم أن لا يكون التارك لها إلى ذلك الوقت عاصياً؛ لأنه فعل ما أمر الله به، وهذا باطل قطعاً ولا يقوله مسلم، وإن كانت غير التي أمر الله تعالى بها فهو قولنا، وقد أقروا بأنهم كلفوه ما لم يأمره الله تعالى به.
الخامس: أنا نسألهم عمن أخر الصلاة عمداً حتى خرج وقتها ثم فعلها أطاعة تلك الصلاة أم معصية؟ فإن قالوا: هي طاعة خالفوا الكتاب والسنة والإجماع؛ إذ كلها ناطقة بقبح تأخير الصلاة عن وقتها، وإن قالوا: هي معصية. قيل: فكيف تنوب المعصية عن الطاعة؟ وكيف يتقرب إلى الله بها؟ فإن قيل: هو مطيع بفعلها عاص بتأخيرها إذ القربة بالفعل الذي هو طاعة لا بالتفويت الذي هو معصية.
قيل: الطاعة هي موافقة الأمر وامتثاله على الوجه الذي أمر به، وليس لنا من الشارع أمر لمن تعمد تفويت الصلاة بفعلها بعد وقتها حتى يكون مطيعاً.
السادس: أن كل عمل علق بوقت فإنه لا يصح عمله في غير ذلك الوقت وإلا لم يكن وقتاً له، وأيضاً لو جاز أداؤها بعد الوقت لما كان لتحديد آخر وقتها معنى.
السابع:أن الصلاة كالحج والصيام والجمعة، فكما أن هذه لا تقبل في غير أوقاتها كذلك الصلاة.
الثامن:أن الصلاة في أوقاتها واجبة على كل حال، وقد جاء عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم من الأمر بالمحافظة على فعلها في الوقت ما فيه كثرة حتى أنه قد يترك بعض الواجبات والشرط كالقيام والقراءة والوصف وغير ذلك إذا كان لا يمكنه أن يصلي في الوقت مع الإيتان بها، ولم يؤمر بالتأخير إلى بعد خروج الوقت، وإن كان يمكنه الإتيان بعده بالصلاة كاملة الشروط والفروض، بل لا يجوز له التأخير طلباً لهذا الكمال، دليل ذلك صلاة الخوف مع ما فيها من الأفعال المنافية للصلاة من القتال والانفتال، ومخالفة جهة القبلة وغير ذلك، وكذلك أمر الله المريض أن يصلي قاعداً وعلى جنب، وليس ذلك إلا للمحافظة على الوقت، وكونها لا تصح إلا فيه، ولا تقبل بعد إذ لو كانت تصح وتقبل في غيره لجاز تأخيرها إلى وقت الأمن والصحة ليؤتى بها كاملة، وذلك غير جائز إجماعاً.
التاسع: أن كل ما أمر الله تعالى به في وقت مخصوص فترك حتى يخرج وقته فإنه لا يمكن المكلف به الإتيان به لا شرعاً ولا حساً، ولا يدخل تحت مقدوره؛ لأنه أتى بغير المأمور به.
العاشر: أنه قد دل النص والإجماع على أنه من أخر الصلاة عن وقتها عمداً بلا عذر فقد فاتته كما قال صلى الله عليه وآله وسلم : ((من فاتته صلاة العصر فكأنما وتر أهله وماله)) والفائت لا يمكن استدراكه؛ إذ لو أمكن فيه ذلك لما سمي فائتاً، والأمة مجمعة على أن من تعمد ترك الصلاة حتى يخرج وقتها فقد فاتته.
قال بعضهم: ولو قبلت وصحت بعد الوقت لكان تسميتها فائتة لغواً وباطلاً وكيف يفوت ما يدرك.
الحادي عشر: مفهوم حديث: ((من نام عن صلاة أو نسيها ...)) إلخ لأن انتفاء الشرط يستلزم انتفاء المشروط، فيلزم منه أن من لم ينس فلا قضاء عليه.
الثاني عشر: القياس على سقوط كفارة القتل عن المتعمد، واليمين الغموس بجامع العمد.
الثالث عشر:أنه قد ثبت بالدليل كفر تارك الصلاة متعمداً بلا عذر، وقد مر ذكر إجماع قدماء العترة " والشيعة على تسمية مرتكب الكبيرة كافر نعمة.
والأحاديث في كفر تارك الصلاة كثيرة قد مر بعضها قريباً، وبعضها في التاسعة من مسائل قوله تعالى: {إِنَّ اللَّهَ لاَ يَسْتَحْيِي أَنْ يَضْرِبَ مَثَلاً مَا بَعُوضَةً ...}الآية[البقرة:26]، والظاهر أن القول بكفره إجماع الصحابة لما رواه الترمذي والحاكم وصححه عن عبد الله بن شقيق العقيلي قال: كان أصحاب رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم لا يرون شيئاً من الأعمال تركه كفر غير الصلاة، وإذا ثبت كفره فلا قضاء عليه لقوله تعالى: {قُلْ لِلَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ يَنتَهُوا يُغْفَرْ لَهُمْ مَا قَدْ سَلَفَ }[الأنفال:38] وحديث: ((الإسلام يجب ما قبله )) أخرجه أحمد، والطبراني، والبيهقي من حديث عمرو بن العاص، ومسلم بمعناه من حديثه أيضاً، وابن سعد من حديث جبير بن مطعم.
وتوبة الكافر من كفره إسلام؛ إذ الإسلام هو الانقياد لأحكام الله تعالى.
هذا وأما ما احتج به الأولون فقد ذكرنا أنها ليست بحجج كما لا يخفى، ولكنا نزيد ذلك بياناً ووضوحاً بذكر الجواب عن كل واحدة منها فنقول:
الجواب عن الأولى قد مر عند تقريرها في أول المسألة، على أن أكثر القائلين بوجوب القضاء على العامدلم يعتمدوا على تلك الحجة لتسليمهم أن القضاء لا يجب إلا بأمر جديد.
والجواب عن الثانية: أن زيادة من ترك في أول الحديث لم يوجد بعد البحث الشديد في غير رواية أصول الأحكام، مع أنها تنافي قوله في آخر الحديث: ((إذا ذكرها)) على أن الإمام أحمد بن سليمان عليه السَّلام قد ذكر الحديث في الحقائق ولم يذكر هذه الزيادة، فلعلها زيادة من الناسخ، ولا ينبغي الاعتماد على مثلها في إثبات مثل هذا الأصل العظيم.
والجواب عن الثالثة: وهي تشبيه حقوق الله بالدين من وجوه:
أحدها: أن حديث: ((فدين الله أحق أن يقضى )) وارد فيمن ترك واجباً لعذر، كما ذلك مصرح به في حديث ابن الزبير روى في المسند، والسنن عن عبد الله بن الزبير أنه جاء رجل من خثعم إلى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فقال: إن أبي أدركه الإسلام وهو شيخ لا يستطيع ركوب رحل والحج مكتوب عليه أفأحج عنه؟ قال: ((أنت أكبر ولده )) قال نعم. قال: ((أرايت لو كان علي أبيك دين فقضيته عنه أكان ذلك يجزي عنه؟ قال: نعم. قال: فحج عنه )) ونحن نقول أن المتروك لعذر يقبل القضاء، لا يقال سائر الروايات في الحج عن الغير غير مصرح فيها بالعذر؛ لأنا نقول هي محمولة على هذا الحديث، أو محتملة فتكون مجملة.
ثانيها: أنا لو سلمنا وردوده في المعذور وغيره، فالصلاة غير مرادة بالحديث ولا يتناولها عمومه؛ إذ لا يصح تشبيهها بالدين لعدم تعلقها بالمال بخلاف الحج كما يشير إليه تفسير الاستطاعة بالزاد والراحلة، ويؤيده أن الاستنابة في الصلاة لا تجزي لا في الحياة ولا بعدها سواء تركت لعذر أم لا، وكذا التبرع بها عن الغير.
ثالثها: أنا وإن سلمنا تعلقها بالذمة وأنها دين ثابت على تاركها فنحن لا نقول بسقوطها عنه بمعنى أنه لا يؤاخذ ولا يجب عليه شيء بسبب تركها ولا يقول هذا أحد من أهل الإسلام، بل قولنا في حقه أعظم من قولكم؛ لأنا نقول إنها قد تحتمت عقوبته وباء بإثم لا سبيل إلى استدراكه وتكفيره إلا بأعظم الطاعات وأكبرها وهي التوبة، واستئناف العمل، وجعلنا توبته إسلاماً،وتركه للصلاة كفراً، وإنما موجب خطأكم أنكم بنيتم قولكم على مقدمة وهي أن هذا الدين قابل للأداء فيجب أداؤه، وهذا هو محل النزاع، وأنتم لم تقيموا عليها دليلاً، وإنما أثبتم الحكم بنفسه، ونحن نقول لم يبق للمكلف سبيل إلى استدراك هذا الفائت وإن الله لا يقبله إلا في وقته وعلى صفته المشروعة، وقد أقمنا من الأدلة على ذلك ما قد عرفتم ونحن نطالبكم بإقامة الدليل على أن هذا الحق قابل للأداء في غير وقته المحدود له شرعاً، وأنه يكون عبادة في غير وقته.
رابعها: أن الحديث وارد في الحج وليس له وقت محدود بل وقته العمر، وورد أيضاً في النذر المطلق كما في الصحيحين من حديث ابن عباس أن امرأة قالت: يا رسول الله إن أمي ماتت وعليها صوم نذراً أفأصوم عنها؟ قال: ((أرأيت لو كان على أمك دين فقضيتيه أكان يؤدّي ذلك عنها؟ قالت: نعم قال: فصومي عن أمك)).
وعن ابن عباس أن امرأة من جهينة جاءت إلى الرسول صلى الله عليه وآله وسلم فقالت: إن أمي نذرت أن تحج فلم تحج حتى ماتت أفأحج عنها؟ قال: ((نعم حجي عنها ، أرأيت لو كان على أمك دين أكنت قاضيه اقضوا الله فالله أحق بالوفاء)) متفق على صحته.
ونحن نقول في مثل هذا الدين القابل للأداء دين الله أحق أن يقضى؛ إذ القضاء المذكور في الأحاديث ليس بقضاء عبادة مؤقتة محدودة الطرفين بل مطلقة، ونحن إنما منعنا القضاء في المؤقتة بوقت محدود؛ لأن الله لا يقبل المؤقت في غير وقته، ولهذا كثرت الأخبار في الحث على المحافظة على الوقت حتى سمي من ترك الصلاة عن وقتها كافراً.
والجواب عن الرابعة: أنه لا يجوز حمل النسيان في الحديث على الترك لمقابلته بالذكر والنسيان، إذا قوبل بالذكر كان بمعنى السهو لا بمعنى الترك وإلا لم يكن لقوله: (إذا ذكرها) فائدة، ولأنه قابل الناسي بالنائم، وهذه المقابلة في عرف الشرع إنما تكون إذا قصد به الساهي مع أن الناسي إذا علقت به الأحكام الشرعية لم يكن المراد به إلا الساهي، وهذا مطرد في كلام الشارع، وأيضاً في الحديث: ((لا كفارة لها إلا ذلك )) ومعلوم أن من تركها عمداً لا يكفر عنه فعلها بعد الوقت إثم التفويت.
قيل: وهذا مما لا خلاف فيه بمعنى أنه لا يكفر ذلك الإثم إلا التوبة؛ إذ لوكان فعلها مكفراً للإثم اللاحق بسبب التفويت لكان معنى الحديث من ترك الصلاة عمداً فكفارة إثمها فعلها بعد الوقت، وفي هذا من الشناعة أعظم مما شنعتم به علينا حيث قلنا لا تنفعه ولا تقبل منه إذ قولكم يؤدي إلى بطلان فائدة تحديد الصلاة بالأوقات، فإن قيل: لنا أن نستدل بالحديث على وجه آخر وهو أن قوله: لا كفارة لها إلا ذلك يدل على أن المراد بالناسي التارك فيكون العامد مراداً بالحديث لأن النائم والناسي بمعنى الساهي لا إثم عليهما.
قيل: هذا الاستدلال باطل؛ لأنه يستلزم عدم وجوب القضاء على الناسي والنائم لعدم الإثم الذي جعلوا الكفارة منوطة به، والأحاديث الصحيحة قد صرحت بوجوبه عليهما، وكذلك الإجماع، وقد استضعف الحافظ هذا الاستدلال وقال: الكفارة قد تكون عن الخطأ كما تكون عن العمد، على أنه قد قيل إن المراد بالكفارة هي الإتيان بها تنبيهاً على أنه لا يكفي مجرد التوبة منهما والاستغفار كما يكفي ذلك من العامد.
قلت: ويجوز أن يكون ذكر الكفارة مقصوداً به الحث على المسارعة بفعلها عند الذكر، وأنه لا يجوز التأخير عن ذلك الوقت، ولا يقبل فعلها في غيره كما جاء في بعض الروايات: لا وقت لها إلا ذلك.
قوله: سلمنا أن المراد بالناسي ضد الذاكر... إلخ.
قلنا: لا نسلم أن تخصيصهما بالذكر لما ذكرتم لجواز أن تكون العلة في وجوب القضاء عليهما هي التدارك والتلافي للمصحلة الفائتة في حقهما، فكأن تخصيصهما بالذكر للتنبيه على هذه العلة، ولم يذكر العامد لأنه لا سبيل إلى التلافي والتدارك في حقه إلا بأعظم الطاعات وهي التوبة لعظم معصيته، كما قيل في عدم لزوم كفارة قتل العمد واليمين الغموس.
والجواب عن الخامسة: أنه قد مر أن الحديث ليس على ظاهره اتفاقاً، بل هو متأول، وفي تأويله وجوه:
أحدها: أن ذلك في الصبي يبلغ والمجنون والمغمي عليه يفيقان، والحائض والنفساء تطهران، والكافر يسلم فمن أدرك من هؤلاء ركعة قبل خروج وقت الصلاة لزمته تلك الصلاة، وهذا التأويل ذكره الطحاوي، والحامل له على الانتصار لمذهب الحنفية في بطلان صلاة من أدرك من الصبح ركعة ثم طلعت الشمس للنهي عن الصلاة عند طلوع الشمس.
الثاني: أن ذلك وارد في صلاة الجماعة، وأن المسبوق إذا أدرك مع الإمام ركعة كان مدركاً لفضيلة الجماعة، وهذا لا خلاف فيه، وعلى هذين التأويلين فعدم دلالة الحديث على مطلوب الخصم واضح، لكن في حمله على الثاني ضعف ظاهر لمنافاته لصريح لفظه.
الثالث: أن المراد به أنه إذا دخل في الصلاة في آخر وقتها فصلى ركعة ثم خرج الوقت كان مدركاً لتلك الصلاة كلها، إلا أنهم اختلفوا هل يكون أداء أو قضاء؟ أو ما أدرك في الوقت أداء وما بعده قضاء؟ أقوال ثانيها للجمهور، وهذا الوجه هو الذي عليه الجمهور، ويدل عليه الحديث، لكن ليس للخصم فيه حجة؛ لأن النبي صلى الله عليه وآله وسلم لم يرد أن من أدرك ركعة من العصر فقد صحت صلاته بلا إثم، بل هو آثم بتعمد ترك التأخير إلى هذا الوقت اتفاقاً إلا على احتمال للجويني؛ إذ هو مأمور بأن يأتي بجميعها في وقتها، فعلم أن هذا الإدراك لا يرفع الإثم وإنما كتبت له هذه الفريضة تفضلاً من الله تعالى لإتيانه بركعة منها في الوقت، وهذا يدل على عظم شأن الوقت، ثم إن لخصومكم أن يقبلوا الاحتجاج بالحديث لمذهبهم، واحتجاجهم به أظهر من احتجاجكم، وبيان ذلك أنه قد ثبت أنه لم يرد بالإدراك الصحة والإجزاء مع سقوط الإثم، بل هما مع الإثم بالتأخير ولم يعتبر في الإجزاء فعلها مطلقاً، بل شرط إدراك ركعة منها في الوقت، فدل على أنه لو فعلها كلها بعد الوقت لم يكن مدركاً لها وهو المطلوب، ولو جوزنا فعلها كلها بعده لكنا قد أبطلنا معنى الحديث.
والجواب عن السادسة: أن تأخير النبي صلى الله عليه وآله وسلم يوم الخندق إنما كان نسياناً كما جاء في رواية، ولهذا سأل هل علم أحد أنه صلى صلاة العصر، أو لاشتغاله بالحرب كما في رواية أخرى، وكان ذلك قبل نزول صلاة الخوف كما في حديث أبي سعيد، وعلى هذين الوجهين فلا تعلق للخصم بذلك؛ إذ النزاع إنما هو في تركها عمداً لا لعذر، ولا يجوز أن يقال إن النبي صلى الله عليه وآله وسلم تعمد تركها لا لعذر؛ لأن ذلك عندنا وعند الخصم يكون كفراً أو فسقاً، وكلاهما لا يجوز على الرسول صلى الله عليه وآله وسلم .
والجواب عن السابعة: بأن أمر النبي صلى الله عليه وآله وسلم لهم بتأخيرها إلى بني قريظة عذر في ذلك، والمعذور خارج عن محل النزاع كما مر.
والجواب عن الثامنة: بأنه لا حجة لكم في ذلك لوجهين:
أحدهما: أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم لم يعتبر تلك فريضة وإنما اعتبرها نافلة، بل أمر بالصلاة في وقتها، فلو كان يصح فعلها فريضة بعد الوقت لأجاز النبي صلى الله عليه وآله وسلم تأخيرها مع الأمراء، إما لدفع شرهم أو للمحافظة على الألفة ولزوم جماعة الأمة، لكنه أمر بفعلها في وقتها ثم فعلها معهم ثانياً نافلة لأحد هذين الأمرين، وبهذا التقرير فالاحتجاج بالحديث لخصمكم أولى من الاحتجاج به لمذهبكم لما فيه من الدلالة من المحافظة على الوقت.
الثاني: أن الأمراء لم يكونوا يؤخرون صلاة النهار إلى الليل ولا العكس، وإنما كانوا يؤخرون صلاة الظهر إلى وقت العصر، والعصر إلى اصفرار الشمس ونحن نقول إنه إذا أخر الصلاة هذا التأخير فإنه يصليها في وقت الأخرى وإن لم يكن معذوراً، وإنما الخلاف في الإثم فمن أجاز الجمع بين الصلاتين في وقت أحداهما قال لا إثم عليه في ذلك، ومن لم يجز الجمع قال إنه يأثم، وقد ثبت بما مر أنه إذا بقي من النهار ما يسع ركعة من العصر أنه يكون مدركاً للعصر، وعلى الجملة أنما تضمنته هذه الحجة خارج عن محل النزاع؛ إذ محله فيما إذا أخر صلاة النهار إلى الليل أو العكس وصلاة الصبح إلى بعد طلوع الشمس عمداً ولم يدرك من الصبح ولا من العصر ركعة كاملة، وبهذا تعرف ضعف بناء ابن عبد البر الاحتجاج بحديث: ((إنما التفريط على من لم يصل الصلاة ...))إلخ على أن المراد بوقت الأخرى هو وقت التي تليها كتأخير الظهر إلى وقت العصر، وكيف نقول إن المراد ذلك والوقت هذا مشترك بين هاتين الصلاتين في الجملة، وقد ثبت أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم جمع بالمدينة من غير خوف ولا مطر ولا مرض.
قال بعض العلماء: وهذا لا ينازع فيه، ولكن هل أجاز رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم صلاة الصبح في وقت الضحى من غير نوم ولا نسيان، ومن هنا يعلم جواب الحجة التاسعة، بل هي من جملة الأدلة على اشتراك الوقت.
والجواب عن العاشرة: أن الحديث مطلق مقيد بما جاء في الأحاديث المعلومة من وجوب الإتيان بها في وقتها، وأن من أخرها عن وقتها لا لعذر فقد كفر، ولو أخذ بهذا الإطلاق لبطلت فائدة تحديد أوقات الصلاة، وقد روي أن الحديث بنحو ما رواه عبادة مقيداً بذكر الوقت أخرجه أحمد وغيره عن كعب بن عجزة مرفوعاً وفيه:(( إن ربكم يقول من صلى الصلاة لوقتها وحافظ عليها ولم يضيعها استخفافاً بحقها فله علي عهد أن أدخله الجنة ومن لم يصلها لوقتها ولم يحافظ عليها استخفافاً بحقها فلا عهد له إن شئت عذبته وإن شئت غفرت له)).
قيل: وفي إسناده عيسى بن المسيب ضعيف.
قال شارح المسند: له شاهد عند الطبراني في الكبير عن ابن مسعود حسنه المنذري.
والجواب عن الحادية عشرة: بأنا نقول بموجب قول أمير المؤمنين عليه السَّلام لكن من أين لنا أن المراد بحقها قضاؤها، بل لكل عبادة حق بحسب ما يقتضيه الدليل الخارجي، وقد دل الدليل على أن الانتهاء كاف في حق الكافر، وتارك الصلاة كافر، سلمنا فعام مخصوص أو محمول على المبالغة في هذا الأثر ما لا يشترط في التوبة، وقد كان السلف يحتاطون في دينهم بما ليس بواجب عليهم كما فعل عمار رضي الله عنه من قضاء بعض ما لا يجب عليه من الصلوات، ويؤيد هذا أنه قد مر عن علي عليه السَّلام أن الندم توبة، وثبت ذلك عن غيره، وروي مرفوعاً، ومن هنا يؤخذ أن حقها الذي ذكره أمير المؤمنين في قوله فتؤدي حقها هو التوبة لا غير، ويدل عليه أيضاً قوله تعالى: {فَخَلَفَ مِنْ بَعْدِهِمْ خَلْفٌ أَضَاعُوا الصَّلاَةَ وَاتَّبَعُوا الشَّهَوَاتِ فَسَوْفَ يَلْقَوْنَ غَيّاً، إِلاَّ مَنْ تَابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ صَالِحاً}[مريم:59،60] الآية، فلم يشرط في سلامتهم إلا التوبة والاستمرار عليها المعبر عنه بقوله: {آمَنَ وَعَمِلَ صَالِحاً ثُمَّ اهْتَدَى }[طه:82] فلو كان قضاء الصلاة شرط في سلامة من أضاعها لما أغفلها الله سبحانه وتعالى وما كان ربك نسيا، وقد مر من السنة: ((إن الله سكت لنا عن أشياء ولم يتركها نسياناً فلا نتكلفها)) وهذه الآية من أقوى الحجج في المسألة وأوضحها.
والجواب عن الثانية عشرة: أن الإجماع لا ينعقد مع خلاف من ذكرنا من السلف والخلف، وقد حكى الخلاف محمد بن منصور عن بعضهم ذكره في العلوم والجامع الكافي، وقال: إنما عليه التوبة، واحتج له بقوله صلى الله عليه وآله وسلم : ((ما بين العبد وبين الكفر إلا ترك الصلاة )).
قال في العلوم: يقولون إذا تاب من الكفر فليس عليه إعادة الصلاة بمنزلة المرتد، على أن حديث أنس قد قيل إنه لم يوجد، وقال ابن حزم: إنما رواه مكحول عن أنس، ومكحول لم يدرك أنساً، واعترض بأنه قد ذكر غيره صحة سماعه من أنس، والأولى أن يقال: نحن نطالب بإسناده إلى مكحول، ثم لو صح فلا حجة فيه لأنه لم ينص على أنهم تعمدوا تركها، والواجب حملهم على النسيان ولا يظن بمن هو دونهم أن يتعمد تركها مع أن صلاة الخوف قد كانت مشروعة يومئذ قطعاً؛ إذ لم تفتح تستر إلا بعد وفاة النبي صلى الله عليه وآله وسلم ، فلو كانوا ذاكرين لأتوا بما يمكنهم من صفات صلاة الخوف.
وأما قولهم: إن الأمة أجمعت على وجوب الصلاة فلا تسقط إلا ببرهان، فمسلم لكنا نقول: قد أقمنا البرهان على عدم الوجوب، ثم إن الشرع لم يوجب الصلاة إيجاباً مطلقاً، بل قيد وجوبها بأوقات محدودة معلومة، ولم نجد في الشرع ما يقتضي وجوبها قبل وقتها أو بعده.
واعلم أن كثيراً من العلماء قد يدعي الإجماع وليس ثمة إجماع في الواقع، وإنما يكون سببه أنه بحث ولم يجد خلافاً فظن الإجماع فجاء من بعده فتداولوا عبارته ونقلوا حكايته لعلمهم بعدالته، ولو أنصف من نفسه لعلم أنه لا يقدر على الإحاطة بمعرفة العشر أونحوه من علماء الإسلام فكيف بمعرفة كلهم والاطلاع على مذاهبهم، وقد نقم كثير من جهابذة العلماء على من يدعي الإجماع من غير ضروريات الدين ونحوها كوجوب الصلاة، والزكاة، ونحو ذلك، وإنما ذكرت لك هذا البحث لئلا تغتر بما حكاه الأمير الحسين والقاضي زيد وأضرابهما من الإجماع فيما نحن فيه، فقد عرفت أن الصواب مع ناقل الخلاف.
قال بعض المحققين: نقول من قال من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أن من ترك الصلاة عمداً لغير عذر حتى خرج وقتها أنها تنفعه بعد الوقت وتبرأ ذمته، فالله يعلم أنا لم نظفر بصاحب واحد منهم قال ذلك، ثم روي عن الحسن أنه قال: إذا ترك الرجل صلاة واحدة متعمداً فإنه لا يقضيها، ثم حكي عن بعضهم أن قول الحسن هذا إما لأنه يذهب إلى كفر تارك الصلاة والكافر لا قضاء عليه، وإما لأن الله إنما فرض الصلاة في وقت معلوم فإذا ذهب الوقت فقد لزمته المعصية لتركه الفرض في وقته، فإذا أتى به بعد الوقت فإنما أتى به في وقت لم يؤمر بالإتيان به فيه فلا ينفعه.
قلت: فهذا خلاف الحسن البصري وهو من كبار التابعين فلا ينعقد الإجماع مع خلافه وحده، فكيف وقد ثبت خلاف غيره كما قدمنا، ولا يظن بنا أحد أنا نريد بما ذكرناه من عدم الاعتراض بدعوى الإجماع قدحاً في أولئك الجهابذة أو حطاً من قدرهم فهم أعظم قدراً من أن يوصموا بكلام، أو يلحقوا بملام، بل نقول هم معذورون لأنهم لسعة اطلاعهم وكثرة بحثهم قد ظنوا عدم المخالف حيث لم يجدوه، ويجوز أن يكونوا رووا تلك الحكاية عن غيرهم.
والجواب عن الثالثة عشرة: من وجوه.
أحدها: أن هذا القياس معارض بما مر من القياس على سقوط كفارة القتل العمد واليمين الغموس وهو بهما أشبه، وليس ثبوت القضاء بمفهوم الموافقة بأولى من سقوطه بمفهوم المخالفة، فلا وجه لقولهم أنه من باب التنبيه بالأدنى على الأعلى.
الثاني: أنه لا يجب من صحة قضاء المعذور الذي لم يقع منه تفريط أن يصح ويقبل القضاء من العاصي المتعدي لحدود الله، فقياس هذا على ذلك في صحة عبادته من أفسد القياس.
الثالث: أن النائم والناسي لم يصليا الصلاة في غير وقتها؛ لأن وقتها حين يذكرها كما في الحديث، ولأجل هذا قيل: الوقت وقتان وقت اختيار، ووقت عذر فوقت المعذور بنوم أو نسيان هو وقت الذكر أو الاستيقاظ، فإذا كان هذا لم يصلها إلا في وقتها فكيف يقاس عليه من لم يصلها في وقتها عمداً أو عدواناً.
الرابع: أن الشريعة قد فرقت في مواردها ومصادرها بين العامد والناسي، وذلك معلوم لمن بحث.
الخامس: أنا لم نسقطها على المتعمد ونأمر بها المعذور حتى يلزمنا ما ذكرتم، بل ألزمناها المتعدي على وجه لا سبيل إلى التخلص منها إلا بما هو أعظم عند الله منها وهو التوبة، وقد ذكر المنصور بالله أنه لا كبيرة في الطاعات إلا التوبة فنحن في التغليظ عليه أعظم منكم.
والجواب عن الرابعة عشرة: أنا لا نسلم الأصل فإنه لم يرد بوجوب القضاء على من تعمد الإفطار في شهر رمضان من دون رخصة كتاب ولا سنة ولا إجماع، أما الكتاب فلم يوجب الله فيه القضاء إلا على من أفطر للرخصة التي بينها في كتابه وهي المرض والسفر قال تعالى: {فَمَنْ كَانَ مِنْكُمْ مَرِيضاً أَوْ عَلَى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ}[البقرة:184] ومفهوم الآية أنه لا رخصة في الإفطار، لغير هذين السببين، وقد جاءت السنة بالرخصة لغيرهما كالمرضع والحامل على خلاف في وجوب القضاء عليهما، ولم نجد في السنة ما يقتضي وجوب القضاء على من أفطر عامداً من دون عذر إلا في موضعين أحدهما: المجامع، والثاني: المستقيء.
أما المجامع فروى المرشد بالله في الأمالي قال أخبرنا أبو القاسم الذكواني، قال: حدثنا أبو محمد بن حبان، قال: حدثنا عمر بن عبد الله يعني بن الحسن، قال: حدثنا أبي، قال: حدثنا عمي الحسين بن حفص، قال: حدثنا حسين بن سعد، عن ابن شهاب، عن أبي سلمة، عن أبي هريرة أن رجلاً جاء إلى النبي صلى الله عليه وآله وسلم واقع أهله في رمضان فقال صلى الله عليه وآله وسلم : ((أعتق رقبة ، قال: لا أجد، قال: صم شهرين متتابعين، قال: لا أقدر عليه. قال: أطعم ستين مسكيناً. قال: لا أجد، قال فأتي رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم بعرق فيه تمر خمسة عشر صاعاً فقال: خذ هذا فتصدق به فقال: يا رسول الله ما أجد أحوج إليه مني ومن أهل بيتي قال: كله أنت وأهل بيتك وصم يوماً واستغفر الله)) قوله: حدثنا حسين بن سعد أظنه هشام بن سعد كما في سنن البيهقي، والحديث أخرجه بهذه الزيادة -أعني الأمر بصيام يوم- أبو داود وابن ماجة.
وإسناد أبي داود هكذا حدثنا جعفر بن مسافر، ثنا ابن أبي فديك، ثنا هشام بن سعد عن ابن شهاب، عن أبي سلمة بن عبد الرحمن عن أبي هريرة فذكره.
أما جعفر فهو: ابن مسافر بن راشد التنيسي أبو صالح الهذلي قال في التقريب: صدوق ربما أخطأ.
وأما ابن فديك فهو: محمد بن إسماعيل بن مسلم الدؤلي مولاهم أبو إسماعيل وثقه غير واحد، وقال النسائي: لا بأس به، وفي (الكاشف) صدوق، احتج به الجماعة وروى له المرادي، وفي المناقب: وأما هشام فهو ابن سعد القرشي، وفي التقريب المدني وهو يتيم زيد بن أسلم وأكثر عنه.
قال أبو داود: هو أثبت الناس في زيد بن أسلم، وقال أبو زرعة: محله الصدق ولينه جماعة وبعضهم شدد فيه، وسواه أبو حاتم بابن إسحاق، وقال في التقريب: صدوق له أوهام ورمي بالتشيع، مات سنة ستين ومائة أو قبلها.
احتج به مسلم والأربعة، وروى له الأخوان، قيل: وإنما روى له مسلم في المتابعة، وروى له البخاري أيضاً تعليقاً، والحديث قد ذكره ابن حزم مرفوعاً من طرق وضعفها كلها وقال لا يصح فيها شيء؛ لأن أحدها من طريق أبي أويس أعني الزهري عن حميد بن عبد الرحمن، عن أبي هريرة، وأبو أويس ضعيف ضعفه ابن معين وغيره.
قلت: أبو أويس هو: عبد الله بن عبد الله بن أويس الأصبحي أبو أويس قريب مالك.
قال في التقريب: صدوق يهم، وقال في حواشيه: ضعفه أحمد وابن معين وابن المديني والنسائي لا بأس، وعن الأولين لا بأس به، وعن الثاني وأبي حاتم أنه ليس بحجة، وقال أبو داود: صالح الحديث قال فقد اتفقت كلماتهم جميعاً إلى أن فيه ضعفاً وأنه ليس بحجة، وحديثه عند مسلم في الشواهد، وقال في الجدوال: وثقه أحمد، توفي سنة سبع وستين ومائة.
احتج به مسلم والأربعة، وروى له الناصر ثم قال ابن حزم: والثاني رويناه من طريق هشام ابن سعد.
قلت: بالسند المتقدم، وقد عرفت كلام الناس فيه، وقال ابن حزم: ضعفه أحمد وابن معين وغيرهما، ولم يستجز الرواية يحيى بن سعيد القطان، وقال بعضهم: هشام ضعفه من قبل حفظه أيضاً، وقد عد هذا الحديث من مناكيره، وحكى ابن حجر عن الحليلي أن الحفاظ أنكروا عليه هذا الحديث، وقالوا: إنما رواه الزهري عن حميد، قال: ورواه وكيع عن هشام، عن الزهري، عن أبي هريرة منقطعاً.
قال أبو رزعة الرازي: أراد وكيع الستر على هشام بإسقاط أبي سلمة.
قال بعضهم: ومثل هذا الذي اختلط فيه الأمر على الراوي لا يكون حجة قال والثالث رويناه من طريق عبد الجبار بن عمر، عن يحيى بن سعيد الأنصاري، عن سعيد بن المسيب، عن أبي هريرة، وعبد الجبار ضعفه البخاري، وقال ابن معين: ليس بشيء، وقال أبو داود السجستاني: منكر الحديث.
قلت: عبد الجبار هذا هو الأيلي بفتح الهمزة وسكون التحتانية الأموي مولاهم مات بعد الستين ومائة، روى له الترمذي وابن ماجة، وقد عرفت ما قيل فيه، وضعفه أيضاً في التقريب وقال في هامشه: وثقه ابن سعد وضعفه جماعة، وحديثه هذا أشار إليه الدارقطني.
قال:الرابع رويناه من طريق الحجاج بن أرطأة عن عطاء، عن عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده، عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم أنه أمر الواطئ في نهار رمضان أن يصوم يوماً مكانه، والحجاج لا شيء ثم هو صحيفة.
قلت: الحجاج ثقة أثنى عليه أحمد والثوري وغيرهما، وعداده في الشيعة، وضعف الحديث عندنا إنما هو من أجل عمرو بن شعيب وأبيه وجده.
قال ابن حزم: وروينا مرسلاً من طريق مالك، عن عطاء بن السائب، عن سعيد بن المسيب ومن طريق ابن جريج، عن نافع عن جبير بن مطعم، ومن طريق أبي معشر المدني، عن محمد بن كعب القرظي كلهم أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم أمره بقضاء يوم، والمرسل لا تقوم به حجة.
قلت: وحديث عمرو بن شعيب أخرجه أيضاً البيهقي، وكذلك حديث أبي هريرة من طريق هشام بن سعد، ومما يؤيده عدم ثبوت الأمر بصيام يوم أن حديث المجامع مروي في الكتب المعتبرة من كتب أهل البيت والمحدثين بطرق صحيحة ولم يذكر في شيء منها أنه أمره بصيام يوم مكانه، فبطل أن يكون في إيجاب القضاء على من تعمد الجماع في نهار رمضان نص صحيح من رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ، والمستقيئ فروي من حديث أبي هريرة، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم : ((من ذرعه القيء فلا قضاء عليه ومن استقاء فعليه القضاء )) أخرجه الخمسة، وقواه الدارقطني، وتكلم عليه جماعة منهم أبو داود، وقالوا: لا نراه محفوظاً، وأنكره أحمد.
قلت: الحديث قد ثبت نحوه عن علي عليه السَّلام في المجموع قال فيه: حدثني زيد بن علي، عن أبيه، عن جده، عن علي عليه السَّلام قال: إذا أذرع الصائم القيء لم ينقض صيامه وإن استقاء أفطر وعليه القضاء.
وأخرج البيهقي وابن أبي شيبة نحوه عن علي عليه السَّلام ، وروى ابن أبي شيبة عن ابن عمر أنه كان يقول: من ذرعه القيء وهو صائم فلا يفطر وإن تَفَيّءَ أفطر.
وأخرج نحوه عن الحسن وابن سيرين وعطاء وإبراهيم، والقاسم بن محمد وسعيد بن جبير، والشعبي، وابن عياش، وعلقمة ومجاهد، وما ثبت فلا يمكن رده بل يعدل فيه إلى أحد أمرين وهما القول بأنه يقر حيث ورد ولا يقاس عليه، وإما أن يحمل على من استقاء لعذر كمن أصابه مرض وكان علاجه بالقيء فإنه يباح له الإفطار بالتقيء وينفعه القضاء؛ إذ السبب هنا من جهة الله وهو المرض، فإن تعمد التقيء بلا عذر ولا سبب فلا يقبل منه القضاء ولا يصح منه، وإنما يكلف بالتوبة النصوح، ويشهد لهذا كثير من الوجوه المتقدمة في دفع وجوب قضاء الصلاة مع ما جاء في الصيام خاصة، وذلك فيما أخرجه أبو داود، قال: حدثنا سليمان بن حرب، قال: ثنا شعبة (ح) وثنا محمد بن كثير، قال: أخبرنا شعبة عن حبيب بن أبي ثابت، عن عمارة بن عمير، عن ابن مطوس، عن أبيه قال ابن كثير عن أبي المطوس عن أبي هريرة، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم : ((من أفطر يوماً من رمضان في غير رخصة رخصها الله لم يقض عنه صيام الدهر)).
وقال أبو داود أيضاً: حدثنا أحمد بن حنبل، ثنا يحيى بن سعيد عن سفيان، حدثني حبيب، عن عمارة، عن ابن المطوس قال: فلقيت ابن المطوس فحدثني عن أبيه عن أبي هريرة، قال: قال النبي صلى الله عليه وآله وسلم مثل حديث ابن كثير وسليمان.
قال أبو داود: واختلف على سفيان وشعبة عنهما ابن المطوس وأبو المطوس، وأخرجه أحمد والضياء.
قال العزيزي: وهو ضعيف وإن علقه البخاري، ولفظ البخاري ويذكر عن أبي هريرة رفعه: ((من أفطر يوماً من رمضان من غير عذر ولا مرض لم يقضه صيام الدهر وإن صامه)).قال: وبه قال ابن مسعود.
قال القسطلاني: هذا الحديث قد وصله أصحاب السنن الأربعة، وصححه ابن خزيمة من طريق سفيان الثوري وشعبة وكلاهما عن حبيب بن أبي ثابت عن عمارة بن عمير، عن أبي المطوس بضم الميم وفتح المهملة وتشديد الواو المفتوحة عن أبيه عن أبي هريرة نحوه.
قال الترمذي: سألت محمداً يعني البخاري عن هذا الحديث فقال: أبو المطوس اسمه يزيد بن المطوس لا أعرف له غير هذا الحديث، وقال في التأريخ أيضاً: تفرد أبو المطوس بهذا الحديث ولا أدري سمع أبوه من أبي هريرة أم لا.
وقال ابن حزم: أبو المطوس غير مشهور بالعدالة، وعن أحمد لا أعرفه ولا أعرف حديثه من غيره.
قال ابن حجر: واختلف فيه يعني في الحديث على حبيب بن أبي ثابت اختلافاً كثيراً فحصلت فيه ثلاث علل الاضطراب، والجهل بحال أبي المطوس، والشك في سما ع أبيه عن أبي هريرة، ولعله أراد بالاختلاف على حبيب أنه تارة يرويه عن أبي المطوس وتارة يوسط بينهما عمارة بن عمير، لكن قد مر عن أبي داود أن حبيباً قال: فلقيت ابن المطوس فحدثني عن أبيه عن أبي هريرة، وكذلك روى النسائي عن حبيب أنه قال: وقد رأيت أبا المطوس فصح لقاؤه إياه.
قلت: أبو المطوس هذا ذكره في التقريب، وقال هو يزيد، وقيل: عبد الله لين الحديث، وقال في هامشه: وثقه ابن معين.
وأما المطوس فقال في التقريب: مجهول وعده في الجداول من رجال المؤيد بالله.
قلت: الحديث يصلح للاحتجاج مع ما مر عن ابن خزيمة من تصحيحه، ومع موافقته لما مر من الأدلة القاضية بأنه لا قضاء على العامد في الجملة، مع أنه قد قال بمدلوله أعني أنه لا يقضيه صوم الدهر أمير المؤمنين عليه السَّلام وأبو بكر وابن مسعود وغيرهم، فأما المروي عن أمير المؤمنين فذكره ابن حزم من طريق ابن أبي شيبة عن أبي معاوية، عن عمر و بن يعلى الثقفي، عن عرفجة، عن علي بن أبي طالب عليه السَّلام قال: من أفطر يوماً من رمضان متعمداً لم يقضه أبداً طول الدهر.
أما أبو معاوية فقال في الجداول: أبو معاوية الضرير محمد بن حازم التيمي مولاهم الشعبي الثبت، وذكر رواية أبي بكر بن أبي شيبة عنه، وقال: وثقه الذهبي والعجلي، وقال الحاكم: احتج به الشيخان، وقد اشتهر عنه غلو التشيع، احتج به الجماعة، وروى له المرادي، وفي المناقب.
وأما عمرو فهو: ابن عبد الله بن يعلى الثقفي، قال في التقريب: الكوفي وربما نسب إلى جده ضعيف.
قلت: لعل وجه تضعيفه التشيع كما تبين عنه قولهم الكوفي.
وأما عرفجة فهو: ابن عبد الله الثقفي أو السلمي.
قال في الجداول: عن علي وابن مسعود، وعائشة، وثقه ابن حبان، وقال محمد بن منصور: كان من خيار أصحاب ابن مسعود، احتج به النسائي، وروى له المرشد بالله والمرادي.
وفي أمالي المرشد بالله: أخبرنا القاضي أبو القاسم التنوخي، قال: أخبرنا أبو محمد الديباجي، قال: حدثنا أبو علي بن الأشعث الكوفي بمصر، قال: حدثني موسى بن إسماعيل بن موسى بن جعفر بن محمد، قال: حدثني أبي، عن أبيه، عن جده، عن أبيه أن علياً عليه السَّلام أتي برجل مفطر في شهر رمضان نهاراً من غير علة فضربه تسعاً وثلاثين سوطاً لحقّ شهر رمضان حيث أفطر.
وروى ابن حزم من طريق سفيان عن عطاء بن أبي مروان عن أبيه أن علي بن أبي طالب أتي بالنجاشي قد شرب الخمر في رمضان فضربه ثمانين ثم ضربه من الغد عشرين، فقال: ضربناك العشرين لجرأتك على الله وإفطارك في شهر رمضان.
وهذان الأثران من جملة أدلة القوم بأنه لا يكلف المتعمد للإفطار من دون علة القضاء؛ لأن قوله عندنا حجة، ووجه الاحتجاج بهما أنه عليه السَّلام لم يذكر قضاء ولا كفارة، فهما مؤكدان لصريح ما مر عنه عليه السَّلام من أنه لا يقضيه الدهر.
وروى ابن حزم من طريق عبد الله بن المبارك عن هشام الدستوائي عن يحيى بن أبي كثير، عن عبد الرحمن بن البيلماني أن أبا بكر قال لعمر بن الخطاب فيما أوصى به من صيام شهر رمضان في غيره لم يقبل منه ولو صام الدهر أجمع.
وهذا نص في المقصود لكن قال الحافظ: فيه انقطاع، ولعله أراد أن ابن البيلماني لم يسمع من أبي بكر. والله أعلم.
قلت: ابن البيلماني هو مولى عمر سمع منه ومن ابن عباس، ضعفه في التقريب، ولينه أبو حاتم، ووثقه ابن حبان، واحتج به الأربعة، وروى له المرادي، ولعله سمع هذا الأثر عن عمر.
وروى ابن حزم من طريق سفيان الثوري عن عبد الله بن سنان، عن عبد الله بن أبي الهذيل، عن عمر أنه أتى بشيخ شرب الخمر في رمضان فقال للمنخرين للمنخرين ولداننا صيام ثم ضربه وسيره إلى الشام.
وأخرج البخاري تعليقاً عن عمر أنه قال لنشوان -أي سكران- في رمضان: ويلك وصبياننا صيام فضربه.
قال القسطلاني: وصله سعيد بن منصور والبغوي في الجعديات، والحجة منه أن عمر لم يأمره بالقضاء ولو كان يلزمه لما سكت عنه، كيف وقد تكلم في الإنكار عليه بما لا مزيد عليه وعاقبه بالنفي إلى الشام، ولو كان يلزمه شيء غير ذلك لبينه.
وأخرج الترمذي من طريق المغيرة بن عبد الله اليشكري قال حدثت أن عبد الله بن مسعود قال: من أفطر يوماً من رمضان من غير علة لم يجزه صيام الدهر حتى يلقى الله فإن شاء غفر له وإن شاء عذبه.
وذكر ابن حزم بلفظ: من أفطر يوماً من رمضان من غير رخصة لم يجزه صيام الدهر وإن صامه، وقال ابن حزم وبأصح طريق عن علي بن الحسين عن أبي هريرة أن رجلاً أفطر في رمضان فقال أبو هريرة: لا يقبل منه صوم سنة.
ومن طريق العلاء بن عبد الرحمن، عن أبيه، عن أبي هريرة: من أفطر يوماً من أيام رمضان لم يقضه يوم من أيام الدنيا.
وهذه الآثار تقوي حديث أبي هريرة وتوضح دلالته، وتزيدها بياناً، وهي أن صيام الدهر بنية قضاء يوم من رمضان لا يسقطه عنه، وتدفع ما قيل فيه من الاحتمالات والتأويلات الباردة كما قيل إن معناه أنه لم يجد فضيلة الصوم المفروض بصوم النافلة المشار إليه بقوله: لم يقضه صيام الدهر، وقول آخرين أن معناه المبالغة والتشديد.
وقال ابن المنير: معناه أن القضاء لا يقوم مقام الأداء ولو صام عوض اليوم دهراً، وحاصله أن للصوم وصفاً خاصاً به وهو الكمال، وهذا هو الذي نفى حصوله بالقضاء يعني أن كمال فضيلة الأداء لا تحصل بالقضاء إذ لا سبيل إلى اشتراك القضاء والأداء في كمال الفضيلة، ووصف عام وهو المنحط عن كمال الأداء، ولا يخفى ما في هذه التأويلات من التكلف الذي لا ملجئ إليه، لا يقال بل الملجئ إليه أنها لم تعهد عبادة واجبة مؤقتة لا تقبل القضاء إلا الجمعة لأنا نقول بل قد عهد في الصلاة وهي أم العبادات وقد مر ولولم يكن إلا صلاة الحائض لكفت في النقض عليكم، ثم إنَّ ما مر من الآثار عن الصحابة تمنع من صحة هذه التأويلات وجوازها إذ صرح في بعضها بنفي الإجزاء، وفي بعضها بنفي القبول، وفي بعض بتقييد النفي بالتأبيد وحتى يلقى الله تعالى مع ما فيها، وفي الحديث من التأكيد البليغ حيث نفى صحة هذا القضاء وإجزائه وإن صامه يعني وإن صامه صوماً صحيحاً باذلاً فيه صحته وكماله جهده وطاقته، ثم أسند القضاء إلى الصوم إسناداً مجازياً وأضاف الصوم إلى الدهر إجراءً للظرف مجرى المفعول به إذ الأصل لم يقض هو في الدهر كله، ثم أكد ذلك بالنفي المؤبد، وأنه يلقى الله ليس له من قضائه نفع بل هو قضا أو لم يقض داخل تحت المشيئة، ومع هذا التأكيد كيف يبقى لموجب القضاء وجه يعتمد عليه.
هذا وأما الإجماع الذي حكاه النووي فقد ذكرنا ضعف دعوى الإجماع في مثل هذا فيما مر، وقد عرفناك خلاف جماعة من أكابر الصحابة والتابعين وكيف ينعقد إجماع مع خلاف أمير المؤمنين عليه السَّلام ، وممن خالف في ذلك الإمام القاسم بن محمد فإنه ذكر في الاعتصام أن المرخص له في الإفطار وهو يطيق كالمسافر يلزمه القضاء والفدية والذي كان لا يطيق الصوم، أو كان له مانع شرعي كالحائض فليس عليه إلا القضاء، والذي لا يطيق الصوم ولا القضاء فعليه الفدية فقط، ثم قال: وأما المفطر عمداً فقد وجبت له النار لارتكاب المعصية عمداً والله سبحانه وتعالى يقول: {وَمَنْ يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَإِنَّ لَهُ نَارَ جَهَنَّمَ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَداً}[الجن:23] ثم قال وروى الطبراني والبيهقي عن ابن مسعود موقوفاً: من أفطر يوماً من غير رخصة له لم يقض عنه صيام الدهر كله.
قال عليه السَّلام : معنى هذا الخبر صحيح مع عدم التوبة، وأما مع التوبة فهل تلزم كفارة وممن خالف في ذلك ابن حزم، وإذا تقرر أنه لا يجب على من تعمد إفطار شهر رمضان أشراً وبطراً قضاء بطل ما قالوه من قياس الصلاة عليه؛ إذ لا قياس على غير أساس.
المسألة الخامسة [وجوب صلاة الجماعة]
احتج بقوله تعالى: {وَارْكَعُوا مَعَ الرَّاكِعِينَ }[البقرة:43] على وجوب صلاة الجماعة، وهذه المسألة قد كثر فيها النزاع، وأطال بعضهم في الاحتجاج عليها، ولأجل إرادة تحقيق الخلاف ومعرفة الحق فيها جعلنا الكلام عليها في ثلاثة مواضع:
الأول: في ذكر الخلاف.
الثاني: في ذكر أدلة القائلين بالوجوب.
الثالث: في الاحتجاج على نفي الوجوب وإثبات كونها سنة فقط.
الموضع الأول: في ذكر الخلاف اختلف الناس في حكم صلاة الجماعة على ثلاثة أقوال:
الأول: أنها فرض عين ولا يجوز تركها إلا لعذر، وهذا قول عطاء وأبي العباس الحسني، وأبو ثور وأحمد، وإسحاق، وابن المنذر، والأوزاعي، وابن خزيمة، وابن حبان وداود، وابن حزم وسائر أهل الظاهر وغيرهم من المتأخرين الإمام القاسم بن محمد، ثم اختلفوا فذهب بعضهم إلى أنها شرط في صحة الصلاة فلا تصح صلاة من صلى وحده، وهذا قول داود وأصحابه.
قال ابن حزم: وهو قول جميع أصحابنا.
وروي عن أحمد واختاره أبو الوفاء بن عقيل وأبو الحسن التميمي، وهو ظاهر مذهب الإمام القاسم بن محمد، وقال آخرون بل يأثم التارك وتبرأ ذمته بصلاته وحده، وهذا قول المتأخرين من أصحاب أحمد وروي عنه، وبه قال أبو العباس.
القول الثاني: أنها فرض كفاية ونسبه في الروض إلى مالك، والليث، وابن سريج، وإحدى الروايتين عن أبي حنيفة، وأحد قولي الشافعي، وتخريج أبي العباس للهادي، وأحد تحصيلي أبي طالب، وأحد قولي المنصور بالله، واختاره النووي، وعليه جمهور المتقدمين من أصحاب الشافعي.
قال في النيل: وبه قال كثير من المالكية والحنفية منهم الطحاوي والكرخي حكاه عنهما القسطلاني.
القول الثالث: أنها سنة مؤكدة، وإليه ذهب زيد بن علي، والقاسم، والهادي، والناصر، والمؤيد بالله، وأبو طالب وغيرهم من العترة "، وهو أحد قولي المنصور بالله، واختاره علامة العصر، وروي عن أبي حنيفة وأصحابه، والشافعي وأصحابه، ورجَّحَهُ المقبلي والشوكاني، وحكاه القرطبي عن الجمهور.
[أدلة الموجبين لصلاة الجامعة]
الموضع الثاني في أدلة الموجبين ولهم على ذلك أدلة:
أحدها: الآية الكريمة أعني قوله تعالى: {وَارْكَعُوا مَعَ الرَّاكِعِينَ }[البقرة:43] ووجه الاستدلال بها أنه عبر بالركوع عن الصلاة؛ لأنه من جملة أركانها فكأنه قال صلوا مع المصلين، والصلاة يعبر عنها بأركانها كما سميت سجوداً وقرآناً وتسبيحاً، وعلى هذا فلا بد لقوله واركعوا مع الراكعين من فائدة غير فائدة الأمر بإقامتها إذ الأمر بالإقامة قد وقع في أول الآية، وليست تلك الفائدة إلا إيقاعها في الجماعة، ومع تفيد ذلك لأنها تقتضي المعية والجمعية، والمعلوم أن الركوع مع الراكعين لا يكون إلا في حال مشاركتهم في الركوع فتكون إقامة الصلاة في الجماعة واجبة للأمر بها في قوله: واركعوا، وقد تقرر أن الأمر المقيد بصفة أو حال لا يكون المأمور ممتثلاً إلا إذا أتى به على تلك الصفة والحال، فإن قيل: لو دل على الوجوب هنا لدل عليه في حق مريم + فإن الله قد أمرها بمثله فقال: {وَارْكَعِي مَعَ الرَّاكِعِينَ }[آل عمران:43] والمعلوم أن المرأة لا يجب عليها إقامة الصلاة في جماعة اتفاقاً.
قيل: يجوز أن يكون الوجوب خاصاً بمريم + دون غيرها من النساء، ولا محذور في ذلك فإن الله قد خصها بخصائص كالتطهر والاصطفاء على نساء العالمين، ويجوز أن يكون الأمر في حقها للندب، والقرينة الصارفة الإجماع المذكور، فإن قيل: الأمر بالركوع مع الراكعين لا يدل على وجوب فعله معهم حال ركوعهم، بل يدل على الإتيان بمثل ما فعلوا كقوله تعالى: {وَكُونُوا مَعَ الصَّادِقِينَ }[التوبة:119] إذ المعية تقتضي المشاركة في الفعل ولا يستلزم المقارنة فيه.
قيل: حقيقة المعية مصاحبة ما بعدها لما قبلها، هذا والمصاحبة تفيد قدراً زائداً على المشاركة ولا سيما في الصلاة فإنه إذا قيل صليت مع الجماعة لا يفهم منه إلا اجتماعهم على الصلاة.
والجواب: أن الآية خطاب لليهود وفيها احتمالات:
أحدها: ما ذكرتم وهو أضعفها لما فيه من التكلف والعدول عن المعنى الحقيقي بلا ملجئ، بل قيل: إن ذلك لا يجوز إجماعاً.
قال في (مفاتيح الغيب): أجمع العلماء على أنه لا يجوز صرف الكلام إلى المجاز إلا بعد تعذر حمله على الحقيقة.
ثانيها: أن يكون الركوع باقياً على معناه اللغوي وهو الانقياد والخضوع، ويكون المراد أمرهم بالخضوع لله تعالى والانقياد لأحكامه، ويرجحه أنه الأصل ولا مقتضى للعدول عنه وعموم الفائدة إذ الانقياد لأحكام الله تعالى يشمل جميع شرائع الإسلام، وبه تتحقق المغايرة بين الأمر بإقامة الصلاة والأمر بالركوع، وفيه تعظيم لأهل الإسلام حيث أمر هؤلاء بالكون معهم، وأنه لا سلامة إلا لمن سلك طريقتهم من الانقياد للإسلام والخضوع للملك العلام، وحاصل هذا الأمر ومغزى فائدته هو الأمر بالإسلام كما قال مقاتل في معنى الآية: أمرهم أن يكونوا من أمة محمد ومعهم.
ثالثها: أن المراد بالركوع الركوع المعروف في الصلاة، وإنما أمروا به وإن كان مدرجاً في الصلاة التي أمروا بها لأنه لا ركوع في صلاتهم، فنبه به على أن المطلوب منهم هو صلاة المسلمين وهو في معنى الأول في أن حاصله الأمر بالدخول في الإسلام.
قال النسفي في معنى الآية: أي أسلموا واعملوا عمل أهل الإسلام، ويقوي هذا الاحتمال أن فيه حمل الركوع على الحقيقة الشرعية، وألفاظ الشارع تحمل عليها إذا وردت مجردة عن القرائن مع ما في الكلام من المبالغة في الرفع من شأن صلاة المسلمين من حيث أنه أمر بها أولاً بالأمر العام، ثم أكدها بالأمر بما هو ركن من أركانها، وكنى بها عن الإسلام جملة، وإذا تقرر هذا علمت ضعف ما ذكره الخصوم من الحمل على المعنى المجازي، وأنه لا وجه يقتضيه، ولا قرينة تدل عليه، وإذا ثبت ضعفه بل بطلانه بطل الاستدلال بالآية على وجوب الجماعة.
سلمنا أنه عبر بالركوع عن الصلاة فلا نسلم اقتضاء ذلك وجوب إيقاعها في جماعة.
قوله: ولا بد لقوله اركعوا من فائدة... إلخ.
قلنا: فائدته التأكيد بالتكرار، والكلام إذا تكرر تقرر مع ما فيه من التنويه بشأن المسلمين حيث أمر بصلاتهم والتمسك بدينهم.
قوله حقيقة المعية مصاحبة ما بعدها...إلخ.
قلنا: بل معناها المصاحبة اللائقة بالمذكور معها فتارة تكون اسماً لمكان الاجتماع كما في قوله تعالى: {وَدَخَلَ مَعَهُ السِّجْنَ فَتَيَانِ }[يوسف:36] وتارة لزمانه كقوله تعالى: {أَرْسِلْهُ مَعَنَا غَداً }[يوسف:12] وتارة يراد بها مجرد المشاركة في الفعل، فدل على الإتيان بمثل ذلك الفعل من دون استلزام المقارنة في زمان أو مكان كما في قوله تعالى: {وَكُونُوا مَعَ الصَّادِقِينَ }[التوبة:119] إذ المطلوب منهم الإتيان بمثل أفعالهم دون نظر إلى أمر وراء ذلك، وقوله تعالى: {وَارْكَعُوا مَعَ الرَّاكِعِينَ} [البقرة:43] بقوله: {وَكُونُوا مَعَ الصَّادِقِينَ }[التوبة:119] أشبه إذ ليس فيها ما يدل على الزمان والمكان.
قوله: إذا قيل صليت مع الجماعة لا يفهم منه إلا اجتماعهم ...إلخ.
قلنا: مسلم لأنه اللائق بذلك التركيب، وليس كذلك إذا قيل صليت مع المصلين فلا يفيد إلا أنه من أهل الصلاة، والآية على تقريركم في قوة قوله صلوا مع المصلين، وبما قررنا يبطل الاحتجاج بالآية، وقد ذكر السيد محمد بن الهادي في الروضة والغدير أن الآية لا تدل على أن المراد بها صلاة الجماعة لا بمنطوقها ولا بمفهومها.
الدليل الثاني: قوله تعالى: {وَإِذَا كُنتَ فِيهِمْ فَأَقَمْتَ لَهُمُ الصَّلاَةَ فَلْتَقُمْ طَائِفَةٌ مِنْهُمْ مَعَكَ...}الآية[النساء:102]، ووجه الاستدلال بها أنه تعالى أمرهم بالصلاة في الجماعة بقوله: فلتقم، ثم أعاد الأمر في حق الطائفة الثانية بقوله: {وَلْتَأْتِ طَائِفَةٌ أُخْرَى لَمْ يُصَلُّوا فَلْيُصَلُّوا مَعَكَ}[النساء:102] فلو كانت الجماعة سنة لكان أولى الإعذار بسقوطها حال الخوف،وفي الآية أيضاً دليل على وجوبها على الأعيان وإلا لسقطت في الطائفة الثانية بفعل الأولى.
والجواب: أن هذا الأمر إنما أريد به التعليم أي تعليم النبي صلى الله عليه وآله وسلم صلاة الخوف في الجماعة إن أراد فعلها إذ المعنى وإذا كنت فيهم فأردت أن تقيم الصلاة بهم، والأوامر الواردة في تعليم الصفات والكيفيات ليست للوجوب لأن الغرض منها متعلق بالكيفية وهي تابعة في الوجوب وعدمه لما هي كيفية له، ولا يستلزم الأمر بالكيفية وجوب المكيف بها، لا سيما إذا كان الأمر بالصفة على تقدير وجوب الموصوف كما في هذه الآية، ولهذا لم يقل أحد من العلماء بوجوب صلاة الاستخارة المأمور بها بقوله: ((فليركع ركعتين ثم ليقل اللهم إني استخيرك )) ونظائره كثيرة في تعلم الأذكار ونوافل الصلاة، والصيام، وليس لأحد أن يقول إنما عدلوا عن الواجب لقرينة؛ لأن الظاهر أنه لا قرينة سوى ما ذكرنا.
الدليل الثالث: قوله تعالى: {وَكُنْ مِنَ السَّاجِدِينَ }[الحجر:98] فأمره بالدخول معهم في سجودهم، والمراد بالسجود الصلاة فإنها تسمى بذلك وهذا أمر، والأمر للوجوب.
والجواب: أن في الآية وجوهاً وأيها كان فلا دلالة فيها على ما ذهبتم إليه أحدها أن يكون المراد بالسجود الصلاة، فيكون المعنى وكن من المصلين، والمراد من هذا الأمر إنما هو الأمر بالدوام على هذه العبادة لأنه صلى الله عليه وآله وسلم لم يزل متلبساً بها أي من الدائمين على الصلاة.
ثانيها: أن المراد بالسجود الخضوع والتواضع لله تعالى.
ثالثها: أنها واردة مورد التعليم لما يدفع به الضيق والحزن وهو الفزع إلى الله تعالى بالذكر المأمور به في قوله: {فَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ }[الحجر:97] وكثرة السجود، وقد روي أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم كان إذا أحزنه أمر فزع إلى الصلاة، ويدل على صحة هذا التأويل قوله تعالى قبلها: {وَلَقَدْ نَعْلَمُ أَنَّكَ يَضِيقُ صَدْرُكَ بِمَا يَقُولُونَ }[الحجر:97].
الدليل الرابع: قوله تعالى: {يَوْمَ يُكْشَفُ عَنْ سَاقٍ وَيُدْعَوْنَ إِلَى السُّجُودِ فَلاَ يَسْتَطِيعُونَ، خَاشِعَةً أَبْصَارُهُمْ تَرْهَقُهُمْ ذِلَّةٌ وَقَدْ كَانُوا يُدْعَوْنَ إِلَى السُّجُودِ وَهُمْ سَالِمُونَ}[القلم:42،43] ووجه الاستدلال بها أنه عاقبهم يوم القيامة بأن حال بينهم وبين السجود بسلب الاستطاعة لتركهم السجود في الدنيا وقد كانوا يدعون إليه فلا يجيبون، والمراد من إجابة الداعي هي إتيان المساجد لحضور الجماعات كما أخرج البيهقي في الشعب عن سعيد بن جبير في قوله: {وَقَدْ كَانُوا يُدْعَوْنَ إِلَى السُّجُودِ }[القلم:43] قال: الصلوات في الجماعات.
وأخرج البيهقي عن ابن عباس في الآية قال: الرجل يسمع الآذان فلا يجيب الصلاة.
وأخرج ابن مردويه عن كعب الأحبار قال: والذي أنزل التوراة على موسى والإنجيل على عيسى والزبور على داود، والفرقان على محمد أنزلت هذه الآيات في الصلوات المكتوبات حيث ينادى بهن {يَوْمَ يُكْشَفُ عَنْ سَاقٍ }[القلم:42] إلى قوله: {وَقَدْ كَانُوا يُدْعَوْنَ إِلَى السُّجُودِ وَهُمْ سَالِمُونَ}[القلم:43] الصلوات إذا نودي بها، وقد فسر النبي صلى الله عليه وآله وسلم الإجابة بإجابة النداء إلى الصلاة، والنداء هو الدعاء إليها، فيكون ما جاء عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم في ذلك مؤيداً لدلالة الآية، وسنذكره فيما بعد.
والجواب: أن الآية نزلت في الكفار فإنهم كانوا يدعون إلى السجود أي الصلاة في حال سلامتهم فيمتنعون منها.
قال الخازن: و(يدعون إلى السجود فلا يستطيعون) السجود يعني الكفار والمنافقين تصير أصلابهم كصياصي البقر أو كصفحة نحاس فلا يستطيعون السجود، ثم قال: {وَقَدْ كَانُوا يُدْعَوْنَ إِلَى السُّجُودِ }[القلم:43] يعني في دار الدنيا كانوا يدعون إلى الصلاة المكتوبة بالأذان والإقامة، وقوله {وَهُمْ سَالِمُونَ} يعني يدعون إلى الصلاة وهم أصحاء فلا يأتونها.
وأخرج ابن المنذر عن ابن عباس بقوله: {وَقَدْ كَانُوا يُدْعَوْنَ إِلَى السُّجُودِ وَهُمْ سَالِمُونَ }[القلم:43] قال: الكفار يدعون في الدنيا وهم آمنون، فاليوم يدعون وهم خائفون.
وأخرج عبد بن حميد عن قتادة {وَيُدْعَوْنَ إِلَى السُّجُودِ فَلاَ يَسْتَطِيعُونَ }[القلم:42] قال: ذلكم يوم القيامة ذكر لنا أن نبي الله صلى الله عليه وآله وسلم كان يقول: ((يؤذن للمؤمنين يوم القيامة في السجود فيسجد المؤمنون وبين كل مؤمنين منافق فيتعسر ظهر المنافق عن السجود)).
وقوله: {وَقَدْ كَانُوا يُدْعَوْنَ إِلَى السُّجُودِ وَهُمْ سَالِمُونَ }[القلم:43] قال: في الصلوات.
وأخرج عبد بن حميد عن الحسن، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم : ((يجمع الله الخلائق يوم القيامة ثم ينادي مناد من كان يعبد شيئاً فليتبعه)) إلى أن قال: ((وبقي المسلمون فيقال لهم ما كنتم تعبدون فيقولون الله)) إلى أن قال: ((فعند ذلك يؤذن لهم في السجود بين كل مؤمنين منافق فيقصم ظهورهم عن السجود ثم تلا الآية: {وَيُدْعَوْنَ إِلَى السُّجُودِ فَلاَ يَسْتَطِيعُونَ ))[القلم:42].
وأخرج إسحاق بن راهويه في مسنده وعبد بن حميد، وابن أبي الدنيا والطبراني، والآجري في الشريعة، والدار قطني في الرؤية، والحاكم وصححه، وابن مردويه والبيهقي في البعث عند عبد الله بن مسعود عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال: ((يجمع الله الناس يوم القيامة )) وذكر حديثاً طويلاً وفيه: ((فيخر كل من كان يسجد طائعاً ساجداً ويبقى قوم ظهورهم كصياصي البقر يريدون السجود فلا يستطيعون)).
وأخرج عبد بن حميد وابن أبي شيبة، وابن أبي حاتم والطبراني والحاكم وصححه البيهقي في البعث والنشور عن ابن مسعود أنه ذكر الدجال، ثم ذكر حديثاً فيه طول، وفيه: ((فلا يبقى مؤمن إلا خر لله ساجداً ، ويبقى المنافقون ظهورهم طبق واحد كأنما فيها السفافيد فيقولون ربنا فيقول قد كنتم تدعون إلى السجود وأنتم سالمون)).
فهذه الروايات صريحة في أنها نزلت في الكفار والمنافقين، والمعلوم أنهم إنما كانوا يدعون إلى مطلق الصلاة من دون نظر إلى كونها وحداناً أو في جماعة، وليس في الآية ولا في هذه الروايات ما يدل على أن توبيخهم وسلبهم الاستطاعة على السجود في الآخرة بتركهم صلاة الجماعة، بل الذي تقضي به هذه الأخبار أنهم عوقبوا على تركهم السجود المعروف نفسه، ولهذا قيل إن ظهورهم قصمت وأنها طبق واحد؛ إذ المراد أنهم لم يقدروا على فعل السجود لخلل في ظهورهم، فثبت أنه لا وجه للاستدلال بها على شرعية الجماعة في الصلاة فضلاً عن وجوبها، ومما يؤيد ذلك أنه جعل عدم استطاعتهم السجود في الآخرة عقوبة على تركهم السجود في الدنيا، ولم يدع أحد أن سجودهم المدعو إليه في الآخرة يكون في جماعة فذلك ما قابله وهو السجود المدعو إليه في الدنيا.
وأما ما روي عن سعيد بن جبير فإن صح عنه فلا حجة فيه لجواز أنه توهم ذلك كما توهم من استدل بها.
وأما أثر ابن عباس فقد روينا ما يعارضه مع أنه لا دلالة فيه على ذلك، وإنما يدل على أنه يجب إجابة الأذان في الصلاة أي إلى فعلها أعم من أن يكون في جماعة أو لا.
وأما كعب الأحبار فهو معدود من المنحرفين عن أمير المؤمنين عليه السَّلام .
وأما تفسير النبي صلى الله عليه وآله وسلم الإجابة بإجابة النداء إلى الصلاة فلم يرد ذلك التفسير في تفسير الدعاء المذكور في الآية، بل ورد في غيرها، وسيأتي الكلام عليه، ولا يلزم من وروده هنالك أن يكون هو المراد هنا وكيف يقال ذلك والنداء والدعاء يختلف باختلاف متعلقاته فإن الدعاء إلى الجهاد غير الدعاء إلى الصلاة، وكذلك الدعاء المتضمن للإعلام بوجوب الصلاة غير الدعاء إلى فعلها والحضور لإقامتها. والله أعلم.
الدليل الخامس: ما رواه في المجموع قال حدثني زيد بن علي، عن أبيه، عن جده، عن علي عليه السَّلام ، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم : ((لا تزال أمتي يكف عنها مالم يظهروا خصالاً عملاً بالربا وإظهار الرشا وقطع الأرحام وترك الصلاة في جماعة وترك هذا البيت أن يؤم فإذا ترك هذا البيت أن يؤم لم يناظروا)) وفي بعض النسخ: يكف عنها البلاء، والحديث رواه في العلوم وأحكام الهادي والشفاء، وهو يدل على وجوب الجماعة لأنه قرن تركها بالكبائر.
والجواب أن دلالة الإقتران ضعيفة كما قرر في الأصول، ولو سلم اعتبارها فمع عدم الدليل الصارف عنها، وهنا قد ثبت أن صلاة الجماعة سنة غير واجبة لما سيأتي عن أمير المؤمنين وغيره، والجمع بين الأدلة متعين، وحينئذ يقال إنما قرن ترك الجماعة بالكبائر المذكورة لتأكيد سنيتها والحث على المحافظة عليها كما قال في غسل الجمعة أنه حق واجب مع قيام الدليل على أنه لم يرد بالوجوب فيه معناه المعروف، لا يقال قد توعد على تركها بحلول البلاء كما توعد بذلك على ارتكاب تلك الكبائر، وهذا يدل على الوجوب لأنا نقول الذي دل عليه الخبر أن فعلها من أسباب كف البلاء، وكونها كذلك لا يقتضي وجوبها إذ يستدفع البلاء بطاعات قولية وفعلية ولا قائل بوجوبها كما جاء في الحديث: ((إن قول لا حول ولا قوة إلا بالله يستدفع به أنواعاً من البلاء)) وغير ذلك كثير.
الدليل السادس: قوله صلى الله عليه وآله وسلم : ((لقد هممت أن آمر بالصلاة أن تقام ثم آمر رجالاً من قريش فيحملون حزماً من حطب فيه نار فأحرق على قوم لا يحضرون الصلاة بيوتهم)) رواه في الشفاء.
وفي سنن أبي داود وحدثنا عثمان ابن أبي شيبة، ثنا أبو معاوية، عن الأعمش، عن أبي صالح، عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم : ((لقد هممت أن آمر بالصلاة فتقام ثم آمر رجلاً فيصلى بالناس ثم أنطلق معي برجال معهم حزم من حطب إلى قوم لا يشهدون الصلاة فأحرق عليهم بيوتهم بالنار)) وأخرجه ابن ماجة عن أبي بكر بن أبي شيبة بهذا الإسناد.
ورواه مسلم ولفظه حدثنا ابن نمير، حدثنا أبي، حدثنا الأعمش ح وحدثنا أبو بكر بن أبي شيبة وأبو كريب واللفظ لهما قالا: حدثنا أبو معاوية، عن الأعمش، عن أبي صالح، عن أبي هريرة، قال: قال صلى الله عليه وآله وسلم : ((إن أثقل الصلاة على المنافقين صلاة العشاء وصلاة الفجر ولو يعلمون ما فيهما لأتوهما ولو حبواً ولقد هممت أن آمر بالصلاة فتقام ثم آمر رجلاً فيصلي بالناس ثم أنطلق معي برجال معهم حزم من حطب إلى قوم لا يشهدون الصلاة فأحرق عليهم بيوتهم بالنار)).
أما أبو معاوية فهو الضرير وقد وثقه جماعة، وقيل: إنه كان يرى الإرجاء وربما دلس، وقال في الجداول: الشيعي الثبت، وقيل: إنه غال في التشيع.
وأما أبو صالح فهو: ذكوان السمان ثقة.
وفي صحيح البخاري حدثنا عبد الله بن يوسف، قال: أخبرنا مالك، عن أبي الزناد، عن الأعرج، عن أبي هريرة أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قال: ((والذي نفسي بيده لقد هممت أن آمر بحطب فيحطب ثم آمر بالصلاة فيؤذن لها ثم آمر رجلاً فيؤم الناس ثم أخالف إلى رجال فأحرق عليهم بيوتهم والذي نفسي بيده لو يعلم أحدهم أنه يجد عرقاً سميناً أو مرماتين حسنتين لشهد العشاء)) وأخرجه النسائي، وهو في صحيح مسلم قال: حدثني عمرو الناقد، قال: سفيان بن عيينة، عن أبي الزناد فذكره ولفظه: أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فقد ناساً في بعض الصلوات فذكر نحوه، وفي آخره: ((ولو علم أحدهم أنه يجد عظماً سميناً لشهدها يعني صلاة العشاء)).
وأبو الزناد هو: عبد الله بن ذكوان وثقه جماعة، ووصمه آخرون بأنه كان عاملاً لبني أمية، وروى حديث أن آدم خلق على صورة الرحمن أنكره مالك إنكاراً شديداً.
وفي صحيح مسلم حدثنا محمد بن رافع، حدثنا عبد الرزاق، حدثنا معمر، عن همام بن منبه، قال: هذا ما حدثنا به أبو هريرة عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فذكر أحاديث منها، وقال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم : ((لقد هممت أن آمر فتياني أن يستعدوا لي بحزم من حطب ثم آمر رجلاً يصلي بالناس ثم تحرق بيوتاً على من فيها)).
قال مسلم: وحدثنا زهير بن حرب، وأبو كريب، وإسحاق بن إبراهيم، عن وكيع عن جعفر بن برقان، عن يزيد بن الأصم، عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم بنحوه.
وقد ذكره الترمذي فقال حدثنا هناد، حدثنا وكيع، عن جعفر بن برقان، عن يزيد بن الأصم، عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال: ((لقد هممت أن آمر فتيتي أن يجمعوا حزم الحطب ثم آمر بالصلاة فتقام ثم أحرق على أقوام لا يشهدون الصلاة)).
قال الترمذي: حسن صحيح، قال وفي الباب عن عبد الله بن مسعود، وأبي الدرداء، وابن عباس، ومعاذ بن أنس، وجابر.
أما هناد فهو: ابن السري الدارمي أبو السري الكوفي، وثقه النسائي، أخذ عنه أحمد بن عيسى، توفي سنة ثلاث وأربعين ومائتين، احتج به مسلم والأربعة، وروى له المرادي والنرسي.
وأما ابن برقان بضم الموحدة وسكون الراء بعدها قاف فهو الكلابي أبو عبد الله الرقي، قال ابن معين: ليس بذاك في الزهري وهو أمي ثقة، وفي التقريب: صدوق يهم في حديث الزهري.
وأما ابن الأصم: فاسمه عمرو بن عبيد بن معاوية البكائي بفتح الموحدة والتشديد أبو عوف كوفي، قال في التقريب: ثقة.
ولأحمد عن أبي هريرة مرفوعاً: ((لولا ما في البيوت من النساء والذرية أقمت صلاة العشاء وأمرت فتياني يحرقون ما في البيوت بالنار)) وفي إسناده أبو معشر، قال في النيل: وهو ضعيف.
وفي سنن أبي داود حدثنا النفيلي، ثنا أبو المليح، حدثني يزيد بن يزيد، حدثني يزيد بن الأصم سمعت أبا هريرة يقول سمعت رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم : ((لقد هممت أن آمر فتيتي فيجمعون حزماً من حطب ثم آتي قوماً يصلون في بيوتهم ليست بهم علة فأحرقها عليهم)) قلت ليزيد بن الأصم: يا أبا عوف الجمعة عنى أو غيرها؟ قال: صمتا أذناي إن لم أكن سمعت أبا هريرة يؤثره عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ما ذكر جمعة ولا غيرها.
أما النفيلي فهو: عبد الله بن محمد بن علي بن نفيل بنون وفاء مصغراً النفيلي الحراني يروي عنه أحمد وأبو زرعة وأكثر عنه أبو داود، وقال: مارأيت أحفظ منه، وروى عنه البخاري بالواسطة فرد حديث، وقال أبو حاتم: ثقة مأمون، وفي التقريب ثقة حافظ، توفي سنة أربع وثلاثين ومائتين.
وأما أبو المليح فلعله الحسن بن عمر أو عمرو بن يحيى الفزاري مولاهم أبو المليح الرقي قال أحمد: ثقة ضابط، توفي سنة إحدى وثمانين ومائة.
والحديث حجة على وجوب صلاة الجماعة على الأعيان لأنها لو كانت سنة لم يهدد تاركها بالتحريق، ولو كانت فرض كفاية لكانت قائمة بالرسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ومن معه.
والجواب من وجوه:
أحدها: أن الحديث ورد في بيان فضل شهود العشاء والفجر في جماعة كما في بعض رواياته السابقة، وسائر الروايات محمولة عليها إذ القصة واحدة والحديث واحد، وإنما وقع التصرف من أبي هريرة أومن بعض الرواة، فتارة يذكرون العشاء والفجر، وتارة يذكرون العشاء، وتارة يأتون بلفظ عام للصلوات، وقد رواه أمير المؤمنين وغيره وسيأتي، ولفظ أمير المؤمنين: لأن أصلي الفجر وعشاء الآخرة في جماعة أحب إلي من أن أحيي ما بينهما، أو ما سمعت رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يقول: ((لو يعلمون ما فيهما لأتوهما ولو حبواً وإنهما ليكفران ما بينهما)) ولم يذكر الزيادة التي ذكرها أبو هريرة وهو في مقام التعليم والتبيين لما جاء به خاتم المرسلين، فلو كانت ثابتة في الحديث لذكرها الوصي عليه السَّلام ، فلعل أبا هريرة وهم في الزيادة أو خلط رواية واردة على سبب برواية أخرى بأن تكون رواية الهم بالإحراق في غير التخلف عن الجماعة أو نحو ذلك كما سيأتي في سائر الوجوه، وأبو هريرة مشهور بسوء الحفظ وقلة الضبط، وقد تقدمت الإشارة إلى بعض ما قيل فيه في الخامسة من مسائل قوله تعالى: {وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَقُولُ آمَنَّا بِاللَّهِ }[البقرة:8] وكان أبو حنيفة لا يقبل روايته، وذكر أبو جعفر الإسكافي أن أبا هريرة كان مدخولاً عند شيوخ العدلية غير مرضي الرواية، ضربه عمر بالدرة وقال: قد أكثرت الرواية وأحرى بك أن تكون كاذباً على رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم .
وعن إبراهيم التميمي كانوا لا يأخذون عن أبي هريرة إلا ما كان من ذكر جنة أو نار، وروى أبو أسامة عن الأعمش قال: كان إبراهيم صحيح الحديث فكنت إذا سمعت الحديث آتيه فأعرضه عليه فأتيته يوماً بأحاديث من أبي صالح عن أبي هريرة فقال: دعني من أبي هريرة إنهم كانوا يتركون كثيراً من حديثه.
وروي عن علي عليه السَّلام أنه قال: ألا إن أكذب الناس على رسول الله صلى الله عليه وآله أو قال الأحياء أبو هريرة الدوسي.
وفي إملاء النقيب أبو جعفر العلوي ما لفظه: وقد صرح -يعني أمير المؤمنين- غير مرة بتكذيب أبي هريرة وقال: لا أجد أكذب على رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم من هذا الدوسي، وكذلك روى عن ابن عباس وعائشة أنهما طعنا في حديث الاستيقاض.
وفي مسند الطيالسي أن عائشة أنكرت عليه حديثه في المرأة التي ربطت الهرة.
وفي أمالي المرتضى أنها أنكرت لروايته لحديث: ((إنما الطيرة في المرأة والدار والدابة )) وقالت: كذب والذي أنزل القرآن على أبي القاسم من حدث بهذا عن رسول الله وإنما قال عليه الصلاة والسلام: ((كان أهل الجاهلية يقولون أن الطيرة في المرأة والدار والدابة ثم قرأت: {مَا أَصَابَ مِنْ مُصِيبَةٍ فِي الأَرْضِ وَلاَ فِي أَنْفُسِكُمْ ...}[الحديد:22] الآية، ذكر هذا كله علامة العصر.
وذكر المنصور بالله أنه كان من أهل الغفلة، وصرح الحافظ بكذبه، ولحق بمعاوية ودخل معه الكوفة، وأساء القول في أمير المؤمنين عليه السَّلام ، وشهد عليه بأنه قد أحدث في حرم المدينة، وروى في من أحدث فيه حديثاً قد تقدم في البسملة، وتولى المدينة لمعاوية.
وقال الإمام محمد بن عبد الله الوزير نقلاً عن بعض أهل البيت": أما أبو هريرة فهو عند أئمة العترة غير مرضي، ممقوت العلانية والسريرة؛ لأنه من الفئة الباغية الداعية إلى النار بنص النبي صلى الله عليه وآله وسلم ، وبدون هذه تسقط روايته لانتفاء العدالة والضبط فلا يؤمن أن يكون خلط حديثاً بحديث، بل هو الظاهر لما سيأتي، وقد قال أمير المؤمنين عليه السَّلام في كلامه في الرواه المروي في نهج البلاغة ما معناه: أن منهم من هو منافق ولم يعلم الناس أنه منافق فتقربوا إلى أئمة الضلال برواية الزور والبهتان فولوهم الأعمال، ومنهم من لم يحفظ الشيء على وجهه فوهم فيه، وبما حكيناه من كلام الأئمة والعلماء في أبي هريرة فهو لا يخلو من أحد هذين القسمين، وعلى أيهما فلا يجوز الاعتماد على روايته في إثبات مثل هذا الأصل العظيم الذي يعم المكلفين حكمه، ويلحقهم عند الإخلال به إثمه.
الوجه الثاني: أن المراد بالحديث الزجر، وحقيقته غير مرادة، وإنما المراد المبالغة في تأكيد أمر شهود الصلاة في جماعة بدليل ما سيأتي من أدلة الاستحباب.
الوجه الثالث: أن الحديث يدل على خلاف المدعى وهو عدم الوجوب؛ إذ لو كانت واجبة لما هم النبي صلى الله عليه وآله وسلم بتركها، وأيضاً لو كانت واجبة شرطاً أو فرضاً لبين ذلك عند التوعد.
قيل:وفيه نظر لجواز أنه فعلها في جماعة آخرين قبل التحريق أو بعده، ولأنه قد دل على وجوب الحضور، وهو كاف في البيان كما لو صرح بوجوبها.
الوجه الرابع: أنه صلى الله عليه وآله وسلم هم ولم يفعل، ولو كانت واجبة لما تركهم، وردّ بأنه لا يهم إلا بالجائز، والترك لا يدل على عدم الوجوب لاحتمال أنهم انزجروا بذلك على أن في رواية أحمد بيان بسبب الترك.
الوجه الخامس: أن الحديث ورد في قوم منافقين يتخلفون عن الجماعة ولا يصلون فرادى.
قال النووي: وسياق الحديث يزيد هذا التأويل، وقوله في حديث ابن مسعود رأيتنا وما يتخلف عنها إلا منافق. صريح في هذا التأويل.
قلت: ولعله أراد بقوله: وسياق الحديث يزيد هذا أن قوله لا يشهدون الصلاة لا يستلزم حضورها في جماعة إذ يقال لمن فعل شيئاً أنه قد حضره أي لم يغب عن فعله، فإن قيل: إن في بعض طرق هذا الحديث ما يدفع هذا التأويل ويخصص هذا الوعيد بمن لا يشهد الصلاة في جماعة، وذلك ما في رواية أبي داود: ((ثم آتي قوماً يصلون في بيوتهم ليست بهم علة )). وفي رواية أحمد عن أبي هريرة: العشاء في الجمع أي في الجماعة.
وفي سنن ابن ماجة حدثنا عثمان بن إسماعيل الهذلي الدمشقي، ثنا الوليد بن مسلم، عن أبي ذئب، عن الزبرقان بن عمرو الضمري، عن أسامة بن زيد، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم : ((لينتهين رجال عن ترك الجماعة أو لأحرقن عليهم بيوتهم)).
قيل: أما حديث أبي داود ففي إسناده يزيد بن يزيد وقد قيل بجهالته.
قال في التقريب: يزيد بن يزيد بن جابر الأزدي الدمشقي ثقة فقيه. مات سنة أربع وثلاثين ومائة، وقيل: قبل ذلك.
قال في الحواشي: ولا التفات إلى قول ابن قانع فيه، وقد روى عن أبي أمامة ثم قال في التقريب: يزيد بن يزيد بن جابر الرقي عن يزيد بن الأصم، قيل: هو الذي قبله، وقيل: آخر من أهل الرقة مجهول.
وقال في الحواشي بعد ذكره الأزدي: أما سميه الرقي فتفرد عنه أبو المليح فتحصل من هذا جهالة ابن يزيد،والمجهول لا يقبل حديثه.
وأما رواية أحمد فينظر في سندها،وأما رواية ابن ماجة فتكلم عن رجالها بما قيل فيهم من مدح وذم، فأما الهذلي فقال في التقريب: مقبول، ومن وصف بمقبول فهو من المرتبة السادسة من مراتب المدح المقتضي للعدالة، وهي إشارة إلى نقص هذه المرتبة بالنسبة إلى ما تقدمها إلا أنه ليس بمتروك عندهم.
وقال السندي في شرحه عن ابن ماجة: أن عثمان لا يعرف حاله، وأما الوليد فهو الدمشقي قاله السندي في شرحه، وقال: إنَّه يدلس، وقد تقدمت ترجمته في الفاتحة، وحكينا هنالك عن التذكرة أنه يدلس، ولا يحتج به إلا إذا صرح بالسماع وهو هنا لم يصرح به.
وأما أبو ذئب فلم أجده، فإن كان ابن أبي ذئب فقد تقدمت ترجمته في الفاتحة واسمه محمد بن عبد الرحمن.
وأما الزبرقان فهو: ابن عمرو بن أمية، ويقال ابن عبد الله. قال في التقريب: ثقة، لكن الضمري المذكور في السند قال في التقريب: إنه ابن عبد الله ولم يذكر إلا رواية أبي داود له ووثقه ثم ذكر الأول بعده، وقال إنه روى له النسائي، و أبو داود، و ابن ماجة. قال: ولم يفرق الأكثر بينهما.
وأما أسامة فقال علامة العصر: إنه أحد خاذلي أمير المؤمنين عليه السَّلام ، فثبت أن هذه الروايات لا يدفع بها التأويل المذكور لضعفها، وأن الحديث إنما جاء في شأن جماعة من المنافقين، ويؤيده أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم لا يهم بتحريق بيوت أصحابه المؤمنين في غفلة من دون إعذار ولا إنذار.
الوجه السادس: أن الصلاة المتوعد عليها هي الجمعة، ويدل عليه ما رواه مسلم في الصحيح قال: حدثنا أحمد بن عبد الله بن يونس، حدثنا زهير، حدثنا أبو إسحاق، عن أبي الأحوص سمعه منه عن عبد الله أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال: ((القوم يتخلفون عن الجمعة لقد هممت أن آمر رجلاً يصلي بالناس ثم أحرق على رجال يتخلفون عن الجمعة بيوتهم)) وأخرجه أحمد، وابن مسعود أحفظ من أبي هريرة بلا شك، بل لا نسبة لأبي هريرة بالنظر إليه، وقد مر أن أصل الحديث ورد في بيان فضل العشاء والفجر في جماعة من دون الزيادة التي ذكرها أبو هريرة في الهم بالإحراق، وأن من الجائز أن يكون لسوء حفظه وقلة ضبطه خلط حديثاً بحديث، فجعل الحديث الوارد في الهم بإحراق المتخلفين عن الجمعة في المتخلفين عن جماعة الفجر والعشاء تارة، وعن أحدهما أخرى، وتارة في المتخلفين عن الصلاة مطلقاً، ويجوز أن يكون بعض هذا التصرف ممن دونه من الرواة فقد عرفت ما قيل في بعضهم، وبهذا يدفع قول من قال إن الحديث الوارد في الجمعة وفي إحدى الصلاتين وفي الصلاة مطلقاً كله صحيح؛ إذ لا منافاة فيحمل على تعدد الواقعة، وغاية ما فيه أنه يحتمل تعداد الواقعة ولا احتجاج بمحتمل، لا سيما ولنا أن نقول حديث ابن مسعود معين لأحد الاحتمالين.
الوجه السابع: أن الحديث ورد في الحث على مخالفة أهل النفاق، والتحذير من التشبه بهم لا لخصوص ترك الجماعة.
الوجه الثامن: أن فريضة الجماعة كانت واجبة ثم نسخت.
قال الحافظ: أن يتقوى لثبوت النسخ بالوعيد المذكور في حقهم وهو التحريق بالنار، ويدل على النسخ الأحاديث الواردة في تفضيل صلاة الجماعة على صلاة الفذ لأن الأفضلية تقتضي الاشتراك في أصل الفضل، ومن لازم ذلك الجواز.
الوجه التاسع: أن الوجوب خاص بجماعة النبي صلى الله عليه وآله وسلم .
قال الشوكاني: اعلم أن الاستدلال بحديثي الأعمى وحديث أبي هريرة على وجوب مطلق الجماعة فيه نظر لأن الدليل أخص من الدعوى؛ إذ غاية ما في ذلك وجوب حضور جماعة النبي صلى الله عليه وآله وسلم في مسجده لسامع النداء، ولو كان الواجب مطلق الجماعة لقال في المتخلفين إنهم لا يحضرون جماعته ولا يجمعون في منازلهم، ولقال لعتبان بن مالك انظر من يصلي معك، ولجاز الترخيص للأعمى بشرط أن يصلي في منزله جماعة.
الدليل السابع: ما روي عن ابن أم مكتوم أنه قال: يا رسو الله إني ضرير البصر شاسع الدار ولي قائد لا يلازمني فهل من رخصة أن أصلي في بيتي؟ قال: ((هل تسمع النداء ؟ قال: نعم. قال: ((لا أجد لك رخصة)).
وفي رواية أخرى أنه قال: يا رسول الله إن المدينة كثيرة الهوام والسباع فقال النبي صلى الله عليه وآله وسلم : ((هل تسمع حي على الصلاة حي على الفلاح ؟ قال فحي هلا)) يعني هلم إلى الصلاة. رواهما في الشفاء.
وفي صحيح مسلم حدثنا قتيبة بن سعيد وإسحاق بن إبراهيم وسويد بن سعيد، ويعقوب الدورقي كلهم عن مروان الفزاري قال قتيبة: حدثنا الفزاري، عن عبيد الله بن الأصم، حدثنا يزيد بن الأصم، عن أبي هريرة قال: أتى النبي صلى الله عليه وآله وسلم رجل أعمى فقال: يا رسول الله إنه ليس لي قائد يقودني إلى المسجد فسأل رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أن يرخص له فيصلي في بيته فرخص له فلما ولى دعاه قال: ((هل تسمع النداء بالصلاة ؟)) فقال: نعم. قال: ((فأجب)). وأخرجه النسائي وأحمد نحوه ولفظه: أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أتى المسجد فرأى في القوم رقة فقال: إني لأهم أن أجعل للناس إمامًا ثم أخرج فلا أقدر على رجل يتخلف عن الصلاة في بيته إلا أحرقته عليه فقال ابن أم مكتوم: يا رسول الله إن بيني وبين المسجد نخلاً وشجراً ولا أقدر على قائد كل ساعة أيسعني أن أصلي في بيتي؟ فقال: أتسمع الأذان؟ قال: نعم. قال: فأتها.
وفي سنن أبي داود حدثنا هارون بن زيد بن أبي الزرقاء، حدثنا أبي، ثنا سفيان، عن عبد الرحمن بن عابس، عن عبد الرحمن بن أبي ليلى، عن ابن أم مكتوم قال: يا رسول الله إن المدينة كثيرة الهوام والسباع فقال النبي صلى الله عليه وآله وسلم : ((أتسمع حي على الصلاة حي على الفلاح فحي هلا)) وفيه حدثنا سليمان بن حرب، ثنا حماد بن زيد، عن عاصم بن بهدلة، عن أبي رزين، عن ابن أم مكتوم أنه سأل النبي صلى الله عليه وآله وسلم فقال: يا رسول الله إني رجل ضرير البصر شاسع الدار ولي قائد لا يلايمني فهل لي رخصة أن أصلي في بيتي؟ قال: ((هل تسمع النداء ؟ قال: نعم، قال: لا أجد لك رخصة)) وأخرجه ابن ماجة من طريق أبي بكر بن أبي شيبة عن أبي أسامة، عن زائدة، عن عاصم فذكره، وأخرجه الطبراني، وأحمد، وابن حبان وزاد في روايته ((فأتها ولو حبواً )) قالوا: ولا يخفى ما يفيده الحديث من الوجوب.
وفي صحيح مسلم حدثنا أبو بكر بن أبي شيبة، حدثنا الفضل بن دكين، عن أبي العميس، عن علي بن الأقمر، عن أبي الأحوص، عن عبد الله قال: من سره أن يلقى الله غداً مسلماً فليحافظ على هؤلاء الصلوات حيث ينادى بهن فإن الله شرع لنبيكم سنن الهدى وإنهن من سنن الهدى ولو أنكم صليتم في بيوتكم كما يصلي هذا المتخلف في بيته لتركتم سنة نبيكم، ولو تركتم سنة نبيكم لضللتم، وما من رجل يتطهر فيحسن الطهور ثم يعمد إلى مسجد من هذه المساجد إلا كتب الله له بكل خطوة يخطوها حسنة ويرفعه بها درحة، ويحط عنه بها سيئة، ولقد رأيتنا وما يتخلف عنها إلا منافق معلوم النفاق، ولقد كان الرجل يؤتى به يتهادى بين الرجلين حتى يقام في الصف. وأخرجه ابن ماجة، وأبو داود وغيرهما.
أبو العميس هو: عتبة بن عبد الله بن عتبة بن مسعود الهذلي. قال أبو حاتم: صالح وثقه أحمد وابن معين. احتج به الجماعة، وروى له المؤيد بالله. توفي قريباً من المائتين.
وعلي بن الأقمر هو: الهمداني الوادعي قال في التقريب: كوفي ثقة، وقوله يهادي معناه: يمسكه رجلان من جانبيه بعضديه ويعتمد عليهما.
وفي صحيح مسلم حدثنا أبو بكر بن أبي شيبة، حدثنا محمد بن بشر العبدي حدثنا زكريا بن أبي زائدة، حدثنا عبد الملك بن عمير، عن أبي الأحوص، قال: قال عبد الله: لقد رأيتنا وما يتخلف عن الصلاة إلا منافق قد علم نفاقه، أو مريض إن كان المريض ليمشي بين رجلين حتى يأتي الصلاة، وقال إن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم علمنا سنن الهدى، وإن من سنن الهدى الصلاة في المسجد الذي يؤذن فيه، وهذا الأثر نص في الوجوب من حيث أنه نفى التخلف إلا عن المنافقين، ونسب التارك إلى الضلال، وفي رواية أبي داود إلى الكفر، وقال: إنها من سنن الهدى ومن مال عن طريقة الهدى وقع في الحيرة والردى.
والجواب أنه قد ثبت بالدليل عدم وجوب صلاة الجماعة كما سيأتي، وحينئذ فلا يجوز حمل هذين الخبرين على ظاهرهما لأن لا تتعارض في حجج الله، بل يجب التأويل بما يقع به الجمع بين الأدلة، لا سيما وحديث ابن أم مكتوم معارض بقوله تعالى: {لَيْسَ عَلَى الأَعْمَى حَرَجٌ }[الفتح:17] ونحوها.
قال بعض المحققين: لا بد من التأويل لقوله تعالى: {لَيْسَ عَلَى الأَعْمَى حَرَجٌ }[الفتح:17] وفي أمر الأعمى بحضور الجماعة مع عدم القائد ومع شكايته من كثرة السباع والهوام في طريقه غاية الحرج.
قلت: والعقل أيضاً يوجب التأويل، أو الرد إن لم يحتمله إذ في حمله على الظاهر مخالفة للدليل العقلي الدال على قبح تكليف ما لا يطاق، وتكليفه بالمشي مع بعد داره وعدم القائد كما في رواية أحمد مع خوفه من السباع كتكليفه بنقط المصحف، وقد ذكر المتكلمون أن تكليفه بذلك قبيح عقلاً كما مر، وإذا وجب التأويل فقد ذكر العلماء فيه وجوهاً:
أحدها: أن المقصود منه سد الذريعة لئلا يجعل المنافقون الرخصة سبباً للاستمرار على ترك الجماعة.
قال في شرح سنن الترمذي: ليس بمثل هذا الدليل يثبت فرض في الإسلام؛ لأن المنافقين كانوا في ذلك الزمان يتكاسلون فلو رخص لأحد في ذلك لبطلت الجماعة وأمتزج المنافق مع الموحد المخلص، فحسم الباب، وفيه ضعف لما تضمنه من تكليف الأعمى بما لا يقدر عليه أو بما فيه حرج، وهو لا يجوز لما مر.
الثاني: أن الوجوب خاص بجماعة النبي صلى الله عليه وآله وسلم كما مر، وفيه ضعف لما مر.
الثالث: أنه سأل هل له رخصة في أن يصلي في بيته وتحصل له فضيلة الجماعة بسبب عذره، فقيل لا، ويؤيده أن الجماعة تسقط بالعذر بالإجماع والعمى عذر إذا لم يجد قائداً كما في حديث عتبان بن مالك وهو في الصحيح فإنه لما قال أن السيول تحول بيني وبين مسجد قومي فأحب أن تأتيني في مكان من بيتي أتخذه مسجداً فعذره النبي صلى الله عليه وآله وسلم ، وأتى مكانه وبرك عليه.
الرابع: ما ذكره العلامة المقبلي وهو أن الحديث لما كان مع رجل من أهل المحافظة على الأمور الدينية وفضائل الشريعة التي ينزلونها منزلة الواجب فسأل الرخصة لذلك، وعامله رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم بذلك لأنه أمر مناسب مع بيان عدم الوجوب بأدلته، ونحوه قول عبد الله بن عمرو: وقد حضه رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم على الاقتصاد فراجعه في ذلك ثم قال بعد أن طعن في السن: وددت أني قبلت رخصة النبي صلى الله عليه وآله وسلم ، فليحفظ هذا فهو أمر كلي يجيئ في عدة مواضع يأمر العبد بالفعل، ويلام على الترك نظراً إلى حاله مع وجود دليل على عدم الوجوب العام، ولكن يكون بمنزلته من هو مثله كما قال صلى الله عليه وآله وسلم للبدوي الذي سأله عن الوتر ليس لك ولأصحابك إنما هو لأهل القرآن على معنى ما دمت راغباً عن الفضائل فإذا كنت راغباً فيها سلك بك مسلك أهلها، وأما حديث ابن مسعود فقول صحابي ليس فيه إلا حكاية المواظبة على الجماعة، وعدم التخلف عنها، ولا يستدل بمثل ذلك على الوجوب، غاية ما فيه أنه فهم الوجوب من كونها من سنن الهدى وفي المواظبة عليها كما يفيده قوله: ولو تركتم سنة نبيكم لضللتم، وفهمه ليس بحجة كسائر المجتهدين، على أنا نقول ليس كل سنن الهدى واجبة توجب الكفر والضلال فإن غالبها إنما هي مستحبة لا غير، والمواظبة على الفعل لا تقتضي وجوبه، سيما إذا قام دليل ينفي الوجوب كما في الجملة، هذا وقد تأول العلماء كلامه بأنه أراد بالسنة فيما يرجع إلى الجماعة المعنى المتعارف بين الفقهاء، وقوله: لضللتم محمول على التغليظ أو على الترك تهاوناً وقلة مبالاة وعدم اعتقادها حقاً، ويؤيده أنه علق الصلاة والكفر بترك الكل للجماعة كما يدل عليه توجيه الخطاب إليهم جميعاً، وقد صرح به في رواية ابن ماجة أنه قال: لو أن كلاً منكم صلى في بيته لتركتم سنة نبيكم... إلخ، ومن البعيد اجتماعهم جميعاً على ترك الجماعة إلا عن
تهاون واستخفاف كما سيأتي في حديث: ((ما من ثلاثة في قرية لا تقام فيهم الجماعة ...)) الخبر أو لفعلتم فعل الكفرة، أو أنه يؤدي إلى الكفر بأن تتركوا شيئاً فشيئاً حتى تخرجوا عن الملة.
الدليل الثامن: ما رواه ابن ماجة في السنن قال: حدثنا علي بن محمد، ثنا أبو أسامة، عن هشام الدستوائي، عن يحيى بن أبي كثير، عن الحكم بن ميناء أخبرني ابن عباس وابن عمر أنهما سمعا النبي صلى الله عليه وآله وسلم يقول على أعواده: ((لينتهين أقوام عن ودعهم الجماعات أو ليختمن الله على قلوبهم ثم ليكونن من الغافلين)) والختم على القلب إنما يكون لمرتكب الكبيرة كما في قوله تعالى: {خَتَمَ اللَّهُ عَلَى قُلُوبِهِمْ} [البقرة:7].
والجواب: أنه لا حجة في هذا الحديث لأنه وارد في جماعة الجمعات، وهو مصرح به في صحيح مسلم قال: حدثني الحسن بن علي الحلواني، حدثنا أبو توبة حدثنا معاوية وهو ابن سلام، عن زيد يعني أخاه أنه سمع أبا سلام قال: حدثني الحكم بن ميناء أن عبد الله بن عمر وأبا هريرة حدثاه أنهما سمعا رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يقول على أعواد منبره: ((لينتهين أقوام عن ودعهم الجمعات أو ليختمن الله على قلوبهم ثم ليكونن من الغافلين)).
قال في المنتقى: ورواه أحمد والنسائي من حديث ابن عمر وابن عباس، وكذلك هو في الجامع الصغير بلفظ الجمعات منسوباً إلى هؤلاء وإلى ابن ماجة من حديث ابن عمر وابن عباس.
الدليل التاسع: ما أخرجه ابن ماجة قال: حدثنا عبد الحميد بن بيان الواسطي، أنبأنا هشيم، عن شعبة، عن عدي بن ثابت، عن سعيد بن جبير، عن ابن عباس أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال: ((من سمع النداء فلم يأته فلا صلاة له إلا من عذر )) قيل: وهذا الإسناد صحيح، ورواه في الشفاء، وأخرجه الدارقطني والحاكم من طرق عن شعبة من طريق العباس الدوري عن عبد الرحمن بن غزوان فزاد أبي نوح عن شعبة قال الحاكم: هذا حديث قد أوقفه غندر وأكثر أصحاب شعبة، وهو صحيح على شرط الشيخين ولم يخرجاه.
وهشيم وقراد أبي نوح ثقتان فإذا وصلاه فالقول فيه قولهما، ووافقه الذهبي.
وفي سنن أبي داود حدثنا قتيبة، ثنا جرير، عن أبي جناب، عن مغزا العبدي، عن عدي بن ثابت، عن سعيد بن جبير، عن ابن عباس، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم : ((من سمع المنادي فلم يمنعه من اتباعه عذر ، قالوا: وما العذر؟ قال: خوف أو مرض لم تقبل منه الصلاة التي صلى)) ورواه في الشفاء.
وأبو خباب هو: الكلبي واسمه يحيى بن أبي حية. قال أبو نعيم: ثقة يدلس وقال يزيد بن هارون: كان صدوقاً يدلس، وأثنى عليه أبو زرعة وابن معين بالصدق، وكلهم رموه بالتدليس، وقال في التقريب: ضعفوه لكثرة تدليسه. قال الفلاس: متروك مات سنة أربع وأربعين ومائة. احتج به الأربعة إلا النسائي، وروى له المرادي.
وورى ابن حزم في المحلى بإسناده إلى شعبة عن حبيب بن أبي ثابت، عن سعيد بن جبير، عن ابن عباس مرفوعاً: ((من سمع النداء فلم يجب فلا صلاة له إلا من عذر )) وصحح إسناده عبد الحق.
وفي الشفاء عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم أنه قال: ((من سمع النداء من جيران المسجد لم يحبسه مرض أو علة لم يشهد الصلاة فلا صلاة له)).
وعن معاذ بن أنس الجهني عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم : ((الجفاء كل الجفاء والكفر والنفاق من سمع منادي الله ينادي بالصلاة ويدعو إلى الفلاح فلا يجيبه)) أخرجه الطبراني في الكبير.
قال العزيزي: بإسناد حسن. والجفاء: البعد عن الشيء.
وقال الدارقطني: حدثنا أبو حامد محمد بن هارون الحضرمي، نا أبو السكين الطائي زكريا بن يحيى، وحدثنا محمد بن مخلد، نا جنيد بن الحكم، نا أبو السكين الطائي، حدثنا محمد بن سكين الشقري المؤذن، نا عبد الله بن بكير الغنوي، عن محمد بن سوقة، عن محمد بن المنكدر، عن جابر بن عبد الله قال: فقد النبي صلى الله عليه وآله وسلم قوماً في الصلاة فقال: ((ما خلفكم عن الصلاة ؟ قالوا: لحاً كان بيننا فقال: لا صلاة لجار المسجد إلا في المسجد)) هذا لفظ ابن مخلد.
وقال أبو حامد: لا صلاة لمن يسمع النداء ثم لا يأتي إلا من عذر، وذكر أيضاً من حديث يحيى ابن أبي كثير عن أبي سلمة، عن أبي هريرة أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قال: ((لا صلاة لجار المسجد إلا في المسجد )) والحديث في الجامع الصغير منسوباً إلى البيهقي والدارقطني، وأخرجه أيضاً الحاكم وقد ضعف الحديثان الأول بمحمد بن سكين بالتصغير، والثاني سلمان بن أبي داود اليماني وهو منكر الحديث كما قال البخاري وأبو حاتم، قال البخاري: ومن قلت فيه منكر الحديث فلا تحل الرواية عنه.
قلت: ذكره في الجداول من رجال المرشد بالله وقال: غمزه المحدثون، وقال ابن حجر في التلخيص: حديث لا صلاة لجار المسجد إلا في المسجد مشهور بين الناس وهو ضعيف.
وفي المجموع حدثني زيد بن علي، عن أبيه، عن جده، عن علي عليه السَّلام قال: لا صلاة لجار المسجد لا يجيب إلى الصلاة إذا سمع النداء.
وأخرج ابن حزم في المحلى من طريق يحيى بن سعيد القطان، حدثنا أبو حيان يحيى بن سعيد التيمي، حدثني أبي عن علي بن أبي طالب عليه السَّلام : لا صلاة لجار المسجد إلا في المسجد، فقيل له: يا أمير المؤمنين ومن جار المسجد؟ قال: من سمع الأذان.
ومثله من طريق سفيان بن عيينة وسفيان الثوري، عن أبي حيان المذكور، عن أبيه، عن علي عليه السَّلام . قال في الحواشي: هذا الإسناد والذي قبله صحيحان.
قلت: وأخرجه عبد الرزاق والبيهقي، وأخرجا أيضاً عن الحرث عن علي عليه السَّلام قال: من سمع النداء من جيران المسجد فلم يجب وهو صحيح من غير عذر فلا صلاة له.
وأخرج الدارقطني ولفظه: من كان جار المسجد فسمع المنادي ينادي فلم يجبه من غير عذر فلا صلاة له، وضعف بالحارث وقد مر توثيقه، وذكر في المحلىآثاراً بمعناه عن ابن مسعود وأبي هريرة، وأبي موسى، وعائشة وفيه: عن محمد بن جعفر، عن شعبة، عن عدي بن ثابت قال: سمعت سعيد بن جبير يحدث عن ابن عباس أنه قال: من سمع النداء ثم لم يأت الصلاة فلا صلاة له إلا من عذر، وهذا هو الذي قال الحاكم أوقفه غندر، وغندر هو محمد بن جعفر.
والجواب من وجوه:
أحدها: أن المراد بالنداء نداء الجمعة للتصريح بوجوب السعي إليها عند ندائها في قوله تعالى: {إِذَا نُودِي لِلصَّلاَةِ مِنْ يَوْمِ الْجُمُعَةِ فَاسْعَوْا إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ}[الجمعة:9].
وأخرج الطبراني في الكبير عن عبد الله بن أبي أوفى، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم : ((من سمع النداء يوم الجمعة ولم يأتها ثم سمع النداء ولم يأتها ثلاثاً طبع على قلبه فجعل قلب منافق)) قال العراقي: وإسناده جيد.
وروى أبو داود وغيره عن ابن عمر مرفوعاً: ((الجمعة على من سمع النداء )).
وجاء في غير حديث الوعيد على من ترك الجمعة بغير عذر فيستفاد من مجموع ذلك حصول الظن بأن قوله من سمع النداء من جيران المسجد للخصوص؛ إذ قد تخرج ألفاظ العموم عن موضوعها لقرينة، والظن كاف في حصولها، سيما مع ما سيأتي من أدلة نفي وجوب الجماعة ومع قوة دليل المخالف في عموم الجنس المعرف كما مر في الفاتحة، وعلى هذا الوجه فيكون النفي بقوله فلا صلاة له متناولاً لكل صلاة صلاها لأن النكرة في سياق النفي للعموم، ومعناه أنه إذا تمادى على ترك الجمعة لم تقبل له صلاة، ويشهد له قوله في حديث جابر: ((فمن تركها يعني الجمعة استخفافاً بها أو جحوداً لها فلا جمع الله شمله ولا بارك له في أمره ألا ولا صلاة له ولا زكاة له)) الخبر أخرجه ابن ماجة، وهو في أمالي أبي طالب.
الثاني: أن الحديث ليس فيه دلالة على شرعية الجماعة فضلاً عن وجوبها،وإنما يدل على شرعية الصلاة في المسجد وإن لم تقم فيه جماعة،وهو محمول على نفي الكمال والفضيلة إذ لم يقل أحد بوجوب الإتيان بالصلاة في المسجد ولا بكونه شرطاً في صحتها إلا في الجمعة، وقد روي من حديث علي عليه السَّلام عند أئمتنا وغيرهم: ((جعلت لي الأرض مسجداً وطهوراً )).
وفي الصحيحين من حديث جابر: ((جعلت لي الأرض مسجداً وطهوراً فأيما رجل من أمتي أدركته الصلاة فليصل)).
وفي سنن الترمذي عن أبي سعيد الخدري، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم : ((الأرض كلها مسجد إلا المقبرة والحمام )) وفي هذا المعنى عدة أخبار وهي موجبة لحمل قوله لا صلاة لجار المسجد... إلخ على نفي الفضيلة دون الحقيقة.
قال في حواشي الفصول ما لفظه: فإن قلت قد قال علماؤنا في الفقه في قوله صلى الله عليه وآله وسلم : ((لا صلاة لجار المسجد إلا فيه )) الخبر أن المراد نفي الأفضلية فقط، وقالوا في الأصول: المراد نفي كونها واقعة شرعاً، وهذا هو نفي الإجزاء.
قلت: الجمع بين الكلامين أن كلامهم في الأصول أن الخبر ونحوه يفيد لفظه نفي الإجزاء ما لم يرد دليل يوجب حمله على نفي الأفضلية فقط، وقد وردت الآثار بصحة الصلاة في غير المسجد فلذلك حمل على نفي الأفضلية.
قلت: وهذا تصريح بأن الحديث إنما ورد في الحث على الصلاة في المسجد مطلقاً، وأنه لم يفهم منه الدلالة على شرعية الجماعة فكيف يستدل به على وجوبها.
الثالث: أنا لو فرضنا وروده في صلاة الجماعة فقد ذكر بعض جهابذة الأصول أن هذا التركيب ونحوه مما ينفى فيه الفعل والمراد نفي صفته من المجمل؛ لأنه لا بد من إضمار شيء يتعلق به النفي، وهو متردد بين الإجزاء والكمال إذ يفهم منه تارة هذا، وتارة هذا، وما أضمر للضرورة قيد بقدرها فلا يضمر الجميع ولا أحدهما معيناً إذ ليس بأولى من الآخر فكان مجملاً، سلمنا أنه ليس بمجمل فالمنفي إما الحقيقة أو الإجزاء أو الكمال، والحقيقة غير منفية لوجوبها جنساً، والإجزاء لا حاجة إليه إذ تقدير الكمال كاف بما مر في الفاتحة، سلمنا وجوب توجه النفي إلى الحقيقة، وأما ما هو أقرب إلى نفيها وهو الإجزاء فذلك مع عدم القرينة الصارفة عنه، والقرينة هنا موجودة وهي أدلة عدم وجوب الجماعة، فإن قيل: تصريحه في حديث ابن عباس بنفي القبول يدفع الإجمال، وتقدير الكمال، وتعيين تقدير نفي الإجزاء إذ نفي القبول هنا بمعنى نفي الإجزاء.
قيل: قد عرفت ما قيل في إسناد هذا الحديث، ولو فرضت صحته فالواجب حمله على نفي كمال الثواب جمعاً بينه وبين أدلة نفي الوجوب، وهو جمع صحيح، وبيانه أن القبول في الشرع من لوازم الصحة والإجزاء بمعنى أنها إذا حصلت ثبت القبول، ويترتب ثبوته على حصول الثواب، ومع انتفائه تنتفي الصحة والإجزاء فلا يحصل الثواب، وقد ثبت بدليل عدم الوجوب عدم انتفائهما، وإذا لم ينتفيا لم ينتف القبول؛ إذ لا يتصور انتفاء اللازم مع بقاء الملزوم، ولا يجوز إهدار كلام الحكيم فلا بد له من معنى يحمل عليه، وليس إلا نفي الكمال أي كمال الثواب، والتعبير عنه بالقبول تجوز من باب إطلاق اسم السبب على المسبب؛ لأن القبول سبب لحصول الثواب. والله أعلم.
وهاهنا تأويل آخر يتنزل على هذا الوجه وهو أن يحمل الحديث على نفي الإجزاء، ويكون المقصود به من ترك الجماعة تهاوناً واستخفافاً إذ التهاون بسنن الشريعة من الكبائر المحبطة للأعمال لاستلزامها الاستخفاف بالشارع.
هذا وأما حديث معاذ بن أنس فليس من هذا الباب في شيء، بل الإجابة فيه بمعنى القبول و الامتثال لما دعا إليه الداعي وهو فعل الصلاة، فهو فيمن ترك الصلاة رأساً.
الدليل العاشر: ما رواه في الشفاء عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم أنه قال: ((يؤم القوم أقرؤهم لكتاب الله )) وهو في العلوم وفي الجامع الكافي.
قال الحسن بن يحيى عليه السَّلام : انتهى إلينا في الخبر المشهور عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم أنه قال: ((يؤمكم أقرؤكم لكتاب الله وأفقهكم في دين الله وأقدمكم هجرة وأعلاكم سناً)) وهذا خبر معناه الأمر.
وروى المؤيد بالله في شرح التجريد من طريق ابن أبي شيبة قال: حدثنا وكيع، عن سفيان، عن خالد بن أبي قلابة، عن مالك بن الحويرث قال: أتيت النبي صلى الله عليه وآله وسلم ومعي ابن عم لي فقال: (( إذا سافرتما فأذنا وأقيما وليؤمكما أكبركما )) وأخرجه الترمذي عن محمد بن غيلان عن وكيع بالسند المذكور، والبخاري عن محمد بن يوسف الفريابي عن سفيان الثوري.
وفي صحيح مسلم حدثنا إسحاق بن إبراهيم الحنظلي، أخبرنا عبد الوهاب الثقفي، عن خالد الحذاء، عن أبي قلابة، عن مالك بن الحويرث قال: أتيت النبي صلى الله عليه وآله وسلم أنا وصاحب لي، فلما أردنا الإقفال من عنده قال لنا: ((إذا حضرت الصلاة فأذنا ثم أقيما وليؤمكما أكبركما )) وله عنده إسناد آخر قال فيه وزاد الحذاء: وكانا متقاربين في القراءة.
وفي صحيح مسلم حدثنا محمد بن المثنى، قال: حدثنا عبد الوهاب، قال: حدثنا أيوب، عن أبي قلابة، قال: حدثنا مالك، قال: أتينا إلى النبي صلى الله عليه وآله وسلم ونحن شببة متقاربون فأقمنا عنده عشرين يوماً وليلة، وكان رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم رحيماً رفيقاً فلما ظن أنا قد اشتهينا أهلنا أو قد اشتقنا سألنا عمن تركنا بعدنا فأخبرناه، فقال: ((ارجعوا إلى أهليكم فأقيموا فيهم وعلموهم ومروهم )) وذكر أشياء أحفظها أو لا أحفظها ((وصلوا كما رأيتموني أصلي فإذا حضرت الصلاة فليؤذن لكم أحدكم وليؤمكم أكبركم)) وله إلى أيوب طريقان أخريان، وأخرجه مسلم من طريق أيوب، وذكر القسطلاني أنه أخرجه أبو داود، والنسائي، وابن ماجة.
وقوله: شببة بفتح الشين المعجمة والموحدتين جمع شاب، والحديث صريح في المقصود إذ الأمر حقيقة في الوجوب، ويؤيده ما رواه مجاهد عن ابن عباس أنه سئل عن رجل يصوم النهار، ويقوم الليل لا يشهد جمعة ولا جماعة قال: هو في النار. أخرجه الترمذي، وقال حدثنا بذلك هناد، حدثنا المحاربي عن الليث عن مجاهد.
والجواب: أن الحديث لم يأت في بيان ذكر حكم الجماعة، وإنما جيء به لبيان انعقاد الجماعة بالإثنين ومن هو الأحق بالإمامة وتعليمهم هذا الحكم، والأوامر الواردة في التعليم لا تقتضي الوجوب وإلا لزم وجوب كثير من المندوبات لاقتران الإرشاد إليها، وتعليم كيفياتها بصيغة إفعل، ونظيره ما في صحيح مسلم قال: حدثنا قتيبة بن سعيد، قال: حدثنا أبو عوانة، عن قتادة، عن أبي نضرة، عن أبي سعيد الخدري، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم : ((إذا كانوا ثلاثة فليؤمهم أحدهم وأحقهم بالإمامة أقرؤهم )) وله عنه طرق بعضها متصل بأبي قتادة، وبعضها بالحريري عن أبي نضرة، وأخرجه أحمد والنسائي.
وأخرج أحمد ومسلم عن أبي مسعود وعقبة بن عمرو الأنصاري، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم : ((يؤم القوم أقرؤهم لكتاب الله فإن كانوا في القراءة سواء فأعلمهم بالسنة فإن كانوا في السنة سواء فأقدمهم هجرة فإن كانوا في الهجرة فأقدمهم سلماً، ولا يؤمن الرجل الرجل في سلطانه، ولا يقعد في بيته على تكرمته إلا بإذنه)).
قال مسلم قال الأشج في رواية مكان سلماً سناً على أنه لو سلم ورود الحديث في الأمر بالجماعة وبيان حكمهما فأدلة عدم الوجوب تصرف الأمر إلى الندب.
وأما كلام ابن عباس ففي إسناده ليث بن أبي سليم وقد تكلم فيه، قال في التقريب: صدوق اختلط أخيراً ولم يتميز حديثه فترك، ثم فيه وجوه من التأويل:
أحدها: ما ذكره الترمذي وهو أنه فيمن لا يشهد الجماعة ولا الجمعة رغبة عنها واستخفافاً بحقها، وتهاوناً بها.
ثانيها: أنه حكم له بالنار لتركه الجمعة؛ إذ لا خلاف في وجوبها مع عدم العذر والرخصة المسقطة لها، وهذا هو الظاهر، واقتران الجماعة بها لا يقتضي مشاركتها لها في الوعيد مع قيام الدليل على استحبابها، والإجمال في الجواب إنما كان للاكتفاء بما علم من اختصاص الوعيد بترك الواجب، ونظيره ما لو قيل إن فلاناً يترك فريضة الفجر ونافلتها فقيل هو في النار فإنه لا يتبادر إلا أن استحقاقه للنار إنما كان لترك الفريضة وإن لم يصرح به المجيب، وقد ذكر الغزالي في العزلة أن حضور الجمعة لا بد منه، وحكى عن جماعة من السلف منهم مالك أنهم تركوا إجابة الدعوات وعيادة المرضى، وحضور الجنائز، وكانوا أحلاس بيوتهم لا يخرجون إلا إلى الجمعة وزيارة القبور، ولو كانت الجماعة واجبة لما اختار فضلاء العلماء ورؤساء العباد والزهاد المتفرغين للعبادة تركها، وكيف يقال في مثلهم إنهم أخلوا بواجب، وقد ظهر لهم من البشارات والكرامات ما يقطع معه على حسن اختيارهم، وصحة مذاهبهم رضي الله عنهم.
ثالثها: أن ذلك اجتهاد منه، وغايته أنه ممن يقول بوجوبها، وقد ثبت بطلانه على أنه قد روي عنه مرفوعاً ما يدل على تفضيل العزلة، وإقامة الصلاة في بعض الشعاب وهو ينافي حمل كلامه على وجوب الجماعة.
الدليل الحادي عشر: ما أخرجه أبو داود قال: حدثنا أحمد بن يونس، ثنا زائدة، ثنا السائب بن حبيش، عن معدان بن أبي طلحة اليعمري، عن أبي الدرداء قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يقول: (( ما من ثلاثة في قرية ولا بدو لا تقام فيهم الصلاة إلا قد استحوذ عليهم الشيطان، فعليك بالجماعة فإنما يأكل الذئب القاصية)).
قال زائدة: قال السائب يعني بالجماعة: الصلاة في الجماعة، وأخرجه أحمد، والنسائي، وابن ماجة، وابن حبان والحاكم وصححاه، وقال العزيزي: بإسناد حسن. ونحوه في الشفاء.
واستحوذ: غلب واستولى، والقاصية: المنفردة عن القطيع، ومعناه: أن للشيطان سلطاناً على الخارج عن الجماعة، وهذا حجة للقائلين بأنها فرض على الكفاية، وقال في (نجوم الأنظار): ودلالته على ذلك واضحة، وتأويله بتارك الصلاة بعيد لا يلائمه قوله صلى الله عليه وآله وسلم : ((فعليكم بالجماعة )) والتأويل بالمستخف أبعد، ولا معارض له يلجئ إلى تأويله للجمع بينه وبينه فإنه لا يعارضه شيء مما أورده القائلون بأن الجماعة مطلقاً سنة، كما أن القول بأن الجماعة شرط في صحةٍ استناداً إلى ذلك القياس الضعيف واضح البطلان.
قلت: معنى هذا أن ما دل على أنها سنة لا يعارض هذا الحديث لإمكان حمل التشبيه على ما إذا قد سقط الوجوب بفعل البعض لكن في إسناده زائدة، والظاهر أنه ابن قدامة أبو الصلت وهو وإن كان قد وثقه أبو حاتم وغيره، وقال في التقريب: ثقة ثبت صاحب سنة، ففي الجداول أنه من المنحرفين عن الوصي عليه السَّلام ، وهذه وصمة فيه أقل أحوالها أن لا يقبل ما انفرد به من الحديث، ولا أعلم حجة لهذا القول سوى هذا الخبر، على أن السائب وإن كان قد وثقه العجلي ومعدان وإن كان قد وثقه في التقريب لعلهما من المنحرفين عن الوصي عليه السَّلام ؛ لأن الأول حمصي من أولاد ذي الكلاع الحميري، والثاني شامي وكلا الطائفتين الظاهر فيهما أنهما من أعداء أمير المؤمنين ومبغضيه، فلا نخرج عن هذا الظاهر إلا بناقل، على أن لنا أن نقول لو صح الحديث فهو لا يدل على المدعى لاحتمال كون المراد أن اجتماع طائفة من الناس مع تماديهم على ترك الجماعة دليل استحواذ الشيطان عليهم لأن ذلك لا يكون في الأغلب إلا عن تهاون واستخفاف بهذه السنة العظيمة إذ من البعيد اتفاق ذلك مستمراً إلا عن استخفاف، والتهاون بالسنن الشرعية من أعظم المعاصي، ويؤيد هذا تعليق الحكم بالثلاثة لأن الاثنين قد يقع منهما ترك الجماعة المرة بعد المرة لعدم اتفاق حضورهما معاً في الوقت الواحد لعذر أو نحوه، ولا بعد في ذلك بخلاف الثلاثة فإن اتفاق أعذارهم جميعاً في أوقات الصلاة على الاستمرار مما يستبعد عادة، فلهذا حكم عليهم بالاستحواذ المسبب عن الاستخفاف المدلول عليه بالتمادي على الترك، والحاصل أن تمادي أهل قرية واجتماعهم على ترك الجماعة لا يكون غالباً إلا عن استخفاف بها، والحكم باستحواذ الشيطان عليهم لاستخفافهم لا يدل على وجوب الجماعة، فيسقط الاحتجاج بالحديث على الوجوب والحمد لله رب العالمين، وإلى هنا انتهى الكلام على ما احتج به الموجبون لتأدية الصلاة في الجماعة عيناً وكفاية، ولنأخذ في
الاحتجاج للقائلين بأنها سنة مؤكدة فنقول: لهم على ذلك حجج واضحة وبراهين ساطعة:
الحجة الأولى: أن الأصل عدم الوجوب، ولا يجوز الانتقال عنه إلا بدليل ولا دليل للموجبين، وجميع ما تمسكوا به على قسمين:
أحدهما: ما لا دلالة فيه على الوجوب لا بالمنطوق ولا بالمفهوم.
ثانيهما: ما يحتمله احتمالاً ضعيفاً إلا أنه يعارض ذلك من ضعف الإسناد والوجوه والاحتمالات والتأويلات المنافية له ما به يمنع الاستدلال به على الوجوب، وقد استوفينا ذلك كله عند ذكر تلك الأدلة.
الحجة الثانية: أن الله تعالى كرر الأمر بإقامة الصلاة وهي أوامر مطلقة ليس في شيء منها تقييد بفعلها في الجماعة، وما كان ربك نسيا، وليس لقائل أن يقول: قد قيدت تلك الأوامر في السنة لأنا نقول ليس في السنة ما يفيد التقييد وما يتوهم فيه فقد مر ما فيه.
الحجة الثالثة: ما رواه في الاعتصام وعزاه إلى أمالي أحمد بن عيسى، قال: حدثنا جرير، عن الأعمش، عن محارب، عن جابر، قال: قام معاذ فصلى العشاء الآخرة فجاء فتى من الأنصار فدخل المسجد فطول معاذ فانفتل الرجل فصلى في ناحية المسجد ثم خرج، فلما صلى معاذ أخبر بما صنع فقال: منافق وسبه لأخبرن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فأخبره، فقال له رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم : ((ما حملك على ما صنعت ؟ فقال: يا رسول الله عملت على ناضح لي فلما رجعت سمعت الإقامة فدخلت لأصلي فطول فتنحيت فصليت في ناحية المسجد ثم أتيت ناضحي فأعلفته، فقال النبي صلى الله عليه وآله وسلم : ((أفتان يا معاذ أفتان يا معاذ ، أين أنت من سبح اسم ربك الأعلى، والضحى، وإذا السماء انفطرت، وأشباهها)).
قلت: هكذا في الاعتصام ولم أجده في النسخة التي بيدي من الأمالي.
وفي صحيح البخاري حدثني محمد بن بشار، قال: حدثنا غندر، قال: حدثنا شعبة، عن عمرو، قال: سمعت جابر بن عبد الله، قال: كان معاذ بن جبل يصلي مع النبي صلى الله عليه وآله وسلم ، ثم يرجع فيؤم قومه فصلى العشاء فقرأ البقرة فانصرف الرجل فكأن معاذاً تناول منه فبلغ النبي صلى الله عليه وآله وسلم فقال: ((فتان فتان فتان ثلاث مراراً )) وقال: ((فاتنا فاتنا فاتنا )) وأمره بسورتين من أوسط المفصل قال عمرو: لا أحفظهما، وأخرجه أبو داود من حديث عمرو بن دينار عن جابر.
وفي سنن ابن ماجة حدثنا محمد بن رمح، أنبأنا الليث بن سعد، عن أبي الزبير، عن جابر فذكر الحديث بمعنى ما تقدم، وأخرجه النسائي، وأخرجه أيضاً أحمد عن أنس وبريدة الأسلمي، قال في المنتقى: بإسناد صحيح، وهو في صحيح مسلم من حديث عمرو بن الزبير، عن جابر.
وفي صحيح البخاري بسنده إلى قيس بن أبي حازم، قال: أخبرني أبو مسعود أن رجلاً قال: والله يارسول الله إني لأتأخر عن صلاة الغداة من أجل فلان مما يطيل بنا فما رأيت رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم في موعظة أشد غضباً منه يومئذ، ثم قال: ((إن منكم منفرين فأيكم ما صلى بالناس فليتجوز فإن فيهم الكبير والضعيف وذا الحاجة)) وأخرجه مسلم وابن ماجة، ووجه الاحتجاج بهذا أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم لم ينكر على المنصرف من الصلاة خلف معاذ، ولا على تارك الجماعة في الغداة، ولو كانت واجبة لأنكر عليهما وبين وجوبها، وأمرهما بطلبها مع غير ذلك الإمام إذ هو في مقام التعليم، لا يقال إنما لم ينكر عليهم لأن الترك كان لعذر وهو التطويل؛ لأنا نقول لا دليل على ذلك ولا موجب للحمل عليه، والأعذار في ترك الواجب لا تثبت بمثل هذا، على أن الانصراف لو كان من باب الترخيص للعذر لما كان لإنكار التطويل والأمر بالتخفيف معنى إذ يمكن المعذور ترك الجماعة ولا حرج عليه في ذلك لأنه لا معنى للرخصة إلا أنه يجوز ترك الواجب للعذر، وإذا كان معناها ذلك فلا يوجب على الإمام أن يفعل ما ترفع به الرخصة على المؤتم، فصح أن الإنكار والأمر بالتخفيف إنما كان لمراعاة نيل فضيلة الجماعة لكل مصل، وأن ترك الإنكار على المنصرف إنما هو لعدم وجوب الجماعة. والله الموفق.
الحجة الرابعة: أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم لم يأمر المسيء صلاته بالجماعة وقد تقدم حديثه في الفاتحة، وهو في مقام تعليمه أصل الصلاة وما يتعلق بها حتى علمه الطهور مع أنه أحق بالوجوب والتعليم لتكرر إخلاله بالصلاة منفرداً، وكون حضوره في الجماعة مظنة الإتيان بها على وجهها.
الحجة الخامسة:ما رواه زيد بن علي عليه السَّلام في المجموع، عن أبيه، عن جده عن علي عليه السَّلام قال: صلى رجل خلف الصفوف فلما انصرف رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قال: ((هكذا صليت وحدك ليس معك أحد ؟)) قال: نعم. قال صلى الله عليه وآله وسلم : ((فأعد صلاتك)) ورواه في العلوم وشرح التجريد من طريق الناصر عليه السَّلام عن محمد بن منصور وهو في أصول الأحكام، والشفاء.
وفي العلوم حدثنا محمد بن منصور، قال: حدثني يوسف بن موسى، عن عبد الرحمن بن مغرى، حدثنا السري بن إسماعيل، عن الشعبي، عن وابصة بن معبد قال: صلى رجل خلف رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فقام وحده خلف الصف فلما قضى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم الصلاة نظر إليه فقال: ((يا مصلِ وحده هلاَّ كنت دخلت في الصف فإن لم تجد سعة أخذت بيد رجل فأخرجته إليك قم فأعد الصلاة)).
يوسف هو: بن موسى بن راشد القطان أبو يعقوب الكوفي الرازي، روى عنه جماعة منهم البخاري، وأبو داود، والترمذي، وابن ماجة.
قال أبو حاتم: صدوق مات سنة ثلاث وخمسين ومائتين، روى له الناصر وأئمتنا الأربعة والنيروسي.
وأما عبد الرحمن فهو: بن مغرى بفتح الميم وسكون المعجمة ثم راء مقصور الدوسي الكوفي أبو زهير قال ابن عدي: يكتب حديثه وقال أبو زرعة: صدوق، وقال الذهبي: لا بأس به، وثقه أبو خالد الأحمر وابن حبان، توفي سنة بضع وسبعين ومائتين، احتج به الأربعة، وروى له أبو طالب والمرادي.
وأما السري بفتح المهملة وكسر الراء مخففة وتشديد الياء فهو: ابن إسماعيل الهمذاني الكوفي ابن عم الشعبي، قال في التقريب: ولي القضاء متروك الحديث وقال في الجداول: تكلموا عليه بغير حجة، روى له البيهقي، وابن ماجة، ومن أئمتنا أبو طالب والمرادي.
وفي سنن أبي داود حدثنا سليمان بن حرب وحفص بن عمر قالا: ثنا شعبة، عن عمرو بن مرة، عن هلال بن يساف، عن عمرو بن راشد، عن وابصة أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم رأى رجلاً يصلي خلف الصف وحده فأمره أن يعيد -قال سليمان بن حرب- الصلاة.
وأخرجه من هذا الوجه الترمذي، قال: حدثنا محمد بن بشار، حدثنا محمد بن جعفر، حدثنا شعبة. فذكره بالسند المتقدم.
وفي سنن ابن ماجة حدثنا أبو بكر بن أبي شيبة، ثنا عبد الله بن إدريس، عن حصين، عن هلال بن يساف، قال: أخذ بيدي زياد بن أبي الجعد فأوقفني على شيخ بالرقة يقال له وابصة بن معبد فقال: صلى رجل خلف الصف وحده فأمره النبي صلى الله عليه وآله وسلم أن يعيد. وأخرجه الترمذي من حديث هناد، عن أبي الأحوص، عن حصين... إلى آخره.
قال الترمذي: واختلف أهل الحديث في هذا فقال بعضهم: حديث عمرو بن مرة عن هلال بن يساف عن عمرو بن راشد عن وابصة أصح، وقال بعضهم: حديث حصين عن هلال بن يساف عن زياد بن أبي الجعد عن وابصة أصح، قال: وهذا عندي أصح من حديث عمرو بن مرة لأنه قد روي من غير حديث بلال.
قال حدثنا محمد بن بشار، حدثنا محمد بن جعفر، حدثنا شعبة، عن عمرو بن مرة، عن زياد بن أبي الجعد، عن وابصة.
وفي سنن ابن ماجة حدثنا أبو بكر بن أبي شيبة، ثنا ملازم بن عمرو، عن عبد الله بن بدر، حدثني عبد الرحمن بن علي بن شيبان، عن أبيه علي بن شيبان وكان من الوفد قال: خرجنا حين قدمنا على النبي صلى الله عليه وآله وسلم فبايعناه وصلينا خلفه، ثم صلينا وراءه صلاة أخرى، فقضى الصلاة فرأى رجلاً فرداً يصلي خلف الصف، قال فوقف عليه نبي الله صلى الله عليه وآله وسلم حين انصرف، قال: ((استقبل صلاتك لا صلاة للذي خلف الصف )) وأشار إليه الترمذي قال وفي الباب عن ابن عباس، وحديث وابصة حديث حسن، وقد ذكر الحديثين في المنتقى، ونسب حديث وابصة إلى الخمسة إلا النسائي، وحديث علي بن شيبان إلى أحمد وابن ماجة.
قلت: وأخرجه أيضاً ابن حبان، والطحاوي ورجاله في الكتب المذكورة ثقات، وروى الأثرم عن أحمد أنه قال: هو حديث حسن، وقال ابن سيد الناس رواته ثقات معروفون، والحجة من ذلك أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم لم يأمره بالإعادة في جماعة، ولو كان لنقل كما نقل هذا الحكم، لا يقال إنما ترك الأمر اكتفاء بما قد علم من أمره صلى الله عليه وآله وسلم بفعلها في جماعة، وأنها لا تجزي من دونها؛ لأنا نقول ليس ثمة ما يستفاد من الوجوب وعدم الاجتزاء كما مر.
الحجة السادسة: حديث أبي سعيد أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم رأى رجلاً يصلي وحده فقال: ((ألا رجل يتصدق على هذا فيصلي معه )).
قال في النيل: أخرجه أبو داود، وحسنه الترمذي، وصححه ابن خزيمة والحاكم، فلم ينكر عليه التخلف عن الجماعة ولم يأمره بطلب من يصلي معه.
وكذلك حديث أبي موسى عند البخاري ومسلم قال: قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم : ((إن أعظم الناس أجراً في الصلاة أبعدهم إليها ممشى فأبعدهم، والذي ينتظر الصلاة حتى يصليها مع الإمام أعظم أجراً من الذي يصليها ثم ينام)) وفي رواية أبي كريب عند مسلم أيضاً حتى يصليها مع الإمام في جماعة فأثبت أجر من صلاها قبل الإمام إلا أنه دون أجر من انتظر الإمام وصلى معه، ولو كانت الجماعة واجبة لكان آثماً لا مأجوراً.
الحجة السابعة: ما في سنن الترمذي، قال: حدثنا أحمد بن منيع، حدثنا هشيم، أخبرنا يعلى بن عطاء، حدثنا جابر بن يزيد بن الأسود، عن أبيه قال: شهدت مع النبي صلى الله عليه وآله وسلم حجته فصليت معه صلاة الصبح في مسجد الخيف فلما قضى صلاته وانحرف إذا هو برجلين في آخر القوم لم يصليا معه فقال: ((علي بهما فجيء بهما ترتعد فرائصهما فقال: ما منعكما أن تصليا معنا؟ فقالا: يا رسول الله إنا كنا قد صلينا في رحالنا، فقال: فلا تفعلا إذا صليتما في رحالكما ثم أتيتما مسجد جماعة فصليا معهم فإنها لكما نافلة)) قال الترمذي: حسن صحيح. وذكره في المنتقى وقال رواه الخمسة إلا ابن ماجة، وفي لفظ لأبي داود: ((إذا صلى أحدكم في رحله ثم أدرك الصلاة مع الإمام فليصلها معه فإنها له نافلة)).
وفي النيل: أن الحديث أخرجه أيضاً الدارقطني وابن حبان، والحاكم، وصححه ابن السكن، ويعلى من رجال مسلم، وجابر وثقه النسائي وغيره.
وفي الباب عن أبي ذر عند مسلم في حديث أوله: ((كيف أنت إذا كان عليك أمراء يؤخرون الصلاة عن وقتها -وفيه- فإن أدركتها معهم فصل فإنها لك نافلة)) وعن ابن مسعود عند مسلم بنحوه، وعن شداد بن أوس عند البزار، وعن محجن الديلي عند مالك في الموطأ، والنسائي وابن حبان، والحاكم، وفيه تصريح بأن الثانية هي النافلة، وظاهره عدم الفرق بين أن تكون الأولى جماعة أو فرادى لأن ترك الاستفصال في مقام الاحتمال ينزل منزلة العموم في المقال، وأيضاً ذكر الرحال يفيد كون الأولى فرادى؛ إذ الأغلب أن الصلاة في الرحال لا تكون جماعة، وعلى هذا فيقال لو كانت الجماعة واجبة لأمرهما بالإعادة.
الحجة الثامنة: ما رواه في العلوم قال: حدثني أبو الطاهر، قال: حدثني أبي عن أبيه عن جده، عن أبيه عن علي عليه السَّلام ، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم : ((لما أسري بي إلى السماء قيل لي فيم اختصم الملأ الأعلى ؟ قلت: لا أدري فعلمني، قال: في إسباغ الوضوء في السبرات، ونقل الأقدام إلى الجماعات، وانتظار الصلاة بعد الصلاة)) وأخرج أحمد نحوه من حديث ابن عباس ولفظه: ((يا محمد هل تدري فيم يختصم الملأ الأعلى ؟ قلت: نعم يختصمون في الدرجات والكفارات، قال: وما الكفارات؟ قلت: المكث في المساجد بعد الصلوات، والمشي على الأقدام إلى الجماعات، وإبلاغ الوضوء في المكاره، ومن فعل ذلك عاش بخير ومات بخير، وكان من خطيئته كيوم ولدته أمه)).
قيل: ورجاله رجال الصحيح، وأخرجه عبد الرزاق، وعبد بن حميد، والترمذي وقال حسن غريب، هكذا في (الروض النضير)، وفيه أنه أخرجه محمد بن نصر عن ابن عباس، والترمذي، والطبراني في الكبير، وابن مردويه عن معاذ بن جبل، وابن مردويه عن أبي أمامة، والطبراني في الكبير، وابن مردويه عن أبي رافع عن طارق بن شهاب، والطبراني في السنة،وابن مردويه عن أبي هريرة والطبراني في الكبير وابن مردوية عن أنس،والطبراني في الكبير، والخطيب عن أبي عبيدة بن الجراح، والحكيم والطبراني عن عبد الرحمن بن عابس الحضرمي، وأحمد في المسند عنه عن بعض الصحابة،والحكيم والبزار، والطبراني في السنة عن ثوبان، ووجه الاحتجاج بالخبر أن نزاع الملأ الأعلى إنما كان في تفضيل -أي- هذه الأنواع على بعض، ولا شك أن انتظار الصلاة بعد الصلاة ليس بواجب إذ معناه الجلوس في مصلاه بعد الصلاة منتظراً للصلاة الأخرى، وقد جاء مصرحاً به في حديث علي عليه السَّلام مرفوعاً: ((إن العبد إذا جلس في مصلاه بعد الصلاة صلت عليه الملائكة ، وصلاتهم عليه: اللهم اغفر له، وإن جلس ينتظر الصلاة صلت عليه، وصلاتهم: اللهم اغفر له اللهم ارحمه)) أخرجه أحمد، وفيه عطاء بن السائب وهو ثقة إلا أنه اختلط آخر عمره، وأخرج أبو داود ونحوه من حديث أبي هريرة، وأخرجه الشيخان والترمذي وابن ماجة، وأخرج أحمد من حديث أبي سعيد يرفعه: ((لا يزال العبد في صلاته ما دام في مصلاه ينتظر الصلاة ...)) الخبر، وإذا كان المراد به ما ذكر وقد علم أنه غير واجب وجب أن يكون ما اقترن به من إسباغ الوضوء ونقل الأقدام إلى الجماعات مثله إذ لايصح أن يختصم الملأ الأعلى في التفضيل بين الواجب والمندوب لما يعلمه كل من له مسكة من حجى فضلاً عن الملأ الأعلى من أن المندوب لا يساوي الواجب في الفضيلة ولا يدانيه، فضلاً عن أن يحكم بتفضيله عليه، ومن هنا يشرق ضوء دلالة الحديث على أن الجماعة سنة مؤكدة لا فريضة واجبة، وبيان
ذلك أن يقال: قد دل الحديث على عظم فضيلة نقل الأقدام إلى الجماعات من حيث أنه قد ذهب بعض الملأ الأعلى إلى تفضيله على إسباغ الوضوء في السبرات، وانتظار الصلاة بعد الصلاة، ويؤكده ذهابهم في ذلك مذهب الخصومات، والمعلوم أن تفضيله ليس بذاته وإنما هو لكون الجماعة لا تحصل إلا به، وقد ثبت بما قررنا أن نقل الأقدام إلى الجماعة غير واجبة فيجب في الجماعة أن تكون كذلك، وإلا لكان نقل الأقدام إليها واجباً مثلها؛ لأن ما لا يحصل الواجب من دونه وكان مقدوراً للمكلف يجب بوجوبه، لا يقال إنما يتم هذا الاستدلال لوكانت الجماعة لا تحصل إلا بنقل الأقدام إليها، وليس كذلك فإنه يمكن تحصيلها من دونه بأن يكون المصلي في الصف فيقوم إليها بلا نقل قدم، أو يركب من داره إلى موضع إقامتها، وحينئذ فيكون الحديث لبيان فضيلة المشي إليها على الركوب ونحوه لا لبيان كونها سنة كما زعمتم؛ لأنا نقول الغالب التوصل إليها بنقل الأقدام، والركوب ونحوه لا يكون إلا نادراً، والأحكام مبنية على الغالب لا على الصور النادرة المنزلة منزلة العدم في تعليق الأحكام بها، ويؤيد ذلك أن مواضع الجماعات من المساجد ونحوها في غاية القرب من الدور والمساكن غالباً بحيث يستهجن الركوب منها إلى تلك المواضع إلا لعذر، على أنه يلزم على هذا التأويل الجزم بكون نقل الأقدام إلى الجماعات أفضل من انتظار الصلاة بعد الصلاة، وهذا أمر لم يصطلح عليه الملأ الأعلى.
هذا وأما إسباغ الوضوء فالمراد به الإتيان بمندوباته على الكمال؛ إذ الإتيان بها من تمامه، ولا يجوز حمله على إكمال الواجب منه لما مر.
الحجة التاسعة: ما رواه زيد بن علي عليه السَّلام عن أبيه عن جده، عن علي عليه السَّلام أنه غدا على أبي الدرداء فوجده متصبحاً فقال: مالك يا أبا الدرداء قال: كان مني من الليل شيء فنمت فقال علي عليه السَّلام : أفتركت صلاة الصبح في جماعة؟ قال: نعم، فقال علي عليه السَّلام : يا أبا الدرداء لأن أصلي الفجر وعشاء الآخرة في جماعة أحب إلي من أن أحيي ما بينهما، أو ما سمعت رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يقول: ((لو يعلمون ما فيهما لأتوهما ولو حبواً وإنهما ليكفران ما بينهما)).
ورواه في العلوم ومعناه أن ثوابهما جماعة مع عدم قيام الليل أفضل وأحب من صلاتهما فرادى مع القيام فقد شاركت الفرادى صلاة الجماعة في أصل الفضيلة وإن كانت ناقصة، ذكره في الروض، وفي معناه ما رواه في الموطأ عن عمر أنه قال: لأن أشهد صلاة الصبح في جماعة أحب إلي من أن أقوم ليلة.
الحجة العاشرة: ما أخرجه الترمذي قال: حدثنا محمود بن غيلان، حدثنا بشر بن السري، حدثنا سفيان، عن عثمان بن حكيم، عن عبد الرحمن بن أبي عمرة، عن عثمان بن عفان، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم : ((من شهد العشاء في جماعة كان له قيام نصف ليلة ، ومن صلى العشاء والفجر في جماعة كان له كقيام ليلة)) وأخرجه أبو داود، ورواه في الشفاء، وأخرجه مسلم بلفظ: ((من صلى صلاة العشاء في جماعة فكأنما قام نصف الليل ومن صلى صلاة الصبح في جماعة فكأنما قام الليل كله)).
وفي الموطأ عن عثمان موقوفاً: من شهد العشاء فكأنما قام نصف الليل، ومن شهد الصبح فكأنما قام الليل كله، والحديث يدل على أن فعل هاتين الصلاتين في جماعة يوازي في الفضيلة ما ذكره من قيام الليل ويشابهه، ولو كانت الجماعة واجبة لم تصح المشابهة؛ إذ لا يصح تشبيه الواجب بالمندوب، والأفضل بالمفضول في الفضل؛ إذ لا عبادة كأداء الفرائض.
الحجة الحادية عشرة: حديث ابن عمر عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم أنه قال: ((صلاة الجماعة تفضل صلاة الفرد بسبع وعشرين درجة )) رواه في الشفاء.
وفي صحيح البخاري حدثنا عبد الله بن يوسف، قال: أخبرنا مالك، عن نافع، عن ابن عمر أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قال: ((صلاة الجماعة تفضل صلاة الفذ بسبع وعشرين درجة )) وأخرجه من هذه الطريق مسلم بلفظ: ((صلاة الجماعة أفضل من صلاة الفذ )) وله عنده طريق أخرى إلى عبيد الله بن عمر عن نافع بلفظ: ((صلاة الرجل في الجماعة تزيد على صلاته وحده سبعاً وعشرين درجة )).
وفي رواية له: بضعاً وعشرين درجة وأخرجه أيضاً من طريق ابن نافع قال: أخبرنا ابن أبي فديك، أخبرنا الضحاك، عن نافع، عن ابن عمر عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال: ((بضعاً وعشرين )).
وأخرجه الترمذي وابن ماجة من حديث عبيد الله بن عمر بلفظ: سبع وعشرين درجة. وذكر العيني أن النسائي أخرجه.
وفي صحيح البخاري حدثنا عبد الله بن يوسف، قال: أخبرنا الليث، قال: حدثني ابن الهاد، عن عبد الله بن خباب، عن أبي سعيد الخدري أنه سمع النبي صلى الله عليه وآله وسلم يقول: ((صلاة الجماعة تفضل صلاة الفذ بخمس وعشرين درجة )).
وفي سنن ابن ماجة حدثنا أبو كريب، ثنا أبو معاوية، عن هلال بن ميمون، عن عطاء بن يزيد، عن أبي سعيد الخدري، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم : ((صلاة الرجل في جماعة تزيد على صلاته في بيته خمساً وعشرين درجة )) وأخرجه أبو داود عن محمد بن عيسى عن أبي معاوية بسند ابن ماجة بلفظ: ((الصلاة في جماعة تعدل خمساً وعشرين صلاة ، فإذا صلاها في فلاة فأتم ركوعها وسجودها بلغت خمسين صلاة)) وفي إسناده هلال بن ميمون الجهني الرملي أبو المغيرة.
قال أبو حاتم: ليس بالقوي ويكتب حديثه.
قلت: وثقه ابن معين وغيره.
وفي صحيح البخاري حدثنا موسى بن إسماعيل، قال: حدثنا عبد الواحد، قال: حدثنا الأعمش، قال: سمعت أبا صالح يقول: سمعت أبا هريرة يقول: قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم : ((صلاة الرجل في الجماعة تضعف على صلاته في بيته وفي سوقه خمساً وعشرين ضعفاً، وذلك أنه إذا توضأ فأحسن الوضوء ثم خرج إلى المسجد لا يخرجه إلا صلاته لم يخط خطوة إلا رفعت له بها درجة وحط عنه بها خطيئة فإذا صلى لم تزل الملائكة تصلي عليه ما دام في مصلاه اللهم صل عليه اللهم ارحمه، ولا يزال أحدكم في صلاة ما انتظر الصلاة)) وأخرجه مسلم إلا أنه قال: ((بضعاً وعشرين درجة )) وقال: ((فيما تقول الملائكة اللهم ارحمه اللهم اغفر له اللهم ارحمه اللهم تب عليه ما لم يؤذ فيه ما لم يحدث فيه))وهوفي سنن أبي داود.
وفي سنن ابن ماجة حدثنا أبو بكر بن أبي شيبة، ثنا أبو معاوية، عن الأعمش، عن أبي صالح، عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم : ((صلاة الرجل في جماعة تزيد على صلاته في بيته وصلاته في سوقه بضعاً وعشرين درجة )).
وفي صحيح مسلم حدثنا يحيى بن يحيى قال: قرأت على مالك، عن ابن شهاب، عن سعيد بن المسيب، عن أبي هريرة أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قال: ((صلاة الجماعة أفضل من صلاة أحدكم وحده بخمس وعشرين جزءاً )) وله عنده طرق وألفاظ مختلفة في بعضها: ((صلاة مع الإمام أفضل من خمس وعشرين صلاة يصليها وحده )) وفي لفظ: ((تفضل صلاة الجمع على صلاة الرجل وحده بخمس وعشرين درجة )) وفي آخر: ((صلاة الجماعة تعدل خمساً وعشرين صلاة الفذ )) وأخرجه ابن ماجة.
وعن ابن مسعود أنه قال: صلاة الرجل في جماعة تزيد على صلاته خمس وعشرين درجة. ذكره في البستان.
قال في الزهور: وهو توقيف إذ لا مجال للاجتهاد فيه.
قلت: قد روي مرفوعاً كما في الإنتصار وشرح البحر، وأخرجه أحمد بلفظ: ((خمس وعشرين درجة كلها مثل صلاتهم )).
وهو يدل على صحة ما مر من تأويل كلام ابن مسعود المقتضي لوجوب الجماعة، لا سيما على رواية الوقف.
وفي سنن أبي داود حد ثنا حفص بن عمر ، ثنا شعبة، عن أبي إسحاق ، عن عبد الله بن أبي نصير، عن أبي بن كعب قال: صلى بنا رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يوماً الصبح فقال: ((أشاهد فلان ؟ قالوا: لا قال أشاهد فلان قالوا لا قال: إن هاتين الصلاتين أثقل الصلوات على المنافقين ولو تعلمون ما فيهما لأتيتموهما ولو حبواً على الركب وإن الصف الأول على مثل صف الملائكة ولو علمتم ما فضيلته لابتدرتموه، وإن صلاة الرجل مع الرجل أزكى من صلاته وحده، وصلاته مع الرجلين أزكى من صلاته مع الرجل، وما كثر فهو أحب إلى الله)).
قلت: وفيه دليل على صحة ما مر من حمل حديث الهم بالإحراق ونحوه على أهل النفاق، وآخر الحديث في الشفاء أعني من قوله: وإن صلاة الرجل مع الرجل...إلخ.
وأخرج أبوطالب وأحمد وابن ماجة والنسائي، وصححه ابن خزيمة وغيره ولفظ ابن ماجة: ((صلاة الرجل في جماعة تزيد على صلاته وحده أربعاً وعشرين أو خمساً وعشرين درجة)).
وفي الباب ، عن أنس ، عند الدارقطني، و عن صهيب وعبد الله بن زيد، وزيد بن ثابت عند الطبراني، قال في النيل: بطرق كلها ضعيفة، واتفقوا على خمس وعشرين.
قلت: لا يضر ضعفها لاعتضادها بما تقدم، ورواه ابن سيد الناس عن معاذ بلفظ: ((فضل صلاة الجمع على صلاة الرجل وحده خمساً وعشرين )).
ورواه أبو العباس السراح ، عن عائشة، وقد أشار إلى جملة ما تقدم الترمذي قال بعد أن ذكر حديث ابن عمر: وفي الباب ، عن عبد الله بن مسعود وأُبي ومعاذ بن جبل، وأبي سعيد، وأبي هريرة، وأنس.
والحديث يدل دلالة واضحة صريحة على أن الجماعة ليست بواجبة؛ لأن صيغة افعل للتفضيل نحو أزكى وأفضل تقتضي الاشتراك في أصل الفضل، وذلك يقتضي وجود الفضيلة في صلاة المنفرد، ووجود الفضيلة يستلزم الصحة والاجتزاء إذ ما لا يصح لا فضيلة فيه، بل قال بعضهم: إن المشترك هنا لا بد أن يكون هو الاجزاء والصحة وإلا فلا صلاة فضلاً عن الفضل والزكا، وكذلك يقال في سائر ألفاظ الحديث التي لم يأت فيها بصيغة أفعل نحو تفضل وتزيد وتعدل ونحوها إذ تلك العبارات في معنى افعل في الدلالة على المشاركة في أصل الفضيلة؛ إذ لا يصح التعادل ونحوه بين الواجب والباطل فتأمل، فإن قيل وجوب الزائد لا ينافي صحة الناقص.
قلنا: بل ينافيه لأنه يكون عاصياً بصلاته منفرداً، ولا يجوز أن يكون الشيء الواحد طاعة ومعصية في حالة واحدة.
قالوا: صحت الرخص مع بقاء وجوب خلافها وتحريمه.
قلنا: إنما صحت لعذر ولا وجوب حال العذر، وإلا لاجتمع النقيضان، وأما قولهم في الرخصة هي ما شرع لعذر مع بقاء مقتضى الوجوب أو التحريم وإنما أرادوا بقاءه في الجملة لا في [حق] المعذور.
قالوا: التفضيل محمول على صلاة المعذور فذاً.
قلنا: الفذ وما في معناه من قوله الرجل ونحوه للعموم فيشمل المعذور وغيره.
قالوا: خصصه حديث عمران بن حصين أنه سأل النبي صلى الله عليه وآله وسلم عن صلاة الرجل قاعداً قال: ((إن صلى قائماً فهو أفضل ومن صلى قاعداً فله نصف أجر القائم ومن صلى نائماً فله نصف أجر القاعد)) أخرجه الجماعة إلا مسلماً، والمراد بالنائم المضطجع، ونحوه عن عبد الله بن السائب عند الطبراني، و عن ابن عباس عند ابن عدي وفي إسناديهما ضعف، وعن ابن عمر عند البزار والطبراني وابن أبي شيبة، و عن عائشة عند النسائي وهو عام في المفترض والمتنفل، وقد علم أن المصلي قاعداً بغير عذر لا أجر له ولا صحة لصلاته حتى تشارك صلاة القائم في أصل الفضل فتعين حمله على المعذور.
وبه يعلم أنه يصح تفضيل صلاة أحد المعذورين لإتيانه بها تامة على صلاة الآخر لنقصانها، وإذا كان كذلك صح تفضيل الجماعة حيث كان لفعلها عذر يبيح له تركها على صلاة المنفرد لعذر لاشتراكهما في أصل الفضل، وعلى هذا يصح ما قلناه من حمل حديث التفضيل على المعذور، ويبطل ما ادعيتموه من العموم.
قلنا: حديث عمران خاص بالنفل؛ لأن من له قدرة على القيام لا يباح له القعود لقوله صلى الله عليه وآله وسلم : ((يصلي المريض قائماً فإن لم يستطع يصلي جالساً ، فإن لم يستطع صلى على جنبه مستقبل القبلة...)) الخبر رواه في الشفاء من حديث علي عليه السَّلام .
وقوله صلى الله عليه وآله وسلم لعمران بن حصين: ((صل قائماً فإن لم تستطع فقاعداً ، فإن لم تستطع فعلى جنب تومئ إيماء)). رواه في الشفاء، وأخرجه البخاري وغيره، وقد صح أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم كان يصلي النافلة قاعداً لما كبر وبدن.
سلمنا أنه يباح له القعود وإن كان يقدر على القيام لكن مع مشقة زائدة فقد دلت الآثار عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم على أن من منعه الله عن العمل بمرض أو غيره يكتب له أجر عمله وهو صحيح، ومن تعسر عليه أمر بسبب من عند الله تعالى فهو في حكم من تعذر عليه ذلك في سقوطه عنه لقوله تعالى: {يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلاَ يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ}[البقرة:185] ونحوها.
قلت: ومن الأدلة الواضحة على أنه يكتب للمعذور الذي لم يمنعه من العمل إلا العذر مثل أجر العامل قوله تعالى: {لاَ يَسْتَوِي الْقَاعِدُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ غَيْرُ أُوْلِي الضَّرَرِ وَالْمُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ...}[النساء:95] الآية فإن الظاهر اسثناء المعذور من القاعد، والاستثناء من النفي إثبات، فوجب استواء المجاهد والقاعد المعذور في الفضل إذ كان المعذور راغباً في الجهاد لم يحبسه إلا العذر، ويؤيد ذلك ما روي في سبب نزول الآية وهو ما أخرجه ابن سعد، وعبد بن حميد، والبخاري والترمذي، وابن جرير، وابن المنذر، وابن أبي حاتم، وابن الأنباري في المصاحف، والبغوي والبيهقي في سننه عن البراء بن عازب قال: لما نزلت {لاَ يَسْتَوِي الْقَاعِدُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ }[النساء:95] قال النبي صلى الله عليه وآله وسلم : ((ادع فلانا )) وفي لفظ: ادع زيداً فجاء ومعه الدواة واللوح والكتف فقال: اكتب {لاَ يَسْتَوِي الْقَاعِدُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ غَيْرُ أُوْلِي الضَّرَرِ وَالْمُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ}[النساء:95] وخلف النبي صلى الله عليه وآله وسلم ابن أم مكتوم فقال: يا رسول الله إني ضرير فنزلت مكانها {لاَ يَسْتَوِي الْقَاعِدُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ غَيْرُ أُوْلِي الضَّرَرِ وَالْمُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ}[النساء:95] وللحديث طرق عن جماعة من الصحابة والتابعين عند جماعة من المحدثين ذكرها في الدر المنثور، منها ما أخرجه ابن جرير والطبراني في الكبير بسند رجاله ثقات عن زيد بن أرقم قال: لما نزلت {لاَ يَسْتَوِي الْقَاعِدُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ غَيْرُ أُوْلِي الضَّرَرِ وَالْمُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ}[النساء:95] جاء ابن أم مكتوم فقال: يا رسول الله أما لي من رخصة؟ قال: لا. قال: اللهم إني ضرير فرخص لي فأنزل الله غير أولي الضرر فأمر رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم بكتابتها،
وأخرج ابن جرير نحوه عن ابن عباس، وفيه أنه قال: هل لي من رخصة عند الله إن قعدت.
تنبيه [في سؤال ابن أم مكتوم]
في سؤال ابن أم مكتوم هنا عن الرخصة دليل على صحة تأويل ما مر عنه من سؤال الرخصة في ترك الجماعة بأن المراد الترخيص له مع حصول فضيلة الجماعة، وأنه كان من الذين ينزلون فضائل الشريعة منزلة الواجب في المحافظة عليها والرغبة في أجرها لأنه قد علم هنا عدم الوجوب على غير المعذورين كما تدل عليه الآية فضلاً عمن ثبت عذره، فإن قيل فما له لم يرخص له في ترك الجماعة ويحصل له مثل ثواب أهلها وفضلهم مع أن العذر واحد؟
قيل: لاختلاف المشقة وإمكان الجماعة مع العمى دون الجهاد، ولهذا جاء في بعض الروايات أنه قال: يار سول الله ما ذنبنا؟ فأنزل الله غير أولي الضرر فأنكر الأعمى تفضيل المجاهدين على المعذورين وهم ممنون من جهة الله تعالى بإنزال العذر بهم، ولم ينكر عليه النبي صلى الله عليه وآله وسلم ذلك أعني إنكاره للتفضيل لأن العقل يقضي بأنه لا تفضيل، وقد أدوا مستطاعهم، وهو حسن النية والرغبة في الجهاد لو لا العذر.
[البقرة: 44]
قوله تعالى: {أَتَأْمُرُونَ النَّاسَ بِالْبِرِّ وَتَنسَوْنَ أَنفُسَكُمْ وَأَنْتُمْ تَتْلُونَ الْكِتَابَ أَفَلاَ تَعْقِلُونَ}[البقرة:44] الهمزة للتوبيخ والتقريع والتعجب من حالهم، والبر: سعة الخير والمعروف، ومنه البر لسعته ويتناول كل خير، ويكون بمعنى الإجلال والتعظيم، ومنه: ولد بر بوالديه وبار أي يعظمهما، وقد نسب إلى الله تعالى تارة نحو: أنه هو البر الرحيم، وإلى العبد أخرى، فيقال: بر العبد بربه أي توسع في طاعته فمن الله تعالى الثواب، ومن العبد الطاعة.
قال القرطبي: والمراد به هنا الطاعة والعمل الصالح وإليه ترجع سائر الأقوال في تفسيره في الآية إذ مدارها إما على فعل كل خير وطاعة أو خير مخصوص، والنسيان: ضد الذكر وهو السهو الحادث بعد حصول العلم ويطلق على الترك وهو المراد هنا، والتلاوة: الإتباع ولذلك استعملت في القرآن لأن الآيات أوالكلمات أوالحروف يتبع بعضها بعضاً في الذكر، والعقل: المنع، ومنه عقال البعير لأنه يمنع من الحركة، وفي الآية مسائل:
المسألة الأولى [في قبح التغافل عن أعمال البر]
دلت الآية الكريمة على قبح التغافل عن أعمال البر مع حث الناس عليها، وأن ذلك مستقبح في العقول، وما أحسن التعبير ، عن هذه الآية بنسيان الأنفس لأن المقصود من أمر الناس إما النصيحة أو الشفقة، والعاقل اللبيب لا ينصح غيره ويشفق عليه ويترك نفسه، بل من شأنه أنه لا يحب أن يسبقه أحد إلى السعادة، وفي معناه قوله تعالى: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا لِمَ تَقُولُونَ مَا لاَ تَفْعَلُونَ ، كَبُرَ مَقْتاً عِنْدَ اللَّهِ أَنْ تَقُولُوا مَا لاَ تَفْعَلُونَ}[الصف:2،3].
وفي سلوة العارفين عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم : ((رأيت ليلة أسري بي أقواماً في النار تقرض شفاههم بمقاريض من النار فقلت يا جبريل من هؤلاء فقال: هؤلاء خطباء أمتك الذين يأمرون الناس بالبر وينسون أنفسهم)) الآية وأخرجه وكيع وابن أبي شيبة وأحمد، وعنه ابن حميد والبزار، وابن أبي داود في البعث، وابن المنذر، وابن أبي حاتم، وابن حبان، وأبو نعيم في الحلية، وابن مردويه والبيهقي في الشعب عن أنس بزيادة كلما قرضت رجعت بعد قوله بمقاريض من نار.
وفي (سلوة العارفين) عن رسول اله صلى الله عليه وآله وسلم : ((ليلة أسري بي مررت بقوم تقرض شفاتهم بمقاريض من النار فقلت: يا جبريل من هؤلاء؟ فقال: خطباء أمتك الذين يقولون الشيء فلايعملون به ويقرءون كتاب الله ولا يعملون به)).
وأخرج أحمد والبخاري ومسلم عن أسامة بن زيد قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يقول: ((يجاء بالرجل يوم القيامة فيلقى في النار فتندلق أقتابه فيدور بها كما يدور الحمار برحاه فيطيف به أهل النار فيقولون يا فلان مالك ما أصابك أفلم تكن تأمرنا بالمعروف وتنهانا عن المنكر ؟ فيقول: كنت آمركم بالمعروف فلا آتيه وأنهاكم عن المنكر وآتيه)).
وأخرج الأصبهاني في التر غيب نحوه من حديث أبي أمامة وضعف السيوطي إسناده.
قوله: فتندلق أي تخرج أقتابه أي أمعاؤه واحدها قتب.
وأخرج الخطيب في اقتضاء العلم العمل وابن النجار في تأريخ بغداد عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال: ((اطلع قوم من أهل الجنة على قوم من أهل النار فقالوا بم دخلتم النار وإنما دخلنا الجنة بتعليمكم؟ قالوا: إنا كنا نأمركم ولا نفعل)).
وفي سلوة العارفين عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم : ((مثل الذي يعلم الناس الخير ولا يعمل به مثل السراج يضيء ويحرق نفسه)) وأخرجه الطبراني والخطيب في الاقتضاء والأصبهاني في الترغيب بسند جيد عن جندب بن عبد الله ولفظه: ((مثل العالم الذي يعلم الناس الخير ولا يعمل به كمثل السراج يضيء للناس ويحرق نفسه)).
وأخرج الطبراني والخطيب في الاقتضاء عن أبي برزة، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم : ((مثل الذي يعلم الناس وينسى نفسه كمثل الفتيلة تضيئ للناس وتحرق نفسها)).
وأخرج ابن قانع في معجمه والخطيب في الاقتضاء عن سليك قال: سمعت النبي صلى الله عليه وآله وسلم يقول: ((إذا علم العالم ولم يعمل كان كالمصباح يضيء للناس ويحرق نفسه )).
وأخرج الطبراني بسند ضعيف عن ابن عمر، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم : ((من دعا الناس إلى قول أو عمل ولم يعمل به لم يزل في ظل سخط الله حتى يكف أو يعمل ما قال ودعا إليه)).
المسألة الثانية [زيادة الزجر في قبح القبيح من العالم]
في قوله تعالى: {وَأَنْتُمْ تَتْلُونَ الْكِتَابَ }[البقرة:44] وما في معناه توبيخ عظيم وتقريع شديد يؤذن بزيادة قبح القبيح من العالم وشناعته، وذم من لا ينتفع بعلمه.
وقال الموفق بالله في سلوة العارفين: أخبرنا أبو الحسن علي بن أحمد قال: حد ثنا الهمداني، حد ثنا يحيى بن نصر، حد ثنا يحيى بن سلام، عن عثمان بن مقسم، عن المقري، عن أبي هريرة، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم : ((إن من أشد الناس عذاباً يوم القيامة عالم لم ينفعه الله بشيء من علمه)) وأخرجه ابن ماجة، والطبراني والبيهقي في الشعب، وابن عدي، قال المناوي: وضعفه الترمذي وغيره.
وفي سلوة العارفين أخبرنا أبو الحسن علي بن أحمد، أخبرنا أحمد بن الحسن بن عبد الله بن سعيد، أخبرنا الحسن بن محمد بن عفير الأنصاري، أخبرنا أحمد بن منيع، أخبرنا أنيس بن معاوية وكان ثقة عن بكر بن حبيس، عن يزيد بن يزيد بن جابر، عن أبيه، عن معاذ بن جبل، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم : ((تعلموا ما شئتم أن تعلموا فلا ينفعكم الله بالعلم حتى تعملوا )).
أما ابن عفير فهو: هنا الحسن، والصواب أبو عبد الله الأنصاري الحسين بن محمد بن عفير كما في الجداول، روى عنه أبو حفص بن شاهين وهو من رجال المرشد بالله.
وأما أنيس بن معاوية فلم أجد من ترجم له، وأظنه إياس بن معاوية بن قرة المزني أبو واثلة البصري القاضي، قال في التقريب: المشهور بالذكاء ثقة مات سنة اثنتين وعشرين ومائة.
وأما يزيد بن يزيد فقد تقدم الكلام عليه، وذكره في الجداول فقال الأزدي الدمشقي العدلي عن أبيه وغيره، وثقه ابن عيينة وابن معين، والنسائي، وأبو داود، وقال أحمد: لا بأس به، توفي سنة ثلاث وثلاثين ومائة، احتج به مسلم والأربعة إلا ابن ماجة، وروى له الموفق بالله والنرسي.
وأما يزيد بن جابر فلم أجد من أبان عنه، والحديث في الجامع الصغير بلفظ: (( تعلموا ما شئتم أن تعلموا فلن ينفعكم الله حتى تعملوا بما تعلمون)) ونسبه إلى ابن عدي والخطيب من حديث معاذ، وإلى ابن عساكر من حديث أبي الدرداء. قال العزيزي: بإسناد ضعيف، وفي الجامع أيضاً مرفوعاً: ((تعلموا من العلم ما شئتم فوالله لا تؤجروا بجمع العلم حتى تعملوا)) وعزاه إلى أمالي أبي الحسن ابن الأخرم المديني من حديث أنس بن مالك.
قلت: والأخرم بخاء معجمة ساكنة وراء مهملة مفتوحة وآخره ميم والمديني بكسر الدال.
وفي سلوة العارفين عن أنس، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم : ((اللهم إني أعوذ بك من علم لا ينفع ، وعمل لا يرفع، وقلب لا يخشع، وقول لا يسمع)) ونحوه في الجامع الصغير، ونسبه إلى النسائي من حديث أنس، وإلى الترمذي والنسائي من حديث ابن عمرو بن العاص، وإلى أبي داود والنسائي وابن ماجة، والحاكم من حديث أبي هريرة وهو صدر حديث أخرجه الحاكم عن ابن مسعود: والعلم الذي لا يعمل به لا ينفع حامله بل تكون الحجة عليه أعظم والذنب منه أشد وأقبح؛ إذلم يوبخ الله الذين يأمرون الناس بالبر وينسون أنفسهم وهم يتلون الكتاب، ولم يحكم رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم بأن عذاب من لم ينتفع بعلمه من أشد العذاب، وأنه لا ينفع العلم إلا بالعمل به إلالزيادة قبح معصية العالم، ويزيده بياناً تعوذه من علم لا ينفع.
وقال بعضهم: أشد الناس حسرة يوم القيامة رجلان: رجل نظر إلى ماله في ميزان غيره يسعد به ويشقى هو به، ورجل نظر إلى علمه في ميزان غيره يسعد هو به ويشقى، والمراد بسعادة الغير به أنه هو الذي انتفع به دون حامله.
وأخرج ابن سعد، وابن أبي شيبة، وأحمد في الزهد عن أبي الدرداء قال: ويل للذي لم يعلم مرة، ولو شاء الله لعلمه،وويل للذي يعلم ولا يعمل سبع مرات. وأخرج أحمد نحوه عن ابن مسعود.
المسألة الثالثة [ليس للعاصي أن يأمر بالمعروف أو ينهى عن المنكر]
احتج بعضهم بالآية وما في معناها على أنه ليس للعاصي أن يأمر بالمعروف وينهى عن المنكر لأنه ذكر ذلك في معرض الذم والإنكار ولو لم يكن في ذلك إلا قوله تعالى: {كَبُرَ مَقْتاً عِنْدَ اللَّهِ أَنْ تَقُولُوا مَا لاَ تَفْعَلُونَ }[الصف:3] فإن فيها من المبالغة في قبح ذلك والإنكار على فاعله ما لا يخفى على من له إلمام بفصيح الكلام، وبيان ذلك أن كبر إما بمعنى بئس الذي للذم ففيه ضمير مبهم يفسره التمييز، وأن تقولوا هو المخصوص بالذم أي بئس مقتاً قولكم، والأصل بئس المقت قولكم، ثم حذف الفاعل وأضمر موضعه ضمير مبهم، وجيء بالفاعل تمييزاً، والمقت هو أشد البغض، وهذا غاية التقريع ونهاية الإنكار، وأوضح الأدلة على قبح هذا القول المخالف للفعل، وإما أنه من أمثلة التعجب وقد ذهب إليه بعضهم وإليه جنح الزمخشري، وقال: هذا من أفصح الكلام وأبلغه، ومعناه تعظيم الأمر في قلوب السامعين لأن التعجب لايكون إلا من شيء خارج عن نظائره، وأسند إلى أن تقولوا ونصب مقتاً على التمييز المحول، والأصل كبر مقتاً قولهم أي المقت الناشي والمرتب على قولهم المذكور.
قال النسفي: وفيه دلالة على أن قولهم ما لا تفعلون مقت خالص لا شوب فيه، والمعنى كبر قولكم ما لا تفعلون مقتاً عند الله، واختير لفظ المقت لأنه أشد البغض.
قلت: وعلى أي الوجهين فالإنكار والوصف بالمقت إنما توجه إلى قولهم ما لايفعلون لا إلى تركهم الفعل فقط فتكون الآية صريحة في منع هذا القول أعني الوعد بالطاعة والأمر بها مع ارتكاب الآمر المعصية، ويؤيد ذلك الدليل العقلي وبيانه من وجوه:
أحدها: إطباق العقلاء على ذم من يأمر بالبر ويتركه واستهزاؤهم به وسخريتهم منه، وعدم قبولهم منه، ورد قوله عليه فيقولون ابدأ بنفسك علم نفسك خلص نفسك، ونحو ذلك من العبارات التي تؤدي هذا المعنى، وهذا معلوم قديماً وحديثاً لا ينكره إلا مكابر ولم يخصوا الذم والإنكار بتركه فعل البر وارتكابه للمعصية التي نهى عنها، بل الظاهر أن ذمهم على نفس ما فعله من الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر أكثر، وقد حذروا من ذلك ونهوا عنه في كلامهم نثراً ونظماً.
قال أبو الأسود الدؤلي وكان من أصحاب أمير المؤمنين عليه السَّلام :
لا تنه عن خلق وتأتي مثله .... عار عليك إذا فعلت عظيم
وابدأ بنفسك فانهها عن غيها .... فإن انتهت عنه فأنت حكيم
فهناك يقبل ما وعظت ويقتدى .... بالقول منك وينفع التعليم
وقال الجماز وهو ابن أخت سلم بن عمرو الحاسر:
ما أقبح التزهيد من واعظ .... يزهد الناس ولا يزهد
لو كان في تزهيده صادقاً .... أضحى وأمسى بيته المسجد
إن رفض الدنيا فما باله .... يستمنح الناس ويسترفد
والرزق مقسوم على ما ترى .... يناله الأبيض والأسود
وقال آخر:
إن قوماً يأمرونا .... بالذي لم يفعلونا
لمجانين وإن هم .... لم يكونوا يصرعونا
وقال آخر:
رضعت التقى حتى كأنك ذو تقى .... وريح الخطايا من ثيابك تسطع
غيره:
وغير تقيٍ يأمر الناس بالتقى .... طبيب يداوي والطبيب مريض
إلى غيرذلك.
الوجه الثاني: أن الغرض من الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر أن يحصل لذلك فائدة من وقوع المأمور به وترك المنهي عنه أو تقليلهما أو نحو ذلك، والمعلوم عدم التأثير إن وقعا من مرتكب الكبيرة، وقد مر أن الأمر والنهي إذا لم يحصل لهما تأثير يكونان عبثاً، والعبث قبيح لا يجوز فعله.
الوجه الثالث: أن المقصود من الأمر والنهي إرشاد الغير والإرشاد إنما يحصل إذا كان للآمر الناهي قبول، ولا ريب أن تلبسه بالمعاصي ينفر الناس عن القبول منه فيكون أمره ونهيه عبثاً، ولا يحسن أن يوجب الله عليه العبث، وقد مر نحو هذا الكلام على وجوب عصمة الأنبياء من الكبائر.
الوجه الرابع: أن وعظه ربما صار سبباً للقبيح من غيره؛ لأنه قد يقول قائل من الناس لولا أنه يعلم أنه لا أصل لهذه التخويفات لما أقدم على المعصية والتسبب للقبيح قبيح.
الوجه الخامس: أنه يعود على غرضه بالنقض، وبيانه أن الواعظ لا بد وأن يكون مجتهداً في تأثير مواعظه في الغير وارتكابه المعصية ينافي ذلك الغرض لما مر من أن الناس ينفرون عن قبول مواعظه.
الوجه السادس: أنه إذا كان الغرض إرشاد الغير وتحذيره من الفساد كان تقديم الإحسان إلى النفس لتعليمها المحاسن وتهذيبها عن المساوي هو الواجب، وذلك معلوم عقلاً ونقلاً، ولهذا قال أمير المؤمنين عليه السَّلام : ومعلم نفسه ومؤدبها أحق بالإجلال من معلم الناس ومؤدبهم. رواه في النهج.
وأفعل التفضيل هنا ليس على بابه لما سيأتي عنه عليه السَّلام من ذم من أمر ولم يأتمر، ونهى ولم ينته، والنهي عن فعل ذلك.
قال الرازي: فمن وعظ ولم يتعظ فكأنه أتى بفعل متناقض لا يقبله العقل فلهذا قال: {أَفَلاَ تَعْقِلُونَ }[البقرة:44].
واعلم أن هذا القول مروي عن جماعة من السلف وغيرهم وهو الظاهر من كلام أمير المؤمنين عليه السَّلام ، ومن كلامه في ذلك قوله عليه السَّلام : وانهوا غيركم عن المنكر وتناهوا عنه فإنما أمرتم بالنهي بعد التناهي، وقال عليه السَّلام لرجل سأله أن يعظه: (لا تكن ممن يرجو الآخرة بغير عمل، ويرجى التوبة لطول الأمل يقول في الدنيا بقول الزاهدين، ويعمل فيها بعمل الراغبين) إلى قوله: (ينهى ولا ينتهي ويأمر بما لا يأتي) إلى أن قال: (يصف العبرة ولا يعتبر، ويبالغ في الموعظة ولا يتعظ، فهو بالقول مدل، ومن العمل مقل) ثم قال: (فهو على الناس طاعن، ولنفسه مداهن) وقال عليه السَّلام : من نصب نفسه للناس إماماً فعليه أن يبدأ بتعليم نفسه قبل تعليم غيره، وليكن تأديبه بسيرته قبل تأديبه بلسانه. روى هذا كله في النهج.
وعن ابن عباس أنه جاءه رجل فقال: يا ابن عباس إني أريد أن آمر بالمعروف وأنهى عن المنكر. قال: أو بلغت ذلك؟ قال: أرجو. قال: إن لم تخش أن تفتضح بثلاث أحرف من كتاب الله فافعل قال قوله: {أَتَأْمُرُونَ النَّاسَ بِالْبِرِّ وَتَنسَوْنَ أَنفُسَكُمْ }[البقرة:44] أحكمت هذه؟ قال: لا، فالحرف الثاني قوله تعالى: {لِمَ تَقُولُونَ مَا لاَ تَفْعَلُونَ ، كَبُرَ مَقْتاً عِنْدَ اللَّهِ أَنْ تَقُولُوا مَا لاَ تَفْعَلُونَ}[الصف:2،3] أحكمت هذه؟ قال: لا، قال: فالحرف الثالث قول العبد الصالح شعيب: {مَا أُرِيدُ أَنْ أُخَالِفَكُمْ إِلَى مَا أَنْهَاكُمْ عَنْهُ }[هود:88] أحكت هذه؟ قال: لا. قال: فابدأ بنفسك. رواه المرشد بالله، وأخرجه ابن مردويه، والبيهقي في الشعب، وابن عساكر.
وعن ميمون بن مهران أنه قال: إن القاص ينتظر المقت قيل له: أرأيت قول الله تعالى: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا لِمَ تَقُولُونَ مَا لاَ تَفْعَلُونَ }[الصف:2] الآية هو الرجل يقرض نفسه فيقول: فعلت كذا وكذا من الخير أم هو الرجل يأمر بالمعروف وينهى عن المنكر وإن كان فيه تقصير؟ فقال: كلاهما ممقوت، وروي أنه جلس ناس عند بعضهم فسكت فقيل له: ألا تحد ثنا فإنما جلسنا إليك لذلك فقال: أتأمروني أن أقول ما لا أفعل. وكان مطرف بن عبد الله و الشعبي يذهبان إلى هذا القول ورد عليهما الحسن البصري. روي أن الحسن قال لمطرف: عظ أصحابك، فقال: إني أخاف أن أقول ما لا أفعل، قال: يرحمك الله وأينا يفعل ما يقول ويود الشيطان أنه قد ظفر بهذا فلم يأمر أحد بمعروف ولم ينه عن منكر. وروي أنه قال للشعبي: هلا نهيت عن كذا، فقال: يا أبا سعيد إني أكره أن أقول ما لا أفعل فرد عليه بنحو ما مر.
وقال إبراهيم النخعي: إني لأكره القصص لثلاث آيات قوله تعالى: {أَتَأْمُرُونَ النَّاسَ بِالْبِرِّ ...}الآية[البقرة:44] وقوله: {لِمَ تَقُولُونَ مَا لاَ تَفْعَلُونَ }[الصف:2] وقوله: {وَمَا أُرِيدُ أَنْ أُخَالِفَكُمْ إِلَى مَا أَنْهَاكُمْ عَنْهُ }[هود:88].
وعن بعض السلف أنه قيل له: حد ثنا، فقال: أتأمروني أن أقول ما لا أفعل فأستعجل مقت الله.
هذا وقد أجاب القائلون بعدم القبح عما ذكره هؤلاء؛ بأن المكلف بمأمور بشيئين ترك المعصية، ومنع الغير منها، والإخلال بأحد التكليفين لا يقتضي الإخلال بالآخر، والذم في الآية مترتب على نسيان النفس لا على مجموع الأمرين.
قالوا: وحديث القبح ممنوع، وقد يقال: لا نسلم التكليف بمنع الغير أي نهيه والحال هذه؛ لأن التكليف به مشروط بعدم استلزامه القبيح، وهذا مستلزم للقبيح لما مر، وقد تقدم ما يؤيد هذا في السادسة من مسائل قوله تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا سَوَاءٌ عَلَيْهِمْ ...}[البقرة:6] الآية، قوله الذم في الآية مترتب... إلخ ممنوع لأنه خلاف الظاهر.
سلمنا، فيجب العدول عنه لما مر عقلاً ونقلاً، وأما منع حديث القبح فقال النيسابوري: الحق أنه مكابرة وذكر حديث أنس: ((مررت ليلة أسري بي على قوم تقرض شفاههم )) الخبر، وحديث ذم من لم ينتفع بعلمه، وقد مر ذلك، ولعله أراد أن منع دلالته على المقصود مكابرة لظهوره في ذلك، سيما حديث أنس لأنه جعل العقوبة المنصوص عليها في العضو الذي يقع به الأمر والنهي وهو الشفة فكان كالتصريح بأن عقوبتهم كانت على أمرهم الناس بما لا يفعلون، ويؤكده قوله في أخره: كانوا يأمرون الناس بالبر وينسون أنفسهم فإنه رتب استحقاقهم لذلك العقاب على ذلك الأمر، ومثل هذا الترتيب يشعر بالعلية أي أن سبب عقابهم هو أمرهم بما لايفعلون، ويحتمل أنه أراد أن منع صحته مكابرة لأنه صحيح عنده، وقد مر تخريجه، فإن قيل: هذا القول يؤدي إلى أن لا يحسن أمر بمعروف ولا نهي عن منكر، إذ لا يخلو أحد عن إخلال بمعروف أو ارتكاب منكر، وهذا لا يقول به أحد، وإنما هي دسيسة شيطانية كما قال الحسن في جوابه على مطرف والشعبي.
وفي (سلوة العارفين): أخبرني أبو علي، قال: أخبرنا أبو بكر، قال: أخبرنا مكحول، أخبرنا حمدان بن ذي النون حدثنا مكي بن إبراهيم عن طلحة بن عمر، عن عطاء قال: سمعت أبا هريرة يقول: قلنا يارسول الله إن لم نأمر بالمعروف وننه عن المنكر حتى لا يبقى شيء من المعروف إلا عملنا به ولا من المنكر إلا انتهينا عنه إذاً لا نأمر بالمعروف ولا ننه عن المنكر، فقال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم : ((مروا بالمعروف وإن لم تعملوا ، وانهوا عن المنكر وإن لم تنتهوا عنه كله)) وهذا نص يبطل ما ذهبتم إليه.
وأخرج الطبراني في الصغير عن أنس عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم : ((مروا بالمعروف وإن لم تفعلوه وانهوا عن المنكروإن لم تجتنبوه كله)).
قيل: إنما يلزم ذلك لو قيل بأنه يجب في الآمر الناهي أن يكون فاعلاً لكل معروف ولو مندوباً تاركاً لكل معصية ولو صغيرة، ولا نعلم قائلاً بذلك إذ لا يخلو من الإخلال ببعض المندوبات وارتكاب بعض الصغائر حتى الأنبياء "، والمعلوم أنهم لم يتركوا الأمر والنهي لذلك، وكذلك من بعدهم من أئمة العترة وغيرهم، وإنما الكلام في مر تكب الكبيرة إذ هو الذي تنفر عن قبول وعظه القلوب، ويسارع العقلاء إلى مقته،وعلى الجملة إن الدليل العقلي لا يصدق إلا عليه، وكذلك الأدلة الشرعية لا يجوز حملها على الظاهر الصادق على مرتكب الصغائر للدليل العقلي، ولما عرفت من فعل الأنبياء وأئمة الهدى وسائر العلماء، وجواب الحسن على مطرف والشعبي محمول على هذا، بل هو المتعين؛إذ لا يظن بهما ارتكاب كبيرة حتى يقال إنهما تركا الأمر والنهي لأجلها،والحديثان أيضاً محمولان عليه، ويدل عليه ما تضمنه سؤال أبي هريرة من التعميم، وقوله آخر الحديث: (وإن لم تنتهوا عنه كله) على أن في سنده حمدان بن ذي النون ولا أعرفه، وطلحة بن عمرو الحضرمي المكي وقد تكلموا فيه.
قال أبو حاتم: ليس بالقوي لين الحديث عندهم.
وقال أبو زرعة: ضعيف وقال في التقريب: متروك، وقال في (التعقيب): رمي بالوضع قال لكن قد جاء خلافه فتعارضا.
قلت: يشير بخلافه إلى ما ذكره في الجداول عن عبد الرزاق أنه اجتمع هو وشعبة والثوري وابن جريج فقدم عليهم شيخ هو طلحة بن عمرو قال فأملى علينا أربعة الآف حديث فما أخطأ إلا في موضعين ولم يكن الخطأ منه إنما كان الخطأ من فوقه، توفي سنة اثنتين وخمسين ومائة، روى له الموفق بالله وولده المرشد بالله، واحتج به ابن ماجة، وأما حديث أنس فقال العزيزي: إسناده ضعيف.
المسألة الرابعة [دلالة الآية على مذهب العدلية في خلق الأفعال]
احتج أهل العدل بالآية على أن فعل العبد غير مخلوق لله تعالى لأنه سبحانه وبخهم وذمهم على هذا الفعل، ولا يحسن ذلك إلا إذا كانوا هم الذين فعلوه، ولهذا لا يحسن ذم الأسود على سواده لما كان مخلوقاً لله تعالى، ولا فعل للعبد فيه.
المسألة الخامسة [إثبات حكم العاقل]
في قوله تعالى: {أَفَلاَ تَعْقِلُونَ }[البقرة:44] دلالة على إثبات حكم العقل إذ الظاهر أن المراد إنكار ارتكابهم لما تدرك عقولهم قبحه، وتلخيص المعنى أن العقلاء يعرفون قبح القبيح وعقولهم تنهاهم عن ارتكابه فكيف لا تعرفون أنتم قبح ما ارتكبتموه، وهلا نهتكم عقولكم عنه، فهل عقولكم مسلوبة، وفيه توبيخ عظيم.
قال في (الكشاف): بمعنى أفلا تفطنون لقبح ما أقدمتم عليه حتى نصدقكم استقباحه عن ارتكابه، وكأنكم في ذلك مسلوبو العقول؛ لأن العقول تأباه وتدفعه ونحوه {أُفّ لَكُمْ وَلِمَا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَفَلاَ تَعْقِلُونَ}[الأنبياء:67].
[البقرة: 45]
قوله تعالى: {وَاسْتَعِينُوا بِالصَّبْرِ وَالصَّلاَةِ وَإِنَّهَا لَكَبِيرَةٌ إِلاَّ عَلَى الْخَاشِعِينَ، الَّذِينَ يَظُنُّونَ أَنَّهُمْ مُلاَقُو رَبِّهِمْ وَأَنَّهُمْ إِلَيْهِ رَاجِعُونَ}.
الصبر لغة: حبس النفس على ما تكره فيدخل في ذلك الاجتهاد في العبادة وكظم الغيظ، والحلم والإحسان إلى المسيء والصبر عن المعاصي، واختلف في المراد به في الآية فقيل: هو الصوم لأن فيه حبس النفس عن المفطرات، وقيل: هو الصبر على أداء الفرائض، وقيل: المراد استعينوا على الوفاء بما عاهدتم عليه من طاعة وترك ما تحبونه من الرئاسة وحب الدنيا إلى ما تكرهونه من التسليم لأمري واتباع رسولي محمد صلى الله عليه وآله وسلم بالصبر عليه، وهذا مبني على أن الخطاب لبني إسرائيل على ما يقتضيه السياق، وقيل: إن الخطاب للمؤمنين لأن من ينكر الصلاة والصبر على دين محمد صلى الله عليه وآله وسلم لا يؤمر بالاستعانة بهما، وقيل: أمروا بالصبر عن المعاصي، وقيل: على الصلاة أي صلوا صابرين على تكاليف الصلاة محتملين لمشاقها وما يجب فيها من إخلاص القلب، ودفع الوساوس الشيطانية، والهواجس النفسانية، ومراعاة الآداب والخشوع، واستحضار العلم لأنه انتصاب بين يدي جبار السموات والأرض، وقيل: هو الصبر عند البلايا، وعليه فيجوز أن يراد بالصلاة الدعاء أي استعينوا على البلايا بالصبر والالتجاء إلى الله تعالى بالدعاء والابتهال إليه في دفعها، وأن يراد بها الصلاة الشرعية بأن يصبروا على البلايا عند وقوعها ويفزعوا إلى الصلاة، والكبيرة: الثقيلة الشاقة من قولك كبر علي هذا الأمر، والخشوع قريب من الخضوع وأصله اللين والسهولة، وقيل: الاستكانة والتذلل.
وقال الليث: الخضوع في البدن والخشوع فيه، وفي الصبر و الصوت.
قال الراغب: وأكثر ما يستعمل فيما يوجد في القلب، ولذلك قيل فيما روي إذا جزع القلب خشعت الجوارح، قوله جزع بمعجمتين ثم مهملة أي خشع، والظن ترجيح أحد الجانبين وهو الذي يعبر عنه النحويون بالشك، وقد يطلق على اليقين، قيل: وهو المراد هنا.
واللقاء لغة: وصول أحد الجسمين إلى الآخر اتصال تماسك هكذا قيل، وقال الراغب: اللقاء مقابلة الشيء ومصادفته معاً، وقد يعبر به عن كل واحد منهما ويقال في الإدراك بالحس وبالبصر وبالبصيرة.
قال: وملاقاة الله عز وجل عبارة عن القيامة وعن المصير إليه، وفي هذه الجملة مسائل:
المسألة الأولى [حسن الصبر]
دلت الآية على حسن الصبر، وقد عرفت معناه لغة، والظاهر أنه المراد هنا.
والصبر من مقامات الدين ومنازل السالكين، وأحد الدعائم التي بني عليها الإسلام كما جاء في كلام أمير المؤمنين عليه السَّلام ، وقد وصف الله الصابرين بأوصاف المتقين، وذكره في القرآن في نيف وسبعين موضعاً تارة بصيغة الأمر به كما في هذه الآية، وتارة بترتيب الخيرات عليه وإضافة نيل الدرجات إليه، وتارة بالوعد بأنه مع الصابرين قال تعالى: {وَجَعَلْنَا مِنْهُمْ أَئِمَّةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنَا لَمَّا صَبَرُوا }[السجدة:24] إلى غير ذلك من الآيات، والأخبار والآثار في معناها كثيرة.
قال الإمام المرشد بالله عليه السَّلام : أخبرنا أبو إسحق إبراهيم بن عمر بن أحمد البرمكي، قال: حد ثنا محمد بن الحسين الأزدي، حدثنا عبد الله بن إسحق المدائني، حدثنا يعقوب بن حميد بن كاسب، حدثنا محمد بن خالد الظني عن سفيان الثوري، عن زبيد، عن أبي وائل، عن عبد الله، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم : ((الصبر نصف الإيمان واليقين الإيمان كله )) وأخرجه البيهقي وأبو نعيم في الحلية. قال العزيزي: بإسناد صحيح.
وفي أمالي المرشد بالله: أخبرنا ابن ريذة، أخبرنا الطبراني، حدثنا محمد بن علي الصائغ، حدثنا سعيد بن منصور قال: حدثنا أبو معاوية، عن الأعمش، عن أبي ظبيان، عن علقمة، عن عبد الله مثله سواء لكنه موقوف.
قال في الدر المنثور: وأخرجه -يعني الموقوف- سعيد بن منصور، وعبد بن حميد، والطبراني، والبيهقي، وقال البيهقي: إنه المحفوظ.
وفي أمالي المرشد بالله أخبرنا أبو طاهر محمد بن أحمد بن عبد الرحيم، أخبرنا ابن حبان، حدثنا بيان بن أحمد القطان، حدثنا عبيد بن جياد الجيلي، حدثنا يوسف بن محمد بن المنكدر، عن أبيه، عن جابر قال: ((سئل النبي صلى الله عليه وآله وسلم ما الإيمان ؟ قال: الصبر والسماحة )) وأخرج ابن أبي شيبة والبيهقي عن جابر بن عبد الله قال: (( قيل: يا رسول الله أي الإيمان أفضل؟ قال: الصبر والسماحة قال: فأي المؤمنين أكمل إيماناً؟ قال: أحسنهم خلقاً )).
وأخرج البيهقي عن عبد الله بن عبيد، عن عمير الليثي، عن أبيه عن جده قال: ((بينا أنا عند رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم إذ جاءه رجل فقال: يا رسول الله ما الإيمان؟ قال: الصبر والسماحة قال: فأي الإسلام أفضل؟ قال: من سلم المسلمون من لسانه ويده قال:فأي الهجرة أفضل؟ قال: من هجر السوء، قال فأي الجهاد أفضل؟ قال: من أهريق دمه وعقر جواده، قال فأي الصدقة أفضل؟ قال: جهد المقل، قال: فأي الصلاة أفضل؟ قال: طول القنوت)).
وأخرج أحمد والبيهقي عن عبادة بن الصامت، قال: قال رجل: يا رسول الله أي العمل أفضل؟ قال: ((الصبر والسماحة. قال: أريد أفضل من ذلك. قال: لا تتهم الله في شيء من قضائه)) قوله السماحة يعني المساهلة والتيسير في الأمور من معاملة وغيرها، ويقابلها العسر والتشديد والمضايقة.
وفي صحيح البخاري: حد ثنا مسدد، حد ثنا يحيى، عن عمران بن أبي بكر، قال: حدثني عطاء بن أبي رباح قال: قال لي ابن عباس: ألا أريك امرأة من أهل الجنة؟ قلت: بلى، قال: هذه المرأة السوداء أتت النبي صلى الله عليه وآله وسلم فقالت: إني أصرع وإني أتكشف فادع الله لي، قال: ((إن شئت صبرت ولك الجنة وإن شئت دعوت الله أن يعافيك)) فقالت: أصبر، فقالت: إني أتكشف فادع الله لي ألاًّ أتكشف، فدعا لها.
ويحيى هو: ابن سعيد القطان، وعمران هو: ابن مسلم أبو بكر البصري التابعي الصغير، والحديث في أمالي المرشد بالله بسنده إلى مسدد بالإسناد المذكور، وأخرجه مسلم قال: حد ثنا عبد الله بن عمر القواريري، حدثنا يحيى بن سعيد وبشر بن المفضل قالا: حدثنا عمران أبو بكر... إلى آخر السند والمتن، وأخرجه النسائي.
وفي أمالي المرشد بالله: أخبرنا أبو طاهر بن عبد الرحيم، قال: أخبرنا أبو محمد بن حبان، قال: حدثني محمد بن يحيى، قال: حد ثنا أبو كريب، قال: حد ثنا عمرو بن بزيغ، قال: حدثنا الحارث بن الحجاج، عن أبي معمر قال: حدثني علي بن عبد الله بن عباس عن أبيه قال: ((أهديت لرسول الله صلى الله عليه وآله وسلم بغلته الشهباء أهداها له المقوقس وجارية يقال لها مارية أم إبراهيم فاتخذها نبي الله صلى الله عليه وآله وسلم لنفسه وجارية أخرى فوهبها لدحية الكلبي وفتل للبغلة رسناً من صوف ومن ليف وقلدها إياه وأخذ كساءً قطوانياً فطواه في أربع طيات، ثم وضعه على البغلة، ثم ركبها نبي الله صلى الله عليه وآله وسلم ثم أخذ بيدي فأردفني فقال: ((يا غلام ألا أعلمك كلمات ينفعك الله بهن ؟)) قلت: بلى افعل يا نبي الله فقال: ((احفظ الله يحفظك احفظ الله تجده أمامك تعرف إليه في الرخاء يعرفك في الشدة إذا سألت فاسأل الله وإذا استعنت فاستعن بالله قد جف القلم بما هو كائن فلو أن الخلق كلهم جميعاً أرادوا أن ينفعوك بما لم يقضه الله لك لم يقدروا على ذلك، أو يضروك بما لم يكتبه الله عليك لم يقدروا على ذلك، اعمل لله بالشكر في اليقين، واعلم أن في الصبر على ما تكره خيراً كثيراً فإن النصر مع الصبر، وإن الفرج مع الكرب، وإن مع العسر يسراً قال: كيف أصنع باليقين يا نبي الله؟ قال: أن تعلم أنما أخطأك لم يكن ليصيبك وإنما أصابك لم يكن ليخطئك فإذا أنت قد فتحت باب اليقين)) وله عنده طريق ثانية عن عبد الملك بن عمير، عن ابن عباس بمعنى الرواية الأولى
وفي آخرها: ((فإن استطعت أن تعمل بالصبر مع اليقين فافعل وإن لم تستطع فإن في الصبر على ما تكره خيراً كثيراً)) ورواه من طريق ثالثة قال: أخبرنا أبو بكر بن ريذة، قال: أخبرنا الطبراني، قال: حدثنا علي بن عبد العزيز، قال: حدثنا أبو يعلى بن مهدي الموصلي.
(ح) قال وأخبرنا ابن ريذة، قال: أخبرنا الطبراني، قال: حد ثنا أحمد بن يحيى الحلواني، قال: حدثنا سعيد بن سليمان، قال: حدثنا أبو شهاب الخياط، قال: حدثني عيسى بن محمد القرشي، عن ابن أبي مليكة، عن ابن عباس فذكر الحديث من قوله: ((يا غلام احفظ الله يحفظك ...)) إلى آخره.
وذكره في الدر المنثور ونسبه إلى أحمد وعبد بن حميد في مسنده، والترمذي وحسنه، وابن مردويه والبيهقي في الشعب، وفي الأسماء والصفات، وأخرجه الدار قطني في الأفراد، وابن مردويه والبيهقي والأصبهاني في الترغيب عن سهل بن سعد الساعدي أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قال لابن عباس: ((ألا أعلمك كلمات تنتفع بهن ...)) وذكر نحو ما مر، قوله رسناً الرسن: الحبل الذي تقاد به الدابة، قوله قطوانياً: القطوانية عباءة بيضاء قصيرة الحمل، وفي رواية عبد الملك فركبها النبي صلى الله عليه وآله وسلم بحبل من شعر أي بلباس من شعر.
وفي أمالي المرشد بالله: أخبرنا محمد، أخبرنا عبد الله، قال: حد ثنا محمد بن عبد الله بن رستة، قال: حد ثنا محمد بن مهران الحمال، قال: حد ثنا محمد بن معلي، عن زياد بن خيثمة، عن أبي داود، عن عبد الله بن سخبرة عن سخبرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم : ((من ابتلي فصبر وظُلم فغفر وظلم فاستغفر {أُوْلَئِكَ لَهُمُ الأَمْنُ وَهُمْ مُهْتَدُونَ }))[الأنعام:82] وهو في الجامع الصغير منسوباً إلى الطبراني في الكبير والبيهقي في الشعب بلفظ: ((من ابتلي فصبر وأعطي فشكر .....)) إلخ.
قال العزيزي: وإسناده حسن، ومحمد شيخ المرشد بالله هو: أبو طاهر محمد بن أحمد بن عبد الرحيم كما يظهر مما قبله، وعبد الله هو: أبو الشيخ ابن حبان، وسخبرة: بمهملة مفتوحة فمعجمة ساكنة فموحدة مفتوحة هو الأزهري.
وفي أمالي المرشد بالله: أخبرنا أبو بكر محمد بن علي الجوزذاني المقري، قال: أخبرنا أبو مسلم المدني، قال: أخبرنا أبو العباس بن عقدة الهمداني الكوفي، قال: أخبرنا أحمد بن الحسن بن سعيد أبو عبد الله، قال: حد ثنا أبي، قال: حد ثنا حسين بن مخارق السلولي، عن عبد الصمد، عن أبيه، عن ابن عباس قال: لما رأى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ما فعل بحمزة يوم أحد وقال: ((لأن أمكنني الله من قريش لأمثلن بسبعين منهم فنزلت: {وَإِنْ عَاقَبْتُمْ فَعَاقِبُوا بِمِثْلِ مَا عُوقِبْتُمْ بِهِ وَلَئِنْ صَبَرْتُمْ لَهُوَ خَيْرٌ لِلصَّابِرِينَ}[النحل:126] قال: بل نصبر يا رب فلم يمثل ونهى عن المثلة)).
عبد الصمد هو: ابن عبد الوارث بن سعيد العنبري التنوري أبو سهل البصري، قال أبو حاتم: صدوق صالح في الحديث، توفي سنة سبع ومائتين، احتج به الجماعة، وروى له أئمتنا الثلاثة، وأما والده فقال النسائي: ثقة ثبت، وقال ابن سعد: ثقة حجة، وقال الذهبي: أجمع المسلمون على الاحتجاج به، روى له أئمتنا الأربعة.
وفي (أمالي المرشد بالله): عن أبي هريرة، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم : ((إن من بعدي أيام الصبر أجر التمسك فيهن بمثل ما أنتم عليه كأجر خمسين عاملاً)).
وفي (أمالي المرشد بالله) أيضاً: أخبرنا أبو الحسين محمد بن عبد الواحد الحريري المعروف بابن روح الحرة قال: أخبرنا أبو حفص عمر بن محمد بن الزيات، قال: حد ثنا أحمد بن الحسن بن عبد الجبار الصوفي، قال: حدثنا منصور بن بشير أبو مزاحم، قال: حدثنا إسماعيل بن عمرو، عن عاصم بن عمر، عن محمود يعني ابن لبيد أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قال: ((إذا أحب الله قوماً ابتلاهم فمن صبر فله الصبر ومن جزع فله الجزع)) وأخرجه أحمد.
قال (المنذري): ورواته ثقات، وروى المرشد بالله والشيخان، وأبو داود، والترمذي، والنسائي، والبيهقي من حديث أبي سعيد مرفوعاً: ((ومن يتصبر يصبره الله وما أعطي أحد عطاءً خيراً وأوسع من الصبر)).
وأخرج ابن أبي الدنيا، وأبو الشيخ في الثواب، والديلمي في مسند الفردوس عن علي عليه السَّلام ، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم : ((الصبر ثلاثة فصبر على المصيبة وصبر على الطاعة وصبر عن المعصية)) وذكره في الجامع الصغير وزاد فيه: ((فمن صبر على المصيبة حتى يردها بحسن عذابها كتب الله له ثلاثمائة درجة ما بين الدرجتين كما بين السماء والأرض، ومن صبر على الطاعة كتب الله له ثلاثمائة درجة ما بين الدرجتين كما بين تخوم الأرض إلى منتهى الأرضين السبع، ومن صبر عن المعصية كتب الله له تسعمائة درجة ما بين الدرجتين كما بين تخوم الأرض إلى منتهى العرش مرتين)) وعزاه إلى ابن أبي الدنيا في كتاب فضل الصبر، وإلى أبي الشيخ في الثواب من حديث علي عليه السَّلام .
قال العزيزي: بإسناد واهٍ بل قيل بوضعه.
وأخرج الحكيم الترمذي في نوادر الأصول عن ابن عباس، قال: كنت ذات يوم رديف رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قال: ((ألا أعلمك خصالاً ينفعك الله بهن ؟ قلت: بلى، قال: عليك بالعلم فإن العلم خليل المؤمن والحلم وزيره والعقل دليله، والعمل قيمه، والرفق أبوه، واللين أخوه، والصبر أمير جنوده)).
قال الشيخ العزيزي: حديث ضعيف، ومعنى كون العلم خليل أنه كخليله وكذا ما بعده على التشبيه بجامع الدلالة على الخير النافع في دينه ودنياه، والقيم هو الذي يهيء مصالح من ولي عليه، وشبه به العمل لأن به يحصل تهيئة مساكن الأبرار في دار القرار، وتدبير المعاش في هذه الدار{وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجاً ، وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لاَ يَحْتَسِبُ}[الطلاق:2،3] وجعل الصبر أمير جنوده؛ لأن الأمير إذا ثبت تثبت العساكر، والصبر ثبات في نفسه فإذا حصل ثبتت الأعضاء.
وأخرج البيهقي عن أبي الحويرث أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قال: ((طوبى لمن رزقه الله الكفاف وصبر عليه )) وأخرجه الديلمي في مسند الفردوس من حديث عبد الله بن حنطب، وقال محمد: حديث ضعيف.
وأخرج البيهقي عن عشعس أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فقد رجلاً فسأل عنه فجاء فقال: يا رسول الله إني أردت أن آتي هذا الجبل فأخلو فيه وأتعبد، فقال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم : ((لصبر أحدكم ساعة على ما يكره في بعض مواطن الإسلام خير من عبادته خالياً أربعين سنة)).
وأخرج البيهقي عن ابن عباس، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم : ((أيكم يسره أن يقيه الله من فيح جهنم ، ثم قال: ألا إن عمل الجنة حزن بربوة ثلاثاًٍ، ألا إن عمل النار سهل لشهوة ثلاثاً، والسعيد من وقي الفتن، ومن ابتلي فصبر فيالها ثم يا لها)) وأخرج البيهقي وضعفه عن ابن عباس قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم : ((ما صبر أهل بيت على جهد ثلاثاً إلا آتاهم الله برزق )) وأخرج الحكيم الترمذي في نوادرالأصول من حديث ابن عمر مثله، وأخرج البخاري في الأدب والترمذي، وابن ماجة عن ابن عمر عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال: ((المسلم الذي يخالط الناس ويصبر على أذاهم خير من المسلم الذي لا يخالط الناس ولا يصبر على أذاهم)).
وفي (أمالي المرشد بالله) عن الحسن قال: خرج رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم على أصحابه ذات يوم فقال: ((هل منكم من يريد أن يؤتيه الله عز وجل علماً بغير تعلم وهدى بغير هداية، هل منكم من أحد يريد أن يذهب الله عنه العمى ويجعله بصيراً ألا إنه من رغب في الدنيا فطال أمله أعمى الله قلبه على قدر ذلك، ومن زهد في الدنيا وقصر أمله فيها أعطاه الله عز وجل علماً بغير تعلم وهدى بغير هداية، ألا إنه سيكون بعدكم قوم لا يستقيم لهم الملك إلا بالقتل والتجبر، ولا الغنى إلا بالفخر والبخل، ولا المحبة إلا بالاستخراج من الدين واتباع الهوى، ألا فمن أدرك ذلك الزمان منكم فصبر للفقر وهو يقدر على الغنى، وصبر للذل وهو يقدر على العز، وصبر للبغضة وهو يقدر على المحبة لا يريد بذلك إلا وجه الله أعطاه الله ثواب خمسين صدِّيقاً)) وأخرجه ابن أبي الدنيا والبيهقي.
وأخرج أحمد في الزهد والبيهقي عن الحسن، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم : ((أفضل الإيمان الصبر والسماحة )) وهو في الجامع الصغير منسوباً إلى مسند الفردوس من حديث معقل بن يسار، وإلى البخاري في التاريخ من حديث عمير الليثي.
قال العزيزي: ورواه أيضاً البيهقي في الزهد بإسناد صحيح، ومن كلام علي عليه السَّلام : (من لم ينجه الصبر أهلكه الجزع) رواه في النهج، ومعناه أن من لم يعتصم بالصبر ويتخلص به من هموم الدنيا ونوائبها أهلكه الجزع في الدنيا بالهموم، وفي الآخرة بالعذاب؛ لأن الجازع آثم، والإثم مهلكة، وقال عليه السَّلام : (الصبر يناضل الحدثان والجزع من أعوان الزمان). رواه في النهج، وفيه عنه عليه السَّلام في صفة المؤمن بشره في وجهه، وحزنه في قلبه، أوسع شيء صدراً، وأذل شيء نفساً، يكره الرفعة ويشنأ السمعة، طويل غمه، بعيد همه، كثير صمته، مشغول وقته، شكور صبور، مغمور بفكرته، ضنين بخلته، سهل الخليقة، لين العريكة، نفسه أصلب من الصلب وهو أذل من العبد) قوله لين العريكة: أي لين الجانب كناية عن تواضعه وحسن معاملته.
وأخرج البيهقي عن علي عليه السَّلام قال: (الإيمان على أربع دعائم: على الصبر، والعدل، واليقين، والجهاد). رواه في النهج.
وأخرج ابن أبي شيبة والبيهقي عن علي عليه السَّلام قال: الصبر من الإيمان بمنزلة الرأس من الجسد إذا قطع الرأس نتن باقي الجسد، ولا إيمان لمن لا صبر له.
وعن علي عليه السَّلام :(لا يعدم الصبور الظفر وإن طال به الزمان). رواه في النهج.
وعن عمر قال: وجدنا خير عيشنا الصبر.
تنبيه [في أنواع وأحكام الصبر]
واعلم أن الصبر تدخله الأحكام الخمسة فيكون واجباً، ومندوباً، ومحرماً ومكروهاً، ومباحاً.
فأما الواجب: فأنواعه ثلاثة:
أحدها: الصبرعن المحرمات، وهذا أشد أنواع الصبر لأن المعاصي غالباً مطابقة لدواعي الهوى محبوبة عند النفس كما مرت الإشارة إلى ذلك في الحديث النبوي، وأشد أنواع الصبر عن المعاصي هو الصبر عن المألوف المعتاد منها؛ لأن العادة طبيعة خامسة، فإذا انضافت إلى الشهوة تظافر جندان من جنود إبليس على جند الله تعالى فلا يقوى باعث الدين على قمعها إلا بمجاهدة قوية ونية صادقة، ومصابرةدائمة، سيما إذا كانت المعصية مما تيسر فعله كالغيبة والنميمة والكذب، والمراء، والثناء على النفس تصريحاً وتلويحاً، والمزاح المؤذي للغير، وإيراد الكلمات التي يراد بها الازدراء والاستخاف ونحو ذلك.
الثاني: الصبر على أداء الوجبات، ولهذا النوع ثلاث حالات:
الأولى: قيل فعل الواجب وذلك بالصبر على تصحيح النية والإخلاص إذ لا يقبل عمل إلا بهما.
الثانية: حالة العمل فيجب الصبر على استكمال ما يجب من الشرائط والأركان، ومراقبة الملك المنان، فلا يتكاسل ولا يغفل عن ذلك.
الثالثة: بعد الفراغ منه فإنه يحتاج إلى الصبر عن إفشائه رياًء أو سمعة، وعن العجب به وعما تحبطه وهذه الحالات معلومة من الشرع الشريف.
النوع الثالث: الصبر على ما نزل بالعبد مما لا يدخل تحت اختياره كالمصائب الكائنة بموت الأحبة وهلاك الأموال، وزوال الصحة بالأمراض، ونحو العمى وفساد الأعضاء، وبالجملة سائر أنواع البلاء الكائن من جهة الله تعالى، فالصبر على هذا واجب لقوله تعالى: {وَاصْبِرْ عَلَى مَا أَصَابَكَ }[لقمان:17] ولما جاء في وجوب الرضاء بالقضاء وأن الجزع يحبط الأجر ويوجب الوزر.
وعن علي عليه السَّلام : (إن صبرت جرى عليك القضاء وأنت مأجور، وإن جزعت جرى عليك القضاء وأنت مأزور) أوكما قال. رواه في النهج.
وهذه الأنواع الثلاثة قد تقدمت الإشارة إليها في حديث علي عليه السَّلام .
وقال ابن عباس: الصبر في القرآن على ثلاثة أوجه: صبر على أداء فرائض الله تعالى فله ثلاثمائة درجة، وصبر عن محارم الله تعالى فله ستمائة درجة، وصبر على المصيبة عند الصدمة الأولى فله ستمائة درجة.
وأما المندوب: فأنواعه كذلك ثلاثة، صبر على المكروهات، وعلىالإتيان بالمستحبات، وفيه الثلاث الحالات في النوع الثاني من الواجب، وعن مقابلة الجاني ونحوه بمثل فعله ومكافأتة عليه فمن أوذي بفعل أوقول أو جنى عليه في نفسه أو له استحب له الصبر على ذلك بترك المكافأة لقوله تعالى: {وَإِنْ عَاقَبْتُمْ فَعَاقِبُوا بِمِثْلِ مَا عُوقِبْتُمْ بِهِ وَلَئِنْ صَبَرْتُمْ لَهُوَ خَيْرٌ لِلصَّابِرِينَ}[النحل:126].
وقال علي عليه السَّلام : (إنما هو سب بسب، وعفو عن ذنب) رواه في النهج، وهذا النوع من أعلى مراتب الصبر المندوب لكثرة ما جاء في الكتاب والسنة من الأمر به والحث عليه، بل لو قيل:إن أكثر ما جاء في الصبر إنما هو في هذا النوع لم يبعد قال تعالى: {وَلَتَسْمَعُنَّ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِكُمْ وَمِنَ الَّذِينَ أَشْرَكُوا أَذًى كَثِيراً وَإِنْ تَصْبِرُوا وَتَتَّقُوا فَإِنَّ ذَلِكَ مِنْ عَزْمِ الأُمُورِ}[آل عمران:186]، فبالغ تعالى في الحث عليه حتى سماه عزيمة أي فريضة، ولم يرد سبحانه حقيقتها لقوله تعالى: {وَإِنْ عَاقَبْتُمْ...}الآية [النحل:126]، وقوله: {فَمَنِ اعْتَدَى عَلَيْكُمْ فَاعْتَدُوا عَلَيْهِ بِمِثْلِ مَا اعْتَدَى عَلَيْكُمْ}[البقرة:194]، وقوله: {وَلَمَنِ انتَصَرَ بَعْدَ ظُلْمِهِ فَأُوْلَئِكَ مَا عَلَيْهِمْ مِنْ سَبِيلٍ} الآية[الشورى:41]، ونحو ذلك كثير، وقال تعالى: {وَاصْبِرْ عَلَى مَا يَقُولُونَ وَاهْجُرْهُمْ هَجْراً جَمِيلاً}[المزمل:10] وقال تعالى حاكياً: {وَلَنَصْبِرَنَّ عَلَى مَا آذَيْتُمُونَا وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُتَوَكّلُونَ}[إبراهيم:12].
وأخرج الشيخان من حديث ابن مسعود أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قسم مالاً فقال بعض الأعراب من المسلمين: هذه قسمة ما أريد بها وجه الله فأخبر به رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فاحمرت وجنتاه، ثم قال: ((يرحم الله أخي موسى لقد أوذي بأكثر من هذا فصبر )).
وعن بعض الصحابة أنه قال: ما كنا نعد إيمان الرجل إيماناً إذا لم يصبر على الأذى، وقد قيل: إن الصبر على أذى الخلق قد يكون واجباً تارة، ومندوباً أخرى، ولعل الواجب فيما إذا كان تبعاً لواجب كأن يصبر على ما يلحقه من الأذى بسبب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر إذا كانت المكافأة تفوت الغرض المقصود منهما، وكذلك الصبر على ما كان من أذى القرابة فلا يكافئهم؛ لأن ذلك يؤدي إلى التمادي في القطيعة والإصرار عليها، وفي الحديث: ((صل من قطعك )).
وعنه صلى الله عليه وآله وسلم أن رجلاً قال له إن لي قرابة أصلهم ويقطعونني أفأرفضهم؟ قال: ((إذاً يرفضكم الله جميعاً )) أو ما هذا معناه. والله أعلم.
وأما الصبر المحرم فأنواعه كثيرة كالصبر عن الطعام والشراب حتى يموت عطشاً وجوعاً، وعند أكل الميتة للمضطر عند الأكثر، وكصبر الإنسان على ما يهلكه من سبع أو حية أو حريق، أو غرق، أو كافر يريد قتله.
قال بعض المحققين: بخلاف استلامه وصبره في الفتنة، وقتال المسلمين فإنه يباح له، بل يستحب الصبر كما دلت عليه النصوص الكثيرة، وقد سئل صلى الله عليه وآله وسلم عن هذه المسألة فقال: ((كن كخير ابني آدم )) وفي لفظ: ((كن عبدالله المقتول ولا تكن القاتل)) وفي لفظ: ((دعه يبوء بإثمه وإثمك)) وفي لفظ ((فإن بهرك بشعاع السيف فضع يدك على وجهك)).
قلت: ودليل هذا القسم أعني تحريم الصبر في تلك الأنواع عقلي وهو ما تقرر عقلاً من وجوب دفع الضرر عن النفس وشرعاً كقوله تعالى: {وَلاَ تُلْقُوا بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التَّهْلُكَةِ }[البقرة:195] ونحوه.
وأما المكروه: فكالصبر عن الأكل والشرب والجماع حتى يضر بدنه، أو تضرر زوجته بترك جماعها، وكالصبر على فعل المكروه.
وأما المباح: ففيما عدا ذلك، وضابطه كلما استوى طرفاه من الأفعال المخير بين فعلها وتركها، وتقسيم الصبر إلى الأحكام الخمسة مأخوذة من الأدلة السابقة وغيرها، وقد أشرنا إلى بعضها في أثناء بيان الأقسام.
خاتمة في الأسماء التي تتجدد للصبر بالإضافة إلى متعلقه
اعلم أن الصبر ضربان: أحدهما: بدني كتحمل المشاق، وهو إما بالفعل كتعاطي الأعمال الشاقة من العبادات وغيرها، وإما بالانفعال وهو احتمال الألم ونحوه كالصبر على الضرب الشديد، والمرض العظيم، والجرح المؤلم، وهذا ليس بفضيلة تامة، بل قد لا توجد فيه فضيلة ويكون من قسم المباح، وقد يكون محموداً ومذموماً بحسب مطابقة الشرع وعدمها.
والثاني: نفساني وهذا هو الصبر التام الذي يتعلق به كمال الفضيلة، فإن كان صبراً عن مشتهى سمي عفة، وضده الفجور والزنا والشره، والدناءة ووضاعة النفس، وقيل: إنما يسمى عفة إن كان صبراً عن شهوة الفرج المحرمة وضده ما مر، فإن كان عن شهوة البطن سمي شرف نفس، وضده الشره وما بعده، وإن لم يكن صبراً عن مشتهى بل كان عن تحمل مكروه اختلفت أساميه بحسب اختلاف موقعه، فإن كان في مصيبة لم يتعد به اسم الصبر، ويضاده الجزع والهلع والحزن، وهو إطلاق داعي الهوى ليسترسل في رفع الصوت وضرب الخدود وشق الجيوب ونحوها، وإن كان في احتمال الغنى سمي ضبط النفس، وضده البطر والأشر، وإن كان في محاربه بأن يصبر عن إجابة داعي الفرار والهرب سمي شجاعة، وضده الجبن والخور، وإن كان في كظم غيظ بأن يمسك النفس عن قضاء وطر الغضب سمي حلماً، ويضاده التذمر والاستشاطة، وإن كان في نائبة من نوائب الزمان مضجرة سمي سعة صدر، ويضاده الضجر والتبرم وضيق الصدر، وإن كان في إخفاء كلام لا يحسن إظهاره سمي كتمان سر وسمي صاجبه كتوماً، وضده إذاعة أو إفشاء أو نميمة، أو فحشاء، أو سباً أو كذباً أو قذفاً، وإن كان عن فضول العيش سمي زهداً، وضده حرصاً، وإن كان على قدر ما يكفي من حظوظ الدنيا سمي قناعة، وضده حرصاً وشرهاً، وإن كان في إناءة بأن لا يجيب داعي العجلة سمي وقاراً وثباتاً، وضده طيشاً وخفة، وإن كان عن إجابة داعي الانتقام سمي صفحاً وعفواً، وضده انتقاماً وعقوبة، وإن كان في إعطاء بأن لا
يجيب داعي الإمساك والبخل سمي جواداً أو سخاء، وضده بخلاً، وإن كان عن إجابة داعي الطعام والشراب في وقت مخصوص سمي صوماً، وضده إفطار، وإن كان عن إجابة داعي العجز والكسل سمي كيساً، وضده عجزاً وكسلاً، وإن كان عن إجابة داعي الاتكال على الناس سمي مروءة، وإذا تعلق بالتسوية سمي عدلاً، وضده ظلماً.
فهذه أنواع الصبر، وله عند كل فعل وترك اسم يخصه بحسب متعلقه، والاسم الجامع لذلك كله هو الصبر، وهذا يدلك على ارتباط مقدمات الدين بالصبر من أولها إلى آخرها، ولهذا قيل: إن الإيمان هو الصبر، وليس ذلك إلا لكونه أكثر أعماله وأعزها وأساسها كما قيل في قوله صلى الله عليه وآله وسلم : ((الحج عرفة )) وقد نبه الله على هذه الأقسام في كتابه، وعلى لسان نبيه صلى الله عليه وآله وسلم قال تعالى: {وَالصَّابِرِينَ فِي الْبَأْسَاءِ وَالضَّرَّاءِ وَحِينَ الْبَأْسِ أُوْلَئِكَ الَّذِينَ صَدَقُوا وَأُوْلَئِكَ هُمُ الْمُتَّقُونَ}[البقرة:177].
وقال صلى الله عليه وآله وسلم : ((واعلم أن في الصبر على ما تكره خيراً كثيراً )) وقد مر، ومن هنا يظهر لك سر أمر الله تعالى في هذه الآية بالاستعانة بالصبر، وقد تكلم بعض الناظرين فيما به تحصيل الاستعانة بالصبر وأجاد في ذلك فقال: الاستعانة بالصبر تكون بالالتفات إلى الأسباب التي تأفك الناس وتصدهم عن صراط الشريعة كاتباع الشهوات والولوع باللذات، والبعد عن المؤلمات، ثم بالقياس بينها وبين ما رغب الله فيه وأوعد بالعقاب على فعله، ثم بملاحظة أن ما أوعد الله به أولى بأن يتقى، وما وعد به أولى بأن يرجى ويطلب.
المسألة الثانية في معنى الاستعانة بالصلاة
قال المرتضى عليه السَّلام : الاستعانة قد تكون على أمر الدنيا وأمر الآخرة، فمن ذلك ما في العاجلة من الأمر والنهي وما وعد الله به أهل طاعته من العون لهم عند الإقبال إليه، والتمسك بحبله، والاعتصام بأمره، وفي ذلك ما يقول جل ثناؤه: {إِنَّ الصَّلاَةَ تَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ }[العنكبوت:45] فكذلك المواظبة على طاعة الله سبحانه زاجرة عن معصيته ذائدة عن مخالفته، وفي الآخرة إداء ثوابهم فكانت الصلاة عوناً على الأمر في الآخرة وطريقاً إلى الجنة، ونجاة من الهلكة أو طاعة للرحمن، فيما أمر به في واضح الفرقان.
قلت: قد أشار عليه السَّلام على أن الاستعانة بالصلاة تكون على أمور الدنيا والآخرة، ومن الاستعانة بها في الدنيا أنها تكون لطفاً في ترك الفحشاء والمنكر، وهذا هو الأمر الأكبر الذي ينبغي أن يقصد من الاستعانة بالصلاة، وليست الاستعانة بها مقصورة عليه لأن الآية تدل بظاهرها على أنه يستعان بها في كل أمر كجلب المنافع وتيسير الأرزاق، ودفع البلايا وكشف الهموم والرزايا، والألطاف المبعدة عن المعاصي المقربة من فعل كل واجب، ويؤيد ذلك ما جاء في الكتاب والسنة كأن يستدفع بالتقوى البلاء، ويستمنح بها الرخاء، ويستوجب بها الألطاف، وأن المعاصي سبباً للنكبات جالبة للمصيبات موجبة للخذلان، والآيات والأخبار في ذلك كثيرة منها قوله تعالى: {وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجاً ، وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لاَ يَحْتَسِبُ}[الطلاق:2،3] وقوله سبحانه: {وَمَا أَصَابَكُمْ مِنْ مُصِيبَةٍ فَبِمَا كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ وَيَعْفُو عَنْ كَثِيرٍ}[الشورى:30] وقال سبحانه: {وَالَّذِينَ اهْتَدَوْا زَادَهُمْ هُدًى وَآتَاهُمْ تَقْواهُمْ}[محمد:17] وقال جل ثناؤه: {إِنْ تَتَّقُوا اللَّهَ يَجْعَلْ لَكُمْ فُرْقَاناً ...}[الأنفال:29] الآية وقال تعالى: {طَبَعَ اللَّهُ عَلَيْهَا بِكُفْرِهِمْ }[النساء:155] ونحوها وقد مر في قوله تعالى: {خَتَمَ اللَّهُ عَلَى قُلُوبِهِمْ} [البقرة:7] ما يؤيد هذا، وهو أن المعاصي قد تكون سبباً للختم على القلوب والطبع عليها، وفي كلام علي عليه السَّلام :(من قصر في الطاعة ابتلي بالهم) رواه في النهج.
وأخرج أبو داود، وأحمد، وابن جرير عن حذيفة قال: كان رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم إذا حز به أمر فزع إلى الصلاة.
وأخرج ابن أبي الدنيا وابن عساكر عن أبي الدرداء قال: كان رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم إذا كانت ليلة ريح كان مفزعه إلى المسجد حتى يسكن، وإذا حدث في السماء حدث من كسوف شمس أو قمر كان مفزعه إلى الصلاة.
وأخرج أحمد، والنسائي، وابن حبان عن صهيب عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال: ((كانوا -يعني الأنبياء- يفزعون إذا فزعوا إلى الصلاة )).
وأخرج سعيد بن منصور وابن جرير، وابن المنذر، والبيهقي في الشعب عن ابن عباس أنه نعي إليه أخوه قثم وهو في مسير فاسترجع ثم تنحى عن الطريق فصلى ركعتين أطال فيهما الجلوس ثم قام يمشي إلى راحلته وهو يقول: واستعينوا بالصبر والصلاة وإنها لكبيرة إلا على الخاشعين.
وأخرجه أيضاً بنحوه سعيد بن منصور، وابن المنذر، والحاكم، والبيهقي في الشعب إلا أنهم قالوا: فنعي إليه ابن له.
وأخرج البيهقي في الشعب عن عبادة بن محمد بن عبادة بن الصامت قال: لما حضرت عبادة الوفاة قال: أحَرِّجٌ على إنسان منكم يبكي فإذا خرجت نفسي فتوضؤا وأحسنوا الوضوء، ثم ليدخل كل إنسان منكم مسجداً فيصلي ثم يستغفر لعبادة لنفسه فإن الله تبارك وتعالى قال: {وَاسْتَعِينُوا بِالصَّبْرِ وَالصَّلاَةِ }[البقرة:45] ثم اسرعوا إلى حفرتي.
وأخرج عبد الرزاق والبيهقي من طريق معمر، عن الزهري، عن حميد بن عبد الرحمن بن عوف، عن أمه أم كلثوم بنت عقبة وكانت من المهاجرات الأول في قوله: {وَاسْتَعِينُوا بِالصَّبْرِ وَالصَّلاَةِ }[البقرة:45] قالت: غشي على عبد الرحمن بن عبد الرحمن غشية فظنوا أنه أفاض نفسه فيها فخرجت امرأته فيها إلى المسجد تستعين بما أمرت به من الصبر والصلاة، فلما أفاق قال: أغشي علي آنفاً؟ قالوا: نعم قال: صدقتم إنه جاءني ملكان فقالا لي انطلق نحاكمك إلى العزيز الأمين فقال ملك آخر: ارجعا فإن هذا ممن كتبت له السعادة وهم في بطون أمهاتهم ويستمتع به بنوه ما شاء الله فعاش بعد ذلك شهراً ثم مات.
وفي سلوة العارفين للموفق بالله عليه السَّلام : حكى التنوخي أن هارون الرشيد حبس واحداً من ولد الحسين عليهما السَّلام فأمر بعض خدمه بقتله ليلاً في موضع كذا، فحمله إلى ذلك الموضع ليقتله فسأله الحسيني أن يمهله يصلي ركعتين فأمهله فأحرم بصلاته فلم يفرغ عنها إلا وقد أظللتهما سحابة مظلمة لا يرى أحدهما صاحبه وأرسلت مطراً شديداً، فلما انجلت السحابة وكان الحسيني قد غاب عنه ونجي.
المسألة الثالثة [في الظن]
قد مر أن الظن ترجيح أحد الجانبين وهذا معناه اللغوي، وعليه جرى أهل الإصطلاح ويطلق على الشك، وقد اخلتف فيه علماء الكلام هل هو جنس برأسه أو من قبيل الاعتقاد فذهب أبو علي وقاضي القضاة وغيرهما إلى الأول، وهو ظاهر كلام الإمام المهدي، وذهب أبو هاشم إلى الثاني، وهو الظاهر من قول كثير من الأصوليين، واختاره الرازي في التفسير فقال: الظن هو الاعتقاد الراجح، وقال في تفسير قوله تعالى: {وَعَلَّمَ آدَمَ الأَسْمَاءَ كُلَّهَا ...}الآية [البقرة:31] بعد أن ذكر أن الظن هو الاعتقاد الراجح ما لفظه: ولما كان قبول الاعتقاد للقوة والضعف غير مضبوط فكذا مراتب الظن غير مضبوطة، فلهذا قيل: إنه عبارة عن ترجيح أحد طرفي المعتقد في القلب على الآخر مع تجويز الطرف الآخر، ثم إن الظن المتناهي عنه في القوة قد يطلق عليه اسم العلم، فلا جرم قد يطلق أيضاً على العلم اسم الظن كما قال بعض المفسرين في قوله تعالى: {الَّذِينَ يَظُنُّونَ أَنَّهُمْ مُلاَقُو رَبِّهِمْ }[البقرة:46] قالوا: إنما يطلق لفظ الظن على العلم هاهنا لوجهين:
أحدهما: التنبيه على أن علم أكثر الناس في الدنيا بالإضافة إلى علمه في الآخرة كالظن في جنب العلم.
والثاني: العلم الحقيقي في الدنيا لا يكاد يحصل إلا للنبيين والصديقين الذين ذكرهم الله تعالى في قوله: {الَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ ثُمَّ لَمْ يَرْتَابُوا }[الحجرات:15] ثم قال: واعلم أن الظن إن كان عن أمارة قوية قبل ومدح، وعليه مدار أكثر أحوال هذا العالم، وإن كان عن أمارة ضعيفة ذم كقوله تعالى: {وَإِنَّ الظَّنَّ لاَ يُغْنِي مِنَ الْحَقِّ شَيْئاً }[النجم:28] وقوله: {إِنَّ بَعْضَ الظَّنِّ إِثْمٌ }[الحجرات:12].
المسألة الرابعة [الظن في مسائل الاعتقاد]
تقرر أن العمل بالظن في مسائل الا عتقاد لا يجوز، وقد مر الاستدلال على ذلك في السابعة من مسائل قوله تعالى: {يَاأَيُّهَا النَّاسُ اعْبُدُوا رَبَّكُمُ }[البقرة:21] وهذه المسألة أعني مسألة البعث والتصديق بيوم القيامة من تلك المسائل لا يجوز العمل فيها إلا بالعلم، ويدل على ذلك أيضاً قوله تعالى: {وَإِذَا قِيلَ إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ وَالسَّاعَةُ لاَ رَيْبَ فِيهَا قُلْتُمْ مَا نَدْرِي مَا السَّاعَةُ إِنْ نَظُنُّ إِلاَّ ظَنّاً وَمَا نَحْنُ بِمُسْتَيْقِنِينَ}[الجاثية:32] فلم يكتف تعالى منهم بالظن، بل ذمهم وتوعدهم على الاقتصار عليه.
إذا عرفت هذا فاعلم أنه لا يجوز حمل الظن في الآية على ما يقتضيه الظاهر أعني أنهم يجوزون وقوع اللقاء والبعث تجويزاً راجحاً؛ إذ لا يجوز من الله تعالى أن يمدحهم على ما يقبح منهم فعله، وقد ذم غيرهم على مثله فلا بد من التأويل، وللعلماء في تأويلها قولان:
أحدهما: أن الظن فيها بمعنى اليقين، وهذا مروي عن جماعة من السلف منهم أبو العالية، ومجاهد، والسدي، وابن جريج، ويؤيده قراءة ابن مسعود: يعلمون بدل يظنون، وهذا الاستعمال مجاز مشهور.
قال ابن جرير: والشواهد من أشعار العرب وكلامها على أن الظن في معنى اليقين أكثر من أن يحصى، وقد قال تعالى: {وَرَأَى الْمُجْرِمُونَ النَّارَ فَظَنُّوا أَنَّهُمْ مُوَاقِعُوهَا}[الكهف:53] والمراد علموا ضرورة؛ لأن العلم في الآخرة ضروري، وسبب هذا المجاز اشتراك العلم والظن في رجحان الاعتقاد وإن افترقا يكون العلم مانعاً في النقيض، والظن غير مانع منه، فلما اشتبها من هذا الوجه صح إطلاق أحدهما على الآخر.
وفي المصابيح: أن الظن يقوم مقام العلم فيما طريق جنسه المنافع والمضار، وقد مر قريباً وفي الثانية من مسائل قوله تعالى: {وَعَلَّمَ آدَمَ الأَسْمَاءَ كُلَّهَا }[البقرة:31] أن العلم يستعمل بمعنى الظن، وظاهركلام الرازي وغيره أن ذلك مجاز، وقد مر، وأنه يطلق عليه بالاشتراك، وأما صاحب المواقف وشارحها فقالا: إن إطلاق العلم على الظن ونحوه من الإدراكات وتسميتها علماً كما ذهب إليه الحكماء اصطلاح مخالف لاستعمال اللغة والعرف والشرع إذ لا يطلق في شيء من استعمالاتها على الظان والشاك والواهم أو الجاهل جهلاً مركباً أنه عالم، ويلزم أن يكون أجهل الناس بما في الواقع أعلمهم به.
قلت: أما إطلاقه على الظن فلا نسلم امتناعه لما مر.
القول الثاني: أن يحمل اللفظ على ظاهره وهو الظن الحقيقي وفيه وجوه:
أحدها: أن يجعل من مجاز الحذف ويكون المراد من ملاقاة ربهم ملاقاة ثوابه أو حسابه، وذلك معلوم لا مظنون.
ثانيها:أن يراد بالملاقاة الموت من باب إطلاق المسبب على السبب لأن الموت سبب في ملاقاة الرب سبحانه، ووقته غير معلوم إلا أنه متوقع كل لحظة توقعاً راجحاً عند المؤمن لأنه قطع أمله، أو أنه يحب لقاء الله (إن زعمتم أنكم أولياء الله من دون الناس فتمنوا الموت).
ثالثها: أن المعنى الذين يظنون أنهم ملاقوا ربهم بظنونهم فإن الإنسان الخاشع قد يسيء الظن بنفسه فيغلب على ظنه أنه يلقى الله تعالى بذنوبه فعند ذلك يسارع إلى التوبة، وذلك من صفات المدح، ويجوز أن يقدر ملاقاة عقابه لأن المؤمن الخاشع قد يغلب عليه الخوف حتى يكون تجويز العقاب عنده راجحاً، وهاهنا قول ثالث: وهو حمل اللفظ والملاقاة على الظاهر الذي هو تجويز وقوع اللقاء والبعث تجويزاً راجحاً لأن الإيمان بلقاء الله هو الذي يوقف المعتقد عند حدوده ولو لم يكن الاعتقاد يقينياً إذ من غلب على ظنه أن هذا الشيء الضار فإنه يتجنبه، أو أنه نافع فإنه يطلبه، وقد مر أن دفع الضرر المظنون واجب عقلاً، ولهذا جعله بعض أئمة الأصول دليلاً على وجوب العمل بالآحاد، وهذا اختيار بعض المتأخرين.
قال: والاكتفاء بالظن أبلغ في التقريع والتوبيخ كأن هؤلاء الذين يأمرون بالبر وينسون أنفسهم وهم يقرءون الكتاب لا يصل إيمانهم بالله وبكتابه إلى درجة الظن الذي يأخذ صاحبه بالاحتياط.
قلت: وهو توجيه قوي، ويعضده إجراء الآية على ظاهرها لولا قيام الدليل على خلافه.
المسألة الرابعة [شبهات المستدلين على رؤية الله تعالى بهذه الآية]
احتج بعض المجوزين لرؤية الله تعالى في الآخرة بهذه الآية ونحوها مما فيه ذكر الملاقاة على جواز الرؤية، وتقرير الاحتجاج بها أن اللقاء في اللغة: اتصال أحد الجسمين بالآخر كما مر، وهذا اللقاء سبب للإدراك فحيث يمنع حمله على معناه الحقيقي لكون الباري تعالى ليس بجسم وجب حمله على الرؤية مجازاً من إطلاق السبب على المسبب.
والجواب: أن الآية متروكة الظاهر اتفاقاً، وحينئذ فلستم بأولى منا بالتأويل، ولنا في تأويلها وجوه:
أحدها: ما مر لأهل القول الثاني بمعنى الظن.
الثاني: أن اللقاء عبارة عن العلم المحقق الشبيه بالمشاهدة والمعاينة توسعاً.
الثالث: أنا لا نسلم أن اللقاء يكون بمعنى الرؤية، وإنما هو بمعنى الاتفاق في الحضرة وإن لم تحصل رؤية، ومن ثم جاز أن يقال لقيني فلان ولم أره، لا يقال إنا لم ندع استعماله بمعنى الرؤية حقيقة، وإنما ادعينا ذلك مجازاً، ولا مانع منه والعلاقة واضحة وصحة النفي دليل المجاز لأنا نقول الأصل في الإطلاق الحقيقة، فلا يعدل عنه إلا لموجب ولا يوجب هنا، وإنما الحاكم إلى التجويز جعلكم المنع الحقيقي للملاقاة هو اتصال أحد الجسمين بالآخر، فأما إذا جعلناه الاتفاق في الحضرة كان الخروج عن الحقيقة ممنوعاً، لا يقال لا نسلم أن ذلك معناه لأنا نقول قد أقمنا الدليل عليه بقولنا ومن ثم جاز... إلخ، وذلك معلوم، فإن قيل: المعلوم أنه إذا قال قائل: إذا لقيت فلاناً فاقرئه عني السلام فمعناه إذا رأيته، قيل: بل معناه إذا صادفته وكنت في حضرته بدليل أنه يصح أن يقال ذلك للأعمى ولا رؤية له فكيف تدعون العلم بذلك، وغايته حصول الظن لقرينة وهي أن الملاقاة إنما تكون في الأغلب مع الرؤية.
الرابع: أن الملاقاة لو أفادت الرؤية لرآه كل إنسان لقوله تعالى: {يَاأَيُّهَا الإِنسَانُ إِنَّكَ كَادِحٌ إِلَى رَبِّكَ كَدْحاً فَمُلاَقِيهِ}[الانشقاق:6] فبين أن كل إنسان يلاقيه، ثم قسمهم بقوله تعالى: {فَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتَابَهُ بِيَمِينِهِ ...} [الانشقاق:7] الآية، ويجب أيضاً أن يراه الكفار لقوله تعالى: {فَأَعْقَبَهُمْ نِفَاقاً فِي قُلُوبِهِمْ إِلَى يَوْمِ يَلْقَوْنَهُ}[التوبة:77] والمنافق لا يرى ربه اتفاقاً، وقال تعالى في معرض التهديد والتحذير من المعاصي: {وَاتَّقُوا اللَّهَ وَاعْلَمُوا أَنَّكُمْ مُلاَقُوهُ }[البقرة:223] فلو كان اللقاء بمعنى الرؤية لوجب أن يراه الكافر إذ تناولته الآية، ولو فرض أنها في المؤمنين لكان المعنى واعلموا أنكم من أهل الثواب، وقد وقع الاتفاق على أن أحداً لا يعلم أنه من أهل الثواب إلا الأنبياء أو من أخبروه، وفي الحديث: ((من حلف على يمين ليقطع بها مال امرئ مسلم لقى الله وهو عليه غضبان)) وليس المراد رأى الله لأن ذلك وصف أهل النار.
الخامس: أن العرف مانع من حمل الملاقاة على الرؤية ولهذا يقول المسلمون فيمن مات قد لقي الله ولا يعنون أنه رأى الله، ويقال: لقي فلان جهداً شديداً ولقيت من فلان الداهية، ولاقى فلان حمامه، وكل ذلك لا يقصد به الرؤية، فإن قيل: إنما امتنع حمل اللقاء على الرؤية فيما ذكرتم للدليل وامتناعه في تلك الصور لا يمنع من حمله عليها في ستر الصور،وعند ذلك نقول: إنما امتنع حمل قوله تعالى: {إِلَى يَوْمِ يَلْقَوْنَهُ }[التوبة:77] وما أشبهه على الرؤية لما علم ضرورة من أن الكافر لا يرى ربه، وكذلك منع العقل من حمل قول أهل العرف على الرؤية ولأجل ذلك جاز تقدير مضمر يناسب المقام، ولما كان الإضمار خلاف الأصل اقتصر فيه على ما به يحصل المعنى ويفهم المراد، فقيل: المراد إلى يوم يلقونه يلقون حسابه أو حكمه، أو نحو ذلك مما يناسبه.
قيل: نعارضكم بمثله فنقول: إنما امتنع حمل اللقاء على الرؤية فيما ذكرتم لقيام الدليل على امتناع رؤية الله تعالى، ووجب التأويل والتقدير بما يناسبه ويحصل به المعنى المراد، وسيأتي دليل امتناع الرؤية إن شاء الله، ثم إنا نقول العدول من الحقيقة إلى المجاز لا يجوز إلا لموجب كما مر، ولا موجب هنا، وقد ذكرنا أن المعنى الحقيقي للملاقاة هو الاتفاق في الحضرة، وتوضيح ذلك أن اللقاء يراد به القرب ممن يلقاه على وجه يزول الحجاب بينهما، ولذلك يقول الرجل إذا حجب عن الأمير ما لقيته وإن كان قد رآه وإذا أذن له في الدخول عليه يقول لقيته وإن كان ضريراً.
[البقرة:47]
قوله تعالى: {يَابَنِي إِسْرَائِيلَ اذْكُرُوا نِعْمَتِي الَّتِي أَنْعَمْتُ عَلَيْكُمْ وَأَنّي فَضَّلْتُكُمْ عَلَى الْعَالَمِينَ}[البقرة:47] التفضيل: الزيادة في الخير، وفي الآية مسائل:
المسألة الأولى [تنبيه العرب بفضل النبي صلى الله عليه وآله وسلم ]
هذا الخطاب وأمثاله وإن كان خاصاً ببني إسرائيل ففيه تنبيه للعرب لأن الفضيلة بالنبي صلى الله عليه وآله وسلم قد لحقتهم، وجميع أقاصيص الأنبياء " تنبيه وإرشاد لهذه الأمة قال الله تعالى: {فَبَشِّرْ عِبَادِي ، الَّذِينَ يَسْتَمِعُونَ الْقَوْلَ فَيَتَّبِعُونَ أَحْسَنَهُ}[الزمر:17،18] وهذا عام ومثله قوله تعالى: {وَاتَّبِعُوا أَحْسَنَ مَا أُنْزِلَ إِلَيْكُمْ مِنْ رَبِّكُمْ }[الزمر:55] وقال تعالى: {لَقَدْ كَانَ فِي قَصَصِهِمْ عِبْرَةٌ لِأُوْلِي الأَلْبَابِ}[يوسف:111].
وعن قتادة قال: ذكر لنا أن عمر بن الخطاب كان يقول: قد مضى والله بنو إسرائيل وما يعني بما تسمعون غيركم. ذكره النيسابوري.
وأخرج ابن المنذر وابن أبي حاتم عن عمر أنه كان إذا تلا: {اذْكُرُوا نِعْمَتِي الَّتِي أَنْعَمْتُ عَلَيْكُمْ }[البقرة:47] قال: مضى القوم وإنما يعني به أنتم.
المسألة الثانية [ذكر المراد من تفضيل بني إسرائيل]
قد تقدم معنى بيان الأفضلية وجهات التفضيل في الثالثة من مسائل قوله تعالى: {وَعَلَّمَ آدَمَ الأَسْمَاءَ كُلَّهَا }[البقرة:31] وفي الثانية من مسائل قوله تعالى: {وَإِذْ قُلْنَا لِلْمَلاَئِكَةِ اسْجُدُوا لآِدَمَ }[البقرة:34] وقد اخلتف في المعنى المراد من تفضيل بني إسرائيل إذ لا يجوز حمل الآية على ظاهرها، وإلا لزم تفضيلهم على نبينا وأمته صلى الله عليه وآله وسلم ، بل على الملائكة، وكل ذلك باطل اتفاقاً، وفي ذلك وجوه:
أحدها: أن المراد تفضيلهم على عالم زمانهم، وهذا مروي عن الحسن، ومجاهد، وقتادة، وابن جريج، وابن زيد، واختاره ابن جرير فهو من العموم الذي أريد به الخصوص، ويؤيده ما مر في الفاتحة من أنه قد يطلق على أهل كل زمان عالم، وقد قيل: إن الشخص الذي سيوجد لا يكون من العالمين حال عدمه، وقد احتج ابن جرير على ذلك بحديث رواه قال: حدثني يعقوب بن إبراهيم، قال: حدثنا ابن علية وحد ثنا الحسن بن يحيى، قال: أخبرنا عبد الرزاق، قال: أخبرنا معمر جميعاً عن بهز بن حكيم، عن أبيه، عن جده قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يقول: ((ألا إنكم وفيتم سبعين أمة ))..
قال يعقوب في حديثه: أنتم آخرها.وقال الحسن: أنتم خيرها وأكرمها على الله.
قلت: ويشهد له قوله تعالى: {كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ }[آل عمران:110].
الثاني: أن يكون لفظ العالمين عاماً في الموجود ومن سيوجد لكنه مطلق في الفضل، والمطلق يكفي في صدقه صورة واحدة، فالآية تدل على أنهم فضلوا على العالمين في أمر ما، وهذا لا يقتضي أن يكونوا أفضل من كل العالمين في كل الأمور، بل لعل غيرهم أفضل منهم في أكثرها، وحاصل هذا أن اللفظ عام، والنعمة التي فضلوا بها مخصوصة، وقد اخلتف في تعيينها فقال المرتضى: هي ما من الله به عليهم من بعثة موسى عليه السَّلام وإنقاذهم به من الكفر والنيران، وتخليصه إياهم من الذل والهوان من فرعون اللعين وإهلاكه بعد أن تبعهم وطلبهم، وقيل: هي ما ذكره الله في قوله: {اذْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ جَعَلَ فِيكُمْ أَنْبِيَاءَ وَجَعَلَكُمْ مُلُوكاً وَآتَاكُمْ مَا لَمْ يُؤْتِ أَحَداً مِنَ الْعَالَمِينَ}[المائدة:20] وهذا اختيار الرازي.
الثالث: أن المراد بالعالمين الجم الغفير من الناس يقال: رأيت عالماً من الناس ويراد به الكثرة، وعلى كل قول لا يلزم منه التفضيل على هذه الأمة لأن من قال بالعموم خص النعمة، ولا يلزم التفضيل على كل عالم شيء خاص التفضيل من جميع الوجوه ومن قال بالخصوص فوجه عدم التفضيل مطلقاً ظاهرٌ.
المسألة الثالثة [في الأصلح]
قال الرازي: قوله تعالى: {وَأَنّي فَضَّلْتُكُمْ عَلَى الْعَالَمِينَ }[البقرة:47] يدل على أنه لا يجب على الله رعاية الأصلح لا في الدنيا ولا في الدين؛ لأن هذا التفضيل عام لنعم الدنيا والدين، وذلك التفضيل إما أن يكون واجباً أو لا، إن كان الأول لم يجز الامتنان به عليهم إذ لا منة لمن أدى الواجب، وإن كان الثاني فهو المطلوب ويدل عليه أنه تعالى خصص بهذه النعمة بني إسرائيل دون غيرهم، هذا تلخيص كلامه، والجواب أنه قد تقدم له نحو هذا في الفاتحة، وقد تقدم الجواب عليه في العاشرة من مسائل قوله تعالى: {الْحَمْدُ لِلَّهِ }[الفاتحة:2] وفي الخامسة من مسائل قوله تعالى: {صِرَاطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ }[الفاتحة:7] وأن المراد بها اللطف، وذكرنا هنالك أنه لا وجه للكلام معه في ذلك، وفي المواقف وشرحه أن الخلاف في وجوب الواجب على الله تعالى وقبح القبيح منه يتفرع على قاعدة التحسين والتقبيح؛ لأنه لا حاكم بقبح القبيح منه جل وعلى وجوب الواجب عليه إلا العقل.
إذا عرفت هذا فاعلم أن الكلام في الصالح والأصلح إنما هو للعدلية والخلاف إنما وقع بينهم، واختلافهم في جهتين:
الأولى: في وجوب الأصلح في باب الدين، وهذه الجهة قد تقدم الكلام عليها في الخامسة من مسائل قوله تعالى: {صِرَاطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ }[الفاتحة:7].
الثالثة: في وجوب المصالح الدنيوية، وهذه الجهة هي التي نتكلم فيها في هذا الموضع، وتحقيق القول فيها يكون في أربعة مواضع:
الأول: في حقيقة المصلحة الدنيوية.
الثاني: في ذكر الخلاف في المسألة، الثالث في دليل القائل الرابع في شبه المخالف.
[المصلحة الدنيوية]
الموضع الأول: في حقيقة المصلحة الدنيوية اعلم أن المصلحة والنعمة معناهما واحد، وقد سبق حد النعمة في الأولى من مسائل قوله تعالى: {صِرَاطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ }[الفاتحة:7] إلا أن ذلك الحد شامل للنعم الدينية والدنيوية، وينبغي أن نذكر هنا حداً يختص بالدنيوية زيادة في تحقيقها وتمييزها فنقول: حقيقة المصلحة الدنيوية هي التي يصح أن ينتفع بها الحي بحياة ولا ضرر فيها على غيره، ولا وجه من وجوه القبح مع تعريها عن الدعاء والصرف في الدين وما يحترز عنه بهذه المنافع لا تكون في حقه تعالى مصلحة؛ إذ لا يجوز عليه الانتفاع، وقوله مع تعريها عن الدعاء... إلخ لتخرج الألطاف والمفاسد لأن المنافع إذا دعت إلى ما كلفناه كانت مصالح دينية وهي التي تسمى ألطافاً، وإذا صرفتنا عما كلفناه كانت مفسدة ولم تكن مصلحة لا دينية ولا دنيوية إلا عند من يجوز في النعمة أن تكون قبيحة، وقد مر الخلاف في ذلك، والمصلحة الدنيوية هي ما تفضل الله به علينا من الأموال وأنواع النبات والثمار، والأولاد والصحة وغير ذلك مما لا يكون فيه لطف ولا مفسدة.
الموضع الثاني: في ذكر الخلاف ذهبت البصرية إلى أن المصالح الدنيوية إذا لم يكن فيها لطف غير واجبة على الله تعالى، وبه قال الإمام المهدي، والقرشي والرازي وغيرهم من أصحابنا، وحكاه القرشي عن جمهور أهل الحق، وقالت البغدادية: بل تجب ثم اختلفوا فقال أبو القاسم البلخي: وجوب جود لا أنه حق للغير كالدين، وقال سائر أصحابه: بل واجب كالدين فيستحق الذم بتركه، وحكى القرشي عنهم أنهم يقولون بوجوب ما كان أصلح أي أنفع حتى حكموا بوجوب ابتداء الخلق ووجوب التكليف ونحو ذلك مما يعده أصحابنا تفضلاً، قال: وفيهم من طرد هذه القضية في الشاهد أيضاً فحكم بوجوب الأصلح من فعل العباد.
الموضع الثالث في أدلة الجمهور ولهم على ما ذهبوا إليه أدلة:
أحدها: أن هذا إيجاب ما لا دليل عليه، وإثبات ما لا دليل عليه يفتح باب الجهالات كما مر، وتوضيحه أن مجرد كون الشيء نفعاً لا ينبغي في وجوبه، بل لا بد من أحد ثلاثة وجوه:
أحدها: أن يختص بوجه لأجله يجب نحو رد الوديعة وشكر المنعم ونحوهما.
ثانيهما: أن يكون لطفاً كمعرفة الله تعالى وبعثة الأنبياء وكالشرعيات.
ثالثها: أن لا يتم الواجب وترك القبيح إلا به كالقيام، وفتح الباب والنظر في العقليات، وكالإعادة من فعل الباري تعالى وكالطهور في الشرعيات فإذا لم يحصل أحد هذه الوجوه فلا يقتضي الوجوب، وما نحن فيه لم يحصل فيه واحد منها فلا يجب، وللخصم أن يقول لا نسلم عدم الدليل هنا، وسيأتي.
الدليل الثاني: أنه لو كان ما فعله الله تعالى من ابتداء الخلق والتكليف ونحوهما واجباً لأنه أنفع لو جب أن يفعله قبل الوقت الذي فعله فيه، فإن قيل: إنما لم يفعل ذلك لما فيه من المفسدة.
قيل: المفسدة لا تثبت إلا بعد التكليف والكلام مفروض قبله.
قيل: وقد التزم أبو القاسم أن الله تعالى خلق الأحياء في أول وقت يمكن خلقه فيه، وإنما لم يقدم خلق الأحياء وغيرهم قبل أوقات حدوثها لما فيه من المفسدة على المكلفين إذ لو لم يكن هناك مفسدة لوجب تقديمه وهو لا يخل بالواجب، ولا يشترط في المصلحة والمفسدة التعيين، بل إذا قد ثبت أن الباري تعالى عدل حكيم لا يخل بمصلحة ولا يفعل ما فيه مفسدة وجب علينا القطع فيما خفي علينا وجه الحكمة فيه بأنه مطابق للحكمة وأن فيما فعله مصلحة، وأنه لم يترك ما الظاهر فيه المصلحة إلا لأنه يلزم منه مفسدة راجحة أومساوية، وقد تقدم نحو هذا في الفاتحة، وقولهم إن المفسدة إنما تثبت بعد التكليف مسلم لكن العلم بحصولها عنده متقدم قطعاً، ودفع المفاسد يجب قبل حصولها كما نهى تعالى عن سب آلهة الكفار دفعاً لمفسدة سب الله عز وجل، ولم يبسط تعالى لعباده الرزق كما يفهم من لو التي للامتناع دفعاً لمفسدة البغي في الأرض.
الدليل الثالث: أنه لو وجب الأصلح لزم أن يكون حال المثاب من المؤمنين في الجنة كحال الأنبياء لأنه أصلح لهم وفي ذلك رفع التفاضل: وقد يقال: إن أردتم أنه يلزم أن يكون حاله مثل الأنبياء في الثواب فممنوع لأن الثواب مستحق على العمل وليس للمؤمن من العمل مثل ما للنبي، وأيضاً قد مر أن الثواب يكون على جهة التعظيم، والتعظيم به إنما يكون بحسب العمل الموجب له، فلو جوزنا أن يكون ثواب المؤمن كثواب النبي لكان فيه تعظيم من لا يستحق التعظيم وهو قبيح، وإن أردتم أن يكون حاله مثلهم في التفضل فللخصم أن يقول: إن الله تعالى إنما زاد النبي لأنه أصلح له دون غيره.
الدليل الرابع: أنه يلزم تكليف الصبيان والبهائم لأنه أصلح لهم وقد يقال: لو كان أصلح لفعله.
الدليل الخامس: أنه كان يجب أن يخلق الأحياء في الجنة ولا يخلقهم في الدنيا لأن ذلك أصلح لهم، ويمكن أن يقال لو كان أصلح لفعله، وأيضاً لو خلقهم في الجنة لكانت المنافع التي يعطيهم فيها من باب التفضل والكائنة بعد التكليف ثواب مستحق عليه تعالى، والثواب أبلغ من التفضل فكان خلقهم في الدنيا وتكليفهم أصلح، لا يقال كان الابتداء بالثواب أصلح لأنا نقول لا يصح الابتداء به كما مر.
السادس: أنه كان يلزم العفو عن العاصين لأنه أصلح، فإن قيل: الخصم يقول بوجوب العقاب لأن فيه صلاحاً إذ لا يتم الوعيد الذي هو صلاح إلا به.
قيل: ونحن نقول إذا كان الوعيد وكذا التكليف يقدحان في وجوب العفو قَبُحَا إذ يفوت بهما العفو وهو أنفع ولأن الابتداء بالثواب أصلح فلا يجبان.
قال القرشي: على أن هذا الأصلح الذي ذكروه لم يثبت بنفس العقاب بل بالوعيد فهلا وقع الوعيد والعفو لأنهما أصلح وإن كشف ذلك عن الكذب لأنه إذا حصل وجه الوجوب وجب الفعل، ولقائل أن يقول: هذا الدليل معلول وبيانه من وجوه:
أحدها: أنا لا نسلم أن العفو أصلح لما في تجويزه من الإغراء بالقبيح فكيف إذا قيل بوجوبه، وقد مر في الثالثة عشرة من مسائل قوله تعالى: {خَتَمَ اللَّهُ عَلَى قُلُوبِهِمْ} [البقرة:7] إقامة البرهان على هذا وهو يقتضي القول بوجوب العقاب بل قد صرح به هنالك في مواضع.
الثاني: أنه لو كان أصلح لوقع لأن الله حكيم لا يفعل المفسدة، والمعلوم خلافه فوجب القطع بأنه لأنه ليس بأصلح.
الثالث: أن العقاب إذا كان مقطوعاً بالعفو عنه لم يكن للوعيد فائدة إذ المقصود به الزجر عن المعاصي وماذا يؤثر مع القطع بالعفو، وإذا كان المراد منه هذا وجب القطع بعدم العفو، ومع ذلك فلا يجوز القول بأن فيه صلاحاً فضلاً على أن يكون أصلح، وقد مر معنا هذا مبسوطاً في قوله: {خَتَمَ اللَّهُ عَلَى قُلُوبِهِمْ} [البقرة:7].
قوله: وإذا كان الوعيد والتكليف يقدحان... إلخ.
قلنا: لم يقبح العفو لذلك بل لما فيه من الإغراء كما مر.
قوله: ولأن الابتداء بالثواب أصلح.
قلنا: قد مر في مواضع أنه لا يحسن الابتداء بالثواب.
قوله: على أن هذا الأصلح... إلخ.
قلنا: بل ثبت بالعقاب إذ لا فائدة للوعيد مع العلم بانتفاء العقاب، وأيضاً قد مر في الفاتحة أن اللطف واجب، ومر في السابعة من مسائل قوله تعالى: {يَاأَيُّهَا النَّاسُ اعْبُدُوا رَبَّكُمُ }[البقرة:21] وفي الثالثة عشرة من مسائل قوله تعالى: {خَتَمَ اللَّهُ عَلَى قُلُوبِهِمْ} [البقرة:7] أن العلم باستحقاق الثواب والعقاب لطف، وإذا كان كذلك كان العلم باستحقاقهما واجباً ولا يجب إلا وهما مستحقان قطعاً وإلا كان قد وجب علينا فعل القبيح، لا يقال الاستحقاق لا ينافي العفو لأنا نقول إن أردت أنه لا ينافي وجوبه الذي هو محل النزاع فباطل لأنه لا يقال فيما وجب إسقاطه بالعفو أنه مستحق؛ لأن معنى الاستحقاق لمستحقه استيفاؤه، ومع فرض وجوب العفو لا يكون له ذلك، وإن أردت أنه لا ينافي جوازه وحسنه، فغير محل النزاع، على أنها قد تقدمت الإشارة إلى أن العقاب واجب، وذلك ينافي جواز حسن العفو عقلاً.
سلمنا فقد منع منه الشرع، وبما ذكرنا يعلم بطلان قوله: فهلا وقع العفو والوعيد... إلخ إذ لا صلاح في وقوعهما معاً، وإنما الصلاح في الوعيد فلا وجه لقوله وإن كشف عن الكذب... إلخ لأنه لا يكشف عنه مع ما قررنا من عدم الصلاح في العفو.
الدليل السابع: أن الأصلح لو كان واجباً لوجب أن يخلق الله تعالى للواحد منا من الشهوات والمشتهيات من الأموال والبنين ما لا يتناهى لأنه أصلح لنا، ولا حد تنتهي إليه الكثرة إلا وفي مقدوره تعالى ما هو أكثر، وإذا قيل بهذا لزم إما القول بتناهي مقدور الباري تعالى أو إخلاله بواجب، وكلاهما باطل فما أدى إليه يجب أن يكون باطلاً، فثبت بطلان الأصلح، لا يقال: إنما لم يفعل ذلك لأنا لا نحتمل من الشهوات إلا قدراً متناهياً لأنا نقول ما صحح بشهوة واحدة في محل واحد صحح حلول ما لا نهاية له من الشهوات في ذلك المحل؛ لأن زيادة الشهوات لا تفتقر إلى زيادة البنية، ثم لو احتاجت عاد الإلزام فنقول يوجد من الشهوات وبناها ما لا يتناهى.
قلت: وللخصم أن يقول: إنما لم يفعل ذلك لأن منه مفسدة، فإن قيل: لا طريق إلى كونه مفسدة.
قيل: لولا المفسدة لفعله ولا يجب تعيين الطريق، على أن الله تعالى قد نبه عليها بما يقوله سبحانه: {وَلَوْ بَسَطَ اللَّهُ الرِّزْقَ لِعِبَادِهِ لَبَغَوْا فِي الأَرْضِ}[الشورى:27] وفي حديث قدسي: إن من عبادي من لا يصلحه إلا الفقر ولو أغنيته لأفسد أوكما قال، فإن قيل: نحن نفرض وجوب هذه الزيادة في أحياء لا تكليف عليهم، بل من أهل الجنة بحيث لا يعلم بها المكلفون فلا يصح كونها مفسدة في حقهم.
قيل: يمكن أن يقال: إنما لم يفعل ذلك لعلمه بأنه لا مصلحة في فعله لأنه حكيم لا يخل بواجب وخصمكم إنما يقول بوجوب ما علم الله أنه أصلح دون ما علم أن فيه مفسدة أو لاصلاح فيه، على أن في إلزامهم بوجوب الزيادة لأهل الجنة نظر لأن الظاهر أن محل الخلاف إنما هو وجوب الأصلح في الدنيا.
الدليل الثامن: أنه لو وجب الأصلح لقبح تكليف من المعلوم أنه يكفر لأن عدم التكليف أصلح له.
أقول: هذا الإلزام أورده الأشعرية دليلاً على حكم نفي العقل، وقد ذكرناه في السابعة من مسائل الحمد لله، وذكرنا جوابه جملة وتفصيلاً، ومحصله أنه قد ثبت أن الله تعالى عدل حكيم لا يفعل قبيحاً ما لم تظهر فيه وجه الحكمة رددناه إلى هذا الأصل، فيقال هنا: لوكان عدم التكليف أصلح لم يكلفه الله تعالى، وهذا الجواب الجملي.
وأما التفصيلي فخذه من هنالك ومن الثالثة عشرة من مسائل قوله تعالى: {خَتَمَ اللَّهُ عَلَى قُلُوبِهِمْ} [البقرة:7] وحاصل الجواب أن تكليف من هذا شأنه نعمة وإحسان، وأنه يقبح الإهمال، وأثبتنا من البراهين على إثبات هذين الأصلين بما لا تجده في غير كتابنا هذا فارجع إلى ذلك إذ لا فائدة في التكرار، وإذا ثبت ذلك فلا وجه لهذا الإلزام، على أنه قد مر أن الخصم يقول بوجوب التكليف فلا وجه لإلزامه بنفس مذهبه، وأيضاً قد مر في الثالثة عشرة عن أبي القاسم أنه لا يحسن تكليف من علم الله أنه لا يؤمن إلا إذا كان فيه لطف لغيره، وعلى هذا فلا يحسن إلزامه بهذا إلا بعد تسليمه بطلان أصله؛ لأنه يقول لم يكلفهم إلا وفيه لطف لغيرهم وإلا لم يقع.
الدليل التاسع: لو وجب الإصلح لكان ما بنى من النعم واجباً فلا يستحق عليه شكر لأن الشكر إنما هو في مقابلة التفضل، ولوجب أن يبقي الله الكفار كلهم ويميتهم كلهم، وقد صور ذلك في رجلين كافرين مات أحدهما شاباً ومات الآخر شيخاً فإن للشيخ أن يقول: هلا أمتني يا رب قبل أن أكفر فإنه أصلح، فإذا قيل: فإني عرضتك بالبقاء بمنافع الثواب وهو أصلح كان للشاب أن يقول: فهلا أبقيتني وعرضتني للثواب لأنه الأصلح، وقد يقال: هذا يلزمكم فيما أوجبتموه على الله تعالى من اللطف والتمكين ونحوهما لأنها نعم عظيمة لما مر في الثانية من مسائل قوله تعالى: {صِرَاطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ }[الفاتحة:7] من إثبات النعم الدينية والدنيوية فما أجبتم به فهو جوابنا، وهذا الجواب إلزام لهم، والجواب المحقق أن الوجوب لا ينافي كونه نعمة يجب الشكر عليها كما مر في العاشرة من مسائل الحمد لله، وأما المثال فيقال: إن لله تعالى أن يجيب على الشاب بأنه ليس لك صلاح في البقاء.
الدليل العاشر: لو وجب الأصلح لما اختلف باختلاف الفاعلين فكان يجب علينا الأصلح فيجب علينا أن نفعل لأنفسنا المباحات وطلب سائر المنافع، والمعلوم خلافه، وقد يجاب بأن في ذلك مفسدة وإلا لوجب، وأيضاً لا نسلم عدم اختلافه بالفاعلين فإن الباري تعالى عالم بذاته لا يخفى عليه وجه المصلحة، بخلاف الواحد منا فإنه عالم بعلم فلا يؤمن أن يرتكب المفاسد وهو يظنها مصالحاً، فإن قيل: قولكم إنما لم يجب علينا ذلك لأنه مفسدة ممنوع إذ لو كان كذلك لقبح فعله منا رأساً.
قيل: المفسدة في إيجابه لا في إباحته، هذا وقد حكى القرشي عن أكثرهم التزام وجوب ذلك، ولعلهم يقولون لا يجب علينا طلب شيء من ذلك إلا بعد قيام الدليل على الوجوب لئلا نطلب ما في طلبه مفسدة لا نشعر بها، ويكون حاصل قولهم إنهم يقولون بوجوب طلب ما هو أصلح من المنافع والمباحات، لا أنه يجب طلب كل مباح ومنفعة، لكن لما كانت عقولنا لا تهتدي إلى تمييز كل ما فيه مصلحة وكل ما فيه مفسدة توقف ذلك على الدليل لئلا يرتكب محظوراً، ويؤيد ذلك أن مذهبهم أن الأصل في الأشياء الحظر. والله أعلم بالمراد.
الدليل الحادي عشر: أنه لو كان واجباً لوجبت النوافل لأنها مع الإيجاب أصلح لنا منها مع الندب لأن ثواب الواجب أعظم من ثواب النفل.
قال الإمام المهدي: وهذا إنما يلزمهم بتدريج وهو أن يقال: إذا كان وجه وجوب الأصلح كون فعله أنفع من تركه لزم أن تجب علينا النافلة لأنه أنفع، وكذلك يلزم وجوب الصدقات وفعل جميع الكفارات الثلاث، ويجب على أحدنا إعطاء الغير جميع ماله لأنه أصلح لذلك الغير فيصير حقاً له كسائر الحقوق، ويمكن أن يقال: هذا الإلزام غير لازم، أما النوافل فلا صلاح في إيجابها وإلا وجبت، وقد قيل: إن في كونها مندوبة صلاح آخر، وقيل: إن الصلاح في فعله كالصلاح في تركه، وكذلك يقال في الصدقات وفعل جميع الكفارات، أعني أنه لا صلاح في إيجاب الجميع وإلا لوقع إلى آخر ما ذكرنا، وقيل: بوجوب ذلك لكن لا على حد وجوب غيره، ويقال مثل ذلك في سائر النعم التي يفعلها بعضنا إلى بعض فإن منهم من التزمها، وسائرهم منع وجوب الصدقة والعطاء الكثير لما فيه من الضرر على المعطي، وهذا أولى، وقد مر في أول هذه السورة الدليل على منع إخراج جميع المال أو أكثره فتقدم منع الزائد على الثلث، لا يقال: نفع ثواب الإنفاق أعظم من الضرر فلا يقدح في كونه أصلح؛ لأنه يقال لا نسلم ذلك ولا طريق إليه، على أن صرفه في نفسه وعائلته أنفع وأصلح وثوابه أعظم، ولهذا أمر الشارع المتصدق أن يبدأ بنفسه ثم بمن يعول، فيعارض ما ذكرتم، ويرجح عليه لخلوصه من الضرر، وأيضاً فيما ذكرتم مفسدة عظيمة وهي أنه لو وجب على أحدنا أن يعطي الغير جميع ماله لأنه أصلح لوجب على ذلك الغير أن يفعل مثله فتخرجوه إلى آخر لهذا الوجه وهلم جرّاً، فلا يستقر ملك ولا يحصل انتفاع كامل لأحد، وفي هذا تفويت الغرض لخلق المنافع والتنكيل منها، وهو باطل فما أدى إليه يجب أن يكون باطلاً فثبت [أن لاصلاح] في إيجاب ما ذكروا فيبطل الإلزام به. والله أعلم.
هذا وأما ما ذهب إليه أبو القاسم من أن وجوب ذلك وجوب جود لا غير فليس فيه خلاف للجمهور إلا في العبارة، وبيانه أن الواجب ما للإخلال به مدخل في استحقاق الذم وتارك الجود لا يستحق ذماً فكيف يسمى واجباً؟
فإن قيل: بل يستحق الذم لأن نقيضه البخل، والبخيل مذموم، قيل: لا نسلم فإن البخل منع إنفاق ما يجب الإيفاء به والجود إنفاق ما لا يجب إنفاقه، ونقيضه أن لا يجود، وتارك الجود لا يستحق الذم وإن استحقه البخيل.
قال الإمام المهدي: على أن البخل لا يتصور إلا بعد ورود الشرع لأن وجوب إنفاق المال شرعي إلا حيث لا يندفع الضرر عن النفس إلا به لوجوب دفع الضرر عن النفس عقلاً لا بكون البخل مذموماً عقلاً، لا يقال كان الجاهلية يذمون من لم يكرم ضيفه ومن عرف منه البخل الشديد، وإن لم يكن واجباً بالمعنى المشهور بل وجوب جود كما ذكره أبو القاسم؛ لأنا نقول: إنما استحسنوا ذلك الذم لاعتقادهم قبح الإمساك، وسواء كان ذلك علماً أو جهلاً كما سموا الأصنام آلهة لما اعتقدوا استحقاقها للعبادة، فكذلك لما اعتقدوا وجوب إكرام الضيف وقبح الاستهانة به استحسنوا ذم البخل بحقه، فثبت أن وصف الجود بالوجوب خطأ في العبارة.
الموضع الرابع في شبه المخالف وهي أربع:
الأولى: أنه قد ثبت أنه يجب على الله تعالى الأصلح في الدين فيقاس عليه الأصلح في الدنيا.
قلنا: لا نسلم الأصل سلمنا فلا علة جامعة لأنه إنما وجب في الدين لكونه إزاحة للعله، فجرى مجرى التمكين، ومنعه فساد في التكليف الذي قصد به التعريض إذ يعود على الغرض بالنقض، ولذلك لا يكون إلا بعد التكليف، وليس كذلك الأصلح في الدنيا.
الثانية: قالوا: قد ثبت أن الموسر إذا شاهد من قد أشرف على الهلاك من الجوع وعلم أنه إذا دفع إليه ما يدفع به الضرر وهو قادر على ذلك ولا يتضرر بما دفع فإنه يجب عليه دفع ما يمنع الهلاك حتى أنه يذم وينسب إلى البخل إن لم يفعل، وليس ذلك إلا لقبح الإخلال بالفعل، فكذلك حال القديم تعالى فإنه لا يتضرر بما دفعه إلى العبد فيجب أن يوصل إليه المنافع التي ذكرناها.
والجواب أن يقال: لا يخلو إما أن نفرض الكلام فيه بقضية العقل قبل ورود الشرع أو بعده، إن كان الأول فصاحب المال إما أن يلحقه غم بمشاهدة هذا الفقير المشرف على الهلاك ومضرته أولا، إن لحقه وجب عليه ذلك دفعاً للضرر عن نفسه وإلا يلحقه غم فهو محل النزاع، ونحن لا نسلم أنه يجب عليه بذل شيء من ماله، ولا أنه يحسن ذمه، بل نحكم أنما فعله تفضل وإحسان، وإن كان الثاني فالشرع قد جاء بوجوب الزكاة فإن كان عليه الزكاة وجب عليه ذلك وإلا فلا، وقال في الغياصة: الشرع قد ورد بوجوب سد رمق المشرف على الهلاك من ماله، بل ورد في الشرع أخذ ذلك لمن خشي على نفسه التلف وإن كان بغير رضى صاحب المال لحرمة النفس فإن حرمتها آكد، وأما وصفهم له بالبخل فإنما يصفه بذلك من يعتقد الوجوب كما مر من وصفهم بذلك من لم يكرم ضيفه، أو من يستدل بذلك على قلة رحمته وعلى زهده في الخير، وأما على جهة أنه أخل بواجب فلا، ولهذا فإن له أن يعتذر بعدم الوجوب عليه، وإذا تقرر هذا فلا يصح أن يستدل بالوجوب علينا فيما هذا حاله على وجوب الأصلح على القديم تعالى؛ إذ وجوب ذلك علينا لدفع الضرر عن أنفسنا أو إيجاب الشرع وذلك غير موجود في الباري تعالى؛ إذ لا يتضرر ولا جاء الشرع بوجوب شيء عليه.
وقال الإمام المهدي في جواب هذه الشبهة ما معناه: إنا وإن سلمنا وجوب ذلك علينا فليس لأجل وجوب الأصلح، بل لأنه يستحق الذم شرعاً لا عقلاً إلا من باب نفرة النفوس والرقة البشرية لا الوجوب العقلي.
الشبهة الثالثة: أن الله تعالى دعا إلى الإحسان وهو داعي حكمه ولا صارف عنه فيجب أن يفعله.
والجواب: أنه لا يجب وجود الفعل عند وجود داعي الحكمة وانتفاء الصارف لا محالة إلا إذا توفر الصارف عن الترك كصارف القديم على ترك الواجب، وأيضاً يقال ما تريدون بالوجوب هل وجوب استمرار أو الذي يستحق عليه الذم، وأيهما قلتم فهو باطل.
أما الأول فلأنه إنما يكون فيما إذ دعى الداعي ووجد صارف متوفر عن الترك كما في داعي القديم تعالى إلى فعل الواجب، فأما مجرد الداعي وعدم الصارف فلا يوجب إيجاد الفعل، ولهذا فإن أحدنا قد يدعوه الداعي إلى فعل ولاصارف عنه ولا يفعله كالقيام والقعود، وأما الثاني فلا طريق إليه.
الشبهة الرابعة: قالوا قد ثبت أنه يقبح من الواحد منا منع غيره من النظر في مرآة قد نصبها في حائطه، ومن الاستظلال بظل جداره ومن الاستضاءة بناره حيث احتاج إلى شيء من ذلك ولا نفع في منعه، وكذلك من رأى أعمى يريد أن يتردى في بئر بين يديه ولم ينذره وهو لا يضره ذلك ولا ينتفع بتركه، ولا وجه لقبح ذلك واستحقاق الذم عليه إلا كونه إخلالاً بواجب فيلزم مثله في الباري تعالى.
والجواب من وجهين:
أحدهما: أن هذا غير نظير مسألتنا لأنهم أوجبوا على الله ما هو سبب للصلاح، وإنما نظيرها أن يوجبوا على أحدنا أن ينصب المرآة ليرى الناس وجوههم فيها، أو يبني حائطاً ليستظلوا به لأن المصالح الدنيوية أفعال يحدثها الله تعالى، وكلما قالوه غير واجب في الشاهد.
الثاني: أن وجه القبح في حقنا ليس ما ذكروه وإنما هو كونه عبثاً؛ إذ لا غرض للمانع في ذلك إذ لو قدرنا أن له غرضاً صحيحاً لم يقبح منه المنع، وقال القرشي: أما إذا فعل ذلك يعني نصب المرآة وبناء الحائط يحسن منه المنع لأنه يعود على غرضه بالنقض، وكذلك الباري تعالى إذا فعل الأشياء التي ينتفع بها الخلق لم يحسن أن يمنعهم منها.
هذا وأما سكوته عن إرشاد الأعمى، فقال الإمام المهدي: إنما يقبح شرعاً لا عقلاً إلا لما مر من الرقة والنفرة.
فائدة
قال الإمام المهدي: العلم بهذه المسألة من فروض الكفاية إعداداً لحل الشبهة.
المسألة الرابعة
في الآية دليل على أن الله تعالى منعم على الكافر، وعلى أنه يحسن التذكير بالنعم عند كفران المنعم، وعلى قبح عصيان المنعم.
[البقرة: 48]
قوله تعالى: {وَاتَّقُوا يَوْماً لاَ تَجْزِي نَفْسٌ عَنْ نَفْسٍ شَيْئاً وَلاَ يُقْبَلُ مِنْهَا شَفَاعَةٌ وَلاَ يُؤْخَذُ مِنْهَا عَدْلٌ وَلاَ هُمْ يُنصَرُونَ}[البقرة:48] الجزاء الغنى والكفاية أي لا تغني ولا تكفي نفس عن نفس، والجزاء ما فيه الكفاية من المقابلة في خير أو شر، قال تعالى: {جَزَاهُمْ بِمَا صَبَرُوا جَنَّةً وَحَرِيراً }[الإنسان:12] وقال: {جَزَاءُ سَيِّئَةٍ سَيِّئَةٌ مِثْلُهَا }[الشورى:40] .
وقال ابن جرير: أصل الجزاء في كلام العرب القضاء والتعويض، يقال: جزيته دينه أجزيه جزاء أي قضيته، ومن ذلك قولهم: جزى الله فلاناً عني خيراً أو شراً بمعنى أثابه وقضاه عني.
قلت: وعلى هذا فتؤول إلى معنى النيابة والإغناء أي أغنى وناب عني في القضاء فيكون معنى الآية لا تنوب نفس عن نفس، ولا تحمل عنها شيئاً مما أصابها، ولا تغني عنها ولا تكفيها ما نالها.
قال الرازي: ومعنى هذه النيابة أن طاعة المطيع لا تقضي عن العاصي ما كان واجباً عليه، والقبول: التوجه إلى الشيء، وقال الراغب: القابل الذي يستقبل الدلو من البئر فيأخذه، والقابلة: التي تقبل الولد عند الولادة، وقبلت توبته وعذره وتقبلته كذلك قال تعالى: {وَلاَ يُؤْخَذُ مِنْهَا }[البقرة:48] فأفاد أن معناه الأخذ وما في معناه.
قال أبو حيان: وظاهر قوله: {وَلاَ يُقْبَلُ مِنْهَا شَفَاعَةٌ }[البقرة:48] نفي القبول ووجود الشفاعة، ويجوز أن يكون من باب: على لا حب لا يُهتَدَى بمناره، نفي القبول والمقصود نفي الشفاعة كأنه قيل: لا شفاعة فتقبل، والشفاعة مأخوذة من الشفع وهما الإثنان فهي ضم غيرك إلى وسيلتك وجاهك، ومنه الشفعة لأنها تضم ملك شريكك إلى ملكك، والأخذ: ضد الترك، ويطلق على القبض والإمساك، ومنه قيل للأسير أخيذ، والعدل بفتح العين: الفدية، يقال: عدل الشيء بالفتح لما يساويه قيمة وقدراً وإن لم يكن من جنسه، والعدل بالكسر: المساوي في الجنس والجرم.
قال ابن جرير: وإنما قيل للفدية من الشيء والبدل منه عدل لمعادلته إياه وهو من غير جنسه ومصيره له مثلاً من وجه الجزاء لا من وجه المشابهة في الصورة.
قال: وقد ذكر عن بعض العرب كسر العين من الذي بمعنى الفدية لتقارب معناه ومعنى المكسور عندهم، والنصر: العون، والأنصار: الأعوان، ويسمى الانتقام نصرة وانتصاراً قال تعالى: {وَنَصَرْنَاهُ مِنَ الْقَوْمِ الَّذِينَ كَذَّبُوا }[الأنبياء:77] الآية، قيل: معناه فانتقمنا له، ويستعمل في الإتيان يقال: نصرت أرض بني فلان أتيتها، وفي المطر، يقال: نصرت الأرض مطرت، وفي العطاء، وفي الآية مسائل:
المسألة الأولى [اتقاء العقاب]
الأمر باتقاء اليوم أمر باتقاء ما يقع فيه من العقاب والشدائد؛ لأن نفس اليوم لا يتقى إذ يرده أهل الجنة وأهل النار، واتقاء ذلك يكون بفعل الواجبات واجتناب المقبحات.
المسألة الثانية [تنكير النفس في الآية زيادة في التهويل]
في تنكير النفس مبالغة في التهويل إذ المعنى أن نفساً من الأنفس لا تجزي عن نفس منها شيئاً من الأشياء، وهو الإقناط الكلي القاطع للمطامع، وكذلك قوله:{وَلاَ يُقْبَلُ مِنْهَا شَفَاعَةٌ وَلاَ يُؤْخَذُ مِنْهَا عَدْلٌ}[البقرة:48] وفي وصف اليوم بهذه الصفات تهويل عظيم، وتنبيه على أن الخطب شديد؛ لأنه إذا وقع أحد في كريهة وحاول أصدقاؤه وقرابته دفع ذلك عنه بدأت بما في نفوسها الأبية من مقتضى الحمية فذبت عنه وتحملت ما يلزمه، كما يفعله الوالد بولده فإن رأى من لا طاقة له بممانعته عاد بوجوه الضراعة، وصنوف الشفاعة، فحاول بالملاينة ما قصر عنه بالمخاشنة، فإن لم يغن عنه ذلك شيئاً لم يبق بعده إلا فداء الشيء بمثله، إما مال أو غيره، فإن لم يحصل منه على غرض تعلل بما أمكنه من نصر الإخوان، ومدد الأخدان، وهذه الأمور غاية ما يرجع إليه في دفع الشدائد، والتخلص من المصائب، فأخبر الله سبحانه أن شيئاً من هذه لا يدفع يومئذ عن عذابه، وفي هذا تحذير من المصائب، وترغيب في تلافي ما فات؛ لأنه إذا تصور أنه ليس بعد الموت استدراك ولا شفاعة ولا نصرة ولا فدية علم أنه لا ينفعه إلا الطاعة والتدارك لما فرط منه بالتوبة، هيهات قد بطلت هنالك المحاباة، واضمحلت الرشا والجعالات، واشتغل كل امرئ بنفسه عن التوصل بالجاه والشفاعات، وارتفع التعاون والتناصر، وصار الحكم في ذلك إلى العدل الجبار القاهر الذي لا تنفع لديه وجاهة الكبراء والرؤساء، ولا تصرفه عن إمضاء حُكْمِهِ العدل.
النصراءُ، والشفعاءُ فيجزي بالسيئة مثلها، وبالحسنة أضعافها، فالحذر الحذر، والعمل العمل.
المسألة الثالثة [في الشفاعة]
ظاهر الآية يقتضي أنه لا شفاعة في ذلك اليوم لأحد، وليست على ظاهرها لإجماع الأمة على ثبوت أصل الشفاعة المقبولة للنبي صلى الله عليه وآله وسلم في الدار الآخرة، ويتعلق بالمسألة خلاف وتقسيم يطول تحصيله يكون في مواضع:
الأول: في حقيقة الشفاعة.
الثاني: في بيان موضعها.
الثالث: في الخلاف في المشفوع له.
الرابع: في حجج أهل العدل.
الخامس: في شبه المخالفين.
الموضع الأول: في حقيقة الشفاعة لغة وعرفاً واصطلاحاً.
فأما في اللغة فقد مر أنها مشتقة من الشفع الذي هو نقيض الوتر.
قال الإمام المهدي: وسمي الشفيع شفيعاً لأن طالب الحاجة كان وتراً فصار بإنضمام الشافع إليه شفعاً فسمي شفيعاً، وقال الراغب: الشفاعة الانضمام إلى آخر ناصر له وسائلاً عنه، وأكثر ما يستعمل في إنضمامه ما هو أعلى حرمة ومرتبة إلى من هو أدنى، ومنه الشفاعة في القيامة، وفي النهاية: قد تكرر ذكر الشفاعة في الحديث فيما يتعلق بأمور الدنيا والآخرة وهي السؤال في التجاوز عن الذنوب والجرائم، قال: والمشفع الذي: يقبل الشفاعة، والمشفع: الذي تقبل شفاعته.
وأما في العرف فهي: السؤال المتعلق بتحصيل منفعة أو دفع مضرة من جهة قادر على ذلك إلى غير الطالب والمطلوب، فبالسؤال يخرج الأمر بالمنفعة أو دفع المضرة فلا يسمى شفاعة في عرف اللغة، وبالتعلق بتحصيل منفعة ليخرج طلب المضرة، وقلنا أو دفع مضرة لا دفع الضرر كتحصيل النفع فتصح الشفاعة فيه، وبقوله من جهة قادر يخرج طلب ذلك ممن لا يقدر عليه ولا يتمكن منه إذ ليس بشفاعة، ولهذا لا يقال إن فلاناً شفع للمك إلى خادمه بترك مضرته، وقلنا إلى غير الطالب... إلخ احتراز من طلب ذلك للنفس، ومن طلبه للمطلوب، نحو: أن يسأله أن يريح نفسه أو يدفع عنها مضرة إذ ليس بشفاعة.
وأما في الاصطلاح فقال القرشي: هي السؤال المتضمن جلب نفع إلى الغير أودفع ضرر عنه على وجه يكون غرض السائل حصول ما سأل لأجل سؤاله، وهو قريب من المعنى العرفي، إلا أن ظاهره يشمل طلب النفع أو دفع الضرر للمطلوب نفسه، وقد مر أنه لا يسمى شفاعة، قال الإمام المهدي: لا لغة، ولا عرفاً ولا شرعاً، ولا يجب في الشافع أن يكون أعلى رتبة من المشفوع إليه؛ إذ قال صلى الله عليه وآله وسلم لبريرة في بقاء نكاح زوجها بعد عتقها وترك الفسخ فقالت: أملزم أنت يا رسول الله أم شافع؟ فقال: ((بل شافع)) . ولا أن يكون أعلى من المشفوع له وإن كان أكثر استعمالاً بدليل أن السلطان إذا عصته زوجته أو كرهته قد يشفع لها أبوها عنده، وقد يقال: هو أعلى من السلطان رتبة فيما يتعلق بالمشفوع فيه، وكذلك لا يعتبر كون الشافع أبلغ حظاً من المشفوع عند المشفوع إليه إلا في ذلك المطلوب إذ قد يشفع الأجنبي للولد عند والده في أمر، ولا شك أن حظ الولد في غير ذلك الأمر أبلغ عند الوالد من الشفيع، أما لو كان المشفوع له أبلغ حظاً في المطلوب بعينه نظر فإن كان لا يحصل من دون الشفاعة فالطلب شفاعة، وإن كان يحصل من دونها ولم يحصل بها زيادة فليس الطلب شفاعة، وذلك كصلاتنا على الرسول والملائكة؛ إذ المطلوب حاصل لهم من دون شفاعتنا، وإنما تحصل المنفعة بذلك لنا، ذكر معنى هذا الإمام المهدي، وهذا هو الذي احترز عنه القرشي بقوله لأجل سؤاله.
الموضع الثاني في بيان موضوعها
وقد اختلف فيه فذهب الجمهور إلى أن موضوعها جلب النفع ودفع الضرر، وقالت المجبرة: بل موضوعها دفع الضرر فقط، هكذا أطلق الرواية عنهم الإمام المهدي، ونسبه القرشي إلى أهل الإرجاء، وفي إطلاقهما نظر فإن بعضهم ومنهم الرازي يقول إنها تكون للأمرين.
احتج الجمهور بأنه يجوز أن يقال: شفعت إلى الأمير في قضاء حاجة فلان، أو للزيادة في عطائه كما يقال شفع إليه ليصفح عنه، وكذلك يقال: شفع فلان إلى فلان لفلان ليقضي دينه، أو ليغني فقره أو نحو ذلك.
قلت: ويدل على ذلك قوله تعالى في وصف الملائكة: {وَيَسْتَغْفِرُونَ لِلَّذِينَ آمَنُوا ...}[غافر:7] الآية فإنهم قد سألوا للمؤمنين دفع المضرة بالاستغفار لهم، وقوله: {وَقِهِمْ عَذَابَ الْجَحِيمِ }[غافر:7] وجلب المنفعة بقولهم: {وَأَدْخِلْهُمْ جَنَّاتِ عَدْنٍ ...} [غافر:7] الآية، ويشهد لهم من شعر العرب قولهم:
كل شافع رواره من ضميره .... عن البخل ناهيه وبالجودآمره
فأخبر أن الشفعاء ينهونه عن البخل ويأمرونه بالجود وذلك نفع، وقال آخر:
فذاك فتى إن جئته لصنيعة .... إلى ماله لم تأته بشفيع
فأخبر أنه يعطي من دون شفاعة مدحاً له فاقتضى أن الشفاعة قد تكون لأجل العطاء، وقال آخر:
فياجود معن ناح معن بحاجة .... فمالي إلى معنى سواك شفيع
فجعل دون معن شفيعاً إليه في تحصيل منفعة وهي قضاء حاجته.
قال الإمام المهدي: وعلى الجملة فهو معلوم ضرورة على أهل اللغة، وقال إنها في جلب المنافع أشهر.
قالوا: لو كان جلب المنافع من موضوع الشفاعة لزم في دعائنا للرسول صلى الله عليه وآله وسلم وسؤالنا له الوسيلة أن يكون شفاعة، والإجماع على خلافه.
قلنا: هي لغة راجعة إلى الحث على المطلوب، كما يدل عليه ما مر، ونحن لم نقصد بدعائنا للرسول صلى الله عليه وآله وسلم الحث على إكرامه صلى الله عليه وآله وسلم لعلمنا بحصول ذلك له دعونا أو لم ندع، وإنما قصدنا إكرام أنفسنا بفعل ما أمرنا به من الدعاء له وطالب إكرام نفسه لا سيما شافعاً، فإن قيل: لا نسلم الإجماع وإذا جاز وقلنا أن الشفاعة تكون لجلب المنافع لزم أن نكون شافعين له، والأمة مجمعة على خلافه، وإذا بطل اللازم بطل الملزوم.
قيل: إذا ثبت الإجماع على أنا غير شافعين له صلى الله عليه وآله وسلم وعلمنا أن الشفاعة تكون لجلب المنافع كان ذلك دليلاً على أن الله تعالى لم يرد إكرامه صلى الله عليه وآله وسلم لأجل سؤالنا، وبطل قولكم: لا دليل يمنع ذلك.
قالوا: لو كانت حقيقة في طلب النفع لاطردت فيلزم كون دعائنا للرسول صلى الله عليه وآله وسلم شفاعة، والمعلوم خلافه فيكون مجازاً فيه.
قلنا: هي مطردة بشرطها وهو حيث جوز السامع حصول الحث بشفاعته، لا حيث علم أنه لا تأثير لها وإنما يفعلها لمصلحة نفسه.
الموضع الثالث في الخلاف في المشفوع له ذهب الأكثر من الزيدية والمعتزلة إلى أن الشفاعة لا تكون إلا للمؤمنين المستحقين للثواب، وفائدتها الزيادة في المنافع على القدر الذي قد استحقوه تفضلاً، وذهب أبو الهذيل إلى أنها إنما تكون لأهل الصغائر ليرد الله ما انحبط من ثوابهم، وقالت المرجئة وهم المجبرة ومن وافقهم من غيرهم كالسيد محمد بن إبراهيم الوزير والمقبلي: بل هي لأهل الكبائر من الأمة في إسقاط العقاب عنهم بأن يخرجهم الله بها من النار ويدخلهم الجنة.
قال ابن لقمان: وهذا قول بعضهم، أعني أنها تكون بعد أن دخلوا النار، وبعضهم قال: بل يشفع لهم قبل دخولها فلا يدخلونها، قال: وهذا ظاهر قول المجبرة، وقال الرازي حاكياً عن أصحابه: تأثيرها يعني الشفاعة في إسقاط العذاب عن المستحقين له إما بأن يشفع لهم في عرصة القيامة حتى لا يدخلون النار وإن دخلوا فيشفع لهم حتى يخرجوا منها ويدخلون الجنة، وقد ذكر الموفق بالله أن منهم من يجوزها قبل وبعد.
واعلم أن الشفاعة لا تكون لكافر إجماعاً لظاهر الآية ونحوها.
تنبيه [في الشفاعة عند المجبرة]
ظاهر الحكاية لمذهب المجبرة أنهم يقصرون الشفاعة على أهل الكبائر، وممن صرح بذلك الإمام المهدي فإنه قال في حكايته لمذهبهم: أن الشفاعة لا تكون إلا لأهل الكبائر، وليس كذلك فإن منهم من يجوزها للأمرين أعني جلب المنافع الزائدة على قدر الاستحقاق، ودفع المضار المستحقة على المعاصي، وممن صرح بذلك الرازي والقاضي عياض.
الموضع الرابع في حجج أهل العدل وهي كثيرة
أحدها: لو كانت الشفاعة ثابتة للفساق قطعاً كما زعم الخصم لكان في ذلك إغراء بالقبيح لأن العبد إذا علم أنه لا يدخل النار بالشفاعة وإن دخلها خرج بسببها حمله ذلك على فعل القبيح، وليس الإغراء إلا تقوية الدواعي إلى ارتكاب القبائح على وجه يأمن العقاب عليه، والمعلوم أن الإغراء بالقبيح قبيح فما يؤدي إليه، يجب أن يكون قبيحاً، والشفاعة بالمعنى الذي ذكره الخصم تؤدي إليه قطعاً فوجب قبحها، فإن قيل: تجويز العقاب كاف في نفي القبح.
قيل: لا تجويز مع دعواكم القطع بوقوعها، سلمنا فالتجويز لا يؤثر في الزجر إلا إذا علم استحقاق العقاب، ثم جوز وقوعه به وأنتم قد قطعتم بعدم الوقوع، فإن قيل: نحن نقول بجواز دخوله النار ثم يخرج منها وذلك كاف في الزجر؛ إذ من حق العاقل أن لا يؤثر لذة يسيره على عذاب يوم واحد في النار، بل ولا على عذاب ساعة واحدة أو أقل منها، فلا يكون الباري تعالى مغرياً بالقبيح.
قيل: لا نسلم أن ذلك كاف في الزجر لأن الإنسان إلى تأثير العاجل أميل، ولا يبعد أن يهون عنده ما يلقاه من العذاب الآجل المنقطع في جنب فوزه بلذة القبيح العاجل، وهذا هو شأن أكثر الخلق فإنهم يؤثرون لذة القبائح على ما يعلمونه من شدة العقاب الدائم عليها، فكيف إذا علموا انقطاعه ولم يجزموا بوقوعه كالخصوم.
الحجة الثانية: أن شفاعة النبي صلى الله عليه وآله وسلم للفساق في قوة ما لو قال يوم القيامة: يا رب إنك أرسلتني إلى هؤلاء وأمرتني أن أبلغهم أنه يجب عليهم طاعتك وأنك تثيبهم عليها وتحرم عليهم معصيتك، وأنك تعاقبهم على فعلها وقد بلغتهم ذلك، ووعدت المحسن بثوابك والمسيء بعقابك، وأنا اليوم أسألك أن تبطل ذلك وتجعل المسيء مع المحسن والفاسق مع المؤمن، ومثل هذا لا يقع من عاقل فضلاً عن النبي الكامل فإن التفرقة بين المحسن والمسيء أمر مركوز في العقول كما قال تعالى: {أَفَنَجْعَلُ الْمُسْلِمِينَ كَالْمُجْرِمِينَ ، مَا لَكُمْ كَيْفَ تَحْكُمُونَ}[القلم:35،36] ولو فرض وقوع هذا لكان فيه تزهيد للمحسن في الإحسان، وتشجيع للمسيء على الطغيان، وذلك قبيح.
الحجة الثالثة: أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم لو شفع للمصرين فإما أن تقبل شفاعته أو لا، الأول باطل لثبوت خلود الفساق في النار على جهة الدوام، والثاني أيضاً باطل لما في ذلك من حط مرتبته، والإجماع على أن شفاعته في ذلك اليوم مطلوبة فلم يبق إلا القطع بأنها لا تقع منه الشفاعة للمصر وهو المطلوب.
الحجة الرابعة: ذكرها قاضي القضاة وهي أن الشافع للمصر كالشافع للعفو عمن قتل ولد رجل وهو مصر على قتل ولد له آخر، فكما أن هذه الشفاعة تقبح عقلاً فكذلك الشفاعة للمصرين -قال- ولم يحصل سمع ناقل يقتضيه العقل فوجب البقاء عليها، وهذه الحجج عقلية كما ترى، وفي الاحتجاج بها نظر.
أما الأولى فلأنه يقال إن تجويز دخوله النار لا يؤثر في الزجر، فإن المعلوم أن لذة شهوة قبيح وإن بلغت ما بلغت لا تغلب هذا الصارف الذي هو تجويز دخول النار وتعذيبه فيها مع ما قد حكى الله تعالى من أليم إحراقها، وتنوع عذابها، وإن قطع بخروجه منها بعد الخزي والوبال، ونحن نعلم أن أحدنا يتجنب فعل القبيح إذا جوز أن يناله بسببه خزي ونكال، وقيد وأثقال، وضرب شديد،وأخذ أموال،وإن قطع بانقطاع ذلك كله في حال حياته، وقد مر في الثالثة عشرة من مسائل قوله تعالى: {خَتَمَ اللَّهُ عَلَى قُلُوبِهِمْ} [البقرة:7] أن تجويز العقاب يكون صارفاً عن القبيح إذا كان القبيح واستحقاق العقاب عليه معلومين، ثم يجوز أو يظن وقوع ذلك به، وهذا من ذلك القبيل فإن العاصي يعلم أنه مستحق للعقاب، وأن العقاب ثابت معلوم عنده وهو مجوز لوقوعه إذ لم يقطع بوقوع الشفاعة قبل دخوله النار، وإذا ثبت هذا لم يكن القطع بالشفاعة مؤدياً إلى الإغراء بالقبيح لوجود الصارف المحقق. والله الموفق.
وأما الثانية فلأن الشفاعة ليست لإبطال الوعد والوعيد ولا للمساواة بين المحسن والمسيء، وإنما هي للتجاوز عن المسيء والعفو عنه بإسقاط العقاب، ولا قبح في ذلك فإن العقلاء يستحسنون إغاثة اللهفان والتنفيس عن المكروب، ولا يلزم من ذلك المساواة بين المحسن والمسيء فإن المحسن فرح مستبشر من حين بعثه من حفرته إلى أن ينال ما وعده به ربه في جنته، لا يحزنه الفزع الأكبر وتتلقاه الملائكة بالتبشير والتعظيم، والمسيء بخلافه في ذلك، بل يكون منكسر الخاطر قرح الجنان، يود لو يفتدي بأمه وأبيه وصاحبته وبنيه ومع ذلك أن منزله الذي يعطاه في الجنة إنما هو من باب التفضل دون الاستحقاق، والمتفضل به لا يكون في اللذة مثل المستحق، وأيضاً ليس في أدلة الشفاعة أن للمجرم المشفوع له مثل المؤمن من التقي، فمن أين تلزم المساواة بين المحسن والمسيء، ومن هنا يرتفع القبح العقلي.
وأما الثالثة فللخصم أن يقول: لم تزيدوا في هذه الحجة علىدعوى ثبوت ما تزعمونه من دوام الخلود في النار، ونحن لا نسلم ذلك، وحينئذ فنقول: نختار قبول شفاعته صلى الله عليه وآله وسلم ؛ إذ لا مانع منه.
وأما الرابعة: فقال الإمام المهدي: هذا قياس ضعيف لأن أهل الآخرة صاروا ملجئين إلى ترك القبيح فليس الشفاعة لهم نظيراً لهذه الصورة.
قلت: والتحقيق أن تلك الحجج مبنية على الخلاف في كون الشفاعة للمصرين تقبح عقلاً أو تحسن، فقال القاضي: تقبح، واحتج بما مر، وقال أبو هاشم: بل تحسن لأن العفو عن المصر حسن، وطلب الحسن حسن، وعلى هذا فيقال لا وجه للاحتجاج على عدم وقوعها بالعقل.
قال الإمام المهدي: واتفق الشيخ والقاضي على قبح الشفاعة بعد ورود السمع؛ لأنه في حكم المنهي بخلاف العفو فإنه يحسن بعد الوعيد وإنما ينكشف قبح الوعيد لأنه كذب.
الحجة الخامسة: الآية التي نحن بصددها وهي قوله تعالى: {وَاتَّقُوا يَوْماً لاَ تَجْزِي نَفْسٌ عَنْ نَفْسٍ ...} [البقرة:48] الآية، وقد ذكرها الله تعالى في هذه السورة مرتين، ووجه الاحتجاج بها من وجوه:
أحدها: أنه قال لا تجزي نفس عن نفس شيئاً فنكر لفظ نفس، وجعله في سياق النفي فاقتضى العموم، ولو أثرت الشفاعة في إسقاط العقاب لكانت قد أجزت نفس عن نفس شيئاً، وهو ينافي العموم، ويلزم منه تكذيب الصادق، وللخصم أن يقول: نعارضكم بمثله، فيقال: لو أثرت الشفاعة في زيادة النعيم لكانت قد أجزت نفس عن نفس شيئاً فما أجبتم به فهو جوابنا.
الوجه الثاني: أن لفظ شفاعة نكرة في سياق النفي، فتعم شفاعة النبي صلى الله عليه وآله وسلم في نفي قبولها، ونفي القبول المقصود منه نفي الشفاعة كقوله: على لا حب لا يهتدى بمناره أي لا شفاعة فتقبل، ويجوز أن يكون المراد نفي القبول، وإن وجدت الشفاعة، والأول أولى؛ لأن شفاعة النبي صلى الله عليه وآله وسلم لا ترد، فإن قيل: هذا اللفظ وإن كان عاماً فالمقصود به معنى خاص إذ المراد الذين قالوا: من بني إسرائيل نحن أبناء الله وأبناء أنبيائه فيشفعون لنا عند الله، وعلى هذا فتكون النفس الأولى مؤمنة، والثانية كافرة، والكافر لا تنفعه الشفاعة.
قيل: العبرة بعموم اللفظ لا بخصوص السبب، وأيضاً فإن الله تعالى لم يقص علينا أخبار الأمم الماضية وما فعلوه من المعاصي، وما توعدهم به من العقاب إلا لنعتبر ونحذر أن نواقع مثل ما وقعوا فيقع بنا مثل ما يقع بهم، وإلا كانت القصص والأخبار عبثاً على أنه قد جاء معنى الآية الكريمة خطاباً للأمة المحمدية قال تعالى: {وَذَرِ الَّذِينَ اتَّخَذُوا دِينَهُمْ لَعِباً وَلَهْواً وَغَرَّتْهُمُ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا وَذَكّرْ بِهِ أَنْ تُبْسَلَ نَفْسٌ بِمَا كَسَبَتْ لَيْسَ لَهَا مِنْ دُونِ اللَّهِ وَلِيٌّ وَلاَ شَفِيعٌ وَإِنْ تَعْدِلْ كُلَّ عَدْلٍ لاَ يُؤْخَذْ مِنْهَا... }[الأنعام:7] الآية ففيها ما يكفي، ولا يقال هي في الكفار لأنا نقول الذين اتخذوا دينهم لهواً ولعباً وغرتهم الحياة الدنيا أعم من الكفر، ولذا قال تعالى: {وَذَكّرْ بِهِ} وأصل الإبسال المنع.
الوجه الثالث: أن الآية خرجت مخرج الزجر والتحذير من المعاصي، والتحذير إنما يكون من ضرر أو ذهاب نفع قد حصل ولم يحذر في الآية من فوت نفع قد حصل لأنه لم يحصل فلم يبق إلا أنه حذر من ضرر نازل، لا يقال: بل هو تحذير من أن لا تحصل له زيادة نفع؛ لأنا نقول عدم حصول زيادة النفع ليس فيه خطر ولا ضرر، بدليل أنه لو قال اتقوا يوماً لا أزيد فيه منافع المستحقين للثواب بشفاعة أحد لم يحصل زجر عن المعاصي، بخلاف ما لو قال: اتقوا يوماً لا أسقط فيه عقاب المستحق للعقاب بشفاعة شافع فإنه يكون زجراً بليغاً، فثبت أن المقصود من الآية نفي تأثير الشفاعة في إسقاط العقاب فقط، فإن قيل: بل ظاهر الآية نفي الشفاعة مطلقاً، والظاهر متروك للإجماع على ثبوت الشفاعة للنبي صلى الله عليه وآله وسلم فهي مخصوصة إجماعاً، وإذا وجب صرفها عن الظاهر فلستم بالتأويل بأولى منا، ونحن نحملها على نفي الشفاعة للكفار، ويؤيده أن حملها على ذلك حمل لها على أمر متفق عليه بين الأمة فإنهم متفقون على دوام العقاب للكفار ولو ردوها فيهم إذ وردت في بني إسرائيل، وصورة السبب متفق على دخولها في العموم، قيل: لا نسلم تناولها لنفي الشفاعة في جلب النفع لما بينا من أنها وردت للزجر والتحذير فكأنها صريحة في نفي الشفاعة في دفع المضرة فقط، وإن لم تكن صريحة فيه فأقل أحوالها الظهور، ولا موجب للصرف عن الظاهر، فوجب البقاء عليه، وللخصم أن يقول: غاية ما تدعونه ظهور الآية في اختصاص دلالتها بنفي الشفاعة في دفع المضرة دون جلب النفع، والظاهر قابل للتأويل والتخصيص، قولكم لا موجب للصرف عن الظاهر ممنوع، فإن أدلتنا توجبه، وهكذا يقال في جميع الوجوه المذكورة أعني أنه يقال: غايتها أن تقتضي ظهور الآية فيما ذكرتم، والظاهر لا يمنع التأويل والتخصيص لدليل، وأيضاً فإنكم تقولون لا يؤخذ في المسألة إلا بقاطع، والظواهر لا تفيد القطع فينظر، وقد يقال: الظاهر يقوي انضمامه إلى غيره
ولا نسلم اقتضاء أدلتكم العدول عنه لضعفها.
الحجة السادسة: قوله تعالى: {فَمَا تَنْفَعُهُمْ شَفَاعَةُ الشَّافِعِينَ }[المدثر:48] ووجه الاحتجاج بها أنه لوسقط عقابهم بالشفاعة لكانت قد نفعتهم، وذلك خلاف ظاهر الآية، وفي الاحتجاج بها نظر لأنها وردت في الكفار بدليل السياق وتصريح قوله تعالى فيها: {وَكُنَّا نُكَذّبُ بِيَوْمِ الدِّينِ } [المدثر:46] والتكذيب به كفر، والخصم لا يدعي ثبوت الشفاعة للكفار، بل قد احتجوا بمفهومها على ثبوت الشفاعة للفساق، فقالوا: إن تخصيص هؤلاء بأن الشفاعة لا تنفعهم يدل على أنها تنفع غيرهم، وأيدوا المفهوم بما أخرجه ابن مردويه عن ابن مسعود، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم : ((ليخرجن بشفاعتي من أهل الإيمان من النار حتى لا يبقى فيها أحد إلا أهل هذه الآية: {مَا سَلَكَكُمْ فِي سَقَرَ }[المدثر:42] إلى قوله: {الشَّافِعِينَ })).
وأخرج ابن مردويه عن عبد الرحمن بن ميمون أن كعباً دخل يوماً على عمر بن الخطاب فقال له عمر: حدثني إلى ما تنتهي شفاعة محمد صلى الله عليه وآله وسلم يوم القيامة؟ فقال كعب: قد أخبرك الله في القرآن إن الله يقول: ما سلككم في سقر إلى قوله: اليقين قال كعب: فيشفع يومئذ حتى تبلغ من لم يصل صلاة قط، ومن لم يؤمن ببعث قط فإذا بلغت هؤلاء لم يبلغ أحد فيه خير، ولم ينكر عليه عمر مقالته هذه.
وأخرج ابن مردويه عن أنس عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال: ((يؤتى بأدنى أهل النار منزلة يوم القيامة فيقول الله له تفتدي بملئ الأرض ذهباً وفضة فيقول: نعم إن قدرت عليه، فيقول كذبت قد كنت أسألك ما هو أيسر عليك من أن تسألني فأعطيك وتستغفرني فأغفر لك وتدعوني فأستجيب لك فلم تخفني ساعة قط من ليل ونهار، ولم ترج ما عندي قط، ولم تخش عقابي ساعة قط، وليس وراءه أحد إلا وهو شر منه فيقال له: ({مَا سَلَكَكُمْ فِي سَقَرَ ، قَالُوا لَمْ نَكُ مِنَ الْمُصَلِّينَ}[المدثر:42،43]) إلى قوله: ({حَتَّى أَتَانَا الْيَقِينُ }[المدثر:47]) يقول الله: {فَمَا تَنْفَعُهُمْ شَفَاعَةُ الشَّافِعِينَ }[المدثر:48])) وهذه الأوصاف لا تكون إلا في كافر إذ المصدق بالله وبالبعث وبالثواب لا بد أن يدخل في قلبه رجاء أو خوف وإن قل، وظاهر الحديث أن عدم تأثير الشفاعة لعدم حصول شيء من هذه الأوصاف وأنه لو حصل منها شيء لنفعته الشفاعة في إسقاط عقابه.
وأخرج ابن مردويه عن صهيب الفقير قال: كنا بمكة ومعي مطلق بن حبيب وكنا نرى رأي الخوارج فبلغنا أن جابر بن عبد الله يقول في الشفاعة فأتيناه فقلنا له: بلغنا عنك في الشفاعة قول الله مخالف لك فيها في كتابه، فنظر في وجوهنا فقال: من أهل العراق أنتم؟ قلنا: نعم فتبسم وقال: وأين تجدون في كتاب الله قلت: حيث يقول ربنا: {إِنَّكَ مَنْ تُدْخِلِ النَّارَ فَقَدْ أَخْزَيْتَهُ }[آل عمران:192] {يُرِيدُونَ أَنْ يَخْرُجُوا مِنَ النَّارِ وَمَا هُمْ بِخَارِجِينَ مِنْهَا}[المائدة:37] {كُلَّمَا أَرَادُوا أَنْ يَخْرُجُوا مِنْهَا مِنْ غَمّ أُعِيدُوا فِيهَا}[السجدة:12] وأشباه هذا من القرآن فقال: أنتم أعلم بكتاب الله أم أنا؟ قلنا: بل أنت أعلم به منا، فقال: والله لقد شهدت تنزيل هذا على عهد رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وشفاعة الشافعين، ولقد سمعت تأويله من رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وأن الشفاعة لنبيه في كتاب الله قال في السورة التي يذكر فيها المدثر {مَا سَلَكَكُمْ فِي سَقَرَ ، قَالُوا لَمْ نَكُ مِنَ الْمُصَلّينَ... }[المدثر:42،43] الآية ألا ترون أنها حلت لمن مات لم يشرك بالله شيئاً سمعت رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يقول: ((إن الله خلق خلقاً ولم يستعن على ذلك ولم يشاور فيه أحداً فأدخل من شاء الجنة برحمته، وأدخل من شاء النار، ثم إن الله تحنن على الموحدين فبعث الملك من قبله بماء ونور فدخل النار فنضح فلم يصب إلا من شاء ولم يصب إلا من خرج من الدنيا لم يشرك بالله شيئاً فأخرجهم حتى جعلهم بفناء الجنة، ثم رجع إلى ربه فأمده بماء ونور، ثم دخل فنضخ فلم يصب إلا من شاء الله، ثم لم يصب إلا من خرج من الدنيا لم يشرك بالله شيئاً فأخرجهم حتى جعلهم بفناء الجنة، ثم أذن الله للشفعاء فشفعوا لهم فأدخلهم الله الجنة برحمته وشفاعة الشافعين)).
وأخرج البيهقي في البعث عن ابن مسعود قال: يعذب الله قوماً من أهل الإيمان ثم يخرجهم بشفاعة محمد صلى الله عليه وآله وسلم حتى لا يبقى إلا من ذكر الله: {مَا سَلَكَكُمْ فِي سَقَرَ }[المدثر:42] إلى قوله: {شَفَاعَةُ الشَّافِعِينَ }[المدثر:48] ذكر هذه الأخبار في الدر المنثور ولم يتكلم عليها بتصحيح ولا تضعيف.
قوله في حديث جابر: فأدخل من شاء الجنة برحمته إلخ ينبغي حمله على من يجتنب الكبائر لقوله تعالى: {إِنَّ رَحْمَةَ اللَّهِ قَرِيبٌ مِنَ الْمُحْسِنِينَ }[الأعراف:156] وقوله:{وَرَحْمَتِي وَسِعَتْ كُلَّ شَيْءٍ فَسَأَكْتُبُهَا...}[الأعراف:156] الآية وقوله: وأدخل من شاء النار ينبغي حمله على أهل الكبائر لقبح تعذيب المحسن المجتنب للكبائر، وقوله ثم رجع إلى ربه أي إلى أمر ربه، أو موضع أمره.
واعلم أن أصحابنا يتأولون ما صح من هذه الأخبار وما في معناها، وسنذكر تأويلهم إن شاء الله عند الكلام على شبه الخصوم.
الحجة السابعة: قوله تعالى: {يَوْمَ تُبْلَى السَّرَائِرُ ، فَمَا لَهُ مِنْ قُوَّةٍ وَلاَ نَاصِرٍ}[الطارق:9،10] والإبتلاء الاختبار، والسرائر ما أسر في القلوب من العقائد وما أخفي من الأعمال، والمعنىأنها تختبر يوم القيامة حتى يظهر خيرها من شرها، ومؤديها من مضيعها.
وعن ابن عمر يبدئ الله يوم القيامة كل سر منها فيكون زيناً في الوجوه وشيناً في الوجوه، أي من أداها كان وجهه مشرقاً، ومن ضيعها كان وجهه أغبراً، والآية صريحة في نفي الشفاعة لمن اختبرت عقائده وأعماله ولم تكن مطابقة لمراد الله منه بأن تكون على خلاف الأمر أو تقع على وجه يصيرها قبيحة، وإن كانت في الظاهر مطابقة إذ لو نفعته الشفاعة لكان قد وجد له ناصراً، والآية قد نفته نفياً مؤكداً بمن إذ معنى الآية ما له من قوة يدفع بها عن نفسه ما حل به من العذاب، وليس ناصر ينصره في دفعه، وليس للخصم أن يقول أنها في الكفار لأن الضمير عائد على الإنسان السابق ذكره في قوله: {فَلْيَنظُرِ الإِنسَانُ مِمَّ خُلِقَ }[الطارق:5] كل إنسان بدليل خلق من ماء دافق وكل فرد كذلك، ثم حذرهم من مواقعة الكبائر لأنهم عند ابتلائهم والوقوف على ارتكابهم إياها، وتضييعهم ما أوجب الله عليهم لا يقدرون على الدفع عن أنفسهم، ولا يقدر أحد على الدفع عنهم، وهذا نفي للشفاعة لهم على أبلغ الوجوه لأنه حذر تحذيراً مطلقاً متناولاً للعقائد والأعمال والكفر وما دونه من القبائح، ويؤيده ما أخرجه البيهقي في الشعب قال: قال: رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم : ((ضمن الله خلقه أربعة الصلاة والزكاة وصوم رمضان والغسل من الجنابة)) وهن السرائر، التي قال الله: {يَوْمَ تُبْلَى السَّرَائِرُ }[الطارق:9].
وعن عطاء: السرائر الصوم والصلاة وغسل الجنابة.
وعن يحيى بن كثير مثله رواهما ابن المنذر، وعن قتادة أن هذه السرائر مختبرة فأسروا وأخبروا علانية، فما له من قوة يمتنع بها، ولا ناصر ينصره من الله، وقد جعل الخصوم هذه الآية مثل قوله تعالى: {وَاتَّقُوا يَوْماً لاَ تَجْزِي نَفْسٌ عَنْ نَفْسٍ ...}[البقرة:48] الآية فما ورد هنالك ورد هنا، وليس كذلك فإن دلالة هذه على المقصود قوية، فإن قيل: إنما نفي الناصر في يوم ابتلاء السرائر، وذلك يوم القيامة وهو يوم يقع فيه من الأهوال والفزع والخجل للعصاة والخوف ما يذهل اللب، ويوجب الذل والخزي حتى أن بعضهم ليقول رب أرحني ولو إلى النار كما جاء ذلك في بعض الأخبار، فتحمل الآية على نفي الناصر في ذلك اليوم فلا تدفع شدائده ولا تستر فضائحه ولا يشفع فيه شافع، ولا تغني فيه نفس عن نفس شيئاً ولا تدافع، وبعد مضي تلك الأهوال، وصدور الخلائق ذات اليمين وذات الشمال يأذن الله تعالى في الشفاعة لأهل الكبائر إما قبل دخولهم النار أوبعد دخولهم فيها، أو يفترق ألحال قبل وبعد، وهذا جمع بين الأدلة، والجمع أولى من الإهمال.
قيل: إنما تحمل الآية على ذلك وتجمع بين الأدلة بما ذكرتم، لو كان دليلكم قد صح ودعواكم قد ثبتت، والنزاع قائم في ذلك فلا وجه لإخراج الآية عن ظاهرها.
الحجة الثامنة: قوله تعالى:{ يَوْمَ لاَ تَمْلِكُ نَفْسٌ لِنَفْسٍ شَيْئاً }[الانفطار:19]، وهو قوله تعالى:{ وَاتَّقُوا يَوْماً لاَ تَجْزِي نَفْسٌ عَنْ نَفْسٍ شَيْئاً }[البقرة:48].
الحجة التاسعة: قوله تعالى:{ وَإِنَّ الْفُجَّارَ لَفِي جَحِيمٍ ، يَصْلَوْنَهَا يَوْمَ الدِّينِ، وَمَا هُمْ عَنْهَا بِغَائِبِينَ }[الانفطار:14-16] والاحتجاج بها من وجوه:
أحدها: أن لفظ فجار جمع معرف بالألف واللام والجمع المعرف للاستغراق فيعم كل فاجر والفاسق فاجر إجماعاً، رواه الإمام المهدي. فيجب أن يكون في الجحيم لعموم الآية قالوا: يحتمل العهد وهو استعمال شائع في اللغة حتى لقد قيل إنه حقيقة فيه.
قلنا: قد مر الدليل على وضعها للاستغراق فلا تستعمل في غيره إلا بقرينة ولا قرينة هنا. قالوا: القرينة موجودة وهي قوله تعالى قبلها: {كَلاَّ بَلْ تُكَذّبُونَ بِالدِّينِ }[الانفطار:9] والتكذيب به كفر فيحمل اللفظ على الكافر المتقدم.
قلنا: أقرب لفظ إليها قوله تعالى: {وَإِنَّ عَلَيْكُمْ لَحَافِظِينَ }[الانفطار:10] وهذا الحكم عام لكل مكلف، وقوله: {إِنَّ الأَبْرَارَ ...}[الانفطار:13] إلخ مسوق لبيان نتيجة الحفظ والكتابة من الثواب والعقاب، فهي كالتفسير لما قبلها وتقسيمهم إلى مثاب ومعاقب فيجب أن تعم مثله.
قالوا: قد مر عن أبي هاشم أن الجمع المعرَّف لا يقتضي العموم.
قلنا: هو محجوج بما مر، ونزيده هنا بما ذكره بعضهم وهو أن ال تعرف الاسم إذا دخلت عليه، ولا يحصل التعريف عند الاطلاق إلا إذا حمل على العموم لأنه معلوم للمخاطب حملها على ما يحصل به ذلك المعنى، أما لو حمل على الجنس الصادق بالبعض فلا يفيد تعريفاً إذ ليس المجموع بأولى من بعض فيبقى مجهولاً، فإن قيل: إذا أفاد جمعاً مخصوصاً من الجنس فقد أفاد ذلك تعريف البعض.
قيل: هذه الفائدة حاصلة بدون أل لأنه لو قال: رأيت رجالاً أفاد تعريف ذلك البعض من الجنس وتميزه عن غيره، فثبت أن لأل فائدة زائدة وهي للاستغراق، ووجه آخر وهو أن الجمع المعرف في اقتضاء الكثرة فوق المنكر لصحة انتزاع المنكر منه ولا ينعكس، فيجوز أن يقال: رأيت رجالاً من الرجال لا العكس والمنتزع منه أكثر من المنتزع، وإذا ثبت هذا فالمفهوم من الجمع المعرف، إما الكل، أو ما دونه، الثاني باطل لأنه ما من عدد دون الكل إلا ويصح انتزاعه من الجمع المعرف، وقد علم أن المنتزع منه أكثر فيجب أن يكون الجمع المعرَّف مفيداً للكل، هذا مع أنه لو ثبت قول أبي هاشم. فلنا أن نتمسك بالآية.
وجه آخر وهو أن يقال: ترتيب الحكم على الوصف يشعر بالعلية وظاهر الآية يقتضي أن الفجور هو العلة في دخول الجحيم وهي علة عامة، فيجب عموم الحكم لعموم علته، وجه آخر وهو أنه قد ذكر بعض أئمة النحو أن أل الداخلة على اسمي الفاعل والمفعول ليست للتعريف، بل هي اسم بمعنى الذي لأنها تجاب بالفاء كقوله تعالى: {وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ فَاَقْطَعُواْ }[المائدة:38] فهي كقولك الذي يأتيني فله درهم، ولصحة عطف الفعل عليها كقوله تعالى: {إِنَّ الْمُصَّدِّقِينَ وَالْمُصَّدِّقَاتِ وَأَقْرَضُوا اللَّهَ...}[الحديد:18] الآية فلولا أن المصدقين في قوة قوله الذين يصدقون لما صح العطف عليه، وإذا ثبت ذلك كان المعنى إن الذين فجروا فهم في الجحيم، وذلك يفيد العموم لأن الذين من ألفاظ العموم.
قالوا: دلالة العموم ظنية، والمطلوب القطع.
قلنا: بل قطعية سيما فيما المطلوب فيه القطع، وسيأتي الاحتجاج على ذلك إن شاء الله.
قالوا: لا نسلم أن صاحب الكبيرة فاجر لقوله تعالى في الكفار: {هُمُ الْكَفَرَةُ الْفَجَرَةُ }[عبس:42] إذ لا يخلو المراد من أحد أمرين، وهما أن أولئك الكفرة من جنس الفجرة أو هم الكفرة وهم الفجرة، الأول باطل لأن كل كافر فاجر بالإجماع، فتقييد الكافر بالكافر الذي من جنس الفجرة عبث، فتعين الثاني وهو يفيد الحصر فلا يتناول صاحب الكبيرة إذ ليس بفاجر.
قلنا: هذا مخالف للإجماع كما مر ولنقل أئمة اللغة.
قال الراغب: الفجور شق ستر الديانة، وقال في قوله تعالى: {لِيَفْجُرَ أَمَامَهُ }[القيامة:5] أي يريد الحياة ليفجر أي ليتعاطى الفجور بها، وقيل: معناه ليذنب فيها ويقول غداً أتوب ثم لا يفعل، فيكون ذلك فجوراً لبذله عهداً لا يفيء به، قال: وسمي الكاذب فاجراً لكون الكذب بعض الفجور، وقال في النهاية: الفجار جمع فاجر وهو المنبعث من المعاصي والمحارم، ومنه حديث ابن عباس كانوا يرون العمرة في أشهر الحج من أفجر الفجور قال: أي من أعظم الذنوب، ومنه الحديث أن أمةً لآل رسول الله فجرت أي زنت، ومنه حديث أبي بكر: إياكم والكذب فإنه مع الفجور وهما في النار. قال: يريد الميل عن الصدق وأعمال الخير، ومنه قول الأعرابي لعمر لما قال له إن ناقتي قد نقبت، فقال له عمر: كذبت، فقال الأعرابي:
أقسم بالله أبو حفص عمر .... ما مسها من نقب ولا دبر
فاغفر له اللهم إن كان فجر
أي كذب ومال عن الصدق، ومنه حديثه الآخر أن رجلاً استأذنه في الجهاد فمنعه لضعف بدنه فقال له: إن اطلقتني وإلا فجرتك، أي عصيتك وخالفتك ومضيت إلى الغزو، وقال في حديث التجار: ((يبعثون يوم القيامة فجاراً )) الخبر. سماهم فجاراً لما في البيع والشراء من الأيمان الكاذبة، والتدليس والربا الذي لا يتحاشاه أحدهم ولايفطنون له، وقال في القاموس: الفجور: الانبعاث في المعاصي والزنا كالفجور فيهما، وبما ذكرناه يتحقق دخول صاحب الكبيرة في مسمى الفاجر، وأما قوله تعالى: {أُوْلَئِكَ هُمُ الْكَفَرَةُ الْفَجَرَةُ }[عبس:42] فيجوز اختيار الأول، قوله يكون التقييد عبثاً.
قلنا: لا عبث في جواز أن يكون الثاني تأكيداً، و تأكيد الأخص بالأعم شائع،ولنا أن نختار الثاني.
قوله: فيفيد الحصر. قلنا: ممنوع لما مر، بل المراد هم الجامعون بين الكفر والفجور، وعلى هذا فيكون المراد بالفجور معنى خاص كالزنا.
الوجه الثاني من وجوه الاحتجاج: إخبارهم بأنهم يصلونها يوم الدين، ويوم الدين هو يوم الجزاء، ولا وقت إلا ويدخل فيه، كما تقول: يوم الدين، ويوم الآخرة.
الوجه الثالث: أنه تعالى قال: {وَمَا هُمْ عَنْهَا بِغَائِبِينَ }[الانفطار:16] فنفى غيوبهم عنها نفياً مؤكداً بالباء فهو قوله تعالى: {وَمَا هُمْ بِخَارِجِينَ مِنْهَا }[المائدة:37] وإذا لم يكن هنالك موت ولا غيبة فليس بعدهما إلا الخلود الدائم، ولما كان اسم الفاجر يتناول صاحب الكبيرة ثبت بقاء أصحاب الكبائر في النار دائماً، وذلك ينافي ثبوت الشفاعة لهم، فتعين ثبوتها للمطيعين دونهم وهو المطلوب، فإن قيل: كونهم يصلونها يوم الدين لا يمنع جواز خروجهم بعد صليها بالشفاعة؛ لأنه وإن كان عاماً لأوقات الآخرة، فالعموم غير مراد بالاتفاق، على أنهم في أوقات القيامة ومدة السؤال والحساب لم يكونوا في النار، وإذا جاز تخصيصها في هذا فيجوز تخصيصها بأدلة الشفاعة، قيل: يمنع ذلك قوله تعالى: {وَمَا هُمْ عَنْهَا بِغَائِبِينَ }[الانفطار:16] قالوا: معناه أن مجموع الفجار لا يغيبون، ونحن نقول بموجبه فإن الكفار لا يغيبون عنها، وذلك كاف في صدق نفي غيبة مجموعهم؛ لأن معناه أنه لا يغيب كل الفجار، فإذا دخل بعضهم صدق أنه لم يغب كلهم ولا حاجة في صدقه إلى أن لا يغيب المسلمون عنها.
قلنا: لو جاز ذلك للزم في البعض الغائب عنها أن يصير إلى الجنة، ولو صاروا إليها لكانوا من الأبرار، وهذا يقتضي أنه لا يتميز الأبرار من الفجار، وهو باطل؛ لأن الله قد ميز بينهم بأن هؤلاء في الجنة وهؤلاء في النار، وهذا يوجب أن لا يدخل الفجار الجنة كما لا يدخل الأبرار النار.
قالوا: يجوز حمله على أنهم غير غائبين في الحال عن استحقاق الجحيم، وثبوت الاستحقاق لا ينافي عدم وقوع المستحق أو دوامه بالعفو أو بالشفاعة.
قلنا: منع من ذلك قوله: {يَصْلَوْنَهَا يَوْمَ الدِّينِ }[الانفطار:15] قالوا: ليس نصاً في الدوام لجواز أن يكون معناه وما كانوا غائبين عنها قبل ذلك بالكلية، بل كانوا يجدون سمومها وحرها في قبورهم، وذلك لا يوجب دوامهم فيها بعد دخولها.
قلنا: المراد دوام نفي الغيبة لأن الجملة الاسمية المنفية يراد بها استمرار النفي لا نفي الاستمرار.
قالوا: تعارض عموم الآية الشامل لكل فاجر بخصوص أدلة الشفاعة لأهل الكبائر من هذه الأمة والعفو عنهم، والخاص مقدم على العام.
قلنا: لا نسلم المخصص.
الحجة العاشرة: قوله تعالى:{مَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ حَمِيمٍ وَلاَ شَفِيعٍ يُطَاعُ}[غافر:18] ووجه الاحتجاج بذلك أن اللام في الظالمين للاستغراق فتعم كل ظالم والفاسق ظالم إجماعاً، وقد مر تحقيق معنى الظلم في قوله تعالى: {فَتَكُونَا مِنَ الظَّالِمِينَ }[البقرة:35] وإذا ثبت هذا فقد أخبر الله سبحانه على سبيل القطع بأنه لا شفيع للظالمين يوم القيامة تقبل شفاعته وهو عام؛ لأنه نكرة في سياق النفي، وقد أكد العموم بمن ولا نزاع أن شفاعة النبي صلى الله عليه وآله وسلم مقبولة فلو كانت للفساق لكانت مقبولة، وفي ذلك تكذيب للآية.
قال السيد حمزة بن أبي القاسم: ولو شفع النبي صلى الله عليه وآله وسلم للظالم لم يخل إما أن يطاع أو لا يطاع، إن قلت: لا يطاع فقد كفرت؛ لأن الإجماع بين المسلمين أن شفاعة النبي صلى الله عليه وآله وسلم مقبولة غير مردودة مُطَاعَةٌ غير معصِّية، وإن قلت: يطاع فقد كفرت لأنك كذبت الله تعالى في خبره لأنه تعالى أخبر ما للظالمين من حميم ولا شفيع يطاع، فلم يبق إلا أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم لا يشفع للظالمين.
قلت: ويجب القطع بأن شفاعة النبي صلى الله عليه وآله وسلم المجمع على وقوعها للمتقين دون غيرهم لئلا تتناقض حجج الله تعالى، وهذه الآية أقوى ما يحتج به الوعيدية وقد أورد عليها اعتراضات:
الأول: أنه نفى أن يكون لهم شفيع يطاع، وحقيقة الطاعة نحو حقيقة الأمر في أنها لا تكون إلا لمن فوقك في الرتبة، فالمنفي إنما هو شفيع يطيعه الله، وهذا حق لأنه ليس في الوجود أحد أعلى رتبة من الله تعالى حتى يقال إن الله تعالى يطيعه، ونحن لم نثبت هذا، وإنما أثبتنا شفيعاً يجاب، والآية لم تدل على نفيه، والجواب من وجوه:
أحدها: منع كون الطاعة كالأمر في اقتضاء كون المطاع أعلى رتبة من المطيع، وإنما هي فعل ما يريده الطالب، والمطيع من فعل ذلك، ويدل عليه قول الشاعر:
رب ما أنضحت غيظاً صدره .... قد تمنى لي موتاً لم يطع
لم يفعل ما أراده ولم يجب إلى ذلك فهي إذاً بمعنى الإجابة، وأصرح منه قوله صلى الله عليه وآله وسلم لما قال له حين نبع الماء من بين أصابعه إن ربك ليطيعك يا محمد: ((وأنت يا عم لو أطعته لأطاعك )).
الثاني: أنه لو ثبت أن الطاعة كالأمر فنقول هي هنا مجاز في المشفع بجامع فعل المراد في كل والإجابة إليه، ولا يجوز حملها على المعنى الحقيقي؛لأنه يؤدي إلى ذهاب فائدة الآية بالمرة؛ إذ كل أحد يعلم أنه ليس فوقه تعالى أحد فيصير الأخبار بذلك كالإخبار بأن السماء فوقنا والأرض تحتنا، ولا يجوز حمل كلام الحكيم على ما تذهب به فائدته، وأيضاً قوله: (شفيع) يمنع من حمل الطاعة على ذلك؛ لأن من كان أعلى رتبة لا يسمى شفيعاً، بل يسمى آمراً وحاكماً، فقوله (شفيع) يفيد أن المطاع ليس بذي رتبة، فتعين أن يكون بمعنى المجاب، فإن قيل: لا نسلم أن حمل المطاع على المعنى الحقيقي يذهب فائدة الآية لأنا نقول الفائدة في ذكره أن المشركين كانوا يعتقدون أن الأصنام تشفع لهم عند الله وأنه يجب عليه قبول شفاعتها، وهذا نوع طاعة، فنفى الله تعالى هذه الطاعة بقوله: {مَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ حَمِيمٍ وَلاَ شَفِيعٍ يُطَاعُ}[غافر:18] أي يجب إجابته وتحصيل طلبته.
قيل: هذا مبني على ما تزعمونه من أن الآية في الكفار وهو باطل فإنها عامة في الكفار وغيرهم، على أن ذكر الشفيع مع المطاع يمنع من حمله على ذلك، وأيضاً إثبات مثل هذا التأويل يحتاج إلى نقل ولم يوجد.
الوجه الثالث: أن الآية خرجت مخرج الزجر عن المعاصي، ولا زجر إلا إذا أريد بها نفي الشفاعة عن إسقاط العقاب، ولا يمكن حملها على ذلك إلا على قولنا، أما لو حملت على ما ذهب إليه الخصم من نفي الطاعة المقتضية للرتبة دون الإجابة إلى ما طلبه الشفيع لم يكن فيها زجر ولا تحذير، وهذا واضح جلي.
الوجه الرابع: أنه لا خلاف أنه دليل على نفي الشفاعة للكفار، ولو كانت كما زعموا لما صح التعلق بها في نفي الشفاعة عنهم.
الاعتراض الثاني: أن الجمع المعرَّف لا يفيد العموم، وإذا لم يكن كذلك فلا قطع يتناول الآية للفاسق.
والجواب: أنه قد ثبت إفادته ذلك كما مر في الفاتحة، سلمنا فنقول ترتيب الحكم على الوصف يشعر بالعلية، وظاهر الآية يدل على أن الظلم هو العلة في نفي الشفاعة عنهم وهي علة عامة، والحكم يعم لعموم علته.
الاعتراض الثالث: أن المراد بالظالمين هنا الكفار؛ لأن الآية وردت في زجر الكفار الذين يجادلون في آيات الله، والكفار لا شفاعة لهم.
والجواب: أن حمل الظالمين على الكفار خلاف الظاهر فلا يصار إليه إلا بدليل. قوله: (وردت في زجر الكفار).
قلنا: ممنوع بل وردت في زجر كل مكلف بدليل ما قبلها، وهو قوله تعالى: {الْيَوْمَ تُجْزَى كُلُّ نَفْسٍ بِمَا كَسَبَتْ ...}[غافر:17] الآية، وقوله: {وَأَنذِرْهُمْ} والضمير عائد على المكلفين المدلول عليهم بقوله كل نفس، فإن قيل: الأصل في حرف التعريف أن ينصرف إلى المعهود السابق إذا وجد وها هنا قد وجد وهم الكفار الذين يجادلون في آيات الله.
قلنا: إنما نحكم بذلك الأصل ونرجع إليه عند ثبوت العهدية، ووجود ما يدل عليها، ولا دليل هنا، بل الدليل قائم على خلافه، وهو كثرة الآيات الفاصلة بينما تدعونه مرجعاً، وبين لفظ الظالمين وقرب قوله تعالى: {الْيَوْمَ تُجْزَى كُلُّ نَفْسٍ بِمَا كَسَبَتْ }[غافر:17] منه، وهو عام لكل مكلف قوله: {وَأَنذِرْهُمْ يَوْمَ الآزِفَةِ }[غافر:18] والمراد من ذلك كله زجرهم وتحذيرهم من أنواع الظلم الشاملة لكل معصية، فقد تضمنت الآيات أنواعاً من الزجر والتحذير، منها الإخبار بأن كل مكلف يجزى بما كسب، ومنها إنذارهم ذلك اليوم، والمراد أهواله، وشدائده، ومنها نفي حصول النفع من الحميم والشفيع، وحمل المعنى على ما يوافق قرائن هذه اللفظة أولى من حمله على ما يجعلها أجنبية عنها، بل هو الواجب.
الاعتراض الرابع: المراد ليس لهم شفيع في دار الدنيا من استحقاق العذاب، وذلك لا يمنع من وقوع شفيع في الآخرة في إسقاطه.
والجواب من وجهين:
أحدهما: أن اللفظ عام فيحمل على الحال والمآل لأنه يحتملها، ولهذا يصح التصريح بهما واستثناء أحدهما.
ثانيهما: إن قبلها وأنذرهم يوم الآزفة ويوم الآزفة هو يوم القيامة كما قال مجاهد وابن زيد، وهذا يمنع حمل نفي الشفاعة في دار الدنيا، فإن قيل: لا نسلم أن يوم الآزفة يوم القيامة بل هو يوم المنية وحصول الأجل كما قال أبو مسلم وغيره.
قلنا: ممنوع لقوله تعالى في صفة القيامة: {أَزِفَتِ الآزِفَةُ ، لَيْسَ لَهَا مِنْ دُونِ اللَّهِ كَاشِفَةٌ}[النجم:57،58] على أن في حمله على ذلك بعد؛ لأن نفي شفاعة الشفيع عند حلول الأجل وانتزاع الروح مما يستوي فيه التقي والشقي فلا يكون لتخصيص الظالمين بالذكر فائدة، سلمنا فالمراد تحذير المكلف من أن يموت متلبساً بالظلم وبيان أنه إن مات على ذلك لا تنفعه شفاعة شافع في دفع الجزاء المستحق على الظلم وهو الخلود في النار.
الاعتراض الخامس: أن لفظ الظالمين وإن أفاد الاستغراق، فالمراد مجموعه وجملتهم لا كل فرد، ونحن نقول بالموجب، وهو أنه لا شفاعة لهذا المجموع؛ لأن بعضه وهم الكفار ليس لهم شفيع، فحينئذ يصدق ظاهر الآية وهو أنه ليس لهذا المجموع شفيع، ولا يلزم منه نفيها عن كل فرد.
والجواب: أن دلالة العموم كلية أي محكوم فيها علىكل فرد، فلا فرق بين المفرد والجمع، وقد مر القول في ذلك في الأولى من مسائل: {الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ }[الفاتحة:2] وفي الخامسة عشرة منها.
الاعتراض السادس: أن قوله: {مَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ حَمِيمٍ وَلاَ شَفِيعٍ يُطَاعُ}[غافر:18] نقيض لقولنا للظالمين حميم وشفيع، وهذه موجبة كلية، ونقيض الموجبة الكلية سالبة جزئية، فيجب في الآية أن تكون سالبة جزئية لأنها نقيض لموجبة كلية وهي قولنا للظالمين حميم وشفيع، والسالبة الجزئية يكفي في صدقها تحقق السلب عن البعض، ونحن نقول بالموجب وهو أن بعض الظالمين لا شفيع لهم وهم الكفار.
والجواب: أن هذا الاعتراض مؤسس على قاعدتين متقاربتي المعنى. ذكرهما المناطقة وبعض علماء العربية، ولا بد من الإشارة إلى بيان تلك القاعدتين ليتضح الجواب ويتقرر على مقتضاهما، فنقول: أما المناطقة فهم يقولون إن نقيض الموجبة الكلية سالبة جزئية.
قال المعترض: وأما بعض علماء العربية فمنهم من قال المسند إليه المسوِّر بكل إذا قدم على المسند المنفي نحو كل إنسان لم يقم أفاد عموم السلب أي نفي الحكم عن كل فرد، وإن أخر عنه نحو لم يقم كل إنسان أفاد سلب العموم، وسلب العموم مقتضٍ لثبوت الحكم للبعض، وهذا مروي عن جماعة منهم ابن مالك.
قالوا: وفي حكم المسور كل ما يجري مجراه في إفادة العموم لجميع الأفراد كأل الاستغراقية، وسائر صيغ العموم نحو الرجال لم يقوموا، ولم يقم الرجال، ومنهم من قال: إن وقع لفظ كل في حيز النفي كان النفي موجهاً إلى العموم خاصة لا إلى أصل الحكم، ويفيد بمفهومه ثبوت الحكم لبعض الأفراد، والقضية حينئذ سالبة جزئية لأن المنفي هو العموم فلا ينافي ثبوت الحكم للبعض، وسواء وقعت في حيز النفي لفظاً نحو: ما جاء كل القوم، ولم آخذ كل الدراهم، أوتقديراً نحو: كل الدراهم لم آخذ، وإن وقع النفي في حيزها اقتضى عموم السلب أي نفي الحكم عن كل فرد، والقضية حينئذ سالبة كلية كقوله صلى الله عليه وآله وسلم -لما قال له ذو اليدين: أنسيت أم قصرت الصلاة-: ((كل ذلك لم يكن )) وقول أبي النجم:
قد أصبحت أم الخيار تدعي .... علي ديناً كله لم أصنع
برفع كل، وهذا قول عبد القاهر، واختاره ابن هشام في المغني، ورواه عن البيانيين وهو قول صاحب الفصول، وهذا حاصل معنى القاعدتين، وإذا عرفت معناهما فلنذكر الجواب على هذا الاعتراض على مقتضى كل واحدة منهما فنقول: أما على ما ذكره المناطقة فلنا عنه جوابان: جملي، وتفصيلي.
أما الجملي فهو: أن القرآن عربي والواجب تخريجه وتوجيه الاستدلال به على اللغة العربية لا على القواعد الفلسفية والمنطق من علوم الفلاسفة التي قصدوا بها هدم معالم الدين، والقدح في شرائع النبيين، وإطفاء نور الله، ويأبى الله إلا أن يتم نوره ولو كره الكافرون، وقد مر في المقدمة ذكر المفاسد اللازمة من هذا الفن، وبيان قبحه والاستغناء عنه في تقرير القواعد الدينية.
وأما التفصيلي: فلا شك أنهم يقولون إن بعض الموجبة الكلية ثابتة جزئية، ومرادهم بالموجبة الكلية ما سورت بكل أو نحوه نحو: كل إنسان حيوان، نقيضه بعض الإنسان ليس بحيوان، قالوا: فإن عريت عن السور سميت مهملة نحو الإنسان حيوان، ونقيضها سالبة مثلها نحو: الإنسان ليس بحيوان، وتقسيم القضية إلى موجبة كلية ومهملة إنما هو باعتبار الموضوع فإن دخل عليه ما يفيد بيان كمية أفراده وحصرها والإحاطة بها سميت موجبة كلية، وإن عري عن ذلك وكان كلياً كالإنسان والشفيع سميت مهملة، إذا عرفت ذلك فقول المعترض أن قولنا للظالمين حميم وشفيع موجبة كلية باطل، بل هي مهملة لخلو موضعها وهو حميم وشفيع عن السور، والحكم في المهملة على أفراد الموضوع أي ما صدق عليه حميم وشفيع للظالمين يطاع، واختلف في نقيضها ما هو؟ فمنهم من قال: إن نقيضها إنما هو بحسب الكيف أي الإيجاب والسلب بأن تبدله إن كان إيجاباً بسلب والعكس كما في الآية فإن قوله تعالى: {مَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ حَمِيمٍ وَلاَ شَفِيعٍ يُطَاعُ}[غافر:18] نقيض لقولنا للظالمين حميم وشفيع، والمعنى أن ما صدق عليه أنه حميم وشفيع من الأفراد لا يكون للظالمين، وهذا نص في نفي الشفاعة لكل ظالم؛ لأن قوله حميم وشفيع متناول لكل فرد لوقوعه في سياق النفي المؤكد بمن، ولتناوله ما صدق عليه كما مر، و(أل) في الظالمين للعموم، ودلالة الجمع المعرف كلية كما مر، ومنهم من قال: بل نقيضها سالبة كلية؛ لأن المهملة الموجبة في قوة الموجبة الجزئية ونقيض الموجبة الجزئية نحو الإنسان حيوان سالبة كلية، وهو لا شيء من الإنسان بحيوان، والآية من هذا القبيل فإن نقيض قولنا للظالمين حميم وشفيع قوله تعالى: {مَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ حَمِيمٍ وَلاَ شَفِيعٍ يُطَاعُ}[غافر:18] وهو سالبة كلية؛ لأنه نكرة في سياق النفي، وقد نص على ذلك بعض المحققين، أي نص على أن النكرة المنفية إذا عمت نحو لم يقم إنسان سالبة كلية لا مهملة لأن
الحكم فيها مسلوب عن كل واحد من الأفراد، وكذلك في الآية الحكم وهو متعلق الخبر مسلوب عن كل واحد من أفراد الحميم والشفيع،والمعنى ليس فرد من أفراد من يصدق عليه أنه حميم أو شفيع نافع أو حاصل للظالمين، سلمنا أن النكرة المنفية ليست سالبة كلية بل سالبة مهملة، فالقائلون بذلك يقولون إنها في قوة السالبة الكلية المقتضية للنفي عن كل فرد لورود موضوعها في سياق النفي، وفي هذا مطلوبنا، وبما قررنا تعرف أن الآية حجة لنا لا علينا، وبطلان اعتراض المعترض، وأنه بناه على غير أساس، وأخرجه عن قواعد أهل هذا الفن جهلاً أو تجاهلاً، والذي يظهر منه المغالطة لأن الظاهر أنه العلامة الرازي فإنه ذكره في تفسيره وهو لا يجهل قواعد المنطق لكنه كثير المغالطة والتمويه، وتوضيح مغالطته على ما يفيده كلامه: أنه جعل (أل) الاستغراقية في الظالمين بمعنى كل في إفادة كون القضية مسورة، وحكم بأن قولنا للظالمين حميم موجبة كلية، والآية سالبة جزئية نقيضة لتلك بناء على القاعدة وهي أن نقيض الموجبة الكلية سالبة جزئية، ورتب على هذا جعل السلب عن بعض الظالمين، وهذه مغالطة ظاهرة لما عرفناك من أن وصف القضية بأنها موجبة كلية أو نحوه لا يكون إلا باعتبار الموضوع وهو قد جعله باعتبار المحمول.
وأما ما ذكره بعض أهل العربية فلا يصح بناء الاعتراض عليه، أما الأولون فلأن كلامهم مبني على ما إذا دخل حرف النفي على صيغة العموم، أو تأخر عنها وكانت الصيغة داخلة على المسند إليه، فقالوا في هذا إذا تأخر كل أو نحوه أفاد سلب العموم المقتضي لثبوت الحكم للبعض كما مر، وفي الآية صيغة العموم داخلة على المسند وهي للظالمين، لا يقال بل حرف النفي داخل على المسند إليه وهو حميم وشفيع وهما نكرة والنكرة في سياق النفي للعموم، وقد تأخرت عن حرف السلب فتفيد سلب عموم الحميم والشفيع للظالمين أي نفعهما، وذلك يقتضي ثبوت نفع بعض من يطلق عليه هذين اللفظين للظالمين، والمراد من الظالمين بعضهم وهم عصاة الأمة للإجماع على خروج الكافر؛ لأنا نقول لم تتأخر هنا صيغة العموم على النفي لأن النكرة ليست صيغة العموم، بل النفي هو صيغة عموم النكرة.
قال السبكي: أما مالم يقم إنسان فلا يقال تأخرت فيه صيغة العموم وهي النكرة عن النفي لأن النفي هو صيغة عموم النكرة، وأيضاً فإنهم لم يحتجوا على أن تأخير كل ونحوه عن حرف السلب يفيد سلب العموم إلا بأن السالبة المهملة عن السور نحو لم يقم إنسان في قوة السالبة الكلية، نحو: لا شيء من الإنسان بقائم، ومعنى أنها في قوتها أنها تقتضي نفي الحكم عن كل فرد لورود موضعها نكرة في سياق النفي، قالوا: فإذا كان لم يقم إنسان بدون كل معناه نفي القيام عن كل فرد وجب أن يكون عند دخول لفظ كل أو ما في معناه لسلب العموم عن الجملة؛ إذ لو كان للنفي عن كل فرد لم يحصل بدخول كل إلا تأكيد المعنى الحاصل قبل دخولها، بخلاف ما إذا أفاد الكلام معها نفي الحكم عن الجملة لا عن كل فرد فهو لإفادة معنى لم يحصل، فيكون تأسيساً وهو أرجح من التأكيد، وهذا تصريح منهم بأن النكرة في سياق النفي تقتضي نفي الحكم عن كل فرد، وأنهم لا يجعلون النكرة بعد النفي لسلب العموم فلا يمكن بناء المعترض اعتراضه على كلامهم، ولا تخريجة للآية على قاعدتهم.
وأما كلام عبد القاهر ومن وافقه فيقال: لا نسلم ثبوت دعواهم فإنه قد يتوجه النفي عند وقوع كل ونحوه في حيزه لعموم النفي نحو: {وَاللَّهُ لاَ يُحِبُّ كُلَّ مُخْتَالٍ فَخُورٍ } [الحديد:23]، {وَاللَّهُ لاَ يُحِبُّ كُلَّ كَفَّارٍ أَثِيمٍ } [البقرة:71] {وَلاَ تُطِعْ كُلَّ حَلاَّفٍ مَهِينٍ }[القلم:10] {وَاللَّهُ لاَ يُحِبُّ الْفَسَادَ }[البقرة:205]، والمراد قطعاً نفي محبة كل فرد وكل فساد، والنهي عن طاعة كل حلاف مهين، لا نفي محبة بعض هؤلاء والنهي عن طاعة بعضهم دون كل فرد.
سلمنا فقد صرح في الفصول بأن ذلك خاص بكل، وهو ظاهر كلام ابن هشام وروايته عن البيانيين، سلمنا فكلامهم فيما إذا تأخرت صيغة العموم عن النفي، وفي الآية ليس كذلك لما مر إذ المتأخر النكرة، فإن قيل: يمكن تخريج الآية على ما ذكره عبد القاهر لأنه لم يشترط دخول النفي على المسند إليه، بل يكفي دخولها على أداة العموم، سواء كان المصحوب بالأداة مسنداً إليه أم لا، فيقال: قد دخلت ما على الظالمين و(أل) فيه للعموم، فيكون المعنى ما لكل ظالمين من حميم ولا شفيع، وهذا يقتضي ثبوتهما لبعض الظالمين على ما قرره، فالجواب من وجوه:
أحدها: أنا لا نسلم هذه الدعوى كما مر.
الثاني: أن هذا الحكم خاص بلفظ كل على ما اختاره صاحب الفصول وابن هشام، وهو الظاهر من كلام عبد القاهر المحكي في التلخيص وشروحه، ويؤيده رواية ابن هشام عن البيانيين، وهذا هو الذي ينبغي الاعتماد عليه في نقل هذا المعنى عن البيانيين لظاهر إطلاق أهل العربية والأصول فإنهم يطلقون كون (أل) للعموم، ولم يفصلوا بين أن يتقدمها نفي أو لا، وهم حجة في فنهم؛ ولأن من استقرأ الكتاب والسنة علم عدم الفرق، وأن ما ذهب إليه السائل لا يصح عقلاً ولا لغة قال الله تعالى: {وَاللَّهُ لاَ يُحِبُّ الْفَسَادَ }[البقرة:205] وقال تعالى: {وَلاَ تَقْتُلُوا النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إِلاَّ بِالْحَقِّ }[الأنعام:151] ولم يقل أحد أن الآية تقتضي جواز قتل بعض الأنفس التي حرم الله بغير حق، وقال: {وَمَا اللَّهُ يُرِيدُ ظُلْماً لِلْعِبَادِ }[غافر:31] ولا يجوز أن يقال أنه يريد ظلماً لبعضهم، ومثلها: {وَمَا رَبُّكَ بِظَلاَّمٍ لِلْعَبِيدِ }[فصلت:46] وقال تعالى: {وَلاَ تُسْرِفُوا إِنَّهُ لاَ يُحِبُّ الْمُسْرِفِينَ }[الأعراف:31] {فَلاَ يُسْرِفْ فِي الْقَتْلِ }[الإسراء:33] {إِنَّ اللَّهَ لاَ يَرْضَى عَنِ الْقَوْمِ الْفَاسِقِينَ }[التوبة:96] {وَلاَ يَرْضَى لِعِبَادِهِ الْكُفْرَ }[الزمر:7] وغير ذلك كثير مما علم فيه أنه لا يجوز إثبات الحكم لبعض المنفي عنهم.
الثالث: ثبوت الحكم لبعض الأفراد ليس قطعياً عند القائل به؛ لأن سلب العموم يصدق بعموم السلب، وذلك لأن عدم ثبوت الحكم لكل الأفراد كما يصدق بثبوته للبعض يصدق بنفيه عن كل فرد، وإذا كان سلب العموم يحصل بالحمل على عموم السلب كالعكس والكلام محتمل لهما، وجب الحمل على عموم السلب؛ لأنه أكثر فائدة وموافق لأصل الوضع.
الرابع: أنه لوثبت ما قاله السائل، فدلالة الآية على ثبوت الشفاعة لبعض الظالمين إنما هي عند هذا القائل بمهفوم الخطاب ودلالته ضعيفة، وبعضهم منعها، ولو صحت فلا يعول عليها إلا عند عدم المعارض وهو هنا موجود منه ما تقدم وما سيأتي من أدلة اختصاص الشفاعة بصالح المؤمنين ونفيها عن أهل الكبائر، ومنه الأدلة على خلود أهل الكبائر في النار، على أن لنا أن نقول بموجب دلالة هذا، ويجعل البعض الذين ثبتت لهم الشفاعة هم أهل الصغائر، ومرتكب الصغيرة يسمى ظالماً كما مر في قصة آدم، أو من ارتكب كبيرة ثم تاب عنها.
واعلم: أن دلالة هذه الآية على ما ذهب إليه أئمتنا وشيعتهم من نفي الشفاعة لأهل الكبائر من هذه الأمة قوية صريحة، وما أبداه الخصوم من التشكيك في دلالتها ضعيف لا يقوى على معارضتها، ولا على القدح في صراحتها كما عرفناك في الجواب على ذلك، وأقوى ما يشككون به تخريج الآية على القاعدة التي ذكرها عبد القاهر، وقد عرفت ما فيها، وأنها لو صحت في بعض صيغ العموم فالمحلى بالألف واللام خارج منها للقطع بالعموم المتناول لكل فرد في مواضع كثيرة من كتاب الله تعالى كما في الآيات السابقة، فيجب رد ما فيه احتمال إلى المعلوم لوجوب رد المتشابه إلى المحكم، والمجمل إلى المبين، والمظنون إلى المعلوم، ولقد تتبعت آيات من كتاب الله كثيرة وكلها لا يمكن تخريجها على تلك القاعدة، ولعلها تبلغ مائة موضع أو تزيد، ومع ذلك إني لم أجد آية يجب تخريجها على هذه القاعدة، ولا يترجح على مقابله، بل غاية ما يوجد من ذلك مجرد الاحتمال فقط وهو في غاية القلة.
نعم بقي للخصم أن يقول الآية عامة وأدلة ثبوت الشفاعة لأهل الكبائر خاصة وبناء العام على الخاص واجب، وتكون الآية مخصوصة بتلك الأدلة.
وجوابه: أنا لا نسلم ثبوت تلك الأدلة فانتفى التخصيص.
الحجة الحادية عشرة: قوله تعالى في الملائكة: {وَلاَ يَشْفَعُونَ إِلاَّ لِمَنِ ارْتَضَى }[الأنبياء:28] ومثلها قوله تعالى: {وَكَمْ مِنْ مَلَكٍ فِي السَّمَاوَاتِ لاَ تُغْنِي شَفَاعَتُهُمْ شَيْئاً إِلاَّ مِنْ بَعْدِ أَنْ يَأْذَنَ اللَّهُ لِمَنْ يَشَاءُ وَيَرْضَى}[النجم:26] والفاسق ليس بمرتضى فلا تجوز شفاعتهم له، وإذا لم تجز من الملائكة لم تجز من الأنبياء؛ إذ لا قائل بالفرق، واعترض من وجوه:
أحدها: أن الفاسق مرتضى عند الله لإيمانه فهو داخل فيها لأن من صدق عليه أنه مرتضى عند الله لأجل هذا الوصف صدق عليه أنه مرتضى عند الله؛ لأن قولنا مرتضى عند الله جزء من مفهوم قولنا مرتضى عند الله بحسب إيمانه، وإذا صدق المقيد صدق المطلق، ولأجل هذا جعلها الرازي حجة لهم.
والجواب: أن هذا مبني على أن الفاسق يسمى مؤمناً وهو باطل لما مر في قوله تعالى: {يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ }[البقرة: 3] وقوله: {وَمَا يُضِلُّ بِهِ إِلاَّ الْفَاسِقِينَ }[البقرة: 26] من تنافي اسم الإيمان والفسق، وإذا لم يكن مؤمناً فليس بمرتضى، لا يقال لا شك أن تعلقه بالشهادتين واعتقاده كون الشرائع حقاً مرضيان عند الله ومن رضى الله فعله فهو مرتضى عنده؛ لأنا نقول الرضى بالفعلٍ غير الرضى عن الفاعل كما مر عن الهادي في الثانية من مسائل قوله تعالى: {غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ }[الفاتحة:7] فلا يصح إطلاق الرضى عن الفاعل إلا إذا أكمل ما يجب عليه واجتنب الكبائر، ولو سلم أن الفاسق مرتضى بحسب فعله هذا فليس بمرتضى على الإطلاق، وإنما المرتضى على الإطلاق المؤمن الذي ليس بفاسق، وحينئذ يبطل قوله إذا صدق المقيد صدق المطلق، وقد قيل: إن الخصم يوافق على هذا، وإذا لم يكن مرتضى على الإطلاق لم تتناوله الآية.
الوجه الثاني: أنه يجوز حمل الآية على أن المراد من ارتضى الشفاعة له أي من ارتضاه أن يشفع؛ بدليل قوله تعالى: {مَنْ ذَا الَّذِي يَشْفَعُ عِنْدَهُ إِلاَّ بِإِذْنِهِ }[البقرة:255].
والجواب: أن الآية خارجة مخرج الترغيب في الطاعة والزجر عن المعصية، وهذا لا يتم إلا على قولنا كتاب الله يحمل على ما تحصل به فائدة، وإن حصلت فعلى ما يكون الفوائد معه أكثر، على أن ذلك الاحتمال خلاف الظاهر ولا موجب للتأويل.
الوجه الثالث: أنه قد ثبت في علم المنطق أن المهملتين لا يتناقضان فإنا إذا قلنا زيد عالم، زيد ليس بعالم لا يتناقضان لاحتمال صدقهما معاً بأن يقال هو عالم بالفقه وليس بعالم بالنحو، وكذلك يقال فيما نحن فيه: صاحب الكبيرة مرتضى، صاحب الكبيرة ليس بمرتضى لاحتمال أنه مرتضى بحسب دينه، ليس بمرتضى بحسب فسقه.
والجواب: أنه لا يجوز حمل كتاب الله على القواعد المنطقية، سلمنا فلا نسلم منعهم التناقض مع الاتحاد في الموضوع والمحمول، وها هنا قد اتحد فيهما، نعم فهم يمنعون ذلك إذا لم يتحدا في الإضافة بأن يختلفا فيها نحو: زيد أب أي لعمر، وزيد ليس بأب أي لبكر، ولعل المعترض أراد هذا وهو أنهما مختلفان في الإضافة فهو مرتضى بحسب دينه، ليس مرتضى بحسب فسقه، وهذا وهم لأنه لا دين للفاسق لأن الدين والإيمان بمعنى واحد، وقد مر أنه لا إيمان له فيجب أن لا دين له، وبه يرتفع الإشكال.
الوجه الرابع: قالوا: روي عن ابن عباس وغيره في قوله: {إِلاَّ لِمَنِ ارْتَضَى }[الأنبياء: 28] أي لمن قال لا إله إلا الله.
والجواب: إن صح ذلك فهو محمول على من قالها بحقها وهو الإتيان بالواجب واجتناب المحرم، وإلا لزم ثبوت الشفاعة للكفار اليهود لأنهم يقولونها، فإن قيل: خصصهم الدليل.
قلنا: فارضوا منا بمثله في الفاسق، ولنختم هذه الحجة بكلام للسيد محمد بن رشيد رضا ذكره في تفسيره المسمى بـ(المنار) والظاهر أنه منسوب إلى خصومنا ومعدود من علمائهم فيكون حجة عليهم، ولفظه أقول: إن مثل من يقترف السيئات معتمداً على العفو والشفاعة كمثل من يرتكب الجرائم في ملأ من الناس وعلى رؤوس الأشهاد، متعرضاً لقبض الشرطة عليه وسوقه إلى المحكمة لتحكم عليه بعقوبة الجريمة اعتماداً على أن الأمير أو السلطان قد يعفو عنه بعد الحكم عليه بالعقوبة، ومثل هذا لا يختلف اثنان في حمقه، والله تعالى قد بين لنا شرط نفع الأعمال الصالحة في مغفرة الذنوب وهو اقترانها بالتوبة الصحيحة كقوله في حكاية دعاء الملائكة للمؤمنين: {فَاغْفِرْ لِلَّذِينَ تَابُوا وَاتَّبَعُوا سَبِيلَكَ...}[غافر: 7] الآيات، وقوله: {وَمَنْ تَابَ وَعَمِلَ صَالِحاً فَإِنَّهُ يَتُوبُ إِلَى اللَّهِ مَتَاباً}[الفرقان: 71] وقوله: {وَإِنّي لَغَفَّارٌ لِمَنْ تَابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ صَالِحاً ثُمَّ اهْتَدَى}[طه:82] وأما الشفاعة فحسبك قوله فيها: {وَلاَ يَشْفَعُونَ إِلاَّ لِمَنِ ارْتَضَى }[الأنبياء:28] مع الجزم بأنه تعالى لا يرضى بالكذب، ولا بغيره من الجرائم.
الحجة الثانية عشرة: قوله تعالى: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَنفِقُوا مِمَّا رَزَقْنَاكُمْ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَ يَوْمٌ لاَ بَيْعٌ فِيهِ وَلاَ خُلَّةٌ وَلاَ شَفَاعَةٌ...}[البقرة:254] الآية، وهي نص صريح لأنها خارجة مخرج الزجر والتهديد على ترك هذا الإنفاق المأمور به، ولا شك أن هذا الإنفاق واجب وإلا لما وقع التحذير من تركه، وهذا الخطاب للمؤمنين صريحاً، وقد تضمن نفي الشفاعة لمن أخل بهذا الواجب، والإخلال به ليس بشرك ولا خروج عن الإسلام، بل معصية كبيرة، فثبت نفي وقوع الشفاعة لمن ارتكب كبيرة من الأمة؛ إذ لافرق بين كبيرة وكبيرة.
الحجة الثالثة عشرة: أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم جعل شفاعته مترتبة على فعل الطاعات.
قال في (العلوم): حد ثنا محمد، قال: حدثني أحمد بن عيسى، عن حسين، عن أبي خالد، عن زيد، عن آبائه، عن علي عليه السَّلام ، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم : ((ما من امرئ مسلم قام في جوف الليل إلى سواكه فاستن ثم تطهر فأسبغ الوضوء ثم قام إلى بيت من بيوت الله عز وجل إلا أتاه ملك فوضع فاه على فيه فلا يخرج من جوفه شيء إلا دخل في جوف الملك حتى يجيء به يوم القيامة شهيداً شفيعاً)) ورواه في المجموع.
وفي أمالي المرشد بالله: أخبرنا محمد بن محمد بن إبراهيم الجزار، قال: أخبرنا أبو بكر بن محمد بن عبد الله بن إبراهيم البزار ، ثنا أبو بكر عبد الله بن محمد بن أبي الدنيا، حد ثنا الفضل بن غانم ، ثنا عبد الملك بن هارون بن عنترة، عن أبيه عن جده، عن أبي الدرداء، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم : ((من حفظ على أمتي أربعين حديثاً من أمر دينها بعثه الله يوم القيامة فقيهاً وكنت له يوم القيامة شافعاً وشاهداً)).
وفي أمالي أبي طالب: أخبرنا ابن عدي، أنا عبد الله بن يحيى، ثنا علي بن حجر ، ثنا إسحاق بن بجيح، عن ابن جريج، عن عطاء، عن ابن عباس، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم : ((من حفظ على أمتي أربعين حديثاً من السنة كنت له شفيعاً يوم القيامة )) أخرجه ابن عدي.
وعن أبي سعيد عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم : ((من حفظ على أمتي أربعين حديثاً من سنتي أدخلته يوم القيامة في شفاعتي )) أخرجه ابن النجار، وهذا الحديث له طرق إلا أن بعضها ليس فيه ذكر الشفاعة، بل معناه أنه من حفظ على الأمة أربعين حديثاً بعث يوم القيامة فقيهاً.
قال النووي: قد روينا هذا الحديث عن علي وابن مسعود، ومعاذ بن جبل وأبي الدرداء، وابن عمر، وابن عباس، وأنس، وأبي هريرة، وأبي سعيد الخدري من طرق كثيرة، وروايات متبوعات، واتفق الحفاظ على أنه حديث ضعيف وإن كثرت طرقه.
وفي مختصر المقاصد الحسنة أنه ليس فيها طريق تسلم من العلة، وقال البيهقي عقب حديث أبي الدرداء: هذا متن مشهور فيما بين الناس، وليس له إسناد صحيح.
قلت: اتفاق الحفاظ على ضعفه لا يمنع من الاحتجاج به؛ لأن ضعفه إنما هو باعتبار عدم تكامل شروط الصحيح على قواعد أهل الأثر لأن ذلك الضعف منجبر بكثرة الطرق، وقد دل على هذا كلام البيهقي فإنه لم ينف إلا صحة السند لا صحة المتن وصلاحيته للاحتجاج به، ولهذا حكم بشهرته.
وفي أمالي المرشد بالله: أخبرنا أبو الطيب طاهر بن عبد الله إمام الشافعية بقراءتي عليه، ثنا أبو العباس أحمد بن محمد الأنماطي إملاء، أخبرنا أبو نعيم عبد الملك بن محمد الأستاذ آباذي، ثنا أبو توبة أحمد بن سالم العسقلاني، ثنا الحسين بن علي الجعفي، عن زائدة، عن عاصم، عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال: ((نعم الشفيع القرآن يوم القيامة يقول يا رب إنك جعلتني في جوفه فكنت أمنعه شهوته يا رب فأكرمه، قال فيكسى حلة الكرامة، قال فيقول يا رب زده فيرضى عنه فليس بعد رضاء الله شيء)).
وفيه أخبرنا أبو بكر بن ريذة قراءة عليه أخبرنا الطبراني، ثنا الديري، ثنا عبد الرزاق، ثنا معمر، عن يحيى بن أبي كثير، عن أبي سلمة، عن عبد الرحمن، عن أبي أمامة، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم : ((تعلموا القرآن فإنه شافع لأصحابه يوم القيامة ، تعلموا البقرة وآل عمران، تعلموا الزهراوين فإنهما يأتيان يوم القيامة كأنهما غمامتان أو غيايتان أو كأنهما فرقان من طير صواف يجادلان عن صاحبهما، تعلموا البقرة فإن تعلمها بركة، وإن تركها حسرة ولا تطيقها البطلة)) يعني بالبطلة السحرة.
وله عنده طريق أخرى عن ابن إسحاق إبراهيم بن طلحة بن غسان، عن أبي بكر أحمد بن محمد الأسفاطي، عن أبي خليفة الفضل بن الحباب الجمحي، عن مسلم، عن علي بن المبارك، عن يحيى بن أبي كثير، عن زيد بن سلام، عن جده، عن أبي أمامة. فذكره، وأخرجه مسلم عن الحسن بن علي الحلواني، عن أبي توبة الربيع بن نافع، عن معاوية بن سلام، عن زيد بن أبي سلام، عن أبي أمامة الباهلي، والغمامة والغياية باثنتين من أسفل فيهما: ما أظل الإنسان فوق رأسه من سحابة أو غيرها، والمراد أنهما كغمامتين، والفرقان بكسر الفاء وسكون الراء: القطعتان والجماعتان.
وقال الهادي في الأحكام: بلغنا عن زيد بن علي عن آبائه، عن علي عليه السَّلام أنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم : ((يأتي القرآن يوم القيامة وله لسان طلق ذلق قائلاً مصدقاً، وشفيعاً مشفعاً، فيقول يا رب جمعني فلان عبدك في جوفه فكان لا يعمل في بطاعتك ولا يجتنب في معصيتك، ولا يقيم في حدودك، قال فيقول: صدقت فتكون ظلمة بين عينيه وأخرى عن يمينه وأخرى عن شماله، وأخرى من خلفه تنتره هذه، وتدفعه هذه حتى يذهب به إلى أسفل درك من النار، قال ويأتي فيقول يا رب جمعني فلان عبدك في جوفه فكان يعمل في بطاعتك، ويجتنب في معصيتك، ويقيم فيّ حدودك، فيقول: صدقت فيكون له نوراً يسطع ما بين السماء والأرض حتى يدخل الجنة، ثم يقال: له اقرأ وارق فلك بكل حرف درجة في الجنة حتى تساوي النبيين والشهداء هكذا -وجمع بين المسبحة الوسطى-)).
وفي أمالي المرشد بالله: أخبرنا أبو طاهر بن عبد الرحيم بقراءتي عليه، ثنا ابن حبان، أخبرنا أبوبكر بن أبي عاصم، ثنا ابن عمار، ثنا الربيع بن بدر، ثنا الأعمش، عن شقيق، عن عبد الله، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم : ((القرآن شافع مشفع وماحل مصدق ، من جعله أمامه قاده إلى الجنة، ومن جعله خلفه ساقه إلى النار)) ورواه في الجامع الصغير، وقال: أخرجه ابن حبان، والبيهقي في الشعب عن جابر، والبيهقي فيها، والطبراني في الكبير عن ابن مسعود، قال الشيخ العزيزي: حديث صحيح.
قوله: وماحل: أي خصم مجادل، وقيل: ساع من قولهم محل بفلان إذا سعى به إلى السلطان، والمراد أنه مجادل عنه، أو ساع في رفع مرتبته إن كان مؤمناً، أو أنه يجادله بأن يخبر بتركه العمل به كما مر، ويسعى به إلى من يجازيه بقبيح فعله إن كان مجرماً. والله أعلم.
وفي أمالي المرشد بالله: عن أبي هريرة، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم : ((سورة في القرآن ثلاثون آية شفعت لأصحابها أو لصاحبها حتى غفر له تبارك الذي بيده الملك)) وأخرجه أحمد، وأبو داود، والترمذي، والنسائي، وابن ماجة، وابن الضريس، والحاكم وصححه، وابن مردويه، والبيهقي في الشعب.
وفي أمالي المرشد بالله عن أبي هريرة، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم : ((من قال اللهم صل على محمد وعلى آل محمد كما ترحمت على إبراهيم وعلى آل إبراهيم شهد له يوم القيامة بشهادة وشفعت له بشفاعة)).
وفيه أخبرنا ابن ريذة، أخبرنا الطبراني، ثنا الحسين بن إسحاق التستري وعبدان بن أحمد قالا: حد ثنا محمد بن مصفى، ثنا بقية بن الوليد، ثنا إسماعيل بن عبد الله الكندي، عن الأعمش، عن أبي وائل، عن عبد الله، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم في قوله: {فَيُوَفّيهِمْ أُجُورَهُمْ وَيَزِيدُهُمْ مِنْ فَضْلِهِ }[النساء:173] قال: ((أجورهم يدخلهم الجنة ، ويزيدهم من فضله: الشفاعة لمن وجبت له الشفاعة لمن صنع إليهم المعروف في الدنيا)) وأخرجه ابن المنذر، وابن أبي حاتم، والطبراني، وابن مردويه، وأبو نعيم في الحلية، والإسماعيلي في معجمه، قال السيوطي: بسند ضعيف.
وفي أمالي أبي طالب: أخبرنا أبي، ثنا حمزة ابن القاسم، أنا سعد بن عبد الله، عن هارون بن مسلم، عن مسعدة، عن الصادق، عن أبيه، عن آبائه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم : ((إن الله سبحانه يجمع فقراء هذه الأمة ومياسيرها في رحبة باب الجنة ثم يبعث منادياً فينادي من بطنان العرش: أيما رجل منكم وصله أخوه المؤمن في الله ولو بلقمة من خبز فليأخذ بيده على مهل حتى يدخله الجنة قال وهم أعرف بهم يومئذ منهم بآبائهم وأمهاتهم، فيجيء الرجل منهم حتى يضع يده على ذراع أخيه المكرم له الواصل له، فيقول: يا أخي أما تعرفني ألست الصانع بي كذا وكذا فيعرفه كل شيء صنعه به من البر والتحفة فقم معي، فيقول: إلى أين؟ فيقول: لأدخلك الجنة فإن الله عز وجل قد أذن لي في ذلك فينطلق به آخذاً بيده ولا يفارقه حتى يدخله الجنة بفضل رحمة الله عز وجل لهما ومنه عليهما)) وهو نص في أن شفاعة هؤلاء إنما تكون لمن وصلهم مؤمناً دون غيره، وإلا لما كان للتقيد بالأخ المؤمن فائدة، ويؤكده اشتراط كون تلك الصلة خالصة لوجه الله تعالى كما يدل عليه قوله (في الله).
وفي (أمالي المرشد بالله) أخبرنا ابن غسان، ثنا أبو الطيب، ثنا ابن مكرم، ثنا نصر بن علي، أخبرني أبي، ثنا الحسن بن أبي الحسناء، قال: سمعت أبا العالية البراء يقول: لما قتل الحسين بن علي أتى عبيد الله برأسه فأرسل إلى أبي برزه... الحديث، وفيه: قال عبيد الله: كيف ترى شأني وشأن الحسين بن علي يوم القيامة؟ قال: الله أعلم وما علمي بذلك، قال: إنما أسألك عن رأيك، قال: إن سألتني عن رأيي فإن حسيناً يشفع له يوم القيامة أبوه، ويشفع لك زياد... الخبر، وفيه دليل على أن المعروف عند الصحابة والمشهور فيما بينهم أن شفاعة النبي صلى الله عليه وآله وسلم لا تكون إلا للمطيعين دون العاصين؛ إذ الخلاف في من تكون له الشفاعة لم يقع يومئذ، وإنما كانوا في مسائل الأصول على دين واحد وعقيدة واحدة، وإنما ظهر الخلاف في زمن التابعين.
وفي الجامع الصغير عن علي مرفوعاً: ((شفاعتي لأمتي من أحب أهل بيتي )) أخرجه الخطيب، قال الشيخ العزيزي: حسن لغيره.
وفي أمالي المرشد (بالله عليه السَّلام ): أخبرنا ابن ريذة، أخبرنا الطبراني، ثنا محمد بن عبد الله الحضرمي، ثنا أبو كريب، ثنا عثمان بن سعيد، ثنا عمرو بن حفص، عن قيس بن مسلم، عن طارق بن شهاب، عن عبد الله أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال: ((ما من مسلم يقول حين يسمع النداء بالصلاة فيكبر ويشهد أن لا إله إلا الله ويشهد أن محمداً رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ثم يقول: اللهم أعط محمداً الوسيلة واجعل في الأعلين درجته، ومن المصطفين محبته، وفي المقربين ذكره إلا وجبت له الشفاعة يوم القيامة)).
وفي (أمالي المرشد بالله) أخبرنا ابن غيلان، أخبرنا أبو بكر الشافعي، ثنا إبراهيم بن الهيثم البلدي، ثنا علي بن عياش الحمصي، ثنا شعيب بن أبي حمزة، عن محمد بن المنكدر، عن جابر، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم : ((من قال حين يسمع النداء: اللهم رب هذه الدعوة التامة والصلاة القائمة آت محمداً الوسيلة والفضيلة وابعثه مقاماً محموداً الذي وعدته إلا حلت له الشفاعة يوم القيامة)) وأخرجه البخاري عن علي بن عياش بالسند المذكور، وأخرجه أبو داود عن أحمد بن حنبل، والترمذي عن محمد بن سهل وإبراهيم بن يعقوب، وأخرجه أيضاً النسائي عن عمرو بن منصور، وابن ماجة عن محمد بن يحيى والعباس بن الوليد، ومحمد بن أبي الحسين سبعتهم عن علي بن عياش، وعياش بفتح العين المهملة وتشديد الياء آخر الحروف بعدها ألف ثم شين معجمة، والحديث أخرجه أحمد والإسماعيلي، وقد توبع ابن المنكدر عليه عن جابر فأخرجه الطبراني في الأوسط عن أبي الزبير عن جابر نحوه.
وفي صحيح مسلم عن عبد الله بن عمرو بن العاص أنه سمع النبي صلى الله عليه وآله وسلم يقول: ((إذا سمعتم المؤذن فقولوا مثلما يقول ، ثم صلوا علي فإنه من صلى علي صلاة صلى الله عليه بها عشراً، ثم سلوا الله لي الوسيلة فإنها منزلة في الجنة لا تنبغي إلا لعبد من عباد الله وأرجو أن أكون أنا هو، فمن سأل الله لي الوسيلة حلت له الشفاعة)) وأخرجه أبو داود.
وفي أمالي أبي طالب أخبرنا ابو الحسين النجري، ثنا الحسين بن علي المصري، ثنا أحمد الأودي، ثنا ابن الحباب، ثنا موسى بن عبيدة، عن محمد بن عمرو، عن ابن عباس، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم : ((ما من عبد مؤمن يسأل الله لي الوسيلة في الدنيا إلا كنت له شهيداً أوشفيعاً يوم القيامة)).
وفيه أخبرنا أبو الحسين الحسيني، ثنا ابن مهرويه، ثنا داود الغازي، ثنا علي بن موسى الرضا، عن أبيه الكاظم، عن أبيه الصادق، عن أبيه الباقر، عن أبيه زين العابدين، عن أبيه الحسين، عن أبيه علي عليه السَّلام ، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم : ((ثلاثة أنا شفيع لهم يوم القيامة : الضارب بسيفه أمام ذريتي، والقاضي لهم حوائجهم عند ما اضطروا إليه، والمحب لهم بقلبه ولسانه)).
وعن النبي صلى الله عليه وآله وسلم من حديث طويل يخاطب علياً عليه السَّلام : ((إنك غداً على الحوض خليفتي تذود عنه المنافقين ، وأنت أول من يرد علي الحوض، وأنت أول داخل الجنة من أمتي، وإن شيعتك على منابر من نور راوين مرويين بيض وجوههم حولي أشفع لهم فيكونون في الجنة جيراني، وإن عدوك غداً ظلماء مظلمين مسودة وجوههم مفحمين)) وفيه: ((إن الله أمرني أن أبشرك أنك وعترتك في الجنة وأن عدوك في النار)) رواه الخوارزمي من طريق زيد بن علي عليه السَّلام .
وعن النبي صلى الله عليه وآله وسلم أنه قال: ((من زار قبري وجبت له شفاعتي )) رواه الهادي في الأحكام، وأخرجه ابن عدي، والبيهقي في الشعب عن ابن عمر، قال العزيزي: بإسناد ضعيف.
قلت: رواية الهادي عليه السَّلام تدفع ضعف إسنادهما.
وأخرج البيهقي في الشعب عن أنس عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم : ((من زارني بالمدينة محتسباً كنت له شهيداً وشفيعاً يوم القيامة )) قال العلقمي: بجانبه علامة الحسن.
وفي أمالي أبي طالب: أخبرنا أبو العباس، أنا الحسن القصري، ثنا فضالة بن محمد، ثنا سليمان بن الربيع، عن كادح، عن موسى بن وحية، عن زيد بن علي، عن أبيه، عن جده، عن علي عليه السَّلام ، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم : ((إن أقربكم مني غداً وأوجبكم علي شفاعة أصدقكم لساناً وأداكم لأمانته، وأحسنكم خلقاً، وأقربكم من الناس......)).
وعن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أنه كان يقول: ((أنا شفيع لكل أخوين تآخيا في الله من مبعثي إلى يوم القيامة))رواه الهادي.
وهذا القدر كاف إذ الاستقصاء متعذر، والتطويل بالزيادة يخرجنا عن المقصود، والمراد التنبيه والدلالة على كثرة الأحاديث في هذا المعنى، أعني كون الشفاعة مترتبة على حصول الطاعة.
قال النووي: وكم من حديث صحيح جاء في ترغيب المؤمنين الكاملين بوعدهم بشفاعة النبي صلى الله عليه وآله وسلم .
قلت: ومجموع تلك الأحاديث مع كثرتها تفيد تواتر القدر المشترك وهو أنه لا شفاعة إلا للمطيعين، وإلا لم يكن للترغيب في تلك الأسباب فائدة، وليس للخصم أن يقول تلك الخصال من أسباب الشفاعة ولو كان فاعلها من أهل الكبائر كما يفيده الظاهر؛ لأنا نقول الكبائر محبطة للأعمال كما مر، وإذا كانت هذه الخصال قد بطلت وحبطت فكيف تؤثر في استحقاق فاعلها الشفاعة إذ لا معنى لإحباطها إلا بطلان ما يترتب عليها من الثواب والسلامة من العقاب وسائر وجوه النفع، على أن هذا خلاف مذهب الخصم فإن عنده أن الشفاعة لأهل الكبائر ثابتة ولا يتوقف ثبوتها على سبب غير الإسلام، فإن قيل: يجوز حمل الشفاعة المترتبة على فعل الطاعة على بعض الشفاعات الكائنة في ذلك اليوم فإن للنبي صلى الله عليه وآله وسلم شفاعات متعددة منها ما يختص به أهل الكبائر وذلك في العفو عنهم قبل دخولهم النار أو بعده، ومنها لكامل الإيمان في تخفيف الحساب وزيادة الدرجات ونحو ذلك، فلا مانع من حمل هذه الشفاعات على زيادة الدرجات للمؤمنين الفاعلين لشيء من تلك الأسباب أو تخفيف حسابهم، وحينئذ فلا تعارض بينها وبين الشفاعة العظمى الكائنة لأهل الكبائر.
قيل: هذا الاحتمال خلاف الظاهر، ولا دليل يوجب المصير إليه، مع أن ما ذكرناه من الأحاديث هنا عامة لأنواع الشفاعة كما لا يخفى، وحينئذ يتحقق التعارض ويرجع إلى الجمع أو الترجيح بينها وبين: ((شفاعتي لأهل الكبائر من أمتي )) فأما طريقة الجمع فبتأويل هذا الحديث بالحمل على التائبين كما سيأتي، وأما طريقة الترجيح فنقول: أحاديث توقف الشفاعة على الطاعة في الجملة أكثر وأوضح وأصرح، وذلك آحادي وفي طرقه مقال، وتأويله بما ذكرنا قريب ولا بعد فيه ولا تعسف، لا سيما مع ما سيأتي من التنصيص على منع الشفاعة لمرتكب بعض المعاصي. والله أعلم.
الحجة الرابعة عشرة: نص النبي صلى الله عليه وآله وسلم على أن في المعاصي ما يحرم مرتكبها شفاعة النبي صلى الله عليه وآله وسلم ، وفي ذلك أخبار كثيرة يكاد حصرها واستيفاؤها يلحق بالمتعذر، لكنا نذكر شطراً منها، والقليل يدل على الكثير، والإشارة تكفي اللبيب الخبير، فمن ذلك ما رواه المرشد بالله في الأمالي قال: أخبرنا أبو القاسم عبد العزيز بن علي الأوجي، أخبرنا أبو القاسم عمر بن محمد بن سبنك، أخبرنا أبو الحسين عمر بن الحسين الأشناني، ثنا أبو بكر محمد بن زكريا المروروذي، ثنا موسى بن إبراهيم المروزي الأعور، ثني موسى بن جعفر عن أبيه جعفر، عن أبيه محمد، عن أبيه علي بن الحسين، عن أبيه علي عليه السَّلام ، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم :((لا نالت شفاعتي من لم يخلفني في عترتي أهل بيتي )).
وبإسناده عن علي عليه السَّلام ، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم : ((ويل لأعداء أهل بيتي المستأثرين عليهم لا نالتهم شفاعتي ولا رأوا جنة ربي)).
وفيه أخبرنا محمد بن علي الكفوف، أخبرنا ابن حيان، ثنا الحسن بن محمد بن أبي هريرة، ثنا عبد الله بن عبد الوهاب، ثنا محمد بن الحرث القرشي، ثنا محمد بن جابر، ثنا حبيب بن الشهيد، عن عطاء بن أبي رباح، عن ابن عباس رضي الله عنه، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم : ((من سره أن يحيى حياتي ويموت ميتتي ويدخل جنة عدن التي غرسها ربي عز وجل بيده فليتول علي بن أبي طالب وأوصياه فهم الأولياء والأئمة من بعدي أعطاهم الله علمي وفهمي، وهم عترتي من لحمي ودمي، إلى الله عز وجل أشكو من ظالمهم من أمتي والله لتقتلنهم أمتي لا نالهم الله عز وجل شفاعتي)).
وعن أنس عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم : ((أحبوا أهل بيتي وأحبوا علياً من أبغض أحداً من أهل بيتي فقد حرم شفاعتي)) أخرجه ابن عدي في الكامل.
وعن عثمان عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم : ((من غش العرب لم يدخل في شفاعتي ولم تنله مودتي )) أخرجه أحمد والترمذي.
وأخرج الخوارزمي في حديث ذكره عن ابن عباس: أن جبريل كلم علياً عليه السَّلام وهو في صورة دحية ورأس رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم في حجره فمما قال له: خاب وخسر من تحلاك بحب محمد أحبوك وببغضك لم تنلهم شفاعة محمد صلى الله عليه وآله وسلم ...)) الخبر.
وعن ابن عباس عن النبيِّ صلى الله عليه وآله وسلم : ((من سره أن يحيا حياتي ويموت مماتي ويسكن جنة عدن التي غرسها ربي فليوال علياً من بعدي، وليوال وليه، وليقتد بأهل بيتي من بعدي فإنهم عترتي خلقوا من طينتي ورزقوا فهمي وعلمي، فويل للمكذبين بفضلهم من أمتي القاطعين فيهم صلتي لا نالهم الله شفاعتي)) أخرجه أبو نعيم في الحلية والرافعي.
وعن علي عليه السَّلام عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم : ((من آذاني في أهل بيتي فقد آذى الله ، ومن أعان على أذاهم فقد آذن بحرب من الله، ولا نصيب له في شفاعتي)) رواه إسحاق بن يوسف من طريق الأصبغ.
قلت: وله شواهد لفظية ومعنوية كحديث: ((من آذى علياً فقد آذاني )) أخرجه أحمد، والبخاري في التاريخ، والحاكم عن عمرو بن شاس، قال العزيزي: وهو حديث صحيح.
وحديث: ((من آذى شعرة مني فقد آذاني ، ومن آذاني فقد آذى الله)) أخرجه ابن عساكر عن علي.
وكقوله: (( أنا حرب لمن حاربهم وسلم لمن سالمهم )).
والأحاديث في تحريم أذيتهم والانتهاك لحرمهم ووجوب تعظيمهم كثيرة، وفي كثير منها التصريح بالوعيد الشديد لمن لم يوف العترة حقهم، وذلك ينافي كونه من أهل الشفاعة.
وفي صحيفة علي بن موسى الرضا عليه السَّلام في حديث السماء أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال في الحسين عليه السَّلام : ((تقتلك الفئة الباغية من بعدي لا نالهم الله شفاعتي)).
وأخرج الطبراني في الكبير عن أبي أمامة عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم : ((صنفان من أمتي لا تنالهما شفاعتي إمام ظلوم غشوم، وكل غال مارق)). قال العزيزي: بإسناد صحيح.
وعنه صلى الله عليه وآله وسلم : ((صنفان من أمتي لا تنالهما شفاعتي يوم القيامة: المرجئة، والقدرية)) أخرجه أبو نعيم في الحلية عن أنس، والطبراني في الأوسط عن واثلة وجابر.
قال العزيزي: وإسناده ضعيف لكن ينجبر بتعدد الطرق.
وفي أمالي المرشد بالله: أخبرنا أبو القاسم عبد السلام بن الحسن البزار، أخبرنا أبو الفضل محمد بن عبد الله الشيباني، ثنا إبراهيم بن عبد الصمد الهاشمي، ثني أبي عن أبيه موسى بن محمد، قال: سمعت جعفر بن محمد يحدث عن أبيه، عن جده الحسين بن علي، عن علي عليه السَّلام ، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم : ((عفوا تعف نساؤكم ، وبروا بآبائكم تبركم أبناؤكم، واقبلوا من المتنصل محقاً كان أم مبطلاً فمن لم يقبل من المتنصل عذره فلا نالته شفاعتي، أو قال فلا ورد علي الحوض)).
وفي العلوم: أنا محمد، ثني أحمد بن صبيح، عن حسين، عن أبي خالد، عن زيد، عن آبائه، عن علي عليه السَّلام قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يقول: (( ثلاثة لا نالتهم شفاعتي : ناكح البهيمة، ولاوي الصدقة، والمنكح من الذكور مثل ما تنكح النساء)).
ولنقتصر على هذا القدر، وفيه وفيما ما معناه دلالة صريحة على منع الشفاعة لأهل الكبائر؛ لأنه إذا قد ثبت منعها لبعضهم ثبت للباقي؛ إذ لا فرق ولأن الخصم يدعي التعميم، وهذا يدفعه، [ولأن مجموعها] يدل على تواتر القدر المشترك وهو أن الشفاعة ليست لأهل الكبائر، وحديث: ((شفاعتي لأهل الكبائر ...)) لا يقوى على معارضتها لكثرتها، ولما فيه من المقال والاحتمال.
الحجة الخامسة عشرة: الآيات والأخبار المتضمنة لخلود من دخل النار وهي عامة لهذه الأمة وغيرها، وبعضها خاص بالأمة، فلو قيل بخروجهم بالشفاعة لتناقضت حجج الله وذلك باطل، فيجب بطلان ما يؤدي إليه وهو القول بالشفاعة لمن دخلها، لا سيما وأدلة الخلود قطعية، ودليل الخصم ظني متناً ودلالة، والظني لا يعارض القطعي، لا يقال: دليل الخلود عام ودليل الخروج بالشفاعة خاص والخاص مقدم على العام؛ لأنا نقول ذلك مبني على جواز تخصيص القطعي بالظني وهو ممنوع، سلمنا فذلك في غير ما المطلوب فيه العلم، سلمنا فمع عدم المانع والمعارض للخاص، وفيما نحن فيه الخاص معارض بأحاديث نفي الشفاعة لأهل الكبائر، وقد مر شطر منها قريباً.
الحجة السادسة عشرة: إجماع المسلمين على حسن الدعاء بقولنا اللهم اجعلنا ممن يستحق الشفاعة، ولو كانت الشفاعة لأهل الكبائر لكان معنى الدعاء اللهم اجعلنا من أهل الكبائر، ولا خلاف أنه يقبح الدعاء بما هذا حاله، فإن قيل: هو مشروط بوقوع المعصية والمعنى اللهم اجعلني من أهل الشفاعة إن مت مصراً على كبيرة، ونظيره قولهم اللهم اجعلني من التوابين فإنه مشروط بكونهم مذنبين، والمعنى اللهم وفقني للتوبة إن أذنبت، وليس معناه طلب الذنب ليتوبوا.
قيل: لا يجب من تقدير الشرط في سؤال التوبة تقديره في سؤال الشفاعة؛ لأن الأول أدى إليه الدليل وهو أنه لا توبة إلا من ذنب، ولا دليل على أنه لا شفاعة إلا لصاحب كبيرة، فلا يلزم هذا التقدير في سؤال الشفاعة، وأيضاً التوبة والاستغفار تحسن سواء كان هناك معصية أم لا، ولهذا كان النبي صلى الله عليه وآله وسلم يستغفر كثيراً.
قال القرشي: هذا إذا لم يكن المراد اللهم اجعلنا ممن يفعل فعل التوابين.
قال الإمام عز الدين: يعني من العاملين أعمال التوابين المخلصين، المنزجرين عن المحرمات، القائمين بالواجبات.
قال الفقيه حميد: ويكون المراد من التوابين مما يعرض في خلال الطاعات والمناجاة من قبائح لا يكاد يسلم أحد عنها من قبيل التقصير؛ لأن أحدنا لا يفارق القبيح في كثير من الأوقات، ولذلك روي عنه صلى الله عليه وآله وسلم أنه قال: ((ما من مؤمن إلا وله ذنب يصيبه الفينة بعد الفينة لا يفارقه حتى يفارق الدنيا)).
وإذا ثبت هذا ظهر الفرق بين سؤال الشفاعة بالمعنى الذي زعمه الخصم وبين سؤال التوبة، وصح أن سؤال الشفاعة لا يحسن إلا على قولنا وهو أن أهلية الشفاعة إنما تحصل بالخروج من الدنيا مستحقاً للثواب، وقد ذكر الرازي جواباً على هذه الحجة، فقال: عندنا أن تأثير الشفاعة في جلب أمر مطلوب وأعني به القدر المشترك بين جلب المنافع الزائدة على قدر الاستحقاق ودفع المضار المستحقة على المعاصي، وذلك القدر المشترك لا يتوقف على كون العبد عاصياً فاندفع السؤال.
قلت: قد يقال ذلك الأمر المطلوب إن كان أمراً خارجاً عن جلب النفع ودفع الضرر فلا معنى للشفاعة في حصوله لخروجه عن موضوعها، وإن كان راجعاً إليها فهو محل النزاع، فعندنا أنها لا تكون في الآخرة إلا لجلب النفع لا لدفع الضرر، وقد أقمنا البرهان على ذلك فلا يندفع السؤال إلا إذا قال بقولنا، أما مع القول بأنها في الآخرة لدفع الضرر فلا، وقد أجاب غيره بأحسن من جوابه فقالوا: إنما حسن سؤال المسلمين الشفاعة لأن كل مسلم عاقل خائف أن يكون من الهالكين لاعتقاده التقصير في حقوق الله وعدم السلامة من الذنوب.
قلت: وهذا الجواب صحيح لو ثبت كون الشفاعة للفاسقين ونحن في مقام المنع.
وقال بعضهم: وجه حسن هذا السؤال أنه قد ثبت في الأحاديث إثبات الشفاعة لأقوام من أهل الجنة في دخولهم الجنة بغير حساب، ولقوم في زيادة درجاتهم، فتكون الشفاعة المسؤولة هي هذه.
قلت: هذا هو قولنا بعينه، ولا يصح حمل هذا الدعاء إلا عليه.
الحجة السابعة عشرة: أن أحدنا لو حلف ليفعلن ما يستحق به الشفاعة لم يؤمر إلا بالطاعة، ولو كانت لدفع العقاب فقط لم يؤمر إلا بالمعصية وذلك باطل، واعترضه الرازي بأنه يؤمر بالطاعة لأنها التي تستحق بها الشفاعة في إسقاط عقاب المعصية إذا عصى.
قال الإمام المهدي: وهو اعتراض جيد.
قلت: لم يظهر لي جودته؛ إذ الخصم لا يعلق استحقاق الشفاعة على حصول الطاعة، اللهم إلا أن يريد بالطاعة الإيمان بالمعنى الذي يذهبون إليه فإنه لا شفاعة لمن لم يصدق عندهم لكفره، لكن إذا أراد هذا فلا معنى لوصف الإمام هذا الاعتراض بالجودة؛ لأنه بناه على أصل باطل.
الموضع الخامس في شبه المخالفين:
الشبهة الأولى: أن أهل الجنة مستغنون عن شفاعة الشافعين فلا فائدة فيها؛ إذ الثواب الجزيل يصل إليه موفراً في كل وقت، وربما أكدوا ذلك بمثال يوردونه وهو أن من كان على مائدة فيها أنواع من الطعام والإدام فإنه إذا شفع له شفيع بزيادة رغيف لم يكن لهذه الشفاعة موقع أصلاً، ولا تكشف عن مرتبة وجاه لصاحبها، وإنما يكشف عن ذلك دفع المضار المستحقة.
والجواب: أن هذه الصورة ليست نظيراً للمسألة إذ ليس في الجنة ما تنحط منزلته إلى منزلة الرغيف، وإنما نظيرها من أعطاه السلطان عشراً من نفائس الحلل وأعطى غيره مائة حلة نفيسة فشفع بعض غلمان السلطان إليه في الزيادة لصاحب العشر فزاد له لتلك الشفاعة، فإنه يظهر محل الشافع عند السلطان وقدره بحسب الزيادة الحاصلة بشفاعته.
قال القرشي: ثم إنا نعارض بقوله تعالى: {وَيَسْتَغْفِرُونَ لِلَّذِينَ آمَنُوا }[غافر:7] فنقول: لا فائدة في هذا الاستغفار، وفي الزيادة في قوله: {وَيَزِيدُهُمْ مِنْ فَضْلِهِ }[النساء: 173].
الشبهة الثانية: أن الله تعالى قد وعدنا بالزيادة على القدر المستحق حيث قال: {لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا الْحُسْنَى وَزِيَادَةٌ }[يونس:26] وقال: {وَيَزِيدُهُمْ مِنْ فَضْلِهِ }[النساء:173] وما وعد به جل وعلى حصل بلا شفاعة فلا فائدة فيها للمؤمنين، والمعلوم وقوع الشفاعة فوجب اختصاصها بالفاسقين وهوالمطلوب.
والجواب: أنه لم يصرح بأنه يعطيهم الزيادة من دون شفاعة، فلعل الزيادة الموعود بها هي الحاصلة بالشفاعة، ويجوز أن تكون هذه الزيادة غير المشفوع فيها فلا تدافع، وفضل الله تعالى ليس له نهاية، ولا لآخره غاية.
الشبهة الثالثة: قوله تعالى: {لاَ يَمْلِكُونَ الشَّفَاعَةَ إِلاَّ مَنِ اتَّخَذَ عِنْدَ الرَّحْمانِ عَهْداً }[مريم:87] قالوا: والآية تحتمل أن المجرمين لا يملكون الشفاعة لغيرهم، أو أنهم لا يملكون شفاعة غيرهم أي لا يشفع لهم غيرهم لأن المصدر يحسن إضافته إلى الفاعل والمفعول، وحمل الآية على الثاني أرجح؛ لأن الحمل على الأول لا تحصل به فائدة سوى توضيح الواضح إذ كل أحد يعلم أن المجرم لا يشفع لغيره، وإذا ثبت هذا فوجه دلالتها على حصول الشفاعة لأهل الكبائر أنه قال: {إِلاَّ مَنِ اتَّخَذَ عِنْدَ الرَّحْمَنِ عَهْداً }[مريم:87] والمعنى أن المجرمين لا يستحقون أن يشفع لهم أحد إلا إذا كانوا قد اتخذوا عند الرحمن عهداً، وصاحب الكبيرة قد اتخذ عند الرحمن عهداً وهو التوحيد والإسلام فوجب دخوله تحت هذا العموم، وقد روي هذا المعنى عن ابن عباس وغيره، أخرج ابن جرير، وابن المنذر، وابن أبي حاتم، والبيهقي في الأسماء والصفات في قوله: {إِلاَّ مَنِ اتَّخَذَ عِنْدَ الرَّحْمَنِ عَهْداً}[مريم: 87] قال: شهادة أن لا إله إلا الله وتبرأ من الحول والقوة ولا ترجو إلا الله.
وأخرج ابن مردويه عن ابن عباس في الآية قال: من مات لا يشرك بالله شيئاً دخل الجنة.
والجواب: أن استدلالكم بالآية مؤسس على ما ادعيتموه من معناها، ونحن لا نسلم لكم ذلك فقد اخلتف السلف في تأويلها وجاءت فيه روايات مرفوعة وموقوفة بالتأويل الذي جنحتم إليه وغيره، من ذلك ما رواه المرشد بالله في الأمالي قال: أخبرنا أبو بكر محمد بن علي الجوزداني، أخبرنا أبو مسلم عبد الرحمن بن محمد بن سهدل المدني، أخبرنا أبو العباس أحمد بن محمد بن عقده، أخبرنا أحمد بن الحسن بن سعيد، ثنا أبي، ثنا حصين بن مخارق السلولي، عن سعد، عن أبي إسحاق، عن الحرث عن علي عليه السَّلام {إِلاَّ مَنِ اتَّخَذَ عِنْدَ الرَّحْمَنِ عَهْداً }[مريم: 87] قال: لا إله إلا الله في الدنيا.
أخبرنا ابن ريذة، أخبرنا الطبراني، ثنا أبو مسلم، ثنا عبد الله بن رجاء، ثنا المسعودي ح وأخبرنا ابن ريذة، أخبرنا الطبراني، ثنا عمرو بن حفص، ثنا عاصم بن علي، ثنا المسعودي، عن عون بن عبد الله، عن أبي فاختة، عن الأسود بن يزيد، قال: قرأ عبد الله {إِلاَّ مَنِ اتَّخَذَ عِنْدَ الرَّحْمَنِ عَهْداً }[مريم: 87] قال: يقول الله تعالى يوم القيامة من كان له عندي عهد فليقم.
قالوا: يا أبا عبد الرحمن فعلمنا، قال: قولوا اللهم فاطر السموات والأرض عالم الغيب والشهادة إني أعهد إليك في هذه الحياة الدنيا إنك إن تكلني إلى نفسي تقربني من الشر وتباعدني من الخير، وإني لا أثق إلا برحمتك فاجعل لي عندك عهداً تؤديه إلي يوم القيامة إنك لا تخلف الميعاد. قال وزاد فيها زكريا أبو يحيى عن القاسم: خائفاً مستجيراً مستغفراً راغباً إليك. وأخرجه ابن أبي شيبة، وابن أبي حاتم، والطبراني، والحاكم وصححه وابن مردويه.
وأخرج الطبراني في الأوسط عن أبي هريرة قال رسول الله صلى الله عليه وآله: ((من جاء بالصلوات الخمس يوم القيامة قد حافظ على وضوئها ومواقيتها وركوعها وسجودها لم ينقص منها شيئاً جاء وله عند الله عهد أن لا يعذبه، ومن جاء قد أنتقص منهن شيئاً فليس له عند الله عهد إن شاء رحمه وإن شاء عذبه)).
وفي العلوم: عن جعفر بن محمد بن عبد السلام، عن ابن إدريس، عن يحيى بن سعيد، عن محمد بن يحيى بن حبان، عن ابن محيريز المخدجي قال: قال عبادة بن الصامت: سمعت رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يقول: ((إن الله افترض على العباد خمس صلوات فمن لقيه غير مستخف بحقهن ولا مضيع لهن فله عند ه عهد ألا يعذبه)).
وأخرج الحكيم الترمذي عن أبي بكر قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم : ((من قال في دبر كل صلاة بعد ما يسلم هؤلاء الكلمات كتبه ملك في رق فختم بخاتم ثم دفعها إلى يوم القيامة فإذا بعث الله العبد من قبره جاءه الملك ومعه الكتاب ينادي أين أهل العهود حتى تدفع إليهم، والكلمات أن تقول: اللهم فاطر السموات والأرض عالم الغيب والشهادة الرحمن الرحيم إني أعهد إليك هذه الحياة الدنيا فإنك أنت الله الذي لا إله إلا أنت وحدك لا شريك لك وأن محمداً عبدك ورسولك فلا تكلني إلى نفسي فإنك إن تكلني إلى نفسي تقربني من الشر وتباعدني من الخير وإني لا أثق إلا برحمتك فاجعل لي عندك عهداً تؤديه إلي يوم القيامة إنك لا تخلف الميعاد)).
وأخرج ابن مردويه عن ابن عباس قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم : ((من أدخل على مؤمن سروراً فقد سرني ، ومن سرني فقد اتخذ عند الرحمن عهداً، ومن اتخذ عند الرحمن عهداً فلا تمسه النار إن الله لا يخلف الميعاد)).
وأخرج ابن مردويه عن ابن عباس في قوله: {إِلاَّ مَنِ اتَّخَذَ عِنْدَ الرَّحْمَنِ عَهْداً }[مريم:87] قال: من لا يشرك بالله شيئاً دخل الجنة. فهذه الروايات كما ترى تدل على اختلاف السلف في معنى الآية ولا مرجح لأحدها، فيجب إما الوقف أو الرجوع إلى دليل آخر في معناها، والذي يظهر أن المراد بالعهد القيام بالتكاليف فعلاً وكفَّا، وقد مر في قوله تعالى: {أَوْفُوا بِعَهْدِي أُوفِ بِعَهْدِكُمْ }[البقرة:40] وقوله: {الَّذِينَ يَنقُضُونَ عَهْدَ اللَّهِ مِنْ بَعْدِ مِيثَاقِهِ }[البقرة: 27] ما يؤدي هذا المعنى، ويدل عليه أيضاً قوله تعالى: {أَلَمْ أَعْهَدْ إِلَيْكُمْ يَابَنِي آدَمَ أَنْ لاَ تَعْبُدُوا الشَّيْطَانَ...}[يس:60] الآية.
وعن مقاتل في قوله: { إِلاَّ مَنِ اتَّخَذَ عِنْدَ الرَّحْمَنِ عَهْداً }[مريم:87] قال: العهد الصلاح.
إذا عرفت هذا فنقول: الاستدلال بالآية على نفي الشفاعة للفساق أظهر وأوضح من الاستدلال بها على ثبوتها لهم؛ لأن الله قد أخبر أن المجرمين لا يملكون الشفاعة إما بمعنى لا يشفعون لأحد أو لا يشفع لهم أحد، ثم أخبر أن الشفاعة لمن اتخذ عند الرحمن عهداً، كذلك إما أن يشفعوا لغيرهم، أو يشفع لهم غيرهم، وليس هذا الاستثناء متصلاً كما توهمه عبارة الخصوم، بل هو منقطع، والمعنى، لكن الذي يملك الشفاعة هو من اتخذ عند الرحمن عهداً، وفيه تعريض بالمجرمين، وقد عرفت معنى العهد، والروايات المذكورة لا تنافي ما ذهبنا إليه لأن مطلقاتها مقيدة، فمن فسر العهد بالتوحيد فمعناه بحقه وشروطه لثبوت التقييد في أحاديث من قال: ((لا إله إلا الله ...)) ونحوها، وليس هذا موضع ذكره، ومن فسرها بغيره فالمعنى مع اجتناب الكبائر ونحو ذلك، والموجب قيام الدليل على هذا التقييد.
وعن ابن جريج في معنى الآية قال: المؤمنون يومئذ بعضهم لبعض شفعاء.
الشبهة الرابعة: ما أخرجه الترمذي قال: حدثنا محمد بن بشار، ثنا أبو داود الطيالسي، عن محمد بن ثابت البناني، عن جعفر بن محمد، عن أبيه، عن جابر بن عبد الله، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم : ((شفاعتي لأهل الكبائر من أمتي )).
قال محمد بن علي: قال لي جابر: يا محمد من لم يكن من أهل الكبائر فما له وللشفاعة.
قال الترمذي حسن غريب من هذا الوجه يستغرب من حديث جعفر بن محمد، وأخرجه أبو نعيم في الحلية من طريق الطيالسي.
وفي سنن ابن ماجة: ثنا عبد الرحمن بن إبراهيم الدمشقي، ثنا الوليد بن مسلم، ثنا زهير بن محمد، عن جعفر بن محمد، عن أبيه، عن جابر قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يقول: ((إن شفاعتي يوم القيامة لأهل الكبائر من أمتي )) وأخرجه من حديث جابر ابن حبان والحاكم، وفي بعض الروايات قال راويه محمد بن ثابت فقلت: ما هذا يا جابر؟ فقال: نعم يا محمد إنه من زادت حسناته على سيئاته فذلك الذي يدخل الجنة بغير حساب، وأما الذي قد استوت حسناته وسيئاته فذلك الذي يحاسب حساباً يسيراً، ثم يدخل الجنة، وإنما الشفاعة شفاعة رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم لمن أوبق نفسه وأغلق ظهره. وللبيهقي عن كعب بن عجرة نحوه مرفوعاً، وأخرجه من حديث كعب الخطيب.
وفي سنن الترمذي: حد ثنا العباس العنبري، ثنا عبد الرزاق عن معمر، عن ثابت، عن أنس، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم : ((شفاعتي لأهل الكبائر من أمتي )) قال الترمذي: حسن صحيح غريب من هذا الوجه، وصححه ابن خزيمة، وابن حبان، والحاكم، وقال البيهقي: إنه إسناد صحيح.
وأخرجه أحمد والبيهقي وأبو داود، وابن خزيمة والحاكم من طريق أخرى عن أنس مرفوعاً.
قال أبو داود: حدثنا سليمان بن حرب، ثنا بسطام بن حريث، عن أشعث الحداني، عن أنس عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال: ((شفاعتي لأهل الكبائر من أمتي )) وأخرجه البيهقي عن أنس من طرق في بعضها: قلنا يا رسول الله لمن تشفع؟ قال: ((لأهل الكبائر من أمتي وأهل العظائم وأهل الدماء )).
والحديث أخرجه أيضاً الطبراني في الكبير عن ابن عباس، والخطيب عن ابن عمر، وأخرجه البيهقي من طريق عبد الرزاق، عن معمر، عن ابن طاووس، عن أبيه مرفوعاً، وقال: هذا مرسل حسن شهد لكون هذه اللفظة شائعة ما بين التابعين.
وفي الجامع الصغير عن أبي الدرداء مرفوعاً: ((شفاعتي لأهل الذنوب من أمتي وإن زنا وإن سرق على رغم أنف أبي الدرداء)) أخرجه الخطيب، قال شيخ العزيزي: حسن لغيره.
وفي سنن أبي داود: ثنا مسدد، ثنا يحيى، عن الحسن بن ذكوان، ثنا أبو رجاء، قال: ثني عمران بن حصين، عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال: ((يخرج قوم من النار بشفاعة محمد فيدخلون ويسمون الجهنميون)).
وهو في سنن ابن ماجة قال: ثنا محمد بن بشار، ثنا يحيى بن سعيد إلى آخر السند، ولفظ حديثه عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم : ((ليخرجن قوم من النار بشفاعتي يسمون الجهنميون )).
وفي سنن ابن ماجة: ثنا إسماعيل بن أسد، ثنا أبو بدر، ثنا زياد بن خيثمة عن أبيه نعيم بن أبي هند، عن ربعي بن خراش عن أبي موسى الأشعري قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم : ((خيرت بين الشفاعة وبين أن يدخل نصف أمتي الجنة فاخترت الشفاعة لأنها أعم وأكفى ترونها للمتقين لا ولكنها للمذنبين الخطائين المتلوثين)) قال في الزوائد: إسناده صحيح.
وفيه: ثنا أبو بكر ابن أبي شيبة، ثنا أبو معاوية، عن الأعمش، عن أبي صالح، عن أبي هريرة، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم : ((لكل نبي دعوة مستجابة فتعجل كل نبي دعوته وإني اختبأت دعوتي شفاعة لأمتي فهي نائلة منهم من مات لا يشرك بالله شيئاً)).
وفي سنن الترمذي: ثنا هناد، ثنا عبدة، عن سعيد، عن قتادة، عن أبي المليح، عن عوف بن مالك الأشجعي، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم : ((أتاني آت من عند ربي فخيرت بين أن يدخل نصف أمتي الجنة وبين الشفاعة فاخترت الشفاعة وهي لمن مات لا يشرك بالله شيئاً)).
وقد روي عن أبي المليح عن رجل آخر من أصحاب النبي صلى الله عليه وآله وسلم ولم يذكر عوف بن مالك، وفي الحديث قصة طويلة، ثنا قتيبة، ثنا أبو عوانة، عن قتادة، عن أبي المليح، عن عوف بن مالك عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم نحوه.
وفي سنن ابن ماجة: ثنا هشام بن عمار، ثنا صدقة بن خالد، ثنا ابن جابر سمعت سليم بن عامر يقول: سمعت عوف بن مالك يقول: قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم : ((أتدرون ما خيرني ربي الليلة ؟ قلنا: الله ورسوله أعلم، قال: فإنه خيرني بين أن يدخل نصف أمتي الجنة وبين الشفاعة فاخترت الشفاعة، قلنا: يا رسول الله ادع الله أن يجعلنا من أهلها، قال: هي لكل مسلم)).
وفي صحيح مسلم: ثنا أبو بكر بن أبي شيبة وأبو كريب واللفظ لأبي كريب، قال: ثنا أبو معاوية، عن الأعمش، عن أبي صالح، عن أبي هريرة قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم : ((لكل نبي دعوة مستجابة فتعجل كل نبي دعوته وإني اختبأت دعوتي شفاعة لأمتي يوم القيامة فهي نائلة إن شاء الله من مات من أمتي لا يشرك بالله شيئاً)).
وأخرجه بهذا الإسناد ابن ماجة وقال: ((وهي نائلة منهم من مات لا يشرك بالله)) من دون لفظ: (إن شاء الله).
وفي صحيح مسلم: حدثني نصر بن علي الجهضمي، ثنا بشر يعني بن مفضل، عن أبي مسلمة، عن أبي نضرة، عن أبي سعيد قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم : ((أما أهل النار الذين هم أهلها فإنهم لا يموتون فيها ولا يحيون ، ولكن ناس أصابتهم النار بذنوبهم أو قال بخطاياهم فأماتهم إماتة حتى إذا كانوا فحماً أذن بالشفاعة فجيء بهم ضبائر ضبائر فبثوا على أنهار الجنة، ثم قيل: يا أهل الجنة أفيضوا عليهم فينبتون نبات الحبة تكون في حميل السيل)).
وله طريق أُخرى عن محمد بن المثنى وابن بشار قالا: ثنا محمد بن جعفر، ثنا شعبة عن أبي مسلمة.. إلى آخره.
وأخرجه ابن ماجة عن نصر بن علي وإسحاق بن إبراهيم بن حبيب، عن بشر، عن سعيد بن يزيد، عن أبي مسلمة... إلخ.
قوله: (ضبائر الضبائر): هم الجماعات المتفرقة واحدها ضبارة بفتح الضاد المعجمة وكسرها، وقيل بالكسر فقط، والحبة: بكسر الحاء المهملة وهي بزرالبقول وحب الرياحين تنبت في البراري وجوانب السيول، وجمعها حبب بكسر الحاء وفتح الباء، وحميل السيل بفتح الحاء المهملة وكسر الميم: ما جاء به السيل من طين وغيره، ومعناه محمول السيل، والمراد التشبيه في سرعة النبات وحسنه وطراوته، والحديث أخرجه أحمد أيضاً.
وفي صحيح مسلم حدثني عبيد الله بن سعيد وإسحاق بن منصور كلاهما عن روح قال عبيد الله: ثنا روح بن عبادة القيسي، ثنا ابن جريج، أخبرني أبو الزبير أنه سمع جابر بن عبد الله يسأل عن الورود وقال نحن نجيء يوم القيامة فذكر الحديث وذكر جسر جهنم ثم قال: ثم ينجو المؤمنون فتنجو أول زمرة وجوههم كالقمر ليلة البدر سبعون ألفاً لا يحاسبون ثم الذين يلونهم كأضواء نجم في السماء ثم كذلك، ثم تحل الشفاعة ويشفعون حتى يخرج من النار من قال لا إله إلا الله وكان في قلبه من الخير ما يزن شعيرة فيجعلون بفناء الجنة ويجعل أهل الجنة يرشون عليهم الماء حتى ينبتون نبات الشيء في السيل ويذهب حراقه ثم يسأل حتى تجعل له الدنيا وعشرة أمثالها.
قوله:حراقه بضم الحاء المهملة وتخفيف الراء يذهب أثر النار، والضمير في حراقه عائد على المخرج من النار، وكذا في يسأل أي يسأل الله الزيادة في الجنة حتى يعطيه مثل ذلك القدر، وقد صرح به في غير هذا الحديث.
قال مسلم وحد ثنا أبو الربيع، ثنا حماد بن زيد، قال قلت لعمرو بن دينار: أسمعت جابر بن عبد الله يحدث عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم إن الله تعالى يخرج قوماً من النار بالشفاعة؟ قال:نعم.
وحد ثنا حجاج بن الشاعر، ثنا الفضل بن دكين، ثنا أبو عاصم يعني محمد بن أبي أيوب، ثني يزيد الفقير، قال: كنت قد شغفني رأي من رأي الخوارج فخرجنا في عصابة ذوي عدد نريد أن نحج ثم نخرج على الناس قال فمررنا على المدينة فإذا جابر بن عبد الله يحدث القوم جالساً إلى سارية عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فإذا قد ذكر الجهنميين قال فقلت له: يا صاحب رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ما هذا الذي تحدثونا والله يقول: {إِنَّكَ مَنْ تُدْخِلِ النَّارَ فَقَدْ أَخْزَيْتَهُ }[آل عمران:192]، {كُلَّمَا أَرَادُوا أَنْ يَخْرُجُوا مِنْهَا مِنْ غَمٍ أُعِيدُوا فِيهَا}[السجدة:20] فما هذا الذي تقولون، فقال: أتقرأ القرآن؟ قلت: نعم، قال: فهل سمعت بمقام محمد صلى الله عليه وآله وسلم يعني الذي يبعثه الله فيه؟ قلت: نعم، قال: فإنه مقام محمد صلى الله عليه وآله وسلم المحمود الذي يخرج الله به من يخرج قال ثم نعت وضع الصراط ومر الناس عليه قال وأخاف أن لا أكون أحفظ ذلك قال غير أنه قد زعم أن قوماً يخرجون من النار بعد أن يكونوا فيها قال يعني فيخرجون كأنهم عيدان السماسم قال فيدخلون نهراً من أنهار الجنة فيغتسلون فيه فيخرجون كأنهم القراطيس، فرجعنا فقلنا: ويحكم أترون الشيخ يكذب على رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فرجعنا فلا والله ما خرج منا غير رجل واحد أو كما قال.
أبو نعيم: حدثنا أبو كامل فضيل بن حسين الجحدري ومحمد بن عبيد العنبري واللفظ لأبي كامل قالا: ثنا أبو عوانة، عن قتادة، عن أنس بن مالك، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم : ((يجمع الله الناس يوم القيامة فيهتمون لذلك -وقال ابن عبيد- فيلتهمون لذلك فيقولون لو استشفعنا إلى ربنا عز وجل حتى يريحنا من مكاننا هذا قال فيأتون آدم عليه السَّلام فيقولون: أنت آدم أبو الخلق خلقك الله بيده ونفخ فيك من روحه وأمر الملائكة فسجدوا لك إشفع لنا عند ربك حتى يريحنا من مكاننا هذا، فيقول: لست هناكم فيذكر خطيئته التي أصاب فيستحي ربه منها ولكن ائتوا نوحاً أول رسول بعثه الله قال فيأتون نوحاً عليه السَّلام فيقول: لست هناكم فيذكر خطيئته التي أصاب فيستحي ربه تعالى منها ولكن ائتوا إبراهيم الذي اتخذه الله خليلاً فيأتون إبراهيم عليه السَّلام فيقول: لست هناكم ويذكر خطيئته التي أصاب فيستحي ربه تعالى منها فيقول ائتوا موسى الذي كلمه الله وأعطاه التوراة قال فيأتون موسى عليه السَّلام فيقول: لست هناكم ويذكر خطيئته التي أصاب ويستحي ربه منها ولكن ائتوا عيسى روح الله وكلمته، فيأتون عيسى روح الله وكلمته فيقول: لست هناكم ولكن ائتوا محمداً صلى الله عليه وآله وسلم عبداً قد غفر الله له ما تقدم من ذنبه وما تأخر -قال- قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم : فيأتوني فأستأذن على ربي تعالى فيأذن لي فإذا أنا رأيته وقعت ساجداً فيدعني ما شاء الله أن يدعني فيقال يا محمد ارفع رأسك قل تسمع، سل تعطه اشفع تشفع فأرفع رأسي وأحمد ربي تعالى بتحميد يعلمنيه ربي عز وجل ثم أشفع فيحد لي حداً فأخرجهم من النار وأدخلهم الجنة، ثم أعود فأقع ساجداً فيدعني ما شاء الله أن يدعني ثم يقال ارفع رأسك يا محمد، قل تسمع، سل تعطه، اشفع تشفع فأرفع رأسي فأحمد ربي بتحميد يعلمنيه ربي ثم أشفع فيحد لي حداً فأخرجهم من النار وأدخلهم الجنة قال
فلا أدري في الثالثة أو في الرابعة قال فأقول يا رب ما بقي في النار إلا من حبسه القرآن أي وجب عليه الخلود)) قال ابن عبيدة في روايته قال قتادة: أي وجب عليه الخروج.
وأخرجه من حديث محمد بن المثنى ومحمد بن بشار قالا: حد ثنا ابن أبي عدي، عن سعيد، عن قتادة، عن أنس وفيه: ((ثم آتيه الرابعة أو أعود الرابعة فأقول يا رب ما بقي إلا من حبسه القرآن)).
ومن طريق محمد بن المثنى، ثنا معاذ بن هشام، ثني أبي، عن قتادة، عن أنس وذكر في الرابعة: ((فأقول يا رب ما بقي في النار إلا من حبسه القرآن -أي وجب عليه الخلود)).
وأخرجه البخاري من حديث معاذ بن فضالة، قال:حد ثنا هشام، عن قتادة، عن أنس بمعناه وفي آخره: ((ثم أرجع فأقول يا رب ما بقي في النار إلا من حبسه القرآن ووجب عليه الخلود قال النبي صلى الله عليه وآله وسلم : يخرج من النار من قال لا إله إلا الله وكان في قلبه من الخير ما يزن شعيرة ثم يخرج من النار من قال لا إله إلا الله وكان في قلبه من الخير ما يزن برة، ثم يخرج من النار من قال لا إله إلا الله وكان في قلبه ما يزن من الخير ذرة)).
وأخرج البخاري أيضاً تعليقاً ولفظه: وقال حجاج بن منهال: حدثنا همام بن يحيى، حدثنا قتادة، عن أنس فذكره وفي آخره: ((ثم أعود الثالثة فأستأذن على ربي في داره فيأذن لي عليه فإذا رأيته وقعت ساجداً فيدعني ما شاء الله أن يدعني ثم يقول ارفع محمد، وقل تسمع، واشفع تشفع وسل تعطه قال فأرفع رأسي فأثني على ربي بثناء وتحميد يعلمنيه قال ثم أشفع فيحد لي حداً فأخرج فأدخلهم الجنة)) قال قتادة: وقد سمعته يقول: فأخرج فأخرجهم من النار وأدخلهم الجنة حتى لا يبقى في النار إلا من حبسه القرآن أي وجب عليه الخلود قال ثم تلا الآية: {عَسَى أَنْ يَبْعَثَكَ رَبُّكَ مَقَاماً مَحْمُوداً }[الإسراء:79] قال وهذا المقام المحمود الذي وعده نبيكم صلى الله عليه وآله وسلم .
قوله: في داره أي جنته التي اتخذها لأوليائه، والإضافة للتشريف.
وقال في المصابيح: أي أستأذن ربي في حال كوني في جنته فأضاف الدار إليه تشريفاً.
قوله: فأخرج... إلخ أي أخرج أنا من داره إلى جنته فأدخلهم الجنة بعد أن أخرجهم من النار.
قال القسطلاني: وهذا الحديث وقع هنا معلقاً ووصله الإسماعيلي من طريق إسحاق بن إبراهيم من طريق محمد، وأبو نعيم من طريق محمد بن أسلم الطوسي قالا حد ثنا حجاج بن منهال فذكره بطوله.
قلت: وحجاج من مشائخ البخاري، قيل: ولعله سمعه منه في المذاكرة ونحوها، وأخرج الحديث أيضاً ابن ماجة وغيره.
وفي صحيح البخاري حدثنا سليمان بن حرب، حدثنا حماد بن زيد، حدثنا معبد بن هلال العنزي، قال: اجتمعنا ناس من أهل البصرة فذهبنا إلى أنس بن مالك وذهبنا معنا بثابت البناني يسأله لنا عن حديث الشفاعة فإذا هو في قصره فوافقنا. يصلي الضحى فاستأذنا فأذن لنا وهو قاعد على فراشه فقلنا لثابت لا تسأله عن شيء أول من حديث الشفاعة، فقال:يا أبا حمزة هؤلاء إخوانك من أهل البصرة جاءوك يسألونك عن حديث الشفاعة، فقال: حد ثنا محمد صلى الله عليه وآله وسلم قال: ((إذا كان يوم القيامة ماج الناس بعضهم في بعض فيأتون آدم عليه السَّلام فيقولون: اشفع لنا إلى ربك فيقول: لست لها ولكن عليكم بإبراهيم فإنه خليل الرحمن فيأتون إبراهيم عليه السَّلام فيقول:لست لها ولكن عليكم بموسى فإنه كليم الله فيأتون موسى فيقول:لست لها ولكن عليكم بعيسى عليه السَّلام فإنه روح الله وكلمته فيأتون عيسى عليه السَّلام فيقول:لست لها ولكن عليكم بمحمد صلى الله عليه وآله وسلم فيأتوني فأقول:أنا لها فأستأذن على ربي فيؤذن لي ويلهمني محامد أحمده بها لا تحضرني الآن، وأحمده بتلك المحامد وأخر له ساجداً، فيقال: يا محمد ارفع رأسك، وقل يسمع لك وسل تعط واشفع تشفع، فأقول يا رب أمتي أمتي، فيقال انطلق فأخرج منها من كان في قلبه مثقال شعيرة من إيمان، فأنطلق فأفعل، ثم أعود فأحمده بتلك المحامد، ثم أخر له ساجداً، فيقال: يا محمد ارفع رأسك وقل يسمع لك، وسل تعط واشفع تشفع، فأقول: يارب أمتي أمتي، فيقال: انطلق فأخرج منها من كان في قلبه مثقال ذرة أو خردلة من إيمان فأنطلق فأفعل فأفعل، ثم أعود فأحمده بتلك المحامد ثم أخر له ساجداً، فيقال يا محمد ارفع رأسك وقل يسمع لك وسل تعط واشفع تشفع فأقول يا رب أمتي أمتي فيقول انطلق فأخرج من كان في قلبه أدنى أدنى مثقال حبة خردل من إيمان فأخرجه من النار، فأنطلق فأفعل)). فلما خرجنا من عند أنس قلت لبعض أصحابنا: لو مررنا
بالحسن وهو متوارٍ في منزل أبي خليفة بما حد ثنا أنس بن مالك فأتيناه فسلمنا عليه فأذن لنا فقلنا له:يا أبا سعيد قد جئناك من عند أخيك أنس بن مالك فلم نر مثل ما حدثتنا في الشفاعة، فقال: هيه فحدثناه بالحديث فانتهى إلى هذا الموضع، فقال هيه: فقلنا لم يزد لنا على هذا فقال: لقد حدثني وهو جميع منذ عشرين سنة فلا أدري أنسي أم كره أن تتكلوا، قلنا: يا أبا سعيد فحدثنا فضحك وقال:خلق الإنسان عجولا، ما ذكرته إلا وأنا أريد أن أحدثكم، حدثني كما حدثكم به، قالثم أعود الرابعة فأحمده بتلك ثم أخر له ساجداً فقال يا محمد ارفع رأسك وقل تسمع وسل تعطه واشفع تشفع فأقول يا رب ءأيذن لي فيمن قال لا إله إلا الله)).
والحديث أخرجه النسائي، ورواه أيضاً مسلم من طريق أبي الربيع العتكي وسعيد بن منصور وكلاهما عن حماد بن زيد وزاد بعد قوله ائذن لي فيمن قال لا إله إلا الله ما لفظه: قال ليس ذاك لك، وعزتي وكبريائي وعظمتي وجبريائي وجبروتي لأخرجن من النار من قال لا إله إلا الله. قال: فأشهد على الحسن أنه حدثنا به أنه سمع أنس بن مالك قال أراه قبل عشرين سنة وهو يومئذٍ جميع.
قوله: فأخرج منها أي من النار. ذكره شراح الحديث، وهو الذي تدل عليه الروايات الصادقة، وقوله في آخر الحديث فأخرجه من النار.
قوله: أدنى أدنى مثقال حبة خردل: أي الأدنى البالغ هذا المبلغ في الإيمان الذي هو تصديق، ويحتمل أن يكون التكرار للتوزيع على الحبة والخردلة أي أقل حبة من أقل خردلة من الإيمان.
قوله: هيه بكسر الهائين بغير تنوين وقد تنون: كلمة استزادة أي زيد وأمن الحديث قوله وهو جميع أي مجتمع القوة والحفظ، وفي صحيح مسلم حدثنا أبو بكر بن أبي شيبة ومحمد بن عبدالله بن نمير واتفقا في سياق الحديث إلا ما يزيد أحدهما من الحرف بعد الحرف.
قالا: حد ثنا محمد بن بشر، حد ثنا أبو حيان، عن أبي زرعة، عن أبي هريرة، قال: أوتي رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يوماً بلحم فرفع إليه الذراع وكانت تعجبه فنهس منها نهسة فقال: ((أنا سيد الناس يوم القيامة، وهل تدرون بما ذاك يجمع الله تعالى يوم القيامة الأولين والآخرين في صعيد واحد فيسمعهم الداعي وينفذهم البصر وتدنو الشمس فيبلغ الناس من الغم والكرب ما لا يطيقون وما لا يحتملون فيقول بعض الناس لبعض: ألا ترون ما أنتم فيه،ألا ترون ما قد بلغكم،ألا تنظرون إلى من يشفع لكم إلى ربكم فيقول بعض الناس لبعض ائتوا آدم فيأتون آدم عليه السَّلام ...)) وذكر الحديث.
وسؤال الأنبياء وجوابهم بنحو حديث أنس إلى أن قال: ((فيقول عيسى عليه السَّلام : إن ربي قد غضب اليوم غضباً لم يغضب قبله مثله ولن يغضب بعده مثله ولم يذكر له ذنباً نفسي نفسي اذهبوا إلى غيري اذهبوا إلى محمد صلى الله عليه وآله وسلم فيأتوني فيقولون: يا محمد أنت رسول الله وخاتم الأنبياء وغفر الله لك ما تقدم من ذنبك وما تأخر الشفيع لنا إلى ربك ألا ترى ما نحن فيه ألا ترى ما قد بلغنا فأنطلق فآتي تحت العرش فأقع ساجداً لربي ثم يفتح الله علي ويلهمني من محامده وحسن الثناء عليه شيئاً لم يفتحه لأحد قبلي ثم يقال يا محمد ارفع رأسك سل تعطه اشفع تشفع فأرفع رأسي فأقول يا رب أمتي أمتي فيقال يا محمد أدخل الجنة من أمتك من لا حساب عليه من الباب الأيمن من الجنة وهم شركاء الناس فيما سوى ذلك من الأبواب، والذي نفس محمد بيده إن ما بين المصراعين من مصاريع الجنة لكما بين مكة وهجر أو كما بين مكة وبصرى)). وله عنده سند آخر.
قال حدثني زهير بن حرب، ثنا جرير، عن عمارة بن القعقاع، عن أبي زرعة، عن أبي هريرة، وأخرجه الترمذي قال: أخبرنا سويد بن نصر، أخبرنا عبدالله بن المبارك، أخبرنا أبو حيان التيمي، عن أبي زرعة، عن عمر و بن جرير عن أبي هريرة... فذكره.
قوله نهس بالسين المهملة أي أخذ بمقدم أسنانه ما عليه من اللحم.
وفي صحيح مسلم: ثنا محمد بن طريف بن خليفة البجلي، قال: ثنا محمد بن فضيل، قال: ثنا أبو مالك الأشجعي، عن أبي حازم، عن أبي هريرة، وأبو مالك عن ربعي بن خراش عن حذيفة، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم : (( يجمع الله تعالى الناس فيقوم المؤمنون حتى تزلف لهم الجنة فيأتون آدم عليه السَّلام فيقولون يا أبانا استفتح لنا الجنة فيقول وهل أخرجكم من الجنة إلا خطيئة أبيكم آدم لست صاحب ذلك اذهبوا إلى إبراهيم عليه السَّلام ...)) فذكر الحديث بمعنى ما تقدم من ترددهم بين الأنبياء " حتى قال: ((فيأتون محمداً صلى الله عليه وآله وسلم فيقوم ويؤذن له وترسل الأمانة والرحم فيقومان جنبي الصراط يميناً وشمالاً فيمر أولكم كالبرق، قال: قلت: بأبي أنت وأمي أي شيء كمر البرق؟ قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم : ألم تروا إلى البرق كيف يمر ويرجع في طرفة عين، ثم كمر الريح ثم كمر الطير وشد الرجال تجري بهم أعمالهم ونبيكم صلى الله عليه وآله وسلم قائم على الصراط يقول يا رب سلم سلم حتى تعجز أعمال العباد حتى يجيء الرجل فلا يستطيع السير إلا زحفاً قال وفي حافتي الصراط كلاليب معلقة مأمورة تأخذ من أمرت به فمخدوش ناج، ومكدوس في النار، والذي نفس أبي هريرة بيده إن قعر جهنم لسبعون خريفاً)).
قوله: شدا الرجال بالجيم جمع رجل وهو الصحيح وقيل بالحاء المهملة وهما متقاربان في المعنى وشدها عدوها البالغ وجريها.
قوله (فمخدوش)... إلخ، الخدش: قشر الجلد بعود ونحوه وجمعه خدوش، والمكدوس المدفوع وتكدس: دفع من ورائه فسقط.
وفي أمالي أحمد بن عيسى عليه السَّلام : أخبرنا محمد بن راشد الحبال، ثنا عيسى بن عبد الله، عن أبيه، عن جده، عن عمر بن علي عليه السَّلام قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم : ((من قرأ في دبر كل صلاة مكتوبة مائة مرة قل هو الله أحد جاز الصراط يوم القيامة وهو عن يمينه ثمانية أذرع وعن شماله ثمانية أذرع وجبريل عليه السَّلام آخذ بحجزته وهو مطلع في النار يميناً وشمالاً من رأى فيها دخلها بذنب غير شرك)) أخرجه ورواه أيضاً محمد بن منصور في كتاب الذكر من هذه الطريق.
وله فيه طريق أخرى قال: حدثنا محمد بن إسماعيل، عن عيسى بن عبد الله... إلى آخره.
وأخرج البيهقي والحاكم وصححه عن أبي هريرة قلت: يا رسول الله ماذا ورد عليك في الشفاعة وفي رواية ماذا رد أي ماذا أجيب عليك؟ فقال: ((شفاعتي لمن شهد أن لا إله إلا الله مخلصاً يصدق لسانه قلبه )).
وعن أم حبيبة: ((رأيت ما تلقى أمتي من بعدي وسفك بعضهم دماء بعض وسبق لهم من الله ما سبق للأمم قبلهم فسألت الله أن يؤتيني فيهم شفاعة يوم القيامة ففعل)) أخرجه الحاكم والبيهقي.
وفي شفاء القاضي عياض قال ابن عباس: إذا دخل أهل النار النار وأهل الجنة الجنة فتبقى آخر زمرة من الجنة وآخر زمرة من النار فتقول زمرة النار لزمرة الجنة ما نفعكم إيمانكم فيدعون ربهم ويضجون بهم فيسمعهم أهل الجنة فيسألون آدم وغيره بعده في الشفاعة لهم وكل يعتذر حتى يأتوا محمداً صلى الله عليه وآله وسلم فيشفع لهم فذلك المقام المحمود، ونحوه عن ابن مسعود أيضاً ومجاهد، وذكره علي بن الحسين عليه السَّلام عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم . قال بعض شراح الشفاء في قوله: ونحوه أي مثل قول ابن عباس فيما رواه أحمد والطيالسي عن ابن مسعود أيضاً ومجاهد، وفي شفاء القاضي عياض عن ابن عباس مرفوعاً: ((توضع للأنبياء " منابر من نور يجلسون عليها ويبقى منبري لا أجلس عليه قائماً بين يدي ربي منتصباً فيقول الله تبارك وتعالى ما تريد أن أصنع بأمتك؟ فأقول: يا رب عجل حسابهم فيدعى بهم فيحاسبون فمنهم من يدخل الجنة برحمته، ومنهم من يدخل الجنة بشفاعتي، ولا أزال أشفع حتى أعطى صكاكاً برجال قد أمر بهم إلى النار حتى إن خازن النار ليقول يا محمد ما تركت لغضب ربك في أمتك من نقمة)). قال علي القاري في شرحه: رواه الشيخان.
وأخرج الطبراني في الأوسط عن أنيس سمعت رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يقول: ((لأشفعن يوم القيامة لأكثر مما في الأرض من حجر وشجر )).
قوله: أنيس بالتصغير صحابي شهير، والحديث قالوا إسناده ليس بقوي.
وفي أمالي المرشد بالله أخبرنا أبو نصر إبراهيم بن محمد الكسائي، أخبرنا أبو بكر محمد بن أحمد العدل، أخبرنا أبو جعفر محمد بن على مخلد الداركي، ثنا إسماعيل بن عمرو، ثنا حفص بن سليمان، عن كثير بن زاذان عن عاصم بن ضمرة عن علي عليه السَّلام ، قال: قال: رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم :(( من قرأ القرآن فاستظهره وحفظه أدخله الله الجنة وشفعه في عشرة من أهل بيته كلهم قد وجبت له النار)).
قالوا: فهذه الأخبار مع كثرتها ووضوح دلالتها نص فيما ذهبنا إليه من ثبوت الشفاعة لأهل الكبائر من أمة محمد صلى الله عليه وآله وسلم ، وليس لأحد القدح في أسانيدها لثبوتها عند الأمة من أهل البيت وشيعتهم والمحدثين وكثرة من رواها من الصحابة والتابعين فقد رويت في هذا الموضع على اختلاف ألفاظها وتباين طرقها عن علي عليه السَّلام ، وعن ابن عباس وجابر، وكعب بن عجزة، و أنس بن مالك، وابن عمر، وأبي الدرداء، وعمران بن الحصين، وأبي موسى، وأبي هريرة، وعوف بن مالك، ورجل من الصحابة وأبي سعيد، وحذيفة، وابن مسعود، وأنيس بالتصغير فهؤلاء من الصحابة، ومن التابعين: زين العابدين، وطاووس، ومجاهد، وفي الباب غير ماذكرنا هنا كأحاديث ثبوت الشفاعة للأمة وهي صحيحة ثابته متلقاة بالقبول بين الأمة، مجمعة على القول بمدلولها فإنه لا خلاف بين الأمة أجمع في ثبوت شفاعة النبي صلى الله عليه وآله وسلم لأمته في الجملة، وتلك الأحاديث عامة تتناول صاحب الكبيرة وغيره كما في قوله صلى الله عليه وآله وسلم :((إني ادخرت دعوتي شفاعة لأمتي )) أو كما قال، وهو في أمالي أبي طالب وغيره من كتب الحديث، ومن أنصف من نفسه وبحث في كتب الحديث علم أن الأحاديث القاضية بثبوت الشفاعة لعصاة الأمة كما هي للمطيعين منهم متواترة معنى، بعضها يدل على المقصود صريحاً، وبعضها بطريق الظهور، وقد ادعى بعض أهل النظر تواترها.
قال العلامة المقبلي في (الأرواح النوافخ) ما معناه: أنه توقف العفو عن التعذيب قبل دخول النار وبعد دخولها على شفاعة محمد صلى الله عليه وآله وسلم وشفاعة سائر الأنبياء، وكذلك شفاعة الملائكة وسائر المؤمنين كما تواترت السنة المفيدة للقطع بذلك، ولا يجحده إلا جاهل للسنة أو من غطىعلى بصيرته مذاهب الآباء، وقال السيد محمد بن إبراهيم الوزير في (إيثار الحق) بعد أن ذكر بحثاً في الإرجاء وتخصيص آيات الوعيد ما لفظه: ومن ذلك أحاديث خروج من دخل النار من الموحدين برحمة الله تعالى ثم شفاعة رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ، وشفاعته من رحمة الله تعالى.
قال: والذي حضرني الآن من الأحاديث المصرحة بخروجهم من النار أحاديث كثيرة جداً عن أكثر من عشرين من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ، من ذلك في علوم آل محمد صلى الله عليه وآله وسلم عن علي بن أبي طالب عليه السَّلام في باب ما يقال بعد الصلاة، وفي مسند أحمد عن أبي بكر وابن عباس.
وفي صحيحي البخاري ومسلم عن أبي سعيد الخدري، وأنس بن مالك، وأبي هريرة، وفي البخاري وحده عن عمران بن حصين، وفي صحيح مسلم عن ابن مسعود وجابر بن عبد الله.
وفي مستدرك الحاكم عن أبي موسى عشرتهم عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم بذلك بألفاظ صريحة ضرورية لا تحتمل التأويل، وفي مجمع الزوائد مثل ذلك عن عشرة من الصحابة غير هؤلاء الذين ذكرتهم، والتواتر يحصل بهذا، بل بدون ذلك، ولا يشترط في رجاله العدالة كيف وقد اجتمعاغالباً وما زالوا يروون ذلك في عهد رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وبعده لا ينكره منكر، ولا يزجر عنه أحد، ثم وافقهم جماعة كثيرة على هذا المعنى لكن بغير لفظ الخروج من النار، وذلك كثير جداً منهم من روى أن الشفاعة نائلة من مات لا يشرك بالله شيئاً كعبد الله بن عمر بن الخطاب، وأبي ذر الغفاري، وعبد الله بن عمر، وعوف بن مالك، وأبي هريرة، وابن عباس، ومعاذ وأبي موسى، وأنس، وأبي أيوب، وأبي سعيد، ومنهم من روى حديث شفاعتي لأهل الكبائر من أمتي كما ثبت ذلك من حديث جابر بن عبد الله وأنس بن مالك وابن عمر، ورواه الحاكم في المستدرك من حديث جعفر بن محمد الصادق عليه السَّلام عن أبيه الباقر عن جابر، وفي حديث ابن عمر حرب بن شريح وثقه جماعة وفيه خلاف يسير ينجبر بالشواهد، وروى نحو ذلك بغير لفظه من طريق النعمان بن قراد وهو ثقة رواهما الهيثمي في مجمعه، ولفظ حديث النعمان: ((إن شفاعتي ليست للمؤمنين المتقين لكنها للمكذبين الخاطئين المتلوثين )) وروى الهيثمي نحو ذلك عن أم سلمة وعبد الله بن بشير وأبي أمامة.
والجواب: أن هذه الشبهة أقوى ما يتمسك به الخصوم وعند بعضهم أنها قطعية متناً ودلالة كما نص عليه بعضهم كما مر، ونقول هي عن القطع والصحة بمراحل، وبيان ذلك من وجوه:
أحدها: ما في أسانيدها من المقال ونحن نتكلم على ما ذكرنا سنده هنا وهو المعتمد عندهم لأنه في الصحاح بزعمهم، وبعضه في كتب أصحابنا فهي من شهادة الخصم لخصمه، وأما ما لم يذكر سنده فلعلهم معترفون بأنه غير صحيح لذاته، فأقول وبالله التوفيق:
أما حديث: ((شفاعتي لأهل الكبائر من أمتي )) فأخرجه الترمذي وابن ماجة عن الصادق عن أبيه عن جابر، وفي رواية الترمذي محمد بن ثابت البناني قال في التقريب: ضعيف وضعفه النسائي وأبو داود، وقال البخاري: فيه نظر، وقال ابن معين: ليس بشيء، وفي سند ابن ماجة زهير بن محمد التميمي أبو المنذر الخراساني قال في التقريب: رواية أهل الشام عنه غير مستقيمة فضعف بسببها، وقال البخاري عن أحمد: كان زهير الذي يروي عنه الشاميون آخر، وقال أبو حاتم: حدث بالشام من حفظه فكثر غلطه.
قلت: والحديث من رواية الشاميين عنه لأن الراوي عنه الوليد بن مسلم الدمشقي وهو شامي مع أن الوليد نفسه قد رمي بالتدليس، قال في التقريب: ثقة لكنه كثير التدليس والتسوية، وقال في التذكرة: لا نزاع في علمه وحفظه وإنما الرجل يدلس فلا يحتج به إلا إذا صرح بالسماع، وأخرجه الترمذي، وأبو داود عن أنس ورجال الترمذي موثقون، وكذلك رجال أبي داود إلا بسطام ابن حريث فلم أعرفه، نعم وحديث عمران بن حصين في إسناده حسن بن ذكوان، قال في التقريب: صدوق يخطئ ورمي بالقدر فكان يدلس. وحديث أبي موسى فيه نعيم بن أبي هند رمي بالنصب، وحديث أبي هريرة فيه أبو معاوية محمد بن حازم الضرير، قيل ربما دلس ورمي بالإرجاء، وقال في الميزان: إنه ثقة ثبت ما علمت فيه مقالاً يوجب وهنه مطلقاً، وحديث عوف بن مالك فيه سعيد بن أبي عروبة، قال في التقريب: ثقة حافظ له تصانيف لكنه كثير التدليس واختلط فكان من أثبت الناس في قتادة وفي السند الآخر أبو عوانة قيل مجمع على ثقته.
وفي حواشي التقريب قال أبو حاتم: يغلط كثيراً إذا حدث من حفظه. وقال في الجداول: قال أحمد وعفان: صحيح الكتاب تكلم فيه بعضهم.
وفي إسناد ابن ماجة هشام بن عمار قال في التقريب: صدوق مقري كبر فصار يتلقن فحديثه القديم أصح، وفي حواشيه عن أبي حاتم: صدوق تغير وقال صالح جزرة كان يأخذ على التحديث، وحديث أبي سعيد عن مسلم فيه أبو نظرة المنذر بن مالك.
قال في الميزان: قال ابن سعد: ثقة وليس كل أحد يحتج به، وأورده العقيلي في الضعفاء وما ذكر شيئاً يدل على لينه، وكذا ذكره صاحب الكامل ولم يذكر فيه شيئاً أكثر من أنه كان عريفاً لقومه، ولكن ما احتج به البخاري، وحديث جابر عند مسلم أيضاً فيه ابن جريج، قال في التقريب: ثقة فقيه فاضل وكان يدلس ويرسل، وفيه أيضاً أبو الزبير محمد بن مسلم المكي وثقه جماعة، وتكلم عليه آخرون ورمي بالتدليس وإساءة الصلاة وغير ذلك، وقال أبو زرعة وأبو حاتم: لا يحتج به، وغضب الشافعي على من احتج به. انظر الميزان.
وحديث أنس فيه أبو عوانة وقد مر ما فيه، والسند الثاني فيه محمد بن المثنى وثقه جماعة، وقال صالح جزرة: صدوق اللهجة في عقله شيء، وقال النسائي: لا بأس به كان يغير من كتابه، وفيه أيضاً محمد بن بشار بندار أثنى عليه جماعة ووثقوه، وقال في الميزان: كذبه الفلاس فما أصغى أحد إلى تكذيبه، وحكي عن ابن معين أنه كان لا يعبأ به ويستضعفه يعني القواريري أنه كان لا يرضاه وقال كان صاحب حمام، وفيه سعيد بن أبي عروبة وقد مر، وفي الثالث ابن المثنى وقد مر، ومعاذ بن هشام قال ابن معين: صدوق ليس بحجة، وقال ابن عدي: ربما يغلط، وقال الحميدي: لا تسمع من هذا القدري، وأبوه هشام الدستوائي قال في التقريب: رمي بالقدر وهو في سند البخاري، وفي سنده الآخر همام بن يحيى العوذي تكلم فيه جماعة من قبل حفظه. انظر الميزان.
فهذه كلماتهم في بعض رجال ما احتجوا به، وكيف يحتجون بما لم يثبت على أصولهم، وأما ما احتج لهم به من كتب أصحابنا فهم لا يقبلون غالب رجالنا ولا يعتمدون على مرويات أصحابنا ومع ذلك فهي محتملة للتأويل، ولعلها لا تخلو عن قادح من جهالة أو نحوها.
الوجه الثاني: من أوجه الجواب أن هذه الأخبار آحادية والمسألة قطعية لا يحتج فيها بالآحاد، فإن قيل: قد قرر غير واحد منهم تواترها منهم السيد محمد بن إبراهيم والمقبلي كما مر، قيل: شرط التواتر أن يكون عدد المخبرين في كل مرتبة جماعة يستحيل تواطؤهم على الكذب عادة مستندين إلى الحس، وهذا مفقود هنا لأن الرواة عن الصحابةوالتابعين لم يبلغوا هذا القدر، وأيضاً الصحابة أنفسهم جماعة قليلة كما عرفت، وبعد فعيار ثبوت التواتر وتوفر الشروط حصول العلم وهو لم يحصل لكثير من مشاهير علماء الأمة، لا يقال: إنما تخلف لمانع وهو لا يقدح في التواتر لأنا نقول المانع إما الجهل بتلك الأخبار وتقصير في البحث عن طرقها، أو رسوخ عقيدة صادرة عن تقليد الآباء وتأثير الأسلاف، وكل هذا منتف عن خصومكم فإنهم أهل العلم الغزير والورع الشحيح، والدين المتين، والنظر الدقيق والبحث والتفتيش، وتأسيس العقائد على القواعد المستخرجة من البراهين الساطعة والحجج القاطعة، وكيف يظن بأهل بيت النبوة وأتباعهم الجهل بالعلوم وهم عيبة العلم ومعدن الحكم، ورؤساء الدين، من تمسك بهم نجا، ومن تخلف عنهم غرق وهوى، فإن قيل: المدعى هو التواتر المعنوي.
قلنا: ممنوع فإن شرطه بلوغ عدد المخبرين بآحاد الوقائع إلى حد التواتر وهو منتف هنا كما مر، وأيضاً لم تتعدد الوقائع فإنهم كلهم مخبرون عن ثبوت الشفاعة، واختلفت ألفاظهم وقد طعن فيها بذلك.
قال بعض أئمة العدل: هي أخبار عن واقعة واحدة رويت على وجوه مختلفة مع الزيادة والنقصان وذلك مما تطرق التهمة إليها، وبعد فالمخبرون هنا هم الخصوم وهم أهل الدعوى، وقد قرر أنه لا تقبل رواية الداعي إلى مذهبه، وروي عن المقبلي أنه قال لو روى أحد ما يقوي مذهبه لم تمسه الصحة.
الوجه الثالث: أن بعض تلك الأخبار مشتملة على التجسيم والتشبيه وغيرهما وبعضها أشد من بعض في الاشتمال على ذلك، وقد نزهنا كتابنا هذا عن بعض الألفاظ الشنيعة في ذلك كإثبات الصورة والساق وأضرابهما، واشتمالها على ما لا نزاع بيننا وبين خصومنا في بطلانه بحسب الظاهر مما يوجب التهمة في الأخبار المتضمنة له.
الوجه الرابع: أنها متناقضة فإن في بعضها ما يدل على عموم الشفاعة للمؤمن والكافر، وفيها ما يخص فساق الأمة، وفيها ما يشمل مؤمنهم وكافرهم، والخصم لا يثبت الشفاعة للكافر ويخص بالشفاعة العظمى الفاسق، والظاهر أن القصة واحدة، والحديث واحد، وهذا الاختلاف يدل على عدم ضبط الرواة لألفاظ الحديث، لا يقال يمكن حمل الاختلاف على تعدد الشفاعات فمنها عام ومنها خاص، والعام يتناول الكافر في إراحة الناس من الموقف وتعجيل الحساب ونحو ذلك ولا مانع من وقوع مثل هذه الشفاعة للكافر، وهكذا تؤول سائر الألفاظ بحسب ما يقتضيه اللفظ، وقد قيل إن الشفاعة تنقسم إلى خمسة أقسام ووزعت الأحاديث عليها لأنا نقول الظاهر أن الحديث واحد وقع في بيان أحوال القيامة وما يتعلق بها من الشفاعة، وحينئذ فاختلاف ألفاظه ليس لاختلاف الشفاعة بل لعدم ضبط الرواة، وأيضاً القول بثبوت أي شفاعة للكافر معارض بقوله تعالى: {وَاتَّقُوا يَوْماً لاَ تَجْزِي نَفْسٌ عَنْ نَفْسٍ شَيْئاً ...}[البقرة: 48] الآية ونحوها، فثبت تناقض الروايات، وذلك دليل ضعفها فإن رجعوا إلى التخصيص والتأويل فليسوا بأولى منا، وقد استند بعض أصحابنا في إبطال بعض هذه الأحاديث إلى كونها طويلة فلا يمكن ضبط الحديث النبوي. والله أعلم.
الوجه الخامس: أنه قد تقرر أن الخبر إذا كان مما توفر الدواعي إلى نقله ولم يتواتر وجب رده، قيل: والقطع بكذبه، ومن موجبات التوفر أن يكون متعلقاً بأصول الدين، ولا شك أن هذه الشفاعة مما تتوفر الدواعي إلى نقلها فلو كانت صحيحة لتواترت.
الوجه السادس: أن هذه الأخبار معارضة بمثلها بل بأكثر منها، وقد تقدم بعض ذلك وهي ألفاظ صريحة في نفي الشفاعة عن كثير من أهل الكبائر، وما ثبت في البعض ثبت في الكل كما مر تقريره، والخصم يدعي التعميم، على أن أخبارنا موافقة لسائر أدلة الخلود في النار وهي كثيرة كتاباً وسنة، وقد روى الإمام المهدي وغيره عن الحسن البصري عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أنه قال: ((لا تنال شفاعتي أهل الكبائر من أمتي )) وفي لفظ: ((ليست شفاعتي لأهل الكبائر من أمتي )) ولا يضر إرساله لاعتضاده بأخبارنا الصريحة بنفي الشفاعة لمرتكب بعض الكبائر، ثم ظاهر الآيات المتقدمة وغيرها فهو أولى بالقبول وبالبقاء على الظاهر من حديث أنس وجابر.
الوجه السابع: أن أخباركم تدل على أن شفاعته ليست إلا لأهل الكبائر، وهذا غير جائز لأن شفاعته صلى الله عليه وآله وسلم منصب عظيم، وتخصيصها بأهل الكبائر يقتضي حرمان أهل الثواب منها، وذلك غير جائز فلا أقل من التسوية، مع أنها معارضة بما مر من ثبوتها للمؤمنين، وهذا الوجه يمنع من إجراء أخباركم على ظاهرها.
الوجه الثامن: أن هذه الأخبار محتملة للتأويل فنحو حديث: ((شفاعتي لأهل الكبائر وللمذنبين من أمتي ولمن مات لا يشرك بالله شيئاً)) وما أدى إلى هذا المعنى مأول بأهل التوبة فيقال شفاعته لهؤلاء بعد التوبة إذ يكون ثوابهم قليلاً لتقدم المعاصي منهم فيشفع لهم صلى الله عليه وآله وسلم حتى يقاربوا أهل الطاعات، وقيل: تأثير الشفاعة في أن يتفضل الله عليهم برد ما انحبط من ثواب الطاعة، وقد قيل في تأويل حديث شفاعتي لأهل الكبائر... إلخ المراد منه شفاعتي لأهل الكبائر بهمزة الإنكار كما قيل في قوله تعالى: {هَذَا رَبِّي }[الأنعام:76] أي أهذا ربي، وقد روى بعض المعتزلة الحديث بالتصريح بالهمزة، لكن يرفع هذا التأويل بسائر الأخبار، ومنهم من قال إن لفظ الكبيرة غير مختص بالمعصية لا في اللغة ولا في الشرع فيتناول الطاعة، وعليها يحمل الحديث، فيقال: الشفاعة لأهل كبائر الطاعات وفيه ما مر، وأما سائر الأخبار فيقال في تأويلها المراد بها من مات على التوبة وما في بعضها من كان في قلبه ما يزن من الخير ذرة ونحوه، المراد منه أن يكون قد استحق الثواب بالتوبة وبزيادة هذا المقدار وما فيها من ذكر خروجهم من النار بالشفاعة أنهم قد صاروا فحماً وضبائر وكعيدان السماسم ونحو ذلك، فقال القرشي: لا بد من ترك ظاهره لأن أهل النار لا بد أن يكونوا أحياء، والفحم لا تصح الحياة فيه، ثم ذكر أن المراد يخرج من عمل أهل النار.
قال: وشبههم بالفحم والحمم لعظم ذنوبهم فكأنهم قد احترقوا.
قيل: المراد خروجهم عن الحكم والاستحقاق وهو قريب من الأول لأن من خرج عن عمل أهل النار فقد خرج عن استحقاقها والحكم له بها، وهذا المعنى شائع قال الله تعالى: {وَكُنْتُمْ عَلَى شَفَا حُفْرَةٍ مِنَ النَّارِ فَأَنْقَذَكُمْ مِنْهَا}[آل عمران:103] فالمراد التشبيه فكأنهم لفرط انهماكهم بالمعاصي واستحقاقهم للعقاب قد أشرفوا عليه وقاربوا محله، ودعاء النبي صلى الله عليه وآله وسلم لهدايتهم إياهم إلى الهدى ودلالتهم عليه هو الذي أنقذهم من ذلك العقاب، ومثله قوله صلى الله عليه وآله وسلم وقد سمع قارئاً يقرأ قل هو الله أحد فقال: ((أما هذا دخل الجنة )) وروي أنه صلى الله عليه وآله وسلم قال حين سمع المؤذن يقول أشهد أن لا إله إلا الله: ((خرج من النار)) روى هذين الحديثين بعض أئمتنا أخرج الأخير منهما أحمد ومسلم والترمذي وصححه، فإن قيل: لو أراد الشارع المعنى الذي جنحتم إليه والتأويل الذي حملتموها عليه لبنه عند النطق بها عليه، وإلا كان ملغزاً وحاملاً للسامع على اعتقاد جهل لظهورها فيما ذهب إليه الخصوم، وذلك لا يجوز منه.
قيل: المجاز باب عظيم تتخرج عليه كثير من آيات القرآن الكريم، وعليه أهل اللغة بل استعمالهم إياه أكثر من استعمالهم للحقيقة لما فيه من البلاغة، فلو منع هذه الأخبار لما ذكرتم لمنع في الكتاب وسائر الأخبار النبوية والآثار العلوية، ثم إن الذي عليه النظار من المتكلمين وأهل المعاني أن القرينة إذا كانت معلومة عند المتكلم والسامع حسنت المبالغة في التجوز من دون تنصيص عليها، بل ظاهر كلام بعضهم أن ظن القرينة كاف في حسنه، والحكمة في إيراد مثل هذا في السنة هي الحكمة في إيراد المتشابه في التنزيل، وهذا نوع من المتشابه، والكتاب والسنة أخوان، فإن قيل ما الفائدة في تخصيص التائبين من الكبائر بالذكر على مقتضى تأويلكم والشفاعة عندكم لكل مؤمن سواء كان قد تلبس بكبيرة ثم تاب منها أم لم يتلبس بها أصلاً.
قيل: الفائدة دفع توهم سقوط دفع حظهم من الشفاعة لارتكابهم الكبائر والتنبيه على أنهم أحوج إليها من حيث أنهم قد صاروا في عداد الفقراء ليس لهم إلا ثواب التوبة، فهذا تحقيق مسألة الشفاعة وما يتعلق بها من الخلاف والاستدلال، وقد جمعنا في بعض هذه الأوراق ما تفرق في مواضع من كتب المؤالف والمخالف، وأتينا من أدلة الفريقين بما به يظهر للناظر المنصف الحق في المسألة، ونسأل الله أن يعصمنا من الزيغ والزلل، وأن يوفقنا إلى معرفة الحق على الوجه الأكمل.
واعلم أنه روى في البدر الساري عن الإمام الناصر محمد بن علي أنه قال: لا يجب بالشفاعة أكثر من التصديق بها، وأما كيفية من يستحقها فأمر راجع إلى الله سبحانه ونؤمن بها على الوجه الذي يريده سبحانه، والإيمان بالشفاعة قول باللسان واعتقاد بالجنان وهي المراد بقوله تعالى: {عَسَى أَنْ يَبْعَثَكَ رَبُّكَ مَقَاماً مَحْمُوداً }[الإسراء: 79] وقوله تعالى: {وَلَسَوْفَ يُعْطِيكَ رَبُّكَ فَتَرْضَى }[الضحى:5] ونحن نؤمن بها ونصدق بما ورد فيها عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم .
تنبيه [في المطلوب بالشفاعة]
اختلف أئمة العدل في المطلوب بالشفاعة فقال أئمتنا وجمهور المعتزلة: المطلوب بها أن يجعل لهم من الدرجات وزيادة النعيم فوق ما كانوا يستحقونه ثواباً على أعمالهم تفضلاً منه جل وعلى.
وقال أبو الهذيل: بل المطلوب أن يعود الثواب الذي أسقطته المعصية، وردّ بما مر في الثانية من مسائل قوله تعالى: {فَتَلَقَّى آدَمُ مِنْ رَبِّهِ كَلِمَاتٍ ...}[البقرة:37] الآية من أنه يلزم أن يكون التائب من الكبيرة أحسن حالاً منه لو لم يرتكبها إذ يكون له ثواب التوبة مع ثوابه الأول.
قال القرشي: وله أن يقول إن ثواب التوبة هو أن يعود بها وبالشفاعة ما سقط من ثوابه فيكون كمن لا ذنب له، فيكون ذلك مطابقاً لما روي عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم : ((التائب من الذنب كم لا ذنب له )).
قلت: لو كان المطلوب بها ما ذكره أبو الهذيل للزم أن يختص بها التائبون عن المعاصي دون من ثبت على الإيمان طول حياته ولم يتلبس بكبيرة، ولا أظن أبا الهذيل يلتزم هذا. والله أعلم.
تنبيه [في تأكيد الشفاعة]
قد تضمنت الأحاديث المتقدمة ثبوت الشفاعة لغير نبينا صلى الله عليه وآله وسلم ، وقد روي عدة أحاديث في ثبوتها للأنبياء والعلماء وغيرهم، اللهم ارزقنا الشفاعة وكرمنا بها يا كريم.
تنبيه [تأكيد لما وعد به المؤلف]
قد كنا وعدنا في أول كتابنا هذا أن نجمع فيه ما يتعلق بالقرآن الكريم من مسائل الاعتقاد والعبادات والمعاملات، وقد أتينا فيما قدمنا على ذلك وهو إن شاء الله مقصد صالح، ومتجر رابح، وتحصيل مفيد، إلا أن الكتاب طال بسبب ذلك وكثرة مباحثه وتعدد أجزائه، ورأينا الهمم ناقصة، والقرائح جامدة، والملل قد غلب، فربما يكون تكثير فوائده وتعدد مباحثه ومسائله، وتشعب فنونه سبباً لتركه والإعراض عنه فيفوت الغرض المقصود من نفع المسلمين وهدايتهم إلى ما يقربهم من رضا رب العالمين، فلما كان الأمر على ما وصفنا رأينا الاقتصار على الأهم هو الصواب، والمطابق لدليل العقل والسنة والكتاب، ولا شك أن أهم المقاصد، وأوجب ما يجب تقييده من الشوارد، هو ما يعين على تصحيح العقائد، ثم أمهات مسائل أصول الفقه إذ عليها مدار لولب كثير من مسائل الاعتقاد فضلاً عن غيرها، ولأجل ذلك كان الاقتصار من هذا الموضع على ما يتعلق بالاعتقاد من مسائل علم الكلام، ونسأل الله تعالى الإعانة على ذلك، وأن يجعل أعمالنا خالصة لوجهه الكريم. آمين.
[البقرة: 50]
قوله تعالى: {وَإِذْ فَرَقْنَا بِكُمُ الْبَحْرَ فَأَنْجَيْنَاكُمْ وَأَغْرَقْنَا آلَ فِرْعَوْنَ وَأَنْتُمْ تَنظُرُونَ}[البقرة:50] في الآية مسألتان:
المسألة الأولى [من معجزات النبي]
في هذه الآية وسائر ما قص الله على محمد من أخبار آباء بني إسرائيل معجزة باهرة، وحجة واضحة على أهل الكتاب لأن النبي صلى الله عليه وآله وسلم كان أمياً لا يكتب ولا يقرأ ولم يخالط أهل الكتاب، فإذا أخبرهم والحال هذه [بما] يعلمونه في كتبهم مفصلاً علم أنه أخبر عن وحي وأنه صادق، فكان ذلك دليلاً على صحة نبوته صلى الله عليه وآله وسلم .
المسألة الثانية [دلالة الآية على وجود الصانع]
في الآية سؤال وهو أن فلق البحر في الدلالة على وجود الصانع المختار، وفي الدلالة على صدق موسى كالأمر الضروري فكيف جاز فعله في زمان التكليف.
قال الرازي: الجواب أما على قولنا فظاهر، ولعله أرد أنه يجوز من الله تعالى ولا يقبح منه إذ لا يقبح منه ما يقبح من غيره.
قال وأما المعتزلة فقد أجاب الكعبي بأن في المكلفين من يبعد عن الفطنة والذكاء، وعامة بني إسرائيل كانوا كذلك فاحتاجوا إلى التنبيه بالآيات الظاهرة كفلق البحر ورفع الطور وإحياء الموتى، ألا ترى أنهم بعد ذلك مروا بقوم يعكفون على أصنام لهم {قَالُوا يَامُوسَى اجْعَل لَنَا إِلَهاً كَمَا لَهُمْ آلِهَةٌ}[الأعراف: 138] وأما العرب فكانوا بخلاف ذلك، ولهذا اقتصر الله معهم على الدلائل الدقيقة، والمعجزات اللطيفة، وحاصل الجواب أن فلق البحر لم يكن في حكم الضروري فإنه لا يحصل به الدلالة لبني إسرائيل مع بلادتهم إلا بعد النظر في أن موسى لا يقدر على ذلك الفعل وأن ضربه لا يؤثر.
[البقرة:51]
قوله تعالى: {وَإِذْ وَاعَدْنَا مُوسَى أَرْبَعِينَ لَيْلَةً ثُمَّ اتَّخَذْتُمُ الْعِجْلَ مِنْ بَعْدِهِ وَأَنْتُمْ ظَالِمُونَ، ثُمَّ عَفَوْنَا عَنْكُمْ مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ}[البقرة: 51،52] العفو: محو الجريمة من عفاه إذا درسه، وفي الآية مسائل:
المسألة الأولى [استطراد في ذكر الظالم]
قد تقدم معنى الظلم والمراد هنا أنهم قوم عادتهم الظلم، وأنهم ظلموا أنفسهم بإشراكهم حيث اتخذوا العجل إلهاً، والمكلف إذا فعل ما يؤديه إلى العقاب سمي ظالماً لنفسه، وفي هذه الجملة دليل على أن المعاصي ليست بخلق الله تعالى لأنه نسب الظلم إليهم وذمهم عليه، ولا يحسن ذم من لا يفعل ما يوجب الذم، وفيها دليل على أن الله تعالى لا يريد المعاصي؛ إذ لو أرادها لكانوا مطيعين له تعالى بفعلها لأن الطاعة عبارة عن فعل المراد.
المسألة الثانية [دلالة الآية على قبول التوبة]
قيل في قوله تعالى: {ثُمَّ عَفَوْنَا عَنْكُمْ }[البقرة: 52] دليل على أن قبول التوبة غير واجب عقلاً لأن الله تعالى عد هذا العفو المرتب على التوبة المأمور بها بقوله تعالى: {فَتُوبُوا إِلَى بَارِئِكُمْ }[البقرة:54] من جملة النعم التي امتن بها على بني إسرائيل، فلو كان هذا العفو واجباً لما حسن جعله من باب الإنعام لأن من أدى ما يجب عليه للغير لا يقال إنه منعم عليه.
قلت: قد مر في قوله تعالى: {الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ }[الفاتحة:2]. وهو الفعل بالوجوب لا يمنع من كونه نعمة.
قالوا:العفو إسقاط العقاب المستحق،فأما إسقاط ما يجب إسقاطه فذلك لا يسمى عفواً، دليله أن الظالم لما لم يجز له تعذيب المظلوم فإنه إذا ترك تعذيبه لا يقال إنه عفى عنه، ويمكن أن يقال إنه قد ثبت بالدليل وجوب قبول التوبة كما مر في قوله تعالى: {فَتَلَقَّى آدَمُ مِنْ رَبِّهِ كَلِمَاتٍ فَتَابَ عَلَيْهِ}[البقرة:37] وحينئذ فيقال العفو هنا ليس على حقيقته، بل هو مجاز عن قبول التوبة وحصول المغفرة بجامع محو الذنب وسقوط العقاب بكل، والقرينة دليل وجوب قبول التوبة.
فائدة [في ذكر الفرق بين العفو والمغفرة]
الفرق بين العفو والمغفرة أن العفو يجوز أن يكون بعد العقوبة ويجتمع معها، وأما الغفران فلا يكون مع عقوبة.
قلت: ويجوز أن يكون العفو في الآية على حقيقته، ولا ينافي وجوب قبول التوبة، وذلك بأن يراد بالعفو عن قتلهم أنفسهم حتى ينفدوا، وقد أشار أبو حيان إلى أنه بهذا المعنى مقصود به الترك والتسهيل وهما من معاني عفا، قال: فيكون عنكم عام اللفظ خاص المعنى لأن العفو إنما كان عمن بقي منهم.
أقول: وعليه فالمراد بالعفو عن الباقين هو رفع إيجاب قتلهم أنفسهم، وقبول توبتهم من دونهم، ولامانع من ذلك. والله أعلم.
المسألة الثالثة [تأكيد مذهب العدلية في شكر العبد]
ظاهر الآية أنه تعالى إنما عفا عنهم لكي يشكروا، وذلك يدل على أنه تعالى لم يرد منهم إلا الشكر فيكون رداً لقول المجبرة أن الله تعالى أراد من الكافر الكفر.
[البقرة: 53]
قوله تعالى: {وَإِذْ آتَيْنَا مُوسَى الْكِتَابَ وَالْفُرْقَانَ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ}[البقرة: 53] في قوله تعالى لعلكم تهتدون دليل لما يذهب إليه أئمة العدل من أن الله تعالى يريد الاهتداء من الكل، وإبطال لقول من قال إنه يريد الكفر من الكافر إذ الخطاب عام، وأيضاً لو كان الله تعالى هو الذي يخلق الاهتداء في المهتدي والضلال في الضال لانتفت الفائدة من إنزال الكتاب والفرقان، ومن قوله تعالى: {تَهْتَدُونَ} لأن الاهتداء إذا كان بخلقه فلا تأثير لذلك؛ إذ يحصل الاهتداء من دون الكتاب، ولو جعل بدل الكتاب الواحد ألف كتاب ولم يخلق الاهتداء فيهم لما اهتدوا فيكون إنزال الكتب عبثاً تعالى الله عن ذلك، وكيف يجوز منه أن يقول أنزلت الكتاب لكي تهتدوا، والغرض أنه لا تأثير لإنزاله هل هذا إلا كذب محض يتحاشى منه أدنى الخلق فكيف بالخالق العليم الغني الحكيم.
قوله تعالى: {فَتُوبُوا إِلَى بَارِئِكُمْ فَاقْتُلُوا أَنفُسَكُمْ}[البقرة: 54] القتل قال القرطبي: إماتة الحركة، وقتلت الخمر كسرت شدتها بالماء، وقال أبو حيان القتل: إزهاق الروح بفعل أحد من طعن، أو ضرب، أو ذبح، أو خنق أو ما شابه ذلك، وأما إذا كان من غير فعل فهو موت وهلاك، والمقتل المذلل، وفي الآية مسائل:
المسألة الأولى[الفرق بين الموت والقتل]
قال القاضي عبد الجبار القتل: هو نقض البنية التي عندها يجب أن يخرج من أن يكون حياً، وحاصله أنه الفعل المزهق للروح في الحال، وما عدا ذلك فمما يؤدي إلى أن يموت قريباً أو بعيداً إنما سمي قتلاً على سبيل المجاز.
قال الرازي: بل هو الفعل المؤدي إلى زهوق الروح في الحال أو بعده بدليل أنه لوحلف أن لا يقتل زيداً فجرحه جراحة عظيمة وبقي بعدها حيا لحظة واحدة ثم مات فإنه يحنث في يمينه، ويسميه أهل اللغة قاتلاً، والأصل في الاستعمال حقيقة.
المسألة الثانية [تحقيق معنى القتل المذكور في الآية]
ظاهر الآية أنهم أمروا بالقتل المعروف وبمباشرتهم قتل أنفسهم بأن يقتل كل واحد منهم نفسه، وقيل: أمر من لم يعبد العجل بقتل من عَبَدَهَ، والمعنى ليقتل بعضكم بعضاً كما قيل في قوله تعالى: {وَلاَ تَقْتُلُوا أَنفُسَكُمْ }[النساء: 29] وقوله {لَوْلاَ إِذْ سَمِعْتُمُوهُ ظَنَّ الْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بِأَنفُسِهِمْ خَيْراً }[النور: 12] وتحقيقه أن المؤمنين كالنفس الواحدة، وقيل معنى القتل هنا التذلل أي ذللوا أنفسكم بالطاعات والكف عن الشهوات، وقد روي إجماع المفسرين على أنهم ما قتلوا أنفسهم بأيديهم.
قيل: ولا يلتفت إليه لأنه قد نقل القول بذلك ودفعه قاضي القضاة بطريق عقلية تحريرها أنه لا يجوز من الله تعالى أن يأمرهم بقتل أنفسهم بأيديهم لأن ذلك يكون تكليفاً شرعياً، والتكاليف الشرعية إنما تحسن بكونها مصالح لذلك المكلف، ولا تكون مصلحة إلا في الأمور المستقبلة وليس بعد القتل حال تكليف حتى يكون القتل مصلحة فيه، قال: وهذا بخلاف ما يفعله الله من الإماتة لأن ذلك من فعل الله فيحسن أن يفعله إذا كان صالحاً لمكلف آخر يعوض ذلك المكلف بعوض عظيم، وبخلاف أن يأمر الله تعالى بأن يجرح نفسه أو يقطع عضواً من أعضائه، ولا يحسن الموت عقيبه لأنه ما بقي بعد ذلك الفعل حياً لم يمتنع أن يكون ذلك الفعل صلاحاً في الأمور المستقبلة، واعترض بأنه بناه على ما مر له من حقيقة القتل وفيه ما مر، وقد أخبر النبي صلى الله عليه وآله وسلم وهو الصادق في خبره أن أمير المؤمنين سيقتل، وكذلك أمير المؤمنين عليه السَّلام كان يخبر بذلك، وقد علم أن الواقع لأمير المؤمنين إنما هو الجراحة المثخنة ولم يمت منها في الحال وقد سمي ذلك قتلاً وفاعله قاتلاً، وعلى ذلك جرى عمل العلماء في ذكر أحكام القتل وما يتعلق به من القصاص والكفارات والديات، فإنهم يسمون الفعل المزهق للروح قتلاً، ولم يفصلوا بين أن يكون الإزهاق في الحال أو بعده، والأصل في الإطلاق الحقيقة، ولا قرينة تصرف عنه.
إذا عرفت هذا فلا وجه لمنع الأمر بالقتل في الآية على قتل كل واحد منهم نفسه لجواز ورود الأمر بالجراحة التي لا يستعقبها الزهوق في الحال، فإذا كان الأمر كذلك فلا يلزم انتفاء المصلحة في المستقبل إذ تحصل مدة البقاء بين الجراحة والموت، ولوسلم ما ذكره القاضي في معنى القتل فلا يلزم منه قبيح.
أما عند الأشاعرة فظاهر لأنهم لا يشترطون حصول المصلحة في التكليف، ولهذا قالوا أمر من يعلم موته على الكفر بالإيمان ولا مصلحة له في ذلك إذ لا تحصل منه فائدة إلا استحقاق العقاب، ولا يقبح من الله تعالى قبيح عندهم، وقد أبطلنا مقالتهم هذه فيما مر.
وأما عند العدلية فلأنه لامانع من أن يكون له في علمه بأنه مأمور بذلك الفعل مصلحة نحو أن يعلم أنه سيقتل نفسه غداً فإن اعلمه بذلك مصلحة يكون داعياً له إلى ترك القبيح من ذلك الوقت إلى الغد.
المسألة الثالثة [تفسير القتل بالتوبة]
ظاهر الآية يقتضي كون التوبة مفسرة بالقتل وأنه نفس توبتهم، وهذا قول سفيان بن عيينة روي أنه قال: التوبة نعمة من الله أنعم بها على هذه الأمة دون غيرها من الأمم وكانت توبة بني إسرائيل القتل، وقيل: ليس القتل نفس التوبة وإنما هو شرط فيها، والشرط قد يطلق عليه اسم المشروط مجازاً كما يقال للغاصب إذا قصد التوبة: توبتك رد ما غصبت يعني أن توبتك لا تتم إلا به.
[البقرة: 56،55]
قوله تعالى: {وَإِذْ قُلْتُمْ يَامُوسَى لَنْ نُؤْمِنَ لَكَ حَتَّى نَرَى اللَّهَ جَهْرَةً فَأَخَذَتْكُمُ الصَّاعِقَةُ وَأَنْتُمْ تَنظُرُونَ، ثُمَّ بَعَثْنَاكُمْ مِنْ بَعْدِ مَوْتِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ}[البقرة: 55،56] جهرة: منصوب على المصدر يسلط عليه عامل من معناه وهو نرى لأن جهرة نوع من الرؤية، والمعنى حتى نراه عياناً، وإنما قالوا جهرة لدفع توهم كون المراد لرؤية العلم، والصاعقة: قيل نار من السماء أحرقتهم، وقيل: صيحة من السماء وقيل أرسل الله تعالى جموعاً من الملائكة فسمعوا حسهم فخروا صعقين أي ميتين، وعلى هذه الأقوال فهي سبب الموت، وقيل: بل الصاعقة الموت نفسه، وفيه ضعف لقوله: {وَأَنْتُمْ تَنظُرُونَ} إذ لو كانت هي الموت لامتنع كونهم ناظرين إليها، وفي الآية مسائل:
المسألة الأولى [دلالة الآية على امتناع رؤية الله تعالى]
في الآية دليل على امتناع رؤية الله عز وجل، وسيأتي بيان وجه الاحتجاج بها.
واعلم أنه قد كثر النزاع بين الأمة في هذه المسألة حتى كفر بعضهم بعضاً بسببها، وتشبث كل فريق منهم على دعواه بالعقل والنقل، ولا بد لنا من تحقيق الكلام فيها في هذا الموضع بما يرفع الشك ويحل الإشكال إن شاء الله تعالى على عادتنا في استيفاء الكلام على المسألة العظيمة، وتحقيق المسألة وما يتعلق بها يتحصل في ثلاثة مواضع:
الأول: في ذكر الخلاف.
الثاني: في حجج أصحابنا.
الثالث: في شبه المخالف.
الموضع الأول: في ذكر الخلاف ذهب أهل العدل كافة من أهل البيت " والزيدية والمعتزلة إلى أن الله تعالى لا تجوز عليه الرؤية بحال لا في الدنيا ولا في الآخرة، ولا يجوز أن يدرك بشيء من الحواس، وهو قول الخوارج والمرجئة، ورواه في المواقف عن الأكثرين وفي غيرها عن كثير من الفرق الخارجة عن الإسلام، والخلاف في ذلك مع الحشوية والمجبرة على طبقاتها إلا النجارية فإنهم قالوا لا تجوز عليه الرؤية، ثم اختلف المثبتون لها في أمور:
الأول: هل يرى الله تعالى المكلفون كلهم أو البعض؟ قالت الحشوية: يراه الكل، وقالت المجبرة: يراه البعض فقط وهم المؤمنون؛ لأن الرؤية عندهم ثواب ولا يستحقه إلا المؤمنون.
الثاني: هل يرى في الدنيا والآخرة؟ أو لا يرى إلا في الآخرة؟ ذهبت الحشوية إلى الأول، قالوا: وإنما لم ير الآن لمانع، وعندهم أنه يجوز أن يكون في الأنبياء والأولياء من يراه الآن، والمجبرة إلى الثاني بناء منهم على الأصل المتقدم وهو أن الرؤية ثواب ولا ثواب إلا في الآخرة.
الثالث: اختلفوا في كيفية رؤيته، فقالت المجسمة: يرى رؤية محققة في جهة على حد رؤية الأجسام على مثل هيئة ملوك البشر، وقالت الأشعرية: بل يرى بلا كيف أي لا في جهة لا خلف ولا أمام، ولا فوق ولا تحت، ولا يمين ولا شمال، قالوا: لأن المرئي إنما يرى لأجل الصفة التي يعلم عليها والله تعالى ليس بجسم ولا في جهة فيرى كذلك، قيل: وهذه الرؤية غير معقولة ولهذا قال الرازي: الخلاف بين الأشعرية والمعتزلة في الرؤية لفظي، وإنما تؤول هذه الرؤية التي أثبتها الأشعرية إلى العلم، وهذا هو قول المعتزلة، ومثله ذكر الغزالي في الاقتصاد.
قلت: ومراد الرازي بالعلم هنا الضروري، وقد صرح به عنه في الأساس حيث حكى عنه أنه قال معنى قول الأشاعرة معرفة ضرورية وعلم نفسي أي يعلم علماً يجده الإنسان من نفسه.
قال الإمام القاسم بن محمد عليه السَّلام : فالخلاف حينئذ لفظي.
قال السيد أحمد بن محمد بن لقمان: يُبَعِّدُ كون الخلاف كذلك قولهم إنه يختص بالرؤية المؤمنون فقط دون الكفار، فظاهر هذا يقضي أنهم لا يريدون بالرؤية ذلك إذ لا يختص بالمعرفة الضرورية المؤمنون فقط، بل يعلم الله كذلك كل أحد اتفاقاً بيننا وبينهم، فظهر أنهم إنما يريدون بالرؤية الرؤية بالعين.
قلت: وطريقتهم في تقرير الخلاف والاحتجاج تأبى هذا التأويل، ولهذا منعوا حمل قوله تعالى:{لَنْ تَرَانِي }[الأعراف:143] وأحاديث الرؤية على العلم، ولعل الرازي إنما أراد إلزامهم ذلك لأنهم إذا نفوا التجسيم والجهة وقالوا يرى بلا كيف لم يبق إلا أنه يعلم بلا كيف إذ لا تعقل رؤية ما هذا حاله بالعين. والله أعلم.
الأمر الرابع: مما اختلفوا فيه هو أنه هل يرى بهذه الحاسة أو بغيرها؟
فقالت الأشعرية: يرى بهذه الحاسة، وقال ضرار: لا بل يرى بحاسة سادسة غير هذه الخمس يخلقها الله تعالى في الإنسان.
الخامس: هل يرى بهذه الحاسة من غير معنى هو الإدراك؟ ذهبت المجسمة إلى أنه يرى بها من غير معنى، وقالت الأشعرية: يرى بمعنى هو الإدراك يخلقه الله تعالى في الحاسة، وهكذا عندهم في كل المدركات أنها تدرك بمعنى هو الإدراك.
السادس: هل يدرك بغير حاسة البصر؟ قيل: لا قائل بذلك إلا رواية عن الأشعري مغمورة أنه تعالى يدرك بجميع الحواس، قالوا: وإدراكه بها ثواب وجزاء لها، فهذا جملة، ما اختلف فيه المثبتون للرؤية وقد تحصل في المسألة إطلاقان: منع الرؤية مطلقاً أي أنه لا يرى نفسه ولا يراه غيره، وهذا قول أئمة العدل، وإثباتها مطلقاً أي أنه يرى نفسه ويراه غيره على حسب الاختلاف السابق، وهذا قول الحشوية وأكثر المجبرة كما مر، وبقى في المسألة تفصيل وهو أنه يرى نفسه ولا يراه غيره، وهذا محكي عن أبي القاسم البلخي، وحكي عن غيره أيضاً، قيل: وليس بصحيح عن أبي القاسم.
قال بعضهم: الحق أنه لم يقل بهذا أحد من أهل العدل، وقال آخر: فأما كثير من أصحابنا فيذكرون أن هذا المذهب لم يقل به قائل، قال وخلافه لا قائل به.
الموضع الثاني: في حجج أصحابنا ولهم على ما ذهبوا إليه حجج عقلية ونقلية.
واعلم أن هذه المسألة مما يصح الاستدلال عليه بالعقل والسمع كما مر في مقدمة الكتاب، وقد فصلنا هنالك ما يصح الاستدلال عليه بالسمع وما يمتنع، ولا بأس بالإشارة إلى معنى ذلك تذكيراً وتأكيداً، و حاصل القول في ذلك أن مسائل التوحيد أنواع: نوع لا يصح الاستدلال عليه بالسمع اتفاقاً وهو إثبات الصانع وكونه قادراً عالماً غنياً، ونوع عكسه وهو مسألة نفي الرؤية، وإثبات الوجود زائداً على ذات الموجود ونوع مختلف فيه وهو كونه حياً ونفي التجسيم، أما كونه حياً فقال السيد ما نكديم وأبو رشيد: يصح الاستدلال عليها بالسمع ومنعه بعضهم، وأما نفي التجسيم فجوز الاستدلال عليه بالسمع بعض أصحابنا، ومنعه بعضهم، قال الإمام المهدي: وهو الأقوى عندي؛ إذ مع تجويز كونه جسماً لا يكمل العلم بكونه عالماً لذاته فيمتنع العلم بالعدل فتقف صحة السمع على العلم بها، إذا عرفت هذا فلنبدأ بذكر الحجج العقلية فنقول:
الحجة الأولى: أن ما يدرك بالحاسة لا يكون إلا جسماً أو عرضاً؛ إذ لا يعقل إحساس غيرهما ضرورة، وكل جسم وعرض محدث لما مر في الفاتحة، والله تعالى ليس بمحدث فوجب أن لا يدرك بحاسة.
الحجة الثانية: أنها لو جازت رؤية الباري تعالى في حال لرأيناه الآن لارتفاع الموانع، وهذا يسمى دليل الموانع، وهو أرجح من دليل المقابلة عند أبي هاشم وابن الملاحمي، وعليه الاعتماد عندهما دون دليل المقابلة فهو غير جيد، وقال المؤيد بالله: بل المعتمد دليل المقابلة، ودليل الموانع غير جيد، ولعل هذا قول أبي الحسين البصري، وقال جماهير الزيدية وكثير من المعتزلة منهم القاضي عبد الجبار: بل هما معتمدان جيدان، وتحرير دليل الموانع أن يقال: المعلوم أن الواحد منا حاصل على الصفة التي لأجلها تصح منه الرؤية والباري تعالى حاصل على الصفة التي لو رُؤِىَ لما رؤي إلا لكونه عليها، والموانع التي تمنع من الرؤية مرتفعة والحواس سليمة، فيجب في الباري تعالى أن لو كان يصح رؤيته لرأيناه الآن، والمعلوم ضرورة أنا لا نراه الآن، فلزم إمتناع رؤيته في كل حال، فهذه خمسة أصول:
الأول: أن الواحد منا حاصل على الصفة التي لأجلها يرى المرئيات، ودليله أن الواحد إنما يدرك ما يدركه لكونه حياً بشرط صحة الحاسة وارتفاع الموانع ووجود المدرك، والمراد أنه إذا كان حياً وحصلت هذه الشرائط اقتضت الحيية المدركية وجوباً لما مر في العاشرة من مسائل قوله تعالى: {خَتَمَ اللَّهُ عَلَى قُلُوبِهِمْ ...}[البقرة:7] الآية من أن المقتضي للمدركية كونه حياً بهذه الشروط، وأنه لا يجوز حصول المقتضي بالكسر على الوجه الذي يحصل معه الاقتضاء إلا ويجب حصول المقتضى -بصيغة اسم المفعول- وإلا بطل كونه مقتضياً -بصيغة اسم الفاعل.
قلت: هذا الأصل مبني على أن الإدراك ليس بمعنى، وقد تقدم الخلاف في ذلك في سياق الآية المشار إليها، وصحة هذا الدليل مبنية على صحة هذا الأصل، ولهذا لم يعتمد عليه القائلون بأن الإدراك معنى.
الأصل الثاني: أن الله تعالى حاصل على الصفة التي لو رؤي لما رؤي إلا لكونه عليها وهو متفق عليه بيننا وبين الخصم وإن اختلفنا في تلك الصفة ما هي، فعند الخصم أنها الوجود شاهداً وغائباً أي أنه لا يرى إلا لكونه موجوداً، وأما أصحابنا فاختلفوا، فقال القرشي: هي الذاتية في حق الله تعالى والمقتضاة في حق المحدثات كالتحيز في الجوهر، والهيئة في اللون، وقال الإمام المهدي: الشيء إنما يرى لصفته المقتضاة عن صفة ذاته، وظاهره عدم الفرق بين الباري وغيره، وقد أشار إلى الخلاف في المواقف وشرحه حيث قال في تقرير مذهب المعتزلة: لو جاز رؤيته تعالى لجازت في الحالات كلها لأنه أي جواز الرؤية حكم ثابت له إما لذاته أو لصفة لازمة لذاته، فقوله إما لذاته أو لصفة... إلخ إشارة إلى خلاف المعتزلة في ذلك، نعم وأما قول الخصوم إن الصفة هي الوجود، فبطلانه ظاهر لأنهم إن جعلوا الوجود أمراً زائداً على ذات الموجود فالموجود عند القائلين بهذا متماثل في الذوات، فيلزم أن يرى كل موجود، وبطلانه معلوم فإنا لا نرى الجن والملائكة، وإن جعلوه نفس الذات فكأنهم قالوا يرى الشيء لذاته فيعود الأمر إلى قولنا.
قال القرشي: ولا ينقلب علينا في الصفة المقتضاة فيقال كان يجب في كل ماله صفة مقتضاة أن يرى؛ لأن الصفة المقتضاة مختلفة بخلاف الوجود.
الأصل الثالث: أن الموانع مرتفعة والحواس سليمة، ولا بد قبل إقامة الدليل على ارتفاع الموانع من بيان حقيقة المانع وإعداد الموانع من الرؤية وقسمتها، ثم إقامة الدليل على أنها موانع، وأنه لا مانع سواها، فهذه أربعة أقسام:
القسم الأول: في حقيقة المانع- المانع على ضربين: مانع عن الفعل، ومانع عن الرؤية، فالمانع عن الفعل قد تقدم في مسألة قادر في سياق قوله تعالى: {إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ }[البقرة:20] وتلخيصه أن يقال هو ما لأجله يتعذر على الحي بحياة إيجاد ما يصح إيجاده، وأما المانع عن الرؤية فهو ما لأجله يتعذر على الحي بحياة رؤية ما يصح رؤيته مع استمرار كونه حياً لا آفة به، واحترزنا بقولنا حي بحياة عن الباري تعالى؛ إذ لا مانع له عن الرؤية، وبقولنا ما تصح رؤيته عن ما تعذرت رؤيته؛ لأن تعذر الرؤية يسمى استحالة لا منعاً، وبقولنا مع استمرار كونه حياً... إلخ عن خروجه عن صحة الرؤية بالموت أو بالآفة فإنه لا يسمى منعاً.
القسم الثاني في أعدادها: فعند كثير من أصحابنا أنها ثمانية:
أحدها: الرقة كأجسام الملائكة والجن.
والثاني: اللطافة وهي أن لا يكون له لون كالجوهر المفرد.
الثالث: الحجاب الكثيف وهو الجسم الملون باللون القوي المتوسط بين الرائي والمرئي، وذلك كالجبل والجدار ونحوهما، وقلنا باللون القوي احترازاً عن الماء والزجاج الرقيق ونحوهما من الحجاب الرقيق فإن لها لون ما، لكنه غير مانع من الرؤية.
والرابع والخامس: القرب والبعد المفرطان لأن المبصر إذا قرب حتى يلتصق بسطح البصر كالميل في العين بطل إدراكه بالكلية، وإذا بعد عن البصر فكذلك، وهو يختلف بحسب قوة الباصرة وضعفها.
السادس: كون المرئي في خلاف جهة الرائي نحو أن يكون خلفه، والمراد أن لا يكون مقابلاً للباصر في جهة من الجهات، ولا في حكم المقابل كالمرئي في المرآة.
السابع: كون محله في بعض هذه الأوصاف كاللون فهو مانع من رؤية اللون تبعاً لمحله، والموانع المتقدمة مانعة من رؤية المتحيزات.
الثامن: عدم الضياء المناسب للعين نحو أن يفتح الإنسان عينه في موضع مظلم فإنه لا يرى لما لم يكن هناك ضوء في الهواء يعين ضوء العين على الرؤية، وهذا يمنع من رؤية اللون والمتحيزات، وبعض أصحابنا يعدها سبعة بإسقاط عدم الضياء، وبعضهم ستة بإسقاطه وإسقاط القرب المفرط، قيل: ولعل إسقاطهما لكونهما داخلين في صحة الحاسة؛ لأن من حق صحتها أن ينفصل منها شعاع في سمت المرئي، والقرب المفرط يمنع من ذلك، ومن حق صحتها أن يكون ضياء يناسب شعاع العين الذي تبصر به فيكون عوناً على الرؤية لقلة شعاع العين، ولهذا فإن بعض الحيوانات يرى في الليل ولا يرى في النهار لكثرة شعاعها، ومثله يكون في بني آدم.
القسم الثالث: في قسمتها وهي على ثلاثة أضرب: مانع بنفسه، ومانع بواسطة، ومختلف فيه.
فالأول: القرب المفرط والحجاب الكثيف، وكون المرئي في خلاف جهة الرائي.
والثاني: البعد لأن الله تعالى لو قوى الشعاع المنفصل من العين لرأينا ما كان بعيداً، ولهذا تختلف رؤية البعيد باختلاف قوة الباصرة، والرقة أيضاً كذلك، وكذا الضياء المناسب؛ لأن الله تعالى لو قوى شعاع العين والأجزاء المنفصلة عنها لما احتيج إلى ذلك الضياء.
والثالث: اللطافة فقال أبو عبد الله: هي مانعة بنفسها بحيث لو قوى الله تعالى الشعاع لما رؤى الجوهر الفرد، وقيل: بل هي مانعة بواسطة قوة الشعاع، ولو قوى الله شعاع الرائي لرؤى الجوهرالفرد، وأما كون محله في بعض هذه الأوصاف فهو مانع بمحله، قيل: ويقرب دخوله فيما يمنع بواسطة لأن رؤيته امتنعت تبعاً لرؤية محله.
القسم الرابع: في إقامة الدليل على أنها موانع، وأنه لا مانع سواها، والذي يدل على ذلك أنه متى وجد واحد منها امتنعت الرؤية قطعاً، وهذه حقيقة المانع، والدليل على أنه لا مانع سواها هو أنه لو صح تجويز مانع سواها لجوزنا أن يكون بين أيدينا أجسام عظيمة ونيران مؤججة ولا ندركها لذلك المانع، وفي ذلك فتح باب الجهالات من عدم الثقة بالمشاهدات، وتجويز خلاف ما نعلمه ضرورة، ولهذا فإن أحدنا إذا كان في غرفة أو مسجد أو نحوهما فإنه يعلم علماً لا شك فيه ولا شبهة أنه في تلك الحال ليس بين يديه نهر جارٍ، ولا جبلٌ شامخ ولا سبع ضار، ولا يستدل على انتفاء ذلك إلا بأنه لو كان لرأيناه لعدم المانع من رؤيته، ولو جوزنا مانعاً غير الثمانية هذه لم يصح الاستناد إلى هذا الدليل، والمعلوم صحة الاستناد إليه، وعلى الجملة فكلما دل على بطلان كون الإدراك معنى فهو يدل على بطلان تجويز مانع غيرالثمانية، وإذا تقررت هذه المقدمة فلنرجع إلى ما نحن فيه وهو إقامة الدليل على أن هذه الموانع مرتفعة في حق الله تعالى فنقول: قد ثبت أنه لا مانع سوى هذه الثمانية، وكل واحد منها لا يمنع من رؤية الله تعالى لو كان تصح عليه الرؤية.
أما الخمسة الأول فواضح لأنها إنما تمنع من رؤية الأجسام والباري تعالى ليس بجسم، وأما كونه في غير جهة الرائي فكذلك أيضاً؛ إذ لا يعقل كونه في جهة لأن ذلك فرع التحيز، وأما كون محله في بعض هذه الأوصاف فليس بثابت في حقه تعالى لأنه لا يحل محلاً، ولا يحتاج إليه، وإنما ذلك من صفة العرض، وأماعدم الضياء المناسب للعين فالمعلوم أن الضياء حاصل، فعلم أن هذه الموانع مرتفعة في حق الله تعالى، وأنه لو كان مما يجوز أن يرى لم يكن ثم ما يمنع من رؤيته جل وعلى، وبقي الكلام على قولنا إن الحواس سليمة، ولا بد من الكلام على حقيقة الحاسة وقسمتها وحقائق أقسامها، ثم نتبع ذلك بالدليل على سلامتها.
أما حقيقتها فهي الآلة التي بها يدرك المدرك، وأما قسمتها فهي خمس: السمع، والبصر، والشم، والذوق، واللمس، وأما حقائقها فحقيقة حاسة السمع هي الآلة التي بها تدرك الأصوات، وحاسة البصر هي الآلة التي تدرك بها المتحيزات والألوان، وحاسة الشم هي الآلة التي يدرك بها الروائح، وحاسة الذوق هي الآلة التي تدرك بها الطعوم، وحاسة اللمس هي الآلة التي تدرك بها الحرارة والبرودة، وقيل: إن اللمس ليس بحاسة لأن للحاسة شرطين:
أحدهما: أن يدرك بها ما لا يدرك بغيرها من الحواس.
والثاني: أن تكون في حكم الغير لصاحبها بأن تكون معنى يدرك بها، وحاسة اللمس ليست كذلك بل جسد الحيوان يلمس به كله وليس هو في حكم الغير، وأما الدليل علىأنها سليمة فهو أنه لو حصل بين أيدينا شيء من المدركات لأدركناه بها ولو كانت سقيمة لا ندرك بها ولا نعني بصحة الحاسة إلا ذلك، وأيضاً فإنا نقطع أنه ليس بحضرتنا فيل ولا بعير، ونستدل على ذلك بأنه لوكان لأدركناه، فلولا أن الحواس سليمة لما أمكننا القطع على ذلك.
الأصل الرابع: أن ذلك يوجب في الباري تعالى أنه لو كان تصح رؤيته لرأيناه الآن، ودليله أنا لو جوزنا وجود ما تصح رؤيته مع ارتفاع الموانع وصحة الحاسة ولا نراه في حالة من الحالات لجوزنا مثله في الحالة الحاضرة؛ إذ لا فرق بين الحالتين، ولو جوزنا الآن لفتح باب الجهالات كما مر من تجويز مدركات عظيمة بين أيدينا ولا ندركها، وهذا يقدح في العلوم الضرورية فتجب إحالته.
الأصل الخامس: وهو أنا لا نراه الآن فلزم استحالة رؤيته في كل حال وزمان، ودليله ما مر من وجوب حصول المدركية عند تكامل شروط الإدراك، فلو كانت رؤيته تعالى ممكنة ولم تحصل مع تكامل الشروط عاد على وجوب حصول المدركية عند تكامل شروط الإدراك بالنقض، فثبت أن رؤيتنا للباري تعالى مستحيلة في جميع الأحوال، وقد أجاد القرشي في بيان دليل هذا الأصل فقال: قد حصل المقتضى وهو كون أحدنا حياً وشرط الاقتضاء وهو صحة الحاسة، وزوال المانع ووجود المدرك، فيجب حصول المقتضى وهو كون أحدنا مدركاً له تعالى يعني لو كانت رؤيته ممكنة، قال: وبهذه الطريقة يعلم أنه تعالى مدرك للمدركات، ولو جوزنا أن لا يدرك أحدنا مع حصولها لجوزنا مثله في الباري تعالى، فإن قيل: هذا كله مبني على وجوب المدركية عند تكامل الشروط المعتبرة ونحن نمنعه.
قيل: قد مر إثباته في قوله تعالى: {خَتَمَ اللَّهُ عَلَى قُلُوبِهِمْ} [البقرة:7] وإنما اختلف القائلون به في كون العلم به ضرورياً أواستدلالياً، فذهب أبو الحسين وأتباعه إلى أنه ضروري فإن الواحد منا إذا كان مستكملاً لشروط الإدراك استحال أن لا يدرك والمنكر مكابر، وقال الأكثر: بل العلم به استدلالي، ودليلهم أن الأحياء يفزعون عند التباس المدركات إلى الإدراك بالحواس، فلولا أنهم يعلمون ضرورة حصول المدركية لما استمر منهم ذلك ولوجد منهم من يترك الرجوع إلى الحواس معتذراً بتجويز عدم حصول الإدراك بها، والمعلوم أنه لم يوجد فيهم ذلك، فعلمنا ضرورة حصول المدركية عند رجوعهم إلى الإدراك بالحواس حتى لو قيل للواحد منا انظر هل ترى فلاناً في منزلك فأجاب بأنه يجوز كونه فيه ولا أراه فلا فائدة في النظر، فإنا نقطع إما بفساد حاسته، أو بخلل في عقله، فهذا هوالدليل القاطع على وجوب المدركية عند كمال الشروط، فإن قيل: دعواكم الضرورة في حصول المدركية رجوع إلى قول أبي الحسين وقد أبطلتموه، ثم إن الضروري لا يختلف العقلاء، فيه وقد خالف في وجوب المدركية من أثبت الإدراك معنى فإن أنكرتم دعوى الضرورة في ذلك وقلتم إنما يعلم دلالة لزمكم التسلسل؛ لأن وجوب المدركية لا تعلم إلا بالفزع إلى الإدراك، والفزع لا يفيد وجوبها إلا بدليل ثم كذلك، قيل: المعلوم ضرورة إنما هو استمرار حصول المدركية عند تكامل شرائطها، وهذا لا خلاف فيه، وإنما اختلفوا في كون هذا الاستمرار عادياً كطلوع الشمس من المشرق أو واجباً كتحيز الجوهر عند وجوده، ولا يعلم أنه من أيهما إلا بدليل، فمن أثبت الإدراك معنى جعلوه عادياً ومن لم يجعله معنى، قال: بل هو استمرار وجوب حيث المستحيل خلافه عند إمكانه، وهذا لا يعلم إلا بعد إبطال كونه عادياً، وإبطاله يحتاج إلى نظر، فكان العلم بالوجوب استدلالياً وبيان الدليل أنه كونه عادياً يوجب جواز تخلفه، وذلك يستلزم صحة أن يكون في
حضرتنا نيران مؤججة وجبال شامخة ولا ندركها مع صحة الحاسة وارتفاع المانع، والمعلوم امتناع هذا التجويز، ولما علمنا ذلك دلنا على وجوب المدركية عند تكامل الشروط، وبطل كونه عادياً، بل يستحيل عند العقلاء لتأديته إلى تجويز المحال، وما أدى إلى ذلك فهو محال، وهاهنا اعتراضات تتعلق بما تقدم، ونحن نذكرها مع الجواب عنها ونسأل الله التوفيق والسداد:
الاعتراض الأول: أنكم جعلتم ما ذكرتم دليلاً على وجوب العالمية بالمدركات لأنه متى حضر المدرك ولا مانع علمناه ضرورة، وذلك يقتضي وجوب العالمية كما يقتضي وجوب المدركية وإلا فما الفرق؟
الجواب: أن العلم بالمشاهدات هو أحد علوم العقل، فإن أردتم أن العلم بالمدرك يكون واجباً مع كمال العقل، فمسلم لأن من علم المدرك استحال أن لا يعلمه، لكن ذلك لا يستلزم كون العالمية واجبة، بل ذلك واجب وإن كانت جائزة لأن ما كان حاصلاً فهو حاصل واجباً كان أم جائزاً، وإن أردتم أن العلم بالمدرك واجب ولو زال العقل فممنوع، بل نقول يدركه ولا يعلمه، فصح أن حصول العالمية بالمدرك غير واجب على حد وجوب المدركية، وبه يظهر الفرق.
الاعتراض الثاني: أن يقال لو سلمنا أن أحدنا يعلم ضرورة أنه لا يكون بين يديه من المدركات الظاهرة ما لا يدركه فهل يعلم أنه يدركه عند حضوره وإن كان زائل العقل، إن قلتم: نعم فقد قلتم أن زائل العقل لا يعلم ما يدركه، مع أنه يلزم على القول بأنه لا يعلم بالمدرك أن لا يعلم أنه مدرك فلا يستمر العلم باستمرار المدركية، وإن قلتم لا يدرك إلا مع العقل لأجل يحصل العلم كان العلم شرطاً في حصول المدركية وأنتم لا تقولون به.
الجواب: أن المعلوم ضرورة هو أن المدرك يدرك ما بحضرته سواء كان عاقلاً أم لا، ولكن زائل العقل لا يعلم حقائق المدركات، وذلك أمر خارج عن المدركية، ولهذا فإنا نعلم من حال الأطفال والبهائم كونها مدركة مع كونها غير عالمة.
الاعتراض الثالث: أنكم بنيتم وجوب المدركية على أنه لا يجوز أن يكون في حضرتنا أجسام عظيمة لا ندركها، وذلك لا يثبت لكم في الحالة المستقبلة إلا بالرد إلى الحالة الحاضرة، وهذا لا يصح إلا لوكانت علة علمنا بنفي ما لا ندركه في الحال أنه لوكان موجوداً لوجب إدراكه، ونحن نمنع ذلك ونقول إنما علمنا أنه لا شيء في الحضرة لأن الله تعالى خلق لنا علماً مبتدأ أنه لا شيء في حضرتنا فهو علم بديهي ابتدائي، وإذا كان كذلك لم يلزم في المستقبل استحالة أن يكون ولا نراه لجواز أن لا يخلق الله لنا ذلك العلم.
والجواب من وجهين:
أحدهما: أن استنادنا إلى تلك العلة مما لا ريب فيه، فإنه لو قيل لأحدنا: لم قلت أنه ليس بحضرتك شيء غير الذي نشاهده، لدفع السائل بأن يقول: لو كان لرأيته، فصح استناده إلى هذه العلة وبه يصح القياس.
الثاني: أنا لا نسلم أن هذا من باب القياس لأن الدليل عام للحالين وهو استلزامه تجويز ما علمنا استحالته فنقول لو كان العلم بأن لا شيء في الحضرة بديهياً عادياً لزم مثله في الحالة المستقبلة، فيؤدي إلى المحال المتقدم، والمستلزم للمحال محال، وإذا لم يكن عادياً بديهياً وجب أن يكون مستنداً إلى أنه لو كان لرأيناه، وأنه متى علم أنه لا يحضر جسم إلا ويراه، وعلم أنه في الحال لا يرى شيئاً، علم أنه لا شيء بحضرته، وهذه العلوم الثلاثة متلازمة، وبعضها مفتقر إلى بعض، ووجود كل واحد منها مضمن بوجود الآخر، وتحقيقه أنه لو لم يعلم أنه لا شيء بحضرته بطل علمه بأنه لا يحضره جسم إلا ويراه، وهذا العلم لا حق بالعلم الحاصل عن إلحاق التفصيل بالجملة، وضابط ذلك أن كل وصف علمت ملازمته لوصف آخر ضرورة ثم علمت وجود ذلك الوصف في ذات معينة ضرورة، فإنك تعلم حصول ملازم معه، وإلا عاد على العلم بالتلازم بينهما بالإبطال، وما نحن فيه من هذا القبيل، ألا ترى أنه إذا علم ضرورة أنه لو كان في حضرته شيء لرآه وعلم ضرورة أنه لا يرى شيئاً في الحال لزم العلم بأنه لا شيء بحضرته ضرورة، وإلا بطل العلم بأنه لو كان شيئاً لرأيناه، فإن قيل: لو سلم أن هذه العلوم الثلاثة متلازمة بعد حصول العلمين الأولين، لكنا نقول إنه يصح وجود العلم الأول مع عدم الآخرين فإن من علم أن كل إنسان حيوان يجوز منه الذهول عن النظر في كل ذات هل هي إنسان أو لا، وكذلك من علم أن كل من كان بالحضرة تعلق الإدراك به يجوز أن يذهل عن النظر هل في الحضرة شيء أو لا، وهذا يبطل قولكم إن وجود الأول مضمن بوجود الثالث؛ إذ قد صح وجوده من دونه فبطل التلازم.
قيل: لا نسلم وجود الأول مع عدم الآخرين، وإنما أتيتم من عدم التأمل لمرادنا، ونحن نوضحه لكم بعون الله، فنقول: نحن إنما قلنا إنه متى علم ملازمة الإنسانية للحيوانية فقد علم أن كل ذات حصلت فيها الإنسانية فقد حصلت فيها الحيوانية، وإذا انتفت عنها الحيوانية انتفت عنها الإنسانية، وهذا العلم لا يتخلف عن العلم بالتلازم ولا يصح التلازم من دونه، وكذلك متى علمنا أنه لا يكون في الحضرة جسم إلاونراه فقد تضمن العلم بأن ما لم نره في الحضرة فليس موجوداً فيها، فيستحيل افتراق هذين العلمين في الوجود، ولا نسلم صحة الذهول عن الثاني فإن من علم أن كل إنسان حيوان لم يصح منه بعد ذلك الذهول عن كون كل ذات حصلت فيها الإنسانية فقد حصلت فيها الحيوانية؛ لأن ذهوله عن ذلك ذهول عن ملازمة الإنسانية للحيوانية قطعاً، وكذلك من علم أنه لا يحضره جسم إلا ويراه لا يصح منه الذهول عن إنكار جسم لا يراه؛ لأن ذلك ذهول عن العلم الأول قطعاً، فإن قيل: قد تضمن جوابكم أن العلم بأنه لو كان لرأيناه أصلاً للعلم بأن ليس بحضرتنا شيء، ولو كان أصلاً له لكان أجلا منه؛ لأن من حق الأصل أن يكون أجلا من الفرع.
قيل: لا نسلم بل قد يستويان وإنما الممنوع كون الفرع أجلا من الأصل.
الاعتراض الرابع: أن وجوب المدركية عندكم مبني على أنها لو كانت معنوية لجوزنا أن لا يخلق المعنى في بعض الحالات، وهذا بزعمكم يؤدي إلى فتح باب الجهالات، ونحن نلزمكم بمثله في الشعاع فإن المدركية مشروطة بانفصاله من العين، وانفصاله جائز كوجود المعنى لتوقفهما معاً على اختيار الله تعالى،وإذا كان الشعاع كذلك لزم تجويز عدم الإدراك في بعض الأحوال للحاضر من المدركات لعدم انفصال الشعاع إلى جهته، فيلزم فتح باب الجهالات،وما أجبتم به فهو جوابنا.
الجواب: أن بينهما فرقاً جلياً فإنه إذا فرض عدم انفصال الشعاع فقد صارت الحاسة غير سليمة، ولم نقل بوجوب المدركية إلا عند سلامتها، بخلاف المعنى فإنكم تجوزون أن تكون الحاسة على ما هي عليه من صحة تعلقها بما حضر ولا يدرك بها الحاضر كله أو بعضه، وهذا يؤدي إلى فتح باب الجهالات قطعاً، فإن قيل: نحن نجعل عدم المعنى لعدم انفصال الشعاع إلى جهة بعض المرئيات فنقول كمقالتكم إنه متى كان أحدنا صحيح الحاسة ووجد فيها المعنى وجب أن يدرك ما بحضرته وإلا فلا.
قلنا: هذه مغالطة ظاهرة؛ لأن المعنى إن لم يوجب حالاً فهو نفس المدركية فجعلتموها شرطاً في نفسها، وإن أوجب حالاً فهو الموجب للمدركية فجعلتم المؤثر فيها هو الشرط، والشرط من حقه أن يكون زائداً على المؤثر، وإلا كان وجود الباري تعالى شرطاً في وجود العالم.
الاعتراض الخامس: أنكم تجوزون توجه الشعاع المنفصل من الحدقة إلى بعض ما في الحضرة دون بعض كقصة امرأة أبي لهب حين سألت أبا بكر عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وهو جالس إلى جنبه ولم تره، ويلزمكم من هذا التجويز أن تجوزوا كون بحضرتكم ما لا تدركونه، وهذا يبطل مذهبكم، ويلزم منه أن تكون الحاسة سليمة في حق مدرك دون مثله، وأن يكون فيها فساد لا يشعر به المدرك، وهذا ظاهر الفساد لا مخلص لكم عنه إلا بالتزام القول بأن الإدراكات معاني متعلقة بالمدركات يصح وجود بعضها دون بعض.
الجواب: أنا لا نقول بتجويز ما ذكرتم، بل نمنعه ونمنع جواز فساد الحاسة من دون شعور الحي به، والوجه في منع ذلك أن تجويزه يؤدي إلى القدح فيما علم ضرورة من أن أحدنا يعلم من نفسه أنه لا يجوز أن يكون بحضرته أجسام عظيمة وهو صحيح الحواس مرتفع المانع وهو لا يدركها، وما أدى إلى القدح في الضروري هو باطل.
قال الإمام المهدي: ونحن نقرر ذلك ونوضحه بأن نقول: لا يجوز أن يكون في حضرة الرائي جسمان مستويان في ارتفاع الموانع من إدراكهما وينفصل الشعاع إلى جهتهما ولا يوجب إدراكهما على سواء، وإنما يلزم ما ذكرت من شرط اتصال الشعاع بالمدرك فإنه حينئذ يلزمه جواز صرفه حتى يتصل بأحدهما دون الآخر، وأما من جعل الشرط إنما هو انفصال لشعاع العين إلى سمت المرئي فقط فإنه لا يصح منه هذا التجويز أبداً؛ لأن انفصاله إلى ذلك السمت في حكم اتصاله بهما جميعاً لأنه سمت لهما جميعاً، وقد جعلنا اتصاله بسمت المدرك بمنزلة اتصاله به، فلا يجوز أن يدرك به بعض ما في ذلك السمت دون بعض إلا مع تقدير حصول الموانع الثمانية في حق البعض الذي لم يدرك، ولا يجوز خلاف ذلك لأجل ما علمناه ضرورة من لزوم إدراك ما حضرنا عند صحة الحاسة وارتفاع الموانع، ولا يصح أيضاً أن تفسد الحاسة بقلب شعاع أو غيره، ونحن لا نعلم ذلك إذ يؤدي إلى القدح في ذلك العلم.
هذا وأما قصة امرأة أبي لهب إن صحت فمحمولة على حصول أحد الموانع في حق الرسول صلى الله عليه وآله وسلم في تلك الحال، وليس ذلك المانع لأمر يرجع إلى حاسة هذه المرأة لأنها سليمة، وإلا لما صح منها أن تدرك أبا بكر بها مع استوائهما في الجسمية، بل يقدر أن الله تعالى أرق جسم النبي صلى الله عليه وآله وسلم حتى لحق بأجسام الملائكة فضعف شعاعها عن إدراكه وقوى شعاع أبي بكر حتى أدركه، نظيره إدراك النبي صلى الله عليه وآله وسلم لجبريل عند نزوله عليه ولم يدركه أصحابه الحاضرون عنده، فإنه مبني على تقوية الشعاع كما مر، لا يقال: لو كان كما ذكرتم لأدرك أبو بكر جسم النبي صلى الله عليه وآله وسلم رقيقاً مخالفاً للحالة الأولى فيستنكره لأنا نقول الأجسام الرقيقة مع قوة الشعاع تدرك على حد إدراك الكثيفة، دليله الآلات المستعملة في زماننا من الزجاج ونحوه لتقوية الشعاع فإنه يدرك بها الرقيق كثيفاً والصغير كبيراً، والبعيد قريباً، ولهذا يستعملها من ضعف بصره، وكذلك السحاب فإنا ندركه من بعيد كالجبال الرواسي فإذا دخلنا الموضع الذي هي فيه التبست بأجزاء الهواء للطافتها، فإن قيل: ما يمنعكم أن تقدروا أن الله تعالى نصب حجاباً يمنع من رؤية النبي صلى الله عليه وآله وسلم ؟
قيل: منع من ذلك أنه يلزم منه أن تدرك هي هذا الحجاب لكثافته كما أدركت أبا بكر.
الاعتراض السادس: أن يقال سلمنا أن الموانع الثمانية في حقه تعالى مر تفعة، لكنا نقول إنها لا تمنع إلا من رؤية الأجسام والألوان والباري تعالى ليس كذلك فيجوز أن يكون عن رؤيته مانع سواها، سلمنا أنه لا مانع سواها فنقول إن أحدها حاصل في حقه تعالى وهو أنه ليس في جهة الرائي لأنه تعالى ليس بذي جهة، فيبطل قولكم إن الموانع في حقه تعالى مرتفعة وصح أن يكون مرئياً في نفسه وإن لم نره.
والجواب: أن ذلك المانع الذي ادعيتموه إما أن يكون معقولاً أو لا، الثاني باطل لأنه يلزم منه مثل ذلك في بعض الأجسام فيقدح فيما قد علمناه من وجوب رؤيتها عند حضورها، فيبطل ما جوزتموه بمثل ما أبطلنا به الزائد على الموانع الثمانية سواء سواء، فإن أردت الأول وهو أن ذلك المانع متميز معقول فليس إلا كونه تعالى مخالفاً للمرئيات بكونه ليس بذي جهة ومن حق المرئي أن لا يكون بخلاف جهة الرائي.
فجوابه: أنا إنما جعلنا المانع كون المرئي في خلاف جهة الرائي ولم نشترط أن يكون في جهته، وإذا لم يكن المانع إلا ما ذكرنا فهو مرتفع في حق الله تعالى فيجب لو كان تصح عليه الرؤية أن نراه وإن لم يكن في جهة، لا يقال: أنتم تشترطون انفصال الشعاع، وذلك يستلزم كون المرئي في جهة؛ لأنا نقول لا نسلم اشتراطنا ذلك وإنما هو من تمام صحة الحاسة، والشرط في الإدراك إنما هو صحة الحاسة على وجه لا يكون بينها وبين المدرك ساتر ولا ما يجري مجراه، وهذا حاصل في حق الله تعالى عند انفصال الشعاع، فإن قيل: كونه في خلاف جهة الرائي لا وجه لكونه مانعاً من الإدراك إلا كونه ليس في جهة الرائي، وهذا يوجب كون الشرط عندكم حصول المرئي في سمت الرائي، ولا ينفعكم إنكار كونه شرطاً مهما كان ثابتاً في نفس الأمر على أصلكم.
قيل: لا نسلم كون ذلك شرطاً مع تجويز إدراك ما ليس في جهة كما ذكر أبو هاشم في اللون أنا لو قدرنا انفصاله فكونه ليس في جهة غير مانع من صحة رؤيته، وإنما يمنع منها كونه في جهة خلاف جهة الرائي كما ذكرنا.
الاعتراض السابع: أنا نرى الكبير صغيراً مع البعد، فإن كنا رأينا جميع أجزائه لزم أن يدرك المدرك على ما هو عليه من عظم جرمه، والمعلوم خلافه، وإن لم يدرك إلا بعضه فلا مخصص لذلك البعض بتعلق الإدراك به دون سائر الأجزاء إذ البعد فيها على سواء.
سلمنا بطل قولكم إن هذه الشرائط توجب عند اجتماعها رؤية المرئيات، فإن قيل: إن ثم مخصصاً للبعض وهو أن الشعاع المنفصل بمنزلة ساقي مثلث وعمود فالساقان إلى الطرفين والعمود إلى الوسط، والمنفصل إلى الطرفين أبعد ضرورة من المنفصل إلى الوسط لأن مسافته أبعد، وإذا بعد المرئي حتى لم يتصل بطرفيه الساقان اتصل العمود فأدركه دون الطرفين فرؤي كأنه صغير، قيل: فيلزم في كل ما أدرك صغيراً أن الساقين لم يتصلا به، وأنه لم يتصل به إلا العمود، وأنه لو تأخر عن تلك المسافة شبراً لا يرى منه شيء، والمعلوم خلافه.
سلمنا أنه لا يدركه حينئذ فنريكم صورة أخرى حضر فيها المدرك واجتعمت الشرائط ولم تدرك، وذلك حيث أخذ أحدنا قبضة من تراب فإنه يدركها، ثم إذا انفصلت كل ذرة لحالها لم يحصل الإدراك مع كون الرائي حاصلاً على الصفة التي يرى لأجلها والمرئي حاصل على الصفة التي يرى لأجلها، فإن قلتم: إن رؤية كل ذرة مشروطة برؤية الأخرى، فذلك دور يوجب أن لا تدرك تلك الذرة رأساً، وإن قلتم ليس بشرط، بطل قولكم إن المدركية واجبة عند اجتماع الشرائط؛ إذ قد اجتمعت ولم يحصل إدراك.
الجواب: أما عن الصورة الأولى فقال القرشي: الأحسن في الجواب أن نقول إنا نرى الشيء كله على البعد كما نراه كله على القرب، لكن يخيل إلينا أنه صغير لاتساع ما حوله من الفضاء أو غيره فإنه إن كان طائراً في الهواء فإنا حين نراه يقع نظرنا على جرم السماء فنراه صغيراً في جنبها، وكذلك الشجرة في الفلاة أو في الجبل، وكلما قربنا إليه قل ما يقع عليه بصرنا مما حوله فرأيناه كأنه يكبر، يزيده وضوحاً أن الشيء إذ ضم إلى ما هو أكبر منه رؤي كأنه صغير وأدركته العيون، وكذلك الرجل الكامل إذا استقام عنده المفرط في الطول رؤي الكامل كأنه قصير، وهذا ظاهر فإن كثيراً من الأشياء إنما يعلم كبره أو حسنه بأن يضم إلى غيره.
وجه آخر في الجواب وهو أن هذا السؤال لازم لكم لأنكم توافقون في اعتبار هذه الشرائط، وإنما تعتبرون أمراً زائداً هو الإدراك الذي يفعله الله فينا ندرك به الجميع لو قرب فلا يكون لكم بد من الرجوع إلى قولنا.
وأما الصورة الثانية فالجواب عنها أن أجزاء التراب إذا اجتمعت تكاثفت وتميزت عن أجزاء الشعاع، وإذا تفرقت منعت لطافتها من إدراكها.
قوله: لزم الدور.
قلنا: الدور ممنوع فإن رؤية كل ذرة تتوقف على انضمام الأخرى إليها لا على رؤيتها، وإنما يلزم الدور لو توقفت رؤية كل على رؤية الأخرى أو انضمام كل انضمام الأخرى، ولم يوجد شيء من ذلك. فتأمل.
الحجة الثالثة: أن أحدنا لا يرى إلا بالحاسة، والرائي بالحاسة لا يرى إلا ما كان مقابلاً أو في حكم المقابل والله تعالى ليس كذلك، فهذه ثلاثة أصول، ولا بد قبل الكلام على هذه الأصول من تحقيق معنى المقابلة وما يجري مجراها، فنقول: المراد بالمقابلة المعنى الحقيقي لها وهو مقابلة المتحيزات كالأجسام، والذي في حكمها أمران:
أحدهما: الألوان فإن مقابلتها ليست حقيقة لما مر، وإنما هي جارية مجراها من حيث أن محلها مقابل فكانت في حكم المقابل.
ثانيهما: الوجه في المرآة والماء ونحوهما فإنه ليس بمقابل، بل في حكمه عند جمهور المتكلمين، وبيان ذلك أنه ينفصل من العين شعاع ويتصل بالمرآة وينفصل منها شعاع مع ذلك فيصير له في المرآة كالعين فيرى به الوجه ونحوه في مكانه، وهذا لا يكون إلا في الأجسام الصقيلة، وقيل: إن الرائي يرى وجهه في المرآة كذلك لأنه ينطبع فيها، وهذا محكي عن أبي الحسين البصري وغيره، ورد بوجوه:
أحدها: أنا نرى الأجسام العظيمة في المرآة وهي صغيرة لا ينطبع فيها ما هو أكبر منها ولا تحيط به ضرورة.
الثاني: أنها لو انطبعت فيها لاستمر كونها فيها بعد انتقال الجسم المقابل وهو معلوم البطلان.
الثالث: أنها إما أن تنطبع في ظاهر المرآة أو في باطنها، إن كان الأول لزم أن لا نرى المرآة لأن الجسم حائل بيننا وبينها، وإن كان الثاني لزم أن لا نرى الجسم لأن المرآة حائلة بيننا وبينه، إذا عرفت هذا فلنرجع إلى تحقيق الأصول الثلاثة وإقامة البرهان على كل واحد منها ورد ما ورد عليه فنقول:
الأصل الأول: أنا لا نرى إلا بالحاسة قال الإمام المهدي وأبو الحسين وأصحابه: وهو ضروري إذ العقلاء يعلمون من أنفسهم أنهم لا يرون إلا بالحاسة ويكذبون من أخبر بخلاف ذلك، وقال الجمهور: بل هو استدلالي واستدلوا بأن عند صحة الحاسة يصح أن يرى، وعند فقدها يستحيل ذلك،فدل على أنها شرط، لا يقال: الخصم يدعي أن ذلك من قبيل العادة؛لأنا نقول لو كان كذلك لجاز اختلافها فيصدق من يخبر بأن في بعض البلاد رجلاً يرى لا بحاسة، والمعلوم أن العقلاء يبادرون إلى تكذيبه، وأيضاً فيما طريقه العادة [يجب]أن يفارق ما طريقه الوجوب، وإلا لالتبس الواجب بالجائز، فجوزنا أن تكون المعلولات والمسببات بمجرى العادة.
وقال القرشي: الأولى التفصيل فيقال أما وقوع الرؤية على هذا الحد فهو ضروري، سواء قلنا الإدراك معنى أم لا، نظيره القدرة فإن كونها معنى لا تخرج الكتابة عن كونها لا تقع إلا باليد، والخصوم يوافقون في هذا، إلا أنهم يدعون كونه عادياً، وأما الصحة أي صحة الرؤية فعند أبي الحسين أن العلم باستحالة الرؤية من دون حاسة ضروري، وسائر الشيوخ يخالفونه، قال: ويمكن أن يفصل فيقال أمَّا أن الرؤية لا تصح إلا بالحاسة التي هي مبنية بنية مخصوصة، فليس بضروري؛ لأن الخصوم يجوزون الإدراك في الجزء المنفرد من دون بنية، بل يجوزون ذلك في العلم والقدرة ونحوهما، وأما أن الرؤية لا تصح إلا بآلة سواء كانت تسمى حاسة أو كانت تسمى جزءاً منفرداً على ما يجوزه الخصم فهو ضروري، والخصوم يوافقونا فيه ويحيلون وجود الإدراك لا في محل، وإذا كانت كذلك فقد وافقونا في أن أحدنا لا يرى إلا بالآلة، وبهذا يحصل غرضنا سواء قلنا في تركيب الدلالة إن أحدنا لا يرى إلا بالحاسة، أو قلنا إنه لا يرى إلا بآلة فإنه يحصل به المقصود وإن جوزوا حصول الإدراك والعلم والقدرة ونحوها في الجزء المنفرد، فإن قيل: إذا جوزوا حصول هذه المعاني في الجزء المنفرد فقد جوزوا الإدراك لا بحاسة ولا بآلة لأن الحاسة من حقها أن تكون مبنية بنية مخصوصة، والآلة من حقها أن تكون في حكم الغير للحي، ومذهبهم يقتضي أن يكون الحي المدرك القادر العالم جزءاً منفرداً.
قلنا: هذا وإن كان مذهبهم فكلامنا في رؤية أحدنا في الدنيا والآخرة وهم يوافقونا على أن الواحد منا ليس جوهراً فرداً حتى يكون قد أدرك لا بحاسة ولا بآلة، على أن هذا لا يضرنا في صحة الدليل؛ لأنا نقول في عقد الدلالة الواحد منا متحيز، والمتحيز لا يرى إلا ما كان مقابلاً، أو في حكم المقابل.
قال: ثم إنا نبطل ما قالوه بأنه لو صح حصول هذه المعاني من غير بنية لجوزنا في أجزاء الحجر ونحوها أن تكون حية قادرة عالمة مدركة مكلفة، فإن قالوا ذلك جائز ولكن علم أنه غير واقع للعادة ظهر عنادهم، ويقال لعله واقع ولكن لم يدرك لأن الله تعالى لم يخلق الإدراك فيكم، وأيضاً لو لم تحتج هذه المعاني إلى البنية لزم أن يكون القادر منا هو محل القدرة دون الجملة، وكذلك العالم وسائر الصفات، وقد التزمه الأشعري مكابرة، ويلزم أن لا ترجع الأحكام إلى الجملة فيكون المستحق للجلد هو اللسان لأنه القاذف، وكذلك الزنا ونحوه ويلزم أن يكون الواحد منا بمنزلة أحياء قادرين ضم بعضهم إلى بعض فلا يصح الفعل لداع واحد، ومن التزم هذا فهو مكابر لا يناظر.
هذا تلخيص كلامه رحمه الله.
الأصل الثاني: أن الرائي بالحاسة لا يرى إلا ما كان مقابلاً أو في حكمه.
قال أبو الحسين: وهو ضروري، وقواه القرشي؛ لأنا نبادر إلى تكذيب من أخبرنا أنه رأى شيئاً ليس كذلك كما نكذب من أخبرنا أنه رأى جسماً غير متحرك ولا ساكن، والأشاعرة محمولون إما على جحد الضرورة، أو على أن في الضروريات ما يجوز اختلاف العقلاء فيه كالعلم بأن هذا زيد الذي شاهدناه أمس ونحو ذلك مما لا يعد من كمال العقل، وإما لأنهم علموه ضرورة ولم يعلموا بعلمهم لتمكن عقائدهم وتنميق علمائهم للعبارات في حكاية مذاهبهم، ولهم مداخل وصناعة قوية في التمويه وزخرفة القول.
هذا وأما غير أبي الحسين فاستدلوا بأنا وجدنا الإدراك يدور على ذلك ثبوتاً وانتفاء.
الأصل الثالث: أن الله تعالى ليس كذلك أي ليس مقابلاً ولا في حكمه، وقد تقدم الكلام عليه في مسألة نفي التشبيه، وقد أورد على هذا الدليل اعتراضات:
الاعتراض الأول: أن هذا منتقض بإدراك الباري تعالى للمدركات وليست مقابلة ولا في حكم المقابلة، فإذا صح منه ذلك من دون مقابلة صح منا من دونها فنراه وإن لم يكن ثم مقابلة.
الجواب: أن هذا جمع من غير علة، ثم إنا قد احترزنا عن ذلك بقولنا إن الرائي بالحاسة... إلخ والباري تعالى ليس بذي حاسة فصح منه أنه يرى ما ليس مقابلاً، لا يقال لا نسلم أن الرؤية بالحاسة هي العلة في اشتراط المقابلة لجواز أن تكون العلة في ذلك كون الرائي والمرئي متحيزين فوجب تحاذيهما وإذا فقد التحيز في أحدهما انتفت العلة، فلا تشترط المقابلة لأنا نقول تلك العلة لا دليل عليها، وعلتنا قد ثبتت إما بالضرورة، أو بالدوران كما مر، والتجويز لا يقاوم الظن فضلاً عن العلم، وقال القرشي في جواب هذا السؤل: إن العقول إنما قضت بوجوب المقابلة من حيث أن الرائي جسم، ويستحيل أن يكون الجسم رائياً وليس بمقابل له والله تعالى ليس بجسم فيرى لا بمقابلة، بخلاف رؤية أحدنا لأن الرؤية أمر صادر من جهة الرائي، فإذا كان في جهة استحال أن تصدر الرؤية منه إلا إلى ما يقابل تلك الجهة، أو يكون في حكم المقابل لها، وإذا لم يكن الرائي في جهة صح أن يرى ما ليس بمقابل لأنه لا يعقل أن يكون مقابلاً، يزيده وضوحاً أن الله يرى الأشياء في جهاتها.
الاعتراض الثاني: من الجائز أن تكون المقابلة ونحوها بمجرى العادة أي أجرى الله العادة أنا لا نرى إلا ما كان مقابلاً أو في حكمه، وإذا كان بمجرى العادة جاز خلافه فيجوز أن يخلق الله فينا رؤية الأجسام والألوان من دون مقابلة، وإذا جاز ذلك فلا مانع من رؤية الباري تعالى من دون مقابلة.
الجواب: أن ذلك مكابرة، ثم إن الأمور العادية يجب تخلفها كما مر، والمعلوم أن هذا الشرط لم يتخلف ولو جوزنا ذلك لا نفتح باب الجهالة ومخالفة ما علمت بالضرورة فيه الاستحالة فيجوز أن يكون تحيز الأجسام عند وجودها بالعادة، فيصح تجويز جسم غير متحيز، وأن يجعل الجسم متحيز آمن دون وجود؛ لأن الوجود شرط عادي، وأن يكون اشتراط الحياة في العلم والقدرة عادياً، فيجوز أن يوجد قادر عالم بحي، وكذلك منافاة الأضداد، فيلزم جواز اجتماعها، وهذه اللوازم كلها إنما يلزم على تجويز كون هذه الأشياء بطريق العادة، وليس ذلك بأبعد من تجويز رؤية لا بمقابله ولا في حكمها.
الاعتراض الثالث: أن المقابلة إنما هي شرط في رؤية المحدثات فلا يصح منا أن نرى منها إلا ما كان كذلك وليست شرطاً في صحة رؤيتنا للباري سبحانه.
الجواب: أنا قد بينا أن العقول تخيل لا بمقابلة ولا نحوها، فمن جوز رؤية الباري لزمه تجويز المقابلة، ومن أحال ذلك فقد أحال الرؤية، ولا يجوز انفصال أحدهما عن الآخر، ويلزم القول بجواز أن يكون اللهت جسماً متحيزاً لا في جهة؛ لأن الجهة إنما تجوز على المحدثات لا يقال كونه جسماً يستلزم الجهة؛ لأنا نقول وكونه مرئياً يستلزم المقابلة أو ما في حكمها.
فإن قيل: إنما خصصنا اشتراط المقابلة برؤيتنا للمحدثات دون رؤيتنا للباري تعالى لاختلاف الرؤيتين، فإن ماهية رؤية الغائب وهو الله تعالى إنما هو انكشاف تام، أي ينكشف لبعاده انكشاف القمر ليلة البدر، وأن يحصل لذات العبد بالنسبة إليه تعالى هذا الانكشاف فالمعبر عنه بالرؤية نسبته إلى ذاته المخصوصة جل وعلا، كنشبة لانكشاف المسمى بالانضار إلى سائر المنضرات ولانكشاف يكون على وقف المكشوف في الاختصاص بجهة وحيز وعدمه، هكذا في المواقف وشرحه.
قيل: النزاع إنما هو في الإدراك المعلوم إلا في الرؤية المخالفة لها بالحقيقة المسماة بالانشكاف التام عندكم إذ نقول بذلك وهو الذي نسميه علماً ضرورياً، وحينئذٍ يعود الخلاف لفظياً، لكن ظاهر صنيعكم في الرد والإيراد، وتقدير الاحتجاج يأبا ذلك.
الاعتراض الرابع: أن يقال قد صح العلم بالباري تعالى من دون مقابلة فيصح أن نراه كذلك.
الجواب: أن هذا قياس من دون جامع............، ولو كان حكمها واحد لصح إدراكنا المدركات مع حصول الموانع كما نعلمها مع حصولها، وأيضاً العلم يخالف الإدراك فإنه يتعلق بالمعدوم والموجود، والقديم والمحدث، والإثبات والنفي، وبكل صفة، وحكم الإدراك لا يتعلق إلا ببعض الموجودات ولا قياس مع وجود الفارق هذا.
وأما الأدلة السمعية على نفي الرؤية فكثيرة، وستأتي في مواضعها إن شاء الله.
ومنها هذه الآية إذ لو كان سؤال الرية جائز لما نزلت بهم العقوبة وهي الصاعقة التي أخذتهم، كما لم ينزل بهم لما سألوا التنقل من طعام إلى طعام في قوله تعالى: {فَادْعُ لَنَا رَبَّكَ يُخْرِجْ لَنَا مِمَّا تُنْبِتُ الأَرْضُ }[البقرة:60].
قال أبو الحسين: ما ذكر الله تعالى سؤال الرؤية إلا استعظمه كما في هذه الآية فإن الرؤية لو كانت جائزة لكان قولهم لمن نؤمن لك حتى نرى الله جهرة كقول أمم الأنبياء لن نؤمن ل بإحياء ميت في أنه لا يستعظم ولا تأخذهم الصاعقة، ومثلها قوله تعالى: {يَسْأَلُكَ أَهْلُ الْكِتَابِ }إلى قوله:{فَقَدْ سَأَلُوا مُوسَى أَكْبَرَ مِنْ ذَلِكَ...}[النساء:153] الآية فسمى ذلك ظلماً وعاقبهم في الحال، فإن قيل: أليس الله قد أجرى سؤال إنزال الكتب مجرى الرؤية في كون كل منهما عتواً فكما أن إنزال الكتب غير ممتنع في نفسه وكذلك الرؤية.
قيل: الظاهر يقتضي امتناعهما مع ترك العمل به في إنزال الكتب لدليل، فيبقى معمولاً به في الرؤية، ومن ذلك قوله تعالى: {وَقَالَ الَّذِينَ لاَ يَرْجُونَ لِقَاءَنَا لَوْلاَ أُنزِلَ عَلَيْنَا الْمَلاَئِكَةُ أَوْ نَرَى رَبَّنَا لَقَدِ اسْتَكْبَرُوا فِي أَنفُسِهِمْ وَعَتَوْا عُتُوّاً كَبِيراً}[الفرقان: 21] فلو كانت الرؤية جائزة وهي عند مجوزيها من أعظم المنافع لم يكن سؤالها عتواً لأن من سأل الله نعمة في الدين أو في الدنيا لم يكن عاتياً، ويجري سؤالهم إياها مجرى من سأل معجزة زائدة.
قالوا: هذا كله راجع إلى معنى واحد، وهو أن الرؤية لو كانت جائزة لما كان سؤالها منكراً، واعتمد في ذلك على ضرب الأمثلة بالانتقال من طعام إلى طعام وبزيادة المعجزة، ونقول: لم قلت لما كان طالب ذلك الممكن غير عات ولا فاعل منكر وجب أن يكون طالب كل ممكن غير عات ولم تعتمد في ذلك إلا على ما ضربته من الأمثلة، والاعتماد عليها في مثل هذا الموضع لا يليق بأهل العلم كيف والله تعالى ما ذكر الرؤية إلا وذكر معها شيئاً ممكناً بالاتفاق، وأثبت صفة العتو على مجموع الأمرين، وهذا يدل على أن هذه الصفة ما حصلت لأجل كون المطلوب ممتنعاً، وحينئذ فيقال السبب في استعظام سؤال الرؤية إما لكونها لا تحصل إلا في الآخرة فكان سؤالها في الدنيا مستنكراً،أو لأنه لو رؤى الله في الدنيا لزال التكليف بالمعرفة؛ لأن الرؤية تتضمن العلم الضروري وهو ينافي التكليف، أو لأنه قد ثبت صدق المدعي للرسالة بالدليل، فكان طلب الزيادة في الدلالة تعنتاً، والمتعنت يستحق الذم والتعنيف، أو لأن الله تعالى قد علم أن في منع الخلق عن رؤيته في الدنيا مصلحة فلذلك استنكر طلبها، كما أنه لما علم أن في إنزال الكتب والملائكة مفسدة استنكر طلبه.
والجواب: أن أبا الحسين لم يدع أن طالب كل ممكن لا يكون عاتياً، ولا ادعى أن كل ما استعظم سؤاله ووصف سائله بالعتو ونحوه يكون ممتنعاً لذاته، وإنما ادعى أن الظاهر فيما كان كذلك أنه ممتنع في نفسه إلا لدليل، وقد صرح بهذا في قوله ترك العمل به في إنزال الكتب لدليل، قوله: ولم تعتمد إلا على ضرب الأمثلة... إلخ.
قلنا: لم نعتمد عليها، وإنما ذكرناها لتصوير المسألة وتحقيقها، والاعتماد إنما هو على ما يقتضيه الظاهر.
قوله: لم قلت لما كان طالب ذلك الممكن غير عات... إلخ.
قلنا: لم نقل بوجوب كون طالب الممكن غير عات إذا ثبت قبحه عقلاً وشرعاً كما يفيده قوله ترك العمل به في إنزال الكتب لدليل، فإنه إنما أراد أنه ترك العمل بالظاهر في كون إنزال الكتب ممتنعاً لنفسه للدليل ولا دليل في الرؤية، فبقيت على الامتناع لذاته ولم يرد أن سؤال إنزال الكتب ليس من العتو لأن الظاهر التوبيخ عليه، وذلك يقتضي قبحه، ولعل وجهه أن في إنزال الملائكة والكتب المخطوطة مفسدة يعلمها الله تعالى، وقد نبه الله على ذلك بقوله: {قُلْ لَوْ كَانَ فِي الأَرْضِ مَلاَئِكَةٌ يَمْشُونَ مُطْمَئِنّينَ لَنَزَّلْنَا عَلَيْهِمْ مِنَ السَّمَاءِ مَلَكاً رَسُولاً}[الإسراء: 95] فدل على أن في جعل الرسل من غير جنس المرسل إليهم مفسدة، ولهذا امتن الله على المؤمنين إذ جعل فيهم رسولاً من أنفسهم.
قوله: ما ذكر الرؤية إلا وذكر معها شيئاً ممكناً... إلخ.
قلنا: مسلم فكانت ماذا؟
قوله: وهذا يدل على أن هذه الصفة ما حصلت لأجل كون المطلوب ممتنعاً.
قلنا: ما أردت بالممتنع هل الممتنع لذاته أو الممتنع لوصفه؟ إذا أردت الأول فلم ندع أن الأمرين يعني إنزال الكتب والرؤية ممتنعان معاً للذات لقيام الدليل على إمكان إنزال الكتب، وإن أردت الثاني فلا نسلم أن إنزال الكتب غير ممتنع لما مر من بيان ما فيه من المفسدة، ولا يمتنع التوبيخ والذم على توجيه مجموع أمرين ممتنعين: أحدهما ممتنع لذاته، والآخر ممتنع لقبحه لا لعدم إمكانه.
قوله: فيقال السبب في استعظام سؤال الرؤية... إلخ.
قلنا: هذه الاحتمالات خلاف الظاهر ولا دليل عليها، بل قام الدليل على خلافها، وهو أن الوجه في استعظام ذلك أنهم سألوا ما لا يمكن وقوعه في حال من الأحوال، ودليله ما مر من الحجج العقلية، وكذلك الآية فإن الظاهر يقتضي أنه استعظم ذلك؛ لأنهم سألوا ما لا يجوز ولا يمكن في حال، وإلا لنبه على خلافه وما كان ربك نسياً.
قوله: أو لأنه قد ثبت صدق المدعي للرسالة... إلخ.
قلنا: طلب زيادة الدليل لا قبح فيه، ولهذا كرر الله الأدلة على ثبوت ذاته جل وعلى ووحدانيته، وحكى عن إبراهيم عليه السَّلام قوله: {وَلَكِنْ لِيَطْمَئِنَّ قَلْبِي }[البقرة: 260] وواتر معجزات الأنبياء حتى روي لنبينا محمد صلى الله عليه وآله وسلم ألف معجزة أو أكثر.
الموضع الثالث: [في شبه القائلين برؤية الله تعالى]
في شبه المخالفين: ولهم شبه عقلية وسمعية، فالسمعية ستأتي إن شاء الله وقد تقدم شيء منها، والعقلية كثيرة، ولنذكر هنا أقواها:
الشبهة الأولى: طريقة الوجود وهي التي اعتمدها الأشعري والباقلاني وغيرهما، وتقريرها أنا نرى الجواهر وبعض الأعراض كالألوان، وهذا يدل على أن صحة الرؤية مشتركة بينهما، فلا بد أن نعلل هذه الصحة بأمر يشتركان فيه حال وجودهما لتحقق رؤيتهما عند الوجود، وانتفائها عند العدم ضرورة كون الأجسام والأعراض إذا كانت معدومة استحالت رؤيتها، وهذا متفق عليه، وقلنا بوجوب اشتراكهما في العلة، لأنها لو لم تكن كذلك لزم تعليل الأمر الواحد وهو صحة الرؤية بعلل مختلفة، وإنه غير جائز؛ لأنها حكم متماثل في الذوات، والأحكام المتماثلة في الذوات لا يصح تعليلها بعلل مختلفة نحو كون الجوهر جوهراً واللون لوناً، وإلا لزم أن يصح تعليل صحة القادرية في شخص بما يعلل به صحة عالميته، ويعللها في آخر بغير ذلك، فيصح كونه عالماً ولا يصح كونه قادراً مع مساواته للآخر، وذلك يقدح في تعيين الشروط للمشروطات وهو باطل، ثم هذه العلة المشتركة إما الوجود أو الحدوث؛ إذ لا مشترك بين الجوهر والعرض سواهما فإن الأجسام لا توافق الألوان في صيغة عامة يتوهم كونها مصححة سوى هذين، لكن التعليل بالحدوث باطل؛ لأنه عبارة عن وجود بعد عدم، والعدم لا يكون جزء علة فتعين الوجود، فثبت أن علة صحة رؤية الجوهر والألوان هي الوجود، والباري تعالى موجود فيجب أن تصح رؤيته.
والجواب من وجوه:
أحدها: أن هذا الدليل يوجب رؤية كل موجود، ومعلوم أن كثيراً من الموجودات لا ترى كالعلم والإرادة ونحوهما، لا يقال: الخصم ينكر وجود ما لا يدرك؛ لأنا نقول إنكار وجود نحو ما ذكرنا عناد ومكابرة.
قالوا: أجرى الله العادة بعدم رؤيتها.
قلنا: موجبات الرؤية حاصلة فالحواس سليمة، والموانع مرتفعة، والمدرك موجود، فلو كان يصح عليها الرؤية لوجب أن نراها.
الثاني: أنكم جعلتم العلة في صحة الرؤية إنما هو الوجود، ومعلوم أن الشيء كما تجدد له صفة الوجود تجدد له صفات أخرى، ولا يمتنع جعل تلك الصفات هي المصححة للرؤية، فليس الوجود بأولى منها، فإن قيل: وما تلك الصفة؟ قيل: هي التحيز في الجوهر، والهيئة في اللون.
قوله: لزم تعليل الأمر الواحد وهو صحة الرؤية... إلخ.
قلنا: لا مانع من ذلك.
قال الإمام المهدي: ألا ترى أن المصحح لكون القديم تعالى حياً هي الصفة الأخص وليس كذلك في حقنا مع تماثل الحيية في الذوات.
قوله: لأنها حكم متماثل في الذوات... إلخ.
قلنا: ممنوع، قال القرشي: من أين لهم أنها حكم متماثل، وأن صحة رؤية الجوهر تماثل صحة رؤية اللون، وتماثل صحة رؤية الباري، سلمنا فما الدليل على أن الأحكام المتماثلة لا تعلل بعلل مختلفة، فإنا نقول إنها معللة بالمقتضيات وهي مختلفة في الأجناس، نظيره في العقليات صحة كون الأشياء معلومة فإنها معللة بصفاتها الذاتية وهي مختلفة وفي الشرعيات فساد الصلاة فإنها تعلل بالحدث والكفر وغيرهما، سلمنا أنها لا تعلل بالعلل المختلفة، فلا مانع من أن تعلل صحة رؤية الجواهر والألوان بكونهما ممكني الوجود من ذاتيهما، أو كونهما معلومين لا الوجود، ويلزم عليه صحة رؤية المعدوم، وقد يقال: المعدوم ليس بشيء، وهذا غير مخلص؛ لأن العلة إذا كانت ما ذكرنا بطل اشتراط كونه شيئاً، فإن قالوا: نحن نعلم استحالة رؤية المعدوم.
قلنا: فما الفرق بينه وبين العلم والإرادة، والسمع والبصر، ونحوهما مما قد جوزتموه.
قوله: وإلا لزم أن يصح تعليل صحة القادرية في شخص... إلخ.
قلنا: قال الإمام المهدي: ليس ذلك من باب تعليل المتماثل بأمر متماثل لكونه متماثلاً فإن القادريتين مختلفتان أبداً، سواء كانتا لشخص أو لشخصين، بل لما ثبت أن العالمية والقادرية ونحوهما من صفات الجمل لا تصح إلا علىالأحياء، علمنا أن المصحح لها إنما هو الحيية، وإلا لجوزنا عالماً قادراً غير حي، وقد علمنا خلافه ضرورة، فثبت أن امتناع تعليل صحة القادرية بأمر غير ما عللت به صحة العالمية ونحوها ليس لكون الأحكام المتماثلة وهي صحة القادريات لا تعلل بأمر مختلف، وإنما هو لما ذكرنا من تجويز المصحح لها سوى الحيية يقدح فيما علم ضرورة من أن القادر لا يكون إلا حياً، وليس كذلك صحة الرؤية فإن تجويز اختلاف المقتضى لها في الذوات لا يقدح في ضروري، بل له نظائر قد ذكرناها.
الوجه الثالث: أن الوجود عند كثير من علمائكم ليس بزائد على ذات الموجود بل هو ذاته، وعلى هذا فكأنهم قالوا نرى الأشياء لذواتها، فنلزمهم ما ألزمونا به من صحة تعليل الأحكام المتماثلة في الذوات بعلل مختلفة؛ لأن صحة الرؤية حينئذ معللة بشيء مختلف وهو الذوات.
قال القرشي: ويلزم عليه صحة الرؤية حال العدم.
قلت: لعل لزوم هذا على رأي من يجعل الوجود أمراً زائداً على الذات من هؤلاء؛ إذ يلزمهم عليه القول بثبوت ذوات العالم في العدم.
الوجه الرابع: أن يقال هل تجعلون الوجود علة في صحة جميع الإدراكات على الله تعالى، أو في صحة الرؤية فقط.
الثاني: باطل لاتحاد الطريق، والأول يلزم منه أن يصح أن تسمع ذاته وتذاق وتشم وتلمس، قيل: وقد التزمت الأشعرية فأجازوا أن تدرك ذاته تعالى على حد إدراكنا للألم واللذة، والريح، والطعم، والحرارة، وأجازوا أن تدرك حياته وعلمه على حد إدراكنا لهذه المدركات، وهذا تهافت شديد، وضلال بعيد.
الشبهة الثانية: أن القديم تعالى يوصف عندكم بأنه راءٍ لذاته، فيجب أن يرى نفسه فيما لم يزل، والاَّ خرج عن كونه رائياً لذاته، وكل من قال إنه يرى ذاته قال إنه يراه غيره.
قوله: (وكل من قال إنه يرى ذاته قال إنه يراه غيره) ممنوع فإن في الناس من قال إنه يرى ذاته ولا يراه غيره.
والجواب: لا نسلم أنه يرى لذاته، وإنما يرى لكونه حياً بشرط وجود المدرك، فقد بينا كون ذاته مما لايصح إدراكها، وإلا لجاز أن يرى المعدوم، ولا وجه لامتناع رؤيته إلا كونها مستحيلة وهي في حق الباري تعالى كذلك.
الشبهة الثالثة: أن القول بالرؤية لله تعالى لا يؤدي إلى حدوثه، ولا إلى تشبيهه، ولا إلى تكذيبه، ولا قلب ذاته فيجب القول بصحتها.
والجواب: بالقلب فيقال إن نفي الرؤية لا يؤدي إلى شيء من ذلك فيجب أن تنتفي عنه الرؤية، وهذا يسمى قلب التسوية، ثم يقال لهم إثبات كون جبريل في السماء السابعة لا يؤدي إلى حدوث الباري أوتشبيهه، ولم يجب أن يقال هو فيها، وكذلك إثبات مدينة بين مكة والطائف لا يؤدي إلى ذلك ولم يجب القول بثبوتها.
قال السيد مانكديم: ثم يقال لهم: إن إثبات الرؤية يؤدي إلى حدوثه وإلى حدوث معنى فيه، وإلى تشبيهه بخلقه، وإلى تجويره في حكمه، وإلى تكذيبه في خبره؛ لأن الشيء إنما يرى إذا كان مقابلاً أو في حكم المقابل، وهذه من صفات الأجسام فيجب أن يكون القديم تعالى جسماً، وإذا كان جسماً يجب أن يكون محدثاً؛ لأن الأجسام لا تخلو من المعاني المحدثة فيؤدي إلى حدوثه، وكذلك إذا كان جسماً تجوز عليه الحاجة فتجوز عليه الزيادة والنقصان، وإذا جاز عليه الحاجة جاز أن يجور في حكمه ويكذب في خبره تعالى عن ذلك، فإذاً إثبات الرؤية يؤدي إلى هذه المحالات فيجب أن تنفى عنه.
الشبهةالرابعة: لو كان رؤيته تعالى مستحيلة لعلمت ضرورة، أو دلالة، وكلاهما منتفيان، فتنتفي الاستحالة؛ إذ لا قائل بالتجويز والشك من الأمة، أما انتفاء الضرورة فواضح، وأما انتفاء الدلالة فلما ذكرنا في أدلتكم من القوادح، ولا يقال إنا نقلب عليكم في صحة الرؤية فنقول لم تعلم ضرورة ولا دلالة... إلى آخره، فيجب القطع بنفيها؛ لأنا نقول لم يستدل أحد بهذا الدليل على نفي صحة الرؤية، فالاستدلال به خرق للإجماع، بخلاف ما قلنا فإنا لم نزل نستدل به.
والجواب: أنا نعارضكم بمطاعن أصحابنا في صحة رؤية الباري تعالى وهي أقدم، ويلزم أنكم بنيتم العقلي على سمعي ضعيف، وهو أن إحداث دليل ثالث ونحوه خرق للإجماع، وهذا باطل كما تقرر في الأصول.
هذا وللقوم شبه عقلية تركناها لظهور سقوطها، وبقي الكلام على شبهة ضرار في إثبات الحاسة السادسة.
قال الإمام المهدي: فلعله يقول لما كان من شرط الإدراك بهذه الحواس محاذات المدرك إياها، وذلك يستلزم جسميته أو حلوله في جسم، ويوجب أن ندركه الآن، وقد ثبت أنه تعالى يدرك يعني في الآخرة على زعمهم وجب أن يكون الإدراك بغير هذه الحواس وهي حاسة سادسة يخلقها الله تعالى.
والجواب: أن نقول الرؤية الحاصلة بالسادسة لا تخلو إما أن تكون ما نفعله بهذه المعروفة أو أمر آخر سماه رؤية مخالف لما نعرف، إن كان الأول وجب حصوله بهذه الحاسة، وإلا فلا فائدة في خلق الأخرى، وإن كان الثاني فخارج عن محل النزاع ؛لأنا إنما نفينا أن يرى في الآخرة على مثل هذه الرؤية، فإن أراد بالرؤية العلم فالخلاف لفظي لأنه إنما سمي القلب حاسة، وإن لم يرد بها العلم فلا يعقل مذهبه.
واعلم أن للخصوم شبهاً وسنتكلم عليها في مواضعها إن شاء الله.
فائدة [تعليق على كلام مانكديم]
قال السيد مانكديم ما معناه: المخالف لنا في هذه المسألة إما أن يحقق الرؤية فيقول إن الله تعالى يرى مقابلاً لنا أو حالاً في المقابل، أو في حكم المقابل، أو لا يحقق، ويقول إنه تعالى يرى بلا كيف، فعلى الأول يكون كافراً لأنه جاهل بالله والجهل بالله كفر بإجماع الأمة، وعلى الثاني لا يكفر؛ لأن التكفير إنما يعرف شرعاً وليس في الشرع ما يدل على ذلك، وإنما ألزمناهم أنه لو جاز أن يرى لجاز أن يلمس ويشم خاصة على مذهبهم أن رؤيته تعالى ثواب، فيلزم أن يكون مشتهى أو معشوقاً تعالى الله عن ذلك علواً كبيراً.
قلت: وأراد عليه السَّلام أن التكفير بالإلزام لم يثبت، وقد تقدم البحث فيه في سياق قوله تعالى:{إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا سَوَاءٌ عَلَيْهِمْ أَأَنذَرْتَهُمْ...}[البقرة: 6] الآية، وفيه تفصيل لا ينبغي جهله.
قوله تعالى: {فَبَدَّلَ الَّذِينَ ظَلَمُوا قَوْلاً غَيْرَ الَّذِي قِيلَ لَهُمْ }[البقرة:59] قيل: في الآية دليل على منع رواية الحديث بالمعنى؛ لأن ظاهرها يتناول قبح كل تبديل قول بقول سواء اتفق المعنى أم لا، وهذا قول ابن سيرين وجماعة من السلف، وأجيب بأن الله إنما ذمهم لتبديلهم اللفظ والمعنى، وقد قيل إنهم بدلوا حطة بحنطة، فأما من غير اللفظ وأبقى المعنى فلم يتناوله، ولهذا أكد الذم بقوله غير الذي قيل لهم، مع أن تحقيق التبديل مستحيل مع عدم المغايرة، لكن صرح بذلك تحقيقاً لمخالفتهم، وتنصيصاً على المغايرة من كل وجه.
قالوا: نقل كثير مما وردت به الآثار كألفاظ الأذان والتشهد وغيرهما باللفظ، فكذلك يكون حكم غيرهما.
قلنا: ذلك مما تعبد بلفظه ولا نزاع فيه.
قالوا: لو جازت الرواية بالمعنى لجاز للراوي الأول، ثم للراوي عنه، ثم كذلك حتى يؤدي إلى خروج الخبر عن معناه؛ لأن كل ناقل قد يزيد أو ينقص قليلاً.
قلنا: لا نسلم ذلك لأن الكلام في الذكي العارف.
قالوا: حث النبي صلى الله عليه وآله وسلم على نقل الحديث باللفظ كما يدل عليه ما في أمالي المرشد بالله، قال: أخبرنا ابن ريذة، قال: أخبرنا الطبراني، ثنا عبد الرحمن الضراب، ثنا المخزمي، ثنا محمد بن كثير، ثنا ابن أبي خالد، عن الشعبي، عن النعمان بن بشير، عن أبيه عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم : ((رحم الله عبداً سمع مقالتي فحفظها فرب حامل فقه غير فقيه، ورب حامل فقه إلى من هو أفقه، ثلاث لا يغل عليهن قلب مؤمن: إخلاص العمل لله، ومناصحة ولاة المسلمين، ولزوم جماعة المسلمين)).
أخبرنا ابن ربذة،أنا الطبراني،ثنا يحيى بن عثمان، ثنا نعيم بن حماد، ثنا إبراهيم بن سعد،عن صالح بن كيسان،عن الزهري، عن محمد بن جبير بن مطعم، عن أبيه، قال: قام النبي صلى الله عليه وآله وسلم بالخيف فقال: ((نضر الله عبداً سمع مقالتي فوعاها فأداها إلى من لم يسمعها فرب حامل فقه لا فقه له، ورب حامل فقه إلى من هو أفقه منه، ثلاث لا يغل عليهن قلب مؤمن: إخلاص العمل لله، والطاعة لذوي الأمر، ولزوم جماعة المسلمين فإن دعوتهم تحيط من وراءهم)). وأخرجه أحمد، وابن ماجة، والحاكم في المستدرك.
وفي أمالي المرشد بالله أيضاً أخبرنا أبو طاهر بن بشر، ثنا بن لبوة، ثنا أبو خليفة، ثنا مسدد، ثنا يحيى، عن شعبة، ثنا عمرو بن سليمان، عن عبد الرحمن بن أبان، عن أبيه: خرج زيد بن ثابت من عند مروان قريباً من نصف النهار فقلنا إنه ما بعث إليه إلا لشيء يسأله، فقمت إليه فسألته، فقال: أجل سألنا عن أشياء سمعناها من رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يقول: ((رحم الله من سمع منا حديثاً فحفظه حتى يبلغه غيره فرب حامل فقه إلى من هو أفقه منه، ورب حامل فقه ليس بفقيه، ثلاث خصال لا يغل عليهن قلب مسلم أبداً: إخلاص العمل لله، ومناصحة ولاة الأمر، ولزوم الجماعة فإن دعوتهم تحيط من وراءهم)) الخبر. وأخرجه أبو داود، وابن ماجة، وأخرجه الترمذي، وابن ماجة عن ابن مسعود.
وفي أمالي أبي طالب: ثنا أبو عبد الله القزويني، ثنا أبو الحسن القطان، ثنا ابن ماجة، ثنا محمد بن عبد الله، ثنا محمد بن فضيل، ثنا ليث، عن محمد بن عباد، عن أبيه، عن زيد بن ثابت قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم : ((نضر الله امرأً سمع مقالتي فبلغها فرب حامل فقه غير فقيه، ورب حامل فقه إلى من هو أفقه منه)). وأخرجه الترمذي.
وأخرج أحمد وابن ماجة عن أنس عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم أنه قال: ((نضر الله عبداً سمع مقالتي فوعاها ثم بلغها عني فرب حامل فقه غير فقيه، ورب حامل فقه إلى من هو أفقه منه)) . وقد روى الحديث في بعض كتب الأصول بلفظ: ((ثم أداها كما سمعها)).
وبيان الاستدلال به أن أداء الحديث كما سمع إنما هو بنقل لفظه، وأيضاً قوله: ((ورب حامل فقه إلى من هو أفقه منه )) يقتضي أن المنقول إليه اللفظ قد يستفيد ما لا يستفيده الراوي فيجب نقل اللفظ بعينه لذلك.
قلنا: من نقل المعنى فقد أداه كما قد سمع؛ لأنه المقصود من الكلام، والفائدة تحصل بالمعنى كاللفظ؛ إذ الفرض أن الناقل عدل عارف، ثم إن الحديث ليس فيه دلالة على الوجوب، وإنما فيه الدعاء لمن حفظه إلى أن يبلغه.
فائدة [في معنى نضر الله]
قوله: (نضر الله) أي نعمهُ يروى بالتخفيف والتشديد من النضارة وهي في الأصل حسن الوجه والبريق، وذهب الأكثر إلى جواز الرواية بالمعنى للعارف بمواقع الألفاظ؛ إذ لا دليل على المنع لبطلان ما احتج به المخالف كما مر، وإذا بطل أحد القسمين ثبت الثاني؛ لأنهما من طرفي نقيض؛ ولأن نقل الآثار النبوية واجب فإذا تعذر اللفظ وجب المعنى، وتحقق النقل باللفظ متعذر عادة، ولهم أن يتبرعوا بالاستدلال زيادة في تقرير مذهبهم وتوضيحه، وذلك من وجوه:
أحدها: إجماع الصحابة، فإن المعلوم أنهم كانوا يروون الخبر الواحد بعبارات مختلفة مع اتحاد مجلس السماع ولا ينكر بعضهم على بعض، يعرف ذلك من عرف الحديث.
الثاني: إطباق الأمة على نقل الأخبار والوقائع بعبارة مختلفة، وشاع ذلك وذاع ولم ينكر فكان ذلك إجماعاً.
الثالث: ما روي عن ابن مسعود، وأبي الدرداء، وأنس أنهم كانوا يقولون قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم كذا أو كما قال، وذلك تصريح منهم بعدم تذكر اللفظ بعينه، ولم ينكر عليهم.
الرابع: الإجماع على جواز تفسير الخبر للعجم بلغتهم وهو غير لفظ الخبر.
الخامس: أن الصحابة لم يكونوا يكتبون الآثار في مجلس السماع، وربما لم يكرروا دراستها ثم يروونها بعد مضي الأعصار، والعادة تقضي بتعذر ضبط اللفظ.
السادس: ما روي في بعض كتب أصحابنا في الأصول عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم أنه قال: ((إذا أصبتم المعنى فلا بأس )).
قلت: قال زين الدين: رواه ابن مندة في معرفة الصحابة من حديث عبد الله بن سليمان بن أكتمة الليثي قال: قلت: يا رسوالله إني أسمع منك الحديث لا أستطيع أن أؤديه كما أسمع منك يزيد حرفاً أو ينقص حرفاً، قال: ((إذا لم تحلوا حراماً ولم تحرموا حلالاً وأصبتم المعنى فلا بأس)) فذكر ذلك للحسن، فقال: لولا هذا ما حدثنا. هكذا نقله زين الدين، وقال السخاوي: هو حديث مضطرب لا يصح، بل رواه الجوزجاني في الموضوعات.
وبقي في المسألة أقوال يتضمن التفصيل.
أحدها: قول الخطيب، وهو أنه يصح للراوي أن يروي بالمعنى إذا كان بلفظ مرادف كإبدال الاستطاعة بالقدرة، والحظر بالتحريم إذ لا خطأ مع المرادف، وإما مع غيره فإنا نعلم اختلاف العلماء في معاني الألفاظ وتفاوتهم في التنبه لها، فلو جوز وقدر وقوعه مرتين أو ثلاثاً ووقع في كل مرة أدنى تغيير أدى إلى تغيير كثير واختل المقصود.
والجواب: أنه إنما يقع الخطأ والتغيير من غير العارف، وليس بمحل النزاع، وأما العارف فكما لا يقدر الخطأ مع إتيانه باللفظ المرادف لا يقدر منه مع معرفته لمقاصد الألفاظ.
القول الثاني: مروي عن الحنفية وهو أنه إن كان للخبر معنى واحد جاز نقله بالمعنى، وإن كان له معنيان لم يجز؛ إذ لو روي بأحد المعنيين كان بخلاف ما اقتضاه لفظ الخبر، مثاله: لو قال الشارع: عدة المرأة ثلاث أقراء، فقال الراوي: عدتها ثلاث حيض، فليس القرء موضوعاً للحيض وحده، وإن قال: عدتها ثلاث حيض أو ثلاثة أطهار كان فيه التخيير، ولعل الشارع قصد أحدهما فقط.
والجواب: أن مثل هذا لا يجوز، واشتراطنا معرفة الراوي لمعاني الألفاظ ومقاصدها يمنع كون هذا قولاً مستقلاً، والعدل العارف لا يروي صورة المثال بالمعنى.
القول الثالث: أن لفظ الراوي إن كان لا يسد مسد الخبر بأن يزيد عليه أو ينقص منه، أو كان أخفى منه أو أوضح لم يجز؛ لأن الزائد كذب، والناقص إما أن ينبئ عن رفع حكم قد أثبته أو كتمان حكم كذلك، وأيهما كان لم يجز وذلك ظاهر، وأما المنع مع الاختلاف بالوضوح والخفاء؛ فلأنه لا يمتنع تعلق المصلحة باللفظ المنقول عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم ظاهراً كان أو خفياً وإن سد مسده، فإن اشتبهت الحال فيه حتى يكون موضع اجتهاد لم يجز نقله بالمعنى لجواز أنه لو نقل اللفظ إلى المجتهد لخالف اجتهاده اجتهاد الراوي، وإن لم يشتبه الحال فيه جاز كقعد وجلس. ذكر هذا التفصيل أبو الحسين البصري، وحكاه عن الحسن البصري وأبي حنيفة، والشافعي، وإنما جاز نقل الحديث بالمعنى في القسم الأخير؛ لأنه إن وجب نقل الحديث لأجل اللفظ دفعه الإجماع، وإن وجب لأجل اللفظ والمعنى وجب تلاوة اللفظ، ولا دليل عليه.
والجواب: أن الراوي إن زاد أو نقص بما يغير المعنى، أو يتضمن رفع حكمه أو كتمانه فخارج عن محل النزاع، وإن لم يكن كذلك فلا مانع منه، وقد دل عليه ما مر، ولا يلزم منه كذب ولا كتمان؛ لأن المعنى بتمامه وهو المقصود من اللفظ والمخالفة بالجلاء والخفاء، وتجويز المصلحة والمفسدة مما لا تكليف علينا فيه، ولا دليل على مراعاة ذلك عقلاً ولا شرعاً، ولو علم الله تعلق المصلحة بالظاهر لتعبدنا بتلاوة لفظ الخبر كالقرآن ونحوه.
قيل: وما حكاه عن أبي حنيفة والشافعي فالمروي عنهما خلافه.
[البقرة: 63]
المسألة الأولى[جواب على قانون الجاذبية]
من الملاحدة من أنكر إمكان وقوف الثقيل في الهواء بلا عماد، قالوا: وأما الأرض فطبعها طلب المركز فلأجل ذلك وقفت فيه.
والجواب: أن هذا إنكار للضرورة؛ فإنا نعلم وقوف الطير في الهواء: {أَلَمْ يَرَوْا إِلَى الطَّيْرِ مُسَخَّرَاتٍ فِي جَوِّ السَّمَاءِ مَا يُمْسِكُهُنَّ إِلاَّ اللَّهُ}[النحل:79] وكذلك السماء قد نص الله في كتابه على أنها قائمة بلا عمد.
ونقول: قد ثبت أن الله تعالى قادر على الممكنات، ووقوف الثقيل في الهواء من الممكنات فيجب أن يكون قادراً عليه، وفيما نشاهد في زماننا من هذه الطائرات بالآلات، وما حكى من وقوفها في الهواء الأيام والساعات أقوى دليل على كون ذلك من الممكنات؛ إذ الوقوع فرع الإمكان.
المسألة الثانية [جواز التكليف مع الإلجاء]
قد يتمسك بالآية على جواز التكليف مع الإلجاء؛ لأن رفع الجبل فوقهم يجري مجرى الإلجاء إلى الإيمان، ولا مأخذ فيها؛ لأنه لا إلجاء في ذلك إذ أكثر ما فيه التخويف خوف سقوطه عليهم، لكن لما استمر في مكانه مدة وقد شاهدوا ارتفاع السموات بلا عماد جاز أن يرتفع الخوف، فيزول الإلجاء، ويبقى التكليف.
المسألة الثالثة [في دلالة الآية على أن الاستطاعة قبل التكليف]
في قوله: {خُذُوا مَا آتَيْنَاكُمْ بِقُوَّةٍ }[البقرة:63] دليل على أن الاستطاعة متقدمة على الفعل؛ إذ لا يجوز أن يقال خذ هذا بقوة ولا قوة، كما لا يجوز أن يقال: اكتب بالقلم ولا قلم، والقول بأن القوة هنا بمعنى العزيمة تعسف، وخروج عن الظاهر بلا دليل.
[البقرة: 67-71]
قوله تعالى: {إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تَذْبَحُوا بَقَرَةً قَالُوا أَتَتَّخِذُنَا هُزُواً قَالَ أَعُوذُ بِاللَّهِ أَنْ أَكُونَ مِنَ الْجَاهِلِينَ، قَالُوا ادْعُ لَنَا رَبَّكَ يُبَيِّنْ لَنَا مَا هِيَ قَالَ إِنَّهُ يَقُولُ إِنَّهَا بَقَرَةٌ لاَ فَارِضٌ وَلاَ بِكْرٌ عَوَانٌ بَيْنَ ذَلِكَ فَافْعَلُوا مَا تُؤْمَرُونَ، قَالُوا ادْعُ لَنَا رَبَّكَ يُبَيِّنْ لَنَا مَا لَوْنُهَا قَالَ إِنَّهُ يَقُولُ إِنَّهَا بَقَرَةٌ صَفْرَاءُ فَاقِعٌ لَوْنُهَا تَسُرُّ النَّاظِرِينَ، قَالُوا ادْعُ لَنَا رَبَّكَ يُبَيِّنْ لَنَا مَا هِيَ إِنَّ الْبَقَرَ تَشَابَهَ عَلَيْنَا وَإِنَّا إِنْ شَاءَ اللَّهُ لَمُهْتَدُونَ، 0قَالَ إِنَّهُ يَقُولُ إِنَّهَا بَقَرَةٌ لاَ ذَلُولٌ تُثِيرُ الأَرْضَ وَلاَ تَسْقِي الْحَرْثَ مُسَلَّمَةٌ لاَ شِيَةَ فِيهَا قَالُوا الآنَ جِئْتَ بِالْحَقِّ فَذَبَحُوهَا وَمَا كَادُوا يَفْعَلُونَ}[البقرة: 67-71] الفارض: المسن التي انقطعت ولادتها من الكبر،وكأنها سميت فارضاً لأنها فرضت سنها أي قطعتها وبلغت آخرها،والبكر:الفتية، والعوان: النصف وهي التي ولدت بطناً أو بطنين،والفقوع:أشد ما يكون من الصفرة وأبلغه، والذلول: الريض الذي زالت صعوبته يعني لم تذلل لأثارة الأرض، ولا هي من النواضح التي يسنى عليها لسقي الزرع، والشِّيَة:اللمعة المخالفة للون،ومنه ثور موشى القوائم، والمعنى لا لمعة فيها من لون آخر سوى الصفرة، فهي صفراء كلها، وفي هذه الجملة مسائل:
المسألة الأولى [الدلالة على قبح الاستهزاء]
في قوله: {قَالَ أَعُوذُ بِاللَّهِ أَنْ أَكُونَ مِنَ الْجَاهِلِينَ }[البقرة:67] دليل على قبح الاستهزاء، وأنه من صفات أهل الجهل، ولهذا أقامه مقام قوله: أن أكون من المستهزئين، وفي ذلك أيضاً دليل على قبح الجهل، وقبحه معلوم.
قالوا: والجهل بسيط ومركب، والبسيط عام وخاص، فالعام: عدم العلم بشيء من المعلومات، والخاص: عدم العلم ببعض المعلومات، والمركب: أن يجهل ويجهل أنه يجهل، فالعام والمركب لا يوصف بهما من له بعض علم.
المسألة الثانية [جواز النسخ]
في الآية دليل على جواز النسخ بعد التمكن قبل الفعل، ولا خلاف في ذلك، والاستدلال بها مبني على أن الزيادة في الأوصاف والشرائط نسخ للمزيد عليه وفيه خلاف، وفيها حجة على وقوع النسخ في شريعة موسى عليه السَّلام .
المسألة الثالثة [جواز الاجتهاد]
احتج العلماء بقوله: {عَوَانٌ بَيْنَ ذَلِكَ }[البقرة: 68] على جواز الاجتهاد، والعمل بغالب الظن في الأحكام؛ إذ لا طريق إلى كونها كذلك إلا الظن.
المسألة الرابعة [دلالة الآية على أن اللون شيء]
في قوله: {صَفْرَاءُ فَاقِعٌ لَوْنُهَا }[البقرة: 69] دليل على أن اللون شيء، وأنه يدرك بحاسة البصر، أما دلالته على أنه شيء؛ فلأن الله تعالى عرفهم بذاتها، وبجميع صفاتها ومن جملتها لونها، فدل على أنه شيء وإلا لما حصل به التعريف، ومما يدل على ذلك أنا نرى الشعر أسوداً، ثم نراه أبيضاً وعينه قائمة، وذلك يوجب كون السواد شيئاً والبياض شيئاً، وأنهما ضدان يبطل أحدهما عند حضور الآخر، والعدم لا يكون ضداً لغيره يبطله، ولا يجوز أن يقال فيه إنه يحدث ويبطل؛ لأنه نفي محض لا تتعلق به قدرة وإنما تتعلق بالمعدوم، وأما دلالتها على أنه مرئي فلأن بني إسرائيل لو لم يروا لون البقرة لما زالت عنهم الشبهة، ولبقيت الجهالات، ولما فرقوا بين الصفرة وغيرها من الألوان، والمعلوم خلاف ذلك.
قال الإمام أحمد بن سليمان: فلما وصفها الله بالصفرة وبالغ في صفتها بالفقاعة فلم يكونوا يبلغون إلى معرفة هذه الصفة إلا بالنظر صح أنها مرئية، ويكفي من هذا الاحتجاج أن الأعمى لو لمس البقرة لما عرف لونها ولا أمكنه وصف شيء بلونه، وكذلك من لا يرى اللون لا يمكنه وصف شيء بلونه؛ إذ لا يعرف بشيء من الحواس غير البصر، وإذا كان لا يعرف بغيره صح أنه مرئي، على أن القول برؤية الألوان مجمع عليه. ذكره في الحقائق، ولا خلاف فيه إلا عن نفاة الأعراض فإنها عندهم أجسام لا ينكرون رؤيتها.
المسألة الخامسة [الجواب على شبهة المجبرة بأن الله يأمر بما لا يريد]
تمسكت المجبرة بقوله: {وَإِنَّا إِنْ شَاءَ اللَّهُ لَمُهْتَدُونَ} على أن الله تعالى قد يأمر بما لا يريد، وإلا لما بقي لقولهم إن شاء الله فائدة.
والجواب عن هذا قد مر في الرابعة من مسائل قوله تعالى: {إِنَّ اللَّهَ لاَ يَسْتَحْيِي أَنْ يَضْرِبَ مَثَلاً مَا بَعُوضَةً ...}[البقرة: 26] الآية.
واحتج أهل العدل بذلك على أن إرادة الله محدثة لدخول كلمة (إن) على قوله إن شاء الله، وهي تدل على الحدوث، ولأنه علق حصول الاهتداء على مشيئته تعالى، والاهتداء ليس بأزلي، فكذلك مشيئة الاهتداء لا تكون أزلية؛ لأنها لو كانت أزلية لوجب كون الاهتداء أزلياً، وهو باطل اتفاقاً.
المسألة السادسة [دلالة الأمر في الآية]
في الآية دليل على أن الأمر للوجوب؛ لأنه لم يوجد إلا مجرد الأمر، وقد ذمهم الله على التثاقل والتكاسل، والظاهرأن الذم إنما كان على ترك الذبح المأمور به لا لغيره، وفيها دليل على أن الأمر للفور؛ لأنه ذمهم على التثاقل فلهذا قال: {وَمَا كَادُوا يَفْعَلُونَ}[البقرة:71] وقد يقال إنما ذمهم على التثاقل لأنهم قد علموا الفورية بقرينة خارجية وهي أن الغرض من المأمور به إزالة شر وفتنة، ودفع ضررهما واجب، وذلك مما تجب المسارعة إليه. والله أعلم.
قوله تعالى: {فَقُلْنَا اضْرِبُوهُ بِبَعْضِهَا كَذَلِكَ يُحْيِ اللَّهُ الْمَوْتَى وَيُرِيكُمْ آيَاتِهِ لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ}[البقرة: 73] فيه دليل على البعث؛ إذ المعنى لعلكم تعلمون على قضية عقولكم، وهي أن من قدر على إحياء نفس واحدة قدر على إحياء جميعها لعدم الاختصاص والفارق، والحكمة في توقف الإحياء على ذبح البقرة وضربه ببعضها وإن كان قادراً على ذلك بلا واسطة ما في ذبح البقرة من التقرب إلى الله، وأداء التكليف واكتساب الثواب، والإشعار بحسن تقديم القربة على الطلب، وما في التشديد عليهم لتشديدهم من اللطف لهم والآخرين في ترك التشديد، والمسارعة إلى امتثال أوامر الله من غير تفتيش، وتكثير سؤال، وغير ذلك، وفيه دليل على صحة الاستدلال بالقياس العقلي، وقد تقدمت الإشارة إليه في قوله: {وَبِالآخِرَةِ هُمْ يُوقِنُونَ }[البقرة:4].
قوله تعالى: {ثُمَّ قَسَتْ قُلُوبُكُمْ مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ فَهِيَ كَالْحِجَارَةِ أَوْ أَشَدُّ قَسْوَةً}[البقرة: 74] هذا خرج مخرج الذم،ومعناه استبعاد وقوع القسوة منهم من بعد ما ذكر مما يوجب لين القلوب ورقتها عبر عن نبؤ القلوب عن الاعتبار، وأن المواعظ لا تؤثر فيها بالقسوة الشديدة، مبالغة في وصف هذه القلوب بعدم الانقياد والقبول لأوامر الله، وهذا يدل على أن دوامهم على العناد والكفر واقع باختيارهم، وإلا لما حسن ذمهم عليه، ولكانت لهم الحجة على من خاطبهم بهذا الكلام؛ إذ كانوا يقولون إن الذي خلق الصلابة في الحجارة هو الذي خلق في قلوبنا القسوة، والخالق في الحجارة انفجار الأنهار قادر على أن يخلق فينا الإيمان، فلما لم يفعل ذلك كان عذرنا واضح، فتكون الحجة لهم بهذا الاعتبار. والله الموفق.
قوله تعالى: {وَمَا اللَّهُ بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ }[البقرة: 74] فيه وعيد شديد، وزجر عن مخالفة أوامر الله وارتكاب مناهيه وتهديد، وظاهره يدل على أنه يجوز وصف الله تعالى بأنه ليس بغافل، ومنعه القاضي لإيهامه جواز الغفلة عليه تعالى.
وأجيب بأن نفي الصفة عن الشيء لا يستلزم ثبوت صحتها عليه بدليل قوله تعالى: {لاَ تَأْخُذُهُ سِنَةٌ وَلاَ نَوْمٌ}[البقرة:255] وهو يطعم ولا يطعم، وقد يقال هذا استدلال بمحل النزاع فإن قوله: {لاَ تَأْخُذُهُ سِنَةٌ وَلاَ نَوْمٌ }[البقرة: 255] مثل قوله: {وَمَا اللَّهُ بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ }[البقرة: 74] ولا نزاع في إن إطلاق ذلك جائز من الله تعالى، وإنما الخلاف في جواز إطلاقنا عليه ما أطلقه على نفسه مما فيه إيهام، فمنعه بعضهم، وجوزه آخرون، وقد تقدم لنا بحث في هذا في قوله تعالى: {يُضِلُّ بِهِ كَثِيراً }[البقرة: 26].
قوله تعالى: {أَفَتَطْمَعُونَ أَنْ يُؤْمِنُوا لَكُمْ وَقَدْ كَانَ فَرِيقٌ مِنْهُمْ يَسْمَعُونَ كَلاَمَ اللَّهِ ثُمَّ يُحَرِّفُونَهُ مِنْ بَعْدِ مَا عَقَلُوهُ وَهُمْ يَعْلَمُونَ}[البقرة: 75] يدل على أن العالم المعاند أبعد من الرشد، وأقرب إلى الإياس من رشده لمكابرته الحق بعد العلم به، وفيه دلالة على أن كلام الله تعالى هو ما بأيدي الخلق الجاري على ألسنتهم المكتوب في دفاترهم، إذ لم يسمعوا إلا ذلك ولم يتعلق التحريف إلا به، وتدل على أن الإيمان من قبلهم، وإلا لما تغير حال الطمع فيهم بسبب تحريف فريق منهم، ولما كان تسلية لرسول صلى الله عليه وآله وسلم وللمؤمنين؛ لأنه لو كان من فعل الله لتوقف حصوله على خلقه فيهم، وزواله على عدم خلقه فيهم لا على تحريف بعضهم، ويدل على ذلك أيضاً ما تضمنته الآية من التقريع والتوبيخ من حيث أنهم فعلوه وهم يعلمون صحته، ولو كان يخلق فيهم لاستوى حال علمهم وعدمه.
[البقرة: 79]
* قبح الجزم بلا دليل عقلي أو سمعي.
* نفي الكذب على الله تعالى.
* دلالة الآية على خلود أهل الكبائر].
* قبح القول بلا دليل.
* دلالة الآية لنفاة النفاس.
قوله تعالى: {فَوَيْلٌ لِلَّذِينَ يَكْتُبُونَ الْكِتَابَ بِأَيْدِيهِمْ ثُمَّ يَقُولُونَ هَذَا مِنْ عِنْدِ اللَّهِ لِيَشْتَرُوا بِهِ ثَمَناً قَلِيلاً فَوَيْلٌ لَهُمْ مِمَّا كَتَبَتْ أَيْدِيهِمْ وَوَيْلٌ لَهُمْ مِمَّا يَكْسِبُونَ}[البقرة:79] هذا نص في أن أخذ المال على الباطل وإن كان بالتراضي حرام؛ إذ لم تفصل الآية، وقد تقدم الكلام في هذا المعنى مستوفى في قوله تعالى: {لاَ يَشْتَرُونَ بِآيَاتِ اللَّهِ ثَمَناً قَلِيلاً}.
قوله تعالى: {وَقَالُوا لَنْ تَمَسَّنَا النَّارُ إِلاَّ أَيَّاماً مَعْدُودَةً قُلْ أَاتَّخَذْتُمْ عِنْدَ اللَّهِ عَهْداً فَلَنْ يُخْلِفَ اللَّهُ عَهْدَهُ أَمْ تَقُولُونَ عَلَى اللَّهِ مَا لاَ تَعْلَمُونَ}[البقرة: 80] المس: الإصابة أي لن تصيبنا النار إلا أياماً معدودة، وفي الآية مسائل:
المسألة الأولى[قبح الجزم بلا دليل عقلي أو سمعي]
أنها تدل على قبح الجزم بوقوع ما لا دليل عليه من عقل ولا سمع؛ لأن اليهود قطعوا بأن الله لا يعذبهم في النار إلا أياماً قليلة، ولم يكن لمقالتهم هذه مستند، فوبخهم الله وأنكر مقالتهم هذه، وذلك أن قولهم هذا إن كانت طريقهم إليه من العقل، فالعقل إنما يدل على أن العاصي يستحق من الله تعالى العقاب الدائم كما مر في الثالثة عشرة من مسائل قوله تعالى: {خَتَمَ اللَّهُ عَلَى قُلُوبِهِمْ} [البقرة: 7] وإن كان طريقهم إليه السمع، فلم يوجد، وقد نص الله على نفيها بقوله:{قُلْ أَاتَّخَذْتُمْ عِنْدَ اللَّهِ عَهْداً }[البقرة:80].
المسألة الثانية[نفي الكذب عن الله تعالى]
قوله تعالى:{فَلَنْ يُخْلِفَ اللَّهُ عَهْدَهُ }[البقرة:80] يدل على أن الله تعالى منزه عن الكذب،وهذا متفق عليه بين العدلية والأشعرية وإن اختلفوا في التعليل،فعندنا أن علة ذلك أنه تعالى عالم بقبح القبيح وغني عنه، وعالم باستغنائه عنه،ومن كان بهذه الصفة لا يجوز منه فعل القبيح، والكذب قبيح لأنه كذب فلا يجوز من الله فعله.
وعند الأشعرية: أن العلة هي كون الكذب صفة نقص، والنقص على الله تعالى محال.
نعم،والعهد هنا قيل هو الوعد، وعليه فقد يقال تخصيصه بالذكر على نفي ما عداه،فيؤخذ منه جواز الخلف في الوعيد والعقل يطابقه؛ لأن الخلف في الوعد لؤم، وفي الوعيد كرم.
وجوابه: أن الدليل المذكور قاض بقبح جميع أنواع الكذب، وقد تقدم البحث في هذا في الفاتحة.
المسألة الثالثة [دلالة الآية على خلود أهل الكبائر]
قال أبو علي: في الآية دليل على أن الله تعالى لم يكن وعد موسى ولا من بعده من الأنبياء بخروج أهل الكبائر من النار، وإلا لما أنكر على اليهود مقالتهم هذه.
قلت: ودلالتها على هذا واضحة؛ لأنه تعالى أنكر مقالتهم هذه، ودل على أنه لم يكن بذلك منه عهد، ونص على أنهم قالوا ذلك لا عن علم.
قال أبو علي: وإذا ثبت أنه ما دلهم، وثبت أنه قد دلهم على وعيد العصاة إذا كان في ذلك زجر لهم عن الذنوب فقد وجب أن يكون عذابهم دائماً، وإذا ثبت ذلك في سائر الأمم وجب ثبوته في هذه الأمة، ولا يجوز اختلاف الحكم مع اتحاد قدر المعصية لمنافاته العدل، واعترضه الرازي فقال: لا ملازمة بين كونه وعد موسى بخروج أهل الكبائر وعدم إنكاره على اليهود، فلا مانع من أن يعده بخروجهم، وينكر على اليهود قولهم.
قلنا: لو كان قد وعده بخروجهم لكانت مقالة اليهود حقاً فلا يحسن إنكارها، وهذا معنى الملازمة.
قال: وقد دل الشرع على عدم الملازمة بين ذلك من وجوه:
أحدها: أن يقال يجوز أن يكون الله إنما أنكر عليهم لأنهم قالوا أيام العذاب،لأن قوله:{أَيَّاماً مَعْدُودَةً }[البقرة:80] يفيد ذلك، وقد روي أنهم قالوا يعذب سبعة أيام،عدد أيام الدنيا سبعة آلاف لكل ألف يوم،أخرجه ابن إسحاق، وابن جرير، وابن المنذر، وابن أبي حاتم، والطبراني، والواحدي عن ابن عباس، وأخرجه عبد بن حميد عن مجاهد.
والجواب: أن هذا خلاف الظاهر، فإن ظاهر الآية سيما مع قوله تعالى بعدها: {بَلَى مَنْ كَسَبَ سَيِّئَةً وَأَحَاطَتْ بِهِ خَطِيئَتُهُ}[البقرة: 81] يقتضي أنه أنكر عليهم دعوى الخروج مطلقاً، وقد صرح به ابن عباس في تلك الرواية فإنه قال في آخرها حاكياً عن اليهود أنهم قالوا إنما هي سبعة أيام معدودات ثم ينقطع العذاب فأنزل الله في ذلك: {وَقَالُوا لَنْ تَمَسَّنَا النَّارُ }[البقرة:80] إلى قوله: {هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ }[البقرة:81] وهذا نص في أن الإنكار وقع لدعواهم الخروج، وإلا لما كان لذكر الخلود في الرد عليهم معنى، وقد جاء في ذلك روايات فأخرج ابن جرير، وابن المنذر، وابن أبي حاتم، والواحدي عن ابن عباس قال: وجد أهل الكتاب مسيرة ما بين طرفي جهنم مسيرة أربعين فقالوا لن يعذب أهل النار إلا قدر أربعين، فإذا كان يوم القيامة ألجموا في النار فصاروا فيها حتى انتهوا إلى سقر، وفيها شجرة الزقوم إلى آخر يوم من الأيام المعهودة فقال لهم خزنة النار يا أعداء الله زعمتم أنكم لن تعذبوا في النار إلا أياماً معدودة فقد انقضى العدد، وبقي الأبد، فيأخذون في الصعود يرهقون على وجوههم.
وأخرج عبد بن حميد، وابن جرير، وابن المنذر، وابن أبي حاتم عن عكرمة، قال: اجتمعت يهود يوماً فخاصموا النبي صلى الله عليه وآله وسلم فقالوا: لن تمسنا النار إلا أياماً معدودات وسموا أربعين يوماً ثم يخلفنا فيها ناس وأشاروا إلى النبي صلى الله عليه وآله وسلم وأصحابه، فقال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ورد يده على رؤوسهم: ((كذبتم بل أنتم خالدون مخلدون فيها لا نخلفكم فيها إن شاء الله أبداً)) ففيهم أنزلت هذه الآية: {وَقَالُوا لَنْ تَمَسَّنَا النَّارُ إِلاَّ أَيَّاماً مَعْدُودَةً}[البقرة:80] يعنون أربعين ليلة.
وأخرج ابن جرير عن زيد بن أسلم أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قال لليهود: ((أنشدكم بالله وبالتوراة التي أنزل الله على موسى يوم طور سيناء من أهل النار الذين أنزلهم الله في التوراة؟ قالوا: إن ربهم غضب عليهم غضبة فنمكث في النار أربعين ليلة ثم نخرج فتخلفونا فيها، فقال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم : ((كذبتم والله لا نخلفكم فيها أبداً )) فنزل القرآن تصديقاً لقول النبي صلى الله عليه وآله وسلم وتكذيباً لقولهم: {وَقَالُوا لَنْ تَمَسَّنَا النَّارُ ...}[البقرة:80] إلى قوله: {وَهُمْ فِيهَا خَالِدُونَ }[البقرة:81].
وأخرج أحمد، والبخاري، والدارمي، والنسائي، والبيهقي في الدلائل عن أبي هريرة قال: لما فتحت خيبر... وذكر حديثاً وفي آخره: فقال لهم -يعني اليهود- من أهل النار؟ قالوا: نكون فيها يسيراً ثم تخلفونا فيها، فقال لهم رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم : ((اخسؤوا والله لا نخلفكم فيها أبداً )).
الوجه الثاني: أن المرجئة إنما يقطعون بالعفو في الجملة لا في حق الشخص المعين، وهؤلاء جزموا بالخروج في حق أنفسهم وهم معينون، فكان الإنكار عليهم لذلك.
والجواب: أن قوله {وَهُمْ فِيهَا خَالِدُونَ }[البقرة: 81] وما في معناه يأبى ذلك.
الوجه الثالث: أنهم كانوا كفاراً، وعندنا أن عذاب الكافر دائم لا ينقطع، فكان الإنكار عليهم لقولهم بخروج الكافرين من النار.
والجواب: أن الله تعالى رد قولهم بما يعم الكافر والفاسق فقال: {بَلَى مَنْ كَسَبَ سَيِّئَةً وَأَحَاطَتْ بِهِ خَطِيئَتُهُ فَأُوْلَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ}[البقرة:81] ولو كان الإنكار لما ذكرتم فقط لم يحسن الجواب بهذا، ولوجب أن يقول: بلى من كفر وأحاط به كفره لئلا يوقع في اللبس، لا يقال هذا في إطلاق العام مراداً به الخاص، وأنتم تجوزونه؛ لأنا نقول إنما نجوزه مع نص القرينة على إرادة الخاص، لا يقال القرينة موجودة وهي أدلة العفو عن عصاة الأمة إما قبل دخولهم النار، أو بعد دخولهم؛ لأنا نقول لا دليل على ذلك، وما تزعمونه دليلاً فسيأتي الجواب عليه في الآية التي بعد هذه.
اعتراض آخر ذكره الرازي وهو أنه لو سلم أنه ما وعد موسى بإخراج أهل الكبائر من النار، فلا يلزم منه أنه لا يخرجهم لجواز أن يخرجهم وإن لم يكن منه وعد لموسى.
وجوابه: أن المعتمد في ذلك إنكاره عليهم دعوى الخروج، وهذا لا شك أنه يلزم منه عدم خروجهم من النار؛ إذ لو كان ذلك واقعاً لم يحسن الإنكار على مدعيه.
المسألة الرابعة [قبح القول بلا دليل]
قوله تعالى: {أَمْ تَقُولُونَ عَلَى اللَّهِ مَا لاَ تَعْلَمُونَ }[البقرة:80] يدل على قبح القول بغير دليل، وعلى أنه باطل، ومثله قوله تعالى: {وَلاَ تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ }[الإسراء:36] ومن دعاء زين العابدين: (وأعوذ بك أن أقول في العلم بغير علم) وقد كرر الله في القرآن المطالبة بالحجة بنحو: {إِنْ عِنْدَكُمْ مِنْ سُلْطَانٍ بِهَذَا }[يونس:68] ويدل على أن ما يجوز وجوده وعدمه عقلاًلم يجز المصير إلى النفي أو الإثبات إلا بدليل سمعي.
قلت: أو بالرجوع إلى البراءة الأصلية.
المسألة الخامسة [دلالة الآية لنفاة القياس]
تمسك المانعون من العمل بالقياس وخبر الواحد بهذه الآية؛ إذ تضمنت الذم على العمل بغير علم، وهما لا يفيدان العلم.
والجواب: أن الدليل المفيد للعلم قد دل على وجوب العمل بهما فكان وجوب العمل بهما معلوماً، وكونهما لا يفيدان إلا الظن في جزئيات المسائل لا يقدح في ذلك كالعمل بظاهر الكتاب.
[البقرة:81]
قوله تعالى:{ بَلَى مَنْ كَسَبَ سَيِّئَةً وَأَحَاطَتْ بِهِ خَطِيئَتُهُ فَأُوْلَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ}[البقرة:81] السيئة: تتناول جميع المعاصي بدليل قوله: {وَجَزَاءُ سَيِّئَةٍ سَيِّئَةٌ مِثْلُهَا }[الشورى:40] والمراد هنا الكبائر بدليل وأحاطت به خطيئته، ولفظ الإحاطة حقيقة في إحاطة جسم بجسم آخر كإحاطة السور بالبلد، والكوز بالماء، والمراد هنا أنها صارت لازمة له وخاصة من خواصه بحيث لم تفارقه لإصراره عليها وتلبسه بها حتى مات، وقد فرق بين السيئة والخطيئة فقيل المراد بالسيئة هنا الكفر، وبالخطيئة الكبيرة، وقيل: بالعكس، وقيل: الأولى قد تطلق على ما يقصد بالذات، والثانية تغلب على ما يقصد بالعرض لأنها من الخطأ، وظاهر كلام الزمخشري وغيره أن الخطيئة هي السيئة، وعليه فتكون المغايرة في التعبير تفنناً، والآية تدل على الوعيد المؤبد لأهل الكبائر، وهذه هي مسألة الإرجاء التي تكافحت فيها النظار، وتصادمت فيها الأفكار والأنظار، وكثر بين علماء الأمة بسببها القال والقيل، وتبرأ بعضهم من بعض حتى حكم كل فريق على مخالفه بالتضليل، ولنأت فيها إن شاء الله بما يرفع الإشكال، ويتبين به الحق في مواضع الجدال، فنقول: الكلام في هذه المسألة يكون في ثلاثة مواضع:
الأول: في ذكر الخلاف.
الثاني: في براهين أئمة العترة ومن وافقهم، الثالث: في شبه المخالفين وما يرد عليها.
الموضع الأول في ذكر الخلاف [في الخلود في النار]
اعلم أن الأمة افترقت في هذه المسألة على أقوال:
أحدها: قول أئمة العترة، وجمهور المعتزلة، والخوارج وهو أن فساق هذه الأمة كمرتكبي الفواحش نحو الزنا، وشرب الخمر، وترك الصلاة داخلون في الوعيد، مستحقون للعقاب بالنار، وأن العقاب واصل إليهم لا محالة إذا ماتوا مصرين على ذلك ومخلدين فيها، وهؤلاء قالوا لا يجوز من الله تعالى خلف الوعيد.
الثاني: قول مقاتل بن سليمان وهو أن الفساق لا يدخلون النار وقطع بذلك، ورواه السيد مانكديم عن بعض الكرامية والخراسانية، بل حكي عنهم أنه لا يعاقب المشرك، وأنهم يقولون إن الشرك لا معنى له -قال- غير أنهم لا يظهرون هذا المذهب بل يسرونه.
الثالث: القطع بدخولهم النار وخروجهم منها، وهو قول بشر المريسي، ورواه الرازي عن الخالدي.
الرابع: محمد بن شبيب من المعتزلة وهو أن الفاسق يستحق عقوبة دائمة إلا أنه بالآخرة يجوز أن يعفو الله تعالى عنه، وإذا عفا عن البعض عفا عن الكل، وإلا أدى إلى المحاباة، وذلك لا يجوز عليه تعالى.
الخامس: أن الفاسق الذي صدرت منه طاعة تنقطع عقوبته، هذا قول الرازي، قال في التفسير بعد أن ذكر القطع بأنه سبحانه يعفو عن بعض العصاة وعن بعض المعاصي ما لفظه: لكنا نتوقف في حق كل أحد على التعيين أنه هل يعفو عنه أم لا، ونقطع بأنه إذا عذب أحداً منهم مدة فإنه لا يعذبه أبداً بل يقطع عذابه.
قال: وهذا قول أكثر الصحابة والتابعين، وأهل السنة والجماعة، وأكثر الإمامية.
السادس: مروي عن جماعة منهم أبو حنيفة وهو أن آي الوعد والوعيد متعارضة فلا يعلم أيهما المخصص للآخر، فيتوقف في المسألة ولا يقطع بدخولهم، ولا بخروجهم.
قال الإمام المهدي: وهؤلاء هم المرجئة الخالصة، ومن قطع بأي الأمرين فليس بمرجئ على الحقيقة.
وقال في (الغياصة): الذي عليه المرجئة الخلص تجويز الدخول وعدمه، وتجويز الخروج بعد الدخول وعدمه، قال: وهذا مذهب أبي القاسم البستي وكان من أصحاب المؤيد بالله وكثير منهم، وهذا هو الإرجاء الحقيقي؛ لأن الإرجاء هو التردد في الأمر وهؤلاء مترددون، ومذهبهم حادث بعد وفاة أمير المؤمنين عليه السَّلام بخلاف الخوارج.
السابع: القول بالتردد في دخولهم النار والقطع بخروجهم إن دخلوا.
الثامن: عكسه، وهذه الأقوال ما عدا الأول منها ما يجمعها القول بجواز خلف الوعيد على الله تعالى.
الموضع الثاني في براهين أئمة العترة ومن وافقهم
واعلم أن لهم إلى ثبوت استحقاق العقاب ودوامه طريقين: إحداهما عقلية، والأخرى نقلية، فأما الطريق العقلية فقد تقدم تحقيقها في الثالثة عشرة من مسائل قوله تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا سَوَاءٌ عَلَيْهِمْ أَأَنذَرْتَهُمْ ...}[البقرة:6] الآية.
وأما الطريق النقلية فنتكلم عليها في هذا الموضع ونسأل الله حسن الإعانة والتوفيق لإصابة الحق آمين، إلا أن الأدلة السمعية لما كان الاستدلال بها من حيث عمومها، والخصوم يعارضون ذلك بشبه يدعونها تقتضي القدح في صحة الاستدلال بها، فتارة ينكرون كون في اللغة ألفاظ موضوعة للعموم، وتارة يدعون أن دلالتها ظنية إلى غير ذلك، وجب عليَّ مزيد تحقيق المسألة، والإرشاد إلى طريق القطع فيها أن نقدم قبل الاستدلال بجزيئات الأدلة بيان المقدمات التي ترتب الاستدلال على ثبوتها دفعاً لشبه الخصوم، وما يشككوا به في صحة الدلالة وفي إفادتها القطع، ولأجل ذلك كان منا تقديم الكلام عليها وهي أربع:
الأولى:أَن في اللغة ألفاظاً موضوعة للعموم، وهذه قد قررناها في الثانية من مسائل قوله تعالى: {وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ لَذَهَبَ بِسَمْعِهِمْ وَأَبْصَارِهِمْ ...}[البقرة:20] الآية.
الثانية: أن كون تلك الألفاظ موضوعة للعموم معلوم مقطوع به، وهذا قد مر إقامة البرهان عليه في تلك المسألة أيضاً، ويزيده هنا بياناً ما ذكره النجري في (شرح القلائد) ولفظه: وأما الثانية فإنا لما استقرأنا اللغة العربية وتتبعناها وبحثنا في مفهومات تلك الألفاظ العامة واختبرناها وجدناها مفيدة للعموم، وعلمنا ذلك علماً قطعياً لا تعتريه الشكوك، لا يقال معاني الألفاظ إنما تعرف بالنقل فإن كانت تواتراً فكيف خالف فيه كثير من الناس وهو ضروري، وإن كان آحاداً فلا يفيد القطع لأنا نقول نفس الألفاظ منقولة إلينا بالتواتر، وأما معانيها فإنما علمت بالبحث والاختبار فكان العلم بها نظرياً بواسطة النقل التواتري لنفس الألفاظ فاحتملت الخلاف.
قلت: وقد أورد بعضهم هنا أن احتمالها الخلاف يوجب أن تعتورها الشكوك.
والجواب: أن الخلاف لا يصير المسألة ظنية ولا مشكوكاً فيها، وإلا لما وجد القطع إلا في الضروريات.
قالوا: عمومها المستفاد بالبحث والاختبار إنما هو بواسطة النقل لذلك المعنى عن أهل اللغة فيرجع ذلك الإيراد، فيقال: النقل إما بالتواتر فكيف وقع الخلاف، أو بالآحاد فلا يفيد.
قلنا: قد مر في مقدمة كتابنا هذا أن طريقة الاستقراء تفيد القطع، على أن لنا أن نقول إن نقل استعمال الألفاظ في معانيها متواتر كما مر بيانه في الوجه الأول بعد ذكر الشبه السبع من الثالثة عشرة من مسائل قوله تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا سَوَاءٌ عَلَيْهِمْ أَأَنذَرْتَهُمْ...}[البقرة:6] الآية.
المقدمة الثانية: إن دلالة تلك الألفاظ على مدلولاتها قطعية والخلاف فيها لبعض الأصوليين،وهو ظاهر كلام السيد محمد بن عز الدين المفتي، وقال إنه صرح به الإمام المهدي وغيره في أصول الفقه، وحكي عن عامة أهل المعاني أنهم قالوا إن كان ذلك فيما المطلوب فيه الظن حمل علىالعموم دفعاً للتحكم، وإن كان فيما المطلوب فيه العلم حمل على أقل ما يحتمل من حقيقة؛ إذ لا قاطع في مدلوله العمومي فلا يجوز الاعتقاد كذلك، قال: وهذه قاعدة كلية كما ذكروه عن السكاكي ولم يعترضوه، بل قرره السعد، وذكر عن جار الله والسكاكي أن نحو المعرف باللام مشترك بين الجنس والاستغراق،وربما تحقق أحدهما بالقرائن وهما من فحول أئمة اللغة، فالقطع في موضع الظن حرام.
هذا حاصل ما ذكره المفتي، لنا أن حد الخطاب هو الكلام الذي يقصد به إفهام من يصح إفهامه معناه، والعموم معناه الشمول فوجب حمله عليه عند عدم القرينة قطعاً، وإطلاقه غير مراد به ظاهره من دون قرينة قدح في الحكمة والعدل، وتحقيق ذلك أن يقال قد ثبت أن الله تعالى عدل حكيم لايفعل القبيح ولا يخل بواجب، وأفعاله كلها حسنة، وذلك يوجب أنه لا يجوز منه تعالى أن يخاطب بخطاب يقصد به غير ظاهره، ولايبين مقصوده منه؛ لأن ذلك تلبيس وتعمية، وإغراء باعتقاد الجهل، وتكليف بما لا يعلم، وكل ذلك قبيح تمنع منه الحكمة كما مر في مواضع من هذا الكتاب، وإذا كان لا يجوز منه ذلك ثبت أن دلالة هذه الألفاظ على معانيها قطعية غير مشكوك فيها البتة، لا سيما العمومات التي لا يتعلق بها عمل، بل إنما يطلب بها الاعتقاد فقط، وهذه الحجج قد ذكرناها وأجبنا عما يرد عليها في الأولى من مسائل قوله تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا سَوَاءٌ عَلَيْهِمْ أَأَنذَرْتَهُمْ...}[البقرة:6] الآية.
قالوا: لو لزم ما ذكرتم من القول بأن المراد به غير ظاهره لزم في العمليات، ولا قائل به لاحتمال المخصص ولو منفصلاً.
قلنا:ملتزم بعد البحث عن المخصص والقطع بعدمه، لكن القطع بعدمه فيها قد لا يحصل، وإنما قالوا بضعف دلالة العموم في العمليات لكثرة المخصص فيها، وتلك الكثرة معارضة لما يقتضيه ظاهر اللفظ من الشمول، ولأجله منعوا من العمل بالعام قبل البحث عن المخصص، ولم يجعلوا دلالته عدم البحث فلم يوجد مخصص قطعية لبقاء تجويز وجوده؛ لأن عدم الوجود لا يدل علىالعدم بخلاف العلميات فإن المخصصات فيها في غاية القلة، ولأن الخطاب بها مراداً بها غير ظاهرها يوجب اقتران الصارف بها، أو ظهوره واشتهارها لئلا يحملنا على اعتقاد جهل، وقد مر أن تأخير البيان عن وقت الحاجة لا يجوز، قالوا: لايجوز القطع بالظاهر لأنه ظني.
قلنا: بل قطعي إذا كان تجويز خلافه يقدح في الحكمة.
قالوا: الخطاب بالعام الذي أريد به خلاف ظاهره، كالخطاب بالمجمل في العمليات، وكما تدعون في بعض أدلة الوعد فإذا جاز تأخير البيان هنا جاز مثله هنالك.
قلنا: نحن نقول إنه لا يجوز تأخير البيان عن وقت الحاجة في العمليات والعلميات، إلا أن وقت الحاجة في العمليات هو وقت العمل فيجوز تأخير البيان إليه وإن تقدم الخطاب، ووقتها في العلميات هو وقت الخطاب فلا يجوز تأخير البيان عنه، وأما قولنا بالإجمال في بعض أدلة الوعد فإنما أردنا أنها ليست صريحة في مطلوب الخصم كقوله تعالى: {وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ }[النساء:48] مع قولنا ببيانها بآيات التوبة، وقوله تعالى:{إِنْ تَجْتَنِبُوا كَبَائِرَ مَا تُنْهَوْنَ عَنْهُ }[النساء:31]، كما سيأتي فلم ندع بقاءها على الإجمال.
قالوا: يلزمكم فيما دلالته ظنية من المفاهيم والمشترك أن يكون كذلك؛ إذ لا فرق بين ظاهر ومفهوم.
قلنا: لا يلزمنا ذلك إلا لو قلنا دلالة العام فيما نحن فيه ظنية حتى يقاس عليها سائر الظنيات، ونحن لا نقول بذلك، بل قلنا إن دلالته قطعية كما مر، على أنا نقول ما قام الدليل القاطع على اعتباره من المفاهيم، ووجدنا دلالته فيما المطلوب فيه الاعتقاد، ولا قرينة تصرف عن ظاهره، وجب القول بأن دلالته قطعية إذ اقتضاه خطاب الحكيم الذي لا يجوز عليه الإلغاز والتلبيس.
وأما المشترك فقد صرح أصحابنا في الاستدلال على إمامة أمير المؤمنين بحديث الغدير بوجوب حمل لفظة (مولى) على جميع معانيها التي لا تنافي بينها، وجعلوا دلالتها على إمامته عليه السَّلام قطعية.
قالوا: القطعي من الكتاب والسنة النص في دلالته المتواتر في نقله.
قلنا: هذه العمومات التي نحن بصددها نص في دلالتها متواترة في نقلها؛إذ قد أقمنا الدليل على أن دلالتها قطعية ولا معنى للنص إلا هذا،وهي متواترة في نقلها لأن الكلام في عموم آيات الوعيد، والقرآن منقول بالتواتر، على أن لنا من السنة ما قد تواتر نقله معنىً كما يأتي إن شاء الله.
هذا وأما ما حكاه السيد محمد بن عز الدين المفتي،عن بعض الأصوليني فنحن لا ندفع الخلاف، إلا أن الخلاف لا يصير المسألة ظنية، إذ العبرة بالدليل، وما حكاه عن الإمام المهدي فسيأتي بيان مقصوده، وما حكاه عن أهل المعاني فمدفوع بوجود القاطع في مدلوله العمومي، وقد أوضحناه.
وقوله: إن جار الله، والسكاكي حكما بأن المعرف باللام مشترك بين الجنس والاستغراق، فمعارض بقول غيرهما من أئمة اللغة، بأنه حقيقة في الاستغراق، سلمنا فلا يضرنا لوجود غيره من ألفاظ العموم، على أن الاستدلال به على المقصود مع كونه للجنس ممكن، كما مر في مسألة الشفاعة، وقد حققنا الخلاف في هذه اللام، واستوفينا أدلة كل قول في أول الفاتحة.
المقدمة الرابعة: أن العموم بعد تخصيصه حجة قطعية فيما بقي، وقد مر الدليل على ذلك في الثانية من مسائل قوله تعالى: {هُوَ الَّذِي خَلَقَ لَكُمْ مَا فِي الأَرْضِ جَمِيعاً ...}[البقرة:29] الآية.
وإذا عرفت صحة هذه القواعد الأربع فاستمع لما يتلى عليك من عمومات آيات الوعيد، وهي على ضربين: ضرب عام لكل عاصي، وضرب خاص بفساق أمة محمد صلى الله عليه وآله وسلم ، ولما كان العموم الآتي بصيغة (من) الشرطية كثيراً، ولم يكن قد تقدم لنا في إثبات عمومها بحث مستقل، رأينا أن نقيم البرهان القاطع علىعمومها، فنقول على أن (من) و(ما) وسائر كلم المجازاة للعموم من وجوه:
أحدها: أنها لو لم تكن للعموم لكانت إما للخصوص، أو مشتركة بينه وبين العموم، والقسمان باطلان، أما الأول فلأنه قال من دخل داري فأكرمه، والفرض أنها للخصوص لم يحسن من المخاطب أن يجري على موجب الأمر فيعطى الجزاء كل من أتى بالشرط لأن الجزاء لا يكون مرتباً على الشرط، لكنهم أجمعوا على حسن إكرام كل من دخل الدار، فعلمنا أن هذه اللفظة ليست للخصوص، وأما الثاني فلأن الاشتراك خلاف الأصل، ولأنها لو كانت مشتركة لما حسن من المخاطب ترتيب الجزاء على الشرط إلا بعد الاستفهام عن جميع الأقسام الممكنة، مثلاً إذا قال: من دخل داري فأكرمه، فيقال هل أردت الرجال أو النساء، فإذا قال الرجال، فيقال هل أردت العرب، أو العجم؟ فإذا قال: أردت العرب، قال: أردت ربيعة أم مضر، وهلم جراً إلى أن يأتي على جميع الأقسام الممكنة، لكنا نعلم بالضرورة من عادة أهل اللسان قبح ذلك، ونعلم حسن ترتيب الجزاء على الشرط بدون هذا الاستفهام، فدل على عدم الاشتراك.
الوجه الثاني: حسن استثناء كل واحد من العقلاء من نحو هذا التركيب، وقد مر إقامة البرهان على هذا في الأولى من مسائل قوله تعالى: {الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ }[الفاتحة:2].
فإن قيل: قولكم يحسن استثناء كل عاقل ممنوع، فإنه إذا قال من دخل داري فأكرمه لم يصح منه استثناء الملائكة، والجن، واللصوص، وهذا معلوم.
قيل: قد أجاب عن هذا السيد مانكديم فقال: أما الملائكة والجن فلا قدرة له على إكرامهم ولا على إهانتهم، فلهذا لم يحسن منه أن يستثنيهم، ولهذا فإن القديم تعالى لما قدر عليهم، وعلى إكرامهم، وإهانتهم صح أن يقول من أطاعني أكرمته عاجلاً، وأثبته آجلاً إلا الملائكة فإني أؤخر إكرامهم، وإثابتهم إلى دار السلام، وكذا يصح مثله في الشياطين، فيقول من عصاني أهنته عاجلاً، وعاقبته آجلاً إلا الشياطين فإني أؤخر عقوبتهم إلى دار الآخرة.
قال: وأما اللصوص فإنما لم يحسن منه استثناؤهم؛ لأن المعلوم من حاله أنه لا يكرمهم فهو في غنية عن التلفظ به، فلو كان الرجل ممن يأوي إليه اللصوص ويكرمهم لصح منه هذا.
قلت: كلامه عليه السَّلام في الملائكة، والجن يحتمل أنه أراد أنهم مخصوصون بالعقل قطعاً، وما علم مخصصه فلا يحسن التصريح باستثنائه؛ لأنه يكون تطويلاً عرياً عن الفائدة، ويحتمل وهو الأظهر كونه بناه على ما ذهب إليه بعض المتكلمين من منع التخصيص بالعقل، ومن حججهم على ذلك أن التخصيص هنا لا يتصور؛ لأن ما نفى العقل حكم العموم عنه لا يتناوله العام لأنه لاتصلح إرادته، والتخصيص بالعقل قد مر الاحتجاج عليه، وذكر الخلاف في الثالثة من مسائل قوله تعالى: {وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ لَذَهَبَ بِسَمْعِهِمْ وَأَبْصَارِهِمْ ...}[البقرة:20] الآية.
وأما كلامه في اللصوص فمعناه أنه قد علم المخصص من العرف والعادة، وما كان كذلك فلا فائدة بالتصريح بذكره لحصول العلم به من دون لفظ. والله أعلم.
الوجه الثالث: فهم السلف العموم من هذه الألفاظ وتمسكهم به، وذلك معلوم،وقد مر تقريره في غيرها من ألفاظ العموم.
واعلم أن (من) و(ما) في الاستفهام، ومثلهما (أين) و(متى) ونحوهما للعموم، ودليله ما مر في كلم المجازاة، وتقريره هنا أنه إذا قال من عندك، فإما أن يقال هي للخصوص، وهو باطل لأنه لو كان كذلك لما حسن أن يجيب بذكر كل العقلاء؛ لأن الجواب يجب أن يكون مطابقاً للسؤال، لكن لا نزاع في حسن ذلك، وإما أن يقال هي للاشتراك، وهو باطل أيضاً، وإلا لما حسن الجواب إلا بعد الاستفهام عن جميع الأقسام الممكنة، فإذا قال من عندك، فلا بد أن يقول سألتني عن الرجال أو النساء... إلى آخر ما مر، وذلك لأن اللفظ إما أن يقال إنه مشترك بين الاستغراق، وبين مرتبة معينة في الخصوص، أو بينه وبين جميع المراتب الممكنة في الخصوص، الأول باطل اتفاقاً، والثاني يوجب أن لا يحسن الجواب إلا بعد الاستفهام عن كل تلك الأقسام لوجوب مطابقة الجواب للسؤال، فثبت أنه لو صح الاشتراك لوجبت هذه الاستفهامات، لكنها غير واجبة لوجهين:
أحدهما: أنه لا عام إلا وتحته عام آخر، وإذا كان كذلك كان التقسيمات الممكنة غير متناهية، والسؤال عنها على سبيل التفصيل محال.
الثاني: أن أهل اللسان يستقبحون مثل هذه الاستفهامات يعلم ذلك عنهم ضرورة، وإذا بطل هذان القسمان تعين كونهما للعموم، لا يقال إذا بطل كونها للخصوص أو للاشتراك فلا يلزم منه كونها للعموم لجوزنا أن لا تكون موضوعة لواحد منها؛ لأنا نقول هذا متفق على بطلانه فتعين الأخير وهو كونها للعموم، وإذا ثبت أن لفظة (من) موضوعه للعموم فلنرجع إلى ما نحن بصدده من الاستدلال بآيات الوعيد العامة والخاصة بهذه الأمة وغيرهم، فنقول: أحد ما يدل على ذلك هذه الآية التي نحن بصددها وهي قوله تعالى: {بَلَى مَنْ كَسَبَ سَيِّئَةً وَأَحَاطَتْ بِهِ خَطِيئَتُهُ فَأُوْلَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ}[البقرة:81] ووجه الاستدلال بها أن لفظ (بلى) إثبات لما بعد حرف النفي، وهو قوله تعالى: {لَنْ تَمَسَّنَا النَّارُ إِلاَّ أَيَّاماً مَعْدُودَةً }[البقرة:80] أي بلى تمسكم أبداً، ولما كانت السيئة متناولة للصغائر والكبائر بين سبحانه وتعالى أن المستحق لهذا الوعيد إنما هو من كانت سيئته محيطة به، والإحاطة حقيقة إنما تكون في الأجسام كما في إحاطة السور بالبلد، والثوب بالجسد، وذلك ممتنع هنا فتعين حملها على المجاز، فنقول: شبه إحباط المعاصي لثواب الطاعة بالشيء الساتر لغيره،المحيط به من جميع جوانبه، فأطلق عليه لفظ الإحباط، وهذا التشبيه إنما يتأتى في الكبائر لأنها الذي يحصل بها الإحباط، ووجه آخر وهو أنه شبه الكبيرة إذا أحبطت ثواب الطاعات بإحاطة عسكر العدو بالإنسان بحيث لا يمكنه التخلص، فكأنه قال: بلى من أحاطت كبيرته بطاعته فأولئك أصحاب النار.
فإن قيل: الآية نزلت في اليهود إذ هي رد لقولهم:{لَنْ تَمَسَّنَا النَّارُ إِلاَّ أَيَّاماً مَعْدُودَةً }[البقرة:80].
قيل: الخطاب عام، والعام لا يقصر على سببه، ومن ادعى التخصيص فعليه الدليل، ومن جملة الآيات الواردة في هذا المعنى قوله تعالى: {وَمَنْ يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَإِنَّ لَهُ نَارَ جَهَنَّمَ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَداً}[الجن:23] والعاصي اسم يتناول الفاسق والكافر، فيجب حمله عليه؛ إذ لو أراد أحدهما لبينه لما مر في المقدمات الأربع، فإن قيل: الآية واردة في الكفار بدليل قوله تعالى بعدها: {حَتَّى إِذَا رَأَوْا مَا يُوعَدُونَ فَسَيَعْلَمُونَ مَنْ أَضْعَفُ نَاصِراً وَأَقَلُّ عَدَداً}[الجن:24] إذ لا يكون هذا إلا مع الكفار.
قيل: بل يكون معه، ومع غيره بدليل قوله تعالى: {فَلْيَنظُرِ الإِنسَانُ مِمَّ خُلِقَ } إلى قوله: {فَمَا لَهُ مِنْ قُوَّةٍ وَلاَ نَاصِرٍ}[الطارق:5-10] والضمير للإنسان وهو عام؛ إذ كل فرد من أفراده مخلوق من ماءٍ دافق، خارج من بين الصلب والترائب، داخل تحت قدرة القوي القادر على كل شيء.
سلمنا فالآية كلام مستقل بنفسه لا يحتاج إلى ما بعده، فخصوص ما بعده لا يمنع من عمومه، وقد تقرر في الأصول أن خصوص آخر الآية أو الخبر لا يمنع من عموم أوله حيث كان مستقلاً بنفسه، ونظيره قوله تعالى: {وَالْمُطَلَّقَاتُ يَتَرَبَّصْنَ بِأَنفُسِهِنَّ ثَلاَثَةَ قُرُوءٍ}[البقرة:228]، فإنه عام للبائنة والرجعية، ثم ذكر في آخر الآية حكماً خاصاً بالرجعيات وهو قوله: {وَبُعُولَتُهُنَّ أَحَقُّ بِرَدِّهِنَّ فِي ذَلِكَ }[البقرة:228] ولم يكن قادحاً في عموم أولها، فكذلك هنا، ومن ذلك قوله تعالى: {وَمَنْ يَقْتُلْ مُؤْمِناً مُتَعَمِّداً فَجَزَاؤُهُ جَهَنَّمُ خَالِداً فِيهَا...}[النساء:93] الآية، ودلالتها واضحة إذ أخبر أن ذلك جزاؤه.
قالوا: الآية إنما تدل على استحقاقه للجزاء، والاستحقاق لا يوجب وقوع المستحق،والكلام إنما هو في وقوعه.
قلنا: خلاف ما يقتضيه ظاهرها، سلمنا فلا نسلم أن الاستحقاق لا يوجب الوقوع؛ إذ تجويز عدم الوقوع فضلاً عن القطع به يستلزم الإغراء بالمعاصي وهو قبيح، فيجب القطع بوقوعه لذلك، وقد قال تعالى: {مَنْ يَعْمَلْ سُوءاً يُجْزَ بِهِ }[النساء:123].
قالوا: تقدير الآية: فجزاؤه جهنم إن جازاه.
قلنا: هذا التقدير لا دليل عليه، ولا ملجئ إليه فوجب القطع بعدمه.
قالوا: الآية ليست على ظاهرها، وإلا لوقعت المجازاة عقيب القتل إذ الفاء للتعقيب، وإذا كان لا بد من التأويل والتجويز فلستم بأولى منا بذلك، فقولكم: أنه محمول على أنه يجازى به في الآخرة ليس بأولى من قولنا أنه محمول على الاستحقاق، أو على شرط مقدركما مر.
قلنا: قد تقرر أن الكلام إذا لم يمكن حمله على الحقيقة وجب حمله على أقرب المجازين منها؛ لأن الأبعد منهما مع الأقرب كالمجاز مع الحقيقة، فكما لا يجوز حمله على المجاز مع إمكان الحقيقة فلا يجوز حمله على أبعد المجازين مع إمكان الأقرب، وقد قررنا هذه القاعدة في الباب الثاني من فاتحة الكتاب، وحمل الجزاء في الآية على أنه سيجازى في الآخرة أقرب من حمله على الاستحقاق، أو على شرط مقدر؛ لأن في تأويلنا موافقة للظاهر في أنه واقع لا محالة، وفي أن وقوعه مسقبل بالنظر إلى وقوع المعصية،والفاء تقتضي وقوعه في المستقبل إلا أنه بلا مهلة، والتأويل فيه بمهلة، ولا شك أنه أقرب إلى الحقيقة لاشتراكها في الاستقبال، ومن ذلك قوله تعالى: {إِنَّ الْمُجْرِمِينَ فِي عَذَابِ جَهَنَّمَ خَالِدُونَ }[الدخان:74] والمجرم يتناول الفاسق والكافر لغة لأنهم لا يفرقون بين قولهم مذنب ومجرم، والمذنب يشملهما جميعاً فكذا المجرم، وشرعاً كذلك؛ إذ لا فرق عند أهل الشرع بين قولنا مجرم بالزنا، ومذنب بالزنا.
قالوا: الآية في الكفار لقوله في آخرها: {لاَ يُفَتَّرُ عَنْهُمْ وَهُمْ فِيهِ مُبْلِسُونَ}[الدخان:75] وقوله بعدها: {أَمْ يَحْسَبُونَ أَنَّا لاَ نَسْمَعُ سِرَّهُمْ وَنَجْوَاهُمْ }[الدخان:80] وهذا لايتأتى إلا في الكافر.
قلنا: بل يتأتى فيهما سلمنا.
قوله: {إِنَّ الْمُجْرِمِينَ ...}[الدخان:74] الآية كلام تام مستقل بنفسه فدخول التخصيص في آخره، لا يمنع عمومه كما مر.
قالوا: الآية ليست على ظاهرها، وإلا لزم وقوع العقاب في الحال؛ لأن كلمة (إن) لتحقيق الخبر في الحال، والمعلوم أنه لا يقع في الحال، وحينئذِ فلا بد من التأويل ولستم بأولى به منا فنحمله على الاستحقاق.
قلنا: إن كما ترد لتحقيق الحال فقد ترد لتحقيق الخبر في المستقبل، بل تحقيقه في المستقبل أحوج إلى التحقيق في الحال؛ لأن العلم بوقوعه يغني عن التأكيد بها، ويدل على ورودها للتحقيق في المستقبل قوله تعالى: {وَإِنَّ رَبَّكَ لَيَحْكُمُ بَيْنَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ }[النحل:124] ثم إن في الآية لفظ الخلود، وهو ينافي ظهورها في تحقيق الخبر في الحال، ويصرف عنه قوله فنحمله على الاستحقاق.
قلنا: ممنوع لما مر من أنه إذا تعذر الحمل على الحقيقة عدل إلى أقرب المجازين منها، والحمل على وقوع العذاب في المستقبل أقرب إلى الحال من الاستحقاق لاشتراكهما في الوقوع، لا سيما مع نصب القرينة المعينة للمجاز الأقرب وهو ذكر الخلود، هذا على فرض كون كلمة (إن) ليست حقيقة في المستقبل، كيف وقد بينا استعمالها فيه كالحال، ومن ذلك قوله تعالى: {لَيْسَ بِأَمَانِيِّكُمْ وَلاَ أَمَانِيِّ أَهْلِ الْكِتَابِ مَنْ يَعْمَلْ سُوءاً يُجْزَ بِهِ}[النساء:123] ودلالة هذه الآية على نفي الإرجاء قطعية؛ لأنها نزلت رداً على من أرجأ من المسلمين واليهود.
قال الإمام المهدي: سبب نزولها أن جماعة من المسلمين واليهود تذاكروا في أمر العقاب فادعى كل فريق منهم أن الله تعالى يهب مسيئهم لمحسنهم ويعفو عنه، فنزلت رداً عليهم، وأخبرهم أن رجاءهم العفو عن معاصيهم إنما هو أماني باطلة لا برهان عليها، ثم أكد ذلك بقوله: {مَنْ يَعْمَلْ سُوءاً يُجْزَ بِهِ } أي لا بد من الجزاء للعاصي منكم أيها المسلمون، ومن أهل الكتاب، وهذه الآية كما قال الإمام عليه السَّلام صريحة في نفي الإرجاء لا تقبل التأويل، ولا تحتمل التخصيص بآيات الوعد كما تحتمل غيرها؛ لأن في تخصيصها نقضاً لما سيقت له من الرد على من أرجى من المسلمين واليهود.
قال النجري: وكذا كل عام لا يصح أن يخص بخروج سببه؛ إذ يلزم منه التناقض لأن تناوله بسببه قطعي فلا يصح إخراجه منه.
قلت: وبما ذكر في سبب نزولها يبطل ما رواه البغوي عن عائشة من أن المراد يجزى به في الدنيا، ومن ذلك قوله تعالى: {وَمَنْ يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَيَتَعَدَّ حُدُودَهُ يُدْخِلْهُ نَاراً خَالِداً فِيهَا}[النساء:14] والآية وردت في فساق أهل الصلاة بالاتفاق لأنها نزلت في المواريث وبيان حدودها، ثم توعد من يعصيه في تلك الحدود بإدخاله النار، ويدل على أن الوعيد ورد على المعصية فيها قوله: {تِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ }[البقرة:229] ولا شبهة في أن المراد الحدود المذكورة.
قال القرشي: قوله: {تِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ }[البقرة:229] إشارة إلى حدود محصورة، فقوله عقيب ذلك: { وَمَنْ يَتَعَدَّ حُدُودَ اللَّهِ }[البقرة:229] يجب أن يصرف إليها.
قلت: ولو سلم العموم فدخول صورة السبب مقطوع به كما مر، ومن ذلك قوله تعالى: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا لَقِيتُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا زَحْفاً فَلاَ تُوَلُّوهُمُ الأَدْبَارَ} إلى قوله: {وَمَنْ يُوَلّهِمْ يَوْمَئِذٍ دُبُرَهُ إِلاَّ مُتَحَرِّفاً لِقِتَالٍ أَوْ مُتَحَيِّزاً إِلَى فِئَةٍ فَقَدْ بَاءَ بِغَضَبٍ مِنَ اللَّهِ وَمَأْوَاهُ جَهَنَّمُ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ}[الإنفال:15،16] وقوله تعالى: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لاَ تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبَاطِلِ }[النساء:29] إلى قوله: {وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ عُدْوَاناً وَظُلْماً فَسَوْفَ نُصْلِيهِ نَاراً}[النساء:30] ومن ذلك قوله تعالى: {وَإِنَّ الْفُجَّارَ لَفِي جَحِيمٍ }[الانفطار:14] وقد تقدم بيان وجه الاستدلال بها في الشفاعة، وقوله تعالى: {وَنَذَرُ الظَّالِمِينَ فِيهَا جِثِيّاً }[مريم:72] وقوله تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ يَأْكُلُونَ أَمْوَالَ الْيَتَامَى ظُلْماً إِنَّمَا يَأْكُلُونَ فِي بُطُونِهِمْ نَاراً وَسَيَصْلَوْنَ سَعِيراً}[النساء:10] وهي عامة لأهل الصلاة وغيرهم، ومن ذلك الآيات الواردة في أهل الإفك، وهي خاصة بأهل الصلاة قال تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ جَاءُوا بِالإِفْكِ عُصْبَةٌ مِنْكُمْ لاَ تَحْسَبُوهُ شَرّاً لَكُمْ بَلْ هُوَ خَيْرٌ لَكُمْ لِكُلِّ امْرِئٍ مِنْهُمْ مَا اكْتَسَبَ مِنَ الإِثْمِ وَالَّذِي تَوَلَّى كِبْرَهُ مِنْهُمْ لَهُ عَذَابٌ عَظِيمٌ}[النور:11] ثم قال: {وَلَوْلاَ فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ فِي الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ لَمَسَّكُمْ فِي مَا أَفَضْتُمْ فِيهِ عَذَابٌ عَظِيمٌ}[النور:14] ثم قال: {إِنَّ الَّذِينَ يُحِبُّونَ أَنْ تَشِيعَ الْفَاحِشَةُ فِي الَّذِينَ آمَنُوا لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ فِي الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ}[النور:19] ثم قال: {إِنَّ الَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَنَاتِ
الْغَافِلاَتِ الْمُؤْمِنَاتِ لُعِنُوا فِي الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ وَلَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ}[النور:23].
ولنقتصر في هذا الموضع على هذا القدر من الآيات فبدونها يثبت المطلوب، والاستقصاء على سائر الآيات الكريمة سيأتي في مواضعها إن شاء الله، وقد أورد على هذه البراهين القاطعة اعتراضات:
الاعتراض الأول: منع كون هذه الألفاظ للعموم، وتمسكوا بشبه قد ذكرناها وجوابها في الثانية من مسائل قوله تعالى: {وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ لَذَهَبَ بِسَمْعِهِمْ وَأَبْصَارِهِمْ ...}[البقرة:20] الآية، وقد مر أيضاً في مواضع بيان بعض ألفاظ العموم، والاستدلال على اقتضائها ذلك، وما لم يتقدم له ذكر فدليله كدليل غيره من التبادر، وصحة الاستثناء ونحوهما، ولو سلم في بعضها أنه لا يقتضي العموم فلنا أن نستدل به من وجهين آخرين:
أحدهما: أنه قد ثبت أن ترتيب الحكم على الوصف يشعر بأن ذلك الوصف علة فنحو قوله تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ يَأْكُلُونَ أَمْوَالَ الْيَتَامَى ظُلْماً ...}[النساء:10] الآية يفيد أنهم آكلون لأموال اليتامى على جهة الظلم علة في أكلهم النار، وصليهم السعير، وهكذا يقال في سائر الآيات، ويكون هذا وجه آخر في الاستدلال بها مع ما يقتضيه عمومها.
الوجه الثاني: أن إجماع المسلمين منعقد على أن هذه الآيات وردت زجراً عن المعاصي المذكورة، ولا يكون كذلك إلا إذا تناولت فاعلها.
الاعتراض الثاني: أن من أصول كثير من أصحابكم أن دلالة العموم على ما تناولته ظنية، والآيات المذكورة إنما هي عمومات، فكيف قطعتم بوصول العقاب إلى الفاسق ولم تخصصوها بالأخبار المروية في سلامته وإن كانت آحادية.
والجواب: أنا لا نسلم أن دلالة العموم ظنية لما مر من تقرير المقدمات الأربع، سلمنا فقال الإمام المهدي في جواب هذا الاعتراض: ليس طريق القطع بوصول عقاب الفاسق مجرد العموم، بل كون الوعد والوعيد إخباراً، وقد علمنا وضع ألفاظ العموم للشمول إلا لمخصص فحيث لم نجد المخصص وجب القطع بشمولها، وإلا كان الخبر كذباً وهو لا يجوز على الله تعالى، والحاصل أنا نسلم أن دلالة العموم على كل واحد من أفراده ليست قطعية لاحتمال إرادة البعض لصلاحية الصيغة للكل وللبعض مع القرينة، فليست دلالته قطعية من جهة الوضع لألفاظه، بخلاف النصوص الصريحة فإنا نقطع بتناولها ما وضع له بمجرد اللفظ، والعموم لا يكتفي في القطع بتناوله بذلك، بل لا بد من البحث عن المخصص فإن وجد عمل بمقتضاه وإلا قطعنا بالشمول إن قطعنا بفقد المخصص، أو ظنناه إن ظننا فقد المخصص، فيحصل من هذا أن السامع للعموم لا يقطع بشموله إلا بعد القطع بفقد المخصص.
قال عليه السَّلام : فهذا مراد أصحابنا بقولهم أن دلالته ظنية.
الاعتراض الثالث: أنكم قد أخرجتم التائب وصاحب الصغيرة من هذه العمومات وقلتم إن هذا الوعيد مشروط بأن لا يكون العاصي قد تاب، أو تكون معصيته صغيرة، أو تكون طاعاته أكثر من معاصيه، فلم منعتم قولنا بجواز التفضل بالعفو عن المسيء وإسقاط عقابه، وهو قول البصرية من أصحابكم، وعلى هذا فلا يمكن القطع بدخول أصحاب الكبائر تحت هذه العمومات، وأنهم يعاقبون لا محالة.
والجواب من وجوه:
أحدها: أن هذه الشروط التي ذكرناها قد دل عليها العقل كما مر في مسألة التوبة، والإحباط، والتكفير، وما اشترطه العقل فهو في حكم الملفوظ به، ودل عليها السمع أيضاً قال تعالى: {إِلاَّ مَنْ تَابَ }[الفرقان:70]{ إِنْ تَجْتَنِبُوا كَبَائِرَ مَا تُنْهَوْنَ عَنْهُ }[النساء:31] ونحوها، بخلاف ما ذكرتم فإنه لا دليل عليه فتوجه نفيه.
الثاني: أن القديم تعالى إذا توعد العصاة بالعقاب فإنما يتوعدهم بالعقاب الحسن، ولا يحسن عقاب التائب وصاحب الصغيرة، ومن زادت طاعته على معاصيه، بخلاف صاحب الكبيرة فإن عقابه حسن، وجواز التفضل بإسقاطه يخرجه عن كونه حسناً، فالفرق واضح بينه وبين من ذكرنا خروجه.
الثالث: أن فيما ذكرتم إخلاء كلام الله تعالى عن الفائدة وذلك لا يجوز.
الرابع: أن هذا لو أوجب التوقف في وعيد الفساق لأوجبه في وعيد الكفار لحسن التفضل في كل من الفريقين، ومن توقف في وعيد الكفار فقد انسلخ من الدين، وكل قول يؤدي إلى هذا وجب القطع ببطلانه، فإن قيل: إنما قطعنا بوعيد الكفار لأنه معلوم من ضرورة الدين، وليس هكذا وعيد الفساق.
قيل: هذا يزيد الإلزام تأكيداً لأنا ألزمناكم على مقالتكم التوقف في أمر مقطوع به لحصول ما جعلتموه علة في التوقف على أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم يجوز مثل ما جوزتموه في هذه الآيات، فمن أين علم أن وعيد الكفار مقطوع به، فإن قالوا:اضطر إلى قصد جبريل نقلنا الكلام معهم إليه فقلنا: كيف علم جبريل ذلك؟ فإن قالوا اضطر إلى قصد الله تعالى.
قلنا: ممنوع مع بقاء التكليف، وكيف يعلم قصده تعالى ضرورة وهو لا يعلم ذاته جل وعلى إلا دلالة.
قالوا: علمه جبريل؛ لأن الله تعالى زاد الكلام تأكيداً حتى قطع بالمراد لأجل ذلك التأكيد.
قلنا: التأكيد معرض للاحتمال، فيكف يمكن ذلك وهذا لا محيص للمرجئة منه، على أنه لو فرض أن الأمر كما قلتم فلم نقطع بعذاب الفاسق لأجل التخويف والزجر.
قال القرشي: بل لأن العفو يكشف كون هذه الأخبار كذباً إن كان أراد ظواهرها، وإلغازاً وتعمية إن أراد غير ظاهرها ولم يدل عليه، وعبثاً إن لم يرد شيئاً أصلاً.
قلت: ولأجل هذا قال أصحابنا بقبح إخلاف الوعيد، وقد مر في الوجه الثاني بعد الشبه السبع في الثالثة عشرة من مسائل قوله تعالى: {خَتَمَ اللَّهُ عَلَى قُلُوبِهِمْ} [البقرة:7] إقامة الدليل القاطع على أنه لا يجوز من الله خلف الوعيد، ومهدنا قاعدة يعرف بها ما يحسن فيه خلف الوعيد وما لا يحسن فيه ذلك، فارجع إليه فإنه مفيد، وقد اكتفينا به عن التكرار.
واعلم أن هذه الآيات كما دلت على أن العاصي معاقب لا محالة، ففيها ما يدل على دوام عقابه للتصريح فيها بالخلود، وقد مر في قوله تعالى: {وَبَشِّرِ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ ...}[البقرة:25] الآية أن الخلود الدوام، وفي الحادية عشرة من مسائل هذه الآية أخبار تدل على ذلك.
وقال في القاموس: الخلد -بالضم-: البقاء والدوام كالخلود، وخلد خلوداً دام، وبالمكان أقام فيه كأخلد وخلد فيهما يعني الزمان والمكان، ومثله كلام صاحب الكشاف وهو نص في أن الخلود الدوام خصوصاً في الزمان، وأما المكان فالمفهوم من هذا أنه فيه مطلق محتمل للتأبيد وعدمه، لكن قد ورد في آيات كثيرة تقييده بالتأبيد، وبه يندفع احتمال كونه المكث المنقطع سواء كان طويلاً أم لا، فإن قيل: الأبد قد يكون بمعنى الدوام، وبمعنى مطلق الإقامة كما يدل عليه كلام صاحب القاموس، ولفظه: الأبد محرك الدهر، الجمع آباد وأبود والدائم والقديم الأزلي، أبد بالمكان، ويؤبد أبوداً أقام، والتأبيد التخليد.
قيل: أما مع الجمع بينه وبين الخلود فالظاهر أنه نص في الدوام، و إلا كان تكراراً لمعنى الخلود وتأكيداً له، والتأسيس خير من التأكيد، وتؤيده الأحاديث المتقدمة. والله أعلم.
فصل [في ذكر الروايات الدالة على الوعيد]
فيما يناسب هذه الآيات الكريمة من السنة القويمة، والآثار الشريفة مما رواه الموالف والمخالف، وإنما جمعت بين رواية الطائفتين قطعاً للشغب، وحسماً لمادة التشكيك بأن رواية الراوي فيما يقوي مذهبه سيما في العقائد غير مقبولة، وهذا يذكره كثير من أصحابنا وغيرهم من أهل الحديث والمتكلمين فإنهم يقولون ترد رواية الراوي إذا كان داعياً إلى بدعته بروايته؛ لأنه لايؤمن أن يضع الحديث على وفقها تأكيداً وتأييداً لها، وهذا ضعيف لأن المفروض عدالة الراوي، وتحرزه عن الكذب، وكيف يقولون بقبوله إن لم تجر إلى بدعته، ورده إن روى ما يوافقها، ويحكمون بعدالته في بعض مروياته دون بعضها، وأي عدالة تبقى فيمن استجاز الكذب فيما يوافق هواه، فالحق أن الواجب قبول رواية من تكاملت فيه شروط قبول الرواية من العدالة والضبط وغيرهما، سواء كان فيمن يجر إلى بدعته أم لا إذ لم يفصل دليل القبول، وما رواه موافقاً للبدعة وجب تأويله إن أمكن، أو رده إن لم يمكن وخالف ما هو أقوى منه، ولا يكون ذلك قدحاً في عدالته لجواز الوهم والغلط في ذلك بخصوصه، لا لتجويز تعمده الكذب فإن ثبوت عدالته تمنع ذلك، وهذا هو الذي عليه أهل التحقيق والإنصاف.
قال في (الفلك الدوار): والحق عند أئمتنا " أن الراوي العدل وإن كان خارجاً عن الولاية فإنه مقبول الرواية؛ إذ الأصح أن المعتبر في التوثيق الديانة، ولذلك تجد المحدثين من الشيعة كالنسائي، والحاكم يقولون يوثقون كثيراً من النواصب والخوارج، وكذلك فعل أهل الكتب الستة، وهو دليل على أن المعتبر في الراوي عدالة الصدق لا عدالة السلامة من الإثم والبدعة، وذكر فيه أيضاً أن الواجب قبول حديث كل راو من أي فرق الإسلام كان إذا عرف تحرزه في نقل الحديث، وصدق أمانته، وبعده من الكذب وإن كان مبتدعاً متأولاً، ورد كل راو عرف بخلاف ذلك من غير تساهل في القبول، ولا تعنت في الرد.
قال: فأما القبول بمجرد الموافقة في الاعتقاد ورده بمجرد المخالفة في الاعتقاد وبطلب المدح لغير الثقات، وتكلف القدح في حق الأثبات فمن مزالق الأقدام، والتهور الموقع في الكذب على المصطفى عليه أفضل الصلاة والسلام، واعتماداً على مجرد التشهي الموقع في غضب الجبار، ودخول تحت قوله صلى الله عليه وآله وسلم : ((من كذب عليَّ متعمداً فليتبوأ مقعده من الن ار )) فإن القبول والرد بمجرد ذلك كذب؛ إذ مرجعه إلى أنه قال ولم يقل، أو إلى أنه لم يقل وقد قال.
قلت: وقد نسب هذا القول أعني قبول من تكاملت فيه شروط الرواية بلا فرق بين ما وافق بدعته وبين ما خالفها إلى جماعة من المتكلمين الذين لا يرون تكفير أحد من أهل القبلة، وكذلك قال به جماعة من غيرهم، وما يقال من أن روايته لما يقوي بدعته كشهادة الرجل العدل فيما يجر النفع إلى نفسه فكما أن الشهادة مردودة فكذلك الرواية، فمدفوع بأن التهمة في الشهادة أعظم لخصوص المنفعة، وأما الرواية فليس فيها إلا إثبات أحكام عامة شاملة للمكلفين، فلا تقوى التهمة بالوضع على ما يطابقها.
إذا عرفت هذا فاعلم أن الأخبار، والآثار الدالة على ما ذهب إليه العترة الأطهار ومن وافقهم من علماء الأمصار في غاية الكثرة والشهرة لا يكاد يخلو منها باب من أبواب الشريعة، ولنذكر منها في هذا الموضع ما تيسر نقله والاطلاع عليه، والقليل يدل على الكثير.
واعلم أني لا أذكر في هذا الموضع إلا ما صرح فيه بدخول النار أو حرمان الجنة، أو باستحقاق العذاب، أو بالغضب والسخط، أو ما في معناهما لأنهما عبارة عن إيصال العقاب، أو إرادته، أو عن العقاب نفسه على الخلاف المتقدم في الفاتحة ومسألة الإرادة، وكذلك ماصرح فيه باللعن من الله تعالى؛ لأنه منه سبحانه وتعالى الطرد والإبعاد على سبيل السخط، وهو في الآخرة عقوبة، وفي الدنيا انقطاع من قبول رحمته وتوفيقه. ذكره الراغب.
واعلم أني لا أذكر الوعيد على الكفر لأنه مما لا نزاع فيه، وهذا أوان الشروع ونسأل الله الإعانة والقبول.
الوعيد على عموم المعاصي
في أمالي المرشد بالله: أنا أبو طاهر ابن عبدالرحيم، أنا ابن حبان، أنا أبو يعلى، ثنا سليمان بن داود، ثنا إسماعيل بن عياش، عن راشد عن أبي السمّاء أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قال في مسير: ((إنا مدلجون ولا يدلج مصعب ولا مضعف وارتحل رجل على ناقة صعبة فسقط فاندقت عنقه فمات فأمر النبي صلى الله عليه وآله وسلم بلالاً فنادى إن الجنة لا تحل لعاصٍ)).
وفي أمالي أبي طالب: أخبرنا العبدكي، نا أبو سعيد النقاش، ثني محمد بن عامر، ثنا هشام بن عمار، ثنا عمرو بن واقد، ثنا يونس، عن أبي إدريس، عن معاذ قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم : ((إن الجنة لا تحل لعاصٍ ومن لقي الله ناكثاً بيعة لقيه وهو أجذم، ومن خرج من الجماعة قيد شبر متعمداً فقد خلع ربقة الإسلام من عنقه، ومن مات وليس بإمام جماعة ولا لإمام جماعة في عنقه طاعة بعثه الله ميتة جاهلية)).
الوعيد على العزم على المعصية
في أمالي المرشد بالله: أخبرنا الذكواني، أنا أبو فورك، ثنا محمد بن إبراهيم، ثنا بكر بن بكار، ثنا مبارك بن فضالة، عن الحسن، عن أبي بكرة قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم : ((إذا التقى المسلمان بسيفيهما وكلاهما يريد قتل صاحبه فقتل أحدهما صاحبه فكلاهما في النار، قيل: يا رسول الله هذا القاتل فما بال المقتول؟ قال: إنه أراد قتل صاحبه)).
وفي أمالي أبي طالب: أخبرنا أبو محمد الأسدي، ثنا علي بن الحسن، ثنا أبو داود، ثنا أبو كامل، ثنا حماد بن زيد، عن أبي أيوب، عن الحسن، عن الأحنف لقيني أبو بكرة فقال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يقول: ((إذا تواجه المسلمان بسيفيهما فالقاتل والمقتول في النار ، قالوا: يا رسول الله هذا القاتل فما بال المقتول؟ قال: إنه أراد قتل صاحبه)) وأخرجه أحمد، والبخاري، ومسلم، وأبو داود، والنسائي، وأخرجه ابن ماجة عن أبي موسى.
الوعيد على القول بالقدر
في المجموع: حدثني زيد بن علي، عن أبيه، عن جده، عن علي عليه السَّلام : والله ما كذَبت ولا كُذبِتُ ولا ابتدعت ما نزلت هذه الآية إلا في القدرية خاصة: {إِنَّ الْمُجْرِمِينَ فِي ضَلاَلٍ وَسُعُرٍ ، يَوْمَ يُسْحَبُونَ فِي النَّارِ عَلَى وُجُوهِهِمْ ذُوقُوا مَسَّ سَقَرَ، إِنَّا كُلَّ شَيْءٍ خَلَقْنَاهُ بِقَدَرٍ}[القمر:47-49] ألا إنهم مجوس هذه الأمة، فإن مرضوا فلا تعودوهم، وإن ماتوا فلا تشهدوهم سبحان الله عما يقولون علواً كبيراً.
وأخرج ابن جرير، وابن المنذر، وابن مردويه عن أبي هريرة قال: جاء مشركو قريش إلى النبي صلى الله عليه وآله وسلم يخاصمونه في القدر فنزلت: {يَوْمَ يُسْحَبُونَ فِي النَّارِ عَلَى وُجُوهِهِمْ ...}[القمر:48] الآية.
وأخرج البزار،وابن المنذر بسند جيد من طريق عمرو بن شعيب، عن أبيه، عن جده قال: ما أنزلت هذه الآية: {إِنَّ الْمُجْرِمِينَ فِي ضَلاَلٍ وَسُعُرٍ ...}[القمر:47] الآية. إلا في أهل القدر.
وأخرج ابن عدي، وابن مردويه، والديلمي، وابن عساكر بسند ضعيف عن أبي أمامة سمعت رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يقول: ((إن هذه الآية نزلت في القدرية {إِنَّ الْمُجْرِمِينَ فِي ضَلاَلٍ وَسُعُرٍ }[القمر:47])).
وأخرج ابن المنذر، وابن أبي حاتم، وابن مردويه من طريق عطاء بن أبي رباح، عن ابن عباس أنه قيل له: قد تكلم في القدر، فقال: أو فعلوها والله ما نزلت هذه الآية إلا فيهم: {ذُوقُوا مَسَّ سَقَرَ ، إِنَّا كُلَّ شَيْءٍ خَلَقْنَاهُ بِقَدَرٍ}[القمر:48،49] أولئك شرار هذه الأمة، لا تعودوا مرضاهم، ولا تصلوا على موتاهم إن أريتني واحداً منهم فقأت عينه بأصبعي هاتين.
وأخرج الطبراني، وابن مردويه من طرق عن ابن عباس قال: نزلت هذه الآية في القدرية: {يَوْمَ يُسْحَبُونَ فِي النَّارِ عَلَى وُجُوهِهِمْ ...}[القمر:48] الآية.
وأخرج سفيان بن عيينة في جامعه عن محمد بن كعب القرضي، قال: إنما نزلت هذه الآية: {يَوْمَ يُسْحَبُونَ فِي النَّارِ...}[القمر:48] الآية تعييراً لأهل القدر.
وأخرج ابن مردويه عن ابن عباس، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم : ((صنفان من أمتي ليس لهما في الإسلام نصيب المرجئة والقدرية أنزلت فيهم آية من كتاب الله {إِنَّ الْمُجْرِمِينَ فِي ضَلاَلٍ وَسُعُرٍ ...}[القمر:47] إلى آخر الآية)).
الوعيد على التكذيب بالقدر وعدم الرضى به
في المجموع حدثني زيد بن علي، عن أبيه، عن جده، عن علي عليه السَّلام ، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم : ((لعنت سبعة فلعنهم الله وكل نبي مجاب الدعوة: الزائد في كتاب الله تعالى، والمكذب بقدر الله، والمخالف لسنتي، والمستحل من عترتي ما حرم الله، والمتسلط بالجبروت ليعز ما أذل الله ويذل ما أعز الله، والمستحل ما حرم الله، والمستأثر على المسلمين بفيئهم مستحلاً له)).
وفي الجامع الصغير عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم أنه قال:((سبعة لعنتهم وكل نبي مجاب الدعوة : الزائد في كتاب الله، والمكذب بقدر الله، والمستحل حرمة الله، والمستحل من عترتي ما حرم الله، والتارك لسنتي، والمستأثر بالفيء، والمتجبر بسلطانه ليعز من أذل الله، ويذل من أعز الله)) ونسبه إلى الطبراني في الكبير من حديث عمرو بن شغواء -بشين وغين معجمتين-.
قال العزيزي: بإسناد حسن.
وفي سنن الترمذي: ثنا قتيبة، ثنا عبدالرحمن بن زيد بن أبي الموالى المزني، عن عبيد الله بن عبدالرحمن بن موهب، عن عمرة، عن عائشة، قالت: قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم : ((ستة لعنتهم لعنهم الله وكل نبي كان : الزائد في كتاب الله، والمكذبون بقدر الله، والمتسلط بالجبروت ليعز بذلك من أذل الله ويذل من أعز الله، والمستحل لحرم الله، والمستحل من عترتي ما حرم الله، والتارك لسنتي)).
قال الترمذي: ورواه سفيان الثوري، وحفص بن غياث وغير واحد عن عبيد الله بن عبدالرحمن، عن علي بن حسين، عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم مرسلاً، وهذا أصح.
قلت: وأخرجه من حديث عائشة الطبراني في الكبير، وابن حبان، والحاكم وصححه، وقال المنذري: لا أعرف له علة.
وأخرجه الحاكم من حديث علي عليه السَّلام ، وأخرج ابن أبي حاتم، والطبراني، وابن عساكر وغيرهم عن زرارة، عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم أنه تلا هذه الآية: {ذُوقُوا مَسَّ سَقَرَ ، إِنَّا كُلَّ شَيْءٍ خَلَقْنَاهُ بِقَدَرٍ}[القمر:48،49] قال في ناس من أمتي في آخر الزمان يكذبون بقدر الله)).
وأخرج ابن مردويه، عن ابن عمر قال: المكذبون بالقدر مجرمو هذه الأمة، وفيهم نزلت هذه الآية: {إِنَّ الْمُجْرِمِينَ فِي ضَلاَلٍ وَسُعُرٍ }[القمر:47] إلى قوله: {خَلَقْنَاهُ بِقَدَرٍ }[القمر:49].
وأخرج ابن مردويه عن ابن عباس قال: جاء العاقب والسيد، وكانا رأسي النصارى بنجران فتكلما بين يدي النبي صلى الله عليه وآله وسلم بكلام شديد في القدر والنبي صلى الله عليه وآله وسلم ساكت ما يجيبهما بشيء حتى انصرف فأنزل الله: {أَكُفَّارُكُمْ خَيْرٌ مِنْ أُوْلَئِكُمْ }[القمر:43] إلى قوله: {وَلَقَدْ أَهْلَكْنَا أَشْيَاعَكُمْ }[القمر:51] الذين كفروا وكذبوا بالقدر قبلكم.
وأخرج عبد بن حميد، وعبدالرزاق عن محمد بن كعب قال: كنت أقرأ هذه الآية فما أدري من عنى بها حتى سقطت عليها: {إِنَّ الْمُجْرِمِينَ فِي ضَلاَلٍ وَسُعُرٍ }[القمر:47] إلى قوله: {كَلَمْحِ الْبَصَرِ}[القمر:47-50] فإذا هم المكذبون بالقدر.
وأخرج ابن جرير عن ابن عباس قال: إني لأجد في كتاب الله قوماً يسحبون في النار على وجوههم يقال لهم: {ذُوقُوا مَسَّ سَقَرَ }[القمر:48] لأنهم كانوا يكذبون بالقدر، وإني لأراهم ولا أدري أشيء كان قبلنا أم شيء فيما بقي.
وأخرج ابن مردويه عن عبادة بن الصامت قال: سمعت بأذني هاتين رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يقول: ((إن أول ما خلق الله القلم قيل اكتب لابد، قال: وما لابد؟ قال: القدر، قال: وما القدر؟ قال: تعلم أن ما أصابك لم يكن ليخطئك وما أخطأك لم يكن ليصيبك إن مت على غير ذلك دخلت النار)).
قلت: وهذا التفسير النبوي للقدر مروي عن زيد بن علي عليه السَّلام .
روى المرشد بالله في الأمالي أن رجلاً سأل زيداً عليه السَّلام فقال: يا ابن رسول الله ألا تخبرني عن القدر ما هو؟ فقال زيد بن علي عليه السَّلام : إن ذلك أن تعلم أن ما أخطأك لم يكن ليصيبك، وما أصابك لم يكن ليخطئك، وإن من الإيمان بالقدر أن تسلم لله الأمر في الذي أراد، وأمر ونهى وقدر، وترضى بذلك لك وعليك.
ومنه يعلم الفرق بين القدر المتوعد على القول به، والقدر الذي يجب الرضى به، ويحرم التكذيب به، فإن الأول كالقول بأن المعاصي بقدر الله ومن فعله، وكذلك سائر أفعال العباد، والثاني كالتكذيب بكون ما يصيب الإنسان من الآلام ونحوها بقدر الله ومن فعله، والمراد من الرضى به أن يتلقاه بالصبر وعدم السخط، هذا ما يقتضيه كلام أئمة العدل.
الوعيد على من أذل سلطان الله في الأرض
في أمالي المرشد بالله في خبر تقدم في سياق قوله تعالى: {وَلاَ تَشْتَرُوا بِآيَاتِي ثَمَناً قَلِيلاً }[البقرة:41] عن ابن عباس مرفوعاً: ((ومن مشى إلى سلطان الله عز وجل في أرضه ليذله أذله الله مع ما يدخر له من الخزي يوم القيامة سلطان الله كتاب الله وسنة نبيه)) والحديث في أمالي أبي طالب بإسناد آخر بنحوه.
الوعيد على سب أمير المؤمنين علي بن أبي طالب وبغضه
في أمالي المرشد بالله: أخبرنا ابن شاهين أخبر البرهاوي، ثنا محمد بن يونس، ثنا سعيد الثقفي، عن جندل، عن حماد، عن علي بن زيد، عن سعيد بن جبير: بلغ ابن عباس أن قوماً يقعون في علي عليه السَّلام ... وذكر القصة إلى أن قال ابن عباس: أشهد لسمعت رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يقول: ((من سب علياً فقد سبني ، ومن سبني فقد سب الله، ومن سب الله أكبه على وجهه في النار)) وأخرجه أحمد والحاكم عن أم سلمة بلفظ: ((من سب علياً فقد سبني ، ومن سبني فقد سب الله)). قال العزيزي: وإسناده صحيح.
وفي أمالي المرشد بالله أخبرنا أبو القاسم الأزجي، أنا ابن سنبك البجلي، أنا عمرو الأشناني، أنا المروروذي، ثنا موسى المروزي، ثني موسى بن جعفر بن محمد، عن أبيه، عن جده محمد بن علي، عن أبيه، عن جده الحسين، عن علي عليه السَّلام قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم : ((إنك مبتلى ومبتلى بك ، فطوبى لمن أحبك وصدق فيك، وويل لمن أبغضك وكذب عليك، أما من أحبك وصدق فيك فمعي في جنتي، وأما من أبغضك ففي النار يوم القيامة)).
وفيه أخبرنا محمد بن علي العلاف، أنا أبو جعفر ميثم، ثنا القاسم بن جعفر العلوي، ثنا جعفر بن محمد بن عبد الله، عن الصادق، عن أبيه، عن جده، عن أبيه الحسين قال أمير المؤمنين عليه السَّلام : أنا قسيم النار، قال عمار: إنما عنى بذلك أن كل من معي فهو على الحق وكل من مع معاوية فهو على الباطل ضالاً مضلاً.
أخبرنا أبو الفضل المقري، ثنا أبو جعفر الكناني، ثنا عمر بن الحسن، ثنا إسحاق بن الحسن، ثني محمد بن منصور الطوسي: كنا عند أحمد بن حنبل فقال له رجل: يا أبا عبد الله ما تقول في هذا الحديث أنا قسيم النار؟ قال: وما ينكر من ذا أليس روينا أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم [قال]: ((لا يحبك إلا مؤمن ولا يبغضك إلا منافق )) ؟ قلنا: بلى. قال: فأين المؤمن؟ قلنا: في الجنة. قال: فأين المنافق؟ قلنا: في النار. قال: فعلي قسيم النار.
وفي المجموع ثني زيد بن علي، عن أبيه، عن جده، عن علي عليه السَّلام ، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم : ((يا علي لعنتك من لعنتي ولعنتي من لعنة الله ومن يلعن الله فلن تجد له نصيرا)).
قلت: وقد لعن علي عليه السَّلام جماعة من أعدائه.
الوعيد لمن آذى فاطمة البتول عليها السلام أو أغضبها
في صحيح مسلم حدثني أبو معمر إسماعيل بن إبراهيم الهذلي، ثنا سفيان، عن عمرو، عن بن أبي مليكة، عن المسور بن مخرمة، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم : ((إنما فاطمة بضعة مني يؤذيني ما آذاها )).
وفي كتاب المحيط بإسناده إلى عبد الله بن الحسن أن أبا بكر أخرج وكيل فاطمة من فدك وساق القصة وذكر مجيئ أبي بكر وعمر يعودانها في مرضها وأنها قالت لهما: سألتكما بالله الذي لا إله إلا هو هل سمعتما رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يقول: ((من آذاني...)) ؟ فقالا: اللهم نعم.
وأخرج ابن عساكر من حديث علي عليه السَّلام يرفعه: ((من آذى شعرة مني فقد آذاني ومن آذاني فقد آذى الله)).
قال العزيزي: وزاد أبو نعيم: فعليه لعنة الله ملء السموات وملء الأرض.
قال الفقيه حميد الشهيد رحمه الله: وقد تقرر في الأخبار أن الله يغضب لغضب فاطمة ويرضى لرضاها.
الوعيد على بغض الحسن والحسين ونصب العداوة لهما
في أمالي أبي طالب أخبرنا أبي، أنا أبو الحسين العقيقي، ثنا جدي، ثنا الحسن بن محمد الكوفي، ثنا يحيى الحماني، عن قيس بن الربيع، عن محمد بن رستم، عن زادان، عن سلمان قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم : ((الحسن والحسين من أحبهما أحببته ومن أحببته أحبه الله، ومن أحبه الله أدخله جنة النعيم، ومن أبغضهما أو بغى عليهما أبغضته، ومن أبغضته أبغضه الله، ومن أبغضه الله أدخله نار جهنم خالداً فيها وله عذاب مقيم)).
الوعيد لمن ظلم أهل البيت " أو قتلهم أو أضمر لهم العداوة
في أمالي أبي طالب أخبرنا أبو الحسين الحسني، ثنا علي بن محمد، ثنا داود الغازي، ثنا علي بن موسى الرضا، عن أبيه موسى، عن أبيه جعفر، عن أبيه محمد، عن أبيه علي، عن أبيه الحسين، عن أبيه علي بن أبي طالب قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم : ((حرمت الجنة على من ظلم أهل بيتي وقاتلهم وعلى المعين عليهم، أولئك لا خلاق لهم في الآخرة، ولا يكلمهم الله يوم القيامة، ولا يزكيهم ولهم عذاب أليم)).
وفي أمالي المرشد بالله من طريق الأعور، عن موسى بن جعفر، عن آبائه " وهي معروفة في الأمالي عن علي عليه السَّلام قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم : ((أخرجهم عداوة أهل بيتي إلى اليهود فهم أهل النار )).
وفيه: أخبرنا الذكواني، عن الحسن بن إسحاق، أنا ابن ماهان، أنا عمران، ثنا إبراهيم الغفاري، ثنا الحسين بن زيد، عن الصادق، عن آبائه " قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم : ((نادى منادٍٍمن قبل العرش يا معشر الخلائق إن الله عز وجل يقول أنصتوا فطالما أنصت لكم أما وعزتي وجلالي وارتفاعي على عرشي لا يجاوز أحد منكم إلا بجواز مني وجواز مني محبة أهل البيت المستضعفين فيكم المقهورين المظلومين والذين صبروا على الأذى واستخفوا بحق رسولي فيهم فمن أتاني بحبهم أسكنته جنتي ومن أتاني ببغضهم أنزلته مع أهل النفاق)).
الوعيد على سب الصحابة
أخرج الطبراني في الكبير عن ابن عباس عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم : ((من سب أصحابي فعليه لعنة الله والملائكة والناس أجمعين )) قال العلقمي: بجانبه علامة الحسن.
الوعيد على الإصرار على الصغائر
في أمالي المرشد بالله أخبرنا أبو نصر، أنا محمد بن يحيى، أنا أبو أحمد المرزبان، أنا أبو عبد الله البجلي، أنا عبد الرزاق، عن معمر، عن أبي إسحاق، عن عبد الله بن يزيد، عن ابن مسعود: مثل المحقرات من الذنوب كمثل قوم سفر بأرض قفر معهم طعام لا يصلحه إلا النار فتفرقوا فجعل هذا يأتي بروثه ويلقي هذا بالعظم حتى جمعوا من ذلك ما أصلحوا به طعامهم كذلك صاحب المحقرات يكذب الكذبة ويذنب الذنب ويجمع ذلك لعله أن يكبه الله عز وجل على وجهه في نار جهنم.
وفي الأمالي أيضا ًأخبرنا ابن رستة، ثنا أبو الطيب بن شيبة، ثنا ابن مقتل، ثنا نصر بن علي، ثنا يزيد بن هارون، ثنا جرير، عن حبان بن زيد، عن ابن عمر قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم : ((ويل للمصرين الذين يصرون على ما فعلوا وهم يعلمون )).
وأخرج أحمد، والترمذي، وابن حبان، والحاكم عن أبي سعيد عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم أنه قال: ((ويل وادِ في جهنم يهوي فيه الكافر أربعين خريفاً قبل أن يبلغ قعره)).قال العزيزي: وإسناده صحيح.
الوعيد على ترك الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر وعلى ترك المعروف مع الأمر به وارتكاب المنكر مع النهي عنه
في أمالي المرشد بالله أخبرنا أبو ريذة، أنا الطبراني، ثنا موسى بن هارون، ثنا خلف بن هشام، عن العلاء، عن عمرو بن مرة، عن سالم الأفطس، عن أبي عبيدة، عن ابن مسعود قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم : ((إن من كان قبلكم كانوا إذا أعمل العامل منهم الخطيئة نهاه الناهي تعذيراً حتى إذا كان الغد جالسه وواكله وشاربه كأنه لم يره على خطيئته بالأمس، فلما رأى الله ذلك منهم ضرب بقلوب بعضهم على بعض ثم لعنهم على لسان نبيهم عيسى بن مريم ذلك بما عصوا وكانوا يعتدون، والذي نفس محمد بيده لتأمرن بالمعروف ولتنهن عن المنكر ولتأخذن على يد الظالم ولتأطرنه على الحق أو ليضربن الله قلوب بعضكم على بعض ثم يلعنكم كما لعنهم)).
قال خلف: تأطرنه تقهرونه.
وأخرج أبو داود إلا قوله: ((أو ليضربن الله قلوب بعضكم على بعض ثم يلعنكم...))إلخ فإنما زادها في رواية في سندها انقطاع، وفي أخرى مرسلة.
وأما وعيد من ترك المعروف مع أمره به، وارتكب المنكر مع نهيه عنه فقد مر في قوله تعالى: {أَتَأْمُرُونَ النَّاسَ بِالْبِرِّ وَتَنسَوْنَ أَنفُسَكُمْ ...}[البقرة:44] الآية.
الوعيد على عدم التنزه من البول
عن شفي بن ماتع الأصبحي أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قال: ((أربعة يؤذون أهل النار على ما بهم من الأذى يسعون ما بين الحميم والجحيم يدعون بالويل والثبور يقول بعض أهل النار لبعض: ما بال هؤلاء قد آذونا على ما بنا من الأذى، قال فرجل مغلق عليه تابوت من جمر ورجل يجر أمعاءه ورجل يسيل فوه قيحاً ودماً، ورجل يأكل لحمه، فيقال لصاحب التابوت: ما بال الأبعد قد آذونا على ما بنا من الأذى؟ فيقول: إن الأبعد قد مات وفي عنقه أموال الناس، ثم يقال للذي يجر أمعاءه: ما بال الأبعد قد آذانا على ما بنا من الآذى؟ فيقول: إن الأبعد كان لا يبالي إن أصاب البول منه، ثم يقال للذي يسيل فوه قيحاً ودماً: ما بال الأبعد قد آذانا علىما بنا من الآذى؟ فيقول: إن الأبعد كان ينظر إلى كلمة فيستلذ بها كما يستلذ الرفث، ثم يقال للذي يأكل لحمه: ما بال الأبعد قد آذانا على ما بنا من الأذى؟ فيقول: إن الأبعد كان يأكل لحوم الناس بالغيبة ويمشي بالنميمة)).
أخرجه ابن أبي الدنيا في الصمت، والطبراني في الكبير.
قال المنذري: بإسناد لين وأبو نعيم وقال: شفي بن ماتع مختلف في صحبته. قال المنذري: شفي ذكره البخاري وابن حبان في التابعين.
الوعيد على البراز في طرق المسلمين
عن أبي هريرة قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يقول: ((من سل سخيمته على طريق من طرق المسلمين فعليه لعنة الله والملائكة والناس أجمعين )) قال المنذري: رواه الطبراني في الأوسط والبيهقي وغيرهما ورواته ثقات إلا محمد بن عمرو الأنصاري. والسخيمة: الغائط.
الوعيد على الإخلال بشيء من القدر الواجب في الوضوء
روى الهادي في الأحكام عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم أنه قال: ((خللوا الأصابع قبل أن تخلل بالنار )).
وفي العلوم: ثنا أبو الطاهر، ثني أبي، عن أبيه، عن جده، عن علي عليه السَّلام قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم : (( خللوا أصابعكم قبل أن تخلل بالنار )).
وأخرج الطبراني في الكبير عن واثلة عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال: ((من لم يخلل أصابعه بالماء خللها الله بالنار يوم القيامة )).
وأخرج الطبراني في الأوسط عن عبد الله بن مسعود، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم : ((لينتهكن الأصابع بالطهور أو لتنهكنها النار )).قال العزيزي: بإسناد حسن. قال المنذري: ووقفه في الكبير على ابن مسعود بإسناد حسن، وفي رواية له في الكبير موقوفة: ((خللوا الأصابع الخمس لا يحشرها الله ناراً )).
قوله: لتنتهكن بالبنا للفاعل وضم الكاف أي لتبالغن في غسلها أو لتبالغن النار في إحراقها، والنهك: المبالغة في كل شيء.
وعن أبي هريرة أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم رأى رجلاً لم يغسل عقبيه فقال: ((ويل للأعقاب من النار )) وفي رواية أن أبا هريرة رأى قوماً يتوضؤون من المطهرة فقال: اسبغوا الوضوء فإني سمعت أبا القاسم صلى الله عليه وآله وسلم قال: ((ويل للأعقاب من النار أو ويل للعراقيب من النار)) أخرجه البخاري، ومسلم، وابن ماجة مختصراً.
وأخرج الترمذي منه: ((ويل للأعقاب من النار ))ثم قال وقد روي أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم أنه قال: ((ويل للأعقاب وبطون الأقدام من النار )) قال المنذري: وهذا الحديث الذي أشار إليه الترمذي رواه الطبراني في الكبير، وابن خزيمة في صحيحه من حديث عبد الله بن الحارث بن جزء الزبيدي مرفوعاً، ورواه أحمد موقوفاً عليه.
وأخرج مسلم، والنسائي، وابن ماجة، وأبو داود واللفظ له عن عبد الله بن عمر أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم رأى قوماً وأعقابهم تلوح فقال: ((ويل للأعقاب من النار أسبغوا الوضوء )) وأخرجه البخاري بنحوه.
وفي أمالي أبي طالب: ثنا ابن بندر، ثنا الحسن بن سفيان، ثنا ابن نمير، ثنا محاصر، عن الأعمش، عن أبي سفيان، عن جابر رأى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم رجلاً يتوضأ فلم يصب عقبه الماء فقال: ((ويل للعراقيب من النار )).
الوعيد على ترك الجنب غسل شيء من جسده
في سنن أبي داود: ثنا موسى بن إسماعيل، ثنا حماد، أخبرنا عطاء بن السائب، عن زاذان، عن علي عليه السَّلام أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قال: ((من ترك موضع شعرة من جنابة لم يغسلها فعل به كذا كذا من النار)) قال علي عليه السَّلام : فمن ثم عاديت رأسي، فمن ثم عاديت رأسي ثلاثاً، وكان يجر شعره. وأخرجه أحمد من طرق إلى عطاء بن السائب.
الوعيد على ترك إتمام الصلاة
في أمالي أبي طالب أخبرنا أبو الحسين الحسني، أنا ابن مهروية، ثنا داود الغازي، ثنا علي الرضا، عن أبيه موسى الكاظم، عن أبيه الصادق، عن أبيه زين العابدين، عن جده الحسين السبط، عن علي عليه السَّلام قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم : ((حافطوا على الصلوات الخمس فإن الله تبارك وتعالى إذا كان يوم القيامة يدعو بالعبد فأول ما يسأله عن الصلاة فإن أتى بها تامة وإلا زخ في النار)).
وأخرج الطبراني في الكبير والبزار عن ابن عباس أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قال: (( من ترك الصلاة لقي الله وهو عليه غضبان )) قال المنذري: وإسناده حسن.
وأخرج البخاري عن سمرة بن جندب قال: كان رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم مما يكثر أن يقول لأصحابه: ((هل رأى أحد منكم من رؤيا )) فنقص عليه ما شاء الله أن يقص وأنه قال لنا ذات غداة: ((إنه أتاني الليلة آتيان وإنهما يتبعان وإنهما قالا لي انطلق وإني انطلقت معهما وأنا آت على رجل مضطجع وإذا آخر قائم عليه بصخرة وإذا هو يهوي بالصخرة لرأسه فتثلغ رأسه فيقد هذه الحجر فيأخذه فلا يرجع إليه حتى يصح رأسه كما كان ثم يعود عليه فيفعل به مثل ما فعل في المرة الأولى قال قلت سبحان الله ما هذا -وساق الخبر وما رأى في تلك الليلة إلى أن قال-: أما الرجل الأول الذي آتيت عليه يثلغ رأسه بالحجر فإنه الرجل يأخذ القرآن فيرفضه وينام عن الصلاة المكتوبة...)) الخبر. ويشهد له ما رواه البزار من حديث الربيع بن أنس عن أبي العالية أو غيره، عن أبي هريرة قال: ثم أتى يعني النبي صلى الله عليه وآله وسلم على قوم ترضخ رؤوسهم بالصخرة [كلما] رضخت عادت كما كانت ولا يفتر عنهم من ذلك شيء قال: ((يا جبريل من هؤلاء ؟ قال: هؤلاء الذين تثاقلت رؤوسهم عن الصلاة المكتوبة...)) الحديث في قصة الإسراء وفرض الصلاة.
قوله: تثلغ بالمثلثة ثم غين معجمة أي يشرخ وفي كتاب الزواجر لابن حجر الهيثمي عن ابن عباس قال: إذا كان يوم القيامة يؤتى برجل فيوقف بين يدي الله عز وجل فيأمر الله به إلى النار فيقول: يا رب بماذا؟ فيقول تعالى: بتأخير الصلاة عن أوقاتها وحلفك بي كاذباً.
الوعيد على التأخر عن الصف الأول
عن عائشة، قالت: قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم : (( لا يزال قوم يتأخرون عن الصف الأول حتى يأخرهم الله في النار )) أخرجه أبو داود، وابن خزيمة في صحيحه، وابن حبان إلا أنهما قالا: ((حتى يخلفهما الله في النار)).
الوعيد على تخطي رقاب الناس يوم الجمعة
عن معاذ عن أنس أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم [قال]: ((من تخطى رقاب الناس يوم الجمعة اتخذ جسراً إلى جهنم )) أخرجه الترمذي، وابن ماجة، والبخاري في الأدب.
قال الترمذي: حديث غريب والعمل عليه عند أهل العلم. قوله اتخذ الرواية المشهورة أنه مبني للمفعول أي يجعل جسراً على باب جهنم يطأه الناس ويتخطونه، ويدل عليه رواية صاحب مسند الفردوس بلفظ: ((من تخطى رقبة أخيه المسلم جعله الله جسراً على باب جهنم للناس )) وقيل: إنه مبني للفاعل أي أنه اتخذ لنفسه جسراً يمشي عليه إلى جهنم بسبب ذلك.
وأخرج أحمد، والطبراني في الكبير، والحاكم أن الذي يتخطى رقاب الناس يوم الجمعة ويفرق بين الإثنين بعد خروج الإمام كجار قصبه أي أمعاءه في النار.
الوعيد على سفر الإنسان وحده
أخرج أحمد في رواية الطيب بن محمد وبقية رواته رواة الصحيح عن أبي هريرة قال لعن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ((مخنثي الرجال الذين يتشبهون بالنساء ، والمترجلات من النساء المتشبهات بالرجال، وراكب الفلاة وحده)).
الوعيد على النياحة على الميت
عن أنس بن مالك، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم : ((صوتان ملعونان في الدنيا والآخرة : مزمار عند نعمة، ورنة عند مصيبة)) أخرجه البزار ورواته ثقات.
وأخرج ابن ماجة عن أبي مالك الأشعري قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم : ((النياحة من أمر الجاهلية وإن النائحة إذا ماتت ولم تتب قطع الله لها ثياباً من قطران ودرعاً من لهب النار)).
وأخرج الطبراني في الأوسط عن أبي هريرة، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم : ((إن هذه النوائح تجعلن صفين يوم القيامة صفين في جهنم صف عن يمينهم وصف عن يسارهم فينبحن على أهل النا ركما تنبح الكلاب)).
وأخرج أبو داود عن أبي سعيد الخدري قال: لعن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ((النائحة والمستمعة)) قال المنذري: وليس في إسناده من ترك، وأخرج البزار والطبراني وزادا فيه وقال: ((ليس للنساء في الجنازة نصيب )).
الوعيد على منع الزكاة والإعتداء فيها
عن علي عليه السَّلام ، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم : (( إن الله فرض على أغنياء المسلمين في أموالهم بقدر الذي يسع فقراءهم ولن يجهد الفقراء إذا جاعوا أو عروا إلا بما يصنع أغنياؤهم، ألا وإن الله يحاسبهم حساباً شديداً ويعذبهم عذاباً أليماً)) أخرجه الطبراني في الأوسط والصغير، تفرد به ثابت بن محمد الزاهد وهو ثقة وبقية رواته لا بأس بهم، وروي موقوفاً على أمير المؤمنين عليه السَّلام ، قيل: وهو أشبه.
وفي أمالي المرشد بالله أخبرنا ابن غيلان، أنا أبو بكر الشافعي، ثنا محمد الثوري، أنا محمد بن مقاتل، ثنا محمد بن مردويه، ثنا إسماعيل بن حفص، ثني عبيد الله، ثني محمد بن علي، عن أبيه، عن عمه محمد بن الحنفية، ثني علي بن أبي طالب عليه السَّلام أنه سمع رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يقول: ((إن الله تعالى فرض للفقراء في أموال الأغنياء قدر ما يسعهم فإن منعوهم حتى يجوعوا ويعروا ويجهدوا حاسبهم الله حساباً شديداً وعذبهم عذاباً نكرا)).
وفي أمالي أببي طالب أخبرنا عبد الله بن عدي الحافظ، ثنا إسحاق بن إبراهيم بن جعفر البصري، ثنا محمد بن مهدي الأسدي، ثني أبي، عن محمد بن زياد،عن ميمون بن مهران، عن ابن عباس عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال: ((إن الله فرض للفقير من مال الغني في كل مائتين خمسة فمن منعهم من ذلك فعليه لعنة الله ولعنة اللاعنين والملائكة والناس أجمعين)).
وفيه: ثنا أبو محمد عبد الله بن محمد القاضي ببغداد، ثنا أبو الحسن عبيد الله بن الحسين الكرخي، ثنا جعفر بن محمد الفريابي، ثنا قتيبة، ثنا ابن لهيعة، عن عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده أن امرأتين أتتا رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وفي أيديهما سواران من ذهب فقال لهما: ((أتؤديان زكاتهما ؟ فقالتا: لا، فقال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم : أتحبان أن يسوركما الله بسوارين من نار فقالتا: لا، فقال: فأديا زكاته)) وأخرجه أحمد، وأبو داود، والترمذي والدارقطني.
وأخرج أحمد بإسناد حسن عن أسماء بنت يزيد قالت: دخلت أنا وخالتي على النبي صلى الله عليه وآله وسلم وعلينا أسورة من ذهب فقال لنا: ((أتعطيا زكاته ؟ قالت: فقلنا لا، فقال: أما تخافان أن يسوركما الله بسوار من نار أديا زكاته)).
وأخرج الأصبهاني عن علي عليه السَّلام قال: لعن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ((آكل الربا وموكله وشاهده وكاتبه ، والواشمة والمستوشمة، ومانع الصدقة، والمحلل والمحلل له)) وأخرجه أحمد من طرق عن الشعبي، عن الحرث، عن علي عليه السَّلام .
وعن أبي هريرة قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم : ((عرض علي أول ثلاثة يدخلون الجنة وأول ثلاثة يدخلون النار، فأما أول ثلاثة يدخلون الجنة: فالشهيد، ومملوك أحسن عبادة ربه ونصح لسيده، وعفيف متعفف، وأما أول ثلاثة يدخلون النار: فأمير مسلط، وذو ثروة من مال لا يؤدي حق الله في ماله، وفقير فخور)) أخرجه أحمد، والحاكم، والبيهقي. قال العزيزي: بإسناد حسن. وأخرجه أيضاً ابن خزيمة في صحيحه وابن حبان مفرقاً في موضعين.
وأخرج البزار عن أبي هريرة في حديث الإسراء ثم أتى يعني النبي صلى الله عليه وآله وسلم على قوم على أدبارهم رقاع وعلى أقبالهم رقاع يسرحون كما تسرح الأنعام إلى الضريع والزقوم، ووصف جهنم قال: (( ما هؤلاء يا جبريل ؟ قال: هؤلاء الذين لا يؤدون صدقات أموالهم وما ظلمهم الله وما الله بظلام للعبيد...)) الحديث بطوله.
وعن أنس عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال: قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم : ((مانع الزكاة يوم القيامة في النار ))أخرجه الطبراني في الصغير.
وعن عائشة أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم رأى في يدها فتخات من ورق فقال:(( أتؤدين زكاتهن ؟ قلت: لا أو ما شاء الله، قال: هي حسبك من النار)). أخرجه أبو داود والدارقطني.
الفتخات بالخاء المعجمة: جمع فتخة، وهي حلقة لا فص لها، وقيل: هي خواتم كبار.
وفي المجموع قال: حدثني زيد بن علي، عن أبيه، عن جده، عن علي عليه السَّلام قال: لعن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم لاوي الصدقة والمعتدي فيها.
وأخرج ابن خزيمة في صحيحه عن مسروق، قال: قال عبد الله: آكل الربا وموكله وشاهداه إذا علماه، والواشمة والمستوشمة، ولاوي الصدقة، والمرتد أعرابياً بعد الهجرة ملعونون على لسان محمد صلى الله عليه وآله وسلم يوم القيامة.
وأخرج أحمد، وأبو يعلى، وابن حبان في صحيحه عن الحارث الأعور، عن ابن مسعود، عن أبي رافع عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قال: ((هذا فلان بعثته ساعياً على بني فلان فغل تمرة فدرع على مثلها من النار)) . أخرجه النسائي، وأبو داود، وابن خزيمة في صحيحه.
وأخرج أبو يعلى والبزار قال المنذري بإسناد جيد إن شاء الله عن عمر، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم : ((إني ممسك بحجزكم عن النار هلم عن النار هلم عن النار وتغلبونني تقاحموا تقاحم الفراش والجنادب فأوشك أن أرسل بحجزكم وأنا فرطكم على الحوض فتردون علي معاً وأشتاتاً فأعرفكم بسيماكم وأسمائكم كما يعرف الرجل الغريبة من الإبل في إبله، ويذهب بكم ذات الشمال فأنا أنشد فيكم رب العالمين فأقول أي رب أمتي فيقول يا محمد إنك لا تدري ما أحدثوا بعدك إنهم كانوا يمشون بعدك القهقرى على أعقابهم، فلأعرفن أحدكم يوم القيامة يحمل شاة لها ثغاء فينادي يا محمد يا محمد فأقول لا أملك [لك] شيئاً قد بلغتك، فلا أعرفنَّ أحدكم يوم القيامة يحمل بعيراً له رغاء فينادي يا محمد يا محمد فأقول لا أملك لك شيئاً قد بلغتك، فلا أعرفنَّ أحدكم يأتي يوم القيامة يحمل فرساً له حمحمة فينادي يا محمد يا محمد وأقول لا أملك لك شيئاً قد بلغتك،فلا أعرفنَّ أحدكم يوم القيامة يحمل سقاء من أدم ينادي يا محمد يا محمد فأقول لا أملك لك شيئاً قد بلغتك)). قوله: فرطكم الفرط بالتحريك: الذي يتقدم القوم ليهيئ لهم مصالحهم، والحجز بضم المهملة وفتح الجيم ثم زاء جمع حجزة بسكون الجيم وهو معقد الإزار وتكت السراويل، والحمحمة بحائين مهملتين مفتوحين: صوت الفرس.
الوعيد على سؤال الناس
عن عمران بن الحصين قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم : (( مسألة الغني شين في وجهه يوم القيامة )) أخرجه أحمد بإسناد جيد، والطبراني في الكبير، والبزار وزاد: ((ومسألة الغني نار إن أعطي قليلاً فقليل وإن أعطي كثيراً فكثير)).
وأخرج الطبراني في الكبير ورجاله رجال الصحيح، وابن خزيمة في صحيحه عن حبشي بن جنادة قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يقول: ((من سأل من غير فقر فكأنما يأكل الجمر )). وأخرجه الترمذي مطولاً ولفظه: سمعت رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم في حجة الوداع وهو واقف بعرفة أتاه أعرابي فأخذ بطرف ردائه فسأله إياه فأعطاه وذهب فعند ذلك حرمت المسألة، فقال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم : ((إن المسألة لا تحل لغني ولا لذي مرة سوي إلا لذي فقر مدقع، أو غرم مفظع، ومن سأل الناس ليثري به ماله كان خموشاً في وجهه يوم القيامة ورضفاً يأكله من جهنم، فمن شاء فليقل ومن شاء فليكثر)). قال الترمذي غريب زاد فيه رزين: ((وإني لأعطي الرجل العطية فينطلق بها تحت إبطه ما هي إلا النار، فقال له عمر: ولم تعط يا رسول الله ما هو نار؟ قال: أبى الله لي البخل وأبوا إلا مسألتي، قالوا: وما الغنى الذي لا تنبغي معه المسألة؟ قال: قدر ما يغديه أو يعشيه)). قال المنذري: وهذه الزيادة لها شواهد كثيرة لكني لم أقف عليها في شيء من نسخ الترمذي. قوله: المرة بكسر الميم وتشديد الراء: الشدة والقوة. والسوي بفتح السين وتشديد الياء: السالم من موانع الاكتساب. ويثري بالثاء المثلثة، والرضف بفتح الراء وسكون الضاد المعجمة بعدها فاء: الحجارة المحماة.
وفي زوائد مسند أحمد بإسناد جيد عن علي عليه السَّلام قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم : ((من سأل الناس عن ظهر غنى استكثر بها من رضف جهنم، قالوا: وما ظهر غنى؟ قال: عشاء ليلة)) وأخرجه الطبراني في الأوسط بإسناد جيد.
وأخرج مسلم وابن ماجة عن أبي هريرة قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم : ((من سأل الناس تكثراً فإنما يسأل جمراً فليستقل أو ليستكثر )).
وفي حديث ابن الحنظلية قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم : (( من سأل وعنده ما يغنيه فإنما يستكثر من النار )) قال النفيلي: وهو أحد رواة الحديث قالوا: وما الغنى الذي لا تنبغي معه المسألة؟ قال: ((قدر ما يغديه ويعشيه )) أخرجه أبو داود، وابن حبان في صحيحه بلفظ: ((من سأل شيئاً وعنده ما يغنيه فإنما يستكثر من جمر جهنم، قالوا: يا رسول الله وما يغنيه؟ قال: ما يغديه أو يعشيه)) كذا عنده بالألف.
وفي رواية ابن خزيمة قال: ((أن يكون له شبع يوم وليلة أو ليلة ويوم )).
وأخرج ابن حبان في صحيحه عن عمر قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم : ((من سأل الناس ليثري ماله فإنما هي رضف من النار ملهبة فمن شاء فليقل ومن شاء فليكثر)) وفي حديث رواه أبو سعيد الخدري: ((أما والله إن أحدكم لتخرج مسألته من عندي يتأبطها يعني تكون تحت إبطه ناراً، قال عمر: يا رسول الله لم تعطها إياهم؟ قال: فما أصنع يأبون إلا ذلك ويأبى الله لي البخل)) أخرجه أحمد ورجاله رجال الصحيح.
وعن جابر بن عبد الله، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم : ((إن الرجل يأتيني فيسألني فأعطيه فينطلق وما يحمل في حضنه إلا النار)).
وعن أبي سعيد الخدري بينما رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يقسم ذهباً إذ أتاه رجل فقال: يا رسول الله أعطني فأعطاه، ثم قال زدني فزاده ثلاث مرات ثم ولى مدبراً، فقال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم : (( يأتيني الرجل فيسألني فأعطيه ثلاث مرات ثم ولَّى مدبراً وقد جعل في ثوبه ناراً إذا انقلب إلى أهله)). أخرجهما ابن حبان في صحيحه.
الوعيد على السؤال بوجه الله وعلى منع من سأل بذلك
أخرج الطبراني عن أبي عبيدة مولى رفاعة عن رافع أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قال: ((ملعون من سأل بوجه الله وملعون من سئل بوجه الله فمنع سائله)).
وأخرج الطبراني بسند رجاله رجال الصحيح إلا شيخه يحيى بن عثمان بن صالح وهو ثقة، وفي كلام أبي موسى الأشعري أنه سمع رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يقول: ((ملعون من سأل بوجه الله وملعون من سئل بوجه الله ثم منع سائله ما لم يسأل هجراً)). قوله: هجراً بضم الهاء وسكون الجيم أي مالم يسأل أمراً قبيحاً لا يليق، ويحتمل أنه أراد ما لم يسأل سؤالاً قبيحاً بكلام قبيح.
الوعيد لمن تعمد إفطار يوم من شهر رمضان
أخرج ابن خزيمة وابن حبان في صحيحيهما عن أبي أمامة الباهلي قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يقول: ((بينا أنا نائم أتاني رجلان فأخذا بضبعي فأتيا بي جبلاً وعراً، فقالا: اصعد، فقلت: إني لا أطيقه، فقالا: إنا نسهله لك فصعدت حتى إذا كنت في سواء الجبل إذا بأصوات شديدة قلت: ما هذه الأصوات؟ قالوا: هذه عواء أهل النار ثم انطلقا بي فإذا أنا بقوم معلقين بعراقيبهم، مشققة أشداقهم تسيل أشداقهم دماً، قلت: من هؤلاء؟ قالا: الذين يفطرون قبل تحلة صومهم...)) الحديث.
الوعيد على الإلحاد في الحرم
قال الله تعالى: {وَمَنْ يُرِدْ فِيهِ بِإِلْحَادٍ بِظُلْمٍ نُذِقْهُ مِنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ}[الحج:25] الإلحاد: العدول عن القصد، واختلف المفسرون فيه فقيل: إنه الشرك، وهو أحد الروايات عن ابن عباس، والذي عليه غير واحد أنه غير الشرك، فروي عن ابن عباس أنه قال: هو أن تقتل فيه من لا يقتلك، أوتظلم من لا يظلمك، وفي رواية عنه: هو أن تستحل من الحرام ما حرم الله عليك من لسان أوقتل، فتظلم من لا يظلمك، وتقتل من لا يقتلك فإذا فعلت ذلك فقد وجب العذاب الأليم.
وعن مجاهد يظلم يعمل فيه عملاً سيئاً، وعنه الإلحاد فيه: لا والله وبلى والله، وقال سعيد بن جبير، وجندب بن ثابت وغير واحد: هو احتكار الطعام بمكة، وعن ابن عمر احتكار الطعام بمكة إلحاد، وعن ابن عباس شتم الخادم ظلم فما فوقه، وعن سعيد بن جبير أن الظلم في الآية تجارة الأمير فيه، وعن عطاء هو قول الرجل في المبايعة لا والله وبلى والله، وعن ابن عمر أنه كان له فسطاطان أحدهما في الحل والآخر في الحرم، فإذا أراد أن يعاتب أهله عاتبهم في الحل، فقيل له في ذلك، فقال: كنا نحدث أن من الإلحاد أن يقول الرجل لأهله كلا والله وبلى والله.
قال ابن حجر الهيثمي في (الزواجر): ومعلوم أن أصل الظلم يشمل سائر المعاصي الكبائر والصغائر؛ إذ لا معصية وإن صغرت إلا وهي ظلم؛ إذ هو وضع الشيء في غير محله، ويدل له قوله تعالى: {إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ }[لقمان:13] فخرج بعظيم غير الشرك فهو ظلم لكنه ليس بعظيم كالشرك وإن كان عظيماً في نفسه.
قلت: ويدل على عظم غير الشرك قوله تعالى: {وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِباً }[الأنعام:21] ونحوه، ثم قال: ودليل على أن الإرادة كافية في ذلك خصوصية في الحرم للحرم ما صح عن ابن مسعود مرفوعاً وموقوفاً، قال في الزواجر: لكن وقفه أشبه في قوله تعالى: {وَمَنْ يُرِدْ فِيهِ بِإِلْحَادٍ بِظُلْمٍ }[الحج:25] قالوا: لو أن رجلاً أراد فيه بإلحاد بظلم وهو بعدن أبين لأذاقه الله من العذاب الأليم، وروى الثوري عنه: ما من رجل يهم بسيئة كتبت عليه ولو أن رجلاً بعدن أبين هم أن يقتل رجلاً بهذا البيت لأذاقه الله عز وجل من عذاب أليم، وكذا قال الضحاك بن مزاحم.
وأخرج أبو داود، وابن أبي حاتم عن يعلى بن أمية، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم : ((احتكار الطعام بمكة إلحاد )).
وأخرج أحمد أن ابن عمر قال لابن الزبير: إياك والإلحاد في حرم الله فإني سمعت رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يقول:أنه سيلحد فيه رجل من قريش لو توزن ذنوبه بذنوب الثقلين لرجحت فلتنظر لا تكنه.
وأخرج نحوه عن عبد الله بن عمرو بن العاص، وهذه الروايات راجحة على ما روي عن ابن عباس، ومجاهد، وقتادة وغيرهم من أن الإلحاد في الحرم الشرك، وما أخرجه ابن أبي حاتم عن ابن عباس، قال ابن حجر الهيثمي بسند فيه ابن لهيعة أنها نزلت في عبد الله بن أنيس بعث معه النبي صلى الله عليه وآله وسلم مهاجرياً وأنصارياً فافتخروا في الأنساب فغضب ابن أنيس فقتل الأنصاري، ثم ارتد وهرب إلى مكة، وإنما قلنا برجحانها لكثرتها وتعاضد طرقها على أن السبب وإن كان ارتداد ابن أنيس فالعام لا يقصر على سببه، وقد يقال مجموع هذه الأخبار والآثار وإن دلت على أن هذه الأشياء من الإلحاد، فهو أعم منها فيشمل الشرك فما دونه حتى الصغائر فإنها تصير كبائر بمكة، وإنما المذكور منبه على غيره، ويدل على العموم إطلاق الظلم في الآية، وما مر عن ابن عباس وغيره مما يفيد أن الظلم يشمل كل معصية، ولهذا فسره بعضهم بشتم الخادم فما فوقه.
الوعيد على الحدث في المدينة المنورة وإخافة أهلها
في مسند أحمد: ثنا عبد الله، ثني أبي، ثنا عبد الرحمن، عن سفيان، عن الأعمش، عن إبراهيم التيمي، عن أبيه، عن علي عليه السَّلام قال: ما عندنا شيء إلا كتاب الله تعالى وهذه الصحيفة عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم : ((المدينة ما بين عاير إلى ثور من أحدث فيها حدثاً أو آوى محدثاً فعليه لعنة الله والملائكة والناس أجمعين لا يقبل منه عدل ولا صرف، وقال: ذمة المسلمين واحدة فمن أخفر مسلماً فعليه لعنة الله والملائكة والناس أجمعين لا يقبل الله منه صرفاً ولا عدلاً، ومن تولى قوماً بغير إذن مواليه فعليه لعنة الله والملائكة والناس أجمعين لا يقبل الله له صرفاً ولا عدلاً)). وله عنده طريقان أخريان: إحداهما عن أبي معاوية والأخرى عن محمد بن جعفر عن شعبة كلاهما عن الأعمش، وفي صحيح مسلم من حديث سعد بن أبي وقاص مرفوعاً: ((ولا يريد أحد أهل المدينة بسوء إلا أذابه الله في النار ذوب الرصاص أو ذوب الملح في الماء)).
وعن عبادة بن الصامت عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أنه قال: ((اللهم من ظلم أهل المدينة وأخافهم فأخفه وعليه لعنة الله والملائكة والناس أجمعين ولا يقبل الله منه صرفاً ولا عدلاً)) أخرجه الطبراني في الكبير والأوسط بإسناد جيد.
وأخرج النسائي والطبراني عن السائب بن خلاد نحوه، وفي رواية الطبراني قال: ((من أخاف أهل المدينة أخافه الله يوم القيامة وغضب عليه ولم يقبل منه صرفاً ولا عدلاً)).
وأخرج الطبراني في الكبير عن عبد الله بن عمرو أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قال: ((من آذى أهل المدينة آذاه الله وعليه لعنة الله والملائكة والناس أجمعين لا يقبل منه صرف ولا عدل)) الصرف: الفريضة، والعدل: التطوع، وقيل العكس، وقيل: الصرف: التوبة، والعدل: الفدية وغير ذلك.
الوعيد على ترك النكاح
حكى ابن حجر الهيثمي في الزواجر عن بعضهم في باب عقده لمن لعن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ما لفظه: ((ولعن الله المتبتلين من الرجال الذين يقولون لا نتزوج، والمتبتلات من النساء اللاتي يقلن ذلك)).
الوعيد على نكاح التحليل
عن علي عليه السَّلام : ((لعن المحلل والمحلل له )) رواه في العلوم. وفي المجموع عن علي عليه السَّلام قال: لعن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم المحلل والمحلل له.
وأخرج أحمد والنسائي وغيرهما قال في الزوائد بسند صحيح عن ابن مسعود أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم لعن المحلل والمحلل له، وذكره في الجامع الصغير منسوباً إلى أحمد، والترمذي، والنسائي، وأبي داود عن علي عليه السَّلام ، وإلى الترمذي والنسائي عن ابن مسعود، وإلى الترمذي عن جابر، قال الترمذي: حديث حسن صحيح وهو في الشفاء، وعزاه في الزواجر إلى ابن ماجة وقال بإسناد صحيح. وهو في أمالي أبي طالب من حديث ابن مسعود.
الوعيد على نكاح من يحرم نكاحه
في المجموع عن زيد بن علي عليه السَّلام ، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم : ((من نظر إلى فرج امرأة وابنتها لم يجد ريح الجنة )) هكذا رواه مرسلاً.
الوعيد على عدم القيام بحقوق الزوجية بين الزوجين
في تتمة الشفاء عن ابن عمر قال: أتت امرأة إلى النبي صلى الله عليه وآله وسلم فقالت: يا رسول الله ما حق الرجل على زوجته؟ قال: ((حقه عليها أن لا تخرج من بيته إلا بإذنه فإن فعلت لعنها الله وملائكة الرحمة وملائكة الغضب حتى تتوب وترجع، قالت: يا رسول الله وإن كان لها ظالماً؟ قال: وإن كان لها ظالماً)).
وأخرج الطبراني من حديث ابن عباس أن امرأة من خثعم أتت رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فقالت: يا رسول الله أخبرني ما حق الزوج على الزوجة فذكر الحديث وفيه: ((ولا تخرج من بيتها إلا بإذنه فإن فعلت لعنتها ملائكة السماء وملائكة الرحمة وملائكة العذاب حتى ترجع)).
وعن حصين بن محصن أن عمة له أتت النبي صلى الله عليه وآله وسلم فقال لها: ((أذات زوج ؟ قالت: نعم، قال: فأين أنت منه؟ قالت: ما آلوه إلا ما عجزت عنه، قال: فيكف أنت له فإنه جنتك ونارك)) أخرجه أحمد والنسائي، قال المنذري بإسنادين جيدين، والحاكم وصححه.
وعن أبي هريرة، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم : ((إذا دعا الرجل امرأته إلى فراشه فلم تأته فبات غضبان عليها لعنتها الملائكة حتى تصبح)). أخرجه البخاري، ومسلم، وأبو داود، والنسائي، وفي رواية الشيخين والنسائي: ((إذا باتت المرأة هاجرة فراش زوحها لعنتها الملائكة حتى تصبح )).
وعن ابن عمر قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يقول: ((إن المرأة إذا خرجت من بيتها وزوجها كاره لعنها كل ملك في السماء وكل شيء مرت عليه غير الجن والإنس)) أخرجه الطبراني في الأوسط ورجاله ثقات إلا الأسود بن عبد العزيز.
قلت:....بياض.
الوعيد على إتيان النساء في أدبارهن
في أصول الأحكام والشفاء عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم أنه قال: ((ملعون من أتى امرأة في دبرها )).
وأخرج الطبراني: ((لعن الله الذين يأتون النساء في محاشهن )) والمحاش بميم مفتوحة ثم معجمة مشددة جمع محشة بفتح أوله وكسره وهي الدبر.
الوعيد على سؤال المرأة الطلاق من غير بأس
عن ثوبان عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال: ((أيما امرأة سألت زوجها طلاقها من غير بأس فحرام عليها رائحة الجنة)) أخرجه أبوداود، والترمذي وحسنه، وابن ماجة، وابن حبان في صحيحه، والبيهقي في حديث قال: ((وإن المختلعات هن المنافقات ، وما من امرأة تسأل زوجها الطلاق من غير بأس فتجد ريح الجنة أو قال رائحة الجنة)).
الوعيد على كسب الحرام وجمعه
قال في العلوم: نا إبراهيم بن محمد، عن مصعب، عن سعيد، عن أبي جعفر، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم : ((يا معشر التجار أما إني لأسميكم السماسرة ولكن أسميكم التجار والتاجر فاجر والفاجر في النار إلا من أخذ الحق وأعطاه)).
وفي حديث رواه ابن مسعود مرفوعاً: ((ولا يكسب عبد مالاً حراماً فيتصدق به فيقبل منه ولا ينفق منه فيبارك له فيه ولا يتركه خلف ظهره إلا كان زاده إلى النار)) أخرجه أحمد وغيره من طريق أبان بن إسحاق عن الصباح بن محمد.
وعن ابن عباس قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم : ((لا تغبطن جامع المال من غير حله أو قال من غير حقه فإنه إن تصدق به لم يقبل منه وما بقي كان زاده إلى النار)) أخرجه الحاكم وصححه، واعترض بأن في إسناده حنش اسمه حسين بن قيس وهو متروك، وأخرجه البيهقي من طريقه بلفظ: ((لا يعجبنك رحب الذراعين بالدم ولا جامع المال من غير حله فإنه إن تصدق به لم يقبل منه وما بقي كان زاده إلى النار)) وأخرجه البيهقي أيضاً من حديث ابن مسعود بنحوه.
وعن ابن عمر، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم : ((الدنيا خضرة حلوة من اكتسب فيها من حله وأنفقه في حقه أثابه الله عليه وأورده جنته، ومن اكتسب فيها مالاً من غير حله وأنفقه في غير حقه أحله الله دار الهوان، ورب متخوض في مال الله ورسوله له النار يوم القيامة يقول الله كلما خبت زدناهم سعيرا)) . وأخرجه البيهقي.
الوعيد على اتجار الإمام في رعيته
في المجموع حدثني زيد بن علي، عن أبيه، عن جده، عن علي عليه السَّلام قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم : ((إني لعنت ثلاثة فلعنهم الله : الإمام يتجر في رعيته، وناكح البهيمة، والذكر ينكح أحدهما الآخر)) . رواه في العلوم.
الوعيد على الربا
في المجموع حدثني زيد بن علي، عن أبيه، عن جده، عن علي عليه السَّلام قال: لعن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم آكل الربا، وموكله، وبائعه، ومشتريه، وكاتبه، وشاهديه.
وفي بعض النسخ: وشاهده بالإفراد وهو في العلوم.
وأخرج مسلم، والنسائي عن ابن مسعود قال: لعن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم : ((آكل الربا وموكله )) وأخرجه أبو داود، والترمذي وصححه، وابن ماجة، وابن حبان كلهم من رواية عبد الرحمن بن عبد الله بن مسعود. قال المنذري: ولم يسمع منه وزادوا فيه: وشاهديه وكاتبه.
وعن جابر قال: لعن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ((آكل الربا وموكله وكاتبه وشاهديه وقال هم سواء)) وأخرجه مسلم وغيره.
وفي مسند أحمد: ثنا عبد الله، ثني أبي، ثنا يحيى، عن مجالد، ثني عامر، عن الحرث، عن علي عليه السَّلام قال: لعن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم عشرة: آكل الربا، وموكله، وكاتبه، وشاهديه، والحال، والمحلل له، ومانع الصدقة والواشمة، والمستوشمة. وهو في الشفاء.
وأخرج البخاري، وأبو داود عن عون بن أبي جحيفة عن أبيه قال: لعن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ((الواشمة والمستوشمة ، وآكل الربا وموكله، ونهى عن ثمن الكلب، ومهر البغي، ولعنَ المصورين)).
وعن ابن مسعود قال: آكل الربا وموكله وشاهداه وكاتباه إذا علموا به، والواشمة والمستوشمة للحسن، ولاوي الصدقة، والمرتد أعرابياً بعد الهجرة ملعونون على لسان محمد صلى الله عليه وآله وسلم . أخرجه أحمد، وأبو يعلى، وابن حبان في الصحيح عن الحارث عن ابن مسعود، وأخرجه ابن خزيمة في صحيحه عن مسروق، عن ابن مسعود.
وأخرج الحاكم وصححه عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال: ((أربعة حق على الله أن لا يدخلهم الجنة ولا يذيقهم نعيمها : مدمن الخمر، وآكل الربا، وآكل مال اليتيم بغيرحق، والعاق لوالديه)) قيل: وفي إسناده إبراهيم بن خثيم بن عراك وهو واه.
وفي العلوم نا محمد، نا محمد بن جميل، عن إسماعيل بن صبيح، عن عكرمة، عن تميم قال: أنا مع علي بن أبي طالب يوماً حتى قام على الصرافين فقال: اتقوا الله يا معشر أصحاب الفضة والذهب والميزان، اعلموا أنكم على شفا حفرة من الربا إلا من عصم الله، ثم قام على رابية فنادى بصوت عال: يا جماعة أهل السوق ألا إن التاجر فاجر ثلاثاً إلا من أخذ الحق وأعطاه، بئس الربح ربح أدخل صاحبه النار.
وأخرج الطبراني بإسناد لا بأس به أن عبد الله بن أوفى قال في السوق: يا معشر الصيارفة أبشروا قالوا: بشرك الله بالجنة بم تبشرنا يا أبا محمد؟ قال: قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم : ((أبشروا بالنار )).
وعن ابن عباس، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم : ((من أعان ظالماً بباطل ليدحض به حقاً فقد برئ من ذمة الله وذمة رسوله صلى الله عليه وآله وسلم ، ومن أكل درهماً من ربا فهو مثل ثلاث وثلاثين زنية، ومن نبت لحمه من سحت فالنار أولى به)) أخرجه الطبراني في الصغير والأوسط.
وعن أبي هريرة، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم : ((رأيت ليلة أسري بي لما انتهيت إلى السماء السابعة فنظرت فوقي فإذا أنا برعد وبرق وصواعق قال فأتيت على قوم بطونهم كالبيوت فيها الحيات ترى من خارج بطونهم فقلت: يا جبريل من هؤلاء قال: هؤلاء أكلة الربا)) . أخرجه أحمد وابن ماجة والأصبهاني.
وعن أبي سعيد الخدري أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ((لما عرج به إلى السماء نظر في سماء الدنيا فإذا رجال بطونهم كأمثال البيوت العظام قد مالت بطونهم وهم منضدون على سائلة آل فرعون يوقفون على النار كل غداة وعشي يقولون ربنا لا تقم الساعة أبداً قلت: يا جبريل من هؤلاء؟ قال: هؤلاء أكلة الربا من أمتك لا يقومون إلا كما يقوم الذي يتخبطه الشيطان من المس)) أخرجه الأصبهاني. قوله: منضدون أي طرح بعضهم على بعض، والسائلة: الطريق أي يطأهم آل فرعون.
الوعيد على اليمين الكاذبة لتنفيق السلعة
في المجموع حدثني زيد بن علي، عن أبيه، عن جده، عن علي عليه السَّلام ، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم : ((ثلاثة لا يكلمهم الله تعالى ولا ينظر إليهم يوم القيامة،ولا يزكيهم ولهم عذاب أليم: رجل بايع إماماً إن أعطاه شيئاً من الدنيا وفى له وإن لم يعطه لم يف له، ورجل له ماء على ظهر الطريق يمنعه سابلة الطريق، ورجل حلف بعد العصر لقد أعطي في سلعته كذا وكذا فأخذها الآخر مصدقاً للذي قال وهو كاذب)) وأخرجه البخاري، ومسلم، وأحمد، والنسائي، وأبو داود، والترمذي، وابن ماجة، وابن جرير، والبيهقي في الشعب كلهم من حديث أبي هريرة.
وأخرج مسلم، وأبو داود، والترمذي، والنسائي، وابن ماجة عن أبي ذر عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم : ((ثلاثة لا ينظر الله إليهم يوم القيامة ولا يزكيهم ولهم عذاب أليم قال فقرأها رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ثلاث مرات فقلت خابوا وخسرو من هم يا رسول الله؟ قال: المسبل والمنان والمنفق سلعته بالحلف الكاذبة)).
وعن سلمان، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم : ((ثلاثة لا ينظر الله إليهم يوم القيامة أشيمط زان، وعائل مستكبر، ورجل جعل الله بضاعته لا يشتري إلا بيمينه ولا يبيع إلا بيمينه)) أخرجه الطبراني في الكبير وفي الأوسط والصغير إلا أنه قال فيهما: ((ثلاثة لا يكلمهم الله ولا يزكيهم ولهم عذاب أليم ...)) فذكره، قال المنذري: ورواته محتج بهم في الصحيح، قوله: أشيمط مصغر أشمط وهو من ابيض بعض شعر رأسه كبر واختلط بأسوده، والعائل الفقير.
الوعيد لمن أدان ديناً ليس في نفسه وفاؤه
عن صهيب الخير قال سمعت رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يقول: ((أيما رجل تزوج امرأة ينوي أن لا يعطيها من صداقها شيئاً مات يوم يموت وهو زان، وأيما رجل اشترى من رجل بيعاً ينوي أن لا يعطيه من ثمنه شيئاً مات يوم يموت وهو خائن والخائن في النار)) أخرجه الطبراني في الكبير، وفي إسناده عمر بن دينار مولى آل الزبير ضعفوه، وقيل: متروك، واحتج به الترمذي وابن ماجة، وروى له المرشد بالله، وفي حديث شفي بن ماتع الأصبحي: ((أربعة يؤذون أهل النار على ما بهم من الأذى ...)) الخبر تقدم في الوعيد على عدم التنزه من البول، وفيه قال: ((فرجل مغلق عليه تابوت من جمر ورجل يجر أمعاءه، ورجل يسيل فوه قيحاً ودماً، ورجل يأكل لحمه فيقال لصاحب التابوت: ما بال الأبعد قد آذانا على ما بنا من الأذى فيقول إن الأبعد مات وفي عنقه أموال الناس لا يجد لها قضاء أو وفاء)).
الوعيد على الغش والخيانة في البيع
في العلوم: نا محمد، نا حسين بن نصر، عن خالد بن عيسى، ثني حصين بن أبي عبد الرحمن، عن سعيد بن طريف عن الأصبغ بن نباتة قال: قام علي بن أبي طالب عليه السَّلام في سوق الكوفة على رابية فنادى ثلاثاً يا معشر الناس أوصيكم بتقوى الله فإنها وصية الله في الأولين والآخرين وإن أوفوا الكيل ولا تكونوا من المخسرين وزنوا بالقسطاس المستقيم ولا تبخسوا الناس أشياءهم ولا تعثوا في الأرض مفسدين، ولا تغشوا هذه الفضة الجيدة بالزيبق ولا بالكحل فتكونوا غداً من المعذبين.
وعن ابن مسعود، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم : ((من غشنا فليس منا والمكر والخداع في النار)) أخرجه الطبراني في الكبير والصغير بسند جيد، وابن حبان في صحيحه، وأخرجه أبو داود في المراسيل عن الحسن مرسلاً مختصراً قال: ((المكر والخديعة والخيانة في النار )).
وأخرج ابن ماجة عن واثلة بن الأسقع قال سمعت رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يقول: ((من باع عيباً لم يبينه لم يزل في مقت الله ولم تزل الملائكة تلعنه)).
الوعيد على احتكار الطعام
في المجموع ثني زيد بن علي، عن أبيه، عن جده، عن علي عليه السَّلام قال: جالب الطعام مرزوق، والمحتكر عاص ملعون. ورواه في الشفاء.
وفي الشفاء عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم أنه قال: ((الجالب مرزوق والمحتكر ملعون ، ومن احتكر على المسلمين طعاماً ضربه الله بالجذام والإفلاس)).
وأخرج ابن ماجة والحاكم عن عمر، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم : ((الجالب مرزوق والمحتكر ملعون )). وفي إسناده علي بن سالم وهو مجهول.
قلت: له شواهد.
وفي الشفاء عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم : ((يحشر الحكارون وقتلة النفس في درجة واحدة ، ومن دخل في شيء من سعر المسلمين يغليه عليهم كان حقاً على الله أن يعذبه في معظم النار يوم القيامة)) وأخرجه رزين عن أبي هريرة، ومعقل بن يسار، وأخرجه أيضاً من حديث معقل أحمد، والطبراني، والحاكم بألفاظ متقاربة.
الوعيد على بيع الخمر والتفريق بين المحارم في الملك
في أمالي أبي طالب: أخبرنا أبو محمد القاضي، ثنا علي بن الحسن، ثنا أبو داود، ثنا عثمان بن أبي شيبة، ثنا وكيع، عن عبدالعزيز بن عمر، عن أبي طعمة، وعبدالرحمن أنهما سمعا ابن عمر يقول: قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم : ((لعن الله الخمر وشاربها، وساقيها، وبائعها، ومبتاعها، وعاصرها، ومعتصرها، وحاملها، والمحمولة إليه)).
وأخرج الدارقطني وابن ماجه عن أبي موسى قال: لعن رسول الله صلى الله عليه آله وسلم من فرق بين الوالدة وولدها، والأخ وأخيه.
الوعيد على من بخس الكيل والوزن وما في معناهما كالزرع
قال تعالى:{ وَيْلٌ لِلْمُطَفّفِينَ ، الَّذِينَ إِذَا اكْتَالُوا عَلَى النَّاسِ يَسْتَوْفُونَ، وَإِذَا كَالُوهُمْ أَوْ وَزَنُوهُمْ يُخْسِرُونَ}[المطففين:1-3] الآية.
وعن ابن مسعود قال: القتل في سبيل الله يكفر الذنوب كلها إلا الأمانة، قال: يؤتى بالعبد يوم القيامة وإن قتل في سبيل الله، فيقال: أد أمانتك، فيقول: أي رب كيف وقد ذهبت الدنيا، قال: فيقال: انطلقوا به إلى الهاوية فينطلق به إلى الهاوية فتمثل له أمانته كهيئتها يوم دفعت إليه، فيراها فيعرفها فيهوي في أثرها حتى يدركها فيحملها على منكبيه، حتى إذا نظر ظن أنه خارج زلت عن منكبيه، فهو يهوي في أثرها أبد الآبدين، ثم قال: الصلاة أمانة، والوضوء أمانة، والكيل أمانة وأشياء عددها، وأشد ذلك الودائع، قال -يعني زاذان- فأتيت البراء بن عازب فقلت: ألا ترى إلى ما قال ابن مسعود قال كذا قال كذا، قال: صدق أما سمعت الله يقول: {إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تُؤَدُّوا الأَمَانَاتِ إِلَى أَهْلِهَا }[النساء:58] أخرجه البيهقي موقوفاً، ورواه هو وغيره بمعناه مرفوعاً.
قيل: والموقوف أشبه.
قلت: وله حكم الرفع.
الوعيد على أخذ الأجرة على تعليم القرآن والعلم
ما يتعلق بهذا الموضع قد تقدم في قوله تعالى: {وَلاَ تَشْتَرُوا بِآيَاتِي ثَمَناً قَلِيلاً }[البقرة:41].
الوعيد على أخذ الأجرة على المحظور
في أمالي أبي طالب: أخبرنا الديباجي، أنا ابن ماتي، ثنا محمد، ثنا عباد، ثنا موسى بن عمير، عن الصادق، عن أبيه، عن جده، عن علي " قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم : ((بعثت بكسر المعزاف والمزمار ، وأقسم ربي لا يشرب عبد في الدنيا خمراً إلا سقاه الله يوم القيامة حميماً)) ثم قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم : ((كسب المغنية سحت ، وكسب الزانية سحت، وحق على الله أن لا يدخل الجنة لحماً نبت من سحت)) وهو في العلوم.
وفي العلوم نا محمد، نا علي بن حكيم عن حميد، نا فضيل بن غزوان، عن أبي الفراتي، عن أبي مالك الأحمري قال: دخلت على حذيفة وهو يخطب وهو يقول: أيها الناس تعاهدوا أرقاكم، وانظروا من أين يأتوكم نظرائهم فإنه لا ينبت لحم من سحت فيدخل الجنة... الخبر.
الوعيد على ظلم الناس وأكل أموالهم بالباطل
قال الله تعالى: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لاَ تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبَاطِلِ إِلاَّ أَنْ تَكُونَ تِجَارَةً عَنْ تَرَاضٍ مِنْكُمْ وَلاَ تَقْتُلُوا أَنفُسَكُمْ إِنَّ اللَّهَ كَانَ بِكُمْ رَحِيماً، وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ عُدْوَاناً وَظُلْماً فَسَوْفَ نُصْلِيهِ نَاراً وَكَانَ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيراً}[النساء:29،30].
وفي العلوم: نا محمد، نا أبو هشام، عن يحيى بن يمان، عن أبي الأحوص، عن طارق بن عبد الرحمن، عن عبد الرحمن بن سابط، قال: لعن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم : ((من سرق المنار . قلت: وما المنار؟ قال: الرجل يأخذ من أرض صاحبه في أرضه)).
وأخرج أحمد، ومسلم، والنسائي عن علي عليه السَّلام ، قال: لعن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم : ((من ذبح لغير الله ، لعن الله من لعن والديه، لعن الله من آوى محدثاً، لعن الله من غير منار الأرض)). وفي حديث أخرجه الطبراني وغيره عن أبي هريرة مرفوعاً: ((ملعون من غير حدود الأرض )).
وفي حديث آخر أخرجه ابن حبان والبيهقي: ((لعن الله من غير تخوم الأرض )).
وأخرج الطبراني عن عبد الله، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم : ((من غصب رجلاً أرضاً ظلماً لقي الله وهو عليه غضبان )).
وعن أبي هريرة أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قال: ((أتدرون من المفلس ؟ قالوا: المفلس فينا من لا درهم له ولا متاع، فقال: إن المفلس من أمتي من يأتي يوم القيامة بصلاة،وصيام وزكاة، ويأتي وقد شتم هذا وقذف هذا، وأكل مال هذا، وسفك دم هذا، وضرب هذا، فيعطى هذا من حسناته، وهذا من حسناته فإن فنيت حسناته قبل أن يقضى ما عليه أخذ من خطاياهم فطرحت ثم طرح في النار)) أخرجه مسلم، والترمذي.
وأخرج الطبراني في الأوسط والصغير عن علي عليه السَّلام مرفوعاً: ((يقول الله اشتد غضبي على من ظلم من لا يجد ناصراً غيري )).
الوعيد على إباق العبد من سيده وعلى المثلة بالعبيد
عن جابر، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم : ((أيما عبد مات في إباقه دخل النار وإن قتل في سبيل الله))أخرجه الطبراني في الأوسط.
وفي أمالي أبي طالب أخبرنا أبو محمد القاضي، أنا علي بن الحسن، ثنا أبو داود، ثنا ابن المثنى، ثنا أبو معاوية، عن الأعمش، عن إبراهيم التيمي، عن أبيه، عن أبي مسعود الأنصاري: كنت أضرب غلاماً لي فسمعت صوتاً من خلفي: اعلم أبا مسعود اعلم أبا مسعود -قال ابن المثنى مرتين- أن الله تعالى أقدر عليك منك عليه، فالتفت فإذا هو النبي صلى الله عليه وآله وسلم فقلت: يا رسول الله هو حر لوجه الله فقال: ((أما لو لم تفعل للفحتك النار أو لمستك )) وأخرجه مسلم وغيره، وفي حديث أبي بكر يرفعه: ((لا يدخل الجنة سيء الملكة )) أخرجه أحمد، وابن ماجة والترمذي وقالا: حسن غريب.
قال أهل اللغة: سيئ الملكة: هو الذي يسيء الصنيعة إلى مماليكه.
الوعيد على اليمين الفاجرة
في أمالي أبي طالب عن أبي أمامة قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم : ((لا يقطع رجل حق امرئ مسلم بيمينه إلا حرم الله عليه الجنة وأوجب له النار، فقال رجل من القوم: يا رسول الله وإن كان شيئاً يسيراً؟ قال: وإن كان سواكاً من أراك)) وأخرجه مسلم، والنسائي، وابن ماجة بلفظ: ((وإن كان قضيباً من أراك)) وأخرجه مالك وكرر: ((وإن قضيباً من أراك ثلاثاً)) ورواه الهادي عليه السَّلام في الأحكام.
وعن جابر بن عتيك أنه سمع رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يقول: ((من اقتطع مال امرئ مسلم بيمينه حرم الله عليه الجنة وأوجب له النار، قيل لرسول الله صلى الله عليه وآله وسلم : وإن شيئاً يسيراً؟ قال: وإن كان سواكاً)) أخرجه الطبراني في الكبير والحاكم وصححه.
وعن ابن مسعود أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال: ((من حلف على مال امرئ مسلم بغير حقه لقي الله وهو عليه غضبان)) قال عبد الله: ثم قرأ علينا رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم مصداقه من كتاب الله عز وجل: {إِنَّ الَّذِينَ يَشْتَرُونَ بِعَهْدِ اللَّهِ وَأَيْمَانِهِمْ ثَمَناً قَلِيلاً ...}[آل عمران:77] إلى آخر الآية، أخرجه البخاري، ومسلم، وأبو داود، والترمذي، وابن ماجة.
وعن أبي موسى قال: اختصم رجلان إلى النبي صلى الله عليه وآله وسلم في أرض أحدهما من حضرموت قال فجعل يمين أحدهما فضج الآخر وقال: إذاً يذهب بأرضي، فقال: ((إن هو اقتطعها بيمينه ظلماً كان ممن لا ينظر الله إليه ولا يزكيه وله عذاب أليم، قال وورع الآخر فردها)) أخرجه أحمد بإسناد حسن، وأبو يعلى، والطبراني في الكبير، ولأحمد نحوه من حديث عدي بن ميرة، قوله: ورع بكسر الراء أي تحرج من الإثم.
وعن الحرث بن البرصاء، قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم في الحج بين الجمرتين وهو يقول: ((من اقتطع مال أخيه بيمين فاجرة فليتبوأ مقعده من النار)) أخرجه الحاكم وصححه الطبراني وابن حبان وقالا: ((فليتبوأ بيتاً في النار )).
وأخرج أبو داود والحاكم وصححه عن عمران بن حصين عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم : ((من حلف على يمين مصبورة كاذبة فليتبوأ مقعده من النار )) قوله: مصبورة هي اللازمة لصاحبها من جهة الحكم فيصبر من أجلها إلى أن يحبس وهو يمين الصبر، والصبر الحبس.
وعن أبي هريرة قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم : ((لا يحلف عند هذا المنبر عبد ولا أمة على يمين آثمة ولو على سواك رطب إلا وجبت له النار)) أخرجه ابن ماجة، وصححه المنذري.
وعن جابر بن عبد الله، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم :((من حلف على يمين آثمة عند منبري هذا فليتبوأ مقعده من النار ولو على سواك أخضر)). أخرجه ابن ماجة، وابن حبان ولم يذكر السواك.
الوعيد على شرب الخمر والإعانة على تحصيلها
في أمالي أبي طالب عن علي عليه السَّلام يرفعه: ((بعثت بكسر المعزاف والمزمار وأقسم ربي لا يشرب عبد في الدنيا خمراً إلا سقاه الله يوم القيامة حميماً)) الخبر تقدم، وفيه: عن أبي أمامة قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم : ((إن الله بعثني رحمة للعالمين وبأن أمحق المعازف والمزامير وأمور الجاهلية كلها، ونهاني عن شرب الخمر فإنه ما شرب الخمر أحد في الدينا إلا سقي مثل ما شرب منها من الحميم يوم القيامة، ولا تركها عبد في الدنيا إلا سقي إياها في حضيرة القدس،ولا يسقيها عبد صبياً لا يعقل إلا سقي مثل ما سقاه منها من الحميم يوم القيامة)).
وأخرج أبو داود عن ابن عمر، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم :((لعن الله الخمر وشاربها ، وساقيها، ومبتاعها وبائعها، وعاصرها، ومعتصرها، وحاملها، والمحمولة إليه)) وأخرجه ابن ماجة وزاد: ((وآكل ثمنها)) وهي في أمالي أبي طالب وقد مر.
وعن أنس بن مالك قال: لعن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم في الخمر عشرة: عاصرها، ومعتصرها، وشاربها، وحاملها، والمحمولة إليه، وساقيها، وبائعها وآكل ثمنها، والمشتري لها، والمشترى له. أخرجه ابن ماجة، والترمذي ورواته ثقات.
وعن ابن عباس قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يقول: ((أتاني جبريل فقال: يا محمد إن الله لعن الخمر وعاصرها ومعتصرها وشاربها والمحمولة إليه وبائعها ومبتاعها وساقيها ومسقاها)) أخرجه أحمد بإسناد صحيح، وابن حبان، والحاكم وصححه.
وفي أمالي أبي طالب أخبرنا علي بن إسماعيل، انا الناصر للحق، ثنا محمد بن منصور، ثنا أحمد بن عيسى، عن حسين، عن أبي خالد، عن زيد، عن أبيه، عن جده، عن علي عليه السَّلام قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم : ((تحرم الجنة على ثلاثة : المنان، والمغتاب -أي النمام، وعلى مدمن الخمر)).
وأخرج أحمد، وأبو يعلى، وابن حبان، والحاكم وصححه عن أبي موسى أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال: ((ثلاثة لا يدخلون الجنة : مدمن الخمر، وقاطع الرحم، ومصدق بالسحر، ومن مات مدمن خمر سقاه الله جل وعلى نهر الغوطة، قيل: وما نهر الغوطة؟ قال: نهر يجري من فروج المومسات يؤذي أهل النار ريح فروجهم)) رواه في أمالي المرشد بالله. قوله: المومسات هن الزانيات.
وعن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال: ((أربعة حق على الله أن لا يدخلهم الجنة ولا يذيقهم نعيمها مدمن الخمر، وآكل الربا، وآكل مال اليتيم بغير حق، والعاق لوالديه)) أخرجه الحاكم وصححه، واعترض بأن في إسناده إبراهيم بن خثيم بن عراك وهو متروك.
وعن أنس قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم : ((لا يلج حائط القدس مدمن خمر ولا العاق ولا المنان عطا )) أخرجه أحمد والبزار إلا أنه قال لا يلج جنان الفردوس.
وعن ابن عباس قال: قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم : ((لا يدخل الجنة مدمن خمر ولا عاق ولا منان )) أخرجه الطبراني. قال المنذري: رواته ثقات إلا أن عتاب بن بشير لا أراه سمع من مجاهد.
وأخرج أحمد، والنسائي، والبزار، والحاكم وصححه عن عبد الله بن عمر أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قال: ((ثلاثة قد حرم الله تبارك وتعالى عليهم الجنة مدمن الخمر، والعاق، والديوث الذي يقر في أهله الخبث)).
وعن عمار عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قال: ((ثلاثة لا يدخلون الجنة أبداً : الديوث، والرجلة من النساء، ومدمن الخمر. قالوا: يا رسول الله أما مدمن الخمر فقد عرفناه فما الديوث؟ قال: الذي لا يبالي من دخل على أهله، قلنا: فما الرجلة من النساء؟ قال: التي تشبه بالرجال)) أخرجه الطبراني.
وأخرج البزار عن أبي هريرة أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قال: ((من شرب الخمر أسقاه الله من حميم جهنم )).
وأخرج مسلم والنسائي عن جابر يرفعه: ((إن عند الله عهداً لمن يشرب المسكر أن يسقيه من طينة الخبال ، قالوا: يا رسول الله وما طينة الخبال؟ قال: عرق أهل النار أو عصارة أهل النار)).
وعن عبد الله بن عمر قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم : ((من شرب الخمر فسكر لم تقبل له صلاة أربعين صباحاً فإن مات دخل النار وإن تاب تاب الله عليه فإن عاد فشرب فسكر لم تقبل له صلاة أربعين صباحاً فإن مات دخل النار فإن تاب تاب الله عليه فإن عاد فشرب فسكر لم تقبل له صلاة أربعين صباحاً فإن مات دخل النار فإن تاب تاب الله عليه، فإذا عاد الرابعة كان حقاً على الله أن يسقيه من طينة الخبال يوم القيامة، قالوا: يارسول الله وما طينة الخبال؟ قال: عصارة أهل النار))أخرجه ابن حبان في صحيحه.
وأخرج الأصبهاني عن أنس -قيل وفيه بكارة- أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قال: ((من فارق الدنيا وهو سكران دخل القبر وهو سكران ، وبعث من قبره سكران وأمر به إلى النار سكران وفيه عين يجري منها القيح والدم وهو طعامهم وشرابهم ما دامت السموات والأرض)).
الوعيد على الشرب في آنية الذهب والفضة
عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم أنه قال: ((للذي يشرب في آنية الذهب والفضة إنما يجر في بطنه نار جهنم )) رواه في درر الأحاديث النبوية.
وفي أمالي أبي طالب أخبرنا الكرخي، نا أحمد بن خلاد، ثنا الحرث، ثنا علي بن الجعد، ثنا صخر، ثني زيد بن عبد الله، عن عبد الله بن محمد، عن أم سلمة أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قال: ((إن الذي يشرب في إناء فضة فإنما يجرجر في بطنه نار جهنم )) وأخرجه البخاري ومسلم، في رواية لمسلم: ((إن الذي يأكل أو يشرب في آنية الذهب والفضة ...)) إلخ.
وعن ابن عمر أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال: ((من شرب في إناء من ذهب أو فضة أو إناء فيه شيء من ذلك فإنه يجرجر في بطنه نار جهنم)) رواه في الشفاء، وأخرجه الدارقطني والبيهقي وضعف بيحيى بن محمد الجاري.
قال علامة العصر: وثقه العجلي وابن عدي.
الوعيد على أكل الحرام
عن أبي هريرة قال ...... رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم عن أكثر ما يدخل الناس النار فقال: ((الفم والفرج ، وسئل عن أكثر ما يدخل الناس الجنة، قال: تقوى الله وحسن الخلق))أخرجه الترمذي وقال حسن صحيح غريب.
وعن جابر أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال: ((يا كعب بن عجزة إنه لا يدخل الجنة لحم نبت من سحت )) أخرجه ابن حبان في صحيحه.
وأخرج الترمذي وابن حبان عن كعب بن عجرة، قال: قال لي رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم : ((يا كعب بن عجزة إنه لا يدخل الجنة لحم ودم نبتا على سحت النار أولى به )) ولفظ الترمذي: ((إنه لا يربو لحم نبت من سحت إلا كانت النار أولى به)) وفي حديث ابن عباس مرفوعاً: ((وأيما عبد نبت لحمه من سحت فالنار أولى به)) أخرجه الطبراني في الصغير، قوله سحت السحت: الحرام.
وعن أبي بكر أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال: ((لا يدخل الجنة جسد غذي بحرام )) أخرجه البزار، وأبو يعلى، والطبراني في الأوسط والبيهقي، قال المنذري: وبعض أسانيدهم حسان.
الوعيد لمن لبس ثوب شهرة
في أمالي أبي طالب أخبرنا أبو العباس، نا عبد الله بن يوسف، ثنا الفضل بن سعيد، ثنا أبو نصر، ثنا سعد بن سعيد، عن أبي ظبية، عن كرز بن وبرة، عن الربيع بن خثيم أن سلمان، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم : ((من استقى على المأثور ولبس المشهور وركب المنظور وأكل الشهوات لم يرح رائحة الجنة)) وأخرجه الإمام الموفق بالله (ع) في الاعتبار.
وأخرج ابن ماجة بإسناد حسن عن ابن عمر، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم : ((من لبس ثوب شهرة في الدنيا ألبسه الله ثوب مذلة يوم القيامة ثم ألهب فيه ناراً)) رواه في أمالي أبي طالب ولفظه:(( من لبس ثوب شهرة ألبسه الله ثوب مذلة في الآخرة وألبسه ثوباً من نار)).
الوعيد على طول الثوب وجره خيلاء
عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال: ((ما أسفل من الكعبين من الإزار فهو في النار )) أخرجه البخاري، والنسائي، وفي رواية للنسائي: ((أزرة المؤمن إلى عضلة ساقه ثم إلى نصف ساقه ثم إلى كعبه وما تحت الكعبين من الإزار ففي النار)).
وعن أبي سعيد قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم : ((إزرة المؤمن إلى نصف الساق ولا حرج أو قال لا جناح عليه فيما بينه وبين الكعبين، وما كان أسفل من ذلك فهو في النار، ومن جر إزاره بطراً لم ينظر الله إليه يوم القيامة)). أخرجه مالك وأبو داود، والنسائي، وابن ماجة، وابن حبان.
وعن أبي ذر عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال: ((ثلاثة لا يكلمهم الله يوم القيامة ولا ينظر إليهم ولا يزكيهم ولهم عذاب أليم...)) الخبر تقدم، وذكر منهم المسبل وهو الذي يطول ثوبه ويرسله إلى الأرض كأنه يفعل ذلك تجبراً واختيالاً.
وعن هبيب بن مغفل أنه رأى محمداً القرشي قام فجر إزاره، فقال هبيب سمعت رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يقول: ((من وطيه خيلاء وطيه في النار )) أخرجه أحمد بإسناد جيد، وأبو يعلى والطبراني.
وعن جابر بن عبد الله قال: خرج علينا رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ونحن مجتمعون فقال: ((يا معشر المسلمين اتقوا الله وصلوا أرحامكم فإنه ليس من ثواب أسرع من صلة الرحم، وإياكم والبغي فإنه ليس عقوبة أسرع من عقوبة البغي، وإياكم وعقوق الوالدين فإن ريح الجنة يوجد من مسيرة ألف عام والله لا يجدها عاق ولا قاطع رحم ولا شيخ زان، ولا جار إزاره خيلاء إنما الكبرياء لله رب العالمين)) . الحديث أخرجه الطبراني في الأوسط.
الوعيد على لبس النساء الرقيق من الثياب الذي يصف البشرة
عن ابن عمر قال: سمعت رسول الله يقول: ((يكون في آخر أمتي رجال يركبون على سرج كأشباه الرحال ينزلون على أبواب المساجد نساؤهم كاسيات عاريات على رؤوسهن كأسنام البخت العجاف العنوهن فإنهن ملعونات ولو كان وراءكم أمة من الأمم خدمتهن نساؤكم كما خدمكم نساء الأمم من قبلكم)) أخرجه ابن حبان في صحيحه، والحاكم وقال على شرط مسلم.
وعن أبي هريرة قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم : ((صنفان من أهل النار لم أرهما قوم معهم سياط كأذناب البقر يضربون بها الناس، ونساء كاسيات عاريات مميلات مائلات رؤوسهن كأسنمة البخت المائلة لا يدخلن الجنة ولا يجدن ريحها وإن ريحها يوجد من مسيرة كذا وكذا)) أخرجه مسلم وغيره.
الوعيد على لبس الحرير
عن معاذ قال رأى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم جبة مجيبة بحرير فقال: ((طوق من نار يوم القيامة )) أخرجه البزار والطبراني في الأوسط ورواته ثقات، والمجيبة: بالجيم التي لها الجيب من حرير وهو الطوق.
وأخرج أحمد والطبراني عن جويرية قالت: قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم : ((من لبس ثوب حرير ألبسه الله عز وجل يوماً أو ثوباً من النار)) وفي رواية: ((من لبس ثوب حرير في الدنيا ألبسه الله يوم القيامة ثوب مذلة من النار أو ثوباً من النار)).
وعن حليفة بن كعب قال: سمعت ابن الزبير يخطب ويقول: لا تلبسوا نساءكم الحرير فإني سمعت عمر بن الخطاب يقول: قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم : ((لا تلبسوا الحرير فإنه من لبسه في الدنيا لم يلبسه في الآخرة)) أخرجه البخاري، ومسلم، والنسائي وزاد في رواية: (( ومن لم يلبسه في الآخرة لم يدخل الجنة قال الله تعالى: {لِبَاسُهُمْ فِيهَا حَرِيرٌ }[الحج:23])).
الوعيد على تشبه الرجل بالمرأة والعكس
عن ابن عباس قال: لعن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم المتشبهين من الرجال بالنساء، والمتشبهات من النساء بالرجال. أخرجه البخاري، وأبو داود والترمذي، والنسائي، وابن ماجة، والطبراني، ورواه أبو طالب في الأمالي، وفي رواية للبخاري: ((لعن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم المخنثين من الرجال والمترجلات من النساء)).
قوله: المخنث هو بفتح النون وكسرها من فيه الخناث وهو التكسر والتثني كما يفعله النساء.
وعن أبي هريرة قال: ((لعن رسول الله صلى الله عليه وآله الرجل يلبس لبس المرأة والمرأة تلبس لبسة الرجل)).أخرجه أبو داود، والنسائي، وابن ماجة، وابن حبان والحاكم وقال صحيح على شرط مسلم.
وعن أبي أمامة قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم : ((أربعة لعنوا في الدنيا والآخرة وأمنت الملائكة: رجل جعله الله ذكراً فأنث نفسه وتشبه بالنساء، وامرأة جعلها الله أنثى فتذكرت وتشبهت بالرجال والذي يضل الأعمى)) الخبر أخرجه الطبراني من طريق علي بن يزيد الألهاني.
وعن ابن عمر، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم : ((ثلاثة لا يدخلون الجنة العاق لوالديه والديوث ورجلة النساء)) أخرجه النسائي والحاكم وصححه.
وعن عمار بن ياسر عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم : ((ثلاثة لا يدخلون الجنة أبداً الديوث والرجلة من النساء والمدمن الخمر. قالوا: يا رسول الله أما المدمن من الخمر فقد عرفناه فما الديوث؟ قال: الذي لا يبالي من دخل على أهله. قلنا: فما الرجلة من النساء؟ قال: التي تشبه بالرجال))أخرجه الطبراني. قال المنذري: ورواته لا أعلم فيهم مجروحاً.
الوعيد على الخضاب بالسواد
في أمالي المرشد بالله أخبرنا المقنعي، انا علي بن محمد، ثنا الباغندي، ثنا أبو نعيم الحلبي، ثنا عبيد بن هشام، ثنا عبيد الله بن عمرو، عن عبد الكريم الجزري، عن ابن جبير، عن ابن عباس عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم : ((يكون في آخر الزمان قوم يخضبون بالسواد كحواصل الحمام لا يريحون رائحة الجنة)) وأخرجه أبو داود، والنسائي، وابن حبان، والحاكم وصححه.
وفي أمالي المرشد بالله أخبرنا ابن ريذة، نا الطبراني، ثنا صاحب الفرعاني، ثنا جعفر الحريري، ثنا محمد بن سليمان، ثنا زهير بن محمد، عن الوضين، عن جنادة، عن أبي الدرداء، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم : ((من خضب بالسواد سود الله وجهه يوم القيامة )).
الوعيد للواصلة والمستوصلة والواشمة والمستوشمة والنامصة والمتنمصة والمتفلجة
قال الإمام الهادي عليه السَّلام في الأحكام:بلغنا أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أنه: (( لعن الراكبة والمركوبة وقال لا يدخل الجنة فحلة من النساء، ولعن الله وملائكته من أتى رجلاً أو بهيمة أو رجلاً تشبه بالنساء أو امرأة تشبهت بالرجال، ولعن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم الواصلة والمستوصلة والواشمة والمستوشمة من غير داء والنامصة والمتنمصة)).
وعن أسماء قالت: ((لعن النبي صلى الله عليه وآله وسلم الواصلة والمستوصلة )) أخرجه البخاري، ومسلم، وابن ماجة، وأخرجه الشيخان عن عائشة.
وعن ابن عمر أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم : لعن الواصلة والمستوصلة والواشمة والمستوشمة. أخرجه البخاري، ومسلم، وأبو داود، والترمذي، والنسائي، وابن ماجة.
وعن ابن مسعود قال:لعن الله الواشمات والمستوشمات والمتنمصات والمتفلجات للحسن المغيرات خلق الله، فقالت له امرأة في ذلك، فقال: وما لي لا ألعن من لعنه رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وهو في كتاب الله قال الله تعالى: {وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا}[الحشر:7]. أخرجه البخاري، ومسلم، وأبو داود، والترمذي، والنسائي، وابن ماجة.
وعن ابن عباس أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم خرج بقصة فقال: ((إن نساء بني إسرائيل كن يجعلن هذا في رؤوسهن فلعن وحرم عليهن المساجد )). أخرجه الطبراني في الكبير والأوسط ورواته ثقات إلا ابن لهيعة.
قلت: ابن لهيعة قد وثقه جماعة، وروى له أئمتنا ".
وعن ابن عباس قال: لعنت الواصلة والمستوصلة، والنامصة والمتنمصة، والواشمة والمستوشمة من غير داء. أخرجه أبو داود وغيره، تفسير ذلك الواصلة: التي تصل الشعر بشعر النساء، والمستوصلة: التي يعمل بها ذلك، والنامصة: التي تنقش الحاجب حتى ترقه، وقيل من النمص وهو نتف الشعر عن الوجه، والمتنمصة: التي يفعل بها ذلك، والواشمة: التي تغرز الوجه بالإبر ثم نحشي ذلك بكحل أو مداد، والمستوشمة: المعمول بها ذلك، والمتفلجة: التي تفلج أسنانها بالبرد ونحوه للتحسين.
الوعيد على الصور والتماثيل
في أمالي المرشد بالله عن ابن مسعود قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم : ((أشد الناس عذاباً يوم القيامة رجل قتل نبياً أو قتله نبي أو رجل يضل الناس بغير علم أو مصور يصور التماثيل)).
وعن ابن عمر أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قال: ((إن الذين يصنعون هذه الصور يعذبون يوم القيامة يقال لهم أحيوا ما خلقتم)) أخرجه البخاري، ومسلم، ولهما من حديث عائشة مرفوعاً: ((من أشد الناس عذاباً يوم القيامة الذين يصورون هذه الصور )) ولهما أيضاً عن ابن عباس سمعت رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يقول: ((كل مصور في النار يجعل له بكل صورة صورها نفساً فيعذبه في جهنم)) وفي لفظ البخاري: ((من صور صورة فإن الله معذبه حتى ينفخ فيها الروح وليس بنافخ أبداً )).
وعن أبي هريرة قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم : ((يخرج عنق من النار يوم القيامة له عينان يبصر بهما وأذنان تسمعان ولسان ينطق به يقول إني وكلت بثلاثة بمن جعل مع الله إلهاً آخر وبكل جبار عنيد وبالمصورين)) أخرجه الترمذي وقال صحيح غريب، قوله: عنق هو بضم العين والنون أي طائفة وجانب من النار.
الوعيد على الدعوى الباطلة والإعانة عليها
عن ابن عمر يرفعه: ((من خاصم في باطل وهو يعلمه لم يزل في سخط الله حتى ينزع )) أخرجه أحمد، وأبو داود، والطبراني بإسناد جيد وصححه الحاكم، وهو في كتاب الذكر لمحمد بن منصور المرادي، وفي لفظ لأبي داود: ((من أعان على خصومة بظلم فقد باء بغضب من الله )) وقد مر في قوله تعالى: {وَلاَ تَشْتَرُوا بِآيَاتِي ثَمَناً قَلِيلاً }[البقرة:41] أخبار في التحذير من إعانة المبطل، وفي حديث أبي الدرداء مرفوعاً: ((إيما أشد غضباً على مسلم في خصومة لا علم له بها فقد عاند الله حقه وحرص على سخطه وعليه لعنة الله تتابع إلى يوم القيامة)) الخبر أخرجه الطبراني.
وفي كتاب (الزواجر) عنه صلى الله عليه وآله وسلم : ((من ادعى بما ليس له فليتبوأ مقعده من النار )).
الوعيد على شهادة الزور
وفي أمالي المرشد بالله عن ابن عباس عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم : ((من شهد شهادة يستباح بها مال امرئ مسلم أو ليسفك بها الدم فقد أوجب النار)). وفي حديث أخرجه أحمد عن أبي هريرة سمعت رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يقول: ((من شهد على مسلم بشهادة ليس لها بأهل فليتبوأ مقعده من النار )).
وأخرج ابن ماجة والحاكم وصححه من حديث ابن عمر مرفوعاً: ((لن تزول قدما شاهد الزور حتى يوجب الله له النار )).
وفي أمالي المرشد بالله عن عبد الله بن عمر أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قال: ((إن الطير لتضرب بمناقيرها وتقذف ما في حواصلها وتحرك أذنابها من هول يوم القيامة وإن شاهد الزور لا تقار قدماه على الأرض حتى يقذف به في النار)) وأخرجه الطبراني.
الوعيد على القضاء بجهل أو جور
عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم أنه قال: ((القضاة ثلاثة اثنان في النار وواحد في الجنة ، فأما الذي في الجنة فقاضي علم الحق فقضى به فهو في الجنة، وأما القاضيان اللذان في النار فقاض عرف الحق فجار متعمداً وقاض قضى بغير علم فاستحيا أن يقول لا أعلم فهما في النار)) رواه الهادي في الأحكام وهو في شرح الإبانة.
وعن بريدة عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم : ((القضاة ثلاثة قاضيان في النار وقاض في الجنة ، قاض قضى بغير الحق وهو يعلم فذاك في النار، وقاض قضى وهو لا يعلم فأهلك حقوق الناس فذلك في النار، وقاض قضى بالحق فذاك في الجنة)) رواه المرشد بالله، وفي لفظ له: ((القضاة ثلاثة اثنان في النار وواحد في الجنة رجل علم علماً فقضى بعلمه فهو في الجنة، ورجل قضى بجهل فهو في النار، وقاض قضى بغير ما يعلم فهو في النار)) وأخرجه الترمذي، وأبو داود، وابن ماجة ولفظه في الترغيب والترهيب منسوباً إليهم: ((القضاة ثلاثة واحد في الجنة واثنان في النار ، فأما الذي في الجنة فرجل عرف الحق فقضى به، ورجل عرف الحق فجار في حكمه فهو في النار، ورجل قضى للناس على جهل فهو في النار)).
وفي المجموع عن علي عليه السَّلام : ((القضاة ثلاثة قاضيان في النار وقاض في الجنة قاض قضى فترك الحق وهو يعلم، وقاض قضى بغير الحق وهو لا يعلم فهذان في النار، وقاض قضى بالحق وهو يعلمه فهو في الجنة)).
وعن ابن عمر سمعت رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يقول: ((من كان قاضياً فقضى بالجهل كان من أهل النار، ومن كان قاضياً قضى بالجور كان من أهل النار، ومن كان قاضياً فقضى بحق أو بعدل سأل التفلت كفافاً فما أرجو منه بعد ذلك)) أخرجه أبو يعلى وابن حبان في صحيحه.
الوعيد على الرشوة على الحكم
ما يتعلق بهذا الموضع قد تقدم في قوله تعالى: {وَلاَ تَشْتَرُوا بِآيَاتِي ثَمَناً قَلِيلاً }[البقرة:41].
الوعيد على مجاوزة الحد الشرعي في العقوبة
في المجموع حدثني زيد بن علي، عن أبيه، عن جده، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم :((لا ينبغي لوال من الولاة ولا لملك أن تبلغ عقوبته حداً من حدود الله ، وأيما وال من الولاة أو ملك بلغت عقوبته حداً من حدود الله لقي الله وهو ساخط عليه)).
الوعيد على الضرار في الوصية وعلى تركها
عن أبي هريرة أن رسول الله صلى الله عليه وآله قال: ((إن الرجل ليعمل أو المرأة ستين سنة ثم يحضرهما الموت فيضاران في الوصية فتجب لهما النار، ثم قرأ أبو هريرة: {مِنْ بَعْدِ وَصِيَّةٍ يُوصَى بِهَا أَوْ دَيْنٍ غَيْرَ مُضَارّ}[النساء:12] حتى بلغ {ذَلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ }[النساء:13])) أخرجه أبو داود، والترمذي وقال حسن غريب، وابن ماجة ولفظه: ((إن الرجل ليعمل بعمل أهل الخير سبعين سنة فإذا أوصى حاف في وصيته فيختم له بشر عمله فيدخل النار، وإن الرجل ليعمل بعمل أهل الشر سبعين سنة فيعدل في وصيته فيختم له بخير عمله فيدخل الجنة)).
وعن ابن عباس قال: ترك الوصية عار في الدنيا ونار وشنار في الآخرة.
الوعيد على منع الميراث
عن أنس قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم : ((من فر بميراث ورثته قطع الله ميراثه من الجنة يوم القيامة )) أخرجه ابن ماجة.
وأخرج سعيد بن منصور، وابن أبي شيبة عن سليمان بن موسى، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم : ((من قطع ميراثاً فرضه الله قطع الله ميراثه من الجنة )) وأخرجه البيهقي في البعث عن أبي هريرة بلفظ: ((من قطع ميراثاً فرضه الله ورسوله قطع الله ميراثه من الجنة )).
الوعيد لذي الولاية يشق على رعيته أو يجور عليهم أو يحتجب عنهم
في أمالي المرشد بالله أخبرنا الأزجي، نا ابن سنبك، نا عمر الأشناني، ثنا محمد بن زكريا، ثنا موسى الأعور، ثني موسى بن جعفر، عن أبيه، عن جده الباقر، عن أبيه، عن جده علي عليه السَّلام ، قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم : ((من ولي من أمتي شيئاً فلم يعدل بينهم فعليه لعنة الله والملائكة والناس أجمعين)).
وأخرج الطبراني في الأوسط عن أبي سعيد يرفعه: ((أشد الناس عذاباً يوم القيامة إمام جائر )).
وأخرج البزار عن أنس، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم : ((يجاء بالإمام الجائر يوم القيامة فتخاصمه الرعية فيفلجوا عليه فيقال له سد ركناً من النار)).
وفي إسناد أغلب بن تميم، وهذا الحديث مما أنكر عليه. قوله: فيفلجوا بالجيم أي يظهروا عليه بالحجة ويقهروه.
وفي أمالي أبي طالب في حديث رواه عن علي عليه السَّلام مرفوعاً: ((وأول من يدخل النار أمير مسلط لم يعدل ، وذو ثروة من المال لم يعط من المال حقه، وفقير كفور)).
وعن عبدالله بن مسعود قال رسول صلى الله عليه وسلم: ((إن أشد أهل النار عذاباً يوم القيامة من قتل نبياً أو قتله نبي وإمام جائر)) أخرجه الطبراني ورجاله ثقات إلاالليث بن أبي سليم.
قلت: قد مر ذكره وما قيل فيه، وفي الصحيح بعضه، ورواه البزار بإسناد جيد إلا أنه قال: ((وإمام ضلالة )).
وعن أنس قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم : ((الأئمة من قريش إن لي عليكم حقاً ولهم عليكم حقاً مثل ذلك ما أن استرحموا رحموا وإن عاهدوا أوفوا وإن حكموا عدلوا وإذا قسموا قسطوا، فمن لم يفعل ذلك منهم فعليه لعنة الله والملائكة والناس أجمعين)) . أخرجه أحمد بإسناد جيد، وأبو يعلى والطبراني.
وأخرج أحمد برجال ثقات، والبزار وأبو يعلى نحوه من حديث أبي برزة.
وأخرج أحمد ورواته ثقات عن أبي موسى، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم : ((إن هذا الأمر في قريش إذا استرحموا رحموا ، وإذا حكموا عدلوا، وإذا قسموا قسطوا فمن لم يفعل ذلك منهم فعليه لعنة الله والملائكة والناس أجمعين لا يقبل الله منه صرفاً ولا عدلاً)) وأخرجه البزار والطبراني.
وفي أمالي المرشد بالله أخبرنا الأزجي، نا ابن حبان، ثنا محمد بن إبراهيم، ثنا أبي وعمي، ثنا زياد بن طلحة، عن الأعمش، عن أبي نضرة، عن أبي سعيد، قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم : ((أيما امرئ لا يحيط رعيته بالنصيحة حرم الله عليه الجنة )).
وأخرج أبو داود عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال: ((من طلب قضاء المسلمين حين يناله ثم غلب عدله جوره فله الجنة وإن غلب جوره عدله فله النار)).
وعن عبدالله بن مسعود يرفعه قال: ((يؤتى بالقاضي يوم القيامة فيوقف على شفير جهنم فإن أمر به دفع فهوى فيها سبعين خريفاً)) . أخرجه ابن ماجة والبزار.
وعن أبي هريرة أن بشر بن حاتم الجشمي حدث عمر أنه سمع رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يقول: ((لا يلي أحدكم من أمر الناس شيئاً إلا وقفه الله على جسر جهنم فزلزل به الجسر زلزلة فناج أو غير ناج لا يبقى منه عظم إلا فارق صاحبه فإن هو لم ينج ذهب به في جب مظلم كالقبر في جهنم لايبلغ قعره سبعين خريفاً)). وأن عمر سأل سلمان وأبا ذر هل سمعتما ذلك من رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ؟ قالا: نعم. أخرجه ابن أبي الدنيا وغيره.
وأخرج الحاكم وصححه عن معقل بن يسار يرفعه: ((ما من أحدٍ يكون على شيء من أمور هذه الأمة فلم يعدل فيهم إلا كبه الله في النار)).
وعن أبي موسى أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قال: ((إن في جهنم وادياً في الوادي بئر يقال له هبهب حقاً على الله أن يسكنه كل جبارٍ عنيد)) أخرجه الطبراني بإسناد حسن، وأبو يعلى والحاكم وصححه.
وعن معقل بن يسار قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يقول: ((ما من عبدٍ يسترعيه الله عز وجل رعية يموت يوم يموت وهو غاش رعيته إلا حرم الله تعالى عليه الجنة، وفي رواية: فلم يحطها بنصحه لم يرح رائحة الجنة)) أخرجه البخاري ومسلم.
وعنه أيضاً عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال: ((ما من أمير يلي أمور المسلمين ثم لا يجهد لهم ولاينصح لهم إلا لم يدخل معهم الجنة)) أخرجه مسلم، والطبراني، وزاد: كنصحه وجهده لنفسه.
وعن أنس قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم : ((من ولي من أمر المسلمين شيئاً فغشهم فهو في النار )) أخرجه الطبراني في الأوسط والصغير ورجاله ثقات إلا عبدالله بن ميسرة أبا ليلى.
وأخرج الطبراني بإسناد حسن عن عبدلله بن مغفل عن المزني قال أشهد لسمعت رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يقول: ((ما من إمام ولا والٍ بات ليلة سوداء غاشاً لرعيته إلا حرم الله عليه الجنة )).
وعن ابن السماح الأزدي عن ابن عمٍ له من أصحاب النبي صلى الله عليه وآله وسلم أنه أتى معاوية فدخل عليه فقال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يقول: ((من ولي أمر الناس ثم أغلق بابه دون المسلمين والمظلوم وذي الحاجة أغلق الله تبارك وتعالى أبواب رحمته دون حاجته وفقره أفقر ما يكون إليها)). أخرجه أحمد بإسناد حسن، وأبو يعلى.
وعن أبي جحيفة عن أبي الدحداح قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يقول: ((يا أيها الناس من ولي عليكم عملاً فحجب بابه عن ذي حاجة المسلمين حجبه الله أن يلج باب الجنة، ومن كانت همته الدنيا حرم الله عليه جواري فإني بعثت بخراب الدنيا ولم أبعث بعمارتها)). أخرجه الطبراني. قال المنذري: ورواته ثقات إلا شيخه جبرون بن عيسى فإني لم أقف فيه على جرح ولا تعديل.
وعن أبي بكر، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم : ((من ولي من أمر المسلمين شيئاً فأمر عليهم أحداً محاباة فعليه لعنة الله لا يقبل الله منه صرفاً ولا عدلاً حتى يدخله جهنم)). أخرجه الحاكم وصححه، وقيل: فيه بكر بن حنيس.
قلت: هوالكوفي ثم البغدادي، قال ابن عدي: هو ممن يكتب حديثه، وفي رواية ابن معين: شيخ صالح لا بأس به، وأخرجه أحمد من غير طريق بكر بن حنيس[و]في حديث تقدم: ((ثلاثة لا يكلمهم الله ولا ينظر إليهم ولا يزكيهم ولهم عذاب أليم رجل بايع إماماً إن أعطاه شيئاً من الدنيا وفى له وإن لم يعطه لم يف له)).
[الوعيد للمتباهي بالعلم]
[و]في أمالي المرشد بالله أخبرنا ابن غيلان، ثنا أبو بكر الشافعي، ثنا البهلولي بن إسحاق بن البهلول، ثنا أبي، ثنا عبد الرحمن بن عبد الله بن موسى بن عبيد، عن محمد بن إبراهيم، عن أبيه، عن العباس أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قال: ((يظهر هذا الدين حتى يجاوز به البحار ويركب به الخيل في سبيل الله ثم يأتي قوم يقولون قد قرأنا ومن أقرأ منا قد علمنا ومن أعلم منا، قد فقهنا ومن أفقه منا ثم التفت إليهم فقال أولئك منكم من هذه الأمة أولئك هم وقود النار.
[الوعيد لمن ترك العلم لفقر أو صغر حامله]
[و]في أمالي أبي طالب أخبرنا ابن عدي، ثنا أبو نصر الفريابي، ثنا عبد الله الليثي، عن إبراهيم السلمي، عن حماد بن زيد، عن أيوب، عن نافع، عن ابن عمر قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم : ((اكتبوا هذا العلم عن كل أصغر وكبير وعن كل غني وفقير، ومن ترك العلم من أجل أن صاحب العلم فقير أو أصغر منه فليتبوأ مقعده من النار)).
[الوعيد لمن طلب العلم لغير الله]
[و] في أمالي المرشد بالله عن ابن عمر عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم : ((من تعلم العلم لغير الله وأراد به غيره فليتبوأ مقعده من النار)).
وفي أمالي أبي طالب عن علي عليه السَّلام من حديث له يرفعه: ((وإن أهل النار ليتأذون بريح العالم التارك لعلمه ، وإن أشد أهل النار ندامة وحسرة رجل دعا عباد الله إلى الله فاستجابوا له وأطاعوا الله فأدخلهم الجنة وأدخل الداعي النار بتركه علمه واتباعه هواه...)) الخبر، وقد تقدم ما يتعلق بهذا الموضع في سياق قوله تعالى: {وَلاَ تَشْتَرُوا بِآيَاتِي ثَمَناً قَلِيلاً ...} [البقرة:41].
[الوعيد لمن كذب على رسول الله]
قد تقدم ما يتعلق بهذا في قوله تعالى: {وَلاَ تَلْبِسُوا الْحَقَّ بِالْبَاطِلِ وَتَكْتُمُوا الْحَقَّ...}الآية.
في أمالي أبي طالب: أنا محمد بن علي، أنا محمد بن عبيد، عن محمد بن إسحاق، ثنا محمد بن كعب، عن أبي قتادة سمعت رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم على المنبر يقول: ((إياكم وكثرة الحديث من قال عني فلا يقول إلا حقاً وصدقاً ومن قال علي ما لم أقل فليتبوأ مقعده من النار)).
وفي مسند أحمد: ثنا عبد الله ثني أبي، ثنا محمد بن فضيل، عن الأعمش، عن حبيب، عن ثعلبة، عن علي عليه السَّلام ، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم : (( من كذب علي متعمداً فليتبوأ مقعده من النار )) ورواه المرشد بالله من حديث عبد الله بن عمرو، وأخرجه الشيخان وغيرهما من حديث أبي هريرة ومسلم وغيره من حديث المغيرة، وقال المنذري هذا الحديث قد روي عن غير ما واحد من الصحابة في الصحاح والسنن والمسانيد وغيرها حتى بلغ مبلغ التواتر، ورواه في الجامع الصغير وعزاه إلى أحمد، والبخاري، ومسلم، والترمذي، والنسائى وابن ماجة عن أنس، وإلى أحمد والبخاري وأبي داود، والنسائى وابن ماجة عن الزبير، وإلى مسلم عن أبي هريرة، وإلى النسائى عن علي عليه السَّلام ، وإلى أحمد وابن ماجة عن جابر وأبي سعيد، وإلى الترمذي وابن ماجة عن ابن مسعود، وإلى أحمد، والحاكم عن خالد بن عرفطة وزيد بن أرقم، وإلى أحمد عن سلمة بن الأكوع وعقبة بن عامر ومعاوية، وإلى الطبراني في الكبير عن السائب بن يزيد، وسلمان بن خالد الخزاعي وصهيب، وطارق بن أشيم، وطلحة بن عبيد الله، وابن عباس، وابن عمر، وعبد الله بن عمرو، وعتبة بن غزوان، والعرس بن عميرة، وعمار بن ياسر، وعمران بن حصين، وعمرو بن حريث، وعمرو بن عنبسة، وعمرو بن مرة الجهمي، والمغيرة بن شعبة، ويعلى بن مرة، وأبي عبيدة بن الجراح، وأبي موسى الأشعري، وإلى الطبراني في الأوسط عن البراء ومعاذ، ونبيط بن شريط، وأبي ميمون، وإلى الدارقطني في الأفراد عن أبي رمثة، وابن الزبير، وأبي رافع، وأم أيمن، وإلى الخطيب في التاريخ عن سلمان الفارسي، وأبي أمامة، وإلى ابن عساكر عن رافع بن خديج، ويزيد بن أسد، وعائشة، وإلى ابن صاعد في طرقه، عن أبي بكر وعمر وسعد بن أبي وقاص، وحذيفة بن أسيد، وحذيفة بن اليمان، وإلى ابن مسعود بن الفرات في جزئه عن عثمان، والبزار عن سعيد بن يزيد، وإلى ابن عدي في الكامل عن
أسامة بن زيد، وبريدة، وسفينة، وأبي قتادة، وإلى أبي نعيم في المعرفة عن جندع بن عمرو، وسعد بن المدحاس، وعبد الله بن زغب، وإلى ابن قانع عن عبد الله بن أبي أوفى، وإلى الحاكم في المدخل عن عفان بن حبيب، وإلى العقيلي في الضعفاء عن غزوان وأبي كبشة، وإلى ابن الجوزي في مقدمة الموضوعات عن أبي ذر وأبي موسى الغافقي.
قال الحفني في حاشية على الجامع قد أكثر المصنف من مخرجي هذا الحديث فيوهم أنه قد استوعب مخرجيه وليس كذلك فقد ذكر أهل الحديث ان هذا الحديث خرجه مائتان من الصحابة.
الوعيد على عقوق الوالدين
في أمالي المرشد بالله أخبرنا ابن عبد الرحيم، أنا ابن حيان، أنا ابن أبي عاصم، ثنا عمرو بن مرزوق، ثنا شعبة، عن قتادة، عن زرارة بن أبي أوفى، عن ابن أبي مالك قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم : ((من أدرك والديه فأدخله الله النار فأبعده الله )).
وعن ابن عمر عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قال: ((ثلاثة لا ينظر الله إليهم يوم القيامة : العاق لوالديه، ومدمن الخمر، والمنان عطاه، وثلاثة لا يدخلون الجنة: العاق لوالديه، والديوث، والرجلة)) أخرجه البزار بإسنادين جيدين، والنسائي والحاكم وصححه.
الديوث: الذي يقر أهله على الزنا مع علمه بهم، والرجلة: بفتح الراء وكسر الجيم المتشبهة بالرجال.
وأخرج أحمد، والنسائي، والبزار، والحاكم وصححه عن عبد الله بن عمر، أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قال: ((ثلاثة حرم الله تبارك وتعالى عليهم الجنة : مدمن الخمر، والعاق، والديوث الذي يقر الخبث في أهله)).
وأخرج الحاكم وصححه عن أبي هريرة: ((أربعة حق على الله أن لا يدخلهم الجنة ولا يذيقهم نعيمها مدمن الخمر، وآكل الربا، وآكل مال اليتيم بغير حق والعاق لوالديه)).
وعن أبي هريرة أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم لعن سبعة من فوق سبع سموات وردد اللعنة على واحد منهم ثلاثاً، ولعن كل واحد لعنة تكفيه قال: ملعون من عمل عمل قوم لوط، ملعون من عمل عمل قوم لوط، ملعون من عمل عمل قوم لوط، ملعون من ذبح لغير الله، ملعون من عق والديه. الخبر أخرجه الطبراني، والحاكم وصححه.
وعن ابن عباس عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال: ((لعن الله من ذبح لغير الله ، ولعن الله من غير تخوم الأرض، ولعن الله من سب والديه)). الخبر أخرجه ابن حبان.
الوعيد لقاطع الرحم
عن أبي موسى يرفعه: ((ثلاثة لا يدخلون الجنة مدمن الخمر، وقاطع الرحم، ومصدق السحر)) . الخبر تقدم في وعيد شارب الخمر.
وأخرج البخاري، ومسلم عن أبي هريرة، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم : ((إن الله تعالى خلق الخلق حتى إذا فرغ منهم قامت الرحم فقالت: هذا مقام العائذ بك القطيعة، قال: نعم أما ترضين أن أصل من وصلك وأقطع من قطعك، قالت: بلى، قال: فذاك لك، ثم قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم : اقرءوا إن شئتم: {فَهَلْ عَسَيْتُمْ إِنْ تَوَلَّيْتُمْ أَنْ تُفْسِدُوا فِي الأَرْضِ وَتُقَطّعُوا أَرْحَامَكُمْ، أُوْلَئِكَ الَّذِينَ لَعَنَهُمُ اللَّهُ فَأَصَمَّهُمْ وَأَعْمَى أَبْصَارَهُمْ}))[محمد:22،23].
وفي أمالي أبي طالب أخبرنا أبي، أنا حمزة بن القاسم، ثنا محمد بن يحيى، ثنا أحمد البرقي، عن النوفلي، عن السكوني، عن الصادق، عن آبائه، عن علي عليه السَّلام قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم : ((إذا ظهر القول واختزن العمل ، وانتقلت الأنفس، واختلفت القلوب، وتقاطعت الأرحام هنالك لعنهم الله فأصمهم وأعمى أبصارهم)).
وأخرج أبو طالب ورواته ثقات والبزار عن سعيد بن زيد عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم أنه قال: ((إن أربى الربا الاستطالة في عرض المسلم بغير حق ، وإن هذه الرحم شجنة من الرحمن عز وجل فمن قطعها حرم الله عليه الجنة)).
قوله: شجنة بكسر الشين وضمها وإسكان الجيم أي قرابة متشبك كاشتباك العروق.
وعن جبير بن مطعم أنه سمع النبي صلى الله عليه وآله وسلم يقول: ((لا يدخل الجنة قاطع )). قال سفيان: يعني قاطع رحم. أخرجه الشيخان والترمذي.
الوعيد على البذاء
في أمالي أبي طالب أخبرنا ابن عدي، ثنا أبو عثمان سعيد بن داود البصري بمصر، ثنا الحسن بن راشد بن علي، ثنا هشيم، عن منصور بن زاذان عن الحسن، عن عمران أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال: ((الحياء من الإيمان والإيمان من الجنة، والبذاء من الجفاء، والجفاء في النار)) وهو في الجامع الصغير وعزاه إلى الترمذي، والحاكم، والبيهقي في الشعب من حديث أبي هريرة، وإلى البخاري في الأدب، وابن ماجة، والحاكم، والبيهقي في الشعب من حديث أبي بكرة، وإلى الطبراني في الكبير، والبيهقي في الشعب من حديث عمران بن حصين. قال العزيزي: ورجاله ثقات.
قوله: البذاء هو بذال معجمة ومد: الفحش من القول، والجفاء بالمد أيضاً: الطرد والإعراض عن الصلة.
وفي أمالي المرشد بالله عن عائشة، عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم : ((إن الحياء من الإيمان وإن الإيمان من الجنة، وإن الحياء لو كان رجلاً لكان رجلاً صالحاً، وإن الفحش من الفجور وإن الفجور في النار ولو كان الفحش رجلاً في الناس لكان رجل سوء، وإن الله لم يخلقني فحاشاً)).
الوعيد على الكذب
في أمالي أبي طالب أخبرنا العبدكي، ثنا يزداد، ثنا عبد الله بن سلام، ثنا إبراهيم الفراء، أخبرني عيسى بن يونس، ثنا الأعمش، عن شقيق، عن عبد الله، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم : ((عليكم بالصدق فإن الصدق يهدي إلى البر وإن البر يهدي إلى الجنة، وإن الرجل ليصدق حتى يكتب عند الله من الصديقين، وإياكم والكذب فإن الكذب يهدي إلى الفجور وإن الفجور يهدي إلى النار، وإن الرجل ليكذب حتى يكتب عند الله كاذباً)) وأخرجه البخاري، ومسلم، وأبو داود، والترمذي وصححه.
وفي حديث أبي بكر يرفعه: ((عليكم بالبر والصدق فإنهما في الجنة ، وإياكم والكذب والفجور فإنهما في النار)) رواه المرشد بالله، وأخرجه ابن حبان، وفي حديث رواه عبد الله بن عمر قال: يا رسول الله ما عمل النار؟ قال: ((الكذب إذا كذب العبد فجر ، وإذا فجر كفر، وإذا كفر يعني دخل النار)) أخرجه أحمد.
وعن أبي هريرة، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم : ((ثلاثة لا يكلمهم الله يوم القيامة ولا يزكيهم ولهم عذاب أليم: شيخ زان، وملك كذاب، وعائل مستكبر)) أخرجه مسلم وغيره.
وعن سلمان قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم : ((ثلاثة لا يدخلون الجنة : الشيخ الزان، والإمام الكذاب، والعائل المزهو)) . أخرجه البزار بإسناد جيد.
والعائل: هو الفقير، والمزهو: المعجب بنفسه المتكبر.
الوعيد لمن لم يقبل العذر
في أمالي أبي طالب أخبرنا الكرخي، ثنا أحمد بن يوسف، ثنا الحرث بن حفص، ثنا سيف الثوري، عن الحسن بن عمارة، عن أبي الزبير، عن جابر قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم : ((من اعتذر إليه أخوه المسلم فلم يقبل عذره جاء يوم القيامة وعليه مثل ما على صاحب المكس -يعني العشار-)). وأخرجه الطبراني في الأوسط وقال: قال أبو الزبير: والمكاس العشار.
وأخرج ابن ماجة، والضياء عن جرذان -بضم الجيم- عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم : ((من اعتذر إليه أخوه بمعذرة فلم يقبلها كان عليه من الخطيئة مثل صاحب مكس)) . ورواه في أمالي أبي طالب، وفيه قال وكيع يعني العاشر، جوذان في الجامع الصغير جرذان براء بعد الجيم ثم ذال.
وفي أمالي أبي طالب وغيره جودان بالواو وهو كذلك في الجداول قال جودان الكوفي مختلف في صحبته، وذكره ابن حبان في ثقات التابعين.
الوعيد لصاحب المكس
في أمالي المرشد بالله أخبرنا الذكواني، أنا ابن حبان، ثنا أحمد بن محمود، ثنا رجاء بن صهيب سمعت علي بن داود، عن محمد بن بشر، عن الأعمش، عن الطائي، عن عطية، عن أبي سعيد الخدري قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم : ((لا يدخل الجنة صاحب مكس ، ولا مدمن خمر، ولا مؤمن بسحر، ولا قاطع، ولا منان)).
وعن عقبة بن عامر عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم : ((لا يدخل الجنة صاحب مكس )) . أخرجه أحمد، وأبو داود، والحاكم وصححه.
الوعيد على التوثب على الدنيا
في أمالي المرشد بالله أخبرنا ابن غسان، انا علي القزويني، ثنا محمد بن موسى، ثنا أبي، ثنا قاسم بن عثمان، ثنا سعيد بن وليد، ثنا عبد الواحد بن زيد، عن الحسن، عن أنس أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قال: ((يجيء يوم القيامة أقوام أعمالهم كجبال تهامة يؤمر بهم إلى النار، قالوا: يا رسول الله مسلمين؟ قال: نعم كانوا يصلون ويصومون ويأخذون هنة من الليل فإذا عرض لهم شيء من الدنيا وثبوا عليه)).
وعن عمرة بنت الحرث، قالت: قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم : ((الدنيا حلوة خضرة فمن أخذها بحقها بارك الله له فيها ، ورب متخوض في مال الله ورسوله له النار يوم القيامة)) . أخرجه الطبراني بإسناد حسن.
وعن عبد الله بن عمر قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يقول: ((الدنيا حلوة خضرة فمن أخذها بحقها بورك له فيها ، ورب متخوض فيما اشتهت نفسه ليس له يوم القيامة إلا النار)) . أخرجه الطبراني في الكبير. قال المنذري: ورواته ثقات.
الوعيد على ترك نصر المؤمن
قد تقدم ما في ذلك في قوله تعالى: {وَلاَ تَشْتَرُوا بِآيَاتِي ثَمَناً قَلِيلاً }[البقرة:41].
الوعيد على طلب الدنيا للمكاثرة
في أمالي المرشد بالله من حديث أبي سعيد مرفوعاً: ((ومن طلب الدنيا مكاثراً مفاخراً مرائياً لقي الله وهو عليه غضبان)).
الوعيد على التنعم والترفه بما لا يجوز
في أمالي المرشد بالله عن أنس بن مالك أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قال: ((يؤتى بأنعم الناس كان في الدنيا فيقول الله تعالى أصبغوه صبغة في النار فيصبغ فيها فيقال له: يا ابن آدم هل رأيت خيراً قط؟ فيقول: لا وعزتك ما رأيت خيراً قط ولا قرة عين قط)).
الوعيد للمنان بما أعطى
في أمالي أبي طالب أخبرنا أبو الحسين الفقيه، أنا الناصر، ثنا محمد، ثنا أحمد بن عيسى، عن حسين، عن أبي خالد، عن زيد، عن آبائه، عن علي عليه السَّلام قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم : ((تحرم الجنة على ثلاثة : المنان، والغياب، والنمام، وعلى مدمن الخمر)) . وفي الباب ما تقدم.
الوعيد على الكبر
تقدم القول في ذلك في قوله تعالى: {إِلاَّ إِبْلِيسَ أَبَى }[البقرة:34].
الوعيد على الرياء
في أمالي المرشد بالله عن الجارود، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم : ((من طلب الدنيا بعمل الآخرة طمس وجهه ، ومحق ذكره، وأثبت اسمه في النار)).
وعن أبي هريرة قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يقول: ((إن أول الناس يقضى يوم القيامة عليه رجل استشهد فأتي به فعرف نعمته فعرفها فقال ما عملت فيها؟ قال: قاتلت فيك حتى استشهدت، قال: كذبت ولكنك قاتلت لأن يقال فلان جريء فقد قيل، ثم أمر به فسحب على وجهه حتى ألقي في النار، ورجل تعلم العلم وعلمه وقرأ القرآن فأتي به فعرفه نعمته فعرفها، قال: فما عملت فيها؟ قال: تعلمت العلم وعلمته، وقرأت فيك القرآن، قال: كذبت ولكنك تعلمت ليقال عالم، وقرأت القرآن ليقال قارئ فقد قيل، ثم أمر به فسحب على وجهه حتى ألقي في النار، ورجل وسع الله عليه وأعطاه من أصناف المال فأتي به فعرفه نعمته فعرفها، قال: فما عملت فيها؟ قال: ما تركت من سبيل تحب أن ينفق فيها إلا أنفقت فيها، قال: كذبت ولكن فعلت ليقال هو جواد فقد قيل، ثم أمر به فسحب على وجهه حتى ألقي في النار)) . أخرجه مسلم، والنسائي، والترمذي وحسنه، وابن حبان.
وعن أبي هريرة قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يقول: ((من تزين بعمل الآخرة وهو لا يريدها ولا يطلبها لعن في السموات والأرض)) . أخرجه الطبراني في الأوسط، وفيه عن أبي هريرة قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم : ((من تحبب إلى الناس بما يحبون وبارز الله بما يكرهون لقي الله وهو عليه غضبان)).
وأخرج الطبراني في الأوسط عن ابن عباس، عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال: ((إن في جهنم لوادياً تستعيذ جهنم من ذلك الوادي في كل يوم أربعمائة مرة أعد ذلك الوادي للمرائين من أمة محمد صلى الله عليه وآله وسلم لحامل كتاب الله، والمتصدق في غير ذات الله، والحاج إلى بيت الله، وللخارج في سبيل الله)) . قال المنذري: رفعه غريب ولعله موقوف.
وأخرج الترمذي وقال غريب عن أبي هريرة، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم : ((تعوذوا من جب الحزن ، قالوا: يا رسول الله وما جب الحزن؟قال: واد في جهنم تتعوذ منه جهنم كل يوم مائة مرة، قيل: يا رسول الله ومن يدخله؟ قال: القراء المراؤون بأعمالهم)) . وأخرجه ابن ماجة إلا أنه قال: تتعوذ منه جهنم كل يوم أربعمائة مرة، وزاد فيه: وإن من أبغض القراء إلى الله الذين يزورون الأمراء)) وفي بعض النسخ: الأمراء الجورة.
وعن عدي بن حاتم قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم : ((يؤمر يوم القيامة بناس من الناس إلى الجنة حتى إذا دنوا منها واستنشقوا ريحها ونظروا إلى قصورها وما أعد الله لأهلها فيها نودوا أن أصرفوهم عنها فلا نصيب لهم فيها فيرجعون بحسرة ما رجع الأولون بمثلها فيقولون ربنا لو أدخلتنا النار قبل أن ترينا الجنة -وفي رواية قبل- أن ترينا ما أريتنا من ثوابك وما أعددت فيها لأوليائك كان أهون علينا، قال: ذاك أردت بكم كنتم إذا خلوتم بارزتموني بالعظائم، وإذا لقيتم الناس لقيتموهم مخبتين تراؤون الناس بخلاف ما تعطوني من قلوبكم هبتم الناس ولم تهابوني، وأجللتم الناس ولم تجلوني، وتركتم للناس ولم تتركوا لي، اليوم أذيقكم أليم العذاب مع ما حرمتم من الثواب)) . أخرجه الطبراني في الكبير والبيهقي.
وعن أنس ابن مالك قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم : ((إذا كان آخر الزمان صارت أمتي ثلاث فرق : فرقة يعبدون الله خالصاً، وفرقة يعبدون الله رياء، وفرقة يعبدون الله ليستأكلوا به أموال الناس، فإذا جمعهم الله يوم القيامة قال للذي يستأكل الناس بعزتي وجلالي ما أردت بعبادتي؟ فيقول: وعزتك وجلالك استأكل به الناس، قال: لم ينفعك ما جمعت انطلقوا به إلى النار، ثم يقول للذي كان يعبده رياء بعزتي وجلالي ما أردت بعبادتي؟ قال: بعزتك وجلالك رياء الناس، قال: لم يصعد إلي شيء منه انطلقوا به إلى النار، ثم يقول للذي كان يعبده خالصاً بعزتي وجلالي ما أردت بعبادتي؟ قال: بعزتك وجلالك أنت أعلم بذلك من أردت به أردت به ذكرك ووجهك، قال: صدق عبدي انطلقوا به إلى الجنة)) . أخرجه الطبراني في الأوسط. قال المنذري: من رواية عبيد بن إسحاق العطار، وبقية رجاله ثقات.
قلت: عبيد وثقه ابن حبان، وروى له المرشد بالله.
الوعيد على الغيبة والنميمة
في أمالي المرشد بالله عن خالد الربعي أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال: ((إني لأعرف قوماً يضربون صدورهم ضرباً يسمعه أهل النار، قيل: من هم يا نبي الله؟ قال: هم الهمازون اللمازون، قيل: من الهمازون يا رسول الله؟ قال: الذين يلتمسون عورات المسلمين ويكشفون ستورهم ويفشون عليهم من الفواحش ما ليس فيهم، قال وقال النبي صلى الله عليه وآله وسلم : إني لأعرف قوماً يضربون في آذانهم بمسامير من نار تضرب من جانب وتخرج من الجانب الآخر، قيل: من هم يا نبي الله؟ قال: هم الذين يسمعون إلى ما لا يحل لهم على أبواب المسلمين يلتمسون عيبهم)).
وعن شفي بن ماتع مرفوعاً: ((أربعة يؤذون أهل النار على ما بهم من الأذى يسعون ما بين الحميم والجحيم يدعون بالويل والثبور يقول أهل النار لبعض ما بال هؤلاء قد آذونا على ما بنا من الأذى؟ قال: فرجل مغلق عليه تابوت من جمر، ورجل يجر أمعاءه، ورجل يسيل فوه قيحاً ودماً، ورجل يأكل لحمه)) . الخبر، وفيه: ثم يقال للذي يأكل لحمه ما بال الأبعد قد آذانا على ما بنا من الآذى فيقول إن الأبعد كان يأكل لحوم الناس بالغيبة ويمشي بالنميمة)) . أخرجه ابن أبي الدنيا، والطبراني في الكبير بإسناد لين، وأبو نعيم وقال شفي بن ماتع مختلف في صحبته، وقال المنذري: ذكره البخاري، وابن حبان في التابعين.
وعن أبي هريرة أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قال: ((أتدرون من المفلس ؟ قالوا: المفلس فينا من لا درهم له ولا متاع، فقال: إن المفلس من أمتي من يأتي يوم القيامة بصلاة وصيام وزكاة ويأتي وقد شتم هذا وقذف هذا وأكل مال هذا، وسفك دم هذا، وضرب هذا فيعطى هذا من حسناته وهذا من حسناته فإن فنيت حسناته قبل أن يقضي ما عليه أخذ من خطاياهم فطرحت عليهم ثم طرح في النار)) . أخرجه مسلم، والترمذي وغيرهما.
وعن أبي الدرداء عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال: ((من ذكر امرأً بشيء ليس فيه ليعيبه به حبسه الله في نار جهنم حتى يأتي بنفاذ ما قال فيه)) . أخرجه الطبراني في الأوسط، وفي رواية: ((أيما رجل أشاع على رجل مسلم بكلمة وهو فيها بريء يشينه بها في الدنيا كان حقاً على الله أن يذيبه يوم القيامة في النار حتى يأتي بنفاذ ما قال)).
وعن ابن عمر قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يقول: ((ومن قال في مؤمن ما ليس فيه أسكنه الله في رذعة الخبال حتى يخرج مما قال)) . أخرجه أبو داود في حديث، والطبراني وزاد: وليس بخارج. والحاكم بنحوه وصححه.
رذعة الخبال: هي عصارة أهل النار، والخبال بخاء معجمة مفتوحة وباء موحدة.
وعن حذيفة، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم : ((لا يدخل الجنة نمام )) وفي رواية: ((قتات)) . أخرجه الشيخان، وأبو داود، والترمذي. والقتاتُ: النمامُ.
وعن ابن عمر سمعت رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يقول: ((النميمة والشتيمة والحمية في النار )) وفي لفظ: ((النميمة والحقد في النار لا يجتمعان في قلب مسلم)) . أخرجه الطبراني.
الوعيد على التهاجر
عن أبي هريرة، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم : ((لا يحل لمسلم أن يهجر أخاه فوق ثلاث فمن هجر فوق ثلاث فمات دخل النار)) . أخرجه أبو داود، والنسائي. قال المنذري بإسناد على شرط البخاري ومسلم.
وعن هشام بن عامر، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم : ((لا يحل لمسلم أن يهجر مسلماً فوق ثلاث ليال فإنهما ناكبان عن الحق ما داما على صرامهما، وأولهما فيئاً يكون سبقه بالفيء كفارة له، فإن سلم فلم يقبل ورد سلامه ردت عليه الملائكة ورد على الآخر الشيطان، فإن ماتا على صرامهما لم يدخلا الجنة جميعاً أبداً)). أخرجه أحمد. قال المنذري: ورواته محتج بهم في الصحيح، وأبو يعلى، والطبراني، وابن حبان إلا أنه قال:((لم يدخلا الجنة ولم يجتمعا في الجنة)).
وعن فضالة بن عبيد أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قال: ((من هجر أخاه فوق ثلاث فهو في النار إلا أن يتداركه الله برحمته)) . أخرجه الطبراني. قال المنذري: ورواته رواة الصحيح.
الوعيد على القذف والبهت
في أمالي أبي طالب عن علي عليه السَّلام قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم : ((من بهت مؤمناً أو مؤمنة أو قال ما ليس فيه أقامه الله يوم القيامة على تل من النار حتى يخرج مما قال)) . وقد مر قريباً حديث ابن عمر: ((من قال في مؤمن ما ليس فيه أسكنه الله في روعة الخبال حتى يخرج مما قال)).
الوعيد على القتل
عن البراء بن عازب أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قال: ((لزوال الدنيا أهون من قتل مؤمن بغير حق )) . أخرجه ابن ماجة بإسناد حسن، والبيهقي والأصبهاني، وزاد فيه: ((ولو أن أهل سمواته وأهل أرضه اشتركوا في دم مؤمن لأدخلهم الله النار )).
وعن أبي سعيد، وأبي هريرة عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قال: ((لوأن أهل السماء وأهل الأرض اشتركوا في دم مؤمن لأكبهم الله في النار )). أخرجه الترمذي وقال حسن غريب، ونحوه للطبراني في الصغير عن أبي بكرة.
وفي أمالي أبي طالب عن الباقر قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم : ((من لقي الله بدم حرام لقي الله يوم يلقاه وبين عينيه مكتوب آيس من رحمة الله)).
وعن أبي هريرة قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم : ((من أعان على قتل مسلم بشطر كلمة لقي الله مكتوب بين عينيه آيس من رحمة الله)). أخرجه ابن ماجة والأصبهاني.
وأخرجه البيهقي من حديث ابن عمر بلفظ: ((من أعان على دم امرئ مسلم بشطر كلمة كتب بين عينيه يوم القيامة آيس من رحمة الله)).
وفي أمالي المرشد بالله عن جندب بن عبد الله قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم : ((لا يحولن بين أحدكم وبين الجنة وهو ينظر إلى أبوابها ملءكف من دم مسلم اهراقه ظلماً)) وأخرجه الطبراني بنحوه ورجاله ثقات، والبيهقي مرفوعاً وموقوفاً، وقال: الصحيح موقوف.
وعن ابن عباس سمعت نبيكم صلى الله عليه وآله وسلم يقول: ((يأتي المقتول متعلقاً رأسه بإحدى يديه متلبساً قاتله باليد الأخرى تشخب أوداجه دماً حتى يأتي به العرش فيقول المقتول لرب العالمين هذا قتلني فيقول الله للقاتل تعست ويذهب به إلى النار)). أخرجه الترمذي وحسنه، والطبراني في الأوسط، ورواته رواة الصحيح واللفظ له.
وعن أبي سعيد عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال: ((يخرج عنق من النار يتكلم يقول وكلت اليوم بثلاثة بكل جبار عنيد، ومن جعل مع الله إلهاً آخر، ومن قتل نفساً بغير حق فينطوي عليهم فيقذفهم في حمراء جهنم)). أخرجه أحمد، وللبزار نحوه، وفي إسنادهما عطية العوفي.
قلت: قال ابن معين: صالح، وحسن له الترمذي أحاديث وعداده في ثقات الشيعة.
وعن أبي هريرة قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم : ((من تردى من جبل فقتل نفسه فهو في نار جهنم يتردى فيها خالداً مخلداً فيها أبداً، ومن تحسى سماً فقتل نفسه فسمه في يده يتحساه في نار جهنم خالداً مخلداً فيها أبداً، ومن قتل نفسه بحديدة فحديدته في يده يتوجأ بها في نار جهنم خالداً فيها أبداً)) أخرجه البخاري، ومسلم، والترمذي، والنسائي، ولأبي داود: ((من حسا سماً فسمه في يده يتحساه في نار جهنم )).
قوله: يتوجأ مهموز أي يضرب بها نفسه، وعنه قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم : ((الذي يخنق نفسه يخنقها في النار ، والذي يطعن نفسه يطعن نفسه في النار والذي يقتحم يقتحم في النار)). أخرجه البخاري.
وعن ابن عباس قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم : ((لا يقفن أحدكم موقفاً يضرب فيه رجل ظلماً فإن اللعنة تنزل على من حضره حين لم يدفعوا عنه)). أخرجه الطبراني والبيهقي بإسناد حسن.
الوعيد على الزنا
في أمالي أبي طالب عن علي عليه السَّلام قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم : ((في الزنا ست خصال ثلاث في الدنيا وثلاث في الآخرة، فأما التي في الدنيا فإنها تذهب بالبهاء وتعجل بالفناء وتقطع الرزق، وأما التي في الآخرة فسوء الحساب، وسخط الرحمن، والخلود في النار)).
وعن عبد الله بن يسر عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال: ((إن الزناة تشتعل وجوههم ناراً )). أخرجه الطبراني. قال المنذري: بإسناد فيه نظر.
وعن أبي هريرة قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم : ((ثلاثة لا يكلمهم الله يوم القيامة ولا يزكيهم ولهم عذاب أليم: شيخ زان، وملك كذاب، وعائل مستكبر)). أخرجه مسلم والنسائي. والعائل: الفقير ورواه المرشد بالله بنحوه.
وعن سلمان يرفعه: ((ثلاثة لا يدخلون الجنة : الشيخ الزان، والإمام الكذاب، والعائل المزهو)). أخرجه البزار بإسناد جيد.
وعن نافع مولى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قال: ((لا يدخل الجنة مسكين مستكبر ، ولا شيخ زان، ولا منان على الله بعلمه)). أخرجه الطبراني.
وعن ابن عمر قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم : ((الزاني بحليلة جاره لا ينظر الله إليه يوم القيامة ولا يزكيه ويقول ادخل النار مع الداخلين)). أخرجه ابن أبي الدنيا والخرائطي وغيرهما.
الوعيد على ترك العمل بالسنة
عن علي عليه السَّلام قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم : ((لعنت سبعة فلعنهم الله وكل نبي مجاب الدعوة : الزائد في كتاب الله، والمكذب بقدر الله، والمخالف لسنتي)). الخبر تقدم.
وأخرج الطبراني في الكبير وابن حبان والحاكم وصححه عن عائشة أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قال: ((ستة لعنتهم فلعنهم الله وكل نبي مجاب : الزائد في كتاب الله، والمكذب بقدر الله، والمتسلط على أمتي بالجبروت ليذل من أعز الله ويعز من أذل الله، والمستحل حرمة الله، والمستحل من عترتي ما حرم الله، والتارك السنة)).
وهذا ما تيسر تحصيله من الأخبار في دخول أصحاب الكبائر النار ولم نستقص ما ورد من الوعيد في المعاصي التي ذكرناها، ولا أتينا على كل معصية متوعد عليها، وفيما ذكرنا كفاية، وقد فتحنا الباب لمن أراد الاستقصاء من الأصحاب، وعسى أن يقيض الله من يتصدى لذلك المقصد الصالح، والمتجر الرابح، ونسأل الله التوفيق وحسن الخاتمة.
الموضع الثالث في شبه الخصوم [في مسألة الخروج من النار]
اعلم أن لهم شبهاً عقلية ونقلية، النقلية ستأتي وقد تقدم شيء منها في مسألة الشفاعة وغيرها، وأما العقلية فمنها ما قد تضمنته المسألة الثالثة عشرة من مسائل قوله: {إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا سَوَاءٌ عَلَيْهِمْ أَأَنذَرْتَهُمْ...}[البقرة:6] الآية كاستنادهم إلى استبعاد الدوام، وتشبثهم بحسن خلف الوعيد، وعدهم إياه من فعل الكرام، وقولهم بأنه لا نفع فيه للمعاقب، ولا يحتاج إليه ذو الجلال والإكرام، وغير ذلك من ما تضمنته تلك المسألة، وقد استوفينا هنالك جواب كل شبهة على الوفاء والتمام.
ومن شبههم العقلية أنه يجوز العفو عقلاً عن العاصين ووافقهم على ذلك من أئمة العدل البصرية، فقالوا: نقطع بأنه يجوز من الله العفو عن العصاة عقلاً، وهو اختيار السيد مانكديم، والإمام المهدي وغيرهم.
وأما الخصوم فتجويزهم لذلك ظاهر من أصحابنا والخلاف في ذلك لأبي القاسم البلخي، وبشر بن المعتمر فقالا: بمنعه عقلاً، وحكاه السيد مانكديم عن البغدادية وقال: إنهم أوجبوا على الله أن يفعل بالعصاة ما يستحقونه لا محالة، ولا يجوز أن يعفو عنهم قال: فصار العقاب عندهم أعلى حالاً في الوجوب من الثواب فإن الثواب عندهم لا يجب إلا من حيث الجود والعقاب يجب فعله على كل حال.
احتج الألون بأن العقاب حق لله وله إسقاطه حيث لا إضرار بالغير كالدين وهذا ضروري، فإن قيل: شكر المنعم حق له فيلزم أن يصح إسقاطه، والمعلوم أنه لا يسقط بالإسقاط.
قيل: الواجبات المتعلقة بالغير منقسمة إلى ما لا وجه لوجوبه إلا كونه حقاً للغير وذلك كقضاء الدين ورد الوديعة، فهذا لا إشكال في إسقاطه بإسقاط صاحبه؛ إذ يزول وجه الوجوب بإسقاطه، وإلى ما هو واجب في نفسه وإن كان متعلقاً بالغير كالشكر ومعرفة الله، فإن الشكر إنما وجب لكونه اعترافاً بنعمة واصلة، وهذا الوجه لا يسقط بإسقاط المنعم؛ لأن إسقاطه يتضمن إباحة إنكاره، وإنكاره كذب فإسقاط الشكر جار مجرى إباحة الكذب، وإباحته لا تؤثر في جوازه فكذلك إسقاط الشكر، لا يقال لا نسلم أن إسقاط الشكر إباحة للإنكار، وإنما يتضمن سقوط وجوب الإظهار عند التهمة، وهذا ليس بإباحة للكذب؛ لأنا نقول سكوته عند تهمته بالإنكار جار مجرى الإقرار بإنكاره لتوفر دواعيه إلى دفع التهمة عن نفسه، فإذا لم يفعل دلنا ذلك على إنكاره كما لو نطق به، كما أن من توفرت دواعيه إلى الفعل وانتفت الصوارف عنه نقطع بأنه يفعل، فإن لم يفعل قطعنا بأنه غير قادر، فلما جرى السكوت مجرى النطق بالإنكار كانت إباحته كإباحة الإنكار.
وأما معرفة الله فهي وإن كانت متعلقة بالغير فوجه وجوبها لا يسقط بإسقاط من تعلقت به؛ لأنها وجبت لكونها لطفاً لا لكونها حقاً له تعالى، وهكذا يقال في المدح حيث يجب فإنه لا يسقط بإسقاط الممدوح بمثل ما ذكرنا في الشكر، ومثله الذم حق للمساء إليه وليس له إسقاطه، وفرق بينه وبين العقاب السيد مانكديم بأن العقاب حق لله على الخصوص والذم حق للمساء إليه وللمسيء، ولجميع العقلاء فإنهم إذا تيقنوا أنهم يذمون على الإساءة لا يقدمون عليها، أو يكونون أقرب إلى عدم الإقدام عليها، وحاصله أن وجه استحقاقه لكون فيه لطفاً لا لكونه حقاً للمساء إليه، فإن قيل: أليس الثواب حقاً خالصاً للمثاب وليس له إسقاطه، فكذلك العقاب لا يكون لمستحقه إسقاطه.
قيل: الحق إنما يصح إسقاطه حيث كان استيفاؤه إلى المستحق ولم يكن كالمحجور عليه، ولهذا فإن الصبي لما لم يكن استيفاء حقه إليه لم يصح منه إسقاطه، وليس كذلك الثواب فإن العبد كالملجأ إلى عدم إسقاطه هكذا ذكره السيد مانكديم، ولعله أراد بكونه كالملجأ أن الثواب واجب على الله إيصاله إلى مستحقه والباري جل وعلى لا يخل بواجب فكأن العبد كالملجأ إلى قبوله وعدم إسقاطه. والله أعلم.
احتج البغداديون بأن المكلف إذا جوز سقوط العقاب لم يزجره الوعيد عن المعصية مع خلق الشهوة فيه.
وأجيب بأنه إذا قطع بوقوعه صار ملجأً إلى تركه، ولا يصح تكليف الملجأ فلا بد من تجويز سقوطه بوجه وإلا كان ملجأ، ويلزم أيضاً أن يكون مغرىً بتجويزه التوبة فلا يصح قبول التوبة منه وهو باطل.
قالوا: العقاب لطف واللطف يجب أن يكون على أبلغ الوجوه، ولا يكون كذلك إلا إذا كان واجباً على الله تعالى؛ لأن المكلف إذا علم أنه يفعل به ما يستحقه لا محالة كان أقرب إلى الانقياد.
قال السيد مانكديم: وربما يؤكدون ذلك بقولهم إن العقاب إذا كان لطفاً للمكلف فلا بد أن يعرفه الله تعالى أنه يفعل به، وإلا كان مخلاً بواجب.
وأجيب بالتزام قولكم في اللطف أنه يجب أن يكون على أبلغ الوجوه.
قال السيد مانكديم: لكن إذا كان ممكناً وهاهنا لا يمكن لأنه لا حال للفاسق إلا وهو يجوز أن يتوب فكيف يمكن تعريفه أنه يفعل به لا محالة، وإلا فيجب تعريفه أن توبته لا تقبل من الكبائر، ومعلوم أن هذا أبلغ في اللطف، فإن منعتموه لعدم إمكانه أي لوجوب قبول التوبة عقلاً فارضوا منا بمثله، إذا عرفت هذا فللخصوم أن يقولوا قد ثبت جواز العفو عقلاً إما قبل دخول العصاة النار أو بعد دخولهم فيها، فالإجماع منعقد على أنه تعالى عفو وقد وصف نفسه بذلك وتمدح به، وأجمعوا أيضاً على أن عفوه ليس في حق الكافر، بل في حق المؤمنين إلا أنكم معاشر الوعيدية تقولون هو عفو عن الصغائر قبل التوبة وعن الكبائر بعدها، ونحن نقول بل عن الصغائر كلها، واختلفنا في الكبائر فمنا من قال: يعفو عنها كلها، ومنا من قال: يعفو عن بعضها، ومنا من قال: لا نقطع بالعفو عن الكبائر بلا توبة، بل نجوزه، ثم إذا رجعنا إلى تحقيق معنى العفو كان الحق معنا، وذلك أن العفو إنما هو ترك عقوبة المستحق للعذاب وأنتم لا تقولون بالاستحقاق في غير صورة النزاع؛ إذ لا استحقاق بالصغائر أصلاً ولا بالكبائر بعد التوبة، فلم يبق إلا الكبائر قبل التوبة فهو يعفو عنها بفضله وكرمه.
والجواب: أنا لا نسلم جواز العفو عقلاً لما مر، ولما ذكره في الأساس وشرحه لابن لقمان وحاصله أن العفو عن المسيء الذي علم عدم إقلاعه ورجوعه عن الإساءة لا يحسن عقلاً؛ لأنه يكون إغراء بفعل القبيح وهو قبيح، ألا ترى لو أن السلطان عرف من عبده الفاحشة مع حرمه وهو قادر على عقوبته، وعلم مع ذلك أنه لا يرتدع إن عفا عنه بل يعود سريعاً فإن العفو عنه والحال هذه يكون قبيحاً، وما كان كذلك فلا يقال فيه إنه يجوز ويحسن في العقل، ولا ريب أن أهل الكبائر لم يقلعوا عن المعصية بل ماتوا مصرين عليها، فلو حسن العفو عنهم مع علم الله بعدم إقلاعهم لكان في ذلك إغراء لهم بالمعصية والإصرار عليها، وإقلاعهم في الآخرة عند معاينة العذاب وتوبتهم لا ينفعهم؛ لأن ذلك لم يكن لوجه القبح، بل لما نزل به من أليم العذاب وشدة العقاب، وقد دل القرآن على أن من مات على المعصية فإن توبته وإقلاعه في الآخرة لا تكون لوجه القبح، وأنه لو عاد إلى الدنيا لعاد فيما كان فيه من المعاصي قال تعالى: {وَلَوْ رُدُّوا لَعَادُوا لِمَا نُهُوا عَنْهُ }[الأنعام:28] سلمنا حسن العفو عقلاً فقد جاء الشرع بعدم وقوعه لمن مات على كبيرة لما مر.
قوله: إن العفو إنما هو ترك عقوبة المستحق... إلخ.
قلنا: بل العفو إسقاط العقوبة سواء كان بسبب التوبة أو من أول الأمر، وقد دل الدليل على إسقاطها بالتوبة، وعلى أنها لا تسقط من دونها أما عند من يقول إن قبول التوبة غير واجب على الله تعالى وإنما هو تفضلٌ منه فظاهر، وأما من يقول بوجوب قبولها فلهم أن يقولوا الإسقاط يسمى عفواً وإن كان بسببها لقوله تعالى: {وَإِذْ وَاعَدْنَا مُوسَى أَرْبَعِينَ لَيْلَةً ثُمَّ اتَّخَذْتُمُ الْعِجْلَ مِنْ بَعْدِهِ وَأَنْتُمْ ظَالِمُونَ، ثُمَّ عَفَوْنَا عَنْكُمْ مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ}[البقرة:51،52] وهذا العفو إنما كان بسبب توبتهم بدليل قوله تعالى: {يَاقَوْمِ إِنَّكُمْ ظَلَمْتُمْ أَنفُسَكُمْ بِاتّخَاذِكُمُ الْعِجْلَ فَتُوبُوا إِلَى بَارِئِكُمْ}[البقرة:54] وقد مر في تفسير قوله: {ثُمَّ عَفَوْنَا عَنْكُمْ }[البقرة:52] في هذا المعنى بحث نفيس لا ينبغي جهله. والحمد لله رب العالمين.
[البقرة:83]
* إحسان التكليف.
*وجود الإحسان.
* القول الحسن.
قوله تعالى: {وَإِذْ أَخَذْنَا مِيثَاقَ بَنِي إِسْرَائِيلَ لاَ تَعْبُدُونَ إِلاَّ اللَّهَ وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَاناً وَذِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ وَقُولُوا لِلنَّاسِ حُسْناً وَأَقِيمُوا الصَّلاَةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ ثُمَّ تَوَلَّيْتُمْ إِلاَّ قَلِيلاً مِنْكُمْ وَأَنْتُمْ مُعْرِضُونَ}[البقرة:83] في الآية مسائل:
المسألة الأولى [إحسان التكليف]
جعل الله تعالى هذه التكاليف من جملة النعم على بني إسرائيل فتدل على أن التكليف إحسان ونعمة تفضل الله بها على المكلفين، وهذا تأكيد للدليل العقلي في حسن التكليف، وقد مر في أول الفاتحة في الثانية عشرة من مسائل قوله تعالى: {خَتَمَ اللَّهُ عَلَى قُلُوبِهِمْ} [البقرة:7].
المسألة الثانية [القول الحسن]
ظاهر الآية أنه لا فرق في حسن الإحسان إلى الوالدين والأقربين واليتامى والمساكين بين المؤمن والعاصي ولو كافراً يؤكده قوله تعالى: {وَصَاحِبْهُمَا فِي الدُّنْيَا مَعْرُوفاًً }[لقمان:15] وقوله تعالى: {وَيُطْعِمُونَ الطَّعَامَ عَلَى حُبِّهِ }[الإنسان:8] ظاهر، وفي الحديث: ((لا طاعة لمخلوق في معصية الخالق ))، ((وما كان على غير أمرنا فهو رد )) وقال تعالى: {وَمَنْ يَتَعَدَّ حُدُودَ اللَّهِ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ }[البقرة:229].
المسألة الثالثة [القول الحسن]
قوله تعالى: {وَقُولُوا لِلنَّاسِ حُسْناً }[البقرة:83] في معناه ما أخرجه ابن عدي من حديث جابر أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال: ((مداراة الناس صدقة )). وأخرجه الطبراني في الأوسط وفي سنده يوسف بن محمد بن المنكدر ضعفوه، وقال ابن عدي: أرجو أنه لا بأس به، وقال أبو زرعة: صالح الحديث.
قلت: رواه له أبو طالب والحديث قال القسطلاني: أخرجه ابن أبي عاصم في آداب الحكماء بسند أحسن من هذا.
وأخرج البزار من حديث أبي هريرة بسند قالوا ضعيف: ((رأس العقل بعد الإيمان بالله مداراة الناس )). وقال السخاوي لفظ رواية البزار: التودد إلى الناس وهو باللفظ الأول في رواية مرسلة عند العسكري وغيره، بل في رواية متصلة عند البيهقي في الشعب وبين أنها منكرة. وقال علي عليه السَّلام : (خالطوا الناس مخالطة إن متم معها بكوا عليكم وإن عشتم حنوا إليكم). رواه في النهج.
وقال ابن مسعود: خالط الناس ودينك لا تكلمنه. أخرجه الطبراني تعليقاً، وتكلمنه بكسر اللام وفتح الميم من الكلم وهو الجرح، أي خالط الناس بشرط أن لا يحصل في دينك خلل.
قال القسطلاني: وهذا الأثر وصله الطبراني في الكبير بلفظ: خالطوا الناس وصافوهم بما يشتهون ودينكم فلا تكلمنه -بضم الميم-وزايلوهم. والظاهر من هذا كله العموم فيدل على حسن إلانة القول مع المؤمن وغيره، ويدخل في ذلك الكافر، وقد اختلف في ذلك فقيل: المراد بالناس المؤمنين دون الكفار والفساق لوجوب لعنهم وذمهم وإهانتهم؛ ولقوله تعالى: {وَاغْلُظْ عَلَيْهِمْ }[التوبة:73] وقوله: {لاَ يُحِبُّ اللَّهُ الْجَهْرَ بِالسُّوءِ مِنَ الْقَوْلِ إِلاَّ مَنْ ظُلِمَ}[النساء:148] وقيل: الآية منسوخة بآية السيف ونحوها، وقال الباقر وعطاء: هي عامة للناس كلهم، واختاره الرازي والنجري في شرح الآيات، وقال في الزهور: المخالطة ليست بموالاة وهي جائزة للكفار والفساق.
وأخرج البيهقي في الشعب عن علي عليه السَّلام في قوله: {وَقُولُوا لِلنَّاسِ حُسْناً }[البقرة:83] يعني الناس كلهم، واحتجوا عليه بأن موسى وهارون عليهما السَّلام أمرا بإلانة القول مع فرعون قال تعالى: {فَقُولاَ لَهُ قَوْلاً لَيِّناً }[طه:44] وكذلك كان محمد صلى الله عليه وآله وسلم مأموراً بالرفق واللين قال تعالى: {وَلَوْ كُنْتَ فَظّاً غَلِيظَ الْقَلْبِ لاَنْفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ}[آل عمران:159] وقال تعالى:{ادْعُ إِلَى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَة}[النحل:125] وقال تعالى: {وَإِذَا مَرُّوا بِاللَّغْوِ مَرُّوا كِرَاماً }[الفرقان:72] وقال تعالى:{ وَإِذَا خَاطَبَهُمُ الْجَاهِلُونَ قَالُوا سَلاَماً }[الفرقان:63] وقال تعالى: {وَأَعْرِضْ عَنِ الْجَاهِلِينَ }[الأعراف:199] وقال تعالى: {فَاعْفُ عَنْهُمْ وَاصْفَحْ }[المائدة:13] والضمير لليهود.
وعن عائشة أن رجلاً استأذن على النبي صلى الله عليه وآله وسلم فلما رآهقال: بئس أخو العشيرة وبئس ابن العشيرة، فلما جلس تطلق النبي صلى الله عليه وآله وسلم في [وجهه]وانبسط له، فلما انطلق الرجل قالت له عائشة: يا رسول الله حين رأيت الرجل قلت له كذا وكذا ثم تطلقت في وجهه وانبسطت إليه، فقال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم : ((يا عائشة متى عهدتني فحاشاً إن شر الناس منزلة يوم القيامة من تركه الناس اتقاء شره)) . أخرجه البخاري، ومسلم، وأبو داود والترمذي، قوله تطلق بفتح الفوقية والطاء المهملة واللام المشددة بعدها قاف أي انشرح وهش.
وأخرجه أيضاً الحرث بن أبي أسامة بنحوه من حديث صفوان بن عسال وفيه فقال:(( إنه منافق أداريه عن نفاقه ، وأخشى أن يفسد علي غيره)).
وقال البخاري يذكر عن أبي الدرداء: إنا لنكشر في وجوه أقوام وإن قلوبنا لتلعنهم.
قال القسطلاني: وصله ابن أبي الدنيا وإبراهيم الحربي في غريب الحديث، والدينوري في المجالسة من طريق أبي الزاهرية عن جبير بن نفير، عن أبي الدرداء. ونكشر بكسر الشين المعجمة: نضحك ونبتسم.
وأجابوا عما احتج به الأولون بأن وجوب لعنهم لا ينافي إلانة القول لهم والانبساط إليهم لما كان لعنهم في غير وجوههم، على أن لقائل أن يقول مواجهتهم به وبالذم من القول الحسن إذ القول الحسن عبارة عما يحصل به انتفاعهم، ونحن إذا لعناهم وذممناهم كان ردعاً لهم عن ارتكاب القبيح، وهذا غاية النفع، نظيره تغليظ الوالد لولده لردعه عن القبيح أو إرشاده إلى الحسن فإنه يكون حسناً.
وأما قوله تعالى: {وَاغْلُظْ عَلَيْهِمْ }[التوبة:73] فالمراد عند حصول ما يقتضي ذلك كحال القتال وإظهارهم الاستخفاف بالله وبالإسلام ونحو ذلك ونحن لا نقول بحسن إلانة القول معهم على الإطلاق، ولهذا كان الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر على ثلاث مراتب فأولها بالقول اللين، ثم بالخشن، ثم بالضرب فما فوقه، فإذا اقتضى الحال الإغلاظ عليه وجب، وإلا فالواجب حسن القول معه.
وأما قوله تعالى: {لاَ يُحِبُّ اللَّهُ الْجَهْرَ بِالسُّوءِ مِنَ الْقَوْلِ إِلاَّ مَنْ ظُلِمَ}[النساء:148] فيجوز أن يكون المراد منه كشف حال الظالم ليحذره الناس كقوله صلى الله عليه وآله وسلم : ((اذكروا الفاسق بما فيه كي يحذره الناس )). وقيل في معناه غير هذا مما لا يصح معه الاستدلال به هنا، وسيأتي إن شاء الله.
وأما دعوى النسخ فيجاب عنه بأن النسخ لا يثبت إلا بدليل ولا دليل هنا، وذكر الرازي تفصيلاً منسوباً لأهل التحقيق حاصله: أن كلام الناس مع الناس إن كان في الأمور الدينية فإما أن يكون في الدعاء إلى الإسلام وهو مع الكفار، وفي الدعاء إلى الطاعة وهو مع الفساق، فالأول لا بد أن يكون بالقول الحسن لأمر موسى وهارون عليه السَّلام بذلك، وكذلك أمر نبينا صلى الله عليه وآله وسلم بذلك كما مر، وقال تعالى في أهل الكتاب: {وَلاَ تُجَادِلُوا أَهْلَ الْكِتَابِ إِلاَّ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ }[العنكبوت:46] وقال تعالى: {وَجَادِلْهُمْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ }[النحل:125].
والثاني: وهو دعاء الفساق كذلك بما مر ولقوله تعالى: {ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ ...}[المؤمنون:96] الآية، وإن كان في الأمور الدنيوية، فالمعلوم ضرورة أنه إذا أمكن التوصل إلى الغرض بالتلطف والقول الحسن لم يحسن سواه، ولأصحابنا تفصيل قريب من هذا فقالوا: إنما تحرم الموالاة والمعاداة الدينية فقط.
وأما الدنيوية فتجوز إلا ما حرمه الشرع وهو ثلاثة أنواع:
الأول: تعظيمه يعني العاصي بقول أو فعل لقوله تعالى: {وَلْيَجِدُوا فِيكُمْ غِلْظَةً }[التوبة:123] وقوله تعالى: {وَلِلَّهِ الْعِزَّةُ وَلِرَسُولِهِ وَلِلْمُؤْمِنِينَ}[المنافقون:8] وفي تعظيمه إشراكه في العزة، وفي الحديث عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم : ((من مشى إلى ظالم ليعينه وهو يعلم أنه ظالم فقد خرج من الإسلام)). أخرجه الطبراني من حديث أوس بن شرحبيل، ورواه في تكملة البحر وغيرها بلفظ: من مشى مع ظالم وهو يعلم أنه ظالم فقد برئ من الإسلام)).
قال الإمام المهدي: أراد من مشى إليه تعظيماً له إما بزيارة، أو تسليم، أو تهنئة، أو وداع إلا لحاجة عارضة يعلم أنه مشى لأجلها فيجوز كما مشى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم إلى أبي جهل ليأمره بإيفاء غريمه.
قلت: رواه ابن هشام في السيرة.
وعن كعب بن عجرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم : (( أعيذك بالله يا كعب بن عجزة من أمراء سيكونون من بعدي فمن غشي أبوابهم وصدقهم في كذبهم، وأعانهم على ظلمهم، فليس مني ولست منه، ولا يرد علي الحوض، ومن غشي أبوابهم أولم يغش فلم يصدقهم بكذبهم، ولم يعنهم على ظلمهم فهو مني وأنا منه سيرد علي الحوض)). أخرجه الترمذي.
النوع الثاني: ما يحصل به إعانته على معصية من قول أو فعل وإن لم يتضمن تعظيماً لقوله تعالى: {وَلاَ تَعَاوَنُوا عَلَى الإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ }[المائدة:2] وقوله صلى الله عليه وآله وسلم : ((إذا كان يوم القيامة نودي أين الظلمة وأعوان الظلمة وأشباه الظلمة حتى من برى لهم قلماً أو راق لهم دواة فيجمعون في تابوت من حديد ويرمون في جهنم)) . رواه في الشفاء وغيره.
النوع الثالث: الدعاء له بالمغفرة ونحوها.
واعلم أن الدعاء للغير يختلف حكمه باختلاف المدعو لهم، وجملة القول في ذلك أن المكلفين على ثلاثة أضرب: ضرب يقطع باستحقاقهم الثواب كالملائكة والأنبياء وأهل الكساء "، فهؤلاء يجوز الدعاء لهم بخير الدنيا والآخرة على القطع من غير تعليق بشرط، وضرب يقطع بتلبسهم بالمعصية الموجبة للكفر أو الفسق نحو من شاهدناه يشرب خمراً أو يفعل خصلة كفرية من غير عذر، فهؤلاء نقطع بكفرهم أو فسقهم في تلك الحال، ويجوز الدعاء عليهم على القطع ما داموا مشاهدين على تلك المعصية، ولا يجوز الدعاء لهم بالمغفرة ونحوها لقوله تعالى: {مَا كَانَ لِلنَّبِيِّ وَالَّذِينَ آمَنُوا أَنْ يَسْتَغْفِرُوا لِلْمُشْرِكِينَ ...}[التوبة:113] الآية ونحوها.
وضرب لم يعلم فيهم شيء من الأمرين وسواء كان ظاهرهم العفة والصلاح أو خلافه كمن فعل كبيرة ثم غاب عنا وكمن أخبر عن نفسه بالفسق، فهؤلاء لا يمتنع القطع في حقهم فلا نقطع بفسقهم ولا بإيمانهم في نفس الأمر بل بحسب الظاهر، ولا يجوز الدعاء لهم ولا عليهم إلا مشروطاً، وتختلف في حقهم كيفية الدعاء فمن كان ظاهره الصلاح حسن حذف الشرط في الدعاء له ويكون مقدراً، ويجوز ذلك ما لم يوهم المعاداة إذ موالاته واجبة وكذا تعظيمه عملاً بالظاهر، ومن كان ظاهره عدم الصلاح فيجوز ذكر الشرط، ويحسن حذفه ما لم يوهم الموالاة؛ لأن معاداته وجبت باعتبار ظاهره وكذا الاستخفاف به.
قال النجري: ولا يجوز الدعاء المشروط على من ظاهره الصلاح، ولا الدعاء المشروط لمن ظاهره عدم الصلاح لأن فيه نقضاً للموالاة والمعاداة وهما يجبان بحسب الظاهر فقط، وهذا مما يتعلق بالغير، وأما ما يتعلق بالنفس فمن قطع بعصمة نفسه جاز له الدعاء لها على القطع، وإن قطع بتلبسه بكبيرة لم يجز له الدعاء لها، وهذا كله في الدعاء بالمنافع الأخروية، وأما الدنيوية فيجوز الدعاء لكل أحد بما يجوز من الله فعله كالرزق والعافية مشروطاً بعدم المفسدة، وأما الدعاء بدفع المضار الأخروية كترك العقاب فيجوز عند أبي هاشم لكل أحد سواء كان مستحقاً للعقاب أم لا وسواء كان هو الداعي لنفسه أم لا لحسن دفع الضرر مطلقاً، ومنعه أبو علي إلا لمن لا يستحق العقاب، ومما جوزه أصحابنا من الإحسان إلى الفساق والكفار إطعامهم لأن الله مدح من أطعم الأسارى بقوله: {وَيُطْعِمُونَ الطَّعَامَ عَلَى حُبِّهِ ...}[الإنسان:8] الآية.
وروي أن علياً عليه السَّلام لما ضربه ابن ملجم قال: أطعموه وأحسنوا أساره فإن أعش فالحق حقي أرى فيه رأيي، وإن مت فرأيكم في حقكم. ذكره ابن بهران في تخريج البحر، وكذلك يجوز أكل طعامهم، أما الفاسق فلأنه من أهل الملة، وأما الكافر فلقوله تعالى: {وَطَعَامُ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ حِلٌّ لَكُمْ ...}[المائدة:5] الآية إلا أن يترطب به عند من يحكم بنجاسته، وهذا كله ما لم يؤد إلى مودتهم وميل الخاطر إليهم، وكذا يجوز النزول عليه يعني الفاسق وإنزاله والسرور بمسرته، والعكس في بعض الأحوال، ومحبته لخصال خير فيه أو لكونه رحماً، وكذا يجوز إيناسه وإعانته على بعض أموره كذلك ذكره في الأزهار وتكملة البحر، قال في التكملة: مع إظهار كراهة فعله وفعل الواجب من النكير عليه كما كان منه صلى الله عليه وآله وسلم في مخالفة من سماه الله فاسقاً حيث قال: {إِنْ جَاءَكُمْ فَاسِقٌ بِنَبَإٍ فَتَبَيَّنُوا}[الحجرات:6] ولقوله تعالى: {لاَ يَنْهَاكُمُ الله عن الَّذِينَ لَمْ يُقَاتِلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَلَمْ يُخْرِجُوكُمْ مِنْ دِيَارِكُمْ أَنْ تَبَرُّوهُمْ...}[الممتحنة:8] الآية؛ ولإنزاله صلى الله عليه وآله وسلم وفد ثقيف المسجد وهو مشهور- قال- ولا بأس بإلانة القول لهم مع فعل ما يجب من النكير، واحتج بقوله تعالى: {وَلاَ تُجَادِلُوا أَهْلَ الْكِتَابِ إِلاَّ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ }[العنكبوت:46] وبفعله صلى الله عليه وآله وسلم مع الرجل الذي قال فيه: ((بئس أخو العشيرة هو )). وقد تقدم.
فأما تعظيم أهل الشرف من الكفار والفساق رجاء لرجوعهم إلى الخير، أو لنصرتهم أو خذلانهم الباطل، أو نحو ذلك من المصالح العامة، فلا إشكال في جوازه كما فعل صلى الله عليه وآله وسلم مع كثير من رؤساء المشركين حتى بلغ من تعظيمهم أن أفرشهم رداءه، وأقعد صلى الله عليه وآله وسلم عدي بن حاتم على مخدته قبل أن يسلم وقال في حقه: ((إذا جاءكم كريم قوم فأكرموه )). فأما تعظيمه لمصلحة خاصة بالمعظم له من تحصيل منفعة دنيوية، أو دفع مضرة في نفسه أو ماله فقال الإمام المهدي: الأقرب أن الشرع لم يبحه لذلك وأطال في الاحتجاج، وحاصل ما احتج به العمومات الواردة في الزجر عن مودة الكفار والفساق نحو قوله تعالى: {تُلْقُونَ إِلَيْهِمْ }[الممتحنة:1] وقوله تعالى: {قُلْ إِنْ كَانَ آبَاؤُكُمْ وَأَبْنَاؤُكُمْ ...} إلى قوله: {أَحَبَّ إِلَيْكُمْ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ...}[التوبة:24] الآية، وقوله صلى الله عليه وآله وسلم : ((القوا الفساق بوجوه مكفهرة )) ونحوها، ثم قال: فلا يخرج من هذا العموم إلا ما خصته دلالة واضحة شرعية، ولم يخصص هذا الوجه بالجواز دلالة، ولا يمكن قياس المصلحة الخاصة على العامة.
قلت: ولقائل أن يقول هذه العمومات لا تنافي حسن القول معهم، ومجاملتهم، والتلطف في التوسل إلى نيل الأغراض منهم، ونحو ذلك مما شمله أدلة القائلين بأن قوله تعالى: {وَقُولُوا لِلنَّاسِ حُسْناً }[البقرة:83] عامة للناس كلهم؛ لأن الذي اقتضته هذه الأدلة هو تحريم مودتهم والذم على ترك جهادهم والمشي إليهم لمجرد تعظيمهم، وترك الهجرة من أرضهم، وتحريم ذلك مما لا نزاع فيه إنما النزاع في إظهار التلطف وإلانة القول معهم، والإحسان إليهم حيث لا مقتضي للإغلاظ ونحوه، وحديث: ((القوا الفساق بوجوه مكفهرة )) محمول على وجود المقتضي لذلك لا في كل حال، وفي هذا جمع بين الأدلة، على أن الحديث لم يذكر ابن بهران له تخريجاً وإنما قال هكذا روي، وعلى الجملة أن الجائز ما كان على جهة المداراة وهي لين الكلام وترك الإغلاظ في القول، والمحرم ما كان على وجه المداهنة، والفرق بينهما أن المداراة الرفق بالجاهل في التعليم، والفاسق في النهي عن فعله وترك الإغلاظ عليه حيث لا يظهر ما هو فيه، والإنكار عليه باللطف حتى يرجع عما هو مرتكبه، والمداهنة معاشرة المعلن بالكفر والفسق، وإظهار الرضى بما هو فيه من غير إنكار عليه باللسان ولا بالقلب. هكذا قيل.
وقال الإمام المهدي: هي التغاضي عن المنكر لئلا يغضب فاعله وهذا أولى إذ يعد مداهناً وإن لم يظهر الرضى.
قوله تعالى: {ثُمَّ أَنْتُمْ هَؤُلاَء تَقْتُلُونَ أَنفُسَكُمْ وَتُخْرِجُونَ فَرِيقاً مِنْكُمْ مِنْ دِيَارِهِمْ تَتَظَاهَرُونَ عَلَيْهِمْ بِالإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ}[البقرة:85] التظاهر: التعاون، وفي الآية دليل على قبح إعانة الظالم على ظلمه، وقد تقدم البحث في ذلك في قوله تعالى: {وَلاَ تَشْتَرُوا بِآيَاتِي ثَمَناً قَلِيلاً }[البقرة:41] فإن قيل: أليس الله قد أعان الظالم على الظلم بخلق قدرته وشهوته الداعية إلى فعله وأزال العوائق والموانع، فلو كانت إعانة الظالم قبيحة لو جب أن لا يفعلها الله تعالى.
قيل: ذلك تمكين ولا بد منه مع التكليف، وليس بإعانة لعدم إرادته تعالى لوقوع الظلم، بل قد نهى عنه وتوعد فاعله، وقد مر تحقيق الإعانة في قوله تعالى: {وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ }[الفاتحة:5].
قوله تعالى: {وَقَالُوا قُلُوبُنَا غُلْفٌ بَلْ لَعَنَهُمُ اللَّهُ بِكُفْرِهِمْ فَقَلِيلاً مَا يُؤْمِنُونَ}[البقرة:88] قرئ غلف بسكون اللام فقيل جمع أغلف وهذه قراءة الجمهور أي خلقت مغشاة بأغطية لا يصل إليها ما جاء به محمد صلى الله عليه وآله وسلم ولا تفقهه مستعار من الأغلف الذي لم يختن، وقيل: هو تخفيف غلف بضم اللام وقرئ به جمع غلاف، والمعنى على هذه القراءة أن قلوبنا أوعية للعلم فنحن مستغنون بما عندنا عن غيره، ولا تتسع قلوبنا لسواه؛ لأن الشيء المغلف لا يتسع غلافه لغيره، أو أوعية للعلوم فلو كان ما جئت به حقاً لقبلته ووعته.
قال الرازي: واختار المعتزلة الأول ثم قالوا: هذه الآية تدل على أنه ليس في قلوب الكفار ما لا يمكنهم معه الإيمان لاغلاف، ولكن ولا سد إذ لو كان شيء من ذلك لكان هؤلاء اليهود صادقين في قولهم، وكان لا يكذبهم الله بقوله: {بَلْ لَعَنَهُمُ اللَّهُ بِكُفْرِهِمْ }[البقرة:88] قالوا: وهذا يدل على أن معنى أنا جعلنا على قلوبهم أكنة أن يفقهوه ونحوها منع الألطاف أو تشبيه حالهم في إصرارهم على الكفر بحال المجبور على الكفر، ونظير هذه الآية قوله تعالى: {وَقَالُوا قُلُوبُنَا فِي أَكِنَّةٍ مِمَّا تَدْعُونَا إِلَيْهِ وَفِي آذَانِنَا وَقْرٌ...}[فصلت:5] الآية.
قلت: ودليل صحة ما ذهب إليه المعتزلة الإضراب في قوله: {بَلْ لَعَنَهُمُ اللَّهُ بِكُفْرِهِمْ }[البقرة:88].
قال أبو حيان: بل للإضراب وليس إضراباً عن اللفظ المقول؛ لأنه واقع لا محالة فلا يضرب عنه، وإنما الإضراب عن النسبة التي تضمنتها قولهم إن قلوبهم غلف لأنها خلقت متمكنة من قبول الحق، مفطورة لإدراك الصواب، فأخبروا عنها بما لم تخلق عليه، واعترض الرازي كلام أئمة العدل بأن في تفسير الغلف وجوهاً ثلاثة، فلا يجزم بواحد منها إلا بدليل.
سلمنا أن المراد ما ذهبوا إليه، فلا نسلم أن الآية تدل على ذم مقالتهم، وأما لعنهم فهو بسبب كفرهم لا لقولهم هذا، سلمنا فيجوز أن يكون المراد أنهم ذكروا ذلك على سبيل الاستفهام الإنكاري، يعني ليست قلوبنا غلف بل هي قوية وخواطرنا سليمة، وقد تأملنا ما جئت به يا محمد فلم نجد شيئاً منه قوياً، فلما قالوا ذلك لعنهم الله بكفرهم بسبب هذا القول، ويحتمل أن قلوبهم ما كانت في أغطية بل كانوا عالمين بصحة نبوة محمد صلى الله عليه وآله وسلم إلا أنهم أنكروا المعرفة، وادعوا أن قلوبهم غلف وغير واقفة على ذلك، فكان كفرهم لعنادهم.
والجواب: أن الجزم بالتفسير الأول لم يكن لغير دليل، بل هو الذي يقتضيه الظاهر، وتوجبه القراءة المتواترة، وسائر الوجوه ضعيفة لا دليل عليها وإن كانت محتملة لكنها لا تتخرج إلا على القراءات الشاذة.
قوله: لا نسلم أن الآية تدل على ذم هذه المقالة.
قلنا: دفع ذلك مكابرة، والذوق والسياق يدلان على ذمهم عليها دلالة واضحة.
قوله: وأما لعنهم فهو بسبب كفرهم... إلخ.
قلنا: لو سلم ذلك فالآية واردة في ذمهم على هذه المقالة، وإن كان لعنهم وكفرهم لغيرها فهم أهل كل جريمة، ولا يضرنا ذلك ولا يقدح في دلالة الإضراب على الذم، وهكذا يقال في سائر الاحتمالات والتجويزات، وإن كان الميل إليها مع مخالفتها للظاهر بلا دليل ترجيح بغير مرجح.
قوله تعالى: {فَلَمَّا جَاءَهُمْ مَا عَرَفُوا كَفَرُوا بِهِ فَلَعْنَةُ اللَّهِ عَلَى الْكَافِرِينَ} [البقرة:89] دلت الآية على أن الكفر ليس هو الجهل فقط؛ لأنه تعالى كفرهم بجحدهم نبوة محمد صلى الله عليه وآله وسلم بعد أن عرفوها.
قوله تعالى: {فَبَاءُوا بِغَضَبٍ عَلَى غَضَبٍ وَلِلْكَافِرِينَ عَذَابٌ مُهِينٌ}[البقرة:90] في الآية دليل على أنه يصح وصف الله تعالى بالغضب، وفي السنة أخبار كثيرة تدل على ذلك؛ إذ تكرر فيها من فعل كذا لقي الله وهو عليه غضبان، وتدل على أن غضبه تعالى يتزايد ويكثر، ويختلف باختلاف أنواع المعاصي، فلا يكون غضبه تعالى على الفاسق كالكافر، ولا على من كفر بخصلة واحدة من خصال الكفر كمن كفر بخصلتين، وقد تقدم في معنى الغضب إذا نسب إلى الباري تعالى في قوله تعالى: {غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ }[الفاتحة:7] وفي قوله:{مَاذَا أَرَادَ اللَّهُ بِهَذَا مَثَلاً }[البقرة:26] وقد تمسك الخوارج بقوله تعالى: {وَلِلْكَافِرِينَ عَذَابٌ مُهِينٌ }[البقرة:90] على كفر كل عاصٍ فقالوا: قد ثبت أن الفاسق يعذب، وثبت بهذه الآية أنه لا يعذب إلا الكفار، فيلزم أن الفاسق كافر، وتمسكت بها المرجئة لتصحيح الإرجاء، فقالوا: دلت على أنه لا يعذب إلا الكافر، والفاسق ليس بكافر، فوجب القطع بأن الفاسق لا يعذب.
والجواب: أن القولين باطلان معاً؛ لأن الآية إنما دلت على ثبوت عذاب الكافر، ولا تعرض فيها للفاسق بنفي ولا إثبات.
سلمنا فبالمفهوم ولا يعمل به مع معارضة المنطوق، وقد دل الدليل على ثبوت المنزلة بين المنزلتين، وفيه إبطال قول الخارج، وعلى تعذيب الفاسق وفيه إبطال قول المرجئة، وكل ذلك قد تقدم.
[البقرة:91].
* في لفظة ما.
* جواز المجادلة بالحق.
* الخطاب في الآية.
قوله تعالى:{وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ آمِنُوا بِمَا أَنزَلَ اللَّهُ قَالُوا نُؤْمِنُ بِمَا أُنزِلَ عَلَيْنَا وَيَكْفُرُونَ بِمَا وَرَاءَهُ وَهُوَ الْحَقُّ مُصَدِّقاً لِمَا مَعَهُمْ قُلْ فَلِمَ تَقْتُلُونَ أَنْبِيَاءَ اللَّهِ مِنْ قَبْلُ إِنْ كُنتُمْ مُؤْمِنِينَ}[البقرة:91] في الآية مسائل:
المسألة الأولى[في لفظة (ماء)]
في الآية دليل على أن لفظة (ما) الموصولة للعموم لأن الله تعالى أمرهم بالإيمان بما أنزل الله، فلما آمنوا ببعض دون بعض ذمهم على ذلك، ولولا أن (ما) للعموم لم يحسن ذمهم.
قلت: ويدل على كونها للعموم ما دل على غيرها من التبادر وصحة الاستثناء.
المسألة الثانية [جواز المجادلة بالحق]
هذه الآية من جملة الأدلة على جواز المجادلة بالحق، وعلى جواز إيراد المناقضة على الخصم وبيان ذلك أنهم لما أمروا أن يؤمنوا بما أنزل الله فقالوا: أنؤمن بما أنزل علينا كانوا مناقضين؛ لأن كون ما لم ينزل عليهم من عند الله يوجب الإيمان ولهذا رد الله عليهم بقوله: {وَهُوَ الْحَقُّ مُصَدِّقاً لِمَا مَعَهُمْ }[البقرة:91] لأنهم إذا كفروا بما يوافق التوراة فقد كفروا بها، وهذا نقض لمقالتهم، ثم أورد تعالى عليهم نقضاً آخر فقال: {فَلِمَ تَقْتُلُونَ أَنْبِيَاءَ اللَّهِ مِنْ قَبْلُ إِنْ كُنتُمْ مُؤْمِنِينَ}[البقرة:91] وبيانه أن يقال: إن التوراة قد دلت على صدق من دلت المعجزة على صدقه،ودلت على أن قتل من كان صادقاً في دعوى النبوة كفر، وأنتم قد قتلتم من دلت المعجزة على صدقه، وهذا ينقض ما ادعيتموه من الإيمان بالتوراة.
المسألة الثالثة [الخطاب في الآية]
الخطاب للموجودين بحضرة النبي صلى الله عليه وآله وسلم والمراد آباؤهم لأنهم الذين قتلوا الأنبياء، وإنما وجه الخطاب للحاضرين لأنهم راضون بفعل آبائهم، ومن هنا يؤخذ من الآية أن الراضي بفعل قوم كالداخل معهم فيه.
قوله تعالى: {وَأُشْرِبُوا فِي قُلُوبِهِمُ الْعِجْلَ بِكُفْرِهِمْ}[البقرة:93] أي: داخلهم حب العجل ورسخ في قلوبهم كما يداخل الصبغ الثوب، والشراب أعماق البدن، ففيه حذف المضاف وإقامة المضاف إليه مقامه للمبالغة في تمكن حب العجل في قلوبهم، وشغفهم بعبادته،وفي ذلك دليل على أن فاعلاً آخر فعل بهم ذلك، ومعلوم أنه لا يقدر عليه إلا الله، ومن هنا أخذ المجبرة من الآية أن الله تعالى الذي يخلق الكفر في قلب الكافر قالوا: وصرف اللفظ عن ظاهره لغير دليل ممنوع، أجاب العدلية بأنا لا نسلم أن المراد أن فاعلاً فعل بهم ذلك وإنما جيء به مبنياً للمفعول للدلالة على فرط ولوعهم بعبادته ومحبته، كما يقال: فلان معجب برأيه، سلمنا فالمراد أن مزيناً زينه في قلوبهم ورغبهم فيه حتى تمكن حبه في قلوبهم، والمزين السامري وإبليس وجنوده من شياطين الإنس والجن، وليس هذا خروجاً عن الظاهر لغير دليل، بل للدلائل القطعية على أن العبد هو الموجد لفعله باختياره، وقد تقدم كثير من ذلك.
قلت: ويجوز إسناد الإشراب إلى الله تعالى جزاء على تماديهم في الكفر والعناد، ويدل عليه قوله: {بِكُفْرِهِمْ} والمراد أنه تعالى خذلهم ومنعهم الألطاف، وهذا جائز على قواعد العدل، وقد نص على مثله غير واحد من أئمة العترة " وغيرهم كما مر في قوله: {خَتَمَ اللَّهُ عَلَى قُلُوبِهِمْ} [البقرة:7] وغيرها.
قوله تعالى: {وَاللَّهُ بَصِيرٌ بِمَا يَعْمَلُونَ }[البقرة:96] يؤخذ منه أن لفظ بصير إذا أطلق في حق الله كان بمعنى عالم؛ لأن من الأعمال ما لا يصح أن يرى، وما لا تصح رؤيته لا يمكن تعلق الإدراك به إلا بمعنى العلم.
قوله تعالى: {مَنْ كَانَ عَدُوّاً لِلَّهِ وَمَلاَئِكَتِهِ وَرُسُلِهِ وَجِبْرِيلَ وَمِيكَالَ فَإِنَّ اللَّهَ عَدُوٌّ لِلْكَافِرِينَ}[البقرة:98] في الآية دليل على أن لجبريل وميكائيل ميزة في الفضل على سائر الملائكة وإلا لم يكن لإفرادهما بالذكر فائدة، وتدل أيضاً على أن عداوة المذكورين كفر لأن الأصل فإن الله عدو لهم إلا أنه عدل إلى الإظهار للإيذان بكفرهم، والمراد بعداوة الله مخالفة أمره عناداً والخروج عن طاعته مكابرة،أو عداوة خواصه ومقربيه،لكن صدر الكلام بذكره الجليل تفخيماً لشأنهم،وإيذاناً بأن عداوتهم عداوته عز وعلى.
قال أبو السعود: ويؤخذ منه أن مخالفة أوامر الله ومعاداة أوليائه كفر، وقد تقدم عند قدماء أئمتنا " أن مرتكب الكبيرة يسمى كافر نعمة.
[البقرة:102]
* في حقيقة السحر بحسب اللغة.
* في معناه في عرف الشرع.
* في أقسام السحر.
* في الخلاف في تعلم السحر وتعليمه.
* حكم السحر.
قوله تعالى: {وَاتَّبَعُوا مَا تَتْلُو الشَّيَاطِينُ عَلَى مُلْكِ سُلَيْمَانَ وَمَا كَفَرَ سُلَيْمَانُ وَلَكِنَّ الشَّيَاطِينَ كَفَرُوا يُعَلّمُونَ النَّاسَ السِّحْرَ وَمَا أُنزِلَ عَلَى الْمَلَكَيْنِ بِبَابِلَ هَارُوتَ وَمَارُوتَ وَمَا يُعَلّمَانِ مِنْ أَحَدٍ حَتَّى يَقُولاَ إِنَّمَا نَحْنُ فِتْنَةٌ فَلاَ تَكْفُرْ فَيَتَعَلَّمُونَ مِنْهُمَا مَا يُفَرِّقُونَ بِهِ بَيْنَ الْمَرْءِ وَزَوْجِهِ وَمَا هُمْ بِضَارِّينَ بِهِ مِنْ أَحَدٍ إِلاَّ بِإِذْنِ اللَّهِ وَيَتَعَلَّمُونَ مَا يَضُرُّهُمْ وَلاَ يَنفَعُهُمْ وَلَقَدْ عَلِمُوا لَمَنِ اشْتَرَاهُ مَا لَهُ فِي الآخِرَةِ مِنْ خَلاَقٍ وَلَبِئْسَ مَا شَرَوْا بِهِ أَنفُسَهُمْ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ}[البقرة:102] بابل قيل: أرض الكوفة، وقيل غيرها، وفي هذه الجملة مسائل:
المسألة الأولى في حقيقة السحر بحسب اللغة
قال الراغب: السحر يقال على معان:
الأول: الخداع وتخييلات لا حقيقة لها نحو ما يفعلها المشعبذ بصرف الأبصار عما يفعله لخفة يد، وما يفعله النمام بقول مزخرف عائق للأسماع.
الثاني: استجلاب معاونة الشيطان بضرب من التقرب إليه.
الثالث: ما يذهب إليه الأغتام وهو اسم لفعل يزعمون أنه من قوته يغير الصور والطبائع فيجعل الإنسان حماراً، قال ولا حقيقة لذلك عند المحصلين، وقد استشهد لهذه المعاني بآيات قرآنية ذكرها في كتابه المفردات.
وقال الرازي: ذكر أهل اللغة أنه في الأصل عبارة عما لطف وخفي سببه.
المسألة الثانية في معناه في عرف الشرع
وقد حققه الرازي فقال: هو مختص بكل أمر يخفى سببه ويتخيل على غير حقيقته، ويجري مجرى التمويه والخداع، ويدل عليه قوله تعالى: {سَحَرُوا أَعْيُنَ النَّاسِ }[الأعراف:116] أي: موهوا عليهم، ولقوله: {يُخَيَّلُ إِلَيْهِ مِنْ سِحْرِهِمْ أَنَّهَا تَسْعَى }[طه:66] وإذا استعمل مطلقاً فهو اسم ذم وإذا قيد فقد يكون مدحاً كقوله صلى الله عليه وآله وسلم : ((إن من البيان لسحراً ))واختلف هل له حقيقة أولا؟ فقالت العترة، والمعتزلة، وأكثر الفقهاء: لا حقيقة له، وقال المازري: مذهب أهل السنة وجمهور علماء الأمة على إثبات السحر، وأن له حقيقة كحقيقة غيره من الأشياء الثابتة.
احتج الأولون بوجوه:
أحدها: أن متعاطي السحر يدعي أنه يقدر بواسطة السحر على ما لا يقدر عليه إلا الله، وقد علم أنه لا يقدر على خلق الأجسام والألوان والطعم والحياة إلا الله جل وعلى، وإذا كان المراد كذلك بطل أن يكون للسحر حقيقة وتأثير، فإن قيل: ما الدليل على أنه لا يقدر على خلق هذه الأشياء إلا الله تعالى؟
قيل: الدليل عليه أن كل ما سوى الله إما متحيزٌ أو قائمٌ بالمتحيز فلو كان غير الله فاعلاً لشيء من ذلك لكان ذلك الغير متحيزاً، وذلك المتحيز يجب أن يكون قادراً بقدرة؛ إذ لو كان قادراً للذات لكان كل جسم كذلك لأن الأجسام متماثلة لاشتراكها في الصفة الذاتية كما مر في الفاتحة، والقادر بالقدرة لا يصح منه إيجاد الأجسام ونحوها وإلا لصح منا لتماثل الأجسام ومن حق المتماثلين الاشتراك فيما يجب ويصح ويستحيل، والمعلوم ضرورة أنه لا يصح منا كما يعلم أنه لا يصح منا الجمع بين الضدين وجعل القديم محدثاً، فإن قيل: يجوز أن يكون تعذره لفقد أمر فينا بحيث لو وجد صح منا فعل الأجسام، نحو أن يجوز أن يكون ثم قدرة على فعل الجسم لم يخلقها الله فينا، ولو خلقها فينا لصح منا ذلك الفعل، ومع هذا التجويز لا نقطع بعدم الصحة فضلاً عن كونه ضرورياً.
قيل: لو جوزنا ما ادعيتم لجوزنا كون تعذر الجمع بين الضدين وجعل القديم محدثاً لفقد ذلك الأمر، وذلك يستلزم تجويز حصول المحالات كجعل الأسود أبيضاً في حالة واحدة، فإن قيل: وجود الجسم جائز واجتماع الضدين محال، فلا يصح قياس أحدهما على الآخر.
قيل: وجودالجسم وإن كان جائزاً فعلمنا باستحالته منا كعلمنا باستحالة الجمع بين الضدين فلو جوزنا وجود قدرة فينا تؤثر في إيجاده لجوزنا مثل ذلك في الجمع بين الضدين لاتفاقهما في علم استحالتهما، والحاصل أنا نعلم أنه يستحيل منا فعل الأجسام مطلقاً وإن وجد ما وجد كما نعلم استحالة الجمع بين الضدين كذلك، وهذا الدليل هو الذي اعتمده الإمام المهدي، والجمهور يعتمدون في المسألة دليلاً آخر، قالوا: لو صح من جسم إحداث جسم آخر لصح منا؛ لأن كل جسم قادر بقدرة والقدر وإن اختلفت فمقدوراتها منحصرة متجانسة كالخياطة والنجارة والبناء وما أشبه ذلك، وإنما انحصرت مقدوراتها وتجانست لكونها قدراً، فكلما شاركها في كونها قدراً وجب أن يشاركها في انحصار المقدور وتجانسه، والجسم ليس من مقدورات القدر فيجب أن لا يقدر على فعله جسم آخر، وهذا الدليل مبني على خمسة أصول كما عرفت.
واعلم أنه قد أورد على هذا الدليل من حيث هو اعتراضات:
الأول: منع انحصار ما سوى الله في المتحيز والقائم بالمتحيز فإن الفلاسفة يثبتون العقول والنفوس الفلكية والنفوس الناطقة، وزعموا أنها ليست بمتحيزة ولا قائمة بالمتحيز، ولا يستقيم دليلكم هذا إلا بعد بطلان هذا القول، فإن قيل: لو وجد موجود هكذا لكان مثلاً لله تعالى.
قيل: لا نسلم ذلك لأن الاشتراك في التجانس لا يقتضي الاشتراك في الماهية.
والجواب: أن هذا الاعتراض لا معنى له لوضوح بطلانه وحصول اليقين بتضعضع أركانه فلا نطيل الكلام عليه، ولعلك تجد في قوله تعالى: {فَلاَ تَجْعَلُوا لِلَّهِ أَندَاداً }[البقرة:22] ما يرشدك إلى التفصيل...
الاعتراض الثاني
قالوا: ما المانع من أن تكون بعض الأجسام يقدر على بعض لذاته، فإن قيل منع من ذلك تماثلها.
قيل: لا نسلم التماثل.
والجواب: أنا قد دللنا على التماثل وحققنا معناه فيما سلف في كتابنا هذا بما يغني عن التطويل هنا.
الثالث: لا نسلم أن القادر بقدرة لا يصح منه خلق الجسم ونحوه؛ لأنكم جعلتم العلة في تجانس مقدورات القدر كونها قدراً، وكونها قدراً ليس بصفة لها لاختلافها في الذوات والصفات الذاتية والمقتضاة، ولا هو حكم أيضاً وإلا لوجب من الاشتراك فيه الاشتراك في مقتضيه وهي الصفة المقتضاة أو الذاتية، وقد علم خلافه، وإذا لم يكن كونها قدراً أمراً وجودياً زائداً على ذواتها بل مجرد تسمية لم يصح علة مؤثرة في الحكم وهو التجانس، وهذا الاعتراض أورده الإمام المهدي.
الرابع: أن هذا القياس لو صح فإنما يفيد الظن لا القطع لجواز أن يكون هذا الحكم مما لا يعلل، ومن مذهبكم أن كثيراً من الأحكام لا تعلل، ولو سلم أنه معلل فيجوز أن يكون معللاً بغير ما ذكرتم، ولا يجب في الأحكام المشتركة أن تكون معللة بعلل مشتركة فإن القبح حكم مشترك بين الظلم وغيره وهو معلل في الظلم بكونه ظلماً والكذب بكونه كذباً، وفي الجهل بكونه جهلاً، ولو سلم وجوب ذلك فلا نسلم أنه لا مشترك إلا كوننا قادرين بالقدرة لجواز أن تكون هذه القدرة التي لنا مشتركة في وصف معين، وتلك القدرة التي تصلح لخلق الجسم خارجة عن هذا الوصف، ولو سلم أن العلة ما ذكرتم فيجوز أن تكون هي مع خصوصية في الأصل لم توجد في الفرع، ويجوز أن يكون ثم مانع في الفرع عدم في الأصل، ولا سبيل لكم إلى دعوى القطع في شيء من ذلك، والمسألة قطعية لا يكتفى فيها بالظن، وهذا الاعتراض ذكرته الأشاعرة.
الخامس: أن يقال قد جعلتم القدر مختلفة في ذواتها وصفاتها، ومن الجائز أن يكون ثم قدرة من أحكامها صحة إيجاد الأجسام بها فإذا أراد الله في جسم إيجاد جسم خلق فيه تلك القدرة، ولا يلزم أن تشاركها غيرها من القدر لثبوت الاختلاف بينها، وهذا الاعتراض أورده أبو الحسين.
واعلم أن هذه الاعتراضات الثلاثة واردة على دليل الجمهور، ولأجلها عدل الإمام المهدي إلى الدليل الأول.
قلت: ويمكن أن يجاب بأن هذا تشكيك في مقابلة العلم، ولا يبعد دعوى الضرورة في امتناع إيجاد جسم بجسم آخر، ولو جاز ذلك لجاز من الساحر أن يخلق لنفسه المال والبنين، والمعلوم خلافه.
الوجه الثاني: مما احتج به الأولون أنا لو جوزنا كون للسحر حقيقة وتأثير لتعذر الاستدلال بالمعجزات على النبوة؛ لأنه لا يمكننا القطع بأن هذه الخوارق التي ظهرت على الأنبياء صادرة عن الله تعالى، بل يجوز أن مدعي النبوة أتى بها من جهة السحر.
قلت: وقد يقال الفرق بين المعجزة والسحر جلي.
الوجه الثالث: قوله تعالى: {وَمَا هُمْ بِضَارِّينَ بِهِ مِنْ أَحَدٍ إِلاَّ بِإِذْنِ اللَّهِ}[البقرة:102] واعترض بأن هذا لا يدل على المدعى فإن النار لا تحرق إلا بإذن الله ولا يدعى للسحر أكثر من ذلك، بل الفاعل المختار لا يفعل إلا بإذن الله.
الوجه الرابع: أن الله سماه خيالاً فقال: {يُخَيَّلُ إِلَيْهِ مِنْ سِحْرِهِمْ أَنَّهَا تَسْعَى }[طه:66] والخيال لا حقيقة له، واعترض بأنه أنواع منه ماله حقيقة، ومنه ما هو تخييل، فالآية تصدق في نوع ولا تنفي آخر.
احتج أهل القول الثاني وهم القائلون بأن للسحر حقيقة بوجوه:
أحدها: أنه قد يكون سبباً لحصول الضرر كالقتل وتغيير العقل وهذا معلوم، وقد قال تعالى: {وَمَا هُمْ بِضَارِّينَ بِهِ مِنْ أَحَدٍ إِلاَّ بِإِذْنِ اللَّهِ}[البقرة:102] والاستثناء يدل على حصول الآثار بسببه.
الوجه الثاني: ما روي أنه صلى الله عليه وآله وسلم سحر وأن السحر عمل فيه وقال إنه ليخيل إليه أنه فعل الشيء ولم يفعله، وأن سحره كان في مشط ومشاطة وخف طلعة ذكروا، وأنه في بئر وأن البئر دفنت وذلك فيها، وأنه لم يخرجه لئلا تثور على الناس منه شرة، أخرجه أحمد، والبخاري، ومسلم من حديث عائشة، وهو صريح في أن السحر أشياء دفنت ثم أخرجت والتأثير للنبي صلى الله عليه وآله وسلم وقع بسببها.
الوجه الثالث: ما أخرجه أحمد، وابن جرير، والحاكم وصححه، وابن أبي حاتم والبيهقي في السنن عن عائشة أنها قالت: قدمت علي امرأة من دومة الجندل وذكرت الحديث بطوله، وفيه أن تلك المرأة تعلمت السحر من هاروت وماروت وأنها بعد تعلمه ما تريد شيئاً إلا كان، وفيه أنها بذرت قمحاً فقالت ابذري فبذرت وقالت أطلعي فطلعت إلى أن قالت ثم قالت ايبسي فأيبست ثم قالت اطحني فأطحنت... الخبر، وفي رواية الرازي أنها قالت: وأنا لا أريد شيئاً أصوره في نفسي إلا حصل.
الوجه الرابع: ما يذكر من الحكايات في هذا المعنى وهي كثيرة مشهورة، قالوا: ولسنا نعتقد أن الساحر يكون قادراً على خلق الأجسام ونحوها، وتغيير الشكل والهيئة عند قراءة بعض الرقى وتدخين بعض الأدوية، أو تركيب أجسام، أو المزج بين قوى على وجه لا يعرفه إلا الساحر، وإذا كان بعض الأجسام قاتلاً كالسموم ومنها مقسمة كالأدوية الحادة، ومنها مضرة كالأدوية المضادة للمرض فلا يستنكر في العقل أن ينفرد الساحر بعلم قوى قتاله أو كلام مهلك أو مؤد إلى التفرقة.
المسألة الثالثة في أقسام السحر
واعلم أن تقسيم السحر إنما هو بحسب اختلاف الناس في حقيقته ومعناه، وأقسامه متعددة:
أحدها: سحر الكذابين الذين كانوا في قديم الدهر وهم قوم يعبدون الكواكب ويزعمون أنها هي المدبرة لهذا العالم، ومنها تصدر الخيرات والسعادة والنحوسة وهم الذين بعث الله إبراهيم عليه السَّلام مبطلاً لمقالتهم، وهم ثلاث فرق: فرقة تزعم أن الأفلاك والنجوم واجبة الوجود لذواتها وهم الصابئة، وفرقة يقولون بإلاهية الأفلاك ويتخذون كل واحد منها هيكلاً، ويشتغلون بخدمتها وهم عبدة الأوثان، وفرقة أثبتوا للأفلاك والكواكب فاعلاً مختاراً لكنهم قالوا إنه أعطاها قوة عالية نافذة في هذا العالم وفوض تدبيره إليها، ومقتضى قول الفرق الثلاث أن الكواكب تقدر على قلب أعيان واختراعها وتغيير الصور، ونحو ذلك مما يشبه المعجزات كالطيران وقطع المسافات الكثيرة لمدة يسيرة، وعلى هذا فالسحر هو فعل هذه الأشياء، وهؤلاء قد تقدم إبطال مقالتهم في المسألة التي قبل هذه.
القسم الثاني: سحر أصحاب الأوهام والنفوس القوية فإنهم يزعموم أن الإنسان تبلغ روحه بالتصفية في القوة والتأثير إلى حيث يقدر على الإيجاد والإعدام، والإحياء والإماتة، وتغيير البنية والشكل، وقد أطال الرازي الاحتجاج لأهل هذه المقالة، ولقائل أن يقول: إن أرادوا بنسبتهم القدرة على الإيجاد والإعدام إلى الساحر على جهة الحقيقة، فباطل لما مر في الرد على أصحاب النجوم، وإن أرادوا بذلك أن الله قد أجرى العادة بخلق بعض المخلوقات عند حصول تلك الأوهام، فهو مذهب أهل السنة، وقد مر.
القسم الثالث: الاستعانة بخدمة الجن وهم الذين استخرجوه من جنس لطيف أجسامهم وهيئاتها فلطف ودق وخفي، وهذا السحر هو المسمى بالعزائم وتسخير الجن.
القسم الرابع: التخييلات التي تأخذ بالعيون على جهة الحيلة ومنه: {سَحَرُوا أَعْيُنَ النَّاسِ }[الأعراف:116] وتسمى الشعبذة.
الخامس: أنه الأعمال العجيبة التي تظهر من تركيب الآلات المركبة على النسب الهندسية تارة، وعلى ضروب الخيلاء أخرى مثل فارسين اقتتلا فيقتل أحدهما الآخر، وكالصور التي يصورها المصورون حتى لا يفرق الناظر بينها وبين الإنسان.
قلت: ومنه ما يعمل في زماننا هذا من الطائرات والسيارات والراديو التي تحكي الأصوات، وغير ذلك من الأمور العجيبة الغريبة.
السادس: من أنواع السحر الاستعانة بخواص الأدوية مثل أن يجعل في طعامه شيئاً من المبلدات والمنومات ونحو ذلك، وخواص الأشياء مما لا سبيل إلى إنكارها للعلم الضروري بوجودها، وإنما يختلف الناس في إدراكها.
السابع: تعليق القلب وهو أن يدعي الساحر أنه قد عرف الاسم الأعظم، أوأنه قد ملك الجن وأنهم ينقادون له حسب إرادته، فإذا كان السامع ضعيف القلب وحصل في نفسه نوع من الخوف ضعفت القوى الحاسة فيتمكن الساحر من أن يفعل به ما يشاء، ولا شك أن لتعليق القلب أثراً عظيماً في تنفيذ الأعمال.
الثامن: أنه مركب من كلمات كفرية إلى غير ذلك مما قيل في حقيقته وأقسامه، حتى عد بعضهم منه النميمة لما فيهامن قلب الصديق عدواً والحبيب بغيضاً.
قال بعض العلماء: هذه الأقوال التي قالوها في حقيقة السحر أنواع من أنواعه، وقد انضم إليها أنواع أخر.
قال أبو حيان: ولا شك في أن السحر كان موجوداً لنطق القرآن والحديث الصحيح به، قال: وأما في زماننا الآن فكلما وقفنا عليه في الكتب فهو كذب وافتراء لا يترتب عليه شيء، ولا يصح منه شيء البتة، وكذلك العزائم، وضرب المندل.
قلت: ولا مانع من وجوده الآن بل هو الظاهر، وأحسن من تكلم في حقيقة السحر وبيان معناه العلامة الغزالي في الإحياء ولفظه: وهو يعني السحر حق إذ شهد القرآن له، وأنه سبب يتوصل به إلى التفرقة بين الزوجين، وقد سحر رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ومرض بسببه حتى أخبره جبريل عليه السَّلام بذلك، وأخرج السحر من تحت حجر في قعر بئر، وهو نوع يستفاد من العلم بخواص الجواهر وبأمور حسابية في مطالع النجوم فيتخذ من تلك الجواهر هيكلاً على صورة الشخص المسحور ويرصد به وقت مخصوص من المطالع، وتقرن به كلمات يتلفظ بها من الكفر والفحش المخالف للشرع، ويتوصل بسببها إلى الاستعانة بالشياطين، ويحصل من مجموع ذلك إجراء الله العادة أحوال غريبة في الشخص المسحور.
المسألة الرابعة في الخلاف في تعلم السحر وتعليمه
ذهب أصحابنا إلى أن تعلمه وتعليمه حرام لقوله تعالى: {وَيَتَعَلَّمُونَ مَا يَضُرُّهُمْ وَلاَ يَنفَعُهُمْ }[البقرة:102] ولقوله صلى الله عليه وآله وسلم : ((ليس منا من تطير أو تطير له ، أو تكهن أو تكهن له، أو سحر أو سحر له ومن أتى كاهناً فصدقه بما يقول فقد كفر بما أنزل على محمد صلى الله عليه وآله وسلم )) . أخرجه البزار من حديث عمران بن الحصين.
وأخرج النسائي عن أبي هريرة أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قال: ((من عقد عقدة ثم نفث فيها فقد سحر ، ومن سحر فقد أشرك، ومن تعلق شيئاً وكل إليه)).
وأخرج أحمد ومسلم عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم أنه قال: ((من أتى كاهناً أو عرَّافاً فصدقه بما يقول فقد كفر بماأنزل على محمد صلى الله عليه وآله وسلم )).
قال في النيل: والعراف هو الذي يستدل على الأمور بأسباب ومقدمات يدعي معرفتها.
وفي حديث أبي موسى: ((ثلاثة لا يدخلون الجنة وعد منهم المصدق بالسحر)) أخرجه أحمد ومسلم.
وأخرجا أيضاً عن بعض أزواج النبي صلى الله عليه وآله وسلم ترفعه: ((من أتى عرافاً فسأله عن شيء لم يقبل الله له صلاة أربعين يوماً )).
وعن ابن عباس قال قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم : ((من اقتبس علماً من النجوم اقتبس شعبذة من السحر زاد ما زاد ))أخرجه أحمد، وأبو داود، وابن ماجة، وسكت عنه أبو داود والمنذري ورجاله ثقات، وهو وارد في الزجر عن تعلم النجوم، وقد بالغ في الزجر عنه حتى جعله قطعة من السحر فكأن السحر مما لا يشك في تحريم تعلمه، ومعنى اقتبس تعلم، وقوله: زاد ما زاد معناه أنه إذا ازداد من علم النجوم فكأنه ازداد من علم السحر.
وفي الصحيحين عن أبي هريرة مرفوعاً: ((اجتنبوا السبع الموبقات ...))وذكر منها السحر وأمر باجتنابه، ولو لم يكن في المسألة إلا هذه الآية التي نحن بصددها وما جاء في أن حد الساحر القتل إذ المباح لا يحد عليه، ولا أعلم خلافاً في تحريم تعلمه وتعليمه إذا كان للعمل به وإنزال الضرر للخلق بسببه فإن لم يكن لذلك فقال أهل المذهب: يجوز إذا كان للحذر منه أو ليعرفه ولا يعمل به، ويدل عليه تعلم الملكين وتعليمه مع التحذير من العمل به بقولهم إنما نحن فتنة.
وقال الرازي: اتفق المحققون على أن العلم بالسحر غير قبيح ولا محظور؛ لأن العلم لذاته شريف ولعموم قوله تعالى: {هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَالَّذِينَ لاَ يَعْلَمُونَ }[الزمر:9] ولأن السحر لو لم يكن يعلم لما أمكن الفرق بينه وبين المعجز، والعلم بكون المعجز معجزاً واجب وما يتوقف الواجب عليه فهو واجب، قال: فهذا يقتضي أن يكون تحصيل العلم بالسحر واجباً وما يكون واجباً كيف يكون حراماً قبيحاً، وكلامه لا يخالف كلام أصحابنا بدليل تعليله بالفرق بينه وبين المعجز وحكمه بوجوبه لذلك، وقال الغزالي بعد كلامه السابق ما لفظه: ومعرفة هذه الأسباب من حيث أنها معرفة ليست بمذمومة، ولكنها ليست تصلح إلا للإضرار بالخلق والوسيلة إلى الشر شر، فكان ذلك هو السبب في كونه علماً مذموماً.
وقال الزمخشري في الكشاف: الذي أنزل عليهما يعني الملكين هو علم السحر ابتلاء من الله للناس من تعلمه منهم وعمل به كان كافراً، ومن تجنبه أو تعلمه لا ليعمل به ولكن يتوقاه ولئلا يغتر به كان مؤمناً. عرفت الشر لا للشر لكن لتوقيه. كما ابتلى قوم طالوت بالنهر فمن شرب منه فليس مني ومن لم يطعمه فإنه مني.
المسألة الخامسة حكم السحر
وحكمه أنه من الكبائر، واختلفوا في كفر فاعله، وحاصل القول في ذلك أن السحر أنواع كما مر وهي باعتبار اقتضائها الكفر وعدمه قسمان، قسم يكفر صاحبه إجماعاً وهو أن يعتقد أن الكواكب هي المؤثرة الفعالة، أو يعتقد أن القدرة لنفسه وهو سحر أصحاب الأوهام.
قال في اللمع: إذا أظهر الإنسان من نفسه أنه يقدر على تبديل الخلق وجعل الإنسان بهيمة وعكسه، وأنه يركب الجمادات فيسيرها ويجعلها إنساناً فهو كافر بالإجماع.
قال فيها: وكذا من يدعي جعل الحبال حيات كسحرة فرعون، والوجه في ذلك كله الآية الكريمة، وسيأتي تقرير الاحتجاج بها.
قال في البحر: ولأن دعوى إحياء الجمادات وتبديل الصور كدعوى الربوبية.
القسم الثاني: أن يعتقد أن الإنسان يبلغ بالتصفية وقراءة بعض العزائم والرقى وتدخين بعض الأدوية إلى حيث يخلق الله تعالى عقيب أفعاله على سبيل جريان العادة، والأجسام، والحياة، والعقل وغيرها من الخوارق، وهذا القسم مختلف في كفر صاحبه، فقالت المعتزلة: صاحب هذا الاعتقاد كافر، وقيل: ليس بكافر وهو ظاهر قول الرازي، ولعله قول أهل السنة.
وقال بعض العلماء: هو من الكبائر بالإجماع وقال وقد يكون كفراً بل معصية كبيرة.
احتج الأولون بأنه مع هذا الاعتقاد لا يمكنه صدق الأنبياء والرسل؛ إذ لا يعرف النبي من المتنبي فيحصل التلبيس.
وأجيب بمنع اللبس لأن مدعي النبوة كاذباً لا يجوز من الله تعالى إظهار شيء من ذلك على يديه لئلا يحصل التلبيس، فالمحق يتميز بحصول هذه الأشياء على يديه مع ادعاء النبوة دون المبطل.
احتجوا ثانياً بالآية، والاحتجاج بها من وجوه:
أحدها: قوله {وَمَا كَفَرَ سُلَيْمَانُ }[البقرة:102] وذلك أنه روي أن الشياطين لعنهم الله ادعوا أن سليمان إنما ملك الناس بالسحر، فرد الله تعالى مقالتهم هذه بقوله: {وَمَا كَفَرَ سُلَيْمَانُ }[البقرة:102] والمعنى ليس ما أختلقته الشياطين من نسبة السحر إلى سليمان حقاً لأنه كفر، والأنبياء " منزهون عما هو دون الكفر من المعاصي فضلاً عن الكفر، وهذا يدل على أن السحر كفر على الإطلاق، لا سيما والمسألة قطعية.
الوجه الثاني: قوله: {وَلَكِنَّ الشَّيَاطِينَ كَفَرُوا يُعَلّمُونَ النَّاسَ السِّحْرَ} [البقرة:102] قالوا: فظاهر الآية يقتضي أنهم إنما كفروا لتعليمهم الناس السحر؛ لأن ترتيب الحكم على الوصف مشعر بالعلية، وتعليم ما لا يكون كفراً لا يوجب الكفر فصارت الآية دالة على أن تعليم السحر كفر، وعلى أن السحر كفر، وإنما احتجوا بها على وجه آخر وهو أن قوله: {يُعَلّمُونَ النَّاسَ السِّحْرَ }[البقرة:102] بدل من قوله: {كَفَرُوا}.
وأجيب بأنا لا نسلم أن تعليمهم الناس علة في كفرهم، بل الظاهر أن قوله يعلمون الناس السحر جملة مستأنفة أخبر عنهم بذلك إيذاناً بأنهم لتماديهم في المعاصي وانهماكهم فيها لم يكتفوا بمعصية الكفر، بل أضافوا إليها كبيرة أخرى شنيعة وهي تعليمهم الناس السحر، وهذا اختيار ابن حزم وأبي حيان، والمعنى أنهم كفروا وهم مع ذلك يعلمون الناس السحر، وقيل: إن هذه الجملة في محل رفع على أنها خبر ثان لكن على قراءة التشديد أو للشياطين على قراءة التخفيف، هذا إذا أعدنا الضمير من يعلمون على الشياطين، أما إذا أعدناه على الذين اتبعوا ما تتلوا الشياطين فالجملة حال من فاعل اتبعوا أو استئنافية، وأما القول بأن هذه الجملة بدل من الذين كفروا فخلاف الظاهر كما مر، والحاصل أن الآية ليست في المقصود لما فيها من الاحتمالات.
قال أبو حيان: كفرهم إما بتعليمهم السحر، وإما لعلمهم به، وإما لتكفيرهم سليمان به، قال ويحتمل: أن يكون كفرهم بغير ذلك.
قلت: وعلى القول بأن الجملة بدل فالاحتجاج بها على تكفير كل ساحر غير واضح لجواز أن يكون ذلك حكم الشياطين بعد زمان سليمان عليه السَّلام ، وحكم الله في الشياطين لا يتعدى إلى غيرهم إلا بدليل، وهكذا يقال إن جعلت الجملة حالاً من فاعل كفروا أي كفروا معلمين، وقد فرق الله تعالى بين الملكين والشياطين فحكم بكفر الشياطين بتعليم السحر دون الملكين، وهذا يدل على أنه مما يختلف فيه الحكم ولو سلم عموم الحكم فهذه حكاية حال يكفي في صدقها صورة واحدة فنحملها على السحر المجمع على أنه كفر لا كل سحر.
الوجه الثالث: قوله حكاية عن الملكين: {إِنَّمَا نَحْنُ فِتْنَةٌ فَلاَ تَكْفُرْ }[البقرة:102] أي لا تكفر بتعلم السحر وهو ظاهر في كفر من تعلمه، وأجيب بأن ظاهر الآية النهي عن الكفر جملة، وقولهم إن المعنى لا تكفر بتعلم السحر دعوى لا برهان عليها، سلمنا فالمراد لا تكفر بتعلم السحر الذي هو كفر، وقد علمته مما مر، ومما احتج به المعتزلة ما مر في المسألة التي قبل هذه من الأخبار الدالة على كفر الساحر، وفي معناها ما أخرجه ابن حزم بسنده إلى عبدالرزاق عن إبراهيم بن أبي يحيى، عن صفوان بن سليم، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم : ((من تعلم السحر قليلاً أو كثيراً كان آخر عهده من الله )) وأجيب بأن هذه الأخبار مع كونها آحادية محمولة على ما هو كفر من السحر. والله اعلم.
هذا وأما القائلون بأن صاحب هذا النوع لا يكفر، فعندهم أن الإكفار لا يكون إلا بقاطع، ولا قاطع في المسألة، وما ظنه الأولون قاطعاً قد عرفت ما فيه.
قال أبو السعود: ولعل التحقيق أن ذلك الإنسان إن كان خيَّراً متشرعاً في كل ما يأتي ويذر، وكان من يستعين به من الأرواح الخيرة، وكانت عز ائمه ورقاه غير مخالفة لأحكام الشريعة الشريفة ولم يكن فيما ظهر في يده من الخوارق ضرر شرعي لأحد، فليس ذلك من قبيل السحر، وإن كان شريراً غير متمسك بالشريعة الشريفة، فظاهر أن من يستعين به من الأرواح الخبيثة الشريرة لا محالة ضرورة امتناع تحقق النظام والتعاون بينهما من غير اشتراك في الخبث والشرارة، فيكون كافراً قطعاً.
وأما سائر الأنواع المتقدمة في المسألة الثالثة فقال الرازي: لا شك أنها ليست بكفر.
وقال أبو السعود: أما الشعوذة وما يجري مجراها من إظهار الأمور العجيبة بواسطة ترتيب الآلات الهندسية، وخفة اليد، والاستعانة بخواص الأدوية والأحجار، فإطلاق السحر عليها بطريق التجوز، أو لما فيه من الدقة؛ لأنه في الأصل عبارة عن كل ما لطف مأخذه، وخفي سببه، أو من الصرف عن الجهة لما أنه في أصل اللغة الصرف على ما حكاه الأزهري عن الفراء ويونس.
قلت: والظاهر من كلام أصحابنا أن السحر بأنواعه كفر.
وفي البحر عن العترة، وأبي حنيفة، وأصحابه أن السحر كفر، ونص في شرح الإبانة على كفر من ادعى الجمع والتفريق بين الزوجين، والبغض والمحبة، وقلب الأعيان على ما يتعاطاه بعض المدعين لعمل الكيمياء، قال: وكذا إذا ادعى تحريك الجمادات من غير مباشرة ولا توليد، وحجتهم عموم ما مر، واحتج له في شرح الأزهار بأن من ادعى هذا فقد ادعى الربوبية وكفر؛ لأن ذلك من فعل الله تعالى، ويستثنى من هذا الحكم المعترف بالتمويه بأن يكون في حال فعله معترفاً أن ذلك تمويه، وأنه لا حقيقة له فإن هذا لا يكفر عند أئمة المذهب.
قال في البحر: وللإمام تأديبه لإيهامه بالخطأ بفساد القلوب؛ قوله تعالى: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لاَ تَقُولُوا رَاعِنَا وَقُولُوا انظُرْنَا وَاسْمَعُوا وَلِلْكَافِرِينَ عَذَابٌ أَلِيمٌ}[البقرة:104] في التفسير في معناه {رَاعِنَا} أقوال مؤداها اشتمالها على مفسدة وأشهرها أنها سبة بلغة اليهود، وكان المؤمنون يقولون لرسول الله صلى الله عليه وآله وسلم راعنا أي انظرنا، فلما سمعها اليهود منهم كانوا يخاطبونه بها، ويقصدون المعنى الفاسد، فنهى الله سبحانه المؤمنين عن خطابه صلى الله عليه وآله وسلم بها سداً لذريعة اليهود -لعنهم الله- وفي الآية دليل على سد الذرائع إلى المحرمات لأنه سبحانه وتعالى نهى الصحابة أن يقولو للنبي صلى الله عليه وآله وسلم راعنا مع قصدهم المعنى الصحيح، وهو المراعاة؛ لأن لا تتخذ اليهود هذه اللفظة ذريعة إلى السب، ولئلا يتشبهوا بهم، ولئلا يخاطب بلفظ يحتمل معنى فاسداً، أو يوهم سوء الأدب على حسب الاختلاف في معنى هذه الكلمة، وإذا تدبرت الشريعة المطهرة وجدتها جاءت بسد الذرائع إلى المحرمات وإن لم يقصد بها المحرم لإفضائها إليه، فمن ذلك أن الله نهى عن سب آلهة المشركين لكونه ذريعة إلى أن يسبوا الله تعالى.
وأخرج البخاري، ومسلم، وأبوداود، والترمذي عن عبدالله بن عمرو بن العاص عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم أنه قال: ((من أكبر الكبائر شتم الرجل والديه ، قالوا: وهل يشتم الرجل والديه؟ قال: نعم يسب أبا الرجل فيسب أباه ويسب أمه فيسب أمه)) ورواه المرشد بالله، وأمسك صلى الله عليه وآله وسلم عن قتل المنافقين لكونه ذريعة إلى التنفير، وقول الناس إن محمداً يقتل أصحابه، وأمر الله الرجال والنساء بغض أبصارهم لما كان النظر ذريعة إلى مواقعة المحذور، والشواهد في هذا الباب كثيرة ليس المقصود استيفاء الأدلة هنا، وإنما الغرض ما يحصل به التنبيه على ما ادعيناه من كون الشريعة جاءت لسد الذرائع، ومن أراد البسط في ذلك فعليه بإغاثة اللهفان وأعلام الموقعين، والظاهر من هذه الأدلة تحريم الذرائع، والدخول فيها، وقيل: إن تجنبها إنما هو بطريق الأولى لا على جهة الحتم، وتمسكوا بحديث أبي سعيد مرفوعاً: إياكم والجلوس في الطرقات، فقالوا: يا رسول الله ما لنا من مجالسنا بد نتحدث فيها، فقال: إذا أبيتم إلا المجلس فأعطوا الطريق حقها... الخبر. رواه أحمد والشيخان لأنه نهى عن الجلوس حسماً للمادة، فلما قالوا ما لنا من مجالسنا بد ذكر لهم المقاصد الأصلية للمنع فعرف أن النهي للإرشاد للأصلح، وأجيب بأنهم رجوا النسخ تخفيفاً لما شكوا من الحاجة، ويؤيده أن في مرسل يحيى بن يعمر: وظن القوم أنها عزيمة.
فائدة: أخرج أبو نعيم في الحلية عن ابن عباس، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم : ((ما أنزل الله آية فيها يا أيها الذين آمنوا إلا وعلي رأسها وأميرها )).
قال أبو نعيم: لم نكتبه مرفوعاً إلا من حديث أبي خيثمة والناس رووه موقوفاً.
قلت: وممن رواه موقوفاً المرشد بالله عليه السَّلام ، قال: أنا الأزجي، أنا الحسن بن إسحاق، أنا ابن ماهان، ثنا عمران بن عبدالرحيم، ثنا سهل بن عثمان، ثنا عيسى بن راشد سمعت علي بن زكزيمة يحدث عن عكرمة عن ابن عباس: ما أنزل الله آية في القرآن يا أيها الذين آمنوا إلا كان علي أميرها وشريفها، ولقد عاتب الله أصحاب محمد صلى الله عليه وآله وسلم في غير آية فما ذكر علياً إلا بخير.
[البقرة:106]
* جواز النسخ.
* شبه القائلين بعدم النسخ.
* عدم جواز نسخ الأخف بالأشق.
* في اللفظ على حقيقته.
قوله تعالى:{ مَا نَنسَخْ مِنْ آيَةٍ أَوْ نُنسِهَا نَأْتِ بِخَيْرٍ مِنْهَا أَوْ مِثْلِهَا أَلَمْ تَعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ}[البقرة: 106] اختلف في المعنى اللغوي للنسخ على أقوال:
أحدها: أن معناه الإزالة والنقل، وهذا قول الإمام يحيى بن المحسن، قال وهو اختيار إمام عصرنا عليه السَّلام ، وبه قال أبو السعود.
قال بعض أئمة العربية: لا فرق بين اللفظين، واحتجوا بأن ذلك هو السابق إلى الفهم عند الإطلاق، وذلك ظاهر في قولهم: نسخت الشمس الظل، والريح الأثر، وتنوسخ الملك أي زال من قوم إلى قوم، أو انتقل إليهم، ومنه تناسخ الأرواح عند القائلين به، واحتجوا على ترادف اللفظين بأنه لا يجوز أن تقول أزلت القلم من مكان كذا وما نقلته منه ولا نقلته وما أزلته، بل يعد من قال ذلك مناقضاً، وذلك دليل الترادف، فإن قيل: قولهم نسخت الشمس الظل والريح الأثر مجاز؛ لأن الذي أزال ذلك هو الله تعالى، وإذا كان مجازاً امتنع الاستدلال به على كون اللفظ حقيقة في مدلوله. قيل: لا يمتنع الإسناد إلى الله حقيقة من حيث أنه فعل السبب أعني الشمس والريح وإلى الشمس والريح وكذلك لاختصاصهما بذلك التأثير.
سلمنا أن أهل اللغة أخطأوا في نسبة النسخ إليهما، لكن متمسكنا إطلاقهم لفظ النسخ على الإزالة، وإلا...........تتبع الوضع، والواجب إتباعهم في التسمية لا في الاعتقاد.
قال بعض أئمتنا: ولا يمتنع أن يكون وصفهم للشمس والريح بالإزالة مجازاً، لكن ذلك لا يوجب كون وصفهم للإزالة بأنها نسخ مجازاً؛ إذ لا تنافي بينهما فيستحيل اجتماعهما، يعني أنا وإن سلمنا أن نسبة الإزالة إلى الشمس والريح مجاز لأن المزيل حقيقة هو الله تعالى فذلك لا يوجب كون تسميته مطلق الإزالة نسخاً مجازاً.
القول الثاني: أن النسخ اسم للقدر المشترك بين الإزالة والنقل، وهوكون الشيء خالفاً لغيره، ووجهه أنه قد استعمل في المعنيين.
قال ابن فارس: كل شيء خلف شيئاً فقد نسخه، يعني سواء أزاله أم لم يزله، ومن الأول تناسخ الأزمنة والقرون، ونسخت الشمس الظل، ومن الثاني تناسخ المواريث والأنفس عند من قال به.
القول الثالث: أنه مشترك بينهما، وهذا قول أبي طالب، والشيخ الحسن، والغزالي، والباقلاني، ونسبه بعضهم إلى الأكثر، واحتجوا بأنه قد ظهر استعماله في المعنيين، والأصل في الإطلاق الحقيقة فكان مشتركاً، وفيه أن الاشتراك خلاف الأصل.
القول الرابع: أنه حقيقة في الإزالة، مجاز في النقل، وإليه ذهب أبو هاشم، وأبو الحسين والرازي، وهو قول قاضي القضاة أخيراً واللباد من أصحابه، واحتجوا بأنه يقال: نسخت الشمس الظل إذا عدم لأنه قد لا يحصل الظل في مكان آخر حتى يظن أنه قد انتقل إليه، وقال تعالى:{فَيَنْسَخُ اللَّهُ مَا يُلْقِي الشَّيْطَانُ }[الحج:52] أي: يبطله ويزيله، والأصل في الإطلاق الحقيقة، وإذا ثبت أنه حقيقة في الإزالة وجب أن لا يكون حقيقة في النقل دفعاً للاشتراك.
دليل آخر: وهو أن أهل اللغة يستعملون لفظ النسخ في النقل تشبيهاً بالإزالة، وذلك في قولهم: نسخت الكتاب من هذا اللوح إلى هذا الكاغد، بمعنى نقلته تشبيهاً بما يزال عن موضعه؛ إذ ليس النقل حقيقة في ذلك قطعاً لأن الكتاب باق في اللوح بحاله، لكن لما حصل مثله في مكان آخر جرى حصول مثله مجرى حصوله، وإذا كان مجازاً في هذا الاستعمال تعين قوله حقيقة في الإزالة مجازاً في النقل هرباً من كثرة المجازات الحاصلة على تقدير كونه حقيقة في النقل مجازاً في الإزالة؛ لأنه حينئذٍ لا يكون حقيقة في جميع معاني النقل مع كونه مجازاً في الإزالة فيكون مجازاً في معنيين، بخلافٍ مَّا، إذا كان حقيقة في الإزالة فإنه يكون مجازاً في معنى واحد، وهو النقل مطلقاً، وتحقيق الجواب أن يقال: لا نسلم أن معنى نسخت الكتاب نقلته؛ لأن النقل هو الإزالة كما مر، وإنما استعملوه هنا تشبيهاً بالمنقول الحقيقي لحصول مثله في مكان آخر، وذلك يدل على أنهم إنما استعملوا لفظ النسخ تجوزاً فيما يشبه النقل الحقيقي، لا أنه مجازٌ في النقل نفسه.
القول الخامس: أنه حقيقة في النقل مجاز في الإزالة، وإليه ذهب القفال، وجماعة من الفقهاء؛ لأنه قد أطلق عليه من ذلك مناسخة المواريث، فإن المراد بها انتقالها من وارث إلى وارث، وكذا تناسخ الأرواح وتناقلها في الهياكل عند القائل بذلك، والأصل في الإطلاق الحقيقة، ولا يكون حقيقة في الإزالة دفعاً للاشتراك.
والجواب: أن في هذا معنى الإزالة فلا وجه لجعله قسماً برأسه، وهذا جواب القائلين بالترادف، وأما غيرهم فلهم أن يقولوا هذا الاستدلال معارض بمثله فيقال: قد أطلق على الإزالة... إلخ، ومع التعارض يرجع إلى الترجيح، ولنا مرجح لجعله حقيقة في الإزالة مجازاً في النقل، وهو أن النقل أخص من الإزالة؛ لأنه إذا وجد النقل فقد عدمت صفة وحصل عقيبها صفة أخرى فإذا انتقل الميراث إلى وارث فقد عدم ملك الأول وحصل ملك الثاني، والإزالة لايلزم من وجودها إلا عدم صفة لا حصول أخرى عقيبها ومطلق العدم أعم من عدم يعقبه شيء آخر، وإذا دار اللفظ بين الخاص والعام كان جعله حقيقة في العام أولى تكثيراً للفائدة.
القول السادس: الوقف وهذا محكي عن بعض العلماء؛ لأنه مستعمل فيها بالاتفاق، ويحتمل أنه حقيقة فيهما أو في أحدهما ولا مرجح، هذا معناه اللغوي.
أما معناه الاصطلاحي فله حدود كثيرة أجودها ما ذكره في الغاية وهو بيان لانتهاء حكم شرعي بطريق شرعي على سائر الحدود، ولأن جعل النسخ بياناً هو الذي عليه أئمة الزيدية، والمعتزلة، والرازي والجويني، والإسفراييني، ومعناه أن الخطاب الأول كان متعلقاً بالفعل في علم الله إلى ذلك الوقت ثم انكشف بالنسخ أنه قد انتهى تعلق المصلحة به.
وقال الغزالي، والباقلاني: بل هو رفع، ومعناه أن خطاب الله تعالى تعلق بالفعل على حد لولا طريان الناسخ لكان باقياً، قيل: والمعنيان متقاربان لأنه بيان محض في علم الله المتعلق بأمد حكمه، ورفع وإزالة بالنظر إلى ظاهر اللفظ وما يقع في الأفهام، وإلى هذا نظر من جعل جنس الحد الرفع والإزالة وما في معناهما. والله أعلم، ويتعلق بالآية مسائل:
المسألة الأولى [جواز النسخ]
في الآية دليل على جواز النسخ وعليه المسلمون كافة، إلا ما يروى عن شذوذ من المسلمين لا شهرة لهم ولا أتباع أنهم منعوا من جوازه.
قال في المقنع: وأظن هذا القائل هو أبو مسلم الأصفهاني من متأخري المعتزلة فإنه قال: لا يجوز النسخ في شريعة نبينا محمد صلى الله عليه وآله وسلم خاصة دون غيرها.
قيل: إنما خلافه في وقوعه فإنه قال إنه وإن جاز عقلاً لكنه لم يقع، والخلاف في ذلك مع بعض اليهود فإن منهم من منعه عقلاً وسمعاً، وهذا محكي عن الشمعية منهم ومنهم وهم العيانية من جوزه عقلاً ومنع منه سمعاً، ومن الناس من نسب إنكار النسخ إلى عموم اليهود.
حجتنا على جوازه عقلاً أن الشرائع إنما شرعت لكونها مصالح، أما الواجبات فلكونها ألطافاً مقربة من فعل الطاعات العقلية، وأما المندوبات فلكونها مسهلة للواجبات، وأما المحرمات فلكونها مفاسد، ولا شك أن دفع المفسدة أهم من جلب المنفعة، وأما المكروهات فلكونها مسهلة لتجنب المحرمات، ولا يمتنع أن يكون الشيء مصلحة في زمان دون زمان، وفي مكان دون مكان آخر، وفي حق مكلف دون مكلف، بل العلم بجواز ذلك مقطوع به، وبيانه أن التكاليف مختلفة باختلاف هذه الأمور، واختلافها بحسبها دليل على اختلاف المصالح باختلافها، أما اختلافها بحسب الزمان فكاختصاص الصلاة والصيام ونحوهما من العبادات بأوقات مخصوصة، وأما اختلافها بحسب المكان فكالتعبد بالوقوف في عرفة دون غيرها، وأما بحسب اختلاف المكلفين فكوجوب الصلاة على الطاهر دون الحائض، واختلاف فرض المسافر والمقيم.
دليل آخر وهو أن أحدنا قد يعلم من حال ولده أنه قد يكون أقرب إلى ملازمة المكتب مع الرفق وأنه مع علمه بذلك قد يعلم أن المصلحة في الشدة في بعض الأوقات، وقد يعلم أن وقوفه للدرس في هذا المسجد أصلح من وقوفه في غيره.
دليل آخر وهو أن تدبير الله تعالى العباد في أفعالهم كتدبيره في أفعاله بهم، والمعلوم أن أفعاله بهم تختلف باختلاف المصلحة فتارة يفقرهم وتارة يغنيهم، وتارة يمرضهم، وتارة يصحهم، وإذا جاز هذا في فعله تعالى بهم جاز أن تختلف أفعالهم في المصلحة بحسب الأوقات والأماكن والأعيان؛ إذ العقل يجوز ذلك كله فلا وجه للفصل بينهما، وإذا جاز اختلاف المصالح في الشرائع كما ذكرنا، جاز ورود النسخ عليها لأن ورود التعبد واختلافه فرع على ثبوت المصلحة واختلافها، ولا يجوز حصول وجه الوجوب، أو الحسن ولا يؤثر، ألا ترى أنه لا يجوز حصول الفعل الذي فيه دفع ضرر عن النفس ولا يجب، ونحن لا نعني بالنسخ إلا أنه يجوز أن يأمر الله بمثل ما نهى عنه في بعض الأوقات والعكس، وقد ثبت بما مر أنه يجوز أن يصير مثل ما كان نهى عنه مصلحة، وأن يصير مثل ما كان أمر به مفسدة، فجاز ورود الأمر والنهي بحسب ذلك، وأما الدلائل السمعية فكثيرة منها الآية الكريمة فإنها تدل على ثبوت النسخ، واعتر ض بأنها إنما تدل على أنه لو وقع النسخ لوجب أن يؤتى بما هو خير منه، وليس فيها دلالة على وقوعه، وتحقيقه أن (ما) تفيد الشرط والجزاء، فكما أن قولك: من جاءك فأكرمه لا يدل على حصول المجيء بل على أنه متى جاء وجب الإكرام، فكذلك الآية لا تدل إلا على أنه إذا حصل النسخ وجب الإتيان بما هو خير من المنسوخ.
وأجيب بأن سبب النزول يدل على الوقوع فإنه روي أن المشركين قالوا: ألا ترون إلى محمد يأمر أصحابه بأمر ثم ينهاهم عنه ويأمرهم بخلافه، ويقول اليوم قولاً ويرجع عنه غداً ما هذا القرآن إلا كلام محمد من تلقاء نفسه، وهو كلام يناقض بعضه بعضاً، فأنزل الله هذه الآية، وأنزل أيضاً: {وَإِذَا بَدَّلْنَا آيَةً مَكَانَ آيَةٍ ...}[النحل:101] الآية، وهذه سالمة من الاعتراض لأن (إذا) إنما تدخل على المتحقق، ولهذا رجح الرازي الاستدلال بها على الاستدلال بالأولى.
واعلم أن هذه الآية أعني التي نحن بصددها يصلح الاحتجاج بها على منكري النسخ من المسلمين واليهود، أما المسلمون فلأنها قد دلت على إمكان النسخ ووقوعه كما عرف من سبب النزول، والقرآن حجة عليهم لإقرارهم به، واعتمادهم في الاحتجاج عليه أنهم قد دفعوا الاحتجاج بها من وجهين:
أحدهما: أن الآية لم تدل على وقوع النسخ في القرآن لجواز أن المراد بالآيات الشرائع المتقدمة في التوراة والإنجيل.
الثاني: أن المراد بالنسخ نقل القرآن من اللوح المحفوظ إلى سماء الدنيا، وأجيب عنهما بأن ذلك خلاف الظاهر، ولا دليل عليه، بل سبب النزول يدفعه، والآيات إذا أطلقت فالمراد بها آيات القرآن؛ لأنه هو المعهود عندنا، والنقل من اللوح المحفوظ لا يختص ببعض القرآن، والتحقيق أنه لا نزاع في المعنيين بين المسلمين في وقوع النسخ لأنه معلوم من ضرورة الدين ضرورة ثبوت نسخ بعض أحكام الشرائع السابقة بالأدلة القاطعة على حقيقة شريعتنا، ونسخ بعض أحكام شريعتنا ببعضها كآية النجوى، وتحويل القبلة، وغير ذلك كثير.
وإنَّما النزاع في الإرتفاع والإنقطاع فالمخالف يزعم أن أحقية تلك الأحكام كانت مقيدة بظهور شريعتنا، وكذا في أحكام شريعتنا، ولا يسمى ذلك نسخاً، بل تجري الحال فيه كالحال في قوله تعالى: {ثُمَّ أَتِمُّوا الصِّيَامَ إِلَى اللَّيْلِ }[البقرة:187] فكما أن قوله إلى الليل غير ناسخ لوجوب صوم النهار بل هو غاية له، كذلك الحكم فيما يعد ناسخاً فيرجع النزاع لفظياً، وأما وجه الاحتجاج بها على اليهود فهو أنه قد ثبت بالمعجزة الواضحة أن محمداً صلى الله عليه وآله وسلم نبي صادق، وقد أخبرنا عن الله أنه قال: {مَا نَنسَخْ مِنْ آيَةٍ أَوْ نُنسِهَا نَأْتِ بِخَيْرٍ مِنْهَا أَوْ مِثْلِهَا}[البقرة:106] وتصديقه في خبره واجب، وفي ذلك حصول المطلوب، لا يقال: لا يصح الاستدلال على الخصم إلا بما يلتزمه، لأنا نقول ذلك فيما له فيه شبهة، وأما ما لاشبهة له فيه بل ثبوته كثبوت المحسوسات فلا يلتفت إلى التزامه لظهور عناده، ولو اعتبر ذلك لما أمكن إقامة الحجة على مدعي قدم العالم كيف وقد نبه الله تعالى على كيفية الاحتجاج عليهم في مواضع من كتابه، وكذلك تضمن القرآن التنبيه على إقامة الحجة على منكري النبوة وغيرهم، ومن الأدلة على وقوع النسخ الإجماع فإن الأمة أجمعت على أن شريعة محمد صلى الله عليه وآله وسلم ناسخة لما خالفها من شرائع الأنبياء قبله، وقد كان يعقوب عليه السَّلام جمع بين الأختين، وآدم عليه السَّلام كان يزوج بناته من بنيه وهو محرم في شرائع من بعدهم من الأنبياء ".
المسألة الثانية [شبه القائلين بعدم النسخ]
تمسك قوم من أهل الظاهر بظاهر الآية على أنه لا يجوز النسخ من غير بدل، ونقله الباقلاني عن بعض المعتزلة، وذهب البرماوي، وابن السبكي إلى أنه جائز غير واقع، وعليه حمل قول الشافعي: وليس ينسخ فرض أبداً إلا ثبت مكانه فرض، والاحتجاج بظاهر الآية ظاهر، وهو أنها قد دلت على أنه تعالى يأتي بخير من المنسوخ أو مثله، ولا يتصور كونه خيراً أو مثلاً إلا في بدل، والخلاف في ذلك للجمهور، فقالوا: بل يجوز إلى غير بدل لجواز أن يعلم الله سبحانه تغير المصلحة في الحكم لا إلى بدل، وجواز النسخ مبني على تغير المصالح كما مر، ثم إن ذلك قد وقع كما في نسخ تقديم الصدقة بين يدي النجوى لا إلى بدل، والوقوع فرع الجواز، وأجابوا عن قوله تعالى: {مَا نَنسَخْ مِنْ آيَةٍ ...} [البقرة:106] الآية بأن المتبادر من إطلاق نسخ الآية نسخ التلاوة، ولهذا إذا نسخ حكمها دون تلاوتها احتيج إلى التقييد بأنه نسخ حكمها، وحينئذٍ فيكون المراد نأت بلفظ خير منها في الفصاحة والبلاغة، ويدل على ذلك أنه أورده مورد التمدح بأنه قادر على أمثال هذا القرآن في الفصاحة والإعجاز فقال: {أَلَمْ تَعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ }[البقرة:106] وإذا كان المراد أنه يأتي بلفظ خير لم يكن من محل النزاع إذ النزاع في الحكم، والآية لا تدل على وجوب إبداله.
سلمنا أن المراد (نأت) بحكم فلا نسلم أن المأتي به لا يكون إلا حكماً شرعياً لجواز أن يكون الخير في عدم الحكم الشرعي والرجوع إلى حكم الأصل، ولا مانع من هذا فإن ترك العبادة وإسقاطها قد يكون خيراً من فعلها، كما أن ترك الشدة في تدبير الوالد لولده قد يكون خيراً منها وإن لم يكن معه رفق.
سلمنا أن المراد نأت بحكم شرعي، لكنه عام يقبل التخصيص، فلعله خصص بما نسخ إلى غير بدل كآية النجوى، وما قيل من أن النسخ فيها إلى بدل وهو الجواز الصادق بالإباحة والاستحباب، فمدفوع بأن الجواز هنا أصلي؛ إذ لا دليل شرعي يدل عليه.
المسألة الثالثة [عدم جواز نسخ الأخف بالأشق]
ذهب داود وطبقته من أهل الظاهر، وهو أحد قولي الشافعي إلى أنه لا يجوز نسخ الأخف بالأشق، واحتجوا بأن قوله: {نَأْتِ بِخَيْرٍ مِنْهَا أَوْ مِثْلِهَا }[البقرة:106] ينافي كونه أثقل؛ لأن الأثقل لا يكون خيراً من الأخف ولا مثله، والخلاف في ذلك للجمهور.
فقالوا: بل يجوز، واحتجوا بأن النسخ إنما يرد للمصلحة، ولا مانع أن تتغير المصلحة في الأخف إلى الأشق كما لا يمتنع في نقيضه.
دليل آخر وهو أن التعبد بالناسخ الأشق كابتداء التكليف به، وذلك جائز بل التكليف مبني على المشقة، وقد عرف حسنه مما مر في الثالثة عشرة من مسائل قوله تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا سَوَاءٌ عَلَيْهِمْ أَأَنذَرْتَهُمْ...} [البقرة:6] الآية وغيرها.
قيل: ولم يخالف في جواز تكليف الشاق ابتداء إلا القرامطة، وأصحاب التناسخ فإنهم ذهبوا [إلى] أنه لا يحسن إلا إذا كان عقوبة على ذنب سلف، وإذا ثبت الابتداء بتكليف الشاق جاز في الناسخ الأشق مثله؛ لمشاركته له في علة الجواز وهو المصلحة، والاشتراك في العلة يوجب الاشتراك في الحكم، وإلا بطل التعليل، والمراد بالخير والمثل في الآية ما هو خير أو مثل في المصلحة، ولا يمتنع أن يكون الأشق أصلح في الدين إذا كان ناسخاً، ومن فوائده التدريج و الترقي من الأخف إلى الأثقل ليسهل التحمل والقبول، ولا يصح الاحتجاج بقوله تعالى: {يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلاَ يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ}[البقرة: 185] وقوله: {الآنَ خَفَّفَ اللَّهُ عَنكُمْ }[الأنفال:66] {يُرِيدُ اللَّهُ أَنْ يُخَفِفَ عَنْكُمْ }[النساء:28] [لأنه ]ضعيف، وبيانه من وجوه:
أحدها: أن ذلك لو حمل على ظاهره لأدى إلى منع الابتداء بالتكليف الشاق.
الثاني: أن إرادة الأشق المشتمل على مصلحة إرادة لليسر والتخفيف؛ لأنه يؤول إلى ذلك لما يترتب عليه من السعادة الأبدية، والشيء قد يسمى باسم ما يؤول إليه.
الثالث: أن تلك الآيات وردت في أحكام خاصة جاءت مخففة وليست عامة ونحن لا نمنع نسخ الأشق بالأخف لتلك الآيات وغيرها، لكن ذلك لا يقتضي منع نسخ الأخف بالأشق.
قالوا: الباري تعالى منعم على عباده بالنسخ وهو بهم رؤوف رحيم فلا يليق به التثقيل والتشديد على عباده بعد التخفيف.
قلنا: كونه نعمة لا ينافي جواز النسخ بالأشق إذا كان أصلح لهم في الدين؛ لأنه يؤدي إلى منافع عظيمة.
قوله: وهو بهم رؤوف... إلخ.
قلنا: رأفته بهم ورحمته إياهم لا تنافي ذلك كابتداء التكليف بالشاق، ومن عرف أن التكاليف باعتبار المصالح كفى مؤنة هذه المحاورة وتخفف عن تحمل أثقال هذه المقاولة، ثم إنه قد وقع وقد ذكر الأصوليون من ذلك صوراً منها نسخ التخيير بين الفدية والصوم؛ فإنه قد روي أنهم كانوا في صدر الإسلام يخير أحدهم بين أن يصوم وبين أن يفطر ويطعم فنسخ بتعين الصوم وهو أشق، ومنها أن الخمر ومتعة النكاح والحمر الأهلية كانت مباحة فنسخت بالتحريم وهو أثقل، وكانوا مأمورين بترك القتال وجهاد العدو ثم نسخ بوجوب ذلك.
المسألة الرابعة [في اللفظ على حقيقته]
قال والمتقدم على غيره بزمان واحد يجب أن يكون محدثاً، ولو توقف حدوث الحوادث على كن وقد ثبت حدوثها أدى إلى التسلسل كما مر.
دليل آخر يمنع من حمل اللفظ على حقيقته وهو أن القادر هو من يصح منه الفعل بحسب اختياره، فلو فرض انفكاكه عن قوله كن، فإما أن يتمكن من الأحداث فلا يكون الإيجاد موقوفاً على كن، أولا فلا يكون قادراً إلا عند قوله كن، وذلك باطل في القديم جل وعلى فإنه لا يخرج عن هذه الصفة في حال من الأحوال، ثم إن لفظ [كن] لوكان له أثر في التكوين لوقع التأثير إذا نطق بها الواحد منا، إذا عرفت ذلك تبين لك أنه لابد من التأويل وقد اختلف في تأويلها فعن أبي الهذيل: أنها علامة للملائكة إذا سمعوها علموا أن الله تعالى أحدث أمراً، وقال الأصم: هو خطاب للموجودين الذين قال لهم: {كُونُوا قِرَدَةً خَاسِئِينَ }[البقرة:65] ومن جرى مجراهم، وقيل: هو أمر للإحياء بعد الموت، وللأموات بالحياة، والذي عليه الحذاق من أئمة التفسير ليس ثمة قول مقول، وإنما هو مجاز وتمثيل، والمعنى أن ما قضاه الله وأراده فإنما يتكون ويدخل تحت الوجود من غير امتناع ولا توقف، كما أن المأمور المطيع الذي يؤمر فيمتثل ولا يتوقف ولا يمتنع، وحاصله أن المراد في ذلك التمثيل لسهولة تأتي المقدورات بحسب مشيئته تعالى، والتصوير لسرعة حدوثها بطاعة المأمور المطيع للآمر القوي المطاع، وفيه تأكيد لإبطال دعوى الولادة؛ لأن من كان بهذه الصفة من القدرة كانت حاله مباينة لأحوال الأجسام في توالدها.
قوله تعالى: {الَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ يَتْلُونَهُ حَقَّ تِلاَوَتِهِ أُوْلَئِكَ يُؤْمِنُونَ بِهِ}[البقرة:121] مجموع ما تدل عليه كلمات السلف من الصحابة وغيرهم في معنى يتلونه حق تلاوته أنه بمراعاة لفظه عن التحريف لمبانيه، وبالتدبر لمعانيه، والعمل بما فيه، فما آمن بالقرآن من لم يتبعه ويتقيد بأوامره ونواهيه، ويحل حلاله، ويحرم حرامه، ويعتصم بحبله، ويبتغي الهدى منه، فمن جعل القرآن الكريم الطريق إلى هدايته الواسطة بينه وبين ربه فقد فاز بخير الدنيا والآخرة.
قال المؤلف -ثبته الله وسدده-: وهذا آخر ما أردنا إملاءه وتحصيله، ونسأل الله أن يفهمنا معانيه، وأن يرزقنا العمل بما فيه، وأن يكتب عناءنا فيه وعنايتنا في صحائف القبول، وأن ينفع به إخواننا المسلمين، بحق النبي الأمين صلى الله عليه وعلى آله الطاهرين، وعلى الأنبياء والمرسلين، ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم. آمين.
قال المؤلف أبقاه الله: وكان التمام في أواخر شعبان المعظم أحد شهور سنة 1371ه بهجرة ضحيان حرسها الله تعالى من شر أهل الفساد والعدوان، وعمرها بأهل العلم والإيمان إنه كريم منعم منان، والحمد لله رب العالمين.